414
المملكة الأردنية الهاشمية
رقم الإيداع لدى دائرة المكتبة الوطنية (2012/11/4303)
414
الفحام، عباس علي
بلاغة النهج في نهج البلاغة / عباس علي الفحام. - عمان: دار الرضوان للنشر والتوزيع 2012
ر.أ: 2012/11/4303
الواصفات / البلاغة // الإسلام/
* يتحمل المؤلف كامل المسؤولية القانونية عن محتوى مصنفه ولا يعبّر هذا المصنف عن رأي دائرة المكتبة الوطنية أو أي جهة حكومة أخرى
حقوق الطبع محفوظة للناشر
Copyright ©
All rights reserved
الطبعة الأولى
1435ه_ - 2014م
الرضوان
للنشر و التوزيع
دار الرضوان للنشر و التوزیع
دار الصوات للنشر والتوزيع
المملكة الاردنية الهاشمية - عمان - العبدلي
هاتف: 96264616436
فاكس: 96264616435
e - mail:gm@redanpublisher.com
.redanpublisher.com
ردمك - 0 - 179 - 76 - 9957 - 978 ISBN
محرر رقمي: روح الله قاسمي
ص: 1
:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)
صدق الله العظیم
بلاغة النهج في نهج البلاغة
ص: 2
ص: 3
بلاغة النهج في نهج البلاغة
الدكتور
عباس علي الفحام
الطبعة الأولى
1435 ه_ - 2014 م
الرضوان
دار الرضوان للنشر والتوزيع
ص: 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
(وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا)
صدق الله العظيم
سورة طه / الآية 114
ص: 5
ص: 6
المقدمة ... 11
الباب الأول: دراسات موضوعية
الفصل الأول: صورة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ... 15
المقدمة ... 16
المدخل ... 18
المبحث الأول: النبي في بيئته الاجتماعية ... 22
أولا: أسرته ... 22
ثانيا: ابن العم المربي ... 27
المبحث الثاني: محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) النبي ... 31
أولا: النبي مع الناس ... 31
ثانيا: بعد البعثة ... 41
ثالثا: من معجزاته ... 50
المبحث الثالث: من صور كمالاته (صلی الله علیه و آله و سلم) ... 54
أولا: زهده وتواضعه ... 54
ثانيا: شجاعته ... 61
ثالثا: رحيله ... 67
الخاتمة ... 74
المصادر ... 75
الفصل الثاني: البصرة - مواقف وأحداث ... 83
المقدمة ... 84
التمهيد: البصرة. النشأة والمكانة ... 86
المبحث الأول: حرب الجمل واسشفاف المستقبل ... 90
ص: 7
المبحث الثاني: رجال البصرة ... 108
المبحث الثالث: ولاة البصرة ... 117
أولاً: عثمان بن حنيف ... 117
ثانياً: عبد الله بن عباس ... 128
ثالث: زياد بن أبيه ... 133
الباب الثاني: دراسات أسلوبية ولغوية
الفصل الأول: أسلوب الإمام علي (علیه السلام) في التصريح باسمه والكناية عنه ... 147
مدخل ... 148
المبحث الأول (أسلوب الإمام في التصريح) ... 151
موضوعات التصريح ... 151
أولا: الكتب والرسائل ... 151
ثانيا: الزهد ... 152
ثالثا: ذكر فضائله ... 154
رابعا: الايصاء ... 156
خامسا: الاحتجاج ... 158
سادسا: مواقف الحرب والضمان ... 158
المبحث الثاني (أسلوبه في الكناية) ... 160
أشكال التعبير الكنائي ... 160
أولا: ابن أبي طالب ... 160
ثانيا: أمير المؤمنين ... 163
ثالثا: ابن أبيك ... 164
رابعا: أبو حسن ... 165
خامسا: ابن خالك ... 166
سادسا: المهاجر، الصريح، المحق، المؤمن ... 168
ص: 8
سابعا: صيغ أخر ... 169
المصادر ... 172
الفصل الثاني: فن التقسيم ... 177
المقدمة ... 178
التمهيد: فن التقسيم ... 180
وسائل التقسيم ... 184
الأول: التقسيم بالعدد ... 184
الثاني: التقسيم بالموضوع ... 211
1 - التحذير والوعظ: المنافقون الشيطان الدنيا ... 211
2 - الوصف: وصف الإسلام ... 213
وصف النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ... 214
الإمام وأصحابه ... 215
الثالث: التقسيم بالزمن ... 216
الخاتمة ... 219
المصادر ... 220
الفصل الثالث: دلالة الأبنية النادرة ... 223
المقدمة ... 224
التمهيد الأبنية النادرة وسماتها ... 226
دلالة الأبنية النادرة ... 228
أولاً: النوعية ... 228
ثانياً: الهيأة ... 235
ثالثاً: التكثير والمبالغة ... 238
رابعاً: التوازن ... 243
الخلاصة ... 249
المصادر ... 250
ص: 9
ص: 10
الحمد لله كما هو أهله وأتم السلام على نبي الهدى محمد الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين وبعد،
فقد كان ولما يزل نهج البلاغة كتابا جامعا لعلوم العربية، ينتهل منه الأدباء والشعراء ما دلتهم قرائحهم على نكات البلاغة ولطائف البيان، ومثلما هو منهل للمبدعين هو كذلك للشراح والواقفين على نصوصه، متفحصين متأملين تاريخه وبيانه وفصاحته. ومن عجائب هذا السفر الخالد الذي ضم مختلف كلام أمير البيان أمير المؤمنين عليه السلام أنه ما زال بكرا في أسرار بلاغته على الرغم من كثرة دارسيه قديما وحديثا.
و مما يقر العين في هذه السنوات الأخيرة في الجامعات العراقية إقبالها على تشجيع الباحثين لدراسته في الماجستير والدكتوراه فكان أن تحققت المزيد من المعارف العلمية نتيجة البحث والتأليف حول هذا الكتاب الخالد وما هذا الجهد المتواضع الذي أضعه بين يدي القاريء إلا نتاج اكاديمي خالص كنت قد وقفته قديما على خدمة كلام أمير المؤمنين عليه السلام، إذ تشرفت بالتخصص في هذا الكتاب في الماجستير والدكتوراه، فضلا عن البحوث الكثيرة التي قدمتها في هذا المجال.
وهذا الكتاب هو مجموعة أبحاث ألقي بعضها في مؤتمرات اختصت بنهج البلاغة، ونشر بعضها الآخر في مجلات علمية محكمة تدور حول (نهج البلاغة) فنا ومضمونا لذلك ضعت لها عنوانا استل من النهج نفسه فكان (بلاغة النهج في نهج البلاغة)، ولأن البحوث منفصلة الموضوعات عن بعضها بعضا جعلت
ص: 11
لكل بحث منها مقدمة وتمهيدا شأن أي بحث وصنفتها في بابين على النحو الآتي:
الباب الأول: بعنوان دراسات موضوعية، وشمل الفصلين الآتيين:
الفصل الأول: صورة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).
الفصل الثاني: البصرة في نهج البلاغة.
بينما ضم الباب الثاني (دراسات أسلوبية ولغوية) وشمل الفصول الآتية:
الفصل الأول: أسلوب الإمام علي (علیه السلام) في التصريح باسمه والكناية عنه.
الفصل الثاني: فن التقسيم.
الفصل الثالث: وحمل عنوان (دلالة الأبنية النادرة) وهو بحث اشتركت في المجازه مع صديقي الدكتور ميثم مهدي الحمامي.
ولكل بحث في فصول الكتاب فروعه وتفصيلاته التي حاول البحث فيها إغناء الموضوع، وجعلت في آخر كل فصل خاتمته مستغنيا بذلك عن خاتمة عامة للكتاب مثلما وضعت في نهاية البحث قائمة بمصادره التي اعتمدت في الاستقاء والأخذ ...
ولا ريب في أن لكل بحث مصادره الخاصة به التي دارت بين البلاغة والنقد القديم و الحديث فضلا عن مصادر اللغة والتاريخ فكانت تلك منابع العلم التي ولجت بها إلى النص الثري في نهج البلاغة لمحاولة استجلائه والكشف عن خباياه.
هذا الجهد - إذن - هو توثيق لبحوث اختصت بنهج البلاغة، أرجو من الله تعالى التوفيق في سداد العمل فيه وألا يكلني إلى نفسي فأضل الطريق، إنه ولي التوفيق وبه المستعان سبحانه.
عباس علي الفحام
ص: 12
الباب الأول
الدراسات الموضوعية
ص: 13
الباب الأول
الدراسات الموضوعية
الفصل الأول: صورة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)
الفصل الثاني: البصرة - مواقف وأحداث
ص: 14
صورة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في نهج البلاغة
المقدمة
المدخل
المبحث الأول: النبي في بيئته الاجتماعية
أولا: أسرته
ثانيا: ابن العم المربي
المبحث الثاني: محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) النبي
أولا: النبي مع الناس
ثانيا: بعد البعثة
ثالثا: من معجزاته
المبحث الثالث: من صور كمالاته (صلی الله علیه و آله و سلم)
أولا: زهده وتواضعه
ثانيا: شجاعته
ثالثا: رحيله
الخاتمة
المصادر
ص: 15
مثل نهج البلاغة - بعد كتاب الله طبعا - الريادة الإبداعية في كثير من الفنون والموضوعات، ولاسيما في التصوير البياني وتوثيق الأحداث التاريخية وما رافق حياة الإمام علي (علیه السلام) من تفاصيل معقدة من حروب وفتن. وكان الإمام فيها خير معبر عنها بفن الصورة، ولذا كان نهج البلاغة أقدم وثيقة تاريخية تتناول تلك المرحلة، ولعل من أظهر تلك الوثائق توثيق صورة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في مختلف مراحل حياته الشريفة. ومن هنا جاءت فكرة البحث لتدرس النص العلوي عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فكان بعنوان (صورة النبي في نهج البلاغة).
ووقعت الدراسة في ثلاثة مباحث بدئت بمقدمة وتمهيد وانتهت بخاتمة لأهم النتائج، حاولنا فيها استيفاء الصورة النبوية كما أوردها أمير المؤمنين (علیه السلام)، والمباحث هي: المبحث الأول: وجاء بعنوان (النبي في بيئته الاجتماعية) ودرس في شطر منه واقع أسرته الشريفة صلى الله عليه وآله، بينما درس في الشطر الآخر صورة النبي بعده (ابن العم المربي).
أما المبحث الثاني فقد حاول أن يلقي الضوء على صورة محمد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من ثلاثة طرق هي: معجزاته وصورة الناس قبل البعثة وعلاقته بذلك، والثالث صورة علاقته بهم صلى الله عليه وآله بعد البعثة.
وتخلل المبحث الثالث من الدراسة تصوير بعض كمالات النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كما جاءت في نهج البلاغة، وهي في ثلاث صور على الترتيب: الأولى: تواضعه وزهده، والثانية: شجاعته في حروبه ومواقفه. والثالثة: في تصوير رحيله وبكاء السماء عليه.
ص: 16
وتكمن روعة الدراسة في جدة موضوعها، إذ لم يسبق أن درست الصورة النبوية على هذا النحو من قبل، لذلك كانت عدة البحث فيها أغلب مصادر التاريخ والحديث النبوي، فضلا عن مصادر البلاغة القديمة والحديثة لما للتصوير من تعبير فني خاص به.
هذا وقد كان أسلوب البحث مبنيا على المزاوجة بين الموضوع والفن في دراسة النص في نهج البلاغة في المباحث كلها، إذ كان لابد من الوقفة البلاغية والفنية عند تفاصيل التصوير، مثلما كان لزاما على البحث أن يشرح أبعاد الصورة وأجزاءها شرحا موضوعيا استند في غالبه على التاريخ، لأن النصوص كما ذكرنا في نهج البلاغة أقدم وثائق تاريخية مثلت مراحل جد هامة من تاريخ الدعوة الإسلامية عن كتب من خلال صورة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).
ومن المتفق عليه أن النص في نهج البلاغة عد القمة في التعبير الفني البلاغي، ومن هنا بدت روعة الصورة في بحثنا هذا للتاريخ النبوي مصورا بريشة علي (علیه السلام).
وقد حاولنا تحري الدقة في المسارات التاريخية و الاستشهاد برواياته، فلم ننسق وراء الغث والسمين منها، بل بقينا في الدراسة ضمن حدود النص في نهج البلاغة وإنما استعنا بالتاريخ لأجل توضيح المعنى أو بيان تفصيل الصورة فيه. لذلك كانت رحلة البحث بالنسبة لدارسيه في غاية الطرافة والجدة لجدة الموضوع ذاته، فلم ندخر وسعا فيه فإن استحكمت أجزاؤه فلله الفضل وإن بان النقص فيه فالكمال لله وحده.
ص: 17
للكلام العربي وثائق ميزت بشكل مبكر سمات الإبداع فيه منها إلهي تمثلت بمعجزة القرآن الكريم، ومنها بشري تمثل في أحاديث الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وما جمع من كلام أمير المؤمنين في (نهج البلاغة).
وتكمن خصيصة هذا الكتاب بطبيعة اختياراته لكلام الإمام علي (علیه السلام) من أجناس أدبية مختلفة قال عنه جامعه الشريف الرضي في كتابه (حقائق التأويل): (إنه لو كان كلام يلحق بغباره، أو يجري في مضماره - بعد كلام الرسول صلى الله عليه وآله - لكان ذلك كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إذ كان منفردا بطريق الفصاحة، لا تزاحمه عليها المناكب ولا يلحق بعقوه فيها الكادح الجاهد، ومن أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه من ذلك، فلينعم النظر في كتابنا الذي ألفناه ووسمناه ب_ (نهج البلاغة)، وجعلناه يشتمل على مختار جميع الواقع إلينا من كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) في جميع الأنحاء والأغراض والأجناس والأنواع: من خطب وكتب ومواعظ وحكم، وبوبناه أبوابا ثلاثة، لتشتمل على هذه الأقسام مميزة مفصلة، وقد عظم الانتفاع به، وكثر الطالبون له لعظيم قدر ما ضمته من عجائب الفصاحة وبدائعها، وشرائف الكلم ونفائسها وجواهر الفقر وفرائدها) (1) .
ص: 18
نهج البلاغة - إذن - مدونة تاريخية قديمة لكثير من الأحداث والشخصيات، ولاسيما الشخصية النبوية مدار بحثنا، وكان الأسلوب الأثير للإمام فيها هو التعبير الفني القائم على الصورة ونقل السامع إلى مشاهد بغية التأثير فيه.
وقد حفل كلام علي (علیه السلام) في نهج البلاغة بالكثير من صور الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، لم تبن فيها الصورة على أساليب المجاز والبيان فحسب، بل تعدتها إلى الاستعمال الحقيقي للغة بعيدا عن انزياحاتها مع المحافظة على جودة التعبير، في أسلوب لافت بالتعبير بالصورة من طريق لغة الحقيقة، والأمثلة كما ستتضح في البحث كثيرة.
وتكمن روعة الصورة النبوية في نهج البلاغة وعمق تأثيرها سواء من اللغة المباشرة أو غير المباشرة في سببين: الأول: وضوح مضمون الصورة عند علي (علیه السلام) والثاني: المؤثرات التعبيرية في لغة علي (علیه السلام).
وسنحاول في هذا التمهيد الوقوف عليهما.
الأول: وضوح مضمون الصورة
ليست بنا حاجة للاستشهاد بالتاريخ للقول بأن عليا ربيب النبي وتابعه صغيرا وكبيرا، فذلك أمسى من نافلة الحديث، فعلي الذي لازم ابن عمه النبي لأكثر من ثلاثة وعشرين عاما - وهي المدة التي قضاها مع النبي حتى وفاته صلى الله عليه وآله - هو الأقدر على الإحاطة برسم الصورة الكاملة للرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وتحت أي عنوان كانت، لذلك بدت أولى سمات التصوير التي رسمتها كلمات الإمام (علیه السلام) الوضوح والوضوح يعني من جهة عمق التأثير في السامع، لأن
ص: 19
الإمام في صوره كلها عن ابن عمه (صلی الله علیه و آله و سلم) إما مشارك معه في الحدث أو شاهد عليه إنه لا يرويه عن أحد فتفقد الصورة بريقها، فثمة فارق كبير بين أن تصور مشهدا بعين الآخرين وبين أن تصوره بتفاعل ذاتك مع الحدث كونك الشاهد فیه (1).
ومن هنا سنجد في طيات البحث أن وضوح المضمون لدى الإمام (علیه السلام) مكنه من الوقوف على أجزاء الصورة أحيانا ولملمة تفاصيلها أحيانا أخرى بإلقاء الضوء على ذلك الجزء أو هذا بغية التركيز على معنى ما فيها. وما كان ذلك ليتم لولا الإحاطة الكاملة بالمشهد وتشرب المعنى ووضوحه ثم القدرة على تمثيله بصورة فنية، وهو ما أطلقنا عليه المؤثرات الفنية.
الثاني: مؤثرات التعبير الفني
لا ريب في أن وضوح الفكرة أفضى إلى القدرة على التعبير عنها بمهارات فنية باستغلال طاقة اللغة البيانية والتصويرية والموسيقية، بعبارة ثانية إسباغ المؤثرات على التعبير وإكسابه مزية الفن، وهو ما تجسد في كلام أمير المؤمنين (علیه السلام) عامة في نهج البلاغة وفي موضوع الصورة النبوية خاصة.
في الصورة النبوية سنجد مؤثرات حركية وموسيقية وأخرى تتعلق باللون وفي شكل آخر قد يعبر عن المعنى من خلال لغة الحقيقة، إذ الصورة ليست 8.
ص: 20
حكرا على المجاز وحده(1)، بل هي إعادة صياغة الموقف بتعبير فني يتم بحسن استثمار طاقة اللغة (2).
ومن المؤثرات التي استعملت في التعبير التصويري، الاستقصاء في رسم الصور من أجل تمام المعنى واستيفائه.
ولعل من المؤثرات الخفية على السامع هي الإتيان بالصورة النبوية لا لأجلها، بل ليتخذ منها شاهدا يعزز به رأيه عليه السلام أو يقوي به حجته، فيقف عند الصورة طويلا وبعد أن يبلغ التأثير حده يرجع في الكلام إلى الغرض الذي رمى إليه، والأمثلة على ذلك كثيرة، ولاسيما حين يكون الكلام في الموعظة والزهد أو عن أحقيته بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم).
وأمثلة البحث ستتكفل - إن شاء الله تعالى توضيح ذلك كله. 2.
ص: 21
النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في بيئته الاجتماعية
في كلام الإمام علي (علیه السلام) عن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) ثمة إمعان في التركيز على طهارة النسب وشرف الآباء، وأنه من سلالة الأنبياء وذريتهم تصديقا لقوله تعالى (ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (1)، مثل قوله عليه السلام: (اختاره من شجرة الأنبياء، و مشكاة الضياء) (2).
فقد وصف الإمام سلالة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأصوله بالشجرة الكثيرة الأغصان، وهو إنما شبهها بذلك بجامع الأصل الواحد الشجرة الذي يقابله الأب الواحد في سلالة النبي والتي تتفرع عن أغصان كثيرة أي أبناء كثر، وفي كلمة الإمام (اختاره) إيحاء بالاصطفاء والعناية الإلهية لمحمد (صلی الله علیه و آله و سلم)، إذ أن الخلق أشجار شتى، ولكن الله تعالى انتقاه من الشجرة الخاصة بالأنبياء، إشارة إلى أن الرسالة الإلهية واحدة الامتداد وإن فصلت ما بينها القرون وفي ذلك كله تعظيم للنبوة و الأنبياء، وتعزيز الموقف النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) في كونه من السلالة نفسها التي تنجب الأنبياء والمرسلين والأولياء الصالحين على مر تاريخ الإنسانية إلى ختام الوحي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم). وفيه - أيضا - إبطال الحجة من ذهب إلى إمكان بعث الأنبياء من غير 2.
ص: 22
هذه الذرية، كما ذكر ذلك القرآن على لسان الحاسدين للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على نبوته في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيم) (1).
وفي موضع آخر فصل الإمام في تصوير هذه الشجرة المباركة للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فقال: (حَتَّى أَفْضَتْ كَرَامَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ إِلَى مُحَمَّدٍ(صلی الله علیه و آله و سلم)، فَأَخْرَجَهُ مِنْ أَفْضَلِ الْمَعَادِنِ مَنْبِتاً وَ أَعَزِّ الْأَرُومَاتِ مَغْرِساً مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ وَ انْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ. عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ وَ أُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ، نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَ بَسَقَتْ فِي كَرَمٍ، لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَ ثَمَرٌ لَا يُنَالُ؛ فَهُوَ إِمَامُ مَنِ اتَّقَى وَ بَصِيرَةُ مَنِ اهْتَدَى.) (2)، وقد جمع الإمام للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في هذا الكلام فضل النبوة وأصل الأرومة، أي الشجرة مشيرا بقوله في أول كلامه إلى ختام عهد النبوة بمحمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وهذا الإفضاء كأنه سبب إلى أن يكون خلاصة في كل فضيلة لا في النبوة وحدها، فهو كذلك فعلا خلاصة في العقل والكمال والصبر والطهارة والتقوى والقرب من الله تعالى.
وقد جمع الإمام بين النبوة والإمامة في الاصطفاء، فهو حين عمم في قوله (من أفضل المعادن منبتا، و أعزّ الأرومات مغرسا) أي نسلا ساميا، عمد إلى التخصيص فقال (مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي صَدَعَ مِنْهَا أَنْبِيَاءَهُ وَ انْتَجَبَ مِنْهَا أُمَنَاءَهُ) وهي شجرة إبراهيم عليه السلام (3).
وأتبعه بالتصريح متدرجا بالأخص فالأخص فبدأ بأهل بيت النبي وآله 86
ص: 23
وهم العترة الطاهرة فقال (عِتْرَتُهُ خَيْرُ الْعِتَرِ وَ أُسْرَتُهُ خَيْرُ الْأُسَرِ وَ شَجَرَتُهُ خَيْرُ الشَّجَرِ) ويعني بعترته أهل بيته وهم علي وفاطمة وابناهما الحسن والحسين عليهم السلام وأولاد الحسين (عليهم السلام) من الأئمة المعصومين (1)، وهو لفظ نبوي محفوظ في أذهان المسلمين لكثرة ترداده فيهم (2) على لسان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كما في قوله (اشتد غضب الله على من أهرق دمي وآذاني في عترتي) (3).
وقوله: (ألا إن أبرار عترتي وأطايب أرومتي أحلم الناس صغارا وأعلم الناس كبارا) (4) وكقوله: (إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي) (5) وقوله (المهدي من عترتي من ولد فاطمة) (6) وكما في حديث الكساء ودعائه (صلی الله علیه و آله و سلم) لعترته عليهم السلام (7).
ويبدو أن الإمام (علیه السلام) تعمد إعادة ذكر اللفظ ذاته، لأنه بات مصطلحا عليهم وحدهم وليذكر المسلمين مجددا بعد عهود من تغييبهم. .
ص: 24
أما قوله (أسرته خير الأسر) فيعني بها بني هاشم لأنهم أفضل طوائف قريش، وقوله (شجرته خير الشجر) فيقصد بهم قريشا لأن قريشا أفضل طوائف العرب.
وأشار الإمام إلى علو حسب النبي ومنعة نسبه وعزة عشيرته بقوله في وصف الشجرة (نَبَتَتْ فِي حَرَمٍ وَبَسَقَتْ فِي كَرَمٍ)، والحرم يعني بها العز والمنعة وليس حرم مكة كما ذهب إليه ابن أبي الحديد (1)، و (لو كانت مراده لقال: في الحرم لا في حرم) (2).
ويفصل الإمام في تصوير أبعاد هذه الشجرة فيقول: (لَهَا فُرُوعٌ طِوَالٌ وَثَمَر لَا يُنَالُ) طوال في العلم والعمل والمكانة والفضيلة قال تعالى: (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (3).
أما (الثمر الذي لا ينال) فهو كناية عن العلو وأنه ليس متاحا لكل أحد ذكر ابن أبي الحديد أنه (يعني به ليس على أن يريد به أنّ ثمرها لا ينتفع به، (لأن ذلك ليس بمدح، بل يريد به أنّ ثمرها لا ينال قهرا، ولا يجنى غصبا) (4) ويبدو أن ابن أبي الحديد ضيق كثيرا من معنى الإمام لأنه)إنما ينال قهرا وغصبا من الإنسان لا من الشجر والثمر والصواب أن يقال: إن شرف الشجر بعلوّه حتّى لا ينهب ثمره كلّ من مرّ عليه، والمراد أنّ علوم النبي صلى الله عليه .
ص: 25
وآله و کمالاته ليست عاديّة متعارفة حتّى يدّعي نيابته كلّ أحد) (1).
وغرض الإمام عليه السلام من ذلك (التعريض بالمتقدّمين عليه بكونهم غير أهل لتصدي مقامه صلى الله عليه وآله، لأنّ النائب كالمنوب عنه بقضية العقول، وأين هم من النبيّ صلى الله عليه وآله وإنّما كان أهل بيته مثله، وممّا يوضح كونهم عليهم السلام ثمرة شجرة النبيّ صلى الله عليه وآله قوله عليه السلام لمّا بلغه أنّ قريشا احتجّوا في السقيفة لتقدّمهم على الأنصار بكونهم شجرة النبيّ صلى الله عليه وآله: احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة) (2).
وربما أراد الإمام من ذكر (الثمر) نفسه عليه السلام وأهل بيته لأنهم ثمرة تلك الشجرة ولا تدرك مساعيهم ولا تحصى مآثرهم ولا يباريهم أحد.
ومن ذلك كله نجد حرصا في كلام (علیه السلام) على تكرار بعض الألفاظ في رسم هذه الصور مثل لفظة (الشجرة المغرس المعادن) التي يعني بها جذور النبي الضاربة في عمق النبوات وأنها ليست بجديدة عليه حتى يبعث نبيا فقد بعث آباء له من قبل أنبياء ورسل قال تعالى: (أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَىٰ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ۖ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا) (3).
وهي لاشك صورة استمد وحيها من التعبير القرآني في قوله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ4.
ص: 26
تَمْسَسْهُ نَارٌ ۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍ ۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ ۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ ۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (1)
وفي موضع آخر ذكر الإمام مثل هذه الصورة فقال واصفا الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم): (مستقرّه خير مستقرّ، في معادن الكرامة ومماهد السلامة) (2). مشددا على الفكرة ذاتها في طهارة المعدن وشرف المهاد.
وذكر الإمام تقسيم الله تعالى للخلق في اختيار أطيب الفروع لنبيه فقال: (کلما نسخ الله الخلق فرقتين جعله في خيرهما) (3)، وقال: (تناسختهم كرائم الأصلاب إلى مطهّرات الأرحام) (4) في دلالة على كمال الفضيلة من جهاتها المختلفة.
في نهج البلاغة ثمة تصوير للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يجسد الأب المربي الذي يجلس ولده في حضنه فيطعمه تارة ويشمه تارة أخرى في صورة حانية، وذلك في معرض كلام الإمام عن فضل قرباه من ابن عمه (صلی الله علیه و آله و سلم) في قوله: (وَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَوْضِعِي مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) بِالْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ وَ الْمَنْزِلَةِ الْخَصِيصَةِ، وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَ أَنَا وَلِيدٌ يَضُمُّنِي إِلَى صَدْرِهِ وَ يَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ وَ يُمِسُّنِي جَسَدَهُ وَ يُشِمُّنِي عَرْفَهُ وَ كَانَ يَمْضَغُ الشَّيْ ءَ ثُمَّ يُلْقِمُنِيهِ، وَ مَا وَجَدَ لِي كَذْبَةً فِي قَوْلٍ وَ لَا خَطْلَةً فِي1.
ص: 27
فِعْلٍ ... وَ لَقَدْ كُنْتُ أَتَّبِعُهُ اتِّبَاعَ الْفَصِيلِ أَثَرَ أُمِّهِ، يَرْفَعُ لِي فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَخْلَاقِهِ عَلَماً وَ يَأْمُرُنِي بِالاقْتِدَاءِ بِهِ، وَ لَقَدْ كَانَ يُجَاوِرُ فِي كُلِّ سَنَةٍ بِحِرَاءَ، فَأَرَاهُ وَ لَا يَرَاهُ غَيْرِي، وَ لَمْ يَجْمَعْ بَيْتٌ وَاحِدٌ يَوْمَئِذٍ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرَ رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) وَ خَدِيجَةَ وَ أَنَا ثَالِثُهُمَا، أَرَى نُورَ الْوَحْيِ وَ الرِّسَالَةِ وَ أَشُمُّ رِيحَ النُّبُوَّةِ) (1).
والخطبة تصور مرحلتين من حياة الإمام علي (علیه السلام) مرحلة الطفولة ومرحلة الصبا واليفاعة (2) وكلاهما كان فيهما يتبع النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) اتباع الفصيل أثر أمه. وفي الأولى ثمة تفصيل دقيق للأبوة الحانية كان فيها الإمام بمثابة الابن للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فقد عاش في هذه المرحلة المبكرة من حياته ثلاث سنين في بيت خديجة (رضی الله عنها)، إذ كان النبي صلى الله عليه و آله و سلم قد أخذ عليّاً عليه السلام من أبيه، و هو صغير في سنة أصابت قريشا بقحط شديد، فأخذ حمزة جعفرا وأخذ العباس طالبا ليكفوا أباهم مؤونتهم، وخففّوا عنه ثقلهم، وأخذ هو عقيلا لميله إليه، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وسلم اخترت من اختار الله تعالى لي عليكم: عليّا.
وكان يضعه النبي في حجره (3) - كما يفعل الآباء بأولادهم - يضمه إلى صدره ويضعه في فراشه ويداعبه ويشمه عرفه ويلقمه الطعام في صورة شديدة التأثير والإيحاء بالمودة والقرب.
ورد في خبر ولادة الإمام (علیه السلام) في الكعبة: (ولدت (فاطمة بنت أسد) 8.
ص: 28
عليا عليه السلام و للنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم ثلاثون سنة، وأحبّه النبي صلّى الله عليه و آله و سلم حبّا شديدا و قال لها: اجعلى مهده بقرب فراشي و كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يلي أكثر تربيته، وكان يطهّر عليا عليه السلام في وقت غسله، ويوجره اللبن عند شربه، ويحرّك مهده عند نومه، ويناغيه في يقظته ويحمله على صدره ويقول: هذا أخي وولييّ و ناصري وصفييّ،وذخري وكهفي وظهري، وظهيري ووصيي، وزوج كريمتي وأميني على وصيتي وخليفتي، وكان يحمله دائما ويطوف به جبال مكة و شعابها وأوديتها)(1).
إنها علاقة يحق للإمام الوقوف عند تفاصيلها وتذكير الناس بها وهل ثمة
شيء أدل عليها من قوله: (وكان يمضغ الشيء ثم يلقمنيه) أي: يليّنه بفمه، قال ابن أبي الحديد: (روى الحسين بن زيد بن علي بن الحسين عليه السلام عن أبيه قال: كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يمضغ اللحمة والتمرة حتى تلين، ويجعلها في فم علي عليه السلام وهو صغير في حجره) (2).
وفي المرحلة الثانية من عمره صور الإمام (علیه السلام) طبيعة ملازمته لابن عمه ومربيه التي دامت ثلاثة وعشرين عاما، وانتهاله من أخلاقه وعلمه ومشاركته له في هموم الرسالة الإلهية وأعبائها، يوحيه تأكيده مجاورته معه في غار حراء للتعبد وانفراد البيت النبوي بالإسلام الجديد. والإمام يتخذ من تلك الصور التفصيلية كلها براهين تبين أحقيته بقيادة الأمة بعد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأهليته الكاملة لإدارة .
ص: 29
تفاصيلها المعقدة. فقد رسم الإمام (علیه السلام) بالكلمات لنفسه مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مشهدا في غاية الروعة والتفصيل لتبيان فضيلته عند الله ورسوله، فأطلق القريبة على القرابة تأكيدا لشدة اللحمة بينهما فهو (ابن عم النبي صلّى الله عليه وآله و سلم لأبويه، و لم يكن في رجال بني هاشم من كان بقربه عليه السلام)(1).
وقيد المنزلة بالخصيصة لموارد اختص بها وحده مع ابن عمه (صلی الله علیه و آله و سلم) نحو (ما كان بينهما من المصاهرة التي أفضت إلى النسل الأطهر دون غيره من الأصهار) (2)، واخر يعجز المقام عن ذكرها كحديث الغدير والنجوى والمنزلة والكساء وآية القربى وسد أبواب المسجد وإعطاء الراية وآية براءة وغيرها.
ولعل من أظهر هذه المنازل الخاصة تزويجه من فاطمة عليها السلام وانحصار نسب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) بأولاد علي (علیه السلام). ذكر أنه لما نزل قوله تعالى: (قُل لَّا أَسْأَلُکُمْ عَلَیهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِی الْقُرْبَی) قالوا: يا رسول الله من هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم قال: علي وفاطمة وابناهما) (3). 4.
ص: 30
محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) النبي
رسم الإمام (علیه السلام) في نهج البلاغة صورتين متقابلتين لمحمد (صلی الله علیه و آله و سلم) المبعوث نبيا تمثلت الأولى في صورة الناس وتخبطهم في الضلال، بينما تشكلت الثانية في الصورة الإيجابية لإخراج الناس من الضلال إلى الهداية، وهي على النحو الآتي:
وفيها أكد الإمام (علیه السلام) صورا شتى من الحيرة والتخبط التي اكتنفت حياة الناس قبل بعثة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وفي أوانها برسم تفاصيل دقيقة توضح عظمته صلى الله عليه وآله في قدرته على تغيير واقع الحال المتردي، ومنها:
قال الإمام (علیه السلام): (بَعَثَهُ وَ النَّاسُ ضُلَّالٌ فِي حَيْرَةٍ وَ حَاطِبُونَ فِي فِتْنَةٍ، قَدِ اسْتَهْوَتْهُمُ الْأَهْوَاءُ وَ اسْتَزَلَّتْهُمُ الْكِبْرِيَاءُ وَ اسْتَخَفَّتْهُمُ الْجَاهِلِيَّةُ الْجَهْلَاءُ، حَيَارَى فِي زَلْزَالٍ مِنَ الْأَمْرِ وَ بَلَاءٍ مِنَ الْجَهْلِ؛ فَبَالَغَ (صلی الله علیه وآله) فِي النَّصِيحَةِ وَ مَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ وَ دَعَا إِلَى الْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ.) (1) تلك الحيرة المتمثلة في جهالة الاعتقادات وابتعادها عن المنطق وحدود العقل وبناء السلوك عليها، التي جرت الويلات عليهم لكثرة الاحترابات الداخلية فيما بينهم، فضلا عن عبادة الأصنام وتعدد الآلهة.
وتعبير (ضلال) بصيغة المبالغة يوحي بذلك التخبط كله في السير على غير 1
ص: 31
هدى مثلما رسمت لفظة (حاطبون) المادية الاستعمال صورة مجازية ثانية لمرادفات الضلال ونتائجه وهي لفظ (الفتنة)، وهي استعارة (ووجهها كونهم يجمعون في ضلالهم وفتنتهم ما أتّفق من أقوال وأفعال كما يجمع الحاطب، ومنه المثل: حاطب ليل. لمن جمع الغثّ والسمين والحقّ و الباطل في أقواله) (1) ومنهم من يرويها (خابطون) والمعنى: أى كانت حركاتهم على غير نظام في ضلال البدع. وقوله: (قد استهوتهم الأهواء) أي جذبتهم الآراء الباطلة إلى مهاوى الهلاك أو إلى نفسها، و (استزلّتهم الكبرياء): أي قادتهم إلى الزلل والخطل عن طريق العدل و اقتفاء آثار الأنبياء في التواضع ونحوه، و (استخفّتهم الجاهليّة الجهلاء) فطارت بهم إلى ما لا ينبغي من الغارات و الفساد في الأرض فكانوا ذوى خفّة وطيش، ولفظ الجهلاء تأكيد للأوّل كما يقال: ليل اليل ووتد واتد (2).
وقوله: (حيارى في زلزال من الأمر و بلاء من الجهل): أي لا يهتدون لجهلهم إلى مصالحهم فهو منشأ اضطراب أمورهم و بلائهم بالغارات وسبى بعضهم بعضا و قتلهم، وفي هذا إشارة إلى (وجوه الفساد التي يعاني منها العالم عشية بعثة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) (3).
وقوله الأخير: (فَبَالَغَ فِي النَّصِيحَةِ وَ مَضَى عَلَى الطَّرِيقَةِ وَ دَعَا إِلَى.
ص: 32
الْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) امتثال من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لأمر الله تعالى في قوله سبحانه: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) (1) فالدعوة بالحكمة والبرهان (2).
ومثله قوله عليه السلام: (وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمْ عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ، ابْتَعَثَهُ وَ النَّاسُ یَضْرِبُونَ فِی غَمْرَةٍ وَ یَمُوجُونَ فِی حَیْرَةٍ؛ قَدْ قَادَتْهُمْ أَزمَّةُ الْحَیْنِ، وَ اسْتَغْلَقَتْ عَلَی أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّیْنِ ) (3).
فقوله (يضربون في غمرة) بمعنى يسيرون في جهل وضلالة (4) - والضرب نوع من السير السريع (5)، والحين الهلاك، وهو كناية عن (تصرّفاتهم على جهل منهم بما ينبغي لهم من وجوه التصرّف، ويحتمل أن يريد وتسيرون في شدّة وذلك أنّ العرب كانت حينئذ في شدائد من ضيق المعاش والنهب والغارات وسفك الدماء كما قال عليه السّلام فيما قبل: إن الله بعث محمّدا صلى الله عليه وآله وسلّم نذيرا للعالمين وأمينا على التنزيل وأنتم معشر العرب على شرّ دين وفي شرّ دار) (6). والرين الذنب على الذنب حتى يسود القلب، وقيل الرين الطبع و الدنس، يقال ران على قلبه ذنبه يرين رينا، أي دنسه ووسخه (واستغلقت أقفال الرين على قلوبهم تعسر فتحها) (7) و (أزمة الحين أقفال الرين) صور .
ص: 33
استعارية في غاية الروعة نظرا لتماسك أجزائها، فهو لمّا استعار لفظ (الأزمّة) رشّح بذكر الفعل (قاد) وقصده (تداعوا للموت و الفناء من كثرة الغارات وشدائد سوء المعاش وظلم بعضهم لبعض، لأنّ الناس إذا لم يكن بينهم نظام عدليّ ولم يجر في أمورهم قانون شرعيّ أسرع فيهم ظلم بعضهم البعض واستلزم ذلك فناؤهم) (1).
كما استعار لفظ (الأقفال) ورشح بذكر (استغلق) (لغواشي الجهل والهيئات الرديئة المكتسبة من الإقبال على الدنيا، و وجه المشابهة أنّ تلك مانعة للقلب و حاجبة له عن قبول الحقّ و الاهتداء به كما تمنع الأقفال ما يغلق عليه من التصرّف) (2). ومن روعة هذه الصورة الاستعارية استعمال لفظ (استغلقت) بصيغة استفعل (لأنّ ذلك الرين كان أخذ في الزيادة ومنتقلا من حال إلى حال فكأن فيه معنى الطلب للتمام) (3). والرين من ألفاظ القرآن الكريم من قوله تعالى: (كَلَّا ۖ بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(4).
فتلك أحوال الخلق أوان بعث النبي رسمتها واو الحال في قوله (والناس) التي طالما أعاد الإمام رسمها بصور مختلفة كقوله: (إبْتَعَثَهُ لِلنَّاسِ كَافَّةً،رَحْمَةً لِلْعِبَادِ وَ حَیَاةً لِلْبِلاَدِ حِینَ امْتَلَأَتِ الْأَرْضُ فِتْنَةً وَ اضْطَرَبَ حَبْلُهَا وَ عُبِدَ اَلشَّیْطَانُ فِی أَکْنَافِهَا وَ اشْتَمَلَ عَدُوُّ اللَّهِ إِبْلِیسُ عَلَی عَقَائِدِ أَهْلِهَا، وَالنَّاسُ فِي .
ص: 34
اختِلافٍ، وَالْعَرَبُ بِشَرِّ الْمَنَازِلِ، مُسْتَضيئُونَ لِلثَّاءَاتِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (1) مستعملا الفعل المزيد (ابتعثه) ليوحي بشدة رحمة الله تعالى ببعثة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) نظرا لحجم ضلال الناس، وفيها فضل قوة من معنى الإرسال وتكثير معنى لا يظهر في اللفظ المجرد (بعث) لأن اللفظ المزيد أدق في الدلالة على المعنى الكثير من اللفظ المجرد (2). وفي هذه الصورة مزيد من الحركة التي باعثها عدم الاستقرار ومعرفة القصد الواضح.
وصيغة (ابتعث) تتكرر في كثير من أمثلة هذه الصور كقوله: (ابْتَعَثَهُ بِالنُّورِ الْمُضِيءِ وَ الْبُرْهَانِ الْجَلِيِّ وَ الْمِنْهَاجِ الْبَادِي وَ الْكِتَابِ الْهَادِي) (3) وقوله: (إِبْتَعَثَهُ عَلى حينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ، وَاخْتِلَافِ مِنَ الْمِلَلِ، وَهَدَأَةٍ مِنَ الْعِلْمِ، وَضَلَالِ عَنِ الْحَقِّ، وَجَهَالَةِ بالرَّبِّ، وكفر بالْبَعْثِ) (4). وكنى عن الدين أو القرآن بالنور المضيء.
وفي صورة أشد تخصيصا بالعرب بين الإمام حجم جهالتهم وبعدهم عن السماء فقال: (بعثه الله و ليس أحد من العرب يقرأ كتابا و لا يدّعي نبوّة) (5) والكتاب الذي يعنيه الإمام هنا (الكتاب السماوي من غير تحريف وتزييف والمعنى ان العرب قبل البعثة كانوا في جهالة مهلكة، وضلالة مظلمة لا يهتدون .
ص: 35
بكتاب إلهي ولا بسنة نبوية) (1)، وهو من قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) (2).
قال الشيخ محمد جواد مغنية (والقرآن الكريم أصدق مرجع عن أحوال العرب في الجاهلية، ويأتي من بعده نهج البلاغة حيث لم يكن للقوم كتاب سماوي ولا أرضي. ونزل الكتاب نجوما أي آنا بعد أن حسب الوقائع والمصالح، ثم جمع في مجلد واحد، و كان الإمام يخطب أو يكتب الرسائل لعماله أو يرسل الحكمة والموعظة حسب المقامات والمناسبات يوم لا تأليف ولا تصنيف عند العرب، ولا شيء إلا كتاب الله وسنّة نبيه وفي أواخر القرن الرابع الهجري جمع الشريف الرضي من آثار الإمام ما في نهج البلاغة) (3).
فالعرب أمة خام لما تفسد عقولهم بعد بالخرافات المبتناة على الادعاءات الدينية كما هو شأن اليهود و النصارى، وهي بعد أمة بعيدة عن جدل الفلسفات اليونانية والإغريقية، لذلك تجدهم شديدي التأثر، سهلي المنال بما يجاورهم من معتقدات فالقبائل المجاورة للنصارى تبنت المسيحية والأخرى المجاورة لليهود تأثرت بمعتقدات اليهودية، فضلا عن عبادة الحجر والخشب وغيرها. فكانوا كما 1.
ص: 36
قال الإمام في (تَنَازُعِ مِنَ الْأَلْسُنِ) (1)، (فكلّ طائفة تجادل مخالفيها بألسنتها التقودها إلى معتقدها) (2).
وربما كان ذلك سببا في بعث النبي في مثل هذه الأمة نظرا لحجم التأثير المأمول وهو ما جرى فعلا، ففي ظرف قياسي دانت الجزيرة العربية كلها تقريبا بالدين الجديد على الأقل في الظاهر.
وهذا الأمر فصل الإمام فيه الكلام في قوله مشيرا إلى طول المدة الفاصلة بين بعثة النبي ومن سبقه من الأنبياء والرسل: (أَرْسَلَهُ عَلَى حِينِ فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ وَ طُولِ هَجْعَةٍ مِنَ الْأُمَمِ وَ اعْتِزَامٍ مِنَ الْفِتَنِ وَ انْتِشَارٍ مِنَ الْأُمُورِ وَ تَلَظٍّ مِنَ الْحُرُوبِ، وَ الدُّنْيَا كَاسِفَةُ النُّورِ ظَاهِرَةُ الْغُرُورِ عَلَى حِينِ اصْفِرَارٍ مِنْ وَرَقِهَا وَ إِيَاسٍ مِنْ ثَمَرِهَا وَ [إِعْوَارٍ] اغْوِرَارٍ مِنْ مَائِهَا، قَدْ دَرَسَتْ مَنَارُ الْهُدَى وَ ظَهَرَتْ أَعْلَامُ الرَّدَى، فَهِيَ مُتَجَهِّمَةٌ لِأَهْلِهَا عَابِسَةٌ فِي وَجْهِ طَالِبِهَا، ثَمَرُهَا الْفِتْنَةُ وَ طَعَامُهَا الْجِيفَةُ وَ شِعَارُهَا الْخَوْفُ وَ دِثَارُهَا السَّيْفُ) (3).
ولا ريب في أن المراد بالفترة بين الرسل طول انقطاع الوحي والرسالة بينهم، ذلك أنّ الرسل إلى وقت رفع عيسى كانت متواترة و بعد رفعه (علیه السلام) انقطع الوحى (4)، فما بين إرسال النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وبين المسيح (علیه السلام) عهد طويل يمتد لأكثر من خمسمائة سنة، فهي هجعة ونوم طويل كما استعارها الإمام .
ص: 37
(للأمم) ورشحها بالطول للمناسبة بينهما نظرا (لانغماسهم في ظلمة الجهالة والضّلالة) (1).
وصورة هذا المشهد (تذكيرهم بنعمة الله تعالى التي نفت ما كانوا فيه من بؤس وهى بعثة الرسول صلى الله عليه وآله وسلّم وما استلزمته من الخيرات ليعتبروا فيشكروا و يخلصوا التوجّه إلى الله تعالى فأشار أوّلا إلى النعمة المذكورة ثمّ أردفها بالأحوال المذمومة التى تبدلّت بتلك النعمة الجسيمة) (2)، وله أجزاء ينبغي الوقف عندها للتفصيل، فقوله (واعتزام من الفتن) مجاز استعاري (كأنه جعل الفتن معتزمة - أي مريدة مصممة للشغب و الهرج ويروى واعتراض، ویروى واعترام بالراء المهملة من العرام وهي الشرة، والتلظي التلهب).
وقوله (كاسفة النور) تشبيها للدنيا بكسوف الشمس وذهاب ضوئها، ثم رسم لها صورة تغير أحوالها وذبولها (فجعلها كالشجرة التي أصفر ورقها و يبس ثمرها، وأعور ماؤها والإعوار ذهاب الماء فلاة عوراء لا ماء بها) (3)، ويروى (إغوار) من غار الماء أي ذهب، ومنه قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ) (4)
ولابن ميثم البحراني وقفة تفصيلية لبلاغة هذه الصورة ومعانيها إذ قال: (استعار لفظ (الثمرة) و(الورق) لمتاعها وزينتها، ولفظ (الاصفرار) لتغيّر تلك .
ص: 38
الزينة عن العرب في ذلك الوقت و عدم طلاوة عيشهم وخشونة مطاعمهم، كما يذهب حسن الشجرة باصفرار ورقها فلا يتلذّذ بالنظر إليها، وعنى بالإياس من ثمرها انقطاع آمال العرب من الملك والدولة وما يستلزمه من الحصول على طيّبات الدنيا. وكذلك استعار لفظ الماء لموادّ متاع الدنيا وطرق لذّاتها ولفظ (الاغورار) لعدم تلك الموادّ من ضعف التجارات والمكاسب وعدم التمليك للأمصار وكلّ ذلك لعدم النظام العدلىّ بينهم وكلّها استعارات بالكناية. ووجه الاستعارة الأولى أنّ الورق كما أنّه زينة للشجرة وبه كماله، كذلك لذّات الدنيا وحياة الدنيا وزينتها. ووجه الثانية أنّ الثمر كما أنّه مقصود الشجرة غالبا وغايتها، كذلك متاع الدنيا والانتفاع به هو مقصودها المطلوب منها لأكثر الخلق، ووجه الثالثة أنّ الماء كما أنّه مادّة الشجر وبه حياتها وقيامها في الوجود كذلك مولود تلك اللذّات هى المكاسب والتجارات والصناعات، وقد كانت العرب خالية من ذلك) (1)، وكثيرا ما يقف البحراني على مثل هذا التفصيل في إجادة بلاغية لافتة. وقوله: (متجهمة لأهلها) كالحة في وجوههم تعزيز لوصف الكسوف.
ثم قال (ثمرها الفتنة أي نتيجتها وما يتولد عنها، وطعامها الجيفة) يعني الأكل الخبيث على وجه الاستعارة. وقوله الأخير (وَ شِعَارُهَا الْخَوْفُ وَ دِئارُهَا السَّيْفُ) (من بديع الكلام ومن جيد الصناعة، لأنه لما كان الخوف يتقدم السيف والسيف يتلوه، جعل الخوف شعارا لأنه الأقرب إلى الجسد، وجعل الدثار تاليا له (2). .
ص: 39
وفي تعبير آخر عن ابتعاد الناس عن الدين قال: (أَرْسَلَهُ وَ أَعْلَامُ الْهُدَى دَارِسَةٌ وَ مَنَاهِجُ الدِّينِ طَامِسَةٌ، فَصَدَعَ بِالْحَقِّ - وَ نَصَحَ لِلْخَلْقِ وَ هَدَى إِلَى الرُّشْدِ وَ أَمَرَ بِالْقَصْدِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ) (1). اختصر الإمام سواد الصورة للحياة السوية بواو الحال حين وصف (أعلام الهدى) و (مناهج الدين) بالدرس والطمس اللتين يدركهما العربي جيدا في ثقافته وحياته المتنقلة. وهو من باب المجاز العقلي الذي يراد به المبالغة في التأثير لأن دارسة وطامسة يراد بها صيغ المفعول أي مدروسة ممحوة.
وقوله (فصدع بالحق) مأخوذ من قوله تعالى (فَأَصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) (2). وقوله
(هدى إلى الرشد) استيحاء من قوله تعالى: ﴿قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيّ) (3).
وفي هذه الصورة نلحظ تنغيمات سجعية مختلفة الألوان عالية الجرس مثل (دارسة وطامسة) و (الحق والخلق) و (الرشد والقصد) أكسبت الكلام مزيدا من التأثير في المسامع.
وقال عليه السلام من خطبة له وصف به النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، خطبها بذي قار (4) وهو متوجّه إلى البصرة لقتال الناكثين: (فَصَدَعَ بمَا أُمِرَ بِهِ وَ بَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ، ي.
ص: 40
فَلَمَّ اللَّهُ بِهِ الصَّدْعَ وَ رَتَقَ بِهِ الْفَتْقَ وَ أَلَّفَ بِهِ الشَّمْلَ بَيْنَ ذَوِي الْأَرْحَامِ، بَعْدَ الْعَدَاوَةِ الْوَاغِرَةِ فِي الصُّدُورِ وَ الضَّغَائِنِ الْقَادِحَةِ فِي الْقُلُوبِ.) (1).
ويعني بالصدع الأولى الجهر والثانية الشق وهو من باب المشاكلة في اللفظ الذي زاد الكلام رونقا وعفوية، وقوله هذا أوماً به - على المعنى الأخص - إلى أبناء قيلة من الأوس والخزرج وإلى العرب عامة، لذلك وصفهم بذوي الأرحام، قال الطبري: (كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يعرض نفسه على قبائل العرب في الموسم فلقي رهطا من الخزرج فقال: ألا تجلسون أحدّثكم. قالوا: بلى. فجلسوا إليه، فدعاهم إلى الله تعالى وتلا عليهم القرآن فقال بعضهم لبعض: يا قوم تعلموا والله إنّه النبي الذي كان يعدكم به اليهود، فلا يسبقنّكم إليه أحد. فأجابوه وقالوا له: إنّا تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشرّ مثل ما بينهم، وعسى أن يجمع الله بينهم بك، فتقدم عليهم، وتدعوهم إلى أمرك. وكانوا ستّة نفر، فلما قدموا المدينة فأخبروا قومهم بالخبر، فما دار حول إلّا و فيها حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ...) (2).
وما فتيء الإمام قادرا على الرسم بالكلمات مستغلا طاقاتها التعبيرية والتنغيمية، نلحظه في الاستعمالات المجازية الكثيرة في الصور السابقة كلها.
وفيها رسم الإمام صورا مقابلة للصور الأول بعضها ذكر فيها صفات 6.
ص: 41
النبي المرتبطة بمفهوم النبوة وبعضها الآخر رسم الوظيفة النبوية التي رفعت من شأن العرب كثيرا بين الأمم وغيرت من حالهم إلى الأحسن.
ومن الأولى قوله: (أَمِينُ وَحْيِهِ وَ خَاتَمُ رُسُلِهِ وَ بَشِيرُ رَحْمَتِهِ وَ نَذِيرُ نِقْمَتِهِ) (1) فهذه الفاظ اختص بها النبي وحده بعد بعثه وهي من ألفاظ القرآن الكريم، فقوله (أمين وحيه) من قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى * إنْ هُوَ إِلَّا وَحْىٌ يُوحَى) (2)، وهي مثل قوله في موضع آخر في النبي: (أمين الله المأمون وشهيده يوم الدين) (3) والأخير من قوله تعالى: (وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (4)
أما قوله (خاتم رسله) فهي من قوله سبحانه: (وَلَكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبيِّین) (5)، و (بشير رحمته) من قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) (6).
وفي تعداد آخر لصفات النبي قال عليه السلام: (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَ تَجِيبُهُ وَصَفْوَتُهُ) (7)، وهي استيحاء من قوله تعالى في النبي (اللهُ 1
ص: 42
أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) (1). والإمام قدم العبودية على الرسالة (لأنّه لولاها لما حصلت الرسالة) (2).
وأكد الإمام المنبع الإلهي لتسلسل الرسل فقال: (قفّی به الرسل، وختم به الوحي) (3) مشيرا إلى نهاية بعث الأنبياء بمحمد (صلی الله علیه و آله و سلم) وختام الوحي. وهي صورة صورة استعارها من قوله تعالى: (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى ءأَثَرِهِم بِرُسُلِنَا) (4).
ومن الصفات النبوية الأخر قوله عليه السلام: (وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ المُجْتَبَى مِنْ خَلَائِقِهِ، وَالْمُعْتَامُ لِشَرْحِ حَقَائِقِهِ وَالْمُخْتَصُّ بِعَقَائِلِ كَرَامَاتِهِ، وَالْمُصْطَفَى لِكَرَائِم رِسَالَاتِهِ) (5).
والمجتبى هو المصطفى المختار من الله سبحانه من بين خلائقه من الأولين والآخرين، وهي من قوله تعالى: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا) (6)، والمعتام هو المختار بحب (7)، ويعني بشرح الحقائق حقائق الدين بمطلق أصوله وفروعه (8)، والأمم السابقة وأحوالها وعلى حد تعبير ابن أبي الحديد (شرح حقائق توحيده 2
ص: 43
وعدله، ومعنى حقائق توحيده الأمور المحقّقة اليقينية التي لا تعتريها الشكوك ولا تتخالجها الشبه) (1) وقد دل النبي على طرق استنباطها (بواسطة أمير المؤمنين عليه السّلام، لأنّه إمام المتكلّمين الذي لم يعرف علم الكلام من أحد قبله) (2). والحق إن حقائق التوحيد ليست مقصورة على التوحيد والعدل بل تشمل المعاد والإمامة أيضا.
وعقائل الكرامات التي اختص بها النبي تعظيم للصورة النبوية إذ أسند إليه أنفس الكرامات مثل الإسراء والمعراج وختام الوحي والنبوة وطائفة واسعة من الكرامات حفظها له (صلی الله علیه و آله و سلم) القرآن الكريم نحو قوله تعالى: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) (3)، وقوله سبحانه (وَالضُّحَىٰ * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ * وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَىٰ * وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَىٰ * أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَىٰ * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَىٰ * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَىٰ * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (4). و قال عزّ اسمه: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ...) (5) و قال سبحانه: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) (6)، ومن نفائس الكرامات (جعل عزّ .
ص: 44
عزّ وجلّ ذكره صلى الله عليه وآله مقرونا بذكره في كلّ يوم خمس مرّات على المنائر، وجعل الشهادة برسالته موصولة بالشّهادة بتوحيده جلّ و علا على المنائر) (1).
وقوله (المصطفى) لقب للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) غالب عليه استوحي من قوله تعالى (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) (2). وقد ذكر الإمام لقب (المصطفى) في غير موضع من ذكره للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) نحو قوله: (أرسله بالضياء وقدّمه في الاصطفاء) (3)، فالاصطفاء هو الاختيار، والأنبياء و إن كان اختيار الله تعالى لهم اصطفاء كما ذكر سبحانه (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) (4)، إلّا أنّه صلى الله عليه وآله كان مقدّما عليهم حتّى صار المصطفى علما له.
وقوله (أرسله بالضياء) أي: بالقرآن قال تعالى: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ). (5)
أما الصور الأخر المقابلة التي رسمت الوظيفة النبوية وما أحدثت من تغيير فعلي وصل حد الإعجاز من توحيد القبائل العربية ولم الصف ونقل المعرفة ومحاربة الجهل فقد مثلته طائفة واسعة من الصور الفنية مثل قوله: (أَضَاءَتْ بِهِ 1.
ص: 45
الْبلادُ بَعْدَ الصَّلَالَةِ الْمُظْلِمَةِ وَالْجَهَالَةِ الْعَالِيَةِ وَ الْجَفْوَةِ الْجَافِيَةِ) (1)، وهذه صورة اختصرت سنوات طوال من نضال النبي وصبره حتى من بسط الفكر التوحيدي الجديد وتشريع قوانين العدالة السماوية الجديدة التي أنارت العقل وبسطت النفوذ ووحدت الكلمة.
والإمام اكتفى بقوله (أضاءت به البلاد) مقابل إطنابه بالصور الثلاث اللاحقة، لأن مراده بيان الحال لما بعد البعثة النبوية وأثر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في استجلاب الخير للعرب خاصة، لذلك أشار إلى بعض الصفات الجاهلية الغالبة عليهم التي قضى عليها النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فوصف الضلالة بالمظلمة كناية عن المبالغة في عدم الاهتداء، وقال (الجفوة الجافية) لأن في طباعهم كانت غلظة وشناعة مثل وأد البنات وفعل السبي والنهب في الناس (2). ووصف الجهالة بالغالبة نظرا لخفة العقول وإشعال الحروب وسفك الدماء لأتفه الأسباب كما في حرب البسوس وحرب داحس والغبراء المشهورتين في الجاهلية.
والصفات التي أطنب بها الإمام في إطلاقها على الموصوفات للمبالغة ومراعاة السياق، إذ هو لما قال (أضاءت) حسن إيراد صفة الظلام على الضلالة ووصف الجهالة بالغالبة للإشعار بهذه الصفة السائدة في عقول الناس قبل بعثة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وإطلاق لفظ الجافية على المصدر للمبالغة من باب المجاز العقلي كما يقال جن جنونه. .
ص: 46
وفي موضع آخر رسم الإمام للنبي صورة مشرقة للتغيير فقال: (جَعَلَهُ اللهُ سُبْحَانَهُ بَلَاغاً لِرَسَالَتِهِ وَ كَرَامَةً لِأُمَّتِهِ، وَرَبيعاً لِأهْل زَمَانِهِ وَرِفْعَةً لِأَعْوَانِهِ وَشَرَفاً لِأَنْصَارِهِ) (1). فوصف رسالة النبي بالبلاغ إشارة لإتمام النعمة على الناس ولطف الله بالبرية (وأمّا باقي رسله، وإن أدّوا ما عليهم من الإبلاغ، إلّا أنّه لمّا كانت رسالاتهم مؤقّتة محدودة لم يحصل منهم بلاغ منه تعالى كاف) (2).
وجعل ختام النبوة بمحمد كرامة للعرب كونه منهم واختتام الأديان بالإسلام فبعد أن كانوا قبائل متناحرة في تخوم الصحراء كرمهم الله فأصبحوا سادة العالم والحاملين إليه لواء التوحيد وجعله الله (ربيعا لأهل زمانه) صورة للنماء والخيرات و البركات حتى لغير المؤمنين في عاطفة من المديح الصادق تطابق فيه الأداء مع المضمون أيما تطابق تطابق يستشعر فارقه كل دارس الأدب مديح السلاطين حين تسبغ مثل هذه الصفات على غير مستحقيها. وقول الإمام هذا يشبه قول أبيه رضوان الله عليه من قبل في النبي (3):
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ربیع اليتامي عصمة للأرامل
وقوله (4):
و تلقوا ربيع الأبطحين محمّدا *** على ربوة في رأس عنقاء عيطل 9.
ص: 47
وقوله الأخير إشارة إلى ما خلف النبي فيهم من فهم جديد في النظر إلى الحياة ووظيفة الإنسان فيها رفع من مكانتهم بين الأمم، قال أبو ذر: (تركنا النبيّ صلى الله عليه وآله وما يحرك طائر جناحيه في السماء إلّا ذكرنا منه علما) (1).
وقال في موضع آخر: (فَرَتَقَ بهِ الْمَفَاتِقَ وَسَاوَرَ بهِ الْمُغالِب، وذلّلَ بهِ الصُّعُوبَةَ وَسَهَّلَ بهِ الْحُزُونَةَ، حَتَّى سَرَّحَ الضَّلَالَ عَنْ يَمِينِ وَشِمَالِ) (2). والمفاتق التي رتقها النبي كناية عامة عن كل مفسدة أصلحها النبي (3) وكل سيئة وفعل من شأنه سفك الدم وفرقة الكلمة وهد الصف والمفاتق جمع مفتق وهي الشقوق.
ويبدو من سياق الربط بين الفعل رتق ومفعوله المفاتق أن المراد به غير الظاهر من اسم الفاعل (المفاتق) بضم الميم المقابل في الصورة الثانية للمغالب، وثمة معنى فارق بينهما، إذ الصورة تريد الجمع لا اسم الفاعل وإن كان يوهمه الصورة الثانية بقرينة المغالب. وأراد من المساورة (المواثبة أي كسر به صلى الله عليه وآله سورة من أراد الطغيان) (4).
ورد في سيرة النبي أنه (لما ولد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فوقع إلى الأرض، وقع على يديه رافعا رأسه إلى السماء وقبض قبضة من التراب بيده فبلغ ذلك رجلا .
ص: 48
من لهب فقال لصاحب له: أنجه لئن صدق الفأل ليغلبن هذا المولود أهل الأرض) (1).
وقوله (ذلّل به الصعوبة) كناية عن التسهيل والتخفيف. وقوله (سهّل به الحزونة)تعزيز لمعنى الأولى، و الحزونة: ضدّ السهولة، والحزن هي ما غلظ من الأرض وخشن. واستعير لوصف الأخلاق الخشنة، وكلام الإمام يحمل معنيين: عام كنى به عن المعنى الأول ذاته في توخي التليين والتخفيف في التعامل اليومي، وخاص أوماً به إلى حادثة أفاد منها للانطلاق إلى المعنى العام. ورد في كتاب (النهاية) عن سعيد بن المسيب (2): أن النبي صلی الله علیه و آله و سلم أراد أن يغير اسم جده حزن ويسميه سهلا، فأبى وقال: لا أغير اسما سماني به أبي قال سعيد فما زالت فينا تلك الحزونة بعد) (3).
ولا ريب تلك نظرة جديدة إلى بناء الإنسان في ظل مفهوم المدنية وحياة اللاعنف التفت إليها النبي في أدق تفاصيلها. لذلك الله به الضلال سريعا، وأكد تشتيته بقوله (عن يمين وشمال).
وكلام الإمام كثير في تصوير أحوال العباد والبلاد بعد التغيير النبوي يعجز التفصيل إيفاءه حقه لذلك كثيرا ما يعمد الإمام إلى التكنية عنه بصور مختصرة تدع الأذهان تذهب فيه كل المذاهب في تصوره كقوله: ( ... حَتَّى تمَّتْ 1.
ص: 49
بنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ص حُجَّتُهُ، وَبَلَغَ الْمَقْطَعَ عُدْرُهُ وَنَدْرُهُ) (1). ومقطع الشيء نهايته وما يقطع به ولا يبقى خلفه شيء (2). أي ليس ثمة رسول ينتظر بعد النبي محمد لأنه تمت الحجة به على العباد وبلغ الأمر مقطعه (وانتهت عذر الله تعالى و نذره فعذره ما بين للمكلفين من الاعذار في عقوبته لهم إن عصوه، ونذره ما أنذرهم به من الحوادث، ومن أنذرهم على لسانه من الرسل) (3).
ذكر الإمام في نهج البلاغة للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حادثة قلع الشجرة وائتمارها بأمره في محاولة لإقناع قريش برسالته (صلی الله علیه و آله و سلم)، وذكرها بصفته شاهدا حاضرا في هذه المعجزة فقال: (وَ لَقَدْ كُنْتُ مَعَهُ ص لَمَّا أَتَاهُ الْمَلَأُ مِنْ قُرَيْشٍ، فَقَالُوا لَهُ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ قَدِ ادَّعَيْتَ عَظِيماً، لَمْ يَدَّعِهِ آبَاؤُكَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ بَيْتِكَ، وَنَحْنُ نَسْأَلُكَ أَمْراً إِنْ أَجَبْتَنَا إِلَيْهِ وَأَرَيْتَنَا، عَلِمْنَا أَنَّكَ نَبِيّ ٌوَرَسُولٌ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّكَ سَاحِرٌ كَذَّابٌ. فَقَالَ (صلی الله علیه و آله و سلم): وَمَا تَسْأَلُونَ. قَالُوا: تَدْعُو لَنَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ حَتَّى تَقْلِعَ بِعُرُوقِهَا، وَتَقِفَ بَيْنَ يَدَيْكَ. فَقَالَ (صلی الله علیه و آله و سلم): إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فَإِنْ فَعَلَ اللهُ لَكُمْ ذَلِكَ أَتُؤْمِنُونَ وَتَشْهَدُونَ بِالْحَقِّ. قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَإِنِّي سَأُريكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيتُونَ إِلَى خَيْرٍ. وَ أَنَّ فِيكُمْ مَنْ يُطْرَحُ فِي الْقَلِيبِ وَمَنْ يُحَزِّبُ الْأَحْزَابَ. ثمَّ قَالَ (صلی الله علیه و آله و سلم): يَا أَیَّتُهَا الشَّجَرَةُ، إِنْ كُنتِ تُؤْمِنِينَ باللهِ وَ الْيَوْمِ .
ص: 50
الْآخِرِ وَ تَعْلَمِينَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَانْقَلِعِي بِعُرُوقِكِ حَتَّى تَقِفِي بَيْنَ يَدَيَّ بِإِذْنِ اللَّهِ. وَ الَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا وَ جَاءَتْ، وَ لَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ وَ قَصْفٌ كَقَصْفِ أَجْنِحَةِ الطَّيْرِ، حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) مُرَفْرِفَةً وَ أَلْقَتْ بِغُصْنِهَا الْأَعْلَى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله) وَ بِبَعْضِ أَغْصَانِهَا عَلَى مَنْكِبِي وَ كُنْتُ عَنْ يَمِينِهِ (صلی الله علیه وآله). فَلَمَّا نَظَرَ الْقَوْمُ إِلَى ذَلِكَ قَالُوا عُلُوّاً وَ اسْتِكْبَاراً فَمُرْهَا فَلْيَأْتِكَ نِصْفُهَا وَ يَبْقَى نِصْفُهَا، فَأَمَرَهَا فَأَقْبَلَ إِلَيْهِ نِصْفُهَا كَأَعْجَبِ إِقْبَالٍ وَ أَشَدِّهِ دَوِيّاً فَكَادَتْ تَلْتَفُّ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلی الله علیه وآله). فَقَالُوا كُفْراً وَ عُتُوّاً: فَمُرْ هَذَا النِّصْفَ فَلْيَرْجِعْ إِلَى نِصْفِهِ كَمَا كَانَ، فَأَمَرَهُ (صلی الله علیه وآله) فَرَجَعَ. فَقُلْتُ أَنَا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، إِنِّي أَوَّلُ مُؤْمِنٍ بِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَ أَوَّلُ مَنْ أَقَرَّ بِأَنَّ الشَّجَرَةَ فَعَلَتْ مَا فَعَلَتْ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى تَصْدِيقاً بِنُبُوَّتِكَ وَ إِجْلَالًا لِكَلِمَتِكَ. فَقَالَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ: بَلْ ساحِرٌ كَذَّابٌ، عَجِيبُ السِّحْرِ، خَفِيفٌ فِيهِ، وَ هَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا؟ يَعْنُونَنِي. (1).
ذكر الإمام هذه المعجزة للنبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وعرضه التذكير بمنزلته الخصيصة من الرسول الأعظم وشهادته بمعجزاته وتصديقه لنبوته فكرا وعملا وفي الوقت ذاته تحذير لمن يذكر لهم هذه الحادثة من التمادي في الغي والعتو في الإعراض عن وصايا رسول الله.
وقصة قلع الشجرة وسجودها بين يدي رسول الله ذكرتها مصادر عدة غير .
ص: 51
نهج البلاغة (1) بهذا التفصيل، إلا أن منهم من رواها بشكل مقتضب مع الاتفاق على أصل المعجزة (2).
ولكن روعة تصوير الإمام لتفاصيل هذه الحادثة ينبع من كونه شاهدا فيها، فضلا عن قدرته التصويرية البلاغية في أسلوب عرضها.
فالإمام عرض هذه الحادثة بمشهد يضم ثلاث صور يجمعها جامع واحد:
الصورة الأولى: رسمت تحدي الني لهم في إصرارهم وبقائهم على الكفر برسالته، وذلك في قوله متيقنا بأسلوب التوكيد (فَإِنِّي سَأُريكُمْ مَا تَطْلُبُونَ، وَ إِنِّي لَأَعْلَمُ أَنَّكُمْ لَا تَفِيتُونَ إِلَى خَيْرٍ).
الصورة الثانية: الإمعان في التفصيل بأمر الشجرة وأغصانها وأمرها بالسجود. فأول الأمر انقلاع الشجرة بعروقها، والثاني أمرها بانشقاقها إلى نصفين ومجيء نصف منها إلى الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)، وبقاء النصف الآخر، والثالث أمرها بالالتحام كما كانت.
الصورة الثالثة: المؤثرات، واعني بها حرص الإمام على تصوير التفاصيل الدقيقة والمؤثرة للشجرة من حركة وصوت، مثل قوله (وَالَّذِي بَعَثَهُ بالْحَقِّ لَانْقَلَعَتْ بِعُرُوقِهَا، وَجَاءَتْ وَلَهَا دَوِيٌّ شَدِيدٌ، وَقَصْفٌ كَقَصْفِ .
ص: 52
أجْنِحَةِ الطَّيْرِ، حَتَّى وَقَفَتْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللهِ (صلی الله علیه و آله و سلم) مُرَفْرِفَةً) فالدوي والقصف والرفرفة تصوير دقيق للصوت والحركة تحيل السامع إلى مشاهد، وتلك سمة أسلوبية عامة في بلاغة الإمام في كلامه. وهي هنا - لا ريب - لا تتاح إلا لمن شهد هذه المعجزة بنفسه.
أما الجامع لهذه الصور كلها فهو الغرض الذي ساق الكلام من أجله وهو تصوير منزلته من الله تعالى ورسوله وهذا يمكن ملاحظته في تأكيده بقربه من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، إذ كان عن يمينه وأن الشجرة قد ألقت ببعض أغصانها على منكبه، فضلا عن قوة التصريح في القول الأخير على لسان طغاة قريش (وَهَلْ يُصَدِّقُكَ فِي أَمْرِكَ إِلَّا مِثْلُ هَذَا، يَعْنُونَنِي)، والفضل ما شهدت به الأعداء.
وفي هذه الحادثة ثمة معجزات أخر تعزز صدق الرسالة المحمدية، فقد أنبأ الرسول بعواقب طغاة قريش في غيب من علم الله تعالى أطلعه عليه فذكر مسبقا عنادهم وإصرارهم على الكفر وحكم بأنهم (لا يفيئون إلى خير و أنّ منهم من يطرح في القليب ومنهم من يحزّب الأحزاب).
والقليب الذي عناه الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) هو قليب بدر، بعد معركة بدر التي خسر فيها عتاة قريش (و من طرح فيه كعتبة وشيبة ابنى ربيعة واميّة بن عبد شمس وأبي جهل والوليد بن المغيرة وغيرهم طرحوا فيه بعد انقضاء الحرب وكان ذلك الخبر من أعلام نبوّته صلى الله عليه وآله وسلّم، ومن يحزّب الأحزاب هو أبو سفيان وعمرو بن عبد ودّ وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهل بن عمرو وغيرهم) (1). 4
ص: 53
من صور كمالاته
رسم الإمام الزهد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وتواضعه صورا مفصلة أبان فيها كمال الشخصية النبوية مثل قوله: (وَلَقَدْ كَانَ (صلی الله علیه و آله و سلم) يَأْكُلُ عَلَى الْأَرْضِ وَ يَجْلِسُ جِلْسَةَ الْعَبْدِ وَ يَخْصِفُ بِيَدِهِ نَعْلَهُ وَ يَرْقَعُ بِيَدِهِ ثَوْبَهُ وَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ الْعَارِيَ وَ يُرْدِفُ خَلْفَهُ. وَ يَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ، فَيَقُولُ يَا فُلَانَةُ لِإِحْدَى أَزْوَاجِهِ غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَ زَخَارِفَهَا. فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً وَ لَا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً وَ لَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً، فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْسِ وَ أَشْخَصَهَا عَنِ الْقَلْبِ وَ غَيَّبَهَا عَنِ الْبَصَرِ) (1)، وفي كلام الإمام ثمة مشهدان تصدر الأول التواضع والثاني أخذ صورة الزهد، وقد كانت الأساليب الكنائية عدة الإمام في رسم صور التواضع، وهي كلها مرتبطة بعصرها إلى حد بعيد، فالجلوس على الأرض وخصف النعل وركب الحمار العاري كنايات عن الزهد (2) بمظاهر الحياة على الرغم من امتلاك مسببات رفاهيتها كون النبي قائد الأمة.
ومن سير تواضعه أنه (جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فأصابته 2
ص: 54
رعدة. فقال النبيّ صلى الله عليه وآله: هوّن عليك فإني لست بملك إنّما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) (1). ففضلا عن هيبة النبوة وما يحيط بشخص النبي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) من هالة قدسية تكتنف النفوس وتدخل القلوب، فإن صورة الملك في ثقافة أبناء الجزيرة العربية بعيدة المنال ودماء الملوك في أعرافهم تختلف عن سواها من أبناء البشر، والنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عرف ذلك في نفس هذا الرجل إذ هو شأنه شأن الناس في أطراف الصحراء يسمعون بسلطان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وربما يتصورونه ملكا جبارا فيهابونه، غير أنهم يصدمون حين يتعاملون بهذا الخلق المتواضع الغريب عن ثقافة الملوك إذا صح الكلام. فمن ذلك روي في حديث إسلام عدي بن حاتم الطائي وقدومه على النبيّ صلى الله عليه وآله قال عدي: ( ... فانطلق بي إلى بيته فو الله إنه لعامد بى إليه إذ لقيته امرأة ضعيفة كبيرة، فاستوقفته فوقف لها طويلا تكلمه في حاجتها. قال: فقلت في نفسي: والله ما هذا بملك. ثم مضى رسول الله حتى دخل بيته فتناول وسادة من أدم محشوة ليفا، فقذفها إلي. فقال لي: اجلس على هذه. قال: قلت: لا بل أنت، فاجلس عليها. قال: لا بل أنت. فجلست وجلس رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالأرض. قال: قلت في نفسي: والله ما هذا بأمر ملك. ثم قال: إيه يا عدى بن حاتم، ألم تك ركوسيا (2)؟ قال: قلت: بلى. قال: أو لم تكن تسير في قومك بالمرباع؟ قال: قلت: بلى. قال: فإن ذلك لم يكن يحل لك في دينك. قال: قلت:.
ص: 55
أجل والله. وعرفت أنه نبي مرسل يعلم ما يجهل ...) (1). وعدي ينكر صفة الملك على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بحسب مفهومه للملك من جهة السلطان وقهر العباد لأن مفهوم النبي وما فيه من معان روحية جديد عليه ولا يمكن استيعابه إلا بالتعامل معه كما تحصل مع أخته التي نصحته بالذهاب إليه والنظر في الأمر عن كثب كما تذكر مصادر التاريخ، لذلك كان عدي بن حاتم بعد ذلك صادق الإيمان ومن كبار المتفانين في حب الإسلام الذي جسده بمواقفه مع الإمام علي (علیه السلام) وقتاله إلى جانبه في صفين واستشهاده مع الإمام الحسين (علیه السلام) بعد ذلك.
ويبدو أن هيئة العبد حين يجلس بين يدي سيده لافتة للانتباه في التطامن والتصاغر، وكان ذلك مدعاة للضعة والاحتقار في عرف المجتمع المؤمن بطبقية السيد والمسود، ولكن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حاربها بأخلاقه وسيرته، ولهذا حفظ له التاريخ أنه يجلس جلسة العبد، وأنه يجيب دعوة العبد، وأنه (يدعى إلى خبز الشعير والإهالة السنخة (2) فيجيب) (3).
وتلك صورة قديمة انقرضت في عصرنا الحاضر ولكن يمكن تصورها عند التكنية عن معاني الزهد والتواضع، ولاسيما عندما يكون الحديث عن النبي وابن عمه وعمق معرفتهما بجبار السموات والأرض.
ولذلك قد تستنكر هذه الصفة على النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عند من لا يعرفه، إذ روي 9.
ص: 56
أن امرأة بذيّة مرت على النبيّ صلى الله عليه وآله وكان جالسا جلسة العبيد، فاستنكرت عليه ذلك فقال (علیه السلام): (وأي عبد أعبد مني) (1).
كان النبي مثالا حيا للتواضع علم الأجيال على مر تاريخها السابق واللاحق كيف يمكن للقيادي أن يجتذب الناس إليه بخلقه وتواضعه حتى قال الله تعالى فيه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (2)، لذلك التفت إلى دقائق الأمور في الأخلاق فنما الحسن منها وحارب السيء فيها، فكان مما نهى عنه التيه في طريقة المشي واللباس فقال: (إياكم وسبل الإزار فإنها من الخيلاء والخيلاء لا يحبها الله) (3). وورد في الخبر (عن أبي أمامة، قال: بينما نحن مع النبيّ صلى الله عليه
وآله إذ لحقنا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة إزار ورداء و قد أسبل، فجعل النبيّ صلى الله عليه وآله يأخذ بحاشية ثوبه، ويتواضع لله عزّ وجلّ ويقول: اللهمّ عبدك وابن عبدك وابن أمتك، حتّى سمعها عمرو بن زرارة. فالتفت إلى النبيّ صلى الله عليه وآله فقال: يا رسول الله إنّي حمش الساقين. فقال النبيّ صلى الله عليه وآله: إنّ الله قد أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ يا عمرو بن زرارة، إنّ الله لا يحبّ المسبلين) (4). ويبدو أن سبل الإزار بإطالته بحيث يجره الماشي وراءه أسلوب من أساليب الترف والتيه يحمل التشبه بمشية الطاووس، ومن هنا مورد .
ص: 57
الانتهاء عنه كونه مدعاة للتكبر والخيلاء. ولذا حاول الأنصاري نفي هذه الصفة عنه حين برر سبله إزاره بأن ساقيه دقيقتان وأراد بذلك ستر عيبهما (حمشهما).
ومن كنايات التواضع التي رسمها الإمام للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من خلال الصور الحقيقية خصف النعل وترقيع الثوب مع امتلاك النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أسباب الحياة المترفة فقال: (ويخصف بيده نعله ويرقع بيده ثوبه) وتشديد الإمام على لفظة (يده) للتأكيد على شدة التواضع والزهد. وقد يكل تصليح نعليه (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى علي (علیه السلام) ولعل حديث خاصف النعل من الشهرة بمكان لا يخفى (1).
والحديث في ذلك مستفيض فمن ذلك يروى: (أن النبي صلى الله عليه وآله قال يوم الحديبية لسهيل بن عمرو وقد سأله رد جماعة فروى أن النبي قال: يا معشر قريش لتنتهوا أو ليبعثن الله عليكم من يضرب رقابكم على الدين امتحن الله قلبه بالإيمان. قالوا: من هو يا رسول الله؟ قال: هو خاصف النعل. وكان أعطى عليا عليه السلام نعله يخصفها) (2). ويروى مثل ذلك في مسند أحمد بن حنبل عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أنه قال: (إن منكم من يقاتل على تأويل هذا القرآن كما قاتلت على تنزيله فاستشرفنا وفينا أبو بكر وعمر فقال لا ولكنه خاصف النعل قال فجئنا نبشره قال وكأنه قد سمعه). (3)
ومن الجدير بالذكر أن خصف النعل وترقيع الثوب مما عرف به الإمام 2.
ص: 58
أيضا في سير التواضع والزهد، وليس ذاك بغريب، فقد كان النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يرفع لعلي في صغره كل يوم علما من أخلاقه ويأمره بالاقتداء به كما عبر علي (علیه السلام).
وقوله (يركب الحمار العاري ويردف خلفه) صفة قصد منها الإمام التواضع وفي الوقت ذاته ألمح إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ إن هذه الصف وردت في التوراة بحسب ما يذكر التاريخ (1). والرديف المقصود بقوله (ويردف خلفه) هو أسامة بن زيد (2).
أما صور الزهد فقد حرص فيها الإمام (علیه السلام) على إلقاء الضوء في لوحاته على جوانب العلاقة العميقة بينه وبين السماء بإظهار عناصر التخلي عن الدنيا واحتقارها.
وإمعانا في رسم صورة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) المرتبطة بالسماء، استعمل الإمام (علیه السلام) أسلوب الإطناب في رسم الصورة الحقيقية مجسدا طبيعة علاقة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بالدنيا فقال: (وَ يَكُونُ السِّتْرُ عَلَى بَابِ بَيْتِهِ فَتَكُونُ فِيهِ التَّصَاوِيرُ، فَيَقُولُ يَا فُلَانَةُ لِإِحْدَى أَزْوَاجِهِ غَيِّبِيهِ عَنِّي، فَإِنِّي إِذَا نَظَرْتُ إِلَيْهِ ذَكَرْتُ الدُّنْيَا وَ زَخَارِفَهَا. فَأَعْرَضَ عَنِ الدُّنْيَا بِقَلْبِهِ وَ أَمَاتَ ذِكْرَهَا مِنْ نَفْسِهِ، وَ أَحَبَّ أَنْ تَغِيبَ زِينَتُهَا عَنْ عَيْنِهِ، لِكَيْلَا يَتَّخِذَ مِنْهَا رِيَاشاً وَ لَا يَعْتَقِدَهَا قَرَاراً وَ لَا يَرْجُوَ فِيهَا مُقَاماً). ويبدو أن التصاوير يقصد بها الرسوم التي كان يضعها الملوك على أبواب قصورهم ومجالسهم ومتكآتهم حكاية لترفهم وطغيانهم وهو ما يتناقض مع صفاء النفس وانقطاعها إلى الله تعالى المتمثل بالنفس المقدسة بين جنبي النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم). .
ص: 59
وقول الإمام (علیه السلام) (يا فلانة) تأدب في الحديث عن أزواج النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وصون الحرمتهن. وقوله الأخير (فَأَخْرَجَهَا مِنَ النَّفْس وَأَشخصَهَا عَنِ الْقَلْبِ وَغَيْبَهَا عَن الْبَصَر) قدرة تصويرية فائقة باستعمال حروف التعدية في الأفعال (أخرجها، أشخصها، غيبها) وإقامة الجمل على توازن نغمي لافت وإيحاء بعظمة الشخصية النبوية كون الإعراض عن مباهج الدنيا وزينتها صادر عنه صلى الله عليه وآله عن إرادة كاملة وتهذيب منقطع النظير، وفي ذلك أيضا عبر أخلاقية خالدة للأمة التي تتوخى شخصية القيادة في المستقبل. والمراد أيضا (إعراضه عنها ظاهرا وباطنا، فبعض يمكن ألّا تكون الدّنيا متمكّنة من قلوبهم، لكن أوضاع الدنيا لهم منبسطة، وهو غير مذموم وبعض بالعكس وهو مذموم والأوّل كالغنيّ الزاهد، والثاني كالفقير الحريص والممدوح إذهابها عن القلب والبصر، كما فعل صلى الله عليه و آله) (1).
وقوله (ولا يرجو فيها مقاما) صورة من حديث النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في قوله: (ما لي و للدنيا، إنّما مثلي ومثلها كمثل الراكب رفعت له شجرة في يوم صائف فقال تحتها ثمّ راح و تركها) (2). والفعل (قال) من القيلولة والاستراحة.
وهو قول لطالما ردده في وصف النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في هذا الشأن نحو: (حقّر الدنيا وصغّرها، فأعرض عنها بقلبه، وأمات ذكرها عن نفسه)(3) وقوله: (قبضت 3.
ص: 60
عنه أطرافها (الدنيا) ووطّنت لغيره أكنافها) (1). وقوله: (عرضت عليه الدنيا فأبي أن يقبلها) (2)، وقوله: (و لقد كان في رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ما يدّلك على مساوىء الدنيا وعيوبها؛ إذ جاع فيها مع خاصّته، وزويت عنه زخارفها مع عظیم زلفته) (3).
للشجاعة مفهوم عميق يتجاوز القوة البدنية، فثمة شجاعة في الموقف والرأي، وشجاعة في اتخاذ القرار والثبات عليه وشجاعة في تحدي الشهوات والانحرافات وشجاعة في الإقدام ونزع الخوف في الحروب وغيرها، تلك وغيرها من صور الشجاعة كان فيها النبي الأعظم المثال الأعلى لملهميه في كل ما ذكرنا من ضروبها، لذلك رسم لنا الإمام (علیه السلام) في ذلك كله أروع صورها.
فمن صور الشجاعة إيثاره تقديم أهل بيته للتضحية قبل أصحابه في الحروب والقتل وقد سجلها أمير المؤمنين في أروع تعبير فقال: (وَ كَانَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إذا احمَرَّ البأسُ و أحجَمَ النّاسُ قَدَّمَ أهلَ بَيتِهِ، فَوَقى بِهِم أصحابَهُ حَرَّ السُّيوفِ و الأسِنَّةِ، فقُتِلَ عُبَيدَةُ بنُ الحارِثِ يَومَ بَدرٍ، و قُتِلَ حَمزَةُ يَومَ اُحُدٍ، و قُتِلَ جَعفرٌ يَومَ مُؤتَةَ، وَ أَرَادَ مَنْ لَوْ شِئْتُ ذَكَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذِي أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ وَ لَكِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَ مَنِيَّتَهُ أُجِّلَتْ) (4). .
ص: 61
وهؤلاء الذين ضرب الإمام (علیه السلام) بهم المثل في الإيثار والتضحية أعزة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وأحباؤه وليس مجرد أرحام، إنهم العم وأولاد العم (1)، عبر عنهم بأهل بيته لشدة القرابة والمحبة، افتدى بهم أصحابه في الأزمات الحرجة التي فيها (أحجم الناس) وجعل فداءهم وقاية لأصحابه من القتل الذي كنى عنه بحر السيوف والأسنة تلميحا إلى هول المعركة وشدة الموقف، وقدم المتعلق (بهم) للتشديد على دلالة الوقاية والافتداء.
وتشير الفاء إلى عدم تماهل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في الشجاعة باتخاذ قرار الإيثار بأهل بيته. فهو لم يقدمهم للتمثيل ليرجعوا بعد ذلك، وإنما قدمهم ليتقي بهم الموت عن أصحابه، وجدير بالذكر أن هذا الموقف الشجاع ذاته تكرر بعد أكثر من خمسة عقود مع حفيده الإمام الحسين (علیه السلام) في واقعة كربلاء، إذ قدم للقتل أولا أهل بيته قبل أصحابه مع فارق أن أصحاب الحسين (علیه السلام) كانوا موقنين بموتهم أيضا (2).
والإمام علي (علیه السلام) أدرج نفسه في المجموعة الهاشمية الفدائية، غير أن أدب الخطاب وتواضعه حمله على أن يحيد عن ذكر اسمه صراحة فكنى عنه بتركيب لغوي جديد فقال (وأراد من لو شئت ذكرت اسمه مثل الذي أرادوا) يعني بذلك توقه إلى الشهادة في سبيل الله (3) .
ص: 62
ص: 63
قتال رسول الله صلى الله عليه وآله فينزل الله عليهم النصر به، و يأمنون مما كانوا يخافونه بمكانه) (1).
واستعمل الإمام اللغة غير المباشرة في رسم صورة المعركة فقوله عليه السّلام: إذا احمر البأس كناية عن اشتداد الأمر والحرب، وقد قيل في ذلك أقوال أحسنها: إنّه عليه السّلام شبّه حمي الحرب بالنّار التي تجمع الحرارة و الحمرة بفعلها ولونها (2). وهذا معنى ابتكر النبي تركيبه (صلی الله علیه و آله و سلم) من قبل، حين رأى مجتلد الناس يوم حنين، وهي حرب هوازن فقال: (الآن حمي الوطيس) (3) والوطيس مستوقد النار. فشبّه صلى الله عليه وآله وسلم ما استحر من جلاد القوم باحتدام النار، وشدّة التهابها.
ومن ضروب الشجاعة التي ذكرها الإمام في نهج البلاغة صور مجاهدة النبي لأعداء الله تعالى نحو قوله: (فجاهد في الله المدبرين عنه، والعادلين به) (4).
وفي لفظة المجاهدة فضل من التعب والحركة والذوبان في ذات الله فضلا عن استعمال صيغة (فاعل) التي توحي بالمشاركة في قتال المدبرين عن قيم الله تعالى و العادلين به إلى غيره من عبادة الحجارة و الأصنام.
وفي صورة أكثر تخصيصا قوله: (فقاتل بمن أطاعه من عصاه) (5). 2.
ص: 64
وقال عليه السلام في صورة أخرى علم فيها الناس الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله: ( ... اللهم داحي المدحوات ... اجعل شرائف صلواتك، ونوامي بركاتك، على محمد عبدك ورسولك. الخاتم لما سبق ...، والمعلن الحق بالحق والدافع جيشات الأباطيل، و الدامغ صولات الأضاليل. كما حمل فاضطلع قائما بأمرك، مستوفزا في مرضاتك، غير ناكل عن قدم ولا واه في عزم) (1)
فوصف النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بأنه (دافع جيشات الأباطيل) والجيشات جمع جيشة، من جاشت القدر إذا ارتفع غليانها. والأباطيل: جمع باطل على غير قياس وكلها صور استعارية أراد بها أنه المهلك لما نجم وارتفع من الأباطيل) (2). وقوله (الدامغ ...) بمعنى المهلك، وهي استعارة من (دمغ الشيء) إذا شجه شجابلغ به الدماغ، ومع ذلك يكون الهلاك (3). والصولات: جمع صولة وهي السطوة. والأضاليل: جمع ضلال على غير قياس. وقد بنى الإمام كلامه على التوازن القائم على الأسلوب السجعي بغية التأثير في نفس السامع وتلك سمة ميزت کلامه دائما. وفي ذلك كله تصوير استعاري للأباطيل والأضاليل بصورة الوحش الذي برز شره (كأنه الذي يضرب وسط الرأس فيدمغ)(4). .
ص: 65
وتأكيد الإمام للدماغ دون غيره باعتبار مركز الحياة فيه، فضلا عن إذلاله بضربه على دماغه كونه أشرف أعضاء البدن.
وهذه الصورة مأخوذة من قوله تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ) (1).
ويبدو أن الكاف في قوله (كما حمل) تفيد التعليل، أي لأجل حمل أعباء الرسالة الإلهية، والعرب ربما تستعمل هذه الكاف بمعنى التعليل(2)، قال الشاعر (3):
فقلت له أبا الملحاء خذها *** كما أوسعتنا بغيا وعدوا
أي هذه الضربة لبغيك علينا، وتعديك (4).
وقوله (فاضطلع)، أي نهض بها قويا، من الضلاعة أي القوة ويقال: فلان مضطلع بحمله، إذا كان قويا عليه، فجيء بالطاء للإيحاء بالشدة لأن أصل الفعل مزيد بالتاء (افتعل) وقلبت طاء لقرب مخارجهما كما يقال في صبر اصطبر.
و مما يلحظ على تعبيرات الإمام استقصاؤه في التقاط مزيد من الصور بأسلوب الإطناب، فقوله (مستوفزا) صورة حالية مكملة لما سبق (أي غبر .
ص: 66
بطئ، بل يحث نفسه ويجهدها في رضا الله سبحانه (1). والوفز: العجلة، والمستوفز المستعجل. ومنها قوله (غير ناكل عن قدم)، أي غير جبان ولا متأخر عن إقدام والقدم هو التقدم أو المتقدم. و يقال رجل قدم إذا كان شجاعا. وقول الإمام (علیه السلام): (ولا واه في عزم) تعزيز للأولى. والواهي الضعيف.
وقريب منها قوله عليه السلام في موضع آخر: ( ... وَجَاهَدَ فِي اللهِ أَعْدَاءَهُ، غَيْرَ وَاهِن وَلَا مُعَذِّر) (2). والمعذّر بالتشديد: المقصر (الذي يعتذر بلا عذر) (3). وهي من قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ) (4).
إن روعة نهج البلاغة تبدو في عرض المسيرة التفصيلية على لسان صاحبها أمير المؤمنين مع ابن عمه النبي الأعظم من ولادته وضم النبي له إلى صدره إلى لحظات وداعه ورحيله، لذلك ستبدو كلمات تأيين الإمام (علیه السلام) للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، والصور التي رسمها لرحيله في غاية الصدق والألم والفراق، إذ هي نهاية رحلة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود لازمه فيها الإمام واتبعه اتباع الفصيل أثر أمه.
قال الإمام و هو يلي غسل رسول الله صلى الله عليه و آله و تجهیزه: (بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي، لَقَدِ انْقَطَعَ بِمَوْتِكَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِمَوْتِ غَيْرِكَ مِنَ النُّبُوَّةِ وَ الْإِنْبَاءِ وَ أَخْبَارِ السَّمَاءِ؛ خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وَ عَمَّمْتَ.
ص: 67
حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً؛ وَ لَوْ لَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَ نَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّئُونِ وَ لَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلًا وَ الْكَمَدُ مُحَالِفاً، وَ قَلَّا لَكَ، وَ لَكِنَّهُ مَا لَا يُمْلَكُ رَدُّهُ وَ لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ. بِأَبِي أَنْتَ وَ أُمِّي، اذْكُرْنَا عِنْدَ رَبِّكَ وَ اجْعَلْنَا مِنْ بَالِكَ (1).
هذه كلمات من اكتوى بنار العشق فاستحالت لهيبا من الألم والصبر، نتلمسه بافتتاح الكلام بالفداء (بأبي وأنت وأمي) واختتامه به، ونجده في إظهار الانتهاء عن الجزع والائتمار بالصبر، ولاسيما حين يورد أمرا من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) نفسه في قوله (وَ لَوْ لَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ وَ نَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ ...).
وتبدو العاطفة متفجرة في طريقة انتظامها بشكل عفوي اتخذت من التنغيم المتنوع وسائل لها، فمن السجع قوله (من النبوة والإنباء وأخبار السماء)، ومن التوازن بين الجمل قوله (خَصَّصْتَ حَتَّى صِرْتَ مُسَلِّياً عَمَّنْ سِوَاكَ، وَ عَمَّمْتَ حَتَّى صَارَ النَّاسُ فِيكَ سَوَاءً) ومعناه خصصنا برزئك فأنسانا كل مصيبة. فضلا عن الطباق مثل (انقطع، لم ينقطع) و (خصصت، عممت) و(أمرت، نهيت).
وفي صورة ثانية رسم الإمام فيها صورة رحيل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) على يديه فقال: (وَ لَقَدْ قُبضَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله و سلم) وَ إِنَّ رَأْسَهُ لَعَلَى صَدْرِي وَ لَقَدْ سَالَتْ نَفْسُهُ فِي كَفِّي، فَأَمْرَرْتُهَا عَلَى وَجْهِي، وَ لَقَدْ وُلِّيتُ غُسْلَهُ وَ الْمَلَائِكَةُ أَعْوَانِي، ضَجَّتِ الدَّارُ وَ الْأَفْنِيَةُ، مَلَأٌ يَهْبِطُ وَ مَلَأٌ يَعْرُجُ وَ مَا فَارَقَتْ سَمْعِي هَيْنَمَةٌ، مِنْهُمْ يُصَلُّونَ.
ص: 68
عَلَيْهِ حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ. فَمَنْ ذَا أَحَقُّ بِهِ مِنِّي حَيّاً وَ مَيِّتاً) (1)، فهذا معنى شفيف يتجاوز المنظور ويستصعب على غير علي (علیه السلام) ولا يمكن حمله على معنى آخر غير الحقيقة بدلالة سماعه (الهينمة)، وهي الصوت الخفي (2) للملائكة وهي تهبط وتعرج مصلين على الرسول ومفجوعين به.
ومن حق علي (علیه السلام) أن يبين أحقيته بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) حيا وميتا، لأنها صورة لا تتاح لأحد إطلاقا فمن يجرؤ غير علي (علیه السلام) أن يدعي أن نفس رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) سالت على يده وأنه ولي غسله مع الملائكة.
هذه صورة رحيل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) كما رسمها الإمام علي (علیه السلام) وفصل فيها التاريخ مؤيدا، فالطبري قال ( ... وعلي يغسله قد أسنده إلى صدره وعليه قميصه يدلكه من ورائه ...) (3). والشيخ المفيد ذكر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمّا قرب خروج نفسه قال له: (ضع يا علي رأسي في حجرك، فقد جاء أمر الله تعالى. فإذا فاضت نفسي فتناولها بيدك، وامسح بها وجهك ثم وجّهني إلى القبلة وتولّ أمري وصلّ علي أوّل الناس ولا تفارقني حتّى تواريني في رمسي، واستعن بالله تعالى. فأخذ علي عليه السلام رأسه في حجره فأغمي فأغمي عليه فأكبّت فاطمة عليها السلام تنظر في وجهه وتندبه وتبكي وتقول:
و أبيض يستسقى الغمام بوجهه *** ثمال اليتامي عصمة للأرامل 4.
ص: 69
ففتح النبي صلى الله عليه و آله و سلم عينه و قال بصوت ضئيل: يا بنية هذا قول عمّك أبي طالب لا تقوليه و لكن قولي: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ) (1)) (2).
ويبدو أن المراد بقوله (سالت نفسه. فأمررتها على وجهي) خروج الروح لأن النبي قبض (ويد أمير المؤمنين تحت حنكه ففاضت نفسه فيها فرفعها الى وجهه فمسحه بها، فعبر بفيضان نفسه) (3). والتعبير عن ذلك شائع في لغة العرب فهم يقولون (فاضت روحه) بمعنى خرجت (4).
ولا أظن المراد بقوله (سالت نفسه) ما ذكر من أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) قاء دما يسيرا وقت موته، وأن الإمام (علیه السلام) مسح بذلك الدم وجهه. إذ ما الحكمة من ذلك طالما أن التكريم هنا مرتبط بنوع من الغيب؟ أليس يمكن (أن يكون المراد إمرار الكف التي تأثرت من خروج الروح فيها على الوجه) (5).
ويمضي الإمام (علیه السلام) في رسم مزيد من تفاصيل رحيل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، التي لا يستطيع سواه ذكرها فقال: (ولقد ولّيت غسله والملائكة أعواني)، والإمام يلمح بالفعل (وليت) إلى إيصاء مسبق بذلك، فقد روي عن الإمام (علیه السلام) قوله (أوصى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يغسّله أحد غيري، فإنه لا يرى 5
ص: 70
أحد عورتي إلّا طمست عيناه. قال علي عليه السلام: فكان الفضل وأسامة يناولاني الماء من وراء الستر وهما معصوبا العين. قال علي عليه السلام: فما تناولت عضوا إلّا كأنما يقلّبه معي ثلاثون رجلا حتّى فرغت من غسله) (1).
وفي صور الإمام (علیه السلام) مؤثرات لافتة من الحركة وإمعان في الوقوف على دقائق الرحيل وقفا يمثل بؤرة الصورة في شدة التأثير، نحو صورة الملائكة وأصواتها الخفية (هينمة) التي لا يسمعها سواه. ونحو قوله (يصلون عليه) تعظيما وإجلالا يرون ولا يرون فقد جاء عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) موصيا (إذا غسلتموني وكفنتموني فضعوني على سريري في بيتي هذا على شفير قبري، ثم اخرجوا عنى ساعة، فإن أول من يصلى علي جليسي وخليلي جبريل ثم ميكائيل ثم إسرافيل ثم ملك الموت مع جنود كثيرة من الملائكة بأجمعها) (2).
وقول الإمام:) (حَتَّى وَارَيْنَاهُ فِي ضَرِيحِهِ) نهاية المشهد النبوي، وكانت تلك منقبة ظل أمير المؤمنين (علیه السلام) يحسد عليها، وقد عبر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) عن هذه المواراة من قبل ضمن خلال عدها لعلي (علیه السلام) بأنه (ساتر عورتي ومسلمي إلى ربي) (3). صور الإمام (علیه السلام) رحيل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وغرضه من ذلك كله بيان منزلته وأحقيته من الرسول الأعظم.
وما ذكره الإمام (علیه السلام) اتفقت عليه أكثر مصادر التاريخ وجدير بالذكر أن 9.
ص: 71
رجلا من الأنصار اسمه أوس بن خولي أحب أن يكون له شرف العهد بالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في قبره فقال لأمير المؤمنين (علیه السلام): (أنشدك الله يا علي وحظنا من رسول الله وكان أوس من أصحاب بدر وقال ادخل فدخل فحضر غسل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم) (1). الأمر الذي التفت إليه ابن أبي الحديد في قوله: (من تأمل هذه الأخبار علم ان عليا عليه السلام كان الأصل والجملة والتفصيل في أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلم و جهازه. ألا ترى أنّ أوس بن خولي لا يخاطب أحدا من الجماعة غيره، ولا يسأل غيره في حضور الغسل والنزول في القبر) (2).
ثم أضاف ابن أبي الحديد ملتقطا صورة لأخلاق أمير المؤمنين كأجمل ما يمكن التقاطه لندرة الموقف و انشغال المرء بالرزء في العادة، فقال: (ثم انظر إلى كرم علي عليه السلام وسجاحة أخلاقه، وطهارة شيمته كيف لم يضنّ بمثل هذه المقامات الشريفة عن أوس، وهو رجل غريب من الأنصار. فعرف له حقه، واطلبه بما طلبه فكم بين هذه السجيّة الشريفة وقول من قال: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسّل النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلّا نساؤه، ولو كان
في ذلك المقام غيره من أولي الطباع الخشنة وأرباب الفظاظة والغلظة وقد سأل أوس ذلك، لزجر وانتهر ورجع خائبا) (3)..
ص: 72
وجملة الأمر كان الإمام علي (علیه السلام) خير مصور لمراحل حياة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) لامتلاكه سببين رئيسين:
الأول: شدة ملازمته لابن عمه (علیه السلام) لقرابته القريبة ومنزلته الخصيصة التي حبي بها عليه السلام.
والثاني: إمكانات لغوية وبيانية قادرة على الرسم بالكلمات.
ص: 73
توضح من رحلة البحث في صورة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في نهج البلاغة جملة من النتائج أعرض لها بالترتيب:
أولا:
يعد نهج البلاغة أصدق مصور قديم لمراحل حياة النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) من الأسرة وحتى البعثة فالشهادة.
ثانيا:
لم يقتصر التصوير في لغة الإمام (علیه السلام) على أساليب المجاز والبيان، بل تعداه إلى استعمال لغة الحقيقة في الصورة في قدرة لافتة على التفنن باللغة والتمكن من زمامها.
ثالثا:
تجلت قدرة الإمام (علیه السلام) التصويرية للموضوعات المختلفة للرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) بامتلاكه سببين رئيسين هما وضوح المعنى لديه، وتمكنه عليه السلام من إسباغ المؤثرات البيانية والموسيقية والحركية على تعبيراته.
ص: 74
- القرآن الكريم
- اتجاهات النقد الأدبي في القرن الخامس الهجري، منصور عبد الرحمن، مطبعة دار العلم، القاهرة - 1977م.
- الأثر القرآني في نهج البلاغة، دراسة في الشكل و المضمون، الدكتور عباس علي الفحام. دار الرافدين، الطبعة الأولى، بيروت - 2010 م.
- الاستيعاب ابن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي، الطبعة الأولى، 1412، مطبعة دار الجيل - بيروت - الإصابة ابن حجر، تحقيق: الشيخ عادل احمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض. الطبعة الأولى - 1415 ه - . دار الكتب العلمية. بيروت.
- الأصفى في تفسير القرآن الفيض الكاشاني (1091 ه - )، تحقيق: محمد حسين درايتي ومحمد رضا نعمتي، مطبعة مركز الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الأولى، 1418 ه - .
- الأمالي، الشيخ الصدوق (ت 381 ه - )، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة - قم، الطبعة الأولى، 1417 ه - . - الأمالي، الشيخ الطوسي (ت 460 ه - )، تحقيق: قسم الدراسات الإسلامية - مؤسسة البعثة، الطبعة الأولى، 1414ه - ، دار الثقافة للطباعة والنشر والتوزيع - قم - إعلام الورى بأعلام الهدى الشيخ الطبرسي (ت 548 ه - )، تحقيق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، الطبعة الأولى، مطبعة ستارة - قم، 1417 ه - .
ص: 75
- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، الشيخ محمد باقر المجلسي (ت 1111 ه - )، مؤسسة الوفاء، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1983.
- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة محمد تقي التستري. دار أمير كبير للنشر، طهران، الطبعة الأولى 1376 ه - .
- البيان و التبيين الجاحظ، تحقيق: عبد السلام محمد هارون مكتبة الخانجي الطبعة الخامسة، القاهرة - 1985 م.
- تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي (ت 1205 ه - )، دار الفكر - بيروت، 1994م.
- تاريخ الإسلام الذهبي (ت 748) تحقيق: د. عمر عبد السلام تدمری، الطبعة الأولى، 1987م، لبنان بيروت - دار الكتاب العربي.
- تاريخ الطبري (تاريخ الرسل والملوك)، أبو جعفر محمد بن جریر - (ت 310 ه - )، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الخامسة، دار المعارف - مصر، 1987م.
- التاريخ وحركة التقدم البشري ونظرة الإسلام، محمد مهدي شمس الدين، بدون ذكر المطبعة وسنة التاريخ.
- تحف العقول عن آل الرسول، ابن شعبة الحراني، تحقيق تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، الطبعة الثانية، 1404 ه - ، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة. - تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم) محمد بن محمد بن مصطفى الحنفي
ص: 76
(ت 951 ه - ). وضح حواشيه عبد اللطيف عبد الرحمن، الطبعة الأولى - 1999 م، دار الكتب العلمية - بيروت.
- تفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، تصحيح وتعليق وتقديم: السيد طيب الموسوي الجزائري، مطبعة النجف، منشورات مكتبة الهدى.
التفسير الكبير (أو مفاتيح الغيب)، فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت 606 ه - )، المطبعة البهية - مصر، بدون تاريخ.
تمهيد في النقد الحديث، روز غریب دار المكشوف بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1971 م.
- الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير جلال الدين عبد الرحمن بن بكر السيوطي (ت 911 ه - ). دار الفكر، الطبعة الأولى، بيروت. 1981 م. - رجال ابن داوود، ابن داوود الحلي (ت 740 ه - )، تحقيق و تقديم: السيد محمد صادق آل بحر العلوم - 1972 م، المطبعة الحيدرية - النجف الأشرف. - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، أبو الفضل شهاب الدين محمود الآلوسي (ت 1270 ه - ). إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، بدون تاريخ.
- حقائق التأويل في متشابه التنزيل، الشريف الرضي، شرحه الأستاذ محمد الرضا آل كاشف الغطاء، دار المهاجر للطباعة والنشر والتوزيع.
- حياة أمير المؤمنين في عهد النبي، السيد إسماعيل الصدر، مطبعة المعارف - بغداد، 1944 م.
ص: 77
- الخصائص أبو الفتح عثمان بن جني، تحقيق: محمد علي النجار، الطبعة الأولى، مطبعة دار الكتب المصرية - 1956 م.
- سبل الهدى والرشاد الصالحي الشامي، تحقيق وتعليق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، الطبعة الأولى، 1414 - 1993 م، مطبعة دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان. - سنن الترمذي، الترمذي، تحقيق وتصحيح: عبد الرحمن محمد عثمان، الطبعة الثانية 1403 - 1983 م دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت - لبنان.
- سنن الدارمي. أبو محمد، عبد الله بن عبد الرحمن (ت 255 ه - ). طبع بعناية محمد أحمد دهمان دمشق، بدون تاریخ.
- السنن الكبرى، أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458 ه - ). دار الفكر - بيروت.
- السيرة الحلبية، الحلبي (ت 1044 ه - )، مطبعة دار المعرفة - بيروت، 1400 ه - . السيرة النبوية. - ابن هشام عبد الملك بن هشام المعافري (213 ه - ). قدم لها وعلق عليها وضبطها: طه عبد الرؤوف سعد، دار الجيل - بيروت 1975 م.
- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المدائني (ت 656 ه - ) تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث العربي، القاهرة 1959 م.
- شرح نهج البلاغة ميثم بن علي بن ميثم البحراني (ت 679 ه - ). (المصباح شرح الكبير) مطبعة خدمات، الطبعة الثانية، طهران 1404 ه - .
ص: 78
- الشعر و التجربة أرشيبالد مكليش، ترجمة سلمى الخضراء الجيوسي، مؤسسة فرنكلين للطباعة و النشر، بيروت - نيويورك، 1963 م.
- شواهد التنزيل الحاكم الحسكاني، تحقيق الشيخ محمد باقر المحمودي الطبعة الأولى 1990 م.
- صحيح البخاري، البخاري (ت 256 ه - )، دار الفكر للطباعة و النشر والتوزيع، 1981 م. - الصحيح من سيرة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، جعفر مرتضى، الطبعة الرابعة - 1995م، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ودار السيرة - بيروت. - الطبقات الكبرى محمد بن سعد، دار صادر - بيروت دار صادر - بيروت.
- غريب الحديث، ابن قتيبة، الدكتور عبد الله الجبوري. الأولى، دار الكتب العلمية - قم. 1408 ه - .
- في ظلال نهج البلاغة، محاولة لفهم جديد، محمد جواد مغنية دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، بيروت 1972 م.
- الكامل في التاريخ ابن الأثير (ت 630 ه - )، المطبعة: دار صادر - دار بيروت، دار صادر للطباعة والنشر دار بيروت للطباعة والنشر - 1966م.
- الكافي، الشيخ الكليني (ت 329 ه - )، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري الطبعة الخامسة - 1363 ه - ، مطبعة الحيدري - طهران.
- كشف الغمة ابن أبي الفتح الإربلي، الطبعة الثانية، 1405 - 1985 م، مطبعة دار الأضواء، بيروت - لبنان - كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال
ص: 79
المتقي الهندي علاء الدين بن حسام الدين (ت 975ه - )، ضبطه وفسر غريبه الشيخ بكري حياني، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان 1989م.
- لسان العرب جمال الدين محمد بن مکرم بن منظور المصري (ت 711 ه - ). دار صادر و دار بیروت لبنان 1379 ه - - 1955 م.
- المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر ابن الأثير تحقيق: أحمد الحوفي وبدوي طبانة، الطبعة الأولى، نهضة مصر - القاهرة 1959 م.
- المجازات النبوية الشريف الرضي (ت406 ه - ). تحقيق: محمود مصطفى مطبعة البابي الحلبي، مصر، 1356 ه - - 1937 م.
- مجمع البيان في تفسير القرآن الفضل بن الحسين الطبرسي (ت 548 ه - ). حقق وعلق عليه: الجنة من العلماء والمثقفين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1415 ه - 1995م.
- مجمع الزوائد الهيثمي، مطبعة دار الكتب العلمية - بيروت - لبنان، 1408 - 1988 م.
- المراجعات السيد شرف الدين تحقيق حسين الراضي، الطبعة الثانية، سنة الطبع: 1402 - 1982 م.
- المستدرك الحاكم النيسابوري، إشراف: يوسف عبد الرحمن المرعشلي. بدون ذكر المطبعة والتاريخ.
- مسند أحمد، أحمد بن حنبل (ت 241 ه - )، دار صادر، بیروت.
- المعارف، عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 ه - )، تحقيق: ثروت عكاشة، القاهرة، دار المعارف.
ص: 80
- معجم رجال الحديث، أبو القاسم الخوئي، الطبعة الخامسة، 1992م.
المعجم الكبير، الطبراني، تحقيق و تخريج: حمدي عبد المجيد السلفي الطبعة: الثانية، دار إحياء التراث العربي. - معجم البلدان. ياقوت الحموي (ت 626 ه - ). دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1979 م.
- مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام الأنصاري (ت 761 ه - )، تحقيق وفصل و ضبط: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة المدني - القاهرة 1404 ه - .
- مناقب آل أبي طالب، محمد بن علي بن شهر آشوب (ت 588 ه - )، مصحح من لجنة من أساتذة النجف الأشرف، المطبعة الحيدرية، 1956 م.
- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الخوئي، طهران، المكتبة الإسلامية، الطبعة الرابعة - 1405 ه - .
- الميزان في تفسير القرآن - محمد حسين الطباطبائي. مؤسسة الأعلمي للمطبوعات الطبعة الثانية، بيروت - لبنان 1972 م.
- النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير 606، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي، محمود محمد الطناحي، الطبعة الرابعة، 1364 ه - ، مؤسسة إسماعيليان للطباعة
والنشر والتوزيع، قم.
- نهج البلاغة، محمد عبده، مطبعة بابل - بغداد 1984م.
- نهج البلاغة علي بن أبي طالب عليه السلام (ت 36 ه - )، یجمع الشريف الرضي (ت 406 ه - ). تحقيق وشرح: محمد أبو الفضل ابراهيم، بيروت - لبنان، دار الجيل الطبعة الثانية 1416 ه - .
ص: 81
- ينابيع المودة لذوي القربى سليمان بن إبراهيم القندوزي (ت 1294 ه - )، تحقيق سيد علي جمال أشرف الحسيني، مطبعة الأسوة، قم، الطبعة الأولى
1416 ه - .
الرسائل و الدوريات:
- التصوير الفني في خطب الإمام علي (علیه السلام). عباس علي الفحام. (رسالة ماجستير) كلية التربية للبنات جامعة الكوفة 1999 م.
- أسلوب الإمام علي في التصريح باسمه والكناية عنه في نهج البلاغة د. عباس علي الفحام، مجلة مركز دراسات الكوفة، العدد التاسع، 2010 م.
ص: 82
البصرة في نهج البلاغة
مواقف وأحداث
المقدمة
التمهيد: البصرة ... النشأة و المكانة
المبحث الأول: حرب الجمل واسشفاف المستقبل
المبحث الثاني: رجال البصرة
المبحث الثالث: ولاة البصرة
أولاً: عثمان بن حنيف
ثانياً: عبد الله بن عباس
ثالث زياد بن أبيه
ص: 83
لا شك في أن حديث البصرة حديث التاريخ الإسلامي بأبعاده العلمية والسياسية والاقتصادية والحضارية والثقافية، وهو بعد حديث الفن والأدب. والمؤتمرات الأكاديمية فيه فرص لإظهار قيمة هذا التاريخ إظهارا فيه الشيء الكثير من الجدة أو هكذا ينبغي على الأقل، ومن هنا سرني الانضمام إلى المشاركين في الكتابة عن هذه الحاضرة العريقة، وقد اخترت البحث في البصرة في خلال وثيقة تاريخية وأدبية هي (نهج البلاغة) عاصر صاحبها وهو الإمام علي عليه السلام نشأة هذه المدينة ورقيها وزامن أحداثها فجاء عنوان البحث (البصرة في نهج البلاغة مواقف وأحداث). ووقع اختياري لنهج البلاغة لأسباب عدة منها،
أولا: بسبب تخصصي - بكل تواضع - بهذا الأثر الخالد.
وثانيا: لأن البصرة أخذت حيزا كبيرا من كلام أمير المؤمنين عليه السلام المجموع في نهج البلاغة.
وثالثا: لواقعية التعبير وصدقه لأن صاحبه هو صاحب الحدث وليس ناقلا عنه. و رابعا: لروعة التعبيرات الفنية وأدبيتها على الرغم من مضامينها الحقيقية.
وجاءت خطة الدراسة بتمهيد وثلاثة مباحث حاولت بشكل مكثف استيعاب موضوعات البصرة التي وردت على لسان أمير المؤمنين عليه السلام وهي على النحو الآتي: شمل التمهيد موضوع البصرة من جهة النشاة والمكانة وتضمن المبحث الأول حرب الجمل واستشفاف المستقبل. بينما ضم المبحث
ص: 84
الثاني رجال البصرة. أما المبحث الثالث فقد اشتمل على ولاة البصرة على وفق التسلسل الزمني. ولكل مبحث فروعه وتفصيلاته في طيات البحث.
وقد اعتمت مصادر التاريخ و الأدب وتراجم الرجال والسيرة كثيرا في البحث والتحليل فضلا عن مراجع النقد والبلاغة والأدب بشكل عام. أما استخراج نص كلام الإمام علي عليه السلام فقد اعتمدت نسخة نهج البلاغة المحققة بقلم الشيخ محمد عبده ليسرها وتعليقات الشيخ عليها.
البحث محاولة لتجلية حقائق بصرية كثيرة، عسى أن يوفقنا الله تعالى في الكشف عنها.
ص: 85
البصرة ... النشأة والمكانة
لم يكن العرب المسلمون يعرفون البصرة من قبل لا اسما ولا مكانا حتى العام الرابع عشر للهجرة، أيام حكم الخليفة عمر بن الخطاب وأدركوا أهمية هذه البقعة لأنها تمثل ثغرا بحريا يمكن أن تؤتى منه الدولة الإسلامية، وفعلا كان المسلمون قد غزوا من قبل البحرين توج ونوبندجان وطاسان (1)، فلما فتحوها كتبوا إلى الخليفة يسألونه الإقامة فيها (2).
ويبدو أن الذي شجع على تمصيرها واتخاذها مصرا جديدا للدولة الإسلامية نجاح فتوح بقاع مختلفة في العراق ضد الفرس، فأخبار الفتوح مسرة في الحيرة بقيادة المثنى بن حارثة. وكان سويد ابن قطبة الذهلي، وبعضهم يقول قطبة بن قتادة، يغير في ناحية الخريبة من البصرة على العجم، وفتح الأبلة على يد عتبة بن غزوان (3)، وكانت حينئذ مدينة فيها مسالح من قبل كسرى، قال فيها خالد بن بن صفوان: (ما رأيت أرضا مثل الأبلة مسافة، ولا أغذى نطفة، ولا أوطأ .
ص: 86
مطية، ولا أربح لتاجر ولا أخفى لعائذ. وقال الأصمعي: جنان الدنيا ثلاث: غوطة دمشق، ونهر بلخ، ونهر الأبلة) (1).
وفوق ذلك أهمية الموقع البحري الجديد، وعلى حد تعبير رجل من بني سدوس يصف للخليفة هذا الموقع بقوله: (إني مررت بمكان دون دجلة فيه قصر وفيه مسالح للعجم يقال له الخريبة ويسمى أيضا البصيرة، بينه وبين دجلة أربعة فراسخ له خليج بحري فيه الماء إلى أجمة قصب) (2)، وتم فعلا تأمين الممر المائي، قال الطبري (إن الله عز وجل لما أظفر سعد بن أبي وقاص بأرض الحيرة وما قاربها كتب إليه عمر بن الخطاب أن ابعث عتبة بن غزوان إلى أرض الهند، فإن له من الإسلام مكانا وقد شهد بدرا، وكانت الأبلة يومئذ تسمى أرض الهند فلينزلها ويجعلها قيروانا للمسلمين ولا يجعل بيني وبينهم بحرا، فخرج عتبة من الحيرة في ثمانمائة رجل حتى نزل موضع البصرة، فلما افتتح الأبلة ضرب قيروانه وضرب للمسلمين أخبيتهم، وكانت خيمة عتبة من أكسية ورماه عمر بالرجال فلما كثروا بنى رهط منهم فيها سبع دساكر من لبن منها في الخريبة اثنتان وفي الزابوقة واحدة وفي بني تميم اثنتان) (3)، ولما نزلها عتبة بن غزوان عرف أهميتها فعمل على تمصيرها، إذ لابد من منزل إذا أشتى شتوا فيه وإذا رجعوا من غزوهم لجأوا إليه (4)، فهي أرض كثيرة القضة (5) في طرف البر إلى الريف .
ص: 87
ودونها مناقع فيها ماء وفيها قصباء كما ذكر عتبة ذلك، ولما وصلت الأخبار إلى الخليفة قال: (هذه أرض بصرة قريبة من المشارب والمرعى والمحتطب فكتب إليه أن أنزلها، فنزلها وبنى مسجدها من قصب وبنى دار إمارتها دون المسجد في الرحبة التي يقال لها رحبة بني هاشم وكانت تسمى الدهناء، وفيها السجن والديوان وحمام الأمراء بعد ذلك لقربها من الماء، فكانوا إذا غزوا نزعوا ذلك القصب ثم حزموه ووضعوه حتى يعودوا من الغزو فيعيدوا بناءه كما كان (1). ومن هنا جاء اسم البصرة، وتعني في كلام العرب الأرض الغليظة، وقيل أن المسلمين حين وافوا مكان البصرة للنزول بها نظروا إليها من بعيد وأبصروا الحصى عليها فقالوا: إن هذه أرض بصرة، يعنون حصبة، فسميت بذلك.
وقد تسمى البصرة بالرعناء قال الجاحظ: (من عيوب البصرة اختلاف هوائها في يوم واحد لأنهم يلبسون القميص مرة والمبطنات مرة والجباب مرة لاختلاف جواهر الساعات، ولذلك سميت الرعناء) (2). قال: الفرزدق:
لولا أبو مالك المرجو نائله *** ما كانت البصرة الرعناء لي وطنا
وقد وصف هذه الحال ابن لنكك البصري، فرد البصرة وبدر ظرفائها (3)، فقال:
نحن بالبصرة في لون من العيش ظريف
نحن ما هبت شمال *** بین جنات و ریف2
ص: 88
فإذا هبت جنوب *** فکأنا في کنیف
أما ولاة البصرة من بدء النشأة حتى تولي الإمام علي عليه السلام الحكم فهم:
أولا: على عهد عمر بن الخطاب: عتبة بن غزوان بن جابر بن وهيب بن نسيب أحد بني مازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة حليف بني نوفل بن عبد مناف وكان من المهاجرين الأولين.
المغيرة بن شعبة
أبو موسى الأشعري
ثانيا: على عهد عثمان بن عفان: وال واحد هو قريبه عبد الله بن عامر بن كريز، وبقي فيها إلى تولية عثمان بن حنيف من قبل الإمام علي عليه السلام سنة 36 للهجرة.
وهكذا نشأت البصرة مصرا ناهضا بشر بثقافة جديدة ومدارس علمية رائدة في علوم العربية المختلفة في مستقبل عمرها، على الرغم مما وقع عليها من محن وفتن. ولأهميتها كانت تسمى البصرتان يعنون بها الكوفة والبصرة كما قالوا كوفان.
ص: 89
حرب الجمل واستشفاف المستقبل
تسلم الإمام علي عليه السلام مقاليد الخلافة بشكل جماهيري عريض بغية إصلاح ما يمكن إصلاحه من فساد في إدارة الحكم واستئثار بالسلطة انتهت بمجزرة مريعة للخليفة الثالث عثمان بن عفان غير أن الإصلاح الذي وجه الإمام عليه السلام طاقته إلى الداخل لم يعجب الكثيرين من الطامحين إلى التسلط على رقاب الناس، فنشأت اصطفافات لكثير ممن ضربت مصالحهم، فعملوا على تأليب عامة الناس وتحريك الساكن من شرارة ما أعقب الثورة الدموية، فكان الطلب بدم عثمان شعارا لكل خارج على القانون الذي عمل الإمام عليه السلام على تطبيقه على السوية بين الناس من دون تمييز. ذكر أن طلحة والزبير طلبا من علي عليه السلام أن يوليهما المصرين: البصرة والكوفة فقال: حتى أنظر. ثم استشار المغيرة بن شعبة، فقال له: أرى أن توليهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس. فخلا بابن عباس وقال ما ترى؟:قال يا أمير المؤمنين، إن الكوفة والبصرة عين الخلافة، وبهما كنوز الرجال ومكان طلحة والزبير من الإسلام ما قد علمت ولست آمنهما إن وليتهما أن يحدثا أمرا فأخذ علي عليه السلام برأي ابن عباس. (1) 2.
ص: 90
وكان حظ البصرة سيئا لذلك، إذ شهدت أول ذلك الخروج على حكم الإمام علي عليه السلام فكانت حرب الجمل، وهي المعركة التي قادها كبار صحابة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وهما الزبير بن العوام ابن عمة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، وطلحة بن عبيد الله مغررين بالسيدة عائشة التي كانت على جمل في تلك المعركة التي انتهت لصالح الإمام علي (ع). وفيها تفاصيل مريعة أترك للقارئ مراجعتها في مصادرها من التاريخ (1).
ويبدو أن البصرة كانت منقسمة على نفسها بشأن الولاء للإمام علي عليه السلام وتقديم الطاعة تحت سلطة الإشاعات المختلفة، التي تشوه الحقيقة وتعمي البصر والبصيرة، ولهذا السبب اختيرت أول مدينة للخروج على الطاعة، وقد كان الإمام علي (علیه السلام) على علم بذلك فقد روي أن رجلا عليه زي السفر قال: (يا أمير المؤمنين إني أتيتك من بلدة ما رأيت لك بها محبا قال: من أين أتيت؟قال: من البصرة قال: أما إنهم لو يستطيعون أن يحبوني لأحبوني، إني و شيعتي في ميثاق الله لا يزاد فينا رجل لا ينقص إلى يوم القيامة). (2)
وقد صور الإمام الأحداث المروعة التي سبقت المعركة من سفك للدم وهتك للحرمات فقال: 4.
ص: 91
(فخرجوا يجرون حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله كما تجر الأمة عند شرائها، متوجهين بها إلى البصرة فحبسا نساءهما في بيوتهما، وأبرزا حبيس رسول الله صلى الله عليه وآله لهما ولغيرهما، في جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطاني الطاعة وسمح لي بالبيعة طائعا غير مكره فقدموا على عاملي بها وخزان بيت مال المسلمين وغيرهم من أهلها. فقتلوا طائفة صبرا، وطائفة غدرا. فوالله لو لم يصيبوا من المسلمين إلا رجلا واحدا معتمدين لقتله بلا جرم جره لحل لي قتل ذلك الجيش كله إذ حضروه فلم ينكروا ولم يدفعوا عنه بلسان ولايد. دع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدة التي دخلوا بها عليهم) (1).
وفي موضع آخر كرر الإمام هذه الصورة فقال: (فقدموا على عمالي وخزان بيت مال المسلمين الذي في يدي وعلى أهل مصر كلهم في طاعتي وعلى بيعتي فشتتوا كلمتهم وأفسدوا علي جماعتهم ووثبوا على شيعتي فقتلوا طائفة منهم غدرا، وطائفة عضوا على أسيافهم فضاربوا بها حتى لقوا الله صادقين) (2). والعض على الأسياف كناية عن الصبر في الحرب وترك الاستسلام، وهي كناية فصيحة شبه قبضهم على السيوف بالعض. وقد مر ذكر ما جرى (أن عسكر الجمل قتلوا طائفة من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام 3.
ص: 92
بالبصرة بعد أن آمنوهم غدرا وأن بعض الشيعة صبر في الحرب ولم يستسلم وقاتل حتى قتل مثل حكيم بن جبلة العبدي وغيره) (1).
ومن جدير ما يذكر هنا في حديث حذيفة بن اليمان - الذي توفي أيام عثمان بن عفان - عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في شأن خروج السيدة عائشة قوله: (تقاتل معها مضر مضرها الله في النار وأزد عمان سلت الله أقدامها، وإن قيسا لن تنفك تبغى دين الله شرا حتى يركبها الله بالملائكة فلا يمنعوا ذنب تلعة) (2).
البصرة - إذن - غلبت على أمرها في شأن محاربة الإمام (علیه السلام) بسبب هذا الإرهاب الذي مورس على أهلها وترويعهم على هذا النحو الذي صوره الإمام (علیه السلام) بالقتل غدرا أو صبرا، وهو أشد الترويع وأعنفه، إذ يربط الرجل
أسيرا ويجرح ليترك على هذا النحو حتى يهلك.
والذي يؤيد ما نذهب إليه من فطرة أهل البصرة على حب أمير المؤمنين (علیه السلام) قول أمير المؤمنين الآنف الذكر: (أما إنهم لو يستطيعون أن يحبوني .
ص: 93
لأحبوني)، ففيه إشارة إلى التعمية على الحقيقة التي شوهت كثيرا، ولا ننسى أننا بصدد تعمية استمرت لأكثر من عقدين من الزمن أي تغير جيل كامل من الناس. فضلا عن ذلك ما ذكر أن أهل البصرة بعثوا من يستطلع لهم موقفهم من هذه الحرب عن كثب بالاحتكاك بعلي عليه السلام نفسه كما حدث مع مبعوثهم الجرمي (1).
و من هنا كانت خطب الإمام علي عليه السلام في البصرة وأهلها من هذا الظرف المحكوم بالمآسي والمؤامرات والدسائس، وهو ظرف احتل كثيرا من تاريخه عليه السلام وحكمه، ومن ثم في خطبه وأقواله، كقوله عليه السلام ذاما: (كنتم جند المرأة، وأتباع البهيمة، رغا فأجبتم وعقر فهربتم أخلاقكم دقاق وعهد كم شقاق، ودينكم نفاق، وماؤكم زعاق. والمقيم بين أظهركم مرتهن بذنبه، والشاخص عنكم متدارك برحمة من ربه. كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة، قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها. وأيم الله لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة) (2).
ومثله قوله عليه السلام: (أرضكم قريبة من الماء، بعيدة من السماء 6
ص: 94
خفت عقولكم وسفهت حلومكم، فأنتم غرض لنابل، وأكلة لأكل، وفريسة لصائل) (1).
وينبغي هنا - أولا - أن نفهم أن العبارات التي تتردد كثيرا في نهج البلاغة من قبيل (قال في ذم أهل البصرة وغيرها) أن المقصود بها القوم الذين حاربوه وانتهكوا الحرمات ولم يردعهم شخص الإمام علي عليه السلام المعروف بدوران الحق معه على لسان النبي صلى الله عليه وآله ولا يمكن فهم هذه العبارات على غير هذا الأساس، إذ من غير المعقول أن يشمل الذم عامة الناس مجرمهم وبريئهم، بل من الغريب ما يتردد اليوم من الإيغال في تعميم هذه الذموم، وهي عبارات تتكرر على أهل العراق وعلى أهل الكوفة. و الحال، إن الإمام عليه السلام تارة يحمد الموقف الفضيلة وأخرى يذم لموقف السوء، وهو أمر طبيعي انطلق به من مبدأ الثواب و العقاب.
ولا يخفى ما في عبارات الخطبة من تقريع وذم، شمل وصفا لجانبين أحدهما معنوي والآخر مادي. أما الأول فيتعلق بالأخلاق وهي:
الانقياد الأعمى: إذ وصفهم بأتباع البهيمة التي يعني بها (الجمل) الذي
استقتلوا في الدفاع عنه كما يستقتل المحارب في الدفاع عن الراية.
الخلق السيئ: ووصفه باللؤم بقوله (أخلاقكم دقاق)، وفي الحديث أن 6
ص: 95
رجلا قال له: يا رسول الله إني أحب أن أنكح فلانة، إلا أن في أخلاق أهلها دقة، فقال له: إياك وخضراء الدمن، إياك والمرأة الحسناء في منبت السوء (1).
الغدر: وهو في قوله: وعهدكم شقاق يقول: (عهدكم وذمتكم لا يوثق بها، بل هي وإن كانت في الصورة عهدا أو ذمة فإنها في المعنى خلاف وعداوة) (2).
أما الصفات المادية التي استغلها الإمام عليه السلام مناسبة تتوافق وذم هؤلاء القوم الذين ظاهروه وخرجوا عليه فهي في صفات تتعلق بالطبيعة الخشنة للمدينة، فقال:
- وماؤكم زعاق أي ملح، (وهذا وإن لم يكن من أفعالهم إلا أنه مما تذم به المدينة كما قال:
بلاد بها الحمى وأسد عرينة *** وفيها المعلی يعتدى ويجور
فإني لمن قد حل فيها لراحم *** وإني لمن لم يأتها لنذير
ولا ذنب لأهلها في أنها بلاد الحمى والسباع). (3)
السكن والإقامة: ووصف المقيم بين أظهرهم بأنه مرتهن بذنبه لأنه إما أن يشاركهم في الذنوب أو يراها فلا ينكرها. وهذا ما يؤيد كلامنا الآنف الذكر من 3.
ص: 96
قصد الإمام بالذم لمن حاربوه في وقتها، وليس كما يبدو من ظاهر العبارة مثل (قال في ذم أهل البصرة).
الموقع الجغرافي: وأعني به القرب من الماء الذي أراد به الإمام عليه السلام القرب من الغرق، بدليل ما جاء بعده من تنبؤ بالمستقبل أخبر عنه وإلا فمدن العالم كلها إنما أقيمت على أساس قربها من الماء، بل وذلك سر تطورها في كثير من الأحيان.
أما بعدها عن السماء فهو من أعجب ما يتخيل في التعبير، لأنه مزج بين المعنى المجازي الذي يعني بعدهم عن رحمة الله تعالى - وإن كان ابن أبي الحديد يرى المعنى العلمي هنا - والمعنى الحقيقي في كونها واقعة علمية (فإن أرباب علم الهيئة وصناعة التنجيم يذكرون أن أبعد موضع في الأرض عن السماء الأبلة، وذلك موافق لقوله عليه السلام. ومعنى البعد عن السماء هاهنا هو بعد تلك الأرض المخصوصة عن دائرة معدل النهار والبقاع، والبلاد تختلف في ذلك. وقد دلت الأرصاد والآلات النجومية على أن أبعد موضع في المعمورة عن دائرة معدل النهار هو الأبلة والأبلة هي قصبة البصرة.
وهذا الموضع من خصائص أمير المؤمنين عليه السلام لأنه أخبر عن أمر لا تعرفه العرب ولا تهتدي إليه، وهو مخصوص بالمدققين من الحكماء. وهذا
من أسراره وغرائبه البديعة) (1). .
ص: 97
وارتبط إخبار الإمام عليه السلام عن مستقبل البصرة بهذه الحادثة - معركة الجمل - فغالبا ما يعقب ذكرها ذكر ما ستؤول إليه البصرة من نكبات وكوارث مختلفة حدث عنها بشكل تفصيلي أحيانا أو بإيماءة أحيانا أخرى، ومنها ما جاء ذكره في شاهدنا هذا فقد تحدث عليه السلام عن غرق البصرة بقوله: (كأني بمسجدكم كجؤجؤ سفينة قد بعث الله عليها العذاب من فوقها ومن تحتها وغرق من في ضمنها. وأيم الله لتغرقن بلدتكم حتى كأني أنظر إلى مسجدها كجؤجؤ سفينة أو نعامة جاثمة) (1)، والجؤجؤ هو عظم الصدر، وجؤجؤ السفينة: صدرها. قال ابن أبي الحديد: (فأما إخباره عليه السلام أن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها، فقد رأيت من يذكر أن كتب الملاحم تدل على أن البصرة تهلك بالماء الأسود ينفجر من أرضها، فتغرق ويبقى مسجدها. والصحيح أن المخبر به قد وقع فإن البصرة غرقت مرتين مرة في أيام القادر بالله ومرة في أيام القائم بأمر الله غرقت بأجمعها ولم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزا بعضه كجؤجؤ الطائر، حسب ما أخبر به أمير المؤمنين عليه السلام جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس ومن جهة الجبل المعروف بجبل السنام، وخربت دورها و غرق كل ما في ضمنها، وهلك كثير من أهلها. وأخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة، يتناقلها خلفهم عن سلفهم) (2). .
ص: 98
وقال عليه السلام في إخبار آخر: (ويل لسكككم العامرة والدور المزخرفة، التي لها أجنحة كأجنحة النسور، وخراطيم كخراطيم الفيلة، من أولئك الذين لا يندب قتيلهم، ولا يفقد غائبهم. إنا كاب الدنيا لوجهها وقادرها بقدرها، وناظرها بعينها) (1).
يومئ الإمام عليه السلام إلى الخراب الذي يصيب البصرة في سككها العامرة وهي الطرق المستوية إذ يأتي على ترفها في العمران وتزيين الدور بالزخرف والذهب، فأجنحة الدور وهي الرواشن شبهها بأجنحة النسور، والخراطيم هي ميازيبها (وقيل إن الجناح والروشن يشتركان في إخراج الخشب من حائط الدار إلى الطريق بحيث لا يصل إلى جدار آخر يقابله وإلا فهو الساباط ويختلفان في أن الجناح توضع له أعمدة من الطريق بخلاف الروشن وخراطيمها ما يعمل من الأخشاب والبواري بارزة عن السقوف لوقاية الغرف عن الأمطار وشعاع الشمس. أو الخراطيم هي الميازيب تطلى بالقار على طول نحو خمسة أذرع أو أزيد) (2).
وأنذر بالويل بضمير الإشارة البعيد (أولئك) إلى (الزنج)، وفصل الكلام في صفاتهم فقال: 0.
ص: 99
لا يندب قتيلهم: (وذلك لان أكثر الزنج الذين أشار إليهم كانوا عبيدا
لدهاقين البصرة وبناتها ولم يكونوا ذوي زوجات وأولاد بل كانوا على هيئة
الشطار عزابا فلا نادبة لهم) (1).
وقال: ولا يفقد غائبهم ويريد به كثرتهم وأنهم كلما قتل منهم قتيل سد مسده غيره، فلا يظهر أثر فقده (2).
وفتنة صاحب الزنج معروفة في تاريخ البصرة وهو علي بن محمد ابن محمد ابن عبد الرحيم من بني عبد القيس ادعى أنه علوي من أبناء محمد بن أحمد بن عيسى ابن زيد بن علي بن الحسين، وكان يسمى بالبرقعي لأنه كان يمشي متبرقعا (3)، ولد ونشأ في ورزنين إحدى قرى الري، والتف حوله سودان أهل البصرة ورعاعها، الذين كانوا يسكنون السباخ في نواحي البصرة، فامتلكها واستولى على الأبلة عنوة وفتك بأهلها واستفحل أمره وانتشرت أصحابه في أطراف البلاد للسلب والنهب وخرج بهم على المهتدي العباسي في سنة خمس وخمسين ومائتين واستولى على عبادان والأهواز وأغار على واسط، وبلغ عدد جيشه ثمانمائة ألف مقاتل، وجعل مقامه في قصر اتخذه بالمختارة، وتتابعت لقتاله 4
ص: 100
الجيوش، فكان يظهر عليها ويشتتها، وعجز عن قتاله الخلفاء، حتى ظفر به
الموفق بالله - أخو الخليفة المعتمد - فقتله، وبعث برأسه إلى بغداد سنة سبعين ومائتين، وفرح الناس بقتله لانكشاف رزئه عنهم (1).
وأما قوله: أنا كاب الدنيا لوجهها فهو يشبه الكلمات المحكية عن عيسى عليه السلام: (إني أكببت الدنيا لوجهها وقعدت على ظهرها فليس لي ولد يموت ولا بيت يخرب قالوا له أفلا نتخذ لك بيتا قال ابنوا لي على سبيل الطريق بيتا قالوا لا يثبت قالوا أفلا نتخذ لك زوجة قال ما أصنع بزوجة تموت) (2).
وفي إشارة إلى ملحمة أخرى قال الإمام عليه السلام: (فتن كقطع الليل المظلم لا تقوم لها قائمة ولا ترد لها راية تأتيكم مزمومة مرحولة يحفزها قائدها، ويجهدها راكبها، أهلها قوم شديد كلبهم، قليل سلبهم، يجاهدهم في الله قوم أذلة عند المتكبرين في الأرض مجهولون، وفي السماء معروفون فويل لك يا بصرة عند ذلك من جيش من نقم الله! لا رهج له ولا حس وسيبتلى أهلك بالموت الأحمر والجوع الأغبر) (3).
وقد بين الإمام صفات هذه الفتنة فهي: .
ص: 101
- فتن مظلمة كقطع الليل لا يبين منها الحق من الباطل. ولشدة الخفاء وصفها بذلك وهو كقوله تعالى: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعِ مِّنَ الَّيْلِ) (1)
- وهي شديدة الفتك لا يقوى أحد على الثبات بوجهها كما في قوله عليه السلام: لا تقوم لها قائمة، (أي لا تنهض بحربها فئة ناهضة، أو لا تقوم لتلك الفتن قائمة من قوائم الخيل يعنى لا سبيل إلى قتال أهلها ولا يقوم لها قلعة قائمة أو بنية قائمة بل تنهدم) (2). وهي بعد: لا يرد لها راية، أي لا تنهزم ولا تفر، لأنها إذا فرت فقد ردت على أعقابها.
- وهي كاملة العدة مزمومة مرحولة، أي تامة الأدوات كاملة الآلات كالناقة التي عليها رحلها وزمامها قد استعدت لان تركب.
- وهذه الفتنة يجتهد أربابها في إضرام نارها. ويحمل عليها في السير فوق طاقتها رجلا وفرسانا فالرجل كنى عنهم بالقائد والفرسان كنی عنهم بالراكب.
- وهؤلاء قليل سلبهم أي همهم القتل لا السلب مبالغة في شدة أذاها ونكالها.
كما قال أبو تمام:
إن الأسود أسود الغاب همتها *** يوم الكريهة في المسلوب لا السلب
ثم ذكر عليه السلام أن هؤلاء أرباب الفتن يجاهدهم قوم أذلة، كما قال .
ص: 102
الله تعالى: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَٰفِرِينَ) (1)، وذلك من صفات المؤمنين. ثم قال: هم مجهولون عند أهل الأرض الخمولهم قبل هذا الجهاد، ولكنهم معروفون عند أهل السماء، وهذا إنذار بملحمة تجرى في آخر الزمان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله بنحو ذلك.
ثم أخبر بهلاك البصرة بجيش من نقم الله لا رهج له ولا حس الرهج: الغبار، وكنى بهذا الجيش عن جدب وطاعون يصيب أهلها حتى يبيدهم. والموت الأحمر، كناية عن الوباء والجوع. الأغبر: كناية عن المحل، وسمى الموت الأحمر لشدته ومنه الحديث كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله، ووصف الجوع بأنه أغبر، لأن الجائع يرى الآفاق كأن عليها غبرة وظلاما، وفسر قوم هذا الكلام بوقعة صاحب الزنج، وهو بعيد لان جيشه كان ذا حس ورهج، ولأنه أنذر البصرة بهذا الجيش عند حدوث تلك الفتن، ألا تراه قال: فويل لك يا بصرة عند ذلك، ولم يكن قبل خروج صاحب الزنج فتن شديدة على الصفات التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام (2).
وأما على سبيل الإخبار إجمالا من دون تفصيل فقد وقع في قوله عليه السلام مخاطبا أهل البصرة على جهة اقتصاص الملاحم: (فمن استطاع عند ذلك أن يعتقل نفسه على الله عز وجل فليفعل. فإن أطعتموني فإني حاملكم إن شاء الله على سبيل الجنة، وإن كان ذا مشقة شديدة ومذاقة مريرة) (3). ومعنى .
ص: 103
قوله (يعتقل نفسه على الله) أي يحبسها على طاعته. ووصف (سبيل الجنة) بالمذاقة المريرة لأن الباطل محبوب النفوس، فإنه اللهو واللذة وسقوط التكليف، وأما الحق فمكروه النفس، لان التكليف صعب وترك الملاذ العاجلة شاق شديد المشقة.
وإخبارات الإمام عليه السلام ليست من الغيب في شيء بحسب ما ذكر الإمام نفسه، بل هي (تعلم من ذي علم) أي من علم ابن عمه الرسول صلى الله عليه وآله بلغه إياه، فقد أثر عنه قوله مرارا: (فاسألوني قبل أن تفقدوني، فو الذي نفسي بيده لا تسألونني عن شئ فيما بينكم وبين الساعة ولا عن فئة تهدى مائة وتضل مائة إلا أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومناخ ركابها ومحط رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلا ومن يموت منهم موتا) (1). وقد سجل ابن أبي الحديد للإمام عليه السلام كثيرا من تلك المناقب ما استحق أن ينقل بنصه: (وهذه الدعوى ليست منه عليه عليه السلام ادعاء الربوبية، ولا ادعاء النبوة، ولكنه كان يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله أخبره بذلك، ولقد امتحنا إخباره فوجدناه موافقا فاستدللنا بذلك على صدق الدعوى المذكورة كإخباره عن الضربة التي يضرب بها في رأسه فتخضب لحيته وإخباره عن قتل الحسين ابنه عليهما السلام وما قاله في كربلاء حيث مر بها، وإخباره بملك معاوية الامر من بعده وإخباره عن الحجاج، وعن يوسف بن عمر، وما أخبر به من أمر الخوارج بالنهروان وما قدمه إلى أصحابه من إخباره بقتل من يقتل منهم، وصلب من يصلب، وإخباره بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين وإخباره .
ص: 104
بعدة الجيش الوارد إليه من الكوفة لما شخص عليه السلام إلى البصرة لحرب أهلها وإخباره عن عبد الله بن الزبير، وقوله فيه: خب ضب، يروم أمرا ولا يدركه ينصب حبالة الدين لاصطياد الدنيا، وهو بعد مصلوب قريش. وكإخباره عن هلاك البصرة بالغرق وهلاكها تارة أخرى بالزنج وهو الذي صحفه قوم فقالوا بالريح وكإخباره عن ظهور الرايات السود من خراسان وتنصيصه على قوم من أهلها يعرفون ببني رزيق بتقديم المهملة، وهم آل مصعب الذين منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم وكانوا هم وسلفهم دعاة الدولة العباسية، وكإخباره عن الأئمة الذين ظهروا من ولده بطبرستان كالناصر والداعي وغيرهما في قوله عليه السلام: وإن لآل محمد بالطالقان لكنزا سيظهره الله إذا شاء دعاؤه حق يقوم بإذن الله فيدعو إلى دين الله، وكإخباره عن مقتل النفس الزكية بالمدينة، وقوله: إنه يقتل عند أحجار الزيت وكقوله عن أخيه إبراهيم المقتول بباب حمزة: يقتل بعد أن يظهر، ويقهر بعد أن يقهر، وقوله فيه أيضا: يأتيه سهم غرب يكون فيه منيته فيا بؤسا للرامى! شلت يده ووهن عضده، وكإخباره عن قتلى وجّ، وقوله فيهم: هم خير أهل الأرض. وكإخباره عن المملكة العلوية بالغرب وتصريحه بذكر كتامة، وهم الذين نصروا أبا عبد الله الداعي المعلم. وكقوله وهو يشير إلى أبي عبد الله المهدى: وهو أولهم ثم يظهر صاحب القيروان الغض البض، ذو النسب المحض المنتجب من سلالة ذي البداء، المسجى بالرداء، وكان عبيد الله المهدى أبيض مترفا مشربا بحمرة رخص البدن، تار الأطراف وذو البداء إسماعيل بن جعفر بن محمد عليهما السلام، وهو المسجى بالرداء، لأن أباه أبا عبد الله جعفرا سجاه بردائه لما مات وأدخل إليه وجوه الشيعة يشاهدونه، ليعلموا موته وتزول عنهم
ص: 105
الشبهة في أمره. وكإخباره عن بني بويه وقوله فيهم: ويخرج من ديلمان بنو الصياد، إشارة إليهم. وكان أبوهم صياد السمك يصيد منه بيده ما يتقوت هو وعياله بثمنه، فأخرج الله تعالى من ولده لصلبه ملوكا ثلاثة، ونشر ذريتهم حتى ضربت الأمثال بملكهم. وكقوله عليه السلام فيهم: ثم يستشري أمرهم حتى يملكوا الزوراء، ويخلعوا الخلفاء. فقال له قائل: فكم مدتهم يا أمير المؤمنين؟ فقال: مائة أو تزيد قليلا. وكقوله فيهم: والمترف ابن الأجذم، يقتله ابن عمه، وهو إشارة إلى عز الدولة بختيار بن معز الدولة أبي الحسين وكان على دجلة، معز الدولة أقطع اليد قطعت يده للنكوص في الحرب، وكان ابنه عز الدولة بختيار مترفا، صاحب لهو وشرب، وقتله عضد الدولة فناخسرو، ابن عمه بقصر الجص على دجلة في الحرب، وسلبه ملكه، فأما خلعهم للخلفاء فإن معز الدولة خلع المستكفي، ورتب عوضه المطيع، وبهاء الدولة أبا نصر بن عضد الدولة خلع الطائع ورتب عوضه القادر، وكانت مدة ملكهم كما أخبر به عليه السلام. وكإخباره عليه السلام لعبد الله بن العباس رحمه الله تعالى عن انتقال الأمر إلى أولاده، فإن علي بن عبد الله لما ولد أخرجه أبوه عبد الله إلى علي عليه السلام فأخذه وتفل في فيه وحنكه بتمرة قد لاكها، ودفعه إليه، وقال خذ إليك أبا الأملاك) (1).
ويبدو أن البصرة لم تهدأ بعد حرب الجمل، إذ ظلت الأخبار التي تصل الإمام عليه السلام غير مطمئنة بذلك، الأمر الذي حمل الإمام عليه السلام على إبلاغ أهلها بتطبيق مبدأ الثواب للمطيعين والعقاب للعاصين بأسلوب صريح، .
ص: 106
فمن كتاب له عليه السلام إلى أهل البصرة ذكر فيه (وقد كان من انتشار حبلكم وشقاقكم ما لم تغبوا عنه، فعفوت عن مجرمكم، ورفعت السيف عن مدبركم وقبلت من مقبلكم، فإن خطت بكم الأمور المردية، وسفه الآراء الجائرة، إلى منابذتي وخلافي فهأنذا قد قربت جيادي، ورحلت ركابي. ولئن الجاتموني إلى المسير إليكم لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعق مع أني عارف لذي الطاعة منكم فضله، و لذي النصيحة حقه غير متجاوز متهما إلى بري، ولا ناكثا إلى وفي) (1).
وفي كلام الإمام حدة واضحة سبقتها تقريرات بينة للخارجين عليه، تمثلت بتذكيرهم بما فعلوا من شق للصف وسفك للدم، وما قابلهم عليه السلام من عفو، ويمكن تبيان ما يخفى وراء التعبير باستعمال الفعل (تغبوا) - من الغباوة والتغافل - من تعريض وإدانة واضحين. مثلما توضح المقابلات التعبيرية من عظمة التسامح التي انطوت عليها نفس الإمام عليه السلام وقبح نفوس الخارجين عليه من إلحاح على الجرم (عفوت، رفعت، قبلت) مقابل (مجرمكم مدبركم مقبلكم أي المعتذر غير الفار). وغالبا ما تأتي استعمالات أساليب الشرط في تعبيرات الإمام بمعاني التهديد والوعيد كما في قوله (فإن خطت ... فها أنذا قد قربت ...) وتعني الاستعداد بخطوة للخروج على الطاعة مرة ثانية وفي المقابل كان جواب الشرط أنه سيقرب جياده ويرحل إبله وهي كنايات واضحة عن الحرب والردع. وأما قوله (ولئن الجاتموني ... لأوقعن). فهو من أشد التعبيرات تهديدا، لذلك جاء جواب الشرط قويا في الردع والعقوبة في حال .
ص: 107
وقوع شرطه (لأوقعن بكم وقعة لا يكون يوم الجمل إليها إلا كلعقة لاعق) ولعقة لاعق، مثل يضرب للشئ الحقير التافه، ويروى بضم اللام، وهي ما تأخذه الملعقة.
والتصريح بهذه الشدة له ما يبرره لأنه كان دقيق الاستعمال بالفعل (ألجأتموني) التي لا تبقي خيارا آخر للإمام عليه السلام غير الشدة.
ولكن الإمام عليه السلام ختم كلامه بإيثار طبعه اللين فعاد ليمزج الخشونة باللين فقال (مع أني عارف فضل ذي الطاعة منكم وحق ذي النصيحة، ولو عاقبت لما عاقبت البرئ بالسقيم، ولا أخذت الوفي بالناكث). ومن طريف ما يذكر هنا مقارنة ابن أبي الحديد موقف الإمام عليه السلام بموقف زیاد بن ابيه وتهديده في خطبته المشهورة بالبصرة، وقال فيها: (لآخذن الولي بالولي والمقيم بالظاعن والمقبل بالمدبر، والصحيح بالسقيم، حتى يلقى الرجل منكم أخاه فيقول: انج سعد فقد هلك سعيد، أو تستقيم لي قناتكم. فقام أبو بلال مرداس ابن أدية يهمس وهو حينئذ شيخ كبير، فقال: أيها الأمير أنبأنا الله بخلاف ما قلت وحكم بغير ما حكمت، قال سبحانه: (ولا تزر وازرة وزر أخرى) فقال:زياد يا أبا بلال إني لم أجهل ما علمت ولكنا لا تخلص إلى الحق منكم حتى نخوض إليه الباطل خوضا) (1). 5.
ص: 108
رجال البصرة
ثمة شخصيات بصرية ذكرت ضمنا أو تصريحا في نهج البلاغة، ولكل منهما شاهد وهما:
أولا: كليب الجرمي
وهو منسوب إلى بنى جرم بن ربان بن حلوان بن عمران بن الحاف ابن قضاعة من حمير. وكان هذا الرجل بعثه قوم من أهل البصرة إلى الإمام عليه السلام يستعلم حاله: أهو على حجة أم على شبهة؟ فلما رآه عليه السلام وسمع لفظه علم صدقه وبرهانه، فكان بينهما هذا الحوار الذي مهد له بهذه المقدمة في نهج البلاغة (من كلام له عليه السلام كلم به بعض العرب وقد أرسله قوم من أهل البصرة لما قرب عليه السلام منها، ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم، فبين له عليه السلام من أمره معهم ما علم به أنه على الحق، ثم قال له: بايع فقال: إني رسول قوم ولا أحدث حدثا حتى أرجع إليهم. فقال عليه السلام: أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنت صانعا؟ قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء. فقال عليه السلام: فامدد إذا يدك. فقال الرجل: فوالله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة علي، فبايعته عليه السلام (1). ولا شئ الطف 3
ص: 109
ولا أوقع ولا أوضح من المثال الذي ضربه عليه السلام، وهو حجة لازمة لا مدفع لها (1).
ومن الواضح الذي لا لبس فيه أن الإمام عليه السلام يؤثر الحوار دائما قبل الالتجاء إلى القوة، ذلك بين في خطب صفين والنهروان أيضا، وفي الواقع ما إن تجد كلماته آذانا صاغية حتى تؤمن بالحجة التي تلقى وتنصاع عن الغي كما حدث في فتنة النهروان مع الخوارج حين رجع كثير منهم عن غيهم، وكما حدث في البصرة مع الزبير حين حاججه الإمام عليه السلام، الأمر الذي لم يملك معه الزبير سوى اعتزال الحرب بعد أن كان زعيمها.
ثانيا: بنو تميم
ذكرهم الإمام صراحة في كتاب بعثه إلى عامله على البصرة عبد الله بن عباس يحذره: (اعلم أن البصرة مهبط إبليس ومغرس الفتن، فحادث أهلها بالاحسان إليهم، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم وقد بلغني تنمرك لبني تميم وغلظتك عليهم، وإن بني تميم لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر، وإنهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية ولا إسلام وإن لهم بنا رحما ماسة وقرابة خاصة نحن مأجورون على صلتها ومأزورون على قطيعتها. فأربع أبا العباس رحمك الله فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشر فإنا شريكان في ذلك، وكن عند صالح ظني بك، ولا يفيلن رأيي فيك. والسلام) (2) 3.
ص: 110
وفي كلام الإمام عليه السلام إشارة واضحة إلى طبيعة ما تخلفه الفتن من عقد الخوف وتكميم الأفواه والفتن عادة ما تستعر في المجتمعات الحية و المؤثرة مثل الكوفة والبصرة، فهي محل الحراك الاجتماعي والغليان الفكري ومن هنا اجتهد الطغاة على مر العصور من أجل تفرق الشمل وصدع الصف بإحداث الفتن في هذه المدن المتنوعة الفكر و التوجهات والطيف الاجتماعي، ولذلك يوصي الإمام عليه السلام عامله بالتلطف في معاملة أهل البصرة (فحادث أهلها بالإحسان إليهم) ليكون ذلك مدعاة لبث الطمأنينة في النفس والتعبير بحرية عن الرأي (واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم).
ثم خلص من ذلك إلى ذكر بني تميم ونهى عامله الغلظة معهم وعبر عنه (بالتنمر) لما في هذا الحيوان من جرأة ووثوب، وخصهم بالذكر في حسن
المعاملة لما لهم من ثقل اجتماعي في البصرة ولخص مزاياهم بما يأتي:
كثرة العدد:
وعبر عنه الإمام بقوله: (وإن بني تميم لم يغب لهم نجم إلا طلع لهم آخر): وهو كناية عن كثرة العدد وقوة الحضور الاجتماعي وثقل شخصيات هذه الأسرة، حتى قيل إنها عدلت مضر بذلك وملأت السهل والجبل ومنهم بنو كعب بن سعد بن زيد الذي يسمى بسعد الأكثرين الذي قيل المثل فيه (في كل واد سعد) (1)، وفيهم قال الفرزدق (2):
لو كنت تعلم ما برمل مويسل *** فقرى عمان إلى ذوات حجور 5.
ص: 111
لعلمت أن قبائلا وقبائلا *** من آل سعد لم تدن لأمير
ولهم مفاخر كثيرة سجلها لهم التاريخ والأدب فقد ذكر أن المنذر بن المنذر بن ماء السماء قال ذات يوم وعنده وفود العرب ودعا ببردي أبيه محرق بن المنذر فقال ليلبس هذين أعز العرب وأكرمهم حسبا. فأحجم الناس، فقال أحيمر بن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناه بن تميم: أنا لهما، قال: خلف الملك: بماذا؟ قال: بأن مضر أكرم العرب وأعزها وأكثرها عديدا، وأن تميما كاهلها وأكثرها وأن بيتها وعددها في بنى بهدلة بن عوف وهو جدي. فقال: هذا أنت في أصلك وعشيرتك، فكيف أنت في عترتك وأدانيك! قال أنا أبو عشرة، وأخو عشرة، وعم عشرة. فدفعهما إليه (1).
الشجاعة والحمية:
وكنى عنها الإمام بقوله (وإنهم لم يسبقوا بوغم في جاهلية ولا إسلام والوغم هو الترة وجمعه أوغام أي ترات ومراد الإمام أنهم لم يهدر لهم دم في جاهلية ولا إسلام شجاعة منهم وحمية فيما بينهم. ذكر أن الفرزدق دخل على سليمان بن عبد الملك، وكان يشنؤه لكثرة بأوه وفخره، فتهجمه و تنكر له وأغلظ في خطابه حتى قال: من أنت لا أم لك! قال: أوما تعرفني يا أمير المؤمنين؟ أنا من حي هم من أوفى العرب، وأحلم العرب، وأسود العرب وأجود العرب وأشجع العرب، وأشعر العرب. فقال سليمان: والله لتحتجن لما ذكرت أو لأوجعن ظهرك، ولا بعدن دارك. قال: أما أوفى العرب فحاجب بن .
ص: 112
زرارة، رهن قوسه عن العرب كلها وأوفى. وأما أحلم العرب فالأحنف بن قيس يضرب به المثل حلما، وأما أسود العرب فقيس بن عاصم قال له رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا سيد أهل الوبر، وأما أشجع العرب فالحريش بن هلال السعدي، وأما أجود العرب فخالد بن عتاب ابن ورقاء الرياحي، وأما أشعر العرب فها أنا ذا عندك! قال سليمان: فما جاء بك؟ لا شئ لك عندنا، فارجع على عقبك، وغمه ما سمع من عزه، ولم يستطع له ردا (1)، فقال الفرزدق في أبيات (2):
أتيناك لا من حاجة عرضت لنا *** إليك ولا من قلة في مجاشع
صلة الرحم:
وعبر عنها الإمام عليه السلام بقوله (وإن لهم بنا رحما ماسة وقرابة خاصة نحن مأجورون على صلتها ومأزورون على قطيعتها)، ويبدو أن الرحم التي يعنيها الإمام عليه السلام من جهات عدة وليس من جهة واحدة كما ذكر ابن أبي الحديد، فمن جهة المطلب بن عبد مناف زواجه من أم الحارث بنت الحارث بن سليط اليربوعية، (3) ومن جهة خديجة بنت خويلد عليها السلام، لأنها (كانت قبل النبي صلى الله عليه وآله تحت أبي هالة - نباش بن زرارة أحد بني عمرو بن تميم - فولدت له هندا ثم تزوجها رسول الله صلى الله عليه وآله .
ص: 113
وهند بن أبي هالة غلام صغير، فتبناه النبي صلى الله عليه وآله، ثم ولدت خديجة من رسول الله صلى الله عليه وآله القاسم والطاهر وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة فكان هند بن أبي هالة أخاهم لأمهم، ثم أولد هند بن أبي هالة هند بن هند، فهند الثاني أكرم الناس جدا وجدة، يعني رسول الله صلى الله عليه وآله وخديجة، وأكرم الناس عما وعمة - يعني بني النبي صلى الله عليه وآله وبناته) (1). وتعبير الإمام عليه السلام (مازورون) عدول صرفي ليقابل به (مأجورون)، وهو مأخوذ من قول النبي صلى الله عليه وآله (ارجعن مأجورات غير مأزورات) (2).
ومن رائع ما يذكر بشأن مراسلات الإمام عليه السلام لعماله على الأمصار مراقبته لهم - كما سيتضح - نتلمسه بقوله (وقد بلغني) الذي يتعمد الإمام عليه السلام في إشعار عامله بذلك.
وما أحوج عالمنا السياسي اليوم بتمثل هذه القيم الرفيعة لاسيما في قوله عليه السلام: فأربع أبا العباس، أي (قف وتثبت في جميع ما تعتمده فعلا وقولا من خير وشر، ولا تعجل به فإني شريكك فيه إذ أنت عاملي والنائب عني. ويعني بالشر هاهنا الضرر فقط، لا الظلم والفعل القبيح) (3).
ومن جديد التعبيرات الفنية عند الإمام عليه السلام قوله: وكن عند 2.
ص: 114
صالح ظني فيك، أي كن واقفا عنده كأنك تشاهده فتمنعك مشاهدته عن فعل ما لا يجوز (1).
ثالثا: العلاء بن زياد الحارثي
وهو من أصحاب الإمام علي عليه السلام، ويبدو أنه من الموسرين من أهل البصرة، فقد جاء في نهج البلاغة أنه عليه السلام (دخل على العلاء بن زياد الحارثي في البصرة يعوده فلما رأى سعة داره قال ما كنت تصنع بسعة هذه الدار في الدنيا. أما أنت إليها في الآخرة كنت أحوج، وبلى إن شئت بلغت بها الآخرة تقري فيها الضيف وتصل فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت قد بلغت بها الآخرة. فقال له العلاء يا أمير المؤمنين أشكوا إليك أخي عاصم بن زياد. قال: وما له؟ قال: لبس العباءة وتخلى عن الدنيا. قال علي به. فلما جاء قال: يا عدي نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك. أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك. قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك وجشوية مأكلك قال: ويحك إني لست كانت إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره) (2).
وفي هذه الحوارية مضامين في غاية الأهمية، تتعلق بفلسفة الإمام عليه السلام إزاء الحياة الدنيا أهي كما يشاع التخلي الواضح عما أنعم الله على 8.
ص: 115
الناس من حق التنعم بالحياة وعمارتها كما فعل عاصم بن زياد؟ من إجابة الإمام عليه السلام واستنكاره لهذا العزوف عن الدنيا عزوفا غير بناء نستطيع تبيان الفلسفة الإسلامية الحقة لطبيعة التعاطي مع قصة الحياة، تلك الطبيعة التي شوهت بشكل أعمى إلى هذا اليوم الذي يعد كثير من المسلمين مثل فعل عاصم هو التقرب الحقيقي إلى الله تعالى. ولذلك مثل هذا الفهم المغلوط التبس على عاصم فظن أن فعل الإمام عليه السلام في زهده هو نتاج الإعراض السلبي عن الحياة. والإمام عليه السلام في الوقت الذي أشار فيه إلى الترف في سعة دار العلاء في الدنيا التي ينبغي أن تكون في الحياة الأبدية وهنا يعني بسعة الدار المعنى المجازي أو الذي يسبق هذا الاستحقاق من العمل الصالح والفوز برضوان الله تعالى، أقول في الوقت ذاته استدرك عليه السلام ولم ينكر مثل امتلاك دار واسعة بتعبير (بلي) بل جعلها سبيلا للنجاة والفوز بدار الآخرة الأبدي بشروط هي: إقراء الضيف وصلة الرحم وإخراج الحقوق في خلالها وهو معنى عام يمكن تخيله لقيم الفضيلة كلها كحل معضلات الناس بجمعهم في الدار بروح الأسرة الواحدة.
وأحسب أن هذا النظرة العميقة والعملية لشؤون الحياة هي التي أتاحت للعلاء أن يطرق موضوع أخيه الذي (لبس العباءة) كناية عن شدة الزهد واعتزال الحياة، لأنها جاءت مطابقة لمقتضى الحال الذي تكلم فيه الإمام عليه السلام عن سعة الدار. لذلك فجأ الإمام عليه السلام هذا الزاهد المتشدد على نفسه بغير هدى فقال عنه: (يا عدي نفسه) بصيغة التصغير التي تحمل أكثر من معنى كالتحقير أو التعظيم لعداوته لنفسه أو يفيد الشفقة والتحنن كما يقال يابني. ثم أردف هذا النداء بخطاب أكثر شدة ومفاجأة فقال (لقد استهام بك
ص: 116
الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك) بمعنى ضلك الشيطان، وهي مفاجأة شديدة الوقع عليه كما يبدو لأنها مخالفة لفهمه للحياة معتقدا أن ذلك هو السبيل الصحيح في التقرب إلى الله، فكيف يقول له الإمام (أما رحمت أهلك وولدك). لذلك، كأن الإمام عليه السلام أشفق عليه فبين له بما لا يدع مجالا للريبة في الفهم بصيغة إيقاظية ترج العقل رجا وتنبه منافذه تنبيها، فقال مبتدئا بالاستفهام الإنكاري (أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها؟ أنت أهون على الله من ذلك) لأن الله تعالى حين أحل النعم للبشر لم تكن عن مجاملة أو محاباة مع الإضمار بعدمها كما يفعل الناس.
ولكن سلوك الإمام عليه السلام في الزهد باللباس الجيد والأكل المترف بمثابة تعبير واقعي مؤيد لسلوك عاصم، لذلك تجرأ في ضرب المثل بالإمام عليه السلام، فقال: (هذا أنت) أي كيف تحتج علي وأنت تعمل أكثر مني في خشونة الملبس وجشوبة المطعم أي الذي لا أدم معه. وبتعبير آخر (كيف تنهى عن شيء أنت تفعله). وهنا أعطى الإمام عليه السلام درسا للإنسانية عبر عصورها كلها حين قال (ويحك إني لست كانت إن الله فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره) أي يشتبهوا ويمثلوا (أي يجب على الإمام العادل أن يشبه نفسه في لباسه وطعامه بضعفة الناس - جمع ضعيف - لكيلا يهلك الفقراء من الناس فإنهم إذا رأوا أمامهم بتلك الهيئة وبذلك المطعم كان ادعى لهم إلى سلوان لذات الدنيا والصبر عن شهوات النفوس) (1). وذلك هو المثل الأعلى للقادة في تاريخ الإنسانية. 4.
ص: 117
ولاة البصرة
ولى الإمام عليه السلام طوال مدة حكمه ذات الأربع سنوات ثلاثة أشخاص على البصرة هم عثمان بن حنيف وعبد الله بن عباس وزياد بن أبيه على التوالي:
هو أبو عمرو - وقيل أبو عبد الله - عثمان بن حنيف - بضم الحاء - بن وهب بن العكم بن ثعلبة بن الحارث الأنصاري ثم الأوسي، وهو أخو سهل بن حنيف، عامل الإمام عليه السلام على المدينة.
كان عاملا على الصدقة والجباية أيام عمر بن الخطاب إذ ولاه مساحة الأرض وجبايتها بالعراق، وضرب الخراج والجزية على أهلها. وفي خلافة الإمام علي عليه السلام هو أول عامل ولاه الإمام على البصرة، فأخرجه طلحة والزبير منها حين قدماها، وسكن عثمان الكوفة بعد وفاة علي عليه السلام ومات بها في زمن معاوية سنة إحدى وأربعين للهجرة.
ارتبط اسمه كثيرا بالأحداث التي سبقت حرب الجمل كونه واليا للبصرة إذ لم يسلمها متخاذلا ضعيفا، بل تفانى في الدفاع عنها وحماية خزينة المدينة - بيت المال - التي اجتهد الناكثون في الاستيلاء عليها وقتل الكثير من أصحاب عثمان بن حنيف ذكر المسعودي في مروج الذهب (بعد قدوم القوم إلى البصرة وما فعلوه بعثمان بن حنيف، قال: وأرادوا بيت المال فمانعهم الخزان والموكلون به
ص: 118
وهم السيابجة، فقتل منهم سبعون رجلا غير من جرح، وخمسون من السبعين ضرب رقابهم صبرا من بعد الأسر، وهؤلاء أول من قتل ظلما في الإسلام وصبرا، وقتلوا حكيم بن جبلة العبدي، وكان من سادات عبد القيس وزهاد ربيعة ونساكها) (1).
والسيابجة قوم جلداء من السند استعملوا في السند استعملوا في البصرة للحراسة أبوا أن يسلموا بيت المال دون الإمام علي عليه السلام فقتلوا جميعا مع رئيسهم أبي سالمة الزطي وكان عبدا صالحا (2)، والزط: جيل أسود من السند إليهم تنسب الثياب الزطية. وقيل: هو معرب جت بالهندية، وهم جيل من أهل الهند. وقيل: هم جنس من السودان و الهنود، والواحد: زطي، مثل الزنج والزنجي والروم والرومي. وقيل: الزط: السيابجة، وهم قوم من السند كانوا بالبصرة. (3)
واتفق الطرفان على هدنة لحين وصول الإمام علي عليه السلام ثم كانت ليلة ذات ريح وظلمة، فأقبل أصحاب طلحة، فقتلوا حرس عثمان بن حنيف ودخلوا عليه فنتفوا لحيته وحاجبيه وجفون عينيه، وكادوا يقتلونه لولا أنه هددهم بأخيه سهل بن حنيف بقوله: (إن أخي وال لعلي على المدينة، ولو .
ص: 119
قتلتموني لقتل من بالمدينة من أقارب طلحة والزبير) (1) فسجنوه وأخذوا بيت المال ثم أطلقوا سراحه على هذه الهيأة التي لقي بها أمير المؤمنين في ذي قار أثناء توجهه للبصرة فقال له: بعثتني شيخا وجئتك أمردا. (2)
ويبدو أن بيت المال في البصرة هدف مطموع فيه لما يضم من ثروة تمويلية قد يحتاجها الناكثون في قابل الأيام لتغطية نفقات حرب أعد لها جيدا وربما طالت أيامها، قال أبو الأسود الدؤلي - وهو من خلص أصحاب الإمام علي عليه السلام من أهل البصرة: (لما ظهر علي عليه السلام يوم الجمل دخل بيت المال بالبصرة في ناس من المهاجرين والأنصار وأنا معهم فلما رأى كثرة ما فيه قال غري غيري مرارا، ثم نظر إلى المال، وصعد فيه بصره وصوب، وقال: أقسموه بين أصحابي خمسمائة، فقسم بينهم، فلا والذي بعث محمدا بالحق ما نقص درهما ولا زاد درهما كأنه كان يعرف مبلغه ومقداره، وكان ستة آلاف ألف درهم، والناس اثنا عشر ألفا. حبه العرني قسم علي عليه السلام بيت مال البصرة على أصحابه خمسمائة خمسمائة وأخذ خمسمائة درهم كواحد منهم فجاءه إنسان لم يحضر الوقعة فقال: يا أمير المؤمنين كنت شاهدا معك بقلبي وإن غاب عنك جسمي، فاعطني من الفئ شيئا. فدفع إليه الذي أخذه لنفسه وهو خمسمائة درهم ولم يصب من الفى شيئا) (3). 0
ص: 120
ووقع اسم عثمان بن حنيف في نهج البلاغة في كتاب أرسله الإمام عليه السلام إليه يقرعه على مخالفة تعليماته التي تقتضي المساواة بضعفة الناس. ويبدو من سياق الأحداث أن هذا الكتاب قبل حرب الجمل، ومناسبته وليمة دعي إليها ابن حنيف من اثرياء البصرة وكل ذنبه أنه أجاب الدعوة ولكنه لم يتهنأ بها، فسرعان ما أرسل إليه الإمام عليه السلام بهذا التقريع، الذي يدل على شدة مراقبته لولاته في الصغيرة والكبيرة. قال الإمام عليه السلام:
أما بعد يا ابن حنيف فقد بلغني أن رجلا من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو. وغنيهم مدعو. فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه. ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدى به ويستضئ بنور علمه ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك ولكن أعينوني بورع واجتهاد وعفة وسداد. فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين ونعم الحكم الله. وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها وحفرة لو زيد في فسحتها وأوسعت يدا حافرها لأضغطها الحجر و المدر، وسد فرجها التراب المتراكم، وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق. ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل ولباب هذا القمح ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير
ص: 121
الأطعمة. ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطانا وحولي بطون غرثى وأكباد حرى؟ أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة *** وحولك أكباد تحن إلى القد
أأقنع من نفسي بأن يقال: أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش. فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها. أو أترك سدى أو أهمل عابثا، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة. وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الاقران ومنازلة الشجعان. ألا وإن الشجرة البرية أصلب عودا، والروائع الخضرة أرق جلودا، والنباتات البدوية أقوى وقودا وأبطأ خمودا، وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو والذراع من العضد. والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها ولو أمكنت الفرص من رقابها السارعت إليها، وسأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد. إليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك قد انسللت من مخالبك، وأفلت من حبائلك، واجتنبت الذهاب في مداحضك. أين القرون الذين غررتهم بمداعبك أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك. هاهم رهائن القبور ومضامين اللحود. والله لو كنت شخصا مرئيا وقالبا حسيا لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالأماني وأمم القيتهم في المهاوي، وملوك أسلمتهم إلى التلف وأوردتهم موارد البلاء إذ لا ورد ولا صدر. هيهات من وطئ دحضك،زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن أزور
ص: 122
عن حبائلك وفق. والسالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه والدنيا عنده كيوم حان انسلاخه. اعزبي عني. فو الله لا أذل لك فتستذليني، ولا أسلس لك فتقوديني. وأيم الله يمينا استثني فيها بمشيئة الله لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما، وتقنع بالملح مادوما، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها. أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ويأكل علي من زاده فيهجع؟ قرت إذا عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية طوبى لنفس أدت إلى ربها فرضها وعركت بجنبها بؤسها وهجرت في الليل غمضها حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها وتوسدت كفها في معشر أسهر عيونهم خوف معادهم وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم و همهمت بذكر ربهم شفاههم وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم أولئك حزب الله ألا إن حزب الله المفلحون فاتق الله يا ابن حنيف ولتكفك أقراصك ليكون من النار خلاصك) (1).
الرسالة - إذن - حافلة بمعاني الزهد بالحياة وهي بعد من قمم الفصاحة العربية وبلاغتها في هذه المعاني، وسنقف على بعض مضامينها ولغتها بما ينفع البحث:
أولا: ذكرت البصرة في موضعين:
الأول: في مقدمة الرسالة بقول الإمام عليه السلام: (فقد بلغني أن رجلا من 5.
ص: 123
فتية أهل البصرة) ويبدو أن المراد من لفظ (الفتية) الأسخياء، والعرب تعبر عن السخي بالفتى. (1)
والموضع الثاني: في قوله عليه السلام: (وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم مجفو. وغنيهم مدعو) قدحا بهذه الدعوة التي يبدو من مجملها أنها دعوة مجاملة أو هي دعوة أثرياء لا مكان للضعفاء من الناس فيها، ومثل هذه الدعوة لوال على مدينة يقطنها الغني والفقير لابد من أن تكون على حساب الفقراء في المستقبل ولنا في عالم اليوم أمثلة كثيرة لمثل هذه المآدب التي هي بمثابة انزلاق نحو مهاوي الفساد الإداري كما يعبر عنه في لغة عصرنا، ولا ريب في أننا لم تصلنا تفاصيل هذه الدعوة ومقدماتها التي بحسب مراقبة الإمام عليه السلام لعامله أدرى بها إذ هو الذي امتلك الصورة الكلية، ومن هنا يجيء تقريع الإمام ونهيه عن مثل هذه المآدب وليس كما ذهب إليه ابن أبي الحديد من أن المراد بقوله (قوم عائلهم محفو. وغنيهم مدعو) ذم لأهل البصرة (2)، بل الصحيح هو ذم لهؤلاء القوم الذين يستزلون الحكام بهذه الطريقة. لذلك عد هذا الأكل شبهة فأمر عامله بتركها. وعبر الإمام عليه السلام عن هذه المأدبة بألفاظ صغرت من شأنها وحقرتها مثل (القضم والمقضم) لأن القضم هو الأكل بطرف الفم لا كله وعادة للأكل اليابس وهذا المعنى يدل على الزهد فيه والرغبة عنه. وفي .
ص: 124
هذا المعنى تفهم عبارة أبي ذر الغفاري رضي الله عنه في شأن بني أمية (تأكلون خضما ونأكل قضما والموعد الله) (1).
ثانيا: القدوة الحسنة
ضرب الإمام عليه السلام بنفسه المثل، وأمره بالاقتداء بسيرته، لأنه هو القائد الأعلى ومثل الولاة لذلك قال: (ألا وإن لكل مأموم إماما يقتدى به ويستضئ بنور علمه ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه). وذكر لفظ (إمامكم) من باب التوبيخ لهم والتقرير، وجاءت التثنية في لفظ (طمريه قرصيه) لأن الطمر - وهو الثوب البالي - من قطعتين لابد منهما هما الإزار و الرداء للجسد والرأس. والقرصان هما اللذان يفطر عليهما ولا ثالث لهما.
ثالثا: فدك
الذي جر الحديث إلى ذكر فدك هو قسم الإمام عليه السلام بعدم امتلاكه شيئا من الدنيا في قوله: (فوالله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا. بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين). وحديث فدك يحمل حسرة في النفس وشكاية عظيمة من الظلم الذي لحق بأهل البيت عليهم السلام، يمكن قراءته بتأن بين الكلمات (من كل ما أظلته السماء) وقوله (شحت نفوس قوم و سخت عنها نفوس آخرين). والمقابلة التعبيرية بين لفظ 1
ص: 125
(نفوس) قد انطوت على كثير من المعاني التي أشرنا إليها، إذ (نفوس) الأولى كناية عن الحكام السابقين الذين هضموا حق فاطمة الزهراء عليها السلام والإمام علي عليه السلام في فدك، أما (نفوس) الثانية فهي كناية عنه عليه السلام. وقوله سخت عنها أراد معنى الإغضاء والمسامحة، أي سامحت وأغضت (لا السخاء الحقيقي، لأنه عليه السلام وأهله لم يسمحوا بفدك إلا غصبا وقسرا) (1).
وفدك أرض زراعية غنية قريبة من خيبر استسلمت للنبي صلى الله عليه وآله من دون قتال بعد أن سمع أهلها استسلام أهل خيبر، لذا كانت له صلى الله عليه وآله خاصة، لأنه لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ونحلها إلى ابنته فاطمة عليها السلام، غير أنها حرمت منها بعد ذلك بحجة أن الأنبياء لا يورثون.
رابعا: عظمة الهمة
في تعبير الإمام عليه السلام (وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدث تنقطع في ظلمته آثارها ...) تجسيد رائع لعظمة الهمة وعمق الزهد بالحياة.
وقد سبقه قوله في هذا المعنى (ولا أعددت لبالي ثوبي طمرا) فهو لم يعد لبالي ثوبه طمرا أي ثوبا باليا، لأن العادة - كما يفعل الناس - إعداد الثوب القشيب بدل الثوب البالي لا الطمر.
وجسده عليه السلام برفض الألقاب التي تبعث على الزهو إلا أن يكون 1.
ص: 126
لها أهلا فقال: (أأقنع من نفسي بأن يقال: أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش ...). وقوله (وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان). وقوله: (وأيم الله يمينا أستثني فيها بمشيئة الله لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما، وتقنع بالملح مأدوما ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها مستفرغة دموعها. أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك، وتشبع الربيضة من عشبها فتربض ويأكل علي من زاده فيهجع؟ قرت إذا عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة والسائمة المرعية ...)، والملاحظ أن الإمام عليه السلام استعمل مرة لفظ (أمير المؤمنين) في موضع وفي آخر استعمل (ابن أبي طالب)، وفي ثالثة استعمل اسمه الصريح (علي) بحسب مناسبة السياق، فالأول نداء بالإمرة، والثاني غالبا ما تستعمل هذه الكناية في الشجاعة ومواطن الحرب، والثالثة جيء بالاسم مجردا لمناسبته لمعنى الزهد الذي هو في حديثه (1).
خامسا: المؤثرات اللغوية
وأعني بها الشكل الإبداعي لفنون التعبير المختلفة للمضامين التي قدمت، وهي كثيرة جدا، تستحق بحد ذاتها بحثا مثل
1 - إقامة الكلام على الموازنة وقد ملأ الرسالة، مثل (إليك عني يا دنيا فحبلك على غاربك قد انسللت من مخالبك، وأفلت من حبائلك، واجتنبت :
ص: 127
الذهاب في مداحضك أين القرون الذين غررتهم بمداعبك أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك. هاهم رهائن القبور ومضامين اللحود. والله لو كنت شخصا مرئيا وقالبا حسيا لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالأماني وأمم ألقيتهم في المهاوي وملوك أسلمتهم إلى التلف وأوردتهم موارد البلاء إذ لا ورد ولا صدر).
2 - السجع: وقد أسبغ على الكلام مزيدا من الإيقاعات النغمية اللافتة للانتباه وهي كثيرة مثل (وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن أزور عن حبائلك وفق) وقوله (ألا وإن الشجرة البرية أصلب عودا، والروائع الخضرة أرق جلودا، والنباتات البدوية أقوى وقودا وأبطأ خمودا) وقوله (تستطاب لك الألوان وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم عائلهم محفو. وغنيهم مدعو) وقوله (ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه ومن طعمه بقرصيه).
3 - الجناس: مثل (وسأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس والجسم المركوس) وقوله (وما أصنع بفدك وغير فدك والنفس مظانها في غد جدث).
4 - المقابلة: مثل (بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس آخرين) فقابل بين (شحت) و (سخت).
وينبغي القول هنا: إن هذه المؤثرات اللغوية المختلفة هي نتاج المعنى ومقتضاه وليست حلية طارئة عليه، وإنما قصدها الإمام بغية لفت الانتباه أكثر وشد المسامع إليه.
ص: 128
هو عبد الله بن العباس بن عبد المطلب ابن عم النبي صلى الله عليه وآله وتلميذ هذه المدرسة العظيمة، وحبر الأمة، لازم بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وآله ابن عمه الإمام علي عليه السلام فحمل منه علمه وخلقه ولد في الشعب أيام مقاطعة فريش لبني هاشم قبل عام الهجرة بثلاث سنين (1)، ومات سنة ثمان و ستين للهجرة.
وقد ولاه الإمام عليه السلام البصرة بعد حرب الجمل، وله كلام كثير يوصيه بحسن إدارة هذه المدينة والتلطف في معاملة أهلها، ومنها قوله (سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك، وإياك والغضب فإنه طيرة من الشيطان. واعلم أن ما قربك من الله يباعدك من النار، وما باعدك من الله يقربك من النار) (2).
ووصيته في أن يسع الناس بالوجه والمجلس والحكم تستبطن ثلاثة معان هي على التوالي: سماحة المحيا وطلاقته، وتنوع الحاضرين فلا يقتصر المجلس على طبقة دون أخرى، والثالثة: الحكمة في الحكم والفصل بين الناس. وأفرد الغضب بالنهي عنه كونه مفسدة لما تقدم من الوسع كله، وهو بعد طيرة من الشيطان أي خفة وطيش. والقرب من الله هو القرب من ثوابه ولا شبهة أن ما قرب من الثواب باعد من العقاب، وبالعكس لتنافيهما (3). 8.
ص: 129
ويبدو أن آثار حرب الجمل ألقت بظلالها على البصرة، فلم تهدأ النفوس بعد، وقد كتب بذلك ابن عباس إلى الإمام علي عليه السلام (1)، وهذا هو الذي يفسر بعض الغلظة التي بدت من ابن عباس إلى بعض أهل البصرة كما مر في شأن بني تميم في قوله: (فحادث أهلها بالاحسان إليهم، واحلل عقدة الخوف عن قلوبهم وقد بلغني تنمرك لبني تميم وغلظتك عليهم)، وربما يفسر أيضا سبب إيصائه عليه السلام بهذه الوصايا الأخلاقية ونهيه عن الغضب، وهي وإن كانت قد تبدو وصايا عامة كثيرا ما ينبه الإمام عليه السلام الناس إليها، إلا أن لها ثمة ارتباطا بسياق الأحداث في البصرة.
ومن كتاب آخر أختلف في شأنه قال الإمام عليه السلام: (أما بعد فإني كنت أشركتك في أمانتي وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن رجل من أهلي أوثق منك في نفسي لمواساتي وموازرتي، وأداء الأمانة إلي. فلما رأيت الزمان على ابن عمك قد كلب، والعدو قد حرب وأمانة الناس قد خزيت، وهذه الأمة قد فنكت وشغرت قلبت لابن عمك ظهر المجن ففارقته مع المفارقين، وخذلته مع الخاذلين، وخنته مع الخائنين. فلا ابن عمك آسيت ولا الأمانة أديت. وكأنّك لم تكن الله تريد بجهادك. وكأنك لم تكن على بينة من ربك. وكأنك إنما كنت تكيد هذه الأمة عن دنياهم وتنوي غرتهم عن فيئهم. فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة أسرعت الكرة، وعاجلت الوثبة، واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لأراملهم وأيتامهم اختطاف الذئب الأزل دامية
(1) نفسه 3 / 183.
ص: 130
المعزى الكسيرة، فحملته إلى الحجاز رحيب الصدر بحمله غير متأثم من أخذه كأنك لا ابا لغيرك حدرت إلى أهلك تراثا من أبيك وأمك. فسبحان الله! أما تؤمن بالمعاد؟ أو ما تخاف نقاش الحساب؟ أيها المعدود كان عندنا من ذوي الألباب كيف تسيغ شرابا وطعاما وأنت تعلم أنك تأكل حراما وتشرب حراما؟ وتبتاع الإماء وتنكح النساء من مال اليتامى والمساكين والمؤمنين والمجاهدين الذين أفاء الله عليهم هذه الأموال وأحرز بهم هذه البلاد. فاتق الله واردد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فإنك إن لم تفعل ثم أمكنني الله منك لأعذرن إلى الله فيك ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحدا إلا دخل النار. ووالله لو أن الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت ما كانت لهما عندي هوادة ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما وأزيح الباطل من مظلمتهما. وأقسم بالله رب العالمين ما يسرني أن ما أخذت من أموالهم حلال لي أتركه ميراثا لمن بعدي. فضح رويدا فكأنك قد بلغت المدى ودفنت تحت الثرى وعرضت عليك أعمالك بالمحل الذي ينادي الظالم فيه بالحسرة ويتمنى المضيع الرجعة ولات حين مناص) (1).
قيل في مناسبة هذا الكتاب إقدام ابن عباس على أخذ أموال من بيت مال البصرة والفرار بها إلى مكة وقيل قدرها أربعمئة ألف درهم تزيد أو تنقص (2)، الأمر الذي حمل أبا الأسود الدؤلي على إبلاغ أمير المؤمنين عليه السلام بذلك، فكان هذا الكتاب تأنيبا وعظة. .
ص: 131
ومن هنا وقع الاختلاف في المرسل إليه، فمنهم من نسبه إلى عبيد الله بن عباس ومنهم من نسبه إلى واحد من أهل أمير المؤمنين عليه السلام، وذلك كله من أجل دفع هذا الكتاب عن ابن عباس لما فيه من شدة وقساوة عليه لا يصدقها من عرف تاريخ ابن عباس ووفاءه لأمير المؤمنين عليه السلام وشدة ملازمته له. وهو أمر حير ابن أبي الحديد المعروف بتثبته فقال: (وقد أشكل على أمر هذا الكتاب فإن أنا كذبت النقل وقلت: هذا كلام موضوع على أمير المؤمنين عليه السلام خالفت الرواة، فأنهم قد أطبقوا على رواية هذا الكلام عنه، وقد ذكر في أكثر كتب السير. وإن صرفته إلى عبد الله بن عباس صدني عنه ما أعلمه من ملازمته لطاعة أمير المؤمنين عليه السلام في حياته وبعد وفاته. وإن صرفته إلى غيره لم أعلم إلى من أصرفه من أهل أمير المؤمنين عليه السلام والكلام يشعر بأن الرجل المخاطب من أهله وبنى عمه، فأنا في هذا الموضع من المتوقفين!) (1).
وسياق الكلام ولغته تشير بما لا يدع مجالا للريبة أن الكتاب مرسل إلى ابن عباس مثل قوله (أشركتك في أمانتي، وجعلتك بطانتي وشعاري، وأنه لم يكن في أهلي رجل أوثق منك)، وقوله: (على ابن عمك قد كلب)، ثم قال ثانيا: (قلبت لابن عمك ظهر المجن) ثم قال ثالثا: (ولابن عمك آسيت) وقوله (لا أبا .
ص: 132
لغيرك)، وهذه كلمة لا تقال إلا لمثله، فأما غيره من أفناء الناس، فإن عليا عليه السلام كان يقول: لا أبا لك. وقوله: (أيها المعدود كان عندنا من أولى الألباب).
وقوله: (لو أن الحسن والحسين).
وقد جرت بعد ذلك مكاتبات بين الإمام علي عليه السلام وابن عباس بعضها لا يمكن قبوله وأحسب أن هذا الأمر هو الذي شوه حقيقة هذا الكتاب، إذ مما لاينكر أمر هذا الكتاب ووقوع هذه الحادثة ورجوع ابن عباس عنها وتوبته منها (1) (وإنكار أخذ ابن عباس المال من البصرة، وإنكار كتاب أمير المؤمنين عليه السلام إليه المقدم ذكره صعب جدا بعد ملاحظة ما تقدم، ولا يحتاج فيه إلى تصحيح روايات الكشي. وبعد ما ذكرناه من الشواهد على اشتهار الأمر في ذلك. كما إن إخلاص ابن عباس لأمير المؤمنين عليه السلام وتفوقه في معرفة فضله لا يمكن إنكاره والذي يلوح لي إن ابن عباس لما ضايقه أمير المؤمنين عليه السلام في الحساب عما اخذ ومن أين اخذ وفيما وضع كما يقتضيه عدله ومحافظته على أموال المسلمين، وعلم أنه محاسب على ذلك أدق حساب وغير مسامح في شئ سولت له نفسه أخذ المال من البصرة، والذهاب إلى مكة وهو ليس معصوما، وحب الدنيا مما طبعت عليه النفوس، فلما كتب إليه أمير .
ص: 133
المؤمنين عليه السلام ووعظه وطلب منه التوبة تاب وعاد سريعا. وعدم نص المؤرخين على عوده لا يضر بل يكفي ذكرهم أنه كان بالبصرة عند وفاة أمير المؤمنين عليه السلام كما دل عليه كتابه السابق إلى معاوية، أما الجواب الأخير الذي زعموا أنه أجاب به أمير المؤمنين عليه السلام فمعاذ الله أن يصدر منه والله العالم) (1).
ويؤيد ذلك تفسير كتاب الإمام عليه السلام إليه في قوله: (أما بعد فإن المرء، قد يسره درك ما لم يكن ليفوته، ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه. فليكن سرورك بما نلت من آخرتك. وليكن أسفك على ما فاتك منها. وما نلت من دنياك فلا تكثر فيه فرحا. وما فاتك منها فلا تأس عليه جزعا. وليكن همك فيما بعد الموت) (2). لذلك كان يقول عبد الله بن عباس إنابة منه: (ما انتفعت بكلام بعد كلام رسول الله كانتفاعي بهذا الكلام).
وبهذا السياق التاريخي واللغوي لكتب أمير المؤمنين عليه السلام نطمئن إلى ما وصلنا إليه من حل لعقدة هذا الكتاب ونسبة إرساله إلى ابن عباس.
هو زياد المطعون في نسبه، سمي لأبيه على جهة المجهول، أو لخمول نسب أبيه، إذ قيل إن أباه كان عبدا واسمه عبيد وينسب إلى ثقيف وبقي عبدا إلى أيام 8.
ص: 134
زیاد فابتاعه وأعتقه، وربما نسب إلى أمه فقيل زياد بن سمية وهي أمة كانت للحارث بن كلدة بن عمرو بن علاج الثقفي، طبيب العرب، وكانت تحت عبيد،
و لما استلحق زمن معاوية قال له أكثر الناس: زياد بن أبي سفيان (1).
ولا أعرف سبب توليته على البصرة مرة وبعض أعمال فارس مرة ثانية في زمن الإمام علي عليه السلام، وربما كان ذلك بسبب الإخلاص الذي كان يبديه لأمير المؤمنين عليه السلام، فقد قيل إنه لما ولي فارسا أو بعض أعمالها ضبطها ضبطا صالحا، وجبى خراجها وحماها.
وكثيرا ما كان يصد محاولات معاوية لحمله على الانسلاخ من جبهة الإمام علي عليه السلام (2)، وهو أمر لم يكن بخاف على أمير المؤمنين فكان يحذره دائما كقوله من كتاب له عليه السلام وقد بلغه أن معاوية كتب إليه يريد خديعته باستلحاقه: (وقد عرفت أن معاوية كتب إليك يستزل لبك ويستفل غربك، فاحذره فإنما هو الشيطان يأتي المؤمن من بين يديه ومن خلفه وعن وعن يمينه وعن شماله، ليقتحم غفلته ويستلب غرته، وقد كان من أبي سفيان في زمن عمر فلتة من حديث النفس ونزغة من نزغات الشيطان لا يثبت بها نسب ولا يستحق بها إرث والمتعلق بها كالواغل المدفع والنوط المذبذب. فلما قرأ زياد الكتاب قال: .
ص: 135
شهد بها ورب الكعبة، ولم يزل في نفسه حتى ادعاه معاوية) (1)، ولكن معاوية ظل يلاحقه فالتحق به بعد أربعة أعوام من اسشهاد الإمام علي عليه السلام.
ويبدو أن ابن عباس استخلفه على البصرة، ومن هنا ارتفع شأنه. وجاء استخلاف زياد لأن ابن عباس كان يومئذ عاملا عليها وعلى كور الأهواز وفارس وكرمان.
وفي هذه المدة ربما بلغ أمير المؤمنين عليه السلام هنات عن ابن زياد فيما يخص بيت المال، وحين نقول بيت المال فإننا نعني بها ثروة كبيرة لواردات الدولة الإسلامية لأن خراج العراق وحده وصل إلى أكثر من (120) مليون درهم (2). ولذلك أرسل إليه من يحمل أموال البصرة إلى الكوفة فحملت وحمل معها أخبار تجبره وترفهه في النعم الأمر الذي أنكره زياد لأمير المؤمنين عليه السلام حين حوسب عليه.
وهذا الكتاب من الإمام عليه السلام إليه بسبب تلك الهنات (وإني أقسم بالله قسما صادقا لئن بلغني أنك خنت من فئ المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر ثقيل الظهر ضئيل الأمر. والسلام) (3). 3.
ص: 136
واستعمل الإمام عليه السلام أقسى عبارات التهديد بهذا الشأن، الشأن المالي، مبتدئا بقسم عظيم يندر أن يقسمه في هذه المواضع لأشدن عليك شدة، والمراد تهديده بالأخذ واستصفاء المال. ثم وصف تلك الشدة فقال: إنها تتركك قليل الوفر، أي أفقرك بأخذ ما احتجت من بيت مال المسلمين. وثقيل الظهر: أي مسكين لا تقدر على مئونة عيالك. (وضئيل الامر: أي حقير، لأنك إنما كنت نبيها بين الناس بالغنى والثروة، فإذا افتقرت صغرت عندهم، واقتحمتك أعينهم). (1)
ومن العجيب أن يظهر زياد بأبشع صوره الدموية بعد الالتحاق بمعاوية ذلك الالتحاق الذي حذر منه علي عليه السلام من قبل، فكشف عن دناءة خلقه مع الإمام الحسن عليه السلام وأتباعه لاسيما حين سلطه معاوية على رقاب الناس واليا على أهل البصرة وضم إليه بعد ذلك الكوفة.
ومجمل الأمر إن البصرة مثلت تاريخا غنيا بالأحداث والفتن في حياة الإمام علي عليه السلام إبان مدة خلافته البالغة أربع سنين، بان على كلامه عليه السلام خطبة ورسالة وموقفا، فكان لذاك وثيقة لغوية وتاريخية في غاية الأهمية من وثائق تاريخ هذه الحاضرة الكبيرة. .
ص: 137
الخاتمة
تخلص من الدراسة إلى جملة من النتائج المحددة بنقاط هي:
أولا: بينت الدراسة حجم الأهمية التي مثلتها البصرة في أحداث الدولة الإسلامية منذ النشأة وحتى الفتن التي استعرت في حكم الإمام علي عليه السلام.
ثانيا: تبدو أهمية نهج البلاغة من جهة عده وثيقة تاريخية دامغة في كشف الحقائق التاريخية لأحداث البصرة ومواقف بعض رجالاتها وتفاصيل ولاتها أثناء مدة حكم الإمام علي عليه السلام.
ثالثا: شدة مراقبة الإمام عليه السلام لولاته بشكل عام والبصرة على وجه الخصوص لحساسية الموقف وآثار حرب الجمل.
رابعا: المكانة الاقتصادية العظيمة للبصرة في وفرة وارداتها للدولة الإسلامية جعلت منها محلا لطمع الولاة على مر العصور.
خامسا: أظهرت الدراسة الإمكانات التعبيرية في نهج البلاغة وقدرة الإمام عليه السلام على الربط بين المعنى الحقيقي والأداء الفني المميز.
سادسا: لفتت الدراسة إلى عمق الحقائق التي تتعلق بالبصرة متمثلة بالأخذ المباشر من صاحب الحدث نفسه بدون نقولات وتزيدات.
ص: 138
المصادر
أولاً: القرآن الكريم
- أنساب الأشراف البلاذري (ت 279 ه - )، تحقيق وتعليق الشيخ محمد باقر المحمودي، الطبعة الأولى، 1974م.
- الأعلام، خير الدين الزركلي، دار العلم للملايين، بيروت - الطبعة الأولى 1980م.
- أعيان الشيعة محسن الأمين (ت 1371 ه - )، تحقيق وتخريج: السيد حسن الأمين دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان.
- أسلوب الإمام علي (علیه السلام) في التصريح باسمه والكناية عنه، الدكتور عباس علي الفحام مجلة مركز دراسات الكوفة، العدد (9) 2010.
- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، الشيخ محمد باقر المجلسي (ت 1111 ه)، مؤسسة الوفاء بيروت - لبنان، الطبعة الثانية 1983.
- تاريخ الطبري، الطبري (ت 310 ه - )، مراجعة وتصحيح وضبط: نخبة من العلماء الأجلاء، الطبعة الرابعة، 1983 م، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات - بيروت - لبنان - تاريخ اليعقوبي، اليعقوبي (ت 284 ه) بدون ذكر مكان الطبع وتاريخه.
- ترتيب إصلاح المنطق، إبن السكيت الأهوازي (ت 244 ه - )، تحقيق: محمد
ص: 139
حسن بكائي، الطبعة الأولى، مؤسسة الطبع والنشر في الاستانة الرضوية 1412 ه
- الدر المنثور، جلال الدين السيوطي (ت 911 ه - )، مطبعة دار المعرفة بيروت - لبنان.
- ديوان الفرزدق، همام بن غالب (ت 111 ه - )، جمع وتعليق: عبد الله اسماعيل العادي، بيروت - 1936 م.
- سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي (ت 748 ه - )، تحقيق: شعيب الأرناؤوط وحسين الأسد، الطبعة التاسعة، 1993 م.
- الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، اسماعيل بن عباد الجوهري (ت 393 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الرابعة، دار العلم للملايين - بيروت، 1987 م.
- شرح مئة كلمة لأمير المؤمنين، ابن ميثم البحراني (ت 679 ه)، تحقيق: مير جلال الدين الحسيني الأرموي، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم - ايران.
- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد المدائني (ت 656 ه). تحقيق: محمد أبو الفضل،إبراهيم، دار إحياء التراث العربي، القاهرة 1959م.
- عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب، جمال الدين الحسيني المعروف بابن عنبة (ت 828 ه)، عني بتصحيحه السيد محمد حسن الطالقاني، الطبعة الثانية، المطبعة الحيدرية، النجف الأشرف - 1961 م.
ص: 140
- العين الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 ه)، تحقيق: الدكتور مهدي المخزومي والدكتور إبراهيم السامرائي، مؤسسة دار الهجرة - الطبعة الثانية ایران - 1409 ه.
- الغارات ابراهيم بن محمد الثقفي (ت 283 ه)، تحقيق: السيد جلال الدين الحسيني الأرموي بدون تاريخ الطبع ومكانه.
- غريب الحديث ابن سلام الهروي (ت 224 ه - )، تحقيق: محمد عبد المعيد خان مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، الهند، الطبعة الأولى، 1384 ه.
- غريب الحديث ابن قتيبة الدينوري (ت 276 ه)، وضع فهارسه: نعيم زرزور دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، بيروت، 1988 م.
- الفائق في غريب الحديث، جار الله الزمخشري (ت 539 ه)، وضع حواشيه: ابراهيم شمس الدین، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1996م.
- فتوح البلدان أحمد بن يحيى المعروف بالبلاذري (ت 279 ه - )، تحقيق: الدكتور صلاح المنجد، مطبعة لجنة البيان العربي، القاهرة 1956 م.
- قبيلة تميم ودورها في التاريخ العربي قبل الإسلام (أطروحة دكتوراه)، سعيد جبار كلية التربية ابن رشد جامعة بغداد، 2007م.
- الكامل في التاريخ، ابن الأثير (ت 631 ه)، مطبعة دار صادر و دار بيروت 1966 م، لبنان.
- لسان العرب جمال الدین محمد بن مکرم بن منظور المصري (ت 711 ه - ) دار صادر و دار بیروت لبنان 1379 ه - 1955 م.
ص: 141
- المثل السائر في أدب الكاتب و الشاعر ضياء الدين نصر الله بن محمد بن الأثير الجزري (ت 637 ه - )، تحقيق: الدكتور احمد الحوفي والدكتور بدوي طبانه، الطبعة الأولى، نهضة مصر، الفجالة - القاهرة 1379 ه - 1959 م.
- مجمع الأمثال، الميداني، لأبي الفضل احمد بن محمد النيسابوري الميداني (ت 518 ه - )، مطبعة السعادة - مصر، 1959م.
- مروج الذهب ومعادن الجوهر، أبو الحسن عليّ بن الحسين بن علي المسعودي (ت 346 ه - )، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة - مصر، الطبعة الثانية 1367 ه - 1948م.
- المصنف عبد الرزاق الصنعاني (ت 211 ه - )، تحقيق حبيب الرحمن الأعظمي
بدون ذكر مكان الطبع وتاريخه.
- المعارف ابن قتيبة الدينوري (ت 276 ه - )، تحقيق: الدكتور ثروت عكاشة مطبعة دار المعارف، القاهرة.
- معجم البلدان ياقوت الحموي (ت 626 ه - )، دار إحياء التراث العربي لبنان - 1979م.
معجم مقاييس اللغة أحمد بن فارس (ت 395 ه - )، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، مطبعة الإعلام الإسلامي، 1404 ه - .
- نهج البلاغة تحقيق و شرح: الشيخ محمد عبده، الطبعة الأولى، 1412 ه - ، مطبعة النهضة - قم. - نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ المحمودي، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت - لبنان.
ص: 142
- النهاية في غريب الحديث ابن الأثير (ت 606 ه - )، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمود محمد الطناحي، الطبعة الرابعة.
- وقعة الجمل، ضامن بن شدقم المدني (ت 1082 ه - )، تحقيق: السيد تحسين آل شبيب الموسوي مطبعة محمد، الطبعة الأولى، 1999 م.
- يتيمة الدهر، الثعالبي (ت 429 ه - )، شرح وتحقيق الدكتور مفيد قمحية الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، 1983 م، بيروت - لبنان.
ص: 143
ص: 144
الباب الثاني
الدراسات الأسلوبية واللغوية
ص: 145
الباب الثاني
الدراسات الأسلوبية واللغوية
الفصل الأول: أسلوب الإمام علي (علیه السلام) في التصريح باسمه والكناية عنه.
الفصل الثاني: فن التقسيم.
الفصل الثالث: دلالة الأبنية النادرة.
ص: 146
أسلوب الإمام علي (علیه السلام)
في التصريح باسمه والكناية عنه
مدخل
المبحث الأول (أسلوب الإمام في التصريح)
موضوعات التصريح
أولا: الكتب و الرسائل
ثانيا: الزهد
ثالثا: ذكر فضائله
رابعا: الايصاء
خامسا: الاحتجاج
سادسا: مواقف الحرب و الضمان
المبحث الثاني (أسلوبه في الكناية)
أشكال التعبير الكنائي
أولا: ابن أبي طالب
ثانيا: أمير المؤمنين
ثالثا: ابن أبيك
رابعا: أبو حسن
خامسا: ابن خالك
سادسا: المهاجر، الصريح، المحق، المؤمن
سابعا: صيغ أخر
ص: 147
ثمة ظاهرة أسلوبية لافتة للانتباه في نهج البلاغة تتعلق بالتصريح والتكنية عن اسم الإمام علي عليه السلام على لسانه، إذ يعمد الإمام عليه السلام الى استعمال كنايات عن اسمه لغايات قد لا يحققها التصريح، وقد يصرح في مواطن من أجل الكشف عن معان مخبوءة قد لا تبين مع الكناية لو كنى.
فمتى يصرح عن اسمه ومتى يكني؟
وقبل الشروع بالبحث والإجابة على هذا السؤال، لابد من الوقوف على التعريف بالتصريح والكناية، تمهيدا للدخول في الموضوع.
التصريح:
في اللغة يعني الإظهار وعدم الستر، قال ابن منظور: (صرح فلان ما في نفسه تصريحا اذا أبداه) (1).
وهنا نعني به ذكر الاسم من دون لازمة لغرض يقصد إليه المصرح.
وللتصريح بالاسم المجرد بلاغته، بخاصة إذا أحسن المصرح التأني إليه والدخول إلى المعنى، فالإبداع ليس حكرا على لغة المجاز، فقد تكون اللغة المباشرة أبلغ في قوة التأثير والإبلاغ متى ما طابق اللفظ المعنى في طريقة التركيب، فالعبرة في كل ذلك في طريقة إقامة العلاقات بين عناصر اللغة داخل الوحدات اللغوية (الجمل).
ومن هنا تتضح صعوبة الإبداع في لغة التصريح والحقيقة، لأن على المبدع 1.
ص: 148
تخطي المسرب الواحد الذي قد يفرضه المعنى الحقيقي المباشر، أو بعبارة ثانية، إن الإبداع يكمن في الطريقة التي يستطيع بها المتكلم شق طرق جديدة داخل المعنى الحقيقي الذي قد يوحي لغير المبدعين أنه منغلق أو باتجاه واحد يصعب تغييره.
إذن بلاغة التصريح هي في الكيفية التي يتحقق بها التطابق التام بين الأداء والمضمون، من خلال صناعة علاقات تركيبية جديدة بين مفردات اللغة.
الكناية:
الكناية في اللغة (مصدر كنيت بكذا عن كذا، أو كنوت، إذا تركت التصريح به) (1)، وهي فيما يبدو تحمل لهجتين من هذا المصدر (كنوت و كنيت) (2)، و أصل مادتها التستر (3)، و كل ما يتفرع عن هذه المفردة من نحو (الأكنة، مكنون، كنية، كان ...) لا تنفك من معنى الستر، إذن هي ضد التصريح.
وفي الاصطلاح حدها الشيخ عبد القاهر الجرجاني بقوله: (المراد بالكناية أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعاني، فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكن يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيوميء به إليه ويجعله دليلا عليه) (4). إذن هي العدول عن ذكر الاسم إلى لازمه تحقيقا لغرض يقصد إليه
المكني.
وتبدو روعة الكناية بانزياحاتها اللغوية و قدرتها على إثارة فضول المتلقي 5.
ص: 149
بانحرافه عن الغرض المقصود مباشرة، فتبرز له جانبا من المعنى وتخفي عنه جانبا آخر مما يعني استلذاذ المتلقي في إعمال الذهن بالوصول إلى المعنى المطلوب (1).
ومن سمات لغة الكناية قوة الإيحاء فيها، فهي في جوهرها مبتناة على معنيين الأول حقيقي يوحي إلى الثاني المجازي، وهو الذي عبر عنه عبد القاهر الجرجاني بقوله: (يومئ به إليه) (2)، ومن هنا عدت العرب (الكناية من البراعة والبلاغة وهي عندهم أبلغ من التصريح) (3) لما فيها من فضل قوة في الإيحاء والتأثير.
وطالما نحن بصدد مستوى رفيع من الأداء الإبداعي البلاغي، فلابد من أن مستعمل اللغة - وهو هنا أمير البيان العربي الإمام علي عليه السلام - قاصد إلى التصريح و التكنية بشكل يحقق فيه مطابقة الكلام لمقتضى الحال وعلى نحو يتطابق فيه اللفظ أيما تطابق مع المعنى.
ولذلك سنحاول دراسة التصريح بالاسم والكناية عنه ضمن سياقه الفني التركيبي الذي سيكشف لنا أبعاده وأسباب إيثار هذا على ذاك في الاستعمال. 0.
ص: 150
أسلوب الإمام (رضي الله عنه) في التصريح
سأتناول فنية التصريح في أسلوب الإمام عليه السلام عن نفسه من جهة الدلالة والأثر الموضوعي، محاولا الوصول من هذا الطريق إلى ما خبأ من معنى توخاه الإمام عليه السلام عن عمد حين صرح باسمه.
وهي بحسب كثرتها نجدها في الآتي:
لن أقف طويلا عند الكتب والرسائل إلى الولاة والعمال، فذلك أسلوب متبع من قبل في اقتضاء التصريح بالاسم منذ عهد النبوة والرسائل التي بعث بها إلى الملوك لنشر الدعوة الإسلامية، و أصبحت تلك سنة متبعة في التصريح بالاسم مثلما هو حاصل مع الإمام علي عليه السلام في رسائله إلى ولاته وعماله وأعدائه.
مثل كتابه إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة، وصدره بقوله:
(ممِنْ عَبْدِ اللَّهِ عَلِيٍّ أَمِيرِالْمُؤْمِنِينَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ جَبْهَةِ الْأَنْصَارِ وَ سَنَامِ الْعَرَبِ) (1)، والجبهة و السنام استعارات للعظمة وعلو القدر. 7.
ص: 151
وعهده إلى مالك بن الحارث الأشتر (1) لما ولاه على مصر وصدره بقوله:
(هَذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌّ أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الْأَشْتَرَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ حِينَ وَلَّاهُ مِصْرَ جِبَايَةَ خَرَاجِهَا وَ جِهَادَ عَدُوِّهَا وَ اسْتِصْلَاحَ أَهْلِهَا وَ عِمَارَةَ بِلَادِهَا؛ أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللَّهِ ...) (2)
وأمثلة ذلك كثيرة في نهج البلاغة فقد جمعها الشريف الرضي و أفرد لها بابا أسماه باب الرسائل والوصايا (3).
يتفق التصريح بالاسم من دون تكنية مع معاني الزهد، خاصة حين يرد السياق التركيبي بمحاور تلك الدلالات فيجيء الاسم معرى من كل معنى جانبي قد تسبغه عليه الكناية، وقد وقع اسم (علي) صريحا مرتين في هذه المعاني نحو قوله من خطبة في الزهد:
(وَ اللَّهِ لَوْ أُعْطِيتُ الْأَقَالِيمَ السَّبْعَةَ بِمَا تَحْتَ أَفْلَاكِهَا عَلَى أَنْ أَعْصِيَ اللَّهَ فِي نَمْلَةٍ أَسْلُبُهَا جُلْبَ شَعِيرَةٍ، مَا فَعَلْتُهُ. وَ إِنَّ دُنْيَاكُمْ عِنْدِي لَأَهْوَنُ مِنْ وَرَقَةٍ فِي فَمِ جَرَادَةٍ تَقْضَمُهَا. مَا لِعَلِيٍّ وَ لِنَعِيمٍ يَفْنَى وَ لَذَّةٍ لَا تَبْقَى ...) (4) 2
ص: 152
وقسم الإمام يشير إلى سعة عدله و الأقاليم السبعة هي أقسام الأرض، أما قوله الثاني فهو (دليل على غاية الزهد منه في الدنيا). (1)
وجلب الشعيرة قشرها، ويشير بها إلى قلة القيمة إلا أن تكون في معصية الله.
وقوله (ما لعلي ...) هو استفهام على سبيل الإنكار (لملامته لنعيم الدنيا و لذاتها الفانية) (2) فحال الإمام علي عليه السلام من الإعراض عن الدنيا والإقبال على الله تعالى مما يتنافى مع ذلك النعيم وتلك اللذات الفانية.
وقد ناسب في كل ذلك إيراد اسمه صريحا متسقا مع سياقه في تلك المعاني.
وكلمة الإمام هذه تذكر بكلمته في الشقشقية مزهدا:
(وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ) (3).
وفي موضع آخر من حديث الزهد صرح الإمام عليه السلام باسمه فقال من كتاب لأحد عماله:
(لَأَرُوضَنَّ نَفْسِي رِيَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَى الْقُرْصِ إِذَا قَدَرْتُ عَلَيْهِ مَطْعُوماً وَ تَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً، وَ لَأَدَعَنَّ مُقْلَتِي كَعَيْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِينُهَا، مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا. أَ تَمْتَلِئُ السَّائِمَةُ مِنْ رِعْيِهَا فَتَبْرُكَ، وَ تَشْبَعُ الرَّبِيضَةُ مِنْ عُشْبِهَا4.
ص: 153
فَتَرْبِضَ، وَ يَأْكُلُ عَلِيٌّ مِنْ زَادِهِ فَيَهْجَعَ؟ قَرَّتْ إِذاً عَيْنُهُ إِذَا اقْتَدَى بَعْدَ السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ بِالْبَهِيمَةِ الْهَامِلَةِ وَ السَّائِمَةِ الْمَرْعِيَّةِ) (1).
و الترويض هو التدريب و التعويد (2)، وفي الكلام معان كثيرة تدل على الزهادة بملذات الدنيا وعدم التشبه بالاقتداء بالبهائم (فلابد من حفظ الامتياز وهو ملازمة الجوع والخوف من الله والعبادة في جوف الليل) (3)، لذلك أورده الإمام بلسان الإنكار مصرحا باسمه بعد كل ذلك مقرونا بالجهاد في سبيل الله تعالى، دليلا على زهده بالدنيا.
وأعني بها الفضائل التي خصه الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) بها من مثل تبيان منزلته أو إعلامه بأمور مستقبلية، والإمام عليه السلام يرويها عنه على لسانه (صلی الله علیه و آله و سلم) وأكثرها تأتي بصيغة الخطاب المباشر باسم علي عليه السلام وهي صيغة تكاد تتفق على أسلوبها اغلب كتب الحديث النبوي في فضائل علي عليه السلام (4).
من ذلك ما ذكره الإمام في إحدى أقواله:
(لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِنِ بِسَيْفِي هَذَا عَلَى أَنْ يُبْغِضَنِي مَا أَبْغَضَنِي، وَ لَوْ صَبَبْتُ الدُّنْيَا بِجَمَّاتِهَا عَلَى الْمُنَافِقِ عَلَى أَنْ يُحِبَّنِي مَا أَحَبَّنِي؛ وَ ذَلِكَ أَنَّهُ2.
ص: 154
قُضِيَ، فَانْقَضَى عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ (صلی الله علیه وآله) أَنَّهُ قَالَ: "يَا عَلِيُّ لَا يُبْغِضُكَ مُؤْمِنٌ وَ لَا يُحِبُّكَ مُنَافِقٌ). (1)
وقد علق على هذا ابن أبي الحديد من جهة اعتقاده الاعتزالي فقال: (وهي كلمة حق، وذلك لأن الإيمان وبغضه عليه السلام لا يجتمعان، لأن بغضه كبيرة، وصاحب الكبيرة عندنا لا يسمى مؤمنا، وأما المنافق فهو الذي يظهر الإيمان ويبطن الكفر، والكافر بعقيدته لا يجب عليا عليه السلام لأن المراد من الخبر، ومن لا يعتقد الإسلام لا يحب أحدا من أهل الإسلام، لإسلامه وجهاده في الدين فقد بان أن الكلمة حق) (2). وقد ذكرت هذا الحديث كتب الأحاديث والتفسير (3).
وفي مقام آخر من ذكر التصريح باسم الإمام علي عليه السلام، جاء في نهج البلاغة أنه قام إلى الإمام عليه السلام رجل فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الفتنة وهل سألت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عنها؟ فقال عليه السلام: (لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ قَوْلَهُ: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ) (4)، عَلِمْتُ أنَّ الْفِتْنَةَ لَا تَنزِلُ بِنَا، وَرَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله و سلم) بَيْنَ أَظْهَرنَا فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا هَذهِ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَخْبَرَكَ اللهُ بِهَا؟ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ إِنَّ أُمَّتِي سَيُفْتَنُونَ بَعْدِي. فَقُلْتُ: يَا رَسُولُ اللهِ، أو لَيْسَ قَدْ قُلْتَ لِي يَوْمَ أَحَدٍ، حَيْثُ اسْتُشْهِدَ مِنَ اسْتُشْهِدَ مِنَ .
ص: 155
الْمُسْلِمِينَ وَ حِيزَتْ عَنِّي الشَّهَادَةُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيَّ، فَقُلْتَ لِي أَبْشِرْ، فَإِنَّ الشَّهَادَةَ مِنْ وَرَائِكَ؟ فَقَالَ لِي إِنَّ ذَلِكَ لَكَذَلِكَ، فَكَيْفَ صَبْرُكَ إِذاً؟ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَيْسَ هَذَا مِنْ مَوَاطِنِ الصَّبْرِ وَ لَكِنْ مِنْ مَوَاطِنِ الْبُشْرَى وَ الشُّكْرِ. وَ قَالَ يَا عَلِيُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَيُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَ يَمُنُّونَ بِدِينِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَ يَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ وَ يَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ وَ يَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْكَاذِبَةِ وَ الْأَهْوَاءِ السَّاهِيَةِ، فَيَسْتَحِلُّونَ الْخَمْرَ بِالنَّبِيذِ وَ السُّحْتَ بِالْهَدِيَّةِ وَ الرِّبَا بِالْبَيْعِ. قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَبِأَيِّ الْمَنَازِلِ أُنْزِلُهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ، أَبِمَنْزِلَةِ رِدَّةٍ أَمْ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ؟ فَقَالَ بِمَنْزِلَةِ فِتْنَةٍ). (1)
وهذا مما أخبر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) به عليا عليه السلام مما سيجري عليه من فتن من بعده (2)
وجاء التصريح لأنه في معرض الخطاب من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في ذكر ما خصه الله تعالى من فضائل وكثيرا ما يكون ذلك صادرا من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) باسم الإمام الصريح.
والوصية تقتضي التصريح لما تحمل من معاني الوضوح التي يتوخاها الموصي تجنبا للاحتمالات التي قد ترد في الكنايات.
نحو وصية الإمام عليه السلام في قوله: (وَ إِنَّ لِابْنَيْ فَاطِمَةَ مِنْ صَدَقَةِ عَلِيٍّ9.
ص: 156
مِثْلَ الَّذِي لِبَنِي عَلِيٍّ وَ إِنِّي إِنَّمَا جَعَلْتُ الْقِيَامَ بِذَلِكَ إِلَى ابْنَيْ فَاطِمَةَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ قُرْبَةً إِلَى رَسُولِ اللَّهِ وَ تَكْرِيماً لِحُرْمَتِهِ وَ تَشْرِيفاً لِوُصْلَتِهِ ...). (1)
وفي هذه الوصية فوض الإمام عليه السلام ولده الحسن ومن بعده الحسين ولاية صدقات أمواله وساوى الإمام بحصتهما من الصدقات مع سائر أولاده (وإنما قال ذلك لأنه قد يتوهم متوهم أنهما لكونهما قد فوض إليهما النظر في هذه الصدقات، قد منعا أن يسهما فيها بشيء، وأن الصدقات إنما يتناولها غيرهما من بني علي ممن لا ولاية له مع وجودهما) (2).
وبين الإمام عليه السلام السبب في أن خصهما بالولاية فقال:
(وإني إنما جعلت القيام بذلك إلى ابني فاطمة ابتغاء وجه الله وقربة إلى رسول الله، و تكريما لحرمته ...) (3).
و في هذا (رمز وإزراء بمن صرف الأمر عن أهل بيت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، مع وجود من يصلح للأمر، وكان الأليق بالمسلمين والأولى أن يجعلوا الرئاسة بعده لأهله قربة إلى رسول الله) (4).
ومن المعلوم أن الوصية تقتضي التصريح بالاسم لخطورتها في نفوس السامعين ولأن في الكناية معاني ثانوية قد يتخذها مطية للشبهات من يريد التلبيس على نفسه أو على الآخرين، أقول لأن فيها كل ذلك يؤثر الموصي .
ص: 157
التصريح بالاسم بدلا من التكنية مثلما فعل أمير المؤمنين في وصيته.
وقد يورد الإمام عليه السلام اسمه صريحا على لسان الخصوم بغية الحجاج ودحض كلامهم مثل قوله:
(وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّكُمْ تَقُولُونَ عَلِيٌّ يَكْذِبُ! قَاتَلَكُمُ اللَّهُ تَعَالَى، فَعَلَى مَنْ أَكْذِبُ؟ أَعَلَى اللَّهِ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ، أَمْ عَلَى نَبِيِّهِ؟ فَأَنَا أَوَّلُ مَنْ صَدَّقَهُ!). (1)
و سبب ذلك التكذيب أن الإمام عليه السلام كان (كثيرا ما يخبرهم بما لا يعرفون ويعلمهم ما لم يكونوا يعلمون، فيقول المنافقون من أصحابه إنه يكذب كما يقولون مثل ذلك للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) فيرد عليهم قولهم بأنه أول من آمن بالله وصدق برسوله، فكيف يجتريء على الكذب على الله أو على رسوله مع قوة إيمانه وكمال يقينه ولا يجتمع كذب وإيمان صحيح) (2).
فلأن هؤلاء المتقولين على الإمام في معرض الافتراء والإساءة إليه حكى في تصريحه باسمه عما انطوت عليه نفوسهم من تعد على مقامه، إذ لا يصح في سياق الكلام - وهم يرمونه بالكذب أن يأتي اسمه بالكناية كأن يقولوا: أبو
الحسن أو أمير المؤمنين وغيرها.
وقع اسم الإمام (عليه السلام) مصرحا به في موضع واحد في ساحة .
ص: 158
الحرب، وذلك في قوله من خطبة له: (وَ فِرُّوا إِلَى اللَّهِ مِنَ اللَّهِ، وَ امْضُوا فِي الَّذِي نَهَجَهُ لَكُمْ وَ قُومُوا بِمَا عَصَبَهُ بِكُمْ، فَعَلِيٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِكُمْ آجِلًا إِنْ لَمْ تُمْنَحُوهُ عَاجِلًا.). (1)
وذكر التصريح هنا لإرادة الوضوح، لأن الضامن لابد له من إبانة وكشف لا يحتمل معه أكثر من معنى ثان، ولأن اسم (علي) عليه السلام على وجه الخصوص في هذا المقام يحمل دلالات كثيرة يعيد إلى الأذهان ما خاطبه به النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من احاديث تبين وقوفه إلى جانب الحق مثل قوله صلى الله عليه وآله:
(علي مع الحق والحق معه) (2)، و(اللهم أدر الحق معه حيث دار) (3).
ولذلك يذكر الإمام اسمه صريحا للتذكير واستعادة ارتباطات ذهنية لدى السامع بغية التأثير فيه. م
ص: 159
أسلوبه في الكناية
تتعدد صيغ التعبير الكنائي عن اسم الإمام علي عليه السلام في ظاهرة أسلوبية فريدة، اقتضاها السياق، واستوجبها المعنى، وسنوردها بحسب كثرة استعمالها في نهج البلاغة على ما يأتي:
استعمل الإمام هذه الكناية في معاني الشدة والحرب وأوحى بها للتعظيم وعلو القدر قاصدا بها انتسابه إلى تلك المعاني وأصالة أرومته فيها، فأبو طالب شيخ الأباطح وعظيم قريش الذي لا ينازع في الزعامة والسيادة والشجاعة (1).
وتعد هذه الكناية من أكثر الصيغ إيرادا في نهج البلاغة فقد جاءت في سبعة مواضع مختلفة (2) من كلام الإمام علي كلها تصب في سياق الشجاعة والتعظيم.
منها قوله في ساحة الحرب:
(وَ الَّذِي نَفْسُ ابْن أَبي طَالِبٍ بَيَدِهِ، لَألْفُ ضَرْبَةٍ بِالسَّيْفِ أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ مِيتَةٍ عَلَى الْفِرَاش فِي غَيْر طَاعَةِ اللَّهِ) (3). 1.
ص: 160
وقوله: (وَ اللَّهِ لَابْنُ أَبِي طَالِبٍ آنسُ بِالْمَوْتِ، مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ) (1).
ويعني بذلك الموت في سبيل الله في ساحات الجهاد ونيل شرف الشهادة التي عبر عنها ساعة ضرب في مسجد الكوفة واستشهد على إثرها:
(فزت و رب الكعبة) (2).
وقسم الإمام عليه السلام في قوله الأول قسم إسلامي جديد، وهو من الابتكارات التركيبية التي جاء بها الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) (3) من قبل واستعملها الإمام والناس من بعده.
وقال الإمام عليه السلام في معنى آخر:
(وَ ايْمُ اللهِ، إلى لَأَظُنُّ بِكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى، وَاسْتَحَرَّ الْمَوْتُ، قَدِ الفَرَجتُمْ عَنِ ابْنِ أبي طَالِب انْفِرَاجَ الرَّأْس) (4)، أي انفراجا لا التئام بعده تعريضا بجبنهم و فرارهم.
وقوله (لأظن) بمعنى العلم، ويؤكد ذلك السياق في قوة التأكيد بلام القسم فيها واستعمال (قد) التحقيقية والفعل المزيد (انفرجتم)، واشتقاق المصدر منه (انفراج) على سبيل التشبيه البليغ.1.
ص: 161
ويشير أسلوب الإمام عليه السلام في توخي استعمال التشبيه البليغ (انفرجتم انفراج) إلى غلواء العاطفة عنده وصدقها بخاصة في خطب الحرب (1).
وفي موضع آخر يعيد الإمام هذه الصورة بالأسلوب ذاته ولكن بتعريض أشد في قوله:
(وَ اللَّهِ لَكَأَنِّي بِكُمْ فِيمَا إِخَالُكُمْ أَنْ لَوْ حَمِسَ الْوَغَى وَ حَمِيَ الضِّرَابُ، قَدِ انْفَرَجْتُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ انْفِرَاجَ الْمَرْأَةِ عَنْ قُبُلِهَا) (2).
فذكر انفراج المرأة هنا عن قبلها قصد به الإهانة ودناءة من يقترف هذا العمل في الفرار من ساحة الحرب وساعة الشدة، التي كنى عن اشتدادها ب_ (حمس الوغى وحمي الضراب).
ويحرص الإمام عليه السلام في استعمال هذه الكناية بمعاني الشجاعة والتعظيم حتى في حكاية القول عن الآخرين، فمن خطبة له لائما:
(قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً وَ شَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً وَ جَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً وَ أَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَ الْخِذْلَانِ، حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ ابْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَ لَكِنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ. لِلَّهِ أَبُوهُمْ! وَ هَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً وَ أَقْدَمُ فِيهَا مَقَاماً مِنِّي؟!) (3).
فمقتضى الحال في اقتران هذه التكنية بألفاظ الحرب والشجاعة مناسب 1
ص: 162
تماما في قول القائلين بذلك، بينما في حكاية قول آخر عن أعدائه صرح باسمه كما مر في قوله: (تقولون علي يكذب ...) لأن السياق هناك يقتضي التصريح وهنا يستوجب التكنية كما بينا.
و مثله قوله عليه السلام: (وَ كَأَنِّي بِقَائِلِكُمْ يَقُولُ إِذَا كَانَ هَذَا قُوتُ ابْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَدْ قَعَدَ بِهِ الضَّعْفُ عَنْ قِتَالِ الْأَقْرَانِ وَ مُنَازَلَةِ الشُّجْعَانِ ...) (1)
وقعت التكنية بأمير المؤمنين على لسانه عليه السلام في موضعين من نهج البلاغة، مستثنيا الرسائل التي تبدأ بالكناية بالإمارة، لأن ذلك أسلوب ظاهر سبق إليه من غيره.
(یا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لَا أُلْفِيَنَّكُمْ تَخُوضُونَ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ خَوْضاً، تَقُولُونَ قُتِلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ) (2)
كنى الإمام عليه السلام عن اسمه بأمير المؤمنين لأنه في معرض الوصية ليلة مقتله، وإنما كنى بهذا لأنه أراد إبطال نية من يروم الإيغال بدماء المسلمين محتجا بكونه أميرا للمؤمنين، وكأنه يشير إلى تجربة سابقة هدرت فيها الدماء على أساس الفكرة الباطلة ذاتها حينما اتخذ معاوية وأتباعه من قميص عثمان والطلب بثأره سببا لإشعال الفتنة بين المسلمين لذلك قطع الطريق على الذين 2.
ص: 163
ينوون التزيد على دمائه في تحقيق طموحات ضيقة لا تتوافق ومبادئ علي عليه السلام التي آمن بها.
والموضع الثاني من هذه الكناية في قوله من رسالة إلى أحد عماله مذكرا إياه بالزهد و تحمل مسؤولية قيادة المجتمع:
(أَ أَقْنَعُ مِنْ نَفْسِي بِأَنْ يُقَالَ هَذَا أَمِيرُالْمُؤْمِنِينَ وَ لَا أُشَارِكُهُمْ فِي مَكَارِهِ الدَّهْرِ، أَوْ أَكُونَ أُسْوَةً لَهُمْ فِي جُشُوبَةِ الْعَيْشِ) (1)
فهو إنما كنى بهذا إيحاء بأنه المسؤول الأول الذي يحمل على عاتقه هموم الرعية ومواساة فقرائها. وقوله (يقال لي أمير المؤمنين) إشعار بأنه هذا الشعار تكليف ينبغي أداؤه على أتم مراد وأسد منهاج وليس منصبا يثير في النفس الشعور بالزهو والاستطالة على الناس. ولذا أبان بإطناب عن هذه الكناية مفندا من يدعيها لأجل الزعامة فحسب.
وهي تكشف عن عظمة ما انطوت عليه ذات علي من سمو في القدرة على الإحساس بالآخرين ومشاركتهم معاناتهم.
وقعت هذه الكناية في موضع واحد قصد بها الإمام التعظيم وإعلاء الشأن، وهي صيغة ثانية لكنايته التي يكثر منها (ابن أبي طالب) في المعنى ذاته،
فمن رسالة جوابية إلى أخيه عقيل قال الإمام: 2.
ص: 164
(وَلَا تَحْسَبَنَّ ابْنَ أَبيكَ، وَلَوْ أَسْلَمَهُ النَّاسُ مُتَضَرِّعاً مُتَخَشِّعاً، وَلَا مُقِرّاً لِلظَّيْم وَاهِناً، وَلَا سَلِسَ الزَّمَامِ لِلْقَائِدِ، وَ لَا وَطِيءَ الظُّهْرِ لِلرَّاكِبِ الْمُتَقَعِّد) (1).
وفي الكلام جملة من الكنايات التي ينفي بها الإمام صفة الضعف عن نفسه مثل (سلس الزمام) و (وطيء الظهر) فكلها كنايات عن الانقياد و الذل والراكب المقتعد يعني به راكب البعير أي الذي اتخذه مقعدا (2).
وإنما كني الإمام عليه السلام هنا بهذا لأن السياق في ذكر الثبات والشجاعة والبطولة وذكر (الأب) هنا مطابق تماما لتلك المعاني، بينا ذكر (الأم) في المقابل مطابق لمعاني الاستعطاف والترقيق كما ورد في قوله تعالى على لسان هارون: (قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) (3).
وردت هذه الكناية في موضع واحد من نهج البلاغة، قصد الإمام عليه السلام من ورائها التهديد والوعيد وذلك في رسالة إلى معاوية جاء فيها:
(فَأَنا أَبُو حَسَنٍ، قَاتِلُ جَدِّكَ وَ أَخِيكَ وَ خَالِكَ شَدْحاً يَوْمَ بَدْرٍ، وَذَلِكَ السَّيْفُ مَعِي، وَيدَلِكَ الْقَلْبِ أَلْقَى عَدُوِّي) (4)، فلم يشأ التصريح باسمه بل .
ص: 165
ابتغى من هذه الكناية التي شهر بها إنزال الرعب في قلب معاوية لما تحمل من دلالات التعريف بهذه الشخصية العظيمة.
ولم يكن الإمام معروفا بهذه التكنية يوم قتل عتبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة وحنظلة بن أبي سفيان وهم جد معاوية وخاله وأخوه على الترتيب بل أراد الإيحاء بالحاضر لذلك أشار بأن سيفه لا يزال هو هو وبثبات القلب ذاته الذي أردی به جده وخاله وأخاه عازم على أن يلقى به عدوه، وكنى عن اسم معاوية بعدوي للاختصاص من أجل المبالغة في التهديد وبث الرعب.
وقوله (شدخا) تعريض بالغ بهم، لأن الشدخ هو كسر الشيء الأجوف كالراس ونحوه (1).
كنى الإمام عليه السلام عن اسمه بهذه الكناية في موضع واحد من نهج البلاغة، وذلك في قوله لعبد الله بن عباس لما أنفذه إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعته:
(لَا تَلْقَيَنَّ طَلْحَةَ، فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالنُّورِ عَاقِصاً قَرْنَهُ، يَرْكَبُ الصَّعْبَ وَيَقُولُ هُوَ الدَّلُولُ، وَلَكِنِ الْقَ الزُّبَيْرَ فَإِنَّهُ أَلْيَنُ عَرِيكَةً، فَقُلْ لَهُ: يَقُولُ لَكَ ابْنُ خالِكَ، عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ، فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا) (2). .
ص: 166
وفي هذا الكلام كنايات كثيرة، فقوله (عاقصا قرنه) بمعنى عطف قرنه على أذنه، وقوله (يركب الصعب ...) بمعنى يستهين بالمستصعب من الأمور، وأراد من كل ذلك وصفه بالعناد وشراسة الخلق وادعاء الفخر (وكذلك كان طلحة). (1)
وقوله (لين العريكة) بمعنى سلس الطبيعة.
ومحل الشاهد في قوله: (ابن خالك) فقد قصد من هذه الكناية الاستمالة من خلال إذكاره بالنسب والرحم (ألا ترى أن له في القلب من الموقع الداعي إلى الانقياد ما ليس في لقوله: يقول لك أمير المؤمنين) (2).
ومثل هذا الأسلوب ورد من قبل في القرآن الكريم، قال تعالى في ذكر
موسى وهارون عليهما السلام:
(وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ ۚ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (3)، على سبيل استعطاف قلب أخيه وإفراغه من غضبه (4).
ولاشك في أن ذلك أدعى إلى العطف من أن يقول له على وجه التصريح مثلا باسمه (يا موسى) أو القول بصفة النبوة مثل (يا أيها النبي). .
ص: 167
جاءت هذه الكنايات عن اسم الإمام علي عليه السلام في موضع واحد في نهج البلاغة، ففي رسالة رد بها على معاوية بن أبي سفيان قال:
(وَ أَمَّا قَوْلُكَ إِنَّا بَنُو عَبْدِ مَنَافِ، فَكَذلِكَ نَحْنُ وَ لَكِنْ لَيْسَ أُمَيَّةُ كَهَاشِمٍ، وَلَا حَرْبٌ كَعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَ لَا أَبُو سُفْيَانَ كَأَبِي طَالِب، وَلَا الْمُهَاجِرُ كَالطِّلِيقِ وَلَا الصَّرِيحُ كَاللَّصِيقِ، وَ لَا الْمُحِقُّ كَالْمُبْطِلِ وَ لَا الْمُؤْمِنُ كَالْمُدْغِل) (1).
فألفاظ (المهاجر والصريح والمحق والمؤمن) كنايات استعملها الإمام عن اسمه بينا كنى في مقابلها عن معاوية ب (الطليق واللصيق والمبطل والمدغل).
ولا شك في أن الإمام قصد من وراء كناياته التعريض بخصمه أولا ثم بيان مكانته والتذكير بها ثانيا، لذلك أطال بكناياته في تقابل دلالي بينما لم يقف على السابقين طويلا بأكثر من تقابل صريح لأن غرضه من ذلك الوصول إلى بيان حاله ومقارنتها بحال خصمه.
ومن هنا جعل أمية مقابل هاشم (وكان الترتيب يقتضي أن يجعل هاشما بإزاء عبد شمس لأنه أخوه في قعدد (2)، وكلاهما ولد عبد مناف لصلبه، وأن يكون أمية بإزاء عبد المطلب، وأن يكون حرب بإزاء أبي طالب، وأن يكون أبو سفيان بإزاء أمير المؤمنين عليه السلام، لأن كل واحد من هؤلاء في قعدد د.
ص: 168
صاحبه، إلا أن أمير المؤمنين عليه السلام لما كان في صفين بإزاء معاوية اضطر إلى أن جعل هاشما بإزاء أمية بن عبد شمس) (1).
وإنما لم يصرح الإمام بقوله مثلا (ولا أنا كانت) ترفعا عن أن يقيس نفسه بمعاوية بل قبيح به أن يقولها مع أحد من المسلمين كافة، كما لا يقال السيف أمضى من العصا (2).
وإطناب الإمام عليه السلام في هذه الكنايات بسبب ادعاء معاوية في الرسالة التي بعث بها إليه في أنهما متساويان في المنزلة على أساس أن كلاهما من بني عبد مناف (3)، لذلك حين أقره الإمام فصل في شرف الآباء منهما حتى إذا وصل إلى نفسه معاوية أطال لأجل التعريض.
فقوله (الطليق) كونه من طلقاء النبي يوم فتح مكة، وقوله (اللصيق) كونه مدخول في نسبه أو مشكوك في إيمانه، وقوله (المبطل) بادعائه ما ليس له بأهل من الخلافة وغيرها، وقوله (المدخل) كونه ممن عرف بنفاقه وترصده للإسلام ورموزه (4).
ثمة صيغ تركيبية آثر استعمالها الإمام عليه السلام في تعبيراته بالكناية عن .
ص: 169
نفسه لتحقيق معان لا يتأتى للتصريح الإتيان بها، وهي ترد في معاني التواضع والتطامن أمام قدرة الله تعالى.
نحو قوله في إحدى كتبه إلى معاوية:
(وَلَوْ لَا مَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنْ تَزْكِيَةِ الْمَرْءِ نَفْسَهُ، لَذَكَرَ دَاكِرٌ فَضَائِلَ جَمْةٌ تَعْرِفُهَا قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ، وَ لَا تَمُجْهَا آدَانُ السَّامِعِين). (1)
وقوله الأول أشار به إلى قوله تعالى:
(فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ) (2)
والكناية وقعت في قوله (الذكر ذاكر)، فقد عنى به نفسه هو عليه السلام.
ويشير الإمام عليه السلام بقوله (تعرفها قلوب المؤمنين) إلى كثرة فضائله وشدة ظهورها وبقوله (لا تمجها آذان السامعين) إلى أنسهم بسماعها.
وقد تبيح الضرورات تزكية المرء نفسه حين يقتضي توضيح المبدأ وفضح تلبيس الحق بالباطل وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنه سئل عن تزكية المرء نفسه هل يجوز فقال (نعم إذا اضطر إليه أما سمعت قول يوسف عليه السلام: اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) وقول العبد الصالح أنا لكم ناصح أمين) (3). وقول العبد الصالح يعني به قوله تعالى:.
ص: 170
(أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ). وفي صيغة ثانية كنى عن اسمه بالمعنى ذاته في قوله:
(وَ كَانَ رَسُولُ اللهِ (صلی الله علیه و آله و سلم) إِذَا احْمَرَّ الْبَأْسُ(1) وَ أَحْجَمَ(2) النَّاسُ قَدَّمَ أَهْلَ بَيْتِهِ فَوَقَى بِهِمْ أَصْحَابَهُ حَرَّ السُّيُوفِ الْأَسِنَّةِ وَ السَّيُوفِ فَقُتِلَ عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ يَوْمَ بَدْرٍ وَ قُتِلَ حَمْزَةُ يَوْمَ أُحُدٍ وَ قُتِلَ جَعْفَرٌ يَوْمَ مُؤْتَةَ وَ أَرَادَ مَنْ لَوْ شئْتُ ذَکَرْتُ اسْمَهُ مِثْلَ الَّذی أَرَادُوا مِنَ الشَّهَادَةِ وَ لَکِنَّ آجَالَهُمْ عُجِّلَتْ وَ مَنِیَّتَهُ أُخِّرَتْ) (2).
فقوله: (و أراد من لو شئت ذكرت اسمه) عدول عن ذكر الاسم مجردا إلى صيغة تركيبية جديدة في الحديث عن النفس بصيغة الغائب تعظيما لإقدامه على مجاهدة العدو بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله.
وقوله (احمر البأس) كناية عن اشتداد المعركة حتى تصطبغ الأرض بالدماء. و (أحجم الناس) بمعنى كفوا عن الحرب وهو كناية عن خوف الإقدام.
و خلاصة الأمر بدا أن للإمام عليه السلام أسلوبه في الكناية عن اسمه والتصريح بها، فرضه عليه السياق، وحتمه التركيب. 2
ص: 171
- القرآن الكريم
- الأثر القرآني في نهج البلاغة دراسة في الشكل والمضمون، عباس علي الفحام أطروحة دكتوراه، كلية الآداب - جامعة الكوفة 2008 م.
- الأصفى في تفسير القرآن، الفيض الكاشاني (1091 ه)، تحقيق: محمد حسين درايتي ومحمد رضا نعمتي مطبعة مركز الإعلام الإسلامي، قم، الطبعة الأولى، 1418 ه.
- الإمامة والسياسة ابن قتيبة، عبد الله بن مسلم (ت 276 ه)، تحقيق الدكتور طه محمد الزيني، دار المعرفة - بيروت، بدون تاريخ.
- بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، الشيخ محمد باقر المجلسي (ت 1111 ه)، مؤسسة الوفاء بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1983.
البرهان في علوم القرآن، بدر الدين محمد بن عبد الزركشي (ت 794 ه)، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1957م.
- البيان والتبيين أبو عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 ه)، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، بيروت الطبعة الرابعة 1948م.
- تاج العروس من جواهر القاموس، محمد مرتضى الزبيدي (ت 1205 ه)، دار الفكر - بيروت، 1994 م.
- تاريخ الطبري (تاريخ الرسل و الملوك)، أبو جعفر محمد بن جرير (ت 310 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الخامسة، دار المعارف - مصر، 1987 م.
ص: 172
- التفسير الكبير (أو مفاتيح الغيب)، فخر الدين محمد بن عمر الرازي
(ت 606 ه)، المطبعة البهية - مصر، بدون تاريخ.
- الجامع الصغير في أحاديث البشير النذير، جلال الدين عبد الرحمن بن بكر السيوطي (ت911 ه). دار الفكر، الطبعة الأولى، بيروت. 1981م.
- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، أبو الفضل شهاب الدين محمود الآلوسي (ت 1270 ه). إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، بدون تاریخ.
- خصائص الأئمة، الشريف الرضي (ت 406 ه)، تحقيق: محمد هادي الأميني، نشر مجمع البحوث الإسلامية، إيران، 1406 ه.
- دلائل الأعجاز، عبد القاهر بن عبد الرحمن الجرجاني (ت 471 ه)، تعليق وشرح محمد عبد المنعم الخفاجي، الطبعة الأولى، مطبعة الفجالة الجديدة القاهرة، 1969م.
- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المدائني (ت 656 ه). تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث العربي، القاهرة، 1959 م.
- شرح نهج البلاغة ميثم بن علي بن ميثم البحراني (ت 679 ه). (المصباح شرح الكبير) مطبعة خدمات، الطبعة الثانية، طهران 1404 ه.
- الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب جابر عصفور دار التنوير، الطبعة الثانية بيروت - لبنان 1983م.
- في ظلال نهج البلاغة، محاولة لفهم جديد، محمد جواد مغنية.
ص: 173
- دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، بيروت، 1972 م.
- نهج البلاغة محمد عبده، مطبعة بابل - بغداد 1984 م.
- غريب الحديث، القاسم بن سلام الهروي (ت 224 ه)، تحقيق: محمد عبد المعيد خان، الطبعة الأولى، مطبعة مجلس دائرة المعارف الإسلامية، الهند، 1965 م.
- الفصول المهمة في معرفة الأئمة، علي بن محمد المالكي (ت 855 ه - )، تحقيق: سامي الغريري، دار الحديث - قم، 1422 ه.
- الكاشف عن ألفاظ نهج البلاغة في شروحه جواد المصطفوي الخراساني. بازار سلطاني - طهران، (بدون تاريخ).
- کتاب الرجال، الحسن بن علي بن داوود الحلي (ت 707 ه)، تحقيق: محمد صادق بحر العلوم المطبعة الحيدرية النجف الشرف، 1972 م.
- كتاب الصناعتين، الكتابة والشعر. أبو هلال العسكري (ت 395 ه)، تحقيق علي محمد البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية 1952.
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل أبو القاسم، جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 ه). مطبعة مصطفى البابي الحلبي و أولاده بمصر، 1966 م.
- كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، المتقي الهندي، علاء الدين بن حسام الدين (ت 975 ه)، ضبطه وفسر غريبه: الشيخ بكري حياني، مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان 1989 م.
ص: 174
- لسان العرب جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور المصري (ت 711 ه - ). دار صادر و دار،بیروت لبنان 1379 ه - 1955 م.
- مجمع البيان في تفسير القرآن: الفضل بن الحسين الطبرسي (ت 548 ه - ).
حقق وعلق عليه: لجنة من العلماء والمثقفين مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1415 ه - 1995 م.
- مختصر المعاني سعد الدين التفتازاني (ت 792 ه)، دار الفكر، قم، الطبعة الأولى 1411 ه.
- مسند أحمد أحمد بن حنبل (ت 241 ه - )، دار صادر، بيروت.
- المعارف عبد الله بن مسلم بن قتيبة (ت 276 ه - )، تحقيق: ثروت عكاشة القاهرة، دار المعارف..
- معجم رجال الحديث أبو القاسم الخوئي، الطبعة الخامسة 1992 م.
- مناقب آل أبي طالب محمد بن علي بن شهر آشوب (ت 588 ه - )، مصحح من لجنة من أساتذة النجف الأشرف المطبعة الحيدرية، 1956 م.
- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة حبيب الله الخوئي، طهران، المكتبة الإسلامية، الطبعة الرابعة 1405 ق.
- نهاية الإيجاز في دراسة الإعجاز في علوم البلاغة وبيان إعجاز القرآن الشريف، فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت 606 ه). مطبعة الآداب
- القاهرة 1317 ه.
ص: 175
- نهج البلاغة علي بن أبي طالب عليه السلام (ت 36 ه - )، بجمع الشريف الرضي (ت 406 ه).
تحقيق وشرح: محمد أبو الفضل ابراهيم بيروت - لبنان دار الجيل، الطبعة الثانية 1416 ه.
- وقعة صفين، نصر بن مزاحم المنقري (ت 212 ه - ).
تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، الطبعة الثانية، المؤسسة العربية الحديثة، القاهرة 1382 ه.
- ينابيع المودة لذوي القربى سليمان بن ابراهيم القندوزي (ت 1294 ه - )، تحقيق سيد علي جمال أشرف الحسيني، مطبعة الأسوة، قم، الطبعة الأولى 1416 ه.
ص: 176
فن التقسيم
المقدمة
التمهيد: فن التقسيم
وسائل التقسيم
الأول: التقسيم بالعدد
الثاني: التقسيم بالموضوع
التحذير و الوعظ: المنافقون الشيطان، الدنيا
الوصف: وصف الإسلام
وصف النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، الإمام و أصحابه
الثالث: التقسيم بالزمن
الخاتمة
المصادر
ص: 177
الحمد لله رب العالمين وأتم الصلاة والتسليم على المبعوث رحمة للعالمين محمد الرسول الأمين، وعلى آله الطاهرين وصحبه المنتجبين، وبعد، فما زال البحث العلمي بكرا في كلام الإمام علي (علیه السلام)، على الرغم من كثرة ما كتب فيه وكشف عن خباياه، فجاء هذا البحث من هذا الباب ليستوي عنوانه (فن التقسيم في نهج البلاغة)، متخذا منه سبيلا لإصابة هدفين هما: الأول: محاولة الكشف عن أسلوب الإمام (علیه السلام) في نهج البلاغة في فن التقسيم وأساليبه ووسائله. والثاني: درء الشبهات - من طرف خفي - عن صحة انتساب ما في
نهج البلاغة إلى الإمام علي (علیه السلام).
واشتمل البحث على تمهيد، حاولت فيه أن أعرف بالتقسيم واستعمالاته في التعبير القرآني والكلام النبوي وعلى مجموعة من طرائق الإمام (علیه السلام) في التقسيم اندرجت تحت عنوان (وسائل التقسيم)، وضمت ثلاث وسائل هي على الترتيب بحسب كثرة استعمالها:
الأول: التقسيم بالعدد.
الثاني: التقسيم بالموضوع. الثالث: التقسيم بالزمن
وضم الأول مجموعة من المباحث درست الأعداد الأكثر ورودا في التقسيمات فكانت (الاثنان، والأربعة والثلاثة والخمسة والستة).
أما التقسيم بالموضوع فقد اشتمل على موضوعات التحذير والوعظ
ص: 178
والوصف وموضوع الإمام (علیه السلام) وأصحابه، وكان التقسيم الأخير بالزمن مشتملا على الظروف الماضية والحاضرة والمستقبلة، واستعمالات الإمام فيها.
والبحث كله محاولة جديدة للكشف عن أسلوب جديد في البيان العربي يرتكز على أساس التنظيم الفكري ممزوجا بقالب فني بلاغي رائع، لذلك كانت روعة البحث فيه وصعوبته في آن معا تكمن في جدته، ولكن الذي سهل الطريق هو الإفادة من المصادر المختلفة من البلاغة والتاريخ والتفسير التي لها صلة مباشرة وغير مباشرة بموضوع البحث، الذي أرجو من الله تعالى أن أوفق فيه ليكون إسهامة جديدة في البحوث التي أتطلع فيها لخدمة هذا الأثر الخالد.
ص: 179
فن التقسيم
يعرف التقسيم بأنه (استيفاء المتكلم أقسام الشيء، بحيث لا يغادر شيئا، وهو آلة الحصر ومظنة الإحاطة بالشيء) (1)، ومكانته من الفن القولي لا تخفى (فله موقع في الفصاحة لا يمكن جحده ولا يسع إنكاره) (2).
وسماه الزمخشري التفصيل، قال وهو في معرض تفسيره لقوله تعالى:
(وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ ۖ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ) (3): (ومعنى هذا البدل (فيغفر) التفصيل لجملة (الحساب)، لأن التفصيل أوضح من المفصل) (4).
والتقسيم أسلوب بلاغي صعب المنال، يتطلب خبرة وإجالة عميقة للفكرة، وهو ليس متاحا لكل أحد إلا لأولئك الذين امتلكوا ناصية اللغة، وألموا بخباياها فعرفوا كيف يقودون أزمتها، لأن المتكلم يضع نفسه في زاوية الحصر والتضييق ومن هنا تبدو روعة فنه في القدرة على لملمة الأفكار وحصرها والإحاطة بها من جميع جهاتها.
وجاء التقسيم في القرآن الكريم كثيرا، كلما توخي التفصيل بعد الإجمال .
ص: 180
قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) (1)، فقد قسمت الآية الكريمة العباد إلى ثلاثة أقسام: الظالم لنفسه والمقتصد والسابق بالخيرات، والعباد المكلفون هم كذلك إما عاص ظالم لنفسه أو مطيع مبادر إلى الخير أو مقتصد بينهما (2). ومنه قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) (3)، وليس في رؤية البرق إلا الخوف من الصواعق والطمع في الأمطار، (ولا ثالث لهذين القسمين) (4).
ومن التقسيم بالعدد قوله تعالى: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (5). وهذه الآية مماثلة في المعنى للتي قبلها، وأصحاب المشامة هم الظالمون لأنفسهم وأصحاب الميمنة هم المقتصدون والسابقون هم السابقون بالخيرات (6). واستعمل التعبير القرآني التقسيم الزمني في قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ.
ص: 181
وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) (1)، فاستوفت أقسام الأوقات، من طرفي كل يوم ووسطه باستعمال فنون البلاغة المختلفة كالمقابلة والمطابقة (2).
والتقسيم من أكثر الوان التعبير القرآني إعجازا في الأداء والتفصيل والحصر، ووقع في الكثير من آياته الكريمة (3).
ويبدو أن ميل النفوس إلى التقسيم لأنسها بالانتظام والتبويب الذين هما أساس هذا الفن البياني، واستعماله يشير إلى تنامي الفكر كونه يستدعي نوعا من الروية في حصر الفكرة بفقر منتظمة تستوفي جهاتها كلها ولذلك كان وسيلة أثيرة في التعبير القرآني، لما يمثل القرآن الكريم من تغيير فكري حقيقي في الذهنية العربية.
وبالمستوى ذاته جاء هذا الفن في الحديث النبوي وبتقسيمات مختلفة لم يسمع العرب أسد منها سوى التعبير القرآني، ولا سيما الحصر العددي الذي شاع استعماله على لسان الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) مثل قوله: (أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر) (4). وقوله (صلی الله علیه و آله و سلم): (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر .
ص: 182
كما يكره أن يقذف في النار). (1) وقوله: (صلی الله علیه و آله و سلم): قال آية المنافق ثلاث إذ حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا ائتمن خان) (2)، وقوله: (القضاة ثلاثة اثنان في النار، وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة. ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار. ورجل جار في الحكم فهو في النار). (3)
وغيرها كثير مما حفظته كتب الحديث النبوي الشريف (4).
وقد تأثر الإمام الأسلوب القرآني في كلامه كله (5)، ولاسيما في أسلوب التقسيم، فأكثر منه كلما استوجبه السياق مثلما تأثر الحديث النبوي في تقسيماته واستيفاءاته العددية، إذ هو ريبب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وحامل علمه.
ومن الغرابة بمكان أن يطعن في صحة نسبة الكلام في نهج البلاغة إلى أمير المؤمنين (علیه السلام) بحجة اشتماله على التقسيم العددي، وكما يقول أحد المشككين معلقا على أسلوب الإمام في قوله: (الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد. والصبر منها على أربع شعب: على الشوق والشفق والزهد والترقب): (أربع دعائم والشك إلى أربع شعب وغير ذلك. فإنّ استعمال الطريقة العددية في الشروح، وتقسيم الفضائل أو الرذائل على أسلوبها، لا نراه في الآداب الجاهلية، بل لا نكاد نعرفه في الأدب الإسلامي إلّا بعد ظهور كتاب كليلة ودمنة المعرّب) (6).0.
ص: 183
وهذا مخالف لما أثبته الأسلوب القرآني و اكد استعماله وأكثر منه الحديث النبوي في تقسيماته الأخلاقية المختلفة كما مر أما الإمام علي (علیه السلام) فغير مستكثر عليه أسلوب الحصر والتقسيم العددي، لما عرف من ملكات لغوية هائلة وتنظيم فكري عجيب، يستطيع به التوليد على الأثر القرآني والنبوي في مجالي الفن والموضوع الشائع فيهما هذا الاستعمال (1).
على أية حال، هذه الشبهات وغيرها التي تثار حول نهج البلاغة لا يسعها الثبات أمام النقد والرد (2).
التقسيم - إذن - استيفاء وحصر و إحاطة، وهو بعد، أسلوب استعمله التعبير القرآني والحديث النبوي كثيرا، وتأثرهما الإمام علي (علیه السلام) في كلامه في نهج البلاغة فأحسن استعماله وأجاد في صحة تقسيماته، كما سيحاول البحث إثبات ذلك.
استعمل الإمام أسلوب التقسيم بكثرة في كلامه، وقد توسل له بوسائل عدة يمكن حصرها على أساس كثرتها على الترتيب الآتي:
كانت الأعداد وسيلة ظاهرة في أسلوب التقسيم في كلام الإمام، وقد.
ص: 184
توزعت الأعداد (إثنان، وأربعة وثلاثة وخمسة وستة) بحسب كثرتها في كلامه بالأسلوب الآتي:
1 - اثنان
تصدرت التثنية قائمة الأعداد التي استعملت في أساليب الحصر والتقسيم إذ وقع مجموع ما ثنى الإمام في نهج البلاغة أكثر من عشرين مرة في مواضع مختلفة من خطبه ورسائله وحكمه.
فمن حكمه المشهورة قوله: (منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب دنيا) (1). و (النهم) بالفتح هو إفراط الشهوة في الطعام، تقول منه: نهمت إلى الطعام بكسر الهاء إنهم فأنا نهم والمنهوم المولع بالشيء. وقد حصر الإمام النهم بنوعين متناقضين هما الجاد في تحصيل العلم والمجتهد في طلب الدنيا وكلاهما لا يشبعان البتة.
قال ابن أبي الحديد عن طلب العلم: (فأما طالب العلم العاشق له، فإنه لا يشبع منه أبدا وكلما استكثر منه زاد عشقه له، وتهالكه عليه. مات أبو عثمان الجاحظ والكتاب على صدره. وكان شيخنا أبو علي رحمه الله في النزع وهو يملي على ابنه أبى هاشم مسائل في علم الكلام وكان القاضي أحمد بن أبي داود (2) يأخذ الكتاب في خفه وهو راكب، فإذا جلس في دار الخليفة اشتغل بالنظر فيه إلى أن يجلس الخليفة، ويدخل إليه. وقيل: ما فارق ابن أبي داود الكتاب قط إلا في .
ص: 185
الخلاء وأعرف إنا في زماننا من مكث نحو خمس سنين لا ينام إلا وقت السحر صيفا وشتاء مكبا على كتاب صنفه، وكانت وسادته التي ينام عليها الكتاب) (1).
وتروى هذه الكلمة للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) (2)، فإن جاءت على لسان علي (علیه السلام)، ف (لا عجب أن يشتبه الكلامان فمستقاهما من قليب ومفرغهما من ذنوب) (3).
ومثل هذه التثنية لفظة (يومان)، نحو قول الإمام: (والدهر يومان يوم لك ويوم عليك، فإذا كان لك فلا تبطر، وإذا كان عليك فاصبر) (4). وهذا معنى مطروق ويبدو أن هذا الضرب من التثنية شائع في المأثور العربي القديم فقد ورد كثيرا، نحو قولهم (الدهر يومان: يوم بلاء، ويوم رخاء والدهر ضربان: حبرة وعبرة والدهر وقتان: وقت سرور، ووقت ثبور) (5).
وتكرر هذا المعنى في موضع آخر فمن كتاب له عليه السلام إلى عبد الله بن العباس: (أما بعد فإنك لست بسابق أجلك ولا مرزوق ما ليس لك. واعلم بأن الدهر يومان يوم لك ويوم عليك). (6)
وثنى لفظة (الرزق) وقسمها في قوله موصيا ولده الحسن: (اعلم يا بني، 2.
ص: 186
أن الرزق رزقان: رزق تطلبه، ورزق يطلبك فإن أنت لم تأته أتاك فلا تحمل هم سنتك على هم يومك، كفاك كل يوم ما فيه). (1)
وفي موضع آخر: (الرزق رزقان: طالب ومطلوب، فمن طلب الدنيا طلبه الموت حتى يخرجه عنها، ومن طلب الآخرة طلبته الدنيا حتى يستوفي رزقه منها) (2).
وجاءت لفظة (عمل) مثناة بأسلوب الحصر والتقسيم في قوله عليه السلام: (شتان ما بين عملين: عمل تذهب لذته وتبقى تبعته، وعمل تذهب مؤونته ويبقى أجره). (3)
واستعمل الإمام التقسيم كثيرا في لفظة (رجل) بأسلوب التثنية، إذ وقعت في ستة مواضع من نهج البلاغة نحو قوله: (الا وإني أقاتل رجلين: رجلا ادعى ما ليس له، وآخر منع الذي عليه) (4)، فقد قسم غريمه الذي استحق قتاله إلى رجل ادعى حقا ليس له نحو أن يخرج على الإمام من يدعي الخلافة لنفسه ورجل منع ما عليه، نحو أن يخرج على الإمام رجل لا يدعي الخلافة، ولكنه يمتنع عن الطاعة فقط.
والخارج على الإمام مدع الخلافة لنفسه ومانع ما عليه في الوقت ذاته، لأنه قد امتنع من الطاعة، فقد دخل في أحد القسمين في الآخر، ومن هنا قدمه
الإمام. .
ص: 187
وقيل إن الإمام في قسمه الأول يشير إلى أصحاب الجمل وفي الثاني إلى معاوية وأصحابه.
وقال الإمام محذرا من المدعين: (إن أبغض الخلائق إلى الله رجلان: رجل وكله الله إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضال عن هدي من كان قبله، مضل لمن اقتدى به في حياته وبعد وفاته، حمال خطايا غيره رهن بخطيئته. ورجل قمش جهلا، موضع في جهال الفتنة عاد في أغباش الفتنة عم بما عقد الهدنة، قد سماه أشباه الناس عالما وليس بعالم بكر فاستكثر من جمع ما قل منه خير مما كثر ...) (2). نفر الإمام ابتداء من الاتصاف بصفات المدعين الذين سيفصل الكلام فيهم وأجمل أبغض الخلق إلى الله في رجلين ربما يبدوان في الظاهر رجلا واحدا إلا أن بينهما فرقا دقيقا هما:
الأول: العالم الذي صرف علمه إلى البدع وضلالة الناس. فهو حمال خطايا
غيره.
الثاني: الجاهل المتشبه بالعالم. سماه الجهلة (أشباه الناس) عالما. وقمش بمعنى جمع، وموضع أي المسرع. والعادي الذي يعدو متخبطا في أغباش (3) أي ظلمات الفتنة على سبيل الاستعارة. والصفات كلها تؤكد التهور والتخبط لهذا الصنف الذي يصفه الإمام (علیه السلام). ش
ص: 188
وقد أعطى الإمام صفات تفصيلية لكل واحد منهما، أغنى شرحها ابن ميثم البحراني عن غيره وليس هنا محل ذكرها (1).
وابن أبي الحديد - وهو شارح عميق النظر في كلام الإمام - فرق بينهما على أساس أن الأول هو الضال في أصول العقائد، كالمشبه و المجبر ونحوهما. والثاني هو المتفقه في فروع الشرعيات وليس بأهل لذلك، كفقهاء السوء. (2)
ولا أظن أن الإمام يعني ذلك الحصر الذي ذهب إليه ابن أبي الحديد، لقصور الناس زمن الإمام من فهم هذه التقسيمات.
ومثل هذه التثنية قوله عليه السلام: (هلك في رجلان محب غال ومبغض
قال) (3)، وقوله: (يهلك في رجلان: محب مفرط وباهت مفتر) (4).
وكلا القولين منقول عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في خطابه لعلي عليه السلام: (إن فيك لخصلتين كانتا في عيسى بن مريم. فقال بعض أصحابه. حتى النبيين شبههم.به قال [ علي]: وما الخصلتان؟ قال: أحبت النصارى عيسى حتى هلكوا فيه، وأبغضته اليهود حتى هلكوا فيه، وأبغضك رجل حتى هلك فيك، وأحبك رجل حتى يهلك فيك) (5).
وقال الإمام موصيا ولده الحسن عليهما السلام: (يا بني، لا تخلفن وراءك 2.
ص: 189
شيئا من الدنيا، فإنك تخلفه لأحد رجلين: إما رجل عمل فيه بطاعة الله فسعد بما شقيت به، وإما رجل عمل فيه بمعصية الله فكنت عونا له على معصيته. وليس أحد هذين حقيقا أن تؤثره على نفسك.) (1).
والإمام في معرض الإيصاء بالزهد، وقسمته هذه المرة مستندة إلى هذا الأساس، وتذييله بالنفي بعد التقسيم برهان على صحته.
واستعمل تثنية (رجلين) في عهده لمالك الأشتر، ينهاه فيه عن الاحتجاب من الرعية فقال (علیه السلام): ( ... وإنما أنت أحد رجلين: إما امرؤ سخت نفسك بالبذل في الحق، ففيم احتجابك من واجب حق تعطيه، أو فعل كريم تسديه، أو مبتلى بالمنع فما أسرع كف الناس عن مسألتك إذا أيسوا من بذلك، مع أن أكثر حاجات الناس إليك مما لا مؤونة فيه عليك من شكاة مظلمة، أو طلب إنصاف في معاملة). (2)
فحصر فعل الاحتجاب بنوعين من الرجال هما: الكريم والبخيل، ثم فصل الكلام في تفسيرهما منكرا (لم تحتجب فإن أكثر الناس يحتجبون كيلا يطلب منهم الرفد! وأنت فإن كنت جوادا سمحا لم يكن لك إلى الحجاب داع وإن كنت ممسكا فسيعلم الناس ذلك منك، فلا يسألك أحد شيئا. ثم قال: على أن أكثر ما يسأل منك ما لا مؤونة عليه في ماله كرد ظلامة أو إنصاف من خصم) (3). 1.
ص: 190
ومن قوله الخالد لمالك الأشتر في الرعية: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق). (1)
فهذا تقسيم عام يشمل الإنسانية كلها، ويتجاوز حدود الطوائف و الأديان، تجعل الناس كلهم مهما كانت ألوانهم و أديانهم تحت مسمى الرعية، و الحاكم مسؤول عن حماية أمنهم و حياتهم. إنها شراكة عادلة أن يتناصف الناس بقسمين الأخوة في الدين والشبه في الإنسانية. وهما أدعى لاحترامهما كما يرى أمير المؤمنين (ع).
2 - الأربعة
وقع العدد (أربعة) في مواضع كثيرة من نهج البلاغة بأسلوب التقسيم، كان فيها الإمام لافتا للسامعين في القدرة على الإجمال والتفصيل بالأسلوب العددي، نحو قوله عليه السلام من خطبة حصر فيها الناس على التصنيف الآتي: والناس على أربعة أصناف: منهم من لا يمنعه الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه وكلالة حده، ونضيض وفره. ومنهم المصلت بسيفه، والمعلن بشره، والمجلب بخيله ورجله قد أشرط نفسه وأوبق دينه لحطام ينتهزه أو مقنب يقوده أو منبر يفرعه. ولبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا، ومما لك عند الله عوضا! ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة، ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا،9.
ص: 191
قد طامن من شخصه، وقارب من خطوه وشمر من ثوبه وزخرف من نفسه للأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية. ومنهم من أبعده عن طلب الملك ضئولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصرته الحال على حاله فتحلى باسم القناعة، وتزين بلباس أهل الزهادة وليس من ذلك في مراح ولا مغدي. وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع، وأراق دموعهم خوف المحشر ...). (1)
قسم الإمام الناس استنادا إلى طلب الزعامة والتسلط على رقاب الناس أربعة أقسام هي:
القسم الأول: طموح إلى الإمارة، ولكن تعجزه قلة المال وضعة النفس عن إدراكها.
القسم الثاني: مستقتل على طلب الزعامة أو على حد تعبير الإمام (يشمر) ولا يعبأ من أجل الاستحواذ عليها أن يفسد في الأرض ويهلك الحرث والنسل، ولذلك ذم الإمام هذا النوع مباشرة بقوله: (و لبئس المتجر أن ترى الدنيا لنفسك ثمنا، ومما لك عند الله عوضا) (2).
القسم الثالث: المراؤون الذين يتخذون الدين مطية نزواتهم وتطلعاتهم وهذا النوع من أخطر أصناف الناس لقدرته على الخداع والتضليل، لذلك أشار الإمام إلى صفاته ورسم صوره بكنايات كثيرة مثل: (قد طامن من شخصه وقارب من خطوه وشمر من ثوبه وزخرف من نفسه للأمانة، واتخذ ستر 6.
ص: 192
الله ذريعة إلى المعصية) وهي صور فاضحة لمدعي الدين في كل عصر وأوان، لأنها صور حية تعيش حتى في عصرنا الحاضر ولطالما أكدها الإمام وحذر منها في مواقف كثيرة فقد أثر عنه قوله لعمار بن ياسر وقد سمعه يراجع المغيرة بن شعبة كلاما: (دعه يا عمار فإنه لم يأخذ من الدين إلا ما قاربته الدنيا، وعلى عمد لبس على نفسه ليجعل الشبهات عاذرا لسقطاته) (1).
القسم الرابع: الكسالى وغير العاملين، الذين ليس لهم موقف واضح في الحياة فلا يطلب الملك ولا يطلب الدنيا بالمراءاة إذ لا مال له أصلا، (بل تنقطع أسبابه كلها فيخلد إلى القناعة ويتحلى بحلية الزهادة في اللذات الدنيوية لا طلبا للدنيا بل عجزا عن الحركة فيها، وليس بزاهد على الحقيقة) (2).
ويبدو أن الإمام حين حصر أقسام الناس بالأصناف الأربعة، أخرج القسم الخامس من هذا التعداد ليفرده بحقل آخر بعيدا عن هذه الأصناف السيئة بقوله: (وبقي رجال غض أبصارهم ذكر المرجع) وهم الأبرار الأتقياء، الذين أراق دموعهم خوف الآخرة، فهو لم يذكرهم من جملة تعداد الناس بلفظ (ومنهم) بل أشار بقوله: (بقي) إلى تفردهم وتميزهم وخروجهم عن الأقسام الأربعة. فكأن هؤلاء لشدة تعلقهم بالآخرة (لا يعرفون عند العامة وإنما يتعرف أحوالهم أمثالهم، فكأنهم في نظر الناس ليسوا بناس) (3)..
ص: 193
ولعل هذه التقسيمات البيانية وغيرها مما عرف به كلام أمير المؤمنين وميزه عن غيره من الكلام العربي هي التي دعت الشريف الرضي إلى نقل تأكيد الجاحظ نسبة هذه الخطبة إلى الإمام علي بقوله: (وهذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية وهي من كلام أمير المؤمنين عليه السلام الذي لا يشك فيه. وأين الذهب من الرغام! وأين العذب من الأجاج! وقد دل على ذلك الدليل الخريت، ونقده الناقد البصير، عمرو بن بحر الجاحظ، فإنه ذكر هذه الخطبة في كتاب البيان والتبيين وذكر من نسبها إلى معاوية. ثم تكلم من بعدها بكلام في معناها، جملته أنه قال: وهذا الكلام بكلام علي عليه السلام أشبه، وبمذهبه في تصنيف الناس وفي الاخبار عما هم عليه من القهر والإذلال، ومن التقية والخوف أليق. قال ومتى وجدنا معاوية في حال من الأحوال يسلك في كلامه مسلك الزهاد، ومذاهب العباد) (1).
وفي تقسيم آخر بالعدد أربعة، قال الإمام من خطبة حذر فيها من أحاديث البدع والكذب: (وقد كذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) على عهده حتى قام خطيبا فقال: من كذب على متعمدا فليتبوأ مقعده من النار. وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس: رجل منافق مظهر للإيمان متصنع بالإسلام، لا يتأثم ولا يتحرج، يكذب على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، متعمدا، فلو علم الناس انه منافق كاذب لم يقبلوا منه ولم يصدقوا قوله، ولكنهم قالوا صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و سمع منه، ولقف عنه، فيأخذون بقوله. وقد أخبرك الله المنافقين بما أخبرك، ووصفهم بما وصفهم به لك، ثم بقوا بعده، فتقربوا إلى أئمة 2.
ص: 194
الضلالة والدعاة إلى النار بالزور والبهتان فولوهم الأعمال، وجعلوهم حكاما على رقاب الناس فأكلوا بهم الدنيا، وإنما الناس مع الملوك والدنيا إلا من عصم الله. فهذا أحد الأربعة. ورجل سمع من رسول الله شيئا لم يحفظه على وجهه، فوهم فيه، ولم يتعمد كذبا، فهو في يديه ويرويه ويعمل به، ويقول: أنا سمعته من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فلو علم المسلمون أنه وهم فيه لم يقبلوه منه، ولو علم هو أنه كذلك لرفضه. ورجل ثالث سمع من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، شيئا يأمر به، ثم إنه نهى عنه وهو لا يعلم، أو سمعه ينهى عن شئ ثم أمر به وهو لا يعلم، فحفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ فلو علم أنه منسوخ لرفضه، ولو علم المسلمون - إذ سمعوه منه - انه منسوخ لرفضوه. وآخر رابع لم يكذب على الله، ولا على رسوله مبغض للكذب خوفا من الله وتعظيما لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، ولم يهم، بل حفظ ما سمع على وجهه، فجاء به على سمعه لم يزد فيه ولم ينقص منه، فهو حفظ الناسخ فعمل به وحفظ المنسوخ فجنب عنه، وعرف الخاص والعام والمحكم والمتشابه، فوضع كل شئ موضعه. وقد كان يكون من رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الكلام له وجهان فكلام خاص وكلام عام، فيسمعه من لا يعرف ما عنى الله سبحانه به ولا ما عنى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم)، فيحمله السامع ويوجهه على غير معرفة بمعناه وما قصد به وما خرج من اجله. وليس كل أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) من كان يسأله ويستفهمه حتى إن كانوا ليحبون أن يجى الأعرابي والطارئ فيسأله عليه السلام، حتى يسمعوا، وكان لا يمر بي من ذلك شئ إلا سألته عنه وحفظته.) (1) 2.
ص: 195
حصر الإمام مصادر الحديث عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بأربعة أقسام، صنفها على النحو الآتي:
الأول: المنافق الذي يقلب الحديث النبوي لأهوائه ومصالحه. وقد كان للمنافقين أثر سيء في تشويه السنة النبوية منذ عصر الإمام وإشارته في كلامه هذا إلى فداحة ما تعرضت له السنة النبوية إلى يوم الناس هذا وما نعاني منه (فإنه خالط الحديث كذب كثير صدر عن قوم غير صحيحي العقيدة، قصدوا به الإضلال وتخبيط القلوب والعقائد وقصد به بعضهم التنويه بذكر قوم كان لهم في التنويه بذكرهم غرض دنيوي) (1).
وقد فصل الإمام الكلام في هذا القسم تفصيلا مبينا لخطورته (2).
الثاني: الحسن النية، ولكنه غير متثبت من نقله، لأنه يحفظ شيئا ويتوهم آخر.
الثالث: حسن النية أيضا، ولكنه غير متابع لكلام النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، فعمل بالمنسوخ وفاته الناسخ.
الرابع: وهم الملازمون للنبي (صلی الله علیه و آله و سلم)، الذين يحفظون كلامه، لا يزيدون فيه ولا ينقصون ويعلمون ناسخه و منسوخه، وخاصه وعامه. .
ص: 196
والإمام أكد نفسه ضمن هذه الفئة الرابعة، معللا ذلك بصفات الملازمة وكثرة الاستفهام من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بقصد المعرفة العلمية التي تدل عن تقليب المسألة في الذهن والانشغال بهم الجواب والحل لا بالعرض الطاريء، ثم الحفظ للإجابة الصادرة عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم).
قال ابن أبي الحديد: (واعلم أن أمير المؤمنين عليه السلام كان مخصوصا من دون الصحابة رضوان الله عليهم بخلوات كان يخلو بها مع رسول الله صلى الله عليه وآله، لا يطلع أحد من الناس على ما يدور بينهما، وكان كثير السؤال للنبي صلى الله عليه وآله عن معاني القرآن وعن معاني كلامه صلى الله عليه وآله، وإذا لم يسال ابتدأه النبي صلى الله عليه وآله بالتعليم والتثقيف، ولم يكن أحد من أصحاب النبي أصحاب النبي صلى الله عليه وآله كذلك، بل كانوا أقساما، فمنهم من يهابه أن يسأله وهم الذين يحبون أن يجى الأعرابي، أو الطارئ فيسأله، وهم يسمعون، ومنهم من كان بليدا بعيد الفهم قليل الهمة في النظر والبحث، ومنهم من كان مشغولا عن طلب العلم وفهم المعاني، أما بعبادة أو دنيا، ومنهم المقلد يرى أن فرضه السكوت وترك السؤال، ومنهم المبغض الشانئ الذي ليس للدين عنده من الموقع ما يضيع وقته وزمانه بالسؤال عن دقائقه وغوامضه، وانضاف إلى الأمر الخاص بعلي عليه السلام ذكاؤه وفطنته وطهارة طينته وإشراق نفسه وضوئها. وإذا كان المحل قابلا متهيئا، كان الفاعل المؤثر موجودا، والموانع مرتفعة، حصل الأثر على أتم ما يمكن، فلذلك كان علي عليه السلام - كما قال الحسن - البصري: رباني هذه الأمة وذا فضلها، ولذا تسميه الفلاسفة إمام الأئمة وحكيم العرب) (1).
ص: 197
هي - إذن - عملية مدارسة وفهم وحفظ. وبهذا النحو يرى الإمام النقل الصحيح للسنة النبوية الشريفة، وقطع الطريق على المدلسين و المتصيدين في عكر المياه.
وفي تقسيمات رباعية أخر تنم عن انصهار ذاته في القرآن الكريم قال عليه السلام: (من أعطي أربعاً لم يحرم أربعا: من أعطي الدعاء لم يحرم الإجابة، ومن أعطي التوبة لم يحرم القبول ومن أعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة، ومن أعطي الشكر لم يحرم الزيادة) (1).
وتقسيمات الإمام مبنية على تمثيل عميق للقرآن الكريم، وفي قدرة مميزة على استحضار النص القرآني الذي ملأ تعبيرات الإمام في نهج البلاغة (2)، وقد تنبه إلى ذلك الشريف الرضي في تعليقه على كلام الإمام الذي يرى بعض الشارحين لنهج البلاغة أنه من أصل المتن - فقال: (وتصديق ذلك كتاب الله تعالى قال الله عز وجل في الدعاء: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (3)، وقال في الاستغفار: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) (4)، وقال في الشكر: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ) (5)، وقال في التوبة: (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى 7.
ص: 198
اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَٰئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.) (1))
ومثل هذه التقسيمات التفسيرية ما (روي أنه ذكر عند عمر بن الخطاب في أيامه حلي الكعبة وكثرته، فقال قوم لو أخذته فجهزت به جيوش المسلمين كان أعظم للأجر، وما تصنع الكعبة بالحلي؟ فهم عمر بذلك، وسأل أمير المؤمنين عليه السلام. فقال عليه السلام: (إن القرآن أنزل على النبي صلى الله عليه وآله والأموال أربعة: أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض والفئ فقسمه على مستحقيه والخمس فوضعه الله حيث وضعه والصدقات فجعلها الله حيث جعلها. وكان حلي الكعبة فيها يومئذ، فتركه الله على حاله ولم يتركه نسيانا، ولم يخف عليه مكانا فأقره حيث أقره الله ورسوله. فقال له عمر: لولاك لافتضحنا، وترك الحلي بحاله) (2).
فقد قسم الإمام الأموال من جهة التصرف بها إلى أربعة أقسام هي:
الأول: الأموال الموروثة.
الثاني: الفيء.
الثالث: الخمس.
الرابع الصدقات. .
ص: 199
وجعل حلي الكعبة خارجا من قسمة الأموال وخاصا بالكعبة ذاتها. (1)
ومن فرائد التقسيم الرباعي ما كتب الإمام علي (علیه السلام) لشريح بن الحارث (2) حين بلغه أن اشترى دارا بثمانين دينارا، فاستدعاه، وقال له: (بلغني أنك ابتعت دارا بثمانين دينارا و كتبت كتابا وأشهدت فيه شهودا، فقال شريح: قد كان ذلك يا أمير المؤمنين. قال فنظر إليه نظر مغضب ثم قال له: يا شريح أما إنه سيأتيك من لا ينظر في كتابك ولا يسألك عن بينتك حتى يخرجك منها شاخصا، ويسلمك إلى قبرك خالصا. فانظر يا شريح لا تكون ابتعت هذه الدار
من غير مالك، أو نقدت الثمن من غير حلالك فإذا أنت قد خسرت دار الدنيا و دار الآخرة. أما إنك لو أتيتني عند شرائك ما اشتريت لكتبت لك كتابا على هذه النسخة فلم ترغب في شراء هذه الدار بدرهم فما فوق. والنسخة: (هذا ما اشترى عبد ذليل من عبد قد أزعج للرحيل، اشترى منه دارا من دار الغرور من جانب الفانين وخطة الهالكين، ويجمع هذه الدار حدود أربعة: الحد الأول ينتهي إلى دواعي الآفات والحد الثاني ينتهي إلى دواعي المصيبات، والحد الثالث ينتهي إلى الهوى المردي، والحد الرابع ينتهي إلى الشيطان المغوي، وفيه يشرع باب هذه الدار) (3).
جاء تقسيم الدار رباعيا استنادا إلى جهات المساحة الأربعة المعروفة في 2.
ص: 200
كتب الشروط والأملاك، والمعمول بها حتى وقت قريب من عصرنا هذا وصيغتها هذا ما اشترى فلان من فلان اشترى منه دارا من شارع كذا وخطه كذا، ولا ويجمع هذه الدار حدود أربعة فحد منها ينتهى إلى دار فلان وحد آخر ينتهى إلى ملك فلان وحد آخر ينتهى إلى ما كان يعرف بفلان وهو الان معروف بفلان وحد آخر ينتهى إلى كذا. ومنه شروع باب هذه الدار وطريقها: (اشترى هذا المشترى المذكور من البائع المذكور جميع الدار المذكورة بثمن مبلغه كذا وكذا دينارا، أو درهما، فما أدرك المشترى المذكور من درك فمرجوع به على من يوجب الشرع الرجوع به عليه). ثم تكتب الشهود في آخر الكتاب. شهد فلان ابن فلان بذلك، وشهد فلان ابن فلان به أيضا) (1).
ولكن الإمام حول الكتاب من عقد شراء دار إلى كتاب وعظي زهدي، إنكارا لغلاء ثمنها وتخويفا من أن يكون ابتاعها بمال حرام، ناقلا صيغة الشرط الفقهي إلى معنى آخر جديد لم يسبق لأحد أن صاغه على هذا النحو الذي نظمه أمير المؤمنين (ولا غرو فما زال سباقا إلى العجائب والغرائب) (2).
ومن طريف التقسيم هذا أن جعل الإمام الحد الرابع لهذه الدار ينتهي إلى (الشيطان المغوي) (ليقول: (وفيه يشرع باب هذه الدار))، لأنه إذا كان الحد إليه ينتهى كان أسهل لدخوله إليها، ودخوله أتباعه وأوليائه من أهل الشيطنة
والضلال) (3).
ص: 201
ومن حكم الإمام ذات التقسيم الرباعي قوله، وقد سئل عن الإيمان: (الإيمان على أربع دعائم: على الصبر واليقين والعدل والجهاد. والصبر منها على أربع شعب: على الشوق والشفق والزهد والترقب. فمن اشتاق إلى الجنة سلا عن الشهوات ومن أشفق من النار اجتنب المحرمات، ومن زهد في الدنيا استهان بالمصيبات، ومن ارتقب الموت سارع إلى الخيرات. واليقين منها على أربع شعب: على تبصرة الفطنة، وتأول الحكمة وموعظة العبرة، وسنة الأولين. فمن تبصر في الفطنة تبينت له الحكمة، ومن تبينت له الحكمة عرف العبرة ومن عرف العبرة فكأنما كان في الأولين. والعدل منها على أربع شعب: على غائص الفهم، وغور العلم وزهرة الحكم، ورساخة الحلم. فمن فهم علم غور العلم ومن علم غور العلم صدر عن شرائع الحكم ومن حلم لم يفرط في أمره وعاش في الناس حميدا. والجهاد منها على أربع شعب: على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصدق في المواطن وشنآن الفاسقين فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين ومن نهى عن المنكر أرغم أنوف المنافقين ومن صدق في المواطن قضى ما عليه ومن شنئ الفاسقين وغضب لله غضب الله له وأرضاه له وأرضاه يوم القيامة) (1).
والإمام استوفى كل قسم من الأقسام الرباعية بشكل مفصل، ولست اشك في أنه أسلوب تأثره الإمام (علیه السلام) من الحديث النبوي الشريف، كما مر في أول الفصل (2) .
ص: 202
3 - ثلاثة
استعمل الإمام العدد (ثلاثة) في ستة مواضع مختلفة بأسلوب الحصر والتقسيم، خمسة منها صرح بلفظ العدد، وواحدة قسم قسمة ثلاثية ولم يصرح.
أما التي لفظ العدد صراحة فهي نحو قوله: (ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب. فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، قال الله تعالى: (إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ)(1) وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند بعض الهنات. وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا). (2) فقد استقصى عواقب الظلم بثلاثة أصناف، وهو إنما وقف على النوع الأول لخطورته مستندا فيه على الآية الكريمة المذكورة.
ويبدو أن روعة التقسيمات عند الإمام هي في قدرتها على حصر الموضوعات الكبيرة، التي يصعب في العادة لملمتها وحصرها على نحو ضيق كأنه مشاهد للعيان، ومن هنا يتضح سر أنس النفس بفن التقسيم كونه يتيح لها عد مالا يتصور عده، أو الإشراف على ما لا يمكن لملمته، نحو قول الإمام وقد حصر الناس بثلاثة أنواع: (الناس ثلاثة: فعالم رباني ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح ...) (3).
فهذا التقسيم الثلاثي صائب تماما إذ لا رابع له (وذلك لأن البشر باعتبار 2.
ص: 203
الأمور الإلهية، إما عالم على الحقيقة يعرف الله تعالى وإما شارع في ذلك فهو بعد في السفر إلى الله، يطلبه بالتعلم والاستفادة من العالم وإما لا ذا ولا ذاك، وهو العامي الساقط الذي لا يعبأ الله) (1).
ولم يمض الإمام في تقسيماته لمجرد عدها بهذه الأصناف بل قيد كل صنف منها بقيد إتماما للمعنى وإثراء للفكرة، فنسب الأول وهو العالم إلى الرب تعالى على غير قياس أي العالم علم ربوبيّته و هو العارف بالله تعالى، وزيدت الألف و النون للمبالغة في النسبة قال الله تعالى: (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ). (2).
وقيل في سبب تسميتهم (الربانيين) (لأنهم يربّون المتعلّمين بصغار العلوم قبل كبارها. و قيل لأنهم يربّون العلم أي يقومون بإصلاحه.) (3).
أما الصنف الثاني فهو المتعلّم وقيده بكونه على سبيل النجاة (ولمّا كان العلم سببا للنجاة في الآخرة، و كان المتعلّم في طريق تحصيله كان على سبيل النجاة، ليصل إليها بالعلم الذي هو غايته المطلوبة) (4).
وأما الصنف الثالث فهو عامة الناس ووصفهم الإمام بست صفات هي (أحدها: استعار لهم لفظ الهمج باعتبار حقارتهم. الثاني: وصفهم بالعامّيّة 2.
ص: 204
والحداثة لكونهما مظنّتى الجهل. الثالث: كونهم أتباع كلّ ناعق ملاحظة لشبههم بالغنم في الغفلة و الغباوة. الرابع: كنّى بكونهم يميلون مع كلّ ريح عن ضعفهم عن التماسك في مذهب واحد والثبات عليه. الخامس: كونهم لم يستضيئوا بنور العلم وهو كونهم على ظلمة الجهل. السادس: و لم يلجئوا إلى ركن وثيق. واستعار الركن الوثيق للاعتقادات الحقّة البرهانيّة التي يعتمد عليها في دفع مكاره الآخرة). (1) ويبدو أن الإمام إنما فصل في النوع الثالث، لكثرته واضطرابه لعدم ثبات المبدأ في نفسه.
ومما يصب في هذا الأسلوب قوله عليه السلام: (أصدقاؤك ثلاثة وأعداؤك ثلاثة، فأصدقاؤك: صديقك، وصديق صديقك، وعدو عدوك. وأعداؤك: عدوك، وعدو صديقك، وصديق عدوك) (2)، فهذا حصر من محص الحياة، وعرك النفوس، فعرف خباياها، فاستشفها حكما بينة.
وفي تقسيم آخر قال الإمام: (لا يكون الصديق صديقا حتى يحفظ أخاه في ثلاث: في نكبته وغيبته ووفاته) (3).
وعلى هذا الأسلوب قوله عليه السلام: (للظالم من الرجال ثلاث علامات: يظلم من فوقه بالمعصية، ومن دونه بالغلبة، ويظاهر القوم الظلمة). (4)2
ص: 205
ومثل قوله عليه السلام: (للمؤمن ثلاث ساعات: فساعة يناجي فيها ربه،
وساعة يرم معاشه، وساعة يخلي بين نفسه وبين لذتها فيما يحل ويجمل. وليس للعاقل أن يكون شاخصا إلا في ثلاث: مرمة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذة في غير محرم). (1)
وقد يعمد الإمام إلى تعرية مناوئيه بأسلوب التقسيم العددي لما يتسبب من حصر للحالة، وكشف للأمر مثل قوله في أمر طلحة الذي خرج عليه في حرب الجمل في البصرة وكان شعاره الطلب بدم الخليفة عثمان بن عفان (2): (والله ما صنع في أمر عثمان واحدة من ثلاث: لئن كان ابن عفان ظالما - كما كان يزعم - لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه، أو ينابذ ناصريه. ولئن كان مظلوما، لقد كان ينبغي له أن يكون من المنهنهين عنه، والمعذرين فيه. ولئن كان في شك من الخصلتين، لقد كان ينبغي له أن يعتزله، ويركد جانبا، ويدع الناس معه، فما فعل واحدة من الثلاث، وجاء بأمر لم يعرف بابه ولم تسلم معاذيره). (3)
ويبدو من أحداث الفتن إبان المدة التي حكم فيها الإمام (32 ه - 36 ه)، أن ثمة شخصيات متقلبة المزاج، استقرار مبادئها مرتبط بتحقيق مصالحها، ومنها شخصية طلحة التي أشار إليها الإمام في كلامه إذ كان من المحرضين الأشداء 1.
ص: 206
على عثمان، ولكن مع حكم الإمام انقلبت الصورة، لذلك كان كلام الإمام (صورة احتجاج عليه و قطع لعذره في الخروج و الطلب بدمه بقياس شرطىّ منفصل) (1).
وحصر الإمام الشأن المتناقض لطلحة بثلاثة أمور هي: (إمّا أن يعلم أنّه كان ظالما، أو يعلم أنّه كان مظلوما، أو يشكّ في الأمرين و يتوقف فيهما. فإن كان الأوّل، فقد كان الواجب عليه أن يساعد قاتليه و يوازرهم وينابد ناصریه لوجوب إنكار المنكر عليه. وهو قد عكس الحال لأنه نابذ قاتليه، وثار في طلب دمه مع ناصريه ممّن توهّم فيه ذلك. وإن كان الثاني، فقد كان يجب عليه أن يكون ممّن يكفّ الناس عنه و يعتذر عنه فيما فعل لوجوب إنكار المنكر أيضا مع أنه ممّن وازر عليه الناس وأظهر أحداثه و عظّمها كما هو المنقول المشهور عنه، وإن كان الثالث فقد كان الواجب عليه أن يعتزله ويسكن عن الخوض في أمره و لم يفعل ذلك بل ثار في طلب دمه. فكان في هذه الأحوال الثلاثة محجوجاً في خروجه و نكثه للبيعة) (2). لذلك كله كانت خلاصته أن جاء بأمر لا يعرف بابه، أي لا تعرف مداخله.
وأورد ابن أبي الحديد إشكالا طريفا فقال: (فإن قلت كيف قال أمير المؤمنين: فما فعل واحدة من الثلاث، وقد فعل واحدة منها، لأنه وازر قاتليه حيث كان محصورا. قلت: مراده أنه إن كان عثمان ظالما وجب أن يؤازر قاتليه 3.
ص: 207
بعد قتله يحامي عنهم و يمنعهم ممن يروم دماءهم، ومعلوم أنه لم يفعل ذلك،
وإنما وازرهم وعثمان حي. وذلك غير داخل في التقسيم) (1).
وهذا التقسيم التفصيلي محرج للغاية وقاطع للعذر.
وأما الاستعمال غير الصريح للعدد (ثلاثة) فهو في قوله من خطبة في نصح أصحابه: (شغل من الجنة والنار أمامه ساع سريع نجا، وطالب بطئ رجا، ومقصر في النار هوى ...) (2). فقد قسم الناس على أساس هممهم إلى
ثلاثة أقسام هي:
الأول: الناجي: وكنى عنه (بالساعي السريع) أي المبادر غير المتواني إلى تنفيذ شرائع الله وأحكامه.
والثاني: الراجي: وكنى عنه (الطالب البطئ)، فهو (له قلب تعمره الخشية وله صلة إلى الطاعة لكن ربما قعد به عن السابقين ميل إلى الراحة فيكتفى من العمل بفرضه وربما انتظر به غير وقته وينال من الرخص حظه وربما كانت له هفوات ولشهوته نزوات على أنه رجاع إلى ربه كثير الندم على ذنبه فذلك الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا فهو يرجو أن يغفر له) (3).
الثالث: الهاوي وهو المقصر، الذي يعرف الحق ويحيد عنه عنادا وتكبرا. 0.
ص: 208
4 - الخمسة
لم يستعمل العدد (خمسة) صراحة في التقسيم، بل جاء بشكل غير مباشر وفي موضع واحد من نهج البلاغة، وذلك من خطبة للإمام خاطب أصحابه في قوله: (يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث واثنتين: صم ذوو أسماع وبكم ذوو كلام، وعمى ذوو أبصار، لا أحرار صدق عند اللقاء، ولا إخوان ثقة عند البلاء). (1)
فقد عد الإمام خمس خصال ابتلي بها من أهل الكوفة جمعها بقوله ثلاث واثنتين، ولم يقل خمسا وبرر ابن أبي الحديد ذلك، (لأن الثلاث إيجابية والاثنتين سلبية، فأحب أن يفرق بين الإثبات والنفي) (2).
وربما فرق الإمام، لأن الثلاث التي عدها من جنس مغاير للاثنتين الأخريين، فناسب بين (الصم والبكم والعمي) أن تكون في عد، وبين قوله الأخير بعد آخر.
وفي كلام الإمام توبيخ وتعجب ظاهران بسبب جمعه للصفات الثلاث مع أضدادها، فكانوا كفاقد آلات الصم والبكم والعمي (بل كان فاقدها أحسن حالا منه لأنّ وجودها إذا لم يفد منفعة أكسب مضرّة قد أمنها عادمها، وأمّا الثنتان فكونهم لا أحرار صدق عند اللقاء، أي أنّهم عند اللقاء لا تصدق حريّتهم ولا تبقى نجدتهم من مخالطة الجبن والتخاذل و الفرار إذا الحرّ هو 7.
ص: 209
الخالص من شوب الرذائل و المطاعن، ثمّ كونهم غير أخوان ثقة عند البلاء: أي ليسوا ممّن يوثق باخوّتهم في الابتلاء بالنوازل) (1).
5 - ستة
استعمل العدد (ستة) مرة واحدة في نهج البلاغة حصر فيها الإمام معاني الاستغفار، عندما قائلا قال بحضرته: استغفر الله فقال عليه السلام: (ثكلتك أمك، أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العليين. وهو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى. والثاني العزم على ترك العود إليه أبدا. والثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم، حتى تلقى الله أملس، ليس عليك تبعة. والرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها. والخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان، حتى تلصق الجلد بالعظم، وينشأ بينهما لحم جديد. والسادس أن تذيق الجسم الم الطاعة، كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: أستغفر الله) (2).
فرق الإمام بين المفهوم اللغوي للاستغفار، الذي هو طلب المغفرة، وبين الاستغفار الذي له درجة العليين في شرائطه الستة التي فصل الكلام فيها
و (أطلق لفظ المشروط على الشرط واستعمله فيه) (3).5.
ص: 210
ولفظة (أملس) استعارة، عنى بها نقاء الصحيفة من الآثام، و (عليين) صيغة جمع كضليل تعطي معنى التكثير أي كثير العلو، وهي من قوله تعالى: (كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِليِّينَ). (1) والكلام على تقدير حذف مضاف أي (درجة الاستغفار درجة العليين).
للإمام علي أسلوبه في التفصيل في الموضوعات، فهو يجمل ثم يفصل تارة بالموضوع، وتارة ثانية يقسم الموضوع متدرجا بحسب طبيعته، وغايته في كلا الأسلوبين استيفاء المعنى والإحاطة به الأمر الذي يتيح له ذلك أسلوب التقسيم. وسنقف على الأسلوبين في الموضوعات الآتية:
في نهج البلاغة خطب كثيرة في التحذير من المنافقين، كشف فيها الإمام عن طبائعهم النفسية المريضة، وجلى عن نواياهم الخبيثة، ومنها قوله: (زرعوا الفجور، وسقوه الغرور، وحصدوا الثبور، لا يقاس بآل محمد صلى الله عليه من هذه الأمة أحد ولا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا). (2)
قسم أفعالهم القبيحة وعنادهم على الاستمرار فيها وما ينتج عنها قسمة أحوال النبات: زرع وسقي وحصاد تشبيها لهم بالنبات بأسلوب الاستعارة (لان تماديهم، وما سكنت إليه نفوسهم من الإمهال هو الذي أوجب 1.
ص: 211
استمرارهم على القبائح التي واقعوها، فكان ذلك كما يسقى الزرع ويربي بالماء، ويستحفظ) (1). وكان حصادهم الهلاك وسوء المنقلب.
يذكر أن ابن أبي الحديد جعل كلام الإمام هذا في معاوية، وليس إشارة إلى
المنافقين، كما ذكر الشريف الرضي وقال تأدبا (ولعل الرضي - رحمه الله تعالى - عرف ذلك وكنى عنه) (2).
ومثل ذلك قوله عليه السلام محذرا من خطرات الشياطين: (العمري لقد فوق لكم سهم الوعيد، وأغرق إليكم بالنزع الشديد، ورماكم من مكان قريب) (3).
فقد استقصى الإمام أبعاد صورة الشيطان من جهة قربه من ابن آدم وتمكنه من الإصابة بهذه الأجزاء المتتالية: وضع السهم في القوس وسماه سهم الوعيد إشارة إلى قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (4)، ثم شد نزع الوتر واستوفى مد القوس ليكون السهم أشد وقعا وأكثر فتكا، وفوق ذلك كله كان التسديد قريبا، فلا مناص من الإصابة. والصورة كلها كناية عن الاستعداد الكامل للإغواء (5).
ومن التحذير من الدنيا قوله عليه السلام: (ثم إن الدنيا دار فناء وعناء 6.
ص: 212
وغير وعبر ...) (1). فقد استوفى صفات دار الدنيا من جميع جوانبها في أسلوب بلاغي مزج فيه بين البيان التشبيهي والبديع الموسيقي في التجنيس الناقص بين (فناء وعناء) وجناس التصحيف بين (غير و عبر).
وكتب الإمام عليه السلام إلى قثم بن العباس وهو عامله على مكة يعظه: أما بعد فاقم للناس الحج، وذكرهم بأيام الله، وأجلس لهم العصرين، فافت المستفتي، وعلم الجاهل وذاكر العالم، ولا يكن لك إلى الناس سفير إلا لسانك ولا حاجب إلا وجهك. (2)
قسم الإمام لعامله ثمرة جلوس العصرين - وهما الغداة والعشي - ثلاثة أقسام هي:
الأول: إفتاء عامة الناس في بعض الأحكام
الثاني: تعليم الطالبين للفقه.
الثالث: مذاكرة العلماء ومناقشتهم.
ويلحظ أن الجامع لهذه التقسيمات الثلاثة هو الغرض الديني المتمثل بالحج والحجيج، وما يهمهم من شؤون علمية وفقهية لذلك لم يذكر سواها من أمور إدارة الحكم والسياسة.
وسنأخذ مثالين من موضوعات الوصف هما:9.
ص: 213
1 - الإسلام
فصل الإمام من خطبة له الكلام في صفة الإسلام، فقال: (الحمد لله الذي سهل الذي شرع الإسلام فسهل شرائعه لمن ورده ... كريم المضمار، رفيع الغاية، جامع الحلبة متنافس السبقة، شريف الفرسان. التصديق منهاجه والصالحات مناره والموت غايته، والدنيا،مضماره والقيامة حلبته، والجنة سبقته) (1).
صور الإمام الإسلام بخيل السباق، ثم فصل في معناه فجعل الدنيا المضمار، والقيامة ذات حلبته، والجنة جائزة فوزه وسبقته، وهو إنما جعل الدنيا مضمار الإسلام (لان المسلم يقطع دنياه لا لدنياه بل لآخرته، فالدنيا له كالمضمار للفرس إلى الغاية المعينة) (2).
2 - الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم)
وصف الإمام النبي بوصف إجمالي أتبعه بتقسيم تفصيلي في قوله: (طبيب دوار بطبه قد أحكم مراهمه، وأحمى مواسمه، يضع ذلك حيث الحاجة إليه من قلوب عمي، و آذان صم، والسنة بكم متتبع بدوائه مواضع الغفلة) (3). وقسم الإمام من يعالجهم الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وهم أولو القلوب العمي والآذان الصم والألسنة البكم أي الخرس (فحصر بذلك مداخل الضلال لأن مخالفة الحق تكون بثلاثة أمور: إما بجهل القلب أو بعدم سماع المواعظ والحجج أو بالإمساك
ص: 214
عن شهادة التوحيد وتلاوة الذكر) (1)وهذه أصول الضلال، والمعاصي فروعها، كما يقول ابن أبي الحديد.
قال الإمام من كتاب له إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة: أما بعد فإني خرجت عن حبي هذا إما ظالما وإما مظلوما وإما باغيا وإما مبغيا عليه، وأنا أذكر الله من بلغه كتابي هذا لما نفر إلي فإن كنت محسنا أعانني، وإن كنت مسيئا استعتبني) (2).
فقد قسم حال خروجه عليه السلام أمرين: إما أن يكون ظالما أو مظلوما، وإنما بدأ بالظالم هضما لنفسه ولئلا يقول عدوه: بدأ بدعوی کونه مظلوما فأعطى عدوه من نفسه ما أراد.
والإمام في ذلك كله يستميل إليه النفوس. ومعنى كلامه: فلينفر إلي المسلمون فإن وجدوني مظلوما أعانوني، وإن وجدوني ظالما نهوني عن ظلمي لأعتب وأنيب إلى الحق (وهذا كلام حسن، ومراده يحصل على الوجهين، لأنه إنما أراد أن يستفزهم، وهذان الوجهان يقتضيان نفيرهم إليه على كل حال) (3).
وفي مثال آخر، قال الإمام: (وإن معي لبصيرتي، ما لبست على نفسي، ولا لبس على ...) (4).1
ص: 215
قسم الإمام التلبيس من جهتين: أما بإضلال النفس وأما بايقاع الضلال عليها من جهة أخرى، معميا عليها باستعمال الفعل المبني للمجهول (لبس). وهذا (تقسيم، لان كل ضال عن الهداية فإما أن يضل من تلقاء نفسه، أو بإضلال غيره له) (1). والمعنى الذي يروم الإمام تأكيده هو: أن بصيرته التي كانت زمن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ثابتة ولم تتغير، وإنما أكدها هذا التأكيد بتقديم شبه الجملة (معي) لبيان الأهمية، لما أصاب المسلمين من فتن قتال أهل القبلة في الجمل وصفين وغيرها.
المقصود بالزمن ما يتعلق به من ظروف ماضية، وحاضرة ومستقبلة أي الأمس واليوم والغد. فقد جاءت تقسيماتها في نهج البلاغة على هذا الأساس في مواضع منها:
قال الإمام (علیه السلام) من خطبة حذر فيها من التهالك على الدنيا: (أما بعد فإن الدنيا قد أدبرت وآذنت بوداع، وإن الآخرة قد أقبلت وأشرفت باطلاع ألا وإن اليوم المضمار وغدا السباق والسبقة الجنة، والغاية النار) (2).
أعطت التقسيمات المحكمة متانة في السبك، وأسبغت مزيدا من الثراء على الجمل، فضلا عن فخامة اللفظ وعمق المعنى، الأمر الذي تنبه إليه الشريف الرضي فقال: إنه لو كان كلام يأخذ بالأعناق إلى الزهد في الدنيا، ويضطر إلى 1.
ص: 216
عمل الآخرة لكان هذا الكلام. وكفى به قاطعا لعلائق الآمال، وقادحا زناد الاتعاظ والازدجار) (1).
استعمل الإمام (اليوم والغد) مسندا (المضمار) وهي ساحة السباق إلى اليوم، ومسندا السباق وبدء العمل إلى الغد، فكأنه جعل الدنيا المضمار والآخرة السباق، وهي صورة تكررت في كلام الإمام أكثر من موضع (2).
وخالف الإمام بين اللفظين لاختلاف المعنيين في قوله الأخير لأن (الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب وغرض مطلوب، وهذه صفة الجنة، وليس هذا المعنى موجودا في النار، نعوذ بالله منها) (3) فأسند (السبقة) وهي الجائزة إلى (الجنة)، ولم يقل (والسبقة النار) بل قال (والغاية النار) (لأن الغاية قد ينتهي إليها من لا يسره الانتهاء إليها، ومن يسره ذلك فصلح أن يعبر بها عن الأمرين معا، فهي في هذا الموضع كالمصير والمال، قال الله تعالى: ﴿ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ) (4)) (5).
وقال الإمام محذرا: (إن اليوم عمل ولا حساب وغدا حساب ولا عمل) (6)، كنى عن الدنيا باليوم وعن الآخرة بالغد، وقابل بينهما باعتبار الدنيا عالم العمل وتأجيل الحساب والآخرة عالم الحساب دون العمل. وهما قسمان لا ثالث لهما. ولعل مما حسن التقسيم هو أسلوب المقابلة بين الجملتين2.
ص: 217
وقال عليه السلام: (فإن التقوى في اليوم الحرز والجنة وفي غد الطريق إلى الجنة) (1). قسم التقوى بوسيلة الأيام قسمين مكنيا عن الدنيا باليوم باعتبار الحاضر، وعن الآخرة بالغد بضميمة المستقبل، مستغلا طاقات اللغة البديعية أمثل استغلال في أسلوب المقابلة والتوازن بين الفقرتين والجناس الناقص بين (الجنة) بضم الجيم، وتعني ما يتقى به وبين (الجنة) جائزة المؤمنين.
ولضمان صحة التقسيم يتقدم الحاضر دائما على المستقبل، ولكن الفرادة لا تفارق كلام الإمام على الرغم من تقديم الظرف الزماني في أسلوب بياني رائع في قوله: (وإن السعداء بالدنيا غدا، هم الهاربون منها اليوم إذا رجفت الراجفة). فجاء التقسيم صحيحا بتقديم الغد على اليوم في صورة لافتة، لأن المعنى طلب هذه القسمة بقوة، حين جاور الظروف المتناقضة (الدنيا والغد) فجعل السعداء في الحياة الدنيا في الآخرة (غدا) هم الذين يهربون من شراك لذائذها في حاضرهم (اليوم).
ومثل ذلك في نهج البلاغة كثير (2).
وجمع الإمام (علیه السلام) الأزمان الثلاثة (الأمس واليوم والغد) في مكان واحد في قوله عليه السلام قبل موته: (أنا بالأمس صاحبكم، و أنا اليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم) (3)، فقسم الأيام الماضية والحاضرة والمستقبلة قسمة حسنة وهو إنما قال (عبرة لكم) لأنهم يرونه بين أيديهم ملقى صريعا بعد أن اعتادوه يصرع الأبطال ويقتل الأقران. 2.
ص: 218
مما سبق يمكن استنتاج الخلاصات الآتية:
أولا:
أن التقسيم فن بياني عربي اختص به الكلام العربي البديع متمثلا في أرفع مستوياته الإعجازية في التعبير القرآني، والأسلوبية في التعبير النبوي وكلام الإمام علي (علیه السلام) في نهج البلاغة.
ثانيا:
أن فن التقسيم يمثل تنظيما مزدوجا للفن والموضوع، ممزوجين بالفكر والبيان معا.
ثالثا:
أن التقسيم في نهج البلاغة اشتمل على ثلاث وسائل هي: التقسيم بالعدد والتقسيم بالموضوع والتقسيم بالزمن.
رابعا:
أن التقسيم بالعدد في نهج البلاغة أثر لتنظيم فكري جديد سلك فيه الإمام سبيل الحديث النبوي في الإكثار منه وتنظيم الأفكار وحصرها بمقتضاه.
ص: 219
القرآن الكريم
- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، الشيخ أبو عبد الله، محمد بن
محمد بن النعمان (336 - 431 ه)، تحقيق: مؤسسة أهل البيت (عليهم السلام) لتحقيق التراث دار المفيد، الطبعة الثانية، بيروت - لبنان 1414 ه - 1993 م.
- الاستيعاب ابن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي، الطبعة الأولى، 1412، مطبعة دار الجيل - بيروت.
- البرهان في علوم القرآن. الزركشي، محمد بن عبد الله الزركشي (ت 794 ه). تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية الطبعة الأولى، القاهرة 1957 م.
- تاريخ الطبري (تاريخ الرسل و الملوك)، أبو جعفر محمد بن جریر (ت 310 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الخامسة، دار المعارف، مصر - 1987 م.
- التصوير الفني في خطب الإمام علي (علیه السلام). عباس علي الفحام. (رسالة ماجستير)، كلية التربية للبنات جامعة الكوفة 1999م.
- التفسير الكبير (أو مفاتيح الغيب)، فخر الدين محمد بن عمر الرازي (ت 606 ه)، المطبعة البهية - مصر، بدون تاريخ.
- دراسة حول نهج البلاغة، محمد حسين الجلالي الطبعة الأولى، مؤسسة الأعلمي، بيروت - 1421 ه.
ص: 220
- روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، أبو الفضل شهاب الدين محمود الآلوسي (ت 1270 ه - ). إدارة الطباعة المنيرية، القاهرة، بدون تاريخ.
- سنن ابن ماجة محمد بن يزيد القزويني (ت 273 ه)، تحقيق وترقيم وتعليق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر للطباعة و النشر والتوزيع.
- سنن الدارمي. أبو محمد عبد الله بن عبد الرحمن (ت 255 ه). طبع بعناية: محمد أحمد دهمان دمشق بدون تاریخ.
- السيرة الحلبية، الحلبي (ت 1044 ه - )، دار المعرفة - بيروت، 1400 ه - .
- شرح نهج البلاغة ميثم بن علي بن ميثم البحراني (ت 679 ه - ). (المصباح شرح الكبير) مطبعة خدمات الطبعة الثانية، طهران 1404 ه - .
- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد المدائني (ت 656 ه - ). تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء التراث العربي، القاهرة 1959 م.
- شواهد التنزيل الحاكم الحسكاني، الشيخ محمد باقر المحمودي، الطبعة الأولى - 1990 م مؤسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي - طهران، مجمع إحياء الثقافة الإسلامية - قم.
- صحيح البخاري، البخاري (ت 256 ه)، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - 1981 م.
- الطراز المتضمن الأسرار البلاغة وعلوم دقائق الإعجاز. يحي بن حمزة العلوي (ت:749 ه). تصحيح: سيد بن علي المرصفي، مطبعة المقتطف مصر 1914 م.
ص: 221
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التنزيل. جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 ه - ). مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1966 م.
- لسان العرب، ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم المصري (ت 711 ه - ). دار صادر و دار بیروت لبنان 1379 ه - 1955 م.
- مجمع البيان في تفسير القرآن. الطبرسي. الفضل بن الحسين (ت 548ه).
- حقق وعلق عليه: لجنة من العلماء والمثقفين، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1415 ه - 1995 م.
- النظم القراني في كشاف الزمخشري. درويش الجندي (الدكتور) مطبعة مصر 1969 م.
- نهج البلاغة علي بن أبي طالب عليه السلام (ت 36 ه)، بجمع الشريف الرضي (ت 406 ه). تحقيق وشرح: محمد أبو الفضل ابراهيم بيروت - لبنان دار الجيل الطبعة الثانية 1416 ه - .
- نهج البلاغة محمد عبده، مطبعة بابل - بغداد 1984م.
- نهج البلاغة لمن الشيخ محمد حسن آل ياسين مطبعة أوفسيت الميناء، بغداد 1977 م.
- النهاية في غريب الحديث ابن الأثير (ت 606 ه - )، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي محمود محمد الطناحي، الطبعة الرابعة - 1364 ه - . مؤسسة إسماعيليان للطباعة والنشر والتوزيع - قم.
- الوافي بالوفيات الصفدي (ت 764 ه - )، أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفى
دار إحياء التراث - 2000 م.
ص: 222
دلالة الأبنية النادرة
المقدمة
التمهيد: الأبنية النادرة وسماتها
دلالة الأبنية النادرة
أولاً: النوعية
ثانياً: الهيأة
ثالثاً: التكثير والمبالغة
رابعاً: التوازن
الخلاصة
المصادر
ص: 223
شهدت السنوات السابقة إقبالا ملحوظا من الجامعات العراقية على دراسة نهج البلاغة في بحوث الماجستير والدكتوراه وما زال هذا الأثر الخالد معطاء للباحثين وما زال قعره بعيد الغور صعب المنال لما امتاز به من دقة في التعبير، وبراعة في الصياغة وإمكانات كبيرة في تفجير الطاقات التعبيرية، للمفردات والتراكيب الأمر الذي جعل من نهج البلاغة يسمو سموا كبيرا على كل النتاجات.
الأدبية الأخر.
وهذا البحث محاولة لدراسة جانب امتاز به التعبير الفني في كلام أمير المؤمنين المجموع في نهج البلاغة وهو بعنوان (دلالة الأبنية النادرة في نهج البلاغة)، محاولة في إظهار بعض من الإمكانيات اللغوية للإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام أمير البلاغة والبيان وربيب مدرسة القرآن الكريم، المعجزة التي جعلت من اللغة محلا للتحدي وإعجاز الخصوم. وقد اشتملت خطة البحث على تمهيد درس فيه المقصود بالبنية النادرة، ثم انطوى البحث على دلالات هذه الأبنية وانحصرت بأربعة أغراض هي:
1 - النوعية.
2 - الهيأة.
ص: 224
3 - التكثير والمبالغة
4 - التوازن.
هذا وقد اعتمد البحث على محاولة أسلوب التحليل والوقوف المتأني على النص المعروف بثرائه في نهج البلاغة، ومن هنا كانت شروحات هذا الكتاب ومصادر النقد واللغة والبلاغة مما استند إليه البحث في رحلته العلمية التي نرجو أن نوفق فيها في إضافة شيء جديد إلى الدراسات التي عرضت إلى هذا الأثر الخالد ومن الله تعالى التوفيق.
الباحثان
ص: 225
الأبنية النادرة وسماتها
ليس ثمة تعريف محدد للصيغ النادرة، وإنما هي استنتاج و استقراء لأساليب استعمالها بألفاظ نادرة وهي تشير إلى القدرة على إدارة اللغة وإجالة مفرداتها وانتخاب استعمالها بشكل يحقق مطابقة تامة بين الأداء والمضمون في سياقاتها التعبيرية، وليس بالضرورة أن تكون الصيغ نادرة بل قد تكون بعض الألفاظ في أوزان تلك الصيغ مما يقل في الكلام العربي، وقلتها لا تعني عيبا باللفظ النادر وإنما هو القصور عن إمكان اكتشاف الدر في بحر اللغة الذي لا يدرك قعره ومن هنا يتميز المبدع من غيره في بعث مثل هذه الصيغ وتسخيرها مادة لمعانيه.
ولكن ما معايير الندرة بحيث نطلق على هذا البناء وصف النادر وذاك غير نادر؟
يمكن تحديد الإجابة بالمعايير الآتية:
أولا: قلة الاستعمال
ويمكن الرجوع إلى مصادر اللغة لتحديد مديات استعمال الأبنية، وإن بدا على بعض المعجمات قصورا واضحا في طبيعة تحديد هذه القلة، كونها تهتم بلملمة المفردات العربية وحصرها وتبيان معانيها المختلفة، بينما الذي يحدد قلة الاستعمال من غيره هي المعجمات السياقية التي يندر وجودها في المكتبة العربية كمعجم (أساس البلاغة) للزمخشري
ص: 226
وكما ذكرنا إن قلة استعمال المفردات أكسبها ندرة لا بسبب خلل ذاتي في هذه الصيغ، بل يعزى السبب إلى عدم سعة المتكلم بالإحاطة الكاملة بأسرار المفردة العربية ومعرفة مكامنها.
ثانيا: الغرابة
في الحقيقة قد تأتي الغرابة من قلة الاستعمال كون الأذن لم تألف سماعها من قبل وربما تأتي من طبيعة تأليف الأصوات داخل هذا البناء أو ذاك، أو ربما تأتي من طريقة استعمالها في التركيب الجملي مثل نقل اللفظة من مكانها المعتاد في الاستعمال إلى تركيب جديد يسبغ عليها حلة جديدة ويعطيها زخما جديدا من الحياة.
ويبقى ضابط ذلك كله هو استقراء الكلام العربي في المراجعة المتأنية للمصادر التي جمعت خطب العرب ومصادر اللغة المختلفة، والوقوف المتفحص لدواوين الشعر العربي، وإن كان الكلام العربي في نثره غيره في شعره ولكننا نعتقد أن الإبداع في الخطابة العربية تمثل في القدرة على إذابة روح الشعر في النثر، أو ما يسميه النقد المعاصر بالشعرية (1).
ومن هنا تميزت الخطابة النبوية والحديث الشريف عن غيره إلى الدرجة التي استطاع بها النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من ابتكار صيغ وتراكيب في الكلام العربي غير معهودة من قبل كما يذكرها الجاحظ (2).
وهنا - أيضا - نسجل تميزا غاية في الإبداع لابن عم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) علي بن أبي طالب (علیه السلام) وربيبه في القدرة على صياغة المعاني الصعبة (الحقيقية) التي 1.
ص: 227
یصعب في العادة التعبير عنها تعبيرا فنيا، ولا سيما التعبير بالأبنية النادرة على غيره.
ورد في نهج البلاغة استعمالات عديدة لبعض الصيغ يمكن للباحثين وسمها بالأبنية النادرة في استعمالاتها عند الإمام أو أنها صيغ يمكننا القول أنها كانت غاية الإتقان في التعبير عن المعاني، وقد هدف البحث للكشف عن بعض دلالاتها وتمثلت بما يأتي:
وردت في نهج البلاغة مجموعة من المصادر نادرة الاستعمال لفظا ومعنى حملت دلالة النوع والتميز في سياق التعبير نحو قوله عليه السلام يصف الدنيا ويحذر منها: (وَ اُحَذِّرُكُمُ الدُّنيا، فَإنَّها مَنزِلُ قُلعَةٍ و لَيسَت بدارِ نُجعَةٍ قَدْ تَزَيَّنَتْ بِغُرُورِهَا وَ غَرَّتْ بِزِينَتِهَا) (1). فقد استعمل الإمام (قُلْعَةٍ ونُجْعَةٍ) وهما على صيغة فعلة، و (فُعلة) بضم الفاء وسكون العين، تأتي مصدرا للفعل الثلاثي إذا دلّ على لون وكان صحيحا فتقول حمرة، وخضرة وزرقة في خمر و خضر وزرق (2). وقد ذكر اللغويون معاني أخر لهذه الصيغة منها أنها تدل على العيب وهو قليل (3)، والفضلة من الشيء، وموضع الفعل من الجسد (4)..
ص: 228
ويرى الرضي أن فعلة بسكون العين جاءت كثيرا بمعنى المفعول والفاعل وكلاهما للمبالغة (1).
والمعنى أن الإمام صور الدنيا بالمنزل الذي لا يستقر بأهله ولا يثبت فما إن يحل به النازلون حتى يقلع بهم فهو (ليس بمستوطن كأنه يقلع ساكنه) (2). إنه - إذن - ليس كأي منزل مما عرفه الناس من حيث الاستقرار والأمن والثبات، بل نوع خاص مميز من المنازل ينطبق أيما انطباق على صفات الدنيا الموسومة بسمات هذا المنزل الذي ذكره الإمام، يقول ابن أبي الحديد: قوله (علیه السلام) فإنها منزل قلعة بضم القاف وسكون اللام أي ليست بمستوطنة و يقال هذا مجلس قلعة إذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة ويقال هم على قلعة أي على رحلة ومن هذا الباب قولهم فلان قلعة إذا كان ينقلع عن سرجه ولا يثبت في البطش والصراع والقلعة أيضا المال العارية وفي الحديث بئس المال القلعة (3).
وأصل القلعة (النخلة التي تُجتَثُّ من أصلها قَلْعاً أو قَطعاً عن أبي حنيفة وقُلِعَ الوالي قَلْعاً وقُلْعةً فانْقَلَعَ عُزِلَ والمَقْلُوعُ الأميرُ المَعزُولُ والدنيا دار قُلْعَةٍ أي انقِلاعٍ ومنزلنا منزل قُلْعَةٍ بالضم أي لا نملكه ومجلس قُلْعَةٍ إِذا كان صاحبه يحتاج إلى أن يقوم مرة بعد مرة وهذا منزل قُلْعةٍ أي ليس بمُسْتَوْطَنٍ ويقال هم على قُلْعةٍ أي على رِحْلةٍ) (4). 8.
ص: 229
وكذا الأمر في لفظة (النجعة) حين قيد بها (الدار) أي لا يطلب المراد منها، فالنجعة طلب الكلاً من موضعه (1). وهذا ملمح جديد وجميل لان الإنسان يغادرها عنوة.
وفيما تقدم نقول: لما كان مبدأ عدم بقاء الدنيا و زوالها من المعاني الإسلامية الجديدة على العرب فإننا لم نجدهم قد وصفوا الدنيا بأنها قلعة وإنما وصفوا الأماكن بذلك، وقد نقل الإمام هذه الصفة إلى الدنيا مرتجلا لها بما سمت له قريحته الصافية وتعمق فكره بالمعاني الإسلامية الجديدة على العرب، وندر أن توصف الدنيا ذما بالقلعة، مبالغة في صفة زوالها وعدم بقاء الإنسان فيها.
ويبدو أن ثمة دواع لاستعمال الإمام لهذه الصيغة منها:
1 - اختزال المعاني والصور للحياة الدنيا بهذه الصيغة المعروفة عند العرب ولكنه نقلها لوصف الدنيا، وهذه الصورة نجدها في توضيح المعنى لهذه الكلمة. لأن للألفاظ خزين هائل من التجارب البشرية فهي (كالقماقم أغلقت سداداتها على شحنة من تجارب لا حصر لها اختزنها فيها الإنسان على كر العصور) (2)
2 - أنها أكثر الصيغ انطباقا على حقيقة الدنيا التي هي مرحلة في رحلة الإنسان ورحلة في مرحلة.
3 - اصطباغ الكلام بالصبغة الفنية العلية التي أطردت في كلامه عليه السلام واعني التوازن الإيقاعي أو لنقل الشعرية كمصطلح حديث، تهيئة للصيغة المماثلة (نجعة). .
ص: 230
4 - التأثر البين لكلامه عليه السلام بالقرآن الكريم (1)، وهذا (يدل على قوة حضور النص القرآني في ذهن الإمام على عليه السلام، إذ لا يجد صعوبة في التعبير الفني عن أي معنى يشاء، لأن ما عنده من خزين الصيغ القرآنية يمكنه من تشكيل المعاني الصعبة الجديدة كمعاني التوحيد والعالم الآخر في صور تقريبية لأذهان الناس، وتلك ميزة انفرد بها الإمام عليه السلام، لأنه يحيى حياة القرآن في أدق معاني هذه الكلمة) (2)
وفي مثال آخر لهذه الصيغة ما جاء في شرح نهج البلاغة عن قوله عليه السلام ينصح ولده الحسن: (وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلْآخِرَةِ لَا لِلدُّنْيَا، وَ لِلْفَنَاءِ لَا لِلْبَقَاءِ، وَ لِلْمَوْتِ لَا لِلْحَيَاةِ؛ وَ أَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَةٍ وَ دَارِ بُلْغَةٍ وَ طَرِيقٍ إِلَى الْآخِرَةِ). (3)
وال - (بلغة) هو القدر اليسير من العيش الذي لا يبقى منه زيادة وكما جاء في المعجم (ما يُتَبَلَّغُ به من العيش ... ولا فَضْلَ فيه) (4). ودار بلغة أي الدنيا دار يبلغ منها إلى الآخرة. (5)
وكلام الإمام هذا تكرر في غير موضع باللفظة ذاتها نحو قوله عليه السلام
في صفة الدنيا: (قلعتها أحظى من طمأنينتها، وبلغتها أزكى من ثروتها). (6) .
ص: 231
ومما جاء على هذه الصيغة أيضا لفظة (أكْلَةً) فيما قاله عليه السلام لأهل البصرة بعد واقعة الجمل: (أَرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ الْمَاءِ بَعِيدَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، خَفَّتْ عُقُولُكُمْ وَ سَفِهَتْ حُلُومُكُمْ، فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ وَ أُكْلَةٌ لِآكِلٍ وَ فَرِيسَةٌ لِصَائِلٍ.) (1). ولا تبين المصادر اللغوية الفرق الواضح لهذا المصدر بين الأكلة بالفتح والأكلة بالضم فقد جاء في اللسان: (والأكلة اسم للُّقْمة وقال اللحياني الأكلة و الأكلة كاللَّقْمة واللقمة يُعْنَى بها جميعاً المأكولُ ... وتقول أكَلت أكلة واحدة أي لُقمة وهي القُرْصة أيضاً وأكلت أكلة إذا أكَل حتى يَشبَع وهذا الشيء أكلة لك أي طُعمة لك) (2). ويقول ابن أبي الحديد (و الأكلة بضم الهمزة المأكول) (3)، بينما ليس كل مأكول يقال عنه أكلة بالضم.
واستعمال الإمام لهذه الصيغة من مادة أكل غاية في الدقة، إذ أن الإنسان ليس بطعام مقصود يقتاته حي، لذا لم يقل أكلة بفتح الهمزة وإنما قال أكلة بالضم لأنه هنا قد جعل من نفسه أكْلة يأخذ منها الآكل ويتركها، وهنا يفهم الاستصغار لشأن المأكول واستحقاره.
ومما جاء على هذه الصيغة كلمة (عرجة) في قوله عليه السلام من كلام له كان كثيرا ما ينادي به أصحابه: (تَجَهَّزُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ، فَقَدْ نُودِيَ فِيكُمْ بِالرَّحِيلِ، وَ أَقِلُّوا الْعُرْجَةَ عَلَى الدُّنْيَا) (4). والعرج في أصل اللغة الصعود، ومنه 7.
ص: 232
المعراج إلى السماء، وسمي الأعرج بذلك لأنه يصعد بإحدى رجليه عن الأخرى.
والعرجة التباطؤ في المشي استعاره الإمام لهذا النوع من المشي وأمر بالإقلال منه تزهيدا بالمكث فيها والالتفات إليها، إذ لما كان العرج يبطئ المشي أو انه خلل في المشي يؤدي إلى التباطؤ فقد استعار الإمام هذه الصورة إلى الإنسان الذي قد يتباطأ أو يصر على التباطؤ طلبا للمكوث الأطول فيها
ودعاه إلى تركها لما في ذلك من إظهار الحقيقة الدنيا، وليس كالإمام أحد أحق بهذا الوصف والنصح من المسلمين كونه قد تلبس بالمثل الإسلامية قولا ومضمونا وهو ابن المدرسة القرآنية المحمدية.
ومن الصيغ التي تحمل دلالة النوعية قوله ناصحا: ( ... وَ خُذُوا مِنْ أَجْسَادِكُمْ فَجُودُوا بِهَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَ لَا تَبْخَلُوا بِهَا عَنْهَا، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: (إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) (1)، وَ قَالَ تَعَالَى (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) (2)؛ فَلَمْ يَسْتَنْصِرْكُمْ مِنْ ذُلٍّ وَ لَمْ يَسْتَقْرِضْكُمْ مِنْ قُلٍّ، اسْتَنْصَرَكُمْ وَ لَهُ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ (وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (3). وَ اسْتَقْرَضَكُمْ وَ لَهُ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ (هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (4)) (5). .
ص: 233
والقرض كناية عن قهر النفس على طاعة الله في العمل والإنفاق في سبيله (1)، ووصف القرض بالحسن لأجل الترغيب في العمل للآخرة وتعظيم استحقاقها (2).
والقرض الحسن هو (الإنفاق في سبيله، شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز لأنه إذا أعطى ماله لوجهه فكأنه أقرضه إياه) (3).
وفائدة إجراء الكلام على طريقة الاستفهام لأن الترغيب في الدعاء إلى الفعل يكون أقرب من ظاهر الأمر في الإقبال عليه (4).
ومحل الشاهد هو (قل) فهو مصدر من القلة و القليل فهو أورده الإمام ليس من أجل مقابلته إيقاعيا ب(ذل) فحسب، بل من أراد به نوعا من القلة لأن (القل من الشيء: أقله) (5).
وجاء في الحديث النبوي الشريف عن الربا: (إنه وإن كثر فهو إلى قل) (6) أي هو ممحوق البركة ولو كثر (7).
والغريب أن ابن فارس في معجمه ذهب إلى أن المقصود بالقلة ليست نزارة الشيء بل (ما أقله الإنسان من جرة أو حب) (8).5.
ص: 234
ومما جاء على هذه الصيغة في مصادر اللغة قولهم: (هو قل بن قل، إذا
كان لا يعرف هو ولا أبواه) (1).
واستعمل هذا المصدر (قل) في موضع آخر من نهج البلاغة في قوله عليه السلام وقد سئل عن قول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود فقال عليه السلام: إنما قال صلى الله عليه وآله ذلك والدين قل فأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار) (2). فالمقصود بالقلة في الدين قلة في ضعف كون الإسلام طري العود بعد ن ويؤيده قوله الأخير في زيادة قوة الدين واتساع نطاقه.
ومن صيغ المصادر النادرة الاستعمال الدالة على النوعية قوله عليه السلام في وصف الفتنة بأنها: (تبدأ في مدارج خفية، وتؤول إلى فظاعة جلية. شبابها كشباب الغلام) (3). فشباب بكسر أوله مصدر توخى منه نوعا من الشباب الموحي بالبدء والحماسة والقوة.
وهي دلالة ثانية للصيغ النادرة الاستعمال في نهج البلاغة، وقد جاءت في مواضع قليلة وعلى وزن واحد هو (فعلة) بكسر الفاء، وصيغة المصدر (فِعلَة) يؤتى بها للهيأة، كقتلة إذا كانت قتلة سوء أو ما شابه وضربة وغيرها، فتكون موصوفة أو دالة على صفة مذكورة أو معلومة بقرينة الحال (4)..
ص: 235
فيصاغ من الثلاثي المجرد (فِعلَة) مصدرا للهيأة فتقول: (وقفة جلسة، ركبة) (1) ولا يوجد نظير هذا الوزن للدلالة على الهيأة في جميع اللغات السامية
كما يذكر الدارسون. (2)
وجاءت فعلة صيغة للجمع في الفاظ سمعت من العرب، ولعدم اطرادها في الجمع جعلت اسم جمع (3) نحو شيخ وشيخة جار وجيرة ثور وثيرة وقاع
وقيعة.
ومما ورد منها:
لفظة (نبتة، خضمة)
كقوله عليه السلام: (إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ الْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اللَّهِ خِضْمَةَ الْإِبِلِ نِبْتَةَ الرَّبِيعِ). (4)
والشاهد في استعماله (خضمة و نبتة)، وقد أراد بها الإمام الشكل والهيأة لأن السياق صور أحوال هؤلاء المنهومين على السلطة بأنهم يأكلون بنهم بكل الفم بدلالة الفعل (خضم) التي تعني الأكل بكل الأضراس التي تتناقض مع الفعل (قضم) التي تعني الأكل بأطراف الأسنان، وهو فعل حاد عنه الإمام، لأنه لا يلبي المعنى الذي ينشده في تصوير التكالب على أكل مال المسلمين الذي سماه (بمال الله تعبيرا عن شدة حرمته، وصور طريقة أكله بطريقة أكل البهائم الجائعة لنبتة الربيع بعد شدة القحط. لذلك أسند إلى الخضم الأكل الرطب، وإلى القضم .
ص: 236
الأكل اليابس، لذلك اسند الإمام إلى الخضم لفظة النبتة. كما أن لفظة (نبتة) أوردها الإمام قاصدا بها الهيأة، وهي ما يتناسب وصورة الإسلام الغض الطري العود، قال أبو ذر رضي الله عنه: ( ... إن بني أمية يخضمون و نقضم والموعد لله). (1)
وهو مأخوذ من قول النبي (صلی الله علیه و آله و سلم): (يخضمون و نقضم و الموعد الله) (2). وهكذا نجد أن الإمام قد استغل الألفاظ والصيغ أيما استغلال مفجرا لطاقاتها التعبيرية ليصور دنيء فعل القوم وبشاعته (وما أحسن وألطف تشبيهه عليه السلام صنيع بني أمية في مال الله بخضم الإبل أو هضمه نبت الربيع، حيث يستفاد من الخضم أنهم كانوا يأكلون مال الله بملء أفواههم فيفرغون في بطونهم بلا مهلة، إذ نبت الربيع لرقته ولينة لا فصل بين وضعه في الفم وبلعه) (2).
لقد استغل الإمام الطاقة التعبيرية لصيغة فعلة لتعضيد الصورة السابقة لأن خضمة دلت على نوع الخضم وهيأته سيما بعد أن أضيفت إلى ما بعدها وكذلك نبتة يستشف منها نوع النبات الربيعي الذي يتصف برقته وطراوته لذا فالحيوان يأكل بكل فيه وكأنه يبتلعه لا يمضغه سيما وأن نبات الربيع جاء بعد أن محلت الأرض من الشتاء اظهارا للهفة. (3)
لفظة (قِعْدَة)
ووقعت هذه اللفظة في نهج البلاغة مرة واحدة على هذه الصيغة، وذلك .
ص: 237
في كتاب للإمام عليه السلام إلى أبي موسى الأشعري عامله على الكوفة و قد بلغه عنه تثبيطه الناس عن الخروج إليه لما ندبهم لحرب أصحاب الجمل: ( ... وَ ايْمُ اللَّهِ لَتُؤْتَيَنَّ مِنْ حَيْثُ أَنْتَ وَ لَا تُتْرَكُ حَتَّى يُخْلَطَ زُبْدُكَ بِخَاثِرِكَ وَ ذَائِبُكَ بِجَامِدِكَ، وَ حَتَّى تُعْجَلَ عَنْ قِعْدَتِكَ ...) (1).
وقد استعمل الإمام عليه السلام (قعدة) على وزن فعلة بكسر الفاء، ليدل بها على هيأة ما لقعود أبي موسى ويرى ابن أبي الحديد أن قول الإمام (وليعجلنك الأمر عن هيئة قعودك) وصفا لشدة الأمر وصعوبته (2).
ويبدو للباحث أن استعمال الهيأة هنا جاء للدلالة على التهكم من أداء عامله على الكوفة في مثل هذه الأجواء التي عاشتها الأمة الإسلامية.
وأعني بها الصيغ القليلة الاستعمال في مصادر الوزن (تفعال) بفتح التاء وأخرى بكسرها، ومن الأول جاءت في خمسة مصادر (تهمام،ترکاض تجوال، ترحال، تلعابة)، ويؤتى بهذه الصيغة المصدرية لتكثير المصدر(3). وفيما يأتي شرحها مفصلا.
قال الإمام (علیه السلام) من خطبة حث فيها على الجهاد وذم المتقاعسين ( ... قَاتَلَكُمُ اللَّهُ لَقَدْ مَلَأْتُمْ قَلْبِي قَيْحاً وَ شَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً وَ جَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ التَّهْمَامِ أَنْفَاساً ...) (4)، وفي اللسان: (الهم من الحُزن والهم مَصْدَرُ هَمّ 1.
ص: 238
الشُّحمَ يَهُمُّه إذا أذابه والهمّ مصدر هَمَمْت بالشيء هَمّاً والهِمّ الشيخ البالي)، (1) ولما كان التهمام بهذه الخطبة بمعنى الهم كما ذكر (2)، فلماذا جاء الإمام بهذه الصيغة ولم يقل نغب الهم؟ والجواب واضح فيما ذكره أهل اللغة من أن المصدر يؤتى به على هذه الصيغة لغرض التكثير لفعل المصدر لإظهار مقدار الألم الذي الحقوه بالإمام علي، ولا ننسى القول أن استعمال هذه الصيغة من المصدر آنف الذكر نادر والمتتبع للمعجم العربي يجد ذلك.
وعلى هذه الصيغة جاء المصدر (تركاض وتجوال) في نهج البلاغة في كتابه إلى أخيه عقيل: (فدع عنك قريشا و خلهم وتركاضهم في الضلال وتجوالهم في الشقاق) (3)، وقد عدل الإمام إلى هذه الصيغة ليدلل على تكالب القوم وتسابقهم على قتاله مستغلا الطاقة التعبيرية لهذه الصيغة، التي وضح من خلالها كيف تكالب القوم عليه متسارعين ومضطربين في ذلك، ومذ أن نادى به النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وليا وإماما، كل ذلك يستلهم من صيغة تفعال في البنيتين.
ومما جاء على صيغة تفعال (الترحال) في قوله عليه السلام: ألا إنه قد أدبر من الدنيا ما كان مقبلا، وأقبل منها ما كان مديرا، وأزمع الترحال عباد الله الأخيار، وباعوا قليلا من الدنيا لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى!) (4)، مشيرا إلى اقتراب الساعة، ومحضا أهلها على الاستعداد للرحيل إلى دار الآخرة ذاماً من تمسك بها وباع قليلها الذي لا يبقى بكثير من الآخرة لا يفنى، وقد ورد 9
ص: 239
الحديث عن (أزمع الترحال) (أي ثبت عزمهم عليه، يقال: از معت الأمر ولا يقال: از معت على الأمر هكذا يقول الكسائي، وأجازه الخليل والفراء) (1). من دون أن نجد حديثا عن المصدر الترحال ودلالته وطاقته التعبيرية التي تفوق طاقة المصدر الرحيل، لأن الإمام عليه السلام أراد أن يعبر عن رحيل الدنيا بأقصى طاقة تعبيرية ممكنة انسجاما مع ما يناسب المقال.
وفي صيغة أخرى قوله عليه السلام من خطبة له في ذكر عمرو بن العاص: (عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن فيّ دعابة وأني امرؤ تلعابة أعافس وأمارس، لقد قال باطلا ونطق آثما) (2). والنابغة المشهورة من النساء فيما لا
يليق والشاهد فيه (تلعابة) وتعني الكثير اللعب (3)، والمصدر منه (ئلعاب) ينطق أوله بالفتح. وهي (صيغة تدل على التكثير) (4).
ومن العجيب حقا أن يتجرأ هؤلاء على الإمام بهذه التهم الرخيصة التي تنم عن حقارة الطبع وقدرة الافتراء التي نبه إليها الإمام بقوله بدءا (يزعم) التي تدل على القول المدعى بلا تحقيق. وقد رد المأثور العربي ذلك، فأصبح يقال: (هو في السلم تلعابة، وفي الحرب ترعابة) (5).
واستعملت صيغة (تفعال) بكسر أوله مرة واحدة في نهج البلاغة، وذلك في لفظة (تبيان)، وقيل: (كلُّ ما ورَدَ عن العرب من المصادر على تفعال فهو 2.
ص: 240
بفتح التّاء إلّا لفظتينِ: تِبْيان وتِلْقَاء. وقال أبو جعفر النّحّاس في شرح المعلّقات: ليس في كلام العرب اسمٌ على تِفعال إلا أربعة أسماءٍ وخامسٌ مختلَف فيه يقال تِبْيان ولقِلادةِ المرأةِ: يَقْصَارُ وتِعْشَارٌ وتِبْرَاك مَوضعانِ والخامس تِمساح) (1).
وهي لا شك لفظة قرآنية استعملها الإمام من شدة ذوبانه في التعبير القرآني على الجملة.
قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصفه لكتاب الله عز وجل: ثم أنزل عليه الكتاب نورا لا تطفأ مصابيحه وسراجا لا يخبو توقده وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجا لا يضل نهجه، وشعاعا لا يظلم ضوؤه، وفرقانا لا يحمد برهانه وتبيانا لا تهدم أركانه وشفاء لا تخشى أسقامه ...) (2). فقد استعمل للدلالة على معنى البيان، متأثرا بقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ) (3) ترى لماذا وردت لفظة التبيان بهذه الصيغة في الآية المباركة، وفي نص الإمام عليه السلام، ولماذا لم يستعمل المصدر بيان بدلا عنه؟ نرى أن بعض اللغويين وبعض المفسرين لم يقولوا بالفرق بين الصيغتين فقد (روى الواحدي بإسناده عن الزجاج أنه قال تبياناً في معنى اسم البيان ومثل التبيان التلقاء وروى ثعلب عن الكوفيين والمبرد عن البصريين أنهم قالوا لم يأت من المصادر على تفعل إلا حرفان تبياناً وتلقاء وإذا تركت هذين اللفظين استوى لك القياس فقلت في كل مصدر تفعال بفتح التاء مثل تسيار وتذكار وتكرار وقلت في كل اسم تفعال بكسر التاء مثل تقصار وتمثال) (4)، يعني أن تبيان اسم للمصدر بيان لا يختلف عنه في الدلالة، يقول الطوسي والتبيان والبيان 0
ص: 241
واحد (1). كما أقر بذلك الطبرسي متبعا ما ذكره الأزهري إذ قال: العرب تقول بينت الشيء تبيينا و تبيانا (2).
إذا كان الأمر سيان كما تقدم، فإن استعمال صيغة بدل الأخرى ترجيح بلا مرجح مع (إن التعبير القرآني تعبير فني مقصود كل لفظة بل كل حرف فيه وُضع وضعا فنيا مقصودا، ولم تُراع في هذا الوضع الآية وحدها ولا السورة
وحدها بل رُوعي في هذا الوضع التعبير القرآني كله) (3)، إلا أن سيبويه يرى أن التبيان (ليس ببناء مبالغة، وإلا انفتح تاؤه، بل هو اسم أقيم مقام مصدر بين كما أقيم غاره وهي اسم مقام إغارة في قولهم أغرت غارة، ونبات موضع إنبات، وعطاء موضع إعطاء في قولهم: أنبت نباتا، وأعطى عطاء قالوا: ولم يجئ تفعال - بكسر التاء - إلا ستة عشر اسما: اثنان بمعنى المصدر، وهما التبيان والتلقاء) (4).
وإذا لم يرد في التبيان معنى المبالغة مثلما أريد بصيغ تفعال فلماذا لم يستعمل المصدر بيان وهو أكثر اختصارا؟ وتأسيسا على قاعدة أن الزيادة في المبنى تؤدي إلى زيادة في المعنى، فلا بد من أن تكون زيادة في هذه الصيغة لغرض التعظيم والمبالغة لذلك نجد أن الزمخشري قد لمح لها حين فسر هذه الكلمة في الآية آنفة الذكر إذ قال: ((تبيانا) بياناً بليغاً ونظير) (5)، أو لغرض الاستمرارية في البيان ولتوضيح ذلك نقول: ما لغرض التعظيم والمبالغة فلأن 3.
ص: 242
(تِفعال) و (تَفعال) واحد أي إنهما مصدران، وذلك لكون ندرة الصيغة بكسر التاء واطرادها بفتح التاء، يضاف إلى ذلك ما ذكره الزبيدي من أنه (لا قائل في تبيان انه اسم مصدر) (1) فالقول بأنه مصدر دل على المبالغة، وأما لغرض الاستمرارية في البيان فلأن اسم المصدر إذا قلنا أنه اسم مصدر أو اسم عين، لأن الأسماء تدل على الاستمرارية كما هو معلوم، واسم الاسم أكثر استمرارا من الاسم، وان كنا نرى أن الجمع أولى لعدم تعارضه ولانسجامه مع سياق الآية المباركة، ولهذا نجد أن الإمام قد كان واعيا لهذا المعنى.
وكذا لفظ (الفرقان) فقد جاءت وصفا للكتاب العزيز للمبالغة في شدة تفريقه بين الحق والباطل. وهي أيضا من ألفاظ القرآن الكريم نحو قوله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) (2). ومن صيغ المبالغة قوله عليه السلام في وصف الفتن: (مرعاد مبراق، كاشفة عن ساق) (3). فهذه مصادر تدل على المبالغة في الشدة والكثرة في الرعد والفتن، وقوله الأخير كناية عن الهول والشدة. وهي من قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) (4).
هو سمة ايقاعية في نهج البلاغة يتوخاه التعبير الفني فيه ولاسيما حين يأتي نتاجا ثانويا عن المعنى، نتيجة للشاعرية التي عرف بها الإمام (علیه السلام) في كلامه.2
ص: 243
ودلالة التوازن تحقق سمات التأثير في المتلقي ورسوخ الفكرة في الذهن وله أساليب كثيرة في نهج البلاغة مثل التقابل وتوازن الفقرات السجعية وغير السجعية، ولكن هذه المرة جرى من خلال الأبنية النادرة بأسلوب المصادر الميمية، فما المصادر الميمية؟ وما أساليب استعمالها؟
لو رجعنا إلى ما قاله الصرفيون في الفرق بين المصدر والمصدر الميمي فإننا لا نكاد نجد أنهم قد فرقوا في المعنى بينهما، (وإنما تجدهم يفسرون الأخير بمعنى الأول، والمعروف أن العرب لم تكن لتزيد في بنية الكلمة شيئا إن لم يكن هناك معنى زائد على الأصل) (1). ولما كان المصدر عند الصرفيين اسما يدل على الحدث مجردا (2)، أما المصدر الميمي فهو مصدر متلبس بذات في الغالب، وهو في كثير من التعبيرات يحمل معنى لا يحمله المصدر غير الميمي (3)، فإن هذا يعني أن هناك فرقا بينهما في المعنى.
إن المصدر الميمي أكثر ما يكون شبها باسم المصدر، (إذ مدلول المصدر الحدث، ومدلول اسم المصدر لفظ المصدر من حيث معناه، حتى أطلق على اسم المصدر لفظ (اسم العين) فالعطاء ليس كمثل إعطاء، إذ يحمل في معناه ذاتا معطاة) (4). وإن كان هناك من فرق بين اسم العين واسم المصدر (5)..
ص: 244
وفي نهج البلاغة ثمة أسلوب مطرد في التعبير بالمصادر الميمية، إذ غالبا ما يأتي لالتماس التوازن بين الفقرات في الكلام مما يسبغ عليه مزيدا من المؤثرات الفنية ولاسيما الإيقاعية التي تستلذها النفس وتميل إليها، وتقبل عليها الأسماع أكثر، الأمر الذي يحقق غايتين: الإبلاغ والتأثير وهما غاية الخطيب، فالخطابة تعني فن الإقناع (1) وهو لا يكون بدونهما.
والأمثلة على ذلك كثيرة، نحو قوله عليه السلام لابنه محمد بن الحنفية: (يا بني إني أخاف عليك الفقر، فاستعذ بالله منه فإن الفقر منقصة للدين، مدهشة للعقل) (2). فما بين (منقصة و مدهشة) توازن موسيقي محبوب بين الفقرات لافت للانتباه.
وقوله: (عباد الله إنه ليس لما وعد الله من الخير مترك، ولا فيما نهى عنه من الشر مرغب) (3). ومترك ومرغب مصدران ميميان أسبغا على الكلام ثراء إيقاعيا يستسيغه السامعون، لاسيما حين يأتي في الأسلوب الخطابي المباشر الذي تشير إليه جملة النداء (عباد الله).
ومثله قوله عليه السلام ناصحا: (واعلموا أن يسير الرياء شرك، ومجالسة أهل الهوى منساة للإيمان ومحضرة للشيطان. جانبوا الكذب فإنه مجانب للإيمان. الصادق على شرف منجاة وكرامة والكاذب على شفا مهواة .
ص: 245
ومهانة) (1). ففضلا عن ثبات المعنى في المصادر المبتدئة بحرف الميم، نلحظ سيادة الشاعرية باستعمال هذا الأسلوب الفني العفوي الذي يدل على احتراف منقطع النظير لاستعمالات اللغة ومعرفة الإفادة من مكامن طاقتها. فقد وازن بين (منسأة ومحضرة) وبين (منجاة ومهواة).
وهو أيضا يجيء ضمن الخطاب الشفاهي وأعني به الخطب لما له من تأثير بين على السامعين ومن هنا يفهم توخيه لأن الغاية من ذلك كله ليست الإيقاع النعمي بل الإقناع.
ومن خطبة له عليه السلام جاء قوله عليه السلام لما غلب أصحاب معاوية
أصحابه عليه السلام على شريعة الفرات بصفين ومنعوهم من الماء: (قد استطعموكم القتال، فقروا على مذلة، وتأخير محلة) (2). فهذا اللون من التعبير
الفني أدعى إلى إلهاب الحمية في النفس وبث الحماسة فيها. ولاحظ كيف يستفز الإمام فيهم ما ذكرنا بقوله بأسلوب الأمر المجازي (فقروا).
وقد يعمد الإمام في تعبيراته بهذا الأسلوب إلى الميل إلى بناء الفعل على وزن (مفعل ومفعلة) وجمعهما لتحقيق مزيد من الثراء الموسيقي اللافت للانتباه، وهو ثراء ناتج عن المعنى بشكل لصيق كما نؤكد دائما، مثل قوله في ذكر الرسول صلى الله عليه وآله: (مستقره خير مستقر. ومنبته أشرف منبت في0.
ص: 246
معادن الكرامة ومماهد السلامة) (1). فقد جاء بالجمع (معادن ومماهد) التماسا للتوازن على الرغم من أن هذا الجمع (مجاهد) ليس مفرده ممهد.
ومن خطبة له عليه السلام قال: (واتقوا مدارج الشيطان ومهابط العدوان) (2).
وقال في موضع آخر: (وأحمد الله وأستعينه على مداحر الشيطان ومزاجره) (3).
وقوله: (ولكن الله يختبر عباده بأنواع الشدائد، ويتعبدهم بأنواع المجاهد ويبتليهم بضروب المكاره إخراجا للتكبر من قلوبهم، وإسكانا للتذلل في نفوسهم) (4)
فالألفاظ (مدارج، مهابط مداحر، مزاجو مجاهد) كلها صيغ المصادر ميمية على وزن (مفعل ومفعلة) جمعت بأوزان واحدة وحققت موازنات نغمية ميزت كلام أمير المؤمنين عليه السلام كثيرا عن غيره في أسلوب الخطابة بشكل خاص.
وهو أسلوب يأتي بشكل منساب لا قهر فيه للمعاني على الألفاظ، يتخذ منه الإمام وسيلة للإقناع حتى في احتجاجاته فمن (كلام له عليه السلام كلم
به بعض العرب، وقد أرسله قوم من أهل البصرة لما قرب عليه السلام منها.
ص: 247
ليعلم لهم منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل لتزول الشبهة من نفوسهم فبين له عليه السلام من أمره معهم ما علم به أنه على الحق، ثم قال له بايع، فقال: إني رسول قوم ولا أحدث حدثا حتى أرجع إليهم. فقال عليه السلام: أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائدا تبتغي لهم مساقط الغيث فرجعت إليهم وأخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجادب ما كنت صانعا؟ قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلاً والماء. فقال عليه السلام فامدد إذا يدك. فقال الرجل: فو الله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة علي، فبايعته عليه السلام والرجل يعرف بكليب الجرمي). (1)
فهذه قدرة فطرية على التصرف باللغة بتحويل الفعل إلى مصدر ميمي، ثم جمعه في عمليات ذهنية آنية سريعة لصناعة جمل فنية (مساقط الغيث المعاطش و المجادب) وغيرها الكثير من الأدوات والتقنيات اللغوية الفنية.3
ص: 248
بان مما سبق من البحث أن للإمام علي (علیه السلام) أسلوبه المميز في استعمال الأبنية النادرة من المصادر، لتوخي أربع دلالات في تعبيراته بها هي: النوعية والهيأة والتكثير والتوازن ويمكن حصر النتائج التي توصل إليها البحث بما يأتي:
أولا:
أن تحديد ألفاظ المصادر النادرة خضع إلى معايير القلة والندرة في الاستعمال العربي بحسب ما أكدته المصادر اللغوية والاستعمال العربي.
ثانيا:
إن تحديد دلالة الأبنية النادرة تم على اساس أربعة أهداف هي النوعية والهيأة والتكثير والمبالغة
ثالثا:
اتسم أسلوب الإمام في التماس التوازن الإيقاعي في تعبيراته باستعمال المصادر الميمية وجمعها على وزن مفعل ومفعلة، وهو أسلوب شمل الفن الخطابي بشكل خاص كونه يعتمد على السماع والتأثير.
ص: 249
- القرآن الكريم
- الأثر القرآني في نهج البلاغة، الدكتور عباس علي الفحام مطبعة الرافدين الطبعة الأولى، بيروت - 2010م.
- الاستيعاب ابن عبد البر، تحقيق: علي محمد البجاوي، الطبعة الأولى، 1412، مطبعة دار الجيل - بيروت.
- بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة محمد تقي التستري دار أمير كبير للنشر، طهران، الطبعة الأولى - 1376ه.
- تاج العروس من جواهر القاموس محمد مرتضى الزبيدي (ت 1205 ه - )، دار الفكر، بيروت - 1994 م.
- التبيان في تفسير القرآن. أبو جعفر الطوسي (ت 460 ه - ). تحقيق: أحمد حبیب القصير المطبعة العلمية - النجف الأشرف، 1957م.
- التصوير الفني في خطب الإمام علي (علیه السلام). عباس علي الفحام. (رسالة ماجستير)، كلية التربية للبنات جامعة الكوفة 1999 ام.
- التطبيق الصرفي، الدكتور عبده الراجحي، الطبعة الأولى، دار المسيرة الأردن، 2003.
- التطور النحوي للغة العربية برجشتر استر، ترجمة الدكتور رمضان عبد التواب، مطبعة المجد.
ص: 250
- التعبير القرآني، الدكتور فاضل السامرائي. بيت الحكمة - جامعة بغداد 1987 م.
- تفسير أبي السعود (إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم)، محمد بن محمد بن مصطفى الحنفي (ت 951 ه - ). وضح حواشيه عبد اللطيف عبد الرحمن، الطبعة الأولى - 1999 م، دار الكتب العلمية - بيروت.
- تفسير البيضاوي، البيضاوي (ت 682 ه - )، مطبعة دار الفكر - بيروت.
- التفسير الكبير (أو مفاتيح الغيب)، فخر الدين محمد بن عمر الرازي
(ت 606 ه - )، المطبعة البهية - مصر، بدون تاريخ.
- حقائق التأويل في متشابه التنزيل. الشريف الرضي، شرحه الأستاذ محمد الرضا آل كاشف الغطاء، دار المهاجر للطباعة والنشر والتوزيع.
- الخطابة. أرسطو طاليس. ترجمة عبد الرحمن بدوي، مطبعة لجنة التأليف والنشر، القاهرة 1959م.
- دقائق الفروق اللغوية. الدكتور محمد ياس الدوري، دار الكتب العلمية بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 2006م
- شرح ابن عقيل بهاء الدين الهمداني (ت 769 ه - )، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة الرابعة عشر، مطبعة المكتبة التجارية - مصر، 1964م.
- شرح شافية ابن الحاجب للاسترابادي النحوي (ت 686 ه - )، تحقيق: محمد نور الحسن ومحمد الزفزاف ومحمد محيي عبد الحميد دار الكتب العلمية بيروت - 1975م.
ص: 251
- شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد المدائني (ت 656 ه - ) تحقيق محمد أبوالفضل إبراهيم، دار إحياء التراث العربي، القاهرة 1959 م.
- شرح نهج البلاغة ميثم بن علي بن ميثم البحراني (ت 679 ه - ). (المصباح شرح الكبير) مطبعة خدمات، الطبعة الثانية، طهران 1404 ه - .
- الصحاح الجوهري (ت 393 ه - )، تحقيق: أحمد عبد الغفور العطار، الطبعة الرابعة - 1987م دار العلم للملايين - بيروت - لبنان.
- غريب الحديث، أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت 224 ه - )، طبع تحت مراقبة: محمد عبد المعيد خان، الطبعة الأولى، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد - الدكن 1384ه - 1965م.
- فتح القدير الجامع بين فني الرواية و الدراية من علم التفسير محمد بن علي الشوكاني (ت 1250 ه - )، مطبعة عالم الكتب.
- الفائق في غريب الحديث أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 ه - )، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد ابو الفضل ابراهيم الطبعة الأولى القاهرة دار احياء الكتب العربية - عيسى البابي 1364 ه - 1945 م.
- فنون الأدب، ه. ب. تشارلتن، ترجمة: زكي نجيب محمود القاهرة 1945م.
- في ظلال نهج البلاغة، محاولة لفهم جديد، محمد جواد مغنية دار العلم للملايين، الطبعة الأولى، بيروت 1972م.
ص: 252
- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التنزيل جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 ه - ). مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، 1966م.
- لسان العرب جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور المصري (ت 711 ه - ). دار صادر ودار بيروت، لبنان - 1955م.
- مجمع البحرين الشيخ الطريحي (ت 1085 ه)، تحقيق السيد أحمد الحسيني الطبعة الثانية مكتب النشر للثقافة الإسلامية - 1408 ه.
- مجمع البيان في تفسير القرآن الفضل بن الحسين الطبرسي (ت 548 ه - ). حقق وعلق عليه: لجنة من العلماء والمثقفين مؤسسة الأعلمي للمطبوعات بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، 1415 ه - 1995م.
- معاني الأبنية في العربية، الدكتور فاضل السامرائي. ساعدت جامعة بغداد على نشره الطبعة الأولى (1401 ه - 1981م).
- مفهومات في بنية النص، ترجمة الدكتور وائل بركات، الطبعة الأولى، دار معد للطباعة والنشر والتوزيع، سوريا، 1996.
- مقاييس اللغة، أبو الحسين احمد بن فارس بن زكريا (ت 395 ه - ) تحقيق عبد السلام محمد هارون دار احياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه الطبعة الاولى - القاهرة 1366 ه - .
- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الخوئي، طهران، المكتبة الإسلامية، الطبعة الرابعة - 1405ه.
ص: 253
- المنهج الصوتي للبنية العربية رؤية جديدة في الصرف العربي الدكتور عبد الصبور شاهين، مؤسسة الرسالة، بيروت.
- المهذب في علم التصريف الدكتور هاشم طه شلاش وآخرون، مطبعة التعليم العالي الموصل.
- نهج البلاغة محمد عبده، مطبعة بابل - بغداد 1984م.
- نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ محمد باقر المحمودي عن المكتبة الشاملة.
ص: 254