كتاب السرائر المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 2

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1410 ه-.ق

الصفحات: 768

المكتبة الإسلامية

كتاب السرائر

الحاوي

لتحرير الفتاوي

تأليف: الشيخ الفقيه أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي قدس سره

المتوفّی 598 ه

الجزء الثاني

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

اشارة

كتاب السرائر

(ج2)

المؤلف: محمد بن إدريس الحلي

المحقق: لجنة التحقيق

الموضوع: فقه

عدد الأجزاء: 3 أجزاء

الطبع: مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: الثانية

المطبوع: 3000 نسخة

التاريخ: 1410 ه.ق

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 2

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

ربّ يسّر

كتاب الجهاد وسيرة الإمام

اشارة

باب فرض الجهاد ومن يجب عليه وشرائط وجوبه وحكم الرباط

الجهاد فريضة من فرائض الإسلام ، وركن من أركانه ، وهو من فروض الكفايات ، ومعنى ذلك أنّه إذا قام به من في قيامه كفاية وغنا عن الباقين ولا يؤدي إلى الإخلال بشي ء من أمر الدين ، سقط عن الآخرين ، ومتى لم يقم به أحد لحق جميعهم الذم ، واستحقوا بأسرهم العقاب.

ويسقط الجهاد عن النساء ، والصّبيان ، والشيوخ الكبار ، والمرضى ، ومن ليس به نهضة إلى القيام بشرطه.

ومن كان متمكنا من إقامة غيره مقامه في الدفاع عنه ، وهو غير متمكّن من القيام به بنفسه ، وجب عليه إقامته وإزاحة علته فيما يحتاج إليه.

ومن تمكن من القيام بنفسه فأقام (2) غيره مقامه ، سقط عنه فرضه ، إلا أن يلزمه الناظر في أمر (3) المسلمين القيام بنفسه ، فحينئذ يجب عليه أن يتولى هو الجهاد ، ولا يكفيه إقامة غيره (4).

ومن يجب عليه الجهاد انّما يجب عليه عند شروط ، وهي أن يكون الإمام العادل الذي لا يجوز لهم القتال إلا بأمره ، ولا يسوغ لهم الجهاد من دونه ، ظاهرا ، أو يكون من نصبه الإمام للقيام بأمر المسلمين في الجهاد حاضرا ، ثمّ

ص: 3


1- ل : سقط منها البسملة و « ربّ يسّر ».
2- ل : واقام :
3- ل : في أمور.
4- ج : اقامة غير مقامه.

يدعوهم إلى الجهاد فيجب عليهم حينئذ القيام به ، ومتى لم يكن الإمام ظاهرا ، ولا من نصبه حاضرا ، لم تجز مجاهدة العدو.

والجهاد مع أئمّة الجور ، أو من غير إمام خطأ يستحق فاعله به الإثم ، وإن أصاب لم يوجر ، وإن أصيب كان مأثوما ، اللّهم إلا أن يدهم المسلمين والعياذ باللّه أمر من قبل العدو يخاف منه على بيضة الإسلام ، ويخشى بواره ، وبيضة الإسلام : مجتمع الإسلام وأصله ، أو يخاف على قوم منهم ، وجب حينئذ أيضا جهادهم ودفاعهم ، غير أنّه يقصد المجاهد والحال ما وصفناه الدفاع عن نفسه ، وعن حوزة الإسلام ، وعن المؤمنين ، ولا يقصد الجهاد مع السّلطان الجائر ، ولا مجاهدتهم ليدخلهم في الإسلام ، وهكذا حكم من كان في دار الحرب ، ودهمهم عدو يخاف منه على نفسه ، جاز أن يجاهد مع الكفار دفعا عن نفسه وماله ، دون الجهاد الذي يجب في الشرع.

ومتى جاهدوا مع عدم الإمام ، وعدم من نصبه للجهاد ، فظفروا ، وغنموا ، كانت الغنيمة كلها للإمام خاصة ، ولا يستحقون هم منها (1) شيئا أصلا.

والمرابة ، فيها فضل كبير ، وثواب جزيل ، إذا كان هناك إمام عادل ، وحدّها ثلاثة أيّام إلى أربعين يوما ، فإن زاد على ذلك كان جهادا ، وحكمه حكم المجاهدين.

ومن نذر المرابطة في حال استتار الإمام ، وجب عليه الوفاء به ، غير انه لا يجاهد العدو ، إلا على ما قلناه من الدفاع عن الإسلام والنّفس.

وإن نذر أن يصرف شيئا من ماله إلى المرابطين في حال ظهور الإمام ، وجب عليه الوفاء به ، وإن كان ذلك في حال استتاره ، لا يجب عليه الوفاء بالنذر. على قول بعض أصحابنا (2) ، بل قال يصرفه في وجوه البر.

ص: 4


1- ل : ولا يستحقون منها.
2- وهو الشيخ الطوسي قدس سره في النهاية ، كتاب الجهاد ، إلا أنه في المصدر : « في حال انقباض يد الإمام » مكان قوله : « حال استتاره ».

قال محمد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : إن كان النذر غير صحيح ، فما يجب عليه صرفه في وجوه البر ، وإن كان النذر صحيحا فيوجهه إلى الجهة (1) المنذور فيها ، لا يجزيه غيره.

ثمّ قال الذاهب الأوّل الذي حكينا كلامه : إلا أن يخاف من الشناعة لتركه الوفاء بالنذر ، فيصرفه إليهم تقية.

والذي اعتمده وأعمل عليه ، صحة هذا النذر ، ووجوب الإتيان به ، لأنّه إمّا مندوب إليه ، أو مباح ، والنذر في المباح يجب الوفاء به ، وكذلك المندوب إليه ولا مانع يمنع منه.

ومن آجر نفسه لينوب عن غيره في المرابطة ، فإن كان في حال انقباض يد الإمام العادل ، قال بعض أصحابنا : لا يلزمه الوفاء به ، ويردّ عليه ما أخذه منه ، فإن لم يجده فعلى ورثته ، وإن لم يكن له ورثة ، لزمه الوفاء به ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

والذي يقوى عندي ، وتقتضيه الأدلة ، لزوم الإجارة في الحالين معا ، غير أنّه لا يجاهد العدو إلا على ما قلناه من الدفاع عن النفس والإسلام ، لأنّ عندنا بغير خلاف أنّه إذا نذر المرابطة في حال استتار الإمام ، وجب عليه الوفاء به ، غير أنّه لا يجاهد العدو إلا على ما قلناه ، وقد قدّمنا (3) ذلك. فإن كان في حال ظهور الإمام ، لزمه الوفاء به ، على كلّ حال.

ومن لا يمكنه المرابطة بنفسه ، فرابطة دابة ، أو أعان المرابطين بشي ء من ماله ، كان فيه الثواب.

ص: 5


1- ج : في الجهة.
2- النهاية : كتاب الجهاد ، إلا أنّ في المصدر : « ومن أخذ من إنسان ».
3- ل : قد بيّنا.

باب في ذكر أصناف الكفار ومن يجب قتالهم منهم وكيفية القتال

الكفار على ثلاثة أضرب ، أهل كتاب وهم اليهود والنّصارى ، فهؤلاء يجوز إقرارهم على دينهم ببذل الجزية. ومن له شبهة كتاب فهم المجوس (1) ، فحكمهم حكم أهل الكتاب ، يقرون أيضا على دينهم ببذل الجزية. ومن لا كتاب له ولا شبهة كتاب ، وهم من عدا هؤلاء الثلاثة الأصناف ، من عباد الأصنام ، والأوثان ، والكواكب ، وغيرهم فلا يقرون على دينهم ببذل الجزية.

ومتى امتنع أهل الكتاب ، ومن له شبهة كتاب ، من بذل الجزية ، كان حكمهم حكم غيرهم من الكفّار ، في وجوب قتالهم ، وسبي ذراريهم ، ونسائهم ، وأخذ أموالهم وتكون فيئا.

وينبغي للإمام أن يبدأ بقتال من يليه من الكفار ، الأقرب فالأقرب ، والأولى أن يشحن كلّ طرف من أطراف بلاد الإسلام بقوم يكونون أكفاء لمن يليهم من الكفّار ، ويولّي عليهم أميرا عاقلا دينا خيّرا شجاعا يقدم في موضع الإقدام ، ويتأنى في موضع التّأني.

ولا يجوز قتال أحد من الكفار إلا بعد دعائهم إلى الإسلام ، وإظهار الشهادتين ، والإقرار بالتوحيد ، والعدل ، والتزام جميع شرائع الإسلام ، فمتى دعوا إلى ذلك ، ولم يجيبوا حلّ قتالهم ، ومتى لم يدعوا لم يجز قتالهم.

والداعي ينبغي أن يكون الإمام أو من يأمره الإمام.

ولا يجوز قتال النساء ، فإن قاتلن المسلمين ، وعاون أزواجهن ، ورجالهن ، أمسك عنهن ، فإن اضطر إلى قتلهن جاز حينئذ قتلهن ، ولم يكن به بأس.

وشرائط الذّمة ، الامتناع من مجاهرة المسلمين ، بأكل لحم الخنزير ، وشرب

ص: 6


1- ج : وهم المجوس.

الخمور ، وأكل الربا ، ونكاح المحرمات في شريعة الإسلام ، وإن لا يأووا عينا على المسلمين ، ولا يعاونوا عليهم كافرا ، وان لا يستقروا (1) على مسلم ، فمتى فعلوا شيئا من ذلك ، فقد خرجوا من الذمة ، وجرى عليهم أحكام الكفار الحربيين الذين لا كتاب لهم.

ومن أسلم من الكفار وهو بعد في دار الحرب ، كان إسلامه حقنا لدمه ، من القتل ، ولولده الصغار من السبي. فأمّا الكبار (2) منهم البالغون ، فحكمهم حكم غيرهم من الكفار ، وماله من الأخذ ، كلّ ما كان صامتا ، أو متاعا ، أو أثاثا ، وجميع ما يمكن نقله إلى دار الإسلام ، وأمّا الأرضون ، والعقارات ، وما لا يمكن نقله فهو في ء للمسلمين.

ويجوز قتال الكفار بسائر أنواع القتل وأسبابه ، إلا بتغريق المساكن ، ورميهم بالنيران ، وإلقاء السم في بلادهم ، فإنّه لا يجوز أن يلقى السمّ في بلادهم قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : وكره أصحابنا إلقاء السمّ (3) وقال في نهايته :

لا يجوز إلقاء السّم في بلادهم (4) وما ذكره في نهايته ، به نطقت الأخبار عن الأئمة الأطهار (5) وروى أصحابنا كراهيّة تبييت العدو حتى يصبح (6).

والوجه في جميع ما تقدم أنّه إذا كان مستظهرا وفيه قوة ، ولا حاجة به إلى الإغارة ليلا ، امتنع ، وإذا كان بالعكس من ذلك ، جاز الإغارة ليلا ، وروى ابن عبّاس عن المصعب بن حنانة ، قال : قلت يا رسول اللّه ، نبيّت المشركين وفيهم النساء والصبيان ، فقال : انّهم منهم (7).

وأمّا تخريب المنازل ، والحصون ، وقطع الأشجار المثمرة ، فإنّه جائز إذا غلب

ص: 7


1- ل : ولا يسقروا.
2- ل : فأمّا الكبار البالغون.
3- المبسوط في فصل أصناف الكفار وكيفية قتالهم.
4- النهاية : كتاب الجهاد ، باب من يجب قتالهم.
5- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 16 من أبواب جهاد العدو ، والباب 15 من مستدرك الوسائل.
6- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 17 من أبواب جهاد العدو.
7- سنن ابن ماجة : ج 2 ص 947 ح 2839 وسنن أبي داود : ج 3 ص 54 ح 2672 الصعب بن جثامة وفيهما كالمبسوط الموافق لما في الكتب الرجالية وفي ج. الصعب بن خبانه.

في ظنّه أنّه لا يملك إلا بذلك ، فإن غلب في ظنه أنّه يملكه ، فالأفضل أن لا يفعل ، فإن فعل جاز ، كما فعل الرّسول عليه السلام بالطائف ، وبنى النضير ، وخيبر ، فأحرق على بنى النّضير ، وخرّب ديارهم.

وإذا تترس المشركون بأطفالهم ، فإن كان ذلك حال التحام القتال ، جاز رميهم ، ولا يقصد الطفل ، بل يقصد من خلفه ، لأنّه لو لم يفعل ذلك لأدى إلى بطلان الجهاد ، وكذلك الحكم إذا تترسوا بأسارى المسلمين ، وكذلك إذا تترسوا بالنساء ، فإن كان في جملتهم قوم من المسلمين النازلين عليهم ، فهلك المسلمون فيما بينهم ، أو هلك من أموالهم شي ء ، لم يلزم المسلمين ولا غيرهم غرامته من الدية ، والأرش.

فإمّا الكفارة في قتل المسلم النازل عندهم ، من غير قصد إلى قتله ، فإنّ الدية لا تجب ، ولا القود ، بل يجب الكفارة لقوله تعالى ( فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) (1) ولم يذكر الدية.

ولا بأس بقتال المشركين في أي وقت كان ، وفي أيّ شهر كان ، إلا الأشهر الحرم ، فإنّ من يرى منهم خاصّة لهذه الأشهر حرمة ، لا يبتدءون فيها بالقتال ، فإن بدءوا هم بقتال المسلمين جاز حينئذ قتالهم ، وان لم يبتدئوا ، أمسك عنهم إلى انقضاء هذه الأشهر ، فأمّا غيرهم من سائر أصناف الكفار ، فإنّهم يبتدئون فيها بالقتال على كل حال.

ولا بأس بالمبارزة بين الصفين في حال القتال ، غير أنّه لا يجوز أن يطلب المبارزة ، إلا بإذن الإمام.

ولا يجوز لأحد أن يؤمن إنسانا على نفسه ثم يقتله ، فإنّه يكون غادرا (2).

ويلحق بالذراري من لم يكن قد أنبت بعد ، ومن أنبت ، الحق بالرجال واجرى عليه أحكامهم.

ص: 8


1- النساء : 92.
2- ل : عاديا غادرا.

ويكره قتل من يجب قتله صبرا ، وانّما يقتل على غير ذلك الوجه ، ومعنى صبرا (1) حبسا للقتل.

ولا يجوز أن يفر واحد من واحد ، ولا اثنين ، فإن فر منهما ، كان مأثوما ، ومن فر من أكثر من اثنين ، لم يكن به بأس.

باب قسمة الفي ء وأحكام الأسارى

قد ذكرنا في كتاب الزكاة كيفيّة قسمة الفي ء ، غير انّا نذكر هاهنا ما يليق بهذا المكان.

كلّ ما غنمه المسلمون من المشركين ، ينبغي للإمام أن يخرج منه الخمس ، فيصرفه في أهله ومستحقه ، حسب ما بيّناه في كتاب الزكاة ، بعد اصطفاء ما يصطفيه ، والباقي على ضربين ، ضرب منه للمقاتلة خاصّة ، دون غيرهم من المسلمين ، وضرب هو عام لجميع المسلمين ، مقاتليهم وغير مقاتليهم ، فالذي هو لجميع المسلمين ، فكلّ ما عدا (2) ما حواه العسكر ، من الأرضين ، والعقارات ، وغير ذلك ، فإنّه بأجمعه في ء للمسلمين ، من غاب منهم ، ومن حضر على السواء ، وما حواه العسكر يقسم بين المقاتلة خاصة ، ولا يشركهم فيه غيرهم.

فإن قاتلوا وغنموا ، فلحقهم قوم آخرون ، لمعونتهم ، أو مدد لهم (3) ، كان لهم من القسمة ، مثل ما لهم ، يشاركونهم ، هذا إذا لحقوا بهم قبل قسمة الغنيمة ، فأمّا إذا لحقوا بعد القسمة ، فلا نصيب لهم معهم ، وكذلك إذا نفذ أمير الجيش سرية إلى جهة ، فغنموا ، شاركهم الجيش ، لأنّه مدد لهم ، وهم من جملته.

وينبغي للإمام أن يسوّي بين المسلمين في القسمة ، لا يفضل أحدا منهم

ص: 9


1- ج : ويعنى بقولهم صبرا.
2- ج : المسلمين ، كلّ ما عدا.
3- ل : آخرون ومددهم.

لشرفه ، أو علمه ، أو زهده على من ليس كذلك في قسمة الفي ء.

وينبغي أن يقسم للفارس سهمين ، وللراجل سهما على الصحيح من المذهب.

وقال بعض أصحابنا (1) : يعطى الفارس ثلاثة أسهم ، وإن لم يكن معه إلا فرس واحد ، والأظهر من الأقوال الأول.

فإن كان مع الرجل ، أفراس جماعة ، لم يسهم منها إلا لفرسين ، فيعطى ثلاثة أسهم ، وللراجل سهم واحد ، ولصاحب الفرس الواحد سهمان ، ولا يسهم لشي ء من المركوب من الإبل ، والبغال ، والحمير ، والبقر ، والفيلة ، إلا للخيل خاصّة ، بلا خلاف ، سواء كان الفرس عتيقا كريما ، أو برذونا ، أو هجينا ، أو مقرفا ، أو حطما ، أو قحما ، أو ضرعا ، أو أعجف ، أو رازحا ، فإنّه يسهم له (2).

فالعتيق ، الذي أبوه كريم ، وامه كريمة. والبرذون الذي أبوه كريم (3) ، وامه غير عتيقة ، وهي الكريمة. والهجين ، الذي أبوه عتيق ، وامه غير عتيقة ، والمقرف عكس ذلك. والحطم : المتكسر. والقحم ، بفتح القاف وسكون الحاء ، الكبير. والضرع ، بفتح الضاد والراء : الصغير والأعجف : المهزول. والرازح : الذي لا حراك به.

ومن ولد في أرض الجهاد من الذكور قبل قسمة الغنيمة ، كان له من السهم مثل ما للمقاتل على السواء ، على ما رواه أصحابنا (4).

وإذا قاتل قوم من المسلمين المشركين في السفينة ، فغنموا وفيهم الفرسان والرجالة ، كان قسمتهم مثل قسمتهم لو قاتلوا على البر سواء ، للفارس سهمان ، وللراجل سهم ، على ما رواه أصحابنا (5).

وعبيد المشركين إذا لحقوا بالمسلمين قبل مواليهم ، وأسلموا ، كانوا أحرارا ،

ص: 10


1- وهو الإسكافي على ما في الجواهر.
2- ج : يسهم.
3- ج : أبوه غير كريم.
4- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 41 ، ح 8 - 9.
5- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 38 من أبواب جهاد العدو.

وحكمهم حكم الأحرار المسلمين ، وإن لحقوا بعد مواليهم ، كان حكمهم حكم العبيد ، لا يخرجون من ملكة ساداتهم ، وفي الأول خرجوا باللحوق قبل السادة من ملكتهم ، ولو أسلم السادة بعدهم لم يعودوا إلى ملكتهم.

ومتى أغار المشركون على المسلمين ، فأخذوا منهم ذراريهم ، وعبيدهم ، وأموالهم ، ثم ظفر بهم المسلمون ، فأخذوا منهم ما كانوا أخذوه ، فإنّ أولادهم يردّون إليهم بعد أن يقيموا البيّنة ، ولا يسترقون بغير خلاف في ذلك.

فأمّا العبيد والأمتعة والأثاثات (1) ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : يقومون في سهام المقاتلة ، ويعطي الإمام مواليهم أثمانهم من بيت المال (2).

والذي تقتضيه أصول المذهب ، وتعضده الأدلة ، وافتي به ، أنّ ذلك إن قامت البيّنة به قبل القسمة ، ردّ على أصحابه بأعيانه ، ولا يغرم الإمام للمقاتلة عوضه شيئا ، وإن كان ذلك بعد قسمة الغنيمة على المقاتلة ، ردّ أيضا بأعيانه على أصحابه ، ورد الإمام قيمة ذلك للمقاتلة من بيت المال ، لا يجوز غير ذلك ، لأنّ المشركين لا يملكون أموال المسلمين ، وتملكه من أربابه يحتاج إلى دليل ، وقول الرسول عليه السلام لا يحل مال امرء مسلم إلا عن طيب نفس منه (3) ، والمسلم ، ما طابت نفسه بأخذ ماله.

وإلى ما اخترناه وحررناه يذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره (4) فإنه قال بعد ما أورد أخبارا : والذي أعمل عليه ، أنّه أحق بعين ماله على كل حال (5) ، وهذه الأخبار على ضرب من التقية ، ثم قال : والذي يدل على ذلك ، ما رواه

ص: 11


1- ل : والأثاث.
2- النهاية : كتاب الجهاد ، باب قسمة ألفي.
3- مستدرك الوسائل : كتاب الغصب ، الباب 1 ، ح 5.
4- الاستبصار : كتاب الجهاد ، الباب 3 في أن المشركين يأخذون من مال المسلمين.
5- ل : وتحمل.

الحسن بن محبوب ، في كتاب المشيخة ، عن عليّ بن رئاب ، عن طربال ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : سئل عن رجل كانت له جارية ، فأغار عليه المشركون ، وأخذوها منه ، ثمّ انّ المسلمين بعد غزوهم ، فأخذوها فيما غنموا منهم ، فقال : إن كانت في الغنائم ، وأقام البيّنة أنّ المشركين أغاروا عليهم وأخذوها منه ، ردّت عليه ، وإن كانت اشتريت ، وخرجت من المغنم ، فأصابها ، ردّت عليه برمتها ، وأعطى الذي اشتراها ، الثمن من المغنم من جميعه ، فإن لم يصبها حتى تفرّق الناس ، وقسموا جميع الغنائم ، فأصابها بعد ، قال : يأخذها من الذي هي في يده ، إذا أقام البيّنة ، ويرجع الذي هي في يده على أمير الجيش بالثمن (1) هذا آخر كلام شيخنا في الاستبصار ، وإلى ما اخترناه يذهب في مسائل خلافه أيضا (2).

والأسارى ، فعندنا على ضربين ، أحدهما أخذ قبل أن ( تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ) ، وينقضي الحرب والقتال ، فإنّه لا يجوز للإمام استبقاؤه ، بل يقتله ، بأن يضرب رقبته (3) ، أو يقطع يديه ورجليه ، ويتركه حتى ينزف ويموت ، إلا أن يسلم ، فيسقط عنه القتل.

والضرب الآخر ، هو كلّ أسير يؤخذ بعد أن تضع الحرب أوزارها ، فإنّه يكون الامام مخيرا فيه ، بين أن يمن عليه ، فيطلقه ، وبين أن يسترقه ، وبين أن يفاديه ، وليس له قتله بحال.

ومن أخذ أسيرا فعجز عن المشي ، ولم يكن معه ما يحمله عليه إلى الامام ، فليطلقه ، لأنّه لا يعلم ما حكم الامام فيه.

ومن كان في يده أسير ، وجب عليه أن يطعمه ، ويسقيه ، وإن أريد قتله في الحال ولا يجوز قتال أحد من الكفار الذين لم تبلغهم الدعوة ، إلا بعد دعائهم الى

ص: 12


1- الوسائل : الباب 37 من أبواب الجهاد ، ح 5 ، وفي الاستبصار : كتاب الجهاد ، الباب 3 ح 5.
2- الخلاف : كتاب السير ، مسألة 10.
3- ل : عنقه.

الإسلام ، وإظهار الشهادتين ، والإقرار بالتوحيد والعدل ، والتزام جميع شرائع الإسلام ، والداعي يكون الإمام ، أو من يأمره الإمام ، على ما قدمناه.

فإن بدر إنسان ، فقتل منهم قبل الدعاء ، فلا قود عليه ، ولا دية ، لأنّه لا دليل عليه ، وقوله عزوجل ( لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ) (1) أراد بالحج والأدلة ، وقيل : أراد بذلك (2) ، عند قيام المهدي عليه السلام ، وقيل : إنّه أراد على أديان العرب كلّها (3) ، وقد كان ذلك.

فإن أسر الكافر ، وله زوجة ، فإنّهما على الزوجية ما لم يختر الإمام الاسترقاق ، فإن منّ عليه ، أو فأداه ، عاد إلى زوجته ، وإن اختار استرقاقه ، انفسخ النكاح.

وإن كان الأسير امرأة مزوجة ، فإن النكاح ينفسخ بنفس الأسر لأنّها صارت رقيقة بنفس الأسر.

وإذا وقعت المرأة وولدها في السبي ، قال بعض أصحابنا : لا يجوز للإمام أن يفرّق بينهما ، فيعطي الام لواحد ، والولد لآخر.

وهكذا إذا كان لرجل أمة ، وولدها ، فلا يجوز أن يفرّق بينهما يبيع ولا هبة (4) ولا غيرهما من أسباب الملك ، وفي أصحابنا من قال : انّ ذلك مكروه ، ولا يفسد البيع به ، وهو الأقوى عندي ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في مبسوطة ، فإنّه قال : فإن خالف وباع ، جاز البيع على الظاهر من المذهب (5) ، هذا قول شيخنا أبي جعفر في مبسوطة ، وكذلك في موضع من نهايته (6).

وأمّا التفرقة بينه وبين الوالد ، فإنه جائز بغير خلاف.

قد بيّنا أنّه متى حدث الرق في الزوجين ، أو أحدهما انفسخ النكاح بينهما ،

ص: 13


1- التوبة : 33.
2- ج : ذلك.
3- ل : وقيل أراد أديان العرب كلّها.
4- ج : أوهبة.
5- المبسوط : كتاب الجهاد ، في فصل حكم الأسارى.
6- النهاية : باب العتق وأحكامه.

فالنساء يرققن بنفس حيازة الغنيمة ، والرجال يرقون باختيار الإمام ، لا بحيازة الغنيمة ، فعلى هذا إذا سبي الزوجان ، انفسخ النكاح في الحال ، لأنّ الزوجة صارت مملوكة بنفس الحيازة ، وإن كان المسبي الرجل ، لا ينفسخ النكاح ، إلا إذا اختار الإمام استرقاقه ، فإن كان المسبي المرأة ، انفسخ أيضا في الحال لما قلناه.

فأمّا إذا كان الزوجان جميعا مملوكين ، فإنّه لا ينفسخ النكاح ، لأنّه ما حدث رق هاهنا ، لأنّهما كانا رقيقين قبل ذلك.

والفرس الذي يقسم له ، ما تناوله اسم الخيل والفرس ، سواء كان عتيقا أو هجينا أو مقرفا ، فالعتيق الذي أبوه وامه عربيان ، عتيقان ، خالصان. والهجين الذي أبوه كريم عتيق ، وامّه برذونة والمقرف الذي أمه كريمة عتيقة ، وأبوه برذون ، قال الشاعر :

وما هند إلا مهرة عربيّة *** سليلة أفراس تجلّلها بغل

فإن نتجت مهرا كريما فبالحرى *** وإن يك أقراف فمن جهة الفحل

فأمّا من قاتل على حمار ، أو على بغل ، أو جمل ، فلا يسهم لمركوبه ، لانّه ليس بفرس ، ولا يسمّى راكبه فارسا.

وتجب الهجرة على كل من قدر عليها ، ولا يأمن على نفسه من المقام بين الكفار ، ولا يتمكن من إظهار دينه بينهم ، فيلزمه أن يهاجر ، والهجرة باقية أبدا ، ما دام الشرك قائما ، وروي عن النبي عليه السلام ، أنّه قال : لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها (1).

وما روي من قوله عليه السلام : لا هجرة بعد الفتح (2) ، معناه لا هجرة بعد الفتح ، فضلها كفضل الهجرة قبل الفتح ، وقيل : المراد لا هجرة (3) بعد الفتح من مكّة ،

ص: 14


1- التاج : ج 4 ، ص 345 ، كنز العمال : ج 16 ، ص 654. أخرجه عن صحيح مسلم وسنن أبي داود.
2- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 36 من أبواب جهاد العدو ح 7.
3- ج : المراد بعد.

لأنّها صارت دار إسلام.

ولا جهاد على العبيد.

والمسلم ، إذا أسره المشركون ، لم يجز له أن يتزوّج فيما بينهم ، فإن اضطر جاز له أن يتزوج في اليهود والنصارى ، على ما روي في بعض الأخبار (1) فأمّا غيرهم فلا يقربهم على حال (2).

باب قتال أهل البغي والمحاربين وكيفيّة قتالهم والسيرة فيهم

كل من خرج على إمام عادل ، ونكث بيعته ، وخالفه في أحكامه ، فهو باغ ، وجاز للإمام قتاله ، ومجاهدته ، ويجب على من يستنهضه الإمام في قتالهم ، النهوض معه ، ولا يسوغ له التأخير عن ذلك.

وجملة الأمر وعقد الباب ، أنّه لا يجب قتال أهل البغي ، ولا يتعلّق بهم أحكامهم ، إلا بثلاثة شروط :

أحدها : أن يكونوا في منعة ، ولا يمكن كفهم وتفريق (3) جمعهم ، إلا باتفاق ، وتجهيز جيوش وقتال.

والثاني : أن يخرجوا عن قبضة الإمام ، منفردين عنه ، في بلد أو بادية ، فأمّا إن كانوا معه في قبضته ، فليسوا أهل بغي.

والثالث : أن يكونوا على المباينة بتأويل سائغ (4) عندهم ، فأمّا من باين وانفرد بغير تأويل ، فهو قاطع طريق ، وحكمهم حكم المحاربين ، لا حكم البغاة.

ومن خرج على إمام جائز ، لم يجز قتالهم على حال.

ولا يجوز قتال أهل البغي ، إلا بأمر الإمام ، ومن قاتلهم ، فلا ينصرف

ص: 15


1- الوسائل : كتاب النكاح ، الباب 2 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه ح 3 - 4 - 5.
2- ل : على كل حال.
3- ل : ولا تفريق.
4- ل : شائع عنهم.

عنهم إلا بعد الظفر بهم ، أو يفيئوا إلى الحقّ ، ومن رجع عنهم من دون ذلك ، فقد باء بغضب من اللّه تعالى ، وعقابه ، عقاب من فرّ من الزحف.

وأهل البغي عند أصحابنا على ضربين ، ضرب منهم يقاتلون ، ولا يكون لهم رئيس يرجعون اليه ، والضرب الآخر ، يكون لهم أمير ورئيس يرجعون في أمورهم إليه ، فالضرب الأوّل ، كأهل البصرة وأصحاب الجمل. والضرب الثاني كأهل الشام وأصحاب معاوية بصفين ، فإذا لم يكن لهم رئيس يرجعون إليه ، فإنّه لا يجاز على جريحهم ، ولا يتبع هاربهم (1) ، ولا تسبى ذراريهم ، ولا يقتل أسيرهم ، ومتى كان لهم رئيس يرجعون إليه في أمورهم ، كان للإمام أن يجيز على جريحهم ، وأن يتبع هاربهم ، وأن يقتل أسيرهم.

ولا يجوز سبي الذراري على حال.

ويجوز للإمام أن يأخذ من أموالهم ما حوى العسكر ، ويقسم على المقاتلة حسب ما قدّمناه ، وليس له ما لم يحوه العسكر ، ولا له إليه سبيل على حال ، هذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في نهايته (2) والجمل والعقود (3).

ثم قال في مبسوطة : إذا انقضت الحرب بين أهل العدل والبغي ، إمّا بالهزيمة ، أو بأن عادوا إلى الحقّ ، وطاعة الإمام ، وقد كانوا أخذوا الأموال ، وأتلفوا ، وقتلوا ، نظرت ، فكلّ من وجد عين ماله عند غيره ، كان أحق به ، سواء كان من أهل العدل ، أو أهل البغي ، لما رواه ابن عبّاس أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال : المسلم أخ المسلم ، لا يحل له دمه ، وماله إلا بطيبة من نفسه ، وروي أنّ عليا عليه السلام لما هزم الناس يوم الجمل ، قالوا له : يا أمير المؤمنين ، ألا تأخذ أموالهم ، قال : لا ، لأنّهم تحرّموا بحرمة الإسلام ، فلا تحل أموالهم في دار الهجرة ،

ص: 16


1- ل : منهزمهم.
2- النهاية : كتاب الجهاد ، باب قتال أهل البغي والمحاربين ..
3- الجمل والعقود : لا يوجد في النسخة التي بأيدينا.

وروى أبو قبيس ، أنّ عليّا عليه السلام ، نادى : من وجد ماله فليأخذه ، فمرّ بنا رجل ، فعرف قدرا نطبخ فيها ، فسألناه أن يصبر حتى ينضج ، فلم يفعل ، ورمى برجله فأخذها ، قال رحمه اللّه : وقد روى أصحابنا ، أنّ ما يحويه العسكر ، من الأموال ، فإنّه يغنم ، قال : وهذا يكون إذا لم يرجعوا إلى طاعة الإمام ، فأمّا إن رجعوا إلى طاعته ، فهم أحق بأموالهم (1) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة.

وذكر أيضا في مبسوطة ، فقال : إذا وقع أسير من أهل البغي في أيدي أهل العدل ، فإن كان شابا من أهل القتال ، وهو الجلد الذي يقاتل ، كان له حبسه ، ولم يكن له قتله ، قال : وقال بعضهم : له قتله ، قال رحمه اللّه : والأوّل مذهبنا (2) فقد اعتمد رحمه اللّه ، وأقرّ بأنّ الأوّل مذهبنا ، وهو أنّه لا يقتل الأسير.

وقال في مسائل خلافه (3) ، في أحكام أهل البغي ، مثل قوله في مبسوطة في الأسير ، ولم يذكر شيئا من أحكامهم في الاستبصار ، ولا في تهذيب الأحكام ، ولا ذكر في أخذ المال ، ولا قتل الأسير شيئا ، والأخبار التي أوردها في كتاب تهذيب الأحكام ، وهو أكبر كتاب له في الأخبار ، ما فيها شي ء من أخذ ما حواه العسكر ، ولا قتل الأسير ، بل أورد أخبارا في هذا الكتاب يتضمن خلاف ما ذكره في نهايته (4) ، وجمله وعقوده (5).

من ذلك الإيراد : محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن وهب ، بن (6) جعفر ، عن أبيه ، عن جده ، عن مروان بن الحكم لعنه اللّه قال : لما هزمنا عليّ بالبصرة ، رد على الناس أموالهم ، من أقام بينة أعطاه ، ومن لم يقم بيّنة أحلفه ، قال : فقال له قائل : يا أمير المؤمنين ، اقسم الفي ء بيننا والسبي ،

ص: 17


1- المبسوط : ج 7 قتال أهل البغي.
2- المبسوط : ج 7 قتال أهل البغي.
3- الخلاف : كتاب الباغي ، المسألة 6.
4- النهاية : كتاب الجهاد ، باب قتال أهل البغي والمحاربين.
5- الجمل والعقود : لا يوجد في النسخة التي بأيدينا.
6- ج : ل : عن.

قال : فلما أكثروا عليه ، قال : أيّكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه ، فكفّوا (1).

وغير ذلك من الأخبار لم يذكر فيها أخذ ما حواه العسكر بحال ، وشيخنا المفيد لم يتعرض لذلك في مقنعته بحال.

فأمّا السيد المرتضى فقد ذكر في المسائل الناصريات ، المسألة السادسة والمائتان : يغنم ما حوت عليه عساكر أهل البغي ، يصرف للفارس بفرس عتيق ثلاثة أسهم ، سهم له وسهمان لفرسه ، ويسهم للبرذون سهم واحد ، قال السيد المرتضى رحمه اللّه : هذا غير صحيح ، لأنّ أهل البغي لا يجوز غنيمة أموالهم ، وقسمتها كما تقسم أموال أهل الحرب ، ولا أعلم خلافا بين الفقهاء في ذلك ، ويرجع الناس كلّهم في هذا الموضع ، إلى ما قضى به أمير المؤمنين عليه السلام في محاربي أهل البصرة ، فإنّه منع من غنيمة أموالهم ، فلمّا روجع عليه السلام في ذلك ، قال أيّكم يأخذ عائشة في سهمه ، وليس يمتنع أن يخالف حكم قتال أهل البغي ، لقتال أهل دار الحرب في هذا الباب ، كما يخالف في أننا لا نتبع موليهم ، وإن كان اتباع المولّي من باقي المحاربين جائزا ، وانّما اختلف الفقهاء في الانتفاع بدواب أهل البغي ، وبسلاحهم في حال قيام الحرب ، فقال الشافعي : لا يجوز ذلك ، وقال أبو حنيفة : يجوز ما دامت الحرب قائمة ، ثم قال المرتضى رحمه اللّه : وليس يمتنع عندي أن يجوز قتالهم بسلاحهم على وجه لا يقع التملك له لأنّ ما منع من غنيمة أموالهم وقسمتها ، لا يمنع من قتالهم بسلاحهم ، لا على وجه التملك له ، كأنهم رموا حربة إلى جهة أهل الحق ، فيجوز أن يرموا بها على سبيل المدافعة والمقاتلة ، فأمّا استدلال الشافعي بقوله عليه السلام. لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه فليس بصحيح ، لأنّه إنّما نفى تملّك مال المسلمين وحيازته بغير طيب نفوسهم ، وليس كذلك المدافعة والممانعة ، وقد استدلّ

ص: 18


1- التهذيب : ج 6 ص 155 ، ح 273. وفيه عن وهب عن حفص عن أبيه إلخ.

أصحاب أبي حنيفة على صحّة ما ذهبوا إليه ، في هذه المسألة بقوله تعالى ( فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللّهِ ) (1) قالوا : فأباح القتال عاما ، وذلك يشمل على قتالهم بدوابهم ، وسلاحهم ، وعلى قتالهم بدوابنا وسلاحنا ، قال المرتضى : وهذا قريب (2).

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : الصحيح ما ذهب السيّد المرتضى رضي اللّه عنه اليه ، وهو الذي أختاره ، وافتي به ، والذي يدلّ على صحّة ذلك ، ما استدلّ به رضي اللّه عنه ، وأيضا فإجماع المسلمين على ذلك ، وإجماع أصحابنا منعقد على ذلك ، وقد حكينا في صدر المسألة ، أقوال شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتبه ، ولا دليل على خلاف ما اخترناه ، وقول الرسول عليه السلام : لا يحلّ ما امرء مسلم إلا عن طيب نفس منه ، وهذا الخبر قد تلقته الأمة (3) بالقبول ، ودليل العقل يعضده ، ويشيده ، لأنّ الأصل بقاء الأملاك على أربابها ، ولا يحل تملكها إلا بالأدلة القاطعة للأعذار.

والمحارب ، هو كلّ من قصد إلى أخذ مال الإنسان ، وشهر السلاح في برّ ، أو بحر ، أو حضر ، أو سفر ، فمتى كان شي ء من ذلك ، جاز للإنسان دفعه عن نفسه ، وماله ، فإن أدّى ذلك (4) إلى قتل اللّص ، لم يكن عليه شي ء ، وإن أدّى إلى قتله هو كان بحكم الشهداء ، وثوابه ثوابهم ، هذا مع غلبة ظنّه بأنّه يندفع له ، وأنّه مستظهر عليه ، وأمّا إن غلب على ظنّه العطب ، وإن اللص يستظهر عليه (5) ، فلا يتعرض له بحال ، لأنّ التحرز من الضرر المظنون ، يجب كوجوبه من الضرر المعلوم ، فأمّا حكم المحارب ، وحده ، فسنذكره إن شاء اللّه تعالى في كتاب الحدود عند المصير إليه.

ص: 19


1- الحجرات : 9.
2- المسائل الناصريات : المصدر ما هو المذكور في المتن.
3- ل : الإماميّة.
4- ل : ذلك الدفع.
5- ل : مستظهر عليه. وكذا قبله.

باب من زيادات ذلك

يجوز للإمام أن يذم لجميع المشركين ، فأمّا من عدا الإمام ، فلا يجوز له أن يذم لجميعهم ، بل إن كان واليا على صقع من الأصقاع ، فله أن يذم لمن في صقعه ، فأمّا إن لم يكن واليا فلا يجوز أن يذم ، إلا لآحاد المشركين ، دون الجماعات ، ويجوز للإمام أن يذم لقوم منهم ، ويجوز له (1) أن يصالحهم على ما يراه ، ولا يجوز لأحد أن يذم عليه إلا باذنه ، وإذا كان جماعة من المسلمين في سرية فأذمّ واحد منهم لمشرك ، كانت ذمته ماضية على الكلّ ، ولم يجز (2) لأحد منهم الخلاف عليه ، وإن كان أدونهم في الشرف ، حرا كان أو عبدا.

ومتى استذم قوم من المشركين إلى المسلمين ، فقال لهم المسلمون : لا نذمكم ، فجاؤا إليهم ظنّا منهم أنّهم أذمّوهم ، كانوا مأمونين ، ولم يكن عليهم سبيل.

ومن أذم مشركا ، أو غير مشرك ، ثم حفره ، ونقض ذمامه ، كان غادرا آثما.

ويكره أن يعرقب الإنسان الدابة على جميع الأحوال ، فإن وقفت عليه في أرض العدو فليخلها ، ولا يعرقبها ، إلا إذا خاف أن تركب ، ويلحقه العدو عليها ، فله عند هذه الحال أن يعرقبها.

وإذا اشتبه قتلى المشركين بقتلى المسلمين ، فقد روي أنّه يوارى منهم من كان صغير الذكر (3) وهذه رواية شاذّة ، لا يعضدها شي ء من الأدلة ، والأقوى عندي أنّه يقرع عليهم ، لأنّ كل أمر مشكل عندنا فيه القرعة بغير خلاف. وهذا من ذاك.

فأمّا الصلاة عليهم ، فالأظهر من أقوال أصحابنا أنّه يصلي عليهم بنية الصلاة على المسلمين دون الكفار.

ولا بأس أن يغزو الإنسان عن غيره ، ويأخذ منه على ذلك الأجرة ، فإن حصلت غنيمة كان السهم للأجير دون المستأجر.

ص: 20


1- ج : ويجوز.
2- ل : ولم يحل.
3- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 65 من أبواب جهاد العدو ح 1.

ويكره تبييت العدوّ ليلا ، وانّما يلاقون بالنهار ، وهذا مع الاستظهار ، على ما قدّمناه.

ويستحب أن لا يؤخذ في القتال إلا بعد زوال الشمس ، فإن اقتضت المصلحة تقديمه قبل ذلك ، فلا بأس.

ولا يجوز التمثيل بالكفار ، ولا الغدر بهم ، ولا الغلول (1) منهم.

ولا ينبغي تغريق المساكن والزروع ، ولا قطع الأشجار المثمرة في أرض العدو ، والإضرار (2) بهم ، إلا عند الحاجة الشديدة إلى ذلك ، على ما أسلفنا القول فيه وشرحناه.

وقال بعض أصحابنا (3) إنّه ليس للأعراب من الغنيمة شي ء ، وإن قاتلوا مع المهاجرين ، وهذه رواية شاذّة ، مخالفة لأصول مذهب أصحابنا ، أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته في باب الزيادات (4) ، وهذا يدلّ على وهنها عنده ، لأنّه لا خلاف بين المسلمين أن كل من قاتل من المسلمين ، فإنّه من جملة المقاتلة ، وانّ الغنيمة للمقاتلة ، وسهمه ثابت في ذلك ، فلا يخرج من هذا الإجماع ، إلا بإجماع مثله ، أو دليل مكاف له ، ولا يرجع فيه إلى أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا.

باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومن له إقامة الحدود والقضاء والحكم بين المختلفين ومن ليس له ذلك

الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجبان بلا خلاف بين الأمة ، وإنما الخلاف في أنّهما هل يجبان عقلا أو سمعا؟ فقال الجمهور من المتكلمين والمحصّلين من الفقهاء : إنّهما يجبان سمعا ، وأنّه ليس في العقل ما يدلّ على وجوبهما ، وانّما علمناه بدليل الإجماع من الأمة ، وبآي من القرآن (5) والأخبار

ص: 21


1- الغلول : الخيانة.
2- ج : للإضرار.
3- وهو الشيخ الطوسي قدس سره في النهاية ، باب قسمة الفي ء.
4- النهاية : كتاب الجهاد ، باب قتال أهل البغي والمحاربين.
5- آل عمران : 104 ، 110 ، 114 والأعراف : 157 والتوبة : 71 ، 112 والحج : 41 وغيرها توجد في مظانها.

المتواترة (1).

فأمّا ما يقع منه على وجه المدافعة ، فإنّه يعلم وجوبه عقلا لما علمناه بالعقل ، من وجوب دفع المضار عن النفس ، وذلك لا خلاف فيه ، وإنما الخلاف فيما عداه ، وهذا هو الذي (2) يقوى في نفسي ، والذي يدلّ عليه ، هو أنّه لو وجبا عقلا ، لكان في العقل دليل على وجوبهما ، وقد سبرنا أدلة العقل ، فلم نجد فيها ما يدل على وجوبهما ، ولا يمكن العلم الضروري في ذلك ، لوجود الخلاف فيه ، وهذا القول خيرة السيد المرتضى.

وقال قوم : طريق وجوبهما العقل ، وإلى هذا المذهب يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتابه الاقتصاد (3) بعد أن قوّى الأوّل ، واستدل على صحته بأدلة العقول ، ثم قال رحمه اللّه : ويقوى في نفسي أنّه يجب (4) عقلا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال : لما فيه من اللطف ، ولا يكفي فيه العلم باستحقاق الثواب والعقاب ، قال : لأنّا متى قلنا ذلك ، لزمنا أنّ الإمامة ليست واجبة ، بأن يقال يكفى العلم باستحقاق الثواب والعقاب ، وما زاد عليه في حكم الندب ، وليس بواجب ، قال رحمه اللّه : فالأليق بذلك أنّه واجب.

ثمّ قال رحمه اللّه : واختلفوا في كيفيّة وجوبهما ، فقال الأكثر : إنّهما من فروض الكفاية (5) إذا قام به البعض ، سقط عن الباقين ، وقال قوم : هما من فروض الأعيان ، ثم قال رحمه اللّه : وهو الأقوى عندي ، لعموم أي القرآن والأخبار.

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : والأظهر بين أصحابنا ، أنّهما من فروض الكفاية (6) ، إذا قام به البعض ، سقط عن الباقين ، وهو اختيار السيد المرتضى.

والأمر بالمعروف على ضربين ، واجب وندب ، فالأمر بالواجب منه واجب ، والأمر بالمندوب مندوب ، لأنّ الأمر به ، لا يزيد على المأمور به نفسه ، والنهي عن

ص: 22


1- الوسائل : كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، الباب 1.
2- ج : وهذا الذي.
3- الاقتصاد : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4- وفي المصدر : انهما يجبان.
5- ل : فروض الكفايات.
6- ل : فروض الكفايات.

المنكر لا ينقسم ، بل كلّه قبيح ، فالنهي عنه كلّه واجب.

والنهي عن المنكر له شروط ستة ، أحدها أن يعلمه منكرا ، وثانيها أن يكون هناك أمارة الاستمرار عليه ، وثالثها أن يظن أن إنكاره يؤثر أو يجوّزه ، ورابعها أن لا يخاف على نفسه ، وخامسها أن لا يخاف على ماله ، وسادسها أن لا يكون فيه مفسدة ، وإن اقتصرت على أربعة شروط كان كافيا ، لأنّك إذا قلت : لا يكون فيه مفسدة ، دخل فيه الخوف على النفس والمال ، لأنّ ذلك كلّه مفسدة.

والغرص بإنكار المنكر ، أن لا يقع ، فإذا أثّر القول والوعظ في ارتفاعه ، اقتصر عليه ، ولا يجوز حينئذ باليد ، وإن لم يؤثر وجب باليد ، بأن يمتنع (1) منه ، ويدفع عنه ، وإن أدّى ذلك إلى إيلام المنكر عليه ، والإضرار به ، وإتلاف نفسه بعد أن يكون القصد ارتفاع المنكر ، وأن لا يقع من فاعله ، ولا (2) يقصد إيقاع الضرر به.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في كتابه الاقتصاد : غير أنّ ظاهر مذهب شيوخنا الإماميّة ، أنّ هذا الجنس من الإنكار ، لا يكون إلا للإمام ، أو لمن يأذن له الإمام فيه. ثم قال رحمه اللّه : وكان المرتضى رحمه اللّه يخالف في ذلك ، ويقول : يجوز فعل ذلك بغير إذنه ، لأنّ ما يفعل بإذنهم يكون مقصودا ، وهذا بخلاف ذلك ، لأنّه غير مقصود ، وإنّما قصده المدافعة والممانعة ، فإن وقع ضرر فهو غير مقصود (3) ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي في الاقتصاد.

وما ذهب السيد المرتضى رضي اللّه عنه إليه ، هو الأقوى ، وبه أفتي ، وقد رجع شيخنا أبو جعفر الطوسي ، إلى قول المرتضى في كتاب التبيان (4) ، وقوّاه ،

ص: 23


1- ج : ل : يمنع.
2- ل : وان لا.
3- الاقتصاد : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
4- التبيان : ج 2 في ذيل الآية 104 - 114 من سورة آل عمران.

ونصره ، وضعّف ما عداه ، وإلى ما ذهب في الاقتصاد ذهب في النهاية : فقال في نهايته : وقد يجب إنكار المنكر بضرب من الفعل ، وهو أن يهجر فاعله ، ويعرض عنه ، وعن تعظيمه ، ويفعل معه من الاستخفاف ما يرتدع معه من المناكير ، فإن خاف الفاعل للإنكار باللسان ضررا ، اقتصر على الإنكار بالقلب ، حسب ما قدّمناه في المعروف سواء (1).

وأمّا إقامة الحدود ، فليس يجوز لأحد إقامتها إلا لسلطان الزمان ، المنصوب من قبل اللّه تعالى ، أو من نصبه الإمام لإقامتها ، ولا يجوز لأحد سواهما إقامتها على حال ، وقد رخّص في حال قصور أيدي أئمة الحق ، وتغلب الظالمين ، أن يقيم الإنسان الحد على ولده ، وأهله ، ومماليكه ، إذا لم يخف في ذلك ضررا من الظالمين ، وأمن بوائقهم.

قال محمّد بن إدريس ، مصنف هذا الكتاب : والأقوى عندي ، أنّه لا يجوز له (2) أن يقيم الحدود إلا على عبده فحسب ، دون ما عداه من الأهل ، والقرابات ، لما قد ورد في العبد من الأخبار (3) واستفاض به النقل بين الخاص والعام.

وقد روي أنّ من استخلفه سلطان ظالم على قوم ، وجعل إليه إقامة الحدود ، جاز له أن يقيمها عليهم على الكمال (4) ويعتقد أنه انّما (5) يفعل ذلك بإذن سلطان الحق لا بإذن سلطان الجور ، ويجب على المؤمنين معونته ، وتمكينه من ذلك ، ما لم يتعدّ الحقّ في ذلك ، وما هو مشروع في شريعة الإسلام ، فإن تعدّى ما جعل إليه الحقّ ، لم يجز له القيام به ، ولا لأحد معاونته على ذلك.

ص: 24


1- النهاية : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
2- ج : لا يجوز.
3- الوسائل : كتاب الحدود والتعزيرات الباب 30 من أبواب مقدمات الحدود.
4- لا توجد في غير النهاية وأوردها فيها في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
5- ج : ويعتقد أنما.

والأولى في الديانة ترك العمل بهذه الرواية ، بل الواجب ذلك.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه مصنف هذا الكتاب : والرواية أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، وقد اعتذرنا له فيما يورده في هذا الكتاب ، أعني النهاية ، في عدّة مواضع ، وقلنا أنّه يورده إيرادا ، من طريق الخبر ، لا اعتقادا من جهة الفتيا والنظر ، لأنّ الإجماع حاصل منعقد من أصحابنا ، ومن المسلمين جميعا ، أنّه لا يجوز إقامة الحدود ، ولا المخاطب بها إلا الأئمة ، والحكّام القائمون بإذنهم في ذلك ، فأمّا غيرهم فلا يجوز له التعرض بها على حال ، ولا يرجع عن هذا الإجماع ، بأخبار الآحاد ، بل بإجماع مثله ، أو كتاب اللّه تعالى ، أو سنة متواترة مقطوع بها.

فإن خاف الإنسان على نفسه من ترك إقامتها ، فإنّه يجوز له أن يفعل في حال التقيّة ما لم يبلغ (2) قتل النفوس فلا يجوز (3) فيه التقيّة ، عند أصحابنا بلا خلاف بينهم.

وأمّا الحكم بين الناس والقضاء بين المختلفين ، فلا يجوز أيضا إلا لمن أذن له سلطان الحقّ في ذلك ، وقد فوضوا ذلك إلى فقهاء شيعتهم ، المأمونين المحصّلين الباحثين عن مآخذ الشريعة ، الديانين القيمين بذلك ، في حال لا يتمكنون فيه من توليته (4) بنفوسهم ، فمن تمكن من إنفاذ حكم وهو من أهله ، أو إصلاح بين الناس ، أو فصل بين المختلفين ، فليفعل ذلك ، وله به الأجر والثواب ، ما لم يخف في ذلك على نفسه ، ولا على أحد من أهل الإيمان ، ويأمن الضرر فيه ، فإن خاف شيئا من ذلك ، لم يجز له التعرّض له على حال.

ومن دعا غيره إلى فقيه من فقهاء أهل الحقّ ، ليفصل بينهما ، فلم يجبه ، وآثر المضي إلى المتولّي من قبل الظالمين ، كان في ذلك متعديا للحقّ ، مرتكبا للآثام ،

ص: 25


1- النهاية : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ..
2- ل : لم يبلغ فيه.
3- ج : فإنه لا يجوز.
4- ل : توليتهم.

مخالفا للإمام ، مرتكبا للسيئات العظام.

ولا يجوز لمن يتولّى الفصل بين المختلفين ، والقضاء بينهم ، أن يحكم إلا بموجب الحق ، ولا يجوز له (1) أن يحكم بمذهب أهل الخلاف ، فإن كان قد تولى الحكم من قبل الظالمين بغير اختياره ، فليجتهد أيضا في تنفيذ الأحكام ، على ما يقتضيه شريعة الإسلام ، فإن اضطر إلى تنفيذ حكم على مذهب أهل الخلاف ، بالخوف على النفس ، أو الأهل ، أو المؤمنين ، أو على أموالهم ، جاز له تنفيذ الحكم ، ما لم يبلغ ذلك قتل النفوس ، فإنّه لا تقيّة له في قتل النفوس ، حسب ما أسلفنا القول في معناه.

ويجوز لأهل الحق ، أن يجمعوا بالناس ، الصلوات كلّها ، وقد روي (2) صلاة الجمعة والعيدين ، ويخطبوا الخطبتين ، ويصلّوا بهم صلاة الكسوف ، ما لم يخافوا في ذلك ضررا ، فان خافوا في ذلك الضرر ، لم يجز لهم التعرض (3) على حال ، وقد قلنا ما عندنا في صلاة الجمعة جمعة ، وانّ ذلك لا يجوز في حال استتار الإمام ، لأنّ الجمعة لا تنعقد ، ولا تصح إلا بالإمام ، أو بإذن من جهته ، وتوليته لذلك ، فإذا فقدنا ذلك ، صليناها ظهرا أربع ركعات ، وأشبعنا القول فيه في كتاب الصلاة ، وحررناه.

وقد ذكر سلار في رسالته ، في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قال :

ولفقهاء الطائفة ، أن يصلوا بالناس في الأعياد ، والاستسقاء ، فأمّا الجمع فلا (4) هذا آخر كلامه وهو الأظهر.

ومن لا يحسن القضايا والأحكام في إقامة الحدود وغيرها ، لا يجوز له

ص: 26


1- ج : لا يجوز ان يحكم.
2- النهاية : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
3- ل. ق : التعرض له.
4- المراسم : باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

التعرض لذلك على حال ، فإن تعرض له كان مأثوما معاقبا ، فإن أكره على تولّي ذلك ، واضطرته تقية ، لم يكن عليه في ذلك شي ء ، ويجتهد لنفسه من الأباطيل (1) بكلّ ما يقدر عليه.

ولا يجوز لأحد أن يختار النظر من قبل الظالمين ، إلا في حال يقطع ويعلم أنه لا يتعدى الواجب ، ويتمكن من وضع الأشياء مواضعها ، ومن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، فإن علم أنّه يخل بواجب ، أو يركب قبيحا ، أو غلب على ظنّه ذلك ، فلا يجوز له التعرض له بحال من الأحوال مع الاختيار ، فإن أكره على الدخول فيه ، واضطرته التقية ، جاز له حينئذ ذلك ، وليجتهد ويتحرز لنفسه حسب ما قدمناه.

ص: 27


1- ل : التحرز من الأباطيل.

ص: 28

كتاب الديون والكفالات والحوالات والوكالات

اشارة

ص: 29

باب كراهية الدين وكراهية النزول على الغريم

يكره للإنسان الدين مع الاختيار ، وفقد الاضطرار إليه ، فإن فعل مختارا لا اضطرارا ، فالأولى له أن لا يفعل ، إلا إذا كان له ما يرجع إليه ، فيقضي به دينه ، فإن لم يكن له ما يرجع إليه ، فقد روي (1) أنّه إن كان له ولي يعلم أنّه إن مات قضى عنه ، قام ذلك مقام ما يملك.

وهذا غير واضح ، لأنّ الولي لا يجب عليه قضاء دين من هو ولي له ، بغير خلاف ، وقد أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) إيرادا لا اعتقادا من طريق خبر الآحاد.

فإذا خلا من الوجهين ، فإنّه يكره له الاستدانة ، وليس ذلك بمحظور ، إذا كان عازما على قضائه ، منفقا له في الطاعات أو المباحات ، وأمّا في حال الاضطرار ، فإنّه غير مكروه ، وفي هذه الحال لا يستدين إلا مقدار حاجته وكفايته ، على الاقتصاد من نفقته ، ونفقة عياله ، ممن تجب عليه نفقته.

ولا يجوز للإنسان أن يستدين ما يصرفه في نفقة الحج ، إلا بعد أن يكون الحجّ قد وجب عليه بوجود شرائطه ، ويكون له ما إذا رجع إليه قضى منه دينه.

ص: 30


1- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 2 من أبواب الدين والقرض ، ح 5.
2- النهاية : كتاب الديون والكفالات ...

وما ورد من الأخبار (1) في جواز الاستدانة للنفقة في الحج ، فمحمول على ما ذكرناه ، وحرّرناه ، لا على من لا يكون الحجّ قد وجب عليه ، ولا يكون له ما إذا رجع إليه قضى منه دينه ، لأنّ هذا لا يجب عليه الحج ، وهو على هذه الصفة ، وإذا كان ذلك لا يجب عليه ، فلا يجوز أن يستدين ليفعل ما لا يجب عليه.

ومن كان عليه دين ، وجب عليه العزم على قضائه ، فإن ترك العزم على ذلك ، كان مأثوما ، وهو بمنزلة السارق ، على ما روي (2) في الآثار عن الأئمة الأطهار.

ومن كان له غريم ، فلا ينبغي له أن ينزل عليه ، فإن نزل فلا يقيم عنده ، أكثر من ثلاثة أيّام.

ومن اضطر إلى الدين ، ولا يملك شيئا ، يرجع إليه ، وكان ممن يجد الصدقة ، فالأولى له ، والأفضل في ديانته ، أن يقبل الصدقة ، ولا يتعرض للدين ، لأنّ الصدقة حق جعلها اللّه له في الأموال.

ومن كان له غريم له عليه دين ، فأهدى المدين ، بفتح الميم ، الذي هو الغريم ، له شيئا لم تكن قد جرت به عادته ، وانّما فعله لمكان الدين ، استحب له أن يحتسبه من دينه ، وليس ذلك بواجب.

وقد روي (3) أنّه إذا رأى صاحب الدين المدين ، ( قد قلنا إنّ المدين بفتح الميم ، الذي عليه الدين ، ويقال مديون أيضا ، ودائن ، ومديان ، أربع لغات ، ويقال أيضا لغة خامسة مدان ، فأمّا الفاعل الذي له الدين ، فهو مدين بضمّ الميم ، وكسر الدال ، يقال : أدان زيد عمروا ، إذا أعطاه ، فزيد مدين ، وعمرو مدان ، ومدين بفتح الميم ) في الحرم لم يجز له مطالبته فيه ، ولا ملازمته ، بل ينبغي أن يتركه حتى يخرج من الحرم ، ثم يطالبه كيف شاء ، ذكر ذلك ، وأورده شيخنا أبو جعفر

ص: 31


1- الوسائل : كتاب الحج الباب 50 من أبواب وجوب الحج وشرائطه.
2- الوسائل : كتاب التجارة الباب 5 من أبواب الدين والقرض.
3- الوسائل : كتاب التجارة الباب 22 من أبواب الدين والقرض.

في نهايته (1).

وقال ابن بابويه في رسالته : وإذا (2) كان لك على رجل حقّ (3) فوجدته بمكة ، أو في الحرم ، فلا تطالبه ، ولا تسلّم عليه ، فتفرعه ، إلا أن تكون أعطيته حقك في الحرم ، فلا بأس بأن تطالبه به في الحرم.

قال محمد بن إدريس ، مصنف هذا الكتاب : الذي يقوى عندي ، في تحرير هذا القول ، وما ذكره وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته ، أن يحمل الخبر ، على أن صاحب الدين ، طالب المدين خارج الحرم ، ثمّ هرب منه والتجأ إلى الحرم ، فلا يجوز لصاحب الدين مطالبته ، ولا إفزاعه ، فأمّا إذا لم يهرب إلى الحرم ، ولا التجأ إليه خوفا من المطالبة ، بل وجده في الحرم ، وهو ملي بماله ، موسر بدينه ، فله مطالبته وملازمته ، وقول ابن بابويه : إلا أن يكون أعطيته حقك في الحرم ، فلك أن تطالبه في الحرم ، يلوح بما ذكرناه ، على ما حرّرناه ، ولو كان ما روي صحيحا ، لورد ورود أمثاله متواترا ، والصحابة ، والتابعون ، والمسلمون في جميع الأعصار ، يتحاكمون إلى الحكام في الحرم ، ويطالبون الغرماء بالديون ، ويحبس الحاكم على الامتناع من الأداء إلى عصرنا هذا ، من غير تناكر بينهم في ذلك ، وإجماع المسلمين على خلاف ذلك ، ووفاق ما اخترناه وحرّرناه ، وهذا معلوم ضرورة ، أو كالضرورة ، فلا نرجع عن الأمور المعلومة ، بأخبار ضعيفة أكثر ما (4) تثمر الظن ، دون اليقين والعلم ، ولا يورد ذلك في كتابه (5) إلا الآحاد من أصحابنا ، ولا إجماع عليه منهم ، والأصل الإباحة ، والحظر يحتاج إلى دليل ، والإنسان مسلّط على أخذ ماله ، والمطالبة به ، عقلا وشرعا.

ومن كان عليه دين ، وجب عليه السعي في قضائه ، والعزم على أدائه ، وترك

ص: 32


1- النهاية : كتاب الديون والكفالات ..
2- ج : إذا.
3- ج : دين.
4- ج : أكثرها.
5- ج : كتاب.

الإسراف في النفقة ، وينبغي له أن يتقنع (1) بالقصد ، ولا يجب عليه أن يضيّق على نفسه ، بل يكون بين ذلك قواما.

ويجب عليه عند مطالبة من له الحق ، دفع جميع ما يملكه إليه ، ما خلا داره التي يسكنها ، إذا كانت قدر كفاية سكناه ، وخادمه الذي يحتاج إلى خدمته ، وقوت يومه وليلته فحسب ، وما فضل عن ذلك ، فيجب دفعه الى من له عليه الدين (2) ، عند المطالبة.

باب وجوب قضاء الدين إلى الحيّ والميت

كل من كان عليه دين ، وجب عليه قضاؤه حسب ما يجب عليه (3) فإن كان حالا وجب عليه ، قضاؤه عند المطالبة في الحال ، إذا كان قادرا على أدائه ، لا يجوز له تأخيره بعد المطالبة له ، فإن كان في أوّل وقت الصلاة وصلّى بعد المطالبة ، فإن صلاته غير صحيحة ، لأنّ قضاء الدين بعد المطالبة واجب مضيّق ، وأداء الصلاة في أوّل وقتها واجب موسع ، وكلّ شي ء منع من الواجب المضيّق فهو قبيح ، بغير خلاف من محصّل ، وإن كان الدين مؤجلا وجب عليه قضاؤه عند حلول الأجل مع المطالبة.

ومن وجب عليه أداء الدين ، لا يجوز له مطله ودفعه مع قدرته على قضائه ، فقد قال الرسول عليه السلام : مطل الغني ظلم (4) ، فإن مطل ودفع كان على الحاكم حبسه ، بعد إقامة البيّنة بالحقّ ، وسؤال الخصم ذلك ، وإلزامه الخروج ممّا وجب عليه ، فإن حبسه ثمّ ظهر له بعد ذلك إعساره ، وجب عليه تخليته ، سواء حضر خصمه أو لم يحضر ، لقوله تعالى ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (5) وإن لم يكن معسرا غير أنّه يدفع به ، جاز للحاكم أن يبيع عليه متاعه

ص: 33


1- ل : ان ينفق
2- ح. من له الدين.
3- ج : قضاؤه ، فإن كان آه.
4- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 8 ، الحديث 3.
5- البقرة : 280.

وعقاره ما عدا داره ، وكذلك للحاكم أن يبيع عليه ماله الظاهر قبل حبسه ، وإنّما له حبسه إذا لم يكن له مال ظاهر ، ولا قامت له بيّنة بالإعسار. فله حبسه حتى يستبين حاله ، فانّ الغرض في ذلك استخلاص الحقّ لصاحبه ، دون الحبس.

وإن كان من وجب عليه الدين ، وثبت عند الحاكم غائبا ، وجب على الحاكم بعد سؤال صاحب الحقّ ومطالبته أن يبيع على الغائب شيئا من أملاكه ، غير أنّه لا يسلمه إلى خصمه إلا بعد كفلاء ، فإن حضر الغائب ولم يكن له بيّنة ، تبطل بينة صاحب الدين ، برئت ذمته ، وذمّة الكفلاء من الكفالة ، وإن كانت له بيّنة تبطل بينة صاحب الحق ، رد الكفلاء عليه المال ، ويبطل البيع إن كان قد باع شيئا من أملاكه ، لأنّ الحاكم يفعل على ظاهر الأحوال ، فإن تبين له الحق ردّ (1) ما فعله إليه.

ومتى كان المدين معسرا ، لم يجز لصاحب الدين مطالبته ، والإلحاح عليه ، بل ينبغي له أن يرفق به ، ويجب عليه أن ينظره إلى أن يوسع اللّه عليه ، أو يبلغ خبره الإمام ، فيقضي دينه عنه ، من سهم الغارمين إذا كان قد استدانه وأنفقه في طاعة أو مباح ، وكذلك إذا لم يعلم في أي شي ء أنفقه ، فأمّا إذا علم أنّه أنفقه في المعاصي ، فلا يجوز له أن يقضي عنه من سهم الغارمين ، ويجوز أن يعطي هو من سهم الفقراء إذا كان عدلا مستحقا للزكاة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن كان لا يعلم في ما ذا أنفقه ، أو علم أنّه أنفقه في معصية لم يجب عليه القضاء عنه (2).

وهذا غير واضح ، لأنّه رضي اللّه عنه ، جعل عدم العلم في ما ذا أنفقه مثل العلم بأنّه أنفقه في معصية ولا ينبغي أن يحمل الأمور إلا على الحلال والصحة ، دون الفساد ، وانّما تعبدنا

ص: 34


1- ج : نقض.
2- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت.

بالظاهر ، فأمّا تقييده في نهايته إذا كان قد استدانه وأنفقه في طاعة ، فما منع من إنفاقه على المباح (1) ، لأنّ ذلك دليل الخطاب ، ودليل الخطاب عند المحقّقين لأصول الفقه من أصحابنا غير معمول عليه.

ولا يجوز أن تباع دار الإنسان التي يسكنها ، ولا خادمه الذي يخدمه في الدين ، إذا كان مقدار ما فيها كفايته ، فإن كانت دار غلة ، وكذلك إن كانت كبيرة واسعة ، وله في دونها كفاية ، الزم بيعها ، والاقتصار على كفايته منها ، على ما قدمناه.

والمنع من بيع الدار والخادم في الدين ، على ما روي في بعض الأخبار (2) فإن تحقق إجماع من أصحابنا نرجع إليه ، لا دليل عليه سوى الإجماع منهم.

ومتى ألحّ صاحب الدين على المدين ، وأراد حبسه ولم يكن له بيّنة بالدين ، وخاف المدين إن أقر عند الحاكم بالدين من الحبس ، فيضر ذلك به وبعياله ، ولم يكن الحاكم عالما بإعساره وحاله ، جاز له أن ينكر ويحلف باللّه ما له قبلي شي ء ، ويورّى في نفسه ما يخرجه من الكذب ، ينوي عند قوله شي ء ، يستحقه الآن ، يخفى ذلك ، ويظهر ما عداه ، ممّا ذكرناه ، فإنّه إذا فعل ذلك صادق (3) بارّ ، لأنّه لا يستحق عليه في هذه الحال شيئا من المطالبة والخروج إليه من حقه عند إعساره ، لأنّ اللّه تعالى قال « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » وينطوي على أنّه إذا تمكن من قضائه ، قضاه ، ويجب عليه العزم على ذلك ، ولا شي ء عليه من الآثام ، فإذا تمكن من قضائه ، وجب عليه القضاء.

ومتى كان للإنسان على غيره دين فحلّفه على ذلك ، لم يجز له مطالبته بعد ذلك بشي ء منه ظاهرا ، فإن جاء الحالف تائبا ، وردّ عليه ماله ، جاز له أخذه ، فإن أعطاه مع رأس المال ربحا أخذ رأس ماله ، ونصف الربح ، هكذا أورده

ص: 35


1- ل : من إنفاقه في المباح. ق : في إنفاقه في المباح.
2- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 11 من أبواب الدين والقرض.
3- ل : ذلك كان صادقا.

شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

وتحرير الفتيا بذلك ، انّ المال المحلّف عليه إن كان قرضا ، أو دينا ، أو غصبا ، فالربح للحالف ، لا يستحق صاحب الدين منه ، قليلا ولا كثيرا في الدين والقرض ، لأنّ هذا ربح مال الحالف ، لأنّ القرض والدين في ذمته ، والربح له ، دون القارض وصاحب الدين ، بغير خلاف.

فأمّا إن كان المال غصبا ، واشترى الغاصب المتاع بثمن في ذمّته ، ونقد الشي ء المغصوب عوضا عمّا لزمه في ذمّته ، فالربح أيضا للغاصب ، لأنّه نماء ملكه وأرباحه.

وإن كان الشراء لا في الذمّة ، بل بعين المال المغصوب ، فالصحيح من أقوال أصحابنا ، وعند المحصلين منهم ، أنّ البيع غير منعقد ، ولا صحيح ، والأمتعة لأصحابها ، والأرباح والأثمان لأصحابها.

فأمّا إن كان المال مضاربة ، شرط له من الربح نصفه ، فيصح القول بذلك ، وتحمل وتخص ما ورد من الأخبار بذلك ، لأنّ العموم قد يخص بالأدلة ، فهذا تحرير القول في هذه الفتيا ، فليتأمّل ، وليفهم عنّا ما قلناه ، فإنّ فيه غموضا والتباسا على غير المحصّل لهذا الشأن.

وإن لم يحلفه غير أنّه لم يتمكن من أخذه منه ، ووقع له عنده مال ، جاز له أن يأخذ حقه منه (2) من غير زيادة عليه ، إن كان من جنس ماله ، ومثلا له ، وإن كان من غير جنسه ، فله أن يقوّمه على نفسه ، بالقيمة العدل ، ويأخذه.

وإن كان ما وقع عنده على سبيل الوديعة ، جاز له أيضا أخذه منها ، وقال

ص: 36


1- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحيّ والميّت ، والعبارة في المصدر هكذا : « ومتى كان للإنسان على غيره دين فحلّفه على ذلك لم يجز له أخذه فإن أعطاه من رأس المال ربحا أخذ رأس ماله ونصف الربح.
2- ج : حقه ، من.

شيخنا أبو جعفر في نهايته : لم يجز له ذلك ، ولا يخون فيها (1) إلا أنّه رجع عن هذا القول ، في كتابه الاستبصار (2). وقال بما اخترناه ، وقال : أحمل الخبر على الكراهة دون الحظر. ونعم ما قال ، لأنّه إذا أخذ ماله ، فما تعدّى ، ولا ظلم ، ولا خان ، والشارع نهى عن إضاعة المال ، وقال اللّه تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (3) وهذا محسن ، لا مسي ء.

ومن وجب عليه دين ، وغاب عنه صاحبه ، غيبة لم يقدر عليه معها ، وجب عليه أن ينوي قضاءه ، على ما قدّمناه ، فإن حضرته الوفاة ، سلّمه إلى من يثق بديانته ، وجعله وصيّه في تسليمه إلى صاحبه ، فإن مات من له الدين ، سلّمه إلى ورثته ، فإن لم يعلم له وارثا ، اجتهد في طلبه ، فإن لم يجده ، سلّمه إلى الحاكم ، فإن قطع على أنّه لا وارث له ، كان لإمام المسلمين ، وقد روي (4) أنّه إذا لم يظفر بوارث له ، تصدّق به عنه ، وليس عليه شي ء ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (5) من طريق الخبر إيرادا ، لا اعتقادا ، لأنّ الصدقة لا دليل عليها ، من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، بل الإجماع والأصول المقررة لمذهبنا ، تشهد بأنّ الإمام يستحق ميراث من لا وارث له.

وقال شيخنا أيضا في نهايته ، في صدر السؤال : ومن وجب عليه دين ، وغاب عنه صاحبه ، غيبة لم يقدر عليه معها ، وجب عليه أن ينوي قضاءه ، ويعزل ماله من ملكه (6).

وهذا غير واجب ، أعني عزل المال ، بغير خلاف بين المسلمين ، فضلا عن طائفتنا.

وإذا استدانت المرأة على زوجها ، وهو غائب عنها ، فأنفقته بالمعروف ، وجب عليه القضاء عنها ، فإن كان زائدا على المعروف ، لم يكن عليه قضاؤه ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (7).

ص: 37


1- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت إلا أنه في المصدر : ولا يجوز فيها.
2- الاستبصار : كتاب المكاسب ، الباب 27. ذيل الحديث 2. (172) أورد الخبر في الوسائل : الباب 83 من أبواب ما يكتسب به ، ح 3.
3- التوبة : 91.
4- الوسائل : كتاب الفرائض والمواريث ، الباب 4 من أبواب ولاء ضمان الجريرة والإمامة.
5- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت إلا أنه في المصدر : ولا يجوز فيها.
6- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت إلا أنه في المصدر : ولا يجوز فيها.
7- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت إلا أنه في المصدر : ولا يجوز فيها.

وتحرير الفتيا بذلك ، أنّ الزوج يجب عليه تسليم النفقة بالمعروف إلى المرأة ، ثم تقضي ما استدانت وان قضاء الدين واجب عليها ، دون الزوج ، والغريم هي ، دونه ، وهي المطالبة بالدين ، دون الزوج.

ومن له على غيره مال ، لم يجز له أن يجعله مضاربة ، إلا بعد أن يقبضه ، ثم يدفعه إليه ، إن شاء للمضاربة والمضاربة (1) لا تكون إلا بالأموال المعينة ، ولا تكون بما في الذمّم ، لأنّ ما في الذمّة غير معيّن ولا يتعين إلا بعد قبضه وتعيينه ، لأنّ الإنسان مخيّر في جهات القضاء من سائر أمواله ، وهذا إجماع منعقد من أصحابنا.

فعلى هذا التحرير الذي لا خلاف فيه ، بيع الدين على غير من هو عليه ، لا يصح ، لأنّ البيوع على ضربين ، بيوع الأعيان ، وبيوع ما في الذمم ، وبيوع الأعيان على ضربين ، بيع عين مرئية مشاهدة ، فلا يحتاج إلى وصفها ، وبيع عين غير مشاهدة ، يحتاج إلى وصفها ، وذكر جنسها ، وهذا البيع يسميه الفقهاء بيع خيار الرؤية ، ولا بد أن يكون ملك جنسها في ملك البائع في حال عقد البيع ، إلا أنّها غير مشاهدة ، فيصفها ليقوم وصفها مقام مشاهدتها ، وهي غير مضمونة ، إن هلكت قبل التسليم على البائع.

فبيع الدين بيع عين غير مشاهدة (2) مرئية بغير خلاف ، ولا بيع عن معينة موصوفة في ملك البائع ، فإنّه لا يصلح له وصفها ، لأنّا قد قدّمنا أنّ الدين عينه غير معيّن في ملك صاحبه ، بل لا يتعيّن إلا بقبضه له ، وقلنا إنّ من عليه الدين ، مخيّر في (3) جهات القضاء من سائر أمواله ، فلا يتقدّر أن تكون عين شي ء له وهي بعينها لمن له عليه (4) الحق ، وإن كان على الجملة لصاحب الدين على المدين حق من جنس من أجناس من الأموال ، وليس له عليه (5) عين معينة من الأعيان ، والشي ء

ص: 38


1- ل : لأنّ مال المضاربة. ق : لأنّ مال المضاربة والمضاربة.
2- ج : فبيع الدين لا بيع عين مشاهدة.
3- ج : من جهات.
4- ج : لمن عليه.
5- ج : وليس عليه.

المبيع بيع خيار الرؤية ، يحتاج إلى أن يكون ملك جنسه معيّنا في ملك بائعه ، ويذكر جنسه ، ويصفه : لأنّه من جملة بيوع الأعيان.

فأمّا الضرب الآخر من البيوع الذي هو في الذمّة ، هو المسمّى بالسّلم ، بفتح السين واللام ، والسلف ، فهذا مضمون على بايعه ، يحتاج إلى الأوصاف ، والآجال المحروسة من الزيادة والنقصان ، امّا بالسنين والأعوام ، أو بالشهور والأيّام ، ومن شرط صحته قبض رأس المال الذي هو الثمن ، قبل الافتراق من مجلس العقد ، وبيع الدين ليس كذلك بغير خلاف.

فإن قيل : هذا خلاف إجماع الإمامية ، وذلك أنّ إجماعهم منعقد بغير خلاف على صحّة بيع الدين وإمضائه ، وعموم أخبارهم على ذلك ، وكذلك أقوالهم ، وتصنيفاتهم ، ومسطوراتهم ، وفتاويهم.

قلنا : نحن ما دفعنا ذلك أجمع ، وأبطلناه ، بل نحن عاملون بمقتضاه ، ومخصصون لما ناقض الدليل ونفاه ، لأنّه لا خلاف بين المحصلين لأصول الفقه ، أنّ العموم قد يخص بالأدلة ، وقد قلنا انّ بيع الدين على من هو عليه جائز ، صحيح ، لا خلاف فيه ، فقد عملنا بالإجماع ، واتبعنا ظواهر الأقوال ، والأخبار ، والفتاوى ، وما في التصنيفات ، وأعطينا الظاهر حقه ، وخصصنا ما عدا بيع من عليه الدين ، بالأدلة المجمع عليها ، المقررة المحررة عند أصحابنا ، المقدم ذكرها ، وهذا تحقيق لا يبلغه إلا محصّل لأصول الفقه ، ضابط لفروع المذهب ، عالم بأحكامه محكم لمداره ، وتقريراته ، وتقسيماته ، ومما يشيد ما حررناه ، إجماع أصحابنا الذي لا خلاف فيه ، وانعقاده على أنّ من كان له على غيره مال دينا ، لم يجز له أن يجعله مضاربة ، إلا بعد أن يقبضه ، ويتعيّن في ملكه ، ثمّ يدفعه إليه إن شاء للمضاربة ، لأنّه قبل قبضه وتعيينه في ملكه ، ملك لمن هو عليه ما انتقلت عينه إليه ، فكيف يصح له أن يضاربه بعين ماله ، فإنّه قبل أن يقبضه ويتعين عينه في ملكه ، مال من هو عليه ، فكيف يضاربه بماله ، ولو فعل ذلك ، لكان الربح كلّه لمن عليه المال ، لأنّه

ص: 39

ربح ماله ، ولا تصح المضاربة ، لأنّ حقيقتها وموضوعها في الشريعة ، أن من العامل العمل ، ومن رب المال المال ، ومن عليه الدين ، منه المال والعمل جميعا.

فإن قيل : أنتم قد جعلتم من جملة أدلتكم على صحة ما حرّرتموه واخترتموه ، مسألة من كان له على غيره دين ، فلا يجوز له أن يجعله معه مضاربة ، إلا بعد قبضه وتعيينه له في ملكه ، ولا يجوز له قبل ذلك جعله مضاربة ، فعلى سياق هذا الاستدلال ، والاعتبار ، يلزمكم أن لا تجوزوا بيع الدين على من هو عليه ، قبل قبضه وتعيينه في ملك بائعه.

قلنا : لا يلزمنا ذلك ، لأنّ بيع خيار الرؤية ، لا يحتاج إلا إلى ذكر الجنس ، وكونه في ملك البائع ، والوصف له ، دون تعيين عينه بالإشارة إليه ، والمشاهدة له ، والقطع عليه ، وليس كذلك حكم مال المضاربة ، لأنّه يجب أن يكون مذكور الجنس معينا ، ولا يكفي ذكر الجنس والصفة ، دون تعيينه في الملك ، كما كفى ذلك في بيع خيار الرؤية ، وإن كان كلّ واحد من المالين ، مملوك الجنس ، غير متعيّن ملك عينه ، ولا يتعيّن ملك عينه ، إلا بعد قبضه ، فيصح بيعه على من هو عليه ، بيع خيار الرؤية ، لأنّه مملوك الجنس للبائع ، ومن هو عليه عالم بصفته ، فقام علم من هو عليه به ، وبصفته ، مقام وصف البائع له ، فجمع هذا البيع الأمرين اللذين هما شرط في صحة بيع خيار الرؤية ، وهو ذكر الجنس ، وعلم من هو عليه الذي هو قائم مقام صفته ، لأنّ ذكر الصفة في بيع العين الغائبة ، يقوم مقام المشاهدة والرؤية لبيع العين الحاضرة المشاهدة ، لأنّا لا نحتاج أن نصف العين المرئية عند البيع ، ولا ذلك شرط في صحة العقد عليها ، وهو شرط في صحة بيع العين الغائبة مع ذكر جنسها ، فلأجل ذلك جوّزنا بيعها على من هي عليه ، دون من سواه ، لأنّ البيع عليه ، بيع خيار الرؤية ، لأنّ من شرطه ذكر الجنس والصفة ، فإذا بيع عليه ، فقد جمع الأمرين جميعا ، وليس كذلك بيعه على غير من هو عليه ، لأنّ أحد الأمرين لا يحصل له ، لأنّ صاحبه لا يعلم عينه ، حتى يصفها للمشتري ،

ص: 40

ولا يميّزها للعين ، حتى يصفها فإن وصفها ، كان كاذبا جاهلا ، لأنّ عينها ما تميزت له في ملكه ، وإن كان مالكا لجنسها ، دون عينها قبل قبضها من الذي هي في ذمّته ، فيدخل في النهي عن بيع الغرر ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، فلأجل هذا جوّزنا بيعها على من هي عليه ، دون من سواه ، وليس كذلك إذا ضاربه بها ، لأنّ مال المضاربة يحتاج أن يكون متميز العين في ملك رب المال ، وقبل قبضه ممن هو في ذمته ، ليس هو متميز العين ، فافترق الأمران ، ويعضد ما أصلناه ، قولهم في باب بيع الديون والأرزاق : ومن كان له على غيره دين ، جاز له بيعه نقدا ، ويكره ذلك نسية ، وأطلقوا القول بكراهية النسية ، وهذا لا يجوز بالإجماع ، لأنّه إن كان الدين ذهبا ، فلا يحل بيعه بذهب نسية ، بغير خلاف ، ثم قالوا فإن وفي الذي عليه الدين المشتري ، وإلا رجع على من باعه إيّاه بدركه ، ثم قالوا : وإذا باع الدين بأقل ممّا له على المدين ، لم يلزم المدين أن يؤدّي أكثر مما وزنه المشتري.

قال محمّد بن إدريس ، مصنف هذا الكتاب : إن كان البيع للدين صحيحا ماضيا ، لزم المدين أن يؤدّي جميع الدين إلى المشتري ، وإن كان قد اشتراه بأقل من الدين بأقل قليل ، لأنّ الثمن قد يكون عندنا أقل قيمة من السلعة ، مع علم البائع بغير خلاف ، فدلّ هذا أجمع على فساد هذا البيع ، وإبطال ما (1) خالف ما ذكرناه.

قال شيخنا أبو جعفر في الجزء الرابع من المبسوط : إذا كان لرجل في ذمّة رجل حرّ ، دين ، عن غير سلم ، فباعه من إنسان بعوض ، أو ثوب ، أو غيره ، قال قوم : إنّه يصح ، لأنّه لمّا جاز أن يبتاع بدين في ذمته ، جاز أن يبتاع بدين له في ذمة غيره ، فإن كلّ واحد من الدينين مملوك له ، وقال اخرون : إنّه لا يصحّ ، لأنّ الدين الذي له في ذمة الغير ، ليس بمقدور على تسليمه ، فإنّه ربما منعه من هو عليه وربما جحده ، وربما أفلس ، ومن ابتاع ما لا يقدر على تسليمه بطل بيعه ، كما لو

ص: 41


1- ل : وإبطال قول من خالف ما ذكرناه.

ابتاع لعبد مغصوب ، أو آبق ، قال رحمه اللّه : والأوّل رواية أصحابنا ، وقالوا : إنّما يصحّ لأنّه مضمون (1).

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : انظر أرشدك اللّه ، ووفقك لاصابة الحقّ ، إلى ما قال شيخنا أبو جعفر ، وتأمّله ، واسبره ، ففيه ما فيه ، جعل رحمه اللّه الدين ثمنا ، وأصحابنا يجعلونه مثمنا ، لأنّهم قالوا بيع الدين ، ثم قال رحمه اللّه : رواية أصحابنا ، فجعله رواية ولو كان إجماعا لقال وإجماع أصحابنا ، أو مذهبنا ، ثمّ قال : وقالوا إنّما يصحّ لأنّه مضمون.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : عند أصحابنا انّ البيع المضمون ، هو بيع السلف ، فهو المضمون الذي هو في الذمّة ، لا بيع الأعيان ، لأنّ البيع عندهم على الضربين ، المقدم ذكرهما وأيضا الذي يجوز خلاف ما نصرناه (2) واخترناه ، لا يجوّزه في كل دين ، ويقول : انّ بيع السلم بعد حلوله على غير من هو عليه ، لا يجوز ، وعلى من هو عليه يجوز ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي ، ولأجل ذلك قال في الكلام الذي أوردناه عنه في مبسوطة ، قبل هذا الموضع ، وهو إذا كان لرجل في ذمّة رجل حرّ دين ، عن غير سلم ، فباعه من إنسان ، فاحترز من السلم ، فقد خصّص العموم في بيع الدين ، وإذا خصّص من يستدل بالعموم ، ساغ لخصمه التخصيص ، وبطل استدلاله بالعموم ، لأنّه ما هو أولى بالتخصيص من خصمه ، وأيضا فما ورد بذلك سوى خبرين فحسب ، أوردهما شيخنا أبو جعفر في تهذيب الأحكام ، الذي ماله أكبر منه في الأخبار ، ولأجل ذلك قال : رواية أصحابنا ، وهما - أعني الخبرين - أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسن بن علي ، عن محمد بن الفضيل ، عن أبي حمزة ، قال : سئل أبو جعفر عليه السلام عن رجل كان

ص: 42


1- المبسوط : كتاب المكاتب ، فصل في بيع المكاتب وشرائه .. ج 1. ص 7 - 126.
2- ل : نظرناه.

له على رجل دين ، فجاءه رجل ، فاشترى منه بعرض ، ثم انطلق إلى الذي عليه الدين ، فقال له : أعطني مال فلان عليك ، فاني قد اشتريته ، فكيف يكون القضاء في ذلك؟ فقال أبو جعفر عليه السلام : يرد عليه الرجل الذي عليه الدين ، ماله الذي اشتراه به ، الرجل الذي عليه الدين (1).

محمد بن أحمد بن عيسى ، عن محمد بن الفضيل ، قال : قلت للرضا عليه السلام رجل اشترى دينا على رجل ، ثم ذهب إلى صاحب الدين ، فقال له ادفع إلى مال فلان عليك ، فقد اشتريته منه ، فقال عليه السلام : يدفع إليه قيمة ما دفع إلى صاحب الدين ، وبري ء الذي عليه المال ، من جميع ما بقي عليه (2).

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : فهل يحل لمحصّل ، وعامل بالأدلة ، أن يرجع في ديانته إلى العمل بهذين الخبرين ، وفيهما ما فيهما من الاضطراب ، وأصلهما وراويهما واحد ، وهو محمد بن الفضيل ، وأخبار الآحاد عندنا لا يعمل عليها ، ولا يرجع في الأدلة إليها ، لأنّها لا تثمر علما ، ولا توجب عملا.

ومن شاهد مدينا له بفتح الميم ، على ما قدّمناه (3) ، قد باع ما لا يحلّ تملكه للمسلمين ، من خمر ، أو لحم خنزير ، وغير ذلك ، وأخذ ثمنه ، جاز له أن يأخذ منه ، فيكون حلالا له ، ويكون ذنب ذلك على من باع ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (4) مطلقا ، غير مقيّد ، والمراد بذلك أن يكون البائع الذي هو المدين ، ممّن أقرّنه الشريعة على ما يراه ، من تحليل بيع الخمر ، وهو أهل الكتاب ، لأنّ ذلك حلال عندهم ، ويجوز للمسلم قبض دينه منهم ، إذا كان ثمن خمورهم ، وخنازيرهم ، وليس المراد بذلك ، أن يكون الدين على مسلم ، فيبيع المسلم الخمر ،

ص: 43


1- التهذيب : ج 6 الديون ، الباب 81 ح 401 و 410 ، وفي الوسائل : الباب 15 من أبواب الدين والقرض ح 2 و 3. وفي ج : ذيل حديث أبي حمزة هكذا : « من الرجل الذي له عليه الدين »
2- التهذيب : ج 6 الديون ، الباب 81 ح 401 و 410 ، وفي الوسائل : الباب 15 من أبواب الدين والقرض ح 2 و 3. وفي ج : ذيل حديث أبي حمزة هكذا : « من الرجل الذي له عليه الدين »
3- ج : وصفناه.
4- النهاية : باب وجوب قضاء الدين إلى الحيّ والميّت.

ويقبض المسلم من المسلم دينه منه ، لأنّ بيع الخمر للمسلم حرام ، وثمنه حرام ، وجميع أنواع التصرّفات فيها حرام على المسلمين ، بغير خلاف بينهم ، وعندنا أنّ الخمر ليست بمملوكة للمسلم ، فكيف يجوز بيع غير المملوك ، والبيع لغير المملوك لا ينعقد ، ولا يملك الثمن ، فكيف يكون حلالا له.

وشيخنا أبو جعفر ، قال في مسائل الخلاف ، في الجزء الثاني من كتاب الرهن : مسألة : الخمر ليست بمملوكة ، ثمّ قال في استدلاله : ومن ادّعى حجة أنّه يملكها ، فعليه الدلالة (1).

ثم قال شيخنا أبو جعفر أيضا ، في مبسوطة ، في الجزء الثاني في كتاب الرهن : إذا استقرض ذمي من مسلم مالا ، ورهن عنده بذلك خمرا ، يكون على يد ذمي آخر يبيعها عند محلّ الحق (2) فباعها ، وأتى بثمنها ، جاز له أخذه ، ولا يجبر عليه ، وإذا كانت المسألة بحالها ، غير أنّ الخمر كانت عند مسلم ، وشرط أن يبيعها عند محلّ الحق (3) فباعها وقبض ثمنها ، لم يصح ، ولم يكن لبيع المسلم الخمر وقبض ثمنها حكم ، ولا يجوز للمسلم قبض دينه منه ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (4).

ألا تراه قيد هاهنا ، وفرق بين بيع الذمي الخمر ، وبين بيع المسلم لها ، فقيد ما أطلقه في نهايته ، وانّما يورد أخبار الآحاد ، وغير الآحاد في النهاية إيرادا ، مطلقا على ألفاظها ، لا اعتقادا ، لأنّه كتاب خبر ، لا كتاب بحث ونظر ، على ما أشرنا إليه من قبل.

وأيضا قول الرسول عليه السلام : إنّ اللّه إذا حرّم شيئا ، حرم ثمنه (5) ، والخمر محرّمة بالإجماع ، فيجب أن يكون ثمنها محرما ، لا محلّلا ، ولنا في ذلك - أعني بيع الخمر ، وهل يحل قبض الدين من ثمنها - جواب مسألة وردت من حلب علينا

ص: 44


1- الخلاف : كتاب الرهن ، المسألة 36 ، وفي المصدر : ومن ادّعى صحة.
2- و (3) ل : محل الخمر. وفي المصدر : « محل الحق » وهو الصحيح
3- ل : محل الخمر. وفي المصدر : « محل الحق » وهو الصحيح
4- المبسوط : أحكام الرهن.
5- عوالي اللئالي : ج 2 ص 110 ، ح 301.

من أصحابنا الإماميّة ، سنة سبع وثمانين وخمسمائة ، قد بلغنا فيها إلى أبعد الغايات ، وأقصى النهايات.

وإذا كان شريكان لهما مال على الناس ، فتقاسما ، واحتال كلّ واحد منهما شيئا منه ، ثمّ قبض أحدهما ، ولم يقبض الآخر ، كان الذي قبضه أحدهما بينهما على ما يقتضيه أصل شركتهما ، وما يبقى على الناس أيضا مثل ذلك ، لأنّ المال الذي في ذمم الغرماء من الديون ، غير مقسوم ، فهو شركة بعد ، لأنّ ما في الذمم غير مقبوض ، ولا متعيّن ، حتّى يصح قسمته ، فلأجل ذلك ، مهما حصل منه شي ء ، يكون بينهما على ما يقتضيه أصل شركتهما.

ومن كان له دين على غيره ، فأعطاه شيئا بعد شي ء من غير الجنس الذي له عليه ، ثمّ تغيّرت الأسعار ، كان له بسعر يوم أعطاه تلك السلعة ، لا بسعر وقت محاسبته إيّاه ، لأنّه أعطاه إيّاه عمّا له في ذمّته ، وهو من غير جنس ماله ، فيحتسب بقيمة يوم إعطائه وتسليمه إليه ، لا يوم محاسبته عليه ، لأنّه ما أعطاه إيّاه قرضا ، بل عمّا له في ذمّته ، فيسقط عنه بقيمته وقت تسليمه وإعطائه لا وقت محاسبته ، ولا يلزمه ردّ مثله ، إن كان له مثل ، ولو كان أعطاه إيّاه قرضا ، لا عن دين له ، وجب عليه ردّ مثله ، إن كان له مثل ، وقت مطالبته به ، بخلاف ذلك ، فامّا إذا لم يكن له مثل ، وكان يضمن بالقيمة ، لا بالمثليّة ، فإنّه يرد قيمته وقت إعطائه وتسليمه ، دون وقت مطالبته ومحاسبته ، في المسألتين معا ، فليتأمّل ذلك.

باب قضاء الدين عن الميّت

يجب أن يقضى الدين عن الميّت من أصل التركة ، وهو أول ما يبدأ به بعد الكفن المفروض ، ثمّ تليه الوصيّة ، ثم الميراث بعد ذلك أجمع ، فإن أقيم بينة على ميت بمال ، وكانت عادلة ، وجب معها على من أقامها اليمن باللّه ، انّ له ذلك المال حقا ، ولم يكن الميّت قد خرج إليه منه ، فإذا حلف ، كان له ما أقام عليه

ص: 45

البيّنة ، وحلف عليه ، فإن امتنع عن اليمين ، انصرف ، ولم يكن له في ظاهر الحكم شي ء ، ولم تنفعه بينته ، ولم يلزم الورثة اليمين ، لأنّه ما ادّعى عليهم شيئا ، فإن ادّعى عليهم العلم بذلك ، لزمهم أن يحلفوا أنّهم لا يعلمون أنّ له حقا على ميّتهم.

فإن لم يكن للمدّعي على الميت ، إلا شاهد واحد ، وكان عدلا ، لزم المدّعي أيضا اليمين معه ، لأنّ الشاهد واليمين عندنا في المال جائز ، ولا يلزمه يمين أخرى ، لأنّ يمينه تأتي على أنّ له ذلك المال حقا ، وليس لنا على يمين واحدة ، وحكم واحد ، من حالف واحد ، يمينان ، والأصل براءة الذمّة ، وقد يشتبه هذا الحكم على كثير من أصحابنا ، حتى سمعت جماعة يسألون عنه.

ومتى لم يخلف الميّت شيئا ، لم يلزم الورثة قضاء الدين عنه بحال ، فإن تبرع منهم إنسان بالقضاء عنه ، كان له بذلك ، الأجر والثواب إن كان المقضي عنه معتقدا للحق ، ويجوز أن يكون ذلك القضاء ممّا يحتسب به من مال الزكاة ، إذا كان قد أنفقه في الطاعات ، أو المباحات ، على ما شرحناه فيما مضى ، سواء كان الميّت ممن يجبر القاضي للدين على نفقته ، أو ممن لا يجبر.

ومتى أقرّ بعض الورثة بالدين ، لزمه في حصّته بمقدار ما يصيبه من أصل التركة ، على ما رواه بعض أصحابنا ، فإن شهد نفسان منهم ، وكانا عدلين مرضيين ، أجيزت شهادتهما على باقي الورثة ، واستوفي الدين من جميع الورثة بعد يمين المدعي على ما قدمناه ، وكذلك إن شهد منهم واحد ، وكان مرضيا عدلا في ديانته.

وشيخنا أبو جعفر ، ما ذكر (1) في نهايته إلا ان قال : فإن شهد نفسان منهم (2) ولم يذكر الواحد.

وذكر في مسائل الخلاف ، في الجزء الثالث ما قلناه من شهادة الواحد المرضي ، لأنّ أصول مذهبنا تقضي بذلك ، وهو أنّ الشاهد واليمين ماضية في

ص: 46


1- له : ما ذكره.
2- النهاية : باب قضاء الدين عن الميت.

الأموال ، وما المقصود منه المال ، سواء كان دينا أو غيره من الأموال ، وبعض أصحابنا يخصه بالدين فقط ، والصحيح الأوّل.

وإن لم يكن الشاهدان ، أو الشاهد الدين من الورثة عدولا ، الزموا في حصصهم (1) بمقدار ما يصيبهم حسب ما روي (2) ولا يلزمهم الدين على الكمال ، مثال ذلك ، إذا مات إنسان وخلّف ابنين وتركة ، فادّعى أجنبي دينا على الميّت ، فأقر أحدهما بما ادّعاه المدّعي ، وكان المقر غير مرضي ، كان له نصف الدين في حصّة المقر ، وبذلك قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : يأخذ من نصيب المقر جميع الدين ، وقد استدل بعض أصحابنا ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، على صحّة مقالتنا ، بأن قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وقال : وأيضا فان المدّعي وأحد الابنين قد اعترف بالدين على الميّت ، وان الدين يتعلق بالتركة في حقّه ، وحق أخيه ، بدليل أنه البيّنة لو قامت به ، استوفى منهما ، فإذا كان كذلك كان تحقيق الكلام ، لك علي وعلى أخي ، ولو قال هذا لم يجب عليه من حقّه ، إلا نصف الدين (3).

وهذا الاستدلال لا أراه معتمدا ، بل الدليل المعتمد هو الإجماع ، إن كان ، وإلا كان الاستدلال علينا ، لا لنا : لأنّ أصول مذهبنا تقتضي أنّ الورثة لا يستحقون شيئا من التركة ، دون قضاء جميع الديون ، ولا يسوغ ولا يحلّ لهم التصرف في التركة ، دون القضاء ، إذا كانت بقدر الدين ، لقوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (4) فشرط في صحة الميراث وانتقاله ، أن يكون ما يفضل عن الدين ، فلم يملك الوارث إلا بعد قضاء الدين ، وهذا قد ملك قبل قضاء الدين ، فإن كان على المسألة إجماع من أصحابنا ، فهو الدليل دون غيره.

ص: 47


1- ج : حصتهم.
2- الوسائل : الباب 26 من أحكام الوصايا.
3- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 62.
4- النساء : 11 - 12.

فأمّا الأخبار فهي آحاد ، رواتها رجال العامّة ، وهما خبران قد أوردهما شيخنا أبو جعفر في كتاب الإستبصار (1) أحدهما عن الحكم بن عتيبة وهو عامي المذهب ، والآخر عن أبي البختري ، وهب بن وهب ، وهو (2) عامي المذهب ، كان قاضيا.

وإلحاق ذلك بإقرار بعض الورثة بوارث ، قياس وهو عندنا باطل.

وأيضا فإقرار بعض الورثة بوارث من المعلوم أنّه يستحق المقر شيئا من التركة ولا يحرمها (3) وإقراره بالدين إقرار بأنّه لا يستحقّ منها شيئا ، إلا بعد قضائه جميعه ، فافترق الأمران.

وأيضا فما قال بهذا غير شيخنا أبي جعفر ، ومن اتبعه ، وقلّده ، والسيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، غير قائلين بذلك.

ومن مات وعليه دين ، يستحب لبعض إخوانه أن يقضي عنه دينه ، وإن قضاه من سهم الغارمين من الزكاة ، كان ذلك جائزا حسب ما قدّمناه.

وإذا لم يخلف الميّت إلا مقدار ما يكفن به ، سقط الدين وكفن بما خلف ، حسب ما قدّمناه ، فإن تبرع إنسان بتكفينه ، كان ما خلفه للديّان دون الورثة ، فإن انجزع (4) عليه آخر بكفن كان للورثة دون الديان ، لأنّ الديّان لا يستحقون إلا ما خلفه الميّت ، وهذا ما خلفه.

وتحرير ذلك ، إنّ المتصدق بالكفن الثاني إن قبضه الورثة ، وتصدق به عليهم ، وإلا فهو باق على ملكه ، وهو بالخيار فيه ، لأنّ الصدقة لا يملكها المتصدق بها عليه إلا بعد قبضها ، فإذا لم يقبضها ، فهي مبقاة على ملك صاحبها ، وهذه المسألة ذكرها شيخنا ابن بابويه في رسالته (5) وأطلق القول فيها ، وتحريرها ما ذكرناه.

وإن قتل إنسان وعليه دين ، وجب أن يقضي ما عليه من ديته ، سواء كان

ص: 48


1- الاستبصار : كتاب الوصايا ، باب إقرار بعض الورثة لغيره بدين على الميت ، ح 1 و 2 (435 و 436) وفي الوسائل : الباب 26 في أحكام الوصايا ، ح 5 و 8.
2- ل : وهو أيضا.
3- ج : لا يحرّمه عليه.
4- ج فان تبرّع عليه آخر بكفن آخر.
5- لم يعثر عليه.

قتله عمدا أو خطاء ، فإن كان ما عليه محيطا بديته ، وكان قد قتل عمدا ، لم يكن لأوليائه القود ، إلا بعد أن يضمنوا الدين عن صاحبهم ، فإن لم يفعلوا ذلك ، لم يكن لهم القود على حال ، وجاز لهم العفو بمقدار ما يصيبهم ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

والذي تقتضيه أصول مذهبنا ، وما عليه إجماع طائفتنا ، انّ قتل العمد المحض موجبه القود فحسب ، دون التملّك ، واللّه تعالى قال في محكم التنزيل ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ ) (2) وقال تعالى ( فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً ) (3) ولا يرجع عن هذه الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

والاولى أن يخص ما ورد من الأخبار بقتل الخطإ ، لأنّ قتل الخطأ يوجب المال بغير خلاف ، دون القود ، وكأنّما الميّت خلّف مالا ، أو استحق بسببه مال ، فيقضي به دينه.

وأمّا قتل العمد المحض ، فإنّه يوجب القود ، دون المال ، فكأن الميّت ما خلّف مالا ، ولا يستحق بسببه مال ، فإن عفت الورثة واصطلح القاتل والورثة على مال ، فإنّهم استحقّوه بفعلهم وعفوهم ، وفي قتل الخطأ ما استحقّوه بعفوهم ، بل بسبب الميّت ، لأنّهم لا يستحقّون غيره ، وفي قتل العمد المحض ، استحقوا القود ، دون المال ، فمن أبطله عليهم ، ودفعه عنهم ، فقد أبطل سلطانهم الذي جعله اللّه لهم ، وخالف ظاهر التنزيل ، وأبطل القود ، إذا لم يؤدوا إلى صاحب الدين الدية ، وأسقطوا اللطف الذي هو الزجر في قوله تعالى « وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ » لأنّ من علم أنّه يقتل ، إذا قتل ، كف عن القتل ، فحيي (4) هو ومن يريد أن يقتله.

وأيضا فصاحب الدين لا يستحق إلا ما يخلف الميّت من الأموال ، وكان

ص: 49


1- النهاية : باب قضاء الدين عن الميّت.
2- البقرة : 179.
3- الاسراء : 33.
4- ل. : فيحيي.

مملوكا له في حياته ، أو مالا مستحقا بسببه ، على ما قلناه في قتل الخطإ ، لأجل الإجماع ، والأخبار على قتل الخطأ ، لأن موجبه المال ، وقتل العمد المحض ، لا مال ، ولا موجبه المال ، فمن أين يستحق صاحب الدين المال ، ويمنع من القود حتى يأخذ المال.

وقد أورد شيخنا أبو جعفر في تهذيب الأحكام خبرا فحسب ، في هذا المعنى في باب الديون وأحكامها ، وهو : الصفار ، عن أيوب بن نوح ، عن صفوان بن يحيى ، عن عبد الحميد بن سعيد ، قال : سألت أبا الحسن الرضا عليه السلام ، عن رجل قتل ، وعليه دين ، ولم يترك مالا ، فأخذ أهله الدّية من قائله ، أعليهم أن يقضوا الدين ، قال : نعم ، قال : قلت وهو لم يترك شيئا ، قال عليه السلام : إنّما أخذوا الدية ، فعليهم أن يقضوا عنه الدين (1).

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : وليس في هذا الحديث - إذا تلقى بالقبول وسلم ما ينافي ما قلناه ، لأنّه ما قال قتل عمدا محضا ، وانّما قال أخذوا أهله الدّية ، وهذا يدلّ على أنّ القتل كان موجبه الدّية ، دون القود ، لأنّ أهله لا يأخذون الدّية بنفس القتل إلا في قتل الخطأ ، وقتل العمد شبيه الخطأ ، فالخبر دليل لنا ، لا علينا.

فإن قيل : قد قال في الخبر ، فأخذ أهله الدّية من قاتله ، ولو كان القتل خطأ محضا ، ما أخذوا الدّية من قاتله ، بل كانوا يأخذونها من عاقلته دونه ، بغير خلاف.

قلنا : يأخذونها أيضا عندنا من القاتل ، في القتل العمد شبيه الخطأ ، دون العاقلة ، فنخص هذه المواضع بقتل يوجب المال ، وهما قتلان ، قتل خطأ محض ، وقتل عمد شبيه الخطأ ، وانّما منعنا من القتل العمد المحض الذي لا يوجب المال ، بل موجبه القود ، فحسب ، للأدلّة القاهرة المقدّم ذكرها ، وأعطينا الظاهر حقّه ، لئلا تتناقض الأدلة ، كما يعمل في آيات القران ذلك.

ص: 50


1- التهذيب : الباب 81 من كتاب الديون ، ح 41 / 416 ، ج 6 ص 192.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسيّ ، في مبسوطة في ذكر الشهادة على الجنايات : إذا ادّعى رجل على رجل أنّه جرحه قطع يده أو رجله ، أو قلع عينه ، فأنكر ، فأقام المدّعي شاهدين ، وهما وارثاه ، أخواه أو عماه ، بذلك ، لم يخل الجرح من أحد أمرين ، إمّا أن يكون قد اندمل ، أو لم يندمل ، فإن شهدا بعد اندمال الجرح ، قبلتا وحكمت بها للمشهود له ، لأنّ شهادة الأخ لأخيه مقبولة ، وهذه الشهادة بعد الاندمال لا تجر نفعا ، ولا يدفع بها ضررا ، وإن كانت الشهادة قبل اندمال الجرح ، لم تقبل هذه الشهادة ، لأنّهما متهمان ، فانّ الجرح قد يصير نفسا ، فيجب الدّية على القاتل ، ويستحقها الشاهدان ، فلهذا لم تقبل.

ثمّ قال رحمه اللّه : فرع ، إذا ادّعى مريض على رجل مالا ، فأنكر المدعى عليه ، فأقام المدّعي شاهدين بذلك ، أخويه أو عميه ، وهما وارثاه ، قال قوم : لا تقبل ، لأنّهما متّهمان ، لأنّ المريض قد يموت ، فيكون لهما ، وقال آخرون : مقبولة غير مردودة ، وهو الأصحّ عندي ، لأنّهما لا يجران منفعة ، ولا يدفعان ضررا ، لأنّ الحق إذا ثبت ، ملكه المريض ، فإذا مات ورثاه عن الميّت ، لا عن المشهود عليه ، وليس كذلك إذا كانت الشهادة بالجناية ، لأنّه متى مات المجني عليه ، وجبت الدّية بموته على القاتل ، يستحقّها الشاهدان على المشهود عليه ، فلهذا ردت ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (1).

ألا ترى أرشدك اللّه قول شيخنا ، وفرقه بين المسألتين ، في الشهادة بالجناية ، والشهادة بالمال ، وأنّ الشهادة بالمال مقبولة ، وقوله : لأنّ الحق - يعني المال - إذا ثبت ملكه المريض فإذا مات ورثاه عن الميّت ، لا عن المشهود عليه ، وليس كذلك إذا كانت الشهادة بالجناية ، لأنّه متى مات المجني عليه ، وجبت الدّية بموته على القاتل ، يستحقّها الشاهدان على المشهود عليه ، فلهذا ردت ، فقد أفتى بأنّ

ص: 51


1- المبسوط : كتاب كفارة القتل ، في ذكر الشهادة على الجنايات.

المال المتروك يستحقه الوارث عن الميت ، لا عن المشهود عليه به ، والدية لا يستحقها الوارث عن الميّت ، بل عن المشهود عليه ، لأنّها ليس بمال للميّت حتى يستحق عنه ، ولو لا الدليل في دية الخطأ ، ودية العمد شبيه الخطأ لما كان كذلك.

ثمّ قال شيخنا أيضا في مبسوطة : وإذا وجد الرجل قتيلا في داره ، وفي الدار عبد المقتول ، كان لوثا على العبد ، وللورثة أن يقسموا ، أو يثبتوا القتل على العبد ، ويكون فائدته ، أن يملكوا قتله عندنا ، إن كان عمدا ، قال رحمه اللّه : وفيه فائدة أخرى ، وهي أنّ الجناية إذا ثبتت ، تعلّق أرشها برقبته ، فربما كان رهنا ، فإذا مات كان للوارث أن يقدم حق الجناية على حق الرهن ، فإذا كانت فيه فائدة ، كان لهم أن يقسموا ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه (1).

فلو كان الدين الذي على المقتول عمدا محضا ، يمنع (2) الورثة من القود ، لما قال ذلك ، وقال أيضا في الجزء الثاني من المبسوط ، في كتاب التفليس : وإذا جنى على المفلس ، فلا يخلو من أحد أمرين ، إمّا أن تكون جناية عمدا ، أو خطأ ، فإن كانت خطأ ، توجب الأرش ، فإنّه قد استحق الأرش ، وتعلّق به حق الغرماء ، فيأخذه ، ويقسمه بينهم ، وإن كانت الجناية عمدا توجب القصاص ، فإنّه مخير بين أن يقتص (3) ، وبين أن يعدل عن القصاص إلى الأرش ، إذا بذل له الجاني ، وليس للغرماء أن يجبروه على الأرش (4).

قال محمّد بن إدريس : فإذا مات ، ورث وارثه ما كان يستحقه من القصاص ، لأنّه لا خلاف في أنّ الوارث يستحق ما كان يستحقه مورثه ، من جميع الحقوق ، فمن منع (5) ذلك يحتاج إلى دليل.

وإذا تبرع إنسان بضمان الدين عن الميّت ، في حال حياته ، أو بعد وفاته

ص: 52


1- المبسوط : كتاب القسامة.
2- من هنا وقع سقط في نسخة « ق » قريب ثلاث صفحات.
3- ل : أن يقصه.
4- المبسوط : كتاب التفليس ، ج 2.
5- ل : فمن أنكر.

برئت ذمّة الميّت ، سواء قضى ذلك المال الضامن ، أو لم يقض ، إذا كان صاحب الدين قد رضي به ، فإن لم يكن قد رضي به ، كان في ذمّة الميّت على ما كان.

ومن مات وعليه دين مؤجّل ، حل أجل ماله ، ولزم ورثته الخروج ممّا كان عليه ، إن خلّف تركة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وكذلك إن كان له دين مؤجّل ، حل أجل ماله ، وجاز للورثة المطالبة به في الحال (1).

وقال في مسائل الخلاف : مسألة ، من مات وعليه دين مؤجّل ، حل عليه بموته ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، ومالك ، وأكثر الفقهاء ، إلا الحسن البصري ، فإنّه قال : لا تصير المؤجلة حالة بالموت ، فأمّا إذا كانت له ديون مؤجلة ، فلا تحل بموته ، بلا خلاف ، إلا رواية شاذة ، رواها أصحابنا أنّها تصير حالة ، ثم قال : دليلنا على بطلان مذهب الحسن البصري إجماع الفرقة ، بل إجماع المسلمين ، لأنّ خلافه قد انقرض ، وهو واحد لا يعتد به لشذوذة (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه ، مصنف هذا الكتاب : والذي ذكره شيخنا في مسائل الخلاف ، هو الصحيح ، وبه افتى ، وأعمل ، لأنّ به تشهد الأدلة القاهرة (3) ، وما ذكره رحمه اللّه في نهايته ، فهو خبر شاذّ من أخبار الآحاد ، وأخبار الآحاد لا يجوز العمل بها ، قد شهد بذلك شيخنا في مسائل الخلاف ، وقال : إلا رواية شاذة رواها أصحابنا ، انّها تصير حالة ، فلو كان رحمه اللّه عاملا بأخبار الآحاد ، لما قال ذلك ، ولا ساغ له ترك العمل بالرواية ، وبخبر الواحد ، وكلّ من قال عنه أنّه كان يعمل بأخبار الآحاد ، فهو محجوج بقوله هذا ، وجميع ما يورده ويذكره في نهايته ، ممّا لا تشهد بصحته الأدلة ، فهي أخبار آحاد يوردها ، كما

ص: 53


1- النهاية : باب قضاء الدين عن الميّت.
2- الخلاف : كتاب التفليس ، مسألة 14.
3- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 12 من أبواب الدين والقرض. ح 4.

أورد هذه الرواية ، فلا يظن ظان أنّه إذا قال روى أصحابنا ، أو رواية أصحابنا ، انّ جميع الإماميّة روت ذلك ، وتواترت به ، وأجمعت عليه ، وانّما مراده رحمه اللّه ، انّ هذا القول والرواية من جهة أصحابنا ، وراويها منهم ، لا من رواية مخالفيهم ، فهذا مقصوده ومراده رحمه اللّه ، فلا يتوهم عليه غير ذلك ، فيغلط عليه ، ويعتقد أنّ جميع ما يورده ويطلقه في نهايته اعتقاده ، وحقّ وصواب عنده.

ومن مات وعليه ديون لجماعة من الناس ، تحاصّوا ما وجد من تركته ، بمقدار ديونهم ، ولم يفضل بعضهم على بعض ، فإن وجد واحد منهم متاعه بعينه عنده ، وكان للميت مال ، يقضي ديون الباقين عنه ، رد عنه (1) بغير نمائه المنفصل عنه ، كالحمل ، ولم يحاصه باقي الغرماء ، وإن لم يخلّف وفاء لديون الباقين ، كان صاحبه وباقي الغرماء سواء.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وكذلك لو كان حيّا والتوى على غرمائه ، ( معنى التوى دافع وماطل ) ردّ عليه ماله ، ولم يحاصه باقي الغرماء (2).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : حكم الحيّ هاهنا بخلاف حكم الميّت ، لأنّ الحيّ ، من وجد عين متاعه أخذه بعينه ، دون نمائه المنفصل ، ولم يحاصّه باقي الغرماء ، سواء بقي له بعد أخذه ، وفاء لديون الباقين ، أو لم يبق ، والميّت ، لصاحب المتاع ، أخذه بشرط أن يكون للميّت بعد أخذه ، وفاء لديون الباقين.

وإذا مات من له الديون ، فصالح المدين ورثته على شي ء ، مما كان عليه ، كان ذلك جائزا ، وتبرأ بذلك ذمّته ، إذا أعلمهم مقدار ما عليهم من المال ، ورضوا ( بضمّ الضاد ) بمقدار ما صالحوه عليه ، ومتى لم يعلمهم مقدار ما عليه من المال ، ولم يرضوا ( بفتح الضاد ) به بعد إعلامهم ، لم يكن ذلك الصلح جائزا ، ولم تبرأ بذلك الذمّة.

ص: 54


1- ل : رد عليه.
2- النهاية : باب قضاء الدين عن الميت.

باب بيع الديون والأرزاق

الدين لا يخلو إمّا أن يكون مؤجّلا ، أو حالا ، فإن كان مؤجلا ، فلا يجوز بيعه بغير خلاف (1) على غير من هو في ذمّته ، فامّا أن كان حالا فلا يجوز بيعه بدين آخر ، لا ممن هو عليه ، ولا من غيره بغير خلاف أيضا ، ونهى النبي عليه السلام عن بيع الكالي بالكالي (2) وهو بيع الدين بالدين ، ومثاله أن يسلم الإنسان في طعام أو غيره ، إلى وقت معلوم ، فإذا حلّ الأجل ، لم يجد الذي عليه ذلك طعاما ، فيبتاعه من الذي هو له ، بدين إلى أجل آخر ، ومثله أيضا ، أن يسلم الإنسان في طعام ، ولا يدفع الثمن ، بل يبقيه دينا عليه ، وما جرى مجرى ذلك.

فإن باعه ممن هو عليه بعد حلوله ، وكان ذهبا فباعه بذهب ، أو كان فضة فباعه بفضة ، أو كان فضّة فباعه بذهب ، أو كان ذهبا فباعه بفضّة ، وجب أن يقبضها في المجلس ، قبل أن يفارقه ، لأن ذلك صرف ، وإن أخذ عرضا ، جاز أن يفارقه قبل القبض ، لأنّه بيع عرض معيّن موجود مشاهد ، بثمن في الذمّة ، فأمّا إن باعه على من هو عليه نقدا ويدا ، فلا بأس بذلك ، وإن كان على غيره ، فقد قلنا ما عندنا في ذلك في باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميّت ، وبلغنا فيه إلى أبعد الغايات ، وأقصى النهايات ، وأوضحنا اعتقادنا فيه ، بما لا حاجة هاهنا إلى إعادته.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : لا بأس أن يبيع الإنسان ماله على غيره من الديون نقدا ، ويكره أن يبيع ذلك نسية ، ثمّ قال : ولا يجوز بيعه بدين آخر مثله (3).

قال محمد بن إدريس : قوله رحمه اللّه ، يكره أن يبيع ذلك نسية ، لا يصحّ بل

ص: 55


1- إلى هنا ينتهي سقط نسخة « ق ».
2- مستدرك الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 15 من أبواب الدين والقرض ، ح 1.
3- النهاية : باب بيع الديون والأرزاق.

ذلك حرام محظور ، غير مكروه ، بل هذا بعينه بيع الدين بالدين ، وانّما يورد أخبار آحاد بألفاظها ، وإن لم يكن عاملا بها ، ولا معتقدا لصحتها ، ولا يكون مناقضا لأقواله ، لأنّه قال بعده : ولا يجوز بيعه بدين آخر مثله ، وذلك أيضا دين.

ثم قال شيخنا : فإن وفي الذي عليه الدين ، المشتري ، وإلا رجع على من اشتراه منه بالدرك.

ثمّ قال : ومن باع الدين بأقل ممّا له على المدين ، لم يلزم المدين أكثر ممّا وزن المشتري من المال (1).

قال محمد بن إدريس : قوله رحمه اللّه ، ومن باع الدين بأقل مما له على المدين ، لم يلزم المدين أكثر ممّا وزن المشتري من المال ، طريف عجيب (2) ، يضحك الثكلى ، وهو أنّه إذا كان الدين ذهبا ، كيف يجوز أن يبيعه بذهب أقل منه ، أو إن كان فضة ، فكيف يجوز أن يبيعه بفضة أقل منه أو إن كان ذهبا فباعه بفضّة ، أو فضّة فباعه بذهب ، كيف يجوز انفصالهما من مجلس البيع ، إلا بعد أن يتقابضا بالمبيع والثمن ، يقبض البائع الثمن والمشتري المثمن ، فإن هذا لا خلاف فيه بين طائفتنا ، بل لا خلاف فيه بين المسلمين.

وقوله : لم يلزم المدين أكثر ممّا وزن المشتري من المال.

قال محمد بن إدريس : إن كان البيع المشار إليه صحيحا ، لزم المدين تسليم ما عليه جميعه ، وهو المبيع إلى المشتري ، لأنّ هذا صار مالا من أمواله ، لأنّه اشتراه ، وقد يجوز أن يشتري الإنسان ما يساوي خمسين قنطارا ، بدينار واحد ، إذا كان البائع من أهل البصيرة والخبرة ، وانما هذه أخبار آحاد ، أوردها على ما وجدها إيرادا ، لا اعتقادا.

ولا يجوز أن يبيع الإنسان رزقه على السلطان ، قبل قبضه له ، لأنّ ذلك بيع

ص: 56


1- النهاية : باب بيع الديون والأرزاق.
2- ل : ظريف عجيب.

غرر ، وبيع ما ليس بملك له (1) ، لأنّه لا يملكه إلا بعد قبضه إيّاه ولا يتعين ملكه له الّا بعد قبضه إيّاه وكذلك بيع أهل مستحقي الزكوات ، والأخماس ، قبل قبضها ، لأنّه لا يتعيّن ملكها لهم ، إلا بعد قبضها ، فجميع ذلك غير مضمون ، وبيعه غير جائز ولا صحيح.

باب المملوك يقع عليه الدّين ما حكمه

باب المملوك يقع عليه الدّين ما حكمه (2)

المملوك إذا لم يكن مأذونا له في الاستدانة ، ولا في التجارة ، فكل دين يقع عليه ، لم يلزم مولاه شي ء منه ، ولا يستسعى المملوك أيضا في شي ء منه ، بغير خلاف ، بل يتبع به إذا لحقه العتاق.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : بل كان ضائعا يريد به ما دام مملوكا (3).

وقال في نهايته أيضا : وإن كان مأذونا له في التجارة ، ولم يكن مأذونا له في الاستدانة ، فما يحصل عليه من الدين استسعى فيه ، ولم يلزم مولاه من ذلك شي ء (4).

وقال في مبسوطة : إذا كان العبد مأذونا له في التجارة نظر ، فإن أقر بما يوجب حقا على بدنه ، قبل عندهم ، وعندنا لا يقبل ، فإن أقر بما يوجب مالا ، نظر ، فإن كان لا يتعلق بما اذن له فيه في التجارة ، مثل أن يقول : أتلفت مال فلان ، أو غصبت منه مالا ، أو استقرضت منه مالا ، فانّ الاستقراض لا يدخل في الإذن في التجارة ، لأنّه لا يقبل على ما بيناه ، ويكون في ذمّته ، يتبع به إذا أعتق ، وإن كان يتعلّق بالتجارة ، مثل ثمن المبيع ، وأروش العيب ، وما أشبه ذلك ، فإنّه يقبل إقراره ، لأنّ من ملك شيئا ملك الإقرار به ، إلا أنّه ينظر فيه ، فإن كان الإقرار بقدر ما في يده من مال التجارة ، قبل ، وقضى منه ، وإن كان أكثر ، كان الفاضل

ص: 57


1- ليس في نسخة ج ولا يتعين ملكه له إلا بعد قبصه إيّاه.
2- ل : الدين فما حكمه.
3- النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب المملوك وأحكامه.
4- النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب المملوك وأحكامه.

في ذمته ، يتبع به إذا أعتق (1).

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب ، والذي اختاره وأعمل عليه ، وافتي به ، أنّ العبد المأذون له في التجارة ، لا يستسعى في قضاء الدين ، بل يتبع به إذا لحقه العتاق.

وقد رجع شيخنا أبو جعفر عمّا ذكره في نهايته ، في مبسوطة على ما أوردناه عنه وفي استبصاره في الجزء الثالث من كتاب العتق ، فإنّه أورد أخبارا ، ثمّ قال : والوجه في الخبرين أنّه انّما يكون ذلك على العبد إذا أعتق ، إذا لم يكن أذن له في الاستدانة ، وانّما أذن له في التجارة ، فلما استدان ، كان ذلك معلّقا بذمته إذا أعتق (2).

وما ذكره في نهايته خبر واحد ، لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه.

وقال في نهايته : وإن كان مأذونا له في الاستدانة ، لزم مولاه ما عليه من الدين ، إن استبقاه مملوكا ، أو أراد بيعه ، فإن أعتقه ، لم يلزمه شي ء مما عليه ، وكان المال في ذمّة العبد (3).

والصحيح الواضح ، انّ المولى إذا أذن للعبد في الاستدانة ، فإنّه يلزمه قضاء الدين ، سواء باعه ، أو استبقاه ، أو أعتقه ، لأنّه وكله في أن يستدين له ، فالدين في ذمّة المولى ، لا يلزم العبد منه شي ء ، بحال من الأحوال ، ولم يزده العتق إلا خيرا.

وقد رجع شيخنا أبو جعفر عمّا ذكره في نهايته ، في كتاب الإستبصار في الجزء الثالث ، وما ذكره في نهايته خبر واحد ، وانه طريف الأكفانيّ ، وهو مجهول ، خامل الذكر ، وهو من أضعف الأخبار الآحاد ، أعني هذا الخبر ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا ، وأنّ شيخنا أبا جعفر رحمه اللّه ، أوردها في نهايته إيرادا ، على ما هي عليه ، ورجع عنها عند تحقيق الفتوى في كتبه الباقية

ص: 58


1- المبسوط : كتاب الإقرار ، في حكم أقارير العبد.
2- الاستبصار : كتاب العتق ، الباب 11 ، ذيل ح 2 (64).
3- النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب المملوك يقع عليه الدين.

على ما قد أوردناه وحكيناه عنه في هذا الكتاب كثيرا.

وقال في الجزء الثاني من مبسوطة : وإذا أذن لعبده في التجارة ، فركبه دين ، فإن كان أذن له في الاستدانة ، فإن كان في يده مال ، قضى منه ، وإن لم يكن في يده مال ، كان على السيد القضاء عنه ، وإن لم يكن أذن له في الاستدانة ، كان ذلك في ذمّة العبد ، يطالب به إذا عتق ، وقد روي أنّه يستسعى العبد في ذلك (1) هذا آخر كلامه.

فعلى ما اخترناه ، من أنّ العبد إذا كان مأذونا له في الاستدانة ، يكون الدين في ذمّة مولاه على كلّ حال.

فإن مات المولى وعليه دين ، كان غرماء العبد وغرماؤه سواء ، يتحاصون ما يحصل من جهته من المال ، على ما تقضيه أصول أموالهم ، من غير تفضيل بعضهم على بعض ، لأنّ الدينين جميعا دين على المولى الذي هو السيّد ، وفي ذمته.

باب القرض وأحكامه

القرض فيه فضل كبير ، وثواب جزيل ، وقد روي (2) أنّه أفضل من الصدقة بمثله في الثواب ، فإن أقرض مطلقا ولم يشرط الزيادة في قضائه ، فقد فعل الخير ، وإن شرط الزيادة كان حراما ، ولم ينعقد العقد ، وكان فاسدا ، والملك باقيا على المقرض ، ولم ينتقل عنه إلى ملك المستقرض ، ولا يجوز حينئذ للمستفرض أن يتصرف فيه ، ولا فرق من أن يشرط زيادة في الصفة ، أو في القدر ، فإذا لم يشرط ، ورد عليه خيرا منه ، أو أكثر ، كان جائزا مباحا ، ولا فرق بين أن يكون ذلك عادة أو لم يكن ، وإذا شرط عليه أن يردّ خيرا منه ، أو أكثر منه ، كان حراما ، على ما قدّمناه ، وإن كان من الجنس الذي لا يجوز فيه الربا ، مثل أن يقرضه ثوبا

ص: 59


1- المبسوط : كتاب البيوع. فصل في العبيد.
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب الدين والقرض ، ح 1.

بثوبين فإنّه حرام لعموم الأخبار (1).

وقضاء القرض ، إن كان ممّا له مثل ، من المكيل والموزون ، فإنّه يقضيه مثله ، وإن كان ما لا مثل له مثل الثياب (2) والحيوان ، والخشب ، يجب عليه قيمته ، ولا يجب عليه رد العين المستقرضة ، لأنّها صارت بالقبض (3) والإقباض ، ملكا للمستقرض ، وخرجت من ملك القارض ، لأنّ المستقرض عندنا يملك القرض بالقبض ، بغير خلاف بيننا.

فعلى هذا التحرير ، لا يجوز للمقرض الرجوع في عين القرض ، بل له المطالبة بمثله ، إن كان له مثل ، أو بقيمته إن أعوز المثل يوم المطالبة ، لا يوم إقباض القرض.

وإن لم يكن له مثل ، وكان يضمن (4) بالقيمة ، رجع بقيمته يوم إقباض القرض ، لا يوم المطالبة بالرد.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي ، في مسائل الخلاف : للمقرض الرجوع في عين القرض (5).

وليس على ما قال دليل ، ولا دلّ عليه بشي ء يرتضى.

وقال في مبسوطة : لا يجوز إقراض ما لا يضبط بالصفة (6).

والصحيح انّ ذلك يجوز ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا ، في جواز إقراض الخبز ، وان كان لا يضبط بالصفة ، لأنّهم أجمعوا أنّ السلم لا يجوز في الخبز ، لأنّ السلف لا يجوز فيما لا يمكن ضبطه بالصفة ، والخبز لا يضبط بالصفة.

وقال شيخنا رحمه اللّه أيضا في مبسوطة : يجوز استقراض الخبز إن شاء وزنا ، وإن شاء عددا ، لأنّ أحدا من المسلمين لم ينكره ، ومن أنكره من الفقهاء ، خالف الإجماع ، هذا آخر قول شيخنا في مبسوطة (7).

ص: 60


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب الربا.
2- ج : ممّا لا مثل له من الثياب.
3- ج : بالقرض.
4- ج : مثل يضمن.
5- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 292 فإنه قال في ذيل المسألة : دليلنا أنّه عين ماله ( ملكه ) فكان له الرجوع فيه لأنّ الممتنع يحتاج إلى دليل
6- المبسوط : ج 2 ، فصل في حكم القرض ، ص 161.
7- المبسوط : ج 2 ، فصل في حكم القرض ، ص 161.

ويجوز إقراض الحيوان ، رقيقا كان أو غيره فإذا استقرض جارية تنعتق عليه بالملك ، فإنّه إذا قبضها عتقت عليه ، وليس له ردّها على المقرض ، ولا له المطالبة بها ، لأنّا قد بيّنا أنّه يملك بالقبض ، وإذا ملك انعتقت عليه.

وإذا كان لرجل على غيره مال حالا ، فأجّله فيه ، لم يصر مؤجّلا ، ويستحب له أن يفي به ، ويؤخر المطالبة إلى محلّه ، فإن لم يفعل ، وطالب به في الحال ، كان له ، سواء كان الدين ثمنا ، أو اجرة ، أو صداقا أو كان قرضا ، أو أرش جناية.

وكذلك إن اتفقا على الزيادة في الثمن ، لا يصحّ ، ولم يثبت ، وإن حط من الثمن شيئا ، أو حط جميعه ، يصح ، وكان إبراء ولا يلحق بالعقد ، وانّما هو إبراء في الوقت الذي أبرأه منه.

وإذا استقرض الإنسان شيئا ، كان عليه زكاته ، إذا كانت الشرائط فيه موجودة ، ويسقط زكاته عن القارض ، لأنه ليس بملك له.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : إلا أن يشرط المستقرض عليه أن يزكيه عنه ، فحينئذ يجب الزكاة على القارض ، دون المستقرض (1).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : وهذا غير واضح ، لأنّه لا دليل عليه ، لأنّا قد بينا أن بالقبض يملك المستقرض المال ، ويخرج من ملك القارض ، فكيف يشترط أن يزكى مال الغير ، ولا خلاف أنّ الزكاة تجب على أرباب الأموال ، دون غيرهم ، وأيضا كل شرط يخالف الكتاب والسنة فهو باطل ، وهذا يخالف الكتاب والسنة ، ولم يرد به حديث في باب القرض ، فانّ شيخنا أبا جعفر رحمه اللّه ما أورد في تهذيب الأحكام ، وهو أكبر كتاب له في الأحاديث ، في باب القرض حديثا بما ذكره في نهايته ، والأصل براءة الذمة ، ووجوب الزكاة على رب المال ، دون غيره.

وإذا أقرض الإنسان مالا ، فرد عليه أجود منه ، من غير شرط ، كان ذلك

ص: 61


1- النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب القرض وأحكامه.

جائزا ، وإن أقرض وزنا فرد عليه عددا ، أو أقرض عددا ، فرد عليه وزنا ، من غير شرط ، زاد أو نقص بطيب نفس منهما ، لم يكن بذلك بأس ، كل ذلك من غير شرط ، كان ذلك جائزا سائغا.

وإن أقرض شيئا على أن يعامله المستقرض في التجارات ، جاز ذلك.

وإن أعطاه قراضة الذهب ، أو مكسرة الفضّة (1) ورد عليه الصحاح من الجنسين ، لم يكن بذلك بأس ، إذا لم يشرط ، فأمّا إذا شرط أن يرد عليه الصحاح ، عوضا ممّا أخذ ، منه من المكسرة ، فإنّ ذلك حرام محظور.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن أعطاه الغلة ، يريد بذلك مكسرة الدراهم ، وأخذ منه الصحاح ، شرط ذلك ، أو لم يشرط ، لم يكن به بأس (2).

وهذا غير واضح ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا ، أنّه متى اشترط زيادة في العين والصفة ، كان باطلا ، والإجماع حاصل منعقد على هذا ، وقول الرسول عليه السلام شر القرض ما جر نفعا (3) والخبر الذي أورده شيخنا في كتابه تهذيب الأحكام ليس فيه ذكر الشرط ، ولا في الخبر أنّه شرط ، وهو محمّد بن احمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن صفوان ، عن يعقوب بن شعيب ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن الرجل يقرض الرجل الدراهم الغلة ، فيأخذ منه الدراهم الطازجية ، طيبة بها نفسه ، قال : لا بأس ، وذكر ذلك عن علي عليه السلام (4).

قال محمد بن إدريس : وليس في هذا الخبر للشرط ذكر ، والطازجية بالطاء غير المعجمة ، والزاء المعجمة ، والجيم : الدراهم البيض الجيدة ، وشيخنا أبو جعفر لم

ص: 62


1- ج : مكسرة.
2- النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب القرض وأحكامه ، مع تغيير في العبارة وهي هكذا : وإن أعطاه المكسر وأخذ منه الصحاح شرط ذلك أو لم يشرط لم يكن به بأس.
3- لم نعثر عليه في المجامع الروائية.
4- التهذيب : الباب 82 من كتاب القرض واحكامه ، ح 4 / 450.

يذكر الشرط في سائر كتبه ، سوى نهايته فحسب ، في الغلة التي هي مكسرة الدراهم ، بل قال في مبسوطة : لا يجوز أن يشترط في القرض ، زيادة العين ، ولا زيادة الصفة (1) وهو الحق اليقين.

وإن أقرض حنطة فرد عليه شعيرا أو أقرض شعيرا فرد عليه حنطة ، أو أقرض جلّة من تمر ، فرد عليه جلّتان ، أو قوصرة ، فرد عليه قوصرتان ، كل ذلك من غير شرط ، لم يكن به بأس.

وإن أقرض شيئا ، وارتهن عليه ، وسوغ له صاحب الرهن الانتفاع به ، من غير شرط جرى بينهما ، جاز له ذلك ، سواء كان ذلك متاعا ، أو آنية ، أو مملوكا أو جارية ، أو أيّ شي ء كان ، لم يكن به بأس.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : إلا الجارية خاصّة ، فإنّه لا يجوز استباحة وطيها ، بإباحته إيّاها ، لمكان القرض (2).

والذي عندي في هذا أنّه إذا أباح المالك له وطئها من غير اشتراط في القرض ذلك ، فإنّه جائز حلال ، وانّما منع شيخنا من ذلك ، لأنّه في بعض كتبه يراعي في اللفظ من السيد ، لفظ التحليل ، وهو أن يقول له أحللت لك وطي جاريتي ، فمتى لم يقل ذلك ، وقال غيره من الألفاظ ، لم يجز له الوطي بذلك ، مثاله أن يقول له : أبحتك وطي جاريتي ، فلا يجوز عنده ، فلأجل هذا قال : فلا يجوز استباحة وطيها ، بإباحته إيّاها ، وقد رجع في مبسوطة وقال : يحل بالإباحة من المولى ، وقوله رحمه اللّه : لمكان القرض ، إن أراد بالتعليل أنّه اشترط في القرض ، فالجميع لا يجوز ، وليس الجارية بالتخصيص ، أولى من غيرها ، وإن أراد أنّه لم يشترط في القرض ، فالجميع أيضا متساو في الإباحة ، فلا وجه لقوله لمكان

ص: 63


1- المبسوط : كتاب البيوع ، فصل في حكم القرض.
2- النهاية : كتاب الديون والكفالات ، باب القرض وأحكامه.

القرض ، حتّى تنفرد الجارية بذلك.

وإذا أهدى له هدايا ، فلا بأس بقبولها ، إذا لم يكن هناك شرط ، والأفضل تجنب ذلك أجمع ، والتنزّه عنه.

ولا بأس أن يقرض الإنسان الدراهم أو الدنانير ، ويشرط على صاحبه أن ينقدها له بأرض أخرى ، لأنّ هذا الشرط لا فيه زيادة عين ولا صفة.

ومتى كان له على إنسان دراهم ، أو دنانير أو غيرهما من السلع ، جاز له أن يأخذ مكان ماله ، من غير الجنس الذي له عليه ، بسعر الوقت فإن كانت دراهم ، وتعامل الناس بغيرها ، وأسقط الأوّل السلطان ، فليس له ، إلا مثل دراهمه الاولى ، ولا يلزمه غيرها ممّا يتعامل الآن به ، إلا بقيمتها من غير الجنس ، لأنّه لا يجوز بيع الجنس بالجنس متفاضلا.

باب الصّلح

الصّلح جائز بين الناس ، إلا ما حرّم حلالا ، أو حلّل حراما ، لقوله تعالى : ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ ) (1) وقوله ( إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُما ) (2) وقوله ( وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما ) (3).

وروي عن الرسول صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : الصلح جائز بين المسلمين ، إلا صلحا أحلّ حراما أو حرّم حلالا (4) وعليه إجماع المسلمين.

وهو أصل قائم بنفسه في الشرع ، لا فرع على غيره ، على ما يذهب إليه المخالف ، ولا خيار بعد انعقاده لأحدهما ، سواء افترقا من المجلس أو لم يفترقا ، لأنّه ليس ببيع ، وانّما هو عقد قائم بنفسه ، وقد قال تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (5) والمخالف

ص: 64


1- النساء : 128.
2- النساء : 35.
3- الحجرات : 9.
4- الوسائل : الباب 2 من أحكام الصلح ، ح 2.
5- المائدة : 1.

لمذهب أهل البيت عليهم السلام يجعله فرع البيع ، ويراعى فيه شرائط البيع.

ولأجل ذلك ذكر شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في مسائل الخلاف ، في الجزء الثاني في كتاب الصلح : مسألة ، إذا أتلف رجل على غيره ثوبا يساوي دينارا ، فأقر له به ، وصالحه على دينارين ، لم يصح ذلك ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة يجوز ذلك ، قال شيخنا : دليلنا ، أنّه إذا أتلف عليه الثوب ، وجبت في ذمته قيمته ، بدلالة أنّ له مطالبته بقيمته ، فالقيمة هاهنا دينار واحد ، فلو أجزنا أن يصالحه على أكثر من دينار ، كان بيعا للدينار بأكثر منه ، وذلك ربا لا يجوز (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه مصنف هذا الكتاب : هذا المسألة بناها شيخنا على مذهب الشافعي ، لأنّ الشافعي يقول أنّ الصلح فرع البيع ، فذهب إلى قول الشافعي في هذه المسألة ، والصحيح خلاف ذلك ، وأنّه يجوز الصلح على الثوب المذكور بالدينارين ، بغير خلاف ، بين أصحابنا الإمامية.

وشيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، قال لما ذكر مقالة الشافعي : ويقوى في نفسي ، أن يكون (2) هذا الصلح أصلا قائما بنفسه ، ولا يكون فرع البيع ، ولا يحتاج إلى شرائط البيع ، واعتبار خيار المجلس على ما بيّناه فيما مضى (3).

ويجوز الصلح على الإنكار كما يجوز الصلح على الإقرار ، فأمّا صورة الصلح على الإنكار ، هو أن يدّعي على رجل عينا في يده ، أو دينا في ذمّته ، وأنكر المدّعي عليه ، ثمّ صالحه منه على مال اتفقا عليه ، يصحّ الصلح ، ويملك المدعى المال الذي يقبضه ، من المدّعى عليه ، ظاهرا وباطنا ، إن كان صادقا في دعواه وليس له أن يرجع فيطالبه به ، ولا يجب على المدّعي رده عليه ، ويسقط دعوى المدّعي فيما ادّعاه.

وإن كان قد صرّح بإبرائه فيما ادّعاه وإسقاط حقّه عنه كان صحيحا ، وغاية في المقصود.

وإن كان في دعواه كاذبا ، فانّ المدّعي يملك المال الذي يقبضه من المدّعى

ص: 65


1- الخلاف : كتاب الصلح ، مسألة 10
2- ل. ق : أنّه يكون
3- المبسوط : كتاب الصلح.

عليه ظاهرا ، ويجب على المدّعي ردّه عليه.

وإذا أخرج الإنسان من داره روشنا إلى طريق المسلمين النافذ ، فإن كان عاليا لا يضر بالمارة ، ترك ، ولم يقلع ، فان عارض فيه واحد من المسلمين ، قال قوم من المخالفين : يجب قلعه ، وقال آخرون منهم : لا يجب قلعه.

والقول الأوّل اختاره شيخنا أبو جعفر في الجزء الثاني من المبسوط (1) ، والقول الأخير اختياره أيضا في الجزء الثالث من مسائل خلافه (2) ، وهو الصحيح الذي يقوى في نفسي ، لأنّ المسلمين من عهد الرسول صلى اللّه عليه وآله إلى يومنا هذا - وهو سنة سبع وثمانين وخمسمائة - لم يتناكروا فيما بينهم ذلك ، وسقيفة بني ساعدة وبني النجار في المدينة معروفتان (3) ، ما أنكرهما أحد من المسلمين ، ونفس الطريق غير مملوكة ، وانّما يملك المسلمون منافعها ، دون رقبتها ، فهم مشتركون في المنافع ، لأنّ الشركة قد تكون في المنافع ، دون الأعيان ، وقد تكون في الأعيان والحقوق.

فأمّا الشركة في الأعيان فالميراث ، وأمّا الشركة في الحقوق دون الأعيان ، فمثل الاشتراك في حقّ القصاص ، وحدّ القذف ، وحقّ المرافق من المشي في الطرقات ، فهذا الضرب إذا عفا أحد الشركاء ، كان للباقي من شركائه ، المطالبة بجميعه ، من غبر إسقاط شي ء منه ، وكذلك لو عفا الجميع إلا واحدا منهم ، كان له جميع الحقّ.

وأمّا الاشتراك في المنافع ، كالاشتراك في منفعة الوقف ، ومنفعة العين المستأجرة ، فعلى هذا التحرير ، لا يجوز الاعتراض على أصحاب السقائف ، والرواشن ، والساباطات ، إذا لم تضر بالمارة ، ولم تمنعهم من حقوقهم ، وهي المنافع ، والاستطراق ، والاجتياز والمشي.

إذا تنازعا جدارا بين ملكيهما ، وهو غير متصل ببناء أحدهما ، وانّما هو مطلق

ص: 66


1- المبسوط : كتاب الصلح.
2- الخلاف : كتاب الصلح ، المسألة 2 ، ولا يخفى عدم اختلاف قول الشيخ في كتابيه فليراجع.
3- ج : معروفة.

ولأحدهما ، عليه جذوع ، فإنّه يحكم بالحائط لمن الجذوع له ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي : لا نحكم بالحائط لصاحب الجذوع ، واختار قول الشافعي شيخنا أبو جعفر في مسائل الخلاف (1) ، وما اخترناه أظهر ، لأنّ له عليه يدا وتصرفا ، ولا خلاف أن من كان بيده شي ء ، حكم له بالملك ، ولا يخرج من يده بمجرّد دعوى غيره عليه ، إلا بالبيّنة العدول.

إذا تنازع اثنان دابة ، أحدهما راكبها ، والآخر آخذ بلجامها ، ولم يكن لأحدهما بيّنة ، جعلت بينهما نصفين.

وكذلك إذا كان لرجل بيت ، وعليه غرفة لآخر ، وتنازعا في سقف البيت الذي عليه الغرفة ، ولم يكن لأحدهما بينة.

والأقوى عندي ، أنّ القول قول صاحب الغرفة مع يمينه ، لأنّ الغرفة لا تكون بلا أرض ، والبيت قد يكون بلا سقف ، وقد اتفقا ان هاهنا غرفة ، فإذا لم يكن لها أرض ، وهو سقف البيت ، فلا غرفة أذن ، فقد ترجحت دعواه بهذا الاعتبار.

وإذا كان بين رجلين حائط مشترك ، وانهدم ، وأراد أحدهما أن يبنيه ، وطالب الآخر بالإنفاق معه ، لا يجبر عليه ، وكذلك إن كان بينهما نهر ، أو بئر ، أو دولاب ، وكذلك إن كان السفل لواحد ، والعلو لآخر ، فانهدم ، فلا يجبر صاحب السفل ، على اعادة الحيطان التي تكون عليها الغرفة.

والدرب الذي لا ينفذ ، حكمه بخلاف الدرب الذي ينفذ ، لأنّ ملاكه معينون ، فلا يجوز لأحد منهم إخراج روشن ، إلا بإذن الباقين ، لأنّه إذا أخرج روشنا لاطيا ، يضر بأهل الزقاق الغير النافذ ، فرضوا به ، فإنّه يترك ، وهذا يدل على أنّ الحق لهم ، ولا يجري مجرى الطريق النافذ.

وإذا كان نفسان ، لكل واحد منهما شي ء عند صاحبه ، من سائر الأموال

ص: 67


1- الخلاف : كتاب الصلح ، المسألة 4.

سواء تعيّن لهما وتميّز أو لم يتعيّن ، إذا لم يعلمه من لم يقدر على تمييزه وتعيينه ، فإذا علمه ، فلا بدّ من اعلامه صاحبه به ، وإلا لم يصح الصلح ، فاصطلحا على أن يتتاركا. ويجعل كل منهما صاحبه في حل ، كان ذلك جائزا بينهما ، فإذا فعلا ، لم يكن لأحدهما الرجوع على صاحبه بعد ذلك ، إذا كان ذلك عن طيب نفس كل واحد منهما.

ومن كان له دين على غيره آجلا (1) ، فنقص منه شيئا ، قل ذلك النقصان أو كثر ، وسأله تعجيل الباقي ، كان ذلك جائزا حلالا ، سائغا.

والشريكان إذا أرادا أن يتقاسما ، وكان المال المشترك بينهما منه ناضّ ، ومنه سلع وأمتعة ، واصطلحا عل أن يكون الربح والخسران على واحد منهما ، ويرد على الآخر رأس ماله على الكمال ، كان ذلك جائزا ، وليس كذلك المسألة التي ذكرناها في كتاب الديون ، من أنّه إذا كان الشريكان لهما مال على الناس ، فتقاسما ، واحتال كل واحد منهما شيئا منه ، ثم قبض أحدهما ، ولم يقبض الآخر ، كان الذي قبضه أحدهما ، بينهما على ما يقتضيه أصل شركتهما ، وما يبقى على الناس أيضا مثل ذلك ، لأنّ هاهنا ، المال الذي على الناس في ذممهم بعد مشترك ، لا يصح قسمته على ما قدّمناه ، والمسألة المتقدمة سلّم أحدهما إلى شريكه جميع ماله ، على الكمال ، وصالحه على الأمتعة بذلك ، فرضي عن نصيبه منها بما أعطاه.

وإذا كان بيد نفسين درهمان ، فذكر أحدهما أنّهما جميعا ملكي ، ولي ، وقال الآخر : بل هما بيني وبينك ، كان الحكم أن يعطى المدّعى لهما معا درهما ، لإقرار صاحبه بذلك ، ويقسم الدرهم الباقي بينهما نصفين ، لأنّ يدهما عليه.

وروي أنّه إذا استبضع إنسان آخر ، مثلا أعطاه عشرين درهما ، واستبضعه آخر ثلاثين درهما ، فاشترى بكلّ واحدة من البضاعتين ثوبا ، ثمّ اختلطا فلم

ص: 68


1- ج : على غيره مؤجّلا.

يتميزا له ، بيعا وقسم المال (1) على خمسة أجزاء ، فما أصاب الثلاثة ، اعطي صاحب الثلاثين ، وما أصاب الاثنين ، اعطى صاحب العشرين ، على ما روي في أخبارنا (2) ، بشرط أن لا يكون الاختلاط بتفريط من المستبضع ، فإن كان بتفريط منه ، وهلك الثوبان قبل البيع فهو ضامن ، والقرعة في ذلك ، إن استعملت ، فهي أولى ، لأنّ الإجماع منعقد على أن كل أمر ملتبس مشكل ، فيه القرعة ، وهذا من ذاك.

وقد روي أنّه إذا استودع رجل رجلا دينارين ، واستودعه آخر دينارا ، فضاع دينار منهما ، اعطي صاحب الدينارين ممّا يبقى ، دينارا ، وقسم الدينار الآخر بينهما نصفين ، هذا إذا لم يفرط المستودع في خلط المال ، واختلط ، فأمّا إذا لم تختلط الدنانير ، وعرف الضّائع ، فالباقي كان من مال صاحبه ، فأمّا إن فرط الأمين في الخلط فإنّه ضامن لما ضاع من المال.

قال شيخنا في نهايته : وإذا كان نفسان ، لكلّ واحد عند صاحبه شي ء فلا بأس أن يصطلحا على أن يتتاركا ويتحللا (3).

قال محمّد بن إدريس : يقال تحللته واستحللته إذا سألته أن تجعل في حلّ من قبله ، ومنه الحديث من كانت عنده مظلمة من أخيه ، فليستحلله (4) ذكر ذلك صاحب غريبي القران والسنة الهروي.

باب الكفالات والضّمانات والحوالات

الضمان جائز ، للكتاب والسّنة والإجماع وهو عقد قائم بنفسه ، ومن شرطه ، رضا المضمون له ، ورضا الضّامن ، فأمّا رضا المضمون عنه ، فليس من شرط صحّة

ص: 69


1- ج : وقسما.
2- النهاية : باب الصلح ، باختلاف يسير.
3- الوسائل : الصلح الباب 11 ح 1.
4- صحيح البخاري ، كتاب المظالم ، الباب 10 ( الجزء 11 ، ص 21 ) وفيه : عن أبي هريرة قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شي ء فليتحلّله منه اليوم.

انعقاده ، بل من شرط استقراره ولزومه ، لأنّ المضمون عنه إذا لم يرض بالضمان لم يصح على ما رواه (1) وأورده بعض أصحابنا.

والصحيح انّه يستقرّ ويلزم لأنّ بالضمان ينتقل المال من ذمة المضمون عنه إلى ذمة الضّامن بلا خلاف بينهم ، وكذلك لو سلّمه إليه وقضاه إيّاه لزم واستقر بلا خلاف فبرئ المضمون عنه بالإجماع ولم يبق للمضمون له مطالبة المضمون عنه ، ويلزم من قال بالأول المصير إلى مذهب المخالفين ، من أنّ الضمان لا ينقل المال ، بل المضمون له مخير بين مطالبة المضمون عنه ، ومطالبة الضّامن والضمان عند أصحابنا بغير خلاف بينهم ينقل المال من ذمّة المضمون عنه إلى ذمة الضامن ولا يكون. للمضمون له أن يطالب أحدا غير الضامن ، ولا يصحّ ضمان ما لم يجب في ذمة المضمون عنه.

ويصح ضمان المال الثابت في الذمة ، وإن كان مؤجلا ، وإذا ضمن الضامن المال مطلقا فله ان يطالب به أي وقت شاء المضمون له (2) ، وإن كان مؤجلا ، لم يكن له مطالبة الضامن إلا بعد حلول الأجل ، وإن كان المال حالا ، وضمّنه الضامن مؤجلا ، صحّ ذلك إذا كان الأجل محروسا من الزيادة والنقصان ، إمّا بالسنين والأعوام ، أو الشهور والأيام.

وقد يوجد في بعض الكتب لأصحابنا (3) ولا يصحّ ضمان مال ولا نفس إلّا بأجل.

والمراد بذلك ، إذا اتفقا على التأخير والأجل ، فلا بد ، ولا يصحّ إلا بأجل محروس ، على ما قدمناه ، فأمّا إذا اتفقا على التعجيل ، فيصح الضمان من دون أجل ، وكذلك إذا أطلقا العقد.

وإلى هذا القول ذهب شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (4) ، وهو الحقّ اليقين ،

ص: 70


1- الوسائل : كتاب الضمان ، الباب 2.
2- ج : مطلقا فللمضمون له ان يطالب الضامن أي وقت شاء.
3- وهو الشيخ الطوسي في النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.
4- المبسوط : كتاب الضمان.

لأنّه لا يمنع منه مانع ، ومن ادّعى خلافه يحتاج إلى دليل ، ولن يجده.

ومتى أدّى الضامن الدين ، سقط عنه الضمان ، وهل يرجع على المضمون عنه أم لا؟ فيه أربع مسائل :

إحداها أن يكون قد ضمن بأمر من عليه الدين ، وادّى بأمره. والثانية أنّه لم يضمن بأمره ، ولم يؤدّ بأمره. الثالثة أن يكون ضمن بأمره ، وأدّى بغير أمره. الرابعة أن يكون ضمن بغير أمره ، وأدّى بأمره.

فإذا ضمن بأمره ، وقضى بأمره ، فإنّه يرجع عليه به بلا خلاف.

وأمّا إذا ضمن بغير إذنه ، وأدّى بغير إذنه ، وأمره ، فإنّه يكون متبرّعا بذلك ، فلا يرجع عليه بغير خلاف بين أصحابنا ، لأنّه يكون قد قضى دين غيره بغير إذنه ، فلا يرجع عليه به.

وأمّا إذا ضمن عنه بإذنه ، وأدّى بغير إذنه ، فإنّه يلزمه ، لأنا قد بيّنا أنّه بنفس الضمان انتقل الدين إلى ذمته ، فلا يحتاج في قضائه إلى إذنه ، بمقدار ما أدّى الضامن ، إن كان بمقدار الحقّ ، وإن كان ما أدّى أنقص من الحقّ ، فلا يلزمه إلا بمقدار المؤدى فحسب ، وبه وردت الأخبار (1) عن الأئمة الأطهار.

فمن ذلك ما أورده شيخنا أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام في باب الصلح ، محمد بن خالد ، عن ابن بكير ، عن عمر بن يزيد ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل ضمن ضمانا ، ثم صالح على بعض ما صالح عليه ، قال : ليس له إلا الذي صالح عليه (2).

وأيضا فشيخنا أبو جعفر قد حققه في مبسوطة ، وذهب إليه.

وأيضا فالمضمون عنه أمر الضامن بالضمان عنه ، فقد جعله كالوكيل له في قضاء دينه ، وإن لم يكن وكيلا بما له على الحقيقة ، فهو كالوكيل ، فيده نائبة عن يد

ص: 71


1- الوسائل : كتاب الضمان ، الباب 6 من أحكام الضمان.
2- التهذيب : كتاب الصلح ، الباب 83.

موكله ، ولا يرجع الوكيل على موكله ، إلا بما غرمه وصالح عليه فحسب ، فأمّا إذا كان زائدا على مقدار الدين ، فلا يلزمه بغير خلاف ، وإن كان على مذهبنا ، المال قد انتقل بالضمان من ذمة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فهو المطالب به بسبب المضمون عنه ، فما ادّى عنه رجع عليه به.

وأمّا إذا ضمن بغير إذنه ، وادّى بإذنه وأمره ، فإنّه لا يرجع عليه به ، لأنّه التزم وضمن بغير أمر منه متبرعا ، فانتقل المال إلى ذمته ، فلا تأثير لإذنه في القضاء عنه. لأن (1) قضاءه بعد الضمان انّما هو عن نفسه ، لا عن غيره ، لأنّه واجب عليه دونه.

فأمّا بيان الحقوق التي يصح فيها الضمان ، ولا يصحّ ، فجملة الأمر ، وعقد الباب ، ان كل حق لازم ثابت في الذمّة ، سواء كان مستقرا أو غير مستقر ، فإنّه يصح ضمانه ، وما لم يكن ثابتا في الذمّة ، لا يصحّ ضمانه ، فعلى هذا التحرير ، نفقة الزوجات إن كانت ماضية ، صح ضمانها ، لأنّها ثابتة لازمة في الذمة ، وإن كانت نفقة اليوم ، صح أيضا ، لأنّها تجب بأول اليوم ، وإن كانت نفقة مستقبلة (2) لم يصح ضمانها ، لأنها غير ثابتة في الذمة ، لأنّ النفقة تجب عندنا بالتمكين من الاستمتاع ، لا بمجرّد العقد ، وإذا لم تجب النفقة بعد ، فلا يصح الضمان ، وفي الموضع الذي يصح ضمانها ، فلا يصح ، إلّا أن تكون معلومة ، لأنّ ضمان المجهول على الصحيح من المذهب ، وعند المحصّلين من الأصحاب ، لا يصحّ.

وإلى هذا القول ، ذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه وفي مبسوطة فإنّه قال : لا يصح ضمان المجهول ، سواء كان واجبا في حال الضمان ، أو غير واجب ، ولا يصح ضمان ما لم يجب ، سواء كان معلوما أو مجهولا (3).

فالمجهول الذي ليس بواجب ، مثل أن يقول : ضمنت لك ما تعامل فلانا ، أو ما تقرضه ، وتداينه ، فهذا لا يصح ، لأنّه مجهول ولأنّه غير واجب ، في الحال ،

ص: 72


1- ج : وان.
2- ج : كانت مستقبلة.
3- الخلاف : كتاب الضمان ، المسألة 13.

والمجهول ، الذي هو واجب ، مثل أن يقول : أنا ضامن لما يقضي لك به القاضي على فلان ، أو ما يشهد لك به البينة من المال عليه ، أو ما يكون مثبتا في دفترك ، فهذا لا يصح ، لأنّه مجهول وإن كان واجبا في الحال ، وقال قوم من أصحابنا : إنّه يصح أن يضمن ما تقوم به البيّنة ، دون ما يخرج به دفتر الحساب ولست أعرف به نصا (1) ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة.

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : فإن قال قائل : فإذا لم يعرف الشيخ أبو جعفر الطوسي بصحة ضمان ما قامت به البيّنة نصا ، فمن أين أورده في نهايته (2) وذهب إليه ، وأفتى به ، وعول عليه.

قلنا : هذا أدلّ دليل ، وأوضح قيل ، في اعتذارنا له فيما يورده في نهايته ، من أخبار الآحاد ، وانّه يوردها إيرادا من طريق أخبار الآحاد ، بحيث لا يشد شي ء من الأخبار ، لا اعتقادا على ما قاله في عدته ، على ما أسلفنا القول في معناه ، وأنّه غير عامل بأخبار الآحاد ، وإلا إن كان عاملا بها ، فيلزمه العمل بما أورده في نهايته ، وهو قد دفع ، وقال : لست أعرف بذلك نصا ، فيكون مناقضا لأقواله.

وأمّا الأعيان المضمونة ، مثل العين المضمونة في يد الغاصب ، والعارية في يد المستعير ، إذا شرط ضمانها ، فهل يصح ضمانها عمّن هي في يده ، أم لا؟ الصحيح أنّها يصحّ ضمانها ، لأنّها مضمونة.

ومتى كان لرجل على رجلين الف درهم ، على كل واحد منهما خمسمائة ، وضمن كل واحد منهما صاحبه ، تحول الحقّ الذي على كل واحد منهما إلى صاحبه ، وهو خمسمائة ، إلا أن قبل الضمان كان له دين الأصل ، وبعد الضمان دين الضمان ، فان قضى أحدهما الألف عن نفسه ، وعن صاحبه برئا جميعا ، لأنه يكون قد قضى دين غيره ، وذلك صحيح ، وإن أبرأه عن الألف برئ

ص: 73


1- المبسوط : كتاب الضمان.
2- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

مما عليه ، ولا يبرأ الآخر ، لأنّه لم يبرئه ، ومتى قضى خمسمائة ، لم يقع ذلك إلا عن الخمسمائة التي تحولت إليه بالضمان ، لأنّ الخمسمائة التي عليه انتقلت عنه إلى ذمة صاحبه بالضمان ، علي ما قررناه ، هذا إذا ضمنا في حالة واحدة.

فأمّا إن ضمن أحدهما ما على الآخر ، بري ء المضمون عنه ، وصار الألف جميعا لازما للضامن ، خمسمائة ، دين الأصل ، وخمسمائة دين الضمان.

فإن عاد بعد ذلك المضمون عنه ، وضمن صاحبه الأول الذي هو الضامن ، فقد تحول ، وانتقل الألف جميعا من ذمة الأول إلى ذمّة الأخير ، وعلى هذا الاعتبار ، لأنّا قد بيّنا انّ بالضمان عند أصحابنا ، ينتقل المال من ذمة المضمون عنه إلى ذمّة الضامن ، فليس له مطالبة المضمون عنه بحال.

وأصحابنا يعتبرون في صحّة الضمان ، أن يكون الضامن مليا بما ضمن وقت الضمان ، أو غير ملي مع علم المضمون له بذلك ، فمتى كان غير ملي وقت الضمان ، ولم يعلم المضمون له حاله ، فله الرجوع على المضمون عنه.

فعلى هذا التحرير قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : من كان عليه حق فسأل غيره ضمانه عنه لصاحبه ، فضمنه ، وقبل المضمون له ضمانه ، وكان الضامن مليا بما ضمّن فقد وجب عليه الخروج إلى صاحبه مما ضمن ، وبري ء المضمون عنه من مطالبة من كان له عليه ، غير أنّه يثبت له حقه على من كان ضمن عنه ، فإن أراد مطالبته بذلك ، كان له ذلك (1) ( لأنه بأمره وإذنه ضمن ، فمتى أدّى كان له الرجوع عليه ، وثبت حقّه قبله ) (2).

ومتى تبرع الضامن ، من غير مسألة المضمون عنه ذلك ، وقبل المضمون له ضمانه ، فقد بري ء عهدة المضمون عنه ، إلا أن ينكر ذلك ويأباه ، فيبطل ضمان المتبرع ، ويكون الحق على أصله ، لم ينتقل عنه بالضمان ، وليس للضامن على

ص: 74


1- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.
2- وما وقع في القوسين زائد على المصدر.

المضمون عنه رجوع فيما ضمن ، إذا تبرع بالضمان عنه ورضى (1).

ومن ضمن حقا ، وهو غير ملي به ، لم يبرئ المضمون عنه بذلك ، إلا أن يكون المضمون له قد علم ذلك ، وقبل ضمانه مع ذلك ، فلا يجب له مع هذه الحال الرجوع على المضمون عنه.

وإذا كان الضامن مليا بما ضمن في الحال التي ضمن فيها ، وقبل المضمون له ضمانه ، ثمّ عجز بعد ذلك عما ضمن ، وافتقر ، لم يكن للمضمون له الرجوع على المضمون عنه ، وانّما يرجع عليه ، إذا لم يكن الضامن مليا في وقت الضمان.

وإن ظن (2) في حال ما ضمن ، أنّه ملي بذلك ، ثمّ انكشف بعد ذلك ، أنّه كان غير ملي في تلك الحال ، كان له الرجوع على المضمون عنه.

ومن ضمن لغيره نفس (3) إنسان ، إلى أجل معلوم ، بشرط ضمان النفوس ، ثم لم يأت به عند الأجل ، وحلوله ، كان للمضمون له حبسه ، حتى يحضر المضمون أو يخرج إليه مما عليه.

ومن ضمن غيره إلى أجل ، وقال : إن لم أحضره عند حلول الأجل كان عليّ كذا ، وحضر الأجل ، لم يلزمه إلا إحضار الرجل ، دون ما ذكره من المال.

فإن بدأ بضمان المال ، أولا فقال : عليّ المال المعين إلى كذا وضرب الأجل ، إن لم أحضره ، ثمّ لم يحضره ، وجب عليه ما ذكره من المال ، وكان ضامنا للمال ، بخلاف المسألة المتقدمة ، لأنّه في هذه بدأ بضمان المال أولا ، فقال عليّ كذا ، وفي الأولة بدأ بضمان النفس ، قبل المال ، فافترق الأمران.

روى ذلك أحمد بن محمد ، بن أبي نصر ، عن داود بن الحصين ، عن أبي العباس ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : سألته عن الرجل ، تكفل بنفس الرجل ، إلى أجل ، فإن لم يأت به ، فعليه كذا وكذا درهما ، قال عليه السلام : إن

ص: 75


1- ج : بالضمان عنه.
2- ج : فان ظنّ.
3- ج : بنفس.

جاء به إلى أجل ، فليس عليه مال ، وهو كفيل بنفسه أبدا ، إلا أن يبدأ بالدراهم ، فإن بدأ بالدراهم فهو له ضامن ، إن لم يأت إلى الأجل الذي أجله (1).

محمد بن احمد بن زياد ، عن الحسن بن محمد الكندي ، عن أحمد بن الحسن الميثمي ، عن أبان بن عثمان ، عن أبي العباس ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، رجل كفل لرجل بنفس رجل ، فقال : إن جئت به ، وإلا فعليّ خمسمائة درهم ، قال : عليه نفسه ، ولا شي ء عليه من الدراهم ، فإن قال : عليّ خمسمائة درهم إن لم أدفعه إليه ، فقال : يلزمه الدراهم إن لم يدفعه إليه (2).

فهذان الخبران أوردهما شيخنا أبو جعفر في تهذيب الأحكام (3).

وفي نهايته (4) أورده عبارة ملتبسة في هذا المعنى ، وفقه ذلك ما ذكرناه.

ولا بدّ أن يكون الدراهم التي لزمته في الموضع المذكور ، ضمانا عما وجب له في ذمّة المضمون عنه ، ثابتة في ذمته ، حتى يصح ضمانها ، لأنّا قد بيّنا أنّ ضمان ما لم يجب ولا يثبت في الذمة لا يجوز.

ثمّ قال شيخنا في نهايته : وإن لم يكن عين المال ، وقال : أنا أضمن له ما يثبت (5) لك عليه ، إن لم آت به ، إلى وقت كذا ، ثمّ لم يحضره ، وجب عليه ما قامت به البيّنة ، للمضمون عنه (6) ولا يلزمه ما لم تقم به البينة ، مما يخرج به الحساب في دفتر ، أو كتاب ، وانّما يلزمه ما قامت له به البيّنة ، أو يحلف (7) خصمه عليه ، فإن حلف على ما يدعيه بعد رد اليمين عليه ، واختيار الضامن المذكور ذلك ، وجب عليه الخروج منه (8).

قال محمد بن إدريس : هذا على قول من قال من أصحابنا (9) بصحة ضمان

ص: 76


1- الوسائل : الباب 10 من أحكام الضمان ، ح 1 - 2.
2- الوسائل : الباب 10 من أحكام الضمان ، ح 1 - 2.
3- التهذيب : الباب 84 من باب الكفالات والضمانات ، ح 5 / 488 و 10 / 493.
4- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.
5- ج : ثبت.
6- ج : للمضمون له.
7- ج : يحلّقه.
8- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.
9- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

المجهول ، فأمّا على الصحيح من المذهب ، فلا يصح هذا كله ، والضمان من أصله باطل ، لأنّه ضمان مجهول ، وقد بيّنا فيما مضى قول شيخنا ، ورجوعه عمّا ذهب إليه في نهايته ، في مبسوطة (1) ، ومسائل خلافه ، واستدل على فساده ، بأن قال : دليلنا ما روي عن النبيّ عليه السلام ، أنّه نهى عن الغرر ، وضمان المجهول غرر ، لأنّه لا يدري كم قدرا من المال عليه. ثمّ قال رحمه اللّه : وأيضا فلا دليل على صحة ذلك ، فمن ادّعى صحّته فعليه الدلالة ، هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه (2).

ومن خلى غريما لرجل من يده قهرا ، أو إكراها ، كان ضامنا لما عليه فان خلاه بمسألة وشفاعة لم يلزمه شي ء ، إلّا أن يضمن عنه ما عليه ، حسب ما قدّمناه.

ومن خلّى قاتلا من يد ولي المقتول ، بالجبر والإكراه ، كان ضامنا لدية المقتول ، إلا أن يرد القاتل إلى الولي ويمكنه منه.

كفالة الأبدان عندنا تصح إلا أنّها لا تصحّ إلا بإذن من تكفل عنه. فإذا كفل بالبدن ، نظر ، فإن كان قد كفل حالا ، صحت الكفالة ، وإن كفل مؤجلا صحت ، كما نقول في كفالة المال ، وإن كفل مطلقا كانت صحيحة ، وكانت حالة ، وإلى هذا التحرير يذهب شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (3).

وقال في نهايته : لا يصح ضمان مال ولا نفس إلا بأجل (4).

وقد قدّمنا معنى ذلك ، وما المقصود به.

فإذا ثبت هذا ، وهو الصحيح الحقّ اليقين ، كان للمكفول له مطالبته بتسليمه في الحال ، فإن سلّمه ، بري ء ، وإن امتنع من تسليمه ، حبس حتى يسلم ، على ما قدّمناه.

وإن أحضره الكفيل ، وسأله أن يتسلمه ، فإن كان ممنوعا من تسليمه (5) بيد

ص: 77


1- المبسوط : كتاب الضمان.
2- الخلاف : كتاب الضمان ، المسألة 13.
3- المبسوط : كتاب الضمان ، أحكام الكفالة.
4- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.
5- ج : من تسلّمه.

ظالمة مانعة لم يبرأ من كفالته ، ولا يصح تسليمه ، وإن لم يكن ممنوعا من تسليمه ، لزمه قبوله ، فإن لم يقبل ، أشهد عليه رجلين ، أنّه سلّمه إليه وبري ء.

فإن كانت الكفالة مؤجلة ، لم يكن له مطالبة الكفيل قبل المحلّ ، فإذا حل الأجل ، كان حكمه ما قدّمناه.

وإن كان غائبا وقت حلول الأجل ، كان له حبس الكفيل ، أو يخرج ممّا عليه فإن مات المكفول ، برئ الكفيل ، ولا يلزمه المال الذي كان في ذمته ، لأنّه لا دليل عليه.

إذا قال لرجل : فلان يلزم فلانا فاذهب ، وتكفّل به ، ففعل ذلك ، كانت الكفالة على من باشر عقدها ، دون الآمر ، لأنّ المأمور تكفل باختياره من غير إجباره.

إذا تكفّل بدين رجل ، ثم ادّعي الكفيل ، أنّ المكفول له ، قد أبرأ المكفول به من الدين ، وأنّه قد برئ من الكفالة ، وأنكر ذلك المكفول له ، كان القول قول المكفول (1) مع يمينه ، وعلى الكفيل البيّنة ، لأنّه مدّع ، والأصل بقاء الكفالة.

إذا قال الكفيل : تكفلت ببدنه ، ولا حقّ لك عليه ، وأنكر المكفول له (2) ، كان القول قوله مع يمينه ، لأنّ الظاهر أنّ الكفالة صحيحة ، والكفيل يدّعي ما يبطلها.

إذا تكفّل ببدن رجل إلى أجل مجهول ، لا يصح.

والحوالة عقد من العقود ، يجب الوفاء به ، لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (3) ووجوب الوفاء به يدل على جوازه ، وأجمعت الأمة على جواز الحوالة ، وهي مشتقة من تحويل الحقّ ، من ذمّة ، إلى ذمة ، يقال : أحاله بالحقّ عليه يحيله احالة واحتال الرجل إذا قبل الحوالة ، فالمحيل ، الذي عليه الحق (4) ، والمحتال الذي يقبل الحوالة ، والمحال عليه ، هو الذي عليه الحقّ للمحيل ، والمحال به هو الدين نفسه.

ص: 78


1- ج : القول قوله.
2- ج : المكفول.
3- المائدة : 1.
4- ج : له الحق.

فإذا ثبت ذلك ، فالحوالة متعلقة بثلاثة أشخاص ، محيل ، ومحتال ، ومحال عليه ، والثلاثة يعتبر رضاهم في صحة عقد الحوالة ، لأنّه إذا حصل رضا هؤلاء أجمع ، صحت الحوالة بلا خلاف ، وإذا لم يحصل ، فيه خلاف.

وإذا أحاله بدينه على من له عليه دين ، فلا خلاف في صحّة الحوالة ، فأمّا إذا أحاله على من ليس له عليه دين ، فانّ ذلك لا يصح عند المخالف ، ولا خلاف في صحّة ذلك عند أصحابنا معشر الإمامية ، فإذا ثبت ذلك ، تحوّل الحق من ذمة المحيل ، إلى ذمة المحال عليه ، إجماعا الأزفر ، واشتقاق الحوالة يقتضي ذلك ، لأنّها مشتقة من التحويل ، والمعنى ، إذا حكم الشرع بصحته ، وجب أن نعطيه حقّه.

فإذا ثبت ذلك ، فانّ المحتال إذا أبرأ المحيل ، بعد الحوالة ، من الحقّ لم يسقط حقّه عن المحال عليه ، لأنّ المال قد انتقل ، وتحول عنه إلى غيره ، فإذا ثبت أنّ الحق قد انتقل من ذمّته ، فإنّه لا يعود إليه ، سواء بقي المحال عليه على غناه ، حتى أداه ، أو جحده حقّه ، وحلف عند الحاكم ، أو مات مفلسا ، أو أفلس وحجر عليه الحاكم ، إلا أنّ أصحابنا يعتبرون ملاءة المحال عليه ، وقت الإحالة ، الملاءة ، بفتح الميم ، والمد ، أو علم المحال له ، بإعساره ، كما اعتبروا ذلك في الضامن على ما قدّمناه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وان كان له على غيره مال ، فأحال به على غيره ، وكان المحال عليه مليا به ، في الحال ، وقبل الحوالة ، وأبرأه منه ، لم يكن له رجوع عليه ، ضمن ذلك المحال به عليه (1) ، أو لم يضمن ، بعد أن يكون قد قبل الحوالة ، فإن لم يقبل الحوالة ، إلا بعد ضمان المحال عليه ، ولم يضمن من أحيل عليه ذلك ، كان له مطالبة المحيل ، ولم تبرأ ذمّته بالحوالة ، فإن انكشف لصاحب المال ، انّ الذي (2) أحيل عليه به ، غير ملي بالمال ، بطلت الحوالة ، وكان له

ص: 79


1- ج : المحال عليه.
2- وفي المصدر : انّ الرجل الذي.

الرجوع على المديون بحقه عليه ، ومتى لم يبرأ المحال له بالمال المحيل في حال ما يحيله ، كان له أيضا الرجوع عليه ، أيّ وقت شاء ، هذا آخر كلام شيخنا في نهايته (1).

قال محمّد بن إدريس : لا أرى لقوله رضى اللّه عنه وجها في أوّل الكلام ، وهو « وقبل الحوالة ، وأبرأه منه لم يكن له رجوع عليه ، ضمن ذلك المحال به عليه ، أو لم يضمن ، بعد أن يكون قد قبل الحوالة ، فإن لم يقبل الحوالة ، إلا بعد ضمان المحال عليه ، ولم يضمن من أحيل عليه ذلك ، كان له مطالبة المحيل ، ولم تبرأ ذمته بالحوالة » قلنا بعد (2) أن يقبل الحوالة ، فقد تحوّل الحقّ من ذمة المحيل ، إلى ذمة المحال عليه ، سواء ضمن ذلك ، أو لم يضمن ، لأنّ الضمان به ، ينتقل المال من ذمة المضمون عنه ، إلى ذمة الضامن ، وكذلك الحوالة ، بها يتحول الحقّ ، من ذمة المحيل ، إلى ذمة المحال عليه ، فلا فائدة في الضمان ، بعد عقد الحوالة ، وانتقال المال وتحويله.

وقوله رضى اللّه عنه في آخر الكلام والباب : ومتى لم يبرء المحال له ، بالمال المحيل ، في حال ما يحيله ، كان له أيضا الرجوع عليه ، أيّ وقت شاء ، لا وجه له ، لأنّ الحوالة عقد قائم بنفسه ، عند أصحابنا ، وهي من العقود اللازمة للمتعاقدين ، وينتقل المال من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه ، مع رضا المحال له ، وهي مشتقة من تحويل الحق ، فإذا كان كذلك ، فقد انعقد العقد ، وتحول الحقّ ، فسواء أبرأه منه بعد الحوالة أو لم يبرئه (3) لأنّ الذمة قد برئت بتحويل الحقّ ، وعقد الحوالة ، فلا حاجة بنا إلى أن يبرأ بعد الحوالة ، لأنّ الذمة قد برئت بعد عقد الحوالة ، وانتقال المال ، وتحويل الحقّ ، فلا يحتاج بعد ذلك إلى براءة أخرى ، وهذه الألفاظ التي أوردها شيخنا في نهايته (4) ، ألفاظ أخبار الآحاد ، أوردها إيرادا لا اعتقادا ، على ما كررنا القول في معناه.

ص: 80


1- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.
2- ج : فامّا بعد.
3- ج : أبرأه بعد أو لم يبرئه.
4- النهاية : باب الكفالات والضمانات والحوالات.

فأمّا اعتقاده وفتواه وعمله ، ما ذكره في مسائل خلافه ، وهو إن قال : مسألة ، إذا أحال رجلا على رجل بالحقّ ، وقبل الحوالة ، وصحت ، تحول الحقّ من ذمّة المحيل ، إلى ذمة المحال عليه ، وبه قال جميع الفقهاء ، ثم قال : دليلنا ، انّ الحوالة مشتقة من التحويل ، فينبغي أن يعطي اللفظ حقّه من الاشتقاق والمعنى إذا حكم الشرع بصحّته فإذا أعطيناه حقّه ، وجب أن ينتقل الحق ، من المحيل إلى المحال عليه (1).

وقال بعض أصحابنا ، وأمّا الحوالة ، فعلى ضربين ، أحدهما أن يكون قد أخذ المحال بعضها ، والآخر أن يكون لم يأخذ ، فإن أخذ لم يجز له الرجوع ، وإن لم يأخذ فله الرجوع.

وهذا قول مرغوب عنه ، لأنّه لا دليل عليه ، ولما قد قدّمناه وحررناه.

باب الوكالة

الوكالة جائزة ، بغير خلاف بين الأمة ، فإذا ثبت جواز الوكالة ، فالكلام بعده ، في بيان ما يجوز التوكيل فيه ، وما لا يجوز.

أمّا الطهارة ، فلا يجوز التوكيل فيها ، وانّما يستعين بغيره ، في صبّ الماء عليه ، على كراهية فيه ، عند أصحابنا ، فأمّا غسل أعضائه ، فعندنا لا يجوز ذلك ، مع القدرة ، فأمّا مع العجز ، فإنّه يجوز ، وينوى عند هذه الحال هو بنفسه رفع الحدث ، وذلك ليس بتوكيل ، وانّما هو استعانة على فعل عبادة.

وأمّا الصلاة ، فلا يجوز التوكيل فيها ، ولا تدخلها النيابة ، سوى ركعتي الطواف ، تبعا للحج.

وأمّا الزكاة ، فيصح التوكيل في إخراجها عنه ، بغير خلاف ، وفي تسليمها إلى

ص: 81


1- الخلاف : كتاب الحوالة ، المسألة 4.

أهل السهمان (1) وقال بعض أصحابنا : ويجوز من أهل السهمان (2) التوكيل في قبضها ، وقال ابن البراج من أصحابنا : لا يجوز ذلك ، وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنّه لا دليل عليه ، فمن ادّعاه ، فقد أثبت حكما شرعيا ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا دلالة له ، وأيضا فالذمّة مرتهنة بالزكاة ، ولا خلاف بين الأمة أنّ بتسليمها إلى مستحقها ، تبرأ الذمة بيقين ، وليس كذلك ، إذا سلمت إلى الوكيل ، لأنّ الوكيل ليس هو من الثمانية الأصناف ، بغير خلاف ، ولأنّ الزكاة والخمس ، لا يستحقها واحد بعينه ، ولا يملكها إلا بعد قبضه لها ، فيتعين له ملكها ، والوكيل لا يستحق إلا ما تعيّن ملكه للموكل ، واستحق المطالبة به ، وكلّ واحد من أهل الزكاة والخمس ، لا يستحق المطالبة بالمال ، لأنّ الإنسان مخيّر في وضعه فيه ، أو في غيره ، فلا يجبر على تسليمه إليه.

وأمّا الصيام فلا يصح التوكيل فيه ، ولا يدخله النيابة ، ما دام حيا ، فإذا مات وعليه صوم ، أطعم وعنه وليه ، أو صام عنه ، على ما حررناه في كتاب الصيام ، في الموضع الذي كان وجب عليه ، ففرّط فيه.

وأمّا الاعتكاف ، فلا يصحّ التوكيل فيه بحال ، لأنّه لا يدخله النيابة بوجه.

وأمّا الحجّ ، فلا يدخله النيابة مع القدرة عليه بنفسه ، فإذا عجز عنه بزمانه ، أو موت ، دخلته النيابة.

وأمّا البيع ، فيصح التوكيل فيه مطلقا ، في إيجابه وقبوله ، وتسليم المال فيه ، وتسلّمه.

وكذلك يصح التوكيل في عقد الرهن ، وفي قبضه.

وأمّا التفليس فلا يتصور فيه التوكيل.

وأمّا الحجر ، فللحاكم أن يحجر بنفسه ، وله أن يستنيب غيره في ذلك.

ص: 82


1- ج : أهل السهام.
2- ج : أهل السهام.

وأمّا الصلح فيصح التوكيل فيه ، وكذلك الحوالة ، وعقد الضمان ، وكذلك الشركة ، وكذلك في الوكالة ، ويصح أيضا في قبول الوكالة عنه.

والإقرار يصح التوكيل فيه ، إذا عيّن ما يقرّ به عنه.

وأمّا العارية فيصح التوكيل فيها ، لأنّها هبة منافع.

وأمّا الغصب فلا يصح التوكيل فيه.

وأمّا الشفعة فيصح التوكيل في المطالبة بها ، وكذلك يصح في القراض ، والمساقاة ، والإجارات ، وإحياء الموات ، وكذلك يصحّ التوكيل في العطايا ، والهبات ، والوقوف ، والصدقات.

ولا يصح التوكيل في الالتقاط ، فإذا وكل غيره في التقاط لقطة ، تعلّق الحكم بالملتقط ، لا بالآمر ، وكان الملتقط أحق بها.

والميراث لا يصح التوكيل فيه ، إلا في قبضه واستيفائه.

والوصايا يصح التوكيل في عقدها ، وقبولها.

وأمّا الوديعة فيصح التوكيل فيها أيضا.

وقسم ألفي ، فللإمام أن يتولى قسمته بنفسه ، وله إن يستنيب غيره فيه وكذلك قسمة الصدقات.

وامّا النكاح فيصح التوكيل فيه ، وكذلك التوكيل في الصدقات.

ويصح التوكيل في الخلع ، لأنّه عقد بعوض والأولى ان يقال انّه إيقاع بعوض.

ولا يصح التوكيل في القسم بين الزوجات ، لأنّه يدخله الوطء ولا تصح النيابة فيه.

وأمّا الطلاق فيصح التوكيل فيه ، فيطلق الوكيل مقدار ما أذن له ، إذا كان مأذونا له في المراجعة ، فعلى هذا يصح التوكيل في الرجعة.

والطلاق يصح التوكيل فيه كما قلناه ، سواء كان الموكل حاضرا ، أو غائبا ،

ص: 83

بغير خلاف بين المسلمين ، إلا رواية (1) شاذة رويت من جهة أصحابنا ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنّه لا خلاف بينهم ، أنّه إذا خيف شقاق بينهما ، بعث الحاكم رجلا من أهل الزوج ، ورجلا من أهل المرأة ، يدبران الأمر في الإصلاح بينهما ، وليس لهما الفراق ، إلا أن يكون الزوج ، قد وكل فيه من بعثه ، فحينئذ يصح طلاقه ووكالته فيه ، مع حضور موكّله بغير خلاف.

وأمّا الظهار ، والإيلاء ، واللعان ، فلا يصح التوكيل فيها.

فأمّا عدد النساء فلا يدخلها النيابة ، فلا يصحّ التوكيل فيها.

والرضاع فلا يصح فيه التوكيل ، لأنّه يختص التحريم بالمرضع والمرضع (2).

وأمّا النفقات ، فيصح التوكيل في صرفها إلى من يجب.

وأمّا الجنايات ، فلا يصح التوكيل فيها ، وكل من باشر الجناية ، تعلّق به حكمها.

وأمّا القصاص ، فيصح التوكيل في إثباته ، ويصح في استيفائه.

وأمّا الديات ، فيصح التوكيل في تسليمها ، وتسلمها.

وامّا القسامة ، فلا يصحّ التوكيل فيها ، لأنّها أيمان ، والأيمان لا يدخلها النيابة.

وأمّا الكفارات ، فيصح التوكيل في تسليمها.

وأمّا الحدود فللإمام أن يستنيب فيها من يقيمها ، ولا يصح التوكيل في تثبيتها ، لأنّها لا تسمع الدعوى فيها.

وأمّا حدّ القذف فحقّ الآدميين ، فحكمه حكم القصاص ، يصحّ التوكيل فيه.

وأمّا الأشربة ، فلا يصح التوكيل فيها ، وكلّ من شرب الخمر ، فعليه الحد ، دون غيره.

ص: 84


1- الوسائل : كتاب الطلاق الباب 39 من أبواب مقدماته وشرائطه ، ح 5.
2- ل : التحريم بالمرتضع والمرضعة.

وأمّا الجهاد ، فلا يصح النيابة فيه بحال ، لمن حضر القتال ، لأنّ كل من حضر الصف ، توجه فرض القتال عليه ، وكيلا كان أو موكلا ، وأمّا لمن لم يحضر الصف ، ولا يعين الإمام عليه في الخروج ، فإنّه يجوز له أن يستنيب ، ويستأجر من يجاهد عنه ، على ما رواه أصحابنا (1).

وأمّا الجزية ، والاحتطاب ، والاحتشاش ، والاصطياد ، فلا يدخل ذلك النيابة والتوكيل ، وامّا (2) الذبح فيصح التوكيل فيه.

وأمّا الايمان ، والنذور ، فلا يصحّ التوكيل فيها.

وأمّا القضاء (3) ، فيصح الاستنابة فيه.

وأمّا الشهادات ، فتصحّ الاستنابة فيها ، على وجه مخصوص ، وتكون شهادة على شهادة ، وذلك عندنا ليس بتوكيل.

وأمّا الدعوى فيوكّل الإنسان فيها ، لأنّ كل أحد لا يكمل للمخاصمة والمطالبة.

وأمّا العتق ، والتدبير ، والكتابة ، فيصح التوكيل في ذلك.

فإذا ثبت ذلك فجملة الأمر ، من يحصل في يده مال الغير ، ويتلف فيها ، على ثلاثة أضرب ، ضرب لا ضمان عليهم ، بلا خلاف ، وضرب عليهم الضمان ، وضرب فيه خلاف.

فالذين لا ضمان عليهم ، فهم الوكيل ، والمرتهن ، والمودع ، والشريك ، والمضارب ، والوصي ، والحاكم ، وأمينه ، والمستأجر ، والمستعير ، عندنا ، فإذا تلف مال الغير في أيديهم ، من غير تفريط ، وتعدّ منهم ، فلا ضمان عليهم.

والذين عليهم الضمان ، فهم الغاصب ، والسارق ، والمستام والمبتاع بيعا فاسدا إذا قبض المبيع ، فهؤلاء إذا تلف المال في أيديهم ، كان عليهم الضمان ، سواء

ص: 85


1- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 8 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه.
2- ج : النيابة ، وأمّا.
3- ل : وأمّا القصاص.

تعدّوا فيه ، أو لم يتعدوا ، فرطوا في حفاظه ، أو لم يفرطوا ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (1).

والذي تقتضيه أصولنا ، أنّ المستام لا ضمان عليه ، إذا لم يفرط ، لأنّه أخذه بإذن صاحبه ، وعن أمره ، ولأنّ الأصل ، براءة الذمة فمن شغلها بشي ء يحتاج إلى دليل ، قاهر ، فأمّا ان ادّعى الرد ، فيحتاج إلى بينة.

فأمّا ما أورده شيخنا في مبسوطة ، فهو مذهب المخالفين ، بناء منه أنّ المستعير ضامن ، بنفس العارية ، من غير شرط ، قاسوا المستام على المستعير ، والمستعير عندنا لا ضمان عليه ، إلا بالشرط ، ثم القياس عندنا باطل غير معمول عليه ، والمستام أخذ الشي ء بإذن صاحبه واختياره ، فهو أمين ، وسبيله سبيل الأمناء ، لا ضمان عليه إلا بالتفريط ، فليلحظ ذلك ، فأمّا في الردّ ، فإنّه يحتاج إلى بيّنة ، على ما قدّمناه.

وأمّا المختلف فيه فهو الصناع الذين يتقبلون الأعمال ، مثل القصّار ، والصباغ ، والحائك ، وغيرهم ، فإذا تلف المال الذي تسلموه للعمل في أيديهم ، فهل عليهم الضمان ، أم لا؟ قيل : فيه قولان ، أحدهما يلزمهم ، تعدوا فيه ، أو لم يتعدوا ، والثاني لا ضمان عليهم ، إلا أن يتعدوا.

وكلا الوجهين رواه أصحابنا (2) والأخير هو الأظهر بين الطائفة ، والأصح من القولين ، والمعمول عليه عند المحصّلين ، لأنّ هؤلاء سبيلهم سبيل الأمناء ، لأنّ الإنسان يستأمن الصانع ، ويسلم ماله إليه ، ولا خلاف أنّ الأمين لا ضمان عليه.

وجميع من يحصل بيده مال (3) من وكيل ، سواء كان بجعل ، أم غير جعل ، ومضارب ، ومستام ، وأجير ، مشتركا كان ، أو غير مشترك ، ومرتهن ، ومستعير ، وراع ، وأمين ، وملتقط ، إذا ادّعوا ردّ الشي ء الذي حصل بأيديهم ، إلى مالكه

ص: 86


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب الوكالة ص 363 ، وفيه : « والمساوم والمبتاع ».
2- الوسائل : كتاب الإجارة ، الباب 29 من أحكام الإجارة.
3- ج : مال الغير.

وصاحبه ، فلا يقبل قولهم في ذلك إلا ببيّنة ، وإن كان يقبل قولهم في التلف ، على ما قدّمناه ، إلا المودع فحسب ، فإنّه يقبل قوله في التلف ، وفي الردّ ، بلا خلاف ، للإجماع ، والباقون يحتاجون في الردّ إلى بينة ، ولا يقبل بمجرد دعواهم ، لقوله عليه السلام : على اليد ما أخذت حتى تؤدى (1) ولقوله عليه السلام : على المدّعي البيّنة (2) فليلحظ ذلك ، ويتأمّل.

فأمّا بيان من يجوز له التوكيل ، فكل من يصح تصرفه في شي ء ، تدخله النيابة ، صح التوكيل فيه ، سواء كان الموكل رجلا ، أو امرأة ، عدلا أو فاسقا ، مسلما أو كافرا ، حاضرا أو غائبا.

ولا يجوز للوكيل أن يوكل فيما جعل إليه ، إلا بإذن الموكل.

ولا يجوز أن تتوكّل المرأة لزوجها ، في طلاق نفسها ، على الصحيح من المذهب ، ولا بأس أن تتوكل في طلاق ضرتها ، لأنّه لا مانع يمنع منه ، لأنّ كل ما يصح أن يتصرف الإنسان فيه بنفسه صح ان يتوكل فيه لغيره (3) ، إذا كان مما يدخله النيابة ، فأمّا ما لا يملك التصرف فيه بنفسه ، فلا يصح أن يتوكل (4) فيه ، مثل أن يزوّج الكافر المسلمة ، فإنّه لا يصح أن يتوكّل (5) فيه ، لأنه لا يملك تزويجها (6).

والذي يقوى في نفسي ، أنّه لا يمنع من وكالة الكافر مانع ، في التزويج المذكور ، لأنّا لا نعتبر العدالة في الوكيل ، بغير خلاف ، ولأنّه لا مانع منه من كتاب ، ولا إجماع ، ولا سنة متواترة ، وليس للوكيل الكافر على المسلمة هاهنا سبيل ، فيدخل تحت قوله تعالى ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (7).

ص: 87


1- مستدرك الوسائل : كتاب الغصب الباب 1 ، ح 4.
2- الوسائل : كتاب القضاء الباب 3 من أبواب كيفية الحكم ، ولفظ الحديث ، هكذا : « البيّنة على المدّعي ».
3- ج : « إن يوكّل فيه غيره » وهو الظاهر.
4- ج : ان يوكّل.
5- ج : ان يوكّل.
6- ج : تزوّجها.
7- النساء : 141.

وإذا ادّعى رجل على رجل ، واستحضره الحاكم لمخاصمة المدعي ، كان له أن يحضر (1) ، وكان له أن يقعد ، ويوكل غيره في الخصومة ، رضي خصمه بذلك ، أو لم يرض ، وكذلك إن حضر ، كان له أن يجيب بنفسه ، أو يوكل غيره في الجواب عنه ، ولا يجبر على الجواب بنفسه ، وكذلك للمدّعي ، التوكيل في الخصومة.

وإذا أوجب رجل لرجل عقد الوكالة ، كان بالخيار بين أن يقبل ذلك ، وبين أن يرده ، فلا يقبله ، فإذا أراد أن يقبل في الحال ، كان له ذلك ، وله أن يؤخّر ذلك ، فيقبله. أي وقت أراد ، ولهذا أجمع المسلمون ، على أنّ الغائب إذا وكل رجلا ، ثم بلغ الوكيل ذلك بعد مدّة ، فقبل الوكالة ، انعقدت ، فإذا ثبت هذا ، فله أن يقبل لفظا ، وله أن يقبل فعلا ، مثل أن يتصرف في الشي ء الذي وكله فيه.

وكذلك إذا أودعه مالا ، وأحضر المال بين يديه ، فلا فرق بين أن يقبل الوديعة لفظا ، وبين أن يقبلها فعلا ، بأن يأخذها ويحرزها (2) ، فإذا حصل القبول ، وانعقدت الوكالة ، كان لكل واحد منهما أن يثبت عليها ، وله أن يفسخها ، لأنّها عقد جائز من الطرفين ، لأنّ العقود على أربعة أضرب ، عقد جائز من الطرفين ، وعقد لازم من الطرفين ، وعقد لازم من طرف ، وجائز من طرف ، وعقد مختلف فيه. (3)

فالجائز من الطرفين ، فمثل الجعالة ، والوكالة ، والشركة ، والمضاربة ، والوديعة ، والعارية.

واللازم من الطرفين ، مثل البيع بعد التفرق من المجلس ، والإجارة ، والنكاح.

والجائز من طرف ، فهو الرهن ، فإنّه لازم من جهة الراهن ، جائز من جهة المرتهن ، وكذلك الكتابة المشروطة ، لازمة من جهة السيّد ، جائزة من جهة العبد.

والمختلف فيه ، عقد السبق والرماية ، فيلزمهما قولان ، أحدهما أنّه جعالة ، وهو الأقوى ، فعلى هذا يكون جائزا من الطرفين ، والثاني أنّه إجارة ، فهو لازم من

ص: 88


1- ج : ان يحضره.
2- ج : ويجوزها.
3- ج: من طرف لازم من طرف.

الطرفين ، والأول هو الصحيح ، على ما اختاره شيخنا في مبسوطة (1).

والذي يقوى في نفسي ، أنّه لازم من الطرفين ، لقوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (2) وهذا عقد.

فأمّا ما به ينفسخ الوكالة ، فمثل الموت ، والجنون والإغماء ، فإذا مات أحدهما أو جن ، أو أغمي عليه ، بطلت الوكالة ، فأمّا النوم المعتاد ، فلا يبطل الوكالة ، لأنّه لا يسقط فرض الصلاة ، والإغماء والجنون يسقطان فرض الصلاة ، ويثبتان عليه الولاية ، والنوم لا يثبتها عليه.

من وكل غيره في الخصومة عنه ، والمطالبة والمحاكمة ، والبيع والشراء ، وجميع أنواع ما يتصرف فيه بنفسه ، فقبل الوكيل عنه ذلك ، فقد صار وكيله ، يجب له ما يجب لموكله ، ويجب عليه ما يجب على موكّله ، إلا ما يقتضيه الإقرار ، من الحدود ، والآداب ، والايمان ، وغير ذلك ، ممّا قدّمنا القول في معناه.

والوكالة يعتبر فيها شرط الموكل ، فإن شرط أن يكون في خاص من الأشياء ، لم تجز فيما عداه ، وإن شرط أن تكون عامة ، قام الوكيل مقام الموكل على العموم ، حسب ما قدّمناه ، بغير خلاف بين أصحابنا ، وبذلك تواترت الأخبار (3) عن الأئمة الأطهار ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (4).

وقال في مبسوطة (5) ومسائل خلافه : مسألة ، إذا وكل رجل رجلا ، في كل قليل وكثير ، لم يصح ذلك ، ثم قال : دليلنا أنّ في ذلك غررا عظيما ، لأنّه ربما لزمه بالعقود ، ما لا يمكنه الوفاء به وما يؤدّي إلى ذهاب ماله ، مثل أن يزوجه بأربع حرائر ، ثم يطلقهن قبل. الدخول ، فيلزمه نصف مهورهّن ، ثم يتزوّج بأربع آخر (6)

ص: 89


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب الوكالة ، ص 367.
2- المائدة : 1.
3- الوسائل : كتاب الوكالة الباب 1 وما يدل على جواز الوكالة في باب البيع والإجارة وغيرهما.
4- النهاية : باب الوكالات.
5- المبسوط : كتاب الوكالة ، ج 2 ، ص 391.
6- ل : ثم يتزوج بأربعة أخرى ج : ثم يزوجه أربعا آخر.

ثم على هذا أبدا ويشتري له من الأرضين ، والعقارات ، وغيرها ، ما لا يحتاج إليه. وفي ذلك غرر عظيم ، فما يؤدي إليه فهو باطل ، ثم قال : وأيضا ، فلا دلالة على صحّة هذه الوكالة في الشرع هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مسائل الخلاف (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : لا دلالة فيما أحتج به رحمه اللّه ، لأنّ الوكيل لا يصح فعله إلا فيما فيه صلاح لموكله ، وكل ما لا صلح فيه لموكله ، فلا يلزمه منه شي ء ، وأنّه باطل غير صحيح ، بغير خلاف ، فعلى هذا التحرير لا غرر فيما أورده.

وقوله رحمه اللّه : لا دليل على صحّة هذه الوكالة في الشرع ، باطل ، لأنّ الدليل حاصل ، وهو إجماع أصحابنا المنعقد على صحّة ذلك ، وهو أيضا قائل به في نهايته (2) ، والأخبار المتواترة أيضا دليل على صحة ذلك.

والوكالة تصح للحاضر كما تصحّ للغائب ، على ما قدّمناه ، ولا يجب الحكم بها على طريق التبرع ، دون أن يلتزم ذلك بإيثار الموكّل ، واختياره.

وللناظر في أمور المسلمين ، ولحكامهم ، أن يوكل على سفهائهم ، وأيتامهم ، ونواقصي عقولهم ، من يطالب بحقوقهم ، ويحتج عنهم ، ولهم.

وينبغي لذوي المروات من الناس ، أن يوكلوا لأنفسهم في الحقوق ، ولا يباشروا الخصومة بنفوسهم.

وللمسلم أن يتوكل للمسلم على أهل الإسلام والذمة ، ولأهل الذمة على أهل الذمة ، ويكره أن يتوكل للذمي على المسلم.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وللمسلم أن يتوكل للمسلم على أهل الإسلام ، وأهل الذمة ، ولأهل الذمة على أهل الذمة خاصّة ، ولا يتوكل للذمي على المسلم (3).

وقال بكراهة ذلك في مبسوطة ، قال : يكره أن يتوكل المسلم لكافر على

ص: 90


1- الخلاف : كتاب الوكالة ، المسألة 14.
2- النهاية : باب الوكالات.
3- النهاية : كتاب الوكالة.

مسلم ، وليس بمفسد للوكالة ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه (1).

وكذلك قال في مسائل خلافه (2) ، وهو الأظهر ، لأنّه لا دليل على تحريمه.

فإن تمسك متمسّك بقوله تعالى ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (3).

قلنا : المسلم الذي هو الوكيل ليس بكافر.

وأيضا لا خلاف أنّ للذمي الذي هو الموكل ، المطالبة للمسلم ، بما له عليه من الحقّ ، فله عليه سبيل ، لأنّه الذي جعل له عليه سبيلا ، أعني المسلم الذي عليه الحقّ ، فللوكيل المسلم ، ما لموكله من المطالبة.

وانّما أورده شيخنا رحمه اللّه في نهايته ، من طريق خبر الآحاد ، دون الاعتقاد ، على ما كررنا القول فيه.

ويتوكل الذمي للمسلم على الذمي ، ولأهل الذمة ، على أمثالهم من الكفار ، ولا يجوز له أن يتوكّل على أحد من أهل الإسلام ، لا لذمي ، ولا لمسلم على حال ، لأنّ الآية المقدّم ذكرها ، تتناول تحريم ذلك ، والنهي عنه والمنع منه.

وينبغي أن يكون الوكيل عاقلا ، بصيرا بالحكم ، فيما أسند إليه الوكالة فيه ، عارفا باللغة التي يحتاج إلى المحاورة بها في وكالته ، لئلا يأتي بلفظ يقتضي إقرارا بشي ء ، وهو يريد غيره ، مثاله (4) أن يقر بعدد فيما دون الواحد إلى العشرة ، مذكر ، فيسقط الهاء منه ، أو يريد أن يقر بعدد مؤنث ، فيلحق الهاء فيه ، وهو لا يريد ذلك ، فيلزمه الحاكم بظاهر إقراره.

ولا يجوز لحاكم أن يسمع من وكيل لغيره ، إلا بعد أن تقوم له عنده البيّنة ، بثبوت وكالته.

ومن وكل وكيلا وأشهد على وكالته ، ثم أراد عزله ، فليشهد على عزله ، علانية

ص: 91


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب الوكالة ، ص 392.
2- الخلاف : كتاب الوكالة مسألة 15.
3- النساء : 141.
4- ج : مثاله يريد.

بمحضر من الوكيل ، أو يعلمه ذلك ، كما أشهد على وكالته ، فإذا أعلم عزله ، مع تمكنه من إعلامه ، أو أشهد على عزله ، مع تعذر إعلامه ، فقد انعزل الوكيل عن وكالته ، وكل أمر ينفذه بعد ذلك كان باطلا ، لا يلزم الموكل منه ، قليل ولا كثير.

وإن عزله ولم يشهد ، مع تعذر القدرة على إعلامه بعزله ، أو لم يعلمه عزله مع إمكان إعلامه ، لم ينعزل الوكيل ، وكل أمر ينفذه بعد ذلك كان ماضيا على موكله حينئذ إلى أن يعلم بعزله.

فإن اختلف الموكّل والوكيل في العزل ، فقال الموكّل : قد أعلمته العزل ، وأنكر ذلك الوكيل ، كان على الموكّل البيّنة بأنه أعلمه ذلك ، ولم يكفه إقامة البيّنة على أنّه قد عزله ، إذا كان قادرا على إعلامه ، غير متعذر عليه ذلك ، فإن لم يكن له بينة على إعلامه ، كان على الوكيل اليمين ، أنّه ما علم بعزله عن الوكالة ، فإن حلف ، كانت وكالته ثابتة ، حسب ما قدّمناه ، وإن امتنع من اليمين ، بطلت وكالته ، من وقت ما أقام الموكّل البيّنة على إعلامه بعزله ، فإن كان بحيث يتعذر عليه إعلامه ، أفادته إقامة البينة ، وكفته مئونة الإعلام ، وكل أمر ينفذه ، أو أنفذه بعد إقامة البينة حينئذ على عزله ، عند تعذر إعلامه ، فهو باطل ، غير نافذ على موكله.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في مسائل خلافه : إذا عزل الموكّل وكيله ، عن الوكالة ، في غيبة من الوكيل ، لأصحابنا فيه روايتان ، إحديهما أنّه ينعزل في الحال ، وإن لم يعلم الوكيل ، وكل تصرف يتصرف فيه الوكيل بعد ذلك ، يكون باطلا ، والأخرى أنّه لا ينعزل ، حتى يعلم الوكيل ذلك ، وكل ما يتصرف فيه يكون واقعا موقعه ، إلى أن يعلم ، ثم قال : دليلنا على ذلك ، أخبار الطائفة ، وهي مختلفة ، وقد ذكرناها في كتابينا المقدم ذكرهما ، قال : ومن راعى (1) العلم ، استدل على ذلك ، بأن قال انّ النهي لا يتعلق به حكم ، في حقّ المنهي ، إلا بعد

ص: 92


1- ل : ادعى.

حصول علمه به ، وهكذا أبواب نواهي الشرع كلها ، ولهذا لما بلغ أهل قبا ، أنّ القبلة قد حوّلت إلى الكعبة ، وهم في الصلاة ، داروا وبنوا على صلاتهم ، ولم يؤمروا بالإعادة ، وكذلك نهي الموكل وكيله عن التصرف ، ينبغي أن لا يتعلق به حكم في حقّ الوكيل ، إلا بعد العلم ، قال : وهذا القول أقوى من الأول ، وقد رجحناه في الكتابين (1).

قال محمّد بن إدريس : الأقوى عندي ما ذكره رحمه اللّه في نهايته (2) ، فهو وجه الجمع بين الأحاديث ، وهو الذي حررناه واخترناه في كتابنا هذا ، وهو أنّه إذا قدر الموكّل ، على اعلام الوكيل بالعزل ، ولم يعلمه ، وأشهد على عزله ، وعزله ، لم ينعزل ، وكل أمر ينفذه فهو ماض على موكّله ، فأمّا إذا تعذر على الموكل إعلام وكيله بالعزل ، ولم يقدر على ذلك ، ولم يمكنه ، وأشهد حينئذ على عزله ، وعزله ، فقد انعزل ، وكلّ أمر ينفذه بعد ذلك فهو باطل ، غير ماض على موكّله ، فيحمل الأخبار على هذا الاعتبار ، وقد سلمت من التعارض ، وعمل بجميعها من غير إطراح لشي ء منها.

وقوله رحمه اللّه : وقد رجحناه في الكتابين ، يعني تهذيب الأحكام ، والاستبصار ، أمّا تهذيب الأحكام فما رجح فيه شيئا ، بل أورد الأخبار (3) ، وأطلق الإيراد ، من غير توسّط منه بينها ، وأمّا الإستبصار فما ذكر الباب جملة.

ومتى تعدّى الوكيل شيئا مما رسمه موكله ، كان ضامنا لما تعدى فيه ، فإن وكله في تزويجه امرأة بعينها ، فزوجه غيرها ، لم يثبت النكاح ، ولزم الوكيل نصف المهر المسمّى ، لأنّه غرّها ، هذا إذا قال الوكيل أنّه وكلني في العقد عليك ، ولم يقم له بينة بذلك.

فأمّا إذا صدقته المرأة على صحة قوله ووكالته ، فلا سبيل لها عليه ، لأنّها تقول ظلمني زوجي ، وليس لها أن تتزوج ، إلا بعد موته ، أو طلاقه ، أو فراقه.

ص: 93


1- الخلاف : كتاب الوكالة ، المسألة 3.
2- النهاية : كتاب الوكالة.
3- التهذيب : الباب 86 من باب الوكالات.

فأمّا إذا لم يدّع الوكالة ، ولا قال للمرأة انّه وكيل فلان ، بل عقد للرجل (1) عليها ، فالنكاح موقوف عندنا على الإجازة ، فإن رضي الذي عقد له على المرأة ، كان النكاح ماضيا ، ولزم المعقود له النكاح ، والمهر جميعا ، وإن لم يرض بالعقد ، كان النكاح مفسوخا ، ولم يلزم العاقد شي ء من المهر ، لأنّه ما غرّ المرأة ، ولا ادّعى الوكالة في العقد ، بخلاف المسألة الأوّلة ، التي قلنا فيها يلزمه نصف مهرها لانه غرّها بقوله (2) ، قد وكّلني فلان على العقد عليك ، ولم يكن له بينة بذلك فلزمه المهر ، لأنّه حينئذ غرّها ، على ما وردت الأخبار (3) بذلك ، فافترق الأمران.

فإن عقد له على التي أمره بالعقد عليها ، ثم أنكر الموكّل أن يكون أمره بذلك ، ولم يقم للوكيل بينة بوكالته بالعقد ، لزم الوكيل أيضا نصف المهر المسمّى ، ولم يلزم الموكّل شي ء ، وجاز للمرأة أن تتزوج بعد ذلك ، غير أنّه لا يحل للموكل ، إن كان وكله في العقد عليها فيما بينه وبين اللّه تعالى ، إلا أن يطلقها ويغرم لها نصف المسمّى ، لأنّ العقد يكون قد ثبت عليه ، وهذا أمر راجع إليه ، ومنكر لا يعلمه غيره ، فيجب عليه إزالته ، وإنكاره.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : في جميع ذلك يلزم الوكيل المهر (4) وأطلق القول بذلك ، ولم يقل نصف المهر.

وفي مبسوطة يقول بنصف المهر (5) ، وكذلك في تهذيب الأحكام (6) على ما وردت الأخبار.

وقوله في نهايته : لزمه المهر ، فكأنّه أراد المستحق (7) عليه ، بعد تخلية المرأة ، وجواز العقد عليها لغيره ، فهو بمنزلة الطلاق قبل الدخول ، فأقام إنكاره التوكيل

ص: 94


1- ل : للزوج.
2- ج : يلزمه نصف مهرها بقوله.
3- الوسائل : كتاب النكاح ، الباب 26 من أبواب عقد النكاح.
4- النهاية : كتاب الوكالة.
5- المبسوط : ج 2 ، كتاب الوكالة ، ص 386.
6- التهذيب : الباب 86 من باب الوكالات.
7- ج : يستحق.

على العقد ، ودفعه النكاح ، مقام الطلاق.

ولو قيل في ذلك أن الوكيل يلزمه المهر المسمّى كملا ، لأنّه يجب بالعقد جميعه ، ويسقط نصفه بالطلاق ، قبل الدخول ، بغير خلاف بين الأمة ، لكان قويا ظاهرا ، وهذا لم يطلق قبل دخوله ، فيسقط عنه نصفه ، وبهذا أفتي ، وعليه أعتمد ، لأنّه الذي يقتضيه أصولنا ، وتشهد به أخبارنا ، وأدلتنا.

ومن وكل غيره في أن يطلق عنه امرأته ، جاز طلاق الوكيل ، سواء كان الموكل حاضرا أو غائبا ، على الصحيح من المذهب ، لأنّه لا خلاف بين المسلمين في جواز الوكالة للحاضر والغائب ، في جميع ما يجوز الوكالة فيه ، فمن خصّص ذلك ، يحتاج إلى دليل.

وقال شيخنا في نهايته : ومن وكل غيره في أن يطلق عنه امرأته ، وكان غائبا جاز طلاق الوكيل ، وإن كان شاهدا ، لم يجز طلاق الوكيل (1).

وهذا خبر واحد ، أورده في نهايته إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما كررنا القول في ذلك ، وهو من أضعف أخبار الآحاد راويه (2) جعفر بن سماعة وهو فطحي المذهب (3) لم يورد شيخنا في الاستبصار (4) غيره ، مخالفا لجميع الأخبار التي أوردها في الكتاب المذكور ، فان جميع الأخبار مطلقة عامة ، في جواز الوكالة في الطلاق ، متواترة بذلك ، وأورد بعدها هذا الخبر الشاذ ، ثم قال رحمه اللّه متوسّطا : فلا ينافي الأخبار الأوّلة ، قال : لأنّ هذا الخبر محمول على أنّه إذا كان الرجل حاضرا في البلد ، لم يصح توكيله في الطلاق ، والأخبار الأولة ، نحملها على جواز ذلك ، في حال الغيبة ، قال رحمه اللّه : لئلا تتناقض الأخبار.

قال محمد بن إدريس : الخبر الذي أورده عن ابن سماعة ، عن جعفر بن

ص: 95


1- النهاية : كتاب الوكالة.
2- الوسائل : كتاب الطلاق الباب 39 من أبواب مقدّمات وشرائط الطلاق ح 5.
3- ج : وهو فطحي.
4- الاستبصار : الباب 166 من الوكالة في الطلاق ، ح 6.

سماعة ، ليس فيه هذا التفصيل ، وانّما هو مطلق ، في أنّه لا يجوز الوكالة في الطلاق ، وظاهره مخالف لإجماع المسلمين قاطبة ، وما هذا حاله ، لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه وقوله رحمه اللّه : لئلا تتناقض الأخبار ، انّما يسوغ ذلك ، إذا كانت الأخبار متواترة متكافئة ، فهي حينئذ أدلة ، فيجوز ما ذكره لئلا تتناقض الأدلة ، وهذا الخبر الشاذ ليس هو مكافئا لما أورده من الأخبار المتواترة ، فكيف يجوز ما قاله رحمه اللّه ، من الوساطة ، مع إنّا قد بيّنا ، أن أخبار الآحاد ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وأصحابنا قديما وحديثا لا يعملون بها ، ويزرون ويعيبون أشدّ عيب على العاملين بها ، من أهل الخلاف.

وأيضا فلا خلاف بيننا معشر الشيعة الإماميّة ، أنّ حال الشقاق ، وبعث الحكمين ، انّ الرجل إذا وكل الحكم الذي هو من أهله في الطلاق ، وطلق ، مضى طلاقه ، وجاز ، وإن كان الموكل حاضرا في البلد ، بغير خلاف بين أصحابنا في ذلك.

وأيضا فشيخنا في مسائل خلافه (1) ومبسوطة (2) يذهب إلى أنّ الوكالة في جميع الأشياء التي يجوز الوكالة فيها تصح للحاضر والغائب ، ثم قال في مسائل الخلاف : دليلنا ان الأخبار الواردة في جواز التوكيل ، عامة في الحاضر والغائب ، فمن خصصها ، فعليه الدلالة ، وقال : وأيضا ، فالأصل جواز ذلك ، والمنع يحتاج إلى دليل ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه. فقد أقرّ (3) أنّ الأخبار الواردة في جواز التوكيل ، عامة في الحاضر والغائب ، ثم قال : فمن خصصها ، فعليه الدلالة ، وقال : وأيضا فالأصل جواز ذلك ، والمنع يحتاج إلى دليل ، فما باله رحمه اللّه ، يرجع عن الأدلة بغير أدلة ، وتخصيص العموم عند المحصّلين لأصول الفقه ، لا يكون إلا بأدلة قاطعة للأعذار ، إمّا من كتاب ،

ص: 96


1- الخلاف : كتاب الوكالة المسألة 6.
2- المبسوط : كتاب الوكالة ، ج 2 ، ص 364.
3- ج : أورد.

أو سنة متواترة ، أو أدلة العقول ، أو إجماع ، وهذا بحمد اللّه تعالى مفقود هاهنا.

والرجل إذا قبض صداق ابنته ، وكانت صبية غير بالغ ، في حجره ، برئت ذمّة الزوج من المهر ، على كل حال ، لأنه القابض عنها ، والوالي عليها ، ولم تكن للبنت مطالبته بالمهر بعد البلوغ ، وإن كانت البنت بالغة ، فإن كانت وكلته في قبض صداقها ، فقد برأ أيضا ذمة الزوج ، وإن لم تكن وكلته على ذلك ، لم تبرأ ذمة الزوج ، وكان لها مطالبته بالمهر ، وللزوج الرجوع على الأب في مطالبته بالمهر ، فإن كان الأب قد مات ، كان له الرجوع على الورثة ، إن كان خلف في أيديهم شيئا ، ومطالبتهم بالمهر ، كما كان له مطالبته في حال حياته ، هذا إذا لم يصدقه الزوج على وكالته ، فأمّا إن ادّعى الأب الوكالة من البنت بقبض المهر ، وصدقه الزوج على ذلك ، فليس للزوج الرجوع عليه ، سواء كان حيا أو قد مات.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : البكر البالغة الرشيدة ، يجوز لأبيها أن يقبض مهرها ، بغير أمرها ، ما لم تنهه عن ذلك (1).

وهذا ليس بواضح ، لأنّ الزوج لا تبرأ ذمته بتسليمه ، ولا يجبر على ذلك ، لأنّه يكون قد سلّمه إلى غير من وكّلته في القبض ، ولا إلى من ولّته في قبض أموالها ، ولا له عليها ولاية في أموالها ، بغير خلاف بين أصحابنا في ذلك.

وإذا باع الوكيل على موكله ، ماله الذي وكله في بيعه ، أو الولي ، مثل الأب والجد والحاكم ، وأمينه ، والوصي ، ثم استحق المال على المشتري ، فانّ ضمان العهدة والدرك ، يجب على من بيع عليه ماله ، فإن كان حيا كان في ذمته ، وإن كان ميتا كانت العهدة في تركته ، ولا يلزم الوكيل والوصي والولي من ذلك ، قليل ولا كثير.

وجميع من يبيع مال الغير ستة أنفس ، الأب ، والجد ، ووصيهما ، والحاكم ، وأمينه ، والوكيل ، ولا يصح لأحد منهم ، أن يبيع المال الذي في يده ، من نفسه ، إلا

ص: 97


1- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 29.

لاثنين فحسب ، الأب ، والجد ، ولا يصح لغيرهما.

ولا يسمع الدعوى في الوكالة ، إلا أن يقيم بيّنة ، شاهدين عدلين ، على أنّه وكله فلان ، ولا يقبل في ذلك شاهد ويمين ، ولا شاهد وامرأتان ، لأنّ الولايات جميعها ، لا تقبل فيها شهادة النساء ، ولا شاهد ويمين.

وإذا كان لرجل على غيره دين ، فجاء آخر ، فادعى أنّه وكيله في المطالبة ، وأنكر ذلك الذي عليه الدين ، فإن كان مع الوكيل بينة ، أقامها ، وحكم له بها ، وإن لم يكن معه بينة ، وطالب من عليه الدين باليمين ، لا يجب عليه ، فإن ادّعى عليه علمه بذلك ، لزمته اليمين ، فإن نكل عنها ، ردّت على المدّعي ، فإذا حلف ثبت وكالته ، لأنّ عندنا اليمين مع النكول ، بمنزلة البيّنة.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : فإن ادعى علمه بذلك ، لم يلزمه أيضا اليمين (1).

وهذا قول الشافعي ، اختاره شيخنا ، وليس بواضح ، لأنّه مخالف لأصول مذهبنا.

ثم قال رحمه اللّه في مسائل خلافه : إذا صدقه من عليه الدين في توكيله ، لم يجبر على التسليم إليه (2).

وهو أيضا مقالة الشافعي ، اختاره شيخنا رضي اللّه عنه ، والذي يقتضيه مذهبنا ، خلاف ذلك ، وهو أنّه إذا صدقه من عليه الدين في دعواه الوكالة ، يجبره الحاكم على التسليم إليه ، لأنّه صار وكيلا عليه بتصديقه إيّاه ، فيما عليه ، لأنّ إقرار العقلاء جائز على نفوسهم ، فيما يوجب حكما في شريعة الإسلام ، بغير خلاف بيننا ، إلا ما خرج بالدليل ، من إقرار العبيد.

وليس للوكيل أن يبيع مع إطلاق الوكالة في البيع ، إلا بنقد البلد ، وبثمن المثل حالا ، فإن خالف ذلك ، كان البيع باطلا.

ولا يصح إبراء الوكيل من دون الموكّل من الثمن الذي على المشتري.

ص: 98


1- الخلاف : كتاب الوكالة ، المسألة 12.
2- الخلاف : كتاب الوكالة ، المسألة 13.

وإذا اشترى الوكيل السلعة بثمن مثلها ، فإن ملكها يقع للموكل ، من غير أن يدخل في ملك الوكيل ، بدليل أنّه لو وكله في شراء من ينعتق عليه ، لم يعتق على الوكيل ، فلو كان الملك ، قد انتقل إلى الوكيل ، لوجب أن يعتق عليه ، فلما أجمعنا على أنّه لا يعتق على الوكيل لو اشترى من ينعتق عليه. إذا اشتراه لنفسه ، دل على أنّه لا ينتقل الملك إلى الوكيل.

وإذا قال : إن جاء رأس الشهر ، فقد وكلتك في الشي ء الفلاني ، فإنّ الوكالة لا تنعقد ، وإن ذلك لا يصح ، فأمّا إن وكله في الحال ، بأن يبيع الشي ء إذا جاء رأس الشهر جاز ذلك ، وصح ، لأنّ الوكالة صحّت في الحال ، وانعقدت ، ثم أمره بتأخير البيع ، إلى رأس الشهر ، والمسألة الأوّلة ، ما انعقدت الوكالة في الحال ، بل يحتاج إذا جاء رأس الشهر إلى عقد الوكالة ، فافترق الأمران. وإذا وكله في السلم في الطعام ، فأسلف في حنطة ، جاز وإن أسلف في شعير ، لم يجز ، لأنّ إطلاق الطعام في العادة ، يرجع إلى الحنطة ، دون الشعير ، والاعتبار في الوكالة بالعادة.

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته ، في مختصر كتاب ابتياع : وان يوليه من شاء ، من جري ، أو وكيل (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : الجري ، بالجيم المفتوحة ، والراء غير المعجمة ، المكسورة ، والياء المشدّدة ، هو الوكيل ، وانّما اختلف اللفظ ، وإن كان المعنى واحدا ، ويسمى الوكيل جريا ، لأنه يجري مجرى موكله ، يقال ، جريّ بيّن الجراية ، والجراية ، والجمع أجراء (2).

باب اللقطة

الضالة من البهائم ما يضيع ، يقال ضال ، ومن العبيد يقال آبق ، ومن الأحرار

ص: 99


1- المقنعة : قريب من آخر الكتاب ، باب مختصر كتاب الابتياع ص 834 ، ط. مؤسسة النشر الإسلامي قم.
2- ج : أجرياء.

لقيط ، ومنبوذ ، وما يكون من غير الحيوان يقال لقطة ، قال الخليل بن أحمد : اللقطة الرجل الذي يلتقط ، يقال له لاقط ، ولقطة ، بتحريك القاف ، فأمّا الشي ء الملتقط ، يقال إنّه (1) لقطة بسكون القاف ، وقال أبو عبيدة : وما عليه عامة أهل العلم ، أنّ اللقطة بتحريك القاف ، هي الشي ء الذي يلتقط.

إذا ثبت هذا ، فاللقطة لا تخلو إمّا أن تكون حيوانا ، أو غير حيوان ، فإن كانت حيوانا ، فلا يخلو إمّا أن يكون وجدها في البرية أو في العمران ، فإن وجدها في البرية والصحاري ، فلا يخلو إمّا أن تكون حيوانا قويا ممتنعا من صغار السباع ، مثل الإبل ، والبقر ، والخيل ، والبغال ، فإنّها تمتنع من صغار السباع ، مثل الثعلب ، وابن أوى ، والذئب ، فإنّه لا يقدر عليه ، أو يكون ممّا يمتنع بسرعة مشيه ، مثل الظباء والغزلان ، أو مما يمتنع بطيرانه ، فيدفع بالطيران عن نفسه ، فما هذه صفته ، فليس لأحد أن يأخذها ، لنهيه عليه السلام لما سئل عن ضالة الإبل ، فقال : ما لك ولها ، وغضب حتى احمرت وجنتاه (2).

فإن أخذها ، لزمه الضمان ، ويكون عليه مضمونا ، لأنّه أخذ مال الغير بغير حق.

فإن سيّبها بعد ذلك ، لم يزل عنه الضمان ، فإن ردّها إلى صاحبها ، زال عنه. الضمان ، وبرئ.

وإن سلّمها إلى الإمام ، فهل يسقط عنه الضمان أم لا؟ قيل : فيه قولان ، أحدهما يزول الضمان ، وهو الأقوى (3) ، والآخر لا يزول.

فإذا ثبت أنّ للإمام أخذها ، فإن كان له حمى يدع فيه لترعى حتى يجي ء صاحبها.

وليس للاقط العامي إمساكها ، ولا له أن يفعل وإن يمسك ، لأنّه لا يقوم بمصالح المسلمين ، ولا يلي أمورهم ، وليس كذلك الإمام ، لأنّه منصوب لذلك ، هذا إذا كان حيوانا ممتنعا من صغار السباع.

ص: 100


1- ج : يقال له.
2- مستدرك الوسائل : كتاب اللقطة ، الباب 8 ، ح 6.
3- ل : وهو الأقوى والأحرى.

فأمّا إذا كان غير ممتنع ، مثل الشاة وغيرها من أولاد البقر ، فله أن يأخذها لقوله عليه السلام : خذها ، فإنّما هي لك ، أو لأخيك ، أو للذئب (1).

فإن أخذها فهو بالخيار بين أن يأكلها ، وتكون القيمة في ذمته ، إذا جاء صاحبها ردّها عليه ، وإن شاء أن ينفق عليها تطوعا ، وإن شاء يرفع إلى الحاكم ليأخذها الحاكم ، ويبيعها ، ويعرف ثمنها.

ومن أخذ لقطة ، ثم ردّها إلى موضعها ، لم يزل ضمانه.

واللقطة على ضربين ، ضرب منه يجوز أخذه ، ولا يكون على من أخذه ضمانه ، ولا تعريفه ، بل يجوز له التصرف فيه قبل التعريف ، ومتى أقام صاحبه بينة وجب ردّه عليه ، لأنّه ملك الغير ، وانّما أباح الشارع التصرف فيه ، قبل التعريف ، كما أباح الشارع التصرف بعد السنة ، فيما يجب تعريفه من اللقط ، وهو كلما كان دون الدرهم ، أو يكون ما يجده في موضع خرب قد باد أهله ، واستنكر رسمه.

والضرب الآخر ، هو الذي لا ينبغي له أخذه ، فإن أخذه لزمه حفظه وتعريفه ، فهو على ضربين ، ضرب منه ما يجده في الحرم ، والضرب الآخر ما يجده (2) في غير الحرم ، فما يجده في الحرم يلزمه تعريفه سنة ، في المواقف والمواسم ، وعلى أبواب الجوامع ، يوم الجمعات ، وأيّام الأعياد ، ومحافل الجماعات ، فإن جاء صاحبه ، ردّ عليه ، وإن لم يجئ صاحبه بعد السنة ، تصدّق به عنه ، أو يحفظه عليه ، ويكون في يده أمانة ، إلى أن يجي ء صاحبه ، وهذا الضرب لا يجوز تملكه ، ولا يصير بعد السنة كسبيل ماله ، فإن تصدّق به ، ثم جاء صاحبه ، ولم يرض بصدقته ، كان ضامنا له.

وقال شيخنا في نهايته ، في باب اللقطة : تصدّق به عنه ، وليس عليه شي ء ،

ص: 101


1- الوسائل : كتاب اللقطة ، الباب 13 ، ح 1 - 5 - 7.
2- ج : يجده.

فإن جاء صاحبه بعد ذلك ، لم يلزمه شي ء ، فإن أراد أن يخيره بين أن يغرم له ، ويكون الأجر له ، واختار ذلك صاحب المال ، فعل ، وليس ذلك واجبا عليه (1).

إلا أنّ شيخنا يرجع عن هذا ، ويقول بما اخترناه ، في النهاية أيضا ، في باب آخر من فقه الحج ، قال : ومن وجد شيئا في الحرم ، فلا يجوز له أخذه ، فإن أخذه فليعرّفه سنة ، فإن جاء صاحبه ، وإلا تصدّق به عنه ، وكان ضامنا إذا جاء صاحبه ، ولم يرض بفعله ، وإذا وجد في غير الحرم ، فليعرفه سنة ، ثم هو كسبيل ماله ، يعمل به ما شاء ، إلا أنّه ضامن ، إذا جاء صاحبه ، هذا آخر كلام شيخنا في الباب المشار إليه (2).

وهو الحق اليقين ، لأنّه مال الغير ، والرسول عليه السلام قال : لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه (3) ، وهذا ما طابت نفسه بالصدقة عنه.

وأمّا الذي يجده في غير الحرم ، فيلزمه أيضا تعريفه سنة ، فإن جاء صاحبه ، ردّ عليه ، وإن لم يجئ كان كسبيل ماله بعد السنة والتعريف فيها ، فيجوز له التصرف فيه بسائر أنواع التصرفات ، إلا أنّه يكون ضامنا له بقيمته بعد السنة ، متى جاء صاحبه ، وجب عليه ردّه عليه ، فإن تصدق به عنه ، لزمه أيضا ، أن يغرمه له ، متى جاء ، إلا أن يشاء صاحبه أن يكون له الأجر ، ويرضى بذلك ، فيحتسب له بذلك عند اللّه تعالى.

وجميع النماء المنفصل والمتصل بعد الحول في هذا الضرب يكون لمن وجدها ، دون صاحبها ، لأنّه بعد الحول صارت كسبيل ماله ، ولصاحبها قيمتها فحسب ، فهو في هذا الضرب بين خيرتين ، بين أن يتصدق بها بعد السنة وتعريفها ، ويكون ضامنا لقيمتها بعد الحول ، إذا جاء صاحبها ولم يرض بفعله ، وبين أن يجعلها كسبيل ماله ، ويضمن قيمتها لصاحبها بعد السنة والتعريف.

ص: 102


1- النهاية : باب اللقطة والضالة.
2- النهاية : باب آخر من فقه الحج.
3- مستدرك الوسائل : كتاب الغصب ، الباب 1 ، ح 5

وإلى هذا يذهب شيخنا في نهايته (1) وهو مذهب أصحابنا أجمع ، وبه تواترت أخبارهم.

وذهب شيخنا في مسائل خلافه ، إلى أن لقطة غير الحرم ، يعرفها سنة ، ثم هو مخيّر بعد السنة ، بين ثلاثة أشياء ، بين أن يحفظها على صاحبها ، وبين أن يتصدّق بها عنه ، ويكون ضامنا إن لم يرض صاحبها بذلك ، وبين أن يتملّكها ويتصرف فيها ، وعليه ضمانها إذا جاء صاحبها (2).

فهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة ، اختاره هاهنا ، لأنّ بينهما خلافا في لقطة الفقير والغني ، والصحيح الحق اليقين ، إجماع أصحابنا ، على أنه بعد السنة يكون كسبيل ماله ، أو يتصدق بها بشرط الضمان ، ولم يقولوا هو بالخيار بعد السنة في حفظها على صاحبها.

وشيخنا أبو جعفر في الجزء الأوّل من مسائل خلافه ، ومبسوطة ، قال : مسألة ، إذا وجد نصابا من الأثمان ، أو غيرها من المواشي ، عرفها سنة ، ثم هو كسبيل ماله وملكه ، فإذا حال بعد ذلك حول ، وأحوال ، لزمته زكاته ، لأنّه مالك ، وإن كان ضامنا له ، وأمّا صاحبه فلا زكاة عليه ، لأنّ مال الغائب الذي لا يتمكن منه ، لا زكاة فيه ، وقال الشافعي ، إذا كان بعد سنة ، هل يدخل في ملكه بغير اختياره؟ على قولين ، أحدهما وهو المذهب ، أنّه لا يملكها إلا باختياره ، والثاني يدخل بغير اختياره ، فإذا قال لا يملكها إلا باختياره ، فإذا ملكها ، فإن كان من الأثمان ، يجب مثلها في ذمته ، وإن كان ماشية وجب قيمتها في ذمّته ، فأمّا الزكاة ، فإذا حال الحول من حين التقط ، فلا زكاة فيها ، لأنّه أمين ، وأمّا صاحب المال ، فله مال لا يعلم موضعه على قولين ، مثل الغصب ، وأمّا الحول الثاني ، فإن لم يملكها ، فهي أمانة أبدا في يده ، ورب المال على قولين ، مثل الضالة ، وإذا ملكها الملتقط ، وحال الحول ، فهو كرجل له ألف ، وعليه ألف ، فإن قال : الدين يمنع ، فهاهنا يمنع ، وإن قال : الدّين لا يمنع ، فهاهنا لا يمنع ، إذا لم يكن له

ص: 103


1- النهاية : باب اللقطة والضالة.
2- الخلاف : كتاب اللقطة ، المسألة 1.

مال سواء ، فبقدره ، فإن كان له مال سواه لزمته زكاته ، ورب المال على قولين ، كالضالة والمغصوب ، قال : دليلنا ما روي عنهم عليهم السلام ، أنّهم قالوا لقطة غير الحرم يعرّفها سنة ، ثمّ هي كسبيل ماله ، وسبيل ما له أن يجب فيه الزكاة قال : فبهذا الظاهر يجب فيه الزكاة ، هذا آخر كلام شيخنا في مسائل الخلاف ، في الجزء الأول ، في كتاب الزكاة (1).

فلو كان بعد السنة لا يدخل في ملكه ، وهو مخيّر بين ثلاث ، خير على ما قاله في الجزء الثاني في كتاب اللقطة في مسائل الخلاف ، لما وجبت عليه الزكاة بعد السنة والتعريف وحئول الحول بعد ذلك ، واستدلاله رحمه اللّه بأن قال : دليلنا ما روي عنهم عليهم السلام ، أنّهم قالوا : لقطة غير الحرم يعرفها سنة ، ثم هي كسبيل ماله ، وما قالوا : يكون مخيرا بعد السّنة بين ثلاث خير على ما يذهب الشافعي إليه في أحد قوليه ، وأيضا من قال بهذا القول ، لا يوجب التعريف ، وانّما يوجب التعريف حتى يتملكها ، فأمّا إذا لم يرد أن يتملكها ، فلا يجب عليه التعريف ، ولا خلاف بين أصحابنا في وجوب التعريف في مدة السنة ، فدل هذا أجمع ، على أنّ الذي اختاره شيخنا في الجزء الثاني ، مذهب الشافعي ، وأنّ مذهبنا ، وقول أصحابنا ورواياتهم ، بخلاف ذلك.

ولا يجوز التصرف في اللقط قبل مضي السنة ، فإن تصرّف كان مأثوما ضامنا إن هلكت ، بغير خلاف ، في أي موضع التقطها ، حرما كان أو غيره.

ومتى هلكت اللقطة في يده في مدّة (2) زمان التعريف ، من غير تفريط ، لم يكن على من وجدها شي ء ، فإن هلكت بتفريط من قبله ، أو يكون قد تصرّف فيها ، ضمنها ، ووجب عليه غرامتها ، بقيمتها يوم هلكت ، إن كانت تضمن بالقيمة ، أو مثلها إن كانت تضمن بالمثلية.

ص: 104


1- الخلاف : كتاب الزكاة ، المسألة 129.
2- ج : اللقطة في مدّة.

ومتى اشترى بمال اللقطة جارية ، ثم جاء صاحبها ، فوجدها بنته ، لم يلزمه أخذها ، وكان له ان يطالبه بالمال الذي اشترى به ابنته ، لأنّه ما وكله في شرائها ، فلا تحصل هذه البنت في ملكه ، فتكون قد انعتقت عليه ، بل هي حاصلة في ملك الغير ، وهو ضامن لماله الذي وجده ، لأنّه إن كان اشتراها بالمال قبل السنة وتعريفه ، فانّ الشراء غير صحيح ، لأنّه بعين المال الذي لا يجوز له التصرف فيه ، فإن كان اشتراها في الذمة ، ونقده ، فالشراء صحيح ، ويقع ملك الجارية للمشتري ، دون صاحب المال ، فلا تنعتق على صاحب المال الذي هو أبوها ، لأنها ما دخلت في ملكه بحال ، وإن كان اشتراها بعد السنة ، وتعريف المال بعينه ، أو في الذمة ، فالشراء صحيح ، والملك يقع أيضا للمشتري ، دون الأب الذي هو صاحب المال ، فعلى جميع الأحوال ، ما دخلت في ملك الأب ، حتّى تنعتق عليه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن أجاز شراه (1) ، انعتقت بعد ذلك ، ولم يجز له بيعها (2).

وهذا غير واضح ، ولا مستقيم ، لأنّ البيع على الصحيح من المذهب لا يقف عندنا على الإجازة ، وهذا مذهب شيخنا في مسائل الخلاف (3) ، وهو الحقّ اليقين ، وإن كان قد جوّزه في نهايته ، فقد رجع عنه في مسائل خلافه.

فإن أراد الأب عتقها وملكها (4) ، فيحتاج أن يشتريها منه بماله في ذمته ، فعند الشراء تنعتق على الأب بغير خلاف.

ومن وجد كنزا في دار انتقلت إليه بميراث عن أهله ، كان له ولشركائه في الميراث ، إن كان له شريك فيه ، فإن كانت الدار قد انتقلت إليه بابتياع من قوم ، عرف البائع ، فإن عرفه سلّمه إليه ، وإن لم يعرفه أخرج خمسه إلى مستحقه ، إن

ص: 105


1- ل : شرائها.
2- النهاية : باب اللقطة والضالة ، والعبارة في المصدر هكذا : « فإن أجاز شراءه لها »
3- الخلاف : كتاب البيع ، المسألة 275.
4- ج : وتملكها.

كان بمقدار ما تحب فيه الزكاة ، على ما شرحناه في كتاب الزكاة ، وباب الخمس ، وكان له الباقي.

وكذلك إن ابتاع بعيرا ، أو بقرة ، أو شاة ، وذبح شيئا من ذلك ، فوجد في جوفه شيئا قل عن مقدار الدرهم ، أو كثر ، عرفه من ابتاع ذلك الحيوان منه ، فإن عرفه ، أعطاه إياه ، وإن لم يعرفه ، أخرج منه الخمس ، بعد مئونته طول سنته ، لأنّه من جملة الغنائم والفوائد ، وكان له الباقي.

وكذلك حكم من ابتاع سمكة ، فوجد في جوفها درة ، أو سبيكة ، وما أشبه ذلك ، لأنّ البائع باع هذه الأشياء ، ولم يبع ما وجده المشتري ، فلذلك وجب عليه تعريف البائع.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي (1) ، لم يعرف البائع السمكة الدرة بل ملكها المشتري ، من دون تعريف البائع ، ولم يرد بهذا خبر عن أصحابنا ، ولا رواه عن الأئمة أحد منهم.

والفقيه سلار في رسالته (2) يذهب إلى ما اخترناه ، وهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا.

ومن وجد في داره شيئا ، فإن كانت الدار يدخلها غيره ، كان حكمه حكم اللقطة ، وإن لم يدخلها غيره ، كان له.

وإن وجد في صندوقه شيئا كان حكمه مثل ذلك.

ومن وجد طعاما في مفازة ، فليقومه على نفسه ، ويأكله ، فإذا جاء صاحبه ، ردّ عليه ثمنه.

فإن وجد شاة في برية ، فليأخذها ، وهو ضامن لقيمتها ، ولا يجب عليه الامتناع من التصرف في الطعام والشاة ، قبل التعريف سنة ، بل ينتفع بذلك

ص: 106


1- في كتابه النهاية : باب اللقطة والضالة.
2- وهي المراسم : كتاب العتق والتدبير والمكاتبة في ذكر احكام الضمانات والكفالات و...

وقت وجوده ، ويضمن المثلية في الطعام ، والقيمة في الشاة ، فإن أعوزت المثلية ، فالقيمة يوم الوجدان ، أو يوم الإعواز؟ الصحيح أنّها يوم الإعواز.

ويترك البعير إذا وجده في المفازة ، إلا أن يكون صاحبه قد خلاه من جهد في غير كلاء ولا ماء ، فليأخذه ، فإنّه بمنزلة الشي ء المباح ، وليس لصاحبه بعد ذلك المطالبة به ، فإن كان خلاه في كلاء وماء ، فليس له أخذه ، وكذلك الحكم في الدابة.

ويكره أخذ ما له قيمة يسيرة مثل العصا ، والشظاظ ، والوتد ، والحبل ، والعقال ، وأشباه ذلك ، وليس هو بمحظور.

ومن أودعه لص من اللصوص شيئا من المغصوب ، لم يجز له ردّه عليه ، فإن ردّه عليه مع قدرته على تركه ، كان ضامنا له ، فإن عرف صاحبه ردّه عليه ، وإن لم يعرف صاحبه تصدق به عنه بشرط الضمان.

والشاة إذا وجدها في الأمصار ، حبسها عنده ثلاثة أيّام ، يعرفها فيها ، فإن جاء صاحبها ردّها عليه ، وإلا تصدق بها بشرط الضمان ، أو تصرف فيها ، وكان ضامنا لقيمتها.

وإذا وجد المسلم لقيطا ، فهو حر غير مملوك ، وينبغي أن يرفع خبره إلى سلطان الإسلام ، ليطلق له النفقة عليه ، من بيت مال المسلمين ، فإن لم يوجد سلطان ينفق عليه ، استعان بالمسلمين في النفقة عليه ، فإن لم يجد من يعينه على ذلك ، أنفق عليه بعد ما يشهد ، أنّه يرجع عليه ، وكان له حينئذ الرجوع عليه بنفقته ، إذا بلغ ، وأيسر ، على ما روي في بعض الأخبار (1).

والأقوى عندي أنّه لا يرجع به عليه ، لأنّه لا دليل على ذلك ، والأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى أدلة ظاهرة.

وإذا تبرع بما أنفقه عليه ، ولم يشهد بالرجوع ، أو إذا أنفق عليه ، وهو يجد من يعينه

ص: 107


1- الوسائل : كتاب اللقطة ، الباب 22 ، الحديث 2 - 3 - 4.

بالنفقة عليه تبرعا ، فلم يستعن به ، فليس له رجوع عليه بشي ء من النفقة.

وإذا بلغ اللقيط ، توالى من شاء من المسلمين ، ولم يكن للذي أنفق عليه والتقطه ولاؤه ، إلا أن يتوالاه ، فإن لم يتوال الى أحد حتى مات ، كان ولاؤه لإمام المسلمين ، لأنّه داخل في ميراث من لا وارث له.

وقال شيخنا في نهايته : كان ولاؤه للمسلمين (1).

وهذا غير (2) مستقيم على إطلاقه.

وقال أيضا : وإن ترك مالا ولم يترك ولدا ، ولا قرابة له من المسلمين ، كان ما تركه لبيت المال (3).

وهذا أيضا على إطلاقه غير واضح ، وانّما مقصوده هاهنا لبيت مال الإمام ، دون بيت مال المسلمين ، فإذا كان كذلك ، فالمراد أيضا بقوله : كان ولاؤه للمسلمين ، أي لإمام المسلمين ، لأنّا بغير خلاف بيننا مجمعون على أنّ ميراث من لا وارث له ، لإمام المسلمين ، وكذلك ولاؤه ، فإذا ورد (4) لفظ في مثل ذلك ، بأنّه للمسلمين ، أو لبيت المال ، فالمراد به ، لبيت مال الإمام ، وانّما أطلق القول بذلك ، لما فيه من التقية ، لأنّ بعض المخالفين لا يوافق عليه ، ويخالف. وهكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في آخر الجزء الأوّل من مبسوطة (5) ، وهو الحق اليقين.

ومن وجد شيئا من اللقط ، والضوال ، ثمّ ضاع من غير تفريط ، أو أبق العبد ، ( بفتح الباء ، يأبق بكسر الباء ، في المستقبل ، اباقا بكسر أوله ) ، من غير تعدّ منه عليه ، لم يكن عليه شي ء ، فإن كان هلاك ما هلك بتفريط من جهته ، كان ضامنا ، وإن كان إباق العبد بتعدّ منه عليه ، كان مثل ذلك ، وإن لم يعلم أنّه كان لتعد منه ، أو لغيره ، وجب عليه اليمين باللّه ، أنّه ما تعدّى فيه ، وبرئت عهدته.

ص: 108


1- النهاية : باب اللقطة والضالة.
2- ل : غير واضح ولا مستقيم.
3- النهاية : باب اللقطة والضالة.
4- ج : فإذا أورد.
5- المبسوط : ج 3 كتاب اللقطة ، ص 347.

ولا بأس للإنسان أن يأخذ الجعل على ما يجده من الآبق والضوال ، واللقط ، إذا جعل ذلك صاحبه ، وسمّاه وقدره ، كان له ما قدره ، وبذله ، وجعله ، دون ما سواه ، فإن جعل جعلا على ردّه ، ولم يقدر الجعل بتقدير ، وأطلق ذلك ، عاد إطلاقه إلى عرف الشرع ، وتقييده يحمل عليه ، فإن كان عبدا أو بعيرا في المصر ، كان جعله دينارا ، يجعل صاحبه ، وإطلاقه ، وإن كان خارجا من المصر ، فأربعة دنانير ، قيمتها أربعون درهما فضة ، وفيما عدا العبد والبعير ، ليس فيه شي ء موظف ، ولا تقييد عرف الشرع يرجع في إطلاقه إليه ، بل يرجع فيه إلى عرف العادة والزمان ، حسب ما جرت في أمثاله ، فيعطي واجده إيّاه ، فإن لم يجعل صاحبه جعلا لمن ردّه ، لا مطلقا ولا مقيدا فلا يستحق واجده على صاحبه شيئا ، بحال من الأحوال ويجب عليه ردّه على صاحبه ، من غير استحقاق لشي ء ، لقوله عليه السلام : المسلم يردّ على المسلم (1) ، ولقوله عليه السلام : لا يحل مال امرء مسلم إلا عن طيب نفس منه (2).

فلا يظن ظان ، ويتوهم متوهم ، أنّ من رد شيئا من الضوال والآبق واللقط ، يستحق على صاحبه جعلا من غير أن يجعله له ، فانّ ذلك خطأ فاحش ، وقول فظيع ، لأنّه لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، فإنّه كان يؤدي إلى أنّ البعير يساوي مثلا دينارا ، فردّه وأخذه (3) من خارج المصر ، فإنّه كان يستحق على صاحبه أربعة دنانير ، يأخذها منه بغير اختياره ، وهذا أمر لا يقوله محصل.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه قال في مبسوطة ، في الجزء الثالث ، في كتاب اللقطة : من جاء بضالة إنسان ، أو بآبق ، أو بلقطة ، من غير جعل ، ولم يشرط فيه ، فإنّه لا يستحق شيئا ، سواء كان ضالة ، أو آبقا ، أو لقطة ، قليلا كان ثمنه ، أو كثيرا ، سواء كان معروفا برد الضوال ، أو لم يكن ، وسواء جاء به من

ص: 109


1- الوسائل : كتاب العتق. الباب 1. الحديث 1 إلا ان لفظ الحديث هكذا : « في جعل الآبق المسلم يرد على المسلم ».
2- مستدرك الوسائل : كتاب الغصب ، الباب 1 ، الحديث 5.
3- ج : واجده.

طريق بعيدة ، تقصّر الصلاة اليه (1) أو جاء به من طريق دون ذلك ، ثمّ ذكر بعد هذا القول أقوال المخالفين ، ثم قال : وأول الأقوال أصحّ ، وأقرب إلى السداد ، ثم قال : وقد روى أصحابنا فيمن ردّ عبدا أربعين درهما قيمته أربعة دنانير ، ولم يفصلوا ، ولم يذكروه في غيره شيئا ، ثم قال رحمه اللّه : وهذا على جهة الأفضل ، لا الوجوب ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (2) وهو الحقّ اليقين.

ولا تدخل الأمة في العبد ، بل لو وجد إنسان أمة ، لم يكن حكمها حكم العبد ، لأنّ القياس عندنا باطل ، ولم ترد الأخبار إلا بالعبد ، والأنثى يقال لها عبدة وامة ، ولا تدخل الإناث في خطاب الذكران ، إلا على سبيل التغليب ، عند بعضهم ، وذلك مجاز ، والكلام في الحقائق ، وليس كذلك البعير ، لأنّ البعير يدخل فيه الذكر والأنثى ، لأنّه بمنزلة الإنسان من ابن آدم ، فليلحظ ذلك ويتأمل.

ومن وجد شيئا يحتاج إلى النفقة عليه ، فسبيله أن يرفع خبره إلى السلطان ، لينفق عليه من بيت المال ، فإن لم يجده ، وأنفق عليه هو ، وأشهد على ما قلناه ، كان له الرجوع على صاحبه بما أنفقه عليه ، وإن كان ما أنفق عليه قد انتفع بشي ء من جهته ، إمّا بخدمته ، أو ركوبه أو لبنه ، وكان ذلك بإزاء ما أنفق عليه ، لم يكن له الرجوع على صاحبه بشي ء.

والذي ينبغي تحصيله في ذلك ، أنّه إن كان انتفع بذلك قبل التعريف والحول ، فيجب عليه اجرة ذلك ، وإن كان انتفع بلبن ، فيجب عليه رد مثله ، والذي أنفقه عليه يذهب ضياعا ، لأنّه بغير إذن من صاحبه ، والأصل براءة الذمة ، وإن كان بعد التعريف والحول ، فإنّه لا يجب عليه اجرة ، ولا ردّ شي ء من الألبان والأصواف ، لأنّه ماله ، بل هو ضامن للعين الموجودة فحسب.

ص: 110


1- ج : الصلاة فيها.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب اللقطة ، ص 333 ، والعبارة في المصدر هكذا : وقد روى أصحابنا فيمن رد أربعين درهما قيمته أربعة دنانير.

إذا وجد لقطة ، وجاء رجل فوصفها ، فإنّه لا يخلو أن يكون معه (1) بينة ، أو لم يكن معه بيّنة ، فإن وصفها ، ومعه بيّنة ، فإنّه يعطيه (2) ، فإن كان معه شاهد واحد ، حلف معه ، وإن لم يكن معه بيّنة ، فإنّه لا يعطيه ، فإن وصفها ولم يكن معه بينة ، ووصف عفاصها ( بالعين غير المعجمة المكسورة ، والفاء ، والصاد غير المعجمة ، وهي الجلدة التي فوق صمام القارورة ، ووكاها ، وهو شدادها ) وذكر وزنها ، وعددها ، وحليتها (3) ، ووقع في قلبه ، وغلب على ظنه أنّه صادق ، يجوز أن يعطيه ، فأمّا اللزوم ، فلا يلزمه الدفع إليه.

وقال قوم شذاذ من غير أصحابنا : يلزمه أن يعطيه ، إذا وصفها ، والأول أصح ، لأنّه لا دلالة على وجوب تسليمها إليه.

فإذا ثبت ذلك ، ووصفها إنسان ، وقلنا يجوز أن يسلّمها إليه ، فأعطاه ، ثم جاء آخر ، وأقام بينة بأنّها له ، انتزعت من الذي تسلّمها ، وأعطيت الذي أقام البيّنة ، لأنه أقام بيّنة ، وليس عليه أكثر من إقامتها ، فإن أقام آخر بينة بأنّها له ، فالذي يقتضيه مذهبنا ، أنّه يستعمل القرعة.

والأقوى عندي أنّه إذا لم يقم البيّنة ، لا يعطيه إيّاها ، سواء غلب في ظنّه صدقه ، أو لم يغلب ، لأنّه لا دليل عليه ، والذمّة اشتغلت بحفاظها وتعريفها ، وإن لا يسلمها إلا إلى صاحبها ، وهذا الواصف ليس بصاحبها ، على ظاهر الشرع والأدلة.

إذا قال : من جاء بعبدي الآبق فله دينار ، فجاء به واحد ، استحق الدينار. وكذلك إن جاء به اثنان ، أو ثلاثة ، وما زاد على ذلك ، ولو قال : من دخل داري فله دينار ، فدخلها اثنان فصاعدا ، استحق كل واحد دينارا ، والفرق بينهما أنّ من قال : من دخل داري فله كذا ، علّق الاستحقاق بالدخول ، وقد وجد من كل واحد منهم ذلك ، فاستحقّه ، وليس كذلك الرد ، لأنّه علّق الاستحقاق بردّه ، ولم

ص: 111


1- ج : يكون له.
2- ل : يعطيه إياه.
3- ج : وجنسها.

يرده كلّ واحد منهم بانفراده ، وانّما جاء به جميعهم ، فبجميعهم حصل المقصود ، فلهم كلهم الأجرة ، لأنّ السبب وجد من جميعهم ، ولم يوجد من كل واحد على الانفراد.

الذمّي إذا وجد لقطة في بلاد الإسلام ، كان حكمه فيها حكم المسلمين سواء.

ومن وجد لقطة ، فإذا عرفها سنة ، فقد أتى بما عليه ، وإن عرف ستة أشهر ، ثم ترك التعريف ، فهل يستأنف ، أو يبني؟ قيل : فيه وجهان ، أحدهما يستأنف ، والآخر يبني عليها ، وهو الأقوى ، لأنّه ليس في الخبر (1) ، أكثر من أن يعرّف سنة ، ولم يقل متوالية ولا متواترة.

فإذا ثبت ذلك ، فالكلام في ثلاثة أشياء ، أحدها وقت التعريف ، والثاني كيفيّة التعريف ، والثالث زمان (2) التعريف.

فأمّا وقت التعريف ، فإنّه يعرف بالغداة ، والعشيّ ، وقت بروز الناس ، ولا يعرف بالليل ، ولا عند الظهيرة ، والهاجرة التي يقبل فيها الناس.

فأمّا كيفية التعريف ، فإنّه يقول من ضاع له لقطة ، أو يقول : من ضاع له دينار ، أو درهم ، أو يقول مبهما ، ولا يفسره وهو الأحوط ، لأنّه ربما طرح عليه إنسان علامة.

فأمّا الزمان (3) ، فإنّه يعرف في الجماعات والجمعات ، ويقف على أبواب الجوامع ، ولا يعرفها داخلها ، فإنّه منهي عنه.

وأقل ما يعرف في الأسبوع ، دفعة واحدة ، ولا يجب عليه التعريف كل يوم ، ولا كل ساعة ، فإن كان ممن يعرف بنفسه ، فعل ، وإلا استعان بغيره ، أو يستأجر من يعرف من ماله ، ولا يرجع على صاحبها به ، لأنّ التعريف واجب عليه.

وأخذ اللقطة عند أصحابنا على الجملة مكروه ، لأنّه قد روي في الأخبار أنّه لا يأخذ الضالة إلا الضالون (4).

ص: 112


1- الوسائل : كتاب اللقطة ، الباب 2.
2- ج : زمان ، الزمان. وهو الظاهر.
3- ج : زمان ، الزمان. وهو الظاهر.
4- لا توجد بعينها في المصادر التي بأيدينا وفي الباب 1 من اللقطة من الوسائل : « لا يؤدي الضالة إلا

ص: 113

كتاب الشهادات

اشارة

قال اللّه تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ) (1) الآية.

ومعناه إذا تبايعتم بدين ، لأنّ المداينة لا يكون إلى أجل ، إلا في البيع ، وقوله فاكتبوه ، أي اشهدوا ، ثم ذكر الشهادة في ثلاثة مواضع ، فقال ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ ) (2) ثم أمر بالإشهاد على التبايع ، فقال ( وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ) (3) ثم توعد على كتمانها ، فقال :

( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (4).

وفي هذا المعنى ، ما روي عنه عليه السلام أنّه قال : من سئل ، عن علم ، فكتمه ، ألجمه اللّه يوم القيمة بلجام من نار (5).

وقال ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) (6) إلى قوله ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (7).

ومعنى قوله « فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ » يعنى قاربن البلوغ ، لأنّه لا رجعة بعد بلوغ الأجل.

وروي عن ابن عبّاس ، أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله سئل عن الشهادة ، فقال : ترى الشمس ، على مثلها فاشهد ، أودع (8).

فإذا ثبت ذلك ، وتقرر ، فالكلام في ذكر أقسام الحقوق منها ، وجملته أنّ

ص: 114


1- البقرة : 282
2- البقرة : 282
3- البقرة : 282
4- البقرة : 283.
5- سنن ابن ماجة ، الباب 24 ، الحديث 264 و 266.
6- الطلاق : 1 - 2.
7- الطلاق : 1 - 2.
8- الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب 20 الحديث 3.

الحقوق ضربان ، حق لله ، وحق الآدمي ، فأمّا حقّ الآدمي ، فإنّه ينقسم في باب الشهادة ثلاثة أقسام ، أحدها لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين ، وهو ما لم يكن مالا ولا المقصود منه المال ، وتطّلع عليه الرجال ، كالنكاح ، والخلع ، والطلاق والرجعة ، والتوكيل له ، والوصية إليه ، والجناية الموجبة للقود ، والعتق ، والنسب.

والثاني ما يثبت بشاهدين ، وشاهد وامرأتين ، وشاهد ويمين ، وهو كل ما كان مالا ، أو المقصود منه المال ، فالمال : القرض ، والغصب ، والمقصود منه المال : عقود المعاوضات ، البيع ، والصرف ، والسلم ، والصلح ، والإجارات ، والمساقات ، والضمانات ، والحوالات ، والقراض ، والرهن ، والوقف ، والوصية له لا إليه ، والجناية التي توجب المال ، عمدا كانت أو خطأ كالحائفة والمأمومة ، وقتل الحر عبدا عمدا ، ونحو ذلك.

والثالث ما يثبت بشاهدين ، وشاهد وامرأتين ، وأربع نسوة ، وهو الولادة ، والرضاع عند بعض أصحابنا ، وإن كان الأكثر منهم لا يقبل في الرضاع شهادة النساء ، والاستهلال ، والعيوب تحت الثياب.

فأمّا حقوق اللّه تعالى فجميعها لا مدخل لشهادة النساء ، ولا للشاهد مع اليمين فيها ، وهي على ثلاثة أضرب ، ما لا يثبت إلا بأربعة ، وهو الزنا ، واللواط ، والسحق ، وقد روى أصحابنا ، أنّ الزنا يثبت بثلاثة رجال وامرأتين ، وبرجلين وأربع نسوة (1) ، ونشرح ذلك عند المصير إليه ان شاء اللّه.

والثاني ما لا يثبت إلا بشاهدين ، وهو الردة ، والسرقة ، وحد الحر في شرب المسكر ، وكذا العبد فيه سواء عندنا.

والثالث ما اختلف فيه وهو الإقرار بالزنا ، فإنّه قال قوم : لا يثبت إلا بأربعة ، كالزنا ، وقال آخرون : يثبت بشاهدين ، كسائر الإقرارات ، وهو الأليق

ص: 115


1- الوسائل : كتاب الشهادات الباب 24 الحديث 3 - 4 - 5 - 7 - 10 - 11 - 25 - 28 - 32. والحديث 1 من الباب 30 من أبواب حد الزنا.

بمذهبنا ، والأصحّ من القولين.

وليس عندنا عقد من العقود ، من شرطه الشهادة ، وعند مخالفينا كذلك إلا النكاح وحده عندهم ، وعندنا ليس من شرطه الشهادة.

يحكم بالشاهد واليمين في الأموال عندنا ، سواء كان المال دينا أو عينا ، وكذلك يحكم بشهادة امرأتين ، مع يمين المدّعي ، في ذلك ، عند بعض أصحابنا.

والذي تقتضيه الأدلة ويحكم بصحته النظر الصحيح ، أنّه لا يقبل شهادة امرأتين مع يمين المدّعي ، وجعلهما بمنزلة الرجل في هذا الموضع ، يحتاج إلى دليل شرعي ، والأصل أن لا شرع ، وحملها على الرجل قياس ، وهو عندنا باطل ، والإجماع فغير منعقد ، والأخبار غير متواترة ، فإن وجدت فهي نوادر شواذ ، والأصل براءة الذمم ، فمن أثبت بشهادتهما حكما شرعيا ، فإنّه يحتاج إلى أدلة قاهرة ، أمّا إجماع ، أو تواتر أخبار ، أو قرآن وجميع ذلك خال منه ، فبقي دليل العقل ، وهو ما اخترناه وحققناه.

تقبل عندنا شهادة القاذف ، إذا تاب وأصلح ، وكيفية توبته من القذف ، هو أن يقول : القذف باطل حرام ، ولا أعود إلى ما قلت.

وقال بعضهم : التوبة ، إكذابه نفسه ، وحقيقة ذلك ، أن يقول : كذبت فيما قلت ، روي ذلك في بعض أخبارنا (1).

والذي قدّمناه هو الصحيح ، لأنّه إذا قال : كذبت فيما قلت ، ربما كان كاذبا في هذا ، لجواز أن يكون صادقا في الباطن ، وقد تعذر عليه تحقيقه ، فإذا قال : القذف باطل حرام ، فقد أكذب نفسه ، وقوله ، لا أعود إلى ما قلت ، فهو ضد ما كان منه (2) ويفتقر إلى صلاح العمل بعد ذلك ، وهو أن يعمل طاعة ، هذا الكلام في قذف السب.

وأمّا قذف الشهادة ، فهو أن يشهد بالزنا ، دون الأربعة ، فإنهم فسقة ، فالتوبة هاهنا ، أن يقول : قد ندمت على ما كان منى ، ولا أعود إلى ما أتهم فيه ، فإذا قال

ص: 116


1- الوسائل : كتاب الشهادات الباب 36.
2- ج : ما كان عليه.

هذا زال فسقه ، وثبتت عدالته ، وقبلت شهادته ، ولا يراعى صلاح العمل.

ويجوز للحاكم عندنا أن يقول لإنسان : تب أقبل شهادتك ، وانّما قلنا ذلك ، لأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله أمر بالتوبة ، وكذلك اللّه تعالى. هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة (1) ولا أرى بذلك بأسا.

ولا يجوز للشاهد ، ان يشهد ، حتى يكون عالما بما يشهد به ، حين التحمل ، وحين الأداء ، لقوله تعالى ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (2) وقال تعالى ( إِلّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ) (3) ولما قدّمناه من رواية ابن عباس ، عن الرسول عليه السلام قال : سئل عن الشهادة ، فقال للسائل : هل ترى الشمس؟ قال : نعم ، قال : على مثلها فاشهد ، أودع.

ولا يجوز للحاكم أن يقبل إلا شهادة العدل ، فأمّا من ليس بعدل فلا يقبل شهادته ، لقوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (4) والعدالة في اللغة أن يكون الإنسان متعادل الأحوال ، متساويا. وأمّا في الشريعة ، فهو كلّ من كان عدلا في دينه ، عدلا في مروته ، عدلا في أحكامه ، فالعدل في الدين ، أن لا يخل بواجب ، ولا يرتكب قبيحا ، وقيل لا يعرف بشي ء من أسباب الفسق ، وهذا قريب أيضا ، وفي المروة أن يكون مجتنبا للأمور التي تسقط المروة ، مثل الأكل في الطرقات ، ولبس ثياب المصبغات للنساء ، وما أشبه ذلك. والعدل في الأحكام أن يكون بالغا عاقلا.

وقال شيخنا في مبسوطة : فأمّا إن كان مجتنبا للكبائر ، مواقعا للصغائر ، فإنّه يعتبر الأغلب من حاله ، فإن كان الأغلب من حاله مجانبة المعاصي ، واجتنابه لذلك نادرا ، لم تقبل شهادته ، وقال رحمه اللّه : وانّما اعتبرنا الأغلب في الصغائر ، لأنّا لو قلنا أنّه لا تقبل شهادة من واقع اليسير من الصغائر أدّى ذلك إلى أن لا تقبل

ص: 117


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، ص 179 ، وفي المصدر : ويجوز للإمام عندنا.
2- الاسراء : 35.
3- الزخرف : 86.
4- الطلاق : 2.

شهادة أحد ، لأنّه لا أحد ينفك من مواقعة بعض المعاصي (1).

قال محمد بن إدريس ، رحمه اللّه : وهذا القول لم يذهب إليه رحمه اللّه ، إلا في هذا الكتاب ، أعني المبسوط ، ولا ذهب إليه أحد من أصحابنا ، لأنّه لا صغائر عندنا في المعاصي ، إلا بالإضافة إلى غيرها ، وما خرجه واستدلّ به ، من أنّه يؤدّي ذلك إلى أن لا تقبل شهادة أحد ، لأنّه لا أحد ينفك من مواقعة بعض المعاصي ، فغير واضح ، لأنّه قادر على التوبة من ذلك الصغير فإذا تاب قبلت شهادته. وليست التوبة مما يتعذر على إنسان ، ولا شك أن هذا القول تخريج لبعض المخالفين ، فاختاره شيخنا هاهنا ، ونصره ، وأورده على جهته ، ولم يقل عليه شيئا ، لأنّ هذا عادته في كثير ممّا يورده في هذا الكتاب.

فأمّا شهادة أهل الصنائع الدنية ، كالحارس ، والحجّام ، والحائك ، والزبال ، وما أشبه ذلك ، فعندنا أنّ شهادتهم مقبولة ، إذا كانوا عدولا في أديانهم ، لقوله تعالى ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ ) (2).

كلّ من يجر بشهادته نفعا إلى نفسه ، أو يدفع ضررا عنها ، فانّ شهادته لا تقبل ، فالجار إلى نفسه هو أن يشهد الغرماء للمفلس المحجور عليه ، أو يشهد السيد لعبده المأذون له في التجارة ، والوصي بمال الموصي ، الذي له فيه تصرف ، والوكيل بمال الموكل ، كذلك والشريك لشريكه ، بحق هو شركة بينهما.

والدافع عن نفسه ، هو أن تقوم البيّنة على رجل بقتل الخطأ ، فشهد اثنان من عاقلة الجاني بجرح الشهود ، أو قامت البيّنة بمال على الموكّل ، وعلى الموصي ، فشهد الوكيل والوصي بجرح الشهود ، فلا تقبل الشهادة في هذه المواضع ، وما شاكلها ، لقوله عليه السلام : لا يجوز شهادة خصم ، ولا ظنين (3) ، وهو المتهم ،

ص: 118


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل.
2- الحجرات : 13.
3- لا توجد بعينها في المصادر لكن أوردها الشيخ الطوسي « قدس سره » في مبسوطة : ج 8 في باب من لا تقبل شهادته ، ص 219 وفي الوسائل : الباب 30 من أبواب الشهادات : « سئل أبو عبد اللّه عليه السلام عمّا يردّ من الشهود فقال : الظنين ، والمتهم ، والخصم » وفي الباب أخبار أخر فراجعه.

وهؤلاء متهمون.

لا تقبل شهادة عدو على عدوه ، والعداوة ضربان ، دينية ودنياوية ، فالدينية لا ترد بها الشهادة ، مثل عداوة المسلم للمشركين ، لا ترد بها شهادتهم ، لأنّها عداوة في الدين ، وهي طاعة وقربة ، فهي واجبة ، وهكذا عداوة الكفّار للمسلمين ، لا ترد شهادتهم بها ، لو كانت وحدها ، وانّما ترد لفسقهم وكفرهم ، لا للعداوة ، ألا ترى انّا نرد شهادتهم بعضهم على بعض ولبعض ، وإن لم يكن هناك عداوة ، وهكذا شهادة أهل الحق لأهل الأهواء الباطلة ، تقبل ، لأنّهم يعادونهم في الدين ، فأمّا العداوة الدنياوية ، فإنّه ترد بها الشهادة ، مثل أن يقذف رجل رجلا ، ثم يشهد المقذوف على القاذف ، ويدّعي أنّ فلانا قطع عليه وعلى رفيقه الطريق ، ثم يشهد عليه ، فان شهادته لا تقبل ، وهكذا إذا شهد الزوج على زوجته ، بعد قذفها بالزنا ، فإنّ شهادته لا تقبل ، وما أشبه ذلك ، من المواضع التي يعلم بحكم العادة ، أنّه يحصل فيها تهمة الشاهد ، فأمّا شهادة العدو لعدوّه ، فإنّها تقبل ، لأنّ التهمة معدومة.

من كان الغالب من حاله السلامة ، والغلط منه نادر ، قبلت شهادته ، وإن كان الغالب الغلط والغفلة ، والسلامة نادرة ، لم تقبل ، لأنّا لو قلنا (1) ذلك ، أدى إلى قبول شهادة المغفلين ، ولو لم تقبل إلا ممّن لا يغلط ، أدّى إلى أن لا تقبل شهادة أحد ، لأنّ أحدا لا يخلو من ذلك ، فاعتبرنا الأغلب.

كلّ من خالف الحق لا تقبل شهادته على ما بيّناه ، فأمّا من يختلف من أصحابنا المعتقدين للحقّ ، في شي ء من الفروع التي لا دليل عليها موجبا للعلم ، فانا لا نرد شهادتهم ، بل نقبلها ، إلا أن يكون على ذلك دليل ظاهر قاطع ، من كتاب أو سنة متواترة ، أو إجماع ، ويخالف فيه ، ويعاند ، ويكابر ، فإنّه ترد شهادته ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (2) وهو الحق والصواب ، لأنّه فسق الظاهر ،

ص: 119


1- ج : لو قبلنا.
2- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل.

وخلاف الأدلة.

الغناء من الصوت ممدود ، ومن المال مقصور ، فإذا ثبت هذا ، فالغناء عندنا محرّم ، يفسق فاعله ، وترد شهادته ، فأمّا ثمن المغنيات ، فليس بحرام إجماعا ، لأنّها تصلح لغير الغناء.

إذا سمع الشاهد رجلا يقر بدين ، فيقول : لفلان علي ألف درهم ، صار السامع به شاهدا بالدين ، قال المقر اشهدوا عليّ بذلك أو لم يقل ، وكذلك إذا شاهد رجلين تعاقدا عقدا ، كالبيع ، والصلح ، والإجارة ، والنكاح ، وغير ذلك ، وسمع كلام العقد ، صار شاهدا بذلك ، وكذلك الأفعال ، كالغصب ، والقتل ، والإتلاف ، يصير به شاهدا ، وكذلك إذا كان بين رجلين خلف في حساب ، فحضرا بين يدي شاهدين ، وقالا لهما قد حضرنا لنتصادق ، فلا تحفظا علينا ما يقر به كل واحد منّا لصاحبه ، ثم حصل من كلّ واحد منهما إقرار لصاحبه بالدين ، صارا شاهدين ، ولا يلتفت إلى تلك المواعدة ، لأنّ الشاهد بالحق ، من علم به ، فمتى علم به ، صار شاهدا.

فأمّا شهادة المختبي فمقبولة عندنا ، وهو إذا كان على رجل دين ، يعترف به سرا ويجحده جهرا ، فاحتال صاحب الدين ، فخبا له شاهدين ، يسمعانه ، ولا يراهما ، ثم جاراه ، فاعترف به ، وسمعاه ، وشهدا به ، صحت الشهادة عندنا ، وخالف في ذلك شريح فقط.

ويعتبر في شهادة النساء الإيمان ، والستر ، والعفاف ، وطاعة الأزواج فيما أوجب اللّه تعالى عليهن طاعتهم ، وترك البذاء بالذال المعجمة ، وهو قول الفحش ، والتبرّج إلى أنديه الرجال ، إلا لحاجة ضروريّة.

ولا يجوز قبول شهادة الظنين ، والمتهم ، وقد قلنا أنّ الظنين هو المتهم ، وإن كان اللفظ مختلفا ، فالمعنى واحد ، وهذا في كلام العرب والقرآن كثير ، والظنين هو المتهم بالزور والخيانة.

ص: 120

ولا شهادة الخصم والخائن ، وقال شيخنا في نهايته : والأجير (1) ، وهذا خبر واحد ، لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه ، بل شهادة الأجير مقبولة ، سواء كانت على من استأجره ، أوله ، وسواء فارقه ، أو لم يفارقه ، لأنّ أصول المذهب تقتضي قبول هذه الشهادة ، وهو قوله تعالى ( وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ) (2) وقوله : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (3) ولا مانع يمنع من قبول شهادته ، وهذا عدل ، فينبغي أن تقبل شهادته ، فلأنه لا يجرّ بشهادته إليه نفعا ، ولا يدفع عنه ضررا ، ولا يعرف بشي ء من أسباب الفسق ، ولا دليل على ردّ شهادته من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع.

ولا تقبل شهادة الفساق ، إلا على أنفسهم ، وهذا إقرار لا شهادة ، وانّما أوردته على ما وجدته في مصنفات أصحابنا.

ولا تقبل شهادة ماجن ، المجون أن لا يبالي الإنسان بما صنع ، وقد مجن بالفتح يمجن مجونا ، ومجانة ، فهو ماجن ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح (4).

ولا تقبل شهادة فحاش ، وترد شهادة اللاعب بالنرد والشطرنج ، وغيرهما من أنواع القمار ، والأربعة عشر ، والشاهين ، بفتح الهاء ، لأنّ ذلك تثنية شاه ، لأنّه كذاب بقوله شاهك مات ، يعنى به أحد اقطاع الشطرنج ، ولغته بالفارسيّة الملك.

ولا بأس بشهادة أرباب الصنائع ، أيّ صنعة كانت ، إذا جمعوا الشرائط المقدّم ذكرها ، وكانت حلالا.

ولا يجوز شهادة من يبتغي على الأذان الأجر ، فأمّا أخذ الرزق عليه دون الإجارة فجائز ، ويكون ذلك من بيت المال ، وكذلك على القضاء. ولا يحل لأحد الأجرة عليهما بحال ، فأمّا الجهاد فيجوز عندنا أخذ الأجرة عليه ، لما رواه أصحابنا (5) فأمّا الصلوات فلا يجوز أخذ الأجرة ، ولا الرزق عليها بحال ، وكذلك الصيام.

ص: 121


1- النهاية ، كتاب الشهادات باب تعديل الشهود.
2- البقرة : 282.
3- الطلاق : 2.
4- الصحاح.
5- الوسائل : الباب 8 من أبواب جهاد العدو.

ولا يجوز شهادة من يرتشي في الأحكام.

وقد روي (1) أنّه لا يجوز شهادة السائلين على أبواب الدور ، وفي الأسواق ، وان كانت شرائط العدالة فيهم حاصلة ، إلا أنّ ذلك يختص بمن يكون ذلك عادته وصناعته ، ويتخذ ذلك حرفة ، وصناعة ، وبضاعة ، فأمّا من أحوجته ضرورة مجحفة في بعض الأحوال ، فلا ترد شهادته بحال ، لأنّه لا دليل على ذلك ، وقد أعطينا الرواية الواردة بذلك حقّها.

ويجوز شهادة ذوي الفقر والمسكنة ، المتجملين (2) ، الساترين لأحوالهم ، إذا حصل فيهم شرائط العدالة.

ولا يجوز شهادة ولد الزنا ، لأنّه عند أصحابنا كافر ، بإجماعهم عليه ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن عرفت منه عدالة ، قبلت شهادته في الشي ء الدون (3).

وهذا غير مستقيم ، لأنّه إن كان عدلا ، فتقبل شهادته في الدون وغير الدون ، وإن كان عنده كافرا ، فلا تقبل شهادته ، لا في الدون ولا غير الدون ، وانّما هذا خبر واحد ، أورده إيرادا ، لا اعتقادا.

ولا يجوز شهادة الشريك لشريكه ، فيما هو شريك فيه ، ولا بأس بشهادته له فيما ليس بشريك له فيه.

ومن قطع به الطريق ، فأخذ المأخوذون اللصوص ، فشهد بعض المأخوذين لبعض على اللصوص ، لم يقبل شهادتهم ، لأنّهم خصوم ، وكذلك إن شهد بعض اللصوص على بعض ، لأنّهم فسقة إلا أن يشهد غيرهم عليهم ، أو يقرّ اللصوص ، فيحكم بالإقرار على من أقر.

ولا بأس بشهادة الوصي على من هو وصيّ له ، إلا أنّه يحلف الخصم ، إذا كان مع الوصي غيره من أهل الشهادة ، أو لم يكن معه سواه ، لأنّها شهادة على

ص: 122


1- الوسائل : الباب 35 من أبواب الشهادات.
2- ج : المتحملين.
3- النهاية : كتاب الشهادات باب تعديل الشهود.

ميّت ، وهو لا يعبر عن نفسه ، ولما رواه أصحابنا (1).

ولا بأس بشهادته فيما لا يكون له فيه (2) ولاية ولا تصرّف ، على ما قدّمنا القول فيه.

وقال شيخنا في نهايته : ولا بأس بشهادة الوصيّ على من هو وصيّ له (3). غير أن ما يشهد به عليه ، يحتاج أن يكون معه غيره ، من أهل العدالة ، ثم يحلف الخصم على ما يدعيه به ، وما يشهد للورثة مع غيره من أهل العدالة ، لم يجب مع ذلك يمين ، وأطلق ذلك إطلاقا ، وتحريره ما ذكرناه.

ولا بأس بشهادة ذوي الآفات والعاهات ، في الخلق ، بكسر الخاء وفتح اللام ، لأنّ ذلك جمع خلقه ، إذا كانوا من أهل العدالة.

ولا بأس بشهادة الأعمى ، إذا حقق ، ولم تكن شهادته فيما يعتبر الرؤية فيه ، إلا أن يكون قد شهد عليه في حال الصحة ، ثم عمى بعد ذلك ، فيجوز شهادته بذلك بعد العمى.

ولا بأس بشهادة الأصم ، وقد روي أنّه يؤخذ بأوّل قوله ، ولا يؤخذ بثانيه (4).

ولا بأس بشهادة الضيف ، إذا كان من أهلها.

وإقرار العقلاء جائز على نفوسهم ، فيما يوجب حكما في شريعة الإسلام ، سواء كان مليا أو كافرا ، أو مطيعا كان أو عاصيا ، وعلى كلّ حال إلا أن يكون عبدا ، فإنّه لا يقبل إقراره على نفسه ، لا في مال ، ولا على بدن ، لأنّ إقراره على نفسه إقرار على الغير ، لأنّه لا يملك من نفسه شيئا ، ولا يقبل إقرار الغير على الغير ، فإن لحقه العتاق بعد الإقرار ، ألزم بما أقر ، لأنّ في الأوّل منع ، لأنّه إقرار على سيده ، والآن لا مانع منه ، لأنّ حق سيّده قد زال عنه.

والفاسق إذا شهد على غيره في أمر من الأمور ، ما خلا الطلاق ، ثم أقام الشهادة ، وهو عدل ، قبلت شهادته ، وكذلك الكافر ، واستثنينا الطلاق ، لأنّ

ص: 123


1- الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب 28 ح 1.
2- ج : له عليه.
3- ج : له وله.
4- الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب 42 ح 3.

جميع ما يشهد به الشاهد المراعى في العدالة ، والقبول للشهادة ، وقت الأداء ، دون وقت التحمل ، إلا الطلاق فإنّه يحتاج إلى العدالة وقت التحمّل ، ووقت الأداء.

ويقبل شهادة المتخذ للحمام ، غير اللاعب بها ، والمسابق ، والمراهن عليها ، إذا لم يعرف منه فسق.

وقول شيخنا في نهايته : وتقبل شهادة من يلعب بالحمام (1) غير وضح ، لأنّه سمّاه لاعبا ، واللعب بجميع الأشياء قبيح ، فقد صار فاسقا بلعبه ، فكيف تقبل شهادته؟ وانّما أورد لفظ الحديث إيرادا ، لا اعتقادا ، وإن كان المقصود باللعب ما ذكرناه ، وهو اتخاذها للأنس ، وحمل الكتب ، دون اللعب.

ولا بأس بشهادة المراهن في الخف ، لأنّ المسابقة عليه جائزة ، ويدخل في الخف الفيل أيضا.

ولا بأس بشهادة المراهن في الحافر ، لأنّه مأمور بذلك ، ومحلل ، ويدخل فيه الفرس والبغل والحمار ، وكذلك المراهن في الريش ، يعني النشاب ، لأنّه من النصال ، وكذلك النصل.

وقد يتوهم بعض من لا بصيرة له بهذا الشأن ، أنّ المراد بذلك الطيور ، في قوله : « المراهن في الريش لا بأس بقبول شهادته » وهذا خطأ فاحش ، لأنّ الرمي والمسابقة لم ترد ، إلا في الحافر ، والخف ، والنصل ، فالنصل يدخل فيه النشابة ، التي هي للعجم ، والسهم الذي هو للعرب ، والحراب ، والمزاريق ، وما عدا ذلك ، فهو قمار يفسق فاعله به.

فأمّا إنشاد الشعر فهو مباح ، لا ترد شهادة فاعله ، ما لم يكن فيه هجر ، ولا فحش ، ولا تشبيب بامرأة ، ولا هجاء من لا يستحق الهجاء.

روى جابر بن سمرة قال : كنت عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أكثر من مائة مرة ، فكان أصحابه ينشدون الأشعار ويذكرون أخبار الجاهليّة قديما (2).

ص: 124


1- النهاية : كتاب الشهادات باب تعديل الشهود.
2- المبسوط : ج 8 ، فصل فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل ص 225 - 226.

وروى عمرو بن الشريد ، عن أبيه ، قال : أردفني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، فقال : هل معك من شعر أميّة بن أبي الصلت شي ء؟ قلت : نعم ، قال : هيه ، فأنشدته بيتا ، فقال : هيه ، فأنشدته ، حتّى بلغت مائة بيت (1).

هيه ، معناه الحث والاستزادة ، وأصله أية وإذا زجرت ، قلت ايها ، وإذا أغريت (2) قلت ويها ، وإذا تعجبت قلت واها.

وروي أنّه عليه السلام كان في وليمة ، فسمع عجوزا تنشد :

أهدى لها (3) اكبشا تبجبج في المريد *** زوجك ذا في الندى يعلم ما في غد

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : أورد هذا جميعه شيخنا في مبسوطة (4) ، وتبجبج ، بالباء المنقطة ، من تحتها نقطة واحدة ، بالجيمين ، وبالباء بين الجيمين ، ومعناه تتفتق بالسمن ، يقال بجّها الكلاء ، إذا فتقها بالسمن ، فأوسع خواصرها ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح (5) فضبطت ذلك لئلا يجرى فيه تصحيف ، وقال صاحب كتاب البارع : تبحبح بحائين غير معجمتين ، أي تتسع من السمن.

باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها وما في ذلك من الأحكام

لا يجوز أن يمتنع الإنسان من الشهادة ، إذا دعي إليها ليشهد ، إذا كان من أهلها ، إلا أن يكون حضوره مضرّا بشي ء من أمر الدين ، أو بأحد من المسلمين.

وأمّا الأداء فإنّه في الجملة أيضا من الفرائض ، لقوله تعالى ( وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (6) وقال ( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) (7).

وقد يستشهد بعض أصحابنا بهذه الآية الأخيرة على وجوب التحمل ، وعلى

ص: 125


1- 1المبسوط : ج 8 ، فصل فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل ، ص 225 - 226.
2- ل : اغربت.
3- ج : لنا.
4- 1المبسوط : ج 8 ، فصل فيمن تقبل شهادته ومن لا تقبل ، ص 225 - 226.
5- الصحاح :
6- البقرة : 283.
7- البقرة : 282.

وجوب الأداء ، والذي يقوى في نفسي ، أنّه لا يجب التحمل ، وللإنسان أن يمتنع من الشهادة إذا دعي إليها ليتحملها ، إذ لا دليل على وجوب ذلك عليه ، وما ورد في ذلك (1) فهو أخبار آحاد ، فأمّا الاستشهاد بالآية ، والاستدلال بها على وجوب التحمل ، فهو ضعيف جدا ، لأنّه تعالى سمّاهم شهداء ، ونهاهم عن الإباء إذا دعوا إليها ، وانما يسمّى شاهدا بعد تحملها ، فالآية بالأداء أشبه.

وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة (2).

فإن قيل : سمّاهم شهداء لما يؤولون إليه من الشهادة ، كما يقولون لمن يريد الحج : حاجي ، وإن لم يحج ، وكما قال تعالى ( إِنَّكَ مَيِّتٌ ) (3) أي انّك ستموت.

قلنا : هذا مجاز ، والكلام في الحقيقة غير الكلام في المجاز ، فلا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز ، من غير ضرورة ، ولا دليل ، والكلمة إذا كانت مشتقة من الفعل ، فلا تسمّى به إلا بعد حصول ذلك الفعل ، لأنّ الضارب والقاتل ، لا يسمّيان بذلك ، إلا بعد حصول الحدث المخصوص منهما.

إذا كان هناك خلق قد تحملوا الشهادة ، فالأداء واجب عليهم. فكلّ من دعي منهم لإقامتها ، وجب عليه ذلك لقوله تعالى ( وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا ) (4).

فإذا حضر الشاهد ، فلا يجوز له أن يشهد إلا على من يعرفه ، فإن أراد أن يشهد على من لا يعرفه ، فليشهد بتعريف من يثق الى ديانته ، من رجلين عدلين عند أصحابنا ، فأمّا الواحد والنساء ، فلا يشهد بتعريفه ، ولا تعريفهن ، لأنّه لا دليل على ذلك ، فإذا أقام الشهادة ، أقامها كذلك ، وإذا اشهد على امرأة ، وكان يعرفها بعينها ، جاز له أن يشهد عليها ، وإن لم ير وجهها ، فإن شك في حالها ، لم يجز له أن يشهد عليها إلا بعد أن تسفر عن وجهها ، ويثبتها معرفة ، فإن عرفها من يثق

ص: 126


1- الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب 1.
2- المبسوط : ج 8 فصل فيما يجب على المؤمن من القيام بالشهادة ، ص 186.
3- الزمر : 30.
4- البقرة : 282.

بديانته من العدلين ، جاز له الشهادة عليها ، وإن لم تسفر عن وجهها.

ويجوز أن يشهد الإنسان على الأخرس ، إذا كانت له كناية معقولة ، واشارة مفهومة ، فعرف من إشارته الإقرار ، ويقيم شهادته كذلك ، ولا يقيمها بمجرّد الإقرار بالكلام ، لأنّ ذلك كذب.

ويجوز أن يشهد على شهادة رجل آخر ، غير أنّه ينبغي أن يشهد رجلان عدلان ، على شهادة رجل واحد ، ليقوما مقامه ، فأمّا واحد ، فلا يقوم مقام واحد ، وذلك لا يكون أيضا إلا في حقوق الآدميّين ، من الديون ، والأملاك ، والعقود ، فأمّا الحدود ، فلا يجوز أن تقبل فيها شهادة على شهادة.

ولا يجوز شهادة على شهادة على شهادة ، في شي ء من الأشياء.

ومن شهد على شهادة آخر ، وأنكر الشهادة الشاهد الأول الأصلي ، روي أنّه تقبل شهادة أعدلهما (1) ، أورد ذلك شيخنا في نهايته (2) فإن كانت عدالتهما سواء ، طرحت شهادة الشاهد الثاني.

وقال ابن بابويه من أصحابنا ، في رسالته : تقبل في هذه الحال شهادة الثاني ، وتطرح شهادة الأوّل.

وهذا غير مستقيم ولا واضح ، بل الخلاف والنظر في أنّه تقبل شهادة أعدلهما ، فكيف تقبل في الثاني ، وهو فرع الأوّل الأصلي ، فإذا رجع عن شهادته ، فالأولى أن تبطل شهادة الفرع ، ولأنّ الفرع يشهد على شي ء لا يحققه ، أعني نفس الحق المشهود به ، فكيف ينتزع الحاكم المال بهذه الشهادة ، وهو ما شهد عنده على نفس الحقّ من علمه ، ولا قطع عليه يقينا ، أعني الشاهد الذي هو الفرع ، ولا خلاف أنّ الفرع يثبت بشهادة الأصل بلا شبهة ، وهكذا إذا فسق الأصل ، بطلت شهادة الفرع.

ص: 127


1- الوسائل : كتاب الشهادات ، الباب 46 من أبواب الشهادات.
2- النهاية : باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها.

وذكر شيخنا في مبسوطة ، قال : فإن سمع الحاكم من الفرع ، في الموضع الذي يسوغ له أن يسمع ويحكم بشهادته ، ثمّ تغيرت حال الأصل ، كان الحكم فيه كما لو سمع من الأصل نفسه ، تغيرت حاله ، فإن عمى الأصل ، أو خرس ، حكم بشهادة الفزع ، لأنّ الأصل لو شهد ، ثم عمى ، أو خرس ، حكم بشهادته ، وإن فسق الأصل ، لم يحكم بشهادة الفرع ، لأنّه لو سمع من الأصل ، ثم فسق ، لم يحكم بشهادته ، لأنّ الفرع يثبت بشهادة الأصل ، فإذا فسق الأصل ، لم يبق هناك ما يثبته ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (1).

وأيضا فإذا رجع الأصل ، وأنكر ، صار فاسقا ، كذابا ، عند الفرع ، فكيف يشهد على شهادة فاسق ، وكيف له ، ان يصدّقه ، ويشهد على شهادته ، وهو لا يأمن أن يكون في الأول كاذبا ، كما كان عند إنكاره لشهادة الفرع كاذبا.

وأيضا الحاكم إذا رجع الشاهد ، قبل الحكم بشهادته ، لم يحكم بها بغير خلاف.

وأيضا الأصل أن لا حكم ولا شهادة ، وبقاء الأموال على أربابها ، وهذا حكم شرعيّ ، فمن ادّعى إثباته ، يحتاج إلى دليل شرعي ولا دليل على ذلك من كتاب اللّه تعالى ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل معنا ، وهو نفي الأحكام الغير المعلومة بأدلة العقول ، إلى أن يقوم دليل سمعي على إثباتها.

وأيضا قوله ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (2) يشيّد ذلك ، ويعضده.

وأيضا فالصحيح من أقوال أصحابنا المحصّلين ، أن شهادة الفرع ما يجوز ، إلا بعد تعذر حضور شاهد الأصل ، وفي هذه المواضع شاهد الأصل حاضر ، فلا يجوز قبول شهادة الفرع ، فليلحظ ذلك.

لا مدخل للنساء في الشهادة على الشهادة ، سواء كان الحق ممّا يشهد فيه

ص: 128


1- المبسوط : ج 8 ، فصل في الشهادة على الشهادة ، ص 233.
2- الاسراء : 35.

النساء ، أو لا يشهدن فيه.

إذا شهد شاهد الفرع على شهادة الأصل ، لم يخل من ثلاثة أحوال ، إما أن يسميا الأصل ويعدلاه ، أو يعدلاه ولا يسمياه ، أو يسمّياه ولا يعدّلاه.

فإن سمياه وعدّلاه ، ثبتت عدالته وشهادته ، لأنّهما عدلان.

وإن عدّلاه ولم يسمّياه ، لم يحكم بقولهما.

وإن سمّياه ولم يعدّلاه ، سمع الحاكم هذه الشهادة ، وبحث عن عدالة الأصل ، فإن ثبتت عدالته ، حكم ، وإلا وقف.

ويصير شاهد الفرع متحملا لشهادة شاهد الأصل بأحد أسباب ثلاثة :

أحدها : الاسترعاء ، وهو أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع : أشهد أن لفلان بن فلان ، على فلان بن فلان درهما ، فاشهد على شهادتي ، فهذا هو الاسترعاء.

الثاني : أن يسمع شاهد الفرع شاهد الأصل ، يشهد بالحق عند الحاكم ، فإذا سمعه يشهد به عند الحاكم ، صار متحملا لشهادته.

الثالث : أن يشهد الأصل بالحقّ ويعزيه (1) إلى سبب وجوبه ، فيقول : أشهد أنّ لفلان بن فلان ، على فلان بن فلان ، ألف درهم ، من ثمن ثوب ، أو عبد ، أو دار ، أو ضمان ، ونحو هذا ، فإذا عزاه إلى سبب وجوبه ، صار متحملا للشهادة.

فأمّا إن لم يكن هناك استرعاء ، ولا سمعه يشهد عند حاكم (2) ، ولا عزاه إلى سبب وجوبه ، مثل أن سمعه يقول : أشهد أنّ لفلان بن فلان ، على فلان بن فلان ، درهما ، فإنّه لا يصير بهذا متحملا للشهادة على شهادته ، لأنّ قوله : اشهد بذلك ، ينقسم إلى الشهادة بالحق ، ويحتمل العلم به على وجه لا يشهد به ، وهو أن يسمع الناس ، يقولون لفلان على فلان كذا وكذا ، وقف التحمل لهذا

ص: 129


1- ج : يعزوه.
2- ل : عند الحاكم به ج : عند الحاكم.

الاحتمال ، فإذا حقق ما قلنا زال الإشكال.

وهذا جميعه أورده شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (1) فأوردناه على ما أورده ، ولم يرد في أخبارنا من هذا شي ء.

ولا بأس بالشهادة على الشهادة ، وإن كان الشاهد الأوّل حاضرا غير غائب ، إذا منعه من إقامة الشهادة مانع ، من مرض ، وغيره.

ومن رأى في يد غيره شيئا ورآه يتصرف فيه تصرف الملاك. جاز له أن يشهد بأنّه ملكه ، كما أنّه يجوز له أن يشتريه على أنّه ملكه ، وفقه ذلك ، أنّه كما يجوز أن يشتريه ، ثمّ يدّعيه بعد الشراء ملكا له ، فلو لا أنّه كان يجوز له أن يشهد له بالملك المطلق ، لما جاز له أن يدّعيه ملكا له ، بعد شرائه منه.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : فأمّا الشهادة باليد فلا شبهة في جوازها ، وقال بعضهم : يشهد له بالملك ، وقال : لأنّه لمّا صحّ أن يشهد على بيعه ما في يديه ، صح أن يشهد له بالملك ، قال رحمه اللّه : وروى أصحابنا أنه يجوز له أن يشهد بالملك ، كما يجوز أن يشتريه ثمّ يدّعيه ملكا له ، هذا أخر كلامه رحمه اللّه (2).

ولا بأس أن يشهد الإنسان على مبيع ، وإن لم يعرفه ولا عرف حدوده ولا موضعه ، إذا عرف البائع والمشتري ذلك ، ويكون شاهدا على إقرارهما بوصف المبيع.

وقد روي أنّه يكره للمؤمن أن يشهد لمخالف له في الاعتقاد ، لئلا تلزمه إقامتها ، فربما ردت شهادته ، فيكون قد أذلّ نفسه (3) وفقه هذا الرواية ، أنّه انّما يكره له أن يحتمل له شهادة ابتداء ، فأمّا إن تحملها ، فالواجب عليه أداؤها وإقامتها ، إذا دعي إلى ذلك ، عند من دعا إلى إقامتها عنده ، سواء ردّها أو لم يردّها ، قبلها أو لم يقبلها ، بغير خلاف ، لقوله تعالى ( وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (4).

ص: 130


1- المبسوط : ج 8 ، فصل في الشهادة على الشهادة ، ص 231.
2- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، فصل في التحفظ في الشهادة ، ص 182.
3- الوسائل : الباب 53 من كتاب الشهادات.
4- البقرة : 283.

ومتى دعي الإنسان لإقامة شهادة ، لم يجز له الامتناع منها على حال ، إلا أن يعلم أنّه إن أقامها أضرّ ذلك بمؤمن ضررا غير مستحق بأن يكون عليه دين ، وهو معسر ، ويعلم (1) إن شهد عليه حبسه الحاكم ، فاستضر به هو وعياله ، لم يجز له إقامتها.

وإذا أراد إقامة شهادة ، لم يجز له أن يقيم (2) إلا على ما يعلمه ويتيقنه ، ويقطع عليه ، ولا يعول على ما يجد خطه به مكتوبا ، أو خاتمه مختوما ، لما قدّمناه من قوله تعالى ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (3) وقول الرسول عليه السلام ، لما سئل عن الشهادة ، فقال للسائل : فهل ترى الشمس ، على مثلها فاشهد أودع (4) ، وما روي عن الأئمة الأطهار ، في مثل هذا المعنى أكثر من أن تحصى ، قد أورد بعضه شيخنا أبو جعفر في استبصاره (5).

وقال شيخنا في نهايته : وإذا أراد إقامة الشهادة ، لم يجز له أن يقيم إلا على ما يعلم ، ولا يعوّل على ما يجد خطه به مكتوبا ، فإن وجد خطه مكتوبا ، ولم يذكر الشهادة ، لم يجز له إقامتها ، فإن لم يذكر ، وشهد معه آخر ثقة ، جاز له حينئذ إقامة الشهادة (6).

وهذا غير صحيح ولا مستقيم ، لما قدّمناه من القران والأخبار والإجماع ، ولا يلتفت الى خبر ضعيف قد أورده إيرادا لا اعتقادا ، فإنّه رحمه اللّه رجع عن قوله في نهايته في استبصاره (7) ، وأورد الأخبار المتواترة ، في أنّ الإنسان لا يجوز له أن يقيم ، إلا بعد الذكر الشهادة ، ولا يجوز له أن يعوّل على خطه وخاتمه ، ثم أورد بعد ذلك في آخر الباب خبرا خبيئا ، ضعيفا شاذا مخالفا لأصول مذهب أهل البيت عليهم السلام ، موافقا لمذاهب أهل الغلو والإلحاد ، وهو عن عمر بن يزيد ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : الرجل يشهدني على الشهادة (8) ، فأعرف

ص: 131


1- ل : يعلم انه.
2- ل : يقيمها.
3- الاسراء : 36.
4- الوسائل : الباب 20 من كتاب الشهادات ، ح 3.
5- الاستبصار : الباب 16 من الشهادات.
6- النهاية : باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها.
7- الاستبصار : الباب 16 من الشهادات.
8- ج : على الشي ء.

خطي وخاتمي ، ولا أذكر من الباقي قليلا ولا كثيرا ، قال : فقال لي إذا كان صاحبك ثقة ، ومعه رجل ثقة ، فاشهد له ، قال شيخنا أبو جعفر في استبصاره : فهذا الخبر ضعيف مخالف للأصول كلّها ، قال : لأنّا قد بيّنا أن الشهادة لا يجوز إقامتها ، إلا مع العلم ، ثم قال : وقد قدّمنا أيضا الأخبار التي تقدّمت ، من أنّه لا يجوز إقامة الشهادة مع وجود الخط والختم ، إذا لم يذكرها ثم تأوّله تأويلا نربأ به (1) عن مثله ، ثم قال بعد تأويله واعتذاره الذي يحتاج إلى اعتذار ، وإن كان الأحوط ما تضمنه الأخبار الأوّلة.

قال محمّد بن إدريس : ثم هذا يؤدّى إلى أن يشهد الإنسان ، لأخيه الثقة بقوله ، فيكون مصيرا إلى مذهب ابن أبي العزاقر الغالي ، الذي أودعه كتابه كتاب التكليف ، وهو معروف ، وقد ذكره شيخنا أبو جعفر في فهرست المصنفين (2) وقال : أروي الكتاب ، وذكر من رواه عنه ، واستثنى هذا الحديث ، فإنّه قال : أرويه إلا حديثا واحدا ، وهو أنّه يجوز أن يشهد الإنسان لأخيه بقوله ، نعوذ باللّه من سوء التوفيق ومن هذا القول ، ثم وأي علم يحصل له إذا شهد معه آخر ثقة ، ولم يذكر هو الشهادة ، فهذا يكون شاهدا على شهادته ، وهو حاضر ولا يجوز الشهادة على الشهادة ، إلا إذا تعذر على شاهد الأصل الحضور ، وهاهنا شاهد الأصل حاضر ، وأيضا فلا بد من أن يكونا اثنين ، حتى يقوما مقامه ، وهاهنا شاهد الفرع واحد ، فهذا القول فاسد ، بحمد اللّه تعالى من كلّ الأحوال ، وعلى سائر الأقوال.

ومن علم شيئا من الأشياء ، ولم يكن قد أشهد عليه ، ثم دعي إلى أن يشهد ، فالواجب عليه الأداء ، لقوله تعالى ( وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ ) (3) ولا يكون بالخيار في إقامتها.

ص: 132


1- ل : بريئا به ج : يربى به.
2- الفهرست : ص 146 ، الرقم 616.
3- البقرة : 283.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومن علم شيئا من الأشياء ، ولم يكن قد أشهد عليه ، ثم دعي إلى أن يشهد ، كان بالخيار في إقامتها ، وفي الامتناع منها ، اللّهم إلا أن يعلم أنّه إن لم يقمها بطل حقّ مؤمن ، فحينئذ يجب عليه إقامة الشهادة (1) ، ولا يجوز للشاهد ، أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة ، كما لا يجوز له كتمانها ، وقد دعي إلى إقامتها ، إلا أن يكون إقامتها تودي إلى ضرر على المشهود عليه لا يستحقه ، على ما قدّمناه ، فإنّه لا يجوز له حينئذ إقامة الشهادة ، وإن دعي إليها ، أو يكون فيما قلنا أنّه لا يجوز للشاهد أن يشهد قبل أن يسأل عن الشهادة ، ترك شهادته يبطل حقا قد علمه فيما بينه وبين اللّه تعالى ، فيجوز له ، بل يجب عليه أن يشهد به ، قبل أن يسأل عن الشهادة.

وشيخنا في النهاية قد أورد المسألتين ، واستثنى استثناءين عقيبهما ، فيهما التباس وإيهام ، لأنّ استثناء المسألة الأولة عقيب المسألة الثانية ، واستثناء المسألة الثانية عقيب (2) المسألة الأوّلة ، فلا يفهم بأوّل خاطر ، بل يحتاج إلى تأمل ، ورد الاستثناء الأوّل إلى المسألة الأولة ، ورد الاستثناء الأخير إلى المسألة الثانية ، وقد زال الالتباس والإبهام ، فكم من معنى ضاع ، لقصور العبارة ، ولسوء الإشارة ، فاني شاهدت جماعة من أصحابنا يلتبس هذا عليهم كثيرا ، وهذا سهل على المتأمّل المحصل لمعاني الخطاب ، وكلام العرب فإنّهم يلقون الجملتين المختلفتين ، ثم يرمون بتفسيرهما جملة ، ثقة بأن يردّ السامع إلى كلّ جملة خبرها ، كقوله تعالى ( وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ ) (3) والسكون باللّيل ، وهو عقيب النهار.

ص: 133


1- النهاية : كتاب الشهادة ، باب كيفية الشهادة وكيفية إقامتها.
2- ج : عقيب استثناء.
3- القصص : 73.

باب شهادة الولد لوالده وعليه والوالد لولده وعليه والمرأة لزوجها وعليه ، والزوج لزوجته وعليها

لا بأس بشهادة الوالد لولده وعليه ، مع غيره من أهل الشهادة ، ولا بأس بشهادة الولد لوالده ، ولا يجوز شهادته عليه.

وقال السيد المرتضى في انتصاره يجوز أيضا شهادته عليه (1) والأول هو المذهب ، وعليه العمل ، والإجماع منعقد عليه ، ولا اعتبار بخلاف من يعرف باسمه ونسبه.

ولا بأس بشهادة الأخ لأخيه وعليه ، إذا كان معه غيره من أهل الشهادات.

ولا بأس بشهادة الرجل لامرأته وعليها ، إذا كان معه غيره من أهل العدالة.

ولا بأس بشهادتها له وعليه ، فيما يجوز قبول شهادة النساء فيه ، إذا كان معها غيرها من أهل العدالة ، وقولنا في جميع ذلك إذا كان معه غيره من أهل العدالة ، على ما أورده بعض أصحابنا ، وإلا إذا لم يكن معه غيره ، يجوز أيضا شهادته له ، مع يمين المدّعي فيما يجوز قبول شهادة الشاهد الواحد مع اليمين.

ويجوز شهادات ذوي الأرحام والقرابات ، بعضهم لبعض ، إذا كانوا عدولا إلا ما استثنيناه ، والسيد المرتضى رحمه اللّه قال من غير استثناء لأحد ، على ما حكيناه عنه قبل هذا.

فإن قيل : وما بالكم استثنيتم.

قلنا : قد دللنا على أن الإجماع منعقد على ذلك.

فإن قيل : فأين أنتم من قوله تعالى ( وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ ) (2).

ص: 134


1- الانتصار : مسائل القضاء والشهادات .. المسألة 3.
2- النساء : 135.

قلنا : قد يخص العموم بالأدلة ، وإجماعنا من أعظم الأدلة ، وأقواها ، ويمكن أن يعطى الظاهر حقّه ، ونقول يجب على الولد أن يقيم الشهادة على والده ، ولا يجوز للحاكم أن يعمل بها ، كما أنّ الفاسق إذا دعي لإقامة شهادة يشهد بها ، فإنّه يجب عليه أن يقيمها ، ويجب على الحاكم أن لا يعمل بها.

باب شهادة العبيد والإماء والمكاتبن والصبيان وأحكامهم

لا بأس بشهادة العبيد إذا كانوا عدولا ، لساداتهم ، ولغير ساداتهم ، وعلى غير ساداتهم ، ولا يجوز شهادتهم على ساداتهم.

وذهب أبو عليّ بن الجنيد من أصحابنا إلى المنع من شهادة العبيد على كلّ حال.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في استبصاره إلى أن العبد لا تقبل شهادته لسيده ولا عليه (1) ، وإن كان قائلا بما اختبرناه في نهايته (2) ، وهو الصحيح ، والإجماع منعقد من أصحابنا على ما قلناه أولا ، ولا اعتبار بخلاف ابن الجنيد لما قدّمناه.

وإذا شهد ، العبد على سيده بعد أن يعتق ، قبلت شهادته عليه.

وإذا أشهد رجل عبدين له على نفسه بالإقرار بوارث ، فردّت شهادتهما ، وحاز الميراث غير المقر له ، فأعتقهما ، أو لحقهما العتاق بعد ذلك ، ثم شهدا للمقر له ، قبلت شهادتهما له ، ورجع بالميراث على من كان أخذه وحازه ، ورجعا عبدين لمن شهدا له.

فإن قيل : أنتم قلتم لا يقبل شهادة العبيد على ساداتهم ، وهاهنا قد قبلتم شهادتهم على سيدهم.

قلنا : معاذ اللّه انّما شهدا في حال الحرية ، دون العبوديّة ، فوقت شهادتهما ، لم

ص: 135


1- الاستبصار : الباب 11 من الشهادات.
2- النهاية : باب شهادة العبيد والإماء ..

يكن لهما سيد يشهدان عليه ، وانّما تجدد الرق بعد شهادتهما ، بل إن قيل شهدا لسيدهما الحقيقي ، كان صحيحا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن ذكرا أنّ مولاهما كان أعتقهما في حال ما أشهدهما ، لم يجز للمقر له أن يردهما في الرق ، ويقبل شهادتهما في ذلك ، لأنّهما أحييا حقّه (1).

وهذا غير واضح ولا مستقيم ، لأنّ هذه الشهادة الأخيرة تكون شهادة (2) على سيدهما ، وقد بيّنا أنّه لا يجوز شهادة العبيد على ساداتهم ، بغير خلاف بين أصحابنا ، وإن كان قد ذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره متأولا للأخبار ، إلى أنّ شهادة العبيد لا تقبل لساداتهم ، وهذا أيضا غير مستقيم ولا واضح ، بل الإجماع منعقد على جواز شهاداتهم لساداتهم ، وهو موافق لهذا القول في نهايته ، فلا يلتفت إلى قوله الذي يخالف فيه الإجماع.

ولا بأس بشهادة المكاتبين والمدبرين ، وتقبل شهادة المكاتبين المطلقين ، بمقدار ما عتقوا ، بفتح العين ، يقال عتق العبد في نفسه ، وأعتقه غيره على ساداتهم ، ولي فيه نظر.

فأمّا شهادة المدبرين ، فحكمهم حكم العبيد في الشهادات ، حرفا فحرفا.

وكل من ذكرنا من العبيد والمكاتبين والمدبرين ، تقبل شهاداتهم على أهل الإسلام ، إلا من استثنيناهم من ساداتهم ، ولأهل الإسلام ، ولمن خالف الإسلام ، من الأحرار والعبيد ، في سائر الحقوق والحدود ، وغير ذلك مما تراعى فيه الشهادة.

وتجوز شهادة الصبيان دون الصبايا ، إذا بلغوا عشر سنين فصاعدا ، إلى أن يبلغوا في شيئين فحسب ، الشجاج والقصاص ، ويؤخذ بأوّل كلامهم ، ولا يؤخذ بآخره ، ولا تقبل شهادتهم فيما عدا ذلك من جميع الأحكام.

ص: 136


1- النهاية : باب شهادة العبيد والإماء ..
2- ج : تكون شهادتهما.

وإذا أشهد الصبي على حق ثم بلغ وعدل ، وذكر ذلك ، جاز له أن يشهد بذلك ، وقبلت شهادته ، إذا كان من أهلها ، على ما قدّمناه.

باب شهادة النساء

شهادة النساء على ثلاثة أضرب : ضرب لا يجوز قبولها على وجه ، وضرب يجوز قبولها إذا انضم شهادة الرجال إليهن وضرب يجوز قبولها ، وإن لم ينضم شهادة الرجال إليهن.

فالأول رؤية الأهلّة ، والطلاق ، والرضاع ، على ما قدّمناه أولا ، وذكرناه ، فإنّه لا يجوز قبول شهادة النساء في ذلك ، وإن كثرن.

والثاني فكالرجم ، فإنّه إذا شهد ثلاثة رجال وامرأتان ، على رجل بالزنا ، قبلت شهادتهم ، ووجب على المشهود عليه الرجم ، إن كان محصنا.

وإن شهد رجلان وأربع نسوة بذلك ، قبلت أيضا ، إلا أنّه لا يرجم المشهود عليه ، إن كان محصنا بل يحد حدّ الزاني غير المحصن.

فإن شهد رجل وست نساء أو أكثر منهن ، لم يجز قبول شهادتهم ، وجلدوا كلهم حد الفرية.

وإذا شهد أربعة رجال على امرأة بالزنا ، وانّ الفعل كان في قبلها ، فادّعت انّها بكر ، أمر النساء بأن ينظرن إليها ، فإن كانت كما قالت ، درئ عنها الحد ، وجلد الأربعة حدّ الفرية ، وإن لم يكن كذلك ، رجمت ، أو حدّت على ما يوجبه حالها ، فأمّا أن يشهد الأربعة رجال ، بأنّ الفعل كان في دبرها ، فدعواها غير نافعة لها ، وإن شهد لها بما ادّعت.

وشيخنا أطلق ذلك في نهايته إطلاقا (1) والأولى تقييده على ما حررناه.

ويجوز شهادتهن منضمات إلى الرجال ، في القتل ، والقصاص ، إذا كان

ص: 137


1- النهاية : كتاب الشهادات ، باب شهادة النساء.

معهن رجال ، فأمّا إن كان رجل واحد معهن ، بأن يشهد رجل وامرأتان ، على رجل بالقتل ، أو الجراح ، فقد ذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته إلى قبولها (1).

والذي يقوى في نفسي خلاف ذلك ، وانّها غير مقبولة ، لأنّه لا دليل عليه من إجماع ، ولا كتاب ، ولا سنة مقطوع بها.

فأمّا شهادتهن على ذلك على الانفراد ، فإنّها لا تقبل على حال.

فأمّا قول شيخنا في نهايته ، على ما أوردناه عنه إذا كان معهن رجال ، فلا وجه لانضمامهن إليهم في ذلك ، لأنّ الرجال يكفون ، ولا حاجة في تصحيح الشهادة وإتمامها بهن.

وتقبل شهادتهن في الديون مع الرجال ، بغير خلاف ، على ما نطق به القران (2) ، وعلى الانفراد عند بعض أصحابنا ، فإن شهد رجل وامرأتان بدين ، قبلت شهادتهم ، فإن شهد امرأتان ، قبلت شهادتهما ، ووجب على الذي يشهد ان له اليمين كما تجب اليمين ، إذا شهد له رجل واحد ، عند بعض أصحابنا على ما قدمناه.

فأمّا ما يقبل فيه شهادة النساء على الانفراد ، فكل ما لا تستطيع الرجال النظر اليه ، مثل العذرة والأمور الباطنة بالنساء.

وتقبل شهادة القابلة وحدها ، إذا كانت بشرائط العدالة ، في استهلال الصبي ، في ربع ميراثه بغير يمين.

وتقبل شهادة امرأة واحدة في ربع الوصية ، وشهادة امرأتين ، في نصف ميراث المستهل ، ونصف الوصية ، ثم على هذا الحساب ، وذلك لا يجوز إلا عند عدم الرجال ، وعلى المسألتين إجماع أصحابنا ، فلأجله قلنا بذلك.

ولا يجوز شهادة النساء في شي ء من الحدود ، إلا ما قلناه ، من حدّ الزنا ، والدم خاصّة ، لئلا يبطل دم امرء مسلم ، غير أنّه لا يثبت بشهادتهن القود ،

ص: 138


1- النهاية : كتاب الشهادات ، باب شهادة النساء.
2- البقرة : 282.

ويجب بها الدّية على الكمال ، عند من ذهب إليه على ما حكيناه.

ولا تقبل شهادة النساء في عقد النكاح ، واليه ذهب شيخنا المفيد في مقنعته (1).

وذهب شيخنا أبو جعفر في الاستبصار إلى قبول شهادتهن في عقود النكاح (2) ، والذي قلناه ، واخترناه ، هو الذي تقتضيه أصول مذهبنا ، لأنّه أمر شرعيّ يحتاج إلى أدلّة شرعية على ثبوته.

باب شهادة من خالف الإسلام

لا يجوز قبول شهادة من خالف الإسلام ، على المسلمين ، لا في حال الاختيار ، ولا حال الاضطرار ، إلا في الوصيّة بالمال ، في حال الاضطرار خاصّة ، دون سائر الأحكام ، لقوله تعالى ( أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ) (3).

ويجوز شهادة المسلمين عليهم ولهم ، وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويجوز شهادة بعضهم على بعض ، ولهم ، وكل ملة على أهل ملته خاصّة ، ولهم ، ولا يقبل شهادة أهل ملة منهم لغيرهم ، ولا عليهم ، إلا المسلمين خاصة حسب ما قدّمناه ، فإنه يقبل شهادتهم لهم وعلى غيرهم ، من أصناف الكفار ، وتقبل لهم إذا كانوا أهل كتاب ، في أحكام المسلمين في الوصيّة بالمال خاصة ، حسب ما قدّمناه (4).

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة خلاف ما ذهب إليه في نهايته ، وهو أن قال : لا خلاف أنّ شهادة أهل الذمة لا تقبل على المسلمين ، إلا ما ينفرد به أصحابنا في الوصيّة خاصّة ، في حال السفر عند عدم المسلم ، قال : فأمّا قبول شهادة بعضهم على بعض ، فقال قوم : لا تقبل بحال ، لا على مسلم ولا على مشرك ، اتفقت ملّتهم ، أو اختلفت ، وفيه خلاف ، قال رحمه اللّه : ويقوى في

ص: 139


1- المقنعة : باب البيّنات ص 727.
2- الاستبصار : كتاب الشهادات ، الباب 17 ، باب ما يجوز شهادة النساء فيه وما لا يجوز.
3- المائدة : 106.
4- النهاية : كتاب الشهادات ، باب شهادة من خالف الإسلام.

نفسي أنّه لا تقبل بحال ، لأنّهم كفار فساق. ومن شرط الشاهد أن يكون عدلا (1) قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : وهذا الذي يقوى أيضا في نفسي ، واعتقده مذهبا ، أدين اللّه تعالى به ، واعمل عليه ، وأفتي به ، لأنّ الإجماع من المسلمين منعقد عليه ، وهو قبول شهادة العدول ، وقد بيّنا أن العدل من لا يخلّ بواجب ، ولا يرتكب قبيحا ، وقوله تعالى ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (2) وفيما عدا هذا خلاف ، ودليل الاحتياط يقتضيه ، فلو اقتصرنا عليه لكفى ، وأيضا فليس على خلاف ما اخترناه دليل من إجماع ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا كتاب ، وعلى ما اخترناه الإجماع ، والكتاب ، والسنّة ، فلا يرجع عن المعلوم الى المظنون ، ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد ، فإنّها لا توجب علما ولا عملا على ما ذكرنا القول في ذلك.

والذمي إذا اشهد على أمر من الأمور ، ثم أسلم ، جاز قبول شهادته ، على المسلمين والكافرين ، إذا كان بشرائط العدالة ، وكذلك جميع الكفار.

باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين وحكم القسامة

يقبل (3) الشاهد الواحد ، مع يمين المدّعي في كل ما كان مالا ، أو المقصود منه المال ، وقال شيخنا في نهايته : إذا شهد لصاحب الدين شاهد واحد ، قبلت شهادته ، وحلف مع ذلك ، وقضي له به ، وذلك في الدين خاصة (4).

ورجع عن هذا القول في استبصاره (5) ، ومسائل خلافه (6) ، ومبسوطة (7) وهو الصحيح الحق اليقين ، لأنّه مذهب جميع أصحابنا.

ص: 140


1- المبسوط : كتاب الشهادات ، فصل فيما يجب على المؤمن من القيام بالشهادة.
2- الطلاق : 2.
3- ل : تقبل شهادة الشاهد.
4- النهاية : باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين والقسامة.
5- الاستبصار : الباب 18 فيما تجوز فيه شهادة الواحد مع يمين المدعي.
6- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 7.
7- المبسوط : ج 8 فصل في الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين ، ص 189.

ولا بدّ في ذلك من الترتيب ، وهو أن يشهد الشاهد أوّلا ، ثمّ يحلف المدّعي بعد ذلك ، فإن حلف قبل شهادة الشاهد لا يعتد بذلك.

فإن قال من أقام الشاهد : لست أختار اليمين مع الشاهد ، ولا أضم إليه شاهدا آخر ، واختار مطالبة المدّعي عليه باليمين ، كان له ذلك ، فإن اختار الاستحلاف ، نظرت ، فإن اختار أن يسترد ما بذله ، ويحلف هو ، لم يكن له ذلك ، لأنّ من بذل اليمين لخصمه ، لم يكن له أن يستردها إلى نفسه بغير رضاه وإن اختار أن يقيم على ذلك ، ويستحلف المدّعى عليه ، كان له ، فإذا فعل هذا ، لم يخل المدّعى عليه من أحد أمرين ، إما أن يحلف ، أو ينكل ، بضم الكاف ، فإن احلف أسقط (1) دعوى المدّعي ، وإن لم يحلف فقد نكل ، وحصل مع المدّعي نكول وشاهد ، وهل يقضي بنكوله مع شاهد المدّعي؟ فعندنا أنّه لا يحكم به عليه.

فإذا تقرر أنّه لا يحكم عليه بمجرّد النكول ، فهل تردّ اليمين على المدعي أم لا؟ قال بعض المخالفين لمذهبنا : لا ترد عليه ، لأنّها يمين بذلها لخصمه ، فإذا عفا عنها لم تعد إلى باذلها ، كيمين المدّعى عليه ، إذا بذلها للمدّعي ، ثم عفا عنها ، فإنّها لا تعود إلى باذلها.

وقال قوم : ترد إليه ، وهذا هو الصحيح الذي يقتضيه مذهبنا ، لأنّ هذه غير تلك ، فانّ هذه يمين الرد ، يقضي بها في الأموال وغيرها ، وتلك يمينه مع الشاهد ، لا يقضي بها في غير الأموال ، وسببها غير سبب تلك ، فانّ سببها نكول المدّعى عليه.

إذا ادّعى على رجل أنّه سرق نصابا من حرز ، وأقام به شاهدا واحدا ، حلف مع شاهده ، ولزم الغرم ، دون القطع ، لأنّ السرقة توجب شيئين ، غرما

ص: 141


1- ج : أسقط.

وقطعا ، والغرم يثبت بالشاهد واليمين ، دون القطع.

وأمّا القتل ، فإن كان يوجب مالا ، فإنّه يثبت بالشاهد واليمين عمدا كان أو خطا وإن كان عمدا يوجب القود ، فإذا كان له شاهد واحد ، كان لوثا ، وكان له أن يحلف مع شاهده خمسين يمينا ، إذا لم يكن له من يحلف من قومه ، فإذا حلف ، ثبت القتل ، وعندنا يوجب القود.

ومن وقف وقفا على قوم ، انتقل ملكه عن الواقف وإلى من ينتقل ، قال قوم من المخالفين : إلى الموقوف عليه ، وهو الذي يقتضيه مذهبنا ، وقال قوم منهم : ينتقل إلى اللّه لا إلى مالك.

فإذا ثبت ذلك فادّعى على رجل انّه وقف عليه هذه الدار وقفا مؤبدا ، وأقام به شاهدا واحدا ، فهل يثبت بالشاهد واليمين أم لا؟ فمن قال : ينتقل إلى الموقوف عليه ، قال : يثبت بالشاهد واليمين ، لأنّه نقل ملك من مالك إلى مالك ، ومن قال ينتقل إلى اللّه ، لا إلى مالك ، قال : لا يثبت إلا بشاهدين ، لأنّه إزالة ملك إلى اللّه تعالى ، كالعتق ، وانّما قلنا أنّه ينتقل إلى الموقوف عليه ، لأنّ جميع أحكام الملك باقية عليه بحالها ، بدليل أنّه يضمن باليد وبالقيمة ، وتتصرف فيه (1) وعند بعض أصحابنا يجوز بيعه على وجه.

ولا يجوز قبول شهادة واحد ، والحكم بها في الهلال ، والطلاق ، والحدود ، والقصاص ، وغير ذلك من الأحكام.

والقسامة لا تقبل إلا في الدماء خاصة.

والقسامة عند الفقهاء كثرة اليمين ، فالقسامة من القسم ، وسميت قسامة لتكثير اليمين فيها ، وقال أهل اللغة : القسامة عبارة عن أسماء الحالفين (2) من أولياء المقتول ، فعبر بالمصدر عنهم ، وأقيم المصدر مقامهم ، يقال أقسمت أقسم أقساما وقسامة ، فأيهما كان ، فاشتقاقه من القسم ، الذي هو اليمين.

ص: 142


1- ل : يضمن باليد ويتصرف فيه.
2- ج : المحالفين.

إذا ادّعى الرجل دما على قوم ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون معه أمارة تدل على صدق ما يدعيه ، أو لا تكون ، فإن لم يكن معه ذلك ، فالقول قول المدعى عليه مع يمينه ، فإن حلف بري ء ، وإن لم يحلف ، رددنا اليمين على المدّعي ، فيحلف ، ويستحق ما ادّعاه ، إن كان قتلا عمدا استحق القود عندنا ، وإن كان غير عمد استحق الدية ، ولا فصل بين هذا وبين سائر الدعاوي ، إلا في صفة اليمين ، فانّ الدعوى إذا كانت قتلا ودما ، فهل تغلظ الأيمان فيه أم لا؟ قال قوم : تغلظ ، وقال آخرون : لا تغلظ ، وهو الأظهر.

وإن كان معه أمارة تدل على دعواه ، ويشهد القلب بصدق ما يدعيه ، وهذا يسمى لوثا ، بفتح اللام ، وتسكين الواو ، والثاء المنقطة بثلاث نقط ، مثل أن يشهد معه شاهد واحد ، أو وجد القتيل في برية ، والقتيل طري ، والدم جار ، وبالقرب منه رجل معه سكين عليها دم ، والرجل ملوث بالدم ، أو وجد في قرية لا يدخلها غير أهلها ، وهكذا لو وجد في دار فيها قوم ، قد اجتمعوا على أمر من طعام أو غيره ، فوجد قتيل بينهم ، فهذا لوث ، فالظاهر أنّهم قتلوه.

فمتى كان مع المدّعي لوث ، فالقول قوله ، يبدأ به باليمين ، ويحلف خمسين يمينا ، إن كان القتل عمدا ، وخمسا وعشرين يمينا ، إن كان خطأ ، فإن حلف على قتل عمد محض ، عندنا يقاد المدّعى عليه به.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وصفة القسامة أنّه إذا لم يوجد في الدم رجلان عدلان ، يشهدان بالقتل ، فأحضر ولي المقتول خمسين رجلا من قومه ، يقسمون (1) باللّه تعالى ، على أنّه قتل صاحبهم ، فإذا حلفوا ، قضي لهم بالدية ، فإذا حضر دون الخمسين ، حلف ولي الدم باللّه ، من الأيمان ما يتم بها الخمسين ، وكان له الدية ، فإذا لم يكن له أحد يشهد له ، حلف هو خمسين يمينا ، ووجبت له الدية (2).

ص: 143


1- ج : رجلا يقسمون.
2- النهاية : باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين والقسامة.

والصحيح أن له القود.

وقد رجع شيخنا عن هذا القول ، إلى ما اخترناه ، في الجزء الثاني من كتاب النهاية (1) ، وقال بما قلناه ، وكذلك في مسائل خلافه (2) ، ومبسوطة (3).

ولا يكون القسامة إلا مع التهمة للمطالب بالدم ، والشبهة في ذلك ، على ما بيّناه وسمّيناه لوثا.

والقسامة فيما دون النفس تكون بحساب ذلك ، وسنبين أحكامها في كتاب الديات عند المصير اليه إن شاء اللّه تعالى.

باب شهادات الزور

لا يجوز لأحد أن يشهد بالزور ، وبما لا يعلم ، في أي شي ء كان ، قليلا كان أو كثيرا ، وعلى من كان موافقا ، محقا ، أو مخالفا مبطلا ، فمتى شهد بذلك أثم ، واستحقّ من اللّه تعالى اليم العقاب ، وكان ضامنا.

فإن شهد أربعة رجال على رجل بالزنا ، وكان محصنا ، فرجم ، ثم رجع أحدهم ، فقال : تعمدت ذلك ، قتل ، وأدّى الثلاثة الشهود ، إلى ورثة الشاهد المقتول ، الذي رجع عن شهادته ، وقال تعمدت ، ثلاثة أرباع الدية ، على ما روي في بعض أخبارنا (4) ، وقد أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (5).

والذي يقوى في نفسي ، انّ إقراره جائز على نفسه ، لا يتعداه إلى غيره ، ولا ينقض الحكم ، لأنه لا دليل عليه ، من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، وانّما ذلك ورد من طريق أخبار الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملا.

قال شيخنا في نهايته : فإن قال : أوهمت ، الزوم ربع الدية (6) وإن رجع

ص: 144


1- النهاية : باب البينات على القتل ، ولفظ النهاية هكذا : أو أقاموا القسامة وجب على المدعى عليه ان كان القتل عمدا اما القود أو الدية حسب ما يتراضيان عليه.
2- الخلاف : كتاب القسامة المسألة 2.
3- المبسوط : ج 7 ، كتاب القسامة ، ص 212.
4- الوسائل : الباب 12 من أبواب الشهادات.
5- النهاية : باب شهادة الزور.
6- النهاية : باب شهادة الزور ، وما بعده الى قوله : « وإن اختار » زائد على كلام النهاية.

اثنان ، وقالا : أوهمنا ، ألزما نصف الدية ، وإن قالا : تعمدنا ، وأراد أولياء المقتول بالرجم ، أن يقتلهما جميعا قتلهما وأدّى إلى ورثتهما دية كاملة ، يتقاسمان بينهما على السواء ، ويؤدي الشاهدان الآخران ، على ورثتهما نصف الدية ، يعني نصف الف دينار ، التي هي دية كاملة للرجل الحر ، فتحصل مع ورثة كل واحد من الشاهدين المقتولين ، سبعمائة وخمسون دينارا لأنّه يسقط من دية كل واحد منهما ، بقدر نصيبه ، لو طالب ورثة المقتول الأول ، المشهود عليه الشهود الأربعة بالدية وكان يجب على كل واحد منهم مائتان وخمسون دينارا.

وإن اختار أولياء المقتول قتل واحد منهما ، كان لهم قتله ، وأدّى الآخر مع الباقين من الشهود ، على ورثة الشاهد المقتول الثاني ، ثلاثة أرباع ديته ، وسقط بمقدار حصته ، لو طولبوا بالدية على ما قررناه ، وحررناه.

وإن رجع الكل عن شهادتهم ، كان حكمهم حكم الاثنين سواء.

كل ذلك على ما أورده شيخنا في نهايته على ما حكيناه عنه (1) من طريق أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، من أن إقرار المقر جائز على نفسه ، لا يتعداه إلى غيره في سائر الأحكام الشرعيات.

وإن شهد رجلان على رجل بطلاق امرأته ، وكان قبل الدخول بها ، ثم رجعا ، وجب عليهما نصف المهر الذي شهدا عليه بالطلاق ، وإن كان بعد الدخول بها ، فلا شي ء عليهما من المهر ، لا نصفه ولا جميعه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن أوجب عليها شيئا ، فعليه الدلالة ، وليس خروج البضع عن ملك الزوج (2) له قيمة ، كما لو أتلفا عليه ما لا قيمة له ، فلا يلزمهما الضمان.

وأمّا قبل الدخول فيلزمه نصف المهر ، فيجب أن يغرماه له ، لأنّهما غرماه إيّاه ، وأتلفاه بشهادتهما ، فليلحظ الفرق بين الموضعين.

وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في مسائل خلافه (3).

ص: 145


1- النهاية : باب شهادة الزور.
2- ج : عن الزوج.
3- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 78.

وقال رحمه اللّه في نهايته : وإن شهد رجلان على رجل ، بطلاق امرأته ، فاعتدت وتزوّجت ، ودخل بها ، ثم رجعا ، وجب عليهما الحدّ ، وضمنا المهر للزوج الثاني ، وترجع المرأة إلى الأول بعد الاستبراء بعدة من الثاني (1).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : قوله ويضربان الحد ، يريد بذلك التعزير ، فسمّاه حدّا ، لأنه لا يجب على كل واحد منهما حدّ كامل ، لكنّهما شاهدا زور ، فيعزران بحسب ما يراه الإمام عليه السلام ، أو الحاكم من قبله.

وقوله : يرجع إلى الأوّل فيه نظر ، لأنّهما إذا شهدا بالطلاق عند الحاكم ، كانا عنده وقت شهادتهما بشرائط العدالة ، وحكم بشهادتهما ، وأمضى الحكم ، وتزوّجت المرأة بحكمه.

وقوله : فلا تأثير لرجوعهما ، ولا ينقض الحكم برجوعهما ، بل يغرمان ما أتلفا وضيعا ، بشهادتهما من الأموال ، ولا ينقض الحاكم ما حكم به ، ولا يرجع على المشهود له بشي ء ممّا شهدا له به.

هذا حكم سائر في جميع الأشياء ، مجمع عليه عند أصحابنا ، وإليه يذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (2) ، ومبسوطة (3).

قال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا شهد شاهدان بحق ، وعرفت عدالتهما ، وحكم الحاكم ، واستوفى الحق ، ثم رجعا عن الشهادة ، لم ينقض حكمه ، وبه قال جميع الفقهاء ، وقال سعيد بن المسيب ، والأوزاعي ينقضه ، قال : دليلنا انّ الذي حكم به مقطوع به بالشرع ، ورجوعهما يحتمل الصدق والكذب ، فلا ينقض به ما قد قطع عليه ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مسائل الخلاف.

قال محمد بن إدريس : وطلاق هذه المرأة مقطوع عليه ، وتزويجها مأمور به ، محكوم بصحة العقد ، بغير خلاف ، فلا يرجع عن هذا المقطوع عليه ، المحكوم ، بصحته شرعا ، بأمر مظنون ، وهو رجوعهما إليه ، لأنّه يحتمل الصدق والكذب ، والحق

ص: 146


1- النهاية : باب شهادة الزور.
2- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 75.
3- المبسوط : ج 8 ، فصل في الرجوع عن الشهادة ، ص 247.

والباطل ، فلا ينقض به ما قد قطع عليه وحكم بصحته شرعا.

وما أورده في نهايته رحمه اللّه ، خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، ذكره في استبصاره (1) ، وأورد خبرا آخر ، وتأوّله ، والخبر الذي أورده ليقضي به ، على ما اختلف عليه من الأخبار ، ليس فيه أنّهما رجعا جميعا ، أعني الشاهدين على ما أورده في نهايته ، بل فيه : وأكذب نفسه أحد الشاهدين ، فإذا كان هذا الاختلاف والتأويل في الخبر ، ولا إجماع معنا ، ولا كتاب اللّه سبحانه ، ولا أخبار متواترة ، ولا سنة مقطوع بها ، بل إجماعنا منعقد على ما قررناه ، من أن الحاكم لا ينقض حكمه إذا حكم برجوع الشهود ، فلا يعدل عن الدليل إلى غيره ، لأنّه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

فإن شهدا بسرقة ، فقطع المشهود عليه ثم رجعا ، ألزما دية يد المقطوع ، فإن رجع أحدهما ، الزم نصف دية يده ، هذا إذا قالا : وهمنا في الشهادة ، فإن قالا : تعمدنا ، قطع يد واحد منهما بيد المقطوع ، وأدّى الآخر نصف دية اليد على المقطوع الثاني ، وإن أراد المقطوع الأوّل المشهود عليه ، أن يقطعهما ، قطعهما ، وأدّى إليهما دية يد واحدة ، يتقاسمان بها بينهما على السواء.

وكذلك إن شهدا على رجل بدين ، ثمّ رجعا ، ألزما مقدار ما شهدا به ، فإن رجع أحدهما ، ألزم بمقدار ما يصيبه من الشهادة ، وهو النصف.

ومتى شهدا على رجل ، ثم رجعا قبل أن يحكم الحاكم ، طرحت شهادتهما ، ولم يلزما شيئا ، بل يتوقف الحاكم عن إنفاذ الحكم ، وإن كان رجوعهما بعد حكم الحاكم ، غرّما ما شهدا به ، سواء كان الشي ء قائما بعينه ، أو لم يكن كذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : غرما ما شهدا به ، إذا لم يكن الشي ء قائما بعينه ، فإن كان الشي ء قائما بعينه ، ردّ على صاحبه ، ولم يلزما شيئا (2).

ص: 147


1- الإستبصار : الباب 21 من كتاب القضايا والأحكام.
2- النهاية : باب شهادة الزور.

وقد دللنا على صحّة ما ذهبنا إليه قبل هذا بلا فصل ، حين قلنا انّ إجماع أصحابنا منعقد على أنّه إن رجع الشهود بعد حكم الحاكم (1) فلا يلتفت إلى رجوعهما ، فيما حكم به ، ولا ينقض حكمه ، لأنّ حكمه مقطوع من جهة الشرع على صحته ، ورجوعهما يحتمل الصدق والكذب ، فلا يرجع عن أمر مقطوع على صحّته ، بأمر مشكوك فيه محتمل.

وقد رجع شيخنا عما ذكره في نهايته ، في مسائل خلافه (2) ، ومبسوطة ، فقال في مبسوطة : فصل ، في الرجوع عن الشهادة ، إذا شهد الشهود عند الحاكم بحق ، فعرف عدالتهم ، ثمّ رجعوا ، لم يخل من ثلاثة أحوال ، إمّا أن يرجعوا قبل الحكم أو بعده وقبل القبض ، أو بعد الحكم والقبض معا ، فإن رجعوا قبل الحكم لم يحكم بلا خلاف إلا أبا ثور ، فإنّه قال : يحكم به ، والأول أصح ، وإن رجعوا بعد الحكم وقبل القبض ، نظرت ، فإن كان الحق حدّا لله ، كالزنا والسرقة ، وحدّ الخمر ، لم يحكم بها ، لأنّها حدود تدرأ بالشبهات ، ورجوعهم شبهة ، وإن كان حقا لآدمي ، سقط بالشبهة ، كالقصاص ، وحدّ القذف ، لم يستوف لمثل ذلك ، وأمّا إن رجعوا بعد الحكم وبعد الاستيفاء أيضا ، لم ينقض حكمه ، بلا خلاف ، إلا سعيد بن المسيب ، والأوزاعي ، فإنّهما قالا : ينقض ، والأول أصح ، قال : فإذا ثبت أنّ الحكم لا ينقض ، فانّ المستوفي قد قبض الحق ، فلا اعتراض عليه.

وما الذي يجب على الشهود ، قال رحمه اللّه : لا يخلو المستوفى من ثلاثة أحوال ، إمّا أن يكون إتلافا مشاهدة كالقتل ، والقطع ، أو حكما كالطلاق والعتق ، أو لا مشاهدة ولا حكما ، كنقل المال من رجل إلى آخر ، قال : وإن شئت قلت : لا يخلو أن يكون إتلافا أو في حكم الإتلاف ، أو خارجا عنهما ، ثم ذكر رحمه اللّه رجوعهما عن الشهادة ، بالقتل ، والقطع في السرقة ، وشرحه ، ثم

ص: 148


1- ج : بعد الحكم.
2- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 74.

ذكر رجوعهما عن الطلاق ، وإلزامهما المهر ، وشرحه ، وقال : إمّا أن يكون قبل الدخول ، أو بعده ، فإن كان بعد الدخول ، فلا مهر عليهما ، وإن كان قبل الدخول ثمّ رجعا ، فانّ الحاكم لا ينقض حكمه ، وعليهما الضمان لنصف المهر المسمّى ، ولم يتعرض لما ذكره في نهايته ، من رجوعهما إلى الزوج الأول ، بل قال :

فإنّ الحاكم لا ينقض حكمه ، فإذا حرّمها الحاكم على الثاني ، ورجّعها إلى الأول ، على ما قال في نهايته ، فقد نقض حكمه.

ثمّ قال بعد ذلك رحمه اللّه : فأمّا إذا لم يكن إتلافا مشاهدة ولا حكما ، وهو أن شهدا بدين ، وحكم بذلك عليه ، ثم رجعا ، فهل عليهما الضمان للمشهود عليه ، أم لا؟ قال قوم : لا ضمان عليهما ، وقال آخرون : عليهما الضمان ، وكذلك قالوا فيمن أعتق عبدا في يده ، أو وهبه وأقبضه ، ثمّ ذكر أنّه كان لزيد ، فهل عليهما قيمته (1) لزيد؟ على قولين ، لأنّه أقرّ به بعد ان فعل ما حال بينه وبينه بغير حق ، قال رحمه اللّه : والأقوى عندي أنّ عليهما الضمان للمشهود عليه ، وكذلك تلزم القيمة للمعتق لعبده ، لمن أقرّ له به هذا آخر ما ذكره شيخنا رحمة اللّه عليه في مبسوطة (2) فأوردته ، لأنّه كلام سديد في موضعه ، وجملة نافعة كثيرة الفقه.

وكل موضع رجع فيه الشهود ، نظرت ، فإن ذكروا أنّهم أخطأوا ، فلا تعزير على واحد منهم ، وإن قالوا تعمدنا ، كان عليهم التعزير.

إذا حكم الحاكم بشهادة شاهدين ، ثم بان له أنّه حكم بشهادة من لا يجوز الحكم بشهادته ، نقض الحكم بلا خلاف ، فإن كان حكم بإتلاف ، كالقصاص والقتل والرجم ، فلا قود هاهنا ، لأنّه عن خطأ الحاكم ، وأمّا الدية ، فإنّها على الحاكم عند قوم ، وعند آخرين ، على المزكّين وروى أصحابنا أنّ ما أخطأت الحكام ، فعلى بيت المال (3).

ص: 149


1- ج : عليه قيمته.
2- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، فصل في الرجوع عن الشهادة ، ص 246 - 248.
3- الوسائل : كتاب القضاء ، الباب 10 من أبواب آداب القاضي ، ولفظ الحديث هكذا : « ان ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو علی بيت مال المسلمين».

فأمّا إن حكم بالمال ، نظرت ، فإن كان عين المال باقية ، استردها ، وإن كانت تالفة ، فإن كان المشهود له هو القابض ، وكان موسرا ، غرم ذلك ، وإن كان معسرا ، ضمن الإمام ، حتى إذا يسر رجع الإمام عليه ، والفرق بين هذا وبين الدية ، انّ الحكم إذا كان بالمال ، حصل في يد المشهود له ما يضمن باليد ، فلهذا كان الضمان عليه ، وليس كذلك القتل ، لأنّه ما حصل في يد المشهود له ، ما يضمن باليد ، لأنّ ضمان الإتلاف ليس بضمان اليد ، فلهذا كان الضمان على الإمام في بيت المال.

وإذا شهدا بسرقة على إنسان ، فقطع ، ثمّ جاءا بآخر ، وقالا هذا الذي سرق ، وانما وهمنا على ذلك ، غرما دية اليد ، ولم تقبل شهادتهما على الآخر وانما لم تقبل شهادتهما على الآخر ، وإن لم يحصل فيهما شي ء من أسباب الفسق ، لقلّة ضبطهما وتحقيقهما (1) وتغفلهما ، ولأجل هذا لا يقبل الحاكم شهادة المغفلين ، الذين ليس لهم شدّة عقول ، ولا وفور تحصيل ، وإن كانوا على ظاهر العدالة.

وليس رجوع الشاهدين عن الشهادة ، بموجب للفسق ، ولا لرد شهادتهما على الآخر ، وانّما ردّت لما قلناه.

وينبغي للإمام أن يعزّر شهود الزور ، على ما قدّمناه ، ويشهرهم في أهل محلّتهم وسوقهم ، لكي يرتدع غيرهم عن مثله ، في مستقبل الأوقات والإشهار هو أن ينادي في محلّتهم ومجتمعهم وسوقهم ، فلان وفلان شاهدا زور ، ولا يجوز أن يشهرا بأن يركبا حمارا ويحلق رءوسهما ، ولا أن ينادياهما (2) على أنفسهما ، ولا أن يمثل بهما.

ص: 150


1- ج : تحصيلهما.
2- ل : أن يتأذياهما.

كتاب القضايا والأحكام

اشارة

ص: 151

كتاب القضايا والأحكام

باب آداب القضاء وما يجب أن يكون القاضي عليه من الأحوال

القضاء بين المسلمين جائز ، وربما كان واجبا ، فإن لم يكن واجبا ، ربما كان مستحبا ، قال اللّه تعالى ( يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ ) (1) وقال ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ) (2) وقال : ( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ ) (3).

وقد ذم اللّه تعالى من دعي إلى الحكم (4) ، فأعرض عنه ، فقال ( وَإِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ) (5) ومدح قوما دعوا إليه ، وأجابوا ، فقال ( إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) (6).

وروي عن ابن مسعود أنّه قال : واللّه لأن أجلس يوما ، فأقضي بين الناس ، أحب اليّ من عبادة سنة (7).

وعليه إجماع الأمة ، إلا أبا قلابة فإنّه طلب للقضاء ، فلحق بالشام ، فأقام زمانا ، ثمّ جاء ، فلقيه أيّوب السختياني (8) ، وقال له : لو أنّك وليت القضاء ، وعدلت بين الناس ، رجوت لك في ذلك أجرا ، فقال : يا با أيوب ، السابح إذا

ص: 152


1- ص : 26.
2- النساء : 65.
3- الأنبياء : 78.
4- ج : حكم.
5- النور : 48.
6- النور : 51.
7- سنن البيهقي : كتاب آداب القاضي ، باب فضل من ابتلى بشي ء من الأعمال ( ج 10 ص 19 ) فيه : « كان ابن مسعود يقول : لئن أقضي يوما واوافق فيه الحق والعدل أحبّ إلى من غزو سنة » أو قال : « مائة »
8- ج : أبو أيّوب السجستاني.

وقع في البحر ، كم عسى أن يسبح ، إلا أنّ أبا قلابة رجل من التابعين ، لا يقدح خلافه في إجماع الصحابة ، وقد بيّنا أنّهم أجمعوا ، ولا يمتنع أن يكون امتناعه ، كان لأجل أنّه أحس من نفسه بالعجز ، لأنّه كان من أصحاب الحديث ، ولم يكن فقيها.

وهو من فروض الكفايات ، إذا قام به قوم سقط عن الباقين ، وقد روي عن النبيّ عليه السلام أنّه قال : إن اللّه لا يقدّس امة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه (1).

ولأنّه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وقد روي كراهة تولّي القضاء ، والامتناع ، روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين ، قيل : يا رسول اللّه وما الذبح؟ قال : نار جهنم (2) ، وروي عنه عليه السلام ، أنّه قال : يؤتى بالقاضي العدل. يوم القيامة ، فمن شدة ما يلقاه من الحساب ، يود إن لم يكن قاضيا بين اثنين في تمرة (3).

والوجه في الجمع بين هذه الأخبار ، انّ من كان من أهل العلم بالقضاء (4) ، ويقضي بالحق ، فهو مثاب ، ومن كان من أهل العلم ، لكنّه لا يقضي بحق ، أو كان جاهلا ، لم يحلّ له أن يليه ، وكان مأثوما فيه.

والناس في القضاء على ثلاثة أضرب : من يجب عليه ، ومن يحرم عليه ، ومن يجوز له.

فأمّا من يجب عليه ، فكل من تعيّن ذلك فيه ، وهو إذا كان ثقة من أهل العلم ، لا يجد الإمام غيره.

فأمّا من يحرم عليه ، فأن كان جاهلا ، ثقة كان أو غير ثقة ، أو فاسقا من أهل العلم.

ومن يجوز له ولا يحرم عليه ، مثل أن يكون في المكان جماعة من أهل الفقه والعلم ، فللإمام أن يدعو واحدا عليه ، وقد بيّنا في كتاب الجهاد ، من له أن

ص: 153


1- مستدرك الوسائل : الباب 15 من أبواب آداب القاضي ، ص 8 - 9.
2- مستدرك الوسائل : الباب 3 من أبواب صفات القاضي ، ح 4.
3- مستدرك الوسائل : الباب 15 من أبواب آداب القاضي ، ص 8 - 9.
4- ل : بالفتيا.

يتولى القضاء والأحكام بين الناس ، ومن ليس له ذلك.

والفرق بين الحكم والقضاء ، انّ الحكم ، هو إظهار ما يفصل به بين الخصمين قولا ، والقضاء إيقاع ما يوجبه الحكم فعلا.

وينبغي أن لا يتعرض للقضاء أحد ، حتى يثق من نفسه بالقيام به ، وليس يثق أحد بذلك من نفسه ، حتى يكون عاقلا كاملا عالما بالكتاب ، وناسخه ومنسوخه ، وعامه وخاصه ، وندبه وإيجابه ، ومحكمه ومتشابهه ، عارفا بالسنّة المقطوع بها ، وناسخها ومنسوخها ، وعامّها وخاصّها ، ومطلقها ومقيّدها ، ومجملها ومبيّنها ، عالما باللغة ، مضطلعا أي قيّما بمعاني كلام العرب ، بصيرا بوجوه الإعراب ، لأنّه مبين (1) عن صاحب الشريعة عليه السلام ، فيجب أن يعرف لغته.

روي أنّ رقبة بن مصقلة ، قال لأبي حنيفة الفقيه : ما تقول في رجل ضرب طلته بمرقاق ، فقتلها؟ فقال أبو حنيفة : ما أدري ما تقول ، فقال له : أفتفتي ، ويحك في دين اللّه ، وأنت لا تعرف لغة نبيّه صلى اللّه عليه وآله ، الطلة الحمأة ، والمرقاق الذي يسمّى الشوبك.

وقال أبو عمرو بن العلاء : الفقيه يحتاج إلى اللغة حاجة شديدة ، إلا الرواية.

وقال الأصمعي : سمعت حماد بن سلمة يقول : من لحن في حديثي ، فليس يحدّث عني.

وقال أبو داود الشيخي (2) : سمعت الأصمعي يقول : إنّ أخوف ما أخاف على طالب العلم ، إذا لم يعرف النحو ، أن يدخل في جملة قول النبيّ صلى اللّه عليه وآله : من كذّب عليّ فليتبوّأ مقعده من النار ، لأنّه لم يكن يلحن ، فمهما رويت عنه ، ولحنت فيه ، كذبت عليه.

وروي عن عمر بن الخطاب ، أنّه اجتاز بقوم يرمون ، فأساؤا الرمي ،

ص: 154


1- ل : أمين.
2- ل : السحي.

فقالوا : يا أمير المؤمنين ، نحن قوم متعلمين ، فقال عمر : لإساءتكم في لحنكم ، شرّ من إساءتكم في رميكم ، رحم اللّه امرأ أصلح من لسانه ، وقال ، تعلموا العربية ، فإنّها تثبت العقل (1).

وقيل للحسن البصري : إنّ لنا إماما يلحن ، فقال : أخّروه.

وكان ابن عمر يضرب ولده على اللحن.

وروي عن الصادق عليه السلام ، أنّه قال : نحن قوم فصحاء ، فإذا رويتم الأخبار عنا فاعربوها (2).

ولأنّ الفقيه لو سأله سائل ، فقال له : ما تقول في ظبي رميته بسهمي ، فاحتمله ، ومضى به ، وغاب عن عيني ، ووجدته بعد ذلك ميتا ، فالجواب من الفقيه ، أن يقول له : لا تأكله فإنه منهي عنه ، لقول الرسول عليه السلام : كل ما أصميت ، ودع ما أنميت ، فقال له : ما معنى أصميت وأنميت ، فقال له الفقيه : لا أدري ، فقال له المستفتي : فتنهاني عن شي ء ، بقول لا تدري ما هو.

قال محمد بن إدريس : اصميت الرمية ، إذا قتلتها في مكانها ، من غير أن تحمل السهم ، وتعدو به ، وأنميت الرمية ، إذا احتملت بالسهم ، ومضت به.

قال امرء القيس ، مادحا للرامي :

هو لا ينمي رميته *** ما له لا عد من نفر

فلهذا احتاج إلى اللغة.

ويكون ورعا عن محارم اللّه تعالى ، زاهدا في الدنيا ، متوفرا على الأعمال الصالحات ، مجتنبا للكبائر والسيئات ، شديد الحذر من الهوى ، حريصا على التقوى.

فإذا كان بالصفات التي ذكرناها ، جاز له أن يتولى القضاء والفصل بين الناس.

ولا ينعقد له (3) القضاء. إلا بولاية إمام المسلمين وإذنه.

ص: 155


1- ج : تنبت العقل.
2- الوسائل : الباب 8 من أبواب صفات القاضي ، ح 25 ، ولفظه : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : أعربوا حديثا ، فانّا قوم فصحاء.
3- ج : ولا ينعقد.

وإذا أراد أن يجلس للقضاء ، ينبغي ويستحب له أن ينجز حوائجه التي تتعلّق نفسه بها ، ليتخلّى ويفرغ للحكم ، ولا يشتغل قلبه بغيره.

ثم يستحب له أن يتوضأ وضوء الصلاة ، ويلبس أحسن ثيابه وأطهرها ، ويخرج إلى المسجد الأعظم الذي يصلّي الجمعة فيه ، في البلد الذي يحكم فيه ، فإذا دخله ، صلّى ركعتين ، ويجلس مستدبر القبلة ، ولا يجلس وهو غضبان ، ولا جائع ، ولا عطشان ، ولا مشغول القلب بتجارة ، ولا خوف ، ولا حزن ، ولا فكر في شي ء من الأشياء ، فإن خالف ذلك ، وجلس ، وقضى بالحق ، نفذ حكمه بغير خلاف.

وليجلس وعليه هدي (1) مفتوح الهاء ، مسكن الدال - وسكينة ووقار.

فإذا جلس ، حكم للأوّل فالأول ، فإن لم يعلم بالأول ، أو دخلوا عليه في دفعة واحدة ، روى أصحابنا أنّه يتقدّم إلى من يأمر كل من حضر للتحاكم اليه ، أن يكتب اسمه واسم أبيه ، وما يعرف به من الصفات الغالبة عليه ، دون الألقاب المكروهة ، فإذا فعلوا ذلك ، وكتبوا أسماءهم ، وأسماء خصومهم في الرقاع ، قبض ذلك كله ، وخلط الرقاع ، وجعلها تحت شي ء يسترها به عن بصره ، ثم يأخذ منها رقعة فينظر فيها ، ويدعو باسم صاحبها وخصمه ، فينظر بينهما (2).

ويستحب أن يصل إليه في حكمه ، كل أحد ، ولا يتخذ حاجبا يحجب الناس عن الوصول إليه ، لما روى أبو مريم الأنصاري ، صاحب رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، أنّه قال : من ولي شيئا من أمور الناس ، فاحتجب دون حاجتهم وفاقتهم ، احتجب اللّه دون خلّته (3) ، بفتح الخاء ، وهي الحاجة - وفاقته وفقره.

وقد كره قوم القضاء في المساجد ، وأجازه آخرون ، وهو الأليق بمذهبنا ،

ص: 156


1- ج : على هدى.
2- لم نجده في مجاميعنا الروائية.
3- سنن أبي داود : كتاب الخراج والامارة ، الباب 13 ( الرقم 2948 ) وفيه : انّ أبا مريم الأزدي .. قال .. سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول : « من ولاه اللّه عزوجل شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخلّتهم وفقرهم احتجب اللّه عنه دون حاجته أو خلّته وفقره ».

لأنّه لا خلاف أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يقضي في المسجد الجامع بالكوفة ، ودكة القضاء معروفة إلى اليوم ، وهي التي في وسط المسجد الجامع ، وهي تسمّى أيضا دكة الطست ، لا يظلها شي ء من الظلال.

فأمّا إقامة الحدود فيها فمكروهة.

فإن حكم بحكم ، فإن وافق الحق ، لم يكن لأحد أن يعارضه فيه ، وإن أخطأ ، وجب عليهم أن ينبهوه عليه.

وقال المخالف : ليس لأحد أن يرد عليه ، وإن حكم بالباطل عنده ، لأنّه إذا كان باجتهاده ، وجب عليه العمل به ، ولا يعترض عليه بما هو فرضه ، ولا اجتهاد عندنا ، ولا قياس ، وليس كل مجتهد مصيبا.

وإذا دخل الخصمان عليه ، وجلسا ، وأراد كل واحد منهما الكلام ، ينبغي له أن يأذن للذي سبق بالدعوى ، فإن ادّعيا جميعا في وقت واحد ، فالذي رواه أصحابنا أنّه يأمر من هو على يمين خصمه أن يتكلم ، ويأمر الآخر بالسكوت ، إلى أن يفرغ من دعواه.

وإذا دخل عليه الخصمان ، فلا يبدأ أحدهما بالكلام منفردا ، وذلك على طريق الكراهة ، فإن سلّما ، أو سلم أحدهما ، ردّ السّلام ، دون ما سواه.

ويستحب أن يكون نظره إليهما واحدا ، ومجلسهما بين يديه على السواء ، لا أن ذلك واجب ، على ما يتوهمه من لا بصيرة له بهذا الشأن.

ولا ينبغي للحاكم أن يسأل الخصمين ، والمستحب له تركهما ، حتى يبدأ بالكلام ، فإن صمتا ولم يتكلما (1) ، فله أن يقول لهما حينئذ : إن كنتما حضرتما لشي ء فاذكراه فإن بدأ أحدهما بالدعوى ، سمعها ، ثم أقبل على الآخر ، فسأله عما عنده فيما ادّعاه خصمه.

فإن أقرّ به ، ولم يرتب بعقله واختياره ، ألزمه الخروج إليه منه ، بعد سؤال صاحب الحق ، فإن خرج ، وإلا إن كان له مال ظاهر من جنس الحق الذي

ص: 157


1- ج : فان صمتا

أقرّ به لخصمه ، سلّم الحاكم إلى الخصم من ذلك ماله ، وإن كان من غير جنس الحق ، باعه عليه ، وقضى دينه منه ، وإن لم يكن له مال ظاهر ، أمر خصمه بملازمته حتى يرضيه ، فإن التمس الخصم حبسه على الامتناع من أداء ما أقرّ به ، فإن عرف الحاكم أنّه معدم فقير ، خلّى سبيله ، فإن لم يعرف من حاله شيئا ، حبسه له (1) ، فإن ظهر له بعد أن حبسه ، أنّه معدم فقير لا يرجع إلى شي ء ، ولا يستطيع الخروج ممّا أقرّ به خلّى سبيله ، وأمره أن يتمحل يعنى يتكسب ويحتال قال الشاعر :

وقالت تمحل كي تحج فانّني *** أرى الناس يعتدّون للحج أرجلا

فقلت لها واللّه مالي حيلة *** فما ذا عسيت اليوم أن أتمحلا

حق خصمه ، ويسعى في الخروج ممّا عليه.

وإن ارتاب الحاكم بكلام المقر ، وشك في صحّة عقله أو اختياره للإقرار ، توقف عن الحكم عليه ، حتى يستبرئ حاله.

وإن أنكر المدّعى عليه ما ادّعاه المدّعي ، سأله ألك بيّنة على ذلك ، فإن قال نعم هي حاضرة ، نظر في بينته بعد سؤاله ، وإن قال : نعم غير أنّها ليست حاضرة ، فلا يقول له الحاكم أحضرها ، بل يتركه ، إلى أن يحضر بينته ويسأله سماعها.

وقال شيخنا في نهايته : قال له أحضرها (2) ، وقد رجع عن هذا القول ، في مبسوطة (3).

وإن قال المدّعي : لست أتمكن من إحضارها ، قال شيخنا في نهايته : جعل معه مدة من الزمان ، ليحضر فيه بينته ، وتكفل لخصمه (4).

ورجع عن هذا القول في مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا ادّعى على غيره حقا ، فأنكر المدّعى عليه ، فقال المدّعي : لي بيّنة غير أنّها غائبة ، لم تجب (5) له ملازمة المدّعى عليه ، ولا مطالبته له بكفيل ، إلى أن يحضر البينة ، وبه قال

ص: 158


1- ج : حبسه.
2- النهاية : كتاب القضايا والأحكام.
3- المبسوط : ج 8 ، كتاب آداب القضاء ، ص 159.
4- النهاية : كتاب القضايا والأحكام.
5- ل : لم يجز.

الشافعي ، وقال أبو حنيفة : له المطالبة بذلك ، وملازمته ، وقال رحمه اللّه : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمة ، ومن أوجب ذلك فعليه الدلالة ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مسائل خلافه (1).

وهو الحق اليقين ، لأنّ فيه الدليل ، ولا دليل على ما خالف ذلك.

وإن قال : لا بيّنة لي ، قال له : فما تريد ، فإن قال : تأخذ لي بحقي من خصمي ، قال للمنكر : أتحلف له ، فإن قال نعم ، أقبل على صاحب الدعوى ، فقال له : قد سمعت ، أفتريد يمينه ، فإن قال : لا ، أقامهما ، ونظر في حكم غيرهما.

وإن قال : نعم أريد يمينه ، رجع إليه فوعظه ، وخوّفه باللّه ، فإن أقرّ الخصم بدعواه ، ألزمه الخروج إليه مما ادّعاه عليه بعد سؤاله.

فإن قال المنكر عند (2) توجه اليمين عليه : يحلف هذا المدّعي على صحة دعواه ، وأنا أدفع إليه ما ادّعاه ، قال الحاكم للمدّعي : أتحلف على صحة دعواك ، فإن حلف ، ألزم خصمه الخروج إليه ممّا حلف عليه بعد سؤاله ، وإن أبي اليمين ، بطلت دعواه.

وإن أقام المدّعي البينة ، فذكر المدّعى عليه أنّه قد خرج إليه من حقه ، كان عليه البينة بأنّه قد وفاه الحق ، فإن لم تكن له بيّنة وطالب صاحب البينة بأن يحلف بأنّه ما استوفى ذلك الحق منه ، كان له ذلك ، فإن امتنع من ذلك خصمه ، وأبي أن يحلف أنّه لم يأخذ حقه ، بطل حقه.

وإن قال المدّعي : ليس معى بينة ، وطلب من خصمه اليمين ، فحلفه الحاكم ، ثم أقام بعد ذلك البيّنة على صحة ما كان يدعيه ، لم يلتفت إلى بينته ، وأبطلت.

وإن اعترف المنكر بعد يمينه بدعوى خصمه عليه ، وندم على إنكاره ، لزمه الحق ، والخروج منه الى خصمه ، فإن لم يخرج إليه منه ، كان له حبسه ،

ص: 159


1- الخلاف : كتاب آداب القضاء ، المسألة 36.
2- ج : بعد.

فإن ذكر إعسارا ، كشف عن حاله ، فإن كان على ما قال ، انظر ولم يحبس ، وإن لم يكن كذلك ، الزم الخروج إلى خصمه من حقه.

ومتى بدأ الخصم باليمين ، من غير أن يحلفه الحاكم ، لم يبره ذلك من الدعوى ، وكان متكلفا.

وإن أقرّ المدّعي عليه بما ادعاه خصمه ، وقال : أريد أن تنظرني ، حتى أتمحله ، أي أكتسبه (1) ، قال الحاكم لخصمه : فما عندك فيما يقول ، فإن سكت ولم يجب بشي ء ، توقف عليه القاضي هنيهة ، ثم قال له : قل ما عندك ، فإن لم يقل شيئا ، إقامة ، ونظر في أمر غيره ، وإن قال أنظره فذلك له ، وإن أبى لم يكن للحاكم ، أن يشفع إليه فيه ، ولا يشير عليه بالإنظار.

وله أن يأمرهما بالصلح ، ويشير بذلك ، لقوله تعالى « وَالصُّلْحُ خَيْرٌ » (2) وما هو خير ، فللإنسان فعله بغير خلاف من محصّل.

وقد يشتبه هذا الموضع على كثير من المتفقهة ، فيظن أنّه لا يجوز للحاكم أن يأمر بالصلح ، ولا يشير به ، وهذا خطأ من قائله ، وشيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، قد أفصح عن ذلك ، وحقّقه ، وذهب إليه ، فقال : إذا ترافع إليه نفسان ، وكان الحكم بينهما واضحا ، لا إشكال فيه ، لزمه أن يقضي بينهما ويستحب أن يأمرهما بالمصالحة ، وإن كان حكمهما مشكلا أخره إلى البيان ، ولا حدّ له غير ظهور الحكم وبيان الحق ، وإن قدّمه لم يجز ، لأن الحكم قبل البيان ظلم ، والحبس بالحكم بعد البيان ظلم ، هذا آخر كلام شيخنا (3).

وإن قال : الدين عليّ ، وأنا معسر ، لا أقدر على قضائه ، نظر في سبب الدين ، فإن كان عن مال حصل في يديه ، كالقرض ، والشراء ، والصلح ، والغصب ، ونحو ذلك ، لم يقبل قوله أيضا في الإعسار ، لأنّ الأصل الغنى ،

ص: 160


1- ج : أتكسبه.
2- النساء : 128.
3- المبسوط : ج 8 ، كتاب آداب القضاء ، ص 170.

وحصول المال ، حتى يثبت زواله.

وإن كان سبب ثبوته من غير مال حصل في يديه ، كالمهر ، وأرش الجناية ، وإتلاف مال الغير ، ونحو ذلك ، نظرت ، فإن عرف له مال غير هذا ، كالميراث ، والغنيمة ، ونحو ذلك ، لم يقبل قوله أيضا في الإعسار ، لأنّ الأصل المال ، فإن أقام البينة بهلاك المال ، وأنّه معسر ، فالقول قوله بغير يمين ، لأنّ الظاهر ما قامت به البينة.

وأمّا إن كان سببه غير مال حصل في يديه ، ولم يعرف له مال أصلا ، فالقول قوله ، لأنّ الأصل أن لا مال له مع يمينه ، لجواز أن يكون له مال ، وقد قلنا أنّه ليس للحاكم أن يشفع إليه في الانظار ، ولكن يبثّ الحكم فيما بينهما بما ذكرناه ، وتقتضيه شرعة الإسلام.

وإن ظهر للحاكم أن المقرّ عبد ، أو محجور عليه لسفه ، أبطل إقراره ، وإن كان تبيّنه لذلك بعد دفعه ما أقرّ به إلى خصمه ، الزم الآخذ له ردّه ، ويقدّم بحفظه على المحجور عليه ، ويردّ ذلك على مولى العبد.

وإذا أقرّ الإنسان لغيره بمال عند حاكم ، فسأل المقرّ له الحاكم أن يثبت إقراره عنده ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : لم يجز له ذلك ، إلا أن يكون عارفا بالمقرّ ، بعينه واسمه ونسبه ، أو يأتي المقرّ له ببينة عادلة ، على أنّ الذي أقرّ ، هو فلان بن فلان بعينه واسمه ونسبه ، لأنّه لا يأمن أن يكون نفسان قد تواطئا على انتحال اسم إنسان غائب ، واسم أبيه ، والانتساب إلى آبائه ، ليقرّ أحدهما لصاحبه بمال ليس له أصل ، فإذا أثبت الحاكم ذلك على غير بصيرة ، كان مخطئا مغررا (1).

وقال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا حضر خصمان عند القاضي ، فادّعى أحدهما على الآخر مالا ، فأقرّ له بذلك ، فسأل المقرّ له القاضي ، أن يكتب له بذلك محضرا ، والقاضي لا يعرفهما ، ذكر بعض أصحابنا ، أنّه لا يجوز أن

ص: 161


1- النهاية : كتاب القضايا والأحكام.

يكتب ، لأنّه يجوز أن يكونا استعارا نسبا باطلا وتواطئا على ذلك ، وبه قال ابن جرير الطبري ، وقال جميع الفقهاء : إنّه يكتب ، ويحلّيهما بحلاهما التامة ، ويضبط ذلك ، قال رحمه اللّه : والذي عندي ، أنّه لا يمتنع ما قاله الفقهاء ، فإن الضبط بالحلية ، يمنع من استعارة النسب ، فإنّه لا يكاد يتفق (1) ذلك ، ثمّ قال رحمه اللّه : والذي قاله بعض أصحابنا ، يحمل على أنّه لا يجوز أن يكتب ، ويقتصر في ذكر نسبهما ، فانّ ذلك يمكن استعارته ، قال رحمه اللّه : وليس في ذلك نص مسند عن أصحابنا نرجع إليه ، هذا آخر كلام شيخنا في مسألة من مسائل الخلاف (2).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : الذي ذكره وذهب إليه شيخنا في مسائل خلافه ، هو الذي أقول به ، وأعمل عليه ، ويقوى في نفسي ، وهو (3) يبيّن لك أيّها المسترشد ، أنّه يذكر (4) في نهايته شيئا لا يعمل عليه ، ولا يرجع فيه إلى خبر مسند ، فيعتمد عليه ، ويرجع إليه.

وأيضا هذا مصير ، إلى أنّ للإنسان ، أن يعمل ويشهد بما يجد به خطه مكتوبا ، من غير ذكر الشهادة ، وقطع على من شهد عليه ، وهذا عندنا لا يجوز ، أو رجوع إلى العمل بكتاب قاض إلى قاض ، وجميع ذلك باطل عندنا.

فإذا أتاه بكتابه ، ولم يعلم بالمقر بعينه ، ويتحققه (5) ويتقنه فلا يجوز له أن يقضي عليه ، فيأمن الغرر من هذا الوجه.

وكذلك ان أخذ كتابه الذي فيه تثبيت إقراره إلى غيره من الحكام ، لا يحلّ للحاكم الثاني ، أن يعمل به بغير خلاف بيننا.

وكذلك إن شهد عند الحاكم الأول الذي يثبت الإقرار ، شاهدان ، بأنّه حكم بينهما ، لا يجوز له أن يرجع إلى قولهما ، إذا لم يكن ذاكرا لهذه الحكومة ،

ص: 162


1- ج : ينقض.
2- الخلاف : كتاب آداب القضاء ، مسألة 16.
3- ل. ق : وهذا.
4- في نسخة ج وق : انّه يترك. والظاهر أنّه اشتباه.
5- ل : ولا يتحققه.

متيقنا لها ، عارفا بالمقرّ ، قاطعا عليه.

وإذا ادّعى إنسان على أخرس شيئا ، وكانت له إشارة معقولة ، وكناية مفهومة ، توصل الحاكم إلى إفهامه الدعوى ، ومعرفة ما عنده فيها من إقرار أو إنكار ، فإن أقرّ بالإشارة ، أو أنكر بالكناية ، حكم عليه بذلك.

وإن لم يكن له إشارة معقولة ولا كناية مفهومة ، فقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنّه كتب نسخة اليمين في لوح ، ثم غسله وأمره أن يشربه ، فامتنع ، فألزمه الحق (1).

وإن كان يتساكت عن خصمه ، وهو صحيح قادر على الكلام ، وإنما يعاند بالسكوت ، قال شيخنا في نهايته : أمر بحبسه حتى يقرّ أو ينكر ، إلا أن يعفو الخصم عن حقه عليه. وكذلك إن أقرّ بشي ء ، ولم يبيّنه ، كأنّه يقول له عليّ شي ء ، ولا يذكر ما هو ، ألزمه الحاكم بيان ما أقرّ به ، فإن لم يفعل ، حبسه حتى يبين (2).

قال محمّد بن إدريس : والصحيح من مذهبنا ، وأقوال أصحابنا ، وما يقضيه المذهب ، أنّ في المسألتين معا يجعله الحاكم ناكلا ، ويرد اليمين على خصمه.

وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، في فصل فيما على القاضي في الخصوم والشهود.

قال : فأمّا القسم الثالث ، وهو إذا سكت أو قال لا أقرّ ، ولا أنكر ، قال له الحاكم ثلاثا : إما أجبت عن الدعوى ، وإلّا جعلناك ناكلا ، ورددنا اليمين على خصمك.

وقال قوم : يحبسه ، حتى يجيبه بإقرار أو إنكار ، ولا يجعله ناكلا فيقضي بالنكول والسكوت ، وقوله : لا أقرّ ولا أنكر ، ليس بنكول.

قال شيخنا رحمه اللّه : والأول يقتضيه مذهبنا (3) ، والى هذا يذهب ابن البراج من أصحابنا في كتابه المهذب ، ويختاره (4).

وقال شيخنا أبو جعفر أيضا في مبسوطة في الجزء الثاني في كتاب الإقرار :

ص: 163


1- الوسائل : الباب 33 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.
2- النهاية : كتاب القضاء والاحكام ..
3- المبسوط : ج 8 ، في آداب القضاء ، ص 160.
4- المهذب لابن البراج : ج 2 ، ص 586.

إذا ادّعى عليه مالا بين يدي الحاكم ، وقال : لا أقرّ ولا أنكر ، قال له الحاكم : هذا ليس بجواب ، فأجب بجواب صحيح ، فإن أجبت ، وإلّا جعلتك ناكلا ، ورددت اليمين على صاحبك ، وإن لم يجب بجواب صحيح ، فالمستحب أن يكرر عليه ذلك ثلاث مرات ، فإن لم يجب بجواب صحيح ، جعله ناكلا ، ورد اليمين على صاحبه ، فإن ردّ اليمين بعد المرة الأولى جاز ، لأنّه هو القدر الواجب ، وانّما جعلناه ناكلا بذلك ، لأنّه لو أجاب بجواب صحيح ، ثم امتنع عن اليمين ، جعل ناكلا فإذا امتنع عن الجواب واليمين ، فأولى أن يكون ناكلا ، وهكذا إذا قال : لا أدري ما تقول ، لأنّ ذلك ليس بجواب صحيح مع علمه بما يقول ، هذا آخر كلام شيخنا في الموضع المشار إليه أولا حرفا فحرفا (1).

قال محمّد بن إدريس : يمكن أن يفرّق بين الحكم والقضاء ، بأن يقال : الحكم إظهار ما يفصل به بين الخصمين قولا ، والقضاء إيقاع ما يوجبه الحكم فعلا ، فهذا الفرق بينهما عند أهل اللغة ، فأمّا من حيث عرف الشريعة فلا فرق بينهما.

باب سماع البيّنات وكيفية الحكم بها وأحكام القرعة

إذا شهد عند الحاكم شاهدان ، وكانا عدلين ، وشهدا في مكان واحد ، على وجه واحد ، ووافقت شهادتهما دعوى المدّعي ، وجب على الحاكم الحكم بشهادتهما بعد سؤال صاحب الحق.

وإذا شهد عنده من لا يعرفهما بعدالة ولا خرج سمع شهادتهما ، وأثبتها عنده ، ثم استكشف أحوالهما ، وسأل عنهما أهل الخبرة الباطنة ، ودون أهل المعرفة الظاهرة ، فإن وجدهما مرضيين جائزي الشهادة ، حكم بشهادتهما ، وإن وجدهما على غير ذلك وبخلافه ، طرح شهادتهما ، فإن حكم بعد البحث عنهما ، فلا يحكم إلا بعد سؤال صاحب الحق.

ص: 164


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 31.

والحكم أن يقول له : ألزمتك ذلك ، أو قضيت عليك به ، أو يقول : اخرج إليه منه ، فمتى قال إحدى الثلاث ، كان حكما بالحق.

وأمّا إن أنكر ، فقال : لا حقّ لك قبلي ، فهذا موضع البينة ، فإن كان المدعي لا يعرف انه موضع البيّنة ، كان للحاكم أن يقول له ألك بينة؟ فإن كان عارفا بأنّه وقت البينة ، فالحاكم بالخيار بين أن (1) يسكت ، أو يقول ألك بينة؟

فإذا قال له : ألك بيّنة؟ لم يخل من أحد أمرين ، إما أن لا يكون له بينة ، أو له بينة ، فإن لم يكن له بينة ، عرّفه الحاكم أنّ لك يمينه ، فإذا عرف ذلك ، لم يكن للحاكم ، أن يستحلفه بغير مسألة المدّعي ، لأنّ اليمين حقّ له ، فليس له أن يستوفيه إلا بمطالبته ، كنفس الحق فإن لم يسأله ، واستحلفه من غير مسألة ، لم يعتد باليمين ، لأنّه أتى بها في غير وقتها ، فإذا لم يعتد بها ، أعادها عليه بمسألة المدّعي ، فإذا عرض اليمين عليه ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يحلف ، أو ينكل ، فإن حلف أسقط الدعوى ، وليس للمدّعي أن يستحلفه مرة أخرى ، في هذا المجلس ، أو في غيره ، فإن لم يحلف ونكل عن اليمين ، قال له الحاكم : إن حلفت ، وإلا جعلتك ناكلا ، ورددت اليمين على خصمك ، فيحلف ، ويستحق عليك.

ولا يجوز أن يحكم عليه بالحقّ بمجرد النكول ، بل لا بدّ من يمين المدعي ، ليقوم النكول واليمين مقام البينة ، وقد يشتبه هذا الموضع على كثير من أصحابنا ، فيظن أن بمجرّد النكول يثبت الحق ، وهذا خطأ محض.

فإن كانت له بينة ، امّا أن تكون حاضرة ، أو غائبة ، فإن كانت غائبة ، لم يقل له الحاكم أحضرها ، لأنّه لا حق له ، فله أن يفعل ما يرى ، فإذا حضرا لم يسألهما الحاكم عمّا عندهما ، حتى يسأله المدّعي ذلك ، لأنّه حقّ له ، فلا فإذا ثبت أنّه لا بدّ من سؤال المدّعي الاستماع منهما ، فإن الحاكم لا يقول يتصرف فيه بغير أمره.

ص: 165


1- ج : بالخيار أن.

لهما اشهدا ، لأنّه أمر ، وهو لا يأمرهما ، لكنه يقول تكلما إن شئتما ، من (1) كان عنده كلام فليذكره إن شاء.

ومتى بدأ أحد الخصمين بإذن أو بغير إذن ، وجعل يدّعي على صاحبه ، منع الحاكم صاحبه من مداخلته ، لأنّه يفسد (2) عليه نظام الدعوى.

وأقل ما على الحاكم ، أن يمنع كل واحد منهما أن ينال من عرض صاحبه ، لأنّه جلس للفصل بين الناس والانصاف ، وأقلّ ما عليه ، أن لا يمكن أحدهما (3) من الظلم والحيف.

ولا يجوز له أن يضيف أحد الخصمين دون صاحبه ، إمّا أن يضيفهما معا ، أو يدغهما معا ، لما روي أنّ رجلا نزل بعلي عليه السلام ، فأدلى بخصومة ، فقال له علي عليه السلام ، ألك خصم ، قال : نعم ، قال : تحوّل عنا ، فإنّي سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يقول : لا تضيفوا أحد الخصمين ، إلا ومعه خصمه (4).

والقاضي بين المسلمين ، والحاكم والعامل عليهم ، يحرم على كل واحد منهم الرشوة ، لما روي ، أنّ النبيّ عليه السلام قال : لعن اللّه الراشي والمرتشي في الحكم (5).

وهو حرام على المرتشي بكل حال ، وأمّا الراشي ، فإن كان قد رشاه على تغيّر حكم (6) ، أو إيقافه ، فهو حرام وإن كان على إجرائه على واجبه ، لم يحرم عليه أن يرشوه لذلك ، لأنّه يستنقذ ماله ، فيحل ذلك له ، ويحرم على الحاكم أخذه (7).

والذي يقتضيه مذهبنا ، أنّ الحاكم يجب أن يكون عالما بالكتابة ، والنبيّ عليه السلام عندنا ، كان يحسن الكتابة بعد النبوة ، وإنّما لم يحسنها قبل البعثة.

وأمّا كيفية البحث فيقدّم أولا من الذي يبحث عنه ، ومتى يبحث عنه ، وجملته أنّ الشهود ضربان ، من له شدة عقول يعني وفور عقل ، وضبط ، وحزم ،

ص: 166


1- ل : أو من.
2- ج : لئلا يفسد.
3- ج : أحدا.
4- الوسائل : الباب 3 من أبواب صفات القاضي ، ح 2
5- المبسوط : ج 8 ، كتاب آداب القضاء. ص 151.
6- ل : على تغيير الحكم ج : على تعيين حكم.
7- ج : على آخذه.

وجودة تحصيل ، ومن ليس لهم ذلك ، من شدة عقول ، يعني هو عاقل ، إلا أنّه ليس بكامل العقل ، جميع هذا ذكره شيخنا في مبسوطة (1) ، ولا أرى به بأسا.

وإذا شهد عنده من يتعتع في شهادته ، أو يتلعثم ، يعني يتعتع ، قال الجوهري صاحب كتاب الصحاح : التعتعة في الكلام : التردد فيه ، من حصر أو عيّ ، وقال أيضا قال أبو زيد (2) تلعثم الرجل في الأمر : إذا تمكّث فيه ، وتأنّى فلا يسدده (3). أولا يترك أحدا يلقنه ، بل يتمهل عليه ، حتى يفرغ من شهادته فإذا فرغ ، فإن كانت شهادته موافقة للدعوى ، قبلها ، وحكم بها ، وإلا طرحها.

ومتى أراد الاحتياط والأخذ بالحزم (4) في قبول الشهادة ، ينبغي له أن يفرّق بين الشهود ، ويستدعي واحدا واحدا ، ويسمع شهادته ، ويثبتها عنده ، ويقيمه ، ويحضر الآخر ، فيسمع شهادته ، ويثبتها ، ثم يقابل بين الشهادات فإن اتفقت ، قابلها مع دعوى المدّعي ، فإن وافقتها ، حكم بها بعد سؤال صاحب الحق ، على ما قدمناه ، وإن اختلفت ، طرحها ، ولم يلتفت إليها ، وكذلك إن اتفقت ، غير أنّها لم توافق الدعوى ، طرحها أيضا ، ولم يعمل بها ، وهذا حكم (5) سائر في جميع الأحكام والحقوق ، من الديون ، والأملاك ، والعقود ، والدماء ، والفروج ، والقصاص ، والشجاج ، فانّ الأحوط فيها أجمع ، أن يفرّق بين الشهود ، وإن جمع بينهم ، وسمع شهادتهم ، لم يكن ذلك مما يوجب رد شهادتهم ، ولا موجبا الحكم بخلافها ، غير أنّ الأحوط ما قدّمناه.

ومن شهد عنده شاهدان عدلان ، على أن حقا ما لزيد (6) وجاء آخران ، فشهدا أنّ ذلك الحق لعمرو ، فإن كانت أبديهما خارجتين (7) منه ، فينبغي للحاكم أن يحكم لأعدلهما شهودا ، فإن تساويا في العدالة كان الحكم لأكثرهما شهودا ،

ص: 167


1- المبسوط : كتاب آداب القضاء ، في كيفية البحث عن حال الشهود.
2- ج : وقال أيضا أبو زيد.
3- ج : فلا يسدّه.
4- ج : بالجزم.
5- ج : وهذا أيضا حكم.
6- ل : ان الحق لزيد.
7- ج : خارجة

مع يمينه باللّه تعالى ، أنّ الحق له ، فإن تساويا في العدالة والعدد ، أقرع بينهما ، فمن خرج عليه ، حلف ، وكان الحكم له ، فإن امتنع من خرج اسمه في القرعة من اليمين (1) كان الحق بينهما نصفين.

ومتى كان مع واحد منهما يد متصرّفة ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن كانت البينة تشهد بأنّ الحق ، ملك له فقط ( خفيفة الطاء ، ساكنه وهي بمعنى حسب ) وتشهد للآخر بالملك أيضا ، انتزع الحق من اليد المتصرفة ، وأعطي اليد الخارجة.

وإن شهدت البينة لليد المتصرفة ، بسبب الملك ، من بيع ، أوهبة ، أو معاوضة ، كانت أولى من اليد الخارجة (2).

قال محمّد بن إدريس : والذي يقوى في نفسي ، وأعمل عليه ، وأفتي به ، أنّ اليد الخارجة في المسألتين معا ، يسلم الشي ء إليها ، وهي أحق من اليد المتصرفة ، والبينة بينتها ، كيف ما دارت القصة ، هذا الذي يقتضيه أصول مذهب أصحابنا ، بغير خلاف بين المحققين منهم ، ولقوله عليه السلام : البينة على المدّعي ، وعلى الجاحد اليمين (3) ، فجعل عليه السلام البينة بينة المدّعي ، وفي جنبته ، فلا يجوز أن يسمع بينة الجاحد ، سواء كان معه سبب ملك ، أو غيره ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه ، في الجزء الثاني ، في كتاب البيوع.

وجملة القول في ذلك ، وعقد الباب ، أن نقول : إذا تنازعا عينا ، وهي في يد أحدهما ، وأقام كل واحد منهما بينة ، بما يدّعيه من الملكية ، انتزعت العين من يد الداخل ، وأعطيت الخارج ، وكانت بينة الخارج أولى ، وهي المسموعة ، سواء شهدت بينة الداخل بالملك بالإطلاق ، أو بالأسباب ، بقديمه ، أو بحديثه ،

ص: 168


1- ج : من اليمين حلف الآخر وكان الحكم له ، فإن امتنعا جميعا من اليمين كان الحق بينهما نصفين.
2- النهاية ، كتاب القضايا والاحكام باب سماع البنات وكيفية الحكم بها وأحكام القرعة.
3- الوسائل : بهذا المضمون وردت روايات في الباب 3 من أبواب كيفية الحكم.

كيف ما دارت القصة ، فإنّ بينة الخارج أولى على الصحيح من المذهب ، وأقوال أصحابنا ، ولقوله عليه السلام المجمع عليه من الفريقين ، المخالف والمؤالف ، المتلقى عند الجميع بالقبول ، وهو : البينة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه ، فقد جعل عليه السلام ، البينة في جنبة المدّعى بغير خلاف.

فأمّا إن كانت العين المتنازع فيها خارجة من يدي المتنازعين (1) ، وهي في يد ثالث غيرهما ، ثم أقام كل واحد منهما بينة بها ، فإنّ أصحابنا يرجحون بكثرة الشهود ، فإن استويا في الكثرة ، رجحنا بالتفاضل في عدالة البينتين ، فيحكم في المال المتنازع فيه ، ويقدّم بينة صاحب الترجيح مع يمينه ، فإن استويا في جميع الوجوه ، فالحكم عند أصحابنا المحصّلين القرعة ، على أيّهما خرجت ، اعطي ، وحلف للآخر أنّه يستحقه ، وهو له ، فإن لم يكن ترجيح ، وهو في يد ثالث ، وأقام أحدهما بينة بقديم الملك ، والآخر بحديثه ، وكل منهما يدّعي أنّه ملكي الآن ، وبينة كل واحد منهما تشهد بأنّه ملكه الآن ، غير أن إحدى البينتين ، تشهد بالملكية الآن ، وبقديم الملك ، والأخرى تشهد بالملكية الآن ، وبحديث الملك (2) ، مثاله انّ إحدى البينتين تشهد بالملك منذ سنتين ، والأخرى منذ سنة ، فالبيّنة بينة قديم الملك ، وهي المسموعة ، والمحكوم بها ، دون بيّنة حديث الملك ، لأنّ حديث الملك ، لا يملكه ، إلا عن يد قديمة ، فهو مدّعي الملكية عنه ، ولا خلاف أنّا لا نحكم بأنّه ملك عنه ، لأنّه لو كان عنه ملك ، لوجب أن يكون الرجوع عليه بالدرك ، فإذا لم يحكم بأنّه عنه ملك ، بقي الملك على صاحبه ، حتى يعلم زواله عنه.

وكذلك تكون بينة صاحب السبب ، أولى في هذه المسألة ، إذا كانت العين المتنازع فيها في يد ثالث ، وخارجة من أيديهما ، عند بعض أصحابنا ، والأقوى عندي استعمال القرعة هاهنا ، وان لا يجعل لصاحب السبب هاهنا ترجيح ، لأنّ

ص: 169


1- ج : يد المتداعيين.
2- ج : بالملكية وبحديث الملك.

الترجيح عندنا ما ورد إلا بكثرة الشهود ، فإن تساووا في العدد ، فأعدلهما شهودا ، والمراد بأعدلهما في هذه المواضع ، أنّ البينتين جميعا شرائط العدالة فيهما ، إلا أن إحداهما أكثر مواظبة على الأعمال الصالحات المندوبات ، وإن كانت الأخرى غير مخلة بواجب ، ولا مرتكبة لقبيح. وليس المراد أنّ إحداهما فاسقة ، والأخرى عادلة ، لأنّ لفظة افعل في لسان العرب ، للمشاركة في الشي ء ، والزيادة عليه ، فمن ظنّ أنّ المراد بأعدلهما شهودا غير ما قلناه ، فقد أخطأ خطأ فاحشا.

وبقديم الملك (1) على ما دللنا عليه ، ولا ترجيح بغير ذلك عند أصحابنا ، والقياس والاستحسان والاجتهاد باطل عندنا ، فلم يبق إلا استعمال القرعة ، لإجماعهم على أنّ كل أمر مشكل فيه القرعة ، إلا أن يكون مع ذلك الآخر مرجح ، من المرجحات المجمع عليها ، وهي المقدّم ذكرها ، من كثرة العدد ، أو أعدلهما شهودا ، أو بقديم الملك.

ولو قلنا : نرجّح بالسبب ، إذا كان في يد ثالث ، لكان قويا ، وبه أفتي ، لأنّ فيه جمعا بين الأحاديث والروايات ، وعليه الإجماع ، فإنّ المحصلين من الأصحاب ، مجمعون عليه ، قائلون به ، ولأنّ السبب أولى من قديم الملك ، وقد رجحنا بقديم الملك ، لأنّ من شهد بالنتاج والبيع والهبة ، نفى أن يكون ملكا قبله لأحد ، أعني النتاج ، وكان أقوى ، فليتأمّل ذلك.

فهذا تحقيق المسائل المختلفة ، الموضوعة في الجزء الثالث من مسائل الخلاف ، لشيخنا أبي جعفر (2) فإنّها مختلفة الألفاظ ، وتحريرها ما ذكرناه.

والذي اعتمده واعتقده وأعمل عليه ، بعد هذه التفاصيل جميعها أن لا ترجيح إلا بالعدد ، وبالتفاضل في عدالة البينتين فحسب ، دون الأسباب ، وقدم

ص: 170


1- هذه العبارة عطف على قوله : بكثرة الشهود.
2- الخلاف : كتاب الدعاوي والبينات ، المسائل 13 و 14 و 15 و 2.

الأملاك ، لأنّ القياس عندنا باطل ، على ما قدّمناه ، وانّما فصلناه على وضع شيخنا في مسائل خلافه ، وهي من فروع المخالفين ، ومذاهبهم ، فحكاها ، واختارها ، دون أن يكون مذهبا لنا ، أو لبعض مشيختنا ، ولا وردت به أخبارنا ، ولم يذهب إليه أحد من أصحابنا ، سوى شيخنا أبي جعفر في كتابيه الفروع ، مبسوطة (1) ومسائل خلافه ، وعادته في هذين الكتابين ، وضع أقوال المخالفين ، واختيار بعضها ، فليلحظ.

فأمّا إن كانت يدهما معا عليها ، كالدار هما فيها ، والثوب يدهما جميعا عليه ، كان بينهما ، ولا بينة لواحد منهما ، حلف كل واحد منهما لصاحبه ، وكان الشي ء بينهما بنصفين.

وقد روى (2) أصحابنا ، أنّه إذا كانت جارية مع رجل وامرأة ، وادّعى الرجل أنّها مملوكته ، وادعت المرأة أنّها بنتها ، وهي حرّة ، وأنكرت الجارية الدعويين جميعا ، كان على الرجل البيّنة بأنّ هذه الجارية مملوكته ، لم يبعها ، ولم يعتقها ، فإن أقام بذلك ، سلّمت إليه ، وكذلك إن أقرّت الجارية أنّها مملوكته ، وكانت بالغة ، سلّمت إليه ، وإن لم يقم بينة ، ولا تكون هي بالغا ، أو تكون بالغا ، غير أنها لا تقرّ ، انتزعت من يده ، فإن أقامت المرأة البينة أنّها بنتها ، سلّمت إليها إذا كانت صغيرة وإن لم تكن لها بينة ، تركت الجارية ، تمضى حيث شاءت.

ومتى كانت جارية بين شركاء ، فوطأوها كلهم في طهر واحد ، وحملت ، وولدت ، فادّعى كل واحد منهم أنّ الولد له ، أقرع بينهم ، فمن خرج اسمه ، الحق الولد به ، وغرم الباقين قيمة الولد ، على قدر ما لهم من الجارية ، ورد مع ذلك أيضا ثمن الجارية على قدر حصصهم.

قال محمد بن إدريس : وهذا يكون على التقريب ، وأنّهم (3) في يوم واحد ، أو لا يعرف المتقدّم من المتأخر ، واشتبه الأمر وأشكل ، وإلا إذا كان الطهر مثلا

ص: 171


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب الدعاوي والبينات ، ص 257 - 259.
2- الوسائل : الباب 12 من أبواب كيفية الحكم ، ح 9.
3- ج : ولأنّهم.

شهرا أو شهرين ، لأنّ الطهر لا حدّ لأكثره عندنا ، فوطئها واحد منهم في أول الشهر ، والثاني في آخره ، ثم وضعت الولد لستة أشهر ، منذ يوم وطئ الأول ، فهو للأوّل دون الباقين (1) ، بغير خلاف ، فليلحظ ذلك.

ومتى سقط بيت على قوم ، فماتوا ، وبقي منهم صبيان ، أحدهما مملوك ، والآخر حرّ والمملوك عبد لذلك الحر ، ولم يتميز أحدهما من الآخر ، أقرع بينهما ، فمن خرج اسمه ، فهو الحر ، وكان الآخر مملوكا له.

وإذا قال إنسان : أول مملوك أملكه فهو حر ، وجعل ذلك نذرا ، ثم ملك جماعة في وقت واحد ، أقرع بينهم ، وأعتق من خرج اسمه ، على ما ورد في بعض الأخبار (2) وأورده شيخنا في نهايته (3).

والذي يقوى في نفسي ، أنّه إذا ملك جماعة لا ينعتق منهم أحد ، ولا يقرع على واحد منهم ، لأنّ شرط النذر ما وجد ، وهو قول الناذر أول مملوك أملكه ، وهذا ما ملك واحدا قبل الآخر والأصل بقاء الرقّ وحصول الملك فمن أخرجه من الملك يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، وأخبار الآحاد لا يلتفت إليها ، ولا يعوّل عليها ، بقي معنا من الأدلّة الأصل ، وهو بقاء الملك وثبوته ، وشيخنا أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله في كتاب النهاية ، وإن كان قوله ، وعمله ، واعتقاده ، وفتواه ، بخلافه ، وقد رجع شيخنا عن هذا بعينه في الجزء الرابع (4) من المبسوط (5).

وإذا أوصى إنسان ، أن يعتق (6) ثلث عبيده ، ولم يعينهم ، أقرع بينهم ، وأعتق من خرج اسمه.

ص: 172


1- ج : كان الولد لا حقا بالأوّل دون الباقين.
2- الوسائل : الباب 57 من أبواب العتق ، والباب 13 من أبواب كيفية الحكم.
3- النهاية : باب سماع البينات وكيفية الحكم بها وأحكام القرعة.
4- ج : الثالث.
5- المبسوط ..
6- ل : بعتق.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة في آخر الجزء السادس : ومتى قلنا أنّه من الثلث ، أقرع بينهما ، فمن خرج اسمه أعتق ، ورق الآخر ، هذا إذا كانت قيمة كل واحد منهما ثلث ماله ، فأمّا إذا اختلفت القيمتان ، وكانت قيمة أحدهما ثلث ماله ، وقيمة الآخر سدس ماله ، فإذا أقرعنا بينهما ، مع تساوى القيمة ، أقرعنا هاهنا ، فإن خرجت القرعة لمن قيمته الثلث ، عتق ، ورق الآخر كله وإن خرجت القرعة لمن قيمته السدس ، عتق كله ، وكملنا الثلث من الآخر ، فيعتق من الآخر نصفه (1).

فأمّا المسألة الأوّلة فأوردها في نهايته ، تحمل على ان ثلثهم يكون بمقدار ثلثه ، أو أقل منه ، وما ذكره في مبسوطة يحمل [ على ما ] إذا كان ثلث العبيد يزيد على ثلث الميت ، وهو ثلث التركة ، فتجزى العبيد بالقيمة ، لا بالرؤوس ، ويكون الحكم على ما قاله رحمه اللّه.

وإذا ولد مولود ليس له ما للرجال ، ولا ما للنساء ، أقرع عليه ، فإن خرج سهم الرجال الحق بهم ، وورث ميراثهم ، وإن خرج سهم النساء ، ألحق بهن ، وورث ميراثهن ، وكل أمر مشكل مجهول يشتبه الحكم فيه ، فينبغي أن يستعمل فيه القرعة ، لما روي عن الأئمة الأطهار عليهم السلام (2) ، وتواترت به الآثار ، وأجمعت عليه الشيعة الإمامية.

وقال شيخنا في مبسوطة : إذا قال لعبده : إن قتلت فأنت حر ، فهلك السيّد ، واختلف الوارث والعبد ، فأقام الوارث البينة أنّه مات حتف أنفه ، وأقام العبد البينة أنّه مات بالقتل ، قال قوم : يتعارضان ، ويسقطان ، ويسترق العبد ، وقال قوم : بينة العبد أولى ، لأنّ موته قتلا يزيد على موت حتف أنفه

ص: 173


1- المبسوط : كتاب الشهادات ، فصل الرجوع عن الشهادة ، ج 8 ، ص 250.
2- الوسائل : الباب 13 من أبواب كيفية الحكم.

لأنّ كل مقتول ميت ، وليس كل ميّت مقتولا ، فكان الزائد أولى ، ويعتق العبد ، وعندنا يستعمل فيه القرعة ، فمن خرج اسمه ، حكم ببيّنته (1).

قال محمّد بن إدريس : والأظهر الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّه ينعتق العبد ، لأنّ هذا ليس بأمر مشكل ، لأنّ بينة العبد شهدت بأمر زائد ، قد يخفى على بينة الوارث.

وهكذا قال رحمه اللّه في مبسوطة ، في رجل قال لعبد له : إن متّ في رمضان ، فأنت حر ، وقال لعبد له آخر : إن مت في شوال ، فأنت حر ، فمات السيد ، واختلف العبدان ، فأقام كل واحد منهما البينة على ما ادّعاه (2).

قال محمّد بن إدريس : الصحيح أنّه تقبل بيّنة رمضان ، لأنّ معها زيادة ، وهو أن يخفى على بينة شوال ، موته في رمضان ، ولا يخفى على بينة رمضان موته في شوال ، فكان صاحب رمضان أولى ، وليس هذا من الأمور المشكلة بقبيل.

وقد بيّنا في كتاب الشهادات ، ما يقبل فيه شهادة الصبيان ، وينبغي أن يفرّق بينهم في الشهادة ، ويؤخذ بأوّل قولهم ، ولا يؤخذ بثانيه ، ومتى اختلفوا لم يرجع إلى شي ء من أقوالهم ، ولا يعتد أيضا بشي ء من أقوالهم التي يرجعون إليها ، من الأقوال الأولة.

وإذا بحث الحاكم عن عدالة الشاهد ، فإن الجرح يقدم على التزكية ، ولا يقبل الجرح إلا مفسّرا وتقبل التزكية من غير تفسير ، وقال قوم : يقبل الأمران معا مطلقا.

والصحيح الأول ، لأنّ الناس يختلفون فيما هو جرح ، وما ليس بجرح ، فإنّ أصحاب الشافعي لا يفسّقون من شرب النبيذ ، ومالك يفسّقه ، ومن نكح المتعة في الناس من فسقه ، وعندنا أنّ ذلك لا يوجب التفسيق ، بل هو مباح طلق ، وربما كان مستحبا ، فإذا كان كذلك لم يقبل الجرح إلا مفسرا ، لئلا يجرحه بما هو جرح عنده ، وليس بجرح عند الحاكم ، ويفارق الجرح التزكية ، لأنّ التزكية إقرار صفة على الأصل ، فلهذا قبلت من غير تفسير ، والجرح اخبار عمّا حدث (3) من

ص: 174


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، ص 173.
2- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، ص 173.
3- ج : وجدت.

عيوبه ، وتجدد من معاصيه ، فبان الفصل بينهما.

ولا يقبل الجرح ولا التزكية ، حتى يكون الشاهد بها من أهل الخبرة الباطنة ، والمعرفة المتقادمة هذا في التزكية خاصة ، والفصل بينهما ، أنّ الجرح يعرف لحظة واحدة (1) وهو أن يرتكب ما يفسق به ، فتسقط شهادته ، ولو كان قبل ذلك أعدل الناس ، فلهذا لم يفتقر إلى الخبرة المتقادمة ، وليس كذلك التزكية ، لأنّه لا يكون عدلا ، بأن يراه في يومه عدلا ، لأنّ العدل من تاب عن المعاصي ، وطالت مدته في الطاعات ، إلا أن يتوب على ما قدّمناه.

لا يجوز للحاكم أن يرتّب شهودا يسمع شهادتهم ، دون غيرهم ، بل يدع الناس ، فكل من شهد عنده ، فإن عرفه ، وإلا سأل عنه على ما قلناه.

وقيل : إنّ أول من رتب شهودا لا يقبل غيرهم ، إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي.

والصحيح ما قلناه ، لأنّ الحاكم إذا رتّب قوما ، فإنّما يفعل هذا بمن هو عدل عنده ، وغير من رتبه كذلك مثله ، أو أعدل منه ، فإذا كان الكل سواء ، لم يجز أن يخص بعضهم بالقبول دون بعض ، ولأنّ فيه مشقة على الناس ، لحاجتهم إلى الشهادة بالحقوق في كل وقت ، من نكاح ، وغصب ، وقتل ، وغير ذلك ، فإذا لم يقبل إلا قوما ، دون قوم ، شق على الناس.

وينبغي للقاضي ، أن يتخذ كاتبا يكتب بين يديه ، وصفة الكاتب أن يكون عدلا عاقلا ، ولا يجوز له أن يتخذ كافرا بلا خلاف ، لقوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً ) (2) وكاتب الرجل بطانته ، وقال تعالى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ » (3) وكاتب الرجل وليه وصاحب سره ، وعليه إجماع الصحابة.

ص: 175


1- ج : في لحظة واحدة.
2- آل عمران : 118.
3- الممتحنة : 1.

ولا ينبغي لقاض ، ولا وال (1) من ولاة المسلمين ، أن يتخذ كاتبا ذميا ، ولا يضع الذمي في موضع يفضل به مسلما ، وينبغي أن يعز المسلمين لئلا تكون لهم حاجة إلى غير أهل دينهم.

ولا يقبل عندنا كتاب قاض ، إلى قاض ، بغير خلاف بيننا ، وإجماعنا منعقد على ذلك ، وما يرويه المخالف في ذلك ، فكله أخبار آحاد ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنّ العمل يجب أن يكون تابعا للعلم ، ولا علم في ذلك ، ولا دلالة عليه.

وإذا كتب الكتاب ، فأدرجه ، وختمه ثم استدعى بهما ، فقال : هذا كتابي ، قد أشهدتكما على نفسي بما فيه ، لم يصح ، ولا يصح هذا التحمل ، ولا العمل عليه ، وكذلك ان قرأه عليهما ، عندنا لما قدمناه ، فهذا فرع يسقط عنا.

وفي الوصايا فإنه لو أوصى بوصية ، وأدرج الكتاب ، وأظهر (2) للشهود مكان الشهادة ، وقال : قد أوصيت بما أردته في هذا الكتاب ، ولست أختار أن يقف أحد على حالي ، وتركتي ، قد أشهدتكما عليّ بما فيه ، لم يصح هذا التحمل بلا خلاف.

الذي يقتضيه مذهبنا أنّ الإمام إذا مات ينعزل النائبون عنه ، إلا أن يقرّهم الإمام القائم مقامه.

المشتري للعقار إذا أشهد على البائع بالبيع ، وطالبه بكتاب الأصل ، لم يجب عليه أن يعطيه إيّاه ، لأنّه ملكه ، ولأنّه حجته عند الدرك.

وإذا كان لجماعة على رجل حقوق من جنس واحد ، أو أجناس ، فوكّلوا من ينوب عنهم في الخصومة ، فادّعى الوكيل عليه الحقوق ، فإن اعترف ، فلا كلام ، وإن أنكر ، وكانت هناك بينة ، حكم عليه بها ، فإن لم تكن بينة ، فالقول قوله مع يمينه ، فإن أراد كل واحد من الجماعة أن يستحلفه على الانفراد ، كان له ، لأنّ اليمين حق له ، فكان له أن ينفرد باستيفائه ، وإن قالت الجماعة قد رضينا

ص: 176


1- ج : ولا لوال.
2- ج : ولم يظهر.

منه بيمين واحدة عن الكل لكلنا ، قال قوم : يستحلفه ، لأنّه لمّا صح أن يثبت الحقوق عليه بالبينة الواحدة ، صح أن يسقط الدعوى باليمين الواحدة ، وقال آخرون : لا يجوز أن يقتصر الحاكم منه على يمين واحدة ، والأول هو الصحيح ، لأنّ اليمين حقّ لهم ، فإذا رضوا بيمين واحدة ، فينبغي أن يكتفي بها.

إذا استعدى رجل عند الحاكم على رجل ، فإن كان حاضرا ، أعدى عليه ، وأحضره ، سواء علم بينهما معاملة ، أو لم يعلم ، وليس في ذلك ابتذال لأهل الصيانات والمروّات ، فانّ عليا عليه السلام ، حضر مع يهودي عند شريح ، وحضر عمر مع أبي عند زيد بن ثابت ، ليحكم بينهما في داره ، وحج أبو جعفر المنصور ثاني الخلفاء من العباسيين ، فحضر مع جمّالين مجلس الحكم ، عند حاكمه لخلف جرى بينهم.

فإذا ثبت هذا ، فمتى (1) حضر ، قيل له. ادّع الآن ، فإذا ادّعى عليه ، لم يسمع الدعوى إلا محررة ، فأمّا إن قال : لي عنده ثوب ، أو فرس ، أو حقّ ، لم يسمع دعواه ، لأنّ دعواه لها جواب ، فربما كان بنعم ، فلا يمكن الحاكم أن يقضي به عليه ، لأنّه مجهول ، قالوا : أليس الإقرار بالمجهول يصح ، فهلا قلتم إنّ الدعوى المجهولة تصح ، قلنا : الفصل بينهما ، أنّه إذا أقرّ بمجهول ، لو كلفناه تحرير الإقرار ربما رجع عن إقراره ، فلهذا ألزمنا المجهول به ، وليس كذلك مسألتنا ، لأنّه إذا ردّت الدعوى عليه ، ليحررها ، لم يرجع ، فلهذا لم تسمع إلا معلومة.

هذا كله ما لم تكن وصية ، فإن كانت الدعوى وصية ، سمع الدعوى فيها ، وإن كانت مجهولة ، والفصل بينهما وبين سائر الحقوق ، انّ تمليك المجهول بها يصح ، فصحّ أن يدّعى مجهولة ، وليس كذلك غيرها ، لأنّ تمليك المجهول به لا يصح ، فلهذا لم تقبل الدعوى به إلا معلومة.

فإذا ثبت ذلك ، فإن حرر الدعوى ، فلا كلام ، وإن لم يحررها ، ولم يحسن

ص: 177


1- ج : ثبت فمتى.

ذلك ، فلا يجوز للحاكم أن يلقنه تحريرها.

فإن كانت الدعوى أثمانا ، فلا بدّ من ذكر ثلاثة أشياء ، تكون معلومة ، وهو أن يذكر القدر ، والجنس ، والنوع ، قالوا : أليس لو باع ثوبا بألف مطلقا ، انصرف إلى نقد البلد ، هلا قلتم تسمع الدعوى مطلقا ، وتنصرف إلى نقد البلد ، قلنا : الفصل بينهما ، أنّ الدعوى ، إخبار عمّا كان واجبا عليه ، وذلك يختلف في وقت وجوبه ، باختلاف الأزمان والبلدان ، فلهذا لم تسمع منه إلا محررة ، وليس كذلك الشراء ، لأنّه إيجاب في الحال ، فلهذا انصرف إلى نقد البلد.

فأمّا إن كانت غير الأثمان ، لم تخل من أحد أمرين ، إمّا أن تكون عينا قائمة أو هالكة ، فان كانت عينا قائمة ، فإن كانت ما يمكن ضبطها بالصفات ، ضبطها ، وإن لم يمكن ضبط الصفات ، كالجواهر ، ونحوها ذكر قيمتها ، وإن كانت تالفة ، فإن كان لها مثل ، كالحبوب ، والأدهان ، وصفها ، وطالب بها ، لأنّها تضمن بالمثل ، وإن لم يكن لها مثل ، كالحيوان ، والثياب ، فلا بدّ من ذكر القيمة.

كل موضع تحررت الدعوى ، فليس للحاكم مطالبة المدّعي عليه بالجواب ، بغير مسألة المدّعي ، لأنّ الجواب حقّ المدّعي ، فليس للحاكم المطالبة به من غير مسألته ، كنفس الحق ، فإذا أقرّ بما ادّعاه خصمه ، لم يكن للحاكم أن يحكم عليه به ، إلا بمسألة المقرّ له به ، لأنّ الحكم عليه به حقّ له ، فلا يستوفيه إلا بأمره ، كنفس الحق. والحكم أن يقول له : ألزمتك ذلك ، أو قضيت عليك به ، أو يقول : أخرج له منه ، على ما قدّمناه أولا ، وشرحناه.

إذا أراد الإمام أن يولّي قاضيا ، فإن وجد متطوعا به ، ولاه ، ولا يولّي من يطلب عليه رزقا ، وإن لم يجد متطوعا ، كان له أن يولّي القضاء ، ويرزقه من بيت المال ، وروي أنّ عليا عليه السلام ولّى شريحا ، وجعل له في كل سنة خمسمائة درهم ، وكان عمر قبله ، جعل له كل شهر مائة درهم (1).

ص: 178


1- لم نعثر عليه.

عندنا للحاكم أن يقضي بعلمه في جميع الأشياء ، لأنّه لو لم يقض بعلمه ، أفضى إلى إيقاف الأحكام ، أو فسق الحكّام ، لأنّه إذا طلّق الرجل زوجته بحضرته ثلاثا ، ثم جحد الطلاق ، كان القول قوله مع يمينه ، فإن حكم بغير علمه ، وهو استحلاف الزوج ، وتسليمها إليه ، فسق ، وإن لم يحكم ، وقف الحكم ، وهكذا إذا أعتق الرجل عبده بحضرته ، ثم جحد ، وإذا غصب من رجل ماله ثم جحد ، يقضي إلى ما قلناه.

الحقوق ضربان ، حقّ للآدميين ، وحقّ لله ، فإن ادّعى حقا لآدمي ، كالقصاص ، وحدّ القذف ، والمال ، فاعترف به ، أو قامت به البينة ، لم يجز للحاكم أن يعرض له بالرجوع عنه ، والجحود ، لأنّه لا ينفعه ذلك ، لأنّه إذا ثبت باعترافه ، لم يسقط برجوعه ، وإن كان قد ثبت بالبينة ، لم يسقط عنه بجحوده ، وإن كان حقا لله كحدّ الزنا والشرب ، فإن كان ثبوته عند الحاكم بالبينة ، لم يعرض له بالرجوع ، لأنّ الرجوع لا ينفعه ، وإن كان ثبوته باعترافه ، جاز للحاكم أن يعرض له بالرجوع ، لكنه لا يصرّح بذلك ، لأنّ فيه تلقين الكذب ، وانّما قلنا بجوازه ، لأنّ ماعزا ، لمّا اعترف قال له النبي عليه السلام : لعلك قبلتها ، لعلك لمستها.

إذا شهد شاهدان عند الحاكم بحق ، وكانا عدلين ، حين الشهادة ثم فسقا قبل الحكم بشهادتهما ، أو بعد الحاكم بشهادتهما ، فإن فسقا قبل الحكم بشهادتهما ، قال قوم من المخالفين : لا يحكم بشهادتهما ، وقال آخرون : يحكم ، وهذا الذي يقتضيه مذهبنا ، لأنّ المعتبر في العدالة حين الأداء ، ولا يراعى ما قبل ذلك ، ولا ما بعده.

فإن فسقا بعد الحكم ، وقبل الاستيفاء ، فإن كان حقا لآدمي لا ينقض وأمضى ، وإن كان حقا لله ، فإنّه لا يمضي ، لقوله عليه السلام : ادرءوا الحدود بالشبهات (1) وحدوث الفسق شبهة ، ويفارق المال ، لأنّ المال لا يسقط بالشبهة.

فأمّا إن قامت البينة ، بأنهما كانا فاسقين قبل الشهادة ، والإقامة لهما ،

ص: 179


1- الوسائل : الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود ، ح 4.

والحكم بها ، بأن قامت البينة عنده أنّهما شربا الخمر أو قذفا حرا ، قبل الحكم بشهادتهما بيوم ، قال قوم : ينقض الحكم ، وهو الذي يقتضيه مذهبنا.

من ادعى مالا أو غيره ، ولا بينة له ، فتوجهت اليمين على المدّعى عليه ، فنكل عنهما ، فإنّه لا يحكم عليه بالنكول ، بل يلزم اليمين المدّعي ، فيحلف ، ويحكم له بما ادّعاه ، هذا هو مذهب أصحابنا.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : فإذا نكل ، لزمه الحق ، وأطلق ذلك (1) ورجع في مسائل الخلاف (2) ، والمبسوط (3) ، إلى ما اخترناه ، والمعنى فيما ذكره في نهايته ، من قوله لزمه الحق ، يعني أن بنكوله صارت اليمين على المدّعي ، بعد أن كانت عليه ، وكل من كانت عليه اليمين ، فهو أقوى جنبة من صاحبه ، والقول قوله مع يمينه ، لا أنّه أراد بمجرد النكول يقضي الحاكم عليه بالحق ، من دون يمين خصمه.

فامّا حقوق اللّه فعلى ضربين ، حقّ لا يتعلّق بالمال ، وحقّ يتعلّق بالمال ، فأمّا ما لا يتعلّق بالمال ، كحدّ الزنا ، وشرب الخمر ، وغير ذلك ، فلا يسمع فيه الدعوى ، ولا يلزم الجواب ، ولا يستحلف ، لأنّ ذلك مبني على الإسقاط.

إذا مات رجل ، وخلّف طفلا ، وأوصى إلى رجل بالنظر في أمره ، فادّعى الوصي دينا على رجل ، فأنكر ، فإن حلف ، سقطت الدعوى ، وإن لم يحلف ، فلا يمكن ردّ اليمين على الوصي ، لأنه لا يجوز أن يحلف عن غيره ، فتوقف إلى أن يبلغ الطفل ، ويحلف ، ويحكم له.

المستحب أن لا يكون الحاكم جبّارا ، متكبرا ، عسوفا ، لأنّه إذا عظمت هيبته ، لم يلحن ذو الحجّة بحجّته (4) ، هيبة له ولا يكون ضعيفا مهينا ، لأنّه

ص: 180


1- النهاية : كتاب القضاء والأحكام .. والعبارة هكذا : « فان نكل عن اليمين الزمه الخروج الى خصمه ».
2- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 38.
3- المبسوط : ج 8 ، فصل في النكول عن اليمين ، ص 212.
4- ج : لحجّته.

لا يهاب ، فربما خرق بمجلسه بالمشاتمة ويكون فيه شدة من غير عنف ، ولين من غير ضعف ، فإن ذلك أولى بالمقصود.

ومتى حدثت حادثة ، فأراد أن يحكم فيها ، فإن كان عليها دليل من نص كتاب ، أو سنة مقطوع بها ، أو إجماع ، عمل عليه ، قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : وعندنا ان جميع الحوادث هذا حكمها ، فلا يخرج عنها شي ء ، قال رحمه اللّه : فإن شذت ، كانت مبقاة على الأصل (1).

وهذا هو الصحيح الذي يقتضيه مذهبنا ، الذي لا يجوز العدول عنه.

وقال شيخنا أبو جعفر في الجزء الثاني من الإستبصار ، في باب البيّنتين إذا تقابلتا ، أورد أخبارا تتضمن أنّ قوما اختصموا في بغلة أو دابة ، وأنهم أنتجوها على مذودهم (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : المذود ، بالميم ، والذال المعجمة ، والواو ، والدال غير المعجمة : المعلف ، والمربط ، وهو مشتق من ذدت الشي ء ، إذا حمى عنه ، وطرد عنه ، فهو مفعل من ذاد يذود ، فكأنما البهيمة تحمى وتطرد عن مربطها. ومعلفها ، قال الجاحظ في كتاب الحيوان : أورد في معنى البراغيث ، ثلاثة أبيات وهي :

هنيئا لأهل الري طيب بلادهم *** وأنّ أمير الري يحيى بن خالد

بلاد إذا جنّ الظلام تقاقرت (3) *** براغيثها من بين مثنى وواحد

ديازجة سود الجلود كأنّها *** بغال بريد أرسلت من مذاود (4)

وقال المفضل بن سلمة في كتاب البارع : المرود بالراء ، موضع الذال ، الحبل الذي يرود فيه ، أي يذهب ويجي ء وأنشد بيتا يصف نشاط فرس :

قاظ بذي الآرى فالمنحنا *** يقتلع الارىّ بالمرود

ص: 181


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب آداب القضاء ، ص 97.
2- الاستبصار : كتاب القضايا والأحكام الباب 22 البينتان إذا تقابلتا ، ص 38.
3- ج : تقاتلت ، وفي المصدر تقافزت.
4- الحيوان : ج 5 ، ص 390.

قال يعني بالمرود مع المرود ، يعني قاظ (1) بهذين الموضعين ، والآري محبس الدابة.

باب كيفية الاستحلاف

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : قد بينا في كتاب الأيمان والنذور ما يجوز أن يحلف الإنسان به ، وما لا يجوز ، وما إذا حلف به كان حالفا ، وما لا يكون كذلك (2).

قال محمّد بن إدريس : كتاب الأيمان والنذور في الجزء الثاني من نهايته ، فكيف يقول قد بيّنا ، وبعد ما وصل إليه ، ولا صنّفه؟ ، ولقائل أن يعتذر ويقول : أشار إلى الجملة التي يريد أن يعملها ، ويصنّفها ، وذلك جائز ، وكثيرا ما قالت ذلك العلماء في تصانيفهم ، ولأبي العباس ثعلب في أول الفصيح مثل هذا ، على ما يعتذر له ويقال ، ويجوز أيضا أنّه كان قد صنّفه قبل هذا ، لأنّه لا يمنع من ذلك مانع.

وينبغي للحاكم إذا أراد أن يحلف الخصم ، أن يخوّفه باللّه تعالى ، ويذكره العقاب الذي يستحقه على اليمين الكاذبة ، والوعيد عليها ، فإن أنجع (3) ذلك ، وراجع الحق ، حكم بما يقتضيه الحال ، مما يوجبه الشرع ، وإن أقام على الإنكار واليمين ، استحلفه باللّه تعالى ، أو بشي ء من أسمائه ، مما تنعقد اليمين به.

ولا تنعقد اليمين عند أهل البيت عليهم السلام بشي ء من المحدثات من الكتب المنزلة ، ولا المواضع المشرفة ، ولا الرسل المعظمة ولا الأئمة المنتجبة ، فإنّ اليمين بجميع ذلك بدعة في شريعة الإسلام.

ولا يحلف بالبراءة من اللّه ، ولا من رسله ، ولا من أئمته ، ولا من الكتب ، ولا بالكفر ، ولا بالعتق ، ولا بالطلاق ، فانّ ذلك كله غير جائز ، وإن اقتصر على أن يقول له : قل ، واللّه ماله قبلي حقّ ، كان كافيا ، فإن أراد الزيادة في الردع والإرهاب ، قال له : قل واللّه الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم ، الطالب الغالب ، الضار ، النافع ، المدرك ، المهلك ، الذي يعلم من السر ما يعلمه من

ص: 182


1- ج : يعني بالمرود فاظ.
2- النهاية كتاب الشهادات ، باب كيفية الاستحلاف.
3- ج : نجع.

العلانية ، ما لهذا المدّعي على ما ادّعاه ، ولا له قبلي حقّ بدعواه ، فإذا حلف فقد برئت ذمته من ظاهر الحكم ، إن كان كاذبا ، وإن كان صادقا فقد برئت ذمته ظاهرا وباطنا ، وكان المعرّض له آثما.

واستحلاف أهل الكتاب يكون أيضا باللّه ، أو بشي ء من أسمائه ، وقد روي جواز أن يحلفوا بما يرون هم الاستحلاف به ، ويكون الأمر في ذلك إلى الحاكم ، وما يراه أنّه أردع لهم ، وأعظم عليهم (1).

ويستحب أن يكون الاستحلاف في المواضع المعظمة ، كالقبلة ، وعند المنبر ، والمواضع التي يرهب من الجرأة على اللّه تعالى.

وإذا أراد الحاكم أن يحلف الأخرس ، حلّفه بالإشارة والإيماء ، إلى أسماء اللّه سبحانه ، وتوضع يده على اسمه (2) سبحانه في المصحف ، ويعرف يمينه على الإنكار ، كما يعرف إقراره وإنكاره ، كما قدّمنا القول في ذلك وشرحناه ، وإن لم يحضر مصحف ، وكتب اسم اللّه تعالى ، ووضعت يده عليه أيضا جاز.

وينبغي أن يحضر يمينه ، من له عادة بفهم أغراضه وإيمائه وإشارته ، وقد روي أنّه يكتب نسخة اليمين في لوح ، ثمّ يغسل ذلك اللوح ، ويجمع ذلك الماء ، ويؤمر بشربه ، فإن شرب ، كان حالفا ، وان امتنع من شربه ، ألزم الحق بعد ردّ اليمين على خصمه (3) ، على ما قررناه في النكول.

ويمكن حمل هذه الرواية ، والعمل بها على أخرس ، لا يكون له كناية معقولة ، ولا إشارة مفهومة ، والأول على من يكون له ذلك ، على ما أسلفنا القول فيه.

وينبغي للحاكم أن لا يحلف أحدا إلا في مجلس الحكم ، فإن كان هناك من توجهت عليه اليمين ، ومنعه من حضور المجلس مانع ، من مرض ، أو عجز ، أو غير ذلك ، جاز للحاكم أن يستحلف من ينوب عنه ، في المضي إليه ، واستحلافه

ص: 183


1- الوسائل : الباب 22 من أبواب الأيمان ، ح 4 و 7 و 8 و 9 و 10 و 12.
2- ج : على اسم اللّه.
3- الوسائل : الباب 33 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.

على ما تقتضيه شريعة الإسلام.

والمرأة إذا وجبت عليها اليمين ، استحلفها الحاكم في مجلس الحكم ، وعظّم عليها الأيمان ، فإن كانت المرآة لم تجر لها عادة بالخروج من منزلها ، إلى مجمع الرجال ، أو كانت مريضة ، أو بها علّة تمنعها من الخروج إلى مجلس القضاء ، أنفذ الحاكم إليها من ينظر بينها وبين خصمها ، من ثقاته وعدوله ، وأهل العلم والفقه عنده ، فإن توجهت عليها اليمين ، استحلفها في منزلها ، ولم يكلّفها الخروج إلى مجمع الرجال ، وإن توجّه عليها الحق ، ألزمها الخروج منه على ما يقتضيه شرع الإسلام ، وعدله ، فإن امتنعت من ذلك ، كان حكمها حكم الرجال ، وجاز له حبسها في الموضع الذي يجوز له حبس الرجال.

باب النوادر في القضاء والأحكام

روى أبو شعيب المحاملي ، عن الرفاعي ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن رجل قبل رجلا يحفر له بئرا عشر قامات ، بعشرة دراهم ، فحفر له قامة ، ثم عجز ، قال : يقسم عشرة ، على خمسة وخمسين جزءا ، فما أصاب واحدا ، فهو للقامة الأولة ، والاثنين للثانية ، والثلاثة للثالثة ، وعلى هذا الحساب إلى عشرة (1).

قال محمد بن إدريس : أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، وقال في مبسوطة ، في الجزء الثالث في كتاب الإجارات ، قال : يجوز الاستيجار لحفر البئر ، غير أنّه لا يجوز حتى يكون المعقود عليه معلوما ، ويصير معلوما بأحد أمرين ، بتقدير المدة ، أو تقدير نفس العمل ، فأمّا المدة فيكفي أن يقول : اكتريتك لتحفر لي بئرا ، يوما أو عشرة ، وما يقدره ، لأنّ المعقود عليه ، يصير معلوما محددا (3) بذلك المقدار ، وإن قدر العمل ، فلا بدّ من مشاهدة الأرض التي يريد

ص: 184


1- الوسائل : كتاب الإجارة ، الباب 35 ، ح 2 ، لكن في المصدر : عن أبي شعيب المحاملي الرفاعي.
2- النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع في القضايا والأحكام.
3- ج : المحاملي.

أن يحفر فيها ، لأنّها تختلف في الرخاوة والصلابة ، ولا بدّ من تقدير العرض والعمق ، فيقول قدر عرضه كذا ذراعا ، وقدر عمقه كذا وكذا ذراعا ، وتقدير ذلك بالذراع الذي هو معتاد بين الناس ، كما يقول في المكيال ، فإذا استأجره على ذلك ، وأخذ يحفرها ، فانهار عليه الجرف ، فحصل تراب الجرف في البئر ، فانطم بعضها ، كان على المستأجر إخراجه ، ولا يجب على الأجير ، لأنّه ملك المستأجر ، حصل في تلك الحفرة ، فهو بمنزلة ما لو وقع فيها طعام له ، أو دابة له ، أو تراب من موضع آخر ، فإن وقع من تراب البئر فيها ، لزم الحفار إخراجه ، لأنّ ذلك ممّا تضمنه العقد ، لأنه استؤجر ليحفر ، ويخرج التراب ، فإن استقبله حجر نظرت ، فإن أمكن حفره ونقبه ، لزمه ، وإن كان عليه مشقة فيه ، لأنّه التزم الحفر بالعقد ، فيلزمه على اختلاف حاله ، وإن لم يمكن حفره ، ولا نقبه ، انفسخ العقد فيما بقي ، ولا ينفسخ فيما حفر ، على الصحيح من الأقوال ، قال رحمه اللّه : ويقسّط (1) على أجرة المثل ، لأنّ الحفر يختلف ، فحفر ما قرب من الأرض ، أسهل ، لأنّه يخرج التراب من قرب ، وحفر ما هو أبعد ، أصعب ، قال رحمه اللّه : نظر ، فإن كان اجرة المثل على ما بقي ، عشرة ، وفيما حفر خمسة ، أخذ ثلث المسمّى ، قال رحمه اللّه وقد روى (2) أصحابنا في مثل هذا ، مقدار (3) ذكرناه في النهاية (4) قال رحمه اللّه : وعلى هذا إن نبع الماء قبل انتهاء الحد ، ولم يمكن الزيادة على الحفر ، فالحكم على ما ذكرناه ، في الحجر إذا استقبله ، ولم يمكن حفره ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (5) ، أوردناه حرفا فحرفا.

والذي يقوى في نفسي ، ما أورده في مبسوطة ، واختاره ، لأنّ الأدلة تقتضيه ، والأخبار ، والاعتبار والنظر السليم ، يقويه ، ولا يرجع في مثل هذا

ص: 185


1- ج : ويسقط.
2- الوسائل : الباب 35 من أبواب أحكام الإجارة.
3- ج : مقدارا.
4- النهاية : في آخر كتاب القضاء باب جامع في القضايا والأحكام.
5- المبسوط : ج 3 كتاب الإجارات ، ص 237.

الموضع ، إلى أخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، وقد ضعّفه شيخنا ، ولم يلتفت إليه ، وجعله رواية ، ولذلك أورده في أبواب النوادر في نهايته ، ولم يورده غيره من أصحابنا المتقدمين عليه ، لا شيخنا المفيد ، ولا السيد المرتضى ، ولا أمثالهما رحمهم اللّه جميعا.

وروى حماد بن عيسى ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ، أتى بعبد لذمي قد أسلم ، فقال : اذهبوا ، فبيعوه من المسلمين ، وادفعوا ثمنه إلى صاحبه ، ولا تقرّوه عنده (1).

قال محمد بن إدريس : هذه رواية صحيحة ، تعضدها الأدلة ، وهو قوله تعالى ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً » (2).

وروى حريز ( بالحاء غير المعجمة والراء والزاء ) عن أبي عبيدة زياد بن عيسى الحذاء ، قال : قلت لأبي جعفر ، وأبي عبد اللّه عليهما السلام : رجل دفع إلى رجل الف درهم ، يخلطها بماله ، ويتّجر بها ، قال : فلمّا طلبها منه ، قال : ذهب المال ، وكان لغيره معه مثلها ، ومال كثير لغير واحد ، فقال : كيف صنع أولئك؟ قال : أخذوا أموالهم ، فقال أبو جعفر ، وأبو عبد اللّه عليهما السلام جميعا : يرجع عليه بماله ، ويرجع هو على أولئك بما أخذوا (3).

قال محمد بن إدريس : هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (4) ، ووجه الفقه والفتيا عندي على تسليم الخبر ، أنّ الأول دفع المال إليه ، فخلطه بغيره ، فلمّا خلطه يغيره ، فرّط فيه بالخلط ، فضمنه ، وأصحاب الأموال الباقية ، خلط أموالهم بإذنهم ، والأول خلط ماله في أموالهم بغير إذنه ، فيجب عليه الضمان ، للأول جميع ماله ، فلمّا أخذ أصحاب الأموال الذين أذنوا في الخلط ، ورضوا به ،

ص: 186


1- الوسائل : الباب 73 من أبواب العتق ، ح 1.
2- النساء : 141.
3- الكافي : كتاب القضاء ، باب النوادر ، الحديث 16 ، ج 7 ، ص 431. التهذيب : ج 3. باب الزيادات في القضاء الحديث 6 / 799 ، ص 288. الوسائل : الباب 6 من أبواب الحجر ، ح 2.
4- النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع في القضايا والأحكام.

أموالهم على التمام والكمال ، فقد أخذوا ما لم يكن لهم ، بل الواجب تسليم مال من لم يأذن بالخلط على الكمال ، ويدخل النقصان والخسران على الباقين ، فلمّا أخذوا المال ، رجع صاحب المال الذي لم يأذن بالخلط ، على المضارب المفرّط بالخلط ، بجميع ماله ورجع المضارب على من أخذ المال بقدر ما غرم.

وقوله في الخبر : يخلطها بماله ويتجربها ، المعنى فيه خلطها بماله ، واتجر بها ، وإن كان أتى به بلفظ الاستقبال ، فقد يأتي المستقبل بمعنى الماضيّ والماضي بمعنى المستقبل (1) وهذا كثير في كلام العرب والقرآن ، قال اللّه تعالى « وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ » (2) معناه وينادي ، وقال الشاعر :

وانضخ جوانب قبره بدمائها *** فلقد يكون اخادم وذبائح

معناه فلقد كان ، بغير شك ، هذا فقه الحديث.

محمد بن إسماعيل ، عن جعفر بن عيسى ، قال : كتبت إلى أبي الحسن عليه السلام ، جعلت فداك ، المرأة تموت ، فيدّعي أبوها ، أنّه أعارها بعض ما كان عندها من متاع ، وخدم ، أيقبل دعواه بلا بيّنة ، أم لا تقبل دعواه إلا ببيّنة؟ فكتب إليه يجوز بلا بينة (3).

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : أول ما أقول في هذا الحديث ، أنّه خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، وفيه ما يضعفه ، وهو أنّ الكاتب الراوي للحديث ، ما سمع الإمام يقول هذا ، ولا شهد عنده شهود ، أنّه قاله ، وافتى به ، ولا يجوز أن يرجع إلى ما يوجد في الكتب ، فقد يزوّر على الخطوط ، ولا يجوز للمستفتي أن يرجع إلا إلى قول المفتي ، دون ما يجده بخطه ، بغير خلاف ، من محصل ضابط لأصول الفقه.

ولقد شاهدت جميعة من متفقهة أصحابنا ، المقلدين لسواد الكتب ،

ص: 187


1- ج : المستقبل بمعنى الماضي
2- الأعراف : 48.
3- الوسائل : الباب 23 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.

يطلقون القول بذلك ، وأنّ أبا الميتة ، لو ادّعى كلّ المتاع ، وجميع المال ، كان قوله مقبولا بغير بينة ، وهذا خطأ عظيم ، في هذا الأمر الجسيم ، لأنّه إن كانوا عاملين بهذا الحديث ، فقد أخطأوا من وجوه ، أحدها أنه لا يجوز العمل عند محصّلي أصحابنا بأخبار الآحاد ، على ما كررنا القول فيه ، واطلناه (1).

والثاني ، من يعمل بأخبار الآحاد ، لا يقول بذلك ، ولا يعمل به ، إلا إذا سمعه الراوي من الشارع.

والثالث أنّ الحديث ما فيه أنّه ادّعى أبوها جميع متاعها وخدمها ، وانما قال بعض ما كان عندها ، ولم يقل جميع ما كان عندها.

ثم إنّه مخالف لأصول المذهب ، ولما عليه إجماع المسلمين ، انّ المدّعي لا يعطى بمجرّد دعواه ، والأصل براءة الذمة ، وخروج المال من مستحقه ، يحتاج إلى دليل ، والزوج يستحق سهمه ، بعد موتها بنص القرآن ، فكيف يرجع عن ظاهر التنزيل ، بأخبار الآحاد ، وهذا من أضعفها ، ولا يعضده كتاب ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، فإذا خلا من هذه الوجوه ، بقي في أيدينا من الأدلة ، أنّ الأصل براءة الذمة ، والعمل بكتاب اللّه ، وإجماع الأمة ، على أنّ المدّعي لا يعطى بمجرّد دعواه.

ثمّ لم يورد هذا الحديث إلا القليل من أصحابنا ، ومن أورده في كتابه ، لا يورده إلا في باب النوادر ، وشيخنا المفيد ، والسيد المرتضى ، لم يتعرضا له ، ولا أورداه في كتبهما ، وكذلك غيرهما من محقّقي أصحابنا ، وشيخنا أبو جعفر رحمه اللّه ما أورده في جميع كتبه ، بل في كتابين منها فحسب ، إيرادا ، لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله من غير اعتقاد لصحته ، على ما بيّناه ، وأوضحناه ، في كثير مما تقدّم ، في كتابنا هذا.

ثم شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه رجع عنه وضعفه ، في جوابات المسائل الحائريات (2) المشهورة عنه ، المعروفة.

ص: 188


1- ج : وأطلقناه.
2- المسائل الحائريات : ص 287 ، الطبع الحديث ، وفي ذيل الصفحة نقلا عن النسختين زيادة « يتم الاستدلال معها ».

وقد ذكر شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان ، رحمه اللّه في الرد على أصحاب العدد ، الذاهبين إلى أنّ شهر رمضان لا ينقض ، قال : فأمّا ما تعلّق به أصحاب العدد ، في أنّ شهر رمضان لا يكون أقل من ثلاثين يوما ، فهي أحاديث شاذة ، قد طعن نقاد الآثار من الشيعة الإمامية في سندها ، وهي مثبتة في كتب الصيام ، في أبواب النوادر ، والنوادر هي التي لا عمل عليها ، هذا آخر كلام المفيد رحمه اللّه. وهذا الحديث من أورده في كتابه ، ما يثبته إلا في أبواب النوادر.

ثم يحتمل بعد تسليمه وجها صحيحا ، وهو يجوز بلا بينة ، المراد به الاستفهام ، وأسقط حرفه ، كما قال عمرو بن أبي ربيعة المخزومي :

ثم قالوا تحبها قلت بهرا

عدد القطر والحصى والتراب

ويحتمل أيضا أنّه أراد بذلك ، التهجين والذم ، لمن يرى عطية ذلك بغير بيّنة ، بل بمجرد دعوى الأب ، كما قال تعالى ( ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ) (1) عند قومك وأهلك ، فهذان وجهان صحيحان ، يحتملهما الكلام ، إذا سلّم تسليم جدل.

قال : وكتبت إليه ، إن ادّعى زوج المرأة الميتة ، وأبو زوجها ، أو أم زوجها ، من متاعها ، أو خدمها ، مثل الذي ادّعى أبوها ، من عارية بعض المتاع ، أو الخدم أيكونون بمنزلة الأب في الدعوى ، فكتب : لا.

وروى محمد بن الحسين بن أبي الخطاب ، عن يزيد (2) بن إسحاق ، عن هارون بن حمزة ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن رجل استأجر أجيرا ، فلم يأمن أحدهما صاحبه ، فوضع الأجر على يد رجل ، فهلك ذلك الرجل ، ولم يدع وفاء ، فاستهلك الأجر فقال : المستأجر ضامن لأجرة الأجير حتى يقضي ، إلا أن يكون الأجير دعاه إلى ذلك ، فرضي بالرجل ، فان فعل ، فحقّه حيث وضعه ورضى به (3)

ص: 189


1- الدخان : 49.
2- ج : زيد.
3- الوسائل : الباب 6 من كتاب الإجارة ، ح 1.

قال محمّد بن إدريس : فقه ذلك : انّ المستأجر إذا لم يقبض الأجير الأجرة ، ولا وكيل الأجير ، فهو ضامن لها ، إلى أن يقبضها الأجير ، أو وكيله ، ومن وضعها على يده فهو وكيل للمستأجر ، دون الأجير ، فلأجل هذا كان ضامنا لها ، لأنّ الأجير لو طلبها ممّن سلّمت إليه ، لم يسلمها فأمّا إذا (1) تسلّمها الأجير ، أو أمر المستأجر أن يسلّمها إلى شخص ، رضيه ، وهلكت ، فإنّها تكون من مال الأجير تهلك ، دون مال المستأجر ، لأنّه لو طلبها ، لم يجز لمن هي عنده أن يسلّمها إليه.

وروى محمد بن مسلم ، قال : سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول : قضى أمير المؤمنين عليه السلام ، برد الحبيس ، وإنفاذ المواريث (2).

قال محمّد بن إدريس : سألني شيخنا محمود بن علي بن الحسين الحمصي (3) المتكلّم الرازي ، رحمه اللّه ، عن معنى هذا الحديث ، وكيف القول فيه؟ فقلت : الحبيس معناه ، الملك المحبوس على بنى آدم ، من بعضنا على بعض ، مدة حياة الحابس ، دون حياة المحبوس عليه ، فإذا مات الحابس ، فإنّ الملك المحبوس ، يكون ميراثا لورثة الحابس ، وينحل حبسه على المحبوس عليه ، فقضى عليه السلام ، بردّه إلى ملك الورثة ، لأنّه ملك مورثهم ، وانّما جعل منافعه مدة حياته للمحبوس عليه ، دون رقبته ، فلمّا مات بطل ما كان جعله له ، وزال الحبس عنه ، فهو ملك من أملاكه ، فترثه ورثته عنه ، بعد موته ، كما ترث سائر أملاكه ، فأنفذ المواريث عليه السلام فيه ، على ما تقتضيه شريعة الإسلام.

فأمّا إذا كان الحبيس ، على مواضع قرب العبادات ، مثل الكعبة والمشاهد ، والمساجد ، فلا يعاد إلى الأملاك ، ولا ينفذ فيه المواريث ، لأنّه بحبسه على هذه المواضع ، خرج عن ملكه ، عند أصحابنا ، بغير خلاف بينهم فيه ، فلأجل هذا قلنا :

ص: 190


1- ج : فإذا.
2- الوسائل : الباب 5 من أبواب أحكام السكنى والحبيس ، ح 1.
3- قال الأردبيلي « رحمه اللّه » في جامع الرواة : علامة زمانه في الأصولين ، ورع ثقة ، له تصانيف إلخ.

« على بني آدم بعضنا على بعض » ، احترازا من الحبيس الذي على مواضع العبادات.

فأعجبه ذلك ، وقال : كنت أتطلّع (1) على المقصود فيه ، وحقيقة معرفته ، وكان منصفا ، غير مدع لما لم يكن عنده معرفة حقيقته ، ولا من صنعته ، وحقا ما أقول : لقد شاهدته على خلق قل ما يوجد في أمثاله ، من عوده إلى الحق ، وانقياده الى ربقته ، وترك المراء ونصرته ، كائنا من كان صاحب مقالته ، وفقه اللّه وإيّانا لمرضاته وطاعته.

وروى يونس بن عبد الرحمن عن منصور بن حازم ( بالحاء غير المعجمة ) عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : قلت عشرة كانوا جلوسا ، ووسطهم كيس ، فيه عشرة ألف (2) درهم ، فسأل بعضهم بعضا ، ألكم هذا الكيس ، فقالوا كلهم : لا ، فقال واحد منهم : هو لي ، فلمن هو ، قال للذي ادّعاه (3).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : فقه هذا الحديث صحيح ، وليس هذا ممّا أخذه لمجرد دعواه ، وانّما لم يثبت له صاحب سواه ، واليد على ضربين ، يد مشاهدة ، ويد حكمية ، فهذا يده عليه يد حكمية ، لأنّ كلّ واحد منهم نفى (4) يده عنه ، وبقي يد من ادّعاه عليه يد حكمية ، ولو قال كل واحد من الجماعة في دفعة واحدة ، أو متفرقا هو لي ، لكان الحكم فيه غير ذلك ، وكذلك لو قبضه واحد من الجماعة ، ثم ادّعاه غيره ، لم يقبل دعواه بغير بيّنة ، لأنّ اليد المشاهدة عليه ، لغير من ادّعاه ، والخبر الوارد في الجماعة ، أنّهم نفوه عن أنفسهم ، ولم يثبتوا لهم عليه يدا لا من طريق الحكم ، ولا من طريق المشاهدة ، ومن ادّعاه له عليه يد من طريق الحكم ، فقبلنا دعواه فيه ، من غير بيّنة ، ففقهه ما حرّرناه ، وأيضا إنّما قال ادّعاه ، من حيث اللغة ، لأنّ الدعوى الشرعية ، من ادّعى في يد غيره ، عينا أو دينا.

وروى محمد بن الحسين ابن أبي الخطاب ، عن الحسن بن مسكين ، عن رفاعة النخاس ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : إذا طلّق الرجل امرأته ، وفي بيتها

ص: 191


1- ج : لم أطّلع.
2- ج : فيه ألف.
3- الوسائل : الباب 17 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.
4- ج : كلّ واحد نفى.

متاع ، فلها ما يكون للنساء ، وما يكون للرجال والنساء ، قسم (1) بينهما ، وإذا طلّق الرجل المرأة ، فادّعت أن المتاع لها ، وادّعى أنّ المتاع له ، كان له ما للرجال ، ولها ما للنساء (2).

قال محمّد بن إدريس : هكذا أورده شيخنا في نهايته (3) ، وليس بين المسألتين تناف ، ولا تضاد ، أمّا القول في صدر الخبر : وفي بيتها متاع : فلها ما يكون للنساء ، أي ما يصلح للنساء ولا يصلح للرجال ، فهو عند أصحابنا للمرأة ، من غير مشاركة الرجال فيه ، بل تعطاه بمجرد دعواها ، مع يمينها.

وقوله بعد ذلك : وما يكون للرجال وللنساء ، المراد به ما يصلح للرجال والنساء ، يكون بينهما نصفين ، لأنّ (4) يديهما عليه.

ولم يذكر فيه ما يصلح للرجال ، ويكون للرجال دون النساء ، بل ذكر قسمين فحسب : أحدهما (5) ما يكون للنساء ، لا يشركهن الرجال فيه ، والآخر ما يكون للرجال والنساء ، قسم بينهما.

ثم قال في آخر الكلام : وإذا طلّق الرجل المرأة ، فادّعت أنّ المتاع لها ، وادّعى أنّ المتاع له ، كان له ما للرجال ، ولها ما للنساء ، لا يشرك كل واحد منهما الآخر ، فيما لا يصلح إلا له ، فذكر قسمين فحسب ، ولم يذكر الثالث ، وهو الذي يصلح للرجال والنساء معا ، بل ذكره في صدر الكلام ، فالثالث يكون بينهما نصفين ، على ما قدّمناه (6) وذكره أولا ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي ، يذهب في كتاب الاستبصار (7) ، ويعمل بان المتاع جميعه للمرأة ، وأورد اخبارا في ذلك في صدر الباب ، ثم قال في آخر الباب : فأمّا ما رواه محمد بن أحمد بن يحيى ،

ص: 192


1- ج : فيقسم.
2- الوسائل : كتاب الفرائض والمواريث ، الباب 8 من أبواب ميراث الأزواج ، ح 4.
3- النهاية : باب جامع في القضايا والأحكام ، لكن في المصدر : الحسين بن مسكين.
4- ج : بينهما ، لأنّ.
5- ج : قسمين : أحدهما.
6- ل : ما قدمنا ذكره.
7- الاستبصار : كتاب القضايا والأحكام ، باب اختلاف الرجل والمرأة في متاع البيت. وفي الوسائل أورد الخبر في الباب 9 من أبواب ميراث الأزواج ، ح 4.

عن محمد بن الحسين ، عن الحسن بن مسكين ، عن رفاعة النخاس ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : إذا طلّق الرجل امرأته ، وفي بيتها متاع ، فلها ما يكون للنساء ، وما يكون للرجال والنساء قسم بينهما ، قال : وإذا طلّق الرجل المرأة ، فادّعت أنّ المتاع لها ، وادّعى الرجل أنّ المتاع له ، كان له ما للرجال ، ولها ما للنساء (1) قال رحمه اللّه : فهذا الخبر يحتمل شيئين ، أحدهما أن يكون محمولا على التقية ، لأنّ ما أفتى به عليه السلام ، في الأخبار الأوّلة ، يعني رحمه اللّه في الأخبار التي أوردها بأنّ المال جميعه للمرأة ، لا يوافق عليه أحد من العامة ، وما هذا حكمه ، يجوز أن يتقى فيه ، قال رحمه اللّه : والوجه الآخر أن نحمله على أن يكون ذلك على جهة الصلح ، والوساطة بينهما ، دون مرّ الحكم (2).

قال محمد بن إدريس : وخبر رفاعة هو مذهب شيخنا في نهايته (3) ، وفي مسائل خلافه ، في الجزء الثالث ، فإنّه قال : مسألة ، إذا اختلف الزوجان في متاع البيت ، فقال كل واحد منهما كله لي ، ولم يكن مع واحد منهما بينة ، نظر فيه ، فما يصلح للرجال ، القول قوله ، مع يمينه ، وما يصلح للنساء ، فالقول قولها مع يمينها ، وما يصلح لهما ، كان بينهما ، وقد روي ، أنّ القول في جميع ذلك ، قول المرأة مع يمينها ، والأول أحوط ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وقد أوردناها في الكتابين المقدّم ذكرهما (4).

فجعل رحمه اللّه : ما أورده في الإستبصار ، في الأخبار الكثيرة ، وجعله مذهبا له ، واختاره رواية في مسائل خلافه ، وما اختاره في مسائل خلافه ، رواية في استبصاره ، ثم دلّ على صحّته بإجماع الفرقة ، وكذلك يذهب في مبسوطة ، إلى ما يذهب إليه في مسائل خلافه ، من مقالة أصحابنا ورواياتهم ، ويحكى الرواية الشاذة التي اختارها ، مذهبا في استبصاره.

ص: 193


1- راجع المصدر السابق.
2- ج : مرّ الحق.
3- النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع في القضايا والأحكام.
4- الخلاف : كتاب الدعاوي والبينات ، المسألة 27.

والذي يقوى عندي ، ما ذهب إليه في مسائل خلافه ، لأنّ عليه الإجماع ، وتعضده الأدلة ، لأنّ ما يصلح للنساء ، الظاهر أنّه لهن ، وكذلك ما يصلح للرجال ، فأمّا ما يصلح للجميع ، فيداهما معا عليه ، فيقسم بينهما ، لأنّه ليس أحدهما أولى به من الآخر ، ولا يترجح أحدهما على الآخر ، ولا يقرع هاهنا ، لأنه ليس بخارج عن أيديهما ، وانّما لو كان في يد ثالث ، وأقام كل واحد منهما البينة ، وتساوت البينتان في جميع الوجوه ، كان الحكم فيه القرعة ، لأنّه ليس هو في (1) أيديهما.

وروى علي بن محمد القاساني ، عن القسم بن محمد ، عن سليمان بن داود المنقري ، بكسر الميم ، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، منسوب إلى دارابجرد.

قال محمّد بن إدريس : هكذا ذكره ابن قتيبة ، والزجاج ، قالا : إنّهم (2) إذا نسبوا إلى دارابجرد ، قالوا : دراوردي ، وقال غيرهما : هو منسوب إلى دراورد ، قرية بخراسان ، وهو مولى بلّى ، وبلّى قبيلة من العرب ، والنسب إليها بلوي ) قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عمّن أخذ أرضا بغير حقها ، وبنى فيها ، قال : يرفع بناءه ، ويسلّم التربة إلى صاحبها ، ليس لعرق ظالم حق (3).

قال محمّد بن إدريس : يقال العرق بكسر العين ، وتسكين الراء ، ولا يجوز بفتح العين والراء ، لأنّ ذلك تصحيف ، وأنما يقال مضافا إلى ظالم ، ومنفصلا عنه ، بالتنوين ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطة.

وروى عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام ، عن أبيه ، عن علي عليهم السلام ، أنّه قضى في رجلين ، اختصما في خصّ ، فقال : إنّ الخص ، للذي إليه القمط (4).

وقالوا : القمط ، هو الحبل ، والخص الطن ، الذي يكون في السواد ، بين

ص: 194


1- ج : ليس في.
2- ج : لأنّهم.
3- الوسائل : الباب 3 من أبواب الغصب ، ح 1.
4- الوسائل : الباب 14 من أبواب أحكام الصلح ، ح 2.

الدور ، فكان من إليه الحبل ، هو أولى من صاحبه ، وهذا هو الصحيح ، لأنّ عليه إجماع أصحابنا.

وروى الحسن (1) بن عليّ بن يقطين ، عن أميّة بن عمرو ، عن الشعيري ، قال : سئل أبو عبد اللّه عليه السلام ، عن سفينة انكسرت في البحر ، فاخرج بعضه بالغوص ، وأخرج البحر بعض ما غرق فيها ، فقال : أمّا ما أخرجه البحر ، فهو لأهله ، اللّه أخرجه ، وأمّا ما اخرج بالغوص ، فهو لهم ، وهم أحق به (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : وجه الفقه في هذا الحديث ، أنّ ما أخرجه البحر ، فهو لأصحابه وما تركه أصحابه ، آيسين منه ، فهو لمن وجده ، وغاص عليه ، لأنّه صار بمنزلة المباح ، ومثله من ترك بعيره من جهد ، في غير كلاء ولا ماء ، فهو لمن أخذه ، لأنّه حلاه آيسا منه ورفع يده عنه ، فصار مباحا ، وليس هذا قياسا ، لأنّ مذهبنا ترك القياس ، وانّما هذا على جهة المثال ، والمرجع فيه إلى الإجماع ، وتواتر النصوص ، دون القياس والاجتهاد ، وعلى الخبرين إجماع أصحابنا منعقد.

وروى ابن أبي عمير ، عن جميل بن دراج ، عن جماعة من أصحابنا ، عنهما عليهما السلام ، قال : الغائب يقضى عليه ، إذا قامت عليه البيّنة ، ويباع ماله ، ويقضى عنه دينه ، وهو غائب ، ويكون الغائب على حجته ، إذا قدم ، قال : ولا يدفع المال إلى الذي أقام البيّنة ، إلا بكفلاء (3).

وقد قدّمنا ذلك وشرحناه (4).

وروى محمّد بن يحيى الخزاز ، عن غياث بن إبراهيم ، عن جعفر ، عن أبيه ، أن عليّا عليه السلام ، كان يفلس الرجل ، إذا التوى على غرمائه ، ثم يأمر به فيقسم (5) ماله بينهم بالحصص ، فإن أبى ، باعه فقسّمه بينهم ، يعني ماله (6).

ص: 195


1- ج : الحسين.
2- الوسائل : الباب 11 من أبواب اللقطة ، ح 2.
3- الوسائل : الباب 26 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.
4- كتاب الديون ، ص.
5- ج : التوى عن غرمائه : ثمّ يأمره فيقسم.
6- الوسائل : الباب 6 من أبواب أحكام الحجر ، ح 1.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : معنى التوى ، أي دافع ومطل ، قال الشاعر : « تديمين ليّاني وأنت ملية » أي تديمين مطلي.

عنه عن غياث بن إبراهيم ، عن جعفر ، عن أبيه ، أنّ عليا عليه السلام ، كان يحبس في الدين ، فإذا تبيّن إفلاس وحاجة ، خلّى سبيله ، حتى يستفيد مالا (1).

وروى السكوني ، بفتح السين ( قال محمّد بن إدريس ، منسوب إلى السكون ، قبيلة من اليمين ، واسمه إسماعيل بن أبي زياد ، وهو عامي المذهب ، إلا أنّه يروي عن الأئمة عليهم السلام ) عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، عن أبيه ، عن علي عليه السلام ، أنّ امرأة استعدت على زوجها ، أنّه لا ينفق عليها ، وكان زوجها معسرا ، فأبى أن يحبسه ، وقال : إنّ مع العسر يسرا (2).

وعنه ، عن جعفر ، عن أبيه ، أنّ عليا عليه السلام ، كان يحبس في الدين ، ثم ينظر ، إن كان له مال ، أعطى الغرماء ، وإن لم يكن له مال ، دفعه إلى الغرماء ، فيقول لهم : اصنعوا به ما شئتم ، إن شئتم فآجروه ، وإن شئتم استعملوه ، وذكر الحديث (3) ، قال محمد بن إدريس : هذا الخبر غير صحيح ، ولا مستقيم ، لأنّه مخالف لأصول مذهبنا ، ومضاد لتنزيل الكتاب ، قال تعالى ( وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ) (4) ولم يذكر استعملوه ، ولا فاجروه وانّما أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (5) إيرادا ، لا اعتقادا.

وقد رجع في مسائل الخلاف ، فقال : مسألة ، إذا أفلس من عليه الدين ، وكان ما في يده لا يفي بقضاء ديونه ، فإنّه لا يواجر ، ليكتسب ، ويدفع إلى الغرماء ، ثم قال : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمة ، ولا دليل على وجوب إجارته ، وأيضا قوله تعالى « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » ولم يأمر بالتكسب ،

ص: 196


1- الوسائل : الباب 7 من أبواب أحكام الحجر ، ح 1 و 2 و 3.
2- الوسائل : الباب 7 من أبواب أحكام الحجر ، ح 1 و 2 و 3.
3- الوسائل : الباب 7 من أبواب أحكام الحجر ، ح 1 و 2 و 3.
4- البقرة : 280.
5- النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع القضايا والأحكام.

هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه ، في الجزء الثاني (1).

وروى أبو بصير ، عن أبي جعفر عليه السلام ، قال : إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة ، وأهل الإنجيل يتحاكمون إليه ، كان ذلك إليه ، إن شاء حاكم بينهم (2) ، وإن شاء تركهم (3).

هذا الخبر صحيح ، وعليه إجماع أصحابنا من عقد ، لأنّ الحاكم بالخيار في ذلك ، إن شاء حكم ، وإن شاء ترك ، ولا يجب عليه الحكم ، إلا أنّه إن حكم ، فلا يجوز له أن يحكم إلا بما تقتضيه شريعة الإسلام وعدله ، ولا يجوز له أن يحكم إلا بالحق ، لقوله تعالى ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ ) (4) وإن شاء أعرض عنهم لقوله تعالى ( فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ، أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ) (5) فقد خيره في ذلك.

وروى طلحة بن زيد ، والسكوني جميعا ، عن جعفر ، عن أبيه ، عن علي عليه السلام ، أنّه كان لا يجير كتاب قاض إلى قاض ، في حدّ ، ولا غيره ، حتى وليت بنو أمية ، فأجازوا بالبينات (6).

قوله : فأجازوا بالبينات يريد بذلك ، أنّ هذا كتاب فلان القاضي ، لا أن (7) المقصود أجازوا الأحكام بالبيّنات ، وقد بيّنا ، أنّه لا خلاف بين أصحابنا ، سلفهم وخلفهم ، بل إجماعهم منعقد ، على أنّه لا يجوز كتاب قاض إلى قاض ، ولا يعمل به ، ولا يحكم ، لأنّ ذلك حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

وأيضا فلا يجوز للحاكم الثاني ، والقاضي الثاني ، أن يقلد القاضي الأول ، بل يجب عليه أن يحكم بالحق ، وإقامة البينة ، أو الإقرار ، وما ثبت من ذلك عنده ، دون ما ثبت عند غيره.

ص: 197


1- الخلاف : كتاب التفليس مسألة 15.
2- ج : حكم بينهم.
3- الوسائل : الباب 27 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.
4- المائدة : 47.
5- المائدة : 42.
6- الوسائل : الباب 28 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.
7- ج : لأن.

فأمّا ما يدّعي من كتب الرسول عليه السلام ، إلى البلدان ، فجميع ذلك أخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، وما عمل بالكتاب ، بل بالتواتر ، بما في الكتاب دونه ، إن كان عمل بشي ء من ذلك ، على ما بيّناه.

وروى هارون بن حمزة ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : قلت رجلان من أهل الكتاب نصرانيان ، أو يهوديان ، كان بينهما خصومة ، فقضى بينهما حاكم من حكامهما بجوز ، فأبى الذي قضى عليه أن يقبل ، وسأل أن يرد إلى حكم المسلمين ، قال : يرد إلى حكم المسلمين (1).

قال محمّد بن إدريس : إن كان قد قضى عليه بما هو صحيح في مذهبهم ، فقد أمرنا أن نقرهم على أحكامهم ، فلا يجوز لنا أن نفسخ حكمهم عليهم ، ولا نردّه عليهم ، ولا نجيبه إلى دفعه عن نفسه ، وإن كان قد قضى عليه بجوز على مذهبهم ، فنردّه ، ويسلّم ظاهر الحديث ، لأنّا ما أمرنا أن نقرهم ، إلا على أحكامهم ، وما يجوز عندهم ، دون ما لا يجوز ، ويعضد ما قلناه ، قوله في الحديث : قضى بينهما حاكم من حكامهما بجور ، وما يكون حقا عندهم ، ما يكون جورا على المحكوم عليه ، بل هو عنده حقّ وصواب.

وروى حريز ( بالحاء غير المعجمة ، وآخر الاسم زاي ) عن محمد بن مسلم ، وزرارة ، عنهما جميعا قال : لا يحلف أحد عند قبر النبيّ عليه السلام على أقل ممّا يجب فيه القطع (2).

قال محمّد بن إدريس : هذا على جهة التغليظ ، فانّ الحاكم ، لا يلزمه أن يحلف هناك ، إلا إذا كانت الدعوى مقدار ربع دينار ، فإن كان أقل من ذلك ، فلا يلزمه أن يحلف هناك.

وروى عاصم بن حميد ، عن أبي حمزة الثمالي ، عن أبي جعفر عليه السلام ،

ص: 198


1- الوسائل : الباب 27 من أبواب كيفية الحكم ، ح 2 ثمّ ان جواب الإمام لم يذكر في نسخة الأصل.
2- الوسائل : الباب 29 من أبواب كيفية الحكم ، ح 1.

قال : قلت له جعلت فداك ، في كم تجري الأحكام على الصبيان؟ قال : في ثلاث عشرة سنة أو أربع عشرة سنة ، قلت : فإنّه لم يحتلم ، فيها ، قال : وإن لم يحتلم ، فإنّ الأحكام تجري عليه (1).

قال محمّد بن إدريس : قد ورد هذا الحديث ، وهو من أخبار الآحاد ، والاعتماد عند أصحابنا على البلوغ في الرجال ، وهو إما الاحتلام ، أو الإنبات في العانة ، أو خمس عشرة سنة ، وفي النساء الحيض ، أو الحمل ، أو تسع سنين ، فانّ شيخنا أبا جعفر رحمه اللّه ، أورد هذا الحديث في نهايته (2) إيرادا ، لا اعتقادا ، لأنّه أورده في باب النوادر ، ورجع عنه في سائر كتبه ، وذهب إلى أنّ حد بلوغ النساء المحيض ، أو الحمل ، أو تسع سنين.

وروى أبو بصير ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن رجل ، دبّر غلامه ، وعليه دين ، فرارا من الدين ، قال : لا تدبير له ، وإن كان دبّره في صحّة منه وسلامة ، فلا سبيل للديان عليه (3).

قال محمّد بن إدريس : قد أورد هذا الحديث شيخنا أبو جعفر في نهايته (4). والذي عندي أنّ التدبير الذي لا عن نذر ، عند أصحابنا بمنزلة الوصية ، لا خلاف بينهم في ذلك (5) ، فعلى هذا التقرير والتحرير ، سواء دبّره في حال صحة منه وسلامة ، أو غير ذلك ، فإنّه يباع في الدين ، ويبطل التدبير ، وهذا خبر واحد ، أورده شيخنا ، إيرادا ، لا اعتقادا.

وقال بعض أصحابنا ، وهو صاحب كتاب الفاخر قال : ومن دبّر عبدا لا مال

ص: 199


1- الوسائل : الباب 45 من أبواب أحكام الوصايا ، ح 3.
2- النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع القضايا والأحكام.
3- الوسائل : الباب 9 من أبواب التدبير ، ح 2.
4- النهاية : كتاب القضايا والأحكام ، باب جامع القضايا والأحكام.
5- ج : في ذلك ، وإجماعهم منعقد على ذلك.

له غيره ، وعليه دين ، فدبره في صحة منه ، ومات ، فلا سبيل للديان عليه ، فإن كان دبّره في مرضه ، بيع العبد في الدين ، فإن لم يحط الدين بثمن العبد ، استسعى في قضاء دين مواليه ، وهو حرّ إذا تممه ، هذا آخر كلامه ، وقد قلنا ما ما عندنا في ذلك ، وهو أنّه لا تدبير إلا بعد قضاء الدين ، سواء دبّره وعليه دين ، أو لم يكن عليه دين ، وسواء دبّره في حال مرضه ، أو صحّته.

وروى غياث بن كلوب ، عن إسحاق بن عمّار ، عن جعفر ، عن أبيه أن عليا عليه السلام ، كان يقول : لا ضمان على صاحب الحمام ، فيما ذهب (1) من الثياب ، لأنّه إنّما أخذ الجعل (2) على الحمام ، ولم يأخذ على الثياب (3).

قال محمّد بن إدريس : هذا خبر صحيح ، لأنّ الإجماع منعقد من أصحابنا عليه ، هذا إذا لم يستحفظه الثياب ، فأمّا إن استحفظه ، وفرّط في الحفاظ ، فعليا الضمان ، لأنّه صار مودعا ، وكذلك إذا استأجره على حفظ الثياب ، ودخول الحمام ، فإنّه يجب عليه حفاظها ، فإذا فرط في ذلك ، فإنّه يجب عليه الضمان ، فأمّا إذا لم يستحفظه ، ولا استأجره على حفظها ، فلا ضمان عليه ، كما ورد في الحديث.

وروى عبد الرحمن بن سيابة ( بالسين غير المعجمة والياء بنقطتين من تحت ، والباء بنقطة واحدة من تحت ، مفتوحة السين ، والياء خفيفة ، وهي الخلالة ، فسمى الرجل باسمها ) عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، أنّه قال : على الإمام ، إن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة إلى الجمعة ، ويوم العيد إلى العيد ، فيرسل معهم ، فإذا قضوا الصلاة والعيد ، ردّهم إلى السجن (4).

وروي هذا الحديث غير متواتر ، فإن كان عليه إجماع منعقد ، رجع اليه ، أو دليل سوى الإجماع ، عوّل عليه ، ولا يرجع إلى أخبار الآحاد في مثل هذا.

ص: 200


1- ل : يذهب.
2- ج : يأخذ الجعل.
3- الوسائل : الباب 30 من أبواب كيفية الحكم ، ح 2.
4- الوسائل : الباب 3 من أبواب كيفية الحكم ، ح 2.

كتاب المكاسب

اشارة

ص: 201

كتاب المكاسب

باب عمل السّلطان وأخذ جوائزهم

السلطان على ضربين ، أحدهما سلطان الحق العادل ، والآخر سلطان الجور الظالم المتقلب ، فأمّا الأول فمندوب إلى خدمته ومعاونته ، ومرغب فيها ، وربما وجب ذلك على المكلف ، بأن يدعوه فيجب امتثال أمره ، فإذا ولى هذا السلطان إنسانا ، أمارة ، أو حكما ، أو غير ذلك من ضروب الولايات ، وجب عليه طاعته في ذلك ، وترك الخلاف له فيه ، وجائز قبول جوائزه وصلاته ، وأرزاقه ، وسائغ التصرف في ذلك على كل حال.

وأمّا السلطان الجائر ، فلا يجوز لأحد أن يتولى شيئا من الأمور ، مختارا من قبله ، إلا من يعلم ، أو يغلب على ظنه ، أنّه إذا تولّى ولاية من جهته ، تمكّن من الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وقسمة الأخماس والصدقات الى مستحقيها ، وصلة الاخوان ، ولا يكون في شي ء من ذلك تاركا لواجب ، ولا مخلا به ، ولا فاعلا لقبيح ، فإنّه حينئذ مستحب له التعرض لتولي الأمر من جهته ، فإن علم أو ظن أنّه لا يتمكن من ذلك ، وأنّه لا بدّ له من الإخلال بواجب ، أو أن يفعل قبيحا ، لم يجز له تولّي ذلك ، فإن ألزمه السلطان الجائز بالولاية ، إلزاما لا يبلغ تركه الإجابة إلى ذلك ، الخوف على النفس ، وسلب المال ، وإن كان ربما لحقه بعض الضرر ، أو لحقته في ذلك مشقة ، فالأولى أن يتحمل تلك المشقة ، ويتكلّف مضرتها ، ولا يتعرّض للولاية من جهته ، فإن خاف على نفسه ، أو على أحد من أهله ، أو المؤمنين ، أو على ماله ، جاز له أن يتولّى ذلك ، وساغ له عند

ص: 202

هذا الخوف ، الدخول فيه ، بعد إلزامه له ، وخوفه المذكور منه ، ويجتهد ويحرص بعد هذا كلّه على وضع الأمور الشرعيّة مواضعها ، وإقرار الحق مقره ، فإن لم يتمكن من ذلك ، اجتهد فيما يتمكن منه ، فان لم يتمكّن من فعل شي ء ظاهرا فعله سرا ، لا سيّما فيما يتعلّق بحقوق الإخوان في الدين ، والتخفيف عنهم من ظلم السلاطين الجورة ، من خراج ، وغيره ، فإن لم يتمكن من القيام بحق من الحقوق ، والحال في التقية ، على ما ذكرناه ، جاز له أن يتقي في جميع الأشياء ، وسائر الأمور ، والأحكام التي لا تبلغ إلى قتل النفوس ، وسفك الدماء المحرمة ، لأنّ ذلك ليس فيه تقية عند أصحابنا ، لا خلاف بينهم ، أن لا تقية في قتل النفس ، وسفك الدماء ، فإذا كان الأمر في التقية ما ذكرناه ، جاز له قبول جوائزه ، وصلاته ، ما لم يعلم أنّ ذلك ظلم بعينه ، فإذا لم يعلم أنّه بعينه ظلم ، فلا بأس بقبوله ، وإن كان المجيز له ظالما ، وينبغي له أن يخرج الخمس من كل ما يحصل من ذلك ، ويوصله إلى أربابه ، ومستحقيه ، وينبغي له أن يصل إخوانه من الباقي بشي ء ، ويتصرف هو في منافعه بالبعض ، الذي يبقي من ذلك.

وإذا تمكن الإنسان من ترك معاملة الظالمين ، بالبيع والشراء ، وغير ذلك ، فالأولى به تركها ، ولا يتعرض لشي ء منها جملة ، وإن لم يتمكن من ترك معاملتهم ، كانت جائزة إلا أنه لا يشتري منهم شيئا يعلم أنّه مغصوب بعينه جميعه ، فإن كان يعلم أن فيه شيئا مغصوبا ، إلا أنّه غير مميز العين ، بل هو مخلوط في غيره من غلاته ، التي يأخذها على جهة الخراج ، وأمواله ، فلا بأس أيضا بشرائه منها ، وقبول صلته منها ، لأنّها صارت بمنزلة المستهلكة ، لأنه غير قادر على ردّها بعينها ، ولا يقبل منه ما هو محرم في شرع الإسلام ، فإن خاف من ردّ جوائزهم وصلاتهم ، التي يعلمها ظلما بأعيانها ، وغصبا ، على نفسه وماله ، جاز له قبولها عند هذه الحال ، ويجب عليه ردّها على أربابها ، إن عرفهم ، فإن لم يعرفهم ، عرّف ذلك المال ، واجتهد في طلبهم.

ص: 203

وقد روى أصحابنا أنه يتصدق به عنهم ، ويكون ضامنا إذا لم يرضوا بما فعل (1) والاحتياط حفظه ، والوصية به.

وقد روي أنّه يكون بمنزلة اللقطة (2).

وهذا بعيد من الصواب ، لأنّ إلحاق ذلك باللقطة يحتاج إلى دليل.

ويجوز للإنسان أن يبتاع ما يأخذه سلطان الجور ، من الزكوات ، الإبل ، والبقر ، والغنم ، والغلات ، والخراج ، وإن كان غير مستحق لأخذ شي ء من ذلك ، إلا أن يتعيّن له شي ء منه بانفراده أنه غصب ، فإنّه لا يجوز له أن يبتاعه ، وكذلك يجوز له أن يبتاع منهم ما أراد من الغلات ، على اختلافها ، وإن كان يعلم أنّهم يغصبون أموال الناس ، ويأخذون ما لا يستحقونه ، إلا أن يعلم أيضا ويتعيّن له شي ء منه بانفراده أنّه غصب ، فلا يجوز له أن يبتاعه منهم.

وإذا غصب ظالم إنسانا شيئا ، وتمكن المظلوم من أخذه ، أو أخذ عوضه ، كان ذلك جائزا له ، وروي أن تركه ، أفضل (3).

فإن أودعه الظالم وديعة ، جاز له أيضا أن يأخذ منها بقدر ماله ، وقال بعض أصحابنا : لا يجوز له أن يخون في الوديعة ، ويجوز له أن يأخذ ما عداها ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك فيما تقدّم ، من كتابنا هذا (4) ، فإنّ ما ورد في المنع من أخذ الوديعة ، أخبار آحاد ، وقد ورد ما يعارضها ، فإن صحت تلك الأخبار ، فهي محمولة على الكراهة ، دون الحظر.

فإن أودعه الظالم وديعة يعلم أنّها بعينها غصب ، وعرف صاحبها ، وأمن

ص: 204


1- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به.
2- الوسائل : الباب 18 من أبواب اللقطة ، ح 1.
3- لعلّه إشارة إلى صحيح سليمان بن خالد المحمول على الأفضلية جمعا. فراجع الوسائل : الباب 83 من أبواب ما يكتسب به ، ح 7.
4- تقدّم في كتاب الديون ، باب وجوب قضاء الدين إلى الحي والميت ، ص 36.

بوائق الظالم ، فلا يجوز له أن يردّها على الظالم الغاصب لها ، بل الواجب عليه ، ردّها على صاحبها ، فإن ردّها على الغاصب ، والحال ما ذكرناه ، كان ضامنا لصاحبها ، فإن علم أنّها غصب ، ولم يعرف صاحبها بعينه ، بقاها عنده ، إلى أن يعرفه ، ويستعمل فيها ما ذكرناه أولا ، فإن خاف على نفسه من ترك ردّها على الظالم الغاصب ، جاز له ردّها عليه ، وكذلك إن كانت مختلطة بمال الغاصب ، خلطا لا يتميز ، فلا يجوز له إمساكها عليه ، ووجب عليه ردّها إليه سواء خاف بوائقه أو لم يخف.

وذكر شيخنا في الاستبصار ، في كتاب المكاسب ، باب العينة ( وهي بالعين غير المعجمة المكسورة ، والياء المسكنة ، والنون المفتوحة المخففة ، والهاء المنقلبة عن تاء ومعناها في الشريعة ، هو أنّ يشتري سلعة بثمن مؤجل ، ثم يبيعها بدون ذلك نقدا ، ليقضي دينا عليه ، لمن قد حلّ له عليه ، ويكون الدين الثاني وهو العينة من صاحب الدين الأول ، ليقضيه بها الدين الأول ) روى أبو بكر الحضرمي ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : رجل تعيّن ، ثم حلّ دينه ، فلم يجد ما يقضي ، أيتعيّن من صاحبه الذي عيّنه ، ويقضيه ، قال : نعم (1).

مأخوذ ذلك من العين ، وهو النقد الحاضر ، قال الشاعر :

أندان أم نعتان أم ينبري لنا *** فتى مثل نصل السيف هزّت مضاربه

معنى أندان : نستدين ، مأخوذ من أدان الرجل ، بتشديد الدال ، بمعنى استدان ، وهو أن يأخذ الدين ، أو يشتري سلعة بدين ، ومنه حديث عمر في أسيفع جهينة : فأدّان معرضا ، ومعنى معرضا ، من عرض الناس ، كل من وجده استدان منه. ومعنى نعتان ، نشتري عينة ، وهو أن يشتري سلعة بثمن مؤجل ،

ص: 205


1- الإستبصار : كتاب المكاسب : باب العينة ، ح 1 ، ص 79 ، ج 3 ، وفي الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 6 من أبواب أحكام العقود ، ح 2.

ثم يبيعها بدون ذلك نقدا ، مأخوذ ذلك من العين ، وهو النقد الحاضر ، على ما قدّمناه ، وحررناه ، وشرحناه.

باب ما يجوز للإنسان أن يأخذ من مال والده وما يجوز للرجل أن يأخذ من مال ولده ، وما للمرأة من مال زوجها ، ومن يجبر الإنسان على نفقته وأحكام ذلك

لا يجوز للولد أن يأخذ من مال والده شيئا ، قليلا كان أو كثيرا ، إلا بإذنه ، لا مختارا ولا مضطرا ، فإن اضطر ضرورة يخاف معها على تلف نفسه ، أخذ من ماله ما يمسك به رمقه ، كما يتناول من الميتة والدم ، هذا إذا كان الوالد ينفق عليه ، ويقيم (1) بواجب حقه ، لأنّ نفقة الولد تجب عندنا على الوالد ، إذا كان الولد معسرا ، سواء كان بالغا ، أو غير بالغ ، ويجبر الوالد على ذلك ، فأمّا إذا كان الولد موسرا ، فلا تجب نفقته على والده ، سواء كان صغيرا أو كبيرا ، بالغا ، بلا خلاف بيننا.

فإذا تقرر ذلك فإن أنفق عليه ، وإلا رفعه إلى الحاكم ، وأجبره الحاكم على الإنفاق ، فإن لم يكن حاكم يجبره على ذلك ، فللولد عند هذه الحال ، الأخذ من مال والده ، مقدار ما ينفقه على الاقتصاد ، ويحرم عليه ما زاد على ذلك.

والوالد فما دام الولد ينفق عليه ، مقدار ما يقوم بأوده ، وسدّ خلته ، من الكسوة ، والطعام بالمعروف ، فليس لوالده أن يأخذ من ماله بعد ذلك شيئا ، لا لقضاء ديونه ، ولا ليتزوج به ، ولا ليحج ، ولا غير ذلك ، فإن لم يكن الوالد معسرا ، وكان مستغنيا عن مال ولده ، فلا يجوز له أن يأخذ شيئا من ماله ، على حال ، لا بالمعروف ، ولا غيره ، لأنّ نفقة الوالد لا تجب على الولد عندنا ، إلا مع الإعسار ، فأمّا مع الاستغناء ، فلا تجب النفقة على ولده.

ص: 206


1- ج يقوم.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا كان للولد مال ، ولم يكن لوالده ، جاز له أن يأخذ منه ما يحج به حجة الإسلام ، فأمّا حجة التطوع ، فلا يجوز له أن يأخذ نفقتها من ماله ، إلا بإذنه (1).

إلا أنه رجع عن هذا في كتاب الإستبصار ، في الجزء الثالث ، فإنّه رحمه اللّه ، قال : قال محمد بن الحسن : هذه الأخبار كلّها دالة ، على أنّه انّما يسوغ للوالد أن يأخذ من مال ولده ، إذا كان محتاجا فأمّا مع عدم الحاجة ، فلا يجوز له أن يتعرض له ، ومتى كان محتاجا وقام الولد به ، وبما يحتاج إليه ، فليس له أن يأخذ من ماله شيئا ، قال رحمه اللّه : فإن ورد في الأخبار ما يقتضي ، جواز تناوله من مال ولده مطلقا ، من غير تقييد ، فينبغي أن يحمل على ذلك التقييد.

قال رحمه اللّه : والذي يدلّ على ما ذكرناه ، من التقييد ، ما رواه محمّد بن يحيى ، عن عبد اللّه بن محمد ، عن علي بن الحكم ، عن الحسين بن أبي العلاء ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : ما يحل للرجل من مال ولده ، قال : قوته بغير سرف ، إذا اضطر إليه ، قال : قلت له : فقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله للرجل الذي أتاه فقدّم أباه : أنت ومالك لأبيك ، فقال : إنّما جاء بأبيه إلى النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، فقال له : يا رسول اللّه ، هذا أبي ، قد ظلمني ميراثي من أمي ، فأخبره الأب ، أنّه قد أنفقه عليه ، وعلى نفسه ، فقال : أنت ومالك لأبيك ، ولم يكن عند الرجل شي ء أفكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله يحبس الأب للابن (2) ثم قال رحمه اللّه : فأمّا ما رواه الحسين بن سعيد ، عن عثمان بن عيسى ، عن سعيد بن يسار ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : أيحج الرجل من مال ابنه ، وهو صغير؟ قال : نعم ، قلت : يحج حجة الإسلام ، وينفق منه ،

ص: 207


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ما يجوز للرجل أن يأخذ من مال ولده.
2- الوسائل : الباب 78 من أبواب ما يكتسب به ، ح 8.

قال : نعم بالمعروف ، ثم قال : نعم يحج منه ، وينفق منه ، إنّ مال الولد للوالد ، وليس للولد أن ينفق من مال والده إلا بإذنه (1) ، قال رحمه اللّه : فما يتضمّن هذا الخبر من أنّ للوالد أن ينفق من مال ولده ، محمول على ما قلناه ، من الحاجة الداعية إليه ، وامتناع الولد من القيام به ، على ما دل عليه الأخبار المتقدّمة ، قال رحمه اللّه : وما يتضمن من أنّ له أن يأخذ ما يحج به حجة الإسلام ، محمول على أنّ له ، أن يأخذ على وجه القرض على نفسه ، إذا كان وجبت عليه حجة الإسلام ، فأمّا من لم تجب عليه ، فلا يلزمه أن يأخذ من مال ولده ، ويحج به ، وانّما يجب الحج عليه بشرط وجود المال ، على ما بيّناه ، ثم قال رحمه اللّه : وما تضمنته الأخبار الأوّلة ، من أنّ له أنّ يطأ جارية ابنه ، إذا قوّمها على نفسه ، ما لم يمسها الابن ، محمول إذا كان ولده صغارا (2) ويكون هو القيم بأمرهم ، والناظر في أموالهم. هذا آخر ما أوردته من كلام شيخنا أبي جعفر في أول الجزء الثالث من استبصاره (3).

وهو الذي يقوى عندي ، دون ما ذكره ، وأطلقه في نهايته (4) ، إلا ما قاله من جواز أخذ نفقة حجة الإسلام ، على جهة القرض ، فانّ هذا أيضا لا يجوز ، لأنّه لا يجب عليه الاستدانة ليحج بها ، إلا أنّه لو حج ، كانت الحجة مجزية عما وجب ، واستقر في ذمته ، غير أنّه ما ورد عند أصحابنا ، إلا أنّ للوالد أن يشتري من مال ابنه الصغير ، من نفسه بالقيمة العدل ، ولم يرد بأنّ له ، أن يستقرض المال.

وإذا كان للولد جارية ، لم يكن وطئها ، ولا مسّها بشهوة ، جاز للوالد أن

ص: 208


1- الوسائل : الباب 78 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4.
2- ج على ما إذا كان أولاده صغارا
3- الاستبصار : الباب الأوّل من كتاب المكاسب ، ص 49 - 51 ، ح 6 و 9.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب ما يجوز للرجل أن يأخذ مال ولده.

يأخذها ، ويطؤها ، بعد أن يقومها على نفسه ، قيمة عادلة ، ويضمن قيمتها في ذمته ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1) ، وقد بيّنا أنّه رجع في استبصاره عن إطلاق هذا القول ، وقيّده بأن تكون للولد الصغير (2) ، وهذا هو الصحيح الذي عليه الإجماع ، فأمّا إذا كان الولد بالغا كبيرا ، فلا يجوز للوالد وطئ جاريته ، إلا بإذنه على كل حال.

ثم قال شيخنا في نهايته : ومن كان له ولد صغار ، فلا يجوز له أن يأخذ شيئا من أموالهم ، إلا قرضا على نفسه (3).

والوالدة لا يجوز لها أن تأخذ من مال ولدها شيئا ، لا على سبيل القرض ، ولا غيره ، إلا إذا كانت معسرة ، ولم ينفق عليها ، فلها أن ترفعه إلى الحاكم ، ويلزمه الحاكم النفقة عليها ، ويجبره على ذلك ، فإن لم يكن حاكم يجبره جاز لها أن تأخذ النفقة بالمعروف.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : والوالدة لا يجوز لها أن تأخذ من مال ولدها شيئا ، إلا على سبيل القرض على نفسها (4).

وهذا غير واضح ، لأنّه لا دلالة على ذلك ، وقوله عليه السلام : لا يحل مال امرأة مسلم إلا عن طيب نفس منه (5) ، وأيضا التصرف في مال الغير بغير إذنه قبيح عقلا وسمعا ، فمن جوزه ، فقد أثبت حكما يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

ولا يجوز للمرأة أن تأخذ من بيت زوجها ، من غير أمره وإذنه ، شيئا ، قلّ ذلك أو كثر ، إلا المأدوم فقط ، على ما روى أصحابنا ، لشاهد الحال ، ما لم يؤد

ص: 209


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ما يجوز للرجل أن يأخذ مال ولده.
2- ج : يكون الولد صغيرا.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب ما يجوز للرجل أن يأخذ مال ولده.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب ما يجوز للرجل أن يأخذ مال ولده.
5- الوسائل : الباب 1 من أبواب القصاص في النفس ، ح 3 ، وعبارته هكذا : « لا يحل دم امرئ مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه ».

ذلك إلى الإضرار به ، فإن أدّى ذلك إلى الإضرار به ، لم يجز لها أخذ شي ء منه ، على حال ، وكذلك إن نهاها عن ذلك ، وإن لم يؤد إلى الإضرار به ، فإنّه والحال ما وصفناه ، لا يحل لها أخذ شي ء منه بحال.

ويجبر الإنسان على نفقة ولده ، ووالديه ، وجده ، وجدته ، وزوجته ، ومملوكه ، وإن اختصرت القول في ذلك ، فقلت يجبر الإنسان على نفقة العمودين ، الآباء والأبناء ، صعد هؤلاء ، أو نزل هؤلاء ، والزوجة ، والمملوك ، كان جيدا حسنا.

ولا يجبر على نفقة أحد غير من سميناه بحال من الأحوال ، بغير خلاف بين فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، وإن كانوا من ذوي أرحامه ، وقد روي أنّه يجبر على نفقة أقرب ذوي أرحامه إليه ، إذا كان من يرثه ، ولم يكن له وارث غيره (1) وذلك محمول على الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب.

وإذا وهبت المرأة لزوجها شيئا ، كان ذلك ماضيا ، فإن أعطته شيئا ، وشرطت له الانتفاع به ، فإن كان ذهبا ، وقالت له : اتّجر به ، والربح لك ، فهذا يكون قرضا عليه ، لا قراضا ومضاربة ، وكان حلالا له التصرف فيه ، والربح له ، دونها.

وجملة الأمر ، وعقد الباب ، انّ هاهنا ثلاثة عقود ، عقد يقتضي أنّ الربح كله لمن أخذ المال ، وهو القرض ، وعقد يقتضي أنّ الربح كله لرب المال ، وهو البضاعة ، يقول له : خذ هذا المال ، فاتجر به ، والربح كله لي ، فإنّه يصح ، لأنّها استعانة منه على ذلك ، وعقد يقتضي أنّ الربح بينهما ، وهو القراض ، فإذا قال : خذه ، واتجر به ، صلح لهذه الثلاثة العقود قرض ، وقراض ، وبضاعة ، فإذا قرن به قرينة ، أخلصته إلى ما تدلّ القرينة عليه ، فإن قال : خذه واتّجر به ، والربح لك ، كان قرضا ، لأنّها قرينة تدلّ عليه ، وإن قال : خذه فاتّجر به ، على أنّ الربح لي ، كان بضاعة لمثل ذلك ، فإن قال : خذه واتجر به ، على أنّ الربح

ص: 210


1- الوسائل : الباب 11 من أبواب النفقات ، ح 4.

بيننا ، كان قراضا ، لأنّ القرينة تدلّ عليه.

وقد روي أنّه يكره له أن يشتري بذلك المال الذي أعطته إيّاه زوجته ، جارية يطؤها ، لأنّها أرادت مسرته ، فلا يريد مساءتها ، فإن أذنت له في ذلك زالت الكراهة (1).

باب التصرف في أموال اليتامى

لا يجوز التصرف في أموال اليتامى ، إلا لمن كان وليا لهم ، أو وصيّا ، قد اذن له في ذلك ، والفرق بين الولي والوصي ، أنّ الولي يكون من غير ولاية ، مثل الحاكم ، والجد ، والأب ، والوصي لا يكون إلا بولاية غيره عليهم ، فمن كان وليا ، أو وصيا يقوم بأمرهم ، ويجمع أموالهم ، وسد خلاتهم ، وحفاظ غلاتهم ، ومراعاة مواشيهم ، جاز له أن يأخذ من أموالهم ، قدر كفايته وحاجته ، من غير إسراف.

وقال شيخنا أبو جعفر في التبيان (2) ومسائل الخلاف (3) له أقلّ الأمرين ، إن كانت كفايته أقل من اجرة المثل ، فله قدر الكفاية ، دون اجرة المثل ، وإن كانت اجرة المثل أقل من كفايته ، فله الأجرة ، دون الكفاية.

والذي يقوى في نفسي ، أنّ له قدر كفايته ، كيف ما دارت القصة ، لقوله تعالى ( فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ) (4) فالتلزّم (5) بظاهر التنزيل ، هو الواجب ، دون ما سواه ، لأنّه المعلوم ، وما عداه ، إذا لم يقم عليه دليل مظنون ، هذا إذا كان القيم بأمورهم فقيرا ، فأمّا إن كان غنيا ، فلا يجوز له أخذ شي ء من أموالهم (6) لا قدر الكفاية ، ولا اجرة المثل.

ص: 211


1- الوسائل : الباب 81 من أبواب ما يكتسب به ، ح 2.
2- التبيان : ج 3 ، ذيل الآية 6 من سورة النساء ، ولا يخفى ان ما في التبيان مخالف لما ذكره عنه هنا ، ولفظه هكذا : « والظاهر في أخبارنا أنّ له اجرة المثل سواء كان قدر كفايته أو لم يكن ».
3- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 295.
4- النساء : 6.
5- ج : بالالتزام.
6- وقع من هنا في نسخة الأصل سقط أوراق إلى أواسط باب ضروب المكاسب

ومتى اتّجر الإنسان المتولي لمال اليتيم ، نظرا لهم ، وشفقة عليهم ، فربح ، كان الربح لهم ، وإن خسر ، كان عليهم.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ويستحب أن يخرج من جملته الزكاة (1).

والذي يقوى عندي ، أنّه لا يخرج ذلك ، لأنّه لا دلالة عليه ، من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، لأنّه لا يجوز له التصرف ، إلا فيما فيه مصلحة لهم ، وهذا لا مصلحة لهم فيه ، من دفع عقاب ، ولا تحصيل ثواب ، لأنّ الأيتام لا يستحقون ثوابا ولا عقابا ، لكونهم غير مخاطبين بالشرعيات.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى اتجر به لنفسه ، وكان متمكنا في الحال ، من ضمان ذلك المال ، وغرامته ، إن حدث به حادث ، جاز ذلك ، وكان المال قرضا عليه ، فإن ربح كان له ، وإن خسر كان عليه ، ويلزمه في ماله وحصته الزكاة ، كما تلزمه لو كان المال له ، ندبا واستحبابا (2).

قال محمّد بن إدريس : هذا غير واضح ، ولا مستقيم ، ولا يجوز له أن يستقرض شيئا من ذلك ، سواء كان متمكنا في الحال من ضمانه ، وغرامته ، أو لم يكن ، لأنّه أمين ، والأمين لا يجوز أن يتصرف لنفسه في أمانته ، بغير خلاف بيننا معشر الإمامية ، ولا يجوز له أن يتجر فيه لنفسه ، على حال من الأحوال ، وانّما أورد شيخنا ذلك إيرادا ، لا اعتقادا ، من جهة أخبار الآحاد ، كما أورد أمثاله في هذا الكتاب ، وهو غير عامل عليه.

ثم قال في الكتاب المشار إليه : ومتى اتّجر لنفسه ، بما لهم ، وليس يتمكن في الحال من مثله وضمانه ، كان ضامنا لذلك المال ، فإن ربح كان للأيتام ، وإن خسر كان عليه ، دونهم (3).

ص: 212


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب التصرف في أموال اليتامى.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب التصرف في أموال اليتامى.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب التصرف في أموال اليتامى.

وقد قلنا إنّه لا يجوز أن يتّجر لنفسه في ذلك المال ، بحال من الأحوال.

ومتى كان لليتامى على إنسان مال ، جاز لوليّهم أن يصالحه على شي ء ، يراه صلاحا في الحال ، ويأخذ الباقي ، وتبرأ ذمة من كان عليه المال.

قال محمّد بن إدريس : أمّا الوليّ ، فجائز له مصالحة ذلك الغريم ، إذا رأى ذلك صلاحا للأيتام ، لأنّه ناظر في مصلحتهم ، وهذا من ذاك ، إذا كان لهم فيه صلاح ، فأمّا من عليه المال ، فإنّ ذمته لا تبرأ ، إن كان جاحدا مانعا ، وبذل دون الحق ، وأنكر الحق ، ثم صالحه الوليّ ، على ما أقرّ له به ، أو أقرّ بالجميع ، وصالحه على بعض فلا تبرأ ذمته من ذلك ، ولا يجوز للوليّ إسقاط شي ء منه بحال ، لأنّ الولي لا يجوز له إسقاط شي ء من مال اليتيم ، لأنّه نصب لمصالحه واستيفاء حقوقه ، لا لإسقاطها ، فيحمل ما ورد من الأخبار (1) ، وما ذكره بعض أصحابنا ، وأودعه كتابه على ما قلناه ، وحررناه أولا ، من أنّه إذا رأى الصلاح ، الوليّ في مصالحة الغريم ، فيما فيه لليتيم الحظ ، فجائز له ذلك ، ولا يجوز فيما عداه ، مما ليس له الحظ فيه ، والصلاح.

وإذا كان للإنسان على غيره مال ، ومات ، جاز لمن عليه الدين ، أن يوصله إلى ورثته ، وإن لم يذكر لهم ، أنّه كان عليه دينا ، ويجعل ذلك على جهة الصلة لهم ، والجائزة ، ويكون فيما بينه وبين اللّه تعالى ، غرضه فكاك رقبته ، مما عليه.

والمتولي للنفقة على اليتامى ينبغي أن يثبت على كل واحد منهم ما يلزمه عليه ، من كسوته بقدر ما يحتاج إليه فأمّا المأكول والمشروب ، فيجوز أن يسوي بينهم ، على ما رواه (2) أصحابنا ، لأنّ ذلك متقارب غير متفاوت.

ومتى أراد مخالطتهم بنفسه وأولاده ، جعله كواحد من أولاده ، وينفق من

ص: 213


1- الوسائل : الباب 72 من أبواب ما يكتسب به ، وكذلك الباب 75 من تلك الأبواب.
2- الوسائل الباب 73 من أبواب ما يكتسب به.

ماله ، بقدر ما ينفق من مال نفسه ، ولا يفضله في ذلك ، على نفسه ، وأولاده ، بل إن فضّل نفسه (1) عليه ، فهو الأولى والأفضل وقد قلنا إنّ المتولّي ، والقيّم بأموال اليتامى ، يأخذ من أموالهم ، قدر كفايته لنفسه فحسب ، من غير إسراف ، وحكينا عن شيخنا أبي جعفر ، ما قاله في مسائل خلافه ، وتبيانه.

وقال في نهايته ، في أول باب التصرّف في أموال اليتامى بما اخترناه ، وهو أنّ الوليّ والقيّم على أموالهم ، جاز له أن يأخذ من أموالهم ، قدر كفايته وحاجته ، من غير إسراف ولا تفريط (2).

وقال في آخر الباب : والمتولّي لأموال اليتامى ، والقيّم بأمورهم ، يستحق اجرة المثل ، فيما يقوم به من مالهم ، من غير زيادة ولا نقصان ، فإن نقص نفسه ، كان له في ذلك فضل وثواب ، وإن لم يفعل ، كان له المطالبة باستيفاء حقه ، من اجرة المثل ، فأمّا الزيادة فلا يجوز أخذها على حال (3).

وما ذكره رحمه اللّه في صدر الباب ، هو الحق اليقين ، لأنّه يعضده ظاهر التنزيل ، على ما حررنا القول فيه ، واستوفيناه.

باب ضروب المكاسب

المكاسب على ثلاثة أضرب : محظور على كل حال ، ومكروه ، ومباح على كل حال ، فأمّا المحظور على كلّ حال ، فهو كلّ محرم من المأكل والمشارب ، وسيرد (4) ذلك في موضعه ، وتراه في أبوابه من هذا الكتاب ، إن شاء اللّه تعالى.

والأجرة على خدمة السلطان الجائر ، ومعونته ، وتولي الأمر من جهته ، اتباعه في فعل القبيح ، ولمعونته ، وأمره ونهيه بذلك ، والرضا بشي ء منه ، مع

ص: 214


1- ل : بل يفضل نفسه.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب التصرف في أموال اليتامى.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب التصرف في أموال اليتامى.
4- ل : وسيرد وسنبين.

ارتفاع التقية ، والتمكّن من ترك ذلك ، والإلجاء إليه.

والتعرض لبيع الأحرار ، وابتياعهم ، وأكل أثمانهم ، وكذلك مملوك الغير بغير إذن مالكه.

وآلات جميع الملاهي ، على اختلاف ضروبها ، من الطبول ، والدفوف ، والزمر ، وما يجري مجراه ، والقضيب ، والسير ، والرقص ، وجميع ما يطرب من الأصوات والأغاني ، وما جرى مجرى ذلك ، والخبال على اختلاف وجوهه ، وضروبه ، وآلاته.

وسائر التماثيل ، والصور ذوات الأرواح ، مجسّمة كانت أو غير مجسمة.

والشطرنج ، والنرد ، وجميع ما خالف ذلك ، من سائر آلات القمار ، كاللعب بالخاتم ، والأربعة عشر ، وبيوت الرعاة ، واللّعب بالجوز ، والطيور ، وما جرى مجرى ذلك.

وأحاديث القصّاص ، والأسمار ، والنوح بالأباطيل ، والنميمة ، والكذب ، والسعاية بالمؤمنين ، والسعي في القبيح ، ومدح من يستحق الذم ، وذم من يستحق المدح.

وغيبة المؤمنين ، والتعرض لهجوهم ، والأمر بشي ء من ذلك ، والنهي عن مدح من يستحق المدح ، والأمر بمدح من يستحق الذم ، أو بشي ء من القبائح.

والحضور في مجالس المنكر ، ومواضعه ، إلا لإنكار ، أو ما جرى مجرى ذلك.

واقتناء الحيات ، وما خالف ذلك من المؤذيات ، واقتناء الكلاب ، إلا لصيد ، أو حفظ ماشية ، أو زرع ، أو حائط. وكذلك يحرم اقتناء السباع المؤذيات ، التي لا تصلح للصيد.

وذكر بعض أصحابنا ، وخصاء الحيوان ، والأولى عندي تجنب ذلك ، دون أن يكون محرّما محظورا ، لأنّ للإنسان أن يعمل في ملكه ما فيه الصلاح له ،

ص: 215

وما روي في ذلك (1) يحمل على الكراهة ، دون الحظر.

ويحرم بناء الكنائس ، والبيع ، والأجرة على ذلك ، وكل ما يكون معبدا لأهل الضلال ، والصلبان ، والعيدان ، والأوثان ، والأنصاب ، والأزلام ، والأصنام ، والتطفيف في الوزن والكيل ، والغش في جميع الأشياء.

وعمل المواشط بالتدليس ، بأن يشمن الخدود ، ويحمّرنها ، وينقشّن الأيدي والأرجل ، ويصلن شعر النساء بشعور غيرهن ، وما جرى مجرى ذلك ، ممّا يلبسن ، به على الرجال في ذلك.

وعمل السلاح ، مساعدة ومعونة لأعداء الدين ، وبيعه لهم ، إذا كانت الحرب قائمة بيننا وبينهم ، فإذا لم يكن ذلك ، وكان زمان هدنة ، فلا بأس بحمله إليهم ، وبيعه عليهم ، على ما روي في الأخبار عن الأئمة الأطهار (2).

وذكر شيخنا في نهايته ، أنّه لا بأس ببيع ما يكنّ من آلة السلاح ، لأهل الكفر ، مثل الدروع ، والخفاف (3) ( وقد نقط بخط الخاء بنقطة واحدة والفاء بنقطة واحدة ).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : الخفاف ليس هي من السلاح ، فإن أراد التخفاف ، والجمع التخافيف ، فهي من آلة السلاح ، قال أبو علي النحوي الفارسي : التاء زائدة في التخفاف ، فعلى قول أبو علي مع سقوط التاء يصير الخفاف ، فيستقيم أن يكون من آلة الحرب ، وإن كان قد روي في أخبارنا ، أورده شيخنا في الاستبصار (4) ، وسئل أبو عبد اللّه عليه السلام ، عن

ص: 216


1- مستدرك الوسائل : الباب 29 من أبواب أحكام الدواب ..
2- الوسائل : الباب 8 من أبواب ما يكتسب به.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب المكاسب المحظورة .. والعبارة في المصدر ، هكذا : ولا بأس ببيع ما يكن من آلة السلاح لأهل الكفار مثل الدروع والتخافيف.
4- الاستبصار : كتاب المكاسب الباب 33 ، ح 3 و 188 ، وفي المصدر : محمد بن قيس قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام.

الفئتين تلتقيان من أهل الباطل ، أبيعهما السلاح ، فقال : بعهما ، ما يكنهما ، من الدروع والخفين ، فشيخنا في نهايته ، ما أراد إلا الخفاف جمع خف ، على لفظ الخبر ، إلا أنّه ليس من آلة السلاح ، بل التخفاف ، من السلاح الذي يكن ، وأسقطت التاء الزائدة ، على ما قال أبو علي النحوي ، فصار الخفاف ، وهو الذي يقتضيه الكلام.

والجمع بين أهل الفسق للفجور ، والفتيا بالباطل ، والحكم به ، والتعرض للقول في ذلك ، من غير دليل مثمر لليقين ، والارتشاء على الأحكام ، والقضاء بين الناس ، وأخذ الأجرة على ذلك ، ولا بأس بأخذ الرزق على القضاء ، من جهة السلطان العادل ، ويكون ذلك من بيت المال ، دون الأجرة على كراهة فيه.

ولا يجوز أخذ الأجرة على الأذان والإقامة ، ولا على الصلاة بالناس ، وتغسيل الأموات ، وتكفينهم ، وحملهم ، ودفنهم ، والصلاة عليهم ، والأجرة المحرّمة على حملهم هي إلى المواضع التي يجب على من حضرهم الحمل إليها ، وهي ظواهر البلدان ، والجبانة المعروفة بذلك ، فأمّا ما بعد عن ذلك ، من المواضع المعظمة ، والأمكنة الشريفة المقدسة ، فلا يجب حمل الموتى إليها ، على من حضرهم ، ولا تحرم الأجرة ، على من استؤجر للحمل إلى المواضع المذكورة النائية.

ولا يحرم ثم الماء الذي يغسل به الميت على بايعه ، ولا الكفن على بايعه ، بحال ، لأنّ المحرم هو الأجر على التغسيل ، والتكفين ، وهما مصدران ، دون الماء والكفن ، فمن حرم ثمن الماء ، يلزمه تحريم ثمن الكفن ، إذ لا فرق بينهما بحال.

وشيخنا أبو جعفر ، قال في مبسوطة : وإذا وجد الماء ، لغسل الميت ، بالثمن ، وجب شراؤه من تركته ، فإن لم يخلّف شيئا ، لم يجب على أحد ذلك ، هذا آخر

ص: 217

كلامه رحمه اللّه في مبسوطة (1).

والكهانة ، والشعبذة ، والحيل المحرمة ، وما أشبه ذلك ، والقيافة ، والسحر ، وتعلمه ، وتعليمه ، ونسخ الضلال ، وحفظه ، والأجرة عليه ، وإيراد الشبه القادحة ، وتخليدها - بالخاء - الكتب من غير نقض لها ، والأجرة على تزويق المساجد ، وزخرفتها ، وفعل ذلك محرّم ، وجمع تراب الصياغة لبيعه ، وأخذه ، فإن جمعه إنسان ، فعليه أن يتصدق به ، عن أربابه.

واتخاذ العقارات ، والمساكن لعمل المناكير فيها ، مع القصد إلى ذلك ، واتخاذ السفن وغيرها ، ممّا يحمل عليه المحرمات ، مع العلم بذلك ، والقصد إليه أيضا.

واحتكار الغلات المنهي عن احتكارها ، عند عدم الناس لها ، وحاجتهم الشديدة إليها ، وإن لا يوجد في البلد سواها ، بعد ثلاثة أيام.

وبيع المصاحف ، إذا كان ذلك في المكتوب ، وبيع السرقة ، والخيانة ، وابتياعهما ، مع العلم بهما.

ونثار الأعراس ، إذا لم يعلم من صاحبه الإباحة ، لا قولا ولا شاهد حال ، فأمّا إذا علم من قصد مالكه بشاهد الحال ، أو الإذن بالقول ، الإباحة لأخذه ، فلا بأس بذلك ، غير أنّه يكره ما يؤخذ منه ، انتهابا.

وسلوك طريق يظهر فيه أمارة الخوف ، مع ترك التحرز ، والكشف عن ذلك.

والخمر ، والتصرف فيها حرام ، على جميع الوجوه ، من البيع ، والشراء ، والهبة ، والمعاوضة ، والحمل لها ، والصنعة ، وغير ذلك من أنواع التصرف ، ولا بأس بإمساكها ، ليخللها ، ويكون قصده ذلك ، دون غيره.

ولحم الخنزير ، وبيعه ، وهبته ، وأكله ، واتخاذه ، وكذلك كلّ ما كان من

ص: 218


1- المبسوط : ج 1 ، كتاب الطهارة فصل في ذكر التيمم وأحكامه ، ص 31.

الخنزير ، من شعر ، وجلد ، وشحم ، وعظم.

وكلّ شراب مسكر ، حكمه حكم الخمر ، على السواء ، قليلا كان أو كثيرا ، نيا كان أو مطبوخا ، وكذلك حكم الفقاع حكمه ، شربه ، وعمله ، والتجارة فيه ، والتكسب به حرام ، محظور ، بغير خلاف بين فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، فإنّ إجماعهم منعقد على ذلك.

وكل طعام أو شراب ، حصل فيه شي ء من الأشربة المحظورة ، أو شي ء من المحرمات والنجاسات ، فإن شربه ، وعمله ، والتجارة فيه ، والتكسب به ، والتصرف فيه ، حرام محظور.

وجميع النجاسات ، محرّم التصرّف فيها والتكسب بها على اختلاف أجناسها ، من سائر أنواع العذرة ، وروث ما لا يؤكل لحمه ، وبوله ، ولا بأس بأبوال وأرواث ما يؤكل لحمه.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : والأبوال وغيرها ، إلا أبوال الإبل خاصة ، فإنّه لا بأس يشربه والاستشفاء به عند الضرورة (1).

والصحيح من المذهب ، أن بول الإبل ، وبول غيرها مما يؤكل لحمه ، سواء لا بأس بذلك ، لأنّه طاهر عندنا ، بلا خلاف بيننا ، سواء كان لضرورة ، أو غير ضرورة ، وإنما أورد شيخنا هذا الخبر ، إيرادا ، لا اعتقادا.

وبيع الميتة ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير اللّه به ، وبيع الخنافس ، والجعلان ، وبنات وردان ، والعقارب ، والحيّات ، وكلّ شي ء لا منفعة فيه ، حرام محظور ، وكذلك بيع سائر المسوخ ، وشراؤها ، مما يكون نجس العين ، نجس السؤر.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : وبيع سائر المسوخ ، وشراؤها ، والتجارة فيها ، والتكسب (2) بها ، محظور ، مثل القردة ، والفيلة ، والدببة ، وغيرها من أنواع المسوخ (3).

ص: 219


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب المكاسب المحظورة ..
2- إلى هنا انتهى سقط نسخة الأصل.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب المكاسب المحظورة ..

قال محمد بن إدريس : قوله رحمه اللّه : الفيلة والدببة فيه كلام ، وذلك انّ كلّ ما جعل الشارع ، وسوغ الانتفاع به ، فلا بأس ببيعه ، وابتياعه لتلك المنفعة ، والا يكون قد حلل ، وأباح ، وسوّغ شيئا غير مقدور عليه ، وعظام الفيل ، لا خلاف في جواز استعمالها ، مداهن ، وأمشاطا وغير ذلك ، والدب ليس بنجس السؤر ، بل هو من جملة السباع ، فعلى هذا ، جلده بعد ذكاته ، ودباغه ، طاهر.

والرشا في الأحكام سحت وكذلك ثمن الكلب ، إلا كلب الصيد ، سواء كان سلوقيا - منسوب إلى سلوق ، قرية باليمن. أو لم يكن ، وكلب الزرع ، وكلب الماشية ، وكلب الحائط ، فإنّه لا بأس ببيع الأربعة كلاب ، وشرائها ، وأكل ثمنها ، وما عداها محرّم محظور ثمنه ، وثمن جلده ، سواء ذكي ، أو لم يذك ، لأنّه لا تحله الذكاة ، سواء كان كلب بر ، أو بحر ، فقد ذكر العلماء ، أنّه ما من شي ء في البر ، إلا ومثله في الماء ، سواء نسب إلى اسم ، أو أضيف إليه ، لأنّ الكلب اسم جنس ، يتناول الوجوه كلّها والأحوال.

وقال شيخنا في نهايته : والرشا في الأحكام سحت ، وكذلك ثمن الكلب ، إلا ما كان سلوقيا للصيد (1).

فاستثنى السلوقي فحسب ، والأظهر ما ذكرناه ، لأنّه لا خلاف بيننا ، أنّ لهذه الكلاب الأربعة ، ديات ، وأنّه تجب على قاتلها ، وشيخنا فقد رجع في غير هذا الكتاب ، في مسائل خلافه (2) ، عمّا ذكره في نهايته.

ثم قال في نهايته : وبيع جميع السباع ، والتصرف فيها ، والتكسب بها ، محظور ، إلا بيع الفهود ، خاصة ، فإنّه لا بأس بالتكسب بها ، والتجارة فيها ، لأنّها تصلح للصيد (3).

ص: 220


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب المكاسب المحظورة.
2- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 302 - 305.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب المكاسب المحظورة.

وقد قلنا ما عندنا ، في السباع وجلودها ، وهو أنّه يجوز بيعها ، لأخذ جلدها ، لأنّ جلود السباع ، لا خلاف أنها مع الذكاة الشرعية ، يجوز بيعها ، وهي طاهرة ، وبمجرد الذكاة ، يجوز بيع الجلود ، بلا خلاف ، وبانضمام الدباغ ، يصح التصرف فيها ، في جميع الأشياء : من لبس ، وفرش ، ودثار ، وخزن المائعات ، لأنّها طاهرة ، إلا الصلاة ، فإنّها لا تجوز فيها ، فحسب ، ما عدا الصلاة ، فلا بأس بالتصرّف فيها وقال شيخنا في مبسوطة : وما لا يؤكل لحمه ، مثل الفهد ، والنمر ، والفيل ، وجوارح الطير ، مثل البزاة ، والصقور ، والشواهين ، والعقبان ، والأرنب ، والثعلب ، وما أشبه ذلك ، وقد ذكرناه في النهاية ، فهذا كله ، يجوز بيعه ، وإن كان مما لا ينتفع به ، فلا يجوز بيعه ، بلا خلاف ، مثل الأسد ، والذئب ، وسائر الحشرات ، من الحيات ، والعقارب ، والفأر ، والخنافس ، والجعلان ، والحدأة ، والنسر ، والرحمة ، وبغاث الطير ، وكذلك الغربان ، سواء كان أبقع ، أو أسود. ثم قال رحمه اللّه : وأمّا غير الحيوان ، فعلى ضربين ، أحدهما نجس ، والآخر طاهر. فالنجس على ضربين ، نجس العين ، ونجس بالمجاورة. فأمّا نجس العين ، فلا يجوز بيعه ، كجلود الميتة قبل الدباغ ، وبعده ، والخمر ، والدم ، والبول ، والعذرة ، وسرجين ما لا يؤكل لحمه ، ولبن ما لا يؤكل لحمه ، من البهائم هذا أخر ما ذكره شيخنا في مبسوطة (1).

قال محمد بن إدريس : والذي ذكره رحمه اللّه في مبسوطة ، رجوع منه عمّا ذكره في نهايته ، لأنّ في النهاية ، حرّم بيع جميع السباع ، إلا الفهود ، والصحيح ما ذكره في مبسوطة ، إلا ما استثناه ، من الأسد والذئب ، لأنّه جعل ذلك ، في قسم ما لا ينتفع به ، وقد قلنا أنّه لا خلاف في الانتفاع بجلد ذلك ، بعد الذكاة في البيع ، وبانضمام الدباغ في التصرف فيه ، بأنواع التصرفات ، إلا الصلاة ،

ص: 221


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في حكم ما يصح بيعه وما لا يصح ، ص 167.

فلا فرق بين الذئب والأسد ، وبين الأرنب والثعلب.

فأمّا قوله : وبغاث الطير لا يجوز بيعه ، المراد بذلك هاهنا ، الطير المحرم اللحم ، الذي لا تحلّه الذكاة ، غير الجارح الذي يصلح للصيد ، لأن البغاث من الطير ، هو الذي لا يصطاد عند العرب ، سواء كان مأكول اللحم ، أو غير مأكول اللحم ، قال الشاعر :

بغاث الطير أكثرها فراخا *** وأم الصقر مقلات نزور

المقالات هي التي لا يعيش لها ولد ، ونزور من النزر ، وهو القليل.

ولا بأس بشراء الهر ، وبيعه ، وأكل ثمنه.

وبيع الجري ، والمار ما هي ، والطافي ، وكل سمك لا يحل أكله ، مثل الجرّيث ، وهو الجري ( والجيم من الاسمين ، مكسورة ، وكذلك الراء مكسورة أيضا ، مشددة ) وكذلك الضفادع ، والسلاحف ، وجميع ما لا يحل أكله ، حرام بيعه ، إلا ما استثناه أصحابنا من بيع الدهن النجس ، لمن يستصبح به تحت السماء ، بهذا الشرط ، فإنّه يصح بيعه ، بهذا التقييد ، لإجماعهم على ذلك.

ومعونة الظالمين ، وأخذ الأجرة على ذلك ، محرم محظور ، فأما أخذ الأجرة منهم ، على غير معونة الظلم ، فلا بأس بذلك ، مثل رعي غنمهم ، وحفاظ أملاكهم ، وغسل ثيابهم ، وغير ذلك ، وإنما المحرم أخذ أجرة المعونة على الظلم.

ومعالجة الزينة للرجال ، بما حرمه اللّه تعالى عليهم ، حرام.

وكسب المغنيات ، وتعلم الغناء (1) ، حرام.

وكسب النوائح بالأباطيل حرام ، على ما قلناه ، ولا بأس بذلك على أهل الدين ، بالحق من الكلام.

وأمّا المباح على كلّ حال ، فهو كلّ مباح من المأكل ، والمشارب ، وكل ما لم يكن من جملة ما ذكرنا كونه محظورا ، ولا من جملة ما يكون مكروها على ما نذكره.

ص: 222


1- ج : تعلّم الغناء وتعليمه.

ومن المباح ، إذا أعطى الإنسان غيره شيئا ليضعه في الفقراء ، وكان هو محتاجا إلى شي ء من ذلك ، جاز له أن يأخذ منه ، إذا كان مستحقا ، ومن أهله ، مثل ما يعطي غيره ، ولا يفضل نفسه على أحد ، إلا أن يفصّله صاحب المال ، فإن عيّن له على أقوام بأعيانهم ، لم يجز له أن يتعدّى ما أمره به ، ولا يجوز له أخذ شي ء منه عند ذلك.

وكسب القابلة حلال ، وكسب الحجام حلال طلق ، إذا لم يشترط.

فأمّا المكروه ، فجميع ما كره ، من المآكل ، والمشارب ، وكسب الحجام ، إذا شارط ، والرزق على القضاء وتنفيذ الأحكام ، من قبل الإمام العادل ، والأجر على تعليم القرآن ، ونسخ المصاحف ، مع الشرط في ذلك ، ومع ارتفاعه فهو حلال طلق ، وهذا مذهب جميع أصحابنا ، وعليه إجماعهم منعقد ، ومذهب شيخنا أبي جعفر ، في نهايته (1) وفي جميع كتبه ، إلا في استبصاره (2) ، فإنّه ذهب إلى حظره مع الشرط ، وإلى كراهته مع ارتفاع الشرط ، معتمدا على خبر (3) روته رجال الزيدية ، فأراد أن يجمع بينه ، وبين ما رواه أصحابنا من الأخبار الواردة بالكراهة مع الشرط (4) وليس في أخبارنا التي أوردها رحمه اللّه في استبصاره ، ما يدلّ على الحظر والتحريم ، ولا يلتفت إلى خبر شاذ ، يرويه رجال الزيدية ، وأيضا أخبار الآحاد ، وإن كانت رجالها عدولا ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، بل المرجع في ذلك إلى الأدلة القاطعة للأعذار ، ولا خلاف بيننا في أنّ تعليم القرآن يجعل مهورا للنساء ، ويستباح به الفروج ، فكيف يصح أن يجعل الأجرة المحرمة مهرا ، وما قاله شيخنا في هذا الكتاب المشار إليه ، أعني الاستبصار ، فعلى طريق التأويل ، والوساطة ، والجمع ، دون الاعتقاد لكونه محرما محظورا ، لأنّ ما يقال

ص: 223


1- النهاية : باب المكاسب المحظورة.
2- الإستبصار : ج 3 ، باب الأجر على تعليم القرآن ، ص 65 - 66.
3- الوسائل : الباب 9 - 29 - 30 من أبواب ما يكتسب به.
4- الوسائل : الباب 9 - 29 - 30 من أبواب ما يكتسب به.

على طريق التأويل والمناظرة ، لا يكون مذهبا لقائله ، لأنّ المقصود فيه غير ذلك ، من دفع الخصم وتأويل الكلام ، وهذا يجري للسيد المرتضى في مناظرته الخصوم كثيرا ، وإن كان فتواه وعمله واعتقاده غير ذلك في المسألة ، فلا يظن ظان ، ولا يتوهم متوهم على شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه ، أنه يعتقد حظر ذلك.

وأجر المغنيات في الأعراس ، إذا لم يغنين بالأباطيل ، على ما روي (1).

والأظهر أنّ الغناء محرم ممن كان.

والصرف وبيع الطعام ، وعظام الفيل ، وعملها عند بعض أصحابنا ، وهو ابن البراج (2) ، والأظهر أنّ ذلك ليس بمكروه.

وبيع الأكفان ، والنساجة ، والحياكة ، على ما روي في الأخبار (3) ، والذباحة ، وركوب البحر للتجارة ، وكسب صاحب الفحل ، من الإبل ، والبقر والغنم ، إذا أقامه للنكاح (4) مكروه ، وليس بمحظور عند أصحابنا ، بل إجماعهم منعقد ، على أنّ ذلك حلال.

ولا بأس بأخذ الأجر على تعليم الحكم - جمع حكمة - والآداب ، وعلى نسخها ، وتخليدها - بالخاء - الكتب.

وينبغي للمعلّم ، أن يسوّي بين الصبيان في التعليم ، والأخذ عليهم ، ولا يفضل بعضهم على بعض في ذلك ، إلا أن يؤجر نفسه لهذا على تعليم مخصوص ، وهذا يستأجره على تعليم مخصوص ، فأمّا إذا استؤجر على التعليم لجميعهم بالإطلاق ، فلا يجوز له ان يفضّل بعضهم على بعض في التعليم ، لأنّه استؤجر عليه ، سواء كانت اجرة بعضهم أكثر من اجرة بعض آخر.

ولا بأس بأخذ الأجرة على نسخ كتب العلوم الدينية والدنياوية ، ولا يجوز

ص: 224


1- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 15 من أبواب ما يكتسب به.
2- المهذب : ج 1 ، كتاب المكاسب ، ص 346 ، باختلاف يسير.
3- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 21 - 23 من أبواب ما يكتسب به.
4- ل. ق : للنتاج.

نسخ كتب الكفر والضلال ، وتخليدها الكتب إلا لإثبات الحج بذلك على الخصم ، أو النقض له على ما قدّمناه.

ولا بأس بأخذ الأجرة على الخطب في الاملاكات ، وعقود النكاح ، ولا بأس بأخذ الأجرة على ختن الرجال ، وخفض الجواري.

وكل صنعة من الصنائع المباحة ، إذا أدّى فيها الأمانة ، إذا تمكن لم يكن بها بأس ، وإن لم يؤد فيها الأمانة ، أو لا يتمكن معها من القيام بالواجبات ، وترك المقبحات ، فلا يجوز التعرض بشي ء منها.

ومن جمع مالا من حلال وحرام ، ثم لم يتميز له بالمقدار ، ولا بالعين ، أخرج منه الخمس ، وحل له التصرف في الباقي ، فإن تميّز له الحرام منه ، وجب عليه ردّه على صاحبه ، لا يسوغ له سواه ، فإن لم يجده ، ردّه على ورثته ، فإن لم يجد وارثا ، أمسكه ، وحفظه ، وطلب الوارث ، فإن لم يخلف وارثا ، وقطع على ذلك ، فهو لإمام المسلمين ، لأنّ له ميراث من لا وارث له.

ولا بأس ببيع الخشب ، لمن يجعله صنما ، أو صليبا ، أو شيئا من الملاهي ، لأنّ الوزر على من يجعله كذلك ، لا على الذي باع الآلة ، على ما رواه أصحابنا (1) والأولى عندي ، تجنب ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومن وجد عنده سرقة ، كان ضامنا لها ، إلا أن يأتي على شرائها ببينة (2).

قال محمّد بن إدريس : هو ضامن ، سواء ، أتى على شرائها ببينة ، أو لم يأت بغير خلاف ، ومقصود شيخنا أنّه ضامن أي هل يرجع على من اشتراها منه بالغرامة ، أم لا؟ فإن كان اشتراها مع العلم ، بأنّها سرقة ، وقال له البائع لها هذه سرقة ، واشتراها كذلك ، فإذا غرم لا يرجع على من باعها بالغرامة ، لأنّه ما

ص: 225


1- الوسائل : الباب 41 من أبواب ما يكتسب به ، ح 1.
2- النهاية : كتاب التجارة باب المكاسب المحظورة.

غرّه ، ولأنّه أعطاه ماله بغير عوض في مقابلته ، وأمّا إن لم يعلمه ، ولا علم أنّها سرقة ، وباعه إيّاها ، على أنّها ملكه ، فمتى غرم ، رجع عليه بما غرمه ، لأنّه غره.

ولا بأس بعمل الأشربة المباحة ، وأخذ الأجرة عليها.

ولا بأس بأخذ الأجرة في النيابة عن إنسان ، في وكالة بالبيع ، والشراء ، وغير ذلك.

ولا يجوز لأجير الإنسان الذي عقد عليه مدة معلومة ، أن يعمل لغيره في تلك المدّة عملا ، لأنّه استحق منافعه ، مدة تلك المدة والزمان ، فإن أذن له المستأجر في ذلك ، كان جائزا.

وإذا مرّ الإنسان بالثمرة ، جاز له أن يأكل منها قدر كفايته ، ولا يحمل شيئا منها على حال ، من غير قصد إلى المضي إلى الثمرة للأكل ، بل كان الإنسان مجتازا في حاجة ، ثمّ مرّ بالثمار ، سواء كان أكله منها لأجل الضرورة ، أو غير ذلك ، على ما رواه أصحابنا (1) ، وأجمعوا عليه ، لأنّ الأخبار في ذلك متواترة ، والإجماع منعقد منهم ، ولا يعتد بخبر شاذ ، أو خلاف من يعرف اسمه ونسبه ، لأنّ الحق مع غيره.

وقد روي أنّه يكره للإنسان ، أن ينزى الحمير على الخيل (2) ، وليس ذلك بمحظور ، على ما روي في بعض الأخبار (3).

ولا بأس أن يبذرق الإنسان القوافل ، ويأخذ على ذلك الأجر ، إذا كان باختيار من يخفره ، ومستأجرا معه.

قال شيخنا في نهايته : من آجر مملوكا له ، فأفسد المملوك ، لم يكن على مولاه ضمان ما أفسده ، لكنه يستسعى العبد في مقدار ما أفسده (4).

ص: 226


1- الوسائل : الباب 8 من أبواب بيع الثمار.
2- الوسائل : الباب 63 من أبواب ما يكتسب به.
3- الوسائل : الباب 63 من أبواب ما يكتسب به.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب للمكاسب المحظورة ..

وقال رحمه اللّه ، في الجزء الثاني من نهايته ، في باب الإجارات : ومن استأجر مملوك غيره من مولاه فأفسد المملوك شيئا ، أو أبق قبل أن يفرغ من عمله ، كان مولاه ضامنا لذلك (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : ووجه الجمع بين قوليه رحمه اللّه ، وتحرير ذلك ، والفتوى به ، أنّ المسألة الأولى في التي ذكرها في آخر الجزء الأول من نهايته ، من قوله : لم يكن على مولاه ضمان ما أفسده ، يريد بذلك ما عدا الأجرة ، لأنّ المملوك لا يضمن سيده جنايته التي على غير بني آدم ، ولا يستسعى فيها ، ولا يباع على الصحيح من أقوال أصحابنا ، ولأنّ بيعه يحتاج إلى دليل ، وانتقال ملكه إلى ملك غير سيده ، يحتاج إلى شرع ، وقوله رحمه اللّه : لكنه يستسعى العبد في مقدار ما أفسده ، غير واضح ، لأنّه مخالف للإجماع ، وإنما ورد بعض أخبار الآحاد بذلك ، فأورده إيرادا ، لا اعتقادا ، فأمّا المسألة التي أوردها في الجزء الثاني ، في كتاب الإجارات ، من قوله : « ضامنا لذلك » يريد به ضامنا للأجرة الباقية ، وهذا صحيح ، يرجع على السيّد بها ، بغير خلاف. فأمّا ضمان ما أفسده ، فلا ضمان على السيد ، بغير خلاف ، لأنّ الإنسان بغير خلاف لا يضمن ما يجنيه عبده ، على ما عدا بني آدم ، وكذلك إن جنى على بني آدم ، لا يكون سيده عاقلة له ، ولا يؤدي إلا إذا تبرّع ، وشيخنا قال هناك : يستسعى ، ولم يقل يضمن سيّده ما أفسده ، وقال هاهنا ، أعني في الجزء الثاني : يضمن سيّده وهذا على ما تراه ، يدلك على ما نبّهنا عليه ، وصحّة ما حررناه.

ولا بأس ببيع جوارح الطير ، التي تصلح للصيد بها كلّها ، وأخذ ثمنها ، والتكسب بها ، بجميع الوجوه.

وقد حث وندب إلى طلب الكسب من الحلال ، ما لا يحصى كثيرة ، قال

ص: 227


1- النهاية : كتاب التجارة باب الإجارات.

اللّه تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللّهِ وَاذْكُرُوا اللّهَ كَثِيراً ) (1) وقال سبحانه : ( وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ ) (2) الآية فأمر اللّه تعالى بالاكتساب من فضله ، وبيّن أنّه قد جعل لعباده من المعيشة ، ما يتمكنون من التصرف فيه ، بما يقوم بهم ، ويستعينون به على صلاح أحوالهم.

وروي عن النبي عليه السلام أنّه قال : إذا أعسر أحدكم ، فليخرج ، يضرب في الأرض ، يبتغي من فضل اللّه ، ولا يغم نفسه وأهله (3).

وروي عنه صلى اللّه عليه وآله أنّه قال لأصحابه ، في حجة الوداع : انّي واللّه لا أعلم عملا يقربكم من الجنة ، إلا وقد نبأتكم به ، ولا أعلم عملا يقربكم من النّار ، إلا وقد نهيتكم عنه ، وانّ الروح الأمين نفث في روعي ، ( بضم الراء ، هو النفس والبال ) أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ، فأجملوا في الطلب (4).

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام : إنّه قال ما غدوة أحدكم في سبيل اللّه ، بأعظم من غدوته ، يطلب لولده وعياله ما يصلحهم (5).

ص: 228


1- الجمعة : 9 - 10.
2- الحجر : 19 - 20.
3- الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 4 من أبواب مقدماتها ح 12 ، ولفظ الحديث هكذا ، عنه صلى اللّه عليه وآله : إذا عسر أحدكم فليخرج ولا يغم نفسه وأهله ، وكذا أورده في التهذيب ج 6 ، في الباب الأول من المكاسب في ضمن ح 30 / 909.
4- الوسائل : الباب 12 من أبواب مقدمات التجارة.
5- مستدرك الوسائل : الباب 20 من أبواب ما يكتسب به ، ح 1.

كتاب المتاجر والبيوع

اشارة

ص: 229

كتاب المتاجر والبيوع

باب آداب التجارة

ينبغي للإنسان إذا أراد التجارة ، أن يبتدئ أوّلا ، فيتفقه في دينه ، ليعرف كيفية الاكتساب ، ويميز بين العقود الصحيحة والفاسدة ، لأنّ العقود الفاسدة ، لا ينتقل بها الملك ، بل هو باق على ملكية الأوّل ، ويسلم من الربا الموبق ، ولا يرتكب المأثم ، من حيث لا يعلم به ، فإنّه روي عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنّه قال : من اتجر بغير علم ، ارتطم في الربا ، ثم ارتطم (1).

قال محمّد بن إدريس (2) معنى ارتطم ، يقلل رطمته في الوحل رطما ، فارتطم ، هو ، أي ارتبك فيه ، وارتطم عليه أمره ، إذا لم يقدر على الخروج منه.

وكان عليه السلام ، يقول : التاجر فاجر ، والفاجر في النّار ، إلا من أخذ الحق ، وأعطى الحق (3).

وكان عليه السلام يقول : معاشر الناس ، الفقه ثم المتجر ، الفقه ثم المتجر ، واللّه للربا في هذه الأمة ، أخفى من دبيب النمل على الصفا (4).

وكان عليه السلام بالكوفة ، يغتدي كلّ يوم بكرة ، من القصر ، يطوف في أسواق الكوفة ، سوقا سوقا ، ومعه الدرة على عاتقه ، فيقف على أهل كلّ سوق ، فينادي : يا معاشر (5) التجار ، اتقوا اللّه عزوجل فإذا سمعوا صوته ، ألقوا ما في أيديهم ، وأرعوا بقلوبهم ، وتسمّعوا بآذانهم ، فيقول : قدّموا الاستخارة ، وتبرّكوا بالسهولة ، واقتربوا من المبتاعين ، وتزينوا بالحلم ، وجانبوا الكذب ، وتجافوا عن

ص: 230


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب التجارة ، ح 1 و 2.
2- هنا أيضا سقط صفحتين من نسخة الأصل ، إلى قوله : « على ما روى من » الآتي في السطر 1 من الصفحة الثالثة الآتية.
3- الوسائل : الباب 1 من أبواب التجارة ، ح 1 و 2.
4- الوسائل : الباب 1 من أبواب التجارة ، ح 1 و 2.
5- ل : معشر.

الظلم ، وأنصفوا المظلومين ، ولا تقربوا الربا ، وأوفوا الكيل والميزان ، و ( لا تَبْخَسُوا النّاسَ أَشْياءَهُمْ ، وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ) ، فيطوف جميع الأسواق ، ثمّ يرجع ، فيقعد للناس (1).

قوله عليه السلام : قدّموا الاستخارة يعني الدعاء بالخيرة في الأمور.

وروي عن الصادق عليه السلام ، أنّه قال : من لم يتفقه في دينه ، ثم اتّجر ، تورّط في الشبهات (2).

قال محمّد بن إدريس : الورطة ، الهلاك ، قال أبو عبيد : أصل الورطة ، أرض مطمئنة ، لا طريق فيها ، وأورطه ، وورّطه ، توريطا ، أي أوقعه في الورطة ، فتورّط هو فيها.

وينبغي أن يتجنب الإنسان في تجارته ، خمسة أشياء ، مدح البائع ، وذمّ المشتري ، وكتمان العيوب ، واليمين على البيع ، والربا.

معنى مدح البائع ، أي مدح البائع لما يبيعه من الأمتعة ، وذم المشتري ، معناه وذمّ المشتري لما يشتريه ، وإن شئت ، جعلت البائع بمعنى المبيع ، فكأنّه أراد مدح المبيع ، لأنّه قد يأتي فاعل بمعنى مفعول ، قال اللّه تعالى ( لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ) (3) أي لا معصوم ، فأمّا ذمّ المشتري ، إن شئت قلته بفتح الراء ، فيكون الشي ء المشتري ، وكلاهما حسن ، فأمّا كتمان العيوب مع العلم بها ، فحرام محظور بغير خلاف ، والربا فكذلك.

ولا يجوز لأحد أن يغش أحدا من الناس ، فيما يبيعه أو يشتريه ، ويجب عليه النصيحة فيما يفعله لكلّ أحد.

وإذا قال إنسان للتاجر : اشتر لي متاعا ، فلا يجوز له أن يعطيه من عنده ، وإن كان الذي عنده خيرا ممّا يجده ، إلا بعد أن يبيّن له أنّ ذلك من عنده ، ومن خاص ماله.

قال محمّد بن إدريس : فقه ذلك ، إنّ التاجر صار وكيلا في الشراء ، ولا يجوز

ص: 231


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب آداب التجارة ، ح 1.
2- الوسائل : الباب 1 من أبواب آداب التجارة ، ح 4.
3- هود : 43.

للوكيل أن يشتري لموكّله من نفسه ، لأنّ العقد يحتاج إلى إيجاب وقبول ، فكيف يكون هو القابل والموجب؟ فلأجل ذلك ما صحّ أن يشتريه له من عنده.

ويجتنب بيع الثياب في المواضع المظلمة ، التي يتستر فيها العيوب.

وينبغي أن يسوّي بين الناس في البيع والشراء ، فيكون الصبي عنده بمنزلة الكبير ، والساكت بمنزلة المماكس ، والمستحيي بمنزلة البصير المداق.

معناه المداقق في الأمور ، فأدغم أحد القافين في الآخر ، وشدد القاف ، وقوله : والصبي ، المراد به الذي قد بلغ وعقل ، فأمّا من لم يبلغ ، فلا ينعقد بيعه وشراؤه ، وقوله : البصير ، المراد به يكون من أهل البصيرة والخبرة ، لا من بصر العين.

وكلّ ذلك على طريق الاستحباب ، إذا كانوا عالمين بالأسعار ، وبما يباع ، فلا بأس أن يبيع كل واحد بغير السعر ، الذي باعه للآخر ، مع علمه ، فأمّا إذا كان المشتري من غير أهل البصيرة ، ثم ظهر له الغبن ، فله الخيار ، بين ردّ المبيع وإمساكه ، فأمّا إن كان من أهل البصيرة ، ويعلم بالأسعار ، فلا خيار له ، وسيجي ء الكلام على ذلك في موضعه ان شاء اللّه تعالى.

وإذا قال لغيره : هلمّ إلى ، أحسن إليك ، باعه من غير ربح ، وكذلك إذا عامله مؤمن ، فليجتهد أن لا يربح عليه إلا في حال الضرورة ، وذلك على طريق الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب.

ويستحب أن يقبل من استقاله ، لقوله عليه السلام : من أقال نادما بيعته ، أقاله اللّه نفسه يوم القيمة (1).

ويكره السوم ، والمقاولة في البيع ، والشراء ، والرياضة في ذلك ، فيما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، لأنّ ذلك وقت التفرغ للعبادة ، والأدعية ، المستجابة ، واستدعاء الرزق من اللّه تعالى.

ص: 232


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب آداب التجارة ، رواياته قريبة من هذا المضمون.

فإذا غدا إلى سوقه ، فلا يكونن أول من يدخلها ، على ما روي من كراهة ذلك (1) فإذا دخلها سأل اللّه تعالى ، من خيرها ، وخير أهلها ، وتعوّذ به من شرها ، وشر أهلها.

ويستحب لمن اشترى شيئا ، أن يتشهد الشهادتين ، ويكبّر اللّه تعالى ، فإنّه أبرك له فيما يشتريه ، وسأل اللّه تعالى أن يبارك له فيما يشتريه ، ويخير له فيما يبيعه.

وينبغي أن يتجنب مخالطة السفلة من الناس ، والأدنين منهم ، ولا يعامل إلا من نشأ في خير.

وقد روي اجتناب معاملة ذوي العاهات ، والمحارفين (2).

ولا ينبغي أن يخالط أحدا من الأكراد ، ويتجنب مبايعتهم ، ومشاراتهم ، ومناكحتهم.

قال محمد بن إدريس : وذلك راجع إلى كراهية معاملة من لا بصيرة له ، فيما يشتريه ، ولا فيما يبيعه ، لأنّ الغالب على هذا الجيل ، والقبيل ، قلة البصيرة ، لتركهم مخالطة الناس ، وأصحاب البصائر.

ويستحب لمن أخذ شيئا بالوزن أن لا يأخذه إلا ناقصا ، وإذا أعطى أن لا يعطيه إلا راجحا ، وإذا كان ، لا يكيل إلا وافيا ، فإن كان ممن لا يحسن الكيل والوزن ، فلا يتعرض له ، بل يوليه غيره.

ولا يجوز له أن يزين متاعه بأن يري خيره ، ويكتم رديه ، بل ينبغي أن يخلط جيّده برديه ، فيكون كلّه ظاهرا ، هذا إذا كان الردي والمعيب فيما يرى ، ويظهر بالخلط ، فأمّا إذا كان ممّا لا يرى ، ولا يظهر بالخلط ، فلا يجوز له ذلك ، ويحرم عليه فعاله ، وبيعه ، قبل أن يبيّن العيب فيه وذلك مثل أن يشوب اللبن بالماء لأنّ ذلك لا يتبين العيب فيه.

ويكره له أن يطلب الغاية ، فيما يبيع ويشتري من الربح ، ولا يطلب الاستقصاء في جميع أموره ، وأحواله ، ومعاملاته ، فقد روى العباس بن معروف ،

ص: 233


1- الوسائل : الباب 60 من أبواب آداب التجارة.
2- الوسائل : الباب 22 من أبواب آداب التجارة.

عن محمد بن يحيى الصيرفي ، عن حماد بن عثمان ، قال : دخل على أبي عبد اللّه عليه السلام ، رجل من أصحابه فشكى إليه رجلا من أصحابه ، فلم يلبث أن جاء المشكو ، انّي استقصيت حقي ، قال : فجلس مغضبا ، ثم قال : كأنك إذا استقصيت حقّك ، لم تسئ ، أرأيتك ما حكاه اللّه تعالى ، فقال ( وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ ) (1) إنّما خافوا أن يجوز اللّه عليهم ، لا واللّه ، ما خافوا إلا الاستقصاء ، فسمّاه اللّه ، سوء الحساب ، فمن استقصى فقد أساء (2).

وإذا تعسّر على الإنسان نوع من التجارة ، فليتحوّل منه إلى غيره.

ويكره الاستحطاط من الثمن بعد الصفقة ، وعقد البيع بالإيجاب والقبول ، سواء كان قبل التفرق من المجلس ، أو بعده.

ومن باع لغيره شيئا ، فلا يجوز له أن يشتريه لنفسه ، وإن زاد في ثمنه على ما يطلب في الحال ، إلا بعلم من صاحبه ، وإذن من جهته.

وفقه ذلك ، أنّ الوكيل لا يجوز له أن يشتري السلعة الموكل في بيعها من نفسه ، لأنّ البيع يحتاج إلى إيجاب وقبول ، فكيف يكون موجبا قابلا! فأمّا الأب والجد من الولد الأصغر ، فقد خرج بدليل ، وهو إجماع أصحابنا على ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : وإذا نادى المنادي على المتاع ، فلا يزيد في المتاع ، فإذا سكت المنادي ، زاد حينئذ إن شاء (3).

وقال في مبسوطة : وأمّا السوم على سوم أخيه ، فهو حرام ، لقوله عليه السلام : لا يسوم الرجل على سوم أخيه ، هذا إذا لم يكن المبيع في المزايدة ، فإن كان كذلك فلا تحرم المزايدة (4).

ص: 234


1- الرعد : 21.
2- تفسير البرهان : ج 2 ، ص 289 ، ح 22.
3- النهاية : كتاب المتاجر ، باب آداب التجارة.
4- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ص 160.

وهذا هو الصحيح ، دون ما ذكره في نهايته ، لأنّ ذلك على ظاهره غير مستقيم ، لأنّ الزيادة في حال النداء غير محرمة ، ولا مكروهة ، فأمّا الزيادة المنهي عنها ، هي عند الانتهاء ، وسكون نفس كلّ واحد من البيعين على البيع ، بعد استقرار الثمن ، والأخذ ، والشروع في الإيجاب والقبول ، وقطع المزايدة ، فعند هذه الحال ، لا يجوز السوم على سوم أخيه ، لأنّ السوم في البيع ، هو الزيادة في الثمن ، بعد قطعه ، والرضا به ، بعد حال المزايدة ، وانتهائها ، وقبل الإيجاب والقبول ، لقوله عليه السلام : لا يسوم الرجل على سوم أخيه.

فأمّا إذا باع إنسان من غيره شيئا ، وعقد العقد بالإيجاب والقبول ، وهما بعد في المجلس ، ولكلّ واحد منهما الخيار في الفسخ ، فجاء آخر يعرض على المشتري سلعة ، مثل سلعته ، بأقل منها ، أو خيرا ، ليفسخ ما اشتراه ، أو يشترى منه سلعة ، فهذا محرم ، غير أنّه متى فسخ الذي اشتراه ، انفسخ ، وإذا اشترى الثاني كان صحيحا ، وإنّما قلنا انّه حرام ، لقوله ونهيه عليه السلام : لا يبيعن أحدكم على بيع أخيه (1).

وكذلك الشراء بعد البيع محرم ، وهو أن يعرض على البائع ، أكثر من الثمن الذي باعه به ، فإنّه حرام ، لأنّ أحدا لم يفرق بين المسألتين.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في تفسير القران ، في تفسير قوله تعالى ( وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ) (2) أي ترعون ، يقال : اسمت الإبل ، إذا رعيتها ، وقد سامت ، تسوم ، فهي سائمة ، إذا رعت ، وأصل السوم الابعاد في المرعى ، والسوم (3) في البيع الارتفاع في الثمن (4).

وقال في موضع آخر من التبيان : أصل السوم ، مجاورة الحد ، فمنه السوم في

ص: 235


1- سنن النسائي : كتاب البيوع ، ج 7 ، ص 258 ، وفيه : لا يبيع أحدكم على بيع أخيه.
2- النحل : 10
3- ج : الابعاد ، والسوم.
4- التبيان : ج 6 ، ذيل الآية 10 ، من سورة النحل.

البيع ، وهو تجاوز الحدّ في السعر ، إلى الزيادة ، ومنه السائمة من الإبل الراعية ، لأنّها تجاوز حدّ الإثبات للرعي ، هذا آخر كلام شيخنا في التبيان في معنى السوم (1) فصح ما قلناه ، أنّه الزيادة والارتفاع في الثمن.

ولا يجوز أن يبيع حاضر لباد ، ومعناه أن يكون سمسارا له ، بل يتركه أن يتولّى لنفسه ، ليرزق اللّه بعضهم من بعض ، فإن خالف أثم ، وكان بيعه صحيحا ، وينبغي أن يتركه في المستقبل ، هذا إذا كان ما معهم ، يحتاج أهل الحضر إليه ، وفي فقده إضرار بهم ، فأمّا إذا لم يكن بهم حاجة ماسة إليه ، فلا بأس أن يبيع لهم ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (2) وكذلك الفقيه ابن البراج في مهذبه (3).

وهذا هو الصحيح الذي لا خلاف فيه بين العلماء ، من الخاص والعام ، وبين مصنّفي غريب الأحاديث ، من أهل اللغة ، كالمبرد ، وأبي عبيد ، وغيرهما ، فانّ المبرد ، ذكر ذلك في كاملة : فلا يتوهم متوهم ، أنّ المراد بقوله عليه السلام : ولا يجوز أن يبيع حاضر لباد (4) معناه أنّه لا يبيع الحاضر البادي ، أو لا يبيع الحاضر على البادي ، وهذا لا يقوله من له أدنى تحصيل ، فانّي شاهدت بعض متفقهة أصحابنا ، وقد اشتبه عليه ذلك ، وقال : المراد به ، ما أوردته أخيرا ، من أنّه لا يبيع حاضر شيئا على باد ، وهذا غاية الخطأ ، ومن أفحشه ، وهل يمنع من أن يبيع حاضر على البادي ، أحد من المسلمين ، ولو أراد ذلك عليه السلام لما قال : ولا يجوز أن يبيع حاضر لباد ، بل كان يقول : ولا يجوز أن يبيع حاضر على

ص: 236


1- التبيان : ج 6 ذيل الآية 10 ، من سورة النحل.
2- المبسوط : كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ، ج 2 ، ص 160.
3- المهذب : لم نجده في المطبوع طبع المؤسسة.
4- الوسائل : الباب 37 من أبواب آداب التجارة ، ح 1 - 3 ، ولفظ الحديث هكذا : لا يبيع حاضر لباد.

باد ، فلما قال : لباد ، دل عليه أنّه لا يكون سمسارا له.

ووجدت بعض المصنّفين ، قد ذكر في كتاب له ، قال : نهي أن يبيع حاضر لباد ، فمعنى هذا النهي ، واللّه أعلم ، معلوم في ظاهر الخبر ، وهو الحاضر للبادي ، يعني متحكما عليه في البيع ، بالكرة ، أو بالرأي الذي يغلب به عليه ، يريه أنّ ذلك نظر له ، أو يكون البادي يوليه عرض سلعته ، فيبيع دون رأيه ، أو ما أشبه ذلك. فأمّا إن دفع البادي سلعته إلى الحاضر ، ينشرها للبيع ، ويعرضها ، ويستقصي ثمنها ، ثم يعرفه مبلغ الثمن ، فيلي البادي البيع بنفسه ، أو يأمر من يلي ذلك له بوكالته ، فذلك جائز ، وليس في هذا من ظاهر النهي شي ء ، لأنّ ظاهر النهي ، انّما هو ان يبيع الحاضر للبادي ، فإذا باع البادي بنفسه ، فليس هذا من ذلك بسبيل ، كما يتوهمه من قصر فهمه ، هذا آخر الكلام. فأحببت إيراده هاهنا ، ليوقف عليه ، فإنّه كلام محصّل ، سديد في موضعه.

فأمّا المتاع الذي يحمل من بلد إلى بلد ، لبيعه السمسار ، ويستقصي في ثمنه ، ويتربص ، فإنّ ذلك جائز ، لأنّه لا مانع منه ، وليس كذلك في البادية.

ولا يجوز تلقي الجلب ، ليشتري منهم قبل دخولهم البلد ، لأنّ النبيّ عليه السلام قال : لا يبيع بعضكم على بيع بعض ، ولا تلقوا السلع ، حتى يهبط بها الأسواق (1).

وروي عنه عليه السلام أنّه نهى عن تلقي الجلب ، فان تلقى متلقّ فاشتراه ، فصاحب السلعة بالخيار ، إذا ورد السوق (2).

فإن تلقى واشتراه ، يكون الشراء صحيحا ، لأنّ النبي عليه السلام أثبت الخيار للبائع ، والخيار لا يثبت إلا في عقد صحيح ، وخياره يكون على الفور مع

ص: 237


1- أورده في المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، في فصل بيع الغرر ، ص 160 ، باختلاف يسير.
2- الرواية عامية أوردها في الخلاف في كتاب البيوع ذيل المسألة 282 ، سنن النسائي : كتاب البيوع ، التلقي ، ج 7 ، ص 257 ولفظه هكذا : « لا تلقّوا الجلب ، فمن تلقّاه فاشترى منه ، فإذا أتى سيّده السوق ، فهو بالخيار ».

الإمكان ، فأمّا إذا كان راجعا من ضيعة ، أو من سفر ، فتلقى جلبا ، جاز له أن يشتريه ، لأنّه لم يتلق الجلب ، للشراء منهم.

وحدّ التلقي روحة ، وحدّها أربعة فراسخ ، فإن زاد على ذلك كان تجارة وجلبا ، ولم يكن تلقيا.

وقال شيخنا في نهايته : وأمّا التلقي ، فهو أن يستقبل الإنسان الأمتعة والمتاجر ، على اختلاف أجناسها ، خارج البلد ، فيشتريها من أربابها ، وهم لا يعلمون بسعر البلد ، فمن فعل ذلك ، فقد ارتكب مكروها ، لما في ذلك من المغالطات ، والمغابنات (1) ، وكذلك أيضا يكره أن يبيع حاضر لباد ، لقلة بصيرته ، بما يباع في البلاد ، وإن لم يكن شي ء من ذلك محظورا ، لكن ذلك من المسنونات (2).

وما ذكره في مبسوطة ، في المسألتين معا ، من أنّ ذلك محرّم (3) ، هو الصحيح ، لأنّه نهى عليه السلام عن ذلك ، والنهي عندنا بمجرده ، يقتضي التحريم ، في عرف الشريعة.

فإن قيل : لو كان ذلك على جهة التحريم ، لكان البيع فاسدا ، لأنّ النهي عندكم يقتضي فساد المنهي عنه ، وقد قلتم : إن البيع إذا تلقي صحيح.

قلنا : نهى عليه السلام ، عن التلقي ، وما نهى عن نفس العقد الذي هو البيع ، فلا يتعدّى أحدهما إلى الآخر ، ولو كان النهي عن نفس البيع ، لفسد ، وانّما النهي عن التلقي.

ونهى عن الاحتكار ، والاحتكار عند أصحابنا ، هو حبس الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، والسمن ، من البيع ، ولا يكون الاحتكار المنهي عنه ، في شي ء من الأقوات ، سوى هذه الأجناس ، وإنّما يكون الاحتكار منهيا عنه ، إذا كان بالناس حاجة شديدة إلى شي ء منها ، ولا يوجد في البلد غيره ، فأمّا مع

ص: 238


1- ل : المعاتبات.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الاحتكار والتلقي.
3- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع فصل في بيع الغرر ، ص 160.

وجود أمثاله ، وسعة ذلك على الناس ، وكثرته ، فلا بأس أن يحبسه صاحبه ، ويطلب بذلك الفضل.

ومتى ضاق على الناس الطعام ، ولم يوجد إلا عند من احتكره ، كان على السلطان ، والحكام من قبله ، أن يجبره على بيعه ، ويكرهه عليه ، ولا يجوز أن يجبره على سعر بعينه ، ولا أن يسعر عليه ، بل يبيعه بما يرزقه اللّه تعالى ، ولا يمكنه من حبسه ، أكثر من ذلك.

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : وللسلطان أن يكره المحتكر على إخراج غلته ، وبيعها في أسواق المسلمين ، إذا كانت بالناس حاجة ظاهرة إليها ، وله أن يسعرها على ما يراه من المصلحة ، ولا يسعرها بما يخسر أربابها فيها (1).

والأول مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (2) ، ومسائل خلافه (3) ، ومبسوطة (4) ، وجميع كتبه ، وهو الصحيح الذي يقوى في نفسي ، لأنّ عليه الإجماع ، وبه تواترت الأخبار ، عن الأئمة الأطهار ، وأيضا الأصل براءة الذمة ، من إلزام هذا المكلّف التسعير ، وأيضا إثبات ذلك ، حكم شرعي ، يحتاج فيه إلى دليل شرعي.

وروي عن النبي عليه السلام ، أنّ رجلا أتاه ، فقال : سعّر على أصحاب الطعام ، فقال : بل أدعو اللّه ، ثم جاء آخر فقال : يا رسول اللّه ، سعّر على أصحاب الطعام ، فقال : بل اللّه يرفع ويخفض ، واني لأرجو أن ألقى اللّه وليست لأحد عندي مظلمة (5).

فإذا ثبت ذلك ، فإذا خالف إنسان من أهل السوق ، بزيادة سعر ، أو نقصانه ، فلا اعتراض عليه لأحد.

ص: 239


1- المقنعة : باب تلقي السلع والاحتكار ص 616.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الاحتكار والتلقي
3- الخلاف : كتاب السلم ، المسألة 25.
4- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، فصل في حكم التسعير
5- أوردها الشيخ قدس سره في المبسوط : ج 2 في فصل حكم التسعير ص 195 ، أخرجه في كنز العمال ، في الباب الثالث من كتاب البيوع ، في الإكمال من التسعير : ج 4 ، ص 102 ، الرقم 9743 ، أخرجه عن أحمد في مستنده.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : لا يجوز للإمام ، ولا للنائب عنه ، أن يسعّر على أهل الأسواق ، متاعهم من الطعام وغيره ، سواء كان في حال الغلاء ، أو في حال الرخص ، بلا خلاف.

ونهى عليه السلام عن بيعتين في بيعة ، وقيل : إنّه يحتمل أمرين ، أحدهما أن يكون المراد ، أنّه إذا قال : بعتك هذا الشي ء ، بألف درهم ، نقدا ، وبألفين نسية ، بأيّهما شئت خذه ، فإنّ هذا لا يجوز ، لأنّ الثمن غير معيّن ، وذلك يفسد البيع ، كما إذا قال : بعتك هذا العبد ، أو هذا العبد ، أيّهما شئت فخذه ، لم يجز ، والآخر أن يقول : بعتك عبدي هذا بألف ، على أن تبيعني دارك هذه بألف درهم ، فهذا أيضا لا يصح ، لأنّه لا يلزمه بيع داره.

ونهى عن النجش - بالنون والجيم والشين المعجمة - وحقيقته الاستثارة ، وهي أن يزيد رجل ، في ثمن سلعة ، زيادة لا تساوى بها ، وهو لا يريد شراها ، وإنّما يريد ليقتدي به المستام ، فهذا هو النجش الحرام.

ولا يجوز بيع حبل - الحبلة ، بالحاء غير المعجمة ، والباء المنقطة ، بنقطة واحدة من تحتها ، بفتحهما معا ، وكذلك الحبلة بفتح الحاء ، غير المعجمة ، والباء أيضا - وهو أن يبيع شيئا بثمن مؤجل إلى نتاج الناقة ، لأنّ ذلك أجل مجهول.

ونهي عن بيع المجر - بالميم المفتوحة ، والجيم المسكنة ، والراء - وهو بيع ما في الأرحام ، ذكره أبو عبيدة ، وقال ابن الأعرابي : المجر الذي في بطن الناقة ، وقال : المجر الربا ، والمجر القمار ، والمجرد المحاقلة والمزابنة.

باب حقيقة البيع وبيان أقسامه وعقوده وجمل من أحكامه

البيع هو انتقال عين مملوكة ، من شخص إلى غيره بعوض مقدر ، على وجه التراضي ، وهو على ثلاثة أضرب ، بيع عين مرئية مشاهدة ، وبيع خيار الرؤية ، وبيع موصوف في الذمة ، وإن شئت قلت : البيع على ضربين ، بيوع

ص: 240

الأعيان ، وبيوع الموصوف في الذمة. وبيع الأعيان على ضربين ، بيع عين مشاهدة مرئية ، وبيع خيار الرؤية. فأمّا بيع الأعيان المشاهدة المرئية ، فهو أن يبيع الإنسان عبدا حاضرا ، أو ثوبا مشاهدا ، أو عينا من الأعيان ، مشاهدة حاضرة مرئية ، فيشاهد البائع والمشتري ذلك ، فهذا بيع صحيح ، بلا خلاف ، ولا يفتقر إلى ضرب الأجل ، ولا وصف المبيع ، وليس من شرط صحته قبض الثمن ، قبل التفرق من مجلس العقد ، فإن هلك قبل قبض المشتري له ، أو قبل تمكينه من قبضه ، فقد بطل البيع ، ووجب على البائع ردّ الثمن إن كان تسلّمه ، وإن كان بعد قبض المشتري له ، أو بعد التمكين له من القبض ، فإنّه لا ينفسخ البيع ، ويهلك من مال مشتريه ، إلا أن يكون حيوانا فمتى مات في مدة الثلاثة أيّام ، قبل تصرف المشتري فيه ، فإنّه يهلك من مال بائعه ، فإن هلك بعدها ، فهو من مال مشتريه ، لأنّ الخيار في الحيوان ، للمشتري ثلاثة أيّام ، يثبت بمجرّد العقد ، إلا أن يشرط البائع ، أن لا خيار بيننا ، فمتى كان الخيار للمشتري ، وهلك الحيوان في مدة الخيار ، قبل التصرف فيه ، والحدث المؤذن بالرضا ، فإنّه يهلك من مال بايعه ، دون مشتريه ، ومتى كان الخيار في المدة لبائعه ، ولا خيار لمشتريه ، فإنّه يهلك من مال مشتريه ، دون مال بائعه ، لأنّه يهلك من مال من استقر العقد عليه ، ولزم من جهته.

فأمّا بيع العين الموصوفة ، غير المشاهدة بخيار الرؤية ، فهو بيع الأعيان الغائبة ، وهو أن يبتاع شيئا لم يره ، مثل أن يقول : بعتك هذا الثوب الذي في كمي ، أو الثوب الذي في صندوقي ، وما أشبه ذلك ، فيذكر جنس المبيع ، فيتميز من غير جنسه ، ويذكر الصفة ، لتقوم مقام المشاهدة في العين المرئية ، لأنّ العين المرئية ، لا يحتاج في بيعها إلى ذكر صفتها.

ومن شرط هذا البيع ، وصحته ، ذكر الجنس والصفة معا ، فإن أخلّ بأحدهما ، بطل البيع ، فإذا عقد البيع ، ثم رأى المشتري المبيع ، فوجده على ما

ص: 241

وصفه البائع له ، كان البيع ماضيا ، ولم يكن لأحدهما خيار ، وإن وجده على خلاف الصفة ، كان له ردّه ، وفسخ العقد ، أو أخذه ، وأخذ الأرش ، لا يجبر على واحد من الأمرين ، فإن هلك قبل قبضه ، انفسخ البيع ، ولا يلزم بايعه ببدله ، لأنّ البيع وقع على عين ، فإثباته ، وصحّته في غيرها يحتاج إلى دليل ، وليس هو في الذمة.

وليس من شرطه أيضا قبض الثمن قبل التفرق ، ولا ضرب الأجل المحروس من الزيادة والنقصان ، بل من شرطه ذكر الجنس والصفة ، بخلاف بيع العين المشاهدة المرئية.

فأمّا بيع الموصوف في الذمة ، فهو بيوع السلم ، بفتح السين واللام ، ويقال السلف ، فهو أن يسلم في شي ء موصوف ، إلى أجل معلوم ، محروس من الزيادة والنقصان ، امّا بالسنين والأعوام ، أو الشهور والأيام. ويذكر الصفات المقصودة ، فهذا أيضا بيع صحيح ، بلا خلاف.

ومن شرط صحته ، قبض الثمن قبل التفرق من المجلس ، وذكر الجنس والصفة ، وضرب الأجل المحروس ، وإن لا ينسب إلى أصله ، لأنّه بيع في الذمة ، فإذا عيّن أن يكون من موضع معروف ، أو شجرة بعينها ، أو غزل امرأة معينة ، أو نتاج حيوان معين ، أو لبنه ، أو صوفه ، وشعره ووبره ، فقد خرج عن موضوعه المشروع ، وكان باطلا بغير خلاف.

ولا يصح أن يكون ثمنه دينا على المسلم إليه ، كان للمسلم فيه ، لأنّ ذلك يكون بيع دين بدين ، وقد نهى الرسول عليه السلام عن بيع الدين بالدين (1).

فافترق هذا البيع ، أعني بيع الموصوف في الذمة ، من بيوع الأعيان ، وهما البيعان اللذان قدّمنا ذكرهما ، وهما بيع العين المشاهدة المرئية ، وبيع العين الغائبة الموصوفة ، لأنّ هذا أعني بيع السّلم ، للمشتري مطالبة البائع به ، على كل

ص: 242


1- الوسائل : الباب 15 ، من أبواب الدين والقرض ، ح 1 ولفظ الحديث هكذا : لا يباع الدين بالدين.

حال ، لأنّه في ذمته ، بخلاف بيوع الأعيان ، لأنّهما إذا هلكا قبل قبضهما ، بطل البيع فتميّز ، وافترق كلّ بيع ، وعقد ، من البيوع الثلاثة ، بأمر ، ووجه ، غير موجود في الآخر.

فأمّا بيع النسيئة ، مهموزة الياء ، فهو تأخير الأثمان ، إلى أجل محروس ، وتقديم المثمنات ، بخلاف بيع السلم ، لأنّ بيع السلم هو تقديم الأثمان ، قبل الافتراق من مجلس البيع ، وتأخير المثمنات إلى الأجل المحروس ، المقدّم ذكره فيما مضى.

ويجوز بيع العين الحاضرة ، بالعين الحاضرة ، ويجوز بالدين في الذمة ، وبيع خيار الرؤية ، إن وحده على حالته ووصفه ، أخذه ، وإن وجده على غير وصفه ، كان له ردّه ، على ما قدّمناه.

فإن اختلفا فقال المبتاع : نقص ، وقال البائع : لم ينقص من صفاته التي وصفتها ، فالقول قول المبتاع ، لأنّه الذي ينتزع الثمن منه ، ولا يجب انتزاع الثمن منه إلا بإقراره ، أو بيّنة تقوم عليه.

فأمّا بيع الخيار ، وذكر العقود التي يدخلها الخيار ، ولا يدخلها ، فبيع الخيار على ثلاثة أضرب ، أحدها أن يعقد العقد بالإيجاب والقبول ، ويكون الإيجاب متقدّما على القبول ، فإن كان القبول متقدّما على الإيجاب ، فالبيع غير صحيح ، فإذا عقداه بالإيجاب والقبول بعده ، فيثبت لهما الخيار ، ما لم يفترقا بأبدانهما ، ويسمّى هذا خيار المجلس ، فإذا ثبت بينهما العقد ، وأراد استقراره ، ولزومه ، وإبطال الخيار بينهما ، جاز لهما أن يقولا ، أو يقول أحدهما ، ويرضى به الآخر : قد أوجبنا العقد ، وأبطلنا خيار المجلس ، فإنّه يلزم العقد ويستقر ، ويبطل خيار المجلس.

الثاني أن يشرطا حال العقد أن لا يثبت بينهما خيار المجلس ، ويكون هذا الشرط مقارنا للعقد معا معا ، فإنّ ذلك جائز أيضا.

الثالث أن يشرطا في حال العقد ، مدة معلومة ، قلّ ذلك أم كثر ، ثلاثا كان أو أكثر ، أو أقلّ ، هذا فيما عدا الحيوان.

فأمّا الحيوان ، فإنّه يثبت فيه الخيار ثلاثا ، بمجرد العقد ، شرطا أم لم يشرطا ،

ص: 243

على ما قدّمناه ، للمشتري خاصة ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ومذهبهم.

وقال السيد المرتضى : يثبت للبائع والمشتري معا ، والأول مذهب شيخنا المفيد ، وشيخنا أبي جعفر ، وجلّة أصحابنا.

وأيضا فالعقد يثبت بالإيجاب والقبول ، وقال اللّه تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) فمن أثبت الخيار لأحدهما ، يحتاج إلى دليل شرعي ، قاطع للأعذار ، وإجماعنا منعقد على أن الخيار للمشتري ، فمن أثبته للبائع ، يحتاج إلى دليل.

وما زاد على الثلاث ، فعلى حسب ما يشترطانه من الخيار ، إمّا لهما أو لواحد منهما (2) ، فإن أوجبا البيع ، بعد أن شرطا مدة معلومة ، ثبت العقد ، ولزم ، وبطل الشرط المتقدم. فأمّا العقود التي يدخلها الخيار ، فنحن نذكرها ، وما يصح فيه الخيار وما لا يصح.

فأما عقد البيع ، فان كان بيع الأعيان المشاهدة ، دخلها خيار المجلس ، بإطلاق العقد ، وخيار المدة ، ثلاثا كان ، أو ما زاد عليه ، بحسب الشرط.

وان كان حيوانا ، دخله خيار المجلس ، وخيار الثلاث معا ، بإطلاق العقد ، ومجرّده ، وما زاد على الثلاث ، بحسب الشرط.

وإن كان بيع خيار الرؤية ، دخله الخيار ان معا ، خيار المجلس ، وخيار الرؤية ، إذا رآه ، ويكون خيار الرؤية على الفور ، دون خيار المجلس.

فأمّا الصرف ، فيدخله خيار المجلس ، لعموم الخبر ، فأمّا خيار الشرط ، فلا يدخله أصلا ، إجماعا ، لأنّ من شرط صحة هذا العقد ، القبض قبل التفرق.

فأمّا السلم ، فيدخله خيار المجلس ، للخبر ، وخيار الشرط ، لا يمنع منه مانع ، وعموم الخبر يقتضيه.

فأمّا الرهن ، فإنّه يلزم بالإيجاب والقبول ، دون الإقباض ، وبعض أصحابنا ، يذهب إلى أنّه لا يلزم ، ولا ينعقد إلا بالإقباض ، والأول هو الأظهر في المذهب ،

ص: 244


1- المائدة : 1.
2- كان هنا أيضا نقص أوراق اجبروه بخط آخر فاقد لمزايا نسخة الأصل ولذا نجعل الأصل من هنا إلى أوائل باب الصرف نسخة « ج ».

ويعضده قوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » فأمّا قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (1) فهذا دليل الخطاب ، ودليل الخطاب عندنا غير صحيح ، وقد يرجع عن ظاهره بدليل ، والآية المتقدّمة دليل عليه.

وعقد الصلح لا يدخله خيار المجلس ، لأنّ خيار المجلس يختص عقد البيع ، والصلح عندنا ليس ببيع ، ولا هو فرع البيع ، على ما يذهب إليه الشافعي.

وكذلك الحوالة ، لا يدخلها خيار المجلس ، ولا يمتنع دخول خيار الشرط فيهما ، لقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم (2).

وكذلك الضمان ، لا يدخله خيار المجلس ، ولا يمتنع من دخوله خيار الشرط.

وأمّا خيار الشفيع على الفور ، فإن اختار الأخذ ، فلا خيار للمشتري ، لأنّه ينتزع منه الشقص قهرا ، وأمّا الشفيع ، فقد ملك الشقص ، وليس له خيار المجلس ، لأنّه ليس بمشتر ، وانّما أخذه بالشفعة.

وأما المساقاة ، فلا يدخلها خيار المجلس ، لأنّها ليست بيعا ، ولا يمنع مانع من دخول خيار الشرط فيها ، لقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم.

وأمّا الإجارة ، فلا يدخلها خيار المجلس ، لأنّها ليست بيعا ، ولا يمنع من دخول خيار الشرط فيها مانع.

وأمّا عقد الوقف ، فلا يدخله الخياران ، معا على الصحيح من المذهب ، لأنّه متى شرط فيه الرجوع ، والخيار له في الرجوع ، لم يصحّ الوقف ، وبطل.

وأمّا الهبة ، فله الخيار قبل القبض ، وبعد القبض ، ما لم يتعوض ، أو يتصرّف فيه الموهوب له ، أو تهلك عينها ، إلا أن تكون الهبة لولده الأصاغر ، فليس للوالد الذي هو الواهب ، الرجوع ، قبض أو لم يقبض ، لأنّه هو الوالي والقابض ، فإنّها تلزم بمجرد العقد ، فان كانت لولده البالغين ، فإنّها تلزم

ص: 245


1- البقرة : 283.
2- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور ، ح 4.

بالقبض ، ولا يحتاج إلى إضافة شي ء إلى القبض ، في لزومها ، على ما نبينه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا عقد النكاح ، فلا يدخله الخياران ، للإجماع على ذلك.

وأمّا السّبق والرّماية ، فقد اختلف فيه ، فقال قوم : إنّه عقد لازم ، وقال آخرون : هو جائز ، والأولى انّه لا يدخله خيار المجلس ، لأنّه ليس ببيع ، ولا يمنع مانع من دخول خيار الشرط فيه.

وأمّا الوكالة والعارية ، والوديعة ، والقرض ، والجعالة ، فلا يمنع من دخول الخيارين فيها مانع ، لأنّ هذه العقود جائزة من جهة المتعاقدين ، غير لازمة ، فمن أراد الفسخ فسخ.

وأمّا القسمة ، فعلى ضربين ، قسمة لا ردّ فيها ، وقسمة فيها ردّ ، وعلى الوجهين معا ، لا خيار فيها في المجلس ، لأنّها ليست ببيع ، ولا يمنع من دخول خيار الشرط فيها مانع ، للخبر.

وأمّا الكتابة ، فعلى ضربين ، عندنا ، مشروطة ، ومطلقة ، فالمشروطة ليس للمولى فيها خيار مجلس ، ولا مانع من دخول خيار الشرط فيها.

وأمّا العبد ، فله الخياران معا ، لأنّه إن عجّز نفسه ، كان الفسخ حاصلا ، وإن كانت مطلقة ، فلا خيار لواحد منهما.

وأمّا الطلاق ، فليس بعقد ، فلا يدخله الخياران معا.

وكذلك العتق ، لا يدخله الخياران معا ، بغير خلاف بيننا.

إذا ثبت خيار المجلس في البيع ، على ما بيّناه ، فإنما ينقطع بأحد أمرين ، تفرق ، وتخاير.

فأمّا التفرق الذي يلزم به البيع ، وينقطع به الخيار ، فحده مفارقة المجلس ، بخطوة ، فصاعدا ومتى ثبتا موضعهما ، أو بني بينهما حائط ، لم يبطل خيار المجلس ، ولو طال مقامهما في المكان شهرا ، أو أكثر من ذلك.

وأمّا التخاير ، فعلى ضربين تخاير بعد العقد ، وتخاير في نفس العقد ، فأيّهما

ص: 246

كان لزم العقد ، واستقر ، وبطل خيار المجلس ، فما كان بعد العقد ، مثل أن يعقداه ، ثم يقول أحدهما للآخر : اختر الإمضاء ، وإن لا يكون بيننا خيار المجلس ، وقد أبطلناه ، فمتى فعلا ذلك ، فقد بطل خيار المجلس.

وما كان منه في نفس العقد ، مثل أن يقول : بعتك ، بشرط أن لا يثبت بيننا خيار المجلس ، فإذا قال المشتري : قبلت ، ثبت العقد ، ولا خيار لهما بحال البيع ، إن كان مطلقا من غير شرط ، فإنّه يثبت بنفس العقد ، ويلزم بالتفرق بالأبدان ، على ما قدّمناه.

وإن كان مشروطا لزومه بنفس العقد ، لزم بنفس العقد ، وإن كان مقيّدا مشروطا ، لزم بانقضاء الشرط ، ويكون مدة خيار الشرط ، من حين التفرق ، لأنّ خيار الشرط يدخل إذا استقرّ العقد ، ولزم ، والعقد لم يلزم ، ولم يستقر قبل التفرق.

وأيضا فهما خياران ، خيار المجلس ، ثبت من غير شرط ، وخيار الشرط زائد عليه ، ولا يدخل أحدهما في الآخر إلا أن يشرطا ذلك بينهما ، لأنّه لا دليل عليه ، بل قد اشترط زائدا على ما كان له من خيار المجلس ، فإذا ثبت ذلك فلا يخلو أن يتصرف المشتري فيه ، أو لا يتصرف ، فإن تصرّف ، فيه بالهبة ، أو التمليك ، أو العتق ، وغير ذلك ، لزم العقد ، واستقر من جهته ، وبطل خياره ، وكان خيار البائع باقيا ، فإن تصرّف فيه البائع بالهبة ، أو التمليك ، أو العتق ، وغير ذلك ، كان ذلك فسخا للعقد ، فالتصرف من المشتري لزوم العقد ، وإمضاء له ، ومن البائع إبطال له وفسخ.

فإن حدث بالمبيع هلاك في مدة الخيار ، وهو في يد البائع ، كان من ماله ، دون المشتري ، ما لم يتصرف فيه تصرفا يؤذن بالرضا.

فإن اختلفا في حدوث الحادثة ، فعلى المشتري البيّنة ، أنّه حدث في مدة الخيار ، دون البائع ، لأنّه المدّعي ، وكذلك الحكم في حدوث عيب به يوجب الرد.

ومتى وطأ المشتري في مدة الخيار لزمه البيع ، واستقر عليه ، وبظل خياره ،

ص: 247

ولم يجب عليه شي ء ، ويلحق به الولد ، ما لم يفسخ البائع ، فإن فسخ ، كان الولد لا حقا بأبيه ، ويلزمه للبائع قيمته ، إن لو كان عيدا ، وعشر قيمة الجارية ، إن كانت بكرا ، أو نصف العشر ، إن كانت ثيبا ، وإن لم يكن هناك ولد ، لزمه عشر قيمتها ، إن كانت بكرا ، وإن كانت ثيبا ، نصف عشر قيمتها ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1) ، ومبسوطة (2).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ المشتري لا يلزمه قيمة الولد ، ولا عشر قيمة الجارية بحال ، سواء فسخ البائع البيع ، أو لم يفسخ ، لأنّه لا دليل عليه من كتاب ولا سنّة ، ولا إجماع ، لأن الولد انعقد حرا ، ولا قيمة للحر ، فأمّا عشر القيمة لأجل وطئها ، فما ورد ، إلا فيمن اشترى جارية ، ووطأها ، فظهر بها حمل ، ردّها ، وردّ معها عشر القيمة ، إن كانت بكرا ، وإن كانت ثيبا ، نصف العشر ، ولم يرد في هذا نص ، والقياس عندنا باطل.

وإنما ذكر ذلك شيخنا في مسائل خلافه على رأي بعض المخالفين ، في أنّ المبيع لا ينتقل إلى المشتري ، إلا بشرطين ، بالعقد ، وبانقضاء الشرط ، وعند أصحابنا انّه ينتقل إلى ملك المشتري ، بمجرد العقد.

فإذا تقرّر ذلك ، فقد تصرّف في ملكه تصرفا مباحا حسنا ، فدخل في قوله تعالى ( ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ ) (3) وما عدا ذلك فإنّا نخرجه بدليل ، فليلحظ ذلك.

وأمّا خيار البائع ، فإنّه لا يبطل بوطء المشتري ، لأنّه لا دليل عليه ، ومتى وطأ البائع في مدة الخيار ، كان ذلك فسخا للبيع ، إجماعا.

وجملة الأمر وعقد الباب ، إنّ كلّ تصرف لو وقع من البائع ، كان فسخا ،

ص: 248


1- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 32.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، احكام الخيارات ، ولا يخفى اختلاف يسير بين المنقول وما في الكتابين فراجع.
3- التوبة : 91.

متى وقع من المشتري كان إمضاء وإقرارا بالرضا بالبيع ولزومه ، ويستقر العقد بذلك من جهته.

فأمّا إذا اتفقا على التصرف فيه ، وتراضيا ، مثل ان أعتق المشتري ، أو باع في مدة الخيار ، بإذن البائع ، أو وكلّ المشتري البائع في عتق الجارية ، أو بيعها ، فانّ الخيار ينقطع في حقهما ، ويلزم البيع ، ويستقر ، وينقطع خيارهما معا ، وينفذ العتق والبيع ، لأنّ في تراضيهما بذلك ، رضا يقطع الخيار.

خيار المجلس ، والشرط ، موروث عندنا.

إذا كان المبيع شيئا بعينه ، فهلك بعد العقد ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون قبل القبض ، أو بعده ، فإن كان قبل القبض ، بطل البيع ، سواء كان التلف في مدة الخيار ، أو بعد انقضاء مدة الخيار ، فإذا تلف ، هلك على ملك البائع ، وبطل الثمن ، فإن كان الثمن مقبوضا ، ردّه وإن كان غير مقبوض ، سقط عن المشتري ، وإن كان الهلاك بعد القبض ، لم يبطل البيع ، سواء كان في يد المشتري ، أو يد البائع ، مثل ان قبضه المشتري ، ثمّ ردّه إلى البائع وديعة ، فإذا ثبت أنّه لا ينفسخ ، نظرت ، فإن كان الهلاك بعد انقضاء مدّة الخيار ، فلا كلام ، وإن كان في مدّة الخيار ، لم ينقطع الخيار ، ثم لا يخلو من أحد أمرين ، إمّا أن يجيز البيع ، أو يفسخاه ، فإن فسخاه ، أو أحدهما ، سقط الثمن ، ووجب القيمة على المشتري ، وإن اختارا إمضاء البيع ، أو سكتا حتى مضت مدة الخيار ، فإنّه يلزمه الثمن المسمّى ولا يلزمه القيمة ، لأنّه مسمّى ، ولا يسقط مع بقاء العقد.

وإذا اشترى شيئا ، فبان له الغبن ، بسكون الباء ، فإن كان من أهل الخبرة ، والبصيرة ، لم يكن له ردّه ، وإن لم يكن من أهل الخبرة ، نظر فإن كان مثله ، لم تجر العادة بمثله ، فسخ العقد إن شاء ، وإن كان جرت العادة بمثله ، لم يكن له الخيار.

إذا قال بعنيه أو أتبيعني هذا بألف ، أو بعني ، أو اشتريت منك هذا بألف ،

ص: 249

فقال صاحبه : بعتك ، لم يصح العقد والبيع ، حتى يقول المشتري بعد قول البائع بعتك : اشتريت ، أو قبلت.

وكذا إذا قال البائع : تشتري مني هذا بألف ، أو أبيعك هذا بألف ، أو اشتر هذا مني بألف ، فقال المشتري : اشتريت ، أو قبلت ، لم يصح البيع ، ولم ينعقد العقد ، إلا أن يأتي البائع بلفظ الإخبار والإيجاب ، دون لفظا الاستفهام والأمر ، وهو قوله : بعتك فيقول المشتري : اشتريت ، أو قبلت على ما قدّمناه ، فينعقد العقد بذلك ، دون ما سواه من الألفاظ.

إذا دفع قطعة إلى البقلي ، أو إلى الشارب ، فقال : أعطني بقلا ، أو ماء ، فإنّه لا يكون بيعا ، ولا عقدا ، لأنّ الإيجاب والقبول ما حصلا ، وكذلك سائر المحقرات ، وسائر الأشياء ، محقرا كان أو غير محقر ، من الثياب والحيوان ، وغير ذلك ، وإنّما يكون إباحة له ، فيتصرف كلّ واحد منهما فيما أخذه ، تصرفا مباحا ، من غير أن يكون ملكه ، أو دخل في ملكه ، ولكل واحد منهما ، أن يرجع فيما بذله ، لأنّ الملك لم يحصل لهما ، بشرط إن بقيا فإن لم يبق أحدهما ، بحاله كما كان أولا فلا خيار لأحدهما ، وليس هذا من العقود ، الفاسدة ، لأنّه لو كان عقدا فاسدا ، لم يصحّ التصرف فيما صار إلى كلّ واحد منهما ، وانما ذلك على جهة الإباحة.

باب الرّبا وأحكامه وما يصح فيه وما لا يصح

الربا محظور في شريعة الإسلام ، قال اللّه تعالى ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) (1) وقال تعالى ( يَمْحَقُ اللّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ ) (2) وقال ( الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ) (3) وروي عن الصادق جعفر بن محمّد عليهما السلام ، أنّه قال : درهم ربا أعظم

ص: 250


1- البقرة : 275.
2- البقرة : 276.
3- البقرة : 275.

عند اللّه تعالى من سبعين زنية ، كلّها بذات محرم (1) ، فيجب على الإنسان معرفته ، ليتجنبه ويتنزه عنه.

فمن ارتكب الربا بجهالة ، ولم يعلم أن ذلك محظور ، فليستغفر اللّه تعالى في المستقبل ، ويتوب إليه ، وقد تاب اللّه عليه فيما مضى ، ومن علم أن ذلك حرام ، ثم استعمله ، فكل ما يحصل له من ذلك ، محرّم عليه ، ويجب ردّه على صاحبه ، فإن لم يعرف صاحبه ، تصدّق به عنه ، على ما روي في الأخبار (2) ، وإن عرفه ولم يعرف مقدار ما أربى عليه ، فليصالحه ، وليستحلّه.

وإن علم أن في ماله ربا ولا يعرف مقداره ، لا بالوزن ولا بالعين ، ولا من أربى عليه ، ولا غلب على ظنه مقدار الربا ، فليخرج خمس ذلك المال ، ويضعه في أهله ، وحلّ له التصرف فيما يبقى بعد ذلك.

وقال شيخنا في نهايته : فمن ارتكب الربا بجهالة ، ولم يعلم أنّ ذلك محظور فليستغفر اللّه تعالى ، وليس عليه فيما مضى شي ء ومتى علم أنه ذلك حرام ، ثم استعمله ، فكلّ ما يحصل له من ذلك محرم عليه ، ويجب عليه ردّه على صاحبه (3).

قال محمّد بن إدريس : قول شيخنا رحمه اللّه : « فمن ارتكب الربا بجهالة ، ولم يعلم أنّ ذلك محظور ، فليستغفر اللّه تعالى في المستقبل ، وليس عليه فيما مضى شي ء » المراد بذلك ، ليس عليه شي ء من العقاب ، بعد استغفاره ، لا أنّ المراد بذلك ، أنّه ليس عليه شي ء من ردّ المال الحرام ، بل يجب عليه ردّه على صاحبه ، لقوله تعالى ( وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ ) (4) فأمّا قوله تعالى ( فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ ) (5) المراد به واللّه أعلم ، فله ما سلف من الوزر ، وغفران الذنب ، وحقّ القديم سبحانه بعد انتهائه ، وتوبته ، لأنّ

ص: 251


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب الربا ، ح 1.
2- الوسائل : الباب 5 من أبواب الربا ، والباب 47 من أبواب ما يكتسب به.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه ..
4- البقرة : 279.
5- البقرة : 275.

إسقاط الذنب عند التوبة ، تفضل عندنا ، بخلاف ما يذهب إليه المعتزلة ، وقيل في التفسير ذكره شيخنا في التبيان ، وغيره من المفسّرين ، أنّ المراد بذلك ما كان في الجاهليّة من الربا بينهم ، فقال تعالى « فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى ، فَلَهُ ما سَلَفَ » فأمّا ما يجري بين المسلمين ، فيجب ردّه على صاحبه ، سواء كان جاهلا بحاله ، غير عالم بأنّه محرم ، أو كان عالما بذلك ، فإنّه يجب ردّ الربا على من أربى عليه في المسألتين جميعا (1).

فلا يظن ظان ولا يتوهم متوهم على شيخنا فيما قال ، غير ما حررناه.

ولا ربا بين الولد ووالده ، ولا بين العبد وسيده ، لأنّ مال العبد لسيده ، ولا بين الرجل وأهله ، المراد بأهله هاهنا امرأته ، دون قراباته من الأهل ، والدليل على أنّ المراد بأهله امرأته هاهنا ، قوله تعالى في قصة موسى ( وَسارَ بِأَهْلِهِ ) (2) ولا خلاف أنّ المراد بذلك ، امرأته بنت شعيب ، لأنّه ما كان معه غيرها من قراباته.

ولا ربا أيضا بين المسلم وبين أهل الحرب ، لأنهم في الحقيقة في للمسلمين ، وانّما لا يتمكن منهم.

والربا يثبت بين المسلم وأهل الذمة ، كثبوته بينه وبين مسلم مثله ، وهذا هو الصحيح من أقوال أصحابنا ، وإليه يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في جميع كتبه.

وذهب بعض أصحابنا إلى أنّه لا ربا بين المسلم وأهل الذمة ، وجعلهم كالحربيين ، ذهب إلى ذلك شيخنا المفيد ، وابن بابويه ، وغيرهما.

والأول هو المعتمد ويعضده ظاهر التنزيل ، وهو قوله تعالى « أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » فخرج من ذلك أهل الحرب ، بالإجماع المنعقد من أصحابنا ، وبقي من عداهم داخلا في عموم الآية ، فلا يجوز التخصيص للعموم ، إلا بأدلة موجبة للعلم ، قاطعة للأعذار ، فأمّا أهل الحرب ، فإنّا نأخذ منهم

ص: 252


1- التبيان : ج 2 في ذيل الآية 275 من سورة البقرة.
2- القصص : 29.

الزيادة ، ولا يجوز لنا أن نعطيهم ذلك ، مثاله أن نبيعه دينارا بدينارين ، ولا يجوز ان نبيعه دينارين بدينار.

فأمّا قول شيخنا في نهايته : ولا ربا بين الولد ووالده ، لأنّ مال الولد في حكم مال الوالد ، يبطل هذا التعليل ، في قوله : ولا بين الرجل وأهله ، فأمّا قولهم : ولا بين العبد وسيّده ، لأنّ مال العبد لسيده ، فلا فائدة فيه ، ولا لنا حاجة إلى هذا التعليل ، وأي مال للعبد ، وإنّما الربا بين اثنين مالكين.

وجميع ما (1) ذكرناه أنّه لا ربا بينه وبين غيره ، لكل واحد مهما أن يأخذ الفضل والزيادة ، ويعطي الفضل والزيادة ، إلا أهل الحرب على ما حررناه ، للإجماع على ذلك.

ولا يكون الربا المنهي عنه المحرم في شريعة الإسلام ، عند أهل البيت عليهم السلام ، إلا فيما يكال أو يوزن ، فأمّا ما عداهما من جميع المبيعات ، فلا ربا فيها بحال ، لأنّ حقيقة الربا في عرف الشرع ، هو بيع المثل من المكيل ، أو الموزون بالمثل متفاضلا ، نقدا ونسيئة إذا كان البيّعان غير والد وولد ، أو زوج وزوجة ، أو مسلم وحربي ، أو عبد وسيّده.

وكلّ ما يكال أو يوزن ، فإنّه يحرم التفاضل فيه ، والجنس واحد ، نقدا ونسيئة ، مثل بيع درهم بدرهم ، وزيادة عليه ، ودينار بدينار ، وزيادة عليه ، وقفيز حنطة بقفيز منها ، وزيادة عليه ، ومكوك (2) شعير بمكوك منه ، وزيادة عليه ، وكذلك حكم جميع المكيلات والموزونات.

وإذا اختلف الجنسان فلا بأس بالتفاضل فيهما نقدا ونسيئة ، إلا الدراهم والدنانير ، فلا يجوز النسيئة فيهما ، لا متماثلا ولا متفاضلا ، ويجوز ذلك نقدا متفاضلا ، ومتماثلا بغير خلاف بين أصحابنا ، لقوله عليه السلام المجمع عليه

ص: 253


1- ل. ق : وجميع من.
2- المكوك بالتشديد. مكيال يسع ساعا ونصفا. وقيل غير ذلك.

إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم (1) ولو لا الإجماع المنعقد على تحريم بيع الدنانير والدراهم نسيئة ، لجاز ذلك ، لأنّه داخل في عموم قوله عليه السلام ، فخصصناهما بالإجماع ، وبقي الباقي وما عداهما على أصل الإباحة ، وقوله تعالى : « ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ) ، وقد قلنا أنّ حقيقة الربا في عرف الشريعة ، بيع المثل من المكيل أو الموزون بالمثل ، متفاضلا نقدا ونسيئة.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا اختلف الجنسان ، فلا بأس بالتفاضل فيهما نقدا ونسيئة ، إلا الدراهم والدنانير ، والحنطة والشعير ، فإنّه لا يجوز بيع دينار بالدراهم نسيئة ويجوز ذلك نقدا ، بأيّ سعر كان ، وكذلك الحكم في الحنطة والشعير ، فإنّه لا يجوز التفاضل فيهما ، لا نقدا ولا نسيئة لأنّهما كالجنس الواحد ، هذا آخر كلام شيخنا رحمه اللّه (2).

قال محمد بن إدريس : لا خلاف بين المسلمين ، العامة والخاصة ، أنّ الحنطة والشعير جنسان مختلفان ، أحدهما غير الآخر ، حسا ونطقا ، ولا خلاف بين أهل اللغة واللسان العربي في ذلك ، فمن ادّعى أنهما جنس واحد ، أو كالجنس الواحد ، يحتاج إلى أدلة قاطعة للأعذار ، من إجماع منعقد ، أو كتاب ، أو سنة متواترة ، ولا إجماع على ذلك ، ولا نصّ في كتاب اللّه تعالى ، ولا سنّة مقطوعا بها متواترة ، وقد قلنا ان اخبار الآحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، ولا يخص بها الإجماع ، ولا الأدلة (3).

ثم لم يذهب إلى هذا القول ، غير شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه وشيخنا المفيد رحمه اللّه ، في مقنعته (4) ، ومن قلده في مقالته ، وتبعه في تصنيفه ، بل جلّة أصحابنا المتقدّمين ، ورؤساء مشايخنا المصنفين الماضين رحمهم اللّه ، لم يتعرضوا.

ص: 254


1- أورده الشيخ قدس سره في الخلاف كتاب البيوع ، ذيل المسألة 121 ، وفيه : إذا اختلف الجنسان
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه.
3- هنا عثرنا على أوراق من نسخة الأصل
4- المقنعة : باب بيع الواحد بالاثنين ص 604.

لذلك ، بل أفتوا ، وصنفوا ، ووضعوا في كتبهم ، أنه إذا اختلف الجنس ، فلا بأس بيع الواحد بالاثنين ، من المكيل والموزون ، على العموم والإطلاق ، من سائر المكيلات والموزونات ، ولم يستثنوا من ذلك إلا الدنانير والدراهم ، في بيع النسيئة فحسب ، مثل شيخنا ابن بابويه في كتاب من لا يحضره فقيه (1) ، فإن هذا مذهبه ومقالته في مقنعه (2) وسائر كتبه ، وكذلك السيّد المرتضى ، وعلي بن بابويه ، وغير هؤلاء من المشيخة الفقهاء. وأبو علي بن الجنيد ، من كبار فقهاء أصحابنا ، ذكر المسألة وحققها ، وأوضحها في كتابه الأحمدي للفقه المحمدي ، فإنّه قال : لا بأس بالتفاضل بين الحنطة والشعير ، لأنّهما جنسان مختلفان (3).

وكذلك ابن أبي عقيل ، من كبار مصنفي أصحابنا ، ذكر في كتابه ، فقال : وإن اختلف الجنسان ، فلا بأس ببيع الواحد بأكثر منه ، وقد قيل : لا يجوز الحنطة بالشعير ، إلا مثلا بمثل سواء ، لأنّهما من جنس واحد ، بذلك جاءت بعض الأخبار ، والقول والعمل على الأول ، هذا آخر كلامه (4).

وأيضا قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » يعضد ذلك ، ويشيّده ، وأيضا قوله عليه السلام المجمع عليه : إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم ، وقد اختلف الجنس في الحنطة والشعير ، صورة وشكلا ، ولونا وطعما ، ونطقا وإدراكا وحسا ، فإذا كان لا إجماع على المسألة ، ولا كتاب اللّه تعالى ، ولا سنة متواترة ، بل الكتاب المنزل على الرسول عليه السلام يخالفها ، والإجماع من الفرقة المحقة يضادها ، ودليل العقل يأباها ، فما بقي إلا تقليد الواضع لها في كتابه ، ولا خلاف أنّه لا يجوز تقليد ما يوجد في سواد الكتب (5) إذا لم تقم على صحته الأدلة

ص: 255


1- من لا يحضره الفقيه : ج 3 ، كتاب المعيشة ، باب الربا ، ص 274 - 286 ، وفيه : روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : الحنطة والشعير رأس برأس ، لا يزاد واحد منهما على الآخر ، ص 281.
2- المقنع : باب المكاسب والتجارات ، باب الربا ، وعبارته هكذا : واعلم أنّه لا ربا الا فيما يكال أو يوزن ، .. فتأمّل
3- لا يوجد في المصادر التي بأيدينا.
4- رسالتان مجموعتان فتاوى ابن أبي عقيل ص 114.
5- ج : في سواد إذا

الواضحة ، والبراهين اللائحة.

ولا بأس ببيع قفيز من الذرة ، أو غيرها من الحبوب ، بقفيزين من الحنطة أو الشعير ، أو غيرهما من الحبوب ، يدا ونسيئة بغير خلاف على ما أصلناه ، وحررناه ، فيما تقدّم ، وقوله عليه السلام : « إذا اختلف الجنس فبيعوا كيف شئتم » وإنّما روي كراهية بيع ذلك نسيئة دون أن يكون ذلك محرما محظورا ، وهذا مقالة جميع أصحابنا بغير خلاف بينهم ، ومذهب شيخنا أبي جعفر ، في نهايته (1) ، ومسائل خلافه (2) ومبسوطة (3) ، وغير ذلك من كتبه ، وأمّا ما لا يكال ولا يوزن ، فلا بأس بالتفاضل فيه والجنس واحد ، نقدا ونسيئة روي كراهة ذلك نسيئة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وأمّا ما لا يكال ولا يوزن ، فلا بأس بالتفاضل فيه ، والجنس واحد نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة ، مثل ثوب بثوبين ، ودابة بدابتين ، ودار بدارين ، وعبد بعبدين ، وما أشبه ذلك ، ممّا لا يدخل تحت الكيل والوزن ، والأحوط في ذلك أن يقوّم ما يبتاعه بالدراهم والدنانير ، وغيرهما من السلع ، ويقوّم ما يبيعه بمثل ذلك ، وإن لم يفعل ، لم يكن به بأس (4).

قوله رحمه اللّه : « ولا يجوز ذلك نسيئة » محمول على تغليظ الكراهة ، دون الحظر ، لأنّا قلنا : إنّ الشي ء إذا كان شديد الكراهة ، قالوا : لا يجوز.

وأيضا فشيخنا أبو جعفر ، قد رجع عمّا ذكره في نهايته ، في الجزء الثاني من مبسوطة في فصل ، في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح ، فإنّه قال : إذا تبايعا عينا بعين ، لم يخل من ثلاثة أحوال ، إمّا أن لا يكون في واحدة منهما الربا أو في واحدة منهما الربا أو في كل واحدة منهما الربا ، فإن لم يكن في واحدة منهما الربا ، مثل الثياب والحيوان ، وغير ذلك ، ممّا لا ربا فيه ، جاز بيع بعضه ببعض ، متماثلا ، ومتفاضلا ، نقدا ، ويكره ذلك نسيئة ، ويجوز إسلاف إحداهما في

ص: 256


1- النهاية : كتاب التجارة باب الربا وأحكامه ..
2- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 65.
3- المبسوط : ج 2 كتاب البيوع ، فصل في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح.
4- النهاية : كتاب التجارة باب الربا وأحكامه ...

الأخرى هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (1).

وأيضا فقد بيّنا أنّ حقيقة الربا في عرف الشرع بيع المثل بالمثل متفاضلا ، من المكيل والموزون ، وأنه لا ربا عندنا إلا في المكيل والموزون ، بغير خلاف بيننا ، وبيع البعير بالبعيرين ، والدّار بالدّارين ، وما أشبه ذلك ، ليس بمكيل ولا موزون ، فخرج ذلك من حقيقة الربا المنهي عنه في شريعة الإسلام ، ودخل ذلك في عموم قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع بغير خلاف.

وقد بيّنا أيضا ، أنّ أخبار الآحاد ، لا يرجع إليها ، ولا يعوّل عليها ، فإن ورد خبر شاذ ، لا يلتفت إليه ، ولا تخص بمثله الأدلة والعموم.

ثم أخبارنا التي أوردها شيخنا في استبصاره (2) ، في الجزء الثالث كلّها ناطقة بما ذكرناه ، من قولهم عليهم السلام ، لما سئلوا عن بيع البعير بالبعيرين ، فقالوا : لا بأس ، جميعها كذلك ، أوردها ولم يقل فيها شيئا ، أعني شيخنا أبا جعفر ، ولا قال : إذا كان ذلك نسيئة لا يجوز ، ولو كان ذلك اعتقاده ، لقال : وتوسط بين الأخبار ، على ما جرت عادته وسجيّته.

وما يكال ويوزن ، فبيع المثل بالمثل ، جائز حسب ما قدّمناه ، يدا ولا يجوز ذلك نسيئة.

ولا بأس ببيع الأمتعة والعقارات ، والحبوب وغير ذلك ، بالدراهم والدنانير ، نقدا ونسيئة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز بيع الغنم باللحم ، لا وزنا ولا جزافا (3) وقال في مبسوطة ، ومسائل خلافه : إذا كان اللحم من جنس الحيوان ، فلا يجوز ، وإن كان من غير جنسه ، فذلك جائز (4).

ص: 257


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح ، ص 89.
2- الاستبصار : كتاب البيوع ، باب بيع ما لا يكال ولا يوزن.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا واحكامه.
4- المبسوط : كتاب البيوع فصل في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح ، والمسألة 126 من كتاب بيع الخلاف.

قال محمّد بن إدريس : أمّا قوله رحمه اللّه : « ولا يجوز بيع الغنم باللحم لا وزنا ولا جزافا » ، إن أراد الجزاف ، فلا يجوز ، لأنّ ما يباع بالوزن ، لا يجوز بيعه ولا شراؤه جزافا ، بلا خلاف بيننا ، وأمّا قوله : « لا وزنا » فهذا فيه كلام ، إن أراد بذلك أنّه ربا ، فقد قال في مبسوطة ما حكيناه عنه ، من أنّه إذا باع عينا بعين ، فإن كان في إحداهما الربا ، والأخرى لا ربا فيها ، فإنّ بيع ذلك جائز ، وهذا من ذاك.

وأيضا كان يفسد عليه إطلاق كلامه في نهايته ، من قوله : « ولا يجوز بيع الغنم باللحم » ولم يقل أي اللحمان هو ، لأنّه إذا كان لحم غير الغنم ، فلا بأس على ما ذكره في مسائل خلافه ومبسوطة ، لأنّه قد اختلف الجنس.

وأيضا الإجماع منعقد ، على أنّه لا ربا إلا فيما يكال ويوزن ، إذا بيع المثل بالمثل وزيادة ، وبيع الغنم باللحم ، خارج من ذلك.

وأيضا الأصل الإباحة ، والمنع يحتاج إلى دليل ، مع قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، فمن منع منه يحتاج إلى دليل ، ولا إجماع منعقد على المسألة ، حتى يصار إليه.

فإن قيل : فعلى هذا التقرير والتحرير ، يجوز بيع الغنم باللحم ، يدا بيد ، فهل يجوز ذلك نسيئة.

قلنا : إن أسلف الغنم في اللحم ، لا يجوز بغير خلاف ، لأنّ السلم في اللحم عندنا لا يجوز ، لأنّه لا يكاد يضبط بالوصف ، فإنّه يتباين تباينا كثيرا ، وكذلك الخبز ، وروايا الماء ، وإن كان جعل اللحم الثمن ، والمسلم فيه الغنم ، ووصفها ، وضرب الأجل المحروس ، فذلك جائز ، لا مانع يمنع منه ، فليتأمّل ذلك ، ويفهم عنى ما سطرته ، فإن فقهه غامض ، إلا على المحصّل المحقق لأصول المذهب.

ثم قال شيخنا في نهايته : ولا يجوز أيضا بيع الرطب بالتمر ، مثلا بمثل ، لأنّه إذا جف نقص (1).

ص: 258


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه...

قال محمد بن إدريس : وهذا غير واضح ، بل يجوز ذلك ، ومذهبنا ترك التعليل والقياس ، لأنّه كان يلزم عليه ، ان يجوز بيع رطل من العنب ، برطل من الزبيب ، وهذا لا يقول به أحد من أصحابنا ، بغير خلاف.

وأيضا فلا خلاف أنّ بيع الجنس بالجنس مثلا بمثل ، جائز سائغ ، والمنع منه يحتاج إلى دليل ، وقوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » يدل على جوازه ، وقد رجع شيخنا عمّا ذكره في نهايته ، في الجزء الثالث من استبصاره ، فقال : الوجه في هذه الأخبار ، ضرب من الكراهة دون الحظر (1) ولا بأس ببيع الحنطة بالدقيق والسويق ، مثلا بمثل ، ولا يجوز التفاضل فيه ، ويكون ذلك نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، ولا بأس ببيع الحنطة والدقيق بالخبز ، مثلا بمثل نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، والتفاضل فيه لا يجوز ، لا نقدا ولا نسيئة.

ولا بأس ببيع اللبن والسمن والزبد ، كلّه إذا اتفقت أجناسه ، مثلا بمثل نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، ولا يجوز التفاضل فيه ، لا نقدا ولا نسيئة ، فعلى هذا التحرير والتقرير ، لا يجوز بيع رطل من لبن الغنم ، إلا برطل منه ، وكذلك إن أريد بيعه بسمن من سمن الغنم ، فلا يجوز إلا برطل سمن ، ولا يجوز بأقل منه ، لأنّ الجنس واحد ، فإنّه لا يجوز التفاضل بين اللبن والسمن ، إذا كان الجنس واحدا ، وكذلك الزبد واللبن ، والزبد والسمن.

واللحمان إذا اتفق أجناسها ، جاز بيع بعضها ببعض ، مثلا بمثل يدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة ، ولا يجوز التفاضل فيها ، لا نقدا ولا نسيئة ، وإذا اختلف أجناسها ، جاز التفاضل فيها نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، مثل رطل من لحم الغنم ، برطلين من لحم البقر نقدا ، ولا يجوز نسيئة.

ولا بأس ببيع الثوب بالغزل ، وإن كان الثوب أكثر وزنا منه ، وإن كان

ص: 259


1- الاستبصار : ج 3 ، كتاب البيوع ، باب بيع الرطب بالتمر ، ص 92 - 93.

الغزل من جنسه ، وكذلك إن كان الغزل أكثر وزنا من الثوب ، لأنّ الربا المحرم غير حاصل فيهما ، لأنّ أحدهما فيه الربا ، والآخر لا ربا فيه ، فبيع أحدهما بالآخر جائز ، سواء كان نقدا أو نسيئة ، متفاضلا أو متماثلا ، لأنّ أحدهما موزون ، والآخر غير موزون (1).

وهذا يعضد ما حررناه ، وشرحناه ، من بيع الغنم باللحم ، وجوازه على ما حقّقناه.

ويجوز بيع المثل بالمثل من الموزون والمكيل نقدا ، ولا يجوز نسيئة.

وكل ما يكال أو يوزن ، فلا يجوز بيعه جزافا.

ويجوز أن يسلف في المكيل من الحبوب ، والأدهان وزنا ، وفي الموزون من الأشياء ، كيلا إذا كان يمكن كيله ، ولا يتجافى في المكيال ، ولا يجوز بيع الجنس الواحد فيما يجري فيه الربا ، بعضه ببعض وزنا ، إذا كان أصله الكيل ، ولا كيلا إذا كان أصله الوزن.

والفرق بينهما ، أنّ المقصود من السلم ، معرفة مقدار المسلم فيه ، حتى يزول عنه الجهالة ، وذلك يحصل بأيّهما قدره من كيل أو وزن ، وليس كذلك ما يجري فيه الربا ، فانّ الشارع أوجب علينا التساوي بالكيل في المكيلات وبالوزن في الموزونات ، فإذا باع المكيل بعضه من بعض وزنا ، فإذا ردّ إلى الكيل ، جاز أن يتفاضل ، لثقل أحدهما وخفة الآخر ، فلذلك افترقا.

ويجوز بيع المكيل بالوزن ، ولا يجوز بيع الموزون بالكيل ، لأنّه غرر وجزاف ، ولا يجوز بيع ما يباع عددا جزافا ، فإن كان ما يباع بالعدد ، يصعب عده ، فلا بأس أن يكال أو يوزن منه مقدار بعينه ، ثم يعد ، ويؤخذ الباقي بحسابه.

ولا بأس ببيع السمن بالزيت متفاضلا يدا بيد ونسيئة ، وروي كراهة ذلك نسيئة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا بأس ببيع السمن بالزيت متفاضلا يدا بيد ، ولا يجوز ذلك نسيئة (2)

ص: 260


1- إلى هنا انتهى الأوراق التي عثرنا عليها.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه.

إلا أنّه رجع عن ذلك في استبصاره (1) ، وهو الحق اليقين ، لأنّا قد بيّنا ، أنّه إذا اختلف الجنس ، فلا بأس ببيعه متفاضلا ، ومتماثلا نقدا ، ونسيئة ، إلا ما خرج بدليل ، من الذهب والفضة ، فإنّه لا يجوز بيعهما نسيئة.

ولا يجوز التفاضل في الأدهان ، إذا كان الأصل يرجع إلى جنس واحد ، مثل أن يباع الشيرج بالشيرج ، الذي فيه البنفسج ، فإنّه يسمّى دهن البنفسج ، أو دهن الورد ، وما أشبه ذلك ، ممّا كان الأصل فيه دهن الشيرج.

ولا يجوز بيع السمسم بالشيرج ، ولا بزر (2) الكتان بدهنه ، بل ينبغي أن يقوّم كل واحد منهما ، على انفراده.

ولا يجوز بيع البسر بالتمر ، متفاضلا ، ويجوز متماثلا ، لأنّهما جنس واحد ، بغير خلاف ، فلو كان التعليل في المنع ، من جواز بيع الرطب بالتمر صحيحا ، لما جاز بيع البسر بالتمر ، مثلا بمثل ، ولا خلاف بين أصحابنا في ذلك ، من أنّه لا يجوز بيع البسر بالتمر متفاضلا ، وإن اختلف جنسه ، ولا بيع نوع من تمر بأكثر منه ، من غير ذلك ، لأنّ ما يكون من النخل ، في حكم النوع الواحد ، بغير خلاف بين أصحابنا.

وحكم الزبيب ، وتحريم التفاضل فيه ، وإن اختلف جنسه ، مثل التمر سواء ، لأنّ جميعه في حكم الجنس الواحد ، ولا يجوز بيع الدبس المعمول من التمر ، بالتمر متفاضلا ، ولا بأس ببيعه مثلا بمثل يدا ، ولا يجوز نسيئة.

ولا بأس ببيع التمر بالزبيب متفاضلا ، نقدا ونسيئة ، إلّا أنّه روى كراهة بيعه نسيئة وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ولا يجوز نسيئة.

وقد قلنا ما عندنا في أمثال ذلك ، من أنّه إذا اختلف الجنس ، فلا بأس ببيعه متفاضلا ، ومتماثلا ، نقدا ونسيئة ، لما دللنا عليه من قبل.

ص: 261


1- الاستبصار : ج 3 ، كتاب البيوع ، باب اسلاف السمن بالزيت ، فراجع كلامه قدس سره.
2- البزر - بالكسر - كل حب يبذر للثبات.

ولا بأس ببيع الزبيب ، بالدبس المعمول من التمر ، متفاضلا ومتماثلا ، نقدا ونسيئة ، ولا يجوز بيعه بما يعمل من الزبيب من الدّبوس ، متفاضلا لا نقدا ولا نسيئة ولا يجوز بيع العنب بالزبيب إلا مثلا بمثل.

والعصير والبحتج ، لا يجوز التفاضل فيهما ، ويجوز بيع ذلك مثلا بمثل ، يدا ولا يجوز نسيئة لأنّهما معا جنس واحد ، إلا أنّ أحدهما مسّته النار ، وهو البحتج ، والآخر ما مسته ، وهو العصير ، قال الجوهري ، في كتاب الصحاح : والطلاء ما طبخ من عصير العنب ، حتى ذهب ثلثاه ، ويسمّيه العجم الميبختج هكذا حكاه بالميم المكسورة ، والياء المنقطة من تحتها بنقطتين ، المسكنة ، والباء المنقطة من تحتها بنقطة واحدة ، المضمومة ، والخاء المعجمة المسكنة ، والتاء المنقطة من فوقها بنقطتين ، المفتوحة ، والجيم ، هكذا ذكره ، وهو أعرف بهذا الشأن ، والأول روايتنا وسماعنا.

وما يباع بالعدد ، فلا بأس بالتفاضل فيه يدا بيد ، والجنس واحد ، ويكره ذلك نسية ، وإن كان غير محرّم ، لأنه لا ربا فيهما ، لأنّا قد بيّنا أنّ الربا عندنا في المكيل والموزون مع التفاضل ، والجنس واحد ، والمعدود ليس كذلك.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وما يباع بالعدد ، فلا بأس بالتفاضل فيه يدا بيد ، والجنس واحد ولا يجوز ذلك فيه نسيئة ، مثل البيضة بالبيضتين ، والجوزة بالجوزتين ، والحلّة - بالحاء غير المعجمة ، وهي جنس من الثياب - بالحلتين ، وما أشبه ذلك ، ممّا قدّمناه فيما مضى ، هذا آخر كلام شيخنا في نهايته (1).

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : وحكم ما يباع عددا ، حكم المكيل والموزون ، لا يجوز في الجنس منه التفاضل ، ولا في المختلف منه النسيئة (2).

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : ما اخترناه أولا ، وهو أنّه يجوز

ص: 262


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الربا وأحكامه.
2- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب بيع الواحد بالاثنين ص 605.

التفاضل في المعدود ، وإن كان الجنس واحدا يدا بيد ويكره ذلك نسيئة وزاد على قولنا ، أنّه لا كراهة في النسيئة ، وهو الذي يقوى عندي ، لأنّ الكراهة تحتاج إلى دليل ، قال رحمه اللّه في مسائل الخلاف : مسألة ، لا ربا في المعدودات ، ويجوز بيع بعضه ببعض متماثلا ، ومتفاضلا ، نقدا ونسيئة ، وللشافعي فيه قولان ، ثم قال رحمه اللّه : دليلنا الآية ، وأيضا الأصل الإباحة ، والمنع يحتاج إلى دليل ، وأيضا عليه إجماع الفرقة ، وأخبارهم تدل على ذلك ، هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه (1).

وهو الحق اليقين ، فقد رجع عمّا ذكره في نهايته ، واستدل بالآية وإجماع الفرقة وبأخبارهم ، فليت شعري ، الذي ذكره في نهايته من اين قاله ، وكيف جاز له أن يرجع عنه ، لو كان عنده حجة ، وإنما أورده من طريق خبر الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملا ، فلو كان الرجل عاملا بأخبار الآحاد ، لما جاز له أن يرجع عن ذلك ، فلا يتوهم على شيخنا خلاف ما يعتقده ، وإن وجد له في بعض كتبه كلام ، يدلّ على أنّه يعمل بأخبار الآحاد ، فقد يوجد له في معظم كتبه ، وتصنيفه ، كلام يدل على أنّه غير عامل بأخبار الآحاد ويوجد ذلك في استبصاره كثيرا ، فإنّه يقول : هذا خبر واحد وأخبار الآحاد عندنا غير معمول عليها ، فلو كان عاملا بأخبار الآحاد ، لما ساغ له أن يقول ذلك كذلك ، لأنّه يكون مناقضا في أقواله ، مضادا لأفعاله.

وإذا كان الشي ء يباع في مصر من الأمصار ، كيلا أو وزنا ، ويباع في مصر آخر جزافا ، فحكمه حكم المكيل والموزون ، إذا تساوت الأحوال في ذلك ، وإذا اختلفت ، كان الحكم فيه حكم الأغلب والأعم.

الماء لا ربا فيه ، لأنّه ليس بمكيل ولا موزون ، فيدخل تحت الأخبار ،

ص: 263


1- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 72 ، وفيه : بعضها ببعض.

والآيات ، وقد بيّنا أنّه لا ربا إلا فيما يكال ويوزن.

يجوز بيع خل الزبيب بخل الزبيب ، مثلا بمثل ولا يجوز متفاضلا وبيع خل التمر بخل التمر ، ويجوز بيع خل الزبيب بخل العنب ، مثلا بمثل ، ولا يجوز متفاضلا ، ويجوز بيع خل الزبيب بخل التمر ، متفاضلا ومتماثلا ، ويجوز بيع مدّ من طعام ، بمدّ من طعام ، وإن كان في أحدهما فصل ، بالقاف المفتوحة ، والصاد غير المعجمة المحرّكة ، واللام ، قال الجوهري في كتاب الصحاح : القصل في الطعام مثل الزوان ، قال الشاعر : « قد غربلت وكربلت من الفصل » أبو عمرو كربلت الحنطة إذا هذبتها مثل غربلتها.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : يجوز بيع مدّ من طعام ، بمدّ من طعام ، وإن كان في أحدهما قصل ، وهو عقد التبن ، أو زوان ، وهو حب أصغر منه ، دقيق الطرفين ، أو شيلم ، وهو معروف.

وقد قلنا أنّ الألبان أجناس مختلفة ، فلبن الغنم الأهلي ، جنس واحد ، وإن اختلف أنواعه ، ولبن الغنم الوحشي ، وهي الظباء جنس آخر ، وكذلك لبن البقر الأهلي ، جنس واحد ، وإن اختلفت أنواعه ، ولبن البقر الوحشي ، جنس آخر.

يجوز بيع اللبن بالزبد ، إذا كان من جنسه ، متماثلا ، ولا يجوز متفاضلا ، لا نقدا ولا نسيئة ، على ما قدّمناه.

الجبن ، والأقط ، والسمن ، والمصل ، واللبن ، كل واحد منها ، بالآخر يجوز متماثلا ، ولا يجوز متفاضلا ، إذا كانت من جنس واحد.

يجوز بيع مدّ من تمر ودرهم ، بمدّي تمر ، وبيع مدّ من حنطة ودرهم ، بمدّي حنطة ، ومدّ من شعير ودرهم بمدّي شعير ، وهكذا إذا كان بدل الدرهم ، في هذه المسائل ، ثوبا ، أو خشبة ، أو غير ذلك ممّا فيه الربا ، أو لا ربا فيه ، وهكذا يجوز بيع درهم وثوب ، بدرهمين ، وبيع دينار وثوب ، بدينارين.

وجملته أنّه يجوز بيع ما يجري فيه الربا بجنسه ، ومع أحدهما غيره ، ممّا فيه

ص: 264

الربا ، أو لا ربا فيه ، إذا كان العين (1) مع أقل العرضين اللذين هما المثمنان (2).

باب الصّرف وأحكامه

الصرف عبارة في عرف الشرع ، عن بيع الذهب بالذهب ، أو الفضة بالفضة ، أو الذهب بالفضة ، أو الفضة بالذهب ، وقد بيّنا في باب الربا ، أنّه لا يجوز بيع درهم بدرهمين ، لا نقدا ولا نسيئة ولا بيع درهم بدرهم نسيئة ، ولا بأس بذلك نقدا وكذلك لا يجوز بيع دينار بدينارين (3) لا نقدا ولا نسيئة ، ولا بيع دينار بدينار ، نسيئة ، ولا بأس بذلك نقدا ، ولا بأس ببيع دينار بدراهم نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة.

وإذا كان للإنسان على غيره دراهم ، جاز أن يأخذ بها دنانير ، وكذلك إن كان له دنانير ، فيأخذ بها دراهم ، لم يكن به بأس ، فإن كان له دنانير وأخذ الدراهم ، ثم تغيّرت الأسعار ، كان له سعر يوم قبض الدراهم ، من الذي كان له عليه الدنانير ، دون يوم المحاسبة ، على ما قدّمناه ، في الجزء الأوّل من كتابنا هذا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا كان لإنسان على صيرفي دراهم ، أو دنانير ، فيقول له : حول الدنانير إلى الدراهم ، أو الدراهم إلى الدنانير ، وساعره على ذلك ، كان ذلك جائزا ، وإن لم يوازنه في الحال ، ولا يناقده ، لأن النقدين جميعا من عنده (4).

قال محمد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : إن أراد بذلك ، انّهما افترقا قبل التقابض من المجلس ، فلا يصح ذلك ، ولا يجوز بغير خلاف ، لأنّ الصرف لا يصح أن يفترقا من المجلس ، إلا بعد التقابض ، فإن افترقا قبل أن يتقابضا ، بطل البيع والصرف ، وإن أراد أنّهما تقاولا على السعر ، وعينا الدراهم المبتاعة ، أو الدنانير المبيعة ، وتعاقدا البيع ، ولم يوازنه ، ولا ناقده ، بل نطق البائع

ص: 265


1- ل : كان الغير.
2- ل : المتماثلان.
3- الى هنا ينتهى نقص نسخة الأصل.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.

بمبلغ المبيع ، ثم تقابضا قبل التفرّق والانفصال من المجلس ، كان ذلك جائزا صحيحا ، وإن أراد الأوّل فذلك باطل ، بلا خلاف.

يدلك على ما قلناه ، ما قاله شيخنا رحمه اللّه في مبسوطة ، فإنّه قال : تصح الإقالة في جميع السلم ، وتصح في بعضه ، ولا فرق بينهما ، فإن أقاله في جميع السلم ، فقد برئ المسلم إليه من المسلم فيه ، ولزمه ردّ ما قبضه من رأس المال ، ان كان قائما بعينه ، وإن كان تالفا ، لزمه مثله ، فإن تراضيا يقبض بدله من جنس آخر مثل ان يأخذ دراهم بدل الدنانير ، أو الدنانير بدل الدراهم ، كان جائزا أو يأخذ عرضا آخر ، بدل الدراهم ، أو الدنانير ، كان جائزا ، فإن أخذ الدنانير بدل الدراهم ، أو الدراهم بدل الدنانير ، وجب ان يقبضها في المجلس ، قبل ان يفارقه ، لان ذلك صرف وإن أخذ عرضا آخر ، جاز أن يفارقه قبل القبض ، لأنّه بيع عرض معين بثمن في الذمة ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة (1).

وقال شيخنا أيضا في نهايته : وإذا أخذ إنسان من غيره دراهم ، فأعطاه الدنانير ، أكثر من قيمة الدراهم ، أو أخذ منه الدنانير ، وأعطاه الدراهم ، مثل ماله ، أو أكثر من ذلك ، وساعره على ثمنه ، كان ذلك جائزا ، وإن لم يوازنه ويناقده في الحال ، لأنّ ذلك في حكم الوزن والنقد ، ولا يجوز ذلك إذا كان ما يعطيه أقل من ماله فإن أعطاه أقل من ماله ، وساعره ، مضى البيع في المقدار الذي أعطاه ، ولم يمض فيما هو أكثر منه ، والأحوط في ذلك أن يوازنه ويناقده في الحال ، أو يجدّد العقد في حال ما ينتقد ويتزن (2).

وهذا يبيّن لك ، انّ مراده رحمه اللّه ، في المسألة الأولة ، أنّه ما فارقه من المجلس ، إلا بعد أن تقابضا ، كما أنّ هاهنا ، قال : « وساعره على ثمنه كان ذلك جائزا وإن لم يوازنه ويناقده في الحال ، لأنّ ذلك في حكم الوزن والنقد » يريد

ص: 266


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، أحكام الإقالة ، ص 187.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف واحكامه.

أنّ الأخبار بمبلغ الموزون أو المكيل ، يقوم مقام الوزن في الموزون ، والكيل في المكيل ، لأنّهما لا يجوز أن يباعا جزافا ، من دون وزن ، أو اخبار بوزن ، أو كيل ، أو اخبار بكيل.

ولا بأس أن يبيع الإنسان ألف درهم ودينارا ، بألفي درهم ، من ذلك الجنس ، أو من غيره من الأجناس والدراهم ، وإن كان الدينار لا يساوي ألف درهم في الحال ، وكذلك لا بأس أن يجعل بدل الدينار شيئا من الثياب ، أو جزء من المتاع ، على ما قدّمناه ، ليتخلص من الربا ، ويكون ذلك نقدا ، ولا يجوز نسيئة ، وكذلك لا بأس أن يبيع ألف درهم صحاحا ، وألفا مكسرة ، وهي الغلّة « لأن مكسرة الدراهم ، تسمّى الغلّة ، مثل مكسرة الدنانير ، تسمّى قراضة » بألفين صحاحا ، أو بألفين غلة نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة.

وقال شيخنا في نهايته : وكذلك لا بأس أن يبيع درهما بدرهم ويشرط معه صياغة خاتم ، أو غير ذلك من الأشياء (1).

ووجه الفتوى بذلك ، على ما قاله رحمه اللّه : إنّ الربا هو الزيادة في العين ، إذا كان الجنس واحدا ، وهاهنا لا زيادة في العين ، ويكون ذلك على جهة الصلح في العمل ، فهذا وجه الاعتذار له ، إذا سلم العمل به ، ويمكن أن يحتج بصحته ، بقوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، والربا المنهي عنه غير موجود هاهنا ، لا حقيقة لغوية ولا حقيقة عرفية شرعية.

وإذا باع الإنسان دراهم بالدنانير ، لم يجز له أن يأخذ بالدنانير دراهم مثلها ، إلا بعد أن يقبض الدنانير ، ثم يشتري بها دراهم إن شاء ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (2).

قال محمّد بن إدريس : إن لم يتفارقا من المجلس ، إلا بعد قبض الدراهم المبتاعة بالدنانير التي على المشتري الأول ، فلا بأس بذلك وإن لم يكن قبضه الدنانير التي هي ثمن الدراهم الأولة المبتاعة ، هذا إذا عيّنا الدراهم الأخيرة

ص: 267


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.

المبتاعة ، فإن لم يعيّناها ، فلا يجوز ذلك ، لأنّه يكون بيع دين بدين ، وإن عيّناها ، لم يصر بيع دين بدين ، بل يصير بيع دين بعين.

ولا بأس أن يبيع الإنسان ماله على غيره ، من الدراهم والدنانير ، بدراهم معينة ودنانير معينة ، ويقبضها قبل التفرق من المجلس ، من الذي هي عليه ، على ما أسلفنا القول فيه ، وحررناه ، ولا يجوز له أن يبيعها إيّاه بدراهم ، أو دنانير غير معيّنة ، لأنّها إذا كانت غير معيّنة ، فإنها تكون في ذمته ، وإذا كانت في ذمته ، فهي دين عليه ، فيصير بيع دين بدين ، لأنّ الأثمان عندنا تتعيّن ، فإذا كانت معيّنة ، وهلكت قبل القبض ، بطل البيع ، فإذا لم تكن معينة ، وهلكت لم يبطل البيع الذي هي ثمن له لأنّها إذا لم تكن (1) معيّنة ، فإنّه دين في الذمة ، بغير خلاف ، فافترق الأمران ، وتباين القولان.

وقد حكينا عن شيخنا أبي جعفر ، ما قاله في مبسوطة ، قبيل هذا الكلام في هذا الباب وتصح الإقالة في جميع السلم ، وتصح في بعضه ، ولا فرق بينهما ، فإن أقاله في جميع السلم ، فقد برئ المسلم إليه من المسلم فيه ، ولزمه ردّ ما قبضه من رأس المال ، إن كان قائما بعينه ، وإن كان تالفا ، لزمه مثله ، فإن تراضيا بقبض بدله من جنس آخر ، مثل أن يأخذ دراهم ، بدل الدنانير ، أو الدنانير بدل الدراهم ، كان جائزا ، أو يأخذ عرضا آخر ، بدل الدراهم ، أو الدنانير كان جائزا ، فإن أخذ الدنانير بدل الدراهم ، أو الدراهم ، بدل الدنانير ، وجب أن يقبضها في المجلس ، قبل أن يفارقه ، لأنّ ذلك صرف ، وإن أخذ عرضا آخر جاز أن يفارقه قبل القبض ، لأنّه بيع عرض معين ، بثمن في الذمة (2).

فدلّ ذلك ، على أن الدراهم أو الدنانير المبتاعة بالثمن الذي في الذمة معيّنة ، بقوله : « وإن أخذ عرضا آخر جاز أن يفارقه قبل القبض » قال : لأنّه بيع عرض

ص: 268


1- ج : هي فيه ثمن ، لأنها لم تكن.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، أحكام الإقالة ، ص 187.

معين بثمن في الذمة » فجعل التعيين في المسألتين الأخذ ، لأنّه قال : « وإن أخذ عرضا آخر جاز أن يفارقه قبل القبض » قال : « لأنّه بيع عرض معيّن بثمن في الذمة » وما جرى للتعيين ذكر إلا بقوله أخذ ، فلو لم يكن العرض معيّنا ما علله بقوله : لأنه بيع عرض معيّن ، وكذلك في الدنانير المبيعة بالثمن الذي في الذمة لا بد من تعيينها ، لئلا يكون بيع دين بدين ، على ما حرّرناه ، فليلحظ ذلك ويتأمّل ، ففيه غموض (1) على غير المحصّل لهذا الشأن.

وإذا اشترك نفسان في شراء دراهم بدنانير ، ونقد أحدهما الدنانير عن نفسه ، وعن صاحبه ، وجعل نقده عنه دينا عليه بأمره له وقوله : ثم أراد أن يشتري منه حصته بالدنانير التي له عليه من ثمنها ، أو أقل منها ، أو أكثر ، لم يكن به بأس ، إذا كانت الدراهم المبتاعة في يد المشتري ، وإن كانت في يد البائع ، فلا بدّ من أن يتقابضا بها قبل التفرق من المجلس ، فإن افترقا قبل أن يقبضها المشتري الذي هو صاحب الدين ، مع البائع الذي هو شريكه ، بطل البيع ، لأنّه صرف.

ولا يجوز إنفاق الدنانير والدراهم المحمول عليها ، إلا بعد أن يبيّن حالها ، إلا ان تكون معلومة الحال ، شايعة متعاملا بها ، غير مجهولة في بلدها ، وعند بائعها ، ومشتريها ، فيقوم ذلك مقام تبين حالها.

وشيخنا أبو جعفر ، قال في نهايته : ولا يجوز إنفاق الدراهم المحمول عليها ، إلا بعد أن يبيّن حالها ، وأطلق ذلك ، وحرّر ذلك على ما حرّرناه ، وشرحناه ، في الجزء الثالث من استبصاره (2) ، وبه أورد الأخبار المتواترة الكثيرة ، ثم أورد الخبر الذي ذكره في نهايته ، فتأوله ، والخبر عن الفضل بن عمر الجعفي ، قال : كنت عند أبي عبد اللّه عليه السلام ، فالقي بين يديه دراهم ، فألقى إليّ درهما

ص: 269


1- ج : عموم. والظاهر ان هذه النسخة « غموم ».
2- الاستبصار : كتاب البيوع ، باب إنفاق الدراهم المحمول عليها ، والخبر الخامس منه هو خبر مفضل وفي الوسائل : كتاب التجارة ، الباب 10 من أبواب الصرف.

منها ، فقال : أيش هذا؟ فقلت : ستوق ، فقال : وما الستوق؟ قلت : ثلاث طبقات طبقة فضة ، وطبقة نحاس (1) ، وطبقة فضة فقال : اكسرها (2) فإنّه لا يحل بيع هذا ، ولا إنفاقه.

قال شيخنا أبو جعفر : فالوجه في الجمع بين هذه الأخبار ، وكان قد أورد قبل هذا الخبر أخبارا كثيرة بأنّه لا بأس بإنفاقها ، إذا كان الغالب عليها الفضة (3) ، وبعضها ، قال : سألته عن الدراهم المحمول عليها ، فقال : لا بأس بإنفاقها (4) وفي بعضها قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن إنفاق الدراهم المحمول عليها ، فقال : إذا جازت الفضة الثلثين ، فلا بأس (5) ، قال رحمه اللّه : فالوجه في الجمع بين هذه الأخبار - أنّ الدراهم إذا كانت معروفة متداولة بين الناس ، فلا بأس بإنفاقها ، على ما جرت به عادة البلد ، فإذا كانت دراهم مجهولة ، فلا يجوز إنفاقها إلا بعد أن يبين عيارها ، حتى يعلم الآخذ لها قيمتها.

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : وهذا التأويل والمذهب الذي حرّره في استبصاره ، هو الذي يقوى في نفسي ، لأنّه الحقّ اليقين ، وبه تشهد العادات والحالات ، فإنّه إذا كان المعنى معلوما بشاهد حال ، جرى مجرى المنطوق به.

قال محمّد بن إدريس : أمّا استفهام الإمام عليه السلام ما السّتوق ، فإنّها كلمة فارسيّة غير عربية ، وهي مفتوحة السين ، غير المعجمة ، مشدّدة التاء المنقّطة من فوقها ، بنقطتين ، المضمومة ، والواو ، والقاف ، ومعناها ثلاث طبقات ، لأنّ « سه » بالفارسيّة ثلاثة ، وتوق ، طبقات وهو الزائف الردي البهرج ، قال الصولي في كتاب الأوراق : اعترض مخلد الشاعر الموصلي ، الخليفة المعتمد باللّه ، لمّا دخل الموصل ، بمدح وحلّفه أن يسمعه ، فأحضره ، وسمع مدحه ، ثم قال له :

ص: 270


1- ق : طبقتين فضة وطبقة نحاس.
2- ل. ق : اكسر هذا.
3- هو خبر عمر بن يزيد ، وهو ثالث أخبار الباب المذكور.
4- هو رواية محمّد بن مسلم ، وهو أوّل خبر من الباب.
5- هو خبر آخر عن عمر بن يزيد وهو الرواية الثانية من الباب.

أنشدني هجاك لأهل الموصل ، فأنشده :

هم قعدوا فانتقوا لهم حسبا *** يجوز بعد العشاء في العجب

حتى إذا ما الصّباح لاح لهم *** بيّن ستوقهم من الذهب

والنّاس قد أصبحوا صيارفة *** اعلم شي ء ببهرج النسب

ولا يجوز بيع الفضة إذا كان فيها شي ء من المس أو الرصاص أو الذهب ، أو غير ذلك إلا بالدنانير ، إذا كان الغالب الفضة ، فإن كان الغالب الذهب ، والفضة الأقل ، فلا يجوز بيعه إلا بالفضة ، ولا يجوز بيعه بالذهب ، لأنّه لا يؤمن فيه الربا ، لأنّه ما يتحصل مقدار ما في ذلك ، فيصير مجهول المقدار ، وليس كذلك إذا باع فضة معلومة ، معها جنس آخر بفضة أكثر منها ، لأن تلك معلومة ، فتكون الفضة بالمثل مثلا بمثل ، والزائد ثمن الجنس الآخر ، وما منعنا من ذلك ، إلا إذا لم يحصل العلم بمقدار كل واحد منهما على التحقيق ، فإن تحقق ذلك ، جاز بيع كل واحد منهما بجنسه ، مثلا بمثل ، من غير تفاضل.

وكذلك حكم الأواني المصوغة من الذهب والفضة ، والسيوف المحلاة بالذهب والفضة إن كان ممّا يمكن تخليص كل واحد منهما من صاحبه ، فلا يجوز (1) بيعها بالذهب والفضة ، فإن لم يمكن ذلك فيها ، فان كان الغالب فيها الذهب ، لم تبع إلا بالفضة ، وإن كان الغالب فيها الفضة ، لم تبع إلا بالذهب ، لما قلناه من الجهل بما فيها ، وخوف الربا ، فان تساوى النقدان ، وعلما ، بيع بالذهب والفضة معا.

والسيوف المحلاة والمراكب المحلاة *** بالذهب والفضة ، فإن كانت محلاة

بالفضة ، وعلم مقدار ما فيها ، جاز بيعها بالذهب والفضة نقدا ، ولا يجوز نسيئة. فإن بيع بالفضة ، فيكون ثمن السيف أكثر مما فيه من الفضة ، جاز ، وإن كان أقل ممّا فيه أو مثل ما فيه لم يجز (2) بيع ذلك ، إلا أن يستوهب السيف والسير ، أو يشتريهما ،

ص: 271


1- ج : فإنّه يجوز.
2- أقلّ ممّا فيه لم يجز.

أعني السيف والسير نسيئة في ذمته ، ويعجل الفضة أو الذهب الذي هو مثل الخلية ، قبل مفارقه المجلس ، هذا إذا كان مثل ما فيه ، فأمّا إذا كان أقلّ ممّا فيه من الفضة ، فلا يجوز على حال ، لأنّ ذلك ربا محض ، وكذلك الحكم فيها إذا كانت محلاة بالذهب ، وعلم مقدار ما فيها ، بيع بمثلها وأكثر منها بالذهب ، ولا يجوز بيعها بأقل مما فيها من الذهب ، ويجوز بيعها بالفضة ، سواء كان أقل ممّا فيها من الذهب ، أو أكثر ، إذا كان نقدا ، ولا يجوز ذلك نسيئة على حال.

ومتى لم يعلم مقدار ما فيها ، وكانت محلاة بالفضة ، فلا تباع إلا بالذهب ، وإن كانت محلاة بالذهب ، لم تبع إلا بالفضة ، أو بجنس آخر سوى الجنسين من السلع والمتاع.

ومتى كانت محلاة بالفضة ، وأرادوا بيعها بالفضة ، وليس لهم طريق إلى معرفة مقدار ما فيها ، فيجعل معها شي ء آخر ، وبيع حينئذ بالفضة ، إذا كان أكثر مما فيه تقريبا ، ولم يكن به بأس ، وكذلك الحكم فيما كان من الذهب ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

ولي في ذلك نظر.

ولا بأس ببيع السيوف المحلاة بالفضة (2) ، نسيئة إذا نقد مثل ما فيها من الفضة ويكون ما يبقى ، ثمن السير والنصل ، على ما قدّمناه.

ولا يصح أن يشتري الإنسان سلعة بدينار غير درهم ، ولا بدراهم غير دينار ، لأنّ ذلك مجهول.

قال محمّد بن إدريس : قولنا « لا يصح » نريد به العقد لا يصح ، وقولنا (3) « لأنّه مجهول » المراد به الثمن مجهول ، وإذا كان الثمن مجهولا ، فالعقد والبيع لا يصح ، وهو غير صحيح ، ووجه كون الثمن في هذه الصورة مجهولا ، لأنّه لا يدرى كم حصة الدرهم من الدنانير ، ولا حصّة الدنانير من الدراهم ، إلا بالتقويم ،

ص: 272


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الصرف وأحكامه.
2- ج : المحلاة بالفضة بالفضة.
3- ج : قوله لا يصح يريد به العقد لا يصح وقوله.

والرجوع إلى أهل الخبرة ، وذلك غير معلوم وقت العقد ، فهو مجهول.

فإن استثنى من جنسه ، فباع بمائة دينار إلا دينارا ، أو بمائة درهم ، إلا درهما ، صحّ البيع ، لأنّ الثمن معلوم ، وهو ما بقي بعد الاستثناء.

إذا اشترى خاتما من فضة مع فضة بفضة ، جاز إذا كان الثمن أكثر ممّا فيه من الفضة ، هذا إذا كانت فضة الخاتم معلومة المقدار.

ومن أقرض غيره دراهم ، ثمّ سقطت تلك الدراهم التي أقرضها إيّاه ، وجاءت غيرها ، لم يكن عليه إلا الدراهم التي أقرضها ، أو سعرها بقيمة الوقت الذي أقرضها فيه.

ولا بأس أن يعطي الإنسان غيره دراهم أو دنانير ، ويشترط عليه أن ينقدها إيّاه ، بأرض أخرى مثلها ، في العدد أو الوزن ، من غير تفاضل فيه ، ويكون ذلك جائزا لأن ذلك (1) يكون على جهة القراض لا على جهة البيع ، بل هو محض القرض ، وهذا القرض ما جر نفعا حتى يكون حراما ، لأنّ المحرّم من القرض ، هو أن يشترط زيادة في العين أو الصفة ، وهاهنا لا زيادة في العين والمقدار ، ولا زيادة في الصفة ، ولأنّ البيع في المثلين ، لا يجوز إلا مثلا بمثل نقدا ، ولا يجوز نسيئة وجوهر الفضة لا يجوز بيعه ، إلا بالذهب ، أو بجنس غير الفضة ، لأنّه لا يؤمن فيه الربا ، ولأنّ ما فيه من الفضة غير معلوم ، ولا محقق.

وجوهر الذهب ، لا يجوز بيعه إلا بالفضة ، أو بجنس غير الذهب ، وجوهر الذهب والفضة معا يجوز بيعه بالذهب والفضة معا (2).

ولا يجوز بيع تراب الصاغة ، فإن بيع ، كان ثمنه للفقراء والمساكين ، يتصدّق به عليهم ، لأنّ ذلك لأربابه الذين لا يتميزون ، فإن تميزوا ، ردّ عليهم أموالهم ، واصطلحوا فيما بينهم ، على ما رواه أصحابنا ووجد في رواياتهم (3).

ص: 273


1- ج : ل : الا ان.
2- ج : يجوز بيعه بالفضة والذهب.
3- الوسائل ، كتاب التجارة ، الباب 16 من أبواب الصرف.

وجوهر الأسرب « مضموم الأوّل ، مسكّن السّين ، مضموم الراء ، مشدّد الباء وهو الرّصاص » وكذلك جوهر النحاس ، والصّفر « مضموم الصاد » لا بأس بالاسلاف فيه ، دراهم ودنانير ، إذا كان الغالب عليه ذلك ، وإن كان فيه فضة يسيرة ، أو ذهب قليل.

الدراهم والدنانير يتعيّنان بالعقد ، فإذا اشترى سلعة بدراهم أو دنانير بعينها ، لم يجز له أن يسلّم غيرها ، إذا ثبت أنّهما يتعيّنان.

متى باع دراهم بدنانير ، أو دنانير بدراهم ، ثم خرج أحدهما زائفا ، بأن يكون الدراهم رصاصا ، أو الدنانير نحاسا ، كان البيع باطلا ، لأنّ العقد وقع على شي ء بعينه ، فإذا لم يصح ، بطل ، وثبوته وانتقاله إلى غيره ، يحتاج إلى دليل ، فإن وجد بالدراهم عيبا من جنسه ، مثل أن يكون فضة خشنة ، أو ذهبا خشنا ، أو يكون سكة مضطربة ، مخالفة لسكة السلطان ، فهو بالخيار ، بين أن يردّه ، ويسترجع ثمنه ، وليس له بدله ، فإن كان العيب في الجميع ، كان بالخيار ، بين أن يرد الجميع ، وبين الرضا به ، فإن كان العيب في البعض ، كان له ردّ الجميع ، لوجود العيب في الصفقة ، وليس له أن يردّ البعض المعيب ، ويمسك الباقي.

وإذا باع دراهم بدراهم أو دنانير بدنانير بأعيانها ، فوجد ببعضها عيبا من جنسها ، كان ذلك عيبا ، له ردّه وفسخ العقد ، وله الرضا به ، وان كان العيب من غير جنسه ، كان البيع باطلا.

باب الشرط في العقود

لا يجوز أن يبيع الإنسان إلا ما يملكه في الحال ، ويتعيّن عليه ملكه ، فإن باع مالا يملكه ، ولا يملك بيعه ، كان البيع باطلا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : لا يجوز أن يبيع الإنسان إلا ما يملكه في الحال ، فإن باع مالا يملكه ، كان البيع موقوفا على صاحبه ، فإن أمضاه ، مضى ،

ص: 274

وإن لم يمض ، كان باطلا (1).

إلا أنّه رحمه اللّه رجع عن هذا في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا باع إنسان ملك غيره بغير إذنه ، كان البيع باطلا ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : ينعقد البيع ويقف على إجازة صاحبه ، وبه قال قوم من أصحابنا ، قال رحمه اللّه : دليلنا إجماع الفرقة ومن خالف منهم لا يعتد بقوله ، وأنّه لا خلاف أنّه ممنوع من التصرّف في ملك غيره ، والبيع تصرّف ، وأيضا روى حكيم عن النبي عليه السلام ، أنّه نهى عن بيع ما ليس عنده (2) ، وهذا نص ، وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن النبي عليه السلام ، أنّه قال : لا طلاق إلا فيما يملك ، ولا عتق إلا فيما يملك ، ولا بيع إلا فيما يملك (3) ، فنفى عليه السلام البيع من غير الملك ، ولم يفرّق ، هذا أخر كلام شيخنا (4).

فانظر يرحمك اللّه ، إلى قوله رحمه اللّه : « دليلنا إجماع الفرقة ، ومن خالف منهم لا يعتد بقوله » فلو كان ما ذكره في نهايته جميعه حق وصواب كيف كان يقول لا يعتد بقوله ، وهو القائل به في نهايته ، وانّما يورد أخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، فيتوهم المتوهم ، ويظن الظان ، أنّ ذلك اعتقاده وفتواه ، وأنّه يعمل بأخبار الآحاد ، ولو كان ما ذكره في نهايته حقا وصوابا ، وعليه أدلة ، ما رجع عنه ، ولا استدل على خلافه.

وإذا باع ما يملك وما لا يملك ، في صفقة واحدة ، وعقد واحد ، مضى البيع فيما يملك ، وكان فيما لا يملك باطلا ، حسب ما قدّمناه ، واخترناه ، وكذلك إذا باع ما يجوز بيعه ، من جملة ما يملك وما لا يجوز بيعه من المحرّمات ، مضى البيع فيما يصح بيعه ، وبطل فيما لا يصح البيع فيه.

ص: 275


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
2- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب عقد البيع وشرطه ، الحديث 3 - 4 باختلاف يسير.
3- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب عقد البيع وشرطه ، الحديث 3 - 4 باختلاف يسير.
4- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 275.

مثال الأول ، باع ملكه وملك غيره بثمن واحد ، في عقد واحد ، ومثال الثاني ، باع شاة مملوكة له ، وخنزيرا ، وهو مسلم ، في عقد واحد بثمن واحد ، فإن البيع في المملوك صحيح ، والبيع في غير المملوك ، وفي غير المحلل للمسلم تملكه باطل.

فإذا تقرر هذا ، فالمشتري بالخيار بين أن يردّ الصفقة جميعها ، أو يمسك ما يصح فيه البيع ، بما يخصّه من الثمن الذي يتقسط عليه ، مثاله باع شاة وخنزيرا بثلاثة دنانير ، فإنّ الثمن يتقسط على قدر قيمة الشاة ، وقيمة الخنزير عند مستحليه ، فيقال : كم قيمة الشاة؟ فيقال : قيراطان ، ويقال : كم قيمة الخنزير؟ فيقال : قيراط ، فيرجع بثلث الثمن ، وهو دينار ، وبالعكس من ذلك ، أن يقال : قيمة الشاة قيراط ، وقيمة الخنزير عند مستحليه قيراطان ، فيرجع المشتري بثلثي الثمن ، وهو ديناران.

وكذلك في ملكه وملك الغير ، إذا باعهما معا في عقد واحد ، بثمن واحد ، فبحساب ما صوّرناه ، لا يختلف الحكم في ذلك ، فالاعتبار بالقيم ، ويرجع في الأثمان بحسب القيمتين.

وقال شيخنا في نهايته : وإذا باع فلا ينعقد البيع ، إلا بعد أن يفترق البيعان ، بالأبدان ، فإن لم يفترقا ، كان لكلّ واحد منهما فسخ البيع ، والخيار (1).

قال محمّد بن إدريس : هذه عبارة موهمة غير واضحة ، كيف يقال : فإذا باع فلا ينعقد البيع ، وهذا كالمتناقض ، فإنّه إذا باع انعقد البيع ، وإن كان ما باع فما انعقد البيع ، وإنما مراد شيخنا في هذا الموضع ، أنّ البيع ، إذا لم يفترقا بالأبدان ، لم يلزم كل واحد منهما ، بل لكلّ واحد منهما الخيار في فسخه وإمضائه ، فإذا بالأبدان ، لزم واستقرّ من كل واحد منهما ، وليس لكل واحد منهما الخيار ، إلا أن يظهر عيب في المبيع ، قبل عقدة البيع ، فيكون المشتري بالخيار ، بين الرد

ص: 276


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.

والإمساك ، فإذا ردّ يرجع بجميع الثمن ، وإذا اختار الإمساك ، رجع بأرش العيب ، « بفتح ألف الأرش » على البائع ، لا يجبر المشتري على أحد الأمرين ، هذا ما لم يتصرّف فيه تصرفا يؤذن بالرضا ، في العادة ، أو ينقص قيمته بتصرّفه.

ومتى شرط المبتاع على البائع ، مدّة من الزمان ، كان ذلك جائزا ، كائنا ما كان ، على ما قدّمناه فيما مضى ، فإن هلك المتاع في تلك المدّة ، من غير تفريط من المبتاع ، ولا تصرفه فيه ، التصرّف المذكور ، كان من مال البائع ، فإن هلك بعد انقضاء المدة ، كان من مال المبتاع ، دون البائع ، على كل حال ، سواء تصرف فيه ، أو لم يتصرف ، لأنّ بعد المدة ، ما بقي له خيار.

فكل من كان له الخيار ، فالمتاع يهلك من مال من ليس له خيار ، لأنّه قد استقرّ العقد عليه ، ولزم ، والذي له الخيار ، ما استقر عليه العقد ، ولا لزمه ، فإن كان الخيار للبائع ، دون المشتري ، وكان المتاع قد قبضه المشتري ، وهلك في يديه ، كان هلاكه من مال المشتري ، دون البائع ، لأنّ العقد استقرّ عليه ، ولزم من جهته.

وإذا باع الإنسان شيئا ، ولم يقبض المتاع ، ولا قبض الثمن ، ومضى المشتري ، ولم يشترطا خيارا لهما ، ولا لأحدهما ، ولا ضربا للثمن أجلا ، ولا قبض أحدهما شيئا من المعوضين ، لا الثمن ولا المثمن ، ففي هذه الصورة يكون العقد موقوفا ، عند أصحابنا إلى ثلاثة أيّام ، فإن جاء المبتاع في مدة الثلاثة الأيّام ، كان البيع له ، وإن مضى ثلاثة أيّام ، كان البائع أولى بالمتاع ، إن شاء فسخ البيع ، وإن شاء لم يفسخه ، وطالب المشتري بالثمن ، لا يجبر على أحد الأمرين ، بل الخيرة له في ذلك.

فإن هلك المتاع في مدة هذه الثلاثة الأيام ، ولم يكن قبّضه إيّاه ، ولا قبض ثمنه ، ولا مكّنه من قبضه ، على ما حرّرناه ، فقد اختلف قول أصحابنا في ذلك ، فذهب شيخنا المفيد ، والسيّد المرتضى ، وغيرهما ، إلى أنّ هلاكه من مال المشتري ، وذهب شيخنا أبو جعفر ، وجماعة من أصحابنا ، إلى أن هلاكه من مال

ص: 277

البائع ، دون مال المبتاع ، وإن هلك بعد الثلاثة الأيام ، كان من مال البائع ، دون مال المبتاع على كل حال عند الجميع ، وعلى الأقوال كلها بغير خلاف.

والذي يقوى في نفسي ، ما ذهب إليه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، لأنّ الإجماع حاصل منعقد في غير هذه الصورة ، أنّ المبيع إذا هلك قبل أن يقبضه بايعه ، للمشتري ، أو قبل تمكين البائع للمشتري (1) من قبضه فإنّه يهلك من مال بايعه وهذا من ذاك وأيضا فلا خلاف انّ بعد الثلاثة الأيام يهلك من مال بايعه ، والخيرة له ، ولا خيرة للمشتري ، بل العقد لزمه ، واستقر عليه ، ولا خيار له ، وانما هلك من ماله ، لأنّه ما مكن المشتري من قبضه ، ولا قبّضه إيّاه ، وفي قبل انقضاء المدّة التي هي الثلاثة الأيّام ، هذا حكمه ، والدليل قائم فيه ، ثابت ، لأنّ القبض ما حصل ، ولا التمكين (2) من القبض حصل.

وأيضا الأصل براءة ذمة المشتري ، فمن علّق عليها شيئا ، يحتاج إلى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك ، من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، لأنّا قد قلنا أنّ أصحابنا مختلفون في المسألة ، فما بقي من الأدلة ، إلا دليل الأصل ، وهو براءة الذمة ، فمن علّق عليها شيئا ، يحتاج إلى دليل.

واحتج شيخنا المفيد ، لمقالته في مقنعته ، بأن قال : ولو هلك المبيع في مدّة هذه الثلاثة الأيّام ، كان من مال المبتاع ، دون البائع ، لثبوت العقد بينهما عن تراض ، وإن هلك بعد الثلاثة الأيام ، كان من مال البائع ، لأنّه أحق به ، وأملك ، على ما بيّناه ، هذا آخر كلام شيخنا المفيد رحمه اللّه (3).

فعلل رحمه اللّه ، واستدل ، بأن قال « كان من مال المبتاع ، دون البائع ، لثبوت العقد بينهما » وهذا التعليل والاستدلال يلزمه بعد الثلاثة الأيام ، لأنّ العقد ثابت بينهما بغير خلاف ، إذا لم يختر فسخه البائع ، وعنده رحمه اللّه ، أنّه إذا

ص: 278


1- المشتري ، أو يمكن البائع المشتري.
2- ج : ولا التمكّن.
3- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب عقود البيع ص 592.

هلك بعد الثلاثة الأيام ، فإنّه من مال بايعه ، وإن لم يفسخ البيع ، والثبوت الذي استدل به قبل مضي الثلاثة الأيام ، قائم بعد الثلاثة الأيام ، بغير خلاف.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : وإذا اشترى إنسان عقارا ، أو أرضا ، وشرط البائع ، أن يرد على المبتاع ، بالثمن الذي ابتاعه به في وقت بعينه ، كان البيع صحيحا ، ولزمه ردّه عليه في ذلك الوقت ، وإن مضى الوقت ، ولم يجئ البائع ، كان بالخيار فيما بعد ، بين ردّه وإمساكه ، فإن هلك المبيع في مدة الأجل المضروبة ، كان من مال المبتاع ، دون مال البائع ، وكذلك إن استغل منه شيئا كان له ، وكان له أيضا الانتفاع به ، على كل حال (1).

قال محمّد بن إدريس : المقصود من هذه المسألة ، وحقيقة القول فيها ، أنّ البائع جعل عند عقدة البيع ، لنفسه الخيار ، دون المشتري ، في أجل محروس ، من الزيادة والنقصان ، بأن يردّ عليه الثمن ، مكملا في ذلك الوقت ، فلو حضر الوقت ، ولم يحضر الثمن ، واختار الفسخ ، لم يكن له ذلك ، وكذلك إن أحضر بعض الثمن ، واختار الفسخ ، لم يكن له ذلك ، لأنّه شرط في خياره أن يحضر الثمن ، ويرده في ذلك الوقت ، فإما إن باع العقار ، وجعل لنفسه خيار مدّة من الزمان ، وفسخ العقد في جميع المدة المضروبة ، انفسخ ، وإن لم يحضر الثمن ، ولا شيئا منه ، ولا سلّمه إلى المشتري ، لأنّ هذه المسألة ، غير تلك ، لأنّ تلك ، اشتراط أن يجي ء بالثمن ، في المدّة المضروبة ، وما جاء بالثمن ، فلم يحصل له شرطه وهذه المسألة ، جعل لنفسه الخيار بين الفسخ والإمضاء ، في هذه المدّة ، من غير إحضار الثمن ، فافترقتا.

والشرط في الحيوان كله ، الدواب ، والحمير والبغال ، وغيرها ، والأناسي من العبيد ، أيضا ثلاثة أيّام ، شرط ذلك في حال العقد ، أو لم يشرط ، يثبت

ص: 279


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.

بمجرّد العقد ، للمشتري خاصة ، على الصحيح من المذهب ، الخياران معا ، خيار المجلس وخيار الثلاث ، بمجرّد العقد وإطلاقه.

فإن اشترط المشتري أكثر من ذلك ، كان على ما شرط ، وإن اشترط البائع ، أن لا خيار بينهما ، في المجلس ، ولا مدة الثلاث ، كان أيضا جائزا.

وإن اشترط البائع أيضا لنفسه ، خيار مدة معلومة ، كان أيضا جائزا ، وثبت بحسب الشرط.

وقولنا : « ثبت الخيار للمشتري ، ثلاثة أيّام في الحيوان ، شرط ذلك أو لم يشرط » نريد به شرط المشتري ذلك ، أو لم يشرطه ، ولا يظن ظان ، أنّ المراد به شرط البائع ، أن لا يثبت بينهما خيار ، أو لم يشرط ، لأنّه إذا شرط البائع أن لا يثبت بينهما خيار في هذه المدة ، كان على ما شرط ، ويكون خيار مدة الثلاث ، مع ارتفاع الشروط ، وإطلاق العقد ، وتجرده ، للمشتري خاصة ، على ما أسلفنا القول فيه.

وقد قلنا فيما مضى أنّ السيد المرتضى رحمه اللّه ، جعل للاثنين معا الخيار ، مدّة هذه الثلاثة الأيام.

والأظهر من المذهب ، الأول ، وقد استدللنا فيما مضى ، على صحة ذلك ، بما لا فائدة في إعادته.

هذا ما لم يحدث المبتاع في هذه المدة ، حدثا يدل على الرضا ، أو يتصرف فيه تصرّفا ينقص قيمته ، أو يكون لمثل ذلك التصرّف ، اجرة تستحق في العرف والعادة ، بأن يركب الدابة ، أو يستعمل الحمار ، أو يقبّل الجارية ، أو يلامسها ، أو يعتقها ، أو يدبّرها تدبيرا ليس له الرجوع فيه ، وهو المنذور ، أو يكاتبها ، أو غير ذلك من أنواع التصرف ، فإنّه يلزمه البيع ، ويستقر عليه ، وإن كان قبل مضى الثلاثة الأيّام ، ولم يكن له بعد ذلك التصرّف والاحداث ردّ على صاحبه على حال ، وإن لم يحدث فيه حدثا إلى أن يمضي ثلاثة أيّام ، لم يكن له بعد مضيها خيار ، إلا أن يجد فيه عيبا ، قبل عقدة البيع ، فإن هلك الحيوان في مدّة

ص: 280

الثلاثة الأيام ، قبل أن يحدث المبتاع فيه حدثا يدل على الرضا بمجرى العادة ، كان من مال البائع ، دون مال المبتاع ، وإن هلك بعد احداثه الحدث ، كان من مال المبتاع ، دون مال البائع.

وجملة الأمر ، وعقد الباب ، أنه متى كان الخيار في ابتياع الحيوان ، من جهة المبتاع ، باشتراط الزمان الذي لم يجعله الشارع ، بمجرّد العقد ، بل هو اشتراط على البائع ، وهلك الحيوان في ذلك الزمان ، قبل تصرّف المشتري فيه ، التصرّف المقدّم ذكره ، فإنّ هلاكه يكون من مال بايعه ، ويرجع المشتري بالثمن جميعه ، ومتى كان الخيار للمشتري ، خيار الثلاث التي جعلها الشارع له ، بمجرّد العقد ، ولم يحدث فيه حدثا ، وهلك ، فإنّه يهلك من مال بائعه أيضا ، فإن مات بعد الثلاث ، ولم يحدث المشتري فيه حدثا ، يكون موته وهلاكه من مال مشتريه ، دون بايعه ، فإن كان فيه عيب وقت البيع ، رجع المشتري على البائع ، بأرش ذلك العيب فحسب إلّا (1) الجارية المبتاعة ، التي يكون (2) عيبها من حمل بها ، فإن مشتريها يردّها ، وإن كان قد وطأها ، فإن هلكت قبل ردها ، وبعد وطئها ، فإنّها تهلك من مال مشتريها ، دون بائعها ، وله الأرش على بائعها فحسب.

وترد المضراة من الإبل ، والبقر ، والغنم ، فحسب ، مع التصرّف فيها ، بالحلب ، وإن جاز الثلاثة الأيام ، إذا لم يعلم المشتري بالتصرية ، إلا بعد الثلاث ، فإنّه يردّها ، وإن جازت الثلاث.

قال شيخنا في نهايته : ومتى اشترى الإنسان شيئا من المتاع ، بخيار مدّة من الزمان ، ثم أراد بيعه ، والتصرّف فيه ، قبل مضيّ ذلك الوقت ، فليوجب البيع على نفسه ، ثم يتصرّف فيه ، فإن أوجب البيع على نفسه ، ثمّ لم يتصرّف وأراد ردّه ، لم يكن له ذلك على حال (3).

ص: 281


1- ج : العيب الّا.
2- ل : التي يكون بها.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه « فليوجب البيع على نفسه ثمّ يتصرّف » لا حاجة فيه ، ولا وجه له ، بل بنفس ، تصرفه ، يبطل خياره ، لأنّا قد بينّا فيما مضى ، أنّ تصرّف المشتري في مدّة الخيار ، لزوم للعقد ، وإبطال لخيرته ، وتصرّف البائع في مدة خياره ، فسخ للعقد ، فعلى هذا ، متى تصرّف فيه ، بطل خياره.

وقال شيخنا في نهايته : ومن اشترى شاة ، وحبسها ثلاثة أيام ، ثم أراد ردّها ، فإن كان شرب لبنها في هذه الثلاثة الأيام ، لزمه أن يردّ معها ثلاثة أمداد من طعام ، وإن لم يكن لها لبن ، لم يكن عليه شي ء (1).

قال محمد بن إدريس : هذا لا يصحّ على إطلاقه في كلّ شاة تشترى ، بل في المصراة فحسب ، لأنّ غير المصراة ، متى حلب اللبن ، فقد تصرّف ، ومتى تصرف ، بطل خياره ، ولا يجوز له الرد ، فأمّا إن كانت مصراة ، وكان اللبن قائم العين ، ردّه بحاله ، وإن كان تالفا ، ردّ مثله ، لأنّه يضمن بالمثلية ، ولا يجب عليه ردّ ما قاله من الأمداد بحال ، وهذا مذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه ، والذي تقضيه أصول المذهب.

وإذا باع الإنسان ما لا يصح عليه البقاء ، من الخضر ، وغيرها ، ولم يقبض المتاع ، ولا قبض الثمن ، ولا كان بيع النسية ، كان الخيار فيه يوما فإن جاء المبتاع بالثمن في ذلك اليوم ، وإلا فصاحبه بالخيار ، بين أن يفسخ البيع ، وبين مطالبة مشتريه بالثمن ، فإن هلك في مدّة اليوم ، فهو من ضمان بايعه ، كما قدّمنا ذلك في غير الحضر.

وإذا اختلف البائع والمشتري في ثمن المبيع ، وكان الشي ء قائما بعينه ، كان القول قول البائع ، مع يمينه باللّه ، وإن لم يكن قائما بعينه ، كان القول قول المبتاع ، مع يمينه باللّه تعالى.

وقال بعض أصحابنا ، وهو أبو علي بن الجنيد ، وأبو صلاح ، صاحب

ص: 282


1- لم نعثر عليه في النهاية.

كتاب الكافي ، في كتابه ، وغيرهما من أصحابنا : إن كان الشي ء في يد بايعه فالقول قوله مع يمينه في ثمنه ، وإن كان في يد مشتريه ، فالقول قول المشتري ، واحتج لذلك ، بأنّه إذا كان في يد بايعه بعد ، فالمشتري يريد انتزاعه من يده ، فالقول قول من ينتزع الشي ء من يده ، وإن كان في يد مشتريه فصاحبه يعني بائعه ، يدّعي زيادة على ما أقرّ به المشتري ، فلا تقبل دعواه ، إلا ببينة.

والآخر من أصحابنا ، لم يفرّق بهذا الفرق ، بل قال : متى كانت العين قائمة باقية ، فالقول قول البائع في مقدار الثمن ، مع يمينه ، سواء كانت العين في يد بائعه ، أو مشتريه ، فأما إذا اختلف ورثة البائع والمشتري ، في قدر الثمن ، فلا خلاف بين أصحابنا ، أنّ القول قول ورثة المشتري ، في قدره ، سواء كانت العين قائمة ، أو تالفة ، لأنّ حمل هذا على ذاك قياس ، ولو لا ما بيّناه ، لما جاز ذلك ، وقول ابن الجنيد قوي ، لأنّ إجماع الأمة منعقد على أنّ على المدّعي البيّنة ، وعلى الجاحد اليمين ، ولا خلاف أنّ البائع مدّع ، في الحالين ، فأمّا إذا كان الشي ء في يده ، فالمشتري يدّعي انتزاعه من يده ، فيكون القول قول البائع هاهنا ، لأنّه مدّعى عليه ، وإطلاق قول الآخر من أصحابنا ، يخص بالأدلة ، لأنّ العموم قد يخصّ بالدليل ، وشيخنا أورد في تفصيل ذلك ، خبر واحد مرسلا ، في تهذيب الأحكام (1) لم يورد غيره ، وأخبار الآحاد المسانيد ، لا توجب علما ولا عملا ، فكيف الآحاد المراسيل ، ويمكن حمله على ما قاله ابن الجنيد ، وغيره من أصحابنا ، وحررناه نحن ، واخترناه ، لما قدّمناه ، من قيام الأدلة بمقتضاه ، ولم يذهب إلى القول الأول ، سوى شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، ومن اتبعه ، وقلده ، في تصنيفه.

ثمّ انّه استدل في مسائل خلافه ، بإجماع الفرقة والأخبار (2).

ص: 283


1- التهذيب : ج 7 ، باب عقود البيع ، الحديث 26 / 109.
2- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 236.

ومن أجمع معه ، وأي أخبار وردت له ، وانّما هو خبر واحد مرسل.

ثم لما ضاق عليه الكلام مع الخصم ، تأوّل ، وخصّص ، وقال : لو خلينا ، لقلنا بذلك ، ولكن روي عن أئمتنا ، عليهم السلام ، أنّهم قالوا : القول قول البائع ، فحملناه على أنّه إذا كان مع بقاء السلعة ، فإذا ساغ له حمله ، ساغ لنا ما اخترناه.

وإذا اشترى الإنسان ضياعا أو عقارا ، بحدودها ووصفها ، من غير أن يعاينها ، كان البيع ماضيا ، إلا أنّ له شرط خيار الرؤية ، وقد قدّمنا أحكام ذلك فيما مضى وحرّرناه.

وإذا مات المشترط في السلعة ، ومن له الخيار ، قام ورثته مقامه ، في المطالبة بذلك الشرط.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ومن اشترى جارية ، وعدّلها عند (1) إنسان ليستبري رحمها ، كانت النفقة في مدة حال الاستبراء على بائعها ، دون المبتاع ، فإن هلكت في مدة الاستبراء ، كانت من مال البائع ، دون مال المبتاع ، ما لم يحدث فيها حدثا ، حسب ما قدّمناه ، فإن أحدث فيها حدثا ، ثم هلكت ، كانت من ماله ، دون مال البائع (2).

وقال رحمه اللّه في مبسوطة : الاستبراء في الجارية ، واجب على البائع والمشتري معا ، والاستبراء يكون بقرء واحد ، وهو الطهر ، ولا يجوز للمشتري وطؤها قبل الاستبراء ، في الفرج ، ولا في غيره ، ولا لمسها بشهوة ، ولا قبلتها ، ويلزم الاستبراء المشتري بعد قبضها ، ولا يعتد بما قبل ذلك ، ويكون زمان الاستبراء عنده ، سواء كانت حسناء ، أو قبيحة ، ولا يلزم أن تكون عند غيره ، فإن جعل ذلك عند من يثق به ، كان جائزا ، فإن اشتراها ، وهي حائض ، فطهرت ، جاز أن يعتد بذلك الحيض ، ويكفيها ذلك (3).

ومتى باعها بشرط المواضعة ، لم يبطل البيع ، وإن باعها مطلقا ، ثم اتفقا على

ص: 284


1- وفي المصدر : وعزلها عند إنسان.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
3- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في أنّ الخراج بالضمان ، ص 140.

المواضعة ، جاز أيضا ، فإن هلكت ، أو عابت ، نظر ، فإن كان المشتري قبضها ثم جعلت عند عدل ، فالعدل وكيل المشتري ، ويده كيده ، إن هلكت ، فمن ضمان المشتري ، وإن عابت فلا خيار له ، وإن كان البائع سلمها إلى العدل ، قبل القبض ، فهلكت في يده ، بطل البيع ، وإن عابت ، كان المشتري بالخيار (1).

قال محمّد بن إدريس وهذا الذي ذكره في معنى المواضعة والهلاك ، وهل قبضها أو لم يقبضها ، هو الصحيح ، ومسألة النهاية ، لا تصح إلا على هذا التحرير ، وإلا إذا تسلمها المشتري ، واستبرأها في يده ، بعد قبضها ، فمتى هلكت قبل مضى الثلاثة الأيام ، وقبل التصرّف فيها ، فإنّها تهلك من مال بائعها ، دون مشتريها ، وإن هلكت بعد مضي الثلاثة الأيام ، التي هي شرط في الحيوان ، أو بعد التصرّف فيها ، فإنّها تهلك من مال المشتري ، بغير خلاف ، للإجماع المنعقد من أصحابنا ، أنّ الحيوان إذا هلك في مدة الثلاثة الأيّام ، قبل تصرّف المشتري فيه ، فإنه يهلك من مال بائعه ، فإن هلك بعد ذلك ، فمن مال المشتري ، فعلى هذا يجب أن يكون الفتوى والعمل.

وقال رحمه اللّه في نهايته : ومن اشترى شيئا بحكم نفسه ، ولم يذكر الثمن بعينه ، كان البيع باطلا فإن هلك الشي ء في يد المبتاع ، كان عليه قيمته يوم ابتاعه ، هكذا قال شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

والذي تقتضيه أصول المذهب ، أنّ الشي ء المبيع ، إن كان له مثل ، فعليه مثله ، لا قيمته ، وإن أعوز المثل ، فعليه ثمن المثل ، يوم الإعواز ، وإن كان المبيع ممّا لا مثل له ، فإنّه يجب عليه قيمته ، أكثر ما كانت إلى يوم الهلاك ، لأنّ هذا بيع فاسد ، والبيع الفاسد عند المحصّلين ، يجري مجرى الغصب ، في الضمان.

وان كان الشي ء قائما بعينه ، كان لصاحبه ، انتزاعه من يد المبتاع ، فإن

ص: 285


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في أنّ الخراج بالضمان ، ص 140.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.

أحدث المبتاع فيه حدثا ، نقص به ثمنه ، كان له انتزاعه منه ، وأرش ما أحدث فيه ، فإن كان الحدث يزيد في قيمته ، وأراد انتزاعه من يده ، كان عليه أن يرد على المبتاع ، قيمة الزيادة بحدثه فيه ، هكذا قال شيخنا في نهايته (1).

والأولى أن يقسم الحدث ، فتقول : إن كان آثار أفعال ، لا أعيان أموال ، فلا يرد على المبتاع شي ء ، وإن كان الحدث أعيان أموال ، فهو على ما قال رحمه اللّه.

فإن ابتاعه بحكم البائع في ثمنه ، فحكم بأقلّ من قيمته ، كان ذلك ماضيا ، ولم يكن له أكثر من ذلك ، وإن حكم بأكثر من قيمته لم يكن له أكثر من القيمة في حال البيع ، إلا أن يتبرّع المبتاع بالتزام ذلك على نفسه ، فإن لم يفعل ، لم يكن عليه شي ء ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (2).

والأولى أن يقال : البيع باطل ، لأنّ كل مبيع لم يذكر فيه الثمن ، يكون باطلا ، بلا خلاف بين المسلمين ، فإذا كان كذلك ، فإن كان باقيا بعينه ، فللبائع انتزاعه من يد المشتري ، وإن كان تالفا ، وتحاكما ، فلصاحبه مثله ، إن كان له مثل ، وإن كان لا مثل له ، فله قيمته أكثر القيم إلى يوم الهلاك ، لا قيمته في حال البيع ، فإن أقرّ البائع بشي ء ، لزمه إقراره على نفسه ، فيحكم عليه بإقراره على نفسه ، إلا أن يقرّ بأزيد من قيمته التي يوجبها الشارع ، وإنّما هذه أخبار آحاد ، أوردها في نهايته ، إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما تكرّرت الإشارة في ذلك.

ومن ابتاع شيئا بدراهم ، أو دنانير ، وذكر النقد بعينه ، كان له من النقد ما شرط ، فإن لم يذكر نقدا بعينه ، كان له ما يجوز بين الناس في الغالب ، فإن اختلفا في الشرط والذكر ، فالقول قول البائع ، مع بقاء السلعة ، لإجماع الطائفة ، لأنهما (3) إذا اختلفا في الثمن ، كان القول قول البائع ، مع بقاء السلعة والقول قول المشتري مع عدمها.

ص: 286


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشرط في العقود.
3- ج : أنهما.

باب البيع بالنقد والنسية والمرابحة

من باع شيئا بنقد ، كان الثمن عاجلا ، وإن باعه ، ولم يذكر لا نقدا ولا نسية ، كان الثمن أيضا عاجلا ، فإن ذكر أن يكون الثمن آجلا ، كان على ما ذكر ، بعد أن يكون الأجل معيّنا ، محروسا بالسنين ، والأعوام ، أو الشهور ، والأيّام ، ولا يجوز أن يكون مجهولا ، ولا آجلا غير محروس ، من الزيادة والنقصان ، مثل قدوم الحاج ، ودخول القوافل ، وإدراك الغلات ، وما أشبه ذلك ، فإن ذكر شيئا من هذه الأوقات ، كان البيع باطلا في نفسه ، فإن ذكر المتاع بأجلين ونقدين مختلفين ، بأن يقول : ثمن هذا المتاع كذا عاجلا ، وكذا آجلا ، ثم أمضى البيع ، كان له أقل الثمنين ، وأبعد الأجلين هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

والصحيح من المذهب ، أنّ هذا البيع باطل ، لأنّ الثمن مجهول في حال العقد ، وكل بيع كان الثمن مجهولا في حال عقده ، فهو باطل بغير خلاف ، بين الأمة ، وسلّار من أصحابنا يذهب إلى ما اخترناه ، في رسالته (2).

وشيخنا أبو جعفر ، قد رجع في مبسوطة ، عمّا أورده في نهايته ، واستدل على فساده ، بأن قال : فإنّ هذا لا يجوز لأن الثمن غير معيّن ، وذلك يفسد البيع (3).

وما أورده في نهايته ، فهو خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، أورده إيرادا لا اعتقادا.

ومتى باع الشي ء بأجل ، ثم حضر الأجل ، ولم يكن مع المشتري ما يعطيه إيّاه ، جاز له أن يأخذ منه ، ما كان باعه إيّاه ، بيعا صحيحا بزيادة ممّا كان باعه إيّاه ، أو نقيصة منه ، لأنّه مال من أموال البائع بمهما شاء باعه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن أخذه بنقصان ممّا باع ، لم يكن ذلك

ص: 287


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
2- المراسم : كتاب المكاسب ، ذكر البيع بالنسيئة.
3- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ، ص 159.

صحيحا ، ولزمه ثمنه الذي كان أعطاه به ، ثمّ قال رحمه اللّه وإن أخذ من المبتاع متاعا آخر بقيمته في الحال ، لم يكن بذلك بأس (1).

والأول هو الصحيح الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّ اللّه تعالى قال : « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، فمن منع منه يحتاج إلى دليل ، ولن يجده ، ولا نرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد ، وما أورده وذكره شيخنا في نهايته ، خبر واحد ، أورده إيرادا ، لا اعتقادا.

وإذا باع شيئا إلى أجل ، وأحضر المبتاع الثمن ، قبل حلول الأجل ، كان البائع بالخيار ، بين قبض الثمن ، وبين تركه (2) إلى حلول الأجل ، ويكون في ذمة المبتاع ، فإن حلّ الأجل ، وجاء المبتاع بالثمن ، ومكّنه منه ، ولم يقبض البائع ، ثم هلك الثمن ، كان من مال البائع ، دون المبتاع.

وكذلك إن اشترى شيئا إلى أجل ، وأحضر البائع المبيع قبل حلول الأجل ، كان المبتاع مخيّرا ، بين أخذه وتركه ، فإن هلك قبل حلول الأجل ، كان من مال البائع ، دون مال المبتاع ، فإن حلّ الأجل ، وأحضر البائع المتاع ، ومكّن المبتاع من قبضه ، فامتنع من قبضه ، ثمّ هلك المتاع ، كان من مال المبتاع ، دون مال البائع ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (3).

والأولى في المسألتين معا ، أنّه إذا امتنع الممتنع من قبض دينه ، وحقه ، وماله ، بعد حلوله ، واستحقاقه ، وتمكينه منه ، وأفراده ، أن يرفع أمره إلى الحاكم ، ويطالبه بقبضه ، أو إبرائه ممّا له عليه ، فإن لم يفعل ، ولم يجب إلى إحدى الخصلتين ، تسلّمه الحاكم ممن هو عليه ، وجعله في بيت المال ، ليحفظه على صاحبه ، ولا يجوز للحاكم أن يجبره على البراءة له ، ولا على قبضه ، لأنّ الحاكم منصوب للحق ، وإزالة الضرر غير المستحق ، ولا دليل على وجوب

ص: 288


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
2- ج : وتركه
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.

اشتغال ذمة من عليه الحق بحفاظه ، أو بارتهانها (1) مشغولة بالدين ، يعني ذمة من عليه ، والرسول عليه السلام قال : لا ضرر ولا ضرار (2) وكل من تأبّى (3) من الحق ، فالحاكم يجبره عليه ، ويقوم مقامه في استيفاء ما عليه ، وأخذ ما كان يجب عليه أخذه ، وحفاظ ماله.

وإلى هذا وأمثاله يذهب شيخنا الطوسي أبو جعفر ، في مبسوطة ، وقال الحاكم يقبضه ، ويحفظه ، ويجعله في بيت المال ، لصاحبه ، محفوظا عنده ، محوطا عليه (4).

ولا بأس أن يبيع الإنسان متاعا حاضرا إلى أجل ، ثمّ يبتاعه منه في الحال ، ويزن الثمن بزيادة ممّا باعه ، أو نقصان ، وإن اشتراه منه نسية أيضا ، كان جائزا ، ولا يجوز تأخير الثمن عن وقت وجوبه بزيادة فيه (5) ، ولا بأس بتعجيله بنقصان شي ء منه ، بغير خلاف بين أصحابنا ، فإن اتفقا على تأجيل ما قد حلّ ، فإنه لا يصير مؤجلا ، ويجوز لمن أجله أن يطالب به في الحال ، سواء كان ذلك ثمنا ، أو أجرة ، أو صداقا ، أو كان قراضا (6) ، أو أرش جناية ، بغير خلاف بين أصحابنا.

وشيخنا أبو جعفر ، قد ذكر ذلك في مسائل خلافه (7) ، وأشبع القول فيه ، واستدل بإجماع الفرقة على صحته.

ويكره الاستحطاط من الأثمان بعد انعقاد العقد ، سواء نقل المتاع ، أو لم ينقل ، افترقا من المجلس ، أو لم يفترقا ، وليس ذلك بمحظور.

وقال شيخنا في نهايته : وكل شي ء يصح بيعه قبل القبض ، صح أيضا الشركة فيه (8).

يريد بذلك أنّ بيع السلف قبل قبضه ، لا يجوز على غير من هو عليه ، ولا

ص: 289


1- ج : بأنها.
2- الوسائل : الباب 12 من أبواب إحياء الموات ، ح 3
3- ج : يأبى.
4- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، فصل في امتناع ذي الحق من أخذه .. ص 190 ، باختلاف يسير
5- ج : تأخير الثمن وقت وجوبه بزيادة.
6- ج : قرضا ، وهو الظاهر
7- الخلاف : كتاب البيوع ، مسألة 230.
8- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.

يجوز الشركة فيه ، ومراده بالشركة ، أن يبيعه نصفه مشاعا غير مقسوم.

وقال رحمه اللّه في نهايته : ولا بأس بابتياع جميع الأشياء حالا ، وإن لم يكن حاضرا في الحال ، إذا كان الشي ء موجودا في الوقت ، أو يمكن وجوده ، ولا يجوز أن يشتري حالا ، ما لا يمكن وجوده في الحال ، مثال ذلك ، أن يشتري الفواكه حالة ، في غير أوقاتها ، فإنّ ذلك لا يمكن تحصيله ، فأمّا ما يمكن تحصيله ، فلا بأس به ، مثل الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، والثياب ، وغير ذلك ، وإن لم يكن عند بائعه في الحال (1).

قال محمّد بن إدريس : هذا خبر واحد ، أورده شيخنا في تهذيب الأحكام (2) ، عن ابن سنان ، لا يجوز أن يعمل به ، ولا يلتفت إليه ، ولا يعول عليه ، لأنّا قد بيّنا انّ البيع على ضربين ، بيوع الأعيان ، وبيوع السلم ، وهو ما في الذمة ، ولا يصح إلا أن يكون مؤجلا ، موصوفا ، على ما تقدّم شرحنا له ، فأمّا بيوع الأعيان ، فتنقسم إلى قسمين ، أحدهما بيع عين مرئية مشاهدة ، والقسم الآخر بيع عين غير حاضرة موصوفة ، وهذا البيع ، هو المسمى بيع خيار الرؤية وما أورده ، خارج عن هذه البيوع ، لا مشاهد ، ولا موصوف بوصف يقوم مقام المشاهدة ، فدخل في بيع الغرر ، والنبي عليه السلام نهى عن بيع الغرر (3) ونهى عليه السلام ، عن بيع ما ليس عند الإنسان ولا في ملكه (4) إلا ما أخرجه الدليل من بيع السلم.

وأيضا البيع حكم شرعي ، يحتاج في إثباته ، إلى دليل شرعي ، ولا نرجع عن الأمور المعلومة بالدلالة القاهرة ، بالأمور المظنونة ، وأخبار الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملاً.

ص: 290


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
2- التهذيب : كتاب التجارات باب بيع المضمون ، ح 78 وفي الوسائل : الباب 8 من أبواب أحكام العقود ، ح 2.
3- الوسائل : الباب 40 من أبواب آداب التجارة ، ح 3.
4- الوسائل : الباب 12 من أبواب عقد البيع ، ح 12.

ومن اشترى شيئا بنسية ، فلا يبيعه مرابحة ، فإن باعه كذلك ، كان للمبتاع من الأجل ، مثل ماله ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

والأولى عندي ، أن يكون المشتري بالخيار ، بين ردّه وإمساكه بالثمن ، من غير أن يكون له من الأجل مثل ماله ، لأنّه ليس عليه دليل فيرجع إليه ، وانّما هو خبر واحد ، وضعه في كتابه ، ورجع عنه في مبسوطة (2).

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ولا يجوز أن يبيع الإنسان ، متاعا مرابحة بالنسبة ، إلى أصل المال ، بأن يقول : أبيعك هذا المتاع ، بربح عشرة ، واحدا أو اثنين ، بل يقول بدلا من ذلك : هذا المتاع علي بكذا ، وأبيعك إيّاه بكذا ، بما أراد (3).

وقال في مسائل الخلاف : يكره بيع المرابحة ، بالنسبة إلى أصل المال ، وصورته أن يقول : بعتك برأس مال ، وربح درهم ، على كل عشرة ، وليس ذلك بمفسد للبيع (4).

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : ولا يجوز أن يبيع الإنسان شيئا مرابحة ، مذكورة بالنسبة إلى أصل المال ، كقولهم : أبيعك هذا المتاع بربح العشرة ، واحدا ، أو اثنين ، وما أشبه ذلك ، ولا بأس أن يقول ثمن هذا المتاع عليّ كذا ، وأبيعك إيّاه بكذا ، فيذكر أصل المال والربح ، ولا يجعل لكل عشرة منه شيئا (5).

قال محمّد بن إدريس : الذي يقوى عندي ، وأفتي به ، أنّ بيع المرابحة ، مكروه غير محظور ، وأنّ البيع صحيح ، غير باطل ، وهو الذي ذهب إليه شيخنا أبو جعفر ، في مسائل خلافه ، ومبسوطة ، لأنّ بطلانه يحتاج إلى دليل ، واللّه تعالى قال « أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع بغير خلاف ، فمن أبطله يحتاج إلى دليل ، وما ورد في ذلك من الأخبار فحمله على الكراهة هو الأولى.

إلا أنّ جملة الأمر ، وعقد الباب ، أن المكروه من بيع المرابحة ، أن يكون

ص: 291


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، بيع المرابحة وأحكامها ، ص 142.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.
4- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 223.
5- المقنعة : أبواب المكاسب باب بيع المرابحة ص 605.

الربح محمولا على المال ، ولا بأس أن يكون الربح محمولا على المتاع ، مثال ذلك ، أن يقول : هذا المبيع ، اشتريته بمائة دينار ، ويذكر نقدها ، وبعتك إيّاه بمائة وعشرة دنانير ، فهذا لا مكروه ، ولا محظور على القولين معا ، لأنّ الربح هاهنا محمول على المتاع ، فأمّا المكروه على الصحيح من المذهب ، على ما اخترناه ، أو المحظور على القول الآخر ، فمثاله أن يقول : هذا المبيع اشتريته بمائة دينار ، ويذكر نقدها ، وبعتك إيّاه بمائة ، وبربح كل عشرة دينارا (1) فهذا هو المكروه أو المحظور ، لأنّ الربح هاهنا محمول على المال ، الذي هو الثمن ، فهذا معنى قول الفقهاء بالنسبة « بالنون والسين والباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة » إلى أصل المال ، لأنّه حمل الربح على الثمن ، ونسبه إليه ، بقوله : كل عشرة من المائة دينار (2) ، فصار جميع الثمن مائة وعشرة دنانير ، لأنّ الربح منسوب إلى عقود المائة ، وهي عشرة عقود ، فصار الربح عشرة دنانير ، فليتأمّل ذلك ، ويلحظ ، فهو حقيقة القول في هذه المسألة ، أعني بيع المرابحة.

وإذا اشترى سلعتين بثمن واحد ، فإنّه لا يجوز أن يبيع إحداهما مرابحة ، ويقسّم الثمن عليهما على قدر قيمتهما ، لأنّ تقويمه ، ليس هو الذي انعقد البيع عليه ، فلا يجوز أن يخبر بذلك الشّراء الذي قومه مع نفسه ، لأنّه كذب.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا اشترى الإنسان ثيابا جماعة ، بثمن معلوم ، ثم قوّم كل ثوب منها على حدة مع نفسه ، لم يجز ان يخبر بذلك الشّراء ولا أن يبيعه مرابحة ، إلا بعد أن يبيّن له (3) انّما قوّم ذلك كذلك (4).

قال محمّد بن إدريس ، رحمه اللّه : هذا هو ليس بيع المرابحة ، لأنّ بيع المرابحة موضوعه في الشرع ، أن يخبر بالثمن الذي اشتراه به ، وهذا ليس كذلك.

وإذا اشترى الإنسان متاعا ، جاز أن يبيعه في الحال ، وإن لم يقبضه ، إذا

ص: 292


1- ج : بمائة دينار وبربح كل عشرة دينار.
2- ج : من المائة دينارا.
3- ل. ق : يبين أنّه.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.

كان معيّنا ، ويكون قبض المبتاع الثاني قبضا عنه.

وإذا اشترى الإنسان ثيابا جماعة ، فلا يجوز أن يبيع خيارها مرابحة ، لأنّ ذلك لا يتميز ، وهو مجهول.

وإذا باع الإنسان المتاع مرابحة ، فلا بدّ أن يذكر النقد الذي وزنه ، وكيفية الصرف في يوم وزن المال ، وليس عليه شي ء من ذلك إذا باعه مساومة.

ولا يجوز بيع المتاع في أعدال محزومة ، وجرب مشدودة ، إلا أن يكون له بارنامج ، يوقفه منه على صفة المتاع ، في ألوانه ، وأقداره ، وصفاته ، فإذا كان كذلك ، جاز بيعه ، فإذا نظر إليه المبتاع ، ورآه موافقا لما وصف له ، وذكر ، كان البيع ماضيا ، وإن كان بخلاف ذلك ، كان البيع مردودا إن اختار المشتري ، وإن رضي به فله ذلك ، لأنّ له الخيار ، وانّما لم يجز هذا البيع ، إلا أن يكون له بارنامج ، لأنّ هذا بيع خيار الرؤية ، وهذا البيع من شرط صحّته ذكر الجنس والصفة ، لأنّه غير مشاهد ، فتقوم الصفة في هذا البيع مقام المشاهدة.

والبارنامج كلمة فارسية معناها أنّ الفرس تسمّي المحمول « بار » قلّ أم كثر ، والنامج بالفارسيّة « نامه » وتفسيره الكتاب ، لمعرفة ما في المحمول ، من العدد ، والوزن ، فأعربوه بالجيم ، فأمّا قولهم : الرّوزنامج ، ومعنى الرّوز بالفارسيّة : اسم اليوم ، والنامج : نامه ، وهو الكتاب ، فكأنّهم عنوا به كتاب كلّ يوم ، فأعربوه بالجيم ، فهذا حقيقة هاتين الكلمتين بالفارسيّة ، ذكر ذلك أصحاب التواريخ ، مثل محمّد بن جرير الطبري ، وغيره.

ومن أمر غيره أن يبتاع له متاعا ، وينقد من عنده الثمن عنه ، فاشتراه ، ونقد عنه ثمنه ، ثمّ سرق المتاع ، أو هلك من غير تفريط ، من المأمور ، كان من مال الآمر ، دون المأمور.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا قوّم التاجر ، متاعا على الواسطة بشي ء معلوم ، وقال له : بعه ، فما زدت على رأس المال ، فهو لك ، والقيمة لي ،

ص: 293

كان ذلك جائزا ، وإن لم يواجبه البيع (1) فإن باع الواسطة المتاع ، بزيادة على ما قوم عليه ، كان له وإن باعه برأس المال ، لم يكن له على التاجر شي ء ، وإن باعه بأقل من ذلك ، كان ضامنا لتمام القيمة ، فإن ردّ المتاع ، ولم يبعه ، لم يكن للتاجر الامتناع من أخذه ، وقال رحمه اللّه : ومتى أخذ الواسطة ، المتاع على ما ذكرناه ، فلا يجوز له أن يبيعه مرابحة ، ولا يذكر الفضل على القيمة في الشراء (2).

قال محمّد بن إدريس : ما أورده شيخنا ، غير واضح ، ولا مستقيم ، على أصول مذهبنا ، لأنّ هذا جميعه لا بيع المرابحة ، ولا إجارة ، ولا جعالة محققة ، فإذا باع الواسطة بزيادة على ما قوم عليه ، لم يكن للواسطة في الزيادة شي ء ، لأنّها من جملة ثمن المتاع ، والمتاع للتاجر ، ما انتقل عن ملكه بحال ، وللواسطة أجرة المثل ، لأنّه لم يسلّم له العوض ، فيرجع الى المعوّض ، وكذلك إن باعه برأس المال ، وإن باعه بأقل ممّا أمره به ، كان المبيع باطلا فإن تلف المبيع ، كان الواسطة ضامنا.

وقوله رحمه اللّه : « ومتى أخذ الواسطة المتاع على ما ذكرناه ، فلا يجوز له أن يبيعه مرابحة ، ولا يذكر الفضل على القيمة في الشراء » قال محمّد بن إدريس : وأيّ شراء جرى بين التاجر وبين الواسطة ، حتى يخبر بالثمن ، وليس هذا موضوع بيع المرابحة في الشريعة ، بغير خلاف ، وانّما أورده أخبار الآحاد ، في هذا الكتاب إيرادا ، لا اعتقادا على ما وردت عليه بألفاظها ، صحيحة ، كانت أو فاسدة ، على ما ذكره واعتذر به ، في خطبة مبسوطة ، على ما قدّمنا القول فيه ، في صدر كتابنا هذا.

يزيد ذلك بيانا ، ما أورده في نهايته ، بعد هذه المسألة ، بلا فصل ، قال رحمه اللّه : وإذا قال الواسطة للتاجر ، خبرني بثمن هذا المتاع ، واربح عليّ فيه كذا وكذا ، ففعل التاجر ذلك ، غير أنّه لم يواجبه البيع ، ولا ضمن هو الثمن ، ثمّ باع الواسطة بزيادة على رأس المال والثمن ، كان ذلك للتاجر ، وله اجرة المثل ،

ص: 294


1- ج : لم يواجبه.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة.

لا أكثر من ذلك ، وإن كان قد ضمن الثمن ، كان له ما زاد على ذلك من الربح ، ولم يكن للتاجر أكثر من رأس المال الذي قرّره معه ، فهذا يوضح لك ما نبهنا عليه.

وإذا قال الإنسان لغيره : اشتر لي هذا المتاع ، وأزيدك شيئا ، فإن اشترى التاجر ذلك ، لم يلزم الآمر أخذه ، ويكون في ذلك بالخيار ، إن شاء اشتراه لنفسه ، وإن شاء لم يشتره ، لأنّه ما وكله في شرائه لنفسه ، بقوله : وأزيدك شيئا فدلّ ذلك على أنّ التاجر اشتراه لنفسه ، لا للآمر ، لأنّ الشراء لو وقع للآمر لم يلزمه أن يزيده على ثمنه شيئا ، فهذا تحرير الفتيا في ذلك.

ومتى أخذ الإنسان من تاجر مالا ، واشترى به متاعا ، يصلح له ، ثمّ جاء به إلى التاجر ، ثم اشتراه منه ، لم يكن بذلك بأس ، لأنّه وكيل للتاجر ، نائب عنه في الشراء ، ويكون التاجر مخيرا ، بين أن يبيعه ، وان لا يبيع ، فإن كان الإنسان الذي هو الوكيل ، شراه لنفسه في ذمّته ، لا بعين مال موكله ، ثم نقد المال على أنّه ضامن له ، لم يكن للتاجر عليه سبيل (1).

فإن اختلفا في ذلك ، فالقول قول الوكيل ، دون الموكّل ، فإن كان الوكيل شراه بعين مال موكله فإنّ الملك يقع للتاجر الذي هو الموكل ، دون الوكيل ، فهذا تحرير هذه الفتيا التي أوردها شيخنا في نهايته.

ولا بأس أن يبيع الإنسان متاعا ، بأكثر ممّا يساوي في الحال ، بنسية ، إذا كان المبتاع من أهل الخبرة والمعرفة ، فإن لم يكن كذلك ، كان البيع موقوفا ، للمشتري الخيار فيه.

باب العيوب الموجبة للرد

من اشترى شيئا على الإطلاق ، ولم يشترط الصحة ، أو اشتراه على شرط

ص: 295


1- هنا ينتهي كلام الشيخ في النهاية : كتاب التجارة ، باب البيع بالنقد والنسيئة ، باختلاف يسير ، وما بعده غير موجود فيها.

الصحة ، والسلامة ، ثمّ ظهر له فيه عيب ، سبق وجوده عقدة البيع ، ولم يكن قد تبرأ صاحبه إليه من العيوب كلّها ، كان المشتري بين خيرتين ، ردّ المتاع واسترجاع الثمن ، أو الإمساك والمطالبة بالأرش ، وهو ما بين قيمته صحيحا ومعيبا.

وكيفية ذلك ، وبيانه ، أن يعتبر قيمته ، ويوجب (1) بحصّة ذلك من ثمنه ، مثاله إذا اشترى عبدا ، فأصاب به عيبا ، فإن المشتري يرجع على البائع ، بأرش العيب ، وهو أن يقال : كم قيمته ولا عيب فيه ، قالوا : مائة ، قلنا : وكم قيمته وهذا العيب فيه ، قالوا : تسعون ، قلنا : فالعيب عشر قيمته ، فيجب على البائع أن يردّ عشر قيمته (2).

وانّما قلنا يرجع بالحصّة من الثمن ، لا بما بين القيمتين ، لأنّه قد يشتري بعشرة ما قيمته مائة ، فإذا قوّمناه ، كان النقص عشرة ، فإذا ردّ البائع هذا القدر ، بقي المبيع بغير ثمن ، وإذا كان الاعتبار بالحصّة من الثمن ، لم يعر المبيع من الثمن بحال ، وهذا ممّا يغلط فيه بعض الفقهاء ، فيوجبون الأرش ما بين القيمتين.

وهكذا الحكم ، إن أصاب به عيبا ، بعد ان حدث به عيب عنده ، فامتنع الرد بالعيب ، وكذا إذا وجد العيب فيه ، بعد ان تصرّف فيه ، لا يختلف الحكم في ذلك ، فليلحظ ما حرّرناه ويتأمّل.

وليس للبائع على المشتري في ذلك خيار.

ومتى كان البائع قد تبرأ إلى المبتاع ، من جميع العيوب ، لم يكن له الرجوع عليه ، بشي ء من ذلك ، وإن لم يفصّل له العيوب في الحال ، والأفضل أن يفصل العيوب كلّها ، ويظهرها ، في حال العيب (3) ، ليقع العقد عليه ، مع العلم بها أجمع ، وليس ذلك بواجب ، بل يكفي التبري من العيوب على الجملة.

وقال بعض أصحابنا : بل ذلك واجب ، ولا يكفي في إسقاط الرد التبري

ص: 296


1- ل : يرجع. والظاهر أنه أولى.
2- ل : عشر ثمنه.
3- ج : البيع.

من العيوب على الجملة. والأول هو الأظهر من الأقوال.

ولا يجوز لأحد أن يبيع شيئا معيبا ، إلا بعد إظهار العيب ، فإن فعل وباع معيبا مع علمه بذلك ، فعل محظورا ، وكان المشتري بالخيار على ما فصّلناه.

ومتى اختلف البائع والمشتري في العيب ، فذكر البائع أنّ هذا العيب حدث عندك ، ولم يكن في المتاع وقت بيعي إيّاه ، وقال المشتري : بل بعتني معيبا ، ولم يحدث عندي فيه عيب ، ولم يكن لأحدهما بيّنة على دعواه ، كان على البائع اليمين باللّه ، أنّه باعه صحيحا ، لا عيب فيه ، فإن حلف برئ من العهدة ، وإن لم يحلف جعل ناكلا ، وردّت اليمين على خصمه ، فإذا حلف كان عليه الدرك فيه (1) وقال شيخنا في نهايته : إذا اختلف البائع والمشتري في حدوث العيب ، ولم يكن لأحدهما بينة على دعواه ، كان على البائع اليمين باللّه ، أنّه باعه صحيحا لا عيب فيه ، فان حلف برئ من العهدة (2) وإن لم يحلف ، كان عليه الدرك فيه (3). وهذا القول ، بإطلاقه غير واضح ، لأنّ بمجرد النكول عن اليمين ، لا يستحق المدّعي ما ادعاه ، إلا بعد يمينه.

وإذا قال البائع : بعت على البراءة من العيوب ، وأنكر المبتاع ذلك ، فعلى البائع البيّنة فيما ادّعاه ، فإن لم يكن معه بينة ، حلف المبتاع ، أنّه لم يبرأ إليه من العيوب ، وباعه مطلقا ، أو على الصحة ، فإذا حلف ، كان له الرد ، أو الأرش ، مخير في ذلك ، هذا بعد ثبوت العيب ، وموافقة البائع عليه ، بأنّه كان فيه قبل عقدة البيع ، أو قيام البيّنة على العيب.

ومتى اختلف أهل الخبرة في قيمته ، عمل على أوسط القيم فيما ذكروه ، وحكم الحاكم بذلك ، فإن كان المبيع جملة ، وظهر العيب في البعض ، كان للمبتاع أرش العيب ، في البعض الذي وجد فيه ، وإن شاء ردّ جميع المتاع ،

ص: 297


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للرد.
2- ج : برئ.
3- كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للردّ مع زيادة يسيرة.

واسترجع الثمن ، وليس له ردّ المعيب ، دون ما سواه.

ومتى أحدث المشتري حدثا في المتاع ، لم يكن له بعد ذلك ردّه ، وكان له الأرش بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وسواء كان إحداثه ما أحدث فيه ، مع علمه بالعيب ، أو مع عدم العلم ، وليس علمه بالعيب ، ووقوفه عليه بموجب لرضاه في ترك الأرش ، بل في سقوط الرد.

إذا علم وتصرّف ، فإنّه يسقط الرد ، ولا يسقط الأرش.

ومتى حدث فيه حادث وعيب ، ينضاف إلى العيب الذي كان فيه ، كان له أرش العيب الذي كان فيه ، وقت ابتياعه إيّاه ، ولم يكن له أرش ما حدث عنده فيه على حال ، ولا ردّ المبيع بعد حدوث عيب عنده ، إلا أن يكون المبيع حيوانا ، فإنّه يردّه بالعيب الحادث في الثلاثة الأيّام ، لأنّ له فيها الخيار ، فإن أراد إمساكه ، فله أرش العيب المتقدّم ، الذي كان فيه وقت ابتياعه إيّاه ، وليس له أرش ما حدث فيه بعد عقدة البيع على حال.

وإذا حدث بالمبيع عيب في يد البائع بعد عقدة البيع ، ولم يكن به عيب قبل عقدة البيع ، كان للمشتري الرد والإمساك ، وليس له اجازة البيع مع الأرش ، ولا يجبر البائع على بذل الأرش ، بغير خلاف.

ومن ابتاع أمة ، فظهر له فيها عيب ، لم يكن علم به حال ابتياعه إيّاها ، كان له ردّها ، واسترجاع ثمنها ، أو أرش العيب دون الرد ، لا يجبر على واحد من الأمرين ، فإن وجد بها عيبا بعد أن وطأها ، لم يكن له ردّها ، وكان له أرش العيب خاصة ، اللّهم إلا أن يكون العيب من حبل ، فله ردّها على كلّ حال ، وطأها أو لم يطأها ، ويردّ معها إذا وطأها نصف عشر قيمتها ، إن كانت ثيبا ، وإن كانت بكرا فعشر قيمتها بلا خلاف بيننا.

ومتى وجد عيبا فيها بعد أن يعتقها ، لم يكن له ردّها ، وكان له أرش العيب فان وجد العيب بعد تدبيرها ، أو هبتها ، كان مخيرا بين الرد وأرش العيب ، أيّهما

ص: 298

اختار كان له ذلك ، لأنّ التدبير والهبة ، له أن يرجع فيهما ، وليس كذلك العتق ، لأنّه لا يجوز له الرجوع فيه ، على حال ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

والذي تقتضيه أصول المذهب ، أن المشتري إذا تصرّف في المبيع ، فإنّه لا يجوز له ردّه بعد ذلك ، وله الأرش ، ولا خلاف أنّ التدبير والهبة تصرّف ، وقوله رحمه اللّه : « لأنّ التدبير والهبة له أن يرجع فيهما » ليس كلّ تدبير ولا كل هبة له الرجوع فيهما ، بل التدبير على ضربين ، تدبير عن نذر ، فلا يجوز له الرجوع فيه ، على حال ، وهبة لولده الأصغر ، أو لولده الأكبر ، بعد قبضه إيّاها ، أو هبة الأجنبي بعد القبض ، والتصرّف فيها ، أو التعويض عنها ، فلا يجوز الرجوع فيها على حال ، بغير خلاف ، فإطلاق قوله رحمه اللّه ما يستقيم له.

وأيضا فالراهن ، لا يجوز له تدبير عبده المرهون ، لأنّه ممنوع من التصرف في الرهن ، وكان يلزم على ما اعتل به شيخنا أبو جعفر ، من أن للمدبر أن يرجع في التدبير ، وللواهب أن يرجع في الهبة ، وانّ المشتري إذا باع الجارية ، وجعل لنفسه الخيار شهرا مثلا ، أو أكثر من ذلك وقبضها المشتري ، وتسلمها ، وصارت عنده ، أن يردّها البائع الثاني ، على البائع الأوّل ، لأنّ له أن يرجع في هذا المبيع ، على قود الاعتلال الذي اعتل به شيخنا ، وهذا لا يقوله أحد منا بغير خلاف ، ولا يتجاسر عليه أحد من الأمة.

وأيضا فلم يرد بذلك نصّ عن الأئمة عليهم السلام ، لا متواترا ولا آحادا ، فبأيّ شي ء يتمسّك في ذلك ، وكتابه تهذيب الأحكام ، ما أودعه شيئا من ذلك ، ولا أورد فيه خبرا بذلك ، وليس له أكبر منه في الأخبار ، وانّما حكاه على ما وجده في المقنعة (2) وتردّ الشاة المصراة ، وهي التي جمع بائعها في ضرعها اللبن ، يومين وأكثر من ذلك ، ولم يحلبها ، ليدلسها به على المشتري ، فيظن إذا رأى

ص: 299


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للردّ.
2- المقنعة : باب المتاجر ، باب العيوب الموجبة للرد ص 598.

ضرعها ، وحلب لبنها ، أنّه لبن يومها ، لعادة لها ، وكذلك حكم البقرة والناقة ، ولا تصرية عندنا في غير ذلك ، فإذا أراد ردّها ، ردّ اللبن الذي احتلبه ، إن كان موجودا ، وإن كان هالكا معدوما ، ردّ مثله ، لأنّ اللبن له مثل ، ويضمن بالمثلية ، فإن أعوز المثل ، ردّ قيمة ما احتلب من لبنها ، بعد إسقاط ما أنفق عليها ، إلى أن عرف حالها.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : عوض اللبن الذي يحلبه من المصراة ، إذا أراد ردّها ، صاع من تمر ، أو صاع من بر ، وإن أتى على قيمة الشاة ، واستدل على ذلك بإجماع الفرقة ، وأخبارهم (1).

قال محمّد بن إدريس : والأوّل هو الصحيح ، وإليه يذهب رحمه اللّه في نهايته (2) ، وهو أيضا قول شيخنا المفيد في مقنعته (3) وأصول المذهب دالة عليه ، فأمّا ما ذكره شيخنا في مسائل خلافه ، من دليله فعجيب ، من أجمع من أصحابنا على ذلك؟ وأيّ إجماع للفرقة على ما قاله؟ ولا لها خبر ورد بذلك ، وما وجدت لأصحابنا تصنيفا فيه ، ما ذهب إليه ولا قال من أصحابنا غيره رحمهم اللّه هذا القول ، وانّما هذا قول المخالفين ، نصره واختاره ، في كتابه مسائل خلافه.

وترد العبيد والإماء ، من أحداث السنة ، مثل الجذام ، والجنون ، والبرص ، ما بين وقت الشراء وبين السنة ، فإن ظهر بعد مضي السنة شي ء من ذلك لم يكن له الرد على حال ، هذا الحكم ما لم يتصرف فيه ، فإن تصرّف في الرقيق في مدة السنة ، سقط الرد ، وحكم له بالأرش ، ما بين قيمته صحيحا ومعيبا.

وإلى هذا القول يذهب شيخنا المفيد ، محمّد بن محمد بن النعمان ، في مقنعته ، فإنّه قال : ويرد العبد والأمة من الجنون ، والجذام ، والبرص ، ما بين ابتياعهما وسنة واحدة ، ولا يردان بعد سنة ، وذلك أنّ أصل هذه الأمراض ،

ص: 300


1- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 169.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للردّ.
3- المقنعة : باب المتاجر ، باب العيوب الموجبة للردّ ص 598.

يتقدّم ظهورها سنة ، ولا يتقدّمها بأكثر من ذلك ، فإن وطأ المبتاع الأمة في مدة هذه السنة ، لم يجز له ردّها ، وكان له ما بين قيمتها ، صحيحة وسقيمة ، هذا آخر كلام شيخنا رحمه اللّه في مقنعته (1).

فإن قيل : المذهب مستقر ، في أنّ الخيارين للمشتري في الحيوان بمجرّد العقد ، خيار المجلس ، وخيار الثلاث ، فما يقال في رجل اشترى مملوكا؟ فهل له ردّه على بايعه ، قبل أن يحدث فيه حدثا ، في مدة الثلاثة الأيّام؟ وكذلك له أن يردّه بكل عيب يظهر فيه ، في مدّة الثلاث؟ وهل له ردّه ، بعيب يظهر بعد الثلاث ، من قبل أن يحدث فيه حدثا ، أو يتصرّف فيه؟ وهل إن تصرّف فيه ، ووجد به عيبا بعد تصرفه ، له أن يردّه أم لا؟

قلنا : جميع ما يظهر بالرقيق ، من العيوب بعد الثلاث ، وقبل التصرّف ، لا يردّ منه إلا ثلاثة عيوب ، البرص ، والجذام ، والجنون ، فإنّه يردّ عند أصحابنا ، من هذه الثلاثة عيوب ، إذا وجدت فيه ، ما لم يمض سنة من وقت الشراء ، فأمّا إن تصرّف فيه ، فلا يجوز له الردّ ، ولم يبق فرق بين الثلاثة العيوب وغيرها من العيوب بعد التصرف ، بل له الأرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، ويسقط الرد.

فإن قيل : فما بقي فرق بين الثلاثة عيوب وغيرها ، وأصحابنا كلّهم يفرّقون بين ذلك ، ويردون من العيوب الثلاثة ، ما بين الشراء وسنة.

قلنا : الفرق بين العيوب الثلاثة وغيرها ظاهر ، وهو أنّ ما يظهر من العيوب بعد الثلاثة الأيام ، وقيل التصرّف لا يرد به الرقيق ، لأنّه ظهر بعد تقضي الثلاثة الأيّام ، التي له الخيار فيها ولم يدل دليل على انها كانت فيه وقت ابتياعه إيّاه ، ولا في مدة الخيار التي هي الثلاثة الأيام ، فأمّا العيوب الثلاثة ، فإنّها متى ظهرت بعد الثلاثة الأيّام ، إلى مدة السنة من وقت البيع ، وقبل التصرّف في

ص: 301


1- المقنعة : باب المتاجر ، باب ابتياع الحيوان ص 600.

الرقيق ، فإنّها ترد بها ، لأنّ الدليل ، وهو الإجماع ، قد دلّ على ذلك ، فقلنا به كما أنّ كلّ عيب يحدث بعد الشراء في مدة الثلاثة الأيّام ، يرد به الرقيق ، إذا لم يكن تصرّف فيه مشتريه ، في الثلاثة الأيّام.

وما بنا حاجة إلى ما قاله شيخنا في مقنعته « من أنّ أصول هذه الأمراض ، يتقدّم ظهورها سنة ، ولا يتقدّمها بأكثر من ذلك » لأنّ هذا يؤدي إلى بطلان البيع ، لأنّ البائع باع ما لا يملك ، لأنّ الرقيق ينعتق بالجذام ، من غير اختيار مالكه ، وانّما الشارع حكم بأنّ الرقيق يرد من هذه الثلاثة عيوب ، ما لم يتصرّف فيه ما بين شرائه وبين سنة ، كما أنه حكم بأنّه يردّ بكل عيب حدث في هذه الثلاثة الأيام ، من وقت ابتياعه ، ما لم يتصرف فيه ، وإن لم يكن وقت ابتياعه فيه ، فبان الفرق بين الثلاثة عيوب ، وبين غيرها من العيوب ، من الوجه الذي قدّمناه وشرحناه.

ولئن خطر بالبال ، وقيل : الفرق بينهما وبين غيرها من العيوب ، هو أنّ غيرها بعد التصرّف ، ليس للمشتري الرد ، والعيوب الثلاثة له الرد بعد التصرّف ، فافترقت العيوب من هذا الوجه لا من الوجه الذي ذكرتموه.

قلنا له : هذا خلاف إجماع أصحابنا ، ومناف لأصول المذهب ، لأنّ الإجماع حاصل ، على أن بعد التصرّف في المبيع ، يسقط الرد ، بغير خلاف بينهم ، والأصول مبنيّة ، مستقرة على هذا الحكم.

فان قيل : فما بقي لاستثنائهم العيوب الثلاثة ، وأنّها تردّ بها الرقيق ، ما بين الشراء وبين سنة معنى ، ولا فائدة.

قلنا : الفائدة والمعنى ، هو الوجه الذي قدّمناه ، ليسلم هذا الإجماع ، والأصول الممهدة المقرّرة ، لأنّ الكلام والأخبار ، في الرد إلى سنة من الثلاثة العيوب مطلق ، لم يذكر فيه تصرّف أو لم يتصرّف ، والشارع إذا خاطبنا بخطاب مطلق ، يجب علينا أن نحمله على إطلاقه وعمومه ، إلا أن يكون له تخصيص وتقييد ، لغويّ

ص: 302

أو عرفيّ ، أو شرعيّ فيرجع في إطلاقه إليه ، لأنّ المطلق يحمل على المقيّد ، إذا كان الجنس واحدا ، والعين واحدة ، والحكم واحدا كما قال تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ ) (1) فإذا سئلنا عن دم السمك ، هل هو نجس أم لا؟ فجوابنا بأجمعنا أنّه طاهر ، فإن استدل علينا بالآية المتقدّمة ، التي أطلق الدم فيها ، ودم السمك دم بغير خلاف ، قلنا : فقد قال تعالى في آية أخرى ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) (2) فقيّده بالسفح ، ودم السمك غير مسفوح ، فيجب أن يحمل المطلق على المقيد ، لأنّه حكم واحد ، وعين واحدة ، وجنس واحد ، فإن قيل : هذا قياس ، والقياس عندكم باطل ، قلنا : معاذ اللّه أن يكون ذلك قياسا ، بل أدلة مقرّرة في أصول الفقه ، ممهدة عند من الحكم أصول هذا الشأن ، وكذلك قد يخص العام بالأدلة ، ويحكم بالخاص على العام ، وأمثلة ذلك كثيرة مذكورة في مظانها.

وإذا أبق « بفتح الباء » المملوك عند المشتري ، وكان الإباق حادثا ، ثم وجده ، لم يكن له ردّه على بائعه ، إلا أن يعلم أنّه كان قد أبق أيضا عنده ، فإن علم ذلك ، كان له ردّه ، واسترجاع الثمن ، أو إمساكه ، وأرش العيب.

وما يحدث من العيوب في شي ء من الحيوان ، ما بين حال البيع وبين الثلاثة الأيّام ، كان للمبتاع ردّه ، ما لم يحدث فيه حدثا ، فإن أراد إمساكه ، لم يكن له أرش العيوب الحادثة في مدة الثلاثة الأيّام ، على ما قدّمنا القول فيه ، وحرّرناه ، وإذا حدث بعد انقضاء الثلاثة الأيام ، لم يكن له ردّه ، على حال ، إلا ما استثنيناه من أحداث السنة ، ومتى أحدث المشتري في مدّة الثلاثة الأيّام ، فيه حدثا ، ثمّ وجد فيه عيبا ، قبل عقدة البيع ، لم يكن له ردّه.

ومن اشترى جارية ، على أنّها بكر ، فوجدها ثيبا ، قال شيخنا أبو جعفر ، في

ص: 303


1- المائدة : 3.
2- الانعام : 145.

نهايته : لم يكن له ردّها ، ولا الرجوع على البائع بشي ء من الأرش ، لأنّ ذلك قد يذهب من العلّة والنزوة (1) ، ورجع في استبصاره (2) ، وقال : يرجع عليه بالأرش ، ما بين قيمتها بكرا وثيبا ، وهذا هو الصحيح الذي يقتضيه أصول المذهب ، والذي أورده في نهايته ، خبر واحد ، راويه زرعة ، عن سماعة ، وهما فطحيان.

هذا على قول من يقول من أصحابنا ، أنّ ذلك ليس بعيب يوجب الرد ، وعلى قول الآخرين يجب بذلك الرد ، واسترجاع الثمن ، أو الإمساك ، وأخذ الأرش ، على ما قدّمناه.

والذي يقوى عندي ، أنّ ذلك ، تدليس يجب به الرد ، إن اختار المشتري ، لأنّ الإجماع حاصل منعقد ، على أنّ التدليس يجب به الرّد ، ولا إجماع على أنّ من اشترى جارية ، على أنّها بكر ، فخرجت ثيبا ، لا يردّها ، وانّما أورد ذلك شيخنا في نهايته ، واختاره في باقي كتبه ، ولم يورد فيه غير خبرين ، أحدهما عن زرعة ، عن سماعة ، وقد قلنا : ما فيهما ، والآخر ، عن يونس بن عبد الرحمن ، وهذا الرجل عند المحققين لمعرفة الرواة والرجال ، غير موثوق بروايته ، لأنّ الرضا عليه السلام كثيرا يذمه ، وقد وردت أخبار عدة بذلك ، وبعد هذا ، فلو كان ثقة عدلا ، لا يجب العمل بروايته ، لأنّه واحد ، وأخبار الآحاد ، لا يجوز العمل بها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وشيخنا المفيد في مقنعته ما تعرض لذلك ولا عمل به ، ولا أفتى بما ذكره شيخنا في نهايته ، وكان المفيد رحمه اللّه عالما بالأخبار ، وبصحتها ، وبالرجال وثقتها.

وقد روي أنّ من اشترى جارية لا تحيض في مدّة ستّة أشهر (3) ، ومثلها تحيض ، كان له ردّها ، لأنّ ذلك عيب ، هذا إذا لم يتصرّف فيها ، أورد ذلك

ص: 304


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للرد.
2- الاستبصار : كتاب البيوع ، باب من اشترى جارية « إلخ » وفي الوسائل : الباب 6 من أبواب أحكام العيوب ، ح 2.
3- الوسائل : الباب 3 من أبواب أحكام العيوب ، ح 1.

شيخنا في نهايته (1) ، من طريق خبر الواحد ، إيرادا لا اعتقادا.

ومن اشترى زيتا أو بزرا ووجد فيه درديا ، فإن كان يعلم أنّ ذلك يكون فيه ، لم يكن له ردّه ، لأنّه قد علم بالعيب قبل الشراء ، وإن كان غير عالم ، كان له ردّه.

وقال شيخنا في نهايته : ومن اشترى شيئا ، ولم يقبضه ، ثمّ حدث فيه عيب ، كان له ردّه ، وإن أراد أخذه وأخذ الأرش ، كان له ذلك (2).

إلا أنّه رجع عن ذلك في مسائل خلافه ، فإنّه قال : كل عيب يحدث بعد عقدة البيع ، لا يجبر البائع على بذل الأرش ، وإنّما يستحق الأرش بالعيب الذي يكون بالمبيع قبل عقدة البيع ، لأنّه باعه معيبا ، فأمّا ما يحدث بعد البيع ، فلا يستحق به أرش ، لأنّه ما باعه معيبا ، بل له الرد فحسب ، أو الرضا بالإمساك بغير أرش ، إذا لم يتصرّف فيه ، أو لم يقبضه (3).

وإلى هذا القول ، يذهب شيخنا المفيد ، في مقنعته (4) ، وهو الصحيح من الأقوال ، وبه أفتي ، وعليه أعمل ، وقد حرّرنا ذلك فيما تقدّم ، وشرحناه.

ومتى هلك المبيع كلّه قبل القبض ، أو التمكّن من القبض ، بأن لا يمكن البائع المشتري منه كان من مال البائع ، دون مال المبتاع.

وإذا اختلف البائع والمشتري في شرط ، يلحق بالعقد ، ويختلف لأجله الثمن ، مثل ان قال : بعتك نقدا ، فقال المشتري : بل إلى سنة ، أو قال : إلى سنة ، فقال المشتري : إلى سنتين ، وهكذا ، الخيار ، إذا اختلفا في أصله ، أو قدره ، فالقول قول البائع مع يمينه ، وإذا اختلفا في شرط يفسد البيع فقال البائع : بعتك إلى أجل معلوم ، وقال المشتري : إلى أجل مجهول ، أو قال : بعتك بدراهم أو دنانير ، فقال : بل بخمر أو خنزير ، أو قال : بعتك معلوما ، فقال المشتري : بل

ص: 305


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للرد.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب العيوب الموجبة للرد.
3- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 178 ، تكون بهذا المضمون ، الا ان المسألة بهذه العبارة ما وجدناها.
4- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب العيوب الموجبة للرد ص 596.

بعتني الشي ء مجهولا ، كان القول قول من يدعي الصحة ، وعلى من ادعى الفساد ، البيّنة ، لأنّ الأصل في العقد الصحة ، فقد اتفقا على العقد ، فمن ادّعى الفساد ، فعليه الدلالة.

قال شيخنا في مسائل خلافه : إذا باع شيئا بثمن في الذمة ، أو كان البيع عينا بعين ، فقال البائع : لا أسلم المبيع حتى أقبض الثمن ، وقال المشتري : لا أسلم الثمن حتى أقبض المبيع ، فعلى الحاكم أن يجبر البائع على تسليم المبيع أولا ، ثم يجبر المشتري على تسليم الثمن ، بعد ذلك بعد أن يحضر المبيع والثمن ، ثمّ قال : دليلنا على ما قلنا ، أن الثمن انّما يستحق على المبيع ، فيجب أولا تسليم المبيع ، ليستحق الثمن ، فإذا سلّم المبيع ، استحق الثمن ، فوجب حينئذ إجباره على تسليمه ، فلا بدّ إذن ممّا قلناه ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه (1).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : لو عكس عاكس على شيخنا استدلاله ، في قوله : « إنّ الثمن انّما يستحق على المبيع » فيقول له : وكذلك انّ المبيع إنما يستحق على الثمن ، وفي مقابلته ، لأنّهما عوضان ، كل منهما يستحق في مقابلة صاحبه فلا فرق بينهما ، فلأيّ شي ء يجبر أحدهما على تسليم ما يستحق عليه في مقابلة ما يستحقه ، قبل صاحبه ، فإذا لم يكن على ذلك دليل ، من إجماع أصحابنا ، ولا وردت له بذلك أخبار ، لا آحادا ولا متواترا ، فيرجع في ذلك إلى الدليل ، وهو أن يجبر الحاكم كل واحد منهما على تسليم ما قبله في مقابلة ما يستحقه معا ، ولا يجبر أولا أحدهما قبل صاحبه ، أو يستعمل في ذلك القرعة ، لأنّه داخل في قولهم عليهم السلام : القرعة في كل أمر مشكل (2) والأول أقوى.

باب السّلف

وهو السّلم بفتح السين واللام ، في جميع المبيعات ، السّلم بيع موصوف في

ص: 306


1- الخلاف : كتاب البيوع المسألة 239 - 240.
2- الوسائل : أورد روايات بهذا المضمون في الباب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى.

الذمّة ، إلى أجل محروس من الزيادة والنقصان ، إما بالشهور والأيّام ، أو السنين والأعوام.

ومن شرط صحته ، قبض الأثمان ، قبل التفرّق من المجلس ، بخلاف بيع الأعيان ، فالسّلف على هذا جائز ، في جميع المبيعات التي تضبط بالصفات ، إذا جمع شروطا ، أحدها تمييز الجنس من غيره من الأجناس ، وتحديده بالوصف ، وضبطه بالصفة ، التي يمتاز بها من جنسه ، وتبينه من غيره ، وذكر الأجل المحروس على ما قدّمناه ، وقبض الثمن قبل التفرق من المجلس ، وتقدير المبيع إن كان مكيلا أو موزونا بمكيال ، وصنجة ، بالصّاد معلومين عند العامة ، فإن قدّراه بمكتل أو صخرة ، لم يجز ، لأنّ ذلك مجهول في حال العقد ، فإن عينا مكيال رجل بعينه ، وهو مكيال معروف ، أو عيّنا صنجة رجل بعينه ، وهي صنجة معروفة ، جاز السّلم فيه ، ولا يتعيّن ذلك المكيال ، ولا تلك الصنجة ، لكن يتعلّق بجنس مثل ذلك المكيال ، أو مثل تلك الصنجة ، لأنّ الغرض في قدره ، لا عينه ، فإذا جمع الشروط المقدّم ذكرها جميعا ، صحّ البيع.

وكلّ شي ء لا يتحدّد بالوصف ، ولا يمكن ذلك فيه لا يصح السّلف فيه.

ولا يجوز أن يكون ذكر الأجل بما لا يتعيّن ، مثل قدوم الحاج ، ودخول القوافل ، وإدراك الغلات ، وهبوب الرياح ، وما يجري مجرى ذلك.

وإذا أسلف الإنسان في شي ء من الثياب ، ينبغي أن يعيّن جنسها ، ويذكر صفتها ، من طولها ، وعرضها ، وغلظها ، ودقتها ، ولونها ، فإن أخل بشي ء من ذلك ، كان العقد باطلا. ولا يجوز أن يذكر في الثوب نساجة إنسان بعينه ، أو غزل امرأة بعينها ، فإن اشتراه كذلك ، كان البيع باطلا.

وإذا أسلف في طعام ، أو شي ء من الغلات ، فليذكر جنسه ، ويعيّن صفته ، على ما قدّمناه ، فإن لم يذكر ذلك ، لم يصح البيع ، وكان باطلا ، ولا يذكر ان تكون الغلّة من أرض بعينها ، أو من قرية مخصوصة ، فإن اشتراه كذلك ، لم يصح الشراء ، وكان باطلا ، ولم يكن المبيع مضمونا ، لأنّه إذا اشترى الحنطة مثلا من

ص: 307

أرض بعينها ، ولم تخرج الأرض الحنطة ، لم يلزم البائع أكثر من ردّ الثمن ، ومتى اشتراه ولم ينسبه إلى أرض بعينها ، كان لازما في ذمّته إلى أن يخرج منه.

ولا بأس أن يسلف الإنسان في شي ء ، وإن لم يكن للمستسلف شي ء من ذلك ، غير أنّه إذا حضر الوقت ، اشتراه ، ووفّاه ، إيّاه ، بخلاف بيوع الأعيان ، لأنّ السلف في الذمة ، فيجوز بيعه ، وإن لم يكن مالكا له ، وأمّا بيوع الأعيان ، فلا يجوز بيعها إلا بعد ملكها ، لأنّها إذا هلكت قبل التسليم بطل العقد ، لأنّ العقد وقع على عين ، فانتقاله إلى عين اخرى يحتاج إلى دليل ، وأمّا بيوع الذمم فما وقع ، على عين ، بل على ما في ذمة البائع ، فافترق الأمران.

وقد قلنا : لا يجوز السلف فيما لا يتحدّد بالوصف ، مثل الخبز واللحم ، وروايا الماء ، فأمّا السلف في الماء نفسه أرطالا ، إذا ضبطه بالوصف ، فلا بأس به ، وإنّما منع أصحابنا من السلف في الخبز واللحم وروايا الماء ، لاختلافها في الكبر والصغر ، فإنها لا تضبط بالتحديد ، فإن حدّدها براوية معلومة ، لا يصح ذلك ، لأنّ السلف في الذمّة ، وربما هلكت تلك الراوية ، فيبطل السلف ، كما قلنا في المكيل والموزون ، لا يجوز أن يقدرا بمكتل ، والمكتل بالتاء المنقطة من فوقها بنقطتين ، الزّنبيل ، ولا صخرة بل بالمكائيل العامة ، والصّنج المعروفة عند العامة ، وليس كذلك روايا الماء ، ولأنّ الخبز واللحم ، لا يمكن تحديده بوصف لا يختلط به سواه.

ولا بأس بالسلم في الحيوان كلّه ، إذا ذكر الجنس والأوصاف ، والأسنان من الإبل ، والبقر ، والغنم ، والخيل ، والبغال ، والحمير ، والرقيق ، وغير ذلك من أجناس الحيوان.

قال شيخنا في مبسوطة : وإذا أسلم في اللبن ، ووصفه بأوصاف السمن ، ويزيد فيه ذكر المراعى (1) ، فيقول : لبن عواد ، أو أوارك ، أو حمضية ، وذلك اسم للكلاء ، فالحمضية الإبل التي ترعى النبات ، الذي فيه الملوحة ، والعوادي ، فهي الإبل التي ترعى ماحلا من النبات ، وهو الخلّة فيقول العرب : الخلّة خبز الإبل ،

ص: 308


1- ج : المرعى.

والحمض تسمى فاكهتها ، فإذا كانت الإبل ترعى الخلّة ، سميت عوادي ، وإذا كانت ترعى في الحمض ، سميت أوارك ، وتسمى حمضيّة ، إلى هاهنا كلام شيخنا (1).

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : قال الجوهري في كتاب الصحاح : الأراك شجر من الحمض الواحدة أراكة. وأركت الإبل ، تأرك أروكا : إذا رعت الأراك ، وقال أركت أيضا ، إذا أقامت في الأراك ، وهو الحمض ، فهي آركة ، قال كثير :

فإنّ الذي ينوي من المال أهلها *** أوارك لمّا تأتلف وعوادي

يقول : إنّ أهل عزّة ينوون أن لا يجتمع هو وهي ، ويكونان كالأوارك من الإبل والعوادي ، في ترك الاجتماع في مكان ، هذا آخر قول الجوهري (2).

فمعنى قول شيخنا أوارك ، جمع آركة ، وهي التي ترعى الحمض ، وهو الأراك المقيمة فيه ، فاشتقاقها من ذلك ، والعوادي : الإبل التي تأكل الخلّة ، بضمّ الخاء ، وهو ما حلا من النبت ، وأحدها عادية ، وجمعها عوادي ، والشاهد على ذلك بيت كثير ، المقدّم ذكره ، يقول : لا تأتلف الإبل الأوارك والعوادي ، لاختلافها في المرعى.

فإذا أسلم الإنسان في شي ء ممّا ذكرناه ، ثم حل الأجل ، ولم يكن عند البائع ما يوفيه إيّاه ، جاز له أن يأخذ منه رأس المال ، من غير زيادة عليه ، فإن أعطاه البائع مالا ، وجعل إليه أن يشتري له ما كان باعه إيّاه ، ووكله في ذلك ، ثم بعد ذلك وكله في قبضه ، وأمره بقبضه لنفسه ، لم يكن به بأس ، والأفضل أن يتولى ذلك غيره.

وإن حضر الأجل ، وقال البائع : خذ مني قيمته الآن ، جاز له أن يأخذ منه في الحال ، ما لم يزد ثمنه على ما كان أعطاه إيّاه ، فإن زاد على ذلك ، لم يجز بيعه إيّاه ، هذا إذا باعه بمثل ما كان اشتراه من النقد ، فإن اختلف النقدان ، بأن

ص: 309


1- المبسوط : كتاب السلم ، ج 2 ، ص 180.
2- الصحاح : ج 4 ، ص 1572.

يكون قد اشتراه بالدراهم والدنانير ، وباعه إيّاه في الحال بشي ء من العروض ، والمتاع ، أو الغلات ، أو الرقيق ، والحيوان ، لم يكن بذلك بأس ، وإن كان لو قوم ما يعطيه في الحال ، زاد على ما كان أعطاه إيّاه ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

وقال غيره من أصحابنا : يجوز أن يبيعه من الذي هو عليه ، إذا حضر الأجل وحلّ ، بمثل ما باعه إيّاه (2) ، وأكثر منه ، وأقل ، إذا عيّن الثمن وقبضه قبل (3) التفرق من المجلس ، لئلا يصير بيع دين بدين ، سواء كان من جنس الثمن الأوّل ، أو من غير جنسه.

وهذا هو الصحيح من الأقوال ، والذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّه باع حنطة مثلا ، أو شعيرا أو ثيابا ، أو حيوانا بدراهم ، أو دنانير ، ولم يبع دنانير بدنانير ، بأزيد منها وأكثر ، لأنّه بلا خلاف بيننا ، ما يستحق في ذمّة المسلم إليه ، إلا المسلم فيه ، دون الدنانير التي هي الأثمان ، فما يبيعه إلا المسلّم فيه ، دون الثمن الأول ، لأنّ الثمن الأول ما يستحقه ، بل الذي يستحقه هو السلعة المسلم فيها ، بغير خلاف ، فإذا كان كذلك فله أن يبيعها بما شاء من الأثمان ، ويلزم من ذهب إلى القول الأول من أصحابنا ، أنّه ما يستحق عليه إلا الثمن ، دون المثمن ، فيعقد معه ، ويبيعه ذهبا بذهب ، ولا خلاف أنّه لا يستحق عليه ذهبا.

وأيضا فإنّه يهرب من الربا ، والربا يكون في الجنس الواحد ، بعضه ببعض ، وزيادة وهذا بيع جنس وبغيره ، وهذا ليس هو ربا.

وأيضا فإن اللّه تعالى قال « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع بلا خلاف ، فمن أبطله ، يحتاج إلى دليل. وما اخترناه مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (4) وأيضا فلا يرجع في فساد هذا البيع إلى أخبار آحاد ، لا توجب علما ولا

ص: 310


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.
2- ج : ما أعطاه إياه.
3- ج : عيّن الثمن قبل.
4- المقنعة : باب البيع بالنقد والنسيئة من أبواب المكاسب ، ص 595.

عملا ، مع أنّه قد ورد أخبار بصحّة البيع ، معارضة لتلك الأخبار.

وكلام شيخنا في مقنعته ، هو أن قال : ومن ابتاع من إنسان متاعا غير حاضر إلى أجل ، ثم باعه منه ، قبل حلول الأجل بزيادة ، أو نقصان ، كان بيعه باطلا ، فإن جاء الأجل ، لم يكن بأس ببيعه إيّاه ، بأقلّ ممّا ابتاعه منه ، أو أكثر ، سواء حضر المتاع ، أو لم يحضر ، هذا آخر كلام شيخنا المفيد رحمه اللّه (1).

وقال أيضا في جواب المسائل التي سأله عنها محمد بن محمّد بن الرّملي الحائري ، وهي مشهورة معروفة عند الأصحاب ، سؤال وعن رجل أسلف رجلا مالا على غلّة ، فلم يقدر عليها المستلف ، فرجع إلى رأس المال ، وقد تغيّر عيار المال إلى النقصان ، هل له أن يأخذ من العيار الوافي ، أو العيار الذي قد حضره ، وهو دون الأوّل؟ جواب لصاحب السلف أن يأخذ من المستلف غلة ، كما أسلفه على ذلك ، ويكلّفه ابتياع ذلك له ، فإن لم يوجد غلّة ، كان له بقيمة الغلّة في الوقت ، عين أو ورق ، هذا آخر كلام شيخنا المفيد رحمه اللّه (2) وهو الصحيح.

وكذلك من باع طعاما ، قفيزا بعشرة دراهم ، مؤجلا ، فلمّا حلّ الأجل ، أخذ بها طعاما ، سواء زاد على طعامه الذي باعه إيّاه ، أو نقص ، لأنّ ذلك بيع طعام بدراهم لا بيع طعام بطعام ، فلا يحتاج إلى اعتبار المثلية.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة إذا باع طعاما ، قفيزا بعشرة دراهم مؤجلة ، فلمّا حلّ الأجل أخذ بها طعاما ، جاز ذلك ، إذا أخذ مثله ، فإن زاد عليه لم يجز ، وقال الشافعي : يجوز على القول المشهور ، ولم يفصل ، وبه قال بعض أصحابنا ، وقال مالك : لا يجوز ، ولم يفصل ، دليلنا إجماع الفرقة ، وأخبارهم ولأنّ ذلك يؤدّي إلى بيع طعام بطعام ، فالتفاضل فيه لا يجوز ، والقول الآخر الذي لأصحابنا قوي ، وذلك أنّه بيع طعام بدراهم ، في القفيزين معا ، لا

ص: 311


1- المقنعة باب البيع بالنقد والنسية من أبواب المكاسب ص 596
2- لا يوجد الكتاب بأيدينا.

بيع طعام بطعام ، فلا يحتاج إلى اعتبار المثلية ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر (1).

فانظر أرشدك اللّه ، إلى استدلال شيخنا ، فإنّه قال : واقر ، أنّ بعض أصحابنا يذهب في المسألة إلى خلاف ما اختاره رحمه اللّه ثم استدل بإجماع الفرقة ، إلا أنّه عاد في آخر الاستدلال إلى الحقّ ، ورجع عمّا صدّره ، ونقض ما بناه أولا ، ولم ينقض ما استدل به آخرا.

وذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتابه الإستبصار (2) ، في الجزء الثالث ، في كتاب البيوع ، باب العينة ، وأورد أخبارا فيها ذكر العينة.

قال محمّد بن إدريس : « العينة بالعين غير المعجمة ، المكسورة ، والياء المنقطة من تحتها بنقطتين ، المسكنة ، والنون المفتوحة ، والهاء ، وهي السلف عند أهل اللغة ، ذكر ذلك الجوهري في الصحاح ، وابن فارس في المجمل ، فأحببت إيضاحها ، لئلا يجري فيها تصحيف.

ولا يجوز السلم في جلود الغنم ، لأنّها لا يمكن ضبطها بالوصف.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا بأس بالسلم في مسوك الغنم ( وأراد بمسوك الغنم ، جلود الغنم ، لأنّ المسك ، بفتح الميم ، وسكون السين ، الجلد ) إذا عين الغنم ، وشوهد الجلود ، ولم يجز ذلك مجهولا (3).

قال محمّد بن إدريس : هذا غير واضح ، ولا مستقيم ، من وجوه ، أحدها انّه لا يمكن ضبطها بالوصف ، لاختلاف ذلك وتباينه ، والثاني قوله إذا شوهد الجلود ، وعيّن الغنم ، لأنّ السلم يكون في ذمة البائع ، بحيث يكون مضمونا عليه ، ولا يجوز أن يكون معينا في سلعة بعينها ، أو ينسب إلى شجرة بعينها ، أو غزل امرأة معيّنة ، أو الحنطة من أرض معيّنة ، وإذا عيّن الغنم ، وشوهد الجلود ، بطل السلف بغير خلاف ، لأنّ الغنم إذا هلكت بطل السلم ، ولهذا لا يجوز السلم في الدّور ،

ص: 312


1- الخلاف ، كتاب البيوع ، المسألة 166.
2- الإستبصار : ج 3 ، ص 79.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.

لأنّ ذلك البيع لا بد له من الوصف ، الذي يتميز به من غيره ، فإذا عين الموضع ، ووصفها ، بطل السلف فيها ، لأنّها تصير بيع الأعيان ، والسلم بيع الذمم.

وقد رجع شيخنا عمّا ذكره في نهايته ، في مبسوطة ، فقال : ويجوز السلف في جلود الغنم إذا شاهدها ، وروي أنّه لا يجوز ، وهو الأحوط ، لأنّه مختلف الخلقة واللون ، ولا يمكن ضبطه بالصفة ، لاختلاف خلقته ، ولا يمكن ذرعه ، ولا يجوز وزنه ، لأنّه يكون ثقيلا ، وثمنه أقل من ثمن الخفيف ، قال رحمه اللّه : وعلى هذا لا يجوز السلف في الرق ( قال محمّد بن إدريس : الرق - بفتح الراء - جلود تعمل ، يكتب فيها ) ولا فيما يتخذ من الجلود ، من قلع ونعال مقدودة محذوّة ، وخفاف وغير ذلك ، لاختلاف خلقة الجلد ، ولا يمكن ضبطه بالصفة ، ويجوز السلف في القرطاس ، إذا ضبط بالصفة ، كما تضبط الثياب هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة (1).

وقال شيخنا أبو جعفر أيضا ، في مبسوطة : العلس ، صنف من الحنطة ، يكون فيه حبتان ، في كمام ، فيترك كذلك ، لأنّه أبقى له ، حتى يراد استعماله ، فيلقى في رحى ضعيفة ، فيلقى عنه كمامه ، ويصير حبا ، ( قال محمد بن إدريس : العلس بالعين غير المعجمة المفتوحة ، واللام المفتوحة ، والسين غير المعجمة ) ثم قال رحمه اللّه : القول فيه كالقول في الحنطة في كمامها ، لا يجوز السلف فيه ، إلا ملقى عنه كمامه ، لاختلاف الأكمام ، وكذلك القول في القطنية ، لا يجوز أن يسلف في شي ء منها ، إلا بعد طرح كمامها عنها ، حتى يرى ، ولا يجوز حتى تسمى حمصا ، أو عدسا ، أو جلبانا أو ماشا ، وكل صنف منها على حدّته ، وهكذا كل صنف من الحبوب يوصف ، كما توصف الحنطة ، يطرح كمامها ، دون قشوره ، لأنّه لا يجوز أن يباع بكمامه (2).

قال محمّد بن إدريس : القطنية بكسر القاف ، وسكون الطاء غير المعجمة ،

ص: 313


1- المبسوط : كتاب السلم ، فصل فيما يجوز فيه السلف ، ج 2 ، ص 189.
2- المبسوط : كتاب السلم ، ج 2 ، ص 174.

وكسر النون ، وسميت قطنية ، لأنّها تقطن في البيوت ، وهي العدس ، والحمص وأمثال ذلك ، فأمّا الجلبان بالجيم المضمومة ، واللام المسكنة ، والباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة ، والألف والنون ، فهو شي ء يشبه الماش هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح ، فأمّا الجلجلان ، فهو السمسم بغير خلاف بين أهل اللغة ، وقال بعضهم : إنّه الكزبرة.

ولا بأس بالسلف في الفواكه ، كلّها ، إذا ذكر جنسها ، ولم ينسب إلى شجرة بعينها.

ولا بأس بالسلف في الشيرج ، والبذر ، إذا لم يذكر أن يكون من سمسم بعينه ، أو حب كتان بعينه ، فإن ذكر ذلك كان البيع باطلا.

ولا بأس بالسلف في الألبان والسمون ، إذا ذكر أجناسها.

ومتى أعطي الإنسان غيره قرضا دراهم أو دنانير ، أو كان له عليه دين من ثمن مبيع ، أو أرش جناية ، أو مهر ، أو اجرة ، وغير ذلك ، وأخذ منه شيئا من المتاع ، ولم يساعره في حال ما أعطاه المال ، كان عليه المتاع بسعر يوم قبضه ، دون يوم قبض المال.

ولا يجوز أن يبيع الإنسان ماله على غيره ، في أجل لم يكن قد حضر وقته ، وإنّما يجوز له بيعه إذا حلّ الأجل ، فإذا حضر ، جاز له أن يبيع على الذي عليه ، بزيادة من الثمن ، الذي اشتراه به ، أو نقصان وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) : أو على غيره من الناس ، وإن باع على غيره ، وأحال عليه المتاع ، كان ذلك جائزا ، وان لم يقبض هو المتاع ، ويكون قبض المبتاع الثاني قبضا عنه ، وذلك فيما لا يكال ولا يوزن ، ويكره ذلك فيما يدخله الكيل والوزن ، فإن وكل المبتاع منه بقبضه ويكون هو ضامنا لم يكن به بأس على كل حال (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : قد حرّرنا القول في بيع الدين ، وقلنا إنّه لا

ص: 314


1- مراده قدس سره ، أنّ الشيخ « رحمه اللّه » في نهايته زاد على قوله : « على الذي عليه » قوله : أو على غيره من الناس ، فراجع.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.

يجوز الأعلى من هو عليه ، وشرحناه وأوضحناه في باب الديون ، بما لا طائل في إعادته.

ولا بأس أن يبتاع الإنسان ما اكتاله غيره من الناس ، ويصدقه في قوله ، لأنّ الاخبار من البائع بالوزن أو الكيل ، يقوم مقام الوزن والكيل ، في ارتفاع الجهالة بالمكيل والموزون ، ويكون القول في ذلك قول المشتري ، لأنّه جعله أمينه في كيله ووزنه ، فأمّا إذا كاله بحضوره ، ووزنه بحضوره ، ثم انفصلا ، ثم ادّعى بعد ذلك المشتري نقصانا ، فالقول قول البائع مع يمينه ، بخلاف الأوّل ، وقد روي أنّه إذا أخذه بقول البائع ثم أراد بيعه ، لم يبعه إلا بالكيل (1).

ولو قلنا إنّه إذا أخبره بما أخبر به البائع الأول ، لم يكن به بأس ، وجاز البيع ، ويكون القول قول المشتري في ذلك ، مثل المسألة الأولى ، لأنّ الغرر والجهالة ، قد زالت باخباره عن خبر البائع بكيله أو وزنه.

وكلّ ما يكال أو يوزن ، فلا يجوز بيعه جزافا ، وكذلك حكم ما يباع عددا فلا يجوز بيعه جزافا.

وإذا اشترى الإنسان شيئا بالكليل أو الوزن ، وغيره ، فزاد ، أو نقص منه شي ء يسير ، لا يكون مثله غلطا ، ولا تعدّيا ، لم يكن به بأس ، فإن زاد ذلك أو نقص شيئا كثيرا ، ولا يكون مثله إلا غلطا أو تعمدا أو تعديا ، وجب عليه رده على صاحبه ما زاد ، وكان فيما نقص بالخيار في محاكمة خصمه ، إن شاء طالبه به ، وإن شاء ترك محاكمته.

ومن أسلم في متاع موصوف ، ثم أخذ دون ما وصف برضى منه ، كان ذلك جائزا ، وكذلك إن أعطى فوق ما وصف ، برضى من الذي باعه ، لم يكن به بأس ، فإن طلب البائع على الجودة عوضا ، لا يجوز له أخذه ، لأنّ الجودة صفة لا يجوز إفرادها بالبيع.

ص: 315


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح 4 و 8.

ولا بأس بالسلف في الصوف ، والشعر ، والوبر ، إذا ذكر الوزن فيه ، والجودة والصفات التي يمتاز بها من غيره.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن أسلف في الغنم ، وشرط معه أصواف نعجات بعينها ، كائنا ما كان ، لم يكن به بأس (1).

قال محمّد بن إدريس : إن جعل في جملة السلف أصواف النعجات المعينة ، فلا يجوز السلف في المعيّن ، على ما مضى شرحنا له.

وبيع الصوف على ظهر الغنم أيضا لا يجوز ، سواء كان سلفا أو بيوع الأعيان ، وإنما هي رواية أوردها شيخنا في نهايته (2) إيرادا ، لا اعتقادا.

ولا يجوز أن يسلف السمسم بالشيرج ، ولا حبّ الكتان بدهنه.

وقال شيخنا في نهايته : ولا الكتان بالبزر (3).

ومقصوده بذلك ، ما ذكرناه ، لأنّه حذف المضاف ، واقام المضاف إليه مقامه ، وذلك كثير في كلام العرب ، وإلا ان أراد الكتان الذي هو الشعر الذي يغزل ، فلا بأس بأن يسلفه بالبزر ، بغير خلاف.

ولا بأس بالسلف في جنسين مختلفين ، كالحنطة والشعير ، عند من جعلهما جنسين ، أو كالحنطة والأرز ، والتمر والزبيب ، والمروي ، والحرير.

قال محمّد بن إدريس : المروي ثياب منسوبة إلى مرو ، يقال لمن يعقل في النسبة إلى مرو : مروزيّ ، وفيما لا يعقل من الثياب وغيرها : مروي ، بإسقاط الزاي ، فهذا الفرق بينهما ، فلأجل ذلك قال الشارع : المروي والحرير ، وما أشبه ذلك من الأنواع المختلفة الأجناس ، بعد أن يذكر المبيع ويميّز بالوصف.

قال شيخنا أبو جعفر ، في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، في كتاب البيوع ، مسألة : إذا انقطع المسلم فيه ، لم ينفسخ البيع ، وبقي في الذمة ، وللشافعي فيه

ص: 316


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب السلف في جميع المبيعات.

قولان ، أحدهما أنّه ينفسخ ، والآخر له الخيار ، إن شاء رضي بتأخيره إلى قابل ، وإن شاء فسخه ، دليلنا ان هذا عقد ثابت ، وفسخه يحتاج إلى دليل ، وليس في الشرع ما يدل عليه ، هذا آخر المسألة (1).

وقال رحمه اللّه أيضا ، في الجزء الثاني من كتاب السلم ، مسألة : إذا أسلم في رطب إلى أجل ، فلمّا حلّ الأجل لم يتمكن من مطالبته ، لغيبة المسلم إليه ، أو غيبته ، أو هرب منه ، أو توارى من سلطان ، وما أشبه ذلك ، ثم قدر عليه ، وقد انقطع الرطب ، كان المسلف بالخيار ، بين أن يفسخ العقد ، وبين أن يصبر إلى عام القابل (2).

قال محمد بن إدريس : والمسألة الأولى ، القول فيها هو الصحيح ، دون الأخيرة ، لأنّ الأخيرة اختار شيخنا رحمه اللّه فيها أحد قولي الشافعي ، دليلنا على أنّ العقد لا ينفسخ ، ولا يكون للمشتري الخيار في الفسخ ، ما دلّ عليه رحمه اللّه ، وهو أنّ العقد ثابت بالإجماع ، وقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وفسخه يحتاج إلى دليل ، وليس في الشرع ما يدل عليه.

ويجوز السلف في المعدوم ، إذا كان مأمون الانقطاع ، في وقت المحل.

السلم لا يكون إلا مؤجلا على ما قدّمناه ، قصر الأجل ، أو طال ، ولا يصحّ أن يكون حالا.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا كان السلم مؤجلا ، فلا بدّ من ذكر موضع التسليم ، فإن كان في حمله مئونة لا بدّ من ذكره (3).

قال محمّد بن إدريس : لم يذهب إلى هذا أحد من أصحابنا ، ولا ورد به خبر عن أئمتنا عليهم السلام ، وانّما هذا أحد قولي الشافعي ، اختاره شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه ، ألا تراه في استدلاله لم يتعرض لإجماع الفرقة ، ولا أورد خبرا في ذلك ، لا من طريقنا ، ولا من طريقة المخالف ، وليس من شرط صحة السلم ، ذكر

ص: 317


1- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 165.
2- الخلاف : كتاب السلم ، المسألة 2 - 9.
3- الخلاف : كتاب السلم ، المسألة 2 - 9.

موضع التسليم ، بغير خلاف بين أصحابنا ، والأصل براءة الذمة ، وقوله تعالى : « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، وقوله « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وهذا عقد.

يجوز السلم في الأثمان ، من الدنانير والدراهم ، إذا كان رأس المال من غير جنسها ، مثل الثياب والحيوان وغيرهما.

الإقالة فسخ في عقد المتعاقدين ، وليست ببيع ، وإذا أقاله بأكثر من الثمن ، أو بأقل كانت الإقالة فاسدة ، دليلنا انّ كل من قال بأنّ الإقالة فسخ على كل حال ، قال بهذه المسألة ، فالفرق بين الأمرين خارج عن الإجماع.

ولا يجوز السلف في الجوز ، والبيض والرمان ، والبطيخ ، والبقول ، كلّها إلا وزنا.

إذا أسلم مائة درهم في كر طعام ، وشرط أن يعجل خمسين درهما ، في الحال ، وخمسين إلى أجل ، وعجّل خمسين ، وفارقه ، لم يصح السلم في الجميع ، وإن شرط خمسين نقدا ، وخمسين كانت دينا له في ذمّة المسلّم إليه ، فإنّه لا يصحّ في الدين ، ويصح في النقد ، لأنّه يكون بيع دين بدين ، ونهى الرسول عليه السلام عن بيع الدين بالدين (1).

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : يجوز السلف في الزاووق ، وهو الزئبق ، وقال : يجوز السلف في النقل ، وهو الأحجار الصغار ، وقال : يجوز السلف في القضة (2).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : الزاووق بالزاء المعجمة ، المفتوحة ، بهمزة فوق الألف ، وواوين بعد الألف ، والقاف ، والنقل بالنون المفتوحة ، والقاف المفتوحة ، واللام ، والقضّة ، بالقاف المكسورة ، والضاد المعجمة المفتوحة المشدّدة ، ضبطت ذلك لئلا يقع فيه تصحيف (3).

إذا اختلفا في قدر المبيع ، أو قدر رأس المال ، وهو الثمن ، أو في الأجل أو في

ص: 318


1- الوسائل : الباب 15 من أبواب الدين والقرض ، ح 1 ، ولفظه هكذا : عنه صلى اللّه عليه وآله : لا يباع الدين بالدين.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، فصل فيما يجوز فيه السلف ، ص 184.
3- ل : قال في المبسوط : القضة هي الجصّ.

قدره ، كان القول قول البائع مع يمينه ، إلا في الثمن ، فانّ القول قول المشتري مع يمينه.

فإن قيل : فقد قلتم إذا اختلف البائع والمشتري في الثمن ، كان القول قول البائع ، فكيف قلتم هاهنا القول قول المشتري.

قلنا : القول قول البائع في الثمن ، إذا كانت بيوع الأعيان ، وكانت العين قائمة غير تالفة ، فأمّا بيوع السلم ، فالأعيان في الذمم غير موجودة ، بل هي معدومة فافترق الأمران.

ولا يجوز السلف في العقار ، لأنّهما إذا أطلقا الوصف من غير تعيين ، لم يجز ، لأنّه يختلف باختلاف الأماكن ، والقرب من البلد ، والبعد منه ، وإن عيّن البقعة لم يجز ، لأنّه إن قيل من القرية الفلانية ، اختلف باختلاف أماكنه ، وإن عيّن أرضا بعينها ، لا يصحّ ، لأنّ بيع العين بصفة ، لا يجوز ولا يصحّ.

إذا أتى المسلم إليه ، بالمسلم فيه ، فإن كان على صفته بعد حلول الأجل ، لزم المشتري قبوله ، لأنّه أتى بما تناوله العقد ، فإن امتنع ، قيل له : إمّا أن تقبله ، وإمّا أن تبرئه منه ، لأنّ للإنسان غرضا في تبرئة ذمته من حق غيره ، وليس لك أن تبقيه في ذمته بغير اختياره وبراءته يحصل بقبض ما عليه ، أو إبرائه منه ، فأيّهما فعل جاز ، وإن امتنع قبضه الإمام ، أو النائب عنه ، عن المسلّم إليه ، وتركه في بيت المال ، إلى أن يختار قبضه ، ويبرأ المسلّم إليه منه ، ولم يجز للحاكم إبراؤه منه بالإسقاط عن ذمّته ، لأنّ الإبراء لا يملك بالولاية ، وقبض الحق يملك بالولاية.

قال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : ويجوز السلف في القثاء ، والخيار ، والبطيخ ، والفجل ، والجزر ، والفواكه ، كلّها من الرمان ، والسفرجل ، والفرسك ( قال محمد بن إدريس : الفرسك بالفاء المكسورة ، والراء المسكنة ، غير المعجمة ، والسين غير المعجمة المكسورة ، والكاف ، وهو الخوخ ) وفي البقول كلّها ، ولا يجوز جميع ذلك الا وزنا ، ولا يجوز عددا ، لأنّ فيه صغيرا وكبيرا ، وكل ما

ص: 319

أنبتته الأرض ، لا يجوز السلف فيه إلا وزنا إلا ما خرج بالدليل من المكيل (1).

قال شيخنا في المبسوط : ويجوز السلف في الزاووق ، يعني الزئبق ، والزاووق بالزاء المعجمة ، والألف وواوين ، وقاف ، وذكر جواز السلم في السقمونيا ، وذكر شيخنا أبو جعفر أيضا في مبسوطة الإهليلج والبليلج والسقمونيا ونحو ذلك من العقاقير ، فيه الربا ، لأنّه من الموزون (2).

قال محمّد بن إدريس : الإهليلج ، والبليلج ، من الأخلاط ، من عقاقير الأدوية ، والسقمونيا لبن شجرة يسيل منها سيلا.

وذكر شيخنا أبو جعفر في مبسوطة في كتاب السلم ، في صفات الإبل والسلم فيها : ويستحب أن يذكر بريئا من العيوب ، ويسمّى ذلك غير مودن (3).

قال محمّد بن إدريس : المودن ، بالميم المضمومة ، والواو الساكنة والدال المفتوحة غير المعجمة ، والنون ، هو الضاوي بالضاد المعجمة.

وذكر أيضا رحمه اللّه ، في آجال السلف : والمجهول أن يقول إلى الحصاد ، أو إلى الدياس ، ثمّ قال : ولا يجوز إلى فصح النصارى ، ولا إلى شي ء من أعياد أهل الذمة ، مثل السعانين والفطير (4).

قال محمّد بن إدريس : فصح النصارى ، بالفاء والصاد غير المعجمة ، والحاء غير المعجمة مكسورة الفاء ، مسكن الصاد ، وهذا العيد عند النصارى ، إذا أكلوا اللحم بعد صومهم ، وأفطروا ، وهذا العيد بعد عيد السعانين لثلاثة أيّام ، قال المبرد في كتاب الاشتقاق : سمعت التوزي ، وسئل عن فصح النصارى ، فقال قائل :

إنّما أخذ من قولهم ، أفصح اللبن ، إذا ذهبت رغوته ، وخلص ، فإنّما معناه ، أنّه قد ذهب عناؤهم وصومهم ، وحصلوا على حقيقة ما كانوا عليه ، فقال : هو هذا ،

ص: 320


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، فصل فيما يجوز فيه السلف ، ص 188 ، والعبارة منقولة مقطوعة.
2- المبسوط : ج 2 كتاب البيوع ، فصل في ذكر ما يصح فيه الربا وما لا يصح ، ص 90.
3- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، ص 176 وص 172 مع تقطيع في العبارة.
4- المبسوط : ج 2 ، كتاب السلم ، ص 176 وص 172 مع تقطيع في العبارة.

والفصح كلام عربي ، من ذلك : رجل فصيح ، وقد أفصح ، إذا بيّن ، وأفصح الصبح ، إذا تبيّن ، قال الشاعر ، وهو حسّان :

قد دنا الفصح فالولايد ينظمن *** سراعا اكلّة المرجان

يقول ذلك لآل الحرث بن أبي شمر (1) الغسّاني وهم نصارى.

باب بيع الغرر والمجازفة وما يجوز بيعه وما لا يجوز

قد بيّنا أن ما يباع كيلا أو وزنا ، فلا يجوز بيعه جزافا ، فإن بيع كذلك ، كان البيع باطلا ، وكذلك ما يباع كيلا ، فلا يجوز بيع الجنس منه بعضه ببعض وزنا ، لأنّا أخذ علينا التساوي فيما يباع كيلا بالمكيال ، فإذا بيع بالوزن ، ربما ردّ إلى الكيل ، فيزيد أحدهما على الآخر ، فيؤدي إلى الربا ، فإن بيع بغير جنسه ، جاز بيعه وزنا ، فأمّا ما يباع وزنا ، فلا يجوز بيعه كيلا ، سواء بيع بجنسه ، أو بغير جنسه ، بغير خلاف ، فإنّ كان ما يباع وزنا ، يتعذر وزنه ، جاز أن يكال ، ثمّ يعتبر مكيال منه ، ويؤخذ الباقي على ذلك الحساب.

وكذلك ما يباع بالعدد ، لا يجوز بيعه جزافا ، فإن تعذر العدد فيه ، وزّن منه مكيال ، وعدّ ، وأخذ الباقي على حسابه.

ولا يجوز أن يباع اللبن في الضروع ، فمن أراد بيع ذلك ، حلب منه شيئا ، واشتراه مع ما بقي في الضروع في الحال ، أو مدة من الزمان ، على ما رواه أصحابنا (2) ، وإن جعل معه عرضا آخر ، كان أحوط.

وقد روي (3) أنّه لا بأس أن يعطي الإنسان الغنم ، والبقر ، بالضريبة ، مدّة من الزمان ، بشي ء من الدراهم ، والدنانير ، والسمن ، وإعطاء ذلك بالذهب والفضة ، أجود في الاحتياط ، ويمكن أن يعمل بهذه الرواية على بعض الوجوه ،

ص: 321


1- ج : لأبي الحرث بن أبي شمس.
2- الوسائل : الباب 9 من أبواب عقد البيع وشروطه.
3- الوسائل : الباب 9 من أبواب عقد البيع وشروطه.

وهو أن يحلب بعض اللبن ويبيعه مع ما في الضروع ، مدة من الزمان ، على ما وردت بمثله الأخبار ، أو يجعل عوض اللبن شيئا من العروض ، ويبيعه مع ما في الضروع مدة من الزمان ، لأنّ الإجارة لا تصحّ هاهنا ، لأنّ الإجارة استحقاق منافع السلعة المستأجرة ، دون استحقاق أعيان منها.

والأقوى عندي المنع من ذلك كله ، لأنّه غرر ، وبيع مجهول ، والرسول عليه السلام ، نهى عن بيع الغرر ، فمن أثبت ذلك عقدا (1) يحتاج إلى دليل شرعي ، والذي ورد فيه ، أخبار آحاد شذاذ ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد عند أصحابنا ، لا توجب علما ولا عملا ، والواجب على المفتي الرجوع في صحة الفتوى ، إلى الأدلة القاطعة.

ولا يجوز أن يبيع الإنسان أصواف الغنم ، وشعرها على ظهورها ، فإن أراد بيعها ، جعل معها شيئا آخر.

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : يجوز ذلك ، إذا كان مشاهدا (2).

والأوّل قول شيخنا أبي جعفر (3) والأظهر عندي قول شيخنا المفيد رحمه اللّه ، لأنّه غير موزون ، ما دام على ظهور الغنم ، وانما يصير موزونا إذا فارقها ، فلو حرّمنا بيعه قبل مفارقتها ، لحرمنا عليه (4) بيع ثمرة جميع الأشجار ، ما عدا النخل قبل مفارقتها للشجر.

وكذلك لا يجوز أن يبيع (5) ما في بطون الأنعام ، والأغنام من الحيوان ، فإن أراد بيع ذلك ، جعل معه شيئا آخر ، ليسلم من الغرر ، فإن لم يكن ما في البطون حاصلا ، كان الثمن في الآخر ، على ما روي في الأخبار (6) ، من طريق الآحاد.

والأولى عندي ترك العمل بذلك أجمع ، لأنّه غرر وجزاف ، منهي عنهما.

ص: 322


1- ل. ق : عقدا شرعيا.
2- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب اشتراط البائع على المبتاع ، ص 609.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
4- ل. ق : علينا.
5- ج : لا يجوز بيع.
6- الوسائل : الباب 10 من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح 10.

وقد روي أنّ من اشترى أصواف الغنم ، مع ما في بطونها في عقد واحد ، كان البيع صحيحا ماضيا.

والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، لأنّها زيادة غرر إلى غرر.

ولا يجوز أن يبتاع الإنسان من الصياد ما يضرب بشبكته لأنّ ذلك مجهول.

ولا بأس أن يشتري الإنسان أو يتقبل بشي ء معلوم ، جزية رءوس أهل الذمّة ، وخراج الأرضين ، وثمرة الأشجار ، وما في الآجام من السموك ، إذا كان قد أدرك شي ء من هذه الأجناس ، وكان البيع في عقد واحد ، لأنّه يؤمن من الغرر ، على ما رواه بعض أصحابنا (1) ولا يجوز ذلك ما لم يدرك شي ء من هذه الأجناس ، أورد ذلك شيخنا في نهايته ، في باب الغرر (2).

والأولى عندي ترك العمل بذلك ، لأنّ هذا بيع مجهول ، ولا يرجع في مثل هذا إلى أخبار آحاد.

وروي أنّه لا بأس أن يشتري الإنسان تبن البيدر ، لكلّ كر من الطعام تبنة ، يعني تبن الكر ، فالهاء ضمير الكر - بشي ء معلوم ، وإن لم يكل بعد الطعام (3).

أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته في باب الغرر (4).

والأولى ترك العمل بها ، لأنّه شراء مجهول ، ومبيع غير معلوم وقت العقد ، والبيع يحتاج في صحّته إلى أن يكون معلوم المقدار ، وقت العقد عليه ، وهذا غير معلوم ولا محصّل ، فالبيع باطل ، لأنّه لا فرق بين ذلك ، وبين من قال بعتك هذه الصبرة الطعام ، كل قفيز بدينار ، ولم يخبركم فيها وقت البيع والعقد ، ولا كالها ذلك الوقت ، ويكون العقد والصحة موقوفا على كيلها ، فإذا كالها ، صح البيع المتقدّم ، وهذا باطل بالإجماع.

ص: 323


1- الوسائل : الباب 12 من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح 3 - 4.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
4- الوسائل : الباب 13 من أبواب عقد البيع وشروطه.

وقال شيخنا في نهايته : وإذا اشترى إنسان من غيره شيئا من القصب أطنانا معروفة ، ولم يتسلمها ، غير أنّه شاهدها ، فهلك القصب قبل أن يقبض ، كان من مال البائع ، دون المبتاع ، قال شيخنا : لأنّ الذي اشتري منه في ذمته (1).

قال محمّد بن إدريس : هذا البيع ما هو في الذمة ، بل بيع عين مرئية مشاهدة ، فكيف يكون في الذمة ، وأيضا لو كان في الذمة ، طالبه بعوضه وببدله ، فأمّا قوله رحمه اللّه : « كان من مال البائع دون المبتاع » فصحيح ، إذا لم يمكن البائع المبتاع من قبضه ، فامّا إذا مكّنه من قبضه ، ولم يقبضه ، وتركه عند بايعه ، بعد ان مكنه من قبضه ، فإنّه يهلك من مال المبتاع ، دون البائع ، فليلحظ ذلك ، فهذا تحرير الفتيا.

ولا يجوز بيع ما في الآجام من السمك ، لأنّ ذلك مجهول فإن كان فيها شي ء من القصب ، فاشتراه ، واشترى معه ما فيها من السموك ، لم يكن به بأس ، وكذلك إن أخذ شيئا من السمك ، وباعه إيّاه مع ما في الأجمة ، كان البيع ماضيا ، لأنّه يؤمن مع ذلك الغرر ، على ما روي (2).

والاحتياط عندي ، ترك العمل بهذه الرواية لأنّها من شواذ الأخبار ، لأنّ المعلوم ، إذا أضيف إلى المجهول ، والمجهول إذا أضيف إلى المعلوم ، صيّر ذلك المعلوم مجهولا ، وهذه كلها أخبار آحاد ، يوردونها في أبواب الغرر ، وبيع المجازفة ، فلا تترك الأصول ، ويرجع إليها ، بل لا يعرج عليها.

وروي (3) أنّه لا بأس أن يندر لظروف السمن والزيت وغيرهما ، شي ء معلوم ، إذا كان ذلك معتادا بين التجار ، ويكون ممّا يزيد تارة ، وينقص اخرى ، ولا يكون ممّا يزيد ، ولا ينقص ، فإن كان مما يزيد ، ولا ينقص ، لم يجز

ص: 324


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
2- الوسائل : الباب 12 من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح 2 - 4 - 5 - 6.
3- الوسائل : الباب 20 من أبواب عقد البيع وشروطه.

ذلك على حال.

ومن وجد عنده سرقة ، كان غارما لها ، إن هلكت ، ويرجع على من باعه إيّاها ، إذا أتى ببينة أنّه اشتراها منه ، ومتى اشتراها مع العلم بأنّها سرقة ، كان لصاحب السرقة أخذها ، ولم يكن للمشتري الرجوع على البائع بالثمن ، لأنّه ما غره ، بل أعطاه الثمن بلا عوض ، لأنّه يعلم أنّ السرقة لا يملكها السارق ، فقد ضيّع الثمن بدفعه اليه ، وإن لم يعلم أنّها سرقة ، كان له الرجوع على بائعها ، إذا كان موجودا ، بالثمن ، وبما غرمه عليها وأنفقه ، إذا لم يحصل له في مقابلة ذلك نفع ، فإن كان قد مات رجع على ورثته بذلك ، إن كان قد خلف في أيديهم بقدر ذلك ، فإن لم يترك شيئا ، فلا سبيل له على الورثة بحال.

ولا يجوز أن يشتري من الظالم شيئا يعلم أنّه ظلم بعينه وانفراده ، ولم يكن مأخوذا على جهة الخراج والزكوات ، ولا بأس أن يشتري منه إذا لم يعلم الشي ء بعينه وانفراده ، ظلما وغصبا ، وإن علم أنّ بايعه ظالم ، وترك ذلك أفضل.

ولا بأس بشراء ما يأخذه السلطان الظالم ، من الغلات ، والثمرات ، والأنعام ، على جهة الخراج ، والزكاة ، على ما قدّمناه ، وان كان الآخذ له غير مستحق لذلك.

ومن غصب غيره متاعا ، وباعه من غيره ، ثم وجده صاحب المتاع عند المشتري ، كان له انتزاعه من يده ، فإن لم يجده حتى هلك في يد المبتاع ، كان المغصوب منه مخيّرا ، في الرجوع على من شاء منهما ، فإن رجع على الغاصب ، رجع عليه بأكثر القيم إلى يوم الهلاك ، وإن رجع على المشتري ، رجع عليه بأكثر القيمة من وقت شرائه إلى وقت هلاكه ، ويرجع المشتري على الغاصب ، بما غرمه من المنافع ، التي لم يحصل له في مقابلتها نفع ، إلا أن يكون المشتري علم أنّه مغصوب ، واشتراه ، فيلزمه القيمة وغيرها لصاحبه ، ولا درك له على الغاصب ، من رجوع بالثمن ، ولا غيره ، لأنّه ما غرّه ، بل دخل مع العلم.

ص: 325

فإن اختلف في قيمة المتاع ، كان القول قول الغارم ، لأنّه الجاحد لزيادة القيمة المدّعاة ، وصاحب السلعة هو المدّعي.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن لم يجده حتى هلك في يد المبتاع ، رجع على الغاصب بقيمته يوم غصبه إيّاه (1). وهذا القول غير واضح ، والمعتمد على ما قلناه.

وقال أيضا رحمه اللّه : فإن اختلف في قيمة المتاع ، كان القول قول صاحبه. وقد قلنا ما عندنا في ذلك.

وقال أيضا رحمه اللّه : ومتى أمضى المغصوب منه البيع ، لم يكن له بعد ذلك ، درك على المبتاع ، وكان له الرجوع على الغاصب ، بما قبضه من الثمن فيه (2).

وهذا على مذهب من يقول من باع ملك غيره بغير إذنه يكون العقد موقوفا على اجازة صاحبه ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، وسطرنا ، أنّ شيخنا أبا جعفر ، رجع عمّا ذهب إليه في نهايته ، في مسائل خلافه (3).

ومتى ابتاع بيعا فاسدا ، فهلك المبيع في يده ، أو حدث فيه فساد ، كان ضامنا لقيمته ، أكثر ما كانت إلى يوم التلف والهلاك ، ولأرش ما نقص من قيمته بفساده ، لأنّه باق على ملك صاحبه ، ما انتقل عنه ، فهو عند أصحابنا بمنزلة الشي ء المغصوب ، إلا في ارتفاع الإثم بإمساكه.

ولا بأس أن يشترط الإنسان على البائع ، فيما يشتريه منه شيئا من أفعاله ، إذا كان مقدورا له ، فأمّا إذا لم تكن مقدورا له ، فلا يجوز اشتراطه فما هو في مقدوره ، مثل أن يشتري ثوبا على أن يقصره أو يخيطه ، وما أشبه ذلك ، وكان البيع ماضيا ، ويلزمه ما شرط له ، بغير خلاف في ذلك عند أصحابنا ، وإجماعهم الحجة على صحّة ذلك ، وأمّا ما ليس في مقدوره ، مثل أن يبيع الزرع على أن يجعله سنبلا ، والرطب على أن يجعله تمرا ، فإن باع ذلك ، بشرط أن يدعه في

ص: 326


1- النهاية : كتاب التجارة باب بيع الغرر والمجازفة.
2- النهاية : كتاب التجارة باب بيع الغرر والمجازفة.
3- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 275.

الأرض ، أو الشجر إلى وقت بلوغه ، وإدراكه ، أو ما يريد المبتاع ، كان البيع صحيحا ، والشرط لازما ، وإن باع ذلك مطلقا من الاشتراط يجب على البائع تبقيته إلى أوان الحصاد والصرام.

ولا بأس أن يبيع الإنسان ثوبا منشورا ، ويستثني منه نصفه ، أو ثلثه ، أو ما أراد منه من الأذرع ، لأنّ ذلك استثناء معلوم من معلوم ، ولا بدّ من نشر الثوب عند البيع ، بحيث ينظر المشتري طوله وعرضه ، ولا يحتاج مع نشره إلى ذرعه ، فإن لم ينشره ، فلا بدّ من الاخبار بذرعه ، وذكر صفته ، لأنّه غير مرئي ، فيكون بيع خيار الرؤية. وقد قلنا فيما مضى ، أنّه لا يجوز أن يبيع متاعا بدينار غير درهم ، لأنّه مجهول ، وبيّنا أنّه من أين كان مجهولا ، فلا وجه لإعادته.

ولا بأس ببيع الجوارح التي تصلح للصيد ، من الطير ، والسباع من الوحش ، وكذلك لا بأس ببيع ما يحل بيع جلده ، من سائر السباع ، وقد قدّمنا ذلك فيما مضى ، من كتابنا هذا.

ولا بأس ببيع عظام الفيل ، واتخاذ الأمشاط منها ، وغيرها من الآلات ، ولا بأس باستعمال ما يعمل منها.

ولا يشتري الإنسان الجلود ، إلا ممّن يثق من جهته ، أنّه لا يبيع إلا ذكيا ، فإن اشتراها ممّن لا يثق به ، فلا بأس بذلك ، ما لم يعلم أنّها غير ذكية ، وكذلك لا بأس بابتياعها من أسواق بلدان المسلمين.

ولا بأس ببيع الخشب ممن يتخذه ملاهي ، وكذلك بيع العنب ممن يجعله خمرا ، فإنّه مكروه وليس بحرام ، ويكون الإثم على من يجعله كذلك ، لا على بايعه ، واجتناب ذلك أفضل ، فأمّا إن اشتراط البائع على المبتاع بأن يجعله خمرا ، وعقدا (1) على ذلك ، مشترطا ومقرونا بالعقد ، فهذا حرام (2).

ص: 327


1- ج : أو عقدا.
2- ل. ق : وكذلك الحكم فيمن يبيع شيئا بعضي اللّه به ، من قتل مؤمن أو قطع طريق وما أشبه ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : بيع العصير ممّن يجعله خمرا ، مطلقا مكروه ، وليس بفاسد ، وبيعه ممّن يعلم أنّه يجعله خمرا حرام ، ولا يبطل البيع ، لما روي عن النبي عليه السلام أنّه لعن الخمر وبائعها (1). وكذلك الحكم فيمن يبيع شيئا يعص اللّه به ، من قتل مؤمن ، أو قطع طريق ، وما أشبه ذلك ، هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (2).

وهذا الذي يقوى عندي ، لأنّ العقد لا دليل على بطلانه ، لقوله عزوجل : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وليس انضمام هذا الشرط الفاسد الباطل إليه ، مما يفسده ، بل يبطل الشرط ، ويصح العقد.

ومن اشترى من إنسان ماله ، فإن كان ماله حلالا ، فالبيع حلال طلق - بكسر الطاء - وإن كان ماله حراما ، فالبيع باطل ، لأنّه يشتري مالا يملكه ، وإن كان مختلطا لا يتميز له ، فالبيع صحيح ، إلا أنّه مكروه.

ويكره استعمال الصور ، والتماثيل التي هي على صور الحيوان ، فأمّا صور الأشجار وغيرها ، ممّا لا يكون على صور الحيوان ، فلا بأس ، وقد روي أنّه لا كراهة في ذلك إذا استعمله مستعملة في الفرش ، وما يوطأ بالأرجل (3).

ولا بأس ببيع الحرير والديباج ، وأنواع الإبريسم ، والفرق بين الديباج ، والحرير ، هو أنّ الديباج ما كان من الحرير مدبجا ، منقوشا ، موشوا (4) ، والحرير بخلاف ذلك ، ولا يجوز لبسه إذا كان محضا منهما ، غير مختلط بالنسبة في شي ء ، يجوز الصلاة فيه للرجال خاصة ، ولا يجوز أيضا الصلاة فيه لهم ، إلا ما كان مختلطا حسب ما قدّمناه ، فيما مضى من كتاب الصلاة.

ص: 328


1- مستدرك الوسائل : ج 2 ، الباب 47 من أبواب ما يكتسب به ، ح 2 ، ولفظه هكذا : لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم الخمر ، وغارسها ، وعاصرها ، وحاملها ، والمحمولة إليها ، وبائعها ..
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في ان الخراج بالضمان ، ص 138.
3- الوسائل : الباب 94 من أبواب ما يكتسب به ، ح 4.
4- ل : موشيا.

وقال شيخنا في نهايته : ولا يجوز بيع شي ء من الكلاب ، إلا كلب الصيد خاصة ، فإنّه لا بأس ببيعه ، والانتفاع بثمنه (1).

وقد قلنا فيما تقدّم من كتابنا هذا ، أنّ بيع كلب الزرع ، وكلب الحائط ، وكلب الماشية أيضا جائز ، ودليلنا على موافقة شيخنا في غير كتاب النهاية ، وإنّما أورد في النهاية ألفاظ الأحاديث ، إيرادا ، آحادا ومتواترة ، ولم يحرر فيها شيئا ، كما اعتذر به لنفسه ، في خطبة مبسوطة.

وأهل الذمّة سواء كانوا يهودا أو نصارى أو مجوسا ، إذا باعوا ما لا يجوز للمسلم بيعه ، من الخمر ، والخنزير ، وغير ذلك ، ثمّ أسلم كان له المطالبة بالثمن ، وكان حلالا له ، وإذا أسلم وفي ملكه شي ء من ذلك ، لم يجز له بيعه على حال.

وقد روي (2) أنّه إذا كان عليه دين ، جاز أن يتولّى بيع ذلك غيره ، ممن ليس بمسلم ، ويقضي بذلك دينه ، ولا يجوز له أن يتولاه بنفسه ، ولا أن يتولّى عنه غيره من المسلمين.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، ترك العمل بهذه الرواية الضعيفة ، لأنّها مخالفة للأدلّة القاهرة ، وهو أنّ ثمن الخمر حرام على المسلمين ، ولأنّها عندنا غير مملوكة ، ولا يجوز قضاء الدين بمال حرام ، وأيضا فيد الوكيل يد موكله.

ومن غصب من غيره مالا ، ويشتري به جارية ، كان الفرج له حلالا ، وعليه وزر المال ، ولا يجوز له أن يحجّ به ، فإن حجّ به ، لم يجزه عن حجة الإسلام ، هكذا روي في بعض الأخبار (3) ، وأورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (4).

والذي أقوله في ذلك ، أنّه إن كان اشترى الجارية بعين المال المغصوب ، فالشراء باطل ، ولا يجوز له وطء هذه الجارية ، ولا يصحّ له التصرّف فيها بحال ،

ص: 329


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
2- الوسائل : الباب 57 من أبواب ما يكتسب به ، ح 2.
3- الوسائل : الباب 3 من أبواب ما يكتسب به ، ح 2.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.

وإن كان الشراء وقع بمال في ذمّته ، كان ذلك صحيحا ، وحل له وطء الجارية ، لأنّ الشراء وقع في الذمة ، لا بالعين المغصوبة.

وشيخنا أبو جعفر ، رجع عمّا ذهب إليه في نهايته ، وأورده ، لأنّ ذلك خبر واحد ، أورده إيرادا لا اعتقادا ، رواية السكوني وهو مخالف ، عامي المذهب ، فقال شيخنا في جواب مسألة سئل عنها ، من جملة المسائل الحائريات ، المنسوبة إلى أبي الفرج بن الرملي ، فقال السائل : وعن رجل اشترى ضيعة ، أو خادما بمال ، أخذه من قطع الطريق ، أو من سرقة ، هل يحل له ما يدخل عليه من ثمرة هذه الضيعة ، أو يحل له أن يطأ هذا الفرج الذي قد اشتراه بمال من سرقة ، أو قطع الطريق ، وهل يجوز لأحد أن يشتري من هذه الضيعة ، وهذا الخادم ، وقد علم أنّه اشتراه بمال حرام ، وهل يطيب لمشتري هذه الضيعة ، أو هذا الخادم ، أو هو حرام ، فعرّفنا ذلك.

فقال : الجواب : إن كان الشراء وقع بعين ذلك المال ، كان باطلا ، ولم يصح جميع ذلك ، وإن كان الشراء وقع بمال في ذمّته ، كان الشراء صحيحا ، وقبضه ذلك المال فاسدا ، وحل وطء الجارية ، وغلة الأرض ، والشجر ، لأنّ ثمن الأصل في ذمّته ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، وآخر جوابه للسائل (1) وهو الحق الواضح.

فأمّا الحج بهذا المال ، فإن كانت حجة الإسلام ، لم يجب عليه قبل ذلك ، ولا استقرت في ذمته ، ثم حج بهذا المال الحرام ، ووجد بعد ذلك ، القدرة على الحج بالمال الحلال ، وحصلت له شرائط وجوب الحج ، فإنّ حجّته الاولى بالمال الحرام ، لم تجزه ، والواجب عليه الحج ثانيا ، فأمّا إن كان الحج وجب عليه ، واستقر في ذمّته ، قبل غصب المال ، ثم حج بذلك المال ، فالحجة مجزية

ص: 330


1- لا يوجد في النسخة التي بأيدينا.

عنه ، لأنّه قد حصل بالمواضع ، وفعل أفعال الحج بنفسه ، إلا الهدي ، إن كان اشتراه بعين المال المغصوب ، فلا يجزيه عن هديه الواجب عليه ، ووجب عليه شراء هدي ، أو الصوم بدلا عنه ، عند تعذر القدرة عليه ، إلا أنّه لا يفسد عليه حجّه ، لأن الهدي ليس بركن.

وكلّ شي ء من المطعوم والمشروب ، يمكن للإنسان اختباره من غير إفساد له ، كالأدهان الطيبة المستخبرة بالشم ، وصنوف الطيب ، والحلاوات ، والحموضات ، فقد روي أنّه لا يجوز بيعه بغير اختباره (1) ، فإن بيع من غير اختبار له ، كان البيع غير صحيح ، والمتبايعان فيه بالخيار ، فإن تراضيا بذلك ، لم يكن به بأس.

وهذه الرواية ، يمكن العمل بها على بعض الوجوه ، وهو أنّ البائع لم يصفه ، فإذا لم يصفه يكون البيع غير صحيح ، لأنّه ما يعرف بمشاهدته إذا طعمه (2) ، فلا بدّ من وصفه ، فأمّا إذا وصفه ، وضبطه بالوصف ، فالبيع صحيح ، ويعتبر فيه ما اعتبرناه في بيع خيار الرؤية ، في المرئيات ، لأنّه لا يمكن معرفته بالرؤية ، بل بالطعم ، فإن وجد طعمه أو ريحه كما وصف البائع له ، فلا خيار له ، وإن وجده بخلاف وصف بايعه ، كان بالخيار ، ولا دليل على بطلان هذا العقد ، لأنّ اللّه تعالى ، قال « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وقال تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع.

ويمكن أن يقال أنّ بيع العين ، المشاهدة المرئية لا يجوز أن تكون موصوفا ، لأنّه غير غائب ، فيباع بيع خيار الرؤية بالوصف ، فإذن لا بد من شمّه ، وذوقه ، لأنّه حاضر ، مشاهد ، غير غائب ، فيحتاج إلى الوصف ، فهذا وجه قويّ.

وما لا يمكن اختباره إلا بإفساده وإهلاكه ، كالبيض ، والبطيخ ، والقثاء ، والرمان ، وأشباه ذلك ، فابتياعه جائز مطلقا ، وبشرط الصحة ، أو البراءة من العيوب ، فإن اشتراه مطلقا ، أو بشرط الصحة ، ثمّ كسره المبتاع ، فإن وجد فيه

ص: 331


1- الوسائل : الباب 25 من أبواب عقد البيع وشروطه ، وفي النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
2- ل. ق : بمشاهدته طعمه.

فاسدا ، كان للمبتاع ، ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وليس له رد الجميع ، واسترجاع الثمن ، فيما قد تصرّف فيه ، ولا له ردّ المعيب ، دون ما سواه ، وله ردّ الجميع ، إذا لم يتصرف في جميع المبيع ، وقامت له بذلك بيّنة ، فأمّا إذا تصرّف في ذلك ، فليس له رده ، وإجماع أصحابنا أنّ المشتري ، متى تصرّف في المبيع ، ثمّ وجد العيب ، فليس له الرد ، وله الأرش ، ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وكيفية ذلك ، هو أن يقوّم ما بين قيمته صحيحا ، وقشره صحيح ، وبين كونه فاسدا وقشره صحيح ، فما يثبت ، يرجع بمقداره من الثمن ، ولا يقوّم مكسورا ، لأنّ الكسر نقص حدث في يد المشتري ، فلا يرجع بجنايته وحدثه على غيره.

هذا فيما كان لفاسده ومكسوره ، بعد كسره قيمة فأمّا إذا لم يكن لفاسده ومكسوره قيمة بعد كسره ، مثل بيض الدجاج ، إذا كان فاسدا ، فإن كان هكذا فالبيع باطل ، لأنّه لا يجوز بيع ما لا قيمة له.

وعلى هذا لا يجوز بيع الحشرات ، مثل الخنافس ، والجعلان ، وبنات وردان ، والذباب ، وغير ذلك ، ومتى أتلفه متلف ، فلا ضمان عليه ، لأنّه لا قيمة له.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : فإن وجد فيه فاسدا ، كان للمبتاع ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، وإن شاء ردّ الجميع ، واسترجع الثمن ، وليس له ردّ المعيب دون ما سواه (1).

وأطلق الكلام في ذلك إطلاقا على لفظ الخبر الذي أورده.

والتحرير والفتيا على ما حررناه ، فإنّه رحمه اللّه ، رجع وحرّر ذلك في مبسوطة (2).

ولا بأس بابتياع الأعمى ، وشرائه ، وحكمه فيما ذكرناه ، حكم البصراء سواء ولا بأس أن يبتاع الإنسان من غيره شيئا ، متاعا ، أو حيوانا ، أو غير ذلك ، بالنقد والنسيئة ويشترط ان يسلفه البائع شيئا في مبيع ، أو يستسلف منه في

ص: 332


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.
2- المبسوط : كتاب البيوع ، حكم المبيع إذا وجد به عيب ، ص 135.

شي ء ، أو يقرضه شيئا معلوما إلى أجل ، أو يستقرض منه ، وإذا ابتاع على ذلك ، كان البيع صحيحا ، ووجب عليهما الوفاء بما اشترطا فيه ، لأنّه شرط لا يخالف الكتاب والسنة ، فلا مانع يمنع من ذلك ، لقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم (1) وقوله : الشرط جائز بين المسلمين (2).

وقد أبي ذلك ، كثير من مخالفي مذهب أهل البيت عليهم السلام ، بغير حجّة ولا برهان.

وإذا ابتاع الإنسان أرضا ، فبنى فيها ، أو غرس ، وأنفق عليها ، فاستحقها عليه إنسان آخر ، كان للمستحق قلع البناء ، والغرس ، وأجرتها مدة ما كانت في يده ، ويرجع المبتاع على البائع ، إن كان غره بقيمة ما ذهب منه ، وغرّمه ، وأنفق عليها ، فإن كان ما غرسه قد أثمر ، وأينع ، فالثمرة والزرع ، لصاحب الغرس والبذر ، ولصاحب الأرض قلعه ، لقوله عليه السلام : الزرع لمن زرعه وإن كان غاصبا (3) المراد به ، نماؤه ، وقوله عليه السلام في قلعه : ليس لعرق ظالم حق (4).

وقد روي في بعض الأخبار ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته ، أنّه إن كان ما غرسه ، قد أثمر ، كان ذلك لرب الأرض ، وعليه للغارس ما أنفقه ، واجرة مثله في عمله (5).

وهذا غير واضح ولا مستقيم ، لأنّه مناف لأصول المذهب ، ولما عليه كافة

ص: 333


1- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور ، ح 4.
2- عوالي اللئالى : ج 3 ، ص 225 ، ح 103.
3- لم نجد العبارة في الكتب الروائية إلا أن في الوسائل : الباب 33 من أبواب الإجارة ، الحديث 2 عن عقبة بن خالد قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن رجل أتى أرض رجل فزرعها بغير إذنه حتى إذا بلغ الزرع جاء صاحب الأرض فقال : زرعت بغير اذني فزرعك لي وعليّ ما أنفقت أله ذلك أم لا؟ فقال : للزارع زرعه ولصاحب الأرض كراء أرضه ، وأورده في الباب 2 من كتاب الغصب أيضا. وفي سنن أبي داود ، كتاب البيوع ، الباب 32 ( الرقم 3403 ) قال صلى اللّه عليه وآله : « من زرع في أرض قوم بغير إذنهم فليس له من الزرع شي ء وله نفقته ». ورواه أيضا ابن ماجة في سننه في الباب 13 من كتاب الرهون ( الرقم 2466 ) فراجع.
4- الوسائل : الباب 3 من أبواب الغصب ، ح 1.
5- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الغرر والمجازفة.

المسلمين ، لأنّ نفس الغراس ، ملك للغارس ، فكيف يستحقها رب الأرض ، ومن أي وجه صارت له ، وأيّ دليل دلّ على ذلك ، ولا يرجع في ذلك إلى سواد مسطور ، أو خبر واحد من أضعف أخبار الآحاد ، إن كان قد ورد ، ويترك الأدلة القاهرة ، والأصول الممهّدة ، من أدلة العقل ، وأدلة السمع ، ولقد شاهدت جماعة من أصحابنا الذين عاصرتهم ، يخبطون في ذلك ، خبط عشواء ، وكلّ منهم يقول قولا غير محصّل ، ليصححوا ما ليس بصحيح ، كأنهم وجدوه مسطورا في كتاب اللّه ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ، ولا من خلفه ، فالحمد لله على التوفيق لإصابة الحق.

فإن فسدت الأرض بالغرس ، كان لربها عليه أرش ما فسد ، ويرجع هو على البائع له بذلك.

ومن كان له على غيره مال ، أو متاع إلى أجل ، فدفعه إليه قبل حلول الأجل ، كان بالخيار بين قبضه ، وتركه إلى وقت حلول الأجل ، وكان ذلك في ضمان المديون عليه ، وليس لأحد أن يجبره على قبضه قبل أجله.

وإذا كان له على غيره مال بأجل ، فسأله تأخيره عنه إلى أجل ثان ، فأجابه إلى ذلك ، كان بالخيار ، إن شاء أمضى الأجل الثاني ، وإن شاء لم يمضه ، بغير خلاف بين أصحابنا فيه : لأنّه بمنزلة الهبة الغير مقبوضة ، فللإنسان أن يرجع فيها.

ومتى تقايل المتبايعان البيع ، انفسخ العقد ، فإن عقداه بعد الإقالة بأجل ، لم يكن للبائع الرجوع فيه ، ووجب عليه الوفاء به ، بخلاف تلك المسألة المتقدّمة.

والفرق بينهما ، أنّ تلك كانت بأجل ، وحلّ الأجل ، ثم سأل التأخير في الأجل ، بعد حلوله ، واستحقاقه ، فأجيب إلى ذلك ، فللمجيب الرجوع في هبته ، والمسألة الأخيرة بعد فسخ البيع ، وعقده ثانيا إلى أجل ثان ، لا يجوز الرجوع فيه لأنّه ما حلّ ، ثم أجّله بعد ذلك ، لأنّ هذا الأجل ، أجل أول مستحق على البائع ، بالشرط المقابل للعوض الذي هو المبيع ، فلا يجوز له الرجوع فيه ، لأنّه غير متبرّع به ، فافترق الأمران.

ص: 334

ولا يصح بيع بإكراه ، ولا يثبت إلا باختيار صاحبه وإيثاره.

وإذا باع الإنسان ملكا لغيره ، والمالك حاضر ، فسكت ، ولم يطالب ، ولا أنكر ذلك ، لم يكن ذلك دلالة على إجازته البيع ، ووكالته فيه ، ولا دليلا على أنّه ليس المبيع ملكا له ، وكذلك إن صالح عليه مصالح ، وهو ساكت ، لم يمض الصلح عليه ، وكان له المطالبة به وانتزاعه.

وبيع الأب على الابن ، إذا كان كبيرا مكلفا غير مولى عليه ، غير ماض ، ولا جائز ، بل باطل ، فإن كان صغيرا أو كبيرا غير مكلّف ، جاز بيعه عليه ، وصح ، لأنّه وليّه ، والناظر في أموره ، بخلاف العاقل المكلّف ، لأنّه ولي نفسه.

إذا باع مجهولا ومعلوما ، بطل البيع فيهما معا ، لأنّه لا يمكن التوصّل إلى الحصة في ثمن المعلوم بجهالة الآخر ، فلا يمكن التوصل إلى ما تسقط في مقابلته ، وقد بيّنا فيما مضى ، أنّه إذا باع ما يملك وما لا يملك ، في عقد واحد ، أو شاة وخنزيرا في عقد واحد ، صح البيع في أحدهما ، وبطل في الآخر ، لأنّه يسقط الثمن عليهما ، ويمكن التوصّل إلى الحصّة في ثمن المملوك منهما ، لأنّ الثمن يتقسط على القيمة ، كالعبدين ، والثوبين ، قسط عليهما ، وما يتقسط على الأجزاء ، كالحبوب ، والأدهان ، فإنّه يمسكه بحصّة من غير تقويم ، ولا تقسيط ، لأنّ ذلك متساوي الأجزاء ، فهو متساوي القيم.

وإذا قال : بعتك هذه الدار ، وآجرتك هذه الدار الأخرى ، بألف ، كان صحيحا ، لأنّه لا مانع منه ، فإذا قلنا البيع والإجارة صحيحان ، فإنّه يأخذ كل واحد حصّته ، من الثمن الذي هو العوض في مقابلتهما ، بقيمة المبيع ، واجرة مثل الدار ، وهكذا اعتبار التقسيط في جميع ما قدّمناه ، من بيع السلعتين ، فليلحظ ذلك.

إذا باع الإنسان بهيمة ، أو جارية حاملا ، واستثنى حملها لنفسه ، كان جائزا ، فإن استثنى يدها ، أو رجلها ، أو عضوا منها ، كان استثناؤه باطلا.

ص: 335

وقال شيخنا في مبسوطة في باب الغرر ، وإن باع بهيمة أو جارية حاملا ، واستثنى حملها لنفسه ، لم يجز ، لأنّ الحمل يجري مجرى عضو من أعضائها (1).

وقال رضي اللّه عنه أيضا : وإن باع جارية حبلى بولد حرّ ، لم يجز ، لأنّ الحمل يكون مستثنى ، وهذا يمنع صحة البيع (2).

وما قدّمناه من صحة استثناء الحمل للبائع ، هو الصحيح الذي لا خلاف فيه ، بين أصحابنا ، أنّ الحمل بمجرّد العقد من الحامل للبائع (3)(4) فكيف إذا اشترطه ، إلا أن يشترطه المشتري ، وهذا قول شيخنا في نهايته (5) ، وجميع كتبه ، إلا فيما أشرنا إليه ، لكون هذا الكتاب مجمع مذهب المخالف له ، وقد ذكر فيه مذهبنا ، ومذهب غيرنا ، وما ذكره فيه مذهب الشافعي ، لأنّ في أحد قوليه ، أنّ الحمل لا يتقسط الثمن عليه ، ويجريه مجرى عضو من أعضاء الحامل ، ومذهبنا بغير خلاف بيننا ، يخالف مذهب الشافعي في هذه المسألة ، وابن البراج من أصحابنا ، نظر في هذه المسألة في المبسوط ، ظنها اعتقاد شيخنا أبي جعفر ، فنقلها إلى جواهر الفقه ، كتاب له ، وعمل بها ، واختارها ، تقليدا لما وجده من المسطور المذكور ، وما استجمل لهذا الشيخ الفقيه ، مع جلالة قدره ، مثل هذا الغلط والتقليد لما يجده في الكتب ، ويضمنه كتبه ، وهذا قلة تحصيل منه ، لما يقوله ويودعه تصانيفه ، وانّما ذكرت هذه المسألة عنه على غثاثتها ، لشهرتها عند من يقف على جواهر الفقه ، وأنّها عندهم كالصحيح من القول ، فذكرتها دالا على عوادها.

بذر دود القز ، يجوز بيعه ، ولا دليل على حظره ، وكذلك دوده ، لأنّه مرجوّ نفعه ، بخلاف غيره من الدود ، لأنّه لا نفع فيه ، فلا يجوز بيعه ، ويجوز أيضا بيع زنابير العسل ، وهو النحل ، إذا رآها ، وقد اجتمعت في بيتها ، وحبسها حتى لا

ص: 336


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ، ص 156.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في بيع الغرر ، ص 156.
3- ج : لأنّ الحمل يجرى مجرى العقد من الحامل.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
5- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.

يمكنها أن تطير ، جاز بيعها حينئذ ، ولا يجوز بيعها وهي تطير في الهواء ، وكذلك لا يجوز بيع السمك في الماء ، والطير في الهواء.

وإذا استأجر أرضا ليزرعها ، أو كانت له أرض مملوكة ، فدخل الماء فيها ، والسمك ، كان المالك والمستأجر أحقّ به ، لأنّ غيره لا يجوز أن يتخطى في الأرض المستأجرة ، فإن تخطى فيها أجنبي ، وأخذه ، ملكه بالأخذ ، لأنّ الصيد لمن اصطاده.

وكذلك إن عشش في دار إنسان ، أو في أرضه طائر ، وفرّخ فيها ، أو دخل ضبي في أرضه ، كان صاحب الأرض والدار ، أحقّ به ، فإن خالف أجنبي ، وتخطّى ، فأخذه ، كان أحق به ، لأنّه ملكه بالأخذ والاصطياد.

إذا طفرت سمكة ، فوقعت في زورق إنسان ، فأخذها بعض الركاب ، كانت له ، دون صاحب الزورق ، لما قدّمناه.

وإذا نصب شبكة ، فوقع فيها طائر ، كان للناصب ، وإن أخذه غيره ، وجب عليه ردّه عليه ، لأنّه في حكم الآخذ له ونهي النبي عليه السلام عن بيعتين في بيعة ، قيل أنّه يحتمل أمرين ، أحدهما أن يكون المراد به ، إذا قال : بعتك هذا الشي ء بألف درهم نقدا ، وبألفين نسيئة بأيّهما شئت خذه ، فإن هذا لا يجوز ، لأنّ الثمن غير معيّن ، وذلك يفسد البيع ، كما إذا قال : بعتك هذا العبد ، أو هذا العبد ، أيّهما شئت فخذه ، لم يجز ، والآخر أن يقول : بعتك عبدي هذا بألف ، على أن تبيعني دارك هذه بألف درهم ، فهذا أيضا لا يصحّ ، لأنّه لا يلزمه بيع داره ، ولا يجوز أن يثبت في ذمته ، لأنّ السلف في بيع الدار ، لا يصح على ما قدّمناه في باب السلم.

باب اجرة السّمسار والدلّال والناقد والمنادي

أجرة الكيّال ، ووزّان المتاع ، على البائع ، لأنّ عليه توفية المتاع ، وتسليمه إلى المشتري ، ولا يقدر إلا بالوزن في الموزون ، والكيل في المكيل ، فيجب عليه

ص: 337

ذلك ، لأنّ كلّ ما لا يتمّ الواجب إلا به ، فهو واجب مثله ، وقد قلنا أنّ التسليم واجب على البائع ، ولا يتم التسليم ، إلا بالوزن والكيل ، وإفراده من جنسه بهما ، واجرة الناقد للثمن ، ووزانه على المبتاع ، لأنّ عليه توفية المال على الكمال لما قدّمناه من الدلالة في اجرة وزن المتاع ، وكيله ، فلا وجه لإعادة ذلك.

ومن نصب نفسه لبيع الأمتعة ، كان له اجرة البيع ، على البائع الذي هو موكّله ، دون المبتاع ، ومن كان منتصبا للشراء ، كان اجره على المبتاع الذي هو موكّله ، دون البائع ، فإن كان ممن يبيع ويشتري للناس ، كان له اجرة ما يبيع ، من جهة البائع ، إن كان وكيلا له ، واجرة على ما يشتري ، من جهة المبتاع ، لأنّه وكيله في عقد الشراء بالقبول.

ولا يجوز له أن يأخذ على سلعة واحدة أجرين ، من البائع والمشتري ، لأنّ العقد لا يكون إلا بين اثنين ، لأنّه يحتاج إلى إيجاب وقبول ، بل يأخذ الأجرة ممن يكون عاقدا له ، ووكيلا له ، إمّا في الإيجاب ، وإمّا في القبول ، فليلحظ ذلك.

ولا يظن ظانّ على شيخنا أبي جعفر ، فيما ذكره في نهايته ، في قوله : « فإن كان ممّن يبيع ويشتري للناس ، كان له اجرة على ما يبيع ، من جهة البائع ، واجرة على ما يشتري من جهة المبتاع » (1) انّ المراد بذلك في سلعة واحدة يستحق أجرين ، وإنما المراد بذلك ، أن من كان ذلك صنعته ، يبيع تارة للناس ، ويشتري لهم تارة ، فيكون له اجرة على من يبيع له ، في السلعة المبتاعة ، فإن اشترى للناس سلعة غيرها ، كان له اجرة على من اشترى له تلك السلعة ، لا أنّه يشتري سلعة واحدة ، ويبيعها في عقد واحد ، لأنّ المشتري غير البائع ، والبائع غير المشتري ، وانّما مقصود شيخنا ما نبهنا عليه ، فليتأمّل ذلك.

وإذا دفع الإنسان إلى السمسار متاعا ، ولم يأمره ببيعه ، فباعه ، كان البيع باطلا وقال شيخنا في نهايته : كان بالخيار بين إمضاء البيع ، وبين فسخه (2).

ص: 338


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال.

وهذا على مذهب من قال : إنّ من باع ملك غيره بغير إذنه ، يكون البيع موقوفا على اختيار صاحبه ، وقد بيّنا فساد ذلك ، وحكينا أنّ شيخنا أبا جعفر رجع عن ذلك في مسائل خلافه (1) ، وهو الحق اليقين.

فإن أمره ببيعه ، ولم يذكر له لا نقدا ولا نسيئة كان (2) البيع باطلا.

ومن قال بالأوّل قال كان صاحب السلعة بالخيار ، والصحيح ما اخترناه ، لأنّه بيع غير مأمور به ، بل منهي عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه.

وكذلك إن قال : بعها نقدا ، فباعها نسيئة ، كان الحكم في ذلك ما ذكرناه ، والخلاف ما صورناه.

فإن قال له : بعضها نسيئة بدراهم معلومة ، فباعها نقدا بدون ذلك ، كان على ما ذكرناه ، والخلاف فيه ما حكيناه.

وإذا اختلف الواسطة وصاحب المتاع ، فقال الواسطة قلت لي : بعه بكذا وكذا ، وقال صاحب المتاع : بل قلت بعه بكذا ، أكثر من الذي قال ، ولم يكن لأحدهما بيّنة على دعواه ، كان القول في ذلك ، قول صاحب المتاع مع يمينه ، وله أن يأخذ المتاع إن وجده بعينه ، وإن كان قد أحدث فيه ما ينقصه ، أو استهلك ، كان صاحبه مخيرا ، بين أن يرجع على أيّهما شاء ، بقيمته أكثر ما كانت إلى يوم الهلاك ، فإن رجع على الواسطة ، لم يكن للواسطة أن يرجع على المشتري ، لأنّه يقول : صاحب المتاع ظلمني ، فكيف يرجع بالظلم على غير الظالم؟ فأمّا إن رجع على المشتري ، فللمشتري أن يرجع على الواسطة ، بمنافعه التي ضمنها ، التي لم يحصل له في مقابلتها نفع ، فأمّا الثمن فلا يرجع عليه به ، لأنّ الإتلاف حصل في يده ، فإن اختلفا في القيمة ، كان القول قول الجاحد لزيادة ما اتفقا عليه ، وهو الواسطة ، أو المشتري ، وصاحبه يدّعي أكثر من ذلك ، فعليه

ص: 339


1- الخلاف : كتاب البيع المسألة 275.
2- ق : فباع نسيئة كان.

البيّنة ، لقوله عليه السلام المتفق عليه « على الجاحد اليمين وعلى المدّعي البيّنة » (1).

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن كان قد أحدث فيه ما ينقصه ، أو استهلك ، ضمن الواسطة من الثمن (2) ، ما حلف عليه صاحب المتاع (3).

وهذا غير واضح ، لأنّ صاحب المتاع ، للزيادة والمدّعى عليه (4) البيّنة ، ولا يكون القول قوله في ذلك مع يمينه ، على ما دللنا عليه.

وإذا اختلفا في النقد ، كان القول قول صاحبه ، لأنّ الواسطة هو المدّعي هاهنا ، وصاحبه ، الجاحد المنكر ، فالقول قوله في ذلك مع يمينه.

ومتى هلك المتاع من عند الواسطة ، من غير تفريط من جهته ، كان من مال صاحبه ، ولم يلزم الواسطة شي ء ، لأنّه أمين ، فإن كان هلاكه بتفريط من جهة الواسطة ، كان ضامنا لقيمته يوم تفريطه فيه.

فإن اختلفا في التفريط ، كان على صاحب المتاع ، البيّنة ، أنّ الواسطة فرّط فيه ، فإن عدمها ، فعليه اليمين بأنّه لم يفرط في ذلك ، ولم يلزمه شي ء.

وإذا قال الإنسان لغيره : بع لي هذا المتاع ، ولم يسمّ له ثمنا ، فباعه بفضل من قيمته ، كان البيع ماضيا ، لأنّه زاده خيرا ، والثمن على تمامه وكماله لصاحب المتاع ، وإن باعه بأقل من ثمنه ، كان البيع غير صحيح.

وقال شيخنا في نهايته : كان ضامنا لتمام القيمة ، حتى يسلّمها إلى صاحب المتاع على الكمال ، ولا ضمان على الواسطة فيما بغلبة عليه ظالم ، والدرك في جودة المال على المشتري ، وفي جودة المتاع على بايعه ، دون الواسطة في الابتياع (5) ، لأنّه وكيل ، والوكيل لا درك عليه ، بل العهدة والدرك يرجع على

ص: 340


1- الوسائل : الباب 3 و 25 من أبواب كيفية الحكم ، ولفظه : ( اليمين على المدعى عليه ) أو « اليمين على من أنكر »
2- ج : الواسطة الثمن.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال ..
4- ج : لأن صاحب المتاع المدعي للزيادة عليه.
5- إلى هنا ينتهي كلام الشيخ « قدس سره » في النهاية ، كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال ..

موكله ، في جميع ما يعاد من الاستدراكات والاستحقاقات.

وهذا القول ، قول شيخنا أبي جعفر في نهايته ، إلا أنّه ذهب في الجزء الثاني ، من مسائل خلافه ، في كتاب الرهن ، فقال : مسألة ، إذا باع العدل الرهن بتوكيل الراهن ، وقبض الثمن ، وضاع في يده ، واستحق المبيع من يد المشتري ، فإنه يرجع على الوكيل ، والوكيل يرجع على الراهن ، وكذلك كلّ وكيل باع شيئا ، فاستحقّ ، وضاع الثمن في يد الوكيل ، فإنّ المشتري يرجع على الوكيل ، والوكيل على الموكّل ، وبه قال أبو حنيفة ، وقال الشافعي في جميع هذه المسائل ، يرجع على الموكّل ، دون الوكيل (1).

إلا أنّه رحمه اللّه ، رجع عن هذا القول ، وعاد إلى ما ذهب إليه في نهايته ، في كتاب التفليس ، من الجزء الثاني أيضا ، من مسائل خلافه ، فقال : مسألة : إذا باع الوكيل على رجل ماله ، أو الولي مثل الأب والجد ، والحاكم ، وأمينه ، والوصيّ ، ثمّ استحق المال على المشتري ، فانّ ضمان العهدة يجب على من بيع عليه ماله ، فإن كان حيا ، كان في ذمّته ، وإن كان ميتا ، كانت العهدة في تركته ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة ، يجب على الوكيل (2).

فاختار رحمه اللّه ، في تلك المسألة التي في كتاب الرهن ، قول أبي حنيفة ، ثم اختار في هذه المسألة التي ذكرها في كتاب التفليس ، قول الشافعي.

ثمّ دل عليه ، فقال : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمّة ، ولا دليل على لزوم ذلك للوكيل ، وهو لا يملك ، فيجب أن يلزم الموكّل ، وإلّا لم يكن من استحق عليه (3).

هذا آخر كلامه رحمه اللّه ، وهو الذي اخترناه ، ونصرناه ، لأنّ يد الوكيل ، هي يد موكله ، وقائمة مقامها ، ونائبة منابها.

ص: 341


1- الخلاف : كتاب الرهن ، المسألة 48.
2- الخلاف : كتاب التفليس ، المسألة 19.
3- الخلاف : كتاب التفليس ، المسألة 19. وفيه : للوكيل أو هؤلاء.

باب ابتياع الحيوان وأحكامه

قد بيّنا أن الشرط في الحيوان كلّه ثلاثة أيّام ، يثبت الخيار فيها للمشتري خاصة ، دون البائع ، على الصحيح من الأقوال ، فإن حدث في هذه الثلاثة الأيّام فيه حدث ، أو هلكت عينه ، كان من مال البائع ، دون المشتري ، ما لم يحدث فيه المشتري حدثا مؤذنا بالرضا ، فإن أحدث فيه حدثا ، كان ذلك مبطلا لخياره ، ولم يكن له بعد ذلك ردّه ، فإن لم يحدث فيه حدثا ، إلا أنّه وجد فيه عيبا قبل عقدة البيع ، فله ردّه وأخذ ثمنه ، أو إمساكه وأخذ الأرش ، سواء مضت الثلاثة الأيّام ، أو لم تمض ، فإن حدث في الثلاثة الأيّام حدث ، ينضاف إلى الحدث المتقدّم على عقدة البيع ، فله ردّه ما لم يتصرف فيه ، أو إمساكه وأخذ أرش العيب المتقدّم دون العيب الحادث في الثلاثة الأيام ، فإن حدث فيه بعد الثلاثة الأيام حدث ، ينضاف إلى الحدث الذي قبل عقدة البيع ، لم يكن له ردّه ، وله أرش العيب المتقدّم ، فحسب ، دون الرد.

فإن لم يكن فيه عيب متقدّم ، ولا حدث فيه عيب في الثلاثة الأيام ، إلا أنّ المشتري تصرّف فيه تصرّفا مؤذنا بالرضا ، قبل مضي الثلاثة الأيّام ، بطل الرد ، فإن لم يتصرّف فيه ، بل مضت الثلاثة الأيّام ، وتقضت ، بطل أيضا الرد ، إلا أن يجد فيه عيبا ، كان فيه قبل عقدة البيع ، ولم يكن قد تصرّف فيه ، لا في الثلاثة الأيّام ، ولا بعدها ، فله أيضا الرد ، إلا ان يحدث عيب بعد الثلاثة الأيّام ، ينضاف إلى العيب المتقدّم ، فليس له الرد ، بل له أرش العيب المتقدّم فحسب ، دون الرد.

ولا يصحّ أن يملك الإنسان أحد والديه ، ولا واحدا من أولاده ، ذكرا كان أو أنثى ، ولا واحدة من المحرّمات عليه من جهة النسب ، مثل الأخت ، وبناتها ، وبنات الأخ ، والعمة ، والخالة ، ويصح أن يملك من الرجال ، ما عدا الوالد والولد ، من الأخ ، والعم ، والخال ، ومتى حصل واحدة من المحرّمات اللاتي

ص: 342

ذكرناهن في ملكه ، فإنّهنّ ينعتقن في الحال.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وكلّ من ذكرناه ، ممّن لا يصحّ ملكه ، من جهة النسب ، فكذلك لا يصحّ ملكه من جهة الرضاع (1).

والصحيح من المذهب ، أنّه يصح أن يملكهن ، إذا كن أو كانوا من جهة الرضاع ، وهو مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (2) ، وهو الحقّ اليقين ، لأنّ الإجماع على من اتفقنا على إعتاقه ، والأصل بقاء الرقّ وثبوته ، فمن ادّعى العتاق ، والخروج عن الأملاك ، يحتاج إلى دليل شرعيّ ، لأنّه حكم شرعيّ.

وجملة الأمر ، وعقد الباب ، أن نقول : ذو والقربى من جهة النسب ، رجال ونساء ، فالرجال العمودان ، الآباء وإن علوا ، والأبناء وإن سلفوا ، متى حصلوا في الملك ، انعتقوا في الحال ، وخرجوا من الأملاك ، بغير اختيار المالك ، وما عداهم من الرجال ، لا ينعتقون ، بل يرقون ، فأمّا النساء فمن يحرم نكاحه على مالكها ، تنعتق على من ملكها ، من غير اختياره ورضاه ، وما عداهن من النساء ، لا ينعتقن إلا باختياره ورضاه ، فأمّا الأقارب من جهة السبب رضاع وغيره ، فالصحيح من المذهب ، أنّهم يملكون ، ولا ينعتق واحد منهم ، إلا برضا مالكه واختياره ، رجالا كانوا أو نساء.

ومتى ملك أحد الزوجين زوجه ، بطل العقد بينهما في الحال.

وكان من اشترى شيئا من الحيوان ، وكان حاملا ، من الأناسي وغيره ، ولم يشترط الحمل ، كان ما في بطنه للبائع ، دون المبتاع ، بمجرّد العقد ، فإن اشترط المبتاع ذلك كان له.

وقد ذكرنا أنّ شيخنا أبا جعفر قال في مبسوطة ، أنّ البائع لا يجوز له أن يشترط الحمل ، لأنّه كعضو من أعضاء الحامل (3) ، وكذلك قال ابن البراج في

ص: 343


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه
2- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب ابتياع الحيوانات ص 599.
3- تقدم نقل كلام المبسوط وابن البراج في الصفحة 336.

جواهر فقهه (1).

وبيّنا أنّ هذا مذهب الشافعي ، لا اعتقاد شيخنا أبي جعفر ، لأنّه يذكر في كتابه المشار إليه ، مذهبنا ، ومذهب غيرنا ، فابن البراج ظن على أنّه اعتقاد شيخنا أبي جعفر ، ومذهبه ، فقلّده ونقله ، وضمنه كتابه جواهر الفقه ، وانّما قلنا ذلك ، لأنّ إجماع أصحابنا بغير خلاف بينهم ، منعقد على أن بمجرد العقد يكون الحمل للبائع ، إلا أن يشترطه المبتاع ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر ، في جميع تصنيفاته ، وكتبه ، ما عدا ما ذكرناه ، واعتذرنا له به ، من ذكره مذهب المخالف لنا.

ولا يجوز أن يشتري الإنسان عبدا آبقا ، على الانفراد ، فإن اشتراه لم ينعقد البيع.

وقال السيد المرتضى : إذا كان بحيث يقدر عليه ، ويعلم موضعه ، جاز شراؤه منفردا ، ولا يمنع ممّا قاله رحمه اللّه مانع ، لأنّ الغرر زال ، وهو داخل في قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » ، فأمّا إذا كان بحيث لا يقدر عليه ، فلا خلاف أنّه لا يجوز بيعه منفردا ، إلا إذا اشتراه مع شي ء آخر ، من متاع أو غيره ، منضم إلى العقد ، فيكون العقد ماضيا والشراء صحيحا بغير خلاف أيضا ، لأنّه أمن الغرر في ذلك.

ومن ابتاع عبدا ، أو أمة ، وكان لهما مال ، كان مالهما للبائع ، دون المبتاع ، اللّهم إلا أن يشترط المبتاع ماله ، فيكون حينئذ له ، دون البائع ، سواء كان ما معه أكثر من ثمنه ، أو أقل منه ، هكذا أورده شيخنا في نهايته مطلقا (2).

والأولى تحرير ذلك ، وتقييده ، وهو أن يقال : إن كان ما مع العبد من جنس الثمن ، فلا يخلو من ثلاثة أحوال : إمّا أن يكون أقلّ من الثمن ، أو مثله ، أو أكثر منه ، فإن كان ما معه أقلّ من الثمن ، كان البيع صحيحا ، وإن كان مثله ، أو أكثر ، فالبيع غير صحيح ، بغير خلاف ، لأنّه ربا ، مثلا إذا كان مع العبد

ص: 344


1- جواهر الفقه المطبوع مع الجوامع الفقهية ص 422.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان

عشرون دينارا ، وباعه بعشرين دينارا ، أو بتسعة عشر دينارا ، فالبيع باطل ، لأنّ هذا هو الربا المنهي عنه بغير خلاف ، فأمّا إذا كان الثمن من غير الجنس الذي مع العبد ، فالبيع صحيح ، لأنّه آمن فيه الربا ، لاختلاف الجنس ، فليلحظ ذلك.

فإنّ شيخنا أبا جعفر ، حرّره وقيّده (1) في مسائل خلافه ، فقال : مسألة إذا كان مع العبد مائة درهم ، فباعه بمائة درهم ، لم يصحّ البيع ، فإن باعه بمائة درهم ودرهم صحّ ، وبه قال أبو حنيفة ، وللشافعي فيه قولان ، دليلنا قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ » والمنع منه يحتاج إلى دليل ، هذا آخر كلام شيخنا في مسائل الخلاف (2).

ويجوز ابتياع أبعاض الحيوان ، كما يصحّ ابتياع جميعه ، وكذلك تصح الشركة فيه.

وإذا ابتاع اثنان عبدا أو أمة ، ووجدا به عيبا ، وأراد أحدهما الأرش ، والآخر الرد ، لم يكن لهما إلا واحد منهما ، حسب ما يتراضيان عليه ، هكذا أورده ، وذهب إليه شيخنا أبو جعفر في نهايته (3).

وذهب في مسائل خلافه ، الى غير ذلك ، وقال لمن أراد الرد الرد ، ولمن أراد الإمساك الإمساك ، وأخذ أرش العيب ، فقال : مسألة إذا اشترى الشريكان عبدا بمال الشركة ، ثم أصابا به عيبا ، كان لهما أن يردّاه ، وكان لهما إمساكه ، فإن أراد أحدهما الرد ، والآخر الإمساك ، كان لهما ذلك ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إذا امتنع أحدهما من الرد ، لم يكن للآخر أن يرده ، دليلنا أنّ المنع من الرد بالعيب ، يحتاج إلى دليل ، والأصل جوازه ، وليس هاهنا ما يدل على المنع منه (4) ، وإلى هذا القول أيضا ذهب في مبسوطة (5).

قال محمّد بن إدريس : وإلى هذا أذهب ، وبه أفتي وأعمل ، لأنّ منع الرد

ص: 345


1- ج : فانّ شيخنا أبا جعفر جوزه ، وقد قيّده.
2- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 208.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
4- الخلاف : كتاب الشركة ، المسألة 10.
5- المبسوط : ج 2 ، كتاب الشركة ، ص 351.

بالعيب يحتاج إلى دليل ، ومنع الرضا بالعقد ، وأخذ الأرش يحتاج إلى دليل ، ولأنّ الملك بالعقد وقع لاثنين ، فهو بمنزلة العقدين ، لأنّ البائع قد علم أنّه يبيعه من اثنين ، ومن منع من الرد ، قال : لأنّ القبول في العقد ، كان واحدا ، كما لو اشتراه لنفسه وحده ، وهذا ليس بشي ء ، لأنّا قد بيّنا أنّه لعاقدين ، لأنّه بمنزلة العقدين ، لأنّ شريكه وكله في الشراء له ، فاشترى هو لنفسه ، ولشريكه ، ولا يرجع عن الأدلة القاهرة ، بأخبار الآحاد ، إن كانت وردت.

ومن اشترى جارية ، لم يجز له وطؤها في القبل ، إلا بعد أن يستبرئها بحيضة ، إن كانت ممّن تحيض ، وإن كانت ممّن لا تحيض ، فخمسة وأربعون يوما ، وإن كانت آيسة من المحيض ، ومثلها لا تحيض ، لم يكن عليها استبراء.

ويجب على البائع أن يستبرئ الأمة ، قبل بيعها ، إذا كان يطؤها ، وإن كان لم يطأها ، لم يجب عليه استبراء ، ومتى استبرأها ، وكان عدلا مرضيا ، وأخبر بذلك ، جاز للمبتاع أن يعوّل على قوله ، ولا يستبرئها ، على ما روي في بعض الأخبار (1) والواجب على المشتري ، استبراؤها على كلّ حال.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في مسائل خلافه : إذا ملك امه بابتياع ، أو هبة ، أو إرث ، أو استغنام ، فلا يجوز له وطؤها ، إلا بعد الاستبراء ، إلا إذا كانت في سنّ من لا تحيض ، من صغر ، أو كبر ، فلا استبراء عليها (2).

قال محمّد بن إدريس : الذي رواه أصحابنا في تصانيفهم ، الخالية من فروع المخالفين وقياساتهم ، ونطقت به أخبار الأئمة عليهم السلام ، أنّ الاستبراء لا يجب إلا على البائع ، والمشتري ، ولم يذكروا غير البائع والمشتري ، فيجب عليهما الاستبراء فأمّا من عداهما لم يرووا فيه شيئا ، والأصل براءة الذمة من الأمور الشرعية بغير أدلة قاطعة للأعذار ، والتمسك بقوله تعالى : ( أَوْ ما مَلَكَتْ

ص: 346


1- الوسائل : الباب 11 من أبواب بيع الحيوان ، ح 2.
2- الخلاف : كتاب العدة ، المسألة 41 ، باختلاف يسير.

أَيْمانُكُمْ ) (1) وهذه مما ملكت ايماننا « إلا ما أخرجه الدليل القاطع من الأمة المشتراة إذا أراد المشتري وطيها وأراد البائع بيعها. وكان يطؤها وبقي الباقي على حكم الآية والأصل » وانّما هذه (2) فروع أبي حنيفة والشافعي. وغيرهما يوردها شيخنا في هذا الكتاب ، أعني مسائل خلافه ، ويقوى عنده ما يقوى منها ويتحدّث عليه معهم ، ولأجل هذا كثيرا ما يرجع عن أقواله معهم في غير ذلك الموضع ، فالأولى التمسّك بأخبار أصحابنا المتواترة ، وتصانيفهم المجمع عليها ، الخالية من الفروع.

ومن اشترى من سوق المسلمين عبدا ، أو أمة ، فادّعيا الحرية لم يلتفت إلى دعواهما ، إلا ببيّنة.

ويكره التفرقة بين الأطفال وأمّهاتهم ، إذا ملكوا ، حتى يستغنوا عنهن ، وحد ذلك سبع سنين أو ثمان سنين (3) ، وليس ذلك بمحظور.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته ، في الجزء الثاني في باب ابتياع الحيوان ، ولا يجوز التفرقة بين الأطفال وأمّهاتهم ، إذا ملكوا حتى يستغنوا عنهن (4).

ورجع عن ذلك وقال بما اخترناه ، في كتاب العتق في نهايته ، أيضا ، في الجزء الثاني ، فإنّه قال : ويكره أن يفرّق بين الولد وبين امّه ، وينبغي أن يباعا معا ، وليس ذلك بمحظور (5).

وهذا هو الصحيح من الأقوال ، لأنّ الإنسان مسلّط على ملكه ، يعمل به ما شاء ، وما ورد في ذلك محمول على الكراهة ، دون الحظر.

ومتى اشترى جارية فأولدها ، ثم ظهر له أنّها كانت مغصوبة لم تكن لبائعها ، كان لمالكها انتزاعها من يد المبتاع ، وقيمة الولد ومهر أمثالها ، واجرة مثلها ، ما دامت في يده ، وللمبتاع الرجوع على البائع بما قبضه من ثمنها ، وغرمه عن

ص: 347


1- النساء : 3.
2- ج : ايماننا وانما هذه
3- ج : سبع سنين.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
5- النهاية : باب العتق وأحكامه.

قيمة ولدها ، وعن أجرتها ، إن كان لم يحصل له انتفاع ، واستخدام ، وليس له أن يرجع عليه بما غرمه ، عن وطئها ، لأنّه حصل له بدلا منه انتفاع ، ولذة ، واستمتاع.

وجملة الأمر ، وعقد الباب ، إن كل ما دخل على أنّه له بعوض ، وهو قيمة الرقبة ، فإنّه يرجع به على البائع ، وهو الثمن ، وكلّ ما دخل على أنّه له بغير عوض ، فإن لم يحصل له في مقابلته نفع ، وهو قيمة الولد ، رجع به على البائع ، وإن حصل له في مقابلته نفع ، وهو مثل المهر في مقابلة الاستمتاع ، لم يرجع به على البائع.

ولا بأس ببيع أمّهات الأولاد بعد موت أولادهن على كلّ حال ، ولا يجوز بيعهن مع وجود أولادهن ، إلا في ثمن أرقابهن ، بأن يكون دينا على مولاها ، بأن يشتريها بثمن في ذمّته أو بأن يستدين ثمنا ، ويشتريها بعينه.

وإذا مات السيد ، وخلّف أم ولد وولدها ، وأولادا جعلت في نصيب ولدها ، فإذا حصلت في نصيبه ، انعتفت في الحال ، وإن لم يخلف الميت غيرها ، انعتقت بنصيب ولدها ، واستسعيت فيما لباقي الورثة من غيرها.

ولا بأس أن يشتري الإنسان ما يسبيه الظالمون ، إذا كانوا مستحقين للسبي ، ولا بأس بوطء من هذه صفتها ، وإن كانت حقا للإمام ، لم يصل إليه ، لأنّ ذلك قد جعله لشيعته ، من ذلك في حل ، وسعة ، لإجماع أصحابنا على ذلك.

وفقه ذلك ، أنّ كلّ سرية ، غزت بغير إذن الإمام ، فما غنمت من أهل الحرب ، فهو في ء ، جميعه لإمام المسلمين ، فلأجل هذا ، قلنا وإن كانت حقا للإمام.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : ولا بأس بوطء من هذه صفتها ، وإن كان فيه الخمس لمستحقيه ، لم يصل إليهم ، لأنّ ذلك قد جعلوه لشيعتهم من ذلك في حلّ وسعة (1).

وهذا ليس بواضح ، لأنّ هذا السبي ، جميعه لإمام المسلمين ، على ما

ص: 348


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.

قررناه ، فمن أين فيه الخمس فحسب ، وهذا لفظ الحديث (1) أورده شيخنا إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما تكرر اعتذارنا له وعلى ما اعتذر هو لنفسه ، في خطبة مبسوطة.

ومن قال لغيره : اشتر حيوانا أو غيره بشركتي ، والربح بيني وبينك ، فاشتراه ، ثمّ هلك الحيوان ، كان الثمن بينهما ، كما لو زاد في ثمنه ، كان أيضا بينهما على ما اشترطا عليه ، فإن اشترط عليه أنه يكون له الربح إن ربح ، وليس عليه من الخسران شي ء ، كان على ما اشترطا عليه ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (2).

قال محمّد بن إدريس : معنى أنّه « إذا قال لغيره : اشتر حيوانا بشركتي » المراد به انقد عني نصف الثمن ، أو ما يختاره ، ويجعله قرضا عليه ، وإلا فما تصح الشركة ، إلا هكذا ، فأمّا قول شيخنا رحمه اللّه « فإن اشترط عليه أن يكون له الربح إن ربح ، وليس عليه من الخسران شي ء كان على ما اشترطا عليه » فليس بواضح ولا مستقيم ، لأنّه مخالف لأصول المذهب ، لأنّ الخسران على رءوس الأموال ، بغير خلاف ، فإذا شرطه أنّه على واحد من الشريكين ، كان هذا شرطا يخالف الكتاب والسنة ، لأنّ السنة جعلت الخسران على قدر رءوس الأموال.

والوصي ، والمتولي للنظر في أموال اليتامى « لأنّه ليس كلّ متول على أموال اليتامى وصيا ، وكلّ وصي على أموالهم ، متولّ عليها ، فلأجل هذا قلنا الوصي والمتولي للنظر في أموال اليتامى » لا بأس أن يبيع من مالهم ، العبد والأمة ، إذا رأى ذلك صلاحا ، ولا بأس لمن يشتري الجارية منه ، أن يطأها ، ويستخدمها ، غير حرج في ذلك ، ولا اثم.

ولا بأس بشراء المماليك من الكفّار ، إذا أقروا لهم بالعبودية ، أو قامت لهم البيّنة بذلك ، أو كانت أيديهم عليهم.

ص: 349


1- الوسائل : الباب 50 من أبواب جهاد العدو ، ح 4 - 6 ، وفي النهاية : كتاب التجارة باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا بأس بشراء المماليك من الكفار ، إذا أقروا لهم بالعبودية (1).

وهذا دليل الخطاب ، ولم ينف الشراء ، إذا قامت لهم بينة بالعبودية.

وإذا اشتريت مملوكا ، فإنّه يكره أن يريه ثمنه في الميزان ، لأنّه لا يفلح ، على ما جاء في الأخبار (2).

وروي في بعض الأخبار ، أنّ من اشترى من رجل عبدا ، وكان عند البائع عبدان ، فقال للمبتاع : اذهب بهما ، فاختر أيّهما شئت ، وردّ الآخر ، وقبض المال ، فذهب بهما المشتري ، فأبق أحدهما من عنده ، فليردّ الذي عنده منهما ، ويقبض نصف الثمن ممّا أعطى ، ويذهب في طلب الغلام ، فإن وجده ، اختار حينئذ أيّهما شاء ، وردّ النصف الذي أخذه ، وإن لم يجد ، كان العبد بينهما نصفين (3).

أورد ذلك شيخنا في نهايته (4) وهذا خبر واحد لا يصحّ ، ولا يجوز العمل به ، لأنّه مخالف لما (5) عليه الأمّة بأسرها ، مناف لأصول مذهب جميع أصحابنا ، وفتاويهم ، وتصانيفهم ، وإجماعهم ، لأنّ المبيع إذا كان مجهولا ، كان البيع باطلا ، بغير خلاف ، وقوله : « يقبض نصف الثمن ويكون العبد الآبق بينهما ويردّ الباقي من العبدين » فيه اضطراب كثير ، وخلل كبير ، إن كان الآبق الذي وقع عليه البيع ، فمن مال مشتريه ، والثمن بكماله لبائعه ، وإن كان الآبق غير من وقع عليه البيع ، والباقي الذي وقع عليه البيع ، فلأيّ شي ء يردّه.

وإنّما أورد شيخنا هذا الخبر ، على ما جاء بلفظه إيرادا ، لا اعتقادا ، لأنّه رجع عنه في مسائل خلافه ، في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، في كتاب السلم ، فلو كان عنده صحيحا لما رجع عنه ، فقال : مسألة ، إذا قال اشتريت

ص: 350


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب بيع الحيوان ، ح 1 و 2.
3- الوسائل : الباب 16 من أبواب بيع الحيوان ، ح 1.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
5- ج : مخالف لأصول المذهب ولما.

منك أحد هذين العبدين بكذا ، أو أحد هؤلاء العبيد الثلاثة بكذا ، لم يصحّ الشراء ، وبه قال الشافعي ، ثمّ قال : دليلنا أنّ هذا بيع مجهول ، فيجب أن لا يصحّ بيعه ، ولأنّه بيع غرر ، لاختلاف قيمتي العبدين ، ولأنّه لا دليل على صحة ذلك في الشرع ، وقد ذكرنا هذه المسألة في البيوع ، وقلنا : إنّ أصحابنا رووا جواز ذلك في العبدين ، فإن قلنا بذلك ، تبعنا فيه الرواية ، ولم نقس غيرها عليها ، هذا آخر المسألة وآخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه (1).

الا ترى إلى إيراده الأدلة الكثيرة على بطلان ذلك ، ثمّ جعله رواية ، وإن كان من جهة أصحابنا لأنّ أصحابنا قد رووا الآحاد والمتواترة ، فلا يظن ظان بشيخنا ، أنّه إذا وجد في كتبه أنّ هذا رواه أصحابنا ، أنّ جميعهم رووه ، أو كلّهم قائل به ، عامل عليه ، لأنّ ذلك يكون إجماعا أو تواترا ، وإنّما مقصوده ، أنّ هذا روي من جهة أصحابنا وطريقهم ، لا من جهة المخالفين وطرقهم. وإذا كانت الجارية بين شركاء ، فتركوها عند واحد منهم ، فوطأها ، فإنّه يدرأ عنه الحدّ ، لأنّ الحدود تدرأ بالشبهات ، هذا إذا قال اشتبه عليّ الحال ، فظننت أنّه يحلّ لكلّ منا وطؤها ، فأمّا إذا لم يقل ذلك ، ولم يشتبه عليه ، ولا ادّعاه ، بل علم أنّه لا يجوز له ، وقال : أنا عالم بذلك ، فإنّه يدرأ عنه من الحدّ ، بقدر ماله منها من الثمن ، ويضرب بمقدار ما لغيره من القيمة ، وتقوّم الأمة قيمة عادلة ، ويلزمها ، فإن كانت القيمة أقل من الثمن الذي اشتريت به ، الزم ثمنها الأول ، وإن كان قيمتها في ذلك اليوم الذي قوّمت فيه ، أكثر من ثمنها ، الزم ذلك الأكثر ، وإن أراد واحد من الشركاء الجارية ، كان له أخذها ، ولا يلزمه إلا ثمنها الذي تساوى في الحال.

هذا على ما روي في بعض الأخبار (2) أورده شيخنا في نهايته (3) إيرادا لا اعتقاداً.

ص: 351


1- الخلاف : كتاب السلم ، المسألة 38.
2- الوسائل : الباب 17 من أبواب بيع الحيوان.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.

والأولى أن يقال : لا يلزم الواطئ لها شيئا ، سوى الحدّ الذي ذكرناه ، على ما صوّرناه ، إلا أن تكون بكرا ، فيأخذ عذرتها ، فيلزمه ما بين قيمتها بكرا ، أو غير بكر ، ويسقط عنه ما يخصّه من ذلك ، ويستحق الباقي باقي الشركاء ، فأمّا إن كانت غير بكر ، فلا يلزم ذلك ، هذا إذا لم يحبلها ، فأمّا إذا أحبلها بولد ، فإنّه يغرم ثمنها الذي تساوى يوم جنايته عليها ، وثمن ولدها يوم يسقط حيا ، إن لو كان عبدا ويسقط من ذلك بمقدار حصّته من الثمنين ، فإن كانت بكرا ، فعلى ما تقدّم القول فيها ، لا يختلف الحكم.

فهذا تحرير هذه الفتيا ، على ما تقتضيه أصول المذهب المقررة ، ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، ولا تترك لها الأدلة الظاهرة ، والبراهين الواضحة الزاهرة.

والمملوكان إذا كانا مأذونين لهما في التجارة ، فاشترى كلّ واحد منهما صاحبه من مولاه ، فكلّ من سبق منهما بالبيع ، كان له البيع ، وكان الآخر مملوكا له ، وإن اتفق ان يكون العقدان (1) في حالة واحدة ، كان العقد باطلا.

وقد روي أنّه يقرع بينهما ، فمن خرج اسمه كان البيع له ، ويكون الآخر مملوكه (2).

وهذه الرواية لا يمكن المصير إليها ، لأنّ القرعة تستعمل في الأشياء التي يجوز وقوع الصحة فيها ، وصحة أحدهما ، وبطلان الحكم الآخر ، وهذا السؤال مبني على أنّه وقع العقد في حالة واحدة ، وتحقق وتيقن ذلك.

وقد روي أنّه يذرع الطريق (3).

والأول من الأقوال ، هو الصحيح الذي يقوى في نفسي.

وقد روي (4) أنّه إذا قال مملوك إنسان لغيره : اشترني ، فإنّك إذا اشتريتني ، كان لك عليّ دين شي ء معلوم ، فاشتراه ، فإن كان المملوك في حال ما قال

ص: 352


1- ج : اتفق العقدان.
2- الوسائل ، الباب 18 من أبواب بيع الحيوان ، ح 1 و 2.
3- الوسائل ، الباب 18 من أبواب بيع الحيوان ، ح 1 و 2.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.

ذلك له مال ، لزمه أن يعطيه ما شرط له وإن لم يكن له مال في تلك الحال ، لم يكن عليه شي ء على حال.

وهذه رواية ، أوردها شيخنا في نهايته (1) إيرادا لا اعتقادا ، لأنّ العبد عندنا لا يملك شيئا ، لقوله تعالى ( عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ ) (2) فنفى تعالى ، أن يقدر العبد على شي ء ، فلا يصح القول بذلك ، فأمّا على قول بعض أصحابنا ، أنّه يملك فضل الضريبة ، وأروش الجنايات ، يصحّ ذلك.

والصحيح من المذهب ، أنّه لا يملك ذلك أيضا للآية ، ولأنّ تملّكه ذلك يحتاج إلى دليل ، لأنّه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

وإذا أراد الإنسان شراء أمة ، جاز له أن ينظر إلى وجهها ، ومحاسنها ، نظرا من غير شهوة ، بل نظرا للتقليب والرؤية بحالها ، ولا يجوز له ذلك ، وهو لا يريد شراءها على حال.

وإذا كان لإنسان جارية فجاءت بولد من الزنا ، جاز له بيعها ، وبيع الولد ، وتملكه ، فإنّه مملوك له ، ويجوز له أن يحجّ بذلك الثمن ، ويتصدّق به ، وينفقه على نفسه ، حسب ما أراد ، لأنّه حلال له.

ويجتنب وطء من ولد من الزنا ، مخافة العار ، لا أنّه حرام ، بل ذلك على جهة الكراهة ، بالعقد والملك معا ، فإن كان لا بدّ فاعلا فليطأهن بالملك ، دون العقد ، وليعزل عنهن ، هكذا ذكره شيخنا في نهايته (3).

والذي تقتضيه الأدلة وأصول المذهب ، إن وطء الكافرة حرام ، لقوله تعالى ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (4) وقوله ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ ) (5) ولا خلاف بين أصحابنا ، أنّ ولد الزنا كافر ، وانّما أجمعنا على وطء اليهودية والنصرانية بالملك ، والاستدامة ، والباقيات من الكافرات على ما هن عليه من

ص: 353


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
2- النحل : 75.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
4- الممتحنة : 10.
5- البقرة : 221.

الآيات ، والتخصيص يحتاج إلى دليل ، وليس العموم إذا خصّ ، يصير مجازا ، بل الصحيح من قول محصلي أصول الفقه ، أنّه يصح التمسّك بالعموم ، إذا خصّ بعضه ، فليلحظ ذلك.

واللقيط لا يجوز بيعه ، ولا شراؤه ، لأنّه حرّ ، وحكمه حكم الأحرار ، حتى أنّ محصّلي أصحابنا قالوا أنّه إذا كبر ، وأقرّ على نفسه بالعبودية ، لا يقبل إقراره ، وقال بعضهم : إنّه يقبل إقراره ، لأنّ إقرار العقلاء جائز على نفوسهم ، إلا الأحرار المشهوري الأنساب إذا أقروا بالعبودية ، فلا يقبل إقرارهم ، وهذا ما هو مشهور بنسب.

والصحيح أنّه لا يقبل إقراره بالعبودية ، لأنّ الشارع حكم عليه بالحرية.

ولا يجوز للإنسان أن يشتري شيئا من الغنم ، أو غيره من الحيوان ، من جملة قطيع ، بشرط أن ينتفي خيارها ، لأنّ ذلك مجهول ، بل ينبغي أن يميّز ما يريد شراءه ، أو يعيّنه بالصفة.

وإذا اشترك نفسان في شراء إبل ، أو بقر ، أو غنم ، ووزنا المال ، وقال واحد منهما ، أنّ لي الرأس والجلد ، بمالي من الثمن ، كان ذلك باطلا ، ويقسّم ما اشترياه على أصل المال بالسوية.

ومتى اشترى الإنسان حيوانا ، فهلك في مدّة الثلاثة الأيام ، قبل التصرّف من المشتري فيه فإنّه يهلك من (1) مال بايعه ، كما قدّمناه ، وكان لبائعه أن يحلفه باللّه تعالى ، أنّه ما كان أحدث فيه حدثا ، فإن حلف ، بري ء من العهدة واسترجع الثمن ، وكان من مال البائع ، وإن امتنع من اليمين ، ونكل عنها ، ردّ الحاكم اليمين على البائع ، فإذا حلف أنّه أحدث فيه حدثا ، لزم المشتري البيع ، وكان هلاكه من ماله ، دون مال بايعه.

وقال شيخنا في نهايته : وإن امتنع المشتري من اليمين ، لزمه البيع ، ووجب

ص: 354


1- ج : فإنّه من.

عليه الثمن (1).

وهذا لا يجوز ، لأنّه قضاء بمجرّد النكول ، ولا يجوز عندنا القضاء بمجرّد النكول ، بل لا بدّ بعد النكول من انضمام اليمين إليه ، لأنّ النكول كالشاهد الواحد ، أو اليد المتصرّفة ، لأنّ الأموال لا تنتقل عن ملاكها إلى الغير ، إلا إما بإقرار أو شاهدين ، أو شاهد ويمين ، أو نكول ويمين ، وهذا مذهب شيخنا في مسائل خلافه (2) ، ومبسوطة (3) ، ومذهب جميع أصحابنا.

وإذا باع الإنسان بعيرا ، أو بقرا ، أو غنما ، واستثنى الرأس والجلد ، كان ذلك جائزا صحيحا ، لأنّه استثنى معلوما من معلوم ، وهو مذهب السيّد المرتضى ، يناظر فيه المخالفين لنا عليه ، في انتصاره (4) ، ولأنّه لا دليل على خلاف ذلك ، من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، لأنّ أصحابنا مختلفون في ذلك ، وقال تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته وفي سائر كتبه : إذا باع الإنسان بعيرا ، أو بقرا ، أو غنما ، واستثنى الرأس والجلد ، كان شريكا للمبتاع بمقدار الرأس والجلد (5) ، معتمدا على خبر ضعيف (6) ، رواه إسماعيل بن أبي زياد السكوني ، وهذا الراوي عامي المذهب ، وإن كان يروي عن الصّادق عليه السلام ، فكيف يترك الأدلة القاهرة لرواية هذا الرجل؟ وشيخنا المفيد رحمه اللّه لم يقبل به ، ولا يودعه كتابه.

وإذا اشترى الإنسان ثلاث جوار مثلا كلّ واحدة منهن بثمن معلوم ، ثمّ حملهن إلى البيع ، الذي هو النخّاس ، وقال له : بع هؤلاء الجواري ، ولك عليّ

ص: 355


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
2- الخلاف : كتاب الشهادات ، المسألة 38.
3- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، فصل في النكول عن اليمين.
4- الانتصار : كتاب البيع والصرف ، المسألة 11.
5- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
6- الوسائل : الباب 22 من أبواب بيع الحيوان ، ح 2.

نصف الربح ، فباع ثنتين منهن بفضل ، وأحبل صاحبهن الثالثة ، لزمه أن يعطيه نصف الربح فيما باع ، وليس عليه فيما أحبل شي ء من الربح ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

وقد تكلّمنا على مثل هذا ، في باب السّمسار والدلال ، وقلنا ان هذا لا يلزم ، بل يستحق اجرة المثل ، فيما باع فحسب ، ولو لا إيراد شيخنا لهذه المسألة في نهايته ، ما أوردتها في كتابي هذا ، لأنّها قليلة الفقه ، سهلة المأخذ ، وإنّما حداه رحمه اللّه على إيرادها ، لأنّ بعض أخبار الآحاد ورد بها (2) ، فأوردها على ما هي عليه ، إيرادا لا اعتقادا.

وقد روي أنّ من اشترى جارية ، كانت سرقت من أرض الصلح ، كان له ردّها على من اشتراها منه ، واسترجاع ثمنها ، وإن كان قد مات ، فعلى ورثته ، فإن لم يخلف وارثا ، استسعيت الجارية في ثمنها (3).

قال محمّد بن إدريس ، رحمه اللّه : كيف تستسعى هذه الجارية بغير إذن صاحبها؟ وكيف تعتق ، ولا على ذلك دليل ، وقد ثبت أنّها ملك الغير؟ والأولى أن تكون بمنزلة اللقطة ، بل يرفع خبرها إلى حاكم المسلمين ، ليجتهد في ردّها على من سرقت منه ، فهو الناظر في أمثال ذلك.

وقد روي (4) أنّ من اعطى مملوك غيره ، وكان المملوك مأذونا له في التجارة مالا ، ليعتق عنه نسمة ، ويحج عنه فاشترى المملوك أباه ، وأعتقه ، وأعطاه بقية المال ، ليحج عن صاحب المال ، ثمّ اختلف مولى المملوك ، وورثة الآمر ، ومولى الأب الذي اشتراه ، فكلّ واحد منهم قال : إنّ المملوك اشتري بمالي ، كان

ص: 356


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
2- الوسائل : الباب 24 من أبواب بيع الحيوان ، ح 6.
3- الوسائل : الباب 23 من أبواب بيع الحيوان ، ح 1.
4- الوسائل : الباب 25 من أبواب بيع الحيوان ، ح 1.

الحكم أن يرد المعتق على مولاه الذي كان عنده يكون رقا له (1) كما كان ، ثم أيّ الفريقين الباقيين منهما ، أقام البيّنة ، بأنّه اشترى بماله ، سلّم إليه ، وإن كان المعتق قد حجّ ببقيّة المال ، لم يكن إلى ردّ الحجة سبيل ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : لا أرى لرد المعتق إلى مولاه ، وجها ، بل الأولى عندي ، أنّ القول قول سيد العبد المأذون له في التجارة ، والعبد المبتاع ، لسيّد العبد المباشر للعتق ، وإنّ عتقه غير صحيح ، لأنّ إجماع أصحابنا على أنّ جميع ما بيد العبد ، فهو من مال سيده ، وهذا الثمن في يد المأذون ، وأنّه اشتراه فإذا اشتراه فقد صار ملكا لسيد المأذون الذي هو المشتري ، فإذا أعتقه المأذون بعد ذلك ، فعتقه غير صحيح ، لأنّه لم يؤذن له في العتق ، بل اذن له في التجارة فحسب ، هذا إذا عدمت البينات ، فهذا تحرير القول والفتوى ، في ذلك فليلحظ ، وإنما هذا خبر واحد ، أورده شيخنا في نهايته إيرادا ، لا اعتقادا لصحته ، فلا يرجع عن الأدلة ، بأخبار الآحاد ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا.

وأيضا فوكالة العبد المأذون له في التجارة ، غير صحيحة بغير إذن سيده.

إذا اشترى عبدا على أنّه كافر ، فخرج مسلما ، لم يكن ، للمشتري الخيار ، ولا الأرش ، دليلنا أن ثبوت الخيار في ذلك ، وإلحاقه بالعيوب الموجبة الرد ، يحتاج الى دليل ، وأيضا النبي عليه السلام قال : الإسلام يعلو ولا يعلى عليه (3) هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (4).

والذي يقوى عندي ، أنّ للمشتري الرد ، والخيار ، لأنّ هذا تدليس ، والأغراض في ذلك تختلف.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : إذا بيّض وجه الجارية بالطلاء أو حمّر خدّيها

ص: 357


1- ج : رقّا كما.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب ابتياع الحيوان وأحكامه.
3- الوسائل : الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، ح 11 :
4- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 185 ، وليس فيه : ولا أرش ، والإسلام يعلو ولا يعلى عليه.

بالدّمام ، بكسر الدال ، وهو الكلكون ، وقال أيضا : إذا اشترى العبد ، أو الجارية فوجدهما ابخرين ، لم يثبت في جميع ذلك للمشتري الخيار (1).

وقال محمد بن إدريس : الذي يقتضيه مذهبنا ، إثبات الخيار للمشتري ، في جميع هذه المسائل ، لأنّ هذا تدليس وغرر ، والرسول عليه السلام نهى عن الغرر (2).

إذا اشترى الإنسان عبدا ، أو أمة فوجدهما زانيين ، لم يكن له الخيار.

وكذلك إذا بان العبد غير مختون ، فلا خيار لمشتريه ، في ردّه ، وإثبات ذلك عيبا يحتاج إلى دليل.

وكذلك إذا وجد الجارية تحسن الغناء ، فلا خيار له.

باب بيع الثمار

إذا باع الإنسان ثمرة منفردة عن الأصل ، مثل ثمرة النخل ، والكرم ، وسائر الفواكه ، فلا يخلو من أحد أمرين ، امّا أن يكون قبل بدو الصلاح ، أو بعده ، فإن كان قبل بدو الصلاح ، فلا يخلو البيع من أحد أمرين ، إمّا ان يكون سنتين فصاعدا ، أو سنة واحدة ، فإن كان سنتين فصاعدا ، فإنّه يجوز عندنا معشر الإمامية القائلين بمذهب أهل البيت عليهم السلام ، وإن كان سنة واحدة ، فلا يخلو البيع من ثلاثة أقسام ، إمّا أن يبيع بشرط القطع ، أو مطلقا أو بشرط التبقية ، فإن باع بشرط القطع في الحال ، جاز إجماعا ، وإن باع بشرط التبقية أو باع مطلقا ، فقد اختلف أصحابنا في ذلك ، لاختلاف أخبارهم وأحاديثهم عن أئمتهم عليهم السلام (3) ، فذهب قوم إلى أن البيع صحيح ، غير أنّه مكروه ، وذهب آخرون منهم إلى أنّ البيع غير صحيح ، وذهب آخرون منهم إلى أنّه مراعى ، وإن كان جائزا (4) ، إلا أنّه متى خاست الثمرة المبتاعة سنة واحدة قبل بدوّ

ص: 358


1- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 183.
2- عوالي اللئالى : ج 2 ، ص 248 ، ح 17.
3- الوسائل : الباب 1 من أبواب بيع الثمار.
4- ج : كان مكروها.

صلاحها ، فللبائع ما أغلت ، دون ما انعقد عليه البيع من الثمن.

والذي يقوى في نفسي الأوّل ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في استبصاره (1) وتهذيبه (2) ، ومذهب شيخنا المفيد في مقنعته (3) ، والثاني خيرة شيخنا أبي جعفر في نهايته (4) ، إلا أنّه رجع عنه في استبصاره ، كما حكيناه عنه ، لمّا جمع بين الأخبار ، ونقدها ، وتوسط بينها ، والثالث مذهب سلار ، ومن قال بقوله.

والذي يدلّ على صحة ما اخترناه ، قوله تعالى « وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا » وهذا بيع ، فمن منع منه ، يحتاج إلى دليل ، فإن قيل هذا غرر ، والرسول عليه السلام نهى عن الغرر ، قلنا : معاذ اللّه أن يكون غررا ، بل هذا بيع عين مرئية مملوكة ، يصح الانتفاع بها ، أو يؤول إلى الانتفاع ، وقوله تعالى ( إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (5) وهذه تجارة عن تراض ، والأخبار في ذلك كثيرة جدا (6) ، وربما بلغت حدّ التواتر ، وما روي بخلاف ذلك ، يحمل على الكراهة ، لئلا تتناقض الأدلة.

والذي يبطل اختيار سلار ومن اختار سلار قوله قول اللّه سبحانه « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » فأمر اللّه تعالى بالوفاء بالعقود ، والأمر في عرف الشريعة يقتضي الوجوب ، ومن راعى ما راعى سلار ما وفي بالعقود ولا امتثل الأمر.

فأمّا بيع ثمرة النخل وغيره سنة واحدة ، من قبل أن يخلق فيها شي ء من الطّلع ، ولا ظهر ، فلا يجوز عندنا إجماعا ، وكذلك عند المخالف ، وكذلك لا يجوز بيعها قبل أن تطلع سنتين ، بغير خلاف بيننا وبين المخالفين ، وانّما يجوز عندنا خاصة ، بيعها إذا اطلعت قبل بدو الصلاح سنتين ، وعند المخالفين لمذهب أهل

ص: 359


1- الإستبصار : ج 3 ، باب متى يجوز بيع الثمار من كتاب البيوع ، ص 88.
2- التهذيب : ج 7 ، باب بيع الثمار ، ص 88.
3- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب بيع الثمار ص 602
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.
5- النساء : 29.
6- الوسائل : الباب 1 من أبواب بيع الثمار ، الحديث 2 - 8 - 13 - 17 وغيرها ممّا يوجد في أبواب الثمار من كتاب التجارة.

البيت عليهم السلام لا يجوز.

وقد يشتبه على كثير من أصحابنا ذلك ، ويظنّون أنّه يجوز بيعها سنتين ، وإن كانت فارغة ولم تطلع بعد وقت العقد ، وهذا بخلاف ما يجدونه في تصانيف أصحابنا ، وخلاف إجماعهم ، وأخبار أئمتهم ، وفتاويهم ، لأنّهم أجمعوا على أنّ الثمرة إذا لم يبد صلاحها ، فلا بأس ببيعها سنتين من غير كراهة ، ولا انضمام إلى العقد غيره ، وهذا الذي تنطق به أخبارنا ، ويودعه مشايخنا تصانيفهم ، لأنّها إذا اطلعت قبل بدوّ الصلاح ، فلا يجوز بيعها عند بعضهم (1) سنة واحدة بانفرادها ، على ما حكيناه عنهم ، من غير انضمام إلى العقد غيرها ، فأمّا إذا باعها حينئذ سنتين ، من غير انضمام إلى العقد غيرها ، زال الخلاف ، وجاز عندنا جميعا ، من غير كراهة ولا حظر ، على جميع الأقوال ، وكذلك إذا باعها سنة واحدة بانضمام إلى العقد غيرها زال الخلاف حينئذ أيضا ، فقامت السنة الثانية ، مقام انضمام الشي ء إلى العقد عليها ، قبل بدوّ صلاحها وبعد خروجها وطلوعها ، سنة واحدة عند من منع من بيعها منفردة بعد طلوعها وقبل بدو صلاحها سنة واحدة.

ولا خلاف أنّه إذا باعها سنة واحدة قبل خروجها ، من غير انضمام إليها غيرها في العقد ، لا يصحّ هذا البيع ، لأنّه غرر ، وبيع الغرر لا يصحّ بغير خلاف ، وكذلك بيعها سنتين قبل خروجها ، فإنّه غرر بغير خلاف ، لأنّه بمنزلة السنة الواحدة قبل خروجها من غير انضمام ، إلى العقد غيره ، ولو لا إجماعنا على أنّه يجوز بيعها سنتين ، بعد خروجها وقبل بدوّ صلاحها ، لما جاز ذلك عند من قال من أصحابنا لا يجوز بيعها سنة واحدة بعد خروجها وقبل بدوّ صلاحها من غير انضمام شي ء إليها في العقد.

فأمّا إذا باعها ومعها شي ء آخر منضما إلى العقد سنة واحدة قبل خروجها ،

ص: 360


1- ج : عندهم.

فالأولى أن يقال لا بأس بذلك ، فإن قيل : هذا غرر ، قلنا الشي ء المنضم إلى العقد ، يخرجه من كونه غررا.

والذي اعتمده ، وأعمل عليه وأفتي به ، أنّه لا يصح بيعها قبل أن تطلع ومعها شي ء آخر ، لأنّ البيع حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك ، ولو لا الإجماع المنعقد على صحة بيعها إذا أطلعت سنتين ، لما جاز ذلك ، وإلحاق غيره به قياس ، لا نقول به ، ولو ساغ ذلك ، لساغ أن يباع ما تحمل الناقة ومعه شي ء آخر.

فأمّا إذا كان البيع بعد بدوّ الصلاح ، فإنّه جائز على سائر الأحوال ، وجميع الأقوال.

وبدو الصلاح يختلف بحسب اختلاف الثمار ، فان كانت ثمرة النخل وكانت مما تحمر ، أو تسود ، أو تصفر ، فبدو الصلاح فيها ذلك ، وان كانت بخلاف ذلك ، فحين يتموه فيها الماء الحلو ، ويصفو لونها ، ولا يعتبر التلون ، والتموّه ، والحلاوة ، عند أصحابنا ، إلّا في ثمرة النخل خاصة ، وإن كانت الثمرة ممّا يتورّد ، فبدو صلاحها ، أن ينتثر الورد وينعقد ، وفي الكرم أن ينعقد الحصرم ، وإن كانت غير ذلك ، فحين يخلق ويشاهد.

وقال بعض المخالفين إن كان مثل القثاء والخيار الذي لا يتغيّر طعمه ، ولا لونه ، فبدو صلاحه أن يتناهى عظم بعضه ، وقد قلنا أنّ أصحابنا لم يعتبروا بدو الصلاح ، إلا فيما اعتبروه من النخل ، والكرم ، وانتثار الورد في الذي يتورّد.

ولا اعتبار بطلوع الثريا في بدو الصلاح ، على ما روي في بعض الأخبار (1) ، وهو قول بعض المخالفين.

وإن كان في بستان واحد ثمار مختلفة ، وبدا صلاح بعضها ، جاز بيع الجميع ، سواء كان من جنسه ، أو من غير جنسه.

ص: 361


1- وهو المروي عن ابن عمر على ما أورده في كتاب الخلاف : كتاب البيوع ، ذيل المسألة 143.

ومتى باع الإنسان نخلا قد أبّر ، كانت ثمرته للبائع ، دون المبتاع ، إلا أن يشترطها المبتاع ، فإن شرطها في حال العقد ، كانت له على ما شرط ، فأمّا إن باعها قبل التأبير ، فهي للمبتاع ، إلا أن يشترطها البائع ، ولا اعتبار عند أصحابنا بالتأبير ، إلا في النخل ، فأمّا ما عداه ، فمتى باع الأصول وفيها ثمرة ، فهي للبائع ، إلا أن يشترطها المبتاع ، سواء لقّحت ، وأبّرت ، أو لم تلقّح ، لأنّ العقد ما وقع إلا على نفس الأصل ، دون الثمرة ، ولأنّ الأصل والثمرة جميعا ، ملك للبائع ، فبالعقد انتقل الأصل إلى ملك المبتاع ، ولا دليل على انتقال الثمرة ، فبقيت على ما كانت في ملك البائع ، وإلحاق ذلك واعتباره بالتأبير بالنخل ، قياس لا نقول به ، لأنّه عندنا باطل ، فليلحظ ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى باع الإنسان نخلا ، قد أبرّ ولقّح ، كانت ثمرته للبائع ، دون المبتاع ، إلا أن يشرط المبتاع الثمرة ، فإن شرّط ، كان له على ما شرط ، وكذلك الحكم فيما عدا النخل ، من شجر الفواكه (1).

قوله رحمه اللّه : وكذلك الحكم فيما عدا النخل من شجر الفواكه ، المراد به ومقصوده ، أنّ الثمرة للبائع ، كما قال ذلك في النخل ، لأنّه رحمه اللّه لم يذكر في النخل إلا أنّها أعني ثمرتها ، إذا أبرت ولقحت للبائع ، ولم يذكر المسألة الأخرى التي تكون الثمرة للمبتاع ، وهي إذا لم تؤبّر وتلقح تكون للمبتاع ، إلا من حيث دليل الخطاب ، ودليل الخطاب متروك ، غير معمول به ، عند المحققين (2) من أصحابنا إلا أن يقوم دليل غيره ، وبالإجماع عرفنا أنّها إذا لم تؤبر الثمرة وباع الأصول فإن الثمرة للمبتاع في النخل ، بقي المعطوف عليه في قوله رحمه اللّه : « وكذلك الحكم فيما عدا النخل من شجر الفواكه » في أن الثمرة للبائع ، لأنّه ما ذكر إلا ما يختص بالبائع ، وأنّها له ، ثم عطف ما عد النخل على النخل ، بعد

ص: 362


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.
2- ج : المحصّلين.

التأبير ، بقي ما عدا النخل لا إجماع منّا عليه ، ودليل الخطاب باطل عندنا ، على ما قدّمناه ، وقد قلنا فيما مضى أنّ الأصل والفرع « أعني الثمرة » جميعا للبائع ، فبالعقد يخرج الأصل ، وينتقل إلى ملك المبتاع ، ولا دليل على انتقال الثمرة إلى ملكه ، إلا ما أجمعنا عليه ، من الطّلع الذي لم يؤبّر ، وما عداه من سائر الثمار ، مبقاة على الأصل المقرر ، والأدلة الممهّدة من أنّها ملك للبائع ، هي والأصل ، فينتقل الأصل إلى ملك المشتري بالعقد ، وتبقى الثمرة على ملك صاحبها ، لا دليل على انتقالها ، ولا استدراك على شيخنا أبي جعفر في نهايته ، على ما حرّرناه ، ولا اشتباه في قوله على ما قررناه ، وبيّناه.

فإن قيل : فقد قال في المبسوط بعد شرحه للنخل ، وتأبيره : « وحكم سائر الثمار حكم النخل وثمرتها ، لأنّ أحدا لا يفصل » (1).

قلنا : فقد قال في هذا الكتاب المشار إليه : « وأمّا ما عدا النخل من الأشجار الثابتة التي لها حمل في كل سنة ، خمسة أضرب :

أحدها مثل النخل والقطن وقد بيّنا حكمهما.

والثاني تخرج الثمرة بارزة ، لا تكون في كمام ولا ورد ، مثل العنب والتين ، وما أشبه ذلك ، فإذا باع أصل العنب والتين ، فإن كان قد خرجت الثمرة ، فهي للبائع ، إلا أن يشترط المشتري ، وإن لم يكن خرجت ، وانّما خرجت في ملك المشتري ، فهي للمشتري.

والثالث أن تخرج الثمرة في ورد ، فإذا باع الأصول وقد خرج وردها وتناثر ، وظهرت الثمرة ، فهي للبائع ، إلا أن يشترط المبتاع ، وإن لم يتناثر وردها ، ولم تظهر الثمرة ، ولا بعضها ، فإنّ الثمرة للمشتري.

والضرب الرابع يخرج الثمرة في كمام ، مثل الجوز ، واللوز ، وغيرهما ، مما دونه

ص: 363


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في أحكام العقود ، ص 101 - 102.

قشر يواريه ، إذا ظهر ثمرته ، فالثمرة للبائع ، إلا أن يشترطها المبتاع » هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة (1).

ألا ترى « أرشدك اللّه » إلى قوله رحمه اللّه : إنّ الثمرة في جميع الأربع مسائل ، جعلها للبائع ، وحكم له بها بنفس الظهور والبروز والخروج ، فلو كان حكمها حكم النخل ، ما جعلها للبائع ، لأنّ البائع لا تكون الثمرة له إذا باع الأصول ، عند أصحابنا ، إلا إذا كانت مؤبرة ، ملقحة ، فأمّا إذا كانت طالعة مخلوقة ، قد خرجت ووبّرت من نفس النخلة قبل تأثيرها ، فهي بإجماعهم للمبتاع ، إلا أن يشترطها (2) البائع ، وبالتأبير بعد الخروج تكون للبائع ، إلا أن يشترطها المبتاع ، وأيضا فأخبارنا عن أئمتنا عليهم السلام (3) ، لم ترد في التأبير واعتباره ، إلا في النخل خاصة ، وإلا فالسّبر (4) بيننا ، فلا يجوز لنا أن نتعداها إلى غيرها من الثمار.

وقال رحمه اللّه ، في مبسوطة : إذا باع نخلا قد أطلع ، فإن كان قد أبرّ ، فثمرته للبائع ، وإن لم يكن قد أبّر ، فثمرته للمشتري ، وكذلك إذا تزوج بامرأة على نخلة مطلعة ، أو تخالعه المرأة على نخلة مطلعة ، أو يصالح رجلا من شي ء على نخلة مطلعة ، أو يستأجر دارا مدة معلومة بنخلة مطلعة ، قال رحمه اللّه : فجميع ذلك ، إن كان قد أبّر ، فثمرته باقية على ملك المالك الأوّل ، وإن لم يكن أبّر ، فهو لمن انتقل إليه النخل بأحد هذه العقود ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه (5).

قال محمد بن إدريس ، مصنف هذا الكتاب : وهذا الذي ذكره رحمه اللّه ، مذهب المخالفين لأهل البيت عليهم السلام ، لأنّ جميع هذه العقود ، الثمرة فيها للمالك الأول ، سواء أبرت ، أو لم تؤبّر ، بغير خلاف بين أصحابنا ، والمخالف حمل باقي العقود على عقد البيع ، وقاسها عليه ، ونحن القياس عندنا

ص: 364


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في أحكام العقود ، ص 101 - 102.
2- ج : يشترط.
3- الوسائل : الباب 32 من أبواب أحكام العقود.
4- ج : ما السير.
5- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع ، فصل في أحكام العقود ، ص 100.

باطل ، بغير خلاف بيننا ، فلا يظنّ ظانّ ، ويشتبه على من يقف على كتابه المبسوط ، أنّ جميع ما قاله فيه واختاره مذهب أصحابنا ، بل معظمه مذهب المخالفين وفروعهم ، اختار رحمه اللّه منها ما قوى عنده في الحال الحاضرة ، ولم يعاود النظر فيه ، فليلحظ ما قلناه ، بعين التدبّر والتدين ، دون التقليد لقديم الزمان ، وقول الأول ، فكان الفضل للمتقدّم ، بل الأولى أن نتبع الأدلة ، وقول أمير المؤمنين عليه السلام : أعرف الحق تعرف أهله (1) أولى من قول الشاعر من الرّعاع ، وهو عدي بن الرقاع.

وإذا باع نخلة مؤبّرة ، فقد قلنا أنّ الثمرة للبائع ، والأصل للمشتري ، فإذا ثبت هذا ، فلا يجب على البائع نقل هذه الثمرة ، حتى تبلغ أوان ، وقيل إبان ، بكسر الألف والباء المنقطة بنقطة واحدة من تحتها ، مشددة ، وهو وقت الجداد ، بالجيم المفتوحة ، والدالين الغير المعجمتين ، هذا هو الأظهر عند أهل اللغة ، وبعض أصحابنا يقول ذلك بالذّالين المعجمتين ، في العرف والعادة ، وكذلك إذا باع ثمرة منفردة بعد بدو الصلاح فيها ، وجب على البائع تركها ، حتّى تبلغ أوان الجداد في العرف والعادة.

ولا يجوز بيع الخضراوات ، بفتح الخاء ، قبل أن تظهر ، ويبدو صلاحها.

ولا يجوز بيع ما يخرج حملا بعد حمل قبل ظهوره ، كالبادنجان ، والقثّاء ، والخيار والبطيخ ، وأشباه ذلك ، وقد روي جوازه (2) ، والأحوط ما قلناه ، لأنّ ذلك غرر.

ولا بأس ببيع الزرع بشرط القصل ، والقصل هو القطع ، ويجب على المبتاع قطعه ، قبل أن يسنبل ، فإن لم يقطعه كان البائع بالخيار ، إن شاء قطعه ،

ص: 365


1- الوسائل : الباب 10 من أبواب صفات القاضي الحديث 32. أمالي المفيد : المجلس الأوّل ، الحديث 3 ص 5، وقد روي مضمونه في نهج البلاغة في قسم الحكم عن كلامه عليه السلام ، الرقم (262) بهذه العبارة : « انك لم تعرف الحق فتعرف من أتاه ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه ».
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.

فإن لم يقطعه وبلغ كانت الزكاة إن بلغ النصاب على المشتري ، وعليه أيضا أجرة مثل تلك الأرض ، هذا إذا كانت الأرض عشريّة ، فإن كانت خراجيّة ، كان على المبتاع خراجه.

فأمّا إذا باع الزرع مطلقا عن شرط القطع والقصل ، أو مشروطا بالتبقية ، فلا يجوز للبائع قطعه ، ويجب عليه تبقيته إلى أوان الحصاد ، ولا اجرة له في تبقيته ، بخلاف ما قلناه في المسألة الأولى ، لأنّ هناك تركه غير مستحق ، لأنّه اشترط القطع ، وهذا تركه مستحق ، فوجبت التبقية.

وقال شيخنا في نهايته : ولا بأس بأن يبيع الزرع قصيلا ، وعلى المبتاع قطعه قبل أن يسنبل ، فإن لم يقطعه ، كان البائع بالخيار ، إن شاء قطعه ، وإن شاء تركه ، وكان على المبتاع خراجه (1).

والمراد بقوله رحمه اللّه : « ولا بأس بأن يبيع الزرع قصيلا » ما قلناه من أنّه يبيعه للقطع والقصل ، فلأجل هذا قال : وعلى المبتاع قطعه ، وقوله رحمه اللّه : « وكان على المبتاع خراجه » يريد به طسق الأرض الذي قد قبل به السلطان ، دون الزكاة ، لأنّ الأرض خراجية ، وهي المفتتحة عنوة ، دون أن تكون عشرية ، لأنّها إن كانت عشرية ، كانت عليه الزكاة فحسب ، والخراجيّة عليها الخراج ، الذي هو السهم الذي قد تقبلها به ، فإن فضل بعده ما فيه الزكاة ، تجب عليه الزكاة ، وإن لم يفضل ما يجب فيه ذلك ، لا زكاة عليه فيه.

وروي (2) أنّه إذا اشترى الإنسان نخلا ، على أن يقطعه أجذاعا فتركه حتى أثمر ، كانت الثمرة له ، دون صاحب الأرض ، فإن كان صاحب الأرض ممن قام بسقيه ومراعاته ، كان له اجرة المثل.

قال محمّد بن إدريس : أمّا الثمرة فإنّها لصاحب النخل ، دون صاحب الأرض ، بلا خلاف ، وأمّا صاحب الأرض ، فلا يستحق أجرة السقي ،

ص: 366


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.
2- الوسائل : الباب 9 من أبواب بيع الثمار ، ح 1 و 2.

والحفاظ ، والمراعاة ، لأنّه متبرّع بذلك ، إلا أن يأمره صاحب النخل ، فيكون له اجرة المثل ، فإن لم يأمره بذلك ، فليس له إلا اجرة الأرض ، على ما قلناه في أرض الزرع ، حرفا فحرفا.

ولا بأس أن يبيع الرطبة وهي القت ، الجزة أو الجزتين ، وكذلك ورق الشجر من التوت ، بتائين ، والأس ، والحناء ، وغير ذلك ، لا بأس ببيعها خرطة ، وخرطتين ، فإن باع أصل ذلك ، وفيه ورقه فالورق للبائع ، لأنّه بمنزلة الثمرة ، وليس كذلك ، إذا باع التوت ، وفيه ورقه ، لأنّه ليس بثمر ، لكنّه يجري مجرى الخوص من النخل ، فإنّه للمبتاع.

ولا بأس أن يبيع الإنسان ما ابتاعه من الثمرة ، بزيادة ممّا اشتراه ، وإن كان قائما في الشجر.

ولا يجوز بيع الثمرة في رءوس النخل بالتمر ، كيلا ولا جزافا ، يدا بيد ، ولا نسيئة ، وهي المزابنة التي نهى النبي صلى اللّه عليه وآله عنها (1) وأصل الزبن في اللغة ، الدفع ، ومنه الحرب الزبون ، التي تدفع أبطالها إلى الموت.

وكذلك لا يجوز بيع الزرع بالحنطة ، لا كيلا ولا جزافا ، لا يدا ولا نسيئة وهي المحاقلة المنهي عنها (2) « وأصل الحقل ، الأقرحة » وسواء باعه بحنطة من غير تلك الأرض ، أو من تلك الأرض ، وكذلك التمر سواء باعه بتمر من تلك النخل ، أو بتمر من غير تلك النخل ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، وهو الذي تقتضيه أصول مذهبنا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز بيع الثمرة في رءوس النخل ، بالتمر كيلا ولا جزافا ، وهي المزابنة التي نهى النبي صلى اللّه عليه وآله عنها وكذلك لا يجوز بيع الزرع بالحنطة من تلك الأرض ، لا كيلا ولا جزافا ، وهي المحاقلة ، فإن باعه بحنطة من غير تلك الأرض ، لم يكن به بأس ، وكذلك إن باع

ص: 367


1- الوسائل : الباب 13 من أبواب بيع الثمار ، ح 5 - 1 - 2.
2- الوسائل : الباب 13 من أبواب بيع الثمار ، ح 5 - 1 - 2.

الثمرة بثمرة من غير ذلك النخل ، لم يكن أيضا به بأس (1).

وإلى هذا القول يذهب في مسائل خلافه (2) ، إلا أنّه رجع عن ذلك كلّه وعاد إلى القول الصحيح الذي اخترناه ، في مبسوطة ، فقال : بيع المحاقلة والمزابنة محرّم بلا خلاف ، وإن اختلفوا في تأويله ، فعندنا أنّ المحاقلة بيع السنابل التي انعقد فيها الحبّ أو اشتد بحبّ من ذلك السنبل ، ويجوز بيعه بحب من جنسه ، على ما روي في بعض الأخبار (3) والأحوط أن لا يجوز بيعه بحب من جنسه على كل حال ، لأنّه لا يؤمن أن يؤدّي إلى الربا ، والمزابنة هي بيع التمر على رءوس النخل بتمر منه ، فأمّا بتمر موضوع على الأرض فلا بأس به ، والأحوط أن لا يجوز ذلك ، لمثل ما قلناه في بيع السنابل سواء ، هذا آخر كلامه في مبسوطة رحمه اللّه (4).

ألا تراه إن ما ذكره واختاره في نهايته جعله هاهنا رواية ضعيفة ، لأنّه قال : على ما روي في بعض الأخبار ، فلا يظنّ بالرّجل (5) أنّ جميع ما أورده في نهايته أخبار متواترة يعمل بها ويعتقد صحّتها ، معاذ اللّه ، فاني لا أستجمل لذوي البصائر والتحصيل أن يعتقدوا في شيخنا - مع جلالة قدره - هذا ، وما اخترناه أيضا مذهب شيخنا المفيد في مقنعته وجماعة من أصحابنا ، لأنّ النهي عام ، ولا مخصّص له من كتاب ولا سنة ولا إجماع.

ويجوز بيع العرايا ، وهي جمع عريّة ، بفتح العين ، وكسر الراء ، وتشديد الياء ، وهو أن يكون لرجل في بستان غيره نخلة يشقّ عليه الدخول إليها أو في داره ، يجوز أن يبيعها منه بخرصها تمرا ، نقدا يدا بيد لا نسيئة ، لأنّ غير العرايا لا يجوز نقدا يدا بيد ولا نسيئة فامتازت العرايا من غيرها بأن رخّص فيها لمكان الضرورة بأن تباع بخرصها تمرا ، نقدا يدا بيد لا نسيئة وغيرها لا يجوز نقدا ولا

ص: 368


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.
2- الخلاف : كتاب البيوع ، مسألة 152 - 153.
3- الوسائل : الباب 13 من أبواب بيع الثمار ، ح 5 ، وفي النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.
4- المبسوط : فصل بيع الثمار ، ج 2 ، ص 118.
5- ج : فلا يظنّ ظانّ.

نسيئة ولا يجوز في غير النخل ذلك ، وإن كان له نخل متفرق ، في كل بستان نخلة ، جاز له أن يبيع كلّ ذلك ، واحدة واحدة ، بخرصها تمرا ، بيع العرايا.

وإذا أراد الإنسان أن يشتري العرية وجب أن ينظر المتبايعان إلى التمرة التي على النخلة ويحزراها (1) ، فإذا عرفا مقدار الرطب وإذا جف صار كذا تمرا فيبيع بمثله من التمر وزنا ، حسب ما يقع الحزر عليه.

ومن شرط صحّة هذا البيع أن يتقابضا قبل التفرّق ، لأنّ ما فيه الربا لا يجوز التفرّق فيه قبل التقابض ، والقبض في التمر الموضوع على الأرض النقل ، وفي الرطب التخلية ، وجملته أنّه يراعي شرطان : أحدهما المماثلة ، من طريق الخرص ، والثاني التقابض قبل التفرّق بالبدن هكذا أورده شيخنا في مبسوطة (2).

والذي تقتضيه الأدلة أنّه يجوز التفرّق قبل القبض في التمر الذي هو ثمن العرية ، وانّما ذلك على ما يذهب إليه « رحمه اللّه » من أنّ ما يوزن ويكال إذا بيع بجنسه مثلا بمثل لا يجوز التفرّق قبل القبض ، وإنّما ذلك في الصرف خاصّة ، وما عداه فمكروه ، وليس بمحظور ، وإلى هذا يذهب رحمه اللّه في مبسوطة (3) وهو الصحيح.

والعريّة لا تكون إلا في النخل خاصة ، فأمّا في الكرم وشجر الفواكه فإنّه لا دليل عليه ، وقد قيل في تفسير العرايا أقوال كثيرة :

فقال قوم : العرايا النخلات يستثنيها الرجل من حائطه إذا باع ثمرته ، ولا يدخلها في البيع ولكنّه يبقيها لنفسه ، فتلك الثنيا لا تخرص عليه ، لأنّه قد عفي لهم عمّا يأكلون ، وسميت عرايا ، لأنّها اعريت من أن تباع أو تخرص (4) في الصدقة ، فرخص النبي صلى اللّه عليه وآله لأهل الحاجة والمسكنة ، الذين لا ورق لهم ولا ذهب وهم يقدرون على التمر أن يبتاعوا بتمرهم من أثمار هذه

ص: 369


1- الحزر : الحدس والتقدير.
2- المبسوط : فصل في بيع الثمار ، ج 2 ، ص 19 - 118.
3- المبسوط : كتاب البيوع ، فصل في ذكر ما يصح فيه ، الربا وما لا يصح ، ج 2 ، ص 89.
4- ج : وتخرص.

العرايا بخرصها ، فعل ذلك بهم رفقا لأهل الحاجة ، الذين لا يقدرون على الرطب ، ولم يرخّص (1) لهم أن يبتاعوا منه ما يكون للتجارة والذخائر.

وقال آخرون : هي النخلة يهب الرجل ثمرتها للمحتاج ، ويعريها إيّاه ، فيأتي المعرا ، وهو الموهوب له ، إلى نخلته تلك ليجتنيها ، فيشق ذلك على المعرى وهو الواهب لمكان أهله في النخل ، فرخّص للبائع خاصة أن يشتري ثمرة تلك النخلة من الموهوب له بخرصها.

وقال آخرون : شكا رجال إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أنّهم محتاجون إلى الرطب ، يأتي ولا يكون بأيديهم ما يبتاعون به فيأكلونه مع الناس ، وعندهم التمر ، فرخّص لهم أن يبتاعوا العرايا ، بخرصها من التمر الذي في أيديهم.

وقال آخرون : الإعراء أن يهب له ثمرة نخلة أو نخلتين أو نخلات ، ومنه الحديث : أنّه رخّص عليه السلام في بيع العرايا بخرصها تمرا (2) ، وذلك أن يمنح الرجل النخلة فيبيع ثمرتها بالتمر ، وهذا لا يجوز في غير العرايا ، وإنما سميت عريّة ، لأنّ من جعلت له يعريها من حملها ، وأنشد الفراء :

ليست بسنهاء ولا رجبيّة *** ولكن عرايا في السّنين الحوائج

معنى سنهاء أي مرت عليها السّنون المجدبة ، وقوله : « رجبيّة » نخلة مرجّبة ، وهي التي يبنى حولها البناء لئلا تسقط ، وهو كالتكريم لها.

وقال الهروي صاحب الغريبين : « العرايا هي أنّ من لا نخل له من ذوي اللحمة والحاجة ، ويفضل له من قوته التمر ، ويدرك الرطب ، ولا نقد بيده ليشتري به الرطب لعياله ، ولا نخيل له ، فيجي ء إلى صاحب النخل فيقول : بعني ثمرة نخلة أو نخلتين بخرصها من التمر ، فيعطيه ذلك الفضل من التمر بثمر (3) تلك النخلات ، ليصيب من أرطابها مع الناس » فرخص النبي صلّى اللّه عليه

ص: 370


1- ج : لم يرض.
2- الوسائل : الباب 14 من أبواب بيع الثمار ، ح 1 و 2.
3- ج : بثمن.

وآله من جملة ما حرّم من المزابنة ، وواحدة العرايا عريّة فعيلة بمعنى مفعولة ، من عراه يعروه ، ويحتمل أن يكون عرى يعرى ، كأنّها عريت من جملة التحريم ، فعريت أي خلت وخرجت ، فهي فعيلة بمعنى فاعلة ، ويقال : هو عرو من هذا الأمر أي خلو منه.

قال محمّد بن إدريس : فهذا جملة ما وقفت عليه في تفسير العرايا ، وأشدّه تحقيقا قول الهروي.

ويجوز للإنسان أن يبيع ثمرة بستان ، ويستثني منها أرطالا معلومة ، ولا مانع منه ، وإن استثنى ربعه أو ثلثه أو نخلات بأعيانها جاز بلا خلاف ، وهو أحوط ، وإن باع ثمرة بستانه إلا نخلة لم يعينها لم يصحّ : لأنّ ذلك مجهول.

إذا قال : بعتك هذه الثمرة بأربعة آلاف إلا ما يخصّ ألفا منها صحّ ، ويكون المبيع ثلاثة أرباعها ، لأنّه يخصّ ألفا منها ربعها ، وإن قال : بعتك هذه الثمرة بأربعة آلاف إلا ما يساوي ألفا منها بسعر اليوم لم يجز ، لأنّ ما يساوي ألف درهم من الثمرة لا يدري قدره ، فيكون مجهولا.

ومتى اشترى الثمرة فهلكت لم يكن للمبتاع رجوع على البائع ، فإن كان قد استثنى من ذلك شيئا كان له من ذلك بحسابه ، من غير زيادة ولا نقصان.

وإذا مرّ الإنسان بشي ء من الفواكه جاز له أن يأكل منها مقدار كفايته من غير إفساد ، ما لم يمنعه صاحبها من ذلك ، ولا يجوز له أن يحمل منها شيئا معه على حال إلا بإذن صاحبه ، وهذا يكون إذا لم يقصد من يأكل منها الممر إليها من أول مضيّه ، بل قصد المضي إلى غيرها ثمّ اجتاز بها فدخلها.

وقد روي أنّه إذا كان بين نفسين نخل أو شجر فاكهة ، فقال أحدهما لصاحبه : أعطني هذا النخل بكذا وكذا رطلا ، أوخذ مني أنت بذلك ، فأيّ الأمرين فعل كان جائزا ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (1).

ص: 371


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع الثمار.

إن أراد بذلك الثمرة فلا يجوز ، لأنّ ذلك داخل في المزابنة ، وإن أراد نفس ماله من النخل دون الثمرة ، فباع ماله من نفس النخل دون الثمرة بالأرطال المذكورة ، كان جائزا ، وإن كان ذلك صلحا جاز ، لأنّه ليس ببيع.

باب بيع المياه والمراعى وحريم الحقوق وأحكام الأرضين وغير ذلك

إذا كان لإنسان شرب في قناة ، فاستغنى عنه ، جاز أن يبيعه بذهب ، أو فضة ، أو حنطة ، أو شعير ، أو غير ذلك من الأعراض والسلع ، وكذلك إن أخذ الماء من نهر عظيم في ساقية يعملها ولزم عليها مئونة ثم استغنى عن الماء جاز له بيعه ، والمعنى في هذا وأمثاله أنّه إن أريد نفس الملك فلا خلاف ولا مسألة ، وانّما المقصود والمراد في ذلك منفعة الشرب ، والسناقية أياما معلومة فسماه بيعا ، وإن كان اجارة ، لا مانع يمنع من تسمية ذلك بيعا في هذا الموضع ، للإجماع عليه ، والأفضل في ذلك أن يعطيه لمن يحتاج إليه من غير بيع عليه ، وهذه هي النطاف والأربعاء التي نهى النبي صلى اللّه عليه وآله عنهما.

قال محمّد بن إدريس : النطاف ، جمع نطفة وهي الماء ، سواء كان كثيرا أو قليلا ، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث الخوارج : « واللّه ما يعبرون هذه النطفة » (1) يعني عليه السلام النهر ، والأربعاء ممدود ، جمع ربيع ، وهو النهر ، وقضى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في سيل وادي مهزور.

بالزّاي أولا والرّاء ثانيا.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : مهزور السيل ، الموضع الذي يجتمع فيه

ص: 372


1- لم نعثر على هذه العبارة منه عليه السلام إلا أنّ في نهج البلاغة - قسم الخطب ، الرقم 59 - أنه عليه السلام لما عزم على حرب الخوارج وقيل له : إنّ القوم عبروا جسر نهروان قال عليه السلام : « مصارعهم دون النطفة ، واللّه لا يفلت منهم عشرة ولا يهلك منكم عشرة » وقال الشريف الرضي « قدس سره » يعني بالنطفة ماء النهر.

ماء السّيل (1) وفي غريب الحديث لأبي عبيد القاسم بن سلام : سيل وادي مهزور ، وادي بني قريظة ، وكذا أورده ابن دريد في الجمهرة : مهزور بالميم المفتوحة (2) ، والهاء المسكنة ، والزّاء بعد هاء المضمومة ، والواو المسكنة ، والراء غير المعجمة وقال شيخنا محمد بن علي بن بابويه في كتابه (3) من لا يحضره فقيه : سمعت من أثق به من أهل المدينة أنّه وادي مهزور ، ومسموعي من شيخنا محمد بن الحسن رضي اللّه عنه أنّه وادي مهروز بتقديم الراء غير المعجمة ، ذكر أنّها كلمة فارسيّة ، وهو من هرز الماء ، والماء الهرز بالفارسيّة : الزائد على المقدار الذي يحتاج إليه (4) هذا آخر كلام ابن بابويه رحمه اللّه (5).

وأمّا من يقول : مهرور ، براءين غير معجمتين ، على ما كنا نسمع من أدركناه. من أصحابنا فذلك تصحيف بلا ريب.

ان يحبس الأعلى على الذي هو أسفل منه ، للنخل إلى الكعب ، وللزرع إلى الشراك ، ثم يرسل الماء إلى من هو دونه ، ثمّ كذلك يعمل من هو دونه مع من هو أدون منه قال ابن أبي عمير : المهزور موضع الوادي (6) ، هكذا حكى شيخنا في نهايته (7) وقال في مبسوطة : روى أصحابنا أن الأعلى يحبس إلى الساق للنخل ، وللشجر إلى القدم ، وللزرع إلى الشراك (8).

ولا بأس أن يحمي الإنسان الحمى من المرعى ، والكلا ، إذا كان في أرضه وسقاه بمائه ، فأمّا غير ذلك فلا يجوز بيعه ، لأنّ الناس كلهم فيه شرع - بفتح الرّاء - سواء.

ومن باع نخيلا ، واستثنى منها نخلة معيّنة في وسطها ، جاز له الممر إليها

ص: 373


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب احياء الموات ، فصل في تفريع القاطع والإرفاق ، ص 284.
2- ج : في الجمهرة ، بالميم المفتوحة.
3- ج : كتاب.
4- ج : يحتاج.
5- من لا يحضره الفقيه : ج 3 باب الحكم في سيل وادي مهزور ، ص 99.
6- الوسائل : الباب 8 من أبواب إحياء الموات ، ح 1 ، باختلاف يسير.
7- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع المياه والمراعى ، وفيه وقال ابن أبي عمير.
8- المبسوط : ج 3 ، كتاب احياء الموات ، فصل في تفريع القاطع والإرفاق ، ص 284.

والمخرج منها ، وله مدى جرائدها من الأرض ، على ما روي (1).

وحدّ ما بين بئر المعطن إلى بئر المعطن ، أربعون ذراعا ، وحدّ ما بين بئر الناضح إلى بئر الناضح ستون ذراعا ، وما بين

العين إلى العين خمسمائة ذراع ، إذا كانت الأرض صلبة ، فإن كانت رخوة - بكسر الرّاء - فألف ذراع.

قال محمّد بن إدريس : بئر المعطن هي البئر التي يستقى منها لسقي الإبل ، وأصل المعطن والعطن مباركها حول المياه لتشرب (2) ، قال الشاعر : « بين الحوض والعطن » فأراد أن يكون في الأرض المباح إذا حفر الإنسان فيها بئرا ليسقي إبله فحسب ، وأراد غيره أن يحفر إلى جنبه بئرا اخرى ليسقي أيضا إبله ، أن يكون بينه وبين بئره أربعون ذراعا ، لا أقل منها ، فأمّا إذا كانت البئر لسقي الزرع يستقى منها بالناضح الذي هو الجمل ، وأراد غيره أن يحفر إلى جنبها بئرا ليسقي زرعه بالناضح أيضا ، فيكون بينه وبينه ستون ذراعا ، لا أقل من ذلك.

والفرق بين هذه البئر وبين تلك أنّ تلك يستقى منها باليد ، ولا يحتاج إلى الناضح ، لقلّة ما يؤخذ منها ، وهذه يؤخذ منها ماء كثير يحتاج إليها للزرع فيستقى عليها بالناضح.

والطريق إذا تشاح عليه أهله في الأرض المباحة ، واختلفوا في سعته ، فجدّه سبعة أذرع.

وإذا كان لإنسان رحى بأمر حق واجب على نهر ، والنهر لغيره ، وأراد صاحب النهر أن يسوق الماء في نهر آخر إلى القرية ، لم يكن له ذلك إلا برضا صاحب الرحى وموافقته.

وقد ذكرنا أحكام الأرضين وأقسامها في كتاب الزكاة من كتابنا هذا ، فلا وجه لإعادته.

ومن أحيا أرضا كان أملك بالتصرّف فيها ، إذا كان ذلك بإذن الإمام

ص: 374


1- الوسائل : الباب 30 من أبواب أحكام العقود ، ح 2 ، وفي النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع المياه والمراعي ..
2- ج : المياه.

عليه السلام : لأنّ هذه الأرض له ، فإن كانت الأرض الميتة لها مالك معروف ، وهي مثل أرض خراسان ، وجميع الأراضي التي لم تؤخذ عنوة ، ولها مالك معروف ، ثمّ خربت ، فلا تخرج بخرابها عن ملك صاحبها ، ولا تدخل في جملة الأرض الميتة ، التي هي لإمام المسلمين ، فهذا معنى « لها مالك معروف » ، كان عليه أن يعطي صاحب الأرض طسق الأرض ، وليس للمالك انتزاعها من يده ما دام هو راغبا فيها ، وإن لم يكن لها مالك وكانت للإمام وجب على من أحياها أن يؤدي إلى الإمام طسقها ، ولا يجوز للإمام انتزاعها من يده ، إلى غيره ، إلا أن لا يقوم بعمارتها كما يقوم غيره ، أو لا يقبل عليها ما يقبله الغير ، على ما روي في بعض الأخبار (1).

أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) وهذه أخبار آحاد.

ثم قال : ومتى أراد المحيي الأرض من هذا الجنس الذي ذكرناه ، ان يبيع شيئا منها ، لم يكن له أن يبيع رقبة الأرض ، وجاز له أن يبيع ماله من التصرف فيها (3).

وكلّ هذه أخبار آحاد ، أوردها على ما وجدها في كتابه النهاية ، والأولى عرضها على الأدلة ، فما صححته منها كان صحيحا ، وما لم تصححه كان باطلا مردودا.

وروي أنّه إذا اشترى الإنسان من غيره جربانا معلومة من الأرض ، ووزن الثمن ، ثمّ مسح الأرض فنقص عن المقدار الذي اشتراه ، كان بالخيار بين أن يرد الأرض ويسترجع الثمن بالكليّة ، وبين أن يطالب برد ثمن ما نقص من الأرض (4) ، وإن كان للبائع أرض بجنب تلك الأرض ، وجب عليه أن يوفيه تمام ما باعه إيّاه.

قال محمّد بن إدريس : هذا خبر فيه نظر ، أمّا قوله : « وإن كان للبائع أرض

ص: 375


1- الوسائل : الباب 2 و 3 من احياء الموات ، وربما يوجد في أبواب الأنفال ، والباب 72 من أبواب الجهاد ما يدل على المطلوب.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع المياه والمراعي ، وفيه ، متى أراد المحيي الأرض.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع المياه والمراعي ، وفيه ، متى أراد المحيي الأرض.
4- الوسائل : الباب 14 من أبواب الخيار.

بجنب تلك الأرض وجب عليه أن يوفيه تمام ما باعه إيّاه » فغير واضح ، لأنّ العقد قد وقع على شي ء معيّن ، فانتقاله إلى عين اخرى يحتاج إلى دليل ، وأمّا قوله : « كان بالخيار بين أن يردّ الأرض ويسترجع الثمن بالكلية ، وبين أن يطالب برد ثمن ما نقص » ، أمّا الخيار بين الرد والإمساك فله ذلك بغير خلاف ، بل يبقى بأيّ شي ء يرجع من الثمن إن لم يرد وأمسك الأرض ، فيه قول ذكر شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، قال : إذا قال : بعتك هذه الأرض على أنّها مائة ذراع فكانت تسعين ، فالمشتري بالخيار إن شاء فسخ البيع ، وإن شاء أجازه بجميع الثمن ، لأنّ العقد وقع عليه ، وإن كانت أكثر من مائة ذراع قيل فيه وجهان : أحدهما يكون البائع بالخيار بين الفسخ وبين الإجازة بجميع الثمن ، وهو الأظهر والثاني أن البيع باطل ، لأنّه لا يجبر على ذلك ( وكذلك الثياب والخشب وجميع ما لا يتساوى قيمة أجزائه ، وهو الذي لا مثل له ، بل يضمن بالقيمة ، فحكمه حكم الأرض في البيع ، وهو ما مضى ذكره من الزيادة والنقصان ، فأمّا ما يتساوى قيمة أجزائه ، وهو الذي له مثل ويضمن بالمثلية ، فإنّه ) (1) إذا اشترى صبرة طعام على أنّها مائة كرّ فأصاب خمسين كرا ، كان المشتري بالخيار ، إن شاء أخذها بحصتها من الثمن ، وإن شاء فسخ البيع ، وإن وجدها أكثر من مائة كرّ أخذ المائة بالثمن ، وترك الزيادة ، ويخالف الأرض والثياب والخشب على ما تقدّم ، والفرق بين المسألتين أنّ الثمن ينقسم هاهنا ، أعني في ما يتساوى أجزاؤه على أجزاء الطعام لتساوي قيمتها ، وليس كذلك الأرض والثياب والخشب ، فإن أجزاءها مختلفة القيمة ، فلا يمكن قسمة الثمن على الأجزاء ، لأنّه لا يعلم أنّ الناقص من الذراع لو وجد كم كانت تكون قيمته ، فإذا كان كذلك خيّر البائع في الزيادة بجميع الثمن ، وخيّر المشتري في

ص: 376


1- وما وقع في القوسين ليس في المبسوط.

النقصان بجميع الثمن ، ولأجل هذا الاعتبار لو باع ذراعا من خشب أو من دار أو ثوب ويكون الذراع غير معيّن من الثوب أو الدار أو الخشبة لم يجز ، وكان البيع باطلا ، لأنّه مجهول ، ولأنّ قيمته مختلفة ، ولو باع قفيزا غير معيّن من صبرة معينة لكان البيع صحيحا بلا خلاف ، فهذا جملة ما أورده ومعانيه وتفاصيله وخلاصته (1).

قال محمّد بن إدريس : لا خلاف أن الخيار يثبت في هذه المسائل ، فيما وجده ناقصا ، ممّا لا مثل له ، أو ممّا له مثل ، للمشتري خاصة ، لأنّ له غرضا في جميعه ، وهو ان يكون مكملا ، فإذا وجده بخلاف ذلك ، فله الخيار ، فإن اختار الرد واسترجاع الثمن فلا كلام ، وله ذلك ، وإن اختار الإمساك ، فله ذلك أيضا ، إلا أنّه يمسك ماله مثل ، بما يخصّه (2) من الثمن المعقود عليه ، وما ليس له مثل ، يمسكه ويسقط من الثمن على قدر القيم بالحصّة من الثمن ، لئلا يجتمع الثمن والمثمن جميعا مع المشتري ، فليلحظ ذلك ويتأمل.

وأمّا إن كان زائدا ، فإن كان له مثل ، أخذ ماله وردّ الباقي ، ولا خيار لواحد منهما ، لقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وإن كان لا مثل له ، فالمبتاع بالخيار ، لأنّ له غرضا ، إلا أن يكون له في ذلك شريك ، فإن شاء ردّ ، واسترجع الثمن أجمع ، وإن شاء أمسك المبيع ، وكان شريكا للبائع ، وليس للبائع في فسخ البيع خيار على حال ، لقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ».

ولي في هذه المسألة الأخيرة نظر وتأمّل.

وروي ، أنّه كتب محمّد بن الحسن الصفار إلى أبي محمد العسكري عليه السلام ، رجل اشترى من رجل بيتا في دار له ، بجميع حقوقه ، وفوقه بيت آخر ، هل يدخل البيت الأعلى في حقوق البيت الأسفل أم لا؟ فوقّع عليه السلام : ليس له إلا ما اشتراه في سهمه وموضعه إن شاء اللّه (3).

ص: 377


1- المبسوط : ج 2 ، كتاب البيوع فصل في بيع الصبرة وأحكامها ، ص 154 - 155 ، باختلاف يسير في العبارة.
2- ج : بحصّته.
3- الوسائل : الباب 31 من أبواب أحكام العقود ، ح 1.

وكتب أيضا إليه ، رجل اشترى حجرة أو مسكنا في دار بجميع حقوقها ، وفوقها بيوت ومسكن آخر ، يدخل البيوت الأعلى والمسكن الأعلى ، في حقوق هذه الحجرة والمسكن الأسفل الذي اشتراه أم لا؟ فوقّع : ليس له من ذلك ، إلا الحقّ الذي اشتراه إن شاء اللّه (1).

وكتب إليه أيضا في رجل قال لرجلين : اشهدا أنّ جميع الدار التي له في موضع كذا وكذا بجميع حدودها كلّها لفلان (2) بن فلان ، وجميع ماله في الدار من المتاع ، والبيّنة لا تعرف المتاع أيّ شي ء هو ، فوقّع عليه السلام يصلح إذا أحاط الشراء بجميع ذلك إن شاء اللّه (3).

وكتب أيضا إليه (4) رجل كانت له قطاع أرضين في قرية ، وأشهد الشهود أنّه قد باع هذه القرية بجميع حدودها ، فهل يصلح ذلك أم لا؟ فوقّع : لا يجوز بيع ما ليس يملك وقد وجب الشراء من البائع على ما يملك (5).

قال محمّد بن إدريس : وقد قدّمنا فيما مضى ، أنّ من باع ملكه وملك غيره في صفقة واحدة ، مضى البيع في ملكه ، وبطل في ملك الغير ، ويأخذه بحصّته من الثمن ، وإن شاء المبتاع ، ردّ المبيع على البائع ، فهو بالخيار في ذلك.

وروي عن الرسول عليه السلام ، رواه السكوني بإسناده أنّه قال : من غرس شجرا أو حفر واديا (6) ، لم يسبقه إليه أحد ، أو أحيا أرضا ميتة فهي له ، قضاء من اللّه تعالى ورسوله (7).

وقد قدّمنا مثال ذلك ، وما يعمل عليه.

وروي عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، أنّه سئل عن النزول على أهل الخراج ،

ص: 378


1- الوسائل : الباب 31 من أبواب أحكام العقود ، ح 2.
2- ج حدودها لفلان.
3- الوسائل : الباب 48 من أبواب الشهادات.
4- ج : كتب إليه.
5- الوسائل : الباب 2 من أبواب عقد البيع ، والظاهر أنّه منقول بالمعنى في بعض ألفاظه.
6- ج : واديا بديّا.
7- الوسائل : الباب 2 من أبواب إحياء الموات.

فقال ثلاثة أيام روي ذلك عن النبي عليه السلام (1).

وروى إسماعيل بن الفضل ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن السخرة في القرى ، وما يؤخذ من العلوج والأكراد ، إذا نزلوا القرى ، قال تشرط عليهم ذلك ، فما اشترطت عليهم من الدراهم والسخرة ، وما سوى ذلك ، فيجوز لك ، وليس لك أن تأخذ منهم شيئا حتى تشارطه ، وإن كان كالمستيقن ، أنّ من نزل تلك الأرض أو القرية ، أخذ منه ذلك (2).

قال محمّد بن إدريس : هذا إذا كانت القرية ملكا للإنسان ، فإن نزلوها بغير إذنه ، فله عليهم اجرة المثل ، وإن نزلوها بإذنه وإباحته ، فلا شي ء له عليهم ، إلا أن يشارطهم ويؤجرهم ذلك بأجرة مسمّاة ، أو يجعل عليهم جعلا.

فأمّا السخرة بالسّين غير المعجمة المضمومة ، والخاء المعجمة المسكنة ، والراء غير المعجمة المفتوحة ، والهاء ، فهي من التسخير ، وهو تكليفه عملا بغير اجرة ، فلان سخرة ، يتسخر في العمل ، يقال : خادمة سخرة ، يعنى تكلّف العمل بلا اجرة.

قال : وسألته عن أرض الخراج ، اشترى الرجل منها أرضا فبني (3) فيها أو لم يبن ، غير أن أناسا من أهل الذمّة نزلوها ، إله أن يأخذ منهم اجرة البيوت إذا أدّوا جزية رءوسهم؟ فقال : يشارطهم ، فما أخذه منهم بعد الشرط فهو حلال (4).

وقد روي أنّه كتب محمد بن الحسن الصفار ، إلى أبي محمد العسكري عليه السلام ، في رجل اشترى من رجل أرضا بحدودها الأربعة ، فيها الزرع والنخل وغيرهما من الشجر ، ولم يذكر النخل ولا الزرع ولا الشجر في كتابه ، وذكر فيه أنه قد اشتراها بجميع حقوقها الداخلة فيها والخارجة منها ، أيدخل النخل والأشجار والزرع في حقوق الأرض أم لا؟ فوقّع عليه السلام : إذا ابتاع الأرض بحدودها ، وما أغلق عليها بابه فله جميع ما فيها إن شاء اللّه (5).

ص: 379


1- الوسائل : الباب 21 من أبواب المزارعة ، ح 3.
2- الوسائل : الباب 20 من أبواب المزارعة ، ح 3.
3- ج : فيبني.
4- الوسائل : الباب 20 من أبواب المزارعة ، ح 3.
5- الوسائل : الباب 29 من أبواب أحكام العقود.

قوله عليه السلام في الجواب : « وما أغلق عليها بابه » يريد بذلك جميع حقوقها ، فالجواب مطابق للسؤال.

ولا يجوز أن يأخذ الإنسان من طريق المسلمين شيئا ، ولو قدر شبر ، ولا يجوز له أيضا بيعه ولا شراء شي ء ، يعلم أنّ فيه شيئا من الطريق ، فإن اشترى دارا أو أرضا ، ثم علم بعد ذلك انّه كان صاحبه قد أخذ شيئا من الطريق فيها ، لم يكن عليه شي ء ، إذا لم يتميّز له الطريق ، فإذا تميّز ، وجب عليه ردّه إليها ، وكان له الرجوع على البائع بالدرك ، أو فسخ البيع.

وروي أنّه إذا كان للإنسان في يده دار أو أرض ورثها عن أبيه عن جدّه ، غير أنّه يعلم أنّها لم تكن ملكا لهم ، وانّما كانت ملكا للغير ، ولا يعرف المالك ، لم يجز له بيعها ، بل ينبغي أن يتركها بحالها ، فإن أراد بيعها ، فليبع تصرّفه فيها ، ولا يبيع أصلها على حال (1).

قال محمّد بن إدريس : يمكن أن يقال انّما كان الأمر على ما ذكر في هذا الحديث ، والوجه في ذلك ، وكيف يجوز له (2) تركها في يده ، وبيع ما جاز له بيعه ، وهو يعلم أنّه لم يكن لمورثه ، أنّ هذه الدار لم يحط علمه بأنّها غصب ، وانّما قال في الحديث لم يكن لمورثه ومن كان بيده شي ء ، ولم يعلم لمن هو ، فسبيله سبيل اللقطة ، فبعد التعريف المشروع ، يملك التصرّف ، فجاز أن يبيع ماله فيها ، وهو التصرّف الذي ذكره في الخبر ، دون رقبة الأرض إذا كانت في الأرض المفتتحة عنوة ، فهذا وجه في تأويل هذا الحديث.

وبعد هذا كلّه فهذه كلّها أخبار آحاد ، أوردها شيخنا في نهايته (3) ، لئلا يشذّ من الأخبار شي ء ، على ما اعتذر به رحمه اللّه في عدّته (4) ، فأوردناها نحن في

ص: 380


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب عقد البيع وشروطه ، ح 5.
2- ج : وكيفية جواز.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب بيع المياه والمراعي ..
4- العدة : الفصل الرابع من الكلام في الأخبار ، عند الجواب عن إشكالات حجية خبر الواحد ، وعبارتها هكذا : « ولا يمتنع أن يكون أنّ ما رواه ليعلم أنّه لم يشذّ عنه شي ء من الروايات لا لأنّه يعتقد ذلك ».

كتابنا هذا ، كما أوردها - واللّه أعلم - بكثير (1) من أصحاب الأخبار والحديث ، فإنّهم يوردون ما سمعوا ، ويروون ما روي لهم وحدّثوا.

والأرضون الموات التي لم يجر عليه ملك لأحد ، لإمام المسلمين خاصّة ، لا يملكها أحد بالإحياء ، إلا أن يأذن له الإمام ، وأمّا الذمي فلا يملك إذا أحيا أرضا في بلاد الإسلام ، وكذلك المستأمن.

والناس في الحمى ، على ثلاثة أضرب النبي عليه السلام ، والأئمة المعصومون من بعده عليهم السلام ، وآحاد المسلمين.

فأمّا النبي عليه السلام ، فكان له أن يحمي لنفسه ولعامة المسلمين ، لقوله عليه السلام : لا حمى إلا لله ولرسوله (2) وروي عنه عليه السلام ، أنّه حمى النقيع بالنون - لخيل المجاهدين ترعى فيه (3).

وأمّا آحاد المسلمين ، فليس لهم أن يحموا لأنفسهم ، ولا لعامة المسلمين ، لقوله عليه السلام : لا حمى إلا لله ولرسوله.

وأمّا الأئمة عليهم السلام ، فإن حموا كان لهم ذلك ، لأنّ أفعالهم حجة عندنا.

فأمّا الذي يحمى له ، فإنّه يحمى للخيل المعدة لسبيل اللّه ، وتعم الجزية والصدقة والضوال.

وأمّا قدر ما يحميه ، فهو ما لا يعود بضرر على المسلمين ، أو بضيق مراعيهم ، لأنّ الإمام عندنا لا يفعل إلا ما هو من مصالح المسلمين ، فإذا ثبت هذا ، فإنّه يحمي القدر الذي يفضل عنه ما فيه كفاية لمواشي المسلمين.

وإذا أذن واحد من الأئمة عليهم السلام ، لغيره في إحياء ميت ، فأحياه ، فإنّه

ص: 381


1- ج : الكثير.
2- سنن البيهقي ، كتاب احياء الموات ، باب ما جاء في الحمى ، ج 6 ص 146 والحاكم في كتاب البيوع ص 61 ج 2.
3- الوسائل : الباب 9 من أبواب إحياء الموات ، ح 3 ولفظه هكذا : حمى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم النقيع لخيل المسلمين.

يملكه ، فأمّا من يحييه بغير إذنه ، فإنّه لا يملك به ، حسب ما قدّمناه.

وأمّا ما به يكون الإحياء ، فلم يرد الشرع ببيان ما يكون إحياء دون مالا يكون ، غير أنّه إذا قال النبي عليه السلام : من أحيا أرضا فهي له ، ولم يوجد في اللغة معنى ذلك ، فالمرجع فيه إلى العرف والعادة ، فما عرفه الناس إحياء في العادة ، كان إحياء وملك به الموات ، كما أنّه لمّا قال : البيّعان بالخيار ما لم يفترقا ، رجع في ذلك إلى العادة ، هذا مذهبنا ، فأمّا المخالف لنا فله تفاصيل في الإحياء ، يطول شرحها.

فإذا أحياها وملكها (1) ، فإنّه يملك مرافقها التي لإصلاح للأرض إلا بها.

وإذا حفر بئرا أو شق نهرا ، أو ساقية ، فإنّه يملك حريمها.

وجملته أن ما لا بدّ منه في استقاء الماء ، ومطرح الطين ، إذا نضب الماء ، فكريت الساقية والنهر ، ويكون ذلك على حسب الحاجة ، قلّ أم كثر.

وأمّا إن أراد أن يحفر بئرا في داره ، أو ملكه ، وأراد جاره أن يحفر لنفسه بئرا بقرب تلك البئر ، لم يمنع منه ، بلا خلاف في جميع ذلك ، وإن كان ينقص بذلك ماء البئر الأولى ، لأنّ الناس مسلّطون على أملاكهم ، والفرق بين الملك والموات ، أنّ الموات يملك بالإحياء ، فمن سبق إلى حفر البئر ، ملك حريمه ، وصار أحقّ به ، وليس كذلك في الملك ، لأنّ ملك كلّ واحد منهما ، ثابت مستقر ، وللمالك أن يفعل في ملكه ما شاء ، وكذلك إذا أحيا أرضا ليغرس فيها بجنب أرض فيها غراس لغيره ، بحيث يلتف أغصان الغراسين ، وبحيث تلتقي عروقهما (2) ، كان للأوّل منعه ، لما ذكرناه.

وإن حفر رجل بئرا في داره ، وأراد جاره أن يحفر بالوعة ، أو بئر كنيف ، بقرب هذه البئر ، لم يمنع منه ، وإن أدّى ذلك إلى تغيّر ماء البئر ، لأنه مسلّط على

ص: 382


1- ج : أحياها.
2- يلتفّ عروقها.

التصرّف في ملكه بلا خلاف.

وأمّا المعادن فعلى ضربين : ظاهرة وباطنة ، فالباطنة لها أحكام مذكورة في مواضعها ، وأمّا الظاهرة فهي الماء ، والقير ، والنفط ، والموميا ، والكبريت ، والملح ، وما أشبه ذلك ، فهذا لا يملك بالإحياء ، ولا يصير أحد أولى به بالتحجّر من غيره ، وليس للسلطان أن يقطعه ، بل الناس كلّهم فيه سواء ، يأخذون منه قدر حاجتهم ، بل يجب عندنا فيه الخمس ، ما عدا الماء ، ولا خلاف في أنّ ذلك لا يملك ، وليس للسلطان أن يقطع مشارع الماء بغير خلاف ، وكذلك المعادن الظاهرة.

فإذا ثبت أنّها لا تملك ، فمن سبق إليها أخذ قدر حاجته منها ، وانصرف ، فإن سبق إليه اثنان ، أقرع بينهما الإمام.

وليس للسلطان أن يقطع الشوارع ، ورحاب الجوامع.

وأمّا المعادن الباطنة مثل الذهب والفضة والنحاس ، والرصاص ، وحجارة البرام ، والفيروزج ، وغير ذلك ممّا يكون في بطون الأرض والجبال ، ولا يظهر إلا بالعمل فيها ، والمئونة عليها ، فهل تملك بالإحياء ، أم لا؟ قيل فيه قولان : أحدهما أنّه يملك ، وهو مذهبنا ، والثاني لا يملك ، وهو مذهب مخالفينا.

إذا أحيا أرضا من الموات ، فظهر فيها معدن ، ملكها بالإحياء ، وملك المعدن الذي ظهر فيها ، بلا خلاف ، لأنّ المعدن مخلوق ، خلقة الأرض ، فهو جزء من أجزائها.

وكذلك إذا اشترى دارا ، فظهر فيها معدن ، كان للمشتري ، دون البائع.

فأمّا إذا وجد فيها كنزا مدفونا ، كان له ويخرج منه الخمس ، إذا بلغ مقدار ما يجب فيه الزكاة ، سواء كان من دفن الجاهليّة ، أو دفن الإسلام ، وإن كان ذلك الكنز في أرض اشتراها ، فإنّ الكنز لا يدخل في البيع ، لأنّه مودع فيه ، ويجب عليه تعريف البائع ذلك ، فإن عرفه ، سلّمه إليه ، وإلا أخرج منه الخمس ، إذا بلغ مقدار عشرين دينارا ، على ما قدّمناه.

الآبار على ثلاثة أضرب : ضرب يحفره في ملكه ، وضرب يحفره في الموات

ص: 383

لتملكها ، وضرب يحفره في الموات لا للتملك ، فما يحفره في ملكه ، فإنّما هو نقل ملكه من ملكه ، لأنّه ملك المحلّ قبل الحفر ، والثاني إذا حفر في الموات ليتملكها ، فإنّه يملكها بالإحياء.

فإذا ثبّت هذا ، فالماء الذي يحصل في هذين الضربين ، هل يملك أم لا؟ قيل فيه وجهان : أحدهما أنّه يملك ، وهو مذهبنا ، والثاني أنّه لا يملكه ، لأنّه لو ملكه لم يستبح بالإجارة ، وانّما قلنا أنّه مملوك ، لأنّه نماء ملكه ، مثل ثمرة الشجرة ، وانّما يستباح بالإجارة ، بمجرى العادة ، ولأنّه لا ضرر على مالكه ، لأنّه يستحلف في الحال بالنبع ، وما لا ضرر عليه ، فليس له منعه ، مثل الاستظلال بحائطه.

فإذا أراد بيع شي ء منه ، وهو في البئر ، وشاهده المشتري ، جاز ذلك كيلا أو وزنا ، ولا يجوز بيع جميع ما في البئر ، لأنّه لا يمكن تسليمه ، لأنّه ينبع ويزيد ، كلما استقى منه شي ء ، فلا يمكن تميز المبيع من غيره.

وأمّا الضرب الثالث ، فهو إذا نزل قوم موضعا من الموات ، فحفروا فيه بئرا ليشربوا ، ويسقوا بهائمهم منها مدّة مقامهم ، ولم يقصدوا التملك بالإحياء ، فإنّهم لا يملكونها ، لأنّ المحيي إنّما يملك بالإحياء ، إذا قصد تملكه به ، فإذا لم يقصد تملكه ، فإنه يكون أحق به مدّة مقامه ، فإذا رحل ، فكل من سبق إليه فهو أحقّ به ، مثل المعادن الظاهرة.

والكلام في المياه في فصلين : أحدهما في ملكها ، والآخر في السقي منها فأمّا الكلام في ملكها ، فهو على ثلاثة أضرب : مباح ، ومملوك ، ومختلف فيه ، فالمباح مثل ماء البحر ، والنهر الكبير ، مثل دجلة ، والفرات ، والنيل ، وجيحون ، وسيحان ، فأمّا سيحان فنهر بلخ ، وأمّا جيحون ، وقيل جيحان ، فذكر في كتاب الكوفة ، أنّه دجلة ، وقال الجوهري اللغوي ، في كتاب الصحاح : سيحان نهر بالشام ، وساحين نهر بالبصرة ، وسيحون نهر بالهند ، وجيحون نهر بلخ ، وجيحان نهر بالشام ، وكلّ هذا مباح ، ولكل أحد أن يستعمل منه ما أراد ، ويأخذ كيف شاء.

ص: 384

وأمّا المملوك فكلّ ما حازه من الماء المباح في قرية أو حرّة ، أو بركة ، أو مصنع ، فهذا كلّه مملوك ، كسائر المائعات المملوكة ، الأدهان والألبان ، وغيرهما.

وأمّا المختلف فيه ، فكلّ ما نبع في ملكه ، وقد قلنا أنّه مملوك.

فأمّا السقي من الماء المباح ، كماء دجلة ، والفرات ، فانّ الناس فيه شرع سواء ، لا يحتاج فيه إلى ترتيب ، وتقديم وتأخير ، لكثرته.

والثاني ماء مباح في نهر غير مملوك ، صغير ، يأخذ من النهر الكبير ، ولا يسقي جميع الأراضي ، إذا سقيت في وقت واحد ، ويقع في التقديم والتأخير نزاع وخصومة ، فهذا يقدّم فيه الأقرب فالأقرب ، إلى أول النهر الصغير.

وروى أصحابنا ، أنّ الأعلى يحبس إلى الساق للنخل ، وللشجر إلى القدم ، وللزرع إلى الشراك (1).

فإذا ثبت هذا فالأقرب إلى الفوهة يسقى ويحبس الماء عن من دونه ، فإذا بلغ الماء إلى الحدّ المحدود ، لما يسقيه ، أرسله إلى جاره ، هكذا الأقرب فالأقرب ، فإن كان زرع الأسفل يهلك ، إلى أن ينتهي الماء إليه ، لم يجب على من فوقه إرساله إليه.

باب الشفعة وأحكامها

الشفعة في الشرع ، عبارة عن استحقاق الشريك المخصوص على المشتري ، تسليم المبيع بمثل ما بذل فيه ، أو قيمته ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، لأنّ بعضهم يذهب ويقول : إذا كان الثمن مالا مثل له ، فلا يستحق الشفعة ، والأول هو الأظهر بينهم ، وهي مأخوذة من الزيادة ، لأنّ سهم الشريك يزيد بما ينضم إليه ، فكأنّه كان وترا ، فصار شفعا.

ويحتاج فيها إلى العلم بأمرين ، شروط استحقاقها ، وما يتعلّق بها من الأحكام فشروط استحقاقها ستّة ، وهي : أن يتقدّم عقد بيع ينتقل معه الملك إلى

ص: 385


1- الوسائل : الباب 8 من أبواب إحياء الموات ، الا أنّه لم نجد رواية على عنوان « الشجر » غير النخل.

المشتري. وأن يكون الشفيع شريكا بالاختلاط في المبيع ، أو في حقّه من شربه ، أو طريقه إذا بيع الملك والطريق معا لواحد. وأن يكون الشريك واحدا على الصحيح من المذهب سواء كان في البساتين ، أو في الدور. وأن يكون مسلما إذا كان المشتري كذلك. وأن لا يسقط حق المطالبة بعد عقد البيع ، ووجوبها له. وأن لا يعجز عن الثمن.

اشترطنا تقدّم عقد البيع ، لأنّ الشفعة لا تستحق قبله بلا خلاف ولا تستحق بما ليس ببيع ، من هبة ، أو صدقة ، أو مهر ، أو مصالحة ، أو ما أشبه ذلك ، بدليل إجماع أصحابنا عليه ، ولأنّ إثبات الشفعة في المهر ، والصلح ، والهبة ، وغير ذلك ، يفتقر إلى دليل شرعي ، وليس في الشرع ما يدل عليه.

واعتبرنا أن ينتقل الملك معه إلى المشتري ، تحرّزا من البيع الذي فيه الخيار للبائع ، أولهما جميعا ، فإنّ الشفعة لا تستحق هاهنا ، لأنّ الملك لم تزل علقته عن البائع ، فأمّا ما لا خيار فيه أو فيه الخيار للمشتري وحده ، ففيه الشفعة ، لأنّ الملك قد زال عنه ، هذا على قول شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه (1).

والذي يقتضيه المذهب ، وتشهد بصحته أصوله ، أنّ الشفعة يستحقها الشفيع على المشتري بانتقال الملك إليه ، والملك عند جميع أصحابنا ينتقل من البائع إلى المشتري بمجرد العقد ، لا بمضي الخيار ومدّته ، وتقضّي الشرط ، بل بمجرّد العقد ، وانّما ذلك مذهب الشافعي ، وفروعه ، فانّ له ثلاثة أقوال ، أحدها بمجرّد العقد ، والآخر بانقضاء مدة الخيار ، والآخر مشاعا (2) وشيخنا فقد رجع ، وقال : ينتقل الملك بمجرّد العقد ، فإذا قال ذلك ثبتت الشفعة.

واشترطنا أن يكون شريكا للبائع ، تحرّزا من القول باستحقاقها بالجوار ، فإنّها لا تستحق بذلك عندنا ، بدليل إجماعنا ، ونحتج على المخالف بما روي من

ص: 386


1- الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة 21.
2- ج : مراعى.

قوله عليه السلام : الشفعة في ما لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة (1) ولا يعارض ذلك بما روي من قوله عليه السلام : الجار أحق بسقبه (2) لأنّ في ذلك إضمارا ، وإذا أضمروا أنّه أحق بالأخذ بالشفعة ، أضمرنا أنّه أحق بالعرض عليه ، ولأنّ المراد بالجار في الخبر ، الشريك ، لأنّه خرج على سبب يقتضي ذلك.

فروى عمرو بن الشريد ، عن أبيه ، قال : بعت حقا من أرض لي فيها شريك ، فقال شريكي : أنا أحق بها ، فرفع ذلك إلى النبي صلى اللّه عليه وآله ، فقال : الجار أحقّ بسقبه (3).

والزوجة تسمّى جارا ، لمشاركتها الزوج في العقد ، قال الأعشى : أيا جارتي بيني فإنّك طالقة وهي تسمّى بذلك عقيب العقد ، وتسمّى به وإن كانت بالشرق ، والزوج بالغرب ، فليس لأحد أن يقول : إنّما سمّيت بذلك لكونها قريبة مجاورة ، فقد صار اسم الجار يقع على الشريك لغة وشرعا.

واشترطنا أن يكون واحدا ، لأنّ الشي ء إذا كان مشتركا بين أكثر من اثنين ، فباع أحدهم ، لم يستحق شريكه الشفعة ، بدليل الإجماع من أصحابنا ، ولأنّ حقّ الشفعة حكم شرعي يفتقر ثبوته إلى دليل شرعي ، وليس في الشرع ما يدل على ذلك هاهنا ، وعلى هذا إذا كان الشريك واحدا ووهب بعض السهم ، أو تصدّق به ، وباع الباقي من الموهوب له ، أو المتصدّق عليه ، لم يستحق فيه الشفعة.

واشترطنا أن يكون مسلما ، إذا كان المشتري كذلك ، تحرزا من الذمي ،

ص: 387


1- المستدرك : الباب 3 من أبواب الشفعة ، ح 7.
2- التاج : ج 2 ، كتاب البيوع .. ص 2. سنن النسائي : كتاب البيوع ، ذكر الشفعة وأحكامها ، ج 7 ، ص 320.
3- لم نقف عليه في صحاحهم. بل في سنن ابن ماجة : الباب 2 من كتاب الشفعة ، ( الرقم : 2496 ) عن عمرو بن شريد ، عن أبيه شريد بن سويد ، « قلت : يا رسول اللّه : أرض ليس فيها لأحد قسم ولا شرك إلا الجوار ، قال : أحق بسقيه ». ورواه أحمد بن حنبل في مسنده في حديث شريد بن سويد ( ج 3. ص 389 ). وروى مثله النسائي في سننه في آخر كتاب البيوس. باب ذكر الشفعة وأحكامها.

لأنّه لا يستحق على مسلم شفعة ، بدليل إجماع أصحابنا ، وأيضا قوله تعالى : « وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً » (1) وبما روي عنه عليه السلام من قوله : لا شفعة لذمي على مسلم (2).

واشترطنا أن لا يسقط حق المطالبة ، لأنّ بعض أصحابنا يقول : حقّ الشفعة (3) على الفور ، ويسقط بتأخير الطلب مع القدرة عليه ، وبعضهم يذهب إلى أنّه لا يسقط مع القدرة والعلم وتأخير الطلب ، وهذا هو الأظهر بين الطائفة ، ويعضده أن الحقوق في أصول الشريعة ، وفي العقول أيضا ، لا تبطل بالإمساك عن طلبها ، فكيف خرج حق الشفعة عن أصول الأحكام العقلية والشرعية ، وهو اختيار المرتضى ، والأول اختيار شيخنا أبي جعفر.

واشترطنا عدم عجزه عن الثمن ، لأنّه إنّما يملك الأخذ إذا دفع إلى المشتري ما بذله للبائع ، فإذا تعذّر عليه ذلك ، سقط حقّه من الشفعة.

وإذا كان الثمن مؤجلا فهو على الشفيع كذلك.

ويلزمه إقامة كفيل به إذا لم يكن مليا ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (4).

وذهب في مسائل خلافه ، إلى انّ للشفيع المطالبة بالشفعة ، وهو مخيّر بين أن يأخذه في الحال ، ويعطي ثمنه حالا ، وبين أن يصبر إلى سنة ، ويطالب بالثمن الواجب عندها (5).

والذي يقوى عندي ، ما ذكره في نهايته.

ومتى طالب بالشفعة فيما له فيه المطالبة بها ، وجب عليه من الثمن مثل الذي انعقد عليه البيع ، من غير زيادة ولا نقصان ، فإن كان الشي ء بيع نقدا ، وجب

ص: 388


1- النساء : 141.
2- مستدرك الوسائل : كتاب الشفعة ، الباب 6 ح 1. وفيه : ليس للذمّي شفعة.
3- ج : حق الشفيع.
4- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشفعة وأحكامها ، مع اختلاف في العبارة.
5- الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة 9.

عليه الثمن نقدا ، فإذا دافع ومطل أو عجز عنه ، بطلت شفعته ، فإن ذكر غيبة المال عنه ، أجّل بمقدار ما يمكن وصول ذلك المال إليه ، ما لم يؤدّ إلى ضرر على البائع (1) المأخوذ منه ، فإن أدّى إلى ضرره ، بطلت الشفعة ، فإن بيع الشي ء نسية ، فقد ذكرناه.

وإذا حطّ البائع من الثمن الذي انعقد عليه الإيجاب والقبول ، فهو للمشتري ، خاصّة ، وسواء حطّ ذلك عنه قبل التفرق من المجلس ، أو بعده ، ولم يسقط عن الشفيع ، لأنّه إنّما يأخذ الشقص بالثمن الذي انعقد عليه البيع ، وما يحطّ بعد ذلك هبة مجددة ، لا دليل على لحوقها بالعقد.

وإذا تكاملت شروط استحقاق الشفعة ، استحقت في كل مبيع ، من الأرضين ، والحيوان ، والعروض ، سواء كان ذلك ممّا يحتمل القسمة ، أو لم يكن على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته في أوّل باب الشفعة (2) ، لأنّه قال : كلّ شي ء كان بين شريكين من ضباع ، أو عقار ، أو حيوان ، أو متاع ، ثم باع أحدهما نصيبه ، كان لشريكه المطالبة بالشفعة ، ثم عاد في أثناء الباب المذكور ، وقال : فلا شفعة فيما لا تصح قسمته ، مثل الحمام والأرحية ، وما أشبهما. وإلى هذا ذهب في مسائل خلافه (3) ، واستدل بأدلة ، فيها طعون واعتراضات كثيرة.

والدليل على صحّة ما اخترناه ، الإجماع من المسلمين ، على وجوب الشفعة لأحد الشريكين ، إذا باع شريكه ما هو بينهما ، وعموم الأخبار في ذلك ، والأقوال ، والمخصّص يحتاج إلى دليل.

وتمسّك من قال من أصحابنا بما رواه المخالف ، من قوله عليه السلام : الشفعة فيما لم يقسم.

ص: 389


1- ج : المشتري. وهو الظاهر.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشفعة وأحكامها.
3- الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة 16.

دليل لنا لا علينا ، لأنّه قال عليه السلام : فيما لم يقسم ، والأشياء المخالف فيها لم تقسّم ، وقولهم : « أراد أنّ ما لم تتقدّر القسمة فيه لا شفعة فيه » قول بعيد من الصواب ، لأنّ ذلك دليل الخطاب ، وهو عندنا لا يجوز العمل به ، على أنّه يقال لهم : إذا كنتم تذهبون إلى أنّ الشفعة وجبت لإزالة الضرر عن الشفيع ، وكان هذا المعنى حاصلا في سائر المبيعات ، لزمكم القول بوجوب الشفعة فيها ، وقولهم : « من صفة الضرر الذي تجب الشفعة لإزالته أن يكون حاصلا على جهة الدوام ، وهذا لا يكون إلا في الأرضين » ليس بشي ء ، لأنّ الضرر المنقطع ، يجب أيضا إزالته عقلا وشرعا ، كالدائم ، فكيف وجبت الشفعة لإزالة أحدهما دون الآخر.

على أنّ فيما عدا الأرضين ، ما يدوم كدوامها ، ويدوم الضرر بالشركة فيه كدوامه (1) ، كالجواهر وغيرها.

وفي أصحابنا من قال : لا يثبت حقّ الشفعة ، إلا فيما يحتمل القسمة شرعا ، من العقار والأرضين ، ولا يثبت فيما لا يحتمل القسمة من ذلك ، كالحمامات والأرحية ، على ما قدّمناه وحكيناه عنهم ، ولا فيما ينقل ويحوّل الا على وجه التبع للأرض ، كالشجر والبناء.

والصحيح أنّ الشفعة تجب في كلّ مبيع ، إذا تكاملت شروط الشفعة ، وهو مذهب السيد المرتضى ، وغيره من المشيخة.

وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، إلى أنّ كلّ ما ينقل ويحوّل ، لا شفعة فيه (2) ، واحتج بخبر واحد يرويه مخالف لأهل البيت (3) عليهم السلام.

والشفعة مستحقة على المشتري دون البائع ، وعليه الدرك للشفيع ، بدليل إجماع الطائفة على ذلك ، ولأنّه قد ملك العقد ، والشفيع يأخذ منه ملكه بحق

ص: 390


1- ج : كدوامها.
2- الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة 1.
3- ل. ق : مخالف أهل البيت.

الشفعة ، فيلزمه دركه.

وإذا كان الشريك غير كامل العقل ، فلوليه أو النّاظر في أمور المسلمين ، المطالبة بالشفعة إذا رأى ذلك صلاحا له ، ويحتج على المخالف ، بقوله عليه السلام : الشفعة فيما لم يقسم ، ولم يفصل ، وإذا ترك الولي ذلك ، فللصغير إذا بلغ ، والمجنون إذا عقل ، المطالبة ، لأنّ ذلك حقّ له ، لا للولي ، وترك الولي استيفاءه لا يؤثر في إسقاطه.

وإذا غرس المشتري ، وبنى ، ثم علم الشفيع بالشراء وطالب بالشفعة ، كان له إجباره على قلع الغرس والبناء ، إذا ردّ عليه ما نقص من ذلك بالقلع ، لأنّ المشتري فعل ذلك في ملكه ، فلم يكن متعديا ، فاستحق ما نقص بالقلع ، ولأنّه لا خلاف في أنّ له المطالبة بالقلع ، إذا ردّ ما ينقص به ، ولا دليل على وجوب المطالبة ، إذا لم يرد.

وإذا استهدم المبيع ، لا بفعل المشتري أو هدمه هو قبل علمه بالمطالبة بالشفعة ، فليس للشفيع إلا الأرض والآلات ، وإن هدمه بعد العلم بالمطالبة ، فعليه ردّه إلى ما كان.

وإذا عقد المشتري البيع على شرط البراءة من العيوب ، أو علم بالعيب ورضي به ، لم يلزم الشفيع ذلك ، بل متى علم بالعيب ، ردّ على المشتري إن شاء وإذا اختلف المتبايعان والشفيع في مبلغ الثمن ، وفقدت البينة ، فالقول قول المشتري مع يمينه ، لأنّ الشي ء ينتزع من يده ، وهو مدّعى عليه ، فالقول قوله ، فإن شهد البائع للشفيع ، لا تقبل شهادته ، لأنّ في شهادته دفع ضرر عن نفسه ، لأنّه ربّما خرج المبيع مستحقا ، فيرجع بالدرك عليه بالثمن ، فيريد أن يقلله لذلك.

فإن أقام كل واحد من المشتري والشفيع بيّنة ، فالبيّنة المسموعة المحكوم بها ، بيّنة الخارج المدعي شرعا ، وهو الشفيع. وقال بعض أصحابنا : البيّنة المسموعة في ذلك بيّنة المشتري.

ص: 391

والأظهر الأول ، لأنّه الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّ الرسول عليه السلام ، قال : البيّنة على المدّعي ، فجعل البيّنة في جنبة المدّعى ، والشفيع هو المدّعي لتقليل الثمن ، والمشتري منكر لذلك.

وحقّ الشفعة موروث ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، لعموم آيات الميراث ، لأنّه إذا كان حقا للميّت ، يستحقه وارثه مثل سائر الحقوق ، لعموم الآيات ، ومن أخرج شيئا منها ، فعليه الدلالة ، وهو مذهب المرتضى ، وشيخنا المفيد في مقنعته (1) ، وجلّة أصحابنا وذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته إلى أنّها لا تورث (2). وكذلك ذهب في مسائل خلافه ، في كتاب الشفعة (3) ، إلا أنّه رجع في مسائل خلافه في الجزء الثاني ، في كتاب البيوع ، إلى أنّها تورث ، كسائر الحقوق ، فقال : مسألة ، خيار الثلاث موروث ، كان لهما ، أو لأحدهما ، ويقوم الوارث مقامه ، ولا ينقطع الخيار بوفاته ، وكذلك إذا مات الشفيع قبل الأخذ بالشفعة ، قام وارثه مقامه ، هكذا في خيار الوصية ، إذا أوصى له بشي ء ، ثمّ مات الموصي ، كان الخيار في القبول إليه ، فإن مات ، قام وارثه مقامه ، ولم ينقطع الخيار بوفاته ، وبه قال مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : كلّ هذا ينقطع بالموت ، فلا يقوم الوارث مقامه ، وقال في البيع : يلزم البيع بموته ، ولا خيار لوارثه فيه ، وبه قال الثوري وأحمد ، دليلنا : انّ هذا الخيار ، إذا كان حقا للميت ، يجب أن يرثه ، مثل سائر الحقوق ، لعموم الآية ، ومن أخرج شيئا منها فعليه الدلالة ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه في المسألة (4).

ومن ذهب من أصحابنا إلى أنّها لا تورث ، لا حجة له ، وانّما يتمسّك بأخبار آحاد ضعيفة ، لا توجب علما ولا عملا ، فكيف يترك لها الأدلة ، والإجماع.

ص: 392


1- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب الشفعة ص 619.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشفعة وأحكامها.
3- الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة 12.
4- الخلاف : كتاب البيوع ، مسألة 36.

وقد قلنا أنّه إذا زاد الشركاء على اثنين ، بطلت الشفعة ، وكذلك إذا تميّزت الحقوق ، وتحيزت وتحدّدت بالقسمة.

ومتى شهد الشفيع عقد البيع ، لم يبطل شفعته ، إذا طالب بها بعد العقد على الفور ، كما قدّمناه.

ومتى عرض البائع الشي ء على صاحب الشفعة بثمن معلوم ، فلم يردّه ، فباعه من غيره بذلك الثمن ، أو زائدا عليه ، لم يكن لصاحب الشفعة المطالبة بها ، على ما روي (1) وإن باع بأقل من الذي عرض عليه ، كان له المطالبة بها.

والأولى أن يقال : إنّ على جميع الأحوال ، للشفيع المطالبة بها ، لأنّه انّما يستحقّها بعد البيع ، ولا حقّ له قبل البيع ، فإذا عفا قبله ، فما عفا عن شي ء يستحقه ، فله إذا باع شريكه أخذها ، لأنّه تجدّد له حق ، فلا دليل على إسقاطه ، وقبل البيع فما أسقط شيئا يستحقه ، حتى يسقط ، فليلحظ ذلك.

وكذلك إذا كانت الدار بين شريكين ، فقال الشفيع للمشتري : اشتر نصيب شريكي ، فقد نزلت عن شفعته ، وتركتها لك ، ثمّ اشترى المشتري ذلك على هذا ، لا تسقط شفعته بذلك ، وله المطالبة ، لأنّه انّما يستحق الشفعة بعد العقد ، فإذا عفا قبل ذلك ، لم يصحّ ، لأنّه يكون قد عفا عمّا لم يجب ، ولا يملكه ، فلا يسقط حقه حين وجوبه ، وكذلك الورثة إذا عفوا عمّا زاد على الثلث في الوصيّة ، قبل موت الموصي ، ثمّ مات بعد ذلك ، فلهم الرجوع ، لمثل ما قلناه.

ص: 393


1- سنن النسائي : كتاب البيوع ، الشركة في الرباع ، ج 7 ، ص 320 ، مستدرك الوسائل : الباب 11 من أبواب الشفعة ، ح 14 ، وفي الجواهر : ج 37 ، كتاب الشفعة ، ص 429 « بل في النبوي المروي في التذكرة ، عن جابر ، عن النبي صلى اللّه عليه وآله : الشفعة في كل مشترك في أرض أو ربع أو حائط ، لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو بدع ، وفي الدروس وغيرها من كتب الأصحاب ، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : لا يحل أن يبيع حتى يستأذن شريكه ، فإن باع ولم يأذن فهو أحق به ، وفي الإسناد لبعض الشافعية ، وفي رواية : لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه ، فإذا باع ولم يؤذنه فهو أحق به ، هذا وأوردها في ذيل الصفحة عن سنن البيهقي : ج 6 ، ص 104 - 109.

وعلى الصحيح من المذهب ، إذا كانت الشفعة قد وجبت للشفيع ، ولم يعلم بها حتى تقايلا ، هل للشفيع إبطال الإقالة ، وردّ المبيع إلى المشتري ، وأخذ ذلك بالشفعة أم لا؟ للشفيع ذلك ، لأنّ حق الشفعة ثبت على وجه لا يمكن ، ولا يملك المتعاقدان إسقاطه.

إذا ادّعى البائع البيع ، وأنكر المشتري ، وحلف ، فإنّ الشفعة ثابتة ، وللشفيع أخذها من البائع ، لأنّه معترف بحقين ، الواحد منهما عليه ، وهو حق الشفعة ، والآخر على المشتري ، فلا يقبل قوله على المشتري ، لأنّ الحقّ له ، وقبلنا قوله للشفيع ، لأنّه حق عليه ، هكذا أورده شيخنا في مسائل خلافه (1) ، واختاره وقوّاه ، وهو قول المزني ، وتفريعه ، وقال ابن شريح أبو العباس : لا شفعة ، لأنّها انّما تثبت بعد ثبوت بيع المشتري.

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : وهذا الذي تقتضيه أصول أصحابنا ، ومذهبهم ، لأنّ الشفعة لا تستحق إلا بعد ثبوت البيع ، ويستحقها ويأخذها الشفيع من المشتري دون البائع ، والبيع ما صح ولا وقع ظاهرا ، ولا يحل لحاكم أن يحكم بأنّ البيع حصل وانعقد ، فكيف يستحق الشفعة في بيع لم يثبت عند الحاكم؟ وكيف يأخذها من البائع؟ وأيضا الأصل أن لا شفعة ، فمن أثبتها يحتاج إلى دليل قاطع هاهنا في هذا الموضع ، وهذه مسألة حادثة نظرية ، لا يرجع فيها إلى قول بعض المخالفين ، بل تحتاج إلى تأمّل ، وأن ترد إلى أصل المذهب ، وما يقتضيه أصول أصحابنا ، فليلحظ ذلك.

وإذا كان الشفيع وكيلا في البيع للبائع ، أو وكيلا في الشراء للمشتري ، فإنّه يستحق الشفعة ، ولا تسقط بوكالته ، لأنّه لا مانع من وكالته لهما ، ولا دليل في الشرع يدل على سقوط حقّه من الشفعة بذلك.

ص: 394


1- الخلاف : كتاب الشفعة ، المسألة 34 ، مع اختلاف في العبارة.

إذا اشترى شقصا ، وقبض منه بالشفعة ، وظهر بعد ذلك أنّ الدنانير التي. دفعها المشتري إلى البائع ثمنا للشقص ، ليست للمشتري ، بل هي لغيره ، فإنّه لا يخلو الشراء من أن يكون بثمن معيّن ، أو بثمن في الذمّة ، فإن كان بثمن معيّن ، مثل أن يقول المشتري للبائع بعني بهذه الدنانير ، ( فالشراء لا يصح ، لأنّ الأثمان عندنا تتعين ، كالثياب فإذا كان الشراء لا يصحّ ، بطلت الشفعة ، لأنّ الشفيع انّما يملك من المشتري ، ما يملك ، ولم يملك هاهنا شيئا لأنّ البيع لم يصحّ.

وإن كان الشراء بثمن في ذمّة المشتري ، فهو والشفعة صحيحان ماضيان ، ويأخذ المستحق الثمن ، ويطالب البائع المشتري بالثمن ، لأنّ الثمن في ذمّته ، فإذا دفع إليه ما لا يملك ، لم تبرأ ذمّته ، وكان للبائع مطالبته بالثمن.

قد ذكرنا أنّه إذا أسقط البائع عن المشتري بعض الثمن ، وانحط ذلك عنه ، لا ينحط عن الشفيع ، سواء أسقطه قبل انقضاء مدّة خيار المجلس ، أو خيار الشرط ، أو بعد ذلك بغير تفصيل ، لأنّ الشفيع يأخذ الشفعة ، بما انعقد عليه العقد.

وقال بعض أصحابنا : لا يخلو من أن يكون قبل لزوم العقد ، أو بعده ، فإن كان قبل لزومه ، مثل ان حطّ عنه في مدّة خيار المجلس ، أو الشرط ، كان ذلك حطّا من حق المشتري والشفيع ، لأنّ الشفيع يأخذ الشقص بالثمن الذي يستقرّ عليه العقد ، وهذا هو الذي استقر العقد عليه ، وإن كان الحطّ بعد انقضاء الخيار ولزوم البيع وثبوته ، لم يلحق بالعقد ، ويكون هبة مجددة من البائع للمشتري.

والذي اخترناه هو الصحيح الذي يقتضيه أصول المذهب ، واستدلال هذا المستدلّ ، بأنّ الشفيع يأخذ الشقص بالثمن الذي يستقرّ عليه العقد ، غير صحيح ، لأنّا قد بيّنا أنّ الشفيع يأخذ الشقص بالثمن الذي انعقد عليه العقد ، لأنّ الحطّ هبة من البائع على كلّ حال.

إذا اختلف شريكان في دار ، ويدهما عليها ، فقال الواحد منهما للآخر : ملكي منها قديم ، وأنت مبتاع لما في يدك الآن منها ، وأنا استحقه عليك

ص: 395

بالشفعة ، فأنكر ذلك كان القول قول المنكر مع يمينه ، ولا يستحلف إلا على أنّه لا يستحق ذلك عليه بالشفعة ولا يستحلف على أنّه ما ابتاعه ، لأنّه يمكن أن يكون اشتراه ، ثمّ سقطت الشفعة بعد ذلك.

وإذا اشترى إنسان شقصا ، ووجد به عيبا ، وأراد ردّه على البائع ، فللشفيع منعه من ذلك ، لأنّ حق الشفيع أسبق ، لأنّه وجب بالعقد ، وحقّ الرد بالعيب بعده ، لأنّه وجب في وقت العلم بالعيب ، فإن لم يعلم الشفيع بذلك ، حتى ردّه المشتري بالعيب ، كان له إبطال الرد ، والمنع من الفسخ ، لأنّه تصرف فيما فيه إبطال الشفعة ، كما قدّمناه ، إذا تقايلا.

إذا اشترى إنسان من غيره شقصا من أرض ، أو دار بمملوك ، وقبض الشقص ، ولم يسلّم المملوك ، فللشفيع الأخذ بقيمة المملوك ، فإن قبضه ثمّ هلك المملوك قبل تسليمه إلى البائع ، بطل البيع ، ولم تبطل الشفعة في الشقص ، لأنّ الشفيع استحقها قبل موت المملوك وهلاكه ، وقبل بطلان العقد ، ولزمه للبائع قيمة الشقص وقت قبضه ، ووجب على الشفيع للمشتري قيمة المملوك في وقت البيع الذي كان فيه بيعه ، لأنّ ثمن الشقص إذا لم يكن له مثل ، وجبت القيمة فيه في وقت البيع ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، على ما قدّمناه.

وقد يوجد في أبواب الشفعة ، وفي الحديث وأيّ مال اقتسم وأرّف عليه ، فلا شفعة فيه (1) ، معنى أرّف بضم الألف ، وتشديد الراء الغير المعجمة ، أي أعلم عليه ، لأنّ الأرفة على وزن غرفة ، العلامة ، والحدّ ، وجمعها أرف ، مثل غرفة وغرف.

لا يأخذ الشفيع الشفعة من البائع ، أبدا ، لأنّه انّما يستحق الأخذ بعد تمام العقد ، ولزومه ، وإبرامه وثبوته ، بالملك حينئذ للمشتري ، فوجب أن يكون الأخذ من مالكه ، لا من غيره.

ص: 396


1- الوسائل : الباب 3 و 4 و 5 و 6 من أبواب الشفعة ، فيها أحاديث بهذا المضمون.

إذا أخذ الشفيع الشقص ، فلا خيار للمشتري خيار المجلس ، بلا خلاف ، ولا خيار أيضا للشفيع ، لأنّه أخذه بالشفعة لا بالبيع ، وإلحاق ذلك بالبيع قياس.

إذا وجبت الشفعة ، وصالحه المشتري على تركها بعوض ، صحّ وبطلت الشفعة ، لأنّ الصلح جائز بين المسلمين.

إذا بلغ الشفيع أنّ الثمن دنانير ، فعفا وكان دراهم ، أو حنطة فكان شعيرا ، لم تبطل شفعته.

ذهب بعض أصحابنا بأنّ لإمام المسلمين وخلفائه ، المطالبة بشفعة الوقوف التي ينظرون فيها على المساكين ، أو على المساجد ، ومصالح المسلمين ، وكذلك كل ناظر بحق في وقف من وصى ، وولّى ، له أن يطالب بشفعته ، وهو اختيار السيّد المرتضى ، وذهب الأكثرون من أصحابنا إلى خلاف ذلك.

والذي ينبغي تحصيله ، أنّ الوقف إذا كان على جماعة المسلمين ، أو على جماعة ، فمتى باع صاحب الطلق ، فليس لأصحاب الوقف الشفعة ، ولا لوليّه ذلك ، لأنّ الشركاء زادوا على اثنين ، فإن كان الوقف على واحد صحّ ذلك.

باب الشركة

الشركة جائزة لقوله تعالى « وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ » الآية (1) ، فجعل الغنيمة مشتركة بين الغانمين ، وبين أهل الخمس ، وجعل الخمس مشتركا بين أهله ، وقال تعالى ( يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ » (2) فجعل التركة مشتركة بين الورثة ، وقال تعالى « إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ » (3) فجعل الصدقات مشتركة بين أهلها ، لأنّ اللام للتمليك ، والواو للتشريك ، وعليه إجماع المسلمين ، لأنّه لا خلاف بينهم في جواز الشركة ، وإن اختلفوا في مسائل من تفصيلها وفروعها.

ص: 397


1- الأنفال : 41.
2- النساء : 11.
3- التوبة : 60.

فإذا ثبت هذا ، فالشركة على ثلاثة أضرب ، شركة في الأعيان ، وشركة في المنافع ، وشركة في الحقوق.

فأمّا الشركة في الأعيان ، فمن ثلاثة أوجه ، أحدها بالميراث ، والثاني بالعقد ، والثالث بالحيازة.

فأمّا الميراث فهو اشتراك الورثة في التركة.

وأمّا العقد ، فهو أن يملك جماعة عينا ببيع ، أو هبة ، أو صدقة ، أو وصية.

وأمّا الشركة بالحيازة ، فهو أن يشتركوا في الاحتطاب ، والاحتشاش ، والاصطياد ، والاستقاء بعد خلطه وحيازته ، فأمّا قبل خلطه فلا شركة عندنا بينهم ، لأنّ الشركة بالأعمال والأبدان باطلة عندنا ، لأنّها لا تصح إلا بالأموال المتجانسة المتفقة الصفات ، بعد خلطها خلطا لا يتميز.

وأمّا الاشتراك في المنافع ، فكالاشتراك في منفعة الوقف ، ومنفعة العين المستأجرة.

فأمّا الاشتراك في الحقوق ، فمثل الاشتراك في حق القصاص ، وحد القذف ، وحق خيار الرد بالعيب ، وخيار الشرط ، وحق المرافق من المشي في الطرقات ، وما أشبه ذلك ، فهذا الضرب إذا عفا أحد الشركاء كان للباقي من شركائه المطالبة بجميعه ، من غير إسقاط شي ء منه ، وكذلك لو عفا الجميع إلا واحدا والأموال ، في الشركة على ثلاثة أضرب أيضا ، مال يجوز للحاكم أن يقسّم ، ويجبر الممتنع ، وضرب يجوز أن يقسّم ، ولا يجوز أن يجبر عليه ، وضرب لا يجوز أن يقسّم ، ولا ان يجبر عليه.

فأمّا ما يجوز أن يقسّم ، ويجبر الممتنع ، فكل مشترك أجزاؤه ، متساوية القيم ، ولا ضرر في قسمته.

وأمّا ما يجوز أن يقسّم ولا يجبر عليه ، فمثل أن يريدا أن يقسّما دارين.

وأمّا ما لا يجوز للحاكم أن يقسّم ولا أن يجبر عليه ، فمثل جوهرة واحدة ، أو حجر واحد ، فهذا لا يجوز لهم قسمته ، لأنّه سفه وضرر ، ولا يجوز للحاكم إذا

ص: 398

رضي الشركاء به أن يفعله ، لأنّه لا يجوز له أن يشاركهم في السفه ، بل الواجب عليه المنع لهم منه.

وإذا كانت دار ، هي وقف على جماعة ، أو غير الدار ، وأرادوا قسمتها ، لم يجز لهم ، لأنّ الحقّ لهم ولمن بعدهم ، إذا كانت على الأعقاب ، فلا يجوز لهم تمييز حقوق غيرهم.

وإذا كانت نصفها طلقا ، ونصفها وقفا ، فطلب صاحب الطلق المقاسمة ، فعندنا يجوز ذلك ، لأنّ القسمة عندنا ليست ببيع ، ومن قال أنّها بيع ، وهو الشافعي ، فلا يجوّز قسمة ذلك ، لأنّ بيع الوقف لا يجوز.

وقد قلنا أنّ من شرط صحة الشركة أن تكون في مالين متجانسين ، متفقي الصفتين ، إذا خلطا ، اشتبه أحدهما بالآخر ، وأن يخلطا حتى يصيرا مالا واحدا ، وأن يحصل الإذن في التصرّف في ذلك ، بدليل إجماع الطائفة على ذلك كلّه.

وأيضا فلا خلاف في انعقاد الشركة بتكامل ما ذكرناه ، وليس على انعقادها مع عدمه ، أو اختلال بعضه دليل.

وهذه الشركة التي تسميها الفقهاء شركة العنان بالعين المكسورة ، الغير المعجمة ، والنون المفتوحة ، قال الجوهري في كتاب الصحاح : وشركة العنان ، أن يشتركا في شي ء خاص ، دون سائر أموالهما ، كأنّه عنّ لهما شي ء ، فاشترياه ، مشتركين فيه قال النابغة الجعدي :

وشاركنا قريشا في تقاها *** وفي أحسابها شرك العنان (1)

وعلى ما قلناه ، وأصّلناه ، لا يصح شركة المفاوضة ، وهي أن يشتركا في كل ما لهما وعليهما ، وما لا هما متميزان ، ولا شركة الأبدان ، وهي الاشتراك في اجرة العمل ، ولا شركة الوجوه ، وهي أن يشتركا على أن يتصرّف كل واحد منهما

ص: 399


1- الصحاح : ج 6 ، ص 2166 ، مادة ( عنن ).

بجاهه ، لا برأس مال ، على أن يكون ما يحصل من فائدة ، بينهما.

والذي يدلّ على فساد ذلك كلّه ، نهيه عليه السلام عن الغرر (1) وفي هذه غرر عظيم ، وهو حاصل وداخل فيها ، لأنّ كل واحد من الشريكين لا يعلم أيكسب الآخر شيئا أم لا؟ ولا يعلم مقدار ما يكسبه ، ويدخل في شركة المفاوضة ، على أن يشاركه فيما يلزمه بعدوان ، وغصب ، وضمان ، وذلك غرر عظيم ، وإجماعنا منعقد على فساد ذلك أجمع.

وإذا انعقدت الشركة الشرعيّة ، اقتضت أن يكون لكلّ واحد من الشريكين ، من الربح بمقدار رأس ماله ، وعليه من الوضيعة بحسب ذلك ، فإن شرطا تفاضلا في الربح ، أو الوضيعة ، مع التساوي في رأس المال ، أو تساويا في ذلك ، مع التفاضل في رأس المال ، لم يلزم الشرط على الصحيح من أقوال أصحابنا ، والأكثرين من المحصّلين ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر.

وقال المرتضى ، في انتصاره : الشرط جائز لازم ، والشركة صحيحة (2).

وما اخترناه هو الصحيح ، والذي يبطل ما خالفه ، أنّ هذا ليس بإجارة ، فيلزمه الأجرة ، ولا مضاربة ، فيلزمه إعطاء ما شرطه ، لأنّ حقيقة المضاربة.

من ربّ المال المال ، ومن العامل العمل ، وهذا ما عمل ، فلا وجه لاستحقاقه الفاضل على رأس ماله.

ص: 400


1- الدعائم : ج 2 ، ص 21 ، وفيه : « نهى عن بيع الغرر ». وفي سنن أبي داود : كتاب البيوع الباب 25 ( الرقم 3376 ) : « انّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله نهى عن بيع الغرر ». ومثله في سنن البيهقي : كتاب البيور. باب النهي عن بيع الغرر ، ج 5 ، ص 338 ، وفي مستدرك الوسائل : الباب 7 من أبواب نقد البيع وشروطه ، عن دعائم الإسلام ، عن أمير المؤمنين عليه السلام ، أنّه سئل عن بيع السمك في الآجام واللبن في الضرع والصوف في ظهور الغنم ، قال : هذا كلّه لا يجوز ، لأنّه مجهول غير معروف يقل ويكثر ، وهو غرر ». راجع ذيل ص 459.
2- الانتصار : كتاب في مسائل شتّى في الهبات والإجارة والوقوف والشركة ، المسألة 5 ، والعبارة منقولة بالمعنى.

فإذا كان كذلك ، بأن يعقد أشركه فاسدة ، إمّا بأن يتفاضل المالان ، ويتساوى الربح ، أو يتساوى المالان ويتفاضل الربح ، وتصرّفا ، وارتفع الربح ، ثم تفاضلا ، كان الربح بينهما على قدر المالين ، ويرجع كلّ واحد منهما على صاحبه ، بأجرة مثل ما عمله ، بعد إسقاط القدر الذي يقابل عمله في ماله ، لأنّ كل واحد منهما قد شرط في مقابلة عمله جزء من الربح ، ولم يسلم له ، لفساد العقد ، وقد تعذر عليه الرجوع إلى المبدل ، فكان له الرجوع إلى قيمته ، ويصحّ كلّ من ذلك بالتراضي ، ويحلّ تناول الزيادة بالإباحة ، دون الشرط وعقد الشركة ، ويجوز الرجوع بها لمبيحها مع بقاء عينها ، لأنّ الأصل جواز ذلك ، والمنع يفتقر إلى دليل.

فإن قال المخالف : اشتراط الفضل في الوضيعة ، بمنزلة أن يقول له : ما ضاع من مالك فهو عليّ ، وهذا فاسد.

قيل : ما أنكرت أن يكون بمنزلة أن يقول : ما ضاع فهو من مالي ومالك ، إلا انّي قد رضيت أن يكون من مالي خاصّة ، وتبرعت لك بذلك ، وهذا لا مانع منه.

ويلزم أبا حنيفة على ذلك أن لا يجيز اشتراط التفاضل في الربح ، لأنّه بمنزلة أن يقول : ما استفيده من مالي ، فهو لك ، مع انّا قد قدّمنا ، أنّه لا يلزم ، وانّما إن اختار ورضي بعد ارتفاع الربح ، أن يعطيه ذلك الفاضل تبرعا منه ، وهبة ، لم يكن بذلك بأس ، لا على طريق الاستحقاق ، باللزوم والوجوب.

والتصرّف في مال الشركة ، على حسب الشرط ، إن شرطا أن يكون لهما معا على الاجتماع ، لم يجز لأحدهما أن ينفرد به ، وإن شرطا أن يكون تصرّفهما على الاجتماع والانفراد ، فهو كذلك ، وإن شرطا التصرّف لأحدهما ، لم يجز للآخر إلا باذنه وكذا القول في صفة التصرّف في المال ، من السفر به ، والبيع بالنسيئة والتجارة في شي ء معيّن ، ومتى خالف أحدهما ما وقع عليه الشرط ، كان ضامنا.

والشركة عقد جائز من كلا الطرفين ، يجوز فسخه لكلّ واحد منهما متى شاء ، ولا يلزم شرط التأجيل فيها ، وينفسخ بالموت.

ص: 401

والشريك المأذون له في التصرّف ، مؤتمن على مال شريكه ، والقول قوله ، فإن ارتاب به شريكه ، وادّعى عليه خيانة مقدّرة ، حلف على قوله ، أعني الجاحد.

وإذا تقاسم الشريكان ، لم يقسما الدين ، بل يكون الحاصل منه بينهما ، والمنكسر عليهما ، وإن اقتسما ، فاستوفى أحدهما ولم يستوف الآخر ، لكان له أن يقاسم شريكه على ما استوفاه.

وإذا باع من له التصرّف في الشركة ، وأقرّ على شريكه الآخر بقبض الثمن ، مع دعوى المشتري ذلك ، وهو جاحد ، لم يبرء المشتري من شي ء منه ، أمّا ما يخصّ البائع ، فلأنّه ما اعترف بتسليمه إليه ، ولا إلى من وكّله على قبضه ، فلا يبرء منه ، وأمّا ما يخصّ الذي لم يبع ، فلأنّه منكر لقبضه ، وإقرار شريكه البائع عليه لا يقبل ، لأنّه وكيله ، وإقرار الوكيل على الموكّل بقبض الحقّ الذي وكله في استيفائه ، غير مقبول ، لأنّه لا دليل على ذلك ، ولو أقرّ الذي لم يبع ولا أذن له في التصرف ، أن البائع قبض الثمن ، بري ء المشتري من نصيب المقرّ منه بلا خلاف.

ويكره شركة المسلم للكافر بلا خلاف ، إلا من الحسن البصري ، فإنّه قال : إذا كان المسلم ، هو المتفرد بالتصرّف ، لم يكره.

إذا كان بينهما شي ء ، فباعاه بثمن معلوم ، كان لكلّ واحد منهما أن يطالب المشتري بحقه ، فإذا أخذ حقّه ، شاركه فيه صاحبه ، على ما قدّمناه ، لأنّ المال الذي في ذمّة المشتري ، غير متميز ، فكلّ جزء يحصل من جهته ، فهو شركة يعد بينهما ، على ما ذكره شيخنا في نهايته (1) ، ومسائل خلافه (2).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ كلّ واحد من الشريكين ، يستحق على المدين ، قدرا مخصوصا ، وحقا غير حقّ شريكه ، وله هبة الغريم وإبراؤه منه ، فمتى أبرأه أحدهما من حقه ، بري ء منه وبقي حقّ الأخر الذي لم يبرء منه بلا خلاف ، فإذا استوفاه و

ص: 402


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة ، والعبارة منقولة عن الخلاف.
2- الخلاف : كتاب الشركة ، المسألة 15.

تقاضاه منه ، لم يشاركه شريكه الذي وهب ، وأبرأ ، أو صالح منه على شي ء ، بلا خلاف ، فإن كان شريكه بعد في المال الذي في ذمّة الغريم ، لكان في هذه الصور كلّها ، يشارك من لم يهب ، ولم يبرء فيما يستوفيه منه ، ويقبضه ، ثمّ عين المال الذي كان شركة بينهما ذهبت ، ولم يستحقا في ذمّة الغريم الذي هو المدين ، عينا لهما معيّنة ، بل دينا في ذمّته ، لكلّ واحد منهما مطالبته بنصيبه ، وإبراء ذمته وهبته ، وإذا أخذه منه ، وتقاضاه ، فما أخذ عينا من أعينان مال الشركة ، حتى يقاسمه شريكه فيها.

ولم يذهب إلى ذلك سوى شيخنا أبي جعفر الطوسي في نهايته (1) ، ومن قلّده وتابعه بل شيخنا المفيد ، محمّد بن محمّد بن النعمان ، لم يذكر ذلك في كتاب له ، ولا تصنيف ، وكذلك السيد المرتضى ، ولا تعرّضا للمسألة ، ولا وضعها أحد من أصحابنا المتقدمين ، في تصنيف له جملة ، ولا ذكرها أحد من القميّين ، وانّما ذكر ذلك شيخنا في نهايته ، من طريق أخبار الآحاد ، ورد بذلك ثلاثة أخبار (2) ، أحدها مرسل ، وعند من يعمل بأخبار الآحاد ، لا يلتفت إليه ، ولو سلّم الخبران الآخران تسليم جدل ، لكان لهما وجه صحيح مستمر على أصول المذهب والاعتبار ، وهو أن المال الذي هو الدين ، كان على رجلين ، فأخذ أحد الشريكين وتقاضى جميع ما على أحد الغريمين ، فالواجب عليه هاهنا ، أن يقاسم شريكه على نصف ما أخذه منه ، لأنّه أخذ ما يستحقه عليه ، وما يستحقه شريكه أيضا عليه ، لأنّ جميع ما على أحد المدينين ، لا يستحقه أحد الشريكين بانفراده ، دون شريكه الآخر ، فهذا وجه صحيح ، فيحمل الخبران على ذلك ، إذا أحسنا الظن براويهما ، فليتأمّل ذلك ، وينظر بعين الفكر الصافي ، ففيه غموض.

وإذا كان مال بين شريكين ، فغصب غاصب أحدهما نصيبه ، وباع مع مال

ص: 403


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة.
2- الوسائل : الباب 6 من أحكام الشركة.

شريكه ، مضى العقد في مال الشريك ، ويبطل في مال الشريك الذي غصبه الغاصب.

وإذا أراد أن يتشاركا فيما لا مثل له ، ولا يتساوى أجزاؤه ، ولا يختلط خلطا لا يتميّز ، مثل أن يكون مع كلّ واحد منهما دابة ، أو ثوب ، أو غير ذلك ، فيشتري كلّ واحد منهما نصف سلعة صاحبه مشاعا ، غير مقسوم ، بنصف سلعته مشاعا غير مقسوم ، وقد صحّت الشركة بينهما.

إذا شارك اثنان سقاء ، على أن يكون من أحدهما جمل ، ومن الآخر راوية ، واستقى فيها ، على أنّ كلّ نفع يرتفع من الماء ، يكون بينهم ، لم تصح هذه الشركة ، لأنّ من شرط صحة الشركة اختلاط الأموال ، وهذا لم يختلط ، ولا يجوز أن يكون ذلك إجارة ، لأنّ الأجرة في ذلك غير معلومة ، فإذا ثبت أنّ هذه معاملة فاسدة ، فإذا استقى السقاء وباع الماء ، وحصل الكسب في يده ، فإنّه يكون للسقاء ، ويرجع الآخران عليه بأجرة المثل فيما لهما ، من جمل وراوية.

إذا عقد الشركة ، ثم أدن كلّ واحد منهما لصاحبه في التصرف ، فتصرّفا ، ثمّ أنّ أحدهما فسخ الشركة ، انفسخت ، وكان لصاحبه أن يتصرّف في نصيبه ، دون نصيب الآخر ، وكان للفاسخ أن يتصرّف في نصيبه ، ونصيب صاحبه ، لأنّ صاحبه ما رجع في إذنه ، وإنما كان كذلك ، لأنّ تصرف كلّ واحد منهما في نصيب صاحبه ، إنّما هو على سبيل التوكيل ، وللموكّل أن يمنع الوكيل من التصرف أيّ وقت شاء ، فإذا ثبت هذا فهذا الفسخ ، يفيد المنع من التصرّف على ما بيّناه ، وأمّا المال فهو بعد مشترك بينهما ، لأنّه مختلط غير متميّز ، ولا يتميّز بالفسخ ، فإذا ثبت هذا ، فإن كان المال قد نصّ ، كان لهما أن يتقاسماها ، وإن أرادا بيعها ، كان لهما ذلك.

وإذا مات أحد الشريكين ، انفسخت الشركة بموته ، ومعنى الانفساخ ، أنّ الباقي منهما لا يتصرّف في المال ، فإذا ثبت هذا ، فإن كان الوارث رشيدا ، فهو بالخيار بين أن يبقى على الشركة ، وبين أن يطالب بالقسمة ، فإن اختار البقاء على الشركة ، استأنف الإذن للشريك في التصرف ، فأمّا إن كان الوارث مولّى

ص: 404

عليه ، فإنّ الوصي أو الولي ينوب عنه ، وينظر ، فإن كان الحظ في البقاء على الشركة ، استأنف الإذن للشريك في التصرّف ، وإن كان الحظّ في المفاصلة ، قاسمه ، ولا يجوز له أن يترك ما فيه الحظ إلى غيره ، لأنّ النظر إليه في المال على وجه الصلاح والاحتياط.

إذا كان بين رجلين ألفا درهم ، لكل واحد منهما ألف درهم فأذن أحدهما للآخر في التصرف في ذلك المال ، على أن يكون الربح بينهما نصفين ، لم يكن ذلك شركة ، ولا قراضا ، لأنّه لم يشرط له جزء من الربح ، فلهذا امتنع أن يكون قراضا ، ولم يشرط على نفسه العمل ، فمن هذا امتنع أن يكون شركة ، فإذا ثبت هذا ، كان ذلك بضاعة سأله التصرّف فيها ، ويكون ربحها جميعا لصاحبها.

إذا باع أحد الشريكين عينا من أعيان الشركة ، وأطلق البيع ، ثمّ ادّعى بعد ذلك أنّه باع مالا مشتركا بينه وبين غيره ، ولم يأذن له شريكه في البيع ، لم يقبل قوله على المبتاع ، لأنّ الظاهر أنّ ما يبيعه ملك له ، ينفرد به دون غيره ، فإذا ادّعى خلاف الظاهر ، لم يسمع منه ، فان ادّعى شريكه وأقام البيّنة ، فإنّه يبطل البيع في ملك شريكه ، ولا يبطل في ملكه ، كما قلناه في تفريق الصفقة.

وإذا اشترى أحد الشريكين شيئا بمال الشركة ، فإن اشتراه بثمن في الذمة ، كان ذلك للمشتري ، دون شريكه ، لأنّ إذن شريكه لم يتناول هذا الشراء ، فهو بمنزلة أن يشتري له شيئا بغير إذنه ، فأمّا إذا اشتراه بثمن معيّن من مال الشركة ، وثبت أنّ الثمن المعيّن من مال الشركة ، بتصديق البائع ، أو ببيّنة أقامها الشريك ، بطل الشراء في نصف الثمن ، ولا يبطل في النصف الآخر ، هذا إذا كان بما لا يتغابن الناس بمثله ، كما قدّمناه في تفريق الصفقة ، ويصير الثمن مشتركا بين البائع وبين شريك المشتري ، وصار المبيع مشتركا بين البائع والمشتري.

وإذا اشترى أحد الشريكين شيئا ، فادّعى أنّه اشتراه لنفسه ، دون الشركة ، وأنكر شريكه ذلك ، وزعم أنّه اشتراه للشركة ، كان القول في ذلك قول المشتري ، فأمّا إذا كان بخلاف ذلك ، فادّعى المشتري أنّه اشتراه للشركة ،

ص: 405

وأنكر شريكه ذلك ، وزعم أنّه اشتراه لنفسه دون الشركة ، كان القول قول المشتري أيضا ، لأنّه اختلاف في نيّته ، وهو أعلم بها.

ومتى حصل بالمال المشترك ، المتاع ، ثمّ أراد أن يتقاسما ، لم يكن لأحدهما المطالبة بالمال ، بل له من المتاع بمقدار ماله من المال ، وكذلك إن حصل من أصل المال نسيئة ، لم يكن له المطالبة به نقدا ، فإن رضي أحدهما بأن يأخذ رأس ماله ، ويترك الربح والنقصان ، والنقد والنسية ، ورضي صاحبه بذلك ، واصطلحا عليه ، كان ذلك جائزا.

ومتى أعطي الإنسان غيره ثوبا أو متاعا ، وأمره بأن يبيع ، فإن ربح كان بينهما ، وإن نقص ثمنه عمّا اشتراه ، لم يلزمه شي ء ، ثمّ باع فخسر ، لم يكن عليه شي ء ، وكان له اجرة المثل ، وإن ربح ، كان صاحب المتاع بالخيار ، بين أن يعطيه ما وافقه عليه ، وبين أن يعطيه اجرة المثل ، لأنّ الشركة لم تحصل بينهما ، لأنّا قد بيّنا أنّ الشركة لا تكون إلا في مالين من جنس واحد ، على صفة واحدة ، وهذا ليس كذلك.

وليس لأحد الشريكين ، مقاسمة شريكه على وجه يضرّ به ، مثل أن يكون بينهما متاع ، أو سلعة ، أو عقار ، إن قسمت ، هلكت ، مثل الحمامات ، والأرحية ، أو الحيوان ، أو السلع الثمينة ، مثل اللئالي ، والدّرر ، وما أشبه ذلك ، فمتى طالبه بذلك ، كان متعدّيا ، ولم يلزمه إجابته إلى ذلك ، بل ينبغي أن تباع السلعة بما يساوي ، وتتقاسم بالثمن ، أو تقوم ، ويأخذ أحدهما بما قوّمت به ، ويؤدّي إلى صاحبه ما يصيبه ، فإن امتنعا من ذلك أجمع ، كان النظر في ذلك إلى الحاكم ، يعمل فيه ما يكون أصلح لهما ، إمّا أن يؤجر الشي ء لهما ، أو غير ذلك ممّا فيه الصلاح لهما ، لأنّه الوالي على كلّ من لا يوافق على الحق.

ويكره مشاركة سائر الكفار.

ومتى عثر أحد الشريكين على صاحبه بخيانة ، فلا يدخل هو في مثلها اقتصاصا منه ، وذلك على طريق الكراهة ، دون الحظر ، لأنّه إذا تحقّق أخذ

ص: 406

ماله ، وعلم ذلك يقينا ، فله أخذ عوضه ، وإنّما النهي على طريق الكراهة والأولى والأفضل.

ومتى كان لإنسان على غيره مال دينا ، لم يجز له أن يجعله شركة ، أو مضاربة ، إلا بعد أن يقبضه ، ثمّ يعطيه إيّاه إن شاء.

باب المضاربة وهي القراض

القراض والمضاربة عبارتان عن معنى واحد ، وهو أن يدفع الإنسان إلى غيره مالا يتجر فيه ، على أن ما رزق اللّه من ربح ، كان بينهما على ما يشترطانه ، فالقراض لغة أهل الحجاز ، والمضاربة لغة أهل العراق ، ومواضعتهم.

وقيل في اشتقاقها أقوال ، وهو أنّ القراض من القرض ، وهو القطع ، ومنه قيل : قرض الفأر الثوب ، إذا قطعه ، ومعناه هاهنا ، أنّ ربّ المال قطع قطعة من ماله ، فسلّمها إلى العامل ، وقطع له قطعة من الربح.

والآخر ، أنّ اشتقاقه من المقارضة ، وهي المساواة ، ومعناه هاهنا ، أنّ من العامل العمل ، ومن ربّ المال المال.

واشتقاق المضاربة من الضرب بالمال في الأرض ، والتقليب له.

وعلى جواز ذلك ، إجماع الأمة ، والكتاب.

ومن شرط صحة ذلك ، أن يكون رأس المال ، دراهم أو دنانير معلومة ، مسلمة إلى العامل ، ولا يجوز القراض بغير الدنانير والدراهم ، من سائر العروض ، فعلى هذا لا يجوز القراض بالفلوس ، ولا بالورق المغشوش.

وتصرّف المضارب ، موقوف على إذن صاحب المال ، إن أذن له في السفر ، به أو في البيع نسية ، جاز له ذلك ، ولا ضمان عليه لما يهلك ، أو يحصل من خسران ، وإذا لم يأذن في البيع بالنسية ، أو في السفر ، أو أذن فيه إلى بلد معيّن ، أو شرط أن لا يتجر إلا في شي ء معيّن ، ولا يعامل إلا إنسانا معيّنا فخالف ، لزمه الضمان ، بدليل إجماع أصحابنا ، على جميع ذلك.

ص: 407

ويحتج على المخالف ، في صحّة القراض مع هذه الشروط ، بقوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم (1).

وإذا سافر بإذن ربّ المال ، كانت نفقة السفر من المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، والمركوب ، من غير إسراف ، من مال القراض ، على الأظهر الصحيح بين أصحابنا المحصّلين ، ولا نفقة للمضارب منه في الحضر ، واختار شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، القول بأنّه لا نفقة له حضرا ولا سفرا (2) ، وبما اخترناه قال في نهايته (3) وجميع كتبه ، ما عدا ما ذكرناه عنه في مبسوطة ، وهو أحد أقوال الشافعي ، الثلاثة في المسألة ، اختاره هاهنا شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه ، وقال في مسائل خلافه بمقالته في نهايته ، ورجع إلى قول أهل نحلته ، وإجماع عصابته ، فقال : مسألة إذا سافر بإذن ربّ المال ، كان نفقة السفر ، من المأكول ، والمشروب ، والملبوس ، من مال القراض ، ثمّ قال : دليلنا إجماع الفرقة ، وأخبارهم. هذا آخر كلامه ، في مسائل خلافه (4) ، فهو في مبسوطة محجوج بقوله في مسائل خلافه.

وإذا اشترى العامل ، من يعتق على ربّ المال ، بإذنه ، صحّ الشراء ، وعتق عليه ، وانفسخ القراض ، إن كان الشراء بجميع المال ، لأنّه خرج عن كونه مالا للقراض ، وملكا ، وإن كان ببعض المال ، انفسخ من القراض بقدر قيمة العبد ، وإن كان الشراء بغير إذنه ، وكان بعين المال ، فالشراء باطل ، لأنّه اشترى ما يتلف ، ويخرج عن كونه مالا عقيب الشراء ، وإن اشترى بثمن في الذمة صح الشراء ووقع الملك للعامل ، ولا يجوز له أن يدفع الثمن من مال القراض ، فإن فعل لزمه الضمان ، لأنّه تعدّى بدفع مال غيره في ثمن ، لزمه في ذمّته.

وإذا اشترى المضارب ، من يعتق عليه ، قوّم ، فإن زاد ثمنه على ما اشتراه ، انعتق منه بحساب نصيبه من الربح ، واستسعى في الباقي لربّ المال ، وإن لم يزد

ص: 408


1- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور : ح 4.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب القراض ، ص 172.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة.
4- الخلاف : كتاب القراض ، المسألة 6.

ثمنه على ذلك ، أو نقص عنه ، فهو رقّ بدليل إجماع الطائفة على ذلك.

والمضاربة عقد جائز من الطرفين ، لكلّ واحد منهما فسخه متى شاء ، وإذا بد الصاحب المال من ذلك ، بعد ما اشترى المضارب المتاع ، لم يكن له غيره ، ويجب على المضارب بيعه ، فإن كان فيه ربح ، كان بينهما ، على ما شرطا ، وإن كان خسران ، فلا يلزمه شي ء بحال.

والمضارب مؤتمن ، لا ضمان عليه إلا بالتعدّي ، فإن شرط عليه ربّ المال ضمانه ، صار الربح كلّه له ، دون ربّ المال.

ويكره مضاربة سائر الكفار.

واختلف أقوال أصحابنا في تصانيفهم ، في معنى الشرط للعامل في الربح ، هل يلزم أم لا؟ فبعض ، يذكر أنّه يستحقّ ما وقع الشرط عليه من الربح ، وبعض يذكر أنّه لا يستحق ذلك ، بل يجب له اجرة المثل ، دون ما وقع عليه الشرط من الربح ، ويجعل القول الأوّل رواية (1) ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (2) ، ورجع عنه في مبسوطة (3) ومسائل خلافه (4) ، واستبصاره (5) ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وأعمل عليه وأفتي به.

والذي يدلّ على صحّة ذلك ، إجماع أصحابنا المخالف في المسألة والمؤالف ، وتواتر أخبارهم (6) ، في أنّ المضارب إذا اشترى أباه ، أو ولده بالمال ، وكان فيه ربح على ما قدّمناه ، فإنّه ينعتق عليه ، فلو لم يكن شريكا بحسب الشرط في الربح ، لما انعتق عليه ، لأنّه لو كان له اجرة المثل ، لما صحّ العتق ولا يقدّر ، لأنّ

ص: 409


1- الوسائل : الباب 3 من أحكام المضاربة ، ح 3.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة.
3- المبسوط : ج 3 ، كتاب القراض ، ص 188 - 189.
4- الخلاف : كتاب القراض ، مسألة 12.
5- الإستبصار : ج 3 ، ص 126 و 127 ، باب أن المضارب يكون له الربح بحسب ما يشترط وليس عليه من الخسران شي ء.
6- الوسائل : الباب 8 من أحكام المضاربة.

الأجرة في ذمّة صاحب المال ، يوفيه إيّاها من أيّ أمواله أراد.

وأيضا قوله عليه السلام : الشرط جائز بين المسلمين (1) وهذا شرط جائز ، لا يمنع منه كتاب ولا سنّة ولا إجماع ، لأنّ الإجماع غير حاصل على المنع منه ، وكتاب اللّه تعالى خال منه ، والسنة المتواترة.

وكذلك قوله عليه السلام : المؤمنون عند شروطهم (2) وهذا اخبار بمعنى الأمر ، ومعناه : يجب عليهم أن يوفوا بشروطهم.

والذي ذكره شيخنا في مبسوطة في الجزء الأوّل ، في كتاب الزكاة ، في فصل في مال التجارة ، قال : من أعطى غيره مالا مضاربة على أن يكون الربح بينهما ، فاشترى مثلا بألف سلعة فحال الحول ، وهي تساوي ألفين ، فانّ زكاة الألف على ربّ المال ، والربح إذا حال عليه الحول من حين الظهور ، كان فيه الزكاة ، على ربّ المال نصيبه ، وعلى العامل نصيبه ، إذا كان العامل مسلما ، فإن كان ذميا ، يلزم ربّ المال ما يصيبه ، ويسقط نصيب الذمي ، لأنّه ليس من أهل الزكاة ، هذا على قول من أوجب الرّبح (3) من أصحابنا وهو الصحيح ، فأمّا من أوجب له اجرة المثل ، فزكاة الأصل والربح ، على ربّ المال ، هذا آخر قول شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (4) من غير زيادة ، ولا نقصان ، حكيته حرفا فحرفا.

وذكر رحمه اللّه في الجزء الثاني من كتاب القراض ، مواضع كثيرة ، أنّ للعامل من الربح ، ما وقع عليه الشرط.

ويحمل قول من قال وذكر في كتابه : أن له اجرة المثل ، على أنّه إذا كانت المضاربة فاسدة ، فإنّ شيخنا أبا جعفر ، قال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا كان القراض فاسدا استحق العامل اجرة المثل على ما يعمله ، سواء كان في المال ربح أو لم يكن ، ثمّ قال : دليلنا انه عمل بإذن صاحب المال ، فإذا لم يصحّ له

ص: 410


1- عوالي اللئالئ : ج 3 ، ص 225 ، ح 103.
2- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور ، ح 4.
3- ل. ق : له الربح.
4- المبسوط : ج 1 كتاب الزكاة ، ص 223.

ما قاوله عليه ، كان له اجرة المثل ، لأنّه دخل على أن يكون له المسمّى في مقابلة عمله هذا آخر كلامه رحمه اللّه في المسألة (1).

ومتى اختلف الشريكان ، أو المضارب وصاحب المال ، في شي ء من الأشياء ، كانت البيّنة على المدعي واليمين على المدّعى عليه ، مثل الدّعاوي في سائر الأحكام.

وإذا اشترى المضارب المتاع ، ونقد من عنده الثمن على من ضاربه ، لم يلزم صاحب المال ذلك ، وكان من مال المضارب ، فإن ربح كان له ، وإن خسر كان عليه.

وروي أنّه من أعطى مال يتيم إلى غيره ، مضاربة ، فان ربح كان بينهما على ما يتفقان عليه ، وإن خسر كان ضمانه على من أعطى المال (2).

فالأولى أن يقال : إن كان هذا المعطي ناظرا في مال اليتيم ، نظرا شرعيا ، إمّا أن يكون وصيا في ذلك ، أو وليا ، فله أن يفعل فيه ما لليتيم الحظ فيه ، والصلاح ، فعلى هذا لا يلزم الولي المعطي الخسران إن خسر المال ، وهذا هو الذي تقتضيه أصول المذهب.

وما أورده شيخنا في نهايته (3) ، خبر واحد أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما كرّرنا ذلك.

ومن كان له على غيره مال دينا ، لم يجز له أن يجعله مضاربة ، إلا بعد قبضه منه ، على ما قدّمناه.

وقد روي أنّ من كان عنده أموال الناس مضاربة ، فمات فان عيّن ما عنده أنّه لبعضهم ، كان على ما عيّن في وصيّته ، وان لم يعين كان بينهم بالسوية ، على ما يقتضيه رءوس الأموال (4) ، أورد ذلك شيخنا في نهايته (5).

وهذا إذا حقّق وقامت البيّنة برءوس الأموال ، أو تصادق أصحاب

ص: 411


1- الخلاف : كتاب القراض ، مسألة 4.
2- الوسائل : الباب 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة ، ح 8.
3- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة.
4- الوسائل : الباب 13 من أحكام المضاربة.
5- النهاية : كتاب التجارة ، باب الشركة والمضاربة ، آخر الباب.

الأموال والورثة ، وكان في المال ربح ، وكانت الأموال مختلطة غير متميّز ، مال كل واحد من غيره ، فإن كان خسران ، وكان الخلط بغير إذن أرباب الأموال ، فإن الخسران على الخالط لها ، لأنّه فرّط في الخلط ، فهذا تحرير الرواية المذكورة.

إذا فسخ ربّ المال القراض ، وكان في المال نسأ - بفتح النّون ، وسكون السّين ، وهمز الالف وقصره ، باعه العامل بإذن ربّ المال نسية ، لزمه أن يحييه ، سواء كان فيه ربح أو لم يكن فيه ربح ، لأنّ على العامل ردّ المال ، كما أخذه ، وإذا أخذه ناضا ، وجب عليه أن يرد مثله.

إذا قال : خذ هذا المال قراضا على أن يكون الربح كلّه لي ، كان ذلك قراضا فاسدا ، فإن لفظ القراض يقتضي أن يكون الربح بينهما.

وإذا قال : خذ هذا المال ، وانتفع به واتجر ، والربح كلّه لك ، فهذا قرض لا قراض ، ويكون المال قرضا على المستقرض ، وجميع الربح له ، لأنّه ربح ماله.

وإن قال : خذ هذا المال ، واشتر لي السلعة الفلانية ، والربح كلّه لي ، فهذا بضاعة ، سأله أن يشتري له بها ما ذكره ، فالربح كلّه لصاحب المال دون المشتري ، وقد قدّمنا هذا الكلام فيما مضى من كتابنا هذا ، واعدناه ، لأنّه موضعه.

إذا كان العامل نصرانيا ، فاشترى بمال القراض خمرا أو خنزيرا ، كان جميع ذلك باطلا.

ذكر شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، مسألة فقال : إذا دفع إليه ألفا للقراض ، واشترى به عبدا للقراض ، فهلك الألف قبل أن يدفعه في ثمنه ، اختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب ، اختار شيخنا منها ، انّ المبيع للعامل ، والثمن عليه ، ولا شي ء على ربّ المال ، ثم قال : دليلنا أنّه لا يخلو أن يكون الألف تلف قبل الشراء ، أو بعده ، فإن كان التلف قبل الشراء ، وقع الشراء للعامل ، لأنّه اشتراه بعد زوال القراض ، وإن كان التلف بعد الشراء ، وقع لربّ المال ، وعليه أن يدفع الثمن ، من ماله الذي سلّمه إليه ، فإذا هلك المال ،

ص: 412

تحوّل الملك إلى العامل ، وكان الثمن عليه ، لأنّ ربّ المال إنّما فسح للعامل في التصرّف في ألف ، إمّا أن يشتريه به بعينه ، أو في الذمة ، وينقد ثمنه ، ولم يدخل على أن يكون له في القراض أكثر منه (1).

قال محمّد بن إدريس : الذي عندي في ذلك ، أنّه لا يخلو إمّا أن يكون اشترى المضارب العبد بثمن في الذمة ، لا معيّن ، أو ثمن معيّن ، فإن كان الأوّل ، فالعبد للمضارب دون ربّ مال المضاربة ، ويجب على العامل الذي هو المضارب ، أن يدفع من ماله وخاصّه ، ألفا ، ثمن العبد ، والبيع لا ينفسخ ، لأنّ الأثمان إذا كانت في الذمة ، لا ينفسخ البيع بهلاكها ، لأنّها غير معيّنة ، وإن كان الثاني ، فإنّ البيع ينفسخ ، ويكون العبد ملكا لبائعه ، على ما كان ، دون العامل ، ودون ربّ مال المضاربة ، لأنّ الثمن إذا كان معيّنا ، وهلك قبل القبض ، انفسخ البيع ، وكان الملك المبيع باقيا وعائدا إلى ملك بايعه ، بغير خلاف.

فهذا تحرير هذا المسألة وما ذكره شيخنا ، اختيار أبي العبّاس بن سريج ، من قول الشافعي ، اختاره شيخنا أيضا والذي حرّرناه واخترناه ، هو الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، وبه يقول شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في مواضع كثيرة ، من كتبه وتصنيفاته ، مسائل (2) الخلاف (3) والمبسوط (4).

لا يصح القراض إذا كان المال جزافا ، لأنّه لا دلالة عليه.

إذا قارضه على أن يشتري أصلا ، له فائدة يستبقي الأصل ، ويطلب فائدته ، كالشجر والعقار والحيوان الذي يرجى نسله ودرّة ، فالكلّ قراض فاسد ، لأنّ موضوع القراض الصحيح في الشرع غير هذا ، وأيضا لا دليل على صحّة ذلك ، لأنّ القراض عقد شرعي ، يحتاج في ثبوته إلى أدلة شرعية.

إذا دفع إليه مالا قراضا ، فإن اتجر حضرا ، كان عليه من التصرّف فيه

ص: 413


1- الخلاف : كتاب القراض ، المسألة 15 ، مع تقطيع في العبارة.
2- ل : إلا مسائل.
3- الخلاف ، كتاب القراض ، المسألة 15.
4- المبسوط : ج 3 ، كتاب القراض ، ص 194.

ما يليه ربّ المال في العادة ، من نشر الثوب ، وطيّه ، وتقليبه ، على من يشتريه ، وعقد البيع ، وقبض الثمن ، ونقده ، وإحرازه في كيسه ، وختمه ، ونقله إلى صندوقه ، وحفظه ، ونحو ذلك ، ممّا جرت العادة بمثله ، وإن كان ذلك شيئا لا يليه ربّ المال في العادة ، مثل النداء على المتاع في الأسواق ، ونقله إلى الخان ، ومن مكان إلى مكان ، فليس على العامل أن يعمل بنفسه ، بل يكتري من يتولاه فإن القراض متى وقع مطلقا من غير اشتراط شي ء من هذا ، وجب أن يحمل إطلاقه على ما جرت العادة ، كما نقول في صفة القبض (1) والتصرّف ، فإن خالف العامل ، فحمل على نفسه ، وتولّى من التصرّف ما لا يليه في العرف ، لم يستحق الأجرة على فعله ، لأنّه تطوّع بذلك ، فإن خالف واستأجر أجيرا يعمل فيه ما يعمله بنفسه ، كانت الأجرة من ضمانه ، لأنّه أنفق المال في غير حقّه.

إذا دفع إليه ألفين منفردين ، فقال له : خذهما قراضا ، على أن يكون الربح من هذا الألف لي ، وربح الآخر لك ، فالقراض فاسد ، لأنّ موضوع القراض على أن يكون الربح لكل جزء من المال بينهما.

إذا خلط الألفين ، وقال : ما رزق اللّه من فضل ، كان لي ربح ألف ولك ربح ألف ، كان جائزا ، لأنّ الألف الذي شرط ربحها ليست متميّزة ، وإنّما كانت تبطل لو كانت متميّزة ، مثل المسألة الاولى ، وذلك لا يجوز.

إذا غصب رجل مالا فاتّجر به ، فربح ، أو كان في يده مال أمانة ، أو وديعة ، أو نحوهما ، فتعدّى فيها ، واتجر ، وربح ، فلمن يكون الربح؟ قيل : فيه قولان.

أحدهما أنّ الربح كلّه لرب المال ، ولا شي ء للغاصب ، لأنّا لو جعلنا الربح للغاصب ، كان ذلك ذريعة إلى غصب الأموال ، والخيانة في الودائع ، فجعل الربح لرب المال ، صيانة للأموال.

ص: 414


1- ج : في القبض.

والقول الثاني ، أنّ الربح كلّه للغاصب ، لا حقّ لرب المال فيه ، لأنّه إن كان قد اشترى بعين المال ، فالشراء باطل بغير خلاف ، وإن كان الشراء في الذمة ، ملك المشتري المبيع ، وكان الثمن في ذمته بغير خلاف ، فإذا دفع مال غيره ، فقد قضى دين نفسه بمال غيره ، فكان عليه ضمان المال فقط ، والمبيع ملكه ، حلال له ، طلق ، فإذا اتّجر فيه ، وربح ، كان متصرّفا في مال نفسه ، فلهذا كان الربح له ، دون غيره ، ولا يكون ذريعة إلى أخذ الأموال ، لأنّ حسم ذلك بالخوف من اللّه تعالى ، والحذر ممّا يرتكبه من المعصية ويحذره من الإثم ، وهذا القول هو الصحيح الذي تقتضيه الأدلّة وأصول المذهب.

إذا قال : خذه قراضا ، والربح بيننا ، فالقراض صحيح ، لأنّ قوله بيننا ، معناه بيننا نصفين ، كرجل قال : هذه الدار بيننا ، أو بيني وبينك ، كان إقرارا بأنّها بينهما نصفين ، وجملته أنّ هاهنا ثلاثة عقود ، عقد يقتضي أنّ الربح كلّه لمن أخذ المال ، وهو القرض ، وعقد يقتضي أنّ الربح كلّه لربّ المال وهو البضاعة ، وهو أن يقول له : خذ هذا المال ، واتّجر به ، والربح كلّه لي ، وعقد يقتضي أنّ الربح بينهما ، وهو القراض ، فإذا قال : خذه واتّجر به ، صلح لهذه الثلاثة العقود ، قرض ، وقراض ، وبضاعة ، فإذا قرن به قرينة ، أخلصته إلى ما تدل القرينة عليه ، فإن قال : خذه ، واتّجر به ، والربح لك ، كان قرضا ، فان قال : خذه واتّجر به ، على أنّ الربح كلّه لي ، كان بضاعة ، فإن قال : خذه ، واتّجر به ، والربح بيننا ، كان قراضا ، لأنّ القرينة تدلّ عليه.

إذا اشترى العامل عبدا ، واختلف هو وربّ المال ، فقال العامل : اشتريته لنفسي ، وقال ربّ المال : بل اشتريته للقراض ، وبمال القراض ، فالقول قول العامل مع يمينه ، لأنّ العبد في يده ، وظاهر ما في يده أنّه ملكه ، فلا يقبل قول غيره في إزالة ملكه عنه.

فإن اختلفا فقال ربّ المال : اشتريته لنفسك ، وقال العامل : للقراض

ص: 415

اشتريته ، فالقول أيضا قول العامل ، لأنّه أمين.

وإذا تلف من المال شي ء بعد أن يقبضه العامل ، كان من الربح بكلّ حال ، سواء كان بعد أن دار في التجارة ، أو قبل ذلك ، فإذا ذهب بعض المال قبل أن يعمل ، ثمّ عمل ، فربح ، فأراد أن يجعل البقيّة رأس المال ، بعد الذي هلك ، فلا يقبل قوله ، ويوفى رأس المال من ربحه ، حتى إذا وفّاه ، اقتسما الربح على شرطهما ، لأنّ المال إنّما يصير قراضا في يد العامل بالقبض ، فلا فصل بين أن يهلك قبل التصرّف ، أو بعده وقبل الربح ، فالكلّ هالك من مال ربّ المال ، فوجب أن يكون الهالك ابدا من الربح ، لا من رأس المال.

إذا خلط العامل مال القراض بمال نفسه ، خلطا لا يتميز ، فعليه الضمان ، كالمودّع والوكيل ، لأنّه صيّره كالتالف ، بدلالة أنّه لا يقدر على ردّ المال إلى ربّه بعينه.

إذا دفع إليه ثوبا وقال بعه ، فإذا نضّ ثمنه ، فقد قارضتك عليه ، فالقراض فاسد.

باب الرهون وأحكامها

الرهن في اللغة هو الثياب ، والدوام ، تقول العرب : رهن الشي ء ، إذا ثبت ، والنعمة الراهنة ، هي الثابتة الدائمة ، ويقال : رهنت الشي ء ، فهو مرهون ، ولا يقال : أرهنت ، وقيل : إنّ ذلك لغة ، وتقول العرب : أرهن الشي ء ، إذا غالى في سعره ، وأرهن ابنه ، إذا خاطر به وجعله رهينة ، وأمّا الرهن في الشريعة ، فإنّه اسم لجعل المال وثيقة في دين ، إذا تعذّر استيفائه ممن عليه ، استوفى من ثمن الرهن ، وهو جائز بالإجماع ، وعقد لازم من جهة الراهن ، وجائز من جهة المرتهن.

وشروط صحّته ستة ، حصول الإيجاب والقبول من جائزي التصرّف.

وأن يكون المرهون عينا لا دينا ، لأنّا قد بيّنا أنّه وثيقة عين في دين.

وأن يكون ممّا يجوز بيعه ، لأنّ كونه بخلاف ذلك ، ينافي المقصود به.

وأن يكون المرهون به ، دينا لا عينا مضمونة ، كالمغصوب مثلا ، لأنّ الرهن

ص: 416

إن كان على قيمة العين إذا تلفت ، لم يصحّ ، لأنّ ذلك حقّ لم يثبت بعد ، وإن كان على نفس العين ، فكذلك ، لأنّ استيفاء نفس العين من الرهن لا يصح.

وأن يكون الدين ثابتا ، فلو قال : رهنتك كذا بعشرة دنانير تقرضنيها غدا ، لم يصحّ.

وأن يكون لازما ، كعوض القرض ، والثمن ، والأجرة وقيمة المتلف ، وأرش الجناية ، ولا يجوز أخذ الرهن على مال الكتابة المشروطة ، لأنّه عندنا غير لازم.

وإذا تكامل ما ذكرناه من هذه الشروط ، صحّ الرهن بلا خلاف ، وليس على صحّته مع اختلال بعضها دليل.

فأمّا القبض ، فقد اختلف قول أصحابنا ، هل هو شرط في لزومه أم لا؟

فقال بعضهم بأنّه شرط في لزومه من جهة الراهن دون المرتهن ، وقال الأكثرون المحصّلون منهم : يلزم بالإيجاب والقبول ، وهذا هو الصحيح ، لقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وهذا عقد يجب الوفاء به فأمّا قوله تعالى ( فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ ) (1) فهذا دليل الخطاب ، وهو متروك عند المحصّلين من أصحابنا ، وقد يرجع عن دليل الخطاب عند من يعمل به ، ويترك بدليل ، والآية الأولى دليل على ذلك فالأوّل مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (2) ، وشيخنا المفيد في مقنعته (3) والثاني مذهب شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه (4) ، فإنّه رجع عمّا ذهب إليه في نهايته.

واستدامة القبض في الرهن ليست شرطا في صحّته ولزومه.

ولا يجوز للراهن أن يتصرّف في الرهن بما يبطل ، أو ينقص حق المرتهن ، كالبيع والهبة والرهن عند آخر ، والعتق ، فإن تصرّف ، كان تصرّفه باطلا ، ولم ينفسخ الرهن ، لأنّ الأصل صحته ، والقول بفسخه يحتاج إلى دليل ، وإنّما ينفسخ الرهن إذا فعل ما يبطل به حقّ المرتهن منه بإذنه ، ويجوز له الانتفاع بما عدا ذلك ، من سكنى الدار ، وزراعة الأرض ، وخدمة العبد ، وركوب الدابة ،

ص: 417


1- البقرة : 283.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون وأحكامها.
3- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب الرهون ص 622.
4- الخلاف : كتاب الرهن ، المسألة 5.

وما يحصل من صوف ، ولبن ونتاج ، إذا اتفق هو والمرتهن ، وتراضيا على ذلك.

وكذا يجوز للمرتهن الانتفاع بالسكنى ، والزراعة والخدمة والركوب ، والصوف ، واللبن ، إذا أذن له الراهن ، لأنّ الحقّ لهما ، لا يخرج عنهما ، ولا يستحقه سواهما ، فإن سكن المرتهن الدار ، أو زرع الأرض بغير إذن الراهن ، أثم ، ولزمه أجرة الأرض والدار ، وكان الزرع له ، لأنّه عين ماله ، والزيادة حادثة فيه ، وهي غير متميزة منه.

ولا يحلّ للراهن ولا للمرتهن وطء الجارية المرهونة ، فإن وطأها الراهن بغير إذن المرتهن ، أثم ، وعليه التعزير ، ولا حد عليه ، فإن حملت وأتت بولد ، كان حرا ، لا حقا بأبيه الراهن ، ولا تخرج من كونها رهنا ، وجاز بيعها في الدين الذي هي مرهونة عليه ، وقال بعض أصحابنا : فإن حبلت وأتت بولد ، فإن كان موسرا ، وجب عليه قيمتها ، تكون رهنا مكانها ، لحرمة الولد ، وإن كان معسرا ، بقيت رهنا بحالها ، وجاز بيعها في الدين ، وهذا غير صحيح ، لأنّه مخالف لأصول مذهبنا.

فإن وطأها بإذن المرتهن ، لم ينفسخ الرهن ، حملت أو لم تحمل ، لأنّ ملكه ثابت ، وإذا كان ثابتا ، كان الرهن على حاله ، وجاز بيعها في الدين أيضا ، لأنّه في الأوّل ما رهن أمّ ولده ، بل رهن رهنا يصح بيعه في حال ما رهنه على كلّ حال ، وبلا خلاف.

فإن وطأها المرتهن بغير إذن الراهن ، فهو زان ، وولده منها رقّ لسيدها ، ورهن معها ، ويجب عليه الحدّ.

فإن كان الوطء بإذن الراهن ، كان الولد حرّا لا حقا بأبيه المرتهن ، لا قيمة عليه للراهن فيه ، ولا يلزمه مهر ، لأنّ الأصل براءة الذمّة ، ويصح بيعها بعد ذلك أيضا في الدين بغير خلاف.

ورهن المشاع جائز ، كرهن المقسوم.

ويجوز توكيل المرتهن في بيع الرهن.

ص: 418

وإذا كان الرهن ممّا يسرع إليه الفساد ، قبل حلول الأجل ، ولم يشرط بيعه ، إذا خيف فساده كان الرهن باطلا ، لأنّ المرتهن لا ينتفع به ، والحال هذه.

وإذا أذن المرتهن للراهن في بيع الرهن ، بشرط أن يكون ثمنه رهنا مكانه ، كان ذلك جائزا ، ولم يبطل الرهن ، لقوله تعالى ( وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) (1) وقول الرسول عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (2) والشرط جائز بين المسلمين (3).

وإن قال له : بع الرهن ، بشرط أن تجعل ثمنه من ديني ، قبل محلّه ، صحّ البيع ، وكان الثمن رهنا إلى وقت المحلّ ، ولم يلزم الوفاء بتقديم الحقّ قبل محلّه ، لأنّه لا دليل عليه.

والرهن أمانة في يد المرتهن ، إن هلك من غير تفريط ، فهو من مال الراهن ، ولم يسقط بهلاكه شي ء من الدين ، بدليل إجماعنا ، وقوله عليه السلام : « لا يغلق الرّهن الرهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه ، وعليه غرمه » (4) لأنّ المراد من الغنم (5) : الاستفادة والنماء ، والزيادة ، والغرم : النقصان والتلف ، والمراد بقوله : « الرّهن من صاحبه » المراد به من ضمان صاحبه.

ومعنى قوله : « لا يغلق الرهن ، بالغين المعجمة ، وفتح الياء ، واللام » أي لا يملكه المرتهن بالارتهان ، وإن شرط الراهن للمرتهن أنّه إذا لم يأت بالمال كان الرهن له بالدين ، لا يلزم ذلك ، ولا يملكه المرتهن بهذا الشرط ، لقوله عليه السلام : « لا يغلق الرهن » قال الهروي صاحب الغريبين في الحديث : لا يغلق الرهن ، أي لا يستحقه مرتهنه ، إذا لم يؤدّ الراهن ما رهنه فيه ، وكان هذا من فعال الجاهلية ، فأبطله الإسلام ، إلى هاهنا كلام الهروي ، وقال الجوهري في

ص: 419


1- البقرة : 275.
2- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور ، ح 4.
3- عوالي اللئالي : ج 3 ، ح 103 ، ص 225.
4- مستدرك الوسائل : الباب 10 من أحكام الرهن ، ح 3 ، وفيه لا يغلق الراهن.
5- ل. ق : بالغنم.

كتاب الصحاح : غلق الرهن غلقا ، إذا استحقه المرتهن ، وذلك إذا لم يفتكّ (1) في الوقت المشروط ، وفي الحديث : لا يغلق الرهن ، قال زهير :

وفارقتك برهن لا فكاك له *** يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا (2)

ويحتج على المخالف بقوله عليه السلام : « الخراج بالضمان » (3) وخراجه إذا كان للراهن بلا خلاف ، وجب أن يكون من ضمانه ، ولا يعارض ذلك ، بما رووه من أنّ رجلا رهن فرسه عند إنسان ، فنفق ، فسأل المرتهن النبي عليه السلام عن ذلك ، فقال : ذهب حقّك (4) ، لأنّ المراد بذلك ، ذهب حقّك من الوثيقة ، لا من الدين ، وقلنا ذلك لوجهين ، أحدهما أنّه وحّد الحقّ ، ولو أراد ذهاب الدين والوثيقة معا ، لقال : ذهب حقّاك ، والثاني أنّ الدين إنّما يسقط عند المخالف ، إذا كان مثل قيمة الرهن أو أقل ، ولا يسقط الزيادة منه ، إذا كان أكثر ، فلو أراد ذهاب حقه من الدين ، لاستفهم عن مبلغه وفصّل في الجواب.

وقولهم : « سقوط الحقّ من الوثيقة ، معلوم بالمشاهدة ، فلا فائدة في بيانه » غير صحيح ، لأنّ تلف الرهن لا يسقط حقّ المرتهن من الوثيقة على كل حال ، بل إذا أتلفه الراهن ، أو أتلفه أجنبيّ ، فإنّ القيمة تؤخذ وتجعل (5) رهنا مكانه ، فأراد عليه السلام ، أن يبيّن أنّ الرهن إذا تلف من غير جناية سقط حق الوثيقة.

وإذا ادّعى المرتهن هلاك الرهن ، كان القول قوله مع يمينه ، سواء ادّعى ذلك بأمر ظاهر ، أو خفي ، والدليل عليه إجماع أصحابنا بغير خلاف بينهم ، وأيضا فقد بيّنا أنّه أمانة في يده ، فإذا كان كذلك ، فالقول قوله في هلاكه.

وإذا اختلف الراهن والمرتهن في الاحتياط والتفريط ، وفقدت البيّنات ،

ص: 420


1- ج : لم يفكّ.
2- الصحاح : ج 4 ، ص 1538.
3- سنن النسائي : كتاب البيوع ، الخراج بالضمان ، ج 7 ، ص 255.
4- سنن البيهقي : كتاب الرهن ، الباب 6 ( من قال الرهن مضمون ) ، ج 6 ، ص 41 ، ح 3.
5- ج : فإنّ الذي يؤخذ يجعل.

فالقول قول المرتهن أيضا مع يمينه.

وإذا اختلفا في مبلغ الرهن ، أو في مقدار قيمته بعد الإقرار من المرتهن بالتفريط ، أو إقامة البيّنة عليه بذلك ، فالقول قول المرتهن أيضا في ذلك ، على الصحيح من المذهب ، لأنّه غارم ، ومدّعى عليه ، ولا خلاف أنّ القول قول الجاحد المنكر المدّعى عليه ، إذا عدم المدّعي البينة ، وقال بعض أصحابنا : القول قول الراهن في ذلك ، وهذا مخالف لما عليه الإجماع ، وضدّ لأصول الشريعة.

وإذا اختلفا في مبلغ الدين ، أخذ ما أقرّ به الراهن ، وحلف على ما أنكره ، لأنّ القول قوله في ذلك مع يمينه ، لأنّه مدّعى عليه.

وقد روي في شواذ الأخبار ، رواه السكوني العامي المذهب ، واسمه إسماعيل بن أبي زياد ، أنّ القول قول المرتهن مع يمينه ، لأنّه أمينه ، والبيّنة على الراهن ، ما لم يستغرق الرهن ثمنه (1).

قال محمّد بن إدريس : معنى هذه الرواية أنّ القول قول المرتهن ، حتى يحيط قوله ودعواه بثمن الرهن جميعه ، فمتى أحاط بثمن الرهن واستغرقه ، فالقول قول الراهن أيضا ، على هذه الرواية ، وقد بيّنا أصل هذه الرواية ، فالواجب ترك العمل بها ، لمخالفتها لأصول المذهب.

ومتى اختلفا في متاع ، فقال الذي عنده : إنّه رهن ، وقال صاحب المتاع : أنّه وديعة ، كان القول قول صاحب المتاع مع يمينه ، وعلى المدّعي لكونه رهنا البيّنة بأنّه رهن عنده ، وهذا هو الصحيح الذي عليه العمل ، وتقتضيه الأصول ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (2).

وذهب في استبصاره إلى أن القول قول من يدّعي أنّه رهن ، وجعله مذهبا

ص: 421


1- الوسائل : الباب 17 من أحكام الرهن ، ح 4.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون وأحكامها.

له ، وجمع بين الأخبار ، وتوسّطها على هذا القول (1).

قال محمّد بن إدريس : إنى لأربأ بشيخنا أبي جعفر ، مع جلالة قدره وتبحره ورئاسته ، من هذا القول المخالف لأصول المذهب ، وله رحمه اللّه في كتابه الاستبصار توسّطات عجيبة ، لا استجملها له ، والذي حمله على ذلك ، جمعه بين المتضاد ، وهذا لا حاجة فيه ، بل الواجب الأخذ بالأدلة القاطعة للأعذار ، وترك أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، فإنّه أسلم للديانة ، لأنّ اللّه تعالى ، ما كلّفنا إلا الأخذ بالأدلة ، وترك ما عداها.

ولا يجوز للمرتهن أن يبيع الرهن ، إلا بإذن صاحبه ، فإن غاب عنه ، فالأولى الصبر عليه إلى أن يجي ء ، أو يأذن له في بيعه ، فإن لم يصبر ورفع أمره إلى الحاكم ، وأقام بيّنة بالدين والرهن ، وسأله بيعه عليه ، فالواجب على الحاكم بيع ذلك ، وتسليم ثمنه إليه ، وحفاظ ما زاد على الدين ، إن زاد الثمن على الدين ، ورده على صاحبه إذا قدم ، وإن كان قد وكله في بيعه حال الرهن ، عند حلول الأجل ، وأخذ ماله من جملته كان ذلك جائزا ، وساغ له بيعه من غير أمر الحاكم.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن كان شرط المرتهن على الراهن ، أنّه إذا حلّ أجل ماله عليه ، كان وكيلا له في بيع الرهن ، وأخذ ماله من جملته ، كان ذلك جائزا فإذا حلّ الأجل ، ولم يوفه المال ، باع الرهن ، فإن فضل منه شي ء ، ردّه على صاحبه ، وإن نقص طالبه به على الكمال ، وإن تساوى لم يكن له ولا عليه شي ء (2).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه : « وإن كان شرط المرتهن على الراهن أنّه إذا حلّ أجل ماله عليه كان وكيلا له في بيع الرهن » غير واضح (3) ، لأنّا قد بيّنا في باب الوكالة ، أنّه إذا قال له : إذا جاء رأس الشهر ، فقد وكلتك في كذا

ص: 422


1- الاستبصار : ح 3 ، كتاب البيوع ، باب انّه إذا اختلف نفسان في متاع في يد واحد .. ، ص 122.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون ، وأحكامها.
3- ج : غير صحيح.

وكذا ، أنّ الوكالة غير صحيحة ، فأمّا إذا وكله في الحال ، وشرط عليه أنّه لا يبيع الشي ء الموكّل على بيعه ، إلا إذا جاء رأس الشهر ، كان ذلك صحيحا ماضيا.

فان قيل : فقد قلتم فيما مضى ، أنّه إذا لم يوكّله على بيع الرهن ، جاز للحاكم بيعه ، وقضاء الدين منه ، بعد ثبوت الحقّ عنده ، فلا فائدة حينئذ في الرهن ، ولا مزية له ، لأنّه إذا كان غير رهن ، بيع على صاحبه ، وإذا كان رهنا غير موكّل في بيعه ، بيع أيضا ، فلا فائدة في الرهن.

قلنا : الفائدة ظاهرة ، وهو أنّه إذا كان رهنا ، لا يشارك المرتهن في ثمنه أحد من الغرماء ، ولو كان على صاحبه أضعاف أضعاف دين المرتهن ، وإذا لم يكن الشي ء رهنا كان جميع الغرماء أسوة فيه على قدر ديونهم بالحصص ، فأيّ فائدة أعظم من هذا.

وإذا كان عند الإنسان رهن ، ولا يدري لمن هو ، صبر إلى أن يتبيّن صاحبه ، فإن لم يتبينه ، ولا علمه ، باعه وأخذ ماله ، فإن زاد على ماله ، استحفظ به له ، وقد روي انّه يتصدّق به عن صاحبه (1).

وإذا مات من عنده الرهن ، ولم يعلم الورثة الرهن ، كان ذلك كسبيل ماله ، فإن علموه بعينه ، وجب عليهم ردّه على صاحبه ، وأخذ ما عليه منه.

وإذا كان عند إنسان رهون جماعة ، فهلك بعضها ، وبقي البعض ، كان ماله فيما بقي ، إذا كانت لراهن واحد ، فإن هلك الكلّ ، كان هلاكها من مال صاحبها ، وكان دين المرتهن باقيا في ذمة الراهن ، على ما قدّمناه ، إذا لم يكن ذلك عن تفريط منه ، حسب ما بيناه.

ومن عنده الرهن ، جاز له أن يشتريه من الراهن.

ومتى رهن الإنسان حيوانا حاملا ، كان حمله خارجا عن الرهن ، إلا أن

ص: 423


1- لم نجد فيه رواية ، ولعل المراد بها بعض ما ورد في المال المجهول أو المفقود المالك ، فراجع الباب 7 من أبواب اللقطة ، والباب 6 من أبواب ميراث الخنثى.

يشترطه المرتهن ، فان حمل في حال الارتهان ، كان مع امّه رهنا ، كهيئتها.

وحكم الأرض إذا رهنت وهي مزروعة ، كذلك ، فانّ الزرع يكون خارجا عن الرهن ، فأمّا إذا زرعت بعد الرهن ، فيكون الزرع لصاحب البذر ، ولا يدخل في الرهن ، لأنّه غير حمل ، بخلاف الشجر والنخل وحملهما ، والحيوان وحمله.

وإنّما عطف شيخنا في نهايته الزرع في الأرض ، لأنّه لا يدخل في الرهن مع الأرض ، ولم يقل إذا زرعت بعد الرهن دخل الزرع في الرهن ، مثل ما يدخل الحمل.

وكذلك حكم الشجر والنخل إذا كان فيها الحمل ، فان ثمرتها وحملها يكون خارجا من الرهن ، فإن حملت النخيل والأشجار في حال الارتهان ، كان ذلك رهنا مثل الحامل ، وهذا مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وإجماعهم عليه ، وهو الذي ذكره شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان في مقنعته (1) واختاره شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ثمّ اختار بعد ذلك ، مقالة المخالفين ، في مسائل خلافه (3) ، ومبسوطة (4) ، وذهب إلى أنّ الحمل يكون خارجا من الرهن ، وانّ حمل الحامل في حال الارتهان.

وإذا كان عند إنسان رهن بشي ء مخصوص ، فمات الراهن ، وعليه دين لغيره من الغرماء ، لم يكن لأحد منهم أن يطالبه بالرهن ، إلا بعد أن يستوفي المرتهن ماله على الراهن ، فإن فضل بعد ذلك شي ء ، كان لباقي الغرماء.

وقد روي في شواذ الأخبار الضعيفة ، أنّه يكون مع غيره من الديان سواء ، يتحاصون بالرهن (5).

والصحيح ما انعقد عليه الإجماع ، دون ما روي في شواذ الروايات

ص: 424


1- المقنعة : أبواب المكاسب ، باب الرهون ص 624.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون وأحكامها.
3- الخلاف : كتاب الرهن ، المسألة 58.
4- المبسوط : ج 2 ، كتاب الرهن ، ص 237 ، العبارة هكذا : النماء المنفصل .. يدفع إلى الراهن .. هذا ما كان حادثا في يد المرتهن ..
5- الوسائل : الباب 19 من أحكام الرهن.

وإذا كان له على الراهن مال على غير هذا الرهن ، لم يجز له أن يجعله على هذا الرهن.

ومتى مات الراهن ، كان المرتهن في غير ماله على الرهن مع غيره من الديان سواء.

وإذا كان عند إنسان دابة ، أو حيوان أو رقيق رهنا ، فإن نفقة ذلك على صاحبها الراهن ، دون المرتهن ، فإن أنفق المرتهن عليها متبرعا ، فلا شي ء له على الراهن ، وإن أنفق بشرط العود أو (1) أشهد على ذلك ، كان له الرجوع على الراهن بما أنفق.

وقد روي أنّ له ركوبها والانتفاع بها ، بما أنفق عليها أو الرجوع على الراهن (2).

والأولى عندي أنّه لا يجوز له التصرّف في الرهن على حال ، لأنّا قد أجمعنا بغير خلاف ، أنّ الراهن والمرتهن ممنوعان من التصرّف في الرهن.

وإذا اختلف نفسان ، فقال أحدهما : لي عندك دراهم دين ، وقال الآخر. هي وديعة عندي ، كان القول قول صاحب المال ، مع يمينه بأنّها دين ، لأنّه قد أقرّ له أنّها له معه ، وبما ادّعاه عليه ، ثمّ ادّعى ما يبطل الإقرار من حصولها (3) في يده ، والرسول عليه السلام قال : « على اليد ما أخذت حتى تؤديه » (4) إلا ما خرج بالدليل ، من الودائع والأمانات ، فقوله : وديعة يمكنه أن يبطلها ، بأن يقول : تلفت أو ضاعت ، فيكون القول قوله ، وهذا لا يجوز.

والذي ينبغي أن يحصل في ذلك ، ويعمل عليه ، ويسكن إليه ، أنّه إذا ادّعى أحدهما على الآخر ، فقال : لي عندك دراهم دين ، وقال الآخر : هي وديعة ، ولم يصدّقه على دعواه ، ولا وافقه على جميع قوله من أنّها دين ، فالقول قول المودع مع يمينه ، لأنّه ما أقرّ بما ادّعاه خصمه ، من كونها دينا ، بل أقرّ بأنّ له عنده وديعة ، ومن أقرّ بذلك ، فما أقرّ بما يلزمه في ذمّته ، لو ضاعت من غير تفريط منه ،

ص: 425


1- ل : واشهد.
2- الوسائل : الباب 12 من أحكام الرهن.
3- ل : حصولها وديعة.
4- مستدرك الوسائل : الباب 1 من كتاب الغصب ، ح 4.

بل قد ادّعى عليه الخصم ، أنّ له عنده وفي ذمّته دينا ، وجحد المدّعى عليه ذلك ، ولم يكن مع المدّعي بيّنة بصحّة دعواه ، فالقول قول المدّعى عليه مع يمينه ، فأمّا لو ادّعى عليه أنّ له عليه كذا ، ثمّ صدّقه على دعواه ، وقال بعد ذلك : إنّه وديعة ، لم يقبل دعواه بعد إقراره وتصديقه ، لأنّ حرف « على » حرف وجوب والتزام ، وحرف « عند » ليس بالتزام ، بل قد يكون له عنده وديعة ، فلا يلزم بالمحتمل ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وما أورده شيخنا في نهايته (1) ، يحتمل أنّ المدّعى عليه صدق المدّعي بأنّ الدراهم دين ، ووافقه على لفظ دعواه ، وجميع قوله ، فيلزمه حينئذ الخروج إليه منه.

ومن كان عنده رهن ، فمات صاحبه ، وخاف إن أقرّ به ، طولب بذلك ، ولم يقبل قوله في كونه رهنا ، ولم يعط ماله الذي عليه ، جاز له أن يأخذ منه بمقدار ما عليه (2) ، ويرد الباقي على ورثته ، فإن لم يفعل ، وأقرّ أنّه عنده رهن ، كان عليه البيّنة أنّه رهن ، فإن لم يكن معه بيّنة ، كان على الورثة اليمين ، أنّهم لا يعلمون أنّ له عليه شيئا ، ووجب عليه ردّ الشي ء الذي يدّعيه رهنا إلى الورثة.

لا يجوز أخذ الرهن من العاقلة على الدية ، إلا بعد حئول الحول ، فأمّا قبله فلا يجوز ، وعندنا تستأدى منهم في ثلاث سنين ، وأمّا بعد حئول الحول ، فإنّه يجوز ، لأنّه يثبت قسط منها في ذمتهم.

فأمّا الجعالة فلا يجوز أخذ الرهن فيها إلا بعد الرد.

وإذا استأجر رجلا إجارة متعلقة بعينه ، مثل أن يستأجره ليخدمه ، أو ليتولى له عملا من الأعمال بنفسه ، لم يجز أخذ الرهن عليه ، لأنّ الرهن انّما يجوز على حقّ ثابت في ذمّته ، فهذا غير ثابت في ذمة الأجير ، وانّما هو متعلّق بعينه ، ولا يقوم عمل غيره مقام فعله.

ص: 426


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.
2- ق : ما له عليه.

وإن استأجره على عمل في ذمّته ، وهو أن يجعل له (1) عملا ، مثل خياطة ، أو غير ذلك ، جاز أخذ الرهن به ، لأنّ ذلك ثابت في ذمّته ، لا يتعلق بعينه ، وله أن يحصله بنفسه ، أو بغيره ، فإذا هرب ، جاز بيع الرهن ، واستيجار غيره بذلك ، ليحصل ذلك العمل.

إذا رهن رجل عند غيره شيئا بدين إلى شهر ، على أنّه إن لم يقض إلى محلّه كان مبيعا ، منه بالدين الذي عليه ، لم يصحّ الرهن ، ولا البيع إجماعا ، لأنّ الرهن موقت ، والبيع متعلّق بزمان مستقبل ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة (2).

وهو صحيح ، والأدلة على صحته ما قدّمناه نحن في هذا الباب ، من قوله عليه السلام المجمع عليه : « لا يغلق الرّهن » (3) وما أوردناه من تفاسيره ، وأقوال العلماء من الفقهاء ، وأصحاب الغريب من اللغويين ، وبيت زهير بن أبي سلمى المزني ، وأيضا بيت كثير الذي في قصيدته اللامية :

غمر الرداء إذا تبسّم ضاحكا *** غلقت لضحكته رقاب المال

يعني أنّه إذا ضحك ، وهب وأعطى الأموال ، وأخرجها عن يده ، وصارت لغيره ، فلا يقدر على ارتجاعها ، ولا فكاكها ، وهذا معنى قول الشاعر الآخر : فأمسى الرّهن قد غلقا معناه أنّه لا يقدر على فكاك قلبه من محبّة هذه المرأة ، فالرسول عليه السلام قد نهى أن يحصل الرهن ، بحيث لا يفك ، ولا يعود إلى ملك صاحبه الراهن ، ولا يتملك المرتهن بالشرط المخالف ، لقوله عليه السلام : « لا يغلق الرّهن ، الرّهن من صاحبه الذي رهنه ، له غنمه وعليه غرمه » (4) على ما أوضحناه فيما سلف ، وحرّرناه.

أرض الخراج لا يصحّ رهنها ، وهي كلّ أرض فتحت عنوة ، لأنّها ملك للمسلمين قاطبة ، وكذلك أرض الوقف ، لا يصحّ رهنها ، فإن رهنها كان باطلا.

ص: 427


1- ل. ق : يحصل له.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب الرهن ص 244 ، العبارة منقولة بالمعنى.
3- مستدرك الوسائل ، الباب 10 من أبواب كتاب الرهن ، ح 3.
4- مستدرك الوسائل ، الباب 10 من أبواب كتاب الرهن ، ح 3.

وإذا دبر عبده ، ثمّ رهنه ، بطل التدبير ، لأنّ التدبير عندنا بمنزلة الوصية ، ورهنه رجوع فيها ، وإن قلنا أنّ الرهن صحيح ، والتدبير بحاله ، كان قويا ، لأنّه لا دليل على بطلانه.

إذا رهن عند إنسان شيئا ، وشرط أن يكون موضوعا على يد عدل ، صحّ شرطه ، فإذا ثبت هذا فإن شرطا أن يبيعه الموضوع على يده ، صحّ الشرط ، وكان ذلك توكيلا في البيع ، فإذا ثبت هذا ، فإن عزل الراهن العدل عن البيع ، الأقوى والأصحّ أنّه لا ينعزل عن الوكالة ، ويجوز له بيعه ، لأنّه لا دلالة على عزله ، وذهب بعض المخالفين إلى أنّه ينعزل ، لأنّ الوكالة من العقود الجائزة ، هذا إذا كانت الوكالة شرطا في عقد الرهن ، فلا ينعزل على ما اخترناه ، لأنّه شرط ذلك ، وعقد الرهن عليه ، وهو شرط لا يمنع منه كتاب ، ولا سنة ، وقد قال عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (1) وقال : « الصلح جائز بين المسلمين » (2) وهذا صلح ، لا يمنع منه كتاب ولا سنة ، فأمّا إذا شرطه بعد لزوم العقد ، فإنّ الوكالة تنفسخ بعزل الراهن للعدل الذي هو الوكيل ، بلا خلاف.

إذا سافر المرتهن بالرهن ، ضمن فإن رجع إلى بلده ، لم يزل الضمان ، لأنّ الاستيمان قد بطل ، فلا تعود الأمانة إلا بأن يرجع إلى صاحبه ، ثمّ يردّه إليه أو إلى وكيله ، أو يبرئه من ضمانه.

إذا انفك الرهن بإبراء أو قضاء ، كان في يد المرتهن أمانة ، ولا يجب ردّه على صاحبه ، حتى يطالبه به ، لأنّه حصل في يده أمانة ووثيقة ، فإذا زالت الوثيقة ، بقيت الأمانة.

إذا رهن عبد غيره بإذن مالكه ، كان ذلك جائزا ، فإذا رجع الآذن ، لم ينفسخ الرهن بذلك ، لأنّه عقد لازم ، لا يجوز لغير المرتهن فسخه ، لأنّه لا دليل عليه ، وللمعير أن يطالب المستعير بفكاكه ، وتخليص عبده في كلّ وقت ، سواء

ص: 428


1- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور ، ح 4.
2- الوسائل : الباب 3 من أحكام الصلح ، ح 2.

حلّ الدين ، أو لم يحلّ ، وانّما قلنا : ليس له فسخ عقد الرهن بعد لزومه : لأنّه لا دليل على ذلك.

إذا باع من غيره شيئا على أن يكون المبيع رهنا في يد البائع ، لم يصح البيع ، لأن شرطه أن يكون رهنا لا يصحّ ، لأنّه شرط أن يرهن ما لا يملك ، فان المبيع لا يملكه المشتري قبل تمام العقد ، فإذا بطل الرهن ، بطل البيع ، لأنّ البيع يقتضي إيفاء الثمن من غير ثمن المبيع ، والرهن يقتضي إيفاء الثمن من ثمن المبيع ، وذلك متناقض ، وأيضا فإنّ الرهن يقتضي أن يكون أمانة في يد البائع ، والبيع يقتضي أن يكون المبيع مضمونا عليه ، وذلك متناقض أيضا.

فأمّا إذا شرط البائع أن يسلم المبيع إلى المشتري ، ثم يردّه ، إلى يده رهنا بالثمن ، فانّ الرهن والبيع فاسدان مثل الاولى ، وهذا معنى قول شيخنا المفيد في الجزء الثاني من مقنعته : « وإذا اقترن إلى البيع اشتراط في الرهن ، أفسده ، وإن تقدم أحدهما صاحبه ، حكم له به ، دون المتأخّر » (1).

وقد سئل شيخنا أبو جعفر الطوسي ، مسألة في المسائل الحائريات ، عن معنى قول الشيخ المفيد ، في الجزء الثاني من المقنعة : « وإذا اقترن إلى البيع اشتراط في الرهن ، أفسده ، وإن تقدم أحدهما على صاحبه ، حكم له به ، دون المتأخّر » ما الذي أراد؟

فأجاب ، بأن قال : معناه إذا باعه إلى مدّة ، مثل الرهن ، كان البيع فاسدا ، وإن باعه مطلقا بشرط أن يرد عليه إلى مدّة ، إن ردّ عليه الثمن ، كان ذلك صحيحا ، يلزمه الوفاء به ، لقوله عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (2).

قال محمّد بن إدريس : جواب شيخنا أبي جعفر الطوسي غير واضح ، لأنّه غير مطابق للسؤال ، وانّما الجواب ما قدّمناه نحن ، وأثبتناه ، وهو : إذا باع من

ص: 429


1- المقنعة : أبواب المكاسب آخر باب الرهون ص 624.
2- الوسائل : الباب 20 من أبواب المهور ، ح 4.

غيره شيئا على أن يكون المبيع رهنا في يد البائع ، لم يصحّ البيع ، وسقنا المسألة والكلام ، وأوردنا الأجوبة عليه ، وهو جواب شيخنا أبي جعفر الطوسي ، واختياره وتحريره ، وهو الصحيح الذي يليق بظاهر اللفظ ، ويقتضيه ، وضع الكلام ، ومعناه ، وهذا أوضح من الجواب الذي أجاب به في المسائل الحائريات (1). فليلحظ هذا ويتأمل ، ففيه لبس عظيم ، على جماعة من أصحابنا الذين عاصرناهم.

وإذا رهن أرضا إلى مدّة ، على أنّه إن لم يقضه فيها ، فهي مبيعة بعد المدّة بالدين ، فانّ البيع فاسد ، لأنّه بيع معلّق بوقت مستقبل ، وهذا لا يجوز ، والرهن فاسد ، لأنّه رهن إلى مدّة ، ثم جعله بيعا ، فالرهن إذا كان موقتا لم يصح ، وكان فاسدا.

إذا أقرضه ألف درهم ، على أن يرهنه بالألف داره ، ويكون منفعة الدار للمرتهن ، لم يصحّ القرض ، لأنّه قرض يجرّ منفعة ، ولا يصحّ الرهن ، لأنّه تابع له ، ولا خلاف فيه أيضا.

باب العارية

بتشديد الياء

العارية على ضربين ، مضمونة وغير مضمونة ، فالمضمونة : العين والورق ، شرط الضمان أو لم يشرط ، تعدّى أو لم يتعدّ ، وما عداهما لا يضمن إلا بشرط الضمان ، أو التعدي. وغير المضمونة ما عدا ما ذكرناه.

وإذا اختلف المالك والمستعير في التضمين والتعدّي ، وفقدت البيّنة ، فعلى المستعير اليمين.

وإذا اختلفا في مبلغ العارية ، أو قيمتها ، أخذ ما أقربه المستعير ، وكان القول قول المالك مع يمينه ، فيما زاد على ذلك ، عند بعض أصحابنا ، وهو الذي أورده شيخنا في نهايته (2).

ص: 430


1- المسائل الحائريات : ص 314 ، الطبعة الحديثة.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.

والذي تقتضيه الأدلة ، وأصول المذهب أن القول قول المدّعى عليه ، وهو المستعير مع يمينه باللّه تعالى ، لأنّ الأصل براءة ذمته ، ويعضد ذلك قول الرسول عليه السلام المجمع عليه ، وهو قوله : « على المدّعي البيّنة ، وعلى الجاحد اليمين » ومالكها مدّع بغير خلاف ، والمستعير الجاحد ، فعليه اليمين ، ولا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد ، ولا بما يوجد في سواد الكتب مطلقا من الأدلة.

وإذا اختلف مالك الدابة وراكبها ، فقال المالك : آجرتكها أو غصبتنيها ، وقال الراكب : بل أعرتنيها ، فلا يقبل قول المالك في مقدار ما ادّعاه من الأجرة ، ولا يقبل قول الراكب فيما ادّعاه من العارية ، بل يوجب عليه اجرة المثل ، لأنّا قد تحققنا ركوب الدابة ، والراكب يدّعي العارية ، يحتاج إلى بيّنة ، والمالك يدّعى عقد إجارة واجرة معيّنة ، يحتاج أيضا إلى بينة ، فإذا عدمنا البيّنات على ذلك ، وقد تحققنا ركوب الدابة ، فالواجب في ذلك اجرة المثل ، عوضا عن منافع الدابة المتحققة ، فمن أسقطها يحتاج إلى دليل.

وكذلك الحكم إذا اختلف مالك الأرض وزارعها ، حرفا فحرفا.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل الخلاف ، في كتاب العارية : القول قول الراكب والزارع للأرض ، دون صاحب الدابة وصاحب الأرض (1).

إلا أنّه رحمه اللّه رجع في كتاب المزارعة من مسائل الخلاف عن ذلك ، وقال : مسألة : إذا زرع أرض غيره ، ثم اختلفا ، فقال الزارع : أعرتنيها ، وقال ربّ الأرض : بل أكريتكها ، وليس مع واحد منهما بيّنة ، حكم بالقرعة ، وللشافعي فيه قولان ، وعليه أكثر أصحابه ، أحدهما : أنّ القول قول الزارع ، وكذلك في الراكب إذا ادّعى أنّ صاحب الدابة أعاره إيّاها ، وهو الذي يقوى في نفسي. والقول الثاني : أنّ القول قول ربّ الأرض والدابة ، وحكى أبو علي

ص: 431


1- الخلاف : كتاب العارية ، المسألة 5.

الطبري أنّ في أصحابه من حمل المسألتين على ظاهرهما ، وفرّق بينهما بأنّ العادة جرت بإعارة الدواب ، وفي الأرض بالإجارة دون العارية. دليلنا على ما قلناه : أولا إجماع الفرقة على أنّ كلّ مجهول يشتبه ، ففيه القرعة ، وهذا من ذاك ، وأمّا ما قلناه ثانيا ، فهو أن الأصل براءة الذمة ، وصاحب الدابة والأرض مدّع للأجرة ، فعليه البيّنة ، فإذا عدمها ، كان على الراكب والزارع اليمين ، هذا آخر المسألة من كلام (1) شيخنا أبي جعفر (2) رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس : أمّا رجوع شيخنا إلى القرعة في هذا ، ليس بواضح (3) ، لأنّ هذا أمر غير مجهول ، ولا مشكل ، بل هذا بيّن ، والشارع والإجماع بيّنه ، وهو مثل الدعاوي في سائر الأحكام ، من أنّ على المدّعي البينة وعلى الجاحد اليمين. وأمّا ما قاله ثانيا ، فهو الذي اختاره في كتاب العارية ، وهو خيرة المزني ، صاحب الشافعي ، وقد بيّنا ما عندنا في ذلك ، وهو إنّا لا نقبل قول مدّعي مقدار الأجرة ، ولا نقبل قول مدعي العارية ، ونأخذ عوض المنفعة المتحققة الذي هو الركوب والزرع ، لأنّا إذا لم يسلم لنا العوض المدّعى من الأجرة ، رجعنا إلى العوض (4) ، وهو اجرة المثل ، ولا نقبل قول الزارع والراكب في إبطال المنفعة كلّها ، وهي متحققة قد استوفاها ، وهو مدّعي لسقوط عوضها بالكلية ، فهذا تحرير هذه الفتيا ، فليلحظ ، فإنّها غير ملتبسة ولا غامضة على المتأمّل ، فإنّي لا أستجمل القول لشيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه مع جلالة قدره ، ما قاله في المسألتين من القرعة ، والقول الثاني الذي قال فيه : إنّ الأصل براءة الذمّة.

وإذا استعار من غيره دابة ليحمل عليها وزنا معينا ، فحمل عليها أكثر منه ، أو ليركبها إلى موضع معيّن ، فتعدّاه ، كان متعدّيا ، ولزمه الضمان ، ولو ردّها إلى المكان المعيّن بلا خلاف.

ص: 432


1- ج : آخر كلام.
2- الخلاف ، كتاب المزارعة ، المسألة 11.
3- ج : بصحيح.
4- ج : المعوّض.

وإذا أذن صاحب الأرض للمستعير في الغراس أو البناء ، فزرع ، جاز له ، لأنّ ضرر الزرع أخف من ضرر ما أذن له فيه ، ولا يجوز له الغراس والبناء إذا أذن له في الزرع ، لأنّ ضرر ذلك أكثر ، والإذن في القليل لا يكون إذنا في الكثير ، وكذا لا يجوز له أن يزرع الدخن ، أو الذرة ، إذا أذن له في زرع الحنطة ، لأنّ ضرر ذلك أكثر. ويجوز له أن يزرع الشعير ، لأنّ ضرره أقل.

وإذا أراد مستعير الأرض للغراس والبناء قلعه ، كان له ذلك ، لأنّه عين ماله ، وإذا لم يقلعه ، وطالبه المعير بذلك بشرط أن يضمن له أرش النقص ، وهو ما بين قيمته قائما ومقلوعا ، اجبر المستعير (1) ، على ذلك ، لأنّه لا ضرر عليه فيه ، وليس للمستعير أن يطالب بالتبقية ، بشرط أن يضمن أجرة الأرض ، فإن طالبه المعير بالقلع من غير أن يضمن أرش النقصان ، لم يجبر عليه ، لأنّه لا دليل على ذلك ، ويحتج على المخالف فيه بما رووه من قوله عليه السلام : « من بنى في رباع قوم بإذنهم فله قيمته » (2).

وإذا أعار شيئا بشرط الضمان ، فردّه المستعير إليه ، أو إلى وكيله ، بري ء من ضمانه ، ولا يبرء إذا ردّه إلى ملكه ، مثل أن يكون دابة ، فشدّها على إصطبل صاحبها ، لأنّ الأصل شغل ذمته هاهنا ، ومن ادّعى أنّ ذلك يبرئ ذمّته ، فعليه الدليل.

ومن استعار شيئا ورهنه ، كان لصاحبه أن يأخذه من عند المرتهن ، ولم يكن له منعه منه ، وكان له أن يرجع على الراهن بما له عليه من المال.

إذا استعار أرضا للزرع فزرع فيها ، ثمّ رجع المعير قبل أن يدرك الزرع ، وطالبه بالقلع ، فإنّه يجبر على التبقية ، لأنّ الزرع لا يتأبّد ، وله وقت ينتهي إليه ، فأجبرناه على التبقية ، ومنهم من قال : حكمه حكم الغراس ، سواء.

إذا أعاره حائطا ليضع عليه جذوعه ، فوضعها عليه ، لم يكن له أن يطالبه

ص: 433


1- ج : المستعير ، إذا لم تكن المدّة معيّنة.
2- كنز العمال : ج 10 ، كتاب الغصب ، ص 643. أخرجه عن سنن البيهقي وغيره وعن أبي عدي في الكامل.

بقلعها على أن يضمن له أرش النقصان ، لأنّها موضوعة على حائط نفسه ، فأحد الطرفين على أحدهما ، والطرف الآخر على الآخر ، فلو أجبرناه على القلع على هذا الوجه ، كان ذلك إجبارا على قلع جذوعه من ملكه ، وليس كذلك الغراس ، لأنّها في ملك غيره.

إذا أذن له في غرس شجرة في أرضه ، فغرسها ثم قلعها ، فهل يعيد أخرى أم لا؟ الصحيح أنّه ليس له الإعادة إلا بإذن مجدّد ، وكذلك إذا أعاره حائطا ، فوضع عليه جذوعا ، ثم انكسر الجذع ، فليس له اعادة غيره ، إلا بإذن مجدّد (1).

إذا كان لإنسان حبوب ، فحملها السيل إلى أرض رجل ، فنبتت فيها ، كان ذلك الزرع لصاحب الحب ، لأنّه عين ماله ، كما نقول فيمن غصب حبا ، فزرعه ، أو بيضا فحضنها عنده ، وفرخت ، فانّ الزرع والفراخ للمغصوب منه ، لأنّهما عين ماله ، إذا ثبت هذا فليس عليه أجرة الأرض ، لأنّها حصلت فيها بغير صنع منه ، ولصاحب الأرض مطالبة صاحب الحبّ بقلعه من غير أرش ، لأنّه لم يأذن له في ذلك ، كما نقول في شجرة إذا تشعبت أغصانها ، ودخلت في ملك لغيره ، فانّ لصاحب الملك أن يجبره على قلعها ، إذا لم يمكن تحويلها من غير قلع.

ولا يجوز إجارة العارية لأنّه لا يملك منافعها بعقد الإجارة (2) وكذلك لا يجوز له إعارتها ، لأنّه أذن له في الانتفاع بها على وجه مخصوص ، وكذلك إذا قدم له طعام ليأكله ، فله أن يأكل ، ولا يجوز له أن يلقم غيره ، ولا أن يزل منه معه ، لأنّه لم يؤذن له في ذلك ، يقال : أزلّ فلان لفلان زلّة ، إذا جعل له نصيبا من طعامه.

باب الوديعة

الوديعة مشتقة من ودع يدع ، إذا استقرّ وسكن ، والوديعة عقد جائز من الطرفين ، من جهة المودع متى شاء أن يستردها فعل ، ومن جهة المودع متى شاء أن يردها فعل.

ص: 434


1- ج : مجدّد إذا لم تكن المدة معينة
2- ل : بعقد العارية.

والإنسان مخيّر في قبول الوديعة والامتناع من ذلك ، وهو أولى ما لم يكن فيه ضرر على المودع.

ويجب عليه حفظها بعد القبول لها كما يحفظ ماله.

وهي أمانة لا يلزم ضمانها إلا بالتعدّي ، فإن شرط صاحبها ضمانها كان الشرط باطلا ، لأنّه شرط يخالف الكتاب والسنة ، فإن تصرّف فيها ، أو في شي ء منها ، ضمنها ، وكذا إن فكّ ختمها ، أو فتح قفلها أو حلّ شدها ، أو نقلها من حرز إلى ما هو دونه ، كان متعدّيا ، ويلزمه الضمان ، وكذا إن لم يكن هناك ضرورة من خوف نهب ، أو غرق ، أو غيرهما ، فسافر بها ، أو أودعها أمينا آخر ، وصاحبها حاضر ، أو خالف مرسوم صاحبها في كيفيّة حفظها ، وكذا لو أقرّ بها لظالم يريد أخذها من دون أن يخاف الضرر من القتل أو الضرب ، أو سلّمها إليه بيده ، أو بأمره ، وإن خاف ذلك على قول بعض أصحابنا.

والأولى والأصح والأظهر ، أنّه متى خاف الضرر ، ونزوله به ، فلا يكون ضامنا بخروجها من يده ، وإعطائه الظالم إيّاها على سائر الأحوال ، فإن قنع الظالم منه بيمينه ، فله أن يحلف ويورّي في ذلك ، ولا يجوز له تسليم الوديعة إلى الظالم عند هذه الحال ، فإن سلّمها وترك اليمين ، كان ضامنا ، ولا ضمان عليه إن هجم الظالم فأخذها قهرا.

ولو تعدّى المودّع ، ثمّ أزال التعدّي ، مثل أن يردها إلى الحرز بعد إخراجها منه ، لم يزل الضمان ، لأنه كان لازما له قبل الرد ، ومن ادّعى سقوطه عنه ، فعليه الدلالة ، ولو أبرأه صاحبها من الضمان بعد التعدّي ، وقال : قد جعلتها وديعة عندك من الآن ، بري ء لأنّ ذلك حقّ له ، فله التصرف فيه بالإبراء والإسقاط ، ويزول الضمان بردها إلى صاحبها أو وكيله ، سواء أودعه إيّاها مرّة أخرى أم لا ، بلا خلاف.

وإذا علم المودع أنّ المودع لا يملك الوديعة لم يجز ردّها عليه مع الاختيار ،

ص: 435

بل يلزمه ردّ ذلك إلى مستحقه ، إن عرفه بعينه ، فإن لم يتعيّن له ، حملها إلى الإمام العادل ، فإن لم يتمكن ، لزمه الحفظ بنفسه في حياته ، وبمن يثق به في ذلك ، بعد وفاته ، إلى حين التمكّن من المستحق ، ومن أصحابنا من قال : تكون والحال هذه في الحكم كاللقطة ، على ما روي في بعض الروايات (1) والأول أحوط.

وإن كانت الوديعة من حلال وحرام لا يتميز أحدهما من الآخر ، لزم ردّ جميعها إلى المودع متى طلبها ، بدليل إجماع أصحابنا.

ومتى ادّعى صاحب الوديعة تفريطا ، فعليه البيّنة ، فإن فقدت فالقول قول المودع - لأنّه أمين - مع يمينه.

فإذا ثبت التفريط ، واختلفا في قيمة الوديعة ، ولا بيّنة فالقول قول المودع الأمين - لأنّه المدّعى عليه - مع يمينه.

ومن أصحابنا من قال : القول قول صاحبها مع يمينه (2) ، وهذا مخالف لأصول المذهب ، وما عليه الإجماع ، والمتواتر من الأخبار ، لأنّ القول بذلك ، يؤدّى إلى أنّ القول قول المدّعي ، وعلى الجاحد البيّنة ، وهذا خلاف ما عليه كافّة المسلمين ، وأيضا الأصل براءة ذمة الجاحد ، فمن شغلها بزيادة على ما يقول ويقرّ فعليه الدلالة ، ولأنّه أيضا غارم ، والغارم يكون القول قوله مع يمينه ، بلا خلاف ، وما ذكره شيخنا في نهايته (3) خبر واحد ، لا يرجع بمثله عن الأدلة القاهرة ، ولا يخصّ بمثله العموم.

وإذا طلبها صاحبها من المستودع ، وهو متمكن من ردّها ، وليس عليه في ذلك ولا على غيره ضرر ، لا يمكن تلافيه من الخوف على النفس وعلى المال ، وجب عليه ردّها ، سواء كان المودع كافرا ، أو مسلما ، أو مؤمنا ، أو فاسقا ، وعلى كلّ حال.

ص: 436


1- لم نجد رواية في خصوص هذا الموضوع. ولعلّ المراد بها بعض ما ورد في المال المجهول المالك أو المفقود المالك. فراجع الوسائل : الباب 7 من اللقطة ، والباب 6 من أبواب ميراث الخنثى.
2- وهو الشيخ رحمه اللّه في النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.
3- وهو الشيخ رحمه اللّه في النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.

وإذا اختلف نفسان في مال ، فقال الذي عنده المال : إنّه وديعة ، وقال الآخر : إنّه دين عليك ، كان القول قول صاحب المال ، وعلى الذي عنده المال ، البيّنة أنّه وديعة ، فإن لم يكن له بيّنة ، وجب عليه ردّ المال فإن هلك كان ضامنا ، فإن طالب صاحب المال باليمين أنّه لم يودّعه ذلك المال ، كان له ذلك ، وقد قدّمنا ذلك فيما مضى ، وحرّرناه. هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته في باب الرهن (1) والوديعة (2).

والوجه في الموضعين معا عندي ، أن يكون المدّعى عليه قد وافق المدّعى على صيرورة المال إليه ، وكونه في يده ، ثمّ بعد ذلك ادّعى أنّه وديعة لك عندي ، فلا يقبل قوله ، ويكون القول قول من ادّعى أنّه دين ، لأنّه قد أقرّ بأنّ الشي ء في يده أولا ، وادّعى كونه وديعة ، والرسول عليه السلام قال : « على اليد ما أخذت حتى تردّه » (3) وهذا قد اعترف بالأخذ والقبض ، وادّعى الوديعة ، وهي تسقط الحق الذي أقرّ به لصاحب المال ، فلا يقبل قوله في ذلك ، فأمّا إذا لم يقر بقبض المال أولا ، بل ما صدّق المدّعي على دعواه ، بأنّ له عنده مالا دينا ، بل قال : لك وديعة عندي كذا وكذا ، فيكون حينئذ القول قوله مع يمينه ، لأنّه ما صدّقه على دعواه ، ولا أقرّ أولا بصيرورة المال إليه ، بل قال : لك عندي وديعة ، فليس الإقرار بالوديعة ، إقرارا بالتزام شي ء في الذمة ، فليلحظ ذلك ، ففيه غموض.

ومتى تصرّف المودع في الوديعة ، كان متعدّيا ، وضمن المال ، فإن ردّها ، أو ردّ مثلها إلى المكان من غير علم من صاحبها ، لم تبرأ بذلك ذمته ، وكان ضامنا كما كان ، إلا أن يردّها على صاحبها ، ويجعلها عنده وديعة من رأس ، على ما أسلفناه فيما مضى.

ص: 437


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الرهون وأحكامها.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الوديعة والعارية.
3- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب الغصب ، ح 4 و 5.

ومتى مات المستودع ، وجب ردّ الوديعة إلى ورثته ، عند المطالبة منهم ، فإن كان واحدا سلّمها إليه ، وإن كانوا جماعة ، لم يسلّمها إلا إلى جماعتهم ، أو إلى واحد يتفقون عليه ، فإن لم يتفقوا على ذلك ، قال بعض أصحابنا : أو يعطي كلّ ذي حقّ حقّه ، والأولى رفعها إلى الحاكم ، لأنّ الودعيّ لا يجوز له قسمتها ، فإن سلّمها إلى واحد منهم بغير رضاء الباقين ، كان ضامنا لحصتهم على الكمال.

وليس المودع أن يسافر بالوديعة ، سواء كان الطريق مخوفا أو غير مخوف ، وسواء كانت المسافة قريبة أو بعيدة.

المودع متى أودع الوديعة عند غيره ، مع قدرته على صاحبها ، فإنّه يكون ضامنا ، سواء أودع زوجته ، أو غير زوجته ، ثقة أو غير ثقة ، فأمّا إذا لم يقدر عليه ، وأراد السفر ، فلا بأس بأن يودعها عند من يثق بديانته.

ولا يجوز له دفنها من غير وصيّة بها إلى غيره ، واستيمان منه عليها ، وإيداع الغير.

إذا أخرج الوديعة لمنفعة نفسه ، لا لمنفعة صاحبها ، مثل أن يكون ثوبا وأراد ان يلبسه ، أو دابة فأراد ركوبها ، فإنّه يضمن بنفس الإخراج ، فأمّا إذا نوى أن يتعدّى ، أو يخرجها ، ولم يفعل ذلك ، فإنّه لا يضمن بالنيّة ، حتى يتعدّى.

وإذا أودع غيره حيوانا ، ولم يأمره بأن يسقيه ولا يعلفه ، ولا نهاه ، لزمه الإنفاق عليه ، وسقيه ، وعلفه ، ويرجع على صاحبه بذلك إذا أشهد بأنّه يرجع عليه بذلك ، لأنّه إذا أطلق ، عرف بفحوى الخطاب أمره بالسقي والعلف ، لأنّ العادة جارية بأنّ الدابة تسقى وتعلف ، فوجب حمل ذلك على العرف ، وإن لم يتلفظ به ، لأنّه عرف من فحوى الخطاب.

وإذا أودع إنسان وديعة عند إنسان ، وقال له : ادفعها إلى فلان أمانة ووديعة ، فادّعى المودع أنّه دفعها إليه ، وأنكر المودع الثاني أن يكون دفعها إليه ، وقال المودع الأوّل لصاحبها : أنا امتثلت أمرك ، ودفعتها إليه ، فالقول قوله مع يمينه ، وتعود المحاكمة بين صاحبها وبين المودع الثاني ، فإن اعترف فذاك ، وإن

ص: 438

أنكر الإيداع ، فالقول قول المودع الثاني أيضا ، لأنّ المودع مؤتمن ، فوجب أن يكون القول قوله ، كما أنّه لو ادّعى أنّه ردّها على المودع الذي هو صاحبها ، فانّ القول قوله في ذلك.

إذا خلط الوديعة بماله خلطا لا يتميّز ، مثل أن يخلط دراهم بدراهم ، أو دنانير بدنانير ، أو طعاما بطعام ، فإنّه يضمن ، سواء خلطها بمثلها ، أو أرفع منها ، أو أدون منها ، وعلى كلّ حال ، لأنّه قد تعدّى فيها بالخلط ، بدلالة أنّه لا يمكنه أخذ ماله بعينه ، فوجب عليه الضمان.

وإذا كان عنده وديعة ، فادّعاها نفسان ، فقال المودع : هي لأحدهما ، ولا أعلم عين صاحبها ، وادّعى كلّ واحد منهما علمه بذلك ، لزمه يمين واحدة بأنّه لا يعلم لأيّهما هي ، فإذا حلف وبذل كلّ واحد من المتداعيين اليمين أنّه له ، استخرج واحد منهما بالقرعة ، فمن خرج اسمه ، خلف وسلّمت إليه ، لأنّه أمر مشكل.

إذا أودعه شيئا ليس بمحرز ، مثل الدراهم والدنانير ، في طبق أو صينيّة ، ونحو ذلك ، فأخذ منها درهما ، ضمن ذلك الدرهم والدينار ، لأنّه تعدّى بأخذه ، فعليه ضمانه ، ولا يضمن الباقي ، لأنّه ما تعدّى فيه ، فلا يتعلق به ضمان ، فإن ردّ المأخوذ ، فلا يخلو إمّا أن يردّ ما أخذه بعينه ، أو يرد بدله ، فإن ردّ ما أخذه بعينه ، فإنّه لا يضمن سواه ، سواء تميز من غيره أو لم يتميز ، فأمّا إن ردّ بدله ، فإن كان متميّزا ، فلا يضمن غيره فحسب ، وإن كان غير متميّز العين بعد الخلط والرد ، فإنّه يضمن الجميع ، لأنّه خلط ماله بمال غيره ، فكان متعديا بالخلط ، فهو كما لو كان مقارضا ، فخلط مال القراض بمال من عنده ، فإنّه يضمن مال القراض كلّه.

المودّع إذا حضرته الوفاة ، يلزمه أن يشهد على نفسه ، بأنّ عنده وديعة لفلان ، ويشهد حتى لا تختلط بماله ، ويأخذه ورثته ، ولا يقبل قول المودع إلا ببيّنة ، فإذا لم يكن معه بيّنة ، فالظاهر أنّ هذا مال الميّت ، فيؤدّي إلى هلاك ماله ، وكذلك الحكم إذا سافر ، فان الحكم فيه واحد حرفا فحرفا.

ص: 439

إذا أودع صندوقا ، وقال له : لا ترقد عليه ، فرقد عليه ، وزاده قفلا آخر حفاظا له ، فإنّه لا يضمن ، لأنّه زاده حرزا.

ولو قال له : اطرحها في بيتك ، واحفظها ، فإذا فزعت عليها ، لا تخرجها ، ففزع عليها فأخرجها ، وحفظها في حرز مثله ، لم يضمنها لأنّه زاده حرزا ، وبالغ في الحرز.

ولو أودعه خاتما ، فقال : دعه في إصبعك الخنصر ، فوضعه في البنصر ، لم يضمن ، لأنّ الخاتم في البنصر أوثق ، لأنّه يكون في الخنصر سريع القلق.

ولو قال : دعه في البنصر ، فوضعه في الخنصر ، فإنّه يضمن ، لأنّه وضعه فيما دون منه في الحرز.

إذا طالب المودع فقال : لم تودعني شيئا ، وأنكر ، فأقام المودع البيّنة ، أنّه كان أودعه ، فقال : صدقت البيّنة ، كنت أودعتني ، لكن تلفت منى قبل ذلك ، فإنّه لا يسمع هذا القول ، وعليه الضمان ، لأنّ البيّنة قد أكذبته ، وبان كذبه بالبيّنة.

إذا أودع وديعة ، فقال : اجعلها في كمّك ، فجعلها في يده ، قال قوم : لا يضمن ، لأنّ اليد أحرز من الكم ، وقال آخرون : إنّه يضمن ، لأنّه إذا أمسكها في يده ، فقد يسهو ، أو تسترخي يده منها ، وليس كذلك الكم ، لأنّه قد آمن من أن تسقط بالاسترخاء ، لأنّه يعلم خفّته (1) ، ويقوى في نفسي ، أنّه من حيث خالف صاحبها ، يضمن ، لأنّ ذلك يكون تعدّيا لأنّه لم يخالفه لفضل حفظ وحرز.

إذا دفع إليه شيئا فقال : اتركه في جيبك ، فطرحه في كمه ، فإنّه يضمن ، ولو قال : اربطها في كمّك ، فطرحها في جيبه ، لم يضمن ، لأنّ الجيب أحرز من الكم ، فإن قال : اتركها في جيبك ، فتركها في فيه ، ضمن ، لأنّه نقلها إلى ما هو دونه في الحرز ، لأنّه ربما بلعها ، وربما تسقط من فيه ، وليس كذلك الجيب ، لأنّ الجيب لا يقع منه إلا إذا بط.

إذا أودع صبيّ وديعة عند رجل ، يلزمه الضمان ، لأنّ دفع الصبيّ لا حكم

ص: 440


1- ج : حقنة.

له ، فلمّا لم يكن له حكم ، فقد أخذها ممّن ليس له الأخذ منه ، فإن أراد ردّها إلى الصبيّ ، لم يزل الضمان ، لأنّه بالأخذ قد لزمه الضمان ، فلا يسقط بهذا الرد ، لأنّه ردّ على من ليس له أن يردّ عليه ، إلا أن يردّها إلى ولي الصبيّ ، فإنّه يزول عنه بهذا الرد الضمان.

فأمّا إذا أودع عند صبيّ ، فإنّه لا يضمن ، لأنّ المودع ضيّع الوديعة ، وفرّط في ماله ، فأمّا إذا جنى الصبيّ على مال رجل ، فأتلفه من غير إيداع عنده ، فانّ الضمان يتعلّق في ماله دون مال عاقلته ، لأنّ في باب إتلاف الأموال ، الصبيّ والبالغ سواء ، فإن كانت الجناية على بدن آدميّ ، فعلى عاقلته ، سواء كانت الجناية على الآدمي ، عمدا أو خطأ.

باب المزارعة

المزارعة والمخابرة بالخاء المعجمة ، اسمان لعقد واحد ، وهو إعطاء الأرض إلى أجل ، محروس من الزيادة والنقصان ، ببعض ما يخرج منها مشاعا ، وسواء كان من أحدهما الأرض والبذر ، ومن الآخر العمل ، أو من أحدهما الأرض ، ومن الآخر العمل والبذر.

فإذا ثبت ذلك فالمزارعة مشتقة من الزرع ، والمخابرة من الخبار ، وهي الأرض الليّنة ، والأكّار ، يسمّى خابرا.

والمعاملة على الأرض ببعض ما يخرج من نمائها ، على ثلاثة أضرب مقارضة ، ومساقاة ، ومزارعة.

فأمّا المقارضة ، فإنّها تصحّ بلا خلاف على ما قدّمناه.

وأمّا المساقاة فجائزة عند جميع الفقهاء ، إلا عند أبي حنيفة وحده.

فإمّا المزارعة ، فهو أن يزارعه على سهم مشاع ، مثل أن يجعل له النصف ، أو الثلث ، أو أقلّ ، أو أكثر ، فإنّ ذلك عندنا جائز إذا ضربها بالأجل المحروس ،

ص: 441

وعيّن حقّ العامل.

وشرطه أن يكون جزء مشاعا من الخارج ، فلو عامله على وزن معيّن منه ، أو على غلّة مكان مخصوص من الأرض ، أو على تمر نخلات بعينها ، بطل العقد ، بلا خلاف بين من أجاز المزارعة والمساقاة ، ولأنّه قد لا يسلم إلا ما عيّنه ، فيبقى ربّ الأرض والنخل بلا شي ء ، وقد لا يعطب إلا غلّة ما عينه ، فيبقى العامل بغير شي ء ، وإذا تمّم المزارع أو المساقي عمله على هذا الشرط ، بطل المسمّى له ، واستحق أجرة المثل.

وتصرّف العامل بحسب ما يقع العقد عليه ، إن كان مطلقا ، جاز له أن يولي العمل لغيره ، ويزرع ما شاء ، وإن شرط عليه أن يتولّى العمل بنفسه ، أو يزرع شيئا بعينه ، لم يجز له مخالفة ذلك ، لقوله عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » (1).

ولو زارع ببعض الخارج من الأرض ، والبذر من مالكها ، والعمل والحفظ من المزارع ، جاز.

وكذا لو شرط على العامل في حال العقد ما يجب على ربّ المال ، أو بعضه ، أو شرط على ربّ المال ما يجب على العامل الذي هو الأكار ، المزارع أو بعضه ، كإنشاء الأنهار ، وإصلاح السواقي.

فأمّا الزكاة ، فإن بلغ نصيب كلّ واحد منهم ما يجب فيه الزكاة ، وجبت عليه ، لأنّه شريك مالك ، سواء كان البذر منه ، أو لم يكن ، وليس ما يأخذه المزارع الذي منه العمل دون البذر ، اجرة ولا كالأجرة.

وقال بعض أصحابنا المتأخّرين في تصنيف له : كلّ من كان البذر منه ، وجب عليه الزكاة ، ولا يجب الزكاة على من لا يكون البذر منه ، قال : لأنّ ما يأخذه كالأجرة.

ص: 442


1- الوسائل : الباب 20 من المهور ، ح 4.

والقائل بهذا ، هو السيد العلوي أبو المكارم بن زهرة الحلبي رحمه اللّه (1) شاهدته ورأيته ، وكاتبته ، وكاتبني ، وعرفته ما ذكره في تصنيفه من الخطأ ، فاعتذر رحمه اللّه بأعذار غير واضحة ، وأبان بها أنّه ثقل عليه الرد ، ولعمري أنّ الحقّ ثقيل كلّه ، ومن جملة معاذيره ومعارضاته لي في جوابه ، أنّ المزارع مثل الغاصب للحب إذا زرعه ، فإنّ الزكاة تجب على ربّ الحب دون الغاصب ، وهذا من أقبح المعارضات ، وأعجب التشبيهات ، وإنّما كانت مشورتي عليه ، أن يطالع تصنيفه ، وينظر في المسألة ، ويغيرها قبل موته ، لئلا يستدرك عليه مستدرك بعد موته ، فيكون هو المستدرك على نفسه ، فعلت ذلك علم اللّه شفقة وسترة عليه ، ونصيحة له ، لأنّ هذا خلاف مذهب أهل البيت عليهم السلام.

وشيخنا أبو جعفر ، قد حقق المسألة في مواضع عدّة من كتبه ، وقال : الثمرة والزرع نما على ملكيهما ، فيجب على كلّ واحد منهما الزكاة ، إذا بلغ نصيبه مقدار ما يجب فيه ذلك ، وإنّما السيد أبو المكارم رحمه اللّه نظر إلى ما ذكره شيخنا من مذهب أبي حنيفة ، في مبسوطة (2) ، فظنّ أنّه مذهبنا ، فنقله في كتابه على غير بصيرة ولا تحقيق ، وعرفته أنّ ذلك مذهب أبي حنيفة ، ذكره شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، لمّا شرح أحكام المزارعة ، ثمّ عقب بمذهبنا ، وأو مات له إلى المواضع التي حقّقها شيخنا أبو جعفر في كتاب القراض وغيره ، فما رجع ، ولا غيرها في كتابه ، ومات رحمه اللّه وهو على ما قاله ، تداركه اللّه بالغفران ، وحشره مع آبائه في الجنان وكذلك قوله في المساقاة.

وعقد المزارعة والمساقاة يشبه عقد الإجارة ، من حيث كان لازما ، فافتقر إلى تعيين المدّة ويشبه القراض ، من حيث كان سهم العامل مشاعا معلوما في المستفاد.

والمزارعة والمساقاة إذا كانت على أرض خراجية ، فخراجها على المالك

ص: 443


1- الغنية : فصل في المزارعة والمساقاة.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب القراض ، ص 183 ، وكتاب المساقاة : ص 220.

للأرض ، إلا أن شرّطه على العامل.

وإذا اختلف صاحب الأرض والبذر ، أو الشجر والعامل ، فقال : شرطت لك الثلث ، فقال العامل : لا بل النصف ، وعدمت البيّنة ، فالقول قول صاحب الشجر والأرض والبذر مع يمينه ، لأنّ جميع الثمرة لصاحب الشجرة ، لأنّها نماء أصله ، وانّما يثبت ويستحق العامل الحصّة بالشرط ، فإذا ادّعى شرطا بمقدار معيّن ، كان عليه البيّنة ، فإذا عدمها ، كان القول قول المالك مع يمينه ، فإن كان مع كلّ واحد منهما بيّنة ، قدّمت ، وسمعت بينة العامل ، لأنّه المدّعي ، لقوله عليه السلام : « البيّنة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه » (1) وصاحب الشجر مدّعى عليه ، وأيضا فالبيّنة بيّنة الخارج ، والعامل الخارج.

وإذا ادّعى ربّ البذر أنّه قدر معلوم ، وقال العامل : هو بخلافه ، فالقول قول العامل ، لأنّه أمين ، ومدّعى عليه أيضا.

فإن شرطا أن يخرج البذر قبل المقاسمة وسطا ، كان على ما شرطا ، وإن لم يشرطا ذلك ، كان جميع الغلّة بينهما ، على ما اتفقا عليه ، دون إخراج البذر ، وشيخنا أبو جعفر لم يذكر في كتاب المزارعة في مسائل خلافه ، إلا المسألة الأولى فحسب ، وجميع الكتاب ، في الإجارة ، لأنّ جميع الكتاب ، أعني كتاب المزارعة إحدى عشرة مسألة ، قال في المسألة الأولى : المزارعة بالثلث والربع والنصف ، أو أقل ، أو أكثر ، بعد أن يكون سهما (2) مشاعا جائزة.

ثمّ قال في المسألة الثانية ، يجوز إجارة الأرضين للزراعة.

ثمّ قال : مسألة ، يجوز إجارة الأرض بكلّ ما يصحّ أن يكون ثمنا ، من ذهب أو فضة أو طعام.

ثمّ قال : مسألة ، إذا أكراه أرضا ليزرع فيها طعاما ، صحّ العقد.

ص: 444


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب كيفية الحكم.
2- ل. ق : سهمهما.

ثم قال : مسألة ، إذا أكرى أرضا للزراعة.

ثمّ قال : مسألة ، إذا أكرى أرضا للغراس.

ثمّ قال : مسألة إذا أكرى أرضا على أن يزرع فيها ويغرس.

ثمّ قال : مسألة ، إذا أكراه أرضا سنة للغراس ، ثمّ قال : مسألة ، إذا استأجر دارا أو أرضا.

ثمّ قال : مسألة ، إذا اختلف المكري والمكتري في قدر النفقة (1) أو قدر الأجرة.

ثمّ قال : مسألة ، إذا زرع أرض غيره ثمّ اختلفا ، فقال الزارع : أعرتنيها.

فهذه المسائل جميع ما ذكره في كتاب المزارعة ، ولعمري أنّ المزارعة عند الشرعيين غير الإجارة ، فكان الأولى والأحق أن يذكر جميع المسائل في كتاب الإجارة ، إلا مسألة واحدة ، وهي الأوّلة.

وقال في نهايته : لا بأس بالمزارعة بالثلث ، أو الربع ، أو أقل أو أكثر ، ثمّ قال : ويكره أن يزارع الإنسان بالحنطة والشعير ، والتمر والزبيب ، وليس ذلك بمحظور ، ثمّ قال رحمه اللّه : فإن زارع بشي ء من ذلك ، فليجعله من غير ما يخرج من تلك الأرض ، ممّا يزرعه في المستقبل ، بل يجعل ذلك في ذمّة المزارع ، ثمّ قال : ولا بأس أن يواجر الأرض الدراهم والدنانير (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : جميع ما ذكره شيخنا رحمه اللّه وحكيناه عنه في نهايته ، ليس ذلك بمزارعة ، إلا مسألة واحدة ، وهي الأوّلة ، وما عداها إجارة ، وليس بمزارعة ، فلا حاجة به إلى ذكر ذلك في كتاب المزارعة وبابها ، بل موضع ذلك باب الإجارة.

ثمّ قال : فإن زارع الأرض على أن يكون المزارع يتولّى زراعتها بنفسه ، لم يجز له أن يعطيها لغيره ، وكذلك إن شرط عليه أن يزرع شيئا بعينه ، لم يجز له خلافه ،

ص: 445


1- ج : المنفعة.
2- النهاية : كتاب التجارة ، أول باب المزارعة والمساقاة.

ولا بأس أن يشارك المزارع غيره ، ولم يكن لصاحب الأرض خلافه ، وهذا جميعه حسن ، ذكره في باب المزارعة ، على ما قدّمناه.

ثمّ قال : ومن آجر غيره أرضا ، كان للمستأجر أن يقيم في الأرض من ينوب عنه ، ويقوم مقامه.

ثمّ قال : ومن استأجر أرضا بالنصف أو الثلث أو الربع ، جاز له أن يؤجرها غيره بأكثر من ذلك وأقلّ.

قال محمّد بن إدريس : هذا غير مستقيم ، والإجارة هاهنا باطلة ، لأنّ الأجرة تحتاج أن تكون مضمونة في ذمة المستأجر ، والثلث والربع المذكور غير مضمون ، وربما لم تخرج الأرض شيئا ، وهذا غرر عظيم منهي عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه.

ثمّ قال : وإذا استأجرها بالدراهم والدنانير ، لم يجز له أن يوجرها بأكثر من ذلك ، إلا أن يحدث فيها حدثا ، من حفر نهر ، أو كرى ساقية ، وما أشبه ذلك (1).

والذي يقوى في نفسي ، أنّه يجوز له أن يوجرها بأكثر من ذلك الجنس الذي استأجرها به ، وإن لم يحدث فيها حدثا ، لأنّ منافعها صارت مستحقة له ، يفعل فيها ما شاء ، ويوجرها لمن شاء بما شاء ، لا مانع يمنع منه من كتاب ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، لأنّ بينهم خلافا في ذلك ، وما روي في ذلك (2) أخبار آحاد تحمل على الكراهة ، دون الحظر ، فأمّا إذا اختلف الجنس فلا خلاف بينهم في جواز ذلك ، من غير حظر ولا كراهة ، بأكثر أو أقل ، سواء أحدث فيها حدثا ، أو لم يحدث ، مثال ذلك أن يستأجرها بدنانير ، فيؤجرها بدراهم ، أو يستأجرها بخبطه في ذمته ، لا ممّا تخرج الأرض ، ويؤجرها بدنانير أو دراهم وأشباه ذلك.

ثمّ قال : فإن كان شرط المزارع أن يأخذ بذره قبل القسمة ، كان له ذلك ، وإن

ص: 446


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب المزارعة والمساقاة.
2- الوسائل : الباب 22 من أحكام الإجارة.

لم يكن شرط ذلك ، كان البذر عليه على ما شرط.

قال محمّد بن إدريس : إذا لم يكن شرط ، كيف يكون البذر عليه على ما شرط ، وهو قد نفى أن يكون شرط شيئا ، إلا أن يريد به أنّه شرط أن يأخذه بعد القسمة ، إذا لم يكن شرط أن يأخذه قبل القسمة ، وقد قلنا في ما مضى ، أنّه إذا لم يشرط إخراج البذر من وسطا ، لم يخرج ، بل يقسم الجميع (1) من غير إخراج بذر بين المزارع وبين ربّ الأرض.

ثمّ قال : وإن شرط عليه أيضا خراج الأرض ومئونة السلطان ، كان عليه ذلك ، دون صاحب الأرض ، فإن شرط ذلك وكان قدرا معلوما ، ثمّ زاد السلطان على الأرض المئونة ، كانت الزيادة على صاحب الأرض ، دون المزارع.

أمّا قوله « خراج الأرض » فما يتقدّر ذلك إلا في الأرض الخراجية ، على قدّمناه.

ومن استأجر أرضا مدة معلومة ، وجب عليه مال الإجارة ، وكانت له المدة المعلومة ، سواء زرع فيها ، أو لم يزرع ، فإن منعه صاحب الأرض من التصرّف فيها ، ثمّ انقضت المدّة ، لم يكن عليه شي ء من الأجرة ، ومتى منعه من التصرّف فيها ظالم غير صاحب الأرض ، لم يكن على صاحب الأرض شي ء.

فإن غرقت الأرض لا بجناية أحد من الناس ، غرقا لم يتمكن معه المستأجر من التصرّف فيها مدة الإجارة ، لم يلزمه شي ء من مال الإجارة ، إلا أن يكون تصرّف فيها بعض تلك المدة ، فيلزمه بمقدار ما تصرّف فيها ، وليس عليه أكثر من ذلك ، ويكون العقد صحيحا في المدة التي تصرف فيها ، وينفسخ في باقي المدة ، وتقسط الأجرة بمقدار اجرة المثل ، مثال ذلك أن ينظر ، فإن كانت أوقات المدّة كلّها متساوية في الأجرة ، حسب على ما مضى بقسطه من الأجرة المسمّاة ، وإن كانت مختلفة نظركم اجرة مثلها فيما مضى ، وفيما بقي ، فإن كانت اجرة المثل في

ص: 447


1- ل. ق : جميع الغلة.

المدّة التي مضت ، مثلي أجرة المدة التي بقيت ، فعليه ثلثا الأجرة المسمّاة ، وعلى هذا الترتيب ، إن كان الحال بخلاف ذلك.

ولا تصحّ المزارعة والإجارة إلا بأجل معلوم ، على ما قدّمناه ، فمتى لم يذكر فيهما الأجل ، كانت باطلة ، فإن كان قد تصرّف فيها المستأجر ، وأنفق فيها ، كان له ما أنفق ، ولصاحب الأرض ما يخرج منها ، وللزارع اجرة المثل ، إذا لم يكن ذكر الأجل ، ولم يكن له أكثر من ذلك.

ومن أخذ أرض إنسان غصبا ، فزرعها أو عمّرها ، وبنى فيها بغير إذن المالك ، كان لصاحب الأرض قلع ما زرع فيها وبنى ، وأخذ أرضه ، وله اجرة المثل على الغاصب مدّة ما كانت في يده ، فإن كان الغاصب زرع فيها وبلغت الغلّة ، كانت للغاصب ، لأنّها نماء بذره ، ويكون لصاحب الأرض طسق الأرض ، والطسق الوظيفة ، توضع على صنف من الأرض لكل جريب ، وهو بالفارسيّة تسك ، فأعرب ، وهو كالأجرة.

وإذا اكترى إنسان دارا ، ليسكنها وفيها بستان ، فزرع فيها زرعا ، وغرس شجرا ، فإن كان فعل ذلك بإذن صاحب الدار ، ثمّ أراد التحوّل عنها ، وأراد الزارع والغارس قلع ذلك ، فله قلعه ، فإن أراد تبقيته فيها ، وأراد صاحبها قلعه ، فإن جرى بينهما صلح ، حملا عليه ، وإن تشاحّا ، ولم يصطلحا على شي ء ، فلصاحبها قلعه ، بعد أن يغرم له ما بين قيمته مقلوعا ونابتا ، فإن أبي ذلك ، لم يكن له قلعه ، لأنّه زرعه باذنه ، وليس هو بعرق ظالم ، وإن لم يكن استأذن صاحب الدار في ذلك ، كان له قلعه ، وإعطاؤه إيّاه للزارع والغارس ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : « ليس لعرق ظالم حق » (1).

ومتى زارع أرضا أو استأجرها ، فباع صاحب الأرض أرضه ، لم تبطل بذلك

ص: 448


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب الغصب ، ح 1.

مزارعته ، ولا إجارته ، وإن كان البيع بحضرة المزارع والمستأجر ، ويكون البيع صحيحا ، غير أنّه يلزم المشتري أن يصبر إلى وقت انقضاء مدّة المزارعة والإجارة ، فإن مات المشتري لم تبطل أيضا بموته الإجارة والمزارعة ، ووجب على ورثته الصبر ، إلى أن ينقضي زمان المزارعة والإجارة.

ومتى مات المستأجر أو المؤجر ، بطلت الإجارة عند بعض أصحابنا ، وانقطعت في الحال ، وقال آخرون من أصحابنا : إنّها تبطل بموت المستأجر ، ولا تبطل بموت المؤجر ، وقال الأكثرون المحصّلون : لا تبطل الإجارة بموت المؤجر ، ولا بموت المستأجر.

وهو الذي يقوى في نفسي ، وافتي به ، لأنّه الذي تقتضيه أصول المذهب ، والأدلة القاهرة ، عقلا وسمعا.

فالعقل ، أنّ المنفعة حقّ من حقوق المستأجر على المؤجر ، فلا تبطل بموته ، وإذا كانت حقا من حقوق الميّت فإنّه ، يرثه وارثه ، لعموم آيات المواريث ، ومن أخرج شيئا منها ، فعليه الدليل ، وهو تصرّف في مال الغير ، أعني المنفعة. ولا يجوز التصرّف في ذلك ، إلا بإذن صاحب المنفعة.

والسمع فقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وهذا عقد فيجب الوفاء به ، فمن فسخه وأبطله ، يحتاج إلى دليل ، ولن يجده ، فإن ادّعى إجماعا ، فقد بيّنا أنّ أصحابنا مختلفون في ذلك ، لا مجتمعون ، فإذا لم يكن إجماع ، ولا كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ولا دليل عقل ، فبأيّ شي ء ينفسخ هذا العقد ، بل الكتاب قاض بصحّة هذا العقد ، ودليل العقل حاكم به ، وما اخترناه مذهب السيد المرتضى وخيرته في الناصريات في المسألة المأتين ، ومذهب أبي الصلاح الحلبي ، في كتابه كتاب الكافي (1) ، وهو كتاب حسن ، فيه تحقيق مواضع ، وكان هذا المصنّف من جملة أصحابنا الحلبيين ، من تلامذة المرتضى رضي اللّه عنهما.

ص: 449


1- الكافي : فصل في ضروب الإجارة ، ص 348.

والأوّل مذهب شيخنا رحمه اللّه (1) ، وخيرته ، مع قوله في مبسوطة : إنّ أكثر أصحابنا يذهبون إلى أنّ موت المؤجر لا يبطلها (2). واستدل على صحة ما اختاره في مسائل خلافه (3) بأشياء يرغب عن ذكرها ، ونقضها سترا على قائلها ، وما المعصوم إلا من عصمه اللّه سبحانه.

ومال الإجارة لازم ، وإن هلكت الغلّة بالآفات السماويّة.

ومن زارع أرضا أو ساقاها على ثلث ، أو ربع ، أو غير ذلك ، وبلغت الغلّة ، جاز لصاحب الأرض أن يخرص عليه الغلّة والثمرة ، فإن رضي المزارع أو المساقي بما خرص ، أخذها ، وكان عليه حصة صاحب الأرض ، سواء نقص الخرص ، أو زاد ، وكان له الباقي ، كما فعل عامل الرسول عليه السلام بأهل خيبر وهو عبد اللّه بن رواحة الأنصاري الخزرجيّ (4) ، فإن هلكت الغلّة والثمرة قبل جذاذها وحصادها ، بآفة سماوية ، لم يلزم العامل الذي هو الأكار شي ء لصاحب الأرض.

والذي ينبغي تحصيله في هذا الخبر والسؤال ، انه لا يخلو أن يكون قد باعه حصته من الغلّة والثمرة ، بمقدار في ذمّته من الغلّة والثمرة ، أو باعه الحصة بغلة من هذه الأرض ، فعلى الوجهين معا ، البيع باطل ، لأنّه داخل في المزابنة والمحاقلة ، وكلاهما باطلان ، وإن كان ذلك صلحا لا بيعا ، فإن كان ذلك بغلّة أو ثمرة في ذمة الأكار الذي هو المزارع ، فإنّه لازم له ، سواء هلكت الغلّة بالآفات السماوية ، أو الأرضية ، وإن كان ذلك الصلح بغلّة من تلك الأرض ، فهو صلح باطل ، لدخوله في باب الغرر ، لأنّه غير مضمون ، فإن كان ذلك ، فالغلّة بينهما سواء ، زاد الخرص أو نقص ، تلفت منهما ، أو سلمت لهما ، فليلحظ ذلك ، فهو

ص: 450


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإجارات ، ص 224 ، وفيه ، والأظهر عندهم أنّ موت المستأجر يبطلها ، وموت المؤجر لا يبطلها ، وفيه خلاف.
3- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 20.
4- الوسائل : الباب 10 من أبواب بيع الثمار ، ح 2 و 3 و 5.

الذي تقتضيه أصول مذهبنا ، وتشهد به الأدلة ، فلا يرجع عنها بأخبار الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملا ، وإن كررت في الكتب.

باب المساقاة

المساقاة مفاعلة ، مشتقة من السّقي ، وهو أن يدفع الإنسان نخلة أو شجره الذي يحمل ثمرا ، أيّ شجر كان ، قبل خروج (1) المدّة المضروبة بينهما ، لأنّها لا تصحّ إلا بأجل محروس.

ويشرط له حصّة معلومة مشاعة.

ولا تصحّ إلا على أصل ثابت ، على أن يلقحه ويصرف الجريد ، ويصلح الأجّاجين تحت النخل والأخواص ، ويسقيها ، ويحفظ الثمرة ، ويلقطها ، ويجذّها ، ويحفر السواقي والأنهار لجري الماء إليها ، وكذلك الكرم ، على أن يعمل فيه ، فيقطع الشّفش ، ويصلح مواضع الماء ، ويسقيه ، ويحفظه.

وجملة الأمر ، وعقد الباب ، أنّه يجب عليه كلّ ما كان فيه زيادة في الثمرة وربع ونماء ، فعلى هذا يجب عليه الكش ، وآلات السقي ، وما يتوصّل به إليه من الدلاء ، والنواضح ، والبقر ، والحبال ، والمحالات ، وغير ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة : الكش (2) يلزم صاحب النخل (3) ، وهذا غير واضح ، لأنّه لا دليل عليه ، ولا شكّ أنّه قول بعض المخالفين ، ووضعه في الكتاب المذكور ، لأنّه رحمه اللّه يذكر فيه مذهبنا ومقالتنا ، ومقالة غيرنا ، من غير تفصيل كثيرا ما يعمل كذلك ، فصار الشجر على ضربين ، ضرب له ثمر يؤكل ، سواء تعلّق به الزكاة ، أو لم تتعلّق ، فإنّه يتعلّق به المساقاة ، وشجر لا ثمرة له ، فلا يجوز المساقاة عليه.

ص: 451


1- ج : انقضاء.
2- الكش ، بالضم ، الذي يلقّح به النخل.
3- المبسوط : ج 3 ، كتاب المساقاة ، ص 210.

والمساقاة تحتاج إلى مدة معلومة ، كالإجارة على ما قدّمناه.

وهي من العقود اللازمة ، لأنّها كالإجارة ، وبهذا فارقت القراض ، لأنّه لا يحتاج إلى مدّة ، بل هو عقد جائز من الطرفين.

والمئونة جميعها في المساقاة على المساقي ، على ما قدّمناه ، دون صاحب الأصل.

ومتى ساقى صاحب النخل والشجر غيره ، ولم يذكر ماله من الحصّة والقسمة ، كانت المساقاة باطلة ، وكان لصاحب الأصل ما يخرج من نخله وشجره ، وعليه وللمساقي أجرة المثل من غير زيادة ولا نقصان.

ويكره لصاحب الأرض أن يشترط على المساقي مع المقاسمة شيئا من ذهب أو فضة ، فإن شرطه أو شرط له ، وجب عليهما الوفاء بما شرطا ، اللّهم إلا أن تهلك الثمرة بآفة سماوية ، فلا يلزمه حينئذ شي ء ممّا شرط عليه ، على حال.

وخراج الثمرة على ربّ الأرض ، إذا كانت الأرض خراجية ، دون المساقي ، إلا أن يشترط ذلك على المساقي ، فيلزمه حينئذ الخروج منه.

وقد قلنا وذكرنا أحكام من أخذ أرضا ميتة فلا وجه لا عادته.

وقال شيخنا في نهايته ، في ذكر أحكام المساقاة : ومن استأجر أرضا بشي ء معلوم ، جاز له أن يؤجر بعضها بأكثر ذلك المال ، ويتصرّف هو بما يبقى في الباقي ، وكذلك إن اشترى مراعى جاز له أن يبيع شيئا منها بأكثر ماله ، ويرعى هو بالباقي ما يبقى منها ، وليس له أن يبيع بمثل ما اشترى أو أكثر منه ، ويرعى معهم ، إلا أن يحدث فيه حدثا ، ويكون ذلك أيضا برضا صاحب الأرض ، فإن لم يرض ببيعه من سواه ، لم يجز له ذلك ، وإنّما يكون له أن يرعاه بنفسه ، هذا آخر كلام شيخنا في نهايته ، في آخر الباب (1).

قال محمد بن إدريس : أمّا المسألة الأولى ، فباب الإجارة أحق بذكرها فيها من باب المساقاة ، وأمّا المسألة الثانية ، فليس هي من قبيل المساقاة ، ولا قبيل

ص: 452


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب المزارعة والمساقاة.

المزارعة ، ولا الإجارة.

والأولى عندي أنّ له أن يبيع ما شاء كيف شاء ، سواء رضي صاحب الأرض ، أو لم يرض ، لأنّ الناس مسلّطون على أملاكهم وأموالهم ، كيف شاءوا عملوا ، من سائر أنواع التصرّفات فعلوا ، بيعا ، أو هبة ، أو إجارة ، أو صدقة ، أو غير ذلك ، وإنّما هذه أخبار آحاد احتاج أن يوردها في غير مواضعها ، لئلا يشذّ منها شي ء على ما اعتذر به في كتابه العدة (1) ، وإن لم يكن عاملا بها ولا معتقدا لصحتها ، أوردها إيرادا على ما هي عليه من الألفاظ ، لا اعتقادا على ما كرّرنا الاعتذار له في ذلك.

وإذا شرط في حال عقد المساقاة العامل على ربّ الأرض ، بعض ما يجب على العامل عمله ، لم يمنع ذلك من صحة العقد ، إذا بقي للعامل عمل ، ولو كان قليلا ، لأنّ هذا شرط لا يمنع منه كتاب ولا سنّة ، وكذلك إذا ساقاه بعد ظهور الثمرة كان جائزا.

وإذا اختلف ربّ النخل والعامل ، فقال ربّ النخل : شرطت على أن يكون لك ثلث الثمرة ، وقال العامل : بل على أن يكون لي نصف الثمرة ، كان القول قول ربّ النخل مع يمينه ، فإن كان مع كلّ واحد منهما بيّنة ، قدّمنا بيّنة العامل ، لأنّه المدّعي ، وهو الخارج ، دون بيّنة ربّ النخل ، على ما قدّمناه.

إذا ظهرت الثمرة ، وبلغت الأوساق التي تجب فيها الزكاة ، كانت الزكاة واجبة على ربّ النخل والعامل معا ، إذا بلغ نصيب كلّ واحد منهما ما تجب فيه الزكاة ، فإن لم يبلغ نصيب واحد منهما النصاب ، فلا تجب الزكاة على كلّ واحد منهما ، فإن بلغ نصيب أحدهما نصاب الزكاة ، وجب عليه دون من لم يبلغ حصّته ، لأنّ الثمرة ملك لهما ، وهذا مذهب أصحابنا بغير خلاف بينهم في ذلك ،

ص: 453


1- العدة : الفصل 4 من الكلام في الأخبار ، وقد نقلنا عبارتها في ذيل ص 791.

ذكره شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1) ، وناظر المخالفين على صحته ودلّ عليه.

وقد كنّا قلنا أنّ بعض أصحابنا المتأخّرين ذكر في تصنيف له (2) ، وقفنا عليه ، وعاودناه في مطالعته في حال حياة مصنّفه ، ونبّهناه على تجاوز نظره الحقّ في المسألة ، لأنّه قال : لا يجب الزكاة إلا على ربّ النخل دون المساقي ، وكذلك في المزارعة ، لا تجب إلا على من يكون منه البذر ، دون الأكّار ، لأنّ ما يأخذه كالأجرة ، والأجرة لا زكاة فيها ، وهذا منه رحمه اللّه تسامح عظيم ، والذي ذهب إليه أحد قولي الشافعي.

واستدلّ شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، على صحّة ما قلناه ، فقال : دليلنا انّه إذا كانت الثمرة ملكا لهما ، فوجبت الزكاة على كلّ واحد منهما ، فمن أوجب على أحدهما دون الآخر ، كان عليه الدليل (3) ، الودّي ، بالواو المفتوحة ، والدّال غير المعجمة المكسورة ، والياء المشددة ، هو صغار النخل قبل أن تحمل ، فإذا ساقاه على وديّ ، ففيها ثلاث مسائل.

إحداها ساقاه إلى مدّة يحمل مثلها غالبا ، فالمساقاة صحيحة ، لأنّه ليس فيه أكثر ، من أنّ عمل العامل يكثر ويقلّ نصيبه ، وهذا لا يمنع صحّتها ، كما لو جعل له سهم من ألف سهم ، فإذا عمل ، نظرت ، فإن حملت ، فله ما شرط ، وإن لم تحمل شيئا ، فلا شي ء له ، لأنّها مساقاة صحيحة ، ونصيبه من ثمارها معلوم ، فإذا لم تثمر لم يستحق شيئا ، كالقراض الصحيح إذا لم يربح شيئا.

الثانية ساقاه إلى مدّة لا يحمل الودي إليها ، فالمساقاة باطلة.

الثالثة ساقاه إلى وقت قد تحمل وقد لا تحمل ، وليس أحدهما أولى من الآخر ، فهذه أيضا مساقاة باطلة.

ص: 454


1- الخلاف : كتاب المساقاة ، المسألة 13.
2- هو السيد ابن زهرة رحمه اللّه في كتاب الغنية ، فإنه « رحمه اللّه » قال في كتاب التجارة ، في فصل في المزارعة والمساقاة ، ما هذا نصه : فأمّا الزكاة فإنّها تجب على مالك البذر والنخل إلخ.
3- الخلاف : كتاب المساقاة ، المسألة 13.

إذا ساقاه على ودّي ، على أنّه إذا كبر وحمل ، فله نصف الثمرة ، ونصف الوديّ ، فالعقد باطل ، لأنّ موضوع المساقاة على أن يشتركا في الفائدة ، دون الأصول ، فإذا اشترط الاشتراك في الأصول ، بطل ، كالقراض إذا اشترط له جزء من رأس المال ، مضافا إلى وجوب الربح.

وإذا كان الوديّ ، مقلوعا ، فساقاه على أن يغرس ، فإذا علق وحمل ، فله نصف الثمرة ، والمدّة يحمل في مثلها إن علق ، فالمساقاة باطلة ، لأنّها لا تصحّ إلا على أصل ثابت يشتركان في فوائده ، فإذا كانت الأصول مقلوعة ، لم تصحّ المساقاة.

إذا اختلف ربّ النخل والمساقي في مقدار ما شرط له من الحصّة عند المقاسمة ، فالقول قول ربّ النخل مع يمينه ، لأنّ ثمرة النخل كلّها لصاحبها ، وإنّما يستحقّ العامل بالشرط ، وربّ النخل اعرف بما قال ، فإن أقام العامل بيّنة ، سمعت ، وسلّم إليه ما شهدت به البيّنة ، فإن أقام كلّ واحد منهما بيّنة بما يقوله ، قدّمنا بيّنة العامل ، لأنّه المدّعي ، والرسول عليه السلام جعلها في جنبته ، دون جنبة الجاحد.

وقال شيخنا أبو جعفر في المزارعة هكذا (1) وهو الصحيح وقال في آخر كتاب المساقاة في مبسوطة : وإن كان مع كلّ واحد منهما بيّنة تعارضتا ، ورجعنا على مذهبنا إلى القرعة (2).

قال محمّد بن إدريس : وأي تعارض هاهنا ، بل هذه المسألة لا فرق بينها وبين اختلاف الأكار في المزارعة وربّ البذر والأرض ، في أنّ كلّ واحد منهما إذا أقام البيّنة ، سمعت بينة الأكار ، لأنّه المدّعي ، والبيّنة جعلها الرسول عليه السلام في جنبته ، وإلى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر في المزارعة ، ويخالف في المساقاة وهذا أمر طريف.

ص: 455


1- لم نعثر عليه.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب المساقاة ، ص 219.

باب الإجارات

كلّ ما يستباح بعقد العارية يجوز أن يستباح بعقد الإجارة ، من إجارة الإنسان نفسه ، وعبيده ، وثيابه ، وداره وعقاره بلا خلاف ، بل الإجماع منعقد على ذلك ، والكتاب ناطق به.

والإجارة عقد معاوضة ، وهي من عقود المعاوضات اللازمة ، كالبيع.

وتفتقر صحّتها إلى شروط ، منها ثبوت ولاية المتعاقدين ، فلا يصحّ أن يواجر الإنسان ما لا يملك التصرّف فيه ، لعدم ملك ، أو إذن ، أو ثبوت حجر ، أو رهن ، أو إجارة متقدّمة ، أو غير ذلك.

ومنها أن يكون المعقود عليه من الجانبين معلوما ، فلو قال : آجرتك إحدى هاتين الدارين ، أو بمثل ما يوجر به فلان داره ، لم يصح.

ومنها أن يكون مقدورا على تسليمه ، حسا وشرعا ، فلو آجر عبدا آبقا ، أو جملا شاردا ، أو ما لا يملك التصرّف فيه ، لم يصحّ.

ومنها أن يكون منتفعا به ، فلو آجر أرضا للزراعة في وقت يفوت بخروجه ، والماء واقف عليها لا يزول في ذلك الوقت ، لم يصحّ.

ومنها أن يكون منتفعا به منفعة مباحة ، فلو آجر مسكنا أو دابة أو وعاء في محظور لم يجز ، وكانت الإجارة باطلة.

فإذا آجر الرجل داره أو دابته ، فإنّه يلزم العقد من الطرفين ، وليس لأحد منهما الخيار ، سواء افترقا من مجلس العقد ، أو لم يفترقا ، لأنّ خيار المجلس لا يثبت إلا في عقد البيع فحسب ، والإجارة ليست ببيع.

ويستحق الموجر الأجرة على المستأجر في الحال ، ولا يقف على تسليم الأعمال والفراغ منها ، بل بإطلاق العقد يستحق المؤجر الأجرة على المستأجر ، سواء كان عملا يمكن تسليمه ، أو لا يمكن تسليمه ، إلا أن يشترط المستأجر

ص: 456

التأخير في حال العقد ، فيكون على ما شرطا واتفقا عليه :

ويستحق المستأجر المنفعة على المؤجر ، حتّى أنّه صار أحقّ بها منه ، كما أنّ المؤجر أحقّ بالأجرة من المستأجر.

وليس لأحدهما فسخ عقد الإجارة بحال ، سواء كان لعذر أو لغير عذر ، فهي كالبيع في حال الفسخ ، لأنّ من اشترى شيئا ملك البائع الفسخ ، إذا كان الثمن معيّنا ووجد به عيبا ، وكذلك المشتري إذا وجد بالمبيع عيبا ولا يملك الفسخ بغير العيب ، وكذلك المؤجر ، إنّما يملك الفسخ إذا تعذّر استيفاء الحقّ منه ، لفلس أو لغيره ، وكذلك المستأجر إنّما يملك الفسخ إذا وجد بالمنافع عيبا ، مثل أن ينهدم الدار أو بعضها ، أو تغرق الأرض على ما قدّمناه في باب المزارعة ، وإجارة الأرض ، وليس لهما الفسخ لغير عذر.

فإذا ثبت جواز الإجارة فإنّها على ضربين ، أحدهما ما تكون المدّة معلومة ، والعمل مجهولا ، والثاني أن تكون المدّة مجهولة ، والعمل معلوما ، فما تكون المدّة معلومة والعمل مجهولا ، مثل أن يقول : آجرتك نفسي شهرا لابني ، أو أخيط ، فهذه مدة معلومة ، والعمل مجهول ، وما تكون المدة مجهولة والعمل معلوما ، فهو أن يقول : آجرتك نفسي لأخيط ثوبا معلوما ، ولأبني هذا البناء المعلوم ، فالمدة مجهولة والعمل معلوم.

فأمّا إذا كانت المدّة معلومة والعمل معلوما ، فلا يصحّ ، لأنّه إذا قال : استأجرتك اليوم لتخيط قميصي هذا ، فإنّ الإجارة هذه باطلة ، لأنّه ربما يخيط قبل مضي النهار ، فيبقى بعض المدّة المستحقّة بلا عمل ، وربما لم يفرغ منه بيوم ، ويحتاج إلى مدّة أخرى ، فيحصل العمل بلا مدّة.

والمعقود عليه عقد الإجارة ، يجب أن يكون معلوما ، وقد بيّنا أنّه يصير معلوما تارة بتقدير المدّة ، وتارة بتقدير العمل ، فأمّا المنافع فيتقدر منافعها التي يعقد عليها تارة بتقدير المدّة ، وتارة بتقدير العمل ، والعقار لا يتقدّر منفعته إلا بتقدير المدّة ، لأنّه لا عمل لها ، فيقدّر في نفسه.

ص: 457

وليس من شرط صحّتها اتصال المدة (1) بالعقد ، ولا أن يذكر الاتصال بالعقد لفظا ، على ما يذهب إليه بعض المخالفين ، وقاله شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة (2) ، ولم يذكر هل هو قولنا أو قول غيرنا؟ فلا يظنّ ظان أنّ ذلك قول لأصحابنا.

إذا استأجر على قلع ضرسه ، ثمّ بدا له ، فلا يخلو من أحد أمرين : إمّا (3) أن يكون زال الوجع ، أو يكون الألم باقيا ، فإن كان بحاله ، فإنّه لا يملك فسخ الإجارة ، ولكن يقال له : قد استأجرته على استيفاء منفعة ، وأنت متمكّن من استيفائها ، فأمّا أن تستوفي منه ذلك ، وإلا إذا مضت مدّة يمكنه أن يقلع ذلك ، فإنّه قد استقر له الأجرة ، كمن استأجر دابة ليركبها إلى بلد ، وسلّمها إليه ، فلم يركبها ، فإنّه يقال له : أنت متمكن من استيفاء المنفعة بأن تركب وتمضي ، فأمّا أن تستوفي ، وإلا إذا مضت مدّة يمكنك أن تستوفيها ، فقد استقرّ عليك الأجرة ، وكذلك إذا استأجر دارا ، فسلمت إليه ، يقال له : إمّا أن تسكنها ، وإلا يستوفي منك الأجرة ، إذا مضت المدّة ، وأمّا إذا زال الوجع ، فقد تعذر استيفاء المنفعة من جهة اللّه تعالى شرعا ، لأنّه لو أراد أن يقلعها لم يجز ، ويمنع العقل والشرع معا من قلع السن الصحيح ، فانفسخت الإجارة بذلك ، كالدار إذا انهدمت ، فأمّا إذا استأجر عبدا فأبق ، فإنّه تنفسخ الإجارة لتعذّر استيفاء المنفعة (4) المعقود عليها ، كالدار إذا انهدمت.

والمستأجر يملك من المستأجر المنفعة التي في العبد والدار والدابة ، إلى المدّة التي اشترط ، حتى يكون أحق بها من مالكها ، والمؤجر يملك الأجرة بنفس العقد ، على ما قدّمناه ، ولا تخلو الأجرة من ثلاثة أحوال ، إمّا أن يشترطا فيها التأجيل ، أو التعجيل ، أو يطلقا ذلك ، فإن شرطا التأجيل إلى سنة أو إلى شهر ، فإنّه لا يلزمه تسليم الأجرة إلى تلك المدّة بلا خلاف ، فإن اشترطا التعجيل أو أطلقا ، لزمه ذلك في الحال ، على خلاف فيه من المخالفين (5).

ص: 458


1- ج : اتصال المنفعة.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإجارات.
3- ج : فلا يخلو إمّا.
4- ج : لتعذّر المنفعة.
5- ج : بلا خلاف فيه بين المخالفين.

ومتى عقدا الإجارة ، ثم أسقط المؤجر مال الإجارة ، وأبرأ صاحبه منها ، سقط بلا خلاف ، وإن أسقط المستأجر المنافع المعقود عليها ، لم تسقط بلا خلاف.

قال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : إذا باع شيئا بثمن جزاف ، جاز ، إذا كان معلوما مشاهدا ، وإن لم يعلم وزنه ، ولا يجوز أن يكون مال القراض جزافا ، والثمن في السلم أيضا يجوز أن يكون جزافا ، وقيل : لا يجوز كالقراض ، ومال الإجارة يصحّ أن يكون جزافا ، وفي الناس من قال : لا يجوز ، والأول أصحّ ، إلى هاهنا كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة ، في كتاب الإجارة (1).

قال محمّد بن إدريس : الأظهر من المذهب بلا خلاف فيه إلا من السيد المرتضى في الناصريات (2) ، أنّ البيع إذا كان الثمن جزافا بطل ، وكذلك القراض والسلم ، لأنّه بيع ، فأمّا مال الإجارة التي هي الأجرة ، فالأظهر من المذهب أنّه لا يجوز ، إلا أن يكون معلوما ، ولا تصح ولا تنعقد الإجارة إذا كان مجهولا جزافا ، لأنّه لا خلاف في أن ذلك عقد شرعيّ ، يحتاج في ثبوته إلى أدلّة شرعيّة ، والإجماع منعقد على صحته إذا كانت الأجرة معلومة غير مجهولة ، ولا جزاف ، وفي غير ذلك خلاف ، وأيضا نهى النبيّ عليه السلام عن الغرر والجزاف (3) ، وهذا غرر وجزاف.

وقال شيخنا في نهايته ، بما اخترناه ، فإنّه قال : الإجارة لا تنعقد إلا بأجل

ص: 459


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإجارات ، ص 223.
2- الناصريات : كتاب البيوع ، المسألة 172
3- قد مضى الإيعاز إلى ما يدل على نهيه عن الغرر في ذيل البحث عن شركة الأبدان ، ص 400 ولعلّ نهيه صلى اللّه عليه وآله عن الجزاف أيضا مستفاد من نفس النهى عن الغرر. وفي الوسائل : في الباب 4 من أبواب عقد البيس. بسند صحيح عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : « ما كان من طعام سميت فيه كيلا فلا يصلح مجازفة ». وفي سنن النسائي : كتاب البيوع باب بيع ما يشترى من الطعام جزافا ، عن ابن عمر أنّهم كانوا يبتاعون على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله في أعلى السوق جزافا فنهاهم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أن يبيعوه في مكانه حتى ينقلوه.

معلوم ، ومال معلوم ، فمتى لم يذكر الأجل ولا المال ، كانت الإجارة باطلة ، وإن ذكر الأجل ولم يذكر مال الإجارة ، لم تنعقد ، ومتى ذكرهما كانت الإجارة صحيحة ، ولزم المستأجر المال إلى المدّة المذكورة ، وكان المؤجر بالخيار ، إن شاء طالبه به أجمع في الحال ، وإن شاء أخرها عليه ، اللّهم إلا أن يشترط المستأجر أن يعطيه المال عند انقضاء الإجارة ، أو في نجوم مخصوصة ، فيلزم حينئذ بحسب ما شرط (1).

وقال رحمه اللّه : والموت يبطل الإجارة على ما بيّناه ، والبيع لا يبطلها على ما قدّمناه في الباب الأول (2).

يريد رحمه اللّه باب المزارعة والمساقاة ، لأنّها المتقدّمة على باب الإجارة ، وذكر هناك أنّ موت المؤجر يبطلها ، وموت المستأجر أيضا يبطلها ، وقد ذكرنا ما عندنا في ذلك ، فلا وجه لإعادته ، إلا ما قاله ابن البراج في كتابه المهذّب ، وحكاه ، فقال : الموت يفسخ الإجارة ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الميّت هو المستأجر أو المؤجر ، وعمل الأكثر من أصحابنا على أنّ موت المستأجر هو الذي يفسخها ، لا موت المؤجر وقد كان شيخنا المرتضى رضي اللّه عنه سوّى بينهما في ذلك ، بأن بيّن أنّ الوجه فيهما واحد ، وليس هذا موضع ذكر ذلك ، فنذكره ، هذا آخر كلام ابن البراج (3).

قال محمّد بن إدريس : ليت شعري إن لم يكن هاهنا موضع ذكره ، فأين يكون ، ولكن حبّك للشي ء يعمى ويصم ، كما قاله النبي عليه السلام (4) ، والصحيح التسوية بينهما ، بأنّ موت أحدهما لا يبطلها على ما اختاره المرتضى ، إذ دليلهما واحد ، وانّهما حقّان لكلّ واحد منهما ، يرثه وارثه ، لعموم آيات المواريث ، فمن يخصّ ذلك يحتاج إلى دليل ، فموت أحدهما لا يبطل حقّ الآخر ،

ص: 460


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.
3- المهذب : ج 1 ، كتاب الإجارات ، ص 501 - 502.
4- من لا يحضره الفقيه : باب النوادر ، ج 4 ، ص 380 ، الرقم 5814 من الألفاظ الموجزة عنه ( ص ).

كما أنّ مدّة خيار الثلاث ، أو ما زاد عليها في البيع موروثة ، بلا خلاف بيننا ، لأنّه حقّ للميّت ، فيجب أن يورث مثل سائر الحقوق ، ولعموم آيات المواريث ، فمن أخرج شيئا منها ، فعليه الدلالة ، وبهذا استدل شيخنا أبو جعفر (1) على أنّ مدّة خيار الثلاث في البيع موروثة ، فليلحظ.

وإجارة المشاع جائزة مثل إجارة المقسوم ، سواء.

وإذا قال : آجرتك هذه الدار كلّ شهر بكذا ، صحّ على قول بعض أصحابنا ، فإن سكن أكثر من شهر ، لزمه المسمّى ، لشهر واحد ، وفيما زاد على الشهر اجرة المثل.

والذي تقتضيه أصول المذهب ، أنّ ذلك لا يجوز ، ولا يلزم المسمّى بل الجميع يستحق اجرة المثل ، لأنّه ما عيّن آخر المدّة ، والعقار يحتاج في صحّة العقد عليه أن يذكر أوّل المدّة وآخرها ، فمن شرط صحتها ذلك ، وإنّما روي في بعض الأخبار ما ذكرناه (2).

فأمّا إن قال : آجرتك هذه الدار من هذا الوقت شهرا بكذا وما زاد فبحسابه ، فإنّه يلزمه المسمّى للشهر ، وما زاد فاجرة المثل ، فأمّا إذا قال : آجرتك هذه الدار شهرا بدينار ، ولم يعيّن الشهر ، فإنّه لا يجوز ، والإجارة باطلة ، فأمّا إذا قال : آجرتك هذه الدار من هذا الوقت سنة ، كلّ شهر بكذا ، صحّ لأنّه عيّن المدّة.

ومن أصحابنا من قال : لا يجوز أن يؤجر مدّة قبل دخول ابتدائها ، لافتقار صحّة الإجارة إلى التسليم ، واتّصال المنفعة بالعقد ، ومنهم وهم الأكثرون المحصّلون اختاروا القول بجواز ذلك ، وهو الصحيح الذي اخترناه فيما مضى ، ويعضده قوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وقوله عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » وأمّا التسليم فهو مقدور عليه حين استحقاق المستأجر له ، وتعذره قبل

ص: 461


1- الخلاف : كتاب البيوع ، المسألة 36.
2- ولعل المراد منه هو صحيح أبي حمزة ، الحديث 1 من الباب 8 من أحكام الإجارة من الوسائل.

ذلك لا ينافي عقد الإجارة.

وقال بعض أصحابنا : لا يجوز أن يؤجر ما استأجره بأكثر ممّا استاجره به من جنسه ، سواء كان المستأجر هو المؤجر ، أو غيره ، إلا أن يحدث فيما استأجره حدثا يصلحه به ، ومنهم من قال : ذلك (1) على الكراهة ، دون الحظر ، وهو الذي اخترناه ، وقد قلنا ما عندنا فيه قبل هذا المكان ، فليلحظ هناك ، فلا فائدة في إعادته ، ولأنّ الأصل في العقل والشرع جواز التصرّف فيما يملك الإنسان ، فإذا ملك المستأجر التصرّف بالعقد ، جاز أن يملكه لغيره ، على حسب ما يتفقان عليه ، من زيادة ونقصان ، اللّهم إلا أن يكون استأجر الدار على أن يكون هو الساكن ، والدابة على أن يكون هو الراكب ، فإنّه لا يجوز والحال هذه ، إجارة ذلك لغيره على حال.

وقد قلنا أنّ المستأجر يملك الفسخ بانهدام الدار أو بعضها ، أو غرق الأرض على وجه يمنع استيفاء المنفعة ، وتسقط عنه الأجرة إلى أن يعيد المالك المسكن إلى الحالة الأولى ، لأنّ المعقود عليه قد فات ، اللّهم إلا أن يكون ذلك بتعدي المستأجر ، فيلزمه الأجرة والضمان لإعادته إلى حالته الاولى.

ولا يملك المستأجر فسخ الإجارة بالسفر ، وإن كان ذلك بحكم حاكم ، ولا بغير ذلك من الأعذار المخالفة ، لما قدّمنا ذكره ، مثل أن يستأجر جملا للحج ، فيمرض ، أو يبدو له من الحج ، أو حانوتا لبيع البز فيه ، فيحترق أو يسرق بزه.

ولا تنفسخ الإجارة بالبيع ، وعلى المشتري إن كان عالما بالإجارة ، الإمساك عن التصرّف ، حتى تنقضي مدّتها ، وإن لم يكن عالما بذلك ، فله الخيار في الرد.

ومتى تعدّى المستأجر ما اتفقا عليه ، من المدّة أو المسافة ، أو الطريق ، أو مقدار المحمول ، أو عينه ، إلى ما هو أشق في الحمل ، أو المعهود في السير ، أو في

ص: 462


1- ج : لا يجوز ذلك.

وقته ، أو في ضرب الدابة ، ضمن الهلاك أو النقص ، ويلزمه أجرة الزائد على الشرط ، بدليل الإجماع من أهل البيت عليهم السلام على ذلك ، ولأنّه لا خلاف في براءة ذمّته ، إذا أدّى ذلك ، وليس على براءتها إذا لم يؤدّه دليل ، ولو ردّ الدابة إلى المكان الذي اتفقا عليه بعد التعدّي بتجاوزه ، لم يزل الضمان ، بدليل الإجماع الماضي ذكره ، وأيضا فقد ثبت الضمان بلا خلاف ، فمن ادّعى زواله بالرد إلى ذلك المكان ، فعليه الدلالة.

والأجير ضامن لتلف ما استؤجر فيه أو نقصانه ، إذا كان ذلك بتفريطه أو نقصان من صنعته.

وكلّ من أعطى شيئا واستؤجر على إصلاحه ، فأفسده ، كان ضامنا ، سواء كان ختانا ، أو حجّاما ، أو بيطارا ، أو نجّارا ، أو غير ذلك ، وسواء كان مشتركا ، وهو المستأجر على عمل في الذمة ، أو منفردا ، وهو المستأجر للعمل مدّة معلومة ، لأنه يختص عمله فيها لمن استأجره ، لقوله عليه السلام : « على اليد ما أخذت حتّى تؤديه » (1) لأنّه يقتضي ضمان الصنّاع على كلّ حال ، إلا ما خصّه الدليل ممّا ثبت أنّهم غلبوا عليه ، ولم يكن بخيانتهم.

وأجر الكيّال ، ووزّان الأمتعة ، على البائع ، لأنّ عليه تسليم ما باعه معلوم المقدار ، واجرة وزان الأثمان ، وناقدها ، على المشتري ، لأنّه عليه تسليم الثمن معلوم الوزن والجودة ، على ما قدّمناه فيما مضى وحررناه.

وأجر رد الضالة على حسب ما يبذله ، مالكها ، فإن لم يعيّن شيئا ، بل قال : من ردّ ضالتي فله جعالتها ، كان أجر ردّ العبد أو الأمة أو البعير في المصر ، عشرة دراهم فضة ، وخارج المصر أربعين درهما ، وما عدا ذلك يرجع فيه إلى عادة القوم وعرفهم ، على ما أسلفنا القول فيه.

ص: 463


1- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب العصب ، ح 4 و 5.

ومن آجر غيره أرضا ليزرع فيها شيئا مخصوصا لم يجز له أن يزرع فيها غيره ، لقوله عليه السلام. « المؤمنون عند شروطهم » وإذا آجرها للزراعة من غير تعيين لما يزرع ، كان له أن يزرع ما شاء ، وإذا آجرها على أن يزرع ويغرس ، ولم يعيّن مقدار كلّ واحد منهما ، لم تصحّ الإجارة ، لأنّ ذلك مجهول ، والضرر فيه مختلف.

وإذا اختلف المؤجر والمستأجر في قدر الأجرة ، فالقول قول المستأجر ، لأنّه المدّعى عليه ، زيادة غير متفق عليها ، والمؤجر المدّعي ، فعليه البيّنة ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : « على المدّعي البيّنة وعلى المدّعى عليه اليمين ».

وقال شيخنا في مسائل الخلاف ، في كتاب المزارعة : إذا اختلف المكري والمكتري في قدر المنفعة ، أو قدر الأجرة ، فالذي يليق بمذهبنا ، أن يستعمل فيه القرعة ، فمن خرج اسمه حلف ، وحكم له به ، لإجماع الفرقة على أنّ كلّ مشتبه يردّ إلى القرعة (1).

قال محمّد بن إدريس : وأي اشتباه في هذا ، انّما هو مدّعي ومدّعى عليه ، وهذا فقه سهل ، وليس هو من القرعة بسبيل.

والملك إذا كان بين اثنين مشتركا وما زاد عليهما ، لم يكن لأحدهما ان ينفرد بالأجرة والإجارة ، دون صاحبه ، بل يتفقان على الإجارة ، فإن تشاحا تناوبا بمقدار من الزمان.

وإذا استأجر ملكا وسكن بعضه ، جاز أن يسكن الباقي غيره بأكثر مال الإجارة ، ولا يؤجر بمثل ما قد استأجر ، اللّهم إلا أن يكون أحدث فيه ، حدثا ، فإن فعل ذلك جاز له أن يؤجرها بما شاء هكذا ذكره شيخنا في نهايته (2).

والذي تقتضيه الأدلة ، وأصول المذهب ، أنّه لا بأس أن يسكن البعض ويكري البعض بما شاء ، سواء أكراه بمثل ما استأجره ، أو أقل ، أو أكثر ، مع اختلاف الجنس ، أو مع اتفاقه ، أحدث فيها ، أو لم يحدث ، لأنّ المنافع مستحقة ، ومال من أمواله ، فله أن يستوفيها بنفسه وبغيره ، لأنّ الإنسان مسلّط على

ص: 464


1- الخلاف : كتاب المزارعة : المسألة 10 ، إلا أنّ العبارة متقطعة.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.

التصرّف في ملكه ، بسائر أنواع التصرّفات ، عقلا وسمعا ، إذ لا مانع يمنع منه من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، فلا يرجع ويترك الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، على ما كرّرنا القول فيه.

وقد ذكرنا أنّ من اكترى دابة على أن يسلك بها في طريق مخصوص ، أو يحملها قدرا معلوما ، فخالف في شي ء ممّا قلناه ، كان ضامنا لها ، ولكلّ ما يحدث فيها ، ولزمه إن سار عليها أكثر ممّا شرط ، أو حملها أكثر ممّا ذكر ، أجرة الزيادة من غير نقصان.

ومتى هلكت الدابة والحال ما وصفناه ، كان ضامنا لها ، ولزمه قيمتها يوم تعدّي فيها ، فإن اختلفا في الثمن ، كان على صاحبها البيّنة ، فإن لم تكن له بيّنة ، كان القول قول الغارم الذي هو الضامن ، لأنّه المدّعى عليه الزيادة فيما اتّفقا عليه ، وهذا حكم سائر فيما سوى الدابة ، ممّا يقع الخلف فيه بين المستأجر والمستأجر منه ، كانت البيّنة على المدّعى ، واليمين على المدّعى عليه.

وقال شيخنا في نهايته : فإن اختلفا في شي ء ، كان على صاحبها البيّنة ، فإن لم يكن له بيّنة ، كان القول قوله مع يمينه ، فإن لم يحلف وردّ اليمين على المستأجر منه ، لزمه اليمين ، أو يصطلحا على شي ء ، والحكم فيما سوى الدابة ، ممّا يقع الخلف فيه بين المستأجر والمستأجر منه ، إن كانت البيّنة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه (1).

والصحيح أنّه لا فرق بين الدابة وغيرها في ذلك ، فالمفرّق يحتاج إلى دليل.

ومتى استأجر دابة ففرط في حفظها ، أو علفها ، أو سقيها ، فهلكت ، أو عابت ، كان ضامنا لها ، ولما يحدث فيها من العيب.

والصانع إذا تقبّل عملا بشي ء معلوم ، جاز له أن يقبله لغيره بأكثر من ذلك ، إذا كان قد أحدث فيه حدثا ، وإن لم يكن أحدث فيه حدثا لم يجز له ذلك ، وإن قبل غيره بإذن صاحب العمل ، ثمّ هلك ، لم يكن عليه شي ء ، فإن

ص: 465


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات ، وفيه : فان اختلفا في الثمن إلخ.

قبله من غير إذن ثمّ هلك كان المتقبّل الأوّل ضامنا له ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته بهذه العبارة ، وهي قوله : والصانع إذا تقبّل عملا بشي ء معلوم ، جاز له أن يقبله لغيره بأكثر من ذلك ، إذا كان قد أحدث فيه حدثا (1).

قال محمّد بن إدريس : الذي يتبادر إلى الخاطر ، أنّ قوله رحمه اللّه : « بأكثر من ذلك » غلط لا وجه له ، لأنّ الإنسان إذا تقبل خياطة ثوب مثلا بدينار ، ثمّ قبله لغيره بأكثر من الدينار ، فيحتاج أن يغرم من عنده شيئا آخر على الأجرة ، ومقصوده أن يستفضل من الأجرة المتقبل بها ، فهذا الذي يسبق إلى الأوهام ، من عبارته رحمه اللّه في هذا الموضع ، ومقصوده رحمه اللّه خلاف هذا ، وهو أنّ الصانع الأول يستفضل من الأجرة الأولة لنفسه ، ويعطي الصانع الثاني بعضها.

والدليل على ذلك ، ما أورده رحمه اللّه من الأخبار ، في كتاب تهذيب الأحكام ، عنه عن عليّ بن الحكم ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، عن أبي حمزة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : سألته عن الرجل يتقبّل العمل ، فلا يعمل فيه ، ويدفعه إلى آخر يربح فيه ، قال : لا بأس (2).

الحسين بن سعيد ، عن صفوان ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما السلام قال : سألته عن الرجل الخياط ، يتقبّل العمل فيقطعه ويعطيه من يخيطه ، ويستفضل ، فقال : لا بأس ، قد عمل فيه (3).

عنه عن صفوان ، عن الحكم الخياط قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، أتقبّل الثوب بدرهم ، وأسلّمه بأقلّ من ذلك ، لا أزيد على أن أشقّه ، قال : لا بأس بذلك ، ثمّ قال : لا بأس فيما تقبّلت من عمل ، ثمّ استفضلت (4).

ص: 466


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.
2- التهذيب : ج 7 ص 210 باب الإجارات ح 5 و 6 و 7 ولكن الموجود في ح 5 « لا » راجع الوسائل الباب 23 من أبواب الإجارات.
3- التهذيب : ج 7 ص 210 باب الإجارات ح 5 و 6 و 7 ولكن الموجود في ح 5 « لا » راجع الوسائل الباب 23 من أبواب الإجارات.
4- التهذيب : ج 7 ص 210 باب الإجارات ح 5 و 6 و 7 ولكن الموجود في ح 5 « لا » راجع الوسائل الباب 23 من أبواب الإجارات.

عنه عن صفوان ، عن أبي محمّد الخيّاط ، عن مجمع ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، أتقبّل الثياب ، أخيطها ، ثمّ أعطيها الغلمان بالثلثين ، فقال : أليس تعمل فيها؟ قلت : أقطعها ، وأشتري لها الخيوط ، قال : لا بأس (1).

عنه عن عليّ بن النعمان ، عن ابن مسكان ، عن علي الصائغ قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، أتقبّل العمل ، ثمّ أقبله من غلمان يعملون معى بالثلثين ، فقال : لا يصلح ذلك ، إلا أن تعالج معهم فيه ، قلت : فإنّي أذيبه لهم ، قال : فقال : ذاك عمل ، فلا بأس (2).

فهذا يوضح ما قلناه ، ويؤيد ما حرّرناه ، والاعتذار لشيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه فيما أورده من عبارته في قوله : « بأكثر من ذلك » أن يجعل « من » زائدة ، أو نجعلها لا زائدة ، بل المراد بأكثر من بعض ذلك ونجعلها للتبعيض ، ولا يحتاج إلى الحذف ، فيحمل الكلام على حقيقته ، فإذا قلنا أنّها زائدة ، كان الكلام مجازا ، والكلام في الحقائق ، دون المجاز ، لأنّه لا يجوز العدول عن الحقيقة إلى المجاز ، إلا لضرورة ، أو دليل يضطر إليه ، فإذا جعلناها مبعضة ، كانت حقيقة في معناها ، ولو استعمل شيخنا رحمه اللّه غير هذه العبارة ، وأتى بالعبارة التي في الأخبار ، من قول السائل للإمام عليه السلام : « وأسلّمه بأقل من ذلك » استراح وأراح من يعتذر له من الاعتذار.

والذي ينبغي تحصيله وتحريره في هذا جميعه ، أنّه لا يخلو الإجارة امّا أن تكون معيّنة بعمله ، أو في ذمته ، فإن كانت معيّنة بعمله ، فلا يجوز له أن يعطيه لغيره يعمله ، وإن كانت الإجارة على تحصيل العمل لا بنفسه ، فله أن يحصل العمل له بنفسه أو بغيره ، إلا أنّه في المسألتين معا يكون ضامنا إذا سلّمه لغيره وهلك ، لأنّ صاحبه لم يرض بأمانة غيره.

ص: 467


1- التهذيب : ج 7 ص 211 باب الإجارات ح 8 و 9 ، راجع الوسائل الباب 23 من أبواب الإجارات.
2- التهذيب : ج 7 ص 211 باب الإجارات ح 8 و 9 ، راجع الوسائل الباب 23 من أبواب الإجارات.

والملّاح ضامن لما يحمله إذا غرق بتفريط من جهته ، فإن غرقت السفينة بالريح أو غير ذلك من غير تفريط منه ، لم يكن عليه شي ء.

والمكاري مثل الملّاح ، يضمن ما يفرّط فيه ، وما لا تفريط فيه ، لم يكن عليه شي ء في هلاكه.

ومتى اختلف المكتري والمكاري في هلاك شي ء ، وهل وقع فيه تفريط أم لا؟ كانت البيّنة على المدّعي ، واليمين على المدّعى عليه.

وإذا اختلف صاحب المتاع والصانع في التفريط ، كان على صاحب المتاع البيّنة ، فإن لم يكن له بيّنة ، فعلى الصانع اليمين.

وروي أنّ من استأجر أجيرا لينفذه في حوائجه ، كان ما يلزم الأجير من النفقة على المستأجر دون الأجير ، فإن شرط عليه أن تكون نفقته عليه ، كان ذلك جائزا (1) ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) على ما روي.

والذي يقوى في نفسي ، أنّ النفقة لا تلزم إلا الأجير ، دون المستأجر على كلّ حال ، لأنّه إنّما يستحقّ الأجرة ، وعليه العمل ، والأصل براءة ذمّة المستأجر ، فمن أوجب النفقة له ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك من كتاب ولا سنّة ، ولا إجماع ، ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد على ما بيّناه.

وينبغي أن لا يستعمل الإنسان أحدا إلا بعد أن يقاطعه على أجرته ، فإن لم يفعل ترك الاحتياط ، ووجبت اجرة المثل.

وإذا فرغ الأجير من عمله وطالب بأجرته ، فلا يجوز تأخيرها ، بل يجب أن يوفّي في حال مطالبته بها ، وإن كان مستحقا لها حال العقد قبل العمل والفراغ : لأنّه بنفس العقد يستحقها على ما قدّمناه ، إلا أن يشترط ذلك على ما بيّناه.

فإن كان قد أعطاه طعاما أو متاعا ، لم يعين (3) سعره ، كان عليه بسعر وقت

ص: 468


1- الوسائل : الباب 10 في أحكام الإجارة ج 13 ص 250.
2- النهاية : كتاب التجارة ، باب الإجارات.
3- ج : ثمّ تغيّر.

إعطاء المال الذي هو المتاع دون وقت المحاسبة.

ومن استأجر مملوك غيره من مولاه ، كان ذلك جائزا ، وتكون الأجرة للمولى دون العبد ، فإن شرط المستأجر للعبد أن يعطيه شيئا من غير علم مولاه ، لم يلزمه الوفاء به ، ولا يحل للمملوك أيضا أخذه ، فإن أخذه وجب عليه ردّه على مولاه ، على ما ذكره شيخنا في نهايته (1).

والأولى عندي أنّه إن أخذه هبة ، فإن كان ذلك القبول منه بإذن مولاه (2) ، كان للمولى ، وإن كان قبوله للهبة بغير إذن مولاه ، كانت الهبة باطلة ، والملك باق على الواهب ، فهذا الذي تقتضيه أصول المذهب والأدلة.

ومن استأجر غيره مدّة معلومة ، وأوقاتا معيّنة ، إجارة معينة ، ليتصرف له في حوائجه ، لم يجز له أن يتصرّف لغيره في شي ء ، إلا بإذن من استأجره ، فإن أذن له في ذلك ، كان جائزا ، لأنّه صارت منافعه في جميع المدّة مستحقّة للمستأجر ، دون نفسه ، ودون غيره.

ومن استأجر مملوك غيره من مولاه ، فأفسد المملوك شيئا ، أو أبق قبل أن يفرغ من عمله ، كان مولاه ضامنا لبقية الأجرة ، دون أرش ما أفسده.

ومن اكترى من غيره دابة على أن تحمل له متاعا إلى موضع بعينه في مدّة من الزمان ، فإن لم يفعل ذلك ، نقص من أجرته ، كان ذلك جائزا ما لم يحط بجميع الأجرة ، فإن أحاط الشرط بجميع الأجرة ، كان الشرط باطلا ، ولزمه اجرة المثل ، هذا على ما روي في بعض الأخبار (3) ، ذكره شيخنا في نهايته (4).

والأولى عندي أنّ العقد صحيح ، والشرط باطل ، لأنّ اللّه تعالى قال : « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » وهذا عقد ، فيحتاج في فسخه إلى دليل ، وإلا فالشرط إذا انضمّ

ص: 469


1- النهاية : كتاب التجارة باب الإجارات ، والعبارة في 4 منقولة بالمعنى.
2- ج : أنه أخذه هبة فإن كان القبول من مولاه.
3- الوسائل : الباب 13 من أحكام الإجارة.
4- النهاية : كتاب التجارة باب الإجارات ، والعبارة في 4 منقولة بالمعنى.

إلى عقد شرعي ، صحّ العقد ، وبطل الشرط ، إذا كان غير شرعي ، وأيضا فلا دليل على ذلك من كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ولا إجماع منعقد ، ولم يورد أحد من أصحابنا هذه المسألة ، إلا هاهنا أعني في النهاية ، لكونه رحمه اللّه جمع فيها ألفاظ الأحاديث المتواترة وغير المتواترة.

واختلف أصحابنا في تضمين الصناع والملاحين والمكارين بتخفيف الياء.

فقال بعضهم : هم ضامنون لجميع الأمتعة ، وعليهم البيّنة ، إلا أن يظهر هلاكه ، ويشتهر بما لا يمكن دفاعه ، مثل الحريق العام ، والغرق والنهب كذلك ، فأمّا ما تجنيه أيديهم على السلع ، فلا خلاف بين أصحابنا انّهم ضامنون له.

وقال الفريق الآخر من أصحابنا وهم الأكثرون المحصّلون : أنّ الصناع لا يضمنون إلا ما جنته أيديهم على الأمتعة ، أو فرّطوا في حفاظه ، وكذلك الملاحون والمكارون والرعاة ، وهو الأظهر من المذهب ، والعمل عليه ، لأنّهم أمناء ، سواء كان الصانع منفردا ، أو مشتركا.

فالأجير المنفرد هو الذي يستأجر مدّة معلومة ، لخياطة أو بناء أو غيرهما من الأعمال ، ويسمّى أيضا الأجير الخاص ، من حيث المعنى ، وهو إذا آجر نفسه رجلا مدّة مقدّرة ، استحق المستأجر منافعه ، وعمله في المدّة المضروبة ، فيلزمه له العمل فيها ، ولا يجوز له أن يعمل فيها لغيره ، ولا أن يعقد على منافعه وعمله في مقدارها.

والمشترك هو الذي يكري نفسه في عمل مقدّر في نفسه ، لا بالزمان ، مثل أن يستأجره ليخيط ثوبا بعينه ، أو يصبغ له ثوبا بعينه ، وما أشبه ذلك ، ولقب مشتركا ، لأنّ له أن يتقبّل الأعمال ، لكلّ أحد في كلّ مدة ، ولا يستحق عليه أحد من المستأجرين منفعة زمان بعينه.

وصاحب الحمّام إذا ضاع من عنده شي ء من الثياب وغيرها ، لم يكن عليه ضمان ، إلا أن يستحفظه صاحبها ، أو يستأجره على حفاظها ، وعلى دخول حمامه ، فيلزمه حفاظها ، ويجب عليه ضمانها إذا فرط في الحفاظ ، فأمّا إذا لم

ص: 470

يستحفظه إيّاها ، ولم يستأجره على ذلك ، وضاعت ، فلا شي ء عليه ، سواء فرّط أو لم يفرّط ، راعاها أو لم يراعها.

ومن حمل متاعا على رأسه فصدم إنسانا ، فقتله أو كسر المتاع ، كان ضامنا لدية المقتول ، ولما انكسر من المتاع.

وإذا استقل البعير أو الدابة بحملهما ، فصاحبهما ضامن لما عليهما من المتاع ، إذا فرّط في مراعاتهما ، وفي حفاظهما ، فأمّا إذا راعاهما ، ولم يفرّط في المراعاة لهما ، فلا شي ء عليه من الضمان.

إذا استأجر مرضعة مدّة من الزمان ، بنفقتها وكسوتها ، ولم يعيّن المقدار ، لم يصح العقد.

إذا استأجر امرأة لترضع ولده ، فمات واحد من الثلاثة ، بطلت الإجارة على المذهبين والقولين اللذين لأصحابنا معا ، لأنّ الصبي إذا مات ، بطلت الإجارة ، وكذلك الامرأة المرضعة ، إذا كانت الإجارة معيّنة بنفسها ، وكذلك موت الأب ، لأنّه المستأجر ، ولا خلاف أنّ موت المستأجر يبطل الإجارة ، هذا إذا كان الصبي معسرا لا مال له.

إذا آجرت المرأة نفسها للرضاع أو لغيره بإذن زوجها ، صحّت الإجارة بلا خلاف ، وإن كان ذلك بغير إذن الزوج ، لم تصحّ الإجارة ، وكانت باطلة ، لأنّ المرأة معقود على منافعها لزوجها بعقد النكاح ، فلا يجوز لها أن تعقد لغيره على منافعها ، فيخل ذلك بحقوق زوجها ، لأنّ له وطؤها في كلّ وقت ، فإذا ثبت أنّ الاستيجار في الرضاع صحيح ، فإن كان المرضع موسرا ، كانت الأجرة من ماله ، لأنّ ذلك من نفقته ، ونفقة الموسر من ماله ، وإن كان معسرا ، كانت من مال أبيه ، لأنّ نفقة المعسر على أبيه.

إذا رزق الرجل من امرأته ولدا ، لم يكن له أن يجبرها على إرضاعه ، لأنّ ذلك من نفقه الابن ، ونفقته على الأب ، وله أن يجبر الأمة ، وأم الولد ، والمدبّرة ، بلا خلاف في ذلك.

ص: 471

فإذا تطوعت الزوجة بإرضاع الولد ، لم يجبر الزوج على ذلك ، وكان له أن يمنعها منه ، لأنّ الاستمتاع الذي هو حقّ له ، يخلّ باشتغالها بالرضاع ، فكان له منعها من ذلك.

وإن تعاقدا عقد الإجارة على رضاع الولد ، لم يصحّ ، لأنّها أخذت منه عوضا في مقابلة الاستمتاع ، وعوضا آخر في مقابلة التمكين من الاستمتاع ، فأمّا إذا بانت منه ، صحّ أن يستأجرها للرضاع ، لأنّها قد خرجت عن حبسه ، وصارت أجنبية.

والأقوى عندي أنّه يصحّ استيجارها على الرضاع ، سواء كانت بائنا ، أو في حباله ، وما ذكرناه ، أوّلا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي ، في مبسوطة (1) ، ولا مانع يمنع من العقد عليها على كلّ حال ، وهذا رأي السيد المرتضى ، وهو الذي يقتضيه أصول مذهبنا.

فإذا بذلت الرضاع متطوّعة بذلك ، كانت أحقّ بالولد من غيرها ، وإن طلبت أكثر من اجرة المثل في الرضاع ، والأب يجد من يتطوع له ، أو من يرضى بأجرة المثل ، لم تكن الأم أولى بالولد من الأب ، وللأب أن يسلّم الولد إلى غيرها ، فإن رضيت بأجرة المثل ، وهو لا يجد إلا بأجرة المثل ، كانت هي أولى ، فإن كان يجد غيرها بدون اجرة المثل ، أو متطوّعة ، كان له أن ينزعه من يدها.

إذا آجر عبده مدّة معلومة ، ثمّ إنّه أعتقه ، نفذ عتقه فيه ، لأنّه مالك الرقبة ، كما لو أعتقه قبل الإجارة ، فإذا ثبت ذلك ، فالإجارة بحالها ، وهي لازمة للعبد ، وهل له أن يرجع على السيد بأجرة المثل لما يلزمه بعد الحرية؟ قيل : فيه قولان ، أحدهما يرجع بأجرة المثل في تلك المدّة ، والآخر لا يلزمه (2) ، وهو الصحيح ، لأنّه لا دليل عليه ، والأصل براءة الذمّة.

إذا آجر الأب أو الوصيّ أو الوليّ الصبي أو شيئا من أمواله ، صحّ ذلك ، كما يصحّ بيع ماله (3) ، فإذا بلغ وقد بقي من مدّة الإجارة بعضها ، لم يكن له فسخها فيما بقي.

ص: 472


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإجارات ، ص 239.
2- ج : يلزمه.
3- ج : أمواله.

إذا آجر عبده سنة معلومة ، فمات العبد بعد استيفاء منافعه ستة أشهر ، فلا خلاف أنّ العقد فيما بقي بطل ، وفيما مضى لا يبطل عندنا ، وفي المخالفين من قال يبطل ، مبنيا على تفريق الصفقة.

فإذا ثبت ما قلناه ، من أنّ الإجارة صحيحة فيما مضى ، وباطلة فيما بقي ، فهو بالخيار بين أن يطالب بأجرة المثل ، وبين ترك المطالبة ، فإن طالب ، فإن كان اجرة ما بقي مثل اجرة ما مضى ، فإنّه يأخذه ، وإن كان فيما بقي من المدة أجرته أكثر ممّا مضى ، فإنّه يستحق تلك الزيادة ، وذلك مثل أن تكون أجرة المدّة التي مضت ، مائة درهم ، ومدّة ما بقي (1) مائتين ، فإنّه يستحق عليه مائتين ، وبعكس هذا إن كان اجرة المدّة التي مضت مائتين ، ومدّة الباقي (2) مائة ، فإنّه يستحقّ مائة. وهكذا في اجرة الدار ، إذا آجر دارا ثمّ انهدمت حرفا فحرفا.

الإجارة على ضربين ، معيّنة وفي الذّمة ، فالمعيّنة أن يستأجر دارا ، أو عبدا ، شهرا أو سنة ، وفي الذمة أن يستأجر من يبني له حائطا ، أو يخيط له ثوبا ، وكلاهما لا يمنع من دخول خيار الشرط مانع ، لقوله عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم ».

إذا اكترى دابة ، نظرت ، فإن كان اكتراها ليحمل عليها الأمتعة ، فالسوق على المكاري ، وإن كان ليركب عليها ، فالسوق عليه ، دون المكاري ، فإن اختلفا في النزول ، فقال المكاري : ينزل في طرف البلد موضعا يكون قريبا إلى الماء والكلاء ، وقال المكتري : لا ، بل ننزل في وسط البلد ، حتى يكون متاعي محفوظا ، فإنّه لا يلتفت إلى قول واحد منهما ، ويرجع فيه إلى العادة والعرف.

وإذا اكترى بهيمة وذكر أنّها تتعبه ، وتكدّه ، فإن كان ذلك من جهة أنّه لا بصر له بعادة الركوب ، لم يلزم المكاري شي ء ، وإن كان من جهة البهيمة ، نظر ، فإن كان اكتراها بعينها ، كان له ردّها ، وليس له أن يستبدل بها غيرها ،

ص: 473


1- ل : واجرة ما بقي.
2- ل : واجرة الباقي.

ويكون ذلك عيبا يردّها به ، وإن كان اكتراها في الذمة ، ردّها وأخذ بدلها.

وعلى الجمّال ان يبرك البعير لركوب المرأة ، لأنّها ضعيفة الخلقة ، فلا تتمكّن من الصعود للركوب ، ولا من النزول ، ولأنّها عورة ربما تكشفت ، والرجل إذا كان مريضا فكذلك ، وإن كان صحيحا لم يلزم الجمّال أن يبركه لركوبه ونزوله ، وأمّا صلاة الفريضة فإنّه يلزمه أن يبركه لفعلها ، لأنّها لا يجوز عليها إلا لضرورة شديدة ، فأمّا صلاة النافلة ، وأكل المكتري ، وشربه ، فلا يلزمه أن يبركه لأجله ، لأنّه يتمكّن من ذلك ، وهو راكب.

وليس للمصلّي الفريضة إذا نزل ، أن يطوّل صلاته ، بل يصلّي صلاة المسافر صلاة الوقت فحسب ، غير انه يتم الأفعال ، ويختصر الأذكار ، لأنّ حقّ الغير تعلّق به.

إذا اختلف الراكب والمكاري في قيد المحمل ، فقال الراكب : ضيّق القيد المقدّم ، ووسع المؤخر ، لأنه أخفّ على الراكب ، وأثقل على الجمل ، وقال المكاري : خلاف ذلك ، لا يقبل قول أحدهما ، ولكنه يجعل مستويا ، فلا يكون مكبوبا ولا مستلقيا.

وإن اختلفا في السير ، فقال الراكب : نسير نهارا ، فإنّه أصون للمتاع ، وقال المكاري : نسير ليلا ، لأنّه أخفّ للبهيمة ، فإن كانا شرطا السير في وقت معلوم ، إمّا ليلا أو نهارا ، حملا عليه ، وإن كانا أطلقا ذلك ، فإن كان للسير في تلك المسافة عادة ، حملا على العادة ، لأنّ الإطلاق يرجع إلى العادة.

إذا ضرب الراكب البهيمة في السوق ، فتلفت ، فإن كان ضرب العادة ، فلا شي ء عليه من الغرم ، وإن كان خارجا عن العادة ، ضمنها ، وكذلك الرائض.

الراعي مؤتمن ، فلا يضمن إلا ما يفرّط في حفاظة ، فأمّا ضربه للبهيمة فعلى ما قلناه في الراكب ، يحمل على العادة ، فإن كان الضرب خارجا عن العادة ، ضمن.

المعلّم إذا ضرب للتأديب ضربا معتادا ، فتلف الصبي ، وجبت الدية في ماله ، وكذلك الكفارة ، ولا قود عليه في ذلك ، فإن كان خارجا عن العادة ، وجب عليه القود.

إذا سلم رجل إلى الخياط ثوبا ، فقطعه الخياط قباء ثمّ اختلفا ، فقال

ص: 474

صاحبه : أذنت لك في قطعه قميصا ، فقطعته قباء ، وقال الخياط : بل أذنت في قطعه قباء ، فالقول في ذلك قول ربّ الثوب ، دون الخياط ، لأنّ الثوب له ، والخياط مدّع للإذن في قطع القباء ، فعليه البيّنة.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل الخلاف في كتاب الوكالة : القول قول الخياط (1) ، إلا أنّه رجع عن ذلك أيضا ، في مسائل الخلاف ، في كتاب الإجارات ، وقال : القول في ذلك ، قول صاحب الثوب (2) ، وهذا هو الصحيح.

يجوز إجارة الدراهم والدنانير ، لأنّه لا مانع منه ، ولأنّه يصحّ الانتفاع بها ، من غير استهلاك عينها ، مثل الجمال ، والنظر ، والزينة ، وكذلك يجوز إجارة الحلي من الذهب والفضة ، لما قدّمناه ، فإذا ثبت ذلك ، فيحتاج أن يعيّن جهة الانتفاع بها ، فإن عيّن ، صحّ ، وإن أطلق ، لم تصحّ الإجارة ، ويكون قرضا ، هكذا قال شيخنا في مبسوطة (3).

ولو قلنا إنّه تصح الإجارة ، سواء عيّن جهة الانتفاع أو لم يعيّن ، كان قويا ، إذ لا مانع منه ، ولا يكون قرضا ، لأنّه استأجرها منه ، ومن المعلوم أنّ العين المستأجرة ، لا يجوز التصرّف في ذهاب عينها ، بل في منافعها ، فيحمل الإطلاق على المعهود في الشرع والعرف.

والذي يقوى في نفسي بعد هذا جميعه ، أنّ الدنانير والدراهم لا يجوز إجارتها ، لأنّه في العرف المعهود لا منفعة لها إلا بإذهاب أعيانها ، وأيضا فلا خلاف أنّه لا يصحّ وفقهما ، فلو صحّ إجارتهما ، صحّ وقفهما ، فأمّا المصاغ منهما ، فإنّه يصحّ إجارته ، لأنّ له منفعة يصحّ استيفاؤها مع بقاء عينه ، وربما حققنا القول في ذلك ، وأشبعناه في آخر الباب ، إن شاء اللّه تعالى.

يجوز إجارة كلب الصيد والماشية ، والحائط ، والزرع ، لأنّه لا مانع منه ،

ص: 475


1- الخلاف : كتاب الوكالة ، المسألة 11.
2- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 34.
3- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإجارات ، ص 250.

ولأنّ بيع هذه الكلاب عندنا يصحّ ، وما يصحّ بيعه يصحّ إجارته.

ويجوز إجارة السنّور ، لاصطياد الفار ، لأنّه لا مانع منه.

إذا استأجره ليطحن حنطة معلومة بمكوك دقيق منها ، كان صحيحا ، والأولى أن يكون المكوك مشاعا غير مقسوم ، فيكون جزء منها ، عشرا أو أكثر ، أو أقلّ ، فإذا عقد العقد استحقّ المكوك ، وصار شريكا قبل الطحن ، فأمّا إذا قال بمكوك دقيق منها بعد طحنها ، فهذا ليس بمضمون ، والأجرة ينبغي أن تكون مضمونة في الذمة ، أو معلومة مشاهدة مسلّمة مستحقّة.

إذا استأجر راعيا ليرعى له غنما بأعيانها ، جاز العقد ، ويتعيّن في تلك الغنم بأعيانها ، وليس له أن يسترعيه أكثر من ذلك ، وإن هلكت لم يبدلها ، وانفسخ العقد بينهما فيها ، وإن هلك بعضها ، لم يبدله ، وانفسخ العقد فيه ، وإن نتجت ، لم يلزمه أن يرعى نتاجها ، لأنّ العقد يتناول العين ، واختص بها ، دون غيرها ، فأمّا إذا أطلق ذلك ، واستأجره ليرعى له غنما مدة معلومة ، فإنّه يسترعيه القدر الذي يرعاه الواحد في العادة من العدد ، فإذا كانت العادة مائة ، استرعاه مائة ، ومتى هلك شي ء منها أو هلكت كلّها ، كان له إبدالها ، وإن ولدت كان عليه أن يرعى سخالها معها ، لأنّ العادة في السخال أن لا تنفصل عن الأمهات في الرعي.

إذا اكترى بهيمة ليقطع بها مسافة معلومة ، فأمسكها قدر قطع تلك المسافة ، ولم يسيّرها فيها ، استقرّت عليه الأجرة فإذا انقضت المدّة في الإجارة ، استوفى المكتري حقّه ، أو لم يستوف.

وهل يصير ضامنا بعد مضى المدة وقبل تسليمها إلى صاحبها من غير أن يطلبها صاحبها ، أم لا؟ قال قوم : يصير ضامنا ويجب عليه الرد ، وقال آخرون : لا يصير ضامنا ولا يجب عليه الرد ، إلا بعد مطالبة صاحبها بالرد ، لأنّ هذه أمانة ، فلا يجب ردّها إلا بعد المطالبة ، مثل الوديعة ، وهذا الذي يقوى عندي ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشي ء ، يحتاج إلى دليل.

ص: 476

واختار شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة ، القول الأوّل ، واحتج بأن قال : وإنّما قلنا ذلك ، لأنّ ما بعد المدّة غير مأذون له في إمساكها. ومن أمسك شيئا بغير إذن صاحبه ، وأمكنه الرد ، فلم يردّ ، ضمن ، ثمّ قال : وفي الناس من قال لا يضمن ، ولا يجب عليه الرد ، وأكثر ما يلزمه أن يرفع يده عن البهيمة ، إذا أراد صاحبها أن يسترجعها ، لأنّها أمانة في يده ، فلم يجب عليه ردّها مثل الوديعة (1).

وهذا الذي اخترناه ، وهو الصحيح ، فأمّا ما تمسك به شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في نصرة ما ذهب إليه واختاره ، بما ذكره فبعيد ، ويعارض بالرهن ، إذا قضى الراهن الدين ، ولم يطالب بردّ الرهن ، وهلك ، فلا خلاف أنّ المرتهن لا يكون ضامنا ، وإن كان قال للمرتهن : أمسك هذا الرهن إلى أن أسلّم إليك حقّك ، فقد أذن له في إمساكه هذه المدة ، ولم يأذن فيما بعدها نطقا ، بل بقي على أمانته على ما كان أولا فكذلك في مسألتنا.

ولا يجوز إجارة الأرض للزراعة ببعض ما يخرج منها ، لأنّ ذلك غرر.

قد قلنا : إنّه إذا اختلف المكتري والمكري في قدر الأجرة ، فالقول قول المكتري مع يمينه ، فأمّا قدر الانتفاع والمدة فالقول قول المكري مع يمينه ، لأنّه المدّعي عليه ، بخلاف الأجرة ، لأن في الأجرة يكون مدعيا ، فيحتاج الى بيّنة ، والمكتري يكون مدّعى عليه ، فالقول قوله مع يمينه.

ذكر شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، مسألة فقال : إذا استأجره ليخيط له ثوبا بعينه ، فقال : إن خطته اليوم فلك درهم ، وإن خطته غدا فلك نصف درهم ، صحّ العقد فيهما ، فإن خاطه في اليوم الأوّل ، كان له الدرهم ، وإن خاطه في الغد كان له نصف درهم (2) ، وقال أيضا رحمه اللّه مسألة : إذا استأجره لخياطة ثوب ، وقال : إن خطته روميا - وهو الذي يكون بدر زين - فلك درهم ،

ص: 477


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإجارات ، ص 249.
2- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 39 و 40.

وإن خطته فارسيا - وهو الذي يكون بدرز واحد - فلك نصف درهم ، صحّ العقد (1).

قال محمد بن إدريس : ما ذكره شيخنا في المسألتين غير واضح ، والذي تقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ الإجارة باطلة ، لأنّ الأجرة غير معيّنة ، ولا مقطوع عليها وقت العقد ، ولأنّ المؤجر لم يستحق على المستأجر في الحال (2) عملا بعينه ، فهو بالخيار في ذلك ، ومن شرط صحة الإجارة استحقاق عمل مخصوص على المستأجر للمستأجر ، وعقد الإجارة على هذا التحرير باطل ، فإن عمل كان له اجرة المثل ، ولأنّ عقد الإجارة حكم شرعيّ ، يحتاج في ثبوته إلى دليل شرعي ، فمن أثبته يحتاج إلى دليل ، والأصل براءة الذمة ، وإن قلنا : هذه جعالة كان قويا ، فإذا فعل الفعل المجعول عليه ، استحق الجعل ، كرجل قال : من حج عنّي فله دينار ، فهذه جعالة بلا خلاف.

فأمّا تمسّك شيخنا أبي جعفر في صحّة المسألتين ، فإنّه قال : دليلنا أنّ الأصل جواز ذلك ، والمنع يحتاج إلى دليل ، وقوله عليه السلام : « المؤمنون عند شروطهم » وفي أخبارهم ما يجري مثل هذه المسألة بعينها منصوصة ، وهي أن يستأجر منه دابة على أن يوافي بها يوما بعينه ، فإن لم يواف بها ذلك اليوم ، كان أجرتها أقلّ من ذلك ، وإن هذا جائز ، وهذه مثلها بعينها سواء ، هذا آخر استدلال شيخنا (3).

وما ذكره رحمه اللّه ليس فيه دليل يدفع به خصمه.

أمّا قوله : « الأصل جواز ذلك » بل الأصل براءة الذمم ، فمن شغلها بأمور شرعيّات وعقود لازمات ، والعقد حكم شرعيّ لا عقلي ، يحتاج مثبتة إلى دليل شرعيّ ، والأصل أن لا عقد.

فأمّا قوله : « المؤمنون عند شروطهم » فهو إذا كان الشرط شرعيا ، لا يمنع منه كتاب ولا سنة ، والسنة منعت من الشروط التي تفضي إلى الغرر.

ص: 478


1- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 39 و 40.
2- ل : ولأنّ المستأجر لم يستحق على المؤجر في الحال.
3- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 39.

فأمّا قوله : « وفي أخبارهم ما يجري مثل هذه المسألة بعينها منصوصة » فمذهبنا ترك القياس ، هذا لو كانت المسألة المنصوصة مجمعا عليها ، فكيف وهذا خبر من أخبار الآحاد ، وقد قلنا ما عندنا فيه فيما مضى ، فلا وجه لا عادته.

إذا استؤجر على الكتابة والنسخ ، فانّ المداد والأقلام على الناسخ ، لأنّه استؤجر على تحصيل هذا العمل ، ولا يصحّ له هذا العمل إلا بالقلم والمداد ، وكذلك من استؤجر على خياطة ثوب ، فانّ الخيوط تجب على الخياط ، لأنّ هذا العمل لا يمكن تحصيله إلا بالخيوط والإبرة ، وكذلك من استؤجر على نساجة ثوب ، فانّ الحشو على الحائك ، لمثل ما قدّمناه ، وكذلك الغسال عليه الصابون والأشنان ، أو ما يزيل الوسخ ، ويبيض الثوب.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : يجوز إجارة الدراهم والدنانير (1).

قال محمّد بن إدريس : وهذا غير واضح ، لأنّه بلا خلاف بيننا لا يجوز وقف الدراهم والدنانير ، لأنّ الوقف لا يصح إلا في الأعيان التي يصحّ الانتفاع بها ، مع بقاء أعيانها ، على ما نبيّنه في كتاب الوقوف إن شاء اللّه ، فإذا جاز عنده رضي اللّه عنه إجارتها جاز وقفها ، وهو لا يجوّزه ، وأيضا كان يلزم من هذا أنّ من غصب رجلا مائة دينار ، وبقيت في يد الغاصب سنة ، ثمّ ردّها على المغصوب منه ، أن يلزمه الحاكم باجرتها مدّة السنة ، لأنّ المنافع عندنا تضمن بالغصب ، وهذا لا يقوله أحد منّا ، ولا من الأمة.

وقال رضي اللّه عنه في مسائل خلافه ، أيضا : لا يجوز إجارة حائط مزوّق ، أو محكم للنظر إليه ، والتفرّج به ، والتعلّم منه (2).

قال محمّد بن إدريس : وينبغي أن يقال : إذا كان فيه غرض ، وهو التعلم من البناء المحكم ، تجوز الإجارة كما يجوز إجارة كتاب فيه خط جيد ، للتعلّم منه ، لأنّ فيه غرضا صحيحا ، ولأنّه لا مانع يمنع منه.

ص: 479


1- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 41.
2- الخلاف : كتاب الإجارة ، المسألة 24.

باب الغصب

تحريم الغصب معلوم بأدلة العقل ، والكتاب ، والسنة ، والإجماع.

فإذا ثبت ذلك ، فالأموال على ضربين ، ماله مثل ، وما ليس له مثل ، فما له مثل ، هو الذي يتساوى قيمة أجزائه ، مثل الحبوب ، والأدهان ، والتمور ، وغير ذلك ، والذي لا مثل له ، معناه ما لا يتساوى أجزاؤه ، أي لا يتساوى قيمة أجزائه.

فمن غصب شيئا له مثل ، وجب عليه ردّه بعينه ، فإن تلف ، فعليه مثله ، بدليل قوله تعالى « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ » (1) لأنّ المثل يعرف مشاهدة ، والقيمة يرجع فيها إلى الاجتهاد ، والمعلوم مقدّم على المجتهد فيه ، فإن أعوز المثل ، أخذت القيمة ، فإن لم يقبض القيمة بعد الإعواز حتى مضت مدة اختلفت القيمة فيها ، كان له المطالبة بالقيمة وقت الإقباض وحينه ، لا حين الإعواز ، وإن كان قد حكم بها الحاكم حين الإعواز ، لأنّ الذي ثبت في ذمّته المثل ، بدليل أنّه متى زال الإعواز قبل القبض طولب بالمثل ، وحكم الحاكم بالقيمة لا ينقل المثل إليها ، وإذا كان الواجب المثل ، اعتبر بدل مثله حين قبض المبدل ، ولم ينظر إلى اختلاف القيمة بعد الإعواز ولا قبله.

وإذا غصب مالا مثل له ، ومعناه ما قدّمناه ، كالثياب والرقيق ، والأخشاب ، والحديد ، والرصاص ، وغير ذلك ، وجب أيضا ردّه بعينه ، فإن تعذر ذلك بتلفه وهلاكه وجبت قيمته ، لأنّه لا يمكن الرجوع فيه إلى المثل ، لأنّه إن ساواه في القدر ، خالفه في الثقل ، وإن ساواه فيهما ، خالفه من وجه آخر ، فإذا تعذرت المثلية ، كان الاعتبار بالقيمة ، ويحتج على المخالف بما رووه من قوله عليه السلام : « من أعتق شقصا من عبد ، قوّم عليه » (2) فأوجب عليه السلام القيمة دون المثل.

ص: 480


1- البقرة : 194.
2- مستدرك الوسائل : الباب 48 من كتاب العتق ، ح 3. لكن لفظه هكذا : عن النبيّ صلّى اللّه عليه وآله أنّه قال : من أعتق شقصا من عبد عتق عليه كلّه.

ويضمن الغاصب ما يفوت من زيادة قيمة المغصوب بفوات الزيادة الحادثة فيه ، لا بفعله كالسمن والولد ، وتعلّم الصنعة والقرآن ، سواء ردّ المغصوب أو مات في يده ، لأنّ ذلك حادث في ملك المغصوب منه ، لأنّه لم يزل بالغصب ، وإذا كان كذلك فهو مضمون على الغاصب ، لأنّه حال بينه وبينه ، فإمّا زيادة القيمة لارتفاع السوق فغير مضمونة ، مع الردّ للعين المغصوبة ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى دليل شرعي ، فإن لم يردّها حتى هلكت العين ، لزمه ضمان قيمتها بأكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف ، لأنّه إذا أدّى ذلك ، برئت ذمته بيقين ، وليس كذلك إذا لم يؤدّه.

وإذا صبغ الصباغ الغاصب الثوب بصبغ يملكه ، فزادت لذلك قيمته ، كان شريكا فيه بمقدار الزيادة ، وله قلع الصبغ ، لأنّه عين ماله بشرط أن يضمن ما ينقص من قيمة الثوب ، لأنّ ذلك يحصل بجنايته.

ولو ضرب النقرة دراهم ، والتراب لبنا ونسج الغزل ثوبا ، وطحن الحنطة ، وخبز الدقيق ، فزادت القيمة بذلك ، لم يكن له شي ء ، ولا يستحقّ الغاصب بفعله لجميع ذلك على المغصوب منه شيئا لا اجرة ، ولا غيرها ، لأنّ هذه آثار أفعال ، وليست أعيان أموال ، ولا تدخل العين المغصوبة بشي ء من هذه الأفعال في ملك الغاصب ، ولا يجبر صاحبه على أخذ قيمته ، لأنّ الأصل ثبوت ملك المغصوب منه ، ولا دليل على زواله بعد التغيير ، ويحتج على المخالف بقوله عليه السلام : « على اليد ما أخذت حتى تؤدي » (1) وقوله : « لا يحل مال امرء مسلم إلا بطيب نفس منه » (2).

ص: 481


1- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب الغصب ، ح 4 و 5.
2- الوسائل : الباب 1 من أبواب القصاص ، ح 3 وفيه : لا يحل دم امرء مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه ، وفي مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب الغصب ح 6. والحديث هكذا : المسلم أخو المسلم لا يحل ماله إلا عن طيب نفس منه.

ومن غصب زيتا فخلطه بأجود منه ، فالغاصب بالخيار بين أن يعطيه من ذلك ، ويلزم المغصوب منه قبوله ، لانه تطوع له بخير من زيته ، وبين أن يعطيه مثله من غيره ، لأنّه صار بالخلط كالمستهلك ، وإن خلطه بأردأ منه ، لزمه أن يعطي من غير ذلك ، مثل الزيت الذي غصبه ، ولا يجوز أن يعطيه منه ، وإن خلطه بمثله ، فهو مثل المسألة الاولى ، إن شاء أعطاه من الزيت المخلوط ، وإن شاء الغاصب أعطاه من غيره ، مثل زيته ، لأنّه كالمستهلك ، وقال بعض أصحابنا : إنّه يكون شريكه ، والأوّل هو الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّ عين الزيت المغصوب قد استهلكت ، لأنّه لو طالبه بردّه بعينه ، لما قدر على ذلك.

ومن غصب حبا فزرعه ، أو بيضا فاحتضنها ، فالزرع والفرخ لصاحبهما ، دون الغاصب ، لأنّا قد بيّنا أنّ المغصوب لا يدخل في ملك الغاصب بتغيّره ، خلافا لأبي حنيفة ، لأنّه لا يخرج بالغصب عن ملك المغصوب منه ، وإذا كان باقيا على ملك صاحبه ، فنماؤه المنفصل والمتصل جميعا لصاحبه ، وهذا لا خلاف فيه بين أصحابنا ، لأنّه الذي تقتضيه أصولهم ، ويحكم به عدل أهل البيت عليهم السلام.

واختار شيخنا أبو جعفر الطوسي ، في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، مذهب أبي حنيفة ، وقوّاه ، فقال : مسألة : إذا غصب حبا فزرعه ، أو بيضا فاحتضنتها الدجاجة ، فالزرع والفروج للغاصب ، وبه قال أبو حنيفة وقال الشافعي هما معا للمغصوب منه ، وقال المزني : الفروج للمغصوب منه ، والزرع للغاصب ، دليلنا أن عين الغصب قد تلفت ، وإذا تلفت فلا يلزم غير القيمة ، ومن يقول في الفروج هو عين البيض ، وانّ الزرع هو عين الحبّ ، مكابر ، بل المعلوم خلافه ، هذا آخر كلام شيخنا في نصرة خيرته (1).

قال محمّد بن إدريس : إلا تراه رحمه اللّه لم يستدلّ بإجماع الفرقة ، ولا بالأخبار على عادته ، بل تمسك بشي ء لا فرج لمعتمده ، ولو سلّمنا له أنّ الزرع

ص: 482


1- الخلاف : كتاب الغصب ، المسألة 308.

غير الحب ، فبأيّ شي ء ملك الجميع ، أو المتولد عن العين المغصوبة ، الغاصب؟ بإقرار ، أو بهبة ، أو ببيع ، أو بإرث؟ بل هذا نفس مذهب أبي حنيفة الذي يردّه عليه ويناظره شيخنا أبو جعفر على فساده ، انّ بالتغيير لا يملك الغاصب المغصوب ، بل الملك باق على ربّه ، وتولّد عنه ما تولّد ، ونما ما نما على ملك صاحبه ، حصلت جواهر النماء ، فلا يستحقها أحد سوى صاحبه.

ثمّ إنّ شيخنا أبا جعفر ، ذكر في كتاب العارية في مبسوطة ، ما ينقض قوله ، ويردّ به على نفسه ، وهو أن قال : إذا كان له حبوب فحملها السيل إلى أرض رجل ، فنبتت فيها ، كان ذلك الزرع لصاحب الحب ، لأنّه عين ماله ، كما قلناه فيمن غصب حبا فزرعه ، أو بيضا فحضنها عنده ، وفرّخت ، فإن الزرع والفراخ ، للمغصوب منه ، لأنّهما عين ماله ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة (1).

فقد دخل رحمه اللّه في جملة من يكابر ، لأنّه قال هناك : من قال أنّ الفروج عين البيض ، والزرع هو عين الحب ، مكابر ، بل المعلوم خلافه ، وقال هاهنا الزرع والفراخ للمغصوب منه ، لأنّهما عين ماله.

ورجع شيخنا رحمه اللّه عمّا اختاره من مذهب أبي حنيفة ، في موضع آخر ، في مسائل خلافه ، في الجزء الثالث ، في كتاب الدعاوي والبينات ، فقال : مسألة : إذا غصب رجل من رجل دجاجة ، فباضت بيضتين ، فاحتضنتهما هي ، أو غيرها بنفسها ، أو بفعل الغاصب ، فخرج منهما فروجان ، فالكلّ للمغصوب منه ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة إن باضت عنده بيضتين ، فاحتضنت الدجاجة واحدة منهما ، ولم يتعرض الغاصب لها ، كان للمغصوب منه ما يخرج منها ، وإن أخذ الأخرى فوضعها تحتها أو تحت غيرها ، وخرج منها فروج ، كان الفروج للغاصب ، وعليه قيمته ، دليلنا أنّ ما يحدث عند الغاصب عن العين المغصوبة ، فهو للمغصوب منه ، لأنّ الغاصب لا يملك بفعله شيئا ومن ادّعى

ص: 483


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب العارية ، ص 56.

أنّه إذا تعدّى ملكه ، فعليه الدلالة ، لأنّ الأصل بقاء الملك للمغصوب منه ، هذا آخر كلامه في المسألة رحمه اللّه (1).

وقال السيد المرتضى ، في المسائل الناصريات ، ويعرف أيضا بالطبريات ، في المسألة الثانية والثمانين والمائة : من اغتصب بيضة فحضّنها ، فأفرخت فرخا أو حنطة ، فزرعها فنبتت ، فالفرخ والزرع لصاحبهما ، دون الغاصب ، هذا صحيح ، وإليه يذهب أصحابنا ، والدليل عليه الإجماع المتكرر ، وأيضا فإنّ منافع الشي ء المغصوب لمالكه ، دون الغاصب ، لأنّه بالغصب لم يملكه ، فما تولّد من الشي ء المغصوب ، فهو للمالك دون الغاصب ، وهذا واضح (2) ، هذا آخر المسألة من كلام السيد المرتضى رضي اللّه عنه.

ألا ترى أرشدك اللّه إلى قوله : وإليه يذهب أصحابنا ، ثم قال : والإجماع المتكرر ، فما خالف فيه سوى شيخنا أبي جعفر في بعض أقواله ، وهو محجوج بقوله الذي حكيناه عنه ، في الجزء الثالث من مسائل خلافه ، فإذا لم يكن على خلاف ما ذهبنا إليه إجماع ، ولا دليل عقل ، ولا كتاب ، ولا سنة ، بل دليل العقل قاض بما اخترناه ، وكذلك الكتاب والسنة والإجماع ، فلا يجوز خلافه.

ومن غصب ساجة فأدخلها في بنائه ، لزمه ردّها ، وإن كان في ذلك قلع ما بناه في ملكه ، لمثل ما قدّمناه من الأدلة من قوله عليه السلام : « لا يحل مال امرء مسلم إلا عن طيب نفس منه » (3) وقوله عليه السلام أيضا : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّي » (4) وكذا لو غصب لوحا فأدخله في سفينة ، ولم يكن في ردّه هلاك ماله حرمة ، وعلى الغاصب اجرة مثل ذلك ، من حين الغصب إلى حين الردّ ، لأنّ الخشب يستأجر للانتفاع به ، وكل منفعة تملك بعقد الإجارة ، كمنافع الدار والدابة والعبد ، وغير ذلك ، فإنّها تضمن بالغصب ، بدليل قوله

ص: 484


1- الخلاف : كتاب الدعاوي والبينات ، المسألة 17.
2- الجوامع الفقهية ، ص 254.
3- مستدرك الوسائل : كتاب الغصب ، الباب 1 ، ح 6 و 4 و 5.
4- مستدرك الوسائل : كتاب الغصب ، الباب 1 ، ح 6 و 4 و 5.

تعالى « فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ » (1) والمثل قد يكون من حيث الصورة ، ومن حيث القيمة ، وإذا لم يكن للمنافع مثل من حيث الصورة ، وجبت القيمة.

وإذا غصب أرضا فزرعها ببذر من عنده وماله ، وغرسها كذلك ، فالزرع والشجر له ، لأنّه عين ماله ، وإنّما تغيّرت صفته بالزيادة والنماء ، على ما قدّمناه وحرّرناه ، وعليه أجرة الأرض ، لأنّه قد انتفع بها بغير حقّ ، فصار غاصبا للمنفعة ، فلزمه ضمانها ، وعليه أرش نقصانها ، إن حصل بها نقص ، لأنّ ذلك حصل بفعله ، ومتى قلع الشجر فعليه تسوية الأرض.

وكذا لو حفر بئرا ، أجبر على طمّها ، وللغاصب ذلك ، وإن كره مالك الأرض لما في تركه من الضرر عليه بضمان ما يتردّى فيها ، هكذا ذكره بعض أصحابنا.

والأولى عندي أنّ صاحب الأرض إذا رضي بعد حفره بالحفر ، ومنعه من الطم ، فله المنع ، ولا يكون الحافر ضامنا لما يقع فيها ، لأنّ صاحب الأرض قد رضي ، فكأنّما أمره بحفرها ابتداء.

ومن حل دابة ، فشردت ، أو فتح قفصا ، فذهب ما فيه ، لزمه الضمان ، سواء كان ذلك عقيب الحلّ والفتح ، أو بعد ان وقفا ، لأنّ ذلك كالسبب في الذهاب ، ولولاه لما أمكن ، ولم يحدث سبب آخر من غيره ، فوجب عليه الضمان.

ولا خلاف أنّه لو حلّ رأس الزق ، فخرج ما فيه ، وهو مطروح ، لا يمسك ما فيه من غير الشدّ ، لزمه الضمان ، وقال بعض أصحابنا : ولو كان الزق قائما مستندا ، وبقي محلولا ، حتى حدث به ما أسقطه من ريح ، أو زلزلة ، أو غيرهما ، فاندفق ما فيه ، لم يلزمه الضمان ، لأنّه قد حصل هاهنا مباشرة ، وسبب من غيره (2).

ص: 485


1- البقرة : 194.
2- وهو المستفاد من كلام الشيخ قدس سره في المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 90.

ومن غصب عبدا فأبق ، أو بعيرا فشرد ، فعليه قيمة ذلك ، فإذا أخذها صاحب العبد أو البعير ملكها بلا خلاف ، ولا يملك الغاصب العبد ، فإن عاد انفسخ الملك عن القيمة ، ووجب ردّها ، وأخذ العبد ، لأنّ أخذ القيمة إنّما كان لتعذّر العبد والحيلولة بين مالكه وبينه ، ولم تكن عوضا عنه على وجه البيع ، لأنّا قد بيّنا أنّ ملك القيمة يتعجل هاهنا ، وملك القيمة بدلا عن العين الفائتة بالإباق لا يصحّ على وجه البيع ، لأنّ ذلك يكون فاسدا عندنا على ما قدّمناه ، وعند المخالف أيضا ، وعند بعض المخالفين ، يكون البيع موقوفا فإن عاد العبد تسلّمه المشتري ، وإن لم يعد ردّ البائع الثمن ، ولما ملكت القيمة هاهنا ، والعبد أبق ، ولم يجز الرجوع بها مع تعذر الوصول إلى العبد ، ثبت أنّ ذلك ليس على وجه البيع.

إذا غصب طعاما أو تمرا ، فسوّس ، كان عليه أرش ما نقص ، ولا يجب عليه المثل ، لأنّه لا مثل لما نقص ، فكان الضمان بالأرش.

إذا غصب ما لا مثل له فلا يخلو من أحد أمرين ، إمّا أن يكون من جنس الأثمان ، أو من غير جنسها.

فإن كان من غير جنسها كالثياب والخشب والعقار ، ونحو ذلك ، من الأواني ، فكل هذا وما في معناه مضمون بالقيمة ، فإذا ثبت أنّه مضمون بالقيمة ، فإذا تلف كان عليه قيمته ، فإن تراخى وقت القبض ، لم يكن له إلا القيمة التي ثبتت في ذمته حين التلف ، وإن جنى على هذا جناية ، فأتلف البعض ، مثل خرق الثوب ، أو كسر الآنية على وجه ينتفع بهما فيما بعد ، فعليه ما نقص ، فهو أرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، لا شي ء له غيره.

فإن كان من جنس الأثمان ، لم يخل من أحد أمرين ، إمّا أن يكون فيه صنعة ، أو لا صنعة فيه ، فإن كان ممّا لا صنعة فيه ، فله مثله وأرش النقص ، سواء كان من جنسه أو لا من جنسه ، لأنّ هذا ليس ببيع حتى يقال انّه ربا ، فإن كان فيها صنعة ، فامّا أن يكون استعمالها مباحا ، أو محظورا.

ص: 486

فإن كان استعمالها مباحا كحلي النساء ، وحلي الرجال ، مثل الخواتيم ، والمنطقة ، وكان وزنها مائة ، وقيمتها لأجل الصنعة مائة وعشرين ، فإذا كان غالب نقد البلد من غير جنسها ، قوّمت به ، لأنّه لا ربا فيه ، وإن كان غالب نقد البلد من جنسها ، مثل أن كانت ذهبا وغالب نقده ذهب ، قيل : فيه قولان ، أحدهما تقوّم بغير جنسها ، ليسلم من الربا ، والقول الآخر ، وهو الصحيح ، أنّه لا يجوز (1) ، لأنّ الوزن بحذاء الوزن ، والفضل في مقابلة الصنعة ، لأنّ للصنعة قيمة غير أصل العين ، بدليل أنّه يصحّ الاستيجار على تحصيلها ، ولأنّه لو كسره إنسان ، فعادت قيمته إلى مائة ، كان عليه أرش النقص فثبت بذلك أنّ الصنعة لها قيمة في المتلفات ، وإن لم يكن لها قيمة في المعاوضات.

وإن كان استعمالها حراما ، وهي آنية الذهب والفضة ، قيل : فيه قولان ، أحدهما اتّخاذها مباح ، والمحرم الاستعمال ، والثاني محظور ، لأنّها إنّما تتخذ للاستعمال ، فمن قال اتّخاذها حرام ، وهو الصحيح ، قال : تسقط الصنعة ، وكانت كالتي لا صنعة فيها ، وقد مضى حكمها.

فأمّا الحيوان فهو على ضربين ، آدمي وغير آدمي فأمّا غير الآدمي فهو كالثياب والخشب (2) وما لا مثل له ، فإن أتلفها فكمال القيمة ، وإن جنى عليها فقيمة ما نقص تقوّم بعد الاندمال ، فيكون عليه ما بين قيمته صحيحا قبل الاندمال ، وجريحا بعد الاندمال ، فهو كالثياب سواء ، وإنّما يختلفان من وجه واحد ، وهو أنّ الجناية على الثياب لا تسري إلى باقية والجناية على البهيمة تسري إلى نفسها ، ولا تختلف باختلاف المالكين ، ولا باختلاف المملوك أو المالك ، فعلى هذا التحرير سواء كانت البهيمة للقاضي ، أو لغير القاضي.

وهذا الذي يقوى في نفسي ، لأنّ إلحاق أحكام البهائم في الجنايات

ص: 487


1- ج : يجوز. وهو الظاهر كما يشهد به التعليل.
2- ج : كالثياب.

والأروش والديات والمقدرات ببني آدم ، يحتاج إلى دليل قاطع للعذر ، ولا يرجع في مثل ذلك إلى أخبار الآحاد ، لأنّه قد روي في بعض الأخبار ، أنّ في عين البهيمة ربع قيمتها (1).

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : نصف قيمتها (2) ، وربع قيمتها ذكره في نهايته (3) ، واختار في مبسوطة (4) ما ذهبنا إليه ، ورجع عمّا ذكره في الكتابين المشار إليهما ، وهو الصحيح الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّه جنى على مال ، فنقص بجنايته ، فيجب عليه أرش ما نقص ، من غير زيادة ولا نقصان.

إذا غصب عبدا قيمته ألف ، فخصاه ، فبلغ ألفين ، ردّه وقيمة الخصيتين ، لأنّه ضمان مقدّر ، وقيمتهما قيمة العبد.

المقبوض عن بيع فاسد : لا يملك بالبيع الفاسد شي ء ، ولا ينتقل به الملك بالعقد ، فإذا وقع القبض لم يملك به أيضا ، لأنّه لا دليل عليه ، وإذا لم يملك به كان مضمونا ، فإن كان المبيع قائما ردّه ، وإن كان تالفا ردّ بدله ، إن كان له مثل ، وإلا قيمته ، لأنّ البائع دخل على أن يسلّم له الثمن المسمّى في مقابلة ملكه ، فإذا لم يسلّم له المسمّى ، اقتضى الرجوع إلى عين ماله ، فإذا ثبت هذا كلّه فالكلام في الأجرة والزيادة في العين.

فأمّا الأجرة ، فإن كان لها منافع تستباح بالإجارة ، كالعقار والثياب والحيوان ، فعليه اجرة المثل مدة بقائها عنده ، فأمّا الكلام في الزيادة كالسمن ، وتعليم القرآن ، والصنعة ، فهل يضمن ذلك أم لا؟ فالصحيح أنّه يضمنها.

ومن غصب جارية حاملا ضمنها وجملها.

إذا غصب جارية فوطأها الغاصب ، فإنّ جملة الأمر وعقد الباب أنّه ، إذا زنى الرجل بامرأة فلا يخلو إمّا أن تكون جارية لغيره ، أو حرّة ، فإن كانت جارية

ص: 488


1- الوسائل : الباب 47 من أبواب ديات الأعضاء.
2- الخلاف : كتاب الغصب ، المسألة 4.
3- النهاية : كتاب الديات ، باب الجنايات على الحيوان ، والعبارة هكذا : وفي عين البهيمة إذا فقئت ربع قيمتها على ما جاءت به الآثار.
4- المبسوط : ج 3 ، كتاب الغصب ، ص 62.

للغير ، فلا يخلو أن تكون ثيبا أو بكرا ، فإن كانت ثيبا فلا يخلو إمّا أن تكون مكرهة أو مطاوعة.

فإن كانت مطاوعة فلا شي ء لسيّدها على الزاني ، لأنّ الرسول عليه السلام نهى عن مهر البغي (1).

وإن كانت مكرهة فيجب على الزاني لسيّدها مهر أمثالها ، وذهب بعض أصحابنا إلى أنّ عليه نصف عشر ثمنها ، والأول هو الصحيح ، لأنّ ذلك ورد في من اشترى جارية ووطأها وكانت حاملا ، وأراد ردّها على بائعها ، فإنّه يردّ نصف عشر ثمنها (2) ، ولا يقاس غير ذلك عليه.

فأمّا إن كانت بكرا ، فلا يخلو إمّا أن تطاوع ، أو تغصب وتكره على الفعال ، فإن كانت مكرهة فعليه مهر أمثالها ، وعليه ما نقص من قيمتها قبل افتضاضها ، يجمع ما بين الشيئين بين المهر وما نقص من القيمة من الأرش ، لأنها غير بغي.

وإن كانت مطاوعة فلا يلزم المهر ، بل يجب عليه ما نقص من قيمتها من الأرش ، والمهر لا يلزم لأنّها هاهنا بغي ، والرسول عليه السلام نهى عن مهر البغي.

فأمّا إن كانت المزني بها حرة ، فإن كانت ثيبا ، وكانت مطاوعة عاقلة ، فلا شي ء لها على الزاني بها ، وإن كانت مكرهة ، فيجب عليه مهر أمثالها ، لأنّها غير بغي.

وإن كانت بكرا وكانت مطاوعة فلا شي ء لها ، وإن كانت مكرهة فلها مهر نسائها فحسب.

إذا غصب خفين قيمتهما عشرة ، فتلف أحدهما ، وكانت قيمة الباقي ثلاثة ، ردّه ، وقيمة التالف خمسة ، وما نقص بالتفرقة وهو درهمان ، فيرد الباقي ومعه سبعة ، لأنّ التفرقة جناية منه ، فيلزمه ما نقص بها.

إذا غصب دارا أو دابة ، سكنها أو لم يسكنها ، ركبها أو لم يركبها ، ومضت

ص: 489


1- من لا يحضره الفقيه : ج 4 ، الباب 1 ذكر جمل من مناهي النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم.
2- الوسائل : الباب 5 من أبواب أحكام العيوب ، ح 7 و 8 و 9.

مدة يستحق لمثلها اجرة ، لزمته الأجرة ، لأنّ المنافع تضمن بالغصب عندنا.

فإن غصب عصيرا فصار خمرا ، ثم صار خلّا ، ردّ الخل بحاله ، وليس عليه بدل العصير ، لأنّ هذا عين ماله ، فإن كان قيمة الخل قيمة العصير ، أو أكثر ، ردّه ولا شي ء عليه ، وإن كان أقلّ من ذلك ردّه وما نقص من قيمة العصير.

إذا غصب جارية فهلكت ، فعليه أكثر ما كانت قيمتها من حين الغصب إلى حين الهلاك والتلف.

فإن اختلفا في مقدار القيمة ، فالقول قول الغاصب مع يمينه ، لأنّ الأصل براءة ذمته ، ولقوله عليه السلام : « البينة على المدّعى واليمين على المدعى عليه » (1) والغاصب منكر.

وإن اختلفا فقال الغاصب : كانت معيبة برصاء ، أو جذماء ، وغير ذلك ، فالقول قول المالك ، لأنّ الأصل السلامة ، والغاصب يدّعي خلاف الظاهر ، فإن كان بالعكس من هذا ، فقال السيد : كانت صانعة ، أو تقرأ القرآن ، فأنكر الغاصب ذلك ، فالقول قول الغاصب ، لأنّ الأصل انّ لا صنعة ولا قراءة.

إذا غصب منه مالا مثلا بمصر ، فلقيه بمكة ، فطالبه به ، فإن كان المال له مثل ، فله مطالبته ، سواء اختلفت القيمة في البلدين ، أو اتفقت ، وإن كان لا مثل له ، فله مطالبته بقيمته يوم الغصب ، دون يوم المطالبة ، إذا أهلكه وأتلفه في يوم غصبه ، فإن بقي في يده ، فعليه أكثر القيم إلى يوم الهلاك.

فأمّا ماله مثل ، فعليه مثله يوم المطالبة ، تغيّرت الأسعار أو لم تتغيّر ، فإن أعوز المثل ، فله قيمته يوم إقباضها ، هذا تحقيق القول ، والذي تقتضيه أصول مذهبنا.

وقد ذكر شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (2) ، تفاصيل مذهب المخالفين ، ونقله

ص: 490


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب كيفية الحكم.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب الغصب ، ص 76.

ابن البراج في تصنيفه على غير بصيرة (1).

ولأنّ المغصوب منه ، لا يجب عليه الصبر إلى حين العود إلى مصر ، بل يجب على الغاصب ردّ مثل الغصب إن كان له مثل ، أو قيمته إن لم يكن له مثل ، فانّ هذا الذي يقتضيه عدل الإسلام والأدلة ولا يعرج إلى خلافه بالآراء والاستحسان.

والكلام في القرض ، كالكلام في الغصب سواء ، لا يفترقان.

وكذلك الكلام إن كان الحق وجب له عن سلم.

وقال بعض أصحابنا : لم يكن له مطالبته به بمكة ، لأنّ عليه أن يوفيه إيّاه في مكان العقد ، والذي ذكره بعض أصحابنا حكاية قول المخالفين ، دون أن يكون ذلك قولا تقتضيه أصول مذهبنا ، أو وردت به أخبارنا.

إذا غصب شيئا ، لم يملكه ، غيره عن صفته التي هو عليها أو لم يغيره ، مثل إن كان حنطة فطحنها ، فإنّه لا يملك الدقيق ، وإن أخذ من غيره عصيرا ، فاستحال خلا أو خمرا ، ثمّ استحال خلا في يده ، ردّه عليه ، لأنّه عين ماله ، ولا يملكه بتغيّره واستحالته في يده ، على ما قدّمناه.

ما يتسلم على طريق السوم ، فإنّه مضمون على الآخذ له ، أو على أنّه بيع صحيح ، فكان فاسدا ، أو عارية بشرط الضمان ، أو بلا شرط الضمان ، وتكون العارية فضة أو ذهبا.

وإذا غصب خبزا فأطعمه مالكه من غير إعلام له أنّه خبزه ، وجب عليه الضمان ، فإن كان الآكل غير مالكه ، ولم يعلمه بأنّه غصب ، كان المغصوب منه بالخيار بين أن يرجع على الغاصب ، أو على الآكل ، فإن رجع على الغاصب ، فلا يرجع الغاصب على الآكل ، وإن رجع على الآكل ، فللآكل الرجوع على الغاصب ، لأنّه غرّه.

ص: 491


1- وهو المهذب ، في ج 1 ، كتاب الغصب والتعدّي ، ص 243.

وكذلك إذا غصب حطبا ، فاستدعى مالكه ، فقال له : اسجر به التنور ، أو غير صاحبه ، مثل الخبز ، حرفا فحرفا ، « اسجر به التنور » بالسّين غير المعجمة ، يقال : سجرت التنور ، اسجره سجرا ، إذا أحميته ، وسجرت البحر ملأته ، ومنه البحر المسجور.

إذا غصب شاة فأنزى عليها فحل نفسه فأتت بولد ، كان لصاحب الشاة ، لا حق لصاحب الفحل في الولد ، لأنّ الولد يتبع الام وجزء منها ونماؤها ، فإن كان غصب فحلا فأنزاه على شاة نفسه ، فالولد لصاحب الشاة ، وعليه اجرة الفحل عندنا ، وإن كان الفحل قد نقص بالضراب ، فعلى الغاصب أرش النقصان بتعديه.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : فأمّا أجرة الفحل فلا تجب على الغاصب : لأنّ النبيّ عليه السلام نهى عن كسب الفحل (1).

وما ذهبنا إليه هو مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وما قاله وذكره شيخنا في مبسوطة ، حكاية مذهب المخالفين ، فلا يتوهم متوهم عليه أنّه اعتقاده.

إذا غصب عبدا ومات في يده ، أو قتله هو أو غيره ، فللمغصوب منه أكثر ما كانت قيمته إلى يوم الهلاك ، وإن تجاوزت قيمته دية الحر ، فأمّا إذا لم يغصبه وقتله ، فلا يتجاوز بقيمته دية الحر ، فليلحظ الفرق بين المسألتين.

إذا كان في يد مسلم خمر أو خنزير فأتلفه متلف ، فلا ضمان عليه ، مسلما كان المتلف أو مشركا ، فإن كان ذلك في يد ذمي وقد أخرجه وأظهره في دروب المسلمين ، فلا ضمان على المتلف أيضا ، وإن أتلفه في بيته أو في بيعته وكنيسته ، فالضمان عليه عندنا ، مسلما كان المتلف أو مشركا ، والضمان هو قيمة الخمر والخنزير عند مستحليه ، ولا يضمن بالمثلية على حال.

إذا غصب من رجل دارا وباعها ثم ملكها الغاصب بميراث أو هبة أو شراء صحيح ، ثم ادّعى الغاصب على الذي باعها منه ، فقال : اشتريت مني غير

ص: 492


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الغصب ، ص 96.

ملكي ، فالبيع باطل وعليك ردّ الدار ، وأقام البائع الغاصب شاهدين بذلك ، فهل يقبل هذه الشهادة أم لا؟ نظرت ، فإن كان البائع قال حين البيع : بعتك ملكي ، سقطت الشهادة ، لأنّه مكذب لها ، لأنّه قال حين البيع : هي ملكي ، وأقام البيّنة أنّها غير ملكه ، فهو مكذب لها ، وإن كان أطلق البيع ، ولم يقل ملكي ، قبلت هذه الشهادة ، لأنّه قد يبيع ملكه وغير ملكه ، فإذا قامت البينة أنّها لم تكن ملكا له ، لم يكن مكذبا لها ، فقبلت هذه الشهادة ، إلا أن يكون في ضمن البيع ما يدل على أنّها ملكه ، مثل ان قال : قبضت ثمن ملكي ، أو ملكت الثمن في مقابلة ملكي ، فتسقط الشهادة حينئذ أيضا.

إذا ادّعى في يد رجل دارا ، وقال : غصبتها مني ، فأنكر ، فأقام المدّعي شاهدين ، نظرت ، فإن شهد أحدهما أنّه غصبها يوم الخميس ، وشهد الآخر أنّه غصبها يوم الجمعة ، لم تكمل الشهادة ، لأنّها شهادة بغصبين ، لأنّ غصبه يوم الجمعة غير غصبه يوم الخميس ، وهكذا لو شهد أحدهما أنه غصبها ، وشهد الآخر على إقراره بغصبها ، لأنّ الغصب غير الإقرار ، فإن شهد أحدهما على إقراره بذلك يوم الخميس ، وشهد الآخر على إقراره به يوم الجمعة ، كانت الشهادة صحيحة ، لأنّ المقرّبة واحد ، لكن وقع الإقرار به في وقتين.

إذا غصب أمة فباعها ، فأحبلها المشتري ، فانّ السيد يرجع على المشتري ، وهل يرجع المشتري على البائع أم لا؟ نظرت فكل ما دخل على أنّه له بعوض ، وهو قيمة الرقبة ، لم يرجع به على أحد (1) ، وكلّ ما دخل على أنّه له بغير عوض ، فإن لم يحصل له في مقابلته نفع وهو قيمة الولد ، رجع به على البائع ، قولا واحدا ، وإن حصل له في مقابلته نفع ، وهو مهر المثل في مقابلة الاستمتاع ، فلا يرجع به على البائع.

وإن رجع على البائع ، فكلّما لو رجع به على المشتري ، رجع المشتري على البائع ، فالبائع لا يرجع به عليه ، وكلّما لو رجع به على المشتري ، لم يرجع به على

ص: 493


1- ج : وهو الرقبة يرجع به على البائع.

البائع ، فإذا رجع به على البائع ، رجع البائع به على المشتري.

إذا أرسل في ملكه ماء فسال إلى ملك غيره ، فأفسده عليه ، أو أجج في ملكه نارا ، فتعدت إلى ملك غيره فأحرقته ، فالماء والنار سواء ، ينظر فيه ، فإن أرسل الماء في ملكه بقدر حاجته ، فسال إلى ملك غيره ، نظرت ، فإن كان غير مفرّط ، مثل ان ثقب الفار أو غيره ، أو كان هناك ثقب لم يعلم به ، فلا ضمان عليه ، لأنّها سراية عن فعل مباح ، فذهب هدرا ، وهكذا النار إذا أججها في ملكه ، فحملها الريح إلى ملك غيره فأتلفته ، فلا ضمان عليه ، لأنّه سراية عن مباح.

وأمّا إن أرسل الماء إلى ملكه ، وفرّط في حفاظه بأن توانى ، وهو يعلم أنّه يطفح إلى ملك غيره فأتلفه ، كان عليه الضمان ، لأنّها سراية عن فعل محظور ، وهكذا إن أجج نارا عظيمة في زرعه ، أو حطبه على سطحه ، وهو يعلم أنّه في العادة تصل إلى ملك غيره ، كان عليه الضمان.

فأمّا إن أرسل الماء في ملكه بقدر حاجته إليه ، وهو يعلم أنّ الماء ينزل إلى ملك غيره ، وأن للماء طريقا إليه ، فعليه الضمان ، لأنّه إذا علم أنّه يجري إلى ملك غيره ، وأنّه لا حاجز يحجزه عنه ، فهو المرسل له ، وهكذا النار إذا طرحها في زرعه أو حطبه ، وهو يعلم أنّ زرعه أو حطبه متصل بزرع غيره وحطب غيره ، وانّ النار تأتي على ملكه وتتصل بملك غيره ، فعليه الضمان ، لأنّها سراية حصلت بفعله.

فإن ادّعى دارا في يد رجل ، فاعترف له بدار مبهمة ، ثمّ مات المقر المعترف ، قيل للوارث : بين ، فإن لم يبيّن ، قيل للمدّعي : بيّن أنت ، فإن عيّن دارا ، وقال : هذه التي ادّعيتها ، وقد أقرّ لي بها ، قيل للوارث : ما تقول؟ فإن قال : صدق ، تسلّم الدار المدّعي ، وإن قال الوارث : ليست هذه له ، فالقول قوله مع يمينه ، فإذا حلف سقط تعيين المدّعي ، وقيل للوارث : نحبسك حتى تبين الدار التي أقر له أبوك بها ، وتحلف ، أو نجعلك ناكلا عن اليمين ، ويعيّن المدّعي الدار ، ويردّ اليمين عليه ، ويستحق ما حلف عليه ، وإلا أدّى إلى إبطال حقّ الآدميّين ووقوف الأحكام.

ص: 494

فإن غصب عبدا فردّه وهو أعور ، واختلفا ، فقال سيده : عور عندك ، وقال الغاصب : بل عندك ، فالقول قول الغاصب ، لأنّه غارم ومدّعى عليه.

وقال بعض أصحابنا : فإن اختلفا في هذا والعبد قد مات ودفن ، فالقول قول سيّده أنّه ما كان أعور.

والفصل بينهما أنّه إذا مات ودفن ، فالأصل السلامة ، حتى يعرف عيب ، فكان القول قول السيّد ، وليس كذلك إذا كان حيا ، لأنّ العور موجود مشاهد ، فالظاهر أنّه لم يزل حتى يعلم حدوثه عند الغاصب.

والذي يقوى عندي أنّ القول قول الغاصب ، لأنّه غارم في المسألتين معا ، ومدّعى عليه ، والأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشي ء أو علق عليها حكما ، يحتاج في إثباته إلى دليل ، وهذا الذي ذكره بعض أصحابنا ، تخريج من تخريجات المخالفين ومقاييسهم واستحساناتهم.

والذي تقتضيه أصول مذهب أهل البيت عليهم السلام ما ذكرناه واخترناه ، فليلحظ بالعين الصحيحة.

فإن غصب عبدا ومات العبد واختلفا ، فقال الغاصب : رددته حيا فمات في يدك أيها المالك ، وقال المالك : بل مات في يدك أيها الغاصب من قبل أن تردّه إليّ ، وما رددته إليّ إلا ميتا ، وقال الغاصب : رددته حيا. فالذي عندي ويقوى في نفسي ، أنّ القول قول المالك مع يمينه ، وعلى الغاصب البينة ، لأنّه المدّعي لرد الملك بعد إقراره بغصبه ، وكونه في يده حيا ، والمالك منكر للرد وجاحد له ، ومدّعى عليه ، فالقول قوله ، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ على المدّعي البيّنة ، وعلى الجاحد اليمين ، وهذا داخل تحت ذلك ، فإن أقام كلّ واحد منهما بينة ، سمعت بينة المدّعي للموت ، لأنّ الرسول عليه السلام جعلها في جنبته ، ولأنّ بينته تشهد بشي ء ربما خفي على بيّنة الغاصب ، وهو الموت ، فهذا تحرير الفتيا في هذا السؤال.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : فإن غصب عبدا ومات العبد فاختلفا ،

ص: 495

فقال : رددته حيا ومات في يدك ، وقال المالك : بل مات في يدك أيّها الغاصب ، وأقام كلّ واحد منهما البيّنة بما ادّعاه ، عمل على ما نذكره في تقابل البيّنتين ، فإن قلنا ان البيّنتين إذا تقابلتا سقطتا ، عدنا إلى الأصل وهو بقاء العبد عنده حتى يعلم ردّه ، كان قويا هذا آخر كلامه رحمه اللّه (1) ، لم يذكر في المسألة غير ما ذكره وحكيناه عنه.

والذي قوّاه وقال : كان قويا ، مذهب الشافعي في تقابل البينتين لا مذهب أصحابنا ، وإنّما مذهب أصحابنا بغير خلاف بينهم ، الرجوع إلى القرعة لأنّه أمر مشكل ، وهذا ليس من ذلك بقبيل ، ولا هو منه بسبيل ، ولا في هذا إشكال ، فنرجع فيه إلى القرعة.

بل مثاله رجل غصب رجلا مالا ، فقال الغاصب : رددته ، وقال المغصوب منه : ما رددته إليّ ، فكان القول قول المغصوب منه مع يمينه ، فإن أقام كلّ واحد منهما بينة ، سمعت بينة الغاصب ، لأنّ لبينته مزية على بينة المغصوب منه ، لأنّها تشهد بأمر خفي على بيّنة المالك.

وكذلك من كان له على رجل دين ، فقال له : قضيته وخرجت إليك منه ، وأنكر من له الدين ذلك ، فالقول قوله مع يمينه ، فإن أقام كلّ واحد منهما بيّنته ، كانت المسموعة بينة القاضي ، لأنّها تشهد بشي ء قد يخفى على بينة من له الدين ، ولا يقول أحد من العلماء انّ مما هنا تستعمل القرعة ، ولا يعاد إلى الأصل وتقابل البيّنتين وأنّهما تسقطان.

فهذا تحرير هذه الفتيا واللّه الموفّق للصواب ، ومرضي الجواب.

الذي تقتضيه أخبارنا وأصول مذهبنا ، أنّه إذا جنى على عبد جناية تحيط بقيمة العبد ، كان بالخيار بين أن يسلّمه إلى الجاني ، ويأخذ قيمته ، وبين أن

ص: 496


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الغصب ، ص 105.

يمسكه ولا شي ء له ، وما عدا ذلك فله الأرش ، إمّا مقدّرا ، إن كان له في الحرّ مقدّر ، أو حكومة ، إن لم يكن له في الحرّ مقدّر ، وهو ما بين قيمته صحيحا ومعيبا.

وما عدا الرقيق من بنى آدم ، من سائر الحيوانات المملوكات ، ما عدا بني أدم المملوكين ، إذا جنى عليه جان ، فليس لصاحبه إلا أرش الجناية.

وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر وتحريره في مسائل خلافه في الجزء الثاني في كتاب الغصب ، في المسألة التاسعة ، فإنّه رجع عمّا قاله في المسألة الرابعة ، ورجوعه هو الصحيح الذي تقتضيه الأدلة ، على ما قاله رحمه اللّه ، فإنّه قال في المسألة التاسعة ، والذي تقتضيه أخبارنا ومذهبنا ، أنّه إذا حنى على عبد جناية تحيط بقيمة العبد ، كان بالخيار بين أن يسلمه ويأخذ قيمته ، وبين أن يمسكه ولا شي ء له ، وما عدا ذلك فله الأرش ، إما مقدرا أو حكومة ، على ما مضى القول فيه ، وما عدا المملوك من الأملاك إذا جنى عليه ، فليس لصاحبه إلا أرش الجناية ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم وقد ذكرناها في الكتاب المقدّم ذكره ، هذا آخر كلام شيخنا في المسألة.

ثمّ قال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا قلع عين دابة ، كان عليه نصف قيمتها ، وفي العينين جميع القيمة ، وكذلك كل ما كان في البدن منه اثنان ، ففي الاثنين جميع القيمة ، وفي الواحد نصفها ، وقال أبو حنيفة : في العين الواحد ربع القيمة ، وفي العينين نصف القيمة ، وكذلك في كلّ ما ينتفع بظهره ولحمه ، وقال الشافعي ومالك : عليه الأرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وروي عن عمر ، أنّه قضى في عين الدابة ربع قيمتها ، ورووا ذلك عن علي عليه السلام ، وهذا يدلّ على بطلان قول من يدّعي الأرش ، فإمّا قولنا ، فدليله إجماع الفرقة وطريقة الاحتياط (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

ص: 497


1- الخلاف : كتاب الغصب ، المسألة 4.

قال محمّد بن إدريس : ما ذكره رحمه اللّه من قوله : « كل ما في البدن منه اثنان ففي الاثنين جميع القيمة ، وفي الواحد نصفها » انّما ورد في الرقيق المماليك من بني آدم فحسب ، دون البهائم ، والصحيح ما ذكره في المسألة التاسعة ، وهو الأرش ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، لأنّ القياس عندنا باطل ، فمن حمل البهائم على بنى آدم المملوكين ، كان قايسا.

وأيضا فقد قال رحمه اللّه في مسائل خلافه : مسألة ، إذا جنى على حمار القاضي ، كان مثل جنايته على حمار الشوكي سواء ، في أنّ الجناية إذا لم تسر إلى نفسه ، يلزم أرش العيب ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك : إن كان حمار القاضي ، فقطع ذنبه ، ففيه كمال قيمته (1).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : إن كان الطريقة التي ذهب شيخنا إليها في عين الدابة مرضية صحيحة ، فقول مالك صحيح مرضيّ ، لأنّ في الدابة ذنبا واحدة ، وقد دلّ على فساد قول مالك ، ويدخل فيه فساد قوله رحمه اللّه وهذا متناقض ، وذكر في نهايته أنّ عليه ربع قيمتها (2) والصحيح ما حرّرناه.

باب الإقرار

إقرار الحر البالغ الثابت العقل غير المولّى عليه جائز على نفسه ، للكتاب والسنّة والإجماع.

فإذا ثبت ذلك فلا يصح الإقرار على كلّ حال إلا من مكلّف غير محجور عليه لسفه ، أورق.

فلو أقرّ المحجور عليه لسفه بما يوجب حقا في ماله ، لم يصح ، ويقبل إقراره بما يوجب حقا على بدنه ، كالقصاص والقطع والجلد.

فأمّا إن كان محجورا عليه لجنون أو صغر ، فلا يصح إقراره على ماله ، على بدنه.

ص: 498


1- الخلاف : كتاب الغصب ، المسألة 4.
2- النهاية : تقدم في ص 879.

وإن كان محجورا عليه لفلس ، يصح إقراره في ماله ، وعلى بدنه عند بعض أصحابنا.

والأولى عندي أنّه لا يقبل (1) إقراره في أعيان أمواله بعد الحجر عليه ، فأمّا إن أقرّ بشي ء في ذمته لا في أعيان أمواله ، فإنّ إقراره يصح. ولا يقاسم المقر له الغرماء في أعيان الأموال ، لأنّا إن قبلنا إقراره بعد الحجر في أعيان أمواله ، فلا فائدة في حجر الحاكم ، ولا تأثير لذلك ، لأنّ ذلك يكون إقرارا بشي ء ، قد تعلّق به حقّ الغير ، فلا يقبل منه ، فأمّا إن أقرّ بدين في ذمته ، فإنّه يقبل إقراره.

فأمّا إقراره على بدنه فمقبول على كلّ حال ، فأمّا إن كان محجورا عليه لرق ، فإنّه لا يقبل إقراره عند أصحابنا ، لا في مال في يديه ولا على بدنه ، سواء أقرّ بقتل العمد ، أو بقتل الخطإ ، لأنّ ذلك إقرار على الغير ، لكنه يتبع به إذا لحقه العتاق ، ومتى صدقه السيد ، قبل إقراره في جميع ذلك بلا خلاف.

ويصحّ إقرار المريض الثابت العقل ، للوارث وغيره ، سواء كان بالثلث أو أكثر منه ، وإجماع أصحابنا منعقد على ذلك ، وأيضا قوله تعالى « كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ » (2) والشهادة على النفس هي الإقرار ، ولم يفصل ، وعلى من ادّعى التخصيص الدليل.

ويصح الإقرار المبهم ، مثل أن يقول لفلان عليّ شي ء ، ويرجع في تفسيره إليه ، فمهما فسّره به قبل ، إذا كان ممّا يتموّل ويملكه المسلمون ، قليلا كان أو كثيرا ، ولا تصح الدعوى المبهمة ، لأنّا إذا رددنا الدعوى المبهمة ، كان للمدّعي ما يدعوه إلى تصحيحها ، وليس كذلك الإقرار ، لأنّا إذا رددناه ، لا نأمن أن لا يقرّ ثانيا.

والمرجع في تفسير المبهم إلى المقر ، على ما قدّمناه ، ويقبل تفسيره بأقل ما يتمول في العادة ، فإن لم يقر جعلناه ناكلا ، ورددنا اليمين على المقر له ، فيحلف على ما يقول ، ويأخذه ، فإن لم يحلف فلا حقّ له.

ص: 499


1- ج : لا يصحّ.
2- النساء : 135.

وإذا قال له عليّ مال عظيم أو جليل ، أو نفيس ، أو خطير ، لم يقدر ذلك بشي ء ، ويرجع في تفسيره إلى المقر ، ويقبل تفسيره بالقليل والكثير ، لأنّه لا دليل على مقدر معيّن ، والأصل براءة الذمة ، وما يقر به مقطوع عليه ، فوجب الرجوع إليه ، ويحتمل أن يكون أراد ، عظيم عند اللّه تعالى من جهة المظلمة ، وأنّه جليل نفيس عند الضرورة إليه ، وإن كان قليل المقدار ، وإذا احتمل ذلك وجب أن يرجع إلى تفسيره ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولا نعلّق عليها شيئا محتملا. ويحتج على المخالف بما روي من قوله عليه السلام : « لا يحل مال امرء مسلم الا بطيب نفس منه » (1) لأنّه يقتضي أن لا يؤخذ منه أكثر ممّا أقرّ به.

وإذا قال له عليّ مال كثير ، كان إقرارا بثمانين ، لما رواه أصحابنا (2) وأجمعوا عليه. وروي في تفسير قوله تعالى « لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ » (3) أنّها كانت ثمانين موطنا (4).

والأولى عندي أنّه يرجع في التفسير إليه ، لأنّ هذا قول مبهم محتمل ، ولا تعلّق على الذمم شيئا بأمر محتمل ، وانّما ورد في أخبار أصحابنا ، وأجمعوا عليه في النذر فحسب ، ولم يذهب أحد منهم إلى تعديته إلى الإقرار والوصية ، سوى شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه في فروع المخالفين في المبسوط (5) ، ومسائل خلافه (6) ، والقياس عندنا باطل ، فمن عدّاه إلى غير النذر الذي ورد فيه ، يحتاج إلى دليل.

ثم لا خلاف بين أصحابنا بل بين المسلمين ، أنّه إذا باع دارا بمال كثير ، يكون البيع باطلا ، لأنّ الثمن مجهول المقدار ، فلو كان الشارع قد جعل حدّ الكثير ثمانين في كلّ شي ء ، لما كان البيع باطلا ، وكذلك إذا باع الدار بجزء من ماله ،

ص: 500


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب القصاص ، ح 3 ، وفيه : لا يحل دم امرء مسلم ولا ماله إلا بطيبة نفسه وفي المستدرك : الباب 1 من أبواب الغصب ح 6 : المسلم أخو المسلم لا يحل ماله الا بطيب نفس منه.
2- الوسائل : الباب 3 من أبواب النذر والعهد.
3- التوبة : 25.
4- الوسائل : الباب 3 من أبواب النذر والعهد.
5- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 6.
6- الخلاف : كتاب الإقرار ، المسألة 1.

وكان ماله معلوم المقدار ، يكون البيع باطلا بلا خلاف ، وإن كان الجزء هو السبع في الوصية فحسب ، ولا نعديه إلى غيرها بغير خلاف.

وإذا قال : له عليّ ألف ودرهم ، لزمه درهم ، ويرجع في تفسير الألف إليه ، لأنّها مبهمة ، والأصل براءة الذمة ، وقوله : « ودرهم » ، زيادة معطوفة على الألف ، وليست بتفسير لها ، لأنّ المفسّر لا يكون بواو العطف ، وكذا الحكم لو قال : ألف ودرهمان ، فأمّا إذا قال : ألف وثلاثة دراهم ، أو ألف وخمسون درهما ، وما أشبه ذلك ، فالظاهر أنّ الكل دراهم ، لأنّ ما بعده تفسير له.

وإذا قال : له عليّ عشرة إلا درهما ، كان إقرارا بتسعة ، فإن قال : إلا درهم ، بالرفع كان إقرارا بعشرة ، لأنّ المعنى غير درهم.

وإن قال : ماله عليّ عشرة إلا درهما ، لم يكن مقرا بشي ء ، لأنّ المعنى ماله على تسعة.

ولو قال : ماله عليّ عشرة إلا درهم ، كان إقرارا بدرهم ، لأنّ رفعه بالبدل من العشرة ، فكأنه قال : ماله عليّ إلا درهم.

وإذا قال : له عليّ عشرة إلا ثلاثة ، إلا درهما ، كان إقرارا بثمانية ، لأنّ المراد إلا ثلاثة لا يجب ، إلا درهما من الثلاثة يجب ، لأنّ الاستثناء من الإيجاب نفي ، ومن النفي إيجاب ، واستثناء الدرهم يرجع إلى ما يليه فقط ، إذا لم يكن بواو العطف ، ولا يجوز أن يرجع إلى جميع ما تقدّم لسقوط الفائدة.

إذا قال : ماله عندي عشرون إلا خمسة ، فأنت تريد مالك إلا خمسة.

وتقول ، لك عليّ عشرة إلا خمسة ما خلا درهما ، فالذي له ستة.

وكل استثناء ممّا يليه فالأوّل حطّ ، والثاني زيادة ، وكذلك جميع العدد ، فالدرهم مستثنى من الخمسة ، فصار المستثنى أربعة ، هذه المسائل ذكرها ابن البراج في أصوله (1).

ص: 501


1- .. أصوله لو كان موجودا فهو من المخطوطات.

إذا قال : عليّ عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين ، كان ذلك استثناء الخمسة من العشرة ، وأمّا إذا لم يعطف الثاني على الأول ، مثل أن يقول : له عليّ عشرة إلا خمسة إلا اثنين ، فيكون قد استثنى الاثنين من الخمسة ، فيبقى ثلاثة ، فيكون قد استثنى من العشرة ثلاثة فيلزمه سبعة ، ولا يجوز أن يعود هاهنا إلى الجملتين معا ، بل إلى الجملة التي تليه ، لأنّه كان يكون لا فائدة فيه ، لأنّ الكلام موضوع للإفادة ، كما إذا قال له عليّ درهم ودرهم إلا درهما ، فقد أسقط الاستثناء من الدرهمين درهما ، فلو رجع إلى الجملتين معا من الكلام صار عبثا ولغوا ، كما لو قال : له عليّ درهم إلا درهما ، فلا يقبل استثناؤه ذلك ، لأنّ الاستثناء يخرج من الجمل ، ما لولاه لصح دخوله تحته ، أو لوجب دخوله تحته على العبارتين واختلاف المقالتين بين من تكلّم في أصول الفقه ، وإذا كان الاستثناء الثاني معطوفا على الأول ، كانا جميعا راجعين إلى الجملة الاولى ، فلو قال : عليّ عشرة إلا ثلاثة وإلا درهما ، كان إقرارا بستة ، وإذا استثنى بما لا يبقى معه من المستثنى منه شي ء ، كان باطلا على ما قدّمناه ، لأنّه يكون بمنزلة الرجوع عن الإقرار ، فلا يقبل.

وإن استثنى بمجهول القيمة ، كقوله : عليّ عشرة إلا ثوبا ، فإن فسّر قيمته بما يبقى معه من العشرة شي ء ، وإلا كان باطلا.

ويجوز استثناء الأكثر من الأقل بلا خلاف ، إلا من ابن درستويه النحوي ، وابن حنبل ، ويدلّ على صحته قوله تعالى ( إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ ) (1) وقال حكاية عن إبليس ( فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ) (2) فاستثنى من عباده ، الغاوين مرّة ، والمخلصين اخرى ، فلا بدّ أن يكون أحد الفريقين أكثر من الآخر.

وإذا قال : عليّ كذا درهم ، بالرفع ، لزمه درهم واحد ، لأنّ التقدير هو درهم ،

ص: 502


1- الحجر : 42.
2- ص : 82 - 83.

أي الذي أقررت به درهم.

وإن قال : كذا درهم بالخفض ، لزمه مائة درهم ، لأنّ ذلك أقل عدد يخفض ما بعده ، ولا يلزم أن يكون إقرارا بدون الدرهم ، لأنّه أقل ما يضاف إلى الدرهم ، لأنّ ذلك ليس بعدد صحيح ، وإنّما هو كسور.

وإن قال : كذا درهما لزمه عشرون درهما ، لأنّه أقل عدد واحد ينتصب ما بعده.

وإن قال : كذا كذا درهما ، لزمه أحد عشر درهما ، لأنّ ذلك أقل عددين ركبا ، وانتصب ما بعدهما.

وإن قال : كذا وكذا ، وأدخل بينهما الواو ، كان إقرارا بأحد وعشرين درهما ، لأنّ ذلك أقل عددين عطف أحدهما على الآخر ، وانتصب الدرهم بعدهما.

والأولى عندي في هذه المسائل جميعها ، أن يرجع في التفسير إلى المقرّ ، لأنّ كذا لفظ مبهم محتمل ، ولا نعلّق على الذمم شيئا بأمر يحتمل ، والأصل براءة الذمة ، ولم يذكر هذه المسائل أحد من أصحابنا ، إلا شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (1) ، ومسائل خلافه (2) وهذان الكتابان بعضهما (3) فروع المخالفين ، وتخريجاتهم ، وأخبارنا خالية من ذلك ، وكذلك مصنفات أصحابنا ، إلا من اتبع تصنيف شيخنا أبي جعفر ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

وإذا قال : عليّ دراهم ، فإنّه يلزمه ثلاثة دراهم.

وإذا أقرّ بشي ء وأضرب عنه ، واستدرك غيره ، فإن كان مشتملا ، على الأول ، بأن يكون من جنسه وزائدا عليه ، وغير متعيّن ، لزمه دون الأول ، بل يدخل الأول فيه ، كقوله عليّ درهم ، لا بل درهمان ، ولا يلزمه ثلاثة دراهم ، لأنّ الأول دخل في الثاني ، لأنّه إذا قال : عليّ درهم ، فقد أخبر بدرهم عليه ، وقوله بعد هذا : لا بل درهمان ، إخبار بالدرهم الذي أقرّ به أولا ، ثانيا ، لأنّه يصح

ص: 503


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 13.
2- الخلاف : كتاب الإقرار ، المسائل 6 و 7 و 8 و 9 و 10 و 11.
3- ج : معظمهما.

أن يخبر عنه ثمّ يخبر عنه ، فكأنّه نفى الاقتصار عليه ، فأخبر به ، وبغيره مرة أخرى.

وإن كان ناقصا عنه ، لزمه الأول دون الثاني ، كقوله : عليّ عشرة دراهم ، لا بل تسعة دراهم ، لأنّه أقرّ بالعشرة ، ثمّ رجع عن بعضها ، فلم يصح رجوعه ، ويفارق ذلك إذا قال : له عليّ عشرة دراهم إلا درهما ، لأنّ للتسعة عبارتين ، إحداهما لفظ التسعة ، والأخرى لفظ العشرة مع استثناء الواحد ، فبأيّهما أتى فقد عبّر عن التسعة.

إذا قال : لفلان عليّ درهم ودرهم إلا درهما ، فعلي ما يذهب إليه أنّ الاستثناء إذا تعقّب جملا معطوفة بعضها على بعض بالواو ، فإنّه يرجع إلى الجميع يجب أن نقول أنّه يصح ، ويكون إقرارا بدرهم ، ومن قال : يرجع إلى ما يليه ، فإنّه يبطل الاستثناء ، ويكون إقرارا بدرهمين ، لأنّه إذا رجع إلى ما يليه وهو درهم ، لا يجوز أن يستثني درهما من درهم ، لأنّ ذلك استثناء الجميع ، وذلك فاسد ، فيبطل الاستثناء ، ويبقى ما أقرّ به وهو درهم ودرهم الذي عطف عليه.

وإن كان ما استدركه من غير جنس الأوّل ، كقوله : عليّ درهم ، لا بل دينار ، أو قفيز حنطة ، لا بل قفيز شعير ، لزمه الإقرار ان معا ، لأنّ ما استدركه لا يشتمل على الأول ، فلا يسقط برجوعه عنه ، لأنّه غير داخل فيه.

وإن كان ما أقرّ به أولا وما استدركه متعينين بالإشارة إليهما ، أو بغيرها ممّا يقتضي التعريف ، لزمه أيضا الأمران ، سواء كانا من جنس واحد ، أو من جنسين ، أو متساويين في المقدار ، أو مختلفين ، لأنّ أحدهما والحال هذه ، لا يدخل في الآخر ، ولا يقبل رجوعه عما أقرّ به أولا ، كقوله : هذه الدراهم لفلان ، لا بل هذا الدينار ، أو هذه الجملة من الدراهم ، لا بل هذه الأخرى.

وإذا قال : له عليّ ثوب في منديل ، لم يدخل المنديل في الإقرار ، لأنّه يحتمل أن يريد في منديل لي ، فلا يلزم من الإقرار إلا المتيقن ، دون المشكوك فيه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وكذا القول في كلّ ما جرى هذا المجرى ، مثل أن يقول : غصبته سمنا في ظرف ، أو حنطة في غرارة ، وما أشبه ذلك.

ص: 504

وإذا قال : له عليّ ألف درهم وديعة ، قبل منه ، لأنّ لفظة عليّ للإيجاب ، وكما يكون الحقّ في ذمته ، فيجب عليه تسليمه بإقراره ، كذلك يكون في يده ، فيجب عليه ردّه وتسليمه إلى المقرّ له بإقراره.

ولو ادّعى التلف بعد الإقرار قبل ، لأنّه لم يكذب إقراره ، وانّما ادّعى تلف ما أقرّ به بعد ثبوته بإقراره ، بخلاف ما إذا ادّعى التلف وقت الإقرار ، بأن يقول : كان عندي أنّها باقية ، فأقررت لك بها ، وكانت تالفة في ذلك الوقت ، فانّ ذلك لا يقبل منه ، لأنّه يكذب إقراره المتقدّم من حيث كان تلف الوديعة من غير تعد يسقط حق المودع.

والذي يقوى في نفسي ، أنّه إذا قال : له عليّ ألف درهم وديعة ، لا يقبل منه ، لأنّ لفظة « عليّ » للإيجاب والالتزام ، والوديعة غير لازمة له ولا واجبة في ذمته ، ولا في يده ، فلا يجب تسليمها إلا بعد مطالبة المودع ، فحينئذ يجب ، وقبل ذلك لا يجب ، فإذن التمسّك الأوّل غير معتمد ، بل لو قال : له عندي ألف درهم وديعة ، قبل منه ، لأنّ عندي لفظة غير موجبة ولا لازمة ، وإن كان قد ذكر الأول بعض أصحابنا (1) ، وسطّره في كتابه ، فإنّه من تخاريج المخالفين ، واستحساناتهم ، فأمّا كلام العرب الذي نزل القرآن بلغتهم ، يقتضي ما ذكرناه ، إذ لا نص على خلاف ما ذهبنا إليه ، ولا إجماع.

وإذا قال : له عليّ ألف درهم إن شئت ، لم يكن لكلامه حكم ، لأنّ الإقرار إخبار عن حقّ واجب سابق له ، وما كان كذلك لم يصحّ تعلقه بشرط مستقبل.

وإذا قال : له من ميراثي من أبي ألف درهم ، لم يكن أيضا إقرارا ، لأنّه أضاف الميراث إلى نفسه ، ثمّ جعل له منه جزء ولا يكون له جزء من ماله إلا على وجه الهبة أو الصدقة.

ص: 505


1- وهو الشيخ قدس سره في الخلاف : كتاب الإقرار ، المسألة 19.

ولو قال : له من ميراث أبي ألف درهم ، كان ذلك إقرارا بدين في تركته.

وهكذا لو قال : داري هذه لفلان ، لم يكن ذلك إقرارا ، لمثل ما قدّمناه ، لأنّ هذا مناقضة ، كيف يكون داره لفلان في حال ما هي له.

ولو قال : هذه الدار ، ولم يضفها إليه ، بل قال : هذه الدار التي هي في يدي ، أو هذه الدار لفلان من غير إضافة إليه ، كان إقرارا ، لأنّها قد تكون في يده بإجارة ، أو عارية ، أو غصب.

فأمّا إذا قال : هذه داري ، أو داري لفلان بأمر حقّ ثابت ، كان إقرارا أيضا صحيحا ، لأنّ قوله : بأمر حق ثابت ، يجوز أن يكون له حق ، وجعل داره في مقابلة ذلك الحق ، وإن كان قد أضافها إلى نفسه.

ويصح الإقرار المطلق للحمل ، لأنّه يحتمل أن يكون من جهة صحيحة ، مثل ميراث أو وصية ، لأنّ الميراث يوقف له ، وتصح الوصية عندنا للحمل ، فالظاهر من الإقرار الصحة ، فوجب حمله عليه.

ومن أقرّ بدين في حال صحته ، ثمّ مرض ، فأقر بدين آخر في حال مرضه صحّ ، ولا يقدّم دين الصحة على دين المرض ، بل هما سواء ، ولا يكلّف من أقرّ له في حال المرض ، إقامة بيّنة على أنّ إقراره له عن حقّ كان له عليه ، سواء كان مرضيا موثوقا بعدالته ، أو غير موثوق بعدالته ، متهما على الورثة ، أو غير متّهم ، ويعطى من أصل المال ، دون الثلث ، مثل الدين الذي أقرّ به في حال صحته ، لا فرق بينهما ، إذا كان عقله ثابتا عليه ، لأنّا قد بينا أنّ إقرار العقلاء الغير المولى عليهم ، جائز على نفوسهم ، والدليل على ذلك قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (1) من غير فصل ، لأنّ الأصل تساويهما في الاستيفاء من حيث تساويا في الاستحقاق ، فعلى من ادّعى تقديم أحدهما على الآخر الدليل.

ص: 506


1- النساء : 11 و 12.

ولا يلتفت إلى ما أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته ، فإنّه قال : إقرار المريض جائز على نفسه للأجنبي ، وللوارث على كلّ حال ، إذا كان مرضيا موثوقا بعدالته ، ويكون عقله ثابتا في حال الإقرار ، ويكون ما أقرّ به من أصل المال ، فإن كان غير موثوق به ، وكان متّهما ، طولب المقر له بالبيّنة ، فإن كانت معه بينة ، اعطى من أصل المال ، وإن لم يكن معه بيّنة ، اعطي من الثلث إن بلغ ذلك ، فإن لم يبلغ فليس له أكثر منه (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في نهايته.

إلا أنّه رجع عنه في مسائل خلافه ، وفي مبسوطة (2).

فقال في مسائل خلافه في الجزء الثاني من كتاب الإقرار : مسألة ، إذا أقرّ بدين في حال صحته ، ثمّ مرض ، فأقرّ بدين آخر في حال مرضه ، نظر ، فإن اتسع المال لهما ، استوفيا معا ، وإن عجز المال قسّم الموجود منه على قدر الدينين ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إذا ضاق المال ، قدّم دين الصحة على دين المرض ، فإن فضل شي ء صرف إلى دين المرض ، دليلنا قوله تعالى ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ ) (3) ولم يفضل أحد الدينين على الآخر ، فوجب أن يتساويا في الاستيفاء ، وأيضا فإنّهما دينان ثبتا في الذمة ، فوجب أن يتساويا في الاستيفاء ، لأنّ تقديم أحدهما على الآخر يحتاج إلى دليل (4) هذا آخر المسألة من كلام شيخنا رحمه اللّه.

إذا قال : له عندي عبد عليه عمامة ، دخلت العمامة في الإقرار.

وإذا قال : له عندي دابة عليها سرج ، لم يدخل السرج في الإقرار.

والفرق بينهما أنّ العبد ثبتت يده على ما هي عليه ، فيكون لمولاه المقرّ له ، والدابة لا تثبت لها يد على ما عليها ، فلا يكون ما عليها لصاحبها إلا بالإقرار ،

ص: 507


1- النهاية : كتاب الوصايا ، باب الإقرار في المرض.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 13.
3- النساء : 11 و 12.
4- الخلاف : كتاب الإقرار ، المسألة 12.

وقوله : عليها سرج ، ليس بإقرار بالسرج ، فافترقا.

إذا قال : هذه الدار لفلان ، لا بل لفلان ، أو قال غصبتها من زيد ، لا بل من عمرو ، فإنّ إقراره الأول لازم ، ويكون الدار للأول ، ويغرم قيمتها للثاني ، لأنّه حال بينه وبين ما أقرّ له به ، فهو كما لو ذبح شاة له ، وأكلها ، ثمّ أقرّ له بها ، أو أتلف مالا ، ثمّ أقرّ به لفلان ، فإنّه يلزمه غرامته ، فكذلك هذا ، وهذا كما نقول في الشاهدين : إذا شهدا على رجل بإعتاق عبده ، أو طلاق امرأته غير المدخول بها ، وحكم الحاكم بذلك ، ثمّ رجعا عن الشهادة ، كان عليهما غرامة قيمة العبد ، وغرامة المهر ، لأنّهما حالا بينه وبين ملكه ، فلا ينقض حكم الحاكم بغير خلاف.

وإلى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر في المبسوط ، في كتاب الإقرار (1) ، وكتاب الشهادات (2).

وإذا باع شيئا ، ثمّ أقرّ البائع أن ذلك المبيع لفلان ، فإنّ الغرامة تلزمه ، ولا ينفذ إقراره في حقّ المشتري.

إذا قال : لفلان عليّ ألف درهم ، فجاء بألف ، وقال : هذه التي أقررت لك بها ، كانت لك عندي وديعة ، كان القول في ذلك قوله ، عند بعض الناس ، والأظهر أنّه لا يقبل قوله في ذلك ، ويلزمه ما أقرّ به ، لأنّا قد بيّنا من قبل أن لفظة « عليّ » لفظة إيجاب وإلزام ، والوديعة غير لازمة له ، إلا أن يعقّب. قوله : وديعة فرطت فيها.

وإذا قال : له عندي ألف درهم وديعة شرط عليّ أني ضامن لها ، كان ذلك إقرارا بالوديعة ، ولم يلزمه الضمان الذي شرطه عليه ، لأنّ ما كان أصله أمانة لا يصير مضمونا بالشرط ، وما يكون مضمونا لا يصير أمانة بشرط ، لأنّه لو شرط على المستام أن يكون مال السوم أمانة ، لم يصر أمانة بالشرط.

ص: 508


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 17.
2- المبسوط : ج 8 ، كتاب الشهادات ، فصل في الرجوع عن الشهادة ، ص 247.

إذا شهد شاهدان على رجل بأنّه أعتق عبده الذي في يده فإن كانا عدلين ، حكم بعتق العبد ، وإن لم يكونا عدلين ، فردّت شهادتهما ، ثم اشتريا ذلك العبد من المشهود (1) ، صحّ الشراء ، وعتق عليهما ، ويفارق ذلك ، إذا قال رجل لامرأة : أنت أختي ، فأنكرت المرأة ، ثمّ أنّه تزوّج بها ، في أنّه لا يصحّ العقد ، لأنّه قد أقر أن فرجها حرام عليه ، فإذا تزوّج بها ، لم يقصد إلا المقام على الفرج الحرام ، فلذلك لم يصح ، وليس كذلك إذا اشتريا العبد ، لأنّهما يقصد ان غرضا صحيحا ، وهو استنقاذه من الرق ، فافترقا.

إذا قال : له عليّ ألف دينار من ضرب كذا ، أو سكة كذا وكذلك إذا قال له على درهم من ضرب كذا وسكة كذا (2) ونقد كذا قبل منه تفسيره ، إذا انطلق عليها اسم الذهب المتعامل به ، وكذلك الدراهم المتعامل بها ، وإن كانت ردية ، فإن كانت دراهم لا فضة فيها بحال ، لا يقبل منه ، وكذلك حكم الدّنانير ، هذا إذا كان تفسيره بالصفة متصلا بالإقرار ، فأمّا إن كان منفصلا ، لا يقبل منه ذلك التفسير ، بل يرجع في إطلاق إقراره إلى نقد البلد الذي هو فيه وغالبه.

إذا قال يوم السبت : لفلان عليّ درهم ، ثمّ قال يوم الأحد : له عليّ درهم ، لم يلزمه إلا درهم واحد ، ويرجع إليه في التفسير ، فأمّا إذا قام يوم السبت : لفلان عليّ درهم من ثمن عبد ، ثم قال يوم الأحد : له عليّ درهم من ثمن ثوب ، لزمه درهمان ، لأنّ ثمن العبد غير ثمن الثوب. ويفارق ذلك إذا قال مطلقا من غير اضافة إلى سبب ، لأنّه يحتمل التكرار ، وكذلك إذا أضاف كلّ واحد من الإقرارين إلى سبب غير السبب الذي أضاف إليه الآخر.

إذا قال : له عليّ ما بين الدرهم إلى العشرة ، لزمه ثمانية ، لأنّه أقرّ بما بين الواحد والعاشر ، والذي بينهما ثمانية ، وكذلك إذا قال : له عليّ من درهم إلى

ص: 509


1- ج : من المشهود عليه.
2- نسخة « ج » خالية عن الإقرار بالدرهم.

عشرة ، وقال بعض الناس : يلزمه تسعة ، والأول هو الصحيح ، لأنّه اليقين ، وهذا محتمل ، فلا نعلّق على الذمة شيئا بأمر محتمل.

إذا ادّعى عليه رجل مالا بين يدي الحاكم ، وقال : لا أقرّ ولا أنكر ، قال له الحاكم : هذا ليس بجواب ، فأجب بجواب صحيح ، فإن أجبت ، وإلا جعلتك ناكلا ، ورددت اليمن على خصمك ، فإن لم يجب بجواب صحيح ، فالمستحب أن يكرر ذلك عليه ثلاث مرات ، فإن لم يجب بجواب صحيح ، جعله ناكلا وردّ اليمن على صاحبه ، وإن ردّ اليمين بعد المرة الأولى جاز ، لأنّه هو القدر الواجب ، وإنّما جعلناه ناكلا بذلك ، لأنّه لو أجاب بجواب صحيح ، ثمّ امتنع عن اليمين ، جعل ناكلا ، فإذا امتنع عن الجواب واليمين ، فأولى أن يكون ناكلا بذلك.

فأمّا إذا قال : لي عليك ألف درهم ، فقال : نعم ، أو قال : أجل ، كان ذلك إقرارا.

إذا قال لامرأته : قد طلقتك بألف ، وقبلت ذلك ، وبذلته لي ، لأجل أنّك كرهت المقام معي ، فأنكرت ، كان القول قولها مع يمينها ، فإذا حلفت ، سقطت الدعوى ، ولزمه الطلاق البائن بإقراره ، ولم يثبت له الرجعة.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا أقرّ ببنوّة صبي ، لم يكن ذلك إقرارا بزوجية امه ، ثمّ قال : دليلنا أنّه يحتمل أن يكون الولد من نكاح صحيح ، ويحتمل أن يكون من نكاح فاسد ، أو وطء شبهة ، وإذا احتمل الوجوه ، لم يحمل على الصحيح دون غيره ، وقوله باطل ببنوّة أخيه (1) هذا آخر كلام شيخنا.

قال محمّد بن إدريس : معنى قوله رحمه اللّه : « وقوله » يريد قول الخصم « باطل ببنوة أخيه » يريد بذلك أنّ رجلا آخر أقرّ بولد آخر ، أخ لهذا المقرّ به من امّه ، فإنّه يلزم على قول من ذهب من المخالفين ، أنّ ذلك يكون إقرارا بزوجيّة امه أن تكون المرأة أم الولدين اللذين قد أقرّ رجل ببنوّة أحدهما ، وأقرّ آخر

ص: 510


1- الخلاف : كتاب الإقرار ، مسألة 31. مع تقطيع في العبارة.

ببنوّة الآخر ، زوجة للمقربين معا ، في حال ما أقرّا بالولدين ، وهذا لا يقوله أحد ، ان امرأة واحدة يكون زوجة لرجلين في حال واحدة ، فليتأمّل ذلك ، فقول شيخنا فيه غموض وإجمال ، يحتاج إلى بيان.

إذا قال لفلان عليّ ألف درهم ، ثمّ سكت ، ثمّ قال : من ثمن مبيع لم أقبضه ، لزمه الألف ، ولم يقبل منه ما ادّعاه من البيع ، لأنّه أقرّ بالألف ، ثمّ فسره بما يسقطه ، وكذلك لو قال : لفلان عليّ ألف درهم ، ثمّ سكت ، ثمّ قال وقد قبضها ، وكذلك إذا قال : لفلان عليّ ألف درهم من ثمن مبيع ، ثمّ سكت ، ثم قال : لم أقبضه (1) ، لا فرق بين الموضعين ، سواء وصل قوله بثمن مبيع ، ثمّ قال : لم أقبضه ، أو فصله ، لا فرق بين الموضعين ، لأنّه أقرّ بمال الآدمي ، ولفظ الإقرار ، لفظ التزام وإيجاب متقدّم ، وإذا ثبت حقّ الآدمي ، فلا دلالة على إسقاطه ، وتعقيبه بما وصله ، لا يسقطه ، لأنّه على غير وجه الاستثناء ، لأنّ الاستثناء هو المسقط لبعض ما اشتمل عليه ، لأنّه يخرج من الجمل ، ما لولاه لوجب دخوله تحته ، أو لصلح دخوله تحته ، على أحد القولين ، وليس لنا ما يسقط من الجمل والكلام إذا تعقبه ، إلا الاستثناء فحسب ، لأنّه ثبت من اللسان والعرف الشرعي واللغوي ، فقلنا به. مع أنّه لا يجوز أن يسقط جميع الجملة ، ومتى استثنى جميع الجملة ، كان الاستثناء باطلا.

ومن ذهب إلى خلاف ما نحن عليه يسقطه (2) جملة ، لأنّ الشافعي يذهب إلى أنّه إذا قال : لفلان عليّ ألف درهم من ثمن مبيع ، ثمّ سكت ، ثمّ قال لم أقبضه قبل منه ، لأنّ قوله بعد السكوت لم أقبضه ، لا ينافي إقراره الأول ، لأنّه قد يكون عليه ألف درهم ثمنا ، ولا يجب عليه تسليمها حتى يقبض المبيع ، ولأنّ الأصل عدم القبض ، فإذا قال (3) : له عليّ ألف درهم من ثمن مبيع لم أقبضه ، لم

ص: 511


1- هنا ينتهى كلام الشيخ قدس سره في المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 34.
2- ج : يسقط جمله
3- هذا أول المسألة 24 من كتاب الإقرار ، من كتاب الخلاف ، باختلاف يسير.

يلزمه ، ولا فرق بين أن يعيّن المبيع أو يطلقه ، هذا قول الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إذا عيّنه ، قبل منه وصل أو فصل ، وإن أطلقه لم يقبل منه ، ولزمه الألف ، واستدلّ الشافعي أنّه أقرّ بحقّ في مقابلة حقّ لا ينفك أحدهما عن الآخر ، فإذا لم يسلم ماله ، لم يلزمه ما عليه ، واختار شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، وفي مبسوطة ، قول الشافعي ، وزاد على استدلال الشافعي ، بأن قال : إن الأصل براءة الذمة ، ولا دليل على أنّه يلزمه ، هذا آخر كلامه واستدلاله ، ولم يتمسك بإجماع الفرقة ، ولا بالأخبار ، ولا بكتاب اللّه تعالى ، لأنّ ذلك لا إجماع عليه ، ولا سنّة متواترة ، ولا كتاب اللّه سبحانه.

فأمّا قوله رضي اللّه عنه : الأصل براءة الذمة ، فصحيح من قبل أن يقرّ المقرّ بحق الآدمي ، فأمّا بعد الإقرار فقد انتقل من ذلك الأصل ، وعاد الأصل ثبوت حق الآدمي ، فمن أسقطه يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، بل هذا من تخريجات المخالفين ، واستحساناتهم ، ومقاييسهم ، واجتهاداتهم ، وآرائهم ، ولقد كفينا بحمد اللّه جميع ذلك من لزوم الأصول ، وانّ إقرار العقلاء جائز على نفوسهم ، بما يوجب حكما في شريعة الإسلام ، وأنّه لا يجوز له الرجوع عنه ، ولا إسقاطه ، ولا إسقاط شي ء منه ، إلا بما قد أجمعنا عليه من إسقاط بعضه بالاستثناء فحسب ، لما دللنا عليه.

ولم يذهب أحد من أصحابنا إلى هذا المقال ، ولا أودعه في كتاب ، سوى شيخنا أبي جعفر في هذين الكتابين المشار إليهما ، وهما المبسوط ومسائل الخلاف ، لأنّهما فروع المخالفين ، وما عداهما من سائر كتبه ، لم يتعرّض لذلك بقول.

وقلّده ونقل من مسطورة ابن البراج ، (1) كما قلّده في غير ذلك ممّا أجمعنا على خلافه ، من أنّ الإنسان إذا باع جارية حاملا ، لا يجوز له أن يستثنى الحمل ،

ص: 512


1- في المهذب : كتاب الإقرار ، ص 413.

لأنّه يجري مجرى بعض أعضائها (1).

وقد دللنا على فساد ذلك فيما مضى.

ولا فرق بين أن يقول ذلك ، ويقبل منه ، وبين أن يقول له عليّ ألف درهم قضيتها ، أو ألف درهم من ثمن خمر ، أو خنزير ، أو من ثمن مبيع لم أقبضه ، أو تلف قبل القبض ، فانّ شيخنا أبا جعفر في مبسوطة ، قال : فمتى أقرّ بكفالة بشرط الخيار ، أو بضمان بشرط الخيار ، مثل أن يقول : تكفلت لك ببدن فلان ، أو ضمنت لك مالك على فلان ، على أني بالخيار ثلاثة أيام ، فقد أقرّ بالكفالة ، ووصل إقراره بما يسقطها ، فلا يقبل إلا ببيّنة ، وكذلك إذا قال : له عليّ ألف درهم قضيتها ، أو ألف درهم من ثمن خمر ، أو خنزير ، أو من ثمن مبيع تلف قبل القبض (2).

فهذا جميعه أورده شيخنا مستدلا على أنّه إذا أقرّ بشي ء ، ووصل إقراره بما يسقطه ، فلا يقبل قوله إلا ببيّنة ، فيلزمه مثل ذلك فيما اختاره من أنّه يقبل قوله ، إذا وصل إقراره بقوله له عليّ ألف درهم من ثمن مبيع ، ثمّ قال : لم أقبضه ، إذ لا فرق بينهما ، وهو قائل في أحدهما بغير ما قال في الآخر ، واستدلاله فاض عليه ، وهو محجوج بقوله الذي قال فيه : إذا أقرّ بشي ء ، ووصل إقراره بما يسقطه ، فلا يقبل قوله إلا ببيّنة.

وإذا قال : لفلان عليّ ألف درهم مؤجلا إلى وقت كذا ، لزمه الألف ، ولا يثبت التأجيل ، ولشيخنا في ذلك قولان ، أحدهما أنّه يثبت التأجيل ، ويقول في موضع آخر : لا يثبت التأجيل ، وهذا الذي يقوى في نفسي لما دللنا عليه أولا.

الإقرار بالعجمية يصح ، كما يصح بالعربية ، لأنّها لغة ، ولأنّها تنبئ عمّا في النفس من الضمير كالعربية ، فإذا أقرّ بالعجمية عربي ، أو أقرّ بالعربية عجمي ، فإن كان عالما بمعنى ما يقوله ، لزمه إقراره ، وإن قال : قلت ذلك ولا أعرف

ص: 513


1- جواهر الفقه : مسائل البيع.
2- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 35 ، مع تقطيع في العبارة.

معناه ، فان صدّقه المقرّ له ، لم يلزمه شي ء فإن كذّبه فالقول قول المقرّ مع يمينه أنّه لم يدر معناه ، لأنّ الظاهر من حال العربي أنّه لا يعرف العجمية ، ومن حال العجمي أنّه لا يعرف العربية ، فقدّم قوله لهذا الظاهر.

إذا شهد عليه شهود بإقراره ، ولم يقولوا : « وهو صحيح العقل » صحّت الشهادة بذلك الإقرار ، لأنّ الظاهر صحة إقراره ، ولأنّ الظاهر أنّهم لا يتحملون الشهادة على من ليس بعاقل ، فإذا ادّعى المقرّ المشهود عليه أنّه أقرّ وهو مجنون ، وأنكر المقرّ له ذلك ، كان القول قوله مع يمينه ، لأنّ الأصل عدم الجنون ، فأمّا إذا شهد عليه الشهود بالإقرار ، فادّعى أنّه كان مكرها على ذلك ، لم يقبل منه ، لأنّ الأصل عدم الإكراه ، فإن أقام البيّنة على أنّه كان محبوسا أو مقيّدا وادّعى الإكراه ، قبل منه ذلك ، وكان القول قوله مع يمينه لأنّ الظاهر من حال المحبوس والمقيّد ، انّه مكره على تصرفه وإقراره.

إذا أقرّ الصبي على نفسه بالبلوغ ، نظر ، فإن لم يبلغ بعد القدر الذي يجوز أن يبلغ فيه ، لم يقبل إقراره ، وإن كان بلغ القدر الذي يبلغ فيه ، صحّ إقراره ، وحكم ببلوغه ، لأنّه أقرّ بما يمكن صدقه فيه.

الإقرار بالنسب لا يخلو من أحد أمرين.

إمّا أن يكون المقرّ بالنسب ، مقرا على نفسه بنسب ، أو غيره ، فان كان على نفسه ، مثل أن يقر بأنه ابنه ، نظر ، فان كان المقر به صغيرا اعتبر فيه ثلاثة شروط.

أحدها أن يمكن أن يكون ولدا له ، وإن لم يمكن أن يكون ولدا له ، فلا يثبت ، مثل أن يقرّ به ، وللمقرّ ستة عشر سنة ، وللمقرّ به عشر سنين ، والثاني أن يكون مجهول النسب ، لأنّه إذا كان معروف النسب فلا يثبت ، والثالث لا ينازعه فيه غيره لأنّه إذا نازعه فيه غيره ، لم يثبت ما يقول الّا ببيّنة ، فإذا حصّلت هذه الشروط الثلاثة ثبت النسب.

ص: 514

إذا أذن الرجل لعبده في النكاح ، فتزوّج بامرأة بمهر ، وضمن السيد ذلك المهر ، ثمّ انّه باع العبد منها بقدر المهر الذي لزمه ، لم يصح البيع ، لأنّ إثباته يؤدي إلى إسقاطه ، والمسألة مفروضة ، إذا اشترته زوجته قبل الدخول بها ، لأنّا إذا صححنا ذلك البيع ، ملكت المرأة زوجها ، وإذا ملكته انفسخ النكاح ، وإذا انفسخ النكاح ، سقط المهر ، لأنّه فسخ جاء من قبلها قبل الدخول ، وكل فسخ جاء من قبل النساء قبل الدخول أسقط جميع المهر ، فإذا سقط المهر ، عري البيع عن الثمن ، والبيع لا يصحّ إلا بالثمن ، فلما كان إثباته يؤدّي إلى إسقاطه ، لم يثبت.

إذا تسلّم المقرّ له ما حصل الإقرار به ، واستحق ببعض وجوه الاستحقاقات ، نزع من يده ، وسلم إلى مستحقه ، ولا درك للمقرّ له على المقرّ ، لاختصاص فائدة الإقرار بإسقاط حقّ المقرّ فحسب ، فإن اقترن بإقراره ضمان الدرك ، فمنع مانع من التسليم ، أو استحق بعده ، فعليه دركه من حيث كان ضمان المقرّ للدرك دلالة للحاكم ، على أنّ الإقرار حصل عن استحقاق يقتضي ضمان الدرك.

وإن كان الإقرار بعد تقدّم دعوى لقائم العين كالدار والفرس ، أو بمعيّن في الذمة ، كالدين وثمن المبيع ، والأجرة ، والأرش ، وما أشبه ذلك ، فعلى الحاكم إلزامه بالخروج إلى المقرّ له ، ممّا تعلّق بذمته ، وتسليم ما في يده من الأعيان القائمة ، فإن قامت بيّنة بعد التسليم باستحقاق عين المقرّ به ، فعلى الحاكم نزعه من يد المقرّ له به ، ولا ضمان عليه ، إلا أن يقترن الإقرار بالضمان ، أو يكون من حقوق الذمم ، كالديون وغيرها ، فيضمن على كلّ حال ، فلتلحظ هذه الجملة ، وتتأمل.

قال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة في كتاب الإقرار : إذا أعتق رجل عبدين في حال صحّته ، فادّعى عليه رجل أنّه غصبهما منه ، وأنّهما مملوكان له ، فأنكر ذلك المعتق ، فشهد له المعتقان بذلك ، لم تقبل شهادتهما ، لأنّ إثبات شهادتهما يؤدّي إلى إسقاطها ، لأنّه إذا حكم بشهادتهما ، لم ينفد العتق ، وإذا لم ينفذ العتق ، بقيا على رقهما ، وإذا بقيا على رقهما ، لم تصح شهادتهما ، فلمّا كان إثباتها

ص: 515

يؤدّي إلى إسقاطها ، لم يحكم بها ، قال رحمه اللّه ، وهذا على مذهبنا أيضا ، لا تقبل شهادتهما ، لأنّا لو قبلناها ، لرجعا رقين ، وتكون شهادتهما على المولى ، وشهادة العبد لا تقبل على مولاه ، فلذلك بطل ، لا لما قالوا (1) هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة.

قال محمّد بن إدريس : ما ذهب إليه شيخنا رحمه اللّه في ذلك ، غير واضح ، بل هو ضد لما عليه إجماعنا وتواتر أخبارنا (2) بغير خلاف ، وقد أورد ذلك في نهايته (3) ، إنّ شهادتهما مقبولة.

وما اعتل به غير مستقيم ، لأنّهما في حال شهادتهما وإقامتها وسماع الحاكم لها لم يكونا عبدين ، بل كانا حرين على ظاهر الحال ، بغير خلاف ، فما شهدا في حال ما شهدا وأقاما ، إلا على غير سيدهما ، فلا يؤثر بعد ذلك ما يتعقب الشهادة ، لأنّ المؤثرات في وجوه الأحكام ، لا يكون لها حكم ، إلا أن تكون مقارنة غير متأخرة ، بل إن قيل : إنّ شهادتهما لسيدهما الحقيقي لا عليه ، كان صحيحا ، ومثل هذه المسألة بل هي بعينها من الحكم منصوصة لأصحابنا ، الرواية بها متواترة ، لا يتعاجم في ذلك اثنان من أصحابنا.

وأيضا فالشاهد إذا شهد عند الحاكم ، وكان وقت شهادته مقبول الشهادة ، لا يؤثّر بعد ذلك ما يطرأ عليه من تجدد فسق ، بل يجب على الحاكم الحكم بشهادته ، فلو شرب بعد إقامة شهادته بلا فصل خمرا ، وقبل الحكم بها ، فإنّ الحاكم يحكم بها ، ولا يطرحها بغير خلاف بيننا ، إلا أن يرجع الشاهد عنها قبل الحكم بها ، فيطرحها الحاكم إذا كان رجوعه قبل الحكم بها ، فأمّا إذا كان رجوعه عنها بعد الحكم بها ، فلا يرجع الحاكم عن الحكم بها ، ولا ينقض حكمه.

ص: 516


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب الإقرار ، ص 42.
2- الوسائل : الباب 23 ، ح 7 ، والباب 29 ، ح 1 ، من أبواب الشهادات.
3- النهاية : كتاب الشهادة ، باب شهادة العبيد والإماء ، والعبارة هكذا : وإذا شهد العبد على سيّده بعد أن يعتق قبلت شهادته عليه.

كتاب النكاح

اشارة

ص: 517

كتاب النّكاح

قال اللّه تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (1) فندب تعالى إلى التزويج ، وقال عزّ اسمه ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ ) (2) فندب إلى التزويج ، وقال تعالى ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ) (3) فمدح تعالى من حفظ فرجه إلا على زوجه أو ملك يمينه ، وروى ابن مسعود عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه قال : معاشر الشباب ، من استطاع منكم الباءة ، فليتزوج ، ومن لا يستطيع فعليه بالصوم ، فإن له وجاء (4) فجعله كالموجوء ، وهو الذي رضّت خصيتاه ، ومعناه أنّ الصوم يقطع الشهوة.

قال محمّد بن إدريس : الباءة النكاح بعينه ، ونظيرها من الفعل فعلة بفتح الفاء والعين ، وفيها لغة أخرى باءه بهاء أصلية ، ونظير ذلك من الفعل فاعل ، كقولك عالم ، وخاتم ، وفيها لغة أخرى الباه ، مثل الجاه.

وروي عنه عليه السلام أنّه قال : « من أحبّ فطرتي فليستن بسنّتي ، ألا وهي النكاح » (5) وقال عليه السلام : « تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط » (6).

وأجمع المسلمون على أنّ التزويج مندوب إليه ، وإن اختلفوا في وجوبه.

ص: 518


1- النساء : 3.
2- النور : 32.
3- المؤمنون : 5 و 6 والمعارج : 29 و 30.
4- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح ، ح 21 ، 17 لكن الزيادة في العبارة في الأوّل والنقيصة في الثاني.
5- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح ، ح 6 باختلاف يسير.
6- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب مقدمات النكاح ، ح 21 ، 17 لكن الزيادة في العبارة في الأوّل والنقيصة في الثاني.

فإذا ثبت ذلك ، فيحتاج أولا أن نبيّن من يحرم نكاحه ، ثم نبيّن أقسام النكاح المباح ، وشروطه ، والأسباب الموجبة لتحريم الوطء بعد صحة العقد ، وما يتعلّق بذلك كلّه من الأحكام.

فنقول : من يحرم عليه العقد عليهن على ضربين ، أحدهما يحرم على كل حال ، والثاني يحرم في حال دون حال.

فالضرب الأول المحرّمات بالنسب ، أوهن ست ، الأم وإن علت ، والبنت وإن نزلت ، والأخت ، وبنت الأخ ، والأخت ، وإن نزلتا ، والعمّة ، والخالة وإن علتا ، بلا خلاف.

والمحرّمات بالرضاع وهن ست أيضا كالمحرّمات بالنسب ، إلا أنّ الراضع من لبن المرأة يحرم عليه كلّ من ينتسب إلى بعلها بالولادة والرضاع ، ولا يحرم عليه من ينتسب إلى المرأة إلا بالولادة دون الرضاع.

ولا يقتضي التحريم الرضاع إلا بشروط.

منها أن يكون سنّ الراضع دون سنّ المرتضع من لبنه دون الحولين ، وقد ذهب بعض أصحابنا المتأخرين في تصنيف له إلى أن قال : منها أن يكون سن الراضع والمرتضع من لبنه دون الحولين ، وهذا خطأ من قائله ، لأنّ الاعتبار بسن الراضع ، لأنّ المرأة إذا كان بها لبن ولادة حلال ، ومضى لها أكثر من حولين ، ثمّ أرضعت من له أقلّ من حولين الرضاع المحرم ، انتشرت الحرمة ، ويتعلّق عليه وعليها أحكام الرضاع بغير خلاف من محصّل.

واعتبارنا الحولين في المرتضع لدليل إجماع الطائفة ، وأيضا قوله تعالى : ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ ) (1) لأنّ المراد إثبات الرضاع الشرعي الذي تتعلّق به الحرمة ، بدليل أنّه تعالى

ص: 519


1- البقرة : 233.

لا يجوز أن يريد الرضاع اللغوي ، لأنّه ينطلق على ما يحصل بعد الحولين وقبل تمامها ، ولا يريد نفي جوازه دونهما أو بعدهما ، لأنّ ذلك جائز. بلا خلاف ، ولا نفي الكفاية بدونهما أو بعدهما ، لأنّ الكفاية قبل تمامها قد تحصل بلا شبهة ، فلم يبق إلا ما قلناه.

ومن شرط تحريم الرضاع أن يكون لبن ولادة من عقد أو شبهة عقد ، لا لبن در أو لبن نكاح حرام ، بدليل إجماعنا.

ومنها أن يكون ما ينبت اللحم ويشد العظم ، فإن لم يحصل ذلك فيوما وليلة ، أو عشر رضعات متواليات ، على الصحيح من المذهب ، وذهب بعض أصحابنا إلى خمس عشرة رضعة ، معتمدا على خبر واحد ، رواية عمار بن موسى الساباطي (1) وهو فطحي المذهب ، مخالف للحق ، مع انّا قدّمنا أنّ أخبار الآحاد لا يعمل بها ، ولو رواها العدل ، فالأول مذهب السيد المرتضى وخيرته (2) ، وشيخنا المفيد (3) ، والثاني خيرة شيخنا أبي جعفر الطوسي (4) ، والأوّل هو الأظهر الذي تقتضيه أصول المذهب ، لأنّ الرضاع يتناول القليل والكثير ، فالإجماع حاصل على العشرة ، وتخصّصها ، ولأنّ بعض أصحابنا يحرم بالقليل من الرضاع والكثير ، ويتعلّق بالعموم ، فالأظهر ما اخترناه ففيه الاحتياط.

وكلّ رضعة من العشر رضعات تروي الصبي.

ولا يفصل بينها برضاع امرأة أخرى ، فأمّا إن فصل بين العشر رضعات بشرب لبن من غير رضاع ، فلا تأثير له في الفصل ، بل حكم التوالي باق بلا خلاف بين أصحابنا في جميع ذلك.

ص: 520


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب ما يحرم بالرضاع ، ح 1.
2- لم نعثر عليه.
3- في المقنعة : أبواب النكاح ، باب ما يحرم النكاح من الرضاع ، وما لا يحرم منه ص 503.
4- في النهاية : كتاب النكاح ، باب مقدار ما يحرم من الرضاع وأحكامه ، وفي الخلاف : كتاب الرضاع ، المسألة 3.

وجملة الأمر وعقد الباب ، أنّه لا يحرم من الرضاع عندنا إلا ما وصل إلى الجوف من الثدي ، من المجرى المعتاد الذي هو الفم ، فأمّا ما يوجر به ، أو يسعط ، أو ينشق ، أو يحقن به ، أو يحلب في عينه ، فلا يحرم بحال.

ولبن الميتة فلا حرمة له في التحريم.

ولا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين.

ولا يثبت الرضاع بشهادة النساء لا المرضعة ولا غيرها ، كثرن أو قللن ، على الظاهر من أقوال أصحابنا ، وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنّ الشهادة.

والعمل بها حكم شرعي يحتاج إلى أدلة شرعيّة ، ولا دليل على ذلك ، من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع.

ومن هذا الضرب من المحرمات أم المعقود عليها ، سواء دخل بالبنت أو يدخل ، لأنّ اللّه تعالى قال ( وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ) (1) وهذه من جملة أمهات النساء ، ولم يشترط الدخول.

ومن هذا الضرب أيضا بنت المدخول بها ، سواء كانت في حجر الزوج أو لم تكن ، بلا خلاف إلا من داود ، فإنّه قال : إن كانت في حجره حرمت ، وإلا فلا ، ظنا منه أنّ قوله تعالى ( اللّاتِي فِي حُجُورِكُمْ ) (2) شرط في التحريم ، وليس ذلك شرطا ، وانّما هو وصف لهن ، لأنّ الغالب في العادات أنّ الربيبة تكون في حجره.

ويحرم تحريم جمع ، أربع : وهما الأختان ، والمرأة وعمتها ، إلا برضاها عندنا ، فأمّا بين الأختين ، فلا يعتبر الرضا ، والمحرّم من الجمع بين المرأة وعمتها ، انّ التحريم ، إذا ارتفع الرضا ، وكانت الداخلة بنت الأخ ، أو بنت الأخت ، فأمّا إن كانت الداخلة العمة والخالة فلا تحريم ، عند أصحابنا ، سواء رضيت المدخول عليها ، أو لم ترض ، ومن تحريم الجمع المرأة وخالتها ، وجميع ما قلناه من

ص: 521


1- النساء : 23.
2- النساء : 23.

الأحكام بين المرأة وعمتها ، هو بعينه ثابت بين المرأة وخالتها ، حرفا فحرفا ، والمرأة وبنتها قبل الدخول ، فمتى طلّق الأم قبل الدخول حلّ له نكاح البنت ، إلا أن يدخل بالأم ، فتحرم الربيبة على التأبيد.

وكل من حرمت عينا ، تحرم جمعا ، وكلّ من حرمت جمعا ، لا تحرم عينا إلا الربيبة ، فإنها تحرم عينا تارة وجمعا أخرى ، لأنّه إذا عقد على المرأة حرم عليه نكاح بنتها قبل الدخول من حيث الجمع ، فإن طلّقها حلّ له نكاح الربيبة ، فإن دخل بها حرمت الربيبة على التأبيد ، وهكذا الحكم في الرضاع حرفا فحرفا.

وقد بيّنا أنّ الجمع بين الأختين في النكاح لا يجوز بلا خلاف ، لقوله تعالى ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) (1).

فإذا ثبت أنّ الجمع محرم ، فله أن ينكح كلّ واحدة منهما على الانفراد. فان جمع بينهما ، فالجمع جمعان ، جمع مقارنة ، وجمع متابعة.

فالمتابعة أن يتزوج امرأة ، ثمّ يتزوج عليها أختها أو عمتها ، أو خالتها ، أو بنت أخيها ، أو بنت أختها ، فنكاح الثانية باطل ، ونكاح الاولى صحيح.

فأمّا جمع المقارنة ، فان يعقد عليهما معا في دفعة واحدة ، فإذا فعل هذا كان العقد باطلا على الصحيح من المذهب ، لأنّه عقد منهي عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه.

وقال شيخنا رحمه اللّه في نهايته : يمسك أيّتهما شاء (2) ، والأظهر الأول.

وكذلك الحكم فيمن عنده ثلاث نسوة ، وعقد على اثنتين في عقد واحد ، فانّ العقد باطل ، لأنّه عقد منهي عنه.

وروي أنّه يمسك أيّتهما شاء منهما (3) ، والصحيح ما قدّمناه ، وقال بعض أصحابنا : تحرم أم المزني بها وابنتها.

ص: 522


1- النساء : 23.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
3- الوسائل : الباب 25 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، وكذلك ورد فيمن تزوج خمسا في عقد واحد في الباب 4 من أبواب ما يحرم باستيفاء العدد.

والأظهر والأصح من المذهب ، أنّ المزني بها لا تحرم أمها ولا ابنتها ، للأدلّة القاهرة من الكتاب والسنّة والإجماع ، وهذا المذهب الأخير ، مذهب شيخنا المفيد ، محمّد بن محمد بن النعمان (1) ، والسيد المرتضى (2) ، والأول مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في نهايته (3) ومسائل خلافه (4) ، وإن كان قد رجع عنه في التبيان ، في تفسير قوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (5) الآية فقال : وأمّا المرأة التي وطأها بلا تزويج ، ولا ملك يمين ، فليس في الآية ما يدل على أنّه يحرم وطء أمها وبنتها : لأنّ قوله ( وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ ) وقوله ( مِنْ نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ) (6) يتضمن اضافة الملك ، إمّا بالعقد أو بملك اليمين ، فلا يدخل فيه من لا يملك وطيها ، غير أنّ قوما من أصحابنا ألحقوا ذلك بالموطوءة بالعقد والملك ، بالسنة والأخبار المروية في ذلك (7) ، وفيه خلاف بين الفقهاء (8) هذا آخر كلامه في التبيان.

والذي يدل على صحة ما اخترناه ، أنّ الأصل الإباحة ، والحظر يحتاج إلى دليل ، وقوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (9) وهما داخلتان في عموم الآية ، وقول الرسول عليه السلام : « لا يحرّم الحرام الحلال » (10) ولا إجماع على ما ذهب إليه من خالف في هذه المسألة ، فلا يرجع عن هذه الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

ويحرم على الأب زوجة الابن ، سواء دخل بها الابن أو لم يدخل. ويحرم

ص: 523


1- في المقنعة : أبواب النكاح ، باب الرجل يفجر بالمرأة ص 504.
2- في الانتصار : كتاب النكاح ، المسألة 7.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
4- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 79.
5- النساء : 23.
6- النساء : 23.
7- الوسائل : الباب 6 و 7 و 8 ، من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.
8- التبيان في تفسير القرآن : ج 5 ، ص 160.
9- النساء : 3.
10- الوسائل : الباب 6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، الحديث 12.

على الابن زوجة الأب أيضا ، سواء دخل بها أو لم يدخل ، بمجرد العقد ، تحرم المرأتان تحريم أبد.

وقال بعض أصحابنا : يحرم على كلّ واحد منهما العقد على من زنى بها الآخر ، وتمسك في التحريم على الابن ، بقوله تعالى ( وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (1) وقال : لأنّ لفظ النكاح يقع على العقد والوطء معا.

قال محمّد بن إدريس : وهذا تمسك ببيت العنكبوت ، لأنّه لا خلاف أنّه إذا كان في الكلمة عرفان ، عرف اللغة وعرف الشرع ، كان الحكم لعرف الشرع ، دون عرف اللغة ، ولا خلاف أنّ النكاح في عرف الشرع هو العقد حقيقة ، وهو الطاري على عرف اللغة ، وكان ناسخا له ، والوطء الحرام لا ينطلق عليه في عرف الشرع اسم النكاح ، بغير خلاف.

قال شيخنا أبو جعفر ، في كتاب العدة : إنّ النكاح اسم للوطء حقيقة ، ومجاز في العقد ، لأنّه موصل إليه ، وإن كان بعرف الشرع قد اختص بالعقد ، كلفظ الصلاة وغيرها (2) هذا آخر كلامه في عدته.

فقد اعترف أنّه قد اختص بعرف الشرع بالعقد ، وأيضا قوله تعالى « إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ ) (3) فقد سمى اللّه تعالى العقد نكاحا ، بمجرده ، وذهب الباقون من أصحابنا إلى أنّ ذلك لا يحرم على كلّ واحد منهما ما فعله الآخر.

وهذا مذهب شيخنا المفيد (4) ، والسيد المرتضى (5) ، وهو الصحيح الذي يقوى في نفسي ، لأنّ الأصل الإباحة ، ويعضده قوله تعالى « فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ » وهذه قد طابت ، والأول مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في

ص: 524


1- النساء : 22.
2- عدة الأصول : ج 1 ، ص 169 - 170.
3- الأحزاب : 49.
4- في المقنعة : كتاب النكاح ، باب من يحرم نكاحهن ص 500.
5- في الانتصار : كتاب النكاح ، مسألة 7.

بعض كتبه (1) وقول الرسول عليه السلام : « لا يحرّم الحرام الحلال » دليل على صحة ما قلناه واخترناه.

ويحرم العقد على الزانية ، وهي ذات بعل ، أو في عدة رجعية ، ممن زنى بها سواء علم في حال زناه بها أنّها ذات بعل ، أو لم يعلم تحريم أبد.

ومن أوقب غلاما أو رجلا حرم على اللائط الموقب بنت المفعول به ، وامه ، وأخته تحريم أبد ، ويدخل في تحريم الام تحريم الجدة ، وإن علت ، لأنّها أمّ عندنا حقيقة ، وكذلك بنت البنت ، وكذلك بنت ابن بنته ، وإن سفلن (2) لأنّهن بناته حقيقة ، وأمّا بنت أخته ، فإنّها لا تحرم ، لأنّ بنت الأخت ليست أختا.

وحدّ الإيقاب المحرّم لذلك ، إدخال بعض الحشفة ولو قليلا ، وإن لم يجب عليه الغسل ، لأنّ الغسل لا يجب إلا بغيبوبة الحشفة جميعها ، والتحريم لهؤلاء المذكورات ، يتعلّق بإدخال بعضها ، لأنّ الإيقاب هو الدخول.

فأمّا المفعول به فلا يحرم عليه من جهة الفاعل شي ء.

ويحرم أيضا على التأبيد ، المعقود عليها في عدة معلومة ، أيّ عدة كانت ، أو إحرام معلوم ، والمدخول بها فيهما على كلّ حال ، سواء كان عن علم أو جهل بها والمطلّقة تسع تطليقات للعدة ، ينكحها بينها رجلان ، تحرم تحريم أبدا على مطلّقها هذا الطلاق.

وتحرم أيضا تحريم أبد الملاعنة.

ومن قذف زوجته ، وهي صماء أو خرساء ، تحرم عليه تحريم أبد.

ويدلّ على تحريم ذلك أجمع ، إجماع أصحابنا عليه ، فهو الدليل القاطع على ذلك ، واستدلال المخالف علينا في تحليل هؤلاء بأنّ الأصل الإباحة ، وبظواهر القرآن ، كقوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (3) وقوله : ( وَأُحِلَّ

ص: 525


1- في النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
2- ج : سفل.
3- النساء : 3.

لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (1) غير لازم ، لأنّا نعدل عن ذلك بالدليل الذي هو إجماعنا ، كما عدلوا عنه في تحريم نكاح المرأة على عمتها وخالتها بغير خلاف بينهم ، فإذا ساغ لهم العدول ، ساغ لغيرهم العدول عن العموم بالدليل ، لأنّه لا خلاف أنّ العموم قد يخص بالأدلة.

وحكم الإماء في التحريم بالنسب والرضاع وغيره من الأسباب ، حكم الحرائر.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة إذا زنى بامرأة ، فأتت ببنت ، يمكن أن تكون منه ، لم تلحق به ، بلا خلاف ، ولا يجوز له أن يتزوجها ، وبه قال أبو حنيفة. ثمّ حكى عن الشافعي جواز أن يتزوجها ، ثم استدل شيخنا على ما اختاره ، فقال : دليلنا ما دللنا عليه ، من أنّه إذا زنى بامرأة ، حرمت عليه بنتها ، وانتشرت الحرمة ، وهذه بنتها ، ثم قال : وأيضا قوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ ) (2) وهذه بنته لغة ، وإن لم تكن شرعا (3).

قال محمّد بن إدريس : لم تحرم عليه هذه البنت ، من حيث ذهب شيخنا إليه ، لأنّ عند المحصّلين من أصحابنا إذا زنى بامرأة لم تحرم عليه بنتها ، وقد دللنا على ذلك ، وقوله : هي بنته لغة ، فعرف الشرع ، هو الطارئ على عرف اللغة ، وإنّما تحرم عليه إذا كان الزاني مؤمنا ، لأنّ البنت المذكورة كافرة على ما يذهب إليه أصحابنا من أنّ ولد الزنا كافر ، ولا يجوز للمؤمن أن يتزوج بكافرة ، فمن هذا الوجه تحرم ، لا من الوجهين المقدّم ذكرهما.

وأمّا من يحرم العقد عليه في حال دون حال ، فأخت المعقود عليها بلا خلاف ، أو الموطوءة بالملك بلا خلاف ، إلا من داود بن علي الأصفهاني ، ويدلّ على ذلك قوله تعالى ( وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ) (4) لأنّه لم يفصّل.

والخامسة حتى تبين إحدى الأربع ، بما يوجب البينونة.

ص: 526


1- النساء : 24.
2- النساء : 23.
3- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 83.
4- النساء : 23.

والمطلقة ثلاثا سواء كان ذلك طلاق العدّة ، أو طلاق السنّة ، على ما تبينه ، حتى تنكح زوجا غيره مخصوصا ، نكاحا مخصوصا ، ويدخل بها دخولا مخصوصا ، وتبين منه ، وتنقضي العدة.

والمطلّقة التي تلزمها العدّة حتى تخرج من عدّتها.

ومن عليها عدّة وإن لم تكن مطلّقة ، حتى تخرج من العدّة ، كلّ هذا بدليل إجماعنا.

وبنت الأخ على عمتها ، وبنت الأخت على خالتها ، بغير إذن ورضاء منهما عندنا.

والأمة على الحرة بغير إذنها ورضاها.

والزانية حتى تتوب على الزاني بها ، إذا لم تكن ذات بعل عند بعض أصحابنا ، وهو الذي ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، إلا أنّه رجع عن ذلك في مسائل خلافه ، فقال : ذلك على الاستحباب دون الوجوب (2) ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وافتي به ، لأنّ الأصل الإباحة ، وقوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (3).

ويحرم عقد الدوام على الكافرة ، وإن اختلفت جهات كفرها ، حتى تتوب من الكفر ، إلا على وجه نذكره بدليل إجماع الطائفة ، ولقوله تعالى ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (4) وقوله ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ ) (5) وقوله ( لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ ) (6) لأنّه نفى بالظاهر للتساوي في جميع الأحكام التي من جملتها المناكحة ، فأمّا قوله تعالى ( وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (7) نخصّه بالنكاح المؤجل ، فإنّه جائز عند بعض أصحابنا على الكتابيات اليهود والنصارى ، دون المجوسيات ، أو نحمله عليهن ، إذا كنّ مسلمات ، بدليل ما قدّمناه ، ولا يمتنع أن يكون من جهة

ص: 527


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
2- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 71.
3- النساء : 3.
4- الممتحنة : 10.
5- البقرة : 221.
6- الحشر : 20.
7- المائدة : 5.

الشرع قبل ورود هذا البيان فرق بين من آمنت بعد كفر ، وبين من لم تكفر أصلا ، فيكون في البيان لإباحة نكاح الجميع فائدة.

فإن قالوا : لستم بتخصيص هذه الآية بما ذكرتموه ، ليسلم لكم ظواهر آياتكم بأولى منا ، إذا خصصنا ظواهركم بالمرتدات ، والحربيات ليسلم لنا ظواهر الآيات التي نستدل بها.

قلنا : غير مسلّم لكم التساوي في ذلك ، نحن أولى بالتخصيص منكم ، لأنّكم تعدلون عن ظواهر كثيرة ، ونحن نعدل عن ظاهر واحد ، وإذا كان العدول عن الحقيقة إلى المجاز انّما يفعل للضرورة ، فقليله أولى من كثيره بغير شبهة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويحرم وطء جارية قد ملكها الأب أو الابن ، إذا جامعاها ، أو نظرا منها إلى ما يحرم على غير مالكها النظر إليه ، أو قبلاها بشهوة (1).

قال محمّد بن إدريس : امّا إذا جامعاها ، فلا خلاف في ذلك من جهة الإجماع ، ولو لا الإجماع لما كان على حظر ذلك دليل من جهة الكتاب أو السنّة المتواترة ، فأمّا إذا قبلاها ، أو نظرا إليها على ما قال رحمه اللّه ، فلا إجماع على حظر ذلك ، بل الأصل الإباحة ، مع قوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (2) وقوله ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (3) وهذا مذهب شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان (4) ، والفقيه أبي يعلى سلّار رحمهما اللّه (5) ، وبه افتي.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا ملك الرجل جارية ، فوطأها ابنه قبل أن يطأها ، حرم على الأب وطؤها ، فإن وطأها بعد وطء الأب لم يحرم ذلك على الأب وطؤها (6).

ص: 528


1- النهاية : كتاب النكاح باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
2- النساء : 3.
3- النساء : 3.
4- في المقنعة : أبواب النكاح ، باب من يحرم نكاحهن ، آخر الباب ص 502.
5- في المراسم : كتاب النكاح ، والعبارة هكذا : وقد روي أنّ الأب إذا نظر من أمته إلى ما يحرم على غيره النظر إليه بشهوة لا تحلّ لابنه أبدا.
6- النهاية : كتاب النكاح باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.

قال محمّد بن إدريس : لا فرق بين الأمرين في أنّ ذلك لا يحرّمها على الأب ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : لا يحرّم الحرام الحلال (1) وقال تعالى :

( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (2) وهذه قد طابت ، وقال تعالى ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (3) وهذه ملك يمين ، والأصل الإباحة أيضا ، فلا يرجع عن هذه الأدلة القاهرة بأخبار الآحاد ، إذ لا إجماع منعقد على تحريم هذه الجارية على الأب ، ولا نص كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ودليل العقل غير مانع من وطيها ، وإلى هذا ذهب شيخنا ، أبو جعفر محمّد بن علي بن بابويه ، في كتابه ، كتاب من لا يحضره فقيه ، قال : وإن زنى رجل بامرأة ابنه أو امرأة أبيه ، أو بجارية ابنه ، أو بجارية أبيه ، فإنّ ذلك لا يحرّمها على زوجها ، ولا يحرم الجارية على سيّدها ، وانّما يحرّم ذلك إذا كان ذلك منه بالجارية وهي حلال ، فلا تحل تلك الجارية أبدا لابنه ، ولا لأبيه (4) هذا آخر كلام ابن بابويه.

ونعم ما قال ، فإنّه كان ثقة جليل القدر ، بصيرا بالأخبار ، ناقدا للآثار ، عالما بالرجال ، حفظة ، وهو أستاذ شيخنا المفيد ، محمّد بن محمّد بن النعمان.

وقد روى أنّ من فجر بعمته أو خالته لم تحل له ابنتاهما أبدا (5) ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (6) ، وشيخنا المفيد في مقنعته (7) ، والسيد المرتضى في انتصاره (8) ، فإن كان على المسألة إجماع ، فهو الدليل عليها ، ونحن قائلون وعاملون بذلك ، وإن لم يكن إجماعا ، فلا دليل على تحريم البنتين المذكورتين ، من كتاب ولا سنّة ، ولا دليل عقل ، وليس دليل الإجماع في قول رجلين ، ولا

ص: 529


1- الوسائل : الباب 6 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 12.
2- النساء : 3.
3- النساء : 3.
4- من لا يحضره الفقيه : باب ما أحلّ اللّه عزوجل من النكاح وما حرّم منه ، ج 3 ، ص 293 ، ذيل الحديث 41.
5- الوسائل : الباب 10 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.
6- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
7- المقنعة : أبواب النكاح ، باب من يحرم نكاحهن ص 501.
8- الانتصار : كتاب النكاح ، المسألة 7.

ثلاثة ، ولا من عرف اسمه ونسبه ، لأنّ وجه كون الإجماع حجة عندنا ، دخول قول معصوم من الخطأ في جملة القائلين بذلك ، فإذا علمنا في جماعة قائلين بقول أنّ المعصوم ليس هو في جملتهم ، لا نقطع على صحة قولهم إلا بدليل غير قولهم ، وإذا تعيّن المخالف من أصحابنا باسمه ونسبه ، لم يؤثر خلافه في دلالة الإجماع ، لأنّه انّما كان حجة لدخول قول المعصوم فيه ، لا لأجل الإجماع ، ولما ذكرناه يستدل المحصّل من أصحابنا على المسألة بالإجماع ، وإن كان فيها خلاف من بعض أصحابنا المعروفين بالأسامي والأنساب ، فليلحظ ذلك وليحقق.

وإذا تزوج الرجل بصبية لم تبلغ تسع سنين ، فوطأها قبل التسع ، لم يحل له وطؤها أبدا ، وهو بالخيار بين أن يطلّقها ، أو يمسكها ، ولا يحلّ له وطؤها أبدا ، وليس بمجرد الوطء تبين منه ، وينفسخ عقدها كما يظن ذلك من لا يحصل شيئا من هذا الفن ، ولا يفهم معنى ما يقف عليه من سواد الكتب.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا تزوج الرجل بصبيّة لم تبلغ تسع سنين ، فوطأها ، فرّق بينهما ، ولم تحل له أبدا (1).

معنى قوله رحمه اللّه « فرق بينهما » المراد بذلك في الوطء ، دون بينونة العقد وانفساخه ، لأنّ الإجماع منعقد منه رحمه اللّه ومن أصحابنا بأجمعهم ، أنّ من دخل بامرأة (2) ووطأها ولها دون تسع سنين ، وأراد طلاقها ، طلّقها على كلّ حال ، ولا عدّة عليها منه بعد الطلاق ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، فإذا كانت قد بانت بوطئه لها قبل بلوغها التسع ، فلا حاجة إلى طلاقها ، ولا يتقدر ذلك بحال.

وقد كنّا أملينا مسألة قبل تصنيفنا لهذا الكتاب بسنين عدة ، في هذا المعنى ، فأحببنا إيرادها هاهنا ، وها هي.

إن سأل سائل فقال : أرى في معظم كتبكم مسألة ظاهرها متضاد متناف ،

ص: 530


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
2- ل. ق : بامرأته.

وهي من وطأ زوجته ولها دون تسع سنين ، حرّمت عليه أبدا ، وفرّق بينهما بغير خلاف بينكم في ذلك ، هذا في أبواب النكاح من تصانيف أصحابكم ، ثمّ في أبواب الطلاق وأقسامه يذكر هؤلاء أصحاب الكتب والتصانيف من أصحابكم بغير خلاف بينهم ، أقسام الطلاق ، ومن تجب عليها عدّة ، ومن لا تجب ، فيقولون : من دخل بامرأته (1) ولها دون تسع سنين ، وأراد طلاقها ، فليطلّقها على كلّ حال ، وليس له عليها بعد طلاقه لها عدة ، وإن كانت مدخولا بها على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وقد قلتم انّ من دخل بزوجته ولها دون تسع سنين ، لا تحل له أبدا ، وحرّمت عليه أبدا ، ويفرّق بينهما ، فإذا كان قد حرّمت عليه أبدا ولا تحلّ له ابدا ، فلا تحتاج حينئذ إلى طلاق ، لأن من يحرم أبدا وطؤها على زوجها ، ولا تحلّ له أبدا ، كيف تقولون إذا أراد طلاقها فليطلقها ، وهذا ظاهره متناقض متناف كما ترى.

قلنا : ليس بين القول بصحة طلاق من ذكر في السؤال ، وبين تحريم وطئها على زوجها أبدا وأنّها لا تحلّ له أبدا ، تناف ولا تضاد ، ولا تناقض ، على ما ظنه السائل ، واعتقده ، وأي تضاد بين تحريم وطئها على زوجها وصحة طلاقها ، لأنّ صحة الطلاق مبنيّ على صحة العقد ، ولا خلاف في صحة عقدها أولا وأنّها زوجته ، فطريان التحريم ، وإن وطئها لا يحل له أبدا ، لا يخرجها من كونها زوجة له ، وإن عقدها الأول غير صحيح ، أو قد انفسخ ، إذ لا تنافي بين الحكمين ، لأنّ الأصل صحة العقد واستدامته ، فمن ادّعى بطلانه بوطئه لها قبل بلوغها تسع سنين يحتاج إلى دليل.

فإن قيل : كيف يكون عقدها ثابتا على ما كان عليه أولا ، وهو. لا يحل له وطؤها أبدا؟

قلنا : هذا غير مستبعد من الأحكام الشرعية والمصالح الدينية ، لأنّا نثبتها

ص: 531


1- ج : بامرأة.

بحسب الأدلة ، إذ لا تنافي بينهما على ما مضى ذكره ألا ترى أنّ من ظاهر من امرأته أو آلى منها ولم يكفر عن ظهاره ولا عن إيلائه ، ولا رافعته إلى الحاكم ، واستمر ذلك منها مائة سنة ، فإنّ نكاحها محرّم عليه ، ولا يحل له وطؤها بغير خلاف ، وهي زوجته وعقدها باق ، ويصح طلاقها بغير خلاف ، إذ لا تنافي بينهما ، وكذلك من كان في فرجها قرح أو ألم يضرها الوطء ، ويخشى على نفسها من الوطء في الموضع ، واستمر ذلك تقديرا مائة سنة ، فانّ وطئها لا يحل لزوجها ، وعقدها باق ، ويصح طلاقها بغير خلاف ، إذ لا تضاد بين الحكمين ، أعني تحريم الوطء ، وبقاء العقد على ما كان ، وصحة الطلاق.

وأيضا فقد وردت الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم السلام ، بصحة ما ذكرناه ، فمن ذلك ما أورده شيخنا الصدوق أبو جعفر محمّد بن علي بن الحسين بن بابويه القمي ، في كتابه كتاب من لا يحضره فقيه (1) ، قال : روى الحسن بن محبوب ، عن أبي أيوب ، عن حمران ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : سئل عن رجل تزوّج جارية بكرا لم تدرك ، فلمّا دخل بها افتضها فأفضاها ، قال : إن كان دخل (2) بها ولها تسع سنين ، فلا شي ء عليه ، وإن كانت لم تبلغ تسع سنين ، أو كان لها أقل من ذلك بقليل حين دخل بها ، فافتضّها ، فإنّه قد أفسدها وعطلها على الأزواج ، فعلى الإمام أن يغرمه ديتها ، وإن أمسكها ولم يطلّقها حتى تموت ، فلا شي ء عليه (3).

ألا تراه عليه السلام قد أثبت له الخيرة بين إمساكها وطلاقها ، بقوله : « فإن أمسكها ولم يطلقها » فلو كانت بنفس الوطء قبل بلوغ تسع سنين تبين منه ، وينفسخ عقدها ، لما قال عليه السلام : « فإن أمسكها ولم يطلقها حتى تموت فلا شي ء عليه ».

ص: 532


1- من لا يحضره الفقيه : باب ما أصل اللّه عزوجل من النكاح وما حرّم منه ، ج 3 ، ص 272 ، ح 79 ، وفي الوسائل : الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 1.
2- ج : دخل حين دخل.
3- الوسائل : الباب 45 من أبواب مقدمات النكاح ، ح 9.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي يصرّح بهذا ، وأورد في كتابه الاستبصار ، من الأخبار ما يؤذن ببقاء العقد والتخيير بين الطلاق والإمساك ، لمن ذكرنا حاله ، ويتأول بعض الأخبار ، وجمع بين معانيها ، ولائم بين ألفاظها ، في أنّه يحرم عليه وطؤها ، ولا تحلّ له أبدا ، ويصح طلاقها بعد ذلك ، أورده في الجزء الثالث ، في باب من وطأ جارية فأفضاها ، قال الحسن بن محبوب ، عن الحارث بن محمّد بن النعمان ، صاحب الطاق ، عن بريد العجلي ، عن أبي جعفر عليه السلام ، في رجل افتضّ جارية ، يعني امرأته فأفضاها ، قال : عليه ديتها إن كان دخل بها قبل أن تبلغ تسع سنين ، قال : فإن أمسكها فلم (1) يطلّقها فلا شي ء عليه ، وإن كان دخل بها ولها تسع سنين ، فلا شي ء عليه ، إن شاء أمسك ، وإن شاء طلّق (2).

فأمّا ما رواه ابن أبي عمير عن حمّاد ، عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : سألته عن رجل تزوج جارية ، فوقع بها فأفضاها ، قال : عليه الاجراء عليها ما دامت حيّة (3).

فلا ينافي الخبر الأول ، لأنّا نحمل هذا الخبر على من وطأها بعد التسع السنين ، فإنّه لا تكون عليه الدية ، وانّما يلزمه الاجراء عليها ما دامت حيّة ، لأنّها لا تصلح للرجال ، ولا ينافي هذا التأويل قوله في الخبر الأول : « إن شاء طلّق وإن شاء أمسك ، إذا كان الدخول بعد تسع سنين » لأنّه قد ثبت له الخيار بين إمساكها وبين طلاقها ، ولا يجب عليه واحد منهما ، وإن كان يلزمه النفقة عليها علىّ كلّ حال ، لما قدّمناه.

وأمّا الخبر الذي رواه محمّد بن يعقوب ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن يعقوب ، عن بريد ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : إذا خطب الرجل المرأة فدخل بها ، قبل أن تبلغ تسع سنين ،

ص: 533


1- ج : ولم.
2- الاستبصار : باب من وطء جارية فأفضاها ، ج 4 ، ص 294 ، وفي الوسائل : الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 3.
3- الوسائل : الباب 44 من أبواب ديات الأعضاء ، ح 3.

فرّق بينهما ، ولم تحل له أبدا (1).

فلا ينافي ما تضمنه خبر بريد من قوله : « فإن أمسكها ولم يطلّقها ، فلا شي ء عليه » لأنّ الوجه أن نحمله على أنّ المرأة إذا اختارت المقام معه ، واختار هو أيضا ذلك ، ورضيت بذلك عن الدية ، كان ذلك جائزا ، ولا يجوز له وطؤها على حال ، على ما تضمنه الخبر الأول ، حتى نعمل بالأخبار كلّها.

فهذه الأخبار جميعها ، والتأويلات ، والألفاظ ، إيراد شيخنا أبي جعفر ، وقوله وتأويله ، من غير زيادة ولا نقصان ، ألا تراه قد جمع في آخر تأويله الأخبار ، بين انّها لا تحلّ له أبدا ، وبين إمساكها زوجة ، مع اختيار الزوج ، وفي ألفاظ الأخبار التي أوردها التخيير بين إمساكها وطلاقها.

وأورد في نهايته (2) الخبر المرسل الذي أورده في استبصاره ، أورده وتأوله ، الذي رواه محمّد بن يعقوب ، عن عدّة من أصحابنا ، عن سهل بن زياد ، عن يعقوب ، عن بريد ، عن بعض أصحابنا.

وهذا كما تراه خبر واحد مرسل ، والمراسيل لا يعمل بها من يعمل بأخبار الآحاد ، فكيف من لا يعمل بأخبار الآحاد جملة ، ولو أورد غيره في نهايته من جملة ما أورده من الأخبار في استبصاره ، كان أوضح في البيان.

وقد قدّمنا أنّ من عقد على امرأة في عدّتها ، ودخل بها ، فرّق بينهما ، ولم تحل له أبدا ، سواء كان عالما أو جاهلا ، وكان لها المهر بما استحل من فرجها ، إذا لم تكن عالمة بأنّ ذلك لا يجوز ، فأمّا إن كانت عالمة بتحريم ذلك ، فلا مهر لها ، وكان عليها عدّتان ، تمام العدّة الاولى من الزوج الأول ، وعدّة اخرى من الزوج الثاني ، فإن كانت العدّة التي عقد فيها الثاني رجعية ، فالنفقة على زوجها

ص: 534


1- الاستبصار : باب من وطء جارية فأفضاها ، ج 4 ، ص 294 ، وفي الوسائل : الباب 34 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 2 وفي المصدر : يعقوب بن يزيد.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما يستحب فعله لمن أراد العقد والزفاف.

الأول ، وإن أراد مراجعتها ، فانّ له ذلك.

فإن قيل : كيف يكون عليه النفقة ، والنفقة لا تجب إلا بتمكين الاستمتاع بها والوطء ، وهذا ممنوع من ذلك؟

قلنا : المرأة غير مانعة له ، وانّما المنع من جهة الشارع دونها ، لأنّ المنع لو كان منها سقطت نفقتها ، وهذا ليس هو منعا منها ، كما انّها لو كانت مريضة فإنّه ممنوع من وطئها ، ويجب عليه النفقة عليها ، وأيضا فهي زوجة ، والنفقة تجب على الزوجات من الأزواج بغير خلاف.

فإن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر ، كان لا حقا بالأول ، فإن كان لستة أشهر فصاعدا كان لا حقا بالثاني.

ومتى قذفها زوجها أو غيره بما فعلته من الفعل ، فإن كانت عالمة بذلك ، لم يكن عليه شي ء ، وإن كانت جاهلة ، وجب عليه حد القاذف.

الوطء المباح بعقد غير عقد الشبهة ، والوطء بملك اليمين ، ينشر تحريم المصاهرة ، ويثبت به حرمة المحرم ، فأمّا الوطء الحرام ، فعلى الصحيح من المذهب لا ينشر تحريم المصاهرة ، ولا خلاف أنّه لا يثبت به حرمة المحرم.

ومعنى حرمة المحرم ، ان أمهات الموطوءة وبناتها يحل النظر إليهن ، مثلا حمأة الرجل يحل له النظر إليها ، كما يحلّ له النظر إلى امه ، وبنته ، وكذلك بنت امرأته من غيره ، هذا في العقد الصحيح ، والوطء المباح ، فهذا معنى حرمة المحرّم.

فأمّا معنى تحريم المصاهرة فإنّ الإنسان لا يحلّ له أن يتزوج بأمّ امرأته ، ولا بنتها ، إذا كان قد دخل بالأم تحريم أبد ، ولا بأختها تحريم جمع ، فهذا معنى تحريم المصاهرة.

فأمّا عقد الشبهة ووطء الشبهة ، فعندنا لا ينشر الحرمة ، ولا يثبت به تحريم المصاهرة بحال ، وانّما أصحابنا رووا أنّه يلحق به الولد ، ولا يحدّ فاعله ، لقوله عليه السلام : ادرءوا الحدود بالشبهات (1) ، وما سوى هذين الحكمين ، فحكمه

ص: 535


1- الوسائل : الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود ، ح 4.

حكم الوطء الحرام ، وعند الشافعي ينشر تحريم المصاهرة ، ولا يثبت به حرمة المحرم ، وإن كان شيخنا قد أورد ذلك في مبسوطة (1) ، فهو رأي الشافعي ، لا رأي الإمامي.

وقد قلنا أنّه لا يجوز أن يجمع بين الأختين في نكاح الدوام ولا النكاح المؤجل.

فإن عقد عليهما في حالة واحدة ، كان مخيّرا في أن يمسك أيتهما شاء ، على ما روي في بعض الأخبار (2) ، أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (3).

والذي تقتضيه أصول المذهب ، أنّ العقد باطل ، يحتاج أن يستأنف عقدا على أيّهما شاء ، على ما قدّمناه ، لأنّه منهي عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، بلا خلاف بين محققي أصحاب أصول الفقه ، ومحصّلي هذا الشأن.

وشيخنا فقد رجع في مبسوطة (4) عما أورده في نهايته ، وهو محجوج بقوله : فان عقد على امرأة ، ثمّ عقد على أختها ، كان العقد على الثانية باطلا ، فإن وطأ الثانية ، فرّق بينهما ، وروي (5) أنّه لا يرجع إلى نكاح الأوّلة حتى تخرج التي وطأها من عدتها (6) ، ولا دليل على صحة هذه الرواية.

والذي تقتضيه أصول المذهب ، أنّه لا يمتنع من وطء امرأته الأولى ، لأنّه غير جامع بين الأختين ، لأنّ عدّة الثانية لغيره ، وهي عدة بائنة ، لا رجعة له عليها فيها ، فإذا لم يكن مانع من كتاب اللّه ، ولا إجماع ، ولا سنّة ، ولا دليل عقل ، بل الكتاب والعقل والسنّة يحكم بما ذكرناه ، لأنّ الأصل الإباحة وقوله تعالى : ( إِلّا

ص: 536


1- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 203 ، والعبارة هكذا : والوطي شبهة ينشر تحريم المصاهرة
2- الوسائل : الباب 25 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
4- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 206.
5- الوسائل : الباب 26 ، من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 1.
6- إلى هنا ينتهي كلام الشيخ قدس سره في النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.

عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (1) فنفى اللوم عن وطء زوجته.

ومتى عقد على امرأة ثمّ عقد على أمها أو أختها أو بنتها بجهالة ، فرّق بينهما ، فإن وطأها وجاءت بولد ، كان لا حقا به ، وروي أنّه لا يقرب الزوجة الاولى حتى تنقضي عدّتها (2).

وقد قلنا ما عندنا في مثل ذلك ، فلا وجه لا عادته.

ومتى طلّق الرجل امرأته طلاقا يملك فيه الرجعة ، لم يجز له العقد على أختها ، حتى تنقضي عدّتها ، فإن كانت التطليقة لا رجعة له عليها في تلك العدّة ، فبعد تلك التطليقة ، جاز له العقد على أختها في الحال ، وكذلك كل عدّة لا رجعة للزوج على الزوجة فيها ، يجوز له العقد على أخت المعتدة في الحال ، متمتعة كانت أو مفسوخا نكاحها ، أو مطلقة مبارية أو مختلعة.

وقد روي في المتمتعة ، إذا انقضى أجلها أنّه لا يجوز العقد على أختها ، حتى تنقضي عدتها (3) وهذه رواية شاذة ، مخالفة لأصول المذهب ، لا يلتفت إليها ، ولا يجوز التعريج عليها.

فإن قيل : لا يجوز العقد على أختها ، لأنّه يجوز له أن يعقد عليها قبل خروجها من عدّتها ، وغيره لا يجوز له أن يعقد عليها ، ولا أن يطأها إلا بعد خروجها من عدّتها ، والعقد عليها ، فقد صارت كأنّها في عدّته.

قلنا : هذا قول بعيد من الصواب ، لأنّ المختلعة يجوز له العقد على أختها في الحال ، بغير خلاف ، وإن كان يجوز له العقد عليها قبل الخروج من عدّتها ، إذا تراضيا بذلك ، وإن غيره لا يجوز له ذلك بحال ، فلا فرق بينهما من هذا الوجه ، وأيضا هذه عدّة لا رجعة للزوج على الزوجة فيها بغير خلاف ، فخرجت من أن تكون زوجة له ، فلم يكن جامعا في حباله بين الأختين بحال.

ص: 537


1- المؤمنون : 6.
2- الوسائل : الباب 8 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 6.
3- الوسائل : الباب 27 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 1.

وإذا ماتت إحدى الأختين ، جاز له أن يعقد على أختها في الحال.

ولا بأس أن يجمع الرجل بين الأختين في الملك ، لكنّه لا يجمع بينهما في الوطء ، لأنّ حكم الجمع بينهما في الوطء حكم الجمع بينهما في العقد ، فمتى ملك الأختين ، فوطأ واحدة منهما ، لم يجز له وطء الأخرى ، حتى يخرج تلك من ملكه بالهبة ، أو البيع ، أو غيرهما.

وقد روي (1) أنّه إن وطأ الأخرى بعد وطئه الاولى ، وكان عالما بتحريم ذلك عليه ، حرمت عليه الاولى حتى تموت الثانية ، فإن أخرج الثانية عن ملكه ، ليرجع إلى الأولى ، لم يجز له الرجوع إليها ، وإن أخرجها من ملكه لا لذلك ، جاز له الرجوع إلى الاولى ، وإن لم يعلم تحريم ذلك عليه ، جاز له الرجوع إلى الأولى على كل حال ، إذا أخرج الثانية من ملكه.

والرواية بهذا الذي سطرناه قليلة لم يوردها في كتابه وتصنيفاته إلا القليل من أصحابنا.

والذي تقتضيه أصول المذهب ويقوى في نفسي ، أنّه إذا أخرج إحداهما من ملكه ، حلّت الأخرى ، سواء أخرجها ليعود إلى من هي باقية في ملكه ، أو لا ليعود ، عالما كان بالتحريم ، أو غير عالم ، لأنّه إذا أخرج إحداهما ، لم يبق جامعا بين الأختين بلا خلاف ، فأمّا تحريم الأولى إذا وطأ الثانية ، ففيه نظر ، فإن كان على ذلك إجماع منعقد ، أو كتاب أو سنّة متواترة ، رجع إليه وإلا فلا يعرج عليه ، لأنّ الأصل الإباحة للأولى ، وانّما التحريم تعلّق بوطء الثانية بعد وطئه للأولى ، لأنّه بوطئه للثانية يكون جامعا بين الأختين ، فكيف تحرم الاولى ، وهي المباحة الوطء ، وتحلّ المحرمة الوطء؟ وقد قلنا أنّها رواية أوردها شيخنا في نهايته (2) إيرادا لا اعتقادا ، مثل ما أورد كثيرا من الأخبار في كتابه المشار إليه ، إيرادا لا اعتقادا.

ص: 538


1- الوسائل : الباب 29 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 7 و 9 و 10.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.

ولا يجوز للرجل الحر أن يعقد على أكثر من أربع من الحرائر ، أو أمتين.

ولا بأس أن يجمع بين حرة وأمتين ، أو حرتين وأمتين بالعقد ، فأمّا بملك اليمين ، فليجمع ما شاء منهن ، مع العقد على أربع حرائر.

فإن كان الرجل عنده ثلاث نسوة ، وعقد على اثنتين ، في عقد واحد أمسك أيّتهما شاء ويخلّي سبيل الأخرى ، على ما روي في بعض الأخبار (1) ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، وأنّ العقد باطل ، لأنّه منهي عنه بغير خلاف.

فإن كان قد عقد عليهما بلفظتين ، ثم دخل بالتي بدأ باسمها ، كان عقدها صحيحا ، فإن دخل بالتي ذكرها ثانيا ، كان نكاحها باطلا ، وتلزمها العدة لأجل الدخول ، ويلزمه المهر ، فإن حملت لحق به الولد.

والذمي إذا كان عنده أكثر من أربع نساء ، ثمّ أسلم فليمسك منهن أربعا ، وليخلّ سبيل الأخر ، ويكون خيرته على الفور ، لئلا يكون جامعا بين أكثر من أربع.

وإذا طلّق الرجل واحدة من الأربع طلاقا يملك فيه الرجعة ، فلا يجوز له العقد على اخرى ، حتى تخرج تلك من العدة ، فإن كان طلاقا لا يملك فيه الرجعة جاز له العقد على أخرى في الحال ، وكذلك إن كان فسخا لا طلاقا ، جاز له العقد على أخرى في الحال.

والمملوك لا يجمع بين أكثر من حرتين ، أو أربع إماء بالعقد.

ولا بأس أن يعقد على حرة وأمتين ، لأنّ الحرة في حقه بمنزلة الأمتين ، ولا يعقد على حرتين ويضيف إليهما العقد على أمة ، لأنا قد قدّمنا ان الحرة في حقه بمنزلة الأمتين ، فيصير حينئذ كأنه عقد على خامسة.

وقد قدّمنا أن جميع المحرّمات من جهة النسب ، يحرمن من جهة الرضاع.

ولو أنّ رجلا عقد على جارية رضيعة ، فأرضعتها امرأته ، حرمتا عليه جميعا ، إذا

ص: 539


1- الوسائل : الباب 4 من أبواب ما يحرم باستيفاء العدد ، فيمن تزوج خمسا في عقد واحد.

كان قد دخل بالمرأة المرضعة ، لأن الجارية الرضيعة صارت ربيبة من نسائه اللاتي دخل بهن ، وحرمت الكبيرة المرضعة ، لأنها صارت من جملة أمّهات نسائه ، فان لم يكن دخل بالكبيرة ، فإن الجارية المرضعة تحل له ، لأنها ممن لم يدخل بأمها ، فأمّا الكبيرة فهي محرمة عليه على كل حال.

وشيخنا أبو جعفر ، أطلق ذلك في نهايته ، من غير تفصيل ، فإنه قال : ولو ان رجلا عقد على جارية رضيعة ، فأرضعتها امرأته ، حرمتا عليه جميعا ، وان أرضعت الجارية امرأتان له ، حرمت عليه الجارية والمرأة التي أرضعتها أولا ، ولم تحرم عليه التي أرضعتها ثانيا (1).

لأنّها بعد رضاعها من المرأة الأولى ، صارت بنته ، فإذا أرضعتها المرأة الأخيرة ، فقد أرضعت بنته ولا بأس بأن ترضع امرأة الرجل بنته بغير خلاف وهذه رواية (2) شاذة أوردها بعض أصحابنا.

والصحيح ان الأخيرة تحرم عليه أيضا ، لأنها أم من كانت زوجته ، فهي داخلة تحت عموم قوله تعالى « وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ » (3) فالتمسك بالقران وعمومه ، أولى من التمسك برواية شاذة ، أو قول مصنف ، وإيراده في سواد كتابه.

وان عقد على جاريتين رضيعتين ، فان أرضعتهما امرأة له ، حرمت عليه المرضعة والجاريتان معا ، فإن أرضعت امرأتان له هاتين الجاريتين ، حرمن كلهن ، هذا كلّه بشرط اعتبار الدخول بالكبار المرضعات ، فان لم يكن دخل بالكبار ، حرمن الكبار ، ولا يحرمن الصغار على ما قدّمناه وحرّرناه.

فأمّا مهورهن ، فان كان قد دخل بالكبار ، فقد استقر مهورهن عليه.

فامّا مهور الصغار ، فهي أيضا عليه ، لان الفسخ جاء لا من قبلهنّ ، وقال بعض أصحابنا يعود به على الكبار ، ولا ارى لهذا القول وجها ، والأصل براءة

ص: 540


1- النهاية : كتاب النكاح باب ما أصل اللّه النكاح وما حرّم منه.
2- الوسائل : الباب 14 من أبواب ما يحرّم بالرضاع.
3- النساء : 23.

الذمة من العود به عليهن.

فان لم يدخل بالكبار فلا يستحققن عليه مهرا ، لان الفسخ جاء من قبلهن قبل الدخول بهن ، وكل فسخ جاء من قبل النساء قبل الدخول بهن ، أبطل مهورهن بغير خلاف ، فامّا الصغار فقد قلنا انّهن لا يحرمن عليه ، فمهورهن ثابتة في ذمته لا تسقط.

وقد قدّمنا أنّه لا يجوز للرجل المسلم ان يعقد على الكافرات ، على اختلافهن ، فان اضطر الى العقد عليهن ، عقد على اليهودية والنصرانية ، وذلك جائز عند الضرورة ، على ما روي (1) في بعض الاخبار.

ولا بأس ان يعقد على هذين الجنسين عقد المتعة مع الاختيار ، لكنّه يمنعهن من شرب الخمور ، ولحم الخنزير ، وقال بعض أصحابنا انه لا يجوز العقد على هذين الجنسين عقد متعة ، ولا عقد دوام ، وتمسك بظاهر الآية ، وهو قوي يمكن الاعتماد عليه ، والركون اليه (2) وجميع المحرّمات في شريعة الإسلام.

ولا بأس بوطي الجنسين أيضا في حال الاختيار بملك اليمين ، ولا بأس باستدامة العقد الدائم أيضا على الجنسين أيضا ، دون ابتدائه واستئنافه ، لأنه يحل في الاستدامة مالا يحل في الابتداء.

ولا يجوز وطؤه ما عدا الجنسين بملك اليمين ، ولا بأحد العقود ، سواء كان العقد دائما مبتدأ ، أو مستداما أو مؤجلا.

وقد روى (3) رواية شاذة انه يكره وطي المجوسيّة بملك اليمين وعقد المتعة ، وليس ذلك بمحظور ، أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (4) إيرادا لا اعتقادا.

ورجع عن ذلك في كتابه التبيان ، في تفسير قوله تعالى : ( وَلا تَنْكِحُوا

ص: 541


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب ما يحرم بالكفر ، الحديث 3.
2- وقوله : « رحمه اللّه » وجميع إلخ عطف على لحم الخنزير ، ولعلّ قوله « رحمه اللّه » وقال بعض أصحابنا إلخ حاشيته منه « رحمه اللّه » دخل في المتن.
3- لم نقف عليها في المجاميع الروائية.
4- النهاية : كتاب النكاح باب ما أحل اللّه من النكاح وما حرّم منه.

الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ ) (1) فإنه قال : فأما المجوسية فلا يجوز نكاحها إجماعا ، وشيخنا المفيد في مقنعته (2) يحرّم ذلك ، ولا يجوزه.

وهو الصحيح الذي لا خلاف فيه ، ويقتضيه أصول المذهب ، وقوله تعالى : ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (3) وقوله ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ ) (4).

وإذا أسلم اليهودي والنصراني ، ولم تسلم امرأته ، جاز له ان يمسكها بالعقد الأول ، ويطأها على ما قدّمناه ، فإن أسلمت المرأة ولم يسلم الرجل ، فإنه ينتظر به عدتها ، فإن أسلم قبل انقضاء عدتها ، فإنه يملك عقدها ، وان أسلم بعد انقضاء العدة ، فلا سبيل له عليها ، سواء كان بشرائط الذمة ، أو لم يكن لا يختلف الحكم فيه بحال على الصحيح من الأقوال ، وكذلك الحكم فيمن لا ذمة له من سائر أصناف الكفار ، فإنّه ينتظر به انقضاء العدّة ، فإن أسلم كان مالكا للعقد ، وإن لم يسلم إلا بعد ذلك فقد بانت منه ، وملكت نفسها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن أسلمت المرأة ولم يسلم الرجل ، وكان الرجل على شرائط الذمة ، فإنّه يملك عقدها ، غير أنّه لا يمكن من الدخول إليها ، ليلا (5) ولا من الخلو بها ، ولا من إخراجها من دار الهجرة إلى دار الحرب ، وإن لم يكن بشرائط الذمة ، فإنّه ينتظر به عدّتها ، فإن أسلم قبل انقضاءها فإنّه يملك عقدها ، وإن أسلم بعد انقضاء العدّة ، فلا سبيل له عليها (6). إلا أنّه رجع عمّا ذكره ، وأورده في نهايته ، إيرادا لا اعتقادا من أخبار الآحاد ، في مسائل خلافه ومبسوطة ، فقال في مسائل خلافه : مسألة إذا كانا وثنيين ، أو مجوسيين ، أو أحدهما مجوسيا والآخر وثنيا ، فأيّهما أسلم ، فإن كان قبل الدخول بها ، وقع الفسخ في الحال ، وإن كان بعده وقف على انقضاء العدّة ، فإن أسلما

ص: 542


1- البقرة : 221.
2- المقنعة : أبواب النكاح باب من يحرم نكاحهن ص 500.
3- الممتحنة : 10.
4- البقرة : 221.
5- ل : ليلا ولا نهارا.
6- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.

قبل انقضاءها ، فهما على النكاح ، وإن انقضت العدّة انفسخ النكاح ، وهكذا إذا كانا كتابيين ، فأسلمت الزوجة ، سواء كان في دار الحرب ، أو في دار الإسلام ، ثمّ قال رحمه اللّه : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مسائل خلافه في الجزء الثاني.

وهو الذي اخترناه ، ويقوى عندنا ، لأنّ الأدلة تعضده من الكتاب والسنة والإجماع ، وليس على ما أورده من الرواية الشاذة في نهايته دليل.

وقال في مبسوطة : وروي في بعض أخبارنا ، أنّها إذا أسلمت ، لم ينفسخ النكاح بحال ، فجعل القول الذي اعتمده في نهايته واستبصاره ، رواية ، ثم ضعفها بقوله : « في بعض أخبارنا » ومعظم ما يسطّره ويطلقه على هذا المنهاج (2) ، وأيضا لو كانت عنده صحيحة ، لما قال في استدلاله في مسائل خلافه : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا فيها ، ما يقضى على وهنها ، وضعفها ، لأنّه قال :

فإن كان الرجل بشرائط الذمة ، فإنّه يملك عقدها ، غير أنّه لا يمكن من الدخول إليها ليلا (3) ، ولا يخلو بها ، وهذا ممّا يضحك الثكلى ، إن كانت زوجته فلا يحلّ أن يمنع منها ، ثمّ إن منع منها ومن الدخول إليها فإنّ نفقتها تسقط ، لأنّ النفقة عندنا في مقابلة الاستمتاع ، وهذا لا يتمكن من ذلك ، فتسقط النفقة عنه.

والدليل على صحة ما ذهبنا إليه قوله تعالى ( وَلَنْ يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ) (4) ومن ملكه عقدها فقد جعل له من أعظم السبل عليها ، واللّه تعالى نفى ذلك على طريق الأبد بقوله : « ولن » ، وأيضا فالإجماع منعقد على تحريم إمساكها ، وأن يجعل للكافر عليها السبيل ، وشيخنا أبو جعفر في نهايته محجوج بقوله في مسائل خلافه ، ومبسوطة.

ص: 543


1- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 105
2- ل. ق : المنهاج والصفة.
3- ل : ليلا ولا نهارا.
4- النساء : 141.

ويكره للرجل أن يتزوج بامرأة فاجرة معروفة بذلك ، فإن تزوج بها فليمنعها من ذلك.

وإذا فجرت المرأة عند الرجل لا ينفسخ نكاحها ، وكان مخيّرا بين إمساكها وطلاقها ، والأفضل له طلاقها.

وقد قلنا : إنّ شيخنا أبا جعفر ذكر في نهايته أنّ الرجل إذا فجر بامرأة غير ذات بعل ، فلا يجوز له العقد عليها ما دامت مصرّة على مثل ذلك الفعل ، فإن ظهر له منها التوبة ، جاز له العقد عليها ، وتعتبر توبتها بأن يدعوها إلى مثل ما كان منه ، فإن أجابت امتنع من العقد عليها ، وإن امتنعت عرف بذلك توبتها (1).

إلا أنّه رجع عن ذلك في مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا زنى بامرأة جاز له نكاحها فيما بعد ، وبه قال عامّة أهل العلم ، وقال الحسن البصري : لا يجوز ، وقال قتادة وأحمد : إن تابا جاز ، وإلا لم يجز ، وروي ذلك في أخبارنا (2) ، دليلنا إجماع الفرقة وأيضا الأصل الإباحة ، وأيضا قوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (3) ولم يفصّل ، وقال تعالى ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ ) (4) ولم يفصّل ، وروت عائشة أنّ النبي عليه السلام قال : « الحرام لا يحرّم الحلال » وعليه إجماع الصحابة ، وروي ذلك عن أبي بكر ، وعمر ، وابن عباس ، ولا مخالف لهم (5). هذا آخر كلامه رحمه اللّه في المسألة.

وهو الذي اخترناه فيما مضى.

لا عدّة على الزانية ، ويجوز لها أن تتزوج ، سواء كانت حاملا أو حائلا ، لأنّ الأصل براءة الذمة من العدّة عليها.

وقد قلنا : إنّه لا يجوز العقد على امرأة وعند الرجل عمتها أو خالتها ، إلا

ص: 544


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
2- الوسائل : الباب 13 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها من كتاب النكاح.
3- النساء : 3.
4- النساء : 24.
5- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 71.

برضى منهما ، فإن عقد عليها كانت العمة والخالة مخيّرة بين إمضاء العقد وبين الاعتزال ، فإن أمضت كان ماضيا على ما روي (1) ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا أنّه يحتاج إلى عقد ثان ، إذا عقد من غير اذنها ثمّ رضيت ، لا يكفي رضاها ، بل يحتاج إلى عقد مستأنف ، لأنّ ذلك العقد الأول منهيّ عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، فإن اعتزلت واعتدت كان ذلك فراقا بينها وبين الزوج ، ومغنيا عن الطلاق ، ولا يستحق في هذه العدّة عليه نفقة ، لأنّها عدة فسخ ، وله أن يتزوج بأختها في الحال. ولا يجوز له أن يستبيح وطء بنت الأخ أو بنت الأخت إلا بعقد مستأنف على ما قدّمناه ، لأنّ العقد الأوّل وقع فاسدا.

ولا بأس بالعقد على العمة والخالة وعنده بنت الأخ أو بنت الأخت ، وإن لم ترضيا بذلك على ما قدّمناه.

وحكم العمة والخالة من جهة الرضاع حكمهما من جهة النسب على السواء.

ولا يجوز للرجل أن يعقد على أمة وعنده حرّة إلا برضاها ، فإن عقد عليها من غير رضاها كان العقد باطلا بغير خلاف ، فإن أمضت الحرة العقد مضى ، ولم يكن لها بعد ذلك اختيار ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، وإن أبت واعتزلت وصبرت إلى انقضاء عدّتها ، كان ذلك فراقا بينها وبين الزوج ، ولا تحل له الأمة بالعقد الأول ، بل لا بدّ من عقد ثان ، لأنّ الأول وقع باطلا ، لأنّه قبل الرضا والإذن ، وذلك منهي عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه.

وقال شيخنا أبو جعفر في التبيان : من شرط صحّة العقد على الأمة عند أكثر الفقهاء أن لا يكون عنده حرة ، وهكذا عندنا إلا أن ترضى الحرة بأن يتزوج عليها أمة ، فإن أذنت كان العقد صحيحا عندنا ، ومتى عقد عليها بغير إذن

ص: 545


1- لم نقف عليها في المجاميع الروائية ، ولعلّ ظاهر عبارة المتن أيضا أنّها لم ترد إلا في نهاية الشيخ.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحلّ اللّه النكاح وما حرّم منه.

الحرة ، كان العقد على الأمة باطلا ، وروى أصحابنا أنّ الحرّة تكون بالخيار بين أن تفسخ عقد الأمة ، أو تفسخ عقد نفسها ، والأول أظهر ، لأنّه إذا كان العقد باطلا ، لا يحتاج إلى فسخه (1) هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس : نعم ما قال وحقق هاهنا رحمه اللّه.

ثم قال : فأمّا تزويج الحرة على الأمة فجائز ، وبه قال الجبائي ، وفي الفقهاء من منع منه ، غير أنّ عندنا لا يجوز ذلك إلا بإذن الحرة ، فإن لم تعلم الحرة بذلك ، كان لها أن تفسخ نكاحها أو نكاح الأمة (2) ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس : ليس لها أن تفسخ نكاح الأمة إذا كان عقد الأمة متقدّما على عقدها ، بل لها أن تفسخ عقد نفسها فحسب ، دون عقد الأمة المتقدّم على عقدها بغير خلاف بيننا في ذلك ، وهو مذهب شيخنا في نهايته (3) ، ومبسوطة (4) ، وجميع كتبه ، وهو الحقّ اليقين ، لأنّ فسخه يحتاج إلى دلالة.

والذي اعتمد عليه ، وافتي به ، أنّ الحرة إذا كان عقدها متقدّما ، فالعقد على الأمة باطل ، ولا تكون الحرة بين ثلاث اختيارات ، على ما روي في بعض الروايات (5) وهو خبر واحد ضعيف ، عن زرعة ، عن سماعة ، وهما فطحيان ، أورده شيخنا في نهايته (6) ، ورجع عنه في تبيانه (7) ، وقال في مبسوطة : ونكاح الأمة باطل إجماعا (8).

ص: 546


1- التبيان : ج 3 ، ص 169 و 170 ، ذيل الآية 25 من سورة النساء.
2- التبيان : ج 3 ، ص 169 و 170 ، ذيل الآية 25 من سورة النساء.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحل اللّه من النكاح وما حرّم منه.
4- 3المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 215.
5- الوسائل : الباب 47 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 3 لكن الراوي عن سماعة هو يحيى اللحّام. كما أن المذكور فيها اختياران ، لا ثلاث ، فراجع.
6- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحل اللّه النكاح وما حرّم منه ، إلا أنّ العبارة هكذا : ولا يجوز للرجل ان يعقد على أمة وعنده حرّة إلا برضاها ، فإن عقد عليها من غير رضاها كان العقد باطلا.
7- التبيان : ج 3 ، ص 170 ، ذيل الآية 25 من سورة النساء ، والعبارة هكذا : ومتى عقد عليها بغير إذن الحرة كان العقد على الأمة باطلا.
8- 3المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 215.

فإن عقد في حالة واحدة على حرّة وأمة ، كان العقد على الحرة ماضيا ، والعقد على الأمة باطلا ، على ما روي في الأخبار (1).

فإن عقد على حرّة ، وعنده أمة زوجة ، والحرة غير عالمة بذلك ، فإذا علمت أنّ له امرأة أمة ، كانت مخيّرة في فسخ نكاحها دون نكاح الأمة ، على ما قدّمناه وبيّناه ، فمتى رضيت بذلك ولم تفسخ النكاح ، لم يكن لها بعد ذلك فسخ ، ولا اختيار.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : إذا عقد الكافر في حال كفره على امرأة وبنتها في حالة واحدة ، أو واحدة بعد اخرى ، ثمّ أسلم قبل الدخول بواحدة منهما ، أمسك أيتهما شاء (2).

قال محمد بن إدريس : الذي يقتضيه أصول مذهبنا أنّ الأم قد حرّمت عليه أبدا ، لأنّها من أمهات نسائه ، فأمّا البنت فله أن يختارها ويمسكها زوجة ، لأنّها بنت من لم يدخل بها ، وإنّما اختار شيخنا قول بعض المخالفين ، وإن كان لهم فيه قول آخر.

ويكره العقد على الأمة مع وجود الطول لنكاح الحرة ، فأمّا مع عدمه فلا بأس بالعقد عليها ، ومتى عقد على الأمة مع وجود الطول ، كان العقد ماضيا ، غير أنّه يكون قد ترك الأفضل.

وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (3) ، وشيخنا المفيد في مقنعته (4).

وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، إلى أنّ ذلك لا يجوز ، وأنّه غير ماض واستدل بعموم الآية (5).

وقال في كتاب التبيان في تفسير قوله تعالى ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ) (6) قال رحمه اللّه : وهذه الآية على عمومها

ص: 547


1- الوسائل : الباب 48 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها.
2- الخلاف : كتاب النكاح ، مسألة 108.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب ما أحل اللّه من النكاح وما حرّم منه.
4- المقنعة : باب ضروب النكاح ، باب العقود على الإماء ص 505 ، وفيه خلاف ما أورده عنه هنا
5- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 86.
6- البقرة : 221.

عندنا في تحريم مناكحة جميع الكفار ، وليست منسوخة ولا مخصوصة ، فأمّا المجوسية فلا يجوز نكاحها إجماعا ، ثمّ قال : وفي الآية دلالة على جواز نكاح الأمة المؤمنة ، مع وجود الطول ، لقوله تعالى ( وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ ) فأمّا الآية التي في النساء وهي قوله ( وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ) (1) فإنّما هي على التنزيه دون التحريم (2) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في التبيان.

والأظهر من أقاويل أصحابنا ، أنّ العقد ما وقد يخص العموم بالأدلة ، وأيضا قوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (3) وأيضا الأصل الإباحة ، والمنع يحتاج إلى دليل.

وقد روي أنّه يكره العقد على القابلة وابنتها (4).

ولا بأس أن يجمع الرجل بين امرأة قد عقد عليها وبين امرأة أبيها ، أو سرّيته ، إذا لم تكن أمها.

ويكره أن يزوج الرجل ابنه بنت امرأة كانت زوجته ، وقد دخل بها إذا كانت البنت قد ولدت بعد مفارقتها إيّاه ، وليس ذلك بمحظور ، فإن كانت البنت ولدت قبل عقد الرجل عليها ، لم يكن بذلك بأس ، على ما روي في الأخبار من الكراهة في المسألة الاولى (5).

ولا بأس للمريض أن يتزوج في حال مرضه ، فإن تزوج ودخل بها ثمّ مات ، كان العقد ماضيا ، وتوارثا ، وإن مات قبل الدخول بها والبراء ، كان العقد باطلا ، على ما رواه أصحابنا (6) وأجمعوا عليه ، فإذا أقام الرجل بيّنة على العقد على امرأة ، وأقامت أخت المرأة البينة بأنّها امرأة الرجل ، كانت البينة

ص: 548


1- النساء : 25.
2- التبيان : ج 2 ص 217 و 218 مع تقطيع في العبارة.
3- النساء : 3.
4- الوسائل : الباب 39 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها.
5- الوسائل : الباب 23 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 5.
6- الوسائل : الباب 43 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 1.

بيّنة الرجل ، ولا يلتفت إلى بيّنتها ، إلا أن تكون بيّنتها قبل بيّنة الرجل ، أو يحصل دخول بها ، فإن ثبت لها إحدى هاتين البينتين أبطلت بينة الرجل.

وإذا عقد الرجل على امرأة فجاء آخر ، فادّعى أنّها زوجته ، لم يلتفت إلى دعواه ، إلا أن يقيم البينة.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة : وإن تزوج أمة وعنده حرة ، فنكاح الأمة باطل إجماعا (1) هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس : ونعم ما قال ، وحققنا ما عندنا في ذلك ، وقلنا لا خيار لها ، لأنّ العقد باطل ، فمن جعل لها الخيار يحتاج إلى دليل قاهر ، لأنّ الأصل صحة عقدها ، ولا يرجع في ذلك إلى خبر سماعة الفطحي (2) في مثل ذلك ، لأنّ أخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا.

ولا بأس أن يتزوج الرجل أخت أخيه ، إذا لم تكن أختا له ، وقد روي أن تركه أفضل (3).

وقد روي كراهية أن يتزوّج الرجل بضرة أمّه التي كانت مع غير أبيه (4).

وقد قلنا إن نكاح بنات المرأة المدخول بها حرام محظور بغير خلاف ، سواء كن ربائب في حجره ، أو لم يكنّ ، وكذلك بنات البنت وان نزل ، ونكاح بنات ابن البنت وإن نزلن محرم أيضا بلا خلاف ، لتناول الظاهر لهن ، ولمكان الإجماع على ذلك.

باب أقسام النكاح

النكاح المباح على ثلاثة أقسام ، قسم منها هو النكاح المستدام الذي يسمّى

ص: 549


1- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 215.
2- الوسائل : الباب 47 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 3.
3- الوسائل : الباب 6 من أبواب ما يحرم بالنسب ، ح 2 و 4.
4- الوسائل : الباب 42 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ، ح 1.

نكاح الغبطة ، ومعناها وحقيقة لغتها الدوام والإقامة ، يقال : أغبطت السماء بالمطر ، واغبطت الحمى على الإنسان إذا دامت وأقامت ، وكذلك المطر ، فكان معناه نكاح الإقامة والدوام ، قال كثير :

فلم أر دارا مثلها دار غبطة *** ولهو إذا التفت الحجيج بمجمع

يريد بذلك دار اقامة.

ولا يكون مؤجلا بأيام معلومة ، ولا شهور معيّنة.

ويجب فيه النفقة مع التمكن من الاستمتاع.

ويستحب فيه الإعلان والإشهاد عند العقد ، وليست الشهادة عند أهل البيت عليهم السلام شرطا في صحّته ، بل من مستحباته ، وبه تجب الموارثة.

وهو نكاح لا يزول إلا بالطلاق ، أو ما يقوم مقامه من أنواع الفرقة.

ونكاح المتعة وهو المؤجل بالسنين والأعوام ، أو الشهور والأيام ، والمهر المعيّن ، ومن شرط صحته ذكر الأجل المحروس ، والمهر المعيّن ، أو الموصوف ، وبهذين الحكمين يتميز من نكاح الغبطة ، ومتى لم يذكر فيه الأجل ، وذكر المهر ، وإن سمّى ونطق عند العقد بالمتعة ، كان النكاح دائما ، هكذا ذكره شيخنا في نهايته (1).

والذي يقوى في نفسي ، ويقتضيه أصول المذهب ، أن النكاح غير صحيح ، لأنّ العقد الدائم لا ينعقد إلا بلفظتين ، زوجت وأنكحت ، وما عداهما لا ينعقد به ، وفي هذا الموضع لم يأت بإحدى اللفظتين ، ويمكن أن يقال يكون العقد دائما إذا لم يذكر الأجل وذكر المهر ، إذا كان الإيجاب بلفظ التزويج أو النكاح ، دون لفظ التمتع.

وأيضا لا خلاف بيننا في أنّه إذا لم يذكر المهر والأجل في لفظ عقد المتعة ، كان العقد باطلا ، ولم يبطل إلا من حيث التلفظ بالتمتع في الإيجاب ، فلو ذكر التزويج أو النكاح مثلا ، بأن قالت : زوجتك أو أنكحتك ولم يذكر المهر

ص: 550


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب ضروب النكاح ، والعبارة هكذا : ومتى لم يذكر فيه الأجل وإن سمّى المتعة كان النكاح دائما.

والأجل ، أو تلفظ الرجل في إيجابه بلفظ النكاح أو التزويج ، ولم يذكر المهر والأجل ، فإنّ العقد يكون صحيحا بغير خلاف بين أصحابنا ، فما المؤثر في فساد العقد ، إلا التلفظ بالتمتع ، والإخلال بالمهر أو الأجل أو بهما. وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّ عقد الدوام ينعقد بثلاثة ألفاظ ، زوجتك ، وأنكحتك ، وأمتعتك ، فعلى هذا المذهب يصح ما قاله شيخنا رحمة اللّه والأول هو الأظهر بين الأصحاب.

ومتى لم يذكر المهر مع الأجل ، كان العقد غير صحيح.

ونكاح بملك الايمان ، وهو يختص الإماء دون الحرائر.

وستقف إن شاء اللّه تعالى على شرائط هذه الأقسام الثلاثة من النكاح ، فإنّا نفرد لكلّ قسم منها بابا إن شاء اللّه.

وليس يخرج عن هذه الأقسام الثلاثة ما روى أصحابنا من تحليل الرجل جاريته ، لأخيه (1) ، لأن هذا داخل في جملة الملك ، لأنّه متى أحلّ جاريته له ، فقد ملكه وطئها فهو مستبيح للفرج بالتملك ، حسب ما قدّمناه.

باب الرضاع ومقدار ما يحرم من ذلك وأحكامه

الذي يحرّم من الرضاع ما أنبت اللحم وشد العظم ، على ما قدّمناه ، فإن علم ذلك ، وإلا كان الاعتبار بخمس عشرة رضعة ، على الأظهر من الأقوال ، وقد حكينا الخلاف في ذلك فيما مضى (2) ، فلا وجه لا عادته إلا أنّا اخترنا هناك التحريم بعشر رضعات ، وقويناه.

والذي افتى به وأعمل عليه الخمس عشرة رضعة ، لأنّ العموم قد خصّصه جميع أصحابنا المحصّلين ، والأصل الإباحة والتحريم طارئ ، فبالإجماع من الكلّ يحرّم الخمس عشرة رضعة ، فالتمسك بالإجماع أولى وأظهر ، فإنّ الحقّ أحق أن يتبع.

وحدّ الرضعة ما يروي الصبيّ ، دون المصة.

ص: 551


1- الوسائل : الباب 31 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
2- راجع ص 520 من الكتاب.

وتكون الرضعات متواليات ، لم يفصل بينهن برضاع امرأة أخرى ، فإن لم يفصل برضاع امرأة أخرى ، بل فصل بينهن بوجور الصبي اللبن ، أو بحقنته ذلك ، فلا يعتد بذلك في الفصل.

فإن لم ينضبط العدد اعتبر برضاع يوم وليلة ، إذا لم ترضع امرأة أخرى.

فمتى كان الرضاع أقل ممّا ذكرناه ، مما لا ينبت اللحم ولا يشد العظم ، أو كان أقل من خمس عشرة رضعة ، أو مع استيفاء العدد ، قد فصل بينهنّ برضاع امرأة أخرى ، أو كان أقل من يوم وليلة لمن لا يراعى العدد ، أو مع تمام يوم وليلة دخل بينه رضاع امرأة أخرى ، فإنّ ذلك لا يحرّم ، ولا تأثير له في التحريم.

والمحرّم من ذلك أن يكون الرضاع في مدة الحولين من عمر الصبي المرتضع ، فإن كان بعض الرضعات في مدة الحولين ، وبعضها بعدهما ، فلا تأثير لذلك في التحريم.

وكذلك إن كانت المرأة المرضعة ، قد ماتت وتمم العدد بعد موتها ، فلا تأثير أيضا لذلك في التحريم.

فإن حصل الرضاع أو بعضه بعد الحولين سواء كان قبل فطام المرتضع أو بعده ، قليلا كان أو كثيرا ، فإنّه لا يحرم.

وكذلك إن درّ لبن امرأة لست مرضعة ، فأرضعت صبيا أو صبيّة ، فإنّ ذلك لا تأثير له في التحريم.

وإنّما التأثير للبن الولادة من النكاح المشروع فحسب ، دون النكاح الحرام والفاسد ، ووطء الشبهة ، لأنّ نكاح الشبهة عند أصحابنا لا يفصلون بينه وبين الفاسد إلا في إلحاق الولد ورفع الحدّ ، فحسب ، وإن قلنا في وطء الشبهة بالتحريم ، كان قويا ، لأن نسبه عندنا نسب صحيح شرعي ، والرسول عليه السلام قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب (1) ، فجعله أصلا للرضاع ، ولي في ذلك نظر وتأمّل.

ص: 552


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع ، ح 1 و 4 و 7.

ومتى حصل الرضاع على الصفة التي ذكرناها فإنّه بمنزلة النسب ، يحرم منه ما يحرّم من النسب ، إلا أنّ النسب منه يراعى من جهة الأب خاصة ، دون الام ، ومعنى ذلك ، انّ المرأة إذا أرضعت صبيا بلبن بعل لها ، وكان لزوجها عدة أولاد من أمهات شتّى ، فإنّهم يحرّمون كلّهم على الصبيّ المرتضع ، ولادة كانوا أو رضاعا ، فأمّا اخوته المنتسبون إلى امه المرضعة ، فإنّما يحرم عليه منهم من كان منها ولادة ، دون الرضاع ، لاختلاف لبن الفحلين.

مثاله أنّه لو أرضعت امرأة صبيا من غيرها ، بلبن بعل لها ، وكان للمرأة بنت برضاع من غير ذلك البعل ، لحلّ التناكح بين الابن والبنت ، ولم يحرّم ذلك الرضاع ، لاختلاف لبن الفحلين ، فإن كان رضاعها لابن القوم بلبن من أبي بنتها التي هي منسوبة إليها بالرضاع ، دون الولادة ، حرّم ذلك التناكح بينهما على ما بيّناه ، لأنّ اللبن هاهنا لبن فحل واحد.

وان كان لامه من الرضاع بنت من غير أبيه من الرضاع ، فهي أخته لأمّه عند المخالفين من العامة ، لا يجوز له أن يتزوجها ، وقال أصحابنا الإمامية بأجمعهم : يحلّ له تزويجها ، لأنّ الفحل غير الأب ، وبهذا فسّروا قول الأئمة عليهم السلام في ظواهر النصوص ، وألفاظ الأخبار المتواترة ، « أن اللبن للفحل » (1) يريدون بذلك لبن فحل واحد. فأمّا إذا كان فحلان ولبنان ، فلا تحريم.

فأمّا إذا كانت لها بنت من غير هذا الفحل ولادة ، فلا خلاف أنّها تحرم.

وإن كان لها بنت من زوجها ، فهي أخته لأبيه وامّه.

وأمّا زوج المرضعة ، فهو الفحل الذي له اللبن ، وهو أبوه من الرضاع ، وأخوه عمّه ، وأخته عمته ، وآباؤه أجداده ، فإن كان لهذا الفحل ولد من غير هذه المرضعة ، فهو اخوه لأبيه ، وإن كان له ولد من هذه المرضعة ، فهو اخوه لأبيه

ص: 553


1- الوسائل : الباب 6 من أبواب ما يحرم بالرضاع.

وامّه ، وهذا معنى قولهم عليهم السلام : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » (1).

فعلى هذا التقدير ، يحرم أولاد الفحل على هذا المرتضع ولادة ورضاعا.

فأمّا أولاد الأم المرضعة فإنّه لا يحرم على المرتضع ، إلا أولادها ولادة ، فأمّا أولادها المنتسبون إليها بالرضاع فلا يحرمون عليه بحال.

والذي يدور عقد الرضاع عليه ، وجملة بابه ، أنّ امرأة الرجل إذا كان بها لبن منه ، فأرضعت مولودا الرضعات على الصفة المقدّم ذكرها ، صار كأنّه ابنهما من النسب ، فكل من حرم على ابنهما من النسب ، حرم على هذا ، لأنّ الحرمة انتشرت منه إليهما ، ومنهما إليه ، فالتي انتشرت منه إليهما ، أنّه صار كأنه ابنهما من النسب ، والحرمة التي انتشرت منهما إليه ، وقفت عليه وعلى نسله ، دون من هو في طبقته من اخوته وأخواته ، أو أعلى منه من آبائه وأمّهاته ، فيجوز للفحل أن يتزوّج بأمّ هذا المرضع ، وبأخته ، وبجدته ، ويجوز لوالد هذا المرضع أن يتزوج بالتي أرضعته ، لأنّه لا نسب بينهما ، ولا رضاع ، ولأنّه لمّا جاز أن يتزوج أم ولده من النسب ، فبان يجوز أن يتزوج أم ولده من الرضاع ، أولى.

فإن قيل : أليس لا يجوز له أن يتزوج أم أم ولده من النسب ، ويجوز له أن يتزوج بأم أم ولده من الرضاع ، فكيف جاز هذا ، وقد رويتم وقلتم أنّه « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب »؟

قلنا : أم أم ولده من النسب ما حرمت بالنسب ، إنّما حرمت بالمصاهرة قبل وجود النسب ، والنبي صلى اللّه عليه وآله إنّما قال : « يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب » ولم يقل يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (2) ، من قولنا والذي يدور عقد الرضاع عليه ، وهو كلام الشافعي ، ومذهبه ، وسؤاله نفسه وجواباته عنها في قوله : فيجوز للفحل

ص: 554


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب ما يحرم بالرضاع.
2- المبسوط : ج 5 ، كتاب الرضاع ، ص 305.

أن يتزوج بأم هذا المرضع وبأخته وبجدته.

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : أمّا تزويجه بأخته وبجدته ، فلا يجوز بحال ، لأنّا في النسب لا يجوز أن يتزوج الإنسان بأخت ابنه ، ولا بأم امرأته بحال ، وانّما الشافعي علل ذلك بالمصاهرة ، وليس هاهنا مصاهرة ، وكذا في قوله وسؤاله نفسه « أليس لا يجوز له يتزوج أم أم ولده من النسب ويجوز أن يتزوج أم أم ولده من الرضاع » أجاب « بأنّ أم أم ولده من النسب ما حرمت بالنسب ، وانّما حرمت بالمصاهرة قبل وجود النسب » وعلّل ذلك بالمصاهرة ، فلا يظن ظان بأنّ ما قلناه كلام شيخنا أبي جعفر.

والذي يقتضيه مذهبنا ، أنّ أم أم ولده من الرضاع محرمة عليه ، كما أنّها محرّمة عليه من النسب ، لأنّه أصل في التحريم ، من غير تعليل ، فعلى هذا امرأة لها لبن أرضعت بنتا لقوم ، الرضاع المحرّم ، ولتلك البنت المرضعة أخت ، فإنّه يحل لابن المرضعة الذي قد شربت هذه البنت المرضعة منه ، أن يتزوج بأختها ، وهي أخت أخته من الرضاع ، لما مضى من الأصل ، وهو أنّه انّما يحرم هذا المرضع وحده ، ومن كان من نسله ، دون من كان في طبقته وهذه من طبقته ، لأنّه لا نسب بينه وبين أخت أخته ، ولا رضاع.

ومثاله في النسب ، رجل له ابن تزوّج امرأة لها بنت ، فولدت منه بنتا ، فهذه البنت أخت ابنه من أبيه ، فله أن يتزوج بأختها التي هي بنت زوجة أبيه من غير امّه ، وهي أخت أخته من النسب ، لأنّه لا نسب بينهما ، ولا رضاع.

وهكذا يجوز له أن يتزوج أخت أخيه من الرضاع ، بيانه امرأة لها ابن كبير وابن صغير ، ثم إنّ أجنبيّة لها بنت أرضعت هذا الصغير ، فانّ هذا الصغير أخو هذه الصغيرة من الرضاع ، ولهذا الابن الكبير أن يتزوّج بهذه الصغيرة ، وهي أخت أخيه كما قلناه في النسب.

وعلى هذا يدور كتاب الرضاع ، فكلّما نزلت بك حادثة فارجع إليه ، واعتبر هذا به.

ص: 555

إذا كان له أربع زوجات ، إحداهن صغيرة لها دون الحولين ، وثلاث كبار لهن لبن ، فأرضعت إحدى الكبار هذه الصغيرة ، انفسخ نكاحهما معا ، فإذا أرضعتها الثانية من الكبار ، انفسخ نكاحها ، لأنّها أم من كانت زوجته ، فإن أرضعتها الثالثة ، انفسخ نكاحها ، لأنّها أم من كانت زوجته.

وروي في أخبارنا أنّ هذه لا تحرم ، لأنّها ليست زوجته في هذه الحال ، وانّما هي بنته والذي قدّمناه هو الذي يقتضيه أصولنا ، لأنّها من أمهات نسائه ، وقد حرّم اللّه تعالى أمّهات النساء ، وهذه كانت زوجته بلا خلاف.

والرضاع لا يثبت إلا ببينة عادلة ، ولا يقبل فيه شهادة النساء على الصحيح من أقوال أصحابنا.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا ادّعت المرأة انّها أرضعت صبيا لم يقبل قولها ، وكان الأمر على أصل الإباحة (1).

قال محمّد بن إدريس : إن أراد بذلك بعد العقد عليها فصحيح ما قال ، لأنّها ادّعت شيئا يفسخ عقده عليها ، فلا يقبل إقرارها في حقّه ، فأمّا إن ادّعت وأقرّت قبل العقد عليها بأنّه ابنها من الرضاع ، وانّها محرمة عليه ، فلا يجوز العقد وتزويجه بحال ، لأنّ هذا إقرار على نفسها.

وإذا أرضعت المرأة صبيين ، ولكلّ واحد منهما اخوة وأخوات ، ولادة أو رضاعا من غير الرجل الذي رضعا من لبنه ، جاز التناكح بين اخوة وأخوات هذا واخوة وأخوات ذاك ، ولا يجوز التناكح بينهما ، أنفسهما ، ولا بين إخوتهما وأخواتهما من جهة لبن الرجل الذي رضعا من لبنه ، حسب ما قدّمناه.

وروي أنّه إذا ربت المرأة جديا بلبنها ، فإنّه يكره لحمه ولحم كل ما كان من نسله عليها ، وليس ذلك بمحظور.

ص: 556


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب مقدار ما يحرم من الرضاع وأحكامه.

وذكر شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه في أوّل كتاب الرضاع ، مسألة : إذا حصل الرضاع المحرم ، لم يحل للفحل نكاح أخت هذا المولود المرتضع بلبنه ، ولا لأحد من أولاده من غير هذه المرضعة ، ومنها ، لأنّ اخوته وأخواته صاروا بمنزلة أولاده (1).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : قول شيخنا رحمه اللّه في ذلك غير واضح ، وأي تحريم حصل بين أخت هذا المولود المرتضع ، وبين أولاد الفحل ، وليس هي أختهم لا من أمهم ولا من أبيهم ، والنبي عليه السلام جعل النسب أصلا للرضاع في التحريم فقال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، وفي النسب لا يحرم على الإنسان نكاح أخت أخيه التي لا من امه ولا من أبيه ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

باب الكفاءة في النكاح واختيار الأزواج

قال الجوهري في كتاب الصحاح : الكفي ء النظير ، وكذلك الكفؤ والكفوء ، على فعل وفعول ، والمصدر الكفاءة بالفتح والمدّ (2).

فعندنا أنّ الكفاءة المعتبرة في النكاح أمران ، الإيمان ، واليسار بقدر ما يقوم بأمرها ، والإنفاق عليها ، ولا يراعى ما وراء ذلك من الأنساب والصنائع.

والأولى أن يقال : إنّ اليسار ليس بشرط في صحّة العقد ، وانّما للمرأة الخيار إذا لم يكن موسرا بنفقتها ، ولا يكون العقد باطلا ، بل الخيار إليها ، وليس كذلك خلاف الإيمان الذي هو الكفر إذا بان كافرا ، فانّ العقد باطل ، ولا يكون للمرأة الخيار كما كان لها في اليسار ، فليلحظ ذلك ويتأمّل ، فقد يوجد في كثير من الكتب المصنّفة إطلاق ذلك ، وانّ الكفاءة المعتبرة في صحة النكاح عندنا أمران ، الإيمان والنفقة ، وتحريره ما ذكرناه وبيّناه.

فعلى هذا التحرير ، يجوز العجمي أن يتزوّج بالعربية ، وللعامي أن يتزوّج بالهاشمية ، لأنّ الرسول عليه السلام زوّج ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب

ص: 557


1- الخلاف : كتاب الرضاع ، المسألة 1.
2- الصحاح : ج 1 ، ص 68.

بن هاشم بن عبد مناف ، وهي بنت عمّه عليه السلام المقداد بن عمرو وهو عامي النسب ، بغير خلاف.

وكذلك يجوز للعبد أن يتزوّج بحرّة.

ويجوز للفاسق أن يتزوج بالعفيفة ، ولا يفسد العقد ، وإن كان تركه أفضل.

ولا بأس أن يتزوّج أرباب الصنائع الدنيّة أمن الحياكة والحجامة ، والحراسة ، وغير ذلك ، بأهل المروات والبيوتات ، كالتجار والتناء ، والولاة ، ونحو ذلك لقول الرسول والأئمة عليهم السلام : « المؤمنون بعضهم أكفاء لبعض في عقد النكاح كما أنّهم متكافئون في الدماء » (1) إلا ما خرج بالدليل ، من أنّ العبد ليس بكف ء للحر في القصاص.

وروي أنّه إذا خطب المؤمن إلى غيره بنته ، وكان عنده يسار بقدر نفقتها ، وكان ممن يرضى أفعاله وأمانته ، ولا يكون مرتكبا لشي ء يدخل به في جملة الفساق ، وإن كان حقيرا في نسبه ، قليل المال ، فلم يزوجه إياها ، كان عاصيا لله تعالى ، مخالفا لسنّة نبيّه صلى اللّه عليه وآله (2).

ووجه الحديث في ذلك أنّه انّما يكون عاصيا إذا ردّه ، ولم يزوّجه ، لما هو عليه من الفقر والأنفة منه لذلك ، واعتقاده أنّ ذلك ليس بكف ء في الشرع ، فأمّا إن ردّه ولم يزوّجه لا لذلك ، بل لأمر آخر وغرض غير ذلك من مصالح دنياه ، فلا حرج عليه ، ولا يكون عاصيا ، فهذا فقه الحديث.

ويستحب للإنسان إذا أراد التزويج أن يطلب ذوات الدين والابوات ، والبيوتات ، والأصول الكريمة على الشياع والمتعارف ، بين الناس ، لقول الرسول

ص: 558


1- الوسائل : الباب 26 من أبواب مقدمات النكاح ، ح 3. والباب 23 و 25 منها الحديث 1. ومستدرك الوسائل : الباب 22 من مقدمات النكاح ، ح 8.
2- ويدل على بعض المضمون روايات الباب 28 من أبواب مقدمات النكاح من الوسائل ، وروايات الباب 24 من أبواب مقدمات النكاح من المستدرك.

عليه السلام : تخيّروا لنطفكم ، فانّ العرق دسّاس (1) ، وقوله عليه السلام استجيدوا الأخوال (2). وقوله عليه السلام : عليك بذات الدين ، تربت يداك (3). وهذا دعاء ، بمعنى الدعاء له ، والمدح على فعله إن فعل ، على مذهب كلام العرب ، فإنّهم إذا أرادوا مدح المجوّد في الرمي ، قالوا : قطعت يداه ، ما أرماه ، قال امرؤ القيس :

فهو لا تنمي رميته *** ماله لا عدّ من نفره

معناه أماته اللّه حتى لا يعد في الأحياء من قومه ، ومعنى هذا القول منه ، التعجب ، أي لله درّة ، كما يقال : أهلكه اللّه ، ما أفرسه! قال أبو عبيد : ترى أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله لم يتعمد الدعاء عليه بالفقر ، ولكنّها كلمة جارية على ألسنة العرب ، يقولونها ، وهم لا يريدون وقوع الأمر.

وقال غيره : أراد تربت يداك ، إن لم تفعل ما أمرتك.

وقال ابن الأنباري : معناه ، لله درك إن استعملت ما أمرتك به ، واتعظت بعظتي.

ويجتنب من لا أصل له ولا عقل ، ولا يتزوج المرأة لجمالها ومالها ، إذا لم تكن مرضية في الاعتقاد والأصل والعقل ، فقد روي عنه عليه السلام أنّه قال : إيّاكم وخضراء الدمن. فقيل : وما خضراء الدمن يا رسول اللّه؟ فقال : المرأة الحسناء من منبت السوء (4).

وهذا من الفصاحة والاستعارة إلى حدّ تجاوز الغاية والنهاية ، وكيف لا يكون ذلك وهو أفصح العرب ، كما قال عليه السلام (5).

وقد قدّمنا أنّه لا يجوز أن يتزوج مخالفة له في الاعتقاد ، بغير هذه العبارة.

ص: 559


1- المحجّة البيضاء : ج 3 ص 93.
2- لم نعثر عليه.
3- سنن الترمذي : كتاب النكاح ، الباب 4 ، ح 1086. وفي سنن أبي داود : كتاب النكاح ، الباب 3. ح 2047 : « فاظفر بذات الدين تربت يداك ». ومثله سنن ابن ماجة : الباب 6 من كتاب النكاح ، ح 1858.
4- الوسائل : الباب 13 من أبواب مقدمات النكاح وآدابه ، ح 4.
5- اختصاص الشيخ المفيد : بعد حديث سقيفة بني ساعدة ، ص 187. بحار الأنوار ، الباب 18 من تاريخ بينا ، ج 5. ص 158.

ولا بأس بنكاح المستضعفات ، ممّن يتشهدن الشهادتين ، ولا يعرف منها. انحراف عن الحقّ ، وحدّ المستضعف من لا يعرف اختلاف الناس في المذاهب ، ولا يبغض أهل الحقّ على اعتقاده.

وإذا وجد امرأة لها دين وأصل كريم ، فلا يمتنع من مناكحتها لأجل فقرها ، فانّ اللّه تعالى يقول ( إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) (1).

ويختار من النساء الولود ، وإن كانت سوءاء قبيحة المنظر ، ويجتنب العقيم منهن ، وإن كانت حسناء جميلة المنظر.

ويستحب التزويج بالأبكار ، فقد روي أنّ النبيّ عليه السلام قال : إنّهن أطيب شي ء أفواها ، وأدر شي ء أخلافا ، وأحسن شي ء أخلاقا ، وأفتخ « بالخاء المعجمة » شي ء أرحاما (2) ومعنى « افتخ » : ألين وأنعم.

وروي كراهية التزويج بالأكراد (3).

ويكره تزويج المجنونة.

ولا بأس أن يتزوج الرجل بامرأة قد علم منها الفجور ، إذا تابت وأقلعت ، وقد روي (4) أنّه إذا عقد على امرأة ثم علم بعد ذلك العقد أنّها كانت زنت ، كان له أن يرجع على وليها بالمهر ، إذا كان عالما بحالها ، ما لم يدخل بها ، فان دخل بها كان لها المهر بما استحلّ من فرجها ، ولا يكون له فسخ النكاح ، فإن أراد طلاقها فهو مخيّر فيه ، ولا تبين منه إلا بالطلاق ، أو ما يجري مجراه ، وقال بعض أصحابنا : هو من جملة العيوب التي ترد به النساء.

باب من يتولى العقد على النساء

عندنا أنّه لا ولاية على النساء الصغار اللاتي لم يبلغن تسع سنين إلا للأب

ص: 560


1- النور : 32.
2- الوسائل : الباب 17 و 32 من أبواب مقدمات النكاح.
3- الوسائل : الباب 17 و 32 من أبواب مقدمات النكاح.
4- الوسائل : الباب 6 من أبواب العيوب والتدليس ، ح 4.

والجد من قبله ، إلا أنّ لولاية الجد رجحانا وأولوية هنا بغير خلاف بين أصحابنا ، إلا من شيخنا أبي جعفر في نهايته (1) ، فإنّه يجعل ولاية الجد مرتبطة بحياة الأب في هذه الحال.

والصحيح أنّ ولايته بعد الأب باقية ثابتة في مالها وغيره ، والأصل بقاؤها ، فمن أزالها يحتاج إلى دليل قاهر.

والجد له مزية في هذه الحال ، بأن يختار هو رجلا ، ويختار أبوها رجلا ، فالأولى أن يقدّم من اختاره الجد ، فان بادر الأب في هذه الحال ، وعقد على من اختاره ، فعقده ماض ، فأمّا إن عقدا معا لرجلين في حالة واحدة ، فإنّ العقد عقد الجد ، ويبطل عقد الأب بغير خلاف في ذلك أجمع.

فأمّا عقدهما عليها بعد بلوغها التسع سنين ، وهي رشيدة مالكة لأمرها وهي بكر غير ثيب ، فإنّ أصحابنا مختلفون في ذلك على قولين.

منهم من يقول عقدهما ماض ، وولايتهما باقية ثابتة لم تزل ، ويسوى بين الحالين ، إلا أنّ هاهنا ولاية الجد مرتبطة بحياة الأب ، فإذا مات الأب عند هذه الحال بطلت ولاية الجد ، وصار كالأجانب ، فليلحظ ذلك ويتأمّل ، ففيه غموض ، وهو قول شيخنا أبي جعفر في نهايته (2) ومعظم كتبه (3).

ومنهم من يفرّق بين الحالين ، ويزيل ولايتهما في هذه الحال ، وهم الأكثرون المحصلون من أصحابنا ، ويجعلون أمرها بيدها ، ولا يمضون عقدهما عليها ، والحال ما ذكرناه إلا برضاها ، فإن لم ترض وأظهرت الكراهة ، بطل العقد وانفسخ ، وهو قول شيخنا المفيد في كتابه أحكام النساء (4) ، وقول السيّد المرتضى.

وإلى هذا القول أذهب وعليه أعتمد ، وبه أفتى ، لوضوحه عندي ، ويقويه النظر والاعتبار ، والمحقق من الأخبار ، وقوله تعالى : ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ

ص: 561


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.
3- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 17.
4- لم نعثر عليه.

بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (1) فجعل النكاح في الولاية بيدها ، وأضافه إليها ، فالظاهر أنّها تتولاه ، وقوله تعالى ( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (2) فأباح فعلها في نفسها ، من غير اشتراط أحد من الأب والجدّ ، وقوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا ) (3) فأضاف التراجع إليهما ، وهو عقد ، لأنّه لو أراد الرجعة من الزوج وحده ، لما أضافه إليهما معا.

وأيضا فلا خلاف بين أصحابنا المخالف في المسألة والمؤالف ، أنّ الأب بعد البلوغ والرشد تخرج الولاية منه عن المال ، ويجب تسليمه إليها ، والاتفاق على أنّ العاقل لا يحجر عليه في ماله ونفسه إلا ما خرج بالدليل من المفلس ، ولا خلاف بينهم أنّ بالبلوغ يكمل عقلها ، ويجب تسليم مالها إليها ، ويصح عقود بيوعها ونذرها وإيمانها ، لقوله تعالى ( فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (4) ومن جملة فعلها بنفسها ، عقدها عليها عقدة النكاح ، وقد أباح لها اللّه تعالى ذلك بصريح لفظ الآية ، ما تفعله في نفسها ، وذلك عام في جميع الأفعال ، فمن ادّعى التخصيص يحتاج إلى دليل.

فعلى هذا التقرير والتحرير ، إذا لم ترض بعقد أبيها وأظهرت كراهية عقده ، فإنّه يكون باطلا مفسوخا ، وإن رضيت به وامضته ، فإنّه يكون صحيحا ، ويجري مجرى غيره من الأجانب ، لأنّ العقد عندنا في النكاح يقف على الإجازة بغير خلاف بيننا ، إلا ممن شذ وعرف اسمه ونسبه ، وسنذكر ذلك فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

وأيضا فلا خلاف بين المخالف والمؤالف من أصحابنا في المسألة ، أنّ ولاية الأب تزول عن البكر البالغ في عقد النكاح المؤجل ، فبالإجماع قد زالت ولايته هاهنا في النكاح المؤجل ، فلو كانت ولايته ثابتة في النكاح بعد البلوغ ، لم تزل في أحد قسميه ، وتثبت في الآخر ، فمن ادّعى ثبوت ولايته في القسم الآخر الذي

ص: 562


1- البقرة : 230.
2- البقرة : 234.
3- البقرة : 230.
4- البقرة : 234.

هو الدائم ، فعليه الدليل ، لأنّه موافق في خروج الولاية من يده في العقود كلّها ، من البيع وغيره ، وفي أحد قسمي النكاح.

وأيضا فشيخنا أبو جعفر قال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا كان أولى الأولياء مفقودا أو غائبا غيبة منقطعة ، أو على مسافة قريبة أو بعيدة ، وكلت وزوّجت نفسها ، ثمّ قال في استدلاله : دليلنا ما قدّمناه في المسألة الأولى سواء ، من أنّه لا ولاية لغير الأب والجدّ ، ومتى كان أحدهما غائبا كان للآخر تزويجها ، وإن غابا جميعا وكانت بالغا كان لها أن تعقد على نفسها ، وتوكل من شاءت من باقي الأولياء (1) هذا آخر كلام شيخنا في المسألة.

فانظر أرشدك اللّه إلى كلامه رحمه اللّه فهل ترى للخلاف معنى؟ لأنّ من جعل له الولاية ، لا يقول أنّ مع الغيبة تسقط ، لأنّ ولي الصغيرة من الأب والجد ، إذا غابا لا تسقط ولايتهما عنها بحال ، ولا يجوز تزويجها إلا بإذنهما ، لأنّ لهما عليها الولاية بغير خلاف ، وكذلك حالها عند البلوغ ، لا تزول ولايتهما عند من ذهب إلى ذلك من أصحابنا إذ لا فرق بين الموضعين ، وأيضا فشيخنا أبو جعفر الطوسي ، قد رجع وسلم المذهب بالكلية في كتابه كتاب التبيان ، ورجع عمّا ذكره في نهايته ، وسائر كتبه ، لأنّ كتاب التبيان صنّفه بعد كتبه جميعها ، واستحكام علمه ، وسبرة للأشياء ، ووقوفه عليها ، وتحقيقه لها ، فقال في تفسير قوله تعالى ( إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (2) فإنّه قال : لا ولاية لأحد عندنا ، إلا للأب والجد ، على البكر غير البالغ ، فأمّا من عداهما فلا ولاية له (3) فهذا قوله في كتاب التبيان المشتمل على تفسير القرآن ، وإذا كان لا إجماع في المسألة من أصحابنا ، والأصول من الأدلة شاهدة لما ذهبنا إليه واخترناه ، فلا معدل عنه ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي محجوج بقوله هذا الذي

ص: 563


1- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 37.
2- البقرة : 237.
3- التبيان : ج 2 ، ص 273.

حكيناه عنه في التبيان.

وقال السيد المرتضى في كتابه الانتصار : مسألة ، ومما يظن قبل الاختبار ، أنّ الإمامية تنفرد به القول ، بأنّه ليس للأب أن يزوّج بنته البكر البالغة إلا بإذنها ، وأبو حنيفة يوافق في ذلك ، وقال مالك والشافعي : للأب أن يزوّجها بغير إذنها ، ثمّ قال رحمه اللّه في استدلاله : دليلنا الإجماع المتردد (1).

وشيخنا المفيد ، قال في كتابه كتاب أحكام النساء ، قال في باب أحكام النساء في النكاح : والمرأة إذا كانت كاملة العقل ، سديدة الرأي ، كانت أولى بنفسها في العقد عليها للأزواج من غيرها ، كما أنّها أولى بالعقد على نفسها في البيع والابتياع ، والتمليك ، والهبات ، والوقوف ، والصدقات ، وغير ذلك ، من وجوه التصرفات ، غير أنّها إذا كانت بكرا ولها أب أوجد لأب ، فمن السنّة أن يتولى العقد عليها أبوها ، أو جدها لأبيها ، إن لم يكن لها أب ، بعد أن يستأذنها في ذلك ، فتأذن فيه ، وترضى به ، ولو عقدت على نفسها بغير إذن أبيها ، لكان العقد ماضيا (2) ، هذا آخر كلام شيخنا المفيد رحمه اللّه.

وأيضا فقد قال شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في مبسوطة ، في فصل في ذكر أولياء المرأة والمماليك : إذا بلغت الحرة رشيدة ، ملكت كلّ عقد من النكاح ، والبيع ، وغير ذلك ، وفي أصحابنا من قال : إذا كانت بكرا لا يجوز لها العقد على نفسها ، إلا بإذن أبيها ، وفي المخالفين من قال : لا يجوز نكاح إلا بولي ، وفيه خلاف ، ثمّ قال رحمه اللّه : وإذا تزوّج من ذكرنا بغير وليّ ، كان العقد صحيحا (3).

فقد وافق هاهنا أيضا ، ولا يرجع إلى أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، في هذه المسألة.

النكاح عندنا يقف على الإجازة ، مثل أن يزوّج رجل امرأة من غير أمر وليها

ص: 564


1- الانتصار : كتاب النكاح ، المسألة 17.
2- لم نعثر عليه.
3- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 162.

لرجل ، ولم يأذن له في ذلك ، يقف العقد على إجازة الزوج والولي ، ولو زوّج رجل بنت غيره - وهي غير بالغ - من رجل ، فقبل الزوج ، وقف العقد على إجازة الولي ، وكذلك لو زوّج الرجل بنته الثيب الكبيرة الرشيدة ، أو أخته الكبيرة الرشيدة ، أو غير الكبيرة ، وقف على إجازتها ، وكذلك لو تزوّج العبد بغير إذن سيده ، والأمة بغير إذن سيدها وقف العقد على إجازتهما بغير خلاف في ذلك كلّه عند أصحابنا ، ما خلا العبد والأمة ، فإنّ بعضهم يوقف العقد على إجازة الموليين ، وبعضهم يبطله ويفسده ، ويحتج بأنّه عقد منهي عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، وما عداهما لا خلاف بينهم فيه.

إلا ما ذهب شيخنا أبو جعفر إليه في مسائل خلافه (1) فإنّه خالف أصحابه ، في ذلك ، واختار مذهب الشافعي ، وإن كان موافقا لباقي أصحابنا في نهايته (2) ، واستبصاره (3) وتهذيبه (4).

دليلنا : إجماع أصحابنا المنعقد على ما اخترناه ، فانّ من ذكرناه معروف الاسم والنسب ، وإن كان محجوجا بقوله في غير مسائل الخلاف.

والأخبار متواترة عن الأئمة الأطهار بوقوف عقود النكاح على الإجازة.

وقال السيّد المرتضى في الناصريات ، في المسألة الرابعة والخمسين والمائة : ويقف النكاح على الفسخ والإجازة في أحد القولين ، ولا يقف في القول الآخر ، هذا صحيح ، ويجوز أن يقف النكاح عندنا على الإجازة ، ووافقنا على ذلك أبو حنيفة ، وقال الشافعي : لا يصح النكاح الموقوف على الإجازة ، سواء كان

ص: 565


1- الخلاف : كتاب النكاح ، مسألة 11.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.
3- الاستبصار : ج 3 ، كتاب النكاح ، باب أنه لا يزوج البكر إلا بإذن أبيها ، وباب أنّ الأب إذا عقد على ابنته الصغيرة .. ، ص 235 و 236.
4- التهذيب : ج 7 ، كتاب النكاح ، باب عقد المرأة على نفسها النكاح ، ص 279 و 280.

موقوفا على إجازة الزوج ، أو الولي ، أو المنكوحة ، وقال في استدلاله : دليلنا على صحة مذهبنا ، الإجماع المتردد ، وما رواه ابن عباس ، من أنّ جارية بكرا أتت النبيّ عليه السلام ، فذكرت أنّ أباها زوّجها ، وهي كارهة ، فخيرها النبيّ صلى اللّه عليه وآله وسلم (1) ، وهذا يدلّ على أنّ النكاح يقف على الإجازة والفسخ ، وأيضا ما روي في خبر آخر أنّ رجلا زوّج ابنته وهي كارهة ، فجاءت النبيّ عليه السلام وقالت : زوجني أبي ، « ونعم الأب » من ابن أخيه ، يريد أن يرفع بي خسيسته ، فجعل النبيّ عليه السلام أمرها إليها ، فقالت : أجزت ما صنع بي أبي ، وانّما أردت أن اعلم النساء أنّه ليس إلى الآباء من أمر النساء شي ء (2) ، وروي في بعض الأخبار أنّه عليه السلام قال لها : أجيزى ما صنع أبوك ، وأبوها ما صنع إلا العقد ، فدلّ على أنّه كان موقوفا على الإجازة (3) هذا آخر كلام السيد المرتضى رضي اللّه عنه وأرضاه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى عقد الأبوان على ولديهما قبل أن يبلغا ، ثمّ ماتا ، فإنّهما يتوارثان ، ترث الجارية الصبيّ ، والصبيّ الجارية (4).

قال محمّد بن إدريس : هذا صحيح بغير خلاف بين أصحابنا.

ثمّ قال : ومتى عقد عليهما غير أبويهما ، ثمّ مات واحد منهما ، فإن كان الذي مات ، الجارية ، فلا يرث الصبيّ ، سواء بلغ أو لم يبلغ ، لأنّ لها الاختيار عند البلوغ ، فإن كان الذي مات ، الزوج قبل أن يبلغ ، فلا ميراث لها أيضا ، لأنّ له

ص: 566


1- سنن ابن ماجة : الباب 12 من كتاب النكاح ، ح 3 ( الرقم 1875 ) عن ابن عباس. ورواه أبو داود في سننه عنه أيضا في كتاب النكاح الباب 25 ( الرقم 2096 ). وأورده في التاج : ج 1. في الباب الرابع في الاستئذان وأركان النكاح ص 293 من غير طريق ابن عباس.
2- ابن ماجة : الباب 12 من كتاب النكاح ، ح 2 ( الرقم 1874 ) باختلاف يسير.
3- الناصريات : كتاب النكاح ، مسألة 154.
4- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

الخيار عند البلوغ ، وإن كان موته عند بلوغه ورضاه بالعقد قبل أن تبلغ الجارية ، فإنّه يعزل ما ترثه ، إلى أن تبلغ ، فإذا بلغت ، عرض عليها العقد ، فإن رضيت به ، حلفت باللّه تعالى أنّها ما دعاها إلى الرضا الطمع في الميراث ، فإذا حلفت ، أعطيت الميراث ، وإن أبت لم يكن لها شي ء (1).

قال محمّد بن إدريس : وهذا تسليم منه رحمه اللّه ، أنّ العقد يقف على الإجازة والفسخ.

ثمّ قال رحمه اللّه : ومتى عقد على صبية لم تبلغ غير الأب أو الجد مع وجود الأب ، كان لها الخيار إذا بلغت ، سواء كان ذلك العاقد جدا مع عدم الأب ، أو الأخ أو العم ، أو الأم (2).

وهذا أيضا تسليم للمسألة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا لم يكن لها جد وكان لها أخ ، يستحب لها أن تجعل الأمر إلى أخيها الكبير ، وإن كان لها اخوان فجعلت الأمر إليهما ، ثمّ عقد كلّ واحد منهما عليها لرجل ، كان الذي عقد له عليها أخوها الأكبر أولى بها من الآخر (3).

قال محمّد بن إدريس : إن أراد بذلك أنّهما عقدا في حالة واحدة معا ، الإيجابان والقبولان في دفعة واحدة ، فالعقدان باطلان ، لأنّ ذلك منهي عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه ، وحمل ذلك على الأب والجد قياس ، ونحن لا نقول به ، وان أراد أنّه تقدّم عقد الأخ الصغير عليها ، فكيف يكون الذي عقد له عليها أخوها الأكبر أولى ، وإن أراد أنّ الأكبر كان عقده متقدّما ، فالعقد صحيح ، ولا معنى للأولوية هاهنا.

ثمّ قال رحمه اللّه : فإن دخل بها الذي عقد عليها أخوها الصغير ، كان العقد

ص: 567


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

ماضيا ، ولم يكن للأخ الكبير أمر مع الدخول بها (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : إذا كان الصغير قد سبق بالعقد ، فسواء دخل بها المعقود له عليها أو لم يدخل ، لا أمر للكبير ، فإن كان الأخ الكبير قد سبق بالعقد ودخل الذي عقد له الأخ الصغير بها ، فإنّها تردّ إلى الأول ، وكان لها الصداق بما استحلّ من فرجها ، وعليها العدة ، ولا نفقة لها على من دخل بها ، لأنّها تعتد لغيره ، بل النفقة على زوجها ، لأنّها في حباله ، وانّما منعه الشرع من وطئها ، فإن جاءت بولد كان لا حقا بأبيه.

وذهب شيخنا في نهايته إلى أنّه إن كان قد دخل بها الذي عقد له عليها أخوها الأصغر ، وإن كان عقده بعد عقد أخيها الأكبر عليها ، فهي زوجته مع الدخول (2).

إلا أنّه رجع في مسائل خلافه (3) ، وفي مبسوطة (4) عن ذلك وقال : وروي في بعض أخبارنا ذلك (5).

ورجوعه هو الصحيح.

ومتى عقد الرجل لابنه على جارية وهو غير بالغ ، كان له الخيار إذا بلغ ، وليس كذلك إذا عقد على بنته غير البالغ ، لأنّها إذا بلغت لا خيار لها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا أراد الأخ العقد على أخته البكر ، استأمرها ، فإن سكتت كان ذلك رضى منها (6).

قال محمّد بن إدريس : المراد بذلك ، أنّها تكون قد وكلته في العقد.

ص: 568


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء ، والعبارة هكذا ، فإن كان الأخ الكبير سبق بالعقد ودخل بها الذي عقد له الأخ الصغير فإنها تردّ إلى الأوّل.
3- الخلاف. كتاب النكاح ، المسألة 42.
4- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح فصل في ذكر أولياء المرأة والمماليك ، ص 177 ، وقوله وروي في بعض أخبارنا لا يوجد في كتابيه.
5- الوسائل : الباب 7 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح 4.
6- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

فإن قيل : إذا وكلته في العقد فلا حاجة به إلى استيمارها.

قلنا : بل يستحب أن يستأمرها عند العقد بعد ذلك ، وكذلك الأب إذا لم يكن وليا عليها ، ولا له إجبارها على النكاح ، وولت أمرها إليه ، فإنّه يستحب له أن يستأمرها إذا أراد العقد عليها ، وهذا معنى ما روي أنّ إذنها صماتها (1) وإلا السكوت لا يدل في موضع من المواضع على الرضا ، إلا إذا لم يكن له وجه إلا الرضا ، فإنّه يدلّ حينئذ على الرضا.

وذهب شيخنا أبو جعفر في مبسوطة ، في فصل في ذكر أولياء المرأة ، إلى ما ذكرناه ، وحقّق ما حررناه ، فقال : وأمّا الأبكار فلا يخلو أن تكون صغيرة أو كبيرة ، فإن كانت صغيرة كان لأبيها وجدها أبي أبيها وإن علا أن يزوجها لا غير ، وإن كانت كبيرة فالظاهر في الروايات (2) أنّ للأب والجد أن يجبراها على النكاح ، ويستحب له أن يستأذنها ، وإذنها صماتها ، وإن لم يفعل فلا حاجة به إليها (3) هذا آخر قول شيخنا في مبسوطة.

وإذا ولت المرأة غيرها العقد عليها ، وسمّت له رجلا بعينه ، لم يجز له العقد لغيره عليها ، فإن عقد لغيره كان العقد باطلا.

وإذا عقد الرجل على ابنه وهو صغير ، وسمّى مهرا ثمّ مات الأب ، كان المهر من أصل تركته قبل القسمة ، سواء رضي الابن بالعقد بعد بلوغه ، أو لم يرض ، لأنّه لمّا عقد عليه ولا مال للابن ، فقد ضمن الأب المهر ، فانتقاله إلى الابن بعد بلوغه ورضاه يحتاج إلى دليل ، إلا أن يكون للصبيّ مال في حال العقد ، فيكون المهر من مال الابن دون الأب ، لأنّه الناظر في مصالحه ، والوالي

ص: 569


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح 1 وفيه : قال أبو الحسن عليه السلام في المرأة البكر : إذنها صماتها.
2- الوسائل : الباب 9 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح 8 ، وكذلك الباب 6 من تلك الأبواب.
3- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 162.

عليه في تلك الحال ، فأمّا الموضع الذي أوجبنا المهر في مال الأب ، فدليله إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا فإنّه لما قبل النكاح لولده مع علمه بإعساره ، وعلمه بلزوم الصداق بعقد النكاح ، علمنا من حيث العرف والعادة أنّه دخل على أن يضمن ، فقام العرف في هذا مقام نطقه.

وحدّ الجارية التي يجوز لها العقد على نفسها ، أو يجوز لها أن تولّي من يعقد عليها ، تسع سنين فصاعدا ، مع الرشد والسلامة من زوال العقل ، فإن بلغت إلى ذلك الحدّ وهي مجنونة أو زائلة العقل ، فإنّ ولاية الأب غير زائلة.

ومتى عقدت الام لابن لها على امرأة ، كان مخيرا في قبول العقد والامتناع منه ، فإن قبل لزمه المهر ، وإن أبي ذلك لزمها هي المهر ، على ما روي في بعض الأخبار (1) أورده شيخنا في نهايته (2).

قال محمّد بن إدريس : حمل ذلك على الأب قياس ، فإن الام غير والية على الابن ، وإنّما هذا النكاح موقوف على الإجازة والفسخ ، فإن بلغ الابن ورضي لزمه المهر ، وإن أبى انفسخ النكاح ، ولا يلزم الامّ من المهر شي ء بحال ، إذ هي والأجانب سواء ، ولو عقد عليه أجنبي كان الحكم ما ذكرناه بغير خلاف ، فلا دليل على لزوم المهر ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، فبقينا على حكم الأصل.

وقد روي (3) أنّ المرأة إذا عقدت على نفسها عقدة النكاح ، وهي سكرى ، كان العقد باطلا ، فإن أفاقت ورضيت بفعلها ، كان العقد ماضيا ، وإن دخل بها الزوج في حال السكر ، ثم أفاقت الجارية ، فاقرّته على ذلك ، كان ذلك أيضا

ص: 570


1- الوسائل : الباب 7 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد ، ح 3.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء ، باختلاف يسير.
3- الوسائل : الباب 14 من أبواب عقد النكاح وأولياء العقد.

ماضيا ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

والذي يقوى عندي أنّ هذا العقد باطل ، فإذا كان باطلا فلا يقف على الرضا والإجازة ، لأنّه لو كان موقوفا وقف على الفسخ والإجازة ، وشيخنا قال : كان العقد باطلا ، فإذا كان باطلا ، فكيف يكون في نفسه بعد الإفاقة والرضا ماضيا؟ وأيضا العقد حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك من كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ولا إجماع ، ولا يرجع في مثل ذلك إلى أخبار الآحاد.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : والذي بيده عقدة النكاح ، الأب أو الجدّ مع وجود الأب ، أو الأخ إذا جعلت الأخت أمرها إليه ، أو من وكلته في أمرها ، فأي هؤلاء كان جاز له أن يعفو عن بعض المهر ، وليس له أن يعفو عن جميعه (2).

وقال في مسائل خلافه : الذي بيده عقدة النكاح عندنا ، هو الولي الذي هو الأب ، أو الجد ، ثمّ قال : إلا أنّ عندنا له أن يعفو عن بعضه ، وليس له أن يعفو عن جميعه (3).

وقال في كتاب التبيان في تفسير قوله تعالى ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ ) (4) قال رحمه اللّه : قوله « إِلّا أَنْ يَعْفُونَ » معناه من يصح عفوها من الحرائر البالغات غير المولى عليها لفساد عقلها ، فتترك ما يجب لها من نصف الصداق ، وهو قول ابن عباس ومجاهد ، وجميع أهل العلم ، وقوله ( أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » قال مجاهد ، والحسن ، وعلقمة ، أنّه الولي ، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد اللّه عليهما السلام غير أنّه لا ولاية لأحد عندنا إلا للأب والجدّ على البكر غير البالغ ، فأمّا من عداهما فلا ولاية له إلا بتولية منها ، وروي عن علىّ عليه السلام ، وسعيد بن المسيّب ، وشريح ، وحمّاد ، وإبراهيم ، وأبي

ص: 571


1- النهاية : كتاب النكاح باب من يتولى العقد على النساء.
2- النهاية : كتاب النكاح باب من يتولى العقد على النساء.
3- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 34.
4- البقرة : 237.

حذيفة ، وابن شبرمة ، أنّه الزوج ، وروي ذلك أيضا في أخبارنا ، غير أنّ الأوّل أظهر ، وهو المذهب ، وفيه خلاف بين الفقهاء ، ومن جعل العفو للزوج ، قال : له أن يعفو عن جميع نصفه ، ومن جعله للوليّ قال أصحابنا : له أن يعفو عن بعضه ، وليس له أن يعفو عن جميعه ، وإن امتنعت المرأة من ذلك ، لم يكن لها ذلك ، إذا اقتضت المصلحة ذلك ، عن أبي عبد اللّه واختار الجبائي أن يكون المراد به الزوج ، قال : لأنّه ليس للوليّ أن يهب مال المرأة (1) هذا آخر كلامه في كتابه التبيان.

والذي يقوى في نفسي ويقتضيه أصول المذهب ، ويشهد بصحته النظر والاعتبار ، والأدلة القاهرة ، والآثار ، أنّ الأب أو الجد من قبله مع حياته أو موته ، إذا عقدا على غير البالغ ، فلهما أن يعفوا عما تستحقه من نصف المهر بعد الطلاق ، إذا رأيا ذلك مصلحة لها ، وتكون المرأة وقت عفوهما غير بالغ ، فأمّا من عداهما ، أو هما مع بلوغها ورشدها ، فلا يجوز لهما العفو عن النصف ، وصارا كالأجانب ، لأنّهما في هذه الحال لا ولاية لهما عليها ، وهي الوالية على نفسها ، ولا يجوز لأحد التصرف في مالها بالهبة والعفو وغير ذلك إلا عن إذنها ، لأنّ التصرف في مال الغير لا يجوز عقلا وسمعا ، إلا بإذنه ، وليس في الآية إن تعلّق بها متعلّق سوى ما ذكرناه ، لأنّه تعالى قال « إِلّا أَنْ يَعْفُونَ » فدلّ بهذا القول أنهن ممن لهن العفو ، وهن الحرائر البالغات الواليات على أنفسهن في العقد والعفو والبيع والشراء وغير ذلك ، ثمّ قال « أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ » معناه إن لم يكنّ بالغات ولا واليات على أنفسهن ، فعند هذه الحال لا يلي عليهن عندنا سوى الأب والجد بغير خلاف بيننا ، وهما الواليان عليهن والناظران في عقد نكاحهن ، فلهما العفو بعد الطلاق عما تستحقه ، ولأنّ الإجماع حاصل منعقد على ما ذكرناه ، وفيما عداه خلاف ، فالاحتياط يقتضي ما ذكرناه ، ودليل

ص: 572


1- التبيان : ج 2 ، ص 273 و 274 في تفسير آية 237 من سورة البقرة.

العقل يعضد ما اخترناه ، إذ لا إجماع من أصحابنا على خلاف ما شرحناه ، ولا تواتر من الأخبار على ضد ما بيّناه. وقول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه مختلف على ما بيّناه في كتبه وحكيناه ، وأقوال المفسرين مختلفة على ما سطّرناه.

ولو لا الإجماع من أصحابنا على أنّ الذي بيده عقدة النكاح ، الأب والجدّ على غير البالغ ، لكان قول الجبائي قويا ، مع أنّه قد روي في بعض أخبارنا أنّه الزوج (1).

وروي أنّه إذا كان لرجل عدة بنات ، فعقد لرجل على واحدة منهن ، ولم يسمّها بعينها ، لا للزوج ولا للشهود ، فإن كان الزوج قد رآهن كلّهن ، كان القول قول الأب ، وعلى الأب أن يسلّم إليه التي نوى العقد عليها عند عقدة النكاح ، وإن كان الزوج لم يرهن كلّهن كان العقد باطلا ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

وعاد عنه في مبسوطة ، وضعفه ، وقال : النكاح باطل في الموضعين (3).

وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنّ العقد حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ومن شرط صحته تمييز المعقود عليها ، ولأنّه إذا ميزها من غيرها ، صحّ العقد بلا خلاف ، وإذا لم يميزها ليس على صحته دليل ، أو فيه خلاف ، فالاحتياط يقتضي ما قلناه واخترناه ، وإنّما أورد الخبر شيخنا في نهايته إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد أمثاله مما لا يعمل به ، رواها أبو عبيدة فحسب.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة في فصل فيما ينعقد به النكاح : لا يصح النكاح حتى تكون المنكوحة معروفة بعينها ، على صفة تكون متميزة عن غيرها ، وذلك بالإشارة إليها أو التسمية أو الصفة (4).

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : لا يصح نكاح الثيب إلا بإذنها ، وإذنها

ص: 573


1- مستدرك الوسائل : الباب 37 من أبواب المهور ، ح 4.
2- النهاية : كتاب النكاح باب من يتولى العقد على النساء آخر الباب.
3- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل فيما ينعقد به النكاح ، ص 192 ، والعبارة هكذا : وإن قال : إحدى ابنتي أو قال : بنتي فقط ، فالنكاح باطل.
4- المبسوط : ج ، كتاب النكاح ، ص 192.

نطقها بلا خلاف ، وأمّا البكر ، فإن كان لها ولي ، له الإجبار ، مثل الأب والجدّ ، فلا يفتقر نكاحها إلى إذنها ، ولا إلى نطقها ، فإن لم يكن له الإجبار كالأخ وابن الأخ والعم ، فلا بدّ من إذنها ، والأحوط أن يراعى نطقها وهو الأقوى عند الجميع ، وقال قوم : يكفي سكوتها ، لعموم الخبر ، وهو قوي (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

والذي يقوى في نفسي أنّه لا بدّ من نطقها على ما قدّمناه ، لأنّا قد بيّنا أنّه لا ولاية لأحد بعد البلوغ عليها بحال.

لا ينعقد النكاح إلا بلفظ النكاح أو التزويج ، وهو أن يقع الإيجاب والقبول بلفظة واحدة ، أو الإيجاب بإحداهما والقبول بالأخرى ، فتقول : أنكحتك ، فيقول : قبلت النكاح ، أو تقول : زوجتك ، فيقول : قبلت التزويج ، أو تقول : أنكحتك فيقول : قبلت التزويج ، أو تقول : زوجتك ، فيقول : قبلت النكاح ، وما عدا هذا فلا ينعقد به النكاح الدائم بحال.

فأمّا النكاح المؤمل ينعقد بلفظة أخرى زائدة على هاتين اللفظتين ، وهي متعتك نفسي بكذا إلى أجل كذا ، إلا أنّ عقد النكاح الدائم ليس من شرط صحته ذكر المهر ، بل ينعقد من دونه بغير خلاف ، والمؤجل من شرط صحته ذكر المهر والأجل.

وإذا قال رجل في عقد الدوام : أنكحتك أو زوجتك بنتي ، فقال الزوج : قبلت ولم يزد على ذلك ، فعندنا يصحّ العقد ، لأنّ معنى قوله قبلت ، أي قبلت هذا الإيجاب ، أو هذا العقد.

وإذا قال : زوجتك حمل هذه المرأة ، كان باطلا.

ولا بأس أن يتقدّم القبول على الإيجاب في عقد النكاح عندنا ، ولا يجوز ذلك في عقد البيع.

ولا بدّ أن يأتي بلفظ الاخبار في الإيجاب ، ولا يجوز أن يأتي بلفظ الأمر أو

ص: 574


1- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل في ذكر أولياء المرأة والمماليك.

الاستفهام ، لأنّه لا خلاف في صحّته أن يأتي به على ما قلناه ، وفيما عداه خلاف ، وأيضا ، فالعقد حكم شرعي يحتاج في ثبوته إلى دليل شرعي.

عقد النكاح لا يدخله خيار المجلس ، ولا خيار الشرط ، لأنّه عقد لازم من الطرفين ، فإن شرط ذلك فيه بطل الشرط ، وصح العقد.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1) ومبسوطة (2) : إذا شرط ذلك بطل العقد.

قال محمّد بن إدريس : لا دليل على بطلان العقد من كتاب ولا سنّة ولا إجماع ، لأنّ العقود الشرعية إذا ضامّتها شروط غير شرعية ، بطلت الشروط وصحّت العقود ، وهذا شرط غير شرعي.

والذي يدلّ على صحّة العقد قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (3) وهذا عقد يجب الوفاء به ، والذي اختاره شيخنا تخريجات المخالفين وفروعهم ، وهو مذهب الشافعي ، وأحد من أصحابنا لم يذهب إلى ذلك ، ولا ذكر المسألة في مسطور له ، ولا وردت بها رواية من جهة أصحابنا ، لا آحادا ولا تواترا ، وشيخنا لما استدل على ما اختاره ، لم يتعرض للإجماع ، ولا للأخبار ، بل لشي ء أوهن من بيت العنكبوت ، ولم يتعرض لها في سائر تصنيفه ، إلا في هذين الكتابين ، لأنّهما فروع المخالفين وتخريجاتهم.

باب المهور وما ينعقد به النكاح وما لا ينعقد

الأصل في الصداق كتاب اللّه ، وسنّة نبيه صلى اللّه عليه وآله ، قال اللّه تعالى ( وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً ) (4).

فإن قيل : كيف سمّاه اللّه تعالى نحلة ، وهو عوض عن النكاح؟

أجيب عنه بثلاثة أجوبة ، أحدها : اشتقاقه من الانتحال الذي هو التدين ،

ص: 575


1- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 59.
2- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل فيما ينعقد به النكاح ، ص 194.
3- المائدة : 1.
4- النساء : 4.

يقال : فلان ينتحل مذهب كذا ، فكان قوله نحلة ، معناه تدينا.

والثاني : أنّه في الحقيقة نحلة منه لها ، لأنّ حظ الاستمتاع من كل واحد منهما لصاحبه كحظ صاحبه.

والثالث : قيل : إنّ الصداق كان للأولياء في شرع من قبلنا ، بدلالة قول شعيب حين زوج موسى ابنته ( عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ ، فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ ) (1) ولم يقل تأجر بنتي ثماني حجج ، فكان معنى قوله « نِحْلَةً » أي انّ اللّه أعطاكن هذا في شرعنا نحلة.

فإذا ثبت هذا فالمستحب أن لا يعرى نكاح عن ذكر مهر.

ومتى تولى عن ذكر المهر ، وعقد النكاح بغير ذكره ، فالنكاح صحيح إجماعا على ما قدّمناه ، لقوله تعالى ( لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ) (2) معناه : ولم تفرضوا لهن فريضة ، بدلالة قوله ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ) (3) ولا متعة لمن طلّقها قبل الدخول ، إلا التي لم يسمّ لها مهر.

والصداق ما تراضى عليه الزوجان ، ممّا له قيمة في شرع الإسلام ، ويحلّ تملكه ، قليلا كان أو كثيرا ، بلا خلاف بين المسلمين ، إلا ما ذهب إليه السيد المرتضى في انتصاره ، فإنّه قال : إذا زاد على خمسين دينارا لا يلزم إلا الخمسون (4) والصحيح ما قدّمناه ، لأنّ هذا خلاف لظاهر القرآن ، والمتواتر من الأخبار ، وإجماع أهل الأعصار ، لأنّه لا خلاف في أن الأئمة الأطهار عليهم السلام ، والصحابة والتابعين ، وتابعي التابعين تزوجوا بأكثر من خمسين دينارا.

ولا يجوز في المهر ما لا يحلّ تملكه للمسلم ، من خمر أو نبيذ أو خنزير ، وما أشبه ذلك ، فإن عقد على شي ء من هذه المحرمات ، قال شيخنا أبو جعفر الطوسي

ص: 576


1- القصص : 27.
2- البقرة : 236.
3- البقرة : 236.
4- الانتصار : كتاب النكاح ، المسألة 20.

في نهايته : كان العقد باطلا (1). وكذلك يقول شيخنا المفيد في مقنعته (2) ، إلا أنّ شيخنا أبا جعفر رجع عن ذلك في مسائل خلافه ، في كتاب الصداق فقال : مسألة ، إذا عقد على مهر فاسد مثل الخمر والخنزير والميتة وما أشبهه ، فسد المهر ولم يفسد النكاح. ووجب لها مهر المثل ، وبه قال جميع الفقهاء ، إلا مالكا ، فإنّ عنه روايتين ، إحداهما مثل ما قلناه ، والأخرى يفسد النكاح ، وبه قال قوم من أصحابنا ، ثمّ قال في استدلاله على صحّة ما اختاره رحمه اللّه : دليلنا انّ ذكر المهر ليس من شرط صحة العقد ، فإذا ذكر ما هو فاسد ، لم يكن أكثر من أن لم يذكره أصلا ، فلا يؤثر ذلك في فساد العقد (3) ، هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس : الذي يقوى في نفسي ، ما ذكره في مسائل خلافه ، والدليل عليه ما استدلّ به رحمه اللّه ، فإنّه استدلال مرضي ، ولا إجماع على فساد هذا العقد ، ولا كتاب اللّه تعالى ، ولا دليل عقل ، ولا سنّة متواترة ، بل قوله تعالى يعضد ما ذكره ، وهو قوله تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (4). والنكاح قد بيّنا أنّه العقد من الإيجاب والقبول ، وقد حصل ذلك ، وقد بيّنا أيضا أنّ ذكر المهر ليس من شرط صحة عقد الدوام.

ويجوز أن يكون منافع الحر مهرا ، مثل تعليم قرآن ، أو شعر مباح ، أو بناء ، أو خياطة ثوب ، وغير ذلك مما له أجرة ، لأنّ كلّ ذلك له أجر معيّن ، وقيمة مقدرة.

واستثنى بعض أصحابنا من جملة ذلك الإجارة إذا كانت معيّنة يعملها الزوج بنفسه ، قال : لأنّ ذلك كان مخصوصا بموسى عليه السلام ، والوجه في ذلك أنّ الإجارة إذا كانت معيّنة لا تكون مضمونة ، بل إذا مات المستأجر لا تؤخذ من تركته ، ويستأجر لتمام العمل ، وإذا كانت في الذمة تؤخذ من تركته ،

ص: 577


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح أول الباب.
2- المقنعة : أبواب النكاح ، باب المهور والأجور وما ينعقد به النكاح ص 508.
3- الخلاف : كتاب الصداق : المسألة 1.
4- النساء : 3.

ويستأجر لتمام العمل.

والذي أعتمده وأعمل عليه وافتي به ، أنّ منافع الحر تنعقد بها عقود النكاح ، ويصح الإجارة والأجرة على ذلك ، سواء كانت الإجارة في الذمة أو معيّنة ، لأنّ الأخبار على عمومها ، وما ذكره بعض أصحابنا من استثنائه الإجارة ، وقوله : « كانت مخصوصة بموسى عليه السلام » فكلام في غير موضعه ، واعتماد على خبر شاذ نادر (1) ، فإذا تؤمّل حقّ التأمّل ، بان ووضح أنّ شعيبا عليه السلام استأجر موسى ليرعى له لا ليرعى لبنته ، وذلك كان في شرعه وملته ، أنّ المهر للأب دون البنت ، على ما قدّمناه في صدر الباب ، فإذا كان كذلك ، فإنّه لا يجوز في شرعنا ما جاز في شرع شعيب عليه السلام ، فأمّا إذا عقد على إجارة ليعمل لها ، فالعقد صحيح ، سواء كانت الإجارة معينة أو في الذمة.

وقد أورد شيخنا أبو جعفر في كتاب تهذيب الأحكام ، خبرا وهو محمد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، قال : لا يحلّ النكاح اليوم في الإسلام بإجارة ، بأن يقول : أعمل عندك كذا وكذا سنة ، على أن تزوجني أختك أو ابنتك ، قال : حرام ، لأنّه ثمن رقبتها ، وهي أحقّ بمهرها (2).

فهذا يدلك على ما حررناه وبيّناه ، فمن استثنى من أصحابنا الإجارة التي فعلها شعيب مع موسى عليهما السلام ، فصحيح ، وإن أراد غير ذلك فباطل.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز العقد على إجارة ، وهو أن يعقد الرجل على امرأة على أن يعمل لها ، أو لوليها أياما معلومة ، أو سنين معينة (3).

وقال في مسائل خلافه : مسألة ، يجوز أن يكون منافع الحر مهرا ، مثل تعليم

ص: 578


1- الوسائل : الباب 22 من أبواب المهور.
2- التهذيب : ج 7 ، ص 367 ، باب المهور والأجور وما ينعقد به النكاح ، ح 51 (1488).
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهدر وما ينعقد به النكاح ، أوائل الباب.

قرآن ، أو شعر مباح ، أو بناء أو خياطة ثوب ، وغير ذلك ممّا له اجرة ، واستثنى أصحابنا من جملة ذلك الإجارة ، وقالوا : لا يجوز ، لأنّه كان يختص بموسى عليه السلام ، ثمّ قال في استدلاله : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا روى سهل بن سعد الساعدي أنّ امرأة أتت النبي عليه السلام ، فقالت : يا رسول اللّه انّي قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياما طويلا ، فقام رجل فقال : يا رسول اللّه زوجنيها إن لم يكن لك فيها حاجة ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم : هل عندك من شي ء تصدقها إيّاه؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال النبيّ عليه السلام : إن أعطيتها إيّاه جلست ولا إزار لك ، فالتمس شيئا ، فقال : ما أجد شيئا ، فقال له رسول اللّه : هل معك من القرآن شي ء؟ قال : نعم سورة كذا وسورة كذا ، وسماهما ، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : قد زوجتكها بما معك من القرآن (1) ، وظاهره أنّه جعل القرآن الذي معه صداقا ، وهذا لا يمكن ، فثبت أنّه إنّما جعل الصداق تعليمها إيّاه ، وروى عطاء ، عن أبي هريرة ، أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال لرجل : ما تحفظ من القرآن؟ قال : سورة البقرة ، والتي تليها ، قال : قم ، فعلّمها عشرين آية ، وهي امرأتك (2) هذا آخر كلامه في مسائل خلافه.

قال محمّد بن إدريس : ما بين قوله رحمه اللّه في نهايته ، وبين قوله في مسائل خلافه ، تضاد ولا تناف ، لأنّه قال في نهايته : ولا يجوز العقد على اجارة « وهو أن يعقد الرجل على امرأة ، على أن يعمل لها أو لوليّها أياما معلومة ، أو سنين معيّنة » فأضاف العمل إليه بعينه ، على ما قدّمناه وحرّرناه ، فامّا قوله في مسائل خلافه : « يجوز أن يكون منافع الحر مهرا مثل تعليم قرآن ، أو شعر مباح ، أو بناء ، أو خياطة ثوب ، وغير ذلك ممّا له اجرة » يريد بذلك أن لا تكون الإجارة معيّنة بنفس الرجل ، بل تكون في ذمّته يحصّلها إمّا بنفسه ، أو بغيره ، وذلك جائز على ما بيّناه ، فليلحظ ذلك.

ص: 579


1- مستدرك الوسائل الباب 2 من أبواب المهور ، ح 2.
2- الخلاف : كتاب الصداق : المسألة 3.

ولا يجوز نكاح الشغار بالشين والغين المعجمتين ، وهو أن يزوّج الرجل بنته أو أخته بغيره ، ويتزوّج بنت المزوّج أو أخته ، ولا يكون بينهما سوى تزويج هذا من هذه ، وهذه من ذاك ، ويجعلان المهر التزويج فحسب ، ومتى عقد على هذا كان العقد باطلا ، بغير خلاف بيننا ، لأنّه عقد منهي عنه ، والنهي بمجرده يقتضي فساد المنهي عنه.

وقال بعض محققي اللغويين : معنى شغر رجليه ، رفعهما ، أصله في الكلب إذا رفع رجله للبول ، فأمّا نكاح الشغار بالفتح ، والكسر ، فهو أن يزوج الرجل من هو وليّها ، من بنت أو غيرها ، رجلا غيره على أن يزوجه بنته بغير مهر ، وكانت العرب في الجاهلية ، يقول أحدهم للآخر : شاغرني ، أي زوجني حتى أزوجك ، وهو من رفع الرجل ، لأنّ النكاح فيه معنى الشغر ، فسمّى هذا العقد شغارا ومشاغرة ، لإفضائه في كلّ واحد من الزوجين إلى معنى الشغر ، وصار اسما لهذا النكاح ، كما قيل في الزنا سفاح ، لأنّ الزانيين يتسافحان الماء ، أي يسكبانه ، والماء هو النطفة ، ومن الشغر الذي هو رفع الرجل ، قول زياد لبنت معاوية التي كانت عند ابنه ، فافتخرت يوما عليه ، وتطاولت ، فشكاها إلى أبيه زياد ، فدخل عليها بالدرة ، فضربها ، ويقول لها : أشغرا وفخرا.

ويستحب في النساء ، تقليل المهور ، لما روي في ذلك من الآثار (1).

ويستحب أن لا يتجاوز بالمهر السنة المحمدية ، وهو خمسمائة درهم جياد ، وهو اثنتا عشرة أوقية ونش ، بالنون المفتوحة والشين المعجمة المشددة ، وهو عشرون درهما ، وهو نصف الأوقية من الدراهم ، لأنّ الأوقية من الدراهم عند أهل اللغة أربعون درهما ، فإني سألت ابن العصار ببغداد ، وهو إمام اللغة في عصره ، فأخبرني بذلك ، وقال : النش نصف الأوقية ، والأوقية من الدراهم أربعون درهما.

ص: 580


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب المهور.

ومتى عقد الرجل على أكثر من ذلك ، بأضعاف كثيرة لزمه الوفاء به ، على الكمال ، على ما قدّمناه فيما مضى.

وروي (1) أنّه يستحب للرجل أن لا يدخل بامرأته حتى يقدّم لها مهرها ، فان لم يفعل ، قدّم لها شيئا من ذلك ، أو من غيره من الهدية ، يستبيح به فرجها ، ويجعل الباقي دينا عليه ، هكذا ذكره شيخنا في نهايته (2).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه ، يستبيح به فرجها ، غير واضح ، وانّما الذي يستبيح به الفرج ، هو العقد من الإيجاب والقبول ، دون ما يقدّمه من المال المذكور ، فانّ تقديمه كتأخيره بلا خلاف.

ومتى سمّى المهر حال العقد ، ودخل بها ، كان في ذمته ، وإن لم يكن سمّى لها مهرا وأعطاها شيئا قبل دخوله بها ، ثمّ دخل بها بعد ذلك ، لم تستحق عليه شيئا سوى ما أخذته منه قبل الدخول ، سواء كان ذلك قليلا أو كثيرا ، على ما رواه أصحابنا ، وأجمعوا عليه ، فانّ دليل هذه المسألة هو الإجماع المنعقد منهم بغير خلاف ، وفيه الحجة ، لا وجه لذلك إلا الإجماع.

فان لم يعطها شيئا قبل الدخول بها ، ولم يسم مهرا في حال العقد ، ثمّ دخل بها لزمه مهر المثل ، والمعتبر بمهر المثل راجع إلى النساء في الشرف والجمال ، والأحوال ، والعادات ، والبلدان ، والأزمان ، والثيبوبة ، والبكارة ، ما لم يتجاوز بذلك خمسمائة درهم جيادا ، فإن كان مهور أمثالها أكثر من الخمسمائة ، ردّ إلى الخمسمائة.

ومتى طلّق الرجل امرأته التي قد سمّى لها مهرا قبل الدخول بها ، كان عليه نصف الصداق المسمّى ، فإن كان قد قدّم لها المهر كملا ، رجع عليها بنصف ما أعطاها ، إذا لم يزد زيادة منفصلة ، فإن كان ذلك قد زاد زيادة منفصلة ، رجع عليها في العين دون النماء ، إلا أن يكون العين حاملة وقت التسليم ، فإنّه يرجع

ص: 581


1- الوسائل : الباب 7 من أبواب المهور ، الا ان روايات الباب كلها دالة على كراهة الدخول قبل إعطاء المهر.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح.

عليه بنصف الجميع الحامل والمحمول معا ، إلا أن يكون قد حمل عندها ، فلا يرجع إلا بالعين دون الحمل ، وكذلك إن كان قد زاد ثمنه بنماء متصل وكان حدوث النماء عندها ، فالأولى أن لا يرجع عليها إلا بمثل قيمة العين وقت التسليم ، لأنّ هذا النماء حدث على ملكها دون ملكه ، لأنّ ملكه ما تجدد إلا بعد الطلاق ، مثل إن كان الصداق حملا فصار كبشا ، أو فصيلا فصار جملا كبيرا ، وما أشبه ذلك ، فأمّا إن كان الزائد في ثمنه لزيادة السوق ، فإنّه يرجع في العين بغير خلاف ، لأنّه لا أثر لهذه الزيادة إلا العين.

فإن وهبت المرأة صداقها المسمّى قبل تطليقه لها ، ثمّ طلّقها الزوج ، كان له أن يرجع عليها بمثل نصف المهر إن كان له مثل ، فإن لم يكن له مثل فله أن يرجع عليها بمثل نصف قيمته ، وإن كان المهر مما له اجرة مثل تعليم شي ء من القرآن أو صناعة معروفة ، ثمّ طلّقها قبل الدخول بها ، رجع عليها بمثل نصف اجرة ذلك على ما جرت به العادة.

ومتى ادّعت المرأة المهر على زوجها ، لم يلتفت إلى دعواها ، سواء كان قبل الدخول أو بعده.

وعقد الباب وجملة الأمر أن الزوجين إذا اختلفا في المهر ، أو في قدره ، مثل أن يقول الزوج : تزوجتك بألف ، فقالت : بألفين ، أو اختلفا في جنس المهر ، فقال : تزوجتك بألف درهم ، فقالت : بألف دينار ، فالقول قول الزوج في جميع ذلك ، سواء كان قبل الدخول أو بعده ، لأنّها المدعية والزوج المنكر ، والرسول عليه السلام قال : « البينة على المدّعي واليمين على المدّعى عليه » (1).

فإن اختلفا في قبص المهر بعد اتفاقهما عليه ، فقال الزوج : قد أقبضتك المهر ، وقالت : ما قبضته ، فالقول قولها في ذلك ، عكس ما قلناه في المسألة

ص: 582


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب كيفية الحكم.

الأوّلة ، لأنّ الزوج هاهنا مدّع للقبض ، فعليه البينة وعليها اليمين.

إذا كان مهرها ألفا وأعطاها ألفا ، واختلفا فقالت : قلت لي خذي هذا الألف هدية ، أو هبة ، أو صدقة ، وقال : ما قلت ذلك ، بل قلت خذيها مهرا ، فالقول قول الزوج بكل حال ، لأنّها قد أقرّت له بالتسليم ، وادّعت الهبة والهدية والصدقة ، فتحتاج إلى البينة ، وإلا فعلى الزوج اليمين.

ومتى طلّق الإنسان زوجته قبل الدخول بها ، ولم يكن قد سمّى لها مهرا ، كان عليه أن يمتعها إن كان موسرا ، بجارية أو دابة أو عشرة دنانير ، على قدر حاله ، وزمانه ، وعرفه ، وعادة أمثاله ، وإن كان متوسّطا بخمسة دنانير ، أو ثوب قيمته ذلك ، وأدنى ذلك ثلاثة دنانير ، والاعتبار أيضا بالعرف والحال وعادة الأمثال ، وإن كان فقرا فبدون ذلك من الدينار ودونه ، ويرجع أيضا في ذلك إلى حاله ، وزمانه ، وعادة أمثاله.

والمعتبر في المتعة التي تستحقها المرأة المطلّقة قبل الدخول بها ، التي لم يسم لها مهر ، لأنّه لا يستحق المتعة غير من ذكرناها بالأزواج ، لأنّ اللّه تعالى قال : ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) (1) فالمرجع في ذلك إلى العرف ، لأنّ الخطاب إذا أطلق ، رجع في تقييده إلى عرف الشرع إن وجد ، وإلا يرجع إلى عرف العادة إن وجد ، وإلا يرجع إلى عرف اللغة ، فالمتقدّم عرف الشرع ، وهذا الحكم بخلاف مهر المثل ، لأنّ المعتبر في ذلك بالنساء دون الرجال.

المدخول بها إذا طلّقت لا متعة لها ، بل يجب لها المسمّى إن كان قد سمّى ، وإن لم يكن سمّى المهر ، وجب مهر أمثالها ، من عماتها ، وخالاتها ، وأخواتها ، سواء كن من عصبات الرجال ، أو عصبات النساء.

الموضع الذي تجب فيه المتعة ، فإنّها تثبت سواء كان الزوج حرا ، أو عبدا

ص: 583


1- البقرة : 236.

والزوجة حرة ، أو أمة ، لأنّ الآية عامة ، وكلّ فرقة يحصل بين الزوجين سواء كان من قبله أو من قبلها ، أو من قبل أجنبي ، أو من قبلهما ، فلا يجب بها المتعة إلا المطلّقة قبل الدخول بها التي لم يسمّ لها مهر ، فحسب.

إذا طلّق الرجل زوجته بعد ان خلا بها وقبل أن يطأها ، فالذي يقتضيه أصول مذهبنا ، والمعتمد عند محصّلي أصحابنا ، أن وجود هذه الخلوة وعدمها سواء وترجع عليه بنصف الصداق إن كان مسمّى ، أو المتعة إن لم يكن مسمّى ، ولا عدّة عليها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى خلا الرجل بامرأته ، فأرخى الستر ، ثمّ طلقها ، وجب عليه المهر على ظاهر الحال ، وكان على الحاكم أن يحكم بذلك ، وإن لم يكن قد دخل بها ، إلا أنّه لا يحل للمرأة أن تأخذ أكثر من نصف المهر ، ما لم يدخل بها ، فإن أمكن الزوج إقامة البينة على أنّه لم يكن دخل بها ، مثل أن تكون المرأة بكرا ، فتوجد على هيئتها ، لم يلزمه أكثر من نصف المهر (1).

وقال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا طلّقها بعد أن خلا بها وقبل أن يمسّها ، اختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب ، فذهبت طائفة إلى أنّ وجود هذه الخلوة وعدمها سواء ، وترجع عليه بنصف الصداق ، ولا عدّة عليها ، وهو الظاهر من روايات أصحابنا (2). وذهبت طائفة إلى أنّ الخلوة كالدخول ، يستقر لها المسمّى ، وتجب عليها العدّة ، وبه قال قوم من أصحابنا ، وروي في ذلك أخبار من طريق أصحابنا (3) ، ثمّ قال في استدلاله على ما اختاره رضي اللّه عنه في صدر المسألة : دليلنا قوله تعالى ( وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ ) (4) ولم يستثن الخلوة ، فوجب حملها على عمومها ، قال : ووجه الدلالة من الآية أنّه لا يخلو من أن يكون المسيس عبارة عن اللمس

ص: 584


1- النهاية : كتاب النكاح باب المهور وما ينعقد به النكاح.
2- الوسائل : الباب 55 من أبواب المهور ، ح 1 و 5 و 7.
3- الوسائل : الباب 55 من أبواب المهور ، ح 2 و 3 و 4 و 6.
4- البقرة : 237.

باليد ، أو الخلوة أو الوطء ، فبطل أن يراد بها اللمس باليد ، لأنّ ذلك لم يقل به أحد ، ولا اعتبره ، وبطل أن يراد به الخلوة ، لأنّه لا يعبّر به عن الخلوة لا حقيقة ولا مجازا ، ويعبّر به عن الجماع بلا خلاف ، فوجب حمله عليه ، على أنّه أجمعت الصحابة على أنّ المراد بالمس في الآية الجماع ، روى ذلك عن ابن مسعود ، وابن عباس ، وروي عن عمر أنّه قال : إذا أغلق الباب ، وأرخى الستر ، فقد وجب المهر ، ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم ، ومعلوم أنّ العجز من الزوج ، ولا يكون عن الخلوة ، ولا عن اللمس باليد ، ثبت أنّه أراد به الإصابة ، وأيضا قال تعالى في آية العدة ( ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ ) (1) ولم يفصّل ، وأيضا روايات أصحابنا ، قد ذكرناها في ذلك الكتاب المذكور ، وبيّنا الوجه فيما يخالفها ، والأصل أيضا براءة الذمة ، فمن أوجب جميع المهر على الرجل ، أو العدّة على المرأة بالخلوة (2) فعليه الدلالة هذا آخر كلام شيخنا في مسائل خلافه.

والذي ذهب إليه رحمه اللّه في مسائل الخلاف ، هو الصحيح ، والحق الصريح ، للأدلّة التي استدل بها ، فإنّها أدلة مرضية لا اعتراض عليها ، وما ذكره في نهايته ، أورده إيرادا لا اعتقادا ، من طريق أخبار الآحاد ، وأخبار الآحاد لا تترك لها الأدلة القاطعة للأعذار.

ومتى مات أحد الزوجين قبل الدخول ، استقر جميع المهر كاملا ، لأنّ الموت عند محصّلي أصحابنا يجري مجرى الدخول في استقرار المهر جميعه ، وهو اختيار شيخنا المفيد في أحكام النساء (3) ، وهو الصحيح ، لأنّا قد بيّنا ، بغير خلاف بيننا ، أنّ بالعقد تستحق المرأة جميع المهر المسمّى ، ويسقط الطلاق قبل الدخول نصفه ، فالطلاق غير حاصل إذا مات ، فبقينا على ما كنّا عليه من استحقاقه ، فمن ادّعى سقوط شي ء منه ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك من إجماع ،

ص: 585


1- الأحزاب : 49.
2- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 42.
3- لم نعثر عليه.

لأنّ أصحابنا مختلفون في ذلك ، ولا من كتاب اللّه تعالى ، ولا تواتر أخبار ، ولا دليل عقل ، بل الكتاب قاض بما قلناه ، والعقل حاكم بما اخترناه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى مات الرجل عن زوجته قبل الدخول بها ، وجب على ورثته أن يعطوا المرأة المهر كاملا ، ويستحب لها أن تترك نصف المهر ، فإن لم تفعل كان لها المهر كلّه ، وإن ماتت المرأة قبل الدخول بها ، كان لأوليائها نصف المهر ، وإن ماتت بعد الدخول بها ، ولم تكن قبضت المهر على الوفاء ، ولا طالبت به مدة حياتها ، فإنّه يكره لأوليائها المطالبة بعدها ، فإن طالبوا به ، كان لهم ذلك ، ولم يكن محظورا (1).

وهذه أخبار آحاد أوردها رحمه اللّه في نهايته إيرادا لا اعتقادا ، فلا يرجع عن الأدلة القاهرة اللائحة ، والبراهين الواضحة ، بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

ومتى تزوّج الرجل امرأة على كتاب اللّه وسنة نبيه ، ولم يسمّ مهرا ، كان مهرها خمسمائة درهم ، لا غير.

فإن تزوّج الرجل امرأة على حكمها ، فحكمت بدرهم إلى خمسمائة درهم ، كان حكمها ماضيا ، فإن حكمت بأكثر من ذلك ، ردّ إلى الخمسمائة درهم ، لأنّه حكمها ، فلا تتعدّى السّنة ، وهذا إجماع من أصحابنا.

وإن تزوّجها على حكمه ، فبأيّ شي ء حكم به كان له ، قليلا كان أو كثيرا.

فإن طلّقها قبل الدخول ، بها ، وكان قد تزوّجها على حكمها ، كان لها نصف ما تحكم به إلى خمسمائة درهم ، وإن كان قد تزوّجها على حكمه ، كان لها نصف ما يحكم به الرجل ، قليلا كان أو كثيرا.

وقد روي أنّه إذا مات الرجل ، أو ماتت المرأة قبل أن يحكما في ذلك

ص: 586


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح.

بشي ء ، لم يكن لها مهر ، وكان لها المتعة (1).

وهذه رواية شاذة ، أوردها شيخنا في نهايته (2) ، إيرادا لا اعتقادا.

والصحيح ما ذهب إليه في مسائل خلافه فإنّه يقول في مسائل الخلاف :

إنّ المتعة لا يستحقها إلا المطلقة قبل الدخول بها ، التي لم يسمّ لها مهر فحسب ، دون جميع المفارقات ، بفسخ أو طلاق أو غير ذلك (3).

وأيضا فلا خلاف في ذلك ، وإلحاق غير المطلّقة المذكورة بها قياس ، ونحن لا نقول به بغير خلاف بيننا ، لأنّ ذلك حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، والإجماع فغير منعقد على ذلك ، ولا به سنّة متواترة ، ولا كتاب اللّه تعالى ، والأصل براءة الذمة.

والأولى القول بأنّه لا يلزم الزوج شي ء بعد موت المرأة ، إذا كان قد تزوّجها على حكمها ، وإن كان قد تزوّجها على حكمه ، لزمه جميع ما يحكم به ، فيرثه هو وورثتها ، على كتاب اللّه تعالى.

ومتى عقد الرجل على مهر معلوم ، وأعطاها بذلك عبدا آبقا وشيئا آخر معه ، على جهة البيع أو الصلح ، ورضيت به ، ثمّ طلّقها قبل الدخول بها ، رجع عليها بنصف المهر المسمّى ، دون المبيع الذي هو العبد الآبق ، والشي ء الآخر ، لأنّ المهر هو الثمن دون المثمن ، فوجه الفقه في ذلك ما ذكرناه ، وإن لم يجعل في مقابلة المهر سوى العبد الآبق ، كان ذلك غير صحيح ، لأنّ بيع العبد الآبق منفردا غير صحيح عند أصحابنا ، وجاز لها في هذه الحال أن ترجع على زوجها بنصف المهر المسمّى.

وقد روي أنّ الإنسان إذا عقد على دار ولم يذكرها بعينها ، أو خادم ولم

ص: 587


1- الوسائل : الباب 21 من أبواب المهور ، ح 2 ، والظاهر انه منقول بالمعنى.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح.
3- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 15 ، والمسألة 46 ، فإنّ ما نقله من الحكم مستفاد من المسألتين.

يذكره بعينه ، ولا وصفه ، كان للمرأة دار وسط من الدور ، وخادم وسط من الخدم (1).

وقد روي أيضا أنّه إذا عقد لها على جارية له مدبرة ، ورضيت المرأة بذلك ، ثمّ طلّقها قبل الدخول بها ، كان لها يوم من خدمتها ، وله يوم ، فإذا مات المدبر ، صارت حرة ، ولم يكن لها عليها سبيل ، وإن ماتت المدبرة ، وكان لها مال ، كان نصفه للرجل ونصفه للمرأة (2) ، أورد ذلك شيخنا في نهايته (3) من طريق أخبار الآحاد.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أن يقال في هذه الرواية ، أنّ العقد على المدبرة صحيح ، وتخرج من كونها مدبرة ، وتستحقها المرأة ، لأنّ التدبير بغير خلاف بيننا بمنزلة الوصية ، بل هو وصية حقيقة ، ومن أوصى ببعض من أملاكه ، ثمّ أخرجه من ملكه قبل موته فلا خلاف أنّ الوصية تبطل بذلك الشي ء عند إخراجه من ملكه ، والمدبرة قد أخرجها بجعلها مهرا عن ملكه.

ومما يضعف هذه الرواية قوله : وإذا مات المدبر ، صارت حرة ، وأطلق ذلك ، وإنّما تصير حرة إذا خرجت من الثلث ، بغير خلاف.

ويزيد الرواية ضعفا آخر قوله : « وإن ماتت المدبرة وكان لها مال كان نصفه للرجل ونصفه للمرأة » ولا خلاف بيننا وعند المحصّلين من أصحابنا أنّ العبد المدبر لا يملك شيئا بحال ، فأي مال للمدبر مع قوله تعالى « عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ » (4) فنفى تعالى قدرته على شي ء ، ومن جملة ، ذلك المال ولا خلاف انّ المدبر عبد ، اللّهم إلا أن يكون التدبير المذكور واجبا على وجه النذر ، لا رجوع للمدبر فيه ، فحينئذ يصح ما قاله شيخنا رحمه اللّه.

وإذا عقد الرجل على امرأة وسمّى لها مهرا ولأبيها أيضا شيئا ، لم يلزمه ما سمّاه لأبيها.

ص: 588


1- الوسائل : الباب 25 من أبواب المهور.
2- الوسائل : الباب 22 من أبواب المهور والظاهر ان الرواية منقولة بالمعنى.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح.
4- النحل : 75.

وإذا عقد على امرأة ، أو شرط لها في الحال شرطا مخالفا للكتاب والسنّة ، كان العقد صحيحا والشرط باطلا ، مثل ان شرط لها أن لا يتزوج عليها ، ولا يتسرى ، ولا يتزوج بعد موتها ، وما أشبه ذلك.

وقد روي أنّه إن شرطت عليه في حال العقد أن لا يفتضّها ، لم يكن له افتضاضها ، فإن أذنت له بعد ذلك في الافتضاض ، جاز له ذلك (1) ، أورد هذا شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، إيراد إلا اعتقادا ، لأنّه رجع عنه في مبسوطة ، وقال : ينبغي أن يخص هذه الرواية بالنكاح المؤجل ، دون النكاح الدائم ، لأنّ المقصود من ذلك الافتضاض (3).

والذي يقتضيه المذهب ، أنّ الشرط باطل ، لأنّه مخالف لموضوع الكتاب والسنّة ، لأنّ الأصل براءة الذمة من هذا الشرط ، والإجماع فغير منعقد عليه ، بل ما يورد ذلك إلا في شواذ الأخبار.

وإن شرط أن لا نفقة لها ، لزمته النفقة مع التمكين من الاستمتاع ، إذا كان النكاح دائما ، وإن كان النكاح مؤجلا فالشرط صحيح ، لأنّه تأكيد لموضوع هذا العقد.

ومتى عقد الرجل وسمّى المهر إلى أجل معلوم إن جاء به ، وإلا كان العقد باطلا ، ثبت العقد وكان المهر في ذمته ، وإن تأخّر عن الوقت المذكور.

وروي (4) أنّه متى شرط الرجل لامرأته في حال العقد أن لا يخرجها من بلدها ، لم يكن له أن يخرجها إلا برضاها ، فإن شرط عليها أنّه إن أخرجها إلى بلده كان عليه المهر مائة دينار ، وإن لم يخرجها كان مهرها خمسين دينارا ، فمتى أراد إخراجها إلى بلد الشرك ، فلا شرط له عليها ، ولزمه المهر كملا ، وليس

ص: 589


1- الوسائل : الباب 26 من أبواب المهور ، ح 2.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح.
3- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، ص 304 ، والعبارة هكذا : وعندي ان هذا يختص عقد المتعة دون عقد الدوام.
4- الوسائل : الباب 40 من أبواب المهور.

عليها الخروج معه ، وإن أراد إخراجها إلى بلاد الإسلام ، كان له ما اشترط عليها.

وهذه رواية شاذة ، لأنّها مخالفة لما يقتضيه أصول المذهب ، لأنّها يجب عليها مطاوعة زوجها ، والخروج معه إلى حيث شاء ، فإن لم تجبه إلى ذلك كانت عاصية لله تعالى وسقطت عنه نفقتها.

وإن كان قد ذكرها وأوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، فقد رجع عنها في مسائل خلافه فقال : مسألة ، إذا أصدقها ألفا ، وشرط أن لا يسافر بها ، أو لا يتزوج عليها ، أو لا يتسرّى عليها ، كان النكاح والصداق صحيحا ، والشرط باطلا ، وقال الشافعي : المهر فاسد ، ويجب مهر المثل ، فأمّا النكاح فصحيح ، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا روي (2) عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، أنّه قال : ما بال أقوام يشرطون شروطا ليست في كتاب اللّه ، كلّ شرط ليس في كتاب اللّه فهو باطل ، ولم يقل الصداق باطل (3) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

وهو الصحيح فإنّما أورد ما أورده في نهايته ، إيرادا لا اعتقادا.

وروي (4) أنّه لا يجوز للمرأة أن تبرئ زوجها من صداقها في حال مرضها ، إذا لم تملك غيره ، فإن أبرأته سقط عن الزوج ثلث المهر ، وكان الباقي لورثتها.

أورد هذه الرواية شيخنا في نهايته (5) إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد أمثالها ممّا لا يعمل هو به ، ورجع عنه ، لأنّها مخالفة للأدلّة ، لأنّ الإنسان العاقل الغير مولى عليه ، مسلّط على التصرّف في ماله ، يتصرف فيه كيف شاء.

والصحيح أنّها إذا أبرأته من مهرها ، سقط جميعه ، وصح الإبراء ، لأنّ هذا ليس بوصية ، وإنّما هو إعطاء منجز قبل الموت ، والوصية بعد الموت ، وانّما هذه

ص: 590


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح أواخر الباب.
2- مستدرك الوسائل : الباب 5 من أبواب الخيار ، ح 2 قريب من ذلك.
3- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 31.
4- الوسائل : الباب 17 من أحكام الوصايا ، ح 16 ، قريب من ذلك.
5- النهاية : كتاب النكاح ، باب المهور وما ينعقد به النكاح أواخر الباب.

الرواية على مذهب من قال من أصحابنا أن العطاء في المرض وإن كان منجزا يخرج من الثلث ، مثل العطايا بعد الموت ، والصحيح من المذهب أنّ العطاء المنجز في حال مرض الموت يخرج من أصل المال ، لا أنّه من الثلث ، لأنّه قد أبانها من ماله ، وتسلّمها المعطى له ، وخرجت من ملك المعطى ، لأنّه لا خلاف أنّ له أن ينفق جميع ماله في حال مرضه ، فلو كان ما قاله بعض أصحابنا صحيحا ، لما جاز ذلك ، ولما كان يصح منه النفقة بحال.

ومتى تزوج الرجل بامرأة على أنّها بكر ، فوجدها ثيّبا ، فقد روي أنّه يجوز له أن ينقص من مهرها شيئا ، والصحيح أنّه ينقص من المسمّى مقدار مثل ما بين مهر البكر إلى مهر الثيب ، وذلك يختلف باختلاف الجمال والسن والشرف وغير ذلك ، فلأجل هذا قيل ينقص من مهرها شي ء منكر غير معرّف.

والذمي متى عقد على امرأة بما لا يحلّ للمسلمين تملكه ، من خمر أو خنزير أو غير ذلك من المحظورات ، ثمّ أسلما قبل تسليمه إليها ، لم يجر له أن يسلّم إليها ما فرضه لها ، ومهرها إيّاه من المحظورات ، وكان عليه قيمته عند مستحليه.

وللمرأة أن تمتنع من زوجها حتى تقبض منه المهر إذا كان غير مؤجل ، والزوج موسرا به ، قادرا على أدائه ، وطالبته به قبل الدخول بها ، فإذا قبضته لم يكن لها الامتناع بعد ذلك ، فإن امتنعت بعد استيفاء مهرها كانت ناشزا ، ولم يكن لها عليه نفقة ، ولا سكنى ، ولا كسوة ، فأمّا إذا دخل بها فلها المطالبة بالمهر ، وليس لها الامتناع حتى تقبضه.

وشيخنا أبو جعفر في نهايته (1) أطلق ذلك إطلاقا ، ولم يفرّق بين قبل الدخول أو بعده.

والصحيح ما ذكرناه ، لأنّ الإجماع منعقد على ذلك ، وهو مذهب السيد

ص: 591


1- النهاية : كتاب النكاح باب المهور وما ينعقد به النكاح ، آخر الباب.

المرتضى في انتصاره (1).

وشيخنا أبو جعفر محجوج بقوله في مسائل خلافه ، فإنّه رجع عمّا ذكره وأطلقه في نهايته ، فقال : مسألة ، إذا سمّى الصداق ودخل بها قبل أن يعطيها شيئا ، لم يكن لها بعد ذلك الامتناع من تسليم نفسها حتى يستوفى ، بل لها المطالبة بالمهر ، ويجب عليها أن تسلّم نفسها ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : لها أن تمتنع حتى تقبض المهر ، لأنّ المهر في مقابلة كلّ وطء في النكاح ، دليلنا أنّ البضع حقّه ، واستحقه ، والمهر حقّ عليه ، وليس إذا كان عليه حقّ جاز أن يمنع حقّه ، لأنّ جواز ذلك محتاج إلى دليل (2) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

ومتى لم يقم الرجل بنفقة زوجته وكسوتها وسكناها ، وكان متمكنا من ذلك ، ألزمه الإمام النفقة والقيام بجميع ذلك ، أو الطلاق ، فإن لم يكن متمكنا انظر ، حتى يوسّع اللّه عليه ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وقال بعضهم : يبينها الحاكم منه ، والأول هو المذهب ، لأنّ اللّه تعالى قال « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » (3) وذلك عام في جميع الأشياء ، والأحكام.

إذا أصدقها تعليم سورة ، فلا بدّ أن يعينها ، وكذلك الآية لا بدّ من تعيينها ، فإن لم يعيّن السورة والآية ، كان لها مهر المثل بعد الدخول.

فإذا ثبت وجوب تعيين السورة والآية ، فلقنها فلم تحفظها منه ، أو حفظتها من غيره ، فالحكم واحد. وكذلك إن أصدقها عبدا ، فهلك قبل القبض ، فالكلّ واحد ، فإنّ لها عندنا بدل الصداق ، وهو اجرة مثل تعليم السورة ، وقيمة العبد ، لأنّه إذا أصدقها صداقا ، ملكته بالعقد ، وكان من ضمان الزوج إن تلف قبل القبض ، ومن ضمانها إن تلف بعد القبض ، فإن دخل بها استقر ، وإن طلّقها قبل الدخول رجع بنصف العين ، دون نمائها إن كان لها نماء.

إذا قال : أصدقتها هذا الخل ، فبان خمرا ، كان لها قيمتها عند مستحليها ،

ص: 592


1- الانتصار : كتاب النكاح ، المسألة 16.
2- الخلاف : كتاب الصداق المسألة 39.
3- البقرة : 280.

هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1).

والذي يقوى في نفسي ، أنّه يجب عليه مثل الخل ، لأنّ الخل له مثل ، فمن نقله إلى قيمة الخمر ، يحتاج إلى دليل ، ولا يجب لها أيضا مهر المثل ، على ما يذهب إليه الشافعي ، لأنّه عقد على مهر مسمّى مما يحلّ للمسلمين تملكه ، وهو الخل.

إذا تزوجها في السر بمهر ذكراه ، وعقدا عليه ، ثمّ بعد ذلك عقدا في العلانية بخلافه ، فالمهر هو الأول.

المفوضة إذا طلّقها زوجها قبل الفرض وقبل الدخول بها ، فلا مهر لها ، لكن يجب لها المتعة على ما قدّمناه.

مفوضة البضع إذا فرض لها المهر بعد العقد ، كان كالمسمّى بالعقد ، تملك المطالبة به ، فإن دخل بها أو مات ، استقر ذلك ، وإن طلّقها قبل الدخول ، سقط نصفه ، ولها نصفه ، ولا متعة عليه ، فإن مات أحدهما قبل الفرض وقبل الدخول ، فلا مهر لها ولا متعة ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها بذلك يحتاج إلى دليل ، وعندنا لا يجب بالعقد مهر المثل ، إلا بالدخول.

مفوضة المهر ، وهو أن يذكر مهرا ولا يذكر مبلغه ، فيقول تزوجتك على أن يكون المهر ما شئنا أو شاء أحدنا ، فإذا تزوّجها على ذلك ، فإن قال على أن يكون المهر ما شئت أنا ، فإنّه مهما يحكم به وجب عليها الرضا به ، قليلا كان أو كثيرا ، وإن قال على أن يكون المهر ما شئت أنت ، فإنّه يلزمه أن يعطيها ما تحكم المرأة به ، ما لم تتجاوز خمسمائة درهم ، على ما قدّمناه القول في معناه ، لأنّ إجماعنا منعقد على ذلك ، وأخبارنا متواترة به.

وإذا دخل بمفوضة المهر استقر ما يحكم به واحد منهما ، على ما فصّلناه ، وإن طلّقها قبل الدخول بها ، وجب نصف ما يحكم به واحد منهما.

ص: 593


1- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 10.

إذا تزوج امرأة ودخل بها ، ثمّ خالعها ، فلزوجها المخالع نكاحها في عدّتها ، فإن فعل وأمهرها مهرا ، فإن دخل بها في العقد الثاني ، استقر الصداق الثاني ، وإن طلّقها قبل الدخول ، ثبت نصف المهر ، وسقط نصفه.

إذا أصدقها صداقا ، ثمّ وهبته له ، ثمّ طلّقها قبل الدخول ، فله أن يرجع عليها بنصفه ، وكذلك إذا أصدقها عبدا فوهبت له نصفه ثمّ طلّقها قبل الدخول بها ، فإنّه يرجع عليها بنصف العبد الذي وهبته له.

إذا أصدقها ألفا ثمّ خالعها على خمسمائة منها ، قبل الدخول بها ، فإنّه يسقط عنه جميع المهر.

إذا تزوّج الإنسان أمة من سيدها ، ولم يسمّ لها مهرا ، فاشتراها من سيدها ، انفسخ النكاح ، ولا متعة لها عندنا.

إذا أصدقها إناءين ، فانكسر أحدهما ، ثمّ طلّقها قبل الدخول بها ، كان لها نصف الموجود ، ونصف قيمة التالف.

إذا أصدقها صداقا ، فأصابت به عيبا ، كان لها ردّه بالعيب ، سواء كان العيب يسيرا أو كثيرا ، بغير خلاف بين أصحابنا.

لا يجب بمجرد العقد مهر المثل ، وأيّهما مات قبل الفرض وقبل الدخول ، فلا مهر لها بغير خلاف بين أصحابنا ، وإن كان قد اختلف فقهاء العامة فيها ، والصحابة ، وقال بما قلناه على عليه السلام ، وعبد اللّه بن عباس رضي اللّه عنه وزيد بن ثابت ، والزهري ، وربيعة ، ومالك ، والأوزاعي ، وخالف فيه من الصحابة عبد اللّه بن مسعود ، واستدل بقول أناس من أشجع في قصة بروع بنت واشق ، على ما أورده شيخنا في مسائل خلافه (1).

قال محمّد بن إدريس : « بروع » بالباء المفتوحة ، المنقطة نقطة واحدة من

ص: 594


1- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 18 و 19.

تحتها ، والراء غير المعجمة المسكنة ، والواو ، والعين غير المعجمة ، وأصحاب الحديث يكسرون الباء ، من بروع والصواب فتحها ، ذكر ذلك الجوهري في كتاب الصحاح وحققه.

باب العقد على الإماء والعبيد وما في ذلك من الأحكام

متى أراد الإنسان العقد على امة غيره ، فلا يعقد عليها إلا بإذن مولاها ، سواء كان المولى رجلا أو امرأة ، وسواء كان العقد دائما أو مؤجلا ، على الصحيح من المذهب ، لقوله تعالى ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) (1) وشيخنا أبو جعفر في نهايته ، قال : يجوز له أن يعقد على أمة المرأة عقد المتعة ، من غير استيذان (2) ، معتمدا على خبر رواه سيف بن عميرة (3) ، الا انه رجع شيخنا ، في جواب المسائل الحائريات (4) عمّا ذكره في نهايته ، واعتمد على الآية ، وهذا هو الصحيح الحق اليقين ، لأنّه لا يجوز العدول عن كتاب اللّه تعالى بأخبار الآحاد ، وأيضا فالتصرف في مال الغير قبيح عقلا وسمعا إلا بإذنه.

فمتى عقد عليها بإذن المولى ، وجب عليه أن يعطيه المهر قليلا كان المهر أم كثيرا ، فإن رزق منها أولادا كانوا أحرارا لاحقين به لا سبيل لأحد عليهم ، لأنّ عندنا يلحق الولد بالحرية من أيّ الزوجين كانت ، مع تعرّي العقد من الاشتراط لرقّ الولد ، فإن اشترط المولى استرقاق الولد كانوا رقّا ، لا سبيل لأبيهم عليهم ، ولا يبطل هذا العقد إلا بطلاق الزوج لها ، أو بيع مولاها لها ، أو عتقها ، سواء عتقت تحت حر أو عبد على الصحيح من المذهب.

وقال بعض أصحابنا : إن عتقت تحت عبد ، كان لها الخيار ، وإن عتقت

ص: 595


1- النساء : 25.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب المتعة وأحكامها.
3- الوسائل : الباب 14 من أبواب المتعة ، ح 1.
4- المسائل : الحائريات : لا يوجد في النسخة الموجودة عندنا.

تحت حر ، لم يكن لها الخيار ، والأول هو الأظهر من الأقوال ، لأنّ هذا تخصيص من غير دليل.

فإن باعها السيد كان الذي اشتراها بالخيار بين إقرار العقد وفسخه ، فإن أقرّ العقد لم يكن له بعد ذلك خيار ، وكذلك إن أعتقها مولاها كانت مخيّرة بين الرضا بالعقد وبين فسخه ، فإن رضيت بعد العتق بالعقد لم يكن لها خيار بعد ذلك.

ومتى عقد على أمة غيره بغير إذنه ، كان العقد موقوفا على رضاه ، فإن رضي المولى بذلك كان العقد ماضيا ، وإن لم يرض انفسخ العقد.

وقال شيخنا في نهايته : ومتى عقد على أمة غيره بغير إذن مولاها ، كان العقد باطلا ، فإن رضي المولى بذلك العقد ، كان رضاه به كالعقد المستأنف ، يستباح به الفرج (1).

وهذا بناء منه رحمه اللّه على مذهب له في أنّ العقد في النكاح لا يقف على الإجازة ، وقد بيّنا فساد ذلك فيما مضى. والذي ينبغي تحصيله في ذلك ، أن يكون العقد باطلا ، وإلى هذا ذهب رحمه اللّه ، فإذا قال انّه باطل فسواء رضي المولى بذلك أو لم يرض ، ولا يكون رضاه كالعقد المستأنف ، لأنّه عقد منهي عنه ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، على مذهب من قال بالإجازة ، وعلى قول من لم يقل بذلك.

فإن عقد عليها بغير إذن مولاها عالما بذلك ، كان أولاده رقّا لمولاها ، لا سبيل له عليهم ، ويجب عليه المهر ، إن اعتقد تحليل ذلك ، واشتبه عليه الأمر فيه ، ولا حدّ عليه لاشتباه الأمر فيه ، ولقوله عليه السلام : « ادرءوا الحدود بالشبهات » (2).

وإن عقد عليها على ظاهر الأمر بشهادة شاهدين لها بالحرية ، ورزق منها أولادا ، كانوا أحرارا ، ويجب على الشاهدين ضمان المهر ، إن كان الزوج سلّمه إليها ، وقيمة الأولاد يوم وضعهم أحياء ، لأنّ شهود الزور يضمنون ما يتلفون

ص: 596


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد وأحكامه.
2- الوسائل : الباب 26 من أبواب مقدمات الحدود ، ح 4.

بشهاداتهم بغير خلاف بيننا ، بل الإجماع منعقد على ذلك.

وإن عقد عليها على ظاهر الحال ، ولم تقم عنده بيّنة بحريتها ، ثمّ تبيّن أنّها كانت رقا ، كان أولادها رقا لمولاها ، ويجب عليه أن يعطيهم إيّاه بالقيمة ، وعلى الأب أن يعطيه قيمتهم ، فإن لم يكن له مال استسعى في قيمتهم ، على ما روي في الأخبار (1) ، أورده شيخنا في نهايته (2) ، فإن أبى ذلك ، كان على الإمام أن يعطي مولى الجارية قيمتهم من سهم الرقاب من الزكاة ، فإن لم يكن الإمام ظاهرا جاز أن يشتروا من سهم الرقاب. ولا يسترق ولد حر بدين الوالد (3) وإن كان قد أعطاها مهرا ، فلا سبيل له عليها ، ووجب عليه المهر لمولاها ، وكان له أن يرجع على وليّها بالمهر كلّه.

وقد روي أنّ عليه لمولى الجارية عشر قيمتها إن كانت بكرا ، وإن لم تكن بكرا فنصف عشر قيمتها (4) ، أورد ذلك شيخنا في نهايته (5) إيرادا لا اعتقادا ، من طريق أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

والذي يقتضيه أصول المذهب ، أنّ الامام لا يعطي مولى الجارية قيمتهم من سهم الرقاب ، ولا يجوز أن يشتروا من سهم الرقاب من الزكاة ، لأنّ ذلك السهم مخصوص بالعبيد والكاتبين ، وهؤلاء غير عبيد ولا مكاتبين ، بل هم أحرار في الأصل ، انعقدوا كذلك ، ما مسّهم رق أبدا ، لأنّه قال رحمه اللّه : ولا يسترق ولد حر ، وصفه بأنّه حر ، فكيف يشترى الحر من سهم الرقاب ، وإنّما أثمانهم في ذمة أبيهم ، لأنّ من حقّهم أن يكونوا رقا لمولى أمهم ، فلمّا حال الأب بينه وبينهم بالحرّية ، وجب عليه قيمتهم يوم وضعهم أحياء ، وهو وقت

ص: 597


1- الوسائل : الباب 67 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 5.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد واحكامه.
3- والموجود في نسخة ج وق بتنوين الولد ، موضع بدين الوالد وفي المصدر هكذا : ولا يسترق ولد حرّ من دون زيادة بدين الوالد وغيره.
4- الوسائل : الباب 67 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 1.
5- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد واحكامه.

الحيلولة ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

وإذا عقد الرجل على امرأة يظن أنّها حرة ، وإذا الذي عقد له عليها كان قد دلسها ، وكانت أمته ، كان له الرجوع عليه بمهرها إن كان قد أقبضه ، فإن رزق منها أولادا كانوا أحرارا.

والحرة لا يجوز لها أن تتزوج بمملوك إلا بإذن مولاه ، فإن تزوّجت به بإذن مولاه ، ورزق منها أولادا ، كانوا أحرارا على ما قدّمناه ، من أنّ الولد يلحق بالحرية ، من أي الطرفين كان أحد الزوجين ، بغير اختلاف بين أصحابنا ، والمخالف يلحقه من طرف واحد ، اللّهم إلا أن يشترط مولى العبد استرقاق الولد ، فيكون الولد رقا مع الاشتراط ، ومع تعري العقد من الشرط يكون الولد حرا.

وكان الطلاق بيد الزوج دون مولاه ( والمهر على المولى ، وكذلك النفقة ، لأنّه أذن في شي ء فيلزمه توابعه ) (1) فإن طلّقها الزوج كان طلاقه واقعا ، وإن لم يطلّق كان العقد ثابتا ، إلا أن يبيعه مولاه ، فإن باعه كان الذي يشتريه بالخيار ، بين الإقرار على العقد وبين فسخه ، فإن أقرّ العقد لم يكن له بعد ذلك اختيار ، هكذا ذكره شيخنا في نهايته (2) وأورده إيرادا من جهة أخبار الآحاد ، فقد روي رواية شاذة بذلك (3).

والذي تقتضيه الأدلة ، أنّ العقد ثابت ، ولم يكن للمشتري الخيار ، لأنّ قياسه على بيع الأمة باطل ، لأنّ القياس باطل.

وقد رجع شيخنا في مبسوطة ، فقال : وإن كان للعبد زوجة فباعه مولاه ، فالنكاح باق بالإجماع (4) هذا آخر كلامه.

ص: 598


1- ما وقع في القوسين لا يوجد في المصدر.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد وأحكامه.
3- الوسائل : الباب 48 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 1.
4- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل في العيوب التي ترد به النكاح ، ص 257.

والعقد صحيح ، فمن أبطله يحتاج إلى دليل.

وإن عتق العبد ، لم يكن للحرة عليه اختيار ، لأنّها رضيت به ، وهو عبد ، فإذا صار حرا كانت أولى بالرضا به.

فإن عقد العبد على حرة بغير إذن مولاه ، كان العقد موقوفا على رضى مولاه ، فإن أمضاه كان ماضيا ، ولم يكن له بعد ذلك فسخه ، إلا أن يطلّق العبد ، أو يبيع هو عبده (1).

وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، ولو لا الإجماع من أصحابنا على الجارية ، وأنّ في بيعها يكون المشتري مخيّرا ، لما قلنا به ، ولم يوافقنا عليه أحد سوى ابن عباس ، فكيف يلحق العبد بغير دليل ، وهل هذا إلا محض القياس ، ولم يذهب أحد من مصنّفي أصحابنا إلى ذلك ، سوى الرواية التي أوردها شيخنا في نهايته (2) إيرادا ، وعاد عنها في مبسوطة ، على ما حكيناه عنه ، فإنّه قال : وإن كان للعبد زوجة فباعه مولاه ، فالنكاح باق بالإجماع (3) ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

فإن طلّق العبد كان طلاقه واقعا ، ليس لمولاه عليه اختيار ، فإن فسخه كان مفسوخا ، وإن رزق منها أولادا ، وكانت عالمة بأنّ مولاه لم يأذن له في التزويج ، كان أولاده رقا لمولى العبد ، ولا صداق لها على السيد ، ولا نفقة ، وإن لم تكن عالمة بأنّه عبد ، كان أولادها أحرارا ، لا سبيل لمولى العبد عليهم.

والأمة إذا تزوجت بغير إذن مولاها بعبد ، كان أولادها رقا لمولاها ، إذا كان العبد مأذونا له في التزويج ، فإن لم يكن مأذونا له في ذلك ، كان الأولاد رقا لمولى العبد ومولى الأمة بينهم بالسوية.

وإذا زوّج الرجل جاريته عبده ، فعليه أن يعطيها شيئا من ماله مهرا لها ، وكان الفراق بينهما بيده ، وليس للزوج طلاق على حال ، فمتى شاء المولى أن يفرّق

ص: 599


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد وأحكامه ص 478.
2- الوسائل : تقدم المصدر في ص 598.
3- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل في العيوب التي توجب الردّ في النكاح ، ص 257.

بينهما أمره باعتزالها ، وأمرها (1) باعتزاله ويقول قد فرّقت بينكما ، وإن كان قد وطأها العبد استبرأها بحيضة إن كانت مستقيمة الحيض ، وإن كانت مسترابة وفي سنها من تحيض استبرأها بخمسة وأربعين يوما ، ثمّ يطؤها إن شاء ، فإن لم يكن وطأها العبد ، جاز له وطؤها في الحال ، فان باعهما كان الذي يشتريهما بالخيار بين إمضاء العقد وفسخه ، فإن رضى بالعقد كان حكمه حكم المولى الأول ، وإن أبى لم يثبت بينهما عقد على حال ، وإن باع المولى أحدهما كان ذلك أيضا فراقا بينهما ، ولا يثبت العقد إلا أن يشاء هو ثبات العقد على الذي بقي عنده ، ويشاء الذي اشترى أحدهما ثباته على الذي اشتراه ، فإن أبى واحد منهما ذلك ، لم يثبت العقد ، وإن رزق منهما أولادا كانوا رقا لمولييهما ، ومتى أعتقهما جميعا ، كانت الجارية بالخيار بين الرضا بالعقد الأول وبين إبائه ، فإن رضيت كان ماضيا ، وإن أبت كان مفسوخا ، هذا أجمع أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، فحكيناه عنه هاهنا.

والذي يقوى في نفسي ، أنّه إذا زوّج الرجل عبده أمته ، فإنّ السيد لا يجب عليه أن يعطيها شيئا ، وأنّ هذا الفعال من المولى إباحة للعبد فرج جاريته ، دون أن يكون ذلك عقد نكاح ، وإن سمّى تزويجا وعقدا فعلى طريق الاستعارة والمجاز ، وكذلك تفريق المولى بينهما بأمر العبد باعتزالها أوامرها باعتزاله سمّى طلاقا مجازا ، لأنّه لو كان طلاقا حقيقيّا ، لروعي فيه أحكام الطلاق وشروطه وألفاظه ، ولا كان يقع ، إلا أن يتلفظ به الزوج ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : « الطلاق بيد من أخذ بالساق » (3) وهذا قد وقع ممن لم يأخذ بالساق ، وهو

ص: 600


1- ق : أوامرها.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد وأحكامه ، وفيه لمولاها ،
3- كنز العمال : كتاب الطلاق ، الفرع الأوّل. أخرجه عن الطبراني عن ابن عباس. ج 9 ، ص 640. وفي سنن ابن ماجة : كتاب الطلاق ، باب (31) طلاق العبد ، بإسناده عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم - في حديث (2081) - : انّما الطلاق لمن أخذ بالساق .. وفي كنز العمال ، عن سنن البيهقي عن ابن عباس عنه صلى اللّه عليه وآله : « إلا إنما يملك الطلاق من أخذ بالساق » ج 9 ، ص 645 ، إكمال الفرع الأوّل ، ح 27801.

المولى ، وهذا أدل دليل وأصدق قيل على أنّ هذا العقد والفعال من المولى إباحة للعبد وطء جاريته ، لأنّه لو كان عقد نكاح لروعي فيه الإيجاب والقبول من موجب وقابل ، ولا يضح ذلك بين الإنسان وبين نفسه ، وكان يراعى فيه ألفاظ ما ينعقد به النكاح ، وأيضا العقد حكم شرعي ، يحتاج إلى دليل شرعي ، ولا يرجع في مثل ذلك إلى أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، وإن كان شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه أورد ذلك في نهايته ، فعلى طريق الإيراد لأجل الرواية ، لئلا يشذ شي ء من الروايات على ما اعتذر لنفسه في عدّته (1) دون الاعتقاد والعمل بصحته ، وكتاب اللّه تعالى خال من ذلك ، والسنة المقطوع بها كذلك ، والإجماع فغير منعقد بذلك ، والأصل براءة الذمة ، ونفي الحكم المدّعى إلى أن يقوم بصحته دليل قاطع للأعذار ، فحينئذ يجب المصير إليه والمعول عليه.

ومتى عقد الرجل لعبده على أمة غيره بإذنه ، جاز العقد ، وكان الطلاق بيد العبد ، فمتى طلّق جاز طلاقه ، وليس لمولاه أن يطلّق عليه لما بيّناه ، فإن باعه كان ذلك فراقا بينه وبينها ، إلا أن يشاء المشتري إقراره على العقد ، ويرضى بذلك مولى الجارية ، فإن أبى واحد منهما ذلك لم يثبت العقد على حال ، وكذلك إن باع مولى الجارية جاريته كان ذلك فراقا بينهما ، إلا أن يشاء الذي اشتراها إقرارها على العقد ، ويرضى بذلك مولى العبد ، فإن أبى واحد منهما كان العقد مفسوخا (2).

قال محمّد بن إدريس : لا أرى لرضى الذي لم يبع وجها ، لأنّ الخيار في إقرار العبد ، وفسخه للمشتري في جميع أصول هذا الباب ، وانّما الشارع جعل لمن لم يحضر العقد ، ولا كان مالكا لأحدهما ، وانّما انتقل إليه الملك الخيار ، لأنّه لم يرض بشي ء من ذلك الفعال ، لا الإيجاب ولا القبول ، ولا كان له حكم فيهما ،

ص: 601


1- العدة : الفصل 4 من الكلام في الاخبار ، وقد نقلنا عبارتها في ذيل ص 380.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد وأحكامه ، باختلاف يسير.

والموجب والقابل أعني السيدين المالكين الأولين رضيا وأوجبا وقبلا ، فمن جعل لهما الخيار أو لأحدهما يحتاج إلى دليل ، لأنّه حكم شرعي ، يحتاج مثبتة إلى دليل شرعي ، وانّما أوجبنا الخيار للمشتري ، لأنّه انتقل الملك إليه ، وليس هو واحدا منهما ، وإن كان المخالف لأصحابنا من العامة ، لا يجعل للمشتري الخيار في فسخ العقد ، بل العقد ثابت عندهم ، لا يصح للمشتري فسخه ، ويمكن أن يقال : المراد بذلك أنّ من باع من السيدين الموجب والقابل ، كان للمشتري الخيار إن باع سيد العبد عبده ، كان لمشتريه منه الخيار ، وإن باع سيد الجارية جاريته ، كان لمشتريها منه الخيار ، وليس المراد أنّ في مسألة واحدة وبيع أحدهما يكون الخيار للاثنين ، للمشتري ولمن بقي عنده ، أحدهما ، كما قال شيخنا في نهايته في السمسار والدلال والمنادي ، قال : فإن كان ممن يبيع ويشتري للناس فأجره على من يبيع له ، وأجره على من يشتري له (1) والمقصود أجرة واحدة على مبيع واحد أو مشتري واحد ، وليس المقصود أنّه يستحق أجرتين على مبيع واحد على ما حررناه في موضعه.

ومتى أعتق مولى الجارية جاريته ، كان بالخيار على ما قدّمناه ، وإن أعتق المولى عبده لم يكن لمولى الجارية خيار ، ولا ينفسخ العقد إلا ببيعهما أو عتقهما ، ومتى رزق بينهما ولد ، فإن كان بين مولييهما شرط ، كان على ما شرطاه ، وإن لم يحصل بينهما شرط ، كان الأولاد بينهما على السواء.

ولا توارث بين الزوجين ، إذا كان أحدهما رقّا لا يرث الرجل المرأة ، ولا المرأة الرجل.

وإذا كانت الجارية بين شريكين ، أحدهما غائب والآخر حاضر ، فعقد عليها الحاضر لرجل ، كان العقد موقوفا على رضى الغائب.

وإذا تزوّج رجل جارية بين شريكين ، ثمّ اشترى نصيب أحدهما ، حرمت عليه إلا أن يشتري النصف الآخر ، أو يرضى مالك نصفها بالعقد ، فيكون

ص: 602


1- النهاية : كتاب التجارة ، باب اجرة السمسار والدلال ..

ذلك عقدا مستأنفا ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

والأولى أن يقال : أو يرضى مالك نصفها بأن يبيحه وطء ما يملكه منها ، فيطؤها بالملكية وبالإباحة ، دون العقد ، لأنّ الفرج لا يتبعض ، فيكون بعضه بالملك ويكون بعضه بالعقد ، بل لا يجتمع الملك والعقد معا في نكاح ووطء واحد ، فليلحظ ذلك.

باب ما يستحب فعله لمن أراد العقد والزفاف وآداب الخلوة والجماع والقسمة بين الأزواج وما في ذلك

يستحب لمن عزم على عقد النكاح أن يستخير اللّه تعالى ، بأن يسأله أن يخير له فيما قد عزم عليه ، ويصلّي ركعتين ، ويقول اللّهم اني أريد أن أتزوج ، اللّهم قدّر لي من النساء أعفهن فرجا ، وأحفظهن لي في نفسها وفي مالي ، وأوسعهن رزقا ، وأعظمهن بركة ، وقدّر لي منها ولدا طيّبا ، تجعله خلفا صالحا ، في حياتي وبعد مماتي.

وإذا أراد العقد الدائم ، يستحب له أن يكون ذلك بالإعلان ، والاشهاد ، والخطبة فيه ، بذكر اللّه تعالى ، والمسنون من ذلك خطبة واحدة تتقدّم الإيجاب والقبول ، فإن أخلّ بشي ء من ذلك ، أو بجميعه لم يفسد العقد ، وكان ثابتا ، إلا أنّه يكون قد ترك الأفضل.

ويستحب الوليمة عند الزفاف يوما أو يومين ، يدعى فيه المؤمنون ، ويكره تفرد الأغنياء بذلك ، والوليمة مستحبة غير واجبة ، وحضورها مستحب إذا دعي إليها ، وليس بواجب عليه الحضور ، إلا أن يكون فيها شي ء من المناكير ، ولا يقدر من يحضر على إنكاره ، فلا يجوز حضورها في حال الاختيار ، فإن كانت لكافر بأي أنواع الكفر كان ، فلا يجوز للمسلم حضورها. وإن دعي إليها ، لأنّ

ص: 603


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب العقد على الإماء والعبيد وأحكامه.

ذبائحهم محرمة ، وطعامهم الذي يباشرونه بأيديهم نجس ، لا يجوز أكله لقوله تعالى ( إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ) (1).

وإذا حضر المسلم وليمة المسلم بعد دعائه إليها ، فلا يجب عليه الأكل ، وانّما يستحب له ذلك.

نثر السكر والجوز واللوز وغير ذلك في الولائم مكروه إذا أخذ على طريق الانتهاب ، فإذا لم يؤخذ على طريق الانتهاب ، فلا بأس بذلك ، إذا علم بشاهد الحال من قصد فاعله الإباحة ، وإن لم ينطق بلسانه ، ولا يجوز لأحد من الحاضرين الاستبداد به.

وإذا قرب تحول المرأة إلى بيت الزوج ، فقد روي أنّه يستحب أن يأمرها بأن تصلّي ركعتين ، وتكون على طهارة ، إذا دخلت عليه ، ويصلّي أيضا قبل (2) ذلك ، ويكون على طهارة إذا أدخلت عليه امرأته ، ويدعو اللّه تعالى عقيب الركعتين ، ويسأله أن يرزقه إلفها وودّها ، ورضاها ، فإذا أدخلت عليه ، فيستحب أن يضع يده على ناصيتها ، - وهي مقدم شعر الرأس - ، ويقول : اللّهم على كتابك تزوجتها ، وفي أمانتك أخذتها ، وبكلماتك استحللت فرجها ، فإن قضيت في رحمها نسبا (3) ، فاجعله مسلما سويا ، ولا تجعله شرك شيطان (4).

ويستحب ان يكون عقد التزويج والزفاف بالليل ، ويكون الإطعام والوليمة بالنهار.

ولا يجوز للرجل أن يطأ امرأته قبل أن يأتي لها تسع سنين ، فإن دخل بها قبل ذلك فعابت ، كان ضامنا لعيبها ، ولا يحل له وطؤها أبدا ، فإن أقضاها وجب عليه ديتها ومهرها ونفقتها ما داما حيّين ، فإن مات أحدهما سقطت النفقة ، ومعنى الإفضاء لها أن صير مدخل الذكر ومخرج البول شيئا واحدا أفضى ما بينهما.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : هذا إذا كان في عقد صحيح ، أو عقد

ص: 604


1- التوبة : 28.
2- ج مثل.
3- ج : شيئا.
4- الكافي ج 5 ص 500. باب القول عند دخول الرجل بأهله.

شبهة ، فأمّا إذا كان مكرها لها ، فإنّه يلزمه ديتها على كلّ حال ولا مهر لها (1).

قال محمّد بن إدريس : عقد الشبهة لا يلزمه النفقة ، وانّما أوجب النفقة أصحابنا على من فعل ذلك بزوجته ، وهذه ليست زوجته ، فلا ينبغي أن يتعدّى ما أجمعوا عليه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وثبوت ذلك يحتاج إلى دليل ، ولم يذهب أحد من أصحابنا إلى ما قاله رحمه اللّه ، فأمّا قوله : « إذا كان مكرها لها فإنّه يلزمه ديتها ولا مهر لها » فغير واضح ، لأنّا نجمع عليه الأمرين معا ، المهر والدية ، لأنّ أحدهما لا يدخل في الآخر ، لأنّه قد دخل بها ، فيجب عليه المهر لأجل دخوله ، والدية ، لأنّه إجماع ، وهذه ليست ببغي ، وانّما نهي عن مهر البغي فليلحظ ذلك.

ويستحب التسمية عند الجماع.

ويكره الجماع ليلة الكسوف ويومه ، وفيما بين غروب الشمس إلى مغيب الشفق ، ومن طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وفي الريح السوداء والصفراء ، وعند الزلازل ، وفي محاق الشهر ، يقال بكسر الميم وضمها ، وهن الثلاث ليال الأواخر من الشهر ، سمّيت بذلك لا محاق القمر فيها ، أو الشهر ، قال الشاعر :

عجوز ترجى أن تكون فتيّة *** وقد لحب الجنبان واحد ودب الظهر

تدسّ إلى العطار سلعة أهلها *** وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟

تزوجتها قبل المحاق بليلة *** فكان محاقا كلّه ذلك الشهر

والعرب تسمّى ليالي الشهر كلّ ثلاث منها باسم ، فيقول ثلاث غرر ، جمع غرة ، وغرة كلّ شي ء أوله ، وثلاث نفل ، وفيل لها نفل من زيادة القمر ، من النفل الزيادة ، والعطاء ، وثلاث تسع ، لأنّ آخر يوم منها اليوم التاسع ، وثلاث عشر ، لأنّ أول يوم منها اليوم العاشر ، وثلاث بيض ، لأنّها تبيض بطلوع القمر من أولها إلى آخرها ، وثلاث درع ، سميت بذلك لاسوداد أوائلها ، وابيضاض

ص: 605


1- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 41.

سائرها ، ومنه قيل : شاة درعاء ، إذا اسود رأسها وعنقها ، وابيضّ سائرها ، وثلاث ظلم ، لا ظلامها ، وثلاث حنادس ، لسوادها ، وثلاث دآدى لأنّها بقايا ، وثلاث محاق ، لا محاق القمر أو الشهر.

ويكره الجماع في أول ليلة من الشهر ، إلا شهر رمضان ، ويكره في ليلة النصف ، ويكره أن يجامع الرجل وهو عريان ، أو مستقبل القبلة ، أو مستدبرها ، ويكره له الجماع بعد الاحتلام حتى يغتسل.

ولا يجوز للرجل أن يترك المرأة ، لا يقربها بجماع ، لا من عذر ، أكثر من أربعة أشهر ، فإن تركها أكثر من ذلك كان مأثوما.

ويكره للرجل النظر إلى فرج امرأته ، ويكره الكلام في حال الجماع سوى ذكر اللّه تعالى.

ويكره للرجل أن يأتي النساء في غير الفروج المعتادة للجماع ، وهي أحشاشهن من غير حظر ولا تحريم ، عند فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، لقوله تعالى ( نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) (1) ومن قال أراد بذلك موضع النسل فهو مبعد ، - لأنّه لا يمتنع أن يسمّى النساء حرثا ، لأنّه يكون منهن الولد - ثمّ يبيح الوطء فيما لا يكون منه الولد ، يدلّ على ذلك أنّه لا خلاف أنّه يجوز الوطء بين الفخذين ، وإن لم يكن هناك ولد.

وثاني متمسّكات المخالف قالوا : قال اللّه تعالى ( فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ ) (2) وهو الفرج ، والإجماع على أنّ الآية الثانية ليست بناسخة للأولى.

وهذا أيضا لا دلالة فيه ، لأنّ قوله « مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللّهُ » معناه من حيث أباح اللّه لكم ، أو من الجهة التي شرعها لكم ، على ما حكي عن الزجاج ، فإنّه قال : معنى الآية نساؤكم ذو حرث لكم فأتوا موضع حرثكم أنّى

ص: 606


1- البقرة : 223.
2- البقرة : 222.

شئتم ، ويدخل في ذلك الموضعان معا.

وثالثها قالوا : إنّ معناه من أين شئتم ، أي ائتوا الفرج من أين شئتم ، وليس في ذلك إباحة لغير الفرج.

وهذا أيضا ضعيف ، لأنّا لا نسلّم أنّ معناه ائتوا الفرج ، بل عندنا معناه ائتوا النساء وائتوا الحرث من حيث شئتم ، ويدخل فيه جميع ذلك.

ورابعها قالوا : قوله في المحيض ( قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ ) (1) فإذا حرّم الأذى بالدم فالأذى بالنجو أعظم.

وهذا أيضا ليس بشي ء ، لأنّ هذا حمل الشي ء على غيره من غير علّة ، على أنّه لا يمتنع أن يكون المراد بقوله « قُلْ هُوَ أَذىً » غير النجاسة ، بل المراد أنّ في ذلك مفسدة ، ولا يجب أن يحمل ذلك على غيره (2) إلا بدليل يوجب العلم.

على أنّ الأذى بمعنى النجاسة حاصل في البول ودم الاستحاضة ، ومع هذا فليس بمنهي عن الوطء في الفرج.

ويقال : إنّ الآية نزلت ردّا على اليهود ، فإنّهم قالوا : الرجل إذا أتى المرأة من خلف في قبلها خرج الولد أحول ، فاكذبهم اللّه في ذلك ، ذكره ابن عباس وجابر ، ورواه أيضا أصحابنا.

ويكره للرجل أن يعزل عن امرأته الحرة ، فإن عزل لم يكن بذلك مأثوما ، غير أنّه يكون تاركا فضلا على الصحيح من أقوال أصحابنا والأظهر في رواياتهم ، لأنّه روي أنّ ذلك محظور وعليه دية ضياع النطفة عشرة دنانير ، والأصل براءة الذمة من شغلها بواجب ، ولا يرجع في مثل هذا إلى أخبار الآحاد ، وأمّا الأمة فلا بأس بالعزل عنها على كلّ حال.

وإذا كان للرجل امرأة واحدة فعليه أن يبيت عندها من أربع ليال ليلة ،

ص: 607


1- البقرة : 222.
2- ق : على ذلك غيره.

وإذا كانت امرأتان جاز له أن يبيت عند واحدة منهما ثلاث ليال وعند الأخرى ليلة واحدة ، وإن كانت عنده ثلاث نساء جاز أن يبيت عند واحدة منهن ليلتين وعند كلّ واحدة منهن ليلة ليلة ، فإن كان عنده أربع نساء بعقد الدوام فلا يجوز له أن يبيت عند كلّ واحدة منهن أكثر من ليلة ليلة ، ويجب عليه أن يسوّى بينهن في القسمة ، اللّهم إلا أن تترك واحدة منهن ليلتها لامرأة أخرى ، فيجوز حينئذ أن يبيت عند الموهوب لها الليلة ليلتين ، فإن وهبت له ليلتها فله أن يبيت عند من شاء منهن ليلتين ، وإذا بات عند كلّ واحدة منهن ليلة إذا كن أربعا وسوى بينهن في قسم الليالي والمبيت فليس يلزمه جماعها ، بل هو مخيّر في ذلك.

وإذا عقد على امرأة بكر جاز له تفضيلها بسبع ليال ، ويعود إلى التسوية ولا يقضي ما فضلها به ، فإن كانت ثيّبا فضّلها بثلاث ليال.

وروي أنّه إذا اجتمع عند الرجل حرة وأمة زوجية ، كان للحرة ليلتان وللأمة ليلة من القسم ، فأمّا إن كانت الأمة ملك يمين فليس لها قسمة مع الحرائر.

وروي أنّ حكم اليهودية والنصرانية إذا كانتا زوجتين ، في الموضع الذي يحلّ ذلك فيه ، حكم الإماء على السواء.

ولا بأس أن يفضّل الرجل بعض نسائه على بعض في النفقة والكسوة ، وإن سوى بينهن وعدل كان أفضل.

لا يجوز للرجل الأجنبي من المرأة أن ينظر إليها مختارا ، فأمّا النظر إليها لضرورة أو حاجة فجائز ، فالضرورة مثل نظر الطبيب إليها ، وذلك يجوز بكلّ حال وإن نظر إلى عورتها ، لأنّه موضع ضرورة ، لأنّه لا يمكن العلاج إلا بعد الوقوف عليه. والحاجة مثل أن يتحمل شهادة على امرأة فله أن ينظر وجهها من غير ريبة ليعرفها ويحقّقها ، وكذلك لو كانت بينه وبينها معاملة أو مبايعة ، فيعرف وجهها ليعلم من التي يعطيها الثمن إن كانت بايعة أو المثمن إن كانت مبتاعة ، ومثل الحاكم إذا حكم عليها ، فإنّه يرى وجهها ليعرفها ويجليها.

ص: 608

وروي أنّ امرأة أتت النبيّ صلى اللّه عليه وآله لتبايعه ، فأخرجت يدها ، فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : أيد امرأة أم يد رجل؟ فقالت : يد امرأة ، فقال : اين الحناء (1) فدلّ هذا الخبر على أنّ عند الحاجة يجوز النظر إليها ، لأنّه إنّما عرف أنّه لا حناء على يدها بالنظر إليها مكشوفة.

فأمّا إذا نظر إلى جملتها يريد أن يتزوجها فعندنا يجوز أن ينظر إلى وجهها وكفيها فحسب ، وله أن يكرر النظر إليها ، سواء أذنت أو لم تأذن ، إذا كانت استجابت إلى النكاح ، فأمّا إذا لم توافق على التزويج فلا يجوز له النظر إلى ما كان يجوز له النظر إليه عند استجابتها وظهور العلم بموافقتها.

فأمّا إذا ملكت المرأة فحلا أو خصيا فهل يكون محرما لها ، حتى يجوز له أن يخلو بها ويسافر معها؟ قيل : فيه وجهان : أحدهما ، وهو مذهبنا ، أنّه لا يكون محرما لها ، ولا يجوز له النظر إلى ما يجوز لذوي محارمها النظر إليه.

والقول الآخر يكون محرما ، ويحل له النظر إليها ، وهو مذهب المخالف ، وتمسك بقوله تعالى ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلّا لِبُعُولَتِهِنَّ ) إلى قوله ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ) (2) فنهاهنّ عن إظهار زينتهن لأحد إلا من استثنى ، واستثنى ملك اليمين ، ورووا أنّ الرسول عليه السلام دخل على فاطمة عليها السلام وهي فضل بالفاء المضمومة ، والضاد المعجمة المضمومة ، أيضا ، يقال : تفضلت المرأة في بيتها ، إذا كانت في ثوب واحد ، كالخيعل ونحوه ، والخيعل بالخاء المعجمة ، والياء المنقطة من تحتها نقطتين ، والعين غير المعجمة ، قميص لا كمي له (3)

ص: 609


1- .. في سنن البيهقي : ج 1. كتاب النكاح ، باب تخصيص الوجه والكفين بجواز النظر ، الحديث 6 عن عائشة قالت : جاءت امرأة وراء الستر بيدها كتاب الى رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقبض النبي يده وقال : ما أدري أيد رجل أم يد امرأة؟ قالت : بل يد امرأة ، قال : لو كنت امرأة لغيّرت اظافرك بالحناء. ( ص 86 ).
2- النور : 31.
3- في الصحاح : « وانما أسقطت النون من كمين للإضافة ، لأنّ اللام كالمقحمة ، لا يعتد بها في مثل هذا الموضع ».

وذلك الثوب مفضل ، بكسر الميم ، والمرأة فضل ، بالضم ، مثال جنب - فأرادت أن تستتر ، فقال عليه السلام : لا عليك ، أبوك وخادمك ، وروي : أبوك وزوجك وخادمك (1) ، قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : أمّا الآية فقد روى أصحابنا عن الأئمة عليهم السلام في تفسيرها ، أنّ المراد به الإماء دون الذكران ، فأمّا الخبر فرواية المخالف ، وهو خبر واحد ، وأخبار الآحاد عندنا لا توجب علما ولا عملا ، ولو صحّ لما كان فيه ما ينافي مذهبنا ، لأنّ الخادم ينطلق على الأنثى أيضا ، فهو محتمل.

ولا بأس أن ينظر الرجل إلى أمة يريد شراءها ، وينظر إلى شعرها ومحاسنها ووجهها ويديها فحسب ، ولا يجوز له النظر إلى ذلك إذا لم يرد ابتياعها.

وقد روي جواز النظر إلى نساء أهل الكتاب وشعورهن ، لأنّهنّ بمنزلة الإماء (2) إذا لم يكن النظر لريبة أو تلذذ ، فأمّا إذا كان لذلك فلا يجوز النظر إليهن على حال.

والذي يقوى في نفسي ترك هذه الرواية والعدول عنها ، والتمسّك بقوله تعالى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ ) (3) وقال تعالى ( وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا ) (4) وإن كان قد ذكرها وأوردها شيخنا في نهايته فعلى جهة الإيراد لا الاعتقاد.

ص: 610


1- لم نعثر في كتبهم على هذه الرواية مشتملة على لفظة « فضل » في فاطمة الزهراء سلام اللّه عليها لكن في سنن البيهقي : كتاب النكاح ، باب ما جاء في إبداء زينتها لما ملكت يمينها ، ج 7 ، ص 95 - عن أنس أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله أتى فاطمة عليها السلام يعبد قد وهبه لها - قال : وعلى فاطمة ثوب إذا قنعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلمّا رأى النبيّ ما تلقى قال : إنّه ليس عليك بأس ، إنّما هو أبوك وخادمك. وأخرجه في الدر المنثور عنه وعن سنن أبي داود وابن مردويه.
2- الوسائل : الباب 8 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه ، والباب 45 من أبواب العدد ، ح 1 ، ولا ينهى انهما مشتملان على التعليل.
3- النور : 30.
4- طه : 131.

باب العيوب والتدليس في النكاح ، وما يرد منه وما لا يرد وما في ذلك من الأحكام

العيوب التي يردّ النكاح بها تنقسم إلى قسمين : منها ما يرجع إلى الرجال ، ومنها ما يرجع إلى النساء.

فالرجل يردّ ويفسخ عليه النكاح من أربعة عيوب : من العنة ، والخصاء بالمدّ وكسر الخاء - والجبّ ، والجنون ، سواء كان يعقل معه أوقات الصلوات أو لا يعقل معه ذلك ، إذا كان به ذلك قبل العقد ، فأمّا الجنون الحادث بعد العقد ، فإن كان يعقل معه أوقات الصلوات الخمس فلا خيار للمرأة ، ولا يفسخ النكاح به ، وإن كان لا يعقل أوقات الصلوات الخمس معه ، فالمرأة بالخيار ، ولها فسخ النكاح بذلك.

فأمّا إن دلّس نفسه بالحرية فخرج عبدا ، فلها الخيار والفسخ ، إلا أنّ هذا ليس بعيب في خلقته ، بل هو تدليس ، فلأجل هذا ما أضفناه إلى العيوب الأربعة ، وقلنا : يردّ الرجل من أربعة عيوب.

وقد روي (1) أنّ الرجل إذا انتسب إلى قبيلة فخرج من غيرها ، سواء كان أرذل منها أو أعلى منها ، يكون للمرأة الخيار في فسخ النكاح.

والأظهر أنّه لا يفسخ بذلك النكاح ، لأنّ اللّه تعالى قال « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (2) والإجماع فغير منعقد على خلاف ما اخترناه ، ولا تواترت به الأخبار.

وشيخنا أبو جعفر وإن كان قد أورد ذلك وذكره في نهايته (3) فعلى جهة الإيراد لأخبار الآحاد لا الاعتقاد لصحتها والعمل بها ، فإنّه رجع في مبسوطة وبيّن أنّ ذلك رواية فقال رحمه اللّه : « وإن كان الغرور بالنسب فهل لها الخيار أم لا؟ فالأقوى ، أنّه لا خيار لها ، وفي الناس من قال : لها الخيار ، وقد روي ذلك في

ص: 611


1- الوسائل : الباب 16 من أبواب ، العيوب والتدليس ، ح 1 و 3.
2- المائدة : 1.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب التدليس في النكاح ..

أخبارنا » (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة فدلّ ذلك أنّ ما أورده في نهايته رواية من طريق أخبار الآحاد.

إلا أنّ هذا وإن لم يكن عيبا فإنّه يردّ به ، لأنّه تدليس فرددناه من حيث التدليس بالاشتراط ، لا من حيث أنّه عيب يردّ به من غير اشتراط ، لأنّ الغيوب هي في الخلقة يردّ بها النكاح وإن لم يشترط السلامة في حال العقد ، بل بمجرد العقد يردّ النكاح بعيب الخلقة ، فأمّا التدليس فإنّه إذا شرط أنّه حرّ ، فخرج عبدا ، أو انتسب إلى قبيلة ، فخرج بخلافها ، سواء كان أعلى منها أو أدنى ، وكذلك السواد والبياض إذا شرطه فخرج بخلافه ، وما أشبه ذلك ، فلا يردّ به النكاح إلا إذا اشترط خلافه ، فأمّا بمجرّد العقد دون تقدّم الشرط فلا يردّ به النكاح ، فهذا الفرق بين عيب الخلقة وبين التدليس ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

إذا حدث بالرجل جبّ أو خصاء بعد العقد فلا خيار للمرأة في فسخ النكاح ، فإن حدثت العنّة بعد وطئها فلا خيار لها ، وإن حدثت قبل وطئها وبعد العقد ، ولم يطأ غيرها ولا هي مدّة سنة ، فلها الخيار ، فإن وطأها أو وطأ غيرها في مدّة السنّة لم يكن لها خيار ، فأما الجنون الحادث فقد قلنا ما فيه ، فأغني عن إعادته.

فأمّا العيوب الراجعة إلى النساء فسبعة عيوب : الجنون المتقدّم على العقد ، دون الحادث بعده ، والجذام كذلك ، والبرص كذلك ، والرّتق والقرن - بفتح القاف وسكون الراء ، والإفضاء ، وهو ذهاب الحاجز الذي بين مخرج البول ومدخل الذكر ، والعمى ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وهو مذهب شيخنا في نهايته (2) وقال في مسائل خلافه : وفي أصحابنا من ألحق بها العمى ، وكونها محدودة ، بعد أن ذكر ستّة عيوب فحسب (3).

ص: 612


1- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل في ذكر أولياء المرأة والمماليك ، ص 189.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب التدليس في النكاح وما يردّ منه وما لا يردّ.
3- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 124.

والذي يقوى في نفسي أنّ المحدودة لا تردّ ، بل يرجع على وليها بالمهر إذا كان عالما بدخيلة أمرها ، فإن أراد فراقها طلقها.

وألحق أصحابنا عيبا ثامنا ، وهو العرج البيّن ، ذهب إليه شيخنا في نهايته (1) ولم يذهب إليه في مسائل خلافه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في مسائل خلافه : مسألة ، إذا حدث بالمرأة أحد العيوب التي تردّ به ، ولم يكن في حال العقد فإنّه يثبت به الفسخ (2).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : الصحيح أنّ كلّ عيب حادث بعد العقد من عيوب النساء لا يردّ به النكاح ، والذي ذهب إليه شيخنا مذهب الشافعي في أحد قوليه ، اختاره شيخنا ، فليلحظ ذلك.

وتردّ المرأة من التدليس ، وهو إذا عقد الرجل على امرأة ، فظنّ أنّها حرّة ، فوجدها أمة ، فإن كان قد دخل بها كان لها المهر بما استحل من فرجها ، وللرجل أن يرجع على وليها الذي تولّى العقد عليها ودلسها بالمهر ، فإن كان الوليّ لم يعلم دخيلة أمرها لم يكن عليه شي ء ، فإن كانت هي المدلّسة والمتولية للعقد على نفسها رجع عليها إذا لحقها العتاق ، فإن كان لم يدخل بها لم يكن لها مهر ، فإن كان قد أعطاها المهر كان له الرجوع عليها به إذا كان قائم العين ، فإن كان قد أتلفته رجع عليها إذا لحقها العتاق ، فإذا ردّها كان ردّه لها فراقا بينه وبينها ، ولا يحتاج مع ذلك إلى طلاق.

وكذلك إذا تزوّجت المرأة برجل على أنّه حر ، فوجدته عبدا ، كانت بالخيار بين إقراره على العقد وبين اعتزاله ، فإن اعتزلت كان ذلك فراقا بينها وبينه ، فإن استقرت معه لم يكن لها بعد علمها بحاله خيار ، فإن كان قد دخل بها كان

ص: 613


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب التدليس في النكاح وما يردّ منه وما لا يردّ.
2- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 128.

لها الصداق بما استحل من فرجها ، وإن لم يكن دخل بها لم يكن لها شي ء.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي « رحمه اللّه » في مسائل خلافه : مسألة ، إذا عقد الحرّ على امرأة على أنّها حرّة ، فبانت أمة ، كان العقد باطلا ، ثمّ استدل فقال : دليلنا إجماع (1) على بطلانه أنّه عقد على من يعتقد أنّه لا ينعقد نكاحها ، فكان باطلا (2).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : العقد صحيح ، إلا أنّه له الخيار بين فسخه وإمضائه ، بلا خلاف بين أصحابنا ، وما استدل به فمرغوب عنه ، لأنّ العقد على الأمة عندنا جائز صحيح ، ينعقد نكاحها ، وليس هي كالكافرة الأصلية ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

وإذا عقد الرجل على بنت رجل على أنّها بنت مهيرة ، فوجدها بنت أمة ، كان له ردّها وإن لم يكن دخل بها لم يكن عليه لها شي ء ، وروي أنّ المهر على أبيها (3) ، وليس عليه دليل من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع والأصل براءة الذمة ، فمن شغل ذمة الأب بالمهر يحتاج إلى دليل ، فإن كان قد دخل بها كان المهر عليه بما استحلّ من فرجها ، ورجع على أبيها به ، فإن رضي بعد ذلك بالعقد لم يكن له بعد رضاه الرجوع بالمهر ولا خيار الرّد.

ومتى كان لرجل بنتان : أحدهما بنت مهيرة ، والأخرى بنت أمة ، فعقد للرجل على بنته من المهيرة ، ثمّ أدخلت عليه ابنته من الأمة ، كان له ردّها ، لأنّها ليست زوجة له ، سواء رضي بها أو لم يرض ، فإن كان قد دخل بها وأعطاها المهر كان لها ذلك إن كان وفق مهر أمثالها ، وإن كان أنقص فعليه تمامه ، وإن كان أكثر فله الرجوع عليها بما يزيد على مهور أمثالها ، تستحقه بما استحلّ من فرجها ، ورجع على من أدخلها عليه به ، فإن لم يكن دخل بها فليس

ص: 614


1- ل : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم. هذا آخر كلامه وهكذا في الخلاف. وفي نسخة الأصل هنا انمحاء.
2- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 132.
3- الوسائل : الباب 8 من أبواب العيوب والتدليس ، ح 2 - 3.

لها عليه مهر ، وعلى الأب أن يسوق إليه ابنته من المهيرة.

وإذا تزوّج الرجل بامرأة فوجدها برصاء ، أو جذماء ، أو عمياء ، أو رتقاء ، أو قرناء ، أو مفضاة ، أو عرجاء ، أو مجنونة كان له ردّها من غير طلاق ، فإن كان قد دخل بها كان لها المهر بما استحلّ من فرجها ، وله أن يرجع على وليّها بالمهر الذي أعطاها ، إذا كان الولي عالما بحالها ، فإن لم يكن عالما بحالها لم يكن عليه شي ء ، ورجع عليها به إذا كانت هي المدلسة نفسها ، فان لم يكن دخل بها لم يكن عليه مهر ، فإن كان قد أعطاها المهر كان له الرجوع عليها به ، ومتى وطأها بعد العلم بحالها ، أو علم بحالها ورضي ، لم يكن له بعد ذلك ردّها ، فإن أراد فراقها بعد ذلك فارقها بالطلاق.

فأمّا ما عدا ما ذكرناه من العيوب فليس يوجب شي ء منها الردّ ، مثل العور ، وما أشبه ذلك.

وإذا عقد على امرأة على أنّها بكر فوجدها ، ثيبا لم يكن له ردّها ، غير أنّ له أن ينقص من مهرها بمقدار مهر أمثالها ، على ما قدّمناه فيما مضى وحررناه.

ومتى عقد الرجل على امرأة ، على أنّه صحيح ، فوجدته عنينا - ولا يعلم ذلك إلا من جهة الرجل بإقراره ، فحسب ، وقد روي أنّه يعرف ذلك بأن يقام في ماء بارد ، فان تشنج ، أي تقبض العضو ، فليس بعنين ، وإن بقي على حاله فهو عنين (1). وهذا قول ابن بابويه في رسالته (2) والأول هو المعمول عليه - فإذا كان كذلك انتظر به سنة ، فإن وصل إليها في مدّة السنة ، ولو مرّة واحدة ، أو إلى غيرها لم يكن لها عليه خيار ، وإن لم يصل إليها ولا إلى غيرها أصلا كانت مخيّرة بين المقام معه وبين مفارقته ، فإن رضيت لم يكن لها بعد ذلك خيار ، فإن اختارت فراقه كان لها نصف الصداق ، وليس عليها عدّة.

ص: 615


1- الوسائل : الباب 15 من أبواب العيوب والتدليس ، ح 4.
2- رسالته لو كانت فهي من المخطوطات.

وقال شيخنا أبو جعفر « رحمه اللّه » في نهايته : وإن حدث بالرجل عنه كان الحكم في ذلك مثل ما قدّمناه (1).

المراد بذلك أنّها حدثت بعد العقد على المرأة وقبل وطيها ووطء غيرها ، بعد أنّ عقد عليها ، وإن كان قد وطأ قبل العقد عليها نساء عدّة ، فأمّا إذا حدثت بعد العقد عليها وبعد وطيها أو وطء غيرها بعد العقد عليها فلا خيار لها بحال ، وإذا اختلف الزوج والمرأة فادّعى الزوج أنّه قربها ، وأنكرت المرأة ذلك ، فإن كانت المرأة بكرا فانّ ذلك ممّا يعرف بالنظر إليها فإن وجدت كما كانت لم يكن لادّعاء الرجل تأثير ، وإن لم توجد كذلك لم يكن لإنكار المرأة تأثير ، إلا أنّ هذا لا يصح إلا أن تكون دعواه بأنّه قربها في قبلها ، فإن افتضّ عذرتها فيكون الحكم فيه ما قدّمناه ، فأمّا إن ادّعى أنّه وطأها في غير قبلها فلا اعتبار بالحكم الذي قدّمناه ، لأنّه ليس لنا طريق إلى تكذيبه ، ويكون القول قوله ، ولا يلزم بأحكام العنين في المسألتين معا ، لأنّها ما ادّعت عليه العنة ، ولا أقرّ بالعنة ، وأكثر ما في ذلك أنّه ما وطأها ، ولو أقرّ بأنّه ما افتضها ما يثبت عليه أحكام العنين ، لأنّا قد بيّنا أنّه لا يثبت كونه عنينا إلا بإقراره.

فإن كانت المرأة ثيبا كان القول قول الرجل مع يمينه باللّه ، وقد روي أنّها تؤمر بأن تحشو قبلها خلوقا ، ثمّ يأمر الحاكم الرجل بوطئها ، فإن وطأها فخرج على ذكره أثر الخلوق صدق وكذبت ، وإن لم يكن الأثر موجودا صدقت وكذب الرجل ، ذهب شيخنا في نهايته (2) إلى أنّ أمرها بالخلوق رواية (3) ، وذهب في مسائل خلافه إلى أنّه المعمول عليه (4) ، والصحيح ما قدّمناه وحررناه ، والأظهر ما ذكره في نهايته.

ص: 616


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب التدليس في النكاح وما يردّ به ما لا يردّ.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب التدليس في النكاح وما يردّ منه وما لا يردّ.
3- الوسائل : الباب 15 من أبواب العيوب والتدليس ، ح 2 - 3.
4- الخلاف : كتاب النكاح ، المسألة 140.

فإن تزوّجت المرأة برجل على أنّه صحيح ، فوجدته خصيا ، كانت بالخيار بين الرضا بالمقام معه وبين مفارقته ، فإن رصيت بالمقام معه لم يكن لها بعد ذلك خيار ، وإن أبت فرّق بينهما.

وقد روي أنّه إن خلا بها كان للمرأة صداقها منه ، وعلى الإمام أن يعزره لئلا يعود إلى مثل ذلك (1).

ولا دليل على صحة هذه الرواية من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، وإن كان قد أورد ذلك شيخنا في نهايته (2) إيرادا لا اعتقادا.

ومتى عقد الرجلان على امرأتين فدخلت امرأة هذا على هذا ، والأخرى على الآخر ، ثمّ علم بعد ذلك ، فإن لم يكونا دخلا بهما ردّت كلّ واحدة منهما إلى زوجها ، وإن كانا قد دخلا بهما ، كان لكل واحدة منهما الصداق ، لا المسمّى ، بل مهر المثل ، لأنّ كلّ واحد من الزوجين ما سمّى صداقا لمن دخل بها ، وإنّما هو وطء شبهة ، فيجب على كلّ واحد منهما مهر المثل ، فإن كان الولي تعمد ذلك أغرم ما غرمه الرجل ، وهو مهر المثل ، ولا يقرب كلّ واحد منهما امرأته حتى تنقضي عدّتها ، فإذا انقضت صارت كلّ واحدة منهما إلى زوجها ، بالعقد الأوّل.

فإن ماتتا قبل انقضاء العدة فقد روي أنّ الرجلين الزوجين يرجعان بنصف الصداق على ورثتهما ، ويرثانهما (3).

والصحيح من الأقوال أنّ بموت أحد الزوجين ، أمّا المرأة ، أو الرجل ، يستقر جميع المهر كملا ، سواء دخل بها الرجل ، أو لم يدخل ، على ما قدّمناه قبل هذا.

فإن مات الرجلان ، وهما في العدة ، فإنّهما ترثانهما ، ولهما المهر المسمّى حسب ما قدّمناه في المتوفّى عنها زوجها ولم يدخل بها ، وعليهما العدّة ما تفرغان من العدّة

ص: 617


1- الوسائل : الباب 13 من أبواب العيوب والتدليس ، ح 2 ، 3 ، 5 ، والتعليل غير مذكور فيها.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب التدليس في النكاح وما يردّ به وما لا يردّ.
3- الوسائل : الباب 49 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة ونحوها ، ح 2.

الاولى ، تعتدان عدّة المتوفّى عنها زوجها.

ومتى أقام الرجل بيّنة على أنّه تزوّج بامرأة وعقد عليها عقدا صحيحا ، وأقامت أختها على هذا الرجل البيّنة أنّه عقد عليها ، فإنّ البيّنة بيّنة الرجل ، ولا يلتفت إلى بيّنة المرأة ، اللّهم إلا أن تقيم البيّنة بأنّه عقد عليها قبل عقده على أختها ، فإذا كان الأمر كذلك قبل بيّنتها ، وأبطلت بيّنة الرجل ، أو يكون قد دخل بها ، فمتى كان مع بينة الرّجل (1) أحد هذين الأمرين : إمّا دخول بها ، أو تاريخ متقدم ، سمعت بيّنتها وأبطلت بيّنة الرجل.

باب النكاح المؤجل وما في ذلك من الأحكام

النكاح المؤجّل مباح في شريعة الإسلام ، مأذون فيه ، مشروع بالكتاب والسنّة المتواترة وبإجماع المسلمين ، إلا أنّ بعضهم ادّعى نسخه ، فيحتاج في دعواه إلى تصحيحها ، ودون ذلك خرط القتاد.

وأيضا فقد ثبت بالأدلة الصحيحة أنّ كلّ منفعة لا ضرر فيها في عاجل ولا آجل مباحة ، بضرورة العقل ، وهذه صفة نكاح المتعة ، فيجب إباحته بأصل العفل.

فإن قيل : فمن أين لكم نفي المضرة عن هذا النكاح في الآجل ، والخلاف في ذلك؟

قلنا : من ادّعى ضررا في الآجل فعليه الدليل.

وأيضا ، فقد قلنا : إنّه لا خلاف في إباحتها ، من حيث أنّه قد ثبت بإجماع المسلمين أنّه لا خلاف في إباحة هذا النكاح في عهد النبيّ عليه السلام بغير شبهة ، ثمّ ادّعى تحريمها من بعد ونسخها ، ولم يثبت النسخ ، وقد ثبتت الإباحة بإجماع ، فعلى من ادّعى الحظر والنسخ الدلالة ، فإن ذكروا الأخبار (2) التي رووها في أنّ النبيّ عليه السلام حرّمها ونهى عنها ، فالجواب عن ذلك أنّ جميع

ص: 618


1- ج : مع بينة المرأة.
2- الوسائل : الباب 1 من أبواب المتعة ، ح 32.

ما يروونه من هذه الأخبار ، إذا سلمت من المطاعن والتضعيف ، أخبار آحاد ، وقد ثبت أنّها لا توجب علما ولا عملا في الشريعة ، ولا يرجع بمثلها عما علم وقطع عليه.

وأيضا قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من النساء ( وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ » (1) ولفظة « اسْتَمْتَعْتُمْ » لا تعدو وجهين : إمّا أن يراد بها الانتفاع والالتذاذ الذي هو أصل موضوع اللفظة ، أو العقد المؤجّل المخصوص الذي اقتضاه عرف الشرع.

ولا يجوز أن يكون المراد هو الوجه الأول لأمرين : أحدهما أنّه لا خلاف بين محصّلي من تكلّم في أصول الفقه في أنّ لفظ القرآن إذا ورد وهو محتمل لأمرين أحدهما وضع أصل اللغة ، والآخر عرف الشريعة أنّه يجب حمله على عرف الشريعة ، ولهذا حملوا كلّهم لفظ صلاة وزكاة ، وصيام ، وحجّ ، على العرف الشرعي ، دون الوضع اللغوي ، والأمر الآخر أنّه لا خلاف في أنّ المهر لا يجب بالالتذاذ ، لأنّ رجلا لو وطأ زوجته ولم يلتذّ بوطئها ، لأنّ نفسه عافتها ، أو كرهتها ، أو لغير ذلك من الأسباب ، لكان دفع المهر واجبا ، وإن كان الالتذاذ مرتفعا.

فعلمنا أنّ لفظ الاستمتاع في الآية إنّما أريد به العقد المخصوص دون غيره.

وأيضا : فقد سبق إلى القول بإباحة ذلك جماعة معروفة الأقوال من الصحابة والتابعين ، كأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، وابن عباس ، ومناظرته لابن الزبير عليها معروفة ، رواها الناس كلّهم ، ونظم الشعراء فيها الأشعار ، فقال بعضهم :

أقول للشيخ لما طال مجلسه *** يا صاح هل لك في فتوى ابن عباس

هل لك في قنية بيضاء بهكنة (2) *** يكون مثواك حتى مصدر الناس

وعبد اللّه بن مسعود ، ومجاهد ، وعطاء ، وجابر بن عبد اللّه الأنصاري ، وسلمة بن الأكوع ، وأبي سعيد الخدري ، والمغيرة بن شعبة ، وسعيد بن جبير ،

ص: 619


1- النساء : 24.
2- البهكن البهكنة : الغض والغضة. « أقرب الموارد ».

وابن جريح ، فإنّهم كانوا يفتون بها فادّعاء الخصم الاتفاق على حظر النكاح المؤجل باطل.

وأيضا فإجماع أصحابنا حجة على إباحة هذا النكاح.

وهو ما قدّمنا ذكره من عقد الرجل على امرأة مدة معلومة بمهر معلوم.

ولا بدّ من هذين الشرطين ، فإن لم يذكر المدة كان النكاح دائما ، إذا كان الإيجاب بلفظ التزويج أو النكاح ، على ما حررناه في ما تقدّم ، فإن كان بلفظ التمتع بطل العقد.

وإن ذكر الأجل ولم يذكر المهر بطل النكاح ، وإن ذكر مدة مجهولة لم يصح العقد على الصحيح من المذهب.

فأمّا ما عدا الشرطين فمستحب ذكره ، دون أن يكون ذلك من الشرائط الواجبة.

وأمّا الاشهاد والإعلان فمسنونان في نكاح الدوام ، فأمّا النكاح المؤجل فليسا بمسنونين فيه ولا واجبين ، اللّهم إلا أن يخاف الإنسان التهمة بالزنا ، فيستحب له حينئذ أن يشهد على العقد شاهدين.

والمستحب له إذا أراد هذا العقد أن يطلب امرأة عفيفة مؤمنة مستبصرة ، فإن لم يجد بهذه الصفة ووجد مستضعفة جاز أن يعقد عليها ، ولا بأس أن يعقد على اليهودية والنصرانية هذا النكاح في حال الاختيار ، فأما من عدا هذين الجنسين من سائر الكفار ، سواء كانت مجوسية أو غيرها ، كافرة أصل أو مرتدة أو كافرة ملة ، فلا يجوز العقد عليها ولا وطؤها حتى تتوب من كفرها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويكره التمتع بالمجوسية ، وليس ذلك بمحظور (1) وهذا خبر أورده إيرادا لا اعتقادا ، لأنّ إجماع أصحابنا بخلافه ، وشيخنا المفيد « رحمه اللّه » في مقنعته يقول : لا يجوز العقد على المجوسيّة (2) وقوله تعالى ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (3) وقوله : ( وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتّى

ص: 620


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب المتعة وأحكامها.
2- المقنعة : باب العقود على الإماء ، والعبارة هكذا : ولا يجوز ، وطء المجوسية المجوسية ، ص 508.
3- الممتحنة : 10.

يُؤْمِنَّ ) (1) وهذا عامّ ، وخصّصنا اليهودية والنصرانية بدليل الإجماع ، وبقي الباقي على عمومه ، ورجع شيخنا عمّا ذكره في تبيانه (2).

وبعض أصحابنا يحظر العقد على اليهودية والنصرانية ، سواء كان العقد مؤجلا أو دائما ، وهو الأظهر والأقوى عندي ، لعموم الآيتين ، فمن خصصهما يحتاج إلى دليل ، من إجماع ، أو تواتر ، وكلاهما غير موجودين.

إلا أنّه متى عقد على أحد الجنسين منعهما من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، على ما روي (3).

ولا بأس أن يتمتع الإنسان بالفاجرة ، إلا أنّه يمنعها بعد العقد عليها من الفجور.

ولا يجب على الرجل سؤالها هل لها زوج أم لا؟ لأنّ ذلك لا يمكن أن يقوم له به بيّنة.

والأولى في الديانة سؤالها عن ذلك ، إن كانت مصدّقة على نفسها ، وإن كانت متهمة (4) في ذلك احتاط في التفتيش عن أمرها ، استحبابا لا إيجابا.

ولا بأس أن يتزوّج الرجل نكاحا مؤجلا بكرا ليس لها أب من غير وليّ ، كما أنّ له ذلك في عقد الدوام ، فإن كانت البكر بين أبويها جاز ذلك أيضا ، فإن كانت دون البالغ لم يجز له العقد عليها إلا بإذن أبيها ، فإن كانت بالغا جاز العقد عليها من غير استيذانه ، على ما قدّمناه.

ولا بأس أن يتمتع الرجل بأمة غيره بإذنه ، وإن كانت الأمة لامرأة فكذلك ، ولا يجوز له نكاحها ولا العقد عليها إلا بإذن مولاتها ، بغير خلاف ، إلا رواية شاذة رواها سيف بن عميرة (5) أوردها شيخنا في نهايته (6) ورجع عنها في

ص: 621


1- البقرة : 221.
2- التبيان : ج 2 ، ص 218 ذيل الآية 221 ، والعبارة هكذا : فامّا المجوسية فلا يجوز نكاحها إجماعا.
3- الوسائل : الباب 2 من أبواب ما يحرم بالكفر ونحوه ، ح 1.
4- ق. ل : فان اتهمها.
5- الوسائل : الباب 14 من أبواب المتعة ، ح 1 ، وفيه : لا بأس بأن يتمتع بأمة المرأة بغير إذنها.
6- النهاية : كتاب النكاح ، باب المتعة وأحكامها.

جواب المسائل الحائريات (1) على ما قدّمناه.

وقد سئل الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان « رحمه اللّه » في جملة المسائل التي سأله عنها محمّد بن محمّد بن الرملي الحائري « رحمه اللّه » وهي معروفة مشهورة عند الأصحاب ، سؤال : وعن الرجل يتمتع بجارية غيره بغير علم منه ، هل يجوز له ذلك أم لا؟

فأجاب : لا يجوز له ذلك ، وإن فعله كان عاصيا آثما ، ووجب عليه بذلك الحدّ ، وقد ظنّ قوم لا بصيرة لهم ممن يعتزى إلى الشيعة ، ويميل إلى الإمامية ، أنّ ذلك جائز بحديث رووه : « ولا بأس أن يستمتع الرجل من جارية امرأة بغير إذنها » (2) وهذا حديث شاذ ، والوجه : أنّه يطؤها بعد العقد عليها بغير إذنها ، من غير أن يستأذنها في الوطء ، لموضع الاستبراء لها ، فأمّا جارية الرجل فلم يأت فيه حديث ، ومن جوّزه فقد خالف حكم الشرع ، وفارق الحق ، وقال ما يردّه عليه كافة العلماء ، ويضلّله جماعة الفقهاء.

قال محمّد بن إدريس : فانظر أرشدك اللّه إلى فتوى هذا الشيخ المجمع على فضله ورئاسته ومعرفته ، وهل رجع إلى حديث يخالف الكتاب والسنّة وإجماع الأمة ، فكيف يجعل ما يورد ويوجد في سواد الكتب دليلا ، ويفتي به من غير حجة تعضده؟ وهل هذا إلا تغفيل من قائله؟

وإذا كانت عند الرجل امرأة حرّة بعقد دوام فلا يجوز له أن يتمتع بأمة إلا بعد رضاها واستيذانها ، وكان الحكم في هذا العقد حكم نكاح الدوام.

فإذا أراد العقد فليذكر من المهر والأجل ما تراضيا عليه ، قليلا كان أو كثيرا ، بعد أن يكون معلوما غير مجهول ، كلّ واحد منهما ، ويكون المهر ما يجوز تمليكه للمسلمين.

فإن ذكر لها مهرا معلوما وأجلا معلوما ، ثمّ أراد مفارقتها قبل الدخول بها ،

ص: 622


1- المسائل الحائريات : ..
2- الوسائل الباب 14 من أبواب المتعة ، ح 1 ، وفيه : لا بأس بأن يتمتع بأمة المرأة بغير اذنها.

فليهب لها أيّامها ، ويلزمه نصف المهر ، على ما رواه أصحابنا (1) وأجمعوا عليه قولا وعملا ، لأنّهم يجرون هبة الأجل قبل الدخول بها مجرى الطلاق قبل الدخول ، فإن كان قد أعطاها المهر رجع عليها بنصفه ، فإن وهبت مهرها له قبل أن يفارقها ، كان له أن يرجع عليها بمثل نصف المهر بعد تخليته إيّاها ، فإن أعطاها شيئا من مهرها ودخل بها ، لزمه ما بقي عليه منه على كماله ، إذا وفت له بأيامه ، فإن أخلّت بشي ء من أيّامه من غير عذر جاز له أن ينقصها بحساب ذلك من المهر فإن تبيّن له بعد الدخول بها أنّ لها زوجا ، أو هي في عدّة ، لا يلزمه أن يعطيها شيئا ، وكان ما أخذت منه حراما عليها.

ويجوز أن يشترط عليها أن يأتيها ليلا ، أو نهارا ، أو في أسبوع دفعة ، أو يوما بعينه ، أيّ ذلك شاء فعل ، ولم يكن عليه شي ء.

وقد روي (2) أنّه إذا عقد عليها شهرا ، ولم يذكر الشهر بعينه ، كان له شهر من ذلك الوقت ، فإذا مضى عليها شهر ثمّ طالبها بعد ذلك بما عقد عليها لم يكن له عليها سبيل.

والصحيح ترك هذه الرواية ، لأنّ هذا أجل مجهول ، إلا أن يقول : شهرا من هذا الوقت ، فيصح ذلك ، لأنّه يكون معلوما.

فإن كان قد سمّى الشهر بعينه كان له شهره الذي عيّنه ، فإذا ثبت ذلك فلا يجوز لهذه المرأة أن تعقد على نفسها لأحد من عالم اللّه ، وإن لم يحضر ذلك الشهر المعيّن ، لأنّ عليها عقدا ، ولها زوج ، فلا يجوز أن يكون للمرأة زوجان ، ولا يكون عليها عقدان ، بإجماع المسلمين.

ولا يجوز أيضا لمن عقد عليها العقد الأول أن يعقد على أختها قبل حلول شهره المعيّن وحضوره ، لأنّه يكون جامعا بين الأختين.

واختلف أصحابنا في توارث نكاح المؤجل ، فقال قوم منهم : ترث وتورّث

ص: 623


1- الوسائل : الباب 30 من أبواب المتعة ، ح 1.
2- الوسائل : الباب 35 من أبواب المتعة.

إذا لم يشترطا نفي التوارث ، مثل نكاح الدوام ، وقال آخرون منهم : لا ترث ولا تورّث ، إلا أن يشترطا التوارث ، فإن شرطا ذلك توارثا ، وقال الباقون المحصّلون :

لا توارث في هذا النكاح ، شرطا التوارث أو لم يشرطا ، لأنّهما إن شرطا كان الشرط باطلا ، لأنّه شرط يخالف السنة.

وهذا الذي أفتي به وأعمل عليه ، لأنّ التوارث حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، وقد أجمعنا على تخصيص عموم آيات توارث الأزواج في النكاح الدائم ، واختلف أصحابنا في توريث الأزواج في النكاح المؤجل ، والأصل براءة الذمة.

ولا خلاف أنّه لا يتعلّق بها حكم الإيلاء ، ولا يقع بها طلاق ، ولا يصحّ بينها وبين الزوج لعان ، ويصح الظهار منها عند بعض أصحابنا ، وكذلك اللعان عند السيد المرتضى ، والأظهر أنّه لا يصحّ ذلك بينهما في هذا العقد.

وانقضاء الأجل يقوم في الفراق مقام الطلاق ، ولا سكنى لها ، ولا نفقة ، ويجوز الجمع بغير خلاف بين أصحابنا في هذا النكاح بين أكثر من أربع ، لأنهنّ بمنزلة الإماء عندنا ، ولا يلزم العدل بينهن في المبيت.

ويلحق الولد بالزوج ، ويلزمه الاعتراف به ، ويجب عليه إلحاقه به ، ولا يحلّ له نفيه إذا قطع على أنّه منه ، إلا أنّه إن نفاه أثم ، وكان معاقبا عند اللّه تعالى ، إلا أنّه لا يحتاج مع نفيه إلى لعان ، بخلاف النكاح الدائم ، لأنّ النكاح الدائم متى علم أنّه ولد على فراشه احتاج في نفيه إلى لعان ، فمتى وطأ في القبل الواطي في النكاح المؤجل لزمه الاعتراف به ، وإن كان يعزل الماء.

ولا بأس إن يعقد الرجل على امرأة واحدة مرّات كثيرة ، واحدة بعد أخرى ، لأنّه لا طلاق في هذا النكاح.

وإذا انقضى الأجل فيما بينهما ، جاز له أن يعقد عليها عقدا مستأنفا في الحال ، قبل خروجها من العدة ، ولا يجوز لغيره ذلك ما دامت في العدّة.

وكذلك يجوز له أن يعقد على أختها قبل خروجها من عدّتها ، وبعد

ص: 624

خروجها من أجله ، فإن أراد أن يزيدها في الأجل قبل انقضاء أجلها الذي له عليها لم يكن له ذلك ، فإن أراد فليهب لها ما بقي عليها من الأيام ، ثمّ ليعقد عليها على ما شاء من الأيام.

وعدّة المرأة في هذا النكاح ، إذا كانت ممن تحيض حيضا مستقيما ، أو لا تحيض وفي سنها من تحيض ، إذا انقضى أجلها ، أو وهب لها زوجها أيّامها - على ما قدّمناه وقلنا إنّه عند أصحابنا بمنزلة الطلاق في هذا النكاح بغير خلاف بينهم - قرءان ، وهما طهران للمستقيمة الحيض ، وخمسة وأربعون يوما إذا كانت لا تحيض ومثلها تحيض ، فأمّا إن كانت لا تحيض وليس في سنّها من تحيض فلا عدّة عليها ، إلا إذا توفي عنها زوجها قبل خروجها من أجله.

فإذا توفى عن المتمتع بها زوجها قبل انقضاء أجلها (1) كانت عدّتها مثل عدّة المعقود عليها عقد الدوام ، على الصحيح من المذهب ، وقال قوم من أصحابنا :

عدّتها شهران وخمسة أيام ، والأول هو الظاهر ، لأنّه يعضده القرآن والمتواتر من الأخبار ، سواء كانت أمة أو حرة ، لظاهر القرآن ، وهو قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (2) وذلك عامّ في كل من يتوفى عنها زوجها ، ولا إجماع منعقد على تخصيص ذلك ، فيجب العمل بالعموم ، لأنّه الظاهر ، ولا يجوز العدول عنه إلا بدليل.

وقال شيخنا في نهايته : « عدتها إذا انقضى أجلها أو وهب لها زوجها أيامها حيضتان ، أو خمسة وأربعون يوما ، إذا كانت لا تحيض وفي سنّها من تحيض » (3).

أمّا قوله : « حيضتان » يريد بذلك المستقيمة الحيض ، تعتد بالأقراء ، وهي قرءان فعبّر عن القرءين بالحيضتين ، وامّا قوله : « أو خمسة وأربعون يوما » فمراده من لا تحيض وفي سنّها من تحيض.

وقد روي أنّه إذا اشترط الرجل في حال العقد أن لا يطأها في فرجها ، لم يكن له

ص: 625


1- ق : أجله.
2- البقرة : 234.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب المتعة وأحكامها.

وطؤها فيه ، فإن رضيت بعد العقد بذلك كان جائزا.

وقال شيخنا في نهايته : « وكلّ شرط يشرطه الرجل على المرأة انّما يكون له تأثير بعد ذكر العقد ، فإن ذكر الشروط وذكر بعدها العقد كانت الشروط التي قدّم ذكرها باطلة لا تأثير لها ، فإن كرّرها بعد العقد ثبتت على ما شرط » (1).

قال محمّد بن إدريس « رحمه اللّه » : لا شرط يجب ذكره ويلزمه (2) إلا شرطان : وهما ذكر الأجل المحروس من الزيادة والنقصان ، إمّا بالشهور والأيام ، أو بالسنين والأعوام ، والمهر المعلوم إن كان من الموزون بالوزن أو الاخبار عن الوزن ، وإن كان مكيلا فبالكيل أو الاخبار عن الكيل ، وإن كان غير موزون ولا مكيل فبالمشاهدة أو الوصف في غير المشاهدة ، وما عداهما من الشروط لا يلزم ، ولا تأثير له في صحة هذا النكاح ، وأيضا فالمؤثر لا يكون له تأثير إلا إذا قارن وصاحب ، فكيف يؤثر الشرط المذكور بعد العقد ، فكان الاولى إن كانت الشروط مؤثرة ولازمة أن يكون ما يلزم منها مصاحبا للعقد مقارنا له لا يتقدّم عليه ولا يتأخر وشيخنا أورد ذلك من طريق أخبار الآحاد ، دون الاعتقاد.

قال محمّد بن إدريس : يروى في بعض أخبارنا في باب المتعة عن أمير المؤمنين عليه السلام : لو لا ما سبقني إليه بني الخطاب ما زنى إلا شفا - بالشين المعجمة والفاء - ومعناه إلا قليل ، والدليل عليه حديث ابن عباس ، ذكره الهروي في الغريبين : « ما كانت المتعة إلا رحمة رحم اللّه بها أمة محمد صلى اللّه عليه وآله ولو لا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلا شفا » قد أورده الهروي في باب الشين والفاء ، لأنّ الشفاء عند أهل اللغة القليل ، بلا خلاف بينهم ، وبعض أصحابنا ربما صحّف ذلك ، وقاله وتكلم به بالقاف والياء المشددة ، وما ذكرناه هو وضع أهل اللغة ، وإليهم المرجع ، وعليهم المعوّل في أمثال ذلك ، وتعضده

ص: 626


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب المتعة وأحكامها.
2- ق : يلزم.

الرواية عن ابن عباس « رحمه اللّه ».

وقال شيخنا أبو جعفر في الاستبصار ، في باب التمتع بالأبكار ، أورد خبرا فيه : « ما يقول هؤلاء الأقشاب » (1) بالقاف والشين المعجمة.

قال محمّد بن إدريس : الأقشاب الأخلاط ، وهو ذم لهم (2).

باب السراري وملك الايمان وما في ذلك من الأحكام

يستباح وطء الإماء من ثلاث طرق :

أحدها العقد عليهن بإذن أهلهنّ ، كما قال تعالى ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) (3) وقد سلف ذكر ذلك فيما مضى من كتابنا.

والثاني بتحليل مالكهن أو إباحته الرجل من وطئهن ، وإن لم يكن هناك عقد متضمن لفظ التزويج أو النكاح.

وجملة الأمر وعقد الباب في ذلك أنّ تحليل الإنسان جاريته لغيره من غير عقد فهو جائز عند أكثر أصحابنا المخصّلين ، وبه تواترت الأخبار ، وهو الأظهر بين الطائفة ، والعمل عليه ، والفتوى به ، وفيهم من منع منه ، فمن أجازه اختلفوا : فمنهم من قال : هو عقد والإباحة والتحليل عبارة عنه ، وهو مذهب السيد المرتضى ، ذكره في انتصاره ، والباقون الأكثرون قالوا : هو تمليك منفعة مع بقاء الأصل ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي « رحمه اللّه » وشيخنا المفيد ، وغيرهما من المشيخة ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وبه أفتي ، ويجري ذلك مجرى إسكان الدار وإباحة منافع الحيوان ، إذ لا يمنع من ذلك مانع ، من كتاب ، ولا سنة ، ولا دليل عقل ، ولا إجماع منعقد ، إلا أنّ شيخنا أبا جعفر في مبسوطة يجعل

ص: 627


1- الاستبصار ، ج 3 ، باب التمتع بالأبكار ص 145 ، ح 1 وفي الوسائل : الباب 11 من أبواب المتعة ، ح 6.
2- ل : وهو ذمّ لهم ، والذي ورد في كتب اللغة « أو شاب من الناس » بالواو ، وهم الأخلاط.
3- النساء : 25.

من شروطه أن تكون المدّة معلومة.

ويكون الولد لا حقا بامه ، ويكون رقّا ، إلا أن يشترط الرجل الحرية ، والصحيح من المذهب والأقوال والذي تقتضيه الأدلّة أنّ الولد بمجرد العقد في المعقود عليها من الإماء ، أو المباحة المحللة بمجرد الإباحة والتحليل يكون الولد حرا ، إلا أن يشترطه المولى ، لأنّ إجماع أصحابنا منعقد على أنّ كلّ وطء مباح حلال يلحق الولد بالحرية ، من أيّ طرفي العاقدين الزوجين كانت ، سواء كان بعقد ، أو إباحة ، أو نكاح فاسد ، أو وطء شبهة. والمخالف يلحقه بامه ، ولا يلحقه بأبيه ، فإن كانت حرة كان حرا ، ولا يعتدّ بأبيه ، وإن كانت أمة كان رقّا ، ولا يلتفت إلى أبيه وإن كان أبوه حرا ، وأصحابنا على خلاف مذهب المخالف ، وممّا يتفردون به من القوم.

وقد سأل السيد المرتضى نفسه فقال : مسألة في خبر الواحد : إن سأل سائل فقال : كيف تنكرون أن يكون أخبار الآحاد في الأحكام الشرعية ممّا لم تقم الحجة بالعمل بها ، فقد وجدنا الإماميّة يختلفون فيما بينهم في أحكام شرعيّة معروفة ، ويستند كلّ فريق منهم إلى أخبار آحاد في مذهبه ، ولا يخرج كلّ فريق من موالاة الفريق الآخر وإن خالفه ، ولا يحكم بتكفيره وتضليله ، وهذا يقتضي أنّه إنّما لم يرجع عن موالاته ، لأنّه استند فيما ذهب إليه إلى ما هو حجة.

الجواب : أنّ أخبار الآحاد ممّا لم تقم لها دلالة شرعيّة على وجوب العمل بها ، ولا يقطع العذر بذلك ، وإذا كان خبر الواحد لا يوجب علما وإنّما يقتضي إذا كان راويه على غاية العدالة ظنّا ، فالتجويز لكونه كاذبا ثابت ، والعمل بقوله يقتضي الإقدام على ما يعلم قبحه ، فأمّا الاستدلال على أنّ الحجة ثابتة بقبول أخبار الآحاد بأنا لا نكفر من خالفنا في بعض الأحكام الشرعية من الإماميّة ولا نرجع عن موالاته ، فلا شبهة في بعده ، لأنّا لا نكفر ولا نرجع عن موالاة من خالف من أصحابنا في بعض الشرعيات ، وإن استند في ذلك المذهب إلى

ص: 628

التقليد ، أو رجع فيه إلى شبهة معلوم بطلانها ، ولم يدلّ عدولنا عن تكفيره وتمسكنا بموالاته على أنّ التقليد الذي تمسّك به واعتمد في مذهبه ذلك عليه حقّ ، وأنّ فيه الحجة ، فكذلك ما ظنه السائل ، وبعد فلو كنّا إنّما عدلنا عن تكفيره وأقمنا على موالاته من حيث استند من أخبار الآحاد إلى ما قامت به الحجة في الشريعة لكنّا لا نخطّيه ولا نأمره بالرجوع عمّا ذهب إليه ، لأنّ من عوّل في مذهب على ما فيه الحجة لا يستنزل عنه ، ونحن نخطّي من أصحابنا من خالفنا فيما قامت الأدلة الصحيحة عليه من الأحكام الشرعيّة ، ونأمره بالرجوع إلى الحق ، وترك ما هو عليه ، وانّما لا نضيف إلى هذه التخطئة التكفير والرجوع عن الموالاة ، وليس كلّ مخطئ كافرا وغير مسلم ، انّ المحق من أصحابنا في الأحكام الشرعيّة انّما عوّل فيما ذهب إليه على أخبار الآحاد ، ومن عوّل على خبر الواحد وهو لا يوجب علما ، كيف يكون عالما قاطعا؟

وما بقي ممّا نحتاج إليه في هذا الكلام إلا أن نبيّن من أي وجه لم نكفر من خالفنا في بعض الشرعيات من أصحابنا ، مع العلم بأنّه مبطل والوجه في ذلك أنّ التكفير يقتضي تعلّق أحكام شرعية : كنفي الموالاة ، والتوارث ، والتناكح ، وما جرى مجرى ذلك ، وهذا انّما يعلم بالأدلة القاطعة ، وقد قامت الدلالة وأجمعت الفرقة المحقة على كفر من خالفنا في الأصول ، كالتوحيد ، والعدل والنبوة ، والإمامة ، فامّا خلاف بعض أصحابنا لبعض في فروع الشرعيات فممّا لم يقم دليل على كفر المخطئ ، ولو كان كفرا لقامت الدلالة على ذلك من حاله ، وكونه معصية وذنبا لا يوجب عندنا الرجوع عن الموالاة ، كما نقول ذلك في معصية ليست بكفر.

فإن قيل : فلو خالف بعض أصحابكم في مسح الرجلين ، وذهب إلى غسلهما ، وفي أنّ الطلاق الثلاث يقع جميعه ، أكنتم تقيمون على موالاته؟

قلنا : هذا ممّا لا يجوز أن يخالف فيه إمامي ، لأنّ هذه الأحكام وما أشبهها معلوم ضرورة أنّه مذهب الأئمة عليهم السلام ، وعليه إجماع الفرقة المحقّة ، فلا

ص: 629

يخالف فيها من وافق في أصول الإمامية ، ومن خالف في أصولهم كفر بذلك.

فإن قيل : أفلستم تكفرون من خالفكم من خالف في صغير فروع الشرعيات وكبيرها؟ فكيف يكفر المخالف بما لا يكفر به الموافق؟

قلنا : نحن لا نكفر مخالفنا إذا خالف في فرع لو خالف فيه موافق من أصحابنا لم نكفره ، وإنّما نكفر المخالف في ذلك الفرع بما ذهب إليه من المذاهب التي تقتضي تكفيره ، مثال ذلك : أنّ من خالف من أصحابنا وقال : إنّ الولد الحر من المملوكة مملوك إذا لم يشترط ، لم يكن بذلك كافرا ، وكان هذا القول باطلا ، وكذلك المخالف لنا في الأصول إذا خالف في هذه المسألة وقال : إنّ الولد مملوك وهذا مذهبكم لا يكون بهذا القول بعينه كافرا ، وانّما نكفره على الجملة بما خالف فيه مما يقتضي الأدلة أن يكون كفرا (1). هذا آخر كلام السيد المرتضى ، احتجنا أن نورد المسألة والجواب على وجههما لنبيّن مقصودنا من ذلك ، وهو قوله : « مثال ذلك أنّ من خالف من أصحابنا وقال : إنّ ولد الحر من المملوكة مملوك إذا لم يشترط ، لم يكن بذلك كافرا ، وكان هذا القول باطلا » فدلّ على أنّ الولد حرّ إذا كان أبوه حرا ، وامّه مملوكة ، وكان الوطء حلالا مباحا ، وارتفع الشرط ، سواء كان هذا الوطء بعقد أو إباحة المولى ، لأنّ إطلاق كلام السيد المرتضى يقتضي ذلك ويدلّ عليه ، فدلّ على أنّه إجماع منعقد من أصحابنا.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في الجزء الخامس من المبسوط ، في فصل في حدّ القاذف (2) : إذا قذف رجلا ثمّ اختلفا ، فقال القاذف : أنت عبد ، فلا حدّ عليّ ، وقال المقذوف : أنا حرّ ، فعليك الحدّ ، لم يخل المقذوف من ثلاثة أحوال : إمّا يعلم أنّه حرّ ، أو عبد ، أو يشك فيه ، فإن عرف أنّه حرّ ، مثل أن علم ان أحد أبويه حرّ عندنا ، أو يعلم أنّ امه حرّة عندهم وإن كان عبدا فأعتق فعلى

ص: 630


1- رسائل الشريف المرتضى المجموعة الثالثة ، مسألة 44 عدم تخطئة العامل بخبر الواحد ص 271 - 272.
2- وفي المصدر : حد القذف.

القاذف الحدّ ، وإن عرف أنّه مملوك فلا حدّ على القاذف ، وعليه التعزير ، وإن أشكل الأمر ، كالرجل الغريب لا يعرف ولا يخبر كاللقيط ، قال قوم : القول قول القاذف ، إلى هاهنا كلام الشيخ في المبسوط (1).

مقصودي منه قوله : « فإن عرف أنّه حرّ مثل أن علم أنّ أحد أبويه حرّ عندنا » ولم يشرط في الوطء بعقد أو إباحة ، بل أطلق القول بذلك ، وأنّه متى كان أحد أبويه حرا فهو حرّ عندنا ، يعني عند أصحابنا الإمامية.

وقال - في الجزء الخامس أيضا ، في فصل في دية الجنين - : ديته مائة دينار ، ويجب ذلك في الجنين الكامل ، وكماله بالإسلام والحرّيّة ، أمّا إسلامه بأبويه أو بأحدهما ، وأمّا الحرّيّة فمن وجوه ، أن تكون امه حرّة ، أو تحبل الأمة في ملكه ، أو يتزوج امرأة على أنّها حرّة فإذا هي أمة ، أو يطأ على فراشه امرأة يعتقدها زوجته الحرة ، فإذا هي أمة ، ففي كلّ هذا يكون حرّا ، بلا خلاف عندنا ، إذا كان أبوه أيضا حرّا وإن كانت الام مملوكة ، فانّ الولد يلحق بالحريّة عندنا ، وفي كلّ هذه المواضع ما تقدّم ذكره من مائة دينار (2).

وقال أيضا شيخنا أبو جعفر الطوسي في الجزء الثاني من مسائل خلافه ، في كتاب الرهن : مسألة : إذا أتت هذه الجارية الموطوءة بإذن الراهن بولد كان حرّا لا حقا بالمرتهن ، بالإجماع ، ولا يلزمه عندنا قيمته ، وللشافعي فيه قولان : أحدهما يجب عليه قيمته ، وبه قال المروزي (3) والآخر لا تجب ، دليلنا ما قدّمناه ، من أنّ الأصل براءة الذمة ، ووجوب القيمة يحتاج إلى دليل (4) ، هذا آخر كلام شيخنا.

ألا ترى إلى قوله : « كان حرّا لا حقا بالمرتهن بالإجماع ، ولا يلزمه عندنا قيمته » ، ولم يتعرض للشرط ، ولا ذكره جملة ، فقد رجع عمّا ذكره في نهايته

ص: 631


1- المبسوط : ج 8 ، كتاب الحدود ، ص 17.
2- المبسوط : ج 7 ، فصل في دية الجنين ، ص 193.
3- ج : المزني.
4- الخلاف : كتاب الرهن ، المسألة 23.

ومبسوطة ، فهو محجوج بهذا القول الذي ذهب إليه وحكيناه عنه في مسائل خلافه ، وما أورده في نهايته فمن طريق أخبار الآحاد ، لا على جهة العمل والاعتقاد ، وهو خبر واحد رواية ضريس الكناسي (1) وبإزائه أخبار كثيرة معارضة له ، تتضمن أنّ الولد حرّ بمجرد الإباحة والتحليل ، وأصول المذهب تقتضي أنّ الولد يلحق بأبيه إلا ما قام عليه الدليل.

رجعنا إلى تقسيمنا.

والثالث بأن يملكهنّ فيستبيح وطئهن بملك الأيمان ، وإذا أحلّ وأباح الرجل جاريته لأخيه ، أو المرأة لأخيها أو لزوجها حلّ له منها ما أحلّه له مالكها ، إن أحلّ له وطئها حلّ له كلّ شي ء منها ممّا يرجع إلى الاستمتاع ، من تقبيل ولمس وعناق وغير ذلك ، وإن أحلّ له ما دون الوطء فليس له إلا ما جعله منه في حلّ ، إن أحلّ له خدمتها لم يكن له سوى الخدمة شي ء ، وإن أحلّ له مباشرتها أو تقبيلها كان له ذلك ، ولم يكن له وطؤها ، فإن وطأها في هذه الحال كان عاصيا ، وإن أتت بولد كان لمولاها ، ويلزمه مهر أمثالها.

وقال بعض أصحابنا وهو شيخنا أبو جعفر في نهايته : يلزمه عشر قيمتها إن كانت بكرا ، وإن كانت غير بكر لزمه نصف عشر قيمتها (2) ، وقال أيضا :

ومتى جعله في حلّ من وطئها ، وأتت بولد كان لمولاها ، وعلى أبيه أن يشتريه بماله إن كان له مال ، وإن لم يكن له مال استسعى في ثمنه (3).

قال محمّد بن إدريس : وقد قلنا ما عندنا في ذلك ، وحكينا رجوعه في مسائل خلافه ، وأيضا فلا يجب على الإنسان أن يشتري ولده إذا كان الولد مملوكا ، بغير خلاف ، فكيف أوجب عليه شراءه ولا يجب عليه أن يستسعى في فك رقبة ولده من الرق ، بغير خلاف بين أصحابنا.

ص: 632


1- الوسائل : الباب 37 من أبواب نكاح العبيد الإماء ، ح 1.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.

ثمّ قال أيضا في نهايته : ولا يجوز للرجل أن يجعل عبده في حلّ من وطء جاريته ، فإن أراد ذلك عقد له عليها عقدا (1).

قال محمد بن إدريس : لا مانع من تحليل عبده وطء جاريته ، من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، والأصل الإباحة ، بل قوله تعالى ( فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ) (2) وقوله ( وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصّالِحِينَ ، مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ ) (3) دليل على صحة ذلك.

ثمّ قال أيضا في نهايته : وينبغي أن يراعى في ما ذكرناه لفظ التحليل ، وهو أن يقول الرجل المالك للأمة لمن يحللها له : « جعلتك في حلّ من وطء هذه الجارية ، أو أحللت لك وطئها » (4).

قال محمّد بن إدريس : ليس قول شيخنا « رحمه اللّه » : ينبغي أن يراعى في ما ذكرناه لفظ التحليل ، بمانع من غيره من الألفاظ ، وهو قوله : أبحتك وطئها ، ولا منع منه.

وإنّما قال : ولا يجوز لفظ العارية في ذلك (5) لشناعة المخالف علينا ، فإنّهم يقولون : هؤلاء يعيرون الفروج ، يريدون بذلك في الحرائر ، معاذ اللّه أن نقول ذلك ، وانّما يتخرصون علينا بما لا نقوله ولا نذهب بحمد اللّه إليه ، فتحرّز أصحابنا - خوفا من الشناعة - فقالوا : ولا يجوز لفظ العارية في ذلك ، حراسة من التشنيع ، وقد قلنا فيما مضى ، أنّ ذلك تمليك منافع ، كتمليك منافع الدار والفرس وغير ذلك.

وقد ذهب شيخنا في مبسوطة في باب العارية إلى ما اخترناه ، فقال : ولا يجوز إعارة الجارية للاستمتاع بها ، لأنّ البضع لا يستباح بالإعارة ، وحكى عن مالك جواز ذلك ، وعندنا يجوز ذلك بلفظ الإباحة ، ولا يجوز بلفظ العارية (6) هذا آخر كلامه في مبسوطة.

وإذا كان الرجل مالكا لنصف الجارية ، والنصف الآخر منها يكون حرّا ، لم

ص: 633


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري ، وملك الايمان.
2- النساء : 25.
3- النور : 32.
4- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري ، وملك الايمان.
5- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري ، وملك الايمان.
6- المبسوط : ج 3 ، كتاب العارية ، ص 57.

يجز له وطؤها ، بل يكون له من خدمتها يوم ، ولها من نفسها يوم ، وروي أنّه إذا أراد العقد عليها في يومها عقد عليها عقد المؤجل وكان ذلك جائزا (1).

ومتى ملك الرجل جارية بأحد وجوه التمليكات ، من بيع ، أو هبة ، أو سبي ، أو غير ذلك ، لم يجز له وطؤها في قبلها ، إلا بعد أن يستبرئها بحيضة إن كانت ممن تحيض ، وإن لم تكن ممّن تحيض ومثلها تحيض استبرأها بخمسة وأربعين يوما ، وإن كانت قد يئست من المحيض ، أو لم تكن بلغته لم يكن عليه استبراء.

وكذلك يجب على الذي يريد بيع جارية كان يطؤها ، فإن استبرأها البائع ثمّ باعها لم يسقط عن المشتري الاستبراء الذي يجب عليه ، وقد روي أنه إن كان البائع موثوقا به جاز للذي يشتريها أن يطأها من غير استبراء (2) ، أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته (3) ورجع عنها في مسائل خلافه (4) ، وهو الصحيح ، لأنّ فعل البائع لا يسقط عن المشتري ما يجب عليه من الاستبراء.

وكذلك إن كانت المملوكة لامرأة ، فيستحب للمشتري استبراؤها ، عند بعض أصحابنا ، والأولى عندي وجوب استبرائها.

فإن اشترى جارية فأعتقها قبل أن يستبرئها جاز له العقد عليها من دون استبراء ، وحل له وطؤها ، والأفضل أن لا يطأها إلا بعد الاستبراء.

ومتى أعتقها وكان قد وطأها جاز له العقد عليها ووطؤها ، ولم يكن عليه استبراء على حال ، فإن أراد غيره العقد عليها لم يجز له ذلك إلا بعد خروجها من عدّتها - على ما رواه بعض أصحابنا - (5) أمّا. بثلاثة أشهر ، أو ثلاثة أقراء على حسب حالها.

ص: 634


1- الوسائل : الباب 41 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 1.
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب نكاح العبيد والإماء.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري ، وملك الايمان.
4- الخلاف : كتاب البيوع المسألة 219 ، وكتاب العدّة المسألة 43 وينافيه قوله في المسألة 40 من هذا الكتاب فراجع.
5- الوسائل : الباب 13 من أبواب النكاح العبيد والإماء.

ومتى اشترى رجل جارية وهي حائض تركها حتى تطهر ، ثمّ يحلّ له وطؤها ، وكان ذلك كافيا في استبراء رحمها على ما روى في بعض الأخبار (1) ، والأظهر الصحيح وجوب الاستبراء بقرءين.

ومتى اشترى جارية حاملا ، كره له وطؤها في القبل ، دون أن يكون ذلك محرّما محظورا ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وهو الذي يقتضيه أصول المذهب ، سواء مضى أربعة أشهر أو أقل منها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى اشترى جارية حاملا لم يجز له وطؤها إلا بعد وضعها الحمل أو يمضي عليها أربعة أشهر وعشرة أيام ، فإن أراد وطئها قبل ذلك وطأها فيما دون الفرج ، وكذلك من اشترى جارية وأراد وطئها قبل الاستبراء جاز له ذلك فيما دون الفرج (2).

وذهب شيخنا المفيد في مقنعته إلى مضي أربعة أشهر فحسب (3).

الا انّ شيخنا أبا جعفر رجع في مسائل خلافه عمّا ذكره في نهايته ، فقال :

مسألة : إذا اشترى أمة حاملا كره له وطؤها قبل أن يصير لها أربعة أشهر ، فإذا مضى لها ذلك لم يكره له (4) وطؤها حتى تضع ، وقال الشافعي وغيره : لا يجوز وطؤها في الفرج ، دليلنا إجماع الفرقة ، والأصل الإباحة وعدم المانع (5) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس : ودليلنا نحن على صحّة ما اخترناه قوله تعالى ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (6) فأباحنا تعالى وطء ما ملكت أيماننا بمجرد الملكيّة ، والآية عامّة فمن خصّصها يحتاج إلى دليل ، وأيضا الأصل الإباحة ، ولا مانع من ذلك من كتاب ، أو سنّة مقطوع بها ، أو إجماع.

ص: 635


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب النكاح العبيد والإماء ، ح 1.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.
3- المقنعة : باب السراري وملك الايمان ص 544.
4- ج : ل. لم يكن له.
5- الخلاف : كتاب العدّة المسألة 46 ، باختلاف يسير في العبارة.
6- النساء : 3.

وإذا باع جارية من غيره ، ثمّ استقال المشتري فأقاله ، فإن كان قد قبّضها إيّاه وجب عليه الاستبراء ، وإن لم يكن قبّضها لم يجب عليه ذلك ، إذا أراد وطئها.

إذا طلّقت الأمة المزوجة بعد الدخول بها ، وأخذت في العدة ، ثمّ باعها مولاها ، فالواجب عليها إتمام العدّة ، ولم يجز للمشتري وطؤها إلا بعد استبراء بعد العدة ، لأنّهما حكمان لمكلّفين لا يتداخلان ، فإسقاط أحدهما بالآخر يحتاج إلى دليل ، وهذا القول مذهب شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (1) ، وهو الصحيح الحقّ اليقين.

إذا باع جارية فظهر بها حمل ، فادّعى البائع أنّه منه ، ولم يكن أقرّ بوطئها عند البيع ، ولم يصدّقه المشتري ، لا خلاف أنّ إقراره لا يقبل فيما يؤدّي إلى فساد البيع ، وهل يقبل إقراره في إلحاق هذا النسب أم لا؟ عندنا أنّه يقبل إقراره ، لأنّ إقرار العاقل على نفسه مقبول ، ما لم يؤد إلى ضرر على غيره ، وليس في هذا ضرر على غيره ، فوجب قبوله وجوازه.

ولا بأس أن يجمع الرجل بملك اليمين ما شاء من العدد ، مباح له ذلك ، ولا يجمع بين الأختين في الوطء ، ويجوز أن يجمع بينهما في الملك والاستخدام ، وكذلك لا بأس أن يجمع بين الام والبنت في الملك ، ولا يجمع بينهما في الوطء ، فمتى وطأ واحدة منهما ، حرّم عليه وطي الأخرى ، تحريم أبد ، فأمّا الأختان فمتى وطأ إحداهما حرم عليه وطء الأخرى تحريم جمع ، إلى أن يخرج الموطوءة من ملكه ، فإن وطأ الأخرى بعد وطئه الاولى قبل إخراجها من ملكه ، كان معاقبا مأثوما. ولا يحرم عليه وطء الاولى ، بل التحريم باق في الأخرى ، كما كان قبل وطئه لها.

وقال بعض أصحابنا : إذا وطأ الأخرى بعد وطئه الاولى ، حرمت عليه الاولى إلى أن تخرج الأخيرة من ملكه ، ولا وجه لهذا القول ، لأنّه لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، والأصل الإباحة ، وقوله

ص: 636


1- المبسوط : ج 5 ، كتاب العدد ، ص 269 ، الظاهر انه في العبارة تقطيع وتلخيص ، فراجع.

تعالى ( أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ) (1) يعضد ذلك ، ولا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا.

ولا يجوز للإنسان أن يطأ جارية قد وطأها أبوه وطئا حلالا ، ويجوز له أن يملكها وإن وطأها أبوه ، وحكم الابن في هذا حكم الأب سواء.

وقد روي أنّ الأب إذا قبّل جاريته بشهوة ، أو نظر منها إلى ما يحرم إلى غير مالكها النظر إليه من غير وطء ، حرمت على ابنه ، وكذلك الابن حكمه في هذا سواء (2) ، وهو الذي أورده شيخنا في نهايته (3).

وقال شيخنا المفيد في مقنعته : إنّ جارية الأب بعد التقبيل بالشهوة ، أو النظر منها إلى ما يحرم إلى غير مالكها النظر إليه ، قبل الوطء ، يحرم على ابنه ، وليس كذلك جارية الابن عند هذه الحال (4).

والفقيه سلار قال في رسالته : لا تحرم الجارية على كلّ واحد من الأب والابن بالنظر بالشهوة ، ولا بالتقبيل (5).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ الجاريتين عند هذه الحال غير محرمتين على كلّ واحد من الأب والابن ، إذا ملكها كلّ واحد منهما ، أو وطأها وطئا شرعيا ، لقوله تعالى « أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » (6) وهذه ملك يمين إذا صارت إليه ، وقال تعالى ( فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) (7) وهذه قد طابت ، ولا دليل يعدلنا عن هاتين الآيتين ، من كتاب ولا سنّة ، مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، بل الخلاف بين أصحابنا ظاهر في ذلك ، والأصل الإباحة ، فمن ادّعى الحظر ، يحتاج إلى دليل ، ولا يرجع عن ظاهر الكتاب بأخبار الآحاد.

ص: 637


1- النساء : 3.
2- الوسائل : الباب 3 من أبواب ما يحرم بالمصاهرة.
3- النهاية : كتاب النكاح باب ما أحلّ اللّه من النكاح وما حرّم منه.
4- المقنعة : أبواب النكاح ، باب من يحرم نكاحهن من الأسباب دون الأنساب ، ص 502.
5- المراسم : كتاب النكاح ، ذكر شرائط الأنكحة.
6- النساء : 3.
7- النساء : 3.

وجميع المحرمات اللواتي قدّمنا ذكرهن بالنسب والسبب في العقد ، يحرم أيضا وطؤهنّ بملك الايمان.

ولا يجوز للرجل وطء جاريته إذا كان قد زوّجها من غيره ، إلا بعد مفارقة الزوج لها ، وانقضاء عدّتها إن كانت مدخولا بها.

ولا يجوز له أن يطأ جارية له معه فيها شريك.

وإذا زوّج الرجل جاريته من غيره ، فلا يجوز له النظر إليها متكشفة ، ولا متجردة من ثيابها ، إلا بعد مفارقة الزوج لها ، وانقضاء عدّتها على ما قدّمناه.

ومن اشترى جارية كان لها زوج زوّجها مولاها ، لم يكن عليه الامتناع من وطيها ، إلا مدة استبراء رحمها ، ما لم يرض بذلك العقد ، فإن رضي به ، لم يجز له وطؤها إلا بعد مفارقة الزوج لها بالطلاق ، أو الموت ، وانقضاء عدّتها.

ولا بأس أن يشتري الرجل امرأة لها زوج من دار الحرب ، وكذلك لا بأس أن يشتري بنت الرجل أو ابنه إذا كانوا مستحقين للسبي ، وكذلك لا بأس أن يشتريهم وإن كان قد سباهم أهل الضلال ، إن كانوا مستحقّين للسبي.

وإذا كان للرجل جارية ، وأراد أن يعتقها ، ويجعل عتقها مهرها ، جاز له ذلك ، إلا أنّه متى أراده ينبغي أن يقدّم لفظ العقد على لفظ العتق ، بأن يقول : تزوجتك وجعلت مهرك عتقك فإن قدّم العتق على التزويج ، بأن يقول : أعتقتك وتزوجتك وجعلت مهرك عتقك ، مضى العتق ، وكانت مخيّرة بين الرضا بالعقد ، والامتناع من قبوله ، فإن قبلته مضى ، وكان لها عليه إذا دخل بها مهر المثل ، وهذا جميعه حكم شرعي ، دليل صحّته انعقاد الإجماع من أصحابنا عليه ، وإلا فكيف يصح تزويج الإنسان نفسه جاريته قبل عتقها.

فإن طلّق التي جعل عتقها مهرها قبل الدخول بها ، رجع نصفها رقّا ، واستسعيت في ذلك النصف ، فإن لم تسع فيه ، كان له منها يوم ولها من نفسها يوم في الخدمة ، ويجوز أن تشترى من سهم الرقاب ، هكذا أورده شيخنا في

ص: 638

نهايته (1) ، من طريق أخبار الآحاد ، إيرادا لا اعتقادا.

والذي يقتضيه أصول المذهب ، أنّه إذا طلّقها قبل الدخول بها ، يكون له عليها نصف قيمتها وقت العقد عليها ، لأنّ عندنا بلا خلاف بيننا أنّ المهر يستحق بنفس العقد جميعه ، وتملكه الزوجة ، والمهر هاهنا نفسها ، فقد ملكت نفسها جميعها ، وصارت حرّة ، فكيف يعود بعضها مملوكا ، والحرّ لا يصير مملوكا ، وإلى هذا يذهب ابن البراج في المهذب (2).

وقد روي أنّه إن كان لها ولد له مال ألزم أن يؤدّي عنها النصف الباقي (3).

ولا دليل على هذه الرواية من كتاب ولا سنّة ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، وإن كان قد أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته إيرادا لا اعتقادا.

وقد روي أنّه إذا جعل عتقها صداقها ، ولم يكن أدّى ثمنها ، ثم مات ، فإن كان له مال يحيط بثمن رقبتها ، ادّي عنه ، وكان العتق والنكاح ماضيين ، وإن لم يترك غيرها ، كان العتق والنكاح فاسدين ، وترجع الأمة إلى مولاها الأول ، وإن كانت قد علقت منه ، كان حكم ولدها حكمها في كونه رقّا (4).

والذي يقتضيه أصول المذهب ، ترك العمل بهذه الرواية ، والعدول عنها ، لأنّها مخالفة للأدلّة القاهرة ، لا يعضدها إجماع ولا كتاب ولا سنّة ، بل الكتاب مخالف لها ، والسنّة تضادها ، والإجماع ينافيها ، لأنّ الحر لا يعود رقّا ، والعتق صحيح بالإجماع ، وكذلك النكاح ، والولد انعقد حرا بالإجماع ، فكيف يعود رقا.

فإن قيل : البائع يعود في عين سلعته إذا مات المشتري ، ولم يترك وفاء للأثمان؟

قلنا : إذا مات والسلع على ملكه ، وهذه الأمة قد خرجت من ملكه بالعتق ،

ص: 639


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.
2- المهذب : كتاب النكاح باب السراري وملك الايمان ، ج 2 ص 247 و 248.
3- الوسائل : الباب 15 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 2.
4- الوسائل : الباب 25 من أبواب العتق.

كما لو باعها من آخر ، ثمّ مات ، فبالإجماع لا يرجع فيها البائع ، ثمّ الولد كيف يرجع فيه ، وهو نماء منفصل ، وانّما البائع يرجع في عين السلعة ، دون نمائها المنفصل بلا خلاف ، فلا يعدل عن الأدلة بأخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، وانّما أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) إيرادا من طريق أخبار الآحاد ، دون العمل والاعتقاد.

وإذا كان للرجل ولد كبير ، وله جارية ، لم يجز له وطؤها ، إلا بإذن ولده في نكاحها ، أو العقد عليها ، فإن عقد له عليها ، أو أذن له في وطئها ، وأتت بولد من أبيه ، فإنّها لا تنعتق على مولاها ، فإن كان الولد ذكرا ، فهو ملك لأخيه ، لأنّ الإنسان إذا ملك أخاه ، لا ينعتق عليه ، وإن كان الولد أنثى ، فإنّها تنعتق على أخيها الذي هو مولى أمها ، لأنّ الإنسان إذا ملك من يحرم عليه وطؤها من الأنساب ، فإنّه ينعتق عليه بلا خلاف ، هذا إذا شرط مولى الجارية في حال العقد على والده كون الولد رقّا ، فأمّا إذا لم يشترط على أبيه كون الولد رقّا ، فالولد حر بلا خلاف بيننا.

وإن كان مولى الجارية الذي هو الولد صغيرا ، جاز لأبيه وطؤها بعد تقويمها على نفسه ، وشراؤها من نفسه ، ويكون ضامنا للثمن ، ولا يجوز له وطؤها قبل ذلك.

والمرأة الحرة إذا كان لها زوج مملوك ، فورثته أو اشترته ، أبطل ذلك العقد ، فإن أرادته ، لم يكن لها ذلك ، إلا بأن تعتقه ، وتتزوج به.

وإذا أذن الرجل لعبده في التزويج ، فتزوّج ، وجب على السيد المهر إذا عقد العبد على مهر المثل ، وتجب عليه النفقة ، أعني السيد بشرط التمكين للعبد من الاستمتاع بها ، فإن أبق العبد بعد ذلك لم يكن لها على مولاه نفقة ، وقد بانت من الزوج ، وكان عليها العدّة منه ، فإن رجع العبد قبل خروجها من العدّة ، كان

ص: 640


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.

أملك برجعتها ، وإن عاد بعد انقضاء عدّتها ، لم يكن له عليها سبيل ، على ما روي في بعض الأخبار (1) أورده شيخنا في نهايته (2) ولم يورده غيره ، وقد اعتذرنا له بما اعتذر لنفسه ، فيما يورده في كتاب النهاية.

والذي يقتضيه الأدلة ، أنّ النفقة ثابتة على السيد ، وانّها لا تبين من الزوج ، والزوجية بينهما باقية ، لأنّها الأصل ، والبينونة تحتاج إلى دليل قاطع ، من طلاق الزوج ، أو موته ، أو بيع سيده له ، وفسخ المشتري ، أو لعان ، أو ارتداد ، وليس الإباق واحدا من ذلك.

وإذا كان العبد بين شريكين ، وأذن له أحدهما في التزويج ، فتزوّج ثم علم الآخر ، كان مخيّرا بين إمضاء العقد وبين فسخه.

ولا بأس أن يطأ الرجل جاريته وفي البيت معه غيره ، وكذلك لا بأس أن ينام بين جاريتين ، ويكره جميع ذلك في الحرائر من النساء.

وقد روي أنّه إذا اشترى الرجل جارية ، ومضى عليها ستة أشهر لم تحض فيها ، ولم تكن حاملا ، كان له ردّها ، لأنّه عيب يوجب الردّ (3).

وإذا زوّج الرجل أمته من غيره ، وسمّى لها مهرا معينا ، ثمّ باع المولى الجارية قبل الدخول بها ، لم يكن له المطالبة بشي ء من المهر ، لأنّ كلّ فسخ جاء من قبل النساء قبل الدخول بهن ، فإنّه يبطل مهورهن ، وهذا فسخ جاء من قبل مولى الجارية.

وكذلك ليس لمن يشتريها أيضا المطالبة بالمهر ، إلا أن يرضى بالعقد ، فإن رضي المشتري بالعقد ، كان رضاه كالعقد المستأنف ، وله حينئذ المطالبة بالمهر كملا.

فإن طلّقها الزوج قبل الدخول ، استحق المشتري نصفه ، وإن طلّقها بعد الدخول ، استحقه كلّه ، فإن كان الزوج قد دخل بها قبل أن يبيعها مولاها

ص: 641


1- الوسائل : الباب 73 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 1.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.
3- الوسائل : الباب 3 من أبواب أحكام العيوب.

الأول ، فإنّ المهر للمولى الأول ، يستحقه جميعه ، لأنّ بالدخول يستقر جميع المهر ، وله المطالبة به ، فإن رضي المولى الثاني الذي هو المشتري بالعقد الأوّل ، لم يكن له مهر على الزوج ، لأنّ عقدا واحدا لا يستحق عليه مهران ، وإن لم يرض بالعقد الأوّل انفسخ النكاح ، وكان للمولى الأول المطالبة بكمال المهر ، إن لم يكن استوفاه ، ولا قبضه ، فهذا تحرير هذه الفتيا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا زوّج الرجل أمته من غيره وسمّى لها مهرا معيّنا ، وقدّم الرجل من جملة المهر شيئا معيّنا ، ثمّ باع الرجل الجارية ، لم يكن له المطالبة بباقي المهر ، ولا لمن يشتريها ، إلا أن يرضى بالعقد (1).

وأطلق الكلام ، ولم يفصّله.

وقال في مبسوطة : وإذا زوّج الرجل أمته ، كان له بيعها ، فإذا باعها ، كان بيعها طلاقها عندنا ، وخالف الجميع في ذلك ، وقالوا : العقد باق بحاله.

ثمّ قال : فأمّا المهر ، فإن كان الزوج قد دخل بها ، فقد استقر المهر ، فإن كان السيد الأوّل قبضه ، فذلك له ، وإلا كان الثاني مطالبة الزوج به ، وإن لم يكن دخل بها ، لم يجب على الزوج تسليم المهر ، وإن كان الزوج قد أقبضه ، استردّه ، وإن لم يكن أقبضه ، لم يكن عليه إقباضه.

ثم قال : والمهر فلا يخلو من ثلاثة أحوال ، إمّا أن يكون صحيحا أو فاسدا أو مفوّضة ، فإن كان صحيحا وهو المسمّى بالعقد ، كان للسيد الأول ، لأنّه وجب في ملكه ، وإن كان فاسدا لزمه مهر المثل بالعقد ، وكان للسيد الأول ، لأنّه وجب بالعقد ، وكانت حين العقد في ملكه ، وأمّا المفوضة وهو أن يكون نكاح بلا مهر ، أو يقول زوجتكها على أن لا مهر لها ، فالمهر لا يجب بالعقد ، لكن السيد يفرض مهرا ، فإذا فرض لها المهر ، فإن كان قبل البيع فهو للأول ،

ص: 642


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.

لأنّه وجب والملك له ، فإن كان الفرض بعد البيع ، قيل : فيه وجهان ، أحدهما انه للثاني ، والثاني انه للأوّل.

وهكذا إذا زوج أمته مفوضة ، ثمّ أعتقها ، ثمّ فرض المهر ، فيه وجهان ، أحدهما لها والثاني كان لسيدها على ما قلناه ، وعلى ما قدّمناه ، من أنّ بيعها طلاقها ، فالمهر إن كان قد قبضه الأول فهو له ، فإن كان بعد الدخول فقد استقر ، وإن كان قبل الدخول فعليه أن يردّ نصفه ، وإن كان لم يقبضه ، فلا مهر لها ، لا للأول ولا للثاني ، فإن اختار المشتري إمضاء العقد ، ولم يكن قد قبض الأول المهر ، كان للثاني ، لأنّه يحدث في ملكه ، فإن دخل بها بعد الشراء ، استقر له الكلّ ، وإن طلّقها قبل الدخول ، كان عليه نصف المهر للثاني ، وإن كان الأول قد قبض المهر ، ورضي الثاني بالعقد ، لم يكن له شي ء ، لأنّه لا يكون مهران في عقد واحد (1).

هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في مبسوطة ، فأوردته هاهنا ، ليوقف عليه ، ويتأمّل ، والذي حررناه واخترناه ، هو الذي تقتضيه أصول مذهبنا.

وإذا زوّج الرجل مملوكا له بامرأة حرة ، كان المهر لازما في ذمّة المولى ، فإن باع العبد قبل الدخول بها ، وجب على المولى كمال المهر ، وروي نصف المهر (2) أورد ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته (3).

والذي يقتضيه أصول المذهب ، وجوب المهر كملا على المولى ، لأنّ عندنا يجب المهر كملا بمجرد العقد ، ويسقط نصفه بالطلاق قبل الدخول ، وما عدا الطلاق فلا يسقط منه شيئا ، وهذا ما طلّق ، وحمل ذلك على الطلاق قياس ،

ص: 643


1- المبسوط : ج 4 ، كتاب النكاح ، فصل فيمن يجوز العقد عليهن من النساء ، ومن لا يجوز ، وفي العبارة تقطيع.
2- الوسائل : الباب 60 من أبواب المهور.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.

وأيضا حقوق الآدميين إذا وجبت ، لا تسقط إلا بدليل ، وأجمعنا على سقوط نصفه بالطلاق ، فأمّا غيره فلا إجماع عليه.

وإذا زوّج الرجل جاريته من رجل حر ، ثمّ أعتقها ، فإن مات زوجها ورثته ، ولزمتها عدّة الحرة المتوفّى عنها زوجها.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن علّق عتقها بموت زوجها ، ثمّ مات الزوج ، لم يكن لها ميراث ، وكان عليها عدّة الحرة المتوفّى عنها زوجها (1).

قال محمّد بن إدريس : هذه رواية شاذة ، أوردها إيرادا ، لا اعتقادا.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ العتق باطل ، لأنّ العتق بشرط ، بإجماعنا غير صحيح ، وليس هذا تدبيرا ، لأنّ حقيقة التدبير تعليق عتق المملوك بموت سيده ، دون موت غيره ، لأنّه بغير خلاف عندنا بمنزلة الوصيّة ، وإلا ما كان يصح ذلك أيضا لو لا الإجماع المنعقد عليه ، فإذا لم ينعتق ، كان يلزمه على مذهبه أن تكون عدّتها شهرين وخمسة أيام ، على ما ذهب إليه في نهايته ، والأظهر أنّ عدّة الأمة المتوفّى عنها زوجها ، عدّة الحرة سواء ، على ما سنبيّنه فيما بعد ان شاء اللّه.

وقال أيضا في نهايته : فإن أعتق الرجل أم ولده ، فارتدت بعد ذلك ، وتزوّجت رجلا ذميّا ، ورزقت منه أولادا ، كان أولادها من الذمّي رقّا للذي أعتقها ، فإن لم يكن حيّا ، كانوا رقّا لأولاده ، ويعرض عليها الإسلام ، فإن رجعت ، وإلا وجب عليها ما يجب على المرتدة عن الإسلام (2).

قال محمّد بن إدريس : الذي يقتضي مذهبنا ، أنّ أولادها لا يكونون رقّا ، لأنّه لا دليل على ذلك من كتاب ، أو سنّة ، أو إجماع ، بل الإجماع بخلافه ، لأنّ ولد الحرّين حرّ بلا خلاف ، وانّما هذه رواية شاذة ، أوردها شيخنا إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد أمثالها ممّا لا يعمل عليه ، ولا يلتفت إليه.

ص: 644


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب السراري وملك الايمان.

وإذا كان لرجل جارية ورزق منها ولدا ، لم يجز له بيعها ما دام الولد باقيا ، فإن مات الولد جاز له بيعها ، ويجوز بيعها مع وجود الولد في ثمن رقبتها ، إذا لم يكن مع المولى غيرها ، وكان ثمنها بعينه دينا عليه ، فحينئذ يجوز بيعها عند أصحابنا ، ودليل ذلك إجماعهم عليه ، وأيضا الأصل الملكية ، فمن أخرجها من الملك ، يحتاج إلى دليل ، وأيضا لا خلاف أنّ ديتها ، لو قتلت دية المماليك ، وهي قيمتها ما لم تتجاوز دية الحرائر ، وأيضا لا خلاف في جواز وطئها للسيد ، والوطء لا يحل إلا بعقد أو بملك يمين ، فإن كان ولدها أعتقها ، فلا يحلّ لمولاها وطؤها إلا بعقد ، والإجماع حاصل منعقد على أنّه يحلّ له وطؤها من غير عقد ، وأيضا يصح كتابتها بإجماع المسلمين ، وجميع أحكامها أحكام المماليك.

وذهب السيد المرتضى من أصحابنا ، في كتابه الانتصار ، فقال : مسألة ، ومما انفردت به الإماميّة ، القول بجواز بيع أمهات الأولاد بعد وفاة أولادهن ، ولا يجوز بيع أم الولد وولدها حي ، وهذا هو موضع الانفراد (1) ، هذا آخر كلام المرتضى رضى اللّه عنه.

فإن مات الرجل ولم يخلّف غيرها ، وكان ثمن رقبتها دينا على مولاها ، بيعت وقضي بثمنها دينه ، فإن كان له مال غيرها قضى الدين به ، وجعلت في نصيب ولدها ، وتنعتق.

ولا يجوز للرجل أن يتزوّج بمكاتبة غيره قبل أن يقضي مكاتبتها ، سواء كانت المكاتبة مطلقة أو مشروطة ، لأنّها لم تخلص للحرية ، وحق السيد متعلّق بها ، والفرج لا يتبعض ، فالمشروطة جميعها رق ، والمطلّقة لم يتحرر جميعها بل يتحرر منها بمقدار ما أدّت فحسب.

باب أحكام الولادة والعقيقة والسنّة فيهما وحكم الرضاع

إذا حضر المرأة الولادة ، فليتول أمرها النساء ، ولا يقربها أحد من الرجال

ص: 645


1- الانتصار : كتاب التدبير ، المسألة 9.

إلا عند عدم النساء ، فذوات المحارم (1) منها من الرجال.

وإذا ولد المولود يستحب أن يغسل بالماء ، ويؤذّن في اذنه الأيمن ، ويقام في اذنه الأيسر ، ويحنّك بالماء الفرات المتشعب من أنهار شتى إن وجد ، فإن لم يوجد فبماء عذب ، فإن لم يوجد الإماء ملح مرس فيه شي ء من العسل ، أو التمر ، ثم يحنّك به ، ويستحب أن يحنّك بتربة الحسين عليه السلام.

ومن حقّ الولد على والده ، ان يحسن اسمه ، ويستحبّ من الأسماء أسماء الأنبياء والأئمة عليهم السلام وأفضلها اسم نبينا والأئمة من ذريته عليهم السلام ، وبعد ذلك العبودية لله تعالى ، دون خلقه.

ولا بأس أن يكنّى الرجل ابنه في حال صغره ، ولا يكنّه أبا القاسم إذا كان اسمه محمّدا ، لأنّ هذه الكنية مخصوصة بالنبي والقائم ابن الحسن عليهما السلام وروي أنّه يكره أن يسمّى الرجل ابنه حكما ، أو حكيما ، أو خالدا ، أو مالكا ، أو حارثا (2).

وإذا كان يوم السابع يستحب للإنسان أن يعق عن ولده بكبش ، إن كان ذكرا ، أو نعجة إن كان أنثى.

والعقيقة سنّة مؤكدة ، لا يتركها مع الاختيار ، فهي شديدة الاستحباب.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّها على الإيجاب ، وهو اختيار السيد المرتضى والمذهب الأول ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولا إجماع على ذلك.

فإن لم يعق الوالد عن ولده ، ثمّ أدرك ، استحبّ له أن يعق عن نفسه ، ولا يقوم في الاستحباب مقام العقيقة ، الصدقة بثمنها.

وإذا لم يتمكن من العقيقة يوم السابع ، استحبّ له قضاؤها إذا تمكّن منها.

ويستحبّ أيضا أن يحلق رأس الصبي يوم السابع ، ويتصدّق بوزن شعره

ص: 646


1- ل : فإذا عدم النساء فذووا المحارم.
2- الوسائل : الباب 28 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 1 - 2.

ذهبا أو فضّة ، ويكون ذلك مع العقيقة في موضع واحد.

وكلّ ما يجزي في الأضحية فهو جائز في العقيقة ، إلا أنّ الأفضل ما قدّمناه ، ان يعق عن الذكر بالذكر ، وعن الأنثى بالأنثى ، فإن لم يوجد ووجد حمل كبير جاز ذلك أيضا.

وإذا ذبح العقيقة فيستحبّ أن يعطى القابلة ربعها الذي يلي الورك بالفخذ ، فإن لم يكن له قابلة ، أعطى أمه ذلك تتصدّق به ، ولا تأكل منه ، وإن كانت القابلة ذميّة أعطيت ثمن الربع ، وإن كانت القابلة أم الوالد أو من هو في عياله ، لم تعط من العقيقة شيئا.

ويستحب أن يطبخ اللحم ، ويدعى عليه جماعة من المؤمنين أقلّهم عشرة أنفس ، ويكره أن يكونوا كلّهم أغنياء ، وكلّما كثر عددهم كان أفضل ، فإن لم يطبخ اللحم وفرّق على الفقراء كان أيضا جائزا ، إلّا أنّ الأول أفضل ، لأنّه السنة المؤكدة.

ويكره للوالدين أن يأكلا من العقيقة كراهية شديدة ، دون أن يكون ذلك محظورا ، وقال ابن بابويه من أصحابنا : إن أكلت الأم منها فلا ترضعه.

وقال شيخنا في نهايته : ولا يجوز للوالدين أن يأكلا من العقيقة البتة (1).

وذلك منه « رضي اللّه عنه » على طريق تأكيد الكراهة ، لأنّ الشي ء إذا كان شديد الكراهة قيل : لا يجوز.

ولا ينبغي أن يكسر العظم فيها ، بل يفصل الأعضاء تفؤلا بالسلامة.

ويستحب أن يختن الصبي يوم السابع ، ولا يؤخّره ، فإن أخّر لم يكن فيه حرج إلى وقت بلوغه ، فإذا بلغ وجب عندنا ختانه ، ولا يجوز تركه على حال.

وأمّا خفض الجواري فإن فعل كان فيه فضل ، وإن لم يفعل لم يكن بذلك بأس.

ومتى أسلم الرجل وهو غير مختتن ، ختن وإن كان شيخا كبيرا.

ص: 647


1- النهاية : كتاب النكاح ، باب الولادة والعقيقة ..

وإذا مات الصبي يوم السابع ، فإن مات قبل الظهر لم يعق عنه ، وإن مات بعد الظهر استحبّ أن يعق عنه.

وقد روي كراهة أن يترك للصبيان القنازع (1) ، وهو أن يحلق موضع من رأسه ، ويترك موضع.

ولا بأس أن يحلق الرأس كلّه للرجال ، بل ذلك مستحب ، وكذلك إزالة الشعر من جميع البدن على ما روي في الاخبار (2) ، وروي أنّ ذلك مكروه للشباب (3) ، أورد ذلك الصفواني في كتابه ، فقال : وقد روي أنّ حلق الرأس مثلة بالشباب ، ووقار بالشيخ.

وإذا ولد الصبي فمن السنّة أن يرضع حولين كاملين ، لا أقلّ منهما ولا أكثر ، فإن نقص عن الحولين مدة ثلاثة أشهر لم يكن به بأس ، فإن نقص عن ذلك لم يجز ، وكان جورا على الصبي ، وفقه ذلك ، أنّ أقلّ الحمل عندنا ستّة أشهر ، وأكثره على الصحيح من المذهب تسعة أشهر ، قال اللّه تعالى ( وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً ) (4) ولا بأس أن يزاد على الحولين في الرضاع ، في الرضاع ، إلا أنّه لا يكون أكثر من شهرين ، على ما روي (5).

ولا يستحق المرضعة الأجر على ما يزيد على الحولين في الرضاع.

وأفضل الألبان التي ترضع بها الصبي لبان الام ، اللبان بالكسر كالرضاع ، يقال : هو أخوه بلبان أمه ، قال ابن السكيت : ولا يقال بلبن أمه ، انّما اللبن الذي يشرب من ناقة أو شاة أو بقرة ، واللبان بالفتح ما جرى عليه اللبب من صدر الفرس ، واللبان بالضم الكندر.

ص: 648


1- الوسائل : الباب 66 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 1 و 3.
2- الوسائل : الباب 60 من أبواب آداب الحمام ، ح 4 و 8.
3- الوسائل : الباب 60 من أبواب آداب الحمام ، ح 10.
4- الأحقاف : 15.
5- لم نتحققه في الكتب الروائيّة وفي المسالك في الحضانة وذكروا أنّه مروي.

فإن كانت امه حرة واختارت رضاعه ، كان لها ذلك ، وإن لم تختر فلا تجبر على رضاع ولدها ، فإن طلبت الأجر على رضاعه وكانت في حبال أبيه غير مطلّقة منه طلاقا لا رجعة فيه ، فلا تستحق أجرا ، ولا ينعقد بينها وبين زوجها عقد إجارة ، لأنّ منافعها في كلّ وقت مستحقة للزوج بعقد النكاح ، فيما يرجع إلى أحكام الوطء وتوابعه ، على ما قدّمناه في باب الإجارة (1) وحرّرناه ، وإن كانت مطلّقة طلاقا لا يملك الزوج الرجعة فيه ، فلها أن تعقد على نفسها لرضاع ولدها ، وسيجي ء بيان ذلك.

وقد روي (2) أنّه إن كانت امه جارية ، جاز أن تجبر على رضاعه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإن طلبت الحرة أجر الرضاع ، كان لها ذلك على أب الولد ، فإن كان أبوه مات ، كان أجرها من مال الصبي (3).

وأطلق ذلك إطلاقا.

وقال في مسائل خلافه ، في الجزء الثالث في كتاب الرضاع : مسألة ، ليس للرجل أن يجبر زوجته على الرضاع لولدها ، شريفة كانت أو مشروفة ، موسرة أو معسرة ، دنية أو نبيلة ، وبه قال أبو حنيفة والشافعي ، وقال مالك : له إجبارها إذا كانت معسرة دنية ، وليس له ذلك إذا كانت شريفة موسرة ، وقال أبو ثور : له إجبارها عليه على كلّ حال ، لقوله تعالى ( وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ ) (4) وهذا خبر معناه الأمر ، فإذا ثبت وجوبه عليها ، ثبت انه يملك إجبارها ، لانه إجبار على واجب ، دليلنا أن الأصل براءة الذمة ، والإجبار يحتاج الى دليل ، والآية محمولة على الاستحباب ، وعليه إجماع الفرقة ، وأخبارهم ، تشهد بذلك.

ص: 649


1- راجع ص 471 من الكتاب.
2- الوسائل : الباب 68 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 1.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب الولادة والعقيقة ..
4- البقرة : 233.

ثمّ قال بعد هذه المسألة : مسألة ، البائن إذا كان لها ولد يرضع ، ووجد الزوج من يرضعه تطوّعا ، وقالت الأم : أريد أجرة المثل ، كان له نقل الولد عنها ، وبه قال أبو حنيفة وقوم من أصحاب الشافعي ، ومن أصحابه من قال : المسألة على قولين أحدهما مثل ما قلناه ، والثاني ليس له نقله عنها ، ويلزمه اجرة المثل ، وهو اختيار أبي حامد ، دليلنا قوله تعالى ( وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى ) (1) وهذه إذا طلبت الأجرة وغيرها يتطوع ، فقد تعاسرا ، واستدلّ أبو حامد بقوله تعالى ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) (2) فأوجب لها الأجرة إذا أرضعته ، ولم يفصّل ، وهذا ليس بصحيح ، لأنّ الآية تفيد لزوم الأجرة إن أرضعته ، وذلك لا خلاف فيه ، وانّما الكلام في أنّه يجب دفع المولود إليها ليرضع أم لا؟ وليس كذلك في الآية (3) هذا آخر كلامه رضي اللّه عنه.

ففصّل القول في مسائل خلافه ، وذكر البائن وغير البائن.

قال محمّد بن إدريس : ما تمسّك به أبو حامد قوي وبه أفتي ، وعليه أعمل لقوله تعالى ( فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ) فأوجب لها الأجرة إذا أرضعته ، ولم يفصّل بين من هي في حباله أو بائن عنه ، وهو الظاهر من أقوال أصحابنا ، أعني استحقاقها الأجرة ، وصحّة العقد عليها للرضاع ، سواء كانت بائنا عنه ، أو في حبال زوجها ، إلا أنّه لا يجبرها على الرضاع ، وهذا اختيار السيد المرتضى ، وما ذكرناه أولا مذهب شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (4) ، والذي اخترناه مذهبه في نهايته (5) ، وهو المنصوص عن الأئمة الأطهار (6).

ص: 650


1- الطلاق : 6.
2- الطلاق : 6.
3- الخلاف : كتاب النفقات ، المسألة 34.
4- المبسوط : ج 6 ، كتاب النفقات ، ص 37 - 38.
5- النهاية : كتاب النكاح ، باب الولادة والعقيقة ..
6- الوسائل : الباب 71 و 81 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 1 و 2 و 3 و 5.

ومتى وجد الرجل من يرضع ولده بأجرة مخصوصة ، ورضيت الام بذلك ، كانت هي أولى به من غيرها ، فإن طلبت أكثر من ذلك انتزعه منها.

وإذا بانت المرأة من الرجل ، ولها ولد منه ، فإن كان ذكرا ، فالأم أولى بحضانته من الأب ، وأحقّ به مدة حولين ، فإذا زاد على الحولين ، فالوالد أحقّ به منها ، فإن كان الولد أنثى فالأم أحق بها إلى سبع سنين ، ما لم تتزوج الأم ، فإن تزوّجت سقط حقّها من حضانة الذكر والأنثى ، فإن طلّقها من تزوج بها طلاقا رجعيا ، لم يعد حقّها من الحضانة ، وإن كان بائنا فالأولى أنّه لا يعود ، لأنّ عوده يحتاج إلى دليل.

وقال بعض أصحابنا : يعود حقّها من الحضانة ، واحتجّ بأنّ الرسول عليه السلام علّق حقّها بالتزويج (1) ، فإذا زال التزويج فالحقّ باق على ما كان.

وهذا ليس بمعتمد ، لأنّ الرسول عليه السلام لما سألته المرأة عن الولد ، وانّ أباه طلّقني ، وأراد أن ينتزعه مني ، فقال لها ، رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :

أنت أحقّ به ما لم تنكحي (2).

وروى أبو هريرة عنه عليه السلام أنّه قال : الأم أحقّ بحضانة ابنها ما لم تتزوج (3) ، فجعل عليه السلام غاية الاستحقاق للحضانة التي يستحقها الام تزويجها ، وهذه قد تزوّجت ، فخرج الحقّ منها ، ويحتاج في عوده إليها إلى شرع.

ولا خلاف أيضا في أنّ المعتدة عدّة رجعية لها السكنى على الزوج ، ولا يحلّ له إخراجها من المنزل ، إلا أن تأتي بفاحشة مبيّنة ، فإذا أتت بها أخرجها ، فإذا أقيم عليها الحدّ ، لا يعود حقّها من السكنى بلا خلاف.

وكذلك إذا آذت أهل الزوج ، فله إخراجها ، فإذا تركت أذاهم لا يعود حقّها إليها من السكنى بلا خلاف.

ص: 651


1- مستدرك الوسائل : الباب 58 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 5.
2- مستدرك الوسائل : الباب 58 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 6 و 5.
3- مستدرك الوسائل : الباب 58 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 6 و 5.

والحضانة غير الرضاع ، لأنّ الأم إذا لم ترض في اجرة الرضاع بما يرضاه الغير ، انتزعه الأب منها مع ثبوت الحضانة لها في هذه الحال ، فإذا أرضعته الأجنبية التي رضيت بدون ما رضيت به امه ، كان للأم حضانته ، ثمّ إذا احتاج إلى اللبن ترضعه المرضعة ، ثمّ تأخذه الأم بحقّ الحضانة ، إذا روى من اللبن ، ثمّ هكذا ، فليلحظ ذلك.

وإن كان الوالد قد مات كانت الأم أحق بحضانته من الوصي ، إلى أن يبلغ ، ذكرا كان أو أنثى ، تزوّجت أو لم تتزوج ، لقوله تعالى ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللّهِ ) (1) ولا خلاف أنّ الأم أقرب إليه بعد الأب من كلّ أحد.

فإن كان الأب مملوكا والام حرّة كانت هي أحقّ بولدها من الأب ، وإن تزوجت ، إلى أن يعتق الأب ، فإذا أعتق كان أحقّ به منها ، على الاعتبار الذي قدّمناه.

وينبغي إذا أراد الإنسان أن يسترضع لولده ، فلا يسترضع إلا امرأة عاقلة مسلمة عفيفة وضيئة الوجه ، فإنّه روي أنّ اللبن يعدي (2) ، ولا يسترضع كافرة مع الاختيار ، فإن اضطر إليها فليسترضع يهودية أو نصرانية ، ويمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير ، وتكون معه في منزله ، ولا يسلّم الولد إليها لتحمله إلى منزلها.

ولا يسترضع من ولد من الزنا مع الاختيار أيضا.

ولا بأس باسترضاع الإماء ، وقد روي أنّه إذا كانت له أمة ، قد ولدت ، وكانت ولدت من الزنا ، واحتاج إلى لبنها ، فليجعلها في حلّ من فعلها ، ليطيب بذلك لبنها (3).

وإذا سلّم الرجل ولده إلى ظئر ، ثمّ جاءت به بعد أن فطمته ، فأنكره الرجل ، وقال : هذا ليس بولدي ، لم يكن له ذلك ، لأنّ الظئر مأمونة.

ومتى تسلّمت الظئر الولد ، وسلّمته إلى ظئر أخرى ، كانت ضامنة إلى أن

ص: 652


1- الأنفال : 75.
2- الوسائل : الباب 78 من أبواب أحكام الأولاد ، الحديث 2.
3- الوسائل : الباب 75 من أبواب أحكام الأولاد ، ح 2 و 3 و 5.

تجي ء به ، فإن لم تجئ به ، كان عليها الدية.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته : الأم أحقّ بالولد الذكر مدة الحولين ، وبالأنثى مدة تسع سنين (1).

وقال شيخنا في نهايته : سبع سنين في الأنثى (2).

وقال في مسائل خلافه : مسألة ، إذا بانت المرأة من الرجل ، ولها ولد منه ، فإن كان طفلا لا يميّز ، فهي أحقّ به بلا خلاف ، وإن كان طفلا يميّز ، وهو إذا بلغ سبع سنين ، أو ثمان سنين فما فوقها إلى حد البلوغ ، فإن كان ذكرا فالأب أحقّ به ، وإن كان أنثى فالأم أحقّ بها ما لم تتزوّج ، فإن تزوّجت فالأب أحقّ بها ، ثمّ قال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم (3) هذا آخر كلامه رضي اللّه عنه.

قال محمّد بن إدريس : ما ذكره شيخنا في مسائل خلافه ، بعضه قول بعض المخالفين ، وما اخترناه هو الصحيح ، لأنّه لا خلاف أنّ الأب أحقّ بالولد في جميع الأحوال ، وهو الوالي عليه والقيّم بأموره ، فأخرجنا بالإجماع الحولين في الذكر ، وفي الأنثى السبع ، فمن ادّعى أكثر من ذلك يحتاج فيه إلى دليل قاطع ، وهو مذهب شيخنا في نهايته ، والعجب قوله في آخر المسألة : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وهذا ممّا يضحك الثكلى ، من أجمع منهم معه؟ وأيّ أخبار لهم في ذلك؟ بل أخبارنا بخلافه واردة ، وإجماعنا بضد ما قاله رحمه اللّه.

قال بعض أصحابنا : الأخت من الأب أولى بالحضانة من الأخت للأم ، ثمّ استدل بآية الميراث ، لأنّ لها النصف ، ولهذه السدس ، فكانت أولى لقوله تعالى : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) (4).

وهذا ليس بمعتمد ، لأنّهما جميعا مسميتان ، كلّ واحدة بنفسها تتقرب إليه.

ص: 653


1- المقنعة : كتاب النكاح باب الحكم في أولاد المطلقات ص 531.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب الولادة والعقيقة ..
3- الخلاف : كتاب النفقات ، المسألة 36.
4- الأنفال : 75.

والجدات أولى بالولد وبحضانته من الأخوات ، وأم الأب أولى من الخالة بحضانة الولد ، ولأب الأم وأم أب الأم حضانة ، إذا لم يكن أم وهناك أم أم أو جدة أم أم ، وهناك أب ، فالأب أولى ، وقال الشافعي : أم الأم وجدّاتها أولى من الأب وإن علون ، دليلنا قوله تعالى ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) فالأب أقرب بلا شك ، لأنّه يدلي بنفسه ، وكذلك إذا كان مع الأب أخت من أم ، أو خالة ، أسقطهما ، والعمة والخالة إذا اجتمعتا تساويتا بلا خلاف ، وإن كانت العمة أكثر من الخالة في الميراث ، وهذا دليل على بطلان القول بأنّ الأخت للأب أولى بالحضانة من الأخت للأم ، بالاعتبار الذي اعتبره.

وإذا اجتمع أم أب وجد تساويا في الحضانة.

وأخت لأب وجدّ منهما متساويان أيضا.

ولا حضانة لأحد من العصبة مع الام ، لقوله تعالى ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) والام أقرب من العصبة ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه ، وهو من تخريجات المخالفين ، ومعظمه قول الشافعي ، وبناؤهم على القول بالعصبة ، وذلك عندنا باطل.

ولا حضانة عندنا إلا للأم نفسها ، وللأب ، فأمّا غيرهما فليس لأحد ولاية عليه ، سوى الجد من قبل الأب خاصة.

وإذا مرض المملوك مرضا يرجى زواله ، فعلى مالكه نفقته بلا خلاف ، فأمّا إذا زمن زمانة مقعدة ، أو عمى ، أو جذم فعند أصحابنا أنّه يصير حرّا ، وينعتق على مولاه من غير اختياره ، فحينئذ لا يلزم المولى نفقته ، لأنّه ليس بعبده.

وقد بينا فيما مضى أنّ بمجرد عقد النكاح يجب المهر المسمّى ، فأمّا النفقة فإنّما تجب يوما بيوم في مقابلة التمكين من الاستمتاع ، فإذا ثبت ما قلناه ، فإن استوفت نفقة هذا اليوم فلا كلام ، وإن لم تستوف استقرت في ذمته ، وعلى هذا أبدا ، هذا إذا كانت ممكنة من الاستمتاع.

ص: 654

وإذا أسلف زوجته نفقة شهر ، ثم مات ، أو طلّقها بائنا ، فلها نفقة يومها ، وعليها ردّ ما زاد على اليوم.

نفقة الزوجات عندنا غير مقدرة بلا خلاف ، إلا من شيخنا أبي جعفر في مسائل خلافه (1) ، فإنّه ذهب إلى أنّها مقدّرة ، ومبلغها مدّ ، وقدره رطلان وربع ، ثمّ استدل رحمه اللّه بإجماع الفرقة وأخبارهم ، وهذا عجيب منه رضي اللّه عنه ، والسبر بيننا وبينه ، فانّ أخبارنا لم يرد منها خبر بتقدير نفقة ، وأمّا أصحابنا المصنّفون فما يوجد لأحد منهم في تصنيف له تقدير النفقة ، إلا من قلده وتابعه أخيرا ، والدليل على أصل المسألة قوله تعالى ( وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ) (2) أي بما يتعارف الناس ، وأيضا الأصل براءة الذمة من التقدير ، فمن ادّعى شيئا بعينه فإنّه يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة.

وإذا كان الزوج كبيرا والمرأة صغيرة لا تجامع مثلها ، لا نفقة لها ، وكذلك إذا كانت الزوجة كبيرة والزوج صغيرا لا نفقة لها ، وإن بذلت التمكين من الاستمتاع ، هكذا أورده شيخنا في مسائل خلافه (3).

والأولى عندي أنّ على الكبير النفقة لزوجته الصغيرة ، لعموم وجوب النفقة على الزوجة ، ودخوله مع العلم بحالها ، وهذه ليست ناشزة ، والإجماع منعقد على وجوب نفقة الزوجات ، فليتأمّل ذلك.

وإذا كانا صغيرين لا نفقة لها.

وإذا أحرمت بغير اذن الزوج ، فإن كان في حجّة الإسلام لم يسقط نفقتها عنه ، وإن كانت الحجة تطوعا سقطت.

وكذلك إذا نشزت المرأة سقطت نفقتها.

وإذا اختلف الزوجان بعد ان سلّمت نفسها إليه في قبض المهر أو النفقة ،

ص: 655


1- الخلاف : كتاب النفقات ، المسألة 3.
2- النساء : 19.
3- الخلاف : كتاب النفقات ، المسألة 4.

فالقول قولها مع يمينها ، لأنّها المنكرة والزوج المدّعي ، فيحتاج إلى بيّنة ، لقوله عليه السلام : « على المدّعي البيّنة ، وعلى الجاحد اليمين » (1).

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه في الجزء الثالث من كتاب النفقات : مسألة ، إذا اختلف الزوجان بعد ان سلّمت نفسها إليه في قبض المهر أو النفقة ، فالذي رواه أصحابنا أنّ القول قول الزوج ، وعليها البيّنة ، إلا أنّه رجع عن هذا في الجزء الثاني في كتاب الصداق ، وقال : إذا اختلفا في قبض المهر ، فانّ على الزوج البينة ، وعلى المرأة اليمين (2).

وهذا هو الصحيح الحقّ اليقين.

إذا ارتدت الزوجة سقطت النفقة ، ووقف النكاح على انقضاء العدة ، فإن عادت في زمان العدّة ، وجبت نفقتها في المستأنف ، ولا يجب لها شي ء لما فات في الزمان الذي كانت مرتدة فيه.

وإذا أعسر الزوج ، ولم يقدر على النفقة على زوجته لم تملك الفسخ عليه ، وعليها الصبر إلى أن أيسر.

المطلّقة البائن لا نفقة لها في عدّتها ، فإن كانت حاملا فلها النفقة بلا خلاف ، لقوله تعالى ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (3) والأمر يقتضي الفور.

ويجب على الوالد نفقة الولد إن كان موسرا ، وإن لم يكن أو كان وهو معسر ، فعلى جدّه ، فإن لم يكن أو كان وهو معسر ، فعلى أب الجد ، وعلى هذا أبدا.

وإذا لم يكن أب ولا جدّ ، أو كانا وهما معسران ، فنفقته على امّه.

وإذا اجتمع جدّ أبو أب وإن علا وأم ، كانت نفقته على الجدّ دون الأم ، لأنّ الجد يتناوله اسم الأب ، والأب أولى بالنفقة على ولده من الام بالاتفاق.

ص: 656


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب كيفية الحكم.
2- الخلاف : كتاب النفقات ، المسألة 12.
3- الطلاق : 6.

وإذا اجتمع أم الأم وأم الأب ، أو أبو أم وأم أب ، فيهما سواء ، لأنّهما تساويا في الدرجة.

تجب النفقة على الأب والجدّ معا.

وكذلك يجب على الإنسان أن ينفق على امّه ، وأمهاتها ، وإن علون.

إذا كان أبواه معسرين ، وليس يفضل عن كفايته إلا نفقة أحدهما ، كان بينهما بالسوية ، وكذلك إذا كان له أب وابن ، ومعه ما يفضل لنفقة أحدهما ، قسّم بينهما بالسوية ، لأنّهما متساويان في النسب الموجب للنفقة ، وتقديم أحدهما على صاحبه يحتاج إلى دليل.

إذا كان له أب وأبو أب معسران ، أو ابن وابن ابن معسران ، ومعه ما يكفي لنفقة أحدهما ، أنفق على الأب دون الجدّ ، وعلى الابن دون ابن الابن ، لقوله تعالى « وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ».

إذا كان الرجل معسرا ، وله أب وابن موسران ، كانت نفقته عليهما بالسوية.

باب إلحاق الأولاد بالآباء وأحكامهم وما في ذلك

إذا ولدت امرأة الرجل ولدا على فراشه ، ومعنى ذلك أن تلد منذ دخل بها بعد مضي ستة أشهر فصاعدا ، لزمه الإقرار به ، فإن اختلفا في الولادة ، فالقول قوله ، لأنّها يمكن أن تقيم عليه البيّنة على الولادة (1) ، فإن اتفقا على الولادة واختلفا في النسب ، فالقول قولها ، ويلحق به الولد ، ولا يجوز له نفيه ، فإن نفاه فيحتاج إلى اللعان ، فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر حيّا سليما ، فيجب عليه نفيه ، لأنّه ليس بولد له ، وكذلك إن جاءت بولد لأكثر من تسعة أشهر ، كان له نفيه ، إلا أنّه متى نفاه ورافعته المرأة إلى الحاكم بعد دخوله بها ، كان عليه

ص: 657


1- ج : لأنّها يمكن أن تقيم عليها البيّنة.

ملاعنتها إذا جاءت به لأكثر من مدّة الحمل ، فأمّا إن جاءت به لأقلّ من ستة أشهر منذ يوم العقد والدخول ، فلا يجب عليه ملاعنتها ، لأنّ هذا الولد مقطوع محكوم من جهة الشارع أنّه ليس بابن له.

ومتى أقر الرجل بولد وقبله ، ثمّ نفاه بعد ذلك ، لم يقبل نفيه ، والزم الولد.

ومتى طلّق امرأته أو باع جاريته ، فتزوجت المرأة ووطئت الجارية ، ثمّ أتت بولد لأقلّ من ستة أشهر فإن كان منذ وطء الثاني ، كان لا حقا بالأوّل ، وإن كان الولد لستة أشهر فصاعدا ، كان لاحقا ممن عنده المرأة والجارية.

ومتى كان للرجل جارية ، فوطأها ثم باعها من آخر ، فوطأها أيضا قبل أن يستبرئها (1) ، كلّ ذلك في طهر واحد ثم جاءت بولد كان لاحقا بالأخير الذي عنده الجارية.

وإذا كانت الجارية بين شريكين ، أو أكثر منهما ، فوطئاها جميعا في ظهر واحد ، وجاءت بولد ، أقرع بينهما الحاكم ، فمن خرج اسمه ، الحق الولد به وغرم نصف ثمنه للشريك الآخر ، وكذلك يغرم ما يخصه من الأم الجارية.

ومتى وطأ امرأته أو جاريته ، وكان يعزل عنهما ، وكان الوطء في القبل ، وجاءت المرأة بولد ، وجب عليه الإقرار به ، ولا يجوز له نفيه ، لمكان العزل ، فإن نفاه كان عليه اللعان. فأمّا جاريته إذا نفاه ، فالقول قوله من غير لعان.

وحكم ما يولد له من النكاح المؤجل حكم الجارية السرية ، في أنّه إذا عزل عنها وكان يطؤها في قبلها وجاءت بولد ، يجب عليه إلحاقه والإقرار به ، ولا يجوز له غير ذلك ، ولا يحلّ له سواه ، فإن نفاه أثم وكان معاقبا ، ولا يجب عليه اللعان كما يجب في نفي أولاد النكاح الدائم ، فهذا فرق ما بين النكاحين ، فليلحظ ذلك.

وإذا كان للرجل امرأة لم يدخل بها ، أو يكون قد دخل بها غير أنّه يكون قد غاب عنها غيبة تزيد على زمان الحمل ، وجاءت امرأته أو جاريته بولد ، لم يكن

ص: 658


1- ج : ومتى كان للرجل جارية فوطئاها ، ثم باعها من آخر قبل أن يستبرئها ، فوطأها الذي اشتراها قبل أن يستبرئها ، ثم باعها من آخر فوطئها قبل أن يستبرئها.

ذلك ولدا له ، ووجب عليه نفيه عن نفسه.

وإذا نعي الرجل إلى امرأته ، أو خبرت بطلاق زوجها لها ، فاعتدت وتزوّجت ورزقت أولادا ، ثمّ جاء زوجها الأول المنعى ، أو الزوج المطلّق ، وأنكر الطلاق ، وعلم أنّ شهادة من شهد بالطلاق كانت شهادة غير مقبولة ، بأن يكونوا فساقا وقت التحمل أو وقت الأداء ، أو يعلم كذبهم بأن تقوم البينة بذلك عليهم بالكذب ، لا بإقرارهم على أنفسهم بالكذب ، فرّق بينهما وبين الزوج الأخير ، ثمّ تعتد منه ، وترجع إلى الأول بالعقد الأوّل ، ولا نفقة على الزوج الأخير في هذه العدّة ، لأنّها لغيره ، بل على الأول ، لأنّها زوجته ، ويكون الأولاد للزوج الأخير دون الأول.

فأمّا إن أكذب شهود الطلاق أنفسهم ، عزّروا ، ولا ينقض الحاكم حكمه ، ولا تعود الزوجة إلى زوجها الأول ، على ما شرحناه وحرّرناه في باب شهادات الزور (1) ، فلينظر من هناك ، ويحقق ، فليس بين المسألتين تضاد ولا تناف ، لأنّه إذا أكذب الشهود أنفسهم ، وأقرّوا على أنفسهم بالكذب في شهادتهم ، لا يردّ الحكم المشهود به ، بل يرجع عليهم بدرك ما شهدوا به.

فأمّا إذا بان أنّهم كذبة من غير إقرارهم ، فإنّ الحاكم يردّ الحكم المشهود به بغير خلاف ، فليلحظ الفرق بين الأمرين ، فإنّه غامض على غير المتأمّل المحصّل ، واللّه الموفّق للصواب.

ومتى كان للرجل امرأة فوطأها ، ووطأها بعده غيره فجورا بلا فصل ، كان الولد أيضا لاحقا به ، ولم يجز له نفيه ، لقوله عليه السلام : « الولد للفراش وللعاهر الحجر » (2) فإن نفاه لا عن امّه.

ص: 659


1- راجع ص 146 من الكتاب.
2- الوسائل : الباب 56 من أبواب نكاح العبيد والإماء ، ح 1.

وإن كانت له جارية فوطأها ووطأها غيره بعده فجورا ، كان الولد أيضا لا حقا به ، لم يجز له نفيه إذا اشتبه عليه الأمر ، فإن نفاه لا يجب عليه اللعان.

وقد روي (1) أنّه إذا اشترى الرجل جارية حبلى ، فوطأها قبل أن يمضي لها أربعة أشهر وعشرة أيام ، فلا يبيع ذلك الولد ، لأنّه غذّاه بنطفته ، وكان عليه أن يعزل له من ماله شيئا ، ويعتقه ، وإن كان وطؤه لها بعد انقضاء الأربعة الأشهر والعشرة الأيام ، جاز له بيع الولد على كلّ حال ، وكذلك إن كان الوطء قبل انقضاء الأربعة الأشهر والعشرة الأيام ، غير أنّه يكون قد عزل عنها ، جاز له بيع ولدها على كلّ حال ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر في نهايته ، وأورده (2).

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ له بيعه على كلّ حال ، لأنّه ليس بولد له بغير خلاف ، وهذه الرواية لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، ولا يترك لها الأدلة القاهرة ، والبراهين الظاهرة ، لأنّا قد بيّنا أنّ أخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا.

ولا يجوز للرجل أن ينفي ولد جارية أو امرأة له يتهمهما بالفجور ، بل يلزمه الإقرار به على ما قدّمناه وانّما يسوغ له نفيه مع اليقين والعلم.

إذا طلّق الإنسان امرأته واعتدّت ، ثمّ أتت بولد لأكثر من ستة أشهر من وقت انقضاء العدّة ، لم يلحقه إذا كانت العدّة بالشهور الثلاثة ، لأنّا قد دللنا على أنّ زمان الحمل لا يكون أكثر من تسعة أشهر على الصحيح من الأقوال ، فإن كانت قد تزوجت بعد مضي الثلاثة الأشهر ، ودخل بها الثاني ، وجاءت بولد ، ألحقناه بالثاني ، على ما حرّرناه فيما مضى وشرحناه.

ص: 660


1- الظاهر أنها موثقة إسحاق بن عمار [ المروية في 1 / 9 من أبواب نكاح العبيد والإماء من الوسائل ] إلا أنّها ليس فيها تقييد بما قبل مضى أربعة أشهر وعشرة أيّام ، ولعلّ التقييد به من ناحية الجمع بينها وبين صحيحة رفاعة بن موسى [ المروية في 3 / 8 من الأبواب المذكورة ] فراجع.
2- النهاية : كتاب النكاح ، باب إلحاق الأولاد بالآباء.

كتاب الطلاق

ص: 661

كتاب الطلاق

اشارة

الطلاق جائز لقوله تعالى ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) (1) فأبان بها عدد الطلاق ، لأنّه كان في صدر الإسلام بغير عدد.

وروى عروة ، عن قتادة قال : كان الرجل في صدر الإسلام يطلّق امرأته ما شاء من واحد إلى عشر ، ويراجعها في العدّة ، فنزل قوله تعالى « الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » فبيّن أنّ عدد الطلاق ثلاث ، فقوله « مَرَّتانِ » إخبار وهو بمعنى الأمر ، لأنّه لو كان إخبارا محضا ، لكان كذبا ، لأنّه قد يطلّق أقل من مرتين ، بل معناه : وطلّقوا مرتين.

واختلف الناس في الثالثة ، فقال ابن عباس « أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » الثالثة ، وقال غيره ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (2) الثالثة وهذا مذهبنا.

وقال تعالى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) (3) أي لاستقبال عدّتهن في طهر ، لم يجامعها فيه إذا كانت مدخولا بها ، بلا خلاف ، والأولى أن تكون « اللام » بمعنى « في » ، لأنّه عندنا لا يجوز الطلاق الطاهر التي وطأها زوجها في طهرها ، بل في طهر لم يطأها فيه ، فإذا طلّقها فيه حسب من جملة الأطهار ، فصار الطلاق واقعا هاهنا في بعض العدّة.

وقال السيد المرتضى في الناصريات ، لمّا قال : إنّ الطلاق الثلاث في مجلس واحد من دون تخلل المراجعة بين التطليقات لا يجوز ، ثمّ قال : وإخراج

ص: 662


1- البقرة : 229.
2- البقرة : 230.
3- الطلاق : 1.

الزوج نفسه من التمكين من مراجعة المرأة مكروه له ، ومن طلّق ثلاثا في ثلاثة أطهار ، لا يحلّ له هذه المرأة إلا بعد نكاحها لغيره ، وهو لا يدري ما ينقلب به قلبه ، قال : ولهذا حمل العلماء قوله ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) بأنّه أراد به الواحدة ، لتملك المراجعة بدلالة قوله « لا تَدْرِي لَعَلَّ اللّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً » ومن أبان زوجته بالتطليقات الثلاث في الأطهار الثلاثة والمراجعة بينها ، فقد حرّمها على نفسه إلا بعد أن تنكح زوجا غيره ، ويكره له ذلك (1).

هذا آخر كلام المرتضى ، فأحببت إيراده ليعلم القول في معنى ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) فإذا ثبت ذلك من جواز الطلاق ، فإنّه يجوز طلاق الصغيرة التي لم تحض ، والكبيرة التي يئست من المحيض ، وليس في سنّها من تحيض ، والتي يئست من المحيض ، وفي سنّها من تحيض ، والحائل ، والحامل ، والمدخول بها ، وغير المدخول بها ، بلا خلاف ، لعموم آيات الطلاق.

وهو على أربعة أضرب ، واجب ، ومحظور ، ومندوب ، ومكروه.

فالواجب طلاق المولى بعد التربص ، لأنّ عليه أن يفي ، أو يطلّق ، أيّهما فعل فهو واجب ، فإن امتنع منهما حبسه الحاكم ، ولا يطلّق عليه عندنا.

والمحظور طلاق الحائض بعد الدخول ، أو في طهر قربها فيه قبل أن يظهر بها حمل ، بلا خلاف ، وانّما الخلاف في وقوعه ، فعندنا لا يقع ، وعند المخالف يقع مع كونه بدعة.

فأمّا المكروه ، فإذا كانت الحال بينهما عامرة ، والأخلاق ملتئمة ، وكلّ واحد منهما قيّم بحقّ صاحبه.

والمندوب إذا كانت الحال بينهما فاسدة بالشقاق ، وتعذر الاتفاق ، وكلّ واحد منهما يعجز عن القيام بما يجب عليه لصاحبه ، فالمستحب الفرقة ، فهذه أقسام الطلاق.

ص: 663


1- الناصريات : كتاب الطلاق ، ذيل المسألة الحادية والستين والمائة.

فأمّا أقسام النكاح فثلاثة ، محظور ، ومستحب ، ومكروه ، لأنّه لا واجب فيه عندنا.

فالمحظور حال العدّة ، والردّة ، والإحرام.

والمستحب إذا كان بالرجل إليه حاجة ، وله ما ينفق عليها.

والمكروه إذا لم يكن به إليه حاجة ، ولا معه ما ينفق عليها ، خوفا من الإثم.

فإذا تقرّر أقسام الطلاق ، فكلّ طلاق واقع يوجب تحريما ، ويزول ذلك التحريم بثلاثة أشياء ، مراجعة ، ونكاح قبل زوج ، ونكاح بعد زوج.

فالرجعة إذا طلّقها بعد الدخول دون الثلاث بغير عوض ، فالمراجعة ، أن يقول : راجعتك ، أو يلمسها بشهوة ، أو يقبّلها ، أو يطأها ، أو ينكر طلاقها ، هذا كلّه قبل خروجها من العدّة ، ولا يفتقر مراجعتها إلى رضاها ، ولا ولي ، ولا عقد بلا خلاف ، ولا إلى إشهاد عندنا.

وزواله بنكاح من غير زوج ، إذا بانت منه بأقلّ من ثلاث ، وهو أن يطلّقها طلقة أو طلقتين قبل الدخول أو بعده ، بعوض أو بغير عوض ، وصبرت حتى انقضت عدّتها ، وكذلك إذا زال النكاح بالفسخ ، حلّت له قبل زوج غيره.

وأمّا التحريم الذي لا يزول إلا بزوج ونكاح جديد مخصوص ودخول مخصوص ، فإن تبيّن بالثلاث مدخولا بها ، أو غير مدخول بها ، فلا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره.

وصحّة الطلاق الشرعي يفتقر إلى شروط ، يثبت حكمه بتكاملها ، ويرتفع بإخلال واحدها.

منها كون المطلّق ممن يصح تصرفه ، ولا يكون ممن رفع القلم عنه ، بأن يكون عاقلا بالغا ، لأنّ طلاق المجنون والصبي ما لم يبلغ غير صحيح.

ومنها إيثاره الطلاق.

ومنها قصده إليه.

ومنها تلفّظه بصريحه دون كناياته.

ص: 664

ومنها كونه مطلّقا من الشروط.

ومنها توجهه إلى معقود عليها.

ومنها تعيينها.

ومنها الإشهاد بعدلين مجتمعين في مكان واحد.

ومنها إيقاعه في طهر لا مساس فيه ، بحيث يمكن اعتباره.

ومنها أن لا يقع على غضب ولا حرد ، ولا يجعله يمينا.

اشترطنا صحّة التصرف ، احترازا من الصبي والمجنون والسكران ، وفاقد التحصيل بأحد الآفات.

واشترطنا الإيثار ، احترازا من المجبر والمكره.

واشترطنا القصد احترازا من الخلف واللغو والسهو وإيقاعه بغير نيته.

واشترطنا إطلاق اللفظ ، احترازا من مقارنة الشروط ، كقوله : أنت طالق إن دخلت الدار ، أو جاء رأس الشهر.

واشترطنا صريح قوله : أنت طالق ، أو هي طالق ، أو فلانة طالق ، احترازا من الكنايات ، كقوله : أنت حرام ، أو بائنة ، أو بتلة ، أو بتة ، أو خليّة أو بريّة ، أو حبلك على غاربك ، أو الحقي بأهلك ، وأشباه ذلك.

واشترطنا العقد ، احترازا من إيقاعه قبله ، كقوله : إن تزوجت فلانة فهي طالق.

واشترطنا تعيين المطلقة ، احترازا من قوله : زوجتي طالق ، وله عدة أزواج ، أو إحدى زوجاتي طالق ، من غير تعيين لها بقول.

واشترطنا الإشهاد ، احترازا من وقوعه بغير شهادة عدلين مجتمعين.

واشترطنا الطهر للحائض (1) ، احترازا من الحيض والنفاس ، ومما حصل فيه مباشرة.

ص: 665


1- ل : الطهر الخالص.

وقلنا : بحيث يمكن لصحته ، عمّن لا يمكن ذلك فيها ، وهي التي لم يدخل بها ، أو دخل بها وغاب عنها زوجها غيبة مخصوصة ، والتي لم تبلغ ، والآئسة المخصوصة ، والحامل ، والغائبة ، على ما قدّمناه.

ويبطل تعليق الطلاق بالأبعاض ، لأنّه ليس من الألفاظ المشروعة في الطلاق ، فيجب أن لا يقع ، وأيضا قوله تعالى ( يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ) (1) يدلّ على ذلك ، لأنّه علّق الطلاق بما يتناوله اسم النساء ، واليد أو الرجل لا يتناولهما ذلك.

ويخص اعتبار الشهادة ، قوله تعالى ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) إلى قوله : ( وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ) (2) لأنّ ظاهر الأمر في الشرع يقتضي الوجوب ، وهذا يوجب عود ذلك إلى الطلاق ، وإن بعد عنه ، لأنّه لا يليق إلا به ، دون الرجعة التي عبّر عنها بالإمساك ، لأنّه لا خلاف في أنّ الإشهاد عليها غير واجب ، كما وجب عود التسبيح إليه تعالى ، مع بعد ما بينهما في اللفظ في قوله تعالى ( إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ ) (3) من حيث لا يليق إلا به تعالى.

وحمل الإشهاد على الاستحباب ليعود إلى الرجعة ، عدول عن الظاهر في عرف الشرع بغير دليل.

ولا يجوز أن يكون الأمر بالإشهاد متعلقا بقوله ( أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ) ، لأنّ المراد بذلك هاهنا ترك المراجعة والاستمرار على موجب الطلاق المقتضي للفرقة ، وليس بشي ء يتجدد فعله ، فيفتقر إلى إشهاد.

ويخصّ اعتبار الطهر ، أنّه لا خلاف في أنّ الطلاق في الحيض بدعة ومعصية ، وقد فسّر العلماء قوله تعالى ( فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ) بالطهر الذي لإجماع

ص: 666


1- الطلاق : 1.
2- الطلاق : 2.
3- الفتح : 8 - 9.

فيه ، على ما حرّرناه وذكرناه فيما مضى ، وإذا ثبت أنّه مخالف لما أمر اللّه تعالى ، لم يقع ، ولم يتعلّق به حكم شرعي.

والنساء في الطلاق على ضربين ، منهنّ من ليس في طلاقها سنّة ولا بدعة ، ومنهنّ من في طلاقها ذلك.

فالضرب الأوّل الآئسة من المحيض لصغر أو كبر ، والحامل ، وغير المدخول بها ، والغائب عنها زوجها غيبة مخصوصة.

والثاني المدخول بها لا غير ، إذا كانت حائلا من ذوات الأقراء ، فطلاقها للسنّة في طهر لإجماع فيه. والبدعة في حيض ، أو في طهر فيه جماع.

واعلم أنّ الطلاق على ضربين ، رجعي وبائن.

والبائن على ضروب أربعة ، طلاق غير المدخول بها ، وطلاق من لم تبلغ المحيض ، ومن جاوزت خمسين سنة مع تغير عادتها ، سواء كانت قرشية أو عاميّة أو نبطية ، على الصحيح من الأقوال ، لأنّ في بعض الأخبار اعتبار القرشية والنبطية بستين سنة ، ومن عداهما بخمسين سنة ، والأوّل هو المذهب المعمول عليه.

وكلّ طلاق كان في مقابلته بذل وعوض من المرأة ، وهو المسمّى بالخلع والمبارأة ، ونحن نذكر أحكامهما فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

فأمّا الطلاق الرجعي ، فهو أن يطلّق المدخول بها واحدة ، ويدعها تعتدّ ، ويجب عليه السكنى لها ، والنفقة ، والكسوة ، ولا يحرم عليه النظر إليها ، ووطؤها ، ويحرم عليه العقد على أختها ، وعلى خامسة ، إذا كانت هي رابعة.

وجملة الأمر وعقد الباب أنّها عندنا زوجة ، وقال المخالف : حكمها حكم الزوجة ، وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : بل هي عندنا زوجة ، لأنّ المخالف قال حكمها حكم الزوجات ، قال : هو ردّا عليه ، بل هي عندنا زوجة (1) ونعم ما قال رحمه اللّه.

ص: 667


1- المبسوط : لا يوجد بعينه بل في كتاب الإيلاء ، ج 5 ص 134 ، خلافه ، والعبارة هكذا : إذا آلى من الرجعية صحّ الإيلاء ، لأنّها في حكم الزوجات بلا خلاف.

وله مراجعتها ما دامت في العدّة ، وإن لم تؤثر هي ذلك ، وليس لها عليه في ذلك خيار.

وتجوز المراجعة من غير إشهاد ، والإشهاد أولى.

وتصح عندنا المراجعة بالقول ، أو بالفعل ، فالقول أن يقول : قد راجعتك ، فإن لم يقل ذلك ، ووطأها أو قبّلها ، أو لا مسها ، أو ضمّها بشهوة ، فقد راجعها.

وروى أصحابنا أو ينكر طلاقها (1) ، والدليل على ذلك أجمع إجماعنا ، وقوله تعالى ( وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ ) (2) فسمّى المطلّق طلاقا رجعيا بعلا ، ولا يكون كذلك إلا والمرأة بعلة ، وهذا يقتضي ثبوت الإباحة.

ولم يشترط الشهادة ولا لفظ المراجعة قولا.

فإن خرجت من العدّة ملكت نفسها ، فإن آثر مراجعتها كان ذلك بعقد جديد ومهر جديد ، وتبقى معه على طلقتين أخريين ، فإن كمل طلاقها ثلاث مرات في ثلاثة أطهار ، مع تخلل مراجعته لها ، على ما سندل عليه ، ولم تكن تزوّجت فيما بينها بسواه ، لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره بنكاح دوام ، ويكون بالغا ، ويدخل بها واطئا في قبلها ، ويفارقها وتنقضي عدتها منه ، ويهدم الزوج الثاني التطليقات الثلاث ، وإن تكررت من الأول أبدا ، إلا أن يكون طلاق عدّة بعد تسع تطليقات ينكحها بينها زوجان ، وتبيح المرأة بالعقد المستأنف ، وكذا إن تزوّجت فيما بين الاولى والثانية ، أو الثانية والثالثة ، هدم ذلك ما تقدّم من الطلاق ، على الأظهر الأكثر المعمول عليه من أقوال أصحابنا ورواياتهم ، لأنّ في بعضها لا يهدم الزوج الثاني ما دون الثلاث ، وتمسّك به ، بعضهم ، وقال : متى رجعت إلى الأول كانت معه على ما بقي من تمام الثلاث ، وظاهر قوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (3) منعه ، لأنّه

ص: 668


1- الوسائل : الباب 14 من أبواب أقسام الطلاق.
2- البقرة : 228.
3- البقرة : 230.

يدلّ على تحريمها عليه بالثالثة حتى تنكح زوجا غيره ، من غير تفصيل ، إلا أنّ الإجماع من المحصّلين على ما اخترناه ، والأخبار المتواترة مخصصة لما قدّمناه.

فأمّا غير المدخول بها فإنّه إذا طلّقها واحدة بانت منه ، وملكت نفسها في الحال ، فإن اختار مراجعتها ورضيت هي ، كان ذلك بعقد جديد ومهر جديد ، ولو قلنا بعقد جديد كان كافيا ، وإن لم نقل بمهر جديد ، غير أنّا اتبعنا ألفاظ أصحابنا المصنّفين.

فإن راجعها وطلّقها قبل الدخول بها تمام ثلاث مرات ، لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره ، وهذا مختص بحرائر النساء.

فأمّا الإماء فأقصى طلاقهن حرا كان الزوج أو عبدا ، طلقتان ، لأنّ الاعتبار عندنا في عدد الطلقات بالنساء ، فأمّا إيقاعه فبيد الرجال.

وأمّا طلاق العدّة فيختص المدخول بها ، المستقيمة الطهر والحيض ، وصفته أن يطلّقها في طهر لإجماع فيه ، ثمّ يراجعها قبل أن تخرج من عدّتها ، ولو بساعة واحدة ، فإذا أراد طلاقها ثانيا طلاق العدّة وطأها ، فإذا حاضت وطهرت ، طلّقها ثمّ يراجعها قبل خروجها من عدّتها ، ولو بساعة واحدة ، فإذا راجعها حينئذ وأراد طلاقها ثالثا ، وطأها ، فإذا اوطأها فإذا حاضت وطهرت طلّقها ، فإذا فعل ذلك حرمت عليه حتى تنكح زوجا غيره بالصفات التي ذكرناها أوّلا ، ولا يهدم الزوج الثاني هذه التطليقات الثلاث أبدا ، بل متى طلّقها مطلّق على هذا الوجه والكيفية تسع تطليقات ينكحها بينها زوجان ، حرمت عليه أبدا على ما قلناه فيما مضى.

فالفرق بين طلاق العدّة وطلاق غير العدّة ، المسمّى عند بعض أصحابنا بطلاق السنّة ، وإن كان الكلّ عند التحقيق في التسمية طلاق السنّة ، هو أنّ طلاق العدّة لا بدّ لمن أراده بعد طلاقها الأوّل أن يراجعها قبل خروجها من العدّة ، فإذا أراد طلاقها ثانيا وثالثا ، فلا بدّ من وطئها ، وليس كذلك طلاق السنّة ، لأنّه إن أراد طلاقها بعد طلاقها الأوّل ، فليس من شرطه مراجعتها قبل خروجها من عدّتها ، ولا وطؤها إذا أراد طلاقها ثانيا وثالثا ، فيتفق طلاق العدّة

ص: 669

وطلاق السنّة في المرّة الاولى من الطلاق ويختلفان في الطلاق الثاني والثالث ، فليلحظ ذلك.

وشي ء آخر وهو أنّ الإنسان يمكنه أن يبين زوجته في طلاق السنّة ، ولا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره في مجلس واحد ، ويوم واحد ، وأقلّ من ذلك ، بعد تخليل المراجعة بين الطلقات الثلاث ، بأن يطلّقها بمحضر من الشاهدين العدلين ، ثم يراجعها بالقول أو التقبيل على ما مضى ، ثمّ يطلّقها ، ثمّ يراجعها ، ثمّ يطلّقها ، وقد بانت منه ساعة طلّقها ، ولا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره ، وإن كان ذلك في يوم واحد ومجلس واحد.

فإن قيل : فأصحابكم لا يجيزون ولا يوقعون الثلاث طلقات في مجلس واحد ، بل يوقعون منها واحدة وبعضهم لا يوقع شيئا منها ، فكيف ذهبتم إلى إيقاع الثلاث في مجلس واحد.

قلنا : أصحابنا ما منعوا من ذلك إلا من دون تخلل المراجعة بين التطليقات الثلاث ، أو قولهم : أنت طالق ثلاثا ، لأنّه إذا طلّقها ولم يراجعها ، ثمّ طلّقها ثانيا وثالثا لا يقع الطلاق ، لأنّ طلاق المطلّق لا يقع ، وليس كذلك ما ذهبنا إليه ، لأنّا اعتبرنا المراجعة بين التطليقات الثلاث ، فليتأمّل ذلك ويلحظ.

وما أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته ، من كيفيّة طلاق السنّة ، وهو قوله : إذا أراد الرجل أن يطلّق امرأته التي دخل بها وهو غير غائب عنها ، طلاق السنّة فليطلقها وهي طاهر طهرا لم يقربها فيه بجماع ، ويشهد على ذلك شاهدين تطليقة واحدة ، ثمّ يتركها حتى تخرج من العدّة ، فإذا خرجت من العدّة ملكت نفسها ، وكان خاطبا من الخطاب ، وما لم تخرج من عدّتها فهو ، أملك برجعتها ، فمتى خرجت من عدتها وأراد أن يتزوجها ، عقد عليها عقدا جديدا بمهر جديد ، فإن أراد بعد ذلك طلاقها ، فعل معها ما فعل في الأوّل ، من استيفاء الشروط ، فيطلّقها طلقة أخرى ، ويتركها حتى تخرج من العدة ، فإذا خرجت من العدّة ملكت نفسها مثل الأوّل ، فإن أراد أن يعقد عليها عقدا آخر ، فعل كما فعل في

ص: 670

الأولتين بمهر جديد وعقد جديد ، فإذا أراد بعد ذلك طلاقها ، طلّقها على ما ذكرناه ، ويستوفي شرائط الطلاق ، فإذا طلّقها الثالثة ، لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره ، فإن تزوجت فيما بين التطليقة الأولى أو الثانية أو الثالثة ، زوجا بالغا ، ودخل بها ، ويكون التزويج دائما ، هدم ما تقدّم من الطلاق ، وكذلك إن تزوجت بعد التطليقات الثلاث ، هدم الزوج الثلاث تطليقات ، وجاز لها أن ترجع إلى الأول أبدا بعقد جديد ومهر جديد (1) هذا آخر كلام شيخنا في نهايته في كيفيّة طلاق السنّة.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : هذا منه رحمه اللّه على جهة التقريب ، وعلى لفظ الخبر ، دون أن يكون من طلّق للسنّة على غير ذلك الوجه لا يسمّى طلاق السنّة.

وقد حقّق القول في الاستبصار (2) ، وأورد أخبارا بأنّه يجوز على خلاف الوجه والكيفية التي أوردها في نهايته ، وأنّها تبين منه في يوم واحد إذا تخللت المراجعة ثمّ ذكر في نهايته ، وقال : الطلاق على ضربين ، طلاق السنّة وطلاق العدّة ، ثمّ قال : وهو ينقسم أقساما ، منها طلاق التي لم يدخل بها ، والتي دخل بها ، ومن لم تبلغ المحيض ، ولا في سنّها من تحيض ، والتي لم تبلغ المحيض وفي سنّها من تحيض ، والمستحاضة ، والمستقيمة الحيض ، والحامل المستبين حملها ، والآئسة من المحيض ، وفي سنّها من تحيض ، والآئسة من المحيض وفي سنّها من لا تحيض (3).

وعدّد أقساما أخر ، وهذه أجمع راجعة إلى قوله الطلاق على ضربين ، طلاق السنّة ، وطلاق العدّة ، لأنّ كلّ واحد من الأقسام التي ذكرها لا بدّ فيه من أن يكون إمّا للسنّة أو للعدّة ، وانّما ذلك راجع إلى من يطلّق ، أو إلى من تطلّق ، لا إلى جنس الطلاق ، بل إلى عدد المطلّق ، والمطلّقة.

ص: 671


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.
2- الاستبصار : كتاب الطلاق ، باب من طلق امرأته ثلاث تطليقات ، ج 3 ، ص 285 إلى ص 291.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.

ثم قال رحمه اللّه : وما يلحق بالطلاق ، وإن لم يكن طلاقا في الحقيقة ، على ضربين ، ضرب منه يوجب البينونة ، مثل الطلاق ، وضرب آخر يوجب التحريم ، وإن لم يقع فرقة ، فالقسم الأول اللعان ، والارتداد عن الإسلام ، والقسم الثاني الظهار والإيلاء ، ويدخل في هذا الباب ، ما يؤثّر في بعض أنواع الطلاق ، وهو الخلع والمبارأة (1).

قوله رحمه اللّه : « ويدخل في هذا الباب ما يؤثّر في بعض أنواع الطلاق » على رأيه واختياره في أنّ الخلع بمجرده لا يقع به فرقة ولا بينونة ، إلا أن يتبع بطلاق ، فلأجل هذا قال ما قال ، ولا يجعله حكما منفردا عن الطلاق فأمّا على ما يذهب إليه غيره من أصحابنا ، مثل السيد المرتضى وغيره ، فانّ الخلع بمجرده يقع به البينونة والفرقة ، وسنبيّن ذلك عند المصير إليه إن شاء اللّه.

ويدخل فيه أيضا ما يكون كالسبب للطلاق ، وهو النشوز والشقاق.

وشرائط الطلاق على ضربين ، ضرب منه عام في سائر أنواعه ، وضرب منه خاص في بعضه ، فأمّا الذي هو عام ، فهو أن يكون الرجل غير زائل العقل ، ويكون مريدا للطلاق ، غير مكره عليه ، ولا مجبر ، ويكون طلاقه بمحضر من عدلين ، ويتلفظ بلفظ مخصوص ، أو ما يقوم مقامه إذا لم يمكنه على ما نبيّنه.

والضرب الآخر وهو أن لا تكون المرأة حائضا ، لأنّ هذا خاص مراعى في المدخول بها ، غير غائب عنها زوجها غيبة مخصوصة ، على ما نبيّنه فيما بعد ، ومعظم هذه الشروط قدّمناها فيما مضى.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن طلّق الرجل امرأته وهو زائل العقل بالسكر ، أو الجنون أو المرة أو ما أشبهها ، كان طلاقه غير واقع ، فإن احتاج من هذه صورته إلا السكران إلى الطلاق ، طلّق عنه وليه ، فإن لم يكن له ولي ، طلّق عنه الإمام أو من نصبه الإمام (2).

ص: 672


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.
2- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.

وذهب في مسائل خلافه في كتاب الخلع ، إلى غير ما ذهب إليه في نهايته ، فقال : مسألة ، ليس للولي أن يطلّق عمّن له عليه ولاية ، لا بعوض ولا بغير عوض ، ثمّ استدل ، فقال : دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا الأصل بقاء العقد وصحته ، وأيضا قوله عليه السلام : الطلاق لمن أخذ بالساق (1) ، والزوج هو الذي له ذلك دون غيره (2) هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس : الأولى أن يكون غير السكران مثل السكران ، وان لا يلي غير الزوج الطلاق ، لقوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (3) فأضاف الطلاق إلى الزوج ، فمن جعل لغيره الطلاق فيحتاج إلى دليل.

وأيضا فالرسول عليه السلام قال : « الطلاق بيد من أخذ بالسّاق » (4) والذي يأخذ بالساق الزوج ، فمن جعله بيد غيره يحتاج إلى دليل.

وأيضا الأصل بقاء الزوجيّة بينهما ، فمن أبانها منه بطلاق غيره يحتاج إلى دليل.

فإن قيل : هذا وال عليه ، ناظر في مصالحه ، فله أن يفعل ما شاء ممّا هو راجع إلى مصالحه.

قلنا : لا خلاف أنّ الصبي لا يطلّق عليه وليه ، وهو ناظر في أموره.

وأيضا فالطلاق من شرطه مقارنة نية المطلّق الذي هو الزوج به ، وهذا غير موجود في هؤلاء.

ولنا في هذه المسألة نظر ، والذي وقع التحقيق لنا من ذلك ، أنّه لا يجوز طلاق غيره عليه بحال ، لما قدّمناه من الأخبار ، وبقاء الزوجية بينهما ، فمن أبانها منه بطلاق غيره يحتاج إلى دليل.

ص: 673


1- سنن ابن ماجة : باب طلاق العبد من كتاب الطلاق ، ح 2081.
2- الخلاف : كتاب الخلع ، المسألة 29.
3- البقرة : 230.
4- كنز العمال : كتاب الطلاق ، الفرع الأوّل ، ج 9 ، ص 640 أخرجه عن الطبراني ، عن ابن عباس ، راجع ذيل ص 600 من الكتاب.

وقال شيخنا في نهايته أيضا : وإذا طلّق الرجل امرأته وهو مريض ، فإنّهما يتوارثان ما دامت في العدّة ، فإذا انقضت عدّتها ورثته ما بينه وبين سنة ما لم تتزوج ، فإن تزوجت فلا ميراث لها ، وإن زاد على السنة يوم واحد ، لم يكن لها ميراث ، ولا فرق في جميع هذه الأحكام ، بين أن يكون التطليقة هي الأولة ، أو الثانية ، أو الثالثة ، وسواء كان له عليها رجعة ، أو لم يكن ، فإنّ الموارثة ثابتة بينهما على ما قدّمناه ، هذا إذا كان المرض يستمر به إلى أن يتوفى ، فإن صح من مرضه ذلك ، ثمّ مات لم يكن لها ميراث ، إلا إذا كان طلاقا يملك فيه رجعتها ، فإنّها ترثه ما لم تخرج من العدة (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في نهايته.

قال محمّد بن إدريس. والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، أنّ الطلاق إذا كان رجعيا ، ورثها الرجل ما دامت في العدّة ، فإذا خرجت من العدة لا يرثها ، وهي ترثه بعد خروجها من العدّة إلى سنة ما لم تتزوّج ، أو يبرأ من مرضه ذلك ، فأمّا إذا كان الطلاق غير رجعي ، وهو الطلاق البائن ، فإنّه لا يرثها ساعة طلّقها ، وإن كانت في العدّة ، وهي ترثه مدة السنة على ما قدّمناه ، لأنّها بعد الطلاق البائن غير زوجة له ، والعصمة انقطعت بينهما ، ولو لا الإجماع لما ورثته ، ولا إجماع معنا على أنّه يرثها بعد الطلاق.

وشيخنا أبو جعفر ، فقد رجع عمّا قاله في نهايته ، في مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، المطلقة التطليقة الثالثة في حال المرض ، ترث ما بينها وبين سنة ، إذا لم يصح من ذلك المرض ، ما لم تتزوج ، فإن تزوجت فلا ميراث لها ، والرجل يرثها ما دامت في العدّة الرجعية ، فأمّا في البائنة فلا يرثها على حال ، دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم وقد ذكرناها في الكتاب الكبير (2) هذا آخر كلامه في الجزء

ص: 674


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.
2- التهذيب : كتاب الطلاق ، الباب 3 في أحكام الطلاق ، الأحاديث 183 إلى 190 ، ج 8 ، ص 78 و 79.

الثاني من مسائل خلافه في كتاب المواريث (1).

وقال أيضا في الجزء الثالث في كتاب الطلاق : مسألة ، المريض إذا طلّقها طلقة لا يملك رجعتها ، فإن ماتت لم يرثها بلا خلاف ، وإن ماتت هو من ذلك المرض ، ورثته ما بينها وبين سنة ، ما لم تتزوج ، فإن تزوّجت بعد انقضاء عدّتها لم ترثه ، وإن زاد على السنة يوم واحد لم ترثه.

ثمّ قال : مسألة ، إذا سألته أن يطلّقها في مرضه ، فطلّقها ، لم يقطع ذلك الميراث منه ، ثمّ قال : دليلنا عموم الأخبار الواردة ، بأنّها ترثه إذا طلّقها في المرض ، ولم يفصّلوا ، فوجب حملها على عمومها (2).

ثمّ قال في الجزء الثالث من استبصاره ، في باب طلاق المريض ، لمّا أورد الأخبار ، في أنّها ترثه إذا طلّقها في حال مرضه ، ما بينها وبين سنة ما لم تتزوج ، أو يبرأ من مرضه ذلك ، ثمّ قال : دليلنا على أنّ الذي اختاره ، هو أنّه انّما ترثه بعد انقضاء العدة ، إذا طلّقها للإضرار بها ، ويحمل على هذا التفصيل جميع ما تقدّم من الأخبار المجملة. يدلّ على ذلك ما رواه الحسين بن سعيد ، عن أخيه الحسن ، عن زرعة عن سماعة ، قال : سألته عليه السلام ، عن رجل طلّق امرأته وهو مريض ، قال : ترثه ما دامت في عدّتها ، وإن طلّقها في حال إضرار ، فهي ترثه إلى سنة ، فإن زاد على السنة يوم واحد ، لم ترثه وتعتد أربعة أشهر وعشرا ، عدّة المتوفّى عنها زوجها (3).

قال محمّد بن إدريس : الصحيح ما ذهب إليه في مسائل خلافه ، من قوله إذا سألته أن يطلّقها في مرضه ، فطلقها ، لم يقطع ذلك الميراث منه ، والدليل عليه ما استدلّ به رحمه اللّه ، من قوله عموم الأخبار يقتضي ذلك ، ولم يفصّلوا ، فوجب حملها على عمومها.

ومن العجب أنّه يخصص العموم في استبصاره بخبر سماعة الذي رواه

ص: 675


1- الخلاف : كتاب الفرائض ، المسألة 111.
2- الخلاف : كتاب الطلاق ، المسألة 55.
3- الإستبصار : كتاب الطلاق ، باب طلاق المريض ، ح 14 ، ج 3 ، ص 307.

زرعة ، وهما فطحيان ، فإن كان يعمل بأخبار الآحاد فلا خلاف بين من يعمل بها ، ان من شرط العمل بذلك ، أن يكون راوي الخبر عدلا ، والفطحي كافر ، فكيف يعمل بخبره ، ويخصّص بخبره العموم المعلوم ، والمخصّص يكون دليلا معلوما ، فهذا لا يجوز عند الجميع.

لا عند من يعمل بأخبار الآحاد ، ولا عند من لا يعمل بها ومتى جعل إليها الخيار ، فاختارت نفسها ، فقد اختلف أصحابنا في ذلك ، فبعض يوقع الفرقة بذلك ، وبعض لا يوقعها ، ولا يعتدّ بهذا القول ، ويخص هذا الحكم بالرسول صلى اللّه عليه وآله ، وهذا هو الأظهر الأكثر المعمول عليه بين الطائفة ، وهو خيرة شيخنا أبي جعفر (1) ، والأول خيرة السيد المرتضى ، دليلنا : أنّ الأصل بقاء العقد.

وقال شيخنا أيضا : إجماع الفرقة على هذا واخبارهم ، وقد ذكرناها في الكتابين المقدّم ذكرهما ، وبينا الوجه في الأخبار المخالفة لها ، ومن خالف في ذلك لا يعتدّ به ، لأنّه شاد منهم (2).

وإذا قال : أنت على حرام ، لا يحصل بذلك طلاق ، ولإظهار ، ولا إيلاء ، ولا يمين بلا خلاف بين أصحابنا في ذلك ، ولا تحرم عليه.

فإن قيل للرجل : هل طلّقت فلانة؟ فقال : نعم ، كان ذلك إقرارا منه بطلاق شرعي.

وما ينوب مناب قوله : أنت طالق ، بغير العربية بأي لسان كان ، فإنه يحصل به الفرقة إذا تعذّر عليه لفظ العربية ، فامّا إذا كان قادرا على التلفظ بالطلاق بالعربية ، وطلّق بلسان غيرها ، فلا تقع الفرقة بذلك ، لأنّه ليس عليه دليل ، والأصل بقاء العقد.

ولا يقع الطلاق إلا باللسان.

ص: 676


1- في كتاب الخلاف : في المسألة 31 من كتاب الطلاق.
2- الخلاف : كتاب الطلاق ، المسألة 31 ، ذيل المسألة.

قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن كتب بيده أنّه طلّق امرأته وهو حاضر ليس بغائب ، لم يقع الطلاق ، فإن كان غائبا فكتب بيده أنّ فلانة طالق ، وقع الطلاق ، وإن قال لغيره : اكتب إلى فلانة امرأتي بطلاقها ، لم يقع الطلاق ، فإن طلّقها بالقول ، ثمّ قال لغيره : اكتب إليها بالطلاق ، كان الطلاق واقعا بالقول دون الأمر (1).

قال محمّد بن إدريس : لا يقع الطلاق إذا كتب بخطه أنّ فلانة طالق ، وإن كان غائبا بغير خلاف من محصّل ، لأنّا نراعي لفظا مخصوصا يتلفظ به المطلّق ، ومن كتب فما تلفظ بغير خلاف ، والأصل بقاء العقد وثبوته ، فمن أوقع بالكتابة طلاقا وفرقة ، يحتاج إلى دليل.

وشيخنا أبو جعفر فقد رجع عمّا قاله في نهايته في مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا كتب بطلاق زوجته ولم يقصد الطلاق ، لا يقع بلا خلاف ، فإن قصد به الطلاق فعندنا أنّه لا يقع به شي ء ، ثمّ قال : دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا الأصل بقاء العقد ، ولا دليل على وقوع الطلاق بالكتابة (2) هذا آخر كلامه في مسائل خلافه.

وقال في نهايته : وإذا وكل الرجل غيره بأن يطلق عنه ، لم يقع طلاقه ، إذا كان حاضرا في البلد ، فإن كان غائبا جاز توكيله في الطلاق (3).

قال محمّد بن إدريس : يصحّ التوكيل في الطلاق حاضرا كان الموكل أو غائبا ، بغير خلاف بين المسلمين ، وقد استوفينا الكلام على ذلك في باب الوكالة (4) بما أغنى عن إعادته.

ومن أراد عزل الوكيل ، فليعلمه ذلك ، فإن لم يمكنه فليشهد شاهدين على عزله ، فإن طلّق الوكيل وكان طلاقه قبل العزل ، وقع طلاقه ، وإن كان بعد العزل كان باطلا.

ص: 677


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.
2- الخلاف : كتاب الطلاق ، مسألة 29.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.
4- راجع ص 95 من الكتاب.

ومتى وكل رجلين على الطلاق ، ولم يشرط في وكالتهما الانفراد والاجتماع ، لم يجز لأحدهما أن يطلّق ، فإن طلّق بانفراده لم يقع طلاقه ، وإذا اجتمعا عليه وقع.

ومن لم يتمكن من الكلام ، مثل أن يكون أخرس ، فليكتب الطلاق بيده ، إن كان ممن يحسن الكتابة ، فإن لم يحسن فليوم إلى الطلاق ، كما يومي إلى بعض ما يحتاج إليه ، فمتى فهم من إيمائه ذلك ، وقع طلاقه.

وقد روي أنّه ينبغي أن يأخذ المقنعة فيضعها على رأسها ، ويتنحى فيكون ذلك منه طلاقا ، وإذا أراد منه مراجعتها أخذ القناع من رأسها (1).

وهذه الرواية يمكن حملها على من لم يكن له كناية مفهومة ، ولا إشارة معقولة.

ومتى علّق الإنسان الطلاق بشرط من الشروط ، أو صفة من الصفات ، وكذلك العتاق ، كان باطلا على ما قدّمناه.

ومن شرائط الطلاق العامة أن يطلّقها تطليقة واحدة ، فإن طلّقها ثنتين أو ثلاثا بأن يقول : أنت طالق ثلاثا لغير المدخول بها ، أو قال ذلك للمدخول بها ، لم يقع على الصحيح من المذهب ، إلا واحدة ، وقال بعض أصحابنا : لا يقع من ذلك شي ء ، والأول هو الأظهر من المذهب.

فإن قال لغير المدخول بها : أنت طالق ، أنت طالق ، أنت طالق ، بانت منه بالأولى ، وبطل الطلاق الثاني والثالث بغير خلاف.

فإن قال ذلك للمدخول بها ، لا يقع إلا الطلاق الأول ، دون الثاني والثالث ، لأنّ طلاق الطالق لا يصح ، فإن تحللت المراجعة صحّ على ما قدّمناه.

وقد كتب إليّ بعض الفقهاء الشافعيّة ، وكان بيني وبينه مؤانسة ومكاتبة ، هل يقع الطلاق الثلاث عندكم؟ وما القول في ذلك عند فقهاء أهل البيت عليهم السلام؟

فأجبته أمّا مذهب أهل البيت ، فإنّهم يرون أنّ الطلاق الثلاث بلفظ واحد

ص: 678


1- الوسائل : الباب 19 من أبواب مقدمات الطلاق ، وبمضمونه الحديث 2 و 3 و 5.

في مجلس واحد وحالة واحدة من دون تخلل المراجعة ، لا يقع منه إلا واحدة ، ومن طلّق امرأته تطليقة واحدة وكانت مدخولا بها ، كان له مراجعتها بغير خلاف بين المسلمين.

وقد روي أنّ ابن عباس وطاووسا يذهبان إلى ما يقوله الشيعة (1) ، وحكى الطحاوي في كتاب الاختلاف أنّ الحجاج بن ارطاة كان يقول : ليس الطلاق الثلاث بشي ء ، وحكى في هذا الكتاب عن محمد بن إسحاق ، أنّ الطلاق الثلاث يردّ إلى واحدة ، ودليل الشيعة على ما ذهبت إليه بعد إجماع أهل البيت عليهم السلام ، فانّ فيه الحجة من وجوه يطول شرحها لا يحتمل هذا الموضع ذكرها ، لأنّه يوحش المبتدي لسماعة ، ولقول الرسول عليه السلام المتفق عليه : « خلّفت فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا » (2) فقرن عليه السلام العترة إلى الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وجعل حكمها حكمه ، وقال عليه السلام : « مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من أتاها نجا ، ومن تخلّف عنها هلك » (3) مطابقا لقول اللّه سبحانه : ( فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ ) (4) إن دلوا (5) على ان المشروع في الطلاق إيقاعه متفرقا.

وقد وافقهم مالك وأبو حنيفة على أنّ الطلاق الثلاث في الحال الواحدة محرم مخالف للسنّة ، إلا أنّهما يذهبان مع ذلك إلى وقوعه.

ص: 679


1- التاج ، ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدة ، عن أبي الصهباء ، أنّه قال لابن عباس : أتعلم انّما كانت الثلاث تجعل واحدة على عهد النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم وأبي بكر وثلاثا من امارة عمر؟ فقال ابن عباس : نعم ، وقال ابن عباس رضي اللّه عنهما : كان الطلاق على عهد النبي وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر ، طلاق الثلاث واحدة.
2- لم نتحققه بعينه لكن حديث الثقلين مسلم عند الفريقين وأورده في إحقاق الحق : ج 9 ، من ص 375 - 309 بأسانيد متعددة وألفاظ مختلفة.
3- إحقاق الحق : ج 9 ، ص 293 - 270 ، وهو مروي بأسانيد متعددة باختلاف يسير في الألفاظ.
4- العنكبوت : 15.
5- ج : وقد دلوا.

وفي هذا القول ما فيه.

والذي يدلّ على صحّة ما ذهب إليه الشيعة ، قوله تعالى ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) (1) ومن المعلوم أنّه تعالى لم يرد بذلك الخبر ، لأنّه لو أراده لكان كذبا ، وانّما أراد الأمر ، فكأنّه قال تعالى : طلّقوا مرتين ، وجرى مجرى قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (2) وكقوله تعالى ( وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً ) (3) والمراد بذلك يجب أن يؤمنوه ، والمرّتان لا تكونان إلا واحدة بعد اخرى ، ومن جمع الطلاق في كلمة واحدة ، لا يكون مطلّقا مرتين ، كما أنّ من أعطى درهمين مرة واحدة ، لم يعطهما مرتين.

فإن احتج من يذهب إلى أنّ الطلاق الثلاث يقع وإن كان بدعة بما روي في حديث ابن عمر من أنّه قال للنبيّ عليه السلام : أرأيت لو طلّقتها ثلاثا ، فقال عليه السلام : إذن عصيت ربّك ، وبانت منك امرأتك (4).

فالذي يبطل ذلك أنّه لا تصريح في قوله : « أرأيت لو طلّقتها ثلاثا » فاني كنت أفعل ذلك بكلمة واحدة ، وحالة واحدة ، ويجوز أن يكون مراده انّي لو طلّقتها ثلاثا في ثلاثة أطهار ، تخللها المراجعة ، ولا شبهة في أنّ من طلّق امرأته

ص: 680


1- البقرة : 229.
2- البقرة : 228.
3- آل عمران : 97.
4- سنن النسائي : كتاب الطلاق ، باب الرجعة ، وفيه : « كان ابن عمر إذا سئل عن الرجل طلّق امرأته وهي حائض ، فيقول : إمّا ان طلّقها واحدة أو اثنتين ، فان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله أمره أن يراجعها ثمّ يمسكها حتى تحيض حيضة أخرى ثمّ تطهر ثمّ يطلّقها قبل أن يمسّها ، وامّا أن طلّقها ثلاثا فقد عصيت اللّه في ما أمرك به من طلاق امرأتك وبانت منك امرأتك ». وأورد مثله في صحيح مسلم ، كتاب الطلاق في ذيل ص 340 عن ابن عباش. وفي سنن البيهقي : كتاب الخلع والطلاق ، باب الاختيار للزوج ، أن لا يطلق إلا واحدة ، في حديث عطاء الخراساني ، عن الحسن قال : حدثنا عبد اللّه بن عمر .. إلى أن قال : « فقلت : يا رسول اللّه أفرأيت لو أني طلّقتها ثلاثا كان يحلّ لي أن أراجعها ، قال : كانت تبين منك وتكون معصية » ج 7، ص 330 وأورده في التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدة.

ثلاثا في ثلاثة أطهار ، أنّه يسمّى مطلّقا ثلاثا.

فإن قيل : لا فائدة على هذا الوجه في قوله عليه السلام : إذن عصيت ربّك ، وبانت منك امرأتك.

قلنا : يحتمل ذكر المعصية أمرين ، أحدهما أن يكون النبي عليه السلام كان يعلم من زوجة ابن عمر خيرا وبرا يقتضيان المعصية بفراقها ، والأمر الآخر أنّه مكروه للزوج أن يخرج نفسه من التمكين من مراجعة المرأة ، لأنّه لا يدري كيف ينقلب قلبه ، فربما دعته الدواعي القوية إلى مراجعتها ، فإذا أخرج أمرها من يده ، ربما هم بالمعصية.

فإن احتجوا أيضا بما رووه من أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق طلّق امرأته تماضر - بضم التاء وكسر الضاد - ثلاثا (1).

قلنا : يجوز أن يكون طلقها في أطهار ثلاثة مع مراجعة تخللت ، وليس في ظاهر الخبر أنّه طلقها ثلاثة لفظ واحد في حالة واحدة.

وهذه الطريقة التي سلكناها ، يمكن أن تطرد في جميع أخبارهم التي يتعلقون بها ، بما يتضمن وقوع طلاق ثلاث ، فقد فتحنا طريق الكلام على ذلك كلّه ، ونهجناه ، فلا معنى للتطويل بذكر جميع الأخبار.

على أنّ أخبارهم معارضة بأخبار موجودة في رواياتهم وكتبهم ، يقتضي أنّ الطلاق الثلاث لا يقع.

منها ما رواه ابن سيرين أنّه قال : حدثني من لا أتهم ، أنّ ابن عمر طلّق امرأته ثلاثا وهي حائض ، فأمره النبيّ عليه السلام أن يراجعها (2).

ص: 681


1- .. لم نعثر عليه إلا أنّ في سنن البيهقي ( كتاب الطلاق ، باب من جعل الثلاث واحدة .. ج 7 ، ص 336 ) أنّ أبا الصهبان قال لابن عباس : ألم يكن الطلاق الثلاث في عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأبي بكر واحدة؟ قال : « قد كان ذلك ، فلمّا كان في عهد عمر نتابع الناس في الطلاق ، فأمضاه عليهم »
2- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدة ، ص 341. صحيح مسلم : كتاب الطلاق ، ح 9. وأشار إليه أبوداود في سننه في كتاب الطلاق، الباب 4 (الرقم 2185).

وبما رواه الحسن قال : أتى عمر برجل قد طلّق امرأته ثلاثا بفم واحد ، فردّها عليه ، ثمّ أتى بعد ذلك برجل آخر قد طلّق امرأته ثلاثا بفم واحد ، فأبانها منه ، فقيل له : إنّك بالأمس رددتها عليه ، فقال : خشيت أن يتتايع - بالياء المنقطة من تحت بنقطتين يقال تتايع الناس في الشر ، وتتابع الناس في الخير ، بالباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة ، التي قبل العين ، وفي الشر تتايع بنقطتين قبل العين - فيه السكران والغيران (1).

وروي عن ابن عباس رضي اللّه عنه ، أنّه كان يقول انّ الطلاق كان على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وعهد أبي بكر وصدر من امارة عمر طلاق الثلاث واحدة ، ثمّ جعلها عمر بعد ذلك ثلاثا (2).

وروى عكرمة عن ابن عباس ، قال : طلّق ركانة - بالراء المضمومة ، والنون - ابن عبد ربه ، امرأته ثلاثا في مجلس واحد ، فحزن عليها حزنا شديدا ، فسأله رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله كيف طلقتها؟ قال : طلقتها ثلاثا فقال : في مجلس واحد قال : نعم ، قال عليه السلام : انّما تلك واحدة ، فراجعها إن شئت ، قال : فراجعتها (3).

والأخبار المعارضة لأخبارهم أكثر من أن تحصى ، أو تستقصى.

ودليل آخر على أصل المسألة ، وهو أن يقال الطلاق الثلاث بلفظ واحد في حالة واحدة من غير أن يتخلله مراجعة ، لا يقع منه إلا واحدة ، والدليل على ذلك من كتاب اللّه تعالى ، ومن سنّة نبيه صلى اللّه عليه وآله ، ومن إجماع المسلمين ، ومن قول أمير المؤمنين عليه السلام ، ومن قول ابن عباس رحمه اللّه ،

ص: 682


1- لم نعثر عليه.
2- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدّة ص 340. سنن أبي داود : الباب 10 من كتاب الطلاق ، ح 5 و 6 ( الرقم 2199 و 2200 ).
3- أورده في هامش التاج ، ج 2 ، ص 340 : الفتح الرباني : كتاب الطلاق ، الباب 3 ، ح 1 ، قالوا :

ومن قول عمر بن الخطاب.

أمّا كتاب اللّه فقد تقرر أنّه نزل بلسان العرب ، وعلى مذاهبها في الكلام ، قال اللّه جلّت عظمته ( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) (1) وقال تعالى ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (2) ثمّ قال سبحانه في آية الطلاق : ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) (3) فكانت الثالثة في قوله عزوجل ( أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ ) على قول ابن عباس ، أو في قوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ) (4) فوجدنا المطلّق إذا قال لامرأته : أنت طالق ، أتى بلفظ واحد يتضمن تطليقة واحدة ، وإذا قال لها عقيب هذا اللفظ : ثلاثا ، لم يخل من أن تكون أشار به إلى طلاق وقع فيما سلف ثلاث مرات ، أو إلى طلاق يكون في المستقبل ثلاثا ، أو إلى الحال ، فإن كان أخبر عن الماضي ، فلم يقع الطلاق إذن باللفظ الذي أورده في الحال ، وانّما أخبر عن أمر كان ، وإن كان أخبر عن المستقبل فيجب أن لا يقع بها طلاق حتى يأتي الوقت ، ثمّ يطلّقها ثلاثا على مفهوم اللفظ والكلام ، وليس هذان القسمان ممّا جرى الحكم عليهما ، ولا تضمنهما المقال ، فلم يبق إلا أنّه أخبر عن الحال وذلك كذب ولغو بلا إشكال ، لأنّ الواحدة لا تكون أبدا ثلاثا ، فلأجل ذلك حكمنا عليه بتطليقة واحدة ، من حيث تضمّنه اللفظ الذي أورده ، وأسقطنا ما لغا فيه ، واطرحناه إذا كان على مفهوم اللغة التي نطق بها القرآن فاسدا وكان مضادا لأحكام الكتاب وأمّا السنّة فانّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال : « كلّ ما لم يكن على أمرنا هذا فهو ردّ » (5) وقال عليه السلام : « ما وافق الكتاب فخذوه وما خالفه فاطرحوه » (6) وقد بيّنا أنّ المرّة لا تكون مرتين ، وأن الواحدة لا تكون ثلاثا ،

ص: 683


1- الزمر : 28.
2- إبراهيم : 4.
3- البقرة : 229.
4- البقرة : 230.
5- لم نعثر عليه.
6- الوسائل : الباب 9 من أبواب صفات القاضي ، ح 10 - 19 - 29. وفي جميعها فردوه ، أو دعوه، بدل فاطرحوه.

فأوجبت السنّة إبطال طلاق الثلاث.

وأمّا إجماع الأمّة فإنّهم مطبقون على أنّ كلّ ما خالف القرآن والسنّة فهو باطل ، وقد تقدّم وصف خلاف الطلاق الثلاث للقرآن والسنّة ، فحصل الإجماع على إبطاله.

وأمّا قول أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنّه قد تظاهر عنه الخبر المستفيض أنّه قال : « إيّاكم والمطلّقات ثلاثا في مجلس واحد ، فإنّهنّ ذوات الأزواج » (1).

وأمّا قول ابن عباس رحمه اللّه ، فإنّه كان يقول : الا تعجبون من قوم يحلون المرأة لرجل واحد وهي تحرم عليه ، ويحرّمونها على آخر وهي حلال له ، فقالوا : يا ابن عباس ومن هؤلاء القوم؟ فقال : هم الذين يقولون للمطلّق ثلاثا في مجلس واحد ، قد حرمت عليك امرأتك.

وأمّا قول عمر بن الخطاب ، فلا خلاف أنّه رفع إليه رجل قد طلّق امرأته ثلاثا ، فأوجع ظهره وردّها عليه ، وبعد ذلك رفع إليه رجل قد طلّق كالأول ، فأبانها منه ، فقيل له في اختلاف حكمه في الرجلين ، فقال : قد أردت أن أحمله على كتاب اللّه عزوجل ، فخشيت أن يتتايع فيه السكران والغيران ، فاعترف بأنّ المطلقة ثلاثا تردّ إلى واحدة على حكم الكتاب ، وأنّه انّما أبانها منه بالرأي والاستحسان ، فعملنا من قوله على ما وافق القرآن ، ورغبنا عمّا ذهب إليه من جهد الرأي والاستحسان.

على أنّه لا خلاف بين أهل اللسان العربي وأهل الإسلام ، أنّ المصلّي لو قال في ركوعه : سبحان ربي العظيم فقط ، ثمّ قال في عقيبه : ثلاثا ، لم يكن مسبحا ثلاثا ، ولو قرأ الحمد مرّة ، ثمّ قال في آخرها بلفظه : عشرا لم يكن قارئا لها عشرا.

ص: 684


1- مستدرك الوسائل : الباب 22 من أبواب مقدمات الطلاق وشرائطه ح 9 ، وفيه : فإنهن ذوات بعول.

وقد أجمعت الأمة على أنّ الملاعن لو قال في شهادته أشهد باللّه أربعا : أني لمن الصادقين ، لم يكن شاهدا أربع مرّات على الحقيقة ، حتى يفصّلها.

ولو أنّ حاجا رمى بسبع حصيات في دفعة واحدة ، لم يجزئه ذلك عن سبع متفرقات ، فهذا بيّن واضح لمن تدبره ، وأعطى النظر حقّه ، وحرّره ، وأنصف عن نفسه ، ووزن الحقّ بميزان عقله ، وترك التقليد جانبا ، وحب المذهب والنشو والعادة وراء ظهره ، واعتقد المعاد والحساب وسؤال منكر ونكير في رمسه ، واستدرك في يومه ما فرط في أمسه.

وأيضا فقد قال اللّه تعالى ( إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ ) (1) فأمر بإحصاء العدّة ، ثبت أنّه أراد في كل قرء طلقة ، لأنّه لو أمكن الجمع بين الثلاث ، لما احتاج إلى إحصاء العدّة في غير المدخول بها وذلك خلاف الظاهر.

فإن قيل : العدد إذا ذكر عقيب الاسم ، لم يقتض التفريق ، مثاله إذا قال له على مائة درهم مرتان ، وإذا ذكر عقيب الفعل اقتضى التفريق ، مثاله ادخل الدار مرتين ، أو ضربته مرتين ، والعدد في آية الطلاق وهو قوله تعالى ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) عقيب الاسم لا الفعل.

قلنا : قوله « الطَّلاقُ مَرَّتانِ » ، يعني طلّقوا مرّتين ، لأنّه لو كان خبرا لكان كذبا ، فالعدد مذكور عقيب فعل ، لا اسم فهذا آخر الجواب ، أحببت إيراده هاهنا لئلا يشذ.

وقد روى أصحابنا روايات متظاهرة بينهم ، متناصرة ، وأجمعوا عليها قولا وعملا ، أنّه إن كان المطلّق مخالفا ، وكان ممن يعتقد وقوع الطلاق الثلاث ، لزمه ذلك ، ووقعت الفرقة به ، وانّما لا يقع الفرقة إذا كان الرجل معتقدا للحقّ.

فأمّا الشرائط الخاصّة ، فهو الحيض ، لأنّ الحائض لا يقع طلاقها إذا كان

ص: 685


1- الطلاق : 1.

الرجل حاضرا ، وبكون قد دخل بها ، فإن طلّقها وهي حائض ، كان طلاقه باطلا ، وكذلك إن طلّقها في طهر قد قربها فيه ، لم يقع الطلاق.

ومتى لم يكن دخل بالمرأة وطلّقها وقع الطلاق وإن كانت حائضا.

وكذلك إن كان عنها غائبا بمقدار ما يعرف من حالها وعادتها ، وقع طلاقه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : شهرا فصاعدا ، وقع طلاقه إذا طلّقها وإن كانت حائضا (1).

وليس الاعتبار بالشهر الذي اعتبره رحمه اللّه ، بل الاعتبار بما يعرفه من حال امرأته ، إمّا شهرا أو شهرين ، أو ثلاثة ، على قدر عادتها.

وقد حقّق هذا في استبصاره (2) ، ورجع عن إطلاق ما في نهايته ، في المكان الذي أشرنا إليه.

ومتى عاد من غيبته ، وصادف امرأته حائضا ، وإن لم يكن واقعها لم يجز له طلاقها حتى تطهر ، لأنّه صار حاضرا ، ولا يجوز للحاضر أن يطلّق امرأته وهي حائض بغير خلاف بيننا ، فهذا فقه المسألة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى كان للرجل زوجة معه في البلد ، غير أنّه لا يصل إليها ، فهو بمنزلة الغائب عن زوجته ، فإذا أراد طلاقها ، فليصبر إلى أن يمضي ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ، ثمّ يطلّقها إن شاء (3).

قال محمّد بن إدريس : الذي يقتضيه أصول مذهبنا ، وإجماعنا منعقد عليه ، أنّه لا يجوز للحاضر أن يطلّق زوجته المدخول بها وهي حائض ، بغير خلاف بيننا على ما قدّمناه ، إذا كانت مستقيمة الحيض ، غير مسترابة ، ولو بقي لا يقربها ولا يطؤها سنة ، أو أكثر من ذلك ، وانّما الاستبراء لمن لا تحيض ، وفي سنّها من

ص: 686


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب أقسام الطلاق وشرائطه.
2- الإستبصار : ج 3 ، باب طلاق الغائب ، ص 295 - 294.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.

تحيض ، على ما بيّناه ، وحمل الحاضر والحاضرة في البلد على تلك قياس ، وهو باطل عندنا ، والأصل الزوجية ، فمن أوقع الطلاق ، يحتاج إلى دليل قاهر ، وما ذكره شيخنا خبر واحد ، أورده إيرادا لا اعتقادا ، كما أورده أمثاله ممّا لا يعمل عليه ولا يعرج عليه ولو لا إجماعنا على طلاق الغائب ، وإن كانت زوجته حائضا لما صحّ ، فلا نتعدّاه ونتخطاه.

وقد قلنا : إنّه يستحب الإشهاد على المراجعة ، فإن لم يفعل كان جائزا.

وأدنى ما يكون به المراجعة أن ينكر طلاقها ، أو يقول ما نويت الطلاق ، فيقبل قوله في الحكم ما لم تخرج من العدّة ، فإن خرجت من العدّة لم يقبل منه في الحكم.

أو يقبّلها ، أو يلمسها ، فإن بذلك أجمع ترجع إليه ، وتنقطع العدّة.

وانّما يستحب الإشهاد ، لأنّه متى لم يشهد على المراجعة ، وأنكرت المرأة ذلك ، وشهد لها بالطلاق شاهدان ، فإنّ الحاكم يبينها منه ، ولم يكن له عليها سبيل ، فإن لم يشهد في حال المراجعة ، ثمّ أشهد بعد ذلك ، كان أيضا جائزا.

ومتى أنكر الطلاق ، وكان ذلك قبل انقضاء العدة ، كان ذلك أيضا رجعة على ما قدّمناه ، فإن كان ذلك بعد انقضاء العدّة ، فلا سبيل له عليها ، ولا يقبل قوله على ما ذكرناه.

ومتى راجعها لم يجز له أن يطلّقها تطليقة أخرى طلاق العدّة ، إلا بعد أن يواقعها ، ويستبرئها بحيضة ، فإن لم يواقعها ، أو عجز عن وطئها ، وأراد طلاقها ، طلّقها طلاق السنّة ، على ما حرّرناه فيما مضى وشرحناه.

ومتى واقعها وارتفع حيضها ، وهي في سنّ من تحيض ، وأراد طلاقها ، استبرأها بثلاثة أشهر ، ثمّ يطلّقها بعد ذلك.

وإذا أراد أن يطلّق امرأة قد دخل بها ، ولم تكن قد بلغت مبلغ النساء ، ولا مثلها في السن قد بلغ ، وحدّ ذلك دون تسع سنين ، فليطلّقها أي وقت شاء ، فإذا طلّقها فقد بانت منه في الحال ، على الصحيح من المذهب.

ص: 687

وقال بعض أصحابنا : يجب عليها العدّة ثلاثة أشهر ، وهو اختيار السيد المرتضى.

والأول أظهر بين الطائفة ، وعملهم عليه ، وفتاويهم به ، وصائرة إليه ، وقد تكلّمنا في باب النكاح (1) في هذه المسألة وبلغنا فيها أبعد الغايات ، وأقصى النهايات ، وقلنا : إن قيل إنّ عندكم إذا دخل بالمرأة زوجها ، ولم تبلغ تسع سنين ، فقد حرمت عليه أبدا ، فكيف يطلّقها؟ وأزلنا الشبهة المعترضة في ذلك بما لا معنى لا عادته (2).

ومتى كان لها تسع سنين فصاعدا ، ولم يكن حاضت بعد ، وأراد طلاقها ، فليصبر عليها ثلاثة أشهر ، ثمّ يطلّقها بعد ذلك.

وحكم الآئسة من المحيض ، ومثلها لا تحيض ، حكم التي لم تبلغ مبلغ النساء سواء ، في أنّه يطلّقها أيّ وقت شاء ، وحدّ ذلك خمسون سنة على ما قدّمناه.

ومتى كانت آيسة من المحيض ، ومثلها تحيض ، استبرأها بثلاثة أشهر ، ثم يطلّقها بعد ذلك ، وحدّ ذلك إذا نقص سنّها عن خمسين سنة.

وإذا أراد أن يطلّق امرأته ، وهي حبلى مستبين حملها ، فليطلقها ، أي وقت شاء ، بغير خلاف بين أصحابنا ، على خلاف بينهم ، هل الحبلى المستبين حملها تحيض أم لا؟ وأدلّ دليل ، وأوضح قيل ، على أنّها لا تحيض ، إجماعهم على صحّة طلاقها ، سواء كان ذلك في حال رؤية دم ، أو حال نقاء ، فلو كانت تحيض ، ما صحّ طلاقها في حال رؤية الدم ، لأنّ إجماعهم منعقد على أنّ طلاق الحائض لا يقع ، ولا يصحّ ، فيحقق به ما قلناه.

فإذا طلّقها واحدة ، كان أملك برجعتها ما لم تضع ما في بطنها.

فإذا راجعها وأراد طلاقها للسنّة ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته : لم يجز له

ص: 688


1- راجع ص 530 من الكتاب.
2- من قوله « فكيف » الى هنا لم يكن في النسخة الأصل وأثبتناه من النسخ الأخر.

ذلك حتى تضع ما في بطنها (1).

قال محمّد بن إدريس : لا أرى لمنعه وجها ، ولا مانعا يمنع منه ، من كتاب ، ولا سنّة متواترة ، ولا إجماع منعقد ، والأصل الصحّة ، والمنع يحتاج إلى دليل ، مع قوله تعالى ( فَإِنْ طَلَّقَها ) و ( الطَّلاقُ مَرَّتانِ ) وغير ذلك من عمومات آيات الطلاق ، وانّما هو خبر واحد ، أورده في نهايته إيرادا ، لا اعتقادا ، وقد بيّنا ما في أخبار الآحاد.

فإن أراد طلاقها للعدة واقعها ، ثمّ يطلّقها بعد المواقعة ، فإذا فعل ذلك ، فقد بانت منه بتطليقتين ، وهو أملك برجعتها ، فإن راجعها وأراد طلاقها ثالثة ، واقعها ثمّ يطلّقها ، فإذا طلّقها الثالثة ، لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره.

ولا يجوز لها أن تتزوج حتى تضع ما في بطنها ، فإن كانت حاملا باثنين ، فإنّها لا تبين من الرجل إلا بعد وضع الأخير منهما ، لقوله تعالى ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (2) فإذا وضعت الأول ، ما وضعت حملها جميعه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فإن كانت حاملا باثنين ، فإنّها تبين من الرجل عند وضعها الأوّل ، ولا تحل للأزواج حتى تضع جميع ما في بطنها (3).

وهذا قول عجيب ، لأنّه لو كانت قد بانت من الرجل بوضعها الأول ، وانقضت العدّة ، لحلّت للأزواج ، فلو لم تكن بعد في العدّة ، لما كان التزويج محظورا ، ولا انتظار وضع جميع ما في بطنها معتبرا في تحليل العقد عليها لغيره.

إلا أنّ شيخنا أبا جعفر رجع عمّا ذكره في نهايته ، في الجزء الثالث من مسائل خلافه ، فقال : مسألة ، إذا طلّقها وهي حامل ، فولدت توأمين بينهما أقلّ من ستة أشهر ، فإنّ عدّتها لا تنقضي حتى تضع الثاني منهما ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، ومالك ، والشافعي ، وعامة أهل العلم ، وقال عكرمة : ينقضي عدّتها بوضع الأول ، وقد روى أصحابنا أنّها تبين بوضع الأول ، غير أنّها لا تحلّ

ص: 689


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.
2- الطلاق : 4.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.

للأزواج حتى تضع الثاني (1) ، والمعتمد الأول ، دليلنا : قوله ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) وهذه ما وضعت حملها (2) ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّ الحامل عدّتها أقرب الأجلين ، من جملتهم ابن بابويه (3).

ومعنى ذلك ، أنّها إن مرّت بها ثلاثة أشهر فقد انقضت عدّتها ، ولا تحلّ للأزواج حتى تضع ما في بطنها ، وإن وضعت الحمل بعد طلاقه بلا فصل ، بانت منه ، وحلّت للأزواج ، وهذا لمذهب في العجب كالأول.

والصحيح من الأقوال ، والأظهر بين الطائفة ، أنّ عدّتها بوضع الحمل ، يعضد ذلك قوله تعالى ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) .

وإذا أراد الرجل طلاق زوجته وهو غائب عنها ، فإن خرج إلى السفر وقد كانت طاهرا طهرا لم يقربها فيه بجماع ، جاز له أن يطلّقها أيّ وقت شاء ، ومتى كانت طاهرا طهرا قد قربها فيه بجماع ، فلا يطلّقها حتى يمضى زمان يعرف من حالها أنّها حاضت وطهرت فيه ، وذلك بحسب ما يعرف من عادتها في حيضها ، إمّا شهرا ، أو شهرين ، أو ثلاثة أشهر.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : فلا يطلّقها حتى يمضى ما بين شهر إلى ثلاثة أشهر ، أو أربعة أشهر ، ثمّ : يطلّقها بعد ذلك أيّ وقت شاء (4).

إلا أنّه رحمه اللّه ، حرّر مَا أجمله في كتابه الإستبصار ، في الجزء الثالث ، فقال في باب طلاق الغائب ، لمّا أورد الأخبار ، واختلفت في التحديد ، فقال :

الوجه في الجمع بين هذين الخبرين ، والخبر الأوّل ، أنّ نقول : الحكم يختلف باختلاف عادة النساء في الحيض ، فمن علم من حال امرأته أنّها تحيض في كلّ

ص: 690


1- الوسائل : الباب 10 من أبواب العدد.
2- الخلاف : كتاب العدة ، المسألة 8.
3- المقنع المطبوع ضمن الجوامع الفقهية ص 29.
4- النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.

شهر حيضة ، يجوز له أن يطلّق بعد انقضاء الشهر ، ومن يعلم أنّها لا تحيض إلا كلّ ثلاثة أشهر ، أو خمسة أشهر ، لم يجز له أن يطلّقها إلا بعد مضي هذه المدّة ، فكان المراعى في جواز ذلك ، مضي حيضة ، وانتقالها إلى طهر لم يقربها فيه بجماع ، وذلك يختلف على ما قلناه (1).

هذا آخر كلامه رحمه اللّه في باب طلاق الغائب في الاستبصار ، ونعم ما قال وحرّر ، وأوضح المسألة تغمده اللّه برحمته ، وحشره مع أئمته.

فإن قيل : إذا مضى ثلاثة أشهر بيض فلا حاجة في الاستبراء إلى أكثر منها ، لأنّ بها تخرج من العدّة ، وإن كانت من ذوات الأقراء المستقيمة الحيض.

قلنا : الاستبراء غير العدّة ، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ من وطأ زوجته في طهرها ، فلا يجوز له أن يطلّقها فيه حتى تحيض وتطهر ، ثمّ يطلّقها في الطهر الذي لم يقربها فيه بجماع ، فإذن تحقق ما قلناه ، وإن كان أكثر من ثلاثة أشهر.

ومتى أراد الغائب أن يطلّق امرأته ، وراعى ما قلناه ، فليطلّقها تطليقة واحدة ، ويكون هو أملك برجعتها ما لم تخرج من عدّتها ، إمّا بالأقراء إن كانت مستقيمة الحيض ، أو بالشهور ، إن كانت مسترابة ، وفي سنّها من تحيض ، وهي ثلاثة أشهر.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويكون هو أملك برجعتها ما لم يمض لها ثلاثة أشهر ، وهي عدّتها إذا كانت من ذوات الحيض (2).

ولا أرى لقوله هذا وجها يستند إليه ، ولا دليلا يعوّل عليه ، وكيف صارت هذه على كلّ حال تعتد بالأشهر الثلاثة ، مع قوله تعالى ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (3) ولا خلاف بيننا أنّها إذا شهد لها شهود بالطلاق وتاريخه ، وكان قد مضى لها من يوم طلّقها ثلاثة قروء ، فإنّها تحل للأزواج.

فإذا أراد الغائب الذي طلّق زوجته مراجعتها قبل خروجها من عدّتها ،

ص: 691


1- الاستبصار : ج 3 ، ص 295 ، ذيل الحديث 6 ، من باب طلاق الغائب.
2- النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.
3- البقرة : 228.

أشهد على المراجعة ، كما أشهد على الطلاق ، فإن لم يشهد على المراجعة ، وبلغ الزوجة الطلاق ، فاعتدت وتزوّجت ، لم يكن له عليها سبيل ، وكذلك إن انقضت عدّتها ولم تتزوج ، لم يكن له عليها سبيل إلا بعقد مستأنف.

ومتى طلّقها وأشهد على طلاقها ، ثمّ قدم أهله وأقام معها ، ودخل بها ، وأتت المرأة بولد ، ثمّ ادّعى أنّه كان طلّقها ، لم يقبل قوله ، ولا بينته ، وكان الولد لاحقا به.

وفقه ذلك ، أنّ ظاهر حاله ودخوله عليها ووطأه لها والمقام عندها بعد رجوعه ، أنّه راجعها ، وانّها زوجته ، فلا يلتفت إلى دعواه ولا بيّنته بالطلاق ، لأنّ له مراجعتها بعد طلاقه ، وقد رأيناه مراجعا لها ، وفاعلا جميع ما يفعله الزوج فحكمنا عليه بالظاهر.

ومتى كان عند الرجل أربع نساء ، وهو غائب عنهنّ ، وطلّق واحدة منهنّ ، لم يجز له أن يعقد على أخرى إلا بعد أن يمضي تسعة أشهر ، لأنّ في ذلك مدّة الأجلين ، فساد الحيض ووضع الحمل.

هذا إذا كان طلاق المطلّقة أول طلاقها ، أو ثاني طلاقها ، فأمّا إن كان طلاقا ثالثا ، فلا بأس أن يعقد على اخرى بعد طلاقها الثالث بلا فصل ، لأنّها قد بانت منه في الحال ، ولا يكون جامعا بين خمس نساء.

وليس كذلك إذا كان الرجل مسافرا وتحته امرأة واحدة ، وطلّقها طلاقا شرعيا ، وأراد أن يعقد على أختها في حال سفره ، فإذا انقضت عدّتها على ما يعلمه من عادتها ، فله العقد على أختها ، ولا يلزمه أن يصبر تسعة أشهر ، لأنّ القياس عندنا باطل ، وكذلك التعليل ، فليلحظ الفرق بين المسألتين ويتأمّل.

وكذلك إذا كانت المطلّقة التي هي الرابعة غير مدخول بها ، أو مدخولا بها ، وهي لم تبلغ تسع سنين ، أولها من السنين أكثر من خمسين سنة ، أو خمسون وقد تغيّرت عادتها ، فإنّ هاتين المرأتين لا يجب عليهما العدّة على الأظهر من الأقوال ، فليلحظ ذلك.

ص: 692

ومتى كان للرجل زوجة معه في البلد ، غير أنّه لا يصل إليها ، فهو بمنزلة الغائب عن زوجته إذا أراد طلاقها ، وقد قدّمنا حكمه ، فلا وجه لا عادته ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

والصحيح أنّ من كان حاضرا في البلد ، لا يجوز له أن يطلّق زوجته وهي حائض ، بلا خلاف بين أصحابنا.

وإذا أراد الرجل أن يطلّق المسترابة التي لا تحيض وفي سنّها من تحيض ، بعد دخوله بها ، صبر عليها مستبرئا لها بثلاثة ، أشهر ، ثمّ يطلّقها بعد ذلك أي وقت شاء.

وقد روي أنّ الغلام إذا طلّق وكان ممّن يحسن الطلاق ، وقد أتى عليه عشر سنين فصاعدا ، جاز طلاقه ، وكذلك عتقه ، وصدقته ، ووصيته ، ومتى كان سنّه أقل من ذلك ، أو لا يكون ممن يحسن الطلاق ، فإنّه لا يجوز طلاقه ، ولا يجوز لوليه أن يطلّق عنه (2).

والأولى ترك العمل بهذه الرواية ، لأنّها مخالفة لأصول المذهب ، والأدلة المتظاهرة ، ولقول الرسول عليه السلام : « رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم » (3) ، ورفع القلم عنه يدلّ على أنّه لا حكم لأفعاله.

وأيضا فقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد لا يعمل عليها ، ولا يلتفت إليها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وإن كان قد أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (4) ، فعلى جهة الإيراد دون الاعتقاد ، كما أورد أمثالها ممّا لا يعمل هو عليه.

ثمّ قال شيخنا في نهايته : ومتى كان سنّه أقل من ذلك ، أو لا يكون ممّن يحسن الطلاق ، فإنّه لا يجوز طلاقه ، ولا يجوز لوليه أن يطلّق عنه ، اللّهم إلا أن

ص: 693


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.
2- الوسائل : الباب 22 من أبواب مقدمات الطلاق ، ح 2 و 5 و 6 و 7.
3- الوسائل : الباب 4 من أبواب مقدمات العبادات ح 11 ولفظه هكذا : اما علمت ان القلم يرفع عن ثلاثة ، عن الصبيّ حتى يحتلم.
4- النهاية : كتاب الطلاق ، باب كيفية أقسام الطلاق.

يكون قد بلغ ، وكان فاسد العقل ، فإنّه والحال ما ذكرناه جاز طلاق الولي عنه (1).

قال محمد بن إدريس : إذا كان يعقل أوقات الصلوات ، فإنّه يطلّق بنفسه ، ولا خيار لزوجته ، وإن لم يعقل ذلك كان لزوجته الخيار ، فإن اختارت الفسخ ، فلا حاجة إلى طلاق الولي ، وإن لم تفسخ فلا يجوز للولي أن يطلّق عنه ، لقول النبيّ عليه السلام : « الطلاق بيد من أخذ بالساق » (2).

والحر إذا كان تحته أمة ، فطلاقها تطليقتان ، لأنّ المعتبر في الطلاق بالزوجة إن كانت حرة ، فطلاقها ثلاث ، سواء كانت تحت حر ، أو عبد ، وإن كانت أمة فطلاقها اثنتان ، سواء كانت تحت حر ، أو عبد.

فإذا طلّقها طلقتين ، لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره.

فإن وطأها مولاها ، لم يكن ذلك محللا للزوج من وطئها ، حتى يدخل في مثل ما خرجت منه من نكاح.

فإن اشتراها الذي كان زوجها ، لم يجز وطؤها حتى يزوّجها رجلا ، ويدخل بها ، ويكون التزويج دائما ، ويطأها في قبلها ، ثمّ يطلّقها ، أو يموت عنها ، وتنقضي العدّة ، فإذا حصل ذلك جاز له حينئذ وطؤها بالملك.

ومتى طلّقها واحدة ، ثم اعتقت ، بقيت معه على تطليقة واحدة ، فإن تزوجها بعد ذلك ، وطلّقها الثانية ، لم تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره.

والعبد إذا كانت تحته حرة ، فطلاقها ثلاث تطليقات ، على ما بيّناه ، فإن كان تحته أمة ، فطلاقها تطليقتان حسب ما قدّمناه ، فإن طلّقها واحدة ثم أعتقا (3) بقيت معه على تطليقة واحدة ، على ما رواه أصحابنا في الأخبار (4).

ص: 694


1- النهاية كتاب الطلاق باب كيفية أقسام الطلاق.
2- كنز العمال : كتاب الطلاق ، الفرع الأوّل ، ح 27781 ، ج 9 ، ص 640. راجع ما قدّمناه ذيل ص 600.
3- ج : أعتق.
4- الوسائل : الباب 28 من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ح 5 - 4 - 3 - 2.

وتحقيق الفتوى بذلك ، لي فيه نظر ، فان كان على الرواية إجماع ، عملنا بها ، وإلا طلبنا دليلا غيره ليعمل به.

فإن أعتقا جميعا قبل أن يطلّقها شيئا ، كان حكمها حكم الحرة من كونها على ثلاث تطليقات.

وقد قلنا أنّ طلاق المكره لا يقع ، وكذلك سائر عقوده بغير خلاف بين أصحابنا ، وروي عن الرسول عليه السلام أنّه قال : لا طلاق ولا عتاق في إغلاق (1) بكسر الالف وسكون الغين المعجمة ، قال أبو عبيد القسم بن سلام الإغلاق : الإكراه.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي في مسائل خلافه ، في الجزء الثالث في كتاب الطلاق : مسألة ، الاستثناء بمشية اللّه تعالى يدخل في الطلاق والعتاق ، سواء كانا مباشرين ، أو معلقين بصفة ، وفي اليمين بهما ، وفي الإقرار ، وفي اليمين باللّه ، فيوقف الكلام ، ومن خالفه لم يلزمه حكم ذلك ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، والشافعي ، وطاوس ، والحكم ، وقال مالك ، والليث بن سعد : لا يدخل في غير اليمين باللّه ، وهو ما تنحل بالكفارة ، وهو اليمين باللّه فقط ، ثمّ استدلّ على ما اختاره ، فقال : دليلنا أنّ الأصل براءة الذمة ، وثبوت العقد ، وإذا عقّب كلامه بلفظ إن شاء اللّه في هذه المواضع ، فلا دليل على زوال العقد في النكاح ، أو العتق ، ولا على تعلّق حكم بذمته ، فمن ادّعى خلافه فعليه الدلالة ، وروى ابن عمر ، أنّ النبي عليه السلام ، قال : من حلف على يمين ، وقال في أثرها إن شاء اللّه ، لم يحنث فيما حلف عليه (2) ، وهو على العموم في كلّ الأيمان باللّه وبغيره (3).

قال محمّد بن إدريس : لا يدخل الاستثناء بمشية اللّه تعالى عندنا بغير خلاف بين أصحابنا معشر الشيعة الإمامية ، إلا في اليمين باللّه حسب ، لأنّه لا أحد من

ص: 695


1- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح ، والطلاق والعدة ص 339. سنن ابن ماجة : الباب 16 من كتاب الطلاق ح 2047 ).
2- التاج : ج 2 كتاب الايمان والنذور ص 79 ، باختلاف يسير.
3- الخلاف : كتاب الطلاق ، المسألة 53.

أصحابنا قديما وحديثا يتجاسر ، ويقدم على أنّ رجلا أقرّ عند الحاكم بمال لرجل آخر ، وقال بعد إقراره إن شاء اللّه ، لا يلزمه ما أقرّ به.

فأمّا شيخنا أبو جعفر ، فهو محجوج بقوله ، فإنّه رجع عمّا حكيناه عنه في الجزء الثالث أيضا في كتاب الأيمان ، فقال : مسألة ، لا يدخل الاستثناء بمشية اللّه تعالى إلا في اليمين فحسب ، وبه قال مالك ، وقال أبو حنيفة : يدخل في اليمين باللّه ، وبالطلاق وبالعتاق ، وفي الطلاق والعتاق ، وفي النذور والإقرارات ، دليلنا أنّ ما ذكرناه مجمع على دخوله فيه ، وما قالوه ليس عليه دليل (1) ، هذا آخر كلامه.

قال محمّد بن إدريس : اختار رضي اللّه عنه في المسألة الأولى مذهب أبي حنيفة ، واختار في المسألة الثانية مذهب مالك ، ثم استدلّ على صحّة المسألتين.

ولعمري إنّ الأدلة لا تتناقض ، وانّما حداه على ذلك الدخول مع القوم في فروعهم وكلامهم ، ولو لزم طريقة أصحابه من التمسّك بأصول مذهبهم وترك فروع مخالفيه ، كان أولى وأحوط وأسلم له ، ولمن يقف على كتبه وتصنيفه ممن يقلّده ويتبع أقواله نسأل اللّه التوفيق.

باب اللعان والارتداد

اللعان مشتق من اللعن ، وهو الإبعاد ، والطرد ، يقال : لعن اللّه فلانا ، يعني أبعده وطرده ، فسمّي المتلاعنان بهذا الاسم ، لما يتعقب اللعن من المأثم والأبعاد والطرد ، فإنّ أحدهما لا بدّ أن يكون كاذبا فيلحقه المأثم ، ويتعلّق عليه الإبعاد والطرد من رحمة اللّه تعالى ورضاه.

فإذا ثبت هذا فثبوت حكمه في الشرع بالكتاب والسنّة والإجماع ، قال اللّه تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ

ص: 696


1- الخلاف : كتاب الايمان ، المسألة 26.

فَشَهادَةُ ) (1) إلى آخر الآيات ، فذكر تعالى اللعان وكيفيته وترتيبه ، فموجب القذف عندنا في حقّ الزوج الحدّ ، وله إسقاطه باللعان ، وموجب القذف في حقّ المرأة الحدّ ، ولها إسقاطه باللعان.

ويقف صحّة اللعان بين الزوجين على أمور ، منها أن يكونا مكلّفين ، سواء كانا أو واحد منهما من أهل الشهادة والحرّية (2) أم لا ، إذا كان اللعان بنفي الولد ، فأمّا إذا كان اللعان بزنا ، أضافه الزوج القاذف إلى مشاهدة ومعاينة ، فلا يثبت إلا بين الحرّ والحرّة ، والمسلم والمسلمة ، لأنّ بين أصحابنا في ذلك خلافا ، فذهب شيخنا المفيد في مقنعته إلى أنّ اللعان لا يثبت بين الحرّ والمملوكة ، ولا بين المسلم والكافرة (3).

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا كان الزوج مملوكا والمرأة حرّة ، أو يكون الرجل حرا والمرأة مملوكة ، أو يهودية ، أو نصرانية ، ثبت بينهما اللعان (4).

وأطلق كلّ واحد منهما ما ذهب إليه ، ويمكن العمل بقول كلّ واحد منهما على ما حرّرناه ، فنقول لا يثبت بينهما اللعان إذا كان بالقذف ، وادّعى المشاهدة للزنا. ويثبت إذا كان بنفي الولد على ما ذهب إليه شيخنا أبو جعفر ، وما اخترناه وذهبنا إليه ، اختاره شيخنا أبو جعفر في استبصاره لما اختلفت الأخبار عليه ، فحرّره على ما حرّرناه.

فقال في الجزء الثالث من الإستبصار ، في باب أنّ اللعان ، يثبت بين الحرّ والمملوكة ، والحرّة والمملوك ، فأورد الأخبار في ذلك ، ثمّ جاء خبر أورده في آخر الأخبار مخالف لتلك الأخبار ، فقال رحمه اللّه : فالوجه في هذا الخبر أحد شيئين ، أحدهما أن يكون محمولا على التقية ، لأنّ ذلك مذهب بعض العامّة على ما قدّمنا القول فيه ، والآخران نقول بمجرد القذف لا يثبت اللعان بين اليهودية

ص: 697


1- النور : 6.
2- ل : أو الجزية.
3- المقنعة : أبواب النكاح باب اللعان ، ص 542.
4- النهاية : كتاب الطلاق ، باب اللعان والارتداد.

والمسلم ، ولا بينه وبين الأمة ، وانّما يثبت بمجرد القذف اللعان في الموضع الذي إن لم يلاعن وجب عليه حدّ الفرية ، وذلك غير موجود في المسلم مع اليهودية ، ولا مع الأمة ، لأنّه لا يضرب حدّ القاذف إذا قذفها ، ولكن يعزّر على ما نبيّنه في كتاب الحدود إن شاء اللّه تعالى ، فكان اللعان يثبت بين هؤلاء بنفي الولد لا غير (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

وبهذا القول أعمل وافتي ، لأنّ اللعان حكم شرعي يحتاج مثبتة إلى دليل شرعي ، والأصل براءة الذمة في الموضع الذي نفيناه ، ولا معنا إجماع من طائفتنا على ذلك.

ومنها أن يكون النكاح دواما.

ومنها أن تكون الزوجة مدخولا بها عند بعض أصحابنا.

والأظهر الأصح أنّ اللعان يقع بالمدخول بها وغير المدخول بها لقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ ) (2) الآية هذا إذا كان بقذف يدّعي فيها المشاهدة ، فأمّا إذا كان بنفي الولد والحمل ، فلا يقع اللعان بينهما بذلك قبل الدخول ، القول قول الزوج مع يمينه ، ولا يلحق الولد به بلا خلاف بين أصحابنا في ذلك ، ولا يحتاج في نفيه إلى لعان ، فعلى هذا التحرير من قال من أصحابنا لا يصح اللعان إلا بعد الدخول ، يريد بنفي الولد ، ومن قال يصح اللعان قبل الدخول ، يريد بالقذف وادّعاء المشاهدة له ، فليلحظ ذلك ويتأمّل.

وحكم المطلّقة طلاقا رجعيا إذا كانت في العدّة كذلك.

ومنها أن لا تكون صمّاء ولا خرساء.

ومنها أن يقذفها الزوج بزنا ، يضيفه إلى مشاهدة ، بأن يقول : رأيتك تزنين ، ولو قال : يا زانية لم يثبت بينهما لعان ، أو ينكر حملها أو يجحد ولدها.

ولا يقيم أربعة من الشهود بما قذفها به.

ص: 698


1- الاستبصار : أبواب اللعان ، باب ان اللعان يثبت بين الحر والمملوكة ، ج 3 ، ص 373.
2- النور : 6.

وان تكون منكرة لذلك.

وصفة اللعان أن يجلس الحاكم بينهما ، مستدبر القبلة ، ويوقفهما بين يديه المرأة عن يمين زوجها ، موجهين إلى القبلة ، ويقول الرجل ، أشهد باللّه انّي فيما ذكرته عن هذه المرأة من الفجور لمن الصادقين ، فإذا قال ذلك أمره أن يعيد تمام أربع مرات ، فإذا شهد الرابعة قال له الحاكم : اتق اللّه عزوجل ، واعلم أنّ لعنة اللّه شديدة ، وعذابه أليم ، فإن كان حملك على ما قلت غيرة ، - بفتح الغين - أو سبب من الأسباب ، فراجع التوبة ، فإنّ عقاب الدنيا أهون من عقاب الآخرة.

والبدأة بالرجل واجبة مراعاة.

والترتيب في الشهادة ولفظها أيضا مراعى.

فإن بدأ بلعان المرأة أولا لا يعتد بذلك.

فإن رجع عن قوله في قذفه جلده حدّ المفتري.

وإن أصرّ على ما ادّعاه قال له قل ، ان لعنة اللّه عليّ إن كنت من الكاذبين.

فإذا قالها أقبل على المرأة ، وأقامها ، لأنّها تكون قاعدة عند لعان زوجها ، وقال بعض أصحابنا تكون قائمة عند لعان الزوج.

والأول الأظهر ، وهو الذي اختاره شيخنا في مبسوطة (1).

وقال لها ما تقولين فيما رماك به. فإن اعترفت ، رجمها ، لأنّها بتصديقها له في أربع شهاداته ، كأنّها قد أقرّت أربع مرّات بالزنا ، وإجماع أصحابنا أيضا عليه.

وإن أقامت على الإنكار ، قال لها : قولي أشهد باللّه أنّه فيما رماني به لمن الكاذبين. فإذا قالت ذلك طالبها بإتمام أربع شهادات كذلك. فإذا شهدت الرابعة ، وعظها كما وعظ الرجل ، فإن اعترفت رجمها ، وإن أصرّت على الإنكار ، قال لها : قولي إن غضب اللّه عليّ إن كان من الصادقين. فإذا قالت

ص: 699


1- المبسوط : ج 5 ، كتاب اللعان ، ص 198.

ذلك فرّق بينهما الحاكم ، ولم تحل له أبدا ، على ما قدّمناه (1).

ولفظ الشهادة وعدد الشهادات ، والترتيب واجب في اللعان وشرط فيه ، على ما قدّمناه ، فلو قال أحلف باللّه أو أقسم باللّه ، أو نقّص شيئا من العدد ، أو بدأ الحاكم بالمرأة أوّلا ، لم يعتدّ باللعان ، ولم يحصل الفرقة به ، وإن حكم الحاكم بذلك ، لأن ما قلناه مجمع على صحّته ، وليس على صحّة ما خالفه دليل ، ولأنّ ما عدا ما ذكرناه مخالف لظاهر القرآن ، لأنّه تعالى ذكر لفظ الشهادة والعدد والترتيب ، من حيث أخبر أنّها تدرأ عن نفسها العذاب بلعانها ، والمراد بالعذاب عندنا الحدّ ، وعند أبي حنيفة الحبس ، ولا يثبت واحد منهما إلا بعد لعان الزوج ، فصحّ ما قلناه.

فإذا استوفى اللعان ، الحاكم بينهما فرّق بينهما ، ولم تحلّ له أبدا ، وكان عليها العدّة من وقت لعانها.

ومتى نكل الرجل عن اللعان قبل استكمال الشهادات ، كان عليه الحدّ إذا كان قذفا ، فإن أكذب نفسه بعد مضى اللعان ، لم يكن عليه شي ء ، ولا ترجع إليه امرأته.

وإن اعترف بالولد ، إن كان اللعان بنفيه بعد انقضاء اللعان ، لم يكن عليه شي ء ، ولا ترجع إليه امرأته ، وإن اعترف بالولد قبل انقضاء اللعان ، الحق به وورثه أبوه ، وهو يرثه ، وليس عليه الحدّ.

وإن اعترف به بعد مضى اللعان الحق به ، ويرثه ولده ، وهو لا يرث ولده ، ويكون ميراث الولد لأمه ، أو لمن يتقرب إليه من جهتها ، دون الأب ومن يتقرب إليه به ، ولا يجب عليه الحدّ ، وروي أنّه يجب عليه الحدّ (2) ، والأظهر ما ذكرناه ، لأنّ الأصل براءة الذمة.

ومتى اعترفت المرأة بالزنا قبل شروع الزوج في اللعان ، فلا ترجم ، إلا أن

ص: 700


1- ق ول : فيما مضى من الكتاب.
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب اللعان.

تعترف وتقر أربع مرات.

ومتى نكلت عن اللعان قبل استيفاء شهاداتها ولعانها ، كان عليها الرجم.

فإن اعترفت بالفجور بعد مضي اللعان ، لم يكن عليها شي ء ، إلا أن تقر أربع مرّات على نفسها بالفجور ، فإذا أقرّت أربع مرّات أنّها زنت في حال إحصانها ، كان عليها الرجم ، وإن كانت غير محصن كان عليها الحدّ مائة جلدة.

وإذا قذف امرأته بما يجب فيه الملاعنة على ما قدّمناه ، وكانت خرساء أو صمّاء لا تسمع شيئا ، فرّق بينهما وجلد الحدّ ، إن قامت عليه البيّنة ، وإن لم يقم بيّنة به لم يكن عليه حدّ ، ولم تحلّ له أبدا ، ولم يثبت أيضا بينهما لعان.

فأمّا إن كان الزوج أخرس والمرأة غير خرساء ، فقد قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة ، الأخرس إذا كان له إشارة معقولة ، أو كناية مفهومة ، يصحّ قذفه ، ولعانه ، ونكاحه ، وطلاقه ، ويمينه ، وسائر عقوده ، ثمّ استدلّ ، فقال : دليلنا قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ ) (1) الآية ، ولم يفرّق ، وأيضا إجماع الفرقة وأخبارهم على ذلك (2) هذا آخر كلامه.

ولا أقدم على أنّ الأخرس المذكور يصحّ لعانه ، لأنّ أحدا من أصحابنا غير من ذكرناه لم يوردها في كتابه ، ولا وقفت على خبر بذلك ، ولا إجماع عليه ، والقائل بهذا غير معلوم ، فأمّا الآية التي استشهد شيخنا بها ، فالتمسّك بها بعيد ، لأنّه لا خلاف أنّه غير قاذف ولا رام على الحقيقة ، فالنطق منه بالشهادات في حال اللعان متعذر ، والأصل براءة الذمة. واللعان حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

وأيضا لو رجع عن اللعان عند من جوّزه له ، وجب عليه الحدّ ، والرسول عليه السلام قال : « ادرءوا الحدود بالشبهات » (3) ومن المعلوم أنّ في إيمائه وإشارته

ص: 701


1- النور : 6.
2- الخلاف : كتاب اللعان ، المسألة 8.
3- الوسائل : الباب 24 من أبواب مقدمات الحدود ، ح 4.

بالقذف شبهة أنّه هل أراد به القذف أو غيره؟ وذلك غير معلوم يقينا ، كالناطق به بلا خلاف ، وإن قلنا يصحّ منه اللعان كان قويا معتمدا ، لأنّه يصحّ منه الإقرار ، والأيمان ، وأداء الشهادات ، وغير ذلك من الأحكام.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا طلّق الرجل امرأته قبل الدخول بها ، فادّعت عليه أنّها حامل منه ، فإن أقامت البيّنة أنّه أرخى سترا ، أو خلا بها ، ثمّ أنكر الولد ، لاعنها ، ثمّ بانت منه ، وعليه المهر كملا ، وإن لم تقم بذلك بيّنة ، كان عليه نصف المهر ، ووجب عليها مائة سوط ، بعد أن يحلف باللّه أنّه ما دخل بها (1).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : ما ذكره رحمه اللّه ، ذهابا إلى قول من يذهب إلى أنّ الخلوة بمنزلة الدخول ، والأظهر والأصح عند المحصّلين من أصحابنا أنّ الخلوة وإرخاء الستر لا تأثير لهما ، والقول قول الزوج ، ولا يلزمه سوى نصف المهر ، ولا لعان بينهما.

وإلى هذا يذهب شيخنا في مسائل خلافه في الجزء الثاني في كتاب الصداق ، فقال : مسألة ، إذا طلّقها بعد أن خلا بها ، وقبل أن يمسّها ، اختلف الناس فيه على ثلاثة مذاهب ، فذهبت طائفة إلى أنّ وجود الخلوة وعدمها سواء ، وترجع عليه بنصف الصداق ، ولا عدّة عليها (2).

وهو الظاهر من روايات أصحابنا (3) ، ثم استدلّ بأدلة ظاهرة قوية على صحّة ذلك ، وقد أوردنا نحن ذلك في كتابنا هذا في كتاب الصداق (4) ، رجحنا القول في ذلك.

وإذا انتفى الرجل من ولد امرأته الحامل منه ، جاز أن يتلاعنا ، إلا أنّها إن اعترفت ونكلت عن الشهادات ، لم يقم عليها الحدّ ، إلا بعد وضع ما في بطنها.

وإذا قذف الرجل امرأته فترافعا إلى الحاكم ، فماتت المرأة قبل أن يتلاعنا ،

ص: 702


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب اللعان والارتداد.
2- الخلاف : كتاب الصداق ، المسألة 42.
3- الوسائل : الباب 55 من أبواب المهور.
4- راجع ص 584 من الكتاب.

فقد ماتت على حكم الزوجية ، ويرثها الزوج ، ويرث وارثها من جهة النسب الحدّ على الزوج ، لان حد القذف عندنا موروث ، لأنّه من حقوق الآدميين ، إلا أنّه لا يرثه إلا ذوو الأنساب دون ذوي الأسباب ، فإن عفا الوارث إلا واحدا ، استحقّه جميعه ، لأنّه لا يتبعض.

وقد روي أنّه إذا قذف الرجل امرأته ، فترافعا إلى الحاكم ، فماتت المرأة قبل أن يتلاعنا ، فإن قام رجل من أهلها مقامها ولا عنه ، فلا ميراث له ، وإن أبى أحد من أوليائها أن يقوم مقامها ، أخذ الزوج الميراث ، وكان عليه الحدّ ثمانين سوطا (1) أورد هذه الرواية شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، إيرادا لا اعتقادا ، كما أورد أمثالها ، ولم يوردها غيره من أصحابنا ، ولا أودعها كتابه ، ولا ضمّنها تصنيفه ، لا شيخنا المفيد ، ، ولا السيد المرتضى ، ولا غيرهما من الجلّة المشيخة المتقدّمين.

وشيخنا أبو جعفر قد لوّح بالرجوع ، بل صرّح عما أورده في نهايته ، في مبسوطة ، ومسائل خلافه ، فقال في مبسوطة : الأحكام المتعلّقة باللعان أربعة ، سقوط الحدّ عن الزوج ، وانتفاء النسب ، وزوال الفراش ، والتحريم على التأييد ، فهذه الأحكام عند قوم يتعلّق بلعان الزوج ، فإذا وجد منه اللعان بكماله ، سقط الحدّ ، وانتفى النسب ، وزوال الفراش ، وحرمت المرأة على التأييد ، ويتعلّق به أيضا وجوب الحدّ على المرأة ، فأمّا لعان المرأة ، فإنّه لا يتعلّق به أكثر من سقوط حدّ الزنا عنها ، وحكم الحاكم لا تأثير له في إيجاب شي ء من هذه الأحكام ، فإذا حكم بالفرقة فإنّما تنعقد (3) الفرقة التي كانت وقعت بلعان الزوج ، لا أنّه يبتدئ إيقاع فرقةَ ، وقال قوم - وهو الذي يقتضيه مذهبنا - : إنّ هذه الأحكام لا تتعلّق إلا بلعان الزوجين معا ، فما لم يحصل اللعان بينهما ، فإنّه لا يثبت شي ء من ذلك (4) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة.

ص: 703


1- الوسائل : الباب 15 من أبواب اللعان ، ح 1.
2- النهاية ، كتاب الطلاق ، باب اللعان ، والارتداد.
3- ل. ق : تنفذ.
4- المبسوط : ج 5 ، كتاب اللعان ، ص 199.

وقال في مسائل خلافه : مسألة إذا قذف الرجل زوجته ، ووجب عليه الحدّ ، فأراد اللعان ، فمات القاذف أو المقذوفة ، انتقل ما كان لها من المطالبة بالحدّ إلى ورثتها ، ويقومون مقامها في المطالبة ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : ليس لهم ذلك ، بناه على أصله ، أنّ ذلك من حقوق اللّه ، دون الآدميين ، دليلنا : ما تقدّم من أنّ ذلك من حقوق الآدميين ، فإذا ثبت ذلك فكلّ من قال بذلك ، قال بهذا ولم يفرّق (1) هذا آخر المسألة.

وقال أيضا : مسألة ، إذا لا عن الزوج ، تعلّق بلعانه سقوط الحدّ عنه ، وانتفاء النسب ، وزوال الفراش ، وحرمت المرأة على التأبيد ، ويجب على المرأة الحدّ ، ولعان المرأة لا يتعلّق به أكثر من سقوط حدّ الزنا عنها ، وحكم الحاكم لا تأثير له في إلحاق شي ء من هذه الأحكام ، فإذا حكم بالفرقة ، فإنّما تنفذ الفرقة التي كانت وقعت بلعان الزوج ، لا أنّه يبتدئ إيقاع فرقة ، وبهذا قال الشافعي ، وذهبت طائفة إلى أنّ هذه الأحكام تتعلّق بلعان الزوجين معا ، فما لم يوجد اللعان بينهما لم يثبت شي ء منها ، ذهب إليه مالك ، وأحمد وداود ، وهو الذي يقتضيه مذهبنا ، ثمّ استدلّ فقال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، فإنّها دالة على ما قلناه ، وروى ابن عباس (2) أنّ النبي عليه السلام قال : المتلاعنان لا يجتمعان أبدا (3).

هذا آخر استدلاله في مسألته رحمه اللّه ، وهذا مثل ما ذكره في مبسوطة.

وأيضا الرواية التي أوردها في نهايته مخالفة لأصول المذهب ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد لا يعمل بها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا.

ص: 704


1- الخلاف : كتاب اللعان ، المسألة 10.
2- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدة ، أورده في ذيل ص 348 مرسلا عن البيهقي. ورواه ( في سنن البيهقي ، في كتاب الطلاق ، باب ما يكون بعد التعان الزوج .. ج 2. ص 10 - 409 ) عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى اللّه عليه وآله قال : « المتلاعنان إذا تفرقا لا يجتمعان أبدا ». ونحوه عن سهل الساعدي عنه صلى اللّه عليه وآله.
3- الخلاف : كتاب اللعان ، المسألة 25.

وأيضا فإنّ اللّه تعالى قال ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصّادِقِينَ. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ ) (1) ثمّ قال ( وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ ) (2) وما قال أن يشهد وليّها ، فعلّق تعالى الأحكام بشهادته وشهادتها ، فمن قال : يقوم غيرها مقامها يحتاج إلى دليل.

وأيضا فعندنا أنّها ايمان ، وليس شهادات لقول الرسول عليه السلام : « لو لا الايمان لكان لي ولها شأن » (3) فسمّى اللعان يمينا ، والأيمان عندنا لا يدخلها النيابة بغير خلاف ، فكيف يحلف وليها عنها.

وقال في التبيان : وفرقة اللعان تحصل عندنا بتمام اللعان من غير حكم الحاكم ، وتمام. اللعان انّما يكون إذا تلاعن الرجل والمرأة معا ، وقال قوم : تحصل بلعان الزوج الفرقة ، وقال أهل العراق : لا تقع الفرقة إلا بتفريق الحاكم بينهما ، ومتى رجمت عند النكول ورثها الزوج ، لأنّ زناها لا يوجب التفرقة بينهما ، وإذا جلدت إذا لم يكن دخل بها فهما على الزوجية ، وذلك يدلّ على أنّ الفرقة انّما تقع بلعان الرجل والمرأة معا (4) هذا آخر كلامه في التبيان لتفسير القرآن.

وإذا قال الرجل لامرأته لم أجدك عذراء ، لم يكن عليه الحدّ تاما ، وكان عليه التعزير ذكر شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه في كتاب اللعان ، فقال : مسألة إذا قال رجل لرجل : زنأت في الجبل ، فظاهر هذا أنّه أراد صعدت في الجبل ، ولا يكون صريحا في القذف ، بل يحمل على الصعود ، فان ادّعى عليه القذف ، كان القول قوله مع يمينه ، فإن نكل ردت على المقذوف ، فإن حلف حدّ ، وبه قال الشافعي وأبو يوسف ، ومحمد ، وقال أبو حنيفة : هو قذف بظاهره ، يجب به الحدّ ،

ص: 705


1- النور : 6 - 7.
2- النور : 8.
3- سنن أبي داود : كتاب الطلاق : باب اللعان ، ح 2256. ج 3. ص 278.
4- التبيان : ج 7 ، ص 365 ، ذيل الآية 10 - 9 - 8 - 7 - 6 من سورة النور.

دليلنا أنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى دليل ، وأيضا قوله زنأت في الجبل ، حقيقته الصعود ، فأمّا الرمي بالزنا فإنّما يقال فيه زنيت ، ولا يقال زنأت ، ألا ترى أنّ القائل يقول زنأت ، أزنو ، زنأ يعني صعدت ، وزنيت أزني ، زنا وزناء بالمد والقصر لغتان ، يعني فعلت الزنا ، فإحدى الصيغتين تخالف الأخرى ، وقال الشاعر وهي امرأة :

أشبه أبا أمّك أو أشبه عمل *** ولا تكوننّ كهلّوف وكل

يصبح في مضجعه قد انجدل *** وارق إلى الخيرات زنأ في الجبل

وأيضا لو كانت هذه اللفظة تحتمل ، لوجب أن لا تحمل على القذف بالمحتمل ، لأنّ الحدود موضوعة على أنّها تدرأ بالشبهات (1) هذا آخر المسألة.

قال الجوهري في كتابه كتاب الصحاح : وعمل اسم رجل ، وقالت امرأة ترقص ولدها :

أشبه أبا أمك أو أشبه عمل *** وأرق إلى الخيرات زنا في الجبل (2)

عمل اسم لرجل وهو خاله ، تقول : لا تجاوزنا في الشبه.

وقال السيد المرتضى في الدرر والغرر لمّا أنشد البيت ، قال : روى أبو زيد : أنّ قيس بن عاصم المنقري أخذ صبيا له يرقّصه ، وأمّ ذلك الصبي منفوسة ، وهي بنت زيد الفوارس بن ضرار الضبي ، فجعل قيس يقول له : أشبه أبا أمك أو أشبه عمل يزيد عملي. والوكل : الجبان ، والهلوف - بكسر الهاء وفتح اللام وتشديدها ، والفاء - : الهرم المسن ، وهو أيضا الكبير اللحية (3) فعلى قول المرتضى الشعر لقيس بن عاصم ، وعلى قول الشيخ أبي جعفر والجوهري الشعر لامرأة.

وعلى قول المرتضى لا يكون عمل اسم رجل ، وعلى قول الجوهري هو اسم رجل ، وهو الأولى والأشبه.

ص: 706


1- الخلاف : كتاب اللعان ، المسألة 42.
2- الصحاح : ج 5 ، 1775 مادة ( عمل ).
3- أمالي المرتضى ( غرر الفوائد ودرر القلائد ) ج 2 ، ص 286.

فأمّا المرتد عن الإسلام فعلى ضربين ، فإن كان مسلما ولد على فطرة الإسلام ، فقد بانت منه امرأته في الحال ، وقسّم ماله بين ورثته ، ووجب عليه القتل من غير أن يستتاب ، وكان على المرأة منه عدّة المتوفّى عنها زوجها ، فعلى هذا تكون وارثة من جملة الورثة ، لأنّه ساعة ارتد صار بمنزلة الميت ، وإن لم يقتل ، بأن هرب إلى بلد أهل الحرب ، فلأجل هذا لزمها عدّة المتوفّى عنها زوجها.

فإن كان المرتد ممن قد أسلم عن كفر ، ثمّ ارتد ، استتيب ، فإن عاد إلى الإسلام كان العقد ثابتا بينه وبين امرأته ، وإن لم يرجع كان عليه القتل.

ومتى لحق هذا المرتد بدار الحرب ، ثمّ رجع إلى الإسلام قبل انقضاء عدّة المرأة ، وهي إمّا ثلاثة أقراء ، أو ثلاثة أشهر بحسب حالها ، كان أملك بها ، فإن رجع بعد انقضاء عدتها لم يكن له عليها سبيل.

فإن مات الرجل وهو مرتد قبل انقضاء العدة ، ورثته المرأة ، وكان عليها عدّة المتوفّى عنها زوجها ، وإن ماتت هي لم يرثها ، وهو مرتد عن الإسلام.

ولا تقتل المرتدة ، بل تحبس ، وإن كانت قد ارتدت عن فطرة الإسلام ، حتى تسلم أو تموت.

والزنديق من يبطن الكفر ، ويظهر الإيمان ، يقتل ولا تقبل توبته ، على ما رواه أصحابنا (1) وأجمعوا عليه.

باب الظهار والإيلاء

يفتقر صحّة الظهار الشرعي إلى شروط :

منها أن يكون المظاهر بالغا كامل العقل ، لأنّه لا يصحّ من صبي ، ولا مجنون ، ولا سكران.

وفي صحّته من الكافر خلاف ، فقال شيخنا أبو جعفر : لا يصح الظهار من

ص: 707


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب حدّ المرتد ، ح 1.

الكافر ، ولا التكفير ، ثمّ قال في استدلاله : دليلنا أنّ الظهار حكم شرعي لا يصحّ ممن لا يقر بالشرع ، كما لا تصحّ منه الصلاة وغيرها ، وأيضا فإنّ الكفارة لا تصحّ منه ، لأنّها تحتاج إلى نية القربة ، ولا يصحّ ذلك مع الكفر ، وإذا لم تصح منه الكفارة لم يصح منه الظهار ، لأنّ أحدا لا يفرّق بينهما (1).

وقال رحمه اللّه : يصح الإيلاء من الذمّي ، كما يصحّ من المسلم ، ثمّ استدلّ فقال : دليلنا قوله تعالى ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ ) (2) وذلك عام في المسلم والذمي (3).

قال محمّد بن إدريس : فرقه بين المسألتين فرق عجيب ، واستدلاله عليهما ظريف ، ولو قلب وعكس كان أولى ، وهاهنا يحسن قول « أقلب تصب » لأنّ الإيلاء لا يكون إلا باللّه تعالى وبأسمائه ، والكافر لا يعرف اللّه تعالى ، ولا ينعقد يمينه ، ولا نيته في تكفيره ، فالأولى أن لا يصحّ منه الإيلاء ، لأنّ ما احتج به شيخنا على أنّ الظهار لا يصحّ من الكافر قائم في إيلاء الكافر.

والذي يقوى في نفسي أنّ الظهار يصحّ من الكافر ، لقوله تعالى ( الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) (4) وهذا عام في جميع من يظاهر ، وفي مقدوره الخروج منه بالكفارة بأن يسلم ، ويعرف اللّه تعالى كما أنّه مخاطب بالصلاة والطهارة ، وكذلك المحدث مخاطب بالصلاة ، لأنّ في مقدوره الطهارة (5) وانّما وجب هذا الحكم لحرمة اللفظة ، وهو قوله : أنت عليّ كظهر أمي ، فهذا اللفظ الذي سمّاه اللّه تعالى منكرا من القول وزورا ، وقد تلفظ به الكافر ، وقاله ، فيجب أن يتعلّق به أحكامه.

ومنها أن يكون مؤثّرا له ، فلا يصحّ من مكره ولا غضبان لا يملك نفسه.

ومنها أن يكون قاصدا به التحريم ، فلا يقع بيمين ولا مع السهو واللغو.

ومنها أن يكون متلفظا بقوله : أنت عليّ كظهر أمي ، على الصحيح من

ص: 708


1- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 2.
2- البقرة : 226.
3- الخلاف : كتاب الإيلاء ، المسألة 20.
4- المجادلة : 3.
5- ل. ق : الصلاة.

أقوال أصحابنا ، لأنّ الظهار حكم شرعي ، وقد ثبت وقوعه ولزومه إذا علّق بالظهر وأضيف إلى الأم ، ولم يثبت ذلك في بافي الأعضاء ، ولا المحرّمات ، وأيضا فإنّ الظهار مشتق من لفظة الظهر ، فإذا علّق بالبطن وما أشبهها بطل الاسم المشتق من الظهر ، ولم يجز إجراؤه.

وقال بعض أصحابنا إذا ذكر لفظة الظهر وقع ، إذا أضافه إلى بعض محرّمات النسب ، كان يقول : أنت عليّ كظهر بنتي ، أو عمتي ، أو أختي ، فإن لم يذكر لفظة الظهر ، بل ذكر الام ، كأن يقول : أنت عليّ كبطن أمي ، وقع الظهار. وإن يعرى من ذكر اللفظتين معا فلا يقع الظهار ، ولا يتعلّق بذلك أحكامه.

والأول هو الذي يقتضيه الأدلة ، وأصول مذهبنا ، وهو اختيار السيد المرتضى ، والثاني اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي ومذهبه.

ومنها أن يكون ذلك مطلقا من الاشتراط على الأظهر من المذهب ، لأنّ بعض أصحابنا يوقعه مشروطا ، ويجعله على ضربين ، مشروطا وغير مشروط ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (1).

والأوّل هو المذهب والأظهر بين أصحابنا الذي يقتضيه أصول مذهبهم ، لأنّه لا خلاف بينهم أنّ حكمه حكم الطلاق ، ولا خلاف بينهم أنّ الطلاق لا يقع إذا كان مشروطا ، وهو اختيار السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، وجلّة المشيخة من أصحابنا ، والأصل براءة الذمة ، وتحليل ، الزوجة ، فمن حرّم وطأها يحتاج إلى دليل ، وإجماعنا منعقد على الموضع الذي أجمعنا عليه ، وما عداه لا دلالة على وقوع الظهار معه ، لأنّه حكم شرعي يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي.

ومنها أن يكون ذلك موجّها إلى معقود عليها ، سواء كانت حرّة أو أمة دائما نكاحها. وقال بعض أصحابنا : أو مؤجلا ، ولا يقع بملك اليمين على الصحيح من المذهب.

ص: 709


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب الظهار والإيلاء.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : إنّه يقع الظهار بملك اليمين (1).

والأول اختيار السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، وهو الحقّ اليقين يعضده قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) (2) وملك يمين المظاهر ، ما هي من جملة نسائه.

ومنها أن يكون معيّنا لها ، فلو قال - وله عدة أزواج - : زوجتي أو إحدى زوجاتي عليّ كظهر أمي ، من غير تعيين لها بنيّة أو إشارة أو تسمية ، لم يصحّ.

ومنها أن تكون طاهرا من الحيض والنفاس ، طهرا لم يقربها فيه بجماع ، إلا أن تكون حاملا ، أو ليست ممن تحيض ولا في سنها من تحيض ، أو غير مدخول بها على الصحيح من مذهب أصحابنا ، والأظهر من أقوالهم.

وقد ذهب بعض أصحابنا وهو شيخنا أبو جعفر في نهايته إلى أنّ الظهار لا يقع بغير المدخول بها (3)النهاية : كتاب الطلاق ، باب الظهار والإيلاء.(4).

والقرآن قاض بصحّة ما اخترناه ، لأنّ الآية على عمومها ، وهو قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) وهي قبل الدخول بها يتناولها هذا الاسم بغير خلاف ، وما اخترناه اختيار السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد.

أو مدخولا بها وهي غائبة عن زوجها غيبة مخصوصة ، على ما قدّمناه في أحكام الطلاق ، لأنّا قد بيّنا أنّ أحكام الظهار أحكام الطلاق ، وشرائطه شرائطه في جميع الأشياء ، إلا ما أخرجه الدليل.

ومنها أن يكون الظهار منها بمحضر من شاهدي عدل.

يدلّ على ذلك كلّه إجماع أصحابنا ، ونفى الدليل الشرعي على وقوعه مع اختلال بعض الشروط ، ولا يقدح فيما اعتمدناه من الإجماع خلاف من خالف من أصحابنا بوقوع الظهار مع الشرط ، وثبوت حكمه مع تعلّق اللفظ بغير الظهر ، وإضافته إلى غير الام من المحرّمات ، ونفى وقوعه بغير المدخول بها ، ووقوعه بملك

ص: 710


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب الظهار والإيلاء.
2- المجادلة : 3.
3-
4-

اليمين ، لتميّزه من جملة المجمعين باسمه ونسبه.

على أنّ قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ) ينافي تعليقه بغير الظهر ، وعدم وقوعه بغير المدخول بها ، لأنّ الظهار مشتق من لفظ الظهر على ما قدّمناه ، وغير المدخول بها توصف بأنّها من نساء الزوج حسب ما بيّناه.

فإذا تكاملت شروط الظهار حرمت الزوجة عليه ، فإن عاد لما قال بأن يريد استباحة الوطء ، لزمه أن يكفر قبله بعتق رقبة ، فإن لم يجد صام شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينا ، لأنّ هذه الكفارة عندنا على الترتيب.

ولا يحرم عليه تقبيلها ، ولا ضمّها ، ولا عناقها.

وقال بعض أصحابنا : يحرم عليه تقبيلها قبل أن يكفر ، كما يحرم وطؤها ، واستدلّ بقوله تعالى ( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ) (1).

وهذا لا دلالة فيه ، لأنّ المسيس هاهنا بلا خلاف بيننا المراد به الوطي.

ويستدلّ على أنّ العود شرط في وجوب الكفارة ، بظاهر القرآن ، لأنّه لا خلاف أنّ المظاهر لو طلّق قبل الوطء لا يلزمه الكفارة ، وهذا يدلّ على أن الكفارة لا تجب بنفس الظهار.

ويدلّ على أنّ العود ما ذكرناه أنّ الظهار إذا اقتضى التحريم ، وأراد المظاهر الاستباحة ، وآثر رفعه ، كان عائدا لما قال ، ومعنى قوله ( ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا ) (2) أي للمقول فيه كقوله سبحانه ( وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ) (3) أي الموقن به ، كقوله عليه السلام : « الراجع في هبته » (4) أي في الموهوب ، وكذا يقال : اللّهم أنت رجاؤنا ، أي مرجوّنا ، ولا يجوز أن يكون المراد بالعود الوطء ، على ما ذهب إليه قوم ، لأنّه تعالى قال ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ) (5) فأوجب الكفارة بعد العود وقبل الوطء فدلّ على أنّه غيره.

ص: 711


1- المجادلة : 3.
2- المجادلة : 3.
3- الحجر : 99.
4- مستدرك الوسائل : الباب 8 ، من أبواب الهبة ، ح 1 ، ولفظه هكذا : « العائد في هبته » فراجع.
5- المجادلة : 3.

ولا يجوز أن يكون العود إمساكها زوجة مع القدرة على الطلاق ، على ما قاله الشافعي ، لأنّ العود يجب أن يكون رجوعا إلى ما يخالف مقتضى الظهار ، وإذا لم يقتض فسخ النكاح ، لم يكن العود الإمساك عليه. ولأنّه تعالى قال « ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا » وذلك يقتضي التراخي ، والقول بأنّ العود هو البقاء على النكاح ، قول بحصوله عقيب الظهار من غير فصل ، وهو بخلاف الظاهر.

وإذا جامع المظاهر قبل التكفير ، فعليه كفارتان : إحداهما كفارة العود ، والأخرى عقوبة الوطء قبل التكفير ، بدليل إجماعنا ، ولأنّ بذلك يحصل اليقين لبراءة الذمة.

وإن استمر المظاهر على التحريم ، فزوجة الدوام بالخيار بين الصبر على ذلك ، وبين المرافعة إلى الحاكم ، وعلى الحاكم أن يخيّره بين التكفير واستباحة الجماع ، وبين الطلاق ، فإن لم يجب إلى شي ء من ذلك أنظره ثلاثة أشهر (1) ، فإن فاء إلى أمر اللّه تعالى في ذلك ، وإلا ضيّق عليه في المطعم والمشرب ، حتى يفي ء.

ولا يلزمه الحاكم بالطلاق ، ولا يطلّق عليه.

وإذا طلّق قبل التكفير سقطت عنه الكفارة ، فإذا راجع في العدة لم يجز له الوطء حتى يكفر ، وإن خرجت من العدّة واستأنف العقد عليها ، جاز له الوطء من غير تكفير.

ومن أصحابنا ، من قال : لا يجوز له الوطء حتى يكفر على كلّ حال.

وظاهر القرآن معه ، لأنّه يوجب الكفارة بالعود من غير فصل ، والأكثر بين الطائفة الأول.

وإذا ظاهر من زوجتين له فصاعدا ، لزمه مع العود لكلّ واحدة منهنّ كفارة ، سواء ظاهر من كلّ واحدة منهن على الانفراد ، أو جمع بينهن في ذلك

ص: 712


1- ج : أنظره إلى ثلاثة أشهر.

كلّه بكلمة واحدة.

وإذا كرّر كلمة الظهار ، لزمه بكلّ دفعة كفارة ، فإن وطأ التي كرّر القول عليها قبل أن يكفر ، يلزمه كفارة واحدة عن الوطء ، وكفارات التكرار.

وفرض العبد في كفارة الظهار الصوم ، وفرضه فيه كفرض الحرّ ، لظاهر القرآن ، ومن أصحابنا من قال الذي يلزمه (1) شهر واحد ، والأول هو الأظهر.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى ظاهر الرجل امرأته مرّة بعد اخرى ، كان عليه بعدد كلّ مرّة كفارة ، فإن عجز عن ذلك لكثرته ، فرّق الحاكم بينه وبين امرأته (2).

قال محمّد بن إدريس : والأولى أن يستغفر اللّه تعالى بدلا عن الكفارة ، ولا يفرّق الحاكم بينه وبين زوجته ، لأنّ التفريق بينهما يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك.

إلا أنّ شيخنا رجع في استبصاره ، وقال : يستغفر اللّه ، ويطأ زوجته ، وتكون الكفارة في ذمته ، إذا قدر عليها كفر.

والصحيح أنّ الاستغفار كفارة لمن لا يقدر على الكفارة رأسا.

وإذا حلف الرجل بالظهار ، لم يلزمه حكمه.

إذا قال : أنت عليّ كظهر أمي ، ولم ينو الظهار ، لم يقع.

وكذلك إذا قال : أنت عليّ كظهر أمي ونوى به الطلاق ، لم يكن طلاقا ، ولا ظهارا.

إذا قال : أنت عليّ حرام ، لم يتعلّق بذلك عند أصحابنا حكم من الأحكام ، لإظهار ، ولا طلاق ، ولا إيلاء ، ولا يمين ، ولا غير ذلك ، على ما قدّمناه.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، في كتاب الظهار : مسألة ، المكفر بالصوم ، إذا وطأ زوجته التي ظاهر منها في حال الصوم عامدا ، نهارا كان أو

ص: 713


1- ج : قال يلزمه.
2- النهاية : كتاب الطلاق ، باب الظهار والإيلاء.

ليلا ، بطل صومه ، ولزمه استئناف الكفارتين ، فإن كان وطؤه ناسيا ، مضى في صومه ، ولم يلزمه شي ء ، ثمّ استدلّ فقال : دليلنا إجماع الفرقة ، وطريقة الاحتياط ، وأيضا فإنّ اللّه تعالى قال ( فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسّا ) (1) وهذا قد وطأ قبل الشهرين ، فيلزمه كفارتان على ما مضى القول فيه (2) هذا آخر استدلاله رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس : أمّا وجوب الكفارة الأخرى فصحيح ، وأمّا استئناف الكفارة المأخوذ فيها بالصوم إذا وطأ ليلا فبعيد لا وجه له ، ولا دليل على استئناف الصيام ، لأنّ الاستئناف ما جاءنا إلا في المواضع المعروفة المجمع عليها ، وهي إن وطأ بالنهار عامدا من غير عذر المرض ، قبل أن يصوم من الشهر الثاني شيئا ، فيجب عليه الاستئناف للكفارة التي موجبها الظهار ، وكفارة أخرى للوطء ، عقوبة على ما قدّمناه ، فأمّا إذا وطأ ليلا فعليه كفارة الوطء ، ولا يجب عليه استئناف ما أخذ فيه ، لأنّه لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، فأمّا إذا وطأ بالنهار عامدا بعد أن صام من الشهر الثاني شيئا ، فعليه كفارة الوطء فحسب ، ويبني على ما صام ، ولا يجب عليه الاستئناف ، فليلحظ ذلك ، فهذا الذي يقتضيه أصول مذهبنا.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : مسألة ، إذا وجبت عليه الكفارة بعتق رقبة في كفارة ظهار ، أو قتل ، أو جماع ، أو يمين ، أو يكون قد نذر عتق رقبة ، فإنّه يجزي في جميع ذلك أن لا تكون مؤمنة إلا في القتل خاصّة (3).

قال محمّد بن إدريس : اختلف أصحابنا في ذلك ، والأظهر الذي يقتضيه أصول المذهب ، أنّ جميع الرقاب في الكفارات وغيرها لا تجزي إلا المؤمنة ، أو بحكم المؤمنة ، ولا تجزي الكافرة ، لأنّ اللّه تعالى قال : ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ

ص: 714


1- المجادلة :
2- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 24.
3- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 27.

تُنْفِقُونَ ) (1) والكافر خبيث بغير خلاف ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه ، والإعتاق يسمّى إنفاقا.

وأيضا طريقة الاحتياط تقتضيه ، لأنّ الذمة مشغولة بالكفارة بغير خلاف ، ولا تبرأ بيقين إلا إذا كفر بالمؤمنة ، لأنّ غيرها فيه خلاف.

وهذا اختيار السيد المرتضى وغيره من المشيخة ، والأول اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي.

إلا أنّه رجع عنه في التبيان ، فقال في تفسير قوله تعالى ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) (2) : وفي الفقهاء من استدلّ بهذه الآية على أنّ الرقبة الكافرة لا تجزي في الكفارة ، وضعّفه قوم ، وقالوا : العتق ليس بإنفاق ، والأولى أن يكون ذلك صحيحا ، لأنّ الإنفاق يقع على كلّ ما يخرج لوجه اللّه تعالى ، عتقا كان أو غيره (3) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في كتاب التبيان لتفسير القرآن.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة ، عتق المكاتب لا يجزي في الكفارة ، سواء أدّى من مكاتبته شيئا أو لم يؤدّ (4).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : الصحيح أنّه إذا لم يؤدّ شيئا من مكاتبته ، يجوز عتقه ، ويجزي في الكفارة ، لأنّه بعد عبد لم يتحرر منه شي ء بغير خلاف ، وبهذا قال في نهايته (5).

هذا إذا كانت المكاتبة مطلقة ، فأمّا إن كانت مشروطة ، فإنّه يجوز إعتاقه ، سواء ، أدّى من مال كتابته (6) شيئا أو لم يؤد ، لأنّه عندنا رق ، وأحكامه أحكام الرق في جميع الأشياء ، إلا ما خرج بالدليل.

ص: 715


1- البقرة : 267.
2- البقرة : 267.
3- التبيان : ج 2 ، ص 344.
4- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 29.
5- النهاية : باب الكفارات ، والعبارة هكذا : ولا ان يعتق مكاتبا له وقد أدّى من مكاتبته شيئا.
6- ل : أدى مكاتبه.

وعتق أمّ الولد عندنا جائز في الكفارات ، وكذلك عتق المدبر الذي يبتدأ بتدبيره ، لا عن نذر قد حصل شرطه ، لأنّه إذا حصل شرطه ، فقد انعتق.

وقال رحمه اللّه في مسائل خلافه : مسألة ، إذا أعتق عبدا مرهونا ، وكان موسرا أجزأه ، وإن كان معسرا لا يجزيه (1).

قال محمّد بن إدريس : لا يجزي عتق العبد المرهون قبل فكّه من الرهن ، سواء كان الراهن موسرا أو معسرا ، لأنّ العتق تصرّف بغير خلاف ، وإجماع أصحابنا على أن تصرّف الراهن في الرهن غير صحيح ولا ماض ، وأنّه لا يجوز له التصرف فيه بغير خلاف بينهم ، وأنّه منهي عن التصرف فيه ، وكلّ تصرف يتصرّف فيه فإنّه باطل ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه.

ثمّ ما قال بهذا أحد من أصحابنا ، ولا وجدته مسطورا في تصنيف أحد منهم. وشيخنا إن كان قال هذا عن أثر ورواية متلقّى بالقبول ، أو أخبار متواترة ، جاز العمل به إذا لم يمكن تأويله ، وإن كان قاله من تلقاء نفسه على سبيل الاستدلال والاستحسان ، فلا معول على ذلك ، فكيف ولم يرد به رواية ، لا من طريق الآحاد ، ولا من طريق التواتر.

ثمّ استدلّ رحمه اللّه على ما ذهب إليه في صدر المسألة ، فقال : دليلنا على أنّ عتق الموسر جائز ، قوله تعالى ( فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ) ، ولم يفصّل ، وعلى أنّ عتق المعسر لا يجزي ، أنّ ذلك يؤدّي إلى إبطال حقّ الغير ، فلا يجوز ذلك ، وعليه إجماع الفرقة ، لأنّهم أجمعوا على أنّه لا يجوز من الراهن التصرف في الرهن ، وذلك عام في جميع ذلك (2). هذا آخر استدلاله.

وهذا الاستدلال قاض عليه ، وحاكم على فساد ما ذهب إليه ، لأنّ جميع ما استدلّ به على أنّ عتق المعسر لا يجزي ، لازم له في عتق الموسر ، حذو النعل

ص: 716


1- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 32.
2- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 32.

بالنعل ، والقذة بالقذة ، فالمخصّص يحتاج إلى دليل ، فانّي ما استجملت له رحمه اللّه مع جلالة قدره هذا القول.

ثمّ قال رحمه اللّه في مسائل خلافه : إذا كان له عبد قد جنى جناية عمد ، فإنّه لا يجزي إعتاقه في الكفارة ، وإن كان خطأ جاز ذلك ، ثمّ قال في استدلاله : دليلنا إجماع الفرقة ، لأنّه لا خلاف بينهم إذا كانت جناية عمد أنّه ينتقل ملكه إلى المجني عليه ، وإن كان خطأ ، فدية ما جناه على مولاه ، لأنّه عاقلته ، وعلى هذا لا بدّ ممّا قلناه (1) ، هذا آخر استدلاله.

قال محمّد بن إدريس : ما قاله رحمه اللّه في صدر المسألة غير واضح ، وكذلك ما قاله في استدلاله ، لأنّه قال : « وإن كان خطأ جاز » وأطلق الكلام ، والصحيح أنّه لا يجزي إلا إذا ضمن (2) دية الجناية ، فأمّا قبل التزامه وضمانه ، فلا يجوز ، لأنّه قد تعلّق برقبة العبد الجاني حقّ الغير ، فلا يجوز إبطاله.

وما قاله في استدلاله أنّ مولاه عاقلته ، فغير صحيح ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا ، أنّ السيد غير عاقلة العبد ، وإجماعهم منعقد على هذا ، وشيخنا قائل به أيضا في غير كتابه هذا ، في هذا الموضع.

وقال في مبسوطة في كتاب الظهار : إذا كان له عبد قد جنى فأعتقه ، قال بعضهم : إن كان جنى عمدا نفذ العتق ، وإن كان خطأ فعلى قولين ، ومنهم من عكس هذا ، فقال : إن كان خطأ لم ينفذ العتق ، وإن كان عمدا فعلى قولين ، والذي يقتضيه مذهبنا ، أنّه إن كان عمدا نفذ العتق ، لأنّ القود لا يبطل بكونه حرّا ، وإن كان خطأ لا ينفذ ، لانّه يتعلّق برقبته ، والسيد بالخيار بين أن يفديه ، أو يسلمه (3) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة.

وهذا بخلاف ما ذكره في مسائل خلافه ، وهو قوي يمكن القول به ،

ص: 717


1- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 33.
2- ج : إذا ضمن مولاه.
3- المبسوط : ج 5 ، كتاب الظهار ، ص 161.

والاعتماد عليه.

وقال أيضا في مسائل خلافه : مسألة ، إذا كان له عبد غائب يعرف خبره وحياته ، فإن إعتاقه جائز في الكفارة بلا خلاف ، وإن لم يعرف خبره ولا حياته لا يجزيه (1).

قال محمد بن إدريس : وأخبار أصحابنا المتواترة عن الأئمة الأطهار ، وإجماعهم منعقد على أنّ العبد الغائب يجوز عتقه في الكفارة ، إذا لم يعلم منه موت ، لأنّ الأصل الحياة ، وهو موافق في نهايته على ذلك (2) ، وقائل به ، ولا يلتفت إلى خلاف ما عليه الإجماع.

إذا كان عليه كفارتان من جنس واحد ، فأعتق عنها ، أو صام بنيه التكفير دون التعيين ، أجزأه بلا خلاف ، وإن كانت من أجناس مختلفة فلا بدّ فيها من نيّة التعيين عن كلّ كفارة ، وإن لم يعيّن لم يجزه.

إذا أدخل الطعام أو الشراب في حلقه بالإكراه ، لم يفطر بلا خلاف ، وإن ضرب حتى أكل أو شرب ، فعندنا لا يفطر ، ولا يقطع التتابع.

ولا يلزمه أن ينوي التتابع في الصوم ، بل يكفيه نيّة الصوم فحسب.

والمعتبر في وجوب الكفارات المرتبة حال الأداء ، دون حال الوجوب.

من قدر حال الأداء على الإعتاق ، لم يجزه الصوم ، وإن كان غير واجد لها حين الوجوب.

يجب أن يطعم في كفارة اليمين خاصة ما يغلب على قوته وقوت اهله ، لا من غالب قوت البلد ، فأمّا غيرها من الكفارات ، فلا يلزم من قوت اهله ، بل الواجب عليه الإطعام ممّا يسمّى طعاما وإطعاما ، لأنّ دليل كفارة اليمين قوله تعالى ( مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ) (3) ولم يذكر في غيرها من الكفارات ذلك.

ولا يجوز إخراج القيم في الكفارات ، ويجوز إخراج القيم عندنا في الزكوات.

إذا كسي خمسة وأطعم خمسة في كفارة اليمين ، لم يجزه ، لأنّه لم يمتثل ظاهر الآية.

ص: 718


1- الخلاف : كتاب الظهار ، المسألة 34.
2- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العتق واحكامه ، آخر الباب.
3- المائدة : 89.

وقال شيخنا أبو جعفر في التبيان ، في تفسير آية الظهار : والرقبة ينبغي أن تكون مؤمنة ، سواء كانت ذكرا أو أنثى ، صغيرة أو كبيرة ، إذا كانت صحيحة الأعضاء ، فإنّ الإجماع واقع على أنّه يقع الاجزاء بها وقال الحسن وكثير من الفقهاء : إن كانت كافرة أجزأت.

فهذا يدلك على رجوعه عمّا قاله في نهايته من أنّها تجزي ، وإن كانت كافرة.

باب الإيلاء

يفتقر الإيلاء الشرعي الذي يتعلّق به إلزام الزوج بالفئة - بفتح الفاء - أو الطلاق بعد مطالبة الزوجة بذلك ، إلى شروط.

منها أن يكون الحالف بالغا كامل العقل.

ومنها أن يكون المولى منها زوجة دوام.

ومنها أن يكون الحلف بما ينعقد به الأيمان عند أهل البيت عليهم السلام ، لأنّه لا ينعقد اليمين عندهم إلا بأسماء اللّه تعالى ، دون أسماء المحدثات (1).

ومنها أن يكون ذلك مطلقا من الشروط.

ومنها أن يكون مع النية والاختيار ، من غير غضب ولا إكراه ، ولا إجبار.

ومنها أن تكون المدة التي حلف أن لا يطأ الزوجة فيها أكثر من أربعة أشهر.

ومنها أن تكون الزوجة مدخولا بها.

ومنها أن لا يكون إيلاؤه في صلاحه لمرض يضر به الجماع ، أو في صلاح الزوجة لمرض ، أو حمل ، أو رضاع.

لأنّه لا خلاف في ثبوت ذلك مع تكامل ما ذكرناه ، وليس على ثبوته مع اختلال بعضها دليل ، فوجب نفيه.

ص: 719


1- ل. ق : دون سائر المحدثات.

ومتى تكاملت هذه الشروط في الإيلاء ، فمتى جامع حنث ولزمته كفارة يمين ، وإن استمر اعتزاله لها ، فهي بالخيار بين الصبر عليه ، وبين مرافعته إلى الحاكم ، فإن رافعته إليه ولو بعد الإيلاء بلا فصل ، أو بعده ولو تطاول الزمان ، أمره بالجماع والتكفير ، فإن أبى أنظره أربعة أشهر من حين المرافعة ، لا من حين اليمين ، ليراجع نفسه ، ويرتئي في أمره ، فإن مضت هذه المدّة ولم يجب إلى ما أمره ، فعليه أن يلزمه الفئة أو الطلاق ، فان أبى ضيّق عليه في التصرف والمطعم والمشرب ، حتى يفعل أيّهما اختار.

ولا تقع الفرقة بين الزوجين بانقضاء المدة ، وانّما يقع بالطلاق ، بدليل قوله تعالى ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) (1) فأضاف الطلاق إلى الزوج ، كما أضاف الفئة إليه ، فكما أنّ الفئة لا تقع إلا بفعله ، فكذلك الطلاق ، وأيضا الأصل بقاء العقد ، فمن ادّعى ان انقضاء المدّة طلقة بائنة ، أو رجعية ، فعليه الدليل.

ويخص ما اشترطناه من كونها زوجة دوام ، بقوله تعالى ( وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ ) والنكاح المؤجل لا طلاق فيه.

ونحتج على المخالف فيما اعتبرناه من كون اليمين بأسماء اللّه تعالى خاصّة ، بما رووه من قوله عليه السلام : من كان حالفا فليحلف باللّه أو ليصمت (2).

ونحتج عليه في النية بقوله عليه السلام : الأعمال بالنيات (3) ، والمراد أنّ أحكام الأعمال انّما تثبت بالنيّة ، لما علمنا من حصول الأعمال في أنفسها من غير نية.

ويحتج عليه في الإكراه بما رووه من قوله عليه السلام : رفع عن أمتي الخطأ

ص: 720


1- البقرة : 227.
2- التاج : ج 3 ، كتاب الايمان والنذور ، ص 74 ، سنن الدارمي الباب 6 من كتاب النذور ، ورواه أبو داود في سننه في الباب 5 من كتاب الايمان ( الرقم 3249 ) وفيه : فليحلف باللّه أو ليسكت.
3- الوسائل : الباب 5 من أبواب مقدمات العبادات ، ح 6. سنن ابن ماجة : كتاب الزهد ، الباب 21، ح 1 ، ( الرقم 4227 ). سنن أبي داود : كتاب الطلاق الباب 1. ح 1 ( الرقم 2201 ) ورووه في كتبهم الأخر أيضا.

والنسيان وما استكرهوا عليه (1) ، ويدخل في ذلك رفع الحكم والمأثم ، لأنّه لا تنافي بينهما.

ويخصّ كون المدّة أكثر من أربعة أشهر ، قوله تعالى ( لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ) (2) فأخبر سبحانه أنّ له التربص بهذه المدّة ، فثبت أنّ ما يلزمه من الفئة أو الطلاق يكون بعدها.

ويخصّ كونها مدخولا بها قوله تعالى ( فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (3) لأنّ المراد بالفئة العود إلى الجماع بلا خلاف ، ولا يقال عاد إلى الجماع إلا لمن تقدم منه فعله ، وهذا لا يكون إلا في المدخول بها.

ومتى آلى أن لا يقرب زوجته وهي مرضعة ، خوفا من حملها فيضر ذلك بالولد ، لم يلزمه الحاكم حكم الإيلاء ، لأنّه حلف في صلاح. وكذلك إن حلف أن لا يقربها خوفا على نفسه من مرض به أو بها ، فلا يلزمه الحاكم حكم الإيلاء ، لأنّ هذا في صلاح والإيلاء لا يكون إلا في إضرار بالمرأة.

وكذلك إن حلف ان لا يقربها في الموضع المكروه ، فلا يلزمه الحاكم حكم الإيلاء ، لأنّ هذا ليس بإضرار للمرأة.

وإذا ادّعت المرأة على الرجل أنّه لا يقربها ، وزعم الرجل أنّه يقربها ، كان عليه اليمين باللّه تعالى أنّ الأمر على ما قال ، ويخلّى بينه وبينها وليس عليه شي ء.

إذا قال : واللّه لا جامعتك ، لا أصبتك ، لا وطئتك ، وقصد به الإيلاء

ص: 721


1- التوحيد : باب الاستطاعة ص 353 ، ولفظه هكذا : رفع عن أمتي تسعة : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يطيقون .. سنن ابن ماجة : كتاب الطلاق ، باب طلاق المكره والناسي ، ح 3 ( الرقم 2045 ) وفيه : أنّ اللّه وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه.
2- البقرة : 226.
3- البقرة : 226.

كان إيلاء ، وإن لم يقصد لم يكن بها موليا ، وهي حقيقة في العرف في الكناية عن الجماع ، وكذلك إذا قال : واللّه لا باشرتك ، لا لامستك ، لا باضعتك ، وقصد بها الإيلاء والعبارة عن الوطء ، كان موليا ، وإن لم يقصد لم يكن موليا.

فإن قال : واللّه لا جمع رأسي ورأسك شي ء ، لا ساقف رأسي ورأسك شي ء ، لا جمع رأسي ورأسك مخدة ، كلّ هذه لا ينعقد بها الإيلاء ، ولا حكم لها ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وثبوت الإيلاء وحكمه بهذه الألفاظ يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك.

إذا طلّق المولى طلقة ، كانت رجعيّة.

إذا قال : إن أصبتك فأنت عليّ حرام ، لم يكن موليا ولا يتعلّق به حكم على ما بيّناه.

إذا قال : إن أصبتك فلله عليّ أن أعتق عبدي ، لا يكون موليا.

وعندنا أنّ الإيلاء لا يقع بشرط ، لأنّ ثبوت الإيلاء بشرط يحتاج إلى دليل.

الإيلاء يقع بالرجعية ، لأنّها زوجة عندنا ، ويحتسب من مدّتها زمان العدّة.

إذا آلى من أربع نسوة ، فقال : واللّه لا وطئتكنّ فلا يحنث بوطء واحدة منهنّ ، وكذلك إن وطأ اثنتين ، أو ثلاثا منهنّ ، فإن وطأ الرابعة حنث ، ولزمته اليمين ، وكذلك لا يوقف إلا للأخيرة. فأمّا إن قال : واللّه لا وطئت واحدة منكن ، فأيّ واحدة وطأ حنث (1) ، ووجب عليه الكفارة ، وانحلّت في حقّ الباقيات ، فإن وطأ بعدها اخرى لا يجب عليه شي ء ، سوى الكفارة الاولى.

فأمّا إن قال : واللّه لا وطئت كلّ واحدة منكن ، فمن وطأ منهن وجبت عليه في حقّها الكفارة ، ولم تنحل في حقّ الباقيات ، ومتى وطأ واحدة من الباقيات ، كان عليه الكفارة ، والفرق واضح بين هذه الثلاث المسائل ، فليلحظ.

ص: 722


1- ل : انحلت. ق يحنث.

باب الخلع والمبارأة والنشوز والشقاق

سمّى اللّه تعالى الخلع في كتابه ، افتداء فقال ( فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) (1) والفدية العوض الذي تبذله المرأة لزوجها ، تفتدي نفسها منه به ، ومنه فداك أبي وأمي ، أي هما فداؤك ، ومنه يقال : فدي الأسير ، إذا افتدى من المال ، فإن فودي رجل برجل ، قيل مفاداة ، هذا حقيقة الخلع في الشرع.

فأمّا اللغة فهو الخلع ، واشتقاقه من خلع يخلع ، وانّما استعمل هذا في الزوجين ، لأنّ كلّ واحد منهما لباس لصاحبه ، قال اللّه تعالى ( هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ ) (2) فلمّا كان كلّ واحد منهما لباسا لصاحبه ، استعمل الخلع في كلّ واحد منهما ، لصاحبه.

والأصل في الخلع الكتاب والسنّة ، فالكتاب قوله تعالى ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ) (3) فرفع الجناح في أخذ الفدية منها عند خوف التقصير في إقامة الحدود المحدودة في حقوق الزوجية ، فدلّ على جواز الفدية.

والخلع والمبارأة ممّا يؤثّران في كيفيّة الطلاق ، وهو أنّ كلّ واحد منهما متى حصل مع الطلاق ، كانت التطليقة بائنة لا رجعة للزوج على المرأة في العدّة ، إلا أن ترجع فيما بذلته وافتدت به قبل خروجها من العدّة ، فله حينئذ الرجوع في بعضها على ما يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى.

وفرّق أصحابنا بين الخلع والمبارأة ، فلم يختلفوا في أنّ المبارأة لا تقع إلا بلفظ الطلاق ، واختلفوا في الخلع ، فقال المحصّلون منهم فيه مثل ذلك ، وقال قوم منهم : يقع بلفظ الخلع.

ص: 723


1- البقرة : 229.
2- البقرة : 187.
3- البقرة : 229.

وفرّقوا أيضا بين حكمهما ، فقالوا : الخلع لا يكون إلا بكراهة من جهة المرأة دون الرجل. ويجوز أن يأخذ منها مهر مثلها وزيادة ، أو المهر المسمّى وزيادة ، أو أنقص من ذلك ، كيف ما اتفقا عليه ، من قليل وكثير. والمبارأة تكون الكراهة منهما جميعا ، ولا يجوز أن يأخذ منها أكثر من المهر ، وقال بعضهم : دون المهر فاما مثل المهر أو أكثر فلا يجوز ، والصحيح أنّه يجوز أن يأخذ مثل المهر ، فأمّا أكثر منه فلا يجوز.

فأمّا إذا كانت الحال بين الزوجين عامرة ، والأخلاق ملتئمة ، واتفقا على الخلع ، فبذلت له شيئا على طلاقها ، لم يحلّ له ذلك ، وكان محظورا ، لإجماع أصحابنا على أنّه لا يجوز له خلعها ، إلا بعد أن يسمع منها ما لا يحل ذكره ، من قولها : لا اغتسل لك من جنابة ، ولا أقيم لك حدا ، ولأوطئن فراشك من تكرهه أو يعلم ذلك منها فعلا ، وهذا مفقود هاهنا ، فيجب أن لا يجوز الخلع ، وأيضا قوله تعالى ( وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلّا أَنْ يَخافا أَلّا يُقِيما حُدُودَ اللّهِ ) (1) وهذا نص ، فإنّه حرّم الأخذ منها إلا عند الخوف من ترك إقامة الحدود.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وانّما يجب الخلع ، إذا قالت المرأة لزوجها انّي لا أطيع لك امرا ، ولا أقيم لك حدّا ، ولا اغتسل لك من جنابة ، ولأوطئنّ فراشك من تكرهه ، إن لم تطلقني ، فمتى سمع منها هذا القول ، أو علم من حالها منها عصيانه (2) في شي ء من ذلك ، وإن لم تنطق به ، وجب عليه خلعها.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : قوله رضي اللّه عنه : « وجب عليه خلعها » ، على طريق تأكيد الاستحباب دون الفرض والإيجاب : لأنّ الشي ء إذا كان عندهم شديد الاستحباب ، أتوا به بلفظ الوجوب على ما بيّناه في غير موضع ، وإلا فهو مخيّر بين خلعها وطلاقها ، وإن سمع منها ما سمع ، بغير خلاف ، لأنّ الطلاق

ص: 724


1- البقرة : 229.
2- ق : من حالها عصيانه.

بيده ، ولا أحد يجبره على ذلك. فإذا أراد خلعها اقترح عليها مهما أراد ، على ما ذكرناه.

ولا يصحّ البذل إلا على ما يملكه المسلمون ، فإن خلعها على ما لا يملكه المسلمون وكان عالما بذلك ، كان الخلع غير صحيح ، فأمّا إن خلعها على ما في هذه الجرّة من الخل ، فخرج خمرا ، كان الخلع صحيحا ، وله عليها مثل مل ء الجرة من الخل إن وجد ، وإلا فقيمته ، وكذلك إذا تزوّجها على ذلك حرفا فحرفا.

فإذا تقرر بينهما على شي ء معلوم طلّقها بعد ذلك ، ويكون التطليقة بائنة لا يملك رجعتها ، اللّهم إلا أن ترجع المرأة فيما بذلته من مالها ، فإن رجعت في شي ء من ذلك ، كان له الرجوع في بعضها ما لم تخرج من العدّة ، فإن خرجت من العدة ثمّ رجعت في شي ء ممّا بذلته ، لم يلتفت إليها ، ولم يكن له عليها أيضا رجعة.

فإن أراد مراجعتها قبل انقضاء عدّتها ، إذا لم ترجع هي فيما بذلته ، أو بعد انقضائها ، كان ذلك بعقد مستأنف.

فإن رجعت في البذل قبل خروجها من عدّتها ، فقد قلنا له الرجوع في بضعها ، إلا أن يكون قد تزوّج بأختها ، أو برابعة مع الثلاث الباقيات عنده ، فلا يجوز له الرجوع في بضعها ، وإن كان لها الرجوع في البذل ، لأنّ الشارع جوّز لها الرجوع فيما بذلته قبل خروجها من عدّتها ، وهذه قد رجعت قبل خروجها من عدّتها ، وجوّز له الرجوع في بضعها ، إذا أمكنه ذلك ، وحلّ له ، وهذا لم يحلّ له هاهنا الرجوع ، لأنّه أتى من قبل نفسه بفعاله ، والمنع لها من الرجوع فيما بذلته يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه.

والخلع لا يقع إلا أن تكون المرأة طاهرة طهرا لم يقربها فيه بجماع ، أو يكون غير مدخول بها ، أو يكون غائبا عنها زوجها غيبة مخصوصة ، على ما قدّمناه في أحكام الطلاق ، لأنّ حكمه حكمه ، أو تكون قد أيست من المحيض وليس في سنّها من تحيض.

وان يحضر الشاهدان العدلان.

ص: 725

وجميع أحكام الطلاق معتبرة في الخلع ، لأنّه طلاق ، إلا أنّ في مقابلته عوضا تبذله المرأة ، لكراهتها المقام مع الزوج ، فإن قدّم لفظ الخلع وعقّب بلفظ الطلاق كان جائزا ، وإن لم يقدّم لفظ الخلع بل مجرد لفظ الطلاق في مقابلة العوض ، وقعت أحكام الخلع على كلّ حال.

فأمّا ما ذهب إليه بعض أصحابنا ، إلى أنّه يقع الفرقة بمجرد الخلع ، دون أن يتبع بطلاق ، على ما حكيناه عنهم ، فغير معتمد ، لأنّ الأصل الزوجيّة ، فمن أبانها بهذا يحتاج إلى دليل ، ولا دليل له من كتاب ولا سنّة ولا إجماع ، والأصل بقاء الزوجية.

فإن مات الرجل أو المرأة بعد الخلع ، وقبل انقضاء العدّة ، لم يقع بينهما توارث ، لأنّه قد انقطعت العصمة بينهما ، سواء كان ذلك من الرجل في حال مرضه ، أو لم يكن ، وليس هذا الحكم حكم الطلاق في المرض لا عن عوض ، وحمله على ذلك قياس ، ونحن لا نقول به ، فليلحظ ذلك.

وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره (1) ، لما توسط بين الأخبار ، ولنا في ذلك نظر.

وأمّا المبارأة ، فأحكامها أحكام الخلع سواء حرفا فحرفا إلا ما قدّمناه من الفرق الذي فرّق به أصحابنا ، فلا حاجة بنا إلى تفصيل أحكامها ، لأنّ أحكام الخلع قد فصّلناها ، فهي خلع إلا العبارة ، والفروق المقدّم ذكرها فحسب.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة ، الصحيح من مذهب أصحابنا أنّ الخلع بمجرده لا يقع ، ولا بدّ معه من التلفظ بالطلاق ، وفي أصحابنا من قال : لا يحتاج معه إلى ذلك ، بل نفس الخلع كاف ، إلا أنّهم لم يبينوا أنّه طلاق أو فسخ (2) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس : من ذهب من أصحابنا إلى أنّه لا يحتاج معه إلى

ص: 726


1- الاستبصار : ج 3 ، باب ان الرجل يطلق امرأته ثم يموت .. ص 344.
2- الخلاف : كتاب الخلع ، المسألة 3.

طلاق ، بل نفس الخلع كاف ، قالوا إنّه يجري مجرى الطلاق ، وانّها تبقى معه إذا تزوّجها على طلقتين.

من جمله من ذهب إلى ذلك السيد المرتضى ، ذكر في الناصريات في المسألة الخامسة والستين والمائة ، فقال : « الخلع فرقة بائنة ، وليست كلّ فرقة طلاقا ، كفرقة الردّة واللعان » قال السيد المرتضى : عندنا أن الخلع إذا تجرد عن لفظ الطلاق ، بانت به المرأة ، وجرى مجرى الطلاق ، في أنّه ينقص من عدد الطلاق ، فهذه فائدة اختلاف الفقهاء في أنّه طلاق أو فسخ ، لأنّ من جعله فسخا لا ينقص به عن عدد الطلاق شيئا ، فتحل وإن خالعها ثلاثا ، وقال أبو حنيفة وأصحابه ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والبتي (1) ، والشافعي في أحد قوليه : إنّ الخلع تطليقة بائنة ، وللشافعي قول آخر : أنّه فسخ ، وروي ذلك عن ابن عباس (2) ، وهو قول أحمد وإسحاق الدليل على صحّة ما ذهبنا إليه الإجماع المتقدّم ذكره ، ويدلّ على ذلك أيضا ما روي (3) من أنّ ثابت بن قيس لمّا خلع زوجته بين يدي النبيّ عليه السلام لم يأمره بلفظ الطلاق ، فلمّا خالعها قال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : اعتدّي ، ثمّ التفت إلى أصحابه ، فقال : هي واحدة ، فهذا دلالة على أنّه طلاق ، وليس بفسخ ، على أنّ الفسخ لا يصحّ في النكاح ، ولا الإقالة (4) هذا آخر كلام السيّد المرتضى.

ألا تراه قد جعله طلاقا ، فكيف قال شيخنا أبو جعفر ما قاله ، مع اطلاعه على مقالات أصحابنا ، وهذا السيد المرتضى من أعيانهم ، وكثيرا يحكى عنه شيخنا مقالاته ، واختياراته.

ص: 727


1- ل : والمزني ج : والليثي
2- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدة أورده في هامش ص 346.
3- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدة ، ص 346 مع الزيادة.
4- الناصريات : كتاب الطلاق ، المسألة الخامسة والستون والمائة.

الخلع جائز بين الزوجين ، ولا يفتقر إلى حاكم.

ومتى اختلفا في النقد واتفقا في القدر والجنس ، أو اختلفا في تعيين القدر ، أو إطلاق اللفظ ، أو اختلفا في الإرادة بلفظ القدر من الجنس والنقد ، فعلى الرجل البيّنة ، فإذا عدمها ، كان القول قول المرأة مع يمينها ، لأنّها الغارمة المدّعى عليها.

ولا يقع الخلع بشرط ، ولا صفة ، لأنّا بيّنا أنّه طلاق ، وأنّ أحكامه أحكام الطلاق.

وإذا اختلعها أجنبيّ من زوجها بعوض بغير إذنها ، لم يصح ذلك.

إذا خالع أربع نسوة صفقة واحدة بألف ، أو تزوّج أربعا بمهر مسمّى ، فالذي يقتضيه مذهبنا أنّ المهر صحيح ، وينقسم بينهن بالسوية ، وكذلك في الخلع ، ويكون الفداء صحيحا ، ويلزم كلّ واحدة منهن حصّتها بالسوية.

فأمّا النشوز فهو أن يكره الرجل المرأة ، وتريد المقام (1) معه ، وتكره مفارقته ، ويريد الرجل طلاقها ، فتقول له : لا تفعل ، انّى أكره أن تشمت بي ، ولكن انظر ليلتي ، فاصنع فيها ما شئت ، وما كان سوى ذلك من نفقة وغيرها فهي لك ، وأعطيك أيضا من مالي شيئا معلوما ودعني على خالي ، فلا جناح عليهما أن يصالحا بينهما على هذا الصلح.

وقال بعض أصحابنا وهو ابن بابويه في رسالته وقد يكون النشوز من قبل المرأة ، لقوله تعالى ( وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ) (2).

وهذا القول أقوى من الأوّل ، لظاهر القرآن ، والأوّل مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (3).

ويحلّ للزوج ضربها بنفس النشوز عندنا ، بعد الوعظ لها ، والهجران في

ص: 728


1- ج : تريد المرأة المقام.
2- النساء : 34.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب الخلع والمبارأة ، والنشوز والشقاق.

المضجع ، لظاهر التنزيل وهو قوله تعالى « وَاللّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ » فاقتضى ظاهره ، متى خاف النشوز منها حلّ له الموعظة ، والهجران ، والضرب.

وأمّا الموعظة ، فإنّه يخوّفها باللّه تعالى ، ويعرّفها أنّ عليها طاعة زوجها ، ويقول : اتقي اللّه وراقبيه ، وأطيعيني ، ولا تمنعيني حقي عليك.

والهجران في المضجع أن يعتزل فراشها ، وروي من طريق أصحابنا أنّ الهجران ، هو أن يحوّل ظهره إليها في المضجع (1).

وأمّا الضرب فهو أن يضربها ضرب تأديب ، كما يضرب الصبيان على التأديب ، ولا يضربها ضربا مبرحا ، ولا مدميا ، ولا مزمنا.

وروي في بعض أخبارنا أنّه يضربها بالسواك (2) ، وذلك على جهة الاستحباب ، وإلا له أن يضربها بالسوط ضرب أدب ، لأنّ ظاهر الآية يقتضي ذلك.

قال شيخنا في مبسوطة : وروى بعض الصحابة ، قال : كنّا معاشر قريش يغلب رجالنا نساءنا ، فقدمنا المدينة فكانت نساؤهم تغلب رجالهم ، فاختلطت نساؤنا بنسائهم ، فذئرن على أزواجهن ، فقلت : يا رسول اللّه ذئر النساء على أزواجهن ، فرخّص في ضربهن (3) و (4).

قال محمّد بن إدريس : ذئر بالذال المعجمة المفتوحة ، والياء المنقطة بنقطتين من تحتها ، المهموزة (5) ، والرّاء الغير المعجمة ، ومعناه اجترأ ، واجترأن ، قال عبيد بن الأبرص :

ص: 729


1- التبيان : ج 3 ، ص 190 ذيل الآية 34 ، من سورة النساء.
2- التبيان : ج 3 ، ص 190 ذيل الآية 34 ، من سورة النساء.
3- المبسوط : ج 4 ، فصل في أحكام النشوز ، ص 338.
4- التاج : ج 2 ، كتاب النكاح والطلاق والعدّة ص 326. سنن ابن ماجة : كتاب النكاح ، الباب 51، ح 1985. سنن أبي داود : باب (42) في ضرب النساء من كتاب النكاح ، ح 2146 ، والحديث متضمّن لأصل الرخصة في الضرب.
5- ج : المهموزة المكسورة.

ولقد أتانا عن تميم أنّهم *** ذئروا لقتلى عامر وتغضبوا

وأمّا الشقاق فاشتقاقه من الشق ، وهو الناحية والجانب فكأنّ كلّ واحد من الزوجين في ناحية من الآخر وجانب ، وفي عرف الشرع فهو أنّه إذ أكره كلّ واحد من الزوجين الآخر ، ووقع بينهما الخصومة ، ولا يصطلحان (1) لا على المقام ، ولا على الفراق والطلاق ، فالواجب على الحاكم أن يبعث حكما من أهل الزوج ، وحكما من أهل المرأة ، وبعثهما على طريق التحكيم عندنا ، لا على طريق التوكيل على ما يذهب إليه بعض المخالفين ، فإن رأيا من الصلاح الإصلاح بينهما ، فعلا من غير استيذان ، وإن رأيا الفراق والطلاق فليس لهما ذلك ، وأعلما الحاكم ، ليدبر الأمر فيما بينهما ، إلا أن يكون الرجل قد وكل الحكم المبعوث من أهله في طلاق الزوجة ، فللحكم حينئذ أن يطلّق قبل الاستئذان ، إن رأى ذلك صلاحا ، وكذلك المرأة إن وكلت الحكم المبعوث من أهلها في البذل ، فله ذلك من دون أعلامها.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : والمستحب أن يكون حكم الزوج من أهله ، وحكم المرأة من أهلها ، للظاهر ، وإن بعث من غير أهلها جاز (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : ذلك على طريق الإيجاب دون الاستحباب ، لظاهر القرآن.

ويكون الحكمان حرّين ذكرين عدلين.

ذكر سلّار في رسالته ، فقال : وشروط الخلع والمبارأة ، شروط الطلاق ، إلا أنّهما يقعان بكلّ زوجة (3).

ص: 730


1- ج : لا يصلحان.
2- المبسوط : ج 4 ، فصل في الحكمين في الشقاق بين الزوجين ، والعبارة هكذا : والمستحب على القولين معا أن يحكم حكم الزوج من أهله وحكم المرأة من أهلها للظاهر وإن بعث من غير أهلها جاز.
3- المراسم : كتاب الفراق.

قال محمّد بن إدريس : معنى قوله يقعان بكلّ زوجة ، يريد أنّه باين لا رجعة مع واحد منهما ، سواء كان الخلع أو المبارأة مصاحبا للطلقة الأولة ، أو الثانية ، لأنّه لمّا عدد البوائن ، ذكر ذلك.

وقال الراوندي من أصحابنا : أراد المتمتع بها.

وهذا خطأ محض ، لأنّ المبارأة لا بد فيها من طلاق ، والمتمتع بها لا يقع بها طلاق.

باب العدد

إذا طلّق (1) زوجته قبل الدخول بها ، لم يكن عليها منه عدّة ، وحلّت للأزواج في الحال ، فإن كان قد فرض لها مهرا وسمّاه ، كان عليه نصف ما فرض ، وإن لم يكن سمّى لها مهرا ، كان عليه أن يمتعها على قدر حاله وزمانه ، إن كان مؤسرا ، بجارية أو ثوب تبلغ قيمته عشرة دنانير ، أو خمسة فصاعدا ، وإن كان متوسطا ، فما بين الثلاثة الدنانير (2) إلى ما زاد عليها ، وإن كان معسرا بدينار أو بخاتم وما أشبهه على قدر حاله ، كما قال اللّه تعالى ( عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) (3) والمعتبر بالمتعة حال الرجال (4) دون النساء ، وبمهر المثل حال النساء دون حال الرجال.

وجملة الأمر وعقد الباب ، أن يقال : العدّة على ضربين ، عدّة من طلاق وما يقوم مقامه ، وعدّة من وفاة وما يجري مجراها.

والمطلّقة على ضربين مدخول بها ، وغير مدخول بها.

فغير المدخول بها لا عدّة عليها بلا خلاف على ما قدّمناه.

والمدخول بها لا تخلو إمّا أن يكون حاملا أو حائلا ، فإن كانت حاملا فعدّتها أن تضع جميع حملها ، على ما بيّناه في أبواب الطلاق وشرحناه وحكينا

ص: 731


1- ج : طلّق الرجل.
2- ج : دنانير.
3- البقرة : 236.
4- ج : الرّجل.

مقالة بعض أصحابنا في ذلك ، حرّة كانت أو أمة ، بغير خلاف يعتدّ به ، وقوله تعالى ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (1) يدلّ على ذلك ، ولا يعارض هذه الآية قوله تعالى ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (2) لأنّ آية وضع الحمل عامة في المطلّقة وغيرها ، وناسخة لما تقدّمها بلا خلاف ، يبيّن ذلك أنّ قوله سبحانه ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) في غير الحوامل ، لأنّه تعالى قال ( وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ ) (3) ومن كانت مستبينة الحمل لا يقال فيها ذلك ، وإذا كانت خاصّة في غير الحوامل ، لم يعارض آية الحمل ، لأنّها عامّة في المطلّقة وغيرها.

وإن كانت حائلا ، فلا تخلو أن تكون ممّن تحيض ، أو لا تحيض.

فإن كانت ممّن تحيض ، فعدّتها إن كانت حرّة ثلاثة قروء بلا خلاف ، وإن كانت أمة فعدّتها قرءان بلا خلاف عندنا ، وعند باقي الفقهاء ، إلا من داود ، فإن عتقت في العدّة وكانت العدّة رجعية ، تممتها عدّة الحرّة. وإن كانت العدّة بائنة فلا يجب عليها تمام عدّة الحرة ، بل يجب عليها الخروج مما أخذت فيه من عدّة الأمة.

والقرء - بفتح القاف - عندنا هو الطهر بين الحيضتين.

وإن كانت لا تحيض ومثلها تحيض ، فعدّتها إن كانت حرّة ثلاثة أشهر بلا خلاف ، وإن كانت أمة فخمسة وأربعون يوما ، وإن كانت لا تحيض لصغر لم تبلغ تسع سنين ، أو لكبر بلغ خمسين سنة ، مع تغير عادتها ، وهما اللتان ليس في سنّهما من تحيض ، فقد اختلف أصحابنا في وجوب العدّة عليهما ، فمنهم من قال لا تجب ، ومنهم من قال تجب أن تعتد بالشهور ، وهي ثلاثة أشهر ، وهو اختيار السيد المرتضى ، وبه قال جميع المخالفين ، ويحتج بصحة ما ذهب إليه ، بأن قال :

طريقة الاحتياط تقتضي ذلك ، وأيضا قوله تعالى : ( وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ

ص: 732


1- الطلاق : 4.
2- البقرة : 228.
3- البقرة : 228.

مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللّائِي لَمْ يَحِضْنَ ) (1) وهذا نص ، وقوله تعالى « إِنِ ارْتَبْتُمْ » معناه على ما ذكره جمهور المفسرين ، إن كنتم مرتابين في عدّة هؤلاء النساء وغير عالمين بمقدارها ، فقد روي أنّ أبي بن كعب قال : يا رسول اللّه انّ عددا من عدد النساء لم تذكر في الكتاب الصغار والكبار ، وأولاتُ الأحمالِ ، فأنزل اللّه تعالى « وَاللّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ » إلى قوله : ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) ولا يجوز أن يكون الارتياب بأنّها آيسة من المحيض ، أو غير آيسة ، لأنّه تعالى قطع فيمن تضمنته الآية باليأس من المحيض ، بقوله ( وَاللّائِي يَئِسْنَ ) والمرتاب في أمرها لا تكون آيسة.

وإذا كان المرجع في حصول حيض المرأة وارتفاعه إلى قولها ، كانت مصدّقة فيما تخبر به من ذلك ، وأخبرت بأحد الأمرين ، لم يبق للارتياب في ذلك معنى ، وكان يجب لو كانت الريبة راجعة إلى ذلك أن يقول : إن ارتبن (2) ، لأنّ الحكم في ذلك يرجع إلى النساء ، ويتعلّق بهنّ ، ولا يجوز أن يكون الارتياب بمن تحيض أو لا تحيض ممّن هو في سنّها ، لأنّه لا ريب في ذلك من حيث كان المرجع فيه إلى العادة ، على أنّه لا بدّ فيما علّقنا به الشرط ، وجعلنا الريبة واقعة فيه ، من مقدار عدّة من تضمنته الآية ، من أن يكون مرادا ، من حيث لم يكن معلوما لنا قبل الآية ، وإذا كانت الريبة حاصلة بلا خلاف ، تعلّق الشرط به ، واستقل بذلك الكلام ، ومع استقلاله يتعلّق الشرط بما ذكرناه ، ولا يجوز أن يتعلّق بشي ء آخر ، كما لا يجوز فيه لو كان مستقلا اشتراطه ، فهذا جملة ما يتمسّك به من نصر اختيار المرتضى.

والقول الآخر أكثر وأظهر بين أصحابنا ، وعليه يعمل العامل منهم ، وبه يفتي المفتي ، والروايات بذلك متظاهرة متواترة ، وأيضا الأصل براء الذمة من هذا التكليف ، فمن علّق عليها شيئا يحتاج إلى دليل ، وهو مذهب شيخنا المفيد ،

ص: 733


1- الطلاق : 4.
2- ج : ارتبتنّ.

وشيخنا أبي جعفر في سائر كتبه.

فأمّا الآية فلا تعلّق فيها بحال ، لا تصريحا ولا تلويحا ، لأنّه تعالى شرط في إيجاب العدّة ثلاثة أشهر إن ارتابت ، والريبة لا تكون إلا فيمن تحيض مثلها ، فأمّا من لا تحيض مثلها فلا ريبة عليها ، فلا يتناولها الشرط المؤثّر.

وأمّا ما يقوم مقام الطلاق ، فانقضاء أجل المتمتع بها ، وعدّتها قرءان ، إن كانت ممن تحيض وخمسة وأربعون يوما إن كانت ممّن لا تحيض.

فأمّا عدّة المتوفّى عنها زوجها ، إن كانت حرّة حائلا ، فعدّتها أربعة أشهر وعشرة أيام ، سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، مدخولا بها أو غير مدخول بها ، بلا خلاف ، وقد دخل في هذا الحكم المطلّقة طلاقا رجعيا إذا توفّي زوجها ، وهي في العدّة ، لأنّها زوجة على ما بيّناه ، ولا تتمم على ما مضى لها من عدّتها قبل موت الزوج ، بل يجب عليها استئناف عدّة الوفاة ، وهي أربعة أشهر وعشرة أيام من وقت موته ، لقوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (1) أراد تعالى يتربّصن بعد الموت ، لا قبل الموت.

وهذه عدّة المتمتع بها ، إذا توفي عنها زوجها قبل انقضاء أيامها على الصحيح من المذهب.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّ عدّة المتمتع بها إذا مات زوجها عنها ، وهي في حباله ، شهران وخمسة أيام ، والقرآن قاض عليه.

فإن مات بعد خروجها من حباله وانقضاء أيامه قبل خروجها من عدّتها ، فلا يجب عليها إلا تمام العدّة التي أخذت فيها ، دون عدّة الوفاة ، لأنّها ليست زوجة للميت.

وكذلك المطلّقة طلاقا بائنا لا رجعة للمطلّق فيه ، ومات زوجها عنها قبل خروجها من عدّتها التي لا رجعة له عليها فيها ، فإنّها تتمم العدّة التي أخذ من

ص: 734


1- البقرة : 234.

فيها ، دون عدّة الوفاة ، لأنّها ليست زوجة للميت على ما قدّمناه.

وقد روي أنّ عدّة أم الولد لوفاة سيدها وعدّتها لو زوّجها سيّدها وتوفى عنها ، زوجها ، أربعة أشهر وعشرة أيام (1).

والأولى في أم الولد أنّ لا عدّة عليها في موت مولاها ، لأنّه لا دليل عليه من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، وهذه ليست زوجة ، بل باقية على الملك والعبودية إلى حين وفاته.

فأمّا عدّة الأمة المتوفّى عنها زوجها ، سواء كانت أم ولد ، أو لم تكن فأربعة أشهر وعشرة أيام ، على الصحيح من المذهب. والذي يقتضيه أصول أصحابنا (2) ، ويعضده ظاهر القرآن ، لأنّ اللّه تعالى قال ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (3) وهذه زوجة بلا خلاف.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : عدّتها إذا لم تكن أم ولد شهران وخمسة أيّام ، على النصف من عدّة الحرة المتوفّى عنها زوجها (4).

إلا أنّه رجع عن هذا في كتابه التبيان لتفسير القرآن (5) ، واختار ما اخترناه.

فإن توفّي زوج الجارية ، وكان قد طلّقها وهي في العدّة ، فإن كان أول طلاقها وله عليها الرجعة ، فالواجب عليها أن تعتد من وقت موته أربعة أشهر وعشرة أيام ، تستأنف ذلك ، ولا تعتدّ بما مضى من الأيام ، ولا تبني عليها.

وإن كان ثاني طلاقها وهي في العدّة التي لا رجعة له عليها ، فتتمم ما أخذت فيه ، ولا تستأنف عدّة الوفاة.

فإن كانت مطلّقة وأخذت في العدّة ، ثمّ أعتقها مولاها وهي في العدّة ، فإن كانت لا رجعة للزوج عليها فيها ، بنت على عدّة الأمة ، وإن كان له فيها عليها

ص: 735


1- الوسائل : الباب 42 من أبواب العدد ، ح 4 و 5.
2- ج أصول مذهبنا.
3- البقرة : 234.
4- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.
5- التبيان : ج 2 ، ص 262 ، ذيل الآية 234 من سورة البقرة.

الرجعة ، تمّمت عدّة الحرّة.

وإن كانت المتوفّى عنها زوجها حاملا ، فعليها أن تعتدّ عندنا خاصّة بأبعد الأجلين ، فإن وضعت قبل انقضاء أربعة أشهر وعشرة أيام ، لم تنقض عدّتها حتى تكمل تلك المدة ، وإن كملت المدة قبل وضع الحمل ، لم تنقض عدّتها حتى تضع حملها ، لإجماع أصحابنا على ذلك ، وطريقة الاحتياط ، لأنّ العدّة عبادة وتكليف تستحق عليها الثواب ، وإذا كان الثواب فيما ذهبنا إليه أوفر ، لأنّ المشقة فيه أكثر ، كان أولى من غيره ، وقوله تعالى ( وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (1) معارض بقوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (2) فإذا علمنا بما ذهبنا إليه ، نكون عاملين بالآيتين معا ، والمخالف لا يمكنه العمل بآية عدّة المتوفّى عنها زوجها ، وهي الأربعة الأشهر والعشرة الأيام إذا كانت حاملا ، ووضعت قبل مضي المدة ، فيترك الآية هاهنا رأسا.

وأمّا ما يجري مجرى الموت فشيئان.

أحدهما غيبة الزوج التي لا تعرف الزوجة معها له خبرا ، ولا لها نفقة ، فإنّها إذا لم تختر الصبر على ذلك ، ورفعت أمرها إلى الإمام في حال ظهوره ، أو إلى نوابه في هذه الحال ، ولم يكن له ولي يمكنه الإنفاق ، ولا له مال ينفق عليها منه ، أنفق عليها الإمام من بيت المال ، وبعث من يتعرّف خبره في الآفاق والجهات التي سافر إلى نحوها ، فإن لم يعرف له خبر حتى انقضت أربع سنين من يوم رفعت أمرها إلى الإمام ، أمرها الإمام بالاعتداد عنه أربعة أشهر وعشرة أيام ، عدّة المتوفّى عنها زوجها ، فإن قدم وهي في العدّة قبل خروجها منها ، فهو أملك بها بالعقد الأول ، وإن جاء بعد خروجها من العدّة ، فقد اختلف قول أصحابنا

ص: 736


1- الطلاق : 4.
2- البقرة : 234.

في ذلك ، فقال بعضهم : الزوج أملك بها ، وقال آخرون : هي أملك بنفسها ، وهو خاطب من الخطاب ، لأنّ لها أن تتزوج بعد خروجها من العدّة بلا فصل ، فلو كان أملك بها لما جاز لها التزويج.

وهذا اختيار شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (1) ، فإنّه رجع عمّا ذكره في نهايته (2).

وهذا الذي يقوى في نفسي ، لأنّها قد خرجت من العدّة خروجا شرعيا ، من عدّة شرعيّة ، فقد بانت منه ، وحلّت للأزواج بغير خلاف ، ولا دلالة على عودها إليه من غير عقد جديد ، فانّ عودها إليه وكونه أملك بها حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا دلالة على ذلك من كتاب ، ولا سنّة ، ولا إجماع منعقد ، لأنّا قد بيّنا أنّ أصحابنا مختلفون في ذلك ، والأصل براءة الذمة.

فأمّا إذا تزوّجت فلا خلاف بينهم ، في أنّ الثاني أحقّ بها من الأوّل.

وهذا حكم باطل في حال غيبة الإمام عليه السلام وقصور يده ، فإنّها مبتلاة ، وعليها الصبر إلى أن تعرف موته أو طلاقه ، على ما وردت به الأخبار عن الأئمة الأطهار (3) والثاني الارتداد عن الإسلام ، على الوجه الذي لا تقبل التوبة منه.

وحكم العدّة في الطلاق الرجعي أن لا تخرج من بيت مطلّقها إلا بإذنه ، ولا يجوز له إخراجها منه ، وهي أحقّ بالسكنى فيه ، فإن باعه وكانت عدّتها بالأقراء التي هي الأطهار ، أو بالحمل ، فالبيع غير صحيح ، وإن كانت عدّتها بالشهور ، فالبيع صحيح ، وتكون مدّة الشهور مستثناة ، ولا يجوز له إخراجها منه ، إلا أن تؤذي أهله ، أو تأتي فيه بما يوجب الحدّ ، فيخرجها لإقامته ، ولا يجب عليه ردّها إليه.

وقال بعض أصحابنا : يخرجها لإقامته ، ويردّها ، ولا تبيت إلا فيه ، ولا يردّها إذا أخرجها للأذى.

ص: 737


1- المبسوط : ج 5 ، كتاب العدد ، فصل في امرأة المفقود زوجها وعدتها ، ص 278.
2- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد ، آخر الباب.
3- الوسائل : الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق وأحكامه ، ح 3.

والأظهر أن لا يردّها في الموضعين ، لأنّ ردها يحتاج إلى دليل.

ويجب عليه النفقة في عدّة الطلاق الرجعي ، ولا يجب في عدّة البائن ، إلا أن تكون حاملا ، فإنّ النفقة تجب على الزوج لها بلا خلاف ، لقوله تعالى : ( وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ) (1) ولا نفقة لبائن حامل غير المطلّقة الحامل فحسب ، لدليل الآية ، وإلحاق غيرها بها قياس ، ونحن لا نقول به ، لا لمتمتع بها ، ولا لمفسوخ نكاحها ، وغير ذلك.

ولا نفقة للمتوفّى عنها زوجها إذا كانت حائلا بلا خلاف ، وإن كانت حاملا أنفق عليها عندنا خاصّة من مال ولدها الذي يعزل له ، حتى تضع ، على ما روي في الأخبار (2) ، وذهب إليه شيخنا أبو جعفر ، في جميع كتبه.

والذي يقوى في نفسي ، ويقتضيه أصول مذهبنا ، أن لا ينفق عليها من المال المعزول ، لأنّ الإنفاق حكم شرعي يحتاج إلى دليل شرعي ، والأصل أن لا إنفاق ، وأيضا النفقة لا تجب للوالدة الموسرة ، وهذه الام لها مال ، فكيف تجب النفقة عليها ، فإن

كان على المسألة إجماع منعقد من أصحابنا ، قلنا به ، وإلا بقينا على نفي الأحكام الشرعيّة إلا بأدلّة شرعية.

وما اخترناه وحرّرناه مذهب شيخنا محمد بن محمد بن النعمان المفيد ، في كتابه التمهيد ، فإنّه قال : إنّ الولد انّما يكون له مال عند خروجه إلى الأرض حيا فأمّا وهو جنين ، لا يعرف له موت من حياة ، فلا ميراث له ولا مال على الإنفاق ، فكيف ينفق على الحبلى من مال من لا مال له ، لو لا السهو في الرواية ، أو الإدغال (3) فيها هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

وقد أشبع القول فيه ، وجنح الكلام والاحتجاج ، فمن أراد الوقوف عليه ، وقف من كتابه الذي أشرنا إليه ، ونبهنا عليه ، وهو كتاب التمهيد ، فإنّ فيه

ص: 738


1- الطلاق : 6.
2- الوسائل : الباب 10 من أبواب النفقات.
3- التمهيد : ( مخطوط ).

أشياء حسنة ، ومناظرات شافية.

وتبيت المتوفّى عنها زوجها حيث شاءت.

ويلزمها الإحداد بلا خلاف إذا كانت حرّة ، صغيرة كانت أو كبيرة.

قال محمّد بن إدريس : ولي في الصغيرة نظر ، لأنّ لزوم الحداد حكم شرعي ، وتكليف سمعي ، والتكاليف لا تتوجه إلا إلى العقلاء.

وانّما ذهب شيخنا في مسائل خلافه (1) إلى أنّ الصغيرة يلزمها (2) الحداد ، ولم يدلّ بإجماع الفرقة ولا بالأخبار.

وهذه المسألة لا نص لأصحابنا عليها ، ولا إجماع.

والحداد هو اجتناب الزينة في الهيئة ، ومس الطيب ، واللباس ، وكلّ ما تدعو النفس إليه ، سواء كان طيبا أو غيره ، ولا يلزم المطلّقة وإن كانت بائنا ، كلّ ذلك بدليل إجماع الطائفة ، ودلالة الأصل ، وقوله تعالى ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (3).

ويلزم عدّة الوفاة للغائب عنها زوجها ، من يوم يبلغها الخبر ، لا من يوم الوفاة بغير خلاف بين أصحابنا.

وذهب بعض أصحابنا إلى أنّ حكم المعتدة من طلاق زوجها الغائب كذلك.

والأظهر والأكثر المعمول عليه ، الفرق بين الموضعين ، وهو أنّ في عدّة الطلاق تعتد من يوم طلّقها ، إذا قامت بينة عدول بضبط التاريخ.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : وإذا كانت المرأة مسترابة ، فإنّها تراعي الشهور والحيض ، فإن مرّت بها ثلاثة أشهر بيض ، لم تر فيها دما ، فقد بانت منه بالشهور ، وإن مرّت بها ثلاثة أشهر إلا يوما ، ثم رأت الدم كان عليها أن تعتد بالأقراء ، فإن تأخّرت عنها الحيضة الثانية ، فلتصبر من يوم طلّقها إلى تمام

ص: 739


1- الخلاف : كتاب العدة ، المسألة 28.
2- ج : لزمها.
3- الأعراف : 32.

التسعة أشهر ، فإن لم تر دما فلتعتد بعد ذلك بثلاثة أشهر ، وقد بانت منه ، وإن رأت الدم فيما بينها وبين التسعة أشهر ثانيا ، واحتبس عليها الدم الثالث ، فلتصبر تمام السنة ، ثم تعتدّ بعد ذلك بثلاثة أشهر ، تمام الخمسة عشر شهرا ، وقد بانت منه ، وأيّهما مات ما بينه وبين الخمسة عشر شهرا ورثه صاحبه (1).

قال محمّد بن إدريس : الذي يقوى في نفسي ، أنّها إذا احتبس الدم الثالث بعد مضي تسعة أشهر ، اعتدّت بعدها بثلاثة أشهر تمام السنة ، لأنّها تستبرأ بتسعة أشهر ، وهي أقصى مدّة الحمل ، فيعلم أنّها ليست حاملا ، ثم تعتدّ بعد ذلك عدتها ، وهي ثلاثة أشهر.

وشيخنا أبو جعفر ، رجع عمّا ذكره في نهايته في الجزء الثالث من استبصاره ، وقال بما اخترناه ، فإنّه قال في باب أنّ المرأة إذا حاضت فيما دون الثلاثة أشهر ، كان عدّتها بالأقراء ، فأورد الخبر الذي ذكره في نهايته ، وهو عن عمار الساباطي ، الذي قال فيه : يكون عدّتها إلى تمام خمسة عشر شهرا ، ثمّ أورد خبرا بعده عن ابن محبوب ، عن مالك بن عطيّة ، عن سورة بن كليب ، قال : سئل أبو عبد اللّه ، عن رجل طلّق امرأته تطليقة على طهر ، من غير جماع بشهود ، طلاق السنّة وهي ممن تحيض ، فمضى ثلاثة أشهر ، فلم تحض إلا حيضة واحدة ، ثم ارتفعت حيضتها ، حتى مضت ثلاثة أشهر أخرى ، ولم تدر ما رفع حيضتها ، قال : إن كانت شابّة مستقيمة الحيض ، فلم تطمث في ثلاثة أشهر إلا حيضة ، ثمّ ارتفع طمثها ، ولا تدري ما رفعها ، فإنّها تتربص تسعة أشهر من يوم طلّقها ، ثمّ تعتدّ بعد ذلك ثلاثة أشهر ، ثمّ تتزوج إن شاءت ، قال محمّد بن الحسن : هذا الخبر ينبغي أن يكون العمل عليه ، لأنّها تستبرأ بتسعة أشهر ، وهو أقصى مدّة الحمل ، فيعلم أنها ليست حاملا ، ثمّ تعتد بعد ذلك عدّتها وهي

ص: 740


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.

ثلاثة أشهر ، والخبر الأول نحمله على ضرب من الفضل والاحتياط ، بأن تعتد إلى خمسة عشر شهرا (1) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في استبصاره.

وإذا حاضت المرأة حيضة واحدة ، ثمّ ارتفع حيضها ، وعلمت أنّها لا تحيض بعد ذلك لكبر ، فلتعتدّ بعد ذلك بشهرين ، وقد بانت منه على ما رواه أصحابنا (2).

وإذا كانت المرأة المطلّقة مستحاضة ، وتعرف أيام حيضها ، فلتعتدّ بالأقراء ، وإن لم تعرف أيام حيضها اعتبرت صفة الدم ، واعتدت أيضا بالأقراء ، فإن اشتبه عليها دم الحيض بدم الاستحاضة ولم يكن لها طريق إلى الفرق بينهما اعتبرت عادة نسائها في الحيض ، فتعتدّ على عادتهن في الأقراء (3) هكذا ذكره شيخنا في نهايته.

والأولى تقديم العادة على اعتبار صفة الدم ، لأنّ العادة أقوى.

فإن لم تكن لها نساء لهن عادة ، رجعت إلى اعتبار صفة الدم ، وهذا مذهبه في جمله وعقوده (4).

فإن لم يكن لها نساء ، أو كنّ مختلفات العادة ، اعتدت بثلاثة أشهر ، وقد بانت منه.

هذا على قول من يقول بكون حيض هذه في كلّ شهر ثلاثة أيام ، أو عشرة أيام أو سبعة أيام ، ففي الثلاثة الأشهر تحصل لها ثلاثة أطهار.

فأمّا على قول من يقول تحصل عشرة أيام طهرا وعشرة أيام حيضا ، فتكون عدّتها أربعين يوما ولحظتين.

ومتى كانت المرأة لها عادة بالحيض في حال الاستقامة ، ثمّ اضطربت أيّامها ،

ص: 741


1- الإستبصار : ج 3 ، باب ان المرأة إذا حاضت فيما دون الثلاثة أشهر .. ص 323.
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب العدد.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.
4- الجمل والعقود : كتاب الطهارة ، فصل في ذكر الحيض والاستحاضة والنفاس ، ص 163 ، والمستفاد من كلامه « قدس سره » في المقام تقديم الرجوع إلى الصفة على عادة النساء ، كما في النهاية فراجع.

فصارت مثلا بعد ان كانت تحيض كلّ شهر ، لا تحيض إلا في شهرين ، أو ثلاثة أشهر ، وصار ذلك عادة لها ، فلتعتدّ بالأقراء التي قد صارت عادة لها ، لا بالعادة الاولى ، وقد بانت منه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ومتى كانت المرأة لها عادة بالحيض في حال الاستقامة ، ثمّ اضطربت أيامها ، فصارت مثلا بعد أن كانت تحيض كلّ شهر ، لا تحيض إلا في شهرين ، أو ثلاثة ، أو ما زاد عليه ، فلتعتدّ بالأقراء على ما جرت به عادتها في حال الاستقامة ، وقد بانت منه (1).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه : « فلتعتد بالأقراء على ما جرت به عادتها في حال الاستقامة » إن أراد بذلك في الشهر والشهرين والثلاثة ، من غير تجاوز الثلاثة الأشهر ، ولم يصر ذلك عادة لها ، بل هي عارفة بعادتها الاولى ، فلتعتد بما قال من عادتها الاولى في حال استقامة أقرائها ، وإن أراد أنّ العادة الاولى اضطربت عليها ، واختلفت ، وصارت ناسية لأوقاتها وأيامها ، غير عالمة بها ، ثمّ صار حيضها في الشهرين والثلاثة عادة لها ثابتة مستمرة ، توالت عليها شهران متتابعان ، ترى الدم فيهما أياما سواء في أوقات سواء ، فلتجعل ذلك عادة لها ، وتعتد بذلك ، لا بالعادة الأولى التي نسيتها واضطربت عليها ، فأمّا ما زاد على الثلاثة الأشهر فصارت لا ترى الدم إلا بعد ثلاثة أشهر ، فإنّ هذه تعتد بالأشهر الثلاثة البيض بغير خلاف ، لقولهم عليهم السلام : أمران أيّهما سبق فقد بانت منه ، وكان ذلك عدّة لها (2) وقد سبقت الثلاثة الأشهر البيض ، فهذا تحرير الحديث وفقهه.

وإذا كانت المرأة لا تحيض إلا في ثلاث سنين ، أو أربع سنين مرة واحدة. وكان ذلك عادة لها ، فلتعتد بثلاثة أشهر وقد بانت منه ، وليس عليها أكثر من ذلك لما قدّمناه من سبق الأشهر الثلاثة البيض.

ص: 742


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.
2- الوسائل : الباب 4 من أبواب العدد ، ح 3 - 5 - 12 - 13.

وإذا طلّق امرأة فإن ارتابت بالحمل بعد ان طلّقها ، أو ادّعت ذلك ، صبر عليها تسعة أشهر ، ثم تعتدّ بعد ذلك بثلاثة أشهر ، وقد بانت منه ، فإن ادّعت بعد انقضاء هذه المدة حملا ، لم يلتفت إلى دعواها ، وكانت باطلة ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

والأولى عندي أنّها تبين وتنقضي عدّتها بعد التسعة الأشهر ، ولا يحتاج إلى استئناف عدّة أخرى بثلاثة أشهر ، لأنّه لا دليل عليه ، لأنّ في ذلك المطلوب من سبق الأشهر البيض الثلاثة ، أو وضع الحمل ، وانّما ذلك خبر واحد ، أورده شيخنا في نهايته إيرادا لا اعتقادا.

وقال شيخنا في نهايته : وعدّة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام ، إذا كانت حرّة ، سواء كانت زوجة على طريق الدوام ، أو متمتعا بها ، وسواء دخل بها الزوج أو لم يدخل وإن كانت أمة ، فإن كانت أم ولد لمولاها ، فعدّتها أيضا مثل عدّة الحرّة أربعة أشهر وعشرة أيام ، وإن كانت مملوكة ليست أم ولد فعدّتها شهران وخمسة أيام (2).

وقد قلنا : إنّ الصحيح من الأقوال والأظهر بين أصحابنا ، أنّ عدّة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام ، سواء كانت حرّة أو امة ، أم ولد كانت أو غير أم ولد ، لظاهر القرآن.

وشيخنا فقد رجع عمّا ذكره في نهايته ، في كتاب التبيان لتفسير القرآن (3).

وقال رحمه اللّه في نهايته : فإن طلّقها الرجل ثمّ مات عنها ، فإن كان طلاقها طلاقا يملك فيه رجعتها ، كان عدّتها أربعة أشهر وعشرة أيام ، إذا كانت أم ولد ، وإن لم تكن أم ولد كانت عدّتها شهرين وخمسة أيام ، حسب ما قدّمناه.

وقد قلنا نحن ما عندنا في ذلك.

وقال : وإن لم يملك رجعتها ، فعدّتها عدّة المطلّقة ، حسب ما قدّمناه ، وإذا

ص: 743


1- النهاية : كتاب الطلاق باب العدد ، باختلاف يسير.
2- النهاية : كتاب الطلاق باب العدد ، باختلاف يسير.
3- التبيان : ج 2 ، ص 262 ، ذيل الآية 234 من سورة البقرة.

مات عنها زوجها ، ثمّ عتقت ، كان عدّتها أربعة أشهر وعشرة أيّام ، وكذلك إن كانت الأمة يطؤها بملك اليمين ، وأعتقها بعد وفاته ، كان عليها أن تعتد أربعة أشهر وعشرة أيام ، فإن أعتقها في حال حياته ، كان عدّتها ثلاثة قروء ، أو ثلاثة أشهر ، حسب ما قدّمناه (1).

قال محمّد بن إدريس : قد ورد حديث (2) بما ذكره رحمه اللّه ، فان كان مجمعا عليه ، فالإجماع هو الحجة ، وإن لم يكن مجمعا عليه ، فلا دلالة على ذلك ، والأصل براءة ذمتهما من العدّة ، لأنّ إحداهما غير متوفى عنها زوجها ، أعني من جعل عتقها بعد موته ، فلا يلزمها عدّة الوفاة ، والأخرى غير مطلّقة ، أعني من أعتقها في حال حياته ، فلا يلزمها عدّة المطلّقة ، ولزوم العدة حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، ولا دلالة على ذلك من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع منعقد ، والأصل براءة الذمة.

وقال رحمه اللّه في نهايته : وإذا طلّق الرجل زوجته الحرة ، ثمّ مات عنها ، فإن كان طلاقا يملك فيه الرجعة ، فعدّتها أبعد الأجلين ، أربعة أشهر وعشرة أيّام ، وإن لم يملك رجعتها كان عدّتها عدّة المطلّقة (3).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه : فعدّتها أبعد الأجلين ، عبارة غير متعارفة بين الفقهاء في هذا الموضع ، وانّما يقال ذلك عندنا في الحامل المتوفّى عنها زوجها فحسب ، وانّما مقصوده رحمه اللّه ، أنّ الطلاق إن كان يملك المطلّق فيه الرجعة ، ثم مات وهي في العدّة ، فالواجب عليها أن تعتد منذ يوم مات ، أربعة أشهر وعشرة أيام ، ولا تحتسب بما اعتدت به ، ولا تبنى عليه ، وتستأنف عدة الوفاة التي هي أطول من العدّة التي كانت فيها ، أعني عدّة الطلاق ، فلأجل

ص: 744


1- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.
2- الوسائل : الباب 50 من أبواب العدد ح 1 والباب 51 منها الحديث 1 ، والباب 43 منها ح 1 3 - 5 - 6 - 7 - 8.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.

ذلك قال أبعد الأجلين ، لأنّ الرجعية عندنا زوجة ، فتناولها إذا مات عنها زوجها ظاهر القرآن ، من قوله تعالى ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً ) (1) وهذا وذر زوجة ، فيجب عليها التربص منذ يوم مات أربعة أشهر وعشرا ، لأنّه تعالى أراد أن يتربصن منذ يوم مات ، فإذا بنت على ما اعتدت من عدّة الطلاق ، ما تربصت منذ يوم مات ، أربعة أشهر وعشرا.

فإذا كان عدّة الطلاق لا يملك فيه الرجعة ، فتتم على ما اعتدت إلى أن تستوفي عدّة الطلاق ، دون عدّة الوفاة ، لأنّه ما مات عن زوجة ، ولا مات لها زوج هي في حباله ، بل هو أجنبي منها ، وهي أجنبية منه ، فهذا الفرق بين الموضعين ، والمميز بين المسألتين.

وعدّة اليهودية والنصرانية ، مثل عدّة الحرّة المسلمة (2) إذا مات عنها زوجها أربعة أشهر وعشرة أيام.

وقد قدّمنا أنّ المتوفّى عنها زوجها عليها الحداد إذا كانت حرة فإن كانت امة لم يكن عليها حداد ، هكذا ذكره شيخنا في نهايته (3).

وقد رجع عنه في مبسوطة ، وقال : يلزمها الحداد ، لعموم الخبر المروي عن الرسول عليه السلام : لا تحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر ، أن تحد على أحد فوق ثلاث ، إلا على زوج ، فإنّها تحد أربعة أشهر وعشرا (4).

وهذا عام وبهذا افتي.

والحداد هو ترك الزينة ، وأكل (5) ما فيه الرائحة الطيبة ، وشمّه ، ولبس الثياب المزعفرات والملونات التي تدعو النفس إليها ، وتميل الطباع نحوها ، والكحل بأنواع ما يحسن العين ، وكذلك ما يرجل الشعر ويحسنه ، لأنّ الحداد هو

ص: 745


1- البقرة : 234.
2- ج : عدّة المسلمة.
3- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد.
4- المبسوط : كتاب العدد ، فصل في الإحداد ، ص 265.
5- ل. وكل.

المنع ، يقال : حدت المرأة على زوجها ، أي امتنعت ممّا ذكرناه ، « وأحدّت بالرباعي والثلاثي ، فمصدر الثلاثي حدادا ، والرباعي احدادا » سواء كانت صغيرة أو كبيرة.

ويجب على ولي الصغيرة ، أن يمنعها ممّا ذكرناه.

وقد قلنا ما عندنا في ذلك وحرّرناه فيما تقدّم ، وبيّناه.

ولا حداد على مطلّقة عندنا سواء كان بائنا طلاقها أو رجعيا.

الأقراء عندنا الأطهار ، دون الحيض ، فإذا رأت المطلّقة المستقيمة الحيض ، الدم من الحيضة الثالثة ، فقد انقضت عدّتها.

وأقلّ ما يمكن أن ينقضي به عدد ذوات الأقراء إذا كانت حرّة غير متمتع بها ، ستة وعشرون يوما ولحظتان ، والمتمتع بها والأمة ، ثلاثة عشر يوما ولحظتان ، لأنّا قد بيّنا في كتاب الحيض ، أنّ أقل الحيض ثلاثة أيام ، وأقل الطهر عشرة أيّام ، فإذا ثبت ذلك ، ثبت ما قلناه ، وبان ما قدّرناه ، ويكون التقدير أن يطلقها في آخر كلّ جزء (1) من طهرها ، ثمّ ترى الدم بعد لحظة ، فيحصل لها قرء واحد ، فترى بعد ذلك الدم ثلاثة أيام ، ثمّ ترى الطهر عشرة أيام ثم ترى الدم ثلاثة أيام ، ثم ترى الطهر عشرة أيام ، ثمّ ترى الدم لحظة ، فقد مضى بها ستة وعشرون يوما ولحظتان ، وقد انقضت عدّتها. وفي الأمة إذا طلّقها في آخر طهرها ، ثمّ ترى الدم ثلاثة أيام ، ثم ترى الطهر عشرة أيام ، ثمّ ترى الدم لحظة ، فقد انقضت عدّتها في ثلاثة عشر يوما ولحظتين ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (2).

والذي يجب تحصيله وتحقيقه ، أن يقال : أقل ما تنقضي به عدّة من ذكرناه ، في ستة وعشرين يوما ولحظة في الحرّة المطلّقة ، فأمّا الأمة المطلّقة والحرّة المستمتع بها ، فثلاثة عشر يوما ولحظة فحسب في الموضعين ، وما بنا حاجة إلى

ص: 746


1- ق : آخر جزء.
2- الخلاف : كتاب الرجعة ، المسألة 2.

اللحظتين ، لأنّ اللحظة التي ترى فيها الدم الثالث ، ليست من جملة العدّة التي هي الأطهار بلا خلاف بيننا ، فإذا ثبت ذلك ، فاللحظة التي رأت فيها الدم ، غير داخلة في جملة العدة ، فلا حاجة بنا إلى دخولها في جملة العدّة.

وإلى هذا يذهب السيد المرتضى في كتابه الانتصار (1) ، ونعم ما قال ، فانّ الصحيح معه في ذلك ، على ما حرّرناه وأوضحناه ، فليلحظ ببصر التأمّل.

إذا زوّج صغير (2) امرأة ، فمات عنها ، لزمها عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرا.

المعتدة بالأشهر إذا طلّقت في آخر الشهر ، اعتدت بالأهلة ، بلا خلاف ، فإن طلّقت في وسط الشهر ، سقط اعتبار الهلال في هذا الشهر ، واحتسبت بالعدد ، فتنظر قدر ما بقي من الشهر ، وتعتدّ بعده هلالين ، ثمّ تتمّم من الشهر الرابع ثلاثين يوما ، وتلفق الأنصاف والساعات.

إذا طلّقها واعتدت ، ثمّ أتت بولد لأكثر من ستة أشهر من وقت انقضاء العدة ، إذا كانت العدّة بالأشهر الثلاثة ، لم يلحقه ، لأنّا قد دللنا على أنّ زمان الحمل لا يكون أكثر من تسعة أشهر.

إذا خلا بها ولم يدخل بها ، لم يجب عليها العدّة ، ولا يجب لها جميع المسمّى إذا طلّقها بعد ذلك ، سواء كانت ثيبا أو بكرا ، لأنّه الذي تقتضيه أصول مذهبنا ، ولا يلتفت إلى رواية ترد بخلاف ذلك (3) ، لأنّ الأصل براءة الذمة من المهر والعدّة ، وشغلها يحتاج إلى دليل.

الأمة إذا كانت تحت عبد وطلّقها طلقة ، ثمّ اعتقت ، ثبت له عليها رجعة بلا خلاف ، ولها اختيار الفسخ ، فإن اختارت الفسخ ، بطل حقّ الرجعة بلا خلاف.

وعندنا أنّها تتم عدّة الحرة ثلاثة أقراء على ما قدّمناه.

إذا تزوج امرأة ودخل بها ، ثمّ خلعها ثمّ تزوّجها وطلّقها قبل الدخول بها ، لا

ص: 747


1- الانتصار : في العدد.
2- ق : صبيّ صغير.
3- الوسائل : الباب 55 من أبواب المهور ، ح 2.

عدّة عليها ، لقوله تعالى ( ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ ) (1) وهذه طلّقها في العقد الثاني قبل المسيس.

وإذا طلّقها طلقة رجعية ، ثمّ راجعها ، ثم طلّقها بعد الدخول بها ، فعليها استئناف العدّة بلا خلاف ، وإن طلّقها ثانيا قبل الدخول بها ، فعليها أيضا استئناف العدّة ، لأنّ العدة الأولى قد انقضت بالرجعة.

كلّ موضع تجتمع على المرأة عدّتان ، فإنّهما لا يتداخلان ، بل تأتي بكلّ واحدة منهما على الكمال ، تقدّم الاولى ، ثم الثانية.

أقل الحمل ستة أشهر بلا خلاف ، وأكثره عند المحصّلين من أصحابنا تسعة أشهر ، وقال بعض منهم : أكثره سنة ، وهو اختيار السيد المرتضى في انتصاره (2).

إلا أنّه رجع عنه في جواب المسائل الاولى الموصليات (3) ، وأشبع القول ، واستدلّ على أنّه لا يتجاوز الحمل أكثر من تسعة أشهر.

وذهب بعضهم إلى أنّ أكثره عشرة أشهر ، وهو اختيار سلار من أصحابنا (4).

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : إذا طلّقها في آخر الطهر ، وبقي بعد التلفظ بالطلاق جزء ، وقع فيه الطلاق ، وهو مباح ، وتعتد بالجزء الذي بقي طهرا ، إذا كان طهرا لم يجامعها فيه ، فان قال لها : أنت طالق ، ثم حاضت عقيب هذا اللفظ ، قال رحمه اللّه : يقوى في نفسي ، أنّ الطلاق يقع ، لأنّه وقع في حال الطهر ، إلا أنّها لا تعتد بالطهر الذي يلي الحيض ، لأنّه ما بقي هناك جزء تعتدّ به (5).

قال محمّد بن إدريس : قوله « رحمه اللّه » : « إلا انّها لا تعتد بالطهر الذي يلي الحيض » ، عجيب ، وكيف لا تعتد بالطهر الذي يتعقب هذا الحيض ، بل هذا

ص: 748


1- الأحزاب : 49.
2- الانتصار : في العدد.
3- راجع المجموعة الاولى من رسائل الشريف المرتضى ص 191 و 244.
4- المراسم : في النفقات ، والعبارة هكذا : وأقل الحمل ستة أشهر ، والأكثر تسعة أشهر ، وقيل عشرة أشهر.
5- المبسوط ج 5 ، كتاب العدد ، ص 235 ، في العبارة تقطيع.

الطهر الذي يأتي بعد حيضتها ، هذا هو أول أقرائها.

ثمّ قال رحمه اللّه : « لأنّه ما بقي هناك جزء تعتدّ به » مناقضة لما قاله ، لأنّه قال : « لا تعتد بالطهر الذي يلي الحيض » فأي طهر بقي؟ وأي جزء من الطهر الذي طلّقها فيه؟ لأنّه قال : « أنّه بعد التلفظ بالطلاق بلا فصل ، حاضت » ، فلا يتقدّر جزء من ذلك الطهر يلي حيضها ، بل طهر غير ذلك وإذا كان طهر غير ذلك ، فإنّها تعتدّ به بلا خلاف ، فليلحظ ما نبهنا عليه ويتأمّل.

وإذا طلّقها واختلفا ، فقالت : طلقتني وقد بقي من الطهر جزءان ، فاعتدت بذلك قرء ، وقال الزوج : لم يبق شي ء تعتدين به ، فالقول قول المرأة ، لأنّ قولها يقبل في الحيض والطهر عندنا.

وقال شيخنا في مبسوطة : إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة ، فقد انقضت عدّتها ، وقال قوم : لا تنقضي حتى يمضي أقل أيام الحيض ، (1) قال رحمه اللّه : والذي أقوله ، إن كان لها عادة مستقيمة ، فإذا رأت الدم من الحيضة الثالثة ، فقد انقضت عدّتها ، وإن كان قد تقدّم رؤية دمها على ما جرت به العادة ، لم تنقض حتى يمضي أقل أيام الحيض (2).

وفي مسائل خلافه (3) ، ونهايته (4) ، أطلق القول ، وقال : إذا رأت الدم من الحيضة الثالثة ، فقد انقضت عدّتها ، ولم يفصّل ما فصّل في مبسوطة.

ونعم ما قال في مبسوطة وحرّره ، فإنّ فيه الاحتياط واليقين ، لأنّ أخبارنا مختلفة في ذلك ، فيحمل ما ورد منها (5) بأنّها تنقضي برؤية الدم من الحيضة الثالثة ، على من تكون لها عادة مستقيمة ، وما ورد منها (6) بأن لا تنقضي حتى

ص: 749


1- 1المبسوط : ج 5 ، كتاب العدد ، ص 235 ، في العبارة تقطيع.
2- 1المبسوط : ج 5 ، كتاب العدد ، ص 235 ، في العبارة تقطيع.
3- الخلاف : كتاب العدة ، المسألة 3.
4- النهاية : كتاب الطلاق ، باب العدد ، والعبارة هكذا : فإذا رأت الدم من الحيضة ، فقد ملكت نفسها.
5- الوسائل : الباب 15 من أبواب العدد.
6- لم نجد رواية بهذا المضمون في مجاميعنا الروائية ، نعم يوجد فيها : « أنّ العدة لا تنقضي إلا - بانقضاء الحيضة الثالثة » فراجع الباب المذكور من الوسائل.

يمضى أقل أيام الحيض ، على من رأت الدم قبل عادتها ، لأنّ ذلك دم غير متيقن بأنّه دم الحيضة الثالثة ، لأنّه ربما انقطع لدون ثلاثة أيام ، فيكون من باقي الطهر الأخير.

فإمّا المستقيمة الحيض فتجعل المعتاد كالمتيقن.

فتحريره رحمه اللّه مستقيم واضح بخلاف ما ذهب إليه وناظر عليه في مسائل خلافه ، لأنّه ذهب فيها إلى انقضاء العدّة برؤية الدم ، سواء كانت لها عادة أو لم تكن ، وقال الشافعي : إن كانت لها عادة ، بانت برؤية الدم ، وإلا يمضي أقل الحيض (1).

إذا طلّقها وهي من ذوات الأقراء ، فادّعت أنّ عدّتها قد انقضت في مدّة يمكن انقضاء العدّة ، على ما بيّناه فيما مضى وشرحناه ، قبل قولها في ذلك ، لأنّ إقامة البيّنة لا يمكن على ذلك ، ولأنّها مصدّقة على الحيض والطهر ، فإن ادّعت انقضاء عدّتها في زمان لا يمكن ذلك فيه ، لم يقبل قولها ، لأنّا نعلم كذبها.

تمّ الجزء الثاني من كتاب السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي ويتلوه الجزء الثالث كتاب العتق ، إن شاء اللّه تعالى وحسبنا اللّه ونعم الوكيل وصلّى اللّه على سيدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين.

ص: 750


1- الخلاف : كتاب العدة ، المسألة 3 ، ولا يخفى ان المنقول عن الشافعي خلاف ما نقله في الخلاف ، فراجع.

فهرس الموضوعات

كتاب الجهاد وسيرة الإمام

باب فرض الجهاد وشرائط وجوبه وحكم الرباط ...  3

شروط الجهاد... 3

الجهاد مع أئمة الجور... 4

النيابة في المرابطة... 5

باب أصناف الكفار ومن يجب قتالهم منهم ...  6

كيفية قتال الكفار... 6

زمان قتال المشركين... 8

باب قسمة الفي ء وأحكام الأسارى ...  9

أقسام الأسارى وأحكامهم... 12

أحكام الهجرة من بلاد الكفار... 14

باب قتال أهل البغي والمحاربين ...  15

أقسام أهل البغي... 16

معاملتهم بعد انقضاء الحرب... 16

تعريف المحارب... 19

باب الزيادات ...  20

ص: 751

باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ...  21

أقسام الامر بالمعروف... 22

شروط النهي عن المنكر... 23

من يجوز له إقامة الحدود... 24

من يجوز له الحكم بين الناس... 25

كتاب الديون والكفالات والحوالات والوكالات

باب كراهية الدين والنزول على الغريم ...  30

أحكام الاستدانة... 30

إذا وجد الغريم في مكة أو الحرم... 32

باب وجوب قضاء الدين ...  33

إذا كان المدين معسرا... 34

إذا كان على غيره دين فحلفه على ذلك... 35

إذا غاب الدائن... 37

أحكام مضاربة الدين وبيعه... 38

باب قضاء الدين عن الميّت ...  45

إقرار الورثة بالدين... 46

من مات أو قتل وعليه دين... 48

من مات وعليه دين مؤجل... 53

من مات وعليه ديون لجماعة... 54

باب بيع الديون والأرزاق ...  55

حكم الدين المؤجل والحال... 55

باب دين المملوك ...  57

ص: 752

حكم المملوك إذا كان مأذوناً له في الاستدانة والتجارة وبالعكس... 57

باب القرض وأحكامه ...  59

أحكام قضاء القرض... 60

أحكام زكاة القرض... 61

أحكام قرض الجارية... 63

باب الصّلح... 64

من أخرج من داره روشنا... 66

تقاسم الشريكين... 68

باب الكفالات والضّمانات والحوالات ...  69

أحكام الضمان... 69

أحكام رجوع الضامن على المضمون عنه... 71

الحقوق التي يصح فيها الضمان... 72

شرائط صحة الضمان... 74

أحكام كفالة الأبدان... 77

أحكام الحوالة... 78

باب الوكالة ...  81

ما يجوز التوكيل فيه ومالا يجوز... 81

من يجوز له التوكيل... 87

أحكام فسخ الوكالة... 89

صفات الوكيل... 91

الاختلاف في العزل... 92

في تعدي الوكيل على ما رسمه موكله... 93

الوكالة في قبض الصداق... 97

ص: 753

باب اللقطة ...  99

أقسام اللقطة... 101

أحكام اللقطة... 104

أحكام اللقيط... 107

الانفاق على اللقطة... 110

المطالبة باللقطة... 111

كتاب الشهادات

الآيات الواردة في المقام... 114

أقسام الحقوق في باب الشهادة... 115

صفات الشاهد... 117

باب كيفية الشهادة ...  125

الشهادة على الشهادة... 127

كيفية إقامة الشهادة... 131

باب شهادة الولد لوالده وعليه وبالعكس ...  134

حكم شهادات ذوي الأرحام والقرابات بعضهم لبعض... 134

باب شهادة العبيد والإماء ...  135

لو أشهد رجل عبدين له على نفسه بالاقرار بوارث... 135

باب شهادة النساء ...  137

لو شهد أربعة رجال على امرأة بالزنا وادعت أنها بكر... 137

باب شهادة من خالف الإسلام ...  139

حكم شهادة من خالف الاسلام على المسلمين في الوصية بالمال... 139

باب الحكم بالشاهد الواحد مع اليمين ...  140

ص: 754

أحكام القسامة... 142

باب شهادات الزور ...  144

إذا حكم الحاكم بشهادة باطلة... 149

كتاب القضايا والأحكام

باب آداب القضاء وصفات القاضي ...  152

القضاء في المساجد... 156

كيفية الحكم بين الخصمين... 157

باب سماع البيّنات وكيفية الحكم بها ...  164

الرشوة في الحكم... 166

اختلاف الشهود... 167

اليد المتصرفة واليد الخارجة... 168

أحكام القرعة... 171

ترتيب الشهود... 175

صفات كاتب القاضي... 175

تحرير الدعوى... 177

أحكام الدعاوي... 178

باب كيفية الاستحلاف ...  182

كيفية تحليف أهل الكتاب والأخرس... 183

باب النوادر في القضاء والأحكام ...  184

بحث حول رواية أبي شعيب المحاملي... 184

بحث حول رواية حريز... 186

بحث حول رواية محمد بن إسماعيل 187

ص: 755

كتاب المكاسب

باب عمل السّلطان وأخذ جوائزهم ...  202

أقسام السلطان... 202

أحكام وديعة الظالم... 204

باب التصرّف في مال الولد ومال الوالد... 204

تصرف الولد بمال الوالد وبالعكس... 206

تصرف الوالدة في مال الولد... 209

باب التصرف في أموال اليتامى ...  211

باب ضروب المكاسب ...  214

المكاسب المحظورة على كل حال... 214

المكاسب المباحة على كل حال... 222

المكاسب المكروهة... 223

أحكام متفرقة... 224

كتاب المتاجر والبيوع

باب آداب التجارة ...  230

حكم بيع الحاضر لباد... 236

أحكام تلقي الجلب... 237

أحكام الاحتكار... 238

باب حقيقة البيع وأقسامه وأحكامه ...  240

تعريف البيع... 240

أقسام البيع... 240

ص: 756

العقود التي يدخلها خيار... 243

أحكام خيار المجلس... 246

أحكام التخاير... 246

لو تصرف في المبيع مدة الخيار... 247

لو كان المبيع شيئا فهلك بعد العقد... 249

باب الرّبا وأحكامه ...  250

ما يكون فيه الربا... 253

بيع الجنس بالجنس مثلا بمثل... 259

باب الصّرف وأحكامه ...  265

تعريف الصرف... 265

بيع الانسان ماله على غيره... 268

حكم الأواني المصوغة من الذهب والفضة... 271

باب الشرط في العقود ...  274

بيع غير المملوك... 274

بيع ما يملك ومالا يملك... 275

هلاك المتاع في مدة الخيار... 277

الشرط في الحيوان... 279

لو اختلف البائع والمشتري في ثمن المبيع... 283

أحكام استبراء الجارية... 284

لو اشترى شيئا بحكم نفسه... 285

باب البيع بالنقد والنسية ...  287

أحكام المرابحة... 291

باب العيوب الموجبة للرد ...  295

ص: 757

عيوب الرقيق... 301

باب السّلف ...  306

تعريف السلم... 306

أحكام السلف... 307

السلم في جلود الغنم... 312

السلف في الصوف والشعر والوبر... 316

في شرائط السلم... 317

أحكام متفرقة... 318

باب بيع الغرر والمجازفة ...  321

ما يقع فيه الغرر ومالا يقع... 321

ما يجوز بيعه من الأشياء... 327

أحكام اختبار المبيع... 331

بيع الحشرات... 332

أحكام الانفاق على المبيع المستحق للغير... 333

أحكام متفرقة... 334

باب اجرة السّمسار والدلّال والناقد والمنادي ...  337

اجرة الكيال والوزان... 337

إذا اختلف الواسطة وصاحب المتاع... 339

باب ابتياع الحيوان وأحكامه ...  342

مالا يصح تملكه من العبيد... 342

في شراء الحامل... 343

من ابتاع عبدا أو أمة وكان لهما مال... 344

أحكام التفرقة بين الأطفال وأمهاتهم... 347

ص: 758

في سبايا الظالمين... 348

مماليك الكفار... 349

إذا وطأ أحد الشركاء جارية بينهم... 351

إذا اشترى أحد المملوكين صاحبه من مولاه... 352

أحكام الأمة... 353

أحكام متفرقة... 354

باب بيع الثمار ...  358

بيع الثمرة منفردة عن الأصل... 358

بيع النخيل المؤبر... 362

أقسام الأشجار التي لها حمل في كل سنة... 363

بيع الخضروات وما يخرج حملا بعد حمل والزرع... 365

المزابنة والمحاقلة... 367

بيع العرايا... 368

باب بيع المياه وحريم الحقوق والأرضين ...  372

النطاف والأربعاء... 372

أحكام الحمى... 373

أحكام الأرضين... 374

أحكام طريق المسلمين... 380

أقسام الناس في الحمى وأحكامه... 381

أحكام المعادن الباطنة... 383

أقسام الآبار وأحكامها... 383

ملك المياه والسقي منها... 385

باب الشفعة وأحكامها ...  385

ص: 759

شروط استحقاق الشفعة... 385

في ما تستحق فيه الشفعة... 389

إرث حق الشفعة... 392

أحكام متفرقة... 393

باب الشركة ...  397

أقسام الشركة... 398

شركة العنان... 399

حكم شركة المفاوضة والأبدان والوجوه... 399

تقاسم الشريكين... 402

أحكام متفرقة... 402

باب المضاربة ( وهي القراض ) ...  407

تعريف المضاربة... 407

شروط صحة المضاربة... 407

المضاربة عقد جائز... 409

في معنى الشرط للعامل في الربح... 409

إذا اختلف المضارب وصاحب المال... 411

أحكام متفرقة... 412

باب الرهون وأحكامها ...  416

باب الرهون وأحكامها... 416

شروط صحة الرهن... 416

إذا هلك الرهن في يد المرتهن... 419

أحكام الاختلاف بين الراهن والمرتهن... 421

بيع الرهن... 422

إذا مات المرتهن... 423

ص: 760

حكم الأرض إذا رهنت... 424

إذا مات الراهن... 425

أحكام متفرقة... 425

باب العارية ...  430

أقسام العارية... 430

أحكام الاختلاف في العارية... 430

أحكام متفرقة... 432

باب الوديعة ...  434

أحكام الوديعة... 434

المودع إذا حضرته الوفاة... 439

باب المزارعة ...  441

تعريف المزارعة ( المخابرة )... 441

شروط المزارعة... 442

لو استأجر أرضا مدة معلومة... 447

تعين الاجل في المزارعة... 448

أحكام متفرقة... 448

باب المساقاة ...  451

تعريف المساقاة... 451

شروط صحة المساقاة... 451

مؤونة المساقاة... 452

لو اختلف رب النخل والعامل... 453

أحكام متفرقة... 455

باب الإجارات ...  456

ص: 761

شروط صحة الإجارة... 456

ملك المنفعة... 458

إذا أسقط المؤجر مال الإجارة... 459

إذا مات المؤجر أو المستأجر... 460

إجارة المشاع... 461

أحكام فسخ الإجارة... 462

ضمان الأجير... 463

إذا اختلف المؤجر والمستأجر... 464

من تقبل عملا فدفعه إلى غيره... 466

أحكام متفرقة... 468

أحكام الإجارة في الرضاع... 471

أقسام الإجارة... 473

أحكام إجارة الدواب والبهائم... 473

أحكام متفرقة... 476

باب الغصب ...  480

تقسيم الأموال... 480

لو غصب حبا فزرعه أو بيضا فاحتضنها... 482

أحكام ضمان الغاصب... 485

المقبوض عن بيع فاسد... 488

لو غيرت العين المغصوبة... 491

أحكام متفرقة... 491

باب الإقرار ...  498

صفات المقر... 498

ص: 762

أحكام الاقرار المبهم... 499

أحكام الاستثناء في الاقرار... 501

لو ادعى التلف بعد الاقرار... 505

الاقرار بعد الاقرار... 506

أحكام متفرقة... 507

الشهادة على الاقرار... 514

الاقرار بالبلوغ والنسب... 514

كتاب النّكاح

الحث على التزويج... 518

من يحرم نكاحهن من النساء... 519

شروط تحريم الرضاع... 519

حكم الجمع بين الأختين... 522

حكم أم المزني بها وابنتها... 523

حكم زوجة الأب بالنسبة للابن وبالعكس... 523

موارد التحريم الأبدي... 525

حكم بنت المزني بها... 526

حكم عقد الدوام على الكافرة... 527

أحكام الزواج من الصبية... 530

لو عقد على أختين في حالة واحدة... 536

حكم العقد على أخت المطلقة... 537

في أحكام الزواج المتعدد... 539

أحكام نكاح المشركات... 542

ص: 763

أحكام نكاح الفاجرة... 544

أحكام تزويج الحرة على الأمة... 546

أحكام متفرقة... 548

باب أقسام النكاح ...  549

الفرق بين نكاح الغبطة ونكاح المتعة... 550

باب الرضاع وأحكامه ...  551

أحكام ثبوت الرضاع... 556

باب الكفاءة في النكاح واختيار الأزواج ... 557

الكفاءة المعتبرة في النكاح... 557

باب من يتولى العقد على النساء ... 560

لو لم ترض البنت بعقد أبيها... 562

حكم الإجارة في عقود النكاح... 562

حكم الإجازة في عقود النكاح... 565

أحكام متفرقة... 566

أحكام عفو الأولياء عن المهر... 571

تمييز المعقودة... 573

صيغة عقد النكاح... 574

باب المهور ... 575

في سبب تسمية الصداق نحلة... 575

أحكام الصداق... 576

سنن المهور... 580

أحكام الاختلاف في المهر... 582

متعة المرأة المطلقة... 583

أحكام متفرقة... 584

ص: 764

باب العقد على الإماء والعبيد... 595

العقد على أمة الغير... 595

أحكام زواج الحرة من المملوك... 598

لو تزوجت الأمة بغير إذن مولاها... 599

لو زوج الرجل عبده أمته... 601

أحكام متفرقة... 601

باب ما يستحب فعله ... 603

مستحبات عقد النكاح... 603

آداب الجماع... 605

أحكام النظر إلى الأجنبية... 608

باب العيوب والتدليس في النكاح ... 611

أقسام العيوب... 611

أحكام تدليس المرأة... 613

أحكام متفرقة... 613

باب النكاح المؤجل ... 618

الاستدلال على مشروعيته... 618

شرائط ومستحباته... 620

أحكام متفرقة... 621

توارث نكاح المؤجل وحكم الأولاد... 623

عدة المرأة في هذا النكاح... 625

باب السراري وملك الإيمان ... 626

طرق إباحة وطء الإماء... 627

أحكام الأولاد... 628

ص: 765

أحكام تحليل الإماء... 632

أحكام استبراء الجواري... 634

أحكام جارية الأب وجارية الابن... 637

أحكام متفرقة... 638

باب أحكام الولادة والعقيقة والرضاع... 638

آداب الولادة... 645

مدة الرضاع وأحكامه... 648

أحكام الحضانة... 651

أحكام النفقة... 654

باب إلحاق الأولاد بالآباء وأحكامهم وما في ذلك ... 657

كتاب الطلاق

الاستدلال على جواز الطلاق... 662

أقسام الطلاق... 663

شروط صحة الطلاق الشرعي... 664

أحكام تعليق الطلاق... 666

الطلاق الرجعي والبائن... 667

أحكام المراجعة... 668

الفرق بين طلاق العدة وغير العدة... 669

شرائط الطلاق... 672

أحكام ميراث المطلقة... 674

صيغ الطلاق... 676

العدد الذي يقع به الطلاق... 678

ص: 766

الاستدلال على أن الطلاق الثلاث يقع واحد... 682

طلاق الغائب... 686

طلاق الصغيرة والآيسة... 687

أحكام طلاق الحامل... 689

طلاق الغائب... 691

طلاق المسترابة... 693

طلاق الأمة... 694

باب اللعان والارتداد ... 696

معنى اللعان... 696

صفة اللعان... 699

أحكام متفرقة... 700

أحكام الارتداد... 707

باب الظهار ... 707

شروط صحة الظهار... 707

كفارة الظهار... 711

أحكام متفرقة... 712

باب الإيلاء ... 719

شروط صحة الايلاء... 719

كفارة الايلاء... 720

الايلاء في الصلاح... 721

باب الخلع والمبارأة والنشوز والشقاق ... 723

معنى الخلع... 723

الفرق بين الخلع والمباراة... 723

ص: 767

شرائط صحة الخلع... 725

أحكام المباراة... 726

هل يحتاج الخلع إلى طلاق؟... 726

أحكام النشوز... 728

أحكام الشقاق... 730

باب العدد ... 731

أقسام العدة... 731

أحكام عدة الطلاق... 731

أحكام عدة الوفاة... 734

ما يجرى مجرى الموت... 736

أحكام النفقة على المعتدة بعدة الوفاة... 738

الحداد... 739

عدة المسترابة... 739

عدة المستحاضة... 741

مقدار عدة الوفاة... 743

إذا طلق الرجل زوجته الحرة ثم مات عنها... 744

أقل ما تنقضي به عدد ذوات الأقراء... 746

أحكام متفرقة... 747

ص: 768

α

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.