كتاب السرائر المجلد 1

هوية الكتاب

المؤلف: أبي جعفر محّمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلّي

المحقق: مؤسّسة النشر الإسلامي

الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي

المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: 2

الموضوع : الفقه

تاريخ النشر : 1410 ه-.ق

الصفحات: 676

المكتبة الإسلامية

كتاب السرائر

الحاوي

لتحرير الفتاوي

تأليف: الشيخ الفقيه أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي قدس سره

المتوفّی 598 ه

الجزء الأول

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 1

اشارة

كتاب السرائر

(ج1)

المؤلف: محمد بن إدريس الحلي

المحقق: لجنة التحقيق

الموضوع: فقه

عدد الأجزاء: 3 أجزاء

الطبع: مطبعة مؤسسة النشر الإسلامي

الطبعة: الثانية

المطبوع: 3000 نسخة

التاريخ: 1410 ه.ق

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة

ص: 2

المقدمة

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله كما حمد نفسه ، والصلاة على محمد وآله كما ينبغي لهم ، واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين.

لا يخفى على ذوي البصائر أنّ للشموس الأحمدية والأقمار العلوية والكواكب الفاطمية إشراقات نورانيّة وإضاءات روحانيّة وسطوعات ربّانيّة أحاطت بالعالم فعمّته بالخير والبركة ، فشقّت للناس سبل الهداية وأوضحت لهم طرق الغواية ، فسعد من اهتدى بهداهم وشقي من تنكّب عن سبلهم ، ومن تلك النعم التي فاضت بها شفاههم الشريفة صلوات اللّه عليهم روايات الأحكام الشرعية ، والتي لها القدح المعلّى في تراث أهل البيت عليهم السلام.

وتفاعل المسلم مع هذه الروايات مرّ في مراحل مختلفة باختلاف الظروف والملابسات ، بحيث كان رجوع المسلم في عصر النصّ والتشريع أهون بكثير من رجوعه وهو يعيش زمن الغيبة ، وكذا الحال في زمن الغيبة فإنّ معرفة الأحكام الفقهية أخذت تمرّ بأدوار مختلفة عمقا وسعة نتيجة تعمّق المعارف الأصولية وانتقال الخبرات من فقيه سابق الى فقيه لاحق ، فظهرت الكتب الفقهية والمصنّفات الاستدلالية بعد أن كانت لا تتعدّى طريقة نقل الأخبار وسرد الأحاديث بعد تبويبها ومحاولة الجمع العرفي بين المتعارضات منها.

ومن جملة تلك الآثار « كتاب السرائر » لمصنّفه فخر الدين محمد بن إدريس الحلّي نوّر اللّه مضجعه ، وهو بحقّ كتاب جامع في كلّ أبواب الفقه شحنه من التحقيق

ص: 3

والتأسيس في التفريع على الأصول واستنباط المسائل الفقهية عن أدلّتها الشرعية ، لم يتقدّمه في تحقيقاته في ذلك أحد بل هو الفاتح لهذا الباب لمن تأخّر عنه.

ويعتبر هذا الكتاب المدرك الواضح الذي يعكس طريقة المصنّف المشهورة - وهي عدم العمل بخبر الواحد - والتي صارت سببا للنقد والطعن من قبل الأصحاب قديما وحديثا ، ولكن هذا لا ينقص من قدر صاحبه ولا يقلّل من أهميّة كتابه ، فبقي مصنّفه طيلة القرون السابقة وإلى الآن محطّا لأنظار الفقهاء وأهل النظر والاجتهاد.

وحفظا لهذا التراث القيّم وتعميما للفائدة تصدّت مؤسّستنا لتحقيقه واستخراج منابعه بعد مقابلته مع عدّة نسخ مخطوطة ثمّ طبعه ونشره بهذه الصورة الأنيقة والحمد لله على توفيقاته.

ولا يسعنا أخيرا إلّا وأن نتقدّم بجزيل شكرنا لسماحة حجة الإسلام والمسلمين الحاج الشيخ محمد المؤمن القميّ على ما بذله من سعي حثيث في الإشراف والمتابعة لكلّ مراحل التحقيق ، كما ونشكر الاخوة من أهل الفضل والتحقيق لا سيّما سماحة الحاج الشيخ محمد حسين الأشعري والحاج السيد حسن آل طه والشيخ أبو القاسم الأشعري على ما بذلوه من الجهد الوافر في شتى مجالات التحقيق ، وكذلك من البحّاثة الحاج الشيخ محمد هادي اليوسفيّ الغروي لما كتبه عن نبذة من حياة مصنّف هذا السفر ، سائلين اللّه عزّ اسمه أن يوفّقهم وإيّانا لإحياء ونشر التراث الإسلامي إنه خير ناصر ومعين.

مؤسسة النشر الإسلامي

التابعة لجماعة المدرّسين بقم المشرّفة

ص: 4

من حياة المؤلّف « قدس سره »

اشارة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

اسمه ولقبه ونسبه :

قال فيه المولى عبد اللّه الأصفهاني في تعاليقه على « أمل الآمل » : رأيت في بعض المواضع نسبه منقولا من خطه في آخر كتاب « المصباح » للشيخ الطوسي « قدس سره » هكذا : محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس بن الحسين بن القاسم بن عيسى العجليّ. وقال في لقبه : هو الشيخ « شمس الدين » العجليّ ، كما في بعض الإجازات. ثم عيّن هذه الإجازة فقال : قال الشيخ أحمد بن نعمة اللّه العاملي في إجازته للمولى عبد اللّه التستري في وصف ابن إدريس : الشيخ الأجل الأوحد ، المحقّق المنقّب « شمس الدين » محمد بن إدريس (1) وهي نسبة إلى الجدّ الأعلى.

ونقل الشيخ يوسف البحراني صاحب « الحدائق » في « لؤلؤة البحرين » عن الشهيد الأوّل في « إجازته » قال : وعن ابن نما والسيد فخار مصنّفات الإمام العلّامة ، شيخ العلماء ، رئيس المذهب وفخر الدين أبي عبد اللّه محمد بن إدريس ، « رضي اللّه عنه ».

وعن الشهيد الثاني في « إجازته » قال : ومرويات الشيخ الإمام العلامة المحقّق « فخر الدين » أبي عبد اللّه محمد بن إدريس العجلي (2).

ص: 5


1- رياض العلماء 5 : 31 ، 32
2- لؤلؤة البحرين : 279.

وفي إجازة المحقّق الثاني « رحمه اللّه » : « ومنها جميع مصنّفات ومرويّات الشيخ الإمام السعيد المحقّق ، خير العلماء والفقهاء ، فخر الملة والحق والدين ، أبي عبد اللّه محمد بن إدريس الحلّي الربعيّ ، برّد اللّه مضجعه وشكر له سعيه » (1).

وترجم له القاضي نور اللّه الشهيد في « مجالس المؤمنين » فقال : الشيخ العالم المحقّق « فخر الدين » أبو عبد اللّه محمد بن إدريس العجليّ الربعيّ الحلّي « قدس سره » (2).

ومن قبل ذكره ابن داود في رجاله فقال بشأنه : كان شيخ الفقهاء بالحلّة ، متقنا للعلوم ، كثير التصانيف (3).

ونقله عنه التفرشي في « نقد الرجال » (4) وان كان الحرّ العامليّ « قدس سره » لم يجده في نسخته من رجال ابن داود فنقله عن التفرشي وزاد عليه : « وقد اثنى عليه علماؤنا المتأخّرون واعتمدوا على كتابه وعلى ما رواه في آخره من كتب المتقدمين وأصولهم. وقد ذكر أقواله العلّامة وغيره في كتب الاستدلال وقبلوا أكثرها ».

وعن نسبه وروايته قال المحدّث الحرّ العاملي « رحمه اللّه » : يروي عن خاله أبي علي الطوسي بواسطة وغير واسطة ، وعن جدّه لأمه أبي جعفر الطوسي ، وأمّ أمّه بنت المسعود ورّام ، وكانت فاضلة صالحة (5).

وصاحب « الحدائق » في « اللؤلؤة » في ترجمته لابني طاوس الحليّين قال : هما أخوان من أب وأم ، وأمهما - على ما ذكره بعض علمائنا - بنت الشيخ مسعود الورّام

ص: 6


1- منتهى المقال : 260 ، والربعيّ نسبة الى بني ربيعة كما في الهامش التالي.
2- مجالس المؤمنين بالفارسيّة 1 : 569 ط الإسلامية. والعجليّ نسبة الى عجل بن لجيم حيّ من بكر بن وائل من ربيعة ، كما نصّ عليه المامقاني في تنقيح المقال 1 : 95 ولذلك أضاف القاضي الشهيد في نسبة المترجم له بعد العجلي : الربعي ، نسبة إلى بني ربيعة.
3- رجال ابن داود : 498 ط طهران و 269 ط النجف الأشرف ، والنص كما مرّ ، وليس « مفتيا في العلوم » كما عنه في تنقيح المقال 2 : 77.
4- نقد الرجال : 291.
5- أمل الآمل 2 : 243 ، 244.

ابن أبي فراس بن فراس بن حمدان ، وأم أمهما بنت الشيخ الطوسي « رحمه اللّه » وقد أجاز لها ولأختها أم الشيخ محمد بن إدريس جميع مصنفاته ومصنفات الأصحاب (1).

ولكن صاحب « الروضات » شكّك في صحّة ذلك بل ردّه ، فهو بعد نقله لكلام صاحب « اللؤلؤة » قال ما معناه : ما تقدمت إليه الإشارة من كلام صاحب « اللؤلؤة » بكون بنت الشيخ الطوسي زوجة الورّام ابن أبي فراس ، مدفوع بالكلّيّة ، ذلك لأنّ الورّام المذكور كان من تلامذة الشيخ محمود الحمصي المعاصر لابن إدريس بل المتأخر عنه قليلا! وعليه فلتحمل هذه النسبة في نسب هؤلاء على خلط في بعض ما ذكر فيها ، أو خبط فيما فيها من أسماء الآباء والأجداد (2).

والميرزا النوري في خاتمة « مستدرك الوسائل » بعد نقله لكلام صاحب « اللؤلؤة » قال : أمّا ما ذكروه من أنّ زوجة ورّام بنت الشيخ الطوسي فباطل من وجوه :

أمّا أولا : فلأن وفاة ورّام سنة 606 ووفاة الشيخ سنة 460 فبين الوفاتين مائة وخمسة وأربعون سنة ، فكيف يتصور كونه صهرا للشيخ على بنته ، حتى وان فرضت ولادة هذه البنت بعد وفاة الشيخ ، مع أنهم ذكروا أنّ الشيخ أجازها.

وأمّا ثانيا : فلأنّه لو كان كذلك لأشار السيد ( ابن طاوس ) إلى ذلك في مؤلفاته لشدّة حرصه على ضبط هذه الأمور. والذي يظهر من مؤلفات السيد هو أنّ أمه بنت الشيخ ورّام الزاهد ، وأنّه ينتهي نسبه من طرف أم الأب إلى الشيخ أبي جعفر الطوسي ، ولذا يعبّر عنه أيضا بالجدّ. وأمّا كيفيّة الانتساب إليه : فقد قال السيد في « الإقبال » : « فمن ذلك ما رويته عن والدي. بروايته عن حسين بن

ص: 7


1- لؤلؤة البحرين : 236 وقال صاحب الرياض : وقد أجازهما بعض العلماء ولعل المجيز أخوهما الشيخ أبو علي ابن الشيخ الطوسي ، أو والدهما الشيخ الطوسي فلاحظ - رياض العلماء 5 : 409.
2- روضات الجنات 6 : 278 ونقلناه بالمعنى ابتعادا عن تعقيده بالتسجيع المتكلّف.

رطبة عن خال والدي أبي علي الحسن عن والده محمد بن الحسن الطوسي : جدّ والدي من قبل أمه » فانتساب السيد الى الشيخ من طرف والده السيد موسى بن جعفر بن طاوس إذ أمه بنت الشيخ ( أي أنّ صهر الشيخ هو السيد جعفر بن طاوس ) لا من طرف امه بنت الشيخ ورّام.

وأمّا ثالثا : فلعدم تعرض أحد من أرباب الإجازات وأصحاب التراجم لذلك ، مع أن صهرية الشيخ الطوسي من المفاخر التي يشار إليها ، كما أشاروا إلى ذلك في ترجمة ابن شهريار الخازن.

ويتلو ما ذكروه هنا في القرابة ما في « اللؤلؤة » وغيرها : أنّ أمّ ابن إدريس هي بنت الشيخ ، فإنّه في القرابة بمكان يكاد يلحق بالمحال في العادة ، فإنّ وفاه الشيخ في سنة ستين بعد الأربعمائة (460) وولادة ابن إدريس - كما ذكروه - في سنة ثلاث وأربعين بعد الخمسمائة (543) فبين وفاة الشيخ وولادة ابن إدريس ثلاثة وثمانون سنة ، ولو كانت أم ابن إدريس في وقت إجازة والدها لها في حدود سبعة عشر سنة مثلا ، لكانت قد ولدت ابن إدريس في سن المائة تقريبا! وهذه من الخوارق التي لا بدّ أن تكون في الاشتهار كالشمس في رابعة النهار.

والعجب من هؤلاء الأعلام كيف يدرجون في مؤلفاتهم أمثال هذه الأكاذيب بمجرد أن رأوها مكتوبة في موضع من غير تأمل ونظر.

ثم إنّ تعبيره عن الشيخ ورّام بالمسعود الورّام ، أو مسعود بن ورّام ، اشتباه آخر. فان المسعود الورّام أو مسعود بن ورّام غير الشيخ ورّام الزاهد صاحب « تنبيه الخواطر » (1).

بينما كل هذا الترديد والردّ مبني على عدم الالتفات الى أنّ المدّعي في عبارة صاحب « اللؤلؤة » هو أنّ أم أم ابن إدريس بنت الشيخ الطوسي ، لا أمّه مباشرة

ص: 8


1- خاتمة مستدرك الوسائل 3 : 482 ط قديم.

وإذا ضممنا الى ذلك الترديد في المجيز لها أنّه كان الشيخ الطوسي أو ابنه أخوها الشيخ أبو علي ابن الشيخ الطوسي بل بعض العلماء ، كما في « رياض العلماء » (1) ارتفع الاستبعاد.

روايته عن الشيخ وولده :

وقبل الميرزا النوري بسط المرحوم المجلسي القول في إنكار رواية ابن إدريس عن خاله أبي علي الطوسي « الصحيفة السجادية » بغير واسطة ، وذلك في أول شرحه لها ، ذكر ذلك تلميذه المولى عبد اللّه الأصفهاني في تعاليقه على « أمل الآمل » وقال : أنكر الأستاذ « أيده اللّه تعالى » رواية ابن إدريس بغير واسطة ، كما سمعته من لفظه ، كما في هامش « رياض العلماء » (2).

فالصحيح من أسانيد الصحيفة ما يرويها الحلي عن الشيخ العماد محمد بن أبي القاسم الطبري ، عن أبي علي الطوسي المذكور ، عن والده الشيخ الطوسي. وإن كان في البعض الآخر من أسانيدها : أنّه يرويها عن أبي علي ولد الشيخ الطوسي وهو عن والده ، بلا واسطة. وقال الأفندي بعد ذكر ذلك : ولا منافاة بينهما (3) بل الأولى قول المولى المجلسي « قدس سره ».

سائر مشايخه :

مرّ عن الحرّ العاملي في « أمل الآمل » أن ابن إدريس يروي عن خاله أبي علي الطوسي بواسطة. وأم امه بنت ( الشيخ ) ورّام ، وكانت فاضلة صالحة (4).

ص: 9


1- رياض العلماء 5 : 409
2- رياض العلماء 5 : 31.
3- رياض العلماء : 5 : 32
4- أمل الآمل 2 : 243.

ونقل ذلك عنه المولى عبد اللّه الأصفهاني في « رياض العلماء » ونصّ على الواسطة بينه وبين خاله الشيخ حسن بن الشيخ الطوسي ، بأنه هو : الشيخ العماد محمد بن أبي القاسم الطبري. وأضاف : ويروي هو عن جماعة منهم : عربيّ بن مسافر العبادي (1).

ونقل ذلك صاحب « روضات الجنات » وأضاف عن صاحب « صحيفة الصفا في ذكر أهل الاجتباء والاصطفاء » : الحسن بن رطبة السوراوي ، وأبا المكارم حمزة الحسينيّ (2) وطبيعي أنّ مشايخه وأساتذته أكثر من هؤلاء الأربعة ولا ريب أنّ الباحث يجد له مشايخ أكثر منهم.

تلامذته والراوون عنه :

يروي عنه جماعة من الأفاضل - كما في « رياض العلماء : - منهم :

الشيخ نجيب الدين بن نما الحلّي. والسيد شمس الدين فخار بن معد الموسويّ. والسيد محمد بن عبد اللّه بن زهرة الحسينيّ الحلبيّ ، كما يظهر من بعض أسانيد « الصحيفة الكاملة ».

ويروي « السرائر » عنه : علي بن يحيى الخيّاط ، وأجاز روايته عنه ليوسف بن علوان وهو لتلميذه محمد بن الزنجي في جمادى الآخرة سنة 628 ه (3).

ونجيب الدين هو محمد بن جعفر بن محمد بن نما الحلّي ، شيخ المحقّق الحلّي والشيخ سديد الدين والد العلّامة الحلّي ، والسيد رضي الدين والسيد أحمد ابن

ص: 10


1- رياض العلماء 5 : 32.
2- روضات الجنات 6 : 277 ط جديد. وتجد رواية ابن إدريس عن أبي المكارم في الأمل 2 : 2. وروايته عن ابن رطبة في الأمل أيضا 2 : 80.
3- رياض العلماء 5 : 32 ، 33 وتجد ترجمة الخيّاط وروايته عن ابن إدريس في أمل الآمل 2 : 210. ورواية السيد فخار الموسوي عنه في 2 : 3. ورواية ابن نما في 2 : 310.

طاوس. وهو والد الشيخ جعفر بن محمد صاحب « مثير الأحزان ».

ونقل المحدث القمّي في « هدية الأحباب » عن المحقّق الكركي في ذكر المحقّق الحلّي ما هذا لفظه :

وأعلم مشايخه بفقه أهل البيت : الشيخ الفقيه السعيد الأوحد محمد بن نما الحلّي.

وأجل أشياخه : الإمام المحقّق قدوة المتأخرين : فخر الدين محمد بن إدريس (1).

ولكن صاحب « روضات الجنات » نقل عن صاحب « صحيفة الصفا في ذكر أهل الاجتباء والاصطفاء » فيمن يروي عنه : الشيخ جعفر بن نما ، وابن ابنه محمد بن جعفر بن نما (2). ولا يسعني التحقيق الآن.

وقد مرّ عن « لؤلؤة البحرين » عن اجازة الشهيد الأول أنّه يروي عن السيد فخار وابن نما (3).

وذكر الحرّ في « أمل الآمل » من تلامذة ابن إدريس : الشيخ طومان بن أحمد العاملي (4).

هل كان ابن إدريس مخلّطا؟

فهرس الشيخ الطوسي « قدس سره » لكتب الشيعة بأمر أستاذه الشيخ المفيد ( ت 413 ) كما أشار إلى ذلك في أوّل « الفهرست » وهذا يعني أنّه قد فهرس لكتب الشيعة حتى نهاية القرن الرابع الهجري أو بداية القرن الخامس ، وبعد قرنين من الزمان كان ذلك بحاجة الى مستدرك ، قام به الشيخان : محمد بن علي

ص: 11


1- هدية الأحباب : 272 ط طهران
2- روضات الجنات 6 : 277 ط قم المقدسة.
3- لؤلؤة البحرين : 279 ط النجف الأشرف
4- أمل الآمل 1 : 103 ط بغداد.

بن شهر آشوب المازندراني ( ت 588 ) ومنتجب الدين علي بن عبيد اللّه ابن بابويه الرازي ( ت بعد 600 ) (1) وهما معاصران لابن إدريس.

وكان منتجب الدين قد دخل الحلّة وشاهد ابن إدريس ، ولكنّه لم يدخل في زمرة تلامذته أو حتى رواته ، وذلك لأنّه كان قد سمع من شيخه سديد الدين محمود الحمصي أنّ ابن إدريس « مخلّط لا يعتمد على تصنيفه » كما ذكره في كتابه (2).

ومن غريب خبطاته ومستطرفاتها نسبته في مستطرفاته الى أبان بن تغلب عدّة أخبار لا ربط لها به. فهو مخلّط في الحديث في أسانيدها ومتونها ، وفي اللغة والأدب والتاريخ والفقه.

ومن خبطه في الفقه : أنّه ينتقد أتباع الشيخ الطوسي بأنّهم يقلّدونه ، بينما هو يقلّده أيضا ، وذلك فيما إذا اتفقت فتاواه ، فإنّه يتبعه حتى ولو كان مستندا الى آحاد ، أمّا إذا اختلفت فتاواه في كتبه فإنّه ( يرجّح الفتوى غير الخبرية ) ويعترض على فتواه الخبرية بكونه تمسكا بالآحاد ، حتى ولو كان مستندا في ذلك الى أخبار ملحقة بالتواتر (3).

أما ما ذكره الشيخ محمود الحمصي من أنّ ابن إدريس « مخلّط لا يعتمد على تصنيفه » فهو صحيح من جهة وباطل من جهة :

أمّا أنّه مخلّط في الجملة فممّا لا شك فيه ، ويظهر ذلك بوضوح من الروايات التي ذكرها فيما استطرفه من كتاب أبان بن تغلب ، فقد ذكر فيها عدّة روايات ممّن لم يدرك الصادق « عليه السلام » ، وكيف يمكن أن يروي أبان المتوفّى في حياة الصادق « عليه السلام » عمّن هو متأخر عنه بطبقة أو طبقتين؟!.

ص: 12


1- فهرست منتجب الدين : 5 ط قم المقدسة.
2- فهرست منتجب الدين : 5 ط قم المقدسة.
3- فهرست منتجب الدين : 5 ط قم المقدسة.

ومن جملة تخليطه : أنّه ذكر روايات استطرفها من كتاب السيّاريّ وقال « واسمه أبو عبد اللّه صاحب موسى والرضا « عليهما السلام » وهذا فيه خلط واضح ، فإنّ السيّاريّ هو أحمد بن محمد بن السيار أبو عبد اللّه ، وهو من أصحاب الهادي والعسكري « عليهما السلام » ولا يمكن روايته عن الكاظم والرضا « عليهما السلام ».

وأمّا قوله « لا يعتمد على تصنيفه » فهو غير صحيح ، وذلك أنّ الرجل من أكابر العلماء ومحقّقيهم ، فلا مانع من الاعتماد على تصنيفه في غير ما ثبت فيه خلافه (1).

وهل كان معرضا عن الأخبار؟

ذكره ابن داود الحلّي ( ت بعد 707 أي بعد قرن من منتجب الدين وابن إدريس ) في الباب الثاني من رجاله ( الضعفاء ) وكأنّه علّل ذلك بقوله : لكنّه أعرض عن أخبار أهل البيت « عليهم السلام ». وفي بعض النسخ زيادة : بالكليّة (2) ومنها نسخة التفرشي التي نقل عنها في كتابه « نقد الرجال » وعلّق عليه فقال : ولعلّ ذكره في باب الموثّقين كان أولى ، لأنّ المشهور أنّه لم يكن يعمل بخبر الواحد ، وهذا لا يستلزم الإعراض بالكليّة ، وإلّا لانتقض بغيره ، مثل السيد المرتضى وغيره (3).

ولعلّه لهذا أعرض بعض النسّاخ عن هذه الزيادة بل كلّ الجملة ، كما في نسخة الحر العاملي ، كما مرّ عنه في « أمل الآمل » قوله : ولم أجده في كتاب ابن

ص: 13


1- معجم رجال الحديث 15 : 70 ، 71 ط النجف الأشرف - الأولى.
2- رجال ابن داود : 498 ط طهران و 269 ط النجف الأشرف.
3- نقد الرجال : 291.

داود في الممدوحين ولا المذمومين ، في النسخة التي عندي (1) وكذلك قال الميرزا أبو علي الطبري الحائري في « منتهى المقال » : لم أجده في نسختي من رجال ابن داود ، وهو المنقول عن كثير من نسخه أيضا ، وما وجد فيه ففي القسم الثاني في الضعفاء (2) وكذلك لم ينقل عنه هذه الجملة الأخيرة الأردبيلي في « جامع الرواة » (3).

ونقله البحراني في « لؤلؤة البحرين » عن الحرّ في « أمل الآمل » وعلّق عليه يقول :

( ثمّ إنّ ما نقله في كتاب « أمل الآمل » عن السيد مصطفى من أنّه : ذكره ابن داود في قسم الضعفاء ، مع نقله عنه أوّلا أنّه قال في كتابه : « أنّه كان شيخ الفقهاء في الحلّة متقنا للعلوم كثير التصانيف ) لا يخلو من تدافع ، فإنّ وصفه بما ذكر يوجب دخوله في قسم الممدوحين لا الضعفاء. وأغرب من ذلك قوله « الحرّ العاملي ) بعد : « ولم أجده في كتاب ابن داود لا في الممدوحين ولا في المذمومين » مع أنّ الميرزا محمد صاحب الرجال ( منهج المقال ) قد نقل عن ابن داود عبارة المدح المذكورة ، وهي قوله : « كان شيخ الفقهاء. » (4).

قال : « والتحقيق : أنّ فضل الرجل المذكور وعلوّ منزلته في هذه الطائفة ممّا لا ينكر ، وغلطه - في مسألة من مسائل الفنّ - لا يستلزم الطعن عليه بما ذكره المحقّق المتقدم ذكره ( ابن داود ) وكم لمثله من الأغلاط الواضحة ولا سيما في هذه المسألة ، وهي : مسألة العمل بخبر الواحد. وجملة من تأخر عنه من الفضلاء ، حتى مثل

ص: 14


1- أمل الآمل 2 : 243.
2- منتهى المقال : 260 فلا يتجه ما في تنقيح المقال 2 : 77 : « والميرزا لم ينقل قوله ( ابن داود ) : لكنّه أعرض. ولعلّه كان ساقطا من نسخته أو زائدا في نسختنا ، ولم يشير أيضا الى عدّه إيّاه في الباب الثاني ، فلاحظ » بل أشار وصرّح فانظر وقل : أعوذ باللّه من زيغ البصر.
3- جامع الرواة 2 : 65
4- لؤلؤة البحرين : 280.

المحقّق والعلّامة - الذين هما أصل الطعن عليه - قد اختار العمل بكثير من أقواله » (1).

وعاد فقال أيضا : « وبالجملة : ففضل الرجل المذكور ونبله في هذه الطائفة أظهر من أن ينكر ، وإن تفرّد ببعض الأقوال الظاهرة البطلان لذوي الأفهام والأذهان ، ومثله في ذلك غير عزيز ، كما لا يخفى على الناظر المنصف » (2).

وبعد ما نقل الميرزا أبو علي الطبري الحائري في « منتهى المقال » مقالة ابن داود قال :

« ولا يخفى ما فيه من الجزاف ، وعدم سلوك سبيل الإنصاف ، فإنّ الطعن في هذا الفاضل الجليل ، سيّما والاعتذار بهذا التعليل ، فيه ما فيه :

أمّا أوّلا : فلأنّ عمله بأكثر الكثير من الأخبار ممّا لا يقبل الاستتار ، سيّما ما استطرفه في أواخر « السرائر » من أصول القدماء « رضي اللّه عنهم ».

وأمّا ثانيا : فلأنّ عدم العمل بأخبار الآحاد ليس من متفرداته ، بل ذهب إليه جملة من أجلّة الأصحاب : كعلم الهدى ، وابن زهرة ، ( شيخه ) وابن قبة ، وغيرهم. فلو كان ذلك موجبا للتضعيف لوجب تضعيفهم أجمع ، وفيه ما فيه (3).

وعلّق عليه المامقاني في « تنقيح المقال » فقال : ومن غريب ما وجدته في المقام ما صدر من ابن داود ، حيث أنّه مع مدحه له أورده في الباب الثاني فقال : محمد بن إدريس العجليّ الحلّي ، كان شيخ الفقهاء ، بالحلّة. فإنّ هذا المدح لا يناسب عدّه إيّاه في الباب الثاني ، مع أنّه من عادته عدّ الإماميّ في الباب الأوّل وإن لم يوثق بل وإن لم يمدح ، وكون الحلّي إماميّا ممّا لا تأمّل فيه لأحد. وما نسبه إليه من تركه لأخبار أهل البيت ( عليهم السلام ) بالكلّيّة ، بهتان صرف ، فإنّه إنّما ترك أخبار الآحاد كعلم الهدى ، لا مطلق الأخبار حتى المتواتر

ص: 15


1- لؤلؤة البحرين : 279
2- لؤلؤة البحرين : 280
3- منتهى المقال : 260.

والمحفوف بالقرائن القطعيّة ، ويومئذ ، أكثر الأخبار التي هي اليوم من الواحد كان عندهم من المحفوفة بالقرائن ، كما لا يخفى على الخبير (1).

وقال الفقيه التستري في « قاموس الرجال » أقول : نسبة الاعراض إليه بالكلّيّة غلط ، كيف وسرائره كلّه من طهارته إلى دياته مبتن على أخبارهم ( عليهم السلام ) ، والرجل من علماء الإماميّة ولا يعقل إعراض إمامي عن أخبارهم ( عليهم السلام ). وانما هو كالمفيد والمرتضى لا يعمل بأخبار الآحاد ، الّا أنه كان لا يعرف الآحاد من غير الآحاد (2).

وقال المحقّق الخوئي في معجمة : أمّا قول ابن داود : أنّه أعرض عن أخبار أهل البيت ( عليهم السلام ) بالكلّيّة. فهو باطل جزما ، فإنّه اعتمد على الروايات في تصنيفاته ، وكتبه مملوءة من الأخبار. غاية الأمر أنّه لم يكن يعمل بالأخبار الآحاد ، فيكون حاله كالسيّد المرتضى وغيره ممّن لم يكونوا يعملون بالخبر الواحد غير المحفوف بالقرائن (3).

« وأوّل من زعم أنّ أكثر أحاديث أصحابنا - المأخوذة من الأصول التي ألقوها بأمر أصحاب الأئمة ( عليهم السلام ) وكانت متداولة بينهم وكانوا مأمورين بحفظها ونشرها بين أصحابنا لتعمل بها الطائفة لا سيّما في زمن الغيبة الكبرى - أخبار آحاد خالية عن القرائن الموجبة للقطع بورودها عن أصحاب العترة ( عليهم السلام ) ، هو : محمد بن إدريس الحلّيّ ، ولأجل ذلك تكلّم على أكثر فتاوى رئيس الطائفة ، المأخوذة من تلك الأصول. وقد وافق رئيس الطائفة وعلم الهدى ومن تقدم عليهما في أنّه لا يجوز العمل بخبر الواحد الخالي عن القرينة الموجبة للقطع ، وغفل عن أنّ أحاديث أصحابنا ليست من ذلك القبيل » (4).

ص: 16


1- تنقيح المقال 3 : 77
2- قاموس الرجال 8 : 45.
3- معجم رجال الحديث 15 : 71 ط النجف الأشرف - الأولى.
4- روضات الجنات 6 : 249 عن مقدمة شرح التهذيب.

ابن إدريس وابن زهرة :

مرّ علينا في مشايخه : أبو المكارم حمزة الحسيني ، وهو حمزة بن علي بن زهرة الحسيني الحلبي ( ت 585 ) عمّ تلميذه : محمد بن عبد اللّه بن زهرة ، وهو صاحب كتاب « غنية النزوع الى علمي الفروع والأصول » (1).

« ونحن إذا لاحظنا أصول ابن زهرة وجدنا فيه ظاهرة مشتركة بينه وبين فقه ( تلميذه ) ابن إدريس تميّزهما عن عصر التقليد المطلق للشيخ ، وهذه الظاهرة المشتركة هي : الخروج على آراء الشيخ والأخذ بوجهات نظر تتعارض مع موقفه الأصولي أو الفقهي ، وكما رأينا ابن إدريس يحاول في « السرائر » تفنيد ما جاء في فقه الشيخ من أدلّة ، كذلك نجد ابن زهرة يناقش في « الغنية » الأدلّة التي جاءت في كتاب « العدّة » ويستدلّ على وجهات نظر معارضه ، بل يثير أحيانا مشاكل أصولية جديدة لم تكن مثارة من قبل في كتاب « العدّة » بذلك النحو.

ولا بأس أن نذكر مثالين أو ثلاثة للمسائل التي اختلف فيها رأي ابن زهرة عن رأي الشيخ :

فمن ذلك : مسألة دلالة الأمر على الفور ، فقد كان الشيخ يقول بدلالته على الفور ، وأنكر ابن زهرة ذلك وقال : إنّ صيغة الأمر حيادية لا تدل على فور ولا تراخ.

ومن ذلك أيضا : مسألة اقتضاء النهي عن المعاملة لفسادها ، فقد كان الشيخ يقول بالاقتضاء ، وأنكر ابن زهرة ذلك ، مميّزا بين مفهومي : الحرمة والفساد ، ونافيا للتلازم بينهما.

ص: 17


1- هدية الأحباب : 70 ط طهران.

ومن ذلك : أن آثار ابن زهرة في بحوث العام والخاص مشكلة حجيّة العام المخصّص ، في غير مورد التخصيص. بينما لم تكن هذه المشكلة قد أثيرت في كتاب « العدّة ».

وقد جاء في كتاب المزارعة من « السرائر » ما يدلّ على أنّ ابن إدريس كان يجابه معاصريه بآرائه ويناقشهم - ومنهم أبو المكارم ابن زهرة - إذ كتب عن رأي فقهي يقول : « والقائل بهذا القول السيد العلوي أبو المكارم ابن زهرة الحلبي ، شاهدته ورأيته ، وكاتبته وكاتبني وعرّفته ما ذكره في تصنيفه ( الغنية ) من الخطأ ، فاعتذر - رحمه اللّه - بأعذار غير واضحة » (1) فنرى ابن إدريس قد أخذ المناقشة والتجديد الفقهي من شيخه ابن زهرة.

ابن إدريس والاجتهاد و « السرائر » :

يقول ابن إدريس في مقدّمة كتابه « السرائر » : فإنّ الحقّ لا يعدو أربع طرق : إمّا هي من اللّه سبحانه ، أو سنة رسوله المتواترة المتفق عليها ، أو الإجماع ، فإذا فقدت الثلاثة فالمعتمد في المسألة الشرعية - عند المحقّقين الباحثين عن مآخذ الشريعة - التمسّك بدليل العقل فيها ، فإنّها مبقاة عليه وموكولة إليه ، فمن هذه الطرق نتوصل الى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه ، فيجب الاعتماد عليها والتمسّك بها ، فمن تنكّر عنها عسف وخبط خبط عشواء ، وفارق قوله المذهب.

فقد قال السيد المرتضى « رضي اللّه عنه » في جواب ( المسألة الثانية ) من المسائل الموصليات :

« اعلم أنّه لا بدّ في الأحكام الشرعية من طريق يوصل الى العلم بها ، لأنّا متى

ص: 18


1- وراجع المعالم الجديدة في الأصول للشهيد الصدر : 73 ، 74 ط النجف الأشرف.

لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنّه مصلحة جوزنا كونه مفسدة ، فيقبح الاقدام منّا عليه ، لأنّ الإقدام على مالا نأمن من كونه فسادا أو قبيحا ، كالإقدام على ما نقطع على كونه فسادا ، ولهذه الجملة أبطلنا أن يكون القياس في الشريعة الذي يذهب مخالفونا إليه طريقا إلى الأحكام الشرعيّة ، من حيث كان القياس يوجب الظنّ ولا يفضي الى العلم ، ألا ترى تظن - بجمل الفرع في التحريم على أصل محرم بنسبة تجمع بينهما - أنّه محرّم مثل أصله ، ولا نعلم - من حيث ظننّا أنّه يشبه المحرم - أنّه محرم وكذلك أبطلنا العمل في الشريعة بأخبار الآحاد ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وأوجبنا أن يكون العمل تابعا للعلم ، لأنّ خبر الواحد إذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه الظنّ بصدقه ، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا وإن ظننت به الصدق ، فإنّ الظن لا يمنع من التجويز ، فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد إلى أنّه اقدام على ما لا نأمن من كونه فسادا وغير صلاح.

قال : وقد تجاوز قوم من شيوخنا « رحمهم اللّه » في إبطال القياس في الشريعة ، والعمل فيها بأخبار الآحاد ، الى أن قالوا : إنّه يستحيل من طريق العقول العبادة ( التعبّد ) بالقياس في الأحكام. وأحالوا أيضا من طريق العقول العبادة ( التعبّد ) بالعمل بأخبار الآحاد. وعوّلوا على أنّ العمل يجب أن يكون تابعا للعلم ، وإذا كان غير متيقن في القياس وأخبار الآحاد لم تجز العبادة ( التعبّد ) بهما.

والمذهب الصحيح هو غير هذا ، لأنّ العقل لا يمنع من العبادة بالقياس والعمل بخبر الواحد ، ولو تعبد اللّه تعالى بذلك لساغ ولدخل في باب الصحة ، لأنّ عبادته ( تعبّده ) تعالى بذلك يوجب العلم الذي لا بدّ أن يكون العمل تابعا له ، فإنّه لا فرق - بين أن يقول صلى اللّه عليه وآله وسلم : قد حرّم عليكم كذا وكذا فاجتنبوه ، وبين أن يقول : إذا أخبركم عني مخبر - له صفة العدالة - بتحريمه فحرّموه - في صحة الطريق الى العلم بتحريمه ، وكذلك إذا قال : لو غلب في ظنكم شبه لبعض الفروع ببعض الأصول في صفة يقتضي التحريم فحرّموه ، فقد حرّمته

ص: 19

عليكم ، ولكان هذا أيضا طريقا الى العلم بتحريمه وارتفاع الشك والتجويز.

فليس متناول العلم هنا متناول الظن على ما يعتقده قوم لا يتأمّلون ، لأنّ متناول الظنّ هنا هو صدق الراوي إذا كان واحدا ، ومتناول العلم هو تحريم الفعل المخصوص الذي تضمّنه الخبر ، وما علمناه غير ما ظننّاه. وكذلك في القياس متناول الظنّ شبه الفرع بالأصل في علة التحريم ، ومتناول العلم كون الفرع محرّما.

وإنّما منعنا من القياس في الشريعة وأخبار الآحاد - مع تجويز العبادة ( التعبّد ) بهما من طريق العقول - لأنّ اللّه تعالى ما تعبّد بهما ، ولا نصب دليلا عليهما ، ومن هذا الوجه طرحنا العمل بهما ونفينا كونهما طريقين الى التحريم والتحليل.

قال المرتضى « قدس سره » : « وإنّما أردنا بهذه الإشارة أنّ أصحابنا كلّهم سلفهم وخلفهم ، متقدّمهم ومتأخّرهم يمنعون من العمل بأخبار الآحاد ومن العمل بالقياس في الشريعة ، ويعيبون أشدّ عيب على الراغب إليهما والمتعلّق في الشريعة بهما ، حتى صار هذا المذهب - لظهوره وانتشاره - معلوما ضرورة منهم وغير مشكوك فيه من أقوالهم ».

وبعد نقل كلام السيد « قدس سره » قال ابن إدريس : « هذا آخر كلام المرتضى « رحمه اللّه » حرفا فحرفا. فعلى الأدلّة المتقدّمة أعمل وبها آخذ وافتي وأدين اللّه تعالى ، ولا ألتفت الى سواد مسطور وقول بعيد عن الحق مهجور ، ولا « اقلّد » إلّا الدليل الواضح والبرهان اللائح ، ولا أعرّج الى أخبار الآحاد ، فهل هدم الإسلام إلّا هي.

وهذه المقدّمة أيضا من جملة بواعثي على وضع كتابي هذا ، ليكون قائما بنفسه ومقدّما في جنسه ، وليغني الناظر فيه - إذا كان له أدنى طبع - عن أن يقرأه على من فوقه ، وإن كان لأفواه الرجال معنى لا يوصل إليه من أكثر الكتب في أكثر الأحوال » (1).

ص: 20


1- انظر مقدمة المؤلّف ص 51.

وعمّا كان له من الدور الكبير في بث الحياة من جديد في الفكر العلمي ومقاومته لتلك الفترة من الفتور العلمي التقليدي بعد شيخ الطائفة الطوسي « قدس سره » فقد كتب في بداية مقدّمته هذه للكتاب فقال : « إنّي لمّا رأيت زهد أهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية والأحكام الإسلامية ، وتثاقلهم طلبها وعداوتهم لما يجهلون وتضييعهم لما يعلمون ، ورأيت ذا السن من أهل دهرنا هذا - لغلبة الغباوة عليه .. مضيعا لما استودعته الأيام ، مقصّرا في البحث عمّا يجب عليه علمه ، حتى كأنّه ابن يومه ونتيج ساعته .. ورأيت العلم عنانة في يد الامتهان ، وميدانه قد عطّل منه الرهان تداركت منه الذماء الباقي ، وتلافيت نفسا بلغت التراقي » (1).

بين « السرائر » و « المبسوط » :

ولا بأس هنا بدراسة « كتاب السرائر » ومقارنته بكتاب « المبسوط » وبذلك يمكننا أن ننتهي إلى النقاط التالية :

1 - إنّ « كتاب السرائر » يبرز العناصر الأصولية في البحث الفقهي وعلاقتها به بصورة أوسع ممّا يقوم به كتاب « المبسوط » بهذا الصدد ، فعلى سبيل المثال نذكر : أنّ ابن إدريس أبرز في استنباطه لأحكام المياه ثلاث قواعد أصولية وربط بحثه الفقهي بها ، بينما لا نجد شيئا منها في أحكام المياه من كتاب « المبسوط » وإن كانت هي بصيغتها النظرية العامة موجودة في كتب الأصول قبل ابن إدريس.

2 - إنّ الاستدلال الفقهي لدى ابن إدريس أوسع منه عمّا في كتاب « المبسوط » وهو يشتمل في النقاط التي يختلف فيها مع الشيخ على توسّع في الاحتجاج وتجميع الشواهد ، حتى أنّ المسألة التي لا يزيد بحثها في « المبسوط » على

ص: 21


1- انظر مقدمة المؤلّف ص 41.

سطر واحد قد تبلغ في « السرائر » صفحة مثلا ، ومن هذا القبيل : مسألة طهارة الماء المتنجّس إذا تمّم كرّا بماء متنجس أيضا ، فقد حكم الشيخ في « المبسوط » ببقاء الماء على النجاسة ولم يزد على جملة واحدة في توضيح وجهة نظره ، وأمّا ابن إدريس فقد اختار طهارة الماء في هذه الحالة ، وتوسّع في بحث المسألة ، ثم ختمه قائلا : « ولنا في هذه المسألة منفردة نحو من عشر ورقات قد بلغنا فيها أقصى الغايات ، وحججنا القول فيها والأسئلة والأدلّة والشواهد من الآيات والأخبار ».

ونلاحظ في النقاط التي يختلف فيها ابن إدريس مع الشيخ الطوسي اهتماما كبيرا منه باستعراض الحجج التي يمكن أن تدعم وجهة نظر الطوسي وتفنيدها. وهذه الحجج التي يستعرضها ويفنّدها إمّا أن تكون من وضعه وإبداعه يفترضها افتراضا ثمّ يبطلها لكي لا يبقى مجالا لشبهة في صحة موقفه ، أو أنّها تعكس مقاومة الفكر التقليدي السائد لآراء ابن إدريس الجديدة ، أي أنّ الفكر السائد استفزّته هذه الآراء وأخذ يدافع عن آراء الشيخ الطوسي ، فكان ابن إدريس يجمع حجج المدافعين ويفنّدها. وهذا يعني أن آراء ابن إدريس كان لها رد فعل وتأثير معاصر على الفكر العلمي السائد الذي اضطره ابن إدريس للمبارزة.

ونحن نعلم من « كتاب السرائر » أن ابن إدريس كان يجابه معاصريه بآرائه ويناقشهم ، ولم يكن منكمشا في نطاق تأليفه الخاص ، فمن الطبيعي أن يثير ردود الفعل وأن تنعكس ردود الفعل هذه على صورة حجج لتأييد رأي الشيخ.

كما نلمح في بحوث ابن إدريس ما كان يقاسيه من المقلّدة الذين تعبّدوا بآراء الشيخ الطوسي ، وكيف كان يضيق بجمودهم. ففي مسألة تحديد مقدار الواجب نزحه من البئر إذا مات فيها كافر ، يرى ابن إدريس أن الواجب نزح جميع ما في البئر ، بدليل : أنّ الكافر إذا باشر ماء البئر وهو حيّ وجب نزحها جميعا اتفاقا فوجوب نزح الجميع إذا مات فيها أولى. وإذا كان هذا الاستدلال - الاستدلال بالأولويّة - يحمل طابعا عقليّا جزئيّا بالنسبة إلى مستوى العلم الذي عاصره ابن

ص: 22

إدريس ، فقد علّق عليه يقول : « وكأنّي بمن يسمع هذا الكلام ينفر منه ويستبعده ويقول : من قال هذا؟ ومن ينظره في كتابه؟ ومن أشار من أهل هذا الفن - الذين هم القدوة في هذا - اليه »؟.

وأحيانا نجد ابن إدريس يحتال على المقلّدة ، فيحاول أن يثبت لهم أنّ الشيخ الطوسي يذهب الى نفس رأيه ، ولو بضرب من التأويل. ففي مسألة الماء المتنجّس المتمّم كرا بمثله يفتي بالطهارة ، ويحاول أن يثبت ذهاب الشيخ الطوسي إلى القول بالطهارة أيضا فيقول : « فالشيخ أبو جعفر الطوسي - الذي يتمسك بخلافه ويقلّد في هذه المسألة ويجعل دليلا - يقوّي القول والفتيا بطهارة هذا الماء في كثير من أقواله ، وأنا أبيّن ان شاء اللّه أنّ أبا جعفر تفوح من فيه رائحة تسليم هذه المسألة بالكلّيّة إذا تؤمّل في كلامه وتصنيفه حق التأمّل ، وأبصر بالعين الصحيحة ، واحضر له الفكر الصافي ».

آثار هذه الحركة العلمية :

واستمرت الحركة العلمية التي نشطت في عصر ابن إدريس تنمو وتتسع وتزداد ثراء عبر الأجيال ، وبرز في تلك الأجيال نوابغ كبار صنّفوا في الأصول والفقه وأبدعوا :

فمن هؤلاء : المحقّق الحلّي نجم الدين جعفر بن الحسن ( ت 676 ه ) وهو تلميذ تلامذة ابن إدريس ، ومؤلف الكتاب الفقيه الكبير « شرائع الإسلام » الذي أصبح بعد تأليفه محورا للبحث والتعليق والتدريس في الحوزة بدلا عن كتاب « النهاية » الذي كان الشيخ الطوسي قد ألّفه قبل « المبسوط ».

وهذا التحوّل من « النهاية » إلى « الشرائع » يرمز الى تطوّر كبير في مستوى العلم ، لأنّ كتاب « النهاية » كان كتابا فقهيا يشتمل على أمّهات المسائل الفقهية وأصولها ، أمّا الشرائع فهو كتاب واسع يشتمل على التفريع وتخريج

ص: 23

الأحكام وفقا للمخطّط الذي وضعه الشيخ في « المبسوط » فاحتلال هذا الكتاب المركز الرسمي لكتاب « النهاية » في الحوزة ، واتجاه حركة البحث والتعليق إليه يعني أنّ حركة التفريع والتخريج قد عمّت واتسعت حتى أصبحت الحوزة كلّها تعيشها. وله في الأصول « معارج الوصول الى علم الأصول » و « نهج الوصول الى علم الأصول ».

ومن أولئك النوابغ : تلميذ المحقّق وابن أخته المعروف بالعلّامة الحلّي الحسن بن يوسف ( ت 726 ه ) وله في الأصول « مبادئ الوصول الى علم الأصول » و « تهذيب الوصول الى علم الأصول » (1) وكأنّه أراد أن يجعل بالأوّل مرقاة لمعارج المحقّق ، وبالثاني تهذيبا لنهجه ، والذي هو بدوره كان تيسيرا للطلبة للوصول الى ما في كتابي « العدّة » للطوسي و « الذريعة » للمرتضى من الأصول. واستمرت هذه الكتب الأصولية الأربعة للأستاذ المحقّق والتلميذ العلّامة هي محور البحث الأصولي في الحوزة في الحلّة في القرون : الثامن والتاسع والعاشر الهجري ، حتى نسخها كتاب « معالم الدين وملاذ المجتهدين » للحسن بن زين الدين الجبعي العاملي ( ت 1011 ه ) الذي مثّل فيه المستوي العالي لعلم الأصول في عصره بتنظيم جديد وتعبير يسير ، الأمر الذي جعل لهذا الكتاب شأنا كبيرا في عالم البحوث الأصولية ، حتى أصبح كتابا دراسيّا في هذا العلم ، وتناوله المعلّقون بالتعليق والنقد. وقاربه قرينه « زبدة الأصول » للشيخ البهائي محمد بن الحسين العاملي ( ت 1031 ه ).

هذا جانب من نماذج النتائج التي تمخّضت عنها الحركة العلمية الأصولية والفقهية التحقيقية الاستدلالية لابن إدريس في الحلّة بالعراق ، والتي استمرت فيها حتى القرن العاشر حيث انتقل الازدهار العلمي من الحلّة في العراق الى

ص: 24


1- من المعالم الجديدة في الأصول للشهيد الصدر « قدس سره » : 72 - 76 بتصرّف.

أصفهان عاصمة الدولة الايرانية الصفويّة ، التي اتخذت التشيّع مذهبا رسميّا ، وقرّبت علماء عاملة ليعملوا في الدعوة الى مذهب أهل البيت ( عليهم السلام ) ، وتأسيس ورعاية الحوزة العلمية الجعفرية.

آثار المؤلف :

مرّ علينا فيما مضى أن أوّل من ذكره من أرباب الفهارس والتراجم والرجال هو معاصره الشيخ منتجب الدين علي بن عبيد اللّه الرازي ( ت بعد 600 ) فإنّه ذكره في فهرسه وقال : له تصانيف منها : « كتاب السرائر » (1).

ثم ذكره ابن داود الحلّي ( ت بعد 707 ) فقال : كثير التصانيف (2).

ونقلهما الحرّ العاملي ( ت 1104 ) في « أمل الآمل » ثم أكمل اسم الكتاب فقال من مؤلفاته :

« كتاب السرائر » الحاوي لتحرير الفتاوي ، وهو الذي تقدّم ذكره.

وفي بعض نسخ « الأمل » زيادة : وله أيضا « كتاب التعليقات » كبير ، وهو حواش وإيرادات على « التبيان » لشيخنا الطوسي ، شاهدته بخطّه في فارس (3).

وقد نقل قول الحرّ هذا مع هذه الزيادة المولى عبد اللّه الأصفهاني في « رياض العلماء » ممّا يرجّح أن تكون من الحرّ نفسه ، وعلّق الأصفهاني على هذه الزيادة في نسخته من « الأمل » قال : وقد رأيته ( التعليقات ) بخطه في شيراز عند أمير محمد شريف ، المستوفي لتلك النواحي ، في جملة كتبه الموقوفة على مدرسته ، وقد

ص: 25


1- الفهرست له : 173 برقم 421 ط قم المقدسة.
2- رجال ابن داود : 498 ط طهران و 269 ط النجف الأشرف.
3- أمل الآمل 2 : 244 ط بغداد.

شاهدت قطعة منه في أصفهان أيضا (1) إذن فالمقصود بقول الحرّ « فارس » : فارس شيراز ، ويدلّ على سفر الحرّ الى شيراز أيضا.

وأضاف في « الرياض » : ومن مؤلفاته : « رسالة في معنى الناصب نسبها إليه سبطه الشيخ علي الكركي في رسالة « رفع البدعة في حلّ المتعة » ويروي عنها الرواية.

وعن نسخ « كتاب السرائر » قال : وقد رأيت من « كتاب السرائر » نسخا كثيرة :

من أحسن ما رأيته : ما وجدته في كتب المرحوم آميرزا فخر المشهدي ، وهو نسخة عتيقة ، صحيحة جدا ، قريبة العهد بزمان المصنف بل كتبت في زمانه.

وتاريخ تأليف « السرائر » على ما يظهر من كتاب الصلح منه : سنة سبع وثمانين وخمسمائة.

ورأيت في خزانة الشيخ صفي في أردبيل ( في مقبرة الشيخ السيد صفي الدين الموسوي الأردبيلي جدّ سلسلة الملوك الصفويين ) قطعة اخرى من هذا الكتاب كتبت أيضا في زمن المصنف وقرئ على السيد فخار بن معد الموسوي تلميذ المصنف ، وعليه أيضا بلاغات. واجازة بخط يوسف بن علوان ، في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وستمائة ، للشيخ محمد بن الزنجي ، يرويه عن علي بن يحيى الخيّاط ، عن مصنفه.

ورأيت أيضا نسخة عتيقة منه في بلدة « أشرف » من بلاد « مازندران » (2).

وكان يبدو لي أنّ « الحاوي » وهو لفظ مذكّر كيف يكون وصفا للفظ « السرائر » وهو مؤنث ، وأقدّر أنّ هذا الكتاب من الكتب التي يجب ذكر لفظ الكتاب في أوّل اسمه فيكون « الحاوي » وصفا للكتاب : كتاب السرائر ،

ص: 26


1- هامش رياض العلماء 5 : 32
2- رياض العلماء 5 : 33.

الحاوي لتحرير الفتاوي. حتى وجدت الصفدي في « الوافي بالوفيات » ترجم له وقال : كان عديم النظير في الفقه ، صنّف « كتاب الحاوي لتحرير الفتاوي » ولقّبه ب- « كتاب السرائر » وهو كتاب مشهور بين الشيعة.

ثم قال : وله كتاب « خلاصة الاستدلال » و « منتخب كتاب التبيان » ولكنّه أخطأ فقال : فقه و « المناسك » وغير ذلك في الأصول والفروع.

وله تلامذة وأصحاب ، ولم يكن في وقته مثله ، ومدحه بعض الشعراء بقصيدة فضّله فيها على الشافعي.

توفي في سنة سبع وتسعين وخمسمائة (1).

فتاواه النادرة :

وأمّا الفتاوى النادرة والأقوال الشاذّة المنسوبة الى ابن إدريس ، فهي كثيرة :

منها : قوله بنجاسة مطلق من لا يعتقد الحق ولا يدين اللّه بمذهب الشيعة الإماميّة.

ومنها : قوله بنجاسة ولد الزنا وإن كان من الشيعة الإماميّة ظاهرا.

ومنها : قوله بجواز الابتداء بالأسفل في مواضع الغسل من الوضوء.

ومنها : قوله بوجوب إخراج الضيف زكاة فطرة نفسه ، وإخراج المضيف زكاته أيضا.

ومنها : قوله بعدم اشتراط الفقر في استحقاق يتامى أولاد هاشم الخمس عملا بظاهر الآية.

ومنها : قوله بعدم إيجاب تعمّد القي ء في الصيام القضاء فضلا عن الكفارة.

ص: 27


1- الوافي بالوفيات 2 : 183 ط 2 ولخّصه ابن حجر في لسان الميزان 5 : 65.

ومنها : قوله بوجوب النفقة على الصغيرة مع عدم جواز وطئها.

ومنها : قوله بعدم إيجاب وطء الصغيرة تحريمها المؤبد.

ومنها : قوله بعدم جواز امتناع المعقود عليها غير المدخول بها من تسليم نفسها حتى تقبض مهرها مع إعسار زوجها.

ومنها : قوله بالقرعة فيما إذا اشتبهت المطلّقة من الأربع ، وتزوّج بالخامسة ، ثم مات المطلّق قبل تعيين المطلّقة (1).

هل تجاسر ابن إدريس على الشيخ؟

من الغريب ما تداول على الألسن : أنّ ابن إدريس كان يتجاسر على الشيخ الطوسي ، والأغرب أنّ المامقاني نسب ذلك الى كتاب ابن إدريس وقال : « أقول : في مواضع من « السرائر » .. حتى أنّه في كتاب الطهارة عند نقل قول بالنجاسة عن الشيخ يقول : « وخالي شيخ الأعاجم تفوه من فيه رائحة النجاسة » وهذا منه قد بلغ في إساءة الأدب النهاية (2).

أقول : إنّ ما ذكره « قدس سره » خلاف الواقع ، فليس من ذلك في « كتاب السرائر » عين ولا أثر ، ويدلّ على ذلك : أنّ الشيخ أبا جعفر الطوسي لم يكن خالا لابن إدريس وانّما هو جدّه لامه ، والشيخ المامقاني لم يلاحظ كتاب ابن إدريس وإنّما ذكر ذلك اعتمادا على ما سمعه من أفواه الناس وكيف يتكلّم ابن إدريس بمثل ذلك وهو يعظّم الشيخ أبا جعفر في موارد عديدة :

منها : قوله في أوائل الكتاب في توبيخ المتمسّكين بالأخبار الآحاد حتى في أصول الدين : « فقد قال الشيخ السعيد الصدوق أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه

ص: 28


1- روضات الجنات 6 : 289 ط جديد.
2- تنقيح المقال 3 : 77.

وتغمّده اللّه تعالى برحمته » (1).

ومنها : ما قاله في باب صلاة الجمعة وأحكامها ، فإنّه ذكر بعد نقل كلام عن السيد المرتضى حكاه الشيخ أبو جعفر الطوسي « قدس سره » : ولم أجد للسيد المرتضى تصنيفا ولا مسطورا بما حكاه شيخنا عنه .. ولعل شيخنا أبا جعفر سمعه من المرتضى في الدرس وعرفه منه مشافهة دون المسطور ، وهذا هو العذر البيّن ، فان الشيخ لا يحكي - بحمد اللّه تعالى - إلّا الحق اليقين ، فإنه أجلّ قدرا وأكثر ديانة من أن يحكي ما لم يسمعه ويحققه منه (2).

وأما منشأ هذه القصة التي لا أساس لها : فهو قصور الفهم عن درك مراد ابن إدريس « قدس سره » من العبارة التي نذكرها له ، فإنه « قدس سره » ذهب الى أنّ الماء المتمّم كرّا طاهر حتى فيما إذا كان المتمّم والمتمّم نجسين ، واستشهد لذلك بما رواه من « أن الماء إذا بلغ كرّا لم يحمل خبثا » ثم أيّد ذلك : بأنّه يستفاد ويستشم من كلام أبي جعفر الطوسي « قدس سره » قال : « فالشيخ أبو جعفر الطوسي « رحمه اللّه » الذي يتمسك بخلافه ويقلّد في هذه المسألة ويجعل دليلا ، يقوّي القول والفتيا بطهارة هذا الماء في كثير من أقواله ، وأنا أبيّن ان شاء اللّه أن أبا جعفر « رحمه اللّه » يفوه من فيه رائحة تسليم المسألة بالكلّيّة ، إذا تؤمّل كلامه وتصنيفه حق التأمّل ، وأبصر بالعين الصحيحة ، وأحرز له الفكر الصافي ، فإنّه فيه نظر ولبس » فترى أنه يستظهر من الشيخ « قدس سره » القول بالطهارة ، استنصارا لمذهبه. وأين هذا من القصة الفضيعة (3).

هدا ، وقد رتبوا على هذه القصة الفضيعة المفتعلة أنّه « قدس سره » لذلك توفي في الخامسة والثلاثين من عمره ، بينما :

ص: 29


1- انظر مقدّمة المؤلّف ص 52.
2- انظر أحكام صلاة الجمعة من الكتاب ص 296.
3- معجم رجال الحديث 15 : 71 - 73 ط النجف الأشرف - الأولى.

ولادته ووفاته وقبره :

قال الميرزا أبو علي الطبري الحائري في « منتهى المقال » : والذي رأيته في « البحار » عن خط الشهيد « قدس سره » هكذا قال : الشيخ الإمام أبو عبد اللّه محمد بن إدريس الإماميّ العجليّ ، بلغه الحلم سنة ثمان وخمسين وخمسمائة ، وتوفي إلى رحمة اللّه ورضوانه سنة ثمان وسبعين وخمسمائة. انتهى. وعلى هذا يكون عمره خمسا وثلاثين. ولكن في الرسالة المشهورة للكفعمي « قدس سره » في « وفيات العلماء » بعد ذكر تاريخ بلوغه كما ذكر قال : بل وجد بخط ولده « صالح » : « توفّي والدي محمد بن إدريس « رحمه اللّه » يوم الجمعة وقت الظهر ثامن عشر شوال ، سنة ثمان وتسعين وخمسمائة » فيكون عمره تقريبا : خمسة وخمسون سنة (1).

والظاهر أن ولده « صالح » هذا الذي ذكره الكفعمي « قدس سره » في رسالته « وفيات العلماء » هو أبو محمد ، الذي ذكر صاحب « التكملة » أنّه وقف على نسخة من نسخ « الأمالي » في آخرها : كتب من نسخة كتبت بيد الشيخ علي بن أبي محمد بن أحمد بن منصور. وصورة ما في الأصل : تم كتاب « الأمالي » آخر نهار الجمعة ثاني شوال سنة ستمائة وثمان عشرة ، والحمد لله. كتبه علي بن أبي محمد بن أحمد بن منصور بن إدريس العجليّ الحلّي حامدا مصلّيا. انتهى (2).

وقد ترجم لابن إدريس كثير من أرباب التراجم وكثير منهم أو غير واحد

ص: 30


1- منتهى المقال : 260.
2- عن تنقيح المقال 3 : 77. هذا ، وقد أغرب صاحب التكملة حيث قال : لم نجد في كتب التراجم نسبة ابن إدريس إلى منصور ، وتصوّر أنّ أحمد بن منصور هو أخو ابن إدريس وأنّ علي بن أبي محمد حفيد أخي ابن إدريز. كما في التنقيح عنه.

منهم قالوا :

كانت ولادته سنة 543 ه وتوفي يوم الجمعة وقت الظهر ثامن عشر شهر شوال سنة 598 ه فيكون عمره تقريبا : خمسا وخمسين سنة.

« ومرقد ابن إدريس - اليوم - في الحلّة واقع في ( محلة الجامعين ) وكان له قديما مسجد ، وقد تهدّم واندرست آثاره وصار المكان مجمعا للأوساخ ممّا لا يتناسب ومكانة المرقد. فقام جماعة من أبناء الحلّة وجمعوا مبالغ لبنائه ، ونفدت المبالغ المجموعة ولم يتمّ بناؤه ، بل لم تكف المبالغ إلّا لبناء الأسس. فأكمله الحاج حسن المرجان على أحسن ما يرام وبنى قبة جميلة على المرقد من الحجر القاشاني قائمة على أربعة أعمدة ، وبنى مأذنة عالية بجنبه كلفت مبالغ طائلة وذلك عام 1381 ، وصار هذا المحل محطّ أنظار أهل الدين والفضل ومحطّ رحال الزائرين ، وتقام فيه المآتم الحسينية والحفلات الدينية في كلّ وقت ، حيث هو محلّ واسع يزيد على ثلاثة آلاف متر ، ومن حيث الموقع يتصل بعدّة شوارع مهمّة في البلد » (1).

ص: 31


1- هامش لؤلؤة البحرين : 277 ، 278 للسيد محمد صادق بحر العلوم « قده ».

منهج التحقيق

نسخ الكتاب :

في تحقيق الكتاب اعتمدت لجنة التحقيق على عدّة نسخ هي كما يلي :

1 - نسخة كتبت في سنة 603 ه أي بعد وفاة المؤلف بخمس سنين ، في مدينة الكاظمين عليهما السلام ، بخط علي بن جعفر بن عبد اللّه بن حبشي الجعفري ، قوبلت وصححت على نسخة خط المصنّف ، وعليها بلاغات وتصحيحات في الهوامش وأواخر الأبواب.

وهي من أول كتاب الجهاد « الجزء الثاني من الكتاب » حتى آخر المستطرفات ، ومن مزايا هذه النسخة أنّها كانت للشيخ البهائي « قدس سره » أوقفها على روضة الامام الرضا عليه السلام ، وهي اليوم من كتب مكتبة الامام الرضا « آستان قدس » برقم 712 من الكتب الفقهية والرقم العام 2774 ، وكانت هي النسخة المعتمدة من أوّل كتاب الجهاد الى آخر الكتاب.

2 - نسخة كتبت سنة 639 ه ، وقد قوبلت بنسخة خط المصنف كما تشهد بذلك البلاغات والتصحيحات في هوامشها ، وقد جاء في آخرها : « بلغ مقابلة بخط المصنف « رضي اللّه عنه » وصحّ إلّا ما زاغ عنه النظر وحسر عنه البصر » وفي نهايتها حكاية خط المصنف.

وهي من كتب مكتبة « مجلس الشورى الإسلامي » برقم 62804 / 3371 تبدأ من أوائل باب أحكام السهو والشك في الصلاة حتى آخر كتاب الحج ، ولكنها نسخة جيدة قليلة الأغلاط ، ولذلك اعتمد عليها بعنوان نسخة الأصل في الجزء الأوّل من الكتاب والرمز إليها « م ».

3 - نسخة جيدة الخط وقليلة الغلط ، من أوّل الكتاب حتى آخر الكتاب ومن المستطرفات الأحاديث الرؤية عن كتاب موسى بن بكر الواسطي فقط ، وهي من كتب المكتبة المركزية لجامعة طهران « كتابخانه مركزى دانشگاه تهران » كتبت

ص: 32

في سنة 958 ه وسجّلت في المكتبة برقم 6651 ، اعتمد عليها بعنوان نسخة الأصل من أوّل الكتاب حتى أوائل باب أحكام السهو والشكّ في الصلاة ، ورمزنا في سائر المواضع الى موارد اختلافها في الهامش برمز « ج ».

4 - نسخة من باب النذور والعهود وطرف من المستطرفات ، كتبت في سنة 1015 ه بخط إبراهيم بن محمد بن إبراهيم القطيفي النجفي (1) ، واستفيد منها في مقابلة المستطرفات والرمز إليها « ط » وهي نسخة جيدة قليلة الغلط ، من كتب مكتبة حجة الإسلام الحاج السيد محمد علي الطبسي « سلمه اللّه تعالى ».

5 - نسخة كاملة كتبت سنة 1243 بخط السيد أبي القاسم ابن السيد حسين الرضوي الخوانساري ، استفيد منها في المقابلة والرمز إليها « ل » وهي من كتب مكتبة حجة الإسلام والمسلمين الحاج السيد مهدي اللاجوردي القمي « رعاه اللّه » فقد تفضل على المؤسسة بجعل أصل النسخة في اختيار هيئة التحقيق.

6 - النسخة المطبوعة طبعة حجرية قديمة في سنة 1270 ه استفيد منها في المقابلة وذكر موارد اختلافها في الهوامش بكلمة « المطبوع ».

والعمدة في مقابلة الثلث الأوّل من الكتاب كانت نسخة « المجلس » بينما العمدة في مقابلة الثلثين التاليين كانت نسخة مكتبة الامام الرضا عليه السلام برمز « ق ».

ولمكتبة آية اللّه العظمى المرعشي النجفي « دام ظله » نسخة ، ولكن لم يعتمد عليها لكثرة ما فيها من أغلاط. ومن اللّه التوفيق وعليه التكلان.

ص: 33


1- الكاتب إبراهيم بن محمد متولد وساكن في النجف الأشرف ، وجده إبراهيم القطيفي النجفي الظاهر أنّه هو الشيخ إبراهيم القطيفي الذي كان يمنع من السجود على التربة المطبوخة ، فردّه معاصره الشيخ على الكركي برسالة ذكرها المولى عبد اللّه الأصفهاني في « رياض العلماء » ونقلها عنه آقا بزرگ الطهراني في الذريعة 12 : 148 برقم 997 ، فرغ من الرسالة سنة 933 ه. مما يكشف عن أن السجود على التربة المطبوخة كأنّها بدأت مع بداية الدولة الصفوية بعد 910 ه فكانت مسألة مستحدثة يومئذ.

الصورة

ص: 34

الصورة

ص: 35

الصورة

ص: 36

الصورة

ص: 37

الصورة

ص: 38

كتاب السرائر

الحاوي

لتحرير الفتاوي

تأليف: الشيخ الفقيه أبي جعفر محمد بن منصور بن أحمد بن إدريس الحلي قدس سره

المتوفّی 598 ه

الجزء الأول

ص: 39

ص: 40

« هذا كتاب السّرائر »

بسم اللّه الرحمن الرحيم وبه ثقتي

الحمد لله الذي خلق الإنسان فعدّله ، وعلمه البيان ففضّله ، وألبسه الإيمان فجملة ، وعرّفه الدين فكمله ، أحمده على ستر أسبله ، ونيل نوّله ، حمد معترف وله مطلق بالحمد مقولة ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بكتاب نزّله ، وآي فصّله ، ودين كمّله ، وشرع سبّله ، فاضطلع بما حمّله ، حتى حل بعضله من البهتان مشكلة ، وأرشد إلى الرّحمن من جهله ، وصلى اللّه عليه وآله ومن قبله ما كبّر اللّه مكبّر وهلّله.

أمّا بعد فإنّ الفقه أجمل ما التحفته الهمة ، وعرفته هذه الأمّة ، وما زالت صدور الصّدور له محلا ، ولبّاتهم به يتحلا ، ومجتمعاتهم ميدان محلّه ، ومكان رويته وارتحاله ، يرشف فيه ثغورهم ، ويخطف لديه نورهم ، ثمّ تقلّص ذلك البرد الضّافي ، وتكدر ذاك الورد الصّافي ، وزهد في اقتناء المعارف ، وعريت الهمم من تلك المطارف ، وأصبح العلم قد دجت مطالعة ، وخوي طالعه.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : إنّي لمّا رأيت زهد أهل هذا العصر في علم الشريعة المحمدية والأحكام الإسلامية وتثاقلهم طلبها ، وعداوتهم لما يجهلون ، وتضييعهم لما يعلمون ، ورأيت ذا السن من أهل دهرنا هذا لغلبة الغباوة عليه ، وملكه الجهل لقياده ، مضيّعا لما استودعته الأيّام ، مقصّرا في البحث عمّا يجب عليه علمه ، حتى كأنّه ابن يومه ونتيج ساعته ، ورأيت الناشئ المستقبل ذا الكفاية والجدة مؤثرا للشهوات ، صادفا عن سبل الخيرات ، ورأيت العلم عنانة في يد الامتهان ، وميدانه قد عطل من الرهان ، تداركت منه الذماء الباقي ،

ص: 41

وتلافيت نفسا بلغت التراقي ، وحبوت أهله مع معرفتي بفضل إذاعته إليهم ، وفرط بصيرتي بما في إظهاره لديهم ، من الثواب الجزيل ، والذكر الجميل ، والاحدوثة الباقية على مرّ الدهور ، فلم يصان العلم بمثل بذله ، ولن تستبقى النعمة فيه بمثل نشره.

قال بعض العلماء مادحا للعلم ، وتخليده في الكتب : والكتاب قد يفضّل صاحبه ، ويقدّم مؤلفه ، ويرجح قلمه على لسانه ، وعقله على بيانه بأمور :

منها : إنّ الكتاب يقرأ بكلّ مكان ، ويظهر ما فيه على كلّ لسان ، ثم يوجد مع كل زمان على تفاوت ما بين الأعصار وتباعد ما بين الأمصار ، وذلك أمر يستحيل في واضع الكتاب ، والمنازع بالمسألة والجواب ، ومناقلة اللسان وهدايته لا يجوزان مجلس صاحبه ، ومبلغ صوته ، وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه ، ويفنى العاقل ويبقى أثره ، ولهذا آثر الجلّة من المحققين ، وأهل العبر والفكرة من الديّانين ، وضع الكتب والاشتغال بها ، واجتهاد النفس في تخليدها وتوريثها ، على صوم النّهار وقيام الليل ، ولو لا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها ، وخلّدت من عجائب حكمتها ، ودوّنت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنّا ، وفتحنا بها كلّ مستغلق كان علينا ، فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم ، وأدركنا ما لم نكن ندركه إلا بهم ، لقد خسّ حظنا من الحكمة ، وصعبت سبلنا إلى المعرفة ، ولو الجئنا إلى قدر قوتنا ، ومبلغ خواطرنا ، ومنتهى تجاربنا لما أدركته حواسنا ، وشاهدته نفوسنا ، لقد قلّت المعرفة ، وقصرت الهمّة ، وانتقصت المنّة ، وعاد الرأي عقيما ، والخاطر سقيما ، ولكلّ الحدّ وتبلّد العقل ، فانّ الكتاب نعم الذخر والعقد ، ونعم الجليس والعقدة ، ونعم النشرة والنزهة ، ونعم المشتغل والحرفة ، ونعم الأنيس في ساعة الوحدة ، ونعم المعرفة ببلاد الغربة ، ونعم القرين والرحيل ، ونعم الوزير والنزيل.

والكتاب وعاء ملئ علما ، وظرف حشي طرفا ، وإناء شحن مزاحا وجدّا ، إن شئت كان أبين من سحبان وائل ، وان شئت كان أعنى من ناقل ، وإن شئت ضحكت من نوادره ، وإن شئت أشجتك مواعظه ، ومنّ لك بواعظ

ص: 42

ملهي ، وبزاجر مغري ، وبناسك فاتك ، وبناطق أخرس ، وبمونس لا ينام إلا بنومك ، ولا ينطق إلا بما تهوى ، آمن من في الأرض ، وأكتم للسر من صاحب السر ، وأضبط لحفظ الوديعة من أرباب الوديعة.

وقال ذو الرمة لعيسى بن عمر اكتب شعري : فالكتاب أعجب إليّ من الحفظ ، إنّ الأعرابي ينسى الكلمة وقد سهرت في طلبها ليلة ، فيضع في موضعها كلمة في وزنها ، ثمّ ينشده النّاس ، والكتاب لا ينسى ولا يبدّل كلاما بكلام.

قال : والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك ، والصّديق الذي لا يغريك ، والرفيق الذي لا يملك والمستميح الذي لا يستزيدك ، والجار الذي لا يستبطئك ، والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق ، ولا بالمكر ، ولا يخدعك بالنفاق ، ولا يحتال لك بالكذب ، والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال إمتاعك ، وشحذ طباعك ، وبسط لسانك ، وجوّد بيانك ، ومنحك تعظيم العوام ، وصداقة الملوك ، وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من أفواه الرجال في دهر ، والكتاب هو الذي يطيعك بالليل طاعته بالنهار ، ويطيعك في السفر طاعته في الحضر ، لا يقبل بنوم ، ولا يعتريه كلال السهر.

قال : قال أبو عبيدة : قال المهلّب لبنيه في وصيته : يا بني لا تقوموا في الأسواق إلا على زرّاد (1) أو ورّاق.

قال : وحدّثني صديق لي قال : قرأت على شيخ شامي كتابا فيه مآثر غطفان ، فقال لي : ذهبت المكارم إلا من الكتب.

قال : وسمعت الحسن اللؤلؤي يقول : غبرت أربعين سنة ما قلت ولا بت إلا والكتاب موضوع على صدري ، قال : والإنسان لا يعلم حتى يكثر سماعه ،

ص: 43


1- الزّراد : بمعنى صانع الزرد ، وهو الدرع ، وكذا الورّاق بمعنى صانع الورق. وفي ن : روّاد. بالراء المهملة. وفي المطبوع : لا تقوموا في الأسواق الّا على زوّاد أو ورّاق.

ولا يعلم ولا يجمع ولا يختلف حتى يكون الإنفاق عليه من ماله ألذ عنده من الإنفاق من مال عدوّه ، ومن لم يكن نفقته التي تخرج في الكتب ، ألذ عنده من إنفاق عشّاق القيان (1) ، والمستهترين بالبنان لم يبلغ في العلم مبلغا رضيّا ، وليس ينتفع بإنفاقه حتى يؤثر اتخاذ الكتب إيثار الأعرابي فرسه باللبن على عياله ، وحتى يؤمّل في العلم ما يؤمل الأعرابي في فرسه ولأنّ سخاء النفس بالإنفاق على الكتب دليل على تعظيم العلم ، وتعظيم العلم دليل على شرف النفس ، وعلى السلامة من سكر الآفات.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : وقد روي عن الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم أنّه قال : قيّدوا العلم بالكتابة (2) فحداني ما حكيته ، وبعثني ما أوردته على أن أجيل قدحي في ربابتهم ، وأقتفي اثر جماعتهم.

واعلم أبقاك اللّه وأيّدك بالتوفيق ، أنّه ليس لمن أتى في زماننا هذا بمعنى غريب ، وأوضح عن قول معيب ، ورد شاردة خاطر غير مصيب ، عند هؤلاء الأغمار الإغفال ، وذوي النزالة والسفال ، الا انّه متأخّر محدث ، وهل هذا لو عقلوا إلا فضيلة له ، ومنبهة عليه ، لأنّه جاء في زمان يعقم الخواطر ، ويصدي الأذهان ، ولله در المتنبي حيث يقول :

أتى الزمان بنوه في شبيبته *** فسرّهم وآتيناه على الهرم

ولقد أحسن الحيص في قوله في هذا المعنى :

تفضّلون قديم الشعر عن سفه الفضل *** في الفضل لا في العصر والدّار

وقال المبرد : ليس بقدم العهد يفضل القائل ، ولا لحدثان العهد يهتضم المصيب ، ولكن يعطى كلّ واحد منهما ما يستحق ، فالعاقل اللبيب الذي يتوخى الإنصاف فلا يسلم إلى المتقدّم إذا جاء بالردى لتقدّمه ، ولا يبخس

ص: 44


1- القيان : العبيد.
2- تحف العقول : في مواعظ النبي صلى اللّه عليه وآله وحكمه ، وفيه : بالكتاب.

المتأخّر حقّ الفضيلة إذا أتى بالحسن لتأخّره ، وكائن نظر للمتأخّر ما لم يسبقه المتقدّم إليه ولا أتى بمثله : إمّا استحقاقا أو اتفاقا ، فمن العدل أن يذكر الحسن ولو جاء ممن جاء ، ويثبته للآتي به كائنا من كان ، ولا ينظر إلى سبق المتقدّم وتبع المتأخّر ، فإنّ الحكمة ضالة المؤمن على ما ورد عن النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم (1) والخبر المشهور عن أمير المؤمنين عليه السلام من قوله : انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال (2). ولا تغتر أيّها اللبيب وتركن إلى قول ابن الرقاع ، فإنّه ختار ذو خداع ، وقد ذكر عثمان بن جني النحوي في كتاب الخصائص قال : قال أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ : ما على الناس شر أضر من قولهم : ما ترك الأول للآخر شيئا ، وقال الطائي الكبير يقول : من يطرق إسماعه كم ترك الأول للآخر ، بل تمسك بقول أمير المؤمنين عليه السلام : أعرف الحقّ تعرف أهله (3) ، وأحسن الحديث والاستشهاد كتاب اللّه ، فإنّه مدح قوما بقوله ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ) (4) وانّي لأستحسن قول لبيد في هذا المعنى :

قوم لهم عرفت معد فضلها *** والفضل يعرفه ذوو الألباب

وقال ابن الرومي :

ومستخف بقدر الشعر قلت له *** لا ينفق العطر إلا عند معطار

وقال خلاد الأرقط : لقيني ابن مناذر بمكة ، فأنشدني قصيدته : « كلّ حي لاقى الحمام فمودي » ثم قال : اقرأ أبا عبيدة السّلام ، وقل له : يقول لك ابن مناذر : اتق اللّه واحكم بين شعري وشعر عدي ابن زيد ، ولا تقل ذاك جاهلي وهذا إسلامي ، فتحكم بين العصرين ، ولكن احكم بين الشعرين ودع العصبية.

ص: 45


1- نهج الفصاحة : كلمة 1412
2- غرر الحكم : ج 1 ، ص 394.
3- الوسائل ، الباب 10 من صفات القاضي ، الحديث 32
4- سورة الزمر آية 18.

وبعد هذا الإسهاب ، أطال اللّه بقاء من يقف على كتابي هذا ، فيوسعني إنصافا أو يتركني ، والميل على مع هواه كفافا ، فإنّه كتاب لم أزل على فارط الحال ، وتقادم الوقت ، ملاحظا له ، عاكفا الفكر عليه ، منجذب الرأي والروية إليه ، وادّا أن أجد مهلا ( أضله ) به ، أو خللا أرتقه بعمله ، والوقت يزداد بنواديه ضيقا ، ولا ينهج لي إلى الابتداء طريقا.

هذا مع إعظامي له واعتصامي بالأسباب المشاطة إليه ، فاعتقادي فيه أنّه من أجود ما صنّف في فنّه ، وأسبقه لأبناء سنّه ، وأذهبه في طريق البحث والدليل والنظر ، لا الرواية الضعيفة والخبر ، فإني تحرّيت فيه التحقيق ، وتنكبت ذلك كلّ طريق ، فإنّ الحقّ لا يعدو أربع طرق : إمّا كتاب اللّه سبحانه ، أو سنّة رسوله صلى اللّه عليه وآله المتواترة المتّفق عليها ، أو الإجماع ، أو دليل العقل ، فإذا فقدت الثلاثة ، فالمعتمد في المسائل الشرعية عند المحققين الباحثين عن مأخذ الشريعة التمسك بدليل العقل فيها ، فإنّها مبقاة عليه وموكولة إليه ، فمن هذا الطريق يوصل إلى العلم بجميع الأحكام الشرعية في جميع مسائل أهل الفقه ، فيجب الاعتماد عليها ، والتمسك بها ، فمن تنكب عنها عسف ، وخبط خبط عشواء ، وفارق قوله من المذهب ، واللّه تعالى يمدّكم وإيّانا بالتوفيق والتسديد ، ويحسن معونتنا على طلب الحقّ وإثارته ، ورفض الباطل وإبادته ، فقد قال السيد المرتضى رضي اللّه عنه وذكر في جواب المسائل الموصليات الثانية الفقهية ، وقدّم مقدّمة وأشار وأومأ إليها أن تكون هي الأدلّة على جميع جوابات مسائلهم ، اكتفي بها عن الدلالة في تضاعيف الجوابات ، فقال : اعلم انّه لا بدّ في الأحكام الشرعية من طريق يوصل إلى العلم بها لأنّا متى لم نعلم الحكم ونقطع بالعلم على أنّه مصلحة ، جوّزنا كونه مفسدة ، فيقبح الإقدام منّا عليه ، لأنّ الإقدام على ما لا نأمن كونه فسادا وقبيحا كالإقدام على ما نقطع على كونه فسادا ، ولهذه الجملة أبطلنا أن يكون القياس في الشريعة الذي يذهب مخالفونا

ص: 46

إليه طريقا إلى الأحكام الشرعية ، من حيث كان القياس يوجب الظن ، ولا يفضي إلى العلم. ألا ترى إنّا نظنّ بحمل الفرع في التحريم على أصل محرّم بشبه يجمع بينهما انّه محرّم مثل أصله ، ولا يعلم من حيث ظننا انّه يشبه المحرّم انّه محرّم ، ولذلك أبطلنا العمل في الشريعة بأخبار الآحاد ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وأوجبنا أن يكون العمل تابعا للعلم ، لأنّ خبر الواحد إذا كان عدلا فغاية ما يقتضيه الظن لصدقه ، ومن ظننت صدقه يجوز أن يكون كاذبا ، وإن ظننت به الصّدق ، فإنّ الظنّ لا يمنع من التجويز ، فعاد الأمر في العمل بأخبار الآحاد إلى أنّه إقدام على ما لا نأمن كونه فسادا وغير صلاح. قال : وقد تجاوز قوم من شيوخنا رحمهم اللّه في إبطال القياس في الشريعة ، والعمل فيها بأخبار الآحاد إلى أن قالوا : إنّه مستحيل من طريق العقول العبادة بالقياس في الأحكام ، وأحالوا أيضا من طريق العقول العبادة بالعمل بأخبار الآحاد ، وعوّلوا على أن العمل يجب أن يكون تابعا للعلم ، وإذا كان غير متيقن في القياس ، وأخبار الآحاد لم تجز العبادة بهما ، قال : والمذهب الصحيح هو غير هذا ، لأنّ العقل لا يمنع من العبادة بالقياس والعمل بخبر الواحد ، ولو تعبّد اللّه تعالى بذلك لشاع ولدخل في باب الصحة ، لأنّ عبادته تعالى بذلك توجب العلم الذي لا بدّ أن يكون العمل تابعا له ، فإنّه لا فرق بين أن يقول عليه السلام : قد حرمت عليكم كذا وكذا فاجتنبوه ، وبين أن يقول : إذا أخبركم عني مخبر ، له صفة العدالة ، بتحريمه فحرّموه ، في صحة الطريق إلى العلم بتحريمه ، وكذلك إذا قال : لو غلب في ظنّكم شبه بعض الفروع ببعض الأصول في صفة ، يقتضي التحريم فحرّموه ، فقد حرّمته عليكم لكان هذا أيضا طريقا إلى العلم بتحريمه ، وارتفاع الشك والتجويز ، وليس متناول العلم هنا هو متناول الظن على ما يعتقده قوم لا يتأمّلون ، لأنّ متناول الظن هاهنا هو صدق الراوي إذا كان واحدا ، ومتناول العلم هو تحريم الفعل المخصوص الذي تضمّنه الخبر ، وما علمناه

ص: 47

غير ما ظنناه ، وكذلك في القياس متناول الظن شبّه الفرع بالأصل في علة التحريم ، ومتناول العلم كون الفرع محرما ، وانّما منعنا من القياس بالشريعة وأخبار الآحاد مع تجويز العبادة بهما من طريق العقول ، لأنّ اللّه تعالى ما تعبّد بهما ولا نصب دليلا عليهما ، فمن هذا الوجه أطرحنا العمل بهما ، ونفينا كونهما طريقين إلى التحريم والتحليل.

قال المرتضى قدّس اللّه روحه : وإنّما أردنا بهذه الإشارة انّ أصحابنا كلّهم ، سلفهم وخلفهم ، ومتقدّمهم ومتأخّرهم ، يمنعون من العمل بأخبار الآحاد ، ومن العمل بالقياس في الشريعة ، ويعيبون أشدّ عيب على الذاهب إليهما ، والمتعلّق في الشريعة بهما ، حتى صار هذا المذهب لظهوره وانتشاره معلوما ، ضرورة منهم وغير مشكوك فيه من أقوالهم.

قال المرتضى رضي اللّه عنه : وقد استقصينا الكلام في القياس ، وفرّعناه ، وبسطناه ، وانتهينا فيه إلى أبعد الغايات في جواب مسائل ، وردت من أهل الموصل متقدّمة ، أظنّها في سنة نيف وثمانين وثلاثمائة ، فمن وقف عليها استفاد منها جميع ما يحتاج إليه في هذا الباب. قال : وإذا صحّ ما ذكرناه ، فلا بدّ لنا فيما ثبتناه من الأحكام فيما نذهب إليه من ضروب العبادات ، من طريق يوجب العلم ، ويقتضي اليقين قال : فطريق العلم في الشرعيات هي الأقوال التي قد قطع الدليل على صحّتها ، وأمن العقل من وقوعها على شي ء من جهات القبح كلّها ، كقول اللّه عزوجل ، وكقول الرسول عليه السلام ، والأئمة الذين يجرون في العصمة مجراه عليهم السلام ، ولا بدّ لنا من طريق إلى إضافة الخطاب إلى اللّه تعالى إذا كان خطابا له ، وكذلك في إضافته إلى الرسول وإلى الأئمة عليهم السلام. قال : وقد سلك قوم في إضافة خطابه إليه تعالى طرقا غير مرضية ، وأصحّها وأبعدها من الشبه ، أن يشهد الرّسول صلى اللّه عليه وآله المؤيّد بالمعجزات في بعض الكلام أنّه كلام اللّه تعالى ، فيعلم بشهادته أنّه كلامه ،

ص: 48

كما فعل نبينا صلى اللّه عليه وآله في القرآن فعلمنا بإضافته له إلى ربّه أنّه كلامه ، فصار جميع القرآن دالا على الأحكام ، وطريقا الى العلم.

فأمّا الطريق إلى معرفة كون الخطاب ، مضافا إلى الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم والأئمة عليهم السلام فهو المشافهة والمشاهدة لمن حاضرهم وعاصرهم ، فأمّا من نأى عنهم ، أو وجد بعدهم ، فمن الخبر المتواتر المفضي إلى العلم المزيل للشك والريب ، وهاهنا طريق آخر يتوصل به إلى العلم بالحقّ ، والصحيح في الأحكام الشرعية ، عند فقد ظهور الإمام ، وتمييز شخصه ، وهو إجماع الفرقة المحقّة ، وهي الإمامية التي قد علمنا أنّ قول الإمام - وإن كان غير متميز الشخص - داخل في أقوالها ، وغير خارج عنها ، فإذا أطبقوا على مذهب من المذاهب علمنا أنّه هو الحقّ الواضح ، والحجة القاطعة ، لأنّ قول الإمام هو الحجة في جملة أقوالها ، فكأنّ الإمام قائله ومتفرّد به.

ثم قال السيّد المرتضى بعد شرح وإيراد طويل حذفناه : فإن قيل : فما تقولون في مسألة شرعية اختلف فيها قول الإماميّة ، ولم يكن عليها دليل من كتاب أو سنّة مقطوع بها ، كيف الطريق إلى الحق فيها؟ قال : قلنا هذا الذي فرضتموه قد أمنّا وقوعه ، لأنّا قد علمنا انّ اللّه تعالى لا يخلّي المكلّف من حجّة وطريق للعلم بما كلّفه ، وهذه الحادثة التي ذكرتموها إذا كان لله تعالى فيها حكم شرعي ، واختلفت الإمامية في وقتنا هذا ، فلم يمكن الاعتماد على إجماعهم الذي يتفق بأنّ الحجّة فيه لأجل وجود الإمام في جملتهم ، فلا بدّ من أن يكون على هذه المسألة دليل قاطع ، من كتاب أو سنّة مقطوع بها ، حتى لا يفوت المكلّف طريق للعلم يصل به إلى تكليفه. اللّهمّ إلا أن يفرض وجود حادثة ليس للإمامية فيها قول على سبيل اتّفاق واختلاف ، وقد يجوز عندنا في مثل ذلك إن اتفق أن يكون لله تعالى فيها حكم شرعي ، فإذا لم نجد في الأدلّة الموجبة للعلم طريقا إلى علم حكم هذه الحادثة ، كنّا فيها على ما يوجب العقل وحكمه.

ص: 49

قال السيّد : فإن قيل أليس شيوخ هذه الطائفة قد عوّلوا في كتبهم في الأحكام الشرعية على الأخبار التي رووها عن ثقاتهم ، وجعلوها العمدة والحجّة في هذه الأحكام حتى رووا عن أئمتهم عليهم السلام فيما يجي ء مختلفا من الأخبار عند عدم الترجيح كلّه ، أن يؤخذ منه ما هو أبعد من قول العامّة ، وهذا ينقض ما قدّمتموه.

قلنا : ليس ينبغي أن يرجع عن الأمور المعلومة ، والمذاهب المشهورة ، المقطوع عليها ، بما هو مشتبه ملتبس محتمل ، وقد علم كلّ موافق ومخالف : أنّ الشيعة الإمامية تبطل القياس في الشريعة من حيث إنّه لا يؤدّي الى علم ، وكذلك تقول : في أخبار الآحاد حتى أنّ منهم من يزيد على ذلك ، فيقول : ما كان يجوز من طريق العقل أن يتعبّد اللّه تعالى في الشريعة بقياس ، ولا عمل بأخبار الآحاد ، ومن كان هذا مذهبه ، كيف يجوز أن يثبت الأحكام الشرعية بأخبار لا يقطع على صحتها ، ويجوز كذب رواتها كما يجوز صدقهم؟ وهل هذا إلا من أقبح المناقضة وأفحشها ، والعلماء الذين عليهم المعوّل ، ويدرون ما يأتون ويذرون ما يجوزون لم يحتجّوا بخبر واحد لا يوجب علما ، ولا يقدر أحد أن يحكي عنهم في كتاب ولا غيره خلاف ما ذكرناه ، فأمّا أصحاب الحديث من أصحابنا ، فإنّهم رووا ما سمعوا وبما حدّثوا به ، ونقلوا عن أسلافهم ، وليس عليهم أن يكون حجة ودليلا في الأحكام الشرعية ، أو لا يكون كذلك ، فإن كان في أصحاب الحديث من يحتجّ في حكم شرعي بحديث غير مقطوع على صحته ، فقد زلّ ووهل ، وما يفعل ذلك من يعرف أصول أصحابنا في نفي القياس والعمل بأخبار الآحاد حقّ معرفتها ، بل لا يقع مثل ذلك إلا من غافل ، وربّما كان غير مكلّف.

ألا ترى إنّ هؤلاء بأعيانهم قد يحتجّون في أصول الدين من التوحيد والعدل والنبوة والإمامة بأخبار الآحاد ، ومعلوم عند كلّ عاقل : أنّها ليست بحجّة في

ص: 50

ذلك ، وربّما ذهب بعضهم إلى الجبر وإلى التشبيه ، اغترارا بأخبار الآحاد المروية ، ومن أشرنا إليه بهذه الغفلة يحتجّ بالخبر الذي ما رواه ، ولا حدّث به ، ولا سمعه من ناقله فعرفه بعد بعدالة أو غيرها ، حتى لو قيل له في بعض الأحكام : من أين أتيته وذهبت إليه؟ جوابه : لأني وجدته في كتاب الفلاني ، ومنسوبا إلى رواية فلان بن فلان ، ومعلوم عند كلّ من نفى العلم بأخبار الآحاد أو من أثبتها وعمل بها ، أنّ هذا ليس بشي ء يعتمد ، ولا طريق يقصد ، وانّما هو غرور وزور.

قال : فأمّا الرواية بأن يعمل بالحديثين المتعارضين بأبعدهما من مذهب العامة ، فهو لعمري قد روي ، وإذا كنّا لا نعمل بأخبار الآحاد في الفروع ، كيف نعمل بها في الأصول التي لا خلاف في أنّ طريقها العلم والقطع؟

قال السيّد المرتضى رحمه اللّه : وإذا قد قدّمنا ما احتجنا إلى تقديمه ، فهو الذي يعتمد عليه في جميع المسائل الشرعية. هذا آخر كلام المرتضى رضي اللّه عنه حرفا فحرفا.

قال محمّد بن إدريس : فعلى الأدلّة المتقدّمة أعمل ، وبها آخذ وأفتي وأدين اللّه تعالى ، ولا ألتفت إلى سواد مسطور ، وقول بعيد عن الحقّ مهجور ، ولا اقلّد إلا الدليل الواضح ، والبرهان اللائح ، ولا أعرّج الى أخبار الآحاد ، فهل هدم الإسلام إلا هي ، وهذه المقدّمة أيضا من جملة بواعثي على وضع كتابي هذا ، ليكون قائما بنفسه ، ومقدّما في جنسه ، وليغني الناظر فيه ، إذا كان له أدنى طبع عن أن يقرأه على من فوقه ، وإن كان لأفواه الرّجال معنى لا يوصل إليه من أكثر الكتب في أكثر الأحوال ، وعزمت على أنّه : إن مرّ في أثناء الأبواب مسألة فيها خلاف بين أصحابنا المصنّفين رحمهم اللّه أومأت إلى ذلك ، وذكرت ما عندي فيه ، وما أعتمد عليه ، وقادني الدليل إليه ، وإن كان في بعض كتب أصحابنا كلام متضادّ العبارة ، متفق المعنى ، أو مسألة صعبة القياد جموح لا تنقاد ، أو كلمة لغوية أعربت عنها بالتعجيم ، وأزلت اللبس فيها والتصحيف ، وإن كان

ص: 51

لبعض الأصحاب فتوى في كتاب له ، أو قول قد رجع عنه في كتاب له آخر ، ذكرته ، فإن كان قد أورده على جهة الرواية لا بمجرد العمل ذكرته ، فكثيرا ما يوجد لأصحابنا في كتبهم ذلك ، حتى أنّ قليل التأمل ، ومن لا بصيرة له بهذا الشأن يحتج به ، ويجعله اعتقادا له ومذهبا يدين اللّه تعالى به ، أو قد ذكر ذلك وأودعه كتابه على جهة الحجاج على خصمه ، لأنّه عند خصمه حجّة وإن لم يكن عنده كذلك ، فقد قال الشيخ السعيد الصدوق أبو جعفر الطوسي ( رضي اللّه عنه ، وتغمده اللّه تعالى برحمته ) ذكر ذلك في عدّته جوابا لسؤال يسأل نفسه ، فقال : ليس كلّ الثقات نقل حديث الجبر والتشبيه ، ولو صحّ انّه نقله ، لم يدلّ على انّه كان معتقدا لما تضمّنه الخبر ، ولا يمتنع أن يكون انّما رواه ليعلم انّه لم يشذّ عنه شي ء من الرّوايات ، لا لأنّه يعتقد ذلك وقال رضي اللّه عنه في هذا الكتاب المشار إليه : وقد ذكرت ما ورد عنهم عليهم السلام من الأحاديث المختلفة التي يختص الفقه في كتابي المعروف بالاستبصار ، وفي كتابي تهذيب الأحكام ، ما يزيد على خمسة آلاف حديث ، وذكرت في أكثرها اختلاف الطائفة في العمل بها ، وذلك أشهر من أن يخفى ، حتى أنّك لو تأمّلت اختلافهم في هذه الأحكام ، وجدته يزيد على اختلاف أبي حنيفة والشافعي ومالك هذا آخر كلام الشيخ أبي جعفر رحمه اللّه.

وذكر الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان رضي اللّه عنه في جواب سائل سأله فقال : كم قدر ما تقعد النفساء عن الصّلاة؟ وكم مبلغ أيام ذلك؟ فقد رأيت في كتابك كتاب أحكام النساء أحد عشر يوما ، وفي الرّسالة المقنعة ثمانية عشر يوما ، وفي كتاب الإعلام أحد وعشرين يوما ، فعلى أيّها العمل دون صاحبته؟ فأجابه بأن قال : الواجب على النفساء أن تقعد عشرة أيام ، وانّما ذكرت في كتبي ما روي من قعودها ثمانية عشر يوما ، وما روي في النوادر استظهارا بأحد وعشرين يوما ، وعملي في ذلك على عشرة أيام ، لقول الصادق

ص: 52

عليه السلام : لا يكون دم نفاس زمانه أكثر من زمان الحيض. هذا آخر كلام الشيخ المفيد رحمه اللّه.

وقال الشيخ أبو جعفر رضي اللّه عنه في خطبة كتابه المبسوط : وكنت على قديم الوقت وحديثه متشوق النفس الى عمل كتاب يشتمل على ذلك ، تتوق نفسي إليه ، فيقطعني عن ذلك القواطع ، ويشغلني الشواغل ، ويضعف نيتي أيضا فيه قلّة رغبة هذه الطائفة فيه ، وترك عنايتهم به ، لأنّهم ألفوا الأخبار. وما رووه من صريح الألفاظ حتى أنّ مسألة لو غيّر لفظها ، وعبّر عن معناها بغير اللفظ المعتاد لهم ، تعجبوا منها وقصر فهمهم عنها ، وكنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية ، وذكرت جميع ما رواه أصحابنا في مصنّفاتهم وأصولها من المسائل ، وفرّقوه في كتبهم ، ورتبته ترتيب الفقه ، وجمعت بين النظائر ، ورتّبت فيه الكتب على ما رتب للعلة التي بينتها هناك ، ولم أتعرّض للتفريع على المسائل ، ولا لتعقيد الأبواب وترتيب المسائل وتعليقها ، والجمع بين نظائرها ، بل أوردت جميع ذلك أو أكثره بالألفاظ المنقولة ، حتى لا يستوحشوا من ذلك ، ثمّ قال مادحا لكتابة : إذا سهّل اللّه تعالى إتمامه ، يكون كتابا لا نظير له في كتب أصحابنا ، ولا في كتب المخالفين ثمّ قال : أمّا أصحابنا فليس لهم في هذا المعنى شي ء يشار إليه ، بل لهم مختصرات ، وأوفى ما عمل في هذا المعنى كتابنا النهاية ، وهو على ما قلت فيه.

فانظر أبقاك اللّه إلى كلام الشيخ رحمه اللّه وما قال في نهايته ، واعتذاره عمّا أودعه فيها ، وقوله : قصر فهمهم عنها يعني : أصحابه فكيف يحال على الرّجل وينسب إلى أنّ جميع ما أورده حقّ وصواب لا يحل ردّه ، ولا خلافه ، ولا اعتبار بالعوام العثّر الذين لا نظام لهم ، ولا تحصيل عندهم ، فإن فساد كلّ صناعة من فهم الأدعياء ، وقلّة الصرحاء ، فطلاب الفقه كثير ، ومحصّلوه قليل ، وخصوصا اليوم.

وقال الخليل بن أحمد رحمه اللّه : وقد كنّا نعدّهم قليلا وقد صاروا أقل من القليل. وروى أنّ الدوري المحدّث قال : أردت الخروج إلى البصرة ، فصرت

ص: 53

إلى أحمد بن حنبل ، فسألته الكتاب إلى مشايخها ، فكلّما فرغ من كتاب قرأته ، فإذا فيه وهذا فتى ممن يطلب الحديث ، ولم يكتب من أصحاب الحديث ، وأهل عصرنا رضوا بالاسم دون المسمّى ، وعزيمتي التلخيص والاختصار ، والاقتصار فيما أورده على مجرد الفقه والفتوى ، دون التطويل بذكر الأدعية والتسبيح ، من الآداب الخارجة عن قانون الفقه وعموده ، فالحاجة إلى ما ذكرنا أمسّ ، ولأنّ في ما يوجد من ذلك في كتب العبادات كفاية وزيادة عليها ، إلا أن يعرض مهمّ ، يحتاج فيه إلى كشف وإيضاح ، وتطويل وإفصاح وإيراد أدلّة وأمثلة ، فإني إذا شبّهت شيئا بشي ء ، فعلى جهة المثال والتنبيه ، لا على وجه حمل أحدهما على الآخر ، فإنّ ذلك على أصولنا باطل ، وقد رسمته بكتاب السرائر ، الحاوي لتحرير الفتاوى ، واللّه المستعان وعليه التكلان.

ص: 54

كتاب الطهارة

اشارة

ص: 55

كتاب الطّهارة

باب في أحكام الطّهارة وجهة وجوبها وكيفية أقسامها وحقيقتها

الطهارة في اللغة هي النظافة ، فأمّا في عرف الشرع فهي عبارة عن إيقاع أفعال في البدن مخصوصة على وجه مخصوص.

وبعضهم يحدّها بأنّها في الشريعة اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة.

وهذا ينتقض بإزالة النجاسة عن ثوب المصلي وبدنه ، لأنّه لا يجوز له أن يستبيح الصلاة إلا بعد إزالة النجاسة التي لم يعف عنها الشرع ، وإزالة النجاسة ليست بطهارة في عرف الشرع.

وأيضا قوله : اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة ، يلوح بهذا القيد ، أنّ كلّ طهارة لا يستباح بها الصلاة لا يسمى طهارة. وهذا ينتقض بوضوء الحائض لجلوسها في مصلاها ، وهي طهارة شرعية وان لم يجز لها إن تستبيح بها الصلاة.

وقد تحرّز بعض أصحابنا في كتاب له مختصر ، وقال : الطهارة في الشريعة اسم لما يستباح به الدخول في الصلاة ، ولم يكن ملبوسا أو ما يجري مجراه ، وهذا قريب من الصواب.

فإن قيل : فما معنى قولكم في حدّكم إيقاع أفعال في البدن مخصوصة؟

قلنا : « في البدن » احتراز من الثياب وإزالة النجاسات العينية من البدن على ما مضى القول فيه.

وقولنا : « مخصوصة » أردنا الأفعال الواقعة في البدن ، لا أبعاض البدن ، ومواضع منه مخصوصة ، لأنّ الغسل الأكبر يعمّ البدن ، فلو أردنا بمخصوصة بعض مواضع البدن ، أو مكانا منه مخصوصا ، لا ينتقض ذلك ، بل بمخصوصة راجعة إلى

ص: 56

الأفعال الحالّة الواقعة في البدن لا المحال.

وقولنا : « على وجه مخصوص » كونها على وجه القربة إلى اللّه سبحانه دون الرياء والسمعة ، وما بنا حاجة إلى ما يستباح بها الصلاة ، لما بيّناه على ما ذهب إليه بعض المصنفين.

وهي على ضربين : كبرى وصغرى. وقال بعض أصحابنا في كتاب له : وهي تنقسم إلى قسمين : وضوء وتيمم ، وهذا غير واضح ، ولا تقسيم مستقيم ، لأنّه يؤدي إلى إسقاط الغسل الأكبر من البين ، لأنّ الوضوء عندهم عبارة عن الطهارة الصغرى المائيّة دون الترابية التي هي التيمم ، وقد رجع هذا القائل عن هذا التقسيم في كتاب آخر له.

والكبرى عبارة عن الأغسال ، والصغرى عبارة عن الوضوء إذا فعلتا بالماء ، فالكبرى تعمّ جميع البدن غسلا ، والصغرى تعم ستة أعضاء : ثلاثة مغسولة وثلاثة ممسوحة ، وقول بعضهم : نعم أربعة أعضاء : عضوين مغسولين وعضوين ممسوحين ، تساهل وتسامح وتجاوز ، والحقيقة ما قلناه ، فإذا فعلتا بالتراب اختصت الكبرى والصغرى بثلاثة أعضاء فقط ، إلا انّ للكبرى ضربتين وللصغرى ضربة.

والوضوء على ضربين : واجب وندب ، فالواجب هو الذي يجب لأسباب الصلاة الواجبة ، أو الطواف الواجب ، لا وجه لوجوبه إلا بهذين الوجهين ، والندب فإنّه مستحب في مواضع كثيرة لا تحصى.

وأمّا الغسل فعلى ضربين أيضا ، واجب وندب ، فالواجب يجب للأمرين اللذين ذكرناهما ، ولاستيطان المساجد ، وللجواز في المسجدين ، ومس كتابة المصحف ، وغير ذلك ممّا الطهارة الكبرى شرط في فعله ، هذه الجملة ذكرها بعض أصحابنا ، فإنّه قال : لدخول المساجد ، وتحرزنا نحن بقولنا : ولاستيطان المساجد وللجواز في المسجدين ، وهو لم يتحرز ، لأنّ للجنب الدّخول إلى المساجد

ص: 57

مجتازا إلا المسجدين.

والذي عندي أنّ الغسل لا يجب ولا يكون نيته واجبة إلا للأمرين اللذين وجب الوضوء لهما فحسب ، لأنّه شرط في الصلاة وفعل من أفعالها ، وكذلك الطواف ، فإذا لم يكن الصلاة ولا الطواف على المكلّف واجبين ، فلا يجب الغسل ، ولنا في هذا مسألة قد بلغنا فيها إلى أبعد الغايات ، وأقصى النهايات ، فمن أرادها وقف عليها من حيث أرشدناه ، وربّما أوردناها في باب الجنابة إن شاء اللّه تعالى.

فأمّا ما يوجب الوضوء أو الغسل فسنبينه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

والطهارة بالماء هي الأصل ، وإنّما يعدل عنها إلى الطهارة بالتراب عند الضرورة ، وعدم الماء.

وتسمية التيمم بالطهارة صحيح ، لا خلاف فيه ، لأنّه حكم شرعي ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : جعلت لي الأرض مسجدا وترابها طهورا (1) وأخبارنا مملوة بتسمية ذلك طهارة.

وينبغي أولا أن نبدأ بما تكون به الطهارة من المياه وأحكامها ، ثم نذكر بعد ذلك كيفية فعلها وأقسامها ، ثم نعقّب ذلك بذكر ما ينقضها ويبطلها ، والفرق بين ما يوجب الوضوء والغسل ، ثم نعود بعد ذلك إلى أقسام التيمم على ما بيّناه.

باب المياه وأحكامها

كل ما استحق إطلاق هذه السمة التي هي قولنا ماء على اختلاف محاله ، وأسماء أماكنه وعذوبته في طعمه وملوحته ، فهو طاهر ، لا يمتنع من التطهير به

ص: 58


1- الوسائل : الباب 7 من أبواب التيمم ، ح 2.

وشربه ، إلا أن يعلم فيه نجاسة فيحظر استعماله أو يتغير عن حاله ، لما يقتضي إضافته وتقييد الاسم المطلق له ، فلا يجوز حينئذ التطهر به وإن كان في نفسه طاهرا ، وهو على ضربين : طاهر ، ونجس.

فالطاهر على ضربين : طهور وغير طهور.

ومعنى طهور : انّه مع طهارته يزيل الأحداث ويرفع حكمها بغير خلاف.

وهو على ثلاثة أضرب : مملوك ، ومباح ، ومغصوب.

فالقسمان الأوّلان : لا خلاف أنّهما يزيلان النجاسة الحكمية والعينية ، ومعنى الحكمية : ما يحتاج في رفعها إلى نية القربة. وقيل : ما لم يدركها الحس ، ومعنى العينية : ما لا يحتاج في رفعها وإزالتها إلى نية القربة. وقيل ما أدركها الحس.

وأمّا القسم الثالث : فلا خلاف بين أصحابنا انّه لا يرفع الحكمية ، لأنّ الحكمية تحتاج في رفعها إلى نية القربة ، ولا يتقرب إلى اللّه سبحانه بالمعاصي والمغصوب. فأمّا رفع العينية به ، فيجوز ويزول وإن كان الإنسان في استعماله معاقبا ، لأنّ نية القربة لا تراعى في إزالة النجاسة العينية.

والطاهر الذي ليس بطهور : ما خالطه جسم طاهر ، فسلبه إطلاق اسم الماء ، واقتضى إضافته عليه أو اعتصر من جسم ، أو استخرج منه ، أو كان مرقا سلبته المرقية إطلاق اسم المائية ، كماء الورد والآس والباقلاء وما أشبه ذلك ، فهذا الماء طاهر في نفسه ، غير مطهر لغيره ، فإن خالطه شي ء من النجاسات فقد نجس ، قليلا كان أو كثيرا بغير خلاف ، ولا اعتبار للكر هاهنا ، ولا يرفع به نجاسة حكمية ، بغير خلاف بين المحصّلين.

وفي إزالة النجاسة العينية به خلاف بين الأصحاب ، والصحيح من المذهب انها لا يزول حكمها به ، وإن كان السيد المرتضى وجماعة من أصحابنا يذهبون إلى أنّها يزول حكمها به.

ص: 59

فأمّا الرد عليهم بقوله تعالى : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (1) فليس بشي ء يعتمد ، لأنّه ليس في الآية أنّ غير الماء المنزل لا يطهّرنا ، فهذا عند محقّقي أصول الفقه أخفض رتبة من دليل الخطاب ، لأنّ الحكم تعلّق بذكر عين لا حكم صفة ، والنص عندهم إذا تناول عينا ، بحكم لم يدل على أنّ ما عداها من الأعيان مخالف لها في ذلك ، هذا على مذهب القائلين بدليل الخطاب وعلى مذهب المبطلين له ، وانّما اخترنا ما اخترناه لدليل غير هذا ، وهو أنّ النجاسة معلومة في الثوب والبدن بيقين ، فلا يزال إلا بيقين ، وإذا أزيلت بالماء المطلق ، يحصل اليقين ، وأيضا فالماء المضاف لاقى نجاسة ، فنجس بملاقاتها ، فصار هذا الفعل تكثيرا للنجاسة ، وليس كذلك إزالتها بالماء المطلق ، لأنّ لورود الماء على النجاسة حكما ، وليس كذلك ورود المضاف ، فإن أضيف إلى الماء المطلق المطهر جسم طاهر تغيّر به أحد أوصافه ، فهو باق على حكم التطهير به ، ما لم يسلبه إطلاق اسم الماء عنه ، لأنّ التغير غير السلب ، لأنّ السلب هو غلبة الأجزاء المخالطة للماء حتى تسلبه إطلاق اسم الماء عنه وتخرجه عن معنى المياه.

والنجس هو الماء القليل الذي خالطه شي ء من النجاسة ، غيّره أو لم يغيّره أو الكثير ، أو الجاري الذي تخالطه النجاسة ، وتغيّر بعض صفاته من لون أو طعم أو ريح.

وحد الماء القليل ما نقص عن مقدار كر. وحد الكثير ما بلغ كرا فصاعدا.

وحد الكر ما وزنه الف ومائتا رطل ، بالرطل العراقي ، وهو البغدادي على الصحيح من المذهب ، لأنّ بعض أصحابنا يذهب إلى أنّه بالمدني ، من جملتهم المرتضى رضي اللّه عنه ، هذا إذا كان الاعتبار بالوزن. فأمّا إذا كان الاعتبار بمساحة المحل ، فبأن يكون محله ثلاثة أشبار ونصفا طولا في مثلها عرضا في مثلها عمقا ، على الصحيح من المذهب.

وذهب بعض أصحابنا وهم القميّون : إلى أنّه يكون محله ثلاثة أشبار في

ص: 60


1- الأنفال : 11.

عمق مثلها ، في عرض مثلها طولا ، دون اعتبار النصف ، والاعتبار بالأشبار المعتادة لا الأشبار القصار ولا الطوال.

والاعتبار بالكر انّما هو في الماء الواقف ، دون مياه الآبار النابعة ، فأمّا مياه الآبار : فهي تجري - وإن كثر ماؤها - مجرى ما نقص عن الكر ، من مياه المصانع والغدران ، والواقف في أيّ موضع كان في آن حلول النجاسة ووقوعها فيها ، من غير تغيّر لها ينجسها ، سواء بلغ ماؤها كرا أو نقص عنه ، بغير خلاف بين أصحابنا وسنبيّن كيفية تطهيرها إن شاء اللّه تعالى.

والماء المستعمل في تطهير الأعضاء والبدن الذي لا نجاسة عليه إذا جمع في إناء نظيف كان طاهرا مطهرا ، سواء كان مستعملا في الطهارة الكبرى أو الصغرى ، على الصحيح من المذهب ، لأنّ بعض أصحابنا يقول : إذا كان مستعملا في الطهارة الكبرى لا يرفع به حدث حكمي ، ويرفع به النجاسة العينية ويزيلها ، وهذا منه تحكم ، لأنّه إن كان مضافا فالماء المضاف عند هذا القائل لا يزيل به النجاسة الحكمية ولا العينية ، وإن كان مطهرا باقيا على ما كان عليه قبل الاستعمال ، فما باله يزيل النجاسة العينية ، ولا يرفع الحكمية؟ فإن تمسك بأنّ هذا ماء أزيل به نجاسة فلا يجوز استعماله ، فيقال له : فالماء المستعمل في الطهارة الصغرى قد أزيل به نجاسة ، فامتنع من التطهير به ، فإن قال : الماء المستعمل في الطهارة الصغرى أزيل به نجاسة حكمية لا عينية ، قلنا له : كذلك هذا الماء ، فإن قال : هذا ماء مضاف ، قلنا : حقيقة الإضافة ما أضيف من الأجسام الطاهرة إلى الماء فسلبته إطلاق اسم الماء على ما مضى بيانه ، وما يستخرج أيضا من أجرام الأجسام بعصر أو تصعيد ، وليس هذا حاصلا في هذا الماء المنازع فيه ، ثم إن امتنعت من استعماله لهذه العلّة ، وهي كونه مضافا ، فامتنع من استعمال الماء المستعمل في الطهارة الصغرى ، فمهما أجبت به ، فهو جوابي لك بعينه في هذا الماء.

ص: 61

وأيضا فالظاهر من الآيات والأخبار يقتضي طهارة هذا الماء ، ورفع الحدث به ، لأنه بعد استعماله في الطهارة الكبرى ، باق على ما كان عليه من تناول اسم الماء له بالإطلاق ، ومنزل من السماء.

وموت ما لا نفس له سائلة : كالذباب والجراد والزنابير والعقارب وما أشبه ذلك لا ينجس الماء ، سواء كان الماء قليلا أو كثيرا ، جاريا أو راكدا ، من مياه الآبار أو غيرها.

ولا بأس بالوضوء والغسل بسؤر الجنب والحائض على كراهية لسؤر الحائض إذا كانت متهمة ، وهي التي لا تتوقى من النجاسات ، فأمّا إذا كانت مأمونة وهي التي تتوقى من النجاسات ، فلا كراهية في ذلك.

وجملة الأمر وعقد الباب أن نقول : الماء على ضربين : جار وواقف ، فالجاري طاهر مطهر ، إلا أن يتغير بعض أوصافه ، لونه أو طعمه أو رائحته بجسم نجس ، فإنّه ينجس ويطهر بزوال الأوصاف عنه. والطريق إلى تطهيرها تقويتها بالمياه الجارية ، ودفعها حتى يزول عنها التغيّر.

والواقف على ضربين : مياه الآبار وغير مياه الآبار.

فغير مياه الآبار على ضربين : قليل ، وكثير.

فالكثير ما بلغ كرا فصاعدا على ما مضى بيانه. فحكم هذا الماء حكم الجاري ، لا ينجسه شي ء يقع فيه من النجاسات ، إلا ما تغيّر به أحد أوصافه ، فإن تغيّر أحد أوصافه بنجاسة تحصل فيه ، فلا يجوز استعماله إلا عند الضرورة للشرب لا غير.

والطريق إلى تطهيره أن يطرأ عليه من المياه الطاهرة المطلقة ما يرفع ذلك التغيّر عنه ، فحينئذ يجوز استعماله. وإن ارتفع التغيّر عنه من قبل نفسه ، أو بتراب يحصل فيه ، أو بالرياح التي تصفقها ، أو بجسم طاهر يحصل فيه ، أو بطروّ أقل من الكر من المياه المطهرة لم يحكم بطهارته ، لأنّه لا دليل على ذلك ، ونجاستها معلومة بيقين ، فلا يرجع عن اليقين إلا بيقين مثله.

ص: 62

فإن كان تغيّر هذه المياه لا بنجاسة بل من قبل نفسها ، أو بما يجاورها من الأجسام الطاهرة مثل الحمية والملح ، أو نبت فيها مثل الطحلب والقصب وغير ذلك ، أو لطول المقام ، لم يمنع ذلك من استعمالها بحال.

والقليل ما نقص عن الكر الذي قدّمنا مقداره ، وذلك ينجس بكل نجاسة تقع فيه ، قليلة كانت النجاسة أو كثيرة ، غيّرت أحد أوصافه أو لم تغيّر ، من غير استثناء لنجاسة يمكن التحرز منها أو لا يمكن ، لأنّ بعض أصحابنا ذكر في كتاب له : إلا ما لا يمكن التحرز منه ، مثل رءوس الإبر من الدم وغيره ، وهذا غير واضح ، لأنّه ماء قليل وقعت فيه نجاسة ، فيجب أن تنجسه ، ومن استثنى نجاسة دون نجاسة ، يحتاج إلى دليل ولن يجده.

والطريق إلى تطهير هذا الماء أن يزاد زيادة تبلغه الكر أو أكثر منه ، إذا كانت الزيادة ينطلق عليها اسم الماء على الصحيح من المذهب. وعند المحقّقين من نقّاد الأدلة والآثار ، وذوي التحصيل والاعتبار ، لأنّ بلوغ الماء عند أصحابنا هذا المبلغ ، مزيل لحكم النجاسة التي تكون فيه وهو مستهلك بكثرته لها ، فكأنّها بحكم الشرع غير موجودة ، إلا أن تؤثّر في صفات الماء ، فإذا كان الماء بكثرته وبلوغه إلى هذا الحد مستهلكا للنجاسة الحاصلة فيه ، فلا فرق بين وقوعها فيه بعد تكامل كونه كرا ، وبين حصولها في بعضه قبل التكامل ، لأنّ على الوجهين معا النجاسة في ماء كثير ، فيجب أن لا يكون لها تأثير فيه مع عدم تغيير الصّفات.

والظواهر على طهارة هذا الماء بعد البلوغ المحدد ، أكثر من أن تحصى أو تستقصى. فمن ذلك قول الرسول صلى اللّه عليه وآله المجمع عليه عند المخالف والمؤلف : إذا بلغ الماء كرا لم يحمل خبثا (1) ، فالألف واللام في الماء عند أكثر الفقهاء وأهل اللسان للجنس المستغرق ، فالمخصص للخطاب العام

ص: 63


1- مستدرك الوسائل : الباب 9 من أحكام المياه ، ح 6.

الوارد من الشارع يحتاج إلى دليل ، فلا خلاف بين المخالف والمؤالف من أصحابنا في تصنيفهم وتقسيمهم في كتبهم الماء ، فإنّهم يقولون : الماء على ضربين : طاهر ونجس ، وقد حصل الاتفاق من الفريقين على تسمية الماء النجس بالماء ، ووصفه بالنجس لا يخرجه عن إطلاق اسم الماء حتى يصير في حكم ماء الورد وماء الباقلاء ، لأنّه لو شربه من حلف أن لا يشرب ماء يحنث الحالف بغير خلاف ، فلو لم ينطلق عليه اسم الماء لم يحنث الحالف.

وأيضا قول الرسول صلى اللّه عليه وآله المتفق ، على رواية ظاهرة ، انّه قال : خلق الماء طهورا لا ينجسه شي ء إلا ما غيّر طعمه أو لونه أو رائحته (1) فمنع عليه السلام من نجاسته إذا لم يتغير ، إلا ما أخرجه الدليل ، وهذا بخلاف قول المخالف والمنازع في هذا الماء.

وأيضا قوله تعالى : ( وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ) (2). وهذا عام في الماء المنازع فيه وغيره ، لأنّه لا يخرج عن كونه منزّلا من السماء ، وليس لأحد أن يخصّ ذلك بتنزله من السماء في حال نزوله ، ألا ترى انّ ماء دجلة إذا استعمل ونقل من مكان إلى مكان ، لم يخرج من أن يكون ماء دجلة.

وأيضا قوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) (3). فالواجد للماء المختلف فيه ، واجد لما تناوله الاسم بغير خلاف.

وأيضا قوله تعالى : ( وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا ) (4). فأجاز تعالى الدخول في الصلاة بعد الاغتسال ، ومن اغتسل بالماء المنازع فيه تناوله اسم مغتسل بلا شك.

وأيضا قوله عليه السلام لأبي ذر رضي اللّه عنه : إذا وجدت الماء فأمسسه

ص: 64


1- مستدرك الوسائل : الباب 3 من أبواب المياه ، ح 10 ، إلا انّ فيه : خلق اللّه الماء إلخ.
2- الأنفال : 11
3- المائدة : 6
4- النساء : 43.

جلدك (1) ، ومن وجد هذا الكر واجد للماء.

وقوله عليه السلام : أمّا أنا فأحثو على رأسي ثلاث حثيات من ماء ، فإذا أنا قد طهرت. ولم يخص ماء من ماء ، وماء في الخبر منكر ، والنكرة مستغرقة لجنسها ، فالظواهر من القرآن والسنّة التي يتمسك بها على طهارة الكرّ المختلف فيه ، كثيرة على ما ترى جدا.

وأيضا حسن الاستفهام عند المحقّقين لأصول الفقه ، يدلّ على اشتراك الألفاظ بغير خلاف فيما بينهم ، ولا خلاف في أنّ من قال عندي ماء ، يحسن أن يستفهم عن قوله : أنجس أم طاهر؟ وليس كذلك إذا قال عندي ماء للطهارة في أنّه لا يحسن استفهامه ، لأنّ القرينة أخلصته من الاشتراك ، وهو قوله للطهارة. وعلى هذا آية التيمم في قوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ) المراد به الطاهر لأجل القرينة ، وهي ذكر الطهارة في سياق الآية.

فإن قيل : كيف يكون مثلا نصف كر منفردا نجسا ، والنصف الآخر أيضا نجسا ، فإذا خلطا وبلغا الكر مجتمعا يصير طاهرا؟ وهل هذا إلا عجيب!

قلنا : لا يمتنع أن يكون البعض نجسا إذا كان متفرقا ، وكذلك البعض. الآخر ، فإذا اجتمعا حدث معنى وهو البلوغ والاجتماع ، فتغيّر الحكم عما كان عليه أوّلا ، فيخرجه من النجاسة إلى الطهارة ، فيطهر حينئذ بالبلوغ ، ولهذا أمثلة كثيرة عقلا وسمعا ، فمن ذلك المشرك نجس العين عندنا ، ويخرجه الإيمان عن النجاسة إلى الطهارة.

فإن قيل : إنّ العين على ما كانت عليه؟

قلنا : غير مسلّم ، لأنّ اعتقاد الإسلام والإيمان يمنع من أن يطلق عليها انّها على ما كانت عليه ، إلا أن يراد بالعين نفس الجواهر فهو كذلك ، إلا انّه غير

ص: 65


1- مسند أحمد بن حنبل : ج 5 ، ص 146 وص 147.

مؤثّر ، ألا ترى أن عصير العنب قبل أن يشتد حلال طاهر ، فإذا حدثت الشدة حرمت العين ونجست ، والعين التي هي جواهر على ما كانت عليه ، وانّما حدث معنى لم يكن ، وكذلك إذا انقلب خلّا زالت الشدة عن العين وطهرت ، وهي على ما كانت عليه ، وكذلك الحي من الناس المسلمين ، يكون طاهرا في حال حياته ، فإذا مات صار نجسا ، والعين على ما كانت عليه ، ولم يحصل من التغير أكثر من عدم معنى هو الحياة ، وحلول معنى هو الموت ، وإذا جاز أن ينجس العين الطاهرة بعدم الحياة وحلول الموت ، جاز أن يطهر العين النجسة بعدم الكفر ووجود الإيمان على أن الجواهر متماثلة ، والعين النجسة من جنس العين الطاهرة ، وانّما تفارقها بما يحلّها من المعاني والأعراض والأحكام ، فإذا لا مانع شرعا وعقلا أن يثبت للماء النجس متفرقا قبل اجتماعه وبلوغه الكر حكم بعد اجتماعه وبلوغه الحد المحدود ، فالدليل كما يقال يعمل العجب ويزيل الريب.

وأيضا إجماع أصحابنا على هذه المسألة إلا من عرف اسمه ونسبه وقوله : وإذا تعيّن المخالف في المسألة لا يعتد بخلافه.

وأيضا فالشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه الذي يتمسك بخلافه ويقلد في هذه المسألة ، ويجعل دليلا يقوّي القول ، والفتيا بطهارة هذا الماء في كثير من أقواله ، وأنا أبيّن إن شاء اللّه أنّ أبا جعفر رحمه اللّه يفوح من فيه رائحة تسليم المسألة بالكلية ، إذا تؤمّل كلامه وتصنيفه حق التأمل وأبصر بالعين الصحيحة واحضر له الفكر الصافي ، فإنه فيه نظر ولبس ولتفهم عنى ما أقول.

اعلم رعاك اللّه انّ المقرر المعلوم من مذهب هذا الشيخ الفقيه وقوله وفتياه وتصنيفه الشائع عنه وخلافه فيه وقوله الذي لم يرجع عنه في كتبه ، يكاد يعلم من أصحابنا ، ضرورة أن الماء المستعمل في الطهارة الكبرى ، مثل غسل الجنابة والحيض والاستحاضة والنفاس ، إذا كان البدن خاليا من نجاسة عينية ، بأنّ عنده هذا الماء لا يرفع الحدث ، ولا يجوز استعماله في رفع الأحداث ، وإن كان

ص: 66

طاهرا ، الا أنّه عدّه غير مطهر ، وهذا معلوم من مذهبه وقوله على ما بيناه ، وحجّته انّ هذا ماء مستعمل في إزالة نجاسة حكمية.

ثم قال في مبسوطة ما هذا حكايته : الماء المستعمل على ضربين : أحدهما ما استعمل في الوضوء وفي الأغسال المسنونة ، فما هذا حكمه يجوز استعماله في رفع الأحداث ، والآخر ما استعمل في غسل الجنابة والحيض ، فلا يجوز استعماله في رفع الأحداث وإن كان طاهرا ، فإن بلغ ذلك كرا زال حكم المنع من رفع الحدث به لأنّه قد بلغ حدا لا يحتمل النجاسة وإن كان أقل من كر كان طاهرا غير مطهر ، هذه ألفاظ الشيخ أبي جعفر رحمه اللّه بعينها لا زيادة فيها ولا نقصان (1).

ألا ترى انّ هذا الماء المستعمل في الطهارة الكبرى عنده غير رافع للأحداث ، ثم قال : فإن بلغ ذلك كرا زال حكم المنع من رفع الحدث به ، قال : لأنّه قد بلغ حدّا لا يحتمل النجاسة ، فاتى باللام المعيّنة التي معناها لأجل أنّه ، فكان عنده قبل بلوغه الكر غير رافع ، فلما بلغ الكر صار رافعا للحدث ، وزال بالبلوغ عنه المنع من رفع الحدث ، فانظر أيّها المعتبر وتأمّل ، هل صيّره مطهرا رافعا للحدث شي ء سوى البلوغ المحدود بالكرية ، فيلزمه على قود الاستدلال والتعليل والالتزام منه أن يحكم في الماء النجس القليل غير متغيّر الأوصاف بنجاسة انّه غير رافع للنجاسة الحكمية والعينية ، وكذا يقول : ونقول فإذا بلغ الكر زال حكم المنع من رفع الأحداث وإزالة النجاسات به ، وإلا فما الفرق والفاصل بينهما مع البلوغ كرا؟

فإن خطر في الخاطر ولاح خيال وسراب ونهض مقعد فقال : الفرق بينهما واضح ، وهو أنّ الماء المستعمل في الطهارة الكبرى الذي لم يبلغ كرا طاهر ، لكنّه غير مطهر ، والماء النجس الذي هو أقل من الكر غير طاهر ولا مطهر ، فقد افترقا من هذا الوجه.

ص: 67


1- المبسوط : كتاب الطهارة في أقسام الماء المستعمل في الحدث.

قلنا : المزيل لهذا الخيال والسراب ، انّه لا فرق بينهما عنده ، في أنّ هذا الماء غير مطهر ، وهذا غير مطهر ، فقد اشتركا من هذا الوجه والحكم بكونه غير مطهر فإذا بلغ صار مطهرا وليس علّة المنع عنده كونه طاهرا فليس له في كونه طاهرا مزية عنده فقد تساويا في المنع ، والحكم المطلوب والمعنى المقصود من أنّه لا يرفع هذا حدثا ولا يزيل به نجسا ، وكذلك حكم الآخر عنده ، فهما متساويان في هذا الوجه غير مختلفين ، لكونهما غير مطهرين ، وإن كان أحدهما طاهرا فغير مفيد له هذا الوصف ، ولا مؤثر فيه حكما من رفع حدث به ، أو إزالة نجاسة بل هو والماء النجس في المنع من رفع الأحداث وإزالة النجاسات ، شيئان مشتركان متساويان ، فتسمية الماء المستعمل الناقص عن الكر غير مكتسب له حكم النجس ولا مؤثر في رفع الحدث به وإزالة النجاسة (1) ، بل المؤثر في رفع الحدث به إطلاق اسم الماء عليه ، وبلوغه الكر عند الشيخ ، وإلا فماء الورد بلا خلاف طاهر ولو بلغ الف كر لا يرفع حدثا ، لأنّه لا ينطلق عليه اسم الماء ، وهاتان الصفتان قائمتان في الماء النجس ، وهما انطلاق اسم الماء على الماء النجس على ما بيّناه وأوضحناه أوّلا ، وبلوغه الكر ، فيجب أن يحصل له من رفع الحدث ما حصل لذلك الماء المستعمل وهو من التأثير في رفع الحدث به وإزالة النجس إذا حصلتا له ، وهما حاصلتان للماء النجس بهذا التقرير ، فالمؤثر عند الشيخ في رفع الحدث به بلوغه كرا لا كونه طاهرا ، فقد صار كونه طاهرا ووجود هذا الوصف له وعدمه سواء ، فقد تساويا في كونهما غير مطهرين ، وهو المنع من رفع الحدث ، وإزالة النجاسة العينية بهما ، فلا فرق بينهما عنده من هذا الوجه ، بل هما متساويان في المنع من رفع الحدث بهما وفي كونهما غير مطهرين ، وإن اختلفا في وجه غير مقيد للماء الذي سمّي به ، ولا مكتسب له حكما مؤثرا في رفع

ص: 68


1- قوله رحمه اللّه ولا مؤثر في رفع الحدث به وإزالة النجاسة غير مكتوب في نسخة - ج - بل موجود في المكتوب والظاهر انّه هو الصحيح.

الأحداث به ، بل المكتسب له والمؤثر في رفع الأحداث بلوغه كرا فحسب ، لا كونه طاهرا ، فكان المانع له من رفع الحدث به نقصان مقداره عن الكر ، والرافع لهذا الحكم عنده زيادة مقداره وبلوغه الكر ، لا كونه طاهرا فيجب أن يكون المانع من رفع الحدث بالماء النجس نقصان مقداره عن الكر ، والرافع لهذا الحكم زيادة مقداره ، وهو بلوغه كرا ، لأنّه جعل الحكم الرافع للمنع في الماء المستعمل بلوغه الكر ، لا كونه طاهرا. وعلّل بقوله : لأنّه قد بلغ حدا لا يحتمل النجاسة ، والتعليل قائم في الماء النجس الناقص عن الكر ، فإذا بلغه يجب ان يزول عنه ذلك الحكم ، لأنّه قد بلغ حدّا لا يحتمل النجاسة ، لأنّه الحدّ المؤثر الذي بلغه الماء المستعمل ، وهو المزيل ، لما كان عليه من المنع المؤثر في رفع الحدث به لا كونه طاهرا ، فصار التعليل لازما للشيخ أبي جعفر رضي اللّه عنه كالطوق في حلق الحمام ، فهذا الشيخ المخالف في الفتيا في هذه المسألة في بعض أقواله محجوج بقوله هذا الذي أوضحناه على ما ترى ، فآل الأمر بحمد اللّه إلى اضمحلال الخلاف فيها.

ولنا في هذا مسألة منفردة نحو من عشر ورقات ، قد بلغنا فيها أقصى الغايات ، رجحنا القول فيها والأسئلة والأدلة والشواهد من الآيات والأخبار ، فمن أرادها وقف عليها من هناك.

وأمّا مياه الآبار ، فإنّها تنجس بما يقع فيها من سائر النجاسات ، قليلا كان الماء أو كثيرا ، غيّرت النجاسة الواقعة فيها أحد أوصاف الماء أو لم تغيّره ، بغير خلاف بين أصحابنا.

ثمّ النجاسة الواقعة فيها على ضربين : منصوص عليها ، أو غير منصوص عليها.

فالنجاسات المنصوص عليها تنقسم إلى ثلاثة أقسام : قسم يوجب نزح الجميع مع الإمكان وفقد التعذّر ، ونجاسة توجب نزح مقدار لا بالدلاء ، ونجاسة توجب نزح دلاء معدودة.

فالأوّل : اختلف أصحابنا ، منهم : من يذهب إلى نزح الجميع ، من ثمان

ص: 69

نجاسات ، ومنهم من قال : يوجب نزح الجميع من تسع نجاسات ، ومنهم من قال : يوجب نزح جميعها من عشر نجاسات والصحيح الأوّل ، لأنّه متفق عليه ، وما عداه داخل في قسم ما لم يرد به نص ، وسيأتي بيانه بعون اللّه سبحانه.

فالمتفق عليه الخمر ، من قليله وكثيره ، وكلّ مسكر ، والفقاع ، والمني ، من سائر الحيوانات ، مأكول اللحم ، وغير مأكول اللحم ، ودم الحيض ، والاستحاضة ، والنفاس ، والبعير إذا مات فيه ، سواء كان ذكرا أو أنثى ، لأنّ البعير اسم جنس ، فإذا أردت الذكر قلت جمل ، وإذا أردت الأنثى قلت ناقة ، كما أنّ الإنسان اسم جنس يدخل تحته الذكران والإناث ، فإذا أردت الذكر قلت الرجل ، وإذا أردت الأنثى قلت المرأة.

فإن تعذّر ذلك بأن يكون الماء كثيرا غزيرا ، لا يمكن نزح جميعه ، تراوح على نزحها أربعة رجال من أوّل النهار إلى آخره ، وأوّل النهار حين يحرم على الصائم الأكل والشرب ، وآخره حين يحلّ له الإفطار ، وقد يوجد في كتب بعض أصحابنا من الغدوة إلى العشية ، وليس في ذلك ما ينافي ما ذكرناه ، لأنّ أوّل الغدوة أوّل النهار ، لأنّ الغدوة والغداة عبارة عن أوّل النهار بغير خلاف بين أهل اللغة العربية.

وكيفية التراوح : أن يستقي اثنان بدلو واحد ، يتجاذبانه إلى أن يتعبا ، فإذا تعبا قام الاثنان إلى الاستقاء ، وقعد هذان يستريحان إلى أن يتعب القائمان ، فإذا تعبا قعدا وقاما هذان واستراح الآخران ، هكذا.

فأمّا ان تغير أحد أوصاف الماء بنجاسة ، فإن كانت النجاسة منصوصة على ما ينزح منها ، فإن كانت مما ينزح منها الجميع ، فيجب نزح الجميع ولا كلام ، فإن تعذّر النزح للغزارة ، فالتراوح يوما من أوّله إلى آخره ، على ما مضى شرحه وبيانه ، فإن زال التغير ، فذاك المقصود ، وقد طهر الماء ، وإن لم يزل التغير من نزح اليوم ، فيجب أن ينزح إلى أن يزول التغيّر ، ولا يتقدر ذلك بمدة ، بل بزوال التغيّر ، سواء كان في مدة قليلة أو كثيرة.

ص: 70

وإن كانت النجاسة المغيّرة مما يوجب نزح مقدار محدود ، فيجب نزح المقدار ، فإن زال التغير فقد طهرت ، وإن لم يزل ، فيجب أن ينزح إلى أن يزول التغيّر ، لقولهم عليهم السلام : ينزح منها حتى تطيّب (1) ، وقولهم : حتى يذهب الريح وقد طهرت (2) ولأنّ الحكم إذا تعلّق بسبب ، زال بزوال ذلك السبب ، وهذا مذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان رحمه اللّه في مقنعته (3) ، وفي رسالته إلى ولده (4).

وإن كانت النجاسة المغيّرة لأحد الأوصاف غير منصوص عليها بمقدار ، فالواجب نزح الجميع بغير خلاف ، لأنّه داخل في قسم ما لم يرد به نص ، فإذا تعذّر نزح الجميع لغزارة الماء وكثرته ، فالواجب أن يتراوح عليها أربعة رجال ، من أوّل النهار إلى آخره ، على ما مضى شرحنا له ، فإن زال التغيّر في بعض اليوم المذكور ، فالواجب تمام ذلك اليوم ، وإن لم يزل التغيّر بنزح اليوم ، فالواجب بعد تمام اليوم النزح منها إلى أن يزول التغيّر ، وإن كان ذلك في بعض يوم ، بعد استيفاء اليوم الأوّل.

فمن ألحق من أصحابنا قسما تاسعا قال : وكل نجاسة غيّرت أحد أوصاف الماء ، إن أراد بقوله : كلّ نجاسة غيّرت أحد أوصاف الماء ولم يزل التغيّر قبل نزح الجميع ، وكان نزح الجميع غير متعذّر ، والنجاسة المغيّرة لأحد أوصاف الماء منصوص عليها ، فإنّه مصيب في إلحاقه هذا القسم ، وإن أراد بالنجاسة المغيّرة : أي نجاسة كانت ، سواء كانت منصوصا عليها أو غير منصوص عليها ، فإنّه غير مصيب في تقسيمه ، لأنّ النجاسة المغيرة ، إذا كانت غير منصوص عليها ، فهي

ص: 71


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب الماء المطلق ، ح 3 ، والباب 17 من تلك الأبواب ح 11.
2- الوسائل : الباب 17 من أبواب الماء المطلق ، ح 4 و 7.
3- المقنعة : كتاب الطهارة ، باب تطهير المياه من النجاسات ص 66 ، ط مؤسّسة النشر الإسلامي
4- رسالة المفيد إلى ولده. ( لم نجده ).

داخلة في غير هذا القسم ، بل في القسم الثاني وهو النجاسة الواقعة في البئر التي لم يرد بها نص معيّن ، فليلحظ هذا ويتأمّل تأمّلا جيدا.

وان أردت تلخيص الكلام وتجميله في الأشياء التي تقع في البئر وتوجب نزح الماء جميعه ، فطريقته أن يقول : الواقع في البئر من النجاسات على ضربين :

أحدهما يغيّر أحد أوصاف الماء ، والثاني لا يغيره ، فإن غير أحد أوصافه فالمعتبر فيه الأخذ بأعم الأمرين ، من زوال التغيّر ، وبلوغ الغاية المشروعة في مقدار النزح منه ، فإن زال التغيّر قبل بلوغ المقدار المشروع في تلك النجاسة ، وجب تكميله ، وإن نزح ذلك المقدار ولم يزل التغيّر ، وجب النزح إلى أن يزول لأنّ طريقة الاحتياط تقتضي ذلك ، والإجماع عليه ، لأنّ العامل به عامل على يقين.

وما لا يغيّر أحد أوصاف الماء على ضربين :

أحدهما يوجب نزح جميع الماء ، أو تراوح أربعة رجال على نزحة من أوّل النهار إلى آخره ، إذا كان له مادة قوية يتعذّر معها نزح الجميع. والضرب الآخر يوجب نزح بعضه.

فما يوجب نزح الجميع ، أو المراوحة ، عشرة أشياء على هذه الطريقة : الخمر ، وكلّ شراب مسكر ، والفقاع ، والمني ، ودم الحيض ، ودم الاستحاضة ، ودم النفاس ، وموت البعير فيه ، وكلّ نجاسة غيّرت أحد أوصاف الماء ، ولم يزل التغيّر قبل نزح الجميع ، وكلّ نجاسة لم يرد في مقدار النزح منها نص ، فهذا التحرير على هذه الطريقة صحيح.

وما يوجب نزح البعض فعلى ضربين.

أحدهما يوجب نزح كر ، وهو موت خمس من الحيوان : الخيل ، والبغال ، والحمير ، أهلية كانت أو غير أهلية ، والبقر وحشية كانت أو غير وحشية ، أو ما ماثلها في مقدار الجسم.

والآخر ما يوجب نزح دلاء ، فأكثرها موت الإنسان المحكوم بطهارته قبل

ص: 72

موته وتنجيس الماء ، سواء كان صغيرا أو كبيرا سمينا أو مهزولا ينزح سبعون دلوا.

قال محمّد بن إدريس : وكأني بمن يسمع هذا الكلام ينفر منه ويستبعده ، ويقول : من قال هذا؟ ومن سطره في كتابه؟ ومن أشار من أهل هذا الفن الذين هم القدوة في هذا اليه؟

وليس يجب إنكار شي ء ، ولا إثباته إلا بحجة تعضده ، ودليل يعتمده ، وقد علمنا كلّنا بغير خلاف بين المحقّقين المحصلين من أصحابنا : أنّ اليهودي وكلّ كافر من أجناس الكفّار ، إذا باشر ماء البئر ببعض من أبعاضه نجس الماء ، ووجب نزح جميعها مع الإمكان ، أو التراوح يوما إلى الليل ، على ما مضى شرحنا له ، وعموم أقوالهم وفتاويهم على هذا الأصل.

وأيضا فقد ثبت بغير خلاف بيننا : أنّ الكافر إذا نزل إلى ماء البئر ، وباشره ، وصعد منه حيا ، أنّه يجب نزح مائها أجمع ، فأيّ عقل أو سمع أو نظر أو فقه يقضي أنّه إذا مات بعد نزوله إليها ، ومباشرته لمائها بجسمه وهو حي فقد وجب نزح جميعها ، فإذا مات بعد ذلك ينزح سبعون دلوا وقد طهرت! وهل هذا إلا تغفيل من قائله وقلّة تأمل أتراه عنده بموته انقلب جنسه ، وطهر؟ ولا خلاف أنّ الموت ينجس الطاهر ، ويزيد النجس نجاسة.

فإن قيل : فقد ورد أنّه ينزح إذا مات إنسان في البئر سبعون دلوا لموته (1) ، وهذا عام في المؤمن والكافر ولم يفصّل ، فيجب العمل بالعموم إلى أن يقوم دليل الخصوص. وقد أورد أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتاب النهاية ذلك (2) ، وقال : إذا مات إنسان في البئر ينزح منها سبعون دلوا وقد طهرت ولم يفصّل ، وكذلك ذكر الشيخ المفيد رحمه اللّه في مقنعته (3) ، وابن بابويه في رسالته (4).

قلنا : الجواب عن هذا الإيراد من وجوه :

ص: 73


1- الوسائل : الباب 21 من أبواب الماء المطلق ، ح 2
2- النهاية : باب المياه وأحكامها.
3- المقنعة : باب تطهير المياه من النجاسات ص 66
4- رسالة ابن بابويه.

أحدها : انّ ألفاظ الأجناس إذا كانت منكرات لا تفيد عند محقّقي أصول الفقه الاستغراق والعموم والشمول ، فأمّا إذا كانت معها الألف واللام ، كانت مستغرقة ، كما قال اللّه تعالى ( وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) وأيضا الرواية كما وردت بما ذكره السائل فقد وردت أيضا ، وأوردها من ذكر من المشايخ المصنفين في كتبهم أنّه إذا ارتمس الجنب في البئر ، نزح منها سبع دلاء وقد طهرت (1) ، أورد ذلك أبو جعفر الطوسي في نهايته (2) ، والشيخ المفيد في مقنعته (3) ، وابن بابويه في رسالته (4) ، ولم يفصّلوا. والرواية بذلك عامة ، فمن قال في الإنسان أنّه عام ولم يفصّل ، يلزمه أن يقول في الجنب أنّه عام ، ولا يفصّل أيضا ، فهما سيان ، والكلام على القولين واحد حذو النعل بالنعل ، ولا أحد من أصحابنا يقدم فيقول : ينزح سبع دلاء لارتماس الجنب ، أيّ جنب كان ، سواء كافرا أو مسلما محقّا ، وهذا كما تراه وزان المسألة بعينه.

فأمّا العموم فصحيح ما قاله السائل فيه ، إلا أنّ الحكيم إذا خاطبنا بجملتين : إحداهما عامة ، والأخرى خاصة في ذلك الحكم والقصة بعينها ، فالواجب علينا أن نحكم بالخاصّ على العام ، ولم يجز العمل على العموم ، وذلك انّ القضاء والحكم بالعموم يرفع الحكم الخاصّ بأسره ، والقضاء بالخصوص لا يرفع حكم اللفظ العام من كل وجوهه ، وما جمع العمل بالمشروع بأسره أولى مما رفع بعضه ، مثال ما ذكرناه من كتاب اللّه تعالى قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ. إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (5) ، وهذا عموم من ارتفاع اللوم عن وطي الأزواج على كلّ حال ،

ص: 74


1- الوسائل : الباب 22 من أبواب الماء المطلق ، ح 3 ، الا ان لفظ الحديث هكذا « إذا دخل الجنب البئر نزح منها سبعة دلاء ».
2- النهاية : باب المياه وأحكامها
3- المقنعة : باب تطهير المياه من النجاسات ص 67
4- رسالة ابن بابويه
5- المؤمنون : 5 و 6.

والخصوص قوله تعالى : ( وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ ) (1). فلو قضينا بالعموم في الآية الأولى لرفعنا حكم آية الحيض جملة ولو تركنا العمل بأحدهما لخالفنا الأمر في قوله تعالى : ( وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ ) (2) فلم يبق إلا القضاء بالخصوص على العموم حسب ما بيناه.

فلمّا قال الشارع : إذا وقع في البئر إنسان ومات فيها ، يجب نزح سبعين دلوا ، علمنا أنّ هذا عموم ، ولمّا أجمعنا على أنّه إذا باشرها كافر وجب نزح جميع مائها ، علمنا أنّه خصوص ، لأنّ الإنسان على ضربين : مسلم محقّ ، وكافر مبطل هذا إنسان ، وهذا إنسان بغير خلاف ، فانقسم الإنسان إلى قسمين ، والكافر لا ينقسم ، لا يقال : هذا كافر وليس هذا بكافر ، فإن أريد بالكافر الإنسان على القسمين معا كان مناقضة في الأدلّة ، والأدلّة لا تتناقض ، فلم يبق إلا أنّه أراد بالإنسان ما عدا الكافر الذي هو أحد قسمي الإنسان ، وما هذا إلا كاستدلالنا كلّنا على المعتزلة في تعلّقهم بعموم آيات الوعيد ، مثل قوله تعالى : ( وَإِنَّ الْفُجّارَ لَفِي جَحِيمٍ ) (3) ففجّار أهل الصلاة داخلون في عموم الآية ، فيجب أن يدخلوا النار ولا يخرجوا منها فجوابنا لهم : إنّ الفجار على ضربين : فاجر كافر ، وفاجر مسلم ، وقد علمنا بالأدلّة القاهرة من أدلّة العقول التي لا يدخلها الاحتمال انّ فاجر أهل الصلاة غير مخلد في النار ، وهو مستحق للثواب بإيمانه ، قال اللّه تعالى في آية أخرى ( جاهِدِ الْكُفّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) (4) فعلمنا أنّ الفجّار في الآية من عدا فجّار أهل الصلاة من فجار الكفّار ، لأنّه ليس كلّ فاجر كافرا وكلّ كافر فاجرا ، فأعطينا كلّ آية حقّها وكنّا عاملين بهما جميعا فالعموم قد يخص بالأدلّة لأنّه لا صيغة له عندنا.

ص: 75


1- البقرة : 222
2- الزمر : 55
3- الانفطار : 14
4- التوبة : 73.

ومثال آخر : إذا خاطبنا الحكيم بجملتين متماثلتين في العموم ، فإن كانت الجملة الأولى أعم ، والثانية أخص ، دلّ ذلك على أنّه أراد بالجملة الأولى ما عدا ما ذكر في الجملة الثانية ، وإن كانت الجملة الثانية أعم دلّ ذلك على أنّه أراد بالثانية ما عدا ما ذكره في الجملة الاولى ، ونظيره : اقتلوا المشركين ، ويقول بعده : لا تقتلوا اليهود والنصارى ، فانّ ذلك يفيد انّه أراد بلفظ المشركين ما عدا اليهود والنصارى ، وإلا كانت مناقضة أو بداء وذلك لا يجوز ، ونظير الثاني أن يقول أولا : لا تقتلوا اليهود والنصارى ، ثم يقول بعده : اقتلوا المشركين ، فانّ ذلك يدلّ على أنّه أراد بلفظ المشركين الثانية ، ما عدا ما ذكر في الجملة الاولى ، ولو لا ذلك لأدّى إلى ما قدّمناه وأبطلناه.

وليس لأحد أن يقول هلا حملتم الجملة الثانية على أنّها ناسخة للجملة الاولى؟

قلنا : من شأن النسخ أن يتأخّر عن حال الخطاب على ما علم في حدّ النسخ ، وانّما ذلك من أدلّة التخصيص التي يجب مقارنتها للخطاب ، فعلى هذا : ينبغي أن يحمل كلّ ما يرد من هذا الباب ، ويعرف الأصل فيه ، فإنّه يشرف المحكم له على حقيقة العمل بمقتضاه ، وليس يخفى أمثال هذه الفتيا إلا على غير محصل لشي ء من أصول الفقه جملة وتفصيلا بلغت به سواه الكتب يمينا وشمالا ، لا يقف على الشي ء وضدّه ويفتي به وهو لا يشعر ، نعوذ باللّه من سوء التوفيق ، وله الحمد على إدراك التحقيق.

وإن مات فيها كلب أو شاة أو أرنب أو ثعلب أو سنّور أو غزال أو خنزير أو ابن آوى أو ابن عرس أو ما أشبه ذلك في مقدار الجسم على التقريب نزح منها أربعون دلوا.

فأمّا ما روي في بعض الروايات أنّ الكلب إذا وقع في ماء البئر وخرج حيا ينزح منها سبع دلاء وقد طهرت (1) فليس بشي ء يعتمد ويعمل عليه والواجب

ص: 76


1- الوسائل : الباب 17 من أبواب الماء المطلق ، ح 1 ، إلا انّه ليس فيه جملة « وقد طهرت ».

العدول عن الرواية الضعيفة ، ونزح أربعين دلوا.

فإن قيل : إذا لم يعمل بالرواية ، فلم ينزح منها أربعون دلوا؟ ولم لا ينزح جميع مائها؟ لأنّه داخل في حكم ما لم يرد به نص معين.

قيل له : لا خلاف بين أهل النظر ، والتأمّل في أصول الفقه ، انّ الموت يزيد النجس نجاسة ، فإذا كان الكلب بموته في البئر ينزح منها أربعون دلوا ، فما يكون وقوعه فيها وهو حي يزيد على نجاسة موته ، وبعد فإنّه يلزمه ما ألزمناه في نزول الإنسان الكافر إلى البئر ، وتنجيسه لها ، ووجوب نزح جميع مائها ، لأنّه عنده لم يرد به نص ، فإذا مات بعد ذلك فيها ، وجب نزح سبعين دلوا ، أتراه انقلب جنسه وزال ذلك الحكم ، ولا خلاف انّ الموت ينجس الطاهر ، ويزيد النجس نجاسة ، وهذا قلة فقه. ثم أصول المذهب تدفعه ، لأنّ نجاسة البئر لا يرفعها إلا إخراج بعضه أو جميعه ، وهذا ما أخرج شيئا حتى يتغير حكمه.

وينزح منها لموت الطائر ، جميعه ، نعامة كان الطائر أو غيرها ، من كباره أو صغاره ، ما عدا العصفور ، وما في قدر حجمه ، وما شاكله تقريبا في الجسمية ، سبع دلاء.

وللعصفور وما أشبهه في المقدار ، دلو واحد ، وكذلك ينزح للخطاف والخفاش دلو واحد ، لأنّه طائر في قدر جسم العصفور.

وينزح للفأرة إذا تفسخت ، وحدّ تفسخها انتفاخها سبع دلاء ، فإن لم تنفسخ فثلاث دلاء.

وإذا وقع جماعة من الجنس الواحد الذي يجب نزح بعض ماء البئر بموته فيها ، مثل أن يموت فيها الف كلب ، فينزح منها ما ينزح لكلب واحد فحسب.

فأمّا إن مات فيها أجناس مختلفة ، مثال ذلك : كلب وخنزير وسنور وثعلب وأرنب ، فالواجب أن ينزح لكلّ جنس عدده ، لأنّ عموم الأخبار وظواهر النصوص تقتضيه ، فمن ادّعى تداخلها فعليه الدلالة ، ودليل الاحتياط يعضده أيضا ويشيده.

ص: 77

وبول بني آدم على ضربين : بول الرجال ، وبول النساء.

فبول الذكور على ثلاثة أضرب : بول ذكر بالغ ، وبول ذكر غير بالغ ، قد أكل الطعام ، واستغنى به عن اللبن والرضاع ، وبول رضيع لم يستغن بالطعام عن اللبن والرضاع ، فالأوّل : ينزح لبوله أربعون دلوا ، سواء كان مؤمنا أو كافرا أو مستضعفا والثاني : ينزح لبوله سبع دلاء ، وقد روي ثلاث دلاء ، وهو اختيار السيد المرتضى رضي اللّه عنه (1) وابن بابويه في رسالته (2). والأوّل أحوط وعليه العمل والإجماع. والثالث : ينزح لبوله دلو واحد ، وهو بول الرضيع ، وحدّه من كان له من العمر دون الحولين ، سواء أكل في الحولين الطعام ، أو لم يأكل ، لأنّه في الحولين رضيع ، فغاية الرضاع الشرعي مدة الحولين ، سواء فطم فيها أو لم يفطم ، فإذا جاوزها خرج من هذا الحد ، سواء فطم أو لم يفطم ، ودخل في القسم الثاني.

فإمّا بول النساء فقسم واحد ، سواء كن كبائر أو صغائر ، رضائع أو فطائم ، ينزح لبولهن أربعون دلوا ، وحملهن على تقسيم الذكور قياس ، والقياس متروك عند أهل البيت عليهم السلام.

فان قيل : فمن أين نزح لبولهن أربعون دلوا؟

قلنا : الأخبار المتواترة عن الأئمة الطاهرة : بأن ينزح لبول الإنسان أربعون دلوا ، وهذا عموم في جنس الناس ، إلا ما أخرجه الدليل ، وهنّ من جملة الناس ، والإنسان اسم جنس يقع على الذكر والأنثى بغير خلاف ، ويعضد ذلك قوله تعالى : ( إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ ) (3) ولم يرد تعالى الرجال الذكور دون النساء.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في التبيان في تفسير قوله تعالى : ( أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ ) . فقال : الرجل هو إنسان ، خارج عن حدّ الصبي من الذكر ، وكلّ رجل إنسان ، وليس كلّ إنسان رجلا ، لأنّ

ص: 78


1- لم نعرف موضع كلامه قدس سره
2- رسالة ابن بابويه. مخطوطة ، لم نجدها.
3- العصر : 1.

المرأة إنسان ، هذا آخر كلامه (1).

وينزح لعذرة بني آدم الرطبة واليابسة المذابة المتقطعة ، خمسون دلوا ، فإن كانت يابسة غير مذابة ولا متقطعة ، فعشر دلاء بغير خلاف.

وينزح لسائر الدماء النجسة من سائر الحيوان ، سواء كان الحيوان مأكول اللحم ، أو غير مأكول اللحم ، نجس العين ، أو غير نجس العين ما عدا دم الحيض أو الاستحاضة والنفاس ، إذا كان الدم كثيرا ، وحدّ أقل الكثير دم شاة ، خمسون دلوا ، وللقليل منه وحدّه ما نقص عن دم شاة ، فإنّه حدّ كثير القليل (2) عشر دلاء بغير خلاف ، إلا من شيخنا المفيد في مقنعته ، فإنّه يذهب إلى أنّ لكثير الدم عشر دلاء ، ولقليله خمس دلاء (3) ، والأحوط الأول ، وعليه العمل.

وحدّ القلة والكثرة قد رواه أصحابنا منصوصا عن الأئمة عليهم السلام ، هذا ما لم يغيّر أحد أوصاف الماء ، فإن تغير بذلك أحد أوصاف الماء فقد ذكرنا حكمه مستوفى ، فليعتبر ذلك فيه.

وينزح لارتماس الجنب الخالي بدنه من نجاسة عينية ، المحكوم بطهارته قبل جنابته ، سبع دلاء ، وحدّ ارتماسه أن يغطي ماء البئر رأسه ، فأمّا إن نزل فيها ولم يغط رأسه ماؤها ، فلا ينجس ماؤها على الصحيح من المذهب والأقوال ، وإن كان بعض أصحابنا في كتاب له يذهب إلى أنّ نزوله فيها ومباشرته لمائها مثل ارتماسه فيها وتغطية رأسه ماؤها ، والأول الأظهر ، لأنّ الأصل الطهارة ، ولو لا الإجماع على الارتماس لما كان عليه دليل ، والمرتمس لا يطهر بارتماسه ، ولا يزول حكم نجاسته.

وينزح لذرق الدجاج الجلال خمس دلاء ، فأمّا غير الدجاج الجلال فلا ينزح لذرقه

ص: 79


1- التبيان : ج 4 ، في تفسير الآية 62 من سورة الأعراف
2- وفي المطبوع فإنه حد القليل. والظاهر أن الجملة زائدة.
3- المقنعة في باب تطهير المياه من النجاسات ص 67.

شي ء ، لأنّه طاهر ، لأنّ ذرق مأكول اللحم طاهر بغير خلاف بين أصحابنا ، فأمّا الجلال : فإنّه غير مأكول اللحم ما دام جلالا ، وقد اتفقنا على نجاسة ذرق غير مأكول اللحم من سائر الطيور ، وقد رويت رواية شاذة لا يعوّل عليها ، انّ ذرق الطائر طاهر ، سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول والمعوّل عند محقّقي أصحابنا والمحصّلين منهم ، خلاف هذه الرواية ، لأنّه هو الذي يقتضيه أخبارهم المجمع عليها.

وحدّ الجلل : هو أن يكون غذاؤه أجمع عذرة الإنسان لا يخلطها بغيرها.

فأمّا المخلط من الدجاج ، فانّ ذرقه طاهر إلا أنّه مكروه ، فأمّا الذي لا يكون جلّالا ولا مخلطا فذرقه طاهر ليس بمكروه ، فقد عاد الدجاج على هذا التحرير على ثلاثة أضرب : منه ما هو نجس ينزح له إذا وقع في ماء البئر خمس دلاء ، وهو ذرق الجلّال. ومنه ما هو مكروه وليس بنجس. ومنه ما ليس بنجس ولا مكروه ، فليتأمّل ذلك.

وسمي جلّالا لأكله الجلة وهي البعر ، إلّا أن قد عاد العرف أنّه هو الذي يأكل عذرة بني آدم دون غيرها من الأبعار والأرواث النجاسات.

فأمّا ما يوجد في التصنيف لبعض أصحابنا من قوله : وروث وبول ما يؤكل لحمه ، إذا وقع في الماء لا ينجس ، إلا ذرق الدجاج خاصة ، فإذا وقع في البئر نزح منها خمس دلاء (1) فإطلاق موهم ، وعبارة فيها إرسال ، فإن أراد الجلّال فيكون استثناء غير حقيقي ، بل مجازيا ، والكلام في الحقيقة ، دون المجاز.

فإن اعتذر له معتذر ، وقال يكون استثناء حقيقيا ، لأنّه قبل كونه جلّالا يؤكل لحمه ، فقد استثنى المصنّف من حاله الاولى فيصير حقيقيا ، فإنه غير وجه في الاعتذار ، وإن أراد المصنّف سواء كان جلّالا أو غير جلّال ، مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم ، فقد قدّمنا انّ إجماع أصحابنا منعقد ، والأخبار به متواترة ، وانّ كلّ مأكول اللحم من سائر الحيوان ذرقه وروثه طاهر ، فلا يلتفت إلى خلاف ذلك ، إمّا من رواية شاذة ، أو قول مصنّف معروف ، أو فتوى غير محصّل

ص: 80


1- هو الشيخ الطوسي قدس سره في مبسوطة في باب مياه الآبار.

وربما أطلق القول وذهب في بعض كتبه (1) شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه إلى نجاسة ذرق الدجاج ، سواء كان جلّالا أو لم يكن ، لأنّ استثناءه من مأكول اللحم يفيد ذلك ، ويعلم منه ، إلا أنّه رجع في استبصاره (2) ومبسوطة ، فقال في مبسوطة في آخر كتاب الصيد والذبائح : فأمّا الهازبي وهو السمك الصغير الذي يقلى ، ( ولا يقلى ) ما في جوفه من الرجيع ، فعندنا يجوز أكله ، لأنّ رجيع ما يؤكل لحمه ليس بنجس عندنا (3).

وقال أيضا في مبسوطة في كتاب الأطعمة : ( الجلّالة البهيمة ) التي تأكل العذرة ، كالناقة والبقرة والشاة والدجاجة ، فإن كان هذا أكثر علفها ، كره أكل لحمها ، بلا خلاف بين الفقهاء ، وقال قوم من أصحاب الحديث : هو حرام ، والأول مذهبنا ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه (4) فالحظه بالعين الصحيحة.

فأمّا ما يوجد في بعض الكتب لبعض أصحابنا وهو قوله : ومتى وقع في البئر ماء خالطه شي ء من النجاسات كماء المطر والبالوعة وغير ذلك ، نزح منها أربعون دلوا للخبر (5) ، فإنّه قول غير واضح ولا محكك ، بل يعتبر النجاسة المخالطة للماء الواقع في ماء البئر ، فإن كانت منصوصا عليها ، اخرج المنصوص عليها ، وإن كانت النجاسة غير منصوص عليها فتدخل في قسم ما لم يرد به نص معيّن بالنزح ، فالصحيح من المذهب والأقوال الذي يعضده الإجماع والنظر والاعتبار والاحتياط للديانات عند الأئمة الأطهار ، نزح جميع ماء البئر ، فإن تعذّر ، فالتراوح على ما شرحنا له.

ص: 81


1- وهو الشيخ الطوسي رحمه اللّه في نهايته في باب مياه الآبار.
2- الاستبصار : الباب 23 من كتاب الطهارة.
3- المبسوط : كتاب الصيد والذبائح مع اختلاف في العبارة ، ج 6 ، ص 277.
4- المبسوط : كتاب الأطعمة والأشربة ، ج 6 ، ص 282.
5- وهو الشيخ الطوسي قدس سره في مبسوطة في باب مياه الآبار.

وقد قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : وكلّ نجاسة تقع في البئر وليس فيها قدر منصوص ، فالاحتياط يقتضي نزح جميع الماء وإن قلنا بجواز أربعين دلوا منها ، لقولهم عليهم السلام : ينزح منها أربعون دلوا (1) ، وإن صارت مبخرة (2) كان سائغا ، غير أنّ الأول أحوط.

وقال أيضا : ومتى نزل إلى البئر كافر ، وباشر الماء بجسمه ، نجس الماء ، ووجب نزح جميع الماء ، لأنّه لا دليل على مقدّر منه ، والاحتياط يقتضي ما قلناه (3) فانظر رعاك اللّه إلى قول هذا المصنف رحمه اللّه ، وأنقده ، واعتبره إن أراد بقوله لقولهم عليهم السلام : ينزح منها أربعون دلوا ، وإن صارت مبخرة أنّ أخبارهم بذلك متواترة ، أو الإجماع عليها وإن كانت آحادا ، فلا يجوز العدول عنها ، لأنّ الأخبار المتواترة دليل قاطع ، وحجة واضحة ، وكذلك الإجماع ، فلا يجوز العدول عن الدليل إلى غيره ، بل صار الأخذ بذلك هو الواجب الذي لا يجوز العدول عنه إلى غيره ، لأنّ فيه الاحتياط ، والعدول إلى ما سواه هو ترك الاحتياط وضدّه.

وإن أراد بقولهم عليهم السلام فلا يجوز عليهم الرجوع إليها ولا العمل بها ، لأن خبر الواحد لا يوجب علما ولا عملا كائنا من كان راويه ، فإنّ أصحابنا بغير خلاف بينهم ، ومن المعلوم الذي يكاد يحصل ، ضرورة أنّ مذهب أصحابنا ترك العمل بأخبار الآحاد ، ما خالف فيه أحد منهم ، ولا شذّ ، فعلى هذا التحرير ما أراد المصنّف بقوله إلا خبر الواحد ، ولأجل ذلك قال : غير أنّ الأول أحوط ، وهو نزح جميع مائها.

وأيضا فقد أجمعنا واتفقنا على نجاسة مائها فيحتاج طهارته إلى إجماع واتفاق ، مثل الإجماع على النجاسة ، ولا إجماع ولا اتفاق إلا إذا نزح جميع الماء ،

ص: 82


1- المبسوط : كتاب الطهارة ، باب في مياه الآبار.
2- المبخرة : بضمّ الميم وسكون الباء وكسر الخاء : المنتنة أعني موضع النتن.
3- المبسوط : ج 1 ، كتاب الطهارة في مياه الآبار.

فإن تعذر النزح للجميع ، فالتراوح على ما قدّمناه.

وينزح لموت الحية ثلاث دلاء ، تفسخت أو لم تتفسخ بغير خلاف ، لأنّ التفسخ لا يعتبر إلا في الفأرة فحسب.

فأمّا إذا ماتت فيها عقرب ، أو وزغة ، فلا ينجس ، ولا يجب أن ينزح منها شي ء بغير خلاف من محصّل ، ولا يلتفت إلى ما يوجد في سواد الكتب (1) من خبر واحد ، أو رواية شاذة ضعيفة مخالفة لأصول المذهب ، وهو أنّ الإجماع حاصل منعقد : إنّ موت ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء ، ولا المائع بغير خلاف بينهم ، وقد رجع مصنّف النهاية عمّا أورده في نهايته ، في مصباحه (2) واستبصاره (3) ومبسوطة (4) ، فإنّه قال في تقسيمه : ويكره ما مات فيه الوزغ والعقرب خاصة ، وقال في جمله وعقوده : وكلّ ما ليس له نفس سائلة لا يفسد الماء بموته فيه (5) ، وقد اعتذرنا للمصنّفين من أصحابنا رحمهم اللّه في خطبة كتابنا هذا ما فيه كفاية ، وقلنا : إنّما يوردون في الكتب ما يوردونه على جهة الرواية ، بحيث لا يشذ من الأخبار شي ء دون تحقيق العمل عليه ، والفتوى به ، والاعتقاد له ، فلا يظن ظانّ فيهم خلاف هذا ، فيخطى عليهم ، وابن بابويه في رسالته يذهب إلى ما اخترناه ، من أنّه لا ينزح من موت العقرب في البئر شي ء (6).

والدلو المراعى في النزح : دلو العادة الغالبة دون الشاذة النادرة ، التي يستقى بها ، دون الدلاء الكبار أو الصغار الخارجة عن المعتادة والغالب الشامل ، لأنّه لم

ص: 83


1- وهو الشيخ الطوسي في نهايته في مياه الآبار.
2- المصباح : كتاب الطهارة فصل في ذكر وجوب إزالة النجاسة من الثياب والبدن.
3- الاستبصار : ج 1 الباب 13 من كتاب الطهارة.
4- المبسوط : ج 1 ، كتاب الطهارة ، في سؤر غير الآدمي.
5- الجمل والعقود : في ذكر النجاسات ووجوب إزالتها.
6- رسالة ابن بابويه : في منزوحات البئر من النسخة التي بأيدينا.

يقيّد في الخبر.

والنية لا تجب في نزح الماء وإن يقصد به التطهير ، لأنّه لا دليل عليها ، وليس من العبادات التي تراعى فيها النية ، بل ذلك جار مجرى إزالة أعيان النجاسات التي لا تراعى فيها النية ، فعلى هذا الوجه لو نزح البئر من يصح منه النية ، ومن لا يصح النية ، من المسلم ، والكافر ، والصبي ، والمجنون ، حكم بتطهير البئر.

والأسئار على ضربين : سؤر بني آدم ، وسؤر غير بني آدم ، فسؤر بنى آدم على ثلاثة أضرب : سؤر مؤمن ومن حكمه حكم المؤمن ، وسؤر مستضعف ومن حكمه حكم المستضعف ، وسؤر كافر ومن حكمه حكم الكافر ، فالأول والثاني طاهر مطهر ، والثالث نجس منجّس.

فالمؤمن في عرف الشرع : هو المصدق باللّه ، وبرسله ، وبكلّ ما جاءت به.

والمستضعف : من لا يعرف اختلاف الناس في الآراء والمذاهب ، ولا يبغض أهل الحق ، بل لا إلى هؤلاء ، ولا إلى هؤلاء ، كما قال اللّه تعالى (1). وكلّ من أبغض المحق على اعتقاده ومذهبه ، فليس بمستضعف ، بل هو الذي ينصب العداوة لأهل الإيمان.

فأمّا الكافر : فمن خالف المؤمن والمستضعف ، وهو الذي يستحق العقاب الدائم ، والخلود في نار جهنم طول الأبد ، نعوذ باللّه منها ، فليلحظ هذه التقسيمات.

وفرق آخر جاءت به الآثار عن الأئمة الأطهار بين هذه الأسئار ، وهو انّ سؤر المؤمن طاهر فيه الشفاء ، وسؤر المستضعف طاهر لا شفاء فيه ، وسؤر الكافر نجس لا شفاء فيه.

فأمّا سؤر غير بني آدم ، فينقسم إلى قسمين : سؤر الطيور ، وغير الطيور.

فأسئار الطيور كلّها طاهرة مطهرة ، سواء كانت مأكولة اللحم ، أو غير

ص: 84


1- النساء : 143 ، « مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ ».

مأكولة اللحم ، جلّالة أو غير جلّالة ، تأكل الجيف أو لا تأكل الجيف.

فأمّا غير الطيور على ضربين : حيوان الحضر ، وحيوان البر.

وحيوان الحضر على ضربين : مأكول اللحم ، وغير مأكول اللحم. فمأكول اللحم سؤره طاهر مطهر. وغير مأكول اللحم فما أمكن التحرز منه سؤره نجس ، وما لا يمكن التحرز منه فسؤره طاهر ، فعلى هذا سؤر الهرة وإن شوهدت قد أكلت الفأرة ، ثم شربت في الإناء ، يكون بقية الماء الذي هو سؤرها طاهر ، سواء غابت عن العين ، أو لم تغب إلا أن يكون الدم مشاهدا في الماء ، أو على جسمها ، فينجس الماء لأجل الدم ، وكذلك لا بأس بأسئار الفار والحيّات وجميع حشرات الأرض.

فأمّا سؤر حيوان البر فجميعه طاهر ، سواء كان مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم ، سبعا كان أو غيره ، من ذوات الأربع ، مسخا كان أو غير مسخ ، وحشرات الأرض إلا الكلب والخنزير فحسب ، وما عداها فلا بأس بسؤره.

والسؤر : عبارة عمّا شرب منه الحيوان أو باشره بجسمه ، من المياه وسائر المائعات.

وإذا كان مع الإنسان إناءان أو أكثر من ذلك ، فوقع في واحد منهما نجاسة ، ولم يعلمه بعينه ، لم يستعمل شيئا منهما بحال بغير خلاف ، ولا يجوز له التحري (1) والواجب عليه التيمم ، ولا يجب عليه إهراقهما ، وله إمساكهما ، امّا لخوف العطش ، فإنّه يجب عليه إمساكهما ، فإن لم يخف العطش ، فله إمساكهما ، فإنّه قادر على تطهير مائهما على بعض الوجوه.

فأمّا ما يوجد في بعض الكتب ، من قوله : وجب عليه إهراق جميعه والتيمم للصلاة ، فغير واضح ، لأنّه لا يجب عليه إهراق مائه النجس ، بل له إمساكه على ما قررناه.

فإن قال قائل : إذا لم يهرقه كيف يجوز له التيمم مع وجود الماء؟ فلهذا قال المصنّف يجب عليه إهراق الماء ، بحيث يجوز له التيمم.

ص: 85


1- الظاهر أنّه التجري والا فلا معنى لعدم جواز التحري.

قلنا : هذا اعتذار ، تركه أعود على من اعتذر له به ، وذلك انّ هذا ماء وجوده كعدمه ، لأنّ شاهد الحال وقرينة الحكم يدلّ على وجود الماء الطاهر ، فمع وجود القرينة لم يحتج إلى إهراق هذا الماء ، ولو عرى الكلام من شاهد الحال لما جاز التيمم ، لأنّ اسم الماء ينطلق على الطاهر والنجس.

وإذا أخبره عدل بنجاسة الماء ، لم يجز قبول قوله ، ولا يجوز له التيمم. فإن كانا عدلين يحكم بنجاسة الماء ، لأنّ وجوب قبول شهادة الشاهدين والحكم به معلوم في الشرع. وإن كان الطريق إلى صدقهما مظنونا ، ولا يلتفت إلى قول من يقول في كتابه انّ شهادة الشاهدين تطرح ويستعمل الماء ، فإنّ الأصل الطهارة ، ولا يرجع عن المعلوم بالمظنون ، وهو شهادة الشاهدين ، لأنّ أكثرها يثمر الظن ، وهذا ليس بشي ء يعتمد ، بل الشارع جعل الأصل ، لأنّ قبول شهادة الشاهدين ، وجوب العمل بهما في الشريعة ، فقد نقلنا من معلوم إلى معلوم ، ولو سلكنا هذا الطريق ، مضى معظم الشريعة ، فإنّه كان يقال ويحتج بأنّ الأصل أن لا صوم واجب في شهر رمضان ، فمن أوجبه فقد رجع عن الأصل الذي هو الإباحة أو لا تكليف ، فلأنّ الأصل وجوب صوم رمضان ، فمن ادّعى سقوطه عن المكلفين به يحتاج إلى دليل.

وإذا شهد شاهدان بأنّ النجاسة في أحد الإناءين ، وشهد آخران بأنّه وقع في الآخر ، فإن كانتا - أعني الشهادتين - غير متنافيتين ، ويمكن الجمع بينهما بأن يشهد هذان بولوغ الكلب في هذا الإناء في صدر النهار ، والآخران يشهدان بولوغ كلب آخر ، أو ولوغ ذلك الكلب في الإناء الآخر عند سقوط الشمس ، فقد نجسا معا بغير خلاف عند التأمّل للأقوال.

وإن كان لا يمكن الجمع بينهما ، وهو أن يشهد اثنان بولوغ كلب معيّن في أحد الإناءين عند زوال الشمس بلا تأخير ، وشهد آخران بولوغ ذلك الكلب بعينه في الإناء الآخر في ذلك الوقت بلا تأخير ، فقد قال الشيخ أبو جعفر

ص: 86

الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف (1) : سقطت شهادتهما ، وأطلق القول ، ولم يفصّل هل الشهادة على وجه يمكن الجمع بينهما ، أو على وجه لا يمكن الجمع بينهما؟ فإن أراد على وجه يمكن الجمع بينهما ، فهذا لا يصح ، ولا يجوز القول به ، لأنّ وجوب قبول شهادة الشاهدين في الشرع معلوم. وإن أراد على وجه لا يمكن الجمع بينهما ، فانّ ذلك مذهب الشافعي في تقابل البيّنتين ، فإنّه يسقطهما ، ويرجع إلى الأصل ، وهو ما كان قبل الشهادتين فيحكم به.

فأمّا مذهب أصحابنا في هذه المسألة فمعروف ، إذا تقابل البينتان ، ولم يترجّح إحداهما على الأخرى بوجه من الوجوه ، وأشكل الأمر ، فإنّهم يرجعون إلى القرعة ، لأنّ أخبارهم ناطقة متظاهرة متواترة ، في أنّ كلّ أمر مشكل فيه القرعة (2) ، وهم مجمعون على ذلك ، وهذا أمر مشكل ، ولم يرد فيه نص معيّن ، فهو داخل في عموم قولهم عليهم السلام.

والذي أعتمده ويقوى عندي : ان لا تؤثر هذه الشهادة في هذا الماء شيئا ، لأنّ الأصل فيه الطهارة والأصل أيضا الإباحة ، فمن حظر استعماله ونجسه ، يحتاج إلى دليل شرعي ، وليس للقرعة هاهنا طريق ، لأنّ القرعة تستعمل في مواضع مخصوصة ، ولا أحد من أصحابنا قال : إذا اشتبهت الأواني ، أو الثياب ، أو كان أحد الإناءين ، نجسا والآخر طاهرا ، وكذلك الثوبان اختلطا ولم يتحقق النجس منهما من الطاهر ، يقرع بينهما ، بل أطبقوا على ترك استعمال الإناءين ، ومسألتنا لم نتحقق نجاسة واحد من الإناءين ، وليس الرجوع إلى شهادة العدلين بأولى من شهادة العدلين الآخرين ، وإنّما حصل شك في نجاسة أحدهما ، ولا يرجع بالشك عن اليقين الذي هو الطهارة والإباحة.

ص: 87


1- الخلاف : ج 1 ، مسألة 162 ، لا يخفى ان ذيل كلامه يدفع ما أورده عليه.
2- الوسائل : كتاب القضاء ، باب 13 من أبواب كيفية الحكم وأحكام الدعوى ، ح 11 و 18.

والأولى عندي بعد هذا جميعه ، قبول شهادة الشهود الأربعة ، لأنّ ظاهر الحكم ، وموجب الشرع أنّ شهادتهم صحيحة مقبولة غير مردودة ، ولأنّ شهادة الإثبات لها مزيّة على شهادة النفي ، لأنّها قد شهدت بأمر زائد قد يخفى على من شهد بالنفي ، لأنّ النفي هو الأصل ، وشهادة الإثبات ناقلة عنه ، وزيادة عليه ، فكلّ من الشاهدين قد شهد بأمر زائد قد يخفى على الشاهدين الآخرين. وهذا كرجل ادّعى على رجل عشرين دينارا ، وأقام بها شاهدين ، وأقام المشهود عليه بقضاء العشرين دينارا شاهدين ، قبلنا شهادة الشاهدين اللذين شهدا بالقضاء ، لأنّهما أثبتا بشهادتهما أمرا قد يخفى على الشاهدين الأولين ، ففي شهادة الآخرين مزية وزيادة حكم ، ولهذا أمثلة كثيرة في الشريعة ، وبهذا القول افتي ، وعليه أعمل.

والماء النجس لا يجوز استعماله في الوضوء والغسل معا ، ولا في غسل الثوب وإزالة النجاسة ، ولا في الشرب مع الاختيار ، فمن استعمله في الوضوء ، أو الغسل ، أو غسل الثوب ، ثم صلّى بذلك التطهير ، أو في تلك الثياب ، وجب عليه اعادة الوضوء ، أو الغسل ، أو غسل الثوب بماء طاهر ، واعادة الصلاة ، سواء كان عالما في حال استعماله لها ، أو لم يكن عالما ، إذا كان قد سبقه العلم بحصول النجاسة فيها ، فإن لم يتيقن حصول النجاسة فيها قبل استعماله لها ، لم يجب عليه إعادة الصلاة ، ولا اعادة التطهر ، سواء كان الوقت باقيا أو خارجا ، على الصحيح من المذهب والأقوال ، واستمرار النظر والاعتبار ، بل يجب عليه غسل الثوب فحسب ، وغسل ما أصابه من بدنه من ذلك الماء فحسب ، لأنّ الإعادة تحتاج إلى دليل شرعي ، وكذلك القضاء فرض ثان ، يحتاج في ثبوته إلى دليل ثان ، وليس في الشرع ما يدلّ على ذلك ، فلا يجوز إثبات ما لا دلالة عليه ، وأيضا فقد توضأ وضوء شرعيا مأمورا به ، وصلّى صلاة مأمورا بها ، وأيضا فلا يخلو إمّا أن رفع بطهارته الحدث ، أو لم يرفعه ، فإن كان رفعه لا يجب عليه إعادة الصلاة ، ولا الطهور ، وإن كان لم يرفع الحدث. فيجب عليه إعادة الصلاة ،

ص: 88

سواء تقضّى الوقت ، أو كان باقيا ، لأنّ من صلّى بلا طهور يجب عليه إعادة الصلاة ، على كلّ حال ، بغير خلاف ، متعمّدا كان أو ناسيا ، تقضّى الوقت ، أو لم يتقضّ ، بلا خلاف.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته (1) : يجب عليه إعادة الصلاة ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وافتي به ، وأعمل عليه ، لأنّه يتيقن معه براءة الذمة ممّا وجب عليها ، والأول مذهب شيخنا أبي جعفر في جميع كتبه ، ومعه بذلك أخبار اعتمد عليها.

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي في نهايته : اللّهم إلا أن يكون الوقت باقيا فإنّه يجب عليه غسل الثوب ، واعادة الوضوء ، واعادة الصلاة ، فإن كان قد مضى الوقت ، لم يجب عليه إعادة الصلاة (2) ، إلا أنّ أبا جعفر الطوسي رضي اللّه عنه رجع عن هذا القول ، وعن هذه الرواية ، في استبصاره (3) ونقده للأخبار ، وتوسطه بينها ، والجمع بين الصحيح والفاسد ، فإن قلّده مقلّد فقد رجع الشيخ عنها.

وقال رحمه اللّه في نهايته : فإن استعمل شي ء من هذه المياه النجسة في عجين يعجن ويخبز ، لم يكن بأس بأكل ذلك الخبز ، لأنّ النار قد طهرته (4). والصحيح عندي خلاف ذلك ، لأنّ النار لا تطهر الخبز ، إلا إذا أحالته وصيّرته رمادا ، لأنّ ما تطهره النار معلوم مضبوط ، وليس في جملة ذلك الخبز ، وقد رجع عن هذا القول في الجزء الثاني من نهايته ، في باب الأطعمة المحظورة والمباحة ، فإنّه قال : وإذا نجس الماء بحصول شي ء من النجاسات فيه ، ثم عجن به ، وخبز منه ، لم يجز أكل ذلك الخبز وقد رويت رخصة في جواز أكله ، وذكر انّ النار قد طهرته ، والأحوط ما قدّمناه (5) ، وهذا يدل على أنّه ما جعله في باب المياه على جهة الفتيا ، بل أورده على جهة طريق الرواية والإيراد ، دون العمل والاعتقاد.

وماء الحمام سبيله سبيل الماء الجاري ، إذا كانت له مادة من المجرى ، فإن

ص: 89


1- المقنعة : باب تطهير المياه من النجاسات ص 66.
2- النهاية : باب المياه وأحكامها.
3- الاستبصار : الباب 109 من أبواب تطهير الثياب والبدن من النجاسات.
4- النهاية : باب المياه وأحكامها.
5- النهاية : باب الأطعمة المحظورة والمباحة.

لم يكن له مادة ، فإن كان كرا فصاعدا فهو طاهر مطهر ، لا ينجسه حصول شي ء من النجاسات ، إلا ما تغيّر أحد أوصافه ، على ما قدّمنا القول فيه ، وشرحناه ، وإن كان أقل من كر ، فهو على أصل الطهارة ، ما لم يعلم فيه نجاسة ، فإن علمت فيه نجاسة ، وجرت المادة التي هي البزال له فقد طهر ، وجاز استعماله ، وإن لم يبلغ الكر مع اتصال المجرى به ، فإن انقطع المجرى اعتبرنا كونه كرا ، فإن كان أنقص من الكر ، فهو أيضا على أصل الطهارة ، مثل الاعتبار الأول ، إلا أن يقع فيه نجاسة ، ثم لا يزال هذا الاعتبار ثابتا فيه.

والمادة المذكورة لا تعدو ثلاثة أقسام : إمّا يعلم طهارتها يقينا ، أو يعلم نجاستها يقينا أو لا يعلم الطهارة ولا النجاسة. فإن علمت الطهارة ، فالحكم ما تقدّم ، وكذلك إذا لم يعلم طهارة ولا نجاسة ، فهو على أصل الطهارة في الأشياء كلّها ، والحكم ما تقدّم. فأمّا إذا علمت أنّها نجسة يقينا ، وتعيينا ، فلا يجوز اعتبار ما تقدّم ، لأنّه لا خلاف انّ الماء النجس لا يطهر بجريانه.

فإن قيل : الكلام في المادة مطلق ، لأنّ ألفاظ الأخبار عامة ، بأنّ ماء الحمام سبيله سبيل الماء الجاري ، إذا كانت له مادة من المجرى ، فمن قيّدها وخصّها يحتاج إلى دليل.

قلنا : الإطلاق والعموم قد يخصّ بالأدلة ، بغير خلاف بين من ضبط هذا الفن وأصول الفقه ، ومن المعلوم الذي لا خلاف فيه ، أنّ الماء النجس لا يطهر بجريانه ، ولا يطهر غيره ، إذا لم يبلغ كرا على ما مضى شرحنا له ، وفحوى الخطاب من الأخبار ينبه على ما قلناه ، لأنّ المعهود في مادة المجرى أن لا يعلم بطهارة ولا نجاسة ، فهي المرادة بالخطاب ، لأنّ الإنسان داخل الحمام لا يعلم ولا يبصر ما وراء الحائط ، فيحكم بأنّ المادة عند هذه الحال على أصل الطهارة وشاهد الحال أيضا يحكم بما قلناه ، فهذا هو المعنى بالمادة ، دون المادة المعتبر نجاستها.

وغسالة الحمام ، وهو المستنقع الذي يسمى الجئة لا يجوز استعمالها على

ص: 90

حال ، وهذا إجماع ، وقد وردت به عن الأئمة عليهم السلام آثار (1) معتمدة قد اجمع عليها ، لا أحد خالف فيها ، فحصل الإجماع والاتفاق على متضمنها ، ودليل الاحتياط يقتضي ذلك أيضا.

ومتى ولغ الكلب في الإناء وجب غسله ثلاث مرات ، أولاهن بالتراب ، وبعض أصحابنا (2) في كتاب له يجعل التراب مع الوسطى ، والأول أظهر في المذهب ، وكيفية ذلك أن يجعل الماء فيه ، ويترك التراب ، أو يترك فيه التراب ، ويصب الماء عليه بمجموع الأمرين ، لا بانفراد أحدهما عن الآخر ، لأنّه إذا غسل بمجرد التراب ، لا يسمّى غسلا ، لأنّ حقيقة الغسل جريان المائع على الجسم المغسول ، والتراب لا يجرى وحده ، وإن غسلته بالماء وحده ، فما غسلته بالماء والتراب ، لأنّ الباء هاهنا للإلصاق بغير خلاف ، فيحتاج ان يلصق أحد الجسمين بالآخر.

ولا يراعى التراب إلا في ولوغ الكلب خاصة ، دون سائر الحيوان ، ودون كلّ شي ء من أعضاء الكلب ، لأنّ بعض أصحابنا ذكر في كتاب له أنّ مباشرة الكلب الإناء بسائر أعضائه ، يجري مجرى الولوغ في أحكامه (3) ، والأول الأظهر ، لأنّه مجمع عليه.

وبعض أصحابنا ألحق في كتاب له أنّ حكم الخنزير في وجوب غسل الإناء من ولوغه ، ثلاث مرات ، إحداهن بالتراب ، حكم الكلب سواء ، وتمسك بتمسكين اثنين : أحدهما : انّ الخنزير يسمّى كلبا في اللغة ، فينبغي أن يتناوله الأخبار الواردة في ولوغ الكلب ، والثاني : إنّا قد بينا أنّ سائر النجاسات يغسل منها الإناء ثلاث مرات ، والخنزير نجس بلا خلاف (4). وهذا استدلال غير واضح ، لأنّ أهل اللغة العربية لا يسمّون الخنزير كلبا ، بغير خلاف بينهم ،

ص: 91


1- الوسائل : الباب 11 من أبواب الماء المضاف.
2- وهو الشيخ المفيد رحمه اللّه في المقنعة في باب المياه وأحكامها ص 65.
3- وهو الشيخ المفيد رحمه اللّه في المقنعة في باب المياه وأحكامها ص 65.
4- وهو الشيخ الطوسي رحمه اللّه في الخلاف في مسألة 143 من كتاب الطهارة.

فالدعوى عليهم دعوى عريّة من برهان ، والعرف خال منه ، لأنّ أحدا لا يفهم من قوله : عندي كلب ، أي عندي خنزير ، بل الذي يتبادر إلى الفهم هذه الدابة المخصوصة ، ولو أنّ حالفا أو ناذرا حلف أو نذر إن رأى خنزيرا فلله عليه أن يتصدق بقدر مخصوص من ماله على الفقراء ، ثم رأى كلبا أو نذر أنّه إن رأى كلبا ، فرأى خنزيرا ، لم يتعلّق به وفاء النذر ، بغير خلاف بين المسلمين ، لا لغة ولا عرفا ، والثاني من قوله : إنّا قد بيّنا أنّ سائر النجاسات يغسل منها الإناء ثلاث مرات ، والخنزير نجس بلا خلاف ، وهذا أيضا استدلال يضحك الثكلى ، إن لم يكن الخنزير عند هذا القائل يسمّى كلبا ، فكيف يراعى التراب في إحدى الغسلات ، هذا مع التسليم له بأنّ الإناء يغسل من سائر النجاسات ثلاث مرات ، وليس كلّ إناء يجب غسله ثلاث مرات ، يراعى في إحدى الغسلات التراب ، والإجماع حاصل من الفرقة ، إنّ التراب لا يراعى إلا في ولوغ الكلب خاصة ، دون سائر النجاسات ، بغير خلاف بين فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، ودون التسليم له - الغسلات الثلاث فيما عدا آنية الولوغ وآنية الخمر والمسكر - خرط القتاد لأنّ الصحيح من الأقوال والمذهب ، والذي عليه الاتفاق والإجماع ، مرة واحدة مع إزالة عين النجاسة ، وقد طهر ، ولا يراعى العدد في غسل الأواني ، إلا في آنية الولوغ والخمر والمسكر فحسب.

وأيضا فهذا القائل وهو الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه يذهب في مسائل خلافه ، وهو الكتاب الذي وضعه لمناظرة الخصم إلى أنّ العدد في الغسلات لا يراعى إلا في الولوغ خاصة ، ويقول : دليلنا انّ العدد يحتاج إلى دليل ، وحمله على الولوغ قياس لا نقول به (1).

فمن يقول هذا في استدلاله كيف يقول هذا في استدلاله على ولوغ الخنزير ،

ص: 92


1- الخلاف : كتاب الطهارة ، مسألة 142.

مع تسليمه انّه لا يسمّى كلبا ، بذلك الدليل؟ إنّ هذا لعجيب ، وقد ذهب في نهايته (1) ، وجمله وعقوده (2) إلى انّه لا يعتبر غسل الإناء بالتراب إلا في ولوغ الكلب خاصة.

ومتى مات في الإناء حيوان له نفس سائلة ، نجس الماء إذا كان أقل من كر ، ووجب غسل الإناء مرة واحدة ، سواء كان الميّت فأرة أو غيرها ، وقد روي أنّه يغسل لموت الفارة فيه سبع مرات (3) ، والصحيح مرة واحدة.

وكلّ ما وقع في الماء فمات فيه ، ممّا ليس له نفس سائلة ، فلا بأس باستعمال ذلك الماء ، وقد استثنى بعض أصحابنا الوزغ والعقرب خاصّة ، ذكر ذلك الشيخ أبو جعفر في نهايته (4) ، وذلك أورده على طريق الرواية دون العمل على ما ذكرناه عنه واعتذرنا له.

وكذلك ما أورده في هذا الكتاب المشار إليه ، إنّ الوزغ إذا وقع في الماء ، ثم خرج منه ، لم يجز استعماله على حال ، والصحيح خلاف ذلك ، لأنّا قد دلّلنا أنّ موت ما لا نفس له سائلة لا ينجس الماء ، ولا يفسده ، وهذا مذهب أهل البيت ، والأوّل من القول مذهب المخالف ، فإذا كان بموته فيه لا ينجسه فكيف ينجسه بوقوعه فيه ، وقد دلّلنا على أنّ أسئار حشرات الأرض طاهرة بغير خلاف بيننا.

ومتى حصل الإنسان عند غدير أو مصنع ، ولم يكن معه ما يغترف به الماء لطهارته الصغرى ، فليدخل يده فيه ، ويأخذ منه ما يحتاج إليه لوضوئه ، فإن أراد الغسل للجنابة ، فكذلك ، هذا مع خلو يده من نجاسة عينية ، ويكون الماء دون الكر ، فان كان الماء دون الكر ، وعلى يده نجاسة أفسده.

وقال بعض أصحابنا (5) في كتاب له : وإن أراد الغسل للجنابة ، وخاف إن نزل إليه فساد الماء فليرش عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه ، ثمّ ليأخذ كفا كفا

ص: 93


1- النهاية : باب المياه وأحكامها.
2- الجمل والعقود : في ذكر النجاسات ووجوب إزالتها.
3- الوسائل : الباب 53 من أبواب النجاسات ، ح 1.
4- النهاية : باب المياه وأحكامها.
5- النهاية : باب المياه وأحكامها.

من الماء ، فيغتسل به ، ففي الطهارة الصغرى التي هي الوضوء ، وأفق على أخذه الماء (1) من غير إفساد له ، وإن رجع من استعماله إليه ، وفي الكبرى لم يوافق ، لأنّ عند هذا القائل أنّ الماء المستعمل في الطهارة الصغرى طاهر مطهر ، فأمّا المستعمل في الطهارة الكبرى فلا يرفع به الحدث ، فلأجل هذا قال : فليأخذ كفا كفا من الماء يستعمل به ، يريد قبل أن ينزل من استعماله إلى باقي الماء ، فيصير ماء مستعملا في الطهارة الكبرى ، فلا يرتفع الحدث عنده به.

وقوله : فليرش ، يريد به نداوة جلده وبلله من قبل نيّته واغتساله ، بحيث يكفيه بعد بلل جسده ، اليسير من الماء ، فيجري على جسده من قبل أن ينزل إلى باقي الماء لئلا يصير الماء الباقي قبل فراغه ، مستعملا في الكبرى ، فلا يرفع الحدث عنده به.

وليس قول من يقول المراد بالرش عن يمينه ويساره وأمامه وخلفه ، على الأرض ، دون ميامن جسده ومياسره وخلفه وأمامه ، بشي ء يلتفت إليه ، لأنّه لا معنى له يرجع إليه لأنّه إذا تندّت الأرض من هذه الجهات الأربع ، كان أسرع إلى نزول ما يغتسل به بعد ذلك إلى الماء الباقي قبل فراغ المغتسل من اغتساله فيصير الباقي ماء مستعملا ، فلا يرتفع الحدث به عنده.

وهذا جميعه على رأي شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في أنّ الماء المستعمل في الأغسال الواجبة لا يرفع الحدث ، وقد دلّلنا على خلاف ذلك ، وبيّنا الصحيح منه قبل هذا المكان في هذا الكتاب ، فعلى المذهب الصحيح من أقوال أصحابنا لا حاجة بنا إلى الرش المذكور.

ويستحب أن يكون بين البئر التي يستقى منها وبين البالوعة سبع أذرع ، إذا كانت البئر تحت البالوعة ، وكانت الأرض سهلة ، وخمس أذرع ، إذا كانت فوقها ، والأرض أيضا سهلة ، فإن كانت الأرض صلبة ، فليكن بينها وبين البئر ،

ص: 94


1- وهو الشيخ الطوسي قدس سره في النهاية في باب المياه وأحكامها.

خمس أذرع من جميع جوانبها ، هذا جميعه على الاستحباب ، وإلا فلو كان بين البئر وبين البالوعة شبر أو أقل ، لم يكن بذلك بأس ، ما لم يتغير أحد أوصاف ماء البئر بالنجاسة.

والماء المسخن على ثلاثة أضرب : ماء سخّنته النار ، وماء سخّن بالشمس ، وماء مسخّن من ذاته ، وهو ماء العيون الحارة الحامية ، فالذي سخّن بالنار لا يكره استعماله على حال ، وما أسخنته الشمس بجعل جاعل له في إناء ، وتعمّده لذلك ، فإنّه مكروه في الطهارتين معا فحسب ، وما كان مسخنا من ذاته ، وهو ماء العيون الحامية ، فإنه يكره استعماله في التداوي فحسب.

باب أحكام الاستنجاء والاستطابة ، وكيفية الوضوء وأحكامه

ينبغي لمن أراد الغائط أن يتجنّب شطوط الأنهار ، ومساقط الثمار ، والطرق النافذة ، وفي النزال ، وجحرة الحيوان ، والمياه الجارية والراكدة ، ولا يبولن فيهما ، ولا في أفنية الدور ، ولا في مواضع اللعن ، وفي الجملة كلّ موضع يتأذى به الناس ، كلّ ذلك على طريق الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب فمن فعل ذلك لا يكون فاعلا لقبيح ، ولا مخلا بواجب.

فإذا دخل المبرز ، فالمستحب أن يقول : أعوذ باللّه من الرجس النجس ، - بكسر الراء في الرّجس ، وكسر النون في النجس ، لأنّ هذه اللفظة إذا استعملت مع الرّجس ، قيل رجس نجس ، بخفض الراء والنون ، وإذا استعملت مفردا ، قيل نجس ، بفتح النون والجيم معا - الخبيث المخبث الشيطان الرّجيم.

فإذا أراد القعود لحاجته ، فالواجب عليه أن لا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ببول ولا غائط ، فهذان تركان واجبان في الصحاري والبنيان على الأظهر من المذهب ، وان وجد في بعض الكتب (1) لفظ الكراهية فليس بشي ء يعتمد ، إلا

ص: 95


1- وهو الشيخ المفيد رحمه اللّه في المقنعة باب آداب الأحداث الموجبة للطهارة ص 41.

أن يكون الموضع مبنيا على وجه لا يتمكن فيه من الانحراف عن القبلة.

ويستحب له أن لا يستقبل قرصي الشمس والقمر ، ولا يستقبل الريح بالبول خاصّة لئلا يردّه عليه ، ولا يطمح ببوله في الهواء ، ولا يبولنّ في الأرض الصلبة.

والاستنجاء فرض واجب ، ويجوز استعمال الأحجار فيه ، أو ما يقوم مقامها في إزالة العين ، من سائر الأجسام ما لم يكن مطعوما ، أو عظما ، أو روثا ، أو جسما صقيلا ، أو جسما له حرمة ، فإن استعمل هذه الأجسام المنهي عن استعمالها ، فلا يجزيه في استنجائه فإن كان قد توضأ وصلّى ، عامدا فعل ذلك أو ناسيا ، أو لم يفعل الاستنجاء بشي ء من الأجسام بالجملة عامدا أو ناسيا ، فالواجب عليه الاستنجاء بما يجب الاستنجاء به ، واعادة الصلاة ، دون الطهارة ، إذا لم يكن أحدث ، أو فعل ما ينقضها ويبطلها.

ويستعمل الأحجار أو ما يقوم مقام الأحجار ، سوى ما ذكرناه فيما لم يتعدّ المخرج وينتشر ، فإن انتشر وتعدّى المخرج ، لم يجزه إلا الماء ، مع وجوده ، والجمع بين الحجارة والماء أفضل ، والاقتصار على الأحجار يجزي.

فأمّا البول ، فلا بد من غسله بالماء ، والاستنجاء باليد اليسرى إلا إذا كان بها عذر.

والمسنون في عدد أحجار الاستنجاء ثلاثة ، وان أنقاه حجر واحد ، لم يقتصر عليه ، بل يجب عليه أن يكمل العدد ، على الصحيح من الأقوال ، وإن كان شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان يذهب إلى الاقتصار على حجر واحد ، إذا نقي به الموضع ، وهو مذهب المخالف ، والأول أظهر ، ودليل الاحتياط يعضده ، ويقتضيه ، لأنّ فيه اليقين ببراءة الذمة ، والإجماع بإزالة العين ، والحكم المتعلق بذلك ، فإن لم ينق الموضع بالأحجار الثلاثة ، فالواجب استعمال ما ينقى به الموضع ، وتكون الأحجار أبكارا غير مستعملة في إزالة النجاسة أو عليه نجاسة.

والاستبراء في الطهارة الصغرى ، عند بعض أصحابنا واجب ، وكيفيته أن يمسح بإصبعه من عند مخرج النجو إلى أصل القضيب ثلاث مرات ، ثمّ يمرّ

ص: 96

إصبعه على القضيب ، ويخرطه ثلاث مرات وباقي أصحابنا يذهبون إلى استحبابه ، إلا أنّه إن لم يفعل ذلك ، ورأى بعد وضوئه بللا ، فالواجب عليه الإعادة بلا خلاف بينهم ، وإن كان قد فعل الاستبراء ، ثم رأى بللا بعد ذلك فلا خلاف بينهم انّه لا يجب عليه إعادة الطهارة ، وإنّما ذلك من الحبائل ، وهي عروق الظهر.

ولا استنجاء من ريح ، وإن كان فيها الوضوء.

فإذا استنجى بالماء ، فليغسل موضع النجو ، إلى أن ينقى ما هناك أثرا وعينا ، دون الرائحة.

وليس لما يستعمل من الماء حدّ محدود ، إلا سكون النفس فحسب.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّ حدّه خشونة الموضع ، وأن يصرّ ، وهذا ليس بشي ء يعتمد ، لأنّه يختلف باختلاف المياه والزمان ، فماء المطر المستنقع في الغدران لا يخشن الموضع ، ولو استعمل منه مائة رطل ، والماء البارد في الزمان البارد ، يخشن الموضع بأقل قليل ، والمذهب : الأوّل.

وليغسل رأس إحليله ، والإحليل هو الثقب ، دون سائر العضو بالماء ، ولا يجوز الاقتصار على غيره مع وجوده ، على ما تقدّم ذكره ، وأقل ما يجزي من الماء لغسله ما يكون جاريا ، ويسمّى غسلا.

وقد روي أنّ أقل ذلك مثلا ما عليه من البول ، وإن زاد على ذلك كان أفضل (1).

ويكره الكلام وهو على حال الغائط إلا أن تدعوه إلى ذلك الكلام ضرورة.

ويستحب له أن يغسل يده قبل أن يدخلها الإناء ، من حدث الغائط مرتين ، ومن البول مرّة ، وكذلك من النوم ، ومن الجنابة ثلاث مرّات ، ولا بأس بما ينتضح من ماء الاستنجاء على الثوب والبدن ، إذا كانت الأرض طاهرة ، ولم

ص: 97


1- الوسائل : الباب 26 من أحكام الخلوة ، ح 5.

يصعد متلوثا ، وهذا إجماع من أصحابنا سواء كان من الكف الأول ، أو الكف الأخير.

فإما كيفية الوضوء :

فالنية واجبة في كلّ طهارة ، سواء كانت وضوء أو غسلا أو تيمما ، من جنابة كانت الطهارة ، أو من غيرها ، فإن كانت الطهارة واجبة بأن تكون وصلة إلى استباحة واجب تعيّن ، نوى وجوبه على الجملة ، أو الوجه الذي له وجب ، وكذا إن كان ندبا ، ليتميز الواجب من الندب ، ولوقوعه على الوجه الذي كلف إيقاعه ، ويجوز أن يؤدي بالطهارة المندوبة الفرض من الصلاة ، بدليل الإجماع من أصحابنا.

والفرض الثاني الذي تقف صحّة الطهارة عليه ، مقارنة النية لها ، وذكر بعض أصحابنا في كتاب له ، هي مقارنة آخر جزء من النيّة لأول جزء منها ، حتى يصحّ تأثيرها بتقدّم جملتها على جملة العبادة ، لأنّ مقارنتها على غير هذا الوجه بأن يكون زمان فعل الإرادة هو زمان فعل العبادة أو بعضها متعذر ، لا يصح تكليفه ، أو فيه حرج يبطله ما علمناه من نفي الحرج في الدين ، ولأنّ ذلك يخرج ما وقع من أجزاء العبادة. وتقدّم وجوده على وجود جملة النيّة عن كونه عبادة من حيث وقع عاريا عن جملة النية ، لأنّ ذلك هو المؤثر في كون الفعل عبادة ، لا بعضه.

والفرض الثالث استمرار حكم هذه النيّة إلى حين الفراغ من العبادة ، وذلك بأن يكون ذاكرا لها غير فاعل لنية تخالفها.

ويستحب أن ينوي المتطهر عند غسل يديه في الطهارة الكبرى ، وإن كانت صغرى عند المضمضة والاستنشاق ، إذ كانت المضمضة والاستنشاق أول ما يفعل من الوضوء ، فينبغي مقارنة النيّة لابتدائهما ، لأنّهما وإن كانا مسنونين ، فهما من جملة العبادة ، ومما يستحق بهما الثواب ، ولا يكونان كذلك إلا بالنية على ما قال تعالى : ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى. إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ

ص: 98

الْأَعْلى ) (1).

وفرض الوضوء غسل الوجه ، وحدّه من قصاص شعر رأسه إلى محاذ الذقن ، بالذال المعجمة وفتح القاف طولا ، وما دارت عليه الإبهام والوسطى عرضا ، من مستوي الخلقة في الأغلب والأعم ، دون النادر الشاذ.

وغسل اليدين من المرافق إلى أطراف الأصابع ، وعند بعض أصحابنا انّ البدأة في الغسل ، من المرافق واجب ، لا يجوز خلافه ، فمتى خالفه ، وجبت عليه الإعادة ، والصحيح من المذهب انّ خلاف ذلك مكروه شديد الكراهة ، حتى جاء بلفظ الحظر ، لأنّ الحكم إذا كان عندهم شديد الكراهة يجي ء بلفظ الحظر ، وكذلك إذا كان الحكم شديد الاستحباب ، جاء بلفظ الوجوب ، كما جاء عنهم عليهم السلام انّ غسل يوم الجمعة واجب (2) ، لمّا كان شديد الاستحباب ، لأنّه لا دليل على الحظر ، بل القرآن يعضد مذهب من قال ذلك على الاستحباب ، وخلافه مكروه ، لأنّه تعالى أمرنا بأن نكون غاسلين ، ومن غسل يده من الأصابع إلى المرافق (3) ، فقد تناوله اسم غاسل بغير خلاف.

ومسح مقدّم الرأس ببلة يده ، ومسح ظاهر القدمين من الأصابع إلى الكعبين ، وتجب البدأة بالأصابع والانتهاء إلى الكعبين ، لأنّ القرآن (4) يشهد بذلك بالبلّة أيضا.

وقد ذهب بعض أصحابنا في كتاب له ، إلى جواز مسحهما من الكعبين إلى رءوس الأصابع ، وذلك منه على جهة لفظ الخبر وإيراده ، لا على سبيل الفتوى والعمل ، لأنّ هذا القائل هو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، أورد ذلك في نهايته إيرادا لا اعتقادا ، ومذهبه وفتواه ما حققه في جمله وعقوده (5) ، فإنّه ذهب

ص: 99


1- الليل : 19 - 20
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب الأغسال المسنونة
3- المائدة : 6
4- المائدة : 6
5- الجمل والعقود : في فصل ما يقارن الوضوء.

إلى ما اخترناه في الجمل والعقود ، ولأنّ الإجماع حاصل على براءة ذمة المتطهّر إذا فعل ما قلناه ، وليس كذلك خلافه ، فالاحتياط يوجب عليه ذلك.

والكعبان ، هما العظمان اللذان في ظهر القدمين ، عند معقد الشراك ، والواجب في العضوين المغسولين ، الدفعة الواحدة ، والمرتان سنّة وفضيلة بإجماع المسلمين ، ولا يلتفت الى خلاف من خالف من أصحابنا ، بأنّه لا يجوز المرّة الثانية ، لأنّه إذا تعيّن المخالف ، وعرف اسمه ونسبه ، فلا يعتد بخلافه. والشيخ أبو جعفر محمّد بن بابويه يخالف في ذلك ، وما زاد على المرّتين بدعة ، والعضوان الممسوحان لا تكرار في مسحهما ، فمن كرّر في ذلك كان مبدعا ، ولا يبطل وضوءه بغير خلاف.

ولو استقبل في مسح رأسه الشعر لأجزأه وكذلك لو غسل الوجه منكوسا يبدأ من المحادر إلى القصاص لأجزأه على الصحيح من المذهبين ، وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة (1) : لا يجزيه ، والأول أظهر ، لأنّه يتناوله اسم غاسل ، وإذا تناوله فقد امتثل الأمر وأتى بالمأمور به بلا خلاف.

وأقل ما يجزي من الماء في الأجزاء المغسولة ما يكون منه غاسلا ، وإن كان مثل الدهن ، بفتح الدال ، بعد أن يكون جاريا على العضو ، فإن لم يكن الماء جاريا فلا يجزيه ، لأنّه يكون ماسحا ولا يكون غاسلا ، والأمر بالغسل غير الأمر بالمسح ، وبعض أصحابنا يذهب في كتاب له إلى إطلاق الدهن ، من غير تقييد للجريان ، وتقييده في كتاب آخر له ، والصحيح تقييده بالجريان ، لأنّه موافق للبيان الذي أنزل به القرآن (2).

وقال السيد المرتضى رحمه اللّه في المسائل الناصريات (3) : والذي يجب أن يعول عليه ، انّ اللّه تعالى أمر في الجنابة بالاغتسال (4) ، وفي الطهارة الصغرى

ص: 100


1- المبسوط : باب كيفية الوضوء
2- مضت الآية وهي في سورة المائدة الآية 6.
3- المسائل الناصريات : كتاب الطهارة. المسألة 42
4- النساء : 43.

بغسل الوجه واليدين (1) ، فيجب أن يفعل المتطهر من الجنابة ، والمتوضي ما يسمّى غسلا ، ولا يقتصر على ما يسمّى مسحا ولا يبلغ الغسل ، فأمّا الأخبار الواردة (2) بأنّه يجزئك ولو مثل الدهن ، فإنّها محمولة على دهن يجري على العضو ويكثر عليه حتى يسمّى غسلا ، ولا يجوز غير ذلك. قال محمّد بن إدريس وهذا هو الصحيح المحصّل المعتمد عليه.

والمسنون للرجال أن يبتدءوا بظاهر الذراع بالكف الأول ، وبباطن الذراع بالكف الثاني ، والمسنون للنساء عكس ذلك ، وهذا على جهة الندب ، لا الوجوب للرجال والنساء ، ولا بدّ من إدخال المرافق في الغسل ، على طريق الوجوب.

والترتيب واجب في الطهارتين معا الكبرى والصغرى.

والموالاة واجبة في الصغرى فحسب ، وحدّها المعتبر عندنا على الصحيح من أقوال أصحابنا المحصّلين ، هو أن لا يجف غسل العضو المقدّم في الهواء المعتدل ، ولا يجوز التفريق بين الوضوء بمقدار ما يجف معه غسل العضو الذي انتهى إليه ، وقطع الموالاة منه في الهواء المعتدل.

وبعض أصحابنا يوجب الموالاة على غير هذا الاعتبار ، ويذهب إلى أنّ اعتبار الجفاف يكون عند الضرورة لانقطاع الماء وغيره من الأعذار ، فأمّا مع زوال الأعذار ، فلا يعتبر جفاف ما وضأه.

وأقل ما يجزي في مسح الناصية ، ما وقع عليه اسم المسح ، والأفضل أن يكون مقدار ثلاث أصابع مضمومة ، سواء كان مختارا أو مضطرا ، وقال بعض أصحابنا : الواجب في حال الاختيار مقدار ثلاث أصابع مضمومة ، وفي حال الضرورة إصبع واحدة ، والأول أظهر بين أصحابنا ، لأنّ دليل القرآن يعضده ، لأنّ من مسح ما اخترناه ، يسمّى ماسحا بغير خلاف ، ومن ادّعى الزيادة يحتاج إلى شرع.

ص: 101


1- مضت الآية وهي في سورة المائدة الآية 6
2- الوسائل : الباب 52 من أبواب الوضوء.

فالشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه يذهب إلى ما اخترناه ، في جمله وعقوده (1) ، ويورد المقالة الأخرى في نهايته (2) ، على جهة الإيراد على ما نبهنا عليه من قبل.

ويكره استقبال شعر ذراعك في غسله ، وكذلك يكره استقبال شعر ناصيتك في مسحها.

ثم تضع يديك جميعا بما بقي فيهما من البلة على ظهر قدميك ، فتمسحهما من أطراف الأصابع إلى الكعبين اللذين تقدّم وصفهما ، ولا يجوز أن يأخذ للرأس والرجلين ماء جديدا ، ولا يجزي غسل الرجلين عن مسحهما ، وكذلك الرأس ، وإن عرضت حاجة إلى غسل الرجلين للتنظيف أو غيره ، وجب أن تقدّم على الوضوء ، ليميّز بين المفروض والمسنون ، فإن جعل غسلهما بين أعضاء الطهارة فمكروه.

ويعتبر جفاف ما وضأه على ما مضى شرحنا له.

ومسح الأذنين أو غسلهما بدعة عند أهل البيت عليهم السلام.

ولا يجوز المسح على الخفين ، ولا الجوربين ، ولا الجرموقين ، ولا على الخمار والعمامة ، فأمّا النعال فما كان منها حائلا بين الماء وبين القدم لم يجز المسح عليه ، وما لم يمنع من ذلك جاز المسح عليه ، سواء كان منسوبا إلى العرب أو العجم.

ويجوز المسح على الجبائر عند الضرورة وخوف المضرة بحلّ العضو.

قال محمّد بن إدريس : في مسائل الخلاف للسيّد المرتضى « التساخين : الخفاف ، بالتاء المنقطة من فوقها بنقطتين المفتوحة والسين غير المعجمة المفتوحة والخاء المعجمة المكسورة والياء المنقطة من تحتها بنقطتين المسكنة والنون » فأوردت الكلمة هاهنا لئلا تصحّف.

ويجب في الوضوء الترتيب ، وهو أن يغسل الوجه ، ثم اليدين ، ويمسح الرأس ، ثم الرجلين ، فمن قدّم مؤخرا أو أخّر مقدّما لم يجزه ذلك في رفع حدثه

ص: 102


1- الجمل والعقود : باب ما يقارن الوضوء
2- النهاية : باب آداب الحدث وكيفية الطهارة.

وكان عليه تداركه ، كما أنّه قدّم غسل يديه على وجهه ، فالواجب أن يرجع فيغسل وجهه ثم يديه وكذلك سائر الأعضاء.

ومن قدّم غسل يده اليسرى على اليمنى وجب عليه الرّجوع إلى غسل اليمنى ثم يعيد غسل اليسرى ، ودليل ذلك إجماع أهل البيت عليهم السلام.

فإن غسل اليدين قبل الوجه ، ثم غسل الوجه بعدهما فان كان لم ينو عند المضمضة والاستنشاق نية الطهارة ، ولا نواها عند غسل وجهه ، فإنّه يجب أن يعيد غسل وجهه ثانيا بنية ، لأنّه غسله بغير نية ، وإن كان قد نوى عند المضمضة فلا يجب عليه اعادة غسل وجهه ثانيا ، وكذلك إن لم ينو عند المضمضة ونوى عند غسل وجهه نية الطهارة ، فلا يجب عليه اعادة غسله ثانيا بل اعادة غسل يديه فحسب ومسح رأسه ورجليه مرتبا إذا لم يجف الماء الذي على وجهه ، فإن جفّ وجب عليه اعادة غسله ثانيا ، فهذا تحرير ذلك.

والموالاة في الوضوء أيضا واجبة ، ومعناها غير معنى الترتيب ، لأنّ الترتيب هو أن يكون كلّ تطهير عضو بعد صاحبه من غير تفصيل ، لفور أو تراخ ، والموالاة أن يوالي بين الأعضاء من غير تراخ ، فيصل غسل اليدين بغسل الوجه ، ومسح الرجلين بمسح الرأس ، ويتعمد أن يكون فراغه من مسح رجليه وعلى أعضائه المغسولة والممسوحة نداوة الماء.

ومن فرّق وضوءه لانقطاع الماء عنه أو لغيره من ضروب الأعذار أو باختياره حتى يجف ما تقدّم ، وجب عليه استيناف الوضوء من أوله أو من حيث جف ، وإن كان التفريق لم يجف معه ما تقدّم ، وصل من حيث قطع ، ومن ذكر انه لم يمسح برأسه وفي يده بلّة الوضوء ، مسح عليه وعلى رجليه بما بقي في يده من البلّة ، من غير استيناف ماء مجدد ، وكذلك القول في الرجلين إذا ذكر انّه لم يمسح عليهما ، فإن لم يكن في يده بلل أخذه من حاجبيه أو من لحيته أو من أشفار عينيه ، إن كان في ذلك نداوة ، ومسح بها وإن كانت قليلة ، فإن لم يبق شي ء

ص: 103

من النداوة أصلا ، وجب عليه اعادة الوضوء ، من أوّله.

وكذلك إن ذكر انّه لم يغسل ذراعيه ، وجب أن يغسلهما ، ثم يمسح برأسه ورجليه ، وكلّ هذا ما لم يجف طهارة العضو المتقدّم على المنسي كما انّه ذكر انّه لم يغسل ذراعيه وقد جفت طهارة وجهه ، أو ذكر انّه لم يمسح رأسه وقد جفت طهارة ذراعيه ، فمن كانت هذه حاله وجب أن يستأنف الوضوء من أوله.

ومن كان قائما في الماء وتوضأ ، ثم أخرج رجليه من الماء ومسح عليهما ، من غير أن يدخل يديه في الماء ، فلا حرج عليه ، لانه ماسح بغير خلاف والظواهر من الآيات والأخبار متناولة له ، ولنا في هذا مسألة طويلة فمن أرادها وقف عليها.

ومن عرض له - وهو في حال الوضوء لم يخرج عنه - شك في أنّه ترك بعض أعضائه أو قدّم مؤخّرا أو أخّر مقدّما ، وجب عليه أن يعيد الوضوء من أوله حتى يكون على يقين من كمال طهارته ، إلا أن يكثر ذلك منه ويتواتر فلا يلتفت إليه ، ويمضي فيما أخذ فيه.

فإن كان الشك العارض بعد فراغه وانصرافه من مغتسله وموضعه لم يحفل بالشك وألغاه ، لأنّه لم يخرج عن حال الطهارة إلا على يقين من كمالها ، وليس ينقض الشك اليقين ، اللّهم إلا ان يتيقن ويذكر أنّه أهمل شيئا أو قدم مؤخّرا أو أخّر مقدّما فيكون الحكم على ما قدّمناه.

وقد قال بعض أصحابنا في كتاب له ، أنّه ليس من العادة أن ينصرف الإنسان من حال الوضوء إلا بعد الفراغ من استيفائه على الكمال ، وهذا غير واضح ، إلا أنّه رجع في آخر الباب ويقول : إن انصرف من حال الوضوء وقد شك في شي ء من ذلك ، لم يلتفت إليه ومضى على يقينه ، وهذا القول أوضح وأبين في الاستدلال.

ومن تيقن الطهارة والحدث معا ، ولم يعلم أيهما سبق صاحبه ، وجب عليه الوضوء ليزول الشك ويحصل على يقين بالطهارة.

ص: 104

ومن تيقن الطهارة وشك في الحدث ، عمل على اليقين ولم يحفل بالشك ، وإن كان المتيقن هو الحدث والمشكوك فيه هو الطهارة عمل على اليقين واستأنف الطهارة.

ومن كان في يده خاتم ، فالمستحب له أن يحركه عند غسل يده ، وإن كان واسعا يدخل الماء تحته ، وإن كان ضيقا لا يدخل الماء تحته فليحوّله من موضعه إلى موضع آخر ، وكذلك المرأة في الدملج وما أشبهه.

وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1) إلى أنّه متى صلّى الظهر بطهارة ولم يحدث ، وجدّد الوضوء ، ثم صلّى العصر ، ثم ذكر انّه ترك عضوا من أعضاء الطهارة ، فإنّه يعيد صلاة الظهر ولا يعيد صلاة العصر ، ويحكى عن الشافعي انّه يعيد الظهر.

وفي إعادة العصر قولان : أحدهما لا يعيد مثل ما قلناه ، إذا قال إنّ تجديد الوضوء يرفع الحدث. والآخر انّه يعيد ، إذا لم يقل إنّ تجديد الوضوء يرفع حكم الحدث.

قال محمد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : والذي يقوى في نفسي ويقتضيه أصول مذهبنا أنّه يعيد الصلاتين معا الظهر والعصر ، لأنّ الوضوء الثاني ما استبيح به الصلاة ولا رفع به الحدث ، وإجماعنا منعقد على أنّه لا تستباح الصلاة إلا بنيّة رفع الحدث ، أو نية استباحة الصلاة بالطهارة ، فأمّا إن توضأ الإنسان بنية دخول المساجد أو الكون على طهارة أو الأخذ في الحوائج - لأنّ الإنسان يستحب له أن يكون في هذه المواضع على طهارة - فلا يرتفع حدثه ولا استبيح بذلك الوضوء الدخول في الصلاة وإلى هذا القول والتحرير يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في جواب المسائل الحلبيات التي سئل عنها ، فأجاب بما حررناه.

ص: 105


1- كتاب الخلاف : مسألة 166 من كتاب الطهارة.

فأمّا إن كان قد أحدث عقيب كلّ طهارة فإنّه يجب عليه اعادة جميع صلاته.

ومقدار الماء لإسباغ الوضوء مد ، وهو رطلان وربع بالعراقي ، وللغسل صاع ، وهو أربعة أمداد ، يكون تسعة أرطال بالعراقي ، ومن اغتسل أو توضأ بأقل من ذلك أجزأه بعد أن يقسمه في ثلاث أكف ، كف للوجه ، وكفان لليدين ، وقد روي انّه « يجزي من الوضوء ما جرى مجرى الدهن » (1) إلا أنّه لا بدّ أن يكون ممّا يتناوله اسم الغسل ، ولا ينتهي في القلّة إلى ما يسلب الاسم ، على ما قدّمنا شرحنا له وحققناه.

باب أحكام الأحداث الناقضة للطهارة

ما ينقض الوضوء على ثلاثة أضرب : أحدها ينقضه ولا يوجب الغسل ، وثانيها ينقضه ويوجب الغسل ، وثالثها إذا حصل على وجه نقض الوضوء لا غير ، وإذا حصل على وجه آخر وجب الغسل.

فما يوجب الوضوء لا غير : البول ، والغائط سواء خرج من الموضع المعتاد أو خرج من غير ذلك الموضع ، لقوله تعالى : ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) (2) ولم يعيّن موضعا دون موضع.

وبعض أصحابنا يقيّد ذلك بموضع في البدن دون المعدة ، ويستشهد على ذلك بعموم قوله تعالى : ( أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ ) وما روي من الأخبار أن الغائط ينقض الوضوء (3) يتناول ذلك ، وقال : ولا يلزم ما فوق المعدة ، لأنّ ذلك لا يسمى غائطا ، وهذا استدلال منه غير واضح ، لأنّه استدل بعموم

ص: 106


1- الوسائل : الباب 52 من أبواب الوضوء ، ح 5 مع اختلاف يسير
2- المائدة : 6.
3- الوسائل : الباب 1 و 2 من أبواب نواقض الوضوء.

الآية ، ثم خصص اللفظ من غير تخصيص فيه ، أو في دليله ، فما بقي لدون المعدة معنى بالتقييد ، بل لأنّه لا يسمى غائطا ، فإن سمّي غائطا أو خرج الغائط من فوق المعدة يلزمه ما لزمه من دون المعدة ، لشمول اللفظ وعموم الآية ، وإلا بطل استدلاله بها رأسا ، فالأولى إطلاق خروجه من موضع في البدن ، من غير تقييد ، حتى يصح الاستدلال بالآية والأخبار.

والريح الخارج من الدبر على وجه متيقن إمّا بأن يسمع الصوت أو يشم الريح ، فأمّا غير ذلك من الخارج من غير الدبر ، إمّا فرج المرأة يعني قبلها أو مسام البدن ، أو ريح متوهمة مشكوك فيها غير متيقنة ، فلا ينقض ذلك الوضوء.

والنوم الغالب على السمع والبصر بمجموع الحاستين على جميع أحوال النائم من صحيح الحاسة. فأمّا غير صحيح الحاسة ، فبأن ينام نوما لو نامه صحيح الحاسة لما سمع ولما أبصر ، وإجماع أصحابنا على أنّ النوم حدث ينقض الوضوء منعقد وقول الرسول « العين وكاء السه » (1) بالسين غير المعجمة المشددة المفتوحة وبالهاء غير المنقلبة عن تاء ، وهي حلقة الدبر ، قال الشاعر :

أدع احيحا باسمه لا تنسه *** إنّ احيحا هو صبيان السه

يعضد ما ذهبنا إليه لأنّه مجمع عليه ، وكل ما أزال العقل ، وفقد معه التحصيل والتمييز من إغماء وجنون ومرة وسكر وغير ذلك من جميع أنواع الأمراض التي يفقد معها التحصّل ويزول التكليف.

وما يوجب الغسل ، فخروج المني على كل حال ، سواء كان دافقا أو غير دافق ، بشهوة كان أبو بغير شهوة ، وما يوجد في بعض كتب أصحابنا من تقييده بالدفق فغير واضح ، إلا انّه لمّا كان الأغلب في أحواله الدفق ، قيّد بذلك.

وغيبوبة الحشفة في فرج آدمي ، سواء كان الفرج قبلا أو دبرا على

ص: 107


1- نهج البلاغة صبحي صالح : في فصل يذكر فيه شيئا من غريب كلامه رقم 466 وقال الرضي ره والأشهر الأظهر انّه من كلام النبي صلى اللّه عليه وآله.

الصحيح من الأقوال ، لأنّه إجماع المسلمين ، ويعضد ذلك قوله تعالى : ( أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ ) (1) ولا خلاف إن من أولج حشفته في دبر امرأة ينطلق عليه أنّه لامس النساء حقيقة وضعية وحقيقة عرفية شرعية ، وأيضا يسمّى الدبر فرجا بغير خلاف بين أهل اللغة ، على أنّ هذه اللفظة إن كانت مشتقة من الانفراج فهو موجود في القبل والدبر ، وإن كانت مختصة بقبل المرأة فذلك ينتقض بقوله تعالى : ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ : إِلّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ) (2) ومعلوم انّه تعالى أراد بذلك الرجال دون النساء ، وسمّي ذكر الرجل وآلة جماعه فرجا ، وهذا ينقض أن تكون اللفظة مختصة بقبل المرأة.

وأمّا الأخبار المتضمنة لذكر غيبوبة الحشفة ، فهي أيضا عامة على الفرجين ، ودالة على الأمرين لأنّ غيبوبة الحشفة في كلّ واحد من الفرجين ، تقتضي تناول الاسم ، وفي الأخبار ما هو أوضح في تناول الأمرين من غيره.

روى محمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن صفوان بن يحيى ، عن العلاء بن رزين ، عن محمد بن مسلم ، عن أحدهما عليهما السلام (3) قال : سألته متى يجب الغسل على الرجل والمرأة؟ قال : إذا أدخلته فقد وجب الغسل والمهر والرجم ، وفي لفظ آخر إذا غيّبت الحشفة (4).

وروى حماد ، عن ربعي بن عبد اللّه ، عن زرارة ، عن أبي جعفر عليه السلام قال : جمع عمر بن الخطاب أصحاب النبي صلى اللّه عليه وآله فقال : ما تقولون في الرجل يأتي أهله فخالطها ولم ينزل؟ فقالت الأنصار : الماء من الماء ، وقال المهاجرون : إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل. وقال عمر لعلي بن أبي طالب عليه السلام : ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال عليه السلام : أتوجبون عليه الرجم ولا

ص: 108


1- المائدة : 6
2- المؤمنون : 5 و 6.
3- في المطبوع : أي الباقر والصادق عليهما السلام
4- الوسائل : الباب 6 من أبواب الجنابة ، ح 1 و 2.

توجبون عليه صاعا من ماء (1).

وقد روي هذا المعنى من طرق كثيرة ، وهذا تنبيه منه عليه السلام على أنّ هذه الأحكام يتبع بعضها بعضا ، وإذا كنّا نوجب في الوطي في الدبر من المرأة الحدّ كما نوجب في القبل ، وجب الغسل في الجميع بشهادة أمير المؤمنين عليه السلام.

وأمّا الأخبار المتضمنة لتعليق الغسل بالتقاء الختانين (2) فلا دلالة فيها عليها ، لأنّ أكثر ما يقتضيه أن يتعلّق وجوب الغسل بالتقاء الختانين ، وقد توجب ذلك ، وليس هذا بمانع من إيجابه في موضع آخر لا التقاء فيه لختانين إلا من حيث دليل الخطاب ، وذلك غير معتمد ولا معوّل عليه عند المحققين لأصول الفقه ، على أنّهم يوجبون الغسل بالإيلاج في قبل المرأة ، وإن لم يكن هناك ختان ، فقد عملوا بخلاف ظاهر الخبر.

فإذا قالوا : المرأة وإن لم تكن مختونة فذلك موضع الختان من غيرها؟ قلنا : هذا على كلّ حال عدول عن الظاهر ، لأنّ الخبر علّق الحكم فيه بالختان لا بتقدير موضعه ، وإذا أوجبنا حكم الغسل فيما لم يلتق فيه ختانان على الحقيقة فبدليل آخر ، وهكذا نصنع فيما خالفتم فيه.

وأمّا ما يوجد في الروايات والأخبار والكتب فلو كان صريحا في تضمّنه خلاف ما ذكرناه ، لم يجب الالتفات إليه فيما يدل القرآن والإجماع والأخبار المتظاهرة المشهورة على خلافه ، فضلا أن يكون لفظه محتملا ، لأنّهم يدّعون انّ من وطأ امرأة في دبرها ولم ينزل فلا غسل عليه ، ويمكن حمله على وطئها من جهة الدبر دون الفرج ، وكما أنّه يطأ من جهة القبل في الفرج وفيما دونه ، فكذلك قد يطأ من جهة الدبر في الفرج وفيما دونه ، ويوجد في روايات أصحابنا

ص: 109


1- الوسائل : الباب 6 من أبواب الجنابة ، ح 5 و 2.
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب الجنابة ، ح 5 و 2.

ما هو صريح في أنّ الوطي في الدبر بغير إنزال يقتضي الغسل (1) ، فهو معارض لتلك الأخبار.

فإن قيل : قد دللتم على أنّ الفاعل يجب عليه الغسل ، فمن أين أنّ الغسل أيضا واجب على المفعول به؟ قلنا : كلّ من أوجب ذلك على الفاعل أوجبه على المفعول به ، والقول بخلاف ذلك خروج عن الإجماع.

فأمّا ما يوجد في بعض كتب شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه مما يخالف ما اخترناه ، ويقتضي ظاهره ضدّ ما بيّناه ، فيمكن تأويل ما أورده بالمذكور ، وأيضا فقد اعتذرنا له في مواضع ، وقلنا أورده إيرادا لا اعتقادا.

والدليل على ذلك ما أورده في مبسوطة في الجزء الثالث في كتاب النكاح ، قال : فصل في ذكر ما يستباح من الوطي وكيفيته ، قال : يكره إتيان النساء في أحشاشهن يعني أدبارهن وليس بمحظور ، قال : والوطي في الدبر يتعلق به أحكام الوطي في الفرج ، من ذلك إفساد الصوم ، ووجوب الكفارة ، ووجوب الغسل ، وان طاوعته كان حراما محضا ، كما لو أتى غلاما وإن أكرهها فعليه المهر ، ويستقر به المسمّى ، ويجب به العدة ، قال : وروي في بعض أخبارنا أنّ نقض الصوم ، ووجوب الكفارة ، والغسل ، لا يتعلق بمجرد الوطي ، إلا ان ينزل ، فإن لم ينزل فلا يتعلق عليه ذلك ، فانظر أرشدك اللّه فهل هذا قول موافق لما اخترناه أو مخالف له؟ وقال في مبسوطة في الجزء الأوّل في فصل في ذكر غسل الجنابة وأحكامها : فأمّا إذا أدخل ذكره في دبر المرأة أو الغلام ، فلأصحابنا فيه روايتان ، إحداهما يجب الغسل عليهما ، والثانية لا يجب عليهما ، هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

قال محمد بن إدريس : إذا كانت إحدى الروايتين يعضدها القرآن والأدلة ،

ص: 110


1- الوسائل : الباب 12 من أبواب الجنابة ، ح 1.

فالعمل بها هو الواجب ، ورفض الرواية الأخرى لتعريها عن البرهان ، وقال رحمه اللّه في كتاب الصوم في الجزء الأول من مبسوطة أيضا : والجماع في الفرج أنزل أو لم ينزل ، سواء كان قبلا أو دبرا فرج امرأة أو غلام ، أو ميتة ، أو بهيمة ، وعلى كلّ حال ، على الظاهر من المذهب (1). هذا آخر كلامه ، ألا تراه رحمه اللّه قد سمّى الدبر فرجا ، وقوله في الجماع في الفرج « سواء كان قبلا أو دبرا ».

وافتى في الحائريات في المسألة الثانية والأربعين عن الرجل إذا جامع امرأته في عجيزتها وأنزل الماء أو لم ينزل ، ما الذي يجب عليه؟ فقال : الجواب ، الأحوط أنّ عليهما الغسل أنزلا أو لم ينزلا. وفي أصحابنا من قال : لا غسل في ذلك إذا لم ينزلا ، والأول أحوط. فهذا فتوى منه وتصنيفه ، وما أومأت إلى ما أومأت ، إلا بحيث لا ينبغي أن يقلّد إلا الأدلة دون الرجال والكتب.

والحيض ، والنفاس ، ومس الأموات من الناس بعد بردهم بالموت ، وقبل تطهيرهم بالغسل ، على خلاف بين الطائفة ، والصحيح وجوب الغسل.

والقسم الثالث دم الاستحاضة ، فإنّه إذا خرج قليلا لا ينقب الكرسف ، نقض الوضوء لا غير ، وإن نقب أوجب الغسل ، وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا عبارة عن حدّ القليل غير واضحة ، بأن قال : وحدّه أن لا يظهر على القطنة ، والمقصود من ذلك أن لا يظهر على القطنة إذا استدخلتها المرأة إلى الجانب الآخر ، وهو أن يثقبها ويظهر عليها ، فلا يظن ظان انّه أراد بالعبارة أن لا يظهر على القطنة جملة ، من أي جانب كان ، فليس هذا المراد ، لأنه إن لم يظهر عليها جملة ، فليس هي مستحاضة ، ولا ينقض الوضوء شي ء سوى ما ذكرناه.

وجملة الأمر وعقد الباب أن يقول : ناقض الطهارة المائية اثنا عشر شيئا.

ستّة تنقض الوضوء ولا توجب الغسل ، وستّة منها تنقض الوضوء وتوجب

ص: 111


1- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر ما يمسك عنه الصائم.

الغسل ، والذي ينقض الوضوء ولا يوجب الغسل ، البول ، والغائط ، والريح ، والنوم الغالب على السمع والبصر ، وكلّ ما أزال العقل ، من سائر أنواع المرض ، والاستحاضة على بعض الوجوه ، وهو أن يكون الدم قليلا لا ينقب الكرسف على ما مضى شرحنا له.

وقد يوجد في بعض الكتب ، خمسة تنقض الوضوء ولا يذكرون السادس والاعتذار عنهم انّ تركهم لذكره ، لأنّهم ما ذكروا إلا الذي هو ناقض الوضوء هو بنفسه ، غير منقسم في نفسه مثال ذلك أحد الخمسة البول غير منقسم في نفسه لأنّه ليس له حالة اخرى ينقض الوضوء ويوجب الغسل ، والقسم السادس له حالة اخرى ينقض الوضوء ويوجب الغسل وهو إذا كثر الدم ونقب ، فلأجل ذلك قالوا خمسة يعنون الناقض الذي لا ينقسم في نفسه ، والمحصّل والمحقق ما ذكرناه أولا.

والستة التي توجب الأغسال : إنزال المني ، وغيبوبة الحشفة في فرج آدمي ، سواء كان ذكرا أو أنثى كبيرا أو صغيرا ميتا أو حيا ، والحيض ، والنفاس ، والاستحاضة على بعض الوجوه ، احترازا من القسم الذي ينقض الوضوء ولا يوجب الغسل ، وهو القليل الذي لا ينقب الكرسف ، وهذا القسم المراد به الكثير الذي ينقب الكرسف فإنّه يوجب الغسل ، ومسّ الأموات من الناس بعد بردهم بالموت ، وقبل تطهيرهم بالغسل ، فهذه اثنا عشر شيئا.

فإمّا ناقض الطهارة الترابية فجميع ذلك ، ويزيد عليها وجود الماء مع التمكن من استعماله ، فصارت نواقض الطهارة الترابية ، ثلاثة عشر شيئا فجميع الأغسال الرافعة للأحداث لا يستباح بمجردها الصلوات ، إلا غسل الجنابة فحسب ، فإنّ الصلاة تستباح

بمجرده ، من غير خلاف بين فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، فأمّا ما عداه من الأغسال ، فقد اختلف قول أصحابنا فيه ، فمنهم من يستبيح بمجرّده الصلاة ، ويجعله مثل غسل الجنابة ، يحتج بأنّ الصغير يدخل

ص: 112

في الكبير ، ومنهم وهم المحققون المحصّلون الأكثرون ، لا يستبيحون الصلاة بمجرّده ، ولا بدّ لهم في استباحة الصلاة من الوضوء ، إمّا قبله أو بعده.

وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا ، انّ كيفية غسل الحائض مثل كيفية غسل الجنب ، ويزيد بوجوب تقديم الوضوء على الغسل ، وهذا غير واضح من قائله ، بل الزيادة على غسل الجنابة ، أن لا تستبيح الحائض إذا طهرت بغسل حيضها وبمجرّده الصلاة ، كما يستبيح الجنب ، سواء قدمت الوضوء أو أخرت ، فإن أراد يجب تقديم الوضوء على الغسل ، فغير صحيح ، بغير خلاف.

والذي يدل على ما اخترناه من القولين ، قول اللّه سبحانه ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ ) (1) فأوجب على كلّ قائم إلى الصلاة مسح بعض الرأس ، ومسح الرجلين ، فمن استباح الصلاة بمجرّد الغسل لم يمتثل الأمر ، ولا أتى بالمأمور به ، لأنّه ما مسح واللّه تعالى أمرنا إذا أردنا الصلاة أن نكون غاسلين ماسحين.

فإن قيل : هذا يلزمكم مثله في غسل الجنابة؟ قلنا : أنت موافق لنا في غسل الجنابة ، ودليل ذلك قوله تعالى : ( وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا ) ومن اغتسل فقد تطهّر ، فما أوجب على الجنب إذا أراد استباحة الصلاة إلا ان يطهر بالاغتسال فحسب ، فأخرجنا الجنب بهذا اللفظ ، وبقي الباقي على عمومه وشموله.

وأيضا الإجماع حاصل على استباحة الجنب الصلاة بمجرد الغسل ، وليس ينتقض الوضوء بشي ء خارج عما ذكرناه من قلس بفتح اللام ، أو دم سائل ، أو قي ء ، أو مذي ، أو ودي بالدال غير المعجمة ، أو مس فرج ، أو غير ذلك ، فما وقع الخلاف فيه ، وذكره يطول ، فأمّا الدود الخارج من أحد السبيلين ، أو الشيافة ، أو الحقنة بالمائعات ، فإن خرج شي ء من ذلك خاليا من نجاسة ، فلا

ص: 113


1- المائدة : 6.

وضوء وإن كان عليه شي ء من العذرة أو البول فحسب انتقضت الطهارة بما صحبها من ذلك ، لا بخروج ذلك الشي ء.

باب الجنابة وأحكامها وكيفية الطهارة منها

الجنابة في اللغة هي البعد ، قال الأعشى : أتيت حريثا زائرا عن جنابة ، يعني عن بعد ، وهي في الشريعة كذلك ، لأن الجنب بعد عن أحكام المتطهرين ، لأنّ المتطهر يستبيح ما لا يستبيحه الجنب ، من الجلوس في المساجد وغير ذلك ، والجنب بعد عن ذلك ، لحدثه ، ويصير الإنسان جنبا ، ويتعلّق به أحكام المجنبين ، من طريقين فحسب لا ثالث لهما.

أحدهما إنزال الماء الذي هو المني سواء خرج دافقا أو مقارنا للشهوة ، أو لم يكن كذلك ، في النوم كان ، أو في اليقظة ، وعلى كل حال ، على ما مضى شرحنا له.

والآخر غيبوبة الحشفة ، على ما ذكرناه وحققناه من قبل ، وهذان الحكمان يشترك فيهما الرجال والنساء ، فإن جامع الرجل امرأته فيما دون الفرج الذي حققناه وبيّناه ، وأنزل ، وجب عليه الغسل ، وإن لم ينزل فليس عليه الغسل ، وكذلك المرأة.

وذكر بعض أصحابنا (1) في كتاب له ، فقال : فإن جامع الرجل امرأته فيما دون الفرج ، وأنزل ، وجب عليه الغسل ، ولا يجب عليها ذلك ، فإن لم ينزل فليس عليه أيضا الغسل ، فإن أراد بقوله الفرج القبل فحسب ، فغير مسلم ، وإن أراد بالفرج القبل والدّبر معا ، وأراد بجماعة فيما دونهما ، فصحيح قوله على ما بيّناه وأوضحناه ، فكلامه محتمل ، فلا يظن بمصنف الكتاب ، إلا ما قام عليه الدليل ، دون ما لم يقم عليه ، إذا كان الكلام محتملا ، مع إيرادنا كلامه وقوله وفتواه ، من غير احتمال للتأويل الذي ذكره في مبسوطة (2) ، وجوابات

ص: 114


1- وهو الشيخ رحمه اللّه في النهاية في باب الجنابة
2- المبسوط : في غسل الجنابة وأحكامها.

الحائريات (1).

ومتى انتبه الرجل ، فرأى على ثوبه ، أو فراشه ، منيا ، ولم يذكر الاحتلام ، ولم يكن ذلك الثوب أو الفراش يشاركه فيه غيره ، وينام فيه سواه ، وجب عليه الغسل ، سواء قام من موضعه ثمّ رأى بعد ذلك أو لم يقم. فأمّا إن شاركه في لبسه والنوم فيه مشارك ، ممّن يحتلم ، فلا يجب عليه الاغتسال سواء قام من موضعه ثم رأى بعد ذلك ، أو لم يقم.

وذكر بعض أصحابنا في كتاب له ، انّه إذا انتبه الرجل فرأى على ثوبه أو فراشه منيا ، ولم يذكر الاحتلام ، وجب عليه الغسل ، فإن قام من موضعه ، ثمّ رأى بعد ذلك ، فإن كان ذلك الثوب أو الفراش مما يستعمله غيره ، لم يجب عليه الغسل ، وإن كان ممّا لا يستعمله غيره ، وجب عليه الغسل ، فاعتبر المشاركة بعد القيام من موضعه ، ولم يعتبرها قبل قيامه.

والصحيح ما اخترناه وإلى هذا ذهب السيّد المرتضى رحمه اللّه في مسائل خلافه (2) فقال : عندنا أنّه من وجد ذلك في ثوب أو فراش يستعمله هو وغيره ، ولم يذكر الاحتلام فلا غسل يجب عليه ، لتجويزه أن يكون من غيره ، فإن وجد فيما لا يستعمله سواه ، ولا يجوز فيما وجده من غيره فيلزمه الغسل ، وإن لم يذكر الاحتلام.

وقال أبو حنيفة ومالك ومحمد والثوري والأوزاعي : يغتسل ، وإن لم يذكر الاحتلام.

وقال ابن حي : إن وجده حين استيقظ ، اغتسل ، وإن وجده بعد ما يقوم ويمشي ، فلا غسل عليه.

وقال الشافعي : أحب له أن يغتسل ، هكذا حكى الطحاوي عنه في الاختلاف ، والذي قاله الشافعي في الأم مثل ما حكينا من مذهبنا من والدليل على صحّة مذهبنا ، انّه إذا وجد المني ولم يذكر الاحتلام ، وهو يجوز

ص: 115


1- جواب الحائريات
2- الخلاف للسيد المرتضى.

أن يكون من غيره ، ولا يقين معه بما يوجب الغسل ، وهو على يقين متقدم ببراءة ذمته منه ، فإنه على أصل الطهارة ، فلا يخرج عن ذلك اليقين إلا بيقين مثله ، وإذا وجده فيما لا يشتبه ، ولا يستعمله غيره ، فقد أيقن بأنّه منه ، فوجب الغسل إذ قد بينا أنّه لا يعتبر بمقارنة خروجه للشهوة.

فأمّا فرق ابن حي ، بين أن يصادفه حين انتباهه ، وبين أن يقوم ويمشي ، فلا وجه له ، من حيث كان إذا فارق الموضع ، يجوز أن يكون من غيره ، فإذا صادفه في الحال ، لم يكن إلا منه ، والتقسيم الذي ذكرناه أولى ، لأنه إذا جوّز فيما يصادفه ان يكون من غيره ، كتجويزه فيما يفارقه ، لم يجب عليه الغسل في الموضعين ، فلا معنى لاعتبار المشي ، بل المعتبر ما ذكرناه ، هذا آخر كلام المرتضى رحمه اللّه فهو واضح ، سديد في موضعه.

وذكر بعض أصحابنا في كتاب له ، وهو شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) فقال : ومتى خرج من الإنسان ماء كثير لا يكون دافقا لم يجب عليه الغسل ، ما لم يعلم انّه مني ، وإن وجد من نفسه شهوة ، إلا أن يكون مريضا ، فإنّه يجب عليه حينئذ الغسل متى وجد من نفسه شهوة ، ولم يلتفت إلى كونه دافقا ، وغير دافق ، فإن أراد هذا القائل باستثنائه المريض ، انّه إذا خرج منه ماء كثير ولا يكون منيا ووجد من نفسه شهوة يجب عليه الغسل ، فهذا غير واضح ، إذ قد بيّنا انّ الجنابة لا تكون إلا بشيئين فحسب ، ولا يتعلّق على الإنسان أحكام المجنبين إلا من طريقين : إحديهما : خروج المني على كل حال ، سواء كان دافقا أو غير دافق ، بشهوة أو غير شهوة ، والأخرى : غيبوبة الحشفة في فرج آدمي ، لا ثالث لهما وإن استثناه من الدّفق ، فلا اعتبار بالشهوة ، ولا بالدفق ، بانفراد كلّ واحد منهما ، أو باجتماعهما ، من مريض جاء أو من صحيح ، إذا لم يكن المني موجودا ،

ص: 116


1- النهاية : باب الجنابة.

فاذن لا وجه لاستثنائه إذا كان المعتبر المني فحسب ، سواء كان من صحيح أو مريض ، معه دفق وشهوة ، أو لم يكونا مقارنين له ، والظاهر من كلامه في كتابه انّه زاد بما ذكره قسما ثالثا على المني والتقاء الختانين ، بدليل قوله عقيب ذلك ، ومتى حصل الإنسان جنبا بأحد هذه الأشياء فقد جمع وأقل الجمع ثلاثة عند المحقّقين ، ولو لم يرد ذلك ، لقال بأحد هذين الشيئين ، يعني المني والتقاء الختانين ، فليتأمل ذلك ويلحظ ، فإنّه واضح للمستبصر.

ومتى صار الإنسان جنبا بما قدّمناه من الحكمين فلا يدخل شيئا من المساجد إلا عابر سبيل إلا المسجد الحرام ، ومسجد الرّسول عليه السلام ، فإنّه لا يدخلهما على حال فإن كان نائما في أحدهما واحتلم وأراد الخروج ، فإنّه يجب عليه أن يتيمم من موضعه ، ثمّ يخرج ، وليس عليه ذلك في غيرهما من المساجد.

وجملة الأمر وعقد الباب ، انّه يحرم عليه ستة أشياء ، قراءة العزائم من القرآن ، ومس كتابة القرآن ، ومسّ كتابة أسماء اللّه تعالى ، وأسماء أنبيائه ، وأئمته عليهم السلام ، والجلوس في المساجد ووضع شي ء فيها ، ولا بأس بأخذ ما يكون له فيها ، محلّل له ذلك ، جائز سائغ ، والجواز في مسجدين ، المسجد الحرام ، ومسجد النبي صلى اللّه عليه وآله محرّم ، وله أن يقرأ جميع القرآن ، سوى ما استثناه من الأربع السور ، من غير استثناء لسواهن ، على الصحيح من المذهب والأقوال. وبعض أصحابنا لا يجوّز إلا ما بينه وبين سبع آيات ، أو سبعين آية ، والزائد على ذلك يحرّمه ، مثل الأربع السور ، والأظهر الأول ، لقوله تعالى : « فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ » (1) وحرّمنا ما حرّمناه بالإجماع ، وبقي الباقي داخلا تحت قوله تعالى : « فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ ».

ويكره أن يأكل الجنب الطعام ، أو يشرب الشراب ، فإن أرادهما

ص: 117


1- المزمل : 20.

فليتمضمض أولا ، وليستنشق ، ويكره له أن ينام قبل الاغتسال ، فإن أراد ذلك توضأ ونام إلى وقت الاغتسال.

فإذا أراد الجنب الاغتسال من الجنابة ، فمن السنن والآداب أن يجتهد في البول إن كان رجلا ليخرج بقية المني إن كانت ، فإن لم يتيسر البول فلينتر (1) قضيبه من أصله إلى رأسه نترا يستخرج شيئا إن كان بقي فيه ، ثم يغسل يديه ثلاثا ، قبل إدخالهما الإناء ، ثم يغسل فرجه ، وما يليه ، ويزيل ما لعلّه تبقّى من النجاسة عليه ، ثم ليتمضمض ثلاثا ، ويستنشق ثلاثا.

وبعض أصحابنا يذهب إلى أنّ الاستبراء بالبول أو الاجتهاد ، واجب على الرجال ، وبعضهم يذهب إلى أنّه مندوب شديد الندبية ، وهو الأصح ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولا يعلق عليها شي ء إلا بدليل قاطع وقد بيّنا أنّ الإجماع غير منعقد على ذلك فيحتاج مثبتة إلى دليل ، غير الإجماع ، ولا دليل على ذلك.

فأمّا باقي ما ذكرناه فآداب وسنن بغير خلاف.

ويجب على المغتسل ، أن يوصل الماء إلى جميع بشرته وأعضائه ، حتى لا يبقى شي ء من ذلك لا يوصل الماء إليه ، ويجتهد فيما ذكرناه غاية الاجتهاد.

والترتيب واجب فيه ، وهو أن يقدّم غسل رأسه ، ثم ميامن جسده ، ثم مياسره. فإن أخّر مقدّما ، أو قدّم مؤخّرا ، رجع فتداركه كما قلناه في الوضوء ، فإن غسل الإنسان مياسره أولا ، ثمّ رأسه ثانيا ، ثمّ ميامنه ثالثا ، فإن كان نوى عند المضمضة والاستنشاق ، أو عند غسل اليدين المستحب ، أو عند غسل رأسه ، فلا يجب عليه اعادة غسل رأسه ثانيا ، ولا اعادة غسل ميامنه ، لأنّها قد حصلت مرتبة ، بل يجب عليه اعادة غسل مياسره ثانيا ، ولا يجزيه ما فعله من غسلها ، فإن كان لم ينو عند المضمضة والاستنشاق ، أو عند غسل يديه ولا عند غسل

ص: 118


1- لينتر من باب نصر - نتر أي جذب.

رأسه ، فإنّه يجب عليه اعادة غسل رأسه ثانيا ، واعادة غسل ميامنه ، لأنّه حصل مغسولا بغير نية الطهارة ، فليلحظ ذلك ، وليتأمّل ، وهكذا إذا غسل ميامنه أوّلا ، ثم رأسه ثانيا ، ثم مياسره ثالثا ، والقول في ذلك على ما حرّرناه وبيّناه ، فالطريقة واحدة ، واللّه الموفق للصواب.

والموالاة التي أوجبناها في الوضوء لا تجب في الغسل ، وجائز أن يفرّقه ، كما انّه يغسل رأسه في أوّل النهار ، ويتم الباقي من جسده في وقت آخر.

فإن أحدث فيما بين الوقتين حدثا ، من جملة الستة التي تنقض الوضوء ولا توجب الغسل ، فقد اختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة أقوال : قائل يقول يجب عليه اعادة غسل رأسه.

وقائل يقول لا يجب عليه اعادة غسل رأسه ، بل يتمم غسل ميامنه ومياسره ، فإذا أراد الصلاة ، فلا بد له من وضوء ، ولا يستبيحها بمجرد ذلك الغسل.

وقائل يقول لا يجب عليه اعادة غسل رأسه ، وإن أراد الصلاة يستبيحها بمجرّد غسله بعد إتمامه باقي جسده.

وهذا القول هو الذي تقتضيه الأدلة وأصول المذهب ، لأنّ إعادة غسل رأسه لا وجه لها لأنّ بالإجماع انّ ناقض الطهارة الصغرى لا يوجب الطهارة الكبرى بغير خلاف.

فأمّا القائل بأنّه لا يعيد غسل رأسه ، بل يتمم غسل باقي جسده ، فإذا أراد الصّلاة فلا بد له من الوضوء ، فباطل أيضا ، لأنّ هذا بعد حدثه الأصغر جنب ، وأحكام المجنبين يتناوله ، بغير خلاف ، من قوله تعالى : « وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا » (1) وقوله تعالى : « وَلا جُنُباً إِلّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا » (2) فأجاز تعالى

ص: 119


1- المائدة : 6.
2- النساء : 43.

الدخول في الصّلاة بعد الاغتسال ، وهذا قد اغتسل بغير خلاف لأنّ هذا القائل يوافق على أنّه قد ارتفع حدثه الأكبر وقد اغتسل ، فالآية بمجردها تقتضي استباحة الصّلاة بمجرد اغتساله ، فمن منعه وأوجب عليه شيئا آخر مع الاغتسال يحتاج إلى دليل ، وزيادة في القرآن وإضمار لم يقم عليه دليل عقلي ولا سمعي وأيضا فالإجماع منعقد بغير خلاف ، انّ بمجرّد غسل الجنابة تستباح الصّلاة ، على ما مضى شرحنا له ، وهذا قد اغتسل بغير خلاف ، ولم يحدث بعد غسله ، وكماله ، ما ينقض طهارته.

ويزيد ما اخترناه وضوحا ، ما ذكره السيد المرتضى رحمه اللّه في مسائل خلافه عند مناظرته المخالفين في الماء المستعمل في الطهارة الصغرى والكبرى ، قال :

الماء المستعمل عندنا طاهر مطهّر يجوز الوضوء والاغتسال به ، وذلك مثل أن يجمع الإنسان وضوءه من الحدث أو غسله من الجنابة في إناء نظيف ، ويتوضأ به ، ويغتسل به دفعة اخرى ، بعد أن لا يكون على بدنه شي ء من النجاسات ، واستدل فقال : لو كان استعمال الماء يمنع من جواز الطهارة به ، لكان ملاقاته لأول العضو موجبا لاستعماله ، ومانعا من إجرائه على بقية العضو ، وهذا يقتضي أن يأخذ لكل جزء ماء جديدا ، فلمّا اتفقوا على أنّ صب أحدنا الماء على رأسه ، وإفاضته على بدنه ، يجزيه في الطهارة ، مع ملاقاته لأوّل جزء من بدنه ، دلّ ذلك على أنّ استعمال الماء ، لا يمنع من الوضوء به.

فإن قالوا : الماء لا يحكم له بحكم الاستعمال ، حتى يسقط عن جميع العضو ويفارقه ، وما دام على العضو ، فليس بمستعمل.

قلنا لهم : لا فرق بينكم وبين من قال والماء لا يحكم له بحكم الاستعمال حتى يسقط عن الأعضاء كلها ، لأنّ حكم الحدث لا يزول ، والطهارة لا تتم إلا بعد غسل كلّها ، لأنّها تجري مجرى العضو الواحد في حكم العضو ، فإذا جعلتموه

ص: 120

مستعملا في أحد الأعضاء دون جميعها لزمكم أن يكون مستعملا في بعض العضو.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : هذا آخر كلام المرتضى رحمه اللّه ، ألا ترى إلى قوله : لأنّ حكم الحدث لا يزول ، والطهارة لا تتم إلا بغسل كلّها ، لأنّها تجري مجرى العضو الواحد ، فإذا كانت تجري مجرى العضو الواحد ، فغسل بعضها غير معتدّ به ، وبقية بعضها مثل بقيتها جميعها ، وحكمه حكمها قبل الشروع فيها ، فليلحظ ما قد حققه رضي اللّه عنه.

وقد يوجد في بعض الكتب ، انّ للجنب أن يغسل رأسه بالغداة ، ثم يغسل سائر جسده بالعشي ، فيعتقد من يقف على ذلك أنّ المراد بالعشي دخول الليل والعشاء الأول ، والمراد بالعشي في هذا الموضع خلاف ما اعتقده من يعتقده ، بل المراد بالعشي هنا آخر النّهار. قال حميد بن ثور الهلالي :

فلا الظل من برد الضحى نستطيعه *** ولا الفي ء من برد العشي نذوق

وإن ارتمس الجنب ارتماسة واحدة أجزأه ، ويسقط الترتيب وقال بعض أصحابنا : يترتب حكما ، وليس بواضح ، بل الأظهر سقوط الترتيب ، للإجماع الحاصل على ذلك ، وأحكام الشريعة تثبتها بحسب الأدلّة الشرعية.

والمستحب أن يفيض على رأسه ثلاث أكف من الماء ، ويغسل رأسه بها ، وما يليه من عنقه ، ويخلل شعر رأسه ، وشعر لحيته ، ويميزه ، حتى يصل الماء إلى أصوله ، ثم يأخذ ثلاث أكف لجانبه الأيمن ، فيغسل بها من عنقه إلى تحت قدمه الأيمن ، ثم يأخذ ثلاث أكف لجانبه الأيسر ، فيفعل فيه كما فعل بالجانب الأيمن ، وكف واحد هو الواجب إذا استوعب العضو المغسول به ، فإن لم يستوعبه ، فالواجب عليه الزيادة على ذلك حتى يغسله جميعه ويستوعبه غسلا ، ولو بلغت الزيادة مائة كف مثلا ، بل المستحب بعد استيعاب العضو المغسول ، كفان آخران ، ويمر يديه على جميع جسده ، ويجتهد في وصول الماء إلى جميع بشرته ، والبشرة هي ظاهر الجلد.

ص: 121

وإمرار اليد عندنا غير واجب ، بل مستحب ، وكذلك في الطهارة الصغرى ، إمرار اليد على الوجه والذراعين غير واجب ، بل الواجب الغسل فحسب ، بما يتأثر (1) به الغسل ، سواء كان ذلك باليد ، أو بتغويص الوجه في الماء ، وكذلك الذراع واليد ، أو بانسكاب بزال (2) على ذلك ، حتى يستوعبه غسلا.

ومن وجد بعد الغسل بللا ، وكان قد بال ، أو اجتهد إذا لم يتأت له البول ، فلا غسل عليه ، ولا وضوء ، إلا أن يكون بال ، ولم يمسح تحت الأنثيين ، ولا نتر القضيب ، فإنّه يجب عليه الوضوء ، دون اعادة الغسل ، لبقية البول في قضيبه ، وهذا حكم جميع من بال من الرجال وتوضأ قبل أن يستبرئ ثم وجد بللا ، سواء كان جنبا أو غيره ، وهذه الأحكام ، انّما تلزم الجنب إذا كانت جنابته عن إنزال ، فأمّا إن كانت جنابته عن غيبوبة الحشفة ، ولم ينزل ، فلا يلزمه اعادة الغسل ، سواء وجد بللا بعد غسله ، أو لم يجد ، بال قبل غسله ، أو لم يبل ، فإن كانت جنابته عن إنزال ، فإن كان لم يبل أعاد الغسل ، إذا وجد البلل بلا خلاف على القولين ، عند من لا يرى وجوب الاستبراء ، وعند من رآه.

فأمّا إذا بال قبل اغتساله ، واغتسل ، ثم وجد بعد اغتساله بللا ، يقطع على انّه مني ، فيجب عليه الغسل أيضا ، بلا خلاف ، لقوله عليه السلام : الماء من الماء (3) وليس كذلك إذا وجد بللا بعد بوله واغتساله ، ولم يقطع على انّه مني ، فليلحظ ذلك.

والمرأة إذا رأت بللا بعد الغسل ، لم تعده ، على كل حال ، لأنّ ذلك انّما هو من ماء الرجل على ما وردت به الرواية عنهم عليهم السلام (4) فهذا التفصيل وارد.

والأولى عندي ، انّها إن تيقنت وقطعت على أنّ البلل مني ، فإنها يجب عليها الغسل ، لقوله عليه السلام : الماء من الماء ، فإن لم تتيقن انّه مني ، فلا يجب عليها الغسل ، وان لم تستبرئ قبل غسلها بخلاف الرجل ، فظهر الفرق بينهما وبان.

ص: 122


1- في ل ، والمط : يتأتى
2- البزال : الثقب.
3- الوسائل : الباب 6 من أبواب الجنابة ، ح 5
4- الوسائل : الباب 3 من أبواب الجنابة ، ح 1.

وقد يوجد في بعض الأخبار والكتب ، انّه إذا لم يبل الجنب قبل غسله ، ثم اغتسل ، ووجد بللا ، فإنّه يجب عليه اعادة الغسل ، والصلاة ، إن كان قد صلّى.

قال محمد بن إدريس : إعادة الصّلاة تحتاج إلى دليل ، وانّما يجب عليه اعادة الغسل فحسب ، لقوله عليه السلام : الماء من الماء ، فالغسل الثاني غير الأوّل ، وموجبه غير موجبة ، فبالأوّل قد طهر ، فصلاته صحيحة قبل رؤية البلل ، وقت كونه طاهرا ، واعادة الصّلاة يحتاج إلى دليل قاهر.

وغسل المرأة ، كغسل الرجل ، إلا انّه يستحب لها أن تنقض المظفور من شعرها ، فإذا كان مانعا من وصول الماء إلى البشرة ، وأصول شعرها ، وجب عليها حلّه ونقضه ، لأنّه لا يتم غسلها إلا به.

والغسل من الجنابة ، يجزي عن الأغسال الكثيرة المفروضة والمسنونة ، سواء تقدّم عليها ، أو تأخّر عنها ، ويكون الحكم له ، والنيّة نيته. مثال ذلك : إذا جامع الرجل زوجته ، فقبل أن تغتسل من جنابتها ، رأت دم الحيض فلم تغتسل ، فإذا طهرت من حيضها ، اغتسلت غسلا واحدا للجنابة ، دون غسل الحيض ، وكذلك إن كانت حائضا ثم طهرت ، فقبل أن تغتسل ، جامعها زوجها ، فالواجب عليها أن تغتسل غسل الجنابة ، دون غسل الحيض ، لأنّ غسل الجنابة له مزية وقوة وترجيح على غسل الحيض.

وذلك انّه لا خلاف انّه يستباح بمجرده الصّلوات ، وليس كذلك غسل الحيض ، وأيضا عرف وجوبه من القرآن ، وغسل الحيض من جهة السنّة ، وإن كان في هذا الأخير ضعف ، لأنّ ما يثبت من جهة السنة المتواترة ، فهو دليل ، فلا فرق بينه في الدّلالة وبين ما يثبت من جهة الكتاب ، والمعتمد في ذلك على الإجماع ، بل ذكرنا ما ذكروا ، وأوردنا ما أورده غيرنا.

والأغسال المفروضات ، اختلف قول أصحابنا في عددها ، فبعض يذهب إلى أنّها خمسة فحسب ، وبعض يذهب إلى انّها ستّة ، وبعض يذهب إلى أنّها

ص: 123

سبعة ، والمعتمد من الأقوال الثلاثة أوسطها ، وهو القول بأنّها ستة ، أحدها الغسل من الجنابة ، وغسل الحيض ، وغسل النفاس ، وغسل الاستحاضة على بعض الوجوه على ما مضى شرحنا له ، وغسل الموتى من الناس المحكوم بتغسيلهم ، فهذا مذهب صاحب الخمسة ، وغسل من مس ميتا بعد برده بالموت وقبل تطهيره بالاغتسال ، فهذا هو السادس ، وهو أوسط الأقوال الثلاثة ، وغسل قاضي صلاة الكسوف مع احتراق القرص جميعه ، وكان قد ترك الصلاة متعمدا ، فهذا هو السابع.

وذهب بعض أصحابنا إلى وجوب غسل الإحرام فعلى هذا يكون الأقوال أربعة.

والأغسال المسنونات فكثيرة ، وآكدها ما أنا ذاكره.

غسل يوم الجمعة ، ووقته من عند طلوع الفجر من يوم الجمعة إلى وقت الزوال ، وقد رخّص في تقديمه يوم الخميس ، لمن خاف الفوت.

ويستحب قضاؤه لمن فاته ، إمّا بعد الزوال ، أو يوم السّبت.

وكلما قرب من الزوال كان أفضل.

وإذا اجتمع غسل جنابة ، وغسل يوم جمعة وغيرها ، من الأغسال المفروضات والمسنونات ، أجزأ عنها كلّها غسل الجنابة ، على ما مضى شرحنا له ، فإن نوى الجنابة أجزأ عن الجميع ، وإن نوى بالغسل الغسل المسنون دون غسل الجنابة ، لم يجزه عن شي ء من ذلك ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر ، في مسائل خلافه (1) قال : لأنّ غسل الجمعة انّما يراد للتنظيف ، ومن هو جنب لا يصح ذلك فيه.

قال محمّد بن إدريس : الأقوى عندي انّه يحصل له ثواب غسل الجمعة وإن كان جنبا ، إذ لا تنافي بينهما ، ويعارض شيخنا أبا جعفر بأنّ الحائض يصحّ منها غسل الإحرام ، والجمعة ، مع كونها حائضا ، فإذن لا فرق بينهما إذا لم يكن

ص: 124


1- الخلاف : كتاب الطهارة. المسألة 192.

معه إجماع بالفرق بينهما ، ولو كان إجماع من أصحابنا لذكره في استدلاله.

وغسل ليلة النصف من رجب ، وغسل يوم السابع والعشرين منه ، وليلة النصف من شعبان ، وأول ليلة من شهر رمضان ، وليلة النّصف منه ، وليلة سبع عشرة منه وهي ليلة الفرقان ، لأنّ اللّه تعالى فرّق بين الحق والباطل فيها ، لأنّها ليلة بدر ، ووقعة بدر كان القتال في صبيحتها في شهر رمضان ، سنة اثنتين من الهجرة بعد نزول فرض الصّيام ، لأنّه نزل فرض صيام شهر رمضان يوم الثاني من شعبان ، سنة اثنتين من الهجرة.

وليلة تسع عشرة منه ، وليلة إحدى وعشرين منه ، وليلة ثلاث وعشرين منه ، وليلة الفطر ، ويوم الفطر ، ووقته من طلوع الفجر الثاني إلى قبل الخروج إلى المصلّى ، فإن فاته ذلك فلا قضاء عليه ، ولا ندب إليه ، كما ندب إلى قضاء غسل يوم الجمعة.

وغسل يوم الأضحى ، ووقته وقت غسل يوم الفطر.

وغسل الإحرام أيّ إحرام كان ، سواء كان لحج أو لعمرة.

وغسل دخول الحرم ، وغسل دخول مكة ، وغسل دخول المسجد الحرام ، وغسل دخول الكعبة ، وغسل دخول المدينة ، وغسل دخول مسجد الرّسول عليه السلام ، وغسل زيارته عليه السلام ، وغسل زيارة كلّ واحد من الأئمّة عليهم السلام ، وغسل يوم الغدير ، ويوم المباهلة ، وهو يوم الرابع والعشرين من ذي الحجة على أصحّ الأقوال ، وغسل المولود ، وغسل قاضي صلاة الكسوف إذا احترق القرص كلّه وتركها متعمّدا ، وإن كان بعض أصحابنا يذهب إلى وجوب هذا الغسل على ما بيّناه ، وغسل صلاة الحاجة ، وغسل صلاة الاستخارة ، وغسل التوبة ، وغسل يوم عرفة.

والكافر إذا أسلم لا يجب عليه الغسل ، بل يستحب له ذلك ، وهو داخل في غسل التوبة ، اللّهم إلا أن يكون عليه الغسل للجنابة وغيرها قبل إسلامه ،

ص: 125

فإنّه إذا أسلم يجب عليه الغسل ، لأنّه في حال كفره لا يصحّ منه الغسل ، لأنّه لا يصحّ منه نية القربة ، لأنّه لا يعرف المتقرب اليه ، وإن كان مخاطبا بالشرائع عندنا ، وعند الأكثر من العلماء.

وقد ذهب بعض أصحابنا في كتاب له (1) وهو الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه إلى أنّه إذا رأى الإنسان على ثوبه الذي لا يشاركه فيه غيره منيا ، فإنّه يجب عليه الغسل واعادة صلاته من آخر غسل اغتسل لرفع الحدث.

والذي أذهب إليه ، وافتي به في ذلك ، انّه لا يجب عليه اعادة الصّلوات الواقعة فيما بين الغسلين والاحتلامين ، لأن إعادة الصّلاة تحتاج إلى دليل شرعي قاطع للعذر ، مزيل للريب ، والإنسان المصلي قاطع متيقن لبراءة ذمته بصلاته التي صلّاها في ذلك الثوب ، وهو مجوز أن تكون هذه الجنابة من نومه فيه هذه الليلة ، ومجوز أنها من ليالي قبلها ، والصّلوات التي صلاهن متيقنات ، وقد وقعن شرعيات ، فلا يترك المتيقن للمشكوك فيه ، بل يجب عليه اعادة صلاته التي انتبه وصلاها فحسب ، وفي الأخبار ما يدل على ذلك قد أورده المذكور في استبصاره (2) عن زرعة ، عن سماعة قال : سألته عليه السلام عن الرجل يرى في ثوبه المني بعد ما أصبح ، ولم يكن رأى في منامه انّه قد احتلم ، قال : فليغتسل ، وليغسل ثوبه ، ويعيد صلاته. وما قال يعيد صلواته من آخر غسل اغتسل.

وقالوا عليهم السلام : اسكتوا عمّا سكت اللّه تعالى عنه (3) ولم يورد المذكور رحمه اللّه بإعادة الصلاة إلا هذا الخبر فحسب.

ثم قد علمنا بمتضمنه ، إذا أحسنّا الظن برواية ، وعملنا بأخبار الآحاد ، فكيف والراوي فطحي المذهب ، غير معتقد للحق ، بل معاند له ، كافر! مع انّ

ص: 126


1- المبسوط : كتاب الطهارة في أحكام الجنابة.
2- الاستبصار : الباب 65 من أبواب الجنابة ، ح 1
3- عوالي اللئالي : ج 3 ، ص 166.

الأخبار وإن كانت رواتها عدولا ، فمذهب أصحابنا لا يجوّز العمل بها ولا يسوّغه ، بل معلوم من مذهبهم ترك العمل بها ، لأنّ العمل تابع للعلم ، وأخبار الآحاد لا تثمر علما ، ولا عملا ، وهذا يكاد يعلم من مذهبنا ضرورة ، على ما أصّلناه وحكيناه عن السيّد المرتضى رحمه اللّه في خطبة كتابنا هذا ، ثمّ إنّ السيّد المرتضى رحمه اللّه قد ذكر المسألة في مسائل خلافه على ما أوردناه ، ولم يتعرّض لإعادة الصّلاة جملة.

ثم إنّ الشيخ أبا جعفر رحمه اللّه قال ذلك على سبيل الاحتياط ، هذا دليله في المسألة ، وما أورد دليلا غيره ، ولا متمسكا سواه ، ولا ادّعى إجماعا ، ولا أخبارا.

ثم يمكن أن يعمل بما ذهب إليه رحمه اللّه على بعض الوجوه ، وهو إذا لبس ثوبا جديدا ، ونام فيه ليلة ، ثمّ نزعه ، ولبس ثوبا غيره ، ونام فيه ليالي ، ثمّ بعد ذلك وجد المني في ذلك الثوب الأول المنزوع ، فإنّه يجب عليه حينئذ إعادة الصّلوات ، من وقت نزعه الأول إلى وقت وجوده فيه ، إذا لم يكن قد اغتسل بعد نزعه وكان قد اغتسل قبل لبسه الأوّل بلحظة ، فيجب عليه في هذه الصّورة إعادة الصّلاة التي وقعت بين الغسلين ، فقد عملنا بقوله على ما ترى على بعض الوجوه.

ونية الغسل لا بدّ منها ، وكذلك كلّ طهارة ، وضوء كانت أو تيمّما.

فامّا وقت النيّة ، فالمستحب ، أن يفعل إذا ابتدأ بغسل اليدين ، ويتعيّن فعلها إذا ابتدأ بغسل الوجه في الوضوء ، أو الرأس في غسل الجنابة ، وغيره من الأغسال ، لا يجزي ما تقدّم على ذلك ولا يلزمه استدامتها إلى آخر الغسل والوضوء بل يلزم استمراره على حكم النية ، ومعنى ذلك أن لا ينتقل من تلك النية إلى نية تخالفها ، فإن انتقل إلى نية تخالفها وقد غسل بعض أعضاء الطهارة ثمّ تمم لم يرتفع حدثه فيما غسل بعد نقل النيّة ونقضها ، فإن رجع إلى النيّة

ص: 127

الأولى نظرت ، فإن كانت الأعضاء التي وضّاها ندية بعد بنى عليها ، وإن كانت قد نشفت ، استأنف الوضوء ، كمن قطع الموالاة.

فأمّا في غسل الجنابة فإنه يبني على كل حال ، لأنّ الموالاة ليست شرطا فيها.

والتسمية عند الطهارة مستحبة غير واجبة.

فاما نيّة هذا الغسل ، فإن كان الجنب ، عليه صلاة واجبة ، أو قد دخل عليه وقت صلوات واجبة ، أو قد تعيّن عليه طواف واجب ، وأراد الاغتسال من جنابته ، فيجب عليه أن ينوي الاغتسال لرفع الحدث واجبا ، قربة إلى اللّه تعالى ، ويكون الغسل هاهنا واجبا عليه ، وكذلك النية ، لأن الغسل طهارة كبرى ، هي شرط في استباحة الصلاة ، فمهما لم تجب الصّلاة على الجنب لا تجب عليه هذه الطهارة التي هي شرط فيها ، فإن لم يدخل عليه وقت صلاة واجبة ، ولا عليه صلاة واجبة ، ولا تعيّن عليه طواف واجب ، فغسله ونيّته مندوبان.

والذي يدلّ على ذلك ، ما ذكره محقّقو هذا الفن ، ومصنّفو كتب أصول الفقه ، وهو انّ الغسل قبل وقت الصلاة المفروضة ، والطواف المفروض ، لا يشارك الغسل بعد دخول الوقت ، في وجه الوجوب ، لأنّ وجه وجوب الغسل كونه شرطا في صلاة هي واجبة على المكلف المغتسل في الحال ، وذمّته مشغولة بها ، وهذا الوجه غير قائم في الغسل قبل دخول وقت الصّلاة المفروضة ، وقد ورد عن الأئمة عليهم السلام ما يدل بصريحه وفحواه على ما ذكرناه (1) ، وقد أورد بعضه الشيخ السّعيد أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتابه تهذيب الأحكام : قال روى فلان عن فلان ورفع الحديث إلى الصادق عليه السلام قال : قلت له : امرأة جامعها زوجها فقامت لتغتسل ، فهي في المغتسل جاءها دم الحيض قبل أن تغتسل ، أتغتسل من جنابتها أم لا ، فقال عليه السلام : قد جاءها شي ء يفسد عليها

ص: 128


1- الوسائل : الباب 14 من أبواب الجنابة ، ح 2.

الصّلاة ، لا تغتسل (1) ألا تراه عليه السلام إنّما علّقه بالصّلاة ولأجل الصلاة فلمّا سقط تكليفها بالصّلاة لأجل الحيض ، قال : لا تغتسل ، انّما كانت تغتسل لأجل الصّلاة ، ولا لشي ء سوى ذلك.

وأيضا فإن الرّسول عليه السلام ، كان يطوف على تسع نساء بغسل واحد ، فلو كان واجبا ، لما جاز له تركه ، لأنّه كان يخل بالاغتسال الذي هو الواجب ، ويتركه ، ولا خلاف في أنّ ترك الواجب قبيح عقلا وسمعا ، وحوشي عليه السلام عن ذلك.

وأيضا فلا خلاف بين المسلمين ، وخصوصا علماء أهل البيت عليهم السلام وطائفتهم أنّ الإنسان إذا أجنب أول الليل له أن يترك الاغتسال ، وينام إلى دخول وقت صلاته ، فحينئذ يجب عليه الاغتسال لأجل الصّلاة ، فلو كان الغسل من الجنابة واجبا على كلّ حال ، وان المكلف إذا صار جنبا يجب عليه الاغتسال بعده ، وفي كل وقت ، لكان يلزم على ذلك أشياء ، لا قبل لملتزمها إلا العود عن مقالته ، والرّجوع إلى جماعته ، أو الخروج عن إجماع أهل نحلته ، أو العناد لديانته ، من جملتها انّه إذا جامع زوجته ونزع وتخلّص من حال مجامعته يجب عليه الاغتسال لوقته بلا فصل وساعته ، فإن كان عنده ماء في منزله وأراد تركه والخروج منه والاغتسال خارجه من نهر أو حمام ، يحظر عليه الخروج منه إلى النهر أو الحمام ، لأنّه يكون مخلا بواجب ، تاركا له ، وترك الواجب وبدله قبيح على ما بيّناه أولا وأوضحناه.

فإن قيل : الواجب عندكم على ضربين : واجب موسّع ، وواجب مضيّق ، فالموسع الذي له بدل ، وهو العزم على أدائه قبل خروج وقته ، وتقضّي حاله وزمانه ، فللمكلّف تركه مع إقامته البدل مقامه.

ص: 129


1- التهذيب : كتاب الطهارة ، الباب 19 من أبواب الزيادات ، ح 47 ، مع اختلاف في العبارة. وفي الوسائل : الباب 14 من أبواب الجنابة ، ح 1.

والمضيّق هو الذي لا بدل له يقوم مقامه فغسل الجنابة من الواجبات الموسعات وأتقضى من تلك الإلزامات ، وأتخلّص من تيك الشناعات ، كما انّ الصّلاة بعد دخول وقتها وقبل تضيقه من الواجبات الموسعات ، فلمكلّفها أن يتركها إذا فعل العزم الذي هو البدل الى آخر وقتها ، غير حرج في ذلك ولا آثم ، بغير خلاف عندكم ، بل الإجماع منعقد منكم عليه.

قيل له : الذي يفسد هذا الاعتراض ، ويدمر على هذا الخيال ، انّ أول ما نقوله ونقرره ونحرره ، إنّ القياس في الشريعة عند أهل البيت عليهم السلام باطل غير معمول عليه ولا مفروع إليه ، ولا خلاف بين شيعتهم المحقين ، وعلمائهم المحقّقين في ذلك ، لأدلة ليس هذا موضع ذكرها ، فمن أرادها أخذها من مظانها ، فإنّها في كتب المشيخة محققة واضحة ، ولو لا الأدلة القاهرة وأقوال الأئمة الطاهرة ، في تأخير ما صوّره السائل من المسائل في الاعتراض ، وغير ذلك من الصور ، عن أول وقته واقامة البدل مقامه ، لكان داخلا فيما قررناه وحررناه ، فأخرجنا منه ما أخرجناه ، لأجل الإجماع والأدلة ، وبقي ما عداه على ما أصّلناه من انّ ترك الواجب قبيح ، والإخلال بالفرض المتعيّن لا يجوز ، على أنّ بعض أصحابنا وهو شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان رحمه اللّه (1) يذهب إلى انّ تارك الصّلاة في أول وقتها من غير عذر مخل بواجب ، تارك له ، معاقب مأثوم ، إلا انّه إذا فعله يعفو اللّه تعالى عن ذنبه تفضلا منه ورحمة ، ذكر ذلك في كتبه وحكاه عنه تلميذه شيخنا السعيد أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في عدته (2) وربما قوّاه أبو جعفر في بعض الأوقات ، وربما زيفه في وقت آخر.

فإن اعترض معترض وخطر بالبال فقال : قد بقي سؤال ، وهو إن كان غسل الجنابة لا يجب ، الا عند دخول وقت الصّلاة على ما قرّرته وشرحته ، فما

ص: 130


1- في المقنعة : باب أوقات الصلاة وعلائم كل وقت ص 94.
2- العدة ص 90 فصل في الأمر الوقت ما حكمه.

تقول إذا جامع الإنسان امرأته أو احتلم في ليل رمضان وترك الاغتسال متعمدا حتى يطلع الفجر ، وقال أنا لا أريد أن اغتسل لأنّ الغسل عندك قبل طلوع الفجر ، مندوب غير واجب على ما ذهبت اليه ، فقال هذا المكلّف لا أريد أن أفعل المندوب ، الذي هو الاغتسال في هذا الوقت ، الذي هو قبل طلوع الفجر ، بلا تأخير ولا فصل ، فإن قلت : يجب عليه في هذا الوقت الاغتسال ، سلمت المسألة بغير إشكال ، لأنّه غير الوقت الذي عيّنته لوجوب الاغتسال ، وإن قلت : لا يغتسل ، خالفت الإجماع ، وفيه ما فيه من الشناع ، وعندنا بإجماعنا أنّ الصيام لا يصحّ إلا لطاهر من الجنابة قبل طلوع فجره ، وانه شرط في صحة صيامه ، بغير خلاف فيجب حينئذ الاغتسال ، لوجوب ما لا يتم الواجب إلا به ، وهذا مطرد في الأدلة والاعتلال.

قيل : ينحلّ هذا الإشكال ، ويزول هذا الخيال ، من وجهين اثنين ، وهو انّ الأمة بين قائلين : قائل يقول بوجوب هذا الاغتسال في جميع الشهور والأيام والأوقات والسّاعات ، وهذا المعترض منهم ، وقائل يقول بوجوبه فيما عيّناه وشرحناه ، وليس هاهنا قائل ثالث يقول بأنّه ندب في طول أوقات السنة ، ما عدا الأوقات التي عينتموها ، وواجب في ليالي شهر رمضان ، فانسلخ من الإجماع بحمد اللّه تعالى كما تراه وحسبه بهذا عارا وشنارا (1).

فأمّا الوجه الآخر وهو قوله كل ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب مثله ، فصحيح ظاهره ومعناه ، إلا انّ مسألتنا ليست من هذا الإلزام بسبيل ، ولا من هذا القول بقبيل لأنّ الواجب الذي هو صيام رمضان يتم من دون نية الوجوب للاغتسال ، وهو أن يغتسل لرفع الحدث مندوبا قربة لله تعالى ، وقد ارتفع حدثه وصحّ صومه ، بلا خلاف ، فقد تمّ الواجب من دون نيّة الوجوب التي تمسك

ص: 131


1- الشنار بالفتح هو الشنيع وهو أقبح العيب.

الخصم بأنّه لا يتم الواجب إلا به ، وقد أريناه انّه يتم الواجب من دونه وبغيره ، ولو لا انّ معرفة القديم سبحانه لا طريق لنا إليها إلا بالنظر في الأدلة ، لما وجب علينا ولا تعيّن ، ولو كان لنا طريق سواه لما وجب تعيينا وتحتم.

فإن قيل : أليس الأمر بمجرده عندكم في عرف الشرع يقتضي الوجوب دون الندب ، والفور دون التراخي؟ قلنا : بلى.

قال : فقد قال سبحانه « وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا » وهذا أمر للجنب بالتطهير متى كان جنبا بغير خلاف ، فغسل الجنابة واجب بهذا الأمر؟

قلنا : هذه الآية الثانية التي هي معطوفة على الآية الأوّلة ، وهي قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ » (1) فأمرنا أن نكون غاسلين وماسحين إذا أردنا القيام إلى الصلاة ، وقبل دخول وقت الصلاة لا يجب علينا القيام إليها ، ولا الغسل لها ، فلمّا عرّفنا سبحانه حكم الطهارة الصّغرى ، عطف عليها حكم الطهارة الكبرى وهي غسل الجنابة ، وهو إذا أردنا القيام إلى الصلاة بعد دخول وقتها يجب علينا الاغتسال ، وهذا مذهبنا بعينه.

فإن قال : هما جملتان لكلّ واحدة منهما حكم نفسها؟

قلنا : صحيح انهما جملتان ، إلا انّ الجملة الثانية معطوفة على الجملة الأولة بواو العطف ، بلا خلاف عند أهل اللسان والمحصّلين لهذا الشّأن ، والمعطوف عندهم له حكم المعطوف عليه ويتنزّل منزلته ، ويشاركه في أحكامه بغير خلاف ، لأنّ واو العطف عندهم تنوب وتقوم مقام الفعل ، فاستغنوا بها عن تكرره اختصارا للكلام ، وإيجازا وبلاغة.

فإن ظن ظان وتوهم متوهم ، انّ السيد المرتضى رحمه اللّه قد ذكر في

ص: 132


1- المائدة : 6.

ذريعته (1) ، في فصل هل الأمر يقتضي المرة الواحدة أو التكرار ، فقال : كلام السيد يدل على ان غسل الجنابة واجب في سائر الأوقات؟

قلنا : معاذ اللّه أن يذهب السيد إلى ما توهمه عليه ، لأنّ هذا قول من لا يفهم ما وقف عليه ، وانّما السيد أورد متمسّك الخصم بأن قال الخصم أنا أريك أنّ الأمر يقتضي بمجرده المرات دون المرة الواحدة ، وصوّر الصورة في غسل الجنابة.

قال السيد : الكلام عليه ، إنّما أوجبه من أوجبه ، لأنّ كون الجنابة علّة عند من قال بالعلل والقياس ، لا لتكرر الأمر واقتضائه التكرار ، بل لتكرر العلّة التي هي الجنابة ، فلمّا تكررت تكرر معلولها ، قال ذلك دافعا للخصم ، وملزما له ما يلتزم به من مذهبه ، ورادا عليه ما يعتقده ، من كون العلل لها أثر في الشرعيات ، وحوشي السيد من أن يكون هذا اعتقاده ومذهبه.

يدلّ على ما ذكرته من مقصود السيد المرتضى رحمه اللّه ما ذكره الشيخ المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان في كتابه أصول الفقه في هذا الفصل بعينه في آخر الفصل بعد إيراد أدلة واحتجاجات كثيرة ، قال : فقيل مع أنّ أكثر المتفقهة إنّما أوجبوا تكرار الغسل بتكرر الجنابة ، وتكرار الحدّ بتكرار الزنا ، لما ذهبوا اليه من كون الجنابة علّة للغسل ، أو كون الزنا علّة في الحد ، ولم يوجبوا ذلك بالصفة حسب ، وهذا أيضا يسقط ما ظنه صاحب الاستدلال (2) هذا آخر كلام الشيخ المفيد.

والذي يزيد مقصود السيد المرتضى رحمه اللّه بيانا ويوضحه برهانا ، ما أورده وذكره في مسائل خلافه في الجريدة ، قال السيد : عندنا انّ من السنّة أن يدرج مع الميت في أكفانه جريدتان خضراوتان رطبتان قدر كل واحدة منهما عظم الذراع ، وخالف من عدا فقهاء الشيعة في ذلك ، دليلنا على ما ذهبنا إليه :

ص: 133


1- الذريعة : تعرض السيد رحمه اللّه للكلام في باب فصل آخر بعد الفصل المذكور وهو انّ الأمر المعلّق بشرط أو صفة هل يتكرر بتكرارهما
2- أصول الفقه : لم نعتر عليه.

ما رواه فلان عن فلان ، وأورد أخبارا عدة ، من طرق الخاصة والعامة وطوّل في الإيراد نحوا من صفحة ، ثم بعد ذلك قال من طريق الاستدلال : وقد سأل بعض أصحابنا الماضين رحمهم اللّه نفسه في هذا المعنى فقال : إن قال قائل ما معنى وضعكم الجريدة مع الميّت في أكفانه ، ثم قال : قيل له : ما معنى الدور حول البيت ، وتقبيل الحجر ، وحلق الرأس ، ورمي الجمار؟ فكل ما أجاب به في ذلك فهو جوابنا بعينه في الجريدة. ثم قيل له : إنّ الذي تعبّدنا بغسل الميت ، وتكفينه ، هو الذي تعبدنا بوضع الجريدة والحنوط معه في أكفانه ولا معنى له غيره ، وإلا فلأي معنى أوجب اللّه تعالى غسل الميت وقد مات وسقطت الفرائض عنه ، والطهارة انما تجب لأداء الفرائض؟ قال السيد المرتضى رحمه اللّه : وهذا كلام سديد في موضعه.

ألا ترى انّ السيد رحمه اللّه قد أورد هذا الكلام عن أصحابه إيراد راض به متعجبا منه ، ونكتة ذلك والمقصود والمراد ، بقوله : الطهارة إنما تراد لأداء الفرائض ، فغسل الجنابة طهارة بلا خلاف ، فلا يجب إلا لأداء الفرائض.

ثم قال السيد متمما للمسألة : وليس يجب أن يعرف علل العبادات على التعيين ، وإن كنا على سبيل الجملة نعلم انّها إنّما وجبت أو ندب إليها للمصالح الدينيّة ، وإن كان المخالف يخالف في ورود العبادة بالجريدة فما تقدّم ممّا ذكرناه وغيره ممّا لم نذكره الأخبار الكثيرة المتظاهرة حجة فيه ، وإن طالب بعلّة معينة ، فلا وجه لمطالبته بذلك ، لأن العبادات لا يعرف عللها بعينها.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة قال : وإن ارتمس الجنب في الماء ارتماسة واحدة ، أو قعد تحت المجرى ، أو وقف تحت المطر أجزأه ، ويسقط الترتيب في هذه الموضع ، وفي أصحابنا من قال : يترتب حكما (1) هذا آخر كلامه.

ص: 134


1- المبسوط : فصل في ذكر غسل الجنابة وأحكامها.

والذي يقتضيه أصول مذهبنا ، وانعقد عليه إجماعنا انّ الترتيب في غسل الجنابة واجب على جميع الصّور والأشكال والأحوال إلا في حال الارتماس ، فيسقط الترتيب في هذه الحال ، دون غيرها من الأحوال.

فأمّا المطر والمجرى إذا قام تحته الإنسان ، فإنّه يجب عليه الترتيب في اغتساله ، لا يجزيه في رفع حدثه سواه ، لأنّ اليقين يحصل معه بلا ارتياب ، ولم يقل أحد من أصحابنا ولا خصّ الإجماع إلا في حال الارتماس ، دون سائر الأحوال فليلحظ ذلك.

باب التيمم وأحكامه

جملة القول في التيمم يشتمل على ذكر شروطه ، وبيان كيفيته ، وبأي شي ء يكون من الأجسام ، وهل يستباح به من الصلوات ، مثل ما يستباح بطهارة الماء وما ينقضه.

فأمّا شروطه : فهي فقد الماء الطاهر ، أو تعذر الوصول إليه ، أو الخوف على النفس ، أو زيادة الضرر في المرض ، في سفر أو حضر ، وقد يتعذّر الوصول إليه مع وجوده بفقد الآلات التي تستقي بها ، كالأرشية أو غيرها ، أو المشارع التي يحتاج إليها في تناوله ، وما جرى مجراها ، أو لعدو حائل عنه.

فأمّا الخوف على النفس ، فقد يكون للمرض ، أو البرد الشديد الذي يخاف معه من استعماله على النفس ، أو لأنّ الحاجة داعية الى الموجود منه للشرب.

ومن شروطه : طلب الماء ، والاجتهاد في طلبه ، وحدّ ما وردت به الروايات ، وتواتر به النقل في طلبه ، إذا كانت الأرض سهلة غلوة سهمين ، وإذا كانت حزنة فغلوة سهم واحد ، هذا مع ارتفاع الخوف للطلب ، فإذا خاف المكلّف على نفسه ، أو متاعه ، فقد يسقط عنه الطلب.

ولا يجوز له التيمم قبل دخول وقت الصّلاة ، بل لا يجوز التيمم إلا في آخر وقت الصلاة ، وعند تضيقها وغلبة الظنّ لفواتها.

ص: 135

ومن شروطه : النية ، والترتيب ، والموالاة.

فأمّا كيفية التيمم للحدث حدثا يوجب الوضوء ولا يوجب الغسل ، هو أن يضرب براحتيه ظهر الأرض ، وبسطهما ، ثمّ يرفعهما ، وينفض إحديهما بالأخرى ، ثم يمسح بهما وجهه من قصاص شعر رأسه إلى طرف أنفه الذي يرغم به في سجوده ، ويشتبه على كثير من المتفقهة الطرف المذكور ، فيظن انّه الطرف الذي هو المارن ، لإطلاق القول في الكتب ، ودليل ما نبّهنا عليه انّ الأصل براءة الذمة ممّا زاد على ما قلناه.

وأيضا قوله تعالى : « فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ » (1) والباء عندنا للتبعيض بغير خلاف ، ومن مسح على ما قلناه ، فقد امتثل الآية.

وأيضا فبعض أصحابنا يذهب إلى أنّ مسح الوجه يكون إلى الحاجبين ، وقد وردت أخبار بما ذكرناه إذا تؤملت حق التأمل ، من جملة ذلك ما قد أورده الشيخ أبو جعفر رحمه اللّه في كتاب الإستبصار : أحمد بن محمد ، عن الحسن بن علي بن فضال ، عن مروان بن مسلم وعمار الساباطي قال : ما بين قصاص الشعر إلى طرف الأنف مسجد ، أيّ ذلك أصبت به الأرض أجزأك (2).

ومن المعلوم انّه إذا أصاب الأرض بالمارن ، الذي هو طرف الأنف الأخير ، في سجوده لا يجزيه سجوده بغير خلاف ، فما أراد إلا من أول الجبهة الذي هو قصاص الشعر إلى آخرها ، الذي هو مما يلي الطرف الأول من الأنف ، وما أوردت هذا الحديث إلا على سبيل التنبّه ، لا الاستدلال والاعتماد ، على ما قدمناه.

ثم يمسح بكفه اليسرى ظاهر كفه اليمنى ، من الزند إلى أطراف الأصابع ، ويمسح بكفه اليمنى ظاهر كفه اليسرى على هذا الوجه.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى استيعاب الوجه جميعا ، وكذلك اليدين من

ص: 136


1- المائدة : 6
2- الاستبصار : الباب 183 ، باب السجود على الجبهة ، ح 3.

المرافق إلى الأصابع.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى المسح على اليدين من أصول الأصابع إلى رءوس الأصابع ، والأوّل أظهر ، وعليه العمل.

وإذا كان تيممه من حدث يوجب الغسل كالجنابة وما أشبهها ، ضرب بيديه على الأرض ضربة أوّلة ، على ما وصفناه ، ومسح بهما وجهه ، على ما حددناه ، ثم ضرب الأرض ثانية ، ومسح كفيه على النحو الذي تقدّم ذكره وصفته.

وقد روي : أنّ الضربة الواحدة للوجه والكفين تجزي في الوضوء والجنابة وكلّ حدث (1). وذهب إليه قوم من أصحابنا ، والأول هو الأظهر في الروايات ، والعمل ، وهو الذي افتي به.

وهذا الترتيب الذي ذكرناه واجب كما قلناه في الطهارة بالماء ، فمن أخل به رجع ، فتلافاه.

والموالاة أيضا واجبة على ما قدّمنا القول فيه وبيّناه.

فأمّا ما به يكون التيمم : فالتراب الطاهر ، والأرض الطاهرة ، وكلّ ما جرى مجراها ، ممّا يقع عليه اسم الأرض بالإطلاق ، ولا يتغير تغيرا يسلبه هذا الاسم.

ولا يجوز التيمم بجميع المعادن ، وتعداد ذلك يطول ، وقد أجاز قوم من أصحابنا التيمم بالنورة ، والصحيح الأول. ويكره بالسبخ ، وبالأرض الرملة.

ولا يجوز التيمم بالرماد ، ولا بالدقيق ، ولا بالأشنان ، ولا بالسعد ، والسدر ، ولا ما أشبهه في نعومته وانسحاقه.

ولا يعدل إلى الحجر إلا إذا فقد التراب ، ولا يعدل إلى غبار ثوبه إلا إذا فقد الحجر والمدر ، ولا يعدل عن غبار ثوبه إلى الوحل إلا إذا فقد الغبار من ثوبه الذي يكون فيه.

ص: 137


1- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 11 من أبواب التيمم. وأكثر أحاديثها متضمنة لقصة عمار وقد صرّح فيها بكفاية ضربة واحدة مع أنّ عمارا كان جنبا. وكذلك في جامع الأحاديث : الباب 1. ح 8.

والغبار الذي يجوز التيمم به ، هو أن يكون غبار التراب والأرض. فأمّا إذا كان فيه غبار النورة أو الأشنان أو غير ذلك ، فلا يجوز التيمم به ، وكذلك غبار معرفة دابته ، ولبد سرجه ، بعد فقدانه غبار ثوبه ، فإذا فقد الجميع صار إلى الوحل إن وجده.

وكيفية تيممه منه ككيفية تيممه من الأرض ، فإن حصل في أرض قد غطاها الثلج ولا يتمكن من غيره ، جاز له أن يضرب عليه بيديه ، ويتيمم بنداوته.

وقال بعض أصحابنا : فليكسره وليتوضأ بمائه فإن خاف على نفسه من ذلك وضع بطن راحته اليمنى على الثلج ، وحرّكها عليه تحريكا باعتماد ، ثم رفعها بما فيها من نداوة ، فمسح بها وجهه كالدّهن ، ثم يضع راحته اليسرى على الثلج ، ويصنع بها كما صنع باليمنى ويمسح بها يده اليمنى من مرفقه إلى أطراف الأصابع ثمّ يضع يده اليمنى على الثلج ، كما وضعها أولا ، ويمسح بها يده اليسرى ، من مرفقه إلى أطراف الأصابع ، ثم يرفعها ، فيمسح بها مقدّم رأسه ، ويمسح ببلل يديه من الثلج قدميه.

وإن كان محتاجا في التطهير إلى الغسل ، صنع بالثلج كما صنع به عند وضوءه من الاعتماد عليه ، ومسح به رأسه وبدنه ، حتى يأتي على جميعه.

فإن خاف على نفسه من ذلك ، أخّر الصلاة حتى يتمكن من الطهارة بالماء ، أو يجد الأرض فيتيمم بها ، والأول قول السيد المرتضى ، والثاني قول الشيخ المفيد والشيخ أبي جعفر الطوسي رحمهم اللّه والذي أقوله وافتي به وأذهب إليه ، ما اختاره الشيخان من تأخير الصّلاة.

ولا يجوز له أن يتيمم بالثلج ، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ التيمم لا يكون إلا بالأرض ، وما ينطلق عليه اسم الأرض بالإطلاق ، والثلج ليس بأرض ، ولا أختار قولهما رحمهما اللّه ، ولا اجوّز ما ذهبا إليه ، من مسح الوجه واليدين بالثلج ، والوضوء به ، وبالمسح على الأعضاء المغسولة ، وكذلك لا أجوز للجنب الغسل

ص: 138

لجميع بدنه بالمسح ، لأنّ اللّه تعالى أوجب علينا عند قيامنا إلى صلاتنا أن نكون غاسلين وماسحين ، وغاسلين في الجنابة ، وحد الغسل ، ما جرى على العضو المغسول ، والممسوح بخلافه ، وهذا لا خلاف بين فقهاء أهل البيت أنّ الغسل غير المسح ، فكيف يستباح الصّلاة بمجرد المسح فيما يجب غسله ، وإذا عدمنا ما يكون غاسلين به ، فإن اللّه سبحانه نقلنا إذا لم نجد الماء الكافي لغسلنا ولأعضائنا المغسولة ، إلى التراب والأرض والتيمم ، فإذا فقدنا ما نتيمم به ، فقد سقط تكليفنا الآن بالصّلاة وأخّرناها إلى أن نجد الماء ، فنغتسل به ، أو التراب فنتيمم به ، لقوله عليه السلام : لا صلاة إلا بطهور (1) والطهور مفقود في هذه المسائل ، فليتأمل ذلك ويلحظ عني ما قلته بالعين الصحيحة ، ويترك التقليد ، وأسماء الرجال جانبا ، فقد قال أمير المؤمنين عليه السلام : انظر إلى ما قال ولا تنظر إلى من قال (2) واللّه الموفق للصواب.

فأمّا استباحة الصّلاة بالتيمم ، فلفاعله ان يصلّي ما لم يحدث ، أو يجد الماء ، ويتمكن من استعماله ما شاء من صلوات الليل والنهار ، والفرائض ، والنوافل.

والكلام فيما ينقض التيمم فقد تقدّم في باب نواقض الطهارة بالماء.

ومن دخل في الصّلاة بالتيمم ، ثم أصاب الماء ، وقدر على استعماله ، فقد اختلف قول أصحابنا في هذه المسألة ، فبعض يقول : إن كان قد ركع مضى فيها ، وإن لم يركع انصرف وتوضّأ ، وهذا قول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (3) ، إلا انّه رجع عنه في مسائل خلافه (4).

وبعض قال : إذا دخل في صلاته بتكبيرة الإحرام ، فالواجب عليه المضي فيها ، فإذا فرغ منها توضأ لما بعد تلك الصّلاة ، من الصلوات.

وبعض قال : يحب عليه الانصراف ما لم يقرأ ، فإذا قرأ مضى في صلاته ،

ص: 139


1- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 1 من أبواب الوضوء ، ح 1
2- غرر الحكم : ج 1 ص 394.
3- النهاية : باب التيمم وأحكامه
4- الخلاف : كتاب الطهارة مسألة 89

ولا يجوز له الانصراف.

والصحيح من الأقوال ، انّه إذا دخل في صلاته بتكبيرة الإحرام مضى فيها ، ولا يجوز له قطعها بحال ، وعلى هذا يعتمد ويفتي السيد المرتضى قدس سره في مسائل خلافه ، وكذلك الشيخ أبو جعفر في مسائل الخلاف (1).

ومن نسي الماء في رحله ، فتيمم وصلّى ، ثم علم به من بعد لا اعادة عليه ، وهو قول أبي حنيفة ومحمد ، وقال الشافعي وأبو يوسف : يجب عليه أن يعيد ، وقال مالك : يعيد في الوقت ، فإذا خرج الوقت فلا اعادة عليه ، وقد ذهب بعض أصحابنا في كتاب له إلى ما ذهب إليه مالك بعينه ، وهذا لا يجوز لأحد من أصحابنا أن يقوله ، لأنّ التيمم عند جميع أصحابنا إلا من شذ ممن لا يعتمد بقوله ، لأنّه قد عرف باسمه ونسبه ، انّما يجب في آخر الوقت ، وعند خوف فوت الصّلاة وخروج وقتها ، ولا يجوز أن يستعمل قبل آخره وتضيّقه على وجه من الوجوه ، وآخر الوقت من شرطه ، كما أنّ عدم الماء بعد طلبه من شرطه ، فكيف يصحّ أن يقوله فيمن تيمم قبل الوقت وصلّى ، فإنّه لا صلاة. له جملة ، ويجب عليه أن يصلي صلاة مبتدأة بالماء إذا ذكره.

فأمّا من تيمم قبل آخر الوقت وصلّى ، ثم خرج الوقت وذكر ما كان فيه ، فإنّه يجب عليه الوضوء واعادة الصّلاة ، لأنّ ما مضى من فعله لم يكن صلاة ، لأنّه كان بغير طهور.

ومن دفع إلى تغسيل ميت ولم يجد الماء ، استعمل فيه من التيمم ما بيّناه من قبل ، انّه فرض من وجب عليه الغسل.

ومن كان معه من الماء قدر ما يزيل به النجاسة عن بدنه أو ثوبه الذي

ص: 140


1- الخلاف : كتاب الطهارة ، مسألة 116 مع اختلاف كثير.

يفتقر إليه في ستر عورته ، ولا يتسع ذلك الماء لغيره ، وأحدث حدثا يوجب الغسل أو الوضوء ، وجب أن يستعمل ذلك الماء في إزالة النجاسة ، ويتيمم للحدث.

ومن أجنب ومعه من الماء ما لا يكفيه لغسل جميع أعضائه ، وجب أن يتيمم.

فإن أحدث بعد ذلك حدثا يوجب الوضوء ، فالصحيح من المذهب والأظهر من الأقوال ، انّه يعيد تيممه ضربتين ، لأنّ حدثه الأول باق ، ما ارتفع ، والدليل على ذلك انّه إذا وجد الماء اغتسل ، فلو كان حدثه الأكبر قد ارتفع بتيممه ، ما وجب عليه الغسل إذا وجد الماء.

وقال السيد المرتضى رحمه اللّه : يستعمل ذلك الماء إن كفاه للوضوء ، ولا يجوز له التيمم عند حدثه ما يوجب الطهارة الصغرى وقد وجد من الماء ما يكفيه لها ، فيجب عليه استعماله ولا يجزيه تيممه ، والأول أبين وأوضح.

ومن لم يجد الماء إلا بثمن وافر ، زائد الغلاء ، خارج عن العادة ، وكان واجدا للثمن ، بذله فيه ، ولم يجزيه التيمم إلا ان يبلغ ثمنه مقدارا يضرّ به في الحال.

وليس على جميع من صلّى بتيمم إعادة شي ء من صلاته إذا وجد الماء ، من مريض أو مسافر ، أو خائف على نفسه ، من برد ، وغير ذلك.

وقد روي (1) انّه إذا كان غسله من جنابة تعمدها ، وجب عليه الغسل ، وإن لحقه البرد ، إلا أن يبلغ ذلك حدّا يخاف على نفسه التلف ، فإنّه يجب عليه حينئذ التيمم والصّلاة ، فإذا زال الخوف ، وجب عليه الغسل ، واعادة تلك الصّلاة.

ص: 141


1- الوسائل : كتاب الطهارة الباب 17 من أبواب التيمم.

وقد روي (1) انّ المتيمم إذا أحدث في الصّلاة حدثا ينقض الطهارة ناسيا ، وجب عليه الطهارة ، والبناء على ما انتهى إليه من الصّلاة ، ما لم يستدبر القبلة ، أو يتكلّم بما يفسد الصّلاة ، وإن كان حدثه متعمّدا ، وجب عليه الطهارة واستيناف الصّلاة ، والصحيح ترك العمل بهذه الرواية ، لأنّه لا خلاف بين الطهارتين ، وإن التروك الواجبة متى كانت من نواقض الطهارة فإنّ الصلاة تفسد ، ويجب استينافها ، سواء كان عن عمد أو سهو أو نسيان.

وانّما ورد هذا الخبر فأوّله بعض أصحابنا في كتاب له فقال : أخصّه بصلاة المتيمم ، والصحيح انّه لا فرق بينهما ، إذ قد بيّنا انّه لا يلتفت إلى أخبار الآحاد ، بل الاعتماد على المتواتر من الأخبار.

ويكره أن يؤم المتيمم المتوضئين ، على الصحيح من المذهب ، وبعض أصحابنا يذهب إلى أنه لا يجوز.

وقد روي (2) انّه إذا اجتمع ميت ومحدث وجنب ومعهم من الماء مقدار ما يكفي أحدهم فليغتسل به الجنب ، وليتيمم المحدث ، ويدفن الميت بعد أن يؤمّم حسب ما قدّمناه.

والصحيح انّ هذا الماء إن كان مملوكا لأحدهم فهو أحقّ به ، ولا يجب عليه إعطاؤه لغيره ، ولا يجوز لغيره أخذه منه بغير إذنه ، فإن كان موجودا مباحا ، فكل من حازه فهو له ، فإن تعين عليهما تغسيل الميت ، ولم يتعين عليهما أداء الصّلاة لخوف فواتها وضيق وقتها ، فعليهما أن يغسلاه بالماء الموجود ، فإن خافا فوت الصّلاة ، فإنهما يستعملان الماء ، فإن أمكن جمعه ولم تخالطه نجاسة ، عينية فيغسلانه به على ما بيّناه من قبل ، في أنّ الماء المستعمل في الطهارة الكبرى يجوز استعماله كاستعمال الماء المستعمل في الطهارة الصغرى على الصحيح من المذهب.

ص: 142


1- الوسائل : كتاب الصلاة الباب 1 من أبواب القواطع ، ح 10 ، وأورد صدره في باب 21 من أبواب التيمم ، ح 4.
2- الوسائل : كتاب الطهارة ، باب 18 من أبواب تيمم ، ح 1.

باب أحكام الحيض والاستحاضة والنفاس

الحيض والمحيض عبارتان عن معنى واحد ، وهو الدم الأسود الخارج بحرارة ودفع ، في أغلب الأوقات والأحوال في زمان مخصوص من شخص مخصوص ، فهذا الحد أسلم من حدّ من قال : إنّ الحائض هي التي ترى الدم الأسود الحار الذي له دفع ، وبهذه الصفات يتميز من دم الاستحاضة ، والعذرة والقرح وغيرها ، وهذا لا يصح ، لأنّها لو رأت الدم بهذه الصفات في أقل من ثلاثة أيّام لم يكن حيضا بالإجماع ، وكذلك لو رأته المرأة بعد العشرة أيام بهذه الصفات لم يكن حيضا ، وإن شئت قلت : هو الدم الذي له تعلّق بانقضاء العدة على وجه ، إمّا بظهوره أو بانقطاعه ، فقولنا بظهوره المراد به انّها إذا رأت المطلقة الدم الثالث أول قطرة منه بانت على الصحيح من الأقوال ، هذا إذا كان لها عادة مستقيمة ، ورأته فيها ، لأنّ العادة والغالب كالمتيقن في حكم الشرعيات ، فأمّا إذا لم يكن لها عادة مستقيمة ، فلا تخرج من العدة برؤية القطرة من الدم الثالث ، إلا بعد اليقين بأن ذلك الدم دم حيض ، وهو أن يتوالى ثلاثة أيام متتابعة ، لأنّها في العدة بيقين ، ولا يجوز أن يخرج من اليقين إلا بيقين مثله ، ولا يقين لها إذا رأت القطرة ، إلا إذا دام ثلاثة أيام ، إلا أن تراه في أيّام عادتها المستقيمة ، فيحكم بأنّه حيض ، لما قدّمناه من أنّ العادة والأغلب كالمتيقن الحاصل ، فليلحظ هذا الموضع ، وليتأمل.

وبعض أصحابنا قال : إن كان طلاقها في أول طهرها بانت بذلك ، وإن كان طلاقها في آخر طهرها فلا تخرج من العدة إلا بعد انقطاعه واستيفاء أيامه ، فهذا معنى قولهم بظهوره أو بانقطاعه على هذا القول والمذهب ، وهو مذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد النعمان رحمه اللّه.

والأول مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه وهو انّها تخرج من

ص: 143

العدة برؤية القطرة من الدم الثالث ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك وحققناه ، وهو انها إن كانت لها عادة مستقيمة مستمرة ، فمذهب شيخنا أبي جعفر وقوله صحيح ، وإن لم يكن لها عادة مستمرة فلا تخرج من العدة ، إلا بعد استيفاء ثلاثة أيام متتابعات ، لأنها في العدة بيقين ، فلا تخرج من اليقين إلا بيقين مثله ، فهذا تحرير القولين.

وإذا رأت المرأة دم الحيض ، تعلّق بها عشرون حكما ، لا يجب عليها الصّلاة ، ولا يجوز منها فعل الصلاة ، ولا يصح منها الصّوم ، ويحرم عليها دخول المساجد إلا عابر سبيل ، إلا المسجدين ، ولا يصح منها الاعتكاف ، ولا يصحّ منها الطواف ، ويحرم عليها قراءة العزائم ، ويحرم عليها مس كتابة القرآن ، ويحرم على زوجها وطؤها ، ويجب عليه إذا وطأها متعمدا الكفارة ، إن كان في أوله فدينار ، وإن كان في وسطه فنصف دينار ، وإن كان في آخره فربع دينار ، ويجب عليه التعزير.

وهل الكفارة واجبة أو مندوبة؟ لأصحابنا فيه قولان ، الأظهر من المذهب انّها على الوجوب ، والآخر أنّها على الندب ، فالسيد المرتضى رحمه اللّه وجماعة من أصحابنا مذهبهم الأول ، والشيخ أبو جعفر موافق لهذا القول في جمله وعقوده (1) ، وذكر في نهايته (2) انّها على الندب والاستحباب ، فقوله في جمله وعقوده هو فتواه ، وما ذكره في نهايته عذره فيه قد أوضحناه.

فإذا كرر الوطء فالأظهر أنّ عليه تكرار الكفارة ، لأنّ عموم الأخبار يقتضي أنّ عليه بكلّ دفعة كفارة ، والأقوى عندي والأصح أن لا تكرار في الكفارة ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها بواجب أو ندب يحتاج إلى دلالة شرعية ، فأمّا العموم فلا يصح التعلّق به في مثل هذه المواضع ، لأنّ هذه أسماء

ص: 144


1- الجمل والعقود : في ذكر الحيض والاستحاضة والنفاس ، رقم 10 و 11 من واجباته.
2- النهاية : كتاب الطهارة ، باب حكم الحيض والمستحاضة والنفساء.

الأجناس والمصادر ، ألا ترى انّ من أكل في نهار شهر رمضان متعمدا ، وكرّر الأكل ، لا يجب عليه تكرار الكفارة بلا خلاف.

ويجب عليها ، الاغتسال عند نقائها من حيضها ، ولا يصح طلاقها إذا كانت مدخولا بها وغير غائب عنها زوجها غيبة مخصوصة ، وبعض أصحابنا يطلق هذا الموضع ويقول : ولا يصح طلاقها ، وهذا لا بدّ من تقييده بما قيّدناه ، وإلا فالحائض التي غير مدخول بها والغائب عنها غيبة مخصوصة ، يصح طلاقها بغير خلاف ، ولا بدّ من التقيّد.

ولا يصح منها الغسل ولا الوضوء على وجه يرفعان الحدث ويصح منها الغسل والوضوء على وجه لا يرفع بهما الحدث مثل غسل الإحرام والجمعة والعيدين ، ووضوئها لجلوسها في محرابها لتذكر اللّه تعالى بمقدار زمان صلاتها ، وهما غسل ووضوء مأمور بهما شرعيان ، فهذا معنى قولنا : على وجه يرفعان الحدث.

ولا يجب عليها قضاء الصلاة بإجماع المسلمين ، ويجب عليها قضاء الصوم بالإجماع أيضا.

ويكره لها قراءة ما عدا العزائم ، ومس ما عدا المكتوب من المصحف وحمله ، ويكره لها الخضاب.

ومتى رأت المرأة الدم لدون تسع سنين ، لم يكن ذلك دم حيض.

وتيأس المرأة من الحيض إذا بلغت خمسين سنة مع تغيّر عادتها ، فمتى رأت بعد ذلك كان دم استحاضة.

وأقل أيّام الحيض ثلاثة أيّام متتابعات ، وأكثره عشرة أيام ، لا خلاف بين أصحابنا في هذين الحدين والمقدارين ، بل اختلفوا في كيفية الأقل ، فمنهم من قال : تكون الثلاثة متوالية ، ومنهم من قال : سواء كانت متتابعة أو متفرقة إذا كانت في جملة العشرة ، والقول الأول هو الأظهر ، لأن الأصل بعد تكليفها الصوم والصلاة ، فمن ادّعى سقوط تكليفها بالصوم والصلاة ، يحتاج إلى دليل ،

ص: 145

وهذا الذي ذكره صاحب الجمل والعقود في جمله (1) ، وذكر في نهايته (2) القول الآخر ، وقد بيّنا عذره في مثل ذلك ، لأنّ كتابه - أعني نهايته - كتاب خبر ، لا كتاب بحث ونظر.

فان اشتبه دم الحيض بدم العذرة في زمان الحيض ، فلتدخل المرأة قطنة ، فإن خرجت منغمسة بالدم ، فذاك دم حيض ، وإن خرجت متطوقة بالدم فذاك دم عذرة.

فإن اشتبه عليها دم الحيض بدم القرح في أيّام الحيض فلتدخل إصبعها ، فإن كان الدم خارجا من الجانب الأيمن فهو دم قرح ، وإن كان خارجا من الجانب الأيسر فهو دم حيض.

والصفرة في أيام الحيض حيض ، وفي أيّام الطهر طهر.

فإن كانت المرأة مبتدأة في الحيض ، فأيّ دم رأته مع دوامه ثلاثة أيام متتابعات على أيّ صفة كان فهو دم حيض ، فإن رأته إلى تمام العشرة الأيّام فالجميع حيض.

وان تجاوز العشرة فلها أربعة أحوال :

أحدها : أن يتميّز لها بالصفة فلتعمل على التميز.

والثاني : أن لا يتميّز لها وجاء الدم لونا واحدا ، فلترجع إلى عادة نسائها من أهلها.

والثالث : لا يكون لها نساء من أهلها ، فلترجع إلى من هو من أبناء سنّها ، فلتعمل على عادتهن.

الرابع : لا يكون لها نساء من أبناء سنّها ، فعند هذه الحال اختلف قول

ص: 146


1- الجمل والعقود : في ذكر الحيض والاستحاضة والنفاس.
2- النهاية : باب حكم الحيض والمستحاضة والنفساء.

أصحابنا فيها على ستة أقوال :

منهم من قال تترك الصّلاة والصّوم في الشهر الأول أقل أيام الحيض وفي الشهر الثاني أكثر أيام الحيض ، وتصوم وتصلّي باقي أيام الشهرين.

ومنهم من يعكس هذا.

ومنهم من يقول بترك الصّلاة والصّوم في كلّ شهر سبعة أيّام في أوائل كل شهر ، وتصلي وتصوم باقي أيام الشهرين.

ومنهم من يقول ستة أيام فحسب.

ومنهم من يقول بترك الصّلاة والصّوم في كلّ شهر ثلاثة أيّام فحسب ، وتصلي وتصوم باقي الأيام.

ومنهم من يقول تعدد عشرات ، عشرة حيض ، وعشرة طهر ، هذا مع استمراره ودوامه ، ثم لا يزال هذا دأبها إلى أن تستقرّ لها عادة ، بأن يتوالى عليها شهران متتابعان ترى الدم في كلّ شهر منهما أياما سواء في أوقات سواء ، مثاله أن ترى الدم في الشهر الأول بعد الهلال خمسة أيام ، ثم ينقطع تمام الشهر ، ثم يهل الشهر الثاني ، فتراه في أوله بلا فصل خمسة أيّام ، فهذا معنى قولنا اعداد وأوقات سواء.

فإن رأته في النصف الثاني خمسة أيام ، لم يكن ذلك عادة ، لأنّها ما رأت الخمسة في أوقات الخمسة في الشهر الأول فتجعل ذلك عادتها.

فأمّا غير المبتدأة وهي التي تكون لها عادة ، فلتلتزم عادتها إذا تجاوز دمها العشر ، فأمّا إذا لم يتجاوز دمها العشر ، فأيّ دم رأته بعد عادتها وقبل تجاوز العشر فهو دم حيض ، لقولهم عليهم السلام : الكدرة والصفرة في أيام الحيض حيض ، وفي أيام الطهر طهر (1) يعنون بأيام الحيض العشرة الأيام التي هي حدّ الأكثر.

فإن قيل : فيبطل قول (2) الأئمة عليهم السلام : ترجع إلى العادة ، أو تمسك

ص: 147


1- الوسائل : الباب 4 و 5 من أبواب الحيض.
2- الوسائل : الباب 4 و 5 من أبواب الحيض.

عادتها ، أو ترجع الى عادتها ، على اختلاف الألفاظ.

قلنا : ذلك إذا تجاوز الدم العادة والعشرة الأيام ، فحينئذ ترجع إلى عادتها ، وتجعل ما جاوز العادة والعشرة استحاضة ، فأمّا إذا تجاوز الدم العادة ولم يتجاوز العشرة الأيام التي هي أكثر أيام الحيض ، فلا ترجع إلى العادة ، بل يكون جميع ذلك وجميع تلك الأيام حيضا ، لقولهم عليهم السلام : الصفرة والكدرة في أيام الحيض حيض ، وفي أيام الطهر طهر ، وهذه أيام الحيض فقد عملنا بالقولين ، ولم نتعد النصّين ، ولا مناقضة بين ذلك ، فليتأمّل ، وليلحظ ما قلناه ، فكثيرا يشتبه هذا على الفقهاء.

فإذا تقرر هذا ، فمتى اتصل الدم بالعادة وتجاوز العشرة الأيام فإنها تمسك العادة ، تجعل ما عداها استحاضة ، سواء تقدم العادة واتصل بها ، أو تأخر عنها متصلا بها وجاوز العشرة ، لما أصلناه وقررناه من قولهم عليهم السلام المجمع عليه : ترجع إلى عادتها ، وتمسك عادتها. فعلى هذا التحرير : إذا رأت خمسة أيام دما قبل عادتها ، وخمسة أيّام في عادتها ، وكانت عادتها خمسة أيّام وخمسة أيام بعد عادتها ، فالواجب عليها الرّجوع إلى العادة ، والتمسّك بها ، وتكون الخمسة الأوّلة والخمسة الأخيرة استحاضة ، وكذلك إذا رأت عشرة قبلها ، واتصل بها ، فإنّها تلزم عادتها ، وتكون العشرة استحاضة ، فكذلك إذا رأت خمسة أيام عادتها ، واتصل بها عشرة أيام بعد الخمسة ، فإنّها ترجع إلى عادتها ، وتمسك بها ، وتجعل العشرة استحاضة.

فامّا إذا لم يتصل بالعادة وكانت ثلاثة أيّام متتابعات بعد ان مضى لها أقل الطهر ، وهو عشرة أيّام نقاء فإنّه حيض ، لأنّه في أيام الحيض لقولهم عليهم السلام : الكدرة والصفرة في أيام الحيض حيض ، وفي أيام الطهر طهر ، على ما حررناه وقرّرناه فليلحظ هذه الجملة ، فإنها إذا حصلت اطلع بها وأشرف على ما استوعب من دقائق هذا الكتاب.

فإن اضطربت عادتها ، وتغيّرت عن أوقاتها وأزمانها وصارت ناسية لهذا

ص: 148

ولهذا فإذا استمر بها الدم بعد العشرة الأيام ، فالواجب عليها اعتباره بالصّفات ، فإذا تميز لها فلترجع إليه ، وتعمل عليه ، وتكون لها بمنزلة العادة ، وقد قدمنا حكمها وبيّناه.

فإن اشتبه عليها الدم وجاء لونا واحدا ولم يتميز لها ، فهي في هذه الحال حكمها حكم المبتدأة في الحال الرابعة حرفا فحرفا ، وقد قدّمنا الأحكام والأقوال فيها ، والاختلاف مستوفى ، فهذا خلاصة فقه الحائض ودقائق أحكامها ، فإذا حصل فما بعده سهل يسير.

ومن لم تكن لها عادة ، ورأت الدم اليوم واليومين ، فلا يجوز لها ترك الصّلاة والصّيام ، لأنّها من تكليفها بالصّلاة والصّيام على يقين ، وهي في شك من الحيض في هذين اليومين ، فكيف يجوز لها أن تترك اليقين بالشك؟

وما يوجد في بعض الكتب من أنّ المرأة إذا رأت الدم اليوم أو اليومين تركت الصّلاة والصّيام ، فإن استمرّ بها الدم اليوم الثالث فذلك دم حيض وإن لم يستمرّ بها الدم قضت الصّلاة والصّيام ، وكذلك إذا انقطع الدّم عنها بعد تمام عادتها ، وقبل تجاوز العشرة يوجد في الكتب انّها تستظهر بيوم أو يومين في ترك الصّلاة والصّيام ، فأخبار آحاد لا يعرج عليها ، ولا يلتفت إليها ، بل الاستظهار لها في دينها وتكليفها وبراءة ذمّتها ، فعل الصّلاة والصيام إلى أن يتبين أنها غير مكلّفة بهما ، فحينئذ يجب عليها تركهما لما أصلناه من انّها لا تترك اليقين بالشك ، فليلحظ ذلك ويحقق ، إلا أن يكون لها عادة مستقيمة مستمرة ، فترى الدم في أوّلها يوما أو يومين ، فالواجب عليها عند رؤية الدم ترك الصّلاة والصّيام ، لأن العادة تجري مجرى اليقين ، وكذلك الأغلب يجري مجرى المعلوم ، فهذه بخلاف تلك في الحكم ، لما بيّناه ونبّهنا على دليله ومفارقته لحكم غيره ، أو ترى بعد العادة المستقيمة الصفرة أو الكدرة قبل خروج العشرة الأيام وبعد عادتها إذا كانت عادتها أقل من عشرة أيّام فحينئذ يجب عليها ترك الصلاة والصيام ، والاستظهار بيوم أو يومين أو ثلاثة ، لأنّها بحكم الحائض إلا انّها ترى

ص: 149

النقاء وتترك الصّلاة على ما يظنه من لا بصيرة له ، وقد حقّق ذلك شيخنا في الاستبصار (1).

والحبلى الحامل المستبين حملها اختلف قول أصحابنا ، واختلفت أخبارهم ، فبعض منهم يقول انّها تحيض ، وحكمها حكمها قبل حملها ، ومنهم وهم الأكثرون المحصّلون يذهبون إلى أنّها لا ترى دم الحيض ولا تحيض ، وأيّ دم تراه فهو دم استحاضة أو فساد ، وهذا هو الصّحيح وبه افتي وأعمل.

والدليل على ذلك الحاسم للشغب انّه لا خلاف بين المخالف منهم في المسألة والمؤالف انّ إطلاق الحائض المدخول بها التي ما غاب زوجها عنها غيبة مخصوصة ، لا يقع ولا يجوز ، وانّه بدعة محظورة ، ولا تبين به ، ولا يقع جملة ، هذا إجماعهم عليه بغير خلاف ، ولا خلاف أيضا بين الفريقين بل الإجماع منعقد من أصحابنا جميعهم انّ طلاق الحامل يقع على كل حال ، سواء كانت وقت طلاقها عالمة بالدم ، متيقنة له ، أو لم تكن كذلك ، فلو كانت الحامل تحيض وترى دم الحيض ، لما جاز طلاقها في حال حيضها ، ولتناقضت الأدلة ، وبطل الإجماع من الفريقين وهذا أمر مرغوب عن المصير إليه والوقوف عليه.

وقد بيّنا انّه لا يجوز لزوجها مجامعتها في قبلها خاصة ، لموضع الدّم وله مجامعتها فيما دون ذلك من سائر بدنها دبرا كان أو غيره على الأصح والأظهر من المذهب ، وبعض أصحابنا يذهب إلى تحريم وطئها في دبرها كتحريم وطئها في قبلها ، وهو السيد المرتضى في مسائل خلافه ، والدليل على ما اخترناه قوله تعالى : « فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ » (2) ولا يخلو المراد به اعتزلوا النساء في زمان الحيض ، أو في موضع الحيض الذي هو الدّم ، فإن كان الأول فهذا خلاف إجماع المسلمين ، فما بقي إلا القسم الآخر وانّما وردت أخبار (3) بأن له منها ما

ص: 150


1- الاستبصار : الباب 90 باب الاستظهار للمستحاضة.
2- البقرة : 222
3- الوسائل : الباب 26 من أبواب الحيض.

فوق المئزر ، وذلك محمول على كراهية ما دون القبل.

فإذا انقطع عنها الدم فالأولى لزوجها أن لا يقربها بجماع في قبلها حتى تغتسل ، وليس ذلك عند أصحابنا بمحظور ، فإن كان شبقا وغلبته الشهوة ، فليأمرها بغسل فرجها ، وقد زالت عنه الكراهة سواء انقطع لأكثر الحيض ، أو لأقلّه ، لأنّ اللّه تعالى قال « وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ » (1) وهذه قد طهرت من وإذا أصبحت المرأة صائمة ثم حاضت ، فلتفطر أيّ وقت رأت الدّم ، ويستحب لها الإمساك تأديبا إذا رأت الدم بعد الزوال ، فأما إذا كانت حائضا ثم طهرت ، فالمستحب لها الإمساك تأديبا ، سواء كان طهرها قبل الزوال أو بعده.

فإذا أرادت الاغتسال ، فكيفية غسلها مثل غسل الجنابة سواء ، إلا انّها لا تستبيح الصّلاة بمجرّده ، على ما قدّمنا القول فيه وبيّناه ، فإذا كان اغتسالها في وقت صلاة ، وأرادت تقديم الوضوء على الغسل ، نوت بوضوئها استباحة الصلاة ، واجبا قربة إلى اللّه تعالى ، ولا تنوي رفع الحدث ، لأنّ حدثها الأكبر باق وهو الغسل ، وإن أرادت تأخير الوضوء عن الغسل ، نوت بغسلها رفع الحدث ، ونوت بوضوئها استباحة الصّلاة ، لأنّ حدثها قد ارتفع واجبا قربة إلى اللّه تعالى ، وإن كان غسلها في غير وقت صلاة ، وأرادت تقديم الوضوء على الغسل نوت بوضوئها استباحة الصلاة مندوبا ، قربة إلى اللّه تعالى ، ونوت أيضا بغسلها مندوبا ترفع به الحدث ، وإن كان غسلها قبل وضوئها نوت به رفع الحدث مندوبا قربة إلى اللّه تعالى ، ونوت بوضوئها بعده استباحة الصّلاة من غير أن ترفع به الحدث.

وإذا كانت المرأة جنبا فجاءها الحيض قبل أن تغتسل غسل الجنابة ، فتدع الغسل إلى أن تطهر من حيضها ، فإذا طهرت اغتسلت غسلا واحدا للجنابة ، وقد أجزأها على ما قدّمناه في باب الجنابة وحررناه.

ص: 151


1- البقرة : 222.

والمستحاضة هي التي ترى الدم بعد أكثر أيام الحيض ، وبعد أكثر أيام النفاس ، وبعد استبانة حملها ، على ما حققناه وأسلفنا القول فيه ، وبعد خمسين سنة ، وتغيير عادتها ، وبعد تجاوز دمها عادتها ، والعشرة الأيّام ، واستمراره على ما قدّمناه ، فيكون ما عدا العادة استحاضة وإن كان بعضها في العشرة الأيّام ، هذا مع استمراره وتجاوزه العادة والعشرة الأيام ففي جميع هذه الأحوال هي مستحاضة وكذلك إذا رأت الدم أقل من ثلاثة أيام ، فهي أيضا مستحاضة ، ومتى رأت هذا الدم وجب عليها أن تستبرئ نفسها بقطنة ، ولها ثلاثة أحكام :

أحدها : أن تراه يسيرا لا يثقب الكرسف الذي هو القطن ، فالواجب عليها الوضوء لكلّ صلاة ، وتغيير القطن والخرقة ، ولا يجوز لها أن تجمع بين صلاتين بوضوء واحد ، بل يجب عليها لكلّ صلاة وضوء ، وتغيير القطنة ، والخرقة ، وإتيان الصّلاة بعد وضوئها بلا فصل ، وأمّا إذا توضّأت أولا في أول الوقت ولم تصل إلا في ثانيه أو وسطه أو آخره ، فإنّ صلاتها غير صحيحة ، لأن قولهم عليهم السلام : « يجب الوضوء عليها عند كلّ صلاة » (1) يقتضي المقارنة ، لأن ( عند ) في لسان العرب لا تصغر ، فهي للمقارنة كما انّ قبيلا وبعيدا للمقارنة ، فكذلك عند ، لأنّها مع ترك التصغير بمنزلة بعيد وقبيل في التصغير.

قال شيخنا في مبسوطة : إذا توضأت المستحاضة وقامت إلى الصّلاة ، فانقطع عنها الدم قبل أن تكبّر تكبيرة الإحرام ، فلا يجوز لها الدخول في الصّلاة إلا بعد ان تتوضأ ثانيا ، لأنّ انقطاع دم الاستحاضة حدث يوجب الوضوء ، ثم قال : فإن انقطع بعد تكبيرة الإحرام ودخولها في الصّلاة تمضي في صلاتها ، ولا يجب عليها استينافها (2).

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : إذا كان انقطاع دم

ص: 152


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب المستحاضة.
2- المبسوط : كتاب الطهارة باب في أحوال الاستحاضة.

الاستحاضة حدثا ، فيجب عليها قطع الصّلاة واستيناف الوضوء ، وانّما هذا كلام الشافعي ، أورده شيخنا لأنّ الشافعي يستصحب الحال ، وعندنا انّ استصحاب الحال غير صحيح ، وانّ هذه الحال غير ذلك ، وما يستصحب في الحال فبدليل ، وهو إجماع على المتيمّم إذا دخل في الصلاة ووجد الماء فإنّا لا وجب عليها الاستيناف بإجماعنا ، لا إنا قائلون باستصحاب الحال ، فليلحظ ذلك وليتأمل.

والحكم الثاني : أن ترى الدم أكثر من ذلك ، وهو أن يثقب الدم الكرسف ولا يسيل ، فيجب عليها أن تعمل ما عملته في الحكم الأول سواء ، ويزيد عليه الغسل لصلاة الغداة.

والحكم الثالث : أن ترى الدم يثقب الكرسف ويسيل ، فيجب عليها أن تفعل ما فعلته في الحكم الثاني ، ويزيد على ذلك وجوب غسلين ينضافان إلى الغسل الذي في الحكم الثاني ، فإذا فعلت ذلك في أيام استحاضتها ، فهي في حكم الطاهرات في جميع الشرعيات ، إلا انّها يكره لها دخول الكعبة ، وإذا وجب عليها حدّ الجلد لا يقام حتى ينقطع عنها دم الاستحاضة ، لأنّها مريضة ، والمريضة لا يقام عليها حدّ الجلد حتى تبرأ ، فإن لم تفعل ما وصفناه ، وصامت وصلّت ، وجب عليها اعادة صلاتها وصيامها ، ولا يحلّ لزوجها وطؤها.

وإن كانت قد أكلت في زمان استحاضتها ، فإنّه يجب عليها قضاء الصوم والكفارة ، لأنّها أكلت في زمان الصيّام متعمدة لذلك.

وتجمع بين الظهر والعصر بغسل واحد ، وكذلك بين العشاء الاولى والآخرة ، والجمع منها بين هاتين الفريضتين ، بأن تؤخّر الفريضة المتقدّمة إلى آخر وقتها ، وتصلّي الفريضة الأخيرة في أوّل وقتها يجمع بينهما في الحال ، وذلك على الاستحباب دون الفرض والإيجاب.

وقد يوجد في بعض الأخبار والآثار والكتب المصنفات ، مثل تهذيب

ص: 153

الأحكام (1) ومسائل الخلاف للسيّد المرتضى رحمه اللّه : إن دم الحيض أسود بحراني ، وفي خبر آخر : دم الحيض أحمر بحراني.

قال محمّد ابن إدريس بحراني بالباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة المفتوحة ، وبالحاء غير المعجمة المسكنة ، وبالراء غير المعجمة المفتوحة ، وبعدها الف والنون المكسورة ، وبعدها ياء مشدّدة ليست للنسب ، وهو الشديد الحمرة والسواد ، كما يقال أبيض يقق وأسود حالك وحانك ، وأحمر بحراني ، وبأحرى ، هكذا أورده ابن الأعرابي في نوادره ، فأوردته كما أورده تنبيها عليه.

والنفساء : هي التي تضع الحمل ، وترى الدم ، لأنّها مشتقة من النفس التي هي الدم ، بدلالة قولهم : كلّ ما لا نفس له سائلة يريدون كلّ ما لا دم له سائل.

فإذا رأت الدم بعد وضعها الحمل بلا فصل ، أو قبل مضي عشرة أيام من وقت وضعها الحمل فهي نفساء وحكمها حكم الحائض سواء ، في جميع الأحكام اللازمة للحائض ، بغير خلاف ، وفي أكثر أيامها على الصحيح من الأقوال والمذهب ، لأنّ بعض أصحابنا يذهب إلى أن أكثر أيام النفاس عند استمرار دمها ثمانية عشرة يوما ، ذهب إليه السيد المرتضى رحمه اللّه في بعض كتبه (2) ، وكذلك الشيخ المفيد (3) ، وعادا عنه في تصنيف آخر لهما.

عاد السيد عن ذلك في مسائل خلافه (4) بأن قال : عندنا الحد في نفاس المرأة أيام حيضها التي تعهدها وقد روي انّها تستظهر بيوم ويومين (5) ، وروي في أكثره خمسة عشر يوما (6) ، وروي أكثر من هذا (7) ، وإلا ثبت ما تقدّم.

ص: 154


1- التهذيب : لم نتحققه في مظانّه.
2- وهو كتاب الانتصار في كتاب الطهارة.
3- قاله المفيد في المقنعة في باب حكم الحيض والاستحاضة والنفاس ص 57.
4- لم نجد كتاب الخلاف للسيد المرتضى رحمه اللّه.
5- الوسائل الباب 3 من أبواب النفاس ح 2 - 4 - 5 - 15 - 11.
6- الوسائل الباب 3 من أبواب النفاس ح 2 - 4 - 5 - 15 - 11.
7- الوسائل الباب 3 من أبواب النفاس ح 2 - 4 - 5 - 15 - 11.

ورجع الشيخ المفيد رحمه اللّه في كتابه أحكام النساء (1) وفي شرح كتاب الأعلام (2).

والذي يدل على أصل المسألة وما اخترناه ، انّها مخاطبة ، مكلّفة ، وهي داخلة في عموم الأوامر بالصّلوات والصّوم ، وانّما يخرجها في الأيام التي حددناها للإجماع ، ولا إجماع ولا دليل فيما زاد على ذلك ، فيجب دخولها تحت عموم الأوامر ، ولو لم يكن إلا أنّ فيه استظهارا للفرض واحتياطا له لكفى.

وتفارق النفساء الحائض في حدّ أقل النفاس ، فإنّه ليس لقليل النفاس حدّ بل حدّه انقطاع الدم ، فإذا استمر بها الدم فوق العشرة الأيام وتجاوزها ، فعلت ما تفعله المستحاضة ، لا الحائض ، لأنّ الحيض لا يتعقّب النفاس ، لما بيّنا انّ النفاس حكمه حكم الحيض في جميع الأشياء ، فإن رأت الدّم بعد وضعها الحمل بلا فصل مثلا يوما واحدا أو يومين وانقطع إلى تمام العشرة الأيام ، فهي نفساء في اليوم واليومين فحسب ، فإذا رأته قبل مضي العشرة الأيام لحظة واحدة فاليوم واليومان وما بعدها إلى تمام العشرة نفاس ، لأنّه لم يمض لها بين الدّمين طهر ، فإن مضى بين الدّمين عشرة أيام نقاء فالدم الثاني إذا توالى ثلاثة أيام حيض ، فإن لم يمض بين الدمين طهر ، وتجاوز العشرة الأيام منها نقاء ومنها دم ، فالدم الثاني استحاضة ولا يكون نفاسا ، لأنه قد جاوز العشرة الأيام بعد وضعها الحمل وهي أقصى مدته ، ولا يكون حيضا ، لأنّه ما تقدّمه طهر ، فليلحظ ذلك ويحقق.

ويكون النقاء الذي في العشرة الأيام أيضا هي فيه بحكم الطاهرات ، يجب عليها فيه قضاء الصّلاة والصّوم.

وإن وضعت ولم تر الدّم إلى اليوم التاسع أو العاشر ، فهي طاهر ، وحكمها حكم الطاهرات إلى أن رأت الدم ، وهي نفساء ، وحكمها حكم النفساء في اليوم التاسع والعاشر فحسب ، لأنّا قد بيّنا انّ النفساء مشتقة من النفس التي

ص: 155


1- لم نعثر عليهما.
2- لم نعثر عليهما.

هي الدم ، والاشتقاق غير حاصل في الأيام الثمانية ، فيجب أن يكون غير نفساء. ونفساء في الزمان الذي رأت فيه الدم ، لأنّه بعد وضع الحمل ، وقبل خروج العشرة الأيام التي هي أقصى مدة النفساء والنفاس.

فإن قيل أيام النقاء أقل من الطهر ، لأن الطهر عندنا عشرة أيام أقلّه ، فكيف حكمتم بأنّها طهر ، وحكمها حكم الطاهرات فيها؟

قلنا : ولا تقدّمها حيض ولا نفاس ، بل تقدّمها طهر وأطهار ، لأن الحامل على ما بيّناه لا ترى دم الحيض ، فالأيام وما تقدمها بمجموع ذلك أجمع طهر.

فإن رأته بعد وضعها ساعة ، ثم انقطع تسعة أيام ، ثم رأته اليوم العاشر ، كانت جميع الأيام نفاسها ، لأنّها نفساء عند رؤية الدّم بعد الوضع ، ولم يحصل لها في أيام الانقطاع طهر وهو عشرة أيام ، ورأت الدم الثاني قبل خروج العشرة وهي أقصى مدة النفاس ، فكان الجميع نفاسا وهي نفساء في الجميع.

وإذا ولدت المرأة توأمين ، ورأت الدم عقيبهما ، فإنّ النفاس يكون من ولد الأول ، لأنّ النفاس عندنا هو الدم الخارج عقيب الولادة ، ولا يمنع كون أحد الولدين باقيا في بطنها من أن يكون نفاسا ، وأيضا لا يختلف أهل اللغة في أنّ المرأة إذا ولدت وخرج الدم عقيب الولادة ، فإنّه يقال قد نفست ، ولا يعتبرون بقاء ولد في بطنها ، ويسمّون الولد منفوسا ، قال الشاعر وهو أبو صخر الهذلي يمدح آل خالد بن أسيد بن أبي العاص بن أميّة بن عبد شمس :

إذا نفس المنفوس من آل خالد *** بدا كرم للناظرين وطيب

فسمّى الولد منفوسا ومحال أنّ يكون الولد منفوسا إلا والام نفساء ، لأنّ الدّم نفسه يسمّى نفسا على ما قدّمناه.

فإذا ولدت الولد الثاني ورأت الدم عقيب ولادتها ، اعتبرت أقصى مدة النفاس من وقت ولادة الثاني ، لأنّ كلّ واحد من الدمين يستحق الاسم بأنّه نفاس ، فينبغي أن يتناول كلّ واحد منهما اللفظ ، وإذا تناول الدم الأخير الاسم

ص: 156

عددنا منه أكثر أيام النفاس ، واستوفينا أقصاه من الأخير ، لتناول الاسم له.

فإن قيل : إذا رأته عند وضع الأول مثلا خمسة أيام ، ثم وضعت الثاني ورأت الدم عقيب وضعه عشرة أيام ، فقد صار خمسة عشرة يوما ، وعندكم على ما بيّنتم انّ أقصى مدة النفاس عشرة أيّام ، فكيف يكون الحكم في ذلك؟

قلنا : ما هذا دم ولادة واحدة ، بل دم عقيب ولادتين ، وإن كان الحمل واحدا ، وعندنا بلا خلاف بيننا ، انّ النفاس هو الدّم الذي تراه المرأة عقيب ولادتها الولد ، وقد رأت عقيب ولادتها الأول خمسة أيام ، فحكمنا بأنّها نفاس لتناول الاسم لها ، فإذا وضعت الثاني ورأت عقيبه الدم فقد رأت الدم عقيب ولادتها الولد الأخير ، فينبغي أن يتناوله الاسم ، فيجب أن يستوفي أقصى مدة النفاس من يوم وضعتها الولد الأخير ، لتناول الاسم ، فليلحظ ذلك ويحقق ، فقد شاهدت جماعة ممن عاصرت من أصحابنا ، لا تحقق القول في ذلك ، وتقف على مسطور لبعض المصنفين ، ولا تبيّنه ولا تحقّقه ، وتحتج عنده ، وتخطي ، فاللّه نسأل التوفيق والتسديد في المقال والفعال.

باب غسل الأموات وما يتقدّم ذلك في آداب المرض ، والعيادة وتلقين المحتضرين ، وما يتصل بذلك

الأولى بالمريض والأفضل له أن يكتم مرضه ولا يشكوه ، وقد روي في حدّ الشكاية للمرض ، عن الصّادق عليه السلام ، أنّ الرّجل يقول حممت اليوم ، وسهرت البارحة ، وقد صدق وليس هذا شكاية ، انّما الشكاية أن يقول : ابتليت بما لم يبتل به أحد وأصابني ما لم يصب أحدا (1).

ص: 157


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب الاحتضار ح 1.

وفي العيادة للمؤمنين فضل كثير وثواب جميل ، والرواية بذلك متظاهرة (1) ويستحب للمريض أن يأذن للعائدين حتى يدخلوا عليه ، فربما كانت لأحدهم دعوة مستجابة.

ولا عيادة في أقل من ثلاثة أيام ، فإذا وجبت ، جعلت غبّا يوما فيوما ثم يغب يومين ، فإذا طالت مدة العلّة ترك المريض وعياله.

ولا عيادة في وجع العين.

ومن السنة تخفيف العيادة ، وتعجيل القيام ، إلا أن يكون المريض يحب الإطالة عنده.

ولا يعاد أهل الذمة ولا تشهد جنائزهم.

وقد روي انّه ليس على النساء عيادة المرضى (2).

ويلقن المحتضر الشهادتين ، وكلمات الفرج ، وقد يأتي ذكرها ، فإن عسر عليه النزع ، نقل إلى المكان الذي كان يكثر الصّلاة فيه.

ويستحب أن يوجّه إلى القبلة ، بأن يجعل باطن قدميه إليها ، بحيث لو جلس لكان مستقبلا إليها ، فإذا قضى نحبه ، والنحب المدة والوقت ، يقال قضى فلان نحبه إذا مات ، فلتغمض عيناه ، ويطبق فوه ، ويمدّ يداه إلى جنبيه ، ورجلاه ، ويكون عنده من يذكر اللّه تعالى ، ويقرأ القرآن ، ويقدّم النظر في أمره عاجلا ولا ينتظر به دخول الوقت ، ولا خروجه ، إلا أن يكون غريقا ، أو مصعوقا ، أو مبطونا وهو الذي علته الذب وهو الإسهال ، - وكان زين العابدين عليه السلام يوم الطف مريضا بالذّرب - أو مدخنا ، أو مهدوما عليه ، فإنّ هؤلاء ينتظر بهم إلى أن يتغيّروا ، لأجل الاستظهار ، وتسبر حالهم بعلامات الموت واماراته ، فإن عرف حالهم ، وإلا تركوا ثلاثة أيام.

وغسل الميت المؤمن أو المحكوم بإيمانه ومن في حكمه ، فرض واجب ، وهو من

ص: 158


1- الوسائل : الباب 10 من أبواب الاحتضار
2- الوسائل : الباب 69 من أبواب الدفن ، ح 4.

فروض الكفاية.

واعلم انّه كغسل الجنب في الصفة والترتيب ، يبدأ فيه بغسل اليدين على طريق الاستحباب ، ثم الفرج ، ثم الرأس ، ثم الميامن ، ثم المياسر ، وشرح ذلك : أن يوضع الميت على سرير غسله ، ويستحب أن يستقبل هاهنا بوجهه القبلة ، على ما ذكرناه أولا في حال الاحتضار ، ويجب أن تستر عورته بثوب يضعه عليها ، أو بقميصه بعد نزعه عنه ، ويقصد إلى تليين مفاصله برفق ، حتى لا ينكسر منه عضو ، فإن عسر عليه ذلك تركه ، ولم يتعرض له ، ويمسح بطنه مسحا رقيقا في الغسلتين الأوّلتين ، ولا يمسحها في الثالثة ولا يغمزها بحال ، وهذا الحكم سواء كان الميت رجلا أو امرأة ، إلا أن يكون حاملا ، فلا يمسح بطنها في شي ء من الغسلات.

ثمّ يغسل يديه بماء قراح ، والقراح هو الخالص البحت وقد روي أنّه يوضأ وضوء الصلاة ، وذلك شاذ ، والصحيح خلافه ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه يراه احتياطا في نهايته (1) وفي مبسوطة (2) وقال : قد روي أنّه يوضأ الميت قبل غسله (3) ، فمن عمل بها كان جائزا ، غير أن عمل الطائفة على ترك العمل بذلك ، لأن غسل الميّت كغسل الجنابة ولا وضوء في غسل الجنابة.

قال محمّد بن إدريس : فإذا كان عمل الطائفة على ترك العمل بذلك ، فإذن لا يجوز العمل بالرواية ، لأنّ العامل بذلك يكون مخالفا للطائفة ، وفيه ما فيه.

ثم يغسل رأسه ولحيته برغوة السّدر ثلاث مرات ، ثم يقلبه على جنبه الأيسر ، ليبدو له الأيمن ، ويغسله بماء السدر ثلاثا أيضا ، كما ذكرناه في الرأس من أصل العنق الى قدمه ، ثمّ يقلبه على جنبه الأيمن ، ليبدو له الأيسر ويغسله على ما ذكرناه في الأيمن في الصفة والعدة.

ص: 159


1- النهاية : في غسل الميّت
2- المبسوط : كتاب الجنائز ( بعد كتاب الصلاة ) ص 178 من المطبوع.
3- الوسائل : الباب 6 من أبواب غسل الميّت.

والمفروض من الأكفان للرجال والنساء ثلاثة أثواب ، مئزر وقميص وإزار ، مع القدرة والاختيار ، على الصحيح من المذهب ، وبعض أصحابنا يذهب إلى أنّ الواجب في حال الاختيار قطعة واحدة ، وهو سلّار.

والمسنون للرجال ، أن يزاد لفافة اخرى ، إمّا حبرة ، بكسر الحاء وفتح الباء ، أو ما يقوم مقامها ، وخرقة يشد بها فخذاه.

ويستحب أن يزاد أيضا عمامة يعمم بها محنكا ، وإن كان امرأة زيدت على مستحب الرجال لفافة أخرى ، لشدّ ثدييها ، وروي نمط (1) والصحيح الأول وهذا مذهب شيخنا الطوسي رحمه اللّه في كتاب الاقتصاد (2) لأنّ النمط هو الحبرة ، وقد زيدت على أكفانها ، لأن الحبرة مشتقة من التزين (3) والتحسين ، وكذلك النمط هو الطريقة وحقيته الأكسية والفرش ذات الطرائق ، ومنه سوق الأنماط بالكوفة ، يقال فلان على نمط واحد ، أي على طريقة واحدة ، قال زهير : تعالين أنماطا عتاقا وكلة.

وإذا اختلف الورثة في الكفن ، اقتصر على المفروض منه وهو ثلاث قطع.

وإذا أخذ السيل الميت أو أكله السّبع وبقي الكفن ، كان للورثة دون غيرهم ويحصّل الكافور ، والأعلى في الاستحباب وزن ثلاثة عشر درهما وثلث ، الذي لم تمسّه النار ، الخالص ، الخام ، الجلال ، ومعنى الجلال الجليل وهو الجيد يقال : جليل وجلال وطويل وطوال ، فهو من أوزان المبالغة في أوصاف الجودة. ويليه في مقدار المستحب أربعة دراهم ، وفي بعض الكتب أربعة مثاقيل ، والمراد بها الدراهم هاهنا ، ويليه في مقدار المستحب درهم واحد ، والواجب ما وقع. عليه اسم الكافور مع الوجدان.

ويحصّل أيضا شي ء من السدر للغسلة الاولى ، وقليل كافور للغسلة الثانية ،

ص: 160


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب التكفين ، ح 16.
2- الاقتصاد : فصل في ذكر غسل الأموات ، ص 248
3- في المطبوع : لأن الحبرة مشتقة من التزيّن.

وشي ء من القطن ليحشى به دبره ، والمواضع التي يخاف خروج شي ء منها ، وشي ء من الذريرة المعروفة بالقمحة ، ذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتاب التبيان (1) قال : الذريرة ، فتات قصب الطيب ، وهو قصب يجاء به من الهند ، كأنّه قصب النشاب.

وذكر المسعودي ، وهو علي بن الحسين المسعودي الهذلي رجل من جلة أصحابنا له كتب عدة ، في كتابه المعروف المترجم بمروج الذهب ومعادن الجوهر ، في التواريخ وغيرها ، وهذا الكتاب كتاب حسن ، يشتمل على أشياء حسنة قال : أصل الطيب خمسة أصناف ، المسك ، والكافور ، والعود ، والعنبر ، والزعفران ، كلها تحمل من أرض الهند إلا أنّ الزعفران ، والعنبر ، قد يوجد بأرض الزنج ، والأندلس ، قال : وأنواع الأدوية خمسة وعشرون صنفا ، ذكر من جملة ذلك السليخة والورس واللاذن والزباد وقصب الذريرة (2).

قال محمد بن إدريس : والذي أراه أنّها نبات طيب غير الطيب المعهود ، يقال له القمحان نبات طيب يجعلونه على رأس دنّ الخمر ويطيّن عليه ليكسبها منه الريح الطيبة. قد ذكره النابغة الذبياني في شعره ، وفسّره علماء أهل اللغة على ما شرحناه وذكرناه.

وقال صاحب كتاب التاريخ (3) : قال الأصمعي وغيره : يقال للذي يعلو الخمر ، مثل الذريرة القمحان. وقال النابغة الجعدي :

إذا فضّت خواتمه علاه *** بنثر القمحان من المدام

وهل الكافور الذي للغسلة الثانية من جملة الثلاثة عشر درهما وثلث ، أم من غيرها؟ اختلف أصحابنا في ذلك ، فبعض قال : من جملتها ، وبعض قال : من غيرها لا منها ، وهذا هو الأظهر بينهم.

ص: 161


1- التبيان : ج 1 ، ص 448
2- مروج الذهب : ج 1 ص 171 نقلا بالمعنى
3- في المطبوع : التاريخ.

وتنثر الذريرة المتقدّم ذكرها ، على الأكفان.

ويكتب على الأكفان : فلان يشهد أن لا إله إلا اللّه وأنّ محمّدا رسول اللّه ، بتربة الحسين عليه السلام.

وقال الشيخ المفيد في رسالته إلى ولده : تبل التربة بالماء ويكتب بها (1). وباقي المصنفين من أصحابنا يطلقون في كتبهم ويقولون يكتب ذلك بتربة الحسين عليه السلام ، والذي اختاره ما ذكره الشيخ المفيد رحمه اللّه ، لأنّه الحقيقة والمعهود في الكتابة ، لأنّ حقيقة ذلك التأثير ، وليس إطلاقهم ممّا ينافي ذلك ، فإن لم توجد التربة ، فبالاصبغ عند الضّرورة.

ويستحب أن يكون الكفن قطنا محضا أبيض ، والكتان مكروه. وليس بمحظور ، والإبريسم المحض لا يجوز ، وجملة الأمر وعقد الباب أنّ كل ثوب يجوز فيه الصّلاة يجوز التكفين به ، إلا انّ بعض الثياب أفضل من بعض ، وما لا تجوز فيه الصلاة من الإبريسم المحض لا يجوز التكفين به.

والواجب أن يغسل ثلاث غسلات ، الاولى بماء السّدر ، والثانية بماء جلال الكافور ، والثالثة بماء القراح ، والماء القراح هو البحت الخالص ، من غير إضافة شي ء إليه على ما ذكرناه.

وكيفية غسله ، مثل غسل الجنابة ، يغسل الغاسل يد الميّت ثلاث مرّات ، ثم ينحيه بقليل أشنان ، وآخر يقلب الماء عليه ، فإذا نحّاه بدأ بغسل رأسه ولحيته ثلاث مرات ، ثم يغسل جانبه الأيمن ثلاث مرات ، ثمّ الأيسر ثلاث مرات ، وآخر يقلب الماء عليه.

ثمّ يقلب بقية ماء السّدر ، ويغسل الأواني ، ويطرح ماء آخر ، ويطرح القليل من الكافور ، ويضربه ، ويغسّله الغسلة الثانية مثل ذلك.

ص: 162


1- رسالة المفيد رحمه اللّه الى ولده.

ثم يقلب بقية ماء الكافور ، ويغسل الأواني ، ويطرح فيها ماء القراح ، ويغسّله الغسلة الثالثة مثل ذلك بالماء القراح ، ويمسح الغاسل يده على بطنه في الغسلتين الأولتين ، ولا يمسح في الغسلة الثالثة ، وقد ذكرنا طرفا من ذلك فيما مضى ، وأعدناه هاهنا للبيان ، وكلّما قلبه استغفر اللّه وسأله العفو ، ثم ينشّفه بثوب نظيف.

ويغتسل الغاسل فرضا واجبا إمّا في الحال أو فيما بعد ، فإن مس مائعا قبل اغتساله وخالطه لا يفسده ولا ينجسه ، وكذلك إذا لاقى جسد الميت من قبل غسله إناء ثم أفرغ في ذلك الإناء قبل غسله مائع فإنّه لا ينجس ذلك المائع ، وإن كان الإناء يجب غسله ، لأنّه لاقى جسد الميّت ، وليس كذلك المائع الذي حصل فيه ، لأنّه لم يلاق جسد الميت وحمله على ذلك قياس ، وتجاوز في الأحكام بغير دليل ، والأصل في الأشياء الطهارة ، إلى أن يقوم دليل قاطع للعذر ، وإن كنّا متعبدين بغسل ما لاقى جسد الميت ، لأنّ هذه نجاسات حكميات ، وليست عينيات ، والأحكام الشرعيات نثبتها بحسب الأدلة الشرعية.

ولا خلاف أيضا بين الأمّة كافّة إنّ المساجد يجب أن تنزه ، وتجنب النجاسات العينيات ، وقد أجمعنا بلا خلاف ذلك بيننا على أن لمن غسل ميّتا أن يدخل المسجد ، ويجلس فيه ، فضلا عن مروره ، وجوازه ، ودخوله إليه ، فلو كان نجس العين لما جاز ذلك وأدّى إلى تناقض الأدلة.

وأيضا فإنّ الماء المستعمل في الطهارة على ضربين ، ماء استعمل في الصغرى والآخر في الكبرى ، فالماء المستعمل في الصغرى لا خلاف بيننا انّه طاهر مطهر ، والماء المستعمل في الطهارة الكبرى الصّحيح عند محققي أصحابنا أنّه أيضا طاهر مطهر ، ومن خالف فيه من أصحابنا قال : هو طاهر يزيل به النجاسات العينيات ولا يرفع به الحكميات ، فقد اتفقوا جميعا على انّه طاهر ، ومن جملة الأغسال والطهارات الكبار : غسل من غسل ميتا ، فلو نجس ما يلاقيه من المائعات ، لما كان الماء الذي قد استعمله في غسله وإزالة حدثه طاهرا

ص: 163

بالاتفاق والإجماع اللذين أشرنا إليهما.

والأفضل أن لا يكفّنه إلا بعد أن يغتسل ، فإن لم يفعل توضّأ ثم كفنه ، فيأخذ الخرقة التي هي الخامسة ويترك عليها شيئا من القطن وينثر عليها شيئا من الذريرة ويشد بها فخذيه ، ويضمهما ضما شديدا ويحشو القطن على حلقة الدبر ، وبعض أصحابنا يقول في كتاب له : ويحشو القطن في دبره. والأول أظهر ، لأنّا نجنّب الميت كل ما نجنّبه الأحياء ، ويستوثق من الخرقة.

ثم يؤزره ويلبسه القميص ، وفوق القميص الإزار ، وفوق الإزار الجرة ، ويترك معه جريدتين رطبتين من النخل إن وجدا ، ومن الشجر الرطب ، ويكتب عليهما ما كتب على الأكفان ، ويضع إحديهما من ترقوته اليمنى ، ويلصقها بجلده ، والأخرى من الجانب الأيسر ، بين القميصين والإزار.

ويضع الكافور على مساجده : جبهته ، ويديه ، وعيني ركبتيه ، وطرف أصابع الرجلين فإن فضل منه شي ء تركه على صدره ، ولا يجعل في عينه ، ولا في سمعه ، ولا في فيه ، ولا في أنفه ، شيئا من الكافور والقطن ، إلا ان يخاف خروج شي ء من ذلك فيجعل عليه شيئا من القطن.

ويكره قطع الكفن بالحديد ، ويكره أيضا بل الخيط لخياطته بالريق.

ثم يحمل إلى المصلّى ، فيصلّى عليه ، على ما نذكره في كتاب الصّلاة.

وأفضل ما يمشي المشيع للجنازة خلفها ، ويجوز بين جنبيها ، ويكره ان يتقدّمها مع الاختيار.

فإذا صلّي عليه حمل إلى قبره ، فيترك عند رجلي القبر إن كان رجلا ، وقدّام القبر ممّا يلي القبلة إن كانت امرأة.

ثم ينزل إلى القبر من يأمره الولي ، بحسب الحاجة إن شاء شفعا ، وإن شاء وترا ، فيؤخذ الميت الرجل من عند رجلي القبر ، والمرأة من قدّامه ، فيسل سلا في ثلاث دفعات ولا يفاجأ به القبر دفعة واحدة ، ويوضع في لحده ، وهو أفضل من

ص: 164

الشق ، ويحلّ عقد الأكفان ، ويلقّنه الذي يدفنه الشهادتين ، والإقرار بالنبي والأئمة عليهم السلام ، ثم يضع معه شيئا من تربة الحسين عليه السلام ، وقال الشيخ أبو جعفر الطّوسي رحمه اللّه : تكون التربة في لحده مقابلة وجهه (1). وقال في اقتصاده : يكون في وجهه (2) وقال الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان : تكون التربة تحت خدّه وهو الذي يقوى عندي ويضع خده على التراب ، ثمّ يشرّج عليه اللبن. ويخرج من عند رجلي القبر.

ويكره أن ينزل إلى القبر بحذاء أو خفّ.

ويطم القبر ويرفع من الأرض مقدار أربع أصابع مفرجات ، ولا يعلّى أكثر من ذلك ، ويربع ، ويكره أن يطرح فيه من غير ترابه.

ويستحب لمن حضره أن يطرح بظهر كفه ثلاث مرات التراب ، ويترحم عليه ، فإذا فرغ من تسوية القبر ، ينضح الماء على القبر من أربع جوانبه يبدأ الرأس ، فإذا فضل من الماء شي ء صبّه على وسط القبر.

ويترحّم عليه من حضره ، وينصرف ، ويتأخّر الولي أو من يأمره الولي ويستقبل القبلة ، ويجعل القبر أمامه ، وينادي بأعلى صوته معيدا للتلقين الأول ، فإنّه على ما روي (3) يكفى عن مسألة القبر إن شاء اللّه.

وذهب بعض أصحابنا في كتاب له وهو الفقيه أبو الصلاح الحلبي تلميذ السيد المرتضى رحمه اللّه إلى أنّ الملقّن هاهنا يستدبر القبلة ، ويستقبل وجه الميت ويلقنه (4).

ويكره تسخين الماء لغسل الأموات ، إلا أن يدعو إلى ذلك حاجة.

ص: 165


1- هذه العبارة غير موجودة في النهاية والخلاف والمبسوط والجمل والعقود.
2- الاقتصاد : فصل في ذكر غسل الأموات ، ص 250 الطبع الحديث.
3- الوسائل : الباب 35 من أبواب الدفن ، ح 1 و 2 و 3.
4- الكافي : في أحكام الجنائز ، ص 239 طبع مكتبة الإمام أمير المؤمنين بأصبهان.

ويكره أن يصب الماء الذي يغسل به الميت في الكنيف ، بل المستحب اتخاذ حفيرة ليدخل الماء إليها.

ويكره أن يركب الميت في حال غسله ، بل يكون الغاسل على جانبه الأيمن ، ولا يقعده ولا يغمز بطنه.

ويستحب لمن شيّع جنازة المؤمن أن يربع جنازته ، بأن يحملها من أربع جوانبه ، يبدأ بمقدّم السرير الأيمن ، يمرّ عليه ويدور من خلفه إلى الجانب الأيسر ، ثم يمرّ عليه حتى يرجع إلى المقدّم كذلك دور الرحى.

وفي بعض الكتب ولا يفدحه بالقبر دفعة واحدة القدح الأخذ بالشدة.

والموتى المأمور بغسلهم على ثلاثة أضرب ، فضرب منهم لا يجب غسله ، لا قبل الموت ولا بعد الموت ، وهو الشهيد المقتول بين يدي إمام عدل ، أو بين يدي من نصبه في نصرته ، ولا يكفن ، ويدفن معه جميع ما ينطلق عليه اسم الثياب ، سواء أصابها دمه أو لم يصبها ، ولا يكفّن إلا أن يجرّد ويسلب ، فحينئذ يجب تكفينه ، فأمّا غير الثياب فينقسم إلى قسمين ، سلاح وغير سلاح ، فالسلاح يجب نزعه عنه ، سواء أصابه دمه أو لم يصبه بغير خلاف ، وغير السلاح وهو الفرو والقلنسوة والخف ، فإن كان أصاب شيئا من ذلك دمه ، فقد اختلف قول أصحابنا فيه ، فبعض ينزعه عنه وإن كان قد أصابه دمه ، وبعض لا ينزعه عنه إلا أن يكون ما أصابه دمه ، فأمّا إن كان أصابه دمه فلا ينزعه ، وهذا الذي يقوى في نفسي.

فإن نقل من المعركة وبه رمق ، ومات في غير المعركة وجب غسله.

وذكر السيد المرتضى رحمه اللّه في مسائل خلافه في مسألة غسل الشهيد قال : فإن قيل : لا خلاف في انّه إذا ارتثّ يغسل مع وجوب الشهادة. قلنا : إذا ارتث فلم يمت في المعركة هذا آخر كلام المرتضى.

قال محمّد بن إدريس : ارتثّ بالألف والراء الساكنة ، غير المعجمة والتاء

ص: 166

المضمومة المنقطة من فوقها بنقطتين والثاء المنقطة ثلاث نقط المشددة : إذا طعن أو ضرب فسقط ، وتأويله انّه صار مرميّا به ، كما يلقى رثّ المتاع ، وكذلك فلان رث الثياب ، ويقال كل غثّ ورثّ ، يقال : قد ارتث فلان صريعا إذا فعل به ما قدّمناه ، هكذا أورده المبرد في كتاب الاشتقاقات (1).

والضرب الثاني يجب أن يغتسل قبل موته ، ولا يجب غسله بعد موته وقتله ، وهو المقتول قودا ، والمرجوم ، فإنّهما يؤمران بالاغتسال ، فإذا اغتسلا قتلا ، ولا يجب غسلهما بعد قتلهما.

ويجب على من مسهما بعد القتل الغسل ، لأنّه قد مس ميتا بعد برده بالموت وقبل تغسيله بعد الموت.

ولا يظن ظان ان هذا ما مسّه الا بعد تطهيره.

قلنا ما مسه بعد تطهيره بعد موته ، بل ما مسّه الا قبل تطهيره بعد موته.

ولا يكفّنان أيضا بعد القتل ، لأنّهما يؤمران بالتكفين والتحنيط قبل القتل.

والضرب الثالث يجب غسله بعد الموت وتكفينه ، ظالما كان أو مظلوما ، وإذا وجد من المقتول قطعة ، فإن كان فيها عظم وكان ذلك العظم عظم الصدر ، وجب على من مسه الغسل ، ووجب تغسيل القطعة ، وتكفينها ، والصلاة عليها ، وحكمها حكم الميت نفسه ، وإن كان العظم غير الصدر ، يجب جميع الأحكام الماضية إلا الصلاة عليها فإنّها لا تجب.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه : مسألة : إذا وجد قطعة من ميت فيها عظم ، وجب غسلها ، ثم استدل فقال : دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم ، وأيضا روي أنّ طائرا ألقت يدا بمكة من وقعة الحمل ، فعرفت بالخاتم وكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد ، فغسلها أهل مكة ، وصلّوا عليها (2).

ص: 167


1- لم نعثر عليه
2- كتاب الخلاف : المسألة 62 من أحكام الأموات.

قال محمّد بن إدريس : الصحيح انّ اليد ألقيت باليمامة ، ذكر ذلك البلاذري في تاريخه (1) ، وهو أعرف بهذا الشأن ، وأسيد بفتح الالف وكسر السين.

وإن كانت القطعة خالية من العظم ، دفنت ، ولا يجب تكفينها ، ولا غسلها ، ولا الصلاة عليها ، ولا يجب على من مسها الغسل ، بل يجب عليه غسل ما مسّها به فحسب.

وحكم قطعة قطعت من حي آدمي ذلك الحكم.

والمحرم إذا مات غسّل كما يغسّل الحلال ، ويكفّن كتكفينه ، غير أنّه لا يقرّب شيئا من الكافور.

وإن كان الميّت صبيا يغسّل كغسل الرجال ، ويكفّن ، ويحنط كذلك مثل الرجال ، وإن كان الصبي ابن ثلاث سنين أو أقل من ذلك ، فلا بأس أن يغسّله النساء ، عند عدم الرجال مجردا من ثيابه ، وكذلك الصبيّة إذا كان لها ثلاث سنين فما دونها ، جاز للرجال تغسيلها عند عدم النساء ، فإن زادت على ذلك لم يجز ، وبعض أصحابنا يجوّز في الصبي أن يغسّله النساء إلى خمس سنين عند عدم الرجال ، والأول أظهر في المذهب.

ولا بأس أن يغسّل الرجل امرأته ، والمرأة زوجها ، وكذلك كلّ محرّم محرم يغسّل ذا رحمه من فوق الثياب في حال الاختيار ، وهو الأظهر عند أصحابنا ، ومذهب شيخنا أبي جعفر في سائر كتبه ، إلا في استبصاره فإنّه قال : ذلك عند الاضطرار دون الاختيار (2).

وإن ماتت المرأة ومات الصبي معها في بطنها دفن معها.

فإن كانت ذمية ، دفنت في مقابر المسلمين لحرمة ولدها ، وجعل ظهرها إلى القبلة ، ليكون وجه الولد إلى القبلة ، إذا كان من مسلم.

ص: 168


1- لم نعثر عليه
2- الاستبصار : الباب 117 من أبواب الجنائز.

وإذا ماتت المرأة ولم يمت ولدها ، شق بطنها من الجانب الأيسر ، واخرج الولد ، وخيط الموضع ، وغسّلت ، ودفنت.

فإن مات الولد ، ولم تمت هي ، ولم يخرج منها ، أدخلت القابلة أو غيرها من الرجال يده في فرجها ، وفقطع الصبي ، وأخرجه قطعة ، قطعة ، وغسّل ، وكفّن ، وحنّط ، ودفن.

ولا يقص شي ء من شعر الميت ، ولا من أظفاره ، ولا يسرح رأسه ، ولا لحيته ، فإن سقط منه شي ء ، جعل معه في أكفانه.

وإذا خرج من الميت شي ء من النجاسة عند الفراغ من تغسيله ، غسل منه ، ولا يجب عليه اعادة الغسل ، فإن أصاب ذلك كفنه ، فالصحيح انّه يغسل منها ، ولا يقرض ما لم يوضع في القبر ، فان وضع في القبر ، واصابته النجاسة ، قرض الموضع من الكفن بالمقراض ، ولا يغسل.

وقال بعض أصحابنا : يقرض بالمقراض ، ولم يفصّل ما فصلناه ، بل أطلق ذلك إطلاقا ، وما اخترناه مذهب الشيخ الصدوق علي بن بابويه في رسالته (1).

وإذا لم يوجد لغسله كافور ، ولا سدر ، فلا بأس أن يغسل ثلاث غسلات بالماء القراح ، وإن وجد الكافور والسدر فلا بدّ منه ، فان ذلك واجب ، لا مستحب جعله على أصح الأقوال ، وإن كان بعض أصحابنا وهو سلار لا يوجب الثلاث غسلات ، بل غسلة واحدة ، ولا يوجب الكافور ولا السدر في الغسلتين الأولتين.

وإذا مات الإنسان في البحر في مركب ، ولم يقدر على الأرض لدفنه ، غسّل ، وحنّط ، وكفّن ، وصلّي عليه ، ثم يثقل بشي ء ، ويطرح في البحر ليرسب إلى قرار الماء ، وهذا هو الأظهر من الأقوال.

وقال بعض أصحابنا : يترك في خابية ويشد رأسها وترمى في البحر ، ورد بذلك بعض الروايات واختاره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف (2).

ص: 169


1- رسالة ابن بابويه
2- الخلاف : المسألة 36 من أحكام الأموات.

ولا يجوز حمل ميتين على جنازة واحدة مع الاختيار ، لأنّ ذلك بدعة.

ويستحب أن يكون حفر القبر قدر قامة ، أو إلى الترقوة.

ويكره نقل الميت من الموضع الذي مات فيه ليدفن في بلد غيره ، إلا إذا نقل إلى واحد من مشاهد الأئمة ، فإنّ ذلك مستحب ، ما لم يخف عليه الحوادث والانفجار.

فإذا دفن في موضع فلا يجوز تحويله ، ولا نبشه ، ونقله من موضعه ، سواء نقل إلى مشهد أو إلى غيره بل ذلك بدعة في شريعة الإسلام.

وذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه ، مسألة : إذا أنزل الميت القبر (1) يستحب أن يغطى القبر بثوب ، وبه قال الشافعي ، وقال أبو حنيفة : إن كانت امرأة غطي ، وإن كان رجلا لم يغط.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : ما وقفت لأحد من أصحابنا في هذه المسألة على مسطور فأحكيه ، فالأصل براءة الذمة من واجب ، أو ندب ، وهذا مذهب الشافعي ، فلا حاجة لنا إلى موافقته على ما لا دليل عليه ، وقد يوجد في بعض نسخ أحكام النساء للشيخ المفيد انّ المرأة يجلل القبر عند دفنها بثوب ، والرجل لا يمدّ عليه ثوب ، فإن كان ورد هذا ، فلا نعدّيه إلى قبر الرجل ، فليلحظ ذلك.

ولا يترك من وجب عليه الصلب ، على خشبته ، أكثر من ثلاثة أيّام ، فإن صلّي عليه ، وهو على خشبته ، يستقبل بوجهه ، وجه المصلى ويكون هو مستدبر القبلة ، هكذا يكون الصلاة عليه ، عند بعض أصحابنا المصنّفين.

والصحيح من الأقوال والأظهر انّه ينزل بعد الثلاثة الأيام ، ويغسل ، ويكفن ، ويحنط ، ويصلّى عليه ، لأنّ الصلاة قبل الغسل والتكفين لا تجوز ، وهذا مذهب شيخنا المفيد وشيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه الا أنّ شيخنا أبا جعفر ، لا يصلب المحارب ، إلا إذا قتل ، ويقول : يقتل قودا لا حدا ذكر ذلك في

ص: 170


1- الخلاف : المسألة 87 من أحكام الأموات.

الجزء السادس من مبسوطة في كتاب قطاع الطريق ، فلزمه على ذلك أن يأمره بالغسل ، والتكفين ، والتحنيط ، ثم يصلبه ، لأنّ المقتول قودا بلا خلاف بيننا يؤمر أولا بالغسل ، والتكفين ، ثم يقاد بعد ذلك ، وهو لا يغسله ولا يكفنه إلا بعد موته ، وإنزاله من خشبته.

والصحيح انّه يقتل حدّا ، لا قودا ، لأنّ القتل يتحتم عليه ، وإن عفى ولي المقتول ، وهذا مذهب شيخنا المفيد انّ المحارب إذا شهر السلاح ، الإمام مخيّر بين الصلب ، وبين قطعه من خلاف ، وبين النفي ، والآية (1) معه ، عاضدة لقوله.

ويكره تجصيص القبور ، وتطيينها ، والتظليل عليها ، والمقام عندها ، وتجديدها بعد اندراسها ، ولا بأس بتطينها ابتداء.

والكفن يؤخذ من نفس تركة الميت ، قبل إخراج جميع الحقوق ، من دين ، ووصية ، ونذر ، وكفارة ، وميراث وإن كان الميت امرأة لزم زوجها أكفانها ، وتجهيزها ، ولا يلزم ذلك في مالها ، فإن آثر الزوج أن يكفّنها مما يخصّه من تركتها ونصيبها ، فلا بأس به إذا لم يحسبه من أصل تركتها على ورثتها.

باب التعزية والسنّة في ذلك وهيئة المصاب وما ينبغي أن يكون عليه من علامات المصيبة

تعزية صاحب المصيبة سنة ، ينبغي أن تراعى ، ولا تهمل ، وفيها أجر كبير ، وقد روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : من عزّى حزينا كسي في الموقف حلّة يحبر بها (2).

ويجوز التعزية قبل الدفن وبعده ، والأولى أن يكون بعد الدفن ، وإذا عزّى الرجل أخاه في الدين فليقل : ألهمك اللّه صبرا واحتسابا ، ووفّر لك الأجر

ص: 171


1- المائدة : 33
2- الوسائل : الباب 46 من أبواب الدفن وفي بعض الروايات : يحبى بها

والثواب ورحم اللّه المتوفّى ، وأحسن الخلف على مخلّفيه ، وإن قال : أحسن اللّه لك العزاء ، وربط على قلبك بالصبر ، ولا حرمك الأجر ، كان حسنا ، ويجزيه أن يقول له : آجرك اللّه. وإن حضر ولم يتكلّم أجزأه الحضور عن الكلام ، وإن كان الكلام مع الحضور أفضل.

وإن كان المعزّى جزعا قلقا ، وعظه إن تمكن من ذلك ، وسلاه بذكر اللّه تعالى ، وذكر رسوله ، والاسوة به عليه السلام ، وعرّفه ما عليه من الوزر في جزعه ، والأجر على صبره.

وإن كان المعزى يتيما مسح يده على رأسه ، وسكته بلطف ورفق ، ودعا له بحسن الخلافة ، وترحم على ميته.

وليس في تعزية النساء سنّة.

ولا يجوز تعزية الضلال عن الحق ، والمخالفين للاعتقاد الصحيح ، وأصناف الكفار ، فإن اضطر الإنسان إلى تعزيتهم إن اقتضت المصلحة له في دينه ودنياه ذلك ، فليعزهم ، وليدع لهم في التعزية بإلهام الصبر ولا يدع لهم بالأجر ، ولا بأس أن يدعو لهم بالبقاء ، بذلك ثبت الخبر عن أئمة الهدى من آل محمّد عليهم السلام (1).

والمستحب لمشيع الجنازة ، وحاضري أصحاب المصائب ، أن لا ينصرفوا حتى يأذنوا لهم في الانصراف ، بذلك جرت السنة ، فإن كان المعزى جاهلا بما ينبغي له من الإذن لهم في الانصراف ، فسكت عنهم ، انصرفوا بغير إذنه.

وينبغي لصاحب المصيبة أن يتميّز من غيره.

ولا يجوز للوالدين شقّ جيبهما على ولدهما ، فإن فعلا ذلك أثما ، وكانت عليهما كفارة يمين ، على كل واحد منهما ، على ما روي في بعض أخبارنا (2)

ص: 172


1- لم نجد فيما بأيدينا من المصادر.
2- الوسائل : الباب 31 من أبواب الكفارات ، والباب 84 من أبواب الدفن.

واستغفرا ربّهما.

وينبغي لإخوان الميت أن يصنعوا لأهله طعاما على حسب إمكانهم مدة ثلاثة أيّام ، لشغل أهل المصيبة بمصيبتهم ، عن إعداد ما يحتاجون إليه لأنفسهم ، فإنّهم يحوزون أجرا ، ويتبعون به سنة ثابتة (1) عن النبي عليه السلام فيما صنعه بأهل جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه وأرضاه ، ليلة ورود الخبر عليهم بشهادته رحمه اللّه ، فاشتغلوا عن صلاح شئونهم بالمصاب به عليه السلام.

ثم البكاء ليس به بأس. وأمّا اللطم ، والخدش ، وجرّ الشعر ، والنوح بالباطل ، فإنّه محرّم إجماعا.

وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : ويكره الجلوس للتعزية يومين وثلاثة (2).

قال محمّد بن إدريس : لم يذهب أحد من أصحابنا المصنفين إلى ذلك ، ولا وضعه في كتابه ، وانّما هذا من فروع المخالفين وتخريجاتهم ، وأي كراهة في جلوس الإنسان في داره للقاء إخوانه ، والدعاء لهم ، والتسليم عليهم ، واستجلاب الثواب لهم ، في لقائه وعزائه.

وقال شيخنا أيضا في مبسوطة : يجوز لصاحب الميت أن يتميز من غيره ، بإرسال طرف العمامة ، أو أخذ مئزر فوقها ، على الأب والأخ ، فأمّا غيرهما فلا يجوز على حال (3).

قال محمّد بن إدريس : لم يذهب إلى هذا سواه رحمه اللّه ، والذي يقتضيه أصول مذهبنا انّه لا يجوز اعتقاد ذلك ، وفعله ، سواء كان على الأب ، أو الأخ ، أو غيرهما ، لأنّ ذلك حكم شرعي ، يحتاج إلى دليل شرعي ، ولا دليل على ذلك ، فيجب اطراحه ، لئلا يكون الفاعل له مبدعا ، لأنّه اعتقاد جهل.

ص: 173


1- الوسائل : الباب 67 من أبواب الدفن ، ح 1.
2- المبسوط : في أحكام الجنائز
3- المبسوط : كتاب الجنائز.

باب تطهير الثياب من النجاسات والبدن والأواني والأوعية

الدم على ضربين ، نجس وطاهر ، قليله وكثيره ، فالطاهر على مذهب أهل البيت بغير خلاف بينهم دم السمك ، والبراغيث ، والبق ، وما أشبه ذلك ، مما ليس بمسفوح ، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه ، وقال مالك في دم البراغيث : إذا تفاحش غسل ، فإن لم يتفاحش لا بأس به ، وقال : يغسل دم السمك والذباب ، وسوّى الشافعي بين الدماء كلها في النجاسة.

قال محمّد بن إدريس : فقد يوجد في بعض كتب أصحابنا ان النجاسة على ضربين ، دم وغير دم ، فعم ولم يخص ، وهذا تسامح وتساهل في التصنيف ، على انّ العموم قد يخص بالأدلة ، فلا يتوهم متوهم ، إذا وقف على ذلك المسطور انّه صحيح ظاهره.

والدليل على طهارة دم السمك انّه لا خلاف في جواز أكله بدمه ، من غير أن يسفح دمه ، ألا ترى أنّ سائر الدماء لمّا كانت نجسة ، لم يجز أكل الحيوان الذي هي فيه إلا بعد سفحها.

وأيضا قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ ) إلى قوله ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) (1) فأخبر تعالى انّ ما عدا المسفوح ليس بمحرّم ودم السمك ليس بمسفوح ، فوجب أن لا يكون محرما.

وأيضا قوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ) (2) يقتضي ظاهره ، إباحة أكل السمك وطهارته بجميع أجزائه ، لأنّ التحليل يقتضي الإباحة من جميع الوجوه.

فإن قال قائل : كما انّه تعالى خصّ الدم المسفوح بالآية التي ذكرتم ، فقد عمّ

ص: 174


1- الانعام : 145
2- المائدة : 96.

أيضا بسائر الدماء بقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) (1) وهذه الآية تقتضي تحريم سائر الدماء المسفوح وغيره؟

قلنا : دم السمك مخصوص من الآية العامة بما قدّمناه من الدلائل ، وبعد فانّ اللّه تعالى لما قال حرّمت عليكم الميتة ، قال النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم : أحلت لنا ميتتان ، وقال تعالى ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ ) ثم اتفقوا على أنّ آية الإباحة مرتّبة على آية الحظر ، كأنّه تعالى قال : حرّمت عليكم الميتة ، إلا الجراد والسمك فوجب أن يكون حكم الدم كذلك ، فتكون آية الإباحة ، مرتبة على آية الحظر ، ويكون التقدير ، حرّمت عليكم الميتة والدم إلا دم السمك ، وما أشبهه مما ليس بمسفوح.

وأيضا فإنّ العام يبنى على الخاص والمطلق على المقيد ، مثاله إذا ورد حكم مطلق في موضع ، ثم ورد ذلك الحكم بعينه في موضع آخر مقيدا بصفة ، فانّ مطلقه يكون محمولا على مقيّده ، ويتبيّن بذلك التقييد مراد المخاطب بالمطلق ، وهذا ممّا لا خلاف فيه بين من تكلّم في أصول الفقه.

فأمّا مسألة الخلاف أن يثبت حكم في موضع مطلقا ، ثمّ يرد ما هو من جنس ذلك الحكم لا بعينه في موضع آخر مقيدا ، فهل يجب حمل المطلق هاهنا على ذلك المقيّد أم لا؟ والصحيح من الأقوال ، أنّ لكل منهما حكم نفسه ، لأنّهما حكمان متغايران ، وإن كان جنسهما واحدا ، ومثاله كفارة الظهار مطلقة ، وكفارة قتل الخطأ مقيدة ، فلا يحمل المطلق على المقيد هاهنا ، إلا بدليل منفصل ، لأنّه يكون قياسا ، والقياس متروك عند أهل البيت عليهم السلام ، وقد روي عن أمير المؤمنين عليه السلام انّه قال : لا بأس بدم ما لم يذك (2).

ص: 175


1- المائدة : 3.
2- الوسائل : الباب 23 من أبواب النجاسات ، ح 2.

فأمّا الكلام في دم البق والبراغيث وما أشبههما ، فالدليل على ما ذهبنا إليه فيه ، الآية التي تقدّمت ، وهو قوله تعالى : ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ) إلى قوله ( أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ) ودم البراغيث والبق ليس بمسفوح ، وليس هذا اعتمادا على تعلّق الحكم بصفة ، وتعويلا على دليل الخطاب ، بل الحكم متعلّق بشرط متى لم يقصر عليه لم يكن مؤثرا ، وخرج من أن يكون شرطا على ما ذكرناه فيما تقدّم ، فإن عورضنا بعموم قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) كان الكلام على ذلك ما تقدّم ، وعلى ما اخترناه إجماع أصحابنا وفتاويهم وتصانيفهم.

فمنهم السيّد المرتضى رضى اللّه عنه يفتي به في مسائل خلافه ويناظر الخصم عليه ، وكذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي يفتي به في مسائل خلافه (1) ويناظر الخصم عليه. فأمّا قوله في جمله وعقوده (2) النجاسة على ضربين ، دم وغير دم ، وعدّ دم السمك ، وأدخله في جملة عموم قوله النجاسة ، فتسامح وتساهل في التصنيف على ما قدّمناه ، واعتذرنا لمن وجد ذلك في كلامه وتصنيفه ، بأنّ العموم مخصوص بالأدلة ، وقد يوجد مثل ذلك في كلام اللّه سبحانه ، وكلام أنبيائه وأئمته عليهم السلام ، ولا يكون ذلك مناقضة في الأدلة ، وذلك لا يجوز بغير خلاف.

وجملة الأمر وعقد الباب أنّ الدّم على تسعة أقسام ، ثلاثة منها قليلها وكثيرها طاهر ، وهي دم السمك والبق والبراغيث ، وما ليس بمسفوح على ما مضى القول فيه.

وثلاثة منها قليلها وكثيرها نجس ، لا تجوز الصلاة في ثوب ، ولا بدن ، أصابه منها قليل ، ولا كثير إلا بعد إزالته بغير خلاف عندنا ، وهي دم الحيض والاستحاضة والنفاس.

ودمان نجسان إلا أنّهما عفت الشريعة عمن هما به ، ولا يمكنه التحرز منهما

ص: 176


1- كتاب الخلاف : المسألة 219 من كتاب الصلاة.
2- الجمل والعقود : في فصل ذكر النجاسات.

في كلّ وقت ، بأن يكونا على صفة السيلان ، بأن لا يرقيا في وقت من الأوقات ، وهما الجراح الدامية ، والقروح اللازمة ، فلا بأس بالصلاة في الثوب والبدن إذا كانا على هذه الصفة ، وهما فيهما كثرا أو قلا للمكلف الذي هما به فحسب ، من غير اعتبار الدرهم وسعته ، فإذا انقطع سيلانهما عمن هما به ، اعتبر ما يعتبره غيره من سعة الدرهم ، وأقل من ذلك ، وعمل عليه على ما يأتي بيانه فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

والدم التاسع ما عدا ما ذكرناه من الثمانية الأجناس ، وهو دم سائر الحيوان ، سواء كان مأكول اللحم أو غيره ، نجس العين أو غير نجس العين.

وقد ذكر بعض أصحابنا المتأخّرين من الأعاجم ، وهو الراوندي المكنى بالقطب ، انّ دم الكلب والخنزير لا يجوز الصلاة في قليله ولا كثيره مثل دم الحيض ، قال : لأنّه دم نجس العين ، وهذا خطأ عظيم ، وزلل فاحش ، لأنّ هذا هدم وخرق لإجماع أصحابنا.

فهذا الدم أعني التاسع من الدماء نجس ، إلا انّ الشارع عفى عن ثوب وبدن أصابه منه دون سعة الدرهم الوافي ، وهو المضروب من درهم وثلث ، وبعضهم يقولون دون قدر الدرهم البغلي ، وهو منسوب إلى مدينة قديمة ، يقال لها بغل ، قريبة من بابل ، بينها وبينها قريب من فرسخ ، متصلة ببلدة الجامعين ، تجد فيها الحفرة والغسّالون دراهم واسعة ، شاهدت درهما من تلك الدراهم ، وهذا الدرهم أوسع من الدينار المضروب بمدينة السلام ، المعتاد ، تقرب سعته من سعة أخمص الراحة.

وقال بعض من عاصرته ، ممن له علم بأخبار الناس والأنساب : انّ المدينة والدراهم منسوبة إلى ابن أبي البغل ، رجل من كبار أهل الكوفة اتخذ هذا الموضع قديما ، وضرب هذا الدرهم الواسع ، فنسب إليه الدرهم البغلي ، وهذا غير صحيح ، لأنّ الدراهم البغلية كانت في زمن الرسول عليه السلام قبل الكوفة ، فما كانت سعته أعني سعة الدم في الثوب والبدن ، سعة هذا الدرهم ، لا وزنه

ص: 177

وثقله ، وكان مجتمعا في مكان واحد ، فلا يجوز الصلاة إلا بعد إزالته.

وبعض أصحابنا يقول : سواء كان مجتمعا في مكان واحد ، أو متفرقا بحيث لو جمع كان بمقدار الدرهم ، لا يجوز الصلاة فيه ، وهذا أحوط للعبادة ، والأوّل أقوى وأظهر في المذهب ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، لأنّ الإجماع على سعة قدر الدرهم ، فكلّ موضع ليست هي بسعة قدر الدرهم لا يجب إزالتها فمن ادعى انّه إذا اجتمع كان بقدر الدرهم ، يحتاج إلى دليل.

وما ليس بدم من النجاسات ، يجب إزالة قليله وكثيره ، من ذلك البول ، والغائط ، من الآدمي وغيره من الحيوان الذي لا يؤكل لحمه ، ويكون له دم سائل مسفوح ، وما أكل لحمه ، فلا بأس ببوله ، وروثه ، وذرقه ، وبعض أصحابنا يستثني من هذه الجملة ذرق الدجاج خاصة ، فإن أراد هاهنا بالدجاج ، غير الجلال ، فاستثناؤه له وجه ، وإن أراد الدجاج الجلال ، فلا وجه لاستثنائه ، لأنّه استثناء من مأكول اللحم والجلال غير مأكول اللحم في حال جلله ، فيصير الاستثناء غير حقيقي ، لأنّه استثناء من غير الجنس ، والكلام في الحقائق.

والصحيح انّ الدجاج إذا كان غير الجلال ، فإنّه لا بأس بذرقه ، لأنّ الإجماع من الطائفة حاصل ، على أنّ روث وبول وذرق كل مأكول اللحم من الحيوان طاهر ، والدجاج من ذلك ، فالمراد بالدجاج هاهنا الجلال ، لأنّه محتمل للجلال وغيره ، فيحمل إطلاق ذلك على المقيّد على ما مضى شرحه أولا ، لئلا تتناقض الأدلة.

وما يكره لحمه ، يكره بوله ، وروثه ، مثل البغال ، والحمير ، والدواب ، وإن كان بعضه أشد كراهة من بعض ، وفي أصحابنا من قال ، بول البغال ، والحمير ، والدواب ، وأرواثها نجس ، يجب إزالة قليله وكثيره ، والصحيح خلاف هذا القول.

والمني نجس ، من كل حيوان ، سواء كان مأكول اللحم ، أو غير مأكول اللحم ، يجب غسله ولا يجزي فيه الفرك.

والخمر نجس ، بلا خلاف ، ولا تجوز الصلاة في ثوب ، ولا بدن ، أصابه

ص: 178

منها ، قليل ولا كثير ، إلا بعد إزالتها ، مع العلم بها ، وقد ذهب بعض أصحابنا في كتاب له (1) وهو ابن بابويه ، إلى انّ الصلاة تجوز في ثوب أصابه الخمر ، قال : لأنّ اللّه حرّم شربها ، ولم يحرم الصلاة في ثوب أصابته ، معتمدا على خبر (2) روي ، وهذا اعتماد منه على أخبار آحاد ، لا توجب علما ، ولا عملا ، وهو مخالف للإجماع من المسلمين ، فضلا عن طائفته ، في أنّ الخمر نجسة ، وقد أجمع أصحابنا على أنّ الصلاة لا تجوز في ثوب أصابته نجاسة ، إلا بعد إزالتها ، سواء كانت النجاسة قليلة أو كثيرة ، إلا ما خرج بالإجماع من الدم التاسع ، والدم الذي لا يرقأ لموضع الضرورة لمن هو به ، على ما مضى ذكرنا لهم.

وألحق أصحابنا الفقاع بالخمر في جميع الأحكام.

وأسئار الكفار على اختلاف ضروبهم ، من مرتد وكافر أصليّ ، وكافر مليّ ومن حكمه حكمهم.

وجملة الأمر وعقد الباب ، أنّ ما يؤثّر بالتنجيس ، على ثلاثة أضرب : أحدها يؤثر بالمخالطة ، وثانيها بالملاقاة ، وثالثها بعدم الحياة ، فالأول : أبوال وخرء كل ما لا يؤكل لحمه ، وما يؤكل لحمه إذا كان جلالا ، والشراب المسكر ، والفقاع ، والمني ، والدم المسفوح ، وكل مائع نجس بغيره. والثاني : أن يماس الماء وغيره حيوان نجس العين ، وهو الكلب والخنزير والكافر. والثالث : أن يموت في الماء وغيره حيوان له نفس سائلة ، ولا حكم لما عدا ما ذكرناه في التنجيس.

وكل نجاسة تجب ازالة قليلها وكثيرها ، فإنّه يجب إزالتها عن الثياب والأبدان ، أدركها الطرف ، أو لم يدركها ، إذا تحقق ذلك ، فإن لم يتحقق ذلك ، وشك فيه ، لم يحكم بنجاسة الثوب ، إلا ما أدركه الحس ، فمتى لم يدركها فالثوب على أصل الطهارة.

ص: 179


1- رسالة علي بن بابويه في كتاب لصلاة ، ص 38 الطبع الحديث.
2- الوسائل : كتاب الطهارة الباب 38 من أبواب النجاسات ، ح 2.

وليس لغلبة الظنّ هنا حكم ، لأنّه مذهب أبي حنيفة ، فإن وجد في بعض كتبنا وتصنيف أصحابنا شي ء من ذلك ، فإنّه محمول على التقية.

وقال بعض أصحابنا : إذا ترشش على الثوب أو البدن مثل رءوس الإبر ، فلا ينجس بذلك ، والصحيح الأول ، لأنّ الإجماع على ذلك حاصل.

وإذا تحقق حصول النجاسة في الثوب ، ولم يعلم موضعه بعينه ، وجب غسل الثوب كله ، وإن علم انّه في موضع مخصوص ، وجب غسل ذلك الموضع ، لا غير ، ولا يتعدّى إلى غير ذلك الموضع ، سواء كانت النجاسة رطبة أو يابسة.

وإن علم انّ النجاسة حصلت في أحد الكمّين ، ولم يتميز ، غسلهما معا ، ولم يجز له التحري (1).

والماء الذي ولغ فيه الكلب والخنزير ، إذا أصاب الثوب ، وجب غسله ، لأنّه نجس ، وإن أصابه الماء الذي يغسل به الإناء ، فإن كان من الغسلة الأوّلة ، يجب غسله ، وإن كان من الغسلة الثانية أو الثالثة ، لا يجب غسله ، وقال بعض أصحابنا : لا يجب غسله سواء كان من الغسلة الأولة أو الثانية ، وما اخترناه المذهب.

وقال السيد المرتضى في الناصريات (2) قال الناصر : ولا فرق بين ورود الماء على النجاسة ، وبين ورود النجاسة على الماء ، قال السيد المرتضى : وهذه المسألة لا أعرف فيها نصا لأصحابنا ولا قولا صريحا. والشافعي يفرق بين ورود الماء على النجاسة ، وورودها عليه ، فيعتبر القلتين في ورود النجاسة على الماء ، ولا يعتبر في ورود الماء على النجاسة ، وخالفه سائر الفقهاء في هذه المسألة ويقوى في نفسي عاجلا إلى أن يقع التأمّل لذلك صحة ما ذهب إليه الشافعي ، والوجه فيه : انّا لو حكمنا بنجاسة الماء القليل الوارد على النجاسة ، لأدّى ذلك إلى أن الثوب لا يطهر من النجاسة ، إلا بإيراد كر من الماء عليه ، وذلك يشق ، فدلّ على

ص: 180


1- وفي بعض النسخ التجزّي.
2- الناصريات : كتاب الطهارة ، المسألة الثالثة.

أنّ الماء إذا ورد على النجاسة لا يعتبر فيه القلة والكثرة ، كما يعتبر فيما يرد النجاسة عليه قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : وما قوى في نفس السيد صحيح ، مستمر على أصل المذهب وفتاوى الأصحاب.

ولا بأس بعرق الجنب ، والحائض ، إذا كانا خاليين من نجاسة ، فإن كان في بدنهما نجاسة ، وعرقا ، نجس الثوب الذي عرقا فيه ، سواء كانت الجنابة من حلال ، أو حرام ، على الصحيح من الأقوال وأصول المذهب.

وقال بعض أصحابنا : إن كانت الجنابة من حرام ، وجب غسل ما عرق فيه.

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة (1) على ما رواه بعض أصحابنا ثم قال في موضع آخر من مبسوطة : فإن عرق فيه وكانت الجنابة من حرام ، روى أصحابنا أنّه لا يجوز الصلاة فيه وإن كانت من حلال ، لم يكن به بأس (2).

ويقوى في نفسي أنّ ذلك تغليظ في الكراهة ، دون فساد الصلاة ، لو صلّى فيه ، الا ترى إلى قوله رضوان اللّه عليه الأول : رواه بعض أصحابنا ، وقوله الثاني : روى أصحابنا ، وفي الأول قال رواه بعض أصحابنا ، وشيخنا المفيد رحمه اللّه رجع عمّا ذكره في مقنعته (3) وفي رسالته إلى ولده (4) والغرض من هذا التنبيه ، انّ من قال إذا كانت الجنابة من حرام ، وجب غسل ما عرق فيه ، رجع عن قوله في كتاب آخر ، فقد صار ما اخترناه إجماعا.

وعرق الإبل الجلالة يجب إزالته ، على ما ذهب إليه بعض أصحابنا ، دون عرق غيرها من الجلالات (5).

وأمّا أسئار الجلال ، فقد بيّنا انّ أسئار جميع الحيوان من البهائم ، وذوات

ص: 181


1- المبسوط : في فصل حكم الثوب والبدن والأرض إذا أصابته نجاسة.
2- المبسوط : في فصل حكم الثوب والبدن والأرض إذا أصابته نجاسة.
3- المقنعة : باب تطهير الثياب وغيرها من النجاسات ص 71
4- لا توجد عندنا
5- ليس في المطبوع.

الأربع ، مأكول اللحم ، وغير مأكول اللحم ، والطيور جميعها طاهرة ، ما عدا الكلب والخنزير فلا وجه لا عادته.

وكل نجاسة أصابت الثوب أو البدن والنجاسة يابسة والثوب كذلك ، لا يجب غسلهما ، وانّما يستحب مسح اليد بالتراب ، ونضح الثوب.

وإذا أصاب الأرض ، أو الحصير ، أو البارية بول أو غيره ، من المائعات النجسة ، وطلعت عليه الشمس ، وجففته ، فإنّه يطهر بذلك ، ويجوز السجود عليه ، والتيمّم به ، وإن جففته غير الشمس ، لم يطهر ، ولا يطهر غير ما قلناه من الثياب بطلوع الشمس عليه ، وتجفيفه ، وقد روي أنّ ما طلعت عليه الشمس فقد طهرته من الثياب (1) وهذه رواية شاذة ضعيفة ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، والعمل على ما قلناه ، غير انّه يجوز الوقوف عليه في الصلاة ، إذا كان موضع السجود طاهرا ، ولم تكن النجاسة رطبة تتعدى إليه.

وقال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف : الأرض إذا أصابتها نجاسة ، مثل البول وما أشبهه ، وطلعت عليها الشمس ، أو هبّت عليها الريح ، حتى زالت عين النجاسة ، فإنّها تطهر ، وبه قال الشافعي في القديم (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا غير واضح ، لا يجوز القول به ، لأنّه مخالف لمذهبنا ، وإجماعنا على الشمس ، دون هبوب الرياح ، وهذا مذهب الشافعي ، اختاره الشيخ هاهنا ، ثم رجع عنه في مسألة في الكتاب المشار إليه بأن قال : مسألة : إذا بال على موضع من الأرض ، وجففته الشمس ، طهر الموضع ، وإن جف بغير الشمس لم يطهر ، وكذلك الحكم في البواري والحصر سواء ، وقال الشافعي إذا زالت أوصافها بغير الماء ، بأن تجففها الشمس ، أو

ص: 182


1- الوسائل : الباب 29 من أبواب النجاسات ح 5.
2- الخلاف : مسألة 236 من كتاب الصلاة.

تهب عليها الريح ، فإنّه يطهر في قوله القديم (1) فهذا يدلك على ما بيناه.

ولا يجوز إزالة شي ء من النجاسات بغير الماء المطلق ، من سائر المائعات ، ولا يحكم بطهارة الموضع بذلك ، وفي أصحابنا من اختاره.

ومن صلّى في ثوب فيه نجاسة غير معفو عنها ، مع العلم بذلك ، بطلت صلاته ، وإن علم أنّ فيه نجاسة ثمّ نسيها ، وصلّى ، كان مثل الأول ، عليه الإعادة ، سواء خرج الوقت أو لم يخرج الوقت ، بغير خلاف بين أصحابنا ، في المسألتين معا ، إلا من شيخنا أبي جعفر في استبصاره (2) فحسب ، دون سائر كتبه فإنّه ذهب في الاستبصار إلى انّه : إذا كان بثوب الإنسان نجاسة قد علم بها ثمّ نسيها ، وصلّى فإن كان الوقت باقيا ، وجبت عليه الإعادة ، وإن كان الوقت خرج وتقضى ، فلا اعادة عليه ، والصحيح وجوب الإعادة مع تقدّم العلم ، سواء خرج الوقت أو لم يخرج ، نسيها أو علمها.

وإن لم يعلم ، وصلّى على أصل الطهارة ، ثمّ علم انّه كان نجسا بعد خروج وقت تلك الصلاة ، فلا يجب عليه الإعادة أيضا بلا خلاف ، فإن كان الوقت باقيا ، فبين أصحابنا خلاف في هذه المسألة ، فبعض يذهب إلى وجوب الإعادة عليه ، وبعض منهم من يقول لا يجب عليه الإعادة ، وهذا الذي يقوى في نفسي ، وبه افتي ، لأنّ الإعادة فرض ثان ، يحتاج إلى دليل شرعي ، وهذا المكلّف امتثل الأمر ، وصلّى صلاة شرعية مأمورا بها ، بلا خلاف ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر في استبصاره (3) ، وتأويل أخباره ، واعتماده ، وإن كان في أول نهايته (4)

ص: 183


1- الخلاف : المسألة 236 من كتاب الصلاة.
2- الاستبصار : الباب 109 من أبواب تطهير الثياب والبدن من النجاسات.
3- الاستبصار : الباب 109 من أبواب تطهير الثياب والبدن من النجاسات.
4- الموجود في النهاية التي بأيدينا في باب تطهير الثياب من النجاسات ما هذا لفظه « فان لم يعلم حصولها في الثوب وصلى ثم علم انه كان فيه نجاسة لم يلزمه إعادة الصلاة » انتهى وهو كما ترى موافق لما في استبصاره ومخالف لما نقله ابن إدريس عنه.

يذهب إلى خلاف هذا.

والمذي والوذي طاهران عندنا ، لا تجب إزالتهما.

والقي ء ليس بنجس ، وفي أصحابنا من قال هو نجس ، والأول المعتمد عليه.

والصديد والقيح ، حكمهما حكم القي ء ، سواء.

وكل ما لا يتم الصلاة فيه منفردا ، مثل الخف ، والنعل ، والقلنسوة ، والتكة ، والجورب ، والسيف ، والمنطقة ، والخاتم ، والسوار ، والدملج ، وما أشبه ذلك إذا أصابه نجاسة لم يكن بالصلاة فيه بأس ، إذا انطلق عليه اسم اللباس والملبوس.

فأمّا ما لا ينطلق عليه اسم الملبوس ، ولم يكن لباسا ، فلا يجوز في شي ء منه الصلاة إذا أصابته نجاسة ، وإن كان لا يتم الصلاة فيه منفردا ، لأنّه غير لباس.

وما لا نفس له سائلة من الميتات ، لا ينجس الثوب ولا البدن ، ولا المائع الذي يموت فيه ، ماء كان أو غيره ، وإن تغيّر أوصاف الماء به.

وطين الطريق لا بأس به ، ما لم يعلم فيه نجاسة.

وإذا أصاب الثوب ماء المطر ، وقد خالطه شي ء من النجاسة ، فإن كان جاريا من الميزاب ، والمطر متصل من السماء ، فلا ينجس الثوب والبدن ، ما لم يتغير أحد أوصاف الماء ، فإن سكنت السماء ، وبقي ماء المطر مستنقعا ، اعتبر فيه ما ذكرناه من حكم المياه الراكدة ، غير مياه الآبار بالقلّة والكثرة ، وتغير أحد الأوصاف بالنجاسة ، فيحكم فيه بذلك ، وهذا حكم الوكف (1) مع اتصال المطر من السماء ، وانقطاعه.

والماء الذي يستنجى به ، أو يغتسل به من الجنابة ، إذا رجع عليه ، أو على ثوبه ، لم يكن به بأس بغير خلاف ، فإن انفصل منه ، ووقع على نجاسة ، ثم رجع عليه ، وجب إزالته.

وإذا حصل معه ثوبان ، أحدهما نحس ، والآخر طاهر ، ولم يتميز له الطاهر ،

ص: 184


1- وكف البيت وكفا قطر سقفه.

ولا يتمكن من غسل أحدهما ، قال بعض أصحابنا : يصلّي في كل واحد منهما ، على الانفراد ، وجوبا ، وقال بعض منهم : ينزعهما ويصلّي عريانا ، وهذا الذي يقوى في نفسي ، وبه افتي ، لأنّ المسألة بين أصحابنا فيها خلاف ، ودليل الإجماع منفي ، فإذا كان كذلك ، فالاحتياط يوجب ما قلناه.

فإن قال قائل : بل الاحتياط يوجب الصلاة فيهما على الانفراد ، لأنّه إذا صلّى فيهما جميعا ، تبيّن وتيقن بعد فراغه من الصلاتين معا انّه قد صلّى في ثوب طاهر؟.

قلنا : المؤثرات في وجوه الأفعال ، يجب أن تكون مقارنة لها ، لا متأخرة عنها ، والواجب عليه عند افتتاح كل فريضة ، أن يقطع على ثوبه بالطهارة ، وهذا يجوز عند افتتاح كل صلاة ، من الصلاتين انّه نجس ، ولا يعلم انّه طاهر ، عند افتتاح كل صلاة ، فلا يجوز أن يدخل في الصلاة إلا بعد العلم بطهارة ثوبه وبدنه ، لأنّه لا يجوز أن يستفتح الصلاة ، وهو شاك في طهارة ثوبه ، ولا يجوز أن تكون صلاته موقوفة على أمر يظهر فيما بعد ، وأيضا كون الصلاة واجبة وجه تقع عليه الصلاة ، فكيف يؤثر في هذا الوجه ، ما يأتي بعده ، ومن شأن المؤثر في وجوه الأفعال ، أن يكون مقارنا لها ، لا يتأخر عنها ، على ما بيناه.

فإن قيل : أليس الداخل في الصلاة ، يعلم أنّ وجوب ما دخل فيه ، موقوف على تمامه؟

قلنا : معاذ اللّه أن نقول ذلك ، بل كل فعل يأتيه في الوقت ، فهو واجب ، ولا يقف على أمر منتظر ، وانما يقف صحته على الاتصال ، والمراد بذلك ، انه إذا اتصل ، فلا قضاء عليه ، وإذا لم يتصل ، فالقضاء واجب ، فاما الوجوب ، واستحقاق الثواب ، فلا يتغير بالوصل ، والقطع ، يبيّن ذلك أنّه ربما وجب القطع ، وربما وجب الوصل ، فلو تغير بالقطع والوصل وجوبه ، لم يصح دخوله في الوجوب.

وليس لأحد أن يقول : انّه بعد الفراغ من الصلاتين ، يقطع على براءة

ص: 185

ذمته ، وانّ العبادة مجزية.

قلنا : لا يصح ذلك ، لأنّ بعد الفراغ قد سقط عنه التكليف ، وينبغي أن يحصل له اليقين في حال ما وجب عليه ، وينبغي أن يتميز له في حال ما وجب عليه ، حتى يصح منه الإقدام عليه ، وتمييزه له من غيره ، وذلك يكون قبل فراغه من الصلاة.

وقد ذكر السيد المرتضى في مسائل خلافه عند مناظرته لأبي حنيفة ، في أنّ المتيمم ، إذا دخل في صلاته ، ثم وجد الماء ، فالواجب عليه ، أن يمضي في صلاته ، وعند أبي حنيفة ، الواجب عليه قطعها قياسا على الصغيرة التي تعتد بالشهور ، ثم اعتدت شهرا ، ثم رأت الدم ، انتقلت عدتها إلى الأقراء ، لأنّ الشهور قد حصلت بدلا من الأقراء ، كذلك التيمم ، قال المرتضى : نحن نقول إذا انتقلت عدتها إلى الأقراء ، احتسب لها بما مضى قروء ، فاما من يقول لا يحتسب ، فله أن يفرّق بينها وبين المتيمم ، وذلك انّ المرأة ، قد تعتد بعدة مشكوك فيها عندهم ، لا يعلم ما حكمها ، ويكون أمرها موقوفا على ما ينكشف فيما بعد ، فإن ظهر حمل ، اعتدت به ، وإن لم يظهر حمل ، اعتدت بالأقراء ، وليس كذلك المتيمم ، لأنّه لا يجوز أن يستفتح الصلاة وهو شاك فيها ، ولا يجوز أن تكون موقوفة على ما أمر يظهر ، فلم يلزم من رأى الماء في الصلاة ، الاستيناف لهذه العلّة ، وإن لزم المعتدة بالشهور الانتقال إلى الأقراء (1). هذا آخر كلام المرتضى رحمه اللّه ، ألا ترى إلى قوله : لا يجوز أن يستفتح الصلاة وهو شاك فيها ، ولا يجوز أن تكون موقوفة على أمر يظهر ، فهذا يدلك على ما نبهنا عليه ، من أدلة المسألة ، فإنّها هي بعينها.

ومن كان معه ثوب نجس ، ولا يقدر على الماء ، نزعه ، وصلّى عريانا ، فإن لم يتمكن من نزعه ، خوفا على نفسه من البرد ، صلّى فيه ، ولا اعادة عليه ، وقد

ص: 186


1- لم نعثر على كتاب الخلاف للسيد المرتضى رحمه اللّه

روي انّه إذا تمكن من نزعه أو غسله ، أعاد الصلاة (1).

وبول الصبي الرضيع وحدّه من لم يبلغ سنتين ، نجس ، إذا أصاب الثوب يكفي أن يصبّ الماء عليه ، من غير عصر له ، وقد طهر.

وبول الصبية لا بدّ من عصره مرّتين ، مثل بول البالغين ، وإن كان للصبية دون الحولين.

فإذا تم للصبي حولان وجب عصر الثوب من بوله.

وقال بعض أصحابنا في كتاب له : وإذا أصاب ثوب الإنسان ، كلب ، أو خنزير ، أو ثعلب ، أو أرنب ، أو فأرة ، أو وزغة ، وكان رطبا ، وجب غسل الموضع الذي أصابه ، فإن لم يتعين الموضع ، وجب غسل الثوب كله ، وكذلك إن مس الإنسان بيده أحد ما ذكرناه ، أو صافح ذميا ، وجب عليه ، غسل يده إن كان رطبا ، وإن كان يابسا ، مسحه بالتراب.

قال محمّد بن إدريس : هذا القول غير واضح ، لأنّ هذا خبر ، من أخبار الآحاد ، أورده المصنف على ما وجده ، أمّا الكلب والخنزير فصحيح ما قال ، وأمّا الثعلب والأرنب ، فلا خلاف بين أصحابنا الآن انّ أسئار السباع طاهرة ، وكذلك السباع طاهرة ، عندهم بغير خلاف الآن ، وانما أبو حنيفة ، يذهب إلى أنّ السباع نجسة ، فعلى هذا لا يصح ما قاله هذا القائل.

وأمّا قوله الفأرة والوزغة ، فلا خلاف أيضا ، في أن سؤر الفأر ، طاهر ، وانّه يدخل المائع ، ويخرج منه ، ولا ينجسه بغير خلاف.

وأمّا الوزغة ، فإنّها لا نفس لها سائلة ، كالذباب ، والزنابير ، وما لا نفس له سائلة لا ينجس المائع بموته فيه ، فكيف يصح القول بأن سؤره نجس ، وما لاقاه وهو رطب ينجسه؟

ص: 187


1- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 45 من أبواب النجاسات ، ح 8.

وأمّا الذمي ، فصحيح ما قال فيه فليلحظ ذلك.

ودم الحيض يجب غسله ، ويستحب حتّه (1) وقرصه ، وليسا بواجبين ، فإن اقتصر على الغسل أجزأه ، فإن بقي له أثر يستحب صبغه بالمشق ، بكسر الميم وتسكين الشين وهو المغرة بتحريك الغين المعجمة ، وهو طين أصفر يقال له المشق ، وما كان منه أحمر يقال له المصر يصبغ به الثياب والأزدية ، ومنه رداء ممصر ، وثوب ممصر ، بالصاد غير المعجمة أي مصبوغ بالمصر ، الذي هو المغرة ، أو بما يغيّر لونه.

ويجوز الصلاة في ثوب الحائض ، ما لم يعلم فيه نجاسة ، وكذلك في ثوب الجنب.

والمذي والوذي طاهران.

ولا يجوز الصلاة في ثياب الكفار التي باشروها بأجسامهم الرطبة ، أو كانت الثياب رطبة ، ولا بأس بثياب الصبيان ، ما لم يعلم فيها نجاسة.

والنجاسة إذا كانت يابسة ، لا ينجس بها الثوب.

والعلقة نجسة ، والمراد بذلك الدم الذي يستحيل منه المضغة ، لا الدود الذي يقال له العلق.

إذا بال الإنسان على الأرض ، فتطهيره ، أن يطرح عليه ذنوب من ماء والذنوب : الدلو الكبيرة ، ويحكم بطهارة الأرض وطهارة الموضع ، الذي ينتقل إليه ذلك الماء.

فإن بال اثنان وجب أن يطرح مثل ذلك وعلى هذا أبدا ، لأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله أمر بذنوب من ماء ، على بول الأعرابي.

إذا بال في موضع ، فإنّه يزول حكم نجاسته بستّة أشياء ، أحدها : أن يكاثر

ص: 188


1- الحت والقرص بمعنى الحك. والدلك باليد وغيره.

عليه الماء حتى يستهلكه ، فلا يرى له لون ظاهر ، ولا رائحة.

الثاني : أن يمرّ عليه سيل ، أو ماء جار فإنّه يطهّره.

الثالث : أن يحفر الموضع في حال رطوبة البول ، فينتقل جميع الأجزاء الرطبة ، فيحكم بطهارة ما عداه.

الرابع : أن يحفر الموضع ، وينتقل ترابه ، حتى يغلب على الظن ، أو يعلم انّه نقل جميع الأجزاء التي أصابتها النجاسة.

الخامس : أن يجي ء عليها مطر ، أو يجي ء عليها سيل ، فيقف فيه بمقدار ما يكون كرا من الماء.

السادس : أن يجف الموضع بالشمس ، فإنّه يحكم بطهارته ، فإن جف بغير الشمس لم يطهر.

النجاسة على ضربين : مائع وجامد ، فالمايع قد قدّمنا حكمه ، وكيفية تطهيرها من الأرض ، والجامد لا يخلو من أحد أمرين ، أمّا أن يكون عينا قائمة متميزة عن التراب ، أو مستهلكة فيه ، فإن كان عينا قائمة ، كالعذرة ، والدم ، وجلد الميتة ، ولحمه ، نظرت فإن كانت نجاسة يابسة ، فإذا أزالها عن المكان ، كان مكانها طاهرا ، وإن كانت رطبة ، فإذا أزالها ، بقيت رطوبتها في المكان ، فتلك الرطوبة بمنزلة البول وقد مضى حكمه وإن كانت العين مستهلكة فيها ، كجلود الميتة ، ولحمها ، والعذرة ، ونحو ذلك ، فهذا المكان لا يطهر بصب الماء عليه.

من حمل حيوانا طاهرا ، مثل الطيور وغيرها ، أو مثل حمل صغير ، أو صبيا صغيرا ، لم تبطل صلاته ، فإن حمل قارورة فيها نجاسة ، مشدودة الرأس بالشمع ، أو بالرصاص ، فجعلها في كمّه ، أو جيبه بطلت صلاته ، لأنّه حامل النجاسة.

وفي الناس من قال لا تبطل صلاته ، قياسا على حمل حيوان في جوفه نجاسة ، والأول هو الصحيح ، لأنّ القياس عند فقهاء آل الرسول صلّى اللّه عليهم متروك ، ولا يجوز للمشرك دخول شي ء من المساجد ، لا بالإذن ، ولا بغير

ص: 189

الإذن ، ولا يحل لمسلم أن يأذن له في ذلك ، لأنّ المشرك نجس ، والمساجد تنزه عن النجاسات.

ولا يجوز الدباغ إلا بالأجسام الطاهرة ، مثل قشور الرمان والعفص (1) والقرظ (2) ، والشبث بالثاء المنقطة ثلاث نقط ، وهو نبت طيب الريح مرّ الطعم يدبغ به ، قال تأبط شرا :

كأنّما حثحثوا حصبا قوادمه *** أو أم خشف بذي شبث وطباق

قال الأصمعي : هما نبتان ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح.

قال محمّد بن إدريس : وليس هو الشب (3) الذي هو الحجارة ، فهي بالباء المنقطة نقطة واحدة ، فإنّها لا يدبغ بها ، وانّما نبهت على ذلك ، لأنّ شيخنا أبا جعفر رحمه اللّه قد أورده في المبسوط (4).

ولا يجوز الدباغ ، إلا بما يكون طاهرا ، مثل الشبث والقرظ ، وسمعت بعض أصحابنا ، يصحّف ذلك ، فيقول الشب بالباء المنقطعة من تحتها بنقطة واحدة ، فأردت إيضاح ذلك وأن لا يجري تصحيف فيه.

ص: 190


1- العفض ( مازو ).
2- القرظ بفتحتين شجر يدبغ به. لسان العرب : ج 2. ص 454 ، وبالفارسية : برگ درخت سلم.
3- الشبّ - بالباء المشددة حجر معروف يشبه الزاج يدبغ به الجلود ، لسان العرب : ج 1 ، ص 483 ، وبالفارسية : زاج سفيد.
4- المبسوط : كتاب الطهارة ، باب حكم الأواني والأوعية والظروف. الا ان المضبوط في النسخة التي بأيدينا الشث بالثاء المثلثة.

كتاب الصّلاة

اشارة

ص: 191

كتاب الصّلاة

آكد عبادات الشرع ، وأعمها فرضا ، الصلاة ، لأنّها لا تسقط عن المكلّفين في حال من الأحوال ، مع ثبات العقل ، وإن تغيرت أوصافها ، من قيام ، أو قعود ، إلى غير ذلك ، وباقي العبادات قد يسقط على بعض الوجوه ، وعن قوم دون قوم ، فلذلك بدئ بها في أول كتب العبادات.

واعلم أنّ الصلاة أفعال مخصوصة تتضمن تحليلا وتحريما ، والقول فيها لا يخرج عن ذكر شروطها ، وبيان كيفية فعلها ، وما يجب أو يستحب فيها ، من ذكر أو غيره ، والفرق بين فرضها ونفلها ، وبين ما يعرض فيها فيفسدها ويوجب القضاء وبين ما يعرض فلا يوجب القضاء ، لكنه يوجب تلافيا مخصوصا ، وبين ما لا يوجب ذلك ، وبيان ضروبها ، كصلاة المنفرد والمؤتم ، والإمام ، وما يضاف منها إلى أوقاتها ، كصلاة الجمعة والعيدين وما يضاف منها إلى أسبابها كصلاة المسافر ، والمعذور ، والخسوف ، والكسوف ، والزلازل ، والرياح ، والآيات المهولة ، والخوف ، والاستسقاء ، والنذر ، والطواف ، والقضاء ، والجنازة ، وغير ذلك ، وهذه جملة لا يكاد يخرج عن معناها شي ء من أحكام الصلاة ، ونحن نفسّر ذلك بمشية اللّه تعالى وعونه.

باب أعداد الصّلاة وعدد ركعاتها من المفروض والمسنون

الصلاة المرتبة في اليوم والليلة تنقسم قسمين : مفروض ومسنون ، وكل واحد منهما ينقسم قسمين فرائض الحضر وسننه ، وفرائض السفر وسننه.

ص: 192

فأمّا فرائض الحضر فسبع عشرة ركعة ، الظهر أربع ركعات ، بتشهّدين ، أحدهما في الثانية بغير تسليم ، والثاني في الرابعة بتسليم بعده.

وفريضة العصر مثل ذلك.

وفريضة المغرب ثلاث ركعات ، بتشهدين أحدهما في الثانية من غير تسليم ، والثاني في الثالثة بتسليم بعده.

وفريضة عشاء الآخرة مثل فريضة الظهر والعصر.

والغداة ركعتان بتشهد في الثانية وتسليم بعده.

وأمّا سنن الحضر فأربع وثلاثون ركعة ، ثماني ركعات بعد زوال الشمس قبل الفريضة ، وثماني بعد الفريضة قبل فريضة العصر ، وأربع بعد المغرب ، وركعتان من جلوس بعد العشاء الآخرة تعدان بركعة.

قولهم : تعدان بركعة ، لأنّ نوافل الحضر أربعة وثلاثون ركعة ، فإن عدّت هاتان الركعتان ركعتين كانت نوافل الحضر ، خمسا وثلاثين ركعة ، وخرجت أن تكون أربعا وثلاثين ، فقال أصحابنا : تعدّان بركعة لأجل ضبط جملة العدد الأول.

وإحدى عشرة ركعة صلاة الليل ، وركعتان نافلة الفجر ، بتشهد في كل ركعتين من هذه النوافل كلها وتسليم.

وكذلك جميع النوافل كل ركعتين بتشهد وتسليم بعده لا يجوز غير ذلك ، وقد روي رواية (1) في صلاة الأعرابي أنّها أربع بتسليم بعدها ، فإن صحت هذه الرواية وقف عليها ، ولا يتعداها لأنّ الإجماع حاصل على ما قلناه ، هذه فرائض الحاضر ونوافله في يومه وليلته.

فأمّا فرائض المسافر ، فإحدى عشرة ركعة ، الظهر ركعتان بتشهد في الثانية وتسليم بعده ، وكذلك العصر والعشاء الآخرة ، والمغرب ثلاث ركعات كحالها في

ص: 193


1- الوسائل : كتاب الصلاة الباب 39 من أبواب صلاة الجمعة ، ح 3.

الحضر ، والغداة كحالها أيضا في الحضر ، لأنّه لا قصر إلا في الرباعيات فحسب.

وأمّا سنن المسافر فسبع عشرة ركعة ، على النصف من نوافل الحاضر ، أربعة بعد المغرب كحالها أيضا في الحاضر ، وإحدى عشرة ركعات صلاة الليل ، وركعتان نافلة الفجر ، وتسقط الوتيرة ، وهي الركعتان من جلوس بعد العشاء الآخرة.

ويوجد في بعض كتب أصحابنا ، ويجوز أن يصلّي الركعتان من جلوس اللتان يصليهما في الحضر ، بعد العشاء الآخرة ، فإن لم يفعلهما لم يكن به بأس ، وهذا مستور ، ووضع غير واضح ، إن أراد بقوله : « يجوز أن تصلّى الركعتان » على أنّهما من غير نوافل السفر ، ولا يعتقدهما مصلّيهما من نوافل المسافر المرتبة بل يتطوع الإنسان بصلاة ركعتين من جلوس نافلة ، لا انّهما من جملة نوافل المسافر المرتبة عليه ، غير ساقطة عنه في حال سفره ، فصحيح ما قال ، وإن أراد انّهما في حال سفره ما سقطتا عنه ، وهما على ما كانتا عليه في حال حضره ، فغير واضح ، بل قول خارج عن الإجماع ، لأنّ الإجماع حاصل من أصحابنا على سقوط سبع عشرة ركعة ، من نوافل الحاضر عن المسافر ، هاتان الركعتان من جملة الساقط عنه.

وقد سئل الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه عن هذه المسألة في جملة المسائل الحائريّات المنسوبة إلى أبي الفرج بن الرملي ، فقال السائل : وعن الركعتين اللتين بعد العشاء الآخرة من جلوس ، هل تصلّى في السفر أم لا؟ وما الذي يعمل عليه ، وما العلّة في تركها أو لزومها؟ فأجاب الشيخ أبو جعفر بأن قال تسقطان في السفر ، لأنّ نوافل السفر سبع عشرة ركعة ، ليست منها هذه الصلاة (1) وكذلك يذهب في جمله وعقوده (2) ويوردها في نهايته (3) في الموضع الذي ذكرناه ، وتحدّثنا عليه فليلحظ ذلك.

ص: 194


1- لم نجد هذه المسألة في كتاب الحائريات المطبوع في الرسائل العشر.
2- الجمل والعقود : كتاب الصلاة. في فصل أعداد الصلاة.
3- النهاية : باب أعداد الصلاة.

باب أوقات الصّلاة المرتبة في اليوم والليلة والأوقات المكروه فيها فعلها

إذا زالت الشمس دخل وقت الظهر ، فإذا مضى مقدار أداء صلاة أربع ركعات ، اشتركت الصلاتان الظهر والعصر ، في الوقت إلى أن يبقى إلى مغيب الشمس مقدار أداء أربع ركعات ، فيخرج وقت الظهر ، ويبقى وقت العصر ، وبالغروب ينقضي وقت العصر.

فإذا غربت الشمس ويعرف غروبها بذهاب الحمرة من ناحية المشرق ، فإذا ذهبت دخل وقت صلاة المغرب ، وإذا مضى مقدار أداء ثلاث ركعات ، دخل وقت العشاء الآخرة ، واشتركت الصلاتان في الوقت ، إلى أن يبقى إلى انتصاف الليل مقدار أداء أربع ركعات ، فيخرج وقت المغرب ، ويخلص ذلك المقدار للعشاء الآخرة.

ووقت صلاة الغداة طلوع الفجر ، وهو البياض المتجلّل أفق الشرق ، ثم يمتدّ إلى قبيل طلوع قرن الشمس ، فإذا طلعت خرج الوقت.

ووقت صلاة الليل من انتصاف الليل إلى طلوع الفجر الثاني ، وقال السيد المرتضى : إلى طلوع الفجر الأوّل.

والقول الأول أظهر في المذهب.

ووقت ركعتي الفجر ، بعد الفراغ من صلاة الليل ، وآخره طلوع الحمرة.

وقال بعض أصحابنا : أوله طلوع الفجر الأول ، والأول من القولين هو الأظهر ، لقولهم عليهم السلام المجمع عليه دسهما في صلاة الليل دسا (1) وسمّيت الدساستين لهذا المعنى.

والذي اخترناه ، مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي ، رحمه اللّه في جميع كتبه

ص: 195


1- الوسائل : الباب 50 من أبواب المواقيت.

النهاية (1) والمبسوط (2) والجمل والعقود (3) ما خلا مصباحه.

وأداء الصلاة في أول الوقت أفضل من آخره ، بغير خلاف ، ما خلا صلاة الليل ، اعني نافلة صلاة الليل ، فإن فعلها في الربع الأخير من الليل أفضل ، وقيل السدس ، وهذا الذي اخترناه من الأوقات ، هو المعمول عليه ، المحقق من المذهب ، المجمع عليه.

وقد ذهب بعض أصحابنا ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه في سائر كتبه ، إلى أنّ لكلّ صلاة وقتين ، أولا وآخرا ، فالوقت الأول ، لمن لا عذر له ، والثاني لمن له عذر ، فأول وقت الظهر للمختار زوال الشمس وآخره إلى قبل أن يصير ظل كل شي ء مثله ، بمقدار أداء فريضة الظهر ، فإذا صار ظل كل شي ء مثله ، قبل أن يصلّي المختار الفريضة ، صارت الظهر قضاء لا أداء ، وأول وقت العصر عنده للمختار ، بعد فريضة الظهر ، وآخره قبل أن يصير ظل كل شي ء مثليه ، بمقدار أداء فريضة العصر ، فإذا صار ظل كل شي ء مثليه ، قبل أن يصلّي المختار الفريضة صارت الظهر قضاء لا أداء وأول وقت المغرب ، عدم الحمرة من ناحية المشرق ، وآخره للمختار ، قبل غيبوبة الشفق من ناحية المغرب ، بمقدار أداء فريضة المغرب ، فإذا عدمت الحمرة من ناحية المغرب ، ولم يصلّ المختار الفريضة صارت قضاء لا أداء.

وأول وقت العشاء الآخرة ، بعد صلاة المغرب ، وآخره قبل ثلث الليل ، بمقدار أداء فريضة العشاء الآخرة ، فإذا صار الثلث من الليل ، ولم يصلّ المختار صلاة العشاء الآخرة ، صارت قضاء لا أداء فيجعل الوقتين لمكلفين للمختار الوقت الأول ولمن له عذر الوقت الأخير.

ولا خلاف في أنّ أول الوقت لأداء الصلاة أفضل من آخره ، وانّ لكل

ص: 196


1- النهاية : باب أوقات الصلوات
2- المبسوط : كتاب الصلاة ، في ذكر المواقيت.
3- الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، في ذكر المواقيت.

صلاة وقتين ، ولو قيل أن لكل صلاة وقتا ، وللوقت أول ، وآخر كان صوابا جيدا.

وانّما الخلاف بين أصحابنا في أن هذين الوقتين لمكلّف واحد ، أو لمكلفين ، فالصحيح أنّ الوقتين لمكلّف واحد ، إلا انّ الصلاة في الوقت الأول أفضل ، من الوقت الأخير على ما قدّمناه.

والذي يدل على ما اخترناه ، ويعضد ما قوّيناه ، بعد الإجماع قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ ) (1) يعني الفجر والعصر ، وطرف الشي ء ما يقرب من نهايته ، ولا يليق ذلك إلا بقول من قال : انّ وقت العصر ممتد إلى قرب غروب الشمس ، لأنّ مصير ظلّ كل شي ء مثله أو مثلية ، يقرب من الوسط ، ولا يقرب من الغاية والنهاية ، ولا معنى لقول من حمل الآية على الفجر والمغرب ، لأنّ المغرب ليس هي في طرف النهار ، وانما هي في طرف الليل ، بدلالة أنّ الصائم يحل له الإفطار في ذلك الوقت ، والإفطار لا يحل في بقية النهار.

وأيضا قوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ) (2) وغسق الليل عندنا انتصافه ، فظاهر هذا الكلام يقتضي انّ وقت الظهر ابتداؤه من دلوك الشمس ، وهو زوالها ، وانّه يمتد إلى غسق الليل ، وخرج منه بالدليل والإجماع وقت غروب الشمس ، فبقي ما قبله.

وأيضا ما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله انّه قال : انّما أجلكم في أجل ما خلا من الأمم كما بين صلاة العصر إلى مغرب الشمس (3) وظاهر هذا القول يقتضي التناهي وقصر المدة ، ولا يليق ذلك إلا بما اخترناه.

ونظير هذا الخبر في إفادة قصر المدة ما روي من قوله صلى اللّه عليه وآله : بعثت والساعة كهاتين ، وأشار صلى اللّه عليه وآله بالسبابة والوسطى (4).

ص: 197


1- هود : 114
2- الاسراء : 78.
3- صحيح البخاري : ج 6 ، ص 235 ، باب فضل القرآن ، ح 2.
4- البحار : ج 74 ، إلا ان العبارة هكذا ( بعثت انا والساعة كهذه من هذه ).

وأيضا ما روي من انّ النبي صلى اللّه عليه وآله صلّى الظهر في الوقت الذي صلّى فيه العصر بالأمس وهذا يقتضي انّ الوقت وقت لهما جميعا.

ومن ادعى انّ هذا الخبر منسوخ ، وانّه كان قبل استقرار المواقيت ، فقد ادعى ما لا برهان عليه.

وأيضا ما رواه ابن عباس عنه صلى اللّه عليه وآله من انّه جمع بين الصلاتين في الحضر ، لا لعذر (1) وهذا يدل على اشتراك الوقت.

وليس لأحد أن يحمل هذا الخبر ، على انّه صلّى الظهر في آخر وقتها ، والعصر في أول وقتها ، لأنّ هذا ليس بجمع بين الصلاتين ، وانّما هو فعل كل صلاة في وقتها ، وذكر العذر في الخبر ، يبطل هذا التأويل ، لأنّ فعل الصلاة في وقتها المخصوص بها ، لا يحوج إلى عذر.

ويدلّ أيضا على ما ذهبنا إليه ما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله من قوله : من فاتته صلاة العصر ، حتى غربت الشمس ، فكأنما وتر أهله وماله (2) ، فعلّق الفوات بغروب الشمس ، وتعليقه به ، يدل على أنّ الوقت ممتد إلى الغروب.

وأيضا ما روي عنه صلى اللّه عليه وآله ، وعن الأئمة عليهم السلام ، من قولهم : لا يخرج وقت صلاة ، ما لم يدخل وقت صلاة أخرى (3) وهذا يدل على أنّه ، إذا لم يدخل وقت صلاة أخرى ، وهي المغرب ، فإنّه لا يخرج وقت العصر.

فأما الأخبار (4) التي وردت ورواه أصحابنا في الأقدام والأذرع ، وظلّ كلّ شي ء مثله ، وظلّ كلّ شي ء مثليه ، ليتميّز وقت الظهر والعصر ، والذراع والذراعان ، والقامة والقامتان ، وسبع الشخص ، وسبعا الشخص ، وما أشبه

ص: 198


1- الوسائل : الباب 32 من أبواب المواقيت ، ح 4.
2- الوسائل : الباب 9 من أبواب المواقيت يوجد فيه بمضمونه ، ح 7 و 10.
3- الوسائل : الباب 4 من أبواب المواقيت.
4- الوسائل : الباب 6 من أبواب المواقيت.

ذلك من الأخبار ، فمحمول على تحديد وقت النوافل ، دون الفرائض ، لأنّه إذا صار ظلّ كلّ شي ء مثله ، ولم يصلّ المكلّف نافلة الظهر ، فقد خرج وقتها ، وصارت قضاء بغير خلاف.

وكذلك نافلة العصر ، إذا صار ظلّ كلّ شي ء مثليه ، ولم يصلّ المكلّف نافلته فقد خرج وقتها ، وصارت قضاء بغير خلاف ، وإن كان وقت الظهر والعصر باقيا ، ولو كانت الأذرع والظل والقامة ، أوقاتا للفرائض ، ما اختلفت هذا الاختلاف وتباينت هذا التباين ، وانما هذا الاختلاف ، لأجل أوقات النوافل ، ليقع التنفل ، والتسبيح ، والدعاء في هذا الزمان على قدر تطويل المكلّف في نافلته ، وتسبيحه ودعائه ، فمن طوّل في نافلته ، كان أكبر المقادير له وقتا ومن قصر دون ذلك في نافلته ، كان أوسط المقادير له وقتا ، ومن قصر في نافلته ، كان أقصر المقادير المضروبة وقتا لنافلته ، وهذا هو الأفضل والأولى ، فجعلت الأقدام والأذرع والأسباع والأظلة والقامات حدّا للنافلة والفضل لا للجواز ، ومن هاهنا جاء الاشتباه على بعض أصحابنا وزلّت الأقدام ، فجعل وقت النافلة وقتا للفريضة ، على ما أسلفنا القول فيه ، وبيّناه ، وبهذه الجملة يلوح السيد المرتضى رضي اللّه عنه في جوابات المسائل الناصريات (1).

وأيضا لا خلاف بين المخالف في المسألة والموافق من أصحابنا ، أنّ الذي أفاض من عرفات ، لا يصلّي المغرب إلا بالمزدلفة ، وإن ذهب ربع الليل ، وذلك هو الأفضل المستحب ولو لم يكن وقتا لها ، لما جاز له تأخير المغرب إلى خروج وقتها ، سواء كان مسافرا أو حاضرا ، مضطرا أو مختارا ، لأنّه ليس للمسافر أن يصلّي الصلاة في غير وقتها ، كما ان ليس للحاضر ذلك.

فأمّا ما يوجد في بعض الكتب ، ويقوله بعض أصحابنا ، من انّه إذا زالت

ص: 199


1- المسائل الناصريات : كتاب الصلاة ، المسألة 72.

الشمس فقد دخل الوقتان معا ، إلا انّ هذه قبل هذه ، وكذلك إذا غربت الشمس ، فقد دخل الوقتان جميعا ، إلا انّ هذه قبل هذه ، فهذا ضد الصواب ، وخطأ من القول ، لأنّ الشمس إذا زالت دخل وقت الظهر فحسب ، فإذا مضى مقدار ما يصلّي الفريضة ، اشترك الوقتان معا ، إلا انّ هذه قبل هذه ، وكذلك إذا غربت الشمس ، فقد دخل وقت المغرب ، من غير اشتراك ، إلى أن يمضي مقدار ما يصلّى فيه الفريضة ، فإذا مضى ذلك الوقت ، اشترك الوقتان جميعا ، إلا انّ الاولى قبل الثانية.

فإذا بقي من النهار مقدار ما يصلّى فيه فريضة العصر ، فقد خرجت المشاركة ، واختص الوقت بالعصر فحسب ، كما انّ بالزوال اختص الوقت بالظهر ، ولم يشارك العصر الظهر ، وكذلك إذا بقي من النهار مقدار أداء فريضة العصر ، اختص به ، ولم يشارك الظهر العصر ، وكذلك القول في المغرب والعشاء الآخرة ، فليلحظ ذلك ، وليتأمّل ، فإنّه قول المحصّلين من أصحابنا الذين يلزمون الأدلة والمعاني ، لا العبارات والألفاظ.

ولا ينبغي لأحد أن يصلّي ، حتى يتيقن دخول الوقت ، فإن شك لغيم أو غيره ، استظهر حتى يزول الريب عنه في دخوله.

ومتى صلّى صلاة في حال فقدان الأمارات والدلالات على الأوقات ، ومع الاستظهار ، وظهر له بعد الفراغ منها ، انّ الوقت لم يدخل ، وجب عليه الإعادة بلا خلاف بين أصحابنا في ذلك ، فأمّا ان ظهر له وهو في خلالها ، قبل الفراغ منها ، انّ الوقت لم يدخل ، فذهب بعض أصحابنا ، إلى انّه يعيد ، إن كانت الصلاة وقعت كلها خارج الوقت ، وإن كان قد دخل عليه وقت الصلاة ، وهو فيها ، لم يفرغ منها ، لم يلزمه الإعادة.

وذهب قوم من أصحابنا ، إلى وجوب الإعادة ، إذا ظهر له بعد الفراغ منها ، أو هو في خلالها ، انّ الوقت لم يدخل ، لا فرق بينهما عنده ، وهذا مذهب السيد

ص: 200

المرتضى رضي اللّه عنه ، والأول هو المعمول عليه ، والأظهر في المذهب ، وبه تنطق الأخبار (1) المتواترة المتظاهرة عن الأئمة الطاهرة عليهم السلام ، وهو مذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه وأبي جعفر الطوسي رحمه اللّه.

وأيضا فإنّ هذا المكلّف عند هذه الأحوال ، تكليفه غلبة ظنّه وقد امتثل ذلك ، ودخل في صلاته دخولا شرعيا مأمورا به ، واعادة صلاته المأمور بها ، أو هدمها من أولها ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل عليه.

فأمّا ان كان دخوله في هذه الصلاة لا عند غلبة ظنه ، واستظهاره ، ولا عند فقدان أمارات أوقاته ، ودلالاته ، فالقول عندي ، ما قاله السيد المرتضى في هذه الحال فليلحظ ذلك.

والأوقات التي ورد النهي عن الصلاة التي لا سبب لها فيها ابتداء طلوع الشمس ، وبعد صلاة الغداة ، وبعد صلاة العصر ، وعند غروب الشمس ، وعند قيامها نصف النهار قبل الزوال ، إلا في يوم الجمعة خاصة.

فأمّا الصلاة التي لها سبب. فإنّها لا تكره في وقت من الأوقات.

ومتى صار ظل كلّ شي ء مثله ، ومعرفة ذلك إذا انتصف النهار ، ورأيت الظل ينقص ، فإنّ الشمس لم تزل ، فإذا زاد الظل ، فقد زالت الشمس ، غير انّ أطول ما يكون ظل الزوال ، إذا كانت الشمس في أول الجدي ، وهو أول الشتاء ، حين انقضى الخريف ، وظل العود يومئذ ، ساعة تزول الشمس ، مثله مرّة وثلث ، وأقصر ما يكون الظل ، إذا كانت الشمس في أول السرطان ، وذلك أول الصيف حين انقضاء الربيع ، وظل الزوال يومئذ بالعراق نصف سدس طول العود الذي تقيمه ، وتقع في الشمس في الأيّار ، فإذا زالت الشمس على أيّ ظل كان من الطول والقصر ، فقد دخل وقت الظهر ، فإذا زاد على طول الزوال

ص: 201


1- الوسائل : كتاب الصلاة الباب 25 من أبواب المواقيت.

مثل طول العود ، فهو آخر وقت نوافل الظهر ، فإذا صار كذلك ، ولم يكن قد صلّى من النوافل شيئا ، بدأ بالفريضة أولا ، ويؤخر النوافل.

وإن كان قد صلّى منها ركعة أو ركعتين ، فليتممها ، وليخفف قراءتها ، ثمّ يصلّي الفرض.

وكذلك يصلي نوافل العصر ، ما بين الفراغ من الظهر ، إلى أن يصير ظلّ كلّ شي ء مثليه ، على ما قدّمناه ، فان صار كذلك ، ولم يكن قد صلّى شيئا منها ، بدأ بالعصر وأخر النوافل ، وإن كان قد صلّى منها شيئا ، أتم ما بقي عليه ، ثمّ صلّى العصر.

ونوافل المغرب كذلك ، الاعتبار فيها وفي وقتها ، وحصول شي ء منها قبل خروجه.

ووقت الركعتين من جلوس ، بعد العشاء الآخرة ، فإن كان ممن يريد أن يتنفل أخرهما ، يختم صلاته بهاتين الركعتين.

وآخر وقتهما نصف الليل ، فإن قارب انتصافه ، وأراد أن يصلّي صلاة ، فليبدأ بهما ثمّ يتنفل بما أراد.

ووقت صلاة الليل ، بعد انتصافه ، على ما قدّمناه ، إلى طلوع الفجر ، وكلّما قارب الفجر كان أفضل ، فإن طلع الفجر ولم يكن قد صلّى من صلاة الليل شيئا ، بدأ بصلاة الغداة ، وأخّر صلاة الليل ، وإن كان قد صلّى من صلاة الليل عند طلوع الفجر أربع ركعات. أتمّ صلاة الليل ، وخفف القراءة فيها ، ثم صلّى الغداة ، فإن قام إلى صلاة الليل ، وقد قارب الفجر ، خفف الصلاة ، واقتصر من القراءة على الحمد وحدها ، ولا يطول الركوع والسجود ، لئلا يفوته فضل أول وقت صلاة الغداة.

ولا يجوز تقديم صلاة الليل في أوله ، إلا لمسافر يخاف فوتها ، أو شاب يمنعه من قيام آخر الليل رطوبة رأسه ، ولا يجعل ذلك عادة ، على ما روي في بعض الروايات (1).

ص: 202


1- الوسائل : الباب 44 من أبواب المواقيت.

والأحوط والأظهر ، لزوم أصول المذهب ، وان لا يصلّي فريضة ولا نافلة قبل دخول وقتها ، لا لعذر ولا لغيره ، بل قضاء الصلاة لهذين المكلّفين هو المعمول عليه الأظهر ، لا على جهة الأفضل بين القضاء ، وبين تقديمها ، قبل دخول وقتها.

ووقت ركعتي نافلة الغداة ، عند الفراغ من صلاة الليل ، على ما قدّمناه ، وإن كان ذلك قبل طلوع الفجر ، فإذا طلع الفجر ، ولم يكن قد صلّى من صلاة الليل شيئا ، صلّى الركعتين ما بينه وبين طلوع الحمرة ، فإذا طلعت الحمرة ، ولم يكن قد صلّى الركعتين ، أخّرهما ، وصلى الغداة.

ومن فاتته صلاة فريضة فليقضها أيّ وقت ذكرها ، من ليل أو نهار ، ما لم يتضيّق وقت صلاة حاضرة ، فإن تضيّق وقت صلاة حاضرة ، بدأ بها ، ثم بالّتي فاتته ، فإن كان قد دخل في الصلاة الحاضرة ، قبل تضيّق وقتها وقد صلّى منها شيئا قبل الفراغ منها ، فالواجب عليه ، العدول بنيته إلى الصلاة الفائتة ، ثم يصلي بعد الفراغ منها الصلاة الحاضرة ، وعلى هذا إجماع أصحابنا منعقد.

ويصلّي ركعتي الإحرام ، وركعتي الطواف ، والصلاة على الجنازة ، وصلاة الكسوف ، في جميع الأحوال ، ما لم يكن وقت صلاة فريضة قد تضيّق وقتها.

ومن فاته شي ء من صلاة النوافل ، فليقضها أيّ وقت شاء ، من ليل أو نهار ، ما لم يدخل وقت فريضة ، وقد روي (1) إلا عند طلوع الشمس أو غروبها ، فإنّه يكره صلاة النوافل وقضاؤها ، في هذين الوقتين ، وقد وردت رواية (2) بجواز النوافل في الوقتين اللذين ذكرناهما.

قال شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في نهايته ويعرف زوال الشمس بالأصطرلاب (3) قال محمد بن إدريس : الأصطرلاب ، معناه مقياس النجوم ، وهو باليونانية ( اصطرلافون ) ، واصطر هو النجم ، ولافون هو المرآة ، ومن ذلك

ص: 203


1- الوسائل : الباب 38 من أبواب المواقيت ، ح 1 و 8
2- الوسائل : الباب 38 من أبواب المواقيت ، ح 1 و 8
3- النهاية : باب أوقات الصلاة.

قيل لعلم النجوم اصطر نوميا ، وقد يهذي بعض المولعين بالاشتقاقات في هذا الاسم بما لا معنى له ، وهو انّهم يقولون ، انّ لأب اسم رجل ، وأسطر جمع سطر ، وهو الخط ، وهو اسم يوناني ، واشتقاقه من لسان العرب جهل وسخف.

باب القبلة وكيفية التوجه إليها وتحريها

يجب على المصلّي أن يتوجه إلى الكعبة ، وتكون صلاته إليها بعينها ، إذا أمكنه ذلك ، فإن تعذر ، فإلى جهتها ، فإن لم يتمكن من الأمرين ، تحرّى جهتها ، وصلّى إلى ما يغلب على ظنّه ، بعد الاجتهاد أنّه جهة الكعبة ، وقد روي انّ اللّه تعالى جعل الكعبة قبلة لأهل المسجد ، وجعل المسجد قبلة لأهل الحرم ، وجعل الحرم قبلة لأهل الدنيا (1).

والحرم يكون عن يمين الكعبة أربعة أميال ، وعن يسارها ثمانية أميال ، فلهذا أمر كل من يتوجه إلى الركن العراقي من أهل العراق وغيرهم ، أن يتياسروا في بلادهم عن السمت الذي يتوجهون إليه قليلا ، ليكون ذلك أشد في الاستظهار والتحرز من الخروج عن جهة الحرم ، وهذه الرواية مذهب لبعض أصحابنا ، من جملتهم شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، فإنّ هذا مذهبه في سائر كتبه.

والأول مذهب السيد المرتضى وغيره من أصحابنا ، وهو الذي يقوى في نفسي ، وبه افتي.

ومن أشكلت عليه جهة القبلة ليلا ، يجعل الكوكب المعروف بالجدي ( بفتح جيم ، مكبّر غير مصغر ، لأنّ بعض من عاصرناه من مشايخنا كان يصغره وهو خطأ ، ولقد سألت ابن العطار إمام اللغة ببغداد عن تصغيره فأنكر ذلك ، وقال : ما يصغّر ، واستشهد بالشعر على تكبيره ببيت لم أحفظه ، وقد أورد ابن

ص: 204


1- الوسائل : الباب 3 من أبواب القبلة ، ح 1.

قتيبة في كتابه الأنواء ببيت مهلهل :

كأنّ الجدي جدي بنات النعش *** يكبّ على اليدين فيستدير

وقال الأخطل وذكر بني سليم :

وما يلاقون قرّاصا إلى نسب *** حتى يلاقي جدي الفرقد القمر

وقال الأعشى :

فأما إذا ما أدلجت فترى لها *** رقيبين ، جديا ما يغيب وفرقدا )

على منكبه الأيمن وتوجّه.

فمن لم يتمكن من ذلك لغيم أو غيره ، وفقد سائر الأمارات والعلامات ، وتساوت في ظنه الجهات ، كان عليه أن يصلّي إلى أربع جهات يمينه ، وشماله ، وأمامه ، ووراءه ، تلك الصلاة بعينها ، وينوي لكل صلاة منها أداء فرضه ، ولا شي ء عليه غير ذلك.

فمن لم يتمكن من الصلاة إلى الجهات الأربع ، لمانع من ضيق وقت أو خوف ، صلّى إلى أيّ جهة شاء ، وليس يلزمه مع الضرورة غير ذلك.

فإن أخطأ القبلة ، وظهر له بعد صلاته ، أعاد في الوقت بغير خلاف ، فان كان قد خرج الوقت فلا اعادة عليه ، على الصحيح من المذهب ، لأنّ الإعادة فرض ثان ، يحتاج إلى دليل قاطع للعذر.

وقد روي انّه إن كان خطاؤه بأن استدبر القبلة ، أعاد على كل حال (1) ، والأول هو المعمول عليه ، ووافقنا فيما ذهبنا إليه مالك ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : إنّ صلاته ماضية ، ولا اعادة عليه على كل حال.

وقال الشافعي في الجديد : انّ من أخطأ القبلة ، ثم تبيّن له خطأه ، لزمه الإعادة على كل حال ، وقوله في القديم مثل قول أبي حنيفة.

ص: 205


1- الوسائل : الباب ، 11 من أبواب القبلة ، ح 10.

دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع ، قوله تعالى : ( وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ) (1) فأوجب التوجه على كل مصلّ ، إلى شطر البيت ، فإذا لم يفعل ذلك ، كان الأمر عليه باقيا ، فيلزمه الإعادة.

فإن قيل : الآية تقتضي وجوب التوجه على كل مصلّ ، وليس فيها دلالة على انّه إذا لم يفعل لزمته الإعادة؟

قلنا : لم نحتج بالآية على وجوب القضاء وانّما بيّنا بالآية وجوب التوجه على كل مصلّ ، فإذا لم يأت بالمأمور به ، فهو باق في ذمته ، فيلزمه فعله.

وليس لأحد أن يقول : هذه الآية انما يصح أن يحتج بها الشافعي ، لأنّه يوجب الإعادة على كل حال ، في الوقت وبعد خروج الوقت ، وأنتم تفصّلون بين الأمرين فظاهر الآية يقتضي أن لا فصل بينهما ، فلا دليل لكم على مذهبكم في الآية.

قلنا : إنّما أمر اللّه تعالى كل مصلّ للظهر مثلا بالتوجه إلى شطر البيت ، ما دام في الوقت ، ولم يأمره بالتوجه بعد خروج الوقت ، لأنّه إنّما يأمر بأداء الصلاة ، لا بقضائها ، والأداء ما كان في الوقت ، والقضاء ما خرج عن الوقت ، فهو إذا تحرّى القبلة وصلّى إلى جهة ، ثم تبيّن له الخطأ ، وتيقن انّه صلّى إلى غير القبلة ، وهو في الوقت ، لم يخرج عنه ، فحكم الأمر باق عليه ، ووجوب الصلاة متوجها إلى القبلة باق في ذمّته ، وما فعله غير مأمور به ، ولا يسقط عنه الفرض ، فيجب أن يصلي ما دام الوقت وقت الصلاة ، المأمور بها وهي التي تكون إلى جهة الكعبة ، لأنّه قادر عليها ، وهو متمكن منها ، وبعد خروج الوقت ، لا يقدر على فعل المأمور به بعينه ، لأنّه قد فات بخروج الوقت ، والقضاء في الموضع الذي يجب فيه ، انّما نعلمه بدليل غير دليل وجوب الأداء هكذا يقتضي أصول الفقه عند محققي هذا الشأن.

ص: 206


1- البقرة : 144.

وليس لأحد أن يقول : انّ المصلّي في حال الاشتباه القبلة عليه ، لا يقدر على التوجه إلى القبلة ، فالآية مصروفة إلى من يقدر على ذلك ، لأنّ هذا القول تخصيص لعموم الآية بغير دليل ، ولأنّه إذا تبيّن له الخطأ في الوقت ، فقد زال الاشتباه ، فيجب أن تكون الآية متناولة له ، ويجب أن يفعل الصلاة إلى جهة القبلة.

فإن تعلّقوا بما روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله ، انه قال : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (1).

فالجواب عن ذلك ، إنّا نقول : انّ خطأه مرفوع ، وانّه غير مؤاخذ به ، وانّما يجب عليه الصلاة ، بالأمر الأوّل ، لأنّه لم يأت بالمأمور به.

فإن تعلّقوا بما روي من ان قوما أشكلت عليهم القبلة ، لظلمة عرضت ، فصلّى بعضهم إلى جهة ، وبعضهم إلى غيرها ، وعلّموا ذلك ، فلمّا أصبحوا رأوا تلك الخطوط إلى غير القبلة ، ولما قدموا من سفرهم ، سألوا النبي صلى اللّه عليه وآله عن ذلك ، فسكت ، فنزل قوله تعالى : ( فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ) (2) فقال النبيّ صلى اللّه عليه وآله أجزأتكم صلاتكم (3).

والجواب عن ذلك : انما نحمل هذا الخبر ، على انّهم سألوه عن ذلك بعد خروج الوقت ، وهذا صريح في الخبر ، لأنّه كان سؤالهم بعد قدومهم من السّفر ، فلم يأمرهم صلى اللّه عليه وآله بالإعادة ، لأنّ الإعادة على مذهبنا لا تلزم بعد خروج الوقت.

وهذه الأدلة أوردها السيد المرتضى رحمه اللّه على المخالفين محتجا بها عليهم ، ونعم ما أورد ، ففيه الحجة وطريق المحجة.

ص: 207


1- الوسائل : الباب 37 من أبواب قواطع الصلاة ، ح 2
2- البقرة : 115.
3- الوسائل : كتاب الصلاة ، باب 30 من أبواب الخلل ، ح 2 ، مع اختلاف يسير في العبارة.

ولا تجزي الصلاة في حال الاختيار ، إلا مع التوجه إلى القبلة ، إلا النافلة في السفر فقد يجوز أن يصليها على الراحلة ، أينما توجهت ، بعد أن يكبّر مستقبلا للقبلة تكبيرة الإحرام.

وقد يجزي في حال الاضطرار ، صلاة الفرض والنفل إلى غير جهة القبلة ، كصلاة المسايف ، والمعانق ، في حال التحام الحرب ، وما أشبه ذلك من أحوال العذر ، وهذا بيّن عند ذكر صلاة المعذور بمشية اللّه تعالى.

ومن جملة أمارات القبلة ، وعلاماتها ، أنّه إذا راعى زوال الشمس ، ثم استقبل عين الشمس ، بلا تأخير ، فإذا رآها على طرف حاجبه الأيمن ، ممّا يلي جبهته في حال الزوال ، علم انّه مستقبل القبلة ، وإن كان عند طلوع الفجر ، جعل الضوء المعترض في أفق السماء في زمان الاعتدال ، على يده اليسرى ، ويستقبل القبلة ، وإن كان عند غروبها ، جعل الشفق الذي في جهة المغرب ، على يده اليمنى ، وهذه العلامات ، علامات لمن توجه إلى الركن العراقي ، من أهل العراق ، وخراسان ، وفارس ، وخوزستان ، ومن والاهم ، فأمّا غير هذه البلدان ، فلهم علامات غير هذه العلامات.

باب الأذان والإقامة وأحكامهما وعدد فصولهما

اختلف قول أصحابنا في الأذان والإقامة ، فقال قوم : إنّ الأذان والإقامة ، من السنن المؤكدة في جميع الصلوات الخمس ، وليسا بواجبين ، وإن كانا في صلاة الجماعة ، وفي صلاة الفجر ، والمغرب ، وصلاة الجمعة ، أشد تأكيدا وهذا الذي أختاره وأعتمد عليه.

وذهب بعض أصحابنا إلى وجوبهما ، على الرجال في كل صلاة جماعة ، في سفر أو حضر ، ويجبان عليهم جماعة وفرادى ، في سفر أو حضر في الفجر والمغرب وصلاة الجمعة ، والإقامة دون الأذان ، تجب عليهم في باقي الصلوات المكتوبات ،

ص: 208

وهذا الذي ذهب إليه السيد المرتضى رحمه اللّه في مصباحه (1).

وبالأول يقول الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة (2) ومسائل خلافه (3).

ويذهب في نهايته (4) وجمله وعقوده (5) إلى أنّهما واجبان على الرجال في صلاة الجماعة.

والدلالة على صحة ما اخترناه ، انّ الأصل نفي الوجوب ، فمن ادّعاه فعليه الدلالة الموجبة للعلم ، ولانّه لا خلاف في أنّ الأذان والإقامة ، مشروعان مسنونان ، وفيهما فضل كثير ، وانما الخلاف في الوجوب ، والوجوب زائد على الحكم المجمع عليه فيهما ، فمن ادعاه فعليه الدليل لا محالة.

وبعد فإنّ الأذان والإقامة ممّا يعم البلوى به ، ويتكرر فعله في اليوم والليلة ، فلو كان واجبا حتما ، لورد وجوبه ، وورد مثله ، فيما يوجب العلم ، ويرفع الشك.

ويدل أيضا على ذلك ما روي عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، من قوله « الأئمة ضمناء ، والمؤذّنون أمناء » (6).

فالأمين متطوع بالأمانة ، وليس بواجب عليه.

ومن ترك الأذان والإقامة متعمدا ، ودخل في الصلاة ، فلينصرف ، وليؤذّن وليقم ، أو ليقم ما لم يركع ، ثم يستأنف الصلاة.

وإن تركهما ناسيا ، حتى دخل في الصلاة ثم ذكر ، مضى في صلاته ، ولا يستحب له الإعادة ، كالاستحباب في الأول ، بل هاهنا لا يجوز له الرجوع عن صلاته.

ومن أقام ودخل في الصلاة ثم أحدث ما يجب عليه إعادة الصلاة ، فليس عليه إعادة الإقامة ، إلا أن يكون قد تكلّم فإنّه يستحب له إعادة الإقامة أيضا.

ص: 209


1- لا يوجد الكتاب عندنا
2- المبسوط : في فصل الأذان والإقامة وأحكامهما.
3- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، المسألة 28.
4- النهاية : كتاب الصلاة : في باب الأذان والإقامة وأحكامهما.
5- الجمل والعقود : في فصل الأذان والإقامة وأحكامهما إلا أنّه قال بوجوبهما في الجماعة مطلقا لا على الرجال خاصة
6- المستدرك : الباب 3 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 1.

ومن فاتته صلاة ، وأراد قضاءها ، قضاها كما فاتته بأذان واقامة ، أو بإقامة على ما روي (1).

وليس على النساء أذان ولا اقامة ، بل يتشهدن الشهادتين ، بدلا من ذلك ، فإن أذّنّ وأقمن ، كان أفضل ، إلا أنهنّ لا يرفعن أصواتهن أكثر من إسماع أنفسهن ، ولا يسمعن الرجال.

ويستحب أن يكون المؤذن عدلا أمينا عارفا بالمواقيت ، مضطلعا بها ، معناه قيّما بها. قال لقيط الأيادي :

وقلدوا أمركم لله درّكم *** رحب الذراع بأمر الحرب مضطلعا

ويستحب أن يكون عالي الصوت ، جهوريا ، ليكثر الانتفاع بصوته ، حسن الصوت ، مرتّلا مبيّنا للحروف ، مفصحا بها ، مع بيان ألفاظها.

ويكره أن يكون أعمى.

ولا يؤذّن ولا يقيم إلا من يوثق بدينه ، فإن كان الذي يؤذّن ، غير موثوق بدينه ، أذّنت لنفسك ، وأقمت ، هذا في الجماعات المنعقدات.

وكذلك إن صلّيت خلف من لا تقتدي به ، أذنت لنفسك وأقمت.

وإذا صليت خلف من تقتدي به ، فليس عليك أذان ولا اقامة ، وإن لحقت بعض الصلاة ، فإن فاتتك الصلاة معه ، أذنت لنفسك وأقمت.

ولا بأس أن يؤذّن الصبي الذي لم يبلغ الحلم ، ويقيم ، وإن تولّى ذلك الرجال كان أفضل.

والأذان هو الإعلان في لسان العرب ، وهو في الشريعة كذلك ، إلا انّه تخصّص باعلام دخول وقت صلاة الخمس ، دون سائر الصلوات ، فعلى هذا لا يجوز الأذان قبل دخول الوقت ، فمن أذّن قبل دخوله أعاد بعد دخوله.

ص: 210


1- الوسائل : الباب 37 من أبواب الأذان والإقامة. والباب 1 و 8 من أبواب قضاء الصلوات.

وقد روي (1) جواز تقديم الأذان في صلاة الغداة خاصة ، إلا انّه يستحب إعادته بعد دخول الفجر ودخول وقته ، والأصل ما قدّمناه ، لأنّ الأذان دعاء إلى الصلاة ، وعلم على حضورها ، ولا يجوز قبل دخول وقتها ، لأنّه وضع الشي ء في غير موضعه.

وروى عاص بن عامر عن بلال أنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله قال له : لا تؤذّن حتى يستبين لك الفجر كذا ، ومدّ يده عرضا (2).

وليس لأحد أن يحمل اسم الأذان هاهنا على الإقامة ، ويستشهد بما روي عنه صلى اللّه عليه وآله من قوله : بين كل أذانين صلاة (3) ، يعنى الأذان والإقامة.

وذلك أنّ إطلاق اسم الأذان لا يتناول الإقامة فلا يجوز حمله عليها إلا بدلالة.

والأفضل أن لا يؤذّن الإنسان إلا وهو على طهر ، فإن أذن وهو على غير طهارة أجزأه ولا يقيم إلا وهو على طهر.

والأفضل أن لا يؤذّن الإنسان وهو راكب ، أو ماش ، ويتأكد ذلك في الإقامة ، وكذلك الأفضل أن لا يؤذّن الإنسان ووجهه إلى غير القبلة ، ويتأكد ذلك في الشهادتين ، وكذلك في الإقامة.

ويكره الكلام في حال الأذان ، ويتأكد ذلك في حال الإقامة ، فإن تكلّم بين فصول الأذان فلا تستحب له إعادته ، وإن تكلّم بين فصول الإقامة ، فالمستحب له إعادتها ، وإذا قال : قد قامت الصلاة ، فقد حرم الكلام على الحاضرين ، ومعنى يحرم يكره الكلام على الحاضرين كراهية شديدة ، لا أنّه محظور حرام ، لأنّ الحظر يحتاج إلى دليل قاطع للعذر وانّما إذا كان الشي ء شديد

ص: 211


1- الوسائل : الباب 8 ، ح 6 و 8. والباب 39 من أبواب الأذان والإقامة.
2- المستدرك الباب 7 من أبواب الأذان والإقامة ح 4.
3- لم نجد الحديث بعينه فيما بأيدينا من كتب الأحاديث الا أنه في الوسائل : في كتاب الصلاة ، في الباب 11 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 7 ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام قال : بين كل أذانين قعدة الحديث.

الكراهة أتوا به على لفظ الحظر والحرام ، وكذلك إذا كان الشي ء على جهة الاستحباب المؤكّد ، أتوا به على جهة الوجوب ، إلا بما يتعلّق بالصلاة من تقديم إمام ، أو تسوية صف.

والترتيب واجب في الأذان والإقامة ، فمن قدّم حرفا منه على حرف ، رجع فقدّم المؤخر ، وأخّر المقدّم منه.

فإن قيل : عندكم أنّ الأذان والإقامة مندوبان ، ومع ذلك فالترتيب فيهما واجب؟

قلنا : غرضنا بما قلنا من وجوب الترتيب مع كون الأذان مندوبا إليه ، أنّ من أتى بهما غير مرتبين يستحق به الإثم ، غير انّا نقول استحقاقه الإثم ليس هو بسبب أنّه أخلّ بواجب عليه فعله ، وانّما هو بسبب ارتكابه بدعة وشيئا غير مشروع ، باعتبار انّه لو ترك الأذان والإقامة وجميع صفاتهما ، فإنّه لا يستحق بذلك إثما ، فانكشف بذلك انّ استحقاق الإثم فيهما إذا فعلا غير مرتّبين ، انّما هو بارتكاب البدعة ، لا بالإخلال بالواجب.

ولا يجوز التثويب في الأذان ، اختلف أصحابنا في التثويب ما هو ، فقال قوم منهم : هو تكرار الشهادتين دفعتين ، وهذا هو الأظهر ، لأنّ التثويب مشتق من ثاب الشي ء إذا رجع ، وأنشد المبرّد لمّا سئل عن التأكيد فقال :

لو رأينا التأكيد خطة عجز

ما شفعنا الأذان بالتثويب

وقال قوم منهم : التثويب هو قول : الصلاة خير من النوم ، وعلى القولين لا يجوز فعل ذلك ، فمن فعله لغير تقية كان مبدعا مأثوما.

وكذلك اختلف الفقهاء في تفسيره.

والدليل على أنّ فعله لا يجوز ، إجماع طائفتنا بغير خلاف بينهم. وأيضا لو كان التثويب مشروعا لوجب أن يقوم دليل شرعي يقطع العذر على ذلك ، ولا دليل عليه.

وأيضا فلا خلاف في أنّ من ترك التثويب لا يلحقه ذم ، ولا عقاب ، لأنّه

ص: 212

امّا أن يكون مسنونا على قول بعض الفقهاء ، أو غير مسنون على قول البعض الآخر ، وفي كلا الأمرين لا ذمّ في تركه ، ويخشى من فعله أن يكون بدعة ومعصية ، يستحق بها الذم ، فتركه أولى وأحوط في الشريعة.

والإقامة مثنى مثنى ، وهو مذهب أصحابنا كلهم.

ولا يجوز الأذان لشي ء من صلاة النوافل ولا الفرائض سوى الخمس.

والأذان والإقامة خمسة وثلاثون فصلا. الأذان ثمانية عشر فصلا ، والإقامة سبعة عشر فصلا.

والأذان : اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، اللّه أكبر - أشهد ان لا إله إلا اللّه ، أشهد أن لا إله إلا اللّه - أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه ، أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه ( صلى اللّه عليه وآله ) - حيّ على الصّلاة ، حيّ على الصّلاة - حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح - حيّ على خير العمل ، حيّ على خير العمل - اللّه أكبر ، اللّه أكبر - لا إله إلا اللّه ، لا إله إلا اللّه.

والإقامة سبعة عشر فصلا على ما قدّمناه ، لأنّ فيها نقصان ثلاثة فصول من الأذان ، وزيادة فصلين ، فالنقصان تكبيرتان من الأربع الاولى ، وإسقاط التكرير من لفظ لا إله إلا اللّه في آخره ، والاقتصار على دفعة واحدة ، والزيادة أن يقول بعد حيّ على خير العمل - قد قامت الصّلاة ، قد قامت الصّلاة.

ولا يعرب أواخر الكلم ، بل تكون موقوفة بغير إعراب.

والمستحب أن يرتل الأذان ، ويحدر الإقامة ، والترتيل هو التبيين في تثبت وترسل ، والحدر هو الإرسال والاستعجال ، ثم يقف فيها دون زمان الوقف والتثبت في الأذان.

ومن أذّن فالمستحب له أن يرفع صوته ، فإذا لم يستطع ، فإلى الحد الذي يسمع معه نفسه.

ومن صلّى منفردا فالمستحب له أن يفصل بين الأذان والإقامة ، بسجدة أو

ص: 213

جلسة أو خطوة ، والسجدة أفضل ، إلا في الأذان للمغرب خاصة ، فإنّ الجلسة أو الخطوة السريعة فيها أفضل.

وإذا صلّى في جماعة فمن السنّة أن يفصل بين الأذان والإقامة بشي ء من نوافله ، ليجمع الناس في زمان تشاغله بها ، إلا صلاة المغرب فإنّه لا يجوز ذلك فيها.

ويستحب لمن سمع المؤذّن أن يقول مثل قوله ، وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا.

وينبغي أن يفصح فيهما بالحروف وبالهاء في الشهادتين ، والمراد بالهاء هاء إله ، لا هاء أشهد ، ولا هاء اللّه ، لأنّ الهاء في أشهد ، مبيّنة ، مفصّح بها ، لا لبس فيها ، وهاء اللّه ، موقوفة مبيّنة أيضا لا لبس فيها ، وانّما المراد هاء إله ، لأنّ بعض الناس ربما أدغم الهاء في لا إله إلا اللّه.

ذكر شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1) انّ الأذان لا يختص بمن كان من نسل مخصوص ، كأبي محذورة وسعد القرظ وقال الشافعي : أحب أن يكون من ولد من جعل النبيّ صلى اللّه عليه وآله فيهما الأذان ، مثل أبي محذورة وسعد القرظ.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : ( أبو محذورة بالميم المفتوحة والحاء المسكنة غير المعجمة والذال المضمومة المعجمة والواو غير المعجمة والهاء واسمه سلمان ويقال سمرة الحمجيّ القرشي وكان مؤذن الرسول صلى اللّه عليه وآله ، ويقال أوس بن مغير وسعد القرظ بالقاف المفتوحة والراء المفتوحة غير المعجمة والظاي المعجمة ، وكان سعد القرظ مولى لعمار بن ياسر كان يؤذّن على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وأبي بكر بقبا ، فلما ولي عمر ، أنزله المدينة ) أحببت أن أذكر هذين الاسمين ، لئلا يجري فيهما تصحيف ، فاني سمعت بعض أصحابنا يصحّفهما ، فيقول أبي محدورة بالدال غير المعجمة ، ويقول سعد القرط بالطاء غير المعجمة ، وبضم القاف وسكون الراء ، وهو تصحيف.

ص: 214


1- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، المسألة 34.

والدليل على ذلك ما ذكره شيخنا ، انّه من خصّ ذلك في نسب معين ، يحتاج إلى دليل ، والأخبار الواردة في الحث على الأذان ، عامة في كل أحد.

وأخذ الأجر على الأذان محظور ، ولا بأس بأخذ الرزق عليه من سلطان الإسلام ، ونوّابه.

ويستحب للإمام أن يلي الأذان والإقامة ، ليحصل له الفضل وثواب الجميع ، إلا أن يكون أمير جيش ، أو أمير سرية ، فالمستحب أن يلي الأذان والإقامة غيره ، ويلي الإمامة هو على ما اختاره شيخنا المفيد رحمه اللّه في رسالته إلى ولده (1).

باب ذكر أعمال الصّلاة المفروضة وما يلحق بذلك من الشروط

علم انّ المفروض من ذلك هو الطهارة ، والتوجه إلى القبلة ، والمعرفة بالوقت ، وأعداد الفرائض ، وستر العورة ، والقيام مع القدرة ، أو ما قام مقامه مع العجز ، والنية ، وتكبيرة الافتتاح ، والقراءة في الركعتين الأوليين ، والتسبيح أو القراءة في الأخيرتين ، والركوع ، والتسبيح فيه ، أو ذكر اللّه ، والسّجود ، والتسبيح فيه ، أو الذكر ، والتشهدان ، الأوّل والثاني ، والصلاة على النبيّ وآله صلّى اللّه عليهم فيهما.

ومن فروض الصلاة ما يجري مجرى الترك ، نحو أن لا يكون على بدن المصلّي وثوبه نجاسة ، منعت الشريعة من الصلاة ، وهي فيه ، أو في موضع سجوده نجاسة.

وان لا يتكلم ، ولا يضحك ولا يأكل ، ولا يشرب ، ولا يفعل فعلا يخرج به من أفعال الصّلاة.

ص: 215


1- لا يوجد عندنا.

فمتى ترك شيئا ممّا ذكرناه عامدا من غير عذر ، فلا صلاة له ، وعليه الإعادة.

ومتى تركه ساهيا كانت له أحكام نذكرها في باب السّهو وبيان أحكامه إن شاء اللّه تعالى.

باب كيفيّة فعل الصّلاة على سبيل الكمال المشتمل على الفرض والنفل

ينبغي لمن أراد الصّلاة وكان منفردا ، بعد ما شرطناه من التوجه إلى القبلة ، والنيّة ، والأذان ، والإقامة ، وغير ذلك ، أن يبتدئ فيكبر ثلاث تكبيرات متواليات يرفع بكل واحدة منهنّ يديه حيال وجهه ، وقد بسط كفيه من غير أن يفرّق بين أصابعه ، إلا الإبهام ، فإنّه يفرّق بينها وبين المسبّحة ، ولا يتجاوز بيديه في رفعهما شحمتي أذنيه ، وإذا أرسل في الثالثة يديه ، قال : اللّهم أنت الملك الحق المبين لا إله إلا أنت سبحانك انّي ظلمت نفسي فاغفر لي ذنبي انّه لا يغفر الذّنوب إلا أنت.

ثم يكبّر تكبيرتين على الصّفة التي ذكرناها ويقول : لبّيك وسعديك ، ومعنى لبّيك : أي إقامة على إجابتك وطاعتك بعد إقامة ، من قولهم : ألبّ فلان بالمكان ، أي أقام به ، والخير في يديك ، والمهدي من هديت ، عبدك وابن عبديك بين يديك ، لا ملجأ منك إلا إليك ، سبحانك وحنانيك ، الحنان الرّحمة ، تباركت وتعاليت ، سبحانك ربّ البيت.

ثمّ يكبّر تكبيرتين ليكمل التكبيرات سبعا.

ومن اقتصر على تكبيرة واحدة ، وهي تكبيرة الافتتاح ، أجزأته ، وهي الواجبة التي بها وبالنية معا تنعقد الصلاة ، ويحرم عليه ما كان يحل له قبلها ، فلذلك سمّيت تكبيرة الإحرام ، وتكبيرة الافتتاح ، لأنّ بها تفتح الصّلاة ويجب التلفظ بها ، ويقدّم اللّه على أكبر ، ولا يمدّ أكبر فيقول أكبار ، لأنّ ذلك جمع كبر ،

ص: 216

بفتح الكاف وفتح الباء التي تحتها نقطة واحدة ، وهو الطبل الذي له وجه واحد ، قال الشّاعر ، يهجو قوما :

حاجيتكم من أبوكم يا بني عصب *** شتى ولكنّكم للعاهر الحجر

فجئتم عصبا من كلّ ناحية *** نوعا مخانيث في أعناقها الكبر

بل يأتي بها على وزان أفعل ويقول : ( وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ) ، ( إِنَّ صَلاتِي ، وَنُسُكِي ، وَمَحْيايَ وَمَماتِي ، لِلّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ ، لا شَرِيكَ لَهُ ، وَبِذلِكَ أُمِرْتُ ) ، وأنا من المسلمين.

ثمّ يتعوّذ باللّه من الشيطان الرجيم ، ويفتتح القراءة بالبسملة.

وينبغي أن يلزم المصلّي في صلاته الخشوع ، والخضوع ، والوقار ، ويطرح الأفكار ، ويقبل بقلبه كلّه على صلاته ، ويكون مفرغا قلبه من علائق الدنيا ، وليقم منتصبا ، من غير أن ينحني ظهره ، وليكن نظره في حال قيامه إلى موضع سجوده ، ويفرّق بين قدميه ، ويجعل بينهما قدر شبر ، أو نحوه إن كان رجلا ، ولا يضع يدا على يد ، ولا يقدّم رجلا على أخرى.

فإذا تعوّذ فليفتتح ببسم اللّه الرّحمن الرحيم يجهر بها في كلّ صلاة يجهر فيها بالقراءة ، أو لم يجهر في الأوليين فحسب.

وقوم من أصحابنا يرون أنّ الجهر بها في كل صلاة ، انّما هو للإمام ، وأمّا المنفرد فيجهر بها في صلوات الجهر ، ويخافت فيما عدا ذلك.

ويقرأ الحمد ، وسورة معها أي سورة شاء ، إلا عزائم السجود التي تقدّم ذكرها ، وهي : سجدة لقمان وسجدة الحواميم وسورة النجم واقرأ باسم ربك ، فإنهن يقتضين سجودا واجبا ، وذلك لا يجوز في صلاة الفريضة ، فإن سجد بطلت صلاته ، لأنّه يكون قد زاد سجودا متعمدا في صلاته ، فإن لم يسجد بطلت صلاته أيضا ، لأنّه بقراءة العزيمة يتحتم ، ويتضيّق عليه السجود ، فإذا فعل فعلا يمنعه من الواجب المضيّق ، يكون ذلك الفعل قبيحا ، والقبيح لا يتقرّب به إلى

ص: 217

اللّه تعالى فتكون صلاته منهيا عنها ، والنهي يدلّ على فساد المنهي عنه.

فإن كان قراءته لها ناسيا ، لا على طريق التعمد ، فالواجب عليه ، المضيّ في صلاته ، فإذا سلّم ، قضى السجود ولا شي ء عليه ، لأنّه ما تعمد بطلان صلاته ، فاختلف الحال بين العمد والنسيان.

ولا بأس بقراءة العزائم في صلاة النوافل ، ويجب عليه أن يسجد ، ولا تبطل بذلك نافلته.

فأمّا الجهر ببسم اللّه الرحمن الرحيم في الركعتين الأخيرتين ، فلا يجوز ، لأنّ الأخيرتين لا يتعيّن فيهما القراءة ، وانّما الإنسان مخيّر بين التسبيح والقراءة ، والدليل على ذلك أنّ الصّلاة عندهم على ضربين : جهرية وإخفاتية.

فالاخفاتية الظهر والعصر ، فان الجهر بالبسملة في الركعتين الأوليين مستحب ، لأنّ فيهما يتعين القراءة فأمّا الأخيرتان فلا يتعيّن فيهما القراءة.

والصّلاة الجهرية وهي الصّبح ، والمغرب ، والعشاء الآخرة ، فإنّ الجهر بالبسملة واجب كوجوبه في جميع الحمد.

وأمّا الآخرتان فلا يجوز الجهر بالقراءة ، إن أرادها المصلّي ، فقد صار المراد بالجهرية الركعتين الأوليين ، دون الأخيرتين ، ولا خلاف بيننا في أنّ الصلاة الإخفاتية لا يجوز فيها الجهر بالقراءة ، والبسملة من جملة القراءة ، وانّما ورد في الصّلاة الإخفاتية التي يتعيّن فيها القراءة ، ولا يتعين القراءة إلا في الركعتين الأوليين فحسب.

وأيضا فطريق الاحتياط ، يوجب ترك الجهر بالبسملة في الأخيرتين ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا بل بين المسلمين في صحّة صلاة من لا يجهر بالبسملة في الأخيرتين ، وفي صحّة صلاة من جهر فيهما خلاف.

وأيضا فلا خلاف بين أصحابنا في وجوب الإخفات في الركعتين الأخيرتين ، فمن ادّعى استحباب الجهر في بعضها وهو البسملة ، فعليه الدليل.

ص: 218

فإن قيل : عموم الندب والاستحباب بالجهر بالبسملة.

قلنا : ذلك فيما يتعيّن ويتحتم القراءة فيه ، لأنّهم عليهم السلام قالوا يستحب الجهر بالبسملة فيما يجب فيه القراءة بالإخفات ، والركعتان الآخرتان خارجتان من ذلك.

فقد قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في جمله وعقوده في قسم المستحب : والجهر ببسم اللّه الرّحمن الرحيم في الموضعين (1) يريد بذلك الظهر والعصر ، فلو أراد الآخرتين من كلّ فريضة لما قال في الموضعين ، بل كان يقول في المواضع.

وأيضا فلا خلاف في أنّ من ترك الجهر بالبسملة في الآخرتين لا يلحقه ذم ، لأنّه امّا أن يكون مسنونا على قول المخالف في المسألة ، أو غير مسنون على قولنا وفي كلا الأمرين لا ذم على تاركه ، وما لا ذم في تركه ويخشى في فعله أن يكون بدعة ومعصية يستحق بها الذّم ومفسدا لصلاته ، فتركه أولى وأحوط في الشريعة.

وأيضا فقد ورد في ألفاظ الأخبار عن الأئمة الأطهار عليهم السلام ، تنبيه على ما قدّمناه أورد ذلك حريز بن عبد اللّه السجستاني في كتابه ، وهو حريز بالحاء غير المعجمة والراء غير المعجمة والزاي المعجمة ، وهو من جملة أصحابنا ، وكتابه معتمد عندهم ، قال فيه : وقال زرارة : قال أبو جعفر عليه السلام : لا يقرأ في الركعتين الآخرتين من الأربع ركعات المفروضات شيئا ، إماما كنت أو غير إمام ، قلت : فما أقول فيهما ، قال : إن كنت إماما فقل : سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر. ثلاث مرات ، ثم تكبّر وتركع ، وإن كنت خلف إمام ، فلا تقرأ شيئا في الأوليين ، وأنصت لقراءته ولا تقولن شيئا في الآخرتين ، فإنّ اللّه عزوجل يقول للمؤمنين ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ ) يعني في الفريضة خلف الإمام « فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ » والآخرتان تبع الأولتين. قال

ص: 219


1- الجمل والعقود : فصل 9 في ذكر ما يقارن حال الصلاة ، الرقم 5 من المسنونات.

زرارة قال أبو جعفر عليه السلام : كأنّ الذي فرض اللّه على العباد من الصّلاة عشرا ، فزاد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله سبعا ، وفيهنّ السهو وليس فيهن قراءة ، فمن شك في الأوليين أعاد حتى يحفظ ، ويكون على يقين ، فمن شك في الأخيرتين بنى على ما توهم (1).

فليلحظ قوله ، وليس فيهنّ قراءة.

ولا يجوز أن يقرأ في الفريضة بعض سورة.

ويكره أن يقرأ سورتين ، مضافتين إلى أمّ الكتاب ، فإن قرأ ذلك لا تبطل صلاته.

وقد ذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته ، أنّ صلاته تبطل بذلك (2). ورجع عن ذلك في استبصاره ، وقال : ذلك على طريق الكراهة (3). وهذا الذي يقوى عندي ، وافتي به ، لأنّ الإعادة ، وبطلان الصّلاة يحتاج إلى دليل ، وأصحابنا قد ضبطوا قواطع الصّلاة ، وما يوجب الإعادة ، ولم يذكروا ذلك في جملتها ، والأصل صحة الصّلاة ، والإعادة والبطلان بعد الصّحة ، يحتاج إلى دليل ، ويجوز ذلك في النافلة.

فإذا أراد أن يقرأ الإنسان كل واحدة من سورة والضحى وألم نشرح ، منفردة عن الأخرى في الفريضة ، فلا يجوز له ذلك ، لأنّهما سورة واحدة عند أصحابنا ، بل يقرؤهما جميعا وكذلك سورة الفيل ولإيلاف ، فمن أراد قراءة كلّ واحدة من الضحى وألم نشرح في الفرض ، جمع بينهما في ركعة ، وكذلك من أراد قراءة كل واحدة من سورة الفيل ولإيلاف ، جمع بينهما ، وفي النوافل ليس يلزم ذلك.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في التبيان : روى أصحابنا أنّ ألم نشرح مع الضحى سورة واحدة ، لتعلّق بعضها ببعض ، ولم يفصلوا بينهما ببسم

ص: 220


1- الوسائل : الباب 51 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 1 و 2.
2- كتاب النهاية : في باب القراءة من الصلاة ( ولا يجوز ان يجمع بين سورتين مع الحمد .. ).
3- الاستبصار : ج 1 ، 174 باب القران بين السورتين في الفريضة.

اللّه الرحمن الرحيم ، وأوجبوا قراءتهما في الفرائض في ركعة ، وأن لا يفصل بينهما ، ومثله قالوا في سورة ألم تر كيف ولإيلاف ، وفي المصحف هما سورتان ، فصل بينهما ببسم اللّه الرحمن الرحيم (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : والذي تقتضيه الأدلة ، وعليه الإجماع ، انّ الإنسان إذا أراد قراءة ألم نشرح مع سورة الضحى بسمل في الضحى وفي ألم نشرح ، والدليل على ذلك إثبات البسملة في المصحف ، فلو لم تكن البسملة من جملة السورة ما جاز ذلك ، وهو إجماع من المسلمين ، ولا يمنع مانع أن يكون في سورة واحدة بسملتان ، كما في سورة النّمل ، وأصحابنا أطلقوا القول بقراءتهما جميعا ، فمن أسقط البسملة بينهما ما قرأهما جميعا.

وأيضا فلا خلاف في عدد آياتهما فإذا لم يبسمل بينهما نقصتا من عددهما ، فلم يكن قد قرأهما جميعا.

وشيخنا أبو جعفر يحتج على المخالفين ، بأنّ البسملة آية من كل سورة ، بأنّها ثابتة في المصاحف ، يعني البسملة ، بإجماع الأمّة بخلاف العشرات ، وهو موافق بإثبات البسملة بينهما ، في المصحف.

وأيضا طريق الاحتياط يقتضي ذلك لأن بقراءة البسملة تصح الصّلاة بغير خلاف وفي ترك قراءتها خلاف ، وكل سورة تضم إلى أمّ الكتاب يجب أن يبتدئ فيها - ببسم اللّه الرحمن الرحيم.

ويتحتم الحمد عندنا في الركعتين الأوليين ، من كل فريضة ، وهل يجب أن يضمّ إليها سورة أخرى أم تجزي بانفرادها للمختار؟ اختلف أصحابنا على قولين ، فبعض منهم يذهب إلى أنّ قراءة الحمد وحدها تجزي للمختار ، وبعضهم يقول لا بدّ من سورة أخرى مع الحمد ، وتحتمها كتحتم الحمد ، وهو الأظهر من

ص: 221


1- التبيان : ج 10 الطبع الحديث في ذيل سورة الانشراح.

المذهب. وبه يفتي السيد المرتضى ، والشيخ أبو جعفر في مسائل خلافه (1) وفي جمله وعقوده (2) والاحتياط يقتضي ذلك.

فأمّا الآخرتان فلا خلاف بينهم في أن الحمد لا يتعيّن ، بل الإنسان مخيّر بين الحمد والتسبيح.

واختلفوا في عدد التسبيح ، منهم من قال أقلّه أربع تسبيحات ، وهو مذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه ، ومنهم من يقول الواجب عشر تسبيحات ، ومنهم من يقول الواجب اثنتا عشرة تسبيحة ، والذي أراه ويقوى عندي العشر ، وأخصّ الأربع للمستعجل.

فإن أراد أن يقرأ الحمد ، يجب عليه الإخفات بجميع حروفها على ما مضى شرحنا لذلك ، فإن أراد التسبيح فالأولى له الإخفات به ، فإن جهر به لا يبطل صلاته ، وحمله على القراءة قياس ، والقياس عند أهل البيت عليهم السلام متروك ، فإن جهر بالقراءة في الحمد بطلت صلاته ، إذا فعل ذلك متعمدا.

ولا بأس بقراءة المعوذتين في الفريضة ، ولا يلتفت إلى خلاف ابن مسعود ، « في أنّهما ليستا من القرآن ».

ولا بأس للمعجل والعليل بأن يقتصرا في الفريضة على أم الكتاب وحدها.

وللمصلّي إذا بدأ بسورة ، أن يرجع عنها ما لم يبلغ نصفها ، إلا قل هو اللّه أحد وقل يا أيّها الكافرون ، فإنّه لا يرجع عنهما ، وهما أفضل ما قرئ في الصّلاة.

ويستحب له أن يقرأ في صلاة الصبح بعد الفاتحة ، سورة من طوال المفصل ، مثل هل أتى على الإنسان ، وإذا الشمس كوّرت ، وما أشبه ذلك.

ويستحب له أن يقرأ في صلاة الليل بشي ء من السّور الطوال ، مثل

ص: 222


1- كتاب الخلاف : في كتاب الصلاة ، المسألة 86.
2- الجمل والعقود : في فصل في ذكر ما يقارن حال الصلاة.

الكهف ، والأنعام ، والحواميم.

وأن يقرأ في صلاة المغرب ، والعشاء الآخرة من ليلة الجمعة ، في الأولى الحمد ، وسورة الجمعة ، وفي الثانية الحمد ، وسبّح اسم ربّك الأعلى.

وفي صلاة الفجر من يوم الجمعة في الأولى ، الحمد والجمعة ، وفي الثانية الحمد وقل هو اللّه أحد. وروي مكان قول هو اللّه أحد ، سورة المنافقين (1). وفي الظهر والعصر ، الجمعة والمنافقين ، تقدم الجمعة في الاولى ، وتؤخّر سورة المنافقين في الثانية.

وإن كنت مصليا الفجر ، أو المغرب ، أو العشاء الآخرة ، أو نوافل الليل جهرت بالقراءة في الركعتين الأولتين ، وهما اللتان يتعين فيهما القراءة.

وإن كنت مصلّيا ما عدا ذلك ، من ترتيب اليوم والليلة ، خافت ، من غير أن تنتهي إلى حدّ لا تسمع معه أذناك ما تقرؤه.

والجهر فيما يجب الجهر فيه واجب ، على الصحيح من المذهب ، حتى أنّه إن تركه متعمدا ، بطلت صلاته ، ووجبت عليه الإعادة وقال السيد المرتضى رضي اللّه عنه في مصباحه ، ذلك من السنن المؤكّدة ومن جهر فيما يجب فيه الإخفات متعمدا ، وجبت عليه الإعادة.

وأدنى الجهر أن تسمع من عن يمينك ، أو شمالك ، ولو علا صوته فوق ذلك لم تبطل صلاته.

وحدّ الإخفات أعلاه أن تسمع أذناك بالقراءة ، وليس له حدّ أدنى ، بل إن لم تسمع أذناه القراءة فلا صلاة له ، وإن سمع من عن يمينه أو شماله صار جهرا ، فإذا فعله عامدا بطلت صلاته.

وينبغي أن يرتّل قراءته ، ويبيّنها ، ولا يعجل فيها ، فإذا فرغ من قراءته كبّر ،

ص: 223


1- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 70 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 10.

رافعا يديه حيال وجهه ، على ما تقدّم ذكره ، ثمّ يركع.

وينبغي للراكع أن يمدّ عنقه ، ويسوّي ظهره ، ويفتح إبطيه مجنّحا بهما عن ملاصقة أضلاعه ، ويملأ كفيه من ركبتيه مفرقا بين أصابعه ، ويجعل رأسه حذاء ظهره ، غير منكّس له ، ولا رافع ، ولا يجمع بين راحتيه ، ويجعلهما بين ركبتيه ، لأنّ ذلك هو التطبيق المنهي عنه.

وليكن نظره في حال الركوع إلى ما بين رجليه ، ويقول في ركوعه : اللّهم لك ركعت ، ولك خشعت ، ولك أسلمت ، وبك آمنت ، وعليك توكلت ، وأنت ربي ، خشع لك قلبي ، وسمعي ، وبصري ، وشعري ، وبشري ، ولحمي ، ودمي ، ومخي ، وعظامي ، وعصبي ، وما أقلّته الأرض منّي ، ثم يقول : سبحان ربي العظيم وبحمده ، إن شئت ثلاثا ، وإن شئت خمسا ، وإن شئت سبعا ، والزائد أفضل ، وتسبيحة واحدة يجزي ، وهو أن يقول : سبحان اللّه ، أو يذكر اللّه تعالى بأن يقول : لا إله إلا اللّه واللّه أكبر ، وما أشبه من ذلك من الذكر الذي يقتضي المدحة والثناء.

وقال بعض أصحابنا : أقل ما يجزي تسبيحة واحدة ، وكيفيتها أن يقول : سبحان ربي العظيم وبحمده ، فإذا قال : سبحان اللّه لا يجزيه ، والأول أظهر ، لأنّه لا خلاف بينهم في أن التسبيح لا يتعيّن ، بل ذكر اللّه تعالى ، ولا خلاف في أن من قال سبحان اللّه فقد ذكر اللّه تعالى ، والأصل براءة الذمة في هذه الكيفية المدعاة ، لأنّ الكيفيات عبادات زائدة على الأفعال.

والقول في تسبيح السجود والخلاف فيه ، كالقول في تسبيح الركوع.

ثمّ يرفع رأسه من الركوع ، وهو يقول بعد فراغه من الرفع : سمع اللّه لمن حمده ، الحمد لله رب العالمين ، أهل الكبرياء والعظمة والجود والجبروت. والرفع واجب ويستوي قائما.

والطمأنينة واجبة في القيام ، وكذلك في الركوع ، بقدر ما ينطق بالذكر

ص: 224

الواجب ، وما زاد على ذلك فمستحب.

وينبغي للمرأة إذا ركعت أن يكون تطأطؤها دون تطأطؤ الرجل ، وتضع يديها على فخذيها ، إذا أهوت للركوع.

ويكون قيامها ، وهي جامعة بين قدميها غير مباعدة بينهما.

فإذا عاد الراكع إلى انتصابه واستوى قائما ، كبّر رافعا يديه على ما تقدّم ، وأهوى إلى السجود ، ويلتقي الأرض بيديه جميعا قبل ركبتيه ، ويكون سجوده على سبعة أعظم : الجبهة ، ومفصل الكفين من الزندين ، وعظمي الركبتين ، وطرف إبهامي الرجلين.

والإرغام بطرف الأنف ممّا يلي الحاجبين ، وهو من السنن المؤكدة ، والسجود على السّبعة الأعضاء فريضة ، والثامن سنة وفضيلة.

ومن كان في جبهته علّة ، ووصل إلى الأرض من حدّ قصاص شعر رأسه إلى الحاجبين مقدار الدرهم ، أجزأه ، فإن لم يتمكن من ذلك أجزأه أن يسجد على ما بين الجبهة والصدغين منحرفا ، فإن لم يتمكن من ذلك ، سجد على ذقنه.

وينبغي أن يتخوى في سجوده كما يتخوى البعير الضامر عند بروكه ، ومعنى يتخوى يتجافى ، يقال خوّى البعير تخوية : إذا جافى بطنه عن الأرض في بروكه ، وكذلك الرّجل في سجوده ، وهو أن يكون معلّقا لا يلصق عضديه بجنبيه ، ولا ذراعيه بعضديه ، ولا فخذيه ببطنه ، ولا يفترش ذراعيه كافتراش السّبع ، بل يرفعهما ، ويجنّح بهما ، ويكون نظره في حال السجود إلى طرف أنفه.

وجملة الأمر وعقد الباب ، في نظر المصلّي ، في جميع صلاته على خمسة أضرب ، وهي مستحبة حال قيامه ، قارئا إلى موضع سجوده ، وفي حال قنوته إلى باطن كفيه ، وحال ركوعه إلى ما بين قدميه ، وفي هذه الحال خاصّة يستحب أن يكون مغمض العينين ، وفي حال سجوده إلى طرف أنفه ، وفي حال جلوسه إلى حجره.

ويكره للساجد أن ينفخ موضع سجوده ، فإن كان نفخه بحرفين فقد قطع صلاته.

ص: 225

ولا بأس بأن تكون أعضاء السجود غير الجبهة مستورة ، وتقع على غير ما يجوز السجود عليه ، وإن كانت بارزة ، وعلى ما تقع عليه الجبهة كان أفضل.

وينبغي أن يكون موضع سجوده مساويا في العلو والهبوط لموضع قيامه ، ويقول في السجود : اللّهم لك سجدت ، وبك آمنت ، ولك أسلمت ، وعليك توكلت ، وأنت ربي ، سجد لك وجهي ، وجسمي ، وشعري ، وبشري ، ومخي ، وعصبي ، وعظامي ، سجد وجهي للذي خلقه وصوّره ، وشق سمعه وبصره ، تبارك اللّه أحسن الخالقين ، سبحان ربي الأعلى وبحمده.

الواجبة واحدة ، والمستحب ثلاث ، والأفضل خمس ، والأكمل سبع ، وقد ذكرنا فيما تقدّم فقه ذلك.

سجود التلاوة في جميع القرآن مسنون إلا أربع سور ، فإن فيها سجودا واجبا ، على ما قدّمناه على القاري والسّامع والمستمع وهو الناصت.

وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، إلى أنّه يجب على القاري والمستمع ، دون السامع ، وهو اختيار الشافعي (1). فأما باقي أصحابنا ، لم يفصّلوا ذلك ، وأطلقوا القول بأنّ سجود أربع المواضع يجب على القاري ومن سمع ، وهو الصحيح ، وعليه إجماعهم منعقد.

وروى أبو بصير ، (2) قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إذا قرئ شي ء من العزائم الأربع فسمعتها ، فاسجد وإن كنت على غير وضوء ، وإن كنت جنبا ، وإن كانت المرأة لا تصلّي ، وسائر القرآن أنت فيه بالخيار إن شئت سجدت ، وإن شئت لم تسجد.

وينبغي للمرأة إذا أرادت السجود أن تجلس ، ثم تسجد لاطئة بالأرض ،

ص: 226


1- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 179.
2- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 42 من أبواب قراءة القرآن ، ح 2.

مجتمعة ، واضعة ذراعيها على الأرض ، بخلاف ما ذكرناه في هيأه سجود الرجل ، ولو كانت على هيأه الرجل لم تبطل بذلك صلاتها ، ولو كان الرجل على هيأتها لم تبطل بذلك صلاته ، وانّما سنّ لها هذه الهيأة وللرجل تلك الهيأة.

ثم يرفع رأسه من السجود ، رافعا يديه بالتكبير ، مع رفع رأسه ، ويجلس متمكنا على الأرض ، مفترشا فخذه اليسرى مماسا بوركه الأيسر ، مع ظاهر فخذه اليسرى الأرض ، رافعا فخذه اليمنى عنها ، جاعلا بطن ساقه الأيمن على بطن رجله اليسرى ، (1) مبسوطة على الأرض ، وباطن فخذه اليمني على عرقوبه الأيسر ، وينصب طرف إبهام رجله اليمنى على الأرض ، ويستقبل بركبتيه معا القبلة ولا بأس بالإقعاء بين السجدتين من الاولى والثانية والثالثة والرابعة ، وتركه أفضل ، ويكره أشد من تلك الكراهة في حال الجلوس للتشهدين ، وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا : ولا يجوز الإقعاء في حال التشهدين ، وذلك على تغليظ الكراهة ، لا الحظر ، لأنّ الشي ء إذا كان شديد الكراهة قيل لا يجوز ، ويعرف ذلك بالقرائن.

ويستحب أن يكبّر لرفع رأسه من السجود ، بعد التمكن من الجلوس ، وكذلك الراكع يكون قوله سمع اللّه لمن حمده بعد انتصابه قائما ، وأنّه إذا كان تكبيره للدخول في فعل من أفعال الصّلاة ، ابتدأ بالتكبير في حال الابتداء به ، وإذا كان تكبيره للخروج عنه ، جعل التكبير بعد الانفصال عنه ، وحصوله فيما يليه.

وينبغي أن يكون نظر الجالس إلى حجره على ما قدّمناه ، ويقول في الجلسة بين السجدتين : اللّهم اغفر لي ، وارحمني ، وادفع عني ، واجبرني ، إني لما أنزلت إليّ من خير فقير.

ثم يرفع يديه بالتكبير ، ويسجد الثانية على الوصف الذي مضى في الأولة.

ص: 227


1- في المطبوع : وظاهرها مبسوطة.

ثم يرفع رأسه ويكبر ، ويجلس متمكنا على الأرض على ما تقدّم من وصفه ، ثم ينهض إلى الركعة الثانية وهو يقول : بحول اللّه وقوته أقوم وأقعد ، فإذا استوى قائما قرأ الحمد وسورة معها ، فإذا فرغ من القراءة ، بسط كفيه ، حيال صدره ، إلى القنوت ، وجعل باطنهما مما يلي السماء ، وظاهرهما مما يلي الأرض.

ويكون نظره إلى باطنهما ، على ما أسلفنا القول فيه.

والأفضل أن يكون ظاهرهما يلي السماء وباطنهما يلي الأرض في جميع الصلاة إلا في حال القنوت.

وتكون الأصابع مضمومة ، إلا الإبهام ، إلا في الركوع ، فيستحب أن تكون مفرجات الأصابع.

ويكبر للقنوت على أظهر الأقوال ، وبعض أصحابنا يذهب إلى أن تركه أفضل.

والذي ينبغي أن يكون في القنوت على الجملة حمدا لله ، والثناء عليه ، والصلاة على نبيه وآله ، وهو مخيّر بعد ذلك في ضروب الأدعية ، وروي أنّ أفضل ذلك كلمات الفرج (1) ويجوز للقانت أن يدعو لنفسه ، ويسأل حاجته في قنوته ، ويدعو على أعداء الدين ، والظلمة ، والكافرين ، ويسميهم بأسمائهم ، فإنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله ، قنت ودعا على قوم من الكافرين ، وسمّاهم بأسمائهم ، فروي أنّه قال : اللّهم انج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، ( وعياش بن أبي ربيعة ) والمستضعفين من المؤمنين ، وفي بعضها والمستضعفين بمكة ، واشدد وطأتك على مضر ، ورعل ، وذكوان (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : رعل بالراء غير المعجمة المكسورة ، والعين غير المعجمة المسكنة ، واللام ، وذكوان بالذال المعجمة ، وهما قبيلتان من بني سليم.

ص: 228


1- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 7 من أبواب القنوت ، ح 4.
2- مستدرك الوسائل : كتاب الصلاة الباب 10 من أبواب القنوت ، ح 4.

وروي أنّه صلى اللّه عليه وآله دعا أيضا في الصّلاة واستعاذ من فتنة المحيا والممات ، وفتنة المسيح الدجال (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : المسيح بالحاء غير المعجمة ، وسمي مسيحا لأنّ عينه ممسوحة خلقة.

ولا بأس ان تسمّت العاطس وأنت في الصلاة ، يقول يرحمك اللّه ، لأنّه دعاء لا يقطع الصلاة.

ورعل وذكوان والمسيح ، أوردهم شيخنا في مسائل خلافه (2) ، فذكرتهم لئلّا يجري تصحيف ، وكذلك فعل أمير المؤمنين عليه السلام.

والقنوت مستحب في جميع الصلوات الفرض والسنة ، وهو في الفرض آكد ، وفيما يجهر فيه بالقراءة آكد ، وفي المغرب والفجر آكد ، ومحلّه بعد القراءة في الثانية ، وقبل الركوع ، وهو قنوت واحد في الصلاة.

وروي أنّ في الجمعة قنوتين (3) ، والأظهر الأوّل ، لأنّ هذا مروي من طريق الآحاد ، والقنوت الواحد مجمع على استحبابه.

ويجهر به في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة ، ويخافت به فيما يخافت فيه بالقراءة.

وقد روي أنّ القنوت يجهر به على كل حال (4).

فإذا فرغ من قنوته رفع يديه ، وكبر للركوع على ما وصفناه ، وسجد السجدتين ، فإذا جلس من السجدة الثانية متمكنا على ما تقدّم به الوصف ، وضع كفه اليمنى على فخذه اليمنى ، دون ركبتيه ، وكفه اليسرى على فخذه اليسرى دون ركبتيه.

ثم ليقل إن كان مصليا فرضا سوى الفجر : بسم اللّه وباللّه ، والحمد لله ،

ص: 229


1- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 133.
2- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 133.
3- الوسائل : الباب 5 من أبواب القنوت ، ح 5 و 8 و 9.
4- الوسائل : الباب 21 من أبواب القنوت ، ح 1.

والأسماء الحسنى كلها لله ، أشهد أن لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا ، بين يدي السّاعة ، اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، كأفضل ما صلّيت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وإن كان في صلاة الفجر يتشهد كتشهد الذي نذكره ، وفي أثره التسليم.

فإذا فرغ من التشهد الذي ذكرناه ، نهض قائما وهو يقول : بحول اللّه وقوته أقوم وأقعد.

وبعض أصحابنا ينهض إلى الركعات بالتكبير ، لا بحول اللّه وقوته أقوم وأقعد ، وهو مذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه : ولا يكبر للقنوت ، لأنّه جعل في الصّلوات الخمس أربعا وتسعين تكبيرة ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه بخمس وتسعين تكبيرة ، وهو الأظهر في الأقوال والروايات ، فالخلاف بينهما في تكبيرة واحدة ، لأنّ الشيخ المفيد يقول : انا أقوم إلى الثوالث بالتكبير ، فلأربع فرائض ، لهن ثوالث ، ففيهن أربع تكبيرات ، والفجر لا ثالثة لها ، فلا تكبيرة لها ويوافق في أعداد التكبيرات الباقيات في أحوال الصلاة ، ولا يقنت - بالتكبير.

والشيخ أبو جعفر رحمه اللّه يقول : أنا اقنت في الخمس الفرائض ، أمد يدي بالتكبير ، فيهن خمس تكبيرات ، وعدد التكبيرات في الخمس الصلوات خمس وتسعون تكبيرة ، خمس منها تكبيرة الإحرام واجبة ، وتسعون مسنونة ، منها خمس للقنوت ، في الظهر اثنتان وعشرون تكبيرة ، وفي العصر والعشاء الآخرة مثل ذلك ، وفي المغرب سبع عشرة تكبيرة ، وفي الفجر اثنتا عشرة تكبيرة.

ويسبح في الركعتين الآخرتين من الظهر ، والعصر والعشاء الآخرة ، وفي الركعة الثالثة من المغرب عشرة تسبيحات ، على ما مضى القول فيه يقول : « سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه » ثلاث مرات ، ويزيد في الثالثة « واللّه أكبر » ، وإن شاء قرأ الحمد ، والتسبيح أفضل ، على الأظهر من المذهب ،

ص: 230

وبعض أصحابنا لا يفضّل أحدهما على الآخر ، وبعضهم يقول توسطا بين الأخبار ، الحمد أفضل للإمام خاصّة.

فإذا جلس للتشهد الثاني ، قال : التحيات لله ، والصلوات الطيبات الطاهرات الزاكيات الناعمات الغاديات الرائحات المباركات الحسنات لله ، ما طاب وطهر وزكى وخلص ( بفتح اللام ) ونمى أشهد أن لا إله إلا اللّه ، وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله ، أرسله بالحق بشيرا ونذيرا بين يدي الساعة ، وأشهد أنّ الجنة حق ، وأنّ النار حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأنّ اللّه يبعث من في القبور ، وأشهد أنّ ربي نعم الرب ، وأنّ محمّدا صلى اللّه عليه وآله نعم الرسول ، وأشهد أنّ ما على الرسول إلا البلاغ المبين ، اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد ، وبارك على محمد وآل محمّد ، كأفضل ما صلّيت وباركت على إبراهيم وآل إبراهيم إنّك حميد مجيد - والصلاة على محمّد والصلاة على آله واجبتان في التشهدين جميعا ، الأوّل والأخير - السلام عليك أيها النبي ورحمة اللّه وبركاته ، السلام على أنبياء اللّه المرسلين ، وعلى ملائكته المقربين ، السلام على محمّد بن عبد اللّه خاتم النبيّين ، السلام على عباد اللّه الصالحين.

ثم يسلّم تسليمة واحدة مستقبل القبلة ، وينحرف بوجهه قليلا إلى يمينه إن كان منفردا ، أو إماما وإن كان مأموما يسلم تسليمتين ، واحدة عن يمينه على كلّ حال ، واخرى عن شماله ، إلا أن تكون جهة شماله خالية من أحد فيسلّم عن يمينه ويدع التسليم على شماله ، ولا يترك التسليم عن يمينه على كل حال ، كان في تلك الجهة أحد ، أو لم يكن على ما قدّمناه ، والذي ذكرناه من كيفية التشهدين فضل ، لا حرج على تاركه ، وأدنى ما يجزى فيهما ، الشهادتان ، والصلاة على النبيّ صلى اللّه عليه وآله ، والصلاة على آله عليهم السلام.

والتسليم ، الأظهر أنّه مستحب ، وذهب السيد المرتضى رضي اللّه عنه إلى

ص: 231

وجوبه ، وأحتج بما روي عنه عليه السلام من قوله : مفتاحها التكبير وتحليلها التسليم (1).

وهذا أولا خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، خصوصا عند هذا السّيد ، وأيضا لو كان متواترا ، فهو دليل الخطاب ، ودليل الخطاب أيضا عنده وعندنا متروك بدليل آخر ، وأيضا فما روي عنه عليه السلام من قوله : إنّما صلاتنا هذه تكبير وقراءة وركوع وسجود (2) يعارض خبره ، وفيه ما يقويه وهو لفظة « إنما » المحققة المثبتة للمذكور ، النافية لما عداه ، وما ذكر التسليم انّه من جملة صلاتنا ، وأيضا لو كان منها لكان إذا سلّم المصلي ساهيا أو ناسيا في غير موضع التسليم ، لا يجب عليه سجدتا السّهو ، ولا يقطع صلاته به وهذا الا يقوله أحد من أصحابنا.

وما اخترناه مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في نهايته (3) وجمله وعقوده (4) وهو مذهب شيخنا المفيد رضي اللّه عنه ، والأصل براءة الذّمة ، فإن المرتضى قال في الناصريات : ما وجدت لأصحابنا في ذلك نصّا (5) فقد أقرّ أنّه لم يجد لهم في ذلك نصا ولا قولا.

وقد ورد عنهم عليهم السلام انّهم قالوا : اسكتوا عما سكت اللّه عنه (6) وهذا من ذلك.

ويستحب بعد التسليم والخروج من الصلاة أن يكبّر وهو جالس ثلاث تكبيرات يرفع بكل واحدة يديه إلى شحمتي أذنيه ، ثمّ يرسلهما إلى فخذيه في ترسّل واحد.

ص: 232


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب تكبيرة الإحرام ، ح 7. والباب 1 من أبواب التسليم ، ح 8 نقلا بالمعنى.
2- عوالي اللئالي : ج 1 ، ص 421.
3- النهاية : كتاب الصلاة ، باب فرائض الصلاة وسننها.
4- الجمل والعقود : في فصل 9 في ذكر ما يقارن حال الصلاة.
5- الناصريات : المسألة 82 من كتاب الصلاة.
6- عوالي اللئالي : ج 3 ، ص 166.

ثمّ يقول لا إله إلا اللّه وحده وحده وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وأعزّ جنده ، وغلب الأحزاب وحده ، فله الملك وله الحمد ، يحيي ويميت ويميت ويحيي ، وهو حي لا يموت ، بيده الخير ، وهو على كل شي ء قدير.

ثمّ يسبح تسبيح الزّهراء عليها السلام ، وهو أربع وثلاثون تكبيرة ، التكبير أوّل بلا خلاف ، وثلاث وثلاثون تحميدة على الصحيح من المذهب ، وأنّه بعد التكبير ، وقال بعض أصحابنا يجعل التسبيح بعد التكبير ، والأول أظهر في الفتوى والقول ، وثلاث وثلاثون تسبيحة.

ثمّ يصلّي على النبي ، ويستغفر من ذنوبه ، ويدعو بما أحبّ ، ويسجد سجدة الشكر ، وصفتها أن يلصق ذراعيه وجؤجؤه بالأرض ، ويضع جبهته على موضع سجوده ، ثمّ خدّه الأيمن ، ثمّ خده الأيسر ، ثم يعيد جبهته ، ويدعو اللّه في خلال ذلك ، ويسبحه ويعترف بنعمته ، ويجتهد في الشكر عليها.

وقد روي (1) فيما يقال في سجدة الشكر أشياء كثيرة ، من أرادها أخذها من مواضعها ، وأوجزها أن يقول : شكرا شكرا شكرا ويكرر ذلك مرارا ، أدناها ثلاثا ، أو حتى ينقطع النفس ، وإن شاء عفوا عفوا.

وروي أنّ أمير المؤمنين عليه السلام كان يقول إذا سجد : وعظتني فلم أتعظ ، وزجرتني عن محارمك فلم أنزجر ، وغمرتني أياديك فما شكرت ، عفوك عفوك يا كريم (2).

ويستحب له إذا رفع رأسه من السّجود ، أن يضع باطن كفه اليمنى على موضع سجوده ، ثمّ يمسح بها وجهه وصدره.

وهذا التعقيب يستحب في دبر كلّ فريضة ونافلة ، والسجود والتعفير ، إلا

ص: 233


1- الوسائل : الباب 6 من أبواب سجدتي الشكر.
2- الكافي : كتاب الصلاة ، باب السجدة والتسبيح والدعاء فيه ، ح 21.

فريضة المغرب ، فالمستحب أن يكون تعقيبها بهذا الدّعاء ، والسّجود والتعفير ، ما خلا تسبيح الزّهراء ، فإنّه بعد نافلتها ، وبذلك تظاهرت الآثار عن الأئمة الأطهار عليهم السلام ، ومن سجد وعقّب بما ذكرناه كان فاعلا فضلا ، ومن ترك ذلك فلا شي ء عليه.

وسجدة الشكر مستحبة عند تجديد نعم اللّه ، ودفع البلايا والنقم ، وأعقاب الصلوات.

وروي عنه عليه السلام انه لما أتى برأس أبي جهل لعنه اللّه تعالى سجد شكرا لله (1).

وروي (2) أنه رأى نغاشيا فسجد ، والنغاشي بالنّون المضمومة والغين المعجمة المفتوحة والشين المعجمة المكسورة والياء المشدّدة : الرّجل القصر الزري.

باب ذكر أحكام الأحداث التي تعرض في الصّلاة وما يتبع ذلك

كلّ شي ء عرض للإنسان في الصلاة ، على وجه لا يتمكن من دفعه ، وهو مما لا ينقض الطهارة ، كالقي ء ، والرعاف ، فعليه أن يغسله ، ويزيله ، ويعود فيبني على ما مضى من صلاته ، بعد أن لا يكون قد استدبر القبلة ، وزال عن جهتها بالكلية ، أو أحدث ما يوجب قطع الصلاة من كلام أو غيره أو ما يوجب نقض الطهارة من سائر الأحداث إلا أن يكون تكلّم ناسيا في الحال التي يأخذ فيها في إزالة ما عرض له من الرعاف الذي يلزم معه إزالته من ثيابه وبدنه ، وهو أن يكون بلغ درهما فصاعدا.

فإما القي ء ، فلا يجب عليه إزالته ولا انصرافه من صلاته ، لأنّه عندنا طاهر لم يكن عليه شي ء ، وجاز له البناء على ما مضى ، ويجري ذلك مجرى أن يتكلّم في

ص: 234


1- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 182.
2- كتاب الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 182.

الصلاة ناسيا ، وكذلك من سلّم في غير موضع التسليم ناسيا ثمّ تكلم بعد سلامه متعمدا ، لأنّ عمده هاهنا في حكم السهو ، لأنّه لو علم انّه في الصلاة بعد ، لم يتكلم ، فيجب عليه البناء على صلاته على الصحيح من أقوال أصحابنا.

وروي خلاف ذلك ، والعمل على ما قدّمناه ، إلا أن يكون في الحال التي أخذ فيها ليزيل الدم أحدث ما ينقض الطهارة ، فيجب عليه الاستيناف عامدا كان أو ناسيا.

وعلى المصلي أن يدرأ هذه العوارض ما استطاع ، فإذا غلبت وقهرت فالحكم ما ذكرناه.

فإن كان ذلك العارض مما ينقض الطهارة كان على المصلّي إعادة الصلاة سواء كان فعله الناقض للطهارة متعمدا أو ناسيا ، في طهارة مائية أو ترابية على الأظهر من المذهب.

وبعض أصحابنا يقول : يعيد الطهارة ويبني على صلاته ، والصحيح الأوّل ، يعضد ذلك دليل الاحتياط فإنّ الصلاة في الذمّة بيقين فلا تسقط عنها إلا بيقين مثله ، وقد علمنا انّه إذا أعاد الصلاة من أوّلها فقد تيقن براءتها ، وليس كذلك إذا بنى على ما صلاه منها فانّ ذمته ما برئت بيقين ، وإذا أعاد فقد برئت بيقين فوجبت الإعادة.

وأيضا ما روي عنه عليه السلام من قوله : إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في الصلاة فينفخ بين أليتيه فلا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (1) وهذا المحدث الذي كلامنا فيه قد سمع الصوت ووجد الريح فيجب انصرافه عن الصلاة.

فإن قال المخالف : نحن إذا أوجبنا عليه أن ينصرف من الصلاة ليتوضأ ، ثمّ يبني (2) على ما فعله فقد قلنا بموجب الخبر.

ص: 235


1- المستدرك : الباب 1 من نواقض الوضوء ، ح 5 ، مع اختلاف يسير
2- في المطبوع. ويبني

قلنا : الخبر يقتضي انصرافا عن الصلاة ، وأنتم تقولون انّه ما انصرف عنها ، بل هو فيها وإن تشاغل بالوضوء.

وأيضا فقد روي بالتواتر عن النبيّ صلى اللّه عليه وآله أنّه قال : لا صلاة إلا بطهور ، ومن سبقه الحدث فلا طهور له (1) فوجب أن لا يكون في الصلاة ، وأن يخرج لعدم الطهور عنها.

وقد روي أيضا عنه عليه السلام أنّه قال : إذا فسا أحدكم في الصلاة ، فلينصرف وليتوضأ وليعد صلاته (2).

فإن قيل : نحمل هذا الخبر على العمد (3).

قلنا : ظاهر الخبر يتناول العمد وغير العمد ، ولا يجوز أن نخصه إلا بدليل ، وظاهر الأمر الوجوب ، ولا نحمله على الاستحباب إلا بدليل.

والتبسم الذي لا يبلغ حد القهقهة لا يقطعها.

ويردّ المصلّي السّلام إذا سلّم عليه قولا لا (4) فعلا ، ولا يقطع ذلك صلاته ، سواء ردّ بما يكون في لفظ القرآن ، أو بما خالف ذلك إذا أتى بالردّ الواجب الذي تبرأ ذمّته به إذا كان المسلّم عليه قال له : سلام عليكم أو سلام عليك أو السلام عليكم أو عليكم السلام (5) فله أن يرد عليه بأي هذه الألفاظ كان ، لانه ردّ سلام مأمور به ، وينويه ردّ سلام لا قراءة قرآن إذا سلّم الأول بما قدمنا ذكره.

فإن سلّم بغير ما بيّناه ، فلا يجوز للمصلي الردّ عليه ، لأنّه ما تعلّق بذمّته الردّ ، لانّه غير سلام.

وقد أورد شيخنا أبو جعفر رضي اللّه عنه في مسائل خلافه (6) خبرا عن

ص: 236


1- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 1 من أبواب الوضوء ، ح 6.
2- سنن أبي داود : ج 1 كتاب الطهارة ص 53 ح 205.
3- في المطبوع : أو على الاستحباب
4- في المطبوع : أو فعلا.
5- أو عليكم السّلام غير موجود في المطبوع
6- الخلاف : كتاب الصلاة ، المسألة 141.

محمّد بن مسلم قال : دخلت على أبي جعفر عليه السلام وهو في صلاته فقلت : السّلام عليكم. فقال : السّلام عليكم. قلت كيف أصبحت؟ فسكت ، فلما انصرف فقلت له أيردّ السّلام وهو في الصلاة؟ قال : نعم مثل ما قيل له (1) أورد هذا الخبر إيراد راض به ، مستشهدا به ، محتجا على الخصم بصحّته.

فأمّا ما أورده في نهايته (2) فخبر عثمان بن عيسى عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى خبر عثمان بن عيسى فقال : ويردّ المصلّي السّلام على من سلّم عليه ويقول له في الرد : سلام عليكم ، ولا يقول : وعليكم السّلام ، وإن قال له المسلّم : عليكم السّلام ، فلا يرد مثل ذلك بل يقول : سلام عليكم (3).

والأصل ما ذكرناه ، لأنّ التحريم يحتاج إلى دليل.

ولا بأس إن عرض للمصلي الأمر المهم الذي لا يحتمل التأخّر ، فيشير بيده ، أو يتنحنح ، أو يسبّح ، ليفهم مراده بذلك.

وكذلك لا بأس بقتل الحيّة ، أو العقرب ، أو ما جرى مجراهما ممّا يخاف ضرره في الصلاة.

ولا يجوز التكفير في الصلاة ، وهو أن يضع يمينه على يساره ، أو يساره على يمينه في حال قيامه ، فمن فعل ذلك مختارا في صلاته فلا صلاة له.

فإن فعله للتقية والخوف لم تبطل صلاته.

ويستحب التوجه بسبع تكبيرات منها واحدة فريضة ، وهي تكبيرة الإحرام بينهنّ ثلاثة أدعية في جميع الصلوات المفروضات والمندوبات.

وبعض أصحابنا يذهب إلى أنّ هذا الحكم والتوجه بالسبع في سبع مواضع

ص: 237


1- الوسائل : الباب 16 من أبواب قواطع الصلاة ، ح 1 مع اختلاف يسير.
2- النهاية : آخر باب السهو في الصلاة وأحكامه.
3- الوسائل : الباب 16 من أبواب قواطع الصلاة ، ح 2.

فحسب ، في أول كلّ فريضة وفي أوّل ركعة من ركعتي الإحرام ، وفي أوّل ركعة من الوتيرة ، وفي أوّل ركعة من صلاة الليل ، وفي المفردة من الوتر ، وفي أوّل ركعة من نوافل المغرب.

وبعض أصحابنا يقول : في الفرائض الخمس يكون التوجه بالسّبع فحسب.

وبعضهم يقول : لا يكون إلا في الفرائض فحسب.

والأوّل أظهر ، لأنّه داخل في قوله تعالى : ( اذْكُرُوا اللّهَ ذِكْراً كَثِيراً ) (1) وقوله ( ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ) (2) وهذا دعاء ، والمنع يحتاج إلى دليل ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في المبسوط (3) وفي مصباحه (4).

والعمل القليل الذي لا يفسد الصلاة لا بأس به وحده ما لا يسمى في العادة كثيرا ، مثل إيماء إلى شي ء ، أو قتل حيّة أو عقرب ، أو تصفيق أو ضرب حائط تنبيها على حاجة ، وما أشبه ذلك.

وبخلاف ذلك الفعل الكثير الذي ليس من أفعال الصلاة فإنّه يفسدها إذا فعله الإنسان عامدا ، وحدّه ما يسمّى في العادة كثيرا بخلاف العمل القليل ، فإنّ شيخنا أبا جعفر الطوسي رضي اللّه عنه حدّ العمل القليل في المبسوط (5) فقال : وحدّه ما لا يسمى في العادة كثيرا ، فيجب أن يكون حدّ الكثير بخلاف حدّ القليل ، وهو ما يسمى في العادة كثيرا ، مثل الأكل والشرب واللبس وغير ذلك ممّا إذا فعله الإنسان لا يسمّى مصلّيا ، بل يسمّى آكلا وشاربا ، ولا يسمى فاعله في العادة مصلّيا ، فهذا تحقيق الفعل الكثير الذي يفسد الصلاة ، ويورد في الكتب التروك وقواطع الصلاة ، فليلحظ ذلك.

ص: 238


1- الأحزاب : 41
2- غافر : 60
3- المسوط : فصل في تكبيرة الافتتاح وبيان أحكامها.
4- المصباح : التكبيرات السبعة في المواضع السبعة.
5- المبسوط : فصل في ذكر تروك الصلاة وما يقطعها.

باب تفصيل أحكام ما تقدّم ذكره في الصّلاة من المفروض فيها والمسنون وما يجوز فيها وما لا يجوز

والذي ذكرناه في صفات الصلاة يشتمل على المفروض منها والمسنون ، وأنا افصّل كل واحد منهما من صاحبه ليعرف الحقيقة فيه إن شاء اللّه.

المفروض من الصلاة أداؤها في وقتها ، واستقبال القبلة لها ، والنية ، والقيام مع القدرة عليه ، أو ما قام مقامه مع العجز عنه ، وتكبيرة الافتتاح ، والقراءة ، والركوع ، والتسبيح فيه أو الذكر لله ، والسجود والتسبيح فيه ، والتشهدان والصلاة على محمّد وآله فيهما معا ، فمن ترك شيئا من هذا متعمدا بطلت صلاته ، وان كان تركه ناسيا فسنبيّن حكمه في باب السهو إن شاء اللّه تعالى.

ومن ترك الطهارة متعمدا وصلّى وجبت عليه إعادة الصلاة ، فإن تركها ناسيا ثمّ ذكر بعد أن صلّى وجبت أيضا عليه الإعادة.

ومن صلّى بغير أذان وإقامة متعمدا ، كانت صلاته ماضية ، ولم يجب عليه إعادتها.

ومن دخل في صلاة قد حضر وقتها بنيّتها ، ثمّ ذكر أن عليه صلاة فائتة ولم يكن قد تضيّق وقت الحاضرة ، فليعدل بنيته إلى الصلاة الفائتة.

وتكبيرة الافتتاح فريضة على ما ذكرناه ، والتلفظ بها واجب ، وأدنى ذلك أن تسمع أذناه ، وتقديم اللّه على أكبر واجب ، والإتيان بأكبر على وزن أفعل واجب.

فمن تركها متعمدا أو ساهيا وجبت عليه الإعادة.

ومن ترك القراءة متعمدا وجبت عليه الإعادة. والواجب من القراءة ما قدّمناه ، وهو الحمد وسورة أخرى في الأوليين للمختار ، ولا يجزيه غير ذلك.

وإن تركها ناسيا حتى يركع ، لم تجب عليه إعادة الصلاة ، ولا حكم سوى الإعادة.

ص: 239

والركوع واجب في كل ركعة ، وأقلّ ما يجزي من الركوع أن ينحني إلى موضع يمكنه وضع يديه على عيني ركبتيه مع الاختيار ، وما زاد على ذلك في الانحناء فمندوب إليه.

ووضع اليدين على الركبتين ، وتفريج الأصابع ، مندوب غير واجب.

والتسبيح في الركوع أو ما قام مقامه من ذكر اللّه واجب تبطل بتركه متعمدا الصلاة.

وإن تركه ناسيا حتى رفع رأسه ، لم يكن عليه شي ء من اعادة وغيرها.

فمن ترك الركوع ناسيا أو متعمدا بطلت صلاته.

وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا : فإن تركه ناسيا ثمّ ذكر في حال السجود ، وجبت عليه الإعادة ، فإن لم يذكر حتى صلّى ركعة أخرى ودخل في الثالثة ثم ذكر ، أسقط الركعة الاولى وبنى كأنّه قد صلّى ركعتين.

وكذلك إن كان قد ترك الركوع في الثانية وذكر في الثالثة ، أسقط الثانية وجعل الثالثة ثانية وتمم الصلاة ، أورد هذا الخبر الشيخ أبو جعفر رضي اللّه عنه في نهايته (1) وليس بواضح ، والصحيح خلاف ذلك ، وهذا القول يخالف أصول المذهب ، لأنّ الإجماع حاصل على أنّه متى لم تسلم الركعتان الأولتان بطلت صلاته ، وكذلك الإجماع حاصل على أنّ الركوع ركن ، متى أخلّ به ساهيا أو عامدا حتى فات وقته وأخذ في حالة اخرى بطلت صلاته ، وانّما أورد الشيخ هذا الخبر على جهته وإن كان اعتقاده بخلافه ، والاعتذار له ما أسلفناه ، والشيخ يرجع عن هذا الإيراد في جميع كتبه ويفتي ببطلان الصلاة.

والسجود فرض في كل ركعة مرتين ، فمن تركهما أو واحدة منهما متعمدا وجبت عليه الإعادة.

ص: 240


1- النهاية : باب فرائض الصلاة وسننها.

وإن تركهما ناسيا ودخل في حالة اخرى وتقضت حالهما ، مثاله تركهما حتى قام إلى الركوع ثم ذكر وجبت عليه الإعادة.

فإن ترك واحدة منهما ناسيا ، ثم ذكر بعد قعوده أو قيامه قبل الركوع ، عاد فسجد سجدة أخرى ، فإذا فرغ منها قام إلى الصلاة فاستأنف القراءة أو التسبيح إن كان مما يسبح فيه.

فإن لم يذكر حتى يركع مضى في صلاته ثمّ قضاها بعد التسليم وعليه سجدتا السهو ، وليس كذلك حكم من ترك السجدتين بمجموعهما ، لأنّهما بمجموعهما ركن وليس كذلك السجدة الواحدة ، فليلحظ ذلك.

والتسبيح في السجود واجب أو الذكر فيه فمن تركه متعمدا وجبت عليه الإعادة ، ومن تركه ناسيا لم يكن عليه شي ء.

والتشهد في الصلاة واجب ، وأقل ما يجزي فيه أن يقول : أشهد أن لا إله إلا اللّه وأشهد أنّ محمّدا رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، فمن تركهما متعمدا وجبت عليه الإعادة ، ومن تركهما ناسيا أو ساهيا قضاهما ، ولم يجب عليه إعادة الصلاة ، ووجب عليه سجدتا السهو. وكذلك الصلاة على الرسول وعلى الأئمة عليهم السلام ، فمن تركهما متعمدا بطلت صلاته ووجب عليه الإعادة ، ومن تركهما ناسيا قضاهما بعد التسليم ولا شي ء عليه غير القضاء ، بخلاف التشهد ، لأنّ من تركه ناسيا قضاه بعد التسليم ووجب عليه سجدتا السهو.

الكلام في التسليم وهو سنة وليس بفرض

على ما قدّمناه من تركه متعمّدا لا تبطل صلاته.

والتكبيرات السبع مع سائر التكبيرات سنة ما عدا تكبيرة الإحرام على الصحيح من المذهب ، وإن كان بعض أصحابنا يذهب إلى وجوب تكبيرة السجود والركوع وهو سلّار.

ص: 241

ورفع اليدين مع كلّ تكبيرة سنة ، فمن ترك ذلك متعمدا أو ناسيا لم تبطل صلاته ، وإن كان السيد المرتضى رضي اللّه عنه يذهب إلى وجوب رفع اليدين مع كل تكبيرة إن أراد أن يكبر التكبيرات المندوبات ، فإن لم يرد أن يكبر وترك التكبيرات لا يوجب عليه الرفع إلا في تكبيرة الإحرام فحسب ، لأنّه لا بدّ أن يكبرها.

والصحيح أنّ رفع اليدين مع كلّ تكبيرة لا يجب ، سواء كانت التكبيرة واجبة أو مندوبة إليها.

ومن ترك الجهر فيما يجهر فيه ، أو جهر فيما يخافت فيه متعمدا ، وجبت عليه الإعادة ، وإن فعل ذلك ناسيا لم يكن عليه شي ء.

والقنوت في الصلاة كلّها سنة مؤكدة ، فمن تركه متعمدا كان تاركا سنة وفضيلة ، ومن تركه ناسيا ثم ذكره في الركوع قضاه بعد الركوع استحبابا ، فإن لم يذكر إلا بعد الدخول في الركعة الثالثة مضى في صلاته ثمّ قضاه بعد الفراغ من الصلاة.

وجملة الأمر وعقد الباب انّ ما يقارن حال الصلاة على ثلاثة أقسام : أفعال وكيفياتها وتروك ، وكلّ واحد منهما على ضربين : مفروض ومسنون.

فالمفروض على ضربين. ركن وغير ركن ، فالأركان خمسة : القيام مع القدرة أو ما قام مقامه مع العجز عنه ، والنيّة ، وتكبيرة الإحرام ، والركوع ، والسجود.

فمتى أخلّ بالركن عامدا أو ساهيا ولم يذكر حتّى تقضى حاله ودخل في حالة اخرى ، بطلت صلاته ، سواء خرج وقت الصلاة أو لم يخرج ، وسواء كان الركن من الركعتين الأولتين أو الآخرتين ، ولا يلتفت إلى ما يوجد في بعض الكتب بخلاف ذلك ، فهذا حدّ الركن ، وهو انّه متى أخلّ به عامدا أو ساهيا حتى دخل في حالة اخرى بطلت الصلاة ووجبت إعادتها.

وغير الركن من المفروض ينقسم إلى قسمين : إن أخلّ به عامدا حتى دخل في حالة أخرى الحق بالركن ، وإن أخل به ساهيا ينقسم إلى ثلاثة أقسام :

ص: 242

منه ما لا يجب إعادته ولا الإتيان بحكم آخر بدله ، وهو القراءة وتسبيح الركوع والسجود.

ومنه ما يجب إعادته والإتيان بحكم آخر معه ، وهو التشهد وسجدة واحدة من السجدتين.

ومنه ما يجب تركه ، فإن فعله ناسيا أو ساهيا كالكلام والقيام في حال القعود والتسليم في غير موضعه والجلوس في حال القيام فما هاهنا شي ء يجب إعادته ، بل يجب الإتيان بحكم غيره بدله وهو سجدتا السهو ، وسنبيّن مواضعهما وكيفيتهما إن شاء اللّه تعالى.

والكيفيات الواجبات متى ترك المصلي منها شيئا عامدا بطلت صلاته ، وإن تركها ناسيا أو ساهيا فلها أحكام نذكرها في خلال الأفعال إن شاء اللّه.

وأمّا التروك الواجبة فتنقسم إلى قسمين : أحدهما متى فعله الإنسان عامدا بطلت صلاته ، ومتى فعله ناسيا لا تبطل صلاته بل لها أحكام.

والقسم الثاني متى فعله الإنسان عامدا أو ناسيا بطلت صلاته على كل حال ، سواء كانت الصلاة صلاة متيمم أو صلاة متطهر بالماء على الصحيح من المذهب ، وهو جميع نواقض الطهارة ، فمتى أحدث الإنسان ما ينقض الطهارة عامدا كان أو ساهيا وجبت عليه اعادة صلاته.

وما عدا الناقض من التروك إذا فعله عامدا وجبت الإعادة ، وإذا فعله ناسيا أو ساهيا لا يوجب الإعادة ، بل يوجب بعضه سجدتي السهو مثل الكلام ساهيا ، والتسليم في غير موضعه كذلك فإنّه يوجب سجدتي السهو.

فأمّا الكتف الذي هو التكفير فلا يوجب سجدتي السهو إذا فعله ناسيا ، وكذلك حكم الالتفات إلى ما وراءه ، وهكذا حكم الفعل الكثير وحدّه ما لا يسمّى فاعله في العادة مصلّيا على ما حرّرناه فيما مضى وشرحناه ، فليلحظ هذه الجملة ويحصّل معناها ، فإنّها جليلة الخطر والقدر.

ص: 243

باب أحكام السّهو والشّك في الصّلاة

الشك والسهو لا حكم لهما مع غلبة الظن ، لأنّ غلبة الظنّ تقوم مقام العلم في وجوب العمل عليه مع فقدان دليل العلم ، وانّما يحتاج إلى تفصيل أحكام السهو عند اعتدال الظنّ وتساويه.

وقال بعض أصحابنا : وانّما الحكم لما يتساوى فيه الظنون أو الشك المحض ، بخفض كاف الشك ، وضاد المحض على (1) المجرور ، الذي هو لما ، لا على الظنون ، لأنّ الشك ليس هو عددا فيتساوى كالظنون.

إن اعترض معترض على هذا العبارة فقال : الظنّ معلوم وهو تغليب بالقلب لأحد المجوّزين ظاهري التجويز ، وحدّ الشك هو خطور الشي ء بالبال من غير ترجيح لنفيه أو ثبوته ، فقال : الظنّ إذا تساوى في الشي ء ولم يترجح فقد صار شكا ، فانّ هذه حقيقة على ما مضى من حدّه.

فيقال له : لا يمتنع أن يختلف اللفظ وإن كان المعنى واحدا كما قالوا ، وورد في أدعيتنا عن الأئمة عليهم السلام : إيمانا بك وتصديقا بكتابك ، والإيمان هو التصديق ، والتصديق هو الايمان.

وكما قال الشاعر : « وهند أتى من دونها النأي والبعد » والبعد هو النأي ، وقال آخر : كذبا ومينا ، والمين : الكذب ، وقال آخر : أقوى وأقفر بعد أم الهيثم ، وهذا كثير جدّا.

ويمكن أن يقال : إذا كان الحدّان مختلفين فهذا غير هذا ، وهو أنّ الشك المحض غير تساوي الظنون وإن كان حكمهما واحدا في الفقه ، والحكم وهو انّ هاهنا ظنونا غير أنّها متساوية ، وفي المسألة الأخرى شكّ محض ، فالعبارة صحيحة.

ص: 244


1- هكذا في المخطوط والمطبوع وفي النظر أنّه سقط منه عطفا وكانت العبارة عطفا على المجرور إلخ.

والسهو المعتدل فيه الظنّ على ضروب ستة : فأوّلها : ما يجب فيه اعادة الصلاة على كلّ حال. وثانيها : ما لا حكم له ولا مزية لوجوده على عدمه. وثالثها : ما يجب فيه العمل على الغالب في الظن. ورابعها : ما يقتضي التدارك والتلافي في الحال أو بعده فيتدارك بعضه لا جميعه. وخامسها : ما يجب فيه الاستظهار والاحتياط في الصلاة. وسادسها : ما يجب فيه جبران الصلاة.

فأمّا الضرب الأوّل وهو المقتضي للإعادة على كلّ حال فهو أن يسهو في الركعتين الأوليين من كلّ رباعية ، أو يسهو في فريضة الغداة ، أو المغرب.

فإن قيل : إذا قلتم الأوليان من كلّ فريضة فلا حاجة لكم أن تقولوا المغرب ، لأنّ لها أوليين بخلاف فريضة الغداة.

قلنا : لأنّ ثالثة المغرب بمنزلة أوّلة الظهر فلذلك ذكرناها.

أو الجمعة مع الإمام يعني الامام والمأموم جميعا ، أو صلاة السفر ، أو يسهو عن الركوع ثمّ لا يذكره حتى يدخل في حالة السجود بحيث لو كان شاكا فيه ودخل في الحال الثانية لا يلتفت إليه ، أو يسهو عن النية ، أو يسهو عن تكبيرة الافتتاح ثم لا يذكرها حتى يركع ، أو يسهو فيترك السجدتين من ركعة أي ركعة كانت ، سواء كانت من الأوليين أو الآخرتين على الصحيح من المذهب ، لأنّهما بمجموعهما ركن على ما بيّناه ، ومن أخلّ بركن حتى تنقضي حاله فيجب عليه إعادة الصلاة على ما سلف القول فيه ، ثم لا يذكر حتى ينفصل من حال السجود ودخل في حالة اخرى بحيث لو كان شاكا لما وجب عليه شي ء ولا يلتفت إليه.

أو ينقص ساهيا من الفرض شيئا من هذا الفرض ركعة أو أكثر ، أو يزيد شيئا ثمّ لا يذكر ذلك حتى يحدث ما ينقض الطهارة ، أو يزيد في صلاته ركعة.

فأمّا من صلّى الظهر مثلا أربع ركعات وجلس في دبر الرابعة فتشهد لها وصلّى على النبي وآله عليهم السلام ثمّ قام ساهيا عن التسليم ، فصلّى ركعة خامسة ، فعلى مذهب من أوجب التسليم فالصلاة باطلة ، وعلى مذهب من لم

ص: 245

يوجبه ، فالأولى أن يقال : الصلاة صحيحة ، لأنّه ما زاد في صلاته ركعة ، لأنّه بقيامه خرج من صلاته ، وإلى هذا القول يذهب شيخنا أبو جعفر في استبصاره (1) ونعم ما قال.

أو يسهو وهو في حال الصلاة ولم يدر كم صلّى ، ولا حصل شيئا من العدد ، ولم يدر أزاد على الفرض أم نقص.

وكذلك يجب إعادة الصلاة على من سها فدخل فيها بغير طهارة ثم ذكر بعد ذلك ، سواء تقضّى الوقت أو لم يتقض.

وكذلك من صلّى قبل دخول الوقت ساهيا.

ومن صلّى إلى يمين القبلة أو شمالها وذكر والوقت باق ، يجب عليه الإعادة ، فإن علم بعد خروجه فلا اعادة عليه.

وكذلك من كان فرضه الصلاة إلى أربع جهات فصلّى إلى جهة واحدة مع الاختيار والإمكان ومع غير ضرورة ولم تكن تلك الجهة القبلة ثمّ تبين بعد خروج الوقت فإنّه يجب عليه الإعادة.

فأمّا من صلّى صلاة واحدة في حال الضرورة إلى جهة ثم بعد خروج الوقت علم ان كانت الجهة استدبار القبلة ، فبعض أصحابنا يوجب عليه الإعادة على كل حال ، والباقون المحصّلون لا يوجبون الإعادة مع هذه الحال بعد خروج الوقت ، وهذا هو الصحيح الذي تقتضيه أصول المذهب ويشهد به المتواتر من الأخبار ، وقد قدّمنا ذلك وشرحناه ، وهو اختيار السيد المرتضى رضي اللّه عنه في جوابات الناصريات (2).

ومن صلّى في ثوب نجس مع تقدّم علمه بذلك ساهيا فإنّه يجب عليه إعادة الصلاة ، سواء كان الوقت باقيا أو خارجا بغير خلاف.

ص: 246


1- في الاستبصار : ج 1 ، الباب 219 باب من تيقّن انّه زاد في الصلاة.
2- الناصريات : كتاب الصلاة ، مسألة 80.

فأما إذا لم يتقدّم له العلم بنجاسة وذكر بعد خروج الوقت فلا اعادة عليه ، فإن ذكر والوقت باق ، فقد ذهب بعض أصحابنا إلى وجوب الإعادة ، وقال الباقون لا اعادة عليه ، وهو الصحيح ، لأنّ الإعادة فرض ثان يحتاج إلى دليل مستأنف والأصل براءة الذمة من العبادات ، وبهذا القول يفتي شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في جمله وعقوده (1) وفي استبصاره (2) وإن كان في نهايته (3) يورد من طريق الخبر خلاف ذلك ، وقد بيّنا عذره في هذا الكتاب فيما يورده في نهايته ، وقلنا أورده إيرادا لا اعتقادا.

ومن صلّى في مكان مغصوب مع تقدّم علمه بالغصب ، سواء كان الموضع دارا أو بستانا.

فإن قيل : البساتين قد ورد أنّه لا بأس بالصلاة فيها من غير اذن من أصحابها ، وهذا مطلق ، وأصحابنا يفتون بذلك من غير تقييد.

قلنا : لا خلاف في أنّ العموم قد يخصّ بالأدلة ، فقد ورد عاما في البساتين وورد الخاص وهو من صلّى في مكان مغصوب يجب عليه الإعادة ، فإذا عملنا بالخاص فقد عملنا ببعض العام ، وإذا عملنا بالعام فقد تركنا الخاص رأسا ، وهذا يعلم من بناء العام على الخاص ، فليلحظ ذلك.

فإن لم يتقدّم له العلم بالغصب فلا اعادة عليه ، سواء علم قبل خروج الوقت أو بعد خروجه بغير خلاف في هذا.

أو (4) لم يكن مختارا للصلاة فيه فلا اعادة عليه أيضا ، سواء خرج منه والوقت باق أو كان مقتضيا بغير خلاف أيضا.

ومن صلّى في ثوب مغصوب كذلك حرفا فحرفا.

ص: 247


1- الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، في ذكر أحكام السهو ، رقم 5.
2- الاستبصار : كتاب الصلاة ، مسألة 634 و 635.
3- النهاية : كتاب الصلاة ، باب السهو في الصلاة واحكامه. لكن المسألة بخلاف ذلك.
4- في المطبوع : وإن.

ومن سها في صلاة الخسوف والكسوف ، ومن سها في صلاة العيدين إذا كانت واجبة ، ومن سها في صلاة الطواف الواجب ، فجميع ذلك يوجب الإعادة ، لأنّ أصحابنا متفقون على أنّه لا سهو في الأوليين من كل صلاة ، ولا في المغرب ، والفجر ، وصلاة السّفر ، وعلى هذا الإطلاق لا سهو في هذه الصلوات.

وقد ذكر ذلك السيد المرتضى رضي اللّه عنه وذهب إليه في الرسيّات (1).

فأمّا الضرب الثاني من السهو ، وهو الذي لا حكم له ، فهو الذي يكثر ويتواتر ، وحدّه أن يسهو في شي ء واحد ، أو فريضة واحدة ثلاث مرات ، فيسقط بعد ذلك حكمه ، أو يسهو في أكثر الخمس فرائض أعني ثلاث صلوات من الخمس ، كلّ منهن قام إليها فسها فيها ، فيسقط بعد ذلك حكم السهو ، ولا يلتفت إلى سهوه في الفريضة الرابعة.

أو يقع الشك في حال قد تقضّت وأنت في غيرها ، كمن شك في تكبيرة الافتتاح وهو في فاتحة الكتاب ، أو يشك (2) في فاتحة الكتاب وهو في السورة التالية لها ، أو سها في السورة وهو في الركوع.

وقد يلتبس على غير المتأمل عبارة يجدها في الكتب ، وهي من شك في القراءة وهو في حال الركوع ، فيقول : إذا شك في الحمد وهو في حال السورة التالية للحمد ، يجب عليه قراءة الحمد واعادة السورة ، ويحتج بقول أصحابنا : من شك في القراءة وهو قائم قرأ.

فيقال له : نحن نقول بذلك ، وهو أنّه يشك في جميع القراءة قبل انتقاله من سورة إلى غيرها ، فالواجب عليه القراءة ، فأمّا إذا شك في الحمد بعد انتقاله إلى حالة السورة التالية لها فلا يلتفت لأنّه في حال اخرى.

وما أوردناه وقلنا به وصوّرناه ، قد أورده الشيخ المفيد رضي اللّه عنه في

ص: 248


1- رسائل الشريف المرتضى : ج 2 ، ص 386 مسألة 4 من جوابات المسائل الرسية الثانية.
2- في ج وط : أو شك.

رسالته الى ولده ، حرفا فحرفا ، وهو الصحيح الذي تقتضيه أصول مذهبنا.

أو يشك في الركوع وهو في حال السجود ، أو يشك في السجود بعد انفصاله من حاله وقيامه إلى الركوع.

وهذا الحكم في جميع أبعاض الصلاة ، إذا شكّ في شي ء من ذلك بعد أن فارقه وانفصل عنه ، فكلّ هذه المواضع لا حكم للسّهو فيها ، اللّهم إلا أن يستيقن فيعمل على اليقين ، ولا حكم أيضا للسّهو في النافلة (1) ، وكذلك لا حكم للسهو في السهو.

أو يشك في التشهد الأول وقد قام إلى الثالثة ، ومن سها عن تسبيح الركوع وقد رفع رأسه.

فأما من قال من أصحابنا وأورد في بعض كتبه في هذا القسم : ومن ترك ركوعا في الركعتين الآخرتين ، وسجد بعده ، حذف السجود ، وأعاد الركوع ، ومن ترك السجدتين في واحدة منهما ، بنى على الركوع في الأول ، وسجد السجدتين ، فهو اعتماد منه على خبر من أخبار الآحاد ، لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه ، ولا يترك لأجله أصول المذهب ، وهو أنّ الركن إذا أخلّ به عامدا أو ساهيا وذكره بعد تقضي حاله ووقته ، فإنّه يجب عليه اعادة صلاته بغير خلاف ، ولا خلاف في أنّ الركوع ركن ، وكذلك السجدتين بمجموعهما على ما شرحناه من قبل وبيناه.

فإن قيل : ذلك في الركوع من الأولتين ، وكذلك سجدتا الأوليين.

قلنا : هذا تخصيص بغير دليل.

وأخبار الآحاد غير أدلة تخصّص بها العموم ، بغير خلاف بين أصحابنا قديما وحديثا ، إلا ما يذهب إليه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في بعض كتبه ، وإن كان في أكثر كتبه يزيّف القول بأخبار الآحاد ، ويردّ القول بها في الاحتجاج ، ويقول : لا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد ، وهو الحقّ اليقين الذي

ص: 249


1- ليس في ج : « ولا حكم أيضا للسهو في النافلة ».

إطباق الطائفة عليه خلفا وسلفا ، يعيبون الذاهبين إلى خلافه أشدّ عيب ، على ما بيّناه في خطبة كتابنا هذا عن المرتضى رضي اللّه عنه وغيره من أصحابنا ، ومن خالف من أصحابنا في شي ء ، وكان معروف العين ، فلا يلتفت إلى خلافه ، لأنّ الحجّة في غير قوله ، لأنّه من المعلوم انّه غير معصوم ، والحجّة في قول المعصوم ، فليلحظ ذلك.

وأمّا الضرب الثالث من السهو ، وهو الذي يعمل فيه على غالب الظن ، فهو كمن سها فلم يدر صلّى اثنتين أم ثلاثا ، وغلب على ظنّه أحد الأمرين ، فالواجب العمل على ما غلب في ظنّه ، واطراح الأمر الآخر.

وكذلك إن كان شكّه بين الثلاث والأربع ، والاثنتين والأربع ، أو غير ذلك من الأعداد ، بعد أن يكون اليقين حاصلا بالأولتين ، فالواجب في جميع هذا الشك العمل على ما هو أقوى وأغلب في ظنه ، وأرجح عنده.

وكذلك إذا سها وهو قائم ، فلم يدر أركع أم لم يركع ، وغلب على ظنه أنّه لم يركع ، واعتراه وهم ضعيف أنّه ركع ، وجب عليه البناء على الأغلب وفعل الركوع ، وكذلك إن كان الأغلب انّه قد ركع ، بنى عليه ، وكذلك القول في السجود ، والتشهد ، وسائر الأفعال ، إذا التبس أمرها ، وكان الظن قويا في إحدى الجهات ، انّ الواجب عليه العمل على الأغلب في الظن والأقوى.

وأمّا الضرب الرابع من السهو وهو المقتضي للتلافي في الحال ، كمن سها عن قراءة فاتحة الكتاب حتى ابتدأ بالسورة التي تليها ، ثم ذكر ، فيجب عليه أن يتلافى ذلك بقطع السورة ، والابتداء بالفاتحة ، ثم يعود إلى السورة ، أو إلى غيرها ، وهذا القول يعضد ما قدّمناه.

ولا يتوهم أنّ هذا عين المسألة التي قدّمناها وقلنا : إنّ من شك في الحمد وهو في السورة التالية لها ، فلا يلتفت إلى شكه ، ويمضي فيما أخذ فيه ، لأنّ هاهنا ذكر بعد سهوه وشكه ، وما قلناه لما أخذ في السورة التالية ما ذكر أنّ الحمد لم

ص: 250

يقرأها ، بل شكّ في ذلك ، وما تيقن ، ولا ذكر أنّه لم يقرأ الحمد ، فليتأمّل ذلك.

وكذلك إن كان سها عن تكبيرة الافتتاح ، وذكرها وهو في القراءة قبل الركوع ، فعليه أن يكبّرها ، ثم يقرأ.

وكذلك إن سها عن الركوع ، وذكر أنّه لم يركع ، وهو قائم فعليه أن يركع.

وكذلك إن نسي سجدة من السجدتين ، وذكرها في حال القيام قبل أن يركع ، وجب عليه أن يرسل نفسه فيسجدها ، ثم يعود إلى القيام ، فإن لم يذكرها حتى يركع الثانية ، وجب عليه أن يقضيها بعد التسليم ، ويسجد سجدتي السهو على ما سنذكره.

وكذلك إن سها عن التشهد الأول حتى قام ، وذكره في حال القيام ، فعليه أن يجلس ، ويتشهد ، ثم يرجع الى القيام.

وكذلك إن سلّم ساهيا في الجلوس للتشهد الأخير ، قبل أن يتشهّد ، أو قبل أن يصلّي على النبيّ وعلى آله عليهم السلام ، وذكر ذلك وهو جالس ، من غير أن يتكلّم ، أو قد تكلّم ، لا فرق بين الأمرين ، فعليه أن يعيد التشهد ، أو ما فاته منه ، ويسجد سجدتي السهو ، لأنّه سلّم في غير موضع التسليم.

وأمّا الضّرب الخامس من السهو ، وهو الموجب للاحتياط للصلاة ، فكمن سها ، فلم يدر أركع أم لم يركع ، وهو قائم لم يركع ، وتساوت في ذلك ظنونه ، فعليه أن يركع ، ليكون على يقين.

فإن ركع ، ثم ذكر وهو في حال الركوع أنّه كان ركع ، فعليه أن يرسل نفسه إلى السجود إرسالا ، من غير أن يرفع رأسه ، ولا يقيم صلبه.

فإن كان ذكره أنّه قد كان ركع بعد القيام من الركوع والانتصاب ، كان عليه إعادة الصلاة ، لزيادته فيها ركوعا ، وسواء كان هذا الحكم في الركعتين الأوليين ، أو الركعتين الأخريين ، على الصحيح من الأقوال ، وهذا مذهب السيد المرتضى رضي اللّه عنه ، والشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في جمله

ص: 251

وعقوده (1).

وقال في نهايته : ومن شك في الركوع أو السجود في الركعتين الأوليين أعاد الصلاة ، فإن كان شكّه في الركوع في الثالثة أو الرابعة وهو قائم ، فليركع ، فإن ذكر في حال ركوعه انّه كان قد ركع ، أرسل نفسه إلى السجود ، من غير أن يرفع رأسه فإن ذكر بعد رفع رأسه من الركوع أنّه كان قد ركع ، أعاد الصلاة (2) فخص الإرسال بالركعتين الأخريين.

والصحيح ما ذهب إليه في الجمل والعقود (3) ، لأنّه موافق لأصول المذهب ، لأنّ الإنسان إذا شك في شي ء قبل الانتقال من حاله ، فالواجب عليه الإتيان به ، ليكون على يقين ، ولا يجوز له هدم فعله وإبطال صلاته.

وقال في هذا الكتاب أيضا : فإن شك في السجدتين وهو قاعد أو قد قام قبل أن يركع عاد فسجد السجدتين ، فإن ذكر بعد ذلك أنّه كان قد سجدهما ، أعاد الصلاة ، فإن شك بعد ما يركع مضى في صلاته ، وليس عليه شي ء.

وقال أيضا : فإن شكّ في واحدة من السجدتين وهو قاعد أو قائم قبل الركوع ، فليسجد ، فإن ذكر بعد ذلك أنّه كان سجد لم يكن عليه شي ء ، فإن كان شكّه فيها بعد الركوع ، مضى في صلاته وليس عليه شي ء (4).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : هذا الذي حكيته عن الشيخ أبي جعفر رضي اللّه عنه في نهايته مخالف لما ذهب إليه في جمله وعقوده ، ولما عليه أصول المذهب والعمل والفتوى من فقهاء العصابة ، لأنّ هذه المسائل من القسم الذي لا حكم له ، وهو من شك في شي ء وقد انتقل إلى حالة اخرى ، مثاله من شكّ في تكبيرة الافتتاح وهو في حال القراءة أو في القراءة ، وهو في حال الركوع ، أو في الركوع وهو في حال السجود ، أو شك في السجود وهو في حال القيام ، أو في

ص: 252


1- الجمل والعقود : في فصل 11 من كتاب الصلاة في ذكر أحكام السهو.
2- النهاية : كتاب الصلاة ، باب السهو في الصلاة وأحكامه.
3- الجمل والعقود : في فصل 11 من كتاب الصلاة في ذكر أحكام السهو.
4- النهاية : كتاب الصلاة ، باب السهو في الصلاة وأحكامه.

التشهد الأول وقد قام إلى الثالثة.

وهذا مذهب أصحابنا بأجمعهم لا خلاف بينهم في ذلك ، وهذا أيضا مذهبه في الجمل والعقود (1) والمبسوط (2) والاقتصاد (3) وسائر كتبه.

وقد بيّنا وجه الاعتذار له في غير موضع ، واعتذر أيضا هو لنفسه عما يوجد في كتاب النهاية في خطبة المبسوط ، على ما أومأنا إليه من قبل ، وقال : قد أوردت الألفاظ على جهتها ولم أغيّر شيئا منها ، وذكرت ما ورد من الأخبار.

وقلنا : إنّه رضي اللّه عنه أورده أيضا إيرادا لا اعتقادا لصحته ، والفتوى والعمل به ، فهذا وجه الاعتذار له ، وإلا كيف يقول من شك في السجدتين وهو قاعد أو قد قام قبل أن يركع عاد فسجدهما ، ولا خلاف في أنّه إذا شك فيهما بعد قيامه وانفصاله من حال السجود ، لا يلتفت إلى شكه ، وكان وجود شكه كعدمه بغير خلاف ، بل إذا كان شكه في السجدتين في حال سجوده وجلوسه قبل قيامه ، فإنّه يجب عليه أن يسجدهما ، ليكون على يقين من براءة ذمته ، لأنّ حالهما ما تقضّت ، فأمّا إذا قام من حال السجود ، ثم شك فيهما لا يلتفت إلى الشك ، ولا يرجع عن يقينه بشكه ، لأنّه ما قام إلا بعد يقينه بسجودهما ، فإذا لا فرق بين أن يشك فيهما بعد ركوعه ، أو بعد قيامه ، وقبل ركوعه ، فليلحظ ذلك ، وكذلك قوله إن شك في واحدة من السجدتين وهو قاعد أو قائم قبل الركوع ، فليسجد ، أمّا سجوده وهو قاعد ، فصحيح ، وأمّا وهو قائم ، فليس بصحيح ، على ما بيّناه وحققناه ، فليتأمل ، ولا يقلّد إلّا الأدلة ، دون المسطور ، عاد القول إلى تمام الضرب الخامس.

وكذلك إن سها فلم يدر أسجد اثنتين أم واحدة ، وقد رفع رأسه قبل القيام ، فعليه أن يسجد واحدة ، حتى يكون على يقين من الاثنتين ، فإن سجدها

ص: 253


1- الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، في ذكر أحكام السهو فصل 11.
2- المبسوط : كتاب الصلاة ، في أحكام السهو والشك في الصلاة.
3- الاقتصاد : كتاب الصلاة ، فصل في حكم السهو صفحة 266 الطبع الحديث.

ثم ذكر انّه قد كان سجد سجدتين ، وجب عليه إعادة الصلاة ، لمكان زيادته فيها ركنا.

وإن سها فلم يدر اثنتين صلّى أم ثلاثا ، وتكافت في ذلك ظنونه وأوهامه ، فعليه أن يبني على الثلاث ، ويتمّم صلاته ، ثم يأتي بعد سلامه بركعتين ، من جلوس ، يقومان مقام ركعة واحدة من قيام ، فإن كان بانيا على النقصان ، كان فيما فعله تمام صلاته ، وإن كان بنى على الكمال ، كانت الركعتان نافلة ، وإن شاء بدلا من الركعتين من جلوس ، أن يصلّي ركعة من قيام ، يتشهد فيها ويسلّم ، جاز له ذلك ، فبكل واحد من الأمرين جاءت الرواية.

فإن كان سهوه وشكّه بين الثلاث والأربع ، وتساوت ظنونه ، فحكمه ما ذكرناه بعينه.

فإن سها بين اثنتين وأربع ، وتساوت ظنونه ، فليبن على أربع فإذا سلّم ، قام فصلّى ركعتين ، يقرأ في كلّ واحدة منهما فاتحة الكتاب ، أو يسبّح فيهما ويتشهد ويسلم ، فإن كان الذي بنى عليه ركعتين ، فهاتان الركعتان تمام صلاته ، وإن كان الذي بنى عليه أربعا ، كانت هاتان له نافلة.

وإن كان سهوه بين ركعتين وثلاث وأربع ، بنى على الأربع وتشهد وسلّم ، ثمّ قام فصلى ركعتين من قيام ، فإذا تشهد وسلّم منهما ، صلّى ركعتين من جلوس ، فإن كان الذي بنى عليه على الحقيقة أربع ركعات ، كان ما صلاة نافلة ، وإن كان اثنتين ، فالركعتان اللتان من قيام تمام صلاته ، واللتان من جلوس نافلة ، وإن كان ثلاثا ، فالركعتان من جلوس ، وهما مقام واحدة من قيام فيها ، تمام الصلاة ، والركعتان من قيام نافلة ، وهذا المسمى بالاحتياط.

وجملة الأمر فيه وعقد بابه ، أنّ مسائله أربع في الفريضة فحسب ، وجميعها عند شكه وتساوي ظنونه ، أعني ظنون المصلي يبني على أكثر ركعاته ، وأكثر صلاته ، على ما سطره مصنّفو أصحابنا رحمهم اللّه ، ولا ينتظر (1) شيئا آخر ، ولا

ص: 254


1- في ط وج ولا يسطرون.

يصلّي ركعة أخرى ويسلّم ، إلا في مسألة واحدة من الأربع لا يسلم وقت شكه وتساويه ، بل الواجب عليه الإتيان بما بقي عليه ، وهي الركعة المتيقنة ، فإذا أتى بها ، فالواجب عليه السلام والإتيان بعد السّلام بركعة احتياطا ، وهي من شكّ بين الاثنتين والثلاث ، فلا يجوز له هاهنا أن يسلّم قبل الإتيان بالركعة المتيقنة ، لأنّه قاطع على أنّه بقي عليه ركعة من فريضته.

فإن قيل : فما بنى على الأكثر. قلنا : قد بنى على الأكثر ، وهي الثلاث ، وصلاته رباعية ، والثلاث أكثر من الاثنتين ، فهو متيقّن أنّه قد بقي عليه ركعة قبل سلامه.

وأيضا هذا الحكم أعني الاحتياط بعد التسليم بالركعات ، لا يكون إلا في الصلوات الرباعيات مع سلامة الأولتين.

فأصحابنا يقولون يبنى على الأكثر ، ويسلّم ، ويعنون بذلك ، كأنّه قد صلّى الأربع ، بحيث يسلّم بعد الأربع لا قبل الأربع ، لأن محل السّلام في الرباعيات بعد الأربع ، فلأجل هذا قالوا يبني على الأربع ، بحيث أنّه إذا لم يبن على الأربع فكيف يجوز له أن يسلّم قبل تمام الصلاة متعمدا ، ومن سلّم قبل تمام صلاته متعمدا بطلت صلاته؟ فقالوا : يبني على الأربع ، أي كأنّه في الحكم قد فرغ من جميع ركعاته وصلاته ويسلّم بعد ذلك ، فيكون السلام في محلّه ، ثم بعد التسليم يبني على الأقل ، كأنّه ما صلّى إلا ركعتين ، أو كأنّه ما صلّى إلا ثلاثا ، ليكون على يقين من براءة ذمّته ، فقبل سلامه يبنى على الأكثر ، لأجل التسليم ، على ما نبهنا عليه ، وبعد التسليم يبني على الأقل ، كأنّه ما صلّى إلا ما تيقنه وما شك فيه يأتي به ليقطع على براءة ذمّته.

وقد قال السيد المرتضى رحمه اللّه في جوابات المسائل الناصريات (1) المسألة الثانية والمائة ، قال صاحب المسائل : من شك في الأولتين استأنف الصلاة ،

ص: 255


1- المسائل الناصريات : كتاب الصلاة ، المسألة 102.

ومن شكّ في الأخريين بنى على اليقين ، قال المرتضى : هذا مذهبنا ، وهو الصحيح عندنا.

ألا ترى إلى قوله رضي اللّه عنه : بنى على اليقين ، إن أراد بنى على اليقين بعد سلامه ويصلّي ما تساوت ظنونه فيه وتوهمه ، فقول صحيح محقق على ما بيّناه ، وإن أراد وقت شكه وقبل سلامه فهذا ، بخلاف عبارة أصحابنا ، لأنّهم يقولون يبني على الأكثر ويسلّم ، والأكثر هو ما توهمه ، ولم يقطع عليه ، فيبني كأنّه قد صلاه بحيث يسلّم ، ولو بنى هاهنا على اليقين ، لما سلّم ، ولا كان يجوز له التسليم ، لأنّ يقينه ثابت في الركعتين الأولتين فحسب ، وهو في شك ممّا عداهما ، فلو بنى عليهما ، لما سلّم ولأتى بما بقي عليه ، بعد قطعه على يقينه قبل سلامه وانفصاله بسلامه منها ، فليلحظ ذلك بعين التأمل الصافي.

وركعات الاحتياط تجب فيها النية ، احتياطا واجبا قربة إلى اللّه ، وتجب فيها تكبيرة الإحرام.

ومن أحدث بعد سلامه وقبل صلاة الاحتياط ، فإنّه لا يفسد صلاته ، بل يجب عليه الإتيان بالاحتياط ، لأنّ هذا ما أحدث في الصلاة ، بل أحدث بعد خروجه من الصلاة بالتسليم ، والاحتياط حكم آخر متجدد غير الصلاة الأولة ، وإن كان من توابعها ومتعلقاتها.

فإن شك وهو قائم هل قيامه الذي هو فيه للركعة الرابعة أو للركعة الخامسة ، فإنّه يجب عليه الجلوس من غير ركوع ، فإذا جلس تشهد وسلّم وقام بعد سلامه فصلّى ركعة احتياطا ، وقد برئت ذمّته ، ولا يجوز له أن يركع في حال قيامه قبل أن يجلس ، لأنّه لا يأمن أن يكون قد صلّى أربعا ، فيكون ركوعه زيادة في صلاته ، فتفسد الصلاة.

فإن قيل : لا يأمن أن يكون قد صلّى أربعا. قلنا : قد تمت صلاته ، وصلاته لركعة الاحتياط بعد تسليمه ، غير مفسدة لها ، لأنّها منفصلة عنها بالتسليم.

ص: 256

فإن قيل : فلم لا يجزيه سجدتا السهو ، ولا يجب عليه ركعة الاحتياط. قلنا : مواضع سجدتي السهو محصورة مضبوطة ، وليس هذا واحدا منها ، ولنا في ذلك مسألة ، قد جنحنا الكلام فيها ، وفرّعناه ، وسألنا أنفسنا عما تعرض ، وبلغنا فيها أبعد الغايات.

وأمّا الضرب السّادس من السهو ، وهو ما يجب فيه جبران الصلاة ، فهو كمن سها عن سجدة من السجدتين ، ثم ذكرها بعد الركوع في الثانية ، فعليه أن يمضي في صلاته ، فإذا سلّم قضى تلك السجدة ، وسجد بعدها سجدتي السهو ، وقد روي (1) في هذا الموضع أنّه يقضي السجدة ، وليس عليه سجدتا السهو.

ومن نسي التشهد الأول ثم ذكره بعد الركوع في الثالثة ، فعليه ، أن يمضي في صلاته ، فإذا سلّم قضاه ، بأن يتشهد ثمّ يسجد سجدتي السهو.

فإن نسي الصلاة على محمّد وآله ، دون التشهد ، حتى جاوز محله ووقته ، فلا اعادة عليه ولا قضاؤه ، لأنّ حمله على التشهد قياس لا نقول به ، فليلحظ ذلك ويحصّل ويتأمّل.

ومن تكلّم في صلاته ساهيا ، بما لا يكون مثله في الصلاة ، فعليه سجدتا السهو.

ومن سلّم في غير موضع التسليم ساهيا ، فعليه سجدتا السهو.

ومن قعد في حال قيام أو قام في حال قعود فعليه سجدتا السهو.

ومن سها فلم يدر أربعا صلّى أم خمسا وتساوت ظنونه في ذلك فعليه سجدتا السهو.

فإن قيل : الجبران لا يكون إلا فيما يقطع المصلّي على أنّه فعله أو تركه ناسيا ، فيجبر فعله ذلك بسجدتي السهو ، وليس هو مثل الاحتياط ، فكيف القول في مسألة من سها بين الأربع والخمس.

قلنا أيضا : المصلي قاطع على الأربع ، ويشك في الركعة الخامسة ، فقد صار

ص: 257


1- الوسائل : الباب 14 من أبواب السجود ، ح 4 و 6.

قاطعا على الأربع ، وفي شك من الخمس ، فما خلا من القطع.

فإن سها المصلي في صلاته بما يوجب سجدتي السهو مرات كثيرة ، في صلاة واحدة ، أيجب عليه بكلّ مرّة سجدتا السهو ، أو سجدتا السهو عن الجميع؟

قلنا : إن كانت المرات من جنس واحد ، فمرّة واحدة يجب سجدتا السهو ، مثلا تكلم ساهيا في الركعة الأوّلة ، وكذلك في باقي الركعات ، فإنّه لا يجب عليه تكرار السجدات ، بل يجب عليه سجدتا السهو فحسب ، لأنّه لا دليل عليه ، وقولهم عليهم السلام : من تكلّم في صلاته ساهيا يجب عليه سجدتا السهو (1) ، وما قالوا دفعة واحدة أو دفعات.

فأمّا إذا اختلف الجنس ، فالأولى عندي بل الواجب ، الإتيان عن كلّ جنس بسجدتي السهو ، لأنّه لا دليل على تداخل الأجناس ، بل الواجب إعطاء كلّ جنس ما تناوله اللفظ ، لأنّ هذا قد تكلّم مثلا ، وقام في حال قعود ، وأخل بإحدى السجدتين ، وشك بين الأربع والخمس ، وأخل بالتشهد الأول ، ولم يذكره إلا بعد الركوع في الثالثة ، وقالوا عليهم السلام : من فعل كذا يجب عليه سجدتا السهو ، ومن فعل كذا في صلاته ساهيا يجب عليه سجدتا السهو ، وهذا قد فعل الفعلين فيجب عليه امتثال الأمر ، ولا دليل على تداخلهما ، لأنّ الفرضين لا يتداخلان بلا خلاف من محقق.

وهما سجدتان بعد التسليم ، على الصحيح من المذهب ، سواء كانتا لزيادة في الصلاة أو لنقصان - وبعض أصحابنا يذهب إلى أنّهما إن كانتا لنقصان ، كانتا قبل التسليم ، وإن كانتا لزيادة كانتا بعد التسليم ، والأول أظهر - بغير ركوع ، ولا قراءة ، ولا تكبيرة الإحرام ، بل لا بدّ من النية للوجوب.

والذي يقال في كل واحدة منهما : بسم اللّه وباللّه اللّهم صلّ على محمّد وآل

ص: 258


1- الوسائل : الباب 4 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

محمّد ، وإن شاء قال مكان ذلك : بسم اللّه وباللّه السّلام عليك أيّها النبي ورحمة اللّه بالجميع وردت الرواية (1)

ثم يرفع رأسه ، ويتشهد تشهدا خفيفا ، ومعنى ذلك أن يأتي بالواجب من الألفاظ فحسب ، ويسلّم بعده.

ولا بدّ من الكون على طهارة إذا فعلهما ، فإن أحدث قبل الإتيان بهما وبعد سلامه ، لا يجب عليه اعادة صلاته ، بل يجب عليه التطهّر ، وفعلهما ، ولنا فيهما مسألة قد جنحنا الكلام فيها وأشبعناه وانتهينا في ذلك إلى الغاية القصوى.

وبين أصحابنا فيما يوجب سجدتي السهو خلاف ، فذهب بعضهم إلى أنّها أربع مواضع ، وقال آخرون في خمس مواضع ، وقال الباقون الأكثرون المحققون في ست مواضع ، وهو الذي اخترناه ، لما فيه من الاحتياط ، لأنّ العبادات يجب أن يحتاط لها ، ولا يحتاط عليها.

وقد بينا انّه إذا سها عن التشهد الأول ولم يذكره حتى ركع في الثالثة ، فالواجب عليه المضي في صلاته ، فإذا سلّم منها قضاه وسجد سجدتي السهو ، فإن أحدث بعد سلامه وقبل الإتيان بالتشهد المنسيّ وقبل سجدتي السهو ، فلا تبطل صلاته بحدثه الناقض لطهارته ، بعد سلامه منها ، لأنّه بسلامه انفصل منها ، فلم يكن حدثه في صلاته ، بل بعد خروجه منها بالتسليم الواجب عليه.

فإذا كان المنسي هو التشهد الأخير ، وأحدث ما ينقض طهارته قبل الإتيان به ، فالواجب عليه اعادة صلاته من أوّلها ، مستأنفا لها ، لأنّه بعد في قيد صلاته ، لم يخرج منها ، ولا فرغ بسلام يجب عليه ، بل ما فعله من السلام ساهيا في غير موضعه ، كلا سلام ، بل هو في قيد الصلاة بعد ، لم يخرج منها بحال ، فليلحظ الفرق بين المسألتين والتسليمين ، فإنّه واضح للمتأمّل المحصّل.

ص: 259


1- الوسائل : الباب 20 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

باب القول في لباس المصلّي والقول في أماكن الصّلاة وما يجوز أو تكره الصلاة إليه أو عليه وما يتعلق بذلك

كل مصلّ من الذكران يجب عليه ستر عورتيه ، وهما قبله ودبره ، وقد روي أنّ عورة الرجل ما بين سرّته إلى ركبتيه (1) ، وقد ذهب إلى ذلك بعض أصحابنا ، وهو الفقيه ابن البراج ، وهو مذهب الشافعي ، والإجماع من فقهاء أهل البيت على المذهب الأول ، وهو القبل والدبر فحسب ، وما عدا ذلك فندب مستحبّ ، وبعضه أفضل من بعض ، وأكمل من الجميع التجمّل في الصلاة بلبس جميل الثياب وأن يكون معمّما محنكا مسرولا مرتديا برداء.

فأمّا العريان فإن قدر على ما يستر به عورته من خرق أو ورق أو حشيش أو طين يطلي به ، وجب عليه أن يسترها ، فإن لم يقدر على ذلك ، صلّى قائما ، مؤميا بالركوع والسجود ، سواء كان بحيث لا يطلع عليه غيره ، أو بحيث يطلع عليه غيره ، وقد روي أنّه إن كان بحيث يطلع عليه غيره ، صلّى جالسا مؤميا (2).

فإن كانوا جماعة صلوا صفا واحدا من جلوس بلا خلاف ، ويتقدّمهم إمامهم بركبتيه.

وأمّا المرأة الحرّة البالغة ، فإنّه يجب عليها ستر رأسها وبدنها من قرنها إلى قدمها ، ولا يجب عليها ستر الوجه والكفين والقدمين ، فان سترت ذلك كان أفضل ، والأولى لها ستر جميع بدنها ما خلا وجهها فحسب ، وإلى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل الخلاف (3) والجمل والعقود (4) وبه افتي ، لعموم الأخبار.

ص: 260


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب آداب الحمّام.
2- الوسائل : الباب 50 من أبواب لباس المصلي ، ح 3 و 5 و 7.
3- الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 144 الا انه لم يذكر فيه القدمين.
4- الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، في فصل ستر العورة.

والفضل لها في ثلاثة أثواب ، مقنعة وقميص ودرع.

وأمّا الأمة فلا يجب عليها ستر رأسها ، سواء كانت مطلقة أو مدبرة ، أو أم ولد ، مزوجة كانت أو غير مزوجة ، أو مكاتبة مشروطة عليها ، فأمّا ما عدا الرأس فإنّه يجب عليها تغطيته من جميع جسدها.

والصبية التي لم تبلغ فلا يجب عليها تغطية الرأس ، وحكمها حكم الأمة ، فإن بلغت في خلال الصلاة بالحيض ، بطلت صلاتها ، وإن بلغت بغير ذلك وجب عليها ستر رأسها ، وتغطيته مع قدرتها على ذلك ، وكذلك حكم الأمة إذا أعتقت في خلال الصلاة.

ولا بأس بالصلاة في قميص واحد ، إذا كان يستر ظاهر الجلدة ، ولا يشف ولا يصف ما تحته.

ويستحب له إذا صلّى مؤتزرا بغير قميص أن يلقي على كتفه شيئا ولو كالخيط ، ومن كان عليه قميص يشفّ ، فالأولى أن يأتزر تحته ، ولا يجعل المئزر فوقه ، فإنّه مكروه.

ولا بأس أن يصلّي الرجل في إزار واحد ، يأتزر ببعضه ويرتدي بالبعض الآخر.

ويكره السدل في الصلاة ، كما تفعل اليهود ، وهو أن يتلفف بالإزار ، ولا يرفعه على كتفيه ، وهذا تفسير أهل اللغة في اشتمال الصماء ، وهو اختيار السيد المرتضى رضي اللّه عنه.

فأمّا تفسير الفقهاء لاشتمال الصماء الذي هو السدل ، قالوا هو أن يلتحف بالإزار ، ويدخل طرفيه من تحت يده ، ويجعلهما جميعا على منكب واحد.

وكذلك يكره التوشح بالإزار فوق القميص.

ويكره الصلاة في القباء المشدود ، إلا من ضرورة ، في حرب أو غيرها.

ويجوز الصلاة في ثمانية أجناس من اللباس : القطن ، والكتان ، وجميع ما ينبت من الأرض من أنواع الحشيش والنبات ، ووبر الخز الخالص لا جلده ؛

ص: 261

لأنّ جلد ما لا يؤكل لحمه لا يجوز الصلاة فيه بغير خلاف من غير استثناء ، وكذلك صوف ووبر وشعر ما لا يؤكل لحمه ، إلا وبر الخز ، والصوف والشعر والوبر إذا كان ممّا يؤكل لحمه ، سواء كان مذكّى ما أخذ منه ، أو غير مذكى ، وجلد ما يؤكل لحمه إذا كان مذكّى ، فإن كان ميتا ، فلا تجوز الصلاة فيه ، ولو دبغ ألف دبغة.

وينبغي أن يجمع شرطين ، أحدهما جواز التصرف فيه ، إمّا بالملك أو الإباحة ، والثاني أن يكون خاليا من نجاسة لم يعف الشارع عنها ، كالدّم الذي قدّمناه.

ولا تجوز الصلاة في جلد ما لا يؤكل لحمه ، سواء كان مذكّى ، أو لم يكن كذلك ، ولا في وبره ولا صوفه ولا شعره أيضا ، إلا وبر الدابة المسماة بالخز فحسب.

فأمّا جلد ما لا يؤكل لحمه ، فلا تجوز الصلاة فيه بغير استثناء ، على ما قدّمناه ، فعلى هذا لا تجوز الصلاة في السمّور والسنجاب والفنك والثعالب والأرانب وغير ذلك ، وقد يوجد في بعض كتب أصحابنا أنّه لا بأس بالصلاة في السنجاب ، ذكره في النهاية (1) شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه وعاد عن ذلك في مسائل الخلاف فقال : لا تجوز الصلاة عندنا في جلد ما لا يؤكل لحمه ، ثمّ قال : وقد وردت رواية (2) في السنجاب (3) فجعل ذلك رواية.

ورجع عن ذلك أيضا في الجزء الثاني من نهايته ، في باب ما يحل من الميتة ويحرم من الذبيحة ، فقال : لا تجوز الصلاة في جلود السباع كلّها ، مثل النمر ، والذئب ، والفهد ، والسبع ، والسمّور والسنجاب ، والأرنب ، وما أشبه ذلك من السباع ، والبهائم ، وقد رويت (4) رخصة في جواز الصلاة في السمّور والسنجاب والفنك (5).

ص: 262


1- النهاية : في فصل ما يجوز الصلاة فيه من الثياب والمكان.
2- الوسائل : الباب 3 من أبواب لباس المصلي ، ح 3.
3- الخلاف : في مسألة 256 من كتاب الصلاة
4- في ط وج : وردت.
5- النهاية : وقال في ذاك الموضع - والضرب الآخر يجوز استعماله إذا ذكي ودبغ غير انه لا يجوز الصلاة فيه وهي جلود السباع كلها مثل النمر والذئب والفهد والسبع والسمور والسنجاب والأرنب إلخ.

والأصل ما قدّمناه ، فجعل ذلك هاهنا رواية.

ولا يجوز الصلاة في الإبريسم المحض للرجال ، ولا بأس بما كان ممزوجا بغير الإبريسم الذي يجوز الصلاة فيه ، سواء كان السدي ، أو اللحمة ، أو أقلّ ، أو أكثر ، بعد أن يكون ينسب إليه بالجزئية كعشر وتسع وثمن وسبع وأمثال ذلك.

ويجوز الصلاة في الإبريسم المحض للنساء ، وإن تنزهن عنه كان أفضل.

وتكره الصلاة في الثوب المشبع الصبغ.

وكذا تكره في الثوب الذي عليه الصور والتماثيل من الحيوان ، فأمّا صور غير الحيوان فلا بأس ، ولا كراهة في ذلك ، كصور الأشجار.

ويجوز الصلاة في الخف والنعل العربية ، يعني كل نعل لا يغطي ظاهر القدم ، ممّا يجوز المسح عليها.

ولا بأس بالصلاة في الجرموق ، بضم الجيم وهو الخف الواسع الذي يلبس فوق الخف ، أقصر منه.

وعلى المصلّي أن يكون ثوبه وبدنه ومصلّاه خاليا من النجاسات وجوبا ، إلّا مصلّاه على طريق الندب ، ولا يجوز الصلاة في ثوب فيه شي ء من النجاسة ، قليلا أو كثيرا سوى الدم الّذي قدمنا شرحه.

وإذا غسل الثوب من الدم ، فبقي أثر النجاسة بعد زوال عين ما أتى عليه الغسل ، جازت الصلاة فيه.

ويستحب صبغه بشي ء يذهب أثره على ما قدّمناه.

ولا يجوز الصلاة في ثوب فيه خمر ، أو شي ء من الأشربة المسكرة ، وكذلك الفقاع.

وما لا تتم الصلاة فيه - من جميع الملابس ، وما ينطلق عليه اسم الملبوس منفردا ، كالتكة والجورب بفتح الجيم ، والقلنسوة بفتح القاف واللام وضمّ

ص: 263

السين ، والخف ، والنعل ، والخاتم ، والدملج بضمّ الدال واللام ، للمرأة ، والخلخال ، والمنطقة ، وغير ذلك ، مثل السيف والسكين - تجوز الصلاة فيه ، وإن كان عليه نجاسة وأمّا ما لا يكون ملبوسا ، ولا ينطلق اسم الملبوس عليه ، لا تجوز الصلاة فيه إذا كان فيه نجاسة ، لأنّه يكون حاملا للنجاسة ، والأوّل خرج بالإجماع من الفرقة على ذلك.

ولا يظن ظان أنّه لا يجوز إلا في التكة والجورب والقلنسوة والخف والنعل فحسب ، لما نجده في بعض الكتب.

وذلك أنّ أصحابنا قالوا : كل ما لا يتم الصلاة به منفردا تجوز الصلاة فيه وإن كان عليه نجاسة ، ثم ضربوا المثل فقالوا : مثل التكة والخف ، وعددوا أشياء على طريق ضرب المثل ، والمثل عند المحققين غير مستوعب للممثل ، فلا يتوهم انّهم لمّا لم يذكروا غير ما ذكروا ممّا لا تجوز الصلاة فيه منفردا واقتصروا عليه أنّهم يمنعون من غيره - فقد قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة في كتاب صلاة الخوف : إذا أصاب السيف الصقيل نجاسة ، فمسح ذلك بخرقة من أصحابنا من قال أنّه يطهر ، ومنهم من قال لا يطهر ، غير أنّه يجوز الصلاة فيه ، لأنّه لا تتم الصلاة فيه منفردا - فلو أرادوا الاقتصار على ما ضربوا المثل فيه لما قال ذلك ، ولما تعداه إلى غيره ، فليلحظ فإنما أوردت هذا تنبيها.

ويجوز الصلاة في جميع الأراضي ، لأنّ الأرض كلّها مسجد يجوز الصلاة فيها ، إلا ما كان منها مغصوبا ، أو يكون موضع السجود منه نجسا.

وأفضل الأماكن للصلاة المساجد المبنية لها ، إلا نافلة صلاة الليل خاصّة ، فإنّها تكره في المساجد.

وتكره الصلاة في وادي ضجنان ، وهو جبل بتهامة ، ووادي الشقرة بفتح الشين وكسر القاف وهي واحدة الشقر وهو شقائق النعمان ، قال الشاعر : « وعلى الخيل دماء كالشقر » يريد كشقايق النعمان.

ص: 264

والأولى عندي أن وادي الشقرة ، موضع بعينه مخصوص ، سواء كان فيه شقائق النعمان ، أو لم يكن ، وليس كل وادي يكون فيه شقائق النعمان يكره الصلاة فيه ، بل بالموضع المخصوص فحسب ، وهو بطريق مكة ، لأنّ أصحابنا قالوا : يكره الصلاة في طريق مكة بأربعة مواضع ، من جملتها وادي الشقرة ، والذي ينبه على ما اخترناه ، ما ذكره ابن الكلبي في كتاب الأوائل وأسماء المدن ، قال : زرود والشقرة ابنتا يثرب بن قابية بن مهليل (1) بن رام بن عبيل (2) بن عوض بن ارم بن سام بن نوح عليه السلام هذا آخر كلام ابن الكلبي النسابة ، فقد جعل زرود والشقرة موضعين سمّيا باسم امرأتين ، وهو أبصر بهذا الشأن.

والبيداء ، لأنّها أرض خسف على ما روي في الأخبار ، أنّ جيش السفياني ، يأتي إليها قاصدا مدينة الرسول صلى اللّه عليه وآله وسلم فيخسف اللّه تعالى به تلك الأرض (3) ، وبينها وبين ميقات أهل المدينة الذي هو ذو الحليفة ميل واحد وهو ثلاث فرسخ فحسب.

وكذلك يكره الصلاة في كل أرض خسف ، ولهذا كره أمير المؤمنين عليه السلام ، الصلاة في أرض بابل (4) فلمّا عبر الفرات إلى الجانب الغربي وفاته لأجل ذلك أوّل الوقت ، ردّت له الشمس إلى موضعها في أول الوقت ، وصلّى بأصحابه صلاة العصر ، ولا يحل أن يعتقد انّ الشمس غابت ، ودخل الليل ، وخرج وقت العصر بالكلية ، وما صلّى الفريضة عليه السلام ، لأنّ هذا من معتقده جهل بعصمته عليه السلام ، لأنّه يكون مخلا بالواجب المضيّق عليه ، وهذا لا يقوله من عرف إمامته واعتقد عصمته عليه السلام.

وذات الصلاصل ، والصلاصل جمع صلصال وهي الأرض التي لها صوت ودوي.

ص: 265


1- ج : مهلهل
2- في ط وج : عقيل.
3- الوسائل : الباب 23 من أبواب مكان المصلي.
4- أورده في الوسائل : في الباب 38 من أبواب مكان المصلي ، ح 1.

وبين المقابر على الصحيح من المذهب.

وأرض الرمل المنهال الذي لا تستقر الجبهة عليه ، وأرض السبخة بفتح الباء ، فأمّا إذا كان نعتا للأرض كقولك الأرض السبخة ، فبكسر الباء ، فليلحظ هذا الفرق ، فإنّه ذكره الخليل بن أحمد رحمه اللّه في كتاب العين ، وهو ربّ ذلك وجهبذه.

ومعاطن الإبل ، وهي مباركها ، حول المياه للشرب ، هذا حقيقة المعطن عند أهل اللغة ، إلا انّ أهل الشرع لم يخصّصوا ذلك بمبرك دون مبرك.

وقرى النّمل ، وجوف الوادي ، ومجاري المياه ، فعلى هذا الصلاة في الزورق ، تكره مع القدرة على الجدد.

وجوادّ الطرق بتشديد الدّال والحمّامات ، ما عدا البيت المسمّى بالمسلخ ، فإنّه ليس بحمّام لعدم الاشتقاق.

وتكره الفريضة جوف الكعبة خاصّة ، ويستحب صلاة النوافل فيها ، وقال بعض أصحابنا : لا تجوز الصلاة الفريضة مع الاختيار في جوف الكعبة على طريق الحظر ، ذهب إلى ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي في مسائل الخلاف (1) وإن كان في نهايته (2) ، وجمله وعقوده (3) ، يذهب إلى ما اخترناه ، وهو الصحيح لأنّه إجماع الطائفة ، ولا دليل على بطلان الصلاة ، ولا حظرها في الكعبة.

ويستحب أن يجعل بينه وبين ما يمر به ساترا ولو عنزة ، والعنزة العصا التي لها زجّ حديد ولا تسمّى عنزة إلا أن يكون لها زج حديد ، وتكون قائمة مغروزة في الأرض ، هذا إذا خاف اعتراض ما يعترض بينه وبين الجهة التي يؤمّها ، أو حجرا ، أو كومة - بضمّ الكاف - من تراب.

ص: 266


1- الخلاف : مسألة 168 من كتاب الصلاة.
2- النهاية : في باب ما يجوز الصلاة فيه من الثياب والمكان.
3- الجمل والعقود : في فصل فيما يجوز الصلاة عليه من المكان.

وليس يقطع صلاته مرور إنسان ، أو امرأة أو غيرهما من الدواب ، معترضا لقبلته ، وعليه أن يدرأ ذلك ما استطاع بالتسبيح والإشارة.

ويكره للرجل أن يصلّي وامرأة تصلي متقدمة له ، أو محاذية لجهته ، ولا يكون بينه وبينها عشرة أذرع ، على الصحيح من المذهب.

وقد ذهب بعض أصحابنا إلى حظر ذلك ، وبطلان الصلاتين وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1) اعتمادا على خبر (2) رواه عمار الساباطي ، وعمار هذا فطحي المذهب ، كافر ملعون ، والأوّل مذهب السيد المرتضى رحمه اللّه ، ذكره في مصباحه ، وهو الصحيح الذي يقتضيه أصول المذهب ، لأنّ قواطع الصلاة مضبوطة ، قد ضبطها مشيخة الفقهاء بالعدد ، ومن جملتهم شيخنا أبو جعفر ، قد ضبط ذلك بالحصر ، ولم يذكر المسألة ولا تعرض لها بقول ، وأيّ فقه ونظر يقتضي أنّ المرأة تصلّي في ملكها والرجل يصلّي في ملكه وهو آخر الأوقات وتكليف الصلاة عليهما جميعا تكليف مضيّق ، أو هما في محمل كذلك يكون الصلاة باطلة ، وإذا لم يكن عليها إجماع ، ولا دليل قاطع ، فردها إلى أصول المذهب هو الواجب ، ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، خصوصا إذا أوردها ورواها الكفّار ومخالفو المذهب مثل عمّار وغيره.

وقد روى الثقات ما يخالف هذه الرواية الضعيفة ، ويضادها ويعارضها ، فالعامل بأخبار الآحاد لا يعمل بالخبر إلا إذا كان راويه عدلا.

ولا بأس أن يصلّي الرجل وفي جهة قبلته إنسان نائم ، ولا فرق بين أن يكون ذكرا أو أنثى ، والأفضل أن يكون بينه وبينه ما يستر بعض المصلّي عن المواجهة.

ولا يجوز السجود إلا على الأرض الطاهرة ، وعلى ما أنبتته ، إلا ما أكل أو

ص: 267


1- النهاية : في باب ما يجوز الصلاة فيه من الثياب والمكان.
2- الوسائل : الباب 7 من أبواب مكان المصلي ، ح 1.

لبس ، ويدخل في المأكول جميع الثمار التي يتغذى بها ، وما لبس انّما هو القطن والكتان وما اتخذ منهما.

وعقد الباب (1) انّ السجود لا يجوز إلا على الأرض ، أو ما أنبتته الأرض ، ما لم يكن مأكولا أو ملبوسا بمجرى العادة.

ولا يجوز السجود على الزجاج ، ولا على جميع المعادن ، من النّورة ، والحديد ، والصفر ، والنحاس ، والذهب ، والفضة ، والقار ، والرصاص ، والعقيق ، وغير ذلك من المعادن.

ولا يجوز السجود على الرياش ، ولا على الجلود ، ولا على الرماد ، ولا على الحصر المنسوجة بالسيور ، وهي المدينة ، إذا كانت السيور ظاهرة ، تقع الجبهة عليها ، فإن كانت السيور غير ظاهرة ، والنبات ظاهرا فلا بأس بها ، وصارت كغيرها من الحصر.

ولا بأس بالسجود على القرطاس ، ويكره المكتوب لمن يراه ويحسن القراءة ، لأنّه ربما شغله عن صلاته ، وما خرج عن معنى الأرض وما أنبتته (2) إلا ما استثنيناه فلا يجوز السجود عليه ، وذكر جميعه يطول.

وقد ذهب بعض أصحابنا وقال : لا يجوز الصلاة في ثوب قد أصابته نجاسة ، مع العلم بذلك ، أو غلبة الظن ، فمن صلّى فيه والحال ما وصفناه وجبت عليه الإعادة أمّا قوله « مع العلم » فصحيح ، وأمّا قوله « أو غلبة الظن » فغير واضح ، لأنّ الأشياء على أصل الطهارة ، فلا يرجع عن هذا الأصل إلا بعلم ، فأمّا بغلبة ظن ، فلا يرجع عن المعلوم بالمظنون.

ويكره الصلاة في الثياب السود كلّها ولا يكره في العمامة السوداء ، ولا الخف الأسود.

ص: 268


1- في المطبوع : وجملة الأمر وعقد الباب
2- ج : ما أنبتته الأرض وما استثنيناه.

ويكره ان يصلّي الإنسان في عمامة لا حنك لها ، وهذا هو الاقتعاط ، « بالقاف والتاء المنقطة نقطتين من فوق ، والعين غير المعجمة ، والطاء غير المعجمة » ، المنهي عنه في الحديث ، يرويه المخالف والمؤلف قد ذكره أبو عبيدة القسم بن سلام في غريب الحديث.

فأمّا الصلاة في الثوب الذي يكون تحت وبر الثعلب ، أو الثوب الذي فوقه ، فجائزة ، لأنّ هذه الأوبار طاهرة ، ولو كانت نجسة لما تعدّت نجاستها إلى الثوب ، لقوله عليه السلام : ما بين يابسين من نجاسة (1) وقد يوجد في بعض الكتب أنّه لا يجوز الصلاة في الثوب الذي يكون تحت وبر الثعلب ، ولا الذي فوقه ، أورد ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (2) على جهة الإيراد لا الفتوى ، والاعتقاد.

ولا يجوز الصلاة في القلنسوة ، والتكة ، إذا عملا من وبر الأرانب.

وتكره الصلاة فيهما إذا عملا من حرير محض.

وتكره الصلاة إذا كان مع الإنسان شي ء من حديد مشهور ، مثل السكين ، والسيف.

وإذا عمل كافر من أيّ أجناس الكفار ، مجوسيّا كان أو غيره ، ثوبا لمسلم ، لا تجوز الصلاة فيه إلا بعد غسله.

وقد أورد شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : وإذا عمل مجوسي ثوبا لمسلم ، يستحب أن لا يصلي فيه إلا بعد غسله (3) وهذا خبر من أخبار الآحاد ، أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، بل اعتقاده وفتواه ما ذكره في مبسوطة أنّه لا يجوز الصلاة فيه إلا بعد تطهيره (4) وأيضا إجماع أصحابنا منعقد ، على أن أسئار جميع الكفّار

ص: 269


1- لم نجد حديثا بهذه العبارة فيما بأيدينا من كتب الأحاديث.
2- النهاية : باب ما يجوز الصلاة فيه من الثياب والمكان.
3- النهاية : باب ما يجوز الصلاة فيه من الثياب والمكان.
4- المبسوط : في فصل فيما يجوز الصلاة فيه من اللباس.

نجسة ، بغير خلاف بينهم.

ويكره أن تصلّي المرأة وفي يدها خلاخل لها صوت ، أو رجلها ، على ما روي في بعض الأخبار (1).

ويكره الصلاة في الخاتم الذي فيه صورة حيوان.

ويكره الصلاة في بيوت النيران ، والخمور ، وبيوت المجوس ، والبيع ، والكنائس.

ويكره أن يصلّي وفي قبلته نار مضرمة.

ويكره صلاته وفي قبلته سلاح مشهور ، كل ذلك على سبيل الكراهة دون الحظر والتحريم ، وإن كان قد ورد في ألفاظ أخبار الآحاد انّه لا يجوز الصلاة في شي ء من ذلك (2) ، لأنّه لا دليل على بطلان الصلاة من كتاب ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع.

وقد ورد ما يعارض تلك الأخبار ، قال عبد اللّه بن جعفر الحميري في كتابه قرب الإسناد : سأل عليّ بن جعفر أخاه موسى بن جعفر عن الخاتم ، يكون فيه نقش تماثيل سبع أو طير ، أيصلي فيه؟ قال : لا بأس (3) وقد قلنا أنّ الشي ء إذا كان شديد الكراهة يأتي بلفظ لا يجوز ، وإذا كان شديد الاستحباب يأتي بلفظ الوجوب ، وانّما يعرف ذلك بشواهد الحال وقرائنها.

ولا تجوز الصلاة في المكان المغصوب مع تقدّم العلم بذلك ، والاختيار على ما ذكرناه ، سواء كان الغاصب أو غيره ، مع علمه ، وكذلك لا يجوز الصلاة في الثوب المغصوب ، مع تقدّم العلم بذلك ، فان تقدّم العلم بالغصب للمكان والثوب ، ثم نسي ذلك وسها العالم بهما وقت صلاته ، فلا اعادة عليه ، وحمله

ص: 270


1- الوسائل : الباب 62 من أبواب لباس المصلي ، ح 1 مع اختلاف يسير.
2- الوسائل : الباب 30 من أبواب مكان المصلي.
3- الوسائل : الباب 32 من أبواب مكان المصلي ، ح 10.

على النجاسة في الثوب ، وتقدّم العلم بها ، قياس محض ، ونحن لا نقول به ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : رفع عن أمّتي الخطأ ، والنسيان ، وما استكرهوا عليه (1) ولعمري إنّ المراد بذلك أحكام النسيان ، فمن أوجب الإعادة فما رفع عنه الأحكام ، ولو لا إجماع أصحابنا المنعقد على إعادة صلاة من تقدّم علمه بالنجاسة ونسيها ، لما أوجبنا الإعادة عليه ، وليس معنا ، فيما نحن فيه ، ذلك الإجماع ، ولا يلتفت إلى ما يوجد ، إن وجد في بعض المصنّفات لرجل من أصحابنا معروف ، فليلحظ ذلك ، فالعامل بذلك مقلّد لما يجده في بعض المختصرات (2).

ومن اضطر إلى الصلاة فوق الكعبة ، فليقم قائما عليها ويصلي ، وقد روي : فليستلق على قفاه ، وليتوجّه إلى البيت المعمور ، وليؤم إيماء (3).

ويكره أن يصلّي وفي قبلته مصحف مفتوح.

وإذا خاف الإنسان الحرّ الشديد من السجود على الأرض ، أو على الحصى ، ولم يكن معه ما يسجد عليه ، لا بأس أن يسجد على كمّه ، فإن لم يكن معه ثوب ، سجد على كفّه.

وإذا حصل في موضع فيه ثلج ، ولم يكن معه ما يسجد عليه ، ولا يقدر على الأرض ، لم يكن بالسجود عليه بأس ، بعد أن يصلّبه بيده.

ويكره للإنسان الصلاة وهو معقوص الشعر ، فإن صلّى كذلك متعمدا ، جازت صلاته ، ولا يجب عليه الإعادة وقد روي أنّه يجب عليه إعادة الصلاة (4) قال بذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه وأصول المذهب يقتضي أن لا اعادة عليه ، لأنّ الإعادة فرض ثان ، وهذا خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد عند أصحابنا غير معمول عليها ، ولا يلتفت

ص: 271


1- الوسائل : الباب 37 من أبواب قواطع الصلاة
2- ج : كتب المختصرات.
3- الوسائل : الباب 17 من أبواب القبلة ، ح 7 مع اختلاف يسير.
4- الوسائل : الباب 36 من أبواب لباس المصلي ، ح 1.

إليها ، وكررنا القول في ذلك ، والإجماع غير حاصل على بطلان الصلاة ، وقواطعها مضبوطة ، محصورة ، قد حصرها فقهاء أصحابنا ، ولم يعدّدوا في جملة ذلك الشعر المعقوص للرجال ، بل سلار قال في رسالته : ويكره الصلاة في شعر معقوص (1).

باب أحكام قضاء الفائت من الصّلوات

كلّ صلاة فريضة فاتت ، إمّا للنسيان أو غيره من الأسباب ، فيجب قضاؤها في حال الذكر لها ، من غير توان في سائر الأوقات ، إلا أن يكون آخر وقت فريضة حاضرة يغلب فيه على ظنّ المصلّي أنّه متى شرع في قضاء الفائتة خرج الوقت ، وفاتت الصلاة الحاضر وقتها ، فيجب أن يبدأ بالحاضرة ، ويعقّب بالفائتة ، والأوقات التي ذكرناها أنّ النهي تناولها ، يجب فيها قضاء الصلاة المفروضة ، عند الذكر لها ، وانّما يكره فيها ابتداء النوافل ، ومتى لم يخش ضيق الوقت الحاضر عن قضاء الماضية ، وصلاة الوقت ، وجب تقديم قضاء الصّلاة الفائتة ، والتعقيب بصلاة الوقت.

والترتيب واجب في قضاء الصلوات ، يبدأ بقضاء الأوّل ، فالأوّل ، سواء دخل في حدّ التكرار ، أو لم يدخل ، فإن لم يكن يتسع الوقت لقضاء جميع الفوائت ، وخشي من فوت صلاة الوقت ، بدأ بما يتسع الوقت له ، من القضاء على الترتيب ، ثمّ عقّب بصلاة الوقت ، وأتى بعد ذلك بباقي القضاء فإن صلّى الحاضر وقتها قبل تضيّق الوقت يجب أن يكون ما فعله غير مجزئ عنه ، وان يجب عليه اعادة تلك الصلاة ، في آخر وقتها ، لأنّه منهي عن هذه الصلاة ، والنهي يقتضي الفساد وعدم الإجزاء ، ولأنّ هذه الصلاة أيضا مفعولة في غير وقتها المشروع لها ، لأنّه إذا ذكر أن عليه فريضة فائتة ، فقد تعيّن عليه بالذكر أداء

ص: 272


1- المراسم كتاب الصلاة ، عند ذكر احكام لباس المصلّي.

تلك الفائتة ، في ذلك الوقت بعينه ، وقد تعيّن الوجوب وضاق ، فإذا صلّى في هذا الوقت غير هذه الصلاة ، كان مصلّيا لها في غير وقتها المشروع لها ، فيجب عليه الإعادة لا محالة.

فإن قيل : وجوب الإعادة يحتاج إلى دليل. فقد ذكرنا الدليل على ذلك.

فإن قيل : فقد أوقعها مكلّفها بنيّتها المخصوصة ، وأتي بجميع أحكامها ، وشروطها في وقت يصح فعلها فيه بإجماع ، فاعادتها بعد فعلها على هذا الوجه يحتاج إلى دليل.

قيل له : لا نسلّم أنّه أوقع هذه الصلاة على جميع شرائطها المشروعة ، وفي وقت يصح فعلها فيه ، لأنّ من شرط هذه الصلاة مع ذكر الفائتة ، أن يؤدّي بعد قضاء الفائتة ، فالوقت الذي أداها فيه وقت لم يضرب لها الآن ، وإن كان يصحّ أن يكون وقتا لها لو لم يذكر الفائتة ، وهذا ممّا لا شبهة فيه للمتأمّل ، وأيضا فالفائتة وقتها مضيّق ، والإتيان بها بعد الذكر لها ، واجب مضيّق ، والمؤداة قبل تضيّق وقتها ، الإتيان بها واجب موسّع له بدل وهو العزم على أدائه قبل تضيّق وقته وخروجه ، والفائت واجب مضيّق لا بدل له ، فالواجب فعل الفائت المضيّق الذي لا بدل له ، وترك الواجب الموسّع الذي له بدل يقوم مقامه ، إلى أن يتضيق وقته ، وكل ما منع من الواجب المضيّق ، فهو قبيح بغير خلاف ، والمؤداة تمنع من الواجب المضيّق ، ففعلها لا يجوز ، لأنّه قبيح منهي عنه ، مثاله ردّ الوديعة بعد مطالبة صاحبها بها ، فإنّه واجب مضيّق ، فلما زالت الشمس طالب بالوديعة صاحبها المودّع ، فقام إلى صلاة الظهر ليصلّيها بعد مطالبة صاحبها بها ، فإذا صلّى والحال ما وصفناه ، فإنّ صلاته باطلة بلا خلاف ، لأنّه عدل من فعل واجب مضيّق إلى فعل واجب موسّع ، فمنع من الواجب المضيّق ، فكان قبيحا على ما قررناه ، ولنا في المضايقة كتاب خلاصة الاستدلال ، على من منع من صحة المضايقة بالاعتلال ، بلغنا فيه إلى أبعد الغايات ، وأقصى النهايات ، بسطنا القول فيه ، وجنحناه وتغلغلنا في شعابه ، وذكرنا فيه ما لم يوجد في كتاب بانفراده ، فمن

ص: 273

أراد الوقوف عليه فليطلبه من حيث أرشدناه.

ومن عليه صلوات كثيرة لا يمكنه قضاؤها إلا في زمان طويل ، فالواجب أن يقضيها في كلّ زمان ، إلا في وقت فريضة حاضرة يخاف فوتها متى تشاغل بالقضاء ، فيقدّم حينئذ أداء الحاضرة ، ثم يعود إلى التشاغل بالقضاء ، فإن كان محتاجا إلى تعيّش يسدّ به جوعته وما لا يمكنه دفعه من خلته (1) كان ذلك الزمان الذي يتشاغل فيه بالتعيّش ، مستثنى من أوقات القضاء ، كما استثنينا منها زمان الصلاة الحاضرة وقتها مع تضيّقه ، ولا يجوز له الزيادة على مقدار الزمان الذي لا بدّ منه في طلب ما يمسك الرمق ، وانّما أبحنا له العدول عن القضاء الواجب المتعيّن لضرورة التعيّش ، فيجب أن يكون ما زاد عليها غير مباح ، وحكم من عليه فرض نفقة في وجوب تحصيلها كحكم نفقته في نفسه. فأمّا فرض يومه وليلته في زمان التعيّش ، فلا يجوز له أن يفعله إلا في آخر الوقت ، كما قلناه من قبل ، فانّ الوجه في ذلك لا يتغيّر بإباحة التعيّش ، فأمّا النوم فيجزي ما يمسك الحياة منه في وجوب التشاغل به مجرى ما يمسك الحياة من الغذاء وتحصيله.

وإذا دخل المصلّي في صلاة العصر ، فلمّا صلّى بعضها ذكر أنّ عليه صلاة الظهر ، فالواجب عليه نقل نيّته إلى صلاة الظهر ، ونوى أنّ ما صلاه ويصلّيه إنّما هو عن الظهر ، ويصلّي العصر بعدها ، وكذلك إن صلّى من المغرب بعضها وذكر أنّ عليه صلاة العصر ، أو صلّى من العشاء الآخرة ركعة أو ما زاد عليها وذكر أنّ عليه المغرب يجب عليه نقل النيّة ، فإن لم يفعل بطلت الصلاة التي افتتحها ، وما أجزأت عن التي ذكرها ، لأنّه لم يصلّها بنيتها.

ومن نسي صلاة فريضة من الخمس وأشكل عليه أيها هي بعينها ، فليصلّ اثنتين وثلاثا وأربعا بثلاث تكبيرات إحرام ، وثلاث نيات ، فإن كان الذي

ص: 274


1- ج : طلبه. ط : علّته.

فاته الفجر كانت الركعتان عنها ، لأنّه نوى بهما الفجر ، وإن كانت المغرب فالثلاث عنها ، لأنّه نوى بها المغرب ، وإن كان الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة فالأربع بدل عنها ، لأنّه نوى الذي فاته ، وعلمه اللّه تعالى ، لأنّ تعيينه ليس في مقدوره ، بل ينوي أصلّي إن ظهرا فظهر ، وإن عصرا فعصر ، وإن عشاء آخرة الذي فاتني (1) فعشاء آخرة.

فإن كان فاتته تلك الصلاة مرات كثيرة فعل ذلك وصلّى اثنتين وثلاثا وأربعا مرّات كثيرة ، إلى أن يغلب على ظنه براءة ذمّته ، وأنّه قد قضى ما فاته ، هذا في حقّ الحاضر ومن في حكمه من المسافرين.

فأمّا المسافر إذا فاتته صلاة من الخمس ولم يدر أيّها هي ، فالواجب عليه أن يصلّي الخمس صلوات ، الظهر ركعتين والعصر كذلك ، والعشاء الآخرة كذلك ، والمغرب ثلاث ركعات ، والفجر ركعتين ، وحمل ذلك على المسألة المتقدّمة قياس وهو باطل عندنا ، ولو لا الإجماع المنعقد على عين تلك المسألة ، لما قلنا به ، لأنّ الصلاة في الذمّة بيقين ، ولا تبرأ إلا بيقين مثله ، ولم يورد ويجمع أصحابنا إلا على صورة المسألة وتعيينها في حقّ من فرضه اربع ركعات من الحاضرين ومن في حكمهم ، فالتجاوز عن ذلك قياس بغير خلاف ، وفيه ما فيه فليلحظ ذلك.

ومن فاتته الخمس بأجمعها ، فليصلّها بأجمعها ، مرتبا لها ، بخمس نيات ، وخمس تكبيرات إحرام ، وسبع عشرة ركعة ، عددا إن كان حاضرا ، وإن كان مسافرا وقد فاتته في حال سفره ، فإحدى عشرة ركعة.

فإن فاته ذلك مرارا كثيرة ، وأيّاما متتابعة ، ولم يحصها عددا ، ولا أيّاما ، فليصلّ على هذا الاعتبار ، ومن هذا العدد ، ويد من ذلك ، ويكثر منه حتى يغلب على ظنّه أنّه قد قضى ما فاته.

ص: 275


1- ج : آخرة فعشاء.

وقضاء النوافل مستحبّ ، وليس بواجب.

ولا يجوز أن يبدأ بقضاء شي ء من النوافل حتى يؤدي جميع الفرائض الفائتة والحاضر وقتها.

ويجوز أن يقضي نوافل الليل بالليل ، ونوافل النّهار بالنّهار ، ونوافل النّهار بالليل ، ونوافل الليل بالنّهار ، فبكل وردت الروايات (1) ويقضي الوتر وترا كما فاته (2) وإذا أسلم الكافر ، وطهرت الحائض والنفساء ، وبلغ الصبي ، وأفاق المجنون ، والمغمى عليه ، قبل غروب الشمس ، في وقت يتسع لفعل فرض الظهر والعصر معا والطهارة لهما ، وجب على كل واحد منهم أداء الصلاتين ، أو قضاؤهما إن أخّرهما ، وكذلك إن تغيّرت أحوالهم من آخر الليل ، صلوا المغرب والعشاء الآخرة ، وصلاة الليل ، وقضوا إن فرّطوا.

ومتى حاضت الطاهر ، بعد إن كان يصحّ لها لو صلّت في أول الوقت الصلاة لزمها قضاء تلك الصلاة.

والمغمى عليه لمرض أو غيره ممّا لا يكون هو السبب في دخوله عليه بمعصية يرتكبها ، لا يجب عليه قضاء ما فاته من الصلوات إذا أفاق ، بل يجب أن يصلّي الصلاة التي أفاق في وقتها ، وقد روي أنّه إذا أفاق آخر النهار ، قضى صلاة ذلك اليوم ، وإذا أفاق آخر الليل ، قضى صلاة تلك الليلة (3). ولا بدّ من أن يعتبر في إفاقته الحدّ الذي يتمكّن معه من الصلاة ، لأنّه إذا لم يفق على هذا الوجه ، كانت إفاقته كإغمائه ، وقد روي في المغمى عليه أنّه يقضي صلاة ثلاثة أيام إذا أفاق (4). وروي أنّه يقضي صلاة شهر (5) ، والمعول عليه ، (6) الوجه الأول.

ص: 276


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب قضاء الصلوات والباب 39 من أبواب المواقيت.
2- الوسائل : أورد ما يدل على ذلك في الباب 10 من أبواب قضاء الصلوات.
3- الوسائل : الباب 3 من أبواب قضاء الصلوات ، ح 19 و 21 و 22.
4- الوسائل : الباب 3 من أبواب قضاء الصلوات ، ح 19 و 21 و 22.
5- الوسائل : الباب 3 من أبواب قضاء الصلوات ، ح 4 و 5 و 6
6- ج : المعمول عليه.

والمرتد إذا تاب ، وجب عليه قضاء جميع ما تركه في حال ردّته من الصلاة وغيرها من العبادات ، لأنّه بحكم الإسلام.

والعليل إذا وجبت عليه صلاة ، فأخّرها عن أوقاتها حتى مات ، قضاها عنه ولده الأكبر من الذكران ، ويقضي عنه ما فاته من الصيام الذي فرّط فيه ، ولا يقضي عنه إلا الصلاة الفائتة في حال مرض موته فحسب ، دون ما فاته من الصلوات ، في حال غير مرض الموت.

باب صلاة الجماعة وأحكامها وكيفيتها وشروطها وأحكام الأئمة والمأمومين وغير ذلك ممّا يتعلّق بها

الاجتماع في صلاة الفرائض كلّها مستحب ، مندوب إليه ، مؤكد ، وفيه فضل كبير ، وثواب جزيل.

وأقلّ ما تكون الجماعة وتنعقد ، باثنين فصاعدا ، فإذا حضر اثنان ، فليتقدّم أحدهما ، ويقف الآخر على جانبه الأيمن ، ولا بدّ من تقدّم الإمام عليه بقليل ، ووقوفه على جانبه الأيمن على طريق الندب والاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، ولو وقف خلفه أو عن شماله جازت الصلاة ، وإنّما ذلك سنة الموقف.

وإذا كانوا جماعة ، فليتقدّم أحدهم ويقف في وسط الصفوف ، بارزا ، ويقف الباقون خلفه ، إلا إذا كانوا عراة ، فإنّه لا يتقدمهم أمامهم بل يقف معهم في الصف ، غير بارز كبروز غير العريان ، إلا أنّه لا بدّ من تقدّمه بقليل على المأمومين ، فإن وقف الإمام في طرف ، وجعل المأمومين كلّهم على يمينه ، أو شماله ، جازت الصلاة ، إلا أنّ ذلك أفضل ، لأنّه من سنن موقف صلاة الجماعات.

ص: 277

واعلم أنّ الصلاة في الجماعة أفضل من صلاة الفسد (1) فقد (2) روي أنّ صلاة الجماعة تفضل صلاة المنفرد بخمس وعشرين صلاة.

ويكره لمن تمكّن من الجماعة ولم يكن له عذر يخصّه ، أو يتعلّق بمن يأتم به ، أن يخلّ بها ، ويعدل عنها.

ويستحبّ لمن يريد دخول المسجد ان يتعاهد نعله ، أو خفه ، أو غير ذلك ، مما هو عليه أو معه ، لئلا يكون فيه شي ء من النجاسات ، سواء كانت النجاسة ممّا عفي عنها في الصلاة ، أو لم يعف بابه (3) ويقدّم رجله اليمنى على اليسرى ، وإذا خرج ، قدّم رجله اليسرى على اليمنى ، عكس دخوله وخروجه إلى المبرز ، ويسلم على الحاضرين فيه ، وإن كانوا في صلاة ، فإن كانوا ممّن ينكرون ذلك ، سلّم تسليما خفيا ، ونوى الملائكة بسلامه ، ويصلّي ركعتين قبل جلوسه ، إن لم يكن الوقت قد تضيّق للفريضة.

ويكره له أن يبصق ، ويمتخط فيه ، فإن اضطر إلى ذلك ، لم يبصق في جهة القبلة ، وانحرف يمينا أو شمالا ، ويستر ما يلقيه من فيه ، ولا ينبغي أن يتخذ المساجد متاجر ، ولا مجالس للحديث ، لا سيّما بالهزل ، وما لا يتضمن ذكر اللّه تعالى وتعظيمه.

وبناء المساجد فيه فضل كبير وثواب جزيل ، ويستحب أن لا يعلى المساجد بل تكون وسطا ، وروي أنّه يستحب أن لا تكون مظلّلة ، ولا يجوز أن تكون مزخرفة ، أو مذهبة ، أو فيها شي ء من التصاوير ، أو مشرفة بل المستحب أن تبنى جما (4).

ويكره أن تبنى المنارة في وسط المسجد ، بل ينبغي أن تبنى مع حائطه ، أو خارجه ، ويكره أن تعلّى عليه على ما روي في الأخبار (5).

ص: 278


1- ج : المنفرد.
2- الوسائل : الباب 1 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 1 - 3 مع الزيادة في الأول.
3- في المطبوع : فإذا دخل فإنّه يقدّم
4- الوسائل : الباب 9 من أبواب أحكام المساجد.
5- الوسائل : الباب 9 من أبواب أحكام المساجد.

ويكره أن يكون في المساجد محاريب داخلة في الحائط.

وينبغي أن يكون الميضاة على أبوابها ، ولا يجوز أن تكون داخلها.

وإذا استهدم مسجد فينبغي أن يعاد مع التمكن من ذلك ، فإن لم يتمكن من إعادته فلا بأس باستعمال آلته في بناء غيره من المساجد.

ولا يجوز أن يؤخذ شي ء من المساجد ، لا في ملك ولا في طريق.

ويكره الجواز فيها ، وجعل ذلك طريقا ليقرّب عليه ممرّه.

وينبغي أن تجنّب المجانين والصبيان ، والضالة ، وإقامة الحدود ، وإنشاد الشعر ، ورفع الأصوات إلا بذكر اللّه تعالى.

ولا بأس بالأحكام فيها ، وليس ذلك بمكروه ، لأنّ أمير المؤمنين عليه السلام حكم في جامع الكوفة ، وقضى فيه بين الناس ، بلا خلاف ، ودكّة القضاء إلى يومنا هذا معروفة ، وقد قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : ينبغي أن تجنّب المساجد الأحكام (1) ورجع عن ذلك في مسائل الخلاف (2) وهذا هو الصحيح ، وانّما أورد ما رواه من أخبار الآحاد ، ولو لم يكن الأمر على ما قلناه ، كان يكون مناقضا لأقواله.

ولا يجوز التوضؤ من الغائط والبول وازالة النجاسات في المساجد ، ولا بأس بالوضوء فيها من غير ذلك.

ويكره النوم في المساجد كلّها وأشدّها كراهة المسجد الحرام ، ومسجد الرسول صلى اللّه عليه وآله.

وإذا أجنب الإنسان في أحد هذين المسجدين ، تيمّم من مكانه على طريق الوجوب ، ثم يخرج على ما قدّمناه ، ولا يلزمه ذلك في غيرهما.

ويستحب كنس المساجد ، وتنظيفها ، والإسراج فيها.

ص: 279


1- النهاية : في باب فضل المساجد والصلاة فيها
2- الخلاف : كتاب القضاء ، مسألة 4.

ولا ينبغي لمن أكل شيئا من المؤذيات ، مثل الثوم والبصل والكراث أن يقرب المسجد ، حتى تزول رائحته عنه.

ولا يجوز الدفن في شي ء من المساجد ، ومن كان في داره مسجد قد جعله للصلاة ، جاز له تغييره ، وتبديله ، وتوسيعه ، وتضييقه ، حسب ما يكون أصلح له ، لأنّه لم يخرجه عن ملكه بالوقفية ، فإن وقفه باللفظ والنيّة فلا يجوز له شي ء من ذلك.

وإذا بنى خارج داره في ملكه مسجدا فان وقفه (1) ونوى القربة وصلى فيه الناس ، ودخلوه زال ملكه عنه ، وإن لم ينو ذلك فملكه باق بحاله.

ويكره سائر الصناعات في المساجد.

ويكره كشف العورة فيها ، ويستحب ستر ما بين السرة إلى الركبة.

وصلاة الفريضة في المسجد أفضل منها في البيت ، وصلاة نافلة الليل خاصة في البيت ، أفضل منها في المسجد.

ولا تصح الصلاة إلا خلف معتقد الحقّ بأسره ، عدل في ديانته ، وحدّ العدل ، هو الذي لا يخلّ بواجب ، ولا يرتكب قبيحا ، ومعه من القرآن ما يصح به الصلاة ، فإن ضمّ إلى ذلك صفات أخر فذلك على جهة الفضل ، بل الواجب والشرط في صحة الانعقاد شرطان : العدالة والقراءة فحسب ، فأمّا الفقه ، والهجرة ، والسن ، وصباحة الوجه ، فعلى جهة الأفضل والأولى والأحقّ بها ممن لا يكون على صفاته ، فعلى هذا لا يجوز الصلاة خلف الفسّاق ، وإن كانوا معتقدين للحق ، ولا خلف أصحاب البدع ، والمعتقدين خلاف الحق.

ولا يؤمّ بالناس الأغلف ، وولد الزنا.

ويكره إمامة الأجذم والأبرص ، وصاحب الفالج الأصحاء ، فيما عدا الجمعة والعيدين فأمّا في الجمعة والعيدين فإنّ ذلك لا يجوز ، وقد ذهب بعض

ص: 280


1- في المطبوع.

أصحابنا إلى أنّ أصحاب هذه الأمراض ، لا يجوز أن يؤمّوا الأصحّاء ، على طريق الحظر ، والأظهر ما قلناه.

ولا يجوز إمامة المحدود الذي لم يتب.

ويكره أن يؤم الأعرابي المهاجر.

ولا يجوز إمامة المقعد بالزمانة ، ولا المقيّد المطلقين ، ولا الجالس القيّام.

ويكره إمامة المتيمم المتوضئين وبعض أصحابنا يذهب إلى أنّه لا يجوز ذلك.

ويكره للمسافر أن يؤم بالمقيمين ، وللمقيم أن يؤم بالمسافرين في الصلوات التي يختلف فرضهما فيها.

فإن دخل المسافر في صلاة المقيم ، سلّم في الركعتين ، وانصرف ، وإن شاء قام فصلى معه فرضا آخر ، إن كان عليه.

وإن دخل المقيم في صلاة المسافر ، يستحب أن لا ينفتل من مصلاه بعد سلامه ، حتى يتم المقيم صلاته.

ولا يجوز إمامة الأمي لمن معه من القرآن ما يقيم به صلاته ، فإن أمّ أمي ، أميّين مثله ، جاز ذلك له.

ولا يجوز إمامة الشديد اللثغة الذي لا يقيم الحروف ولا ينطق بها على وجهها.

ولا يجوز إمامة اللحنة الذي يغيّر بلحنه معاني القرآن.

ولا يجوز إمامة المرأة الرجال على وجه.

ويجوز للرجال أن يؤموا النساء ، ويكون مقامها وراءه ، فإنّه من آداب سنن الموقف على ما قلناه (1).

ويجوز للمرأة أن تؤم النساء في الفرائض والنوافل ، وذهب بعض أصحابنا وهو السيّد المرتضى إلى أنّه لا يجوز لها أن تؤم النساء في الفرائض ويجوز في

ص: 281


1- ج : ما بيّناه ، راجع ما بيّنه - قدس سره - في ص 241 من هذا الكتاب.

النوافل ، والأول أظهر في المذهب.

ولا بأس بإمامة العبد والأعمى إذا كانا على الصفات التي توجب التقدّم.

والسلطان المحق أحق بالإمامة ، من كل أحد في كل موضع إذا حضر ، نريد بذلك رئيس الكل ، ثم صاحب المنزل في منزله ، وصاحب المسجد في مسجده ، فإن لم يحضر أحد من هؤلاء فيؤم بالقوم أقرأهم ، فإن تساووا ، فأكبرهم سنا في الإسلام ، فإن تساووا فأعلمهم بالسنّة. وأفقههم في الدين ، فإن تساووا في ذلك فأقدمهم هجرة ، فإن تساووا فقد روي أصبحهم وجها (1).

وقد يجوز إمامة أهل الطبقة التالية لغيرها إذا أذن لهم أهل الطبقة المتقدمة ، إلا أن يكون الإمام الأكبر الذي هو رئيس الزمان ، فإنّه لا يجوز لأحد التقدّم عليه على وجه من الوجوه.

ومن ظهر له أنّه اقتدى بإمام كافر أو فاسق ، لا اعادة عليه ، سواء كان الوقت باقيا أو خارجا ، على الصحيح من الأقوال والأظهر من المذهب ، وذهب السيد المرتضى رضي اللّه عنه إلى وجوب الإعادة ، ولا دليل على ذلك ، لأنّ الإعادة فرض ثان ، والأصل براءة الذمة من واجب أو ندب ، والإجماع حاصل منعقد على خلافه.

وأفضل الصفوف أوائلها ، وأفضل أوائلها ما دنا من الإمام وحاذاه ، وأفضل الصفوف في صلاة الجنازة أواخرها.

وينبغي أن يقرب من موقف الإمام من إذا اضطر الإمام إلى الخروج من الصلاة استخلفه ، وكان أولاهم بمقامه ، وإذا اجتمع رجال وخصيان وخناثى ونساء وصبيان كان الرجال ممّا يلي الإمام ، ثمّ الخصيان ، ثم الخناثى ، ثمّ الصبيان ، ثم النساء ، وبالعكس من ذلك في ترتيب جنائزهم ، إذا كان الصبيان لهم دون ستّ سنين ، ويتقدّم الأشراف غيرهم ، والأحرار يتقدّمون العبيد.

ص: 282


1- الوسائل : الباب 28 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 2.

ولتتمّم الصفوف بأن يتقدّم إليها ويتأخّر حتى تتمّم ، وكذلك لا بأس لمن وجد ضيقا في الصف ، أن يتأخر إلى الصف الذي يليه ، بعد أن لا يعرض عن القبلة ، بل يخطو منحرفا.

ومن دخل المسجد ، فلم يجد مقاما له في الصفوف أجزأه ان يقوم وحده محاذيا لمقام الإمام.

وينبغي أن يكون بين كل صفين قدر مسقط جسد الإنسان أو مريض عنز إذا سجد ، فإن تجاوز ذلك إلى القدر الذي لا يتخطّى كان مكروها شديد الكراهة ، حتى أنّه قد ورد بلفظ لا يجوز (1).

ولا يجوز أن يكون مكان الإمام ومقامه أعلى من مقام المأموم ، كسطوح البيوت ، والدكاكين العالية ، وما أشبهها ، فإن كان أعلى منه بشي ء يسير لا يعتد بمثله في العرف والعادة ، ولا يعلم تفاوته ، فلا بأس وجاز ذلك ، فأمّا إن كانت الأرض منحدرة ، ومحدودبة فلا بأس بأن يقف الإمام في الموضع العالي ، ويقف المأموم في المنحدر المنخفض ، وانّما كان ذلك في المكان الذي اتخذ بناء.

ويجوز أن يكون مقام الإمام أسفل من مقام المأموم ، بعد أن لا ينتهي إلى حدّ لا يمكنه معه الاقتداء به.

ومقام الإمام قدّام المأمومين إذا كانوا رجالا أكثر من واحد ، فإن كان المأموم رجلا واحدا صلّى عن يمينه ، وإن كانت امرأة واحدة أو جماعة صلّين خلفه ، وإن كان المأموم رجلا واحدا وامرأة أو جماعة من النساء ، صلّى الرجل عن يمين الإمام ، وصلّت المرأة أو النساء الجماعة خلفهما ، وذلك على جهة الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، على ما قدّمناه ، لأنّه من سنن الموقف الذي فيه الإمام والمأموم.

ص: 283


1- لم نجد حديثا بهذه العبارة فيما بأيدينا من مجاميعنا الحديثية.

ويجهر الإمام ببسم اللّه الرحمن الرحيم في السورتين ، فيما يجهر فيه بالقراءة على طريق الوجوب ، ويستحب ذلك فيما يخافت فيه ويتعين القراءة عليه فيه ، ولا يجهر فيما سوى ذلك من باقي ركعاته الثوالث والروابع.

واختلفت الرواية في القراءة خلف الإمام الموثوق به ، فروي أنّه لا قراءة على المأموم في جميع الركعات والصلوات ، سواء كانت جهرية أو إخفاتية (1) وهي أظهر الروايات ، والتي يقتضيها أصول المذهب ، لأنّ الإمام ضامن للقراءة بلا خلاف بين أصحابنا.

ومنهم من قال يضمن القراءة والركوع والسجود ، لقوله عليه السلام : الأئمة ضمناء (2).

وروي أنّه لا قراءة على المأموم في الأوليين في جميع الصلوات التي يخافت فيها بالقراءة ، أو يجهر بها ، إلا أن تكون صلاة جهر لم يسمع فيها المأموم قراءة الإمام ، فيقرأ لنفسه (3).

وروي أنّه ينصت فيما جهر الإمام فيه بالقراءة ، ولا يقرأ هو شيئا ، ويلزمه القراءة فيما خافت (4).

وروي أنّه بالخيار فيما خافت فيه الإمام (5).

فأمّا الركعتان الأخريان فقد روي أنّه لا قراءة على المأموم فيهما ولا تسبيح (6) وروي أنّه يقرأ فيهما أو يسبح (7) والأول أظهر لما قدّمناه.

فأمّا من يؤتم به على سبيل التقية ، ممّن ليس بأهل للإمامة ، فلا خلاف في وجوب القراءة خلفه ، إلا أنّه لا بدّ له من إسماعه أذنيه ، وما ورد أنّه مثل حديث النفس (8) فإنه على طريق المبالغة والاستيعاب ، لأنّه لا يسمّى قارئا.

ص: 284


1- الوسائل : الباب 31 من أبواب صلاة الجماعة.
2- المستدرك : الباب 3 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 1.
3- الوسائل : الباب 31 من أبواب صلاة الجماعة.
4- الوسائل : الباب 31 من أبواب صلاة الجماعة.
5- الوسائل : الباب 31 من أبواب صلاة الجماعة.
6- الوسائل : الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة.
7- الوسائل : الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة.
8- الوسائل : الباب 33 من أبواب صلاة الجماعة.

وينبغي للإمام والأفضل له أن تكون صلاته على قدر صلاة أضعف من يقتدى به ، ولا يطوّلها ، فيشق ذلك على من يأتم به ، فأمّا إن كان وحده فالتطويل هو الأفضل ، فإنّها العبادة.

ويفتح المأموم على الإمام إذا تجاوز شيئا من القرآن ، أو بدّله أو ارتج عليه.

ومن أدرك الإمام وهو راكع ، وإن لم يدرك تكبيرة الركوع ، فقد أدرك الركعة ، واعتد بها ، فإن رفع رأسه ، فقد فاتته الركعة.

ولا يجب عليه إذا أدركه أن يكبّر سوى تكبيرة الافتتاح ، فأمّا تكبيرة الركوع فلا تجب عليه ، وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في نهايته (1) إلى أنّه يجب عليه أن يكبّر تكبيرة الافتتاح ، وتكبيرة الركوع ، وإلى أنّه إن لم يلحق تكبيرة الركوع وإن لحقه راكعا وأدركه في حال ركوعه وركع معه ما لم يلحق تكبيرة الركوع ، فلا يعتدّ بتلك الركعة ، والأول مذهب السيد المرتضى وباقي أصحابنا ، وهو الصحيح الذي تقتضيه الأصول ، ويشهد بصحته النظر والخبر المتواتر.

ومن أدركه ساجدا ، جاز أن يكبر تكبيرة الافتتاح ، ويسجد معه غير أنّه لا يعتد بتلك الركعة والسجدة.

ومن أدرك الإمام راكعا ، فخاف أن يسبقه بالقيام ، جاز له أن يركع عند دخول المسجد ، ويمشي في ركوعه حتى يدخل في الصف.

ويستحب للإمام إذا أحسّ بداخل إلى المسجد ، بأن يتوقف ويتثاقل حتى يدخل في الصف معه ، فإن كان راكعا جاز له أن يتوقف مثل قدر ركوعه ، وزائدا عليه ، فإن انقطع الحاضرون ، وإلا انتصب قائما.

ومن لحق الإمام في تشهده ، وقد بقيت عليه منه بقيّة ، فدخل في صلاته ،

ص: 285


1- النهاية : كتاب الصلاة. باب الجماعة قال كذلك : ومن لحق بتكبيرة الركوع فقد أدرك تلك الركعة فان لم يلحقها فقد فاتته.

وجلس معه ، لحق فضيلة الجماعة ، ثم ينهض فيصلّي لنفسه ، فإن كان لمّا كبّر ، نوى الصلاة وتكبيرة الإحرام بتكبيرته ، أجزأه أن يقوم بها ولا يستأنف تكبيرة الإحرام ، فإن لم يكن نوى ذلك ، كبر وافتتح صلاته مستأنفا لها.

وإذا سبق الإمام المأموم بشي ء من ركعات الصلاة ، جعل المأموم ما أدركه معه أوّل صلاته ، وما يصلّيه وحده آخرها ، كأنّه (1) أدرك من صلاة الظهر أو العصر أو العشاء الآخرة ركعتين وفاتته ركعتان ، فالمستحب أن يقرأ فيما أدركه في نفسه بأمّ الكتاب ، فإذا سلّم الإمام ، قام فصلّى الأخريين مسبحا فيهما ، أو قارئا على التخيير كما مضى شرحه ، وكذلك إذا أدرك ركعة واحدة ، قرأ فيها خلف الإمام على طريق الاستحباب ، فإذا سلّم الإمام ، قام فقرأ في الأولى مما ينفرد به ، ثمّ أضاف إليها الركعتين الأخريين بالتسبيح ، إن كانت الصلاة رباعيّة ، وإن كانت ثلاثية أضاف واحدة ، وفي الفجر يقتصر على الاثنتين بالقراءة.

وقال بعض أصحابنا في هذه المسائل ، يجب عليه القراءة قراءة السورتين معا ، ومنهم من قال قراءة الحمد وحدها ، والأول الأظهر ، وهو الذي يقتضيه أصول المذهب ، فأمّا قولهم : يجعل أول ما يلحق معه أوّل صلاته احترازا من مذهب المخالف للإمامية ، وهو أنّه يجعل ما يلحق معه آخر صلاته ، ويقضى الأوّل ، هكذا يذهب المخالف لمذهب أهل البيت عليهم السلام ، وفقهاء أهل الحق (2) يجعلون ما يلحق معه أوّل صلاته ، فإذا سلّم الإمام ، قام فأتمّ ما فاته من غير قضاء.

فأمّا قولهم يقرأ فيما يلحقه الحمد والسورة ، أو الحمد على القول الآخر ، يريدون به أنّ القراءة تتعيّن في الأولتين ، فإذا لم يقرأ فيما يلحقه ، تعيّن عليه أن يقرأ في الأخريين ، لئلا يقلب صلاته ، فيجعل أوّلها آخرها ، وقد ورد بهذا أخبار آحاد ، فلأجل هذه الأخبار قالوا يقرأ.

والصحيح من الأقوال ، أنّ القراءة الأمر بها على جهة الاستحباب ، دون

ص: 286


1- في ط وج : كما أنّه
2- في ط وج : أهل البيت.

الفرض والإيجاب ، لأنّ قراءة الإمام قراءة المأموم ، وانّ هذه الصلاة ما خلت من القراءة لأنّ القائل بذلك يقول إذا لم يقرأ فيما يلحق ، ففي الأخريين لا يتعيّن عليه القراءة بل هو مخير بين التسبيح والقراءة ، فإذا اختار التسبيح خلت الصلاة من قراءة الحمد ، بناء منه على هذا الأصل ، وقد بيّنا أنّ قراءة الإمام كافية للمأموم ، وأنّ صلاته ما خلت من القراءة ، لأنّ صلاته مرتبطة بصلاة إمامه في الصحة والفساد ، فهي كالجزء منها ، وهي لم تخل من القراءة فليلحظ ذلك ويتأمل.

ومن أدرك الركعة الثانية مع الإمام ، فجلس لها الإمام ، وهي للمأموم أولى ، فليجلس بجلوسه متجافيا غير متمكن ، فإذا صلّى الإمام الثالثة وهي للمأموم ثانية ونهض ، تلبث عنه قليلا ، بقدر ما يتشهد تشهدا خفيفا ، ثمّ يلحق به في القيام ، ولا يقوم المأموم لا تمام صلاته الفائتة ، إلا بعد تسليم الإمام ، وإن كان عليه سهو فحين يهوى إلى السجدة الاولى.

وإذا علم الإمام ان فيمن دخل في صلاته من بقي عليه منها ما يحتاج إلى إتمامه ، لم ينتقل عن مصلاه بعد تسليمه ، حتى يتم من بقي عليه ذلك.

ولا يدع الإمام القنوت في صلوات الجهر والإخفات معا.

ويسلّم الإمام واحدة تجاه القبلة ، وينحرف بعينه قليلا إلى يمينه ، والمنفرد يسلّم أيضا واحدة ، ويكون انحرافه إلى يمينه أقل من انحراف الإمام ، والمأموم يسلّم يمينا وشمالا ، فإن لم يكن على يساره أحد ، اقتصر على التسليم على يمينه على ما قدّمنا ذكره ، ولا يترك التسليم على اليمنى ، وإن لم يكن على يمينه أحد.

وليس على المأموم إذا سها خلف الإمام فيما يوجب سجدتي السهو سجدتا السهو ، لأنّ الإمام يتحمل ذلك عنه.

وينبغي للإمام إذا أحدث حدثا يوجب انصرافه ، وأراد أنّ يقدّم من يقوم مقامه ، أن لا يقدّم مسبوقا في تلك الصلاة ، بل من أدرك أولها ، وأفضل من ذلك من قد شهد الإقامة ، فإن قدم مسبوقا بركعة أو أكثر ، صلّى بالقوم ، فإذا أتم

ص: 287

صلاتهم ، أومأ إليهم يمينا وشمالا حتى ينصرفوا ، ثم يكمل هو ما فاته من الصلاة ، فإن كان هذا المقدّم مكان الإمام ، لا يعلم ما تقدّم من صلاة القوم ، فيبني عليها ، جاز أن يدخل في الصلاة ، فإن أخطأ سبّح القوم ، حتى يبني على الصلاة المتقدّمة بتحقيق.

وإذا مات الإمام قبل إتمام الصلاة فجأة ، كان للمأمومين أن يقدّموا غيره ، ويعتدّوا بما تقدّم ، ويطرحون الميت وراءهم.

ولا يجوز للمأموم أن يبتدئ بشي ء من أفعال الصلاة قبل إمامه ، فإن سبقه على سهو عاد إلى حاله ، حتى يكون به مقتديا ، فإن فعل ذلك عامدا لا ساهيا ، فلا يجوز له العود ، فإن عاد بطلت صلاته ، لأنّه يكون قد زاد ركوعا.

وإذا اختلف رجلان ، فقال كل واحد منهما لصاحبه : كنت إمامك ، فصلاتهما معا تامة.

وإذا اختلفا ، فقال كل واحد منهما للآخر : كنت أئتم بك ، فسدت صلاتهما ، وعليهما أن يستأنفا.

ومن صلّى بقوم وهو على غير وضوء من غير علم منهم بحاله ، فأعلمهم بذلك من حاله ، لزمته الإعادة ، ولم يلزم القوم ، وقد روي أنّه إن أعلمهم في الوقت ، لزمتهم أيضا الإعادة (1) وانّما تسقط عنهم الإعادة بخروج الوقت ، فإن انتقضت طهارة الإمام بعد أن صلى بعض الصلاة ، أدخل من يقوم مقامه ، وأعاد هو الصلاة ، وتمّم القوم صلاتهم ، ومن صلّى بقوم ركعتين ، ثم أخبرهم أنّه لم يكن على طهارة ، أتمّ القوم صلاتهم ، وبنوا عليها ولم يعيدوها ، هكذا روى جميل بن دراج عن زرارة (2) وهو الصحيح ، وفي رواية حمّاد عن الحلبي أنّهم يستقبلون صلاتهم (3) ومن صلى بقوم إلى غير القبلة ، ثم أعلمهم بذلك ، كانت عليه الإعادة ،

ص: 288


1- الوسائل : كتاب الصلاة الباب 36 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 9 بهذا المضمون.
2- الوسائل : كتاب الصلاة الباب 36 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 2.
3- البحار : ج 85 ، باب أحكام الجماعة ، ص 68 الطبع الحديث.

دونهم ، وقال بعض أصحابنا : إنّ الإعادة تجب على الجميع ما لم يخرج الوقت ، وهذا هو الصحيح ، وبه أقول وأفتي ، والأوّل مذهب السيّد المرتضى ، والثاني مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رضي اللّه عنه ، وهو الذي تقتضيه أصول المذهب.

وإذا أمّ الكافر قوما ، ثم علموا بذلك من حاله ، كان القول فيه ، كالقول فيمن علموا أنّه كان على غير طهارة.

ويجوز أن يقتدي المؤدّي بالقاضي ، والقاضي بالمؤدّي ، والمفترض بالمتنفل ، والمتنفل بالمفترض ، ومن يصلّي الظهر بمن يصلّي العصر ، ومن يصلي العصر بمن يصلّي الظهر ، كل ذلك جائز مع اختلاف نيّتهما.

ومن صلّى جماعة أو منفردا ، ثم لحق جماعة أخرى ، فالمستحب له ، أن يعيد مرّة أخرى تلك الصلاة ، بنية الاستحباب أيّ الخمس كانت.

ولا تكون جماعة ، وبين المصلّي وبين الإمام ، أو بين الصف حائل من حائط أو غيره.

ومن صلّى وراء المقاصير ، لا تكون صلاته جماعة ، إلا ان يكون مخرّمة ، وقد وردت رخصة للنساء أن يصلّين ، إذا كان بينهن وبين الإمام حائط (1) والأول الأظهر والأصح.

وإذا صلّى في مسجد جماعة ، كره أن تصلّي الجماعة تلك الصلاة بعينها.

وإذا دخل الإنسان في صلاة نافلة ، ثم أقيمت الصلاة ، جاز له أن يقطعها ، ويدخل في الجماعة.

فإن دخل في صلاة فريضة ، وكان الإمام الذي يصلّي خلفه ، إمام الكل ورئيس الناس ، جاز له أيضا قطعها ، ويدخل معه في الجماعة ، فإن لم يكن رئيس الكلّ ، وكان ممّن يقتدى به ، فليتمم صلاته التي دخل فيها ، ركعتين يخففهما ويحسبهما من التطوع ، على ما روي في بعض الأخبار (2) ، ويدخل في

ص: 289


1- الوسائل : الباب 60 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 1.
2- الوسائل : الباب 56 من أبواب صلاة الجماعة ، ح 2.

الجماعة ، وإن كان الإمام ممن لا يقتدى به ، فليبن على صلاته ، ويدخل معه في الصلاة ، فإذا فرغ من صلاته ، سلّم وقام مع الإمام ، فصلّى ما بقي له ، واحتسبه من النافلة ، فإن وافق حال تشهده ، حال قيام الإمام ، فليقتصر في تشهده على الشهادتين ، ويسلّم إيماء ، ويقوم مع الإمام.

ولا يجوز للإمام أن يصلّي بالقوم القيام ، وهو جالس ، إلا أن يكونوا عراة ، فإنّهم يصلّون كلّهم جلوسا ، ولا يتقدّمهم إمامهم إلا بركبتيه على ما قدّمناه.

وإذا أقيمت الصلاة التي يقتدي بالإمام فيها ، لا يجوز أن يصلّي النوافل.

وإذا صلّيت خلف مخالف ، وقرأ سورة يجب فيها السجود ، وكنت مستمعا لقراءته ، ولم يسجد هو ، وخفت أن تسجد وحدك ، فأوم إيماء ، وقد أجزأك ، وإن لم تكن مستمعا لقراءته فلا يجب عليك ذلك.

باب صلاة الجمعة وأحكامها

صلاة الجمعة فريضة على من لم يكن معذورا بما سنذكره من الأعذار بشروط ، أحدها حضور الإمام العادل أو من نصبه للصلاة ، واجتماع خمسة نفر فصاعدا ، الإمام أحدهم على الصحيح من المذهب ، وقال بعض أصحابنا وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : لا يجب الاجتماع إلا أن يبلغ العدد سبعة ، والأول مذهب السيّد المرتضى ، والشيخ المفيد ، وجماعة من أصحابنا ، وهو الذي تعضده الظواهر والآيات ، وبه افتي.

والأعذار والأسباب التي تسقط معها الجمعة ، الصغر والكبر الذي لا حراك معه ، والسفر ، والعبودية ، والجنون ، والتأنيث ، والمرض ، والعمى ، والعرج ، وأن تكون المسافة بين المصلّي وبينها أكثر من فرسخين ، وروي ، أنّ من يخاف ظلما يجري عليه على نفسه ، أو ماله ، هو أيضا معذور في الإخلال بها (1).

ص: 290


1- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 5 من أبواب صلاة الجمعة ، ح 4.

وكذلك من كان متشاغلا بجهاز ميّت ، أو تعليل والد أو من يجري مجراه ، من ذوي الحرمات الوكيدة ، يسعه أن يتأخّر عنها ، فأمّا المحبوس عنها ، والممنوع فلا شك في عذرهما.

ومن كان في مصره والإمام فيه ، وجب عليه الجمع معه ، لأنّه ليس للإمام أن يكلها إلى غيره في بلده مع القدرة والتمكن ، وسقوط الأعذار ، ومن كان نائيا عن الإمام جمع بها مع خلفائه ، ومع من اذن له في الجمع بالناس.

ولا ينبغي ولا يجوز أن يكون بين المسجدين اللذين يجمّع فيهما أقلّ من ثلاثة أميال.

ومن حضر من ذوي الأعذار من المكلّفين الذين ذكرناهم الجمعة صلاها مع الإمام جمعة ركعتين ، لأنّ العذر رخّص له في التأخّر ، فإذا حضر ، زالت الرخصة ، ولزم الفرض.

والخطبتان لا بدّ منهما ، ولا تنعقد الجمعة إلا بهما ، ويجب على الحاضرين استماعهما.

ومن شرطهما الطهارة ، وحضور من تنعقد الجمعة بحضوره ، فإن خطب على غير طهارة ، أو خطب وكان على طهارة إلا أنّه لم يحضر خطبته إلا ثلاثة نفر ، لم يجز ذلك ، ووجب عليه إعادة الخطبة ، فإن لم يعدها لم تصح صلاته جمعة ، والذي ينبغي تحصيله ، أن الطهارة ليست شرطا في صحّة الخطبة بل حضور العدد فحسب ، إذ لا دليل على كون ذلك شرطا في صحة الخطبة ، من كتاب ولا إجماع ، والأصل أن لا تكليف ، وانّما ذهب إلى ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه (1).

وعقد الباب (2) أنّ الجمعة لا تجب إلا إذا اجتمعت شروط ، وهي على ضربين ، أحدهما يرجع إلى مكلّفها ، والثاني يرجع إلى غيره ، فما يرجع إليه تسع

ص: 291


1- الخلاف : كتاب صلاة الجمعة مسألة 32.
2- في المطبوع : وجملة الأمر وعقد الباب.

شرائط : الذكورة ، وكمال العقل ، والحرية ، والصحة من المرض ، وارتفاع العمى ، وارتفاع العرج ، وارتفاع الشيخوخة التي لا حراك معها ، وأن لا يكون مسافرا ، وأن لا يكون بينه وبين الموضع الذي يصلّي فيه الجمعة مسافة فرسخين ، ومع اجتماع هذه الشروط ، لا تنعقد إلا بأربعة شروط ، وهي الشروط الراجعة إلى غيره ، السلطان العادل ، أو من ينصبه للصلاة ، العدد خمسة ، وأن يكون بين الجمعتين ثلاثة أميال فما زاد ، وأن يخطب الإمام خطبتين.

وأقل ما تكون الخطبة أربعة أصناف : حمد اللّه تعالى ، والصلاة على النبي وآله ، والوعظ والزجر ، وقراءة سورة خفيفة من القرآن.

وقد يورد بعض أصحابنا عبارة ينبغي أن يتجافى عنها ، وهي أن قال تسقط الجمعة عن عشرة ، وعدّد في جملة العشرة المجنون والصبي ، وهذان ما هما مكلّفان ، ولا كان عليهما شي ء فسقط ، وانّما هذا لفظ الحديث ، أورده على ما هو ، فهذا وجه الاعتذار له ، فأمّا قول بعض أصحابنا ، فما يرجع إلى مكلّفها من الشرائط فعشرة ، وعدّد البلوغ قسما ، وكمال العقل قسما آخر ، فلا حاجة بنا إلى ذلك ، بل إذا قلنا كمال العقل أجزأنا عن البلوغ ، وإذا قلنا البلوغ لم يجزئنا فالكمال شامل يدخل فيه القسم الآخر ، ولا حاجة بنا إلى القسمين الآخرين ، في عدد من يسقط عنه الجمعة ، على ما قدّمناه.

وما يرجع إلى الجواز الإسلام والعقل ، فالعقل شرط في الوجوب والجواز معا ، والإسلام شرط في الجواز لا غير ، دون الوجوب ، لأنّ الكافر عندنا متعبّد ، ومخاطب بالشرائع ، وانّما قلنا ذلك ، لأنّ من ليس بعاقل ، أو ليس بمسلم ، لا يصح منه الجمعة ، وما عدا هذين الشرطين من الشرائط المقدّم ذكرها ، شرط في الوجوب ، دون الجواز ، لأنّ جميع من قدّمنا ذكره ، يصح منه فعل الجمعة.

والناس في باب الجمعة على ضروب ، من تجب عليه وتنعقد به ، ومن لا تجب عليه ولا تنعقد به ، ومن تنعقد به ولا تجب عليه ، ومن تجب عليه ولا تنعقد به.

ص: 292

فأمّا من تجب عليه وتنعقد به ، فهو كلّ من جمع الشرائط المقدّم ذكرها.

ومن لا تجب عليه ولا تنعقد به ، فهو الصبي والمجنون والمرأة قبل حضورها المسجد مع الإمام ، فأما ان تكلّفت الحضور ، وجب عليها صلاة ركعتين ، غير أنّها لا يتم بها العدد ولا تنعقد بها الجمعة ، وأمّا من تنعقد به ، ولا تجب عليه ، فهو المريض ، والأعمى ، والأعرج ، والشيخ الذي لا حراك به ، ومن كان على رأس أكثر من فرسخين ، والعبد ، والمسافر ، فهؤلاء لا يجب عليهم الحضور ، فإن حضروا الجمعة ، وتمّ بهم العدد ، وجب عليهم ، وانعقدت بهم الجمعة ، ويتم بهم العدد ، وأمّا من تجب عليه ولا تنعقد به ، فهو الكافر ، والمحدث الذي على غير طهارة ، فهما مخاطبان عندنا بالعبادة ، ومع هذا لا تنعقد بهما ، أنّهما لا تصح منهما الصلاة ، وهما على ما هما عليه.

من كان في بلد وجب عليه حضور الجمعة ، سمع النداء ، أو لم يسمع ، فإن كان خارجا عنه ، وبينه وبينه أقل من فرسخين فما دون ، وجب عليه أيضا الحضور فإن زادت المسافة على ذلك لا يجب عليه.

ثمّ لا يخلو ، إمّا أن يكون فيهم العدد الذي ينعقد بهم الجمعة ، أم لا ، فإن كانوا كذلك ، وجب عليهم الجمعة بشرط أن يكون فيهم الإمام ، أو من نصبه الإمام للصلاة ، وإن لم يكونوا ، لم يجب عليهم غير الظهر أربع ركعات.

ومتى كان بينهم وبين البلد أقل من فرسخين ، وفيهم العدد الذي تنعقد بهم الجمعة ، جاز لهم إقامتها ، ويجوز لهم حضور البلد.

ومن وجب عليه الجمعة ، فصلّى الظهر عند الزوال ، لم يجزه عن الجمعة ، فإن لم يحضر الجمعة ، وخرج الوقت ، وجب عليه اعادة الظهر أربعا ، لأنّ ما فعله أولا ، لم يكن فرضه.

إذا كان في قرية جماعة تنعقد بهم الجمعة ، والشرائط حاصلة ، فكل من كان بينه وبينهم أقل من فرسخين فما دونهما ، وليس منهم العدد الذي تنعقد بهم الجمعة ، وجب عليهم الحضور ، وإن كان فيهم العدد جمعوا.

ص: 293

ومن سنن الجمعة الغسل ، وهو من وكيد سننها ، وابتداؤه من طلوع الفجر الثاني إلى زوال الشمس ، وأفضل أوقاته ، ما قرب من الزوال ، ومن ذلك التزين بأنظف الثياب.

وروي كراهية ليس السراويل قائما ، لأنّه يورث الحبن (1) بالحاء غير المعجمة المفتوحة ، والباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة المفتوحة ، والنون وهو السقي وهو ورم البطن ، وقال ابن بابويه في رسالته : هو الماء الأصفر ، والأوّل قول أهل اللّغة ، وإليهم المرجع فيه.

ومسّ شي ء من الطيب ، وإماطة الأذى عن الجسد ، وأخذ الشارب ، وتقليم الأظفار ، وأن يبدأ بخنصره اليسرى ، ويختم بخنصره اليمني ، وتطريف الأهل بالفاكهة ، والتقرب إلى اللّه تعالى بشي ء من الصدقة.

وينبغي للإمام أن يعتم شاتيا كان أو قائظا ، ويلبس بردا (2) فبذلك جرت السنة.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويستحب أن يلبس العمامة شاتيا كان أم قائظا ، ويرتدي ببرد يمنيّة أو عدني (3).

قال محمّد بن إدريس : يقال تردّيت أتردّى ترديا فأنا متردّ ، فلا يظن ظان أن ذلك لا يجوز ، ويقال أيضا ارتدي يرتدي فهو مرتد ، كل صحيح جائز ، ذكر ذلك الفضل بن سلمة في كتاب البارع ، وقال الرداء الثوب الذي يلبس على الكتفين ، ممدود.

ويأخذ بيده ما يتوكأ عليه ، من قضيب ، أو عنزة ، أو غيرهما.

ويعلو على مرتفع من الأرض ، كمنبر أو غيره ، فإذا رقى المنبر ، فليكن بوقار ، وأناة وتؤدة ، ولا ينبغي له أن يعلو من مراقي المنبر أكثر من عدد مراقي منبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم.

ص: 294


1- مستدرك الوسائل : الباب 34 من أبواب أحكام الملابس في غير الصلاة ، ح 1.
2- في ط وج. يرتدي برداء
3- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الجمعة وأحكامها فيها : ببرد يمني أو عدني.

فإذا بلغ إلى مقامه ، جعل وجهه إلى الناس ، وسلّم عليهم. وقال بعض أصحابنا ، وهو الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه : ليس ذلك بمستحب (1) ، والأول مذهب المرتضى ، ولا أرى بذلك بأسا ، وإن كان بالمدينة ، ابتدأ بالسلام على رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله.

ثم يجلس حتى يؤذّن بين يديه ، وفي المنائر في وقت واحد.

فإذا فرغ من الأذان ، قام الإمام متوكئا على ما في يده ، فابتدأ بالخطبة الأولى ، معلنا بالتحميد لله تعالى ، والتمجيد ، والثناء بآلائه ، وشاهدا لمحمد نبيه صلى اللّه عليه وآله بالرسالة ، وحسن الإبلاغ والإنذار ، ويوشح خطبته بالقرآن ، ومواعظه وآدابه ، ثم يجلس جلسة خفيفة ، ثم يقوم فيفتتح الخطبة الثانية ، بالحمد لله ، والاستغفار ، والصلاة على النبي وعلى آله عليهم السلام ، ويثني عليهم بما هم أهله ، ويدعو لأئمة المسلمين ، ويسأل اللّه تعالى أن يعلي كلمة المؤمنين ، ويسأل لنفسه ، وللمؤمنين ، حوائج الدنيا والآخرة ، ويكون آخر كلامه « إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى ، وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » (2).

وإذا كان الإمام يخطب ، حرم الكلام ، ووجب الصمت ، لأنّ سماع الخطبة واجب على الحاضرين ، ويكره من الالتفات وغيره من الافعال ما لا يجوز مثله في الصلاة (3) ولا بأس للرجل أن يتكلّم إذا فرغ الإمام من الخطبة ما بينه وبين أن تقام الصلاة.

ثم ينزل الإمام عن المنبر بعد فراغه من إكمال الخطبتين ، ويبتدئ المؤذّن الذي بين يديه ، بالإقامة ، وينادي باقي المؤذنين ، والمكبرين الصلاة الصلاة.

ولا يجوز الأذان بعد نزوله مضافا إلى الأذان الأول الذي عند الزوال ، فهذا

ص: 295


1- الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 40 من صلاة الجمعة
2- النحل : 90.
3- ج : ويكره الالتفات وغيره من الافعال وما لا يجوز مثله في الصلاة.

هو الأذان المنهي عنه ، ويسمّيه بعض أصحابنا الأذان الثالث ، لا يجوز يريد به إلا هذا ، وسمّاه ثالثا ، لانضمام الإقامة فكأنّها أذان آخر.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : الخطبة يوم الجمعة تكون عند قيام الشمس نصف النهار ، فإذا زالت الشمس ، نزل فصلّى بالناس ، وحكي عن السيّد المرتضى أنّه قال : يجوز أن يصلّي عند قيام الشمس يوم الجمعة خاصّة (1).

قال محمّد بن إدريس : ولم أجد للسيّد المرتضى تصنيفا ولا مسطورا بما حكاه شيخنا عنه ، بل بخلافه ، وما قدّمته وشرحته أولا واخترته ، من أنّ الخطبة لا تجوز إلا بعد الزوال ، وكذلك الأذان لا يجوز إلا بعد دخول الوقت في سائر الصلوات ، على ما أسلفنا القول فيه في باب الأذان والإقامة ، هو مذهب المرتضى وفتواه واختياره في مصباحه ، وهو الصحيح ، لأنّه الذي يقتضيه أصول المذهب ، ويعضده النظر والاعتبار ، ولأنّه عمل جميع الأعصار ، ولقوله تعالى : ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) (2) والنداء للصلاة ، هو الأذان لها ، فالأذان لا يجوز قبل دخول وقت الصلاة ، ولعل شيخنا أبا جعفر ، سمعه من المرتضى في الدرس ، وعرفه منه مشافهة ، دون المسطور ، وهذا هو العذر البيّن ، فانّ الشيخ ما يحكي بحمد اللّه تعالى إلا الحق اليقين ، فإنّه أجلّ قدرا ، وأكثر ديانة من أن يحكي عنه ما لم يسمعه ويحقّقه منه.

وقال شيخنا أبو جعفر في التبيان ، في تفسير سورة الجمعة قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) : قال معناه إذا سمعتم أذان يوم الجمعة ، فامضوا إلى الصلاة ، وقال في قوله « وَذَرُوا الْبَيْعَ » معناه إذا دخل وقت الصلاة ، فاتركوا البيع والشراء ، قال الضحاك : إذا زالت الشمس حرم البيع والشراء ، وقال الحسن : كلّ بيع تفوت فيه الصلاة يوم

ص: 296


1- قريب من هذه العبارة في النهاية كتاب الصلاة. باب الجمعة وأحكامها.
2- الجمعة : 9.

الجمعة ، فإنّه بيع حرام لا يجوز ، وهو الذي يقتضيه مذهبنا ، لأنّ النهي يدل على فساد المنهي عنه (1).

قال محمّد بن إدريس : وهذا الذي ذكره في تبيانه ، دليل على رجوعه عما قال في نهايته ، ووفاق لما اخترناه ، أنّ الخطبة والأذان لا يكونان إلا بعد زوال الشمس فليلحظ ذلك.

فإذا دخل الإمام في الصلاة ، فالمستحب له أن يقرأ في الأولى بسورة الجمعة ، وفي الثانية بالمنافقين ، جاهرا بقراءتهما ، وذهب بعض أصحابنا ، أنّ قراءة السورتين له واجب ، لا يجزيه أن يقرأ بغيرهما.

والمستحب للمنفرد يوم الجمعة أيضا قراءتهما ، وأنّه إنّ ابتدأ بغيرهما كان له أن يرجع إليهما ، وإن كان ابتداؤه أيضا بسورة الإخلاص ، وسورة الجحد ، اللتين لا يرجع عنهما ، إذا أخذ فيهما ، ما لم يبلغ نصف السورة ، فإن بلغ النصف تمّم السورة ، وجعلها ركعتي نافلة ، وابتدأ الصلاة بالسورتين ، وذلك على جهة الأفضل في هذه الفريضة خاصّة ، لأنّه لا يجوز نقل النية من الفرض إلى الندب ، إلا في هذه المسألة وفي موضع آخر ، ذكرناه في باب الجماعة.

فأمّا نقل النيّة من النفل إلى الفرض ، فلا يجوز في موضع من المواضع على وجه من الوجوه ، فليلحظ ذلك على ما روي في بعض الأخبار (2) ، وأورده شيخنا في نهايته (3) ، والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، وترك النقل ، إلا في موضع أجمعنا عليه.

ويستحبّ أن يقرأ في العصر من يوم الجمعة بالسورتين أيضا ، وفي الغداة من يوم الجمعة بالجمعة في الاولى ، وقل هو اللّه أحد في الثانية ، وروي بالمنافقين في الثانية (4) ، وهو اختيار المرتضى في انتصاره (5) وكذلك يستحب أن يقرأ في المعرب ،

ص: 297


1- التبيان : ج 10 ص 8 الطبع الحديث
2- الوسائل : الباب 3 من أبواب النية ، ح 2.
3- النهاية : باب الجمعة وأحكامها
4- الوسائل : الباب 70 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 10.
5- الانتصار : كتاب الصلاة ، المسألة الثانية من صلاة الجمعة.

من ليلة الجمعة بسورة الجمعة ، وسبّح اسم ربّك الأعلى في الثانية ، وكذلك في صلاة العشاء الآخرة ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ذهب في مصباحه إلى أنّه يقرأ في الثانية من المغرب مكان « سبّح اسم ربّك الأعلى » ، « قل هو اللّه أحد » (1) وذهب في نهايته (2) ومبسوطة (3) إلى ما اخترناه.

فأمّا المنفرد بصلاة الظهر يوم الجمعة ، فقد روي أنّ عليه ، أن يجهر بالقراءة استحبابا (4) وروي أن الجهر انّما يستحب لمن صلاها مقصورة ، بخطبة أو صلاها ظهرا أربعا في جماعة ، ولا جهر على المنفرد (5) ، وهذا حكاه سيّدنا المرتضى رحمه اللّه في مصباحه.

والثاني الذي يقوى في نفسي ، واعتقده ، وافتي به ، وأعمل عليه ، لأنّ شغل الذّمة بواجب أو مندوب يحتاج إلى دليل شرعيّ ، لأنّ الأصل براءة الذّمة ، والإجماع فغير حاصل ، والرواية مختلفة ، فلم يبق إلا لزوم الأصول ، وهو براءة الذمم ، وأيضا في تركه الاحتياط ، لأنّ تاركه عند جميع أصحابنا ، أعني تارك الجهر بالقراءة في صلاة الظهر يوم الجمعة ، غير ملوم ، ولا مذموم ، وصلاته صحيحة بغير خلاف ، وفاعل الجهر غير آمن من جميع ذلك ، لأنّه إمّا أن يكون مسنونا على قول بعض أصحابنا ، أو غير مسنون على قول البعض الآخر ، وفي كلا الأمرين لا ذم على تاركه ، وما لا ذم في تركه ويخشى في فعله أن يكون بدعة ومعصية يستحق بها الذّم ، ومفسدة (6) للصلاة ، وقاطعا لها ، فتركه أولى وأحوط في الشريعة.

وعلى الإمام أن يقنت في صلاة الجمعة ، وقد اختلفت الرواية في قنوت الإمام يوم الجمعة ، فروي أنّه يقنت في الأولى قبل الركوع وكذلك الذين خلفه ،

ص: 298


1- مصباح المتهجد : في اعمال ليلة الجمعة ، ص 230 ، الطبع الحديث.
2- النهاية : القراءة في الصلاة وأحكامها.
3- المبسوط : فصل في ذكر القراءة وأحكامها.
4- الوسائل : الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 1.
5- الوسائل : الباب 73 من أبواب القراءة في الصلاة ، ح 3.
6- ج : مفسدا.

ومن صلاها (1) منفردا ، أو في جماعة ظهرا ، اماما كان أو مأموما ، قنت في الثانية ، قبل الركوع وبعد القراءة أيضا (2) وروي أنّ على الإمام إذا صلاها جمعة مقصورة قنوتين ، في الأولى قبل الركوع وفي الثانية بعد الركوع (3).

قال محمّد بن إدريس : والذي يقوى عندي ، أنّ الصلاة لا يكون فيها إلا قنوت واحد ، أيّ صلاة كانت ، هذا الذي يقتضيه مذهبنا وإجماعنا ، فلا نرجع عن ذلك بأخبار الآحاد التي لا تثمر علما ولا عملا.

فإذا فرغ الإمام من الركعتين ، سلّم تسليمة واحدة على الوجه الذي ذكرناه فيما تقدم ، حيث بيّنا تسليم الإمام والمأموم.

وإن وقع سهو على الإمام فيما يوجب إعادة الصلاة ، وقد صلاها جمعة مقصورة ، أعاد هو ومن اقتدى به.

ومن صحّت له مع الإمام ركعة يسجد فيها ، امّا الاولى ثم خرج منها إمّا لرعاف ، أو ما يجري مجراه ممّا لا ينقض الوضوء ، أو الثانية ، فعليه أن يتمّها ركعتين.

ومن فاتته الجمعة مع الإمام صلاها ظهرا أربعا ، وكذلك من زحمه الناس فلم يصحّ له ركعة يسجد فيها مع الإمام.

فأمّا من كبّر مع الإمام وركع ولم يقدر على السجود لازدحام الناس ، ثم قام الإمام والناس في الركعة الثانية ، وقام معهم ، ثم ركع الإمام فلم يقدر عند الركوع في الثانية لأجل الزحام ، ثم قدر على السجود ، فانّ ركعته الأولى تامة إلى وقت السجود ، إلا انّ عليه أن يسجد لها ، فإن كان نوى بسجوده لمّا سجد في الثانية أنّه عن سجدتي الركعة الأولى ، فقد تمت له الاولى ، وعليه إذا سلّم الإمام أن يقوم فيصلّي ركعة ، يسجد فيها ثم يتشهد ، ويسلّم ، وإن لم ينو ذلك ونوى أنهما للركعة الثانية ، لم تجز عنه الركعة الاولى ولا الثانية ، ويبتدئ فيسجد

ص: 299


1- ج : كان منفردا
2- الوسائل : الباب 5 من أبواب القنوت ، ح 5 و 8 و 12.
3- الوسائل : الباب 5 من أبواب القنوت ، ح 5 و 8 و 12.

سجدتين وينوى بهما الركعة الاولى ، وعليه بعد ذلك ركعة تامة ، وقد تمت جمعته ، وهذا الذي ذهب إليه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف (1) وقال في نهايته : وإن لم ينو بهاتين السجدتين أنّهما للأولى ، كان عليه إعادة الصلاة (2) ، والذي ذكره في نهايته هو الصحيح ، لأنّه موافق لأصول المذهب ، لأنّ الأوّل يكون قد زاد في ركعة واحدة سجدتين ، ومن زاد سجدتين في ركعة واحدة سواء كان فعله عامدا أو ساهيا ، بطلت صلاته بغير خلاف ، والذي ذكره في مسائل الخلاف رواية حفص بن غياث القاضي ، وهو عامي المذهب ، فلا يجوز الرجوع إلى روايته وترك الأصول ، وأيضا فإنّ السجود لا يحتاج إلى نية بانفراده ، بل العبادة إذا كانت ذات أبعاض ، فالنية في أولها كافية لجميع أفعالها ، ففي الخبر أيضا ما يبطله من هذا الوجه ، وأيضا فما استدام النيّة إذا نوى بسجدتيه أنّهما للركعة الثانية ، لأنّهما من حقّهما ، ان يكونا للركعة الأولى فإذا لم يستدم النيّة ، فقد بطلت صلاته بغير خلاف.

وجملة الأمر ، أنّ السجود بانفراده لا يحتاج إلى النية ، بل الاستدامة كافية على ما قدّمناه ، وما قاله شيخنا في مسائل خلافه مذهب السيد المرتضى في مصباحه ، وما ذهب شيخنا إليه في نهايته هو الصحيح على ما اخترناه وقدمناه ، لأنّ فيه الاحتياط ، لانّه لا خلاف أنّ الذمة مشغولة بالصلاة بيقين ، وإذا أعادها برئت بيقين ، وليس كذلك إذا لم يعدها.

والمسافر إذا أمّ مسافرين في الجمعة ، لم يحتج إلى خطبتين ، وصلاها ركعتين ، لأنّ فرض الجمعة ساقط عنه وعنهم ، وفرضه قصر الظهر ، وصلاتها ركعتين.

فإن دخل في صلاته مقيم ، لم يسلم ، وأتمّها أربعا.

ص: 300


1- الخلاف : مسألة 9 من كتاب صلاة الجمعة.
2- النهاية : في باب الجمعة وأحكامها.

وإن دخل مسافر في صلاة حاضر قاصر لها ، أجزأته عن فرضه.

وإذا اجتمع عيد وجمعة في يوم واحد صلّيت صلاة العيد ، وكان الناس بالخيار في حضور الجمعة ، وعلى الإمام أن يعلمهم ذلك في خطبة العيد.

وليس للإمام أن يتأخّر عنهما معا.

فإن اجتمع كسوف وجمعة في وقت واحد ، قدّمت الجمعة ، وأخّرت صلاة الكسوف.

وإن اجتمع استسقاء وكسوف وجمعة لم يقدّم على الجمعة غيرها ، ثم صلّيت صلاة الكسوف ، ثم الاستسقاء ، بعد تجلّي المنكسف ، هذا إذا غلب في الظنّ وكانت الأمارة قوية في أنّ وقت الكسوف لا يفوت ، ولا يخرج وقته ، فأمّا إذا خيف خروج وقت صلاة الكسوف ، فالواجب التشاغل بصلاتها ، وترك صلاة الجمعة في أوّل الوقت ، فإن وقتها لا يفوت ، إلا إذا بقي من النهار مقدار أربع ركعات ، ووقت صلاة الكسوف ، بانجلاء بعض المكسوف يفوت.

فأمّا النوافل يوم الجمعة ، فالمسنون فيها ، زيادة أربع ركعات على النوافل في كل يوم ، واختلف أصحابنا في ترتيبها فذهب السيّد المرتضى رحمه اللّه إلى أن يصلّي عند انبساط الشمس ست ركعات ، فإذا اتضح النهار وارتفعت الشمس ، صلّيت ستا ، فإذا زالت ، صليت ركعتين ، فإذا صليت الظهر ، صلّيت بعدها ستا.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه يصلّي عند انبساط الشمس ست ركعات ، وست ركعات عند ارتفاعها ، وست ركعات بعد ذلك ، وركعتين عند الزوال ، وبالجملة أنّه قال : ويقدّم نوافل الجمعة كلّها قبل الزوال ، هذا هو الأفضل في يوم الجمعة خاصّة ، فأمّا في غيره من الأيام ، فلا يجوز تقديم النوافل قبل الزوال ، وهذا هو الصحيح ، وبه افتي ، لأنّ عمل الطائفة عليه ، وتقديم الخيرات أفضل ، والروايات به متظاهرة (1) ، وقال ابن بابويه من أصحابنا : الأفضل تأخير

ص: 301


1- الوسائل : الباب 11 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها.

النوافل كلّها ، أعني نوافل يوم الجمعة إلى بعد الزوال ، وهذا غير واضح ، ولا معتمد.

ووقت ركعتي الزوال قبل الزوال ، ولا يجوز أن يصلّي بعد الزوال ، لأن الأخبار (1) وردت عن الأئمة الأطهار بأنّهم سئلوا عن وقت ركعتي الزوال ، أقبل الأذان أو بعده؟ فقالوا : قبل الأذان ، والأذان لا يكون إلا بعد الزوال فمن ذلك ، ما أورده (2) أحمد بن محمّد بن أبي نصر البزنطي ، صاحب الرضا عليه السلام في جامعه قال : وسألته عن الزوال يوم الجمعة ما حدّه؟ قال : إذا قامت الشمس فصلّ ركعتين ، فإذا زالت فصلّ الفريضة ساعة تزول ، فإذا زالت قبل أن تصلّي الركعتين ، فلا تصلّهما ، وابدأ بالفريضة ، واقض الركعتين بعد الفريضة ، قال : وسألته عن ركعتي الزوال يوم الجمعة ، قبل الأذان أو بعده ، قال : قبل الأذان.

فتحقق وتحصّل من هذا ، أنّ ركعتي الزوال ، تصلّى قبل الزوال ، لا يجوز غير ذلك ، وشاهدت جماعة من أصحابنا يصلّونهما بعد الزوال ، ويدلك على ما اخترناه ، قول شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان رحمه اللّه في مقنعته يصلّي لتحقيق الزوال (3).

وقال بعض أصحابنا وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : ولا بأس بأن يجتمع المؤمنون في زمان التقية ، بحيث لا ضرر عليهم ، فيصلّون جماعة بخطبتين ، فإن لم يتمكنوا من الخطبة ، جاز لهم أن يصلّوا جماعة لكنهم يصلّون أربع ركعات (4) فدلّ قوله الأول على أنّهم إذا صلّوها بخطبتين ، أجزأتهم صلاة ركعتين عن الأربع وانعقدت جمعة.

وقال في مسائل الخلاف : من شرط انعقاد الجمعة ، الإمام أو من يأمره الإمام بذلك ، من قاض أو أمير ونحو ذلك ، ومتى أقيمت بغيره ، لم تصح ، ثم

ص: 302


1- الوسائل : الباب 11 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها ج 16 و 17.
2- الوسائل : الباب 11 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها ج 16 و 17.
3- المقنعة : باب العمل في ليلة الجمعة ويومها ، ص 160. ( وقال هكذا وركعتين حين تزول تستظهر بهما في تحقيق الزوال )
4- النهاية : في الجمعة وأحكامها.

قال : دليلنا أنّه لا خلاف أنّها تنعقد بالإمام أو بأمره ، وليس على انعقادها إذا لم يكن إمام ولا أمره دليل ، ثم قال : وأيضا عليه إجماع الفرقة ، فإنّهم لا يختلفون أنّ من شرط الجمعة الإمام أمره ثم قال : وأيضا فإنّه إجماع ، فإنّ من عهد النبيّ صلى اللّه عليه وآله إلى وقتنا هذا ، ما أقام الجمعة إلا الخلفاء ، والأمراء ، ومن ولّي الصلاة ، فعلم أن ذلك إجماع أهل الأعصار ، ولو انعقدت بالرعية لصلّوها كذلك ، ثم سأل نفسه رضي اللّه عنه فقال : فإن قيل : أليس قد رويتم فيما مضى ، وفي كتبكم ، أنّه يجوز لأهل القرايا والسواد والمؤمنين ، إذا اجتمع العدد الذين ينعقد بهم ، أن يصلّوا الجمعة ، فأجاب بجواب عجيب ، بأن قال : قلنا ذلك مأذون فيه ، مرغب فيه فجرى ذلك مجرى أن ينصب الإمام من يصلّي بهم (1).

قال محمد بن إدريس : نحن نقول في جواب السؤال ، القرايا والسواد ، إذا اجتمع العدد الذين تنعقد بهم الجمعة ، وكان فيهم نواب الإمام أو نواب خلفائه ، ونحمل الأخبار على ذلك ، فأما قوله رضي اللّه عنه : « ذلك مأذون مرغّب فيه ، فجرى ذلك مجرى أن ينصب الإمام من يصلّى بهم » ، فيحتاج إلى دليل على هذه الدعوى وبرهان ، لأنّ الأصل براءة الذّمة من الوجوب أو الندب ، ولو جرى ذلك مجرى أن ينصب من يصلّي بهم ، لوجبت الجمعة على من يتمكن من الخطبتين ، ولا كان يجزيه صلاة أربع ركعات ، وهذا لا يقوله منّا أحد ، والذي يقوى عندي ، صحة ما ذهب إليه في مسائل خلافه ، وخلاف ما ذهب إليه في نهايته ، للأدلّة التي ذكرها من إجماع أهل الأعصار ، وأيضا فإنّ عندنا بلا خلاف بين أصحابنا ، أنّ من شرط انعقاد الجمعة ، الإمام أو من نصبه الإمام للصلاة ، وأيضا الظهر أربع ركعات في الذّمة بيقين ، فمن قال صلاة ركعتين تجزي عن الأربع ، يحتاج إلى دليل ، فلا نرجع عن المعلوم بالمظنون ، وأخبار الآحاد التي

ص: 303


1- الخلاف : مسألة 43 من كتاب صلاة الجمعة.

لا توجب علما ولا عملا.

وقد ذكر السيّد المرتضى رحمه اللّه في جواب المسائل الميّافارقيات فقال السائل : صلاة الجمعة يجوز أن تصلّى خلف بالمؤالف والمخالف جميعا؟ وهل هي ركعتان مع الخطبة ، يقوم مقام الأربع؟ فقال المرتضى رحمه اللّه : صلاة الجمعة ركعتان من غير زيادة عليهما ، ولا جمعة إلا مع إمام عادل أو من ينصبه الإمام العادل ، فإذا عدم صليت الظهر أربع ركعات (1).

وذكر سلار في رسالته : ولفقهاء الطائفة أيضا أن يصلّوا بالناس في الأعياد والاستسقاء ، فأمّا الجمع فلا (2) هذا آخر كلام سلّار ، في رسالته ، وهو الصحيح ، وقد اعتذرنا في عدة مواضع ، للشيخ أبي جعفر رحمه اللّه فيما يورده في كتاب النهاية ، وقلنا أورده إيرادا لا اعتقادا ، لأنّ هذا الكتاب ، أعني كتاب النهاية كتاب خبر ، لا كتاب بحث ونظر ، وقد قال هو رحمه اللّه في كتابه هذا ما قاله في خطبة مبسوطة ، فكيف يعتمد ويقلد ما يوجد فيه ، وقد تنصّل المصنف من ذلك.

ويستحب الجمع بين الفرضين في يوم الجمعة خاصة من جهة الوقت والزمان معا ، وكذلك يستحب الجمع بينهما بعرفة ، من جهة المكان والزمان معا ، وكذلك يستحب الجمع بين المغرب والعشاء الآخرة بالمشعر الحرام ، ليلة العيد من جهة المكان والزمان معا ، وحدّ الجمع أن لا يصلّي بينهما نافلة ، فأمّا التسبيح والأدعية فمستحب ذلك ، وليس بمانع للجمع.

فإذا فرغ الإمام من صلاة الجمعة ، صلّى العصر بإقامة فحسب ، دون الأذان ، فأمّا من صلّى الظهر أربعا منفردا ، أو مجمعا في جماعة ، فالمستحب له الأذان والإقامة جميعا لصلاة العصر ، مثل سائر الأيام ، وقد يشتبه على كثير من أصحابنا المتفقهة هذا الموضع لما يقفون عليه ، فيما أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي

ص: 304


1- رسائل الشريف المرتضى : المجموعة الأولى ، المسألة الثانية ، أحكام صلاة الجمعة ، ص 272.
2- المراسم ، باب ذكر الأمر بالمعروف و ..

رحمه اللّه في نهايته ، في باب الجمعة ، من قوله : ولا يجوز الأذان لصلاة العصر يوم الجمعة ، بل ينبغي إذا فرغ من فريضة الظهر ، أن يقيم للعصر ، ثمّ يصلي ، إماما كان أو مأموما ، وهذا عند التأمل لا درك على المصنّف ، ولا اشتباه فيه ، وهو أن الإمام ، إذا فرغ من صلاة الظهر يوم الجمعة ، وصلّى الجمعة ، يقيم للعصر من غير أذان له ، والذي يدلك على ما قلناه أنّ المسألة ، أوردها في باب الجمعة لا الجماعة ، لا أن مقصود المصنّف كل من صلاها أربعا ، وقد قال الشيخ المفيد في مقنعته ما اخترناه ، وحقق ما ذكرناه ، فقال : فليؤذّن ، وليقم لصلاة العصر (1) وكذلك قال في كتاب الأركان : ثم قم فأذّن للعصر وأقم ، وتوجه بسبع تكبيرات على ما شرح ذلك في صلاة الظهر ، واقرأ فيها السورتين كما قدّمناه (2).

وقال ابن البراج في كتابه الكامل قال : فإذا فرغ من ذلك - يعني من صلاة الظهر يوم الجمعة ، ودعائها - فليؤذّن وليقم لصلاة العصر ، ثم يصلّيها كما صلّى الظهر ، ثم قال : ومن صلّى فرض الجمعة بإمام يقتدى به ، فليصلّ العصر بعد الفراغ من فرض الجمعة ، ولا يفصل بينهما إلا بالإقامة (3).

قال محمّد بن إدريس : فليس الشيخ أبو جعفر رحمه اللّه بأن يقلّد في نهايته ، بأولى من ابن البراج ، والشيخ المفيد بالتقليد في كتاب أركانه ، ومقنعته ، إن كان يجوز التقليد ، ونعوذ باللّه من ذلك ، فكيف وكلام الشيخ أبي جعفر محتمل لما قاله الشيخ المفيد ، وكلام الشيخ المفيد رحمه اللّه غير محتمل ، مع أنّ أصول المذهب والإجماع حاصل منعقد من المسلمين بأجمعهم ، طائفتنا وغيرها ، انّ الأذان والإقامة لكلّ صلاة من الصلوات الخمس المفترضات مندوب إليهما ، مستحب إلا ما خرج بالدليل في المواضع التي ذكرناها ، وخرجت بالإجماع أيضا ،

ص: 305


1- المقنعة : كتاب الصلاة ، باب العمل في ليلة الجمعة ويومها ص 162.
2- كتاب الأركان : لا يوجد عندنا
3- كتاب الكامل : لا يوجد عندنا.

وبقي الباقي على أصله من تأكيد الندب والاستحباب ، فليلحظ ذلك ، ويعمل فيه بالأدلّة ، فإن العمل تابع للعلم.

وإذا صلّى الإنسان خلف من لا يقتدى به جمعة للتقية ، فإن تمكن أن يقدّم صلاته على صلاته فعل ، وإن لم يتمكن ، يصلّي معه ركعتين ، فإذا سلّم الإمام ، قام فأضاف إليهما ركعتين آخرتين ، ويكون ذلك تمام صلاته.

باب النّوافل المرتبة في اليوم والليلة ونوافل شهر رمضان وغيرها من النوافل

قد بيّنا أوقات النوافل في اليوم والليلة ، وعدد ركعاتها ، غير انّا نرتبها هاهنا على وجه أليق به.

إذا زالت الشمس فليصلّ ثماني ركعات للزوال ، يقرأ فيها ما شاء من السور والآيات ، وأفضل ذلك « قل هو اللّه أحد » ويسلم في كلّ ركعتين منها ، ويقنت ، وهذا حكم جميع النوافل ، كلّ ركعتين بتسليم ، لا يجوز غير ذلك ، لأنّ الإجماع حاصل ، منعقد عليه ، وقد روي في صلاة الأعرابي ، أنّها أربع ركعات بتسليم (1).

ويصلّي ثماني ركعات بعد الفراغ ، من فريضة الظهر.

ويصلّي بعد المغرب أربع ركعات بتشهدين وتسليمين.

ويصلّي ركعتين من جلوس ، بعد العشاء الآخرة ، يعدّان بركعة ، وهي المسمّاة بالوتيرة ، ويجعل هاتين الركعتين بعد كلّ صلاة يريد أن يصلّيها ، وهذا هو الصحيح ، وقد روي أنّه يصلّي بعدهما ركعتين (2) وهذه رواية شاذّة أوردها الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مصباحه (3) ، وأورد في نهايته بخلاف ذلك

ص: 306


1- الوسائل : الباب 39 من أبواب صلاة الجمعة وآدابها ، ح 3.
2- الوسائل : الباب 21 من أبواب بقية الصلوات المندوبة ، والباب 44 من أبواب المواقيت ، ح 15.
3- المصباح : ما يستحب فعله بعد العشاء الآخرة من الصلاة ، ص 105 الطبع الحديث.

فقال : ويجعل هاتين الركعتين بعد كل صلاة يريد أن يصلّيها ، ويقوم بعدهما إلى فراشه (1) لأنّ السهر بما لا يجدي (2) نفعا مكروه ، إلّا أن يكون في الفقه ، فقد روي أنّ من أحيى أوّل ليلة خرّب آخره (3).

ويستحب أن لا ينام إلا وهو على طهر ، فإن نسي ذلك ، وذكر عند منامه فليتيمم من فراشه ، ومن خاف أن لا ينتبه (4) آخر الليل ، فليقل عند منامه ( قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ ) (5) إلى آخر السورة ، ثم يقول : اللّهم أيقظني لعبادتك في وقت كذا ، فإنّه ينتبه إن شاء اللّه على ما ورد الحديث به (6).

فإذا انتصف الليل ، قام إلى صلاة الليل ، ولا يصلّيها في أوله على كل حال ، سواء كان مسافرا ، أو شابا ، بل القضاء هو الأولى لهما.

فإذا قام فالمستحبّ له أن يعمد إلى السواك ، بكسر السين ، وليسك فاه فانّ فيه فضلا كثيرا في هذا الوقت خصوصا ، وإن كان في سائر الأوقات مندوبا إليه.

ثمّ ليستفتح الصلاة بسبع تكبيرات ، على ما رتبناه سنة ، ثم ليصلي (7) ثماني ركعات ، يقرأ في الركعتين الأولتين : « الحمد » و « قل هو اللّه أحد » ستين مرّة ، في كل واحدة منهما ثلاثين مرّة ، وقد روي أن في الثانية يقرأ بدل الثلاثين مرّة « قل هو اللّه أحد » ، « قل يا أيّها الكافرون » (8) وهو مذهب الشيخ المفيد (9) والأوّل أظهر في الرواية (10) ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه وفي الست البواقي ، ما شاء من السور ، إن شاء طول ، وإن شاء قصّر ، والأفضل قراءة السور

ص: 307


1- النهاية : كتاب الصلاة ، باب النوافل وأحكامها
2- ج : الذي لا يجدي.
3- لم نتحققه فيما بأيدينا من المصادر
4- ج : لا ينشط
5- الكهف : 110.
6- لم نجده بعينه في الكتب الموضوعة للحديث لكن وجدناه في كتاب النهاية للشيخ رحمه اللّه في كتاب الصلاة ، باب النوافل وأحكامها
7- م : يصلي
8- لم نتحققه فيما بأيدينا من المصادر.
9- المقنعة : كتاب الصلاة ، باب كيفية الصلاة وصفتها ص 107 و 108.
10- التهذيب : ج 2 ، كتاب الصلاة ، باب 8 ، ح 238.

الطوال ، مثل الأنعام ، والكهف ، والحواميم ، إذا كان عليه وقت كثير.

فإذا فرغ منها ، صلّى ركعتي الشفع ، يقرأ فيهما الحمد والمعوذتين ، ويسلّم بعدهما ، ويستحبّ أن يقرأ فيهما سورة الملك وهل أتى على الإنسان.

ثمّ يقوم إلى الوتر ، ويتوجه فيه أيضا ، على ما قدّمناه.

فإذا قام إلى صلاة الليل ، ولم يكن قد بقي من الوقت مقدار ما يصلّي كل ليلة ، وخاف طلوع الفجر ، خفّف صلاته ، واقتصر على الحمد وحدها ، فإن خاف مع ذلك طلوع الفجر ، صلّى ركعتين ، وأوتر بعدهما ، ويصلّي ركعتي الفجر ، ثمّ يصلي الفريضة ، ثمّ يقضي الثماني ركعات ، فإن لم يطلع الفجر ، أضاف إلى ما صلّى ست ركعات ، ثم أعاد ركعة الوتر وركعتي الفجر.

هذا قول الشيخ المفيد في مقنعته (1) وقال ابن بابويه في رسالته : يعيد ركعتي الفجر فحسب (2) ، والأوّل الذي حكيناه عن شيخنا المفيد أظهر وأفقه ، لأنّه قد صلّى المفردة من الوتر في غير وقتها ، ولهذا أعاد بالاتفاق منهما ركعتي الفجر فإن اعترض بركعتي الشفع ، قلنا : الإجماع حاصل على أن لا يعادا.

وإن كان قد صلّى أربع ركعات من صلاة الليل ، ثمّ طلع الفجر ، تمّم ما بقي عليه أداء ، وخففها ، ثم صلّى الفرض.

ومن نسي ركعتين من صلاة الليل ، ثم ذكر بعد أن أوتر قضاهما ، وأعاد الوتر ، على ما روي في بعض الأخبار (3).

ومن نسي التشهّد في النافلة ، ثم ذكر بعد أن ركع ، أسقط الركوع ، وجلس وتشهّد وسلّم.

وإذا فرغ من صلاة الليل ، قام فصلّى ركعتي الفجر ، وإن لم يكن الفجر

ص: 308


1- المقنعة : كتاب الصلاة ، باب تفصيل أحكام ما تقدم ذكره في الصلاة ، آخر تلك الباب ، ص 144.
2- رسالة ابن بابويه : لم نجد المسألة في الرسالة.
3- الوسائل : الباب 17 من أبواب الخلل الواقع في الصلاة.

الأوّل قد طلع بعد.

ويستحب أن يضطجع بعد صلاة نافلة الغداة التي هي الدساسة ، ويقول في حال اضطجاعه الدعاء المعروف في ذلك ، وإن جعل مكان الضجعة سجدة ، كان ذلك جائزا.

ولا بأس أن يصلّي الإنسان النوافل جالسا إذا لم يتمكن من الصلاة قائما فإن تمكن منها قائما وأراد أن يصليها جالسا ، لم يكن بذلك أيضا بأس ، وجاز ذلك على ما أورده شيخنا في نهايته (1) وهو من أخبار الآحاد التي لا توجب علما ولا عملا ، كما أورد أمثاله إيرادا ، لا اعتقادا ، والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، لأنّها مخالفة لأصول المذهب ، لأنّ الصلاة لا تجوز مع الاختيار جالسا ، إلا ما خرج بالدليل والإجماع ، سواء كانت نافلة أو فريضة ، إلا الوتيرة.

فإن قيل : يجوز عندكم صلاة النافلة على الراحلة مختارا في السفر وفي الأمصار ، قلنا : ذلك الإجماع منعقد عليه ، وهو الذي يصححه ، فلا نقيس غيره عليه ، لأنّ القياس عندنا باطل ، فلا نحمل مسألة على مسألة بغير دليل قاطع ، فليلحظ ذلك ، إلا أنّه يستحب له ، والحال ما وصفناه ، أن يصلّى لكل ركعة ركعتين.

ومن كان في دعاء الوتر ، ولم يرد قطعه ، ولحقه عطش ، وبين يديه ماء ، جاز له أن يتقدم خطى فيشرب الماء ، ثم يرجع إلى مكانه ، فيتمم صلاته ، من غير أن يستدبر القبلة ، هذا إذا كان في عزمه الصيام من الغد ، على ما روي في الاخبار (2). ولا يجوز شرب الماء للمصلّي في صلاته في سائر النوافل ، ما عدا هذه المسألة ، ولا يجوز ان يتعدّاها إلى غيرها ، وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف : يجوز عندنا شرب الماء في النافلة (3) وأطلق ذلك ، وإطلاقه غير واضح ، لأنّ القياس عندنا باطل ، لأنّه ما ورد إلا في عين هذه المسألة ، فلا يجوز تعدّيها إلى غيرها ، هذا إذا كان على الرواية إجماع منعقد.

ص: 309


1- النهاية : كتاب الصلاة ، باب النوافل وأحكامها.
2- الوسائل : الباب 23 من أبواب قواطع الصلاة
3- الخلاف : مسألة 159 من كتاب الصلاة.

فأمّا نوافل شهر رمضان ، فإنّه يستحب أن يزاد فيه على المعتاد في غيره من الشهور ، زيادة ألف ركعة بغير خلاف بين أصحابنا ، إلا من عرف اسمه ونسبه ، وهو أبو جعفر محمّد بن بابويه ، وخلافه لا يعتدّ به ، لأنّ الإجماع تقدّمه وتأخّر عنه ، وانّما اختلف أصحابنا في ترتيب الألف ، فذهب فريق منهم إلى أنّه يصلّي من أوّل ليلة إلى عشرين ليلة ، كل ليلة عشرين ركعة ، ثمان بعد الفراغ من فريضة المغرب ونافلتها ، كل ركعتين بتشهد وتسليم بعده ، واثنتي عشرة ركعة بعد العشاء الآخرة قبل الوتيرة ، ويختم صلاته بالوتيرة ، ويزيد في ليلة تسع عشرة مائة ركعة ، بعد الفراغ من جميع صلوات ، ويختم صلاته بالوتيرة ، ما لم يتجاوز نصف الليل ، فإن لم يفرغ إلا بعد نصف الليل ، صلّى الوتيرة قبل نصف الليل ، لئلا تصير قضاء بخروج وقتها ، ويصلّي في العشر الأواخر ، كلّ ليلة ثلاثين ركعة ، ثماني بعد المغرب ، واثنتين وعشرين ركعة بعد العشاء الآخرة ، ويصلّي في ليلة إحدى وعشرين ، ولا ثلاث وعشرين ، زيادة على ما فيهما مائة ركعة كل ليلة (1) فيكون تمام الألف ركعة.

وقال فريق منهم : يصلّي الى تسع عشرة منه ، في كل ليلة عشرين ركعة ، ثماني ركعات بعد المغرب ، واثنتا عشرة ركعة بعد العشاء الآخرة قبل الوتيرة ، ويختم الصلاة بالوتيرة ، وفي ليلة تسع عشرة ، مائة ركعة ، وفي ليلة إحدى وعشرين أيضا مثل ذلك ، وفي ليلة ثلاث وعشرين أيضا مثل ذلك ، ويصلي في ثماني ليال من العشر الأواخر ، في كل ليلة ثلاثين ركعة ، يصلّي بعد المغرب ثماني ركعات ، واثنتين وعشرين ركعة بعد العشاء الآخرة ، فهذه تسعمائة وعشرون ركعة ، ويصلّي في كل يوم جمعة من شهر رمضان أربع ركعات ، لأمير المؤمنين ، وركعتين صلاة فاطمة عليهما السلام ، وأربع ركعات صلاة جعفر بن أبي طالب رحمة اللّه عليه ويصلّي في آخر جمعة من الشهر ، عشرين ركعة صلاة أمير المؤمنين ،

ص: 310


1- ج : مائة ركعة فيكون.

وفي عشية تلك الجمعة ، عشرين ركعة صلاة فاطمة عليها السلام ، فهذه تمام الألف ، والمذهب الأول مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتاب الاقتصاد (1) وفي مسائل الخلاف (2) ، وافتى به ، وعمل عليه ، ودل (3) على صحته ، وجعل ما خالفه من المذهب الثاني رواية (4) ما التفت إليها ، ومذهب شيخنا المفيد أيضا في كتاب الأشراف (5).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه ، وهو الذي افتي به ، ويقوى عندي ، لأنّ الأخبار به أكثر ، وأعدل رواة ، ويعضده أنّ اللّه تعالى ، لا يكلف تكليف ما لا يطاق ، لا في فرض ولا في نافلة ، وقد جعل لهذه النافلة وقتا ، والوقت ينبغي أن يفضل على العبادة ، ولا تفضل العبادة عليه ، أو يكون كالقالب لها ، وهو الصيام ، هذا الذي يقتضيه أصول الفقه ، وفي أقصر ليالي الصيف ، وهي تسع ساعات ، لا يمكن الإتيان بهذه النافلة ، إذا كانت آخر ليلة سبت في الشهر ، لأنّ الوقت يضيق عن الفرض والنافلة المرتبة ، والعشرين ركعة من صلاة فاطمة عليها السلام وعن الأكل ، والشرب ، وللإفطار ، وقضاء حاجة لا بدّ منها ، وغير ذلك ، ومن كابر ، وقال انا أصليها أو صليتها على هذا الترتيب ، فإن سلّم له ذلك ، فصلاة على غير تؤدة ، ولا يكون تاليا للقرآن كما انزل ، ولا راكعا ولا ساجدا السجود المشروع ، وهذا مرغوب عنه على ضجر وملال ، وقد روي في الحديث لا يمل اللّه حتى تملوا (6).

ويستحب أن يصلّي ليلة النصف ، مائة ركعة يقرأ في كل ركعة الحمد (7) وقل هو اللّه أحد ، عشر مرات.

ص: 311


1- الاقتصاد : فصل في ذكر نوافل شهر رمضان وجملة من الصلوات المرغبة فيها ، ص 273.
2- الخلاف : مسألة 269 من كتاب الصلاة من دون بيان كيفية الإتيان لثلاثين ركعة.
3- ج : استدل
4- الوسائل : الباب 7 من أبواب نافلة شهر رمضان ، ح 1.
5- الاشراف : لا يوجد عندنا
6- الوسائل : الباب 2 من أبواب الدعاء ، ح 15
7- في ط : الحمد مرة.

ويستحب أن يصلّي ليلة الفطر ركعتين ، ويقرأ في أول ركعة منهما ، الحمد مرّة ، وقل هو اللّه أحد ألف مرّة ، وفي الثانية الحمد مرّة ، وقل هو اللّه أحد مرّة واحدة.

فأمّا صفة صلاة أمير المؤمنين عليه السلام ، فإنّها أربع ركعات بتسليمين ، يقرأ في كل ركعة الحمد ، وخمسين مرة قل هو اللّه أحد.

وصفة صلاة فاطمة عليها السلام ، ركعتان يقرأ في الأولى منهما الحمد مرّة واحدة ، وإنا أنزلناه مائة مرة ، وفي الثانية الحمد مرّة ، وقل هو اللّه أحد مائة مرة.

وصفة صلاة جعفر بن أبي طالب رضي اللّه عنه أربع ركعات بثلاث مائة مرة « سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر » يبتدئ الصلاة ، فيقرأ الحمد ويقرأ في الأولى منها « إذا زلزلت » فإذا فرغ منها ، سبح خمس عشرة مرّة ، ثم ليركع ، ويقول ذلك عشرا ، فإذا رفع رأسه قاله عشرا ، فإذا سجد قاله عشرا ، فإذا رفع رأسه من السجود قاله عشرا ، فإذا سجد الثانية قاله عشرا ، فإذا رفع رأسه ثانيا ، قاله عشرا ، فهذه خمس وسبعون مرّة ، ثم لينهض إلى الثانية ، وليصل أربع ركعات على هذا الوصف ، ويقرأ في الثانية « والعاديات » بعد الحمد ، وفي الثالثة بعد الحمد « إذا جاء نصر اللّه والفتح » وفي الرابعة بعد الحمد « قل هو اللّه أحد ».

ويستحب أن يصلّي الإنسان يوم الغدير إذا بقي إلى الزوال نصف ساعة بعد أن يغتسل ركعتين ، يقرأ في كل واحدة منهما الحمد مرّة ، وقل هو اللّه أحد عشر مرات ، وآية الكرسي عشر مرات ، وإنّا أنزلناه عشر مرات. وروي أنّ آية الكرسي تكون أخيرا ، وقبلها إنّا أنزلناه (1) فإذا سلّم دعا بعدهما بالدعاء المسطور في كتب العبادات.

ويستحب أن يصلّي الإنسان ليلة المبعث ، اثنتي عشرة ركعة ، ويوم المبعث أيضا وهو يوم السابع والعشرين من رجب ، اثنتي عشرة ركعة ، يقرأ في كل

ص: 312


1- مستدرك الوسائل : الباب 3 من أبواب بقية صلوات المندوبة ، ح 1 ، وفيه ، ويقرأ في كل ركعة سورة الحمد عشرا.

واحدة منها الحمد ويس ، فإن لم يتمكن قرأ ما سهل عليه من السور ، فإذا فرغ منها جلس في مكانه ، وقرأ أربع مرّات سورة الحمد وقل هو اللّه أحد مثل ذلك ، والمعوذتين بكسر الواو ، كلّ واحدة منهما أربع مرّات ، ثم يقول « سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر » أربع مرات ، ويقول : « اللّه اللّه ربي لا أشرك به شيئا » أربع مرات.

ويستحب أن يصلي ليلة النصف من شعبان ، أربع ركعات ، يقرأ في كل واحدة منها الحمد مرّة ، وقل هو اللّه أحد مائة مرة.

وبالجملة يستحب إحياء هذه الليلة ، بالصلوات والأدعية ، فإنّها ليلة شريفة عظيمة الثواب.

وإذا أراد الإنسان أمرا من الأمور لدينه أو دنياه ، يستحب له أن يصلّي ركعتين ، يقرأ فيهما ما شاء ، ويقنت في الثانية ، فإذا سلّم ، دعا بما أراد ثم ليسجد ، وليستخر اللّه في سجوده مائة مرّة ، يقول : أستخير اللّه في جميع أموري خيرة في عافية ، ثم يفعل ما يقع في قلبه ، والروايات (1) في هذا الباب كثيرة ، والأمر فيها واسع ، والأولى ما ذكرناه.

فأمّا الرقاع ، والبنادق ، والقرعة ، فمن أضعف أخبار الآحاد ، وشواذ الأخبار ، لأنّ رواتها فطحية ملعونون مثل زرعة ورفاعة وغيرهما فلا يلتفت إلى ما اختصا بروايته ، ولا يعرج عليه ، والمحصّلون من أصحابنا ما يختارون في كتب الفقه ، إلا ما اخترناه ، ولا يذكرون البنادق ، والرقاع ، والقرعة ، إلا في كتب العبادات ، دون كتب الفقه فشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه لم يذكر في نهايته (2) ومبسوطة (3) واقتصاده (4) ، إلا ما ذكرناه واخترناه ، ولم يتعرّض

ص: 313


1- الوسائل : الباب 28 من أبواب بقية الصلوات المندوبة.
2- النهاية : باب نوافل شهر رمضان وغيرها من الصلوات المرغب فيها.
3- المبسوط : في ذكر النوافل من الصلاة.
4- الاقتصاد : فصل في ذكر نوافل شهر رمضان وجملة من الصلوات المرغبة فيها ص 274.

للبنادق ، وكذا شيخنا المفيد في رسالته إلى ولده (1) لم يتعرض للرقاع ولا للبنادق ، بل أورد روايات كثيرة فيها صلوات وأدعية ، ولم يتعرض لشي ء من الرقاع ، والفقيه عبد العزيز بن البراج رحمه اللّه أورد ما اخترناه ، فقال : وقد ورد في الاستخارة وجوه عدّة ، وأحسنها ما ذكرناه ، وأيضا فالاستخارة في كلام العرب الدعاء ، وهو من استخارة الوحش ، وذلك أن يأخذ القانص ولد الظبية فيعرك اذنه ، فيبغم ، فإذا سمعت أمّه بغامه ، لم تملك أن تأتيه ، فترمي بنفسها عليه ، فيأخذها القانص حينئذ.

قال حميد بن ثور الهلالي ، وذكر ظبية وولدها ، ودعاؤه لها لمّا أخذه القانص ، فقال :

رأت مستخيرا فاستزال فؤادها *** بمحنية تبدو لها وتغيب

أراد رأت داعيا ، فكان معنى استخرت اللّه ، استدعيته إرشادي.

وكان يونس بن حبيب اللغوي يقول : إن معنى قولهم استخرت اللّه ، استفعلت من الخير ، أي سألت اللّه أن يوفق لي خير الأشياء التي أقصدها ، فمعنى صلاة الاستخارة على هذا أي صلاة الدعاء.

وإذا عرض للإنسان حاجة فليصم الأربعاء والخميس والجمعة ، ثم ليبرز تحت السماء في يوم الجمعة ، وليصلّ ركعتين ، يقرأ فيهما بعد الحمد مائتي مرّة ، وعشر مرات قل هو اللّه أحد على ترتيب صلاة التسبيح ، إلا أنّه يجعل بدل التسبيح في صلاة جعفر خمس عشرة مرة قل هو اللّه أحد في الركوع والسجود ، وفي جميع الأحوال ، فإذا فرغ منها ، سأل اللّه تعالى حاجته ، فإذا قضى حاجته ، فليصلّ ركعتين ، شكرا لله تعالى ، يقرأ فيهما ، الحمد وإنا أنزلناه ، أو سورة قل هو اللّه أحد ، ثم ليشكر اللّه تعالى على ما أنعم به عليه ، في حال السجود والركوع

ص: 314


1- رسالة الشيخ المفيد : لم نعثر عليه.

وبعد التسليم إن شاء اللّه تعالى.

وقال شيخنا أبو جعفر في مختصر (1) المصباح : ويستحب صلاة أربع ركعات ، وشرح كيفيتها في يوم النيروز « نوروز الفرس » ولم يذكر أيّ يوم هو من الأيّام ، ولا عيّنه بشهر من الشهور الرومية ، ولا العربية ، والذي قد حققه بعض محصّلي أهل الحساب ، وعلماء الهيأة ، وأهل هذه الصنعة في كتاب له ، أنّ يوم النيروز ، يوم العاشر من أيّار ، وشهر أيّار ، أحد وثلاثون يوما ، فإذا مضى منه تسعة أيّام فهو يوم النيروز يقال : نيروز ونوروز لغتان ، وأمّا نيروز المعتضد الذي يقال النيروز المعتضدي ، فإنّه اليوم الحادي عشر من حزيران ، وذلك أنّ أهل السواد والمزارعين شكوا إليه أمر الخراج ، وأنّه يفتح قبل أخذ الغلة ، وحصادها وارتفاعها ، فيستدينون عليها ، فيجحف ذلك بالناس والرعية ، فيقدم أن لا يفتح ويطالب بالخراج ، إلا في أحد عشر يوما من شهر حزيران ، قال بعض من امتدحه من الشعراء على هذا الفعال والمنقبة والرقة والإفضال :

يوم نيروزك يوم واحد لا يتأخّر *** من حزيران يوافي أبدا في أحد عشر

ذكر ذلك جميعه الصولي في كتاب الأوراق.

باب صلاة العيدين

صلاة العيدين فريضة بتكامل الشروط التي ذكرناها في لزوم الجمعة ، من حضور السلطان العادل ، واجتماع العدد المخصوص ، وغير ذلك من الشرائط التي تقدّم ذكرها ، وتجب على ما (2) تجب عليه صلاة الجمعة ، وتسقط عمن تسقط عنه ، وهما سنة إذا صليا على الانفراد ، عند فقد الإمام ، أو نقصان العدد ، أو اختلال ما عدا ذلك من الشروط ، ومعنى قول أصحابنا على الانفراد ، ليس المراد بذلك أن يصلّي كلّ واحد منهم منفردا ، بل الجماعة أيضا عند انفرادها من دون

ص: 315


1- مختصر المصباح : لا يوجد عندنا
2- ط ، ج : على من.

الشرائط مسنونة مستحبة ، ويشتبه على بعض المتفقهة هذا الموضع ، بأن يقول على الانفراد أراد مستحبة إذا صليت (1) كل واحد وحده ، قال : لأنّ الجمع في صلاة النوافل لا يجوز ، فإذا عدمت الشرائط صارت نافلة ، فلا يجوز الاجتماع فيها.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا قلة تأمّل من قائله ، بل مقصود أصحابنا على الانفراد ما ذكرناه من انفرادها عن الشرائط ، فأمّا تعلّقه بأنّ النوافل لا يجوز الجمع فيها ، فتلك النافلة التي لم تكن على وجه من الوجوه ، ولا في وقت من الأوقات واجبة ، ما خلا صلاة الاستسقاء ، وهذه الصلاة أصلها الوجوب ، وانّما سقط عند عدم الشرائط ، وبقي جميع أفعالها وكيفياتها على ما كانت عليه من قبل ، وأيضا فإجماع أصحابنا يدمر ما تعلّق به ، وهو قولهم بأجمعهم يستحب في زمان الغيبة لفقهاء الشيعة ، أن يجمعوا بهم صلوات الأعياد ، فلو كانت الجماعة فيها لا تجوز ، لما قالوا ذلك ، وأيضا فشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه سأله السائل في المسائل الحائريات ، عن الجماعة اليوم في صلاة العيدين ، فأجاب بأن قال ذلك مستحب مندوب إليه (2).

وعدد صلاة كل واحد من العيدين ركعتان باثنتي عشرة تكبيرة بغير خلاف ، والقراءة فيها عندنا ، قبل التكبيرات في الركعتين معا ، وانّما الخلاف بين أصحابنا في القنتات ، منهم من يقنت تسع قنتات ، ومنهم من يقنت ثمان قنتات ، والأول مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، والثاني مذهب شيخنا المفيد ، لأنّ الشيخ المفيد يقوم إلى الركعة الثانية بتكبيرة ، ويجعل هذه التكبيرة من جملة التكبيرات الخمس ، فيسقط لها قنوتها ، لأنّ في دبر كلّ تكبيرة قنوتا ما عدا تكبيرة الإحرام ، وتكبيرتي الركوع ، وشيخنا أبو جعفر لا يقوم إلى الثانية بتكبيرة فإذا قام ، قرأ ، ثم كبّر أربع تكبيرات ، يقنت في دبر كلّ تكبيرة

ص: 316


1- في ط وج : صلاها
2- المسائل الحائريات : لا توجد على ما تفحصنا فيها.

ثم يكبر الخامسة ، يركع بها ، وهذا أظهر في الروايات (1) والعمل ، وبه افتي.

وترتيبها ، ركعتان باثنتي عشرة تكبيرة على ما قدّمناه ، سبع في الاولى وخمس في الثانية ، يفتتح صلاته بتكبيرة الإحرام ، ويتوجه إن شاء ، ثم يقرأ سورة الحمد ، وسورة الأعلى ، ثم يكبر خمس تكبيرات ، يقنت في دبر كلّ تكبيرة قنوتا بالدعاء المعروف في ذلك ، وإن قنت بغيره كان أيضا جائزا ، ثم يكبر السابعة ، ويركع بها ، فإذا قام إلى الثانية ، قام بغير تكبير ، ثم يقرأ الحمد ، ويقرأ بعدها ، والشمس وضحاها ، وروي سورة الغاشية (2) ثم يكبر أربع تكبيرات ، يقنت في دبر كل تكبيرة منها ، ثمّ يكبر الخامسة ، ويركع بها.

وليس في صلاة العيدين أذان ولا إقامة ، ولكن ينادي لها الصلاة ، ثلاث مرّات ، ويجهر الإمام فيهما ، كما يجهر في الجمعة.

والخطبتان فيهما واجبة على الإمام كوجوبهما في الجمعة ، إلا أنّهما في الجمعة قبل الصلاة ، وفي العيدين بعد فراغه من الصلاة ، ولا يجب على المأمومين استماعهما ، بخلاف الجمعة.

ولا منبر في العيدين ينقل نقلا ، بل يوضع للإمام من الطين ما يعلو عليه ، ويخطب.

ووقتهما من طلوع الشمس إلى زوالها من ذلك اليوم ، إلا انّه يستحب في صلاة الأضحى تعجيل الخروج والصلاة ، ويستحب في صلاة الفطر خلاف ذلك ويستحب لمن خرج إلى صلاة العيد أن يخرج في طريق ، ويجي ء في طريق غيرها.

ويستحب أن يكون الوقوف والسجود في صلاة العيدين على الأرض نفسها ، من غير حائل ، وليس قبلها تطوّع بصلاة ، ولا بعدها ، لا قضاء ولا أداء إلى زوال الشمس ، ولا بأس بقضاء الفرائض ، وانّما الكراهة في صلاة النافلة ، إلا بالمدينة ، فإن من غدا إلى صلاة العيد مجتازا على مسجدها استحب له أن

ص: 317


1- الوسائل : الباب 10 من أبواب صلاة العيد
2- نفس المصدر والباب ح 2 و 4.

يصلّي فيه ركعتين.

وليس على من فاتته صلاة العيدين مع الإمام قضاء واجب ، وإن استحب له أن يأتي بها منفردا.

والسنّة لأهل الأمصار أن يصلّوا العيدين مصحرين ، بارزين من الأبنية ، إلا أهل مكة خاصة ، فإنّهم يصلّون في المسجد الحرام ، لحرمة البيت ، وقد ألحق قوم بذلك مسجد الرسول صلّى اللّه عليه وعلى آله والأوّل هو المعمول عليه ، وتكون الصلاة في صحن المسجد الحرام ، دون موضع الظلال منه.

ويكره خروج الإمام والمسلمين يوم العيد إلى المصلّى بالسلاح ، إلا لخوف من عدو يخاف مكيدته ، ويكون الخروج في طريق ، والرجوع في غيره.

ومن السنّة المؤكدة في العيدين ، الغسل ، ووقته من طلوع الفجر الثاني ، إلى قبل الخروج إلى المصلى ، والتزين والتطيب ، كما ذكرناه في الجمعة ، ولبس الثياب الجدد ، وأن يطعم الغادي في يوم الفطر شيئا من الحلاوة ، وأفضله السكر ، وروي من تربة سيّدنا الشهيد أبي عبد اللّه الحسين بن علي عليهما السلام (1) والأول أظهر ، لأنّ هذه الرواية شاذة ، من أضعف أخبار الآحاد ، لأنّ أكل الطين على اختلاف ضروبه حرام بالإجماع ، إلا ما خرج بالدليل من أكل التربة الحسينية على متضمنها أفضل السلام للاستشفاء ، فحسب القليل منها ، دون الكثير ، للأمراض ، وما عدا ذلك فهو باق على أصل التحريم ، والإجماع.

ويكون أكله وإفطاره على الحلاوة قبل الخروج إلى الصلاة ، وفي عيد يوم الأضحى لا يطعم شيئا حتى يرجع من الصلاة ، ولهذا سنّ تعجيل الخروج إلى المصلّى في صلاة الأضحى ، وتأخير الخروج إليه في صلاة الفطر.

والتكبير في ليلة الفطر ابتداؤه دبر صلاة المغرب ، إلى أن يرجع الإمام من

ص: 318


1- الوسائل : الباب 13 من أبواب صلاة العيد ، ح 1.

صلاة العيد ، فكأنه في دبر أربع صلوات أولهن المغرب من ليلة الفطر ، وآخرهن صلاة العيد ، وقال بعض أصحابنا : وهو ابن بابويه في رسالته في دبر ست صلوات (1) الصلوات المذكورات ، والظهر والعصر من يوم العيد ، والأوّل هو الأظهر بين الطائفة ، وعليه عملهم.

وفي الأضحى التكبير على من كان بمنى عقيب خمس عشرة صلاة ، أولها صلاة الظهر من يوم العيد ، وآخرها صلاة الصبح من يوم النفر الأخير ، ومن كان في غير منى ، من أهل سائر الأمصار ، يكبر في دبر عشر صلوات ، أولهن صلاة الظهر من يوم العيد ، وآخرهنّ صلاة الصبح من يوم النفر الأول.

وصفة التكبير وكيفيته : « اللّه أكبر ، اللّه أكبر ، لا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر على ما هدانا ، والحمد لله على ما أولانا » هذا في تكبير عيد الفطر ، فإن كان تكبير صلاة الأضحى ، زيد في آخره بعد قوله : والحمد لله على ما أولانا « ورزقنا من بهيمة الأنعام » وهل هذا التكبير في دبر هذه الصلوات واجب ، أو مندوب ، اختلف أصحابنا على قولين : فذهب قوم منهم إلى أنّه واجب ، وذهب قوم آخرون إلى أنّه مستحب ، فالأول مذهب المرتضى واختياره ، والثاني مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه واختياره في نهايته (2) ومبسوطة (3) وهو الذي يقوى عندي ، لأنّ الأصل براءة الذمة من الواجب والندب ، إلا بدليل قاطع ، وإذا كان لا إجماع على الوجوب ، فبقي أنّ الأصل براءة الذمة ، وفقدان دليل الوجوب ، والأخبار ناطقة عن الأئمة الأطهار بالاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، يعضد (4) دليل براءة الذمة ، ويؤيده.

ويستحب لمن لم يشهد الموقف بعرفات ، أن يعرّف في بعض المشاهد

ص: 319


1- لم نتحققه في رسالة ابن بابويه
2- النهاية : في صلاة العيدين.
3- المبسوط : كتاب صلاة العيدين
4- ج : يعضده.

الشريفة ، وقد (1) روي في التعريف في مشهد سيّدنا أبي عبد اللّه الحسين بن علي عليهما السلام فضل كثير ، وثواب جزيل ، فينبغي أن لا يدعه الإنسان مع الاختيار.

ويكره أن يخرج من البلد مسافرا بعد فجر يوم العيد ، إلا بعد أن يشهد صلاة العيد ، فإن خالف فقد ترك الأفضل ، فأمّا قبل ذلك فلا بأس به ، فأمّا بعد طلوع الشمس ، فلا يجوز له السفر إلا بعد الصلاة ، إذا كان ممن تجب عليه صلاة العيد.

ويستحب أن يرفع يديه مع كل تكبيرة ، وإذا أدرك مع الإمام بعض التكبيرات ، تممها مع نفسه ، فإن خاف فوت الركوع والى بينها من غير قنوت.

وينبغي للإمام أن بحث الناس في خطبته في الفطر (2) على الفطرة ، ويذكر وجوبها ، ووزنها ، وجنسها ، ووقت إخراجها ، ومن المستحق لها ، وعلى من تجب ، ومن يستحب له إخراجها إذا لم تجب عليه ، ويبالغ في شرح جميع ذلك.

وفي الأضحى ، يحثهم على الأضحية ويصفها ، ويذكر أجناسها ، ويبالغ في ذلك.

ومن لا تجب عليه صلاة العيد من المسافر والعبد وغيرهما ، يجوز لهما إقامتهما منفردين سنّة.

ولا بأس بخروج العجائز ، ومن لا هيأه لها من النساء ، في صلاة الأعياد ، ليشهدن الصلاة ، ولا يجوز ذلك لذوات الهيئات منهن والجمال.

ووقت صلاة العيد إذا طلعت الشمس ، وارتفعت ، وانبسطت ، والوقت باق إلى زوال الشمس ، فإذا زالت ، فقد فاتت ولا قضاء على ما بيّناه.

باب صلاة الكسوف

صلاة كسوف الشمس وخسوف القمر فرض واجب ، يقال : كسفت الشمس تكسف كسوفا ، وكسفها اللّه تعالى كسفا يتعدّى ولا يتعدّى ، وكذلك

ص: 320


1- الوسائل : الباب 49 من أبواب المزار وما يناسبه
2- ج : في الخطبة يوم الفطر.

كسف القمر ، إلا أنّ الأجود فيه ، أن يقال خسف القمر ، والعامة تقول : انكسفت الشمس ، قد وضعها بعض مصنفي أصحابنا في كتاب له ، وهي لفظة عامية ، والأولى تجنبها ، واستعمال ما عليه أهل اللغة في ذلك ، قد ذكره الجوهري في صحاحه وغيره من أهل اللغة.

وكذلك عند الزلازل ، والرياح المخوفة ، والظلمة الشديدة ، والآيات التي لم تجر بها العادة تجب الصلاة لها مثل ذلك.

ويستحب أن تصلى هذه الصلاة جماعة ، وإن صليت فرادى كان جائزا.

ومن ترك هذه الصلاة عند كسوف قرص الشمس والقمر بأجمعهما متعمّدا وجب عليه قضاء الصلاة بغسل ، واختلف قول أصحابنا في هذا الغسل ، منهم من ذهب إلى وجوبه ، ومنهم من ذهب إلى استحبابه ، وهو الذي يقوى في نفسي ، لأنّ الأصل براءة الذمة ولا إجماع على الوجوب ، ولا دليل عليه ، والأول اختيار سلار ، والثاني اختيار شيخنا المفيد وأبي جعفر الطوسي ، والمرتضى رحمهم اللّه.

وإن تركها ناسيا ، والحال ما وصفناه ، قضاها بغير غسل ، لا فرضا ولا ندبا ، بغير خلاف هاهنا في الغسل على القولين معا.

ومتى احترق بعض قرص الشمس ، أو القمر ، وترك الصلاة متعمدا ، وجب عليه القضاء بغير غسل أيضا بلا خلاف ، وإن تركها ناسيا والحال ما قلناه ، لم يكن عليه قضاؤها ، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى وجوب القضاء في هذه الحال ، وهو اختيار شيخنا المفيد في مقنعته (1) ، وهو الذي يقوى في نفسي ، للإجماع المنعقد من جميع أصحابنا بغير خلاف ، على أنّ من فاتته صلاة أو نسيها ، فوقتها حين يذكرها ، والخبر المجمع عليه عند جميع الأمة ، من قول الرسول

ص: 321


1- المقنعة : كتاب الصلاة باب صلاة الكسوف ، ص 211 ، والعبارة هذه : وإن احترق بعضه ولم تعلم بذلك حتى أصبحت صيت القضاء فرادى.

عليه السلام ، أنّ من نام عن صلاة أو نسيها فوقتها حين يذكرها (1) ودليل الاحتياط أيضا ، والأوّل قول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه.

ووقت هذه الصلاة ، إذا ابتدأ قرص الشمس ، أو القمر في الانكساف ، إلى أن يأخذ في الابتداء للانجلاء ، فإذا ابتدأ في ذلك فقد مضى وقتها ، وصارت فضاء.

ويتوجه فرض هذه الصلاة إلى الذكر ، والأنثى ، والحر ، والعبد ، والمقيم ، والمسافر ، وإلى كل من كان مخاطبا بفرض الصلاة ، ولم يكن له عذر يبيح الإخلال بالفرض ، ويسقط ذلك العذر تكليفه الصلاة ، كالحيض ، والنفاس.

وجملة القول في وقت هذه الصلاة وتحقيق ذلك ، أنّه عند ظهور الكسوف للبصر في المشاهدة ، أو العلم به ، فيمن لم يكن مشاهدا ، من أعمى ، وغيره ، إلا أن يخشى فوت فرض صلاة حاضرة قد تضيّق وقتها ، فيبدأ بذلك الفرض.

وإن دخل وقت فرض ، وأنت في صلاة الكسوف ، وخشيت خروج الوقت ، قطعت الصلاة ، وأتيت بالفرض ، ثم عدت إلى صلاة الكسوف بانيا على ما تقدّم ، محتسبا بما مضى.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : فمتى كان وقت صلاة الكسوف وقت فريضة ، فإن كان أوّل الوقت صلّى صلاة الكسوف ، ثم صلاة الفرض ، فإن تضيّق الوقت بدأ بصلاة الفرض ، ثم قضى صلاة الكسوف ، وقد روي (2) أنّه يبدأ بالفرض على كل حال ، وإن كان في أول الوقت ، وهو الأحوط ، فإن دخل في صلاة الكسوف ، فدخل عليه الوقت ، قطع صلاة الكسوف ، ثم صلّى الفرض ، ثم استأنف صلاة الكسوف ، وإن كان وقت صلاة الليل ، صلّى أولا صلاة الكسوف ، ثم صلاة الليل (3).

ص: 322


1- مستدرك الوسائل : الباب 1 من أبواب قضاء الصلوات ، ح 11 و 12 مع اختلاف بعض ألفاظهما لما ذكره قدس سره
2- الوسائل : الباب 5 من أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ح 1.
3- المبسوط : كتاب صلاة الكسوف.

وهذا مذهبه في نهايته (1) ، وقد رجع عن هذا القول ، في جمله وعقوده ، فقال : خمس صلوات تصلى في كل وقت ما لم يتضيّق وقت فريضة حاضرة ، من فاتته صلاة فريضة فوقتها حين يذكرها ، وكذلك قضاء النوافل ما لم يدخل وقت فريضة ، وصلاة الكسوف (2).

وهذا هو الصحيح الذي يعضده الأدلة ، لأنّ وقت الفريضة ممتد ، موسع ، لا يخشى فوته ، وهذه الصلاة يخشى فوتها.

وأيضا لا يجوز قطع صلاة شرعية مأمور بالدخول فيها ، وهذا الذي اخترناه ، مذهب السيد المرتضى ، والإجماع عليه أيضا ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه وافق في جمله وعقوده ورجع ، على ما حكيناه عنه ، وكذلك في أوّل كلامه في مبسوطة ثم قال : وقد روي (3). فلا نرجع عن الأدلة برواية غير مجمع على صحتها.

ولا أذان لهذه الصلاة في جمع ولا فرادى.

وهي عشر ركوعات (4) ، بأربع سجدات ، يفتتح الصلاة بالتكبير ، ثم يستفتح ، ويقرأ أم الكتاب وسورة ، ويستحب أن يكون من طوال السور ، وتجهر بالقراءة ، فإذا فرغت منها ، ركعت ، فأطلت الركوع ، بمقدار قراءتك ، إن استطعت ، على جهة الاستحباب ، ثم ترفع رأسك من الركوع ، وتقول اللّه أكبر ، وتقرأ أم الكتاب وسورة ، ثم تركع الثانية ، وتطيل ، على ما تقدّم ، ثم تعود إلى الانتصاب ، والقراءة حتى تستتم خمس ركوعات ، ولا تقل سمع اللّه لمن حمده ، إلا في الركعتين اللتين يليهما السجود ، وهما الخامسة والعاشرة ، فإذا انتصبت من الركعة الخامسة ، كبرت وسجدت سجدتين ، تطيل فيهما أيضا التسبيح ، ثم تنهض ، فتفعل من القراءة والركوع مثل ما تقدّم ، ثمّ تتشهد وتسلّم.

ص: 323


1- النهاية : باب صلاة الكسوف والزلازل والرياح السود.
2- الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، في فصل ذكر المواقيت.
3- المبسوط : كتاب صلاة الكسوف
4- في ط وج : ركعات.

ولا بأس بأن تقرأ السورة التي تلي أم الكتاب في أكثر من ركعة واحدة ، بأن تبعضها ، فإذا فعلت ذلك أجزأك أن لا تقرأ أم الكتاب ، وتبتدئ بما بلغت إليه من السورة التي قرأت بعضها ، فإذا استأنفت أخرى ، فالمستحب أن تقرأ أم الكتاب.

وجملة القول ، في قراءة هذه الصلاة ، أنّ قراءة الحمد تجب في الخمس ركعات الأوائل ، في أوّل الركوعات ، ويتعيّن ، ولا يجب تكرارها في باقي الخمسة ، فإذا سجد وقام إلى الخمسة الركوعات وجب عليه ، قراءة الحمد في الأوّل منها ، ويتعيّن ذلك ، ولا يجب تكرار قراءة الحمد في باقي الركوعات ، لأنّ الخمس بمنزلة ركعة واحدة ، من صلاة الخمس.

وينبغي أن يكون لك بين كل ركوعين ، قنوت كامل ، تقنت قبل الركعة الثانية ، ثمّ قبل الرابعة ، ثمّ قبل السادسة ، ثمّ قبل الثامنة ، ثمّ قبل العاشرة.

وينبغي أن تقدّر الفراغ من صلاتك (1) بقدر انجلاء المكسوف ، فإن فرغت منها قبل الانجلاء ، فلا تجب عليك إعادة الصلاة ، بل يستحب لك الدعاء والتسبيح إلى أن ينجلي ، وربما ذهب بعض أصحابنا إلى وجوب الإعادة ، وهذا غير واضح ، لأنّه ليس عليه دليل ، والأصل براءة الذمة ، والإعادة فرض ثان ، والأمر فقد امتثل بالصلاة الاولى ، وذهب بعض أصحابنا إلى أنّ الإعادة تستحب ، ولا دليل على ذلك أيضا.

وقال السيد المرتضى في مصباحه ، ومن فاتته صلاة الكسوف ، وجب عليه قضاؤها ، إن كان قرص المنكسف احترق كلّه فإن كان انّما احترق بعضه فلا يجب عليه القضاء ، وقد روي وجوب القضاء على كلّ حال (2) والأول أظهر ، وروي أنّ من تعمّد ترك هذه الصلاة وجب عليه مع القضاء الغسل (3)

ص: 324


1- في ط وج : من قرائتك.
2- الوسائل : الباب 5 من أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ح 1.
3- الوسائل : الباب 10 من أبواب صلاة الكسوف والآيات ، ح 5.

قال محمّد بن إدريس : وقد قلنا ما عندنا في ذلك من القضاء وغيره ، فلا وجه لإعادته.

باب صلاة الاستسقاء

والمسنون عند منع السماء قطرها ، وجدب الأرض ، أن ينذر الإمام الناس ، بعزمه على الاجتماع للاستسقاء ، إمّا في خطبته يوم الجمعة ، أو بأن ينادي بذلك فيهم ، ويأمرهم بالاستعداد لذلك ، وأخذ الأهبة له ، من تقديم التوبة ، والإخلاص لله تعالى ، والانقطاع إليه ، فإذا خرجوا لذلك ، فينبغي أن يلبسوا أخشن ثيابهم ، ويمشوا وهم مطرقون ، مخبتون ، مكثرون لذكر اللّه تعالى ، والاستغفار لذنوبهم ، وسيئ أعمالهم ، ويمنع من الحضور معهم أهل الذمة ، وجميع الكفار ، والمتظاهرين بالفسوق ، والمنكر ، والخلاعة ، من أهل الإسلام ، ويخرجوا معهم من النساء العجائز ، والأطفال والبهائم ، ويغدوا الإمام في اليوم الذي أخذ الوعد فيه ، ويستحب أن يكون ذلك اليوم ، يوم الاثنين ، مصحرا إلى المصلى ، بحيث يصلّى صلاة العيدين ، وقد تقدّم المؤذنون بين يديه ، وفي أيديهم العنز والعنز جمع العنزة ، وهي عصا ، فيها زجّ حديد ، ويمشي في أثرهم ، والمنبر محمول بين يديه ، فإذا انتهى إلى الموضع الذي يكون فيه ، تقدّم الى (1) المؤذنين ، بأذان الناس بالصلاة ، بأن يقولوا : الصلاة الصلاة ، بغير أذان ، ولا اقامة.

وقال بعض أصحابنا : إنّ المنبر لا يحمل ، بل المستحب أن يكون ، مثل منبر صلاة العيد ، معمول من طين ، وهذا هو الأظهر في الرواية والقول ، والأوّل مذهب السيّد المرتضى ، ذكره في مصباحه.

ثم يصلّي بالناس ركعتين ، يجهر فيهما بالقراءة ، على صفة صلاة العيد ، وعدد تكبيرها وهيأتها.

ص: 325


1- ج : قدّم.

فإذا سلّم من الصلاة ، رقى المنبر ، فخطب ، وحمد اللّه تعالى ، وأثنى عليه ، وعدّد نعمه ، وآلاءه ، وصلّى عليه نبيه محمّد صلى اللّه عليه وآله وبالغ في الوعظ ، والزجر ، والإنذار ، وفي بعض الروايات ، أنّ هذه الخطبة تكون قبل الصلاة ، والذي ذكرناه اثبت ، وعليه الإجماع.

فإذا فرغ من الخطبة ، قلب رداءه ، فجعل ما كان على يمينه ، على شماله ، وما كان على شماله ، على يمينه ، ثم يستقبل القبلة ، فيكبر اللّه تعالى مائة تكبيرة رافعا بها صوته ، ويكبّر الناس ، بتكبيرة ، غير رافعين لأصواتهم.

ثم يلتفت إلى يمينه ، ويسبح اللّه تعالى مائة تسبيحة ، رافعا بها صوته ، ويسبّح الناس معه.

ثم يلتفت إلى يساره ، فيهلّل اللّه تعالى مائة تهليلة ، رافعا بها صوته ، ويهلل الناس معه.

ثم يستقبل الناس بوجهه ، فيحمد اللّه تعالى مائة تحميدة ، رافعا بها صوته ، ثم يجلس فيرفع يديه ، ويدعو اللّه تعالى بالسقيا ، ويدعو الناس معه ، وليؤمنوا على دعائه.

وذهب بعض أصحابنا إلى غير هذا الترتيب ، وقال : إذا فرغ من صلاة الركعتين ، وسلّم منهما ، استقبل القبلة ، وكبر اللّه تعالى مائة تكبيرة ، يرفع بها صوته ، ويكبر معه من حضر ، ويلتفت عن يمينه ، فيسبح اللّه مائة مرة ، يرفع بها صوته ، ويسبح معه من حضر ، ثم يلتفت عن يساره ، فيهلل اللّه مائة مرّة ، يرفع بها صوته ، ويقول ذلك من حضر معه ، ثمّ يستقبل الناس بوجهه ، ويحمد اللّه مائة مرّة ، يرفع بها صوته ، ويقول ذلك من حضر معه ، ثم يدعو ، ويصعد المنبر بعد ذلك ، فيخطب بخطبة الاستسقاء ، المروية عن أمير المؤمنين عليه السلام ، فيجعل الخطبة بعد التكبيرات المائة ، والتسبيحات ، والتهليلات المائة ، والتحميدات المائة.

والأوّل مذهب السيّد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، والثاني مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي والذي يقوى في نفسي الأوّل.

ص: 326

ويستحب لأهل الخصب ، أن يدعو لأهل الجدب ، فإن خرجوا فسقوا قبل أن يصلوا صلّوا شكرا لله تعالى ، فإن صلّوا ولم يسقوا ، خرجوا ثانيا ، وثالثا ، لأنّه لا مانع من ذلك.

وإذا نضب ماء العيون أو مياه الآبار ، جاز صلاة الاستسقاء ، لأنّه لا مانع من ذلك.

ولا يجوز أن يقول مطرنا بنوء كذا ، لأنّ النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن ذلك.

باب صلاة المسافر

السفر على أربعة أقسام : واجب مثل الحجّ والعمرة ، وندب مثل الزيارات وما أشبهها ، ومباح مثل تجارة ، وطلب معيشة ، وما أشبه ذلك فهذه الأنواع الثلاثة ، كلّها يجب فيها التقصير في الصوم والصلاة ، والرابع سفر معصية ، مثل سفر الباغي ، والعادي ، أو سعاية ، أو قطع طريق ، أو إباق عبد من مولاه ، أو نشوز زوج من زوجها ، أو اتّباع سلطان جائر في معونته وطاعته مختارا ، أو طلب صيد للهو والبطر ، فانّ جميع ذلك ، لا يجوز فيه التقصير ، لا في الصوم ولا في الصلاة.

فأمّا الصيد الذي لقوته ، وقوت عياله ، فإنّه يجب فيه التقصير في الصوم والصلاة.

فأمّا إن كان الصيد للتجارة دون الحاجة للقوت ، روى أصحابنا بأجمعهم أنّه يتم الصلاة ، ويفطر الصوم (1).

وكل سفر أوجب التقصير في الصلاة ، أوجب التقصير في الصوم ، وكل سفر أوجب التقصير في الصوم ، أوجب تقصير الصلاة ، إلا هذه المسألة فحسب ، للإجماع عليها ، فصار سفر الصيد ، على ثلاثة أضرب ، وكل ضرب منها ، يخالف

ص: 327


1- مستدرك الوسائل : الباب 7 من أبواب صلاة المسافر ، ح 2.

الآخر ويباينه ، فصيد اللّهو والبطر ، يجب فيه تمام الصلاة والصوم ، وصيد القوت للعيال والنفس ، يجب فيه تقصير الصلاة والصوم ، بالعكس من الأول ، وصيد التجارة ، يجب فيه تمام الصلاة ، وتقصير الصوم.

واعلم أنّ فرض السفر ، في كل صلاة من الصلوات الخمس ، ركعتان ، إلا المغرب وحدها ، فإنّها ثلاث ركعات.

والنوافل التي أكد الإتيان بها في السفر ، سبع عشرة ركعة ، أربع بعد المغرب ، وصلاة الليل ثماني ركعات ، وثلاث الشفع والوتر ، وركعتا الفجر.

وفرض السفر التقصير ، كما أنّ فرض الحضر الإتمام ، فالمتمم مع السفر ، كالمقصّر في الحضر.

ومن تعمّد الإتمام في السفر بعد حصول العلم بوجوبه عليه ، وجبت عليه الإعادة ، لتغييره فرضه ، فإن نسي التقصير ، فأتم ، أعاد ما دام في الوقت ، وبعد خروج الوقت ، لا اعادة عليه ، وقال بعض أصحابنا : يجب عليه الإعادة على كل حال ، والأول هو الصحيح ، لأنّ عليه الإجماع ، وبه تواترت الأخبار (1) وعليه العمل والفتوى ، من محصلي فقهاء آل الرسول عليهم السلام.

وحدّ السفر الذي يجب معه التقصير ، بريدان ، والبريد أربعة فراسخ ، والفرسخ ثلاثة أميال ، والميل أربعة آلاف ذراع ، على ما ذكره المسعودي في كتاب مروج الذهب (2) فإنّه قال : الميل أربعة آلاف ذراع بذراع الأسود ، وهو الذراع الذي وضعه المأمون ، لذرع الثياب ، ومساحة البناء ، وقسمة المنازل ، والذراع أربعة وعشرون إصبعا.

وأصل البريد ، أنّهم كانوا ينصبون في الطرق أعلاما ، فإذا بلغ بعضها ، راكب البريد نزل عنه ، وسلّم ما معه من الكتب إلى غيره ، فكان ما به من الحر والتعب

ص: 328


1- الوسائل : الباب 17 من أبواب صلاة المسافر
2- مروج الذهب : لم نتحققه.

يبرد في ذلك ، أو ينام فيه الراكب ، والنوم يسمى بردا فسمى ما بين الموضعين بريدا ، وانّما الأصل الموضع الذي ينزل فيه الراكب ، ثم قيل للدابة بريد ، وانّما كانت البرد للملوك ثمّ قيل للسير بريد.

وقال مزرّد بن ضرار يمدح عرابة الأوسي.

فدتك عراب اليوم نفسي واسرتي *** وناقتي الناجي إليك بريدها

فمن كان قصده إلى مسافة هذا قدرها ، وكان ممن يجب عليه التقصير ، لزمه ، وتحتم عليه القصر.

وإن كانت قدر المسافة أربعة فراسخ للمار إليها ونوى ، وأراد الرجوع من يومه ، عند الخروج من منزله ، لزمه أيضا التقصير ، فإن لم ينو الرجوع من يومه ، ولا أراده ، وجب عليه التمام ، ولا يجوز له التقصير.

وقال بعض أصحابنا : يكون مخيرا بين الإتمام والتقصير ، في الصوم والصلاة ، وهو مذهب شيخنا المفيد.

وقال بعض أصحابنا : يكون مخيّرا ، بين إتمام صلاته وتقصيرها ، ويجب عليه إتمام صيامه ، ولا يكون مخيّرا فيه ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي (1).

وقال بعض أصحابنا : لا يكون مخيرا في شي ء من العبادتين ، بل يجب عليه تمامهما معا ، وهذا الذي اخترناه أولا ، وبه يقول السيّد المرتضى ، وهو الصحيح الذي تقتضيه أصول المذهب ، ويقويه النظر ، والأدلة ، والإجماع ، لأنّه لا خلاف عندهم في حدّ المسافة التي تجب ويتحتّم القصر ، على من قصدها ، ووجوب إتمام الصلاة على من لم يقصدها ، فقد أجمعوا على تقصير صلاة القاصد لها ، ولا إجماع منهم ، على تقصير صلاة من لم يقصدها.

وأيضا فالأصول تقتضي أنّ الإنسان لا يكون مخيرا في تمام صلاته ،

ص: 329


1- في النهاية كما يأتي ص 295.

وقصرها ، بل الواجب عليه إما تمامها أو قصرها ، إلا ما خرج بالدليل ، والإجماع من تخييره في البقاع المذكورة.

وأيضا فالإنسان المكلف بالصلاة إمّا أن يكون حاضرا ، أو مسافرا ، فالحاضر ومن في حكمه ، يجب عليه بالإجماع تمام الصلاة ، والمسافر ، ومن في حكمه ، يجب عليه أيضا ، بالإجماع ، تقصير الصلاة ، ولا ثالث معنا ، وأيضا إسقاط الركعتين من الصلاة الرباعية بعد اشتغال الذمة بها ، يحتاج إلى دليل شرعي ، كدليل ثبوتهما ، ولا دليل ولا إجماع على ذلك ، لأنّا قد بيّنا اختلاف أصحابنا في المسألة ، ومن قال بها ، اختلفوا في كيفيتها ، وهل يكون مخيرا بين تمام الصلاة والصوم وبين قصرهما أو يكون مخيرا بين تمام الصلاة وقصرها دون الصوم ، على ما حكيناه عن أصحابنا المصنّفين ، فإذا كان الاختلاف في المسألة حاصلا فلا يرجع ، عن المعلوم المفروض المحتم على الذمم ، المجمع على وجوبه ، واشتغالها به بأخبار آحاد لا توجب علما ولا عملا ، وخصوصا على مذهب أصحابنا فقهاء أهل البيت عليهم السلام ، سلفهم وخلفهم ، في أخبار الآحاد ، وأنّهم مجمعون على ترك العمل بها ، على ما بيناه ، وأوضحناه في صدر كتابنا هذا.

ودليل الاحتياط أيضا يقتضي ما اخترناه ، لأنّه لا خلاف بين أصحابنا جميعهم ، في أنّ المكلف ، إذا تمّم صلاته وصومه ، في المسألة المختلفة فيها ، فانّ ذمته بريئة ، وإذا قصّر ، ففيه الخلاف ، فبالإجماع لا ذمّ على تارك القصر ، وما لا ذمّ في تركه ، ويخشى في فعله أن يكون بدعة ، ومعصية ، ولا تبرأ الذمة معه ، ويستحق بتركه الذم ، فتركه أولى وأحوط في الشريعة بغير خلاف.

وشيخنا أبو جعفر قال في جمله وعقوده : ومن يلزمه الصوم في السفر ، عشرة ، من نقص سفره عن ثمانية فراسخ (1).

ص: 330


1- الجمل والعقود : في فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه الصوم.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : ولا خلاف عنده ، وعند جميع أصحابنا ، أنّ من وجب عليه إتمام الصوم ، ولزمه يجب عليه إتمام الصلاة ، ويلزمه ، وكذلك من وجب عليه إتمام الصلاة ، ولزمه ، يجب عليه إتمام الصوم ويلزمه ، طردا وعكسا ، إلا مسألة واحدة استثناها أصحابنا ، وهو طالب الصيد للتجارة ، فإنّه يجب عليه إتمام الصلاة والتقصير في الصيام ، فليلحظ ذلك ، ويتأمل وقال في مبسوطة : ويجب الإتمام في الصلاة والصوم على عشرة من بين المسافرين ، أحدها من نقص سفره عن ثماني فراسخ (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا رجوع منه عما ذهب إليه في نهايته (2) بلا خلاف.

وابتداء وجوب التقصير على المسافر ، من حيث يغيب عنه أذان مصره المتوسط ، أو تتوارى عنه جدران مدينته ، والاعتماد عندي على الأذان المتوسط ، دون الجدران.

والسفر ، خلاف الاستيطان والمقام ، فاذن لا بدّ من ذكر حدّ الاستيطان ، وحدّه ستة أشهر فصاعدا ، سواء كانت متفرقة أو متوالية.

فعلى هذا التقرير (3) والتحرير ، من نزل في سفره قرية ، أو مدينة ، وله فيها منزل مملوك ، قد استوطنه ستة أشهر ، أتم ، وإن لم يقم المدّة التي توجب على المسافر الإتمام ، أو لم ينو المقام عشرة أيام ، وإن لم يكن كذلك قصّر.

ولا يزال المسافر في تقصير ، حتى يصل إلى موضع منزله ، أو الموضع الذي يسمع أذان بلده منه ، فإن حيل بين منزله وبينه ، بعد الوصول إلى ذلك الموضع ، أتم.

ومن دخل بلدا ، ونوى أنّه يقيم فيه عشرة أيام فصاعدا ، وجب عليه الإتمام ، فإن كان مشككا ، لا يدري كم يقيم ، يقول غدا أخرج ، أو بعد غد ، فليقصر ما بينه وبين شهر. فإذا مضى الشهر أتم.

ص: 331


1- المبسوط : كتاب الصوم في حكم المريض والمسافر والمغمى عليه .. إلخ.
2- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المسافر في شهر رمضان ، قال هكذا ، ومتى كان سفره أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع فيه لم يجز له الإفطار وهو مخيّر في التقصير في الصلاة حسب ما قدّمناه
3- في م : على التقدير :

ولو ان مسافرا دخل في صلاته ، بنيّة التقصير ، ثم نوى خلال ذلك الصلاة الإقامة ، أتم الصلاة ، فإن كان مقيما ، ودخل في الصلاة ، بنية الإتمام ، بعد ان كان صلّى صلاة على التمام ، ثم نوى السفر قبل فراغه منها ، لم يكن له القصر.

والروايات مختلفة ، فيمن دخل عليه وقت صلاة ، وهو حاضر فسافر ، أو دخل عليه الوقت ، وهو مسافر ، فحضر ، والأظهر بين محصلي أصحابنا ، أنّه يصلّى بحسب حاله وقت الأداء ، فيتم الحاضر ، ويقصّر المسافر ، ما دام في وقت من الصلاة ، وإن كان أخيرا ، فإن خرج الوقت لم يجز إلا قضاؤها بحسب حاله ، عند دخول أول وقتها.

وقال بعض أصحابنا في كتاب له : فإن خرج من منزله ، وقد دخل الوقت ، وجب عليه التمام ، إذا كان قد بقي من الوقت مقدار ما يصلّي فيه على التمام ، فإن تضيّق الوقت ، قصّر ولم يتمّم ، وإن دخل من سفره بعد دخول الوقت ، وكان قد بقي من الوقت ، مقدار ما يتمكن فيه من أداء الصلاة على التمام ، فليصل ، وليتمم ، وإن لم يكن قد بقي مقدار ذلك ، قصّر ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1) وهذا غير واضح ، ولا مستمر على أصول المذهب ، وانّما هو خبر أورده ، على جهة الإيراد لا الاعتقاد ، على ما اعتذرنا له فيما مضى.

وقد رجع عنه في مسائل خلافه فقال : مسألة : إذا خرج إلى السفر وقد دخل الوقت ، إلا أنّه مضى مقدار ما يصلّي الفرض أربع ركعات ، جاز له التقصير ، ويستحب له الإتمام ، وقال الشافعي : إن سافر بعد دخول الوقت ، فإن كان مضى مقدار ما يمكنه أن يصلّي فيه أربعا ، كان (2) له التقصير ، قال : وهذا قولنا ، وقول الجماعة ، إلا المزني ، فإنّه قال : عليه الإتمام ، ولا يجوز

ص: 332


1- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر
2- ج : جاز له.

له التقصير ، دليلنا : قوله تعالى : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) (1) ولم يخص وهذا ضارب ، فيجب أن يجوّز له التقصير ، وأيضا فقد ثبت أنّ الوقت ممتد ، وإذا لم يفت الوقت ، جاز له التقصير.

وروى إسماعيل بن جابر قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام : يدخل عليّ وقت الصلاة ، وأنا في السفر ، فلا أصلّي حتى أدخل أهلي ، قال : صلّ وأتمّ الصلاة ، قلت : يدخل عليّ وقت الصلاة ، وأنا في أهلي أريد السفر ، فلا أصلي حتى أخرج ، قال : صلّ وقصّر ، فان لم تفعل ، فقد واللّه خالفت رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله (2).

فأمّا الاستحباب الذي قلناه ، فلما رواه بشير النبّال قال : خرجت مع أبي عبد اللّه عليه السلام حتى أتينا الشجرة ، فقال لي أبو عبد اللّه : يا نبال. قلت : لبيك ، قال : إنّه لم يجب على أحد من أهل هذا العسكر أن يصلّي أربعا غيري وغيرك ، وذلك أنّه دخل وقت الصلاة ، قبل أن نخرج (3) فلمّا اختلفت الأخبار ، حملنا الأوّل على الاجزاء ، وهذا على الاستحباب (4) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : أمّا ما ذكره في النهاية ، فلا يجوز القول به ، والعمل عليه. لأنّه مخالف لأصول المذهب ، على ما قلناه ، (5) لأنّ الوقت باق ، وفرض الحاضر غير فرض المسافر ، فكيف يتم المسافر صلاته مع قوله تعالى : ( وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ ) والإجماع حاصل على وجوب القصر للمسافر ، بغير خلاف ، وأيضا كان يلزم عليه أن يقصر الإنسان في منزله ، إذا دخل من سفره على ما قاله رضي اللّه عنه ، وهذا مما لم يذهب إليه أحد ، ولم يقل به فقيه ، ولا مصنّف ذكره في كتابه ، لا منا ،

ص: 333


1- النساء : 101
2- الوسائل : الباب 21 من أبواب صلاة المسافر ، ح 2.
3- الوسائل : الباب 21 من أبواب صلاة المسافر ، ح 10.
4- الخلاف : المسألة 14 من كتاب صلاة المسافر
5- في ط وج : ولأن.

ولا من مخالفينا ، وما ذكره في مسائل خلافه أيضا فغير واضح ، لأنّه قال : جاز له التقصير ، ويستحب له الإتمام ، ثم استشهد واستدلّ بما يقضى عليه ، ويبطل ما ذهب إليه ، من الآية والخبر ، وهما يوجبان القصر ، ويحتمانه ، ثم رجع بخبر واحد ، وهو خبر النبّال (1) ، إلى الاستحباب ، وإذا كان مع أحد الخبرين القرآن والإجماع ، فكيف يعمل بالخبر المنفرد عن الأدلة القاهرة ، وأيضا فما عمل بخبر النبال لأنّ خبر النبال لفظ الوجوب ، لأنّه قال عليه السلام إنّه لم يجب على أحد من أهل هذا العسكر أن يصلّي أربعا غيري وغيرك ، وانما حداه على ذلك ، والرجوع عن كتاب له الى كتاب آخر ، اختلاف الاخبار ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد ، لا يجوز العمل بها في الشريعة ، والرجوع عن الأدلة القاهرة (2) إليها وأيضا فقد تعارضت ، ومع تعارضها ، ينبغي أن يعمل بما عضده منها الدليل.

والصحيح ما ذهبنا إليه أوّلا ، واخترناه ، لأنّه موافق للأدلّة ، وأصول المذهب ، وعليه الإجماع ، وهو مذهب السيد المرتضى ، ذكره في مصباحه ، والشيخ المفيد وغيرهما من أصحابنا ، ومذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في تهذيبه (3) ، فإنّه حقّق القول في ذلك ، وبالغ فيه ، ورجع عمّا ذكره في نهايته (4) ، ومسائل خلافه (5). في تهذيب الأحكام ، في باب أحكام فوائت الصلاة (6).

فأمّا إذا لم يصل ، لا في منزله ، ولا لمّا خرج إلى السفر ، وفاته أداء الصلاة ، فالواجب عليه قضاؤها ، بحسب حاله ، عند دخول أول وقتها ، على ما قدّمناه ، وهذا مذهب الشيخ أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في تهذيب الأحكام ، فإنّه حقق

ص: 334


1- الوسائل : مضى القول فيه
2- ليس في ج : القاهرة.
3- لتهذيب : في أحكام فوائت الصلاة ، ذيل ح (353) 14.
4- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر.
5- الخلاف : مسألة 14 من كتاب صلاة المسافر.
6- التهذيب : ذيل ح 14 من باب 10 أحكام فوائت الصلاة.

ذلك ، وبيّنه ، وفصّله ، وشرحه ، شرحا جليا ، في باب أحكام فوائت الصلاة أيضا على ما قدّمناه ، فليلحظ من هناك ، وشيخنا المفيد ، وابن بابويه ، في رسالته (1) والسيد المرتضى في مصباحه ، وهو الصحيح ، لأنّ العبادات ، تجب بدخول الوقت ، وتستقر بإمكان الأداء ، كما لو زالت الشمس على المرأة الطاهرة ، فأمكنها الصلاة ، فلم تفعل حتى حاضت ، استقر القضاء.

فإن قيل : الأخبار ناطقة ، متظاهرة ، متواترة ، والإجماع حاصل ، منعقد ، على أنّ من فاتته صلاة في الحضر ، فذكرها في السفر ، وجب عليه قضاؤها ، صلاة الحاضر أربعا ، كما فاتته ، ومن فاتته صلاة في السفر ، فذكرها في الحضر ، وجب عليه قضاؤها ، صلاة المسافر (2) اثنتين كما فاتته ، وهذا بخلاف ما ذهبتم إليه.

قلنا : ما ذهبنا إلى خلاف ما سأل السائل عنه ، بل إلى وفاق ما قاله ، وانّما يقضي ما فاته في حال الحضر ، ولو صلاها في الحضر ، قبل خروجه ، كأن يصلّي الرباعيّة أربع ركعات ، ففاتته صلاة أربع ركعات ، فيجب عليه أن يقضيها ، كما فاتته في حال السفر (3) ، وكذلك كان يجب عليه أن يصلّي الرباعيّة في حال السفر ركعتين ، فأخلّ بها إلى أن خرج الوقت ، وصار حاضرا ، فيقضي ما فاته كما فاته ، وهي صلاة السفر ركعتان ، فهي الفائتة ، فلو صلاها في سفره لما كان يصلّي إلا ركعتين ، ففاتته صلاة الركعتين ، فيجب عليه أن يقضيها كما فاتته ، فليلحظ ذلك ، فإنّه موافق للأدلّة ، وعليه إجماع أصحابنا ، على ما قدمناه من أقوالهم ، مثل شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه قد ذكره في مبسوطة (4) ، وابن بابويه قد ذكره في رسالته (5) ، والمرتضى في مصباحه ، وشيخنا المفيد في بعض أقواله ، اللّهم على ما مرّ بي وقد تقدم فيما مضى ذكره (6) في باب الجماعة حكم

ص: 335


1- لم نتحققهما في رسالة ابن بابويه.
2- ج : السفر
3- ج : ليس فيه
4- المبسوط : كتاب الصلاة في حكم قضاء الصلوات.
5- لم نتحققهما في رسالة ابن بابويه.
6- ج : وقد تقدم ومضى.

دخول المسافر ، في صلاة المقيم ، والمقيم في صلاة المسافر.

ومن اضطر إلى الصلاة في سفينة ، فأمكنه أن يصلّي قائما ، لم يجزه غير ذلك ، وإن خاف الغرق ، وانقلاب السفينة ، جاز أن يصلّي جالسا ، ويتحرى القبلة ، ليكون توجّهه إليها ، فإن توجه إليها في افتتاح صلاته ، ثم التبست عليه من بعد ، أجزأه التوجّه الأول.

ولا يجوز لأحد أن يصلّي الفريضة راكبا ، إلا من ضرورة شديدة ، وعليه تحري القبلة.

ويجوز أن يصلّي النوافل ، وهو راكب مختارا ، ويصلّي حيث ما توجهت به راحلته ، وإن افتتح الصلاة مستقبلا للقبلة ، كان أولى ، هذا قول السيّد المرتضى ، والصحيح أنّه واجب عليه افتتاح الصلاة مستقبلا للقبلة ، لا يجوز غير ذلك ، وهو قول جماعة أصحابنا ، إلا من شذّ منهم.

ومن صلّى ماشيا لضرورة ، أومأ بصلاته ، فجعل السجود أخفض من الركوع ، والركوع أخفض من الانتصاب.

ولا يجوز التقصير للمكاري ، والملاح ، والراعي ، والبدوي ، إذا طلب القطر والنبت ، فإن أقام في موضع عشرة أيّام ، فهذا يجب عليه التقصير ، إذا سافر عن موضعه سفرا يوجب التقصير ، فقد صار البدوي على ضربين ، أحدهما له دار مقام جرت عادته فيها بالإقامة ، فهذا يجب عليه التقصير إذا سافر عن دار مقامه سفرا يوجب التقصير ، والآخر لا يكون له دار مقام ، وإنّما يتبع مواضع النبت ، ويطلب مواضع القطر ، وطلب المرعى والخصب ، فهذا يجب عليه التمام ، ولا يجوز له التقصير.

ولا يجوز التقصير ، للذي يدور في جبايته ، والذي يدور في أمارته ، ومن يدور في تجارته ، من سوق إلى سوق ، والبريد ، وقال ابن بابويه في رسالته (1) والمكاري ،

ص: 336


1- رسالة ابن بابويه : صلاة المسافر.

والكريّ ، فالكريّ هو المكاري ، فاللفظ مختلف ، وإن كان المعنى واحدا. قال عذافر الكندي :

لو شاء ربي لم أكن كريا *** ولم أسق بشعفر المطيا

الشعفر بالشين المعجمة ، والعين غير المعجمة والفاء والراء غير المعجمة ، اسم امرأة من العرب.

بصرية تزوجت بصريا *** يطعمها المالح والطريا

تخاله إذا مشى خصيّا *** من طول ما قد حالف الكرسيا

والكري من الأضداد ، قد ذكره أبو بكر بن الأنباري ، في كتاب الأضداد يكون بمعنى المكاري ، ويكون بمعنى المكتري.

وقال ابن بابويه أيضا في رسالته : ولا يجوز التقصير للاشتقان ، بالشين المعجمة ، والتاء المنقطة من فوقها بنقطتين ، والقاف ، والنون ، هكذا سماعنا على من لقيناه ، وسمعنا عليه من الرواة ، ولم يبينوا لنا ما معناه (1).

قال محمّد بن إدريس رضي اللّه عنه : وجدت في كتاب الحيوان للجاحظ ، ما يدل على أنّ الأشتقان ، الأمين الذي يبعثه السلطان على حفاظ البيادر ، قال الجاحظ : وكان أبو عباد النميري ، أتى باب بعض العمال ، يسأله شيئا من عمل السلطان ، فبعثه أشتقانا فسرقوا (2) كل شي ء في البيدر ، وهو لا يشعر ، فعاتبه في ذلك ، فكتب إليه أبو عباد :

كنت بازا أضرب الكر *** كيّ والطير العظاما

فتقنصت بي الصّعو *** فأوهنت القدامى

وإذا ما أرسل البازي *** على الصعو تعامى (3)

ص: 337


1- رسالة ابن بابويه : صلاة المسافر
2- ج : فسرق.
3- الحيوان : ج 5 ، ص 599. والتقنص : الصيد ، والصعو : طائر أصغر من العصفور أحمر الرأس. والقدامى : القوادم وهي ريشات أربع في مقدم الجناح.

وأظنّها كلمة أعجمية ، غير عربية ، فعلى هذا التحرير ، يجب عليه الإتمام ، لأنّه في عمل السلطان.

ومن كان سفره أكثر من حضره ، والأصل في جميع هؤلاء ، ان سفرهم أكثر من حضرهم ، فقد عاد الأمر إلى أنّ من سفره أكثر من حضره ، يجب عليه التمام ، ولا يجوز له التقصير ، وجميع الأقسام المقدّم ذكرها ، داخلون في ذلك ، والذي يدلك على هذا التحرير ، ما أورده السيد المرتضى في كتاب الانتصار ، فإنه قال : مسألة : ومما انفردت به الإمامية القول بأنّ من سفره أكثر من حضره ، كالملاحين ، والجمّالين ، ومن جرى مجراهم ، لا تقصير عليه (1) فجعل من سفره أكثر من حضره ، أصلا في المسألة ومثّل الملاحين والجمّالين به.

ثمّ قال السيد المرتضى رضي اللّه عنه في استدلاله على المسألة : والحجة على ما ذهبنا إليه ، إجماع الطائفة ، وأيضا فإنّ المشقة التي تلحق المسافر ، هي الموجبة للتقصير ، في الصوم والصلاة ، ومن ذكرنا حاله ، ممن سفره أكثر من حضره لا مشقة عليه في السفر ، بل ربما كانت المشقة عليه في الحضر ، لاختلاف العادة.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في كتاب الجمل والعقود ، في فصل في حكم المسافرين : والسفر الذي يجب فيه الإفطار ، يحتاج إلى ثلاثة شروط ، أن لا يكون معصية ، وتكون المسافة بريدين ، ثمانية فراسخ ، أربعة وعشرون ميلا ولا يكون المسافر سفره أكثر من حضره (2). فأتى بهذا القسم ، ولم يذكر باقي الأقسام ، لأنّهم داخلون فيه ، وكل هؤلاء ، يجب عليهم التمام في السفر ، فإن كان لهم مقام في بلدهم عشرة أيام ، وجب عليهم إذا خرجوا

ص: 338


1- الانتصار : كتاب الصلاة ص 53.
2- الجمل والعقود : كتاب الصوم ، فصل في حكم المسافرين.

إلى السفر التقصير ، فإن عادوا إلى بلدهم من سفرهم بعد تقصيرهم ، ولم يقيموا فيه عشرة أيام ، خرجوا متمين ، وهكذا يعتبرون حالهم ، وليس يصير الإنسان بسفرة واحدة ، إذا ورد إلى منزله ، ولم يقم عشرة أيام ، ممّن سفره أكثر من حضره ، بل بأن يتكرّر هذا منه ، ويستمر دفعات ، على توال ، أدناها ثلاث دفعات ، لأنّ هذا طريقة العرف والعادة ، بأن يقال فلان سفره أكثر من حضره ، لأنّ من أقام في منزله مثلا مائة سنة ، ثم سافر سفرة واحدة ، ثم ورد إلى منزله ، ولم يقم فيه عشرة أيام ، ثم سافر فإنّه يجب عليه في سفره الثاني التقصير ، وإن كان لم يقم عشرة أيام ، لأنّه لا يقال في العرف والعادة ، أن فلانا هذا سفره أكثر من حضره ، بسفرة واحدة ، حتى يتكرّر هذا الفعال منه.

فان قيل : فإن سافر الإنسان أوّل سفرة ، بعد الإقامة في المنزل مائة سنة ، وأقام في السفر مثلا شهرا ، ثم ورد إلى منزله فأقام فيه أقل من عشرة أيام ثم خرج ، فقد صار سفره أكثر من حضره الذي في منزله ، وهو أقل من عشرة أيام ، وكان سفره شهرا.

قلنا : فإن كان أقام في سفره خمسة أيام ، ثم ورد إلى منزله وأقام فيه ثمانية أيام ، فقد صار حضره أكثر من سفر ، (1) والسائل يخرجه عن هذا التقدير متمّما فلم يستقم له سؤاله واعتراضه الأوّل.

وقول بعض المصنّفين ، في كتاب له : ومن كان سفره أكثر من حضره ، وحدّه أن لا يقيم في منزله عشرة أيام ، يريد به أنّ من كان سفره أكثر من حضره ، لا يزال في أسفاره متمما ، ما لم يكن له في بلدته مقام عشرة أيام ، فإذا كان له في بلدته مقام عشرة أيام ، أخرجناه من ذلك الحكم ، لا أنّ المراد بقوله : إن كل من لم يقم في بلدته عشرة أيّام ، يخرج متمما من سائر

ص: 339


1- في ط : سفره عند هذا.

المسافرين ، بل من كان سفره أكثر من حضره ، وعرف بالعادة ذلك من حاله ، وانطلق عليه هذا الاسم ، وتكرّر ، فالهاء في قوله وحدّه يرجع إلى هذا الذي تكرّر منه الفعل ، وانطلق عليه في العرف والعادة ، وصار سفره أكثر من حضره ، فحدّ هذا ، أن لا يرجع إلى التقصير في أسفاره ، إلا بمقام عشرة أيام في منزله ، فإن لم يقم عشرة أيام ، وخرج إلى السفر ، يخرج متمما ، على ما كان حكمه في أسفاره أوّلا ، فليلحظ ذلك ، فإن بعض من لحقناه من أصحابنا رحمهم اللّه ، كان يزل في هذه المسألة ويوجب بسفرة واحدة عليه التمام.

وكلام السيد المرتضى في انتصاره ، في استدلاله الذي قدّمناه عنه ، يشعر بصحة ما قلناه ، لأنّه قال ومن ذكرنا حاله ، ممن سفره أكثر من حضره ، لا مشقة عليه في السفر ، بل ربما كانت المشقة عليه في الحضر ، لاختلاف العادة.

قال محمّد بن إدريس : ومن أقام في منزله مثلا مائة سنة ، وسافر عنه ثلاثة أيام فحسب ، ثم حضر فيه يومين ، ثم سافر عنه ، مشقته في سفره الثاني ، كمشقته في سفره الأول ، وليس هذا ممن لا مشقة عليه في السفر الثاني ، ولا ممن ربما كانت المشقة عليه في الحضر ، لاختلاف العادة ، لأنّه ما تكرّر ذلك منه ، ولا تعوده بدفعة واحدة ، العادة التي ربما كانت المشقة عليه في مقامه ، والراحة له في سفره.

فأما صاحب الصنعة من المكارين ، والملاحين ، ومن يدور في تجارته ، من سوق إلى سوق ، ومن يدور في أمارته ، فلا يجرون مجرى من لا صنعة له ، ممّن سفره أكثر من حضره ، ولا يعتبر فيهم ما اعتبرناه فيه ، من الدفعات ، بل يجب عليهم التمام ، بنفس خروجهم إلى السفر ، لأنّ صنعتهم تقوم مقام تكرّر من لا صنعة له ، ممّن سفره أكثر من حضره ، لأنّ الأخبار (1) وأقوال أصحابنا

ص: 340


1- الوسائل : الباب 11 من أبواب صلاة المسافر.

وفتاويهم مطلقة ، في وجوب التمام على هؤلاء ، فليلحظ ذلك ، ففيه غموض يحتاج إلى تأمل ، ونضر ، وفقه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في نهايته : فإن كان لهم في بلدهم مقام عشرة أيام ، وجب عليهم التقصير ، وإن كان مقامهم في بلدهم خمسة أيام ، قصّروا بالنهار ، وتمموا الصلاة بالليل (1) وهذا غير واضح ، ولا يجوز العمل به ، بل يجب عليهم التمام بالنهار وبالليل ، بغير خلاف ، ولا نرجع عن المذهب ، بأخبار الآحاد ، لأنّ الإجماع على أنّ هؤلاء إذا لم يقيموا في بلادهم عشرة أيام ، خرجوا متمين لصلواتهم بغير خلاف ، وقد اعتذرنا لشيخنا أبي جعفر الطوسي رضي اللّه عنه فيما يوجد في كتاب النهاية ، وقلنا أورده إيرادا لا اعتقادا ، وقد اعتذر هو في خطبة مبسوطة ، عن هذا الكتاب - يعني النهاية - بما قدّمنا ذكره.

فإن خرج الإنسان بنية السفر ، ثم بدا له قبل أن يبلغ مسافة التقصير ، وكان قد صلّى قصرا ، فليس عليه شي ء ، ولا قضاء ، ولا إعادة ، فان لم يكن قد صلّى ، أو كان في الصلاة ، وبدا له من السفر ، قبل أن يبلغ المسافة تمم صلاته.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في استبصاره ، إلى وجوب الإعادة ، على من صلّى (2) ثم بدا له عن السفر ، ما دام الوقت باقيا (3).

وما اخترناه ، هو اختياره في نهايته (4) ، وهو الصحيح ، لأنّه صلّى صلاة شرعية مأمورا بها ، ما كان يجوز له في حال ما صلاها إلا هي ، والإعادة فرض ثان ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك ، فعمل على خبر زرارة (5) في

ص: 341


1- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر
2- في ط وج : صلّى على قصر.
3- الاستبصار : أبواب الصلاة في السفر ، 134 - باب المسافر يخرج فرسخا أو فرسخين ويقصر في الصلاة ثم يبدو له عن الخروج
4- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر.
5- الوسائل : الباب 23 من أبواب صلاة المسافر ح 1 و 2.

نهايته ، وعمل على خبر سليمان بن حفص المروزي (1) في استبصاره ، والذي ينبغي أن يعمل عليه من الخبرين ، ما عضده الدليل ، لا بمجرد الخبر ، لأنّا قد بيّنا ، أنّ العمل بأخبار الآحاد لا يجوز عندنا ، فإذا عزم المسافر على مقام عشرة أيام في بلد (2) ، وجب عليه التمام ، فإن صلّى صلاة واحدة ، بعد عزمه على المقام ، أو أكثر من ذلك على التمام ، يعني رباعية ، ثم بدا له في المقام ، فليس له أن يقصر ، إلا بعد خروجه من البلد ، وإن لم يكن صلّى صلاة على التمام ، ثم بدا له في المقام ، فعليه التقصير ، ما بينه وبين شهر ، على ما قدّمناه.

ومن خرج إلى ضيعة له ، وكان له فيها منزل ، قد استوطنه الاستيطان المقدّم ذكره ، وجب عليه التمام ، فإن لم يكن له ذلك ، وجب عليه التقصير.

ويستحب الإتمام في أربعة مواطن في السفر ، في نفس المسجد الحرام ، وفي نفس مسجد المدينة ، وفي مسجد الكوفة ، والحائر على متضمنة السلام ، والمراد بالحائر ما دار سور المشهد ، والمسجد عليه ، دون ما دار سور البلد عليه ، لأنّ ذلك هو الحائر حقيقة ، لأنّ الحائر في لسان العرب ، الموضع المطمئن الذي يحار الماء فيه ، وقد ذكر ذلك شيخنا المفيد في الإرشاد ، في مقتل الحسين عليه السلام ، لمّا ذكر من قتل معه من أهله ، فقال : والحائر محيط بهم ، إلا العباس رحمة اللّه عليه ، فإنّه قتل على المسناة (3) فتحقق ما قلناه ، والاحتياط أيضا طريقته تقتضي ما بيّناه ، لأنّه مجمع عليه ، وما عداه غير مجمع عليه.

وذهب بعض أصحابنا إلى استحباب الإتمام في مكة جميعها ، وكذلك في المدينة ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (4) ، وذهب السيد

ص: 342


1- الوسائل : الباب 23 من أبواب صلاة المسافر ، ح 1 و 2
2- في ط وج : بلد واحد.
3- الإرشاد : فصل : أسماء من قتل مع الحسين عليه السلام من أهل بيته بطف كربلاء.
4- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر.

المرتضى ، إلى استحباب الإتمام ، في السفر عند قبر كل إمام ، من أئمة الهدى عليهم السلام ، والذي اخترناه ، هو الصحيح ، وأنّه لا يجوز الإتمام ، إلا عند قبر الحسين عليه السلام ، دون قبور باقي الأئمة عليهم السلام ، وفي نفس المسجدين ، دون مكة والمدينة ، لأنّ عليه الإجماع ، والأصل التقصير في حال السفر ، وما عداه فيه الخلاف ، وقال بعض أصحابنا : لا يجوز التقصير في حال السفر ، في هذه المواضع ، وما اخترناه هو الأظهر ، بين الطائفة وعليه عملهم وفتواهم.

وليس على المسافر صلاة الجمعة ، ولا صلاة العيدين.

والمشيّع لأخيه المؤمن ، يجب عليه التقصير ، والمسافر في طاعة ، إذا مال إلى الصيد لهوا وبطرا وجب عليه التمام ، فإذا رجع إلى السفر ، عاد إلى التقصير.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : وإذا خرج قوم إلى السفر ، وساروا أربعة فراسخ ، وقصروا من الصلاة ، ثمّ أقاموا ينتظرون رفقة لهم في السفر ، فعليهم التقصير ، إلى أن يتيسر لهم العزم على المقام ، فيرجعون إلى التمام ، ما لم يتجاوز ثلاثين يوما على ما قدّمناه.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا قول صحيح ، محقق.

ثم قال شيخنا أبو جعفر بعد ذلك : وإن كان مسيرهم أقل من أربعة فراسخ ، وجب عليهم التمام ، إلى أن يسيروا ، فإذا ساروا رجعوا إلى التقصير (1) وهذا قول غير واضح ، ولا مستقيم ، بل هو خبر ، أورده إيرادا لا اعتقادا ، ولا فرق بين المسألتين ، وقد رجع في مبسوطة ، عن هذا القول الذي حكيناه عنه في نهايته ، فقال : من خرج من البلد ، إلى موضع بالقرب مسافة فرسخ ، أو فرسخين ، بنيّة أن ينتظر الرفقة هناك ، المقام عشرة أيام فصاعدا ، فإذا تكاملوا ، ساروا سفرا عليهم (2) التقصير ، لا يجوز أن يقصروا ،

ص: 343


1- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر
2- في المبسوط يجب عليهم.

إلا بعد المسير من الموضع الذي يجتمعون فيه ، لأنّه ما نوى بالخروج إلى هذا الموضع سفرا يجب فيه التقصير ، فإن لم ينو المقام عشرة أيام ، وانّما خرج بنيّة أنّه متى تكاملوا ساروا ، قصّر ما بينه وبين شهر ، ثم يتمم (1) فإن أراد بالمسألة الثانية في النهاية ، أنّه ما نوى بالخروج إلى دون الأربعة فراسخ ، سفرا يجب فيه التقصير ، وإنّما خرج بنيّة أنّه متى تكاملوا ووجد الرفقة ، سافر ، فإنّه يجب عليه التمام ، فهذا مستقيم صحيح ، وإن أراد الخروج للسفر وبنية السفر ، فلمّا وصل إلى دون الأربعة فراسخ ، توقف ، لينتظر الرفقة ، وما عزم على مقام عشرة أيام ، ولا بدا له عن الرجوع من السفر ، فليس بصحيح ، ولا مستقيم ، بل الواجب عليه ، عند هذه الحال التقصير ، مثل المسألة الأولى سواء (2) فليلحظ ذلك.

ويستحبّ للمسافر أن يقول ، عقيب كل صلاة ، ثلاثين مرّة : « سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر » فإنّ ذلك جبران للصلاة ، ولا بأس أن يجمع الإنسان بين الظهر والعصر ، وبين المغرب والعشاء الآخرة ، في حال السفر ، وكذلك لا بأس أن يجمع بينهما في الحضر ، إلا أنّه إذا جمع بينهما ، لا يجعل بينهما شيئا من النوافل.

وليس على المسافر شي ء من نوافل النهار فإذا سافر بعد زوال الشمس ، قبل أن يصلّي نوافل الزوال ، فليقضها في السفر ، بالليل أو بالنهار ، وعليه نوافل الليل كلّها ، حسب ما قدّمناه ، إلا الوتيرة.

إذا أبق للإنسان عبد ، فخرج في طلبه ، فإن قصد بلدا يقصر في مثله الصلاة ، وقال : إن وجدته قبله رجعت معه ، لم يجز له أن يقصر ، لأنّه لم يقصد سفرا تقصر فيه الصلاة ، فإن لم يقصد بلدا ، لكنه نوى أن يطلبه ، حيث بلغ ، لم يكن له القصر ، لأنّه شاك في المسافة التي تقصر فيها الصلاة ، وإن نوى قصد

ص: 344


1- المبسوط : كتاب صلاة المسافر ، ص 139 الطبع الحديث
2- ج : الاولى فليلحظ.

ذلك البلد ، سواء وجد العبد ، قبل الوصول إليه ، أو لم يجد ، كان عليه التقصير ، لأنّه نوى سفرا يجب عليه فيه التقصير.

إذا خرج حاجا إلى مكة ، وبينه وبينها مسافرة تقصّر فيها الصلاة ، ونوى أن يقيم بها عشرا ، قصّر في الطريق ، فإذا وصل إليها ، ونوى المقام عشرا ، أتم.

فإن خرج إلى عرفة ، يريد قضاء نسكه ، ولا يريد مقام عشرة أيام ، إذا رجع إلى مكة ، كان له القصر عند خروجه من مكة إلى عرفات ، لأنّه نقض مقامه ، بسفر بينه وبين بلدته ، يقصّر في مثله الصلاة.

وإن كان يريد إذا قضى نسكه ، مقام عشرة أيام بمكة ، أتم بمنى ، وعرفات ، ومكة حتى يخرج من مكة مسافرا ، فيقصّر.

من نسي في السفر ، فصلّى صلاة مقيم ، لم يلزمه الإعادة ، إلا إذا كان الوقت باقيا على ما قدّمناه.

ومتى صلّى صلاة مقيم متعمدا ، أعاد ، على كل حال ، اللّهم إلا ان لم يعلم وجوب التقصير ، فحينئذ يسقط عنه فرض الإعادة.

إذا قصّر المسافر مع الجهل بجواز التقصير ، بطلت صلاته ، لأنّه صلى صلاة يعتقد أنّها باطلة.

إذا سافر إلى بلد له طريقان ، فسلك الأبعد لغرض ، أو لا لغرض ، لزمه التقصير ، وإن كان الأقرب لا يجب فيه التقصير ، لأنّ ما دل على وجوب التقصير عام.

إذا كان قريبا من بلده وصار بحيث يغيب عنه أذان مصره ، فصلّى بنيّة التقصير ، فلمّا صلّى ركعة ، رعف ، فانصرف إلى أقرب بنيان البلد ، بحيث يسمع الأذان من مصره ، ليغسله ، بطلت صلاته ، لأنّ ذلك فعل كثير ، فإن صلّى في موضعه الآن ، تمّم ، لأنّه في وطنه ، وسامع لأذان مصره ، فإن لم يصلّ ، وخرج إلى السفر ، والوقت باق ، قصّر ، فإن فاتت الصلاة ، قضاها على التمام ، لأنّه فرّط في الصلاة ، وهو في وطنه.

ص: 345

فإن دخل في طريقه بلدا يعزم فيه على المقام عشرا ، لزمه التمام ، فإن خرج منه ، وفارقه ، بحيث لا يسمع أذانه ، لزمه التقصير ، فإن عاد إليه لقضاء حاجة ، أو أخذ شي ء نسيه ، لم يلزمه التمام إذا أراد الصلاة فيه ، لأنّه لم يعد الى وطنه ، فكان هذا فرقا بين هذه المسألة والتي قبلها.

باب صلاة الخوف وما يجري مجراها من حال المطاردة والمسايفة

واعلم أنّ الخوف إذا انفرد عن السفر ، لزم فيه التقصير في الصلاة ، مثل ما يلزم في السفر إذا انفرد ، على الصحيح من المذهب ، وقال بعض أصحابنا لا قصر إلا في حال السفر ، والأول عليه العمل والفتوى من الطائفة.

وصفة صلاة الخوف ، أن يفرّق الإمام أصحابه ، إذا كان العدو في خلاف جهة القبلة فرقتين ، فرقة يجعلها بإزاء العدو ، وفرقة خلفه ، ثم يكبّر ، ويصلّي بمن وراءه ركعة واحدة ، فإذا نهض إلى الثانية ، صلّوا لأنفسهم ركعة أخرى ، ونووا مفارقته ، والانفراد بصلاتهم ، وهو قائم يطوّل القراءة ، ثم جلسوا ، فتشهدوا (1) وسلّموا وانصرفوا ، فقاموا مقام أصحابهم ، وجاءت الفرقة الأخرى ، فلحقوه قائما في الثانية ، فاستفتحوا الصلاة ، وأنصتوا لقراءته ، إن كانت الصلاة جهرية ، فإذا ركع ، ركعوا بركوعه ، وسجدوا بسجوده ، فإذا جلس للتشهد ، قاموا فصلّوا ركعة أخرى ، وهو جالس ، ثم جلسوا معه ، فسلّم بهم ، وانصرفوا بتسليمه.

وقد روي أنّه إذا جلس الإمام للثانية تشهّد ، وسلّم ثم قام من خلفه ، فصلّوا الركعة الأخرى وصلّوا لأنفسهم ، وما ذكرناه أولا ، هو الأظهر في المذهب ، والصحيح من الأقوال (2) فإن كانت الصلاة صلاة المغرب ، صلّى الإمام بالطائفة الأولى ركعة واحدة ، فإذا قام إلى الثانية ، أتمّ القوم الصلاة ركعتين ، يجلسون في الثانية

ص: 346


1- في ط : فتشهدوا لأنفسهم
2- في ط وج : الأخرى لأنفسهم.

والثالثة ، ثم يسلّمون ، وينصرفون إلى مقام أصحابهم ، بإزاء العدو ، والإمام منتصب مكانه ، وتأتي الطائفة الأخرى ، فتدخل في صلاة الإمام ، وليصلّي بهم ركعة ، ثم يجلس في الثانية ، فيجلسون بجلوسه ، ويقوم إلى الثالثة ، وهي لهم ثانية ، فيسبّح هو ، ويقرءون هم لأنفسهم ، هكذا ذكره السيد المرتضى رضي اللّه عنه في مصباحه والصحيح عند أصحابنا المصنّفين والإجماع حاصل عليه ، أنّه لا قراءة عليهم ، فإذا ركع ركعوا ، ثم يسجد ويسجدون ، ويجلس للتشهد ، فإذا جلس للتشهد ، قاموا فأتموا ما بقي عليهم ، فإذا جلسوا سلّم بهم.

ويجب على الفريقين معا أخذ السلاح ، سواء كان عليه نجاسة ، أو لم يكن ، لأنّه مما لا تتم الصلاة به منفردا ، وهو من الملابس ، وقد ذكر شيخنا في مبسوطة أنّ السيف إذا كان عليه نجاسة ، فلا بأس بالصلاة فيه ، وهو على الإنسان ، لأنّه مما لا تتم الصلاة فيه منفردا (1) وحقّق ذلك.

وإذا كانت الحال ، حال طراد وطعان ، وتزاحف ، وتواقف ، ولم يتمكن من الصلاة التي ذكرناها ، وصوّرناها ، وجبت الصلاة بالإيماء ، وينحني المصلّي ، لركوعه ، وسجوده ، ويزيد في الانحناء للسجود ، وكذلك القول في المواجه للسبع ، الذي يخاف وثبته ، ويجزيه أن يصلّي إلى حيث توجه ، إذا خاف من استقبال القبلة ، من وثبة السبع ، أو إيقاع العدو به.

فأمّا عند اشتباك الملحمة ، والتضارب بالسيوف ، والتعانق ، وتعذّر كل ما ذكرناه ، فإنّ الصلاة حينئذ ، تكون بالتكبير والتهليل والتسبيح والتحميد ، كما روي أنّ أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وعلى ذريته فعل هو وأصحابه ، ليلة الهرير (2) يقول : « سبحان اللّه والحمد لله ولا إله إلا اللّه واللّه أكبر » فيكون

ص: 347


1- المبسوط : كتاب صلاة الخوف.
2- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 4 من أبواب صلاة الخوف والمطاردة ، ح 8.

ذلك ، مكان كل ركعة.

وجملة الأمر وعقد الباب ، أنّ صلاة الخوف التي تكون جماعة بإمام ، ويفرّق الناس فرقتين ، على ما صورناه أولا ، تقصر سفرا وحضرا ، وما عداها من صلاة الخائفين الذين ليسوا بمجمعين (1) ، بل فرادى ، يقصّرون سفرا في الركعات والهيئات ، ويتمّون حضرا ، إذا لم يكونوا في المسافة ، بل يقصّرون في هيئات الصلاة دون أعدادها.

وأمّا السابح في لجة البحر ، ولا يتمكن من مفارقتها ، والموتحل الذي لا يقدر على استيفاء حدود الصلاة ، فيصلّي كل واحد منهما بالإيماء ، ويتحرى التوجه إلى القبلة بجهده ، وقد قدّمنا أنّ جميع صلاة الخائفين والمضطرين ، إذا كانوا غير مسافرين ، تمام في عدد الركعات الرباعيات ، وتقصير في الهيئات ، إذا كانوا حاضرين غير مسافرين ، ما عدا القسم الأول الذي (2) يفرّقهم الإمام فرقتين ، فإن هؤلاء يقصّرون الصلاة في أعدادها ، وهيئاتها ، سفرا وحضرا للآية (3) ، وباقي الأقسام ، يقصّرون هيئاتها ، دون عدد ركعاتها ، لأنّ الصلاة في الذمة بيقين ، فمن أسقط منها شيئا من جملة الركعات ، يحتاج إلى دليل ويقين في سقوطه عن ذمّته.

باب صلاة المريض والعريان وغير ذلك من المضطرين

الصلاة يختلف فرضها بحسب الطاقة ، فمن أطاق القيام ، تلزمه الصلاة حسب ما تلزم الصحيح ، ولا يسقط عنه فرضها ، إذا كان عقله ثابتا ، فإن تمكن من الصلاة قائما لزمه كذلك ، وإن لم يتمكن من القيام بنفسه ، وأمكنه أن يعتمد على حائط ، أو عصا ، أو عكّاز ، فليفعل ، وليصل قائما ، لا يجزيه غير ذلك ، فإن لم يتمكن من ذلك ، فليصلّ جالسا ، وليقرأ ، فإذا أراد الركوع ، قام ، فركع ،

ص: 348


1- في ط وج : بمجتمعين
2- في ط وج : الذين
3- النساء : 102.

فإذا لم يقدر على ذلك ، فليركع جالسا ، وليسجد مثل ذلك ، فإن لم يتمكن من السجود ، إذا صلّى جالسا ، جاز له أن يرفع خمرة « مضمومة الخاء المعجمة » وهي سجادة صغيرة من سعف النخل ، أو ما يجوز السجود عليه فيسجد عليه ، وإن لم يتمكن من الصلاة جالسا ، فليصلّ مضطجعا على جانبه الأيمن ، وليسجد ويكون على جنبه في هذه الحال ، كما يكون الميّت في قبره ، فإن لم يتمكن من السجود ، أومأ إيماء ، فإن لم يتمكن من الاضطجاع على جنبه الأيمن ، صلّى على جنبه الأيسر ، فإن لم يتمكن من الاضطجاع ، فليستلق على قفاه ، وليصلّ مؤميا ، يبدأ الصلاة بالتكبير ، ويقرأ ، فإذا أراد الركوع ، غمض عينيه ، فإذا أراد رفع رأسه من الركوع ، فتحهما ، فإذا أراد السجود ، غمضهما ، فإذا أراد رفع رأسه من السجود ، فتحهما ، فإذا أراد السجود ثانيا غمضهما ، فإذا أراد رفع رأسه ثانيا ، فتحهما ، وعلى هذا يكون صلاته.

والموتحل ، والغريق ، والسابح ، إذا دخل عليهم وقت الصلاة ، ولم يتمكنوا من موضع يصلّون فيه ، فليصلّوا إيماء ويكون ركوعهم وسجودهم بالإيماء ، على ما قدّمناه ، فيما مضى ، ويلزمهم في هذه الأحوال كلّها ، استقبال القبلة ، مع الإمكان ، فإن لم يمكنهم ، فليس عليهم شي ء.

وإذا كان المريض مسافرا ، ويكون راكبا ، جاز له أن يصلّي الفريضة على ظهر دابته ، ويسجد على ما يتمكن منه ، ويجزيه في النوافل أن يومئ إيماء ، وإن لم يسجد.

وحدّ المرض الذي يبيح الصلاة جالسا ، ما يعلمه الإنسان ، من حال نفسه ، أنّه لا يتمكن من الصلاة قائما ، وهو أبصر بشأنه ، قال اللّه تعالى ( بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ ) (1) أي حجة.

والمريض من سلس البول على ضربين ، أحدهما أن يتراخى زمان الحدث

ص: 349


1- القيامة : 14.

منه ، فيتوضأ للدخول (1) في الصلاة ، فإذا بدره الحدث ، وهو فيها ، خرج عن مكانه ، من غير استدبار للقبلة ، ولا تعمّد لكلام ليس من الصلاة ، فتوضّأ وبنى على صلاته ، فإن كان الماء ، عن يمينه ، أو شماله أو بين يديه ، فهو أهون عليه في تجديد الوضوء ، والبناء على ما أسلفناه من الصلاة.

والضرب الآخر ، أن يبادره الحدث على التوالي ، من غير تراخ بين الأحوال فينبغي له أن يتوضأ ، عند دخوله إلى الصلاة ، ويستعمل خريطة ، يجعل فيها إحليله ، ويمضي في صلاته ، ولا يلتفت إلى الحادث المستديم ، على اتصال الأوقات ، فإذا فرغ من صلاته الأولى ، توضأ وضوء آخر ، للفريضة الثانية ، ولا يجمع بين صلاتين بوضوء واحد ، لأنّه محدث في جميع أوقاته ، وانما لأجل الضرورة ، ساغ له أن يصلّي الفريضة مع الحدث.

ومن به سلس الثفل ، فحكمه حكم من به سلس البول ، وهو على ضربين ، كما بيناه ، فإن كان الحدث تتراخى أوقاته ، فعل كما رسمناه ، لمن به سلس البول ، على تراخي الأوقات ، وإن كان ما به تتوالى أوقاته ، ويحدث على الاتصال ، توضأ عند دخوله في الصلاة ، واشتدّ (2) وجعل على الموضع تحت الشداد ، كرسفا ، وخرقا ، وأوثق المكان ، وعمل في ذلك ، بما شرحناه في حكم المستحاضة ، ومضت صلاته ، بحسب الإمكان ، إلا أنّه ليس ممّن يجب عليه الغسل ، بحسب ما أوجبناه على المستحاضة ، في الأوقات التي ذكرناها ، وبيّنا الحكم فيها على التفصيل والبيان ، لأنّ القياس عندنا باطل ، بغير خلاف ، وانّما يجب عليه ، بعد فراغه من الصلاة ، تطهير الموضع ، بعينه ، وما لقيته النجاسة من أعضائه ، وثيابه ، دون ما سواها ، من سائر جسده ، إذ لا طهارة عليه بما قدّمناه ، وانّما طهارته وضوء الصلاة ثانيا ، وازالة النجاسة عمّا لاقته من الأعضاء ، واللباس.

ص: 350


1- في ط : لكل دخول
2- ج : شدّ.

ومن كانت حاله بالبلوى (1) بالحدث ما ذكرناه ، من تواليه وعدم تمكنه من ضبطه ، فليخفّف الصلاة ، ولا يطلها ، وليقتصر فيها ، على أدنى ما يجزي المصلي عند الضرورة ، من قراءة القرآن ، والتسبيح ، والتشهد ، والدعاء ، ويجزيه إذا كانت حاله ما وصفناه ، أن يقرأ في الأولتين من فرضه ، فاتحة الكتاب خاصّة ، وفي الآخرتين بالتسبيح ، يسبح في كل ركعة منها أربع تسبيحات ، فإن لم يتمكن من قراءة فاتحة الكتاب ، سبّح في جميع الركعات ، فإن لم يتمكن من التسبيحات الأربع ، لتوالي الحدث منه ، فليقتصر على دون ذلك من التسبيح ، في العدد ، ويجزيه منه تسبيحة واحدة ، في قيامه ، ومثلها في ركوعه ، ومثلها في سجوده ، وفي التشهد ، ذكر الشهادتين خاصة ، والصلاة على محمّد وآله ، في التشهدين معا لا بدّ منه ، ويصلّي على أحوط ما يقدر عليه ، في بدار الحدث ، من جلوس ، أو اضطجاع ، وإن كان صلاته بالإيماء أحوط له في حفظ الحدث ، ومنعه من الخروج ، صلّى مؤميا ، على ما قدّمناه ، ويكون سجوده أخفض من ركوعه ، في الصلاة بالإيماء ، وإن كان الشد لموضع الحدث ، على ما أسلفنا القول بوصفه ، يضر بالإنسان ضررا يخاف معه الهلاك ، أو ما يعقبه الهلاك ، أو طول المرض ، لم يلزمه من ذلك ، واحتاط في حفظ لباسه منه ، وصلّى على ما يتمكن منه ، ويتهيأ له من الأفعال والهيئات التي يكون عليها في حال الصلاة ، ولم يلتفت إلى ما يخرج من حدثه ، إذا كانت صورته في الضرورة ما ذكرناه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه : المستحاضة ، ومن به سلس البول ، يجب عليه تجديد الوضوء ، عند كلّ صلاة فريضة ، ولا يجوز لهما ، أن يجمعا بوضوء واحد ، بين صلاتي فرض (2) وقال في مبسوطة : ولا يجوز للمستحاضة ، أن تجمع بين فرضين ، بوضوء واحد ، وأمّا من به سلس البول ،

ص: 351


1- ج : في البلوى
2- الخلاف : كتاب الحيض ، مسألة 28.

فيجوز له أن يصلّي بوضوء واحد ، صلوات كثيرة لأنّه لا دليل على تجديد الوضوء ، وحمله على الاستحاضة قياس ، لا نقول به ، وانّما يجب عليه أن يشد رأس الإحليل ، بقطن ، ويجعله في كيس ، أو خرقة ، ويحتاط في ذلك (1) وما قدّمناه ، تقتضيه أصول المذهب ، ودليل الاحتياط ، لأنّ من به سلس البول ، إذا فرغ من صلاته ، فقد انتقض وضوؤه ، فيجب عليه اعادة طهارته ، وليس ذلك قياسا كما ذكره ، وانما لو تقدّر منه ، أن يصلّي فرضين ، من غير أن يحدث بينهما ، ما ينقض الوضوء ، لجاز ذلك ، لأنّه لا مانع منه ، وكان يكون حمله على المستحاضة قياسا ، كما ذكره ، وما صوّرناه بخلاف ذلك.

ومن انكسر به المركب في البحر ، فاضطر إلى السباحة ، أو تكسرت به سفينته أو انقلبت في المياه ، وكان مشغولا بالسباحة ، لخلاص نفسه من الهلاك ، وحضرت الصلاة ، فليتوضأ ، وهو يسبح في الماء وضوء الصلاة ، ويخرج رجليه حال سباحته من الماء ليمسح على ظاهرهما في الفضاء ، وليصلّ بالإيماء ، وهو في سباحته ، ويتوجه إلى القبلة ، إن عرفها ، ويكون سجوده أخفض من ركوعه ، وكذلك حكم الحائض في الماء.

والموتحل ، إذا كان على طهارته بالماء ، وإن لم يجد ماء في الوحل ، فليتيمم من غبار ثوبه ان وجد فيه غبارا وإن لم يجد وضع يده على الوحل ، وضعا رفيقا ، ثم رفعهما ، ومسحهما ، حتى يذهب رطوبة الوحل ، من يده ، ثم أمرهما على وجهه ، حسب ما تقدّم من وصفه ، في باب التيمّم ، وصلّى بالإيماء.

وصلاة المقيّدين والممنوعين من حركة جوارحهم ، والمحبوسين في الأمكنة النجسة ، بالأغلال والرباط ، يصلّي كل واحد من هؤلاء ، بحسب إمكانه واستطاعته ، وتحرى القبلة في توجهه ، وركوعه ، وسجوده ، فإن كان ممنوعا عن

ص: 352


1- المبسوط : كتاب الطهارة ، في أحوال المستحاضة ، ج 1 ، ص 68 الطبع الحديث.

القبلة ، بصرف وجهه إلى استدبارها ، سقطت عنه الصلاة إلى القبلة ، وكان عليه أن يصلّي إلى الجهة التي يقدر عليها.

فإن منع من الطهارة بالماء ، والتيمم للصلاة ، سقط عنه فرضها ، في تلك الحال ، ووجب عليه قضاؤها مع التمكن من الطهارة (1).

وقال شيخنا المفيد في رسالته إلى ولده ، كان عليه أن يذكر اللّه عز اسمه ، في أوقات الصلوات ، بمقدار صلاته من المفروضات ، وليس عليه قضاء الصلاة ، وكذلك حكم المحبوسين في الأمكنة النجسة ، إذا لم يجدوا ماء ، ولا ترابا طاهرا ، ذكروا اللّه تعالى ، بمقدار صلاتهم ، وليس عليهم قضاء إذا وجدوا المياه ، أو الأتربة الطاهرة.

والصحيح من قول أصحابنا ، أنّه يجب عليهم القضاء ، لقول الرسول عليه السلام : لا صلاة إلا بطهور (2) فنفى أن تكون صلاة شرعية ، إلا بطهور.

فأمّا العريان ، إذا لم يكن معه ما يستر به عورتيه ، وكان وحده ، بحيث لا يرى أحد سوأته ، صلّى قائما ، وإن كان معه غيره ، أو كان بحيث لا يأمن من اطلاع غيره عليه ، صلّى جالسا ، هذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في سائر كتبه وكذلك شيخنا المفيد.

وذهب السيد المرتضى في مصباحه إلى أنّ العريان الذي لا يجد ما يستر به عورته ، يجب أن يؤخّر الصلاة إلى آخر أوقاتها ، طمعا في وجدان ما يستتر به ، فإن لم يجده ، صلّى جالسا ، ويضع يده على فرجه ، ويومئ بالركوع والسجود إيماء ، ويجعل سجوده أخفض من ركوعه ، فإن كانوا جماعة ، وأرادوا أن يجمعوا بالصلاة ، قام الإمام في وسطهم ، وصلّوا جلوسا ، على الصفة التي ذكرناها هذا

ص: 353


1- في ط وج : الطهارة بالماء.
2- الوسائل : الباب 1 من أبواب الوضوء ، ح 1 ، وأيضا باب 1 من أبواب الوضوء ، ح 2 من مستدرك الوسائل.

آخر كلام السيد المرتضى رضي اللّه عنه ، ولم يقسّم حال العريان بل أوجب عليه الصلاة جالسا ، في سائر حالاته.

وشيخانا قسما حاله إلى أنّه يجب عليه إذا أمن من اطلاع غيره عليه ، أن يصلّي قائما بالإيماء ، وإن لم يأمن من اطلاع غيره عليه ، يجب ان يصلّى جالسا بالإيماء.

واستدل شيخنا أبو جعفر على وجوب صلاة العريان قائما في مسائل خلافه ، فقال : دليلنا على وجوب الصلاة قائما طريقة الاحتياط ، فإنّه إذا صلّى كذلك برئت ذمته بيقين ، وإذا صلّى من جلوس لم تبرأ ذمّته بيقين ، قال : وأمّا إسقاط القيام بحيث قلناه ، فلإجماع الفرقة ، قال : وأيضا ستر العورة واجب ، فإذا لم يمكن ذلك إلا بالقعود ، وجب عليه ذلك (1) وهذا دليل منه رضي اللّه عنه غير واضح.

ولقائل أن يقول ، يمكن ستر العورة ، وهو قائم ، بأن يجعل يديه على سوأتيه ، فإن كان على القعود إجماع كما ذكره ، وإلا فدليله على وجوب القيام ، قاض عليه ، في هذه المسألة التي أوجب عليه فيها القعود.

وقال في مسائل خلافه في الجزء الأوّل في كتاب الجماعة : مسألة : يجوز للقاعد أن يأتم بالمومي ، ويجوز للمكتسي أن يأتم بالعريان (2).

قال محمّد بن إدريس : إن أراد شيخنا بالعريان ، الجالس ، فهذا لا يجوز بالإجماع ، أن يأتم قائم بقاعد ، فلم يبق إلا أنّه أراد بالعريان القائم ، يكون إماما للمكتسي القائم أيضا ، فإذا كان كذلك ، فعنده ، العريان الذي لا يأمن من اطلاع غيره عليه ، لا يجوز أن يصلّي إلا جالسا ، وهذا معه غيره ، فكيف يصلّي قائما ، وهذا رجوع عما ذهب إليه في نهايته (3) ، من قسمة للعريان ، ولا أرى بصلاة المكتسي القائم خلف العريان القائم ، بأسا ، إذ لا دليل على بطلانها ، من

ص: 354


1- الخلاف : كتاب الصلاة ، المسألة 151 من مسائل ستر العورة.
2- الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 5 من صلاة الجماعة.
3- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الجماعة وأحكامها تعرض للمسألة في آخر الباب.

كتاب ولا سنة ، ولا إجماع ، على ما ذهب إليه في مسائل خلافه.

فامّا أخبار أصحابنا فقد اختلفت في ذلك ، وليس فيها ما يقطع العذر بالتخصيص ، وليس للمسألة دليل ، سوى الإجماع ، فإنّ أصحابنا في كتبهم ، يقسمون حال العريان ، بغير خلاف بينهم.

فأمّا إذا صلوا جماعة عراة ، فلا خلاف ولا قسمة بين أصحابنا في حالهم ، بل الإجماع منعقد على أنّ صلاة جماعتهم ، من جلوس ، إلا أنّ شيخنا أبا جعفر الطوسي رحمه اللّه يذهب إلى أنّ صلاة الإمام بالإيماء ، ومن خلفه من العراة بركوع ، وسجود ، وباقي أصحابنا مثل السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، وغيرهما ، يذهبون إلى أنّ صلاة المأمومين بالإيماء ، مثل صلاة الإمام ، وهو الصحيح ، لأنّ عليه الإجماع ، لأنّه لا خلاف بينهم ، في أنّ العريان يصلّي بالإيماء ، على سائر حالاته ، ويسقط عنه الركوع والسجود.

واختلف قول أصحابنا ، في صلوات أصحاب الأعذار ، فقال بعضهم : الواجب على العريان ومن في حكمه ، من أصحاب الضرورات ، تأخير الصلاة إلى آخر أوقاتها ، وقال الأكثر منهم : الواجب عليهم ، الإتيان بها ، مثل من عداهم ، إن شاءوا في أوائل أوقاتها ، وإن شاءوا في أواخرها ، إلا المتيمم فحسب ، للإجماع على ذلك ، وما عداه داخل تحت عمومات الأوامر ، وهذا الذي يقتضيه أصول المذهب وبه افتي وأعمل ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، واختياره ، والأول مذهب السيّد المرتضى ، وسلار رحمهما اللّه.

باب الصّلاة على الأموات

هذه الصلاة : فرض على الكفاية ، إذا قام بها البعض ، سقط عن الباقين ، وليس فيها قراءة ، ولا ركوع ، ولا سجود ، ولا تسليم ، وانّما هي تكبيرات ، واستغفار ، ودعاء.

ص: 355

وعدد التكبيرات خمس ، يرفع اليد ، في الأولى منهن ، ولا يرفع اليد في التكبيرات الباقيات ، وهذه أشهر الروايات (1) وهو مذهب السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، وشيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (2) ، وذهب في استبصاره (3) إلى أنّ الأفضل ، رفع اليدين في جميع التكبيرات الخمس ، والصحيح ما قدّمناه ، لأنّ الإجماع عليه.

وموضع الدعاء للميت أو عليه ، بعد التكبيرة الرابعة ، فإذا كبّر الخامسة ، خرج من الصلاة بغير تسليم ، وهو يقول : اللّهم عفوك عفوك.

ويستحب للإمام أن يقيم مكانه حتى ترفع الجنازة.

ولا يجب هذه الصلاة ، إلا على من وجبت عليه الصلاة ، وكان مكلّفا بها ، أو كان غيره أمر بتكليفه ، إيّاها ، تمرينا له ، دون الأطفال الذين لم يبلغوا ست سنين ، ومن بلغ من الأطفال ست سنين ، وجبت الصلاة عليه ، ومن نقص عن ذلك الحد ، لا تجب الصلاة عليه ، بل تستحبّ الصلاة عليه ، إلا أن يكون هناك تقية.

ولا تجب الصلاة الا على المعتقدين للحق ، أو من كان بحكمهم من أطفالهم ، الذين بلغوا ست سنين ، على ما قدّمناه ، ومن المستضعفين ، وقال بعض أصحابنا : تجب الصلاة على أهل القبلة ، ومن يشهد الشهادتين ، والأول مذهب شيخنا المفيد ، والثاني مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه والأول الأظهر في المذهب ، ويعضده القرآن ، وهو قوله تعالى : ( وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ ) (4) يعني الكفار ، والمخالف للحق كافر ، بلا خلاف بيننا.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : مسألة : ولد الزنا ، يغسّل ويصلّى

ص: 356


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب صلاة الجنازة ، وباب 2 من أبواب صلاة الجنازة من مستدرك الوسائل.
2- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة على الموتى.
3- الاستبصار : باب 21 من أبواب الصلاة على الأموات
4- التوبة : 84.

عليه ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة ، وعموم الأخبار (1) التي وردت بالأمر بالصلاة على الأموات ، وأيضا قوله صلى اللّه عليه وآله : صلّوا على من قال لا إله إلا اللّه (2) هذا آخر المسألة (3).

ثم قال في مسائل خلافه ، أيضا : مسألة : إذا قتل أهل العدل رجلا من أهل البغي ، فإنّه لا يغسل ، ولا يصلّى عليه ، ثمّ استدل فقال : دليلنا على ذلك ، أنّه قد ثبت أنّه كافر بأدلّة ، ليس هذا موضع ذكرها ، ولا يصلّى على كافر ، بلا خلاف (4) هذا آخر المسألة قال محمّد بن إدريس : لا استجمل لشيخنا ، هذا التناقض في استدلاله ، يقول في قتيل أهل البغي ، لا يصلّى عليه ، لأنّه قد ثبت كفره بالأدلة ، وولد الزنا لا خلاف بيننا ، أنّه قد ثبت كفره بالأدلة أيضا بلا خلاف ، فكيف يضع هاتين المسألتين ، ويستدل بهذين الدليلين ، وما المعصوم إلا من عصمه اللّه تعالى ، فأمّا الشهادتان ، فهذا يفعلهما ، وهذا أيضا يفعلهما ، وهذه المسألة الأخيرة ، بعد المسألة الأولى ، ما بينهما ، إلا مسألة واحدة فحسب ، وهذا منه رحمه اللّه إغفال في التصنيف.

وتجوز الصلاة ، على الأموات بغير طهارة ، والطهارة أفضل ، ويصلّى على الميت ، في كل وقت من ليل ، أو نهار.

وأولى الناس بالصلاة على الميت ، الولي ، أو من يقدّمه الولي ، فإن حضر الإمام العادل ، كان أولى بالتقدّم ، ويجب على الولي تقديمه ، ولا يجوز لأحد التقدّم عليه ، فإن لم يحضر الإمام العادل ، وحضر رجل من بني هاشم ، معتقد

ص: 357


1- الوسائل : الباب 37 من أبواب صلاة الجنازة ، وباب 29 من أبواب صلاة الجنازة من مستدرك الوسائل.
2- الخلاف : كتاب أحكام الأموات ، مسألة 57 و 59.
3- الخلاف : كتاب أحكام الأموات ، مسألة 57 و 59.
4- الخلاف : كتاب أحكام الأموات ، مسألة 57 و 59.

للحق استحب للولي أن يقدّمه ، فإن لم يفعل ، لم يجز له أن يتقدم ، فإن حضر جماعة من الأولياء ، كان الأب أولى بالتقدم ، ثمّ الولد ، ثمّ ولد الولد ، ثم الجدّ من قبل الأب ، ثم الأخ من قبل الأب والام ، ثمّ الأخ من قبل الأب ، ثمّ الأخ من قبل الام ، ثمّ العم ، ثمّ الخال ، ثمّ ابن العم ، ثمّ ابن الخال.

وجملته ، انّ من كان أولى بميراثه ، كان أولى بالصلاة عليه ، لقوله تعالى : ( وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ ) (1) وذلك عام.

وإذا اجتمع جماعة في درجة ، قدّم الأقرأ ، ثم الأفقه ، ثم الأسن ، لقوله عليه السلام : « يؤمكم أقرأكم » الخبر (2). فإن تساووا في جميع الصفات ، أقرع بينهم.

والولي الحر ، أولى من المملوك في الصلاة على الميت ، وكذلك الذكر ، أولى من الأنثى ، إذا كان ممن يعقل (3) الصلاة.

ويجوز للنساء أن يصلّين على الجنازة ، مع عدم الرجال وحدهن ، إن شئن فرادى ، وإن شئن جماعة ، فإن صلّين جماعة ، وقفت الإمامة وسطهن ، المعمول به من وقت النبي صلى اللّه عليه وآله إلى وقتنا هذا ، في الصلاة على الجنازة ، أن تصلّي جماعة ، فان صلّى فرادى جاز ، كما صلّي على النبي صلى اللّه عليه وآله.

الأوقات المكروهة للنوافل يجوز أن يصلّى فيها على الجنازة.

لا بأس بالصلاة والدفن ليلا ، وإن فعل بالنهار كان أفضل ، إلا أن يخاف على الميّت.

إذا اجتمع جنازة رجل ، وامرأة ، وخنثى ، ومملوك ، وصبي ، فإن كان للصبي دون ست سنين ، قدّم أولا إلى القبلة ، ثم المرأة ، ثم الخنثى ، ثم المملوك ،

ص: 358


1- الأنفال : 75 ، والأحزاب : 6.
2- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 16 من أبواب الأذان والإقامة ، ح 3
3- ج : يعتقد.

ثم الرجل ، فإن كان للصبي ست سنين فصاعدا ، جعل مما يلي الرجل ، وصلّي عليهم على الترتيب الذي قدّمناه ، وإن صلّي عليهم فرادى ، كان أفضل.

يسقط فرض الصلاة على الميت ، إذا صلّى عليه واحد.

والزوج ، أحق بالصلاة على المرأة ، من جميع أوليائها.

فإذا أراد الصلاة ، وكانوا جماعة ، تقدّم الإمام ، ووقفوا خلفه صفوفا ، فإن كان فيهم نساء ، وقفن آخر الصفوف ، وإن كان فيهن حائض ، وقفت وحدها في صف ، بارزة عنهم وعنهن.

وإن كانوا نفسين ، تقدّم واحد ، ووقف الآخر خلفه ، بخلاف صلاة ذات الركوع ، في الجماعات ، ولا يقف على يمينه.

فإن كان الميت رجلا ، وقف الإمام في وسط الجنازة ، وإن كان امرأة وقف عند صدرها.

وينبغي أن يكون بين الإمام ، وبين الجنازة شي ء يسير ، ولا يبعد عنها.

ويتحفى عند الصلاة عليه ، إن كان عليه نعلان ، فإن لم يكن عليه نعل ، أو كان عليه خفّ ، صلّى عليه كذلك ولا ينزعه.

وكيفية الصلاة عليه ، أن يرفع يديه بالتكبير ، على ما قدّمناه ، ويكبر تكبيرة ، ويشهد أن لا إله إلا اللّه ، ثم يكبر تكبيرة أخرى ، ولا يرفع يديه بها ، على ما أسلفنا القول فيه ، ويصلّي على النبي وآله صلوات اللّه عليهم ثمّ يكبر الثالثة ، ويدعو للمؤمنين ، ثم يكبر الرابعة ، ويدعو للميت إن كان مؤمنا ، وعليه إن كان مخالفا لاعتقاد الحق ، ويلعنه ويبرأ منه ، وإن كان مستضعفا قال : ربنا اغفر ( لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا ) إلى آخر الآية ، فإن كان لا يعرف مذهبه ، (1) يسأل اللّه تعالى ، أن يحشره مع من كان يتولاه ، وإن كان طفلا سأله أن يجعله له ولأبويه فرطا ، بفتح الفاء والراء ، والفرط في لغة العرب ، هو المتقدّم على القوم ، ليصلح لهم ما يحتاجون إليه ، والدليل على ذلك قول الرسول صلوات اللّه عليه أنا فرطكم على

ص: 359


1- في وج : يسأل.

الحوض (1) ثم يكبر الخامسة.

ولا يبرح من مكانه ، إن كان إماما ، حتى ترفع الجنازة ، ويراها على أيدي الرجال.

ومن فاته شي ء من التكبيرات ، أتمّها عند فراغ الإمام متتابعة ، فإن رفعت الجنازة ، كبر عليها وإن كانت مرفوعة ، وإن بلغت إلى القبر ، كبّر على القبر ، إن شاء.

الأفضل ان لا يرفع يديه ، فيما عدا الأولة من التكبيرات الخمس ، على ما بيناه.

وإن كبر تكبيرة قبل الإمام ، أعادها مع الإمام.

ومن فاتته الصلاة على الجنازة ، جاز أن يصلّي على القبر ، بعد الدفن يوما وليلة ، وقال بعض أصحابنا ثلاثة أيام ، والأول هو الأظهر بين الطائفة.

ولا يجوز الصلاة على غائب مات في بلد آخر ، لأنّه لا دليل عليه ، فإن اعترض معترض ، بصلاة الرسول صلى اللّه عليه وآله على النجاشي ، وقد مات ببلاد الحبشة ، فإنّما دعا له والصلاة تسمى دعاء في أصل الوضع.

ويكره أن يصلّى على جنازة واحدة دفعتين جماعة ، فأمّا فرادى فلا بأس بذلك.

وإذا دخل وقت الصلاة وقد حضرت جنازة ، ولم يتضيّق وقت الصلاة الحاضرة ، ولم يخش على الجنازة حدوث حادث ، فالبدأة بالصلاة أفضل ، وتؤخر الصلاة على الجنازة ، فإن خيف حدوث الحادث بالجنازة ، فالبدأة بالصلاة على الجنازة هو الأفضل والأولى ، وإن كان وقت الحاضرة قد ضاق ، فالبدأة بالحاضرة هو الواجب الذي لا يجوز العدول عنه إلى ما سواه.

وأفضل ما يصلّى على الجنائز ، في مواضعها الموسومة بذلك.

ص: 360


1- سفينة البحار في لغة فرط.

ويكره الصلاة عليها في المساجد ، ومتى صلى على جنازة ثم بان أنّها كانت مقلوبة ، أي رجلا الميت إلى يمين المصلّي ، سويت ، وأعيد الصلاة عليها ، ما لم يدفن ، فإذا دفن فقد مضت الصلاة.

والأفضل أن لا يصلّى على الجنازة إلا على ظهر ، فإن فاجأته جنازة ولم يكن على طهارة ، تيمم ، وصلّى عليها ، فإن لم يمكنه ، صلّى عليها بغير طهارة ، وإن صلّى من غير تيمم جاز أيضا ، إذ قد بيّنا فيما سلف ، أنّ الطهارة ليست شرطا في هذه الصلاة.

وإذا كبر الإمام على جنازة تكبيرة ، أو تكبيرتين ، وأحضرت جنازة اخرى كان مخيرا بين أن يتم خمس تكبيرات على الجنازة الأولة ، ثم يستأنف الصلاة بنية على الأخرى ، وبين أن ينوي الصلاة عليهما معا ويكبر الخمس تكبيرات من الموضع الذي انتهى إليه ، وقد أجزأه عن الصلاة عليهما.

ومتى صلّى جماعة عراة على ميت ، فلا يتقدم إمامهم ، بل يقف قائما في الوسط ، فإن كان الميت عريانا ، أنزل (1) في القبر أولا ، وغطيت سوأته ، ثم يصلّى عليه بعد ذلك ، ويدفن.

فإذا فرغ من الصلاة عليه حمل إلى القبر.

تمّ كتاب الصلاة مكمّلا ولله المنة (2)

ص: 361


1- ج : ترك وط : انزل
2- ج : ولله المنّة وبه الحول والقوّة.

ص: 362

كتاب الصّيام

اشارة

ص: 363

كتاب الصّيام

باب حقيقة الصوم ومن يجب عليه ذلك ومن لا يجب عليه

الصوم في اللغة : هو الإمساك والكف ، يقال : صام الماء إذا سكن وصام النهار إذا قام في وقت الظهيرة ، قال الشاعر :

خيل صيام وخيل غير صائمة *** تحت العجاج واخرى (1) تعلك اللجما

وقال آخر : صام النهار وقالت العفر.

وفي الشرع : هو إمساك خصوص ، على وجه مخصوص ، في زمان مخصوص ، ممن هو على صفة مخصوصة.

ومن شرط انعقاده النية المقارنة فعلا أو حكما ، لأنّه لو لم ينو ، وأمسك عن جميع ذلك ، لم يكن صائما ، وقولنا : إمساك مخصوص ، أردنا الإمساك عن المفطرات التي سنذكرها ، وأردنا على وجه مخصوص ، العمد دون النسيان ، لأنّه لو تناول جميع ذلك ناسيا لم يبطل صومه ، وقولنا : في زمان مخصوص ، أردنا به النهار ، دون الليل ، فإنّ الإمساك عن جميع ذلك ليلا ، لا يسمّى صوما ، وقولنا : ممن هو على صفة مخصوصة ، أردنا به من كان مسلما ، لأنّ الكافر ، لو أمسك عن جميع ذلك ، لم يكن صائما ، وأردنا به أيضا أن لا تكون حائضا ، لأنّها لا يصح منها الصوم ، وكذلك لا يكون مسافرا ، سفرا مخصوصا ، عندنا ، لأنّ المسافر لا ينعقد صومه الفرض ، وقولنا : من شرطه مقارنة النية له ، فعلا أو حكما ، معناه :

ص: 364


1- ج : وخيل.

أن يفعل النية ، في الوقت الذي يجب فعلها فيه ، وحكما : أن يكون ممسكا ، عن جميع ذلك ، وإن لم يفعل النية ، كالنائم طول شهر رمضان ، والمغمى عليه ، فإنّه لا نيّة لهما ، ومع ذلك يصح صومهما ، وكذلك من أمسكه غيره ، عن جميع ما يجب إمساكه ، يكون في حكم الصائم ، إذا نوى ، وإن لم يكن في الحقيقة ممتنعا ، لأنّه لا يتمكن منها ، هذا جميعه ، ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة (1) والذي يلوح لي ، ويقوى في نفسي أنّ النائم الذي ذكره ، والمغمى عليه ، غير مكلّفين بالصيام ، ولا هما صائمان صياما شرعيا ، فذكره لهما غير واضح ، وسيأتي الكلام في باب المغمى عليه ، ونذكر ما عندنا في ذلك ، واختلاف أصحابنا فيه.

والنية ، وإن كانت إرادة ، لا تتعلق إلا بالحدوث ، بأن يكون الشي ء قائما يتعلّق في الصوم ، باحداث توطين النفس ، وقهرها ، على الامتناع بتجديد الخوف ، من عقاب اللّه تعالى ، وغير ذلك ، أو بفعل كراهة ، لحدوث هذه الأشياء ، فتكون متعلّقة على هذا الوجه ، فلا ينافي الأصول.

وقال السيد المرتضى رحمه اللّه : الصوم الشرعي : هو توطين النفس ، على الكف عن تناول ما يفسد الصيام ، من أكل ، وشرب ، وجماع ، وما أشبه ذلك.

وقال شيخنا المفيد رحمه اللّه : الصوم في الشرع : هو كف الجوارح ، عما حظر على العبد استعماله منه ، مع حال الصيام ، ومن شرط وجوبه : كمال العقل ، والطاقة ، وليس الإسلام شرطا في الوجوب ، لأنّ الكافر عندنا ، تجب عليه العبادات الشرعية ، وإن لم يكن مسلما ، إلا أنّ الأداء لا يصح منه ، لأنّ النية للقربة من شرطه ، وهذا شي ء يرجع إليه ، لأنّ في مقدوره ، أن يسلم ، ويعرف من يتقرب إليه ، فهو كالمحدث ، إذا دخل وقت الصلاة ، فإنّه مكلّف بالصلاة ،

ص: 365


1- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر حقيقة الصوم وشرائط وجوبه.

ولا يصح منه الأداء ، لأنّ إزالة الحدث في مقدوره ، لا لأمر راجع إلى غيره ، لا يصح منه فعله ، إلا أنّه لا يلزمه القضاء ، متى أسلم ، لأنّ القضاء فرض ثان ، ومن شرطه : الإسلام ، وكمال العقل.

وأمّا المرتد عن الإسلام ، إذا رجع ، فإنّه يلزمه قضاء الصوم ، وجميع ما فاته ، من العبادات في حال ارتداده ، لأنّه كان بحكم الإسلام ، لالتزامه له ، أولا ، فلأجل ذلك ، وجب عليه القضاء ، فأمّا إن ارتد ، ثم عاد إلى الإسلام ، قبل أن يفعل ما يفطره ، فلا يبطل صومه بالارتداد ، لأنّه لا دليل عليه.

فأمّا كمال العقل ، شرط في وجوبه عليه ، لأنّ من ليس كذلك ، لا يكون مكلفا ، من المجانين ، وغيرهم ، ولا فرق بين أن لا يكون كامل العقل في الأصل ، أو يزول عقله فيما بعد ، في أن التكليف يزول عنه ، اللّهم إلا ان يزول عقله ، بفعل يفعله ، على وجه يقتضي زواله ، بمجرى العادة ، فإنّه إذا كان كذلك ، لزمه قضاء جميع ما يفوته ، في تلك الأحوال ، وذلك مثل السكران وغيره ، فإنّه يلزمه قضاء ما فاته ، من العبادات كلها ، وإن كان جنى (1) جناية ، زال معها عقله ، على وجه لا يعود ، بأن يصير مجنونا مطبقا ، فإنّه لا يلزمه قضاء ما يفوته ، وأمّا إذا زال عقله بفعل اللّه ، مثل الإغماء ، والجنون ، وغير ذلك فإنّه لا يلزمه قضاء ما يفوته ، في تلك الأحوال ، فعلى هذا ، إذا دخل عليه شهر رمضان ، وهو مغمى عليه ، أو مجنون ، أو نائم ، وبقي كذلك ، يوما ، أو أياما ، كثيرة ، أفاق في بعضها ، أو لم يفق ، لم يلزمه قضاء شي ء ، ممّا مرّ به ، سواء أفطر فيه ، أو طرح في حلقه ، على وجه المداواة له ، فإنّه لا يلزمه القضاء حينئذ.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : لا يلزمه القضاء ، لشي ء ممّا مرّ به ، إلا ما أفطر فيه ، أو طرح في حلقه على وجه المداواة له ، فإنه

ص: 366


1- ط : حين جنايته.

يلزمه حينئذ القضاء ، لان ذلك لمصلحته ومنفعته ، وسواء أفاق في بعض النهار ، أو لم يفق ، فانّ الحال لا يختلف فيه (1) وما ذكره رحمه اللّه كلام المخالفين ، فلا يظن ظان أنّه قوله واعتقاده ، لأنّ هذا ينافي أصول المذهب ، لأنّ الخطاب بالعبادات ، لا يتوجه إلا إلى كاملي العقول ، وأيضا القضاء فرض ثان ، يحتاج إلى دليل شرعيّ ، في إثباته ، فإنّ القضاء ، غير تابع للمقضي ، لأنّه يحتاج إلى دليل شرعي.

وأمّا البلوغ ، فهو شرط في وجوب العبادات الشرعية ، وحدّه في الرجل ، إمّا بالاحتلام ، أو بلوغ خمس عشرة سنة ، أو الإنبات ، وهو خشونة العانة ، والمرأة ، تعرف بلوغها ، من خمس طرائق : إمّا الاحتلام ، أو الإنبات ، أو بلوغ تسع سنين ، وذكر شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في مبسوطة في كتاب الصوم : عشر سنين (2) وفي نهايته : تسع سنين (3) وهو الصحيح ، الظاهر في المذهب ، لأنّه لا خلاف بينهم ، أنّ حدّ بلوغ المرأة تسع سنين ، فإذا بلغتها ، وكانت رشيدة ، سلّم الوصي إليها مالها ، وهو بلوغها الوقت الذي يصح أن تعقد على نفسها عقدة النكاح ، ويحل للبعل الدخول بها ، بغير خلاف بين الشيعة الاثني عشرية والحيض ، والحمل ، وهكذا يذكر في الكتب ، والمحصّل من هذا ، بلوغ التسع سنين ، لأنّها لا تحيض قبل ذلك ، ولا تحمل قبل ذلك ، فعاد الأمر إلى بلوغ التسع سنين ، وانّما أوردنا ما أورده غيرنا من المصنّفين ، فأما قبل ذلك ، فإنّما يستحب أخذه به ، على وجه التمرين له ، والتعليم.

والصوم على ضربين : مفروض ، ومسنون ، وقال بعض أصحابنا في كتاب له : الصوم على خمسة أضرب ، واجب ومندوب ، وصوم اذن ، وصوم تأديب ، وصوم قبيح ، وهذا ما لا حاجة إليه ، لأنّا نحدّ الصوم الشرعي ، وما هو تكليف لنا ،

ص: 367


1- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر حقيقة الصوم وشرائط وجوبه.
2- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر حقيقة الصوم وشرائط وجوبه.
3- النهاية : كتاب النكاح ، باب من يتولى العقد على النساء.

والصوم القبيح غير شرعي ، ولا هو تكليف لنا ، فأمّا صوم الاذن ، وصوم التأديب ، فداخلان في صوم المسنون ، فعاد الأمر على هذا التحرير ، إلى أنّ الصوم الشرعي ، على ضربين : واجب ، ومندوب ، لا قسم لهما ثالث ، فإذا تقرر ذلك ، فالمفروض على ضربين : ضرب منهما ، واجب من غير سبب ، وهو صوم شهر رمضان ، فحسب ، والضرب الآخر ، واجب عند سبب ، وهذا الضرب ، نحو من خمسة عشر قسما ، وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في جمله وعقوده : أحد عشر قسما (1) ، أوردها فهي معلومة ، فأمّا المزيد عليها ، من الأقسام ، فهو كفارة خلاف النذر ، وكفارة خلاف العهد ، وصوم من أفاض من عرفات ، قبل غروب الشمس متعمدا ، ولم يجد الجزور ، فإنّه يجب عليه أن يصوم بدله ثمانية عشر يوما.

والمفروض على ضربين أيضا بطريقة اخرى : متعين ، وغير متعين ، فالمتعين على ضربين : متعيّن بزمان ، ومتعيّن بصفة ، والمتعين بزمان ، على ضربين ، أحدهما ، لا يمكن أن يقع فيه غير ذلك الصوم ، والشرع على ما هو عليه ، والآخر يمكن ذلك فيه ، أو كان يمكن ، هذا تقسيم شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (2) ، وتقسيمه في الجمل والعقود ، قال : فإن كان الصوم متعيّنا بزمان مخصوص ، على كل حال ، مثل شهر رمضان ، فيكفي فيه نية القربة ، دون نية التعيين ، وإن لم يكن متعينا ، أو كان يجوز ذلك فيه ، احتاج إلى نية التعيين ، وذلك كل صوم ، عدا شهر رمضان (3) واحترازه في العبارتين بقوله : والآخر يمكن ذلك فيه ، أو كان يمكن ، وبقوله في جمله وعقوده : وإن لم يكن متعيّنا ، أو كان يجوز ذلك فيه ،

ص: 368


1- الجمل والعقود : فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه.
2- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر النية وبيان أحكامها في الصوم.
3- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، ومن شرط صحته النية.

مقصوده ومراده بقوله : وإن لم يكن متعيّنا ، النذر الغير متعين (1) بيوم ، وبقوله : أو كان يجوز ذلك فيه ، النذر المعين بيوم ، يريد به (2) كان يجوز أن لا ينذره ناذره ، فلا يكون متعينا بيوم أو أيام ، فالأول صوم شهر رمضان ، فإنّه لا يمكن أن يقع فيه غيره ، إذا كان مقيما في بلده ، أو بلد غير بلده ، إذا كان قد نوى مقام عشرة أيّام.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : وما هذه حاله ، لا يحتاج في انعقاده إلى نية التعيين ، ويكفى فيه نية القربة وقال في مبسوطة : ومعنى نية القربة ، ان ينوي أنّه صائم شهر رمضان (3) وقال في مسائل الخلاف : ونية القربة يكفي ، أن ينوي أنّه يصوم متقرّبا به إلى اللّه تعالى ، وان أراد الفضل ، نوى أنّه يصوم غدا ، صوم شهر رمضان ، ونيّة التعيين ، أن ينوي الصوم الذي يريده ، ويعيّنه بالنية (4) ، والذي ذكره في مسائل خلافه ، هو الصحيح ، إذا زاد فيه واجبا ، مثل أن ينوي أنّه يصوم واجبا متقربا به إلى اللّه تعالى.

ولا يظن ظان ، أنه إذا نوى واجبا ، فقد عيّن ، لأنّ الواجب يشتمل على ضروب من الصيام الواجب ، وما ذكره في مبسوطة ، من كيفية نية القربة غير واضح ، وهو مذهب الشافعي ، فلا يظن ظان ، أنّه قوله واعتقاده ، لأنّه قد ذكره عنه وحكاه عنه ، في مسائل الخلاف ، لأنّ القول بذلك ، يؤدّي إلى أنّه ، لا فرق بين نية التعيين ، ونية القربة ، لأنّ نية القربة ، لا تعيّن المنوي ، بل يتقرب بالصوم إلى اللّه سبحانه وتعالى ، لأنّه زمان لا يقع فيه غير الصوم الذي هو واجب فيه ، فعلى ما أورده في مبسوطة ، جمع بين نية القربة ، ونية التعيين ، لأنّه قال : ينوي أنّه صائم شهر رمضان ، وجملة الأمر وعقد الباب أنّ ما عدا شهر رمضان ، عند هذا الفقيه رضي اللّه عنه لا بدّ له من نية التعيين ، ونية القربة معا ، ورمضان

ص: 369


1- ج : غير المتعين
2- ج : النذر المتعيّن بيوم ، ويريد به.
3- المبسوط : كتاب الصوم فصل في ذكر النية - والعبارة هكذا - وفي نية القربة ان ينوي أنه صائم فقط متقربا إلى اللّه تعالى
4- الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة 4.

يكفي فيه نية القربة فحسب ، دون نية التعيين.

والصحيح ما ذهب سيّدنا المرتضى رضي اللّه عنه إليه ، من أنّ كل زمان يتعين فيه الصوم ، كشهر رمضان ، والنذر المعين ، بيوم أو أيام ، لا يجب فيه نية التعيين ، بل نية القربة فيه كافية ، حتى لو نوى صومه ، عن غيره ، لم يقع إلا عنه وانّما يفتقر إلى تعيين النية ، في الزمان الذي لا يتعين فيه الصوم.

وذكر السيد المرتضى رضي اللّه عنه في جواب مسألة من جملة المسائل الطرابلسيات : الثالثة ما قوله ، حرس اللّه مدته ، فيمن نذر أن يصوم يوما ، يبلغ فيه مرادا ، واتفق ذلك اليوم ، يوم عيد ، أو يوما قد تعيّن صومه عليه ، بنذر آخر ، هل يجزيه صوم اليوم الذي تقدم وجوب صومه عليه بالنذر المتقدّم ، عن يوم يجعله بدلا منه ، إذا اتفق في النذر الثاني ، أم لا؟ وهل يسقط عنه صوم اليوم الثاني (1) الّذي اتفق يوم عيد بغير بدل منه ، أم ببدل؟ فأجاب المرتضى : بأن قال : إذا نذر صوم يوم عليه ببعض الشروط ، واتفق حصول ذلك الشرط ، في يوم قد تعيّن عليه صومه بنذر متقدّم ، لنذره هذا ، فالأولى ، أن لا قضاء عليه ، لأنّ نذره ، تعلّق بما يستحيل ، فلم ينعقد ، وإذا لم ينعقد ، فلا قضاء ، وانّما قلنا انّه مستحيل ، لأنّ صوم ذلك اليوم ، قد تعيّن صومه بنذر سابق ، يستحيل أن يجب بسبب آخر ، فكأنّه نذر ما يستحيل وقوعه ، وجرى مجرى أن يعلّق نذره باجتماع الضدين ، والذي يكشف عن استحالة ما نذره ، أنّه إذا قال : عليّ أن أصوم يوم قدوم فلان ، فكأنّه نذر صيام هذا اليوم ، على وجه يكون صيامه مستحقا بقدوم ذلك القادم ، وهذا اليوم الذي فرضنا ، أنّه متعيّن صومه بسبب متقدّم ، يستحيل فيه أن يستحق صومه بسبب آخر ، من الأسباب وهذا بيّن وهذا آخر كلام المرتضى رحمه اللّه (2)

ص: 370


1- ج : اليوم الذي
2- رسائل الشريف المرتضى المجموعة الاولى : ص 440.

والمقصود من هذا ، أنّه جعله كرمضان ، وأنّه يستحيل أن يقع فيه صوم غيره ، وذلك انّما يحتاج إلى النيّة المعينة للصوم ، في الزمان الذي ليس بمعيّن حتى يعيّنه ، وهذا الزمان في نفسه معيّن ، فهو كرمضان سواء ، وقول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه : أو كان يجوز ذلك فيه ، يريد به أنّ النذر المعيّن كان يجوز أن لا يكون معيّنا ، على ما تقدّمت الإشارة منّا في تفسيره.

فلقائل أن يقول له : وكان يجوز أن لا يكلفنا اللّه تعالى ، صيام شهر رمضان ، بان لا يوجبه (1) علينا ، فمهما لزمنا في النذر المعيّن من الجواب ، يلزمه مثله ، حذو النعل بالنعل ، فاحترازه ممّا احترز ، غير مجد عليه نفعا.

فرمضان ، عنده يمتاز من سائر ضروب الصيام الواجب بثلاثة أحكام : أحدها ، انّ نيّة القربة ، كافية فيه ، ونية واحدة ، تجزي للشهر جميعه ، ويجوز أن يتقدّمه على بعض الوجوه ، على ما يذهب إليه شيخنا أبو جعفر ورواه من طريق أخبار الآحاد ، بأن يعزم في شعبان ، أنّه إذا حضر رمضان ، صامه ثم حضر رمضان ، وعلمه ، ثم نسي ، وصام ذلك ، أجزأته تلك النية المتقدّمة ، وكان صومه صحيحا ، مجزيا عنه فاما من لم يعلم باستهلال الشهر وأصبح صائما بنية التطوع ، فإنه يجزيه صيامه سواء علم قبل الزوال أو بعد الزوال فاما من أصبح بنية الإفطار ثم قامت عنده البينة بدخول الشهر فان كان ذلك قبل الزوال ولم يتناول ما يفسد الصيام فيجدد النية وقد تم ، صومه ، ولا قضاء عليه ، وإن كان ذلك بعد الزوال ، فيجب عليه الإمساك ، باقي نهاره ، ويجب عليه القضاء ، فإن لم يمسك باقي نهاره ، وأفطر ، فإنّه يجب عليه مع القضاء ، الكفارة ، لأنّه قد أكل في نهار رمضان ، بعد حصول علمه به.

ووقت النية ليلة الصوم ، من أوّلها إلى طلوع الفجر ، فأيّ وقت نوى الصوم ، فقد انعقد صومه ، ومتى لم ينو متعمدا ، مع العلم بأنّه شهر رمضان ، حتى يصبح

ص: 371


1- ج : ولا يوجبه.

فقد فسد صومه ، وعليه القضاء ، وإن لم يعلم أنّه من شهر رمضان ، لعدم رؤيته ، أو لشبهة ، ثم علم بعد أن أصبح ، جاز له أن يجدد النيّة ، إلى الزوال ، وصحّ صومه ، ولا اعادة عليه ، وإن فاتت إلى بعد الزوال ، أمسك بقية النهار ، وكان عليه القضاء ، كما قدّمناه.

وجملة الأمر ، وعقد الباب : انّ الصوم المتعيّن ، مع الذكر له ، يجب أن ينوي مكلّفة من الليل ، وجميع الليل ، محل لنيّته ، فإن تركها متعمدا ، فإنّه يجب عليه القضاء ، وإن تركها ساهيا ، أو بأن لا يعلمه ، فله أن ينوي ما بينه وبين زوال الشمس ، فإن زالت فقد فاتته ، ويجب عليه القضاء ، والذي ينبغي تحصيله ، فإنّه يوجد في الكتب ، أنّ رمضان لو صام الإنسان فيه ، بنية النذر ، أو بنية الكفارة ، أو القضاء ، أو الندب ، وقع عن رمضان ، لأنّه زمان لا يصح أن يقع فيه صوم ، سوى صوم رمضان ، والذي يجب أن يقال ، هذا مع عدم علم المكلّف ، بأنّه رمضان ، وصام بنية صيام غيره ، وقع عنه وأجزأ.

فأمّا إذا علمه ، وحقّقه ، فلا يجزيه إلا أن ينويه ، لأنّ النية ، تحتاج إلى أن يطابق المنوي ، لقول الرسول عليه السلام : الأعمال بالنيّات ، وانّما لامرئ ما نوى (1) فكيف يجزي صوم النفل ، عن الصوم الواجب ، الذي قد علمه المكلف ، وحقّق زمانه ، وانّما يجزي ذلك للناسي ، وغير العالم ، فإطلاق ما يوجد في كتب أصحابنا ، راجع إلى غير العالم المتحقق لزمان رمضان ، فأمّا العالم ، فلا بدّ له ، مع ذكره ، لنية الوجوب (2) ، فحسب ، دون نية التعيين ، لأنّ الواجب على ضروب ، فإذا نوى أصوم واجبا ، فلم يعيّن ، فإذا قال : أصوم واجبا رمضان ، فقد عيّن ، فلا يظن ظان ، أن إذا قال : أصوم واجبا ، فقد عيّن.

ص: 372


1- الوسائل : الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 10 ، وفي المصدر ( ولكل امرء )
2- ج : لنية القربة من نية الوجوب وفي ط : لنية الوجوب من نية القربة.

وأمّا الصوم الغير المتعيّن فمحل النية ، طول ليلة نهاره وإلى قبل زوال الشمس من يومه ، سواء تركها عامدا ، أو ناسيا ، فهذا الفرق ، بين ضربي الصوم الواجب.

فأمّا صوم التطوع ، فله أن ينوي ما دام في نهاره ، سواء كان بعد الزوال ، أو قبله ، على الصحيح من الأقوال والأخبار.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : ومتى فاتت ، إلى بعد الزوال ، فقد فات وقتها ، إلا في النوافل خاصّة ، فإنّه روي في بعض الروايات ، جواز تجديدها ، بعد الزوال (1) ، وتحقيقها ، أنّه يجوز تجديدها ، إلى أن يبقى من النهار بمقدار ما يبقى (2) زمان بعدها يمكن أن يكون صوما ، فأمّا إذا كان انتهاء النيّة ، مع انتهاء النهار ، فلا صوم بعده ، على حال (3).

وهذا القول منه رحمه اللّه ، يدل على تضعيفه للرواية ، لأنّه قال : فإنّه روي في بعض الروايات ، جعله رواية ، ثم قال في بعض ، زاده ضعفا آخر : والصحيح ما قدّمناه ، واخترناه ، لأنّه إجماع من الفرقة ، على ذلك ، وهو مذهب السيد المرتضى ، يناظر عليه المخالف له في الانتصار (4).

وإذا جدد نية الإفطار ، في خلال النهار ، وكان قد عقد الصوم في أوّله ، فإنّه لا يصير مفطرا ، حتى يتناول ما يفطر ، وكذلك إن كره الامتناع من الأشياء المخصوصة ، لأنّه لا دليل على ذلك.

وقال السيد المرتضى رضي اللّه عنه ووقت النية في الصيام الواجب ، من قبل طلوع الفجر ، إلى قبل زوال الشمس ، وفي صيام التطوع ، إلى بعد الزوال.

والذي يقع الإمساك عنه ، على ضربين : واجب ومندوب ، فالواجب على ضربين : أحدهما إذا لم يمسك عنه ، لا يجب عليه قضاء ، ولا كفارة ، بل كان

ص: 373


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب وجوب الصوم ونيته ، ح 8
2- ج : من النهار زمان.
3- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر النية وبيان أحكامها في الصوم ، ج 1 ، ص 277 ، وفي المصدر : ومتى فاتته
4- الانتصار : كتاب الصوم ، المسألة الأولى.

مأثوما ، وإن لم يبطل ذلك صومه ، وهو المشي إلى المواضع المنهي عنها ، والكذب على غير اللّه تعالى ، وغير رسوله ، وأئمته عليهم السلام ، والغناء ، وقول الفحش ، والنظر إلى ما لا يجوز النظر إليه ، والحسد ، وقال بعض أصحابنا : التحاسد ، الأولى الإمساك عنه ، والصحيح أنّه داخل فيما يجب الإمساك عنه.

والضرب الآخر ، من قسمي الواجب ، ينقسم إلى قسمين : أحدهما يوجب القضاء والكفارة معا ، والآخر يوجب القضاء دون الكفارة.

فما يوجب القضاء والكفارة ، اختلف أصحابنا فيه ، فقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجمل والعقود : تسعة أشياء ، الأكل والشرب ، والجماع في الفرج ، وإنزال الماء - الذي هو المني ، وشيخنا قيده بالدافق ، ولا حاجة بنا على مذهبنا ، إلى هذا التقييد لأنّا إنما نراعي خروج المني عامدا سواء كان دافقا أو غير دافق في جميع ما نراعي من الاغتسال وغير ذلك ، والكذب على اللّه تعالى ، وعلى رسوله والأئمة عليهم السلام ، متعمّدا ، والارتماس في الماء ، وإيصال الغبار الغليظ إلى الحلق متعمّدا ، مثل غبار الدقيق ، وغبار النفض ، وما جرى مجراه ، والمقام على الجنابة متعمدا ، حتى يطلع الفجر ، ومعاودة النوم بعد انتباهتين ، حتى يطلع الفجر (1).

وما يوجب القضاء دون الكفارة ، فثمانية أشياء : الإقدام على الأكل ، والشرب ، أو الجماع ، قبل أن يرصد الفجر ، مع القدرة على مراعاته ، ويكون طالعا ، وترك القبول عن من قال إنّ الفجر طلع ، والإقدام على تناول ما ذكرناه ، ويكون قد طلع ، وتقليد الغير في أنّ الفجر لم يطلع ، مع قدرته على مراعاته ، ويكون قد طلع ، وتقليد الغير في دخول الليل مع القدرة على مراعاته ، والإقدام على الإفطار ، ولم يدخل ، وكذلك الإقدام على الإفطار ، لعارض يعرض في السماء

ص: 374


1- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في ذكر مما يمسك عنه الصائم ، رقم 1 و 2 و 3 و 4 مما لا يوجب القضاء والكفارة.

من ظلمة ، ثم تبين أنّ الليل لم يدخل ، ومعاودة النوم ، بعد انتباهة واحدة ، قبل أن يغتسل من جنابة ، ولم ينتبه حتى يطلع الفجر ، ودخول الماء إلى الحلق لمن يتبرد ، بتناوله ، دون المضمضة للطهارة ، سواء كانت الطهارة للصلاة ، أو لما يستحب فعلها ، من الكون عليها ، وغير ذلك.

وقال شيخنا : دون المضمضة للصلاة ، ذكره في هذا المختصر أعني جمله وعقوده (1).

وقال في نهايته : ومن تمضمض للتبرد ، دون الطهارة (2) وهو الصحيح.

والحقنة بالمائعات ، هذه الأحكام في الصوم الذي يتعيّن صومه ، مثل صوم شهر رمضان ، والنذر المعيّن.

وقال السيد المرتضى رضي اللّه عنه ، من تعمد الأكل والشرب ، أو استنزال الماء الدافق ، بجماع أو غيره ، أو غيّب فرجه في فرج حيوان محرّم ، أو محلّل له ، أفطر ، وكان عليه القضاء والكفارة ، قال : وقد ألحق قوم من أصحابنا بما ذكرناه ، في وجوب القضاء والكفارة ، اعتماد الكذب ، على اللّه تعالى ، وعلى رسوله صلى اللّه عليه وآله وعلى الأئمة عليهم السلام ، والارتماس في الماء ، والحقنة ، والتعمد للقي ء ، والسعوط ، وبلع ما لا يؤكل ، كالحصى وغيره قال : وقال قوم : إنّ ذلك ينقض الصوم ، وإن لم يبطله ، قال : وهو الأشبه وقالوا في تعمد الحقنة ، وما يتيقّن وصوله إلى الجوف ، من السعوط ، وفي اعتماد القي ء ، وبلع الحصى ، أنّه يوجب القضاء من غير كفارة ، وقد روي أنّ من أجنب في ليل شهر رمضان وتعمد البقاء إلى الصباح ، من غير اغتسال ، كان عليه القضاء والكفارة (3) وروي أن عليه القضاء دون الكفارة (4) ، ولا خلاف أنّه لا شي ء

ص: 375


1- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في ذكر ما يمسك عنه الصائم ، رقم 7 مما يوجب القضاء دون الكفارة
2- النهاية : كتاب الصوم ، باب ما على الصائم اجتنابه.
3- الوسائل : الباب 16 من أبواب ما يمسك عنه الصائم.
4- الوسائل : كتاب الصيام الباب 15 ، ح 4 ، وباب 16 ، ح 1 ، من أبواب ما يمسك عنه الصائم.

عليه ، إذا لم يتعمد ذلك ، وغلبه النوم إلى أن يصبح ، ومن ظن أن الشمس قد غربت ، فأفطر ، وظهر فيما بعد ، طلوعها ، فعليه القضاء خاصّة ، ومن تمضمض للطهارة ، فوصل الماء إلى جوفه ، فلا شي ء عليه ، وإن فعل ذلك متبردا ، كان عليه القضاء خاصّة ، هذا آخر قول السيد المرتضى رضي اللّه عنه أوردته على وجهه.

والذي يقوى في نفسي ، وافتي به ، واعتقد صحته ، ما ذهب إليه المرتضى ، إلا ما استثناه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن علق عليها شيئا ، يحتاج إلى دليل شرعي ، وشيخنا أبو جعفر ، رجع عما ذهب إليه في الارتماس ، وقال في الاستبصار ، قال : لأنّه لا يمتنع أن يكون الفعل محظورا ، لا يجوز ارتكابه ، وإن لم يوجب القضاء والكفارة ، ولست أعرف حديثا في إيجاب القضاء والكفارة ، أو إيجاب أحدهما على من ارتمس في الماء (1) هذا قول الشيخ أبي جعفر في الاستبصار ، وقال في مبسوطة ، في وجوب القضاء والكفارة ، والارتماس في الماء على أظهر الروايات (2) وفي أصحابنا من قال إنّه لا يفطر.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : ينبغي للعاقل أن يتعجب من اختلاف قوليه ، اللذين ذكرهما في كتابيه ، الاستبصار والمبسوط ، فإنّه قال في استبصاره : ولست أعرف حديثا في إيجاب القضاء ، والكفارة ، أو إيجاب أحدهما ، ثم قال في مبسوطة : يجب القضاء ، والكفارة ، على أظهر الروايات ، فإذا لم يعرف حديثا بهما ، أي روايات تبقى ، حتى تكون ظاهرة ، وهذا فيه مع الفكر ، والإنصاف ، وترك التقليد ، وحسن الرأي بالرجال ، ما فيه ، واللّه المستعان ، والمعصوم من عصمه اللّه تعالى ، فإذا لم يجد حديثا ، ولا ورد به خبر ، والإجماع من الفرقة غير حاصل ، بل هي مسألة خلاف بينهم ، فما بقي لوجوب الكفارة

ص: 376


1- الإستبصار : باب 42 حكم الارتماس في الماء.
2- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر ما يمسك عنه الصائم.

والقضاء دليل ، يعتمد عليه ، ولا شي ء يستند إليه ، بل بقي الأصل براءة الذمة ، من أن يعلق عليها شي ء ، إلا بدليل شرعي ، ولا دليل شرعي على ذلك ، لأنّ ما تعرف به المسألة (1) الشرعية ، أربع طرق ، امّا كتاب اللّه تعالى ، أو السنّة المتواترة ، أو الإجماع ، أو دليل العقل ، فإذا فقدنا الثلاث ، بقي الرابع ، وهو دليل العقل.

وأمّا الكذب على اللّه سبحانه ، وعلى رسوله ، والأئمة عليهم السلام ، متعمدا ، فقد قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : وفي أصحابنا من قال ، إن ذلك لا يفطر ، وانّما ينقص (2) وقال في مبسوطة : والارتماس في الماء ، على أظهر الروايات ، وفي أصحابنا من قال انه لا يفطر مع ما قال في استبصاره ، من أنّه ما وجدت به حديثا ، وفي هذا تناقض ظاهر ، وقول غير واضح.

فأمّا غبار النفض ، فالذي يقوى في نفسي ، أنّه يوجب القضاء ، دون الكفارة ، إذا تعمّد الكون ، في تلك البقعة ، من غير ضرورة ، فأمّا إذا كان مضطرا إلى الكون في تلك البقعة ، وتحفظ ، واحتاط في التحفظ ، فلا شي ء عليه ، من قضاء وغيره ، لأنّ الأصل براءة الذمة من الكفارة ، وبين أصحابنا في ذلك خلاف ، والقضاء مجمع عليه.

فأمّا المقام على الجنابة متعمدا ، حتى يطلع الفجر ، فالأقوى عندي ، وجوب القضاء والكفارة ، للإجماع على ذلك من الفرقة ، ولا يعتد بالشاذّ الذي يخالف في ذلك.

وكذلك يقوى في نفسي القضاء والكفارة ، على من ازدرد شيئا ، يقصد به إفساد الصوم ، سواء كان مطعوما معتادا ، مثل الخبز واللحم ، أولا يكون معتادا ، مثل التراب ، والحجر والفحم (3) ، والحصى ، والخرف ، والبرد ، وغير ذلك ، لأنّه إجماع من الفرقة.

ومن ظن أنّ الشمس قد غابت ، لعارض يعرض في السماء ، من ظلمة أو قتام ، ولم يغلب على ظنه ذلك ، ثم تبين الشمس بعد ذلك ، فالواجب عليه القضاء ، دون الكفارة ، فإن كان مع ظنه ، غلبة قوية ، فلا شي ء عليه ، من

ص: 377


1- في وج : المسائل
2- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في ذكر ما يمسك عنه الصائم
3- ج : والحجر والحصى.

قضاء ولا كفارة ، لأنّ ذلك فرضه ، لأنّ الدليل قد فقده ، فصار تكليفه في عبادته غلبة ظنه ، فإن أفطر لا عن امارة ، ولا ظن ، فيجب عليه القضاء والكفارة.

ومن تمضمض للتبرد ، فوصل الماء إلى جوفه ، فعليه القضاء ، دون الكفارة للإجماع على ذلك.

والحقنة بالمائعات ، فقد اختلف في ذلك ، من أصحابنا من يوجب القضاء فحسب ، ومنهم من لا يوجبه ، وهو الذي أراه ، وافتي به ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، والإجماع فغير حاصل عليه ، وكذلك تعمد القي ء ، والسعوط ، وتقطير الدهن في الاذن ، ومن طعن بطنه ، فوصل السنان إلى جوفه.

والكفارة اللازمة ، عتق رقبة مؤمنة ، وبعض أصحابنا لا يعتبر الإيمان في الرقبة ، إلا في قتل الخطأ ، فحسب ، والصحيح من المذهب ، اعتبار الإيمان ، في الرقاب في جميع الكفارات.

فإن قيل : فما قيد بالإيمان ، إلّا في كفّارة قتل الخطأ ، قلنا : فقد قال اللّه سبحانه : ( وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ ) (1) والعتق من جملة الإنفاق ، والكافر خبيث بغير خلاف ، فقد نهانا عن إنفاقه الذي هو إعتاقه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه شرعا ، بغير خلاف بيننا ، وهذا مذهب السيد المرتضى رضي اللّه عنه وغيره من أصحابنا.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه لا يعتبر الإيمان ، إلا في كفارة قتل الخطأ ، وما قدّمناه ، واخترناه أظهر ، وأبرأ للذمم ، وفيه الاحتياط ، لأنّه إذا أعتق مؤمنة ، فبالإجماع قد برئت ذمته مما تعلّق عليها ، ولا إجماع إذا خالف ذلك.

أو إطعام ستين مسكينا ، لكل مسكين مد ، على الصحيح من المذهب ، لأنّ الأصل براءة الذمة مما زاد على المدّ ، وذهب بعض أصحابنا إلى المدين.

ولا يجزي إخراج القيم ، في الكفارات ، ويجوّز إخراج القيم ، في الزكوات عندنا.

ص: 378


1- البقرة : 267.

ومستحقها ، هو مستحقّ زكاة الأموال.

أو صيام شهرين متتابعين.

واختلف أصحابنا ، منهم من قال : إنّ هذه الكفارة مرتبة ، ومنهم من قال : إنّها مخيّر فيها ، وهو الأقوى والأظهر.

فمن لم يقدر على أحد ما ذكرناه ، فليصم ثمانية عشر يوما ، وذهب بعض أصحابنا ، وهو السيد المرتضى إلى أنّ الثمانية عشر ، متتابعات.

فإن لم يقدر ، تصدق بما وجد ، أو صام ما استطاع.

وأمّا المندوب مما يقع الإمساك عنه ، فإنشاد الشعر ، وما يجزي مجرى ذلك ، مما نبيّنه في مواضعه ، إن شاء اللّه تعالى.

وصوم شهر رمضان ، يلزم صيامه ، لسائر المكلفين ، من الرجال ، والنساء ، والعبيد ، والأحرار ، إلا من لم يطقه ، لمرض ، أو عجز من كبر أو غيره ، والحائض ، والنفساء ، والمسافر سفرا مخصوصا عندنا.

والذين يجب عليهم الصيام ، على ضربين ، منهم من إذا لم يصم متعمدا من غير عذر إباحة ذلك ، وجب عليه القضاء والكفارة ، أو القضاء لصاحب العذر ، ومنهم من لا يجب عليه ذلك ، فالذين يجب عليهم ذلك ، كل من كان ظاهره ، ظاهر الإسلام ، والذين لا يجب عليهم ، هم الكفار ، من سائر أصناف من خالف الإسلام.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : فإنه وإن كان الصوم واجبا عليهم ، فإنّما يجب بشرط الإسلام (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : إن أراد بقوله ، فإنّما يجب بشرط الإسلام ، الصيام ، فغير واضح ، لأنّ عندنا العبادات أجمع ، واجبة على الكفار ، وإن أراد بقوله فإنّما يجب بشرط الإسلام ، القضاء والكفارة ، فصحيح ، لأنّ القضاء فرض

ص: 379


1- النهاية : كتاب الصيام ، في القسم الأول وهو صوم شهر رمضان.

ثان ، والكفارة ، فقول الرسول عليه السلام : يسقطها (1) الإسلام يجب ما قبله ، والأصل أيضا براءة الذمة ، وشغلها ، يحتاج إلى دليل ، فأمّا الأداء ، فلا يصح منهم ، لشي ء يرجع إليهم ، لأنّه في مقدورهم ، على ما بيّناه فيما أسلفناه.

وقال شيخنا في مسائل خلافه : إذا أتى بهيمة ، فأمنى ، كان عليه القضاء والكفارة ، فإن أولج ، ولم ينزل ، فليس لأصحابنا فيه نص ، لكن يقتضي المذهب ، أنّ عليه القضاء ، لأنّه لا خلاف فيه ، فأمّا الكفارة ، فلا تلزمه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وليس في وجوبها دلالة (2).

قال محمد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب رضي اللّه عنه ، لمّا وقفت على كلامه ، كثر تعجبي ، والذي دفع به الكفارة ، به يدفع القضاء ، مع قوله لا نصّ لأصحابنا فيه ، وإذا لم يكن نصّ ، مع قولهم عليهم السلام : اسكتوا عما سكت اللّه عنه (3) فقد كلّفه القضاء بغير دليل ، وأي مذهب لنا يقتضي وجوب القضاء ، بل أصول المذهب ، تقتضي نفيه ، وهي براءة الذمة ، والخبر المجمع عليه.

باب علامة شهر رمضان وكيفية العزم عليه ووقت فرض الصّوم ووقت الإفطار

علامة الشهور ، رؤية الأهلة ، مع زوال العوارض والموانع ، فمتى رأيت الهلال ، وجب عليك الصوم ، سواء ردّت شهادتك ، أو لم ترد ، شهد معك غيرك ، أو لم يشهد ، فإن خفي عليك ، وشهد عندك ، من قامت الدلالة على صدقه ، وجب أيضا عليك الصوم ، وكذلك إن تواتر الخبر برؤيته ، وشاع ذلك ، وجب أيضا الصوم ، وكذلك إن شهد برؤيته شاهدان عدلان ، وجب

ص: 380


1- ج : يسقطهما.
2- الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة 42
3- عوالي اللئالي : ج 3 ، ص 166.

عليك الصوم ، سواء كانت السماء مصحية ، أو فيها علة ، أو كانا من خارج البلد ، أو داخله ، وعلى كل حال.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1) إلى أن قال : فإن كان في السماء علّة ، ولم يره جميع أهل البلد ، ورآه خمسون نفسا ، وجب أيضا الصوم ، ولا يجب الصوم ، إذا رآه واحد ، أو اثنان ، بل يلزم فرضه لمن رآه ، حسب ، وليس على غيره شي ء ، ومتى كان في السماء علّة ولم ير في البلد الهلال أصلا ، ورآه خارج البلد ، شاهدان عدلان ، وجب أيضا الصوم ، وإن لم يكن هناك علّة ، وطلب فلم ير ، لم يجب الصوم ، إلا أن يشهد خمسون نفسا ، من خارج البلد ، أنّهم رأوه.

قال محمّد بن إدريس رضي اللّه عنه : والأول هو الصحيح ، والأظهر بين الطائفة ، والذي تدل عليه أصول المذهب ، لأنّ الأحكام في الشريعة جميعها ، موقوفة على شهادة الشاهدين العدلين ، إلا ما خرج بالدليل ، من حدّ الزنا ، واللواط ، والسحق ، والأيدي تقطع بشهادة الشاهدين ، وتستباح الفروج ، وتعتق الرقاب ، وتقتل الأنفس ، وتستباح الأموال ، وغير ذلك ، ويحكم بالكفر والإيمان ، وهو مذهب سيّدنا المرتضى رضي اللّه عنه ذكره في جمل العلم والعمل (2) ومذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان رحمه اللّه ذكره في المقنعة (3) وهي رأس تصنيفه في الفقه ، وجميع أصحابنا ، إلا من شذ ، وقلّد كتابا يجده ، أو خبر واحد يعتمده ، وقد بيّنا أنّه لا يجوز العمل ، بأخبار الآحاد ، لأنّها لا تثمر علما ولا عملا ، والعمل بها خلاف مذهب أهل البيت عليهم السلام ، ومذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه أيضا في مسائل خلافه (4) ، وفي جمله

ص: 381


1- النهاية : كتاب الصوم. باب علامة شهر رمضان وكيفية العزم عليه.
2- جمل العلم والعمل : فصل في حقيقة الصوم وعلامة دخول شهر رمضان وما يتصل بذلك.
3- المقنعة : كتاب الصيام ، باب علامة أول شهر رمضان ص 297.
4- الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة 61.

وعقوده (1) ، لأنّه قال في الجمل والعقود : وعلامة دخوله ، رؤية الهلال ، أو قيام البينة برؤيته ، فأطلق كلامه ، وقال : البينة ، والإطلاق ، يرجع إلى المعهود الشرعي ، والبينة في الشريعة المعهودة ، هي شهادة الشاهدين ، إلا ما خرج بالدليل ، والكلام يرد ، ويحمل على الشامل العام ، دون النادر الشاذ ، فأمّا قوله في مسائل خلافه ، فمفصل غير مجمل ، قال : مسألة : علامة شهر رمضان ، ووجوب صومه ، أحد شيئين ، إمّا رؤية الهلال ، أو شهادة شاهدين ، ثم قال : دليلنا الأخبار المتواترة ، عن النبيّ وعن الأئمة عليهم السلام ، ذكرناها ، في تهذيب الأحكام ، وبيّناه القول فيما يعارضها ، من شواذ الأخبار ، فجعل عمدة الدليل ، الأخبار المتواترة ، ولم يلتفت إلى أخبار الآحاد ، فدلّ على أنّ الأخبار ، بشهادة الشاهدين متواترة ، وليس هي بشهادة الخمسين كذلك ، وانّما أورده في نهايته إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما اعتذرنا له من قبل ، لأنّ هذا الكتاب أعني كتاب النهاية ، أورد فيه ألفاظ الأحاديث المتواترة ، والآحاد ، وانّما هي رواية شاذة ، ومن أخبار الآحاد الضعيفة ، عن يونس بن عبد الرحمن ، عن حبيب الجماعي (2) ويونس بن عبد الرحمن ، قد وردت أخبار عن الرضا عليه السلام بذمة ، ومع هذا ، فإنّه واحد ، وقد بيّنا أنّ أخبار الآحاد ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، عند أصحابنا المحصلين ، والخلاف بين أصحابنا الشاذ منهم ، انّما هو في هلال رمضان ، فأمّا غيره من الشهور ، فلا خلاف بينهم ، في أنّه يثبت بشهادة الشاهدين على كل حال.

قال الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف : مسألة : لا يقبل

ص: 382


1- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه الصوم ، ص 215 الطبع الحديث.
2- الوسائل : الباب 11 من أبواب أحكام شهر رمضان ، ح 13 في المصدر ( حبيب الخزاعي - الخثعمي - الجماعي ).

في هلال شوال ، إلا شاهدان ، وبه قال جميع الفقهاء ، وقال أبو ثور : يثبت بشاهد واحد ، دليلنا : الإجماع ، فإنّ أبا ثور ، لا يعتدّ به ، ومع ذلك فقد انقرض خلافه ، وسبقه الإجماع ، وأيضا بشهادة الشاهدين ، يجوز الإفطار ، بلا خلاف (1) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر.

وذكر في مسائل الخلاف ، مسألة ، لا توافق ما ذكره في نهايته ، ولا توافق مذهب أصحابنا ، ولا المسألة التي حكيناها عنه ، قبل هذا ، من أنّ علامة شهر رمضان ، ووجوب صومه ، أحد شيئين ، إمّا رؤية الهلال ، أو شهادة شاهدين ، فقال : مسألة : لا يقبل في رؤية هلال رمضان ، إلا شهادة شاهدين ، فأمّا الواحد فلا يقبل فيه ، هذا مع الغيم ، فأمّا مع الصحو ، فلا يقبل إلا خمسين (2) قسامة ، أو اثنان من خارج البلد (3) فقبل الشاهدين ، وعمل بشهادتهما ، مع الغيم ، ومع الصحو أيضا ، عمل بشهادتهما ، إذا كانا من خارج البلد ، فأمّا إذا كانا من داخل البلد ، مع الصحو ، فلا يقبل إلا شهادة الخمسين قسامة ، وفي نهايته مع الصحو ، لا تقبل إلا شهادة الخمسين ، سواء كانوا من خارج البلد ، أو داخله ، ومع الغيم ، إذا كانوا من داخل البلد أيضا ، لا تقبل إلا شهادة الخمسين. فأما من خارجه مع الغيم ، فتقبل شهادة الشاهدين ، وهذا يدل على اضطراب الفتوى والقول عنده رحمه اللّه في المسألة ، وفي اختلاف أقواله ، فيها ما فيه ، فلينصف من يقف على قولي هذا ، ويطرح التقليد جانبا ، وذكر القديم والمتقدّم. ثم قال رضي اللّه عنه في دليل المسألة ، دليلنا : إجماع الفرقة ، والأخبار التي ذكرناها في الكتابين المقدّم ذكرهما ، وأيضا فلا خلاف انّ شاهدين يقبلان ، فدل رحمه اللّه بإجماع الفرقة ، وأراد على الشاهدين ، لا على الخمسين ،

ص: 383


1- الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة 12
2- ج : بشهادة قسامة.
3- الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة 11 وفي المصدر ( الا خمسون قسامة ).

بدلالة قوله : وأيضا فلا خلاف انّ شاهدين يقبلان ، وأيضا فكتابه كتاب الاستبصار ، عمله لما اختلف فيه من الأخبار ، بحيث يتوسط ويلائم بين الأخبار ، وما أورد فيه أخبار الخمسين ، ولا ذكرها رأسا ، بل أورد أخبار الشاهدين ، وقوّاها ، واعتمد عليها ، وردّ على من خالفها ، من العدد ، والحساب والجدول ، وغير ذلك ، فدلّ على أنّه رحمه اللّه غير قائل بالخمسين.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : فإن فقد المكلّف للصيام ، جميع الدلائل ، التي قدّمناها ، عدّ من الشهر الماضي ثلاثين يوما ، وصام بعد ذلك بنية الفرض ، فإن ثبت بعد ذلك ببينة عادلة ، أنّه كان قد رئي الهلال قبله ، بيوم قضيت يوما بدله.

والأفضل ، أن يصوم الإنسان ، يوم الشك على أنّه من شعبان ، فإن قامت له البينة بعد ذلك ، أنّه كان من رمضان ، فقد وفق له ، وأجزأ عنه ، ولم يكن عليه قضاء ، وإن لم يصمه ، فليس عليه شي ء ، ولا يجوز له أن يصوم ذلك اليوم ، على أنّه من شهر رمضان ، ولا أن يصومه ، وهو شاك فيه ، لا ينوى به صيام يوم غير رمضان ، فإن صام على هذا الوجه ، ثم انكشف له أنّه كان من شهر رمضان ، لم يجز عنه ، وكان عليه القضاء ، لأنّه منهي عنه ، والنهي يدل على فساد المنهي عنه.

والنية واجبة في الصيام ، على ما قدّمنا القول فيه ، وأسلفناه ، وشرحناه ، ويكفي في نية صيام الشهر كلّه ، أن ينوي في أول الشهر ، ويعزم على أن يصوم الشهر كلّه ، فإن جدد النية كل يوم ، على الاستئناف ، كان أفضل.

وإن نسي أن يعزم على الصوم في أول الشهر ، وذكر قبل الزوال ، جدد النية ، وقد أجزأه ، وإن كان الذكر بعد الزوال ، فإنّه يجب عليه قضاء ذلك اليوم.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : وذكر في بعض النهار ، جدد النية ، وقد أجزأه (1) وهذا غير واضح ، لأنّ بعد الزوال ، بعض النهار ، فلا بدّ

ص: 384


1- النهاية : كتاب الصيام ، باب علامة شهر رمضان وكيفية العزم عليه.

من تقييد البعض ، ولا يجوز إطلاقه ، من غير تقييد.

ومن كان في موضع ، لا طريق له إلى العلم بالشهر ، فتوخى شهرا فصامه ، فوافق ذلك شهر رمضان ، أو كان بعده ، فقد أجزأه عن الفرض ، وإن انكشف له أنّه كان قد صام قبل شهر رمضان ، وجب عليه استئناف الصوم ، وقضاؤه.

والوقت الذي يجب فيه الإمساك ، عن المفطرات ، من الأكل ، والشرب ، هو طلوع الفجر المعترض ، الذي يجب عنده الصلاة ، وقد بيّناه في كتاب الصلاة وأوضحناه ، ومحلل الأكل والشرب ، إلى ذلك الوقت ، فأمّا الجماع ، فإنّه محلل إلى قبل ذلك ، بمقدار ما يتمكن الإنسان من الاغتسال ، فان غلب على ظنه ، وخشي أن يلحقه الفجر ، قبل الغسل ، لم يحل له ذلك ، فإن غلب على ظنه خلاف ذلك ، ثم واقع أهله ، وطلع الفجر ، وهو مخالط لأهله ، فالواجب عليه النزوع ، فإن تحرك حركة تعينه على الدخول والجماع ، فإنّه يجب عليه القضاء والكفارة.

ووقت الإفطار ، سقوط القرص ، وعلامته ما قدّمناه ، من زوال الشفق ، الذي هو الحمرة ، من ناحية المشرق ، وهو الوقت الذي ، يجب فيه الصلاة ، والأفضل أن لا يفطر الإنسان ، إلا بعد صلاة المغرب ، فإن لم يستطع الصبر على ذلك ، صلّى الفرض ، وأفطر ، ثم عاد ، فيصلّي نوافله ، فإن لم يمكنه ذلك ، أو كان عنده من يحتاج إلى الإفطار معه ، قدّم الإفطار ، إذا كان في أول الوقت ، فإنّه أفضل ، والحال ما وصفناه ، فإن خاف فوات الفريضة ، فالواجب عليه الإتيان بالصلاة ، لا يجوز له غيره.

باب ما يجب على الصّائم اجتنابه مما يفسد الصّيام وما لا يفسده والفرق بين ما يلزم بفعله القضاء والكفارة وبين ما يلزم منه القضاء دون الكفارة

قد ذكرنا طرفا من ذلك ، وجملة مقنعة ، في باب حقيقة الصوم ، وقسمنا

ص: 385

أقساما ، وذكرنا اختلاف أصحابنا ، فيما يوجب القضاء والكفارة ، وما يوجب القضاء دون الكفارة ، ودللنا على الصحيح من ذلك ، وبيّناه ، وأوضحناه ، ونحن الآن ذاكرون ما جانس ذلك ، ممّا لم نذكره هناك ، على الاستيفاء والبيان.

متى وطأ الإنسان زوجته نهارا في شهر رمضان ، كان عليهما القضاء والكفارة ، إن كانت طاوعته على ذلك ، وإن كان أكرهها ، لم يكن عليها شي ء ، وكان عليه كفارتان ، وقضاء واحد عن نفسه فحسب ، لأنّ صومها صحيح ، فإن كانت أمته ، والحال ما وصفناه ، فلا يلزمه غير كفّارة واحدة ، وحملها على الزوجة قياس ، لا نقول به في الأحكام الشرعيات ، وكذلك إن كانت مزنى بها (1) ، وجميع ما قدّمناه في ذلك الباب ، متى فعله الإنسان ناسيا ، أو ساهيا ، أو جاهلا ، غير عالم بالحكم ، لم يكن عليه شي ء.

ومتى فعله متعمدا ، وجب عليه ما قدّمناه ، وكان على الإمام أن يعزره ، بحسب ما يراه.

فإن تعمّد الإفطار ، ثلاث مرّات ، يرفع فيها إلى الإمام ، فإن كان عالما بتحريم ذلك عليه ، قتله في الثالثة ، وإن لم يكن عالما ، لم يكن عليه شي ء.

ويكره للصائم ، الكحل ، إذا كان فيه مسك ، أو شي ء من الصبر ، فإن لم يكن فيه ذلك ، لم يكن به بأس.

ولا بأس أن يحتجم ، ويفتصد ، إذا احتاج إلى ذلك ، ما لم يخف الضعف ، فإن خاف ذلك كره له فعله ، إلا عند الضرورة الداعية إليه.

ويكره له تقطير الدهن في اذنه ، إلا عند الحاجة إليه.

ويكره له أن يبل الثوب على جسده ، ولا بأس أن يستنقع في الماء إلى عنقه ، ولا يرتمس فيه ، فإنّه محظور ، لا يجوز حسب ما قدّمناه ، ولا يمتنع أن يكون

ص: 386


1- ج : ان كان يزني بها.

الفعل محظورا ، وإن لم يجب فيه القضاء والكفارة.

ويكره الاستنقاع في الماء للنساء ، على الصحيح من الأقوال ، وإن كان بعض أصحابنا قد ذهب إلى حظره ، ولزوم الكفارة والقضاء ، وهو ابن البراج (1) ، والأظهر ما قدّمناه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وشغلها يحتاج إلى دليل ، ولا دليل من إجماع وغيره على ذلك.

ويكره للصائم السعوط ، وكذلك الحقنة بالجامدات ، ولا يجوز له الاحتقان بالمائعات ، فإن فعل ذلك ، كان مخطئا مأثوما ، ولا يجب عليه القضاء ، وهو مذهب المرتضى وشيخنا أبي جعفر الطوسي رضي اللّه عنهما في الاستبصار (2) وفي نهايته (3) ، وهو الصحيح ، وإن كان قد ذهب إلى وجوب القضاء ، في الجمل والعقود (4).

ولا يجوز له أن يتقيأ متعمدا ، فإن فعل ذلك ، كان مخطئا ، ولا يجب عليه القضاء ، على الصحيح من المذهب ، وهو قول السيد المرتضى ، وغيره من أصحابنا ، وإن كان قد ذهب إلى وجوب القضاء قوم منهم ، من جملتهم ، شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، وانّما اخترنا ما ذكرناه ، لأنّ الإجماع غير حاصل في المسألة ، فما بقي معنا إلا دليل الأصل ، وهو براءة الذمة.

فإن ذرعه القي ء ، بالذال المعجمة ، لم يكن عليه شي ء ، وليبصق بما يحصل في فيه ، فإن بلعه متعمدا بعد خروجه من حلقه ، قاصدا إفساد صومه وأكله ، فإنّه يجب عليه القضاء والكفارة ، لأنّه قد أكل ، أو ازدرد متعمدا في نهار صيامه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : عليه القضاء (5) ولم يذكر الكفارة ، وليس هذا دليلا على أنّه لا يوجبها عليه ، لأنّ تركه لذكرها ، لا يدل

ص: 387


1- المهذب لابن البراج : ج 1 ، ص 192 ، باب ما يفسد الصوم ويوجب القضاء ، الطبع الحديث.
2- الاستبصار : باب 41 من أبواب كتاب الصيام.
3- النهاية : كتاب الصيام ، باب ما على الصائم اجتنابه.
4- الجمل والعقود : كتاب الصيام رقم 8 مما يوجب القضاء دون الكفارة ، ص 213.
5- النهاية : كتاب الصيام ، باب ما على الصائم اجتنابه.

على أنّه غير قائل بأنّها واجبة عليه.

وقال ابن بابويه في رسالته : لا ينقض الرعاف ، ولا القلس ، ولا القي ء ، إلا أن يتقيأ متعمدا (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : القلس بفتح القاف واللام والسين غير المعجمة ، ما خرج من الحلق ، ملأ الفم ، أو دونه ، وليس بقي ء ، فإن عاد ، فهو القي ء ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح عن الخليل ، وقال اليزيدي : القلس ، خروج الطعام أو الشراب إلى الفم من البطن ، أعاده صاحبه أو ألقاه ، وهذا أقوى ممّا قال الجوهري. وقال ابن فارس في المجمل : القلس القي ء قلس إذا قاء ، فهو قالس ، والقلس بفتح القاف ، وسكون اللام ، مصدر قلس قلسا ، إذا قاء قال ابن دريد ، القلس من الحبال ، ما أدري ما صحته. وقال الجوهري : القلس حبل عظيم ، من ليف ، أو خوص ، من قلوس السفن ، فهذا جملة ما قيل ، في القاف واللام والسين.

ويكره له دخول الحمام ، إذا خاف الضعف ، فإن لم يخف ، فليس بمكروه.

ولا بأس بالسواك ، بكسر السين ، للصائم ، بالرطب منه ، واليابس ، فإن كان يابسا فلا بأس أن يبله أيضا بالماء ، وليحفظ نفسه من ابتلاع ما يحصل في فيه ، من رطوبته.

ويكره له شم النرجس ، وغيره من الرياحين ، وليس كراهية شم النرجس ، مثل الرياحين ، بل هي آكد.

ولا بأس أن يدهن ، بالأدهان الطيّبة ، وغير الطيّبة.

ويكره له شم المسك ، وما يجري مجراه.

ولا بأس بالكحل ما لم يكن ممسّكا أو يكون حادا مثل الذرور ، أو فيه شي ء من الصبر ، بكسر الباء ، وقال ابن بابويه في رسالته : ولا بأس بالكحل ما

ص: 388


1- لم نتحققه في رسالة ابن بابويه.

لم يكن ممسّكا ، وقد روي (1) فيه رخصة ، لأنّه يخرج على عكدة لسانه.

قال محمّد بن إدريس رضي اللّه عنه : العكدة ، بالعين غير المعجمة المفتوحة ، والكاف المفتوحة ، والدال غير المعجمة المفتوحة وهي أصل اللسان والعكرة بالراء أيضا ، ففي بعض النسخ العكدة بالدال ، وفي بعضها بالراء ، وكلاهما صحيحان.

ويكره للصائم أيضا القبلة ، وكذلك مباشرة النساء ، وملاعبتهن ، فإن باشرهن بما دون الجماع ، أو لاعبهن بشهوة ، فأمذى ، لم يكن عليه شي ء ، فإن أمنى ، كان عليه ما على المجامع ، فإن أمنى من غير ملامسة ، بل لسماع كلام ، أو نظر ، لم يكن عليه شي ء ، ولا يعود إلى ذلك ، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّه إن نظر إلى من يحرم عليه النظر إليه فأمنى ، كان عليه القضاء دون الكفارة ، والصحيح أنّه لا قضاء عليه ، لأنّه لا دليل على ذلك ، والأصل براءة الذمة.

ولا بأس بالصائم ، أن يزق الطائر ، والطبّاخ ، أن يذوق المرق ، والمرأة أن تمضغ الطعام للصبي ، ولا تبلع شيئا من ذلك.

ولا ينبغي للصائم ، مضغ العلك ، وكلّ ما له طعام ، وقال بعض أصحابنا : عليه القضاء ، والأظهر أن لا قضاء عليه ، ولا بأس أن يمص ما ليس له طعم ، مثل الخرز والخاتم ، وما أشبه ذلك.

قال الشيخ أبو جعفر في مسائل خلافه (2) : مسألة : من جامع في نهار رمضان ، متعمدا من غير عذر ، وجب عليه القضاء والكفارة ، ثم قال : دليلنا : إجماع الفرقة ، ثم استشهد بأخبار ، من جملتها ما رواه أبو هريرة قال : أتى رجل النبي صلى اللّه عليه وآله فقال : هلكت ، فقال : ما شأنك؟ قال : وقعت على

ص: 389


1- مستدرك الوسائل : الباب 16 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ، ح 2.
2- الخلاف : كتاب الصيام ، مسألة 25.

امرأتي في رمضان ، فقال : تجد ما تعتق رقبة؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال : لا ، قال : فهل تستطيع أن تطعم ستين مسكينا؟ قال : لا ، قال : اجلس ، فأتى النبيّ صلى اللّه عليه وآله بعرق فيه تمر ، فقال : تصدّق به (1).

قال محمّد بن إدريس رضي اللّه عنه : العرق بالعين غير المعجمة المفتوحة ، والراء غير المعجمة المفتوحة ، والقاف ، الزنبيل قد ذكره الهروي في غريب الحديث ، وأهل اللغة في باب العين والراء والقاف ، وسمعت بعض أصحابنا ، صحّف الكلمة ، فقال : العذق بالذال المعجمة ، فالعذق بكسر العين ، والذال المسكنة ، الكباسة ، وهي العرجون ، بما عليه من (2) الشماريخ وبفتح العين ، النخلة نفسها ، فليلحظ ذلك ، فالغرض التنبيه لئلا تصحف الكلمة.

باب حكم المسافر والمريض والعاجز عن الصّيام وغير ذلك

شروط السفر الذي يوجب الإفطار ، ولا يجوز معه صوم شهر رمضان ، في المسافة والصفة ، وغير ذلك ، هي الشروط التي ذكرناها في كتاب الصلاة ، الموجبة لقصرها ، فإن تكلّف المسافر الصوم ، مع العلم بسقوطه عنه ، حرج وأثم ، ووجب عليه القضاء ، على كل حال ، وإن لم يكن عالما به ، كان صومه ماضيا.

ويكره للإنسان السفر في شهر رمضان ، إلا عند الضرورة الداعية له إلى ذلك ، من حج ، أو عمرة ، أو الخوف من تلف مال ، أو هلاك أخ ، أو ما يجزى مجراه ، أو زيارة بعض المشاهد المقدسة ، فإذا مضى ثلاثة وعشرون يوما من الشهر ، جاز له الخروج الى حيث شاء ، ولم يكن سفره مكروها.

ص: 390


1- الخلاف دليل مسألة 25 ، وبمضمونه ح 2 باب 8 من أبواب ما يمسك عنه الصائم في الوسائل.
2- ج : فيه.

ومتى كان سفره أربعة فراسخ ، ولم يرد الرجوع فيه من يومه ، لم يجز له الإفطار ، ويجب عليه الصيام ، وكذا يجب عليه إتمام الصلاة ، وقد وردت رواية شاذة ، بأنّه يكون مخيرا بين إتمام الصلاة ، وبين قصرها (1) وهو الذي أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي ، في نهايته (2) ، وذهب شيخنا المفيد ، إلى التخيير في الصلاة والصيام ، والأول هو المعتمد ، وقد أشبعنا القول في هذا في كتاب الصلاة.

وإذا خرج الإنسان إلى السفر ، بعد طلوع الفجر ، أي وقت كان من النهار ، وكان قد بيّت نيته من الليل للسفر ، وجب عليه الإفطار ، بغير خلاف بين أصحابنا ، وإن لم يكن قد بيّت نيّته من الليل للسفر ، ثم خرج بعد طلوع الفجر ، فقد اختلف قول أصحابنا في ذلك ، فذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه إلى أنّه يجب عليه إتمام ذلك اليوم ، وليس عليه قضاؤه ، فإن أفطر فيه ، وجب عليه القضاء والكفارة ، ويستدل بقوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (3).

والذي يقال في ذلك ، أنّ هذا خطاب لمن يجب عليه الصيام ، ومكلّف به في جميع يومه ، ويخرج المسافر من تلك الآية ، قوله تعالى : ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ) (4) وأيضا فالحائض في وسط النهار ، يجب عليها أن تعتقد أنّها مفطرة ، بغير خلاف ، وخرجت من الآية ، وما وجب عليها الإتمام ، وكذلك من بيّت نيته للسفر من الليل ، هو قبل خروجه من منزله وقبل أن يغيب عنه أذان مصره ، مخاطب بالصيام ، مكلّف به ، لا يجوز له الإفطار ، فإذا توارى عنه الأذان ، يجب عليه الإفطار ، وما وجب عليه التمام للصيام الذي كان واجبا عليه الإمساك والصيام قبل خروجه ، وبالإجماع يجب عليه الإفطار ، ولم يجب عليه الإتمام فقد خرج من عموم الآية المستدل بها ،

ص: 391


1- مستدرك الوسائل : الباب 3 من أبواب صلاة المسافر ، ح 2.
2- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الصلاة في السفر وأشار إليه في كتاب الصوم في باب حكم المسافر في شهر رمضان
3- البقرة : 187
4- البقرة : 184.

وخصّص ، فإذا ساغ له التخصيص ساغ لخصمه ذلك وبطل استدلاله بالعموم ، لأنّه المستدلّ به وما سلم له ، وكلّ من استدل بعموم ، ولم يسلم له ، وخصّصه ، ساغ لخصمه تخصيصه ، لأنّه ما هو أولى بالتخصيص من خصمه ويبطل استدلاله بالعموم.

وذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان رحمه اللّه إلى أنّه متى خرج إلى السفر قبل الزوال ، فإنّه يجب عليه الإفطار ، فإن صامه ، لا يجزيه صيامه ، ووجب عليه القضاء ، وإلى هذا القول أذهب ، وبه افتي ، لأنّه موافق لظاهر التنزيل ، والمتواتر من الأخبار.

وقال ابن بابويه في رسالته : يجب عليه الإفطار ، وإن خرج بعد العصر والزوال ، وهذا القول عندي أوضح من جميع ما قدّمته من الأقوال ، لأنّ أصحابنا مختلفون في ذلك ، وليس على المسألة ولا قول بها (1) إجماع منعقد ، ولا أخبار مفصّلة متواترة بالتفصيل والتخصيص ، وإذا كان كذلك ، فالتمسّك بالقرآن أولى ، لأنّ هذا مسافر ، بلا خلاف ، ومخاطب بخطاب المسافرين ، من تقصير صلاة وغير ذلك.

وإذا خرج الرجل والمكلّف بالصيام إلى السفر ، فلا يتناول شيئا من الطعام أو الشراب ، أو غير ذلك من المفطرات إلى أن يغيب عنه أذان مصره ، وقد روي ، أو يتوارى عنه جدران بلده (2) والاعتماد على الأذان المتوسط.

ويكره له أن يتملّى من الطعام ، ويروي من الشراب ، ويزيد الكراهة ، وتتأكد في قرب الجماع ، إلا عند الحاجة الشديدة إلى ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : ولا يجوز له أن يقرب الجماع ، وهذا اللفظ الذي هو لا يجوز يحتمل تغليظ الكراهة ، ويحتمل الحظر ، ولا دليل على الحظر ، لأنّه غير مكلّف بالصيام ، وهو داخل في قوله تعالى : ( نِساؤُكُمْ

ص: 392


1- في ط وج : والأقوال فيها.
2- الوسائل : كتاب الصلاة ، الباب 6 من أبواب صلاة المسافر ، ح 1 و 9 و 10

حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ ) (1) وغير ذلك من الآيات المقتضية للإباحة ، والشي ء إذا كان عندهم شديد الكراهة ، قالوا لا يجوز ، وهذا شي ء يعرف بالقرائن والضمائم.

ويكره صيام النوافل في السفر على كل حال ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (2) واستبصاره (3) ، ومذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه فإنّه ذكر في مقنعته فقال : ولا يجوز لأحد أن يصوم في السفر تطوعا ، ثم قال : وقد روي حديث في جواز التطوع في السفر بالصيام (4) ، وجاءت أخبار بكراهية ذلك ، وأنّه (5) ليس من البر الصيام في السفر (6) وهي أكثر ، وعليها العمل ، عند فقهاء العصابة ، فمن عمل على أكثر الروايات ، واعتمد على المشهور منها ، في اجتناب الصيام في السفر ، على كلّ وجه ، كان أولى بالحق ، واللّه الموفق للصواب (7) هذا آخر كلام المفيد.

وهذا القول هو الحقّ والصواب ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، من الواجب والمندوب ، فمن ادّعى تكليفا مندوبا أو واجبا ، فإنّه يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، وإلا فالأصل عدم التكليف ، وهو أيضا مذهب جلّة المشيخة الفقهاء من أصحابنا المحصّلين ، فإذا كان دليل الإجماع على المسألة مفقودا ، لأنّهم مختلفون فيها ، بقي أنّ الأصل براءة الذمة من التكليف ، فمن شغلها بواجب أو ندب يحتاج إلى دليل.

وصيام الثلاثة الأيام في الحج واجب في السفر ، كما قال اللّه تعالى ( فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ ) (8) وقد وردت الرغبة في صيام ثلاثة أيام ، بالمدينة لصلاة

ص: 393


1- البقرة : 223
2- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المسافر في شهر رمضان وصيام النذور.
3- الاستبصار : كتاب الصوم ، باب 53 صوم التطوع في السفر ، ذيل ح 4
4- الوسائل : الباب 12 من أبواب من يصح منه الصوم ، ح 7 و 8 ،
5- في ج : منها انّه.
6- الوسائل : الباب 12 من أبواب من يصح منه الصوم ، ح 7 و 8 ،
7- المقنعة : كتاب الصوم ، باب حكم المسافرين في الصيام ص 350
8- البقرة : 196.

الحاجة (1).

ومن كان عليه صيام فريضة أو قضاء شهر رمضان ، أو كفارة ظهار ، أو كفارة قتل الخطأ ، أو غير ذلك ، من وجوه الصيام المفروضة ، لم يجز له أن يصومه في السفر ، فإن فعل في السفر شيئا يلزمه به الصيام ، انتظر قدومه إلى بلده ، ولا يصوم في السفر ، فإن نوى مقام عشرة أيام فصاعدا ، في بلد غير بلده ، جاز له حينئذ الصيام.

وأمّا صيام النذر ، فإن كان الناذر قد نذر أن يصوم أياما بأعيانها ، أو يوما بعينه ، ووافق ذلك اليوم أو الأيام أن يكون مسافرا ، وجب عليه الإفطار ، وكان عليه القضاء ، وكذلك إن اتفق أن يكون ذلك اليوم ، يوم عيد ، وجب عليه الإفطار ، ولا قضاء عليه ، على الصحيح الأقوال.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه إلى وجوب القضاء في نهايته (2) ، ورجع عنه في مبسوطة (3) ، لأنّ القضاء عما انعقد عليه النذر ، ويوم العيد ، لا يجوز نذره ، ولا ينعقد ، وهو مستثنى من الأيام ، وإلى ما اخترناه ذهب ابن البراج ، وغيره من أصحابنا ، وما أورده شيخنا في نهايته ، خبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، وقد بيّنا انّ أخبار الآحاد ، لا يجوز العمل بها في الشريعة ، عند أهل البيت عليهم السلام ، وانّما أورده إيرادا لا اعتقادا ، على ما ذكرناه من الاعتذار.

وإن كان الناذر نذر أن يصوم ذلك اليوم ، أو الأيام على كل حال ، مسافرا كان أو حاضرا ، فإنّه يجب عليه الصيام في حال السفر.

ويجوز صيام الاعتكاف في حال السفر ، وكذلك صيام الثمانية عشر يوما ، لمن أفاض من عرفات قبل غروب الشمس عامدا ، ولم يجد الجزور.

ص: 394


1- الوسائل : الباب 12 من أبواب من يصح منه الصوم ، ح 1.
2- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المسافر في شهر رمضان وصيام النذور.
3- المبسوط : كتاب الصوم : فصل في ذكر أقسام الصوم.

والمريض الذي لا يقدر على الصيام ، أو يضرّ به ، يجب عليه الإفطار ، ولا يجزي عنه إن صامه ، بعد تقدّم علمه بوجوب الإفطار ، فإن لم يتقدم له العلم بذلك ، ولا عرف الحكم فيه ، وصام ، فانّ صيامه صحيح ، ولا يجب عليه القضاء.

فإن أفطر في أول النهار ، ثم صحّ فيما بقي منه ، أمسك تأديبا ، وكان عليه القضاء.

فإن لم يصح المريض ، ومات من مرضه الذي أفطر فيه ، يستحب لولده الأكبر من الذكور ، أن يقضي عنه ، ما فاته من الصيام ، وليس ذلك بواجب عليه.

فإن برئ من مرضه ذلك ، ولم يقض ما فاته ، ثم مات ، وجب على وليه أن يقضي عنه ، وكذلك إن كان قد فاته شي ء من الصيام في السفر ، ثم مات قبل أن يقضي ، وكان متمكنا من القضاء ، وجب على وليه أن يصوم عنه.

فإن فات المريض صوم شهر رمضان ، واستمر به المرض إلى رمضان آخر ، ولم يصح فيما بينهما ، صام الحاضر وقضى الأوّل.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه إلى أنّه يتصدّق عن الأوّل عن كل يوم ، بمدين من طعام ، فإن لم يمكنه فبمد منه ، فإن لم يتمكن ، لم يكن عليه شي ء ، وليس عليه قضاء.

والأوّل يعضده ظاهر التنزيل ، وهو قوله تعالى : ( فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ) (1) فأوجب على المريض القضاء ، فمن أسقطه يحتاج إلى دليل ، ولا إجماع معنا في المسألة ، والقائل بما ذهب إليه شيخنا قليل ، فبقي ظاهر التنزيل ، فلا يجوز العدول عنه بغير دليل ، وانما قد ورد به أخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا.

وذهب ابن بابويه في رسالته ، إلى أنّ الرجل إذا مرض ، وفاته صوم شهر

ص: 395


1- البقرة : 184.

رمضان كلّه ، ولم يصمه إلى أن يدخل عليه شهر رمضان قابل ، فعليه أن يصوم الذي دخل ، ويتصدق عن الأول كل يوم بمد من طعام ، وليس عليه القضاء ، إلا أن يكون صح فيما بين شهري رمضان ، فإن كان كذلك ، ولم يصح ، فعليه أن يتصدق عن الأول لكل يوم ، بمد من طعام ، ويصوم الثاني ، فإذا صام الثاني ، قضى الأول بعده ، فإن فاته شهرا رمضان ، حتى دخل الشهر الثالث. من مرض ، فعليه أن يصوم الذي دخل ، ويتصدّق عن الأول ، لكل يوم بمد من طعام ، ويقضي الثاني ، هذا آخر كلامه ، ألا تراه ، قد أوجب قضاء الثاني مع استمرار المرض.

وبالجملة ، انّ المسألة فيها خلاف ، وليس على ترك القضاء إجماع منعقد ، فإن صح فيما بين الرمضانين ، ولم يقض ما عليه ، وكان في عزمه القضاء ، قبل رمضان الثاني ، ثم مرض ، صام الثاني ، وقضى الأول ، وليس عليه كفارة ، وإن أخّر قضاءه بعد الصحة توانيا ، وجب عليه أن يصوم الثاني ، ويتصدق عن الأول ، ويقضيه أيضا بعد ذلك ، وحكم ما زاد على رمضانين حكم رمضانين على السواء ، وكذلك لا يختلف الحكم ، في أن الذي فاته الشهر كله ، أو بعضه ، بل الحكم فيه سواء ، هذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1) ، وجمله وعقوده (2) ، إلا أنّه لم يذكر في مسألة من كان في عزمه القضاء ، قبل رمضان الثاني ثم مرض فرقا.

قال محمّد بن إدريس : وجه الفتوى في التواني ، والعزم على ما أورده رحمه اللّه أنّه إذا كان عازما على أدائه وقضائه ، قبل تضيّق أيامه وأوقاته ، ثم لمّا تضيّق ، مرض في الزمان المضيّق ، حتى أسهل رمضان الثاني ، فلا تجب عليه الكفارة ، فأمّا إذا لم يمرض في زمان التضييق ، فإنّه يجب عليه الكفارة ، لأنّه

ص: 396


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المريض والعاجز عن الصيام.
2- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في حكم المريض والعاجز عن الصيام ، رقم 1 من أحوال المريض

متوان ، ولا ينفعه عزمه ، لأنّه فرض مضيّق ، فلا يكون العزم ، بدلا منه ، فافترق الأمر بين المسألتين ، وشي ء آخر ، وهو انّ العزم بدل من فعل الواجب الموسع ، فإذا تركه فقد أخلّ بالواجب الذي هو العزم ، فيجب عليه الكفارة ، لأجل تركه الواجب الذي هو العزم.

فأمّا إذا عزم ، وضاق الوقت ، وترك الصوم فقد توانى ، فيجب عليه الكفارة ، لأنّه صار واجبا مضيّقا ، فما بقي يفيد (1) العزم.

فأمّا إذا عزم ، وضاق الوقت ، ومرض ، فلا يجب الكفارة ، لأنّه ما أخل بالواجب الذي هو العزم ، فأمّا إذا لم يعزم ، ومرض في الزمان الذي قد تضيّق عليه ، فيجب أيضا عليه الكفارة ، لإخلاله بالواجب الذي هو العزم ، فهذا يمكن أن يكون وجه الفتيا ، على ما أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه.

والذي اعتقده ، وافتي به ، سقوط الكفارة عمن أوجبها عليه ، لأنّ الأصل براءة الذمة من العبادات ، والتكاليف ، وإخراج الأموال ، إلا بالدليل الشرعي القاطع للأعذار ، والقرآن خال من هذه الكفارة ، والسنة المتواترة خالية أيضا ، والإجماع غير منعقد على وجوب هذه الكفارة ، لأنّ أكثر أصحابنا لا يذهبون إليها ، ولا يوردونها في كتبهم ، مثل الفقيه سلار ، والسيد المرتضى ، وغيرهما ، ولا يذهب إلى الكفارة في هذه المسألة ، إلا شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان في الجزء الثاني من مقنعة ولم يذكرها في كتاب الصيام منها ، ولا في غيرها من كتبه ، وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، ومن تابعهما ، وقلّد كتبهما ، أو يتعلّق (2) بأخبار الآحاد التي ليست عند أهل البيت عليهم السلام حجة ، على ما شرحناه ، فلم يبق في المسألة ، إلا لزوم دليل الأصل ، وهو براءة الذمة ، فمن شغلها بشي ء ، يحتاج إلى دليل شرعي ، ولا دليل له على ذلك.

ص: 397


1- في ط وج : يفيده
2- في ط وج : ويتعلق.

والمريض إذا كان قد وجب عليه صيام شهرين متتابعين ، ثم مات ، تصدق عنه ، عن شهر ، ويقضي عنه وليه ، شهرا آخر ، هذا مذهب شيخنا أبي جعفر في نهايته (1) أورده ، وقال في جمله وعقوده : وكل صوم كان واجبا على المريض ، بأحد الأسباب الموجبة له ، ثمّ مات ، تصدق عنه ، أو يصوم عنه وليه (2) وهذا أولى ممّا ذكره في نهايته.

وقال السيد المرتضى ، في انتصاره : يتصدق عنه لكل يوم بمد ، من طعام ، فإن لم يكن له مال ، صام عنه وليه ، فإن كان له وليان ، فأكبرهما (3).

وقال شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان في كتاب الأركان : يجب على وليه أن يقضي عنه كل صيام فرّط فيه ، من نذر ، أو كفارة ، أو قضاء رمضان.

قال مصنّف هذا الكتاب : والذي أقوله في ذلك ، أنّ هذين الشهرين ، إن كانا نذرا ، وقدر على الإتيان بهما ، فلم يفعل ، فالواجب على وليه ، وهو أكبر أولاده الذكور ، الصيام للشهرين ، ويكون تكليفه ذلك ، لا يجزيه غيره ، وإن كان عليه كفارة مخيّرة فيها ، فإنّه أيضا مخير ، في أن يصوم شهرين ، أو يكفر من ماله ، قبل قسمة تركته ، أعني الولي ، ولا يتعيّن عليه الصيام ، ولا يجزيه ، إلا أن يفعل من الكفارة جنسا واحدا ، أمّا صياما ، أو إطعاما ، هذا إذا كانت الكفارة مخيرا فيها ، فليتأمل ما قلنا من فقه المسألة.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : والمرأة أيضا ، حكمها ما ذكرناه ، في أن ما يفوتها من الصيام ، بمرض أو طمث ، لا يجب على أحد القضاء عنها ، إلا أن تكون قد تمكنت من القضاء ، فلم تقضه ، فإنّه يجب القضاء عنها ، ما يفوتها بالسفر ، حسب ما قدّمناه في حكم الرجال ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر

ص: 398


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المريض والعاجز عن الصيام.
2- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في حكم المريض والعاجز عن الصيام ، رقم 3 من أحوال المريض
3- الانتصار : كتاب الصوم ، مسألة 16.

الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1) ، والصحيح من المذهب ، والأقوال ، انّ إلحاق المرأة في هذا الحكم بالرجال ، يحتاج إلى دليل ، وانّما إجماعنا منعقد ، على الوالد يتحمل ولده الأكبر ، ما فرط فيه من الصيام ، ويصير ذلك تكليفا للولد ، وكذلك ما يفوته من صلاة مرضته التي توفّي فيها ، يجب على الولد الأكبر الذكر ، قضاء ذلك عنه ، فأمّا ما فاته من الصلوات في زمانه كلّه ، سواء كان صحيحا ، أو مريضا ، لا يجب على الولد القضاء عنه ، إلا ما فاته في مرضته التي مات فيها ، على ما بيّناه ، وليس هذا مذهبا لأحد من أصحابنا ، وانّما أورده شيخنا إيرادا لا اعتقادا ، وأورد في جمله وعقوده فقال : فإن برئ المريض ، وجب عليه القضاء ، فإن لم يقض ، ومات ، وجب على وليه القضاء ، والولي هو أكبر أولاده الذكور ، فإن كانوا جماعة ، في سن واحد ، كان عليهم القضاء بالحصص ، قال : أو يقوم به بعضهم ، فيسقط عن الباقين (2) وهذا غير واضح ، لأنّ هذا تكليف كل واحد بعينه ، وليس هو من فروض الكفايات ، بل من فروض الأعيان ، فإذا صام واحد منهم ما يجب على جميعهم ، لم تبرأ إلا ذمّة من صام ما وجب عليه ، فحسب ، وذمم الباقين مرتهنة ، حتى يصوموا ما تعيّن عليهم ، ووجب في ذمّة كل واحد بانفراده.

والذي تقتضيه الأدلة ، ويجب تحصيله في هذه الفتيا ، أنّه لا يجب على واحد منهم قضاء ذلك ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، والإجماع غير منعقد على ذلك ، والقائل بهذا ، شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، والموافق له من أصحابنا المصنّفين قليل جدا ، والسيد المرتضى ، لم يتعرّض لذلك ، وكذلك شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان ، وغيرهما ، من المشيخة الجلّة ، وانّما أجمعنا على تكليف

ص: 399


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المريض والعاجز عن الصيام - بزيادة ( حكم ) بين حكمها وما ذكرناه.
2- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في حكم المريض والعاجز عن الصيام رقم 1 بدون كلمة ( المريض ).

الولد الأكبر ، وليس هاهنا ولد أكبر ، والتعليل غير قائم هاهنا ، من استحقاقهم السيف ، والمصحف ، وثياب بدنه ، فجميع ما قيل ، وورد في عين مسألة الولد الأكبر ، لم يصح في الجماعة.

وحدّ المرض الذي يجب معه الإفطار ، إذا علم الإنسان من حال نفسه ، أنّه إن صام ، زاد ذلك في مرضه ، أو أضرّ به ، والإنسان على نفسه بصيرة ، وسواء الحكم ، أن يكون المرض في الجسم ، أو يكون رمدا ، أو وجع الأضراس ، فإنّ عند جميع ذلك ، يجب الإفطار مع الخوف من الضرر.

والعاجز عن الصيام ، على ثلاثة أضرب ، الأول : لا يجب عليه قضاء ، ولا كفارة ، وهو الشيخ الهم ، والشيخة كذلك ، اللذان لو تكلفا الصوم بمشقة ، لما أطاقاه.

الثاني : يكفّر ، ولا قضاء عليه ، وهو الشيخ الذي إذا تكلّفه أطاقه ، لكن بمشقة شديدة يخشى المرض منها ، والضرر العظم ، فانّ له أن يفطر ، ويكفّر عن كل يوم بمد من طعام ، وكذلك الشاب ، إذا كان به العطاش ، الذي لا يرجى شفاؤه ، فإن كان العطاش عارضا ، يتوقع زواله ، ويرجى برؤه ، أفطر ، ولا كفارة عليه ، فإذا برئ وجب عليه القضاء.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : يجب على هذا الذي يرجى برؤه ، ويتوقع زواله ، القضاء والكفارة ، وهذا القول غير واضح ، لأنّه بخلاف القرآن ، وإجماع الطائفة ، وما اخترناه مذهب السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد رضي اللّه عنهما ، وهو الصحيح ، لأنّ هذا مريض ، والمريض بالإجماع ، يجب عليه الإفطار ، فإذا برئ ، يجب عليه القضاء ، من غير كفارة ، بغير خلاف في ذلك ، فمن أوجب الكفارة هاهنا يحتاج إلى دليل.

الثالث : الحامل المقرب ، والمرضع القليلة اللبن ، إذا خافتا على ولدهما من الصوم الضرر ، أفطرتا ، وتصدقتا عن كل يوم بمد من طعام ، وتقضيان ذلك اليوم ، وقد ذهب بعض أصحابنا ، إلى أنّه لا قضاء عليهما ، وهو الفقيه سلار ،

ص: 400

والأول هو الأظهر ، الذي يقتضيه أصول المذهب ، ويشهد بصحته ظاهر القرآن.

وكل هؤلاء الذين ذكرناهم ، وانّهم يجوز لهم الإفطار ، فليس لهم أن يأكلوا شبعا من الطعام ، ولا أن يشربوا ريّا من الشراب ، ولا يجوز لهم أن يواقعوا النساء ، هكذا أورده شيخنا في نهايته (1).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : والصحيح ، أنّ ذلك مكروه ، شديد الكراهة ، دون أن يكون محرّما محظورا ، لأنّا قد بيّنا فيما سلف ، أنّ الشي ء إذا كان شديد الكراهة ، قالوا لا يجوز ، فلفظة لا يجوز ، يحتمل الكراهة والحظر.

باب حكم من أسلم في شهر رمضان ومن بلغ فيه ، والمسافر إذا قدم أهله ، والحائض إذا طهرت والمريض إذا برئ

من أسلم في شهر رمضان ، وقد مضت منه أيام ، فليس عليه قضاء شي ء مما فاته من الصيام ، وعليه صيام ما يستأنف من الأيام ، وحكم اليوم الذي يسلم فيه ، إن أسلم قبل طلوع الفجر ، كان عليه صيام ذلك اليوم ، فإذا لم يصمه ، وكان عالما بوجوب الصيام ، كان عليه القضاء والكفارة ، وإن لم يكن عالما بوجوب الصيام عليه ، لم يكن عليه إلا القضاء ، فحسب ، وإن أسلم بعد طلوع الفجر ، لم يجب عليه صيام ذلك اليوم ، وكان عليه أن يمسك تأديبا ، إلى آخر النهار ، ولا يجب عليه قضاء ذلك اليوم ، وكذلك الغلام ، إذا احتلم ، والجارية إذا بلغت أوان الحيض ، وهو تسع سنين ، على ما أسلفنا القول فيه ، والسيد المرتضى رضي اللّه عنه وشيخنا المفيد ، يقولان : والجارية إذا بلغت الحيض ، يريدان بذلك إذا بلغت أو ان الحيض ، لأنّ الحائض يسقط عنها الصيام ، فإنّها

ص: 401


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم المريض والعاجز عن الصيام.

ليست مكلفة بالصيام - في أنّهما يجب عليهما صيام ما بقي من الأيام ، بعد بلوغهما ، وليس عليهما قضاء ما قد مضى ، مما لم يكونا بلغا فيه.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجزء الأوّل من مسائل خلافه ، في كتاب الصلاة : مسألة : الصبي إذا دخل في الصلاة ، أو الصوم ، ثم بلغ في خلال الصلاة ، أو خلال الصوم بالنهار ، بما لا يفسد الصلاة ، من كمال خمس عشرة سنة ، أو الإنبات ، دون الاحتلام الذي يفسد الصلاة ، ينظر فيه ، فإن كان الوقت باقيا ، أعاد الصلاة من أولها ، وإن كان ماضيا لم يكن عليه شي ء ، وأمّا الصوم ، فإنّه يمسك فيه بقية النهار تأديبا ، وليس عليه قضاء ، ثم استدل ، فقال : دليلنا على وجوب إعادة الصلاة ، مع بقاء الوقت ، أنّه مخاطب بها بعد البلوغ ، وإذا كان الوقت باقيا ، وجب عليه فعلها ، وما فعله قبل البلوغ ، لم يكن واجبا عليه ، وانّما كان مندوبا إليه ، ولا يجزي المندوب عن الواجب ، وأمّا الصوم ، فلا يجب عليه إعادته ، لأنّ أول النهار لم يكن مكلّفا به ، فيجب عليه العبادة ، وبقية النهار لا يصح صومه ، ووجوب الإعادة عليه يحتاج إلى دليل والأصل براءة الذمة (1).

ثم قال في هذا الجزء بعينه (2) في كتاب الصيام : مسألة : الصبي إذا بلغ ، والكافر إذا أسلم ، والمريض إذا برئ ، وقد أفطروا أول النهار ، أمسكوا بقية النهار تأديبا ، ولا يجب ذلك بحال ، فإن كان الصبي نوى الصوم من أوّله ، وجب عليه الإمساك ، وإن كان المريض نوى ذلك ، لم يصح ، لأنّ صوم المريض لا يصح عندنا ، ثم استدل ، فقال : دليلنا إجماع الفرقة ، وأيضا الأصل براءة الذمة ، ولا يوجب عليها شيئا ، إلا بدليل (3).

قال محمّد بن إدريس : المسألة التي ذكرها في كتاب الصلاة ، هي

ص: 402


1- الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 53.
2- ج : نفسه
3- الخلاف : كتاب الصيام.

الصحيحة ، ودليلها ، ما استدل به رحمه اللّه ، فأمّا المسألة الأخيرة ، ووجوب الإمساك على الصبي الذي ، إذا بلغ ، فلا دليل على ذلك ، بل إجماع أصحابنا منعقد على خلافها ، وانّما يستحب له الإمساك ، ولا يجب على الصبي ، إذا بلغ في خلال الصوم ، الإمساك ، وإنّما هذه فروع المخالفين ، فلا يلتفت إليها ، لأنّها مخالفة لأصول مذهبنا.

والمسافر ، إذا قدم أهله ، وكان قد أفطر قبل قدومه ، فلا فرق بين أن يصل قبل الزوال ، أو بعد الزوال ، في أنّه لا يجب عليه صيام ذلك اليوم ، بل يمسك تأديبا لا فرضا ووجوبا ، فأمّا إذا لم يكن قد تناول ما يفسد الصيام ، وقدم أهله ، فإن كان قدومه قبل الزوال ، إلى مكان يسمع فيه أذان مصره ، فالواجب عليه تجديد النية ، وصيام ذلك اليوم وجوبا ، لا مندوبا ، ويجزيه ، ولا يجب عليه القضاء ، فإن لم يصمه ، والحال ما وصفناه ، وأفطره ، فإنّه يجب عليه القضاء والكفارة ، لأنّه أفطر متعمدا في زمان الصيام ، وإن قدم إلى المكان الذي يسمع منه أذان مصره ، بعد الزوال ، فإنّه يمسك تأديبا ، لا وجوبا ، وعليه قضاء ذلك اليوم.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : والمسافر إذا قدم أهله ، وكان قد أفطر ، فعليه أن يمسك بقية النهار ، تأديبا ، وكان عليه القضاء ، فإن لم يكن قد فعل شيئا ينقض الصوم ، وجب عليه الإمساك ، ولم يكن عليه القضاء (1) ولم يفصّل ما فصّلناه ، ولا قال بعد الزوال ، أو قبل الزوال ، بل أطلق ذلك ، ولم يقيّده ، فعلى إطلاقه أنّه إذا قدم بعد الزوال ، ولم يكن قد تناول ما يفسد الصيام ، يجب عليه الإمساك ، ولا يجب عليه القضاء ، وهذا بخلاف الإجماع ، وقد رجع عن هذا القول ، في مبسوطة (2) وفصّل ما فصّلناه ، وهو الصحيح الذي لا خلاف فيه بين أصحابنا ، والأصل الذي يقتضيه المذهب ، لأنّ بعد

ص: 403


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم من أسلم في شهر رمضان.
2- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في حكم المريض والمسافر.

الزوال ، خرج محلّ النية ، وفات وقتها ، بغير خلاف على ما شرحناه فيما مضى.

فإن طلع الفجر وهو بعد خارج البلد ، كان مخيرا بين الإمساك ، مما ينقض الصوم ، ويدخل بلده ، ويتمم صومه ذلك اليوم ، وبين أن يفطر ، فإذا دخل في بلده ، أمسك بقية النهار تأديبا ، ثم قضاه حسب ما قدّمناه ، والأفضل إذا علم أنّه يصل إلى بلده ، أن يمسك عما ينقض الصيام ، فإذا دخل إلى بلده ، تمم صومه ، ولم يكن عليه قضاء.

والحائض إذا طهرت : بفتح الطاء والهاء ، وهو الأفصح ، وطهرت بفتح الطاء وضم الهاء ، في وسط النهار ، أمسكت بقيته تأديبا ، وكان عليها القضاء ، سواء كانت أفطرت قبل ذلك ، أو لم تفطر ، ويجب عليها قضاء ما فاتها ، من الصيام في أيام حيضها.

والمريض إذا برئ في وسط النهار ، أو قدر على الصوم ، وكان قد تناول ما يفسد الصوم ، كان عليه الإمساك بقية نهاره ، تأديبا ، وعليه القضاء ، وإن لم يكن قد فعل شيئا ممّا يفسد الصيام ، فحكمه حكم المسافر ، في اعتبار برئه قبل الزوال ، أو بعد الزوال ، فإن كان قبل الزوال ، وجب عليه تجديد النية ، والصيام ، وأجزأه صيامه ، ولا يجب عليه القضاء ، فإن لم يصمه والحال ما وصفناه ، وجب عليه القضاء والكفارة ، وإن كان برؤه بعد الزوال ، أمسك بقية نهاره تأديبا ، وعليه القضاء.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، أورد المسألة في نهايته ، إيرادا غير واضح ، بل فيه إيهام ، فقال : والمريض إذا برئ في وسط النهار ، وقدر على الصوم ، وكان قد تناول ما يفسد الصوم ، كان عليه الإمساك بقية نهاره ، تأديبا ، وعليه القضاء ، وان لم يكن قد فعل شيئا مما يفسد الصيام ، أمسك بقية يومه ، وقد تمّ صومه ، وليس عليه القضاء (1).

ص: 404


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب حكم من أسلم في شهر رمضان.

قال محمد بن إدريس رضي اللّه عنه : وهذا على ما تراه غير واضح ، ووسط النهار الذي عناه ، لا يخلو إمّا أن يكون قبل الزوال ، أو بعده ، فإن كان قبله ، ولم يكن قد تناول ما يفسد الصيام ، فيصح ما قاله ، وإن كان بعد الزوال ، فلا يصح ما قاله ، ووسط النهار أيضا ، لا يتقدّر ، ولا يتصور هاهنا ، لأن وسط الشي ء لا بدّ من أن يكون بعض نصفه الأول ، وبعض نصفه الثاني ، لأ النهار (1) ليس وسط النهار هاهنا ، شيئا خارجا عن النصفين ، فيقال به ، فإن كان برؤه في النصف الأول ، فهو قبل الزوال ، وإن كان برؤه في النصف الثاني ، فهو بعد الزوال ، وذهب في مبسوطة إلى ما قلناه واخترناه ، بأن قال : وحكم المريض إذا برئ ، حكم المسافر إذا قدم أهله (2). وقال في موضع آخر في مبسوطة : والمريض إذا برئ في وسط النهار ، أو قدر على الصوم ، وكان قد تناول ما يفسد الصيام ، أمسك بقية النهار تأديبا ، وعليه القضاء ، وإن لم يكن فعل ما يفطر ، أمسك بقية النهار ، وقد تمّ صومه ، إذا كان قبل الزوال ، فإن كان بعده وجب عليه القضاء (3).

باب قضاء شهر رمضان ومن أفطر فيه على العمد والنسيان

من فاته شي ء من شهر رمضان ، بمرض ، أو سفر ، أو شي ء من الأسباب التي توجب الإفطار ، فليقضه أيّ زمان أمكنه ، إلا زمان السفر ولا يجوز له أن يبتدئ بصيام تطوع ، وعليه شي ء من صيام شهر رمضان ، ولا غيره من الصيام الواجب ، حتى يأتي به.

وإذا أراد قضاء ما فاته من رمضان ، فقد اختلف قول أصحابنا في ذلك ، فبعض يذهب إلى أنّ الأفضل الإتيان به متتابعا ، وبعض منهم يقول : الأفضل

ص: 405


1- في ج : لانه.
2- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في حكم المريض والمسافر والمغمى عليه والمجنون وغيرهم من أصحاب الأعذار
3- المبسوط : كتاب الصوم.

أن يأتي به متفرقا ، ومنهم من قال : إن كان الذي فاته عشرة أيام ، أو ثمانية ، فليتابع بين ثمانية ، أو بين ستة ، ويفرّق الباقي ، والأوّل هو الأظهر بين الطائفة ، وبه افتي ، لأنّ الأصل يقتضيه ، وإلى ذلك ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، وإن فرّقه كان أيضا جائزا.

ولا بأس أن يقضي ما فاته من شهر رمضان ، في أيّ شهر كان ، فإن اتفق أن يكون مسافرا ، انتظر وصوله إلى بلده ، أو المقام في بلد بنيّة المقام عشرة أيّام ، ثم يقضيه إن شاء.

ومن أكل ، أو شرب ، أو فعل ما ينقض الصيام ، في يوم يقضيه ، من شهر رمضان ناسيا ، تمّم صيامه ، وليس عليه شي ء ، وكذلك حكم المتطوع بصيامه ، فإن فعله متعمدا ، وكان قبل الزوال ، أفطر يومه ذلك ، ثم يقضيه يعني اليوم الفائت الأصلي ، الذي أفطره في رمضان ، وكثيرا يطلق في الكتب ، ويوجد ما أنا ذاكره ، وإن فعل ذلك بعد الزوال ، قضى ذلك اليوم يعني اليوم الذي أفطره في رمضان ، فإن أريد قضى ذلك اليوم ، انّ الإشارة راجعة إلى اليوم القضاء الذي ليس من شهر رمضان ، فكان يجب عليه قضاء يومين ، لأنّ يوم أداء شهر رمضان ، الذي أفطر فيه ، يجب عليه أيضا القضاء عنه ، وهذا لا يقوله أحد من الفقهاء ، وكان عليه بعد القضاء ، أو قبل القضاء ، الكفارة لأنّهما فرضان ، اجتمعا ، بأيّهما شاء بدأ ، وهي إطعام عشرة مساكين ، فإن لم يتمكن ، كان عليه صيام ثلاثة أيّام ، متتابعات ، وقال بعض أصحابنا : إنّ عليه كفارة اليمين ، وقال ابن البراج رحمه اللّه : يجب عليه كفارة من أفطر يوما أداء من شهر رمضان.

ومتى أصبح الرجل جنبا ، وقد طلع الفجر ، عامدا كان ، أو ناسيا ، فليفطر ذلك اليوم ، ولا يصمه ، ويصوم غيره من الأيام ، على ما روي في الأخبار (1) وليس كذلك قضاء يوم نذر صومه فأفطره ، فأخذ في القضاء ، فأفطر ، فإنّه لا

ص: 406


1- الوسائل : الباب 19 من أبواب ما يمسك عنه الصائم ووقت الإمساك.

يجب عليه كفارة ، سواء أفطر قبل الزوال ، أو بعده ، لأنّ حمله على من أفطر يوما يقضيه من رمضان قياس.

ومن أصبح صائما متطوعا ، جاز له أن يفطر ، أيّ وقت شاء ، إلا أن يدعوه أخوه المؤمن ، فإنّ الأفضل له الإفطار ، إذا لم يعلمه بأنّه صائم.

ومن أصبح بنية الإفطار ، جاز له أن يجدد النية ، لقضاء شهر رمضان ، ما بينه وبين نصف النهار ، فإذا زالت الشمس ، لم يجز له تجديد النية ، للصوم الواجب ، فأمّا المندوب فله أن يجدد النيّة ، إلى آخر النهار ، بمقدار ما يمرّ عليه زمان ، يكون ممسكا فيه ، على ما قدّمناه.

والحائض يجب عليها قضاء ما فاتها ، من الأيام في شهر رمضان ، فإن كانت مستحاضة في شهر رمضان ، فإنّها يجب عليها الصيام ، إذا فعلت ما تفعله المستحاضة ، فإن لم تفعل ما تفعله المستحاضة ، وأمسكت وصامت ، فإنّها يجب عليها القضاء ، بغير كفارة ، فإن لم تمسك عن المفطرات ، فإنّها يجب عليها مع القضاء ، الكفارة ، لأنّها أفطرت في زمان ، يجب عليها الإمساك ، وهي مخاطبة بالصيام.

فإذا جاءت أيام عادتها بالحيض ، تركت الصيام ، ثم تقضي تلك الأيام.

ومتى أصبحت المرأة صائمة ، ثمّ رأت الدم ، فقد أفطرت ، وإن كان ذلك بعد العصر ، أو قبل غيبوبة الشمس بقليل ، أمسكت تأديبا ، وعليها قضاء ذلك اليوم.

ومتى أصبحت بنية الإفطار ، ثم طهرت في بقية يومها ، أمسكت ما بقي من النهار ، وكان عليها القضاء.

ومن أجنب في أوّل الشهر ، ونسي أن يغتسل ، وصام الشهر كلّه ، وصلّى ، وجب عليه الاغتسال ، وقضاء الصلاة ، بغير خلاف ، فأمّا الصوم ، فلا يجب عليه قضاؤه ، لأنّه ليس من شرط صحة الصوم في الرجال الطهارة ، إلا إذا تركها الإنسان متعمدا ، من غير اضطرار ، من الليل إلى النهار ، وهذا ما تركها متعمدا.

وذهب بعض أصحابنا في كتاب له ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي

ص: 407

رحمه اللّه ، إلى وجوب قضاء الصوم عليه ، ولم يقل أحد بذلك من محققي أصحابنا ، لأنّه لا دليل عليه ، والأصل براءة الذمة.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة في فصل في حكم قضاء ما فات من الصوم ، قال : من فاته شي ء من شهر رمضان لمرض ، لا يخلو حاله من ثلاثة أقسام : إمّا أن يبرأ من مرضه ، أو يموت فيه ، أو يستمر به المرض إلى رمضان آخر ، فإن برئ وجب عليه القضاء ، فإن لم يقض ومات فيما بعد ، كان على وليه القضاء عنه ، والولي هو أكبر أولاده الذكور ، فإن كانوا جماعة في سن واحد ، كان عليهم القضاء بالحصص ، أو يقوم به بعضهم ، فيسقط عن الباقين ، وإن كانوا إناثا ، لم يلزمهن القضاء ، وكان الواجب الفدية ، من ماله عن كل يوم بمدين ، من طعام وأقلّه مدّ (1).

قال محمّد بن إدريس : أمّا قوله رحمه اللّه : أو يقوم به بعضهم ، فيسقط عن الباقين ، فقد قلنا فيما تقدّم ما عندنا فيه ، وامّا قوله ، وإن كانوا إناثا ، لم يلزمهن القضاء ، فنعم ما قال ، وذهب إليه ، فإنّه الصحيح من الأقوال ، وذهب شيخنا المفيد رحمه اللّه إلى خلاف ذلك ، وأوجب على الكبرى منهن ، مثل ما أوجب على الأكبر من الذكور ، والأظهر الأوّل ، لأنّ الأصل براءة الذمة من التكاليف ، فأمّا قوله : وكان الواجب الفدية ، فغير واضح ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولم يقل به أحد من أصحابنا المحققين.

وقال السيد المرتضى في انتصاره : يتصدّق عنه لكل يوم بمدّ ، من طعام ، فإن لم يكن له مال ، صام عنه وليه ، فإن كان له وليّان فأكبرهما (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : أمّا الصدقة ، فلا تجب ، لأنّ الميّت ما وجبت عليه كفارة ، بل صوم لا بدل له ، والولي هو المكلف بقضائه ، لا يجزيه غيره ،

ص: 408


1- المبسوط : كتاب الصوم ، أصل في قضاء ما فات من الصوم.
2- الانتصار : كتاب الصوم ، مسألة 16.

والإجماع منعقد من أصحابنا على ذلك ولم يذهب إلى ما قاله السيد غيره.

والمغمى عليه إذا كان مفيقا في أول الشهر ، ونوى الصوم ، ثم أغمي عليه ، واستمر به أياما ، لم يلزمه قضاء شي ء فاته ، وإن لم يكن مفيقا في أول الشهر ، بل كان مغمى عليه ، وجب عليه القضاء ، على قول بعض أصحابنا ، منهم السيد المرتضى والشيخ المفيد.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه إلى أنّه لا قضاء عليه أصلا ، وعندي أنّ الصحيح ، ما ذهب إليه شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه والدليل على صحة قوله ، أنّ هذا المغمى عليه ، غير مكلّف بالعبادات ، لأنّ عقله زائل ، بغير خلاف ، والخطاب يتوجه إلى العقلاء المكلّفين للصيام ، وليس هذا بداخل تحت خطابهم.

فإن قيل : فهذا مريض ، ويجب على المريض قضاء ما فاته في حال مرضه ، لأنّ اللّه تعالى قال ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ) (1) فأوجب على المريض عدة من أيام أخر ، بعدد ما فاته ، فهذا داخل في عموم هذه الآية.

قلنا : العموم قد يخص بالأدلة ، بغير خلاف ، ومن جملة مخصصات العموم ، أدلة العقول ، وقد علمنا بعقولنا ، أنّ اللّه تعالى لا يكلّف إلا من أكمل شروط التكليف فيه ، ومن جملة شروط التكليف كمال العقول ، (2) وهذا مثل قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ ) (3) فعلمنا أنّ الأمر بالعبادة في الآية متوجه إلى العقلاء ، دون الصبيان والمجانين ، وإن كانا داخلين في عموم الآية ، لأنّهما من جملة الناس ، والمريض على ضربين : مريض يكون مرضه قد أزال عقله ، ومريض يكون مرضه غير زائل (4) لعقله ، فهذا هو المخاطب في الآية بالقضاء ، دون الأول ، فخصّصنا الأوّل بالدليل العقلي.

واحتج شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، على صحّة ما ذهب إليه ، من

ص: 409


1- البقرة : 184
2- في ط وج : العقل
3- البقرة : 21
4- ج : غير مزيل.

سقوط القضاء عنه ، بأن قال في مبسوطة : وعندي لا قضاء عليه أصلا ، لأنّ نيّته المتقدّمة كافية في هذا الباب ، وانّما يجب ذلك ، على مذهب من راعى تعيين النيّة ، أو مقارنة النية التي هي للقربة ، ولسنا نراعي ذلك (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا لا حاجة بنا إليه ، لأنّه غير واضح (2) ، والأحسم للشغب ، ما استدللنا به ، لأنّه لا اعتراض عليه ، ولا استدراك فيه ، ولا طريق للخصم بالطعن إليه ، وهب ، انّا التزمنا تعيين النية ، أو مقارنة النية ، فأي شي ء كان يلزمنا على استدلالنا نحن ، فأمّا على استدلال شيخنا ، فيتجه عليه إلزام الخصم ، بوجوب القضاء ، لأنّه لا يخلو ، إمّا أن يلتزم بأنّه مكلّف عاقل ، أعني المغمى عليه ، أو لا يلتزم بأنّه مكلّف للصيام ، فإن التزم بأنّه مكلّف عاقل ، فإنّه يحتاج إلى ما قال ، وإن لم يلتزم بأنّه مكلّف للصوم عاقل ، فلا حاجة به إلى ما قال رحمه اللّه.

وقال ابن بابويه في رسالته (3) وإذا قضيت شهر رمضان ، أو النذر كنت بالخيار في الإفطار ، إلى زوال الشمس ، فإذا أفطرت بعد الزوال ، فعليك الكفارة ، مثل ما على من أفطر يوما من شهر رمضان.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : أمّا من أفطر في قضاء نذر بعد الزوال ، فليس عليه من الكفارة ، ما على من أفطر في قضاء شهر رمضان بعد الزوال ، لأنّ حمل قضاء النذر على قضاء رمضان قياس ، والقياس عندنا باطل ، بغير خلاف ، والأصل براءة الذمة من الكفارة ، ولا دليل عليها بحال.

فأمّا مقدار كفارة من أفطر في قضاء رمضان بعد الزوال ، فكفارة يمين ، على الصحيح ، من أقوال أصحابنا ، ويقوي ذلك ، أنّ الأصل براءة الذمة.

ص: 410


1- المبسوط : كتاب الصوم ، فصل في حكم المريض والمسافر والمغمى عليه.
2- وفي نسخة ج : سقط من العبارة قريب سطر.
3- رسالة ابن بابويه : كتاب الصوم ، كيفية القضاء ص 82.

باب ما يجري مجرى شهر رمضان في وجوب الصّوم وما حكم من أفطر فيه على العمد أو النسيان بكسر النون وسكون السين

الذي يجري مجراه ، صيام شهرين متتابعين ، فيمن قتل خطأ إذا لم يحد العتق وصيام شهرين متتابعين ، على من أفطر يوما من شهر رمضان متعمدا إذا لم يختر العتق ، ولا الإطعام وصيام شهرين متتابعين ، في كفارة الظهار ، على من لم يجد عتق رقبة ، فمن وجب عليه شي ء من هذا الصيام ، وجب عليه أن يصومه متتابعا ، كما قال سبحانه (1) مع ارتفاع المرض والحيض ، فإن أفطر مختارا ، من غير مرض أو حيض ، في الشهر الأول ، أو الثاني قبل أن يصوم منه يوما واحدا ، كان عليه الاستئناف بغير خلاف ، وإن كان إفطاره ، بعد أن صام من الثاني ، ولو يوما واحدا ، كان مخطئا ، وجاز له البناء ، ولا يجوز لأحد من أصحابنا أن يقول ، حدّ البناء في الشهرين المتتابعين ، أن يصوم الشهر الأول ، ومن الثاني شيئا ، بل حدّ التتابع ، أن يصوم الشهرين متتابعين ، كما قال تعالى ، بل أجمعنا على أنّه يجوز له البناء ، إذا صام من الثاني شيئا ، وإن كان مخطئا في إفطاره مع اختياره وغير ممتنع أن يكون مخطئا بإفطاره ، ويجوز له البناء على ما صام.

ولا يجوز لأحد وجب عليه صيام هذه الأشياء ، أن يصومه في السفر ، ولا أن يصومه أيام العيدين ، ولا أيام التشريق إذا كان بمنى ، فإن وافق صومه أحد هذه الأيام ، وجب عليه أن يفطر ، ويقضي يوما مكانه ، إذا كان إفطاره بعد صيام الشهر الأول ، ومن الثاني يوما واحدا ، وإن كان إفطاره قبل ذلك ، وجب عليه الاستئناف.

وشيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه أطلق ذلك في نهايته ، فقال : وجب

ص: 411


1- قوله تعالى : « فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ » الآية ، النساء : 92 ، والمجادلة : 4.

عليه أن يفطر ثم ليقض يوما مكانه ، ولا بدّ من التقييد في هذا الحكم ، قال شيخنا أبو جعفر : إلا أن يكون الذي وجب عليه الصيام ، القاتل في الأشهر الحرم ، فإنّه يجب عليه صيام شهرين متتابعين من الأشهر الحرم ، وإن دخل فيهما صيام يوم العيد ، وأيام التشريق (1) وقد أورد هذا من طريق الخبر ، وهو في حيز الآحاد ، دون التواتر ، لأنّ الإجماع والتواتر ، منعقد على أن صيام العيد محرم ، فإن أجاز صيامه ، يحتاج في جوازه في هذه الكفارة إلى دليل ، وإجماع منعقد ، مثل ذلك الإجماع الذي انعقد على تحريمه.

وذهب شيخنا المفيد ، إلى جواز صوم الكفارة في حال السفر ، والأظهر بين الطائفة أنّ الصوم الواجب ، لا يجوز في السفر ، سواء كان صوم رمضان ، أو غيره من الصيام الواجب ، إلا ما أخرجه الدليل ، من النذر المقيّد بحال السفر ، وصيام ثلاثة أيام بدل هدي المتمتع ، وصيام الاعتكاف المنذور ، وصيام كفارة من أفاض من عرفات قبل مغيب الشمس عامدا ، ولم يجد الجزور ، وهو ثمانية عشر يوما.

ومن وجب عليه صيام شهرين متتابعين ، في أوّل شعبان ، فليتركه إلى انقضاء شهر رمضان ، ثم يصوم شهرين متتابعين ، بعد العيد ، فإن صام شعبان ورمضان ، لم يجزه ، إلا أن يكون قد صام مع شعبان ، شيئا ممّا تقدّم من الأيام ، فيكون قد زاد على الشهر ، فيجوز له البناء عليه ، ويتم شهرين.

ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ، فصام خمسة عشر يوما ، وأفطر ، جاز له البناء ، وإن لم يكن زاد على النصف شيئا آخر ، وفي الشهرين لا بدّ أن يكون قد زاد على النصف شيئا آخر ، من الشهر الثاني ، وهذا فرق ، تواترت به الأخبار ، عن أئمة آل محمد الأطهار ولا يتعدّى إلى غير هذين الحكمين.

ص: 412


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب ما يجري مجرى شهر رمضان.

وقد ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في جمله وعقوده (1) إلى أنّ العبد ، إذا كانت كفارته صيام شهر فصام نصفه ، جاز له التفريق للباقي ، والبناء على ما مضى ، حملا على الشهر المنذور ، أو خبر واحد ، قد ورد بذلك.

والأظهر ما أجمعنا عليه ، وترك التعرض لما عداه يعمل فيه ، على ما يقتضيه أصول المذهب ، وعموم الآي والنصوص.

وأمّا صيام النذر فقد بيّنا حكمه فيما تقدّم.

فمن أفطر في يوم ، قد نذر صومه ، متعمدا ، وجب عليه ما يجب على من أفطر يوما من شهر رمضان ، عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين ، أو إطعام ستين مسكينا ، فإن لم يتمكن ، صام ثمانية عشر يوما ، فإن لم يقدر ، تصدّق بما يتمكن منه ، فإن لم يستطع ، استغفر اللّه ، وليس عليه شي ء.

ومن نذر أن يصوم حينا من الزمان ، وجب عليه أن يصوم ستة أشهر.

وإن نذر أن يصوم زمانا ، كان عليه أن يصوم خمسة أشهر.

ومن نذر أن يصوم بمكة ، أو بالمدينة ، أو أحد المواضع المعينة ، شهرا بعينه ، فحضره ، وصام بعضه ، ولم يتمكن من المقام ، جاز له أن يخرج ، فإذا رجع إلى بلده ، قضاه ، متمما له ، وبانيا على ما صامه ، ولا يجب عليه استئنافه.

وإن كان الشهر ، غير معيّن بزمان ، فإنّه يجب عليه صيامه في ذلك البلد ، إذا تمكن من المقام ، لا يجزيه غير ذلك ، مع الاختيار للخروج من البلد.

فإن نذره متتابعا ، وخرج من البلد مختارا ، فإنّه لا يجزيه ما صامه ، ولا يجوز له البناء عليه ، وإن لم يتمكن من المقام ، فإن كان صام نصف الشهر ، فله البناء على التمام في بلده ، لأنّ من نذر صيام شهر متتابعا ، وصام نصفه ، وأفطر ، فله البناء عليه ، وإن كان خروجه قبل صيام النصف ، فلا يجوز له البناء ، لأنّ

ص: 413


1- الجمل والعقود : كتاب الصيام ، فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه الصوم ، ذيل رقم 4 و 5 من الصيام الواجب الذي متى أفطر في حال دون حال بني ، ص 217.

السفر عندنا يقطع التتابع ، سواء كان مضطرا إليه ، أو مختارا. فأمّا إذا لم يكن الشهر المنذور ، لا متعينا ، ولا متتابعا بالشرط ، فلا يجزيه إلا أن يصومه في البلد الذي عينه فيه ، أيّ وقت قدر عليه.

ومتى عجز الإنسان عن صيام ما نذر فيه ، تصدّق عن كل يوم بمد من طعام ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1) وهذا ينبغي أن يقيّد ، ويقال : متى عجز بمرض ، يرجى برؤه ، وشفاؤه ، فلا يكون هذا حكمه ، بل يجب عليه قضاؤه بلا كفارة ، إذا برئ لأنّ المريض لا يجب عليه بإفطاره في حال مرضه في الصوم المعيّن ، كفارة ، بل يجب عليه القضاء إذا برئ فحسب ، بغير خلاف ، فأمّا إذا كان العجز بكبر ، أو بمرض ، لا يرجى برؤه ، ولا شفاؤه ، فيكون الحكم ما قاله شيخنا ، ولا قضاء عليه ، فليتأمّل ذلك ، ففقهه ما ذكرناه.

وصوم كفارة اليمين ، واجب أيضا ، وهو ثلاثة أيام متتابعات ، لا يجوز الفصل بينهما بالإفطار ، مختارا ، إلا أن يعرض مرض ، أو حيض ، فيجوز البناء على ما صام ، سواء كان جاوز أكثر من النصف ، أو أقل من ذلك ، فأمّا إذا فصّل بين الثلاثة الأيام ، لغير حيض ، أو مرض ، فإنّه يجب عليه الاستئناف ، والحر والعبد في هذا الحكم سواء.

وصيام أذى حلق الرأس واجب ، إذا لم ينسك ، ولم يتصدق.

وصيام ثلاثة أيام ، لمن لم يجد دم المتعة ، في الحج ، متتابعات ، وهي بدل الهدي ، مع عدمه ، لا بدل ثمنه ، وذهب بعض أصحابنا إلى أنّ الصيام بدل الثّمن ، لأنّ عند هذا القائل ، أنّه لا يجزيه الصيام ، مع وجود الثمن ، والأول أظهر ، لأنّ اللّه تعالى ، (2) نقلنا مع عدم الهدي إلى الصيام ، ولم يجعل بينهما واسطة ، فمن ادّعاها

ص: 414


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب ما يجري مجرى شهر رمضان.
2- قوله تعالى : ( فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ ) الآية ، البقرة : 196.

خالف ظاهر التنزيل.

ولا يجوز التفريق بين الثلاثة الأيام إلا في موضع واحد ، وهو إذا صام يوم التروية ، ويوم عرفة ، فإنّه يبني على صيامه بعد أيام التشريق ، فأمّا إذا لم يكن المانع من التتابع العيد ، أو كان المانع العيد ، ولم يحصل صيام يومين قبله ، فلا يجوز التفريق بحال.

وشيخنا أبو جعفر ، في جمله وعقوده ، جعله في قسم الصيام الذي إذا أفطر المكلّف به في حال دون حال بنى. فقال : وصوم ثلاثة أيّام في دم المتعة ، إن صام يومين ثم أفطر بنى ، وإن صام يوما وأفطر أعاد (1). وهذا الإطلاق ، لا يصح إلا في موضع واحد ، وهو انّه يكون ، قد صام يوم التروية ، ويوم عرفة ، فإنّه يبني بعد أيام التشريق ، فأمّا إذا لم يكن صام اليومين المذكورين ، وصام بعد أيام التشريق ، فإنّه لا يبني إذا صام يومين ثم أفطر.

فأمّا صيام السبعة الأيام ، فإذا عاد ، ورجع إلى وطنه ، يصومهن إن شاء متتابعة ، وإن شاء متفرقة ، ولا يجب عليه التتابع ، ولا يجوز له أن يصومهن ، إلا إذا رجع ، ولا يجوز صيامهن في الطريق والسفر ، فإن جاور بمكة ، انتظر قدوم أهل بلده إلى بلدهم ، إذا كان ذلك دون الشهر ، فإن كان أكثر من ذلك ، انتظر شهرا ، ثم صام بعد ذلك.

فإن مات المكلّف بهذا الصيام بعد القدرة عليه ، قال بعض أصحابنا : لا يجب على وليّه القضاء عنه. والأولى أنّه يجب ذلك على الولي ، لأنّ الإجماع منعقد على أنّ كل صوم كان واجبا على الميت ، وقدر عليه ولم يفعله ، فالواجب على الولي القيام به.

وصوم جزاء الصيد ، بحسب قيمة جزائه ، متفرقا ومتتابعا ، ولا يجوز صيامه في السفر ، وقال ابن بابويه في رسالته : يجوز صيامه في السفر (2). والأظهر بين أصحابنا الأول.

ص: 415


1- الجمل والعقود : فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه الصوم ، رقم 6 من الصيام الذي متى أفطر في حال دون حال بنى ، ص 217.
2- رسالة ابن بابويه : كتاب الصوم ، الصوم في السفر ص 73 الطبع الحديث.

وصيام الاعتكاف المنذور واجب أيضا ، فإمّا الاعتكاف المندوب ، فصيامه مندوب بغير خلاف من محصّل ، وسنشبع الكلام ، في باب الاعتكاف إن شاء اللّه تعالى.

وصيام النذر ، له ثلاث مسائل ، ينبغي أن يحقق ، وقد اطلع على فقه النذر ، وهن : إذا نذر الإنسان صيام شهر معيّن ، مثلا رجب أو شعبان. الثانية (1) نذر صيام شهر متتابع ، إلا أنه غير معيّن بزمان ، بل موصوف بصفة ، وهي التتابع. الثالثة : إذا نذر صيام شهر ، ولم يعيّنه ، ولا وصفه بصفة.

فأمّا الأولى ، فإنّه إذا صام بعضه ، سواء كان ذلك البعض ، النصف ، أو أقل من النصف ، أو أكثر من النصف ، وعلى كل حال ، فإنّه يبني ، ولا يستأنف ، بل يجب عليه القضاء لما أفطره ، والكفارة.

الثانية إذا أفطر ، فلا يخلو إفطاره ، إمّا أن يكون قبل النصف ، أو بعد النصف ، فإن كان قبل النصف ، فإنّه يجب عليه الاستئناف ، ولا يعتد بما صام ، ولا يجب عليه فيما أفطر كفارة ، ولا قضاء ، بل يجب عليه الاستئناف للصيام ، فأمّا إن كان أفطر بعد النصف فإنّه يبني ، ولا يستأنف ، ولا يجب عليه الكفارة في الحالين معا.

فأمّا الثالثة فإنّه يبني على كل حال ، سواء كان إفطاره قبل النصف ، أو بعده ، ولا كفارة عليه ، لأن نذره غير معيّن بزمان ، ولا موصوف بصفة ، وهي التتابع.

ومن تعيّن عليه صيام شهرين متتابعين ، لا حد ما ذكرناه من إفطار يوم ، من شهر رمضان عامدا ، أو نذر معيّن ، أو اعتكاف معيّن ، أو ظهار ، أو غير ذلك مما أشبهه ، أو نذر صومهما ، وجب عليه ان يبتدئ شهرين عربيين ، يمكن الموالاة فيهما ، (2) ، دون شعبان ، لأجل شهر رمضان ، ودون شوال ، لأجل يوم الفطر ، ودون ذي الحجة فإذا دخل في الصوم ، وجب عليه المضي فيه حتى يكمل الشهرين.

فإن أفطر في شي ء منهما ، مضطرا بنى على ما صامه ، ولو كان يوما واحدا ،

ص: 416


1- في ط وج : إذا أنذر
2- في ط وج : بينهما.

وإن كان مختارا ، في الشهر الأول ، وقبل أن يدخل في الثاني ، استأنف الصيام ، من أوّله ، وإن أفطر بعد أن صام من الثاني يوما واحدا ، فما زاد ، تمم على ذلك ، وجاز له البناء على ما مضى.

ومن مات ، وعليه شي ء من ضروب الصيام ، لم يؤده ، مع تعيّن فرضه عليه ، وتفريطه فيه ، فعلى وليه القضاء عنه ، وإن لم يتعيّن ذلك عليه لم يتعيّن الصوم على وليه ، ولا يجب على الولي الصيام ، وقد قدّمنا طرفا من ذلك ، فيما تقدّم ، وكذلك صيام الشهرين المتتابعين ، وأعدناه هاهنا تأكيدا ، وشرح بيان.

ومن نذر أن يصوم يوما ، ويفطر يوما ، صوم داود عليه السلام ، فوالى الصوم ، فإنّه يجب عليه كفارة خلاف النذر ، وقد بيّناها ، لأنّه نذر أن يفطر ، فصام ، وإن والى الإفطار مختارا ، لم يجزه ، ولزمه القضاء ، لأيام الصوم ، وكفارة من أفطر يوما من شهر رمضان ، عن كل يوم أفطره ، وكان يجب عليه صيامه ، ويجب عليه القضاء ، على ما قدّمناه ، لأنّ زمان القضاء مستثنى ، على ما قدّمناه في نذر الدهر.

باب صيام التطوّع ، وما يكون صاحبه فيه بالخيار وصوم التأديب ، والاذن ، وما لا يجوز صيامه

أمّا المسنون من الصيام ، فجميع أيام السنة ، إلا الأيام التي يحرم صيامها ، غير أنّ فيها ما هو أشدّ تأكيدا ، فمن ذلك صوم ثلاثة أيام في كل شهر مستحب ، مندوب إليه ، مؤكد فيه ، وهو أول خميس في العشر الأول ، وأول أربعاء في العشر الثاني ، وآخر خميس في العشر الأخير ، فإن اتفق خميسان في العشر الأخير ، فالخميس الأخير منهما هو المؤكد صيامه ، دون الأول ، فإن جاء الشهر ناقصا ، فلا شي ء عليه ، فينبغي أن لا يتركه الإنسان مع الاختيار ، فإن لم يقدر على صيام هذه الأيام في أوقاتها ، جاز له تأخيرها من شهر إلى شهر ، ثم يقضيها ، وكذلك

ص: 417

لا بأس أن يؤخّرها من الصيف إلى الشتاء ، ثم يقضيها بحسب ما فاته ، فإن عجز عن الصيام ، جاز له أن يتصدق عن كل يوم بدرهم ، أو بمد من طعام.

ويستحب صيام الأربعة الأيام في السنة ، وهي يوم السابع والعشرين من رجب ، وهو يوم مبعث النبي صلّى اللّه عليه وعلى آله ، ويوم السابع عشر من شهر ربيع الأول ، وهو يوم مولده عليه السلام ، ويوم الخامس والعشرين من ذي القعدة ، وهو يوم دحيت فيه الأرض من تحت الكعبة ، ومعنى دحيت أي سطحت وبسطت ، ويوم الثامن عشر من ذي الحجة ، وهو يوم الغدير ، نصب فيه رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عليا أمير المؤمنين عليه السلام إماما للأنام ، وفي هذا اليوم بعينه قتل عثمان بن عفان ، وبايع الناس المهاجرون والأنصار عليّا عليه السلام طائعين مختارين ، ما خلا أربعة أنفس ، منهم عبد اللّه بن عمر ، ومحمد بن مسلمة ، وسعد بن أبي وقاص ، وأسامة بن زيد ، وفي هذا اليوم فلج موسى بن عمران عليه السلام على السحرة ، وأخزى اللّه عزوجل فرعون وجنوده ، وفيه نجّى اللّه تعالى إبراهيم عليه السلام من النار ، وفيه نصب موسى وصيه يوشع بن نون ، ونطق بفضله على رءوس الأشهاد ، وفيه أظهر عيسى وصيّه شمعون الصفا ، وفيه أشهد سليمان بن داود سائر رعيته على استخلاف آصف بن برخيا وصيه ، وهو يوم عظيم ، كثير البركات.

وفي الرابع والعشرين من ذي الحجة ، بأهل رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، بأمير المؤمنين والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام ، نصارى نجران ، وفيه تصدّق أمير المؤمنين عليه السلام بخاتمه.

وفي اليوم الخامس والعشرين من هذا الشهر ، نزلت في أمير المؤمنين عليه السلام ، وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام ، هل أتى.

وفي اليوم السادس والعشرين منه ، سنة ثلاث وعشرين من الهجرة ، طعن عمر بن الخطاب.

ص: 418

وفي التاسع والعشرين منه ، قبض عمر بن الخطاب ، فينبغي للإنسان أن يصوم هذه الأيام ، فإن فيها فضلا كبيرا ، وثوابا جزيلا ، وقد يلتبس على بعض أصحابنا يوم قبض عمر بن الخطاب ، فيظن أنّه يوم التاسع من ربيع الأول ، وهذا خطأ من قائله ، بإجماع أهل التاريخ والسير ، وقد حقق ذلك شيخنا المفيد ، في كتابه كتاب التواريخ ، وذهب إلى ما قلناه.

ويستحب صيام أول يوم غرة ذي الحجة ، وهو يوم ولد فيه إبراهيم الخليل عليه السلام.

ويستحب صيام يوم عرفة ، إذا حقق هلال ذي الحجة ، فأمّا إذا لم يحقق ، وشك فيه ، والتبست معرفته ، فانّ صيام عرفة ، والحال ما وصفناه ، مكروه ، لأنّ الإنسان لا يأمن من قيام البينة بأنّه يوم عيد.

ويستحب صيام رجب بأسره ، فإن لم يتمكن ، فما تيسر منه ، وكذلك شعبان ، ويصله بشهر رمضان ، فهو شهر شريف ، وصيامه سنّة ، من سنن الرسول عليه السلام ، وفي اليوم الثاني منه ، سنة اثنتين من الهجرة ، نزل فرض صيام شهر رمضان ، فعلى هذا التقدير ، والتاريخ ، يكون قد صام الرسول عليه السلام ، ثمان رمضانات على التحقيق.

وأيام البيض من كل شهر ، وهي يوم الثالث عشر ، والرابع عشر ، والخامس عشر.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : يقال هذه أيام البيض ، أي أيام الليالي البيض ، وسمّيت هذه الليالي بيضا ، لطلوع القمر من أولها إلى آخرها ، والعامة تقول الأيام البيض ، حتى أنّ بعض أصحابنا جرى في كتبه المصنّفة ، على عادات العوام في ذلك ، وهو خطأ ، لأنّ الأيام كلها بيض.

وصوم يوم عاشوراء على وجه حزن بمصاب آل الرسول عليهم السلام.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته إلى أن صيام أيام الليالي البيض ، وصيام عرفة ، وصيام يوم عاشوراء ، من القسم المخيّر فيه ، دون

ص: 419

القسم المؤكد ، لأنّه عدّد المؤكد ، ثم قال بعد ذلك : والصوم الذي يكون صاحبه فيه بالخيار ، كذا وكذا (1).

وأمّا صوم الإذن ، فلا تصوم المرأة تطوعا إلا بإذن زوجها ، فإن صامت من غير إذنه ، فلا ينعقد صومها ، ولا يكون شرعيا ، وله مواقعتها فيه ، وإلزامها الإفطار ، ويجب عليها مطاوعته ، فإن كانت صائمة في (2) الواجبات ، فليس له عليها ولاية ، ولا يجوز له منعها من ذلك ، ولا ينعقد نذرها بصيام ، ما دامت في حبال بعلها ، فإن كانت قد نذرت الصيام ، قبل عقده عليها ، فقد صح وانعقد ، وليس له منعها منه ، وكذلك النذر بالحجّ منها.

والعبد لا يصوم تطوعا إلا بإذن مولاه ، والضيف لا يصوم تطوعا إلا بإذن مضيفه ، فإن صاما من غير إذن ، فلا ينعقد لهما صيام شرعي ، ويكونان مأزورين ، ولا يكونان مأجورين.

وأما الصوم التأديب ، فأن يؤخذ الصبي إذا راهق بالصوم تأديبا ، ومعنى راهق : قارب البلوغ ودنا منه ، وكذلك من أفطر لمرض في أول النهار ، ثم قوى بقية نهاره ، أمر بالإمساك بقية يومه تأديبا ، وليس بفرض ، وكذلك المسافر إذا أفطر أوّل النهار ، ثم قدم أهله ، أمسك بقية يومه تأديبا ، وكذلك الحائض ، إذا أفطرت في أول النهار ، أو لم تفطر ، ثمّ طهرت في بقية يومها ، أمسكت تأديبا ، وعليها قضاؤه.

وأمّا الذي لا يجوز صومه بحال ، فيوم الفطر ، ويوم الأضحى ، وثلاثة أيام التشريق ، لمن كان بمنى ، وصوم يوم الشك ، بنية أنّه من رمضان ، وصوم الوصال ، وهو أن يصوم يومين ، من غير أن يفطر بينهما ليلا ، وفسّره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته بغير هذا ، فقال : وهو أن يجعل عشاءه سحوره (3)

ص: 420


1- النهاية : كتاب الصوم ، باب صيام التطوع
2- في ط وج : من.
3- النهاية : كتاب الصوم ، باب صيام التطوع

والأول هو الأظهر والأصح ، وإليه ذهب في اقتصاده (1) وصوم الصمت ، وصوم نذر المعصية ، وصوم الدهر.

باب الاعتكاف

الاعتكاف في اللغة ، هو اللبث الطويل ، وفي عرف الشرع ، هو طول اللبث للعبادة ، وله شروط ثلاثة ، أحدها يرجع إلى الفاعل ، وثانيها يرجع إلى الفعل ، وثالثها يرجع إلى البقعة.

فالراجع إلى الفاعل ، هو أن يكون مسلما ، بالغا ، عاقلا ، لأنّ من كان بخلاف ذلك ، لا يصح اعتكافه.

وما يرجع إلى الفعل ، فهو أن يكون مع طول اللبث ، صائما ، فإن كان الاعتكاف واجبا ، كان الصوم واجبا ، لأنّه من توابعه وشروطه ، وإن كان مندوبا كان الصوم مندوبا ، وقد يشتبه على كثير من المتفقهة من أصحابنا ، فيظن أنّ صوم الاعتكاف على كل حال واجب ، لأنّ الصوم شرط في انعقاد الاعتكاف.

والراجع إلى البقعة ، هو أن يكون الاعتكاف ، في مساجد مخصوصة ، وهي أربعة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد النبي عليه السلام ، ومسجد الكوفة ، ومسجد البصرة.

وقد ذهب بعض أصحابنا وهو ابن بابويه ، إلى أنّ أحد الأربعة ، مسجد المدائن ، وجعل مسجد البصرة رواية ، ويحسن في هذا الموضع ، قول اقلب تصب ، لأنّ الأظهر بين الطائفة ، ما قلناه أولا ، فإن كانت قد رويت بمسجد المدائن رواية ، فهي في حيّز الآحاد (2). ومن شاذ الأحاديث.

ولا ينعقد الاعتكاف في غير هذه المساجد ، لأنّ من شرط المسجد الذي ينعقد فيه الاعتكاف ، عند أصحابنا ، أن يكون صلّى فيه نبيّ ، أو إمام عادل ،

ص: 421


1- الاقتصاد : كتاب الصوم ، في ذكر أقسام الصوم ، ص 293 والعبارة في المصدر هكذا ( وصوم الوصال كذلك يجعل عشاه سحوره أو يطوي يومين ) الطبع الحديث
2- ط : فهي من خبر الآحاد.

جمعة بشرائطها ، وليست إلا هذه التي ذكرناها.

وحكم المرأة وحكم الرجل في هذا الباب سواء ، ولا يصح اعتكافها في مسجد بيتها.

قال السيد المرتضى ، في كتابه الانتصار : وممّا انفردت به الإمامية ، القول بأنّ الاعتكاف لا ينعقد إلا في مسجد صلّى فيه إمام عدل بالناس ، الجمعة ، وهي أربعة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد المدينة ، ومسجد الكوفة ، ومسجد البصرة ، وباقي الفقهاء يخالفون في ذلك. ثم ذكر أقاويلهم ، ثمّ قال : وذهب حذيفة إلى أنّ الاعتكاف لا يصح ، إلا في ثلاثة مساجد ، المسجد الحرام ، ومسجد الرسول عليه السلام ، ومسجد إبراهيم عليه السلام (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : مسجد إبراهيم عليه السلام ، هو مسجد الكوفة ، ذكر ذلك في كتاب الكوفة.

والاعتكاف أصل في نفسه في الشرع ، دون أن يكون له أصل يردّ إليه ، والاعتكاف على ضربين ، واجب وندب ، فالواجب ما أوجبه الإنسان على نفسه بالنذر ، أو العهد ، والمندوب هو ما يبتدئه ، من غير إيجاب على نفسه ، فالمندوب لا يجب المضي فيه بعد الدخول ، والتلبس به ، بل أيّ وقت أراد المكلّف الرجوع فيه ، جاز له ذلك ، ويكون الصوم له بنية الندب ، دون نيّة الوجوب ، لأنّ عندنا ، العبادة المندوب إليها ، لا تجب بالدخول فيها ، بخلاف ما يذهب إليه أبو حنيفة ، ما خلا الحج المندوب ، فإنّه يجب بالدخول فيه ، وحمل باقي المندوبات عليه قياس ، ونحن لا نقول به.

فأمّا الواجب ، من قسمي الاعتكاف ، فإنّه على ضربين ، مقيّد نذره بزمان ، وغير مقيّد نذره بزمان ، فالمقيّد بزمان ، إذا شرط ناذره العود فيه ، إن عرض له ما يمنعه منه ، وعرض ذلك ، فله العود فيه والرجوع ، ولا يجب عليه إتمامه ، ولا قضاؤه ، ولا كفارة عليه ، لأنّ شرطه ، لم يصادف صفته ، فما حصل شرط النذر على صفته.

ص: 422


1- الانتصار : كتاب الصوم ، مسألة 17.

فأمّا إذا لم يشرط فيه العود ، إن عرض العارض ، فحينئذ يجب عليه إتمامه ، ولا يجب عليه استئنافه ، ولا يجب عليه كفارة.

فأمّا إذا لم يكن اعتكافه ونذره ، مقيّدا بزمان بعينه ، بل شرط فيه التتابع ، فإن شرط على ربّه تعالى فيه ، فله البناء والإتمام ، دون الاستئناف ، وإن لم يشرط ، وعرض العارض ، فيجب عليه استئنافه ، دون البناء عليه ، ولا يجب عليه كفارة.

فإن كان نذره غير متعيّن بزمان ، ولا شرط فيه التتابع ، بل أطلقه من الأمرين معا ، فمتى اعتكف أقل من ثلاثة أيام متتابعة ، فيجب عليه الاستئناف ، ويراعي فيه ثلاثة ثلاثة ، ولا كفارة عليه إذا أفطر فيه.

ومتى أراد الإنسان أن يعتكف فلا يعتكف أقل من ثلاثة أيام ، فإنّه لا اعتكاف في الشريعة أقل من ذلك ، وأكثره لا حدّ له ، إذا كان الزمان يصح فيه الصوم ، ومن شرط صحته الصوم ، سواء كان الصوم واجبا ، أو مندوبا ، فإن كان الاعتكاف واجبا ، كان الصوم واجبا مثله ، وإن كان الاعتكاف مندوبا ، فالصوم يكون مندوبا ، وقد يلتبس على كثير من أصحابنا ، هذه المسألة ، ويذهب إلى أنّ الصوم في الاعتكاف واجب ، سواء كان الاعتكاف واجبا ، أو مندوبا ، لأجل مسطور ، ولفظ محتمل ، يجده في النهاية ، فإنّ شيخنا أبا جعفر الطوسي رحمه اللّه قال : ولا بدّ أن يصوم واجبا ، لأنّه لا اعتكاف إلا بصوم (1). ولما عدّد في الجمل والعقود ، الصوم الواجب ، قال : وصوم الاعتكاف واجب (2) وهذا كلام محتمل ، ولفظ عام وعموم ، والعموم قد يخصّ بالأدلة ، فيخص قوله : بأنّ الاعتكاف ، إذا كان منذورا واجبا ، كان الصوم واجبا (3).

ص: 423


1- النهاية : باب الاعتكاف.
2- الجمل والعقود : فصل في ذكر أقسام الصوم ومن يجب عليه ، رقم 11 من أقسام الصوم الواجب والعبارة هكذا : وصوم الاعتكاف على وجه.
3- ط : بأنّ الاعتكاف إذا كان مندوبا كان الصوم مندوبا ، وإن كان واجبا كان الصوم واجبا.

وقد رجع شيخنا ، في مسائل الخلاف ، وحقّق القول في المسألة ، فقال : مسألة : لا يصح الاعتكاف إلا بصوم ، أيّ صوم كان ، عن نذر ، أو رمضان ، أو تطوعا ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة (1). فدلّ بالإجماع على المسألة ، فعلم أنّه أراد في نهايته ما قلناه.

وقال السيد المرتضى ، في مسائل الطبريات : المسألة الخامسة والثلاثون والمائة : من شرع في الاعتكاف ، ثم أفسده ، لزمه القضاء ، قال السيد المرتضى : الذي نقوله في هذه المسألة ، ليس يخلو الاعتكاف من أن يكون واجبا بالنذر ، أو تطوعا ، فإن كان واجبا ، لزم مع إفساده القضاء ، وإن كان تطوعا ، لم يلزمه القضاء ، لأنّ التطوع لا يجب عندنا بالدخول فيه هذا آخر كلام المرتضى رضي اللّه عنه.

فإذا تحقق وتقرر ما شرحناه ، فما أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (2) ، وفي مبسوطة (3) ، من قوله : فمن اعتكف ثلاثة أيام ، كان فيما زاد عليها بالخيار ، إن أراد أن يزداد ، ازداد ، وإن أراد أن يرجع ، رجع فإن صام بعد الثلاثة الأيام ، يومين آخرين ، لم يجز له الرجوع ، وكان عليه إتمام ثلاثة أيام أخر ، فإن كان قد زاد يوما واحدا ، جاز له أن يفسخ الاعتكاف. وهذه أخبار آحاد ، لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها.

وينبغي للمعتكف ، أن يشرط على ربه في حال ما يعزم على الاعتكاف ، كما يشرط في حال الإحرام ، بأنّه إن عرض له عارض ، جاز له أن يرجع فيه ، أيّ وقت شاء ، فإن لم يشرط لم يكن له الرجوع فيه ، إلا أن يكون أقل من يومين ، فإن مضى عليه يومان ، وجب عليه تمام ثلاثة أيام ، حسب ما قدّمناه ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر في النهاية (4) ، والأصل ما قدّمناه ، وشرحناه ، وحررناه.

والأولى بالمعتكف ، أن يجتنب جميع ما يجتنبه المحرم ، إلا ما خرج بالدليل ،

ص: 424


1- الخلاف : كتاب الاعتكاف ، مسألة 2
2- النهاية : باب الاعتكاف.
3- المبسوط : كتاب الاعتكاف ، في فصل أقسام الاعتكاف
4- النهاية : باب الاعتكاف.

من النساء والطيب ، والرياحين ، والكلام الفحش ، والمماراة ، والبيع ، والشراء ، ولا يفعل شيئا من ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في جمله وعقوده : ويجب عليه تجنب ما يجب على المحرم تجنبه (1) وقال في مبسوطة : وقد روي أنّه يجتنب ما يجتنبه المحرم ، وذلك مخصوص بما قلناه ، لأنّ لحم الصيد لا يحرم عليه ، وعقد النكاح مثله (2). هذا آخر كلامه في مبسوطة ، فجعله رواية ، وفي الجمل جعله دراية. والأولى ، أن لا يحرم عليه ما يحرم على المحرم ، إلا ما قام الدليل عليه.

ولا يجوز له أن يخرج من المسجد الذي اعتكف فيه ، إلا لضرورة ، تدعوه إلى ذلك ، من تشييع أخ مؤمن ، أو جنازة ، أو عيادة مريض ، أو قضاء حاجة ، لا بدّ له منها ، فمتى خرج لشي ء من هذه الأشياء التي ذكرناها ، فلا يقعد في موضع ، ولا يمشي تحت الظلال ، ولا يقف فيها ، إلا عند ضرورة إلى ذلك ، إلى أن يعود إلى المسجد.

ولا يصلّي المعتكف في غير المسجد الذي اعتكف فيه ، إلا بمكة خاصة ، فإنّه يجوز له أن يصلّي بمكة ، في أيّ بيوتها شاء.

ومتى اعتل المعتكف ، فله أن يخرج من المسجد إلى بيته ، فإذا برئ ، قضى اعتكافه ، وصومه ، على التفصيل الذي فصلناه أولا وشرحناه.

واعتكاف المرأة ، كاعتكاف الرجل سواء ، وحكمها حكمه ، في جميع الأشياء ، فإن حاضت ، خرجت من المسجد ، فإذا طهرت ، عادت ، وقضت الاعتكاف والصوم.

ولا يجوز للمعتكف ، مواقعة النساء ، لا بالليل ، ولا بالنهار ، فمتى واقع الرجل امرأته ، وهو معتكف ، ليلا ، كان عليه ما على من أفطر يوما من شهر رمضان ، فإن كانت مواقعته لها بالنهار ، في شهر رمضان ، أو في غيره ، كان عليه

ص: 425


1- الجمل والعقود : فصل في ذكر الاعتكاف واحكامه ، رقم 3 من شروط صحة الاعتكاف.
2- المبسوط : كتاب الاعتكاف ، فصل في ما يمنع الاعتكاف منه وما لا يمنع.

كفارتان ، فإن كانت المرأة معتكفة بإذنه ، ووطأها ليلا مكرها لها كان عليه كفارتان ، ولا يبطل اعتكافها ، ولا كفارة عليها ، وإن كانت مطاوعة له ، كان عليها كفارة ، وفسد اعتكافها ، وعليه مثلها ، وإن كان وطؤه لها بالنهار ، مكرها لها ، كان عليه أربع كفارات ، وإن كانت مطاوعة له ، على الفعال ، لم يتحمل كفارتها ، وكان عليها كفارتان وعليه كفارتان ، وفسد اعتكافهما ، ووجب عليهما استئنافه.

ولا يجوز للمرأة أن تعتكف تطوعا ، إلا بإذن زوجها ، ولا للعبد ، والأمة ، إلا بإذن السيد.

وإذا مرض المعتكف ، واضطر إلى الخروج منه ، خرج ، فإن زال العذر ، رجع ، فبنى على ما مضى ، من اعتكافه.

وإذا باع المعتكف ، فالظاهر أنّه لا ينعقد ، لأنّه منهيّ عنه.

والنظر في العلم ، ومذاكرة أهله ، لا يبطل الاعتكاف ، وهو أفضل من الصلاة تطوعا ، عند جميع الفقهاء.

ولا يفسد الاعتكاف جدال ، ولا خصومة ولا سباب ، ولا بيع ولا شراء ، وإن كان لا يجوز له فعل ذلك أجمع ، هكذا أورده شيخنا في مبسوطة (1).

والأولى عندي ، انّ جميع ما يفعله المعتكف ، من القبائح ، ويتشاغل به ، من المعاصي ، والسيئات ، يفسد اعتكافه ، فأمّا ما يضطر إليه ، من أمور الدنيا ، من الأفعال المباحات ، فلا يفسد به اعتكافه ، لأنّ حقيقة الاعتكاف في عرف الشرع ، هو اللبث للعبادة ، والمعتكف اللابث للعبادة ، إذا فعل قبائح ، ومباحات ، لا حاجة إليها ، فما لبث للعبادة ، وخرج من حقيقة المعتكف ، اللابث للعبادة ، وانّما أورد شيخنا في مبسوطة ، كلام المخالفين ، وفروعهم ، وما يصح عندهم ، ويقتضيه مذهبهم ، لأنّ هذا الكتاب معظمه فروع المخالفين.

ص: 426


1- المبسوط : كتاب الاعتكاف ، فصل في ما يفسد الاعتكاف وما يلزمه من الكفارة.

كتاب الزكاة

اشارة

ص: 427

كتاب الزكاة

فصل في حقيقة الزكاة وما تجب فيه وبيان شروطها

الزكاة في اللغة ، هي النمو ، يقال : زكا الزرع ، إذا نما ، وزكا الفرد ، إذا صار زوجا ، فشبه (1) في الشرع ، إخراج بعض المال زكاة ، لما يؤول إليه من زيادة الثواب ، وقيل أيضا : إنّ الزكاة هي التطهير ، لقوله تعالى : ( أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً ) (2) أي طاهرة من الذنوب ، فشبه (3) إخراج المال زكاة ، من حيث تطهر ما بقي ، ولو لا ذلك ، لكان حراما ، من حيث أنّ فيه حقا للمساكين ، وقيل أيضا : تطهير المالك من مآثم منعها.

ومدار الزكاة على أربعة فصول : أحدها : ما تجب فيه الزكاة ، وبيان أحكامه. وثانيها : من تجب عليه الزكاة وبيان شروطه ، وثالثها مقدار ما تجب فيه. (4) ورابعها : بيان المستحق وكيفية القسمة.

فأمّا الذي تجب فيه الزكاة ، فتسعة أشياء : الإبل ، والبقر ، والغنم ، والدنانير ، والدراهم ، والحنطة ، والعلس ( بالعين المفتوحة غير المعجمة ، واللام المفتوحة ، والسين غير المعجمة ضرب من الحنطة ، إذا ديس ، بقي كل حبتين في كمام ، ثم لا يذهب ذلك حتى يدق ، أو يطرح في رحى خفيفة ، ولا يبقى بقاء الحنطة ، وبقاؤها في كمامها ، ويزعم أهلها أنّها إذا هرست ، أو طرحت في

ص: 428


1- ج ، ط : قسمي
2- الكهف : 74.
3- ج ، ط : قسمي
4- ج : وثانيها مقدار ما تجب فيه ، وثالثها من تجب عليه. وفي المطبوع : ثانيها مقدار ما تجب فيه الزكاة وبيان شروطه. وثالثها من تجب عليه الزكاة.

رحى خفيفة ، خرجت على النصف ، فإذا اجتمع عنده حنطة ، وعلس ، ضمّ بعضه إلى بعض ، لأنّها كلّها حنطة ) والشعير ، والسلت ( بضمّ السين غير المعجمة ، واللام المسكنة ، والتاء المنقطة ، بنقطتين من فوقها ، وهو شعير ، فيه ما في الشعير ، فإذا اجتمع عنده شعير وسلت ، ضمّ بعضه إلى بعض ، لأنه كلّه شعير ، لونه لون الشعير ، وطعمه طعمه ، إلا أنّ حبّه أصغر من حب الشعير ) ، والتمر والزبيب.

وشروط وجوب الزكاة في هذه الأجناس التسعة ، أن يكون مالكها حرا ، بالغا ، كامل العقل موسرا ، وحدّ اليسار : ملك النصاب ، وأن يكون في يد مالكه ، وهو غير ممنوع من التصرف فيه. ولا زكاة في المال الغائب عن صاحبه ، الذي لا يتمكن من الوصول إليه ، ولا زكاة في الدين ، إلا أن يكون تأخّر قبضه ، من جهة مالكه ، وأن يكون بحيث متى رامه قبضه.

وقال بعض أصحابنا ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : وشروط وجوب الزكاة من هذه الأجناس ، ستة ، اثنان يرجعان إلى المكلف ، وأربعة ترجع إلى المال ، فما يرجع إلى المكلّف : الحرية ، وكمال العقل ، وما يرجع إلى المال : الملك والنصاب ، والسوم ، وحئول الحول. وينبغي أن يلحق شرطا سابعا ، فيما يرجع إلى المكلّف ، وهو إمكان التصرف طول الحول ، فيصير ثلاثة ترجع إلى المكلّف ، فالحرية شرط في الأجناس كلّها ، لأنّ المملوك لا يجب عليه الزكاة ، لأنّه لا يملك شيئا ، وكمال العقل شرط في الدنانير ، والدراهم فقط ، فامّا ما عداهما ، فإنّه يجب فيه الزكاة ، وإن كان مالكها ليس بعاقل ، من الأطفال ، والمجانين ، والصحيح من المذهب ، الذي تشهد بصحته ، أصول الفقه والشريعة ، أنّ كمال العقل ، شرط في الأجناس التسعة ، على ما قدّمناه أولا ، واخترناه ، وهو مذهب السيد المرتضى رحمه اللّه ، والشيخ الفقيه سلار ، والحسن بن أبي عقيل العماني ، في كتابه ، كتاب المتمسك بحبل آل الرسول ، وهذا الرجل وجه من وجوه أصحابنا ، ثقة ، فقيه ، متكلّم ، كثيرا كان يثني عليه شيخنا المفيد ، وكتابه

ص: 429

كتاب حسن كبير ، هو عندي ، قد ذكره شيخنا أبو جعفر في الفهرست ، وأثنى عليه. وقد ذهب إليه أيضا ، أبو علي محمد بن أحمد بن الجنيد ، الكاتب ، الإسكافي ، وهذا الرجل ، جليل القدر ، كبير المنزلة ، صنّف وأكثر ، ذكره في كتابه ، مختصر الأحمدي للفقه المحمدي ، وانما قيل له الإسكافي ، منسوب إلى إسكاف ، وهي مدينة النهروانات ، وبنو الجنيد ، متقدّموها قديما ، من أيام كسرى ، وحين ملك المسلمون العراق ، في أيام عمر بن الخطاب ، فأقرهم عمر على تقدّم المواضع ، والجنيد هو الذي عمل الشاذروان على النهروانات في أيام كسرى ، وبقيته إلى اليوم ، مشاهدة موجودة ، والمدينة يقال لها إسكاف بني الجنيد ، قد ذكره المرتضى رحمه اللّه ، في جمل العلم والعمل (1) الذي اختار فيه ، وحقق ، وعقد ، وجمل أصول الديانات ، وأصول الشرعيات.

والدليل على صحّة ذلك من وجوه كثيرة : أحدها ظاهر كتاب اللّه تعالى ، وهو قوله سبحانه ( وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (2) فكان ظاهر الخطاب في الزكاة ، متوجها إلى من توجّه إليه في الصلاة ، لاقترانهما في الظاهر ، واجتماعهما في معنى التوجّه بالاتفاق ، فلمّا بطل توجه الخطاب في الصلاة ، إلى المجانين والأطفال ، بطل توجهه إليهم في الزكاة ، كما بيّناه ، وقوله تعالى في الأمر لرسوله عليه السلام بأخذ الزكاة ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ) (3) والطفل لا ذنب له ، فتكون الصدقة تطهيرا له منه ، والمجنون لا جرم له ، فتكون التزكية كفارة له عنه ، وهذا بين بحمد اللّه ، لمن تدبره ، وترك تقليد ما يجده في بعض الكتب.

وأيضا فالخطاب في جميع العبادات ، ما توجّه ، إلا إلى البالغين ، المكلّفين ، بغير خلاف ، فمن أدخل من لا يعقل ، في الخطاب ، يحتاج إلى دليل ، فإن فزع إلى الإجماع ، فلا خلاف بين أصحابنا ، أنّ في المسألة خلافا بين أصحابنا ،

ص: 430


1- جمل العلم والعمل : المطبوع مع رسائل المرتضى ج 3 ص 74 فصل في شروط وجوب الزكاة.
2- البقرة : 110
3- التوبة : 103.

فبعض منهم ، يوجب الزكاة فيما عدا الدنانير والدراهم ، في أموال الأطفال ، والمجانين ، وبعض منهم لا يوجب ذلك ، والجميع متفقون على أنّه لا زكاة عليهم ، في الدنانير والدراهم ، وانّما اختلفوا فيما عدا الدنانير والدراهم ، فإذا فقدنا دليل الإجماع ، والأصل براءة الذمة من العبادات ، وانّما الخطاب لا يتوجه إلا إلى العقلاء ، وظاهر التنزيل من الآيتين المقدّم ذكرهما ، فلا معدل عن دليل الأصل ، وظاهر الكتاب إذا فقدنا الإجماع.

فإن قيل : فقد روي عن الرسول عليه السلام أنه قال : أمرت أن أخذ الصدقة ، من أغنيائكم ، فأردّها في فقرائكم (1). ولا خلاف أنّ الطفل ، والمجنون ، متى كان لهما مال ، فهما غنيان ، فيجب أخذ صدقتهما على كل حال.

فأوّل ما نقوله في ذلك ، أنّ هذا من أخبار الآحاد ، التي لا توجب علما ولا عملا ، على ما قدّمناه ، ثمّ لو سلمناه تسليم جدل ، قلنا : هذا دليل لنا على المسألة ، دون المخالف فيها ، لأنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، واجه بخطابه البالغين ولم يواجه الأطفال والمجانين فظاهر الكلام على هذا الترتيب ، لا ينصرف عن المواجهين إلى غيرهم إلا بدليل ، والدليل يمنع من خالف القوم في الوصف ، وفارقهم في المعنى ، لعدم كمال العقل ، لاستحالة إرادتهم بالمواجهة ، والتفهيم ، والمخاطبة ، ووجوب كون الداخل في المواجهة له ، من حكم جواب المخاطبة ، ما كان لمن قصدهم المخاطب بالمواجهة ، مع قوله تعالى في الأمر له بأخذ الصدقات ( خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها ) (2) والطفل لا ذنب له ، فتكون الصدقة تطهيرا له منه ، والمجنون لا جرم معه ، فتكون التزكية كفارة له عنه ، على ما أسلفنا القول في ذلك ، وشرحناه.

والملك شرط في الأجناس كلها وكذلك النصاب ، والسوم شرط في المواشي لا غير ، وحئول الحول شرط في المواشي ، والدراهم ، والدنانير ، لأنّ

ص: 431


1- مسند أحمد بن حنبل ج 1 ، ص 233 مضمون الخبر
2- التوبة : 103.

الغلات لا يراعى فيها حئول الحول ، فهذه شرائط الوجوب.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في جمله وعقوده (1) لا تجب الزكاة ، في الإبل إلا بشروط أربعة : الملك ، والنصاب ، والسوم ، وحئول الحول. وكذلك قال في البقر ، والغنم ، والذهب ، والفضة ، فإنّه قال : شروط زكاة الذهب والفضة أربعة : الملك ، والنصاب والحول ، وكونهما مضروبين دنانير ودراهم.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : الأظهر أن يزاد في شروط الإبل ، والبقر ، والغنم ، شرطان آخران ، وهما إمكان التصرف ، بلا خلاف بين أصحابنا ، وكمال العقل ، على الصحيح من المذهب ، على ما قدّمناه.

فأمّا الذهب والفضة ، فيزاد الشرطان ، بلا خلاف ، على رأي شيخنا (2) وعند جميع أصحابنا ، لأنّ الذهب ، والفضة ، إذا كانا للأطفال ، والمجانين ، فلا خلاف بين أصحابنا ، أنّ الزكاة غير واجبة فيهما ، عليهما ، فإذن لا بدّ من اعتبار شروط ستة ، في الذهب والفضة ، فليلحظ ذلك ، فما المعصوم إلا من عصمه اللّه ، فانّ الخواطر لا تحضر في كل وقت ، واللّه الموفق للصواب.

فأمّا شرائط الضمان ، فاثنان : الإسلام ، وإمكان الأداء ، لأنّ الكافر وإن وجبت عليه الزكاة ، لكونه مخاطبا بالعبادات كلّها ، عندنا ، فلا يلزمه ضمانها إذا أسلم ، وإمكان الأداء ، لا بدّ منه ، لأنّ من لا يتمكن من الأداء ، وإن وجبت عليه ، ثمّ هلك المال ، لم يكن عليه ضمان ، ونحن نذكر الجميع ، في فصل ، ثمّ نذكر لكل جنس من ذلك ، بابا مفردا ، إن شاء اللّه.

فصل في الأصناف التي تجب فيها الزكاة على الجملة وكيفيّة ذلك

فرض الزكاة يتعلّق بثلاثة أصناف : الأموال الصامتة ، والحرث ، والأنعام.

ص: 432


1- الجمل والعقود : كتاب الزكاة فصل في زكاة الإبل ، بزيادة ( وحئول الحول )
2- في ط وج : شيخنا.

فأمّا فرض زكاة الصامتة ، فيختص بكل حر ، بالغ ، كامل العقل ، بشرط أن يكون الصامت ، بالغا نصابه ، حائلا عليه الحول ، من غير أن يتخلله نقصان ، ولا تبدلت (1) أعيانه ، متمكنا مالكه من التصرّف فيه ، بالقبض أو الاذن ، فإذا تكاملت هذه الشروط ، وبلغ العين عشرين مثقالا ، والورق مائتي درهم ، مضروبة ، منقوشة ، للتعامل ، فإذا تكسرت هذه المضروبة دنانير ودراهم ، وصارت قراضة ، فحكمها حكم الدنانير والدراهم ، لأنّها ليست حليا ، ولا سبائك ، وقد ذكر هذا شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة ، في زكاة الغنم (2).

ففي العين نصف دينار ، وفي الورق خمسة دراهم ، ولا شي ء فيما زاد على ذلك ، حتى تبلغ زيادة العين أربعة دنانير ، وزيادة الورق أربعين درهما ، فيكون في تلك عشر دينار ، وفي هذه درهم ، ثمّ على هذا الحساب بالغا ما بلغ العين والورق من كل عشرين مثقالا نصف مثقال ، ومن كل أربعة دنانير ، بعد العشرين عشر مثقال ، وفي كلّ مائتي درهم خمسة دراهم ، ومن كل أربعين درهما درهم ، ولا زكاة فيما بين النصابين.

ومن مسنون الزكاة تزكية البضائع ، إذا حال عليها الحول ، وهي تفي برأس المال ، أو زيادة ، تحسب ما ابتيعت به ، من عين أو ورق ، كزكاة العين والورق ، ومن ذلك أن يقرر ذو المال ، على ماله في كل جمعة ، أو في كل شهر ، شيئا معينا ، يخرجه في أبواب البرّ ، ومن ذلك افتتاح النهار ، وختامه بالصدقة ، وافتتاح السفر ، والقدوم منه بها ، وإعطاء السائل ، ولو بشق تمرة ، واصطناع ذوي اليسار الطعام في كلّ يوم ، أو كلّ جمعة ، أو كلّ شهر لذوي الفاقة من المؤمنين ، وتفقد مخلّفي المؤمن ، في غيبته ، وبعد وفاته ، وقرض ذي الحاجة ، وإنظاره إلى ميسرة وتحليل المؤمن بعد وفاته ، ممّا في ذمّته من الدين ، والتكفل به لمدينه.

ص: 433


1- في ج ط : أن تتبدّل.
2- المبسوط : كتاب الزكاة ، فصل في زكاة الغنم ، ص 201 ( ولا يخفى ان ما يوجد فيه لا يكون بعين ما ذكره ).

وأمّا فرض زكاة الحرث ، فمختص بالحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، دون سائر ما تخرجه الأرض ، من الحبوب ، والثمار ، والخضر ، إذا بلغ كل صنف منها بانفراده ، خمسة أوسق ، والوسق ستون صاعا ، والصاع تسعة أرطال بالبغدادي ، يكون ذلك ألفين وسبعمائة رطل ، بأوزان بغداد ، على كل من وجب عليه زكاة الدراهم والدنانير ، على ما قدّمنا القول فيه ، وشرحناه ، وقوّيناه بالأدلة ، وأوضحناه ، بعد المؤن التي تنمي الغلة بها ، وتزيد ، ولها فيها صلاح ، إمّا من حفاظ ، أو زيادة ريع فيها ، وبعد حق المزارع ، وخراج السلطان ، إن كانت الأرض خراجيّة ، أن يخرج منه ، إن كان سقى حرثه سيحا ، أو بعلا ، أو عذبا ، العشر ، وإن كان سقى بالغرب ، والنواضح ، فنصف العشر ، وإن سقى بعض مدّة الحاجة سيحا ، وبعض تلك المدة بالنواضح ، والغروب ، زكّى بأكثر المدّتين ، فان تساوت مدة الشربتين زكّى نصفه بالعشر ، ونصفه بنصف العشر ، ويزكّى ما زاد على النصاب ، بزكاته ، ولو كانت حفنة واحدة ، ولا يلزم (1) تكرير الزكاة فيه ، وإن بقي في ملك مزكّيه أحوالا.

ومن مسنون صدقة الحرث ، أن يزكّي كل ما دخل المكيال ، من الحبوب (2) إذا بلغ كل جنس منها ، نصاب ما يجب فيه الزكاة ، وهو خمسة أوسق ، بالعشر ، أو نصف العشر ، فإن نقص عن ذلك ، تصدّق بما تيسر ، ومن ذلك الصدقة ، حين صرام النخل ، وقطاف الكرم ، وحصاد الزرع ، بالضغث من الزرع ، والضغثين ، والعذق بكسر العين ، والعذقين ، والعنقود من العنب ، والعنقودين ، فإذا صار الرطب تمرا ، والعنب زبيبا ، والغلة حبا ، وأراد المالك رفع ذلك ، تصدّق منه بالقبضة ، والقبضتين ، ومن ذلك إباحة عابر السبيل ، تناول اليسير ، مما تنبته الأرض ، من الثمار ، والمباطخ.

وأمّا فرض زكاة الأنعام ، فمتعين على كل من وجبت عليه زكاة الدنانير

ص: 434


1- في ط وج : ولا يلزمه
2- في ط : من الحبوب والثمار

والدراهم ، بشرط أن تكون سائمة ، ويبلغ كل جنس منها النصاب ، ويحول عليه الحول كاملا ، لا يتخلله نقصان ، ولا يتبدّل أعيانه ، ويكون المالك متمكنا من التصرف فيه طول الحول ، غير ممنوع منه بضلال ، أو اغتصاب ، ولكل منها حكم.

فأمّا الإبل فلا شي ء فيها ، حتى تبلغ خمسا ، ففيها شاة ، وفي عشر شاتان ، وفي خمس عشرة ثلاث شياه ، وفي عشرين ، أربع شياه ، وفي خمس وعشرين ، خمس شياه ، وفي ست وعشرين ، بنت مخاض ، وهي التي قد كملت حولا ، وسمّيت بصفة أمها المتمخضة بالحمل ، إلى خمس وثلاثين فإذا بلغت ستا وثلاثين ففيها بنت لبون ، وهي التي قد كملت حولين ، ودخلت في الثالث ، وسمّيت بأمها اللبون ، بأختها ، إلى خمس وأربعين فإذا بلغت ستا وأربعين ، ففيها حقة ، وهي التي قد كمل لها ، ثلاث سنين ، ودخلت في الرابعة ، وسمّيت بذلك من حيث يحق لها ، أن يطرقها الفحل ، ويحمل على ظهرها ، إلى ستين. فإذا بلغت احدى وستين ، ففيها جذعة بفتح الذال ، وهي التي قد كمل لها أربع سنين ، ودخلت في الخامسة ، إلى خمس وسبعين ، فإذا بلغت ستا وسبعين ، ففيها بنتا لبون إلى تسعين. فإذا زادت واحدة ، ففيها حقتان ، إلى مائة وعشرين. فإذا زادت على ذلك ، أسقط هذا الاعتبار ، واخرج من كل أربعين ، بنت لبون ، ومن كل خمسين حقة.

ومن وجبت عليه سن ، ولم تكن عنده ، وعنده أعلى منها بدرجة ، أخذت منه ، واعطي شاتين ، أو عشرين درهما فضة. وإن كان عنده أدنى منها بدرجة ، أخذت منه ، ومعها شاتان ، أو عشرون درهما. وقال بعض أصحابنا : وإن كان بينهما درجتان فأربع شياه. وإن كان ثلاث درج ، فست شياه ، أو ما في مقابلة ذلك ، من الدراهم ، وهذا ضرب من الاعتبار ، والقياس ، والمنصوص عن الأئمة عليهم السلام ، والمتداول من الأقوال ، والفتيا بين أصحابنا أنّ هذا الحكم فيما يلي السن ، الواجبة من الدرج ، دون ما بعد عنها ، وحكم البخت والنجب حكم الإبل العربية.

وأمّا زكاة البقر ، فلا شي ء فيها حتى تبلغ ثلاثين ، ففيها تبيع حولي ، أو

ص: 435

تبيعة ، مخيّر بين الذكر والأنثى ، في النصاب الأول في البقر (1) ، إلى تسع وثلاثين ، فإذا بلغت أربعين ، ففيها مسنة ، ثمّ على هذا ، بالغا ما بلغت.

ولا يجوز إخراج الذكران في النصاب الثاني من البقر ، إلا بالقيمة ، من كل ثلاثين تبيع أو تبيعة ، ومن كل أربعين مسنة ، وحكم الجواميس حكم البقر.

فأمّا زكاة الغنم ، فلا شي ء فيها حتى تبلغ أربعين ، فإذا بلغتها ، ففيها شاة ، إلى عشرين ومائة. فإذا زادت واحدة ، ففيها شاتان ، إلى مائتين. فإذا زادت واحدة ، ففيها ثلاث شياه ، إلى ثلاثمائة ، فإذا زادت على ذلك ، أسقط هذا الاعتبار ، وأخرج من كل مائة شاة ، بالغا ما بلغت الغنم ، وحكم المعز حكم الضّأن.

وقال بعض أصحابنا : إذا زادت الغنم على ثلاثمائة واحدة ، ففيها أربع شياه ، إلى أربعمائة. فإذا بلغت أربعمائة ، أسقط هذا الاعتبار ، واخرج من كل مائة شاة ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، والأول مذهب السيد المرتضى ، وشيخنا المفيد ، وسلار ، وغيرهم من المشيخة ، وهو الأظهر ، والأصح ويعضده أنّ الأصل براءة الذمة ، وأمّا الإجماع ، فغير منعقد على المسألة ، بل بين أصحابنا فيها خلاف ظاهر ، فما بقي إلا لزوم الأصول ، من حفاظ الأموال على أربابها ، وإخراجها من أيديهم يحتاج إلى دليل شرعي ، ويقوّي ذلك أيضا قوله تعالى : ( وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) (2). وقال شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه ، في جمله وعقوده ، في فصل زكاة الغنم : العفو خمسة ، أولها تسعة وثلاثون ، والثاني ثمانون ، والثالث أيضا ثمانون ، وهو ما بين مائة واحد وعشرين ، إلى مائتين وواحدة.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : هذا سهو منه رحمه اللّه ، ووهم في الحساب ، لأنّ العفو الثالث تسعة وسبعون ، ثمانون إلا واحدة ، والسبر بيننا وبينه ، لأنّ الحساب كما يقال ، عبد صالح ، وسلار في رسالته قد حقّق ذلك ، وقال :

ص: 436


1- ج : الأوّل الى
2- محمد : 36.

النصاب الثالث ، في الغنم ثمانون ، ونعم ما قال ، لأنّ تمام العفو الذي هو ثمانون إلا واحدة ، فإذا تمت واحدة ، صار ثمانين ، فكمل نصابا (1).

وقد يوجد في بعض نسخ الجمل والعقود (2) ، العفو الثالث ثمانون ، إلا واحدة ، وخط المصنّف بيده ، ثمانون ، من غير استثناء ، وقد استدرك شيخنا في مبسوطة على نفسه فقال : الثالث تسعة وسبعون (3). ونعم ما قال.

وقد روي أنّه لا يعدّ في شي ء من الأنعام ، فحل الضراب ، والأظهر أنّه يعدّ ، وذهب سلار من أصحابنا إلى أنّ الذكورة لا زكاة فيها ، وهذا القول لا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه ، لأنّه بخلاف الإجماع ، وما عليه عموم النصوص.

ولا يعدّ ما لم يحل عليه الحول ، في الملك متبع أو منتوج.

ولا زكاة فيما بين النصابين ، من الأعداد.

ولا تؤخذ ذات عوار ، ولا هرمة ، بل تؤخذ من أوساطها ، ولا يجوز أن يكون له أقلّ من سبعة أشهر ، إن كان من الضأن ، فإن كان من المعز فسنة ، وقد دخل في جزء من الثانية.

ولا يؤخذ الربى ، وهي التي تربي ولدها ، ومثل الربى من الضأن ، الرغوث (4) ومن بنات آدم النفساء.

ولا يؤخذ المخاض ، وهي الحامل ، ولا الأكولة ، وهي السمينة المعدّة للأكل ، ولا يؤخذ الفحل ، وأسنان الغنم.

أوّل ما تلد الشاة ، يقال لولدها سخلة ، ذكرا كان أو أنثى ، في الضأن والمعز سواء ، ثم يقال بعد ذلك بهمة ، ذكرا كان أو أنثى ، فهما سواء ، فإذا بلغت أربعة أشهر ، فهي من المعز ، جفر بالجيم المفتوحة ، والفاء المسكنة ، والراء غير المعجمة ،

ص: 437


1- ج : يكمل نصابا.
2- والنسخة هي التي بأيدينا اليوم اعنى المطبوع من قبل مؤسسة النشر الإسلامي بقم المشرفة.
3- المبسوط : كتاب الزكاة ، فصل في زكاة الغنم ، ص 199
4- في ط وج : الرغوث من المغر.

للذكر والأنثى جفرة ، وجمعها جفار ، فإذا جازت أربعة أشهر ، فهي العتود ، وعريض ، ومن حين تولد ، إلى هذه الغاية ، يقال لها عناق للأنثى ، وللذكر جدي ، فإذا استكمل سنة ، ودخل في جزء من الثانية ، فالأنثى عنز ، والذكر تيس.

ومن مسنون صدقة الأنعام ، أن يجعل من أصوافها ، وأوبارها ، وإشعارها ، وألبانها ، قسط للفقراء ، ويمنح الناقة ، والشاة ، والبقرة الحلوبة ، من لا حلوبة له ، ويعان بظهر الإبل ، وأكتاف البقر ، على الجهاد ، والحجّ ، والزيارة ، من لا ظهر له ، ويسعد بذلك الفقراء ، على مصالح دينهم ، ودنياهم.

ومن وكيد السنة أن تزكى ، إناث الخيل السائمة ، بعد حئول الحول ، عن كلّ فرس عتيق ديناران ، وعن كل هجين دينار.

وذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجزء الأوّل من مسائل خلافه. مسألة المتولد بين الظباء والغنم إن كان يسمّى غنما ، اخرج منه ، وإن كان لا يسمّى غنما ، لا يخرج منه ، الزكاة ، ثم قال في استدلاله ، وقد قيل إن الغنم المكية ، آباؤها الظباء ، وتسمية ما لولد بين الظباء والغنم ، رقل ، وجمعه رقال ، لا يمتنع من تناول اسم الغنم له ، فمن أسقط عنها الزكاة ، فعليه الدلالة (1) هذا آخر المسألة.

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب رحمه اللّه : ما وجدت في كتب اللغة ، في الذي يبنى من الراء والقاف واللام ، ولا الراء والفاء واللام ، ولا الزاء والقاف واللام ، ولا الزاء والفاء واللام ، ما يقارب ما ذكره شيخنا ، وأظنّ هذه الصورة ، جرى فيها تصحيف ، أو طغيان قلم ، إمّا من الكتاب الذي نقلت منه ، أو من النساخ ، لخلل في نظام الكتابة ، وقصور فيها ، فرأى الكاتب النون منفصلة من القاف ، والدال كان فيها طول ، فظنّها لاما وظنّ النون المنفصلة عن القاف راء فكتبها رقل ، وانّما هي نقد ، محركة القاف ، والنقد بالتحريك ،

ص: 438


1- الخلاف : كتاب الزكاة ، في زكاة الغنم ، مسألة 32.

والدال غير المعجمة ، جنس من الغنم ، قصار الأرجل ، قباح الوجوه ، يكون بالبحرين ، هكذا ذكره الجوهري ، في كتاب الصحاح ، وغيره من أهل اللغة ، وقال ابن دريد في الجمهرة : دقال الغنم ، صغارها يقال شاة دقلة ، على وزن فعلة ، إذا كانت صغيرة ، بالدال غير المعجمة المفتوحة ، والقاف ، وهذا أقرب إلى تصحيف الكلمة ، والأول هو الذي يقتضيه ظاهر الكلام ، فعلى قول ابن دريد في الجمهرة ، يكون الناسخ ، قد قصّر مدّه الدال الفوقانية ، فظنها راء وهذا وجه التصحيف.

والزكاة على ضربين ، مفروض ومسنون ، وكلّ واحد منهما ، ينقسم قسمين ، فقسم منهما ، زكاة الأموال ، والثاني زكاة الرءوس ، وهي المسمّاة بزكاة الفطرة ، فأمّا زكاة المال ، فيحتاج في معرفتها إلى ستة أشياء ، أحدها معرفة وجوب الزكاة ، والثاني معرفة من تجب عليه ، ومن لا تجب ، والثالث معرفة ما تجب فيه الزكاة ، وما لا تجب ، والرابع معرفة المقدار الذي تجب فيه ، ومعرفة مقدار ما لا تجب ، والخامس معرفة الوقت الذي تجب فيه ، والسادس معرفة من يستحق ذلك ، ومقدار ما يعطى من أقلّ وأكثر.

وأمّا زكاة الرءوس ، فيحتاج فيها أيضا إلى معرفة ستة أشياء ، أحدها معرفة وجوبها ، والثاني معرفة من تجب عليه ، والثالث معرفة ما يجوز إخراجه وما لا يجوز ، والرابع معرفة مقدار ما يجب ، والخامس معرفة الوقت الذي تجب فيه ، والسادس من المستحق لها ، وكم أقلّ ما يعطى ، وأكثر ، وليس يكاد يخرج عن هذه الضروب ، شي ء ممّا يتعلّق بأبواب الزكاة ، ونحن نأتي عليها قسما قسما ، ونستوفيه على حقّه إن شاء اللّه تعالى.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه : مسألة : ذهب الشافعي ، إلى أنّ لجام الدابة ، لا يجوز أن يكون محلّى بفضة ، وهو حرام ، ثمّ أورد أقوال أصحاب الشافعي ، قالوا : المصحف لا يجوز أن يحلّيه بفضة ، وأمّا تذهيب المحاريب ، وتفضيضها ، قال أبو العباس : ممنوع منه ، وكذلك قناديل

ص: 439

الفضة والذهب ، قال والكعبة وسائر المساجد في ذلك سواء ، قال شيخنا أبو جعفر : لا نص لأصحابنا ، في هذه المسائل ، غير أنّ الأصل الإباحة ، فينبغي أن يكون ذلك مباحا (1).

قال محمّد بن إدريس : هذه المسائل ، بعضها منصوص على تحريمها ، والبعض الآخر معلوم تحريمه على الجملة ، لأنّه داخل في الإسراف ، والإسراف فعله محرّم بغير خلاف ، وأمّا تفضيض المحاريب ، فلا خلاف بيننا في أنّ ذلك لا يجوز ، وأنّه حرام ، وان تزويق المساجد ، وزخرفتها لا يجوز ، منصوص على ذلك ، عن الأئمة عليهم السلام ، قد أورد ذلك شيخنا في نهايته (2) ، وغيره من أصحابنا في كتبهم ، وان اتخاذ الأواني والآلات من الفضة والذهب ، عندنا محرم ، لأنّه من السرف ، والقناديل أواني ، وحلة المصحف ، ولجام الدابة ، من السرف أيضا ، وإن ذلك غير مشروع ، ولو كان جائزا لنقل ، كما نقل أمثاله من المباحات ، مثل الخاتم الفضة ، والمنطقة ، وحلية السيف ، فليلحظ ذلك ، ويتأمل.

ثمّ انّ شيخنا قال في مسألة قبل هذه : إذا كان له لجام لفرسه محلّى بذهب أو فضة ، لم تلزمه زكاته ، واستعمال ذلك حرام ، لأنّه من السرف (3) فلتلحظ المسألة في مسائل خلافه ، ويحصّل ما قلناه.

باب وجوب الزكاة ومعرفة من تجب عليه

الزكاة المفروضة في شريعة الإسلام واجبة ، بدليل القرآن ، وإجماع المسلمين على كلّ مكلف حر ، رجلا كان أو امرأة ، وهم ينقسمون قسمين ، قسم منهم إذا لم يخرجوا ما يجب عليهم الزكاة ، كان ثابتا في ذممهم ، وهم جميع من هو على ظاهر الإسلام.

ص: 440


1- الخلاف : كتاب الزكاة ، في استعمال الذهب والفضة وأخذ الآلات والأواني منها ، مسألة 102
2- النهاية : كتاب الصلاة ، باب فضل المساجد والصلاة فيها.
3- الخلاف : كتاب الزكاة ، مسألة 91.

والقسم الآخر متى لم يخرجوا ما يجب عليهم من الزكاة ، لم يلزمهم قضاؤه ، وهم جميع من خالف الإسلام ، فإنّ الزكاة ، وإن كانت واجبة عليهم عندنا ، هي وباقي العبادات واجبة ، لأنّهم مخاطبون بالشرعيات ، فإذا لم يخرجوا الزكاة لكفرهم ، فمتى أسلموا لا تجب عليهم إعادتها.

وأمّا المجانين ، ومن ليس بكامل العقل ، فلا يجب عليهم شي ء ، من الزكوات ، على ما مضى شرحنا لذلك ، وحكم الأطفال ، حكم من ليس بعاقل من المجانين ، ومن ليس بكامل العقل ، فإنّه لا يجب في أموالهم الصامتة ، وغير الصامتة ، على ما اخترناه الزكاة.

فإن اتجر متجر بأموالهم نظرا لهم ، روي (1) أنّه يستحب له ، ان يخرج من أموالهم الزكاة ، وجاز له أن يأخذ من أموالهم ما يأكله قدر كفايته ، وإن اتجر لنفسه دونهم ، وكان في الحال متمكنا من ضمان ذلك المال ، كانت الزكاة عليه ، والربح له ، فإن لم يكن متمكنا في الحال ، من مقدار ما يضمن به مال الطفل ، وتصرّف فيه لنفسه ، من غير وصية ، ولا ولاية ، لزمه ضمانه ، وكان الربح لليتيم ، ويخرج منه الزكاة ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في نهايته (2) وهذا غير واضح.

ولا يجوز لمن اتجر في أموالهم ، أنّ يأخذ الربح ، سواء كان في الحال متمكنا من مقدار ما يضمن به مال الطفل ، أو لم يكن ، والربح في الحالين معا ، لليتيم.

ولا يجوز للوليّ والوصيّ أن يتصرّف في المال المذكور ، إلا بما يكون فيه صلاح المال ، ويعود نفعه إلى الطفل ، دون المتصرف فيه ، وهذا هو الذي يقتضيه أصل المذهب ، فلا يجوز العدول عنه بخبر واحد ، لا يوجب علما ولا عملا ، وانّما

ص: 441


1- الوسائل : الباب 2 من أبواب من تجب عليه الزكاة ومن لا تجب عليه.
2- النهاية : كتاب الزكاة ، باب معرفة وجوب الزكاة ومعرفة من تجب عليه.

أورده رحمه اللّه إيرادا لا اعتقادا.

باب ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب وما يستحب فيه الزكاة

الذي تجب فيه الزكاة ، فرضا لازما عند أهل البيت عليهم السلام تسعة أشياء : الذهب والفضة إذا كانا مضروبين ، دنانير ودراهم ، منقوشين للتعامل ، فإذا كانا سبائك ، أو حليا ، فلا يجب فيهما الزكاة ، سواء قصد صاحبهما الفرار بهما من الزكاة أو لم يقصد.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : متى فعل ذلك قبل حال وجوب الزكاة ، استحب له أن يخرج منهما الزكاة ، وإن جعله كذلك بعد دخول الوقت لزمته الزكاة على كل حال (1). قوله رحمه اللّه : وإن جعله كذلك بعد دخول الوقت لزمته الزكاة على كل حال ، هذا لا خلاف فيه بين المسلمين ، وانّما الخلاف في جعله كذلك قبل دخول الوقت ، فذهب فريق من أصحابنا إلى أنّ الزكاة واجبة عليه بالفرار ، وقال فريق منهم لا تجب ، وهو الأظهر الذي يقتضيه أصول المذهب ، وهو انّ الإجماع منعقد على انه لا زكاة إلا في الدنانير والدراهم ، بشرط حئول الحول ، والسبائك والحلي ليسا بدنانير ودراهم ، والإنسان مسلّط على ماله ، يعمل فيه ما شاء ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته. وقال في جمله وعقوده (2) بخلاف ذلك.

وذهب سيدنا المرتضى رحمه اللّه ، إلى أنّه لا زكاة في ذلك ، ذهب إليه في الطبريات ، في مسألة ذكر الشفعة ، وقال : إذا فرّ الرجل بسهامه من دار ، فوهبها له ، ولم يأخذ منه عن ذلك ثمنا ، وأعطاه ذلك الموهوب له شيئا ، على سبيل

ص: 442


1- النهاية : كتاب الزكاة ، باب ما تجب فيه الزكاة وما لا تجب.
2- الجمل والعقود : كتاب الزكاة ، فصل 8 في ذكر ما يستحب فيه الزكاة.

الهدية ، والهبة ، سقط حق الشفعة عن هذا الموهوب ، لأنّه عقد بغير عوض ، ولم يلزمه فيه الشفعة ، بخروجه عن الصفة التي يستحق معها الشفعة.

فإن قال : ألستم تروون أنّ من فر من الزكاة ، بأن سبك الدراهم والدنانير سبائك ، حتى لا تلزمه الزكاة ، وما جرى هذا المجرى ، من فنون الهرب ، من الزكاة ، فإن الزكاة تلزمه ، ولا ينفعه هربه.

قلنا : ليس يمتنع أن يكون لزوم الزكاة من هرب من الزكاة ، لسبك السّبائك ، وما أشبهها ، لم يجب عليه بالسبب الأوّل الذي يجب له فيه الزكاة في الأصل ، لأنّ الزكاة لا تجب عندنا فيما ليس بمضروب من العين والورق ، وأن تكون الزكاة انّما تلزمه هاهنا عقوبة على فراره من الزكاة ، لا لأنّ هذه العين في نفسها تستحق الزكاة فيها ، ويمكن أن يكون ما ورد من الرواية في الأمر بالزكاة لمن هرب من الزكاة ، هو على سبيل التغليظ والتشديد ، لا على سبيل الحتم والإيجاب (1) هذا آخر كلام السيد المرتضى.

والإبل ، والبقر ، والغنم ، والحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، وكل ما عدا هذه التسعة الأجناس فإنّه لا تجب فيه الزكاة.

ولا زكاة على مال غائب ، إلا إذا كان (2) صاحبه متمكنا منه ، اي وقت شاء ، بحيث متى رامه قبضه ، فإن كان متمكنا منه ، لزمته الزكاة ، وقد وردت الرواية : إذا غاب عنه سنين ، ولم يكن متمكنا ، منه فيها ، ثم حصل عنده ، يخرج منه زكاة سنة واحدة (3) وذلك على طريق الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب.

وقال بعض أصحابنا : زكاة الدين إن كان تأخّره من جهة من هو عليه ، فالزكاة لازمة له ، وإن كان تأخّره من جهة من هو له ، فزكاته عليه.

وقال الآخرون من أصحابنا : زكاته على من هو عليه على كل حال ، ولم

ص: 443


1- رسائل الشريف المرتضى : ج 1 ص 226 مسألة (6) من المسائل الطبريات ذكرها مختصرا.
2- في ط وج : إذا لم يكن
3- الوسائل : الباب 6 من أبواب الزكاة ، ح 12 و 13.

يفرّق بالفرق الذي فرّقه الأولون ، فمن جملة من قال بهذا ، ابن أبي عقيل ، في كتابه الموسوم ، بكتاب المتمسك بحبل آل الرسول ، فإنّه قال : ولا زكاة في الدين ، حتى يرجع إلى صاحبه ، فإذا رجع إليه فليس فيه زكاة ، حتى يحول عليه الحول في يده ، وزكاة الدين على الذي عليه الدين ، وإن لم يكن له مال غيره ، إذا كان مما تجب فيه الزكاة ، إذا حال عليه الحول في يده ، بذلك جاء التوقيف عنهم عليهم السلام. ثمّ قال : ومن استودعه ماله ، وجب عليه زكاته ، إذا حال عليه الحول ، إذا كان ممّا تجب فيه الزكاة ، فإن قيل : فلم لا قلتم في الدين ، كما قلتم في المال المستودع ، إذا كان لك على رجل دين ، وهو عندك ممّن إذا اقتضيته ، أعطاك. قال : قيل له : الفرق بينهما ، أنّ الدين مال مجهول العين ، ليس بقائم ، ولا مشار إليه ، ولا زكاة في مال هذا سبيله ، والوديعة ، سبيلها سبيل ما في منزلي يتولى أخذها بعينها ، وحرام على المستودع الانتفاع بها وإن ضاعت لم يضمن ، وليس له أن يتصرف فيها ، وليس كذلك الدّين ، هذا آخر كلام الحسن بن علي بن أبي عقيل رحمه اللّه. وكان من جلّة أصحابنا المصنّفين المتكلّمين ، والفقهاء المحصلين ، قد ذكره شيخنا أبو جعفر ، في فهرست المصنّفين ، وأثنى عليه ، وذكر كتابه ، وكذلك شيخنا المفيد كان يثني عليه.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وإلى هذا القول ، والمذهب أذهب ، لوضوحه عندي ، ولأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن أوجب الزكاة على مال ليست أعيانه في ملكه ، يحتاج إلى دليل ، وهذا يدل على ما ننبّه عليه ، من فساد بيع الدين ، إلا على من هو عليه.

وإلى ما اخترناه ، ذهب شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في كتاب الإستبصار ، فإنّه قال : لا زكاة في الدين ، حتى يقبضه صاحبه ، ويحول بعد ذلك عليه الحول (1). بخلاف قوله في جمله وعقوده (2).

ص: 444


1- الاستبصار : باب 12 من أبواب الزكاة
2- الجمل والعقود : فصل من كتاب الزكاة.

وإلى هذا يذهب أبو علي بن الجنيد في الأحمدي ، ومال القرض ، ليس فيه زكاة على المقرض ، بل يجب على المستقرض ، إن تركه بحاله حتى يحول عليه الحول ، بغير خلاف ، بين أصحابنا في مال القرض ، وإن تصرف فيه بتجارة وما أشبهها ، لزمه الزكاة استحبابا ، إذا طلب برأس المال ، أو الربح.

ولا تجب في عروض التجارة الزكاة ، لا منها ولا من قيمتها ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، فإنّ قوما منهم يذهبون إلى وجوب الزكاة ، فيها ، يقوّمونها ذهبا وفضة ، ويخرجون من القيمة ، إذا حال الحول ، والأظهر من المذهب الأول ، وقد روي (1) أنّه إن طلبت أمتعة التجارة من صاحبها بوضيعة ، فلا زكاة عليه ، وإن طلبت بربح أو برأس المال ، فأخّر بيعها ، فعليه الزكاة وهي سنّة مؤكدة ، غير واجبة.

وكل ما يدخل الميزان والمكيال ، ما عدا الفواكه ، والخضر ، من الحبوب ، وغيرها ، مثل الدخن ، والذرة ، والقرطمان ، والأرز ، والسمسم ، والباقلاء ، والفول ، وهو الباقلاء والجلبان وهو الماش ، والجلجلان ، وهو السمسم ، وقال بعض أهل اللغة : هو الكربزة ، والدجر بالدال المفتوحة غير المعجمة ، والجيم المسكنة ، والراء غير المعجمة ، وهو اللوبيا ، والفث ، بالفاء المفتوحة ، والثاء المنقطة ، فوقها ثلاث نقط ، وهو برر الأشنان (2). والثفاء ، بالثاء المنقطة ، فوقها ثلاث نقط المضمومة ، والفاء وهو الخردل ، وبرز قوطنا ، وحبّ الرشاد ، والجزر ، والترمس ، وهو الباقلي المصري ، وبرز الكتان ، والقطنية وهو ما يقطن في البيوت من الحبوب ، ( مثل العدس ، والحمص ) بكسر القاف ، وتسكين الطاء ، وما أشبه ذلك ، يستحب أن يخرج منه الزكاة ، سنة مؤكدة ، إذا بلغ مقادير ما يجب فيه الزكاة من الغلات.

وأمّا الإبل ، والبقر ، والغنم ، فليس في شي ء منها زكاة إلّا إذا كانت سائمة ،

ص: 445


1- الوسائل : لا يوجد بعين ما ذكره نعم في باب 13 من أبواب الزكاة من كتاب الوسائل ، وفي باب 12 من أبواب الزكاة من مستدرك الوسائل يوجد ما يدل عليه.
2- ج : وهو الأشنان.

طول الحول بكماله ، ولا يعتبر الأغلب في ذلك.

ولا زكاة في شي ء من العوامل ، ولا المعلوف (1) ، فإن كانت المواشي معلوفة أو للعمل في بعض الحول ، وسائمة في بعضه ، حكم بالأغلب ، فإن تساويا فالأحوط إخراج الزكاة ، هذا قول شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (2) ومسائل خلافه (3) ، ثمّ قال في أثناء ذلك في مبسوطة : وإن قلنا لا تجب فيها الزكاة ، كان قويا ، لأنّه لا دليل على وجوب ذلك في الشرع والأصل براءة الذمة.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : نعم ما قال شيخنا أخيرا ، فإن ما قوّاه هو الصحيح الذي لا يجوز خلافه ، وما قاله في صدر المسألة ، أضعف وأوهن من بيت العنكبوت.

وحكم الجواميس ، حكم البقر ، على ما قدّمناه ، وكذلك حكم المعز ، حكم الضأن ، وقد قدّمنا أيضا ذلك.

وأمّا الخيل ، ففيها الزكاة مستحبة ، بشرط أن تكون إناثا سائمة ، لا يلزم مالكها عنها مئونة ، فإن لزمته عنها مئونة ، فليس فيها شي ء مستحب.

وما تجب فيه الزكاة على ضربين ، منه ما يعتبر مع ملك النصاب ، حول الحول عليه ، وهو الدنانير ، والدراهم ، والإبل ، والبقر ، والغنم ، وما عدا ذلك لا اعتبار للحول فيه ، بل بلوغ حد النصاب فيه.

ويجوز إخراج القيمة عندنا في الزكاة ، دون العين المخصوصة ، فأمّا الكفارات فلا يجوز إخراج القيم فيها.

باب المقادير التي تجب فيها الزكاة وكمية ما تجب

أمّا الذهب ، فليس في شي ء منه زكاة ، ما لم يبلغ عشرين مثقالا ، فإذا بلغ

ص: 446


1- في ط وج : المعلوفات
2- المبسوط : كتاب الزكاة ، فصل في زكاة البقر ، باختلاف يسير.
3- الخلاف : كتاب الزكاة ، ذيل مسألة 14 ، والعبارة هكذا : ولا على العوامل شي ء ، إنما الصدقة على السائمة الراعية.

ذلك ، على الصفة المتقدّم بيانها ، كان فيه نصف دينار.

وقال بعض أصحابنا ، وهو ابن بابويه ، في رسالته : إنّه لا يجب في الذهب الزكاة ، حتى يبلغ أربعين مثقالا (1). وهذا خلاف إجماع المسلمين ، ثمّ ليس فيه شي ء ، ما لم يزد أربعة دنانير ، على العشرين الأوّلة ، فإذا أزاد ذلك كان فيه قيراطان ، مضافان إلى ما في العشرين دينارا ، وهو نصف دينار ، ثمّ على هذا الحساب ، في كل عشرين نصف دينار ، وفي كلّ أربعة بعد العشرين ، قيراطان بالغا ما بلغ الذهب.

وأمّا زكاة الفضة ، فليس فيها شي ء ، ما لم تبلغ مائتي درهم ، فإذا بلغت ذلك ، كان فيها خمسة دراهم ، ثم ليس فيها شي ء ، إلى أن تزيد أربعين درهما ، فإن زادت ذلك ، كان فيها درهم (2). ثم على هذا الحساب ، كلما زادت أربعين درهما كان فيها زيادة درهم ، بالغا ما بلغت ، وليس فيما دون الأربعين بعد المائتين شي ء من الزكاة.

وقال بعض أصحابنا : وإذا خلّف الرجل دراهم أو دنانير ، نفقة لعياله ، لسنة ، أو سنتين ، أو أكثر من ذلك ، وكان مقدار ما تجب فيه الزكاة ، وكان الرجل غائبا ، لم تجب فيها زكاة ، فإن كان حاضرا ، وجبت عليه الزكاة فيها ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (3) ، وهذا غير واضح بل حكمه حكم المال الغائب ، إن قدر على أخذه ، متى أراده ، بحيث متى رامه أخذه ، فإنّه يجب عليه فيه الزكاة ، سواء كان نفقة ، أو مودعا ، أو كنزه في كنز ، فإنّه ليس بكونه نفقة ، خرج من ملكه ، ولا فرق بينه وبين المال الذي له في يد وكيله ، ومودعه ، وخزانته ، وانّما أورده في نهايته إيرادا لا اعتقادا ، فإنّه خبر من أخبار الآحاد ، لا يلتفت إليه.

وأمّا زكاة الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، فعلى حد سواء ، وليس في

ص: 447


1- رسالة ابن بابويه : كتاب الزكاة ، فيما تجب فيه الزكاة ص 67 الطبع الحديث.
2- ق : كان فيها ستة دراهم.
3- النهاية : كتاب الزكاة ، باب المقادير التي يجب فيها الزكاة.

شي ء من هذه الأجناس زكاة ، ما لم يبلغ كل جنس منها على حدته ، خمسة أوسق ، ومبلغه الفان وسبعمائة رطل ، بالبغدادي ، بعد إخراج المؤن المقدّم ذكرها ، أولا ومقاسمة السلطان ، إن كانت الأرض خراجية ، فإذا بلغ ذلك ، كان فيه العشر ، إن كان سقى سيحا ، أو شرب بعلا ، والبعل الذي يشرب بعروقه ، فيستغني عن السقي ، يقال قد استبعل النخل ، قال أبو عمرو البعل ، والعذي واحد ، وهو ما سقته السماء ، وقال الأصمعي : العذي ما سقته السّماء ، والبعل ما شرب بعروقه من غير سقي.

وإن كان مما قد سقي بالغرب ، والدوالي ، والنواضح ، وما أشبه ذلك كان فيه نصف العشر.

وإن كان ممّا سقي سيحا ، وغير سيح ، اعتبر الأغلب في سقيه ، فإن كان سقيه سيحا أكثر ، كان حكمه حكم ما يؤخذ منه العشر ، وإن كان سقيه بالغرب والدوالي وما أشبههما أكثر ، كان حكمه حكمه ، يؤخذ منه نصف العشر ، فإن استويا في ذلك ، يؤخذ من نصفه بحساب العشر ، ومن النصف الآخر بحساب نصف العشر ، وما زاد على خمسة أوسق ، كان حكمه حكم الخمسة الأوسق ، في أن يؤخذ منه العشر ، أو نصف العشر ، قليلا كان أو كثيرا.

وأمّا زكاة الإبل ، فليس في شي ء منها زكاة إلى أن تبلغ خمسا. فإذا بلغت ذلك كان فيها شاة ، وليس فيما زاد عليها شي ء ، إلى أن تبلغ عشرا. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها شاتان ، وليس فيما زاد عليها شي ء ، إلى أن تبلغ خمس عشرة. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها ثلاث شياه ، ثم كذلك ليس فيها شي ء ، إلى أن تبلغ عشرين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها أربع شياه ، ثم كذلك ليس فيها شي ء ، إلى أن تبلغ خمسا وعشرين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها خمس شياه.

والشاة المخرجة عنها ، إن كانت من الضأن ، فأقل ما يجزي الجذع ، محركة الذال ، وهو الذي تمّ له سبعة أشهر ، وإن كانت من المعز ، فلا تجزي إلا ما تمّ له سنة ، ودخل في جزء من الثانية.

ص: 448

فإن زاد على خمس وعشرين واحدة ، كانت فيها بنت مخاض ، أو ابن لبون ، وليس فيها شي ء بعد ذلك ، إلى أن تبلغ خمسا وثلاثين ، وتزيد واحدة ، فإذا بلغت ذلك ، كان فيها بنت لبون ، وليس فيها شي ء ، إلى أن تبلغ ستا وأربعين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها حقة ، وليس فيما زاد عليها شي ء ، إلى أن تبلغ إحدى وستين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها جذعة ، محركة الذال ، ثمّ ليس فيها شي ء ، إلى أن تبلغ ستا وسبعين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها بنتا لبون ، ثمّ ليس فيها شي ء ، إلى أن تبلغ احدى وتسعين ، فإذا بلغت ذلك ، كان فيها حقّتان ، ثم ليس فيها شي ء إلى أن تبلغ مائة واحدى وعشرين. فإذا بلغت ذلك ، تركت هذه العبرة ، ويؤخذ من كل خمسين حقة ، ومن كل أربعين بنت لبون.

قال السيد المرتضى في انتصاره : إنّ الإبل ، إذا بلغت مائة وعشرين ، ثمّ زادت ، فلا شي ء في زيادتها ، حتى تبلغ مائة وثلاثين ، فإذا بلغتها ففيها حقّة واحدة. وابنتا لبون ، وأنّه لا شي ء في الزيادة ما بين العشرين والثلاثين (1) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

والذي تقتضيه أدلتنا ، وتشهد به أصول مذهبنا ، والمتواتر من الأخبار ، والإجماع منعقد عليه ، ما ذكره شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، فإنّه قال : مسألة : إذا بلغت الإبل مائة وعشرين ، ففيها حقتان ، بلا خلاف ، وإذا زادت واحدة ، فالذي يقتضيه المذهب ، أن تكون فيها ثلاث بنات لبون ، إلى مائة وثلاثين ، ففيها حقة وبنتا لبون ، إلى مائة وأربعين ، ففيها حقتان وبنت لبون (2) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

وهذا هو الصحيح المتفق عليه ، المجمع ، والسيد المرتضى ، قد رجع عمّا قاله ، في جواب الناصريات (3) ، وحقق ذلك ، وناظر الفقهاء على صحة مذهبنا.

ص: 449


1- الانتصار : كتاب الزكاة ، المسألة الخامسة.
2- الخلاف : كتاب الزكاة ، مسألة 3
3- الناصريات : كتاب الزكاة ، مسألة 119.

فإن كان الذي يجب عليه زكاة الإبل ، ليس معه عين ما يجب عليه ، جاز أن يعطي قيمته ، فإن لم يكن معه القيمة ، وكان معه من غير السن الذي وجب عليه ، جاز أن يؤخذ منه ، فإن كان دون ما يستحق عليه ، أخذ منه مع ذلك ما يكون تماما للذي وجب عليه. وإن كان فوق الذي يجب عليه ، أخذ منه وردّ عليه ما فضل له ، مثال ذلك ، انّه إذا وجبت عليه بنت مخاض ، وعنده ابن لبون ، أخذ منه ذلك نصا ، لا بالقيمة عندنا ، وليس عليه شي ء ، ولا له شي ء ، فإن كان عنده بنت لبون ، وقد وجبت عليه بنت مخاض ، أخذت منه ، وأعطاه المصدّق بتشديدة واحدة على الدال ، وهو العامل ، شاتين أو عشرين درهما. فإن كانت قد وجبت عليه بنت لبون ، وعنده بنت مخاض ، أخذت منه ، وأخذ معها شاتان ، أو عشرون درهما. وإذا وجبت عليه حقّة ، وليست عنده ، وعنده بنت لبون ، أخذت منه ، وأعطى معها شاتين ، أو عشرين درهما. وإن كانت قد وجبت عليه بنت لبون وعنده حقّة ، أخذت منه وردّ عليه شاتان أو عشرون درهما. وإذا أوجبت عليه جذعة ، وليست عنده ، وعنده حقّة ، أخذت منه وأعطى معها شاتين أو عشرين درهما. فإن وجبت عليه حقّة ، وعنده جذعة ، أخذت منه ، وردّ عليه شاتان ، أو عشرون درهما.

وأمّا زكاة البقر ، فليس في شي ء منها زكاة ، إلى أن تبلغ ثلاثين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها تبيع ، أو تبيعة ، وهو الذي تمّ له حول كامل ، ودخل في جزء من الثاني ، وهو مخيّر بين الذكر والأنثى ، ثمّ ليس فيما زاد عليها شي ء ، إلى أن تبلغ أربعين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها مسنة ، وهي التي تمّ لها سنتان ، ودخلت في جزء من الثالث ، ولا يجزي إلا الأنثى. وكل ما زاد على ذلك ، كان هذا حكمه ، في كل ثلاثين تبيع أو تبيعة ، وفي كل أربعين مسنّة ، بالغا ما بلغت.

وأمّا الغنم فليس فيها زكاة ، إلى أن تبلغ أربعين. فإذا بلغت ذلك ، كان فيها شاة ، ثمّ ليس فيها شي ء إلى أن تبلغ مائة وعشرين. فإذا بلغت ذلك ،

ص: 450

وزادت واحدة كان فيها شاتان ، إلى أن تبلغ مائتين. فإذا بلغت ذلك ، وزادت واحدة ، كان فيها ثلاث شياه ، إلى أن تبلغ ثلاثمائة. فإذا بلغت ذلك ، وزادت واحدة ، طرحت هذه العبرة ، وأخذ من كل مائة شاة ، بالغا ما بلغت على الصحيح من الأقوال ، على ما قدّمنا القول فيه.

ومن حصل عنده من كل جنس تجب فيه الزكاة ، أقل من النصاب الذي فيه الزكاة ، وإن كان لو جمع لكان أكثر من النصاب ، والنصابين ، لم يكن عليه شي ء ، حتى يبلغ كل جنس منه الحد الذي تجب فيه الزكاة.

ولو أنّ إنسانا ملك من المواشي ، ما تجب فيه الزكاة ، وإن كانت في مواضع متفرقة ، وجب عليه فيها الزكاة.

وإن وجد في موضع واحد من المواشي ، ما تجب فيه الزكاة لملاك جماعة ، لم يكن عليهم فيها شي ء على حال ، وقول الرسول عليه السلام للعامل : لا تجمع بين متفرق ، ولا تفرق بين مجتمع (1) يريد به ، لا تجمع بين متفرق في الأملاك ، حتى تأخذ منه الزكاة ، وقوله لا تفرق بين مجتمع يريد به في الملك ، حتى لا يأخذ منه الزكاة ، لا ما يذهب إليه المخالف.

ولا بأس أن يخرج الإنسان ما يجب عليه من الزكاة ، من غير الجنس الذي تجب فيه بقيمته ، وإن أخرج من الجنس كان أفضل.

باب الوقت الذي تجب فيه الزكاة

لا زكاة في الذهب والفضة ، حتى يحول عليهما الحول ، بعد حصولهما في الملك ، فإن كان مع إنسان مال ، أقل مما تجب فيه الزكاة ، ثمّ أصاب تمام

ص: 451


1- لم نجد حديثا بهذه العبارة في الوسائل والمستدرك لكن يوجد ما يدل عليه في باب 11 من أبواب زكاة الأنعام في الوسائل ، وفي باب 10 من أبواب زكاة الأنعام من المستدرك.

النصاب ، في وسط الحول ، فليس عليه فيه الزكاة ، حتى يحول على الجميع الحول. من وقت كمال النصاب ، وإذا استهل هلال الثاني عشر ، فقد حال على المال الحول ، ووجبت الزكاة في المال ليلة الهلال ، لا باستكمال جميع الشهر الثاني عشر ، بل بدخول أوّله.

فإن أخرج الإنسان المال عن ملكه ، أو تبدلت أعيانه ، سواء كان البدل من جنسه ، أو غير جنسه ، قبل استهلال الثاني عشر ، سقط عنه فرض الزكاة ، وإن أخرجه من ملكه بعد دخول الشهر الثاني عشر ، وجبت عليه الزكاة ، وكانت في ذمته ، إلى أن يخرج منه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في بعض تصنيفه : إنّه إن بادل بجنسه ، بنى على الحول المبدل ، وإن بادل بغير جنسه فلا يبنى على الحول المبدل ، والصحيح ما قلناه ، لأنّ هذه الطريقة ، تفريع المخالف ، ومقالته ، ذكره في المبسوط (1) ومسائل الخلاف (2) ، ومن المعلوم أنّه رحمه اللّه يذكر في هذا الكتاب ، أقوال المخالفين ولا يميز قولنا من قولهم ، فأمّا نصوص أصحابنا ، وكتبه كتب الأخبار ، وروايات أصحابنا ، فإنّه رحمه اللّه لم يتعرض فيها لشي ء من ذلك ، لأنّها خالية من ذلك ، وكذلك باقي أصحابنا المصنّفين ، لم يتعرضوا فيها لشي ء ، ولا أورده أحد منهم.

وأيضا إجماعنا ، بخلاف ما ذهب إليه في مبسوطة ، وأصول مذهبنا منافية لذلك ، لأنّهم عليهم السلام أوجبوا الزكاة في الأعيان ، دون غيرها من الذمم ، بشرط حئول الحول على العين ، من أوله إلى آخره ، فيما يعتبر فيه الحول ، ومن المعلوم أنّ عين البدل غير عين المبدل ، وانّ إحداهما لم يحل عليها الحول.

وأيضا الأصل براءة الذمة فمن شغلها بشي ء يحتاج إلى دليل.

ص: 452


1- المبسوط : ج 1 كتاب الزكاة ، فصل في زكاة الغنم ، ص 206.
2- الخلاف : كتاب الزكاة ، مسألة 63.

وأمّا الحنطة ، والشعير ، والتمر ، والزبيب ، فلها أحوال ثلاثة : حال تجب فيها ، ولا يجب الإخراج ، ولا الضمان. وحال تجب فيها ، ويجب الإخراج ، ولا يجب الضمان. وحال يجب فيها ، ويجب الإخراج ، ويجب الضمان.

فالحالة الأوّلة ، عند اشتداد الحب ، واحمرار البسر ، وانعقاد الحصرم ، فإنّه تجب فيها الزكاة ، ولا يجب الإخراج منها ، وإن حضر المستحق ، ولا يجب الضمان إن تلفت ، والذي يدلّ على أنّ الزكاة تجب فيها ، أنّ مالكها إذا باعها بعد بدوّ الصلاح ، فإنّ الزكاة عليه ، دون المشتري ، ولو باعها قبل بدوّ الصلاح ، كانت الزكاة على المشتري ، إذا بدا الصلاح فيها وهي على ملكه.

فأمّا الحالة الثانية ، فعند الذراوة ، والكيل ، والتصفية ، والجداد بفتح الجيم ، وبالدالين غير المعجمتين ، وبعض المتفقهة يقول بالذالين المعجمتين ، والأوّل قول أهل اللغة ، وإليهم المرجع في ذلك ، والصرام بشرط التشميس ، والوزن تمرا فإنّه يجب الإخراج إذا حضر المستحق ، ولا يجب الضمان إذا لم يحضر المستحق.

فأمّا الحالة الثالثة ، فإنّه إذا حضر المستحق ، ولم يعطه المالك ، وذهب المال فإنّه يجب عليه الضمان ، لأنّه يجب عند هذه الحالة ، الإخراج ، ويجب الضمان إذا لم يخرجها.

فإذا أخرج زكاة هذه الغلات ، والثمار الأربع ، فليس فيها بعد ذلك شي ء ، وان حال عليها حول وأحوال.

وأمّا الإبل ، والبقر ، والغنم ، فليس في شي ء منها زكاة ، حتى يحول عليها الحول ، من يوم يملكها وكل ما لم يحل عليها الحول ، من صغار الإبل ، والبقر ، والغنم ، لا يجب فيها الزكاة ، ولا يعد مع أمهاته ، ولا منفردا.

ولا يجوز تقديم الزكاة قبل دخول وقتها. فإن حضر مستحق لها ، قبل وجوب الزكاة جاز أن يعطى شيئا ، ويجعل دينا عليه ، وقرضا. فإذا جاء الوقت ، وهو على الصفة التي يستحق معها الزكاة ، احتسب بذلك من الزكاة إن شاء وإن كان قد استغنى بعينها ، فيجوز أن يحتسب بذلك من الزكاة ، وإن كان قد

ص: 453

استغنى بغيرها ، فلا يجوز أن يحتسب بذلك من الزكاة ، وكان على صاحب المال أن يخرجها من رأس ، مستأنفا.

وقال بعض أصحابنا (1) : وكان على صاحب المال أن يخرجها من الرأس ، والأولى عند أهل اللغة ، ان يقال من رأس بغير الف ولام ، ولا يقال من الرأس ، ويجعلونه فيما يخطى فيه العامة.

وإذا حال الحول ، فعلى الإنسان أن يخرج ما يجب عليه ، إذا حضر المستحق ، فإن أخّر ذلك ، إيثارا به مستحقا ، غير من حضر ، فلا إثم عليه بغير خلاف ، إلا أنّه إن هلك قبل وصوله إلى من يريد إعطاؤه إياه ، فيجب على ربّ المال الضمان.

وقال بعض أصحابنا : إذا حال الحول ، فعلى الإنسان أن يخرج ما يجب عليه على الفور ، ولا يؤخّره ، فإن أراد على الفور ، وجوبا مضيّقا ، فهذا بخلاف إجماع أصحابنا ، لأنّه لا خلاف بينهم ، في أنّ للإنسان أن يخص بزكاته فقيرا دون فقير ، ولا يكون مخلا بواجب ، ولا فاعلا لقبيح ، وإن أراد بقوله على الفور ، يريد به أنّه إذا حضر المستحق ، فإنّه يجب عليه إخراج الزكاة ، فإن لم يخرجها طلبا وإيثارا بها لغير من حضر من مستحقها ، وهلك المال ، فإنّه يكون ضامنا وتجب عليه الغرامة للفقراء ، فهذا الذي ذهبنا إليه ، واخترناه.

فإن عدم المستحق له ، عزله من ماله ، وانتظر به المستحق ، فإن هلك بعد عزله ، من غير تفريط ، فلا ضمان ، ولا غرامة ، فإن حضرته الوفاة ، وصّى به أن يخرج عنه.

وما روي عنهم عليهم السلام ، من الأخبار ، في جواز تقديم الزكاة ، وتأخيرها (2) ، فالوجه فيه ما قدّمناه ، في أنّ ما تقدّم ، يجعل قرضا ، ويعتبر فيه ما ذكرناه ، وما يؤخر منه ، إنّما يؤخر انتظارا لمستحق ، فأمّا مع وجوده فالأفضل

ص: 454


1- وهو الشيخ رحمه اللّه في كتاب النهاية ، في باب الوقت الذي يجب فيه الزكاة.
2- الوسائل : كتاب الزكاة ، الباب 49 من أبواب المستحقين للزكاة.

إخراجه إليه على البدار ، هكذا أورده وذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، وهو الذي قال في هذا الباب : وإذا حال الحول ، فعلى الإنسان أن يخرج ما يجب عليه ، على الفور ولا يؤخّره.

قال محمّد بن إدريس : وقد ذكرنا ما عندنا في ذلك ، وتكلّمنا عليه قبل هذا ، والذي ذهب شيخنا إليه أخيرا ، هو الصحيح الذي يقتضيه الأدلة ، وظواهر النصوص والإجماع.

قال بعض أصحابنا في كتاب له : إذا أيسر من دفع إليه شي ء من الزكاة ، قبل وجوبها ، على جهة القرض ، ثمّ حال الحول ، وهو موسر ، فإن كان أيسر بغير ما دفع إليه من المال ، فلا يجوز لمن وجبت عليه الزكاة ، الاحتساب بها ، ولا يجزى عنه ، وإن كان أيسر واستغنى بما دفع إليه ، فإنّها تجزي عن دافع الزكاة.

قال محمّد بن إدريس : الذي يقتضيه الأدلة ، ويحكم بصحته النظر ، وأصول المذهب انّه إذا كان عند حئول الحول ، غنيا ، فلا يجزى عن الدافع ، لأنّ الزكاة لا يستحقها الغني ، سواء كان غناه بها ، أو بغيرها ، على كل حال ، لأنّه وقت الدفع والاحتساب غنى ، وله مال وهو القرض ، لأنّ المستقرض يملك مال القرض ، دون القارض بلا خلاف بيننا ، وهو حينئذ غني ، وعندنا أنّ من عليه دين ، وله من المال الذهب والفضة بقدر الدين ، وكان ذلك المال الذي معه نصابا ، فلا يعطى من الزكاة ، ولا يقال أنّه فقير يستحق الزكاة ، بل يجب عليه إخراج الزكاة مما معه ، لأنّ الدين عندنا لا يمنع من وجوب الزكاة ، لأنّ الدين في الذمة ، والزكاة في العين.

باب مستحق الزكاة وأقلّ ما يعطى منها وأكثر

الذي يستحق الزكاة ، هم الثمانية الأصناف الذين ذكرهم اللّه تعالى في

ص: 455


1- النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه الزكاة.

محكم التنزيل وهو قوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) (1).

فأمّا الفقير فهو الذي لا شي ء معه ، وأمّا المسكين فهو الذي له بلغة من العيش ، لا يكفيه طول سنته وقال بعض أصحابنا عكس ذلك ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (2) وقال في جمله وعقوده (3) وفاق ما ذهبنا إليه ، واخترناه ، وهكذا في مسائل خلافه (4) ، ومبسوطة (5) ، وهو الصحيح من أقوال أهل اللغة والفقهاء ، لأنّ بين الفريقين اختلاف في ذلك ، والذي يدل على صحّة ذلك قوله تعالى : ( أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ ) (6) فسماهم مساكين ، ولهم سفينة بحرية ، تساوي جملة من المال ، وهذا بخلاف ما يذهب إليه المخالف في المسألة ، وقوله تعالى : ( إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ ) ووجه الدلالة من الآية أنّ القرآن نزل على لسان العرب ، ولغتها ، ومذاهبها ، ومخاطباتها ، وموضوع كلامها ، والعرب تبدأ بالأهم فالأهم ، فلمّا كان الفقير أسوأ حالا من المسكين ، بدأ به تعالى ، ولا يلتفت إلى قول الشاعر :

أمّا الفقير الذي كانت حلوبته *** وفق العيال فلم يترك له سبد

لأنّه لا يجوز العدول عن الآيتين من القرآن إلى بيت شعر. وأيضا فالبيت المتمسك به ، ليس فيه دلالة على موضع الخلاف ، لأنّ كل واحد من الفقير والمسكين ، إذا ذكر على الانفراد ، دخل الآخر فيه ، وانّما يمتاز أحدهما عن الآخر ، ويحتاج إلى الفرق إذا اجتمعا في اللفظ ، وآيات القرآن جمعتهما في اللفظ.

وأمّا العاملون عليها ، فهم الذين يسعون في جباية الصدقات.

ص: 456


1- التوبة : 60
2- النهاية : كتاب الزكاة ، باب مستحق الزكاة.
3- الجمل والعقود : كتاب الزكاة فصل 11 من مستحق الزكاة.
4- الخلاف : ج 2 كتاب قسمة الصدقات مسألة 10.
5- المبسوط : كتاب الزكاة كتاب قسمة الزكاة والأخماس والأنفال ص 246
6- الكهف : 79.

وامّا المؤلّفة قلوبهم : فهم الذين يتألفون ، ويستمالون إلى الجهاد ، فإنّهم يعطون سهما من الصدقات ، مع الغنى ، والفقر ، والكفر ، والإسلام ، والفسق ، لأنّهم على ضربين مؤلفة الكفر ومؤلفة الإسلام.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : المؤلفة ضرب واحد وهي مؤلفة الكفر ، والأوّل مذهب شيخنا المفيد ، وهو الصحيح ، لأنّه يعضده ظاهر التنزيل ، وعموم الآية ، فمن خصصها يحتاج إلى دليل ، والعامل يعطى مع الغنى ، والفقر ، ولا يجوز أن يعطى مع الفسق ، ولا يكون من بني هاشم ، لأنّ عمالة الصدقات حرمها الرّسول عليه السلام على بني هاشم قاطبة ، لأنّهم لا يجوز لهم أن يأخذوا الصدقة المفروضة. وقال قوم : يجوز ذلك ، لأنّهم يأخذون على وجه العوض ، والأجرة ، فهو كسائر الإجارات ، والأول هو الصحيح ، لأنّ الفضل بن العبّاس ، والمطلب بن ربيعة ، سألا النبي ، صلّى اللّه عليه وعلى آله أن يوليهما العمالة فقال لهما : الصدقة ، انّما هي أوساخ الناس ، وانّها لا تحل لمحمد وآل محمد هذا إذا كانوا متمكنين من الأخماس ، فأمّا إذا لم يكونوا كذلك ، فإنّه يجوز لهم أن يتولوا الصدقات ، ويجوز لهم أيضا أخذ الزكوات الواجبات عند الحاجة والاضطرار.

فأمّا موالي بني هاشم ، فإنّه يجوز لهم أن يتولوا العمالة ، ويجوز لهم أن يأخذوا من الزكوات ، بلا عمالة.

وسهم المؤلفة والعمال ساقط اليوم ، لأنّ المؤلف انّما يتألفه الإمام ، ليجاهد معه ، والعامل انّما يبعثه الإمام ، لجباية الصدقات.

( وَفِي الرِّقابِ ) وهم العبيد عندنا ، والمكاتبون ، بغير خلاف ، ويعتبر فيهم الإيمان والعدالة.

والغارمون ، وهم الذين ركبتهم الديون ، في غير معصية ، ولا فساد.

( وَفِي سَبِيلِ اللّهِ ) ، وهو كل ما يصرف في الطريق التي يتوصل بها إلى رضى اللّه وثوابه ، ويدخل في ذلك الجهاد ، وغيره من جميع أبواب البر ، والقرب إلى

ص: 457

اللّه تعالى ، من معونة الحاج ، والزوار ، وتكفين الموتى ، وبناء المساجد ، والقناطر ، وغير ذلك.

وبعض أصحابنا ، يقصر السهم على الجهاد ، فحسب ، ذهب إلى ذلك شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في نهايته (1) والأظهر الأصح ، ما اخترناه أوّلا ، لأنّه يعضده ظاهر التنزيل ، وعموم الآية ، والمخصّص يحتاج إلى دليل ، وشيخنا أبو جعفر رجع عمّا في نهايته ، في مسائل خلافه (2) ، فقال بما قلناه ، واخترناه.

وابن السبيل ، وهو المنقطع به ، يقال المنقطع ، بفتح الطاء ، ولا يقال المنقطع بكسر الطاء ، في الأسفار ، ويكون محتاجا في الحال ، وإن كان له يسار في بلده وموطنه.

وقال بعض أصحابنا في كتاب له : إذا أقام هذا ، في بلد بنية المقام عشرة أيام ، خرج من أن يكون ابن سبيل. وهذا ليس بواضح ، وانّما يخرج من حكم المسافرين ، في تقصير الصوم والصلاة ، ولا يخرج من كونه ابن سبيل ، ولا منقطعا به ، لحاجته إلى النفقة إلى وطنه ، إلا أن يعزم على الاستطان في هذا البلد ، ويترك السفر إلى بلده ، ونزوعه إليه ، ويستوطن غيره ، فحينئذ يخرج من كونه ابن السبيل.

ويعتبر فيه الإيمان والعدالة ، وأن لا يقدر على الاكتساب ، بقدر ما ينهضه إلى بلده ومئونته.

وإذا كان الإمام ظاهرا أو من نصبه الإمام حاصلا ، فيستحب حمل الزكاة إليه ، ليفرّقها على هذه الأصناف الثمانية ، ويقسم بينهم على حسب ما يراه.

ولا يلزمه أن يجعل لكل صف ، جزء من ثمانية ، بل يجوز له تفضيل بعض منهم على بعض.

ص: 458


1- النهاية : كتاب الزكاة ، باب مستحق الزكاة.
2- الخلاف : ج 2 ، كتاب قسمة الصدقات ، مسألة 21.

وإذا لم يكن الإمام ظاهرا ، ولا من نصبه الإمام حاصلا ، فرقها الإنسان بنفسه ، على ستة أصناف ، ويسقط بعض السادس ، لا جميعه ، على ما حرّرناه وشرحناه.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) إذا لم يكن الامام ظاهرا ، ولا من نصبه الامام حاصلا ، فرقت الزكاة على خمسة أصناف ، من الذين ذكرناهم ، وهم الفقراء والمساكين ( وَفِي الرِّقابِ ) والغارمون وابن السبيل ، ويسقط سهم المؤلفة قلوبهم ، وسهم السعاة ، وسهم الجهاد ، وقد قلنا نحن ان السهم الذي هو في سبيل اللّه ، ليس هو مخصوصا بالجهاد ، على انفراده دون غيره من أبواب البر ، قال رحمه اللّه : لأنّ هؤلاء لا يوجدون إلا مع ظهور الإمام ، لأنّ المؤلّفة إنّما يتألفهم الإمام ليجاهدوا معه ، والسعاة إنّما يكونون أيضا من قبله في جمع الزكوات ، والجهاد أيضا انما يكون به أو بمن نصبه ، فإذا لم يكن ظاهرا ، ولا من نصبه ، فرّق فيمن عداهم.

والذين يفرق فيهم الزكاة اليوم ، ينبغي أن يحصل فيهم مع احدى الصفات الأصلية ، وهي المسكنة والفقر ، وكونه ابن سبيل ، وكونه غارما ، أن ينضاف خمس صفات أخر إلى الصفة الأصلية ، فتجتمع فيه ست صفات ، وهي الفقر ، والايمان ، والعدالة ، أو حكمهما (2) ، وأن لا يقدر على الاكتساب الحلال بقدر ما يقوم بأوده ، وسدّ خلّته وأود من يجب عليه نفقته ، والأود بفتح الواو ، الاعوجاج ، ولا يكون من بني هاشم ، مع تمكنهم من أخماسهم ، ومستحقاتهم ، ولا يكون ممن يجبر المعطى على نفقته ، وهم العمودان ، الإباء ، وإن علوا ، والأبناء وإن سفلوا ، والزوجة ، والمملوك ، فإن لم يكونوا كذلك ، فلا يجوز أن يعطوا منها شيئا ، فمن أدّى زكاته لغير من سمّيناه ، مع العلم بحاله ، فإنّه لا تبرأ ذمّته ، مما وجب عليه بغير خلاف ، ووجب عليه إخراجها ثانيا بغير خلاف أيضا ، وان لم يعرفه (3) فقد برئت ذمته ، وأخذها من أخذها حراما ، إذا علم انها من الزكاة ، وانه غير مستحق لها.

ص: 459


1- النهاية : كتاب الزكاة ، باب مستحق الزكاة ، وفي المصدر ( حاضرا ) بدل ( حاصلا ).
2- في ط : حكمها
3- ط : لم يعرفهم.

ولو أنّ مخالفا أخرج زكاته إلى أهل معتقده ، من الاسلاميين ، ثمّ استبصر ، وعاد إلى الحق ، كان عليه إعادة الزكاة ، دون سائر ما فعله من العبادات الشرعيات ، قبل رجوعه واستبصاره ، لأنّ الزكاة حق للآدميين ، وباقي العبادات حقّ لله تعالى ، وقد فعلها على ما كان يعتقده.

ولا بأس أن يعطى الزكاة أطفال المؤمنين ، سواء كان آباؤهم المؤمنون فسّاقا ، أو عدولا ، وكل خطاب دخل فيه المؤمنون ، دخل فيه من جمع بين الفسق والايمان ، وإلى هذا ذهب السيد المرتضى في الطبريات (1) وشيخنا أبو جعفر الطوسي في التبيان (2) ، وستراه محققا محرّرا في باب الوقوف من كتابنا هذا (3) إن شاء اللّه تعالى ، وهو الصحيح الذي لا خلاف فيه من محصّل.

ولا يجوز أن يعطى أطفال مخالفي الحق ، من سائر الأديان.

ومتى لم يجد من وجبت عليه الزكاة ، مستحقا لها في بلده ، وبعث بها إلى بلد آخر ، لتفرق هناك ، فاصيبت في الطريق ، وكان الطريق آمنا ، لم تظهر فيه أمارة الخوف ، فقد أجزأت عنه ، وإن كان قد وجد لها في بلده مستحقا ، فلم يعطه ، وآثر من يكون في بلد آخر ، كان ضامنا لها ، إن هلكت ، ووجب عليه إعادتها.

ومن وصي إليه بإخراج الزكاة ، أو اعطي شيئا منها ليفرّقه على مستحقه ، فوجده ولم يعطه من غير عذر أباح له التأخير ، ثمّ هلكت ، كان ضامنا للمال.

ولا تحل الصدقة الواجبة في الأموال لبني هاشم قاطبة ، قال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : وهم الذين ينتسبون إلى أمير المؤمنين عليه السلام ، وجعفر بن أبي طالب ، وعقيل بن أبي طالب ، وعباس بن عبد المطلب (4).

قال محمّد بن إدريس : وهذا القول ليس بواضح ، والصحيح انّ قصي بن

ص: 460


1- رسائل الشريف المرتضى : ج 1 ص 155 المسألة السابعة من المسائل الطبريات
2- لم نعثر عليه فيه.
3- السرائر : كتاب الوقوف والصدقات ، فيما إذا وقف شيئا على المسلمين.
4- النهاية : باب مستحق الزكاة.

كلاب ، واسمه زيد ، وكان يسمّى مجمعا ، لأنّه جمع قبائل قريش ، وأنزلها مكة ، وبنى دار الندوة ، ولد عبد مناف ، وعبد الدار ، وعبد العزى وعبدا.

فأمّا عبد مناف ، فاسمه المغيرة ، فولد هاشما ، وعبد شمس ، والمطلب ونوفلا وأبا عمرو. فأمّا هاشم بن عبد مناف ، فولد عبد المطلب ، وأسدا وغيرهما ، ممّن ، لم يعقب ، فولد عبد المطلب عشرة من الذكور ، وست بنات أسماؤهم ، عبد اللّه وهو أب النبي عليه السلام ، والزبير ، وأبو طالب ، واسمه عبد مناف والعباس ، والمقوّم ، وحمزة ، وضرار ، وأبو لهب ، واسمه عبد العزى ، والحرث ، والغيداق ، واسمه جحل ، الجيم قبل الحاء ، بفتح الجيم ، وسكون الحاء ، والجحل ، اليعسوب العظيم ، وأسماء البنات ، عاتكة ، وأميمة ، والبيضاء ، وبرّة ، وصفية ، وأروى ، هؤلاء الذكور والإناث لأمهات شتى ، فلم يعقب هاشم إلا من عبد المطلب عليه السلام ولم يعقب عبد المطلب من جميع أولاده الذكور ، إلا من خمسة ، وهم عبد اللّه ، وأبو طالب ، والعباس والحرث ، وأبو لهب ، فجميع هؤلاء ، وأولاد هؤلاء ، تحرم عليهم الزكاة الواجبة ، مع تمكنهم من أخماسهم ، ومستحقاتهم على ما قدّمناه ، وهؤلاء بأعيانهم أيضا مستحقو الخمس ، وإلى ما حرّرناه واخترناه ، يذهب شيخنا في مسائل خلافه (1) وانّما أورده إيرادا في نهايته ، للحديث الواحد ، لا اعتقادا.

فأمّا ما عدا صدقة الأموال الواجبة ، فلا بأس أن يعطوا إياها ، ولا بأس أن يعطوا صدقة الأموال مواليهم ، ولا بأس أن يعطي بعضهم بعضا ، صدقة الأموال الواجبة ، في حال تمكنهم من مستحقاتهم ، وانّما يحرم عليهم صدقة من ليس من نسبهم.

ولا يجوز أن يعطى الزكاة لمحترف ، يقدر على اكتساب ما يقوم بأوده ، وأود

ص: 461


1- الخلاف : ج 2 ، كتاب الوقوف والصدقات ، مسألة 4.

عياله على ما قدّمناه ، فإن كانت صناعته لا تقوم به ، جاز له أن يأخذ ما يتسع به على أهله.

واختلف أصحابنا فيمن يكون معه مقدار من المال ، ويحرم عليه تملك (1) ذلك المال أخذ الزكاة ، فقال بعضهم : إذا ملك نصابا من الذهب ، وهو عشرون دينارا ، فإنّه يحرم عليه أخذ الزكاة. وقال بعضهم : لا تحرم على من ملك سبعين دينارا. وقال بعضهم : لا اقدّره بقدر ، بل إذا ملك من الأموال ما يكون قدر كفايته لمئونته ، طول سنته على الاقتصاد فإنّه يحرم عليه أخذ الزكاة ، سواء كانت (2) نصابا ، أو أقل من نصاب ، أو أكثر من النصاب ، فإن لم يكن بقدر كفايته سنته فلا يحرم عليه أخذ الزكاة ، وهذا هو الصحيح ، وإليه ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف.

ومن ملك دارا يسكنها بقدر حاجته ، وخادما يخدمه ، جاز له ان يقبل الزكاة ، فإن كانت داره ، دار غلة تكفيه ولعياله ، لم يجز له ان يقبل الزكاة ، فان لم تكن له في غلتها كفاية ، جاز له ان يقبل الزكاة.

وقد روي (3) أنّه ينبغي ، أن يعطى زكاة الذهب والفضة ، للفقراء والمساكين المعروفين بذلك ، ويعطى زكاة الإبل والبقر والغنم أهل التجمّل ، فإن عرف الإنسان من يستحق الزكاة ، وهو يستحي من التعرض لذلك ، ولا يؤثر إن تعلمه أنّها من الزكاة ، جاز لك أن تعطيه الزكاة ، وإن لم تعلمه أنّه منها ، وقد أجزأت عنك ، إذا نويت.

وإن كان لك على إنسان دين ، ولا يقدر على قضائه ، وهو مستحق له ، جاز لك أن تقاصّه من الزكاة ، وكذلك إن كان الدين على ميّت ، جاز لك أن تقاصّه منها ، وإن كان على أخيك المؤمن دين ، وقد مات ، جاز لك أن تقضي عنه من الزكاة ، وكذلك إن كان الدين على والدك ، أو والدتك أو ولدك (4) جاز لك أن

ص: 462


1- في ط وج : يملك
2- في ط وج : كان.
3- الوسائل : كتاب الزكاة ، الباب 26 من أبواب المستحقين للزكاة
4- ج : أو والدتك جاز.

تقضيه عنهم ، سواء كانوا أحياء أو أمواتا ، من الزكاة ، لأنّ قضاء الدين لا يجب أن يقضيه الولد عن الوالد ، وإن كانت نفقته واجبة عليه ، إلا أن قضاء دينه غير واجب على من تجب عليه نفقته.

وإذا صرفت سهما ( فِي الرِّقابِ ) ، وأعتق الذي اشتري من الزكاة ، فإن أصاب بعد ذلك مالا ، ثم مات ، ولا وارث له ، كان ميراثه لأرباب الزكاة.

وروي أنّ من أعطى غيره زكاة الأموال ، ليفرقها على مستحقيها ، وكان مستحقا للزكاة ، جاز له أن يأخذ منها بقدر ما يعطي غيره ، اللّهم إلا أن يعيّن موكله له أعيانا بأسمائهم ، فإنّه لا يجوز له حينئذ أن يأخذ منها شيئا ، ولا أن يعدل عنهم إلى غيرهم.

والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، وإن كان قد أوردها شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، إلا أنّه حقق القول فيها ، وفي أمثالها ، في مبسوطة في الجزء الثاني ، فإنه قال : إذا وكله في إبراء غرمائه لم يدخل هو في الجملة ، وكذلك في حبس غرمائه ، ومخاصمتهم ، وكذلك إذا وكله في تفرقة ثلثه ، في الفقراء والمساكين ، لم يجز له أن يصرف إلى نفسه منه شيئا ، وإن كان فقيرا مسكينا ، لأنّ المذهب الصحيح ، انّ المخاطب لا يدخل في أمر المخاطب إيّاه ، في أمر غيره ، فإذا أمر اللّه تعالى نبيه صلى اللّه عليه وآله بأن يأمر أمته أن يفعلوا كذا لم يدخل هو في ذلك الأمر (2) هذا آخر كلامه رحمه اللّه في مبسوطة وهو سديد في موضعه.

واختلف أصحابنا في أقل ما يعطى الفقير من الزكاة في أوّل دفعة ، فقال بعض منهم : أقلّه ما يجب في النصاب الأول ، من سائر أجناس الزكاة. وقال بعض منهم : أخصّه بأوّل ، نصاب الذهب والفضّة ، فحسب. وبعض قال : أقلّه

ص: 463


1- النهاية : باب مستحق الزكاة.
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب الوكالة - حكم التوكيل في إبراء الغرماء ، ص 403.

ما يجب في النصاب الثاني من الذهب والفضّة ، وذهب بعض آخر إلى أنّه يجوز أن يعطى من الزكاة الواحد من الفقراء ، القليل ، والكثير ، ولا يحد القليل بحدّ لا يجزئ غيره ، وهذا هو الأقوى عندي ، لموافقته طاهر التنزيل ، وإليه ذهب السيد المرتضى رحمه اللّه ، في جمل العلم والعمل (1) ، وما روي من الأخبار (2) في المقدار ، فمحمول على الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، ولأنّه إذا أتاها في الزكاة ، وأخرجها قليلا ، في دفعات عدّة ، فلا خلاف انّه ينطلق عليه اسم مؤت ومعط ، فانّ اللّه تعالى قال ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ) (3) وهذا قد آتاها ، وامتثل ما أمر به.

وأيضا الأصل براءة الذمة ، من المقادير والكيفيات ، لأنّها أمور شرعيات ، تحتاج في إثباتها إلى أدلة شرعيّة ، ولا دليل على ذلك ، لأنّ في المسألة بين أصحابنا خلافا ، على ما صوّرناه ، وإذا لم يكن إجماع فيبقى الأصل ، وهو براءة الذمة.

وليس لأكثر ما يعطى الفقير حدّ محدود ، بل إذا أعطاه دفعة واحدة ، فجائز له ما أراد ، ولو كان الف قنطار.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته ، في باب من الزيادات في الزكاة : وروى حماد عن حريز عن بريد العجلي ، قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه السلام يقول : بعث أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه وآله مصدقا ، من الكوفة إلى باديتها ، ثم أورد الحديث بطوله ، إلى قوله : ولا تعدل بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطرق ، في الساعات التي تريح ، وتعنق ، وأرفق بهن جهدك (4).

ص: 464


1- جمل العلم والعمل : فصل في وجوه إخراج الزكاة ص 125 ، طبع النجف الأشرف سنة 1387
2- الوسائل : الباب 23 من أبواب المستحقين للزكاة.
3- البقرة : 43 و 83 و 110.
4- المقنعة : باب الزيادات من الزكاة ، ص 255. وفي الوسائل : الباب 14 في أبواب زكاة الأنعام ، ح 1.

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : سمعت من يقول تريح وتغبق بالغين المعجمة ، والباء ، يعتقده أنّه من الغبوق ، وهو الشرب بالعشي ، وهذا تصحيف فاحش ، وخطأ قبيح ، وإنّما هو (1) بالعين غير المعجمة المفتوحة ، والنون المفتوحة ، وهو ضرب من سير الإبل ، وهو سير شديد ، قال الزاجر :

يا ناق سيري عنقا فسيحا *** الى سليمان فنستريحا

لأنّ معنى الكلام ، أنّه لا تعدل بهن عن نبت الأرض إلى جواد الطرق ، في الساعات التي لها فيها راحة ، ولا في الساعات التي عليها فيها مشقّة ، ولأجل هذا قال تريح من الراحة ، ولو كان فيها من الرواح ، لقال تروح ، وما كان يقول تريح ، ولأنّ الرواح عند العشي يكون قريبا منه ، والغبوق هو شرب العشي ، على ما ذكرناه ، فلم يبق له معنى ، وانّما المعنى ما بيّناه ، وانّما أوردت هذه اللفظة في كتابي ، لأني سمعت جماعة من أصحابنا الفقهاء يصحّفونها.

باب وجوب زكاة الفطرة ومن تجب عليه

باب وجوب زكاة الفطرة (2) ومن تجب عليه

الفطرة واجبة على كل مكلّف مالك قبل استهلال شوال أحد الأموال الزكاتية ، فأمّا من ملك غير الأموال الزكاتية ، فلا تجب عليه إخراج الفطرة ، على الصحيح من الأقوال ، وهذا مذهب جميع مصنّفي أصحابنا. ومذهب شيخنا أبي جعفر في سائر كتبه ، إلا في مسائل خلافه (3) والصحيح ما وافق فيه أصحابه ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بشي ء يحتاج إلى دليل شرعي ، ويلزمه أن يخرجها عنه ، وعن جميع من يعول ، ممّن نجب عليه نفقته ، أو من يتطوع بها عليه ، من صغير وكبير ، حرّ وعبد ، ذكر وأنثى ، ملي ، أو كتابي ، ويجب عليه إخراج الفطرة عن عبده ، سواء كان آبقا أو غير آبق ، مغصوبا أو غير مغصوب ،

ص: 465


1- ج : من العتق
2- ج : الفطر
3- الخلاف : كتاب زكاة الفطرة ، مسألة 28.

لعموم أقوال أصحابنا ، وإجماعهم على وجوب إخراج الفطرة عن العبيد ، وكذلك تجب إخراج الفطرة عن الزوجات ، سواء كنّ نواشز أو لم يكنّ ، وجبت النفقة عليهن أو لم يجب ، دخل بهن ، أو لم يدخل ، دائمات أو منقطعات ، للإجماع والعموم ، من غير تفصيل من أحد من أصحابنا ، فأمّا الأولاد والوالدان ، فإن كانوا في عياله وضيافته ، فيجب عليه إخراج الفطرة عنهم ، وإن لم يكونوا في عيلته وضيافته ، فلا يجب عليه إخراج الفطرة عنهم ، سواء وجبت نفقتهم عليه ، أو لم تجب ، بخلاف الزوجات والعبيد ، على ما قدّمناه ، لأنّ أصحابنا حصّوا ذلك ، واجمعوا عليه ، وذكر شيخنا أبو جعفر في مبسوطة قال : ويلزم الرجل إخراج الفطرة عن خادم زوجته (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : لا يلزمه ذلك ، إلا إذا كان الخادم في عيلته وضيافته ، إذا لم يملكه ، فليلحظ ذلك ويتأمّل تأمّلا جيدا.

ويجب إخراج الفطرة عن الضيف ، بشرط أن يكون آخر الشهر في ضيافته ، فأمّا إذا أفطر عنده مثلا ثمانية وعشرين يوما ، ثم انقطع باقي الشهر ، فلا فطرة على مضيّفه ، فإن لم يفطر عنده إلا في محاق الشهر ، وأخّره ، بحيث يتناوله اسم ضيف ، فإنّه يجب عليه إخراج الفطرة عنه ، ولو كان إفطاره عنده ، في الليلتين الأخيرتين فحسب.

وإن رزق ولدا في شهر رمضان ، وجب عليه أن يخرج عنه إذا رزقه في جزء من نهار شهر رمضان ، وإن رزقه بعد خروج شهر رمضان ، فإنّه لا يجب عليه إخراج الفطرة ، بل يستحب ذلك ، ولو كان ذلك قبل الزوال من يوم العيد ، فأمّا إذا ولد بعد الزوال فلا يجب ولا يستحب.

وكذلك من أسلم ليلة الفطر ، أو يوم الفطر ، قبل الزوال ، يستحب له أن يخرج زكاة الفطرة ، وليس ذلك بفرض ، فإن كان إسلامه في جزء من نهار

ص: 466


1- المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص 239.

رمضان ، وجب عليه أيضا إخراج الفطرة.

ومن لا يملك أحد الأموال الزكاتية ، يستحب له أن يخرج زكاة الفطرة أيضا عن نفسه وعن جميع من يعول ، فإن كان ممن يحلّ له أخذ الفطرة ، أخذها ، ثم أخرجها عن نفسه وعن عياله ، فإن كان به حاجة شديدة إليها ، فليدر ذلك على من يعوله ، حتى ينتهي إلى آخرهم ، ثمّ يخرج رأسا واحدا إلى غيرهم ، وقد أجزأ عنهم كلهم.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : وإذا كان له مملوك غائب ، يعرف حياته ، وجبت عليه فطرته ، رجا عوده أو لم يرج ، فإن لم يعلم حياته ، لا يلزمه إخراج فطرته (1).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : يجب عليه إخراج الفطرة عن عبده ، وإن لم يقطع على حياته ، ولا يعلمها حقيقة ويقينا ، ولهذا يعتقه في الكفارات ، بغير خلاف ، ولم يشرط أصحابنا ، علمه بالحياة ، وقطعه عليها.

وقال أيضا في كتابه المبسوط : وإن كان له عبد مغصوب ، لا يلزمه فطرته ، ولا يلزم الغاصب أيضا (2).

قوله رحمه اللّه : ولا يلزم الغاصب صحيح ، وقوله : ولا يلزم سيده الذي هو المغصوب منه ، غير صحيح.

وليس التمكين ، شرطا في وجوب إخراج الفطرة عن عبيد الإنسان ، بل الواجب إخراج الفطرة عن مماليك الإنسان ، سواء كان متمكنا من التصرّف فيهم ، أو غير متمكن ، لأنّ شيخنا أبا جعفر قال : لأنّه غير متمكن منه ، فجعل التمكّن شرطا في وجوب الفطرة.

وقال رحمه اللّه في المبسوط : وإن كان له عبد مقعد ، وهو المعضوب ، بالضاد المعجمة ، قال : لا يلزمه فطرته ، لأنّه ينعتق عليه أمّا قوله (3) في المقعد ، فصحيح ،

ص: 467


1- المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص 239 و 240.
2- المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص 239 و 240.
3- المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص 239 و 240.

وأمّا تفسيره بالمعضوب فغير واضح ، لأنّ المعضوب غير المقعد ، وهو النضو الخلقة النحيف ، وإن كان أعضاؤه صحيحة فالمعضوب لا ينعتق على مالكه ، بل المقعد ، لأنّ أصحابنا لم يرووا في أن ينعتق العبد ، إلا إذا أقعد بزمانة ، أو جذام ، أو عمى ، فبهذه الآفات ينعتق ، فحسب ، ولم يقولوا ينعتق المعضوب.

وقال شيخنا : والمرأة الموسرة ، إذا كانت تحت معسر ، أو مملوك ، لا يلزمها فطرة نفسها ، وكذلك أمة الموسر ، إذا كانت تحت معسر أو مملوك ، لا يلزم المولى فطرتها.

قال محمّد بن إدريس : بل الواجب على المرأة الموسرة ، وسيد الأمة ، إخراج الفطرة عنهما لأنّها مكلفة بإخراج الفطرة عن نفسها ، وكذلك المولى ، فإن أراد الشيخ أبو جعفر ، ما كان يجب على الزّوج ، فصحيح ، لأنّ الزوج كان يجب عليه أن يخرج ، فسقط لفقره ، وبقي ما يجب عليها وعلى المولى للأمة ، كما يجب أن يخرج عن الضيف مضيفه ، ويجب أن يخرج الضيف عن نفسه إذا كان موسرا.

وذكر في المبسوط أنّه لا يلزم الرجل ، فطرة زوجته الناشزة ، والصحيح أنّه يلزمه ، وكذلك يلزمه إخراج الفطرة ، عن الزوجة التي لا يجب عليه نفقتها ، من النكاح المؤجل ، لعموم قولهم عليهم السلام ، يجب إخراج الفطرة عن الزوجة (1).

باب ما يجوز إخراجه في الفطرة ومقدار ما يجب منه

أفضل ما يخرجه الإنسان في زكاة الفطرة ، التمر ، ثمّ الزبيب ، ويجوز إخراج الحنطة ، والشعير ، والأرز ، والأقط ، واللبن ، والأصل في ذلك أن يخرج كل واحد ممّا يغلب على قوته في أكثر الأحوال ، ومن عدم الأقوات الغالبة على بلده ، أو أراد أن يخرج ثمنها بقيمة الوقت ذهبا أو فضة ، لم يكن بذلك بأس ، وإن

ص: 468


1- المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص 243.

كانت موجودة ، لأنّه يجوز عندنا ، إخراج القيمة في الزكوات ، دون الكفارات ، على ما قدّمنا القول في ذلك.

فأمّا القدر الذي يجب إخراجه عن كل رأس ، فصاع ، من أحد الأشياء التي قدّمنا ذكرها ، وقدره تسعة أرطال ، بالبغدادي ، وستة أرطال بالمدني ، إلا اللبن ، فمن يريد إخراجه ، أجزأه ستة أرطال بالبغدادي ، وأربعة بالمدني ، وقدر الصاع أربعة أمداد ، والمدّ مائتان واثنان وتسعون درهما ونصف ، والدرهم ستة دوانيق ، والدانق ثمان حبات من أوسط حبات الشعير ، وقد روي أنّه يجوز أنّ يخرج عن كل رأس درهم ، وقد روي أيضا أربعة دوانيق ، والأحوط الذي تقتضيه الأصول ، أن يخرج قيمة الصاع يوم الأداء.

وذكر شيخنا في مبسوطة ، فقال : ويجوز إخراج القيمة عن أحد الأجناس التي قدّمناها ، سواء كان الثمن سلعة ، أو حبا أو خبزا (1).

قال محمد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب رحمه اللّه : الحب والخبز هو الأصل المقوّم ، وليس هو القيمة ، وانّما هذا مذهب الشافعي ، ذكره هاهنا ، فلا يظن بعض غفلة أصحابنا أنّه مذهبنا ، بل نحن نخرج الحب الذي هو الحنطة والشعير ، وغير ذلك ، وكذلك يخرج الخبز لا بالقيمة ، بل هو الأصل المقوم.

باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة ومن يستحقها

تجب زكاة الفطرة على مكلّفها بدخول شوال واستهلاله ، ويتضيّق وقت التأكد (2) يوم الفطر ، قبل صلاة العيد ، فإن لم يخرجها في ذلك الوقت ، فإنّه يجب عليه إخراجها ، وهي في ذمته إلى أن يخرجها. وبعض أصحابنا يقول تكون قضاء ، وبعضهم يقول سقطت ، ولا يجب إخراجها ، وهذا بعيد من الصواب ،

ص: 469


1- المبسوط : كتاب الزكاة ، كتاب الفطرة ، ص 242
2- ج : ويتضيق التأكّد.

لأنّه لا دليل على سقوطها بعد وجوبها ، لأنّ من ادعى سقوطها بعد موافقته على وجوبها ، فعليه الدلالة ، ومن قال أنّها قضاء بعد ذلك ، فغير واضح ، لأنّ الزكاة المالية والرأسية ، تجب بدخول وقتها ، فإذا دخل ، وجب الأداء ، ولا يزال الإنسان مؤدّيا لها ، لأنّ بعد دخول وقتها هو وقت الأداء في جميعه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : الوقت الذي تجب فيه إخراج الفطرة ، يوم الفطر قبل صلاة العيد (1). وذهب في جمله وعقوده (2) إلى ما ذكرناه أولا واخترناه ، وانّما أورد ما ذكره في نهايته ، من طريق أخبار الآحاد إيرادا لا عملا واعتقادا.

فإن قدّمها إنسان على الوقت الذي قدّمناه ، فيجعل ذلك قرضا على ما بيّناه في زكاة المال ، وتقديمها قبل وجوبها وحلولها ، ويعتبر فيه ما قدّمناه عند وجوبها ، والأفضل لزوم الوقت ، فإن لم يجد لها مستحقا ، عزلها من ماله ، ثمّ يسلّمها إليه ، إذا وجده ، فإن وجد لها أهلا ، وأخّرها وهلكت ، كان ضامنا إلى أن يسلمها إلى أربابها ، فإن لم يجد لها أهلا ، وأخرجها من ماله ، لم يكن عليه ضمان.

وله أن يحملها من بلد إلى بلد ، إذا لم يجد المستحق ، كما أنّ له حمل زكاة المال ، ويعتبر في هلاكها في الطريق ، ما اعتبرناه في هلاك زكاة المال حرفا فحرفا.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز حمل الفطرة من بلد إلى بلد (3).

وهذا على طريق الكراهية ، دون الحظر.

وقال في مختصر المصباح : ويجوز إخراج الفطرة من أول الشهر رخصة.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : لا يجوز العمل بهذه الرخصة (4) إلا على ما قدّمناه ، من تقديمها على جهة القرض ، وينوي الأداء عند هلال شوال ، وإلا فكيف يكون ما فعل قبل تعلّق وجوبه بالذمة مجزيا عما يتعلّق بها في

ص: 470


1- النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة.
2- الجمل والعقود : كتاب الزكاة ، فصل 15 في زكاة الفطرة.
3- النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة.
4- ج : بهذه الرواية في الرخصة.

المستقبل ، وقد ذكر شيخنا أبو جعفر في الجزء الثالث من مسائل خلافه في كتاب الإيمان ، أنّه لا يجوز تقديم الكفارات والزكوات قبل وجوبها بحال عندنا (1) وناظر على ذلك وهو الحق اليقين.

وينبغي أن تحمل الفطرة إلى الإمام ، ليضعها في مواضعها حيث يراه ، فإن لم يكن هناك إمام ، حملت إلى فقهاء شيعته ليفرّقوها في مواضعها ، فإنّهم أعرف بذلك.

وإذا أراد الإنسان أن يتولى ذلك بنفسه ، جاز له ذلك غير أنّه لا يعطيها إلا لمستحق زكاة المال ، فإن لم يجد لها مستحقا ، انتظر بها المستحق ، ولا يجوز له أن يعطيها لغيره ، فإنّه لا يجزيه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : فان لم يوجد لها مستحق من أهل المعرفة ، جاز أن يعطي مكلّفها المستضعفين ، من غيرهم ، ولا يجوز إعطاؤها لمن لا معرفة له ، إلا عند التقية ، أو عدم مستحقيه من أهل المعرفة (2) وهذا غير واضح ، بل ضدّ الصواب والصحيح والصواب ما ذكره في جمله وعقوده ، من أنّه لا يجوز أن يعطى إلا لمستحق زكاة المال ، فإن لم يوجد ، عزلت ، وانتظر بها مستحقها (3) وانّما أورده إيرادا من طريق أخبار الآحاد ، دون الاعتقاد منه والفتيا ، وقال في نهايته أيضا : والأفضل أن يعطي الإنسان من يخافه من غير الفطرة ، ويضع الفطرة مواضعها (4).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : والأصل ما قدّمناه فلا يجوز العدول عنه بغير

ص: 471


1- الخلاف : هذه مسألة 45 من مسائل الزكاة ، وفي الايمان لا توجد ، ومسألة 31 منها تدل على عدم جواز تقديم الكفارة فراجع.
2- النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة.
3- الجمل والعقود : كتاب الزكاة ، فصل 15 في ذكر زكاة الفطرة وعبارته هكذا : ومستحق الفطرة هو مستحق زكاة الأموال وتحرم على من تحرم عليه زكاة الأموال.
4- النهاية : كتاب الزكاة ، باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة.

دليل ، وما ذكره من طريق أخبار الآحاد ، فأورده إيرادا لا اعتقادا.

ولا يجوز أن يعطي أقل من زكاة رأس واحد لواحد ، مع الاختيار ، على ما وردت به الاخبار ، فإن حضر جماعة محتاجون ، وليس هناك من الأصواع بقدر ما يصيب كل واحد منهم صاع ، جاز أن يفرّق عليهم ، ولا بأس أن يعطي الواحد صاعين ، أو أصواعا ، دفعة واحدة ، سواء قلّت الأصواع ، أو كثرت.

والأفضل أن لا يعدل الإنسان بالفطرة إلى الأباعد ، مع وجود القرابات ، ولا إلى الأقاصي ، مع وجود الجيران ، فإن فعل خلاف ذلك ، كان تاركا فضلا ، ولم يكن عليه بأس.

ذكر شيخنا في الجزء الأول من مسائل خلافه في كتاب الزكاة ، أنّه لا زكاة في الحلي ، ثم استدل ، بأن قال : وروت فريعة بنت أبي أمامة ، قالت : حلّاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله رعاثا ، وحلّى أختي ، وكنا في حجره ، فما أخذ منا زكاة حلي قط (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه مصنف هذا الكتاب : فريعة ، بالفاء اسمها الفارعة ، وانّما صغرت واسم أختها حبيبة ، ولهما أخت أخرى اسمها كبشة ، وهن بنات أبي أمامة ، أسعد بن زرارة الأنصاري الخزرجي العقبي ، رأس النقباء ، أول مدفون بالبقيع ، مات في حياة الرسول صلى اللّه عليه وآله ، وأوصى ببناته إليه عليه السلام ، والرعاث بالراء غير المعجمة المكسورة ، والعين غير المعجمة المفتوحة ، والثاء المنقطة ثلاث نقط ، وهي الحلق ، والقرطة ، مأخوذ من رعثات (2) الديك ، وذكر أيضا شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف أنّ التحلية بالذهب حرام كلّه على الرجال ، إلا عند الضرورة ، وذلك مثل أن يجدع أنف إنسان ، فيتخذ أنفا من ذهب ، أو يربط به أسنانه (3).

ص: 472


1- الخلاف : كتاب الزكاة ، ذيل مسألة 101
2- ج : رعاث.
3- الخلاف : كتاب الزكاة : مسألة 102.

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب رحمه اللّه : فإن قال قائل : وأيّ ضرورة هاهنا يربط أسنانه بفضة أو بنحاس ، أو بحديد ، وغير ذلك ، وكذلك يعمل أنفا من فضة. قلنا : جميع ذلك ينتن ، إلا الذهب فإنّه لا ينتن ، فلأجل ذلك قال إلا عند الضرورة.

باب الجزية وأحكامها

الجزية واجبة على أهل الكتاب ، ومن حكمه حكمهم ، ممّن أبى منهم الإسلام ، وأذعن بها. والتزم أحكامها ، فأهل الكتاب : اليهود والنصارى ، ومن حكمه حكمهم : المجوس.

وهي واجبة على جميع الأصناف المذكورة ، إذا كانوا بشرائط المكلّفين ، ويسقط عن الصبيان والمجانين ، والبله والنساء منهم ، فأمّا من عدا الأصناف المذكورة الثلاثة ، من جميع الكفار ، فليس يجوز أن يقبل منهم إلا الإسلام ، أو القتل.

ومن وجبت عليه الجزية ، وحل الوقت ، فأسلم قبل أن يعطيها ، سقطت عنه ، ولم يلزمه أداؤها ، على الصحيح من المذهب ، وقد ذهب بعض أصحابنا إلى أنّها لا تسقط ، والأول هو الأظهر ، والذي يعضده دليل الأصل.

وكل من وجبت عليه الجزية ، فالإمام مخير بين أن يضعها على رءوسهم ، أو على أرضيهم ، فإن وضعها على رءوسهم فليس له أن يأخذ من أرضيهم شيئا. وإن وضعها على أرضيهم ، فليس له أن يأخذ من رءوسهم شيئا.

وليس للجزية عند أهل البيت عليهم السلام ، حدّ محدود ، ولا قدر موظف ، بل ذلك موكول إلى تدبير الإمام ورأيه ، فيأخذ منهم على قدر أحوالهم ، من الغني والفقير ، بقدر ما يكون به صاغرا.

والصغار اختلف المفسّرون فيه ، والأظهر أنّه التزام أحكامنا عليهم ،

ص: 473

وإجراؤها وان لا (1) يقدر الجزية ، فيوطن نفسه عليها ، بل يكون بحسب ما يراه الإمام ، بما يكون (2) معه ذليلا ، صاغرا ، خائفا ، فلا يزال كذلك ، غير موطن نفسه على شي ء ، فحينئذ يتحقق الصغار الذي هو الذلة ، وذهب بعض أصحابنا وهو شيخنا المفيد ، إلى أنّ الصغار هو أن يأخذهم الإمام ، بما لا يطيقون ، حتى يسلموا ، وإلا فكيف يكون صاغرا ، وهو لا يكترث بما يؤخذ منه ، فيألم لذلك فيسلم.

وكان المستحق للجزية على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، المهاجرين دون غيرهم ، على ما روي (3) ، وهي اليوم لمن قام مقامهم ، مع الإمام في نصرة الإسلام ، والذب عنه ، ولمن يراه الإمام ، من الفقراء والمساكين ، من سائر المسلمين.

ولا بأس بأن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب ، ممّا أخذوه ، من ثمن الخمور ، والخنازير ، والأشياء المحرمة التي لا يحل للمسلمين بيعها ، والتصرف فيها بغير خلاف ، وروى أصحابنا ، أنّهم متى تظاهروا بشرب الخمر ، وأكل لحم الخنزير ، أو نكاح المحرمات في شرعنا ، والربا ، نقضوا بذلك العهد (4).

وروى عن النبي صلى اللّه عليه وآله ، أنّه قال في أهل الذمة لا تبدءوهم بالسلام ، واضطروهم إلى أضيق الطرق ، ولا تساووهم في المجالس (5).

وأمّا مماليك أهل الذمة ، فلا جزية عليهم ، لقوله عليه السلام : لا جزية على العبد (6).

فأمّا المستأمن ، والمعاهد ، فهما عبارتان عن معنى واحد ، وهو من دخل إلينا

ص: 474


1- ج : ولا يقدر
2- ج : ممّا يكون.
3- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 69 من أبواب جهاد العدو ، ح 1.
4- المبسوط : ج 2 ، فصل في ما يشترط على أهل الذمة بدون ذكر الربا.
5- المبسوط : ج 2 ، فصل في ما يشترط على أهل الذمّة.
6- مستدرك الوسائل : الباب 5 من أبواب جهاد العدو ، ح 1.

بأمان ، لا للبقاء ، والتأييد فلا يجوز للإمام ، أن يقره في بلد الإسلام سنة ، بلا جزية ، لكن يقره أقل من سنة ، على ما يراه ، بعوض ، أو غير عوض.

وأمّا عقد الجزية ، فهو عقد الذمة ، ولا يصحّ إلا بشرطين ، التزام (1) الجزية ، وأن يجري عليهم أحكام المسلمين مطلقا ، من غير استثناء ، وهو الصغار المذكور في الآية ، على الأظهر من الأقوال.

والفقير الذي لا شي ء معه يجب عليه الجزية ، لأنّه لا دليل على إسقاطها عنه ، وعموم الآية يقتضيه ، ثم ينظر ، فإن لم يقدر على الأداء ، كانت في ذمّته ، فإذا استغنى ، أخذت منه الجزية ، من يوم ضمنها ، وعقد العقد له ، بعد أن يحول عليه الحول ، هذا قول شيخنا أبي جعفر في مبسوطة (2) ، وقال في مسائل الخلاف : لا شي ء عليه (3) واستدل بقوله تعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلّا وُسْعَها ) (4) وما ذكره في مبسوطة أقوى وأظهر ، ولي في ذلك نظر.

البلاد التي ينفذ فيها حكم الإسلام على ثلاثة أضرب : ضرب أنشأه المسلمون وأحدثوه ، وضرب فتحوه عنوة ، وضرب فتحوه صلحا ، فأمّا البلاد التي أنشأها المسلمون ، مثل البصرة والكوفة ، فلا يجوز للإمام ان يقرّ أهل الذمة ، على إنشاء بيعة ، أو كنيسة ، ولا صومعة راهب ، ولا مجتمع لصلاتهم ، فإن صالحهم على شي ء من ذلك ، بطل الصلح بلا خلاف ، وكذلك البلاد التي فيها البيع والكنائس ، وكانت في الأصل قبل بنائها ، وأمّا البلاد التي فتحت عنوة ، فإن لم يكن فيها بيع ولا كنائس ، أو كانت ، لكن هدموها وقت الفتح ، فحكمها حكم بلاد الإسلام ، لا يجوز صلحهم على إحداث ذلك فيها.

وأمّا ما فتح صلحا ، فعلى ضربين أحدهما أن يصالحهم على أن تكون البلاد ملكا لهم ، ويكونوا فيها موادعين على مال بذلوه ، وجزية عقدوها على أنفسهم ،

ص: 475


1- في ط : الزم
2- المبسوط : ج 2 ، كتاب الجزايا وأحكامها ، فصل فيمن تؤخذ منه الجزية ..
3- الخلاف : كتاب الجزية ، مسألة 10 - وفي المصدر : لا يجب عليه الجزية
4- البقرة : 286.

فهاهنا يجوز إقرارهم على بيعهم وكنائسهم ، وإحداثها ، وإنشائها ، وإظهار الخمور ، والخنازير ، وضرب النواقيس فيها ، لأنّ الملك لهم ، يصنعون به ما أحبّوا ، وإن كان الصلح على أن يكون ملك البلد لنا ، والسكنى لهم ، إن شرط أن يقرّهم على البيع والكنائس ، جاز ، وإن لم يشرط ذلك لهم ، لم يكن لهم ذلك ، لأنّها صارت للمسلمين.

وأمّا دور أهل الذمة ، على ثلاثة أضرب ، دار محدثة ، ودار مبتاعة ، ودار مجدّدة ، أمّا المحدثة فهو أن يشتري عرصة يستأنف فيها بناء ، فليس له أن يعلو على بناء المسلمين ، لقوله عليه السلام : « الإسلام يعلو ولا يعلى عليه » (1) وإن ساوى بناء المسلمين ، ولم يعل عليه ، فعليه أن يقصره عنه ، وأمّا الدور المبتاعة ، فإنّها تقر على ما كانت عليه ، لأنّه هكذا ملكها ، وأمّا البناء الذي يعاد بعد انهدامه ، فالحكم فيه ، كالحكم في المحدث ابتداء ، لا يجوز له أن يعلو به على بناء المسلمين ، ولا المساواة ، على ما قلناه ، ولا يلزم أن يكون أقصر من بناء مسلمي أهل البلد كلّهم ، وانّما يلزمه أن يقصره ، عن بناء محلّته ، ولا يجوز أن يمكنوا أن يدخلوا شيئا من المساجد في سائر البلاد ، لا بإذن ، ولا بغير إذن ، لأنّهم أنجاس ، والنجاسة تمنع المساجد.

باب أحكام الأرضين وما يصح التصرف فيه منها بالبيع والشراء وما لا يصحّ

الأرضون على أربعة أقسام : ضرب منها أسلم أهلها عليها طوعا ، من قبل نفوسهم ، من غير قتال ، مثل أرض المدينة ، فيترك في أيديهم. ويؤخذ منهم العشر ، أو نصف العشر ، بحسب سقيها ، وهي ملك لهم ، يصحّ لهم التصرف

ص: 476


1- الوسائل : كتاب الإرث ، الباب 1 من أبواب موانع الإرث ، ح 11.

فيها ، بالبيع والشراء والوقف ، وسائر أنواع التصرفات ، وهذا حكم أرضيهم إذا عمروها ، وقاموا بعمارتها ، فإن تركوها خرابا ، أخذها إمام المسلمين ، وقبلها من يعمرها ، وأعطى أصحابها طسقها ، وأعطى المتقبل حصته ، وما يبقى ، فهو متروك لمصالح المسلمين ، في بيت مالهم ، على ما روي في الأخبار (1) أورد ذلك شيخنا أبو جعفر.

والأولى عندي ترك العمل بهذه الرواية ، فإنّها تخالف الأصول ، والأدلة العقلية ، والسمعية ، فإنّ ملك الإنسان لا يجوز لأحد أخذه ، ولا التصرّف فيه بغير إذنه ، واختياره ، فلا نرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد.

والطسق : الوضيعة توضع على صنف من الزرع ، لكل جريب ، وهو بالفارسية تسك ، وهو كالأجرة للإنسان ، فهذا حقيقة الطسق.

والضرب الثاني من الأرضين ، ما أخذ عنوة بالسيف ، عنوة بفتح العين ، وهو ما أخذ عن خضوع وتذلل ، قال اللّه تعالى ( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ) (2) أي خضعت وذلّت ، فانّ هذه الأرض تكون للمسلمين بأجمعهم ، المقاتلة وغير المقاتلة ، وكان على الإمام أن يقبلها لمن يقوم بعمارتها ، بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع أو غير ذلك ، وكان على المتقبل إخراج ما قبل به ، من حق الرقبة ، يأخذه الإمام ، فيخرج منه الخمس يقسمه على مستحقيه ، والباقي منه يجعله في بيت مال المسلمين ، يصرف في مصالحهم ، من سدّ الثغور وتجهيز الجيوش ، وبناء القناطر ، وغير ذلك ، وليس في هذا السهم الذي هو حق الرقبة ، زكاة ، لأنّ أربابه وهم المسلمون ، ما يبلغ نصيب كل واحد منهم ، ما يجب فيه الزكاة ، وما يبقى للمتقبل ، يخرج منه الزكاة إذا بلغ النصاب بحسب سقيه ، وهذا الضرب من الأرضين ، لا يصح التصرف فيه ، بالبيع ، والشراء ، والوقف ، والهبة ، وغير ذلك ، أعني نفس الرقبة.

ص: 477


1- الوسائل : كتاب الجهاد ، الباب 72 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه
2- طه : 111.

فان قيل : نراكم تبيعون ، وتشترون ، وتقفون أرض العراق ، وقد أخذت عنوة قلنا : انّما نبيع ، ونقف ، تصرفنا فيها ، وتحجيرنا ، وبناءنا فأمّا نفس الأرض لا يجوز ذلك فيها وللإمام أن ينقلها من متقبل إلى غيره ، عند انقضاء مدّة تقبيله ، وله التصرف فيها بحسب ما يراه ، صلاحا للمسلمين ، لأنّ هذه الأرضين للمسلمين قاطبة ، وارتفاعها يقسّم فيهم كلّهم ، المقاتلة ، وغيرهم ، فإنّ المقاتلة ليس لهم على جهة الخصوص ، إلا ما يحويه العسكر ، من الغنائم وأمكن نقله.

والضرب الثالث ، كل أرض صالح أهلها عليها ، وهي أرض الجزية ، يلزمهم ما يصالحهم الإمام عليه ، من النصف ، أو الثلث ، أو الرّبع ، وغير ذلك ، وليس عليهم غيره ، فإذا أسلم أربابها ، كان حكم أرضيهم ، حكم أرض من أسلم عليها طوعا ابتداء من قبل نفوسهم ، ويسقط عنهم الصلح ، لأنّه جزية ، بدلا من جزية رءوسهم ، وقد سقطت عنهم بالإسلام ، وهذا الضرب من الأرضين ، يصح التصرف فيه بالبيع ، والشراء ، والهبة ، وغير ذلك من أنواع التصرّف ، وكان للإمام أن يزيد وينقص ما صالحهم عليه ، بعد انقضاء مدّة الصلح ، حسب ما يراه من زيادة الجزية ونقصانها.

والضرب الرابع ، كلّ أرض انجلى أهلها عنها ، أو كانت مواتا ، فأحييت ، أو كانت آجاما ، وغيرها ممّا لم يزرع فيها ، فاستحدثت (1) مزارع فانّ هذه الأرضين كلّها للإمام خاصّة ، ليس لأحد معه فيها نصيب ، وكان له التصرف فيها ، بالقبض ، والهبة ، والبيع ، والشراء ، حسب ما يراه ، وكان له أن يقبلها بما يراه ، من النصف ، أو الثلث ، أو الربع ، وجاز له أيضا ، بعد انقضاء مدة القبالة ، نزعها من يد من قبله إيّاها ، وتقبيلها لغيره ، وقد استثني من ذلك الأرض التي أحييت بعد مواتها ، فإنّ الذي أحياها ، أولى بالتصرف فيها ، ما دام تقبلها بما يقبلها غيره

ص: 478


1- ج : فأحدثت.

فإن أبى ذلك ، كان للإمام أيضا نزعها من يده ، وتقبيلها لمن يراه ، على ما روي في بعض الأخبار (1) وعلى المتقبل بعد إخراجه مال القبالة ، والمؤن ، فيما يحصل في حصته ، العشر ، أو نصف العشر ، بحسب الماء ، إذا بلغ الأوساق الخمسة ، وكان أيضا على الإمام في حصته الزكاة ، إذا بلغت الأوساق الخمسة.

وقال شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان في مقنعته في باب من الزيادات في الزكاة ، أورد خبرا ، قال : روى إسماعيل بن مهاجر ، عن رجل من ثقيف ، قال استعملني علي بن أبي طالب عليه السلام على بانقياء وسواد من سواد الكوفة (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : بانقياء هي القادسية ، وما والاها ، وأعمالها وانّما سميت القادسية ، بدعوة إبراهيم الخليل عليه السلام ، لأنّه قال : كوني مقدّسة للقادسية ، أي مطهّرة من التقديس ، وانّما سميت القادسيّة بانقياء ، لأنّ إبراهيم عليه السلام ، اشتراها بمائة نعجة من غنمه ، لأنّ « با » مائة و « نقيا » شاة ، بلغة النبط ، وقد ذكر بانقيا أعشى قيس في شعره ، وفسّره علماء اللغة ، وواضعوا كتب الكوفة ، من أهل السيرة ، بما ذكرناه.

والبلاد على ضربين : بلاد الإسلام وبلاد الشرك. فبلاد الإسلام على ضربين : عامر ، وغامر. فالعامر ملك لأهله ، لا يجوز لأحد الشروع فيه ، والتصرف إلا بإذن صاحبه ، وروي عن ابن عباس ، أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله كتب لبلال بن الحرث المزني : بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا ما أقطع بلال بن الحرث المزني عن معادن القبلية ، جلسيها وغوريّها ، وحيث ما يصلح للزرع (3) ولم يعطه حقّ مسلم ، وجلسيها بالجيم ، واللام بعده والسين ، ما كان إلى ناحية نجد ، وغوريّها ما كان إلى ناحية الغور ، قال كثير بن عبد الرحمن الخزاعي :

لقد جئت غوري البلاد وجلسيها *** وقد ضربتني شمسها وظلولها

ص: 479


1- الوسائل : كتاب الجهاد ، باب 72 من أبواب جهاد العدو وما يناسبه.
2- المقنعة ص 257
3- سنن أبي داود : ج 3 ، ص 173 ، ح 3062.

جلسيها يريد نجدها ، لأنّ جلسا ، هو نجد ، والقبلية محرك القاف ، والباء التي تحتها نقطة واحدة منسوبة إلى القبل ، وهو كل نشر من الأرض ، يستقبلك يقال : رأيت بذاك (1) القبل شخصا ، والجلس - بالجيم المفتوحة ، واللام المسكنة ، والسين غير المعجمة - : نجد.

إذا ثبت هذا فان مرافقها ، التي لا بدّ لها منها ، مثل الطريق ومسيل الماء ، ومطارح التراب ، وغير ذلك ، فإنّها في معنى العامر ، من حيث أنّ صاحب العامر أحقّ به ، ولا يجوز لأحد أن يتصرف فيه إلا بإذنه ، فعلى هذا إذا حفر بئرا في موات ، ملكها ، وكان أحق بها وبحريمها الذي هو من مرافقها على حسب الحاجة.

فأمّا الغامر بالغين المعجمة وهو الخراب ، فعلى ضربين : غامر لم يجر عليه ملك لمسلم ، وغامر جرى عليه ملك مسلم. فأما الذي لم يجر عليه ملك مسلم ، فهو لإمام المسلمين يفعل به ما شاء.

وأمّا الذي جرى عليه ملك مسلم ، فمثل قرى المسلمين التي خربت وتعطلت ، فإنّه ينظر ، فإن كان صاحبه أو وارثه ، معيّنا فهو أحقّ به ، وهو في معنى العامر ، ولا يخرج بخرابه عن ملك صاحبه ، وإن لم يكن له صاحب معيّن ، ولا عقب ، ولا وارث ، فهي لإمام المسلمين خاصة ، فإذا ثبت ذلك ، ثبت أنّها مملوكة ، لا يملكها من يحييها إلا بإذن الإمام.

وأمّا بلاد الشرك فعلى ضربين : عامر وغامر ، فالعامر ملك لأهله ، وكذلك كلما كان به صلاح العامر من الغامر ، كان صاحب العامر أحقّ به ، كما قلنا في العامر في بلاد الإسلام ، حرفا فحرفا ، ولا فرق بينهما أكثر من أنّ العامر في بلاد الإسلام لا يملك بالقهر والغلبة ، والعامر في بلاد الشرك يملك بالقهر والغلبة.

وأمّا الغامر في بلاد الشرك فعلى ضربين : أحدهما لم يجر عليه ملك لأحد ، والآخر جرى عليه ملك ، والّذي لم يجر عليه ملك أحد ، فهي للإمام خاصّة ،

ص: 480


1- في ط وج : بذلك.

لعموم الأخبار (1) ، وامّا الذي جرى عليه ملك ، فإنّه ينظر ، فإن كان صاحبه معيّنا ، فهو له ، ولا يملك بالإحياء ، بلا خلاف ، وإن لم يكن له صاحب معيّن ، ولا وارث ، فهو للإمام عندنا.

والأرضون الموات ، عندنا للإمام خاصّة ، لا يملكها أحد بالإحياء ، إلا أن يأذن الإمام له.

وأمّا الذمي ، فلا يملك إذا أحيا أرضا في بلاد الإسلام ، وكذلك المستأمن ، إلا أن يأذن له الإمام.

فأمّا ما به يكون الإحياء ، قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : لم يرد الشرع ببيان ما يكون إحياء ، دون ما لا يكون ، غير انّه إذا قال النبي عليه السلام : من أحيا أرضا ميتة فهي له (2) ولم يوجد في اللغة معنى ذلك ، فالمرجع فيه إلى العرف والعادة ، فما عرفه الناس إحياء في العادة ، كان إحياء وملك به الموات ، كما انّه عليه السلام قال : البيعان بالخيار ما لم يفترقا (3) وانه نهى عن بيع ما لم يقبض (4) رجع في جميع ذلك إلى العادة (5) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه.

ونعم ما قال ، فهو الحقّ اليقين ، فهذا الذي يقتضيه أصل المذهب ، ولا يلتفت إلى قول المخالفين ، فانّ لهم في ذلك تفريعات وتقسيمات ، فلا يظنّ ظان إذا وقف عليها ، أن يعتقدها قول أصحابنا ، ولا ممّا ورد به خبر ، أو قال مصنّف من أصحابنا ، وإنّما أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، بعد أن حقّق ما يقتضيه مذهبنا.

ص: 481


1- الوسائل : الباب 1 من أبواب الأنفال وما يختصّ بالإمام.
2- الوسائل : الباب 1 من كتاب احياء الموات ، ح 5 و 6 والباب 2.
3- الوسائل : الباب 1 من أبواب الخيار ، ح 1 و 2 و 3.
4- الوسائل : الباب 16 من أبواب أحكام العقود ، ح 21.
5- المبسوط : ج 3 ، كتاب إحياء الأموات ، ص 271.

فجملة ما عند المخالف في ذلك ، أنّ الأرض تحيي للدار ، والحظيرة ، والزراعة ، فاحياءها للدار عندهم فهو بأن يحوّط عليها حائط ، ويسقف عليه. فإذا فعل ذلك ، فقد أحياها عندهم ، وملكها ملكا مستقرا ، ولا فرق بين أن يبني الحائط بطين ، أو بآجر وطين ، أو آجر وجصّ ، أو خشب ، هذا عند المخالف ، فأمّا عندنا فلو خصّ عليها خصا ، أو حجّرها ، أو حوّطها بغير الطين ، والآجر والجصّ ، ملك التصرّف فيها ، وكان أحقّ بها ، من غيره ، ثمّ قال المخالف : فأمّا إذا أخذها للحظيرة ، فقدر الإحياء ، أن يحوطها بحائط من آجر ، أو لبن ، أو طين ، وهو الرهص ، أو خشب ، وليس من شرط الحظيرة أن يجعل لها سقف ، وتعليق الأبواب في الدور ، والحظيرة ليس من شرطه ، وفيهم من قال ، هو شرط ، وأمّا الإحياء للزراعة ، فهو أن يجمع حولها ترابا ، وهو الذي يسمّى مرزا ، الراء قبل الزّاء ، وأن يرتب لها الماء ، إمّا ساقية يحفرها لسوق الماء فيها أو بقناة يحفرها ، أو بئر ، أو عين يستنبطها ، فهذا جميعه أورده شيخنا في كتابه المقدّم ذكره ، شارحا ، وذاكرا تقسيمات المخالف ، وما هو عندهم إحياء ، وكيفيات ذلك ، بعد أن أحكم في الأوّل ، ما هو عندنا إحياء ، والذي يقتضيه مذهبنا ، من الرجوع فيه إلى العرف والعادة ، لأنّه قال : لم يرد الشرع ببيان ما يكون إحياء دون ما لا يكون ، غير أنه إذا قال النبيّ صلى اللّه عليه وآله : من أحيا أرضا ميتة فهي له ، ولم يوجد في اللغة معني ذلك ، فالمرجع فيه إلى العرف والعادة (1).

ثم أورد بعد ذلك تقسيمات المخالف ، في كيفية الإحياء ، فلا يتوهم من يقف عليها ، أنّها مقالة أصحابنا ، فإنّ هذا الكتاب ، أعني المبسوط ، قد ذكر فيه مذهبنا ، ومذهب المخالف ، ولم يميّز أحد المذهبين من الآخر تمييزا جليّا وانّما يحققه ويعرفه من اطلع على المذهبين معا ، وسبر قول أصحابنا وحصّل خلافهم ،

ص: 482


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب إحياء الأموات ، ص 271.

وما نقتضيه أصول مذهبهم ، وإلا فالقارئ ، فيه ، يخبط خبط عشواء.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : إذا تحجّر أرضا ، وباعها ، لم يصح بيعها ، وفي الناس من قال يصحّ ، وهو شاذّ ، قال شيخنا : فأمّا عندنا فلا يصحّ بيعه ، لأنّه لا يملك رقبة الأرض بالإحياء ، وانّما يملك التصرف ، بشرط أن يؤدّي إلى الإمام ما يلزمه عليها ، وعند المخالف لا يجوز ، لأنّه لا يملك بالتحجّر قبل الإحياء ، فكيف يبيع ما لا يملك (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا يدلك ، أرشدك اللّه أنّ التحجّر عند المخالف ، غير الإحياء ، وأنّ الإحياء غير التحجّر ، وشيخنا جعل التحجّر مثل الإحياء الذي قسمه المخالف التقسيمات الأوّل (2) ، ولا فرق عندنا بين التحجّر الذي هو الآثار ، وسواء كانت للدار ، أو الزراعة أو الحظيرة ، أو (3) الإحياء الذي يذهب إليه المخالف ويقسّمه إلى ثلاثة أقسام للدار ، والحظيرة ، والزراعة.

وأمّا المعادن فعلى ضربين : ظاهرة ، وباطنة فالباطنة لها موضع نذكره إن شاء اللّه تعالى. وأمّا الظاهرة ، فهي الماء ، والقير ، والنفط ، والموميا ، والكبريت ، والملح ، وما أشبه ذلك ، فهذا لا يملك بالإحياء ولا يصير أحد أولى به بالتحجّر من غيره ، وليس للسلطان أن يقطعه ، بل الناس كلّهم فيه سواء ، يأخذون منه قدر حاجتهم ، بل يجب عندنا فيه الخمس ، ولا خلاف في أنّ ذلك لا يملك بالإحياء.

وأمّا المعادن الباطنة مثل الذهب ، والفضة ، والنحاس ، والرصاص ، وحجارة البرام ، وغيرها ممّا يكون في بطون الأرض ، والجبال ، ولا يظهر إلا بالعمل فيها ، والمئونة عليها ، فهل تملك بالإحياء ، أم لا؟ قيل فيه (4) قولان : أحدهما أنه (5) تملك ، وهو الصحيح ، وذلك مذهبنا. والثاني : قال المخالف ، لا تملك ، لأنّه لا خلاف في أنّه لا يجوز بيعه ، فلو ملك لجاز بيعه ، وعندنا يجوز بيعه بغير

ص: 483


1- المبسوط : ج 3 ، كتاب إحياء الأموات ، ص 273
2- في ط وج : الأولة.
3- في ط وج : وبين
4- ط : فيها
5- في ط وج : أنّها.

خلاف بيننا ، فإذا ثبت أنها تملك بالإحياء ، فإنّ إحياءه أن يبلغ نيله ، وما دون البلوغ ، تحجّر ، وليس بإحياء ، فيصير أولى به ، وهذا عند المخالف ، فأمّا عندنا لا فرق بين التحجّر والإحياء ، وقد أورد شيخنا المفيد رحمه اللّه في مقنعته في باب الخراج وعمارة الأرضين ، خبرا ، وهو : روى يونس بن إبراهيم ، عن يحيى بن الأشعث الكندي ، عن مصعب بن يزيد الأنصاري ، قال : استعملني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه على أربعة رساتيق ، المدائن ، والبهقباذات ، وبهرسير ، ونهر حريز ، ونهر الملك (1).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب ، رحمه اللّه : بهرسير بالباء المنقطة من تحتها نقطة واحدة ، والسين الغير معجمة هي المدائن ، والدليل على ذلك ، أنّ الراوي قال استعملني على أربعة رساتيق ، ثمّ عدّد خمسة ، فذكر المدائن ثم ذكر من جملة الخمسة بهرسير ، فعطف على اللفظ ، دون المعني ، فإن قيل : لا يعطف الشي ء على نفسه. قلنا : إنّما عطفه على لفظه ، دون معناه ، وهذا كثير في القرآن والشعر ، قال الشاعر :

إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم

فكل الصفات راجعة إلى موصوف واحد ، وقد عطف بعضها على بعض ، لاختلاف ألفاظها. وقول الحطيئة :

وهند أتى من دونها النأي والبعد

والبعد هو النأي ويدل على ما قلناه أيضا ما ذكره أصحاب السيرة في كتاب صفين ، قالوا : لما سار أمير المؤمنين عليه السلام ، إلى صفين ، قالوا : ثم مضى نحو ساباط ، حتى انتهى إلى مدينة بهرسير ، وإذا رجل من أصحابه ينظر إلى آثار كسرى ، وهو يتمثل بقول ابن يعفور التميمي :

جرت الرّياح على محل ديارهم *** فكأنّما كانوا على ميعاد

ص: 484


1- المقنعة : باب الخراج وعمارة الأرض ، ص 275.

فقال عليه السلام : أفلا قلت : ( كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنّاتٍ وَعُيُونٍ. وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ ) الآية (1) فأمّا البهقباذات فهي ثلاثة ، البهقباذ الأعلى ، وهو ستة طساسيج ، طسوج بابل وخطرنية والفلوجة العليا والسفلى والنهرين وعين التمر والبهقباذ الأوسط أربعة طساسيج طسوج الجبّة ولبداة وسوراء وبريسما ، ونهر الملك ، وباروسما ، والبهقباذ الأسفل ، خمسة طساسيج ، منها طسوج فرات ، وبادقلى وطسوج السيلحين ، الذي فيه الخورنق ، والسدير ، ذكر ذلك عبيد اللّه بن خرداذبة ، في كتابه الممالك والمسالك.

باب الخمس والغنائم

الخمس يجب في كل ما يغنم من دار الحرب ، ما يحويه العسكر ، وما لم يحوه ، وما يمكن نقله إلى دار الإسلام ، وما لا يمكن ، من الأموال والذراري والأرضين ، والعقارات ، والسلاح ، والكراع ، وغير ذلك ممّا يصحّ تملكه ، وكان في أيديهم على وجه الإباحة ، أو الملك ، ولم يكن غصبا لمسلم ويجب أيضا الخمس في جميع المعادن ، ما ينطبع منها : مثل الذهب ، والفضة ، والحديد ، والصفر ، والنحاس ، والرصاص ، والزئبق ، وما لا ينطبع : مثل الكحل ، والزرنيخ ، والياقوت ، والزبرجد ، والبلخش ، والفيروزج ، والعقيق ، والزمرد ، بالذال المعجمة.

ويجب أيضا في القير ، والكبريت ، والنفط ، والملح ، والموميا ، وكل ما يخرج من البحر ، وفي العنبر ، وهو نبات من البحر ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في كتاب الاقتصاد (2) وفي المبسوط (3) أنّه نبات من البحر ، وقال الجاحظ في كتاب الحيوان : العنبر يقذفه البحر إلى جزيرة ، فلا يأكل منه

ص: 485


1- الدخان : 25 و 26 و 27.
2- الاقتصاد : فصل في ذكر ما يجب فيه الخمس وبيان مستحقه وقسمته ، ص 283 الطبع الحديث.
3- المبسوط : ج 1 فصل في ذكر ما يجب فيه الخمس ، وليس فيهما انه نبات من البحر.

شي ء إلا مات ولا ينقره طائر بمنقاره ، إلا نصل فيه منقاره ، وإذا وضع رجليه عليه ، نصلت أظفاره ، فإن كان قد أكل منه ، قتله ما أكل ، وإن لم يكن أكل منه ، فإنّه ميّت لا محالة ، لأنّه إذا بقي بغير منقار ، لم يكن للطائر شي ء يأكل به ، والعطارون يخبروننا بأنّهم ربما وجدوا المنقار والظفر (1) كذا ذكره الجاحظ.

وقال المسعودي صاحب كتاب مروج الذهب ومعادن الجوهر : أصل الطيب خمسة أصناف : المسك والكافور والعود والعنبر والزعفران كلها تحمل من أرض الهند ، إلا الزعفران ، والعنبر قد يوجد بأرض الزنج والأندلس ، قال : والأفاوية ، خمسة وعشرون صنفا ، ذكر من جملة ذلك السليخة ، والورس ، وقصب الذريرة ، واللاذن ، والزيادة ، وقال ابن جزلة المتطبب في كتاب منهاج البيان : العنبر هو من عين في البحر ، واللاذن ، هو رطوبة وطلّ يقع من السّماء ، فيتعلق بشعر المعزى الراعية ، ولحاها إذا رعت نباتا بفلسوس (2) والزياد عرق دابة مثل السنور (3).

وفي المغرة ، والنورة ، وكلّما يتناوله اسم المعدن ، على اختلاف ضروبه ، سمّيناه وذكرناه ، أو لم نذكره ، فقد حصره بعض أصحابنا ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في جمله وعقوده ، فقال : الخمس يجب في خمسة وعشرين جنسا (4). وهذا غير واضح ، وحصر ليس بحاصر ، ولم يذكر في جملة ذلك الملح ، ولا الزمرد ، ولا المغرة ، ولا النورة.

ويجب الخمس أيضا في أرباح التجارات ، والمكاسب ، وفيما يفضل من الغلات والزراعات ، على اختلاف أجناسها ، عن مئونة السنة ، له ولعياله.

وفي الكنوز التي توجد في دار الحرب ، من الذهب والفضة ، والدراهم ، والدنانير ، سواء كان عليها أثر الإسلام ، أو لم يكن عليها أثر الإسلام ، فأمّا

ص: 486


1- لا يوجد عندنا
2- في ط : بفلنبوس
3- مروج الذهب : لم نجد فيه.
4- الجمل والعقود : فصل في ذكر ما يجب فيه الخمس ، ص 207 الطبع الحديث.

الكنوز التي توجد في بلد (1) الإسلام ، فإن وجدت في ملك الإنسان ، وجب أن يعرف أهله ، فإن عرفه كان له ، وإن لم يعرفه ، أو وجدت في أرض ، لا مالك لها ، أخرج منها الخمس ، وكان له الباقي.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : فهي على ضربين ، ما كان عليها أثر الإسلام ، مثل أن يكون عليها سكة الإسلام ، فهي بمنزلة اللقطة ، وإن لم يكن عليها أثر لإسلام ، أو كان عليها أثر الجاهلية ، من الصور المجسمة ، وغير ذلك ، فإنّه يخرج منها الخمس ، وكان الباقي لمن وجدها (2).

والصحيح ما قدّمناه أولا ، في أنّه يخرج منها الخمس ، سواء كان عليها أثر الإسلام أو لم يكن ، وما ذكره شيخنا في مبسوطة ، مذهب الشافعي ، والصحيح ما ذكره في مسائل خلافه فإنّه قال : يجب في الجميع الخمس ، وأورد خلاف الشافعي ، وقرقه ولم يلتفت إليه ، وقال : دليلنا عموم الأخبار في وجوب الخمس ، من الكنوز ، ولم يفرّقوا بين كنز وكنز (3).

وإذا اختلط المال الحرام بالحلال ، حكم فيه بحكم الأغلب ، فإن كان الغالب حراما احتاط في إخراج الحرام منه ، فإن لم يتميز له اخرج الخمس ، وصار الباقي حلالا ، والتصرف فيه مباحا ، وكذلك إن ورث مالا يعلم أن صاحبه جمع بعضه من جهات محظورة ، من غصب ، وربا ، وغير ذلك ، ولم يعلم مقداره ، أخرج الخمس ، واستعمل الباقي استعمالا مباحا ، وإن غلب في ظنّه ، أو علم أنّ الأكثر حرام ، احتاط في إخراج الحرام منه ، هذا إذا لم يتميز له الحرام ، فان تميّز له بعينه ، أو بمقداره ، وجب إخراجه ، قليلا كان أو كثيرا ، ولا يجب عليه إخراج الخمس منه ، ويرده إلى أربابه ، إذا تميّزوا ، فإن لم يتميزوا جدّ في طلبهم ، وطلب ورّاثهم ، فإن لم يجدهم ، وقطع على انقراضهم ، سلّمه إلى إمام

ص: 487


1- في ط وج : بلاد
2- المبسوط : ج 1 ، فصل في ذكر ما يجب فيه الخمس.
3- الخلاف : كتاب الزكاة ، مسألة 148 ، لكن المذكور فيها مخالف لما ذكره.

المسلمين ، فإنّه ماله ، إن كان ظاهرا ، أو حفظه عليه ، إن كان مستترا غائبا من أعدائه ، وقد روي أنّه يتصدق به عنهم (1).

وإذا اشترى ذمي من مسلم أرضا ، كان عليه فيها الخمس.

والعسل الذي يؤخذ من الجبال ، وكذلك المن ، يؤخذ منه الخمس ، وجميع الاستفادات ، من الصيود ، والاحتطاب ، والاحتشاش ، والاستقاء ، والإجارات ، والمجتنيات ، والاكتسابات ، يخرج منه الخمس ، بعد مئونة مستفيدة طول سنته ، على الاقتصاد دون التقصير والإسراف.

والمعدن يملك منه أصحاب الخمس خمسهم ، والباقي لمن استخرجه ، إذا كان في المباح ، فأمّا إذا كان في الملك ، فالخمس لأهله ، والباقي لمالكه.

ولا يعتبر في شي ء من المعادن والكنوز التي يجب فيها الخمس ، الحول ، لأنّه ليس بزكاة بل يجب إخراجه عند أخذها ، ولا يضم أيضا إلى ما معه من الأموال الزكاتية ، لأنّه لا يجب فيها الزكاة ، فإذا حال بعد إخراج الخمس منه حول ، كان عليه فيه الزكاة ، إن كان دراهم أو دنانير ، وإن كان غيرهما ، فلا شي ء فيه.

وجميع ما ذكرناه يجب فيه الخمس ، قليلا كان أو كثيرا ، إلا الكنوز فحسب ، فإنّه لا يجب فيها الخمس ، إلا إذا بلغت إلى القدر الذي يجب فيه الزكاة ، فيكون مقدارها أو قيمتها عشرين دينارا.

والغوص لا يجب فيه الخمس ، إلا إذا بلغ دينارا أو ما قيمته دينار.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : إلا الكنوز ، ومعادن الذهب والفضة ، وهذا ليس بواضح ، لأنّ إجماع أصحابنا ، منعقد على استثناء الكنوز ، واعتبار المقدار فيها ، وكذلك الغوص ، ولم يستثنوا غير هذين الجنسين ، فحسب بل إجماعهم منعقد على وجوب إخراج الخمس ، من المعادن جميعها ، على اختلاف

ص: 488


1- الوسائل : الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس ، ح 4.

أجناسها ، قليلا كان المعدن أو كثيرا ، ذهبا كان أو فضة ، من غير اعتبار مقدار ، وهذا إجماع منهم بغير خلاف.

ويجب إخراج الخمس من المعادن والكنوز على الفور ، بعد أخذها ، ولا يعتبر مؤون السنة ، بل يعتبر بعد إخراج مؤنها ونفقاتها ، إن كانت تحتاج إلى ذلك.

وأمّا ما عدا الكنوز ، والمعادن ، من سائر الاستفادات ، والأرباح ، والمكاسب ، والزراعات ، فلا يجب فيها الخمس ، بعد أخذها وحصولها ، بل بعد مئونة المستفيد ، ومئونة من تجب عليه مئونته ، سنة هلالية ، على جهة الاقتصاد ، فإذا فضل بعد نفقته طول سنته شي ء ، أخرج منه الخمس ، قليلا كان الفاضل ، أو كثيرا ، ولا يجب عليه أن يخرج منه الخمس ، بعد حصوله له ، وإخراج ما يكون بقدر نفقته ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، وإخراج ذلك على الفور أو وجوبه ذلك الوقت ، يحتاج إلى دليل شرعي ، والشرع خال منه ، بل إجماعنا منعقد بغير خلاف أنّه لا يجب إلا بعد مئونة الرجل طول سنته ، فإذا فضل بعد ذلك شي ء ، أخرج منه الخمس ، من قليله وكثيره ، وأيضا فالمئونة لا يعلمها ، ولا يعلم كميتها ، إلا بعد تقضي سنته ، لأنّه ربما ولد له الأولاد ، أو تزوج الزوجات ، أو انهدمت داره ، ومسكنه ، أو ماتت دابّته ، التي يحتاج إليها ، أو اشترى خادما يحتاج إليه ، أو دابّة يحتاج إليها ، إلى غير ذلك ممّا يطول تعداده وذكره ، والقديم ، ما كلفه إلا بعد هذا جميعه ، ولا أوجب عليه شيئا ، إلا فيما يفضل عن هذا جميعه طول سنته ، وقول شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في جمله وعقوده : ووقت وجوب الخمس فيه ، وقت حصوله (1) يريد به المعادن التي عدّدها ، بدليل قوله واستثنائه الكنوز ، فإنّه قال : إلا الكنوز ، فإنّه يراعى فيها النصاب الذي فيه الزكاة ، والغوص يراعى فيه مقدار دينار ، وما عداهما لا يراعى فيه مقدار ، ولو

ص: 489


1- الجمل والعقود : فصل في ذكر ما يجب فيه الخمس ، ص 207.

أراد شيخنا جميع ما يجب فيه الخمس ، على اختلافه لما قال : ووقت وجوب الخمس فيه وقت حصوله ، لأنّ أحدا لا يقول بذلك ، لأنّه وغيره من أصحابنا يقول في المكاسب ، والأرباح ، والزراعات ، والاستفادات ، لا يجب فيها الخمس ، إلا بعد مئونة الرجل طول سنته ، ولا يطلقون الوجوب فيها وقت حصوله ، بل يقيدونه ، ويقولون لا يجب فيها الخمس ، إلا بعد مئونة الرجل طول سنته ، وقد ذكر ابن البراج في كتابه الموسوم بالتعريف ، قال : والوقت الذي يجب إخراج الخمس فيه من المعادن ، هو وقت أخذها (1) فلو كان يجب إخراج الخمس من جميع ما يجب فيه الخمس من الأجناس ، وقت حصوله ، لما أفرد المعادن بالذكر ، دون غيرها فليتأمل ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : وما يصطاد من البحر ، من سائر أنواع الحيوان ، لا خمس فيه ، لأنّه ليس بغوص ، فأمّا ما يخرج منه بالغوص ، أو يوجد قفيّا على رأس الماء ، ففيه الخمس (2).

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : أمّا قوله رحمه اللّه لأنّه ليس بغوص ، فصحيح ، بل هو استفادة ، ومكتسب ، وعندنا بلا خلاف أنّ في الاستفادة ، الخمس ، بعد المئونة ، ففارق ما يصطاد من البحر ، الغوص. بانّ الخمس لا يجب فيه إلا إذا بلغت قيمته دينارا ، ولا يعتبر مئونة السنة فيه ، وما يصطاد بلا غوص ، لا يعتبر فيه مقدار الدينار ، بل يعتبر فيه مئونة السنة لأنّه استفادة ، وليس بغوص ، فليحصّل عنّي ما ذكرته ، ففيه غموض.

وقال بعض أصحابنا : إنّ الميراث والهدية ، والهبة ، فيه الخمس ، ذكر ذلك أبو الصلاح الحلبي ، في كتاب الكافي (3) الذي صنّفه ، ولم يذكره أحد من أصحابنا ، إلا المشار إليه ، ولو كان صحيحا لنقل نقل أمثاله متواترا ، والأصل براءة الذمة ، فلا نشغلها ، ونعلّق عليها شيئا إلا بدليل ، وأيضا قوله تعالى : ( وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) (4).

ص: 490


1- لا يوجد عندنا
2- المبسوط : ج 1 ، فصل في ذكر ما يجب فيه الخمس ، في المصدر ( الحيوانات ).
3- الكافي : فصل في الخمس ، ص 170 ، ( وهو غير مشتمل على الهدية )
4- محمّد : 36.

سؤال : إن قيل في غائص غاص دفعة ، فأخرج أقل من قيمة دينار ، ثم غاص ثانية ، فأخرج أقل من قيمة دينار ، إلا أن بمجموعهما ، يكونان دينارا ، فهل عليه فيهما الخمس؟ قيل له : نعم ، يجب عليه فيهما الخمس ، لأنّ الغوص مصدر ، ومعناه المغوص ، والمغوص اسم جنس ، يتناول الدفعة ، والدفعات ، وكذلك القول في رجل ، وجد كنزا ، ينقص عن عشرين دينارا ، ثمّ وجد دفعة ثانية كنزا ، ينقص عن عشرين مثقالا ، المسألة واحدة ، والجواب عنهما سواء.

والأولى عندي والأقوى ، أنّه لا يجب في المسألتين معا الخمس ، إلا أن يبلغ كلّ دفعة في (1) المغوص والمكنوز المقدار المراعى في كلّ واحد منهما ، بانفراده لا مجتمعا مع الدفعة الأخرى ، لأنّ كل دفعة ينطلق عليه اسم المغوص عليه حقيقة لا مجازا ، وكذلك المكنوز ، ويعضد ذلك ، أنّ الأصل براءة الذمة وقوله تعالى : ( وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) ، وأيضا إذا وجد الإنسان لقطة أقل من قيمة الدرهم ، ثمّ وجد اخرى أقل من قيمة الدرهم ، فلا خلاف أنّه لا يجب عليه التعريف ، وإن كانتا بمجموعهما تبلغان الدرهم وأكثر.

قال محمّد بن إدريس : ولي في الأولى نظر.

باب قسمة الغنائم والأخماس ومن يستحقها

كل ما يغنمه المسلمون من دار الحرب من جميع الأصناف التي قدمنا ذكرها ، فما حواه العسكر ، يخرج منه الخمس بعد ما يصطفي الإمام عليه السلام ما يختاره ، ما لم يجحف بالغانمين ، وأربعة أخماس ما يبقى ، يقسّم بين المقاتلة ، وما لم يحوه العسكر من الأرضين ، والعقارات ، وغيرها من أنواع الغنائم ، يخرج منه الخمس ، والباقي يكون للمسلمين قاطبة ، مقاتلتهم وغير مقاتلتهم ، من حضر ومن لم يحضر ، من ولد ، ومن لم يولد ، يقسمه الإمام ، بينهم على قدر ما يراه من مؤونتهم ،

ص: 491


1- في ط وج : من.

هكذا ذكره شيخنا في نهايته (1).

قال محمد بن إدريس : ولا أرى لهذا القول وجها ، لأنّ المئونة هاهنا غير معتبرة ، بل الواجب قسمة الغنيمة بين الغانمين ، على رءوسهم ، وخيلهم ، دون مؤونتهم ، بغير خلاف ، بين أصحابنا في ذلك ، للمقاتل سهمه ، سواء كان قليل المئونة ، أو كثيرها.

والخمس يأخذه الإمام ، فيقسمه ستة أقسام ، قسما لله ، وقسما لرسوله ، وقسما لذي القربى ، فقسم اللّه ، وقسم رسوله ، وقسم ذي القربى ، للإمام خاصّة ، يصرفه في أمور نفسه ، وما يلزمه من مئونة من يجب عليه نفقته ، وسهم ليتامى بني هاشم ، وسهم لمساكينهم ، وسهم لأبناء سبيلهم. وليس لغير بني هاشم شي ء من الأخماس ، وهؤلاء الذين يحرم عليهم زكاة الأموال الواجبة ، مع تمكنهم من مستحقاتهم ، وأخماسهم ، وقد شرحناهم ، وحققنا نسبهم ، فيما مضى من أبواب الزكاة ، فلا نطوّل بذكره هاهنا.

وعلى الإمام أن يقسم سهامهم فيهم على قدر كفايتهم ، ومؤونتهم ، في السنة على الاقتصاد ، فإن فضل من ذلك شي ء ، كان هو الحافظ له ، والمتولي لحفظه عليهم ، ولا يجوز أن يتملك منه شيئا لنفسه ، لأنّ الحق لهم ، فلا يجوز له أن يأخذ من مالهم شيئا ، وما يوجد في بعض كتب أصحابنا (2) من القول المسطور ، فإن فضل من ذلك شي ء كان له خاصة ، معناه كان له القيام عليه ، والولاية بالحفظ (3) ، والتدبير دون رقبته ، وقد يضاف الشي ء إلى الغير ، بأن يكون قائما عليه ، ومتوليا لحفظه ، فيقال إنّه له ، وفي القرآن مثل ذلك قال اللّه تعالى ( وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ ) (4) فأضاف تعالى المال إلينا وإن كان مالا لليتيم ، ولا يملك المتولي والوصي رقبته بحال ، بغير خلاف ، بل أضافه إلينا ، لأنّا القوّام عليه ، والحفاظ له ، ومثله في كلام العرب كثير ، ويدلك على ما قلناه ، أنّه لا خلاف بين

ص: 492


1- النهاية : كتاب الخمس ، باب قسمة الغنائم والأخماس.
2- وهو الشيخ رحمه اللّه في النهاية
3- في ط وج : لحفظه
4- النساء : 5.

المسلمين ، ولا بين الشيعة خاصة ، أن سهام هؤلاء - أعني اليتامى ، والمساكين ، وأبناء السبيل ، من بني هاشم خاصة - عندنا ، لا يستحق الإمام منها شيئا جملة ، بل له سهمه ولهم سهمهم ، لأنّ اللّه تعالى كما ملكه سهمه بلام الملك ، والاستحقاق ، ملّكهم سهمهم بذلك اللام ، الذي الواو نائبة عنه ، لأنّ المعطوف في لسان العرب ، له حكم المعطوف عليه ، بغير خلاف.

وقد يوجد أيضا في سواد الكتب ، وشواذ الأخبار ، وإن نقص ، كان عليه أن يتم من خاصّته وهذا غير صحيح ، والكلام عليه ما تقدّم قبله ، بلا فصل ، لأنّ اللّه تعالى ملكه سهمه بلام الملك والاستحقاق ، بنصّ القرآن ، والأصل براءة الذمة الإمام ذمة غيره ، إلا بدليل شرعي ، وذلك مفقود هاهنا ، وقوله تعالى : ( وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ ) ، دليل أيضا ، والقرآن والإجماع من أصحابنا دليلان على استحقاقه عليه السلام ، لنصف الخمس ، فمن أخرج منه شيئا ، وشغل ذمته بتمام كفاية الغير الذين لا يجب عليه نفقتهم ، ولا هم ممن يجبر الإنسان على نفقته ، يحتاج إلى دليل ، ولن نجده بحمد اللّه تعالى ، بل دونه خرط القتاد ، أو المكابرة والعناد ، وما يوجد في سواد بعض الكتب ، فإنّه من أضعف أخبار الآحاد ، لأنّه مرسل غير مسند ، وعند من يعمل بأخبار الآحاد ، لا يعمل بذلك ، لأنّه لا يعمل إلا بالمسانيد التي يرويها العدول ، دون المراسيل ، قد أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في تهذيب الأحكام فقال : محمّد بن الحسن الصفار ، عن أحمد بن محمد قال حدّثنا بعض أصحابنا ، وأرسله وذكر الحديث بطوله ، حذفته مخافة التطويل ، واثبت منه المقصود ، وقال في آخر الخبر : فأمّا الخمس فيقسم ستة أسهم : سهم لله ، وسهم للرسول صلى اللّه عليه وآله ، وسهم لذي القربي ، وسهم لليتامى وسهم للمساكين ، وسهم لأبناء السبيل ، فالذي لله ، فلرسوله صلى اللّه عليه وآله ، ورسول اللّه أحقّ به ، فهو له ، والذي للرسول ، هو لذي القربى ، والحجة في زمانه فالنصف له خاصة والنصف لليتامى ، والمساكين ، وأبناء

ص: 493

السبيل ، من آل محمد عليهم السلام ، الذين لا تحل لهم الصدقة ولا الزكاة ، عوضهم اللّه مكان ذلك الخمس ، فهو يعطيهم على قدر كفايتهم ، فإن فضل شي ء فهو له ، وإن نقص عنهم ، ولم يكفهم ، أتمه من عنده ، كما صار له الفضل ، كذلك يلزمه النقصان (1) ثمّ أورد خبرا آخر مرسلا ، غير مسند ، أضعف من الخبر الأول ، فقال : الحسن بن علي بن فضال (2) قال : حدّثني علي بن يعقوب أبو الحسن البغدادي ، عن الحسن بن إسماعيل بن صالح الصيمري قال : حدّثني الحسن بن راشد ، قال : حدّثني حماد بن عيسى ، قال : رواه لي بعض أصحابنا ، ذكر عن العبد الصالح أبي الحسن الأول عليه السلام. قال : الخمس من خمسة أشياء ، وذكر في آخر الحديث فقال : فله - يعني الإمام - نصف الخمس كملا ، ونصف السهم الباقي بين أهل بيته ثلاثة : سهم لأيتامهم ، وسهم لمساكينهم ، وسهم لأبناء سبيلهم ، يقسّم بينهم على الكفاف والسعة (3) ، ما يستغنون به في سنتهم ، فإن فضل عنهم شي ء يستغنون ، فهو للوالي ، وإن عجز أو نقص (4) استغناؤهم ، كان على الوالي أن ينفق من عنده ، بقدر ما يستغنون به ، وانّما صار عليه أن يمونهم ، لأنّ له ما فضل عنهم (5).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : فهذان الحديثان الضعيفان ، أوردهما في تهذيب الأحكام الذي لم يصنّف كتابا في الأخبار أكبر منه ، ولم يورد فيه غيرهما مع ما قد جمع فيه من الأخبار المتواترة ، والآحاد ، والمراسيل ، والمسانيد ، وإلا فالسبر (6) بيننا وبين المخالف في ذلك ، فهل يحل لمن له أدنى تأمّل ومعرفة ، أن يعدل عن كتاب اللّه تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إلى

ص: 494


1- التهذيب : كتاب الزكاة ، باب تمييز أهل الخمس ومستحقه ، ح 364.
2- وفي التهذيب علي بن الحسن بن فضال.
3- ج : على الكفايات.
4- ج : ونقص.
5- التهذيب : كتاب الزكاة ، باب قسمة الغنائم ، ح 366.
6- ج : ما لسبر.

هذين الخبرين المرسلين ، وراوي أحدهما فطحي المذهب ، كافر ملعون ، مع كونه مرسلا وهو الحسن بن الفضال ، وبنو فضال كلّهم فطحية ، والحسن رأسهم في الضلال ، ثمّ لو سلّمناهما تسليم جدل ، ما كان فيهما ما ينافي ما ذكرناه ، لأنّه قال فيهما : وإن نقص استغناؤهم ، كان على الوالي أن ينفق من عنده ، بقدر ما يستغنون به ، لأنّه عليه السلام القائم بأمور الرعية ، الناظر في أحوالهم ، سواء كانوا هاشميين ، أو عاميين ، فإنّه يجب عليه أن ينفق عليهم من بيت مال المسلمين ، لا من ماله ، لأنّ لهم في بيت المال حظا مثل سائر الناس ، وليس المال الذي في بيت مال المسلمين مختصا بأرباب الزكوات ، بل الناس جميعهم فيه شرع سواء ، وهو المتولي لتفرقته عليهم ، فقوله : من عنده ، أي من تحت يده ، وأيضا فقد بيّنا أنّه لا يجوز العمل بأخبار الآحاد ، وإن كانت رواتها ثقات ، عند أهل البيت عليهم السلام ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، وأكثر ما يثمر غلبة الظن ، ولا يجوز العدول عن المعلوم الذي هو كتاب اللّه تعالى إلى المظنون ، وأدلّة العقول تعضد ذلك ، وتشهد به ، لأنّ مال الغير لا يجوز التصرف فيه ، إلا بإذنه ، ولو لم يكن في ذلك إلا طريقة الاحتياط لبراءة الذمة ، لكفى ، لأنّ الذمة مشغولة بهذا المال ، وإيصاله إلى صاحبه ، ومستحقه ، فإذا فعل ذلك تيقن براءة ذمته مما لزمها ، وإذا أعطاه لغيره ففيه الخلاف ، ولم يتيقن براءة ذمته ، وإذا لم يكن مع المخالف إجماع ، فدليل القرآن ، وأدلّة العقول ، ودليل الاحتياط ، التمسك بها في المسألة ، هو الواجب الذي لا يجوز العدول عنه ، لذي لبّ وتأمّل وتحصيل ، وأيضا فالمسألة الشرعيّة ، لا نعلمها إلا من أربع طرق ، كتاب اللّه العزيز ، وسنة رسوله المتواترة ، وإجماع الشيعة الإمامية ، لدخول قول معصوم فيه ، فإذا فقدنا الثلاث الطرق ، فدليل العقل المفزع إليه فيها ، فهذا معنى قول الفقهاء : دلالة الأصل ، فسبرنا كتاب اللّه تعالى ، فما وجدنا فيه ، أنّ مال ابن الحسن ، يعطى لغيره ، ويستحقه سواه ، ويسلّم إليه بغير اذنه ، وكذلك السنة المتواترة ، ولا أجمعنا

ص: 495

على أنّ مال ابن الحسن ، يستحقه غيره ، ويسلم إلى سواه ، بغير اذنه فلم يبق معنا من الأدلة والطرق الأربع ، سوى دليل العقل ، ودليل العقل يحظر علينا التصرّف في مال الغير بغير إذنه ، هذا لا معدل للمنصف المتأمّل عن هذا الاستدلال إلا إليه ، أعوذ باللّه من سوء التوفيق ، ثم لا تجد مصنّفا من أصحابنا بعد ذكره لهذه المسألة ، إلا ويودع في كتابه ، ويفتي ويقول : إنّ نصف الخمس ، يوصى به لصاحبه ، أو يحفظ لصاحبه ، أو يودع لصاحبه ، على اختلاف العبارات ، فلو أراد أنّه يستحقه غيره مع غيبته ، ويسلم إلى من سواه ، لكانوا مناقضين في أقوالهم ، والأدلة لا تتناقض ، وإلا فالسبر بيننا.

وهؤلاء الذين يستحقون الخمس ، هم الذين قدّمنا ذكرهم ، ممن يحرم عليهم الزكاة ، ذكرا كان أو أنثى ، فإن كان هناك ، من امّه ، من غير أولاد المذكورين ، وكان أبوه منهم حل له الخمس ، ولم تحل له الزكاة ، وإن كان ممن أبوه من غير أولادهم ، وامّه منهم ، لم يحلّ له الخمس ، وحلّت له الزكاة.

واليتامى وابن السبيل ، يعطيهم مع الفقر والغنى ، لأنّ الظاهر يتناولهم.

وينبغي أن يفرّق الخمس في الأولاد ، وأولاد الأولاد ، ولا يخصّ بذلك الأقرب فالأقرب ، لأنّ الاسم يتناول الجميع ، وليس ذلك على وجه الميراث ، ولا يفضل ذكر على الأنثى ، من حيث كان ذكرا ، لأنّ التفرقة انّما هي على قدر حاجتهم إلى ذلك ، وذلك يختلف بحسب أحوالهم ، ويعطى الصغير منهم والكبير ، لتناول الاسم لهم ، والظاهر يقتضي أن يفرّق في جميع من تناوله الاسم ، في بلد الخمس كان ، أو في غيره من البلاد ، قريبا كان ، أو بعيدا ، إلا أن ذلك يشق ، والأولى أن نقول : نخصّ به من حضر البلد الذي فيه الخمس ، ولا يحمل إلى غيره ، إلا مع عدم مستحقه.

ولو أنّ إنسانا حمل ذلك إلى بلد آخر ، ووصل إلى مستحقه ، لم يكن عليه شي ء ، إلا أنّه يكون ضامنا ، إن هلك ، مثل الزكاة.

ولا ينبغي أن يعطي إلا من كان مؤمنا ، أو بحكم الإيمان ، ويكون عدلا

ص: 496

مرضيا ، فإن فرّق في الفساق جاز ذلك ، ولم يكن عليه ضمان ، لأنّ الظاهر يتناولهم.

ومتى حضر الثلاثة الأصناف ، ينبغي أن لا يخصّ به قوم دون قوم ، بل الأفضل تفريقه في جميعهم ، وإن لم يحضر عند المعطي ، إلا فرقة منهم ، جاز له أن يفرّق فيهم ، ولا ينتظر غيرهم ولا يحمل إلى بلد آخر ، إلا على ما قلناه وحررناه.

باب في ذكر الأنفال ومن يستحقها

الأنفال هي جمع نفل ، ونفل يقال بسكون الفاء وفتحها ، وهو الزيادة ، وهي كل أرض خربة باد أهلها ، إذا كانت قد جرى عليها ملك أحد ، وكل أرض ميتة خربة لم يجر عليها ملك لأحد ، وكل أرض لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، الإيجاف : السير السريع ، أو أسلمها أهلها طوعا بغير قتال ، ورءوس الجبال ، وبطون الأودية ، والآجام التي ليست في أملاك المسلمين ، بل التي كانت مستأجمة قبل فتح الأرض ، والمعادن التي في بطون الأودية ، التي هي ملكه ، وكذلك رءوس الجبال ، فأمّا ما كان من ذلك في أرض المسلمين ، ويد مسلم عليه ، فلا يستحقه عليه السلام ، بل ذلك في الأرض المفتتحة عنوة ، والمعادن التي في بطون الأودية مما هي له ، والأرضون الموات التي لا أرباب لها ، وصوافي الملوك وقطائعهم التي كانت في أيديهم ، لا على وجه الغصب ، وميراث من لا وارث له ومن الغنائم قبل أن تقسّم ، الجارية الرائعة الحسناء ، والفرس الجواد - وقال بعض أصحابنا في كتاب له : الفرس الفاره ، وأهل اللغة يأبون هذا ، ويقولون : إنّ الفرس لا يقال له فاره ، بل يقال فرس جواد ، وحمار فاره - والثوب المرتفع ، وما أشبه ذلك ، من الدرع الحصينة ، والسيف القاطع ، مما لا نظير له ، من رقيق ، أو متاع ، ما لم يجحف بالغانمين.

وإذا قاتل قوم أهل حرب بغير أمر الإمام ، فغنموا ، كانت الغنيمة خاصّة للإمام ، دون غيره ، فجميع ما ذكرناه ، كان للنبي عليه السلام خاصّة ، وهو لمن

ص: 497

قام مقامه من الأئمة ، في كل عصر ، لأجل المقام لا وراثة ، فلا يجوز لأحد التصرّف في شي ء من ذلك ، إلا بإذنه ، فمن تصرّف في شي ء من ذلك بغير اذنه ، كان غاصبا ، وما يحصل منه من الفوائد والنماء للإمام ، دون غيره.

ومتى تصرّف في شي ء منه بأمر الإمام وبإباحته ، أو بضمانه ، وقبالته ، كان عليه أن يؤدّي ما يصالحه الإمام عليه ، من نصف ، أو ثلث ، أو ما تقرر بينهما ، والباقي له ، وكل منهما تجب عليه الزكاة ، إذا بلغت حصته النصاب.

هذا إذا كان في حال ظهور الإمام ، وانبساط يده ، فأمّا في حال الغيبة وزمانها واستتاره عليه السلام ، من أعدائه ، خوفا على نفسه ، فقد رخّصوا لشيعتهم التصرف في حقوقهم ، مما يتعلق بالأخماس وغيرها ، مما لا بدّ لهم ، من المناكح ، والمتاجر - والمراد بالمتاجر أن يشتري الإنسان مما فيه حقوقهم عليهم السلام ويتجر في ذلك ، ولا يتوهم متوهم ، أنّه إذا ربح في ذلك المتجر شيئا ، لا يخرج منه الخمس ، فليحصّل ما قلناه ، فربما اشتبه - والمساكن ، فأمّا ما عدا الثلاثة الأشياء ، فلا يجوز التصرف فيه على حال.

وما يستحقونه من الأخماس ، في الكنوز ، والمعادن ، والأرباح ، والمكاسب ، والزراعات ، الفاضلة عن مئونة السنة ، وغير ذلك في حال الغيبة ، فقد اختلفت أقوال الشيعة الإمامية في ذلك ، وليس فيه نص معيّن ، فقال بعضهم : إنّه جار في حال الاستتار ، مجرى ما أبيح لنا من المناكح والمتاجر والمساكن ، وهذا لا يجوز العمل عليه ، ولا يلتفت إليه ، ولا يعرج عليه ، لأنّه ضد الدليل ، ونقيض الاحتياط ، وأصول المذهب ، وتصرّف في مال الغير ، بغير اذن قاطع.

وقال قوم : إنّه يجب حفظه ما دام الإنسان حيا ، فإذا حضرته الوفاة ، وصى به إلى من يثق بديانته ، من إخوانه ، ليسلم إلى صاحب الأمر ، إذا ظهر ، ويوصى به ، كما وصّي إليه إلى أن يصل إلى صاحبه عليه السلام وقال قوم : يجب دفنه ، لأنّ الأرضين تخرج ما فيها ، عند قيام القائم ، مهدي الأنام عليه السلام ، واعتمد في ذلك على خبر واحد.

ص: 498

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : والأولى عندي الوصية به ، والوديعة ، ولا يجوز دفنه ، لأنّه لا دليل عليه.

وقال قوم : يجب أن يقسّم الخمس ، ستة أقسام ، فثلاثة أقسام للإمام ، يدفن أو يودع من يوثق بأمانته ، والثلاثة الأقسام الأخر ، تفرّق على مستحقيها ، من أيتام بني هاشم ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، لأنّهم المستحقون لها ، وهم ظاهرون ، وعلى هذا يجب أن يكون العمل والاعتماد والفتيا ، لأنّ مستحقها ظاهر ، وانّما المتولي لقبضها وتفريقها ليس بظاهر ، فهو مثل الزكاة ، في أنّه يجوز تفرقتها ، وإن كان الذي يجبي الصدقات ويتولّاها ليس بظاهر ، فأمّا القول الأول فلا يجوز العمل به على حال.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : هذا الذي اخترناه ، وحقّقناه ، وأفتينا به ، هو الذي يقتضيه الدين ، وأصول المذهب ، وأدلة العقول ، وأدلة الفقه ، وأدلة الاحتياط ، وإليه يذهب ويعوّل عليه ، جميع محققي أصحابنا المصنّفين ، المحصّلين ، الباحثين ، عن مأخذ الشريعة ، وجهابذة الأدلة ، ونقّاد الآثار ، فانّ جميعهم يذكرون في باب الأنفال هذه المقالة ، ويعتمدون على القول الأخير الذي ارتضيناه ، بغير خلاف بينهم ، ويقولون ما حكيناه. ويذكرون ما شرحناه ، ويصرّحون بأنّه ليس فيه نص معيّن ، فلو كان الخبران الضعيفان صحيحين ، ما كانوا يقولون ليس فيه نص معيّن.

وشيخنا المفيد ، يقول : وإنّما اختلفوا في ذلك ، لعدم ما يلجأ إليه من صريح المقال ، وما سطرناه واخترناه ، مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه واختياره في مبسوطة (1) ، وهذا الكتاب ، اللّهم آخر ما صنّفه في الفقه ، فإنّه بعد النهاية ، والتهذيب ، والاستبصار ، والجمل والعقود ، ومسائل الخلاف ، وإن كان

ص: 499


1- المبسوط : كتاب الزكاة ، في ذكر الأنفال وما يستحقها ، ص 264.

في جميع كتبه هذا اختياره ، وفتواه ، واعتقاده ، مع اختلاف عباراته في كتبه ، وتصنيفاته ، وإن كان المعنى واحدا ، وقد أفتى فتيا صريحة ، في جواب المسائل الحائريات ، فقال له السائل : وعن رجل وجد كنزا ، لم يجد من يستحق الخمس منه ، ولا من يحمله إليه ، ما يصنع به؟ فقال : الجواب ، الخمس نصفه لصاحب الزمان ، يدفنه أو يودعه عند من يثق به ، ويأمره بأن يوصي بذلك إلى أن يصل إلى مستحقه ، والنصف الآخر يقسمه في يتامى آل الرسول ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، فإنّهم موجودون ، وإن خاف من ذلك ، أودع الخمس كلّه ، أو دفنه (1) هذا أخر فتياه رحمه اللّه ، فلو كان يرى أنّ حقّ صاحب الزمان ، يجوز صرفه إلى بني هاشم ، في حال الغيبة ، لما أفتى بما ذكرناه عنه.

والسيد المرتضى رضي اللّه عنه أفتى في المسائل الموصليات الثانية الفقهية ، وهي المسألة الثلاثون فقال : والخمس ستة أسهم ، ثلاثة منها للإمام القائم بخلافة الرسول ، وهي سهم اللّه ، وسهم رسوله ، وسهم الإمام ، والثلاثة الباقية ، ليتامى آل الرسول ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، خاصة ، دون الخلق أجمعين.

وتحقيق هذه المسألة ، انّ إخراج الخمس واجب ، في جميع الغنائم ، والمكاسب ، وكل ما استفيد بالحرب (2) وما استخرج أيضا من المعادن ، والغوص ، والكنوز ، وما فضل من أرباح التجارات ، والزراعات ، والصناعات ، عن المئونة والكفاية ، وقسمة هذا الخمس ، وتمييز أهله ، هو أن يقسّم على ستّة سهام ، ثلاثة منها للإمام القائم مقام الرسول عليهما السلام وهي سهم اللّه ، وسهم رسوله ، وسهم ذي القربى ، لأنّ إضافة اللّه تعالى ذلك إلى نفسه ، هي في المعنى للرسول عليه السلام ، إنّما (3) أضافها إلى - نفسه ، تفخيما لشأن الرسول ، وتعظيما ، كإضافة طاعة الرسول عليه السلام إليه تعالى ، وكما أضاف رضاه عليه السلام وأذاه إليه ، جلّت عظمته.

ص: 500


1- لم نجد المسألة في المسائل الحائريات.
2- ج : بالحرف.
3- في ط وج : والنما.

والسهم الثاني المذكور المضاف إلى الرسول عليه السلام ، له بصريح الكلام ، وهذان السهمان معا للرسول عليه السلام في حياته ، ولخليفته القائم مقامه بعده.

فأمّا المضاف إلى ذي القربى ، فإنّما عنى به ولي الأمر من بعده ، لأنّه القريب إليه ، الخصيص به.

والثلاثة أسهم الباقية ، ليتامى آل محمّد عليهم السلام ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، وهم بنو هاشم خاصة ، دون غيرهم.

وإذا غنم المسلمون شيئا من دار الكفر ، بالسيف ، قسمه الإمام على خمسة أسهم ، فجعل أربعة منها بين من قاتل عليه ، وجعل السهم الخامس على ستة أسهم ، وهي التي قدّمنا بيانها ، ثلاثة منها ، له عليه السلام ، وثلاثة للثلاثة الأصناف من أهله ، من أيتامهم ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، والحجة في ذلك إجماع الفرقة المحقة عليه ، وعملهم به.

فإن قيل : هذا تخصيص لعموم الكتاب ، لأنّ اللّه تعالى يقول ( وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى ) (1) فأطلق ، وعمّ ، وأنتم جعلتم المراد بذي القربى واحدا ، ثمّ قال ( وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ) وهذا عموم ، فكيف خصّصتموه ببني هاشم خاصّة؟.

فالجواب عن ذلك ، أنّ العموم قد يخصّ بالدليل القاطع ، وإذا كانت الفرقة المحقة ، قد أجمعت على الحكم الذي ذكرناه خصّصنا بإجماعهم ، الذي هو غير محتمل الظاهر المحتمل ، على أنّه لا خلاف بين الأمّة ، في تخصيص هذه الظواهر ، لأنّ إطلاق قوله تعالى : « ذي القربى » يقتضي عمومه ، قرابة النبي عليه السلام ، وغيره ، فإذا خصّ به قرابة النبيّ عليه السلام ، فقد عدل عن الظاهر ، وكذلك

ص: 501


1- الأنفال : 41.

إطلاق لفظة اليتامى ، والمساكين ، وابن السبيل تقتضي دخول من كان بهذه الصفة ، من مسلم ، وذمي ، وغني ، وفقير ، ولا خلاف في أنّ عموم ذلك ، غير مراد ، وأنّه مخصوص على كل حال (1) هذا آخر كلام السيد المرتضى لا زيادة فيه ولا نقصان.

قال محمّد بن إدريس : فهل ترى أرشدك اللّه ، خللا في كلام السيد ، أو أنّه أعطى مال ابن الحسن لغيره ، أو تمّم لشركائه عليه السلام من سهمه ، إذا نقص سهمهم عن كفايتهم ، بل قسّمه على ما قسمه اللّه سبحانه ، وأعطى كل ذي حقّ حقّه ، ولم يلتفت إلى خبر شاذ ، وقول سخيف ، ومذهب ضعيف ، وإلى هذا القول ذهب رحمه اللّه في كتابه كتاب الانتصار (2).

وأمّا شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان رحمه اللّه ، فقد قال في مقنعته : وقد اختلف قوم من أصحابنا في ذلك ، عند الغيبة ، وذهب كل فريق منهم إلى مقال ، فمنهم من يسقط (3) فرض إخراجه لغيبة الإمام ، وما تقدّم من الرخص فيه ، من الاخبار ، وبعضهم يوجب كنزه ، ويتأوّل خبرا (4) ورد أنّ الأرض تظهر كنوزها ، عند ظهور القائم ، مهدي الأنام عليه السلام ، وأنّه عليه السلام إذا قام ، دلّه اللّه سبحانه على الكنوز ، فيأخذها من كل مكان ، وبعضهم يرى صلة الذرية به ، وفقراء الشيعة على طريق الاستحباب ، ولست أدفع قرب هذا القول من الصواب ، وبعضهم يرى عزله لصاحب الأمر عليه السلام ، فإن (5) خشي إدراك المنية قبل ظهوره ، وصّى به إلى من يثق به ، في عقله وديانته ، ليسلمه إلى الإمام عليه السلام ، إن أدرك قيامه ، وإلا وصّى به إلى من يقوم مقامه ، في

ص: 502


1- المجموعة الاولى من رسائل الشريف ، ص 8 - 226. راجعها.
2- الانتصار : كتاب الزكاة ، في بيان أواخر مسائل الكتاب.
3- ج : وط : أسقط وفي نسخة المقنعة يسقط.
4- الإرشاد للمفيد رحمه اللّه فصل في سيرته عليه السلام عند قيامه.
5- ج : فإذا.

الثقة والديانة ، ثم على هذا الشرط إلى أن يظهر إمام الزمان عليه السلام. وهذا القول عندي أوضح من جميع ما تقدم ، لأنّ الخمس حقّ واجب ، لغائب لم يرسم قبل غيبته رسما يجب الانتهاء إليه ، فوجب حفظه عليه ، إلى وقت إيابه ، أو التمكن من إيصاله إليه ، أو وجود من انتقل بالحق إليه ، وجرى أيضا مجرى الزكاة التي يعدم عند حلولها مستحقها فلا يجب عند عدمه سقوطها ، ولا يحل التصرف فيها ، على حسب التصرف في الأملاك ، ويجب حفظها بالنفس ، والوصيّة بها إلى من يقوم بإيصالها إلى مستحقها ، من أهل الزكاة من الأصناف ، وإن ذهب ذاهب إلى صنع ما وصفناه ، في شطر الخمس الذي هو حق خالص للإمام عليه السلام ، وجعل الشطر الآخر في يتامى آل الرسول عليهم السلام ، وأبناء سبيلهم ، ومساكينهم ، على ما جاء في القرآن ، لم تبعد إصابته الحقّ في ذلك ، بل كان على صواب ، وانّما اختلف أصحابنا في هذا الباب ، لعدم ما يلجأ إليه فيه من صريح الألفاظ ، وانّما عدم ذلك لموضع تغليظ المحنة ، مع إقامة الدليل بمقتضى العقل والأثر ، من لزوم الأصول في حظر التصرف في غير المملوك ، إلا بإذن المالك ، وحفظ الودائع لأهلها ورد الحقوق (1) هذا آخر قول شيخنا المفيد رحمه اللّه في مقنعته.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وهذا الشيخ المفيد جليل القدر ، مقتدى بأقواله ، وفتاويه ، انتهت رئاسة الشيعة الإمامية في عصره وزمانه إليه ، على ما حكاه شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه عنه ، وهو صاحب النظر الثاقب ، والمناظرات في الإمامة ، والمقالات المستخرجة التي لم تسبق إليها ، فانظر أرشدك اللّه تعالى إلى قوله : « وانّما اختلف أصحابنا في هذا الباب لعدم ما يلجأ إليه فيه من صريح الألفاظ » فلو كان فيه نص صريح ، وأخبار متواترة ، ما جاز له أن

ص: 503


1- المقنعة : كتاب الخمس ، باب الزيادات في باب الأنفال ص 287.

يقول ذلك. ثم قال : « وإنّما عدم ذلك لموضع تغليظ المحنة ، ثم قال : مع إقامة الدليل بمقتضى العقل والأثر من لزوم الأصول ، في حظر التصرف في غير المملوك إلا بإذن المالك » مقصوده ، أنّ اللّه تعالى لا يكلّفنا شيئا إلا وينصب عليه الأدلة ، وإلا يكون تكليفا لما لا يطاق ، وتعالى اللّه عن ذلك ، فلما عدمت النصوص ، والخطاب من جهة الشارع ، كان لنا أدلة العقول منارا وعلما ، على المسألة ، نهتدي بها إليها ، على ما مضى شرحه في باب قسمة الغنائم والأخماس ، فقد أشبعنا القول في ذلك ، وحققناه وقلنا : إذا عدم أدلة الكتاب ، والأخبار المتواترة ، والإجماع في المسألة الشرعية ، كان فرضنا وتكليفنا فيها ، العمل بما يقتضيه العقل ، لأنّها تكون مبقاة عليه بغير خلاف من محصّل ، ولو اقتصر في المسألة على دليل الاحتياط ، لكفى ، فكيف والأدلة العقلية ، والسمعية قائمة عليها؟

ثم قال الشيخ المفيد ، في جواب المسائل التي سأله عنها محمّد بن محمّد بن الرملي وهي مشهورة : سؤال : وعن رجل وجد كنزا ، ثم لم يجد من يستحق الخمس منه ، ولا من يحمل إليه ، ما يصنع به ، وليس له في بلده الذي هو فيه ، أهل يدفع إليه ، ما يصنع به؟ جواب : يصرف نصف الخمس ، ليتامى آل محمّد عليهم السلام ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، ويجوز النصف الآخر ، لولي الأمر عليه السلام ، فإن أدركه ، سلّمه إليه ، وإن لم يدركه ، وصّى به له ، وجعله عند ثقة ، يوصله إليه ، فإن لم يجده الموصى إليه ، وصّى به إلى من جعله يقوم مقامه ، في ذلك ، وإذا لم يجد في بلده من يتامى آل محمد عليهم السلام ، ومساكينهم ، وأبناء سبيلهم ، أحدا نفذه إلى بلد يكون فيه ، ليصل إليهم منه ، فانظر إلى فتوى هذا الشيخ رحمه اللّه.

ص: 504

كتاب الحجّ

اشارة

ص: 505

كتاب الحج

باب حقيقة الحج والعمرة وشرائط وجوبهما

الحج في اللغة هو القصد ، وفي الشريعة كذلك ، إلا أنّه اختص بقصد البيت الحرام ، لأداء مناسك مخصوصة عنده ، متعلّقة بزمان مخصوص ، والعمرة هي الزيارة في اللغة ، وفي الشريعة عبارة عن زيارة البيت الحرام ، لأداء مناسك (1) عنده ، ولا يختص بزمان مخصوص ، إذا كانت مبتولة. فأمّا العمرة المتمتع بها إلى الحج ، فإنّها تختصّ بزمان مخصوص ، مثل الحجّ سواء ، لأنّها داخلة في الحجّ ، وما ذكرته من حقيقة الحج في الشريعة ، ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة (2) وفي جمله وعقوده (3).

والأولى أن يقال : الحج في الشريعة ، هو القصد إلى مواضع مخصوصة ، لأداء مناسك مخصوصة عندها ، متعلقة بزمان مخصوص ، وانّما قلنا ذلك ، لأنّ الوقوف بعرفة وقصدها واجب ، وكذلك المشعر الحرام ، ومنى ، فإذا اقتصرنا في الحد على البيت الحرام فحسب ، خرجت هذه المواضع من القصد ، وهذا لا يجوز ، فأمّا ما ذكره في حقيقة العمرة المبتولة ، فحسن ، لا استدراك عليه فيه ، لأنّ الوقوف بعرفة والمشعر ومنى لا يجب في العمرة المبتولة ، بل قصد البيت الحرام فحسب ، ولو قيّد العمرة بالمبتولة كان حسنا ، بل أطلقها ، وإن كان مقصوده رحمه اللّه ما ذكرناه.

ص: 506


1- في ج : مناسك مخصوصة.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في حقيقة الحج والعمرة وشرائط وجوبهما.
3- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر وجوب الحج وكيفيته وشرائط وجوبه.

وهما على ضربين : مفروض ، ومسنون ، فالمفروض منهما على ضربين : مطلق من غير سبب ، وواجب عند سبب. فالمطلق من غير سبب ، هو حجة الإسلام ، وعمرة الإسلام.

وشرائط وجوبهما ثمانية : البلوغ ، وكمال العقل ، والحرية ، والصحة ، ووجود الزاد والراحلة ، والرجوع إلى كفاية ، إمّا من المال ، أو الصناعة ، أو الحرفة ، وتخلية السرب من الموانع ، وإمكان المسير.

قولهم : إمكان المسير ، هو غير تخلية السرب ، لأنّ السرب الطريق ، بفتح السين ، وإمكان المسير ، يراد به ، أنّه وجد القدرة من المال في زمان لا يمكنه الوصول إلى مكّة ، لضيق الوقت ، مثال ذلك ، أنّ رجلا من بغداد ، وهو فقير ، استغنى ، ووجد شرائط الحج ، في أوّل ذي الحجّة ، أو كان قد بقي ليوم عرفة ، ثلاثة أيام ، أو أقل من ذلك ، والطريق مخلّى ، أمين ، فلا يجب عليه في هذه السنة الحج ، لأنّه لا يمكنه المسير بحيث يدرك الحج ، وأوقاته ، وأمكنته في هذه المدّة ، فإن وجد المال والشرائط ، ومعه من الزمان ما يمكنه الوصول ، وإدراك هذه المواضع في أوقاتها ، فقد أمكنه المسير ، فهذا معنى إمكان المسير.

ومتى اختل شي ء من هذه الشرائط الثمان ، سقط الوجوب ، ولم يسقط الاستحباب ، هذا على قول بعض أصحابنا ، فإنّهم مختلفون في ذلك ، فبعض يذهب إلى أنّه لا يجب إلا مع هذه الشرائط الثمانية (1) وبعض منهم ، يقول : يجب الحج على كلّ حرّ ، مسلم ، بالغ ، عاقل ، متمكن من الثبوت على الراحلة ، إذا زالت المخاوف والقواطع ، ووجد من الزاد والراحلة ما ينهضه في طريقه ، وما يخلفه لعياله من النفقة.

وعبارة أخرى لمن لا يراعي الثماني شرائط ، بل يسقط الرجوع إلى كفاية ، ويراعي سبع شرائط فحسب ، قال : الحج يجب على كل حرّ ، بالغ ، كامل ، العقل ، صحيح الجسم ، يتمكن من الاستمساك على الراحلة ، مخلّى السرب من الموانع ، يمكنه المسير ، واجد للزاد والراحلة ، ولما يتركه من نفقة من تجب عليه

ص: 507


1- في ج : وط : الثمانية.

نفقته على الاقتصاد ، ولما ينفقه على نفسه ذاهبا وجائيا بالاقتصاد ، وإلى المذهب الأول ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في سائر كتبه إلا في استبصاره (1) ، ومسائل خلافه (2) ، وإلى المذهب الثاني ذهب السيد المرتضى ، في سائر كتبه ، حتى أنّه ذهب في الناصريات ، إلى أنّ الاستطاعة التي يجب معها الحج ، صحّة البدن ، وارتفاع الموانع ، والزاد ، والراحلة فحسب ، وقال رحمه اللّه : وزاد كثير من أصحابنا ، أن يكون له سعة يحج ببعضها ، وتبقى بعضا لقوت عياله ، ثم قال رضي اللّه عنه : دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه ، بعد الإجماع المتكرر ذكره ، أنّه لا خلاف في أنّ من حاله ما ذكرناه ، أنّ الحجّ يلزمه (3).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : والذي يقوى في نفسي ، وثبت عندي ، واختاره وافتي به ، واعتقد صحّته ، ما ذهب إليه السيد المرتضى ، واختاره ، لأنّه إجماع المسلمين قاطبة ، إلا مالكا فإنّه لم يعتبر الراحلة ، ولا الزاد ، إذا كان ذا صناعة يمكنه الاكتساب بها في طريقه ، وإن لم يكن ذا صناعة ، وكان يحسن السؤال ، وجرت عادته به ، لزمه أيضا الحج ، فإن لم يجر عادته به لم يلزمه الحج.

فأمّا ما ذهب إليه الفريق الآخر ، من أصحابنا ، فإنهم يتعلقون باخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، ولا يخصص بمثلها القرآن ، ولا يرجع عن ظاهر التنزيل بها ، بل الواجب العمل بظاهر القرآن ، وهو قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) (4) ولا خلاف أنّ من ذكرنا حاله قادر على إتيان البيت ، وقصده ، لأنّه تعالى قال ( مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ولو لا إجماع المسلمين على إبطال قول مالك ، لكان ظاهر القرآن معه ، بل أجمعنا على تخصيص المواضع التي أجمعنا عليها ، وخصّصناها بالإجماع ، بقي الباقي ، فظاهر

ص: 508


1- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 2 ( ولا يخفى ان ما في الخلاف موافق لسائر كتبه في اشتراط الرجوع الى الكفاية ).
3- الناصريات : كتاب الحج ، مسألة 136.
4- آل عمران : 97.

الآية (1) على عمومها ، فمن خصص ما لم يجمع على تخصيصه ، يحتاج إلى دليل ، الا ترى إلى استدلال السيد المرتضى رضي اللّه عنه وقوله : « دليلنا على صحة ما ذهبنا إليه بعد الإجماع المتكرر ذكره ، أنّه لا خلاف في أنّ من حاله ما ذكرناه ، أنّ الحج يلزمه » فقد استدل بإجماع الفرقة ، وإجماع المسلمين ، بقوله « لا خلاف في أنّ من حاله ما ذكرناه أن الحج يلزمه » واستدل أيضا على بطلان قول مالك ، وصحة ما ذهب السيد إليه ، واختاره (2) بما روي أنّ النبي صلى اللّه عليه وآله سئل عن قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) فقيل له : يا رسول اللّه ، ما الاستطاعة؟ فقال : الزاد والراحلة (3).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وأخبارنا متواترة عامّة في وجوب الحجّ ، على من حاله ما ذكرناه ، قد أوردها أصحابنا في كتب الأخبار ، من جملتها ما ذكره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتابه تهذيب الأحكام (4) وفي الاستبصار فمما أورده في الاستبصار ، عن الكليني محمّد بن يعقوب ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن محمد بن يحيى الخثعمي ، قال سأل حفص الكناسي أبا عبد اللّه عليه السلام ، وأنا عنده ، عن قول اللّه عزوجل : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ما يعني بذلك؟ قال : من كان صحيحا في بدنه ، مخلّى سربه ، له زاد وراحلة ، فلم يحج ، فهو ممّن يستطيع الحجّ ، قال : نعم (5).

عنه ، عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن حماد بن عثمان ، عن الحلبي ، عن أبي عبد اللّه عليه السلام ، في قول اللّه عزوجل ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ )

ص: 509


1- ج : بالإجماع وبقي الباقي بظاهر.
2- الناصريات : كتاب الحج ، مسألة 136 ( ولا توجد الرواية بعينها في كتب الروائي ).
3- الناصريات : كتاب الحج ، مسألة 136 ( ولا توجد الرواية بعينها في كتب الروائي ).
4- التهذيب : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.
5- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة ، ح 2.

من استطاع إليه سبيلا قال : أن يكون له ما يحج به ، قال : قلت من عرض عليه ما يحج به ، فاستحيى من ذلك ، أهو ممّن يستطيع إليه سبيلا قال : نعم ، ما شأنه يستحيي ، ولو يحج على حمار أبتر ، فإن كان يطيق أن يمشي بعضا ، ويركب بعضا ، فليحج (1) موسى بن القاسم ، عن معاوية بن وهب ، عن صفوان ، عن العلاء ، عن محمّد بن مسلم ، قال : قلت لأبي جعفر ، قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ، قال : يكون له ما يحج به ، قلت : فإن عرض عليه الحج ، فاستحيى ، قال : هو ممّن يستطيع ، ولم يستحيي ، ولو على حمار أجدع أبتر ، قال : فإن كان يستطيع أن يمشي بعضا ويركب بعضا فليفعل (2).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : فجعل شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، هذه الأخبار عمدته ، وبها صدّر الباب في ماهية الاستطاعة ، وانّها شرط في وجوب الحج ، وهذه طريقته في هذا الكتاب ، أعني كتاب الاستبصار ، يقدّم في صدر الباب ما يعمل به من الأخبار ، ويعتمد عليه ، ويفتي به ، وما يخالف ذلك يؤخّره ، ويتحدّث عليه ، هذه عادته ، وسجيّته ، وطريقته في هذا الكتاب ، فمذهبه في الاستبصار ، هو ما اخترناه ، وقد رجع عن مذهبه في نهايته (3) وجمله وعقوده (4) واختار في استبصاره ما ذكرناه ، ثم قال رحمه اللّه : فأمّا ما رواه الحسين بن سعيد ، عن القاسم بن أحمد ، عن علي ، عن أبي بصير قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، قول اللّه عزوجل : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ، قال : يخرج ويمشي ، إن لم يكن عنده مركب ، قلت : لا يقدر على المشي ، قال : يمشي ويركب ، قلت : لا يقدر على ذلك ، أعني المشي ، قال : يخدم القوم ويخرج معهم (5).

ص: 510


1- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة ، ح 3 و 4.
2- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة ، ح 3 و 4.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.
4- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر وجوب الحج وكيفيته وشرائط وجوبه.
5- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة : ح د.

عنه ، عن فضالة بن أيوب ، عن معاوية بن عمار ، قال : سألت أبا عبد اللّه عليه السلام ، عن رجل عليه دين ، أعليه أن يحج؟ قال : نعم ، انّ حجة الإسلام واجبة ، على من أطاق (1) المشي من المسلمين ، ولقد كان من حج مع النبي عليه السلام ، أكثرهم مشاة ، ولقد مرّ رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بكراع الغميم ، فشكوا إليه الجهد والعياء (2) فقال : شدوا أزركم (3) ، واستبطئوا (4) ففعلوا ذلك ، فذهب عنهم (5) (6).

قال رحمه اللّه : فلا تنافي بين هذين الخبرين ، والأخبار الأولة المتقدّمة ، لأنّ الوجه فيهما أحد شيئين ، أحدهما أن يكونا محمولين على الاستحباب ، لأنّ من أطاق المشي ، مندوب إلى الحج ، وإن لم يكن واجبا يستحق بتركه العقاب ، ويكون إطلاق اسم الوجوب عليه على ضرب من التجوز ، مع انّا قد بينا انّ ما هو مؤكد شديد الاستحباب ، يجوز أن يقال فيه أنّه واجب وإن لم يكن فرضا.

والوجه الثاني : أن يكونا محمولين على ضرب من التقية ، لأنّ ذلك مذهب بعض العامة ، ألا ترى أنّه رحمه اللّه قد اعتمد على الأخبار الأولة ، في وجوب الحج على من وجد الزاد والراحلة ، ونفقة طريقه ذاهبا وجائيا ، وما يخلفه نفقة من يجب عليه نفقته مدّة سفره وغيبته ، ولم يذكر فيها الرجوع إلى كفاية ، إلا في خبر أبي الربيع الشامي ، فإنّ فيه اشتباها ، على غير الناقد المتأمّل ، بل عند تحقيقه ونقده ، هو موافق لغيره من الأخبار التي اعتمد شيخنا عليها ، لا تنافي بينها وبينه وذلك أنّه قال أبو الربيع : سئل أبو عبد اللّه عليه السلام ، عن قول اللّه عزوجل : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) فقال : ما يقول الناس في الاستطاعة؟ قال : فقيل له الزاد والراحلة ، قال : فقال أبو عبد اللّه عليه السلام :

ص: 511


1- ج : استطاع.
2- في نسخة الاستبصار : العناء.
3- ج : ازاركم.
4- م : استبطنوا ، وكذلك في نسخة الاستبصار.
5- م : فذهب عيّهم.
6- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الاستطاعة ، ح 6.

قد سئل أبو جعفر عن هذا ، فقال : هلك الناس إذن ، لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت عياله ، ويستغني به عن الناس ، ينطلق ، فيسلبهم إيّاه ، لقد هلكوا اذن ، فقيل له : فما السبيل ، قال : فقال : السعة في المال إذا كان يحج ببعض ، ويبقى ببعض لقوت عياله (1).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وليس في الخبر ما ينافي ما ذهبنا إليه ، واخترناه ، بل ما يلائمه ويعضده ، وهو دليل لنا ، لا علينا ، بل نعم ما قال عليه السلام ، لأنّه قال : ما يقول الناس في الاستطاعة؟ قال : فقيل له : الزاد والراحلة ، فقال أبو عبد اللّه عليه السلام : سئل أبو جعفر عليه السلام عن هذا فقال : هلك الناس إذن ، لئن كان من كان له زاد وراحلة ، قدر ما يقوت عياله ، ويستغني به عن الناس ، ينطلق ، فيسلبهم إيّاه ، لقد هلكوا اذن ، ونحن نقول بما قال عليه السلام ، ولا نوجب الحج على الواجد للزاد والراحلة فحسب ، بل نقول ما قال عليه السلام ، لمّا قيل له : فما السبيل ، قال : فقال : السعة في المال ، إذا كان يحج ببعض ، ويبقي بعض ، يقوت عياله وكذا نقول ، وهذا مذهبنا الذي ذهبنا إليه ، لأنّه عليه السلام قال : السبيل ، السعة في المال ، ثم فسرها فقال : إذا كان يحج ببعض ويبقي بعض يقوت عياله. ولم يذكر في الخبر عليه السلام ويرجع إلى كفاية ، امّا من صناعة ، أو مال ، بل قال عليه السلام : يحج ببعض ، ويبقي بعض يقوت عياله ، وهو الصحيح ، لأنّا أوجبنا الحج ، بأن يجد الزاد والراحلة ، ونفقته ، ذاهبا وجائيا ، وما يخلفه نفقة من يجب عليه نفقته ، من عياله ، وكذلك قال عليه السلام : يحج ببعض ، ويبقي بعض يقوت عياله ، يعني نفقة عياله ، فأمّا إن لم يبق ما يقوت عياله ، مدّة سفره ، وغيبته ، فلا يجب عليه الحج وهل هذا الخبر فيه ، ما ينافي ما قلناه ، أو يرجع به عن ظاهر التنزيل ، والمتواتر من

ص: 512


1- الاستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الحج ، ح 1.

الأخبار ، ولو وجد أخبار آحاد ، فلا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنّها لا توجب علما ولا عملا ، ولا يترك لها ظاهر القرآن ، وإجماع أصحابنا ، فإنّهم عند تحقيق أقوال الفريقين ، تجدهم متفقين على ما ذهبنا إليه ، وأنا أدلك على ذلك ، وذاك أنّه لا خلاف بينهم ، أنّ العبد إذا لحقه العتاق ، قبل الوقوف بأحد الموقفين ، فانّ حجته مجزية عن حجة الإسلام ، ويجب عليه النيّة للوجوب والحجّ ، ولم يعتبر أحد منهم ، هل هو ممن يرجع إلى كفاية أو صنعة ، لأنّ العبد عندهم لا يملك شيئا فإذن لا مال له يرجع إليه ، ولا أحد منهم اعتبر رجوعه إلى صناعة ، في صحة حجّه ، وهذا منهم إجماع منعقد بغير خلاف.

وكذلك أيضا ، من عرض عليه بعض إخوانه نفقة الحجّ ، فإنّه يجب عليه عند أكثر أصحابنا أيضا ، ولم يعتبروا في وجوب الحجّ عليه رجوعه إلى كفاية ، إمّا من المال ، أو الصناعة والحرفة ، بل أوجبوه عليه ، بمجرّد نفقة الحجّ ، وعرضها عليه ، وتمكنه منها فحسب.

وأيضا فقد ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، إلى ما ذهبنا إليه ، في مسألة من مسائل خلافه (1) مضافا إلى استبصاره (2) فقال : مسألة ، المستطيع ببدنه الذي يلزمه فعل الحجّ بنفسه ، أن يكون قادرا على الكون على الراحلة ، ولا يلحقه مشقة غير محتملة ، في الكون عليها ، فإذا كانت هذه صورته ، فلا يجب عليه فرض الحج ، إلا بوجود الزاد والراحلة ، فإن وجد أحدهما ، لا يجب عليه فرض الحج ، وإن كان مطيقا للمشي قادرا عليه ، ثم قال في استدلاله على صحة ما صوّره في المسألة ، دليلنا إجماع الفرقة ، ولا خلاف أن من اعتبرناه ، يجب عليه الحج ، وليس على قول من خالف ذلك دليل ، وأيضا قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ، والاستطاعة تتناول القدرة ، وجميع

ص: 513


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 4.
2- الإستبصار : كتاب الحج ، باب ماهية الحج.

ما يحتاج إليه ، فيجب أن يكون من شرطه ، وأيضا روي عن النبي صلى اللّه عليه وآله ، أنّه قال : الاستطاعة الزاد والراحلة ، لمّا سئل عنها روى ذلك ابن عمر ، وابن عباس ، وابن مسعود ، وعمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، وجابر بن عبد اللّه ، وعائشة ، وأنس بن مالك ، ورووا (1) أيضا عن علي عليه السلام ، عن النبي صلى اللّه عليه وآله ، هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر في المسألة ، ألا ترى أرشدك اللّه إلى قوله رحمه اللّه ، ولا خلاف أنّ من اعتبرناه يجب عليه الحجّ ، وما اعتبر فيما صوّره في المسألة الرجوع إلى كفاية ودلّ أيضا ، بإجماع الفرقة على صحة ما صوّره في المسألة.

وأيضا ذكر مسألة أخرى ، فقال : مسألة ، الأعمى يتوجه عليه فرض الحج ، إذا كان له من يقوده ويهديه ، ووجد الزاد والراحلة ، لنفسه ولمن يقوده ، ولا يجب عليه الجمعة ، وقال الشافعي : يجب عليه الحج ، والجمعة ، معا ، وقال أبو حنيفة : لا يجب عليه الحج ، وإن قدر على جميع ما قلناه ، دليلنا قوله تعالى : ( وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ) ، وهذا مستطيع ، فمن أخرجه من العموم ، فعليه الدلالة (2) هذا آخر كلام شيخنا الا ترى أرشدك اللّه ، إلى استدلاله ، فإن كان يعتبر الرجوع إلى الكفاية ، على ما يذكره في بعض كتبه في وجوب الحج ، فقول أبي حنيفة صحيح ، لا حاجة به إلى الرد عليه ، بل ردّ عليه بالآية وعمومها ، ونعم ما استدل به ، فإنّه الدليل القاطع ، والضياء الساطع ، والشفاء النافع.

وقال أيضا في مبسوطة شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه : مسألة ، إذا بذل له الاستطاعة ، قدر ما يكفيه ذاهبا وجائيا ، ويخلف لمن يجب عليه نفقته ، لزمه فرض الحجّ ، لأنّه مستطيع (3) هذا آخر كلامه في مبسوطة ، وجعل هذا الكلام مسألة في مسائل خلافه أيضا (4) فهل يحلّ لأحد أن يقول ، انّ الشيخ أبا جعفر الطوسي رحمه اللّه ، ما يذهب إلى ما يذهب إليه المرتضى في هذه المسألة ، بعد ما

ص: 514


1- وفي نسخة الخلاف ، ورواه أيضا علي عليه السلام.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 15.
3- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في حقيقة الحج ، ص 298.
4- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 9.

أوردناه عنه ، وإن كان في بعض كتبه يقول بغير هذا ، فنأخذ ما اتفقا عليه ، ونترك القول الذي انفرد به أحدهما ، إن قلّدا في ذلك ونعوذ باللّه من ذلك ، بل يجب علينا الأخذ بما قام الدّليل عليه من كان القائل به من (1).

وأيضا فقد بيّنا أنّه إذا اختلف أصحابنا الإمامية ، في مسألة ، ولم يكن عليها إجماع منهم ، منعقد ، فالواجب علينا التمسك بظاهر القرآن ، إن كان عليها ظاهر تنزيل ، وهذه المسألة فلا إجماع عليها ، بغير خلاف عند من خالفنا وذهب إلى غير ما اخترناه ، وإذا لم يكن له إجماع عليها ، قلنا نحن ، ظاهر التنزيل دليل عليها ، وعموم الآية ، ولا يجوز العدول عنه ، ولا تخصيصه ، إلا بأدلة قاطعة للأعذار ، إمّا من كتاب اللّه تعالى مثله ، أو سنّة متواترة مقطوع بها ، يجرى مجراه أو إجماع ، وهذه الأدلة مفقودة بحمد اللّه تعالى في المسألة ، فيجب التمسك بعموم القرآن ، فهو الشفاء لكلّ داء.

ومن شرط صحّة أداء حجة الإسلام وعمرته. الإسلام ، وكمال العقل ، لأنّ الكافر ، وإن كان واجبا عليه ، لكونه مخاطبا بالشرائع عندنا ، فلا يصحّ منه أداءهما ، إلا بشرط الإسلام ، وعند تكامل شروط وجوبهما ، يجبان في العمر مرة واحدة ، وما زاد عليها مستحب ، مندوب إليه ، وخصوصا لذوي اليسار والأموال الواسعة ، فإنّهم يستحب لهم أن يحجّوا كلّ سنة.

ووجوبهما على الفور ، دون التراخي ، بغير خلاف بين أصحابنا.

وما يجب عند سبب ، فهو ما يجب بالنذر ، أو العهد ، أو إفساد حج مندوب ، دخل فيه ، أو عمرة كذلك ، ولا سبب لوجوبهما غير ذلك ، وذلك بحسب النذر ، أو العهد ، إن كان واحدا فواحدا ، وإن كان أكثر فأكثر.

فأمّا المفسودة ، فإنّه يجب عليه الإتيان بحجة صحيحة ، ولو تكرر الفساد لها دفعات.

ولا يصح النذر والعهد بهما ، إلا من كامل العقل ، حرّ ، ومن لا ولاية عليه ، فأمّا من ليس كذلك ، فلا ينعقد نذره ، ولا يراعى في صحة انعقاد النذر ،

ص: 515


1- ج : كان القائل به كائنا من كان.

ما روعي في حجة الإسلام ، من الشروط.

وإذا حصلت الاستطاعة ، ومنعه من الخروج مانع ، من سلطان ، أو عدو ، أو مرض ، ولم يتمكن من الخروج بنفسه ، كان عليه أن يخرج رجلا يحج عنه ، فإذا زالت عنه بعد ذلك الموانع ، كان عليه اعادة الحج ، لأنّ الذي أخرجه ، انّما كان يجب عليه في ماله ، وهذا يلزمه على بدنه ، وماله ، ذكر هذا بعض أصحابنا في كتاب له ، وهو شيخنا أبو جعفر الطوسي رضي اللّه عنه في نهايته (1) وهذا غير واضح ، لأنّه إذا منع ، فما حصلت له الاستطاعة التي هي القدرة على الحج ، ولا يجب عليه أن يخرج رجلا يحج عنه ، لأنّه غير مكلّف بالحج حينئذ بغير خلاف ، وانّما هذا خبر أورده إيرادا ، لا اعتقادا.

فإن كان متمكنا من الحج والخروج ، فلم يخرج وأدركه الموت ، وكان الحج قد استقر عليه ، ووجب ، وجب أن يخرج عنه من صلب ماله ، ما يحجّ به من بلده ، وما يبقى بعد ذلك يكون ميراثا ، فإن لم يخلف إلّا قدر ما يحج به (2) ، وكانت الحجة قد وجبت عليه قبل ذلك ، واستقرت ، وجب أن يحج به عنه من بلده ، وقال بعض أصحابنا : بل من بعض المواقيت ولا يلزم الورثة الإجارة من بلده ، بل من بعض المواقيت ، والصحيح الأول ، لأنّه كان يجب عليه نفقة الطريق من بلده ، فلمّا مات سقط الحج عن بدنه ، وبقي في ماله بقدر ما كان يجب عليه ، لو كان حيا ، من نفقة الطريق من بلده ، فأما إذا لم يخلف إلّا قدر ما يحج به ، من بعض المواقيت ، وجب أيضا أن يحج عنه من ذلك الموضع ، وما اخترناه مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (3) وبه تواترت أخبارنا ، ورواية أصحابنا ، والمقالة الأخرى ذكرها وذهب إليها في مبسوطة (4) ، وأظنها مذهب المخالفين.

ص: 516


1- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.
2- في ط وج : ما يحج به من بلده.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.
4- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في حقيقة الحج والعمرة.

وإن خلف قدر ما يحج به عنه ، أو أقل من ذلك ولم يكن قد وجب عليه الحج قبل ذلك واستقر في ذمّته ، كان ميراثا لورثته ، فهذا معنى قولنا وجبت الحجة واستقرت ، ووجبت وما استقرت ، لأنّ من تمكن من الاستطاعة ، وخرج للأداء ، من غير تفريط ، ولا توان ، بل في سنة تمكنه من الاستطاعة ، خرج ومات قبل تفريطه ، فلا يجب أن يخرج من تركته ما يحج به عنه ، لأنّ الحجة ما استقرت في ذمّته ، فأمّا إذا فرّط فيها ، ولم يخرج تلك السنة ، وكان متمكنا من الخروج ، ثم مات ، يجب أن يخرج من تركته ما يحج به عنه من بلده ، قبل قسمة الميراث.

ومن لم يملك الاستطاعة ، وكان له ولد ، له مال ، وجب عليه أن يأخذ من ماله ، قدر ما يحج به على الاقتصاد ، ويحج ، ذكر هذا شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ورجع عنه في استبصاره (2) ورجوعه عنه هو الصحيح ، وانّما أورده إيرادا في نهايته ، لا اعتقادا ، ثم قال في النهاية : فان لم يكن له ولد ، وعرض عليه بعض إخوانه ، ما يحتاج إليه من مئونة الطريق ، وجب عليه الحجّ أيضا ، وقال : ومن ليس معه مال ، وحج به بعض إخوانه ، فقد أجزأه ذلك عن حجة الإسلام ، وإن أبسر بعد ذلك (3).

قال محمّد بن إدريس : والذي عندي في ذلك ، أنّ من يعرض عليه بعض إخوانه ، ما يحتاج اليه من مئونة الطريق فحسب ، لا يجب عليه الحجّ ، إذا كان له عائلة تجب عليه نفقتهم ، ولم يكن له ما يخلفه نفقة لهم ، بل هذا يصح فيمن لا يجب عليه نفقة غيره ، بشرط أن يملكه ما يبذل له ، ويعرض عليه ، لا وعدا بالقول دون الفعال ، وكذا أقول فيمن حج به بعض إخوانه ، بشرط أن يخلف لمن تجب عليه نفقته ، إن كان ممن تجب عليه نفقته وفي المسألتين معا ، ما راعى شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته ، الرجوع إلى كفاية ، إمّا من المال ، أو الصناعة ،

ص: 517


1- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.
2- الاستبصار : كتاب المكاسب ، الباب 26 ، ح 9.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.

وهذا يدلك أيضا على ما قدّمناه أولا.

ومتى عدم المكلف الاستطاعة ، جاز له أن يحج عن غيره ، وإن كان ضرورة لم يحجّ بعد حجة الإسلام ، وتكون الحجة مجزية عمن حج عنه ، وهو إذا أيسر بعد ذلك كان عليه اعادة الحج.

ومتى نذر الرجل أن يحج لله تعالى ، وجب عليه الوفاء به ، فإن حجّ الذي نذر ، ولم يكن حج حجة الإسلام ( فقد أجزأت حجته عن حجة الإسلام ) وإن خرج بعد النذر بنية حجة الإسلام لم يجزئه عن الحجة التي نذرها ، وكانت في ذمّته ، ذكر ذلك شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته (1) والصحيح أنّه إذا حج بنية النذر لا تجزيه حجته النذورة عن حجة الإسلام ، لأنّ الرسول عليه السلام قال : الأعمال بالنيات ، وعليه حجتان ، فكيف تجزيه حجة واحدة ، عن حجتين ، وإنّما هذا خبر واحد ، أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما كررنا الاعتذار له في عدة مواضع ، فإنّه رجع عنه في جمله وعقوده (2) وفي مسائل خلافه (3) وقال : الفرضان لا يتداخلان ، وجعل ما ذكره في النهاية رواية ، ما اعتد بها ، ولا التفت إليها.

ومن نذر أن يحج ماشيا ، ثم عجز ، فليركب ، ولا كفّارة عليه ، ولا شي ء يلزمه عل الصحيح من المذهب ، وهذا مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (4).

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (5) فليسق بدنه ، وليركب ، وليس عليه شي ء ، وإن لم يعجز عن المشي ، كان عليه الوفاء به فإذا انتهى إلى مواضع العبور ، فليكن قائما فيها ، وليس عليه شي ء.

ومن حجّ من أهل القبلة ، وهو مخالف لاعتقاد الحقّ ولم يخل بشي ء من

ص: 518


1- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.
2- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر وجوب الحج.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 20 وأشار الى ذلك في مسألة 254.
4- المقنعة : كتاب الحج ، باب من الزيادات في فقه الحج ص 441.
5- النهاية : كتاب الحج ، باب وجوب الحج.

أركانه ، فقد أجزأته حجته عن حجة الإسلام ، ويستحب له اعادة الحجّ بعد استبصاره ، وإن كان قد أخل بشي ء من أركان الحجّ ، لم يجزه ذلك عن حجة الإسلام ، وكان عليه قضاؤها فيما بعد ، وذهب شيخنا في مسائل خلافه إلى أنّه قال : مسألة ، من قدر على الحج عن نفسه ، لا يجوز أن يحج عن غيره ، وإن كان عاجزا عن الحج عن نفسه ، لفقد الاستطاعة ، جاز له أن يحج عن غيره ، وبه قال الثوري ، وقال مالك وأبو حنيفة : يجوز له أن يحج عن غيره ، على كل حال ، قدر عليه ، أو لم يقدر ، وكذلك يجوز له أن يتطوع به ، وعليه فرض نفسه ، وبه نقول (1).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه وبه نقول ، غير واضح ، والمذهب يقتضي أصوله أنّ من وجب عليه حجة الإسلام ، لا يجوز له أن يتطوع بالحج قبلها ، لأنّ وجوب حجة الإسلام عندنا على الفور ، دون التراخي ، بغير خلاف ، فالواجب المضيّق ، كل ما منع منه ، فهو قبيح ، وانّما هذا مذهب أبي حنيفة ، اختاره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه ، وقوله في غير هذا الكتاب ، بخلاف ما ذهب إليه فيه.

باب في أقسام الحجّ

الحج على ثلاثة أقسام ، تمتع بالعمرة إلى الحج ، وقران ، وإفراد ، وانّما كان ذلك لاختلاف المكلفين في الجهات ، والا لو كان عالم اللّه نائيا عن الحرم ، كان الحج قسما واحدا ، وهو التمتع بالعمرة إلى الحج ، ولو كان العالم مستوطنين الحرم ، كان الحج ضربا واحدا ، إمّا قرانا ، أو إفرادا ، فالتمتع ، هو فرض من نأى عن الحرم ، وحدّه ، من كان بينه وبين المسجد الحرام ، ثمانية وأربعون ميلا ، من أربعة جوانب البيت ، من كل جانب اثنا عشر ميلا ، فلا يجوز لهؤلاء ،

ص: 519


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 19.

إلا التمتع ، مع الإمكان ، فإذا لم يمكنهم التمتع ، أجزأتهم الحجة المفردة ، مع الضرورة ، وعدم الاختيار.

وأمّا من كان من أهل حاضري المسجد الحرام ، وهو من كان بينه وبين المسجد الحرام ، أقل من اثني عشر ميلا ، من أربعة جوانبه ، ففرضه القرآن ، أو الافراد ، مخيّر في ذلك ، ولا يجزيه التمتع بحال.

فسياقة ، أفعال حج المتمتع ، الإحرام من الميقات ، في وقته ، مع نيّة الحج (1) والتلبية الأربع ، يجب عليه أن يتلفظ بها دفعة واحدة ، ليعقد إحرامه بها ، فإنّها تتنزل في انعقاد إحرامه منزلة تكبيرة الإحرام ، في انعقاد صلاة المصلي.

ويستحب أن يكررها ، ويكون عليها إلى أن يشاهد بيوت مكة ، فإذا شاهدها قطع التلبية التي كان مندوبا إلى تكرارها.

فإذا كان حاجا على طريق المدينة ، قطع التلبية إذا بلغ عقبة المدنيين.

وإن كان على طريق العراق ، قطع التلبية ، إذا بلغ عقبة ذي طوى ، هذا إذا كان متمتعا.

فإن كان قارنا ، أو مفردا ، فلا يقطع التلبية إلا عند الزوال يوم عرفة.

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته : فإذا عاين بيوت مكة ، قطع التلبية ، وحدّ بيوت مكة ، عقبة المدنيين ، وإن كان قاصدا إليها ، من طريق المدينة ، فإنّه يقطع التلبية ، إذا بلغ عقبة ذي طوى (2) والأول الأظهر ، وهو اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي في مصباحه (3) ، وسلار في رسالته (4) وهو الصحيح.

واغتسل مندوبا.

ويستحب أن يدخلها حافيا.

ص: 520


1- ج : مع نية الإحرام.
2- المقنعة : كتاب الحج ، باب صفة الإحرام ص 398.
3- المصباح : في آداب الحج ، ص 620.
4- المراسم ، كتاب الحج ، ذيل شرح كيفية الإحرام.

وإن كان دخولها من طريق المدينة ، دخلها من أعلاها.

ثم دخل المسجد ، فطاف بالبيت سبعا ، وصلّى عند المقام ركعتين.

ثمّ يخرج إلى الصّفا ، والمروة ، فيسعى بينهما ، سبعة أشواط.

ثم يقصر من شعر رأسه ، أو من أظفاره ، وقد أحلّ من كل شي ء أحرم منه ، وتحل له النساء ، من دون طوافهن ، لأنّ كل إحرام ، بحج ، أو بعمرة ، سواء كان الحج واجبا ، أو مندوبا ، وكذلك العمرة ، فلا تحل النساء ، الا بطوافهن. ويجب عليه طواف النساء ، لتحل النساء له ، إلا إحرام العمرة المتمتع بها إلى الحج ، وهي هذه فلا يجب طواف النساء ، بل يحللن له ، من دون الطواف الذي يلزم كل محرم.

ثمّ ينشئ إحراما آخر ، من مكة بالحج ، يوم التروية ، ويمضي إلى منى ، فيبيت بها ، على جهة الاستحباب ، دون الفرض ، والإيجاب ، ليلة عرفة ، ويغدو منها إلى عرفات ، فيقف هناك إلى غروب الشمس ، ويفيض منها إلى المشعر الحرام ، فيصلّي بها المغرب والعشاء الآخرة ، فإذا طلع الفجر ، من يوم النحر ، وقف بالمشعر وقوفا واجبا ، والوقوف به ركن ، من أركان الحج ، من تركه متعمدا بطل حجه ، وكذلك الوقوف بعرفة ، ويتوجه إلى منى ، فيقضي مناسكه يوم العيد بها ، على ما نبيّنه ، ويمضي إلى مكة ، فيطوف بالبيت طواف الزيارة ، وهو طواف الحج ، ويصلّي عند المقام ركعتين ، ويسعى بين الصّفا والمروة ، ثم يطوف طواف النساء ، وقد أحلّ من كل شي ء أحرم منه ، وقد قضى مناسكه كلّها ، للعمرة والحج ، وكان متمتعا ثمّ يعود إلى منى ، أيام التشريق (1) واجب عليه الرجوع إليها ، والمبيت بها ، ورمي الجمار بها أيضا ، وغير ذلك إن شاء اللّه تعالى.

وأمّا القارن ، فهو الذي يحرم من الميقات ، ويقرن بإحرامه ، سياق الهدي ، ويمضي إلى عرفات ، ويقف بها ، ويفيض منها ، إلى المشعر الحرام ، ويقف به ،

ص: 521


1- في نسخة م وج : أيام منى.

ويجي ء إلى منى يوم النحر ، فيقضي مناسكه بها ، ثم يجي ء إلى مكة ، فيطوف بالبيت ، ويصلّي عند المقام ركعتي الطواف ، ويسعى بين الصّفا والمروة ، ويطوف طواف النساء ، وقد قضى مناسكه كلّها للحج ، فحسب دون العمرة.

والمفرد ، مناسكه كذلك ، إلا أنّه لا يقرن بإحرامه سياق هدي ، وباقي المناسك هما فيها سواء ، فإن طافا بالبيت قبل وقوفهما بعرفة ، والمشعر ، يستحب لهما تجديد النية (1) عند كل طواف ، ثمّ يخرجان إلى التنعيم ، أو أحد المواضع التي يحرم منها ، فيحرمان من هناك ، بالعمرة المبتولة ، ويرجعان إلى مكة ، فيطوفان بالبيت ، ويصليان عند المقام ، ويسعيان بين الصّفا والمروة ، ويقصران ، أو يحلقان ، ثم يطوفان ، طواف النساء ، واجب ذلك عليهما ، ولا يجب ذلك على المتمتع ، في عمرته ، على ما قدّمناه ، وقد أديا عمرتهما الواجبة عليهما ، فتكون عمرة مفردة ، ونحن نبيّن ذلك زيادة بيان في مواضعه (2) ونزيده شرحا.

من جاور بمكة ، سنة واحدة ، أو سنتين ، كان فرضه التمتع ، فيخرج إلى ميقات بلده ، ويحرم بالحج متمتعا ، فإن جاور بها ثلاث سنين ، لم يجز له التمتع ، وكان حكمه حكم أهل مكة ، وحاضريها ، على ما جاءت به الاخبار المتواترة (3).

وإذا أراد الإنسان ان يحج متمتعا ، فيستحب له أن يوفر شعر رأسه ولحيته ، من أول ذي القعدة ، ولا يمسّ شيئا منهما ، وقال بعض أصحابنا بوجوب توفير ذلك ، فإن حلقه ، وجب عليه دم شاة ، وهو مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (4) وإليه ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في نهايته (5) واستبصاره (6) ، وقال

ص: 522


1- م تجديد التلبية.
2- ج : موضعه.
3- لوسائل : كتاب الحج ، الباب 9 من أبواب أقسام الحج.
4- المقنعة : كتاب الحج ، باب العمل والقول عند الخروج ص 391.
5- النهاية : كتاب الحج ، باب أنواع الحج. إلا أنّه لم يقل بوجوب دم شاة عليه ان حلقه.
6- الاستبصار : كتاب الحج ، باب توفير شعر الرأس واللحية من أوّل ذي القعدة.

في جمله وعقوده (1) بما اخترناه أولا وهو الصحيح ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فمن شغلها بواجب ، أو مندوب ، يحتاج إلى دليل شرعي ، وأيضا قبل الإحرام ، الإنسان محل ، ولا خلاف أنّ المحلّ لم يحظر عليه حلق رأسه ، وانّما حظر ذلك على المحرم ، ولا إجماع معنا على وجوب توفير شعر الرأس من هذا الوقت.

فإذا جاء إلى ميقات أهله ، أحرم بالحج متمتعا ، على ما قدّمناه ، ومضى إلى مكة ، فإذا شاهد بيوتها ، فليقطع التلبية المندوب تكرارها ، ثم يدخلها ، فإذا دخلها طاف بالبيت سبعا ، وصلّى عند المقام ركعتين ، ثم سعى بين الصّفا والمروة ، وقصّر من شعر رأسه ، وقد أحلّ من جميع ما أحرم منه ، على ما قدّمناه ، إلا الصيد ، فإنّه لا يجوز له ذلك ، لا لكونه محرما ، بل لكونه في الحرم.

ثمّ يستحب أن يكون على هيئته هذه إلى يوم التروية ، عند الزوال ، فإذا كان ذلك الوقت ، صلّى الظهر ، وأحرم بعده بالحج ، ومضى إلى منى ، ثمّ ليغد منها إلى عرفات ، فليصل بها الظهر والعصر ، ويقف إلى غروب الشمس ، ثمّ يفيض إلى المشعر ، فيبيت بها تلك الليلة ، فإذا أصبح ، وقف بها على ما قدّمناه ، ثمّ غدا منها إلى منى ، فقضى (2) مناسكه هناك ، ثمّ يجي ء يوم النحر أو من الغد ، والأفضل أن لا يؤخر ذلك عن الغد ، فإن أخره فلا بأس ، ما لم يهل المحرم ، ويطوف بالبيت طواف الحج ، ويصلّي ركعتي الطواف ، ويسعى بين الصّفا والمروة ، وقد فرغ من مناسكه كلّها ، وحلّ له كل شي ء إلا النساء ، والصيد ، وبقي عليه لتحلة النساء طواف ، فليطف أيّ وقت شاء ، في مدة مقامه بمكة ، فإذا طاف طواف النساء ، حلّت له النساء ، وعليه هدي واجب ، ينحره ، أو يذبحه بمنى ، يوم النحر ، فإن لم يتمكن منه ، كان عليه صيام عشرة أيام ، ثلاثة في الحج ، يوم قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، فإن فاته صوم يوم قبل

ص: 523


1- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في كيفية الإحرام وشرائطه.
2- في ط : فيقضى.

التروية ، صام يوم التروية ، ويوم عرفة ، فإذا انقضت أيام التشريق ، صام اليوم الآخر ، بانيا على ما تقدّم من اليومين ، فإن فاته صوم يوم التروية ، فلا يصوم يوم عرفة ، فإن صامه ، لا يجوز له البناء عليه ، فإذا كان بعد أيام التشريق ، صام ثلاثة أيام متواليات ، لا يجزيه غير ذلك ، وسبعة ، إذا رجع إلى أهله.

والمتمتع ، انّما يكون متمتعا ، إذا وقعت عمرته في أشهر الحج ، وهي شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، في تسعة أيام منه ، وإلى طلوع الشمس ، من اليوم العاشر ، فإن وقعت عمرته في غير هذه المدّة المحدودة ، لم يجز له أن يكون متمتعا بتلك العمرة ، وكان عليه لحجته ، عمرة أخرى ، يبتدئ بها في المدة التي قدّمناها.

وكذلك لا يجوز الإحرام بالحج مفردا ، ولا قارنا ، إلا في هذه المدة ، فإن أحرم في غيرها ، فلا حج له ، اللّهم إلا أن يجدد الإحرام ، عند دخول هذه المدة.

وأمّا القارن ، فعليه أن يحرم من ميقات أهله ، ويسوق معه هديا ، يشعره من موضع الإحرام ، يشق سنامه ، ويلطخه بالدم ، أو يعلّق في رقبته نعلا ، مما كان يصلّي فيه ، وليسق الهدي معه إلى منى ، ولا يجوز له أن يحل ، إلى أن يبلغ الهدي محلّه.

وقال شيخنا المفيد في كتاب الأركان : فمتى لم يسق من الميقات ، أو قبل دخول الحرم ، إن لم يقدر على ذلك من الميقات ، لم يكن قارنا ، فإذا أراد أن يدخل مكة ، جاز له ذلك ، لكنه يستحب له أن لا يقطع التلبية ، وإن أراد أن يطوف بالبيت تطوعا ، فعل ذلك ، إلا أنّه كلّما طاف بالبيت ، يستحب له ، ان يلبي عند فراغه ، وليس ذلك بواجب عليه.

وقال شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في نهايته : إلا أنّه كلّما طاف بالبيت ، لبى عند فراغه من الطواف ، ليعقد إحرامه بالتلبية ، وانّما يفعل ذلك ، لأنّه لو لم يفعل ذلك ، دخل في كونه محلا ، وبطلت حجته ، وصارت عمرة (1) وهذا غير واضح ،

ص: 524


1- النهاية : كتاب الحج ، باب أنواع الحج.

بل تجديد التلبية مستحب ، عند فراغه من طوافه المندوب ، وقوله رحمه اللّه ليعقد إحرامه ، قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : إحرامه منعقد قبل ذلك ، فكيف يقول ليعقد إحرامه؟ وقوله وانّما يفعل ذلك ، لأنّه لو لم يفعل ذلك ، دخل في كونه محلا ، وبطلت حجّته ، وصارت عمرة ، وهذا قول عجيب ، كيف يدخل في كونه محلا ، وكيف يبطل حجته ، وتصير عمرة ، ولا دليل على ذلك ، من كتاب ، ولا سنة ، مع قول الرسول عليه السلام : الأعمال بالنيات (1) وانما لامرئ ما نوى (2).

وقد رجع شيخنا أبو جعفر عن هذا في جمله وعقوده (3) ، ومبسوطة (4) فقال : وتميز القارن ، من المفرد ، بسياق الهدي ، ويستحب لهما تجديد التلبية ، عند كل طواف ، وانّما أورد ما ذكره في نهايته إيرادا ، لا اعتقادا ، وقد بيّنا أنّه ليس له أن يحل إلى أن يبلغ الهدي محله ، من يوم النحر ، وليقض مناسكه كلّها ، من الوقوف بالموقفين ، وما يجب عليه من المناسك بمنى ، ثم يعود إلى مكة ، فيطوف بالبيت سبعا ، ويسعى بين الصّفا والمروة سبعا ، ثمّ يطوف طواف النساء ، وقد أحلّ من كل شي ء أحرم منه ، وكانت عليه العمرة بعد ذلك.

والمتمتع إذا تمتع ، سقط عنه فرض العمرة ، لأنّ عمرته التي يتمتع بها بالحج (5) قامت مقام العمرة المبتولة ، ولم يلزمه (6) إعادتها.

وأمّا المفرد بكسر الراء ، فانّ عليه ما على القارن سواء ، لا يختلف حكمهما في شي ء ، من مناسك الحجّ ، وانّما يتميز القارن من المفرد ، بسياق الهدي ، فأمّا باقي المناسك ، فهما مشتركان فيه على السواء.

ويستحب لهما ، أن لا يقطعا التلبية إلا بعد الزوال من يوم عرفة.

ص: 525


1- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 6 و 7.
2- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 6 و 7.
3- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر أفعال الحج.
4- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر أنواع الحج وشرائطها.
5- ج : إلى الحج ، في نسخة.
6- ج : لم يلزم.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته ، ولا يجوز لهما أن يقطعا التلبية ، إلا بعد الزوال ، من يوم عرفة (1). فإن أراد بقوله : لا يجوز ، التأكيد على فعل الاستحباب ، فنعم ما قال ، وإن أراد ذلك على جهة التحريم ، فغير واضح ، لأنّ تجديد التلبية ، وتكرارها ، بعد التلفظ بها دفعة واحدة ، وانعقاد الإحرام بها ، غير واجب ، أعني تكرارها ، وانّما ذلك مستحب ، مؤكد الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، وليس عليهما هدي وجوبا ، فان ضحّيا استحبابا ، كان لهما فيه فضل جزيل ، وليس ذلك بواجب.

باب المواقيت

معرفة المواقيت واجبة ، لأنّ الإحرام لا يجوز إلا منها ، فلو أنّ إنسانا أحرم قبل ميقاته ، كان إحرامه باطلا ، اللّهم إلا أن يكون قد نذر لله تعالى على نفسه ، أن يحرم من موضع بعينه ، فإنّه يلزمه الوفاء به ، حسب ما نذره ، على ما روي في الاخبار (2) فمن عمل بها ، ونذر الحج ، أو العمرة المتمتع بها إلى الحج ، فإنّها حج أيضا ، وداخلة فيه ، فلا ينعقد إلا إذا وقع في أشهر الحج ، فإن كان الموضع الذي نذر منه الإحرام ، بينه وبين مكة ، أكثر من مدّة أشهر الحج ، فلا ينعقد الإحرام بالحج أيضا ، وإن كان منذورا ، لأنّ الإجماع حاصل منعقد ، على أنّه لا ينعقد إحرام حج ، ولا عمرة متمتع بها إلى الحج ، إلا في أشهر الحج ، فإذا وردت أخبار ، بأنّه إذا كان منذورا ، انعقد قبل المواقيت ، فانّ العمل يصح بها ، ويخص بذلك الإجماع ، وأمكن العمل بها ، فإن قيل : فإنّها عام ، قلنا : فالعموم قد يخص بالأدلة.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : والأظهر الذي يقتضيه الأدلة ، وأصول

ص: 526


1- النهاية : كتاب الحج ، باب أنواع الحج.
2- الوسائل : كتاب الحج الباب 13 من أبواب المواقيت.

مذهبنا ، أنّ الإحرام لا ينعقد إلا من الميقات ، سواء كان منذورا ، أو غيره ، ولا يصح النذر بذلك أيضا ، لأنّه خلاف المشروع ، ولو انعقد بالنذر ، كان ضرب المواقيت لغوا ، والذي اخترناه ، يذهب إليه السيد المرتضى رحمه اللّه ، وابن أبي عقيل ، من أصحابنا ، وشيخنا أبو جعفر ، في مسائل خلافه ، فإنّه قال : مسألة ، من أفسد الحج ، وأراد أن يقضي ، أحرم من الميقات ، ثمّ استدل فقال : دليلنا ، إنّا قد بيّنا أن الإحرام قبل الميقات لا ينعقد ، وهو إجماع الفرقة ، وأخبارهم ، عامة في ذلك ، فلا يتقدر على مذهبنا هذه المسألة (1) هذا آخر كلامه ، فلو كان ينعقد الإحرام قبل الميقات إذا كان منذورا ، لما قال فلا يتقدّر على مذهبنا هذه المسألة ، وهي تتقدّر عند من قال يصح الإحرام قبل الميقات ، وينعقد إذا كان منذورا ، فليلحظ ذلك.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : ومن عرض له مانع من الإحرام ، جاز له أن يؤخر أيضا عن الميقات ، فإذا زال المنع ، أحرم من الموضع الذي انتهى إليه (2).

قال محمّد بن إدريس : قوله رحمه اللّه : جاز له أن يؤخره ، مقصوده كيفية الإحرام الظاهرة ، وهو التعري ، وكشف الرأس ، والارتداء ، والتوشّح والاتزار ، فأمّا النية ، والتلبية ، مع القدرة عليها ، فلا يجوز له ذلك ، لأنّه لا مانع يمنع من ذلك ، ولا ضرورة فيه ، ولا تقية ، وإن أراد ، وقصد شيخنا غير ذلك ، فهذا يكون قد ترك الإحرام متعمدا من موضعه ، فيؤدي إلى إبطال حجه بغير خلاف ، فليتأمّل ذلك.

وإن قدّم إحرامه قبل الوقت ، وأصاب صيدا ، لم يكن عليه شي ء ، لأنّه لم ينعقد إحرامه ، وإن أخّر إحرامه عن الميقات ، وجب عليه أن يرجع إليه ، ويحرم منه ، متعمدا كان أو ناسيا ، فإن لم يمكنه الرجوع إلى الميقات ، وكان قد ترك

ص: 527


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 217 الا أنّه قال في مسألة 62 من كتاب الحج بجواز الإحرام قبل الميقات بالنذر.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب المواقيت.

الإحرام متعمدا ، فلا حج له ، وإن كان تركه ناسيا ، فليحرم من موضعه ، لأنّ الإحرام واجب وركن (1) والأركان في الحج متى تركها الإنسان متعمدا بطل حجه ، إذا فات أوقاتها ، ومحالها ، وأزمانها ، وأمكنتها ، فإن تركها ناسيا ، لا يبطل حجه ، والواجب الذي ليس بركن ، إذا تركه الإنسان متعمدا ، لا يبطل حجه ، بل له أحكام نذكرها ، عند المصير إليها إن شاء اللّه تعالى.

فإن كان قد دخل مكة ، ثمّ ذكر أنّه لم يحرم ، ولم يمكنه الرجوع إلى الميقات ، لخوف الطريق ، أو لضيق الوقت ، وأمكنه الخروج إلى خارج الحرم ، فليخرج إليه ، وليحرم منه ، وإن لم يمكنه ذلك أيضا ، أحرم من موضعه ، وليس عليه شي ء ، وقد وقّت (2) رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، لأهل كل صقع ، ولمن حج على طريقهم ميقاتا ، فوقت لأهل العراق العقيق ، فمن أي جهاته وبقاعه أحرم ينعقد الإحرام منها ، إلا أنّ له ثلاثة أوقات ، أولها المسلخ ، يقال بفتح الميم وبكسرها ، وهو أوله ، وهو أفضلها عند ارتفاع التقية ، وأوسطها غمرة ، وهي تلي المسلخ ، في الفضل مع ارتفاع التقية (3) وآخرها ذات عرق ، وهو (4) أدونها في الفضل ، إلا عند التقية ، والشناعة ، والخوف ، فذات عرق حينئذ أفضلها في هذه الحال ، ولا يتجاوز ذات عرق إلا محرما على كلّ حال.

ووقت لأهل المدينة ذا الحليفة ، وهو مسجد الشجرة ، ووقت لأهل الشام ، الجحفة ، وهي المهيعة ، بتسكين الهاء ، وفتح الياء ، مشتقة من المهيع ، وهو المكان الواسع ، ووقت لأهل الطائف ، قرن المنازل ، وقال بعض أهل اللغة ، وهو الجوهري صاحب كتاب الصحاح ، في الصحاح : قرن بفتح الراء ، ميقات أهل نجد ، والمتداول بين الفقهاء ، وسماعنا على مشايخنا ، رحمهم اللّه ، قرن المنازل ، بتسكين الراء ، واحتج صاحب الصحاح ، بأن أويس القرني منسوب

ص: 528


1- ج : ركن من الأركان في الحج التي متى.
2- ج : ووقّت.
3- ج : مع التقية.
4- في ط وج : وهي.

إليه ، ووقت لأهل اليمن جبلا يقال له يلملم ، ويقال ألملم. وميقات أهل مصر ، ومن صعد من البحر ، جدة.

وإذا حاذى الإنسان أحد هذه المواقيت ، أحرم من ذلك الموضع ، إذا لم يجعل طريقه أحدها.

ومن كان منزله دون هذه المواقيت ، إلى مكة فميقاته منزله ، فعليه أن يحرم منه.

والمجاور بمكة الذي لم يتم له ثلاث سنين ، إذا أراد أن يحج ، فعليه أن يخرج إلى ميقات صقعه ، وليحرم منه ، وإن لم يتمكن فليخرج إلى خارج الحرم ، فيحرم منه ، وإن لم يتمكن من ذلك أيضا ، أحرم من المسجد الحرام.

وقد ذكر أنّ من جاء إلى الميقات ، ولم يقدر على الإحرام ، لمرض ، أو غيره ، فليحرم عنه وليه ، ويجنبه ما يجتنب المحرم ، وقد تم إحرامه ، وهذا غير واضح ، بل إن كان عقله ثابتا ، عليه فالواجب عليه ، أن ينوي هو ، ويلبي ، فإن لم يقدر فلا شي ء عليه ، وانعقد إحرامه بالنية ، وصار بمنزلة الأخرس ، ولا يجزيه نية غيره عنه ، وإن كان زائل العقل ، فقد سقط عنه الحج ، مندوبا ، كان أو واجبا ، فإن أريد بذلك ، أنّ وليّه لا يقربه شيئا ممّا يحرم على المحرم استعماله ، فحسن ، وإن أريد بأنّه ينوي عنه ، ويحرم عنه ، فقد قلنا ما عندنا في ذلك.

باب كيفيّة الإحرام

الإحرام فريضة ، لا يجوز تركه ، فمن تركه متعمدا فلا حج له ، وإن تركه ناسيا كان حكمه ما قدّمناه في الباب الأول ، إذا ذكر ، فإن لم يذكر أصلا حتى يفرغ من جميع مناسكه ، فقد تمّ حجّه ، ولا شي ء عليه ، إذا كان قد سبق في عزمه الإحرام على ما روي في أخبارنا (1) والذي تقتضيه أصول المذهب أنّه لا

ص: 529


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 20 من أبواب المواقيت.

يجزيه ، وتجب عليه الإعادة ، لقوله عليه السلام : الأعمال بالنيات (1) وهذا عمل بلا نية ، فلا يرجع عن الأدلة بأخبار الآحاد ، ولم يورد هذا ، ولم يقل به أحد ، من أصحابنا ، سوى شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، فالرجوع إلى الأدلة أولى من تقليد الرجال.

وإذا أراد الإنسان أن يحرم بالحج متمتعا ، فإذا انتهى إلى ميقاته ، تنظف ، وقص أظفاره ، وأخذ شيئا من شاربه ، ويزيل الشعر من تحت إبطيه ، وعانته ، ثم ليغتسل ، كل ذلك مستحب ، غير واجب ، ثمّ يلبس ثوبي إحرامه ، يأتزر بأحدهما ، ويتوشح بالآخر ، أو يرتدي به.

وقد أورد شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في كتاب الإستبصار ، في الجزء الثاني ، في باب كيفية التلفظ بالتلبية ، خبرا عن الرضا عليه السلام ، قال فيه : وآخر عهدي بأبي ، أنّه دخل على الفضل بن الربيع ، وعليه ثوبان وساج (2).

قال محمّد بن إدريس : وساج يريد طيلسانا ، لأنّ الساج بالسين غير المعجمة ، والجيم ، الطيلسان الأخضر ، أو الأسود ، قال أبو ذويب :

فما أضحى همي الماء حتى *** كأنّ على نواحي الأرض ساجا

ولا بأس أن يغتسل قبل بلوغه الميقات ، إذا خاف عوز الماء ، فان وجد الماء عند الميقات والإحرام ، أعاد الغسل ، فإنّه أفضل ، وإذا اغتسل بالغداة ، كان غسله كافيا لذلك اليوم ، أيّ وقت أراد أن يحرم فيه فعل ، وكذلك إذا اغتسل أوّل الليل ، كان كافيا له إلى آخره ، سواء نام أو لم ينم ، وقد روي أنّه إذا نام بعد الغسل قبل أن يعقد الإحرام ، كان عليه اعادة الغسل استحبابا (3) والأول هو الأظهر ، لأنّ الأخبار عن الأئمة الأطهار ، جاءت في أنّ من اغتسل نهاره ، كفاه ذلك الغسل ، وكذلك من اغتسل ليلا.

ص: 530


1- الوسائل : كتاب الطهارة باب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 6.
2- الاستبصار : حديث 13 من ذلك الباب.
3- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 10 من أبواب الإحرام.

ومتى اغتسل للإحرام ثمّ أكل طعاما لا يجوز للمحرم أكله ، أو لبس ثوبا لا يجوز له لبسه لأجل الإحرام ، يستحب له اعادة الغسل.

ولا بأس أن يلبس المحرم ، أكثر من ثوبي إحرامه ، ثلاثة ، أو أربعة ، أو أكثر من ذلك ، إذا اتقى بها الحر ، أو البرد ، ولا بأس أيضا أن يغيّر ثيابه ، وهو محرم.

فإذا دخل إلى مكة ، وأراد الطواف ، فالأفضل له أن لا يطوف إلا في ثوبيه ، اللذين أحرم فيهما.

وأفضل الثياب للإحرام القطن ، والكتاب البياض (1) ، وانّما يكره التكفين في الكتان ، ولا يكره الإحرام في الكتان.

وجميع ما تصح الصلاة فيه من الثياب للرجال ، يصح لهم الإحرام فيه.

فأمّا النساء ، فالأفضل لهن الثياب البياض (2) من القطن والكتان ، ويجوز لهن الإحرام في الثياب الإبريسم المحض ، لأنّ الصلاة فيها جائزة لهن ، وإلى هذا القول ذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان الحارثي رحمه اللّه ، في كتابه أحكام النساء (3) ، وهو الصحيح ، لأنّ حظر الإحرام لهن في الإبريسم ، يحتاج إلى دليل ، ولا دليل على ذلك ، والأصل براءة الذمة ، وصحة التصرّف في الملك ، وحمل ذلك على الرجال قياس ، ونحن لا نقول به.

وأفضل الأوقات التي يحرم الإنسان فيها ، بعد الزوال ، ويكون ذلك بعد فريضة الظهر ، فعلى هذا يكون ركعتا الإحرام المندوبة ، قبل فريضة الظهر ، بحيث يكون الإحرام عقيب صلاة الظهر ، وإن اتفق أن يكون الإحرام في غير هذا الوقت ، كان أيضا جائزا ، والأفضل أن يكون الإحرام ، بعد صلاة فريضة ، وأفضل ذلك ، بعد صلاة الظهر ، فإن لم تكن صلاة فريضة ، صلّى ست ركعات ، ونوى بها صلاة الإحرام ، مندوبا قربة إلى اللّه تعالى ، وأحرم في دبرها ،

ص: 531


1- في ط وج : الأبيض.
2- في ط وج : بيض.
3- لا يوجد عندنا.

فإن لم يتمكن من ذلك ، أجزأه ركعتان ، وليقرأ في الأوّلة منهما بعد التوجه ، الحمد ، وقل هو اللّه أحد ، وفي الثانية الحمد ، وقل يا أيّها الكافرون ، فإذا فرغ منهما ، أحرم عقيبهما ، بالتمتع بالعمرة إلى الحجّ ، فيقول : اللّهم إنّي أريد ما أمرت به ، من التمتع بالعمرة إلى الحجّ ، على كتابك وسنّة نبيّك ، صلى اللّه عليه وآله ، فإن عرض لي عارض ، يحبسني ، فحلّني حيث حبستني ، لقدرك الذي قدّرت عليّ ، اللّهم إن لم يكن حجة ، فعمرة أحرم لك شعري ، وجسدي ، وبشري من النساء ، والطيب ، والثياب ، أبتغي بذلك وجهك ، والدار الآخرة ، وكل هذا القول مستحب ، غير واجب.

وإن كان قارنا ، فليقل : اللّهم إنّي أريد ما أمرت به من الحجّ ، قارنا ، وإن كان مفردا فليذكر ذلك ، نطقا في إحرامه ، فإنّه مستحب.

فأمّا نيات الأفعال ، وما يريد أن يحرم به ، فإنّه يجب ذلك ، ونيات القلوب ، فإنّه لا ينعقد الإحرام إلا بالنية ، والتلبية للمتمتع والمفرد ، وأمّا القارن ، فينعقد إحرامه بالنيّة ، وانضمام التلبية ، أو الإشعار ، أو التقليد ، مخير بين ذلك ، وذهب بعض أصحابنا إلى أنّه لا ينعقد الإحرام ، في جميع أنواع الحج ، إلا بالتلبية فحسب ، وهو (1) السيد المرتضى رحمة اللّه ، وبه أقول ، لأنّه مجمع عليه ، والأول اختيار شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه.

قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : ومن أحرم من غير صلاة وغير غسل ، كان عليه إعادة الإحرام ، بصلاة وغسل (2) فأقول : إن أراد أنّه نوى الإحرام ، وأحرم ، ولبّى ، من دون صلاة وغسل ، فقد انعقد إحرامه ، فأيّ اعادة تكون عليه ، وكيف يتقدر ذلك ، وإن أراد أنّه أحرم بالكيفية الظاهرة ، من دون النية والتلبية ، على ما قدّمنا القول في مثله (3) ، ومعناه ، فيصح ذلك ، ويكون لقوله وجه.

ص: 532


1- في ط وج : وهو اختيار.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب كيفية الإحرام.
3- ج : في ذلك.

ولا بأس أن يصلّي الإنسان صلاة الإحرام ، أي وقت كان من ليل أو نهار ، ما لم يكن قد تضيق وقت فريضة حاضرة ، فإن تضيق الوقت بدأ بالفريضة ، ثمّ بصلاة الإحرام ، وإن لم يكن تضيق بدأ بصلاة الإحرام.

ويستحب للإنسان ، أن يشترط في الإحرام ، إن لم يكن حجة فعمرة ، وان يحله حيث حبسه ، سواء كانت حجته تمتعا ، أو قرانا ، أو إفرادا ، وكذلك الحكم في العمرة ، وإن لم يكن الاشتراط لسقوط فرض الحج في العام المقبل ، فإن من حج حجة الإسلام ، وأحصر ، لزمه الحج من قابل ، وإن كانت تطوعا ، لم يكن عليه ذلك ، وانّما يكون للشرط تأثير ، وفائدة ، أن يتحلل المشترط ، عند العوائق ، من مرض ، وعدو ، وحصر ، وصدّ ، وغير ذلك ، بغير هدي.

وقال بعض أصحابنا : لا تأثير لهذا الشرط ، في سقوط الدم عند الحصر والصد ، ووجوده كعدمه ، والصحيح الأول ، وهو مذهب السيد المرتضى ، وقد استدل على صحّة ذلك ، بالإجماع ، وبقول الرسول عليه السلام ، لضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب : حجي واشترطي وقولي : اللّهم فحلني حيث حبستني (1). ولا فائدة لهذا الشرط ، إلا التأثير فيما ذكرناه من الحكم ، فان احتجوا بعموم قوله تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) قلنا : نحمل ذلك على من لم يشترط ، هذا آخر استدلال السيد المرتضى.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف : مسألة ، يجوز للمحرم ، أن يشترط في حال إحرامه ، أنّه إن عرض له عارض يحبسه أن يحلّه حيث حبسه من مرض ، أو عدو ، أو انقطاع نفقة ، أو فوات وقت ، وكان ذلك صحيحا ، يجوز له أن يتحلّل إذا عرض له شي ء من ذلك ، وروي ذلك عن

ص: 533


1- مستدرك الوسائل : كتاب الحج ، الباب 16 من أبواب الإحرام ، ( وفي المصدر : أحرمي بدل حجي - من دون قولي اللّهم ).

عمرو ابن مسعود ، وبه قال الشافعي ، وقال بعض أصحابه : إنّه لا تأثير للشرط ، وليس بصحيح عندهم ، والمسألة على قول واحد في القديم ، وفي الجديد على قولين ، وبه قال أحمد ، وإسحاق ، وقال الزهري ، ومالك ، وابن عمر ، الشرط لا يفيد شيئا ، ولا يتعلّق به التحلل ، وقال أبو حنيفة : المريض له التحلل من غير شرط ، فإن شرط ، سقط عنه الهدي ، دليلنا : إجماع الفرقة ، ولأنّه شرط ، لا يمنع منه الكتاب ، ولا السنة ، فيجب أن يكون جائزا ، لأنّ المنع يحتاج إلى دليل ، وحديث ضباعة بنت الزبير ، يدل على ذلك ، وروت عائشة أنّ النبي عليه السلام ، دخل على ضباعة بنت الزبير ، فقالت : يا رسول اللّه ، إنّي أريد الحج ، وأنا شاكية ، فقال النبي صلى اللّه عليه وآله : أحرمي ، واشترطي ، وقولي أن تحلّني (1) حيث حبستني (2) وهذا نص.

ثمّ قال رحمه اللّه بعد هذه المسألة بلا فصل : مسألة : إذا شرط على ربّه في حال الإحرام ، ثم حصل الشرط ، وأراد التحلّل فلا بدّ من نية التحلّل ، ولا بدّ من الهدي ، وللشافعي فيه قولان ، في النية والهدي معا ، دليلنا : عموم الآية ، في وجوب الهدي ، على المحصر ، وطريقة الاحتياط (3) هذا آخر كلام شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس : في المسألة الأوّلة ، يناظر شيخنا رحمه اللّه ، ويخاصم ، من قال أن الشرط لا تأثير له ، ووجوده كعدمه ، وأنّه لا يفيد شيئا ، ثم يستدل على صحّته وتأثيره ، ولا شرط لا يمنع منه الكتاب ، ولا السنّة ، فيجب أن يكون جائزا ، ويستدل بحديث ضباعة بنت الزبير ، وفي المسألة الثانية ، يذهب إلى أنّ وجوده كعدمه ، ولا بدّ من الهدي ، وان اشترط ، ويستدل بعموم الآية ، في وجوب الهدي على المحصر ، وهذا عجيب ، طريف ، فيه ما فيه.

ص: 534


1- في ط وج : وقولي اللّهم فحلّني.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسائل جزاء الصيد ، مسألة 323.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسائل جزاء الصيد ، مسألة 324.

ولا بأس أن يأكل الإنسان لحم الصيد ، وينال النساء ، ويشم الطيب بعد عقد الإحرام ، ما لم يلب ، فإذا لبّى ، حرم عليه جميع ذلك ، كذا أورده شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، وهذا غير واضح ، لأنّه قال بعد عقد الإحرام : والإحرام لا ينعقد إلا بالتلبية ، أو الاشعار ، والتقليد (2) ، للقارن ، ثم قال : ما لم يلب ، فإذا لم يلبّ فما انعقد إحرامه.

والأولى أن يقال : انّما أراد بقوله بعد عقد الإحرام ، لبس ثوبي الإحرام ، والصلاة ، والاغتسال من الكيفية الظاهرة ، على ما أسلفنا القول في معناه ، وإن كان الحاج قارنا ، فإذا ساق ، وأشعر البدنة ، أو قلّدها ، حرم أيضا عليه ذلك ، وإن لم يلب ، لأنّ ذلك يقوم مقام التلبية ، في حقّ القارن.

والاشعار ، هو أن يشق سنام البدنة ، من الجانب الأيمن ، فإن كانت بدنا كثيرة ، صفّها صفّين ، ويشعر إحديهما من جانبها الأيمن ، والأخرى من جانبها الأيسر.

وينبغي إذا أراد الإشعار ، أن يشعرها وهي باركة ، وإذا أراد نحرها ، نحرها وهي قائمة.

والتقليد ، يكون بنعل قد صلى فيه ، لا يجوز غيره.

وإذا أراد المحرم أن يلبي جاهرا بالتلبية ، بعد انعقاد إحرامه بالتلبية المخفت بها التي أدنى التلفظ بها ، أن تسمع أذناه ، التي يقال يلبي سرا ، يريدون بذلك ، غير جاهر بها ، بل متلفظا ، بحيث تسمع أذناه الكلام ، ثم أراد أن يكررها ، جاهرا بها ، فالأفضل له إذا كان حاجا على طريق المدينة ، أن يجهر بها ، إذا أتى البيداء ، وهي الأرض التي يخسف بها جيش السفياني ، التي تكره فيها الصلاة عند الميل ، فلو أريد بذلك التلبية التي ينعقد بها الإحرام ، لما جاز ذلك ، لأنّ البيداء بينها وبين ذي الحليفة ، ميقات أهل المدينة ، ثلاث فراسخ ، وهو ميل ، فكيف يجوز له أن يتجاوز الميقات من غير إحرام ، فيبطل بذلك حجه وانّما

ص: 535


1- النهاية : كتاب الحج ، باب كيفية الإحرام.
2- في ط : أو التقليد.

المقصود والمراد ما ذكرناه من الإجهار بها ، في حال تكرارها.

وإذا كان حاجا على غير طريق المدينة ، جهر من موضعه بتكرار التلبية المستحبة ، إن أراد ، وإن مشى خطوات ثمّ لبى ، كان أفضل.

والتلبية التي ينعقد بها الإحرام فريضة ، لا يجوز تركها على حال ، والتلفظ بها دفعة واحدة ، هو الواجب ، والجهر بها على الرجال مندوب ، على الأظهر من أقوال أصحابنا ، وقال بعضهم : الجهر بها واجب ، فأمّا تكرارها مندوب مرغب فيه ، والإتيان بقول لبيك ذا المعارج إلى آخر الفصل مندوب ، أيضا شديد الاستحباب.

وكيفية التلبية الأربع الواجبة التي تتنزل في انعقاد الإحرام بها منزلة تكبيرة الإحرام في انعقاد الصلاة ، هو أن يقول : لبيك اللّهم لبيك ، لبيك انّ الحمد والنعمة لك والملك ، لا شريك لك لبّيك فهذه التلبيات الأربع فريضة ، لا بدّ منها.

فإذا لبّى بالتمتع ، ودخل إلى مكة ، وطاف ، وسعى ، ثم لبّى ، بالحج ، قبل أن يقصّر ، فقد بطلت متعته ، على قول بعض أصحابنا ، وكانت حجته مبتولة ، هذا إذا فعل ذلك متعمدا ، فإن فعله ناسيا ، فليمض فيما أخذ فيه ، وقد تمت متعته ، وليس عليه شي ء.

ومن لبى بالحجّ مفردا ، ودخل مكة ، وطاف ، وسعى ، جاز له أن يقصّر ويجعلها عمرة ، ما لم يلب بعد الطواف ، فإن لبّى بعده ، فليس له متعة ، وليمض في حجّته ، هكذا أورده شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1). ولا أرى لذكر التلبية هاهنا وجها ، وانّما الحكم للنية ، دون التلبية ، لقوله عليه السلام : الأعمال بالنيات (2).

وينبغي أن يلبّي الإنسان ، ويكرر التلبيات الأربع ، وغيرها من الألفاظ ،

ص: 536


1- النهاية : كتاب الحج ، باب كيفية الإحرام.
2- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 6.

مندوبا ، في كل وقت ، وعند كل صلاة ، وإذا هبط واديا ، أو صعد شرفا ، وفي الأسحار.

والأخرس ، يجزيه في تلبيته ، تحريك لسانه ، وإشارته ، بالإصبع.

ويقطع المتمتع ، التلبية ، المكررة المندوبة ، إذا شاهد بيوت مكة ، فإذا شاهدها ، يستحب له قطعها ، فإن كان قارنا أو مفردا ، قطع تلبيته يوم عرفة بعد الزوال ، وإذا كان معتمرا قطعها إذا دخل الحرم ، فإن كان المعتمر ممن قد خرج من مكة ، ليعتمر ، فلا يقطعها ، إلا إذا شاهد الكعبة.

ويجرد الصبيان ، من لبس المخيط ، من فخّ ، و « فخ » بالفاء والخاء المعجمة المشددة ، إذا حج بهم على طريق المدينة ، لأنّ فخّا على هذه الطريق ، فأمّا إذا كان إحرامهم من غير ميقات أهل المدينة ، فلا يجوز لبس المخيط لهم ، بل يجردون من المخيط وقت الإحرام ، و « فخّ » هي الموضع الذي قتل به الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن أمير المؤمنين عليه السلام ، وهي من مكة ، على رأس فرسخ ، إذا أريد الحج بهم.

ويجنبون ، كلّما يجتنبه المحرم ، ويفعل بهم ، ما يجب على المحرم فعله ، وإذا حجّ بهم متمتعين ، وجب أن يذبح عنهم ، ويكون الهدي من مال من حجّ بالصبي ، دون مال الصبي ، وينبغي أن يوقف الصبي بالموقفين معا ، ويحضر المشاهد كلّها ، ويرمى عنه ، ويناب عنه ، في جميع ما يتولاه الرجل بنفسه ، وإذا لم يوجد لهم هدي ، كان على الولي الذي أدخلهم في الحج ، أن يصوم عنه.

وأفعال الحج على ضربين : مفروض ، ومسنون ، في الأنواع الثلاثة. والمفروض على ضربين : ركن ، وغير ركن.

فأركان المتمتع عشرة له النيّة ، والإحرام من الميقات في وقته ، وطواف العمرة ، والسعي بين الصّفا والمروة لها ، والإحرام بالحج ، من جوف مكة ، لأنّها ميقاته ، والنية له ، والوقوف بعرفات ، والوقوف بالمشعر ، وطواف الزيارة ، والسعي للحج.

وما ليس بركن ، فثمانية أشياء : التلبيات الأربع على قول بعض أصحابنا وعلى قول

ص: 537

الباقين ، هي ركن ، وهو الأظهر والأصح ، لأن حقيقة الركن ، ما إذا أخل به الإنسان في الحج عامدا ، بطل حجّه ، والتلبية هذا حكمها ، وإلى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر ، في النهاية في باب فرائض الحج (1) ويذهب في الجمل والعقود ، إلى أنّ التلبية واجبة ، غير ركن (2) ، أو ما قام (3) مقامها مع العجز ، وركعتا طواف العمرة ، والتقصير بعد السعي ، والتلبية عند الإحرام بالحج ، أو ما يقوم مقامها ، على رأي من لا يرى أنّها ركن ، والهدي ، أو ما يقوم مقامه ، من الصوم مع العجز ، ولا يجوز إذا عدمنا القدرة على الهدي ، الانتقال إلا إلى الصوم ، دون الثمن ، لأنّ اللّه تعالى (4) ما نقلنا إلى ثالث ، بل نقلنا إذا عدمنا الهدي ، إلى بدله ، وهو الصوم ، وبعض أصحابنا قال : لا يجوز الانتقال إلى الصوم ، إلا بعد عدم ثمنه ، والأوّل أظهر ، ودليله ما قدّمناه ، وركعتا طواف الزيارة ، وطواف النساء ، وركعتا الطواف له.

وأركان القارن والمفرد ستة : النية ، والإحرام ، والوقوف بعرفات ، والوقوف بالمشعر ، وطواف الزيارة ، والسعي.

وما ليس بركن فيهما أربعة أشياء : التلبية ، أو ما يقوم مقامها للقارن ، من تقليد ، أو إشعار ، على أحد المذهبين ، وركعتا طواف الزيارة ، وطواف النساء ، وركعتا الطواف له.

ويتميز القارن من المفرد بسياق الهدي.

ويستحب لهما تجديد التلبية عند كل طواف.

وأشهر الحج ، قال بعض أصحابنا : ثلاثة أشهر وهي : شوال وذو القعدة وذو الحجة ، وقال بعض أصحابنا : شهران ، وتسعة أيام ، وقال بعض منهم :

ص: 538


1- النهاية : كتاب الحج ، باب فرائض الحج.
2- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر أفعال الحج.
3- في ط وج : يقوم.
4- في سورة البقرة الآية 196 قال ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ ) .

شهران وعشرة أيام ، فالأول مذهب شيخنا المفيد ، في كتابه الأركان ، ويناظر مخالفه على ذلك ، وهو أيضا مذهب شيخنا أبي جعفر رحمه اللّه في نهايته (1) وقال في جمله وعقوده : شهران وتسعة أيام (2) وقال في مسائل خلافه (3) ومبسوطة (4). وأشهر الحج : شوال ، وذو القعدة ، وإلى يوم النحر ، قبل طلوع الفجر منه ، فإذا طلع ، فقد مضى أشهر الحج ، ومعنى ذلك ، أنّه لا يجوز أن يقع إحرام الحج إلا فيه ، ولا إحرام العمرة التي يتمتع بها إلى الحج ، إلا فيها ، وأمّا إحرام العمرة المبتولة ، فجميع أيام السنة وقت له.

والذي يقوى في نفسي ، مذهب شيخنا المفيد ، وشيخنا أبي جعفر ، في نهايته ، والدليل على ما اخترناه ، ظاهر لسان العرب ، وحقيقة الكلام ، وذلك أنّ اللّه تعالى قال في محكم كتابه : ( الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ ) (5) فجمع سبحانه ، ولم يفرد بالذكر ، ولم يثن ، ووجدنا أهل اللسان ، لا يستعملون هذا القول ، فيما دون أقل من ثلاثة أشهر ، فيقولون : فلان غاب شهرا ، إذا أكمل الشهر لغيبته ، وفلان غاب شهرين ، إذا كان فيهما جميعا غائبا ، وفلان غاب ثلاثة أشهر ، إذا دامت غيبته في الثلاثة ، فثبت أنّ أقل ما يطلق عليه لفظ الأشهر ، في حقيقة اللغة ثلاثة منها ، فوجب أن يجري كلام اللّه تعالى ، وكتابه على الحقيقة ، دون المجاز ، لأنّ الكلام في الحقائق ، دون المجازات ، والاستعارات.

ويزيد ذلك بيانا ما روي عن الأئمة من آل محمّد عليهم السلام أنّ أشهر الحج ثلاثة : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة (6) ويصحّح هذه الرواية ، عن الأئمة

ص: 539


1- النهاية : كتاب الحج ، باب أنواع الحج.
2- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في كيفية الإحرام وشرائطه.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 23.
4- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر أنواع الحج وشرائطها.
5- البقرة : 197.
6- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 11 من أبواب أقسام الحج.

عليهم السلام ، ما أجمعت عليه الطائفة عنهم عليهم السلام في جواز ذبح الهدي طول ذي الحجة ، وطواف الحج ، وسعي الحج ، طول ذي الحجّة ، وكذلك طواف النساء عندنا ، وقالوا عليهم السلام ، فإن لم يجد الهدي حتى يخرج ذو الحجة ، أخّره إلى قابل ، فإنّ أيام الحج قد مضت ، فجعلوا عليهم السلام آخر منتهى الحج ، آخر ذي الحجّة.

فإن قال قائل : ما أنكرتم أن يكون آخر أشهر الحج ، اليوم العاشر من ذي الحجة ، بدلالة إجماع الأمّة ، على أنّه ليس لأحد أن يهل بالحج ، ولا يقف بعرفة ، بعد طلوع الفجر من يوم النحر ، وذلك أنّه لو كان باقي ذي الحجة من أشهر الحج ، لجاز فيه ما ذكرناه.

قيل له قد تقدّم القول في بطلان هذا المذهب ، بما ذكرناه من كلام العرب ، وحقيقة اللسان ، وقد قال اللّه تعالى ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ) (1) وقال تعالى ( قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ ) (2) فلو كان الأمر على ما يذهب إليه مخالفنا في المسألة ، لكان القرآن واردا على غير مفهوم اللغة ، وذلك ضدّ الخبر الذي تلوناه من الكتاب ، على أنّ هذا الذي عارض به الخصم ، بيّن الاضمحلال ، وذلك أنّ أشهر الحج ، انّما هي على ترتيب عمله ، فبعضها وقت للإهلال ، وبعضها وقت للطواف والسعي ، وبعضها وقت للوقوف ، وقد اتفقنا جميعا بغير خلاف ، أنّ طواف الزيارة من الحج ، وهو بعد الفجر من يوم النحر ، وكذلك السعي ، وطواف النساء عندنا ، على ما مضى بيانه ، والمبيت ليالي التشريق بمنى ، ورمي الجمار بعد يوم النحر ، فثبت بذلك ، أنّ القول في ذلك على ما اخترناه.

واختلف أصحابنا ، في أقل ما يكون بين العمرتين ، فقال بعضهم : شهر ، وقال بعضهم : يكون في كل شهر تقع عمرة ، وقال بعضهم : عشرة أيام ، وقال بعضهم : لا أوقت وقتا ، ولا أجعل بينهما مدّة ، وتصح في كل يوم عمرة ، وهذا

ص: 540


1- إبراهيم : 4.
2- الزمر : 29.

القول يقوى في نفسي ، وبه افتي ، وإليه ذهب السيّد المرتضى ، في الناصريات وقال : الذي يذهب إليه أصحابنا ، أنّ العمرة جائزة في سائر أيام السنة. وقال : وقد روي أنّه لا يكون بين العمرتين أقل من عشرة أيام (1) وروي أنّها لا تجوز إلا في كل شهر مرة (2). ثم قال : دليلنا على جواز فعلها على ما ذكرناه ، قوله صلى اللّه عليه وآله : العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما (3) ولم يفصّل عليه السلام (4).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وما روي في مقدار ما يكون بين العمرتين ، فأخبار آحاد ، لا توجب علما ولا عملا ، ولا يجوز إدخال العمرة على الحج ، ولا إدخال الحج على العمرة ، ومعنى ذلك أنّه إذا أحرم بالحج ، لا يجوز أن يحرم بالعمرة ، قبل أن يفرغ من مناسك الحج ، وكذلك إذا أحرم بالعمرة ، لا يجوز أن يحرم بالحج ، حتى يفرغ من مناسكها ، فان فاته وقت التحلّل ، مضى على إحرامه ، وجعلها حجّة منفردة ، ولا يدخل أفعال العمرة في أفعال الحج.

والمتمتع إذا أحرم بالحج من خارج مكة ، وجب عليه الرجوع إليها مع الإمكان ، فإن تعذر ذلك لم يلزمه شي ء وتمّ حجه ولا دم عليه ، لأجل ذلك.

والقارن والمفرد ، إذا أراد أن يأتيا بالعمرة بعد الحج ، وجب عليهما أن يخرجا إلى خارج الحرم ، ويحرما منه ، فإن أحرما من جوف مكة لم يجزهما.

والمستحب لهما ، أن يأتيا بالإحرام ، من الجعرانة ( بفتح الجيم ، وكسر العين ، وفتح الراء ، وتشديدها ، هكذا سماعنا من بعض مشايخنا ، والصحيح ما قاله نفطويه ، في تاريخه ، قال : كان الشافعي يقول : الحديبية بالتخفيف ، ويقول أيضا : الجعرانة بكسر الجيم ، وسكون العين ، وهو أعلم بهذين الموضعين. قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وجدتها كذلك ، بخط أثق (5) به ، قال ابن دريد في

ص: 541


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 6 من أبواب العمرة.
2- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 6 من أبواب العمرة.
3- كنز العمال : ج 5 ، كتاب الحج والعمرة ، ص 114.
4- الناصريات : كتاب الحج ، مسألة 139.
5- في ج : وط : من أثق.

الجمهرة : الجعرانة بكسر الجيم ، والعين ، وفتح الراء ، وتشديدها ، وهذا الذي يعتمد عليه ) أو التنعيم.

باب ما يجب على المحرم اجتنابه وما لا يجب

إذا عقد المحرم إحرامه بالتلبية ، إن كان متمتعا ، أو مفردا أو بالإشعار ، أو التقليد ، إن كان قارنا حرم عليه لبس الثياب المخيطة ، وغير المخيطة ، إذا كان فيها طيب إلا بعد إزالته ، والنساء ، نظرا ، ولمسا ، وتقبيلا ، ووطيا وعقدا له ولغيره ، يستوي المحرّمات والمحللات في ذلك ، والطيب على اختلاف أجناسه ، والصيد ، ولحم الصيد ، والإشارة إليه ، والدلالة عليه.

وأفضل ما يحرم الإنسان فيه من الثياب ، ما يكون قطنا محضا بيضا ، فإن كان غير بيض كان جائزا ، ولا يكره الإحرام في الثياب الكتان ، إنّما يكره التكفين بها ، ويكره الإحرام في الثياب السود.

وقال شيخنا في نهايته : لا يجوز الإحرام في الثياب السود (1). وانّما أراد شدة الكراهة ، دون أن يكون ذلك محظورا ، وجملة الأمر ، وعقد الباب في هذا ، أنّ كل ثوب يجوز للرجال فيه الصلاة ، يجوز فيه الإحرام.

ويكره الإحرام في الثياب المصبوغة بالعصفر ، وما أشبه ذلك ، لأجل الشهرة ، وإن لم يكن ذلك محظورا.

ولا يحرم الإنسان إلا في ثياب طاهرة ، نظيفة ، فإن كانت وسخة ، غسلها قبل الإحرام ، وإن توسخت بعد الإحرام ، فإنّه يكره غسلها ، وإن لم يكن ذلك محظورا ، إلا إذا أصابها شي ء من النجاسة ، فإنّه يجب عليه غسلها.

ولا بأس أن يستبدل بثيابه في حال الإحرام ، غير أنّه إذا طاف ، لا يطوف

ص: 542


1- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم اجتنابه.

إلا فيما أحرم فيه ، وإن كان لو طاف في غيره ، ممّا استبدل لم يكن محظورا ، ولا وجب عليه بذلك شي ء.

ويكره له النوم على الفرش المصبوغة.

وإن أصاب ثوب المحرم شي ء من خلوق الكعبة ، وزعفرانها ، لم يكن به بأس.

وإذا لم يكن مع الإنسان ثوبا لإحرامه ، وكان معه قباء ، فليلبسه منكوسا ، ومعنى ذلك أن يجعل ذيله فوق أكتافه ، وقال بعض أصحابنا : فليلبسه مقلوبا ، ولا يدخل يديه في يدي القباء ، وإلى ما فسرناه يذهب ويعني بقوله مقلوبا ، لأنّ المقصود بذلك أنّه لا يشبه لبس المخيط ، إذا جعل ذيله على أكتافه ، فأمّا إذا قلبه ، ولبسه ، وجعل ذيله إلى تحت ، فهذا يشبه لبس المخيط ، وما فسرناه به قد ورد صريحا عن الأئمة في ألفاظ الأحاديث ، أورده البزنطي ( بالباء المنقطة ، من تحتها نقطة واحدة المفتوحة ، والزاي المفتوحة المعجمة ، والنون المسكنة ، والطاء غير المعجمة ، صاحب الرضا عليه السلام ) في نوادره ، ويجوز له أن يلبس السراويل ، إذا لم يجد الإزار ، ولا كفارة عليه ولا حرج.

ويكره لبس الثياب المعلمة في حال الإحرام ، ولا يجوز للرجل ، أن يلبس الخاتم يتزين به ، ولا بأس بلبسه للسنّة.

ولا يجوز للمحرم أن يلبس الخفين ، وعليه أن يلبس النعلين ، فإن لم يجدهما ، واضطر إلى لبس الخف ، لم يكن به بأس ، وقال بعض أصحابنا : يشق ظاهر قدمه ، وهو قول بعض المخالفين لأهل البيت عليهم السلام ، والذي رواه أصحابنا ، وأجمعوا عليه ، لبسهما من غير شق (1) وهو الصحيح ، وعليه يعتمد شيخنا أبو جعفر في نهايته (2). وقال : بقول بعض المخالفين ، في مسائل خلافه (3)

ص: 543


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 51 من أبواب تروك الإحرام ، ح 2 و 4.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم اجتنابه.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 75.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه أيضا في نهايته : ويحرم على المرأة في حال الإحرام ، من لبس الثياب ، جميع ما يحرم على الرجال ، ويحل لها ما يحل له (1) قال وقد وردت رواية ، بجواز لبس القميص للنساء ، والأصل ما قدّمناه ، فأمّا السراويل فلا بأس بلبسه لهن على كل حال ، سواء كانت ضرورة ، أو لم تكن (2).

قال محمّد بن إدريس : والأظهر عند أصحابنا ، أنّ لبس الثياب المخيطة غير محرّم على النساء ، بل عمل الطائفة وفتواهم ، وإجماعهم ، على ذلك ، وكذلك عمل المسلمين.

ولا يجوز لهن لبس القفازين ، ولا شي ء من الحلي مما لم تجر عادتهن بلبسه قبل الإحرام. فأمّا ما كنّ يعتدن لبسه فلا بأس به ، غير أنّها لا تظهره لزوجها ، ولا تقصد به الزينة ، فإن قصدت به الزينة ، كان أيضا غير جائز.

والقفّازان في الأصل وعند العرب ، شي ء تتخذه النساء باليدين ، تحشى بقطن ، ويكون له أزرار ، تزر على الساعدين ، من البرد ، تلبسه النساء ، والقفاز أيضا الدستبانج ، الذي يتخذ للجوارح ، من جلد يمده الرجل على يده ، قال الشاعر :

تبا لذي أدب يرضى بمعجزة *** ولا يكون كباز فوق قفّاز

وقد روي أنّه لا بأس بأن تلبس المرأة المحرمة الخلخالين ، والمسك.

قال محمّد بن إدريس : المسك بفتح الميم ، والسين غير المعجمة المفتوحة ، والكاف ، أسورة من ذبل أو عاج قال جرير :

ترى العيس الحولي جوبا بكوعها *** لها مسك من غير عاج ولا ذبل

ويكره لها أن تلبس الثياب المصبوغة المفدمة يعني المشبعة.

ولا بأس أن تلبس المرأة المحرمة ، الخاتم ، وإن كان من ذهب.

ص: 544


1- ج : عليهم.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم اجتنابه.

ويحرم على المحرم الرفث ، وهو الجماع.

ويحرم عليه أيضا الفسوق ، وهو الكذب ، والجدال ، وهو قول الرجل : لا واللّه ، وبلى واللّه.

ولا يجوز له قتل شي ء من الدواب ، ولا يجوز له أن ينحي عن بدنه القمل ، يرمي به عنه ، ولا بأس بتحويله له من مكان من بدنه الى مكان منه ، ولا بأس أن ينحّي عنه القراد ، والحلمة.

ولا يجوز له ، أن يمسّ شيئا من الطيب ، على ما قدّمناه ، وقال بعض أصحابنا : الطيب الذي يحرم مسه ، وشمّه ، وأكل طعام يكون فيه المسك ، والعنبر والزعفران ، والورس بفتح الواو ، وهو نبت أحمر ، قاني ، يوجد على قشور شجر ، ينحت منها ، ويجمع ، وهو شبيه بالزعفران المسحوق ، ويجلب من اليمن ، طيّب الريح ، والعود ، والكافور.

فأمّا ما عدا هذا من الطيب ، والرياحين ، فمكروه ، يستحب اجتنابه ، وإن لم يلحق في الحظر بالأوّل ، وهذا مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (1).

والأظهر بين الطائفة ، تحريم الطيب على اختلاف أجناسه ، لأنّ الأخبار عامة في تحريم الطيب على المحرم ، فمن خصّصها بطيب دون طيب ، يحتاج إلى دليل.

وكذلك يحرم عليه الادهان بدهن فيه طيب ، فإن اضطر إلى أكل طعام فيه طيب ، أكله غير أنّه يقبض على أنفه ، ولا بأس بالسعوط ، وإن كان فيه طيب ، عند الحاجة إليه.

ومتى أصاب ثوب الإنسان شي ء من الطيب ، كان عليه إزالته.

ومتى اجتاز المحرم في موضع يباع فيه الطيب ، لم يكن عليه شي ء ، فإن باشره بنفسه أمسك على أنفه منه.

ص: 545


1- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم اجتنابه.

ولا يمسك على أنفه من الروائح الكريهة.

ولا بأس بأن يستعمل المحرم الحناء ، للتداوي به ، ويكره ذلك للزينة ، ويكره للمرأة الخضاب إذا قاربت حال الإحرام.

ولا يجوز له الصيد البري ، ولا الإشارة إليه ، ولا الدلالة عليه ، على ما قدّمناه ، ولا أكل ما صاده غيره ، ولا يجوز له أن يذبح شيئا من الصيد ، فإن ذبحه ، كان حكمه حكم الميتة ، لا يجوز لأحد أكله.

ولا يجوز للرجل ، ولا للمرأة أن يكتحلا بالإثمد ، إلا عند الحاجة الداعية إلى ذلك ، ولا بأس بأن يكتحلا بكحل ليس بأسود ، إلا إذا كان فيه طيب ، فإنّه لا يجوز ذلك.

ولا يجوز للمحرم النظر في المرآة ، وبعض يكره ذلك.

ولا يجوز له استعمال الأدهان التي فيها طيب ، قبل أن يحرم ، إذا كانت ممّا يبقى رائحته إلى بعد الإحرام ، ولا بأس عند الضرورة باستعمال ما ليس بطيب منها ، مثل الشيرج ، والسمن ، والزيت ، فأمّا أكلها ، فلا بأس به على جميع الأحوال.

والأدهان الطيبة ، إذا زالت عنها الرائحة ، جاز استعمالها.

ولا يجوز للمحرم أن يحتجم ، إلا إذا خاف ضررا على نفسه.

ولا يجوز له إزالة شي ء من الشعر ، في حال الإحرام ، فإن اضطر إلى ذلك ، بأن يريد مثلا أن يحتجم ، ولا يتأتى له ذلك ، إلا بعد إزالة شي ء من الشعر ، فليزله ، وليس عليه شي ء من الإثم ، بل يجب عليه دم شاة ، أو صيام ثلاثة أيام ، أو إطعام ستة مساكين ، مخير في ذلك.

ولا يجوز للمحرم تغطية رأسه ، ولا أن يرتمس في الماء ، بأن يغطّي رأسه ، فأمّا المرأة ، فلا بأس بها ، أن تغطي رأسها ، غير انّها يجب عليها أن تسفر عن وجهها ، ولا يجوز أن تتنقب ، فإن غطى الرجل رأسه ناسيا ، ألقى الغطاء عن

ص: 546

رأسه ، وجدد التلبية استحبابا ، وليس عليه شي ء ، ولا بأس أن يغطي وجهه ، ويعصب رأسه ، عند حاجته إلى ذلك.

ولا يجوز للمحرم أن يظلّل على نفسه سائرا ، إلا إذا خاف الضرر العظيم ، ويجوز له أن يمشي تحت الظلال ، ويجلس تحت الظلال ، والسقوف ، والخيم ، وغير ذلك ، وانّما منع المحرم من الظلال ، إذا كان سائرا ، فأمّا إذا نزل ، فلا بأس أن يستظل ، بما أراد.

والمحرم إذا كان مزاملا لعليل ، جاز له أن يظلل على العليل ، ولا يجوز له أن يظلل على نفسه ، ولا بأس بأن تستظل المرأة ، وتغطي محملها ، وهي سائرة ، بخلاف الرجال.

ولا يحك المحرم جلده حكا يدميه ، ولا يستاك سواكا يدمي فاه ، ولا يدلك جسده ، ووجهه ، ولا رأسه ، في الوضوء والغسل ، لئلا يسقط منهما شي ء من الشعر.

ولا يجوز له قص الأظافير ، على حال.

ولا يجوز للمحرم أن يتزوج ، أو يزوج ، فإن فعل كان العقد باطلا ، ولا يجوز له أيضا أن يشهد العقد ، ولا أن يشهد على عقد النكاح ، ما دام محرما ولا بأس بإقامته الشهادة ، بعد إحلاله من إحرامه ، وانّما يحرم عليه إقامتها في حال إحرامه ، فإن أقامها ، يردّها الحاكم حينئذ ، ولا يقبلها.

ولا بأس أن يشتري الجواري.

ويجوز له تطليق النساء.

ويكره له دخول الحمام ، فإن دخله ، فلا يدلك جسده ، بل يصب عليه الماء صبا.

والمحرم إذا مات ، غسل كتغسيل المحل ، ويكفن كتكفينه ، غير أنّه لا يقرّب شيئا من الكافور.

ويكره له أن يلبي من دعاه ، بل يقول يا سعد.

ص: 547

ولا يجوز للمحرم لبس السلاح ، إلا عند الضرورة ، والخوف.

ولا بأس أن يؤدب الرجل غلامه ، وخادمه ، وهو محرم ، غير أنّه لا يزيد على عشرة أسواط - أورد شيخنا في أثناء مسألة من مسائل خلافه (1) - وعليه ردع من زعفران ، بالراء غير المعجمة ، المفتوحة ، والدال غير المعجمة ، المسكنة ، والعين غير المعجمة ، قال محمّد بن إدريس : يقال به ردع من زعفران ، أو دم أي لطخ وأثر.

باب ما يلزم المحرم عن جناياته من كفارة وفدية وغير ذلك فيما يفعله عمدا أو خطأ

ما يفعله المحرم من محظورات الإحرام على ضربين ، أحدهما يفعله عامدا ، والآخر يفعله ساهيا وناسيا ، فكل ما يفعله من ذلك على وجه السهو والنسيان ، لا يتعلّق به كفارة ، ولا فساد الحج ، إلا الصيد خاصة ، فإنّه يلزمه فداؤه ، عامدا كان ، أو ساهيا ، وما عداه إذا فعله عامدا ، لزمته الكفارة ، وإذا فعله ساهيا ، لم يلزمه شي ء.

فمن ذلك ، إذا جامع المرأة في الفرج ، سواء كان قبلا ، أو دبرا ، قبل الوقوف بالمشعر ، عامدا ، وبعض أصحابنا يقول : ويعتبر قبل الوقوف بعرفة ، والأول هو الأظهر ، فإنّه يفسد حجّه ، ويجب عليه المضي في فاسدة ، وعليه الحجّ من قابل ، قضاء عن هذه الحجة ، سواء كانت حجته فرضا ، أو نفلا ، ويلزم مع ذلك ، كفارة ، وهي بدنة ، والمرأة إن كانت محلّة ، لا يتعلّق بها شي ء ، وإن كانت محرمة ، فلا يخلو إمّا أن تكون مطاوعة له ، أو مكرهة عليها ، فإن طاوعته على ذلك ، كان عليها مثل ما عليه من الكفارة ، والحج ، من قابل ، وينبغي أن يفترقا ، إذا انتهيا إلى المكان الذي فعلا فيه ما فعلا ، إلى أن يقضيا المناسك ، وقد

ص: 548


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 64.

روي أنّ حد الافتراق ، أن لا يخلوا بأنفسهما ، إلا ومعهما ثالث (1).

وإن كان أكرهها على ذلك ، لم يكن عليها شي ء ، ولا يتعلّق به فساد حجّها.

وتضاعفت الكفارة على الرجل ، يتحملها عنها ، وهي بدنة أخرى ، فأمّا حجّة أخرى فلا يلزمه عنها ، لأنّ حجتها ما فسدت.

وإن كان جماعه فيما دون الفرج ، كان عليه بدنة ، ولم يكن عليه الحج من قابل.

وإن كان الجماع في الفرج بعد الوقوف بالمشعر ، كان عليه بدنة ، وليس عليه الحج من قابل ، سواء كان ذلك قبل التحلل ، أو بعده ، وعلى كل حال ، فإذا قضى الحج في القابل ، فأفسد حجه أيضا ، كان عليه مثل ما لزمه في العام الأول ، من الكفارة ، والحج من قابل ، وكذلك ما زاد عليه إلى أن تسلم له حجّة غير مفسودة ، لعموم الأخبار (2).

وإذا جامع أمته ، وهي محرمة ، وهو محلّ ، فإن كان إحرامها بإذنه ، كان عليه كفارة ، يتحملها عنها ، وإن كان إحرامها من غير اذنه ، لم يكن عليه شي ء ، لأنّ إحرامها لم ينعقد ، وكذا الاعتبار في الزوجة ، في حجّة التطوع ، دون حجة الإسلام ، فإن لم يقدر على بدنة ، كان عليه دم شاة ، أو صيام ثلاثة أيام ، وإن كان هو أيضا محرما ، تعلّق به فساد حجّه ، والكفارة ، مثل ما قلناه ، في الحرة سواء.

وإذا وطأ بعد وطء لزمته كفارة ، بكل وطء ، سواء كفر عن الأول ، أو لم يكفر لعموم الأخبار.

ومن أفسد الحجّ ، وأراد القضاء ، أحرم من الميقات ، وكذلك من أفسد العمرة ، أحرم فيما بعد من الميقات ، والمفرد إذا حج ، ثم اعتمر بعده ، فأفسد

ص: 549


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 3 من أبواب كفارات الاستمتاع ، ح 5 و 6.
2- الوسائل : كتاب الحج الباب 3 من أبواب كفارات الاستمتاع.

عمرته ، قضاها ، وأحرم من أدنى الحل ، والمتمتع إذا أحرم بالحج ، من مكة ، ثم أفسد حجه ، قضاه ، وأحرم من الموضع الذي أحرم منه بالحجّ ، من مكة ، بعد ما يقدّم العمرة المتمتع بها ، على إحرامه من مكة ، في سنة واحدة.

وهل تكون الحجة الثانية ، هي حجة الإسلام ، أو الأولى الفاسدة؟ قال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : الاولى الفاسدة ، هي حجة الإسلام ، والثانية عقوبة (1) وقال في مسائل خلافه : بل الثانية هي حجة الإسلام (2) وهذا هو الصحيح الذي تشهد به أصول المذهب ، لأنّ الفاسد لا يجزي ولا تبرأ الذمة بفعله ، والفاسد غير الصحيح.

فإن قيل : إذا كانت الثانية هي حجة الإسلام ، دون الاولى ، وكان يراعى فيها شرائط الوجوب ، فكان إذا حج في العام القابل ، والشرائط مفقودة ، لا تجزيه حجته ، إذا أيسر بعد ذلك ، وحصلت له شرائط الوجوب ، ولا يعتبر أحد ذلك ، بل حجته في العام القابل تجزيه ، ولو حبا حبوا ، فدلّ هذا الاعتبار ، على أنّ الاولى هي حجة الإسلام ، دون الثانية.

قلنا : من حصلت له شرائط الوجوب ، وفرّط فيها ، يجب عليه الحج ، فإذا حج فقيرا ، أو ماشيا بعد ذلك ، أجزأته حجته ، ولا يعتبر شرائط الوجوب ، بعد ذلك ، فعلى هذا التحرير ، والتقرير ، الاعتراض ساقط ، لأنّه بإفساده للأولى فرّط ، فلا اعتبار في الثانية بشرائط الوجوب.

ومتى جامع الرجل قبل طواف الزيارة ، كان عليه جزور ، فإن لم يتمكن كان عليه دم بقرة ، فان لم يتمكن كان عليه دم شاة.

ومتى طاف الإنسان من طواف الزيارة شيئا ، ثم واقع أهله ، قبل أن يتمه ،

ص: 550


1- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 205.

كان عليه بدنة ، واعادة الطواف.

وإن كان قد سعى من سعيه شيئا ، ثمّ جامع كان عليه الكفارة ، ويبني على ما سعى ، ومن سعى بين الصفا والمروة ستة أشواط ، وظن أنّه كان سعى سبعة ، فقصّر ، وجامع ، وجب عليه دم بدنة ، وروي بقرة (1) ويسعى شوطا آخر ، وانّما وجبت عليه الكفارة ، لأجل أنّه خرج من السعي ، غير قاطع ، ولا متيقن إتمامه ، بل خرج عن ظن منه ، وهاهنا لا يجوز له أن يخرج مع الظن ، بل مع القطع واليقين ، وهذا ليس هو بحكم الناسي ، وهذا يكون في سعي العمرة المتمتع بها إلى الحج ، فلو كان في سعي الحجّ ، كان يجب عليه الكفارة ، ولو سلم له سعيه ، وخرج منه على يقين ، لأنّه قاطع على وجوب طواف النساء عليه ، وليس كذلك العمرة المتمتع بها ، لو سلم له سعيه ، وقصّر لم يجب عليه الكفارة ، لأنّه قد أحلّ بعد تقصيره من جميع ما أحرم منه ، لأنّ طواف النساء غير واجب في العمرة المتمتع بها إلى الحج ، فليتأمّل ما قلناه ، فلا يصح القول بهذه المسألة ، فإنّها ما ذكرها الشيخ المفيد في مقنعته (2) ، إلا بما حرّرناه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : وإن كان قد انصرف من السعي ظنا منه أنّه تممه ، ثمّ جامع ، لم يلزمه الكفارة ، وكان عليه تمام السعي (3) فجعله في حكم الناسي ، ولا يصح هذا أيضا ، إلا في سعي العمرة المتمتع بها إلى الحج ، على ما حرّرناه.

ومتى جامع الرجل بعد قضاء مناسكه ، قبل طواف النساء ، كان عليه بدنة ، فإن كان قد طاف من طواف النساء شيئا ، فإن كان أكثر من النصف ،

ص: 551


1- الوسائل : كتاب الحج الباب 14 من أبواب السعي.
2- المقنعة : كتاب الحج ، باب الكفارات ص 433.
3- النهاية : كتاب الحج ، ما يجب على المحرم من الكفارة.

بنى عليه بعد الغسل ، ولم تلزمه الكفارة ، على ما روي في بعض الأخبار (1) وقد ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) ، وإن كان قد طاف أقل من النصف ، كان عليه الكفارة ، واعادة الطواف.

قال محمّد بن إدريس : أمّا اعتبار النصف في صحة الطواف ، والبناء عليه ، فصحيح ، وأمّا سقوط الكفارة ، ففيه نظر ، لأنّ الإجماع حاصل على أنّ من جامع قبل طواف النساء ، وجبت عليه الكفارة ، وهذا جامع قبل طواف النساء ، فالاحتياط يقتضي وجوب الكفارة.

ومتى عبث بذكره ، حتى أمنى ، فانّ الواجب عليه الكفارة ، وهي بدنة ، فحسب ، ولا يفسد حجه ، وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي ، في نهايته : حكمه حكم من جامع ، على السواء (3) وقد رجع عن هذا ، في استبصاره (4) ومسائل خلافه (5) ، وهو الصحيح ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، والكفارة مجمع عليها ، وما زاد على ذلك ، يحتاج إلى دليل شرعي.

ومن نظر إلى غير أهله ، فأمنى ، كان عليه بدنة ، فإن لم يجد فبقرة ، فإن لم يجد فشاة.

وإذا نظر إلى امرأته فأمنى أو أمذى ، لم يكن عليه شي ء ، إلا أن يكون نظر إليها بشهوة فأمنى ، فإنّه يلزمه الكفارة ، وهي بدنة.

فإن مسّها بشهوة ، كان عليه دم بدنة ، إذا أنزل ، وإن لم ينزل ، فدم شاة ، وإن مسّها من غير شهوة ، لم يكن عليه شي ء ، أمنى أو لم يمن.

ومن قبل امرأته من غير شهوة كان عليه دم شاة ، فإن قبّلها بشهوة ، كان عليه دم شاة إذا لم يمن ، فإن أمنى كان عليه جزور.

ص: 552


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 11 من أبواب كفارات الاستمتاع.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
4- الإستبصار : كتاب الحج ، الباب 119 ، ح 3.
5- لم نجد المسألة فيما بأيدينا من كتاب الخلاف.

ومن لاعب امرأته ، فأمنى من غير جماع ، كان عليه بدنة.

ومن تسمّع لكلام امرأة ، أو استمع على من يجامع ، من غير رؤية لهما ، فأمنى ، لم يكن عليه شي ء.

ولا بأس أن يقبّل الرجل امّه وهو محرم.

ومن تزوج امرأة وهو محرم ، فرّق بينهما ، ولم تحلّ له أبدا ، سواء كان قد دخل بها ، أو لم يدخل ، إذا كان عالما بتحريم ذلك عليه ، فإن لم يكن عالما به ، جاز له أن يعقد عليها بعد الإحلال.

والمحرم إذا عقد لمحرم على زوجة ، ودخل بها الزوج ، كان على العاقد بدنة ، وعلى الزوج الداخل بها ، الواطئ لها ، ما على المحرم ، إذا وطأ امرأته من الأحكام.

ولا يجوز للمحرم أن يعقد لغيره ، على امرأة ، فإن فعل ذلك ، كان النكاح باطلا ، ولا يجوز له أن يشهد على عقد نكاح ، فإن أقام الشهادة بذلك ، لم تسمع شهادته.

ومن قلّم ظفرا من أظفاره ، كان عليه مدّ من طعام ، وكذلك الحكم فيما زاد عليه ، فإذا قلّم أظفار يديه جميعا ، كان عليه دم شاة ، فإن قلّم أظفار يديه ورجليه جميعا ، وكان في مجلس واحد ، كان عليه دم ، وإن كان ذلك منه في مجلسين ، كان عليه دمان.

ومن أفتى غيره بتقليم ظفر ، فقلّمه المستفتي ، فأدمى إصبعه ، كان عليه دم شاة.

ومن حلق رأسه لأذى ، كان عليه دم شاة ، أو صيام ثلاثة أيام ، أو يتصدق على ستة مساكين ، لكل مسكين مدّ من طعام ، أي ذلك فعل ، فقد أجزأه.

ومن ظلل على نفسه ، كان عليه دم ، إذا فعل ذلك وهو سائر على ما قدّمناه.

ومن جادل وهو محرم ، صادقا مرّة ، أو مرتين ، فليس عليه من الكفارة شي ء ، ويجب عليه التوبة والاستغفار ، فإن جادل ثلاث مرات ، فصاعدا كان عليه دم شاة ، وإن جادل كاذبا مرّة ، كان عليه دم شاة ، فإن جادل مرتين كاذبا ، كان عليه دم بقرة ، فإن جادل ثلاث مرات كاذبا ، عليه بدنة.

ص: 553

ومن نحى عن جسمه قمّلة ، فرمى بها ، أو قتلها ، كان عليه كف من طعام ، ولا بأس أن يحوّلها ، من مكان من جسده إلى مكان آخر ، ولا بأس أن ينزع الرجل القراد والحلمة عن بدنه ، وعن بعيره.

وإذا مس المحرم لحيته ، أو رأسه ، فوقع منهما شي ء من شعره ، كان عليه أن يطعم كفا من طعام ، فإن سقط شي ء من شعر رأسه ولحيته ، بمسه لهما في حال الطهارة ، لم يكن عليه شي ء.

والمحرم إذا نتف إبطه ، كان عليه أن يطعم ثلاثة مساكين ، فإن نتف إبطيه جميعا ، كان عليه دم شاة.

ومن لبس ثوبا لا يحل له لبسه ، لأجل الإحرام ، وكونه محرما ، أو أكل طعاما كذلك ، مثل الثوب ، كان عليه دم شاة.

والشجرة إذا كان أصلها في الحرم ، وفرعها في الحل ، لم يجز (1) قلعها ، وكذلك إذا كان أصلها في الحل ، وفرعها في الحرم ، لا يجوز قلعها على حال.

وفي الشجرة الكبيرة دم بقرة ، وفي الصغيرة دم شاة ، على ما ذهب إليه شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه في مسائل خلافه (2) ، والأخبار (3) عن الأئمة الأطهار ، (عليهم السلام) واردة بالمنع من قلع شجر الحرم ، وقطعه ، ولم يتعرّض فيها للكفارة ، لا في الشجرة الكبيرة ، ولا في الصغيرة.

وكل شي ء ينبت في الحرم من الأشجار ، والحشيش ، فلا يجوز قلعه على حال ، إلا النخل ، وشجر الفواكه ، والإذخر.

ولا بأس أن تقلع ما أنبته أنت في الحرم من الأشجار.

ولا بأس أن يقلع ما ينبت في دار الإنسان بعد بنائه لها ، إذا كانت ملكه ،

ص: 554


1- ط : لا يجوز.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 281.
3- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 86 من أبواب تروك الإحرام.

فإن كان نابتا قبل بنائه لها ، لم يجز له قلعه.

ولا بأس أن يخلي الإنسان إبله لترعى ، ولا يجوز أن يقلع الحشيش ، ويعلفه إبله.

وحدّ الحرم الذي لا يجوز قلع الشجر منه بريد في بريد.

ومن رمى طيرا على شجرة أصلها في الحرم وفرعها في الحل ، كان عليه الفداء ، وإن كان الطير في الحل.

وإذا لبس المحرم قميصا ، كان عليه دم شاة ، فإن لبس ثيابا جماعة ، في موضع واحد ، كان عليه أيضا دم واحد ، فإن لبسها في مواضع متفرقة ، كان عليه لكل ثوب منها فداء.

والأدهان على ضربين ، طيب ، وغير طيب ، فالطيب مثل دهن الورد ، والبنفسج ، والبان ، والزنبق ، بالنون بعد الزاء ، وهو دهن الياسمين ، تسميه الأطباء والصيادلة ، السوسن ، وما أشبه ذلك ، فمتى استعمله المحرم ، يجب عليه دم ، سواء استعمله في حال الاضطرار إليه ، أو حال الاختيار.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في الجمل والعقود : وهو مكروه (1) ، وقال في مسائل خلافه (2) وفي نهايته (3) بتحريم استعماله ، وبوجوب الكفارة على مستعملة ، وهو الصحيح.

فأمّا غير الطيب ، مثل دهن السمسم ، والسمن ، والزيت ، فلا يجوز الادهان به ، فإن فعل ذلك ، لا تجب عليه كفارة ، ويجب عليه التوبة والاستغفار ، فأمّا أكله ، فلا بأس به بغير خلاف.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي ، في مبسوطة ، في فصل ما يلزم المحرم من الكفارة

ص: 555


1- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في كيفية الإحرام وشرائطه ، ولا يخفى ما هو المذكور في المتن مخالف لما نقله عنه ، ( 28 ويجتنب الأدهان الطيبة ).
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 90.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم اجتنابه ، وما لا يجب.

الطيب على ضربين أحدهما يجب فيه (1) الكفارة ، والآخر على ثلاثة أضرب (2) ثمّ أورد في جمله ما لا يتعلّق به كفارة ، الشيخ ، والقيصوم ، والإذخر ، وحبق الماء.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : حبق الماء ، بالحاء غير المعجمة ، المفتوحة ، والباء المنقطة من تحتها ، نقطة واحدة ، المفتوحة ، والقاف ، وهو الحندقوق ، ويسمّى الغاغ ، بالغينين المعجمتين ، وقال الجوهري ، في كتاب الصحاح : الحبق ، بالتحريك : الفوذنج ، بالفاء المضمومة ، والواو المسكنة ، والذال المعجمة المفتوحة ، والنون المسكنة والجيم ، وما قلناه أوضح وأبين ، وقال ابن الجزلة المتطبب ، في كتاب منهاج البيان : هو بالفارسيّة فوذنج ، وقيل هو ورق الخلاف ، وهو ثلاثة أنواع جبلي ، وبستاني ، ونهري ، وهو نبات طيب الرائحة ، حديد الطعم ، ورقه مثل ورق الخلاف.

وإذا صاد المحرم نعامة ، فقتلها ، كان عليه جزور ، فإن لم يقدر على ذلك ، قوّم الجزاء ، والمقوّم عندنا هو الفداء ، دون المصيد ، وفض ثمنه على البر ، وتصدّق على كل مسكين نصف صاع ، فإن زاد ذلك على إطعام ستين مسكينا ، لم يلزمه أكثر منه ، وكانت الزيادة له ، وانّما الواجب عليه إطعام هذه العدة ، هذا المقدار ، وإن كان أقل من إطعام ستين مسكينا ، فقد أجزأه ، ولا يلزمه غير ذلك ، فإن لم يقدر على إطعام ستين مسكينا ، صام عن كلّ نصف صاع يوما ، فإن لم يقدر على ذلك ، صام ثمانية عشر يوما.

فإن قتل حمار وحش ، أو بقرة وحش ، كان عليه دم بقرة ، فان لم يقدر ، قوّمها وفض ثمنها ، على البر ، وأطعم كل مسكين نصف صاع ، فإن زاد ذلك على إطعام ثلاثين مسكينا ، لم يكن عليه أكثر من ذلك ، وله أخذ الزيادة ، كما قدّمناه في النعامة ، فإن لم يقدر على ذلك أيضا ، صام عن كل نصف صاع يوما ،

ص: 556


1- ج : أحدهما فيه.
2- المبسوط : ج 1 ، كتاب الحج ، ص 352.

فإن لم يقدر على ذلك صام تسعة أيام.

ومن أصاب ظبيا ، أو ثعلبا ، أو أرنبا ، كان عليه دم شاة ، فإن لم يقدر على ذلك ، قوم الجزاء الذي هو الشاة ، وفض ثمنها على البر ، وأطعم كل مسكين منه نصف صاع ، فإن زاد ذلك على إطعام عشرة مساكين ، فليس عليه غير ذلك ، وإن نقص عنه ، لم يلزمه أيضا أكثر منه ، فإن لم يقدر عليه ، صام عن كل نصف صاع يوما ، فإن لم يقدر على ذلك ، صام ثلاثة أيام.

واختلف أصحابنا في هذه الكفارة ، أعني كفارة الصيد على قولين ، فبعض منهم يذهب إلى أنّها على التخيير ، وبعض منهم يذهب إلى أنّها على الترتيب ، والذي يقوى في نفسي ، وافتي به ، القول فيها بالتخيير ، وإلى هذا ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل الخلاف (1) والجمل والعقود (2) وإلى الترتيب ذهب في نهايته (3) وهو مذهب السيّد المرتضى ، في الانتصار (4) والذي يدل على صحّة ما اخترناه قوله تعالى : ( فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ، يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ ) إلى قوله ( أَوْ كَفّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً ) (5) وأو للتخيير بلا خلاف ، بين أهل اللسان ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز ، يحتاج إلى دليل قاطع للأعذار ، وأيضا الأصل براءة الذّمة ، والترتيب حكم زائد ، يحتاج في ثبوته إلى دليل شرعي ، فمن شغلها بشي ء ، وادعى الترتيب ، يحتاج إلى دلالة الإجماع (6) فغير حاصل ، على أحد القولين ، بل ظاهر التنزيل يعضد ما قلناه ، ودليل على ما اخترناه ، فلا يعدل عنه ، إلا بدليل مثله.

ومن أصاب قطاة ، وما أشبهها ، كان عليه حمل قد فطم ، ورعي من الشجر ،

ص: 557


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 260.
2- لم يوجد في الكتاب الذي بأيدينا مبحث الكفارات.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارات.
4- الانتصار : كتاب الحج ، مسألة 17.
5- المائدة : 95
6- في ط وج : وأما الإجماع :

وحدّه ما أتى عليه أربعة أشهر ، فإنّ أهل اللغة بعد أربعة أشهر يسمّون ولد الضأن حملا.

ومن أصاب يربوعا ، أو قنفذا ، أو ضبّا ، أو ما أشبه ذلك ، كان عليه جدي.

ومن أصاب عصفورا ، أو صعوة ، أو قنبرة ، وما أشبهها ، كان عليه مد من طعام ، وذهب علي بن بابويه في رسالته ، إلى أنّ في الطائر ، جميعه دم شاة ، ما عدا النعامة ، فإنّ فيها جزورا (1) ، وقال أيضا في رسالته : وإن أكلت جرادة ، فعليك دم شاة ، وذهب إلى أنّ إرسال ذكور الإبل ، أو ذكور (2) الغنم ، لا يكون إلا إذا كان البيض فيه فراخ يتحرك ، فأمّا إذا لم يتحرك الفرخ ، وكان البيض لا فراخ فيه ، فإنّه يوجب قيمة البيضة ، فحسب (3) والصحيح في ذلك كلّه ، ما عليه المنظور إليه من أصحابنا ، وقد ذكرناه ، فإن إجماعهم منعقد عليه.

ومن قتل زنبورا خطأ ، لم يكن عليه شي ء ، فإن قتله عمدا ، كان عليه كف من طعام.

ومن أصاب حمامة وهو محرم في الحل ، كان عليه دم ، فإن أصابها وهو محل في الحرم ، كان عليه درهم ، فإن أصابها وهو محرم في الحرم كان عليه دم ، والقيمة الشرعية التي هي الدرهم (4).

وإن قتل فرخا وهو محرم في الحل ، كان عليه حمل ، وإن قتله في الحرم وهو محل ، كان عليه نصف درهم ، وإن قتله وهو محرم في الحرم ، كان عليه الجزاء والقيمة ، وإن أصاب بيض الحمام ، وهو محرم في الحل ، كان عليه درهم لكل بيضة ، فإن أصابه وهو محل في الحرم ، كان عليه ربع درهم ، وإن أصابه وهو محرم في الحرم ، كان عليه الجزاء والقيمة معا ، ولا يختلف الحكم في هذا ، سواء كان الحمام أهليا ، أو من حمام الحرم ، إلا أن حمام الحرم يشتري بقيمته علف لحمام الحرم.

والطير الأهلي ، يتصدق بقيمته الشرعية على المساكين ، بعد أن يغرم لصاحبه

ص: 558


1- رسالة علي بن بابويه : كتاب الحج ، كفارات الإحرام ، ص 88 الطبع الحديث.
2- في ط وج : أو ذكور.
3- رسالة علي بن بابويه : كتاب الحج ، كفارات الإحرام ، ص 88 الطبع الحديث.
4- في ط وج : الدراهم.

قيمته العرفية السوقية.

وبيض الحمام خاصّة ، لا يجب على من أصابه إرسال فحولة الغنم ، ولا الإبل في إناثها بعدد البيض ، بل يجب عليه ما ذكرناه فحسب ، لأنّ البيض على ثلاثة أضرب ضرب لا يجب الإرسال فيه ، وهو بيض الحمام ، ويدخل في الحمام ، كل مطوق يعب في شربه ، والضربان الآخران يجب فيهما الإرسال ، وهو بيض النعام ، الذي لم يتحرك فيه الفرخ ، وكذلك بيض القطا ، والقبج ، وغير ذلك ، وسنبين حكمه عند المصير إليه إن شاء اللّه تعالى.

وكل من كان معه شي ء من الصيد ، وأدخله الحرم ، وجب عليه تخليته ، فإن كان معه طير ، وكان مقصوص الجناح ، فليتركه معه ، يقيم به حتى ينبت ريشه ، ثم يخلّيه.

وقد روي أنّه لا يجوز صيد حمام الحرم ، وإن كان في الحل (1) والأصل الإباحة ، لأنّه ما حرم اصطياده ، إلا لكونه في البقعة المخصوصة التي هي الحرم ، وإلى هذا يذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة (2) ومسائل خلافه في كتاب الأطعمة ، والصيد والذبائح (3) وإلى الرواية الأولى يذهب في نهايته (4) ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك.

ومن نتف ريشة من حمام الحرم ، كان عليه صدقة يتصدق بها ، باليد التي نتف بها.

ولا يجوز أن يخرج شي ء من حمام الحرم من الحرم ، فمن أخرج شيئا منه ، كان عليه ردّه ، فإن مات ، كان عليه قيمته.

ويكره شراء القماري وما أشبهها ، وإخراجها من مكة ، على ما روي في

ص: 559


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 44 من أبواب كفارات الصيد.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر ما يلزم المحرم من الكفارة بما يفعله .. ( وفي المصدر : ولا يجوز صيد حمام الحرم وان كان في الحل ).
3- الخلاف : كتاب الصيد والذبائح ، مسألة 29.
4- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.

الاخبار (1). والأولى عندي اجتناب إخراجها من الحرم ، لأنّ جميع الصيد لا يجوز إخراجه من الحرم ، إلا ما أجمعنا عليه.

ومن أدخل طيرا الحرم ، كان عليه تخليته ، وليس له أن يخرجه منه ، فإن أخرجه كان عليه دم شاة.

ومن أغلق بابا على حمام من حمام الحرم ، وفراخ ، وبيض ، فهلكت ، فإن كان أغلق عليها قبل أن يحرم فإن عليه لكل طير درهما ، ولكل فرخ نصف درهم ، ولكل بيضة ربع درهم وإن كان أغلق عليها بعد ما أحرم ، فإنّ عليه لكل طير شاة ، ولكل فرخ حملا ، ولكل بيضة درهما.

وجملة الأمر وعقد الباب ، أنّ من قتل حمامة ، وفرخها ، وكسر بيضتها ، في الحل ، فانّ عليه في الحمامة شاة ، وفي الفرخ حملا ، وفي البيضة درهما ، فإن فعل ذلك في الحرم ، وهو محرم أيضا فعليه في الحمامة شاة ودرهم ، وفي الفرخ حمل ونصف درهم ، وفي البيضة درهم وربع درهم ، فإن فعل ذلك محل في الحرم ، كان عليه في الحمامة درهم ، وفي فرخها نصف درهم ، وفي بيضتها درهم وربع درهم ، فهذا تحرير الفتيا.

ومن نفر حمام الحرم ، فعليه دم شاة إذا رجعت ، فإن لم ترجع كان عليه لكل طير شاة.

ومن دل على صيد ، فقتل كان عليه فداؤه ، فحسب ، سواء كان محرما في الحرم ، أو في الحل ، وهو محرم ، أو كان محلا في الحرم.

وإذا اجتمع جماعة محرمون على صيد فقتلوه ، وجب على كل واحد منهم الفداء ، ومتى اشتروا لحم صيد ، وأكلوه ، كان أيضا على كل واحد منهم الفداء ، وإذا رمى اثنان صيدا ، فأصاب أحدهما ، وأخطأ الآخر ، كان على كل واحد

ص: 560


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 14 ، من أبواب كفارات الصيد ، ح 3.

منهما الفداء ، على ما روي في بعض الأخبار (1) والذي يقتضيه أصول المذهب ، انّ الذي لم يصب ، ولم يقتل ، لا كفارة عليه ، إلا أن يكون دل القاتل ، ثم رمى معه ، فأخطأ فتكون الكفارة للدلالة ، لا لرميه ، فأما إذا لم يدل ، فلا كفارة عليه بحال.

وإذا قتل اثنان صيدا ، أحدهما محل ، والآخر محرم في الحرم ، كان على المحرم الفداء والقيمة ، وعلى المحل فداء واحد ، والمحرم عليه فداءان.

ومن ذبح صيدا في الحرم ، وهو محل ، كان عليه دم ، لا غير.

وإذا أوقد جماعة نارا ، فوقع فيها طائر ، ولم يكن قصدهم وقوع الطائر فيها ، ولا الاصطياد بها ، كان عليهم كلّهم فداء واحد ، وإن كان قصدهم ذلك ، كان على كل واحد منهم الفداء.

وفي فراخ النعام ، مثل ما في النعام ، على ما روي (2) ، وروي مثل سنه (3) ، وهو الذي يقتضيه الأصول ، والأظهر ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، فإنّ ظاهر التنزيل دليل عليه.

وإذا أصاب المحرم بيض نعام ، فعليه أن يعتبر حال البيض ، فإن كان قد تحرك فيه الفرخ ، كان عليه عن كل بيضة من صغار الإبل ، وروي بكارة من الإبل (4) ، قال ابن الأعرابي في نوادره : يقال بكار بلا هاء ، تثبت فيها للإناث ، وبكارة بإثبات الهاء للذكران.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : فلا يظن ظان أن البكارة الأنثى من الإبل ، وانّما البكارة جمع بكر بفتح الباء ، فأوجب الشارع ، في كل بيضة قد تحرك فيها

ص: 561


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 20 من أبواب كفارات الصيد ، ح 1 و 2.
2- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 24 من أبواب كفارات الصيد ، ح 1 و 4.
3- لم نجد الرواية في كتب الأحاديث لكن الشيخ رحمه اللّه قال به في الخلاف في مسألة 262 من كتاب الحج ، والسيد المرتضى رحمه اللّه في كتابه جمل العلم والعمل وقال في الجواهر في كتاب الحج في باب الكفارات : لم نقف على هذا الحديث.
4- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 24 من أبواب كفارات الصيد ، ح 1 و 4.

الفرخ ، واحدا من هذا الجمع.

وإن لم يكن قد تحرك فعليه أن يرسل فحولة الإبل في إناثها ، بعدد البيض ، فما نتج كان هديا لبيت اللّه تعالى ، والمعتبر في الإرسال ، وعدد الإبل ، الإناث تكون بعدد البيض ، لا الفحول ، فلو أرسل فحل واحد في عشر إناث ، لم يكن به بأس ، فإن لم يقدر على ذلك ، كان عليه عن كل بيضة شاة ، يذبح الشاة ، أو ما نتج ، إن كان حاجا ، في منى ، وإن كان معتمرا بمكة ، فإن لم يقدر على الشاة ، كان عليه إطعام عشرة مساكين ، عن كل بيضة ، فإن لم يقدر على ذلك ، كان عليه صيام ثلاثة أيام عن كل بيضة أيضا.

وإذا اشترى محل لمحرم بيض نعام فأكله المحرم ، كان على المحلّ لكل بيضة درهم ، وعلى المحرم عن كل بيضة شاة ، ولا يجب عليه الإرسال هاهنا ، وكل ما يصيبه المحرم من الصيد في الحلّ ، كان عليه الفداء لا غير ، وإن أصابه في الحرم ، كان عليه جزاءان معا ، لأنّه جمع بين الإحرام والحرم.

وذهب السيد المرتضى إلى أن من صاد متعمدا وهو محرم في الحل ، كان عليه جزاءان ، فإن كان ذلك منه في الحرم ، وهو محرم عامدا إليه ، تضاعف ما كان يجب عليه في الحلّ.

ومن ضرب بطير على الأرض ، وهو محرم في الحرم ، فقتله ، كان عليه دم ، وقيمتان ، قيمة لحرمة الحرم ، وقيمة لاستصغاره إياه ، وكان عليه التعزير.

ومن شرب لبن ظبية في الحرم ، كان عليه دم وقيمة اللبن معا ، على ما روي في بعض الأخبار (1) وقد ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (2).

وما لا يجب فيه دم ، مثل العصفور وما أشبهه ، إذا أصابه المحرم في الحرم ،

ص: 562


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 54 من أبواب كفارات الصيد ، ح 1.
2- النهاية : كتاب الحج باب ما يجب على المحرم من الكفارة.

كان عليه قيمتان.

وإذا صاد المحرم في الحرم ، كان عليه جزاءان ، أو القيمة مضاعفة ، إن كان له قيمة منصوصة.

وقال بعض أصحابنا وهو شيخنا أبو جعفر في نهايته : وما يجب فيه التضعيف ، هو ما لم يبلغ بدنة ، فإذا بلغ ذلك ، لم يجب عليه غير ذلك (1) وباقي أصحابنا أطلقوا القول ، وأوجبوا التضعيف ، إذا جمع الصفتين ، الإحرام وكونه في الحرم ، سواء بلغ بدنة ، أو لم يبلغ.

ووافق شيخنا أصحابه في مسائل الخلاف فإنه قال : وصيد الحرم ، إذا تجرد عن الإحرام ، يضمن ، فان كان القاتل محرما ، تضاعف الجزاء ، وإن كان محلا لزمه جزاء واحد (2) ، وأطلق القول بذلك ، واستدل بإجماع الطائفة ، وطريقة الاحتياط ، والذي يقوى عندي مضاعفة الكفارة.

وكلّما تكرر من المحرم الصيد ، كان عليه الكفارة ، سواء كان ذلك منه نسيانا أو عمدا ، وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : إذا كان ذلك منه نسيانا ، فإن فعله متعمدا ، مرّة ، كان عليه الكفارة ، وإن فعله مرتين ، فهو ممّن ينتقم اللّه منه ، وليس عليه الجزاء (3). وذهب في مسائل الخلاف ، إلى تكرار الكفارة ، بالدفعات الكثيرة ، سواء كان عامدا ، أو ناسيا (4) وهو الأظهر في المذهب ، ويعضده ظاهر التنزيل (5) ، ومن تمسّك من أصحابنا بالآية وقوله تعالى : ( وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ ) ليس فيها ما يوجب إسقاط الجزاء ، لأنّه لا يمتنع أن يكون بالمعاودة ينتقم اللّه منه ، وإن لزمه الجزاء ، لأنّه لا تنافي بينهما ، وتحمل الآية على عمومها ، لأنّه تعالى قال ( وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ

ص: 563


1- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 278.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
4- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 259.
5- المائدة : 95.

النَّعَمِ ) ولم يفرّق بين الأوّل والثاني ، وقوله بعد ذلك ومن عاد فينتقم اللّه منه ، لا يوجب إسقاط الجزاء ، لأنّه لا يمتنع أن يكون بالمعاودة ، ينتقم اللّه منه ، وإن لزمه الجزاء ، على ما قدّمناه ، والمخصّص يحتاج إلى دليل ، وما له منصوص ، يجب فيه ما نصّ عليه ، فإن فرضنا ان يحدث ما لا نصّ فيه ، رجعنا فيه إلى قول عدلين ، على ما يقتضيه ظاهر القرآن ، وما له مثل ، تلزم قيمته وقت الإخراج ، دون الإتلاف ، وما لا مثل له ، يلزم قيمته حال الإتلاف ، دون حال الإخراج ، لأن حال الإتلاف ، وجب عليه قيمته ، فالاعتبار بذلك ، دون حال الإخراج ، لأنّ القيمة قد استقرت في ذمّته.

الجوارح من الطير ، كالبازي ، والصقر ، والشاهين ، والعقاب ، ونحو ذلك ، والسباع من البهائم ، كالنمر ، والفهد ، وغير ذلك ، لا جزاء في قتل شي ء منه ، لأنّ الأصل ، براءة الذمة ، فمن علّق عليها شيئا ، فعليه الدليل.

ومن وجب عليه جزاء صيد أصابه ، وهو محرم ، فإن كان حاجّا ، أو معتمرا عمرة متمتعا بها إلى الحج ، نحر ، أو ذبح ما وجب عليه ، بمنى ، وإن كان معتمرا ، عمرة مبتولة ، نحر بمكة ، أو ذبح قبالة الكعبة ، فإن أراد أن ينحر ، أو يذبح بمنى ، نحر أي مكان شاء منها ، وكذلك بمكة ، ينحر حيث شاء ، غير أنّ الأفضل ، أن ينحر قبالة الكعبة ، في الموضع المعروف بالحزورة.

ومن قتل صيدا وهو محرم ، في غير الحرم ، كان عليه ، فداء واحد ، فإن أكله ، كان عليه فداء آخر ، على ما روي (1) وقال بعض أصحابنا : عليه قيمة ما أكل ، أو شرب من اللبن.

والمحل إذا قتل صيدا في الحرم ، كان عليه فداؤه ، وإذا جمع بينهما تضاعف.

وإذا كسر المحرم قرني الغزال ، كان عليه نصف قيمته ، فإن كسر أحدهما ، كان عليه ربع القيمة ، فإن فقأ عينيه ، كان عليه القيمة ، فإن فقأ واحدة منهما ،

ص: 564


1- الوسائل : كتاب الحج الباب 55 من أبواب كفارات الصيد ، ح 2.

كان عليه نصف القيمة ، فإن كسر إحدى يديه ، كان عليه نصف قيمته ، فإن كسرهما جميعا كان عليه قيمته ، فإن كسر إحدى رجليه ، كان عليه نصف قيمته ، فإن كسرهما جميعا ، كان عليه قيمته ، فإن قتله ، لم يكن عليه أكثر من قيمة واحدة.

وإذا أصاب المحرم بيض القطا ، أو القبج ، أو الدراج ، فعليه أن يعتبر حال البيض ، فإن كان قد تحرك فيه الفراخ ، كان عليه عن كلّ بيضة مخاض من الغنم ، نريد بالمخاض ، ما يصح أن يكون ماخضا ولا يريد به الحامل ، فان لم يكن تحرك فيه شي ء ، كان عليه أن يرسل فحولة الغنم في إناثها ، بعدد البيض ، فما نتج كان هديا لبيت اللّه تعالى ، فإن لم يقدر ، كان حكمه حكم بيض النعام ، عند تعذر الإرسال ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر في نهايته (1) ، وقد وردت بذلك أخبار (2) ، ومعنى قوله : حكمه حكم بيض النعام ، انّ النعام إذا كسر بيضه ، فتعذّر الإرسال ، وجب في كل بيضة شاة ، والقطا إذا كسر بيضه ، وتعذر إرسال الغنم ، وجب في كلّ بيضة شاة ، فهذا وجه المشابهة بينهما ، فصار حكمه حكمه ، عند تعذر الإرسال ، ولا يمتنع ذلك ، إذا قام الدليل عليه.

وقال شيخنا المفيد في مقنعته (3) ومن وطأ بيض نعام ، وهو محرم ، فكسره ، كان عليه أن يرسل فحولة الإبل على إناثها ، بعدد ما كسر من البيض ، فما نتج منها ، كان المنتوج ، هديا لبيت اللّه عزوجل ، فإن لم يقدر على ذلك ، كفر عن كل بيضة ، بإطعام ستين مسكينا ، فإن لم يجد الإطعام ، صام عن كل بيضة شهرين متتابعين ، فإن لم يستطع صيام شهرين متتابعين ، صام ثمانية عشر يوما ، عوضا عن إطعام كلّ عشرة مساكين ، بصيام ثلاثة أيام ، فإن وطأ بيض القبح ، أو الدراج ، أرسل من فحولة الغنم على إناثها ، بعدد المكسور من البيض ،

ص: 565


1- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
2- الوسائل : كتاب الحج الباب 23 من أبواب كفارات الصيد.
3- المقنعة : كتاب الحج ، باب الكفارات ص 436 ، ولا يخفى عدم مطابقة المصدر مع ما نقله عنه.

فما نتج ، كان هديا لبيت اللّه عزوجل ، فإن لم يجد ، ذبح عن كلّ بيضة شاة ، فان لم يجد ، أطعم عن كل بيضة ، عشرة مساكين ، فإن لم يقدر على ذلك ، صام عن كل بيضة ثلاثة أيام.

وقال : ومن قتل زنبورا ، وهو محرم ، كفر عن ذلك بتمرة ، وكذلك إن قتل جرادة ، فإن قتل جرادا كثيرا ، كفر بمد من تمر ، وإن كان قليلا كفر بكف من تمر ، فشيخنا المفيد ، ما جعل بيض القبج ، والدراج ، والقطا ، إذا فقد الإرسال ، حكمه حكم بيض النعام ، وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته : حكمه ، حكم بيض النعام (1) على ما حكيناه عنه ، وقدّمناه ، وحرّرناه ، وشرحناه ، وذلك إذا فقد الإرسال ، وقد بيّنا ما يلزم.

من كسر بيض الحمام ، وينبغي أن يعتبر حاله ، فإن كان قد تحرك فيه الفرخ ، لزمه عن كلّ بيضة حمل ، وقال بعض أصحابنا : شاة ، وإن لم يكن قد تحرك ، لم يكن عليه إلّا القيمة ، حسب ما قدّمناه.

ومن رمى صيدا فأصابه ولم يؤثر فيه ، ومشى مستويا ، لم يكن عليه شي ء ، فليستغفر اللّه (2) فإن لم يعلم هل أثر فيه أم لا ، ومضى على وجهه ، كان عليه الفداء ، فإن أثّر فيه ، بأن دماه ، وكسر يده ، أو رجله ، ثم رآه بعد ذلك ، وقد صلح ، كان عليه ربع الفداء ، وقال بعض أصحابنا ، وهو شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز لأحد أن يرمي الصيد ، والصيد يؤمّ الحرم ، وإن كان محلا ، فإن رماه أو أصابه ، ودخل الحرم ، ثم مات ، كان لحمه حراما ، وعليه الفداء (3) وهذا غير واضح ، والأظهر الذي يقتضيه أصول المذهب ، أنّ الصيد الذي هو محرّم ، على المحرم وعلى المحل ، صيد الحرم ، دون سائر الأرض ، وهذا ليس بمحرّم ولا الصيد في الحرم ، فكيف يلزمه فداء ، وهو مخالف لما عليه الإجماع ، وانّما أورد

ص: 566


1- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.
2- ج : واستغفر.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.

هذا شيخنا إيرادا ، لا اعتقادا ، على ما وجده في أخبار الآحاد.

ومن ربط صيدا بجنب الحرم ، فدخل الحرم ، صار لحمه وثمنه حراما ، ولا يجوز له إخراجه منه ، ولا التعرض به (1) وقد روي أنّ من أصاب صيدا ، وهو محلّ فيما بينه وبين الحرم ، على بريد ، كان عليه الجزاء (2) والأظهر خلاف هذا ، ولا يلتفت إلى هذه الرواية ، لأنّها من أضعف أخبار الآحاد ، وقد قدّمنا ما ينبّه على مثل هذا ، فلا وجه لإعادته.

والمحلّ إذا كان في الحرم ، فرمى صيدا في الحل ، كان عليه الفداء ، ومن أصاب جرادة فعليه أن يتصدّق بتمرة ، فإن أصاب جرادا كثيرا أو أكله كان عليه دم شاة.

ومن قتل جرادا ، على وجه لا يمكنه التحرّز منه ، بأن يكون في طريقه ، ويكون كثيرا ، لم يكن عليه شي ء.

وكل صيد يكون في البحر ، فلا بأس بأكله طريه ومملوحة ، وقال بعض أصحابنا : ومالحه ، وهذا لا يجوز في لغة العرب.

وكل صيد يكون في البر والبحر معا ، فإن كان مما يبيض ويفرّخ في البحر ، فلا بأس بأكله ، وإن كان مما يبيض ويفرّخ في البر ، لم يجز صيده ولا أكله.

وإذا أمر السيد غلامه الذي ، هو مملوكه ، بالصيد كان على السيد الفداء ، وإن كان الغلام محلا.

ولا بأس أن يقتل الإنسان جميع ما يخافه في الحرم ، وإن كان محرما ، مثل السباع ، والهوام ، والحيات ، والعقارب ، وقد روي أنّ من قتل أسدا لم يرده ، كان عليه كبش (3) والصحيح أنّه لا شي ء عليه.

ولا يجوز للمحرم أن يقتل البق ، والبراغيث ، وما أشبهها في الحرم ، فإن

ص: 567


1- ج : له.
2- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 32 من أبواب كفارات الصيد ، ح 1 و 2.
3- مستدرك الوسائل : ج 2 كتاب الحج ، الباب 28 من أبواب الكفارات ، ح 1. والباب 39 كتاب الحج من أبواب كفارات الوسائل ح 1.

كان محلا لم يكن به بأس.

وكل ما يجوز للمحل ذبحه أو نحره في الحرم ، كان أيضا ذلك للمحرم جائزا مثل الإبل ، والبقر ، والغنم ، والدجاج الحبشي.

وكل ما يدخله المحرم الحرم ، أسيرا من السباع ، أو اشتراه فيه ، فلا بأس بإخراجه ، مثل السباع ، والفهود ، وما أشبهها.

وإذا اضطر المحرم إلى أكل الميتة ، والصيد ، اختلف أصحابنا في ذلك ، واختلفت الأخبار أيضا ، فبعض قال : يأكل الميتة ، وبعض قال : يأكل الصيد ، ويفديه ، وكل منهما أطلق مقالته ، وبعض قال : لا يخلو الصيد ، إمّا أن يكون حيا ، أو لا ، فإن كان حيا ، فلا يجوز له ذبحه ، بل يأكل الميتة ، لأنّه إذا ذبحه ، صار ميتة بغير خلاف. فأمّا إن كان مذبوحا فلا يخلو ذابحه ، إمّا أن يكون محرما أو محلا ، فإن كان محرما ، فلا فرق بينه وبين الميتة. وإن كان ذابحه محلا ، فإن ذبحه في الحرم ، فهو ميتة أيضا ، وإن ذبحه في الحل ، فإن كان المحرم المضطر قادرا على الفداء ، أكل الصيد ، ولم يأكل الميتة ، وإن كان غير قادر على فدائه ، أكل الميتة ، وهذا الذي يقوى في نفسي ، لأنّ الأدلة تعضده ، وأصول المذهب تؤيده ، وهو الذي اختاره شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في استبصاره (1) وذكر في نهايته أنّه يأكل الصيد ، ويفديه ، ولا يأكل الميتة ، فإن لم يتمكن من الفداء ، جاز له أن يأكل الميتة (2).

قال محمّد بن إدريس : والأقوى عندي ، أنّه يأكل الميتة على كل حال ، لأنّه مضطر إليها ، ولا عليه في أكلها كفارة ، ولحم الصيد ممنوع منه لأجل الإحرام على كل حال ، لأنّ الأصل براءة الذمة من الكفارة.

ص: 568


1- الإستبصار : كتاب الحج ، باب من اضطر إلى أكل الميتة والصيد ، باب 135.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم من الكفارة.

وإذا ذبح المحرم صيدا في غير الحرم ، أو ذبحه محل في الحرم ، لم يجز أكله ، وكان حكمه حكم الميتة سواء.

وكل ما أتلفه المحرم ، من عين حرم عليه إتلافها ، فعليه مع تكرار الإتلاف ، تكرار الفدية ، سواء كان ذلك في مجلس واحد ، أو في مجالس ، كالصيد الذي يتلفه من جنس واحد ، أو أجناس مختلفة ، وسواء كان قد فدى العين الأولى ، أو لم يفدها ، عامدا كان ، أو ناسيا ، وهذا حكم الجماع بعينه ، إلا في النسيان ، وأمّا ما لا نفس له كالشعر ، والظفر ، فحكم مجتمعة ، بخلاف حكم متفرقة ، في قص أظفار اليدين والرجلين مجتمعة ، ومتفرقة ، فأمّا إذا اختلف النوع ، كالطيب واللبس ، فالكفارة واجبة عن كل نوع منه ، وإن كان المجلس واحدا. وهذه جملة كافية في هذا الباب ، مثال الأول : الصيد ، فعلى أيّ وجه فعله ، دفعة أو دفعتين ، أو دفعة بعد دفعة ، في وقت أو وقتين ، فعن كل صيد جزاء ، بلا خلاف ، وكذلك حكم الجماع ، إلا في النسيان ، ومثال الثاني : حلق الشعر ، وتقليم الأظفار ، فإن حلق دفعة واحدة ، فعليه فدية واحدة ، وإن فعل ذلك في أوقات ، حلق بعضه بالغداة ، وبعضه الظهر ، وبعضه العصر ، فعليه لكلّ فعل كفارة ، وكذلك حكم اللباس والطيب.

باب دخول مكة والطواف بالبيت

يستحب للمحرم إذا أراد دخول الحرم أن يكون على غسل ، إن تمكن من ذلك ، فإن لم يتمكن جاز له أن يؤخّر الغسل إلى بعد الدخول ، ثمّ يغتسل ، إمّا من بئر ميمون بن الحضرمي ( وهي بأبطح مكة ، وكان حفرها في الجاهليّة ، وأخوه العلاء بن الحضرمي ، واسم الحضرمي ، عبد اللّه بن ضماد ، من حضر موت وكان حليفا لبني أميّة ) ، أو من فخ ، وهي على رأس فرسخ من مكة ، إذا كان قادما من طريق المدينة ، على ما قدّمناه ، فإن لم يتمكن اغتسل في مكة ، بالموضع الذي ينزل فيه.

ص: 569

ويستحب أيضا لمن أراد دخول الحرم ، أن يمضغ شيئا من الإذخر ، مكسور الأول ، ليطيب به فمه.

وإذا أراد دخول مكة ، فليدخلها من أعلاها ، إن كان جائيا من طريق المدينة ، وإذا أراد الخروج منها ، خرج من أسلفها.

ويستحب أن لا يدخل مكة إلّا على غسل أيضا ، ويستحب له أن يخلع نعليه ، ويمشي حافيا على سكينة ووقار.

وإذا أراد دخول المسجد الحرام اغتسل أيضا استحبابا ، ويستحب أن يدخل المسجد من باب بني شيبة ، وقد روي أنّ هبل الصنم ، مدفون تحت عتبة باب بني شيبة ، فسن الدخول منها ، ليطأ ويدخله حافيا استحبابا ، على سكينة ووقار.

فإذا أراد الطواف بالبيت ، فليفتتحه من الحجر الأسود ، فإذا دنا ، منه رفع يديه ، وحمد اللّه ، وأثنى عليه ، وصلّى على النبي ، صلى اللّه عليه وآله.

ويستحب له أن يستلم الحجر ، ويقبّله ، وحقيقة استلام الحجر ، وتقبيله ، فهي ما قال السيد المرتضى ، استلام الحجر هو غير مهموز ، لأنّه افتعال من السّلام ، التي هي الحجارة ، واستلامه انّما هو مباشرته ، وتقبيله ، والتمسح به ، وحكى ثعلب وحده في هذه اللفظة ، الهمزة ، وجعله وجها ثانيا لترك (1) الهمزة ، وفسّره بأنّه اتخذه جنّة وسلاحا ، من اللأمة ، وهو الدرع ، وما هذا الوجه الذي حكاه ثعلب ، في هذه اللفظة إلا مليح ، إذا كان مسموعا. فأمّا الغرض في استلام الحجر ، فهو أداء العبادة ، وامتثال أمر الرسول صلى اللّه عليه وآله ، والتأسّي بفعله ، لأنّه أمر عليه السلام باستلام الحجر ، والعلّة في هذه العبادة ، على سبيل الجملة ، هي مصلحة للمكلّفين ، وتقريبهم من الواجب ، وترك القبيح ، وان كنّا لا نعلم (2) الوجه على سبيل التفصيل ، فإن لم يستطع أن

ص: 570


1- ج : وان كان لا يعلم.
2- ط ، ج : لثبوت.

يستلم الحجر ، ويقبله ، استلمه بيده ، فإن لم يقدر على ذلك أيضا ، أشار بيده إليه ، وقال : « أمانتي أديتها ، وميثاقي تعاهدته ، لتشهد لي بالموافاة ، اللّهم تصديقا بكتابك » إلى آخر الدعاء.

ثم يطوف بالبيت سبعة أشواط ، ويستحب أن يقول في طوافه : « اللّهم إنّي أسألك باسمك الذي يمشى به على ظلل الماء ، كما يمشى به على جدد الأرض » وكلّما انتهيت إلى باب الكعبة ، صلّيت على النبي صلى اللّه عليه وآله ، ودعوت ، فإذا انتهيت إلى مؤخر الكعبة ، وهو المستجار ، دون الركن اليماني بقليل ، في الشوط السابع ، بسطت يديك على البيت ، وألصقت خدّك ، وبطنك ، بالبيت ، وقلت : « اللّهم البيت بيتك ، والعبد عبدك » إلى آخر الدعاء المذكور ، في كتب المناسك والعبادات ، فإن لم يقدر على ذلك ، لم يكن عليه شي ء ، لأنّ ذلك مندوب.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : بسطت يديك على الأرض ، وألصقت خدّك وبطنك بالبيت (1) وانّما ورد بهذا اللفظ حديث ، فأورده على جهته ، وورد حديث آخر بما اخترناه ، أورده رحمه اللّه في تهذيب الأحكام وهو معاوية بن عمار ، قال : قال أبو عبد اللّه عليه السلام : إذا فرغت من طوافك ، وبلغت مؤخر الكعبة ، وهو بحذاء المستجار ، دون الركن اليماني بقليل ، فابسط يديك على البيت ، وألصق بطنك وخدّك بالبيت ، وقل : « اللّهم البيت بيتك ، والعبد عبدك ، وهذا مقام العائذ بك من النار » ثمّ أقر لربك بما عملت ، فإنّه ليس من عبد مؤمن ، يقر لربه بذنوبه ، في هذا المكان ، إلّا غفر اللّه له ، إن شاء اللّه (2). فلو أورد شيخنا رحمه اللّه في نهايته ، هذا الحديث ، مكان ذلك الحديث ، كان حسنا (3) ، لأنّ في ذلك اشتباها.

ص: 571


1- النهاية : كتاب الحج ، باب دخول مكة والطواف بالبيت.
2- التهذيب : كتاب الحج ، باب الطواف ، ح 21.
3- ج : كان أجود.

ويجب عليه أن يختم الطواف بالحجر الأسود كما بدأ به.

ويستحب له أن يستلم الأركان كلّها ، وأشدها تأكيدا ، الركن الذي فيه الحجر ، ثم الركن اليماني.

وينبغي أن يكون الطواف بالبيت ، فيما بين مقام إبراهيم عليه السلام ، والبيت ، يخرج المقام في طوافه ، ويدخل الحجر في طوافه ، ويجعل الكعبة على شماله ، فمتى أخلّ بهذه الكيفية ، أو بشي ء منها ، بطل طوافه.

ويستحب أن يكون الطواف على سكون ، لا سرع فيه ولا ابطأ (1).

ومن طاف بالبيت ستة أشواط ناسيا ، وانصرف ، فليضف إليها شوطا آخر ، ولا شي ء عليه ، فإن لم يذكر حتى يرجع إلى أهله ، أمر من يطوف عنه الشوط الباقي ، فإن ذكر أنّه طاف أقل من سبعة ، وذكر في حال السعي ، رجع ، فتمم ، إن كان طوافه أربعة أشواط ، فصاعدا ، وإن كان أقل منه استأنف الطواف ، ثم عاد إلى السعي ، فتمّمه.

ومن شك في طوافه ، وكان شكه فيما دون السبعة ، وهو في حال الطواف ، قبل انصرافه منه ، فإن كان طواف فريضة ، وجب عليه الإعادة ، وإن كان نافلة ، بنى على الأقل ، وإن كان شكه بعد الانصراف من حاله ، لم يلتفت إليه ، ومضى على طوافه.

ومن طاف ثمانية أشواط ، متعمدا ، وجبت عليه الإعادة.

ومن طاف على غير طهارة ، ناسيا أو متعمدا ، وجبت عليه الإعادة.

ومن ذكر في الشوط الثامن ، قبل أن يتمّمه ، ويبلغ الركن ، أنّه طاف سبعا ، قطع الطواف ، وإن لم يذكر ، حتى يجوزه فلا شي ء عليه ، وكان طوافه صحيحا.

ومن شك ، فلم يعلم سبعة طاف ، أم ثمانية ، قطع الطواف ، وصلّى الركعتين ، وليس عليه شي ء.

ولا يجوز أن يقرن بين طوافين ، في فريضة ، ولا بأس بذلك ، في النوافل ، وذلك على جهة تغليظ الكراهة ، في الفرائض ، دون الحظر ، وفساد الطواف ،

ص: 572


1- ج : لا سرعة فيه ولا بطء.

وإن كان قد ورد : لا يجوز القران بين طوافين في الفريضة (1) فإنّ الشي ء إذا كان شديد الكراهة ، قيل لا يجوز ، ويعرف ذلك بقرائن ، وشاهد حال.

ومن أحدث في طواف الفريضة ، ما ينقض طهارته ، وقد طاف بعضه ، فإن كان قد جاز النصف ، فليتطهر ، ويتمم ما بقي ، وإن كان حدثه قبل أن يبلغ النصف ، فعليه اعادة الطواف من أوله.

ومن قطع طوافه بدخول البيت ، أو بالسّعي في حاجة له ، أو لغيره ، فإن كان قد جاز النصف ، بنى عليه ، وإن لم يكن جاز النصف ، وكان طواف الفريضة ، أعاد الطواف ، وإن كان طواف نافلة ، بنى عليه ، على كلّ حال.

كان قد جاز النصف ، بنى عليه ، وإن لم يكن جاز النصف ، وكان طواف الفريضة ، أعاد الطواف ، وإن كان طواف نافلة ، بنى عليه ، على كل حال.

ومن كان في الطواف ، فتضيّق عليه وقت الصلاة المكتوبة ، فالواجب عليه قطعه ، والإتيان بالمكتوبة ، ثم يتمم الطّواف ، من حيث انتهى اليه ، فإن لم يتضيّق الوقت ، بل دخل عليه ، وهو في الطّواف ، فالمستحبّ له ، الإتيان بالصلاة ، ثم يتمم الطّواف ، وإن تمم الطواف ، ثمّ صلّى ، فلا بأس.

والمريض الذي يستمسك الطّهارة ، فإنّه يطاف به ، ولا يطاف عنه ، وإن كان مرضه مما لا يمكنه معه (2) استمساك الطهارة ، ينتظر به ، فان صلح ، طاف هو بنفسه ، وإن لم يصلح ، طيف عنه ، ويصلّي هو الركعتين ، وقد أجزأه.

ومن طاف بالبيت أربعة أشواط ، ثم مرض ، ينتظر به يوم ، أو يومان ، فإن صلح ، تمم طوافه ، وإن لم يصلح ، أمر من يطوف عنه ، ما بقي عليه ، ويصلّي هو الركعتين ، وإن كان طوافه أقل من ذلك وبرأ ، أعاد الطواف من أوله ، وإن لم يبرأ ، أمر من يطوف عنه أسبوعا.

ص: 573


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 36 من أبواب الطواف.
2- ج : لا يمكنه مع.

ومن حمل غيره ، فطاف به ، ونوى لنفسه أيضا الطواف ، كان ذلك مجزئا عنه.

ولا يجوز للرجل أن يطوف بالبيت ، وهو غير مختون ، على ما روى أصحابنا في الأخبار (1) ولا بأس بذلك للنساء.

ولا يجوز للإنسان أن يطوف ، وفي ثوبه شي ء من النجاسة ، ولا على بدنه ، سواء كانت النجاسة قليلة ، أو كثيرة ، دما ، أو غيره ، وسواء كان الدم دون الدرهم ، أو درهما فصاعدا ، لأنّ العموم ، يجب العمل به ، حتى يقوم دليل الخصوص ، ولا مخصّص هاهنا ، وحمل هذا الموضع ، على الصلاة قياس ، ونحن لا نقول به ، فإن لم يعلم بالنجاسة ، ورآها في حال الطواف ، رجع فغسل ثوبه ، إن كانت عليه ، أو بدنه ، إن كانت فيه ، ثم عاد فتمم طوافه ، فإن علم بعد فراغه من الطواف ، كان طوافه جائزا ، ويصلّي في ثوب طاهر.

ومن نسي طواف الزيارة ، الذي هو طواف الحجّ ، لأنّ أصحابنا يسمون طواف الحجّ ، طواف الزيارة ، حتى رجع (2) إلى أهله ، ووطأ النساء ، وجبت عليه بدنة ، على ما روي (3) ، والأظهر أنّه لا شي ء عليه من الكفارة ، لأنّه في حكم الناسي ، بل الواجب عليه ، الرجوع إلى مكة ، وقضاء طواف الزيارة ، مع تمكنه من الرجوع ، فإن لم يتمكن ، فليستنب من يطوف عنه ، وإن كان طواف النساء هو المنسيّ ، وذكر بعد رجوعه إلى أهله ، جاز له أن يستنيب غيره فيه ، مع التمكن ، والاختيار ، فإن أدركه الموت ، قضي عنه.

ومن طاف بالبيت ، جاز له أن يؤخر السعي ، إلى بعد ساعة ، ولا يجوز له أن يؤخر ذلك ، إلى غد يومه.

ولا يجوز أن يقدّم السعي على الطواف ، فإن قدّم سعيه على الطواف ، كان

ص: 574


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 39 من أبواب الطواف.
2- ج : يرجع.
3- الوسائل : كتاب الحج الباب 58 من أبواب الطواف ، ح 1.

عليه أن يطوف ، ثم يسعى بين الصفا والمروة ، فإن طاف بالبيت أشواطا ، ثم قطعه ناسيا ، وسعى بين الصفا والمروة ، كان عليه أن يتمم طوافه ، وليس عليه استئنافه ، فإن ذكر أنّه لم يكن أتم طوافه ، وقد سعى بعض السعي ، قطع السعي ، وعاد ، فتمم طوافه ، ثم تمم السعي.

والمتمتع إذا أهلّ بالحج ، لا يجوز له أن يطوف ويسعى ، إلا بعد أن يأتي منى ، ويقف بالموقفين ، وقد روي أنّه إذا كان شيخنا كبيرا ، لا يقدر على الرجوع إلى مكة ، أو مريضا ، أو امرأة تخاف الحيض ، فيحول (1) بينها وبين الطواف ، فإنّه لا بأس بهم ، أن يقدّموا طواف الحج والسعي ، والأظهر ترك العمل بهذه الرواية ، فإنّ شيخنا أبا جعفر أوردها في نهايته (2) إيرادا ، ورجع عنها في مسائل خلافه ، فقال : روى أصحابنا ، رخصة في تقديم الطواف والسعي ، قبل الخروج إلى منى وعرفات (3).

وأمّا المفرد والقارن ، فحكمهما حكم المتمتع ، في أنهما لا يجوز لهما تقديم الطواف ، قبل الوقوف بالموقفين ، على الصحيح من الأقوال ، لأنّه لا خلاف فيه ، وقد روي (4) أنّه لا بأس بهما ، أن يقدما الطواف قبل أن يأتيا عرفات ، وأمّا طواف النساء فإنّه لا يجوز إلا بعد الرجوع من منى ، مع الاختيار ، فإن كان هناك ضرورة تمنعه من الرجوع إلى مكة ، أو امرأة تخاف الحيض ، جاز لهما تقديم طواف النساء ، ثم يأتيان الموقفين ومنى ، ويقضيان مناسكهما ، ويذهبان حيث شاءا ، على ما روي في بعض الأخبار (5) ، والصحيح خلاف ذلك ، لأنّ الحج مرتب بعضه على بعض ، لا يجوز تقديم المؤخر ، ولا تأخير المقدّم.

ص: 575


1- ج : ان يحوّل.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب دخول مكة والطواف بالبيت.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 175.
4- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 14 من أبواب أقسام الحج.
5- الوسائل : كتاب الحج ، باب 64 من أبواب الطواف.

ولا يجوز تقديم طواف النساء على السعي ، فمن قدمه عليه ، كان عليه إعادته ، وإن قدمه ناسيا ، أو ساهيا ، لم يكن عليه شي ء ، وقد أجزأه ، ولا بأس أن يعوّل الإنسان على صاحبه ، في تعداد الطواف ، وإن تولى ذلك بنفسه ، كان أفضل ، ومتى شكا جميعا في عدد الطواف ، استأنفا من أوّله ، وقد روي أنه لا يجوز للرجل أن يطوف ، وعليه برطلة (1) ، وذلك محمول على الكراهة ، إن كان ذلك في طواف الحج ، لأنّ له أن يغطي رأسه في هذا الطواف ، فأمّا طواف العمرة المتمتع بها إلى الحج ، فلا يجوز له تغطية رأسه.

ويستحب للإنسان أن يطوف بالبيت ، ثلاثمائة وستين أسبوعا ، فإن لم يتمكن من ذلك طاف ثلاثمائة وستين شوطا فان لم يتمكن طاف ما تيسر منه.

وقد روي ، أنّه من نذر أن يطوف على أربع ، كان عليه أن يطوف طوافين ، أسبوع ليديه ، وأسبوع لرجليه (2) والأولى عندي ان نذره لا ينعقد ، لأنّه غير مشروع ، وإذا لم يكن مشروعا ، فلا ينعقد ، وانعقاده يحتاج إلى دليل شرعي ، لأنّه حكم شرعي ، يحتاج في إثباته إلى دليل شرعي ، لأنّ الرسول عليه السلام ، قال (3) : كل شي ء لا يكون على أمرنا ، فهو ردّ (4) ، وهذا خلاف سنّة الرسول عليه السلام.

فإذا فرغ الإنسان من طوافه ، أتى مقام إبراهيم ، بفتح الميم ، ومن الاستيطان بضمّ الميم ، ويصلّي فيه ركعتين ، يقرأ في كل ركعة منهما الحمد ، وسورة ممّا تيسّر له من القرآن ، ما عدا سورة العزائم.

وركعتا طواف الفريضة ، فريضة ، مثل الطواف ، على الصحيح من أقوال أصحابنا ، وقد ذهب شاذ منهم إلى أنهما مسنونان ، والأظهر الأول ، ويعضده قوله

ص: 576


1- الوسائل : كتاب الحج ، باب 67 من أبواب الطواف.
2- الوسائل : كتاب الحج ، باب 70 من أبواب الطواف.
3- صحيح البخاري : ج 3 ، ص 91 باب 60 ، ح 1 ، مع اختلاف يسير.
4- ط. فهو مردود.

تعالى : ( وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى ) (1) والأمر في عرف الشرع ، يقتضي الوجوب ، عندنا ، بغير خلاف بيننا ، وموضع المقام حيث هو الساعة ، وهي سنة سبع وثمانين وخمسمائة.

فمن نسي هاتين الركعتين ، أو صلاهما في غير المقام ، ثمّ ذكرهما ، فليعد إلى المقام ، فليصلّ فيه ، ولا يجوز له أن يصلّي في غيره ، فإن خرج من مكة ، وكان قد نسي ركعتي الطواف ، وأمكنه الرجوع إليها ، رجع ، وصلّى عند المقام ، وإن لم يمكنه الرجوع ، صلّى حيث ذكر ، وليس عليه شي ء ، وإذا كان في موضع المقام ، زحام ، فلا بأس أن يصلّي خلفه ، فإن لم يتمكن من الصلاة هناك ، فلا بأس أن يصلّي حياله.

ووقت ركعتي الطواف ، إذا فرغ منه ، أي وقت كان ، من ليل أو نهار ، سواء كان ذلك ، في الأوقات المكروهة لابتداء النوافل فيها ، أو في غيرها.

ومن نسي ركعتي الطواف ، فأدركه الموت ، قبل أن يقضيهما ، كان على وليّه القضاء عنه.

ومن دخل مكة ، يدخلها على أربعة أقسام : أحدها : يدخلها لحج ، أو عمرة ، فلا يجوز أن يدخلها إلا بإحرام ، بلا خلاف.

والثاني : يدخلها لقتال ، عند الحاجة الداعية إليه ، جاز أن يدخلها محلا ، كما دخل النبي صلى اللّه عليه وآله عام الفتح ، وعليه المغفر ، على رأسه ، بلا خلاف.

الثالث : لحاجة لا تتكرر ، مثل تجارة ، وما جرى مجراها ، فلا يجوز عندنا أن يدخلها إلا بإحرام ، إذا كان قد مضى شهر ، من وقت خروجه منها ، فإن كان أقل من شهر ، فإنّه يجوز أن يدخلها بغير إحرام.

الرابع : يدخلها لحاجة تتكرر ، مثل الرعاة ، والحطابة ، وغيرهما ، جاز لهم ، أن يدخلوها عندنا بغير إحرام.

ص: 577


1- البقرة : 125.

باب السعي وأحكامه

السعي بين الصفا والمروة ، ركن من أركان الحجّ ، فمن تركه (1) ، فلا حجّ له ، والأفضل ، إذا فرغ من الطواف ، أن يخرج إلى السعي ، ولا يؤخره.

ولا يجوز تقديم السعي على الطواف ، فإن قدّمه لم يجزه ، وكان عليه الإعادة ، فإذا أراد الخروج إلى الصفا ، استحب له ، استلام الحجر الأسود ، بجميع بدنه ، وأن يأتي زمزم ، فيشرب من مائها ، ويصب على بدنه ، دلوا منه ، ويكون ذلك من الدلو الذي بحذاء الحجر ، وليخرج من الباب المقابل للحجر الأسود ، حتى يقطع الوادي ، فإذا صعد الى الصفا ، نظر إلى البيت ، واستقبل الركن الذي فيه الحجر ، وحمد اللّه ، وأثنى عليه ، وذكر من آلائه ، وبلائه ، وحسن ما صنع به ، ما قدّر عليه ، ويستحب له أن يطيل الوقوف على الصفا ، فإن لم يمكنه ، وقف بحسب ما تيسّر له ، ودعا بما تيسر له ، من الأدعية ، فإنّها كثيرة ، مذكورة مورودة ، في كتب المناسك ، والأدعية ، والعبادات ، لم نوردها هاهنا ، مخافة التطويل ، والصعود على الصفا ، غير واجب ، بل الواجب ، السعي بن الصفا والمروة ، وكذلك صعود المروة ، غير واجب ، ثم ينحدر إلى المروة ، ماشيا ، أو راكبا ، والمشي أفضل ، فإذا انتهى إلى الموضع الذي يرمل فيه ، أي يهرول فيه ، والرمل الإسراع ، وهو أن يملأ فروجه ، استحب له السعي فيه ، والسعي هو الإسراع الذي ذكرناه ، فإذا انتهى إلى آخره ، كفّ عن السعي ، ومشى مشيا ، فإذا جاء من عند المروة ، مشى مشيا ، فإذا وصل إلى موضع السعي ، سعى فيه ، فإذا قطعه ، كفّ عن السعي ، ومشى مشيا ، والسعي هو أن يسرع الإنسان في مشيه ، إن كان ماشيا ، وإن كان راكبا ، حرّك دابته ، في الموضع الذي ذكرناه ، وذلك على الرجال ، دون النساء.

ص: 578


1- في ط وج : تركه متعمدا.

وقطع مسافة ما بين الصفا والمروة ، فريضة ، وركن ، على ما قدّمناه ، فمن تركه متعمدا ، فلا حج له ، ومن تركه ناسيا ، كان عليه إعادة السعي ، لا غير ، فإن خرج من مكة ، ثم ذكر أنّه لم يكن قد سعى ، وجب عليه الرجوع ، وقطع ما بين الصفا والمروة ، فان لم يتمكن من الرجوع ، جاز له أن يأمر من يسعى عنه ، وإن ترك الرمل ، بفتح الراء والميم ، وقد فسّرناه ، لم يكن عليه شي ء.

ويجب البدأة بالصفا ، قبل المروة ، والختم بالمروة ، فمن بدأ بالمروة قبل الصفا ، وجب عليه إعادة السعي.

والسعي المفروض ما بين الصفا والمروة ، سبع مرّات ، فمن سعى أكثر منه متعمدا ، فلا سعي له ، ووجب عليه إعادته ، فإن فعل ذلك ناسيا ، أو ساهيا ، طرح الزيادة ، واعتد بالسبعة.

وليس من شرطه الطهارة ، كما كان ذلك من شرط الطواف.

ومتى سعى ثماني مرات ، ويكون قد بدأ بالصفا ، فإن شاء أن يضيف إليها شيئا (1) فعل ، وإن شاء أن يقطع ، قطع ، وإن سعى ثماني مرات ، وهو عند المروة ، أعاد السعي ، لأنّه بدأ من المروة ، وكان يجب عليه البدأة بالصفا ، يعني بالمرات ، الأشواط ، دون الوقفات ، لأنّه لو أريد بذلك الوقفات ، كان سعيه صحيحا ، لأنّ آخر وقفة ، وهي الثامنة تكون على المروة ، وذلك صحيح ، وهو الواجب ، فيحصل له أربع وقفات على الصفا ، وأربع على المروة ، بينهما سبعة أشواط ، وانّما المراد بذلك ، الأشواط ، فيكون في الشوط الثامن ، على المروة ، فيكون قد بدأ بها ، وذلك لا يجوز ، فلأجل ذلك ، وجب عليه إعادة السعي.

ومن سعى تسع مرات ، وكان عند المروة في التاسعة ، فليس عليه إعادة السعي ، لأنّه بدأ بالصفا ، وختم بالمروة ، كما أمر اللّه تعالى ، والمرات هاهنا ، على ما قدّمناه.

ص: 579


1- ج : ستّا.

ومتى سعى الإنسان أقل من سبع مرات ، ناسيا ، وانصرف ، ثم ذكر أنّه نقص منه شيئا ، رجع ، فتمّم ما نقص ، منه ، فإن لم يعلم كم نقص منه ، وجب عليه إعادة السعي.

وإن كان قد واقع أهله قبل إتمامه السعي ، وجب عليه دم بقرة ، وكذلك إن قصّر أو قلّم أظفاره ، كان عليه دم بقرة ، وإتمام ما نقص (1) ، إذا فعل ذلك عامدا.

ولا بأس أن يجلس الإنسان بين الصفا والمروة ، في حال السعي للاستراحة ، ولا بأس أن يقطع السعي ، لقضاء حاجة له ، أو لبعض إخوانه ، ثمّ يعود ، فيتمم ما قطع عليه.

ومن نسي الهرولة في حال السعي ، حتّى يجوز موضعه ، ثمّ ذكر ، فليرجع القهقرى ، إلى المكان الذي يهرول فيه ، استحبابا.

ومتى فرغ من سعي العمرة المتمتع بها إلى الحج ، وهو هذا السعي ، قصّر ، فإذا قصّر ، أحلّ من كل شي ء أحرم منه ، من النساء ، والطيب ، وغير ذلك ، ممّا حرم عليه ، لأجل الإحرام ، لأنّه ليس في العمرة المتمتع بها ، طواف النساء ، وأدنى التقصير ، أن يقصّ أظفاره ، أو شيئا من شعره ، وإن كان يسيرا ، ولا يجوز له أن يحلق رأسه كلّه ، فإن فعله ، كان عليه دم شاة ، فإذا كان يوم النحر ، أمرّ الموسى على رأسه وجوبا ، حين يريد أن يحلق ، هذا إذا كان حلقه متعمدا ، فإن كان حلقه ناسيا ، لم يكن عليه شي ء ، فإذا حلق بعض رأسه لا كلّه ، فقد قصّر أيضا على ما ذكره ، شيخنا أبو جعفر الطوسي في مبسوطة (2) وفي نهايته (3) ما منع إلا من حلق رأسه كله.

فإن نسي التقصير ، حتى يهل بالحج ، فلا شي ء عليه ، وقد روي أنّ عليه دم شاة ، وقد تمت متعته (4) فإن تركه متعمدا ، فقد بطلت متعته ، وصارت حجته

ص: 580


1- في ط : ما نقص من السعي.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في السعي وأحكامه.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب السعي بين الصفا والمروة.
4- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 6 من أبواب التقصير ، ح 2.

مفردة ، على ما ذكره بعض أصحابنا المصنّفين ، وروي في الاخبار (1).

والذي تقتضيه الأدلة ، وأصول المذهب ، أنّه لا ينعقد إحرامه بحج ، لأنّه بعد في عمرته ، لم يتحلل منها ، وقد أجمعنا على أنّه لا يجوز إدخال الحجّ على العمرة ، ولا إدخال العمرة على الحجّ ، قبل فراغ مناسكهما.

والأصلع ، يمرّ الموسى على رأسه ، استحبابا ، لا وجوبا ، يوم النحر ، وعند التقصير ، يأخذ من شعر لحيته ، أو حاجبيه ، أو يقلم أظفاره.

وليس على النساء حلق ، وفرضهن التقصير ، في جميع المواضع.

ومن حلق رأسه في العمرة المتمتع بها ، يجب عليه حلقه يوم النحر ، فإن لم ينبت شعره ، أمرّ الموسى على رأسه.

ويستحب للمتمتع ، إذا فرغ من متعته ، وقصر أن لا يلبس المخيط ، ويتشبّه ، بضم الهاء ، بالمحرمين ، بعد إحلاله ، قبل الإحرام بالحج.

ومتى جامع قبل التقصير ، كان عليه بدنة ، إن كان موسرا ، وإن كان متوسطا ، فبقرة ، وإن كان فقيرا ، فشاة.

ولا ينبغي للمتمتع بالعمرة إلى الحج أن يخرج من مكة ، قبل أن يقضي مناسكه كلها ، إلا لضرورة ، فإذا اضطر إلى الخروج ، خرج إلى حيث لا يفوته الحج ، ويخرج محرما بالحج ، فإن أمكنه الرجوع إلى مكة ، وإلا مضى إلى عرفات.

فإن خرج بغير إحرام ، ثم عاد ، فإن كان عوده في الشهر الذي خرج فيه ، لم يضره أن يدخل مكة بغير إحرام ، وإن كان عوده إليها في غير ذلك الشهر ، دخلها محرما بالعمرة إلى الحج ، وتكون العمرة الأخيرة ، هي التي يتمتع بها إلى الحج.

ويجوز للمحرم المتمتع ، إذا دخل مكة ، أن يطوف ، ويسعى ، ويقصر ، إذا علم ، أو غلب على ظنه ، أنّه يقدر على إنشاء الإحرام بالحج بعده ، والخروج إلى

ص: 581


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 54 من أبواب الإحرام ، ح 4 و 5.

عرفات ، والمشعر ، ولا يفوته شي ء من ذلك ، سواء كان ذلك ، ودخوله إلى مكة ، قبل الزوال ، أو بعد الزوال ، يوم التروية ، أو ليلة عرفة ، أو يوم عرفة ، قبل زواله ، أو بعد زواله ، على الصحيح والأظهر ، من أقوال أصحابنا ، لأنّ وقت الوقوف بعرفة ، للمضطر ، إلى طلوع الفجر ، من يوم النحر.

وقال بعض أصحابنا : وهو اختيار شيخنا المفيد ، إذا زالت الشمس ، من يوم التروية ، ولم يكن أحلّ من عمرته ، فقد فاتته المتعة ، ولا يجوز له التحلل منها ، بل يبقى على إحرامه ، ويكون حجة مفردة.

والأول مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي رحمه اللّه ، وقد دلّلنا على صحّته ، وإن كانت قد وردت بذلك القول أخبار آحاد (1) لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، لأنّها لا توجب علما ، ولا عملا.

وإذا غلب على ظنّه ، أنّه يفوته ذلك ، أقام على إحرامه ، وجعلها حجّة مفردة ، أي وقت كان ذلك ، على ما قدّمناه ، والأفضل ، إذا كان عليه زمان ، أن يطوف ، ويسعى ، ويقصر ، ويحل ، وينشئ الإحرام بالحج ، يوم التروية ، عند الزوال ، فإن لم يلحق مكة ، إلا ليلة عرفة ، أو يوم عرفة ، جاز أيضا أن يطوف ، ويسعى ، ويقصر ، ثمّ ينشئ الإحرام ، للحج على ما قدّمناه.

وقال بعض أصحابنا في كتاب له : ينشئ الإحرام للحج ، ما بينه ، وبين الزوال ، من يوم عرفة ، فإذا زالت الشمس ، من يوم عرفة ، فقد فاتته العمرة ، وتكون حجة مفردة ، هذا إذا غلب على ظنّه ، أنّه يلحق بعرفات (2) ، على ما قلناه ، وإن غلب على ظنه ، أنّه لا يلحقها ، فلا يجوز له أن يحل ، بل يقيم على إحرامه ، على ما قلناه ، وهذا القول ، يقوله شيخنا أبو جعفر الطوسي أيضا في نهايته (3)

ص: 582


1- الوسائل : الباب 21 من أبواب أقسام الحج ، ومن جملتها ح 14.
2- ج : عرفات.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب الإحرام للحج.

ومبسوطة (1) ، واستبصاره (2) ، والأول وهو ما اخترناه ، مذهبه ، وقوله في جمله وعقوده (3) وفي اقتصاده (4) ومبسوطة (5) في فصل ذكر الإحرام بالحج ، والقول الأول في فصل ، في السعي وأحكامه.

باب الإحرام بالحج

قد قلنا في الباب الأوّل ، أن الأفضل ، أن يحرم بالحجّ يوم التروية ، ويكون ذلك عند الزوال ، بعد أن يصلّي فريضة الظهر ، فإن لم يتمكن من ذلك (6) جاز أن يحرم بقية نهاره أي وقت (7) شاء ، بعد أن يعلم ، أو يغلب على ظنه ، أنّه يلحق عرفات في وقتها ، وقد بيّنا أن وقت عرفات ، ممتد إلى طلوع الفجر ، من يوم النحر ، على ما أسلفنا القول فيه ، وشرحناه.

وينبغي له أن يفعل عند هذا الإحرام ، جميع ما فعله عند الإحرام الأول ، من الغسل ، والتنظيف ، وإزالة الشعر عن جسده ، وأخذ شي ء من شاربه ، وتقليم أظفاره ، وغير ذلك ، ثم يلبس ثوبي إحرامه ، ويدخل المسجد حافيا ، عليه السكينة والوقار ، ويصلّي ركعتين عند المقام ، أو في الحجر ، فإن صلّى ست ركعات للإحرام ، كان أفضل ، وإن صلّى فريضة الظهر ، ثم أحرم في دبرها ، كان أفضل ، ويصلّي ركعات الإحرام قبل الفريضة ، ثم يصلّي الفريضة ، ويحرم في دبرها.

وأفضل المواضع التي يحرم منها ، المسجد الحرام ، وفي المسجد من عند المقام ، ومن أحرم من غير المسجد ، كان أيضا جائزا ، لأنّ ميقاته مكة جميعها ، لا يجوز

ص: 583


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في السعي وأحكامه.
2- الاستبصار : الباب 166 باب الوقت الذي يلحق الإنسان فيه المتعة.
3- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر الإحرام بالحج.
4- الاقتصاد : فصل في ذكر الإحرام بالحج ، ص 305.
5- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر الإحرام بالحج.
6- ج : نهاره أو أي وقت.
7- ج ، ط : من ذلك في هذا الوقت.

له أن يحرم من غيرها ، فإن أحرم من غيرها ، وجب الرجوع إليها ، والإحرام منها ، ويحرم بالحجّ مفردا ، ويدعو بالدعاء ، كما كان يدعو عند الإحرام الأوّل ، إلا أنّه يذكر الحج مفردا ، لأنّ عمرته قد مضت ، فإن كان ماشيا ، جهر بالتلبية ، من موضعه الذي عقد الإحرام فيه ، وإن كان راكبا ، لبّى إذا نهض به بعيره ، فإذا انتهى إلى الردم ، وأشرف على الأبطح ، رفع صوته بالتلبية ، ثم ليخرج إلى منى ، ويكون على تلبيته إلى زوال الشمس ، من يوم عرفة ، فإذا زالت ، قطع التلبية.

ومن سها في حال الإحرام بالحج ، فأحرم بالعمرة ، عمل على أنّه أحرم بالحج ، وليس عليه شي ء.

وإذا أحرم بالحج ، لا ينبغي له أن يطوف بالبيت ، إلى أن يرجع من منى ، فإن سها ، فطاف بالبيت ، لم ينتقض إحرامه ، سواء جدّد التلبية ، أو لم يجدّدها ، وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : غير أنّه يعقده بتجديد التلبية (1).

قال محمّد بن إدريس : إحرامه منعقد ، لم ينتقض ، فلا حاجة به إلى انعقاد المنعقد.

ومن نسي الإحرام بالحج ، إلى أن يحصل بعرفات ، جدّد الإحرام بها ، وليس عليه شي ء ، فإن لم يذكر حتى يرجع إلى بلده ، فإن كان قد قضى مناسكه ، كلها ، لم يكن عليه شي ء ، على ما ذكره شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه ، في نهايته (2) وقال في مبسوطة : أمّا النية فهي ركن في الأنواع الثلاثة ، من تركها فلا حج له ، عامدا كان ، أو ناسيا ، إذا كان من أهل النية ثم قال بعد ذلك : وعلى هذا إذا فقد النية ، لكونه سكران (3) هذا آخر كلامه رحمه اللّه.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : الذي يقتضيه أصول المذهب ، ما ذهب إليه

ص: 584


1- النهاية : كتاب الحج ، باب الإحرام بالحج.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب الإحرام بالحج.
3- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.

باب الغدو إلى عرفات

يستحب للإمام ، أن لا يخرج من منى ، إلا بعد طلوع الشمس ، من يوم عرفة ، ومن عدا الإمام ، يجوز له الخروج ، بعد أن يصلّي الفجر ، ويوسع له أيضا إلى طلوع الشمس.

ويكره له أن يجوز وادي محسّر ، إلا بعد طلوع الشمس ، وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ولا يجوز له أن يجوز وادي محسّر ، إلا بعد طلوع الشمس ، وذلك على تغليظ الكراهة ، دون الحظر وقال أيضا : ومن اضطر إلى الخروج ، قبل طلوع الفجر ، جاز له أن يخرج ، ويصلّي في الطريق (1) ومع الاختيار ، دون الاضطرار ، يكون مكروها ، لا محظورا ، لأنّا قد بيّنا ، أنّ المبيت بها سنّة مندوب إليها ، دون فريضة ، واجبة ، محظور تركها.

فإذا توجّه إلى عرفات ، فليقل : « اللّهم إيّاك صمدت ، وإيّاك اعتمدت ، ووجهك أردت ، أسألك أن تبارك لي في رحلتي ، وأن تقضي لي حاجتي ، وأن تجعلني ممّن تباهي به اليوم ، من هو أفضل منّي ».

ويستحب أن يكون ، على تكرار تلبيته ، على ما ذكرناه إلى زوال الشمس ، فإذا زالت ، اغتسل ، وصلّى الظهر والعصر جميعا ، يجمع بينهما ، بأذان واحد وإقامتين ، لأجل البقعة ، ثم يقف بالموقف ، ويدعو لنفسه ، ولوالديه ، ولإخوانه المؤمنين ، والأدعية في ذلك كثيرة لا تحصى ، من أرادها ، رجع إليها في كتب المناسك والعبادات لم نوردها هاهنا خوف الإطالة.

ويستحب أن يضرب الإنسان ، خباءه بنمرة ، بفتح النون ، وكسر الميم ، وهي بطن عرنة بضم العين ، وفتح الراء ، والنون ، دون الموقف ، ودون الجبل ،

ص: 585


1- النهاية : كتاب الحج ، باب العدول إلى عرفات.

في مبسوطة ، لقوله تعالى : ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ) (1). وقول الرسول صلى اللّه عليه وآله : الأعمال بالنيات (2) وانّما لامرئ ما نوى (3) وهذا الخبر مجمع عليه ، وبهذا افتي ، وعليه أعمل ، فلا نرجع عن الأدلة ، بأخبار الآحاد ، إن وجدت.

باب نزول منى

يستحب لمن أراد الخروج إلى منى ، أن لا يخرج من مكة ، حتى يصلّي الظهر ، يوم التروية بها ، ثم يخرج إلى منى ، إلا الإمام خاصّة ، فإن عليه أن يصلّي الظهر والعصر ، يوم التروية بمنى ، ويقيم بها ، إلى طلوع الشمس استحبابا ، لا إيجابا ، من يوم عرفة ، ثم يغدو إلى عرفات ، فإن اضطر الإنسان إلى الخروج ، بأن يكون عليلا ، يخاف أن لا يلحق ، أو يكون شيخا كبيرا ، أو يخاف الزحام ، جاز له أن يتعجّل ، قبل أن يصلّي الظهر.

فإذا توجّه إلى منى فليقل : « اللّهم إيّاك أرجو ، وإيّاك أدعو ، فبلّغني أملي ، وأصلح لي عملي ».

فإذا نزل منى ، فليقل : « اللّهم هذه منى ، وهي مما مننت به علينا من المناسك ، فأسألك أن تمن عليّ ، بما مننت به على أوليائك ، فإنّما أنا عبدك وفي قبضتك ».

ونزول منى عند التوجه إلى عرفات ، والمبيت بها ليلة عرفة ، مندوب غير واجب.

وحدّها من العقبة ، إلى وادي محسّر ، بكسر السين وتشديدها.

ص: 586


1- الليل : 19.
2- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 6 و 7.
3- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات ، ح 6 و 7.

اقتداء بالرسول عليه السلام ، لأنّه عليه السلام ضرب خباءه ، وقبته هناك ، ثمّ أتى الموقف.

وحدّ عرفة ، من بطن عرنة ، وثويّة ، بفتح الثاء ، وتشديد الياء ، ونمرة ، إلى ذي المجاز ، ولا يرتفع إلى الجبل ، إلا عند الضرورة إلى ذلك ، ويكون وقوفه على السهل ، ولا يترك خللا إن وجده ، إلا سده بنفسه ، ورحله.

ولا يجوز الوقوف تحت الأراك ، ولا في نمرة ، ولا ثوية ، ولا عرفة ، ولا ذي المجاز ، فانّ هذه المواضع ليست من عرفات ، فمن وقف بها ، فلا حج له ، ولا بأس بالنزول فيها ، غير أنّه إذا أراد الوقوف ، بعد الزوال ، جاء إلى الموقف ، فوقف هناك ، والوقوف بميسرة الجبل ، أفضل من غيره ، وليس ذلك بواجب ، بل الواجب الوقوف بسفح الجبل ، ولو قليلا بعد الزوال ، وأمّا الدعاء والصلاة في ذلك الموضع ، فمندوب غير واجب ، وانّما الواجب الوقوف ولو قليلا فحسب.

وقال شيخنا في مسائل خلافه (1) ومبسوطة : إنّ وقت الوقوف بعرفة ، من الزوال يوم عرفة ، إلى طلوع الفجر يوم العيد (2).

والصحيح أنّ وقتها ، من الزوال إلى غروب الشمس ، من يوم عرفة ، لأنّه لا خلاف في ذلك ، وما ذكره في الكتابين ، مذهب بعض المخالفين.

باب الإفاضة من عرفات والوقوف بالمشعر الحرام

إذا غربت الشمس ، من يوم عرفة ، فليفض الحاج ، من عرفات إلى المزدلفة وإن أفاض بعد غروب الشمس ، لم يكن عليه إثم ، إذا أدرك المشعر الحرام في وقته ، ووقته من طلوع الفجر ، من يوم النحر ، إلى طلوع الشمس ، من ذلك اليوم ، وذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه ، إلى أنّ وقت المشعر ، ليلة العيد (3) وهو

ص: 587


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 156.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 166.

مذهب المخالفين ، والأول هو المذهب ، وهو اختياره في نهايته (1) ولا يجوز الإفاضة قبل غيبوبة الشمس ، فمن أفاض قبل مغيبها متعمدا ، كان عليه بدنة ، فإن عاد إليها قبل مغيبها ثم أفاض عند مغيبها لم يكن عليه كفارة.

والبدنة ، ينحرها يوم النحر ، بمنى ، فإن لم يقدر على البدنة ، صام ثمانية عشر يوما ، إمّا في الطريق ، أو إذا رجع إلى أهله.

وإن كانت الإفاضة قبل مغيب الشمس ، على طريق السهو ، أو يكون جاهلا ، بأن ذلك لا يجوز ، لم يكن عليه شي ء.

فإذا أراد أن يفيض ، فيستحب له أن يقول : « اللّهم لا تجعله آخر العهد من هذا الموقف ، وارزقنيه أبدا ما أبقيتني ، واقلبني اليوم ، مفلحا ، منجحا ، مستجابا لي ، مرحوما ، مغفورا ، بأفضل ما ينقلب به اليوم ، أحد من وفدك عليك وأعطني أفضل ما أعطيت أحدا منهم ، من الخير ، والبركة ، والرحمة ، والرضوان ، والمغفرة ، وبارك لي ، فيما أرجع إليه ، من مال ، أو أهل ، أو قليل ، أو كثير ، وبارك لهم في » واقتصد في السير ، وسر سيرا جميلا ، فإذا بلغت إلى الكثيب الأحمر ، عن يمين الطريق ، فقل : « اللّهم ارحم موقفي ، وزد في عملي ، وسلّم لي ديني ، وتقبل مناسكي ».

ويستحب أن لا يصلي المغرب والعشاء الآخرة ، إلا بالمزدلفة ، وإن ذهب من الليل ربعه ، أو ثلثه.

ويستحب له أن يجمع بين الصلاتين ، بالمزدلفة ليلة النحر ، بأذان واحد ، وإقامتين ، وحدّ الجمع ، أن لا يصلّي بينهما ، نوافل ، فإن فصل بين الفرضين بالنوافل ، لم يكن مأثوما ، غير أنّ الأفضل ما قدّمناه.

وحدّ المشعر الحرام ، ما بين المأزمين ، بكسر الزاء ، إلى الحياض ، وإلى وادي محسّر ، فلا ينبغي أن يقف الإنسان ، إلا فيما بين ذلك ، فإن ضاق عليه الموضع ،

ص: 588


1- النهاية : كتاب الحج ، باب الإفاضة من عرفات والوقوف بالمشعر الحرام.

جاز له أن يرتفع إلى الجبل ، فإذا أصبح يوم النّحر ، صلّى فريضة الغداة ، ووقف للدعاء ، وليحمد اللّه تعالى ، وليثن عليه ، وليذكر من آلائه ، وحسن بلائه ، ما قدر عليه ، ويصلّي على النبي صلى اللّه عليه وآله.

ويستحب للصرورة ، وهو الذي لم يحج ، إلا تلك السنة ، أن يطأ المشعر برجله.

وإن كان الوقوف واجبا عليه ، وركنا من أركان الحج عندنا ، من تركه متعمدا ، فلا حج له ، وأدناه ، أن يقف (1) بعد طلوع الفجر ، إمّا قبل صلاة الغداة ، أو بعدها ، بعد أن يكون قد طلع الفجر الثاني ، ولو قليلا ، والدعاء ، وملازمة الموضع ، إلى طلوع الشمس مندوب ، غير واجب.

وإذا طلعت الشمس ، رجع إلى منى ، ورجوعه الآن إلى منى واجب ، لأنّ عليه بها يوم النحر ، ثلاثة مناسك ، مفروضة.

ويكره له أن يجوز وادي محسّر ، إلا بعد طلوع الشمس ، ولا يجوز الخروج من المشعر الحرام ، قبل طلوع الفجر ، للمختار ، فان خرج قبل طلوعه متعمدا ، فلا حج له ، وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : كان عليه دم شاة (2).

والصحيح الأوّل ، وما ذكره رحمه اللّه ، خبر واحد ، أورده إيرادا ، لا اعتقادا ، والذي يدل على صحة ما قلناه ، أن الوقوف بالمشعر الحرام ، في وقته ركن من أركان الحج ، بغير خلاف بيننا ، ولا خلاف أنّه ، من أخلّ بركن من أركان الحج متعمدا ، بطل حجه ، فإن كان خروجه ساهيا ، أو ناسيا ، لم يكن عليه شي ء.

وقد رخص للمرأة ، والرجل ، الذي يخاف على نفسه ، أن يفيضا إلى منى ، قبل طلوع الفجر ، فإذا بلغ وادي محسّر ، فليهرول فيه ، حتى يقطعه ، وذلك على طريق الاستحباب ، فإن كان راكبا ، حرّك مركوبه.

ويستحب له أن يأخذ حصى الجمار من المشعر الحرام ، ليلة النحر ، وإن

ص: 589


1- ج : ما يقف
2- النهاية : كتاب الحج باب الإفاضة من عرفات والوقوف بالمشعر الحرام.

أخذه من منى ، ومن سائر الحرم ، كان أيضا جائزا ، سوى المسجد الحرام ، ومسجد الخيف ، ومن حصى الجمار ، ولا يجوز أخذ الحصى من غير الحرم ، ولا يجوز أن يرمي الجمار ، الا بالحصى ، فحسب.

وقال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : لا يجوز الرمي ، إلا بالحجر ، وما كان من جنسه ، من البرام ، والجوهر ، وأنواع الحجارة ، ولا يجوز بغيره كالمدر ، والآجر ، والكحل ، والزرنيخ ، والملح ، وغير ذلك ، من الذهب ، والفضة (1) إلى هاهنا آخر كلامه.

وما ذكرناه ، هو الصحيح ، لأنّه لا خلاف في إجزائه ، وبراءة الذمة معه ، وما عدا الحصى ، فيه الخلاف ، وروي عنه عليه السلام ، أنّه قال غداة جمع ، التقط حصيات من حصى الخذف ، فلما وضعهن في يده ، قال : بأمثال هؤلاء ، فارموا ، بأمثال هؤلاء فارموا ، ومثل الحصى حصى (2). وروي أنّه قال عليه السلام ، لمّا هبط مكان محسّرا : أيّها الناس عليكم بحصى الخذف (3) وقد رجع شيخنا أبو جعفر ، في جمله وعقوده ، عما ذكره في مسائل خلافه ، فقال : لا يجزي غير الحصار (4).

ويكره أن تكون صما ، ويستحب أن تكون برشا ، ويستحب أن يكون قدرها ، مثل الأنملة ، منقطة ، كحلية ، ويكره أن يكسر من الحصى شي ء ، بل يلتقط بعدد ما يحتاج الإنسان إليه ، ويستحب أن لا ترمي ، إلا على طهر ، فإن رميت على غير طهر ، لم يكن عليه شي ء.

فإذا رماها ، فإنه يجب أن يرميها خذفا ، والخذف عند أهل اللسان ، رمي الحجر ، بأطراف الأصابع ، هكذا ذكره الجوهري في كتاب الصحاح ، يضع كل حصاة منها ، على بطن إبهامه ، ويدفعها بظفر السبّابة ، ويرميها من بطن الوادي.

ص: 590


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 163
2- الخلاف : ذيل مسألة 163.
3- الخلاف : ذيل مسألة 163.
4- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في نزول منى وقضاء المناسك بها ، رقم 4.

وينبغي أن يرمي يوم النحر ، جمرة العقبة ، وهي التي إلى مكة ، أقرب ، بسبع حصيات ، يرميها من قبل وجهها ، وحدها ذلك اليوم فحسب.

ويستحب أن يكون بينه وبين الجمرة ، قدر عشرة أذرع ، إلى خمسة عشر ذراعا ، ويقول حين يريد أن يرمي ، الحصى : « اللّهم هؤلاء حصياتي ، فأحصهن لي ، وارفعهن في عملي » ويقول مع كل حصاة : « اللّهم أدحر عني الشيطان ، اللّهم تصديقا بكتابك ، وعلى سنة نبيّك ، صلى اللّه عليه وآله ، اللّهم اجعله حجا مبرورا ، وعملا مقبولا وسعيا مشكورا ، وذنبا مغفورا ».

ويجوز أن يرميها راكبا ، وماشيا ، والركوب أفضل ، لأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله رماها راكبا ، ويكون مستقبلا لها ، مستدبرا للكعبة ، وإن رماها عن يسارها ، جاز.

وجميع أفعال الحج ، يستحب أن يكون مستقبل القبلة ، من الوقوف بالموقفين ، ورمي الجمار ، إلا رمي جمرة العقبة ، يوم النحر ، فحسب.

ولا يأخذ الحصى ، من المواضع التي تكون فيها نجاسة ، فإن أخذها ، وغسلها ، أجزأه وإن لم يغسلها ، ترك الأفضل ، وأجزأه ، لأنّ الاسم يتناولها.

باب الذبح

الهدي واجب على المتمتع بالعمرة إلى الحج ، وإن كان قارنا ، ذبح هديه الذي ساقه ، وإن كان مفردا ، لم يكن عليه شي ء. وإن تطوع بالأضحية ، كان له فضل كثير ، ومن وجب عليه الهدي ، فلم يقدر عليه ، قال بعض أصحابنا. فإن كان معه ثمنه ، خلّفه عند من يثق به ، حتى يشتري له هديا ، يذبح عنه في العام المقبل ، في ذي الحجّة ، فإن أصابه في مدة مقامه بمكة ، إلى انقضاء ذي الحجّة ، جاز له أن يشتريه ، ويذبحه ، وإن لم يصبه ، فعلى ما ذكرناه ، فإن لم يقدر على الهدي ، ولا على ثمنه ، وجب عليه صيام عشرة أيام ، والأظهر الأصحّ ، أنّه

ص: 591

إذا لم يجد الهدى ، ووجد ثمنه ، لا يلزمه أن يخلّفه ، بل الواجب عليه إذا عدم الهدي ، الصّوم ، سواء وجد الثمن ، أو لم يجد ، لأنّ اللّه سبحانه ، لم ينقلنا عند عدم الهدي ، إلا إلى الصوم ، ولم يجعل بينهما واسطة ، فمن نقلنا إلى ما لم ينقلنا اللّه تعالى إليه ، يحتاج إلى دليل شرعي.

وإلى ما اخترناه يذهب ، شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في جمله وعقوده ، في فصل في نزول منى وقضاء المناسك بها ، قال : فهدي المتمتّع فرض مع القدرة ، ومع العجز فالصّوم بدل منه هذا آخر كلامه.

والصّوم ثلاثة أيام في الحجّ ، وسبعة إذا رجع إلى أهله ، فالثلاثة الأيام ، يوم قبل التروية ، ويوم التروية ، ويوم عرفة ، فإن فإنه صوم هذه الأيام ، صام يوم الحصبة ، وهو يوم النفر ، ويومان بعده ، متواليات ، وسمّي يوم النفر الثاني ، يوم الحصبة ، لأنّه يستحب لمن نفر في النّفر الثاني ، التحصيب ، ولا يستحب لمن نفر في النفر الأول ، التحصيب ، وهو نزول المحصّب ، وهو ما بين العقبة ، وبين مكة ، وهي أرض ذات حصى صغار ، مستوية بطحاء ، إذا رحل من منى ، حصل فيها ، يستحب له النزول هناك قليلا اقتداء بالرّسول صلى اللّه عليه وآله ، لأنّه نزل هناك ، ونفّذ عائشة مع أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر ، إلى التنعيم ، فأحرمت بالعمرة المفردة ، وجاءت إلى مكّة ، وطاقت ، وسعت ، وقصرت ، وفرغت من مناسكها جميعا ، ثم جاءت إلى الرسول صلى اللّه عليه وآله ، فرحل قاصدا إلى المدينة.

فإن فاته ذلك أيضا ، صامهن في بقية ذي الحجّة ، فإن أهلّ المحرم ، ولم يكن صام ، وجب عليه دم شاة ، واستقر في ذمّته. وليس له صوم.

فإن مات من وجب عليه الهدي ، ولم يكن صام الثلاثة الأيام ، مع القدرة عليها ، والتمكّن من الصيام ، صام عنه وليه ، الثلاثة ، الأيام ، فأمّا السبعة الأيام ، فقد قال بعض أصحابنا : لا يلزم الولي قضاء السبعة ، والأولى عندي والأحوط ، أنّه يلزم الولي القضاء عنه ، إذا تمكن من وجبت عليه من صيامهن ، ولم يفعل ،

ص: 592

لأنّ الإجماع حاصل ، منعقد على أنّ الولي يلزمه أن يقضي عمن هو ولي له ، ما فاته من صيام ، تمكن منه ، فلم يصمه ، وهذا الصيام ، من جملة ذلك ، وداخل تحته ، فإذا صام الثلاثة الأيام ، ورجع إلى أهله ، صام السّبعة الأيام ، ولا يجوز له أن يصومهن في السفر ، ولا قبل رجوعه إلى أهله ، فإن جاور بمكة ، انتظر مدة وصول أهل بلده إلى بلده ، إن كان وصولهم في أقلّ من شهر ، فإن كان أكثر من شهر ، انتظر شهرا ، ولو كان من أبعد بعد ، ثم صام بعد ذلك ، السبعة الأيام.

ومن فاته صوم يوم قبل التروية ، صام يوم التروية ، ويوم عرفة ، ثم صام يوما آخر ، بعد أيام التشريق ، ولا يجوز له أن يصوم أيام التشريق ، فإن فاته صوم يوم التروية ، فلا يصم يوم عرفة ، بل يصوم الثلاثة الأيام ، بعد انقضاء أيام التشريق ، متتابعات.

وقد رويت (1) رخصة في تقديم الصوم الثلاثة أيام ، من أول العشر ، والأحوط الأول.

فإن قيل : كيف يصام بدل الهدي ، قبل وجوب الهدي ، لأنّ الهدي ما يجب ذبحه إلا يوم النحر ، ولا يجوز قبله؟

قلنا : إذا أحرم بالحجّ متمتعا ، وجب عليه الدم ، ويستقر في ذمته ، وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي ، وقال عطاء : لا يجب حتى يقف بعرفة ، وقال مالك : لا يجب حتى يرمي جمرة العقبة ، دليلنا : قوله تعالى : ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ، فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (2) فجعل تعالى الحج غاية لوجوب الهدي ، فالغاية وجود أول الحجّ ، دون إكماله ، يدل عليه قوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (3) كانت الغاية ، دخول أوّل الليل ، دون إكماله كلّه ، وإجماع أصحابنا أيضا ، منعقد على ذلك ، إلا أنّهم أجمعوا ، على أنّه لا يجوز الصيام إلا يوم قبل التروية ،

ص: 593


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 54 من أبواب الذبح
2- البقرة : 196
3- البقرة : 187.

ويوم التروية ، ويوم عرفة ، وقبل ذلك لا يجوز ، ولو لا إجماعهم ، لجاز ذلك ، لعموم الآية ، وصيام هذه الأيام ، يجوز ، سواء أحرم بالحج ، أو لم يحرم ، لأجل الإجماع من أصحابنا أيضا وإلا فما كان يجوز الصيام ، إلا بعد إحرام الحجّ ، لأنّه قال تعالى ( فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ ) فجعل الحج غاية لوجوب الهدي ، فإذا لم يحرم ، ما وجدت الغاية ، بل الإجماع مخصّص لذلك ، ويمكن أن يقال : العمرة المتمتع بها إلى الحج ، حجّ ، وحكمها ، حكم الحج ، لأنّها لا ينعقد الإحرام بها ، إلا في أشهر الحجّ ، فعلى هذا إذا أحرم بها ، فقد وجد أول الحج.

إذا تلبس بالصوم ، ثم وجد الهدي ، لم يجب عليه أن يعود إليه ، وله المضي فيه ، وله الرجوع إلى الهدي ، بل هو الأفضل.

ومن لم يصم الثلاثة الأيام ، وخرج عقيب أيام التشريق ، صامها في الطريق ، فإن لم يتمكّن ، صامهن مع السبعة الأيام ، إذا رجع إلى أهله ، إذا كان ذلك ، قبل أن يهلّ المحرّم ، فإن أهلّ المحرّم ، استقر في ذمّته الدم ، على ما بيناه ولا بأس بتفريق الصوم السبعة الأيام.

والمتمتع إذا كان مملوكا ، وحج بإذن مولاه ، كان فرضه الصيام ، فإن أعتق العبد ، قبل انقضاء الوقوف بالمشعر الحرام ، كان عليه الهدي ، ولم يجزه الصوم ، مع الإمكان ، فإن لم يقدر عليه ، كان حكمه حكم الأحرار ، في الأصل ، على ما فصلناه.

والصوم بعد أيام التشريق ، يكون أداء ، لا قضاء لأنّ وقته باق.

وإذا أحرم بالحج ، ولم يكن صام ، ثم وجد الهدي ، لم يجز له الصوم ، فإن مات ، وجب أن يشتري الهدي ، من تركته ، من أصل المال ، لأنّه دين عليه.

ولا يجوز أن يذبح الهدي الواجب في الحج ، والعمرة المتمتع بها إلى الحج ، إلا بمنى ، يوم النحر ، أو بعده ، فإن ذبح بمكة ، أو بغير منى ، لم يجزه ، وما ليس بواجب ، جاز ذبحه ، أو نحره ، بمكة.

ص: 594

وإذا ساق هديا في الحج ، فلا يذبحه أيضا إلا بمنى ، فإن ساقه في العمرة المبتولة ، نحره بمكة ، قبالة الكعبة ، بالموضع المعروف بالحزورة.

وأيام النحر بمنى ، أربعة أيام ، يوم النحر ، وثلاثة أيّام بعده ، وفي غيرها من البلدان ، ثلاثة أيام ، يوم النحر ، ويومان بعده ، هذا في التطوع ، فأمّا هدي المتعة ، فإنّه يجوز ذبحه طول ذي الحجة ، إلا أنّه يكون بعد انقضاء هذه الأيام ، قضاء ، هكذا قال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة (1) والأولى عندي ، أن لا يكون قضاء ، لأنّ ذي الحجة بطوله ، من أشهر الحجّ ، ووقت للذبح الواجب ، فالوقت ما خرج ، فلا يكون قضاء ، لأنّ القضاء ما كان له وقت ، ففات ، والتطوع قد مضى وقته ، ولا قضاء فيها.

ولا يجوز في الهدي الواجب ، إلا واحد عن واحد ، مع الاختيار ، ومع الضرورة ، والعدم ، فالصيام.

وقال بعض أصحابنا : ويجوز عند الضرورة ، الواحد من الهدي ، عن خمسة ، وعن سبعة ، وعن سبعين. وإلى هذا القول ، يذهب شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) وجمله وعقوده (3) ، ومبسوطة (4) ، وإلى القول الأول ، يذهب في مسائل خلافه ، في الجزء الأول ، وفي الجزء الثالث (5) ، وهو الأظهر الأصح ، الذي يعضده ، ظاهر التنزيل ، ولا يلتفت إلى أخبار آحاد ، إن صحت ، كان لها وجه ، وهو في الهدي المتطوع به ، فأمّا ما ذكره شيخنا أبو جعفر في الجزء الأول ، من مسائل خلافه ، فإنّه قال : مسألة ، يجوز اشتراك سبعة في بدنة واحدة ، أو في بقرة واحدة ، إذا

ص: 595


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر نزول منى بعد الإفاضة من المشعر.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب الذبح.
3- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في نزول منى ، رقم 8 و 9.
4- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر نزول منى بعد الإفاضة.
5- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 341 ( الجزء الأول ).

كانوا مفترضين (1) وكانوا أهل خوان واحد ، سواء كانوا متمتعين ، أو قارنين ، ثم قال : وقال مالك : لا يجوز الاشتراك ، إلا في موضع واحد ، وهو إذا كانوا متطوعين ، وقد روى ذلك أصحابنا بقول شيخنا أبي جعفر أيضا ، قال : وهو الأحوط ، وقال في الجزء الثالث من مسائل خلافه : الهدي الواجب ، لا يجزئ إلا واحد عن واحد ، وإن كان تطوعا ، يجوز عن سبعة ، إذا كانوا أهل بيت واحد ، وإن كانوا من أهل بيوت شتى لا يجزي ، وبه قال مالك ، وقال الشافعي : يجوز للسبعة ، أن يشتركوا في بدنة ، أو بقرة ، في الضحايا ، والهدايا ، سواء كانوا مفترضين ، عن نذر ، أو هدي الحجّ ، أو متطوعين ، ثم قال : دليلنا إجماع الفرقة ، وأخبارهم ، وطريقة الاحتياط.

ولا يجوز في الهدي ولا الأضحية العرجاء ، البيّن عرجها ، ولا العوراء ، البيّن عورها ، ولا العجفاء ، ولا الخرماء ولا الجذاء ، وهي المقطوعة الاذن ، ولا العضباء ، وهي المكسورة القرن ، فان كان القرن الداخل صحيحا ، لم يكن به بأس ، وإن كان ما ظهر منه ، مقطوعا ، فلا بأس به ، وإن كانت اذنه مشقوقة ، أو مثقوبة ، إذا لم يكن قطع منها شي ء.

ومن اشترى هديا على أنّه تام ، فوجده ناقصا ، لم يجز عنه ، إذا كان واجبا ، فإن كان تطوّعا ، لم يكن به بأس.

ولا يجوز الهدي ، إذا كان خصيا ، ولا التضحية به ، فإن كان موجوء ، لم يكن به بأس ، وهو أفضل من الشاة ، والشاة أفضل من الخصي.

وأفضل الهدي البدن ، فمن لم يجد ، فمن البقر ، فإن لم يجد ، ففحلا من الضأن ، ينظر في سواد ، ويمشي في سواد ، ويبرك في سواد ، والمراد بذلك ، أن تكون هذه المواضع سودا ، وقال أهل التأويل ، معنى ذلك ، أنّه من عظمه ،

ص: 596


1- وفي المصدر كانوا متقربين.

وشحمه ، ينظر في في ء شحمه ، ويمشي في فيئه ، ويبرك في ظل شحمه ، والأول هو الظاهر ، فإن لم يجد فتيس من المعز فإن لم يجد إلا شاة ، كان جائزا.

وأفضل ما يكون من البدن ، والبقر ، ذوات الأرحام ، ومن الغنم الفحولة.

ولا يجوز من الإبل ، إلا الثني ، فما فوقه ، وهو الذي تمّ له خمس سنين ، ودخل في السادسة ، وكذلك من البقر ، لا يجوز إلا الثني ، وهو الذي تمت له سنة ، ودخل في الثانية ، ويجزي من الضأن الجذع لسنته ، والجذع ما كان له سبعة أشهر.

وينبغي أن يكون الهدي سمينا ، فإن اشتراه على انه سمين ، فخرج مهزولا ، أجزأ عنه ، وإن اشتراه على أنّه مهزول ، فخرج سمينا ، كان مجزيا ، أيضا ، وإن اشتراه على أنّه مهزول ، وخرج كذلك ، لم يجز عنه.

وحد الهزال على ما روي في الاخبار (1) ، أن لا يكون على كليتيه شي ء من الشحم ، وإذا لم يجد على هذه الصفة ، اشترى ما تيسر له.

وأمّا عيوب الهدي فضربان : أحدهما يمنع الإجزاء والثاني يكره ، وان أجزأ فالذي يمنع الإجزاء ، ما روى البراء بن عازب عن النبي صلى اللّه عليه وآله في حديثه : العوراء البيّن عورها ، والمريضة البيّن مرضها ، والعرجاء البيّن عرجها ، والكسير الذي لا ينقى (2) ( قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه معنى لا ينقى ، بالنون والقاف ، الذي لا نقى له ، لأنّ النقي بالنون المكسورة ، والقاف المسكنة ، المخّ ) والعضباء لا تجزي ، وهي التي انكسر قرنها الداخل والظاهر.

ولا يجزي الخصي والموجوء ، وهو المدقوق الخصي ، وما عدا ذلك فمكروه ، إلا أن يكون ناقص الخلقة ، أو قطع قاطع من خلقته ، الا ما كان وسما ، ولا بأس بذلك ، ما لم يبن منها ، وينقص الخلقة ، لما رواه علي عليه السلام ، عن

ص: 597


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 16 من أبواب الذبح.
2- فمسند أحمد بن حنبل : ج 4 ص 284.

الرسول صلى اللّه عليه وآله من أمره ، أن يستشرف العين والاذن (1).

قال محمّد بن إدريس : يستشرف ، يقال : استشرفت الشي ء ، إذا رفعت بصرك تنظر إليه ، وبسطت كفك فوق حاجبك ، كالذي يستظل من الشمس ، ومنه قول ابن مطير

فيا عجبا للناس يستشرفونني *** كأن لم يروا مثلي محبا ولا قبلي

ويستحب أن لا يشتري إلا ما قد عرّف به ، وهو أن يكون احضر عرفات ، وذلك على الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، ولأنّه لو لم يحضر عرفات ، أجزأه ، سواء أخبر أنّه قد عرّف به ، أو لم يخبر.

ومن اشترى هديه ، فهلك ، أو ضلّ ، أو سرق ، فإن كان واجبا (2) ، وجب أن يقيم بدله ، وإن كان تطوّعا ، فلا شي ء عليه.

ولا يجوز الأكل من الهدي المنذور ، ولا الكفارات ، فأمّا هدي المتمتع ، والقارن ، فالواجب أن يأكل منه ، ولو قليلا ، ويتصدق على القانع ، والمعتر ، ولو قليلا ، لقوله تعالى : ( فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ ) (3) والأمر عندنا يقتضي الوجوب ، والفور دون التراخي.

فأمّا الأضحية ، فالمستحب أن يأكل ثلثها ، ويتصدق على القانع والمعتر ، بثلثها ، ويهدي إلى أصدقائه ثلثها ، على ما رواه أصحابنا (4).

ومن اشترى هديا ، وذبحه ، فاستعرفه رجل ، وذكر أنّه هديه ، ضلّ عنه ، وأقام بذلك بيّنة ، كان له لحمه ، والغرم ما بين قيمته حيا ومذبوحا ، ولا يجزي عن واحد منهما.

وإذا نتج الهدي المعيّن ، كان حكم ولده حكمه ، في وجوب نجره ، أو ذبحه ، ولا بأس بركوبه ، وشرب لبنه ، ما لم يضر به وبولده.

ص: 598


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 21 من أبواب الذبح ح 2 ، وفي المصدر : ان نستشرف ، بدل ان يستشرف.
2- ج : وجبا في الذمة
3- الحج : 36.
4- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 40 من أبواب الذبح.

وإذا أراد نحر البدنة ، نحرها وهي قائمة ، من قبل اليمين ، ويربط يديها ما بين الخف ، إلى الركبة ، ويطعن بضم العين في لبّتها.

ويستحب أن يتولّى النحر ، أو الذبح ، بنفسه ، فإن لم يقو عليه ، أو لا يحسنه ، جعل يده ، مع يد الذابح ، فإن استناب فيه ، كان جائزا ، ويسمّي اللّه تعالى ، ويقول : وجّهت وجهي إلى قوله وأنا من المسلمين ، ثمّ يقول : اللّهم منك ، ولك ، بسم اللّه واللّه أكبر ، وذكر اللّه هو الواجب ، والباقي مندوب.

ومن أخطأ في الذبيحة ، فذكر غير صاحبها ، أجزأت عنه بالنية.

وينبغي أن يبدأ بمنى ، بالذبح ، قبل الحلق ، وفي العقيقة ، بالحلق قبل الذبح ، فإن قدّم الحلق على الذبح ، ناسيا ، أو متعمدا ، لم يكن عليه شي ء.

ولا يجوز أن يحلق رأسه ، ولا أن يزور البيت ، إلّا بعد الذبح ، وإن يبلغ الهدي محلّه ، وهو أن يحصل في رحله ، ومتى حلق قبل أن يحصل الهدي في رحله ، لم يكن عليه شي ء.

ومن وجب عليه بدنة ، في نذر أو كفارة ، ولم يجدها ، كان عليه سبع شياه.

والصبي إذا حجّ به متمتعا ، وجب على وليه ، أن يذبح عنه ، من مال الولي ، دون مال الصبي.

ومن لم يتمكن من شراء الهدي ، إلا ببيع بعض ثيابه التي يتجمل بها ، لم يلزمه ذلك ، وأجزأه الصوم.

ومن نذر أن ينحر بدنة ، فإن سمّى الموضع الذي ينحر فيه ، فعليه الوفاء به ، وإن لم يسم الموضع ، فلا يجوز له أن ينحرها ، إلا بفناء الكعبة.

الهدي على ثلاثة أضرب : تطوع ، ونذر شي ء بعينه ابتداء ، وتعيين نذر (1) واجب في ذمته ، فإن كان تطوعا ، مثل إن خرج حاجا ، أو معتمرا ، فساق معه هديا ، بنية أن ينحره في منى ، أو بمكة ، من غير أن يشعره ، أو يقلده ، فهذا على ملكه ، يتصرّف فيه كيف شاء ، من بيع ، وهبة ، وله ولده ، وشرب لبنه ، وإن هلك ، فلا شي ء عليه.

ص: 599


1- في ط وج : هدي.

الثاني : هدي أوجبه بالنذر ، ابتداء بعينه ، مثل أن قال : لله عليّ أن أهدى هذه الشاة ، أو هذه البقرة ، أو هذه الناقة ، فإذا قال هذا ، زال ملكه عنها ، وانقطع تصرفه في حق نفسه فيها ، وهي أمانة للمساكين في يده ، وعليه أن يسوقها إلى المنحر ، فإن وصل نحر ، وإن عطب في الطريق ، نحره حيث عطب ، وجعل عليه علامته ، من كتاب وغيره ، على ما روي (1) ليعرف أنّه هدي للمساكين ، فإذا وجدها المساكين ، حلّ لهم التصرّف فيها ، وإن هلكت فلا شي ء عليه ، فإن نتجت هذه الناقة ، ساق معها ولدها ، وهي والولد للمساكين.

الثالث : ما وجب في ذمته ، عن نذر ، أو ارتكاب محظور ، كاللباس ، والطيب ، والقوب ، والصيد ، أو مثل دم المتعة ، فمتى ما عيّنه في هدي ، بعينه ، تعيّن فيه ، فإذا عيّنه ، زال ملكه عنه ، وانقطع تصرفه فيه ، وعليه أن يسوقه إلى المنحر ، فإن وصل ، نحره ، وأجزأه ، وإن عطب في الطريق ، أو هلك ، سقط التعيين ، وكان عليه إخراج الذي في ذمّته ، وكل هدي كان نذرا ، أو كفارة ، مطلقا كان ، أو معيّنا ، لا يجوز الأكل منه ، وما كان تطوعا ، أو هدي التمتع ، جاز الأكل منه.

ويستحب أن لا يأخذ الإنسان شيئا من جلود الهدايا ، والضحايا ، بل يتصدق بها كلّها ، ويكره أن يعطيها الجزار.

ومن لم يجد الأضحية ، جاز له أن يتصدّق بثمنها ، فإن اختلفت أثمانها ، نظر إلى الثمن الأول ، والثاني ، والثالث ، وجمعها ، ثم يتصدق بثلثها.

ويكره للإنسان أن يضحي بكبش قد تولى تربيته.

باب الحلق والتقصير

يستحب للإنسان ، أن يحلق رأسه بعد الذبح ، وهو مخير بين الحلق ،

ص: 600


1- الوسائل : كتاب الحج الباب 31 من أبواب الذبح.

والتقصير ، سواء كان صرورة ، أو لم يكن ، لبّد شعره ، أو لم يلبّده ، وتلبيد الشعر في الإحرام ، أن يأخذ عسلا ، أو صمغا ، ويجعله في رأسه ، لئلا يقمل ، أو يتسخ ، وقال بعض أصحابنا : الصرورة لا يجزيه إلا الحلق ، وكذلك من لبّد شعره ، وإن لم يكن صرورة ، إلا أنّ الحلق أفضل ، والأول مذهب شيخنا أبي جعفر ، في الجمل والعقود (1) والثاني ذكره في نهايته (2) ، وهو مذهب شيخنا المفيد محمد بن محمد بن النعمان (3) والصحيح الأوّل ، وهو الأظهر بين أصحابنا ، ويعضده قوله تعالى : ( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ) (4).

ومن ترك الحلق عامدا ، أو التقصير ، إلى أن يزور البيت ، كان عليه دم شاة ، وإن فعله ناسيا ، لم يكن عليه شي ء ، وكان عليه اعادة الطواف.

ومن رجل من منى قبل الحلق ، فليرجع إليها ، ولا يحلق رأسه إلا بها ، مع القدرة ، فإن لم يتمكن من الرجوع إليها ، فليحلق رأسه ، مكانه ، ويرد شعره إليها ، ويدفنه هناك ، فإن لم يتمكن من ردّ الشعر ، لم يكن عليه شي ء.

والمرأة ليس عليها حلق ، بل الواجب عليها التقصير.

وإذا أراد أن يحلق ، فالمستحب له أن يبدأ بناصيته ، من القرن الأيمن ، ويحلق إلى العظمين ، ويقول إذا حلق : اللّهم أعطني بكلّ شعرة نورا يوم القيمة.

وإذا حلق رأسه ، فقد حلّ له كل شي ء أحرم منه ، إلا النساء ، والطيب ، إن كان متمتعا ، فإن كان قارنا ، أو مفردا ، حلّ له كلّ شي ء ، إلا النساء فحسب.

فإذا طاف المتمتع طواف الحجّ ويسمّى طواف الزيارة ، حلّ له كل شي ء إلا النساء ، فحسب ، فإذا طاف طوافهن ، حلّت له النساء.

ص: 601


1- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في نزول منى.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب الحلق والتقصير.
3- قاله في المقنعة : في كتاب الحج ، في باب الحلق ص 419
4- الفتح : 27.

ويستحب أن لا يلبس ثياب المخيطة ، إلا بعد الفراغ من طواف الزيارة ، وليس ذلك بمحظور ، وكذلك يستحب أن لا يمسّ الطيب ، إلا بعد الفراغ من طواف النساء ، وإن لم يكن ذلك محظورا.

وذهب شيخنا أبو جعفر ، في تبيانه (1) إلى أنّ الحلق ، أو التقصير ، مندوب ، غير واجب ، وكذلك أيام منى ، ورمي الجمار (2).

باب زيارة البيت والرّجوع إلى منى ورمي الجمار

فإذا فرغ المستمتع من مناسكه ، يوم النحر بمنى ، وهي ثلاثة ، رمي جمرة العقبة ، فحسب ، على ما قدّمناه ، والذبح والحلق ، أو التقصير ، على جهة التخيير ، على ما ذكرناه ، ولا بأس بتقديم أيّها شاء ، على الآخر ، إلا أنّ الأفضل الترتيب ، فليتوجه إلى مكة يوم النحر ، لطواف الحج ، وسعيه.

ويستحب له أن لا يؤخره إلا لعذر ، فإن أخّره لعذر ، زار البيت من الغد.

ويستحب له أن لا يؤخّر طواف الحج ، وسعيه أكثر من ذلك ، فإن أخّره فلا بأس عليه ، وله أن يأتي بالطواف ، والسعي ، طول ذي الحجّة ، لأنّه من شهور الحجّ ، وانّما يقدّم ذلك على جهة التأكيد للمتمتع ، ولا يجوز له تأخير ذلك إلى استهلال المحرم ، فمن أخّره عامدا بطل حجّه.

ويستحب لمن أراد زيارة البيت ، أن يغتسل قبل دخوله المسجد ، والطواف بالبيت ، ويقلّم أظفاره ، ويأخذ شيئا من شاربه ، ثم يزور ، وغسله أوّل نهاره ، كاف له إلى اللّيل ، وكذلك إن اغتسل أول ليلة ، كفاه ذلك إلى النهار ، سواء نام أو لم ينم ، وقد روي أنّه إن نقضه بحدث أو نوم ، فليعد الغسل (3). والأول

ص: 602


1- في م : في نهايته
2- التبيان : في تفسير الآية 196 من سورة البقرة.
3- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 6 من أبواب مقدمات الطواف ..

أظهر ، وهذه رواية ضعيفة.

ثمّ يدخل المسجد ، فأول ما يبدأ به إذا دخل المسجد الحرام ، الطواف بالبيت ، إلا أن يكون عليه صلاة فائتة ، فريضة ، فإنّه يبدأ بالصلاة ، أو يكون قد دخل وقت الصلاة المؤداة ، ولم يكن عليه فائتة ، فإنّه يبدأ أولا ، بالصلاة ، أو وجد الناس في الجماعة ، فإنّه يدخل معهم فيها ، وكذلك إن خاف فوت صلاة الليل ، أو فوت ركعتي الفجر ، فإنّه يبدأ بذلك أولا.

فإذا فرغ منه ، بدأ بالطواف ، فإذا شرع في الطواف ، ابتدأه من الحجر الأسود.

والمستحب ، استلامه بجميع بدنه ، فإن لم يمكنه إلا ببعضه ، جاز ذلك ، فإن لم يقدر استلمه بيده ، فإن لم يقدر أشار إليه ، واستقبله ، وكبّر وقال ما قاله حين طاف بالبيت ، طواف العمرة المتمتع بها ، وقد ذكرناه فيما مضى ، ثمّ يطوف بالبيت أسبوعا ، كما قدّمنا وصفه ، إلا أنّه ينوي بهذا الطواف ، طواف الحجّ ، ويصلّي عند المقام ركعتين.

ثمّ يستحب له ، أن يرجع إلى الحجر الأسود ، فيقبّله إن استطاع ، ثم ليخرج إلى الصفا ، فيصنع عنده ما صنع يوم دخل مكة ، ثمّ يأتي المروة ، ويطوف بينهما سبعة أشواط ، يبدأ بالصفا ، ويختم بالمروة ، وجوبا ، فإذا فعل ذلك ، فقد حلّ له كلّ شي ء أحرم منه ، إلا النساء.

هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر وذهب في نهايته (1) إليه ، إلا أنّه رجع عنه ، في استبصاره ، وقال : إذا طاف طواف الحجّ فحسب ، حلّ له كل شي ء ، إلا النساء (2) وإلى هذا يذهب السيد المرتضى ، في انتصاره (3) ، وهو الذي أعمل عليه ، وافتي به ، وليس عليه هاهنا بعد السعي ، حلق ، ولا تقصير.

ص: 603


1- النهاية : كتاب الحج ، باب زيارة البيت.
2- الاستبصار : كتاب الحج ، باب انّه إذا طاف طواف الزيارة رقم الباب 199.
3- الانتصار : كتاب الحج ، مسألة 20.

ثمّ ليرجع إلى البيت ، ويطوف طواف النساء أسبوعا ، ويصلّي عند المقام ركعتين وجوبا ، وليس عليه سعي ، بعد طواف النساء ، لأنّ كل طواف واجب لا بدّ له من سعي واجب ، إلا طواف النساء ، لا سعي بعده.

وكل إحرام لا بدّ له من طواف النساء ، لتحلّ له ، إلا إحرام العمرة المتمتع بها إلى الحجّ ، لا طواف نساء فيها ، وتحلّ من دونه.

واعلم أنّ طواف النساء ، فريضة في الحجّ ، وفي العمرة المبتولة ، وليس بواجب في العمرة المتمتع بها (1) إلى الحجّ ، على ما قدّمناه ، وإن مات من وجب عليه طواف النساء ، كان على وليه القضاء ، عنه ، وإن تركه وهو حي ، كان عليه قضاؤه ، فإن لم يتمكن من الرجوع إلى مكة ، جاز له أن يأمر من ينوب عنه فيه ، فإذا طاف النائب عنه ، حلّت له النساء ، ولا تحل له النساء ، إلا بعد العلم بأنّه قد طاف عنه ، وهو واجب على النساء ، والرجال ، والشيوخ ، والخصيان ، لا يجوز لهم تركه وإن لم يريدوا وطء النساء.

وإذا فرغ الإنسان من الطواف ، فليرجع إلى منى ، ولا يبيت ليالي التشريق ، إلا بها ، فإن بات في غيرها ، كان عليه دم شاة ، وقد روي (2) أنّه إن بات بمكة ، مشتغلا بالعبادة والطواف ، لم يكن عليه شي ء ، وإن لم يكن مشتغلا بهما ، كان عليه ما ذكرناه ، والأول أظهر.

وإن خرج من منى بعد نصف الليل ، جاز له أن يبيت بغيرها ، غير أنّه لا يدخل مكة ، إلا بعد طلوع الفجر ، على ما روي في الأخبار (3) وإن تمكن أن لا يخرج منها إلا بعد طلوع الفجر ، كان أفضل على تلك الرواية.

ومن بات الثلاث ليال بغير منى ، متعمدا ، كان عليه ثلاث من الغنم ،

ص: 604


1- ج : في العمرة التي يتمتع بها.
2- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 1 من أبواب العود إلى منى.
3- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 1 من أبواب العود إلى منى.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : من بات عن منى ليلة ، كان عليه دم شاة ، على ما قدّمناه ، فإن بات عنها ليلتين ، كان عليه دمان ، فإن بات ليلة الثالثة ، لا يلزمه شي ء ، لأنّ له النفر في الأول ، والنفر الأول يوم الثاني من أيام التشريق بلا خلاف ، والنفر الثاني يوم الثالث من أيام التشريق ، وقد روي في بعض الأخبار ، (1) أنّ من بات ثلاث ليال عن منى ، فعليه ثلاثة دماء (2) وذلك محمول على الاستحباب ، أو على من لم ينفر في النفر الأول ، حتى غابت الشمس ، فإنّه إذا غابت ، ليس له أن ينفر ، فإن نفر فعليه دم ، والأول مذهبه في نهايته (3) وهو الصحيح ، لأنّ التخريج الذي خرجه ، لا يستقيم له ، وذلك أنّ من عليه كفارة ، لا يجوز له أن ينفر ، في النفر الأول ، بغير خلاف ، فقوله رحمه اللّه : له أن ينفر في النفر الأول ، غير مسلّم ، لأنّ عليه كفارة لأجل إخلاله بالمبيت ليلتين.

والأفضل أن لا يبرح الإنسان أيام التشريق من منى ، طول نهاره ، وإذا أراد أن يأتي مكة للطواف بالبيت تطوعا ، جاز له ذلك ، غير أن الأفضل ما قدّمناه.

وإذا رجع الإنسان إلى منى ، لرمي الجمار ، كان عليه وجوبا ، أن يرمي ثلاثة أيام ، الثاني من النحر ، والثالث ، والرابع ، كل يوم بإحدى وعشرين حصاة ، ويكون ذلك عند الزوال ، فإنّه الأفضل ، فإن رماها ما بين طلوع الشمس إلى غروب الشمس ، لم يكن به بأس ، وقال شيخنا في مسائل الخلاف : ولا يجوز الرمي أيام التشريق ، إلا بعد الزوال ، وقد روي رخصة ، قبل الزوال ، في الأيام كلها (4) ، وما ذكره في نهايته (5) ومبسوطة (6) هو الأظهر ، الأصح ، عند بعض أصحابنا ، وما ذكره في مسائل خلافه ، مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة.

ص: 605


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 1 من أبواب العود إلى منى.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر نزول منى بعد الإفاضة من المشعر.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار.
4- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 176.
5- النهاية : كتاب الحج ، باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار.
6- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر نزول منى بعد الإفاضة من المشعر.

وهل رمي الجمار واجب ، أو مسنون؟ لا خلاف بين أصحابنا في كونه واجبا ، ولا أظن أحدا من المسلمين ، يخالف في ذلك ، وقد يشتبه على بعض أصحابنا ، ويعتقد أنّه مسنون ، غير واجب ، لما يجده من كلام بعض المصنفين ، وعبارة موهمة ، أوردها في كتبه ، ويقلّد المسطور بغير فكر ، ولا نظر ، وهذا غاية الخطأ ، وضدّ الصواب. فانّ شيخنا أبا جعفر الطوسي رحمه اللّه ، قال في الجمل والعقود : والرمي مسنون (1) فيظن من يقف على هذه العبارة ، أنّه مندوب ، وانّما أراد الشيخ بقوله مسنون ، أنّ فرضه عرف من جهة السنة ، لأنّ القرآن لا يدل على ذلك ، والدليل على صحّة هذا الاعتبار والقول ، ما اعتذر شيخنا أبو جعفر الطوسي في كتابه الاستبصار ، وتأوّل لفظ بعض الاخبار ، فقال الراوي في الخبر ، في باب وجوب غسل الميّت ، وغسل من غسل ميتا ، فأورد الأخبار بوجوب الغسل ، على من غسل ميتا ، ثم أورد خبرا عن ابن أبي نجران ، يتضمن أن الغسل من الجنابة فريضة ، وغسل الميت سنة ، فقال شيخنا أبو جعفر ، فما تضمن هذا الخبر ، من أن غسل الميّت سنة ، لا يعترض (2) ما قلناه من وجوه ، أحدها أنّ هذا الخبر مرسل ، لأنّ ابن أبي نجران ، قال عن رجل ، ولم يذكر من هو ، ولا يمتنع أن يكون غير موثوق به ، ولو سلم ، لكان المراد في إضافة هذا الغسل ، إلى السنة ، أنّ فرضه عرف من جهة السنة ، لأنّ القرآن ، لا يدل على ذلك ، وانّما علمناه بالسنة (3). هذا أخر كلام شيخنا أبي جعفر في الاستبصار.

وإذا احتمل قوله في الجمل والعقود ما ذكرناه ، كان موافقا لقوله في مبسوطة ، ونهايته ، لئلا يتناقض قولاه ، فإنّه قال في نهايته : وإذا رجع الإنسان إلى منى ، لرمي الجمار ، كان عليه أن يرمي ثلاثة أيام (4) فأتى بلفظ يقتضي

ص: 606


1- الجمل والعقود : كتاب الحج ، باب 9 فصل في نزول منى.
2- ج : لا يعارض
3- الاستبصار : كتاب الطهارة : باب 60 ، ح 9.
4- النهاية : كتاب الحج ، باب زيارة البيت والرجوع الى منى ورمي الجمار.

الوجوب ، بغير خلاف في عرف الشريعة وقال في مبسوطة مصرحا : والواجب عليه ، أن يرمي ثلاثة أيام التشريق ، الثاني من النحر ، والثالث والرابع ، كل يوم بإحدى وعشرين حصاة ، ثلاث جمار ، كل جمرة منها ، بسبع حصيات وإلى الوجوب يذهب في مسائل الخلاف ، ويلوح به ، ويدل عليه.

ثم الأخبار التي أوردها في تهذيب الأحكام (1) متناصرة بالوجوب ، عامة الألفاظ ، وكذلك الأخبار المتواترة دالة على الوجوب ، ثم فعل الرسول والأئمة عليهم السلام يدل على ما اخترناه ، وشرحناه ، لأنّ الحجّ في القرآن مجمل ، وفعله عليه السلام ، إذا كان بيانا المجمل ، جرى مجرى قوله ، والبيان في حكم المبيّن ، ولا خلاف أنّه عليه السلام ، رمى الجمار ، وقال : خذوا عنّي مناسككم ، فقد أمرنا بالأخذ ، والأمر يقتضي الوجوب عندنا ، والفور ، دون التراخي.

وأيضا دليل الاحتياط يقتضيه ، لأنّه لا خلاف بين الأمّة ، أنّ من رمى الجمار ، برئت ذمّته من جميع أفعال الحجّ ، والخلاف حاصل إذا لم يرم الجمار.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في استبصاره ، في كتاب الحجّ ، في باب من نسي رمي الجمار حتى يأتي مكة ، أورد أخبارا تتضمن الرجوع ، والأمر بالرمي ، ثم أورد خبرا عن معاوية بن عمار ، قال : قلت لأبي عبد اللّه عليه السلام ، رجل نسي رمي الجمار ، قال : يرجع ويرميها ، قلت : فإنّه نسيها أو جهلها حتى فاته ، وخرج ، قال : ليس عليه ان يعيد.

فقال شيخنا : قال محمد بن الحسن ، يعنى نفسه ، قوله عليه السلام ، ليس عليه أن يعيد ، معناه ليس عليه أن يعيد في هذه السنة ، وإن كان يجب عليه إعادته في السنة المقبلة ، إمّا بنفسه مع التمكن ، أو يأمر من ينوب عنه ، وانّما كان كذلك ، لأنّ أيام الرمي ، هي أيّام التشريق ، فإذا فاتته ، لم يلزمه شي ء ،

ص: 607


1- التهذيب : كتاب الحج ، باب 19 باب الرجوع الى منى ورمي الجمار.

إلا في العام المقبل ، في مثل هذه الأيام (1) هذا آخر كلام الشيخ أبي جعفر في استبصاره.

قال محمّد بن إدريس ، مصنّف هذا الكتاب : فلو كان الرمي مندوبا عند شيخنا ، لما قال يجب عليه إعادته في السنة المقبلة ، إمّا بنفسه مع التمكن ، أو يأمر من ينوب عنه ، لأنّ المندوب ، لا يجب على تاركه إعادته.

فإن أراد رمي الجمار ، في أيام التشريق ، فليبدأ بالجمرة التي تلي المشعر الحرام ، وليرمها عن يسارها ، من بطن المسيل ، بسبع حصيات ، يرميهن خذفا ، وقد بيّنا لغته ، على ما قال الجوهري في كتاب الصحاح ، وهو أن قال : فإنّ الخذف بالحصى ، الرمي منه بالأصابع.

ويكبّر مع كل حصاة استحبابا ، ويدعو بالدعاء الذي قدّمناه ، ثم يقوم عن يسار الطريق ، ويستقبل القبلة ، ويحمد اللّه تعالى ، ويثني عليه ، ويصلّي على النبي صلى اللّه عليه وآله ، ثم ليتقدّم قليلا ، ويدعو ، ويسأله أن يتقبل منه.

فإن رماها بالسبع الحصيات في دفعة واحدة ، لا يجزيه بغير خلاف بيننا ثم يتقدّم أيضا ، ويرمي الجمرة الثانية ، ويصنع عندها كما صنع عند الاولى ، ويقف ويدعو بعد الحصاة السابعة ، ثم يمضي إلى الثالثة ، وهي جمرة العقبة ، تكون الأخيرة ، بها يختم الرمي ، في جميع أيام التشريق ، وانّما يحصل لها مزية ، بالرمي عليها وحدها يوم النحر فحسب ، فيرميها كما رمى الأوليين ، ولا يقف عندها.

فإذا غابت الشمس ، ولم يكن قد رمى بعد ، فلا يجوز له أن يرمي ، إلا في الغد ، فإذا كان من الغد ، رمى ليومه مرة ومرة قضاء لما فاته ، ويفصل بينهما بساعة.

وينبغي أن يكون الذي يرمي لأمسه بكرة ، والذي ليومه عند الزوال ،

ص: 608


1- الاستبصار : الباب 204 ح 2 مع اختلاف في المتن.

ومعنى قولنا بكرة ، المراد به بعد طلوع الشمس ، أول ذلك ، لأنّا قد بيّنا أنّ الرمي ما بين طلوع الشمس إلى غروبها ، والباكورة من الفاكهة : أوائلها ، وقد أورد شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتاب المصباح لفظا يشتبه على غير المتأمل ، وهو أن قال في صلاة يوم الجمعة : يصلي ست ركعات بكرة (1) والمراد بذلك عند انبساط الشمس في أول ذلك ، يدل على ذلك ما أورده في نهايته ، وهو أن قال : يصلّي ست ركعات ، عند انبساط الشمس (2) فيظن من يقف على ما قاله في مصباحه ، أنّ المراد بقوله رحمه اللّه بكرة ، عند طلوع الفجر ، وهذا بعيد من قائله.

فإن فاته رمي يومين ، رماها كلها يوم النفر ، وليس عليه شي ء.

ولا يجوز الرمي بالليل ، وقد رخص للعليل ، والخائف ، والرعاة ، والعبيد ، في الرمي بالليل.

ومن نسي رمي الجمار ، إلى أن أتى مكة ، فإنّه يجب عليه العود إلى منى ورميها ، وليس عليه كفّارة ، إذا كانت أيّام التشريق لم يخرج ، فإن ذكرها بعد خروج أيام التشريق ، فالواجب عليه تركها إلى القابل ، ورميها في أيام التشريق ، إن تمكن من العود ، وإلا استناب من يرميها عنه.

وحكم المرأة في جميع ما ذكرناه ، حكم الرجل سواء.

والترتيب واجب في الرمي ، يجب أن يبدأ بالجمرة التي تلي المشعر ، وبعض أصحابنا يسميها العظمى ، ثمّ الوسطى ، ثمّ جمرة العقبة ، فمن خالف شيئا منها أو رماها منكوسة ، كان عليه الإعادة.

ومن بدأ بجمرة العقبة ، ثم الوسطى ثم الأولى ، أعاد على الوسطى ، ثم جمرة العقبة.

فإن نسي ، فرمى الجمرة الأولى ، بثلاث حصيات ، ورمى الجمرتين

ص: 609


1- المصباح : نوافل الجمعة ، ص 309 الطبع الحديث.
2- النهاية : كتاب الصلاة ، باب الجمعة وأحكامها.

الأخريين على التمام ، كان عليه أن يعيد عليها كلّها.

وإن كان قد رمي الجمرة الأولى ، بأربع حصيات ، ثمّ رمى الجمرتين على التمام ، كان عليه أن يعيد على الاولى ، بثلاث حصيات ، وكذلك إن كان قد رمى من الوسطى أقل من أربع حصيات ، أعاد عليها ، وعلى ما بعدها ، وإن رماها بأربع ، تمّمها ، وليس عليه الإعادة على ما بعدها.

فالاعتبار بحصول رمي أربع حصيات ، فإذا كان كذلك ، تمّمها ولا يجب عليه الإعادة على ما بعدها ، فإن كان قد رمى أقل من أربع حصيات ، على إحدى الجمرات تممها ، وأعاد مستأنفا على ما بعدها.

ومن رمى جمرة بست حصيات ، وضاعت واحدة ، أعاد عليها بالحصاة ، وإن كان من الغد.

ولا يجوز أن يأخذ من حصى الجمار الذي قد رمى به ، فيرمي بها.

ومن علم أنّه قد نقص حصاة واحدة ، ولم يعلم من أيّ الجمار هي ، أعاد على كلّ واحدة منها بحصاة.

فإن رمى بحصاة ، فوقعت في محمله ، أعاد مكانها حصاة أخرى.

فإن أصابت إنسانا ، أو دابة ، ثم وقعت على الجمرة ، فقد أجزأه إذا وقعت باعتماده.

ويجوز أن يرمي راكبا ، وماشيا.

ويجوز الرمي عن العليل ، والمبطون ، والصبي ، ولا بدّ من إذنه إذا كان عقله ثابتا.

ويستحب أن يترك الحصى في كفه ، ثم يؤخذ ويرمي به.

وينبغي أن يكبّر الإنسان بمنى ، عقيب خمس عشرة صلاة ، من الفرائض ، يبدأ بالتكبير يوم النحر بعد الظهر إلى صلاة الفجر ، من اليوم الثالث ، وفي الأمصار عقيب عشر صلوات ، يبدأ عقيب الظهر من يوم النحر ، إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني ، من أيام التشريق ، ويقول في التكبير : « اللّه أكبر ، اللّه

ص: 610

أكبر ، لا إله إلا اللّه ، واللّه أكبر ، اللّه أكبر على ما هدانا ، والحمد لله على ما أولانا ورزقنا من بهيمة الأنعام ».

ومن أصحابنا ، من قال : إنّ التكبير واجب ، ومنهم من قال : إنّه مسنون ، وهو الأظهر الأصح ، لأنّ الأصل براءة الذمة من العبادات ، فمن شغلها بشي ء يحتاج إلى دليل ، من كتاب أو سنّة ، متواترة ، أو إجماع ، والإجماع ، غير حاصل ، لأنّ بين أصحابنا خلافا في ذلك ، على ما بيّناه ، والكتاب خال من ذلك ، وكذلك السنة المتواترة ، بقي معنا ، الأصل براءة الذمة.

وإلى هذا القول ، ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه ، في مبسوطة (1) ، وذهب في جمله وعقوده (2) ، إلى أنّه واجب ، وكذلك في استبصاره (3) وإلى الوجوب ، ذهب السيد المرتضى رضي اللّه عنه.

ولا يكبر عندنا عقيب النوافل ، ولا في الطرقات ، والشوارع لأجل هذه الأيام ، خصوصا ، ولا يكبّر أيضا ، قبل يوم النحر ، في شي ء من أيام العشر بحال.

باب النفر من منى ودخول الكعبة ووداع البيت

ولا بأس أن ينفر الإنسان من منى ، اليوم الثاني من أيام التشريق ، وهو اليوم الثالث من يوم النحر ، فإن أقام إلى النفر الأخير ، وهو اليوم الثالث من أيام التشريق ، والرابع من يوم النحر ، كان أفضل ، ويوم الحادي عشر ، يسمّى يوم القرّ ، لأنّ الناس يقرون فيه بمنى ، لا يبرحونه ، والثاني عشر ، يوم النفر الأول ، والثالث عشر ، يوم النفر الثاني ، وليلته تسمّى ليلة التحصيب ، لأنّه النفر الأخير.

ص: 611


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر نزول منى.
2- الجمل والعقود : كتاب الحج ، باب 9 فصل في نزول منى وقضاء المناسك بها.
3- الاستبصار : كتاب الحج ، باب 206 ان التكبير أيام التشريق عقيب الصلوات المفروضات واجب.

والتحصيب يستحب لمن نفر في النفر الثاني ، دون الأول على ما قدّمناه ، وقال شيخنا في مبسوطة : وليلة الرابع ، ليلة التحصيب (1) فإن أراد رحمه اللّه ، الرابع من يوم النحر ، فصحيح ، وإن أراد الرابع عشر ، فغير واضح ، لأنّ التحصيب ، لا يكون إلا لمن نفر في النفر الأخير ، والنفر الأخير ، بلا خلاف من الأمة ، هو اليوم الثالث عشر ، من ذي الحجة ، فإن كان ممن أصاب النساء ، في إحرامه ، أو صيدا ، لم يجز له أن ينفر في النفر الأول ، ويجب عليه المقام إلى النفر الأخير.

وإن أراد أن ينفر في النفر الأول ، فلا ينفر ، إلا بعد الزوال ، إلا أن تدعوه ضرورة إليه ، من خوف ، وغيره ، فإنه لا بأس أن ينفر قبل الزوال ، وله أن ينفر ما بينه وبين الزوال ، وما بينه وبين غروب الشمس ، فإذا غابت الشمس لم يجز له النفر والبيت بمنى إلى الغد.

وإذا نفر في النفر الأخير ، جاز له أن ينفر من بعد طلوع الشمس ، أيّ وقت شاء ، فإن لم ينفر ، وأراد المقام بمنى ، جاز له ذلك ، إلا الإمام خاصة ، فإنّ عليه أن يصلّي الظهر بمكة.

ومن نفر من منى ، وكان قد قضى مناسكه كلها ، جاز له أن لا يدخل مكة ، وإن كان قد بقي عليه شي ء من المناسك ، فلا بدّ له من الرجوع إليها ، والأفضل على كل حال ، الرجوع لتوديع البيت ، وطواف الوداع.

ويستحب أن يصلّي الإنسان بمسجد منى ، وهو مسجد الخيف ، والخيف سفح الجبل ، لأنّ كل سفح جبل عند أهل اللسان ، يسمّى خيفا ، فلما كان هذا المسجد في سفح الجبل ، سمّي مسجد الخيف ، وكان رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ، يسجد عند المنارة ، التي في وسط المسجد ، وفوقها إلى القبلة ، نحوا من

ص: 612


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر الإحرام بالحج ونزول منى.

ثلاثين ذراعا ، وعن يمينها ، ويسارها ، مثل ذلك ، فإن استطعت أن يكون مصلاك فيه ، فافعل ، ويستحب أن يصلّي فيه ست ركعات.

فإذا خرج من منى ، وبلغ مسجد الحصباء ، وهو مسجد رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فليدخله ، وليسترح فيه قليلا ، وليستلق على قفاه ، وليس لهذا المسجد المذكور في الكتب أثر اليوم.

وانّما المستحب التحصيب ، وهو نزول الموضع ، والاستراحة فيه ، اقتداء. بالرسول صلى اللّه عليه وآله على ما تقدّم ذكرنا له ، وهو انّما يستحب لمن نفر في النفر الثاني ، دون الأول ، وهو الثالث عشر من ذي الحجة ، على ما قدّمناه وحققناه ، قال الثوري : سألت أبا عبيدة عن اليوم الثاني من النحر ، ما كانت العرب تسمّيه؟ فقال : ليس عندي من ذلك علم ، ولقيت ابن مناذر ، وأخبرته بذلك ، فعجب وقال : أسقط مثل هذا على أبي عبيدة ، وهي أربعة أيام متواليات ، كلها على الراء ، يوم النحر ، والثاني يوم القر ، والثالث يوم النفر والرابع يوم الصدر (1) فحدثت أبا عبيدة ، فكتبه عني ، عن ابن مناذر.

قال محمّد بن إدريس : وقد يوجد في بعض نسخ المبسوط ، أنّ يوم الحادي عشر ، يوم النفر ، وهذا خطأ من الكتّاب ، والنسّاخ ، إن كانوا غيّروا ذلك ، أو إغفال في التصنيف ، فما المعصوم ، إلا من عصمه اللّه ، وابن مناذر هذا شاعر ، لغوي ، بصري ، صاحب القصيدة الدالية الطويلة :

كلّ حي لاقى الحمام فمودي

فإذا جاء إلى مكة ، فليدخل الكعبة ، إن تمكن من ذلك ، سنّة واستحبابا ، دون أن يكون ذلك فرضا وإيجابا ، سواء كان الإنسان صرورة ، أو غير صرورة ، إلا انّه يتأكد في حقّ الصرورة.

ص: 613


1- الصدر بفتحتين ، رجوع المسافر من مقصده ورجوع الحاج عن الحج ويوم الرابع من يوم النحر.

فإذا أراد دخول الكعبة ، فليغتسل قبل دخولها سنّة مؤكدة ، فإذا دخلها فلا يمتخط فيها ، ولا يبصق ، ولا يجوز دخولها بحذاء على ما روي (1) ، وانّما هو على تغليظ الكراهة ، ويقول إذا دخلها : اللّهم انّك قلت « وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً » فآمني من عذابك ، عذاب القبر.

ثم يصلّي بين الأسطوانتين ، على الرخامة الحمراء ، ركعتين ، يقرأ في الأولى منهما ، حم السجدة ، وفي الثانية عدد آياتها ، ثم ليصلّ في زوايا البيت كلها ، ثم يقول : اللّهم من تهيّأ وتعبّأ إلى آخر الدعاء.

فإذا صلّى عند الرخامة الحمراء ، على ما قدّمناه ، وفي زوايا البيت ، قام فاستقبل الحائط ، بين الركن اليماني والغربي ، يرفع يديه عليه ، ويلتصق به ، ويدعو ، ثم يتحوّل إلى الركن اليماني ، فيفعل به مثل ذلك ، ثمّ يفعل مثل ذلك بباقي الأركان ، ثمّ ليخرج.

ويكره أن يصلّي الإنسان الفريضة جوف الكعبة ، مع الاختيار ، فإن اضطر إلى ذلك ، لم يكن عليه بأس ، فأمّا النوافل ، فمرغّب الصلاة فيها شديد الاستحباب.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته في هذا الباب : ولا يجوز أن يصلّي الإنسان الفريضة جوف الكعبة (2) وإليه يذهب في مسائل خلافه (3) والصحيح أنّه مكروه ، غير محظور ، وقد ذهب إلى الكراهة ، في جمله وعقوده (4) ، وهو الأظهر بين أصحابنا ، وما ورد من لفظ لا يجوز ، نحمله على تغليظ الكراهة ، دون الحظر ، لأنّ الشي ء إذا كان عندهم شديد الكراهة ، قالوا لا يجوز ، وقد ذكرنا ذلك ، وأشبعنا القول فيه ، فيما مضى ، من كتاب الصلاة.

ص: 614


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 36 من أبواب مقدمات الطواف ، ح 1.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب النفر من منى ودخول الكعبة.
3- الخلاف : كتاب الصلاة ، مسألة 168.
4- الجمل والعقود : كتاب الصلاة ، فصل فيما يجوز الصلاة عليه من المكان.

فإذا خرج من البيت ، عاد ، فاستقبله ، وصلّى عن يمينه ركعتين.

ويستحب له أن يلح بالدعاء ، عند الحطيم ، فإنّه أشرف بقعة على وجه الأرض ، والحطيم ما بين الحجر الأسود ، وباب الكعبة ، وسمّي حطيما ، لأنّ ذنوب بني آدم ، تنحطم عنده ، على ما روي في الأخبار (1).

فإذا أراد الخروج من مكة ، جاء الى البيت ، فطاف به ، أسبوعا ، طواف الوداع ، سنّة مؤكدة ، فإن استطاع أن يستلم الحجر ، والركن ، في كل شوط ، فعل ، وإن لم يتمكن ، فعل ذلك في ابتداء طوافه ، وانتهائه ، ثمّ يأتي المستجار ، فيصنع عنده ، كما صنع يوم قدم مكة ، ويتخير لنفسه من الدعاء ، ما أراد ، ثم يستلم الحجر الأسود ، ثمّ يودع البيت ، فيقول : اللّهم لا تجعله آخر العهد من بيتك ، ثمّ ليأت زمزم ، فيشرب من مائها ، وبئر زمزم ، بئر لا غير (2) ، حكمها حكم الآبار ينجسها ، ما ينجس الآبار ، ويطهّرها ، ما يطهّر الآبار ، وسمّيت بهذا الاسم قال أبو الحسن ، علي بن الحسين المسعودي ، في كتابه المترجم بمروج الذهب ومعادن الجوهر ، في التاريخ ، وغيره - وهو كتاب حسن كثير ، (3) الفوائد ، وهذا الرجل من مصنّفي أصحابنا ، معتقد للحق ، له كتاب المقالات - قال ، وقد كانت أسلاف الفرس تقصد البيت الحرام ، وتطوف به ، تعظيما لجدّها إبراهيم ، وتمسّكا بدينه ، وحفظا لأنسابها ، وكان آخر من حج منهم ، ساسان بن بابك ، جد أردشير بن بابك ، أول ملوك ساسان كان وأبوهم ، الذي يرجعون إليه ، كرجوع الملوك المروانية ، إلى مروان بن الحكم ، وخلفاء العبّاسين ، إلى العبّاس بن عبد المطلب ، فكان ساسان إذا أتى البيت ، طاف به ، وزمزم على بئر إسماعيل ، فقيل : انّما سمّيت زمزم ، لزمزمته عليها ، هو وغيره ، من فارس ، وهذا يدل على كثرة ترادف هذا الفعل منهم ، على هذه البئر ، وفي ذلك يقول الشاعر على قديم الزمان :

ص: 615


1- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 29 ، ح 14
2- في ط وج
3- في ط وج : حسن كبير.

زمزمت الفرس على زمزم

وذاك من سالفها الأقدم

ثم ليخرج ويقول : آئبون ، تائبون ، عابدون ، لربنا حامدون ، إلى ربنا راغبون إلى ربّنا راجعون.

فإذا خرج من باب المسجد ، فليكن خروجه ، من باب الحنّاطين ، وهي باب بني جمح ، قبيلة من قبائل قريش ، وهي بإزاء الركن الشامي ، من أبواب المسجد الحرام ، على التقريب ، فيخر ساجدا ، ويقوم مستقبل الكعبة ، فيقول : اللّهم انّي أنقلب على لا إله إلا اللّه.

ومن لم يتمكن من طواف الوداع ، أو شغله شاغل عن ذلك حتى خرج ، لم يكن عليه شي ء.

وإذا أراد الخروج من مكة ، فالمستحب له أن يشتري بدرهم تمرا ، يتصدق به ، على ما وردت الأخبار بذلك (1).

باب فرائض الحجّ وتفصيل ذلك

قد ذكرنا فرائض الحج ، فيما تقدّم ، في اختلاف ضروب الحج ، وفرّقنا بين الأركان ، وما ليس بركن ، ونحن الآن ، نذكر تفصيل أحكامها ، إن شاء اللّه أمّا النية ، فهي ركن ، في الأنواع الثلاثة ، من تركها فلا حج له ، عامدا كان ، أو ناسيا ، إذا كان من أهل النية ، فإن لم يكن من أهلها ، أجزأت فيه نية غيره عنه ، وذلك مثل الصبي ، يحرم عنه وليه ، وينوي ، وينعقد إحرامه عندنا ، فعلى هذا إذا فقد النية ، لكونه سكران ، وإن حضر المشاهد ، وقضى المناسك ، لم يصح حجه بحال.

ثم الإحرام من الميقات ، وهو ركن ، من تركه متعمدا ، فلا حج له ، وإن

ص: 616


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 20 من أبواب العود إلى منى.

نسيه ثم ذكر ، وعليه وقت ، رجع وأحرم منه ، فإن لم يمكنه ، أحرم من الموضع الذي انتهى إليه ، فإن لم يذكر حتى قضى المناسك كلّها ، روي في بعض الأخبار (1) أنّه لا شي ء عليه وتم حجه.

والتلبيات الأربع ، فريضة ، وقال بعض أصحابنا : هي ركن ، وقال بعضهم : انّها غير ركن ، وهو مذهب شيخنا أبي جعفر الطوسي في مبسوطة (2) إلا أنّه قال : إن تركها متعمدا ، فلا حجّ له ، إذا كان قادرا عليها ، وكذلك قال في نهايته (3).

قال محمّد بن إدريس : فهذا حدّ الركن ، إن تركه متعمدا ، بطل حجّه ، بخلاف طواف النساء ، لأنّ طواف النساء فرض ، وليس بركن ، لا يجب على من أخل به متعمدا ، اعادة الحج ، بغير خلاف.

ثم قال شيخنا أبو جعفر : وإن تركها ناسيا ، لبّى حين ذكر ، ولا شي ء عليه (4).

قال محمّد بن إدريس : إحرامه ما انعقد ، إذا لم يلبّ ، فيكون قد ترك الإحرام ناسيا ، لا أنّه أحرم ، ونسي التلبية ، بل إحرامه ما انعقد ، إذا كان متمتعا ، أو مفردا.

والطواف بالبيت ، إن كان متمتعا ثلاثة أطواف ، أولها : طواف العمرة المتمتع بها إلى الحج ، وهو ركن فيها ، فإن تركه متعمدا ، بطلت متعته ، وإن تركه ناسيا أعاد.

والثاني : طواف الزيارة ، الذي هو طواف الحجّ ، إن تركه متعمدا فلا حج له ، فإن تركه ناسيا ، أعاده على ما مضى القول فيه.

والثالث : طواف النساء ، فهو فرض ، وليس بركن ، فإن تركه متعمدا ، لم

ص: 617


1- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 20 من أبواب المواقيت.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب فرائض الحج.
4- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.

تحل له النساء ، حتى يقضيه ، ولا يبطل حجه ، وإن تركه ناسيا ، قضاه (1) ، أو يستنيب فيه.

وإن كان قارنا أو مفردا ، طوافان ، طواف الحج ، وطواف النساء ، وحكمهما ما قلناه في المتمتع.

ويجب مع كل طواف ، ركعتان ، على الصحيح من الأقوال ، عند المقام ، وهما فرضان ، فإن تركهما متعمدا ، قضاهما في ذلك المقام ، فإن خرج ، سأل من ينوب عنه فيهما ، ولا يبطل حجه.

فإن قال قائل : أصحابكم يقولون في كتبهم ، الحاج المتمتع يجب عليه ثلاثة أطواف ، والقارن والمفرد طوافان ، ولو قالوا : يجب على القارن والمفرد أربعة أطواف ، والمتمتع ثلاثة أطواف ، كان هو الصواب ، لأنّ القارن والمفرد ، عليهما مع طوافيهما الذين ذكرتموهما ، طوافان آخران ، أحدهما طواف العمرة المبتولة ، والآخر طواف النساء لها ، فكيف الجواب؟

قلنا : قول أصحابنا سديد في موضعه ، لأنّهم قالوا يجب على الحاج القارن ، والمفرد ، ويذكرون فرائض الحج ، والمعتمر عمرة مبتولة ، ليس بحاج ، ولا العمرة المبتولة حج ، وانّما هي مقطوعة عن الحج ، فلهذا قالوا مبتولة ، أي مقطوعة ، لأنّ البتل القطع ، وليس كذلك العمرة المتمتع بها إلى الحج ، لأنّها حج ، وحكمها حكم الحج ، على ما قدّمناه ، ولقوله عليه السلام : دخلت العمرة في الحج هكذا ، وشبّك بين أصابعه (2).

والسعي بين الصفا والمروة ركن ، فإن كان متمتعا يلزمه سعيان ، أحدهما للعمرة ، والآخر للحج ، وإن كان مفردا ، أو قارنا ، سعي واحد للحج ، فإن تركه متعمدا ، فلا حج له ، وإن تركه ناسيا ، قضاه أيّ وقت ذكره ، إذا كان ذلك في أشهر الحج.

ص: 618


1- ج ، ط : قضاه ، ولا تحل له أيضا النساء ، حتى يقضيه.
2- الوسائل : كتاب الحج ، الباب 3 من أبواب أقسام الحج ، ح 121.

والوقوف بالموقفين ، عرفات ، والمشعر الحرام ، ركنان ، من تركهما ، أو واحدا منهما ، متعمدا فلا حج له ، فإن ترك الوقوف بعرفات ناسيا ، وجب عليه أن يعود ، فيقف بها ، ما بينه وبين طلوع الفجر ، من يوم النحر ، فإن لم يذكر إلا بعد طلوع الفجر ، وكان قد وقف بالمشعر ، فقد تم حجه ، ولا شي ء عليه ، وإن لم يكن وقف بالمشعر في وقته ، وجب عليه اعادة الحج ، لأنّه لم يحصل له أحد الموقفين في وقته.

وإذا ورد الحاج ليلا ، وعلم أنّه إن مضى إلى عرفات ، وقف (1) بها ، وإن كان قليلا ، ثم عاد إلى المشعر ، قبل طلوع الشمس ، وجب عليه المضي إليها ، والوقوف بها ، ثم يعود إلى المشعر ، فإن غلب في ظنّه ، أنّه إن مضى إلى عرفات ، لم يلحق المشعر ، قبل طلوع الشمس ، اقتصر على الوقوف بالمشعر ، وقد تمّ حجه ، ولا شي ء عليه.

ومن أدرك المشعر ، قبل طلوع الشمس ، فقد أدرك الحج ، فإن أدركه بعد طلوعها ، فقد فاته الحج.

ومن وقف بعرفات ، ثمّ قصد المشعر ، فعاقه في الطريق عائق ، فلم يلحق إلى قرب الزوال ، فقد تمّ حجّه ، لأنّه حصل له الوقوف بأحد الموقفين في وقته.

ومن لم يكن وقف بعرفات ، وأدرك المشعر بعد طلوع الشمس ، فقد فاته الحج ، لأنّه لم يلحق أحد الموقفين في وقته.

وذهب السيد المرتضى في انتصاره (2) إلى أنّ وقته ، جميع اليوم من يوم العيد ، فمن أدرك المشعر ، قبل غروب الشمس من يوم العيد ، فقد أدرك المشعر.

ومن فاته الحج ، أقام على إحرامه ، إلى انقضاء أيام التشريق ، ثم يجي ء إلى مكة ، فيطوف بالبيت ، ويسعى ، ويتحلل بعمرة ، وإن كان قد ساق معه هديا ، نحره بمكة ، وعليه الحج من قابل ، إن كانت حجة الإسلام ، وإن كانت تطوعا ،

ص: 619


1- في ط وج : ووقف
2- الانتصار : كتاب الحج ، مسألة 2.

كان بالخيار ، إن شاء حج ، وإن شاء لم يحج ، ولا يلزمه لمكان الفوات ، حجة أخرى ، لأنّه لم يفسدها.

ومن فاته الحج ، سقطت عنه توابعه ، من الرمي ، وغير ذلك ، وانّما عليه المقام بمنى استحبابا ، وليس عليه بها حلق ، ولا تقصير ، ولا ذبح ، وانّما يقصّر إذا تحلل بعمرة ، بعد الطواف والسعي ، ولا يلزمه دم ، لمكان الفوات.

ومن كان متمتعا ، ففاته الحجّ ، فإن كانت حجّة الإسلام ، فلا يقضيها ، إلا متمتعا ، لأنّ ذلك فرضه ، ولا يجوز غيره ، ويحتاج إلى أن يعيد العمرة ، في أشهر الحج ، في السنة المقبلة ، فإن لم تكن حجة الإسلام ، أو كان من أهل مكة وحاضريها ، جاز أن يقضيها مفردا ، أو قارنا.

وإن فاته القران ، أو الإفراد ، جاز أن يقضيه متمتعا ، لأنّه أفضل ، بعد أن يكون قد حجّ حجة الإسلام متمتعا ، إن كان فرضه التمتع.

والمواضع التي يجب أن يكون الإنسان فيها مفيقا ، حتى يجزيه ، أربعة : الإحرام ، والوقوف بالموقفين ، والطواف ، والسعي. وإن كان مجنونا أو مغلوبا على عقله ، لم ينعقد إحرامه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : وما عدا ذلك ، يصح منه (1) والأولى عندي ، أنّه لا يصح منه شي ء من العبادات ، والمناسك ، إذا كان مجنونا ، لأنّ الرسول صلى اللّه عليه وآله قال : الأعمال بالنيات ، وانّما لامرئ ما نوى (2) والنية لا تصح منه ، وقال تعالى : ( وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى ) (3) فنفى تعالى أن يجزي أحدا بعمله ، إلا ما أريد وطلب به وجه ربه الأعلى ، والمجنون لا إرادة له.

ص: 620


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.
2- الوسائل : كتاب الطهارة ، الباب 5 من أبواب مقدمة العبادات
3- الليل : 19.

وصلاة الطواف ، حكمها حكم الأربعة ، سواء ، وكذلك طواف النساء.

وكذلك حكم النوم سواء وقال شيخنا أبو جعفر في مبسوطة : والأولى ، أن نقول : يصح منه الوقوف بالموقفين ، وإن كان نائما ، لأنّ الغرض الكون فيه ، لا الذكر (1).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : هذا غير واضح ، ولا بدّ له من نية القربة في الوقوف ، بغير خلاف ، لما قدّمناه من الأدلة ، والإجماع أيضا حاصل عليه ، إلا أنّه قال في نهايته : ومن حضر المناسك كلها ، ورتبها في مواضعها ، إلا أنّه كان سكران ، فلا حج له ، وكان عليه الحج من قابل (2) وهذا هو الواضح الصحيح ، الذي يقتضيه الأصول.

باب مناسك النساء في الحجّ والعمرة

الحج واجب على النساء ، كوجوبه على الرجال ، لأنّ الآية عامة ، والإجماع منعقد عليه ، وشرائط وجوبه عليهن شرائط وجوبه عليهم سواء ، وليس من شرطه عليهن وجود محرم ، ولا زوج ، ولا طاعة للزوج عليها في حجة الإسلام ، ومعنى ذلك ، أنّها إذا أرادت حجة الإسلام ، فليس لزوجها منعها من ذلك ، وينبغي أن يساعدها على الخروج معها ، فإن لم يفعل ، خرجت مع بعض الرجال الثقات ، من المؤمنين ، وإن أرادت أن تحج تطوعا ، لم يكن لها ذلك ، وكان له منعها منه ، وإن نذرت الحج ، فإن كان النذر قبل العقد عليها أو بعد العقد ، وكان بإذن زوجها كان حكمه حكم حجة الإسلام ، وإن كان بغير اذنه لم ينعقد نذرها.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجمل والعقود : وما يلزم الرجال بالنذر ، يلزم مثله النساء (3) وأطلق ذلك ، ولم يقيده ، ولا فصّله ، وقيّد ذلك

ص: 621


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر تفصيل فرائض الحج.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب فرائض الحج.
3- الجمل والعقود : كتاب الحج ، فصل في ذكر مناسك النساء.

وفصله - على ما فصّلناه وقيدناه - في مبسوطة (1) وهو الحق اليقين.

وإذا كانت في عدة الطلاق ، جاز لها أن تخرج في حجة الإسلام ، سواء كانت للزوج عليها رجعة ، أو لم يكن ، وليس لها أن تخرج في حجة التطوع ، إلا في التطليقة التي لا يكون للزوج عليها فيها رجعة.

فأمّا عدة المتوفّى عنها زوجها ، أو عدة الفسخ ، فإنّه يجوز لها أن تخرج ، على كل حال ، فرضا كان الحج ، أو نفلا.

وإذا حجّت المرأة بإذن الزوج ، حجة التطوع ، أو بلا إذنه حجة الإسلام ، كان قدر نفقة الحضر عليه ، وما زاد لأجل السفر عليها ، فإن أفسدت حجّها ، بأن مكنت زوجها من وطئها مختارة ، قبل الوقوف بالمشعر ، لزمها القضاء ، وكان في القضاء مقدار نفقة الحضر على الزوج ، وما زاد على ذلك فعليها ، في مالها ، ويلزمها مع ذلك كفارة ، وهي بدنة ، في مالها خاصّة.

وقد بيّنا كيفية إحرامها ، في باب الإحرام ، وانّ عليها أن تحرم من الميقات ، ولا تؤخره ، فإن كانت حائضا توضّأت ، وضوء الصلاة ، واحتشت ، واستثفرت ، واغتسلت ، وأحرمت ، إلا أنّها لا تصلّي ركعتي الإحرام.

فإن قيل : الحائض لا يصح منها الغسل ، ولا الوضوء.

قلنا : لا يصحّان منها على وجه يرفعان الحدث ، وأمّا على غير ذلك الوجه ، فإنّهما يصحّان منها بغير خلاف ، وغسل الإحرام ، لا يرفع الحدث ، وانّما هو للتنظيف على وجه العبادة.

وكذلك يصح منها غسل الأعياد ، والجمع ، فإن تركت الإحرام ، ظنا منها أنّه لا يجوز لها ذلك ، حتى جازت الميقات ، فعليها أن ترجع إليه ، وتحرم منه مع الإمكان ، فإن لم يمكنها ، أحرمت من موضعها ، ما لم تدخل مكة ، فإن

ص: 622


1- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر حكم النساء في الحج.

دخلتها ، خرجت إلى خارج الحرم ، وأحرمت من هناك ، فإن لم يمكنها ، أحرمت من موضعها.

وإذا دخلت المرأة مكة ، متمتعة ، طافت بالبيت ، وسعت بين الصفا والمروة ، وقصّرت ، وقد أحلّت من كل شي ء أحرمت منه ، مثل الرجال سواء.

فإن حاضت قبل الطواف ، انتظرت ما بينها ، وبين الوقت الذي تخرج إلى عرفات ، وقد بيّنا فيما مضى ، فإن طهرت ، طافت وسعت ، وإن لم تطهر ، فقد مضت متعتها ، وتكون حجة مفردة ، تقضي المناسك كلّها ، ثمّ تأتي بالعمرة بعد ذلك مبتولة ، ويكون حكمها حكم من حج مفردا ، ولا هدي عليها.

وإن طافت بالبيت ثلاثة أشواط ، ثمّ حاضت ، كان حكمها حكم من لم يطف ، وقد قدّمناه.

وإذا حاضت ، وقد طافت أربعة أشواط ، قطعت الطواف ، وسعت ، وقصّرت ، ثم أحرمت بالحجّ وقد تمّت متعتها ، فإذا فرغت من المناسك ، وطهرت ، تمّمت الطواف ، بانية على ما طافت ، غير مستأنفة له ، هكذا ذكره شيخنا أبو جعفر ، وذهب إليه في كتبه.

والذي تقتضيه الأدلة ، أنّها إذا جاءها الحيض ، قبل جميع الطواف ، فلا متعة لها ، وانّما ورد بما قاله شيخنا أبو جعفر خبران مرسلان ، فعمل عليهما ، وقد بيّنا ، أنّه لا يعمل بأخبار الآحاد ، وإن كانت مسندة ، فكيف بالمراسيل.

وإن طافت الطواف كله ، ولم تصلّ عند المقام ، ثمّ حاضت ، خرجت من المسجد ، وسعت ، وقصّرت ، وأحرمت بالحج ، وقضت المناسك ، كلّها ، ثمّ تقضي الركعتين إذا طهرت.

وإذا طافت بالبيت ، وسعت بين الصفا والمروة ، وقصّرت ، ثم أحرمت بالحج ، وخافت أن يجيئها الحيض ، فيما بعد فلا تتمكن من طواف الزيارة ، وطواف النساء ، جاز لها أن تقدّم الطوافين معا ، والسعي ، ثمّ تخرج فتقضي باقي

ص: 623

المناسك ، وتمضي إلى منزلها ، على ما روي في شواذ الأخبار (1).

وقد ذهب إلى ذلك ، شيخنا أبو جعفر ، في نهايته (2) ورجع عنه في مسائل الخلاف (3) وقال : روى أصحابنا ، رخصة في تقديم الطواف والسعي ، قبل الخروج إلى منى ، وعرفات.

والصحيح أنّه لا يجوز تقديم المؤخّر ، ولا تأخير المقدّم ، من أفعال الحج ، لأنّه مرتب ، هذا هو الذي تقتضيه أصول المذهب ، والإجماع منعقد عليه ، والاحتياط يقتضيه أيضا ، فلا يرجع عن المعلوم إلى المظنون ، وأخبار الآحاد لا توجب علما ولا عملا.

ويجوز للمستحاضة ، أن تطوف بالبيت ، وتصلّي عند المقام ، وتشهد المناسك كلّها ، إذا فعلت ما تفعله المستحاضة ، لأنّها بحكم الطاهرات.

فإذا أرادت الحائض وداع البيت ، فلا تدخل المسجد ، بل تودّع من أدنى باب من أبواب المسجد ، وتنصرف والمراد بأدنى باب يعني أقرب باب من أبواب المسجد إلى الكعبة.

وإذا كانت المرأة عليلة ، لا تقدر على الطواف ، طيف بها ، وإن كان بها علّة تمنع من حملها ، والطواف بها ، طاف عنها وليّها ، وليس عليها شي ء.

وليس على النساء رفع الصوت بالتلبية ، لا وجوبا ، ولا استحبابا ، ولا كشف الرأس.

ويجوز لها لبس المخيط ، وقال شيخنا في نهايته : يحرم ، على النساء في الإحرام ، من لبس المخيط ، مثل ما يحرم على الرجال (4). وقد رجع عن ذلك في مبسوطة ، وقال : يجوز لهن لبس المخيط (5).

ص: 624


1- الوسائل : الباب 64 من أبواب الطواف.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب مناسك النساء في الحج والعمرة.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 175.
4- النهاية : كتاب الحج ، باب ما يجب على المحرم اجتنابه.
5- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر حكم النساء في الحج.

وكذلك يجوز لها تظليل المحمل وليس عليها حلق ، ولا دخول البيت مؤكدا ، فإن أرادت دخول البيت ، فلتدخله إذا لم يكن زحام.

وقد روي أنّ المستحاضة ، لا يجوز لها دخول البيت على حال (1) وذلك على تغليظ الكراهة ، لا على جهة الحظر ، لأنّا قد بيّنا أنّها بحكم الطاهرات.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في الجزء الأول من مسائل خلافه (2) في كتاب الحج ، فقال : مسألة ، يجوز للمرأة أن تخرج في حجّة الإسلام ، وإن كانت معتدة ، أيّ عدة كانت ، ومنع الفقهاء كلّهم من ذلك ، ثمّ استدل ، فقال : دليلنا إجماع الفرقة ، وعموم الآية ، لم يذكر فيها ، إلا أن تكون في العدة ، فمن منع في هذه الحال ، فعليه الدلالة ، ثمّ ذهب في الجزء الثالث ، في مسائل خلافه ، في كتاب العدد ، فقال : مسألة ، إذا أحرمت المرأة بالحج ، ثم طلّقها زوجها ، ووجب عليها العدة ، فإن كان الوقت ضيّقا بحيث تخاف فوت الحج إن أقامت ، فإنّها تخرج ، وتقضي حجّها ، ثم تعود ، فتقضي باقي العدة ، إن بقي عليها شي ء ، وإن كان الوقت واسعا ، أو كانت محرمة بعمرة ، فإنّها تقيم ، وتقضي عدتها ، ثم تحج ، وتعتمر (3) ثمّ قال : دليلنا قوله تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلّهِ ) (4) ولم يفصّل.

قال محمّد بن إدريس : الصحيح ما قاله وذهب إليه في المسألة الأولى التي ذكرها في كتاب الحج ، لأنّ في حجّة الإسلام تخرج بغير إذن الزوج ، بغير خلاف بيننا ، والآية أيضا دليل على ذلك ، وإجماعنا ، وقوله عليه السلام : « لا تمنعوا إماء اللّه مساجد اللّه ، فإذا خرجن فليخرجن تفلات » بالتاء المنقطة من فوقها نقطتين المفتوحة ، والفاء المكسورة ، أي غير متطيّبات.

ص: 625


1- الوسائل الباب 91 من أبواب الطواف.
2- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 329.
3- الخلاف : كتاب العدة ، مسألة 25
4- البقرة : 196.

باب الاستيجار للحج ومن يحج عن غيره

من وجب عليه الحج ، لا يجوز له أن يحج عن غيره ، ولا تنعقد الإجارة إلا بعد أن يقضي حجه الذي وجب عليه ، فإذا أتى به ، جاز له بعد ذلك ، أن يحج عن غيره ، سواء وجبت عليه ، واستقرت ، أو وجبت ، ولم تستقر ، وكان متمكنا من المضي ، ثم فرّط ، فأمّا إن وجبت عليه الحجّة ، ولم يفرّط في المضي ، ثم حدث ما يمنعه من المضي ، ولم يتمكن منه ، ثمّ لم يقدر على الحج فيما بعده ، ولا حصلت له شرائطه ، فإنّه يجوز له أن يحج عن غيره ، لأنّه لم تستقر في ذمته ، فأمّا من استقرت حجة الإسلام في ذمته ، بأن فرّط فيها ، فلا يجوز ان يحج عن غيره ، سواء افتقر فيما بعد ، أو لم يفتقر ، تمكن من المضي ، أو لم يتمكن. فأمّا من لم يجب عليه ، ولم يتمكن من الحج ، ولا حصلت له شرائطه ، يجوز له أن يحج عن غيره ، فإن تمكن بعد ذلك من المال ، كان عليه أن يحج عن نفسه.

وينبغي لمن يحج عن غيره ، أن يذكره في المواضع كلّها باللفظ ، مندوبا لا وجوبا ، فيقول عند الإحرام : اللّهم ما أصابني من تعب ، أو نصب ، أو لغوب ، فأجر فلان بن فلان ، وآجرني في نيابتي عنه. وكذلك يذكره عند التلبية ، والطواف ، والسعي ، والموقفين ، وعند الذبح ، وعند قضاء جميع المناسك ، فإن لم يذكره في هذه المواضع باللفظ ، وكانت نيته الحج عنه ، ونوى ذلك بقلبه ، دون لسانه ، فقد أجزأ ذلك.

ومن أمر غيره أن يحج عنه متمتعا ، فليس له أن يحج عنه مفردا ، ولا قارنا ، فإن حج عنه كذلك ، لم يجزئه ، وكان عليه الإعادة ، ان كانت الحجة المستأجر لها غير معيّنة بزمان ، بل كانت الإجارة في الذمة غير مقيدة بزمان ، فإن كانت مقيدة بزمان ، انفسخت الإجارة ، ووجب عليه ردّ جميع الأجرة ، وكان المستأجر بالخيار ، بين أن يستأجره هو أو غيره.

ص: 626

وإن أمره أن يحج عنه مفردا ، أو قارنا ، جاز له أن يحج عنه متمتعا ، لأنّه يعدل إلى ما هو الأفضل ، هكذا رواية أصحابنا (1) وفتياهم.

وتحقيق ذلك ، انّ من كان فرضه التمتع ، فحج عنه قارنا ، أو مفردا ، فإنّه لا يجزيه ، ومن كان فرضه القران ، أو الإفراد ، فحج عنه متمتعا ، فإنّه لا يجزيه إلا أن يكون قد حج المستنيب حجة الإسلام ، فحينئذ يصح إطلاق القول ، والعمل بالرواية ، ويدل على هذا التحرير ، قولهم : وإن أمره أن يحج عنه مفردا ، أو قارنا ، جاز له أن يحج عنه متمتعا ، لأنّه يعدل إلى ما هو أفضل ، فلو لم يكن قد حجّ حجّة الإسلام بحسب فرضه ، وحاله ، وتكليفه ، لما كان التمتع أفضل ، بل كان إن كان فرضه التمتع ، فهو الواجب ، لا يجوز سواه ، وليس لدخول « أفضل » معنى ، لأنّ أفعل ، لا يدخل إلا في أمرين ، يشتركان ثمّ يزيد أحدهما على الآخر ، وكذلك لو كان فرضه القران ، أو الإفراد ، لما كان التمتع أفضل ، بل لا يجوز له التمتع ، فكيف يقال أفضل ، فيخص إطلاق القول ، والأخبار بالأدلة ، لأنّ العموم قد يخصّ بالأدلة ، بغير خلاف.

ومن أمر غيره أن يحج عنه على طريق بعينها ، جاز له أن يعدل عن تلك الطريق إلى طريق آخر.

و (2) إذا أمره أن يحج عنه بنفسه ، فليس له أن يأمر غيره بالنيابة عنه.

وإن جعل الأمر في ذلك إليه ، ووكله إليه ، إمّا بنفسه ، أو يستأجر عنه ، ويكون وكيلا له في عقد الإجارة مع غيره ، جاز ذلك.

فاما ان أمره أن يستأجر له ، من يحج عنه فلا يجوز للمأمور أن يحجّ عن الآمر وإذا أخذ حجّة عن غيره ، وكانت معينة بسنة معلومة ، فلا يجوز له أن يأخذ حجة أخرى لتلك السنة ، لأنّ الإجارة معينة بزمان ، فلا يصح أن يعمل فيه عملا لغير

ص: 627


1- الوسائل : الباب 12 من أبواب النيابة في الحج ، ح 1
2- في ط وج : وأما.

المستأجر ، لأنّ منافعه قد استحقت عليه في ذلك الزمان ، فإن خالف وخرج الزمان ، والسنة المعينة ، ولم يحرم ، انفسخت الإجارة ، لأنّ الوقت الذي عيّنه قد فات ، وإن أخذ حجة ، ليحج في غير تلك السنة ، فلا بأس.

وإن كانت الحجة في الذمة ، لا معيّنة بزمان ، بأن يقول استأجرتك على أن تحج عني ، صح العقد ، واقتضى التعجيل ، في هذا العام.

وإن شرط التأجيل إلى عام ، أو عامين ، جاز ، فإذا وقع مطلقا ، فانقضت السنة قبل فعل الحج ، لم تبطل الإجارة ، ولا ينفسخ العقد ، لأنّ الإجارة في الذمة لا تبطل بالتأخير ، وليس للمستأجر أن يفسخ الإجارة ، لمكان التأخير ، فإذا أحرم في السنة الثانية ، كان إحرامه صحيحا عمّن استأجره.

إذا مات الأجير ، فإن كان قبل الإحرام ، وجب على ورثته أن يردّوا بمقدار اجرة ما بقي من المسافة ، وإن كان موته بعد الإحرام ، لا يلزمه شي ء ، وأجزأت عن المستأجر ، وسواء كان ذلك قبل استيفاء الأركان ، أو بعدها ، قبل التحلّل ، أو بعده ، وعلى جميع الأحوال ، لعموم الأخبار في ذلك (1).

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : فإن مات النائب في الحج ، وكان موته بعد الإحرام ، ودخول الحرم ، فقد سقطت عنه عهدة الحج ، وأجزأ عمن حج عنه ، وإن مات قبل الإحرام ، ودخول الحرم ، كان على ورثته ، إن خلف في أيديهم شيئا مقدار ما بقي عليه من نفقة الطريق ، فراعى دخول الحرم ، والإحرام معا (2). والصحيح ما ذكرناه واخترناه ، وهو مجرّد الإحرام ، دون دخول الحرم ، وإلى هذا القول ذهب في مبسوطة (3) وأفتى ، ودلّ على صحّته ، في مسائل خلافه (4) وهو الصحيح.

ص: 628


1- الوسائل : الباب 15 من أبواب النيابة في الحج ، إلا أنّ روايات الباب لا تدل على المطلوب بالصراحة
2- النهاية : كتاب الحج ، باب من حج عن غيره.
3- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر الاستيجار للحج.
4- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 244.

ومن حجّ عن غيره ، قصد عن بعض الطريق ، كان عليه مما أخذه ، بمقدار ما بقي من الطريق ، اللّهم إلا أن يضمن الحج فيما يستأنف ، ويتولاه بنفسه ، إن كانت السنة معيّنة ، وإن كانت الإجارة في الذمة ، فعلى ما ذكرناه.

والذي تقتضيه أصول المذهب ، ويشهد بصحته الاعتبار ، انّ المستأجر على الحج ، إذا صدّ ، أو مات قبل الإحرام ، لا يستحق شيئا ، من الأجرة ، لأنّه ما فعل الحج الذي استؤجر عليه ، ولا دخل فيه ، ولا فعل شيئا من أفعاله.

وإلى ما اخترناه ، يذهب شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه (1) ودلّ على صحته ، إلا أنّه قوّى ما ذهب إليه الصيرفي ، والإصطخري ، صاحبا الشافعي ، من أنه (2) يستحق من الأجرة بمقدار ما قطع من المسافة ، تعليلا منهما ، وتخريجا ، ولا حاجة بنا إلى ذلك ، مع قيام الأدلّة ، على أن المستناب لم يأت بما استنيب فيه ، ولا شيئا من أفعاله. ولا يجوز للإنسان أن يطوف عن غيره ، وهو بمكة ، إلا أن يكون الذي يطوف عنه مبطونا لا يقدر على الطواف بنفسه ، ولا يمكن حمله ، والطواف به ، ومعنى مبطون ، أي به بطن ، وهو الذرب ، وانطلاق الغائط ، وإن كان غائبا ، جاز أن يطاف عنه.

وإذا حج الإنسان عن غيره ، من أخ له ، أو أب ، أو ذي قرابة ، أو مؤمن ، فانّ ثواب ذلك يصل إلى من حج عنه ، من غير أن ينقص من ثوابه شي ء.

وإذا حج عمّن يجب عليه الحج ، بعد موته ، تطوعا منه بذلك ، فإنه يسقط عن الميت بذلك ، فرض الحج ، على ما روى أصحابنا في الأخبار (3).

ومن كان عنده وديعة ، ومات صاحبها ، وله ورثة ، وكان قد وجبت عليه حجة الإسلام ، واستقرت في ذمته ، ولم يحجّها ، جاز له أن يأخذ منها ، بمقدار ما يحج عنه من بلده ، ويرد الباقي ، لأنّ الورثة لا تستحق الميراث ، إلا بعد قضاء

ص: 629


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 243
2- في ط وج : لأنّه.
3- الوسائل : الباب 21 من أبواب وجوب الحج.

الديون ، والحج من جملة الديون (1).

إذا غلب على ظنه أنّ ورثته لا يقضون عنه حجة الإسلام ، فإن غلب على ظنّه أنّهم يتولّون القضاء عنه ، فلا يجوز له أن يأخذ منها شيئا ، إلا بأمرهم. ولا بأس أن تحج المرأة عن المرأة وعن الرجل ، سواء كانت المرأة النائبة حجّت حجة الإسلام ، أو لم تحج صرورة كانت ، أو غير صرورة.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في نهايته (2) ، واستبصاره (3) ، ولا بأس أن تحج المرأة عن الرجل ، إذا كانت قد حجت حجة الإسلام ، وكانت عارفة ، وإذا لم تكن حجّت حجة الإسلام ، وكانت صرورة ، لم يجز لها أن تحج عن غيرها على حال ، والأوّل هو الصحيح والأظهر ، وبه تواترت عموم الأخبار (4) ، والإجماع منعقد على جواز الاستنابة في الحج ، فالمخصّص يحتاج إلى دليل ، ولا يجوز أن نرجع في التخصيص إلى خبر واحد ، لا (5) يوجب علما ، ولا عملا ، وتعارضه أخبار كثيرة ، وانّما شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه خصّ عموم الأخبار المتواترة العامة (6) ، بأخبار آحاد ، متوسّطا ، وجامعا بينها ، في كتاب الاستبصار (7) ، ولم يتعرض أحد من أصحابنا لذلك بقول ، ولا تخصيص ، وما اخترناه مذهب شيخنا المفيد محمّد بن محمّد بن النعمان الحارثي رحمه اللّه في كتابه الأركان ، فإنّه قال : ومن وجب عليه الحج ، فلا يجوز له أن يحج عن غيره ، ولا بأس أن يحج الصرورة عن الصرورة ، إذا لم يكن للصرورة مال يحج به عن نفسه ثم قال في باب مختصر المسائل في الحج ، والجوابات : مسألة أخرى ، فإن سأل سائل ، فقال : لم زعمتم أنّ الصرورة الذي لم يحج حجّة الإسلام ، يجوز له أن يحج عن غيره ، وهو لم يؤدّ فرض نفسه؟ وما الدليل على ذلك؟ جواب ، قيل له :

ص: 630


1- ج : الدين
2- النهاية : كتاب الحج ، باب من حج عن غيره.
3- الاستبصار : كتاب الحج ، الباب 220 باب جواز أن تحجّ المرأة عن الرجل.
4- الوسائل : الباب 8 من أبواب النيابة في الحج
5- في ط وج : لأنّه لا.
6- الوسائل : الباب 8 من أبواب النيابة في الحج
7- الاستبصار : كتاب الحج ، الباب 220 باب جواز أن تحجّ المرأة عن الرجل.

الدليل عليه ، مع ما ورد من النصّ (1) عن أئمة الهدى عليهم السلام ، انّ القضاء عن الحاج ، انّما يحتاج فيه إلى العلم بمناسك الحج ، فإذا وجد من يعلم ذلك ، ويتمكن من إقامة الفرض ، ولم يمنعه منه مانع من فساد في الديانة ، أو لزوم فرض ، أو ما وجب (2) عليه من أداء هذا الفرض ، على وجه القضاء ، فقد لزم القول بجواز ذلك ، وفسد العقد على إبطاله. ثم قال : ويؤيّد هذا ، ما رواه الزهري ، عن سليمان بن بشّار ، عن ابن عبّاس ، قال : حدّثني الفضل بن عباس ، قال : أتت امرأة من خثعم رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله فقالت : يا رسول اللّه إنّ أبي أدركته فريضة الحج ، وهو شيخ كبير ، لا يستطيع أن يثبت على دابته ، فقال لها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله : فحجّي عن أبيك (3) فأطلق الأمر لها بالحج ، عن غيرها ، ولم يشترط عليه السلام عليها في ذلك ، أن تحج أولا عن نفسها ، ولا جعل الأمر لها بشرط إن كانت حجّت قبل الحال عن نفسها ، فدلّ ذلك على أنّه إذا لم يكن مانع للإنسان من الحج ، وكان ظاهر العدالة ، فله أن يحج عن غيره ، ثم قال : سؤال ، فإن قال قائل : إنّ هذا الخبر يوجب عليكم جواز حج الإنسان عن غيره ، وان كان له مال يستطيع به الحج عن نفسه ، لأنّ النبي صلى اللّه عليه وآله ، لم يسألها أيضا عن حالها ، ولا شرط لها في ذلك ، عدم استطاعتها بنفسها ، وهذا نقض مذهبكم قال رحمه اللّه : جواب ، قيل له : ليس الأمر على ما ظننت ، وذلك أنّ توجّه الفرض إلى واجد الاستطاعة بظاهر القرآن ، يعني النبي صلى اللّه عليه وآله عن الشرط في ذلك ، وإذا كان المستطيع قد توجّه إليه فرض الحجّ عن نفسه ، ووجب عليه على الفور بما قدمناه ، فقد حظر عليه كل ما أخرجه عن القيام ، بما وجب عليه ، فكانت هذه الدلالة

ص: 631


1- الوسائل : الباب 6 من أبواب النيابة في الحج
2- في النسخة المعتمدة : أداء ما وجب.
3- مستدرك الوسائل : ج 2 ، باب 5 من أبواب النيابة في الحج.

مغنية عن الشرط ، لما ضمنه ، على ما بيّناه ، ولم يشتبه القول في خلافه ، لتعريه من الدلالة بما شرحناه (1) هذا آخر قول شيخنا المفيد رحمه اللّه.

ولا يجوز لأحد أن يحج عن غيره ، إذا كان مخالفا له في الاعتقاد ، من غير استثناء سواء كان أباه ، أو غيره.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : اللّهم إلا أن يكون أباه ، فإنّه يجوز له أن يحج عنه (2).

وهذه رواية شاذة ، أوردها رضي اللّه عنه في هذا الكتاب ، كما أورد أمثالها ، ممّا لا يعمل به ، ولا يعتقد صحّته ، ولا يفتي به ، إيرادا لا اعتقادا ، لأنّه كتاب خبر ، لا كتاب بحث ونظر ، على ما قدّمنا القول في معناه.

ومتى فعل الأجير من محظورات الإحرام ما يلزمه به كفارة ، كان عليه في ماله ، من الصيد ، واللباس ، والطيب ، وغير ذلك.

وإن أفسد الحجة ، وجب عليه قضاؤها عن نفسه ، وكانت الحجة باقية عليه ، ثم ينظر فيها ، فإن كانت معينة بزمان ، انفسخت الإجارة ، ولزم المستأجر أن يستأجر من ينوب عنه فيها ، وإن لم تكن معينة ، بل تكون في الذمة ، لم تتفسخ ، وعليه أن يأتي بحجة أخرى في المستقبل ، عمن استأجره ، بعد أن يقضي الحجة التي أفسدها عن نفسه ، ولم يكن للمستأجر فسخ هذه الإجارة عليه ، والحجة الأولى مفسودة (3) ، لا تجزئ عنه ، والثانية قضاء عنها ، عن نفسه ، وانّما يقضي عن المستأجر ، بعد ذلك على ما بيّناه.

ومن استأجر إنسانا ليحج عنه متمتعا ، فإن هذي المتعة تلزم الأجير في ماله ، لأنّه متضمّن (4) العقد.

إذا كان عليه حجتان ، حجة النذر ، وحجة الإسلام ، وهو مغصوب ، بالعين

ص: 632


1- مختصر المسائل في الحج : لا يوجد عندنا.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب من حج عن غيره
3- ج : والحجة الأولة فاسدة
4- ج : يتضمن.

غير المعجمة ، والضاد المعجمة ، وهو الذي خلق نضوا ، ولا يقدر على الثبوت على الراحلة ، جاز له أن يستأجر رجلين ، يحجان عنه ، في سنة واحدة ، يكون فعل كل واحد منهما واقعا بحسب نيته ، سبق أو لم يسبق.

باب العمرة المفردة

العمرة فريضة مثل الحج ، لا يجوز تركها ، ومن تمتع بالعمرة إلى الحج ، سقط عنه فرضها ، وإن لم يتمتع ، كان عليه أن يعتمر ، بعد انقضاء الحج ، إن أراد بعد انقضاء أيام التشريق ، وإن شاء أخّرها ، إلى استقبال المحرّم ، لأنّ جميع أيام السنة وقت لها ، على ما ذكرناه متقدما.

ومن دخل مكة بالعمرة المفردة ، في غير أشهر الحج ، لم يجز له أن يتمتع بها إلى الحج ، فإن أراد التمتع ، كان عليه تجديد عمرة في أشهر الحج ، وإن دخل مكة بالعمرة المفردة ، في أشهر الحج ، جاز له أن يقضيها ، ويخرج إلى بلده ، أو إلى أيّ موضع شاء ، والأفضل له ، أن يقيم حتى يحج ، ويجعلها متعة.

وإذا دخل مكة بعد خروجه ، فإن كان بين خروجه ودخوله أقل من شهر ، فلا بأس أن يدخل مكة بغير إحرام ، ويجوز له أن يتمتع بعمرته الأولى ، وإن كان شهرا فصاعدا ، فلا يجوز له أن يدخل مكة إلا محرما ، ولا يجوز له أن يتمتع بعمرته الأوّلة ، بل الواجب عليه إنشاء عمرة يتمتع بها. والأفضل له أن يقيم حتى يحجّ ويجعلها متعة (1).

وإذا دخلها بنية التمتع ، فينبغي له أن لا يجعلها مفردة ، وإن لا يخرج من مكة ، لأنّه صار مرتبطا بالحج.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : لم يجز له أن يجعلها مفردة ، وأن يخرج من مكة لأنّه صار مرتبطا بالحج ، والأولى ما ذكرناه ، من كون ذلك مكروها ، لا أنّه محظور ، بل الأفضل له أن لا يخرج من مكة ، والأفضل له أن لا

ص: 633


1- في ط وج : عمرة.

يجعلها مفردة (1) وقد رجع شيخنا عمّا في نهايته ، في مبسوطة (2) وقال بما اخترناه ، لأنّه لا دليل على حظر الخروج من مكة ، بعد الإحلال من جميع مناسكها ، والاعتبار في رجوعه ما ذكرناه أولا ، من الشهر حرفا فحرفا.

وأفضل العمر ما كانت في رجب ، وهي تلي الحج ، في الفضل على ما روي (3).

ويستحب أن يعتمر الإنسان في كلّ شهر ، إذا تمكن من ذلك ، وفي كل عشرة أيّام ، وقد بيّنا فيما مضى ، أقل ما يكون بين العمرتين ، وما اخترناه في ذلك ، وهو جواز الاعتمار في سائر الأيّام ، وهو مذهب السيد المرتضى ، لأنّ الإجماع منعقد على جواز الاعتمار ، والحث عليه ، والترغيب فيه ، فمن خصّص ذلك ، يحتاج إلى دليل ، ولا يلتفت إلى أخبار الآحاد في ذلك ، إن وجدت.

وذكر شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مسائل خلافه (4) مسألة أورد فيها وانس كلّما حمم رأسه ، اعتمر ، يعني نبت شعره. قال محمّد بن إدريس : حمم بالحاء غير المعجمة ، رأسه ، إذا اسود بعد الحلق ، وحمم الفرخ ، إذا طلع ريشه ، فأردت إيراد الكلمة ، لئلا تصحف.

وينبغي إذا أحرم المعتمر ، أن يذكر في دعائه ، أنّه محرم بالعمرة المفردة ، وإذا دخل الحرم ، قطع التلبية ، حسب ما قدمناه ، هذا إذا جاء من بلده ، وأحرم من أحد المواقيت ، فأمّا من خرج من مكة ، إلى خارج الحرم ، ليعتمر ، وأحرم ، فلا يقطع التلبية ، إلا إذا شاهد الكعبة.

فإذا دخل مكة ، طاف بالبيت طوافا واحدا ، وسعى بين الصفا والمروة ، ثم يقصّر إن شاء ، وإن شاء حلق. وفي العمرة المتمتع بها إلى الحج ، لا يجوز له

ص: 634


1- النهاية : كتاب الحج ، باب العمرة المفردة.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في شرائط الوجوب. والعبارة بعينها عبارة النهاية فما رجع في المبسوط عما في النهاية
3- الوسائل : الباب 3 من أبواب العمرة ، ح 16.
4- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 26.

الحلق ، بل الواجب المتحتم عليه ، التقصير.

ويجب عليه - أعني على المعتمر - عمرة مفردة ، بعد تقصيره ، أو حلقه ، لتحلّة النساء ، طواف ، وقد أحلّ من كل شي ء أحرم منه.

باب حكم العبيد والمكاتبين والمدبّرين في الحج

لا يجوز للعبد أن يحرم إلا بإذن سيده ، فإن أحرم بغير اذنه ، لم ينعقد إحرامه ، وللسيد منعه منه ، فإن اذن له سيده في الإحرام بالحج ، فأحرم ، لم يكن له فيما بعد منعه ، وهكذا الحكم في المدبر ، والمدبرة ، وأم الولد ، لا يختلف الحكم فيه ، والأمة المزوجة ، لمالكها منعها من الإحرام ، وللزوج أيضا منعها ، والمكاتب لا ينعقد إحرامه ، سواء كان مشروطا عليه ، أو مطلقا ، لأنّه إن كان مشروطا عليه فهو بحكم الرق ، وإن كان مطلقا ، وقد تحرر منه بعضه ، فهو غير متعيّن.

إذا أحرم العبد بإذن سيّده ، ثم أعتق ، فإن أدرك المشعر الحرام بعد العتق ، فقد أدرك حجّة الإسلام ، وإن فاته المشعر ، فقد فاته الحج ، وعليه الحج فيما بعد ، إذا وجدت الشرائط.

وإذا أحرم بغير اذن سيده ، ثم أفسد الحج ، لم يتعلّق به حكم ، لأنّا قد بيّنا أنّ إحرامه ، غير منعقد.

وإن أحرم بإذن سيده ، فأفسد الحج ، لزمه القضاء ، وعلى سيّده تمكينه منه.

وإذا أفسد العبد الحج ، ولزمه القضاء على ما قلناه ، فأعتقه السيد ، فلا يخلو أن يكون بعد الوقوف بالمشعر ، أو قبله ، فإن كان بعده ، كان عليه أن يتم هذه الحجة ، وتلزمه حجة الإسلام فيما بعد ، وحجة القضاء ، ويجب عليه البدأة بحجة الإسلام ، مع وجود الشرائط ، وحصولها ، ثمّ بحجة القضاء ، وإن أعتق قبل الوقوف بالمشعر ، فلا فصل بين أن يفسد بعد العتق أو قبل العتق ، فإنّه يمضي في فاسدة ، ولا تجزيه الفاسدة عن حجّة الإسلام ، ويلزمه القضاء في القابل ،

ص: 635

ويجزيه القضاء عن حجّة الإسلام ، لأنّ ما أفسده ، لو لم يفسده لكان يجزيه عن حجة الإسلام ، وهذه قضاء عنها.

إذا أحرم بإذن مولاه ، فارتكب محظورا عامدا ، يلزمه به دم ، مثل اللباس ، والطيب ، وحلق الشعر ، وتقليم الأظفار ، واللمس بشهوة ، والوطي في الفرج ، أو فيما دون الفرج ، وقتل الصيد ، أو أكله ، ففرضه الصيام ، وليس عليه دم ، وليس لمولاه منعه من الصيام ، لأنّه دخل في الإحرام بإذنه ، فيلزمه الإذن في توابعه.

ودم المتعة ، فسيّده بالخيار ، بين أن يهدي عنه ، أو يأمره بالصيام ، وليس له منعه من الصيام ، لأنّه بإذنه دخل فيه.

باب حكم الصبيان في الحج

الصبي الذي لم يبلغ ، قد بيّنا أنّه لا حج عليه ، ولا ينعقد إحرامه ، ويجوز عندنا أن يحرم عنه الولي ، والولي الذي يصح إحرامه عنه ، الأب ، والجد ، وإن علا ، فإن كان غيرهما ، فإن كان وصيا ، أوله ، ولاية عليه وليّها ، فهو بمنزلة الأب.

النفقة الزائدة على نفقته في الحضر ، يلزم وليه دونه.

وكلّ ما أمكن الصبي أن يفعله من أفعال الحج ، فعله ، وما لا يمكنه ، فعلى وليّه أن ينوب عنه ، والوقوف بالموقفين ، يحضر على كل حال ، مميّزا كان ، أو غير مميز ، وأمّا الإحرام ، فإن كان مميزا ، أحرم بنفسه ، وإن لم يكن مميزا ، أحرم عنه وليّه ، ورمي الجمار كذلك ، وكذلك الطواف ، ومتى طاف به ، ونوى به الطواف عن نفسه ، أجزأ عنهما ، وحكم السعي مثل ذلك ، وليس كذلك ركعتا الطواف.

وأمّا محظورات الإحرام ، فكلّ ما يحرم على المحرم البالغ ، يحرم على الصبي ، والنكاح إن عقد له ، كان باطلا ، وأمّا الوطي فيما دون الفرج ، واللباس ، والطيب ، واللمس بشهوة ، وحلق الشعر ، وترجيل الشعر ، وتقليم الأظفار ، فالظاهر أنّه لا يتعلق به شي ء ، لما روي عنهم عليهم السلام ، من أنّ عمد الصبي

ص: 636

وخطأه سواء (1) والخطأ في هذه الأشياء ، لا يتعلّق به كفارة من البالغين.

وقيل : إنّ قتل الصيد ، يتعلّق به الجزاء ، على كل حال ، لأنّ النسيان يتعلّق به من البالغ ، الجزاء.

والصحيح أنّه لا يتعلق بذلك كفّارة ، وحمله على ما قيل قياس ، لأنّ الخطاب متوجه في الأحكام الشرعيات ، والعقليات ، إلى العقلاء البالغين المكلّفين ، والصبي غير مخاطب بشي ء من الشرعيات ، ولو لا الإجماع ، والدليل القاهر ، لما أوجبنا على البالغ في النسيان شيئا ، فقام الدليل في البالغ ، ولم يقم في غير البالغ.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في مبسوطة : قتل الصيد يتعلّق به الجزاء ، على كل حال ، قال : لأنّ النسيان يتعلّق به من البالغ الجزاء.

وأمّا الوطي في الفرج ، فإن كان ناسيا ، لا شي ء عليه ، ولا يفسد حجه ، مثل البالغ سواء ، وإن كان عامدا ، فعلى ما قلناه ، من أنّ عمده وخطأه سواء ، لا يتعلّق به أيضا فساد الحج ، ثم قال : ولو قلنا أنّ عمده عمد ، لعموم الأخبار ، فيمن وطأ عامدا في الفرج ، من أنّه يفسد حجه ، فقد فسد حجه ، ويلزمه القضاء ، ثم قال ، والأقوى الأوّل ، لأنّ إيجاب القضاء يتوجه إلى المكلّفين ، وهذا ليس بمكلّف (2) هذا آخر كلام شيخنا في مبسوطة ، وهو الأصحّ ، بل الحق اليقين ، وقد قلنا ما عندنا في ذلك.

باب في حكم المحصور والمصدود

الحصر عند أصحابنا لا يكون إلا بالمرض ، والصد يكون من جهة العدو ، وعند الفقهاء ، الحصر والصد واحد ، وهما من جهة العدو ، والصحيح الأوّل ،

ص: 637


1- الوسائل : كتاب الديات الباب 11 من أبواب العاقلة ، ح 2.
2- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في ذكر حكم الصبيان في الحج.

فالمحصور هو الذي يلحقه المرض في الطريق ، فلا يقدر على النفوذ إلى مكة ، فإذا كان كذلك ، فإن كان قد ساق هديا ، فليبعث به إلى مكة ، ويجتنب هو جميع ما يجتنبه المحرم ، إلى أن يبلغ الهدي محله ، ومحله منى ، يوم النحر ، إن كان حاجّا ، وإن كان معتمرا ، فمحله مكة ، بفناء الكعبة ، فإذا بلغ الهدي محلّه ، قصّر من شعر رأسه ، وحل له كل شي ء ، إلا النساء ، ويجب عليه الحج من قابل ، إذا كان صرورة ، ووجد الشرائط في القابل ، وإن كان قد حج حجّة الإسلام ، كان عليه الحج في القابل ، استحبابا ، لا إيجابا ، ولم تحل له النساء ، إلى أن يحج في العام القابل ، أو يأمر من يطوف عنه طواف النساء.

فإن وجد من نفسه خفّة بعد أن بعث هديه ، فليلحق بأصحابه ، فإن أدرك أحد الموقفين في وقته ، فقد أدرك الحج ، وليس عليه الحج من قابل ، وإن لم يدرك أحد الموقفين في وقته ، فقد فاته الحج ، وكان عليه الحج من قابل ، هذا هو تحرير الفتيا.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : فليلحق بأصحابه ، فإن أدرك مكة قبل أن ينحر هديه ، قضى مناسكه ، كلّها وقد أجزأه ، وليس عليه الحج من قابل ، وإن وجدهم قد ذبحوا الهدي ، فقد فاته الحج ، وكان عليه الحج من قابل ، قال رحمه اللّه : وانّما كان الأمر على ذلك ، لأنّ الذبح انّما يكون يوم النحر ، فإذا وجدهم قد ذبحوا الهدي ، فقد فاته الموقفان ، وإن لحقهم قبل الذبح ، يجوز أن يلحق أحد الموقفين ، فمتى لم يلحق واحدا منهما ، فقد فاته أيضا الحج (1).

قال محمّد بن إدريس مصنف هذا الكتاب : اعتبار شيخنا رحمه اللّه بإدراك مكة ، قبل أن ينحر هديه ، غير واضح ، لأنّ النحر يكون في منى يوم العيد ، ولا يصل الحاج منى إلا بعد طلوع الشمس ، من يوم النحر ، وبطلوع الشمس ، يفوت وقت المشعر الحرام ، وبفواته يفوته الحج ، فلو أدرك أصحابه بمنى ، ولم ينحروا

ص: 638


1- النهاية : كتاب الحج ، باب المحصور والمصدود.

الهدي ، ما نفعه ذلك ، فلا اعتبار بذبح الهدي ، وإدراكه ، بل الاعتبار بإدراك المشعر الحرام في وقته ، على ما اعتبرناه.

ومن لم يكن ساق الهدي ، فليبعث بثمنه مع أصحابه ، ويواعدهم وقتا بعينه ، بأن يشتروه ويذبحوا عنه ، ثم يحل بعد ذلك ، فإن ردّوا عليه الثمن ، ولم يكونوا وجدوا الهدي ، وكان قد أحلّ ، لم يكن عليه شي ء ويجب عليه أن يبعث به في العام القابل ، ليذبح في موضع الذبح ، روي (1) أنّه يجب عليه أن يمسك ممّا يمسك عنه المحرم ، إلى أن يذبح عنه (2) ، ذكر ذلك شيخنا في نهايته (3) ولا دليل عليه ، والأصل براءة الذمة ، وهذا ليس بمحرم ، بغير خلاف ، فكيف يحرم عليه لبس المخيط ، والجماع ، والصيد ، وليس هو بمحرم ، ولا في الحرم ، حتى يحرم عليه الصيد ، ولا يرجع فيه إلى أخبار الآحاد ، وما أورده رحمه اللّه في نهايته ، فعلى جهة الإيراد ، لا الاعتقاد.

وذهب ابن بابويه في رسالته ، فقال : وإذا قرن الرجل الحج والعمرة ، وأحصر ، بعث هديا مع هديه ، ولا يحل حتى يبلغ الهدي محلّه.

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : أمّا قوله رحمه اللّه : وإذا قرن الرجل الحج والعمرة ، فمراده كل واحد منهما على الانفراد ، ويقرن إلى إحرامه بواحد من الحج ، أو من العمرة ، هديا يشعره ، أو يقلّده ، فيخرج من مكة بذلك ، وإن لم يكن ذلك عليه واجبا ابتداء ، وما مقصوده ومراده ، أن يحرم بهما جميعا ، ويقرن بينهما ، لأنّ هذا مذهب من خالفنا ، في حد القران ، ومذهبنا أن يقرن إلى إحرامه سياق هدي ، فليلحظ ذلك ، ويتأمّل ، فأمّا قوله بعث هديا مع هديه ، إذا أحصر ، يريد أنّ هديه الأوّل الّذي قرنه إلى إحرامه ، ما يجزيه في تحليله من

ص: 639


1- في ط وج : وقد روي
2- الوسائل : الباب 2 من أبواب الإحصار والصد ، ح 1.
3- النهاية : كتاب الحج ، باب المحصور والمصدود.

إحرامه ، لأنّ هذا كان واجبا عليه ، قبل حصره ، فإذا أراد التحلّل من إحرامه بالمرض الذي هو الحصر عندنا ، على ما فسرناه ، فيجب عليه هدي آخر ، لذلك ، لقوله تعالى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (1) وما قاله قوي معتمد ، غير أن باقي أصحابنا ، قالوا : يبعث هديه الذي ساقه ، ولم يقولوا يبعث بهدي آخر ، فإذا بلغ محلّه أحلّ إلا من النساء ، فهذا فائدة قوله رحمه اللّه : وإن كان المحصور معتمرا فعل ما ذكرناه ، وكانت العمرة عليه فرضا في الشهر الداخل ، إذا كانت واجبة ، وإن كانت نفلا ، كانت عليه العمرة في الشهر الداخل ، تطوّعا ، وإنفاذ الهدي أو بعث ثمنه على ما ذكرناه أولا ، انّما يجب على من لم يشترط على ربّه في إحرامه على ما أسلفنا القول فيه وحرّرناه.

فأمّا من اشترط على ربه في حال إحرامه ، إن عرض له عارض ، فحلّه حيت حبسته (2) ، ثمّ عرض المرض ، فله أن يتحلّل من دون إنفاذ هدي ، أو ثمن هدي ، إلا أن كان قد ساقه ، وأشعره ، أو قلّده ، فلينفذه ، فأمّا إذا لم يكن ساقه ، واشترط ، فله التحلّل إذا بلغ الهدي محلّه ، وبلوغه يوم العيد ، فإذا كان يوم النحر ، فليتحلل من جميع ما أحرم منه ، إلا النساء على ما قدّمناه.

وقال شيخنا المفيد ، في مقنعته ، والمحصور بالمرض ، إن كان ساق هديا ، أقام على إحرامه ، حتى يبلغ الهدي محلّه ثم يحلّ ، ولا يقرب النساء ، حتى يقضي المناسك من قابل ، هذا إذا كان في حجّة الإسلام ، فأمّا حجة التطوّع ، فإنّه ينحر هديه ، وقد أحلّ ممّا كان أحرم منه ، فإن شاء حج من قابل ، وإن لم يشأ ، لم يجب عليه الحج ، والمصدود بالعد وينحر هديه الذي ساقه بمكانه ، ويقصّر من شعر رأسه ، ويحل ، وليس عليه اجتناب النساء ، سواء كانت حجته فريضة ، أو سنّة (3) هذا آخر كلام المفيد رحمه اللّه.

ص: 640


1- البقرة : 196
2- في ط وج : حبسه
3- المقنعة : كتاب الحج ، باب من الزيادات في فقه الحج ص 446.

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : وأمّا المصدود ، فهو الذي يصدّه العدو عن الدخول إلى مكة ، أو الوقوف بالموقفين ، فإذا كان ذلك ، ذبح هديه في المكان الذي صد فيه ، سواء كان في الحرم ، أو خارجه ، لأنّ الرسول عليه السلام صدّه المشركون بالحديبية ، والحديبية اسم بئر ، وهي خارج الحرم ، يقال : الحديبية بالتخفيف والتثقيل ، وسألت ابن العصّار (1) اللغوي ، فقال : أهل اللغة يقولونها بالتخفيف ، وأصحاب الحديث يقولونها بالتشديد ، وخطّه عندي بذلك ، وكان إمام اللغة ببغداد ، ولا ينتظر في إحلاله ، بلوغ الهدي محله ، ولا يراعي زمانا ، ولا مكانا في إجلاله ، فإذا كان قد ساق هديا ، ذبحه ، وإن كان لم يسق هديا ، فان كان اشترط في إحرامه ، إن عرض له عارض يحلّه (2). حيث حبسه ، فليحل ، ولا هدي عليه ، وإن لم يشترط ، فلا بدّ من الهدي ، وبعضهم يخص وجوب الهدي بالمحصور ، لا بالمصدود ، وهو الأظهر ، لأنّ الأصل براءة الذمة ، ولقوله تعالى : ( فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) (3) أراد به المرض ، لأنّه يقال أحصره المرض ، وحصره العدو ، ويحل من كلّ شي ء أحرم منه ، من النساء ، وغيره ، أعني المصدود بالعدوّ.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : والمحصور إن كان قد أحصر ، وقد أحرم بالحج قارنا ، فليس له أن يحج في المستقبل متمتعا ، بل يدخل بمثل ما خرج منه (4).

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وليس على ما قاله رحمه اللّه دليل من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، بل الأصل براءة الذمة ، وبما شاء يحرم في المستقبل.

وقال رحمه اللّه في النهاية : ومن أراد أن يبعث بهدي تطوّعا ، فليبعثه ، ويواعد أصحابه يوما بعينه ، ثم ليجتنب جميع ما يجتنبه المحرم ، من الثياب ، والنساء ، والطيب ، وغيره ، إلّا أنّه لا يلبّي ، فإن فعل شيئا ممّا يحرم عليه ، كانت

ص: 641


1- في ط : العصار الفوهي
2- ج : فحلّه
3- البقرة : 196
4- النهاية : كتاب الحج ، باب الحصور والمصدور.

عليه الكفارة ، كما يجب على المحرم سواء ، فإذا كان اليوم الذي واعدهم ، أحلّ. وإن بعث بالهدي من أفق من الآفاق ، يواعدهم يوما بعينه ، بإشعاره وتقليده ، فإذا كان ذلك اليوم اجتنب ما يجتنبه المحرم ، إلى أن يبلغ الهدي محلّه ، ثمّ إنّه أحلّ من كلّ شي ء أحرم منه (1).

قال محمّد بن إدريس : هذا غير واضح ، وهذه أخبار آحاد لا يلتفت إليها ، ولا يعرج عليها ، وهذه أمور شرعيّة ، يحتاج مثبتها ومدعيها إلى أدلّة شرعية ، ولا دلالة له من كتاب ، ولا سنّة مقطوع بها ، ولا إجماع ، فأصحابنا لا يوردون هذا في كتبهم ، ولا يودعونه في تصانيفهم ، وانّما أورده ، شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في كتابه النهاية ، إيرادا ، لا اعتقادا ، لأنّ الكتاب المذكور ، كتاب خبر ، لا كتاب بحث ونظر ، كثيرا ما يورد فيه أشياء غير معمول عليها ، والأصل براءة الذمة من التكاليف الشرعيّة.

والمصدود بالعدو إذا منع من الوصول إلى البيت ، كان له أن يتحلّل ، لعموم الآية ، ثم ينظر ، فإن لم يكن له طريق إلا الذي صدفيه ، فله أن يتحلّل بلا خلاف ، وإن كان له طريق آخر ، فإن كان ذلك الطريق ، مثل الذي صدّ عنه ، لم يكن له التحلّل ، لأنّه لا فرق بين الطريق الأوّل والثاني ، وإن كان الطريق الآخر ، أطول من الطريق الذي صدّ عنه ، فإن لم يكن له نفقة تمكنه أن يقطع بها الطريق الآخر ، فله أن يتحلّل ، لأنّه مصدود عن الأول ، وإن كان معه نفقة تمكنه قطع الطريق الأطول ، إلا أنّه يخاف إذا سلك ذلك الطريق ، فاته الحج ، لم يكن له التحلّل ، لأنّ التحلّل انّما يجوز بالصد ، لا بخوف الفوات ، وهذا غير مصدود هاهنا ، فإنّه يجب أن يمضي على إحرامه في ذلك الطريق ، فإن أدرك الحج جاز ، وإن فاته الحج لزمه القضاء ، إن كانت حجّة الإسلام ، أو

ص: 642


1- النهاية : كتاب الحج ، باب المحصور والمصدود.

نذرا في الذمة ، لا معيّنا بتلك السنة ، وإن كانت تطوعا ، كان بالخيار ، هذا في الحصر والصدّ العام.

فأمّا الصد الخاص ، وهو أن يحبس بدين عليه ، أو غير ذلك ، فلا يخلو أنّ يحبس بحق ، أو بغير حق. فإن حبس بحقّ ، بأن يكون عليه دين يقدر على قضائه ، فلم يقضه ، لم يكن له أن يتحلّل ، لأنّه متمكن من الخلاص ، فهو حابس نفسه باختياره ، وإن حبس ظلما ، أو بدين لا يقدر على أدائه ، كان له أن يتحلّل ، لعموم الآية (1) ، والأخبار (2).

ومن صدّ عن البيت ، وقد وقف بعرفة ، والمشعر الحرام ، وعن الرمي أيّام التشريق ، فإنّه يتحلّل ، فإن لحق أيام الرمي ، رمى ، وحلق ، وذبح ، وإن لم يلحق ، أمر من ينوب عنه في ذلك ، فإذا تمكن أتى مكة ، وطاف طواف الحج ، وسعى سعيه ، وقد تمّ حجّه ، ولا قضاء عليه ، هذا إذا طاف ، وسعى ، في ذي الحجّة.

فأمّا إذا أهل المحرم ، ولم يكن قد طاف ، وسعى ، كان عليه الحج ، من قابل ، لأنّه لم يستوف أركان الحج ، من الطواف والسعي ، فأما إذا طاف ، وسعى ، ومنع من المبيت ، والرمي ، فقد تمّ حجّة ، لأنّ ذلك من المفروضات التي ليست أركانا.

وإن كان متمكنا من المبيت ، ومصدودا عن الوقوف بالموقفين ، أو عن أحدهما ، جاز له التحلّل ، لعموم الآية (3) ، والأخبار (4).

فإن لم يتحلّل ، وأقام على إحرامه ، حتّى فاته الوقوف ، فقد فاته الحج ، وعليه أن يتحلّل ، بعمل عمرة ، ولا يلزمه دم ، لفوات الحج ، ويلزمه القضاء ، إن كانت الحجّة واجبة على ما قدّمناه ، وإن كانت تطوّعا ، كان بالخيار.

إذا صد فأفسد حجّه ، فله التحلّل ، وكذلك إن أفسد حجّه ، ثمّ صد ، كان له التحلّل ، لعموم الآية (5) والأخبار (6) ، ويلزمه الدم بالتحلّل ، عند بعض

ص: 643


1- البقرة : 196
2- الوسائل : الباب 6 من أبواب الإحصار والصد ، ح 1.
3- البقرة : 196
4- الوسائل : الباب 6 من أبواب الإحصار والصد ، ح 1.
5- البقرة : 196
6- الوسائل : الباب 6 من أبواب الإحصار والصد ، ح 1.

أصحابنا ، وبدنة بالإفساد ، والقضاء في المستقبل ، سواء كان الحج واجبا ، أو مندوبا.

فإن انكشف العدو ، وكان الوقت واسعا ، وأمكنه الحج ، قضى من سنته ، وليس هاهنا حجة فاسدة يقضي في سنتها ، إلا هذه ، فإن ضاق الوقت ، قضى من قابل ، وإن لم يتحلّل من الفاسدة.

فإن زال الصد ، والحج لم يفت ، مضى في الفاسدة ، وتحلّل ، وإن فاته ، تحلّل بعمل عمرة ، وتلزمه بدنة للإفساد ، ولا شي ء عليه للفوات ، والقضاء عليه من قابل ، على ما بيّناه.

وإن كان العدو باقيا ، فله التحلل ، فإذا تحلّل ، لزمه دم ، عند بعض أصحابنا ، للتحلّل ، وبدنة للإفساد ، والقضاء من قابل ، وليس عليه أكثر من قضاء واحد.

وإذا أراد التحلّل من صدّ العدو ، فلا بدّ من نية التحلّل ، مثل الدخول فيه ، وكذلك إذا أحصر بالمرض.

باب في الزيادات من فقه الحج

من أحدث حدثا في غير الحرم ، فالتجأ إلى الحرم ، ضيّق عليه في المطعم ، والمشرب ، حتى يخرج ، فيقام عليه الحدّ ، فإن أحدث في الحرم ما يجب عليه الحدّ ، أقيم عليه فيه.

ولا ينبغي أن يمنع الحاج خصوصا شيئا من دور مكة ، ومنازلها ، للإجماع على ذلك ، فأمّا الاستشهاد بالآية (1) فضعيف ، بل إجماع أصحابنا منعقد ، وأخبارهم متواترة (2) ، فإن لم تكن متواترة ، فهي متلقاة بالقبول ، لم يدفعها أحد منهم ، فالإجماع هو الدليل القاطع على ذلك ، دون غيره.

ص: 644


1- الحج : 25
2- الوسائل : الباب 32 من أبواب مقدمات الطواف وما يتبعها.

فأمّا الآية وهو قوله تعالى : ( سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ) (1) فإنّ الضمير ، راجع إلى ما تقدّم ، وهو نفس المسجد الحرام ، دون مكة جميعها ، وأيضا قوله تعالى : ( لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا ) (2) فحظر علينا عزوجل دخول غير بيوتنا ، فأمّا من قال لا يجوز بيع رباع مكة ، ولا إجارتها ، فصحيح ، إن أراد نفس الأرض ، لأنّ مكة أخذت عنوة بالسيف ، فهي لجميع المسلمين ، لاتباع ، ولا توقف ، ولا تستأجر ، فأمّا التصرف ، والتحجير ، والآثار ، فيجوز بيع ذلك ، وإجارته ، كما يجوز بيع سواد العراق المفتتحة عنوة ، فيحمل ما ورد في ذلك على نفس الأرض ، دون التصرف ، لئلّا تتناقض الأدلة ، فليلحظ ذلك ، ويتأمل.

ولا ينبغي لأحد ، أن يرفع بناء فوق الكعبة.

ومن وجد شيئا في الحرم ، لا يجوز له أخذه ، فإن أخذه عرّفه سنة ، فإن جاء صاحبه ، وإلا كان مخيرا بين شيئين ، أحدهما يتصدق به عن صاحبه بشرط الضمان ، إن لم يرض بذلك صاحبه والآخر أن يحفظه على صاحبه ، حفظ أمانة ، وليس له أن يتملكه ، ولا يكون كسبيل ماله.

وإن وجده في غير الحرم ، عرّفه سنة ، ثم هو مخير بين شيئين ، أحدهما التصدق به ، بشرط الضمان إن لم يرض صاحبه ، والآخر أن يجعله كسبيل ماله. وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي رحمه اللّه في مبسوطة : ثم هو مخير بين ثلاثة أشياء ، يعني في لقطة غير الحرم ، بعد تعريفه سنة ، بين أن يحفظه على صاحبه أمانة ، وبين أن يتصدق عنه بشرط الضمان ، وبين أن يتملكه لنفسه ، وعليه ضمانه (3) والصحيح أنّه يكون بين خيرتين ، فحسب ، لأنّ إجماع أصحابنا منعقد ، أنّه يكون بعد السنة وتعريفه فيها ، كسبيل ماله ، وانّما الشافعي يخيّره بين ثلاثة أشياء ،

ص: 645


1- الحج : 25
2- النور : 27.
3- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في الزيادات من فقه الحج.

وإلى ما اخترناه وحررناه ، ذهب شيخنا أبو جعفر ، في نهايته (1).

وتكره الصلاة في طريق مكة ، في أربعة مواضع ، البيداء ، وقد فسّرناها في كتاب الصلاة ، وذات الصلاصل ، وضجنان ، ووادي الشقرة.

ويستحب الإتمام في الحرمين ، مكة والمدينة ، ما دام مقيما ، وإن لم ينو المقام عشرة أيّام ، وإن قصّر فلا شي ء عليه.

وكذلك يستحب الإتمام في مسجد الكوفة ، وفي مشهد الحسين عليه السلام ، هذا على قول بعض أصحابنا ، والأظهر الأكثر عند المحصّلين ، أن لا يجوز الإتمام من غير نية المقام عشرة أيّام للمسافر ، إلا في نفس المسجدين فحسب ، دون مكة جميعها ، ودون المدينة جميعها ، لأنّ الإجماع حاصل على ذلك ، والخلاف فيما عداه ، والأصل التقصير للمسافر ، فأخرجنا ما أخرجنا بدليل الإجماع ، بقي ما عداه على ما كان ، وكذلك نفس مسجد الكوفة ، دون الكوفة ، وكذلك في نفس مشهد الحسين عليه السلام ، دون ما عدا المسجد الذي لا يجوز للجنب الجلوس فيه ، ولا تقريبه النجاسات.

وذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في كتاب الإستبصار ، في الجزء الثاني ، إلى جواز الإتمام في مكة ، والمدينة ، والكوفة ، وقال : أخص ما ورد من الأخبار ، بالإتمام في نفس المساجد ، دون ما عداها بالذكر ، تعظيما لها (2) ، ثمّ ذكر في الأخبار الأخر ، ألفاظا يكون هذه المساجد داخلة فيها.

قال محمّد بن إدريس مصنّف هذا الكتاب : وهذا منه رحمه اللّه تعسف ، لا حاجة به إليه ، وتأويل بعيد ، وإذا كنّا لا نعمل بأخبار الآحاد ، وإجماعنا منعقد على ما ذكرناه ، من الإتمام في نفس المساجد المذكورة ، فلا يلتفت إلى ما عداه.

ص: 646


1- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج والعبارة هكذا وإذا وجد في غير الحرم فليعرّفه سنة ثم هو كسبيل ماله يعمل به ما شاء. وهذا بخلاف ما نقله ابن إدريس عنه.
2- الاستبصار : كتاب الحج ، الباب 228 و 229.

وقد رجع شيخنا أبو جعفر رحمه اللّه عن هذا القول في كتب الصلاة ، في باب الصلاة في السفر ، فإنّه قال : ويستحب الإتمام في أربعة مواطن في السفر ، بمكة ، والمدينة ، ومسجد الكوفة ، والحائر على ساكنه السلام ، فخص نفس مسجد الكوفة ، دون الكوفة ، وفي الاستبصار قال : يتمم في الكوفة (1).

ويكره الحج والعمرة على الإبل الجلّالة.

ويستحب لمن حج على طريق العراق ، أن يبدأ أوّلا بزيارة النبي عليه السلام ، والمدينة ، فإنّه لا يأمن أن لا يتمكن من العود إليها ، فان بدأ بمكة ، فلا بد له من العود إليها على طريق الاستحباب المؤكد ، دون الفرض المحتم.

وإذا ترك الناس الحج ، وجب على الإمام أن يجبرهم على ذلك ، قال شيخنا أبو جعفر في نهايته (2) : وكذلك إن تركوا زيارة النبي صلوات اللّه عليه كان عليه إجبارهم عليها.

قال محمد بن إدريس رحمه اللّه : إجبارهم على زيارة الرسول صلوات اللّه عليه لا يجوز ، لأنّها غير واجبة ، بل ذلك مؤكد الاستحباب ، دون الفرض والإيجاب ، بغير خلاف ، وانّما إذا كان الشي ء شديد الاستحباب ، أتى به على لفظ الوجوب ، على ما أسلفنا القول في معناه.

ويجوز للإنسان إذا وجب عليه الحج ، أن يستدين ما يحج به ، إذا كان من ورائه ما إن مات قضى عنه ، فإن لم يكن له ذلك ، فلا يجوز له الاستدانة.

ويستحب الاجتماع يوم عرفة ، والدعاء عند المشاهد ، وفي المواضع المعظمة.

ويستحب لمن انصرف من الحج ، أن يعزم على العود إليه ، ويسأل اللّه تعالى ذلك.

ومن جاور بمكة ، فالطواف له أفضل من الصلاة ، ما لم يجاوز ثلاث سنين فإذا جاوزها أو كان من أهل مكة ، كانت الصلاة له أفضل.

ص: 647


1- الإستبصار : كتاب الحج ، الباب 228 و 229.
2- النهاية : كتاب الحج. باب آخر من فقه الحج.

ولا بأس أن يحج الإنسان عن غيره ، تطوعا ، إذا كان ميتا ، فإنّه يتفضل اللّه تعالى عليه ، بمثل ثوابه ، للإجماع من أصحابنا على ذلك.

وتكره المجاورة بمكة ، ويستحب إذا فرغ من مناسكه ، الخروج منها.

ومن أخرج شيئا من حصى المسجد الحرام ، كان عليه رده.

ويكره أن يخرج من الحرمين ، بعد طلوع الشمس قبل أن يصلّي الصلاتين ، فإذا صلاهما خرج إن شاء.

ولا يعرف أصحابنا كراهية أن يقال لمن لم يحج : صرورة ، بل رواياتنا وردت بذلك ، ولا أن يقال لحجة الوداع : حجة الوداع ، ولا أن يقال : شوط وأشواط ، بل ذلك كله ورد في الأخبار ، ولا يعرف أصحابنا استحبابا لشرب نبيذ السقاية.

وأشهر الحج ، قد بيّنا أنّها : شوال ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والأيّام المعلومات : عشر ذي الحجة ، والأيام المعدودات : أيّام التشريق ، وهي الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر من ذي الحجة ، ويسمّى الحادي عشر منها يوم القرّ لأنّ الناس يقرّون فيه بمنى (1) ولا يبرحونه على ما قدّمناه.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : والأيّام المعلومات : أيّام التشريق ، والأيام المعدودات : هي عشر ذي الحجة (2) والأول هو الأظهر الأصحّ ، الذي لا يجوز القول بخلافه ، وهو مذهب شيخنا المفيد في مقنعته (3) وقد رجع الشيخ أبو جعفر ، عمّا ذكره في نهايته ، في مسائل خلافه وقال : الأيام المعدودات : أيّام التشريق بلا خلاف (4).

وإذا أوصى الإنسان بحجة ، وكانت حجة الإسلام ، أخرجت من أصل المال ، من الموضع الذي مات فيه من بلده ، وهو الذي وردت روايات أصحابنا

ص: 648


1- ج : في منى
2- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.
3- المقنعة : كتاب الحج ، باب من الزيادات في فقه الحج ص 452.
4- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 332.

به (1) وقال بعض أصحابنا : لا يلزم الورثة أن يخرجوا إلا إجارة من بعض المواقيت ، والأول هو المذهب ، وإليه ذهب شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته (2) وإن كان يقول في مبسوطة بخلافه (3).

وإن كان ما أوصى به نافلة ، أخرجت من الثلث ، فإن لم يبلغ الثلث ما يحج عنه من موضعه ، حجّ عنه من بعض الطريق ، وهذا هو الأظهر ، وبه نطقت الأخبار عن الأئمة الأطهار (4) وهو قول شيخنا أبي جعفر أيضا في نهايته (5).

ومن نذر أن يحج لله تعالى ، ثمّ مات قبل أن يحج ، ولم يكن أيضا قد حجّ حجة الإسلام ، أخرجت عنه حجّة الإسلام من صلب المال وكذلك الحجة المنذورة أيضا تخرج من صلب المال ، لأنّه واجب في ذمته ، ودين في رقبته ، ولا خلاف أنّ الواجبات ، والديون تخرج من صلب ماله.

وقال شيخنا أبو جعفر في نهايته : ويخرج ما نذر فيه من ثلثه (6) وهذا من طريق خبر الآحاد ، أورده رحمه اللّه دون أن يكون اعتقاده ومذهبه ، فإن لم يكن المال إلا بقدر ما يحج عنه حجّة الإسلام حجّ به عنه.

ومن وجب عليه حجة الإسلام ، ولم تكن استقرّت عليه ، فخرج لأدائها ، فمات في الطريق ، فلا شي ء عليه ، ولا على وليّه ، ولا يخرج شي ء من تركته في الحج ، سواء مات قبل الإحرام ودخول الحرم ، أو بعده ، لأنّه ما فرّط في ذلك ، ولا استقرت الحجّة في ذمّته.

وقال شيخنا أبو جعفر الطوسي في نهايته : ومن وجبت عليه حجة الإسلام ، فخرج لأدائها فمات في الطريق ، فإن كان قد دخل الحرم فقد أجزأ

ص: 649


1- الوسائل : الباب 2 و 3 من أبواب النيابة للحج.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.
3- المبسوط : كتاب الحج ، فصل في حقيقة الحج والعمرة وشرائط وجوبها.
4- الوسائل : الباب 2 و 3 من أبواب النيابة للحج.
5- النهاية : كتاب الوصية ، باب الوصية المبهمة.
6- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.

عنه ، وإن لم يكن قد دخل الحرم ، كان على وليّه أن يقضي عنه حجة الإسلام من تركته (1) ، وهذا غير واضح على ما قلناه.

فأمّا إن كانت الحجة وجبت عليه ، واستقرت ، بأن فرط في المضي إلى الحج ، بعد وجوبه في سنة وجوبه ، ثمّ مضى بعد تلك السنة ، ومات في الطريق ، فإن كان مات بعد الإحرام فقد أجزأت عنه ، ولا يجب على الورثة إخراج حجّة عنه ، وإن كان موته قبل الإحرام ، فما أجزأت عنه ، ويجب على الورثة ، إخراج حجّة عنه ، فهذا تحرير هذه الفتيا.

ومن اوصى أن يحج عنه كل سنة من وجه بعينه ، فلم يسع ذلك المال للحج ، في كل سنة جاز أن يجعل مال سنتين لسنة واحدة.

ومن أوصى أن يحج عنه ، ولم يذكر ، كم مرة ، ولا بكم من ماله ، وجب على الورثة ، إخراج حجة واحدة فحسب ، لأنّ بحجة واحدة ، قد امتثلوا ما وصّاهم به بغير خلاف.

وقال شيخنا أبو جعفر ، في نهايته : وجب أن يحج عنه ما بقي من ثلثه شي ء يمكن أن يحج به (2) ، وهذا غير واضح ، لأنّه لا دليل عليه يعضده من كتاب ، ولا سنة مقطوع بها ، ولا إجماع ، والأصل براءة الذمة ، وما ذهبنا إليه لا خلاف فيه ، لأنّه أقل ما يمتثل به الأمر ، والزائد على ذلك يحتاج إلى دليل ، وانّما أورده إيرادا ، من جهة الخبر الواحد ، لا اعتقادا كما أورد نظائره من قوله : الأيّام المعدودات عشر ذي الحجة ، والمعلومات أيام التشريق ، ثم قال في مسائل الخلاف : الأيام المعدودات أيّام التشريق بلا خلاف (3).

فإن قال : حجوا عني بثلثي ، وجب أن يحج عنه مدة ما يبقى من ثلثه شي ء يمكن أن يحج به ، فإن قال : حجّوا عني بثلثي حجة واحدة ، حجّ عنه بجميع ثلثه حجة واحدة.

ص: 650


1- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.
2- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.
3- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 332.

وإذا خرج الإنسان من مكة ، فليتوجّه إلى المدينة ، لزيارة النبي عليه السلام استحبابا ، لا إيجابا ، على ما قدّمناه ، فإذا بلغ إلى المعرّس ، نزله ، وصلّى فيه ركعتين استحبابا ، ليلا كان ، أو نهارا ، لأنّ المعرّس مشتق من التعريس ، والتعريس نزول القوم في السفر من آخر الليل ، يقعون فيه ، وقعة للاستراحة ، ثمّ يرتحلون ، والموضع معرّس فالموضع نزله عليه السلام آخر الليل ، واستراح فيه فسنّ فيه النزول اقتداء به عليه السلام ، سواء كان وقت التعريس ، أو لم يكن ، فلأجل ذلك قالوا ليلا كان أو نهارا ، يريدون به ذلك ، وإن لم يكن ذلك الوقت وقت التعريس ، فإن جازه ونسي ، رجع وصلّى فيه ، واضطجع قليلا.

وإذا انتهى إلى مسجد الغدير ، دخله ، وصلّى فيه ركعتين.

واعلم أنّ للمدينة حرما ، مثل حرم مكة ، وحدّه ما بين لابتيها ، واللابة : الحرة ، والحرة : الحجارة السود ، وهو من ظل عائر إلى ظل وعير ، ولا يعضد شجرها ، ولا بأس ان يؤكل صيدها ، إلا ما صيد بين الحرتين ، هكذا أورده شيخنا في نهايته بهذه العبارة (1).

والأولى أن يقال : وحدّه من ظل عائر إلى ظل وعير ، لا يعضد شجرها ، ولا بأس أن يؤكل صيدها ، إلا ما صيد بين الحرتين لأنّ الحرتين غير ظل عاير ، وظل وعير ، والحرتان ما بين الظلين ، لأنّه قال لا يعضد الشجر فيما بين الظلين ، ولا بأس ان يؤكل الصيد ، الا ما صيد بين الحرتين ، فدلّ على أنّ الحرتين داخلتان في الظلين ، وإلا كان يكون الكلام متناقضا ، فلو كانت الحرتان هما حدّ حرم المدينة الأوّل ، لما حلّ الصيد في شي ء من حرم المدينة.

ويستحب لمن أراد دخول المدينة أن يغتسل ، وكذلك إذا أراد دخول مسجد النبي عليه السلام ، فإذا دخله ، أتى قبر الرسول عليه السلام فزارة ، فإذا فرغ من

ص: 651


1- النهاية : كتاب الحج ، باب آخر من فقه الحج.

زيارته أتى المنبر ، فمسحه ، ومسح رمانتيه.

ويستحب الصلاة بين القبر والمنبر ، ركعتين ، فإنّ فيه روضة من رياض الجنة ، وقد روي أنّ فاطمة عليها السلام مدفونة هناك (1) ، وقد روي أنّها مدفونة في بيتها (2) وهو الأظهر في الروايات ، وعند المحصّلين من أصحابنا ، إلا أنّه لمّا زاد بنو أمية في المسجد صارت فيه ، وروي أنّها مدفونة بالبقيع (3) ويعرف ببقيع الفرقد ، وهو شجر مثل العوسج ، وحبّه أشدّ حمرة من حبّه ، وهذه الرواية بعيدة من الصواب.

ويستحب المجاورة بالمدينة ، وإكثار الصلاة في مسجد النبي عليه السلام.

ويكره النوم في مسجد الرسول عليه السلام.

ويستحب لمن له مقام بالمدينة ، أن يصوم ثلاثة أيّام بها ، الأربعاء والخميس ، والجمعة ، ويصلّي ليلة الأربعاء عند أسطوانة أبي لبابة ، واسمه بشير بن عبد المنذر الأنصاري ، شهد بدرا ، والعقبة الأخيرة وهي أسطوانة التوبة ، وذلك أنّه تخلّف في بعض الغزوات عن الرسول عليه السلام فندم على ذلك ، وربط نفسه إلى هذه الأسطوانة بسلسلة ، وقال : لا يحلّني إلا رسول اللّه عليه السلام ، فلمّا قدم الرسول عليه السلام حلّه ، واستغفر له ، فتاب اللّه عليه ، فسميت أسطوانة التوبة ، ويقعد عندها يوم الأربعاء ، ويأتي ليلة الخميس الأسطوانة التي تلي مقام رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله ومصلّاه ، ويصلّي عندها ، ويصلّى ليلة الجمعة عند مقام النبي صلى اللّه عليه وآله.

ويستحب أن يكون هذه الثلاثة الأيام معتكفا في المسجد ، ولا يخرج منه إلا لضرورة.

ويستحب إتيان المشاهد ، والمساجد كلّها بالمدينة ، مسجد قباء ممدود ،

ص: 652


1- الوسائل : الباب 18 من أبواب المزار وما يناسبه ، ح 4.
2- الوسائل : الباب 18 من أبواب المزار وما يناسبه ، ح 4.
3- الوسائل : الباب 18 من أبواب المزار وما يناسبه ، ح 4.

ومشربة أم إبراهيم عليه السلام ، والمشربة الغرفة ومسجد الأحزاب وهو مسجد الفتح ، ومسجد الفضيخ ، وقيل إنّه الذي ردّت الشمس فيه لأمير المؤمنين عليه السلام بالمدينة ، والفضيخ شراب ، يتخذ من البسر وحده ، من غير أن تمسّه النار ، فسمّي الموضع بمسجد الفضيخ ، لأنّه كان يعمل ذلك الشراب عنده ، ويأتي قبور الشهداء كلّهم ، ويأتي قبر حمزة بأحد ، وقبور الشهداء هناك أيضا ، إلا أنّه يبدأ بقبر حمزة عليه السلام ولا يتركه إلا عند الضرورة إن شاء اللّه تعالى.

قال شيخنا أبو جعفر في مسائل خلافه : صيد وجّ - وهو بلد باليمن - غير محرّم ولا مكروه (1) قال محمّد بن إدريس : سمعت بعض مشايخنا يصحّف ذلك ، ويجعل الكلمتين كلمة واحدة ، فيقول صيدوخ بالخاء (2) ، فأردت إيراد المسألة لئلا تصحف.

اعلم إنّ وجّأ بالجيم المشدّدة بلد بالطائف ، لا باليمن ، وفي الحديث : آخر وطأه وطأها رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله بوج ، يريد غزاة الطائف قال الشاعر :

فإن تسق من أعناب وجّ فاننا *** لنا العين تجري من كسيس ومن خمر

الكسيس بالسّينين غير المعجمتين : نبيذ التمر.

وقال النميري في زينب بنت يوسف أخت الحجاج :

مررن بوجّ رائحات عشيّة *** يلبين للرّحمن مؤتجرات

وكانت قد نذرت أن تحج من الطائف ماشية ، وبين الطائف وبين مكّة يومان ، فمشت ذلك في اثنين وأربعين يوما ، وجعلت بطن وجّ مرحلة ، وهو قدر ثلاثمائة ذراع.

ص: 653


1- الخلاف : كتاب الحج ، مسألة 309
2- ليس في ج : بالخاء. وفي المط : بالحاء المهملة.

فصل في الزيارات

زيارة رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله عند قبره ، وكلّ واحد من الأئمة من بعده ، صلوات اللّه عليهم في مشاهدهم ، من السنن المؤكدة ، والعبادات المعظمة ، في كلّ جمعة ، أو كلّ شهر ، أو كلّ سنة ، إن أمكن ذلك ، وإلا فمرّة في العمر.

ويستحب لقاصد الزيارة ، بل يلزمه أن يخرج من منزله عازما عليها ، لوجهها ، مخلصا بها لله سبحانه ، فإذا انتهى إلى مسجد النبي عليه السلام ، أو مشهد الإمام المزور عليه السلام ، فليغتسل (1) قبل دخوله ، سنّة مؤكدة ، ويلبس ثيابا نظيفة طاهرة جددا بضم الدال ، لأنّها جمع جديد ، فأمّا جدد بفتح الدال ، فالطريق في الأرض ، ومنه قوله تعالى : ( وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ ) (2) هذا مع الإمكان ، فيأت القبر ، وعليه السكينة ، والوقار ، فإذا انتهى إليه ، فليقف ممّا يلي وجه المزور عليه السلام وظهره إلى القبلة ، ويسلّم عليه ، ويذكره بما هو أهله ، من الألفاظ المروية عن أئمة الهدى عليهم السلام ، وإلا فبما نفث به صدره.

فإذا فرغ من الذكر ، فليضع خدّه الأيمن على القبر ، ويدعو اللّه تعالى ، ويتضرّع إليه بحقّه ، ويلحّ عليه ، ويرغب إليه أن يجعله من أهل شفاعته ، ثمّ يضع خدّه الأيسر ، ويدعو ويجتهد ، ثمّ يتحوّل إلى الرأس فيسلّم عليه ويعفّر خدّيه على القبر ، ويدعو ثمّ يصلّي ويتضرّع (3) الركعتين عنده ، ممّا يلي الرأس ويعقّبهما بتسبيح فاطمة عليها السلام ، ويدعو ويتضرّع ، ثمّ يتحوّل إلى عند الرجلين ، فيسلّم ويدعو ويعفّر خدّيه على القبر ، ويودّع وينصرف.

فإذا كانت الزيارة لأبي عبد اللّه الحسين عليه السلام زار ولده عليّا الأكبر ، وأمّه ليلى ، بنت أبي مرّة بن عروة بن مسعود الثقفي ، وهو أوّل قتيل في الوقعة ،

ص: 654


1- ج : فيغتسل
2- فاطر : 27
3- في ط وج : ويدعو ثم.

يوم الطف ، من آل أبي طالب عليه السلام ، وولد علي بن الحسين عليه السلام هذا في إمارة عثمان ، وقد روي ذلك عن جده علي بن أبي طالب عليه السلام ، وقد مدحه الشعراء ، وروي عن أبي عبيدة ، وخلف الأحمر ، أنّ هذه الأبيات ، قيلت في عليّ بن الحسين الأكبر ، المقتول بكربلاء :

لم تر عين نظرت مثله *** من محتف يمشي ولا ناعل

يغلي نيّ ء اللحم حتى إذا *** انضج لم يغل على الآكل

كان إذا شبت له ناره *** يوقدها بالشرف القابل

كيما يراها بائس مرمل *** أو فرد حيّ ليس بالآهل

اعني ابن ليلى ذا السدا والنّدا *** أعني ابن بنت الحسب الفاضل

لا يؤثر الدنيا على دينه *** ولا يبيع الحقّ بالباطل (1)

وقد ذهب شيخنا المفيد ، في كتاب الإرشاد ، إلى أنّ المقتول بالطف ، هو علي الأصغر ، وهو ابن الثقفية ، وانّ علي الأكبر ، هو زين العابدين عليه السلام ، أمّه أم ولد ، وهي شاة زنان ، بنت كسرى يزدجرد (2).

قال محمّد بن إدريس : والأولى الرجوع إلى أهل هذه الصناعة ، وهم النسّابون ، وأصحاب السّير والأخبار والتواريخ ، مثل الزبير بن بكّار ، في كتاب أنساب قريش ، وأبي الفرج الأصفهاني ، في مقاتل الطالبيين ، والبلاذري ، والمزني ، صاحب كتاب لباب أخبار الخلفاء ، والعمري النّسابة حقّق ذلك ، في كتاب المجدي ، فإنّه قال : وزعم من لا بصيرة له ، أنّ عليا الأصغر ، هو المقتول بالطفّ ، وهذا خطأ ووهم وإلى هذا ذهب صاحب كتاب الزواجر والمواعظ ، وابن قتيبة في المعارف ، وابن جرير الطبري المحقّق لهذا الشأن ، وابن أبي الأزهر في تاريخه ، وأبو حنيفة الدينوري في الأخبار الطوال ، وصاحب كتاب الفاخر ،

ص: 655


1- مقاتل الطالبيين ص 53
2- الإرشاد في دفن أجسادهم المطهّرة

مصنف من أصحابنا الإماميّة ، ذكره شيخنا أبو جعفر ، في فهرست المصنفين ، وأبو عليّ بن همام ، في كتاب الأنوار ، في تواريخ أهل البيت ، ومواليدهم ، وهو من جملة أصحابنا المصنفين المحقّقين ، فهؤلاء جميعا أطبقوا على هذا القول ، وهم أبصر بهذا النوع.

قال أبو عبيد (1) في كتاب الأمثال : وعند جفينة (2) الخبر اليقين ، قال : وهذا قول الأصمعي ، وأما هشام بن الكلبي ، فإنّه أخبر أنّه جهينة ، وكان ابن الكلبي بهذا النوع البر من الأصمعي.

قال محمّد بن إدريس : نعم ما قال أبو عبيد (3) لأنّ أهل كلّ فن ، أعلم بفنّهم من غيرهم ، وأبصر وأضبط.

وقد ذهب أيضا شيخنا المفيد في كتاب الإرشاد ، إلى أنّ عبيد اللّه بن النهشليّة ، قتل بكربلاء مع أخيه الحسين عليه السلام (4) وهذا خطأ محض ، بلا مراء ، لأنّ عبيد اللّه بن النهشليّة ، كان في جيش مصعب بن الزبير ، ومن جملة أصحابه ، قتله أصحاب المختار بن أبي عبيد بالمذار ، وقبره هناك ظاهر ، الخبر بذلك متواتر ، وقد ذكره شيخنا أبو جعفر ، في الحائريات (5) ، لمّا سأله السائل عمّا ذكره المفيد في الإرشاد ، فأجاب بأنّ عبيد اللّه بن النهشليّة ، قتله أصحاب المختار بالمذار ، وقبره هناك معروف ، عند أهل تلك البلاد.

ونسب شيخنا المفيد في كتاب الإرشاد ، العبّاس بن علي ، فقال : امّه أمّ البنين ، بنت حزام بن خالد بن دارم ، وهذا خطأ ، وانّما أمّ العبّاس ، المسمّى بالسقّاء ، ويسمّيه أهل النسب أبا قربة ، المقتول بكربلاء ، صاحب راية الحسين عليه السلام ذلك اليوم ، أمّ البنين ، بنت حزام بن خالد بن ربيعة ، وربيعة

ص: 656


1- في ط وج : أبو عبيدة
2- في ط وج : جهينة.
3- في ط وج : أبو عبيدة
4- الإرشاد : باب ذكر أولاد أمير المؤمنين عليه السلام ، وفي المصدر هو ابن ليلى بنت مسعود الدارمية.
5- لا يوجد في الحائريات.

هذا ، هو أخو لبيد الشاعر ، ابن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ، وليست من بني دارم التميميين.

وقال ابن حبيب النسابة ، في كتاب المنمق لما ذكر أبناء الحبشيات من قريش ، ذكر من جملتهم العبّاس بن علي بن أبي طالب عليه السلام ، وهذا خطأ منه ، وتغفيل ، وقلة تحصيل. وكذلك قال في أبناء السنديات من قريش ، ذكر من جملتهم ، محمّد بن عليّ بن أبي طالب بن الحنفية ، وأم علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام.

قال محمّد بن إدريس : وهذا جهل من ابن حبيب ، وقلّة تأمّل.

قال محمّد بن إدريس رحمه اللّه : وأيّ غضاضة تلحقنا ، وأيّ نقص يدخل على مذهبنا إذا كان المقتول عليا الأكبر ، وكان عليا الأصغر الإمام المعصوم بعد أبيه الحسين عليهما السلام فإنّه كان لزين العابدين ، يوم الطف ، ثلاث وعشرون سنة ، ومحمّد ولده الباقر عليه السلام ، حي ، له ثلاث سنين وأشهر ، ثم بعد ذلك كلّه ، فسيّدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام كان أصغر ولد أبيه سنا ، ولم ينقصه ذلك.

وإذا كانت الزيارة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام ، فليبدأ بالتسليم عليه ، ثم على آدم ، ونوح ، لكون الجميع مدفونا هناك ، على ما رواه أصحابنا (1) ، فإذا فرغ من الزيارة ، فليصل عند الرأس ، ست ركعات لزيارة كلّ حجة منهم ، ركعتان.

والمستحب أن يقرأ في الأولى منهما ، فاتحة الكتاب ، وسورة الرحمن ، وفي الثانية منهما ، فاتحة الكتاب ، وسورة يس ، ثم يتشهد ، ويسلم ، ثم يسبّح تسبيح الزهراء عليها السلام ويستغفر لذنوبه ، ويدعو ، ثمّ يسجد لله شكرا ، ويقول في

ص: 657


1- الوسائل : باب 27 من أبواب المزار وما يناسبه.

سجوده : شكرا شكرا ، مائة مرّة ، ولا أرى التعفير على قبر أحد ، ولا التقبيل له ، سوى قبور الأئمة عليهم السلام ، لأنّ ذلك حكم شرعي ، يحتاج في استحبابه ، وإثباته إلى دليل شرعي ، ولن يجده طالبه ، ولو لا إجماع طائفتنا على التقبيل ، والتعفير ، على قبور الأئمة عليهم السلام عند زيارتهم ، لما جاز ذلك ، لما بيناه ، وتفصيل ما أجملناه من الزيارات ، وشرح أذكارها ، موجود في غير موضع من كتب السلف الجلّة المشيخة رضي اللّه عنهم ، من طلبه وجده.

ومن لم يتمكن من زيارة النبي ، والأئمة عليهم السلام ، بجنب قبورهم ، لبعد داره ، أو لبعض الموانع ، فليزرهم ، أو من شاء منهم ، من حيث هو ، مصحرا ، أو من علو داره أو من مصلاه ، في كلّ يوم ، أو كلّ جمعة ، أو كلّ شهر.

ومن السنة ، زيارة أهل الإيمان ، أحياء وأمواتا.

ومن زار أخاه المؤمن ، فلينزل على حكمه ، ولا يحتشمه ، ولا يكلّفه.

ومن زاره أخوه المؤمن ، فليستقبله ، ويصافحه ، ويعتنقه ، وذكر بعض أصحابنا المصنفين في تصنيفه : ويقبّل كلّ واحد منهما ، موضع سجود الآخر ، وقد روي في الأخبار ، التقبيل للقادم من الحج (1) وليكرم كلّ واحد منهما صاحبه ، وليتحف به.

وعلى المزور ، الاعتراف بحقّ زائره ، وليتحفه بما يحضره من طعام ، وشراب ، وفاكهة ، وطيب ، أو ما تيسّر من ذلك ، وأدناه شرب الماء ، أو الوضوء ، وصلاة ركعتين عنده ، والتأنيس بالحديث ، فإنّه جانب من القري ، والتشييع له عند الانصراف.

وإذا زار قبر بعض إخوانه المؤمنين ، فليستظهره ، ويجعل وجهه إلى القبلة ، بخلاف زيارة قبر الإمام المعصوم ، في الوقوف ، والكيفية ، على ما قدّمناه ، وتقرأ سورة الإخلاص سبعا ، وسورة القدر سبعا ، وتضع يدك على القبر ، وقل اللّهم

ص: 658


1- تحف العقول : باب ما روي عن أمير المؤمنين ، حديث أربعمائة.

ارحم غربته ، وصل وحدته ، وآنس وحشته ، وأسكن إليه من رحمتك ، رحمة يستغني بها عن رحمة من سواك ، وألحقه بمن كان يتولاه ، ويستغفر اللّه لذنبه ، وينصرف إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ الجزء الأوّل من كتاب السرائر ، الحاوي لتحرير الفتاوي ، ويتلوه الجزء الثاني إن شاء اللّه تعالى كتاب الجهاد ، وسيرة الإمام باب فرض الجهاد ، ومن يجب عليه ، وشرائط وجوبه ، وحكم الرباط ، وحسبنا اللّه ونعم الوكيل : وصلواته وتحيّاته على سيّدنا محمّد النبي وعلى آله الطاهرين الأئمة الراشدين.

كتبه وفرغ منه نسخا وتصنيفا مؤلّفه ومنشئه « محمد بن إدريس » وذلك بحلّة الجامعين ، تاريخ ذي القعدة من سنة سبع وثمانين وخمسمائة حامدا مصليا مستغفرا من اللّه تائبا من خطائه ولله المنة وبه الثقة (1).

ص: 659


1- قد كتب كاتب نسخة الأصل هنا ما لفظه : واتفق الفراغ من انتساخه في العشر الأوّل من ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وستمائة. وحسبنا اللّه ونعم الوكيل كما انه كتب في حاشية النسخة هكذا : بلغ مقابلة بخط المصنف رضي اللّه عنه وصحّ الّا ما زاغ عنه النظر أو حسر عنه البصر. وكتب في ذي حجة من سنة أربعين وستمائة واللّه الموفق.

ص: 660

فهرس الموضوعات

من حياة المؤلف قدس سره... 5

مقدمة المؤلف... 41

كتاب الطهارة

باب في أحكام الطهارة وجهة وجوبها وكيفية أقسامها وحقيقتها

الطهارة لغة وشرعا... 56

تقسيم الطهارة إلى كبرى وصغرى ، وكل منهما إلى واجب وندب... 57

باب المياه وأحكامها

الماء المطلق والمضاف وأحكامهما... 58

في بيان حد الكر من الماء... 60

في طهارة الماء المستعمل في التطهير ومطهريته... 61

تقسيم الماء إلى جار وواقف... 62

طريق تطهير ماء القليل إذا تنجس... 63

في تنجس ماء البئر بوقوع النجاسة فيه ، وبيان حد النزح... 69

فيما يوجب نزح الجميع أو المراوحة وما يوجب نزح البعض... 72

أحكام الأسئار... 84

عدم جواز استعمال الإناءين المعلوم نجاسة أحدهما لا بعينه... 85

حول الاخبار أو الشهادة بنجاسة الماء... 86

ص: 661

أحكام ماء الحمام... 89

كيفية تطهير الاناء الذي ولغ فيه الكلب... 91

باب أحكام الاستنجاء والاستطابة وكيفية الوضوء وأحكامه

أحكام الاستنجاء... 95

في وجوب النية في الطهارة وبيان وقتها وكيفيتها... 98

كيفية الوضوء وما وجب غسله فيه... 99

في لزوم الترتيب والموالاة في الطهارة... 101

فيمن شك في حال الوضوء أو بعده ومن تيقن الطهارة والحدث معاً... 104

باب أحكام الاحداث الناقضة للطهارة

في نواقض الوضوء وأنها ثلاثة أضرب... 106

فيما يوجب الغسل... 107

تعداد نواقض الطهارة المائية... 111

استباحة الصلاة بغسل الجنابة واختلاف الأقوال في غيره... 112

باب الجنابة وأحكامها وكيفية الطهارة

منها فيما يوجب الجنابة... 114

ما يحرم على الجنب... 117

غسل الجنابة كيفيتها وسننها وآدابها... 118

حكم من وجد بعد الغسل بللا... 122

في إجزاء غسل الجنابة عن الأغسال المفروضة والمسنونة... 123

الأغسال المسنونة... 124

باب التيمم وأحكامه

كيفية تيمم البدل من الوضوء... 135

كيفية التيمم بدل الغسل... 137

اختلاف الأقوال فيمن دخل في الصلاة بالتيمم ثم أصاب الماء... 139

ص: 662

من نسى الماء في رحله فتيمم وصلى ثم علم به من بعد... 140

إذا اجتمع ميت ومحدث وجنب ومعهم من الماء ما يكفي أحدهم... 142

باب أحكام الحيض والاستحاضة والنفاس

بيان صفات دم الحيض... 143

أحكام الحائض وأنها عشرون حكماً... 144

لو اشتبه دم الحيض بدم العذرة والقرح... 146

إن تجاوز الدم عن العشرة فلها أربعة أحوال... 146

من لم تكن لها عادة ورأت الدم اليوم واليومين... 149

اختلاف الأقوال والأصحاب في الحبلى المستبين حملها... 150

المستحاضة وصفها وبيان أحكامها... 152

في دم النفاس وأحكامه... 154

في عدم الحد لقليل النفاس... 155

باب غسل الأموات وما يتقدم ذلك

آداب المريض وفضل عيادته... 157

فيما يستحب فعله عند احتضاره وبعده... 158

في أن غسل الميت واجب كفائي... 158

بيان ترتيب غسل الميت وكيفيته... 159

المفروض من الأكفان ومسنونها... 160

الواجب أن يغسل الميت ثلاث غسلات... 162

آداب التدفين... 164

في أحكام الشهيد غسلا وكفناً ودفنا... 166

فيمن يجب أن يغتسل قبل موته... 167

لا بأس أن يغسل المحرم المحرم رحمه في حال الاختيار... 168

إذا لم يوجد سدر ولا كافور يغسل ثلاث غسلات بالقراح... 169

ص: 663

باب التعزية والسنة في ذلك

استحباب تعزية صاحب العزاء وكيفيتها وشرائطها... 171

لا يجوز للوالدين شق جيبهما على ولدهما... 172

باب تطهير الثياب والبدن والأواني والأوعية من النجاسات

في تفصيل الدماء الطاهرة وأحكامها... 174

تقسيم الدم على تسعة أقسام وبيان أحكامها... 176

في الدم المعفو عنه في الصلاة... 177

ما يؤثر بالتنجيس على ثلاثة أضرب... 179

حكم الماء إذا ولغ فيه الكلب والخنزير... 180

في عرق الجنب والحائض... 181

فيما يطهره الشمس من النجاسة... 182

حكم من صلى في النجس نسياناً أو جهلا... 183

لا بأس بنجاسة مالا يتم الصلاة فيه... 184

فيمن كان معه ثوبان أحدهما نجس لا بعينه... 184

أحكام أبوال الصبيان... 187

تطهير الموضع النجس بالبول بستة أشياء... 188

النجاسة على ضربين مايع وجامد... 189

كتاب الصلاة

في أن الصلاة آكد العبادات... 192

باب أعداد الصلاة وعدد ركعاتها

الصلاة المرتبة تنقسم إلى قسمين... 192

تفصيل أعداد فرائض الحضر والسفر من الصلاة وسننها... 193

باب أوقات الصلاة المرتبة

وقت صلاة الظهرين والعشاءين وصلاة الليل وركعتي الفجر... 195

ص: 664

فيمن صلى وظهر له بعد الفراغ أن الوقت لم يدخل... 200

باب القبلة وكيفية التوجه إليها وتجربها

يجب على المصلي التوجه إلى الكعبة بعينها إن أمكن وإلا فإلى جهتها... 204

فيمن لم يتمكن له القبلة... 205

حكم من أخطأ القبلة وظهر له في الوقت أو خارجه... 205

باب الأذان والإقامة وأحكامهما وعدد فصولهما

اختلاف الأصحاب في الأذان والإقامة والمختار استحبابهما... 208

في مستحبات المؤذن ووقت الاذان... 210

في وجوب الترتيب في الأذان والإقامة وعدم جواز التثويب في الاذان... 212

بيان فصول الأذان والإقامة... 213

باب ذكر أعمال الصلاة المفروضة وما يلحق بذلك من الشروط

بيان واجبات الصلاة وموانعها... 215

باب كيفية فعل الصلاة على سبيل الكمال

استحباب التكبيرات السبعة وكيفيتها... 216

فيما ينبغي للمصلى في صلاته من خشوع وخضوع وغيرهما... 217

لا يجوز الجهر ببسم اللّه في الأخيرتين... 218

في السور التي لا يجوز الاكتفاء بها منفرداً... 220

الأظهر وجوب ضم سورة أخرى إلى الحمد في الأولتين... 221

التخيير بين الحمد والتسبيح في الأخير تين وبيان عدد التسبيح... 222

فيما يستحب أن يقرأ من السور في الصلوات... 222

فيما ينبغي في الركوع وذكره ووجوب الطمأنينة في القيام والركوع... 224

أحكام السجود وواجباته... 225

سجود التلاوة وأحكامه... 226

في القنوت... 228

ص: 665

في التشهد وذكره... 229

في التسليم... 231

في المستحبات بعد التسليم... 232

باب ذكر أحكام الاحداث التي تعرض في الصلاة

فيما يعرض الانسان في الصلاة من القئ والرعاف... 234

فيما يعرض الانسان في الصلاة مما ينقض الطهارة... 235

في حكم المصلي فيما لو سلم عليه... 236

عدم جواز التكفير في الصلاة... 237

حول فعل القليل والكثير في الصلاة... 238

باب تفصيل أحكام ما تقدم ذكره في الصلاة من المفروض والمسنون

فيما يجب من الصلاة... 239

فيمن دخل في الحاضرة في سعة الوقت وعليه فائتة... 239

فيمن ترك الركوع... 240

في وجوب التشهد وصورته ، وأن التسليم سنة... 241

تقسيم المفروض من الصلاة إلى ركن وغيره ، وبيان أحكامهما... 242

أحكام تروك الصلاة... 243

باب أحكام السهو والشك في الصلاة

لا حكم للسهو والشك مع غلبة الظن... 244

السهو على ضروب ستة ، فالضرب الأول ما يقتضى إعادة الصلاة... 245

من صلى في مكان مغصوب أو ثوب مغصوب... 247

الضرب الثاني من السهو هو الذي لا حكم له ككثير الشك وغيره... 248

الضرب الثالث من السهو هو الذي يعمل فيه على غالب الظن... 250

الضرب الرابع من السهو هو الذي يقتضي التلافي في الحال... 250

الضرب الخامس من السهو هو الموجب للاحتياط... 251

ص: 666

في الصور التي يبني فيها على الأكثر... 254

الضرب السادس من السهو هو الموجب لجبران الصلاة... 257

في تداخل سجدتي السهو وعدمه وبيان ذكره وأحكامه... 258

باب القول في لباس المصلي والقول في أماكن الصلاة

في وجوب الستر على المصلى ، وبيان حده للذكر والأنثى... 260

كيفية صلاة العاري... 260

يجوز الصلاة في ثمانية أجناس من اللباس... 261

يشترط في لباس المصلي الطهارة والإباحة... 262

عدم جواز الصلاة في الإبريسم المحض للرجال... 263

الأمكنة التي تكره فيها الصلاة... 264

فيما يجوز السجود عليه وما لا يجوز... 267

في مكروهات لباس المصلي... 268

باب أحكام قضاء الفائت من الصلوات

يجب قضاء الفائتة من الصلاة من غير توان... 272

لزوم الترتيب في قضاء الصلوات... 272

في حكم من دخل في صلاة وتذكر أنه لم يصل ما قبلها... 274

فيمن نسى صلاة فريضة من الخمس ولم يعلم بعينها... 274

حكم الحايض ، والمغمى عليه في قضاء الصلاة... 276

باب صلاة الجماعة وأحكامها

تأكد استحباب الجماعة في الفرائض وفضلها... 277

فضل بناء المساجد وأحكامها... 278

فيمن أجنب في المسجدين... 279

شرائط إمام الجماعة... 280

فيمن لا يجوز إمامتهم للجماعة... 281

ص: 667

فيما لو ظهر كفر الامام أو فسقه... 282

سقوط القراءة عن المأموم... 284

من أدرك الامام راكعاً أو ساجداً... 285

لا يجوز للمأموم السبق على الامام في أفعال الصلاة... 288

يجوز اقتداء المؤدي بالقاضي وبالعكس والمفترض بالمتنفل وبالعكس... 289

باب صلاة الجمعة وأحكامها

شرائط فرض صلاة الجمعة... 290

تقسيم شرائط وجوب الجمعة إلى قسمين... 291

في سنن الجمعة... 294

خطبة الجمعة وآدابها ووقتها... 295

تقدم صلاة الجمعة على صلاة الكسوف والاستسقاء... 301

باب النوافل المرتبة وغيرها

أوقات نوافل اليومية... 306

لا بأس أن يصلى النوافل جالساً... 309

نوافل شهر رمضان وتفصيلها... 310

صلاة أمير المؤمنين وفاطمة عليهما السلام وسائر الصلوات الواردة... 312

باب صلاة العيدين

شروط فرض صلاة العيدين... 315

كيفية صلاة العيدين وما يستحب فيهما... 316

باب صلاة الكسوف

في وجوب صلاة الكسوف والخسوف واستحبابها جماعة... 320

وقت صلاة الكسوف والخسوف... 322

كيفية صلاة الكسوف... 323

باب صلاة الاستسقاء

ص: 668

مقدمات صلاة الاستسقاء وكيفية فعلها... 325

باب صلاة المسافر

في أن السفر على أربعة أقسام... 327

لا يجوز تقصير الصلاة في سفر المعصية ويجب في سائر الاسفار... 327

حد السفر الذي يجب معه التقصير... 328

حكم من سافر إلى أربعة فراسخ وأراد الرجوع من يومه... 329

من دخل عليه وقت الصلاة وهو حاضر فسافر وبالعكس... 332

لا يجوز التقصير للمكاري والملاح والراعي والبدوي... 336

من كان سفره أكثر من حضره يجب عليه التمام... 338

يستحب الاتمام في أربعة مواطن... 342

باب صلاة الخوف

في الخوف الموجب لقصر الصلاة وبيان كيفيتها وآدابها... 346

باب صلاة المريض والعريان وغير ذلك

من أمكنه القيام معتمدا فليصل قائماً وإلا فجالساً... 348

حكم المريض المبتلى بسلس البول والثفل... 350

في صلاة المقيدين والممنوعين من الحركة والمحبوسين... 352

باب صلاة الأموات

صلاة الأموات فرض كفائي... 355

فيمن يجب الصلاة عليهم... 356

في جواز الصلاة على الأموات بغير طهارة... 357

يجوز للنساء أن يصلين على الجنازة مع عدم الرجال... 358

كيفية صلاة الأموات... 359

كتاب الصيام

باب حقيقة الصوم ومن يجب عليه ومن لا يجب عليه

ص: 669

حقيقة الصوم لغة وشرعاً وبيان شرائطه... 364

فيما يلزم المرتد عن الاسلام إذا رجع... 366

في شرطية البلوغ لوجوب العبادات وحده في الرجل والمرأة... 367

أقسام الصوم حكماً... 367

صوم المفروض على ضربين... 368

عدم لزوم التعيين في المعين بل يكفي نية القربة... 370

وقت نية صوم المتعين ليلة الصوم... 371

وقت نية صوم الغير المتعين والتطوع... 373

فيما يوجب القضاء والكفارة أو القضاء وحده... 374

بيان الكفارة اللازمة بالمفطرات... 378

باب علامة شهر رمضان ووقتي الامساك والافطار

في بيان طرق ثبوت الهلال... 380

حكم صوم يوم الشك... 384

الوقت الذي يجب فيه الامساك ووقت الافطار... 385

باب ما يجب على الصائم اجتنابه

فيما لو جامع زوجته نهاراً وطاوعته على ذلك... 385

فيما يكره للصائم... 386

باب حكم المسافر والمريض والعاجز عن الصيام وغير ذلك

شروط السفر الموجب للافطار... 390

فيمن كان سفره أربعة فراسخ ولم يرد الرجوع من يومه... 391

حكم النوافل في السفر... 393

حكم صوم المريض وأحكام ما فات منه من الصوم... 395

العاجز عن الصيام على ثلاثة أضرب... 400

باب حكم من أسلم في شهر رمضان

ص: 670

حكم من أسلم في شهر رمضان ومن بلغ فيه... 401

حكم المسافر إذا قدم أهله... 403

حكم المريض إذا برئ في وسط النهار... 404

باب قضاء شهر رمضان ومن أفطر فيه على العمد والنسيان

لا يجوز التطوع بالصيام لمن عليه صوم واجب... 405

حكم من أجنب ونسي الغسل... 407

أحكام المغمى عليه... 409

باب ما يجرى مجرى صوم شهر رمضان

أحكام صيام الشهرين المتتابعين... 411

فيمن تعمد في إفطار صوم النذر... 413

صوم كفارة اليمين ثلاثة أيام متتابعات... 414

ثلاث مسائل لصيام النذر... 416

باب صيام التطوع

في أن صوم جميع أيام السنة مسنون الا الأيام المحرمة... 417

باب الاعتكاف

الاعتكاف لغة وشرعاً... 421

الاعتكاف على ضربين واجب وندب... 422

كتاب الزكاة

فصل في حقيقة الزكاة وما تجب فيه وبيان شروطها

حقيقة الزكاة لغة وشرعاً ، والذي تجب فيه الزكاة... 428

شروط وجوب الزكاة في الأجناس التسعة... 429

فصل في الأصناف التي تجب فيها الزكاة

في متعلقات فرض الزكاة وبيان شروطه... 432

ص: 671

باب وجوب الزكاة

فيمن تجب عليهم الزكاة وبيان شروطه... 440

باب ما تجب فيه الزكاة ومالا تجب

هل على السبائك والحلي زكاة ؟... 442

هل على المال الغائب زكاة ؟... 443

باب المقادير التي تجب فيها الزكاة

حد نصاب النقدين وما يخرج منهما... 446

حد نصاب الغلات وما يخرج منهما... 447

حد نصاب الانعام وما يخرج منهما... 448

باب الوقت الذي تجب فيه الزكاة

لا زكاة في الذهب والفضة حتى يحول عليهما الحول... 451

وقت وجوب الزكاة في الغلات والانعام... 453

باب مستحق الزكاة وأقل ما يعطى منها وأكثر

الأصناف المستحقة للزكاة وأحكامها وشرائطها... 455

باب وجوب زكاة الفطرة

شرائط وجوب زكاة الفطرة ومن تجب عليه... 465

باب ما يجوز إخراجه في الفطرة ومقدار ما يجب منه

في أجناس زكاة الفطرة... 468

باب الوقت الذي يجب فيه إخراج الفطرة

فيمن يستحقها... 469

باب أحكام الجزية

باب أحكام الأرضين

الأرضون على أربعة أقسام وأحكامها... 473

تقسيم البلاد إلى ضربين وبيان حكم كل منهما... 479

ص: 672

أحكام أراضي الموات... 481

المعادن وأحكامها... 483

باب الخمس والغنائم

فيما يجب فيه الخمس

باب قسمة الغنائم والأخماس ومن يستحقها

كيفية تقسيم الغنائم... 491

في تقسيم الخمس إلى أقسام ستة وبيان مصرفها ومستحقها... 492

باب في ذكر الأنفال ومن يستحقها

الأنفال معناها ومصاديقها وأحكامها... 497

كتاب الحج

باب حقيقة الحج والعمرة وشرائط وجوبهما

الحج لغة وشرعاً... 506

شرائط وجوب الحج والعمرة... 507

في أن وجوبهما على الفور... 515

باب في أقسام الحج تقسيم الحج

إلى ثلاثة أقسام... 519

أفعال حج التمتع... 520

في حج القران والافراد... 521

وقت عمرة التمتع... 524

باب المواقيت

الاحرام قبل الميقات باطل... 526

في المواقيت وأهلها... 528

باب كيفية الاحرام

ص: 673

فيمن ترك الاحرام عمداً أو نسيانا... 529

إحرام حج التمتع وآدابه... 530

التلبية التي ينعقد بها الاحرام فريضة... 536

تقسيم أفعال الحج إلى مفروض ومسنون والمفروض إلى ركن وغيره وبيان أركان التمتع       537

بيان أشهر الحج... 538

باب ما يجب على المحرم اجتنابه وما لا يجب

فيما يحرم أو يكره لبسه وما يستحب لبسه... 542

في سائر محرمات الاحرام... 545

باب ما يلزم المحرم عن جناياته

فيما يفعله المحرم عامداً أو ناسياً وما يترتب عليه... 548

حكم من أفسد الحج أو العمرة... 549

تفصيل أحكام الصيد وكفارته... 556

اختلاف الأصحاب في المضطر إلى أكل الميتة والصيد... 568

باب دخول مكة والطواف بالبيت

فيما يستحب للمحرم لو أراد دخل الحرم... 569

أحكام متعلقة بالطواف... 572

في صلاة الطواف... 577

باب السعي وأحكامه

السعي ركن من أركان الحج... 578

باب الاحرام بالحج

الاحرام بالحج ووقته ومقامه... 583

فيمن نسى الاحرام بالحج... 584

باب الغدو إلى عرفات

وقت الخروج إلى عرفات وبيان حدها... 585

ص: 674

باب النزول إلى منى

وقت فضيلة الخروج إلى منى... 586

باب الإفاضة من عرفات والوقوف بالمشعر الحرام

وقت الإفاضة من عرفات ووقت إدراك المشعر... 587

حد المشعر الحرام... 588

باب الذبح

في وجوب الهدي وفيمن لم يقدر على ذلك... 591

حكم الصوم الذي هو بدل الهدي... 592

في جواز الهدي الواحد عن غير واحد عند الضرورة وعدمه... 595

شرائط الهدي... 596

الهدي على ثلاثة أضرب... 599

باب الحلق والتقصير

التخيير بين الحلق والتقصير... 600

باب زيارة البيت والرجوع إلى منى ورمي الجمار

طواف الحج وآدابه... 602

طواف النساء ومن وجب عليه وأحكامه... 604

أحكام رمي الجمار... 605

باب النفر من منى ودخول الكعبة

النفر من منى وأحكامه... 611

في استحباب دخول الكعبة وما يستحب فيها... 613

باب فرائض الحج وتفصيل ذلك

في ركنية النية والاحرام... 616

أحكام التلبية والطواف بالبيت... 617

باب مناسك النساء في الحج والعمرة

ص: 675

شرايط وجوب الحج على النساء كشرائط وجوبه على الرجال... 621

في أحكام الحيض الحادث وسائر أحكام المختصة بها... 623

باب الاستيجار للحج

في شرائط الأجير للحج وما ينبغي... 626

في أحكام مترتبة على موت الأجير... 628

في نيابة المرأة عن الغير... 630

باب العمرة المفردة أحكام العمرة المفروضة... 633

أحكام العمرة المسنونة وأفضلها... 634

باب حكم العبيد والمكاتبين والمدبرين

لا يجوز الاحرام للعبد الا بإذن سيده... 635

باب حكم الصبيان في الحج

في لزوم إحرام الولي عن الصبي وأحكام سائر أفعال الحج بالنسبة إلى الصبي... 636

باب حكم المحصور والمصدود

فيما يوجب الحصر والصد وأحكام كل منهما... 637

باب في الزيادات من فقه الحج

فيمن أحدث حدثا فالتجأ إلى الحرم... 644

إستحباب إتمام الصلاة في الحرمين... 646

في أحكام متعلقة بالوصية للحج... 650

فيما يستحب لدخول المدينة وما بعده... 651

فصل في الزيارات

تأكد استحباب زيارة الرسول (صلی الله عليه وآله وسلم) والأئمة (عليهم السلام) وكيفيتها... 654

في استحباب زيارة أهل الايمان أحياء وأمواتاً... 658

ص: 676

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.