سرشناسه :جعفرپیشه فرد، مصطفی ، 1340 -
عنوان و نام پدیدآور :الاجتهاد عندالمذاهب الاسلامیه: دراسه تحلیلیه حول (مدارس الاجتهاد و مناهجه و ادواره)/ تالیف مصطفی جعفرپیشه فرد.
مشخصات نشر :قم: احیا امر طه، 1401.
مشخصات ظاهری :ر، [468] ص.
فروست :من سلسلة مباحث الفقه والاجتهاد؛ (1).
شابک :1000000ریال: 978-622-92632-0-4
وضعیت فهرست نویسی :فاپا
یادداشت :زبان: عربی.
یادداشت :کتابنامه: ص. [461] - 467؛ همچنین به صورت زیرنویس.
موضوع :اجتهاد و تقلید *Ijtihad and taqlid اجتهاد و تقلید -- دفاعیه هاو ردیه ها *Ijtihad and taqlid -- Controversial literature
رده بندی کنگره :BP167
رده بندی دیویی :297/31
شماره کتابشناسی ملی :8963148
ویراستار دیجیتالی:محمد منصوری
اطلاعات رکورد کتابشناسی :فاپا
ص: 1
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على حبيبه وصفيّه من خلقه نبيّنا محمّد وآله الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً
ص: 2
الإجتهاد عند المذاهب الإسلاميّة
دراسة تحليليّة
حول
(مدارس الإجتهاد ومناهجه وأدواره)
تألیف: مصطفى جعفرپيشه فرد
ص: 3
ص: 4
صلّی الله علیک یا بقیّة الله (عجل الله تعالی فرجه الشریف)
الاهداء إلی:
رائد الاجتهاد المعاصر، الإمام المجاهد آیةالله العظمی، السید روح الله الموسوی الخمینی(قدس الله نفسه الزکیه)
ص: 5
ص: 6
کلمة الناشر. 19
کلمة المرکز. 21
الباب الاول: مدارس الإجتهاد ومناهجه وأدواره عند العامّة. 23
الفصل الأول بيان المبادئ التصورية لهذا البحث. 25
التمهيد. 27
المبحث الأول تعريف الإجتهاد. 29
1) الإجتهاد لغةً. 29
2) الإجتهاد اصطلاحاً. 31
الأول: القياس الفقهي.. 31
الثاني: العمل بالرأي والنظر الشخصي.. 31
الثالث: إستكشاف الحكم من أدلّة الشرع. 33
ص: 7
وأورد عليه:. 34
أمور ينبغي التنبيه عليها. 39
الأمر الأول: أركان الإجتهاد. 40
الأمر الثاني: الإجتهاد وحدود دائرته. 40
الأمر الثالث: أقسام الإجتهاد. 41
الأمر الرابع: الاخبارية والإجتهاد. 44
المبحث الثاني التعريف بالمنهج. 47
1) المنهج لغةً. 47
2) المنهج إصطلاحاً. 48
المبحث الثالث التعريف بالمدارس والمذاهب. 51
1) المدرسِة لغةً. 51
2) المدارس اصطلاحاً. 52
3) المذهب لغةً وإصطلاحاً. 52
المبحث الرابع التعريف بالمناهج والمدارس والمذاهب الإجتهادية. 55
الأمر الأول: الفرق بين مناهج الإجتهاد ومدارسه. 55
أ) المناهج التي يكون منشأ اختلافها راجعاً إلى اختلاف الأصول والمباني.. 55
ب) المناهج التي يكون منشأ اختلافها راجعاً إلى الاختلاف في نفس المنهج.. 56
الأمر الثاني: الفرق بين المدارس والمذاهب... 57
المبحث الخامس الإشارة إلى ضرورة البحث وأهميته. 59
المبحث السادس نشأة المدارس وأسباب الخلاف.. 63
تمهيد. 63
أسباب ظهور الاختلاف... 67
نكات مهمة ينبغي الالتفات إليها. 71
خلاصة المبحث. 84
ص: 8
الفصل الثاني أهم المدراس والمذاهب الإجتهادية عند العامة وخصائصها. 85
تمهيد. 87
أهم المشتركات بين مذهب العامة ومذهب الخاصة. 88
ظهور المدارس الفقهية عند العامة. 89
تمهيد. 89
المبحث الأول مدرسة الحديث ومنهجها في الإجتهاد. 91
منهج مدرسة الحديث... 91
أقسام أهل الحديث... 93
المبحث الثاني مدرسة الرأي ومنهجها في الإجتهاد. 95
منهج مدرسة الرأي.. 97
أمران مهمان ينبغي الإشارة إليهما. 98
نماذج تطبيقية من فقه أهل الرأي وأهل الحديث. 98
1) القراءة خلف الإمام. 98
2) القضاء بشاهد واحد مع يمين المدعي.. 99
3) قضاء المرأة. 99
4) الولاية في عقد الزواج.. 99
5) ضمان المصراة. 100
خاتمة المطاف... 100
موقف الإمامیه من المدرستين المتقدمين.. 101
المبحث الثالث ظهورالمدارس الفقهية في ظل مدرسه الحديث ومدرسة الرأي. 103
الفصل الثالث مدرسة أبي حنيفة ومنهجه في الإجتهاد. 105
محاور البحث. 107
ص: 9
1) مؤسس المذهب الحنفی. 107
2) نشوء الدعوة للمذهب الحنفی ومحلها. 108
3) الأسس الرئيسيّة للمذهب الحنفي. 110
الأول: كتاب الله عزوجل.. 110
الثاني: السنة النبوية. 111
الثالث: قول الصحابي.. 112
الرابع: القياس... 113
أركان القياس... 113
حجية القياس... 113
الخامس: الاستحسان. 114
حجية الاستحسان. 115
السادس: الاجماع. 116
السابع: العرف.. 117
أقسام العرف.. 117
إعتبار العرف.. 118
أقسام الحكم التكليفي عند الحنفية. 119
4) نماذج من فتاوي المذهب الحنفي. 120
1) تكبيرة الاحرام. 120
2) القراءة. 121
3) بعض الواجبات الأخرى للصلاة. 121
4) الترتيب... 121
الفصل الرابع مدرسة مالك ومنهجه في الإجتهاد. 125
محاور البحث. 125
1) مؤسس المذهب المالكي. 125
ص: 10
تصانيف مالك... 126
2) نشوء الدعوة للمذهب المالكي ومحلّها. 127
أهمّ مصادر الفقه المالكي.. 128
مکان انتشار فيه المذهب المالكي.. 128
3) الأصول الرئيسيّة للمذهب المالكي. 130
أ) الأصول المشتركة مع سائر المذاهب... 130
1) الكتاب العزيز. 130
2) السنّة. 131
3) الإجماع. 132
4) قول الصحابي.. 132
5) القياس... 133
6) الإستصحاب... 133
7) الإستقراء. 134
8) الاستدلال. 134
9) الاستحسان. 135
10) شرع من قبلنا شرع لنا. 135
11) البراءة الأصلية. 136
ب) الأصول الخاصة بالمذهب المالكي.. 136
1) عمل أهل المدينة. 137
2) المصالح المرسلة. 138
3) سدّ الذرائع. 141
4) مراعاة الخلاف... 143
5) مراعاة العرف.. 143
4) المنهج الكلامي والفقهي للمذهب المالکی. 145
الف) المنهج الكلامي لمالك... 145
ب) المنهج الفقهي لمالك... 146
ص: 11
1) منهج مالك في الحديث... 146
2) منهج مالك في المخصص للعمومات... 147
3) رأي مالك في الفتاوى الفقهيّة للفقهاء. 148
4) منهج مالك في الإجتهاد بالرأى والمصلحة. 148
5) نماذج من فتاوی المذهب المالکی. 149
الفصل الخامس مدرسة الشافعي ومنهجه في الإجتهاد مجالات البحث في المذهب الشافعي. 151
1) مؤسس المذهب الشافعي. 151
2) منطلق المذهب الشافعي وأماكن انتشاره. 154
3) الأسس الرئيسيّة في المذهب الشافعي. 156
مذهب الشافعي والاستحسان. 158
مذهب الشافعي والمصالح المرسلة. 159
4) إطلالة على المنهج الفقهي والكلامي للمذهب الشافعي. 159
الف) المنهج الفقهي للمذهب الشافعي.. 159
ب) المنهج الكلامي للمذهب الشافعي.. 160
5) نماذج من الفتاوى التي إنفرد بها المذهب الشافعي. 161
الفصل السادس مدرسة أحمد بن حنبل ومنهجه في الإجتهاد. 163
مجالات البحث في المذهب الحنبلی. 163
1) مؤسس المذهب الحنبلي. 163
2) منطلق انتشار المذهب الحنبلي ومکانه. 165
أهم المؤلّفات في الفقه الحنبلي.. 167
3) الأسس الرئيسيّة للمذهب الحنبلي. 170
ص: 12
موقف أحمد من الأستصحاب... 173
موقف أحمد من المصالح المرسله. 174
موقف أحمد من سدّ الذرائع. 174
موقف أحمد من الاجماع. 175
4) إطلالة على المنهج الكلامي والفقهي للمذهب الحنبلي. 175
أ) المنهج الکلامی للمهذب الحنبلی.. 175
1- خلق القرآن ومحنة ابن حنبل.. 175
2- القضاء والقدر والجبر. 176
3- التوحيد. 176
4- الخلافة واختيار الإمام. 176
ب) المنهج الفقهي للمذهب الحنبلی.. 177
5) نماذج من الفتاوى التي إنفرد بها الفقه الحنبلي. 179
الفصل السابع إستمرار مدرسة أحمد بن حنبل في القرون المتأخرة. 180
1) ابن تيمية. 180
2) ابن قيم الجوزيّة الحنبلي. 183
3) محمّد بن عبد الوهّاب النجدي. 184
بعض الأصول الأساسيّة للفكر الوهابیّ.. 186
الفصل الثامن مدرسة الظاهري ومنهجه في الإجتهاد. 188
مجالات البحث في المذهب الظاهری. 188
1) مؤسّس المذهب الظاهري. 188
2) منطلق انتشار المذهب الظاهری. 188
ابن حزم الظاهري.. 189
نفور العلماء من داود الظاهري.. 190
ص: 13
3) الأصول الأساسيّة للمذهب الظاهريّ. 191
1) كتاب الله. 191
2) السنّة. 191
3) تعليل النصوص.... 192
4) الدليل.. 194
5) الإستصحاب... 196
4) إطلالة على بعض آراء المذهب الظاهری. 197
1) رأيهم في الأمور الغيبيّة. 197
2) رأيهم في الخلافة. 197
3) رأيهم في الإجماع. 197
4) رأيهم في عمل أهل المدينة. 198
5) رأيهم في القياس... 198
6) رأيهم في شرع من قبلنا. 198
7) رأيهم في التقليد. 198
5) نماذج من الفتاوي الخاصّة بالمذهب الظاهری. 198
الفصل التاسع انسداد باب الإجتهاد عند العامّة وأسبابه. 201
الأمر الأوّل. 201
الأمر الثاني: الأسباب التاريخيّة التي أدّت إلى انسداد باب الإجتهاد 202
الأمر الثالث: عوامل الإنسداد، تاریخیاً وسیاسیاً واجتماعیاً. 209
1) ضعف الدولة العبّاسيّة. 209
2) التعصّب للمذاهب وأئمّتها 210
3) القضاء. 211
4) الحروب الداخليّة وكثرة الفتن.. 212
5) الأمراض الخُلقيّة والتحاسد بين العلماء. 213
ص: 14
الأمر الرابع: القول بسدّ باب الإجتهاد وأدلّته. 214
الأمر الخامس: القول بإمكان الإجتهاد وأدلّته. 216
الأمر السادس: نقد أدلّة كلٍّ من الموافقين والمخالفين لانسداد من الإجتهاد. 219
أ) نقد أدلّة القائلين بانسداد باب الإجتهاد. 219
ب) نقد أدلّة المنكرين لانسداد الإجتهاد. 221
الفصل العاشر تبعات انسداد باب الإجتهاد حتى العصر الحاضر. 225
الأمر الأول: الأثار السيّئة للانسداد. 226
الأمر الثاني: إحياء حركة الإجتهاد في مذاهب العامّة. 229
الأمر الثالث: نظرة جديدة إلى إحياء حركة الإجتهاد في مذاهب أهل العامّة. 231
الباب الثانی: أدوار الإجتهاد ومناهجه في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام). 242
الفصل الأول المفاهيم والكليات. 244
المبحث الأول ما يرتبط بكلمة الإجتهاد. 246
المبحث الثاني ما يرتبط بكلمة الأدوار. 250
ومنهجيّة البحث. 250
منهجية البحث... 250
المبحث الثالث ضرورة البحث وسابقته. 253
المبحث الرابع النظرة الاجمالية إلى مصادر الإستنباط في فقه أهل البيت (علیهم السلام). 255
الفصل الثاني الإجتهاد في عصر الحضور. 257
الفصل الثالث حركة الإجتهاد في عصر الغيبة. 271
ص: 15
الدور الأول دور التأسيس.. 273
الأمر الأول: تحديد دور التأسيس... 273
الأمر الثاني: التعريف بدور التأسيس... 273
الأمر الثالث: أهم فقهاء الدور الأوّل وأهمّ مؤلفاتهم. 274
الأمر الرابع: منهج الإجتهاد في الدور الأول. 278
الاتجاه الأول: الاتجاه الروائي.. 279
الاتجاه الروائی والاستدلالات العقلية. 279
الاتجاه الروائی والغلوّ. 280
الاتجاه الثاني: الإتجاه العقلي.. 281
الاتجاه الثالث: خط الإعتدال والتوفیق بين العقل والنقل.. 282
الأمر الخامس: أهم خصائص دور التأسيس... 284
الدور الثاني دور الإنطلاق. 286
الأمر الأول: تحديد دور الإنطلاق.. 286
الأمر الثانی: التعریف بدور الإنطلاق.. 286
الأمر الثالث: فقهاء دور الإنطلاق وأهم مؤلفاتهم. 287
ألف) الشيخ ومعاصروه. 287
أهم الآثار العلمية للشيخ الطوسي.. 289
ب) فقهاء ما بعد الشيخ.. 292
الأمر الرابع: منهج الإجتهاد في دور الإنطلاق.. 294
الأمر الخامس: أهم خصائص دور الإنطلاق.. 296
الدور الثالث دور الاستقلال والتكامل. 299
الأمر الأول: تحديد دور الاستقلال والتكامل.. 299
الأمر الثاني: التعريف بدور الاستقلال والتکامل.. 299
الأمر الثالث: فقهاء دور الاستقلال وأهم مؤلفاتهم. 303
الأمر الرابع: منهج الإجتهاد في الدور الاستقلال والتکامل.. 317
الأمر الخامس: أهم خصائص دور الاستقلال والتکامل.. 318
ص: 16
الدور الرابع دور الإفراط في الإتجاه العقلي للاستنباط. 323
الأمر الأول: التحديد الزمني للدور الرابع. 323
الأمرالثاني: التعريف بالدور الرابع. 323
الأمر الثالث: أهمّ المجتهدين في الدور الرابع ومؤلفاتهم. 324
الامر الرابع: منهج الإجتهاد في الدور الرابع. 328
الأمر الخامس: أهمّ خصاص الدور الرابع. 329
الدور الخامس دور التفريط في الإتجاه العقلي للاستنباط (مدرسة الأخباریّة). 332
الأمر الأول: التحديد الزمنى للدور الخامس... 332
الأمر الثاني: التعريف بالدور الخامس ووجه تسميته بدور التفريط.. 332
الأمر الثالث: أهمّ الشخصيّات البارزة في الدور الخامس... 333
الأمر الرابع: منهج الإجتهاد في الدور الخامس... 338
الفرق بين الاخبارية القديمة والحديثة. 340
أسباب ظهور الحركة الاخبارية. 342
عالِم الدين ومكانته السياسية عند الأخباري والأصولي.. 344
الأمر الخامس: أهم خصائص الدور الخامس... 346
الدور السادس دور التصحيح والإعتدال. 350
الأمر الأول: التحديد الزمنى للدور السادس... 350
الأمر الثاني: التعريف بالدور السادس... 350
الأمر الثالث: فقهاء دور الإعتدال وأهم مؤلفاتهم. 350
الأمر الرابع: منهج الإجتهاد في الدور السادس... 356
الأمر الخامس: أهمّ خصائص الدور السادس... 357
الدور السابع دور النضج الفكر الإجتهادي و إبداعه. 359
الأمر الأول: التحديد الزمني للدور السابع. 359
الأمر الثاني: التعريف بالدور السابع. 359
الأمر الثالث: فقهاء دور النضج والإبداع وأهم مؤلفاتهم. 360
ص: 17
الأمر الرابع: منهج الإجتهاد في الدور السابع. 364
الأمر الخامس: أهم خصائص الدور السابع ومميزاتها. 367
الدور الثامن دور تأسيس الدولة وفقاً لنظرية الحكم في الإسلام. 371
الأمر الأول: التحديد الزمني للدور الثامن.. 371
الأمر الثاني: التعريف بالدور الثامن.. 371
الأمر الثالث: أهم فقها دور الثامن.. 372
الأمر الرابع: منهج الإجتهاد في الدور الثامن.. 377
الأمر الخامس: أهم خصائص الدور الثامن.. 381
المصادر و المراجع. 383
ص: 18
أكثر من عقدٍ من الزمن مرّ على إصدار الطبعة الأولى (سنة 2011م) من كتاب "الاجتهاد عند المذاهب الإسلاميّة" على يد "مركز الحضارة لتنمية لفكر الإسلامي" في بيروت - لبنان. ونظرًا إلى المضمون التدريسي للكتاب، ونتيجةً لنفاد نُسخه - وبخاصّة في إيران - وحاجة الطلاب والفضلاء في السطح الرابع ودكتوراه الفقه والأصول إليه، كان لا بدّ من طباعة هذا الكتاب طبعته الثانية في إيران.
وإذ نتوجّه بالشكر إلى مركز الحضارة على الجهود التي بذلها لإصدار الطبعة الأولى، فبعد تجربة الكتاب في مجال التدريس لمدّة عشر سنوات، ومن باب تحضير هذا الكتاب لطبعة جديدة، فقد رأينا من الضروري أن نقوم ببعض الإصلاحات والتغييرات فيه لكي يؤحَذ بها في الطبعة الثانية.
هذه الإصلاحات التي قام بها الكاتب تشمل - من جهة - المسائل التحريريّة والصياغيّة، الأخطاء الطباعيّة، مع إصلاح بعض العناوين الرئيسيّة والفرعيّة، وتشمل - من جهةٍ أخرى - زيادة بعض النكات والإضافات التوضيحيّة، وبخاصّة في الباب الثاني من الكتاب.
وفي هذا السياق تتوجّه دار "إحياء أمر طه" من الفاضل المحترم جناب السيد عادل الحكيم دامت توفیقاته بجزيل الشكر والامتنان على الجهود التي بذلها لإعادة قراءة الكتاب ومعالجة أخطائه وتحرير بعض عباراته.
نشر احیاء امر آل طه
قم المقدسه 1401 ه ش
1443 ه ق / 2022 م
ص: 19
ص: 20
الاجتهاد هو بذل الجهد الذی یقوم به الفقیه المتخصّص لاکتشاف الحکم الشرعیّ من مصادره المقررّة، التی هی الکتاب والسنّة والعقل والإجماع. وفی هذه الحدود تتّفق المدارس الإسلاميّة الاجتهادیه. وتتّفق هذه المدارس علی کثیر من قواعد التعامل مع هذه المصادر، وکیفیّة فهمها. ولکنّها مع هذا الاتفاق تختلف حول بعض القواعد والضوابط الاجتهادیّة، ما یجعل المقارنة بین هذه المدارس عملیة کبیرة الجدوی لتطویر التواصل وإزالة سوء الفهم المتبادل بین المسلمین ومدارسهم الاجتهادیة والفقهیة. وقد حصر الشیخ مصطفی جعفر یشه جهوده لمعالجة المدارس الاجتهادیة فی الفقه الإسلامی، فی دراسة تجمع بین المقارنة والعرض دون إصرار علی الانتصار لمدرسة علی أخری. ولسنا ندّعی ولا المؤلف نفسه یدّعی أنّ الکتاب فرید فی بابه، فقد کتبت العشرات من الدراسات الممائلة فی الموضوع نفسه؛ ولکنّ لهذا الکتاب امتیازات دعتنا فی مرکز الحضارة إلی تبنّیه ونشره فی سلسلة الدراسات الحضاریّة. وفی الختام نأمل أن یجد القارئ فی هذا الکتاب ما وجدناه، وأن یحظی الکتاب واختیارنا إیاه برضاه. والله من وراء القصد.
مرکز الحضارة لتمنیة الفکر الإسلامی
بیروت، 2011.
ص: 21
ص: 22
ص: 23
ص: 24
ص: 25
ص: 26
في مقام البحث حول «مدارس الإجتهاد ومناهجه» لابدّ قبل الدخول في صلب البحث من توضیح المبادئ التصورية لهذا العنوان وتعريف المفاهيم المندرجة تحته، لإن ضرورة المقام تقتضي ذلك؛ حيث أنه في ضوء توضیح المقصود من الألفاظ المندرجة في العنوان سوف يظهر المراد من السؤال مورد البحث وبالتالي تبيين الأهداف الموجبة له. أضف إلى ذلك أنّ عنوان البحث من العناوين الجديدة التي لم يُصنّف حوله مؤلف بشكل مستقل وإن أمكن اصطياد جذوره من بین ثنایا الكتب المدوّنة المرتبطة بالفقه وأصوله، لاسيّما المؤلفات المختصّة بالإجتهاد وأطواره وتاريخه. حیث إنّ تعريف الإجتهاد والمناهج والمذاهب وغير ذلك من المفاهيم المرتبطة بالموضوع وتبيين مغزاها في اللغة والاصطلاح يرفع الكثير من الابهامات ویحول دون سوء الفهم والوقوع فی كثيرٍ من الإخطاء. التي يمكن أن يقع فيها الباحث نتيجة عدم وضوح المفاهيم المرتبطة بالبحث.
وعلى هذا، فسوف يقع الكلام في الفصل الأول في عدة مباحث.
ص: 27
ص: 28
الإجتهاد: مصدر من باب الافتعال وهومأخوذ من الجهد - بالفتح أوالضم- بمعنى الطاقة، تقول: إجهَد جَهدَك. وقيل: الجَهد (بالفتح) المشقّة، والجُهد (بالضم) الطاقة.(1) وعليه: فالإجتهاد بمعنى بذل الوسع والطاقة سواء أخذناه من الجهد (بالفتح) أوالجُهد (بالضم)؛ وذلك لأنّ بذل الطاقة لايخلومن مشقة وهما أمران متلازمان(2) ولايكون الإجتهاد إلا فيما فيه الكلفة والمشقة. وقد تكرّر لفظ «الإجتهاد» في الأحاديث المرويّة عن أهل البيت (علیهم السلام) بنفس هذا المعنى.
فمنها: ما رواه الکلینی في الكافي بإسناده عن أبي بصير قال: قال رجل لأبي جعفر (علیه السلام) : إنّي ضعيف العمل قليل الصيام ولكنّي أرجوأن لا آكل الاّ حلالاً. قال: فقال له: «أيّ الإجتهاد أفضل من عفّة بطن وفرج».(3)
ص: 29
ومنها، ما في نهج البلاغة عن أميرالمومنين (علیه السلام) : «فَعَلَيْكُمْ بِالْجِدِّ وَالْإِجْتِهَادِ، والتَّأَهُّبِ، والاْءِسْتِعْدَادِ، والتَّزَوُّدِ فِي مَنْزِلِ الزَّادِ».(1)
ومنها: ما جاء في نهج البلاغة - أيضاً- عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في كتاب له (علیه السلام) إلى عامله عثمان بن حنيف الأنصاري:
«أَلا وإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُومٍ إِمَاماً، يَقْتَدِي بِهِ ويَسْتَضِيءُ بِنُورِ عِلْمِهِ، أَلا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ، ومِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ. أَلا وَإِنَّكُمْ لاتَقْدِرُونَ عَلَى ذلِكَ، وَلكِنْ أَعِينُونِي بِوَرَعٍ وَاجْتِهَادٍ، وَعِفَّةٍ وَسَدَادٍ».(2) إلى غير ذلك من الروايات العديدة المروية عن الائّمة المعصومين (علیهم السلام) التي استعمل لفظ الإجتهاد فيها بمعناه اللغوي أي: بذل الوسع والطاقة.
ولا يخفى إن لفظ الإجتهاد قد ورد بنفس ذلك المعنى اللغوي في الأحاديث المروّية عن اهل السنّة أيضاً، كما روى مسلم في صحيحه عن عائشة، قالت: «كان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) يجتهد في العشر الاواخر ما لا يجتهد في غيرها».(3)
وروي عنه (صلی الله علیه و آله و سلم) : «صلّوا عليّ واجتهدوا في الدعاء».(4) و- أيضاً روي عنه (صلی الله علیه و آله و سلم) : «فضل العالم على المجتهد مئة درجة».(5) أي المجتهد في العبادة.
ص: 30
فنعرف من خلال هذه الموارد أنّ مدلول الإجتهاد والمستعمل فيه هذا اللفظ هونفس مفهومه اللغوي الذي مرّ ذكره.
أمّا في الاصطلاح فالإجتهاد يطلق على عدّة معان:
قال الشافعي في الرسالة: «فما القياس أهوالإجتهاد أم هما متفرقان؟ قلت: هما اسمان لمعنى واحد».(1)
أقول: القياس - كما سيأتي البحث عنه- هوعبارة عن حمل معلوم على معلوم أونفيه عنهما بأمر جامع بينهما من حكم أوصفة.(2) والقياس بهذا المعنى يقال له في المنطق التمثيل.(3)
المصطلح الثاني للاجتهاد هوعبارة عن بذل الجهد للتوصل إلى الحكم في واقعة لا نصّ فيها، بالتفكير واستخدام الوسائل المختلفة من قياس أواستحسان أومصالح
ص: 31
مرسلة أوترجيحات عقلية ظنية للاستنباط بها فيما لا نصّ فيه.(1)
والفرق بين المصطلحين المتقدمين للاجتهاد أن المعنى الأوّل - أي القياس- أخصّ من المعنى الثاني الذي یدل علی مطلق العمل بالرأي والنظر.
والذي ينبغي ذكره في المقام أنّ العمل بالرأي كما يسمّى بالإجتهاد، كذلك يسمّى بالتأويل. قال ابن حزم: «أبوالغادية (قاتل عمّار) متأوّل مجتهد مخطي باغٍ عليه مأجور اجراً واحداً وليس هذا كقتلة عثمان؛ لأنهم لامجال لهم للاجتهاد في قتله».(2)
وقال أيضاً: «لاخلاف بين أحد من الأمّة في أن عبدالرحمن بن ملجم لم يقتل علياً إلا متأولاً مجتهداً مقدّراً انه على صوابٍ».(3)
فالعمل بالرأي تارة يسمّى عند فقهاء العامّة بالتأويل وتارة بالإجتهاد.(4)
وتسمية القياس والعمل بالرأي بالإجتهاد الذي هومصطلح عليه في فقه الجمهور، أساسه عبارة عن إعتبار الرأي والنظر الشخصي فالفقيه حيث لا يجد النص، يرجع إلى نظره الخاصّ والإجتهاد بهذا المعنى يعتبر دليلاً من أدلة الفقه ومصدراً من مصادره، كالكتاب والسنة وقد نادت بهذا المعنى للاجتهاد مدارس كبيرة في الفقه السنّي.
ص: 32
قال الشهيد الصدر: «تتبّع كلمة «الإجتهاد» يدلّ على أنّ الكلمة حملت هذا المعنى (العمل بالرأي) وكانت تستخدم للتعبير عنه منذ عصر الائمة إلى القرن السابع فالروايات المأثورة(1) عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) تذّم الإجتهاد وتريد به ذلك المبدأ الفقهي الذي يتخذ من التفكير الشخصي مصدراً من مصادر الحكم».(2)
وبالجملة: المصطلح الأول للاجتهاد المعتبر عند مدارس كثيرة من الجمهور وخاصة عند مدرسة أبي حنيفة، والمصطلح الثاني الذي ينظرون إليه عموم فقهاء العامة بعين الاعتبار، لا حجيّة ولا إعتبار لهما في مذهب أهل البيت (علیهم السلام) والإجتهاد المذموم والباطل في فقههم هوأحد هذين المعنيين.
المصطلح الثالث للاجتهاد هوعبارة عن إستكشاف الحكم الشرعي من أدلته وهوبهذا المعنى لا يكون مصدراً من مصادر التشريع، ولا دليلاً على الحكم الشرعي - بخلاف المصطلحين السابقين- وإنما هوعبارة عن إستنباط الحكم الشرعي من أدلته. والإجتهاد بهذا المعنى قد عرّف في المذاهب والمدارس الفقهية المختلفة بعدّة تعريفات، نذكر منها في ما يلي أهمّها:
1) ورد عن ابن الحاجب والعلامة الحلّي (رحمه الله) تعريفهما للاجتهاد بأنّه: «استفراغ
ص: 33
الوسع لتحصيل الظن بالحكم الشرعي».(1) وعن الآمدي تعريفه ایّاه بانّه: «استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية على وجه يحسّ من النفس العجز عن المزيد فيه».(2)
أولاً: أنه غير منعكس؛ لأنّ الظن المأخوذ فيه يشمل الظنون غير المعتبرة التي لم يتم الدليل على حجيتها شرعاً فإنّ فقهاء الإسلام عموماً ومن جميع المذاهب - حتى الآخذين بالظنون القياسية والاستحسانية- إنما يعملون بها لكونها من الظنون المعتبرة التي قام الدليل الشرعي بحسب اعتقادهم على إعتبارها.
ثانياً: أنه غير مطّرد؛ لأن الدليل على الحكم الشرعي ليس منحصراً بالظن فهوتفسير بالأخص ولايشمل غيره من العلم بالحكم وغيره ممّا اعتبر من الأدلّة التعبديّة التي لا تفيد الظن ولونوعاً كأصالة البراءة وأصالة الطهارة وأصالة الحلّية.
وبالجملة فالتعريف غير مانع وغير جامع.(3)
2) ویعرّف الغزالي للاجتهاد بانه: «بذل المجتهد وسعه فی طلب العلم بالاحكام
ص: 34
الشرعية بحيث يحس في نفسه بالعجز من مزيد طلب»،(1) وعن الخضري: «بأنه بذل الفقيه وسعه في طلب العلم بالأحكام الشرعية.(2)
أقول: مضافاً إلى ما يرد على تعريف الغزالي من أنه دوريّ، حيث إنه أخذ المجتهد في تعريف الإجتهاد، انه لواريد من العلم الوارد في هذا التعريف، خصوص العلم الوجداني، وأريد من الحكم الشرعي خصوص الحكم الواقعي فالتعريف غير مطّرد؛ لعدم شموله للأحكام الظاهرية التي يقوم الفقيه بإستنباطها إعتماداً على الأماراتوالأصول العملية، وأما لو أريد من العلم الأعم من الوجداني والتعبّدي ومن الحكم الأعم من الواقعي والظاهري، فلا إشكال عليه من هذه الجهة، ويقع سليماً عمّا أورد عليه: من أنّه محتاج إلى ضميمة كلمة الوظائف لتشمل كل ما يتصل بوظائف المجتهدين من عمليات الإستنباط.(3) فإنه يمكن أن يقال: بأنه لوأريد من الحكم الشرعي الأعّم من الواقعي والظاهري فالحكم الظاهري لايختص بمفاد الظنون المعتبرة والأمارات، بل يشمل ما يستفاد من الأصول العملية المتصلة بوظائف المجتهدين ولا فرق بين الأمارات والأصول العملية من هذه الجهة.(4)
3) وجاء عن الميرزا القمي تعريفه للاجتهاد بأنه: «استفراغ الوسع في تحصيل الحكم الشرعي الفرعي من أدلّته لمن عرف الأدلّة وأحوالها وكان له القوة القدسية
ص: 35
التي يتمكن بها من مطلق ردّ الفرع إلى الأصل».(1)
وجاء عن الفقهاء المتأخرين تعريفهم للإجتهاد بأنه: «ملكة يقتدر بها على إستنباط الأحكام الشرعية».(2)
أقول: ما ذكره القمي (رحمه الله) في ذيل تعريفه من ردّ الفرع إلى الأصل، لعلّه إشارة إلى ما روي عن أئمة أهل البيت (علیهم السلام) قولهم «علينا إلقاء الأصول وعليكم التفريع».(3)وأمّا ما أورد على هذا التعريف بأن «الإجتهاد الذي يعدّ عدلاً للتقليد والاحتياط ليس هوبمعنى الملكة وإنّما معناه تحصيل الحجة على الحكم الشرعي بالفعل، أعني العمل والإستنباط الخارجيين، وإن ملكة الإجتهاد غير ملكة السخاوة والشجاعة ونحوهما من الملكات، إذ الملكة في مثلهما إنما تتحقق بالعمل وبالمزاولة وهذا بخلاف ملكة الإجتهاد لأنها تتوقف على جملة من المبادى ء والعلوم وبعد تعلّمها تحصل له ملكة الإستنباط وإن لم يتصد للاستنباط، فإذن العمل أي الإستنباط متأخر عن الملكة.»(4) فيمكن أن يجاب عنه:
أولاً: لا فرق في الواقع بين ملكة الشجاعة والسخاوة وغيرهما من الملكات وبين ملكة الإجتهاد، فكما ان تحقق تلك الملكات يحتاج إلى العمل والمزاولة، فكذلك ملكة الإجتهاد أيضاً، فانها مما تتوقف على العمل والممارسة، مضافاٌ إلی توقفها على
ص: 36
تعلّم المبادى ء والعلوم، ومجرد تعلّم المبادىء من الصرف والنحوواصول الفقه وغير ذلك لا يوجب تحقق ملكة الإجتهاد والإستنباط. وامّا إذا تحققت بعد تعلّم المبادىء وبعد الاقدام والعمل، فإنه يصدق على صاحب الملكة انه مجتهد وان لم يباشر عمليّة الإستنباط فعلاً.
نعم لايترتب على نفس هذه الملكة الأمن من العقاب الناتج عن التقصیر فی المعرفة الاحکام الاّ إذا اشتغل بالاستنباط.
ثانياً: انّ ذكر قيد «الحجة» في تعريف الإجتهاد على ما ذكره صاحب الكفاية وايده المحقق الخوئي فی قوله: «تحصيل الحجة على الحكم الشرعي» قيد زائد مستدرك؛لان الإجتهاد هواستفراغ الوسع في تحصيل نفس الحكم الشرعي، ومن المعلوم ان تحصيل الحكم الشرعي لا يمكن ان يتحقق الاّ بالحجة المعتبرة شرعاً فعلى هذا یکون ذكر كلمة «الحجة» في التعريف زائداً غير محتاج إليه.
والذي يسهّل الخطب ان الإجتهاد تارة يقع وصفاً لقوة الإستنباط والقدرة على تحصيل الحكم الشرعي مثل ما يقال: «بلغ زيد إلى ذروة الإجتهاد» فحينئذٍ يمكن ان يعرف بالملكة وتارة يطلق على نفس عملية الإستنباط ومباشرة تحصيل الحكم الشرعي مثل ما يقال: اجتهد زيد، أوإجتهاده في المسألة كذا فحينئذٍ لايمكن ان يعرف الإجتهاد بمجرد الملكة والقدرة على الإستنباط.
فالحق ان الإجتهاد كما اعترف به السيد الخوئي يكون على معنيين: الإجتهاد بمعنى الملكة وقدرة الإستنباط، والإجتهاد بمعنى عمليّة الإستنباط.(1)
ص: 37
والجدير بالذكر، أن كلّ التعاريف التي مرّ ذكرها؛ هی تعاريف لفظيّة تقع في جواب السؤل ب-(ما) الشارحة، وليست واقعة في جواب السؤل ب-(ما) الحقيقية، فانها ليست في مقام بيان حدّ الإجتهاد أورسمه، بل هي في مقام شرحه كما ذکر ذلک فی صاحب الكفاية (رحمه الله).(1)
فالأنسب ان يقال في تعريف الإجتهاد: «إنه ملكة يقتدر بها على استفراغ الوسع في تحصيل الحكم الشرعي» أوأنه عبارة عن «استفراغ الوسع في تحصيل الحكم الشرعي».وعلى كلّ تقدير فالفرق بين الإجتهاد بمعنى القياس والعمل بالرأي (أي المعنيين الاوّلين) وبین الإجتهاد بمعنى إستنباط الحكم الشرعي واستخراجه من الادلّة، فرق جوهريّ، فانّه على الاولين يكون بمعنى الذوق الشخصي والرأي الخاص للمجتهد فيكون مصدراً للحكم الشرعي في عرض المصادر الأخرى من الكتاب والسنة والاجماع وغيرها؛ بينما على الثالث لايكون الإجتهاد مصدراً ومنبعاً للحكم، بل هونفس عملية تحصيل المجتهد للعلم بالحكم من الأدلة المعتبرة والحجج الشرعية فالمصدر هوالادلة، وليس نظر المجتهد.
وعلى هذا، فالذي نجده في روايات الائمة المعصومين (علیهم السلام) وفي كلمات العلماء المتقدمين من تابعيهم، كالصدوق والمفيد والسيد المرتضى والشيخ الطوسي وغيرهم4 من ذمّ الإجتهاد والقول ببطلانه وان الإماميّة لايجوز عندهم العمل بالرأي
ص: 38
والإجتهاد وان القياس والإجتهاد ليسا بدليلين ومحظور استعمالهما، الى غير ذلك من التعابير الواردة في مقام الردّ على الإجتهاد، فالمراد به إنما هوخصوص المصطلحين الاولين للاجتهاد، واما الإجتهاد بالمعني الثالث والذي هوعبارة عن عمليّة الإستنباط فلا اشكال فيه، وجوازه بل وجوبه من البديهيات والضروريات التي لا غبار عليها.(1) فإن الإجتهاد في نفسه واجب نفسي كفائي من أجل وجوب الحصول على الأحكام الشرعية. وبالنسبة إلى كل مكلف هوواجب تخييري على سبيل منع الخلوّ، فإن المكلف بالنسبة إلى تحصيل الحكم الشرعي يجب عليه إما أن يكون مجتهداً أومقلداًأومحتاطاً.(2)
ثم إن هذا المعني الثالث للاجتهاد هومدار الكلام في موضوع بحثنا عن «مدارس الاجتهاد ومناهجه» وأما البحث عن القياس والعمل بالرأي وحجيّتهما أوعدمها فموكول إلى البحث عن المذاهب والمدارس الفقهية المختلفة، فإن الاختلاف بين المذاهب الفقهية بالنسبة إلى حجية الرأي والقياس كبير جداً، وسنشير إلى هذا الاختلاف، إن شاء الله، في مجال البحث عن المنهج الإجتهادي لكل مذهب.
بعد تعيين المراد من «الإجتهاد» وبيان مدلوله في المقام ينبغي التنبيه على عدة أمور:
ص: 39
أركان الإجتهاد ومقوماته التي لا تتحقق ماهيته إلا بها، كما هوالظاهر، أربعة:(1)
الركن الأول: المجتهد الذي يمارس عملية الإستنباط لتحصيل الحكم الشرعي.
الركن الثاني: المجتهد فيه؛ أي الحكم الشرعي المجهول الذي يقوم المجتهد باستفراغ وسعه لتحصيله وكشفه.
الركن الثالث: الادّلة والحجج التي تكون مصدراً للكشف عن الحكم، والتي ببركتها یستطیع المجتهد على تحصيل الحكم واسناده إلى الشارع.
الركن الرابع: عملية الإجتهاد والإستنباط التي يُقدم عليها المجتهد بالاتكال علىالملكة والقدرة الموجودة لديه للكشف عن الحكم الشرعي المجهول من الأدلّه.
والبحث المستوفى حول هذه الأركان ومميزاتها وأقسامها موكول إلى محلّه.
إنّ الذي يجب التأكيد عليه هوأن حدود الإجتهاد وشعاعه ومصبه وموضوعه هوالحكم الشرعي والمسائل الفقهية.
وبعبارة أخرى: ان «المجتهد فيه» في الإجتهاد بالمصطلح الفقهي هوعبارة عن الفروع الفقهية والأحكام الشرعية المرتبطة بتكاليف العباد في مختلف مجالاتها، من العبادات والسياسات والمعاملات ووظائفهم الشرعية، الفردية منها والإجتماعية. وهذا كما يشمل الإجتهاد في الفروع الفقهية، كذلك يشمل الإجتهاد في أصول الفقه،
ص: 40
وأمّا الإجتهاد في أصول الدين وما يرتبط بالعقائد الدينية، من التوحيد والنّبوة والمعاد وما إلى ذلك، فهوخارج عن محلّ البحث في هذا المقام، وإنما يتولى البحث عنها العلوم المرتبطة بها كعلم الكلام والفلسفة.
والذي يجب التأكيد عليه هنا هوأن الإجتهاد الفقهي الذي يعبّر عنه بسر حياة المجتمع الإسلامي عبر الزمن، من عصر ظهور الإسلام إلى يوم القيامة، لا يختص بشأن دون شأ،ن بل له مجال واسع يعهم جميع الشؤن المرتبطة بالبشر. ووظيفة المجتهد، هي القيام بعملية الإستنباط من أجل اكتشاف الحكم الشرعي في نطاق العبادات والمسائل المرتبطة بحياة الإنسان الفردية، كذلك من وظيفته التصدي لتحصيل الوظائف الشرعية للعباد والأحكام المختصة بهم في المجالات الأخرى من الأمور الإجتماعية والسياسية وغير ذلك ممّا له صلة بحياة الإنسان وهذه الخاصيةللاجتهاد تجعله غير منحصر بزمان دون زمان ومكان دون مكان، وهذه المنزلة الرفيعة هي التي ادت بالشهيد المطهري (رحمه الله) إلى وصفه بأنه معجزة الإسلام، وهي التي دعت ابن سينا إلى القول بلزوم وجود مجتهد في كلّ زمان، وهي التي أدت بالبعض إلى القول في شأنه وأهمّيته بأنّه القوّة المحركة للإسلام.(1)
للاجتهاد، بإعتبارات مختلفة، تقسيمات متفاوته، كتقسيمه إلى الخاطئ والمصيب، أوتقسيمه إلى التجزي والمطلق، وتقسيمه إلى العقلي والشرعي، وهناك تقسيم آخر
ص: 41
للاجتهاد، بلحاظ مراتب المجتهدين، وهوبهذا اللحاظ ينقسم إلى القسمين التاليين:
الأول: الإجتهاد المستقل: وهوان يجتهد الفقيه في استخراج منهاج له في إجتهاده، على نحويكون مستقلاً في منهاجه، وفي استخراج الأحكام على وفق هذا المنهاج، كاجتهاد أئمة المذاهب الأربعة.(1)
الثاني: الإجتهاد المقيّد: وهوأن يجتهد في إطار مذهب معين على وفق أصول الإجتهاد التي قرّرها إمام ذلك المذهب. وهذا القسم بدوره ينقسم إلى أربعة أقسامٍ:
الف) الإجتهاد في المذهب:
وهوأن يجتهد الفقيه المنتسب إلى مذهب معين على وفق أصول ذلك المذهب، ومع ذلك قد يخالف مذهب زعيمه في بعض الأحكام الفرعية، ومن هؤاء الحسن بنزياد من المذهب الحنفي، والمازني من المذهب الشافعي.
ب) الإجتهاد في المسائل التي لارواية فيها:
إذا لم يروعن إمام المذهب شيء في المسألة فالمجتهد المقيد يجتهد وفق الأصول المجعولة من قبل إمام المذهب، وبالقياس على ما اجتهد فيها من الفروع، ومن أمثلة هؤلاء الكرخي من المذهب الحنفي، وابن رشد من المذهب المالكي، والغزالي من المذهب الشافعي.
ج) إجتهاد أهل التخريج:
هوالإجتهاد الذي لايتجاوز تفسير قول مجمل من أقوال امام مذهبه أوتعيين وجه
ص: 42
لحكم ذهب إليه إمام مذهبه يحتمل وجهين، ويكون إليه المرجع في إزالة الخفاء والغموض عن بعض أقوال الأئمة وأحكامهم، ومن هؤلاء الجصاص من علماء المذهب الحنفي.
د) إجتهاد أهل الترجيح:
ويراد به الموازنة بين ما روي عن ائمتهم من الروايات المختلفة، وترجيح بعضها على بعض، من جهة الرواية أومن جهة الدراية. كأن يقول المجتهد: هذا أصح رواية أوهذا أوفق للقياس. ومن هؤلاء القدوري من علماء الحنفية.(1)
ثم إنه لايخفي أن في تقسيم الإجتهاد إلى المستقل والمقيد، نوع من المسامحة وعدم الدقة، فإن هذا التقسيم أشبه بتقسيم الشيء إلى نفسه وإلى غيره؛ لأن المجتهدالمقيد بمذهب خاص، هوفي الواقع مقلد لإمام ذلك المذهب، وإن اطلق عليه المجتهد تسامحاً؛ لأنه لاينتهي باستنباطه إلى حكم شرعي جديد غير الحكم الذي قال به إمام مذهبه، بل غاية ما ينتهي إليه هورأي إمامه، وإلا فمع انتهائه إلى الحكم الشرعي وقيام الحجه لديه لا يسوغ له التقیّد التقليد بأصول مذهبه والسير ضمن إطاره الخاص، وربما إختلف مع إمام المذهب في أصل، من الأصول فما الذي يصنعه إذ ذاك؟ فهو يقلد امام مذهبه ولا يخرج عن إطاره.
وأما ما توهم«من أن إجتهاد الشيعة ليس من قبيل الإجتهاد المطلق؛ لأن المجتهد
ص: 43
الشيعي يسير في إجتهاده على خط مرسوم لايعدوه ولايبتعد عنه يُمنة ولا يُسرة»(1) فهوناش من التغافل عن دور الإمام ووظيفته لدى الشيعة، والذي يبدوأن المتوهم يري أنّ أئمة أهل البيت (علیهم السلام) مجتهدون في كل ما يأتون به وحسابهم حساب بقية أئمة المذاهب مع أن الشيعة يرونهم المصدر الثاني للتشريع بعد الكتاب الكريم؛ ولذلك اعتبروا أن ما يأتون به أنه من السنة. فهم من هذه الناحية كالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والفارق بينهم وبين النبي هو: أن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) يتلقى الوحي، والأئمة (علیهم السلام) يتلقون ما يوحي به إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من طريقه.(2)
بعد ذكر المعانی المختلفة لمصطلح الإجتهاد ومدلوله، وبعد تحديد محلّ البحث الفعليّ، يجب أن ننبّه علی أنّه یدخل في موضوع بحثنا جميع المناهج والمذاهب الفقهية، من العامّة والخاصّة والمحدّث والاخباري والأصولي، فكما أنّ الأصوليمجتهد له منهج خاصّ في طريق تحصيل الحكم الشرعي، فكذلك الاخباري فهوأيضاً مجتهد وله طريقة خاصّة في إستنباط الحكم الشرعي.
وأما ما ينسب إلى المدرسة الاخبارية من القول بنفي الإجتهاد وحرمته، فهوصحيح إذا كان المراد من هذا القول العمل بالرأي والقياس وما شابهه فإن النزاع الرئيسي بين المدرسة الأصولية والاخبارية منحصر في بعض أدلة التشريع ومصادره،
ص: 44
كالعقل والاجماع والرجوع إلى ظواهر الكتاب، وإلا فالاخباري أيضاً عندما يحاول إستكشاف الحكم الشرعي لابدّ أن يتمتّع بملكة، يستطيع بها أن يرجع إلى الكتاب والسنة وأن يستنبط منهما الحكم الشرعي، وكما قال الشيخ كاشف الغطاء (رحمه الله): «الاخبارية إن لم يجتهدوا في المقدمات التي يتوقف عليها فهم الأخبار، فقد خرجوا عن طريقة الإمامية، فالمجتهد أخباري عند التحقيق والاخباري مجتهد بعد النظر الدقيق».(1)
وقال صاحب الكفاية بعد تعريف الإجتهاد ومدلوله:«لاوجه لتأبّي الاخباري عن الإجتهاد بهذا المعنى (أي استفراغ الوسع لتحصيل الحجّة على الحكم الشرعي) فإنه لامحيص عنه كما لايخفى، غاية الأمر له أن ينازع في حجّية بعض ما يقول الأصولي بإعتباره ويمنع عنها، وهوغير ضائر بالاتفاق على صحّة الإجتهاد بذاك المعنى، ضرورة أنه ربما يقع بين الاخباريين كما وقع بينهم وبين الأصوليين».(2)
وعلى هذا فالبحث عن منهج الاخبارية ومذهبهم في الإستنباط يدخل في نطاق بحثنا، كما يدخل أيضاً سائر المناهج والمدارس الفقهية والأصولّية، والبحث عنصحّة الإجتهاد وجوازه بالمعني الثالث المجمع عليه عند جميع المذاهب والمدارس الفقهية الإسلامية.
ص: 45
ص: 46
المنهج والمنهاج جمعه المناهج من النهج. ومعني النهج الطريق الواضح، يقال: نهج الأمر وأنهج أي وضح، ویقال:طريق نهج: بيّن واضح، وسبيل منهج: كنهج ومنهج الطريق: وَضحُه والمنهاج: كالمنهج.(1) وفي دعاء العهد: «وَعَجِّلْ فَرَجَهُ، وَسَهِّلْ مَخْرَجَهُ، وَاَوْسِعْ مَنْهَجَهُ». وفي الدعاء السيفي الصغير المعروف بدعاء القاموس: «وَسَهِّلْ لى مَناهِجَ الْوُصْلَةِ والْوُصُولِ... ونَوِّرْ قَلْبي وَسِرّي بِالاْءِطِّلاعِ عَلى مَناهِجِ مَساعيكَ».(2) وقوله تعالى: )لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً ومِنْهاجاً(. [المائدة / 48] فالشرعة والشريعة واحد وهي الطريقة الظاهرة، وفي الأصل هي الطريق إلى الماء، شبّه بها الدين؛ لأنه طريق إلى ما هوسبب الحياة الأبديّة، ومنهاجاً أي سبيلاً واضحاً وقيل: المنهاج الطريق المستمر، وقيل: الشرعة ابتداء الطريق، والمنهاج الطريق المستقيم. وهذه الالفاظ إذا تكررت فلزيادة الفائدة.(3)
ص: 47
وفي نهج البلاغة: «فَهُوأَبْلَجُ ]الإسلام [الْمَنَاهِجِ» أي اشدّ الطرق وضوحاً، وأيضاً فيه: «إِنِّي لَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، ومِنْهَاجٍ مِنْ نَبِيِّي، وَإِنِّي لَعَلَى الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ». وأيضاً فيه: «وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِنِ اتَّبَعْتُمُ الدَّاعِيَ لَكُمْ، سَلَكَ بِكُمْ مِنْهَاجَ الرَّسُولِ».(1)
وعلى هذا، فالمدلول اللغوي لكلمة المنهج، وموارد استعمالها في العرف والكتاب والسنّة هوالطريق الظاهر الواضح.
كان الكلام بحسب الوضع اللغوي والإستعمال العرفي، وأمّا على المستوى العلمي الإصطلاحى فالمنهج يستعمل قريباً من معناه اللغوي ولا تفاوت جوهري بينهما.
وقد يعرّف المنهج في البحوث العلميّة بأنّه:«فن التنظيم الصحيح لسلسلة الأفكار العديدة، إما من أجل الكشف عن الحقيقة، حين نكون بها جاهلين، وإمّا من اجل البرهنة عليها للآخرين حين نكون عارفين بها».(2)
وهذا التعريف غير مطّرد وغير جامع؛ لأجل اختصاصه بالعلوم المبتنية على الفكر
ص: 48
والنظر، والذي ينبغي أن يقال في توضيح هذا اللغة الفارسیّة ب- (روش) و(شيوه) وباللغة الانجليزية ب-(method) هوعبارة عن السبك والأسلوب الخاص الذي يسلكه صاحب كل فرع من الفروع العلمية للتوصل إلى النتائج المرجوّة والغاية المطلوبة، فإنّ لكل فرع من الفروع العلمية أسلوب وطريقة خاصة للتحقيق والتعليم والتعلّم يقالله منهجه، الذي يتفاوت عن منهج سائر العلوم.
فمنهج بعض العلوم إستقرائي أوتجريبي وبعضها إستدلالي وبرهاني، فأسلوب البحث الفلسفي يختلف عن أسلوب البحث الفيزيائي والكيميائي، وسبك الشعر يختلف عن سبك الطبّ، كما أنّ العلوم الأدبية لها أسلوب خاص، لا يمكن نيل الغاية المطلوبة منها، إلاّ بالسلوك على نهجها الخاص والالتزام به.
وعلى هذا الأساس، فبالإمكان تقسيم العلوم بلحاظ مناهجها إلى العلوم العقلية والنقلية والتجريبية، فالمنهج على اختلاف أنواعه ومجالاته عبارة عن عملية تنظيميّة، تسير وفق ترتيب منطقي، يتلائم وطبيعة البحث، وبذلك يظهر أن «علم الفقه» بما أنه فرع من العلوم الإسلامية له منهج خاص، لابدّ للطالب ان يراعيه للتوصل إلى الغاية المرجوّة منه.
وكما أنّ لكل فرع من الفروع العلميّة منهج خاص للتحقيق، فلربّما يتشعّب هذا المنهج الرئيسي والأصلي في ذلك العلم إلى شعوب مختلفة وأقسام متفاوته. مثلاً: أنّ علم «الطبّ» له منهج خاصّ، ومع ذلك نجد انه في نفس علم الطبّ توجد مناهج مختلفة، كالطب النباتي والطب الكيمياوي، وغير ذلك من مناهج التحقيق الطبيية.
ونظير علم الطب، علم الفقه، فإنه مع وجود منهج خاصّ به توجد في دائرة منهجه مناهج مختلفة، يتفاوت كلّ منها عن غيره في المنهجيّه والسلوك العلمي، وهذا
ص: 49
هوالمراد مما ورد في عنوان بحثنا «مناهج الإجتهاد» فالهدف الأساسي من البحث هوالتعرّف على المناهج المرتبطة بالإجتهاد وإستنباط الأحكام وتمييز كلّ منها عن غيره.
ص: 50
المدرسة من درس والدال والراء والسين أصل واحد، يدلّ على خَفاء وخفض وعفاءٍ. فالدرس الطريق الخفيّ. يقال: درس المنزل، عفا ومن الباب الدريس: الثوب الخلق.(1) ومنه: درست السورة أي حفظتها. وفي الحديث: تدارسوا القرآن، أي اقرؤه وتعهدوه لئلا تنسوه، وأصل الدراسة: الرياضة والتعهد للشئ(2) وقوله تعالى: )ودَرَسُوا ما فيهِ( [الاعراف / 169] أي اقرؤا ما فيه. ودراستهم قرائتهم. ودرس الكتاب للحفظ كرّر قرائته درساً ودراسة.(3)
وفي المصباح المنير: «المدرسة بفتح الميم موضع الدرس ومِدارس اليهود كنيستهم والجمع مداريس مثل مفتاح ومفاتيح».(4)
وفي أقرب الموارد: «المدرسة الموضع الذی تتعلّم فيه الطلبة والموضع الذي يقرأ
ص: 51
فيه القرآن وغيره».(1)أقول: بناءً على ماذكره أئمة اللغة أن المدرسة تدل على الموضع والمكان الممهّد للتعلم والتعليم، ومن الجدير بالذكر أنّ كلمة المعهد أيضاً ربما يراد منها موضع التعليم، فمعهد اللغات مثلاً هوالموضع الذي يعلّم فيه اللغة.
شاع في البحوث العلمية استعمال لفظ المدرسة من قبيل ما يقال: المدارس الفلسفية أوالمدارس الفقهية، كمدرسة أهل الحديث، أومدرسة أهل الرأي، وهكذا بالنسبة إلى سائر أنواع العلوم. ففي هذه الاستعمالات ليس المراد من المدرسة معناها الحقيقي أي المكان الخاصّ الذي يدرس ويتعلم فيه الادب أوالفقه أوالفلسفه، بل المراد منها - بقرينة الاضافة - مجموعة من الأراء والمباني التي جمعت في إطار واحد وإبتدعها وإخترعها الرئيس لتك المدرسة والتزم بها واعتقدها تابعيه، فيطلق على هذه المجموعة المرتبطة بفرع من الفروع العلمية أوالدينية أوالفلسفية إلى غير ذلك بانها: مدرسة كذا أومذهب كذا. وهذا الاستعمال في الواقع يكون من المجاز والكناية بالقياس إلى المعنى اللغوي.
المذهب لغةً من ذهب بمعنى سار ومرّ، وذهاب الشئ أي: مضيّه، يقال: ذهب
ص: 52
يذهب ذهاباً وذهوباً ومذهباً وذهب مذهباً حسناً.(1)
وأما في الاصطلاح فهوعبارة عن المعتقد الذي يذهب إليه شخص أوجماعه ويتبنونه فعلاً، فيقولون تمذهب بالمذهب أي اتّبعه، وهوأكثر ما يستعمل في الأديان وقد يستعمل في غيرها من مطلق الاراء كقولهم: ولهم في المسألة مذاهب شتّى، وأيضاً قد يكون بمعنى الطريقة. وعلى هذا فالمعني المصطلح للمذهب قريب من المعنى الإصطلاحي للمدرسة، المذهب غير أنّه أكثر ما يستعمل في الأديان وبالأخص إذا وجد في البين لهذا الفكر الديني مناصرون يعتقدون به و يتبعون سبيله. وبهذا يمكن أن يفّرق بينه وبين لفظ المدرسة بأن المدرسة تستعمك غالباً في مطلق الرأي والنظر وإن لم يكن لها تابع أوناصر أوكان له تابع أوناصر ولكن كانوا قليلين، وهذا بخلاف المذهب فإنّ وجود التابع شرط لازم للاستعمال. ثم لايخفی أن في هذا المجال يوجد أيضاً الفاظ أخرى كالفرقة والنحلة والملة، وهي بحسب المعنى قريبة من معني المذهب والمدرسة وإن كان لفظ «الملة» يستعمل بالنسبة إلى أهل الديانات ولفظ «النحلة» يستعمل لغيرهم من أهل الأهواء والأراء، كالدهرية وعبدة الكواكب والاوثان.(2)
ص: 53
ص: 54
بعد الفراغ من تعريف الإجتهاد وبيان سائر الالفاظ الأخرى المرتبطة بالبحث، وبيان أن المراد بالإجتهاد هو: استفراغ الوسع لتحصيل الحكم الشرعي، أوهو: عبارة عن الملكة والاقتدار عليه يقع الكلام في بيان المراد من التركيب في عنوان البحث، أعني «مناهج الإجتهاد» و«مدارس الإجتهاد» و«مذاهب الإجتهاد». فنقول: إنّ بيان الفرق بين هذه التعابِير وإن كان مشكل في الغاية، فإنه كثيراً ما يستعمل كل منها مكان الاخر ويراد منها معنى واحد، مثلاً يقال: مذهب الشافعي في الإجتهاد، أومدرسة أبي حنيفة في الإجتهاد، أومنهج المالكي في الإجتهاد، ويراد منها معنى واحد وكما يقال: مذهب أهل البيت، أومدرسة أهل البيت ومنهجهم في الإجتهاد، لكن مع ذلك كله، فلربما يمكن أن يفرق بين هذه التعابير من خلال عدة أمورٍ:
الفرق بين «مناهج الإجتهاد» و«مدارس الإجتهاد» يمكن ان يبين من خلال تقسيم المناهج إلى القسمين التاليين:
الاختلاف في المباني وتفاوت الآراء في الأصول والمصادر من الأمور التي تشاهد بوضوح في عملية الإجتهاد، وهذا الاختلاف يؤر في منهج الإجتهاد وإتخاذ الطريقة
ص: 55
المتبعة للاستنباط، فالمجتهد الذي يلتزم بالقياس أويری الاستحسان من المصادرالمعتبرة لاستنباط الحكم الشرعي، سوف يختلف منهجه تبعاً لذلك، عن منهج من يرى بطلانهما وعدم جواز الاعتماد عليهما في ذلك، لإن صاحب المنهج الأول یرجع عند فقدان النص المعتبر إلى القياس والاستحسان، بينما نجد صاحب المنهج الثاني يرجع في مثل تلك الحالة إلى الأصول العملية، فالاختلاف في المنهج هنا ينشأ من الاختلاف في المباني.
قد يكون الاختلاف بين منهجين أوأكثر راجعاً أحياناً إلى الاختلاف في نفس المنهج عل الرغم من اشتراك هذه المناهج في جل الأصول والمباني أوكلها فقد، تجد مجتهداً يعتمد في الإستنباط منهجاً معيناً، يختلف عن المنهج الذي يعتمده المجتهد الآخر، فمثلاً تجد أحدهما حين يتصدّي لإستنباط حكم شرعي معين، أولاً على مراجعة أقوال الفقهاء في المسألة واستقرائها، ثم یفحص عن أدلّة كل قولٍ منها ویناقشته إلى أن ينتهي إلى الفتوى واتخاذ الرأي المناسب في المسألة، بينما تجد مجتهداً ثانياً يعتمد في منهجه على الرجوع إلى الأدلة مباشرة مع غض النظر عن الأقوال الموجودة في المسألة، إذ انه لا يرى أيّ مبرّر أوضرورة للرجوع إلى آراء غیره. بينما تجد مجتهداً ثالثاً يعتمد في منهجه ابتداءً على تأسيس الأصل في المسألة للرجوع إليه عند الشك وعدم تكافؤالأدلة لاتخاذ الرأي واصدار الفتوی، بينما لا یری المجتهد الاخر لا ضرورة لتأسيس الأصل ابتداءً. إلى غير ذلك من المناهج الفقهية التي سيأتي الإشاره إلى بعضها في طيّ المباحث. والنكتة المهمة في هذا المجال هی
ص: 56
التأكيد على انّ هذا القسم من المناهج لاينشأ من الاختلاف في المباني والمبادئ الرئيسية، بل أكثر ما يمكن أن يستند إليه مثل هذا التفاوت، هونفس المنهج والطريقةالمتخذة للاستنباط.
في مقام ذكر التفاوت بين «المدارس والمذاهب» يمكن أن يقال: إنّ الفرق بينهما إنما هومن جهة العموم والخصوص، حيث أن المذهب أعم من المدرسة؛ لانّ هناك عاملان رئيسيین يوجبان ظهور المذاهب المتعددة: أحدهما: وهوالأهم وجود الناصر، وثانيهما: التعمق وتوسعة الخلاف في الأصول والمباني الأساسية. فالمدرسة الفقهية إذا أخذت في التعمق وتوسعة الاختلاف في المباني، وبالخصوص فی الأصول المهمة من ناحية، وإذا وجد لهذه المباني المناصرون والمؤیدون الذين هم علی استعداد لبذل طاقاتهم من أجل ترويج تلك المباني وتأیيدها، وبالأخص إذا كان المؤید من أرباب السياسة والحكم من ناحية ثانية، فحينئذ سوف يتسع أمر تلك المدرسة في المجتمع ويزداد أتباعها إلى حدّ يمكن أن يعبر عنه بالمذهب الذي يذهب إليه جماعة من الناس، ويعتقدون بنتائجه وافكاره، وبهذا يمكن أن نفسر الفرق بين المدرسة الإجتهادية والمذهب الإجتهادي.
وخلاصة القول في المقام لتفسير الفرق بين الألفاظ المتقدمة، هي أن المذهب أعم مورداً من الكل؛ لانه قد يقع تحت كل مذهب عدة مدارس، ثم إن المدرسة أعم مورداً من المنهج؛ لأنه يمكن أن يفترض تحت كل مدرسة عدة مناهج، فالترتيب بين هذه الالفاظ من حيث العموم والخصوص یکون کالتالی: المذهب، المدرسة، المنهج.
ص: 57
ص: 58
من یعرف منهج التعلیم في الحوزات العلمية ومراتبها ودرجاتها، يعلم أنّ الغرض الاقصى لطالب العلوم الدينية هونيل درجة الإجتهاد وتحصيل القدرة على الإستنباط، بعد دراسة المقدمات والانتقال إلی ما یعرف بمرحلة السطوح، فإذا وصل إلى مستوى الدراسات العلیا المعروفة ب-«دروس الخارج» الذي يعدّ المرتبة الأقصى لدراسة الفقه وشارك في التحقيق الفقهي، فإنه سوف يواجه بحراً واسعاً وعميقاً من الآراء ووجهات النظرالمختلفة والفتاوى المتضادة، فهویشعر بأنه عائم في بحر لا يُجید السباحة فيه، فيقول محدثاً نفسه، ما الحيلة؟ وما هوالطريق للموازنة بین وجهات النظر هذه؟ وكيف يمكن الوصول إلى الرأي السائد؟ اضف إلى ذلك أنّ الطريقة الرائجة في درس الخارج هوتحقيق المسألة وفقاً لمنهج الاستاذ وطريقته، غالباً مالایکون امام الاستاذ مجال بعد طرح المسألة لیقوم ببحثها طبق المدارس والمناهج الأخرى والمناقشتها، فبالنتيجه أنّ الطالب لايستطيع أن يتعرّف بمجرد الحضور في الدرس إلاّ على منهج الاستاذ وطريقته، وأمّا بالنسبة إلى سائر المدارس والمناهج الأخرى، فهي مما لا يتعرض لها الاستاذ في درس الخارج، مع أنّ الغرض الاقصى من درس الخارج هوإيصال الطالب إلى ذروة سنام الإجتهاد، وحصول ملكة الإستنباط عنده، عن طريق التدقیق في الآراء، والقدرة على المناقشة فيها.
فبهذا يتضح مدى ضرورة دراسة المناهج والمدارس المختلفة للاجتهاد، بالنسبة
ص: 59
إلى طالب العلوم الدينية، وتتجلی الأهمية الأساسية لهذه المادّة في طريق تحصيل الإجتهاد، وبالأخص بالنسبة إلى طلبة درس الخارج. فمن الواضح أنه مع تعرف الطالب على المناهج والمدارس المتعددة في ساحة الإجتهاد عند المسلمین جمیعا، سوف يتمكن من الوقوف على ركيزة البحث، ووجهة كلّ رأي ونظر، وبالتالي يتمكن من المقارنة بين تلك الآراء عن طريق النظر في المباني والأصول الموجبة لتبنی هذا الرأي أوذاك. فالتعرف على المناهج يوسّع من نظرة الباحث، ويعطيه القدرة على اتخاذ الرأي القويم، ويجعله على بصيرة بالنسبة إلى جوانب البحث ونواحيه. فإن مَثَل العارف بالمدارس والمناهج مَثَل القائم على قمّة جبل، ينظر إلى الاطراف، ويشرف على جميع النواحي. فمثلاً انّ طالب الفلسفة إذا تعرّف، ولواجمالاً على أهمّ المدارس الفلسفية كفلسفة الاشراق والمشاء والحكمة المتعالية واطلع على سائر المدارس من آراء المتكلمين والعرفاء والفلاسفة وعرف الأصول المهمة لكلّ واحد منها، ولوبنحواجمالي، فإن ذلك سوف یمکّنه من نیل مراده من الفكر الفلسفي.
وهذه الحقيقة سارٍية وجاريةٍ في جميع المجالات والعلوم، وبالأخصّ في الفقه الذي يعدّ من أدقّ العلوم وأهمها للإنسان؛ بسبب ارتباط بتكاليفه تجاه ربّه الكريم. وكما أنّ التعرّف إلى تاريخ الإجتهاد وأدواره، له دور مهم في الإستنباط وكشف الحكم من الأدلة، فكذلك التعرف على المناهج والمدارس له دور مهمّ في ذلك. ولهذا فالغرض الرئيس من تدوين بحث بعنوان «مدارس الاجتهاد ومناهجه» هوالتعرف على أهمّ الاراء والطرق في ساحة الإستنباط التي توجد في عالم الإسلام ومذاهبه عملاً بقوله تعالى: )فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ(. [زمر/17 و18] ومن هنا، يمكن أن يستنتج أنّ الثمرات والفوائد المترتبة على دراسة هذه المادة هی:
ص: 60
1) التعرف على المناهج والمدارس المختلفة، وامكان المقارنة والمقایسة بينها.
2) الاطلاع على امتياز كلّ مدرسة ومذهب والوقوف على صواب كّل منهج أوعدمه.
3) التعرف علی أخطاء المدارس والمذاهب وكشف الخطأ في كل منهج.
4) التعرف على المذهب الحقّ والمنهج الصحيح والدفاع عنه.
5) تشخیص مشاكل الإجتهاد والانحرافات العارضة على الإستنباط، وبالأخص بالنسبة إلى بعض المذاهب الفقهية، في عصرنا الراهن وكشف الطريق لمعالجتها.
6) التقريب بين المذاهب الإسلامية والمساهمة فی توحيد امّتنا الإسلامية.
7) التأمل في كيفية تعامل كلّ مذهب ومنهج مع مشاكل العصر المرتبطة بالفقاهة والإجتهاد، وكيفية حلّ للمسائل الفقهية المستحدثة. إلى غير ذلك من الآثار والثمرات المترتبة على هذا البحث التي تظهر في خلال الدراسة إن شاءالله.
ص: 61
ص: 62
من أهمّ الأسس التي يجب أن يبحث عنها ويركز عليها، في دراسة المذاهب والمدارس والمناهج الإجتهادية، هي عبارة عن معرفة أسباب الخلاف ومنشأ ظهور المذاهب الفقهية المختلفة، وكيفية تكوّن الإجتهادات المختلفة. ولقد حقق عدّة من الباحثين فی أسباب الاختلاف الفقهية وتعدادها وشرحها، كالشاطبي (ت -790ه.ق) وابن رشد (ت-595ه.ق) والدهلوي (ت-1180ه.ق) والحكيم من المعاصرين وغيرهم من السنة والشیعة.(1)
والجدير بالذكر انّ الكلام في هذا المقام انما هوفي منشأ ظهور المدارس والمذاهب الفقهية، دون سائر المذاهب والمدارس الأخري غير الفقهية كالمدارس الكلامية والفلسفية وغيرهما.
وقد أوجز «ابن رشد» في مقدمة كتابه «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» أسباب الاختلاف في ستة أمور:
ص: 63
الأول: تردّد الالفاظ بين أن يكون اللفظ عاماً يراد به الخاص، أوخاصاً يراد به العام،أوعاماً يراد به العام، أوخاصاً يراد به الخاص.
الثاني: الاشتراك الذي يكون في الالفاظ، كلفظ (القرء) الذي يطلق على الطهر تارة، وعلى الحيض تارة أخري.
الثالث: اختلاف الإعراب.
الرابع: تردد اللفظ بين حمله على الحقيقة وحمله على المجاز.
الخامس: اطلاق اللفظ تارة وتقييده تارة أخري كأعتق رقبة، وأعتق رقبة مؤمنة.
السادس: التعارض في الشيئين في جميع اصناف الألفاظ بعضها مع بعض، وكذلك التعارض الذي يأتي في الأفعال أوفي الإقرارات أوتعارض القِياسات أنفسها.(1)
ولكن هذه الأسباب التي اقتبسها غير واحد من الباحثين المتأخرين، إنما تشير في الواقع إلى منشأ بعض الاختلافات في الفتاوى الفقهية، ولم تتعرض إلى الجذور الأساسية لظهور المدارس المتعددة والمذاهب المختلفة. والحال أنّ المهم هوالإشارة إلى العوامل والأسباب الباعثة علی تكّون المذاهب والمدارس الإجتهادية في العالم الإسلامي.
ولعلّ الدهلوي من الذين التفتوا إلى هذا الامر في رسالته المسماة ب-«الإنصاف في بيان سبب الاختلاف» حيث قال ما ملخصه:«أنّ الفقه لم يكن في زمان رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مدوناً، فكان (صلی الله علیه و آله و سلم) مثلاً يتوضأ، فيرى الصحابة وضوئه فيأخذون به من غير أن
ص: 64
يبين أنّ هذا ركن وذلك ادب. وكان يصلي، فيرون صلاته، فصلوا كما رأوه يصلي. وهذا كان غالب حاله (صلی الله علیه و آله و سلم) ولم يبين أن فروض الوضوء ستة أو أربعة، فرأي كل صحابي ما يسره الله له منعباداته وفتاواه واقضيته فحفظها وعقلها وعرف شؤونها من قِبَل احتفاف القرائن بها، فحمل بعضها على الاباحة، وبعضها على الاستحباب، وبعضها على النسخ، لامارات وقرائن كانت كافية عنده ولم يكن عندهم إلا وجدان الاطمئنان من غير الإلتفات إلى طرق الاستدلال، ثم إنهم تفرقوا في البلاد وصار كل واحد في ناحية من النواحي، فكثرت الوقائع ودارت المسائل فاستفتوا فيها فأجاب كل واحد بحسب ما حفظه أواستنبطه، فإن لم يجد مايصلح للجواب اجتهد برأيه، فعند ذلك وقع الاختلاف بينهم على ضروب منها: ان صحابياً سمع حكماً في قضية أوفتوى ولم يسمعه الآخر فاجتهد برأيه في ذلك وهذا على وجوه:
أحدها: أن يقع إجتهاده وفق الحديث.
ثانيها: أن يقع بينهما المناظرة ويظهر الحديث بالوجه الذي يقع به غالب ظنه فيرجع عن إجتهاده إلى المسموع.
ثالثها: ان يبلغه الحديث ولكن لا على الوجه الذي يقع به غالب الظن فلم يترك إجتهاده؛ بل طعن في الحديث.
رابعها: أن لا يصل إليه الحديث أصلا.
ومنها اختلاف الوهم، مثاله: أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) حجّ فذهب بعضهم إلى أنه كان متمتعاً، وبعضهم إلى أنه كان قارناً، وبعضهم إلى انه كان مفرداً. ومنها: اختلاف السهووالنسيان. ومنها: اختلاف الضبط. ومنها: اختلافهم في الجمع بين المختلفين،
ص: 65
كالنهي عن المتعة عام خيبر، فاختلفت مذاهب أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وأخذ عنهم التابعون كل واحد ما تيسر له، ورجح بعض الأقوال على بعض، واضمحل في نظرهم بعضالأقوال، فعند ذلك صار لكل عالم من العلماء التابعين مذهب على حياله، فانتصب في كل بلد امام، مثل: سعيد بن المسيب في المدينة، وعطاء بن رباح بمكه، وابراهيم النخعي بالكوفة، فرغب الناس إلى علومهم. وكان سعيد بن المسيب وابراهيم النخعي جمعا أبواب الفقه وكان لهم في كل باب أصول تلقوها من السلف.
وكان سعيد وأصحابه يذهبون إلى أن أهل الحرمين اثبت الناس في الفقه، وأصل مذهبهم فتاوي عمر وعثمان وعبدالله بن عمر وعائشه فجمعوا من ذلك، ونظروا فيها، فما كان منها مجمعاً عليه بين علماء المدينة فإنهم يأخذون عليه بنواجذهم. وما كان فيه اختلاف عندهم، فإنهم يأخذون بأقواها وارجحها، إما لكثرة من ذهب إليه منهم، أولموافقته لقياس قوي، فحصل لهم مسائل كثيره في كل باب.
وكان إبراهيم وأصحابه يرون أن عبدالله بن مسعود وأصحابه اثبت الناس في الفقه، فجمع من ذلك، ثم صنع في آثارهم كما صنع أهل المدينة، فتلخص لهم مسائل في الفقه في كل باب، وكان سعيد بن المسيب لسان فقهاء المدينة، وإبراهيم لسان فقهاء الكوفة، فاجتمع عليهما فقهاء بلدهم واخذوا عنهما وعقلوه وخرجوا عليه.(1)
فعند ذلك ظهرت مدرستان في دائرة إجتهاد السنّی: مدرسة الحديث، ومدرسة الرأي. وهذان الاتجاهان كانا اللبنة الأساسية لظهور المذاهب الفقهية في القرون
ص: 66
المتأخرة بعد عصر التابعين وتابعي التابعين.(1)
يبدومن كلام الدهلوي وأقرانه ممن تصدى لتفسير منشأ الاختلافات وعلل ظهورالمذاهب والمدارس الفقهية، أنهم وإن أشاروا إلى بعض الجذور في هذا المجال، فانهم مع ذلك غفلوا عن الإشارة إلى ما هوبمنزلة اللبنة الأساسية في هذا الموضوع، ولم يجيبوا عن السؤال الأصلي الذي ظهرت بسببه الأمور التي مرّ ذكرها في كلام الدهلوي من التفاسير المختلفه لما شاهد الصحابة من النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) والرجوع إلى آرائهم عند فقدان النص، إلى غير ذلك من الأسباب المذكورة.
للإشارة إلى العلة الأساسية في هذا المجال، وأيضاً لتوضیح العوامل الدخيلة في ذلك، ينبغي التنبيه الى بعض الأمور التي تعتبر بمنزلة الأصول الموضوعية في مبحث الاختلافات والبحث عن سببها في شتّى أنواعها ومجالاتها:
الأمر الأول: الاختلاف، ويقابله الاتفاق، وهومن الأمور التي لا يرتضيها الطبع السليم، لما في ذلک من تشتت القوى واضعافها، وآثار أخري غيرمحمودة، من نزاع ومشاجرة، وجدال وقتال، وشقاق وغير ذلك مما یخل بالأمن ويذهب السلام.
الأمر الثاني: أنّ نوعاً من الاختلاف لا مناص منه في عالم الإنسان، وهوالاختلاف من حيث الطبائع المنتهية إلى اختلاف البنى، فإنّ التركيبات البدنية مختلفة، مايؤدّي قهراً إلى الاختلاف في الاستعدادات البدنية والروحية، وبإنضمام اختلاف الأجواء
ص: 67
والظروف إلى ذلك، يظهر اختلاف الاذواق والسنن والآداب والمقاصد والأعمال النوعية والشخصية في المجتمعات الإنسانية، وقد أوضحت الأبحاث الإجتماعية أنه لولا ذلك لم يعش المجتمع الإنساني طرفة عين.(1)فمن الحقائق الثابتة اختلاف الناس في تفكيرهم وتباين وجهات نظرهم. يقول افلاطون: «إن الحق لم يصبه الناس في كل وجوهه ولا اخطئوه في كل وجوهه، بل أصاب كل إنسان جهة. ومثال ذلك عميان انطلقوا إلى فيل وأخذ كل منهم جارحة منه».(2)
الأمر الثالث: أن ظهور الاختلاف كما مر أمر ضروري الوقوع بين الناس، ونفس هذا الاختلاف هوالذي استدعى التشريع، وهوجعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف ونيل كل ذي حق حقه. قال الله تبارك وتعالى: )كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ ومُنْذِرينَ وأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيمَا اخْتَلَفُوا فيهِ(. [بقره / 213] فهوتعالى يخبرنا بأنّ الغاية من الدين هي رف99999-ع الاختلاف.
الأمر الرابع: قال تعالى: )فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنيفاً فِطْرَتَ الله الَّتي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْديلَ لِخَلْقِ الله ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ( [ الروم / 30] فالدين أمر فطري، وما كان كذلك لايتبدل فيه الحكم، فالدين والشريعة أمر واحد، لايمكن أن يقع فيه الاختلاف، لأنه إنما جيئ به لرفع الاختلاف والتنازع، وما جيئ به لرفع النزاع وكان حاكماً بين
ص: 68
المختلفين لايكون إلا أمراً واحداً.(1)
الأمر الخامس: ثم إنه تعالى يخبرنا أنّ هناك اختلاف آخر غير الاختلاف الذي مرّذكره، وهوالاختلاف في نفس الدين؛ فهناك اختلافان احدهما ضروري قطعي لا مناص منه يرتفع بالتشريع الإلهي، والثاني اختلاف يوجد في نفس -وقد جمع الله الاختلافين في قوله تعالى: )كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ الله النَّبِيِّينَ مُبَشِّرينَ ومُنْذِرينَ وأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فيمَا اخْتَلَفُوا فيهِ -وهذا هوالاختلاف الأول- (ومَا اخْتَلَفَ فيهِ) -وهذا هوالاختلاف الثاني- إِلاَّ الَّذينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى الله الَّذينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ(. [البقرة / 213]
فالاختلاف الأول طبيعي من سنن الله )فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْديلاً ولَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْويلاً(. [فاطر/ 43]؛ وأما الاختلاف الثاني فهوغير طبيعي، وإنما أوجده حملة الدين والعلماء، بغياً بينهم وظلماً وعتوّاً فالاختلاف في الدين مستند إلى البغي دون الفطرة. قال تعالى: )ولَوشاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً ولا يَزالُونَ مُخْتَلِفينَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ(. [هود / 119-118] فالناس يخالف بعضهم بعضاً في الحق، إلا الذين رحمهم الله، فإنهم لايختلفون فيه، والرحمة هي الهداية الإلهية، كما يفيده قوله تعالى: )فَهَدَى الله الَّذينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ(. [البقرة / 213(2)]
ص: 69
الأمر السادس: ظهر مما تقدم أنّ الاختلاف في الدين منسوب، کما یقول الله تعالى، إلى البغي، مع أنّ ظهور الاختلاف في العقائد والآراء والإجتهادات ضروري بين الأفراد، لاختلاف الأفهام والاستعدادات والظروف الإجتماعية، ولكن كما أنّظهور هذا الاختلاف أمر ضروري، فكذلك الاجتماع وردّ المختلفين إلى ساحة الاتحاد ضروري أيضاً، فإن رفع الاختلاف ممكن مقدور بالواسطة، واعراض الأمة عن ذلك بغي منها وإلقاء للنفس تهلكة الاختلاف.
الأمر السابع: أكد القرآن الكريم الدعوة إلى الاتحاد، وبالغ في النهي عن الاختلاف. قال تعالى: )واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ الله جَميعاً ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً(. [آل عمران / 103] وقال تعالى: )ولا تَكُونُوا كَالَّذينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظيمٌ(. [آل عمران / 105 ]. وقال الطباطبائي في تفسير الميزان حول هذ المعنی: «لما كان يتفرس من أمر هذه الأمة أنهم سيختلفون كالذين من قبلهم؛ بل يزيدون عليهم في ذلك، وهذا أمر أخبر به النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) أيضاً كما أخبر به القرآن، وأنّ الاختلاف سيدبّ في أمته، ثم يظهر في صورة الفرق المتنوعة، وأنّ أمته ستختلف كما اختلفت اليهود والنصارى من قبل، وقد صدق جريان الحوادث هذه النبوءة القرآنية، فلم تلبث الأمة بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أن تفرقوا شذر مدر(1) واختلفوا في مذاهب شتى». إلى أن قال: «والذي يهدينا إليه البحث بالتحليل والتجزية، أنّ أصل هذا الاختلاف
ص: 70
ينتهي إلى المنافقين الذين يغلظ القرآن القول فيهم وعليهم ويستعظم مكرهم وكيدهم، فإنك لوتدبرت ما يذكره الله تعالى في حقهم في سور: البقرة، والتوبة، والاحزاب، والمنافقين، وغيرها لرأيت عجباً، وكان هذا حالهم في عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ولمّا ينقطع الوحي، ثم لمّا توفاه الله، غاب ذكرهم، وسكنت أجراسهم دفعة!
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا *** أنيس ولم يسمر بمكّة سامر
ولم يلبث الناس طویلاً حتی وجدوا أنفسهم وقد تفرقوا أيادي سبأ، وباعدت بينهم شتى المذاهب، واستعبدتهم حكومات التحكم والاستبداد، وابدلوا سعادة الحياة بشقاء الضلال والغيّ».(1)
بعد التأمل في هذه المقدمات السبعة التي تعد بمنزلة المباني الأساسية للبحث عن سبب الاختلاف، سوف نذكر نكاتاً في هذا المجال نفسرّ في ظلالها منشأ الاختلاف في الإجتهاد وعوامل ظهور المذاهب والمناهج الإجتهادية:
النكتة الأولى: على أساس ما مر ذكره يمكن أن نقسم سبب الخلاف في مجال الإجتهاد ومنشأه إلى القسمين الرئسيين: منشأ ممدوح ومنشأ مذموم. الأول فهوالخلاف الذي ينشأ من تفاوت الأفهام والاستعداد واختلاف الاجواء والظروف، وقد بينّا في المقدمة الثانية أنّ هذا أمر ضروري، لابد منه، بل هوآلة التحريك وعامل
ص: 71
الارتقاء للمجتمع الانساني في مجال العلم والتجربة، فهذا المنشأ أمر ميمون وممدوح، بما له من البركات الكثيرة.
وأما الثاني، أي المنشأ المذموم للخلاف، فهوالخلاف المناجم عن الأهواء الضالة المضلة. والباحث عن أسباب الاختلاف ومنشأ ظهور المذاهب والمدارس الإجتهاديةلايمكنه ان يغضّ الطرف عن الأهواء الموجبة لظهور الفرق والمذاهب الكلامية والفقهية.
ولعمري هذا أمر بديهي، لايخفي على من له معرفة بتاريخ الملل وبالأخص تاريخ الإسلام، من لدن ارتحال النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى الرفيق الأعلى إلى يومنا هذا. وهذا الاختلاف كما مرّ في المقدمة الخامسة إلى السابعة اوجده حملة الدين والعلماء، بغياً وظلماً، والذي يستحق إسم الخلاف في الحقيقة هوهذا النحومن الخلاف. ولیس المنشأ الأول، الذي هوأمر طبيعي ممدوح. یقول الشاطبي: «إن الخلاف الذي هوفي الحقيقة خلاف ناشئ عن الهوي المضل لا عن تحري قصد الشارع باتباع الأدلة على الجملة والتفصيل، وهوالصادر عن أهل الأهواء، وإذا دخل الهوى أدى إلى اتباع المتشابه حرصاً على الغلبة والظهور بإقامة العذر في الخلاف. وأدى إلى الفرقة والتقاطع والعداوة والبغضاء؛ لاختلاف الأهواء وعدم اتفاقها. وإنما جاء الشرع بحسم مادّة الهوى بإطلاق. وإذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل، لم ينتج إلا إتباع الهوى وذلك مخالفة للشرع، ومخالفة الشرع ليست من الشرع في شئ، فاتباع الهوى من
ص: 72
حيث يظن انه اتباع للشرع ضلال في الشرع».(1)
ومما هوجدير بالذكر، وينبغي التأمل فيه هوامتزاج الهوى بالسياسة فالسياسة، كما قيل، لها دخل في هذا،(2) بل أن للسلطة الطاغوتية غير المشروعة علاقة وصلة عظيمة للتفرقة واشعال الفتنة والفساد، وکذا لک فی حماية والتأييد بعض المذاهب في مقابلغیرها، اضف إلى ذلك تدخل عنصر النفاق بين المسلمين الذي هوالأصل في الخلاف، ويستعظم القرآن كيده ومكره، وهذا يعد من دأب القرآن فی أنه إذا بالغ في التحذير عن شئ كان ذلك آية وقوعه وتحققه.(3)
والسؤل الأساس والمهم في هذا المجال هوانه إذا كان حال المنافقين في عهد الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) من العداوة والبغض والمكر على الإسلام والمسلمين هذا الحال الذي أخبر به الصادق، ومن أصدق من الله قيلاً؟ فلمّا توفّي الله رسوله كيف یکون الحال وکیف غاب ذكرهم ولم ينقل أخبارهم؟ وما حدود تدخّلهم في أمور المسلمين؟ هل انهم بعد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) تابوا كلهم وامنوا ودخلوا في صفوف المؤمنين أم انهم بادوا وهلكوا ولم يبق منهم اثر؟ أوهناک أمر ثالث يحتاج إلى التحقيق والتفحص عنه في صفحات التاريخ؟
وعلى كلّ حال، في مجال البحث عنمنشأ الخلاف وظهور المذاهب والمدارس الإجتهادية، وإن كان هناك أمر إيجابي وقد عبّرنا عنه بمنشأ الممدوح، لكن مع ذلك
ص: 73
لايمكننا أن نغضّ الطرف عن منشأ سلبي مذموم، وهوفي الواقع مثلث مشؤم مركب من النفاق والسياسة والأهواء المضلة وإن كان كلها يرجع إلى الأمر الأخير وهوهوى النفس. فلهذا المثلث صلة وثيقة بأمر الخلاف والشقاق بين المسلمين.
وقد ورد في نهج البلاغة عن الإمام أمیر المؤمنین على (علیه السلام) في ذمّ اختلاف العلماء في الفتيا ما يشير إلى هذا المنشأ المذموم ببيان عجيب. قال (علیه السلام) : «تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ الْأَحْكَامِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِخِلافِ قَوْلِهِ، ثُمَّ يَجْتَمِعُ الْقُضَاةُ بِذلِكَ عِنْدَ الاْءِمَامِ الَّذِى اسْتَقْضَاهُمْ،فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً، وَإِلهُهُمْ وَاحِدٌ! ونَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ، وكِتَابُهُمْ، وَاحِدٌ! - أَفَأَمَرَهُمُ الله سُبْحَانَهُ بِالاْخْتِلافِ فَأَطَاعُوهُ! أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ! أَمْ أَنْزَلَ الله سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ! أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ، فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا، وعَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى؟ أَمْ أَنْزَلَ الله سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ الرَّسُولُ (صلی الله علیه و آله و سلم) عَنْ تَبْلِيغِهِ وأَدَائِهِ. والله سُبْحَانَهُ يَقُولُ: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» وَفِيهِ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيءٍ. وذَكَرَ أَنَّ الْكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَأَنَّهُ لا اخْتِلاف فِيهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: )وَلَوكَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ الله لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً»(.(1)
ومن كلام آخر له (علیه السلام) وقد سأله سائل عن أحاديث البدع وعما في ايدي الناس من اختلاف الخبر فقال (علیه السلام) : «إِنَّ فِي أَيْدِي النَّاسِ حَقّاً وبَاطِلاً، وصِدْقاً وَكَذِباً، وَنَاسِخاً وَمَنْسُوخاً، وعَامّاً وَخَاصّاً، ومُحْكَماً ومُتَشَابِهاً، وحِفْظاً وَوَهْماً. وَلَقَدْ كُذِبَ عَلَى رَسُولِ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عَلَى عَهْدِهِ، حَتَّى قَامَ خَطِيباً، فَقَالَ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّداً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ
ص: 74
النَّارِ». وإنما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس: رَجُلٌ مُنَافِقٌ مُظْهِرٌ لِلإيمانِ، مُتَصَنِّعٌ بِالاْءِسْلامِ، لا يَتَأَثَّمُ ولايَتَحَرَّجُ، يَكْذِبُ عَلَى رَسُولِ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مُتَعَمِّداً، فَلَوعَلِمَ النَّاسُ اَنَّهُ منافقٌ كاذِبٌ لَمْ يَقْبَلوا مِنْهُ ولَمْ يُصَدِّقوا قَوْلَهُ ولكِنَّهُمْ قالُوا: صاحِبُ رَسُولِ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) رَآهُ، وسَمِعَ مِنْهُ، وَلَقِفَ عَنْهُ، فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِهِ، وَقَدْ أَخْبَرَكَ الله عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَخْبَرَكَ، وَوَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ لَكَ، ثُمَّ بَقُوا بَعْدَهُ، فَتَقَرَّبُوا إِلَى أَئِمَّةِ الضَّلالَةِ، وَالدُّعَاةِ إِلَى النَّارِ بِالزُّورِ وَالْبُهْتَانِ، فَوَلَّوْهُمُ الْأَعْمَالَ، وَجَعَلُوهُمْ حُكّاماً عَلَى رِقَابِ النَّاسِ، فَأَكَلُوا بِهِمُ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا النَّاسُ مَعَ الْمُلُوكِ وَالدُّنْيَا، إِلاَّ مَنْ عَصَمَ الله، فَهذَا أَحَدُ الأَرْبَعَةِ. ورَجُلٌ سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله شَيْئاً لَمْ يَحْفَظْهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَوَهِمَ فِيهِ، ولَمْ يَتَعَمَّدْكَذِباً، فَهُوفِي يَدَيْهِ، وَيَرْوِيهِ وَيَعْمَلُ بِهِ، وَيَقُولُ: أَنَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فَلَوعَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ وَهِمَ فِيهِ لَمْ يَقْبَلُوهُ مِنْهُ، وَلَوعَلِمَ هُوأَنَّهُ كَذلِكَ لَرَفَضَهُ.
ورَجُلٌ ثَالِثٌ، سَمِعَ مِنْ رَسُولِ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) شَيْئاً يَأْمُرُ بِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ نَهَى عَنْهُ، وهُولا يَعْلَمُ، أَوسَمِعَهُ يَنْهَى عَنْ شَيْءٍ، ثُمَّ أَمَرَ بِهِ وَهُولا يَعْلَمُ، فَحَفِظَ الْمَنْسُوخَ، وَلَمْ يَحْفَظِ النَّاسِخَ، فَلَوعَلِمَ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضَهُ، وَلَوعَلِمَ الْمُسْلِمُونَ إِذْ سَمَعُوهُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنْسُوخٌ لَرَفَضُوهُ.
وآخَرُ رَابِعٌ، لَمْ يَكْذِبْ عَلَى الله، وَلا عَلَى رَسُولِهِ، مُبْغِضٌ لِلْكَذِبِ خَوْفاً مِنَ الله، وَتَعْظِيماً لِرَسُولِ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ولَمْ يَهِمْ، بَلْ حَفِظَ مَا سَمِعَ عَلَى وَجْهِهِ، فَجَاءَ بِهَ عَلَى مَا سَمِعَهُ، لَمْ يَزِدْ فِيهِ ولَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ، فَهُو حَفِظَ النَّاسِخَ فَعَمِلَ بِهِ، وحَفِظَ الْمَنْسُوخَ فَجَنَّبَ عَنْهُ، وعَرَفَ الْخَاصَّ والْعَامَّ، والْمحْكَمَ والْمُتَشَابِهَ، فَوَضَعَ كُلَّ شَيْءٍ مَوْضِعَهُ. وَقَدْ كَانَ يَكُونُ مِنْ رَسُولِ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الْكَلامُ لَهُ وجْهَانِ: فَكَلامٌ خَاصٌّ، وَكَلامٌ عَامٌّ، فَيَسْمَعُهُ مَنْ لا يَعْرِفُ مَا عَنَى الله، سُبْحانَهُ، بِهِ، وَلا مَا عَنَى رَسُولُ الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فَيَحْمِلُهُ السَّامِعُ، وَيُوَجِّهُهُ عَلَى غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِمَعْنَاهُ، وَمَا قُصِدَ بِهِ، وَمَا خَرَجَ مِنْ أَجْلِهِ. وَلَيْسَ كُلُّ أَصْحَابِ رَسُولِ
ص: 75
الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مَنْ كَانَ يَسْأَلُهُ وَيَسْتَفْهِمُهُ، حَتَّى إِنْ كَانُوا لَيُحِبُّونَ أَنْ يَجِيءَ الْأَعْرَابِيُّ وَالطَّارِئُ، فَيَسْأَلَهُ عَلَيْهِ السَّلامْ حَتَّى يَسْمَعُوا، وَكَانَ لايَمُرُّ بِي مِنْ ذلِكَ شَيْءٌ إِلاَّ سَأَلْتُهُ عَنْهُ وَحَفِظْتُهُ فَهذِهِ وُجُوهُ مَا عَلَيْهِ النَّاسُ فِي اخْتِلافِهِمْ، وَعِلَلِهِمْ فِي رِوَايَاتِهِمْ»(1) انتهى كلامه (علیه السلام) .
فالذي يظهر من هذين الكلامين للإمام أمير المؤمنين (علیه السلام) أن للسياسة والنفاق والأهواء النفسانية دور واسع لظهور الخلاف وتكوّن الفِرَق والمذاهب، الأمر الذي غفل عنه الدهلوي وأمثاله من الذين يتصدون لدراسة منشأ الخلاف ولم يأتوا بذكرهفلابدّ من أن يكون مورداً للعناية وبذل الوسع للوقوف على هذا العامل المهم الذي يعدّ بمنزلة اللبنة الأولى للاختلاف.
النكتة الثانية: قد مر أنّ الاختلاف من الأمور التي لا يرتضيها الطبع السليم، وقد بالغ القرآن الكريم في النهي عنه، وأما الرواية المشهورة في كتب العامه المنسوبة إلى النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) من أنه قال: «اختلاف أمّتي رحمة» فيرد عليها:
أوّلاً: أن أكثر المحدثين من العامة، كما عن السخاوي (ت- 902ﻫ.ق) والمناوي (ت-1031ﻫ.ق) يرمونه بالضعف ويقولون «أنه لا أصل له».(2)
وثانياً: حتى على تقدير صحة هذه الرواية فإن المراد من الاختلاف فيها ليس هوالاختلاف في الدين، بل المراد منه التردد والزیادة فإنّ الصدوق (رحمه الله) روى بإسناده عن ابن أبي عمير عن عبد المؤمن الأنصاري قال: قلت لأبي عبدالله (علیه السلام) : إنّ قوماً رووا أنّ
ص: 76
رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال: إنّ اختلاف أُمتي رحمة؟ فقال: صدقوا، قلت: إنّ كان إختلافهم رحمة فإجتماعهم عذاب؟ قال: ليس حيث ذهبت وذهبوا، إنما أراد قول الله عزّوجلّ: «فَلَولا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» فأمرهم أن ينفروا إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ويختلفوا إليه، فيتعلموا ثم يرجعوا إلى قومهم فيعلموهم، إنما أراد إختلافهم من البلدان لا اختلافهم في دين الله، إنما الدين واحد.(1)
النكتة الثالثة: أن من الأسباب المهمه لظهور الخلاف وتكوّن المذاهب والمدارس ما هومجمع عليه عند العامة والخاصة، وهوالمنع عن كتابة الحديث وتدوينه بعد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى عهد الخليفه عمر بن عبد العزيز، بل إلى عهد المنصور العباسي. فإنّ السنة النبوية الشريفة هي أهم مصدر للتشريع بعد كتاب الله تعالى عند جميع المذاهب والمدارس. ولما كانت سنة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) لا تصل إلينا إلاّ بواسطة الرواية والحديث عنه، فإن للمنع عن كتابة الحديث دور عظيم في الخلاف بين المسلمين. حیث أوجد هذا المنع أرضية مناسبة لوضع الحديث واختراع روايات كثيرة ونسبتها إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) . فها هوالذهبي يروي في ترجمه أبي بكر أنّه جمع الناس بعد وفاة نبيهم فقال: «إنكم تحدثون عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافاً، فلا تحدثوا عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) شيئاً فمن سألكم، فقولوا بيننا كتاب الله فاستحلّوا حلاله وحرّموا حرامه».(2)
ص: 77
وفي طبقات ابن سعد: «إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوا بها، فلمّا أتوه بها أمر بتحريقها».(1)
وهذا عثمان يقول على المنبر: «لا يحلّ لأحد يروي حديثاً لم يسمع به على عهد أبي بكر ولا على عهد عمر».(2)
ومن بین الصحابة من خالف سنّة الخلفاء كأبن مسعود وأبي الدرداء وأبي ذروغيرهم، ولكن سيرة الخلفاء في المنع عن الحديث استمرت في عهد معاوية ومن بعده، ولقد خسر المسلمون من جراء حظر الحديث خسارة عظمى من ناحيتين: من ناحية ضياع الأحاديث الكثيرة التي سمعها الصحابة من الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وما شاهدوه من فعله وتقريره وسيرته، فإنّهم ماتوا ونقلوا معهم ما سمعوه وشاهدوه منه (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى الدار الآخرة، ومن ناحية أُخرى كثرت الأكاذيب والإفتعالات على الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وانتهج نظام الحكم والسلطة نهج أبي بكر وعمر بن الخطاب، حتى تولی الخليفة عمر بن عبد العزيز (101-99 ﻫ.ق) فأمر بتدوين الحديث، ولكن مرور هذا الزمن الطويل کان كفيلاً بأن يذهب بالكثير من حملة الحديث من الصحابة والتابعين ويهيئ لكثير من أهل الأهواء أن يضعوا الحديث أويزيدوا في بعض الأحاديث ما شاؤا وشائت لهم أهوائهم فعند ذلك كتب عمر بن عبد العزيز إلى أبي بكر بن حزم في المدينة: «أُنظر ما كان من حديث رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فاكتبه».(3) وكان ابن شهاب أول من دوّن الحديث
ص: 78
على رأس المائة بأمر عمر بن عبد العزيز، غير أنّه لم يتمّ الأمر بسبب وفاته بالسم عام (101 ﻫ.ق) فضاعت تلك الكتب التي دوّنت في عصره، حتى تولّى المنصور الحكم، فقام المحدثون في سنة (143ﻫ.ق) بتدوين الحديث كما قال الذهبي: «في سنة (143 ﻫ.ق) شرع علماء الإسلام في هذا العص العصر في تدوين الحديث والفقه والتفسير».(1)ولهذا السبب نجد أنه كلما بعد الناس عن عصر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) إزداد عدد الأحاديث، وهذا يدلّ على أنّ الأحاديث أخذت بالإزدياد والكثرة بحسب وضع الوضاعين وكذب الكذابين. قال محمد عبده عن حماد بن زيد: «وضعت الزنادقة أربعة عشر ألف حديثاً». وهذا بحسب ما وصل إليه علمه واختباره في كشف كذبها، وإلا فقد نقل المحدثون أنّ زنديقاً واحداً وضع هذا المقدار. قالوا: لما أخذ ابن أبي العوجاء ليضرب عنقه قال: وضعت فيكم أربعة الأف حديثاً احرم فيها الحلال وأحل الحرام. وابن أبي العوجاء هوربيب حماد بن سلمة المحدث الشهير.(2)
يظهر من ذلک أنّ من العلل المهمة لظهور الآراء والإجتهادات المختلفة النهي عن نشر السنّة النبوية إلى أوائل القرن الثاني.(3) فهذا هوالأمر الخطير الذي غفل عنه كثير
ص: 79
من الباحثين في أسباب الخلاف كالدهلوي والشاطبي وابن رشد وغيرهم.
النكتة الرابعة: أن الجهل وقلّة الاطلاع على حقيقة الشريعة من الأسباب المهمة التي لا بدّ أن تعدّ لظهور المذاهب والمناهج وقد مرّ مما نقلناه عن نهج البلاغه من كلام الإمام على (علیه السلام) في حديث ذكر اختلاف الأخبار أنّ هناك مضافاً إلى الكذب والنفاق، يوجد أمران آخران يوجبان ظهور الاختلاف في الحديث؛ أولهما: الوهم في الحديث، وثانيهما: عدم الحفظ. فالمتدبر في هذين الأمرين يجد أنّ الوهم وعدم الحفظ ينتهيان في حقيقتهما إلى الجهل يعتبران من العوامل الرئيسية في ظهور البدعوانتشار الخلاف في الخبر، فإذا كان هذا هوحال بعض الرواة عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) من الصحابة، في ما هم عليه من الجهل والوهم وعدم الاطلاع على الناسخ والمنسوخ وعدم الحفظ، وهم قد تفرقوا في البلاد وصار كل واحد منهم قدوة للناس،كما نقلنا عن الدهلوي، حيث كانوا يرجعون إليهم ويستفتونهم وهم يجيبونهم بعلمهم هذا الذي كان مشوباً بالجهل والوهم وعدم الحفظ، حتى أنهم إذا لم يتمكنوا من هذا العلم البسيط الناقص المشوب بالجهل، اجتهدوا بآرائهم، وإذا كان الأمر كذلك فبإمكاننا أن نستنتج أنّ جهل المحدثين الأوائل الذين صاروا قدوة للناس ومرجعاً للفتوى يعتبر من أهم الأسباب التي أدت إلى ظهور المدارس المختلفة للاجتهاد، وسيأتي توضيح ذلك أكثر في النكتة الأتية.
النكتة الخامسة: اذا کان بعض الكتّاب یری أن أول منشأ لظهور الاختلاف هونشوء مدرستين، هما: مدرسة الحديث ومدرسة الرأي، فإن النظر الدقيق یوضح أنّ هذا بعض الحقيقة وليس تمامها؛ ذلک أن ظهور هذين المدرستين في نطاق مدارس الإجتهاد عند السنّة امر صحیح ومطابق للواقع. لکنه محل تأمل اذا عمّم جمیع
ص: 80
المسلمين؛ لأن أول منشأ للاختلاف بين المسلمين كان حول تحديد مقام أهل البيت (علیهم السلام) وبيان مرتبتهم، حيث إنّنا نجد أنه بعد وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) حصل بين المسلمين في ذلك الوقت إنقساماً واضح بالنسبة إلى مقام أهل البيت (علیهم السلام) ومرتبتهم، وهذا هوالعامل الرئيس الأول لظهور مذهبين في العالم الإسلامي، يجسدان أول إنشقاق ظهر بين المسلمين. وأول هذين المذهبين يتمثل بالمذهب القائل: بأنّ أهل بيت النبي (علیهم السلام) وإن كان لهم منالشأن ما لايمكن لأي مسلم إنكاره وقد وجبت مودّتهم بنص الأمر الالهي(1) وهی تعتبر من ضروريات الدين إلا أنهم ليس لهم المرجعية في أمر الدين والدنيا ولا تنحصر المرجعية العلمية بهم خاصة، فهم كغيرهم من الصحابة من هذه الناحية.
وثاني هذين المذهبين يتمثل بالمذهب القائل: إنّ أهل بيت الرسول وعترته: هم المرجع العلمي الوحيد للناس بعد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وعندهم ميراث علمه، هذا أولاً، وهم الأئمة والساسة في جميع أمور الدين والدنيا ثانياً؛ فأصحاب هذا المذهب يعتقدون بوجوب التمسك بالعترة في المجالات المتفاوتة ومن أهمها وأعظمها الرجوع إليهم في المسائل والمشاكل المرتبطة بالشريعة، وتكاليف العباد المجهولة تمسكاً بحديث الثقلين(2) المتواتر، وغيره من الأدلّة المذكورة في مواضعها. بينما أصحاب المذهب
ص: 81
الأول كانوا يرجعون الناس في مسائلهم الفقهية المجهولة إلى المحدثين، وكانوا لايعتقدون بمرجع معصوم عن الخطأ، منصوب من قبل النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) للجواب عن استفتائاتهم؛ بينما نجد أن أصحاب المذهب الثاني كانوا يرجعون الناس إلى أهل البيت (علیهم السلام)؛ لأجل إعتقادهم بأنّ حديثهم حديث الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) (1) ولاتوجد مسألة إلاّ وعندهم جوابها، فعلى هذا یظهر أن المنهج الإجتهادي للمذهب الأول منشأه الصحابة، بينما المنهج الإجتهادي للمذهب الثاني منشؤه العترة الطاهرة.
النكتة السادسة: بعد الإشارة إلى أهم أسباب الخلاف ومنشأ ظهور المذاهب يمكن أن نلخص تنوع المذاهب في إطار أمور ثلاثة، وهي: المباني والمصادر والمناهج. فالمذاهب والمدارس الفقهية مع ما بینهما من التفاوت والاختلاف، كما سيظهر في المباحث الآتية، يكون مرجع الخلاف فيما بينها إما إلى الخلاف في المباني والمبادئ التصديقية الكلامية والأصولية وغيرها، كالاعتقاد بعصمة أهل البيت (علیهم السلام)، وعدالة الصحابة وحجية السنة ومدى إعتبارها، وحجية أخبار الآحاد،
ص: 82
«وإنسداد باب العلم»، إلى غير ذلك من المباني المختلفة المذکورة في آراء المذاهب وفتاواهم، وإما إلى الخلاف في المصادر التي منها تستنبط الأحكام كالخلاف في حجية القياس أوالإجتهاد بالرأي أوحجية العقل ومدى إعتبارها، وإما إلى الخلاف في نفس المنهج مع الاتفاق على كلّ الأصول والمباني أوالقبول والامضاء لكلّ المصادر كالخلاف في كيفية الرجوع إلى أقوال سائر الفقهاء ولزومها أوإلى آراء المذاهب الأُخرى.
النكتة السابعة: من الأمور المهمة الجديرة بالإشارة هنا، وإن كان سيأتي التعرضلها بتفصيل أكثر في الفصول الآتية، اختلاف رأي المدارس الإجتهادية وتفاوت نظر الفقهاء أوغفلتهم بالنسبة إلى مجموع الشريعة ودائرة نطاق الأحكام الفقهية وحدود نفوذها إلى جميع مجالات الحياة الإنسانية، من الفردية والإجتماعية، أواختصاصها بالحياة الفردية وما يرتبط بالإنسان مع نفسه أومع ربّه تعالى. فإن المجتهد إذا غفل عن سعة الأحكام وشمولها لشتى جوانب الحياة وركز فقط على البُعد الخصوصي والفردي للفقه سوف يكون لهذا الرؤیة أثرها فی ما یفهم من الأدلة ويستنبط من الكتاب والسنة وهذا الامر لايمكن إنكاره وهويوجب ظهور مدرسة أومذهب إجتهادي، یختلف عن مذهب من يرى سعة الشريعة وشمولها لشتى جوانب الحياة؛ فإن المجتهد الذي يرى ذلك ويبذل العناية لمشاهدة جميع الشريعة في إطار واحد، فإنه سوف يتصدى لهداية الناس في جميع مجالات الحياة إلى طريق الرشد والسیر إلى السعادة الأبدية دنيويّاً وأخرويّاً، فرديّاً واجتماعيّاً، عباديّاً وسياسياً، إلى غير ذلك من الأبعاد الأخرى للحياة؛ وهذا ما نشاهده بوضوح في المنهج الفقهي للإمام روح الله الخميني (قدّس سرّه) .
ص: 83
إن الاختلاف في الإجتهاد وظهور المدارس والمناهج والمذاهب ينشأ من أمور عديدة، بعضها ممدوحاً وبعضها مذموماً. وأهمّ هذه الأمور هي:
1- الأهواء النفسية من قبيل: الكذب والنفاق.
2- تفاوت الافهام والاستعدادات الفردية واختلاف الأجواء والظروف.
3- المنع من كتابة الحديث وتدوينه.
4- الجهل وعدم الاطلاع على مصادر الشريعة.
5- الإيمان بعصمة أهل البيت (علیهم السلام) ومرجعيتهم العلمية والسياسية، وعدم الإيمان بذلك.
6- الاختلاف في المباني والمصادر والمناهج.
7- كيفية النظر إلى الشريعة، من حيث شمولها لمختلف مجالات الحياة وعدم شمولها لذلك.
ص: 84
ص: 85
ص: 86
قد مرّ في مبحث أسباب الخلاف من الفصل السابق أنّ أول خلاف ظهر بين المسلمين بعد النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) هوالخلاف حول مرجعيّة أهل البيت (علیهم السلام) بالنسبة إلى الشؤن الدينية والدنيوية للمجتمع الإسلامي، وكانت نتيجة هذا الخلاف ظهور مدرستين، بل مذهبين قد سميّا بأسماء عدّة في المتون والكتب المختلفه، كمدرسة الإمامة ومدرسة الخلافة، أومدرسة أهل البيت (علیهم السلام) ومدرسة الخلفاء، أومدرسة الشيعة ومدرسة السنة، أومدرسة العامة ومدرسة الخاصة.
ونحن في ما يلي من المباحث نصطلح على المدرسة الأولی بمدرسة أومذهب العامّة، بإعتبار أنّ الذين تابعوهذه المدرسة وهذا المذهب هم أكثرية المسلمين ونصطلح على المدرسة والمذهب الثاني بمدرسة أومذهب الخاصة بإعتبار قلّة تابعيه في العالم الإسلامي.
وهذان المذهبان، العامة والخاصة، وإن كان بينهما نقاط اختلاف في مجالات العقيدة والعمل، وهی قد تؤدی بدورها إلى التأثير في أرضية الإجتهاد والفقاهة، لكن مع ذلك فإن بینهما مشتركات كثيرة في شتّى المجالات، بل يمكن أن يدعى أنّ المذهبين في أكثر الساحات الإعتقادية والاخلاقية والفقهية إلى غير ذلك، مما يرتبط بالتعاليم الإسلامية والعلوم الدينية، متوافقان لا خلاف بينهما، وسوف نشير في ما يلي إلى أهم تلك المشتركات في مجال الفقه والإجتهاد:
ص: 87
توجد بين مذهب العامة ومذهب الخاصة في ما يرتبط بميدان الإجتهاد والفقاهة نقاط مشتركه كثيرة، من أهمها تلك المرتبطة بالأصول والمباني الاجتهاد ومصادره، وهي كالتالي:
1) التوحيد فی الألوهیة والتشریع.
2) النبوة العامة والنبوة الخاصة ووحدة الدين والشريعة.
3) الخاتمية، وأنّ حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة.
4) جامعية الشريعة، وأنّ أحكامها تدخل في جميع مجالات الحياة الإنسانية، مما ینطبق علیه عنوان: هداية الله عزوجل للإنسان.
5) حجية وإعتبار المصادر الأربعة لعملية الإستنباط وهي: الكتاب والسنة والاجماع والعقل.
6) فالعامة والخاصة متفقان بالنسبة إلى أصل هذه الأمور الخمسة التي تعدّ بمنزلة المباني الأساسية للاجتهاد، وإن كانا مختلفين في تفريعاتها الجزئية وسيأتي إن شاء الله بيان أهمها في ذيل البحث عن مدارس كلّ مذهب على حدة. وسوف نشرع في الفصل الثاني بذكر أهم المدارس الإجتهادية عند العامة.
ص: 88
قد مرّ في المبحث الخامس من الفصل السابق أنّ الصحابة والتابعين تفرقوا بعدوفات الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) في الأمصار والمدن، وصاروا مرجعاً عاماً للناس في الفتوى والحكم في ما بينهم، وكان الناس يلتفون حولهم في كل بلد، ويأخذون عنهم الكتاب والسنة.
وكانت لهم طرقهم الخاصة في الفتوي والإستنباط، فمنهم من توسع في الرأي كعمر بن الخطاب، ومنهم من وقف عند النص وتمسك بالآثار كعبدالله بن عمر، وعلى هذا يمكن القول: إنّ جميع المدارس الفقهية عند العامة تعود في واقعها إلى أحد إتجاهين: إتجاه الوقوف عند الأثر وهوما يسمي ب-«مدرسة الحديث»، واتجاه التوسع في الرأي وهوما يسمي ب-«مدرسة الرأي».(1)
ص: 89
ص: 90
كانت الحجاز، وخاصة المدينة، المكان الأول لنشأة مدرسة الحديث وظهورها، وكانت تعرف بمدرسة المدينة؛ لأنها مهد السنة النبوية، وفيها سلالة الصحابة وقد حمل لواء هذه المدرسة الفقهاء السبعة وهم: سعيد بن المسيب (ت 94ﻫ.ق) وعروة بن الزبير(ت 94ﻫ.ق) والقاسم بن محمد (ت 106ﻫ.ق) وأبوبكر بن عبدالرحمن بن الحارث(ت 94ﻫ.ق) وعبيدالله بن عبدالله بن عتبة بن مسعود (ت 98ﻫ.ق) وسليمان بن يسار (ت 107ﻫ.ق) وخارجة بن زيد بن ثابت (ت 99ﻫ.ق). وكان سعيد بن المسيب على رأس هؤلاء السبعة،(1) وقد يقال: إنه قد تزعم هذه المدرسة من الصحابة قبل هؤلاء السبعة كل من العباس والزبير وعبدالله بن عمر، كما أنه قد حمل لوائه من تابعي التابعين كل من: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل.(2)
یقف فقهاء هذه المدرسة عند النص وخلاصة منهجهم ما يأتی:
1- كانوا إذا ما استفتاهم أحد من الناس ينظرون في كتاب الله ثم سنة رسوله، فإن وجدوا فيها أحاديث مختلفة فاضلوا بينها بالراوي، فإذا لم يجدوا حديث نظروا في آثار الصحابة وإن لم يجدوا نصاً ولا اجماعاً عملوا بالرأي، وما كان فيه اختلاف عندهم
ص: 91
أخذوا بأقواه وارجحه؛ إما لكثرة من ذهب إليه، وإما لموافقته لقياس قوي، وإمالموافقته لتخريج صريح من الكتاب والسنة، وإذا لم يجدوا فيما حفظوا سنة خرّجوا من كلام فقهائهم وتتبعوا الايماء والاقتضاء.
2- كان فقهاء المدينة من هذه المدرسة يؤخرون الأخذ بخبر الواحد عن عمل أهل المدينة، كما انهم ومن بعدهم مالك يرون أن الاجماع الملزم يتحقق باتفاق فقهاء المدينة وحدهم.
3- یری فقهاء هذه المدرسة على خلاف مدرسة الرأي، أن السنة تستقل بتشريع الأحكام ولولم يرد بخصوصها شئ فی القرآن وفی هذا يقول الأوزاعي: «الكتاب أحوج إلى السنة من السنة إلى الكتاب». وكان هذا سبباً في اختلاف المدرستين في فروع كثيرة، منها: القضاء بالشاهد واليمين، ومنها: عقوبة الزاني غير المحصن مع الجلد، ومنها: تغريب الزناة سنة.
4- أنهم يجيزون تخصيص عام القرآن بخبر الواحد، لأنّ دلالة العام عندهم ظنية، بخلاف مدرسة الرأي، فإن دلالة العام من الكتاب عندهم قطعية، في حين أن خبر الواحد ظني، والظني لايعارض القطعي. وإلى ذلك يشير أحمد بن حنبل بقوله: «ولوساغ رد سنن الله بما فهمه الرجل من ظاهر الكتاب لردت بذلك أكثر السنن وبطلت بالكلية».
وقد ترتب على منهجهم هذا أنهم قالوا بحل أكل الذبيحة التي لم يسم عليها، مع أن النص القرآني يشعر بالتحريم. وأيضاً، قالوا بجواز قتل مباح الدم لردته ونحوها، وإن لجأ إلى الحرم؛ لأن عموم قوله تعالى: )وَمَن دَخَلَه وكَانَ ءَامِنًا(، قد خصص بالخبر.
ص: 92
5- لفقهاء مدرسة الحديث منهج خاص في إعتبار خبر الواحد. منه: عدم اشتراطألا يكون الخبر في أمر تعم به البلوى، بخلاف أهل الرأي، فإنهم يشترطون ذلك. فأهل الحديث يرون أنه لا يلزم من عموم البلوى إشتهار حكمها، فإن حكم الفصد والحجامة، والقهقهة في الصلاة، وقراءة الفاتحة خلف الإمام وتركها، والجهر بالتسمية واخفائها لم تشتهر مع أن هذه الحوادث عامة. ومنه: أنهم لا يشترطون في إعتبار خبر الواحد عدم مخالفته لنص من الكتاب والسنة المشهورة، بينما تشترط مدرسة الرأي ذلك. ومنه: أنهم يعملون بالخبر، ولولم يعمل به نفس الصحابي الذي رواه مادام إسناد الحديث صحيحاً؛ لأنه حجة، بينما تری مدرسة الرأي أنّ عمل الصحابي الراوي للحديث شرطاً. وقد ترتب على ذلك أن أهل الحديث لم يجوزوا نكاح المرأة بغير إذن وليها، أخذاً بما روته عائشة: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل». مع أن عائشة الراوية للخبر قد عملت بخلافه، إذ زوجت حفصة بنت أخيها عبدالرحمن وهوغائب بالشام.
إن أهل الحديث، وإن كان أساس رأيهم هوالاعتماد على الحديث، إلا أنهم یختلفون فی ما بینهم، ولكل منهم منهج يتميز به في مجال قبول أخبار الآحاد، وتقديمها على غيرها من الأدلة الأخرى. ففقهاء المدينة الذین كانت المنافسة والجدل بينهم وبين فقهاء الرأي بالكوفة شديدین، يختلف منهجهم كثيراً عن عموم منهج مدرسة الحديث وخاصة فيما يتصل بشروط السنة حتى عدّ بعض المؤرخين، كابن قتيبة، مالكاً من فقهاء مدرسة الرأي، لأنه يأخذ بظاهر القرآن، ويرفض خبر الواحد إذا
ص: 93
تعارض معه، كما أنه يقدم ما عليه عمل أهل المدينة على خبر الواحد، وأيضاً كان يقدم القياس على خبر الواحد، إذا اعتضد القياس بقاعدة قطعية. كما أن فقهاء المدينةقد يلاحظ في آرائهم التعليل ورعاية المصلحة، كما علل سليمان بن يسار، وسالم بن عبدالله بن عمر الترخيص للمتوفي عنها زوجها باستعمال بعض أنواع الطيب والزينة، برفع الحرج ودفع الضرر عنها، وقد علل ابن المسيب جواز تسعير السلعة، بأن مصلحة المجتمع تقتضي ذلك.
بينما الظاهرية، وهم متطرفوأهل الحديث، يتعلقون بظواهر النصوص، وينكرون أصل التعليل وما ترتب عليه من القول بالقياس والرأي بكافة وجوهه.
كما أن فقهاء مدرسة المدينة كانوا إذا لم يجدوا نصاً يرجعون إلى أقوال خصوص الصحابة المقيمين في المدينة، أما غيرهم من فقهاء أهل الحديث، فإنهم عند إنعدام النص يأخذون بقول الصحابي، سواء كان من المقيمين في المدينة أم لا.(1)
ومن هنا، فإننا نستطيع أن نقسم مدرسة الحديث إلى مدرسة المدنيين والظاهريين والمتأخرين، كمايأتي تفصيله في المباحث الآتية.
ص: 94
الرأي في اللغة بمعنى العلم بالشئ على سبيل الظن أوعلى سبيل الإعتقاد، ثم خصه الفقهاء بالنظر وإعمال الفكر في الوقائع التي لم يرد فيها نص.(1) والمراد من النص الدليل اللفظي الدالّ علی الحكم الشرعي، سواء كان كتاباً أوسنة، كما قد يقال له: الأثر، أيضاً، وقد أشرنا في المبحث الأول من الفصل السابق أنّ العمل بالرأي والتفكير الشخصي للتوصل إلى الحكم الشرعي كان يسمى في الصدر الأول بالإجتهاد، كما كان يقال له: التأويل –أيضاً- والتأويل وإمعان الرأي بهذا المعنى كان موجوداً في عصر الصحابة، وكان كل من الخلفاء الأول والثاني والثالث وکذلک عائشة وخالد بن الوليد وأمثالهم، هم الأصل له. وقد ذكرت إجتهاداتهم بالرأي وتأويلاتهم في الكتب المفصلة.(2)
والذي يجدر ذكره، ومن الضروري الإشارة إليه، هوأنّه قد ذكر في بعض المصنفات المختصة بالإجتهاد وتاريخه: أن الإمام على بن أبي طالب (علیه السلام) كان من العاملين
ص: 95
بالرأي، بل عدّ (علیه السلام) من المؤسسين له.(1) مع أنّ هذا المدّعى خلاف الواقع، ولا يوجد له شاهدأصلاً، بل أن المعروف من مذهب أهل البيت (علیهم السلام) وعلى رأسهم الإمام على (علیه السلام) والواضح كالشمس في رائعة النهار، والذي يعرفه الصديق والعدوّ، هوالإنكار الشديد للعمل بالرأي، والروايات عنهم في حرمة الحكم بالرأي متواترة(2) بل يعدّ هذا من ضروريات مذهب أهل البيت (علیهم السلام) كما سيأتي تفصيله. وقد مرّ معنا في مبحث أسباب الخلاف ذكر حديث عن أمير المؤمنين (علیه السلام) في ذمّ أهل الرأي فراجع.(3)
وعلى أيّ حال، فإن الجذور الأساسية لمدرسة الرأي بدأت من بعض الصحابة، وعلى رأسهم الخليفة الثاني، كما هومذكور في محله، وقد يقال: إنّ عبدالله بن مسعود عمل برأي عمر في الأخذ بالرأي، ثم أصحابه في الكوفة، كعلقمة بن قيس(ت 62) والأسود بن يزيد(ت 75) وشريح بن الحارث (ت82) وأمثالهم كانوا أركان هذه المدرسة. ثم بعد هؤلاء كان زعيم مدرسة الرأي إبراهيم النخعي (ت95) الذي له أثر واضح في مدرسة الكوفة، ومن بعده تلميذه حماد بن سليمان (م120) شيخ أبي حنيفة، ثم آلت الزعامة إلى أبي حنيفة (ت 150).
وقد شنع أهل الحديث على أهل الرأي، حتى نقل عن ابن حنبل أنه قال: «أصحاب الرأي مبتدعه، ضلال أعداء للسنة» وكان فقهاء مدرسة الرأي يرمون فقهاء مدرسة
ص: 96
الحديث بالجمود وضعف الفكر.(1)
والحقیقة هی أنّ فقهاء المدرستين يأخذون بالحديث، كما يأخذون بالرأي، إلا الظاهريين من أهل الحديث، فالخلاف الفئتین كما يقول الحجوي: «إنما هوفي الفروع التي يثبت الأثر فيها عند الحجازيين دون العراقيين، لعدم اطلاعهم عليها، أولوجود قادح عندهم».(2) وكان منهج أهل هذه المدرسة هوالتهيّب رواية الحديث ورفع سنده للرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) ، مخافة أن يكون من الموضوعات، وكانوا مع هذا لا يتهيبون الفتيا؛ لأنهم على منهجهم يعتقدون أن شرع الله قد إكتمل قبل وفاة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) وأن أحكامه معقولة المعاني، مبنية على علل ضابطة لتلك الأحكام، فكان فقهاء هذه المدرسة يبحثون عن تلك العلل ويجعلون الحكم دائراً معها وجوداً وعدماً، ونتيجة لقلة بضاعتهم من الحديث وبعدهم عن موطنه وتحرجهم من الأخذ بأخبار الآحاد، خشية أن تكون موضوعة، إتجهوا إلى الرأي، فقدموا القياس على خبر الواحد أحياناً. ومن هنا، يظهر أنّ المدرستين تجتمعان في التوسع في الرأي واعمال القياس والاستحسان، ووضع القيود في مجال العمل بأخبار الآحاد، وإن اختلفوا فيما بينهم في هذه الأمور وفي طبيعة ونوع القيود التي وضعوها.
ص: 97
ينبغي الإشارة في هذا المجال إلى أمرين مهمين - وإن كان سيأتي تفصيلهما عند البحث في فقه أبي حنيفة الذي يعدّ من أساطين مكتب الرأي- وهما:الأمر الأول: التوسع في الحيل الشرعية في شتى أبواب الفقه، من المعاملات والوقوف والوصايا والشروط والنفقات وغيرها، وينقل عن أبي حنيفة إنه قال: «إن قصد ابطال الأحكام صراحة ممنوع، وأما إبطالها ضمناً فلا».(1) بينما ينكر أهل الحديث عليهم إعتبارهم للحيل الشرعية.
الأمر الثاني: التوسع في الفقه الإفتراضي، فإنهم كما كانوا ينظرون في المسائل الواقعية الفعلية، كانوا يفترضون المسائل، ويبحثون عن حكم الله في كل ما يفترض وقوعه، الامر الذی كوّن لهم ثروة فقهية واسعة.(2)
لقد كان الرأي الغالب لفقهاء المدينة من أهل الحديث هوالقراءة مع الإمام، فيما يخفت فيه ويسر، وعدم القراءة فيما يجهر فيه، بينما كان رأي مدرسة الكوفه هوعدم القراءة خلف الإمام مطلقاً، حتى فيما اسر به، ومرجع الخلاف في ذلك هواختلاف الآثار.
ص: 98
مرّ سابقاً أنّ فقهاء أهل الحديث يرون صحة القضاء بشاهد واحد مع اليمين في الأموال، تمسكاً بالخبرالموجود عندهم، بينما یری فقهاء الرأي عدم الإکتفاء باليمينمع البينه، تمسكاً بالنص القرآني(1) وعدم ثبوت السنة عندهم.
إ يشترط فقهاء الحديث فيمن يلي القضاء الذكورة؛ إذ تنقص الأُنوثة عن كمال الولايات؛ ولأنه لم يحدّث أن ولّى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ولا احد من أصحابه امرأة في القضاء، كما أنه روي عنه (صلی الله علیه و آله و سلم) «لن يفلح قوم ولوا امرهم امرأة»؛ بينما ترى مدرسة الرأي وابن حزم من الظاهرية أن الذكورة ليست شرطاً لجواز تقلد القضاء في غير الحدود والدماء. كما روي عن عمر بن الخطاب أنه ولى «الشفاء» السوق. فأهل الرأي قاسوا القضاء على الشهادة، وحملوا الحديث المروي على رياسة الدولة.
يتفق الفقهاء على أن الرجل البالغ العاقل له أن يزوج نفسه، وأنّ يباشر عقد الزواج، وأما بالنسبة إلى المرأة فبعض أهل الرأي يجوزون لها أن تباشر عقد زواج نفسها وأن تنوب عن غيرها في مباشرة عقد الزواج، غير أنهم اشترطوا لنفاذ عقدها أن يكون الزوج كفواً وأن لا يقل المهر عن مهر المثل، واستدلوا على ذلك بالقياس، فقاسوا مباشرة ذلك على مباشرتها لشؤنها المالية، بينما غيرهم من الفقهاء لا يجوزون ذلك،
ص: 99
لا لنفسها ولا لغيرها، ويستدلون بما روي عن أبي هريرة -وهوممن لا معرفة له بالفقه من الصحابة -: لا تزوج المرأة المرأة ولا تزوج المرأة نفسها. وما روي عنه (صلی الله علیه و آله و سلم) «لا نكاح إلا بوليّ» أيّ امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإن لم يكن لها ولي، فالسلطانولي من لا ولي له».(1)
کان أهل الرأي يفتون بضمان المصراة: ببيان أن المشتري يردها ويرد معها - أيضاً- قيمة ما احتلبه من لبنها، بينما کان أهل الحديث يفتون بردها ومعها صاع من تمر، لحديث رواه أبوهريره في ذلك، فأهل الرأي يقولون: إن قاعدة ضمان المتلفات أن يرد المثل، إن كان مثلياً وقيمتها إن كان قيمياً، وهذا الخبر خلاف القاعدة، فيوجد شكاً في صحته إن كان بلغهم، ويحتمل أنه لم يبلغهم.(2)
لقد ظهرت مدرسة الحديث ومدرسة الرأي في عهد صغار الصحابة، ومن تلقى عنهم من التابعين في عهد معاوية سنة (41 ﻫ.ق) إلى أوائل القرن الهجري الثاني، عندما بدأ الضعف في الدولة الأموية، وهاتان المدرستان وإن كان بينهما أمور خلافية كثيرة في عملية الإستنباط وأصولها، على الرغم من توافقهما على الأخذ بالكتاب والسنة، بل حتى العمل بالرأي، وقد ظهر التنافس والجدل بينهما، إلا أنه لم تكن
ص: 100
للمجتهدين من هاتین المدرستين قواعد معلومة واضحة؛ لأن الفقه كان إلى ذلك الوقت لم يأخذ الدرجة اللائقة به من التدوين والترتيب والتوسعة، إلى أن جاء دور الفقهاء في الزمان المتأخر على ذلك الزمان، حيث ظهرت المدارس الإجتهادية فينطاق المدرستين.(1)
لابدّ أن يشار إليه - والذي سيأتي تفصيله لاحقاً- هوبيان موضع الخاصة واتباع أهل البيت (علیهم السلام) في مقابل مدرسة أهل الرأي وأهل الحديث. فقد أنكر الإمامیة في ظل التمسك بتعاليم أهل البيت (علیهم السلام) جواز الإجتهاد بالرأي أشد الإنكار، وقالوا: إن دين الله لا يصاب بالعقول، وأن السنة لا تقاس، وأن السنة إذا قيست محق الدين، كما قال ذلك أبوعبدالله (علیه السلام) موضحاً بقوله: ألا ترى أن المرأه تقضي صومها ولاتقضي صلاتها، فی جواب من عمل بالقیاس.
وعن أمیر المؤمنین (علیه السلام) : من دان الله بالرأي لم يزل دهره في ارتماس، وعن عيسى بن عبدالله القرشي قال: دخل أبوحنيفة على أبي عبدالله (علیه السلام) فقال له: يا أبا حنيفة بلغني أنك تقيس؟ قال: نعم، قال: لا تقس فإن أول من قاس ابليس.(2) هذا من جانب.
ومن جانب آخر، فلم يوافق الخاصة ما عليه أهل الحديث من إنحصار السنة بالأخبار المروية عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والقول بإعتبار قول الصحابي أوعمله، وإن كان عن
ص: 101
إجتهاد برأيه و -أيضاً- أنكر الخاصة، موافقتهم للعمل بالرأي في موارد خاصة كفقدان النص. فإنّ قلة الأحاديث والبُعد عن عصر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والصحابة وكثرة الوقائع الجديدة والمنع عن كتابه الحديث وكثرة الوضاعين، إلى غير ذلك من العوامل المختلفة التي الجأت أهلالحديث إلى الاستعانة بمصادر غير معتبرة في عملية الإستنباط، كل هذا مما لا يوافق عليه فقهاء الامامیّة. فإنّ فهم يرون أنّ القرآن والسنة هما مصدر التشريع وهما كافيان لإکتشاف احکام الحوادث الواقعة؛ لأن السنة عندهم استمرت في عهد الأئمة المعصومين (علیهم السلام) وكل شئ يقوله الأئمة (علیهم السلام) هومأخوذ من كتاب الله وسنة نبيه (صلی الله علیه و آله و سلم) كما روي عن أبي عبدالله (علیه السلام) «كان على (علیه السلام) يعلم كل ما يعلم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ولم يعلّم الله رسوله شيئاً، الاّ وقد علّمه رسول الله أمیر المؤمنین». وقد كان عنده (علیه السلام) صحفاً كثيرة من علوم النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ثم توارث الائمة من ولده تلك الصحف، كما ورد عن أبي جعفر (علیه السلام) «يا فضيل عندنا كتاب طوله سبعون ذراعاً، ما على الأرض شئ يحتاج إليه إلا وهوفيه حتى أرش الخدش».
وفی بعض الأخبار إنه كان لدى الأئمة (علیهم السلام) كتابأن من أبيهم (علیه السلام) أحدهما: الجامعة فيه أحكام الحلال والحرام، وآخر يسمونه بالجفر، فيه أنباء الحوادث الكائنة - وأيضاً- كتاب ثالث من أمهم فاطمة بنت رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فيه أنباء عن الحوادث الكائنة.(1)
فمع وجود مثل هذه المصادر المتخذة من المبدأ الإلهي وعلوم الرسول، لم يكن الامامیة بحاجة إلى مثل القياس والعمل بالرأي إطلاقاً، ولم يواجهوا المشكلة التي واجهها فقهاء أهل الحديث، من قلة الأحاديث ونقصان المصادر وله الحمد.
ص: 102
تكلمنا في المبحثين السابقين من هذا الفصل، عن ظهور مدرستين في فقه العامة، وهما: مدرسة الحديث ومدرسة الرأي، وابتداء ذلك كان في عصر الصحابة والتابعين، إلى أواخر عصر الأمويين؛ أي أوائل القرن الهجري الثاني ثم جاء العصر العباسي سنة (132ﻫ.ق) فظهرت فيه طوائف من الفقهاء في ظل كل من مدرسة الرأي ومدرسة الحديث، وقام فيهم أعلام بارزون، لكل منهم خواص ومميزات، ولكل منهم قواعده واسسه التي بنى عليها فتاويه، واقام عليها مدرسته فظهرت مدارس فقهية متعددة، منها ما اشتهر ومنها ما اندثر. ومن بين ما اشتهر منها مدرسة أبي حنيفة، ومدرسة مالك بن انس، ومدرسة ابن ادريس الشافعي، ومدرسة أحمد بن حنبل، وهناك مدارس فقهية أخري؛ ولكنها اندثرت، من بينها مدرسة الأوزاعي، ومدرسة سفیان الثوري ومدرسة الظاهري.(1) وسيتم البحث عن أهم الأمور المرتبطه بهذه المدارس أوبعضها.
ص: 103
ص: 104
ص: 105
ص: 106
1) مؤسس المذهب الحنفی.
2) نشوء الدعوة للمذهب الحنفی ومحلّها.
3) الأسس الرئيسيّة للمذهب الحنفي.
4) نماذج من الفتاوی المذهب الحنفی.
إنّ أبا حنيفة هوإمام مدرسة الرأي والمعمار والمؤسس لها، وهوالنعمان بن ثابت بن زُوطَي من القومیة الفارسیة،(1) ولد سنة (80 ﻫ.ق) بالكوفة، وهويعد من تابعي التابعين، وقد تلقى الفقه عن حماد بن أبي سليمان، من اعمدة أهل الرأي، وقد كان خزازاً بالكوفة، يبيع ثياب الخز. أدرك أبوحنيفة تحول الحکم من بني أمية إلى بني العباس، وكانت الكوفة مركز هذا الانتقال، وبها تمت بيعة أبي العباس السفاح، ولم يذكر لأبي حنيفة في تلك الحركة ذكر. وقد نقل أنّ يزيد بن هبيرة، وإلى العراق من قبل مروان عرض عليه ولاية القضاء فأبى، فضربه من أجل ذلك. وقد حصلت في عهد اقامته في الكوفة ثورتان: ثورة زيد بن على بن الحسين (علیه السلام) سنة (122 ﻫ.ق) وثورة
ص: 107
عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر سنة (127ﻫ.ق)، وقد صدرت من أبي حنيفةكلمة تدل على امتداح زيد.(1)
وبعد موت استاذه حماد انتهت إليه زعامة مدرسة الرأي، التی برزت من يومها كمدرسة خاصة في الفقه، عرفت بالمدرسة الحنفية، فلما نمت وترعرعت مدرسته، واستوت على سوقها، ارتقت إلى حد المذهب، فعرف بالمذهب الحنفي.
ذكر أن سبب إنتشار المذهب الحنفي ونموه يرجع إلى أمور رئيسية ثلاثة:
الأمر الأول: كثرة تلاميذ أبي حنيفة وعنايتهم بنشر آرائه.
الأمر الثاني: أنه جاء بعد تلاميذه طائفة عنيت باستنباط علل الأحكام، وتطبيقها على ما يستجد من الوقائع، وأنهم بعد أن استنبطوا علل الأحكام جمعوا المسائل المتجانسة في قواعد عامة، فاجتمع في المذهب التفريع.
الأمر الثالث: وهوالعمدة، أنه كان مذهب الدولة العباسية، حتى أن الرشيد ولى أبا يوسف، وهومن تلاميذ أبی حنیفة، منصب القضاء في بغداد، وكان لا يعين القاضي في الأقاليم إلا إذا کان علی مذهب أبي حنيفة. وقد نشأ مذهبه أولاً في العراق، ثم ذاع وانتشر خارجه، في كلّ بلد كان للدولة العباسية فيه نفوذ وسلطان. یقول ابن خلدون: إن مذهب أبي حنيفة تقلده أهل العراق ومسلموالهند والصين وما وراء النهر وبلاد
ص: 108
العجم؛ لأن تلاميذه كانوا بطانة خلفاء بني العباس، فكثرت مخالطتهم لهم، خصوصاً عندما اسندت الخلافة إلى هارون الرشيد، فقد ولى أبا يوسف صاحب أبي حنيفةالقضاء، فلم يقلد قاضياً ببلاد العراق وخراسان والشام ومصر إلا من أشار به القاضي، وهولم يختر للقضاء إلا حنفياً، فلهذا اشتهر مذهب أبي حنيفة في هذه الأقطار.
وقال الحافظ ابن حزم: مذهبان انتشرا بالرياسة والسلطان، مذهب أبي حنيفة، فإنه لما ولي أبويوسف القضاء، كان القضاة من قبله من أقصى المشرق إلى عمق أفريقيا، فكان لا يولي إلا أصحابه والمنتسبين إلى مذهبه. والثاني مذهب مالك.(1)
ومن ثم، فقد انتشر مذهبه في العراق وفارس وباكستان والهند والصين واليابأن وتركمانستان والشام ومصر والمغرب والأندلس وأوروبا كلها، من شمالها إلى جنوبها، وفي تركيا والبانيا ويوغوسلافيا ورومانيا، حتى بلغت نسبة عدد التابعين للمذهب الحنفي شطر المسلمين، واخذت به دول الخلافة والحكومات، فاصبح مذهب الدولة العباسية، من أيام هارون وكان مذهب السلاجقة والغزنوية، ثم الدولة العثمانية.(2)
أقول: يمكن أن يضاف إلى هذه الأمور الثلاثة الموجبة لنموالمدرسة الحنفية أمرآخر، وهومرونته وسهولته علی الناس وحل مشاكلهم ورفع الموانع من طريقهم. والسبب في ذلك هوما مرّت الإشارة إليه من اعتماد الأحناف على الرأي والقياس، واللجوء إلى البحث عن علل الأحكام والإعتقاد بأنها معقولة المعاني. ولعل هذا
ص: 109
هو السبب الرئيس في تبنیة الدول آراء أبي حنيفة ومساهمة تلك الحكومات في نشرها وترغيب الناس فیها. فإن الإعتماد على الرأي والتفكير الشخصي لاستنباط الأحكام من الأدوات الصارمة لحل المشاكل السياسية ورفع الموانع من طريقها.
نقل عن أبي حنيفة أنه قال: آخذ بكتاب الله فإن لم أجد فبسنة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فإن لم أجد في كتاب الله تعالى ولا سنة رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أخذت بقول أصحابه؛ آخذ بقول من شئت منهم وأدع من شئت منهم، لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فأما إذا انتهى الأمر إلى إبراهيم النخعي والشعبي وابن سيرين والحسن وسعيد بن المسيب، فقوم اجتهدوا فأجتهد كما اجتهدوا.(1) وقد رسم أبوحنيفة أصول مدرسته على أمور سبعة:
لا خلاف في أن القرآن الكريم هوالمصدر الأول لأستنباط الأحكام؛ والنقل يختلف عن أبي حنيفة في أن القرآن هواللفظ والمعنى، أوهوالمعنى فقط. فقد نقل عنه القول بأن القرآن اسم للمعنى خاصة، ولذلك تجوز عنده القراءة بالفارسية في الصلاة، وإن نقل -أيضاً- رجوعه عن ذلك إلى القول المعروف.(2)
ص: 110
أقول: لا يخفى ما في القول من «أن القرآن اسم للمعانى خاصة» من مخالفة للضروريات،كتحدي القرآن بألفاظه وإعتباره معجزة، حتى من ناحية لفظ وأنه بألفاظه ومعانيه أُنزل على الرسول الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) . وهذا هوالفارق بين الكتاب والسنة، فإن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ما ينطق عن الهوى إن هوإلا وحي يوحى، ومع ذلك قوله وكلامه لا يعدّان من القرآن.
لاخلاف أيضاً في أن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع، وهي بمنزلة البيان للقرآن. وقد تشدد الاحناف في قبول السنة والتحري عنها، فلم يقبلوا إلا الحديث المتواتر أوالحديث المشهور الذي اتفق فقهاء الأمصار على العمل به، أورواه صحابي واحد أمام جمع منهم؛ ولذلك يجوز عندهم المسح على الخفين الثابت بالخبر المشهور. وأما خبر الآحاد فإنه ظني الثبوت ولذلک تشددوا في الراوي لتوثق من صحة الحديث، فاشترطوا فيه العدالة والضبط، وتشددوا في تفسير معنى الضبط، إذ التزموا ضبط المتن وضبط معناه فقهاً وشريعة. فلذلك إذا كان راوي الخبر من المعروفین بالفقه كالخلفاء الأربعة أخذ به وقدم على القياس، وإن كان راويه أمثال أبي هريرة ممن عرفوا بالعدالة والحفظ، وإن لم يعرفوا بالفقه، عمل به إن وافق القياس.(1)
ص: 111
أقول: إنّ التشدد في قبول الحديث وإعتبار عدالة الراوي، أووثاقته علی الأقل، وإعتبار الضبط فيه أمر يمكن أن ينظر إليه بعين الاعتبار والقبول، ما دام موافق لأدلة حجية خبر الواحد التي منها سيرة العقلاء لقبول الخبر، وأما إعتبار ضبط المعاني فقهاً، إضافة إلى ضبط اللفظ، فأمر لا يساعد عليه الاعتبار العقلائي، ويؤید ذلك ما في الخبر من أنه: ربّ حامل فقه إلى من هوافقه منه.
يعتبر قول الصحابي عند الحنفية من المصادر، فإذا عرضت لهم مسألة ليس فيهاحكم ظاهر من كتاب الله أوسنة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) الصحيحة عرضوها على أقوال الصحابة وأفعالهم، فإن كانوا أجمعوا فيها على رأي، أخذوا به وإلا فلا. ويكشف النص المنقول عن أبي حنيفة الذي مرّ ذكره، أنه يأخذ بقول من شاء من الصحابة، ويدع من شاء؛ ولكنه لا يخرج في نفس الوقت من قول الصحابي إلى غيره، وليست أقوال التابعين بهذه المنزلة؛ لأنه یعتقد في أقوال الصحابة إنها كانت بالتلقي عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ولم تكن بالإجتهاد المجرد.(1)
أقول: لا يخفى أن المنهج المنقول عن أبي حنيفة من ايكال الأمر في الأخذ بقول الصحابي وتركه إلى اختياره، أمر مبهم جدّاً، يثير أسئلة كثيرة مهمة، تصوراً وتصديقاً،
ص: 112
معنىً ومدركاً، سعةً وضيقاً؟ والبحث عنها، موكول إلى محله.
تأخذ مدرسة أبي حنفية بالقياس عند عدم النص من الكتاب والسنة وفقدان قول الصحابي أوفعله. والقياس في اللغة بمعنى: التسوية بين الشيئين، حسية كانت التسوية أم معنوية. وقد عرفه الأصوليون بأنه: «الحاق أمر غير منصوص على حكمه، بأمر أخر منصوص على حكمه، لعلة جامعة بينهما».
فهم في الحقيقة يساوون واقعة لم يرد فيها حكم منصوص عليه بأخرى ورد فيها نص، لإشتراک الواقعتين في علة الحكم.
1- الأصل أوالمقيس عليه.
2- الفرع أوالمقيس.
3- الحكم أوالاعتبار الشرعي الذي جعله الشرع على الأصل.
4- العلة.
الحديث حول حجية القياس متشعب جداً، فهناك من لم يعتبره؛ بل يقول باستحالة التعبد به عقلاً، كما نسب ذلك إلى بعض المعتزلة والنظام والظاهرية؛ وهناك من ذهب إلى أنه لا حكم للعقل فيه، ولكن الشرع حظره؛ وهناك من ذهب إلى وجوب التعبد به. فبينما يقول ابن حزم: إن العمل بالقياس طريق للتنازع بين الأمة نتيجة التناقض في الأحكام تبعاً لتفاوت الافهام، نجد أن الاحناف يتوسعون في الأخذ به،
ص: 113
ويقدمونه على أخبار الآحاد في بعض الصور، حتى أفرط بعضهم وقال: إن مجرد الشبه في الأوصاف دون اتفاق العلة، كاف للقياس.(1)
والذي يسهل الخطب، ما تواتر عن أهل البيت (علیهم السلام) من حرمة الأخذ بالقياس والردع عنه، وهذا وافٍ بعدم إعتباره وعدم حجيته، فإنه مع ثبوت هذا التواتر، فالكلام والنقض والابرام إنما يدور حول إعتباره من مصاديق الإجتهاد في مقابل النص الصحيح المتواتر.
الاستحسان في اللغة: هوعد الشئ حسناً. وقد إختلف الأصوليون في تعريفه الإصطلاحي إلى عدة تعاريف:
منها: ما عرفه الكرخي وهومن علماء الأحناف: «الاستحسان هوالعدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه، لوجه أقوى».
ويعرفه السرخسي بأنه: «قياس خفي قوي اثره» وعرفه الشاطبي من المالكية: من أنه «العمل بأقوى الدليلين». وعرفه الطوفي من الحنابلة بأنه «العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص شرعي».(2)
ص: 114
اختلفوا في حجية الاستحسان على قولين:
1) عدم الحجية، وهورأي الشافعي، حتى نقل عنه: «من استحسن فقد شرع».
2) الحجية والاعتبار، وهوقول الحنفية والمالكية والحنبلية. وقد برع أبوحنيفة واتباعه في الاستحسان وتوسعوا فيه.
والذي يفيده الاعتبار والتأمل، هوأن المبطلين للاستحسان بنوا حكمهم، على أساس أن الاستحسان، هوما يتعقله المجتهد من غير دليل، والقائلون بالاستحسان يعتبرون عدولاً من حكم إلى حكم؛ ولذلک لابد من أن يكون مستندا إلى دليل، وهذا الدليل يسمى بسند الاستحسان. وعلى هذا، فإن سند الاستحسان على أقسام:أ) فقد يكون قياسا خفيا، كالقول بطهارة سؤر سباع الطير استحسانا مع أن القياس الظاهر يقتضي نجاستها، قياسا على سؤرسباع البهائم.
ب) وقد يكون النص، ومن ذلك عقد السلم فالقياس لايقتضيه؛ لأن النص يقول: لا تبع ماليس عندك. وإنما اجازوه استحسانا لترخيص الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) فيه.
ج) وربما يكون الاجماع، مثل اجازتهم عقد الاستصناع مع أن محل العقد، وهوعمل الصانع، منعدم وقت العقد.
د) أويكون العرف، مثل التعاقد على الاستحمام في الحمام العام مع جهالة مقدار الماء المستهلك ومقدار المكث فيه.
ﻫ) واخیراً قد يكون الضرورة والحاجة، كقول الحنفية بطهارة سؤر سباع الطير رغم أكلها النجاسات استحسانا لتعذر منعها.(1)
ص: 115
فعلى هذا يمكن أن نستنتج -وكما قال السيد محمدتقي الحكيم- إن كان المراد بالاستحسان هوخصوص الأخذ بأقوى الدليلين فهوحسن ولا مانع من الأخذ به، إلا أنّ عدّ ذلک أصلا في مقابل الكتاب والسنة، ودليل العقل لا وجه له. وإن كان ما يقع في الوهم من استقباح الشئ واستحسانه من غير حجة دلت عليه، فهومحظور والقول به غير سائغ.(1) كما إذا كان سنده القياس غير المعتبر شرعاً.
الاجماع في اللغه: لفظ مشترك بين العزم والتصميم. وهوفي اصطلاح الأصوليين موضع خلاف، وإن اتفقوا على دلالته على الاتفاق.وموقع الخلاف منه هوحول من ينعقد بهم الاجماع فقيل: إنه مطلق الأمة، وقيل: خصوص المجتهدين منها في عصر من العصور، وفي رأي مالك هواتفاق أهل المدينة، وقيل: هواتفاق أهل الحرمين، أوأهل المصرين (الكوفه والبصره). وربما ضيّق إلى اتفاق الشيخين أوالخلفاء الأربعة.
وقد أنكر بعض فقهاء السنة حجية الاجماع؛ لأنهم رأوا أن الاجماع لا يمكن تحققه. وفي هذا روي عن أحمد بن حنبل: وما يدعي الرجل فيه الاجماع هوالكذب، ومن أدعى الاجماع فهوكذاب. وموقف المدرسة الحنفية من الاجماع هوالاعتبار والعمل به.
ص: 116
عرف الجرجاني العرف بقوله: «العرف ما استقرت النفوس عليه، بشهاده العقول وتلقته الطبايع بالقبول». وزاد عليه الغزالي بقوله:
«أوما يعتاده الناس ذووالطباع السليمة من أهل إلا قطار الإسلامية بشرط ألا يخالف نصا شرعيا». فعند الغزالي تکون العادة مرادفة للعرف.
وقيل في تعريفه: «العرف ما تعارفه الناس وساروا عليه، من قول أوفعل أوترك، ويسمى العادة».(1)
ينقسم العرف إلى العام والخاص، وإلى العملي والقولي، وإلى العرف الموجود فيعهد الشارع والعرف الطارئ، فلوورد النص مقرراً للعرف السابق، ثم تغير هذالعرف، فإن المعتبر عند أبي يوسف فقيه الحنفية هوالعرف الطارئ، لكن أبا حنيفة لا يعتبر بهذا العرف الطارئ؛ لوجود نص معارض، له مثلاً نص الشارع على أن البر والتمر والملح من المكيلات، فإذا تغير العرف وأصبحت من الموزونات فهل يصح التعامل فيها بالوزن مع التفاضل؟ يقول أبويوسف: نعم، ويقول أبوحنيفة: لا، والفضل ربا.(2)
ص: 117
نعم عند الخاصه، الربا الحرام لايختص بالمكيل، بل يوجد في الموزون أيضاً، بل عند بعضهم يوجد في المعدود أيضاً.
وينقسم العرف أيضاً إلى الصحيح والفاسد، والفاسد، هوالذي يخالف الشرع.
لقد توسعت المدرسة الحنفية في مجال الأخذ بالعرف، وذلك أن أبا حنيفة كان ذا خبرة بالتجارة ومعاملات الناس، فعلم عادات الناس وخبر أعرافهم؛ ولذلك عمل بالعرف في كثير من المسائل الفقهية.(1)
ولايخفى أن مجالات العرف مختلفة، فما يرتبط بتشخيص معنى المفاهيم كمعنى الصعيد والفقير لا اشكال في إعتباره، وهكذا فيما يرتبط باستكشاف مراد المتكلم والظهور العرفي للكلام. وأما في سائر المجالات الأخرى فلابد لاستكشاف الحكم الشرعي من العرف أن يحرز كونه في مرآى ومسمع من الشارع وأن لايردع عنه، وهذا ما يسمى بالسيرة العقلائية، وكذلك الحال فيما لوسلك المتشرعة المعاصرون للشارعسلوكا معينا بما هم متشرعه، لا بما هم عقلاء، فبالإمكان في هذا –أيضاً- القول بإعتبارها، على أساس أن المتشرعة حينما يسلكون سلوكا، بوصفهم متشرعة، يجب أن يكونوا متلقين ذلك من الشارع وهذا ما يسمى بسيرة المتشرعة.(2)
ص: 118
ینقسم الحكم التكليفي عند سائر المدارس الفقهية ينقسم إلى خمسة أقسام: الوجوب والندب والاباحه والكراهة والحرمة؛ ولكن عند المدرسة الحنفية ينقسم إلى سبعة أقسام:
1) الفرض: وهوالطلب الإلزامي الذي قام عليه دليل قطعي، كفرضية قراءة القرآن في الصلاة، الثابت بقوله تعالى: )فَاقْرَءُوا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ(. [المزمل / 20]
2) الواجب والسنة المؤکدة: وهوالطلب الالزامي الذي قام عليه دليل ظني فيه شبهة، ويسمى فرضا عمليا، بمعنى أنه يعامل معه معاملة الفرائض، من حيث العمل، ولكن لا يجب اعتقاد أنه فرض ولا يكفر منكر فرضيته، وتاركه لا يعاقب بالنار بل يحرم من شفاعة الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وإذا قال الحنفية السنة المؤکدة، فإنما يريدون بها الواجب الذي ذكرنا.(1)3) المندوب والسنة غير المؤکدة: وهوالطلب غير الجازم الذي يثاب على فعله، ولايعاقب على تركه ويسمى بالمستحب أيضاً كصلاة أربع ركعات قبل فريضة العصر.
4) المباح: وهوما يجوز فعله وتركه، من دون ترجيح لاحدهما على الآخر، ففي
ص: 119
الإباحة قد وافق الحنفية الجميع.
5) المكروه التنزيهي: ما طلب تركه من غير تشديد، فهوإلى الحلال اقرب، فلا يعاقب على فعله، ويثاب على تركه ثواباً يسيراً وذلك كالمضمضة باليد اليسرى.
6) المكروه التحريمي: ما طلب تركه مع التشديد فهوإلى الحرام أقرب، كالبيع وقت النداء لصلاة الجمعة.
7) الحرمة: ما طلب تركه على سبيل الجزم ولم يرخص فيه. في مفهوم الحرمة وافق الحنفية سائر الفقهاء.(1)
لا يشترط افتتاح الصلاة بالتکبیر، فالافتتاح بها واجب لا يترتب على تركها بطلان الصلاة، أما الصيغة التي تتوقف عليها صحة الصلاة فهي الصيغة التي تدل علىتعظيم الله، كأن يقول: سبحان الله أوالحمد لله. ولوقال: أعوذ بالله أواستغفر الله لا تصح صلاته.(2)
ص: 120
المفروض مطلق القراءة لا قراءة الفاتحة بخصوصها، والقراءة فرض في الركعتين من الصلاة المفروضة وقدرها ثلاث آيات قصار أوآية طويلة تعدلها. ومن عجز عن العربية يقرأ بغيرها من اللغات الأخرى.(1)
الرفع من الركوع والإعتدال والطمأنينة والجلوس بين السجدتين من واجبات الصلاة لا من فرائضها، وأيضاً التشهد الأخير واجب لا فرض، والخروج من الصلاة بلفظ السلام ليس فرضا، بل هوواجب، وأن الخروج من الصلاة يكون بأيّ عمل مناف لها، حتى ولوبنقض الوضوء.(2)
ترتيب الأركان بحيث ينوي المصلي القيام قبل الركوع وقبل السجود ليس بفرض للصلاة؛ بل هوشرط لصحةها، فإذا ركع قبل القيام ثم سجد وقام، فإن ركوعه هذا لايعتبر، فإذا الغى الركوع الأول ثم ركع وسجد فإن الركعة تعتبر له وعليه أن يسجد للسهوإن وقع منه ذلك سهواً، فإن فعله عمداً بطلت صلاته. هذا إذا ركع دون أن يقوم.أما إذا قام ولم يقرأ ثم ركع، فإن صلاته تكون صحيحة.(3)
ص: 121
فذلكة القول:
هذه نماذج من فتاوى المدرسة الحنفية فی مجال الصلاة التي يعلم من خلالها منهج هذه المدرسة في الإجتهاد وكيفية الإستنباط واختلافها الجوهري عن سائر المدارس. وقد سرد المورخون قضايا عجيبة، بما يرتبط بفتاوى الأحناف وآثارها الإجتماعية والسياسية والدينية. منها: ما ذكره ابن خلكان في ترجمة السلطان محمود بن سبكتكين، وما عمل من جمع فقهاء الحنفية والشافعية والطلب منهم على أن يصلوا بين يديه على المذهبين، فلما صلى القفال المروزي على ما يجوز أبوحنيفة من لبس جلد كلب مدبوغ ولطخ ربعه بالنجاسة، والوضؤبنبيذ التمر، والاكتفاء بما يعتبره من فرائض الصلاة التي مر ذكر بعضها، فقال السلطان: لولم تكن هذه صلاة أبي حنيفة لقتلتك، لأن مثل هذه الصلاة لا يجوزها ذودين ثم أعرض عن المذهب الحنفي وتمسك بالمذهب الشافعي.(1)
وليس هذا المنهج مختصاً بالصلاة، بل هوجارٍ وسارٍ في مختلف أبواب الفقه من العبادات والمعاملات والسياسات، اضف إلى ذلك ما تناولته هذه المدرسة من الحيل الشرعية، خصوصاً في مسائل المعاملات.
وبالجملة، ان مجموعة تعاليم هذا المذهب أوجب أن ينقسم الناس إلى مؤدينومعارضين. قد نقل عن أبي حنيفة قول: علمنا هذا رأي، وهوأكثر ما قدرنا عليه، فمن
ص: 122
جاء بخير منه قبلناه.(1)
هذا وقد عقد ابن أبي شيبة باباً لمخالفات أبي حنيفة للأحاديث المروية عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) اسماه: كتاب الرد على أبي حنيفة وذكر فيه (125) مورداً.(2) وروى الخطيب في تاريخ بغداد عن وكيع بن الجراح قال: وجدت أبا حنيفة خالف مئتي حديث عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وروي عن يوسف بن اسباط أنه قال: رد أبوحنيفة على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أربع مئة حديث أوأكثر.(3)
هذا وقد ذكرمؤیدوه ان لتعاليم أبي حنيفة تأثيراً واسعاً في الفقه، اذ شاع في فقه الحنفية التماس العلل والاوصاف المناسبة للاحكام، وبهذا امكن الربط بين مسائل الشريعة بعضها ببعض، هذا من جانب؛ وامكن التقريب بين الفقه والحياة من جانب آخر.(4)
وعلى كل حال، فالبحث عن كلام مؤیّديه ومعارضيه وصحة مدّعاهم موكول إلى
ص: 123
مجال آخر؛ وما لاشك فيه ولا شبهة تعتريه هوالتأثير النافذ للمدرسة الحنفية في تاريخ الإسلام، ومصير الامة الإسلامية في مختلف مجالاتها وبالأخص ما يرتبط بالسياسة وجهاز الدولة عموماً والخلافة العباسية خصوصاً والركون الذي كان لعلماء الحنفية اليهم.
هذا وقد توفي أبوحنيفة سنة خمسين ومئة وله من العمر سبعون سنة، وقد أوصى أن يدفن بأرض الخيزران وجاء المنصور فصلّى على قبره.(1)
ص: 124
1) مؤسس المذهب المالكي.
2) نشوء الدعوة للمذهب المالكي ومحلّها.
3) الأسس الرئيسيّة للمذهب المالكي.
4) المنهج الكلامي والفقهي للمذهب المالكي.
5) نماذج الفتاوی المذهب المالكي.
هو مالك بن أنس بن مالك بن أبى عامر، ينتهي نسبه إلى ذي أصبح من اليمن، قَدم أحد أجداده إلى المدينة وسكنها. جدّه أبوعامر عُدّ من أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) . ولد مالك بالمدينة سنة (93ﻫ.ق) في أيّام خلافة سليمان بن عبدالملك وعاش فیها طول حياته، فلم يخرج منها إلاّ حاجّا، ومات سنة (179ﻫ.ق) في خلافة الهارون ودفن في البقيع.
ص: 125
تلقى العلم علي محمد بن المنكدر، وإلامام جعفر الصادق (علیه السلام) . قيل أن شيخه فيالفقه ربيعة بن عبدالرحمن، المعروف بربيعة الرأي. وقد حفظ مالك القرآن في صدر حياته ثم حفظ الحديث كما برع في الفقه واشتغل بتدريس الحديث والفقه وإختار مجلس درسه حيث كان يجلس عمر بن الخطاب.(1)
ورغم أنّ مالك كان متجنبا للسياسة. إلاّ أنّ الأمويين اعتبروا فقهه الفقه الرسمي لخلافتهم وقد ساعد هذا التوجه في انتشار فقهه في بلاد الأندلس التي كانت تدار من قبل الأمويين، وقد إختلف مالك مع العباسيين، حتى وصل الأمر بوالي المدينة جعفر بن سليمان (من أحفاد ابن العباس) إلى ضربه بالسياط؛ لأنّه كان يعتقد بأنّ بيعه بنى العباس كانت بيعة إكراه، وبيعة الإكراه هي من قبيل طلاق المكره الّذي لايكون معتبرا.(2)
1) هو أوّل من كتب من العامة الحديث على أساس الأبواب الفقهية، فكان نتاجه كتاب، «الموطأ». فقد نقل حديثه عن تسع مائة راوى، ثلاث مائة منهم من التابعين وست مائة منهم من تابعي التابعين. كما روي عن مالك الف وثلاث مائة راو. وقد مزج مالك في كتابه «الموطّأ» أقوال الصحابة وفتاوى التابعين مضافاً لما نقله من روايات.
ص: 126
2) تفسير غريب القرآن.
3) رسالته إلى هارون الرشيد المشهورة في الآداب والوعظ.
4) رسالته إلى ابن وهب في القدر والرّد على القدريّة.(1)
وطبقا لما اشتهر: فإنّ مالك لم يكن قد ألّف كتابا فقهيّا لكن أهم كتاب فقهي، أُعتبر من إصدار مدرسة مالك الفقهيّة هوكتاب المدوّنة والّتی قالوا عنها:«تعدّ المدوّنه أصل المذهب المالكي، وهئ أساس المذهب وعمدته والمشهور أنّ مالكا لم يدوّنها بل هوالّذي رواها وتلقّاها عنه تلميذه سحنون بن سعيد».(2)
ذكرنا في بداية الفصل الثاني أنّ المدينة كانت تمثل المنطلق الّذي نشأ فيه مذهب أهل الحديث، وكان اشخاص من قبيل سعيد بن مسيّب وابن شهاب هما روّاد هذه المدرسة. ويعدّ مالك الإمتداد لهذه الحركة الفكرية بعد هذين الشخصين. هذا رغم أنّه مالك كان راسخا في معتقده الداعي إلى مدرسة الرأي، وكان یستخدم ذلک المنهج فی الفتوی.(3)
وقد تتلمذ طلاب كثر علی مالك الّذي كان قد اختار المدينة محلاًّ لتدريسه. ومن
ص: 127
أشهر تلامذته:
1) أبوعبدالرحمن بن القاسم بن خالد بن جُناده.
2) عبدالله بن وهب.
3) أشهب بن عبدالعزيز بن داود.
4) محمد بن عبدالله بن عبدالحكم.
5) أصبغ بن الفرج بن سعيد.
1) المدوّنة التي مرّ الحديث عنها.
2) الواضحة لابن حبيب، وهي من أجلّ الكتب الفقهيّة في المذهب المالكي.
3) المختصر في الفقه المالكي، للشيخ خليل بن اسحاق الجندي.
4) شرح الزرقاني على مختصر الخليل.
5) الكافي في فقه أهل المدينه ليوسف بن عبدالله النمري القرطبي.
6) متن الرسالة لعبدالله بن أبي زيد القيرواني.
7) بداية المجتهد ونهاية المقتصد لمحمد بن أحمد بن رشد.
8) القوانين الفقهية لمحمّد بن أحمد بن عبدالله بن جُزي.
بعد أن انتشر الفقه المالكي في المدينة المنورة، إنتقل إلى شتى بلاد الحجاز، هذا
ص: 128
رغم أن انتشاره كان يترافق مع مدّ وجزر؛ لكنّه كان وفي فترات لاحقة قد استسع بشكلأكبر.(1)
قال ابن خلدون: «وقد اختصّ بمذهب مالك أهل المغرب وأفريقيا؛ وذلك لأن رحلتهم كانت إلى الحجاز غالباسف فأخذوا العلم عن أهل المدينةسسف واقتصروا على شيخها مالك بن أنس دون غيره؛ لأن البداوة كانت غالبة عليهم ولم يكونوا يعانون الحضارة، كأهل العراق وفارس. فكانوا أميل إلى أهل الحجاز لمناسبة البداوة التي كانت لهم».(2)
ولقد انتشر المذهب المالكي في مصر - أيضا- لكن وبعد مجيء الشافعي إلى مصر، أصبح المذهبان في حالة تنافس، فانتقل المذهب المالكي إلى تونس واستمر إلى وقتنا الحاضر. وقد انتشر المذهب المالكي في الأندلس بشكل كبير، حتى قيل:«وفي الأندلس كانت للمذهب المالكي السيادة المطلقة، دفع ذلك ابن حزم الظاهري إلى أن يقول: «مذهبان انتشرا في بدأ أمرهما بالرياسة والسلطان: الحنفي بالشرق والمالكي بالأندلس وكان للمذهب المالكي في المغرب مثل ذلك».
والمذهب المالكي يلي المذهبين:«الحنفي والشافعي من حيث انتشارهما؛ إذ توغّل المذهب الحنفي والشافعي في كثير من البلدان، حتّى أنهما زلزلا الأرض من
ص: 129
تحت أقدام المذهب المالكي في كثير من الاحيان».(1)
رغم أنّ مالك بن أنس لم يتمكن من تدوين وتنظيم أصول مذهبه، لكن تلامذته واتباعه الذين جاؤوا من بعده من أمثال: القاضي عياض، وابن رشد، وابن حمدون، والقرافي، هم من دوّن الأصول الرئيسية لمذهبه وطرحوه بشكله هذا.
وتنقسم أصول المذهب المالكي إلى قسمين:
أ) الأصول الّتي يشترك بها مع سائر المذاهب. وتشتمل على أحد عشر أصل.
ب) الأصول التي يختصّ بها المذهب المالكي: وتشتمل هذه المجموعة على خمسة أصول وستلاحظون في ما يأتى توضيح هاتين المجموعتين.(2)
كان مالك يأخذ بنصّ القرآن وظاهره والمقصود أنّه كان يأخذ بنصه الصريح الّذي لايقبل تأويلاً، ويأخذ بظاهره المتردّد بين احتمالين فأكثر، فيأخذ بالأرجح والأظهر ولايؤوّل النص مادام لايوجد دليل في الشريعة على وجوب التأويل.
وکان يأخذ كذلك بمفهوم الموافقة، وهوفحوى الكلام أوفحوى الخطاب، كما في
ص: 130
قوله تعالى: )فَلا تَقُلْ لَّهُمَآ أُفٍّ(. [الاسراء / 23]
وهكذا فهويأخذ بالإيماء أوالتنبيه على العلّة وهوأن يقترن الحكم بوصف لولم يكن هذا الوصف للتعليل لكان الاقتران بعيدا ومنه قوله تعالى: )يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا إِذانُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ الله وذَرُوا الْبَيْعَ(. [الجمعة / 9]
فقوله «ذروالبيع» نهي عما يمنع من الواجب، وهوفعل الجمعه فيكون ذلك ايماءً إلى أن العلة في تحريم البيع هوالتشاغل عن الجمعه.
كما أنّه يأخذ بمفهوم المخالفة وهواثبات نقيض حكم المنطوق به، للمسكوت عنه، ومنه قوله تعالى: )يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا لاتَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ولا جُنُبا إِلاَّ عابِرى سَبيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا(. [النساء / 43] فانّ مفهومه: إن اغتسلتم فلكم أن تقربوا الصلاة.(1)
بعد كتاب الله، یأتی دور السنّة والمالكية يأخذون بالحديث المتواتر؛ على خلاف الحنفيه، ويأخذون، ايضا، بخبر الواحد لكن يقدّمون عليه عمل أهل المدينة، ويردّون بعضه في بعض الاحيان، مثل ردّ حديث خيار المجلس «البيعان بالخيار ما لم يتفرّقا» ويقدّمون خبر الواحد الثقه على القياس، بشرط أن يكون موافقا لعمل أهل المدينة.(2)
ص: 131
يرى مالك أنّ الاجماع يتحقق بإجماع أهل المدينة، وبالتالي فإنّه يتحقق بإتفاق جميع المجتهدين في الأمّة بعد الرسول، ويقدّمه على أخبار الآحاد، كما مرّ فيالسنّة.(1)
المراد بالصحابي هنا، من لقى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) مسلما وبقى معه مدّة، يصحّ معها إطلاق: «صاحب فلان» عليه عرفا، بلا تحديد لهذه المدّة.
وقد عوّل المالكية على إعتبار قول الصحابي أكثر من غيرهم، يليهم في ذلك الحنابلة.(2) وقد ورد ما يدلّ على أنّ مالكا ترك روایة الآحاد أخذا بقول الصحابي، فقد ردّ حديث سعد بن أبي وقاص الخاص بالتمتع بالعمرة إلى الحج، أخذا بقول عمر، إذ قد نهى عن ذلك. ودليل مالك على إعتبار قول الصحابي هوأنّ الصحابي قد يكون سمع ذلك من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ، أومن صحابي آخر أويكون فهمه من آية قرانية فهما خفي علينا أويكون ذلك قد اتفق عليه مَلَأهم ولم ينقل إلينا إلاّ قول المفتي وحده.(3)
أقول: إذا استند قول الصحابي إلى رواية معتبرة، فيمكن تقديم قوله على خبر
ص: 132
الواحد. لكن إن كان القول إجتهادا شخصيا من قبله، فما هوالمعيار، الّذي قدّم من خلاله على خبر الثقه، إنّ هذا في الحقيقة يمثل مصداقا واضحا للإجتهاد مقابل النصّ. كما أنّ تقديم مالك الإجماع أوعمل أهل المدينه على الخبر يكون صوابا بشرط كشفهما عن رأي النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وإلا فما الدليل على قبولهما وإعتبارهما؟
مع فقد الأصول الأربعة السابقة، فإنّ مالك يأخذ بالقياس ويجتهد بالرأي.
ومن أمثلة الأخذ بالقياس حكمه بوجوب القضاء والكفّاره فيمن أخّر قضاء رمضان حتّى دخل رمضان آخر، قياسا على من أفطر متعمدا؛ لأن كليهما مستهين بحرمة الصوم. كما حكم بوجوب حدّ الشرب بالرائحه قياسا على ثبوته بالشهادة.(1)
عند الأصوليين من العامة: «هوالظن ببقاء الحكم في الحال أوالاستقبال، بناءً على ثبوته في الماضي وعدم قيام الدليل على تغييره» والمالكية أخذوا بهذا الدليل وتوسّعوا فيه.(2) وأمّا عند الخاصه فالاستصحاب عبارة «عن ابقاء ما كان» وهوحجة وإن لم يحصل الظن بالبقاء.
ص: 133
عُرّف الإستقراء؛ «بأنه تتبع الحكم في جزئياته، على حالة يغلب على الظن أنه في صورة النزاع على تلك الحالة» وهوحجة عند المالكية.(1)
وأمّا عند الخاصه، فإنه بنفسه ليس بحجة؛ لأنه يفيد الظن، والظن لايغني من الحق شيئا، نعم لوكان في البين قرينة أودليل يستكشف منه الحكم الكلي فلا إشكال فيه.
عُرّف الاستدلال بأنه، «محاولة الدليل المفضي إلى الحكم الشرعي، من جهة القواعد لا من جهة الأدلة المنصوصة» وعرّفه الشوكاني بأنه؛ «الدليل الّذي ليس نصاً ولاً اجمالاً ولا قياسا» وقد قسّمه الآمدي إلى أقسام منها: قولهم «وجد السبب فثبت الحكم» وقولهم: «وجد المانع وفات الشرط فانتفى الحكم» فهنا استدلال من حيث أن الدليل ما يلزم من ثبوته لزوم المطلوب، ومنها: نفي الحكم لانتفاء مداركه كقولهم: «الحكم يستدعى دليلاً ولا دليل فلا حكم» وقد جعله بعض الأصوليين شاملاً للاستصحاب. وبالجمله فالأصوليون يختلفون في تحديد معنى الاستدلال.(2) وذكر له قاعدتين، ترجع الأولى إلى القياس الاستثنائي المنطقي، والثانية إلى أنّ الأصل في المنافع الإذن، وفي المضار المنع، ثمّ اعتبر الاستدلال بهذا المعنى دليلاً وأصلاً من أصول المالكية.(3)
ص: 134
الاستحسان هو«العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه، لوجه أقوى» وقد تحدّثنا عن هذا الأصل عند الكلام على المذهب الحنفي، فلا نعيد.
ومالك يرجح جانب المصلحة على جانب القياس، ويسمّيه استحسانا ويقول: «الاستحسان تسعة أعشار العلم».
والاستحسان عند المالكية بحسب سنده على أنواع: فمنه: ما يكون سنده العرف،ومنه: ما يكون سنده المصلحة، ومنه: ما يكون سنده رفع الحرج وايثار التوسعة، ومنه: ما يكون سنده مراعاة الخلاف.(1)
ومن أمثلة الإستحسان في فقه مالك: قوله فيمن توضّأ من الماء اليسير المتنجس: إنّه يعيد الصلاة ما دام في الوقت، أما إذا مضى الوقت فلا تلزمه الإعادة استحسانا لاقياسا إذ القياس يقتضي الإعادة مطلقا، ومنها -ايضاً- جواز استيجار الأجير بطعامه، وإن كان لاينضبط مقدار أكله، ليسار أمره وعدم المشاحّة فيه عادة.(2)
أخذ علماء المالكية بهذا الأصل، وهو: «شرع من قبلنا شرع لنا»، بشرط أن يكون ممّا أخبر به النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والاّ يثبت نسخه ولاتخصيصه.(3)
ص: 135
وهوعند العامة من أنواع الإستصحاب، وقد عرّفت بأنه «استصحاب حكم العقل في عدم الأحكام».
والمالكيّة يأخذون بهذا الأصل ويعتبرونه حجة.(1)
إلى هنا، إتضح أنّ الأصول التی تبنتها المالكية في مبانيها الإجتهادية هی احد عشر، وقد عدّت معتبرة عند بقية مذاهب العامة، وهي من الأصول المشتركة بينالمذاهب.
إشارة:
یمکن أن تقسم الأصول والمباني المذهب المالكي إلى مجموعتين: أحدا هما مشتركة، والأخرى خاصة.ومما ينبغى الإلتفات إليه هنا، وقبل بيان الأصول الخاصّة، هوأنّ المقصود من الأصول الخاصّة ليس كونها تستخدم بشكل كامل ومنحصر كمبنى عند المذهب المالكي فقط، بحيث ينتفي استخدامها في بقيّة المذاهب، بل المقصود اختصاصها بالمالكية في شكل أوتطبيق هذه الأصول، لا في أصل القاعدة.(2)
وبملاحظة ما ذكر من إشارة، سنشير إلى الأصول الخاصة بالمذهب المالكي.
ص: 136
المراد بعمل أهل المدينة، هواتخاذ عمل أهل المدينة حجة يحتج بها، وكان مالك يقدم عمل أهل المدينة على حديث الآحاد، وقد كان يلوم كل فقيه لايأخذ بعمل أهل المدينة، ومن ذلك رسالته إلى الليث بن سعد فقيه مصر الّذي قال الشافعي في حقّه: الليث أفقه من مالك إلا أنّ أصحابه لم يقوموا به. وكانت فتواه في بعض المسائل تخالف ما عليه عمل أهل المدينة، فكتب إليه مالك: «...بلغني أنك تفتي الناس بأشياء مخالفة لما عليه جماعة الناس عندنا وببلدنا الّذي نحن فيه... فإنّما الناس تبع لأهلالمدينة التي إليها كانت الهجرة، وبها نزل القرآن... ورسول الله بين أظهرهم...».(1)
وعمل أهل المدينة نوعان: عمل، أساسه النقل والحكاية، وهذا لاخلاف فيه بين المالكيّة. وعمل أساسه الإجتهاد والإستدلال، وهذا إن كان قبل مقتل عثمان بن عفان، فحكمه حكم الأول وإن كان بعده ففيه خلاف بين المالكيّة، والراحج أنّ مالكا كان يأخذ بعمل أهل المدينة على عمومه.(2)
ثم إنّ مالك كان يعمل بما عليه إجماع أهل المدينة ويعتبره إجماعا ملزما، أمّا إذا إختلف أهل المدينة فإنه لايخرج عن جملة آرائهم وإنّما يرجح رأيا على آخر،
ص: 137
لموافقته لتخريج من الكتاب أوالسنّة أولكثرة القائلين به أولموافقته لقياس قوي، ويعبّر عن ترجيحاته هذه بقوله: هذا أحسن ما سمعت، أوأحبّ ما سمعت إليّ.(1)
المصلحة عند جمهور الأصوليين من العامّة عبارة عن: الثمرة المرتبة على الأحكام التي شرعها الله لعباده وبتعبيرآخر: عبارة عمّا قصده الشارع الحكيم لعباده من تشريع الأحكام، من حفظ دينهم ونقوسهم وعقولهم ونسلهم وأموالهم حفظا تاما.(2)
وبعبارة أخرى: المصلحة هي «السبب المؤدّي إلى مقصود الشارع عبادة وعادة»والمراد بالعبادة: «ما يقصده الشارع لحقه» والعادة «ما يقصده الشارع لنفع العباد وانتظام معاشهم وأحوالهم».(3)
أمّا المراد من الإرسال عندالعامّة فقد وقع موقع الخلاف لديهم فالذي يبدوا من اقوال بعضهم: «أنّ معناه عدم الإعتماد على أيّ نص شرعي، وإنّما يترك للعقل حقّ اكتشافها»، بينما يذهب البعض الأخر إلى أنّ معناها عدم الإعتماد على نصّ خاص، وإنّما تدخل ضمن ما ورد في الشريعة من نصوص عامة».(4)
والخلاصة: أنّ المصلحة المرسلة أوالإستصلاح، عندهم مصلحة ترجع إلى حفظ مقصود شرعي يعلم كونه مقصودا بالكتاب والسنة أوالإجماع، إلاّ أنّها لايشهد لها
ص: 138
أصل معين بالإعتبار، وإنّما يعلم كونها مقصودة لا بدليل واحد، بل بمجموع الأدله وقرائن الأحوال وتفريق الإمارات.(1)
ثم أنّه وإن اشتهر أن مالك هوالّذي إنفرد وحده بالأخذ بالمصالح المرسلة دون سائر المذاهب. وعدّت من خصائص مذهبه، إلا أننا نجد قولاً آخر يفيد نفي أخذه بها هووأصحابه، فما عن الشوكاني في إرشاد الفحول: «قد أنكر جماعة من المالكيّة ما نسب إلى مالك من القول بالمصلحة المرسلة منهم القرطبى وإمام الحرمين الجويني».
ولكن هذه الأقوال النافية لاتثبت أمام شيوع الأقوال القائلة بالأخذ.ثمّ أنّ بعض العلماء من العامّة جمع بين هذين القولين المتعارضين ووفّق بينهما. وكيفيّة هذا التوفيق هوأن يحمل مورد النفي على المصالح الغريبة التي لاتدخل تحت جنس شهدت له النصوص بالإعتبار، ومورد الإثبات المصالح الملائمة لتصرفات الشارع ومقاصده في الجملة.
ثمّ بعد إثبات إعتبار المصالح المرسله عند المالكيّة، يشترط للعمل بها شروط أهمّها شرطان:
الأول: ملائمتها لمقاصد الشارع.
الثاني: كونها معقولة في ذاتها.
وبالجملة فإن المصلحة المرسلة بذلك المعنى وإعتبار هذه الشروط من الأصول
ص: 139
القطعيّة عند المالكيّة، حتى قدّمها المالكية على خبر الآحاد.(1)
والّذي يجب أن ننبّه عليه هوأنّ أكثر ما يبنى مالك رأيه عليه، هوالمصلحة المرسلة في المعاملات خاصّة، دون العبادات.(2)
ومن أمثلة: الضرب للاستنطاق بالتهمة بالسرقه، فقد قال مالك بجوازه أخذا بالمصلحة، ومن ذلك: المرأة المفقود زوجها إذا إندرس خبر موته وحياته، وقد انتظرت سنين. فقال المالك: تنكح بعد أربع سنين من انقطاع الخبر أخذا بمصلحةالزوجة.(3)
ومنها قوله: بمنع الإحتكار في كل مايحتاج إليه مراعاة للمصلحة.
وأمّا في العبادات فقد التزم مالك بالوقوف والتسليم على ما هي عليه، وعدم الإلتفات إلى المعاني فلم يلتفت في إزالة الأخباث ورفع الأحداث إلى مطلق النظافة؛ ولذا لم يقم غير الماء مقامه في ذلك، وامتنع من إقامة غير التكبيروالتسليم والقراءة العربية مقامها في التحريم والتحليل والإجزاء والمنع من إخراج القيم في الزكاة.(4) وكل هذا بخلاف ما ذهب إليه الأحناف.
وفي الختام لابدّ أن نذكر إيجازا موقع الخاصة بالنسبة إلى المصالح المرسلة،
ص: 140
فنقول: إنّ المصالح المرسلة عند الإمامية، إن كان إدراكها بالعقل، فإن كان ذلك الإدراك كاملاً أى إدراكا للمصلحة بجميع ما يتعلق بها في عوالم تأثيرها في مقام جعل الحكم لها من قبل الشارع، فهي حجّة يقول المحقق القمي: «من أنّ المصالح إمّا معتبرة في الشرع وبالحكم القطعي من العقل من جهة إدراك مصلحة خالية من المفسدة، كحفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل....»(1) فهذه لا إشكال في إعتبارها. وإن لم يكن ادراكه لها كاملاً بأن كان قد أدرك مصلحة واحتمل وجود مزاحم لها أواحتمل أنّها فاقدة لبعض شرائط الجعل فإنّ القول بحجيّتها، يحتاج إلى دليل والشك في الحجيّة كافٍ بعدمها، وبهذا يتّضح أنّ الإمامية لايقولون بالمصالحالمرسلة إلاّ ما رجع منها، إلى العقل على سبيل الجزم أومايرجع إلى الأصول والقواعد العامة؟.(2)
الذريعة في اللغة: الوسيلة التي يتوصّل بها إلى الشيء. وهي عند العلماء مايتوصل به إلى شيء ممنوع مشتمل على مفسده.(3)
يقول القرطبي: الذريعه عبارة عن أمر غير ممنوع لنفسه، يخاف من ارتكابه الوقوع في الممنوع، فالمراد من سدّ الذرائع وفتحها: أنّ ما يؤدّي إلى حرام، يكون حراما وما يؤدّي إلى حلال، يكون حلالاً. والذريعة ملاحظ فيها معنى أنها وسيله مفضية إلى
ص: 141
المقصود بالحكم، ولا يلزم أن يكون وجود هذه المفسدة متوفقا عليها. كما في قوله تعالى: )ولا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفينَ مِنْ زينَتِهِنَّ(؛ [النور/31] وكذلك قوله تعالى: )ولاتَسُبُّوا الَّذينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله فَيَسُبُّوا الله عَدْوا بِغَيْرِ عِلْمٍ(؛ [الأنعام/108]
وقد قسم ما يؤدّي إلى حرام ومفسدة إلى أربعة أقسام:
1) ما يكون أداؤه إلى مفسدة مقطوعا به، كحفر بئر خلف باب الدار.
2) ما يغلب على الظن أداؤه مفسدة غالبا؛ كبيع العنب لمن تكون صناعته اداءه للخمر.
3) ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادرا، كحفر بئر في موضع لايؤذي.4) ما يكون أداؤه إلى المفسدة كثيرا، ولكن ليس بغالبٍ: كالبيع بالأجل الّذي قد يؤدّي إلى الرّبا، ويتخذه بعض الناس سبيلاً.
فالقسم الأوّل والثاني محرمان بلا ريب عند مالك والثالث ليس بحرام عنده(1) وأمّا القسم الرابع: فقد نصّ مالك على منعه للتهمة وسدّا لباب الذريعة، فقد يكون المقصود الوصول إلى الرّبا.(2)
وبالجملة فإن مالك يرى فتح الذرائع إذا كانت تفضى إلى مقصد، هوقربة وخير،
ص: 142
فتأخذ الوسيلة حكم المقصود.(1)
ثم إنّ الّذي يقتضيه التحقيق في كلمات الأصوليين من الشيعة والسنة؛ أنّهم قائلون بفتح الذرائع وسدّها في الجملة؟ وإن لم يتفقوا في حدود ما يأخذون منها وما يتركون، ومع ذلك، هل أنّ سدّ الذرائع وفتحها يعدّ من الأصول؟ في مقابل سائر الأصول؟ أوأنّها لاتعدوكونها من صغريات السنّة أوالعقل؟ محل تأمل، والتحقيق يقتضي الثاني كما عليه اتفاق الإمامية.(2)
إنّ الّذي يقرأ كتب الفقه المالكي يجد بعض المسائل لها حكمان متنافيان، لتوارددليلين متعارضين عليه، فاعتبروا كلا الحكمين، معللين ذلك بما سمّوه «مراعاة الخلاف» وإختلف العلماء في الأخذ بهذا الأصل، ونسبته إلى المالكيّة ظاهرة جلية، وجمهور الذين ذكروا أصول مالك عدوّا في ضمنها «مراعاة الخلاف». والحق أن المالكية لم ينفردوا بهذا الأصل، فقبلهم الشافعيّة والحنفيّة أيضا؛ ولكنهم توسّعوا فيه أكثر من غيرهم، حتى عدّ أصلاً من أصول مذهبهم.(3)
إنّ مبدأ الأخذ بالعرف متفق عليه بين الفقهاء وأن المالكيّة لم ينفردوا بإعتبار هذا
ص: 143
الأصل وکذلک الحنفيّة والشافعيّة -أيضاً- يأخذون به، ولعلّ ما دفع إلى القول بإنفرادهم به، هوتوسعهم فيه أكثر من غيرهم، تبعا لتوسعهم في مراعاة «المصلحة المرسلة»، بإعتبار أنّ العرف عندهم يعتبر ضربا من ضروب المصلحة.
لكن مراعاة العرف عندهم مقيّدة بشروط، أهمها:
1) أن يكون العرف المراد تحكميها قائما عند إنشأها.
2) أن يكون العرف مطّردا أوغالبا.
3) ألاّ يعارض العرف تصريحا يفيد عكس مضمونه.
4) ألاّ يخالف العرف نصّا من نصوص الشّرع.
وعلى هذا فلوجرى عرف الناس على عمل حرام، كإختلاط الرجال بالنساء وتبرجهنّ، لا اعتبار له.(1) فمالك يأخذ عند انعدام النص بالعرف، ويخصّص به العامويقيّد به المطلق ويترك من أجله القياس. نعم كل ما هومحمول على العرف والعادة، إذا تغيّرت العادة، تغيّر الحكم عند المالكيّة. فقد روي عن مالك فيما إذا تنازع الزوجان في قبض الصداق بعد الدخول، أنّ القول قول الزوج، مع أنّ الأصل عدم القبض؛ لأنّ هذه كانت عادتهم بالمدينة ولما كان اليوم عادتهم، على خلاف ذلك فالقول قول المرأة، مع يمينها لاختلاف العادة.(2)
أقول: إستنادا للمباني التي ذهب إليها الفقهاء من أتباع مدرسة أهل البيت (علیهم السلام)، فإنّ العرف يكون معتبرا في تشخيص الموضوعات العرفيّة، وكذا تشخيص معاني الألفاظ
ص: 144
وتشخيص الظهور. لكن في غير هذه الموارد الثلاثة فإنّ العرف والعادة لوكانا سيرة عقلائية جارية في عصر المعصوم ولم ينه عنها كانت معتبرة، وإلاّ فلا.
إنّ مالكا كما مرّ كان يعتمد عند إستنباط الأحكام على ما عليه عمل أهل المدينة ولايحبّ الكلام فيما ليس ورائه عمل ممّا أثاره المعتزلة والجبريّة وغيرهم من الأمورالغيبيّة.
ومن الشواهد الدّالة على أنّه يكره الخوض في الغيبيات، ما يروى أنّ رجُلاً سأل مالكا عن معنى الإستواء في قوله جل شأنه: }ثمّ استوى على العرش{ فقال: الإستواء معلوم والكيف منه غير معقول، والسؤال عن هذا بدعة والإيمان به واجب.وكان لايحبّ المجادلة؛ لأنّها تؤدّي غالبا إلى التعصب، ويروى أن الرشيد طلب إليه مرّة أن يناظر أبايوسف الفقيه الحنفي فقال له: إن العلم ليس كالتحريش بالبهائم والديكة.(1) مع ذلك كلّه بالنسبة إلى أمور العقائد وما يرتبط بالكلام، كان مالك سلفيا. قال عنه ابن خلدون: إنّه (أي مالك) كبير فقهاء السّلف يكره التأويل ويطلب إمرار النصوص كما جائت ويكره الجدل في الدين، ولوكان هذا للبحث؛ إمعانا في التنزيه، ويرفض الردّ العقلي على البدع، ويقول: هوردّ بدعة ببدعة.
ص: 145
وعن أشهب تلميذ مالك أنّه سأله: هل يفيد قوله الله يقال: «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ» أنّهم ينظرون إلى الله؟ قال: نعم بأعينهم. قال أشهب: إنّ قوما يقولون: إنّ ناظرة بمعنى منتظرة. فقال: كذبوا بل ينظرون إلى الله. أما سمعت قول موسى: «أَرِني أَنْظُرْ إِلَيْكَ» أ فترى موسى سأل ربّه محالاً؟ فقال: لن تراني - أي في الدنيا؛ لأنّها دار الفناء- ومن هذا المثال ترى أنّه فهم النص، كما هوبظاهره، دون تأويل فيه.(1)
لقد أهتم مالك برجال الرواية وبنصّها، فلم يقبل أيّ رواية، ولوكان الراوي ثقة وأمينا، لأنّه كان يعتقد بأنّ الراوي إضافة لاتصافه بالضبط والعدالة، لابدّ وأن يكون يتمتّع بوزن علمي وأن يحترز عن الروايات الغريبة، وأن ينتقد الروايات، شأنه شأن منامتهن الصيرفة.(2) وكمثال على ذلك:
بالنسبة إلى ما رواه أبوهريرة عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) : «إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا إحدا هنّ بالتّراب». قال مالك: كيف يؤكل صيده ويُكره لعابه؟ لا ادري ما حقيقة هذا الخبر؟
كما ردّ حديث أبي هريرة عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) : «إذا أكل الصائم ناسيا، أوشرب ناسيا فإنّما هورزق ساقه الله إليه» لعدم اتفاقه مع القاعدة العامة، من أنّ الشيء يفوت بفوات
ص: 146
ركنه، وركن الصوم الإمساك. وكما ردّ ما روي عن عائشة عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) : «من مات وعليه صيام صام عنه وليّه»، لمعارضته لقول الله سبحانه: «ولاَتَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى».(1)
يرفض المالک إذا الرواية إذا كانت مخالفة لظاهرالقرآن في بعض الموارد، كما هوالأمر بالنسبة لرواية ولوغ الكلب.
لكنه عند وجود مؤيّدات، كما في مثال عمل أهل المدينة أووجود الإجماع أوالقياس، فإنّه يعمل بتلك الروايات وإن كانت تخالف ظاهر القرآن؛ لذلك هويقبل حديث النهي عن الجمع بين المرأة وعمّتها وخالتها؛ لانّه مدعوم من الإجماع، رغم أنّه يخالف عموم الآية: }واحلّ لكم ما وراء ذلكم{.(2)
مخصصات العموم عند مالك خمسة عشر:
العقل والاجماع والكتاب بالكتاب، والقياس الجلي والخفي، لوكان العام قرآنا أوسنّة متواترة، والسنّة المتواترة بمثلها، والكتاب بالسنّة المتواترة والكتاب بخبر الآحاد والعادات والشرط والاستثناء والصّفة والغاية والاستفهام والحس.(3) وإن كان العقل والحس مجرّد قرائن، كما ان الاستثناء والشرط والصفة والغاية، ما هي الاّ قيود لا قيم الكلام الاّبه،ا وان كان تقييد العام بها ليس موضع خلاف.
ص: 147
کان مالك ينهى عن التعصّب له وکان يقول إذا استنبط حكما: «انظروا فيه فإنّه دين وما من أحدا إلاّ وهومأخوذ من كلامه ومردود عليه، إلاّ صاحب هذه الروضة (أشار إلى قبر النبيّ الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) ) وروي عنه أيضا: إنّما أنا بشر أخطى ء وأُصيب، فانظروا في رأيي، كل ما وافق الكتاب والسنّة فخذوا به وما لم يوافق الكتاب والسنّة فاتركوه.(1)
برزت نظريتان متعارضتان، بالنسبة لمكانة مدرسة أهل الرأي في الفقه المالكي، ففي حين نقل عن ابن قتيبة وابن رشد أنّ مالكا من فقهاء أهل الرأي والقياس.
ذكر آخرون أنّ مالكا كان قد قال: ما تكلمت بالرأي الاّ في ثلاث مسائل، بل كان يتمنى في مرض الموت أنه لم يفتي بالرأي.(2)
وقد حاول بعض المحققين الجمع بين هذين الرأيين، بما يلي: بأن الذمّ هوفيمايخصّ العمل بالرأى والفكر الشخصي في العقائد والمسائل الكلامية؛(3) لكنه في المسائل الفقهية يعتقد بالإجتهاد في الرأي ولاينكر مدرسة أهل الرأي، إلا أنّه لايستند إلى القياس والرأي بالمستوى الّذي يذهب إليه أبوحنيفة من كثرة استخدامه، فهويتمسك بالمصالح المرسلة أكثر من كل شيء، إذا ما فقد النصّ. لذلك يعتقد المحققون في المذهب المالكي:
ص: 148
أن مالك فقيه رأى، كما هوفقيه أثر، وإنّ المصلحة عنده مقياس ضابط والمصلحة عند مالك، فهي عنده الأساس والمقياس الضابط عند إنعدام النص.(1)
و -أيضا- قد ذكر بعض المالكية: «أنّ المصالح المرسلة تخصص عمومات الكتاب ومن ذلك قول مالك: بعدم إلزام المرأة الشريفة بالارضاع إذا قبل الطفل الرضاع من غيرها، وذلك محافظة على جمالها».(2)
1) أقلّ مدّة للاعتكاف هي يوم وليلة.
2) لايناب في الحج عن الآخرين.
3) طواف الوداع مستحب.
4) صلاة الطواف واجبة.5) هبة العقد لازمة، إلاّ للأب، فلا يمكن الرجوع عنها.
6) يستحب حضور شاهدين في عقد النكاح لكن يجب حضور الشاهد للدخول.
7) يحلّ لحم الطّائر الّذي له مخالب ويكره لحم الحيوانات المفترسة مثل الأسد والنمر والقطة، ويحرم أكل الحشرات إذا كانت مضرّة وإلاّ حلّت. وتحلّ جميع الحيوانات البحرية والحيوان الموطوء.
ص: 149
ص: 150
1) مؤسس المذهب الشافعي
2) منطلق المذهب الشافعي وأماكن انتشاره (ودعوته).
3) الأسس الرئيسيّة للمذهب الشافعي.
4) إطلالة على المنهج الفقهي والكلامي للمذهب الشافعي.
5) نماذج من الفتاوى التي إنفرد بها المذهب الشافعي.
وسنحاول توضيح المحاور أعلاه وبحثها فيما يلى:
محمد بن ادريس الشافعي هومؤسس المذهب الشافعي. ينتهى نسبه إلى عبد مناف بن قصيّ بن كلاب؛ ولذلك يعدّونه من هذا الجانب قرشيا يتحدّ في هذا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وقد ذكر نسبه، كما يلي:
محمد بن ادريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد
ص: 151
بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف.
فاستنادا لما ذكر، فإن إطلاق اسم الشافعي عليه، إنما هونسبة لجدّه الأعلى «شافع»، وكان سائب بن عبيد أبوشافع من أسرى المشركين في حرب بدر، فيما يعدّ عثمان بن شافع من التابعين.(1)
ولد الشافعي سنة (150 ﻫ.ق) أي في نفس العام الّذي توفي فيه أبوحنيفة وكانت ولادته في مدينة غزّة. وقد ولد الشافعي يتيما، فتعهدته أمه في غزّه فلمّا بلغ الثانية أخذته إلى مكة موطن أجدادة فتعلّم هناك الشعر والأدب والرماية وحفظ القرآن. وحضر درس سفيان بن عيينة ومسلم بن خالد الزنجي في الفقه والحديث، ليمنحه مسلم بن خالد إجازة الإفتاء في الحرم المكي، وهوفي عنفوان شبابه.
وقد حفظ الشافعي موطّأ مالك بن أنس وهوفي مكة، ثم سافر إلى المدينة المنورة وحضر درس مالك مدّة تسع سنوات، بحيث صار يعدّ من أصحاب مالك، وبعد وفاة مالك في سنة (179من الهجرة) انتقل إلى اليمن، وذلك للضيق الّذي كان يعاني منه، ثم نال مناصب حكومية، بعد أن أعانه على ذلك قاضى اليمن مصعب بن عبدالله القرشي. وقدقال بعض المورخين عن تلك الحقبة الزمنية:«كان الخليفة في ذلك الوقت هارون الرشيد، وكان التنافس شديدا بين آل العباس وآل على (علیه السلام) وكان الرشيد شديد الحذر والإحتراس والخوف من حركات العلويين ومن يعاونهم، ويأخذ على
ص: 152
ذلك بالظنّة والتهمة».
وبما إنّ اليمن كانت تمثل مركز أمن من مراكز التشيّع، فقد تمّ اتّهام الشافعي بالتشيع من قبل قاضي صنعاء، فأقصى وأبعد مع مجموعة سنة (184 ﻫ.ق) إلى هارون الّذي كان في الرقّة من أرض العراق(یومها اراضی سوریا الآن) لكنه استطاع أن يدفع هذه التهمة عن نفسه، رغم أنّه كان محبّا لعلي (علیه السلام) وأهل البيت (علیهم السلام) لكن هذه العلاقة لم تصل إلى الحدّ الّذي يمكن إعتباره شيعيا.(1)
وبعد أن رفع التهمة عنه، تعرف إلى الفقهاء الحنفيين في العراق ومنهم محمد بن الحسن الشيباني من أصحاب أبى حنيفة، وقد ساهم تعرّفه عليهم في الاطلاع على مدرسة أهل الرأى، إضافة إلى مدرسة أهل الحديث؛ ولذلك أسّس بعد تركه العراق وعودته اِلى مكّة مدرسة تمتزج فيها مدرستا الرأى والحديث.
عاد الشافعي مرة أخرى إلى العراق سنة (195 ﻫ.ق) بعد موت هارون وبدأ حكم الأمين ليبقى هناك سنتين طرح خلالهما مذهبه الّذي اشتهر تحت عنوان: مذهب الشافعي القديم، ثم عاد إلى الحجاز بعد ان كان قد اشتهر في بغداد وارتضى بعض العلماء منهجه. وفي سنة (198من الهجرة) سافر للمرة الثالثة إلى العراق، وأقام فيه عدّة أشهر، ثم اتجه من العراق إلى مصر، ونشر في الفسطاط آرائه الفقهيّة بين المصريين الذين كانوا من أتباع المذهب المالكي، وبذلك استطاع أن ينشر مذهبا
ص: 153
جديدا، وبقى فی مصر إلى سنة (204 ﻫ.ق) هجرى حیث توفي هناك.(1)
رغم أن الشافعي كان يعتبر نفسه تلميذا ومتبعا لمذهب مالك بن أنس، إلاّ أنّه وبعد الدخول إلى العراق في المرّة الثانية ترك منهجية استاذه، وبدأ بتأسيس مذهب جديد، يعدّ وسطا بين مدرسة أهل الرأي ومدرسة أهل الحديث. وكمثال لهذا التوجه نراه، مرة، يعارض أبا حنيفة الّذي يشترط شروطا عسيرة للعمل بالحديث ويقدم العمل بالقياس على الخبر الواحد، إلى درجة حكى هوعن نفسه قائلاً: «كانوا في بغداد يلقبونني بناصر السُنّة».(2)
هذا من جانب، ومن جانب آخر، فهويخالف مالك الّذي يترك الرواية الصحيحة لعمل أهل المدينة بما يخالفها. فالمنهجية التي انتهجها الشافعي، فی مقابل مسلك الحجازيين والعراقيين جعلت له اتباعا في العراق ومصر، فنشا وظهر من خلال منهجه، ومسلكه الفقهي فقهاء لامعون كثّر. فمن أصحابه العراقيين الذين يمكن الإشارة إليهم: ابراهيم بن خالد الكابلي وأحمدبن حنبل، والحسن بن محمّد الزعفراني والحسين بن علي الكرابيس.
ص: 154
ومن بين تلامذته المصريين، هناك فقهاء كبار من قبيل، يوسف بن يحيى البويطي المصري واسماعيل بن يحيى المزني الّذي قال الشافعي في حقّه: «المزني ناصر مذهبه، وهوالّذي ألّف الكتب التي عليها مدار مذهب الشافعي، وربيع بن سليمانالمرادي ومحمد بن أحمد» المعروف قد ثبّت في التاريخ.(1)
لقد ترك الشافعي كتبا كثيرةً في الفقه والأصول والحديث، وقد كان لها التأثير الكبير في تكوين مذهبه، ومن أشهرهذه الكتب: كتاب «الأمّ» و«الرسالة» و«اختلاف الحديث». ويرى أغلب المورخين من أهل العامّة أنّ الشافعي هوأوّل من دوّن الأصول؛ ولذلك أطلق على فقهه الفقه المنظم، والّذي نظّمه لأوّل مرّة خلال قواعد وأصول.(2) رغم أنّ محققي الإمامية يرفضون هذا الرأى ويرون أنّ هشام بن الحكم هوأوّل من كانت له تأليفات في أصول الفقه. وللرجل رسالتان في أصول الفقه: إحداهما كتاب «الألفاظ ومباحثها» والاخر كتاب «الأخبار وكيف تصحّ».(3)
ومضافا الی «الأمّ» والّذي يعدّ أهم كتاب فقهى شافعى، فهناك مؤلفات أخرى للمذهب الشافعي «كالمهذّب» تأليف إبراهيم بن محمد الشيرازي، ونصّ أبي شجاع، «الغاية والتقريب» تدوين أحمد بن حسين الإصفهاني، و«منهاج الطالبين» و«الحاوي للفتاوى» تأليف عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، وهومن أهم المؤلفات
ص: 155
التي دوّنت فيالمذهب الشافعي.(1)
والمزايا التي تمتع بها المذهب الشافعي هی السبب في غلبته على المذهب المالكي في مناطق عديدة كمصر وغيرها.
لقد ذکر من تتبّع المذهب الفقهي للشافعي ومنهجه الإجتهادي أن الأصول الأساسية للإستنباط في هذا المذهب بما يلي:
1) الكتاب: يرى الشافعي كبقيّة الفقهاء أن القرآن هوفي قمّة المصادر الفقهيّة. ويمكن الاحتجاج بظواهره. إلاّ إذا أقيم الدليل على إرادة خلاف الظاهر، ويقسّم الشافعي البيانات القرآنية إلى مالايحتاج إلى غیر. ومایحتاج الی السنة
2) السنة: وتعدّ السنّة أهم مصدر للإستنباط بعد القرآن؛ حيث یرای بأمكانها بيان المجمل والعام والخاص للقرآن. ويدافع الشافعي بشدة عن نظرية العمل بخبر الواحد، ويعتقد بأنّ الراوى إذا كان ثقة وظابطا وكان سند الحديث متصلاً بالرسول الأكرم (صلی الله علیه و آله و سلم) ، فينبغى العمل بتلك الرواية، وبذلك يشكل على أبى حنيفة الّذي يقدّم القياس على مثل هذه الرواية، لأن الرواية الصحيحة، ينبغي اتباعها، كما هوالحال بالنسبة للقرآن الكريم. فالشافعي يرفض الشروط التي أوردها العراقيون، حيث قالوا: بأن الشهرة شرط الحجية، أوما إعتبره مالك من اشتراط عمل الأصحاب في صحتها.
ص: 156
ويرى الشافعي أنّ هذه الشروط مرفوضة ويؤمن بأنّ السنّة الصحيحة هي في حكم القرآن. بالرغم من أن الشافعي لايعمل بالروايات المرسلة، إلاّ إذا كانت كمراسيل سعيد بن المسيّب.(1)3) الاجماع: رغم أن الشافعي يرى بأنّ الاجماع من الأصول ومن مصادر الإستنباط؛ لكنّه يقدّم تفسيرا خاصّا عنه، فهويعتقد بأنّ العلم بالإتفاق مادامه غير ممكن إذا فصرِفُ عدم العلم بالخلاف إجماع وحجّة. فهويرفض ما كان يراه مالك من أن الإجماع لايتحقق إلاّ من قبل أهل المدينة.(2)
4) قول الصحابة: بعد النصّ والإجماع، فإنّ قول الصحابة مصدر للإستنباط ويتقدم على القياس. فهويعتقد على ماورد في كتاب «الأمّ»: «ما كان الكتاب والسنة موجودين فالعذر عمّن سمعهما مقطوع إلاّ باتباعهما فإذا لم يكن ذلك، صرنا إلى أقاويل أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) أوواحدٍ منهم ثم كان قول الأئمة (علیهم السلام) أبي بكر أوعمر أوعثمان أذا صرنا فيه إلى التقليد أحبّ إلينا».(3)
ئخلاصة مسلك الشافعي في إعتبار قول الصحابي هوما يلي: «يأخذ بما أجمع
ص: 157
عليه أصحابه، وبما يقوله واحدٌ منهم دون أن يكون لغيره موافقة فيه، أومخالفة، أمّا ما يختلفون، فيه فأنّه تميّز من أقوالهم بحيث لايخرج عنها وإنّ أساس الإختيار وجود دليل آخر يعضده».(1)5) القياس: يعتبر الشافعي أوّل من تكلّم في القياس وضَبَطَ قواعده وبيّنها، وقد وقف الشافعي موقفا وسطا بين تشدّد مالك وتوسّع أبي حنيفة، واشترط في الأخذ به: أن تكون علّته منضبطة، ولايكون في المسألة حديث صحيح ولوكان من أخبار الاحاد.(2)
ويعتبر الشافعي في «الرسالة» أنّ القياس إجتهاد بعينه.(3)
6) الإستصحاب: إن بالتتبّع في فروع مذهب الشافعي يظهر أن الإستصحاب هوأيضا من مصادر الأحكام في مذهبه.
7) العرف: الفقه الشافعي متأثر بصورة واضحة في عرف زمانه، ففي بعض الموارد يرجع عن العرف العراقي ويجعل العرف المصري أساسا لعمله. وهذا يدلّ على أنّ العرف يعدّ من المصادر والأصول المعتبرة في الإستنباط عند الشافعي.
عرف عن الشافعي أنّه لا يأخذ بالاستحسان، ويعتقد بأن «من استحسن فقد شرّع»،
ص: 158
ويقول في كتاب «الأمّ»: «من قال بالاستحسان فقد قال قولاً عظيما».(1)
هذا رغم أنّ بعض المحققين يرى: «أن الاستحسان الّذي حاربه الشافعي هوالقول بالهوى، خاصّة أنه قد عرّفه قديما بأنّه عبارة عن دليل ينقدح، في نفس المجتهد، لايقدر على إظهاره لعدم مساعدة العبارة عنه».(2)
لايرى الشافعي - خلافا للمذهب المالكي- الإستصلاح والمصالح المرسلة، هذا رغم أنّه لايرفض هذا المبدأ بشكل كلّي، بل يعتبر المصالح المرسلة؟ مصدرا إذا كانت تشبه مصلحة معتبرة؟ بإجماع أونص.(3)
بناءً على ما مرّ، فإنّ منهجيّة الشافعي في الفقه تكمن في كونها تجعل الفروع والأحكام الفقهية في ضوابط مقننة. فهويحسب وسطيا في إنكاره للرأي أوالغلوفيه، فمنهجيته تؤمن بالأخذ بالحديث، وكان يقول: «إذا صحّ الحديث فهومذهبي» وکان يعتقد بالمبدأ التالي: «إذا رأيتم كلامي يخالف الحديث فاعملوا بالحديث واضربوا
ص: 159
بكلامي الحائط» کما کان يرى أنه: «لاحجّة في قول أحد دون رسول الله وإن كثروا ولا في قياس ولا في شيء».(1)
ومن المباني الرئيسية لفقهه قوله: «ليست تنزل بأحد من أهل دين الله نازلة إلاّ وفي كتاب الله دليل عليها، وكلّ ما نزل بمسلم ففيه حكم لازم أوعلى الحقّ فيه دلالة موجودة وعليه، فإذا كان فيه بعينه حكم وجب اتباعه، وإذا لم يكن فيه بعينه طلبالدلالة على سبيل الحقّ فيه بالإجتهاد والإجتهاد القياس».(2)
وفي الجانب العقائدى والمباحث الكلاميّة كان يمنع أصحابه من الاشتغال في هذا العلم وكان يعتبره بلا نهاية ولاطائل فيه، وقد ذكروا في بعض العقائد التي قال بها الشافعي:«كانت للشافعى آراء في العقيده بعيدة عن الشذوذ والشطط، وتتفق مع رأى الجماعة في الجملة فيقول: إن كلام الله غير مخلوق، ويؤمن بالقضاء والقدر، خيره وشرّه، ويقول: الناس لم يخلقوا أعمالهم، بل هي من خلق الله، ويعتقد برؤية الله يوم القيامة، ويرى أنّ الإيمان يزيد وينقص، لانّه تصديق وعمل. وأمّا بالنسبة للإمامة، فأنه كان يرى ضرورتها وأنها في قريش، لما روي أن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) قال لقريش «أنتم أولى الناس بهذا الأمر ما كنتم مع الحق»، وكان يرى في الفتنة التي أدّت إلى القتال بين على ومعاوية: أنّ معاويه وأصحابه هم الفئة الباغية، وكان يرتّب الراشدين على أساس
ص: 160
زمن أزمانهم فأفضلهم عنده أبوبكر ثم عمر ثم عثمان ثم على، واتخذ في كتاب السير سنّة عليّ في معاملة البغاة حجة».(1)
1) نجاسة بول مأكول اللحم وخُرئه.2) الدم نجس مطلقا سواء كان دم الشهيد أوبعض الحشرات.
3) لمس جسد الأجنبى ومس العورة ينقض الوضوء.
4) اليأس غير مطروح بالنسبة للمرأة، فقد تحيض المرأة حتى آخر أيّام حياتها. رغم أن الغالب هوانقطاع دم الحيض في سنّ الواحد والستّين.
5) يجوز للمجنب العبور من المسجد بینما يكره ذلك للحائض.
6) البسملة آية من الفاتحة يجب قرائتها وينبغي أن تقرأ جهرا في الصلاة الجهريّة وعدم قرائتها یوجب بطلان الصلاة.
7) إنّ أقلّ مدة للإعتكاف هي فترة أطول من أن يقول فيها المعتكف: سبحان الله ولايشترط في الاعتكاف الصيام.
8) لاوجوب فوري للحج بل یجب بالتراخي.(2)
ص: 161
ص: 162
1) مؤسس المذهب الحنبلي
2) منطلق انتشار المذهب الحنبلي
3) الأسس الرئيسة للمذهب الحنبلي
4) إطلالة على المنهج الفقهي والكلامي للمذهب الحنبلي
5) نماذج من الفتاوى الخاصة بالمذهب الحنبلي
هوأحمد بن محمد بن حنبل بن هلال المروزي ثم البغدادي، عربي من جهة أبويه، حملت به أمّه ب-«مرو» وولدت سنة مأة وأربع وستين ببغداد، ونشأ وأقام بها إلى أن توفّى ودخل مكه والمدينه والشام واليمن والكوفه والبصره والجزيرة. وروى الذهبي في تاريخه: أنه كان يعرف الفارسية أخذا من أسرته التي أقامت بخراسان فترة حيث
ص: 163
كانجده واليا على سرخس.(1)
ثم أن أحمد بن حنبل بعد أن حفظ القرآن وتعلّم اللغة العربية إتّجه إلى دراسة الحديث، وكان اوّل من تلقّى عنه الحديث هوالقاضي أبويوسف الفقيه الحنفي، كما استبتع ذلك معرفته بفقه أهل الرأي، ثم رحل طلبا للحديث والأثر إلى بلاد كثيرة، كالكوفة والبصرة ومكة والمدينه والشام واليمن. حتى بلغ في ذلك مبلغ الامامة فكأن استأذه الشافعي يروي الحديث عنه ويقول له: «أنتم أعلم بالحديث منّا».(2)
وكان شديد الكراهة لكتابة شيء غير الحديث، وكان يعتقد: بأنه يجب أن تنقل عنه فقط روايته لفقه الصحابة والتابعين.
لكن رغم هذا فقد أثرت فيه آراء الشافعي؛ لأنّه التقاه في بغداد، ودرس عنده لفترات طويلة، لكن غلب على فقهه الأثر حتى عرف بأنه فقيه أثرى، وإن كان بعض المورخين عدّه من المحدثين ولم يعدّه من الفقهاء، خصوصا وإنه لم يترك كتابا فقهيا، فقد ألّف كتاب «المسند» وهوكتاب حديثى، خصص فيه لكل صحابي سندا، وجمع فيه أكثر من أربعين ألف حديث.
لكن ورغم هذا، فإن من اعتبره فقيها يرى بأنّه كان عارفا بفقه الحديث وفقه الرأي معا، رغم أنه كان قد أعرض عن فقه الرأي وانتهج فقه الحديث.
ص: 164
ولقد عاش أحمد بن حنبل حياة الفقر، وامتنع عن قبول منصب القضاء في جهازالحكم العباسي، ومن الخصائص الأخرى لأحمد بن حنبل، هواشتغاله بالإفتاء، من سنّ الأربعين؛ ولكنه كان ينهى عن التبعيّة والتقليد، وكان يطلب من الأفراد أن يأخذوا من المصادر الأصليّة. فقد عرف عنه أنّه قال: «لاتقلدني ولامالكا ولا الشافعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا».
وکان يقول: «أنظر في أمر دينك، فإنّ التقليد لغير المعصوم مذموم وفيه عمى للبصيرة.»(1)
وكان أحمد بن حنبل فقيه أثرياً، حیث كان ينتهج منهجا فقهيا خاصا سنتناوله لاحقاً. وقد توفي سنة (241 ﻫ.ق) في بغداد وشيّع تشييعا مهيبا ودفن هناك.(2)
كان أحمد بن حنبل يكثر من أسفاره لتدوين رواياته، وكان كثير الحج. ولذلك ورغم أنّه أخذ الفقه من أبى يوسف الحنفي والشافعي إلاّ أنّه كان قد مزج الفقه بالحديث والسنّة والرواية وبذلك أسس مذهبا منفصلاً.
وقد صنّف كتبا كثيرة، منها: «المسند»، و«التفسير»، و«الناسخ والمنسوخ»،
ص: 165
و«التاريخ»، و«المقدّم والمؤخر في القرآن» و«جوابات القرآن»، و«المناسك»و«طاعة الرسول».(1)
لكنه، رغم ذلك، لم يؤلف كتابا في الفقه؛ لأنّه كان يكره ذلك. وقد تكوّن الفقه الحنبلي استنادا للسنّة وأقوال الصحابة والتابعين. فقد كان ينقل أقوالاً متعددة عن الصحابة، حينما تكون في المسألة آراء عديدة ولايتمكن هومن ترجيح أحدهما على الآخر. حيث كان ينقل تلك الأقوال دون أن یجزم بالنسبة لواحدة لذلك كان يغطى على فقهه الاضطراب وتعدد الروايات. وكان ولده الأكبر (صالح) وبعض مريديه هم الذین جمعوا فقهه مثل أحمد بن هاني أبابكر الأثرم وعبدالملك بن عبد الحميد بن مهران الميموني الّذي صحب أحمد أكثر من عشرين سنة وأحمد بن أبابكر المروزى، ثم جاء دور أبوبكر الخلال أخذ فقه أحمد من هؤلاء وجمعه. ولولا هؤلاء لما كان لمذهب أحمد وجود.(2)
ومن أهم أعلام المذهب الحنفي طبقا لما مرّ:
1) صالح بن أحمد بن حنبل والّذي كان قد تولّى القضاء في إصبهان ومات هناك.
وقد ذكر المؤرخون فى ذلك الصدد: «فلمّا ولىّ صالح قضاء أصبهان ودخل إليها، بدأ بالمسجد الجامع، فدخل وصلّى فيه ركعتين واجتمع الناس والشيوخ عليه، وجلس وقرئ عهده الّذي كتب له الخليفة، فجعل يبكي بكاءً شديدا فقال لهم: تدرون
ص: 166
ما أبكاني؟ ذكرت أبي أن يراني في مثل هذا الحال وكان عليه السواد قال: كان أبي يبعث خلفي إذا جاءه رجل زاهد أورجل صالح متقشف؛ لأنظر إليه، يحبّ أن أكون مثلهم،ولكن الله يعلم ما دخلت في هذا الأمر إلاّ لدين غلبنى وكثرة عيالي».(1)
2) عبدالله بن أحمد بن حنبل.
كانت رواياته في الغالب عن أخيه عن والده، وكان يقول: كُلّ شي أقول: «قال أبي» فقد سمعته مرّتين وثلاثا وأقله مرّة.
3) أحمد بن محمّد بن الحجاج المرزوى، وكان هومن تولّى غسل أحمد.
4) إبراهيم بن اسحاق بن إبراهيم الحربي المعروف بابن راهويه المرزوي.
5) ابن تيميّة: أحمد بن عبد الحليم ابن تيميّة الحرّاني ثم الدمشقي الحنبلي وسنتناول الحديث عن مفصلاً.
إن الركيزة الأولى للمذهب الحنبلي هی «مسند أحمد بن حنبل» الّذي جمع فيه حوالی الأربعين ألف رواية، اضافة إلى سائر التأليفات التي دوّنت في هذا المذهب وهي:
1) «مختصر الخرقى»، تأليف عمر بن حسين بن عبدالله، ويعدّ أوّل كتاب ألف بشكل مستقل في الفقه الحنبلي.
2) «شرح الخرقي»، تأليف القاضي أبي يعلي محمد بن حسين بن فرّاء.
ص: 167
3) «رؤوس المسائل»، تأليف عبدالخالق بن عيسى.
4) «المستوعب»، تأليف محمّد بن عبدالله السامري.5) «العمدة» و«المقنع» و«الكافي» و«المغني»: تأليف إبن قدامة الّذي كان قد ألّف الفقه الحنبلي في أربعه طبقات.(1)
فالفقه الحنبلي ورغم ما له من تمايز وشخصيّة مستقلة، وكونه يعدّ في عرض سائر مذاهب أهل السنّة، إلاّ أنّ البعض يرى أن عدّ أحمد بن حنبل الذي قائد هذا المذهب من رجال الحديث أولى من عدّه فقيهاً: «عداد أحمد في رجال الحديث اثبت منه في عِداد الفقهاء».(2)
مذهب أحمد بن حنبل
على الرغم من أن لهذا المذهب اتباعاً ودعاة لامِعِين؛ لكن الفقه الحنبلي لم يتسع بشكل ملحوظ، حيث لاتجد له إلاّ أتباع قليلين في العالم الإسلامي، هذا رغم الزيادة الملحوظة التي حصلت بعد سيطرة آل سعود على الجزيرة العربية، وقد أشار بعض المحققين إلى أسباب قلّه عدد أتباع هذا المذهب وهي كمايلي:
الأوّل: أن ظهور هذا المذهب كان بعد سيطرة المذاهب الثلاث الأخرى على العالم الإسلامي، فالعراق واطرافه، بل أكثر العالم الإسلامي، كان يتّبع المذهب الحنفي، وشمال غرب أفريقيا والأندلس کانا يتّبعان المذهب المالكي، وفي مصر كان هناك المذهبان الشافعي والمالكي. فلم تكن أرض بكرٌ لتكون لأحمد بن حنبل
ص: 168
دون منازع.
الثاني: لم يكن القضاة من أتباع هذا المذهب، وقد كان منصب القضاء أحدالعوامل الرئيسيّة لإنتشار المذاهب.
الثالث: تشدُّد الحنابلة، فقد قيل عن هذا الأمر مايلي:
تشدُّد الحنابلة وكثرة خلافهم مع غيرههم، لا بالحجة والبرهان، بل بالعمل، فكلّما قويت شوكتهم، إشتدّوا على الناس بإسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما نفّر الناس منهم، فابتعدوا عنهم وعن مذهبهم.(1)
وقد كتب إلى أبي الوفاء بن عقيل: صف لي أصحاب الإمام أحمد على ما عرفت من الإنصاف فكتب: هم قوم خشن،تقلّصت أخلاقهم عن المخالطة، وغلظت طباعهم عن المداخلة، وغلب عليهم الجدّ، وقلّ عندهم الهزل، وغربت نفوسهم عن ذل المراءاة، وفزعوا عن الأراء إلى الروايات، وتمسّكوا بالظاهر، تحرّجا عن التأويل، وغلبت عليهم الأعمال الصالحة، فلم يدقّقوا في العلوم الغامضة، والله يعلم إنني لا اعتقد في الإسلام طائفة محقّة خاليةٌ من البدع، سوى من سلك هذا الطريق.(2)
الرابع: يظهر أنّه -إضافة للأسباب الثلاثة أعلاه- لابُدّ وأن نضيف عاملاً آخر، وهو: بُعد المذهب الحنبلي عن الإجتهاد. قال ابن خلدون: إختصّ أحمد بمذهب ومقلّده قليل، لبعده عن الإجتهاد واصالته في معاضدة الرواية للإخبار بعضها ببعض وأكثرهم
ص: 169
بالشام والعراق من بغداد ونواحيها، وهم أكثر الناس حفظا للسُنّة ورواية للحديث.(1)
وقد ساهمت العوامل الأربعة المذکورة في عدم انتشار المذهب الحنبلي. الذیانتشر في العراق أوّلاً، حيث اتّبعه بعض أهل الحديث، ولم يخرج من العراق إلى القرن الرابع.
ذكر ابن القيّم، أنّ أحمد بن حنبل اعتمد في مذهبه الفقهي على خمسة أصول:
الأول: النصوص من الكتاب والسنّة الصحيحة: فمتى ظفر بنصّ في المسألة، أفتى بموجبه دون التفات إلى من خالفه. ولوكان كبار الصحابة، ولذا لم يلتفت إلى خلاف عمر في استدامة المحرم المتطيّب الّذي تطيّب به قبل إحرامه، لصحّة حديث عائشة في ذلك، وكذلك لم يلتفت إلى علي وعثمان وطلحة وأبي أيّوب وأبيّ بن كعب في ترك الغسل من الإكسال أي الجماع دون إنزال الرجل، لصحة حديث عائشة أنّها فعلته هي ورسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) فاغتسلا، ولم يلتفت إلى قول معاذ ومعاوية في توريث المسلم من الكافر لصحّة حديث المنع من التوارث بينهما.
فلم يكن يقدم على الحديث الصحيح عملاً ولا رأيا ولاقياسا ولا قول صاحبي، ولا عدم علمه بالمخالف الّذي سماه كثير من الناس إجماعا، وعلى هذا يصحّ أن يقال: إنّ السنة عند أحمد حاكمة على القرآن.
ص: 170
يقول أحمد: «إنّ طلب علم الكتاب يكون عن طريق السنّة فهى السبيل المستقيم لمعرفة الأحكام، وإنّ ما حرّم رسول الله مثل ما حرّم الله» فيأخذ أحمد بكلّ ما جاءت به السنّة، حتى أخبار الأحاد فيما يتعلق بالأحكام العمليّة، بل وفيما يتعلق بالعقائد أيضا.ولايتشدّد ابن حنبل فيما يشترط لاعتبار خبر الواحد، تشدّد غيره، ولكنه يكتفي بأن يقول: الراوي غير معروف بالكذب.
ويروى عنه أنّه قال لابنه عبدالله: «يا بني لا أخالف ما ضعف من الحديث، إذا لم يكن في الباب شيء يدفعه»؛ ولذا فإنّه كان يقدّم الحديث الضعيف على القياس، كما أنّ مسنده حوى الكثير من الأحاديث الضعيفه وكان يقول: إنّ الحديث الضعيف خير من الرأى، وليس المراد به المتروك، ولكنّ المراد به الحسن.(1)
الثاني: فتوى الصحابه عند عدم النص: فإذا وجد فتوى الصحابي، ولم يعلم لها مخالفا منهم لم يتجاوزها إلى رأي آخر، مع عدم إدعائه أنّ ذلك اجماعا، بل كان يقول: لا أعلم شيئا يدفعه.
الثالث: الإختيار من فتاوى الصحابة إذا اختلفوا: إذا تعدّدت آراء الصحابة في الأمر الواحد، كان يلجأ إلى اختيار أقربها من الكتاب والسنّة وإذا لم يجد مرجّحا يرجّح أحد الآراء.
ص: 171
ونقل أيضا ابن القيّم عن أحمد: إذا اختلفت أقوال الصحابة، فإن خالفه مثله لم يكن قول أحدهما حجة على الآخر، وإن خالفه أعلم منه فعن أحمد روايتان والصحيح إنّ الشق الّذي فيه الخفاء أوبعضهم أرجح وأولى، فإن كان الأربعة في شقّ فلا شك أنّه الصواب، وإن كان أكثرهم فالصواب فيه أغلب وإن كانوا اثنين اثنين فشقّ أبي بكروعمر أقرب إلى الصواب فإن إختلف أبوبكر وعمر، فالصواب مع أبي بكر.(1)
فالصحابي إذا أفتى فيجوز أن يكون سمعه من النبي أوسمعه ممن سمع منه أوفهم من كتاب الله أوأن يكون قولاًمتّفقا عليه بينهم، أى يكون مرجعه إلى كمال علمه باللغة ودلالة اللفظ على ما تفرّد به، كما يحتمل أن يكون ناتجا عن فهم خاطئ، ووقوع احتمال واحد من الوجوه الصحيحة التي ذكرنا أغلب على الظن من واقع احتمال خاطئ واحد.
وروي عن أحمد أنّه قدّم قول التابعي على القياس إذا لم يكن هناك نصّ ولا أثر ولاحديث مرسل، إذ فتوى التابعي المعروف بالفضل تعتبر أثرا سلفيا فيقدّم على الرأي.(2)
الرابع: الأخذ بالحديث المرسل: وهوالّذي سقط من سنده الصحابي، ورفعه التابعي إلى رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) مباشرة، وهونوع من أنواع الحديث الضعيف، وهوبذلك يقدمه على القياس وليس المراد بالضعيف عنده الباطل ولا المنكر ولا ما في روايته
ص: 172
متهّم، بل الضعيف عنده قسم من أقسام الحسن.(1)
الخامس: القياس: إذا لم يجد شيئا ممّا تقدم من الأصول الأربعة، لجأ إلى القياسللضرورة، وكذلك كان شيخه الشافعي.(2)
خاتمه: يقول ابن القيّم هذه الأصول الخمسة من أصول فتاويه، وعليها مدارها، وكان شديد الكراهة والمنع للإفتاء بمسألة ليس فيها أثر عن السلف، وكان يسوّغ استفتاء فقهاء الحديث وأصحاب مالك، ويمنع استفتاء من يعرض عن الحديث.(3)
كان أحمد إذا إفتقد النصّ والأثر والشبيه الّذي يقيس عليه، ينظر إلى الأصل في الأشياء ويستصحب هذا الأصل. فالاستصحاب يكون مصدرا لإستنباط الأحكام عند أحمد، كشيخه الشافعي، خلافا للحنفية الذين قصّروا حجيتّه على الدفع فقط، لا البقاء. فهوعنده حجة للدفع لا للاثبات فقد صرح بعضهم أنه حجة لدفع ما يخالف الأمر الثابت بالاستصحاب، وليس حجة على إثبات أمر لم يقم دليل على ثبوته.(4) فاستصحاب عدم حلّ أكل الصيد الّذي يقع في الماء قبل الإستيلاء عليه يصحّ، عند
ص: 173
احمد،لأن الأصل في الذبائح التحريم.(1)
إن فقه أحمد يتوسع في إعتبار المصلحة المرسلة مصدرا إذا كانت تتفق مع مقاصد التشريع ولاتتنافي مع أصل من أصوله، ومعقولة في ذاتها، وكان في الأخذ بها رفع حرج. ومن الفتاوى التي اعتمد أحمد فیها على المصلحة المرسلة: أنّ المخنّث ينفىلأنه لايقع منه الاّ الفساد والتعرض له. ومنها: أنه إذا أتت المرأة المرأة تعاقبان وتؤدبأن، وأنّه إذا خيف على النساء المساحقه حرم خلوة بعضهنّ ببعض. ومنها: أنّه قال: إنّ من طعن على الصحابة وجب على السلطان عقوبته، وليس للسلطان أن يعفوعنه، بل يعاقبه ويستتيبه، فإن تاب وإلاّ أعاد العقوبة. ومنها: أنّه صحّح الطواف مع الحيض ولم يجعل الحيض مانعا من صحته، ورأى أنّ ما روي عن الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) من منع الحائض عن الطواف لم يكن حكما عاما في جميع الأحوال، وإنّما يكون عند القدرة وإمكان الاحتباس حتى تطهر وتطوف.
بالجملة: فقد كان أحمد أكثر أئمة المذاهب أخذا بالمصلحة المرسلة حتى فاق مالكا في ذلك، مع أنّ شيخه الشافعي كان لايتّجه إليها.(2)
سدّ الذرائع المفضية إلى المفاسد معتبر عند أحمد؛ لذا نهى عن كل بيع أوإجارة
ص: 174
أومعاوضة تعين على معصية الله، كبيع السلاح للكفار والبغاة وقطّاع الطريق، وبيع العنب لمن يتّخذه خمرا.(1)
کان أحمد بالنسبة إلى الإجماع كشيخه الشافعي يرى أنّه حجة إن أمكن وقوعه، إذ حقيقته إتّفاق جميع المجتهدين في الأمّة الإسلاميّة، في عصر ما، بعد عصر الرسول، على حكم شرعى، وهذا أمر وقوعه مستبعد. وروى عبدالله بن أحمد بن حنبل عن أبيهأنه قال: «من ادّعى الإجماع فهوكاذب فليقل: لانعلم أنّ الناس اختلفوا».(2)
في عصر أحمد بن حنبل، اشتدّ الجدل حول خلق القرآن وقدمه، وذهب المأمون إلى القول بأنّ القرآن مخلوق وحادث. وأجبر العلماء على أن يظهروا رأيهم في ذلك. وفي هذا الإطار تقبّل بعض العلماء القول بأنّ القرآن مخلوق، وذهبوا إلى ما ذهب إليه المأمون، لكن أحمد بن حنبل والّذي كان يؤمن بقدم القرآن رفض الإتباع فما كان من الخلافة إلاّ أن اذته وأودعته السجن أيّام المعتصم، لمدة تزيد عن السنتين، وقبل
ص: 175
ذلك ضربته بالسياط.
وبعد المعتصم أصدر الواثق حكما بمنع أحمدبن حنبل من أى لقاء، كما منعه من الإفتاء، لكن المتوكّل الّذي خلف الواثق رفع هذه المضايقات، ومنع الناس عن الخوض في مثل هكذا موضوعات، وانتهت محنة احمد فی خلق القرآن.(1)
كما أنّ ابن حنبل سلفى في الفقه، فكذلك هوفي العقيدة يفكّر بذهنية سلفيّة، فهويعتقد أنّ كل شيء بقضاء الله وقدره، الخير والشر جميعا ويسلّم الأمور كلّها لله وأنّ الله يعلم بكل شيء ويقدر كلّ شيء وما يفعله الإنسان فبقدرة الله وإرادته.
كان أحمد يؤمن برؤية الله يوم القيامة؛ ویری انه ثابت بالحديث الصحيح، ويقول: الحديث عندنا على ظاهره كما جاء عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والكلام فيه بدعة.(2)
أما في موضوع الخلافة، فقد نهج أحمد منهج مالك، فأثر طاعة الإمام، ولوظالما، على الخروج على الجماعة تجنّبا للفتن التي تثير القلاقل وتولد الحقد وروى عنه أنّه قال: إذا رأيت رجلاً يذكر أحدا من أصحاب رسول الله بسوء فاتهمه على الإسلام، ومن انتقص أحدا منهم أوأبغضه لحدث كان منه أوذكر مساويه كان مبتدعا والمبتدع
ص: 176
عنده متهم في دينه. وفي حقّ علي (علیه السلام) يقول: إنّ الخلافة لم تزين عليّا، بل عليّ زيّنها ومع ذلك، من حيث الدرجة، يضعه بعد عثمان ولايسمح بالجدل فيما كان بين علي ومعاويه ويقول لمن يسأله عن ذلك: (تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ماكسبتم ولا تسألون عمّا كانون يعملون).
وكان يرى أنّ نظام اختيار الخليفة القائم لمن يخلفه هوالّذي يتفق مع السنة، فقد اختار الرسول خليفة بالاشاره حيث أناب عنه أبابكر في مرضه للإمامة وإختار أبوبكر عمر للخلافة وإختار عمر ستة وترك للأُمّة إختيار واحد بينهم.
ثم لم يؤثر عن أحمد أنّه عمد إلى تقديم النصح للحكام أووجّه إلى ذلك، وإنما الّذي عرف عنه أنّه كان يتجنب الحكام، وكان يركّز على إصلاح الرعيّة وتوجيه الأفراد إلى إحياء السنة والتمسّك بسيرة السلف الصالح ويرى ما يراه الحسن البصري من أنّإصلاح الرعية يؤدّي لامحالة إلى صلاح الراعي.(1)
ذكرنا سابقا أنّ فقه أحمد هوحديثي وأثرى ولايردّ في فقهه حديثا نُسب لرسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلاّ إذا عارضه أقوى منه: فإذا لم يجد عن الرسول ولا صحابته، إجتهد في تخريج المسألة على منهاج من سبقه وينهى عن الإجتهاد فيما لم يتكلم فيه السلف الصالح.
حتى أنّه إذا وجد في المسألة أقوالاً مختلفة للصحابة ولم يتمكن من المفاضلة بينها أخذ بها مع إختلافها وروى الأقوال دون أن يجزم بواحد منها.
ص: 177
ويلاحظ في فقه أحمد -أيضاً- انه كان لايعتمد في العبادات إلاّ على النصوص، وكان يحتاط فيها دائما. أمّا المعاملات فإنّ الأصل عنده فيها الإباحة، ما لم يقم الدليل على الحظر، فمذهبه أيسر المذاهب الفقهية بالنسبة للمعاملات. وعلى هذا يقول ابن القيّم الحنبلي: الأصل في العبادات البطلان حتى يقوم دليل على الأمر، والأصل في العقود والمعاملات الصّحة حتى يقوم الدليل على البطلان والتحريم. فكل شرط وعقد معاملة سكت عنها لايجوز القول بتحريمها، فإنّه سكت عنها رحمة منه من غير نسيان وإهمال.(1)
1) إذا كان الماء بمقدار قلتين فحكمه حكم الماء الكثير. والقلّة في اللغة بمعنى الجرّة ومقدار الجرّة ذراع وربع الذراع طولاً وعرضا وإرتفاعا. وهذه الفتوى من الفتاوىالتي يشترك فيها المذهبان الحنبلي والشافعي.
2) القى ء ينقض الوضوء.
3) أكل لحم البعير ينقض الوضوء.
4) الخمسين سنّ اليأس لجميع النّساء.
5) أقل الطهر ثلاثة عشر يوما.
6) تبطل الصلاة في مقبرة يتجاوز عدد القبور فيها عن الثلاثة.
7) للخروج من الصلاة يجب أن يكرر قول: (السلام عليكم ورحمة الله) مرّتين.
ص: 178
إطلالة على المذهب والمنهج الإجتهاديّ المتّبع لابن تيميّة وأتباعه:
هوأحمد بن عبد الحليم تقىّ الدين ابن تيميّة الحرّاني الدمشقى الحنبليّ (661-728)، وبالرغم من أنّه تتلمذ على يد عددٍ من الأساتذة، من قبيل: ابن عبد الدائم، والقاسم الأربلي، والمسلم بن علان، لم یکن من أهل البحث والتحقيق.
وقد أثارت فتاواه الشاذة والنادرة فقهاء عصره عليه، وفي العامين: (698 و705ﻫ.ق) أقيمت عليه دعاوى قضائيّة، ومن ثم حكم عليه بالسجن. ثمّ بعد ذلك أُبعد إلى الاسكندريّة عام (709ﻫ.ق)، ومن ثمّ إلى القاهرة، ليعودوا به مرّةً أُخرى إلى دمشق عام (712ﻫ.ق).(1)
إنّ المأساة في حياة ابن تيمية تكمن فيما طرحه من أفكارٍ ونظريّاتٍ في أبواب
ص: 179
مختلفة في المعارف الإسلاميّة. فقد كان الرجل لا يدع مجالاً إلاّ وطرقه، بما في ذلكالأبواب المتعلّقة بالصحابة والخلفاء. حتى أنّه خطّأ عمر بن الخطاب في بعض الأمور، وقال في عليٍّ (علیه السلام) : «أخطأ في سبعة عشر شيئا، ثمّ خالف فيها نصّ الكتاب، منها: اعتداد المتوفّى عنها زوجها أطول الأجلين».
وقد ذكروا أنّه ذكر حديث النزول، أي نزول الله إلى السماء الدنيا، فنزل عن المنبر درجتين، فقال: كنزولى هذا. وحينما رفض الاستغاثة بالنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) في سنة (705ﻫ.ق) أبعد عن دمشق، وحبس مرّات عديدة.
وقد ذكرت آراء مختلفة حول هذه الشخصية وافترق الناس فيه شيعا، نظرا لما طرحه من آراء:
فمنهم من نسبه إلى التجسيم، لقوله: «إنّ اليد والقدم والساق والوجه صفات حقيقيّة لله، وأنّه مستوعلى العرش بذاته». فقيل له: «يلزم من ذلك التحيّز والإنقسام». فقال: «أنا لا أسلّم أنّ التحيّز والإنقسام من خواصّ الأجسام»، فأُلْزِم بأنّه يقول بالتحيّز في ذات الله تعالى.
ومنهم من ينسبه إلى الزندقة، لقوله: «إنّ النبىّ (صلی الله علیه و آله و سلم) لا يُستغاث به» وإنّ في ذلك تنقيصا ومنعا من تعظيم رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) .
ومنهم من ينسبه إلى النفاق، لقوله في عليٍّ ما تقدّم، وأيضا لقوله: «إنّه كان مخذولاً حيث ما توجّه، وإنّه حاول الخلافة مرارا فلم ينلها، وإنّه قاتل للرياسة لا للديانة». ولقوله: «إنّه كان يحبّ الرياسة، وإنّ عثمان كان يحبّ المال». ولقوله: «أبوبكر أسلم شيخا لا يدري ما يقول، وعليٌّ أسلم صبيّا، والصبيّ لا يصحّ إسلامه على قول». فإنّه
ص: 180
شنّع في ذلك، فألزموه بالنفاق، لقول النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) لعلي (علیه السلام) : «لا يبغضك إلاّ منافق».ونسبه قوم إلى أنّه يسعى في الإمامة الكبرى.
وكان إذا حُوقق وأُلْزِم يقول: لم أُرِد هذا، إنّما أردتُ كذا... فيذكر احتمالاً بعيدا.(1)
وقد واجه علماءالسنّة هذه الأفكار وهذا المنهج الكلامىّ لابن تيميّة بطريقتين أساسيّتين:
أ) نقد عقائده وآرائه، من خلال تدوين المؤلّفات والكتب، من قبيل:
«شفاء السقام في زيارة قبر خير الأنام»، تأليف: تقيّ الدين السبكي.
«الدرّة المضيئة في الردّ على ابن تيمية»، تأليف: تقيّ الدين السبكي.
«المقالة المرضيّة في الردّ على ابن تيمية»، تأليف: تقيّ الدين أبي عبدالله الإخنائي.
«نجم المهتدى ورجم المقتدى»، تأليف: فخر بن المعلم القرشي.
«دفع شبه من شبه وتمرّد»، تأليف: تقيّ الدين الحصني.
«التحفة المختارة في الردّ على منكر الزيارة»، تأليف: تاج الدين عمر المالكي الفاكهاني.
ب) إصدار العلماء من أهل السنّة للفتاوى في مواجهة «البدع» التي كان يُظهرها ابن تيميّة، فقد كتب البدر ابن جماعة قاضى قضات مصر مثلاً على ظاهر فتوى ابن
ص: 181
تيميّة من تحريم زيارة النبى (صلی الله علیه و آله و سلم) : إنّ زيارة النبىّ (صلی الله علیه و آله و سلم) فضيلةٌ وسنّةٌ مُجمعٌ عليها، فمن يحرّم زيارة النبى (صلی الله علیه و آله و سلم) -يعني ابن تيمية- ينبغى أن يُزجر عن مثل هذه الفتاوى الباطلة عند الأئمّة والعلماء، ويُمنع من هذه الفتاوى الغريبة، ويُحبس إذا لم يمتنع من ذلك،ويشهر أمره ليحفظ الناس من الاقتداء به».(1) وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن عقائد ابن تيميّة غير مرتبطة بما ذهب إليه ابن حنبل فإنّ أحمد ابن حنبل -كما مرّ من ذكر منهجه- كان شديد التعلق بالشيعة والصحابة، ولا سيما الخلفاء الراشدين منهم، وهذا بخلاف ابن تيميه الّذي يطعن فيهم.
هومحمّد بن أبي بكر شمس الدين ابن قيم الجوزيّة الحنبلي (691-751ﻫ.ق)، من أتباع ابن تيمية ومريديه، قيل في حقّه: «غلب عليه حبّ ابن تيمية، حتى كان لا يخرج عن شيءٍ من أقواله، بل يقتصر عليه في جميع ذلك، وهوالّذي هذّب كتبه ونشر علمه. وكان له حظّ عند الأمراء المصريّين، واعتُقل مع ابن تيمية بالقلعة، بعد أن أُهين وطيف به على جمل مضروبا بالدرّة، فلمّا مات ابن تيمية أُفرج عنه، وامتُحن مرّةً أُخرى بسبب فتاوى ابن تيمية، وكان ينال من علماء عصره وينالون منه». وقال الذهبيّ: «حُبس مرّةً لإنكاره شدّ الرحل لزيارة قبر الخليل»(2).
ص: 182
كان للمساعي والجهود التي قام بها ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزيّة أثر كبير في إعادة إحياء المذهب الحنبلي وتجديده وبثّ الروح فيه وانتشاره من جديد، إلى أن جاء محمد بن عبد الوهاب الّذي تبنّى أفكار ابن تيميّة والفقه الحنبلي، حتى استطاعلاحقا أن يكرّس المذهب الحنبليّ بعنوان أنّه المذهب الرسمىّ للدولة التي أقامها آل سعود في الحجاز(1).
وُلد محمد بن عبد الوهاب (1115-1207ﻫ.ق) في بلدة العيينة من مدن بلاد نجد وأرض الحجاز، كان والده أحد القضاة الحنابلة. عُرِف عنه ومنذ صغر سنّه الشغف بمطالعة كتب ابن تيمية وابن القيم، وتأثّر بأفكارهما وآرائهما منذ سنىّ الشباب الأُولى، ومنذ ذلك الوقت وهوينكر على مسلمي أهل نجد عقائدهم وأفعالهم. سافر إلى مكّة، ثمّ إلى المدينة المنوّرة، وأظهر الإنكار على الناس لاستغاثتهم وتوسّلهم برسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عند قبره. ثمّ رحل إلى نجد، ثمّ أتى البصرة يريد الشام، فلمّا ورد البصرة أحسّ المسلمون بذلك فأخرجوه منها، فخرج هاربا، وكاد يهلك من الحرّ والعطش أثناء سيره بين البصرة والزبير. انتقل من محلة الزبير إلى مدينة الأحساء، ومن ثمّ إلى بلدة حريملة التابعة لنجد، وذلك عام (1139ﻫ.ق)، وكان أبوه قد انتقل من العيينة إلى تلك البلدة، فلازمه وقرأ عليه، وأظهر الإنكار على مسلمي نجد في عقائدهم، فنهاه أبوه فلم ينتهِ، حتى وقع بينهما نزاع و وقع بينه وبين المسلمين في
ص: 183
حريملة جدال كثير، فأقام على ذلك حتى توفّى أبوه سنة (1153ﻫ.ق)، فاجترأ على إظهار عقائده والإنكار على المسلمين فيما أطبقوا عليه، وتبعه حثالة من الناس، إلى أن غصّ أهل البلد من مقالاته وهمّوا بقتله، فانتقل من حريملة إلى العيينة، ورئيسها يومئذٍ عثمان بن أحمد بن معمر، فأطمعه ابن عبد الوهاب في ملك نجد، فاستقبله عثمان بالترحاب والتكريم وقرّبه وساعده. فلمّا عظم أمره بلغ خبره سليمانبن محمد بن عزيز الحميدي صاحب الأحساء وأميرها، الّذي أرسل إلى عثمان كتابا يأمره فيه بقتل ابن عبد الوهّاب ويهدّده على المخالفة، فلم تسعه مخالفته، فأرسل إليه وأمره بالخروج عن مملكته، فخرج عن العينيّة سنة (1160ﻫ.ق). وبعد خروجه منها وصل إلى الدرعية، من البلدات الشهيرة بنجد، ولمّا وردها استقبله محمد بن سعود، جدّ السعوديّين، وتمّ الإتفاق بين الأمير والشيخ على غرار ما كان بينه وبين أمير عيينة(1).
ومنذ ذلك الوقت، جعل ابن سعود يجهّز الجيوش لنصرته، ويؤلّب العساكر لترويج طريقته، حتى استقام أمره في الدرعية، فكتب إلى رؤساء بلاد نجد وقبائلها وقضاتها يطلب منهم الطاعة والانقياد، فأجابه قوم وردّه آخرون، فجهّز الجيش من أهل الدرعية، وقاتلهم، وقاتل جميع من خالفه من المسلمين، مغيرا على قبائلهم، منتهبا لأموالهم، متّهما إيّاهم بالكفر لمخالفته. وكانت الغنائم توزَّع على وفق ما يراه الشيخ مناسبا، وكان كلّ من يقبل التوحيد بالمعني الّذي يدعوإليه ابن عبد الوهاب يحفظ بذلك دمه وماله، وكلّ من لا يقبله يُهدر دمه ويُباح ماله، ويتمّ التعامل معه تماما كما لوأنّه كان كافرا حربيّا.
ص: 184
وهكذا امتدّت غزوات الوهابيّين وحروبهم منطلقةً من المباني الفكريّة لمذهب شيخهم في داخل نجدٍ وخارجها، من الحجاز إلى اليمن وسوريا والعراق. وبالرغم من وفاة محمد بن عبد الوهاب سنة (1206ﻫ.ق)، إلاّ أنّ الوهابيّين استمرّوا على العمل بطريقته الدمويّة.
وفي العام (1216ﻫ.ق) جهّز عبد العزيز بن محمّد بن سعود جيشا جرّارا منأعراب نجد، بإمارة ابنه سعود، دخل به العراق وحاصر كربلاء، وأعمل في أهلها السيف، فقتلوا كلّ من وجدوهم، وارتفع عدد الضحايا، ثمّ قاموا بهدم قبر الإمام الحسين (علیه السلام) ونهبوا جميع ما في خزانة المشهد الشريف من النفائس الثمينة.(1)
1) الأصل الأساس في الفكر الوهابىّ، -تبعا لابن تيمية- هوالإيمان بقراءةٍ خاصّةٍ لهم في مجال التوحيد، فقد تمسّك هؤلاء بظواهر الآيات والروايات فأثبتوا لله تعالى أعضاء وجوارح، ومن جملة هذه الروايات: الروايات التي تتحدّث عن أنّ الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في كلّ ليلة، فيقول: هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ فقد حملوها على ظاهرها فاعتقدوا أنّ الله تعالى يترك عرشه فعلاً وينزل إلى السماء الدنيا. ومن الآيات: قوله تعالى: )وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّا صَفّا( [الفجر / 22]، التي استفادوا منها: نسبة المجى ء إليه تعالى. وقوله تعالى: )وَنَحْنُ
ص: 185
أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ( [ق / 16]، التي استفادوا منها أنّ الله تعالى قريب من الإنسان بالقرب المكاني.
2) وقد صنّف الوهابيّون وتبعا لابن تيمية أيضا الروايات الواردة في زيارة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في خانة الروايات الموضوعة والمختلقة، واعتقدوا بأنّ كلّ من يُثبت للنبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) بعد وفاته حياةً، كتلك التي كانت له أثناء حياته فقد ارتكب خطأً فاحشا.(1)وقد تصدّى جمع كبير من علماء أهل السنّة للردّ على عقائد محمّد بن عبد الوهّاب منذ أن أعلنها أمام الملأ، ومن بين هؤلاء العلماء: والده عبد الوهّاب، وأخوه سليمان بن عبد الوهّاب في كتاب (الصواعق الإلهيّة في الردّ على الوهابيّة). وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ محمّد بن عبدالوهّاب لم يكن مبتكرا ومؤسّسا لمذهبٍ جديد، وإنّما كان يروّج لنفس الأفكار التي طرحها قبله كلّ من ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم.
وكذلك، فقد تصدّى علماء الشيعة وفقهائهم للردّ على أفكار ابن وهاب والإجابة عن معتقداته، وأوّل من تصدّى لذلك منهم هوالشيخ جعفر كاشف الغطاء (1228ﻫ.ق) في كتابه: «منهج الرشاد».
ص: 186
1) مؤسس المذهب الظاهری
2) منطلق انتشار المذهب الظاهری.
3) الأسس الرئيسيّة للمذهب الظاهری.
4) إطلالة على بعض آراء المذهب الظاهری.
5) نماذج من الفتاوى الخاصّة بالمذهب الظاهری.
يُنسب المذهب الظاهري إلى داود بن علي الاصفهاني المشهور ب-(داود الظاهري)، (202-270ﻫ.ق). وقد نشأ ببغداد(1) وتعلّم فيها، رحل إلى نيسابور ثمّ عاد إلى بغداد واشتغل بالفقه. كان داود الظاهري متعصّبا للمذهب الشافعي، فتلقّى فقهه
ص: 187
منه، غير أنّه كان لا يرى القياس مصدرا للتشريع مطلقا، ویعتقد أنّ عمومات الكتاب والسنّةتفي بكلّ أحكام الشريعة. وقد قيل له: كيف تبطل القياس وقد أخذ به الشافعي؟ فقال: أخذتُ أدلّة الشافعي في إبطال الاستحسان فوجدتها تبطل القياس.
وبذلك برز المذهب الظاهرى الّذي يقول بظاهر الشريعة، وبأخذ الأحكام من ظواهر النصوص من غير تعليلٍ لها، فسمّي داود هذا ب-(الظاهري)؛ لأنّه أوّل من أظهر القول بظاهريّة الشريعة ولزوم الاعتماد على ما هوالظاهر من النصّ، من دون تأويلٍ فيه، ولا بحثٍ عن التعليل.(1)
وقد انتشر المذهب الظاهري بالرغم من معارضة الكثيرين له، وكان لانتشاره عاملان:
أوّلهما: كتب داود الظاهري.
وثانيهما: تلامذة داود الظاهري. وكان من أخصّ تلامذته ابنه أبوبكر محمّد بن داود، الّذي قام بنشر مؤلّفات أبيه ودعا الناس إليها.(2)
يقول صاحب «أحسن التقاسيم»: المذهب الظاهري بعد مذهب الشافعيّ وأبي حنيفة ومالك، كان رابع مذهب في القرن الرابع في الشرق. ففى الشرق كان أكثر
ص: 188
انتشارا واتّباعا من مذهب حنبل في القرن الرابع. ولكنّ القاضي أبايعلي في القرن الخامس زحزح المذهب الظاهري عن هذه المكانة وأحلّ محلّه مذهب أحمد بنحنبل.(1) هذا في المشرق. وأمّا في المغرب: فقد انتقل المذهب الظاهرى إلى الأندلس عن طريق علمائها، وكان من بين هؤلاء أمثال: ابن حزم، والقاضي خطيب الأندلس منذر بن سعيد (355ﻫ.ق). ويمكن القول: أنّ الإنتشار الحقيقي للمذهب الظاهري تحقق على يد ابن حزم.
هوعلي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، عالم الأندلس في عصره (384-456ﻫ.ق). کان يستنبط الأحكام من الكتاب والسنّة. له مؤلّفات منها: «الملل والنحل»، «المحلّى»، «جمهرة الأنساب»، «الناسخ والمنسوخ».
وجدير بالذكر: أنّ ابن حزم وإن كان قد آثر المذهب الظاهري على سائر المذاهب إلاّ أنّه مع هذا، لا يُعدّ مجرّد تابع ومقلّد لداود الظاهري، فقد خالفه في مسألة خلق القرآن.
وقد اشتهر ابن حزم بميله إلى الأمويّين وحماسته لهم، ومناصبته العداء للعلويّين وبني هاشم.(2)
يعدّ كتابه «المحلّى» من أبرز المؤلّفات الفقهيّة لدى أتباع المذهب الظاهريّ،
ص: 189
وهوأكثر المصادر تداولاً بين فقهاء هذا المذهب، وهويمثّل، في حقيقة أمره، موسوعة فقهيّة مقارنة، فقد عرض ابن حزم فيه المسائل الفقهيّة بأدلّتها من الكتاب والسنّةوالإجماع؛ ولكنّه أنكر القياس، فلم يأخذ به في كتابه هذا، ومضافا إلى ذلك، فقد عرض فيه ما أُثِر من أقوال الصحابة والتابعين، وما عُلِم من مذاهب الفقهاء، كما أنّه استعرض في بدايته مسائل التوحيد وأصول الفقه.
ومن أعلام المذهب الظاهرى أيضا: محي الدین بن عربى الحاتمي الطائي الأندلسي، الملقّب ب-(الشيخ الأكبر)، ولد في مرسية بالأندلس (560-638ه)، وتوفّي في دمشق. له نحومن أربعمائة كتاب ورسالة، أنكر عليه أهل المصر وعمل بعضهم على إراقة دمه.(1)
بالرغم من سعة علم داود بن علي وذكائه، إلاّ أنّ الفقهاء نفروا منه وابتعدوا عنه، وقد ذُكِر في وجه هذا النفور أمور:
1) انتحاله القول بظاهريّة النصّ.
2) جرأته البالغة وعدم تهيّبه عن المناقشة من أحد.
3) محاربته للتقليد وفتحه باب الإجتهاد، حتى جرّأ الناس على القول في الدين.
4) قوله بخلق القرآن، وهوما كان كافيا لاتّهامه بالإبتداع.(2)
ص: 190
ذُكر للمذهب الظاهري أصول أربعة أساسيّة:
القرآن هوالمصدر الأوّل للتشريع، وحجّيّة السنّة مستمدّة منه. والقرآن في إبلاغه للأحكام: تارةً يكون بيّنا بنفسه، كما في الكثير من أحكام النكاح والميراث، وأُخرى يحتاج إلى ما يبيّنه، وفي هذه الحالة، تكون السنّة هي من يبيّن القرآن. يقول ابن حزم:
القرآن «يختلف في الوضوح، فيكون بعضه جليّا، وبعضه خفيّا، فيختلف الناس في فهمه، فيفهمه بعضهم ويتأخّر بعضهم عن فهمه، كما قال عليّ بن أبيطالب (علیه السلام) : إلاّ أن يؤتى الله رجلاً فهما في دينه».(1)
يقول ابن حزم:
«لمّا بيّنّا أنّ القرآن هوالأصل المرجوع إليه في الشرائع، نظرنا فيه فوجدنا فيه إيجاب طاعة ما أمرنا رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ووجدناه يقول فيه واصفا لرسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) : )وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوإِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى( [النجم / 3-4]. فصحّ لنا بذلك أنّ الوحى ينقسم من الله عزّ وجلّ إلى رسوله (صلی الله علیه و آله و سلم) على قسمين:
ص: 191
أحدهما: وحى متلومؤلّف تأليفا معجز النظام، وهوالقرآن.
والثاني: وحي مرويّ منقول، غير مؤلّف ولامعجز النظام ولا متلوّ، لكنّه مقروء، وهوالخبر الوارد عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، وهوالمبيّن عن الله عزّوجلّ مراده منّا. قال الله تعالى: )لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ( [النحل / 44].
ووجدناه تعالى قد أوجب طاعة هذا القسم الثاني كما أوجب طاعة القسم الأوّل،الّذي هوالقرآن، ولا فرق».
والسنّة عنده تنقسم إلى قسمين: متواترة وآحاد. ويقدّم المتواتر منها على الآحاد إذا تعارضا، ولم يمكن التوفيق بينهما. كما لا يقبل الظاهريّ الخبر المرسل، بل هولا يقبل الحديث إلاّ إذا صرّح الصحابىّ بنسبته إلى النبىّ.(1)
تعدّ النصوص جوهر الخلاف بين الجمهور من العامّة وبين الظاهريّة. فقد رأى الجمهور أنّ لكلّ نصٍّ من نصوص الشريعة مقصدا وغاية، ومن هذا المنطلق، قالوا بلزوم أن يُحمل كلّ ما استجدّ من أحداث ولم يوجد نصّ يحكمه على ما وُجد فيه نصٌّ يحكمه، شرط أن يتّحدا في المقصد والغاية. وأمّا الظاهريّة فرأوا أنّ كلّ نصٍّ مقصور على موضوعه ولا يتجاوزه إلى غيره، فالظاهرىّ لذلك لا يفكّر أصلاً في علّةٍ يمكن أن تُستنبط من النصّ، بل هولا يحلّل ولا يحرّم إلاّ على أساس نصٍّ ورد لسببٍ معيّن.
ص: 192
يقول ابن حزم:«ولسنا نقول: إنّ الشرائع كلّها لأسباب، بل نقول: ليس منها شيءٌ لسببٍ إلاّ ما نصّ منها أنّه لسبب، وما عدا ذلك فإنّما هوشيءٌ أراده الله تعالى، الّذي يفعل ما شاء، ولا نحرّم ولا نحلّل، ولا نزيد ولا ننقص، ولا نقول إلاّ ما قال ربّنا، ونبيّنا (صلی الله علیه و آله و سلم) ، ولا نتعدّى ما قالا، ولا نترك شيئا منه، وهذا هوالدين المحض الّذي لا يحلّ لأحدٍ خلافه ولا اعتقاد سواه، وبالله تعالى التوفيق. وقد قال الله تعالى واصفا لنفسه:)لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ( [الأنبياء / 23]».(1)
إنّ الظاهريّة مع عدم تعليلهم للنصوص وإنكارهم له أخذوا بما سمّوه: (الدليل الّذي يعتمد على صريح النصّ)، وهولايعدّ عندهم باباً من أبواب القياس. قال ابن حزم بالنسبة إلى هذا الأصل:
«ظنّ قوم بجهلهم أنّ قولنا: بالدليل، خروجٌ منّا عن النصّ والإجماع، وظنّ آخرون أنّ القياس والدليل واحد، فأخطأوا في ظنّهم أفحش خطأ»؛ وذلك لأنّ «الدليل مأخوذٌ من النصّ ومن الإجماع، فأمّا الدليل المأخوذ من الإجماع: فهوينقسم أربعة أقسام، كلّها أنواع من أنواع الإجماع، وداخلةٌ تحت الإجماع وغير خارجة عنه». وهي:
أ. استصحاب الحال.
ب. أقلّ ما قيل، وقد مثّلوا له بدية الكتابى، فإنّ فيها أقوالاً ثلاثة: أوّلها: أنّ ديته مثل دية المسلم، والثاني: أنّها نصفها. والثالث: ثلثها. فأثبتوا الدية بأقلّ ما قيل، وأجازوا
ص: 193
الأخذ به لأنّ فيه اجتماع الأمرين: الإجماع والبراءة الأصليّة.(1)
ج. إجماعهم على ترك قولةٍ ما.
د. إجماعهم على أنّ حكم المسلمين سواء، وإن اختلفوا في حكم كلّ واحدة منها.
وأمّا الدليل المأخوذ من النصّ، فهوينقسم أقساما سبعة، كلّها واقع تحت النصّ:
أحدها: مقدّمتان تنتجان نتيجةً ليست منصوصة في إحداهما، كقوله-: كلّ مسكرخمر، وكلّ خمرٍ حرام، النتيجة: كلّ مسكرٍ حرام. فهاتان المقدّمتان دليل برهانيّ على أنّ كلّ مسكر حرام.
وثانيها: شرط معلّق بصفة، فحيث وُجد فواجبٌ ما عُلّق بذلك الشرط، مثل قوله تعالى: )إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ( [الأنفال / 38]، فقد صحّ بهذا: أنّ من انتهى غفر له.
ثالثها: لفظ يُفهم منه معنى، فيُؤدّي بلفظٍ آخر، مثل قوله تعالى: )إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ( [التوبة / 114]، فقد فُهم من هذا فهما ضروريّا أنّه ليس بسفيه.
رابعها: أقسام تبطل كلّها إلاّ واحدا، فيصحّ ذلك الواحد، مثل أن يكون هذا الشى ء إمّا حراما فله حُكم كذا، وإمّا فرضا له حكم كذا، وإمّا مباحا فله حكم كذا، فليس فرضا ولا حراما فهومباحٌ له حكم كذا.
خامسها: قضايا واردة مدرجة، فيقتضى ذلك أنّ الدرجة العليا فوق التالية لها بعدها، وإن كان لم ينصّ على أنّها فوق التالية، مثل قولك: (أبوبكر أفضل من عمر،
ص: 194
وعمر أفضل من عثمان)، فأبوبكر بلا شكّ أفضل من عثمان.
سادسها: أن نقول: (كلّ مسكر حرام)، فقد صحّ بهذا أنّ بعض المحرّمات مسكر.
سابعها: لفظ تنطوى فيه معانٍ جمّة، مثل قوله تعالى: )كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ( [آل عمران / 185]، فصحّ من ذلك أنّ زيدا يموت، وأنّ هندا تموت، وأنّ عمرا يموت، وهكذا كلّ ذى نفس، وإن لم يذكر نصّ اسمه.
قال ابن حزم بعد أن استعرض هذا الكلام: «فهذه هي الأدلّة التي نستعملها، وهيمعاني النصوص ومفهومها، وهي كلّها واقعة تحت النصّ وغير خارجة عنه أصلاً».(1)
ترك الظاهريّة الأخذ بالرأى من قياس ومصلحة واستحسان وذرائع عند عدم النصّ، وأخذوا بالاستصحاب. ومعناه عندهم: بقاء الحكم المبنيّ على النصّ حتى يُوجد دليلٌ من النصوص بغيره.
وقد قرّر ابن حزم: أنّ الأشياء كلّها على الإباحة، إلاّ ما جاء به نصّ ثابت على تحريمه. قال الله تعالى: )ولَكُمْ فِى الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ( [البقرة / 36]، فأباح الله تعالى الأشياء بقوله: إنّها متاع لنا، ثمّ حظر ما شاء، وكلّ ذلك بشرع.(2)
ص: 195
قال ابن حزم: «وأنّ الله تعالى يراه المسلمون يوم القيامة، بقوّة غير هذه القوّة، قال عزّوجلّ: )وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ( [القيامة / 22-23]».(1)
أنّ الخلافة لا تجوز إلاّ في قريش، لقوله (صلی الله علیه و آله و سلم) -فيما رواه الشيخان-: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقى من الناس اثنان». وأنّه لا يجوز أن يكون في الدنيا أكثر من إمامٍ واحد، وأنّ من مات ليلةً وليس في عنقه بيعة، فقد مات ميتة جاهليّة، ولا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، ولا يجوز التردّد بعد موت الإمام في اختيار إمامٍ آخر أكثر من ثلاث.(2)
أنّ الإجماع هوما تيقّن أنّ جميع أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) عرفوه وقالوا به ولم يختلف أحد فيه، كتيقّننا بأنّهم كلّهم قد صلّوا مع رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) الصلوات الخمس. ومن ادّعى أنّ غير هذا هوإجماع كُلّف البرهان على ما يدّعي، ولا سبيل إليه. وكذلك، فلا سبيل إلى تيقّن إجماع جميع أهل عصر بعد الصحابة.(3)
ص: 196
لا يجوز الرجوع إلى عمل أهل المدينة ولا غيرهم.(1)
لا يحلّ القول بالقياس في الدين، ولا بالرأى؛ لأنّ أمر الله عند التنازع، هوالردّ إلىكتابه وإلى رسوله، فمن ردّ إلى القياس أوإلى التعليل أوإلى الرأي، فقد خالف الأمر. وقد روي عن ابن مالك الأشجعى أنّه قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : «تفترق أمّتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمهم فتنة على أمّتي قوم يقيسون الأمور بآرائهم، فيحلّون الحرام، ويحرّمون الحلال».(2)
التقليد، ويعتبره بدعة، ويرى أنّ العامّيّ لا يلزمه أن يقلّد مذهبا معيّنا، وإنّما عليه أن يتعرّف على حكم الله، ولوبالسؤال ممّن يبيّن له الحكم مسندا إلى نصٍّ أودليل، لا مسندا إلى إمامٍ أوفقيه، ولذا فإنّ أهل الظاهر لايعتبرون أنفسهم أصحاب مذهب يُتّبع.(1)
أقول:
إنّ الظاهريّة وإن كانوا ينكرون التقليد ويعدّونه بدعة، إلاّ أنّ ما ذهبوا إليه من القول بلزوم المنع من التقليد لا صحّة له بوجه من الوجوه؛ وذلك لاستلزامه الفوضى والهرج والمرج في معارف الدين وتعاليمه؛ إذ ليس التقليد إلاّ عبارةً عن القاعدة المعمول بهالدى العقلاء كافّةً، وفي جميع الفنون والعلوم، وهى قاعدة: لزوم الرجوع إلى أهل الخبرة، في أيّ مجالٍ من المجالات، فإن كان الشخص هونفسه من أهل الاختصاص والخبرة، فبها ونعمت، وإلاّ تعيّن عليه الرجوع إلى المختصّين ومن هم ذووخبرةٍ فيه. وإذا كانت هذه هي حقيقة التقليد فيتّضح أنّه أمرٌ لا بدّ منه ولا محيص عنه.
1) أنّ سؤر الخنزير طاهر، فيجوز شربه والوضوء منه، ولكنّ سؤر الكلب نجس، وتطهير الإناء الّذي وقع فيه سؤر الكلب لا يكون إلاّ بغسله سبعا، يجب في إحداهنّ أن تكون بالتراب الطاهر؛ لأنّ النصّ قد ورد بذلك.(2)
ص: 198
2) كلّ عقد أوشرط لم يثبت بنصٍّ أوبإجماع، فليس صحيحا، لقوله (صلی الله علیه و آله و سلم) : «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهوردّ». ويعلّق ابن حزم على هذا الحديث قائلاً:«فصحّ بهذا النصّ بطلان كلّ عقدٍ عقده الإنسان والتزمه، إلاّ ما صحّ أن يكون عقدا جاء النصّ أوالإجماع بإلزامه باسمه، أوبإباحة التزامه بعينه».
فبهذا يظهر: أنّ فقه الظاهريّة فيه تضييقٌ على الناس، خاصّة في المعاملات التي تجرى بينهم كلّ يوم،(1) ويعدّ هذا واحدا من العوامل المهمّة التي أدّت إلى إعراض الناس عن هذا المذهب.
ص: 199
ص: 200
والكلام يقع فيه في أمور:
شهدت الفترة الزمنيّة الممتدّة ممّا بعد عصر الصحابة والتابعين وإلى أواسط القرن الرابع نشاطا فقهيّا ملحوظا في مذهب أهل العامّة، حيث ظهر فيها العديد من المذاهب والمدارس، وقد ظهرت هذه المذاهب في مناطق مختلفة، وكان منها ما استطاع أن يحشد لنفسه أتباعا كثرا، ومنها ما كان له القليل من الأتباع والمؤيّدين.
ومن بين هذه المذاهب التي برزت في تلك الحقبة: المذاهب الأربعة التي أشرنا الیها في (المبحث الثالث) والتي ذكرنا أنّه لا يزال لها أتباع ومؤيّدون ومقلّدون في عالمنا الإسلاميّ المعاصر.
وأمّا أهمّ المذاهب المتروكة وأشهرها فهی:
1) مذهب «سفيان بن سعيد الثوري» (90-161ﻫ.ق) في الكوفة.
2) مذهب «الحسن بن يسار البصري» (21-110ﻫ.ق) في البصرة.
ص: 201
3) مذهب «عبد الرحمن بن عمروالأوزاعي» (88-157ﻫ.ق) في الشام.4) مذهب «إبراهيم بن خالد الكلبي» (ابن ثور) (244ﻫ.ق).
5) مذهب «داود بن علي الاصفهاني» (الظاهري) (201-270ﻫ.ق) -الّذي مرّ ذكره- في بغداد.
6) مذهب «محمد بن جرير الطبري» (224-310ﻫ.ق) في بغداد.
إلى غير ذلك من المذاهب التي ذاع صيتها في البلاد، والتي نال أئمّتها رتبة المرجعيّة في الفتيا والأحكام. وقد كان لكلّ واحد منهم أتباع من المسلمين، قليلون أوكثر، وكانت فتاواهم معمولاً بها على مدى السنين، إلى أن تعرّضت تلك المذاهب للهجران وتُرِكت بذهاب أهلها.(1)
بدأ عصر التقليد وانسداد باب الإجتهاد في المذاهب الإجتهاديّة والفقهيّة عند العامّة في النصف الثاني من القرن الرابع تقريبا، فمنذ تلك الفترة، وشيئا فشيئا، انتشر بين الناس اعتقاد بأنّ من الواجب على كافّة المسلمين أن يرجعوا في جميع أحكامهم إلى أحد المذاهب الأربعة: الحنفيّ، والمالكيّ، والشافعيّ، والحنبلي، بلا فرقٍ في
ص: 202
هذه الأحكام، بين ما كان منها فرديّا أواجتماعيّا، عباديّا أوقضائيّا، اقتصاديّا أوسياسيّا، أوغير ذلك؛ كما ساد الاعتقاد بأنّه لا يجوز للمسلمين أن يقلّدوا في شيءٍ من هذهالأحكام مجتهدين ينتمون إلى سائر المذاهب الفقهيّة الأُخرى.(1) وإن كانت الآثار التاريخيّة والعلميّة التي توفّرت لدينا من القرون اللاحقة - من القرن الرابع إلى القرن الثامن الهجري- تشير إلى أنّ بعض المذاهب استمرّت في الوجود، وكان لها أتباع، طيلة الفترة الممتدّة إلى القرن الثامن، ولوبشكلٍ متفرّق وجزئىّ. ولم تكن السيطرة التامّة للمذاهب الأربعة المذكورة إلاّ منذ القرن الثامن فصاعدا، حيث تمكّنت هذه المذاهب من التأثير والهيمنة على السلطة التشريعيّة. نعم، سنشير لاحقا إلى أنّ عددا من علماء العامّة عُرِفوا بالاجتناب عن التقليد والإصرار على فتح باب الإجتهاد، وذلك على امتداد تاريخ هذه المذاهب الفقهيّة.(2)
ومن الناحية التاريخيّة، يرى عدد من الباحثين أنّ عهد الخليفة العبّاسي: القادر بالله، الّذي تسلّم سدّة الخلافة عام (381ﻫ.ق)، كان هوالعصر الّذي شهد وضع حجر الأساس لفكرة حصر الإجتهاد. حيث أصدر القادر بالله مرسوما يطلب فيه من أربعةٍ من فقهاء هذه المذاهب أن يدوّن كلٌّ منهم كتابا مختصرا يدوّن فيه آرائه الفقهيّة، وبعد أن تمّ تدوين هذه الكتب المختصرة التي أمر بها، أصدر القادر بالله مرسوما آخر طلب فيه من جميع الناس أن يعملوا على وفق ما هوموجود في هذه الكتب، وأن يتركوا العمل بكلّ ما سواها. وكان الهدف الباعث له على إصدار هذا المرسوم
ص: 203
هوالتقليل من النظريّات والآراء في الأحكام الشرعيّة، لئلاّ توجب كثرة الخلاف قلّة الوثوق بالشريعة المقدّسة. ومن المعروف أيضا: أنّ القادر بالله طلب للسيّد المرتضى (355-436ﻫ.ق) مبلغا من المال لودفعه لأقرّت دولة بني العبّاس بمذهب التشيّع كواحدٍ من المذاهب الرسميّة في البلاد، ولأجازت العمل على وفق آرائه كما أجازته على وفق سائر المذاهب الأُخرى، إلاّ أنّ المرتضى (رحمه الله) ولأسبابٍ عدّة، لم يتمكّن من دفع ذلك المقدار من المال.(1)
ومن جهة أخری، فقد أدّى مرسوم الخليفة هذا إلى أن تتقرّر المذاهب الأربعة التي تمكّن أربابها من دفع المقدار المحدّد لهم من المال كمذاهب رسميّة للدولة آنذاك، فراجت وانتشر العمل بها في أوساط عامّة الناس، ولكنّ هذا المرسوم، من جهةٍ أُخرى، أدّى إلى انزواء سائر المذاهب أواندراسها. فإنّ الخليفة العبّاسيّ آنذاك، وإن لم تكن له سلطة وقدرة سياسيّة صارمة ومقتدرة، إلاّ أنّه استطاع أن یقدم نفسه بصورة السياسيّ الروحيّ، ویحافظ على طابع القداسة الدينيّة في أوساط عامّة الناس، فتمكّن بذلك من إقناع الناس بالتعامل معه على أساس أنّه قائدهم الدينيّ ومرشدهم الروحيّ، الأمر الّذي جعل الناس يتلقّون أوامره والمراسيم الصادرة عنه على أنّها تمثّل رأى الدين وحكم العقيدة.(2)
ومنذ أواخر القرن الرابع وإلى زمان سقوط بغداد (656ﻫ.ق) وانقراض الخلافة العبّاسيّة على يد هولاكو، والمذاهب الأربعة تشهد ازديادا تدريجيّا لانتشارها واشتداد
ص: 204
قدرتها، وفي المقابل استمرّت المذاهب الأُخرى في الاتجاه تدريجيّا أيضا نحوالمزيد من الضعف والانزواء.ومن المناسب هنا أن نستعرض إحدى الوثائق التاريخيّة التي تتحدّث عن بعض الحوادث التي جرت سنة (631ﻫ.ق) والتي تصوّر بشكلٍ جيّد كيف سادت فكرة انسداد باب الإجتهاد أواخر الخلافة العبّاسيّة وقبل سقوط بغداد:
يقول المؤرّخ (ابن الفوطي)، الّذي يصفه الشيخ آغا بزرک الطهراني ب-(نابغة العراق)، في كتابه (الحوادث الجامعة) في وقائع سنة (631ﻫ.ق)، في كيفيّة افتتاح المدرسة المستنصريّة في بغداد في جمادى الثانية من هذه السنة:
«وكان الشروع في بنائها بأمر المستنصر بالله في سنة (625ﻫ.ق)، وقد تولّى عمارتها أستاذ الدار (مؤيّدالدين أبوطالب محمد بن العلقمي)، وقسّمت يوم افتتاحها على أربعة أقسام. فسلّم الربع القبليّ الأيمن إلى الشافعيّة، والربع الأيسر إلى الحنفيّة، والربع الثالث يمنة الداخل للحنابلة، والميسرة للمالكيّة، وتُخُيِّر لكلّ مذهب اثنان وستّون نفسا من الفقهاء الّذي يقرأون الفقه والأحكام، فيكون مجموع الطلبة المتفقّهة في المدرسة مائتين وثمانية وأربعين نفسا، ورُتِّب لهم مدرّسان: أحدهما من الشافعيّة، والثاني من الحنفيّة، ونائبا مدرّس: أحدهما حنبليٌّ والآخر مالكىّ، ولكلّ واحدٍ من هؤلاء مشاهرات وجرايات ورواتب مطبوخة وغير مطبوخة، وكذلك عُيِّن عدّة القرّاء، وعدّةٌ لتعليم الحديث، وعدّةٌ لتعلّم الطبّ، وكانت المدرسة تحت النظارة والتغيير والتبديل للأشخاص الداخلين أوالخارجين إلى سنة (645ﻫ.ق) وفي هذه السنة أحضروا المدرّسين الأربعة الموظّفين لتدريس الفقه على المذاهب الأربعة، وألزموهم أن لا يذكروا شيئا من تصانيف أنفسهم للطلبة المتفقّهين عندهم، وأن لا
ص: 205
يُلزموهم بحفظ شيءٍ من تلك التصانيف، بل يقتصرون على ذكر كلام المشايخ القدماء، تأدّبا معهم، وتبرّكا بهم. فأجاب (جمال الدين أبوالفرج عبدالرحمن بن محيى الدين يوسفبن الجوزىّ) بالسمع والطاعة، وهوالذي كان محتسبا في بغداد أوّلاً، ثمّ قام مقام والده (محيى الدين يوسف بن الجوزىّ) في تدريس الحنابلة في المدرسة المذكورة، وهومتأخّر عن (أبى الفرج عبد الرحمن بن على بن محمّد بن الجوزىّ) الواعظ المتوفّى سنة (597ﻫ.ق) ثمّ أجاب مدرّس المالكيّة، وهو(سراج الدين عبدالله الشرماحى)، وأظهر القبول أيضا. وأمّا (شهاب الدين الزنجانيّ) مدرّس الشافعيّة، وأقضى القضاة (عبدالرحمن اللمغاني) مدرّس الحنفيّة، فامتنعا عن ذلك، وأجابا بما معناه: أنّ المشايخ كانوا رجالاً، ونحن رجال، ونحوذلك من الكلام المُوهم للمساواة بينهم وبين المشايخ القدماء، وكان إحضار المدرّسين في دار الوزير (مؤيّدالدين محمّد بن العلقمىّ)، الّذي تولّى عمارة المدينة في أيّام كونه أستاذ الدار، فأنهى الوزير صورة الحال إلى حضرة الخليفة المستعصم، فتقدّم الخليفة بأن يلزموا المدرّسون (المدرّسين) بذكر كلام المشائخ واحترامهم، فأُلزِموا بذلك، فأجابوه جميعا بالسمع والطاعة»، انتهى المحصّل من كلام ابن الفوطى مع التوضيح والبيان.(1)
إنّ كلام ابن الفوطيّ هذا، والّذي يصوّر فيه وضعيّة الإجتهاد في القرن السابع في مركز الخلافة وفي شرق العالم الإسلامىّ، يعود إلى احد عشر عاما سبقت سقوط
ص: 206
بغداد عام (656ﻫ.ق) ومقتل الخليفة العبّاسيّ المستعصم بالله.
وأمّا وضعيّة الإجتهاد في ذلك الزمان في غرب العالَم الإسلامىّ فنستطيع أن نتبيّنها من خلال وثيقة للمؤرّخ الشهير المقريزيّ في كتابه: (الخطط المقريزيّة) بعد أن ذكرأنّ تاريخ انتشار المذهبين المالكيّ والشافعيّ في مصر يعود إلى العامين (163 و198ﻫ.ق)، وبعد أن بيّن أنّ المذهبين الحنفيّ والحنبليّ لم يعرفا طريقهما ولم يدخلا إلى مصر:
«وكان المذهب في مصر لمالك والشافعيّ، إلى أن أتى القائد (جوهر) بجيوش مولاه (المعزّ لدين الله أبي تميم معد) الخليفة الفاطمىّ إلى مصر سنة (358ﻫ.ق) فشاع بها مذهب الشيعة، حتى لم يبقَ بها مذهب سواه».
ثمّ يشير المقريزيّ بعد ذلك إلى التاريخ الذي جُعلت فيه المذاهب الأربعة مذاهب رسميّةً في مصر، فيقول:
«ثمّ في عصر (بيبرس البندقدارى) ولى مصر أربعة قضاة: شافعيّ ومالكيّ وحنفيّ وحنبليّ. فاستمرّ ذلك ولاية القضاة الأربعة من سنة (665ﻫ.ق) حتى لم يبقَ في مجموع أمصار الإسلام مذهبٌ يُعرف من مذاهب الإسلام سوى هذه الأربعة، وعُودى من تمذهب بغيرها، وأُنكر عليه، ولم يُوَلَّ قاضٍ ولا قُبِلت شهادة أحد، ما لم يكن مقلِّدا لأحد هذه المذاهب. وأفتى فقهاؤهم في هذه الأمصار في طول هذه المدّة بوجوب اتّباع هذه المذاهب وتحريم ما عداها، والعمل على هذا إلى اليوم».(1)
ص: 207
وكان بيبرس ملك مصر قد استدعى أحمد بن علىّ أحد المنتسبين إلى البيت العبّاسىّ الذين فرّوا إلى حلب بعد سقوط بغداد إلى مصر وبايعه خليفةً للمسلمين. لُقّب أحمد بن عليّ هذا باسم (الحاكم بأمر الله) واستلم الخلافة في القاهرة عام(661ﻫ.ق)، فكان أن أحيا خلافة العبّاسيّين، ولكن هذه المرّة في مصر. نصّب الحاكم بأمر الله، وبموافقة من الملك بيبرس، أربعة قضاة: حنفيٍّ ومالكيٍّ وشافعيٍّ وحنبليّ، في مصر والشام، الأمر الّذي لعب دورا في تكريس عنوان لزوم العمل على طبق هذه المذاهب الأربعة. وعلى هذا الأساس، لم يُوَلَّ من سائر المذاهب قاضٍ، ولا خطيب، ولا إمام جمعة وجماعة، ولم تُقبل منهم شهادة شاهد، ولا عُيِّن من أحد منهم مدرّس، بل جُعل اتّباع واحدٍ من المذاهب الأربعة شرطا أصليّا لتولّي هذه المناصب في جميع أقطار العالَم الإسلامىّ، الأمر الّذي أدّى إلى انسداد باب الإجتهاد وانحصاره نهائيّا في تلك المذاهب الأربعة.(1)
وقد اتّضح على ضوء ما ذكرناه:
أنّ السلطة السياسيّة في دولة الخلفاء والسلاطين كان لها أكبر الأثر في انسداد باب الإجتهاد في مذاهب أهل العامّة، وقد تحقّق ذلك على مرحلتين: تبدأ الأُولى منهما من أواسط القرن الرابع وتنتهى بسقوط بغداد (656ﻫ.ق)، وتبدأ المرحلة الثانية من سقوط بغداد وحتى وقتنا الحالى.(2)
ص: 208
إنّ السبب الأصلىّ لهذه الظاهرة التي أثّرت في المجتمع بكافّة طبقاته، وجعلت فقهاء المذاهب الأربعة من كبار الأئمّة الذين لا يمكن الارتقاء والوصول إليهم، يمكن البحث فیه من زاويتين: فتارةً نبحث عنها من زاوية الظروف الإجتماعيّة السياسيّةوالعوامل التاريخيّة التي أدّت إلى هذا الانسداد، وأبعاد علم الاجتماع، وأُخرى من زاوية البعد الفقهيّ وعلى ضوء المباني الإجتهاديّة لهذه المذاهب.
ونتعرّض فيما يلي لدراسة هذه العلّة من الزاويتين المذكورتين، فنقول:
فيما يتعلّق بالبعد السياسيّ والاجتماعيّ يذكر المحققون أنّ هناك عوامل عديدة كان لها الدور الكبير في انسداد باب الإجتهاد لدى مذاهب أهل العامّة. وأهمّ هذه العوامل:
بعد منتصف القرن الرابع الهجريّ، بدأ الضعف يدبّ في جسد الدولة العبّاسيّة، وتمزّقت وحدة كلمتها، وتعرّضت للتقسيم إلى دويلات، وأخذت عوامل التفرقة والتشتّت تسرى في كيانها، ممّا أدّى إلى انشغال الملوك والسياسيّين وغفلتهم عن تشجيع حركة الإجتهاد وتأييدها، واستتبع ذلك موت مظاهر الاستقلال الفكرىّ عندی الفقهاء، الذي في ركونهم إلى التقليد وابتعادهم عن الإجتهاد.(1)
ص: 209
حصر فقهاء هذا العصر أبحاثهم في دائرةٍ ضيّقة، وذلك في حدود مذهب الفقيه السابق. ووصل بهم هذا التعصّب إلى درجة أنّهم يعتبرون عبارات أئمّة مذاهبهمنصوصا في الفقه لا يُرجع عنها إلى نصٍّ قرآنيّ أوحديث نبويّ، بل ربّما عملوا على العكس من ذلك، فاعتبروا عبارة إمامهم أساسا لتفسير القرآن والسنّة. فهذا عبيدالله الكرخيّ من أعيان الحنفيّة يقول:
«كلّ آية تخالف ما عليه أصحابنا فهى مؤوّلة أومنسوخة، وكلّ حديثٍ كذلك فهومؤوّل أومنسوخ».(1)
فقد التزم كلّ واحدٍ من علماء هذا العصر مذهبا معيّنا لأحد أئمّة المذاهب لا يحيد عنه ولا يتعدّاه، مع أنّ نفس هؤلاء الأئمّة لم يكن يخطر ببالهم أنّ العصمة ثابتة لهم فيما يجتهدون فيه، بل كانوا هم أنفسهم يعترفون بجواز الخطأ عليهم، حتى رُوي عن غير واحدٍ منهم أنّه قوله: «إذا صحّ الحديث فهومذهبى، واضربوا بقولي عرض الحائط».
ولكنّ الفقهاء اللاّحقين جعلوا من أنفسهم مجرّد أتباعٍ ومقلّدين، فأماتوا بذلك روح الاستقلاليّة في أنفسهم وفي تفكيرهم واختياراتهم.(2)
ص: 210
نتيجةً للانحلال والضعف السياسيّ للدولة، وبسبب عدم وجود ضوابط موضوعيّة وحازمة، فقد تصدّى للقضاء والفتوى في تلك الدولة من لا يصلح لهما، من جهة ضعف المستوى العلمىّ وعدم اللياقة للاجتهاد والفتيا، الأمر الّذي أدّى إلى تقبّلفكرة سدّ باب الإجتهاد، وتقيّد المفتين والقضاء بأحكام الأئمّة الأربعة بحذافيرها، فكان أن عالجوا الفوضى الحاصلین بالتقليد والجمود، وعند حصول تعارض بين الأحكام الصادرة عن القضاة، فكانت الدولة تُلزِم القضاة وكلّ من يتصدّی للفتوى بالعودة إلى أحكام الأئمّة السابقة والتقيّد بها. وبعد أن كان الخليفة يختار أفراد الجهاز القضائيّ في البلاد من المجتهدين، أصبح القضاء منصبا يتولاّه الفقهاء من أتباع مذاهب معيّنة ممّن يتقيّدون في أحكامهم وقضائهم بأحكام أئمّة مذاهبهم ولا يخرجون عنها.(1)
وإلى جانب هذا الكلام الّذي ذكره عدد من المحقّقين، يجب ألا ننسى، ما ذكرناه سابقا أثناء الكلام عن مذهبى الحنفيّة والمالكيّة، أنّ هذين المذهبين، ومنذ بداية أمرهما، كانا مذهبى السلطة السياسيّة والنظام الحاكم، حتى أنّ الفترة الزمنيّة التي بلغت فيها الدولة العباسیّة أوج قدرتها وسلطتها وسيطرتها، تُعدّ فترةً ذهبيّةً بالنسبة إلى
ص: 211
المذهب الحنفيّ، فقد قام هارون الرشيد بتولية أبى يوسف تلميذ أبي حنيفة وتنصيبه على ولاية القضاء ببغداد، كما نقل التاريخ في كيفيّة تعاطيه مع هذا المنصب أنّه «كان لا يعيّن القاضي في الأقاليم إلاّ إذا اعتنق المذهب الحنفىّ».(1)
من هذا کله یظهر أنّ التفكير الفقهىّ في مذاهب العامّة تمّ توجيهه نحوسدّ باب الإجتهاد منذ القرن الثاني، بفعلٍ سياسات الخلفاء. والسّرّ في ذلك إنّ الحرّيّة فيالفكر والإجتهاد لم تكن من الممكن أن تنسجم مع ميول النظام السياسىّ الحاكم آنذاك؛ لأنّه نظام مبنيٌّ على القهر والاستبداد، ولأنّ السلطة الحاكمة كانت ترى أنّ مصالحها لا يمكن أن تتحقّق إلاّ في أجواء التقليد المحض، وفى إطارٍ ضيّق لا يتعدّاه التفكير العامّ للمسلمين من رعايا تلك الدولة. وهنا يبدولنا أنّ البحث عن جذور فكرة انسداد باب الإجتهاد والأسباب المؤدّية إليه يجب أن يتركّز على مرحلة ازدهار الدولة العبّاسيّة وقوّتها، لا على مرحلة ضعفها وانحطاطها.
قال الشيخ آغا بزرک الطهراني عند ذكره للعوامل المؤدّية لانحصار المذاهب بالأربعة المعروفة:
«إنّ كثرة اختلاف الآراء والإجتهادات التي لانهاية لها، وعجزهم عن رفع التخلی عن بعض المذاهب الأربعة لكثرة وقوع الفتن، وشدّة العصّبیات، بين أهلها، ألجأ الخلفاء إلى الحكم بالتقید بهذه المذاهب».
ص: 212
ويشهد للعجز عن أحد هذه المذاهب الأربعة: ما ذكره المقريزى في الخطط: من أنّ أبا حامد الاسفرائيني كتب إلى السلطان محمود سبكتكين في سنة (393ﻫ.ق) أنّ الخليفة نقل القضاء عن الحنفيّة إلى الشافعيّة، فثارت الفتن بين أصحابهما، حتى أدی الأمر إلى رجوع الخليفة عن رأيه، وسخطه على أبي حامد وحمله الحنفيّين على ما كانوا عليه».(1)
وقال في الجزء الأوّل من (معجم البلدان) في مادّة (أصفهان) ما لفظه: إنّه قد نشأالخراب في أصفهان في هذا الوقت وقبله، لكثرة التعصّب بين الشافعيّة والحنفيّة والحروب المتّصلة بين الحزبين المذهبین، فكلّما ظهرت طائفةً نهبت محلّة الأُخرى وأحرقتها وخربتها)،(2) فهذه الحروب الداخليّة والمشاغبات والفتن والتعصّبات اقتضت في سياسة الخلفاء إلزامهم الفقهاء على عدم الخروج عن أقوال المشایخ».(3)
يُعدّ شيوع الأمراض الخلقيّة والتحاسد والأنانيّة بین العلماء من أخطر وأهمّ العوامل التي أدّت إلى انسداد باب الإجتهاد. فكان العلماء إذا فتح أحدهم باب الإجتهاد لنفسه فتح على نفسه باب التشهير به، وحطّ أقرانه من قدره، وإذا أفتى في واقعةٍ برأيه قصدوا إلى تسفيه رأيه وتفنيد ما أفتى به بالحقّ وبالباطل، فلهذا كان العالِم منهم يتّقي كيد زمانه وتجريح الناس له بدعوى أنّه مقلّد وناقل، وليس مجتهداً ولا
ص: 213
مبتكراً، وبهذا ماتت روح النبوغ، وضعفت ثقة العلماء بأنفسهم من جهة، وثقة الناس به من جهةٍ أُخرى.(1)
إنّ كلّ واحدٍ من هذه العوامل المتقدّمة، يشكّل جزءا من العلّة التامّة الموجبة لظهور العمل بفكرة الانسداد، وعلى رأس هذه العوامل: خوف السياسة الحاكمة فی دولة الخلفاء من العلماء الأبرار والأحرار الذين يتمتّعون بأصالةٍ في الفكر، وبروحٍ الاستقلاليّة، الذين لا يركنون إلى الظالمين، ولا يخشون أحدا إلاّ الله.وممّا ينبغي ذكره هنا: أنّ المتعارف لدى علماء العامّة هوأنّهم يصطلحون على تقسيم الفقهاء إلى متقدّمين ومتأخّرين، ويريدون من المتقدّمين: العلماء الذين عاشوا قبل سقوط بغداد، وقبل عصر التقليد. والمراد من المتأخّرين: علماء ما بعد سقوط بغداد الذين عاشوا عصر تحقّق التقليد المحض.(2)
بالإضافة إلى العوامل السياسيّة والإجتماعيّة المتقدّمة التي أدّت إلى انسداد باب الإجتهاد لدى العامّة، فإنّ عددا من العلماء المتأخّرين نظّروا لهذه الفكرة، وعملوا على تنقيحها والاستدلال عليها تدريجيّا، وذلك عبر القول بأنّ فتح باب الإجتهاد في مثل هذه العصور محال، وأنّه لا يمكن لأحدٍ الوصول إلى رتبة الإجتهاد والحصول
ص: 214
على ملكته، وذلك لمكان هذه الفاصلة الزمنيّة البعيدة التي تفصلنا عن عصر التشريع، بل إنّ بعضهم ذهب إلى القول بأنّ الإجتهاد في هذه العصور الأخيرة أمر محرّم ولا مشروعيّة له. ونستعرض فيما يلي اقوالاً لعدد من العلماء الذين أدلّوا بآرائهم في هذه المسألة:
قال الكمال بن الهمام في كتابه (التحرير): «إنّ الإجماع انعقد على عدم العمل بمذهبٍ مخالفٍ للأئمّة الأربعة». وقال ابن النجيم في (الأشباه): «وما خالف الأئمّة الأربعة مخالف للإجماع».(1)وقال النوويّ: «ومن دهرٍ طويل عُدِم المجتهد المستقلّ، وصارت الفتوى إلى المنتسبين إلى أئمّة المذاهب المتبوعة».
وقال الرافعيّ: «الخلق كلّهم متّفقون على أنّه لا مجتهد اليوم».
وقال ابن خلدون في مقدّمته: «وقف التقليد في الأمصار عند هؤلاء الأربعة، ودرس المقلّدون لمن سواهم، وسدّ الناس باب الخلاف وطرقه لمّا كثر تشعّب الاصطلاحات في العلوم، ولِما عاق عن الوصول إلى رتبة الإجتهاد، ولِما خُشى من إسناد ذلك إلى غير أهله، ومن لا يُوثَق برأيه ولا بدينه، فصرّحوا بالعجز والإعواز، وردّوا الناس إلى تقليد هؤلاء...».
إلى غير ذلك من أقوال العلماء، كالغزاليّ والقرطبي، والحافظ ابن حجر، والفاضل
ص: 215
ابن عاشو،ر والشهاب الرملى، ومحمّد بن بخيت المطيعى وغيرهم.(1)
ومن مجموع كلمات وأقوال أصحاب نظريّة انسداد باب الإجتهاد وضرورة التقليد، يمكن لنا أن نستخرج الأدلّة التالية:
1) الإجماع على تقليد أئمّة المذاهب الأربعة، وأنّ الحقّ لا يخرج عنهم.
2) إنّ الإجتهاد في عهد الأئمّة الأربعة وأقرانهم قد استقرّت أصوله وثبتت قواعده، بحيث لم يُسَجَّل لأحدٍ بعدهم أنّه قد أتى بأيّ أصلٍ معتبر.
3) أنّه لم يثبت بلوغ أحدٍ من العلماء المتأخّرين عن الأئمّة الأربعة رتبة الإجتهاد، والمدّعون لذلك قلّة قليلة، والإجتهادات التي أبرزها هؤلاء جاءت قاصرةً ومليئةًبالأخطاء.
4) أنّ الإستقراء التامّ لأحوال العلماء بعد القرون الثلاثة الأولى يدلّنا على انعدام المجتهد المستقلّ بشهادة العلماء من أهل كلّ زمان.
5) إنّ انقطاع الإجتهاد جائز عقلاً وواقع فعلاً، فلا مجال لإنكاره.
في مقابل القول الأوّل، ذهب عدد من المفكّرين من علماء العامّة إلى بطلان نظريّة انسداد الإجتهاد وبطلان القول بتحريم الإجتهاد، وأعلنوا بصراحة جواز الإجتهاد
ص: 216
وإمكانه في كافّة العصور.
قال الشوكاني: إنّ القول بكون الإجتهاد فرضا يستلزم عدم خلوالزمان من مجتهد، ويدلّ على ذلك: ما صحّ عنه من قوله (صلی الله علیه و آله و سلم) : «لا تزال طائفة من أمّتي على الحقّ ظاهرين حتى تقوم الساعة».
وقالت الحنابلة: لا يجوز خلوالعصر من المجتهد، وبه جزم الأستاذ أبوإسحاق والزبيری. قال الزبيري: «لا تخلوالأرض من قائمٍ لله بالحجّة في كلّ وقتٍ ودهرٍ وزمان».
وقال ابن دقيق العيد: «والأرض لا تخلومن قائمٍ لله بالحجّة، لأنّ الشريعة لا بدّ لها من سالكٍ إلى الحقّ على واضح الحجّة، إلى أن يأتى أمر الله في أشراط الساعة الكبرى».
وقال محمد بن بخيت المطيعى: «إنّ الأدلّة الدالّة على وجوب التمسّك بالكتاب والسنّة والإجماع والقياس عامّة موجبة لاتفيده من الحكم من غير تخصيص شخصٍدون شخص، وعصرٍ دون عصر. إلى أن قال: ودعوى انقراض عصر الإجتهاد وانقضاء أهله دعوى لا دليل عليها».
وقال الشوكاني: «ولولم يحدث من مفاسد التقليد إلاّ هي -يعني انسداد باب الإجتهاد- لكان فيها كفاية ونهاية، فإنّها حادثة وقعت في الشريعة بأسرها، استلزمت نسخ كلام الله ورسوله وتقديم غيرهما واستبدال غيرهما بهما».(1)
ص: 217
قال ابن القيّم هذا (عدم خلوعصرٍ من مجتهد) هوالمراد من قول الرسول (صلی الله علیه و آله و سلم) : «إنّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنةٍ من يجدّد لها أمر دينها». وهم الذين قال فيهم الإمام على (علیه السلام) : «لن تخلوالأرض من قائمٍ لله بحجّته».
إلى غير ذلك من أقوال العلماء القائلين بإمكان الإجتهاد، وعدم خلوأىّ عصرٍ من مجتهد، كالزركشي، والعز بن عبدالسلام، ومحمد بن إبراهيم الوزير، وولىّ الله الدهلوى، والسيوطى وابن جماعة.(1)
ومن مجموع كلمات القائلين بإمكان الإجتهاد في جميع العصور يمكن استفادة الأدلّة التالية:
1) إنّ الإستقراء لأحوال العلماء في كلّ عصر يدلّنا على عدم خلوأيّ عصرٍ من المجتهدين.
2) إنّ القول بانعدام المجتهد يترتّب عليه ضلال وفساد كبير، لا سيّما أنّ الناس سينحرفون عن سنن الحقّ، وسيعجز الفقه عن مواكبة تطوّر الحياة ومشكلاتها، وتجدّدالمسائل والقضايا المختلفة.
3) إنّ الإجتهاد فرض كفاية في كلّ عصر، والقول بانعدامه في القرون المتأخّرة يجعل الأمّة غارقةً في هذه القرون في الإثم والمعصية.
4) أنّ القول بانعدام الإجتهاد باطل شرعا، لتواتر الأخبار الدالّة على عدم خلوالزمان من المجتهد.(2)
ص: 218
أهمّ دليل يتمسّك به القائلون بالانسداد هوالإجماع على عدم جواز الخروج عن المذاهب الأربعة.
ويمكن الخدشة في هذا الإجماع المدّعى من جهتین صغرىً وكبرى:
أمّا الصغرى: فلأنّه كيف يُمكن لأحدٍ أن يزعم إجماع الأمّة كافّةً على انسداد باب الإجتهاد، بینما ینکر ذلك كثيرون من علماء أهل السنّة؟ حیث ذهبوا كما عرفنا من الاقوال السابقة إلى القول بلزوم أن لا يخلوأىّ عصرٍ من العصور من وجود المجتهد الّذي ترجع إليه عامّة الناس بالتقليد، ثمّ كيف يمكن لدعوى الإجماع هذه أن تستقيم والحال أنّ كثيرا من المذاهب الأخرى، كالإماميّة والزيديّة والإسماعيليّة والأباضيّة وغيرهم، يخالفون ذلک ويرون جواز الإجتهاد وإمكانه في كلّ عصرٍ؟وأمّا الكبرى: فلأنّ هذا الإجماع ليس بحجّة، حتى ولوسُلِّم تحقّقه وكونه محصَّلاً، لأنّه إجماع منعقد على مستوى الباحثين والمحقّقين، ومعلوم أنّ الإجماع الحجّة إنّما هوالإجماع الّذي ينعقد لدى المجتهدين خاصّةً. ولذا قیل: «لیس لإجماع المحقّقين قيمة بين الأدلّة الشرعيّة، فهى محصورة في كتاب الله وسنّة رسوله وإجماع المجتهدين والقياس على المنصوص، ولم يعدّ أحد اجماع المحققین من الأدلّة
ص: 219
الشرعيّة».(1)
وأمّا الأدلّة الأربعة الأُخرى التي سيقت لإثبات الانسداد، فليس فیها ما یستحق الرد، إذ لا يمكن لأحدٍ أن يدّعى أنّ الإجتهاد قد بلغ حدّه النهائىّ في عصر المذاهب الأربعة، وأنّه لم يعد بالإمكان منذ ذلك الحين الوصول إلى نظريّاتٍ جديدة وأصولٍ أكثر حداثةً. فإنّ هذا الادّعاء يكذّبه:
أوّلاً: إنّ عصر المذاهب الأربعة هوبنفسه شهد بروز مذاهب ونظريّاتٍ أُخرى تنتمى إلى نفس مدرسة فقه العامّة، ولم يكن هناك من دليلٍ واحدٍ على تحريم اتّباع هذه المذاهب الأُخرى وتقليدها.
ثانياً: أنّ هذا الكلام لا يعدو أن يكون من التحجّر والجمود على أقوال الأقدمين، وإلاّ فكما أنّ البشريّة اکتسبت رشدا وكمالاً وتطوّرا ونموّا في كافّة العصور، وعلى مختلف الجوانب، فهى كذلك قادرة على النمو والتطوّر في مجال الإجتهاد الفقهىّ، لأنّ تطوّر العلم ونموالفكر البشرىّ يوفران أرضيّة صالحةً للوصول إلى إدراكٍ أفضلللكتاب والسنّة، وهذا ما يدفع نحوقراءةٍ أكثر عمقا ومتانةً لمنابع الإسلام ومصادره الأصيلة، من الكتاب والسنّة، ومع تكرّر هذه المحاولات الجادّة لإعادة النظر في هذه المصادر يمكن البلوغ إلى درجاتٍ أعلى من الإبداع في هذا المجال، إذ ما أكثر الدرر والكنوز القيّمة التي يحویها الكتاب الكريم والسنّة المباركة!! والتي لا یزال المسلمون يعيشون العجز عن استخراجها وإماطة اللثام عنها، لا سيّما وأنّ الدين الإسلامىّ
ص: 220
هوخاتم الأديان، وأنّ انفتاح باب الإجتهاد شرط لازم للخاتميّة.
ثالثا: كثيرة هی المسائل المستحدثة التي ظهرت حديثا، ولم يكن لها في القرون السابقة عين ولا أثر، ولا نزال في عصرنا الحاضر نقف على مسائل من هذا القبيل بحاجةٍ إلى جواب، حیث لا نجد لها جوابا في كلام المتقدّمين. فلوقلنا بانسداد باب الإجتهاد، فكيف يمكن لنا أن نجيب عن هذه المسائل المستحدثة؟ وكيف سيتسنّى لنا أن نلبّى الحاجات الفقهيّة التي قد تستجدّ؟ وإذا كنّا مقلّدين فقط، فكيف ستكون لنا القدرة على تقدیم جواب صحيح لها، ينسجم مع الموازين الفقهيّة، وهى قدرة لا ينالها إلاّ من یبلغ رتبة الإجتهاد؟! وعليه: فلا بد لزمانٍ أن يخلومن مجتهدٍ يتمكّن بقدرته العلميّة وبعمقه الفكرىّ من الرجوع إلى الكتاب والسنّة، ليرفع الحاجات الفقهيّة التي تستجدّ في عصره.
ومن هنا، نفهم السرّ فيما رأيناه ونراه من ذهاب عددٍ كبيرٍ من الفقهاء، حتى من فقهاء أهل العامّة أنفسهم إلى إنكار انسداد باب الإجتهاد، وإلى إثبات مقام الإجتهاد لأنفسهم. ومن بين هؤلاء: الزمخشرى (ت 538ﻫ.ق)، ومحيى الدين محمد بن على بن عربى (ت638ﻫ.ق)، وابن تيمية (ت 728ﻫ.ق)، والشيخ محمد عبده ویذکراسمه الصریح.(1)
لا ريب في أنّ بعض الأدلّة التي ساقها أصحاب نظريّة الانفتاح صحيحة ومقبولة
ص: 221
ومطابقة للواقع، مثل ما قالوه: عن امتناع أن يخلوعصر من العصور من مجتهد، وأنّ سدّ باب الإجتهاد قد أدّى سابقا -ولا يزال - إلى أضرارٍ جسيمة على العالَم الإسلامىّ، وأنّ الإجتهاد فرض كفايةٍ في كافّة العصور والأزمان.
ولكنّ بين هذه الأدلّة التي ساقوها والكلمات التي ذكروها ما لا يمكن القبول به والموافقة عليه، وذلك كاستنادهم إلى بعض الأحاديث التي لا تنهض لكي تكون دليلاً صالحا لإثبات صحّة القول بانفتاح باب الإجتهاد.
وذلك كاستدلالهم بالرواية التي تثبت لزوم وجود مجدّدٍ على رأس كل مائة سنة، فإنّ هذه الرواية لا تنفع بوجه من الوجوه لإثبات ما يرمی الیه مدّعوالانفتاح من امتناع خلوأيّ زمان من الأزمنة من المجتهد، من دون تحديدٍ الزمن بمائة عام، بل حتى وإن كان أقلّ من ذلك، ودون حصر للمجتهد في فردٍ واحد، بل حتى ولوكان أكثر من واحد. يُضاف إلى ذلك: أنّ هذه الاستدلال قائم على دعوى التلازم بين الإجتهاد وبين التجديد، وهى دعوى قابلة للتأمّل والإشكال، إذ ما المانع من حصول التجديد في الإسلام على يد شخصٍ لم يبلغ رتبة الإجتهاد؟!
ومن هذا القبيل أيضا: استدلال بعض المفكّرين من أهل العامّة لنظريّة الانفتاح بالمرويّ عن عليٍّ أميرالمؤمنين (علیه السلام) من قوله: «لا تخلوالأرض من قائمٍ لله بحجّته»، معأنّ هذه الرواية عندما نرجع إلى تتمّتها المذكورة في نهج البلاغة، نجد أنّها تتحدّث عن مجموعةٍ من الأوصاف والمزايا، تفترق كثيرا عن تلك الأوصاف التي اعتدنا رؤيتها لدى المجتهدين.
ففيما نقله الشريف الرضيّ تبدأ هذه الرواية كما يلي:
ص: 222
قال كميل بن زياد: أخذ بيدى أمير المؤمنين علىّ بن أبى طالب (علیه السلام) فأخرجنى إلى الجبّان،(1) فلمّا أصحر تنفّس الصعداء،(2) ثمّ قال: «يا كميل، إنّ هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها، فاحفظ عنّي ما أقول لك: الناس ثلاثة: فعالِمٌ ربّانيّ، ومتعلّم على سبيل نجاة، وهَمَج رَعاع».(3) ثمّ أكمل (علیه السلام) حديثه عن مكانة العلم وأهمّيّته، مشيرا إلى ما بينه وبين المال من التفاوت والامتياز، إلى أن قال:
«اللَّهمّ بلى، لا تخلوالأرض من قائمٍ لله بحجّة، إمّا ظاهرا مشهورا، أوخائفا مغمورا، لئلاّ تبطل حجج الله وبيّناته، وكم ذا؟ وأين أُولئك؟ أولئك والله الأقلّون عددا، والأعظمون قدرا، يحفظ الله بهم حججه وبيّناته حتى يُودعوها نظراءهم، ويزرعوها في قلوب أشباههم، هجم بهم العلم على حقيقة البصيرة، وباشروا روح اليقين، واستلانوا(4) ما استوعره(5) المترفون،(6) وأنسوا بما استوحش به الجاهلون، وصحبوا الدنيابأبدانٍ أرواحها معلّقة بالمحلّ الأعلى، أولئك خلفاء الله في أرضه، والدعاة إلى دينه. آه... آه... شوقا إلى رؤيتهم. انصرف إذا شئتَ».(7)
ص: 223
فنلاحظ هنا أنّ الصفات التي تتضمّنها هذه الرواية هي على قدرٍ عالٍ، وعلى درجةٍ رفيعةٍ من الأصالة، بحيث يبدوأنّ من الصعب تطبيقها على المجتهدين العاديّين، فإنّ الإجتهاد، وإن كان في حدّ نفسه أمرا في غاية الأهمّيّة، وذا درجةٍ عاليةٍ ورفيعة، إلاّ أنّ الّذي يظهر من هذه الرواية أنّها تشير إلى مراتب أكثر عظمةً، وإلى درجاتٍ أكثر ارتفاعا من تلك التي يمكن للمجتهد العادىّ أن يبلغها. والله العالم.
ص: 224
لا أظنّ وجود حاجةً تدعونا إلى مزيد بحثٍ في العواقب الوخيمة والتبعات السيّئة التي أدّى إليها سدّ باب الإجتهاد في أوساط مذاهب العامّة. إذ من الواضح أنّ أمّةً تفرض على نفسها تقليد الأسلاف، وتعتبره واجبا، وتحرّم الحياد والابتعاد عنه، بدلاً من التتبّع والتدبّر في الكتاب والسنّة نراها تحصر نفسها في الإطار الضيّق لأقوال أسلافها من المجتهدين، هي أمّة تفتح على نفسها وابلاً من الآثار السيّئة والمخاطر التي لا يمكن جبرانها ولا تجنّب ما تجلبه من مفاسد ّ.
وفي هذا الإطار يقول الشيخ سيّد سابق:
«وبالتقليد والتعصّب للمذاهب فقدت الأمّة الهداية بالكتاب والسنّة، وحدث القول بانسداد باب الإجتهاد، وصارت الشريعة هي أقوال الفقهاء، وأقوال الفقهاء هي الشريعة، واعتُبر كلّ من يخرج عن أقوال الفقهاء مبتدعا لا يُوثق بأقواله، ولا يعتدّ بفتاواه. وكان ممّا ساعد على انتشار هذه الروح الرجعيّة ما قام به الحكّام والأغنياء من إنشاء المدارس، وقصر التدريس فيها على مذهبٍ أومذاهب معيّنة، فكان ذلك من
ص: 225
أسباب الإقبال على تلك المذاهب، والانصراف عن الإجتهاد، محافظةً على الأرزاقالتي رُتّبت لهم.
سأل أبوزرعة شيخه البلقيني قائلاً: ما تقصير الشيخ تقي الدین السبكي عن الإجتهاد وقد استكمل آلته؟ فسكت البلقينى، فقال أبوزرعة: فما عندي أنّ الامتناع عن ذلك إلاّ للوظائف التي قدّرت للفقهاء على المذاهب الأربعة، وأنّ من خرج عن ذلك لم ينله شيءٌ من ذلك، وحُرِم ولاية القضاء، وامتنع الناس عن إفتائه، ونُسبت إليه البدعة، فابتسم البلقيني ووافقه على ذلك.
وبالعكوف على التقليد، وفقد الهداية بالكتاب والسنّة، والقول بانسداد باب الإجتهاد، وقعت الأمّة في شرٍّ وبلاء، ودخلت في جُحر الضبّ الّذي حذّرها رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) منه.
كان من آثار ذلك: أن اختلفت الأمّة شيعا وأحزابا، حتى إنّهم اختلفوا في حكم تزوّج الحنفيّة بالشافعيّ، فقال بعضهم: لا يصحّ، لأنّها تشكّ في إيمانها،(1) وقال آخرون: يصحّ، قياسا على الذمّيّة.(2)
كما كان من آثار ذلك انتشار البدع، واختفاء معالم السنن، وخمود الحركة العقليّة، ووقف النشاط الفكرىّ، وضياع الاستقلال العلميّ، الأمر الّذي أدّى إلى ضعف
ص: 226
شخصيّة الأمّة، وأفقدها الحياة المنتجة، وقعد بها عن السير والنهوض، ووجد الدخلاء بذلك ثغراتٍ ينفذون منها إلى صميم الإسلام».ثمّ قال سيّد سابق ما ملخّصه:
«وأخيرا انتهى الأمر بالتشريع الإسلامىّ، الّذي نظّم الله به حياة الناس جميعا، وجعله ضماناً لمعاشهم ومعادهم، إلى دركةٍ لم يسبق لها مثيل، ونزل إلى هوّة سحيقة، وأصبح الاشتغال به مفسدةً للعقل والقلب، ومضيعةً للزمن، لا يفيد في دين الله ولا ينظم من حياة الناس.
وقف التشريع عند هذا الحدّ، ووقف العلماء لا يستظهرون غير المتون، حتى وثبت أوروبا على الشرق تصفعه بيدها، وترك له برجلها، فكان أن تيقّظ على هذه الضربات، وتلفّت ذات اليمين وذات الشمال، فإذا هومتخلّف عن ركب الحياة الزاحف، وقاعد بينما القافلة تسير، وإذا هوأمام عالَمٍ جديد، كلّه الحياة والقوّة والإنتاج، فصاح الذين تنكّروا لتاريخهم وعقّوا آباءهم ونسوا دينهم وتقاليدهم: أن ها هي ذي أوروبا يا معشر الشرقيّين، فاسلكوا سبيلها، وقلّدوها في خيرها وشرّها، وإيمانها وكفرها، ووقف الجامدون موقفا سلبيّا، يُكثرون من الحوقلة والترجيع، ولزموا بيوتهم، فكان هذا برهانا آخر على أنّ شريعة الإسلام لدى المغرورين لا تجاري التطوّر ولا تمشي مع الزمن.
ثمّ كانت النتيجة الحتميّة أن التشريع الأجنبيّ الدخيل أصبح يهيمن على الحياة الشرقيّة، مع منافاته لدينها وعاداتها وتقاليدها، وغزت المفاهیم الأوروبّيّة البيوت والشوارع والمنتديات والمدارس والمعاهد، وتتغلّب على كلّ ناحيةٍ من النواحى، حتى كاد الشرق ينسى دينه وتقاليده، ويقطع الصلاته بين حاضره وماضيه، إلاّ أنّ» الأرض لا تخلومن قائمٍ لله بحجّته»، فهبّ دعاة الإصلاح يُهيبون بهؤلاء المخدوعين
ص: 227
بالغربيّين: «أن خذوا حذركم، وكفّوا عن دعايتكم، فإنّ ما عليه الغربيّون من فساد الأخلاق لابدّ وأن ينتهي بهم إلى العاقبة السوأي، ويصيحون بهؤلاء الجامدين: دونكمالنبع الصافي والهدى الكريم، لنبع الكتاب وهدى السنّة، خذوا منهما دينكم وبشّروا بهما غيركم».(1)
كما أسلفنا في المباحث السابقة، وأيّده جمع من مفكّري أهل السنّة، فإنّ للتقليد وانسداد باب الإجتهاد في مذاهب السنیة أصلاً سياسيّا، بل إنّ هذه الجذور السياسيّة هي الأصل الأساسيّ الّذي تقوم عليه هذه الفكرة عندهم، وأنّ مبدأ هذه الفكرة عندهم هوتلك الفترة من الزمن، حيث استلم أمثال أبي يوسف منصب القضاء، ولم يكن من الجائز لغير من يدين بنفس مذهبه أن يتسلّم مثل هذا المنصب.(2) ولذلك يقول ابن حزم:
«إنّ القول بلزوم التزام مذهبٍ معيّن، مبنيٌّ على المقتضيات السياسيّة والتطوّرات الزمنيّة والأغراض النفسانيّة، كما لا يخفى على العاقل الخبير بالتواريخ».(3)
ص: 228
وبالنظر إلى لهذا الأمر، وكما نقلناه من نصوص (فقه السنّة)، يمكن لنا أن نلاحظ ملامح وشواهد تدلّ على سعيٍ نحوإعادة إحياء الإجتهاد عند العامّة في عصرناالحالىّ الّذي فرض العالَم الغربيّ سيطرته فيه على الكيان الإسلامىّ، واستهدف بحملاته المغرضة الثقافت والقیم المدنیّة والعقائد والأخلاق السائدة في المجتمعات الإسلاميّة.
وفي هذا الإطار يأتى ما اطلقه بعض المعاصرين علی هذا العصر بالنسبة إلى الإجتهاد تلک المذاهب من تسميته بأنه (عصر النهضة الحديثة). قال بعضهم:
«إنّ لكلّ شيءٍ نهايةً، وهكذا، بعد فترة طويلة عاش فيها الفقه بين التقليد والجمود بدأ يعود له ازدهاره وقوّته. ويرجع هذا الازدهارالی ضيق الناس الشديد من التقليد واختلافات العادات، وتبدّل ظروف الحياة، ممّا جعل المفكّرين والعلماء يتّجهون صوب الغرب، يقتسمون تشريعه، ويطبّقونه في بلاد الإسلام. ولعلّ جمود العلماء ومعاهد العلم (العالم) الإسلامىّ هي المسؤولة عن ذلك».(1)
وبالرغم من أنّ هذه الحركة لم تعجب عددا من مفكّري الوسط السنّيّ، الذين رأوا أنّ هذه المرحلة ما هي إلاّ امتداد لمرحلة التقليد المحض، إلاّ أنّ هناك رأيا آخر مقابلا هذا الرأي، ويتبنّاه عدد كبير من المفكّرين الّذين يرون أنّ مرحلةً من اليقظة والنهضة الفقهيّة قد أخذت بالظهور في الوسط الفقهىّ السنّىّ، ويستشهدون علی ذلك بظهور عددٍ من المؤلّفات الجديدة والموسوعات الكبيرة ودوائر المعارف الفقهيّة
ص: 229
التي تهدف إلى تنظيم القوانين المدنيّة على أساس الفقه الإسلامىّ، وبغير ذلك من الشواهد التي تثبت هذه الفكرة، كاللّجان التي تشكّلت في مصر، والتي تسعى إلى سنّ القوانين المدنيّة الحديثة في المجالات المختلفة على ضوء الفقه الإسلامىّ.ومن أبرز المنظّرين لهذه الحركة والرافعين للوائها والعاملين عليها: السيّد جمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، ورشيد رضا، والشيخ شلتوت وأمثال هؤلاء الأعلام.(1)
بالرغم من تفاؤلنا خيرا بهذه الحركة الجديدة لإحياء الإجتهاد في أوساط مذاهب أهل العامّة، إلاّ أنّنا نرى أنّ هذه الحركة الميمونة لا يمكن أن يُكتب لها النجاح والتوفيق، إلاّ بأخذ عددٍ من الأمور الأساسيّة والضروريّة التالية بعين الاعتبار:
الأوّل: أنّ تدوين الموسوعات الفقهيّة والعمل على تنظيم قوانين مبنیة على أسس الفقه الإسلاميّ، وإن كان أمرا ضروريّا ولازما، ويُعَدّ خطوةً إلى الأمام، إلاّ أنّه لوحده ليس كافيا. إذ الأهمّ في المرحلة الراهنة إنّما هوالسعى إلى إيصال هذه القوانين إلى مرحلة الإجراء، وأن يسعی الفقهاء علی أن یعمل بها في الأنظمة السياسيّة فی البلدان التي يعيشون فيها، وأن ينصّوا على أنّ إقرارها والعمل بها هومن الوظائف اللاّزمة
ص: 230
الملقاة على عهدة هذه الأنظمة، إذليس من المقبول أن يكون الفقهاء في جانب، وحكّام العالم الإسلامىّ وسياسيّوه في جانبٍ آخر. وهذا هوالسبب في عدم تقبّل بعض علماء أهل السنّة لهذه الحركة الجديدة الهادفة إلى إعادة إحياء حركة الإجتهاد الفقهيّ. قال البعض:«ولوأنّ الأحكام الإسلاميّة معمول بها في المحاكم ودور القضاء، لخلَّف لنا ذلك ثروةً فقهيّةً حديثةً تخرج بهم عن دائرة التقليد».(1)
وفي السياق عينه وجّه مؤلّف وكتاب: «تاريخ التشريع الإسلاميّ»، وكتاب: «حكومات العالَم الإسلاميّ»، دعوتهم نحوهذه الحركة التجديديّة بهذه الطريقة، فقالوا:
«نتوجّه بكلمةٍ للحكومات المختلفة في مصر والعالَم العربيّ، نطالبهم فيها تطبيق شرع الله، وإظهار هذه القوانين الإسلاميّة للناس، وجعلها عنوانا لمجالات الحياة وفروعها، إذ لا يُعقل أن تتقنّن هذه الأحكام، ثمّ تظلّ حبيسة الأدراج في الظلام الدامس تشتكي إلى الله ظلم هذه الحكومات».(2)
وعلى هذا الأساس، فالشرط اللازم لبلوغ حركة الإجتهاد رشدها وإعادة إحيائها من جديد، ولعدم إجهاضها وانقطاعها، هولزوم حضور الفقه على ساحة المجتمعات الإسلاميّة، وضرورة تدخّله في الحياة الإجتماعيّة للمسلمين، ولا سبيل لذلك كلّه إلاّ بأن يُفرَض على الدول الإسلاميّة أن تعمل بقوانين الشريعة.
ص: 231
الثاني: أنّ اكتفاء الفقهاء بتوجيه أحاديث النصح والوعظ إلی لحكّام والسياسيّين، لم يُثبت كونه أسلوبا مجديا ونافعا في الضغط على هؤلاء، نحوإجراء الأحكام الإسلاميّة، وإيصالها إلى حيّز التنفيذ؛ بل الأسلوب الّذي نراه واجب الاتّباع في هذا الصدد هوسعى علماء الإسلام نحوإيجاد حركةٍ شعبيّة عامّة، تعمل في هذا السبيل،فعلى الفقهاء أن يستنهضوهم الناس ویحرکوهم لتحقيق هذه الغاية، لإجبار الحكّام والسياسيّين على الالتزام بأحكام الإسلام، بل نقول: إنّ الواجب على الناس أن يثوروا في وجه حكّامهم، لإزاحتهم وتنحيتهم عن السلطة واستبدالهم بحاكمٍ يلتزم في حكمه بالإسلام دينا وقانونا ونظاما، ويقف في وجه النزعة الغربيّة. وإلاّ، فلوأنّ الحكّام المسلمين تُركوا لأنفسهم، فمن غير المعلوم أن يلتزموا بسهولة بإحلال العدل وإجراء القوانين الإلهيّة، لأنّ احكام الشريعة تتنافی مع سلطتهم ومع مصالحهم الدنيويّة، ومن البعيد جدّا أن يتمكّن الفقهاء من إرغام الحكّام على إجراء العدل والعمل على وفق قوانين الشريعة، من دون ان يعملوا على تحريك الشعبىّ والاستفادة من القوّة العظيمة الجماهير.
الثالث: الابتعاد عن التعصّب المذهبيّة. فعلى علماء المذاهب كافّةً أن يستندوا إلى التحقيق والبحث العلمىّ والموضوعىّ، وأن يتجنّبوا تقليد الآخرين، وأن يضعوا جانبا التعصب الذی لا منشأ له سوى الجهل، وأن يمارسوا إجتهاداتهم في أجواءٍ من الحكمة والدراية والتعقل.
فمن الأمور الباعثة على الحسرة والأسف، انعدام الخبرة وقلّة الاطّلاع فيما يتعلّق بأفكار سائر المذاهب وعقائدها ومبانيها وفتاواها الفقهيّة، فقد شاهدنا الكثير من الكتب والمؤلّفات التي دوّنها علماء كبار، من علماء أهل السنّة، من دون أن يقوموا
ص: 232
بالتتبّع والتقصّى اللاّزمين في البحث العلميّ، بل اكتفوا بالتقليد والرجوع إلى ما اشتهر على ألسنة البعض مما نسبوه إلى سائر المذاهب، مع كونه عاريا عن الحقيقة، ولا أصل له في الواقع. ولوأنّهم بذلوا جهدا أكبر فيما ينقلونه، وأبعدوا عنهم التعصّب والتقليد، لَما صدّقوا كثيرا من التهم المجحفة التي نسبوها إلى بعض المذاهبالأُخرى، ولا سيّما مذهب أهل البيت (علیهم السلام) الّذي يجزمون بنسبة بعض الأفكار إليه، مع كونها لا أساس لها من الصحّة أصلاً، ومن دون أن يذكروا أدلّتهم على هذه النسبة أوالمصادر الصحيحة التي اعتمدوا عليها في هذا النقل.
كتب بعضهم في عقائد الشيعة:
«فولّوا بعد الحسين ابنه عليّا زين العابدين، وبعد وفاته ولّوا ابنه محمّدا الباقر، انقسموا فمنهم من ولّى زيد بن علىّ، وهم المعروفون بالزيديّة، ومنهم من ولّى جعفرا الصادق بن محمّد الباقر:».(1)
ولست أدري، ما الّذي نتوقّعه من كاتبٍ قليل الاطّلاع كهذا؟ كاتب يتحدّث عن الفرق بين الزيديّة وبين الإماميّة من دون أن يقف على حقيقة هذا الفرق، ومن دون أن يعرف أنّ الزيديّة لا يقولون بإمامة الإمام محمد الباقر (علیه السلام) ، وإنّما يقولون بإمامة زيد بعد إمامة أبيه السجّاد (علیه السلام) مباشرةً. وكيف يمكن لنا أن ننتظر من كاتبٍ كهذا أن يساهم في أن تُفلح نهضة إحياء الإجتهاد، وفي أن تؤتي أُكلها.
ومن هؤلاء المؤلّفين أيضا من تحدّث عن بعض عقائد الشيعة قائلاً:
ص: 233
«الرجعة: حيث يعتقد أصحاب هذه العقيدة أنّ عليّا لم يمت، بل هوحيٌّ مختفٍ، وسيعود في ملأ الأرض عدلاً كما مُلِئت جورا.
النبوّة: حيث ادّعت بعض فرق الشيعة النبوّة لعليٍّ بعد النبيّ (صلی الله علیه و آله و سلم) ، بل غالى بعضهم فقالوا: إنّ النبوّة كانت لعليٍّ، ولكنّ جبرئيل أخطأ فنزل بها علي محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) .الأُلوهيّة: وهذه أخطر العقائد التي اعتنقها الشيعة، فذهبت فرقة منهم إلى القول بألوهيّة علىّ بن أبيطالب».(1)
ثمّ بعد أن قام الكاتب بنسبة هذه النظريّات إلى الشيعة، عقد بحثا بعنوان: أثر الشيعة على الحديث، معتبرا التشيّع من أهمّ العوامل الأصليّة لجعل الأحاديث ووضعها، ومن دون أن يُسند كلامه هذا إلى أيّ كتابٍ معتبر، مع أنّ أوّل خطوةٍ للوصول إلى الإجتهاد الصحيح هي الإرجاع إلى المصادر الصحيحة، وكأنّ هذه التهمة كانت بنظر الكاتب من الوضوح بمكانٍ بحيث لم يرَ حاجةً لتوثيقها بشيءٍ من المصادر المعتبرة لدى الشيعة.
إنّ المشكلة الأهمّ، لدى كثيرٍ من علماء أهل السنّة، هي عدم توفرهم علی معلومات وافية عن مدرسة أهل البيت (علیهم السلام)، کما أنّ المعلومات التي لديهم تنطلق من خلفيّاتٍ مسبقة. ومن هؤلاء الكاتب وهبة الزحيلى في كتابه المعروف: «الفقه الإسلاميّ وأدلّته»، الّذي قال في حقّ الشيعة: أنّ أبا جعفر محمّد بن الحسن بن فروخ الصفار الأعرج القمّىّ (ت 290ﻫ.ق) هوالمؤسّس مذهب الشيعة الإماميّة في الفقه،
ص: 234
ثمّ ذكر أنّ اسم كتابه هو: البشائر!! وقوله: البشائر هوتصحيف لكتاب «بصائرالدرجات» مع العلم أن هذالکتاب ليس من الكتب الفقهية. والواقع: أنّه لم يُعهد من أحدٍ أنّه نسب إلى العالم المذكور أنّه هوالمؤسّس لمذهب التشيّع. وللأسف الشديد فإنّ المصادر الأُولى والأصيلة لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام) والتي تتحدث عن مبانيهم المشهورة وآرائهم المعتبرة لا تلقى رواجا وانتشارا في أوساط علماء العامّة، مع أنّالأمر لدى علماء الشيعة، بالعكس من ذلك تماما، فإنّ كافّة مصادر أهل السنة الفقهيّة والأصوليّة والحديثيّة والرجاليّة والتاريخيّة والكلاميّة وغير ذلك، متوفّرة ومتاحة لديهم، ويمكن لمن أراد منهم أن وصل إليها، بكلّ حرّيّةٍ وسهولة، الأمر الّذي يُتيح للمحقّقين منهم أن يحقّقوا في مضامينها، وأن يخضعوها لمنطق النقد والتحليل، بعيدا عن التعصّب والجمود، فلذلك نراهم يوافقون تارةً على بعض ما جاء فيها، ويعلنون رفضهم وانتقادهم للبعض الآخر، تارةً أُخرى.
إنّ هذا النحومن الحركة العلميّة لدی علماء الشیعة، هوما يجب أن يفرض نفسه على ساحة أهل العلم والتحقيق، لكي يبقى باب الإجتهاد مفتوحا أمامهم، ولكى يُتاح لهم أن يُتحفوا المجتمع بآثارهم العلميّة القيّمة. فلوأنّ ذاك الكاتب المحترم كان يعلم أنّ هذه المطالب التي قام بنسبتها إلى الشيعة غیر صحیحة، وأنّ العقائد السائدة لدى أتباع أهل البيت (علیهم السلام) تنأى بهم عن أن يُثبتوا للإمام على (علیه السلام) أىّ شكلٍ من أشكال الألوهيّة أوالنبوّة، ولوأنّه كان يعلم حقيقة مسألة الرجعة، وأنّها مباينةٌ تماما لما نقلها عنهم، لوأنّه كان يعلم بكلّ ذلك، أوحصل على المعلومات الوافية قبل الكتابة والتأليف، فلربّما لم يكن ليرضى بإضعاف المستوي العلميّ لكتابه بهذه الطريقة المکشوفة.
ص: 235
ولا تفوتنا الإشارة هنا إلى أنّ العديد من المؤلّفين والمفكّرين من أهل السنّة استطاعوا أن يتخلّصوا من مشكلة التعصّب، فحاولوا في كتبهم أن لا ينقلوا المباني الفكريّة والإجتهاديّة التي ترتكز عليها مدرسة أتباع أهل البيت (علیهم السلام) إلاّ بعد الرجوع إلى مصادرهم الأصيلة والمعتبرة.
فقد ألّف الأستاذ محمد سلام مدكور كتاب «مناهج الإجتهاد في الإسلام»، وتعرّض في هذا الكتاب للحديث عن فكر الشيعة الإماميّة وآرائهم ومعتقداتهم،مستنداً هذه الآراء والمعتقدات من بعض كتبهم المعتبرة، ك-«عقائد الإماميّة» للشيخ المظفّر، و«الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) » للشيخ مغنية، و«المراجعات» للسيّد شرف الدين، و«جواهر الكلام»، و«شرح اللمعة»، و«المختصر النافع»، و«نهج البلاغة»، و«الأصول العامّة للفقه المقارن» للسيّد الحكيم، و«أصل الشيعة وأصولها» للشيخ كاشف الغطاء، ونحوذلك. ولا شكّ في أنّ هذه الرجوع إلى كتبنا المعتبرة، هي من دواعى شكرنا له؛ لذا أنّه لاحقا عن الزيديّة لايقع في خطأ والاشتباه للذین وقع فیهما غيره عندما قال: «قد أجمعوا على أنّ الخلافة بالتالي للإمام عليّ ولديه الحسن والحسين وعلي زين العابدين بن الحسين (علیهم السلام)، وتفرّقوا بعد ذلك إلى عدّة فرق بسبب الخلافة من أشهرها: الإماميّة والزيديّة، فيرى الزيديّة أنّ الخلافة بعد ذلك لزيد بن علي».(1)
نعم إشتمل هذا الكتاب على بعض الأخطاء الأُخرى، ولا سيّما ما ذكره من انتساب
ص: 236
مذهب التشيّع إلى عبدالله ابن سبأ.(1)
وقد خصّص المؤلّف المذكور آخر صفحات كتابه للحديث عن منهج الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) بعد أن كان قد نقل كلاما مفصلاً من كتاب المراجعات، حیث قال:
«وإنّنا إذ نكتفى بهذا عن الإمام جعفر رضى الله عنه، فإنّنا نرى أن نختم الكلام عنه، خاصّةً وأنّنا قد انتهينا من الكتاب كلّه، فننقل ما رُوِي عنه من أنّه قال: «إيّاكم والخصومة في الدين، فإنّها تُحدث الشكّ وتُورث النفاق»، وحقّا فإنّ التعصّب يأتى من وراء ذلك،فيورث حبّ الغلب فتضيع الحقائق، هدانا الله إلى الحقّ وجمع كلمتنا عليه».(2)
الرابع: تاريخيّا واجهت حركة الإجتهاد في المدارس الفقهيّة لدى أهل العامّة عاصفةً من الأحداث التي لم تتمكّن من مواجهتها، حتى ضعفت واستسلمت، وطغى عليها الجمود والركود. وفي مقابل ذلك، فإنّ حركة الإجتهاد في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) لا تزال حيّةً ونابضةً ومتلألئةً؛ لأنّ الشيعة لم يرفضوا سدّ باب الإجتهاد فحسب، بل هم لا يجيزون لغير المجتهد أن يرجع بالتقليد إلاّ إلى مجتهد ومرجع على قيد الحياة. وأمّا من كان مجتهدا، فهوعندهم لا يقلّد غيره من المجتهدين، بل يحرم عليه أن يقلّد غيره، ويتعيّن عليه أن يستند في عمله بالأحكام إلى إجتهاده الشخصيّ.
صحیح أن حركة الإجتهاد لدى الشيعة تعرضت على مرّ التاريخ إلى نكساتٍ
ص: 237
و أزماتٍ عدّة، منها تلك الفترة الزمنيّة المقدّرة بمائة عام، بعد وفاة الشيخ الطوسي (رحمه الله) ومنها أيضا تلك الفترة التي شهدت بروز الحركة الأخباریّة في القرن الحادي عشر.
إلاّ أنّ حكمة الإجتهاد وقوّة منطقه في مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) مكّنته من تخطّى هذه الأزمات واستطاعت هذه المدرسة أن تكمل مسيرتها؛ ولا زلنا نشاهد آثارها الطيّبة، لا سيّما في عصرنا الحاضر، عبر رجوع المسلمين إلى الإسلام الأصيل وتشييدهم لحكومةٍ إسلاميّةٍ مبنيّةٍ على قوانين الشريعة وأنظمة الدين الإسلاميّ الحنيف. ومن الآثار الطيّبة لهذه الحركة أيضا هذه النهضة التي یشهدها العديد من المجتمعات الإسلاميّة في عصرنا الحاضر، من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، من الجزائر ومصر وأفريقيا إلى تركيا والعراق ولبنان وأفغانستان؛ لأنّها حركة تهدف إلى توظيف الإجتهادالصحيح من خلال العودة إلى المصادر الإسلاميّة الأصيلة، من الكتاب العزيز والسنّة المباركة، لتأسيس حضارةٍ إسلاميّةٍ جديدة، وللخروج بواسطة هذه المصادر الأصيلة من ظلمات جاهليّة هذا العصر الجديد التي فرضتها ثقافة الغرب الملحد. وهذا بعينه هوما تحتاجه حركة إحياء الإجتهاد لدى مذاهب العامّة، لكى تقوم من جديد، ولكي تُثمر وتؤتي أكلها هي أيضا.
الخامس: لكي حرکة الإجتهاديّة عند أهل السنّة من النهوض تتمکن، يتوجّب على علمائهم ومفكّريهم أن يتصدّوا للمشاكل المطروحة على الساحة المعاصرة، ليقطعوا بذلك الطريق على الجاهلين والأعداء المتربّصين بهذه الأمّة شرّا، إذ لوقُدِّر للحركات التكفيريّة التي تتبنّى التطرّف والإفراط والتعصّب مسلكا لها، والتي لا تتورّع عن تكفير كلّ من يخالفها في الرأي واتّهامه بالشرك والخروج عن الدين، لوقُدِّر لهذه الحركات أن تسيطر على الساحة الإسلاميّة، لما استطعنا أبدا أن نعيد الإسلام الحقيقيّ الّذي
ص: 238
يتمكّن من الوقوف بوجه قوانين الغرب العلمانيّة والملحدة. الأمر الّذي يعنى أنّ على العلماء الواعين من أهل السنّة أن يفرضوا وجودهم على الساحة المعاصرة، لغرض التضييق وقطع الطريق على هؤلاء المتشدّدين وتحرّكاتهم. ومن جانب آخر، ولا سيّما أمثال محمّد بن عبد الوهاب وحركته السلفيّة المتحجّرة.
والأمر المثير للعجب والدهشة هنا، أن نجد أشخاصا(1) يعتبرون محمد بن عبد الوهاب هذا واحدا من أبرز زعماء النهضة الإجتهاديّة في العصر الحديث، مع أنّ الأفكار والعقائد التي يدعولها هذا الرجل أفكار شاذّةٌ يوجب الالتزام بها خروج أكثرالمسلمين عن دائرة الإسلام والإيمان، واتّهامهم بالكفر والشرك، أفكار أثبتت التجربة مدى الخطر الّذي تتركه على العالم الإسلامىّ برمّته، وكانت هي المنشأ وراء الغارات والمجازر التي ارتكبت في الحجاز والعراق و..
ومن جانبٍ آخر، يجب على القائمين بهذه الحركة الإجتهاديّة الجديدة أن لا يُغفلوا تلك الحركات التفريطيّة التي تنظر إلى الغرب نظرةً فوقيّة، والتي سلّم أصحابها للغرب تسليما كاملاً بعد انکارهم اكتمال الشريعة الإسلاميّة، وبعد أن توهموا أن لیس في الإسلام إلاّ مفاهيم العبادة الفرديّة، منكرين الإسلام السياسيّ والإسلام الاجتماعيّ. وهنا یجدر التنبیه الی أنّ الخطر الّذي يتهدّد حركة النهضة الإجتهاديّة الحديثة في العالَم السنّي من قِبل هذه الحركة التفريطيّة لا يقلّ عن الأخطار التي تتهدّدها من الحركات الإفراطيّة المتطرّفة.
ص: 239
وعلى هذا الأساس، نرى أنّه لا يمكن النهوض بحركة الإجتهاد إلاّ بعد التعرّف على هاتين الحركتين لمواجهتهما والتعامل معهما. الأمر الّذي يستدعي تركيزا وتأكيدا على قضيّة الوحدة بين المسلمين، والتقريب بين المذاهب الإسلاميّة، بوصفها أصلاً إسلاميّا أساسيّا، ومن ثم والرجوع من خلال منظار الوحدة والتقريب إلى الكتاب والسنّة، وإعمال الإجتهاد الحرّ فيهما، ذلک الإجتهاد الّذي يتخلّص من الجمود والتقليد الأعمى.
ص: 240
ص: 241
ص: 242
ص: 243
ص: 244
الإجتهاد في اللغة: كلمة الإجتهاد من الجُهد اوالجَهد بمعنى الطاقة والمشقة.
قيل: الجَهد (بالفتح) المشقة، والجُهد (بالضم): الوسع، والإجتهاد مصدر من الافتعال. فهوبمعنى اخذ النفس ببذل الطاقة وتحمل المشقة.
وبنفس هذا المعنى اللغوى جری استعمل الإجتهاد في روايات العامة والخاصة.
كما روى عن عائشه: كان (صلی الله علیه و آله و سلم) يجتهد في العشر الأواخر ما لايجتهد في غيره.
وفي نهج البلاغة: ولكن اعينوني بورع وإجتهاد وعفة وسداد.
الإجتهاد في الاصطلاح: اخذت کلمة الإجتهاد في الأدوار التاريخيه المختلفه معانٍ متفاوتة يمكن أن نلخصها فیما یأتی:
1) التفكير الشخصي: وهوالّذي ذهب إليه أصحاب الإجتهاد بالرأي كابي حنيفة وغیره.
2) القياس، كما ذهب إليه الشافعي.
3) استكشاف الحكم الشرعي: وقد عرفوا الإجتهاد بهذا المعنى بتعريفات، أهمها هي:
1) تعريف ابن حاجب: استفراغ الوسع لتحصيل الظن بحكم شرعي.
2) تعريف خضرى: بذل الفقيه وسعه في طلب العلم بالأحكام الشرعيه.
ص: 245
ويرد عليهما: أن العلم والظن لاينطبقان على الإجتهاد فالتعريف غير جامع ولامانع.
3) تعريف الآخوندالخراساني (صاحب الكفاية): استفراغ الوسع في تحصيل الحجة على الحكم الشرعي.
ويرد عليه: أنّ قيد الحجة فيه مستدرك: فإن ثمرة عملية الإجتهاد هي المعرفة بالحكم الشرعي لا الحجة على الحكم الشرعي.
نعم، الوصول إلى الحكم الشرعي، بحيث يمكن للمجتهد أن يسنده إلى الشارع، يتوقف على الحجة. فالحجة شرط لتحصيل الحكم الشرعي لا أنها قيد للاجتهاد.
وعرفه السيد الإمام الخمینی: المجتهد من كان ذا قوة ومكنة يقتدر بها على إستنباط الحكم الشرعي من مداركه.
ثم أن الأكثریة ذهبوا إلى ان الإجتهاد ملكة وقوة، ولكن ذهب المحقق العراقى والسيد الخوئي ذهبا إلى أنّ الفعليه - تعتبر في الإجتهاد. قال العراقي: هوالاستفراغ الفعلى في تحصيل المعرفة بالأحكام.
كما أن السيد الخوئى يعتقد أن الفعل متأخر في ملكة الإجتهاد، خلافاً لسائر الملكات كالشجاعة والسخاوة، والواقع أن الفعل في الملكات الأخرى متقدم على الملكة، ولكن فيه ما لايخفى؛ لأنه یظهر بالدقة والتأمل يظهر انه لافرق بين الإجتهاد وسائرالملكات في أن حصول الملكة يتوقف على الفعل والممارسة.
وعلى اي حال، إذاکان الإجتهاد بالمعنيين الأولين، يعتبر عند العامة من مصادر التشريع، فقد ذمّ أصحابنا الاجتهاد تبعاً للروايات المروية عن أئمة أهل البیت (علیهم السلام)
ص: 246
وحرّموه والفوّا في ذمّه الكتب والرسائل كالشيخ المفيد، والسيد المرتضى، وهلال بن ابراهيم، والصدوق وعبدالله بن عبدالرحمن الزبيرى، وابن ادريس. وامّا الإجتهاد بالمعني الثالث فبما انّه صناعة إستكشاف الحكم الشرعي، ويطلق على عمليه الإستنباط فلاشك أن الإجتهاد بهذا المعنى ممدوح بل هومن الأمور الضرورية، حتّى أن أصحابنا من الاخباريين والمحدثين يستخدمونه أيضاً وإن لم يجر لفظه على لسانهم، كما صرح الآخوند، والشيخ كاشف الغطاء بذلك. هذا كله في البحث عن كلمة الإجتهاد في اللغة والاصطلاح عبرمراحلها التاريخية.
ص: 247
ص: 248
الأدوار جمع دور، بمعنى مرحلة تاريخية لها مبدء ومنتهى، هذا بحسب اللغة. فعند ما تضاف الأدوار إلى علم من العلوم يراد منه المعرفة بمراحله التاريخية التي مرّ بها. والفقه بما هوعلم من العلوم الإسلامية كسائر العلوم له أدوار ومراحل تاريخیة مختلفه، ولكل دورة ومرحلة مميزات تتمير بها عن سائر المراحل والأدوار.
وبذلک فالمراد في هذا المجال هوالمعرفة بهذه الأدوار والمراحل التاريخية التي مرت بها صناعة الإجتهاد.
وقبل ان نتطرق الی منهجية البحث، لابد أن نذكّر بأن المقصود هنا هوالمعرفة بتاريخ الفقه والإجتهاد، لا تاريخ التشريع الإسلامي، حیث يوجد في بعض الكتب خلط بين هذين المبحثين. فإن تاريخ التشريع الإسلامي يرتبط بما شرعه الشارع في عصره، وهذا الدور عندنا، أي أصحاب مذهب أهل البيت (علیهم السلام) بدء من أول البِعثة إلى انتهاء الغيبة الصغرى للإمام صاحب العصر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) . واما عند العامه فيبدء من البعثة وينتهى برحيله (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى الرفيق الأعلى، أي السنة العاشرة من الهجرة. نعم القول باستمرار تاریخ التشریع یوافق نظریّة التصویب الباطل والمصوّبة القائلین بأن رأی کل مجتهد مصیب الی الواقع مهما کان ولیس فی الواقع للشارع حکم مشرّع. بل ما یبدیه
ص: 249
المجتهد منآرائه فهوالحکم الشرعی. وقد بیّن بطلان هذه النظریّة فی مجالها.
توجد مناهج عدة لبیان أدوار الإجتهاد الإمامي، نذكرها باختصار:
1) ترتیب الأدوار التاريخية حسب المنطقة الجغرافية: كالمدينة والكوفة، والرّي، وقم، والحلة، وجبل عامل، واصفهان، والنجف، وقم.
2) ترتیب الأدوار على أساس عنصر الزمان: كالقرن الأول والثاني والثالث إلى الخامس عشر.
3) ترتیب الأدوار على أساس طبيعة الإجتهاد: وذلك لأن الإجتهاد جهاد مستمر لتحصیل المعرفة وإستنباط الحكم الشرعي، وبما أنه علم كسائر الفروع العلمية فهوأمر متدرج، ويتكامل بالتدریج، والمقصود في هذا المجال هوالتعرف على المنعطفات التي أوجبت تحولاً عميقاً في الإجتهاد، والمعرفة بالأدوار التي أوجبت تغييراً متكاملاً فيه، وفي ما يرتبط به من حیث الأسلوب والمباني والأصول والعلوم المرتبط به كالرجال والدراية وعلم الأصول، وغير ذلك، وعلى أساس هذا المنهج تقسم أدوار الإجتهاد:
أولاً إلى عصر النبى (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة الهداة (علیهم السلام) أي عصر الحضور، وإلی عصر الغيبة. وثانياً بعد عصر الأئمة وعصر الغیبة تقسم إلى ثمانیة أدوار.
1) دور التأسيس.
2) دور الانطلاق.
3) دور الاستقلال والتکامل.
ص: 250
4) دور الافراط فی الأتجاه العقلی للإستنباط
5) دور التفريط فی الأتجاه العقلی للإستنباط
6) دور التصحيح والإعتدال.
7) دور نضج الفکر الاجتهادی وابداعه
8) دور تأسيس الدولة وفقاً لنظریة الحکم فی الاسلام
ص: 251
ص: 252
قد ذكرت لدراسة تاريخ الإجتهاد وأدواره فوائد علمية. من أهمها:
1) الإطلاع على المناهج الفقهية المختلفة التي اتخذها الفقهاء، والطرق التی سلكوها لاستكشاف الحكم الشرعي.
2) معرفة العوامل الدخيلة في نضج الإجتهاد ونشاطه، وفي مقابلها معرفة العوامل التي تعتبر من افاته ونقصه وعجزه عن الاجابة عن حوائج الإنسان في جميع ابعادها المختلفه، من الثقافة والاقتصاد والسياسة والأسرة والعبادة وغيرها. وبالتالي يعرف الطالب المعرفة ضرورة استمرار الإجتهاد، وما يواجهه. من الأسباب المعيقة لتطوره ونشاطه.
3) الثالث - وهوالعمدة - الاطلاع على مسيرة من المبدأ إلى المنتهى، وما واجهه عبر القرون، وما ابتلي به، إذ إنّه من دون الاطلاع على تاريخ العلم، لايطمئن المباحث أنه قد أعطى ابحاثه حقها.
ومن الجدیر بالذکر؛ هذه الابحاث أنها وإن لم يمرّ زمان طويل علی الاهتمام بها اعنی دراسة ادواره الاجتهاد وتاریخ الفقه حتی تستقر في إطار أسلوب متقن، ولكن ومع ذلک أن الباحثین من الفقهاء والعلماء بدأوا في الفترة الأخيرة یهتمون بها، وأصبحنا نری في تاريخ الفقه السني والشيعي كتباً ومقالات، بل موسوعات تساعد الباحث والطالب على الاطلاع علی أدوار الفقه وما تعرضت له حرکة الاجتهاد بمرور الايام.
ص: 253
ص: 254
البيان الشرعي المتمثل في الكتاب والسنة، هوالمصدر الأساسي للاجتهاد وإستنباط الحكم الشرعي وما صدر عن النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة المعصومين من آله (علیهم السلام) من النصوص تمثل بمجموعها السنة الشريفة التي لايجوز الخروج عنها، ولا الإجتهاد في مقابلها. وبهذا يعرف أن المنبع الأصلي لاستنباط الأحكام هوالكتاب والسنة. ثم الاجماع، إن كان بحيث يمكن استكشاف الحكم الشرعي منه، فهوأيضاً يكون منبعاً من منابع الإستنباط؛ لأنه حينئذ يكون طريقاً إلى السنة، ويكون حاكياً عنها.
وأما مدركات العقل، فقد يستعان بها في مجال الإستنباط، إذا كانت قطعية ويقينية. إلّا أن هذه المدركات لاتكون في مجال تشخيص ملاكات الأحكام واثبات الحكم الشرعي بها قطعيّة غالباً، ولذلک لا يمكن الاعتماد عليها. نعم مدركات العقل فيما يرتبط بتشخيص العلاقة فيما بين الأحكام كعلاقة التضاد والتقابل أوالإستلزام والمقارنة وغير ذلك هی قطعية يعتمد عليها، وفي الحقيقة المدرك العقلي في هذا المجال امّا راجع إلى تشخيص صغرى الدلالة في الخطاب الشرعي، واما مرتبط بتحديد الوظيفه العملية عند الشك في الحكم الشرعي، وهذا ما يسمى بالأصول العملية العقلية من احتياط أوبراءة اوتخيير.
ص: 255
وبتقسيم آخر، أن للعقل دورين في مجال الإستنباط. دور في المستقلات العقلية، وما يرتبط بقاعدة كل ما حكم به العقل حكم به الشرع؛ والثاني في غير المستقلاتالعقلية أي الأمور التي تکون بعض مقدماتها عقلية وبعضها غير عقلية، والتي تسمى بالملازمات العقليه، كوجوب المقدمة لوجوب ذيها، والأمر بالشيء مستلزم للنهي عن ضده.
وبهذا صارت مصادر الإستنباط أربعة: الكتاب والسنة والاجماع والعقل. وأما غيرها من القياس والاستحسان والمصالح المرسله والإجتهاد بالرأى، فلاقيمة لها في الإجتهاد الإمامي، ولاتعدّ من مصادر الإجتهاد، كما أن في مذهب أهل البيت (علیهم السلام) لا إعتبار بقول الصحابي ورأيه مالم ينقله عن المعصوم ومالم يكن ثقه.
ص: 256
بما أن الإجتهاد، يعتمد على البيان الشرعي المتمثل في الكتاب والسنة، وأن ما صدر عن النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة من أهل بيته (علیهم السلام) من الأحاديث والنصوص حجة، ولا يجوز الخروج عنها ولا الإجتهاد في مقابلها. فالإجتهاد الفقهي يبدء في طول صدور هذه النصوص، وبعدها في اطار فهمها واستخراج الأحكام منها. وعلى هذا، أن هناك مرحلتين وعصرين في تاريخ الإجتهاد:
الأول: الإجتهاد في عصر صدور النصّ وحضور المعصوم (علیه السلام) .
الثاني: الإجتهاد في إطار البيان الشرعي وعصر الغيبة.
الأول: مرحلة النصّ وعصر حضور الأئمة (علیهم السلام):
هذه المرحلة تنقسم بدورها إلى عصرين أيضاً:
الف) عصر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وهوعصر التشريع واكتمال الشريعة، من خلال ما نزل من الوحي على النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) وفاقاً لما نصت عليه الآية الكريمة: )الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ( [المائده / 23] وهذا العصر يبدء من البعثة وينتهى بوفاة النبی الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم)
ص: 257
وانتقاله له الرفيق الأعلى.
ب) عصر الأئمة الأطهار (علیهم السلام) وهوعصر تبيين التشريع وحفظه. يبدء هذا العصر من السنة الحادية عشرة إلى وقوع الغيبة الكبرى (11-329ه )
فعصر النص والحضور يمتد من أول البعثة إلى اوائل القرن الرابع. فلنبدء اوّلاً بممیزات عصر النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) ثمّ من بعده ممیزات عصرالائمة (علیهم السلام)
اوّلاً:مميزات عصر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم)
1- تبليغ القرآن للناس: القرآن بما هومصدر أول للتشريع الإسلامي، وأن آياته تشمل جميع مجالات الحياة الفردية والاجتماعية، العبادية والسياسية والثقافية، وغير ذلك، ولابد ان نؤكد أن ما هوالشائع من أن عدد آيات الأحكام يبلغ نحواً من خمس مائة، فيه مجال للبحث والاشكال. فانّ التأمل يفىد أن عدد الآيات أكثر من ذلك بمراتب؛ بل هناك من يدعي أن أكثر آيات الكتاب له إرتباط بالحكم الشرعي.
2- تبليغ السنة: وهي الأقوال والأفعال والتقريرات الصادرة من النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) . لتعليم الأمة الأحكام من الواجبات والمحرمات والمكروهات والمستحبات والمباحات والأحكام المرتبطة بالعبادات والعقود والايقاعات والجهاد والحدود والقصاص والديات إلى غير ذلك، مما يرتبط بجميع جوانب الحياة، ومجموع هذه السنة بکاملها تسلّمها اهل البیت (علیهم السلام) عن النبی (صلی الله علیه و آله و سلم) دون سائر الناس من الاصحاب وغیر هم وهی تبلغ من حيث الكم ما يمكن أن يغطي جميع الاحتياجات المرتبطة بالفقه وتشتمل على كل مايحتاج إليه الإنسان في حياته إلى يوم القيامة. أمّا بنحوالخصوص والتنصيص واما من خلال قواعد عامة.
ص: 258
مع الإشارة إلى انّ هذا العلم الغزير لم يكن عند سائر الصحابة، بل إنما كان عندالإمام علي (علیه السلام) وابنائه الطاهرين (علیهم السلام) فقط.
فإن الإمام علي (علیه السلام) کان قد دون القرآن الكريم والسنة الشريفة على عهد رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) تدويناً كاملاً، وقد أشار إلى هذا الأمر الكثير من الروايات ونقل فی الكثير من كتب السير والتاريخ. فمن باب المثال أورد الكليني بسند معتبر عن على (علیه السلام) نفسه قال في حديث طويل: قال في آخره:
وقد كنت ادخل على رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) كل يوم دخلة، وكل ليل دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار، وقد علم أصحاب رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، أنه لم يصنع ذلك بأحد من الناس غيري... الحديث.(1)
وقد عبر عن هذه الأخبار المدونة بخط على (علیه السلام) وإملاء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) ، في الأحاديث الصادرة عن الأئمة (علیهم السلام) بكتاب علي أوالصحيفة أوالجامعة. وقد انتقلت هذه العلوم إلى الأئمة من ولده من بعده، كما تنص على ذلك الروايات المستفيضة. ففي رواية ينقلها النجاشي في فهرسته بسنده إلى عذافر الصيرفي:
قال كنت مع الحكم بن عتيبة عند ابن جعفر (علیه السلام) فجعل يسأله -وكان أبوجعفر له مكرماً- فاختلفا في شيء، فقال أبوجعفر (علیه السلام) : يا بني، قم فاخرج كتاب علي (علیه السلام) ، فاخرج كتاباً مدروجاً عظيماً، ففتحه وجعل ينظر حتى أخرج المسألة.
فقال أبوجعفر (علیه السلام) : هذا خط على (علیه السلام) وإملاء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) واقبل على الحكم
ص: 259
و قال:
يا أبا محمد اذهب أنت وسلمة وأبوالمقدام، حيث شئتم يميناً وشمالاً، فواللهلاتجدون العلم اوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل.(1)
وأيضاً روى الكليني بسند صحيح عن محمد بن مسلم قال: اقرأني أبوجعفر (علیه السلام) صحيفة كتاب الفرائض التي هي إملاء رسول الله وخط على (علیه السلام) .(2)
وأيضاً روى بسند صحيح عن عمر بن اذينة عن زرارة في حديث طويل يذكر اقرائه صحيفة الفرائض، وبعد قرائته قال أبوجعفر (علیه السلام) : «فإن الّذي رأيت والله يا زرارة هوالحق، الّذي رأيت املاء رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وخط على (علیه السلام) بيده».(3)
ثانیاً: مميزات عصر الأئمة (علیهم السلام)
قد ذكرنا أن مرحلة الصدور تنقسم بدورها إلى عصرين، عصرالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) وعصر الأئمة (علیهم السلام) فقد قدمنا شرحاً اجمالیاً لعصر النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ومميزاته، والآن سوف نتطرق إلى تعريف عصر الأئمة الأطهار (علیهم السلام) ومميزاته.
ويمكننا بحق أن نسمى عصر الأئمة (علیهم السلام) عصر تبيين النص وحفظه. وهذا العصر امتدّ من وفاة النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في سنة (11ه) إلى عصر وقوع الغيبة الكبرى، سنة (329ه) حیث قام الأئمة الهداة في هذه الفترة بتبيين الدين الحنيف والتشريع الإلهي، كما علمه النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) بصورة كاملة وافية اخاه ووصيّه علي بن أبيطالب (علیه السلام) الذی نقله إلی
ص: 260
الأئمة من ولده، ليصونوا بذلك الدين عن التحريف وتلاعب المبتدعين، وقد وردت في ذلك روایاتعن الإمام علي (علیه السلام) ، وأولاده المعصومين (علیهم السلام).(1)
منها ما قاله (علیه السلام) في خطبة: «عبادالله ابصروا عيب معادن الجور، وعليكم بطاعة من لاتعذرون بجهالته؛ فإن العلم اّذي نزل به آدم (علیه السلام) وجميع ما فُضِّل به النبيون: في محمد خاتم النبيين (صلی الله علیه و آله و سلم) وفي عترته الطاهرين (علیهم السلام) فاين يتاه بكم؟ بل أين تذهبون؟!(2)
وقد صدر عن الأئمة (علیهم السلام) في هذه الفترة الكثير من النصوص خصوصاً في عصر الإمامين الباقر والصادق عليهماالسلام الّذي استغرق أكثر من نصف قرن (95-148 ه) وقد قارنت هذه المدّة فترة انتقال السلطة من الأمويين إلى العباسيين؛ولذلک تعتبر هذه الفترة فترة الانفراج النشاط الفكري والفقهي لمدرسة أهل البيت (علیهم السلام). وفی الحقيقة عصرالامامین الباقر والصادق (علیهما السلام) يعد عصر انتشار علوم آل محمد (صلی الله علیه و آله و سلم) .
وقد كان لكل من الأئمة (علیهم السلام) -سيما الصادقين (علیه السلام) - رواته المختصون به ولما کان یلقیه من درس وتعليم في المسجد النبوي الشريف، كما كان لكل منهم في بيته مجلس عامر بالرواة وطلبة العلم، وخاصه في أيام الحج، وكان أصحابهم يدونون كل ما لديهم من أسئلة، ويتقدمون بها إلى الإمام عند تشرّفهم بلقائه.
يقول عبدالله بن عطاء المكي: «ما رأيت العلماء عند أحد أصغر منهم عند أبي جعفر -يعني الباقر (علیه السلام) - ولقدرأيت الحكم بن عتبة (ت-114ه) مع جلالته في القوم
ص: 261
بين يديه كأنّه صبي بين یدی معلمه».(1)
وقال أيضاً: ان رجلا سأل ابن عمر عن مسألة، فلم يدر ما يجيبه فقال: اذهب إلى ذلك الغلام فسله واعلمني بما يجيبك -واشار به إلى محمد بن علي الباقر (علیه السلام) - فسأله واجابه، فرجع ابن عمر فاخبره فقال ابن عمر: انّهم أهل بيت مفهمون.
وقد روى الكثيرون من غيرالشيعة الأحاديث عن الصادقين: أمثال: ابن شهاب الزهري المدني (ت-124ه) وايوب السجستاني (ت-131ه)، وابن سعيد الانصاري المدني (ت-143ه)، وأبوحنيفه (ت-150ه)، وسفيان بن سعيد النوري (ت-159ه) وسفيان بن عيينية (ت-198ه)، ومالك بن انس (ت-179ه)، وعبدالملك القرشي (ت-150ه) وشعبة بن الحجاج (ت-159ه).
فهذا أبوحنيفه يقول: «ما رأيت افقه من جعفر بن محمد».(2)
وهذا مالك بن انس يقول: «ما رأت عيني أفضل من جعفر بن محمد فضلاً وعلماً وورعاً» ويقول أيضاً: «اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلا على احدى ثلاث خصال: امّا مصلیاً وامّا صائماً وامّا يقرأ القرآن».(3)
ولأن دور الائمة (علیهم السلام) قد تجلیّ بشکل کبیر فی صون الدين والمحافظة علی خلوصه وعدم امتزاجه بالافكار الباطله، والأمور الخرافيه وغيرالحقّه، فإننا تبعاً لذلك يمكننا أن نقسم عصر الأئمة (علیهم السلام) بالنسبة إلى الظروف التي عاشوها في طيلة حياتهم الشريفة
ص: 262
إلى الأقسام التالي:
1) عصر الإمام علي (علیه السلام) بعد وفات النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) إلى اسشتهاد الإمام الحسين بنعلى عليهماالسلام في الطف سنة (61 هجريّة).
2) عصرالإمام السجاد والصادقين عليهما السلام.
3) عصر الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) إلى شهادة الإمام الحسن العسكري (علیه السلام) .
4) عصر الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) إلى انتهاء الغيبة الصغرى. سنة (329ه).
ولكل من هذه العصور الأربعة. مميزات خاصّة به. ولكن العصر المهم الذي له دور عميق بالنسبة إلى مذهب أهل البيت (علیهم السلام) من حیث تكوينه وتشکّل مبادئه الإجتهادیّة هوعصر الصادقين عليهما السلام.
والسر في ذلك هوأنّه لم یکن في عصور الأئمة من قبلهما مجال، وهذا المجال انفتح في عصر هذين الامامين الهمامين، وأمّا الائمة بعدهما، فقد تجلّی دورهم ایضاً فی حفظ الميراث العلمي لهذين الإمامين من الزوال وصيانته عن الانحراف ودخول الاباطيل إليه.
ومن مميزات مدرسة أهل البيت (علیهم السلام)، خاصة في عصر الصادقين:، انّها كانت مدرسة جامعة يدرس فيها العلوم المختلفه وفي جميع مجالات العلم من أصول العقيدة والفقه وأصوله والتفسير والفلسفة والكلام والطب والفلك والكيمياء، إلى غير ذلك من الفروع العلمية المختلفة.
إلاّ أنّ اهتماماً بالغاً من الأئمة (علیه السلام) توجه إلى الفقه وتربية الرواة والفقهاء ليحفظوا الدين، وقد قال الإمام الصادق (علیه السلام) في حق أربعة من أصحابه: «أربعة نجباء امناء الله
ص: 263
على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثارالنبوة واندرست». وهم:
1) بريد بن معاوية العجلى (150ه).
2) زرارة بن اعين (148ه).
3) محمد بن مسلم الثقفى (150ه).
4) ليث المرادى أبوبصیر.
وقال (علیه السلام) فيهم أيضاً: «ما أجد أحداً احيى ذكرنا وأحاديث أبي، إلا زرارة وأبابصير ليث المرادي ومحمد بن مسلم وبريد بن معاوية العجلي، ولولا هولاء ما كان احد يستنبط هدى، هؤلاء حفاظ الدين، وامناء أبي (علیه السلام) على حلال الله وحرامه، وهم السابقون الينا، في الدنيا، والسابقون الينا في الآخرة».
وقد بلغ عدد الرواة الخريجين من مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) أربعة الأف شخص وصنف في هذا المجال: أربع مأة كتاب تسمّى«بالأصول لاربعمأئة». وقد ألف أبوالعباس المعروف بابن عقدة (ت-333ه) كتاباً باسماء الرجال الذين رووا عن الصادق (علیه السلام) .
ومع الأسف، أن الانفراج الذي حصل في عصر الصادقين (علیهما السلام) انقلب في عهد الأئمة بعدهما إلى التضييق والتشديد عليهم، خصوصاً في زمن الإمام موسى بن جعفر (علیه السلام) ، حيث اعتمدت السلطة في عهده سياسة جلب الأئمة من المدينة إلى دار الخلافة، ومن ثم وضعهم تحت الرقابة المشددة، ولهذا تلاحظ قلة الروايات عن الأئمة بعد الإمامين الصادقين (علیهما السلام) فمجموع الرواة عن الأئمة (علیهم السلام) من الإمام علي (علیه السلام) إلى الإمام العسكري (5436) راوياً، منهم (3217) راوياً عن الإمام الصادق (علیه السلام)
ص: 264
و(466) راوياً عن الباقر عليهماالسلام والباقون رواة عن سائر الأئمة مع اضافة الراوين عن الإمام الثاني عشر الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف) حیث بلغ عددهم (52) راوياً.(1)والكتب المصنفة في عهد الأئمة (علیهم السلام) بيد الأصحاب بلغ عددها ما يزيد على ستة آلاف وستمائة كتاب وقد جاءت هذه الكتب على نوعين: أصول وغير أصول. والأصول هي التي دون فيها مؤلفوها الأحاديث التي سمعوها من الأئمة مباشرة ورووها عنهم بلا واسطة، وأيضاً، التي سمعوها من راويرويها –بدوره- عن الإمام مباشرة، وعلى هذا، فروايات الأصول لم تنقل من كتاب، وإنما اعتمد في طريق تدوينهما على السماع من الإمام، أوممن يروي عن الإمام مباشرة، وأما غير الأصول فهي التي نقل مؤلفوها محتوياتها من الأحاديث ولوعن كتاب مكتوب. يقول صاحبه الذريعه (رحمه الله) في هذا المجال ما ملخصه:
«ثم بعد أن جمعت الأصول في المجاميع قلت الرغبات في استنساخ أعيانها، لمشقة الاستفادة منها، فقلّت نسخها وتلفت النسخ القديمه تدريجاً، وأوّل تلف وقع فيها کان احراق ما كان منها موجوداً في مكتبة سابور بالكرخ، عند ورود طغرل بك السلجوقي ببغداد(448ه). وكان أكثر تلك الأصول باقياً بالصورة الأوليّة إلى عصر ابن ادريس الحلّي واستخرج منها جملة في «مستطرفات السرائر» کما حصل علی جملة منها السيد على بن طاووس (664ه) ثم تدرّج التلف وتقليل النسخ إلى ما نراه في عصرنا هذا».(2)
ص: 265
و قد جمعت عمدة تلك الأصول في مجاميع الحديث والاهم منها الكتب الأربعة التي هى:
1) الكافي 2) من لايحضره الفقيه 3) التهذيب 4) الاستبصار.
وقد ضمت هذه المجاميع عدداً هائلاً من الأحاديث، وهذا يعد من امتيازات فقه مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) وعدد احادیثها علی النحوالتالی:
أحاديث الكافي بلغت: (16199) حديثاً.
أحاديث التهذيب بلغت: (13590) حديثاً.
أحاديث من لايحضره الفقيه بلغت: (5963) حديثاً.
أحاديث الاستبصار بلغت: (5511) حديثاً.
ثمّ جاء بعد ذلك الشيخ الحر العاملي(1104ه) فجمع في كتابه القيم «وسائل الشيعة» الروايات الموجودة في الكتب الأربعة وغيرها، فبلغت أحاديثه: (35850) حديثاً.
واستدرك عليه الميرزا النوري (ت 1320ه) في كتابه المستدرك (23000) حديثاً.(1)
أهم خصائص عصر الحضور:
1) ثبوت الإمامة العظمى لأئمة الهدى (علیهم السلام)، وأنهم كانوا مرجعاً علمياً وسياسياً للمسلمين.
ص: 266
2) إمكان الوصول إلى الحكم الشرعي الواقعي في هذا العصر.
3) عدم جواز اعمال الإجتهاد في مقابل قولهم ورأيهم؛ لانه من الإجتهاد في مقابلالنص المحرم والباطل.
4) أن تصدي الفقهاء لأى منصب كان منوطاً بأذنهم والتنصب من قبلهم.
5) كان الإجتهاد موجوداً في هذا العصر؛ ولكن لايصح للفقهاء في هذا العصر أن يرجعوا إلى القواعد والأصول العامة قبل سؤال الأئمة (علیهم السلام) والفحص عن المخصص والمقيد.
6) إن الفقاهة في ذلك العصر تتمثل في سماع الروايات والنقل عنهم: والافتاء بما هوظاهر، وواضح منها والرجوع في المسائل الإجتهاديه إلى الأئمة (علیهم السلام)، إلاّ في حالات لايمكن فيها الوصول إليهم، كما حدث ذلك بالتدريج لدى إتساع مذهب أهل البيت (علیهم السلام)، وانتشار مدرستهم.
فعملية الإجتهاد كانت موجودة في عصرهم؛ ولكنها کانت محدودة؛ لأن مصادرها لم تکن قد إكتملت بعد، وقد اشارت إلى ذلك بعض الأخبار العلاجية الأمرة بالتوقف والاحتياط في الخبرين المتعارضين، وإرجاء الفقیه ذلك حتى يلقى الإمام.(1)
على هذا يمكن تلخيص ملامح عهد الأئمة (علیهم السلام) في أمرين:
1) الاعتماد على النص: مثل ما رواه عبدالله بن يعفور، حيث قال للإمام الصادق (علیه السلام) :
إنه ليس كل ساعة القاك ولايمكن القدوم، ويجى ء الرجل من أصحابنا فيسألني،
ص: 267
و ليس عندى كل ما يسألني عنه؟ فقال (علیه السلام) : ما يمنعك من محمد بن مسلم الثقفى، فإنهسمع من ابى وكان عنده وجيهاً.(1)
2) تطبيق القواعد الكليه على مواردها:
كما في رواية عبدالاعلى حين سأل أبا عبدالله (علیه السلام) عن انقطاع الظُفُر والوضوء في هذه الحالة، فقال (علیه السلام) : «يعرف هذا واشباهه من كتاب الله قال الله سبحانه وتعالی:)...وما جعل عليكم في الدين من حرج( امسح عليه».(2)
وروي عنهم: أيضاً علينا القاءالأصول وعليكم التفريع.(3)
بداية حركة الإجتهاد عند الشيعة:
اعتماداً على ما تقدم في المباحث السابقة، نستطيع أن نقول إن حركة الإجتهاد عند الشيعة بدأت منذ عهد الأئمة (علیهم السلام)، وقد أمر الأئمة أصحابهم بالجلوس للفتيا، كما قال الإمام علي (علیه السلام) للقثم بن عباس عند ما ولاّه مكه: «أفت المستفتي وعلّم الجاهل».
وقال الإمام الصادق (علیه السلام) لابن تغلب: «اجلس في مسجد المدينة، وأفت الناس فاني احبّ أن يرى في شيعتي مثلك».
وقال أيضاً لمعاذ بن مسلم حين بلغه انه يقعد في الجامع ويفتي الناس: «اصنع كذا
ص: 268
فانّي كذا اصنع». وكما قال الرضا (علیه السلام) لعبد العزيز المهتدي حين سأله: عمن آخذ معالم ديني؟ قال (علیه السلام) : «خذ عن يونس بن عبدالرحمن».وبذلك ظهر ما يرد على القول بنفي وجود الإجتهاد في عصر الأئمة بتوهّم:
أوّلاً: أنه من قبيل الإجتهاد في مقابل النص.
وثانياً: أنه لايحتاج إلى الإجتهاد في هذه الظروف.
وثالثاً: أنه لم يكن هناك تدوين لعلم الأصول في تلك الأعصار، فلايجور الإجتهاد فيها.
ولكن كما مرّ سابقاً، أن هذه الأدلة لاتنفي وجود الإجتهاد في عصر الأئمة (علیهم السلام).
ويرد على هذه الادلة:
بالنسبة إلى الدليل الأول، يقال: إن الإجتهاد في ذلك العصر كان في اطار النص، وكان مرتبطاً بفهم النص، لا في مقابل النص. وأما بالنسبة إلى الدليل الثاني فيقال: إن الوصول إلى الأئمة (علیهم السلام) في ذلك العهد لم یکن متاحاً في كل حين ولكل أحد، فإن الظروف والأوضاع كانت بحيث لايمكن لكل أحد أن يرى الإمام ويسئله بسهولة، فإن السكن في الأماكن البعيدة، وعدم وجود وسائل السفر بسهولة، وظروف التقيه والتضييق على الأئمة (علیهم السلام) وكونهم في السجون ونحوها، كل ذلك یدلّ على تحقق الإجتهاد في ذلك العهد؛ بل ضرورته.
أما بالنسبة إلى الدليل الثالث فإنه يقال:
أولا: الإجتهاد في ذلك العصر كان بسيطاً وسهلاً. ولم يكن بحيث يحتاج إلى المباحث العميقة الواردة في القواعد الأصولية.
ص: 269
ثانياً: قد بلغ عن الأئمة (علیهم السلام) الأخبار تتضمن الأصول المهمة المحتاج إليها، وقد دوّن بعض أصحاب الأئمة (علیهم السلام) كهشام بن الحكم في هذا المجال كتباً.وبهذا تم الكلام عن الإجتهاد في عصر النبي الأعظم (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة الهداة من آله (علیهم السلام).
ص: 270
قد مرّ بنا أن المراحل التاريخية للإجتهاد وفقاً لمذهب أهل البيت (علیهم السلام)، تتكوّن من عصرين:
العصر الأول: الإجتهاد في عصر الحضور ومرحلة صدور النص، وهذا الذي مرّ ذكره في المباحث السابقة.
العصر الثاني: الإجتهاد في عصر الغيبة
إن الإجتهاد بالمعنى الاصطلاحی، كما مرّ ذكره، وإن كان موجوداً في عصر الأئمة الهداة (علیهم السلام) الذین کانوا يرجعون شيعتهم أحیاناً في الأقطار المختلفة إلى بعض الفقهاء، كامثال: زكريّا بن آدم ويونس بن عبدالرحمن کما أنّ أصحاب الأئمة (علیهم السلام) هم الذين وضعوا اللبنة الأساس لحركة للاجتهاد، وفقاً لتعاليم الأئمة (علیهم السلام) كمحمد بن مسلم، وزرارة بن أعين، وابن أبي عمير، والفضل بن شاذان، ويونس بن عبدالرحمن وغيرهم. إلاّ أن هذا المنهج في المرحلة الأولى کان خافت ضوء في مقابل شعاع شمس ولاية الأئمة الأطهار (علیهم السلام).
ولكن فی عصرالغيبة صار منهج الإجتهاد وتفريع الفروع على الأصول والرجوع إلى فقهاء مذهب أهل البيت (علیهم السلام) ومنحصراً بالفقهاء، فمن هذه الجهة قد يسمّى عصر
ص: 271
الغيبة بعصر الإجتهاد.
وقد مرّ حرکة إجتهاد الإمامية على أيدي فقهاء هذه المدرسة بمراحل عديدة، يمكن بيانها ضمن الأدوار التالية:
1) دور التأسيس.
2) دور الانطلاق.
3) دور التكامل.
4) دور الافراط في الاتجاه العقلي للاستنباط.
5) دور التفريط في الاتجاه العقلي (ظهور حركة الاخبارية).
6) دور التصحيح والإعتدال.
7) دور الكمال والنضج.
8) دور التدبير والتنفيذ وتأسیس الدولة.
وفي كلّ دور من هذه الأدوار ينبغى البحث عن هذه الأمور:
الأمر الأول: تحديد الدور.
الأمر الثاني: التعريف بالدور.
الأمر الثالث: فقهاء الدور ومؤلفاتهم المهمّة.
الأمر الرابع: منهج الإجتهاد في الدور.
الأمر الخامس: أهم خصائص الدور.
والآن نبدأ: بشرح مختصر للأدوار المذكورة للاجتهاد في مذهب أهل البيت (علیهم السلام)، على ترتيب هذه الأمور الخمسة.
ص: 272
هذا الدور هو دور تدوين الكتب الفقهية والأصولية الأوّلية، والعناية بالمنهج الفقهي، والذي قد يسمّى بالفقه المأثور، ويبدء هذا الدور من نهاية الغيبة الصغرى، في سنة (329 ﻫ.ق) (هذه السنة أيضاً هي سنة وفاة الشيخ الكليني والشيخ الصدوق الأول على بن الحسين بن بابويه القمي). ثمّ ينتهى هذا الدور في اوائل القرن الخامس الهجری بوفاة حمزة بن عبدالعزيز الديلمي، المعروف ب«سلاّر» عامّ (463 ﻫ.ق).
في هذا الدور بدأ الفقهاء التابعون لمذهب أهل البيت (علیهم السلام) بالتدوين والتأليف في الفقه وفق أصول هذا المذهب، وشرعوا بتأسيس ما نصطلح عليه اليوم بالفقه الإجتهادي، وصنّفوا في ذلك مؤلفات كثيرة؛ لأنهم كانوا في عهد انتهت فيه فرصة صدور النص، وإمكان الوصول إلى شمس الحقيقة واخذ الحكم الشرعي مباشرة، فكان الطريق المتعین هوالرجوع إلى كتاب الله وإلى ما كان قد صدر عن الأئمة (علیهم السلام) من النصوص الشرعية، ثم استخراج الحكم الشرعي واستكشافه من هما وتفريع الفروع على الأصول التي القاها الأئمة (علیهم السلام)، وعلى ضوء القواعد العامّة المبيّنة فيها، وهذه هي نفس عملية الإجتهاد الفقهي المصطلح عليه اليوم.
ص: 273
والّذي يظهر من مراجعة مصنفات هذا العصر أن عملية الإجتهاد فيه كانت بدائية، وتتمثّل في توزيع نصوص الروايات على الأبواب الفقهية، واصدار الفتوى بنفس ألفاظالنصوص والأخبار ولذا يسمّى هذا المنهج للاجتهاد بالفقه المأثور؛ إذ إن الروايات كانت تدون تارة بعين ألفاظ الأحاديث كما فی کتاب «الكافي» و«من لايحضره الفقيه» وأخرى بحذف الأسانيد وتقطيع متون الأخبار والاقتصار على الفتوى وفقاً لألفاظ النصوص، موزّعة على الأبواب الفقهية، كما نجد ذلك في كتاب «الشرايع» لابن بابويه (ت 329ﻫ.ق) و«الهداية» و«المقنع» للشيخ الصدوق (ت 381ﻫ.ق). نعم أنّ تطوّر الفقه واتساع تفريعاته على أساس المسائل المستجدَّة والمستحدثة أوجب استقلال المنهج الفقهی والفقه المأثور عن الأخبار، والاحادیث، وبدأ الفصل بين المصنفات الفقهية وكتب الحديث. كما في مصنفات القديمين العماني(ت 368ﻫ.ق) والاسكافي (ت 381ﻫ.ق) والشيخ المفيد (ت 413ﻫ.ق) والسيد المرتضى (ت436) وتلامذتهم.
وأيضاً، مضافاً إلى تدوين الكتب في مستوى الفقه، بدأ في هذه الدور تدوين كتب في أصول الفقه وتأليف الرسائل في هذا المجال، مستقلة عن المؤلفات الفقهية كرسالة «التذكرة بأصول الفقه» للشيخ المفيد و«الذريعة إلى أصول الشيعة» للسيد المرتضى.
بالتأمل في الاتجاهات الفقهية، يظهر أن کان لفقهاء هذا الدور منهجان أساسيان هما: المنهج الروائي والمنهج العقلي.
ص: 274
ألف) أهمّ فقهاء المنهج الروائي، هم:
1) محمد بن يعقوب الكليني (ت 329ﻫ.ق)، وهوالمؤلف لأصول الكافيوفروعه.
2) علي بن الحسين بن بابويه القمي (ت 329ﻫ.ق)، مؤلف كتاب «الشرائع».
3) أبوجعفر محمد بن علي بن بابويه (ت 381ﻫ.ق)، مؤلف «المقنع» و«الهدايه».
4) جعفر بن محمد بن قولويه القمي (ت 369ﻫ.ق). الّذي قال النجاشي في حقّه: «من ثقات أصحابنا واجّلائهم في الحديث والفقه... وكل ما يوصف به الناس من جميل وفقه، فهوفوقه، له كتب حسان».(1)
ب) أهمّ فقهاء المنهج العقلي، هم:
1) الحسن بن علي أبي عقيل الحذّاء العمّاني (ت 368ﻫ.ق):
كان شيخ فقهاء الشيعة الّذي وصفه العلاّمة الحلّي بقوله: فقيه ثقة متكلم، له كتب في الفقه والكلام، منها: كتاب «المستمسك بحبل آل الرسول»(2) وهذا الكتاب كان في القرنين الرابع والخامس من أهم المراجع الفقهية عند الشيعة. يقول النجاشي: كتاب «المستمسك بحبل آل الرسول» كتاب مشهور في الطائفة وقيل: ما ورد الحاجّ من خراسان إلاّ طلب واشترى منه نسخ.(3) ثم من الأمور المهمّة التي لابد من أن تذكر؛ أن كتب العماني (رحمه الله) وإن لم تبق بصورتها؛ ولكن بقيت بمادتّها، فقد نقل عنها العلاّمة في
ص: 275
كتابه «مختلف الشيعة».
2) محمد ابن أحمد بن الجنيد المعروف ب«الإسكافي» (ت 381 ﻫ.ق)
قال النجاشي في حقّه: وجه في أصحابنا، ثقة جليل القدر، صنّف فأكثر وسمعت بعض شيوخنا يذكر انّه كان عنده مال للصاحب (علیه السلام) وسيف أيضاً، وانه وصىّ به إلى جاريته فهلك ذلك، له كتاب «تهذيب الشيعة لأحكام الشريعة».(1)
3) محمد بن محمد بن النعمان العكبري (الشيخ المفيد) (ت 413ﻫ.ق)
قال النجاشي في حقّه: شيخنا واستاذنا رضى الله عنه، فضله أشهر من أن يوصف في الفقه والكلام والرواية والثقة والعلم.(2)
وقال تلميذه الآخر الشيخ الطوسي: من اجلّة متكلّمي الإمامية، انتهت إليه رئاسة الإمامية في وقته، وكان مقدّماً في العلم وصناعة الكلام، وكان فقيهاً متقدّماً فيه، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، له قريب من مائتي مصنّف كبار وصغار، وكان يوم وفاته يوماً لم ير اعظم منه، من كثرة الناس للصلاة عليه، وكثرة البكاء من المخالف والموالف.(3)
وأهم كتبه الفقهية هو«المقنعة» وهوالمتن الّذي شرحه الشيخ الطوسي في كتابه الكبير: «تهذيب الأحكام» وهذا الكتاب ليس متناً حديثيا محضاً لايخرج عن نصوص الروايات، ولا كتاباً تفريعيّاً يتوسع في الاستدلال. بل كتاب يحتوى على
ص: 276
جميع أبواب الفقه، اخرج الفقه من حصار الوقوف على النصوص، من دون أن يتعبّد بأمور غيرمعتبرة، كالقياس والاستحسان.
4) السيد علي بن الحسين الموسوي، علم الهدى، الشريف المرتضى. (ت 436ﻫ.ق)
وهومن أبرز تلامذة الشيخ المفيد. يعرّفه تلميذه النجاشي بقوله: «حاز من العلوم ما لم يدانه فيه أحد في زمانه، وسمع من الحديث فأكثر، وكان متكلماً شاعراً أديباً، عظيم المنزله في العلم والدين والدنيا. صنف كتباً».(1)
ومن أهمّ كتبه الفقهية: كتاب «الانتصار» و«الناصريات» ومن أهمّ كتبه الأصولية:«الذريعة إلى أصول الشريعة».
5) حمزة بن عبدالعزيز الديلمي، سلاّر (ت 448 أو464ﻫ.ق)(2)
أهم كتبه في الفقه، هو«المراسم العلوية».
كما ذكرنا في المبحث السابق، نواجه في الدور الأول من أدوار الإجتهاد، اتجاهين من فقهاء هذا العصر. الاتجاه الروائي والاتجاه العقلي. وبعد هذين الاتجاهين، نواجه اتجاهاً ثالثاً، يعدّ خطاً متوسطاً بين هذين الاتجاهين، والآن نذكر أهم ما يتربط بكلّ من هذه الاتجاهات الثلاث.
ص: 277
يمثل هذه الاتجاه، الفقهاء الذين يعتمدون الحديث، وهم في الغالب من خريجيمدرسة قم. وقد یسمون ب: أهل الحديث، وقد يسمّون ایضاً بالاخبارية، والجدیر بالذّكر أن الاخبارية في ذلك العصر لم تكن لهم مدرسة ومنهج فقهی خاص كما ظهر بعد القرن العاشر، ومایری من منهج محمد أمين الاسترابادي فالمراد من أهل الحديث في هذا الدور، هم الذین مارسوا تدوين الحديث ونقل السنة؛ أذ لم يكن لهم مذهب خاص باسم مذهب أهل الحديث، وأمّا الاخبارية الحديثة، فسيأتي ذكر منهجهم ومدرستهم لاحقاً. نعم كان لهؤلاء في نقل النصوص وكيفيّة تلقي الأخبار منهجان.
1) نقل الحديث من كل راومن دون فرق بين الثقة وغيره، وهم المعروفون بالاكثار عن الضعفاء، كسهل بن زياد، وأحمد بن محمد بن خالد البرقي.
2) نقل الحديث عن الثقه دون الضعيف، وهم شیوخ الشيعة في الحديث، كأحمد بن محمد بن عيسى، ومحمد بن حسن بن أحمد بن الوليد والصدوقين والكليني.(1)
إن كثيرین من أصحاب الاتجاه كانوا ينظرون إلى الاستدلالات العقلية علی أنها نوع من القياس الّذي نهى عنه الأئمة (علیهم السلام) ويرون أن النهى الائمه (علیهم السلام) عن العمل بالقياس شامل لتلك الإستدلالات العقلية. مع وجود فرق بين القياس والإجتهاد
ص: 278
بالرأي المنهي عنه، بين الأدلّة العقلية المظنونة والاستدلالات العقلية القطعية المعتبرة؛ كيف وقد كتب كثيرون منهم في ردّ الإجتهاد بالرأي والدليل العقلي الظنّي.(1)
لاشك فی أن الغلاة يعدّون من الكفار، وأن الإمامية تبرّأوا منهم، وإنما الكلام والخلاف في تحديد الغلوّ. فكان هناك اختلاف بين المدرستين: مدرسة قم ومدرسة بغداد، أوماسمّيناه بالاتجاه الروائى والاتجاه العقلي في تحديد معنى الغلو.
فأصحاب الاتجاه الروائى كان الرأي الرائج بينهم نسبة السهوإلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) في الصلاة، وقد تبنّاه به الشيخ الصدوق واستاذه محمد بن الحسن بن الوليد القمي، اعتماداً على الروايات في هذا الباب؛ ولذلك كانوا يتهمون البغدايين الذين ينكرون هذه النسبة بالغلوّ، قال الصدوق: وعلامة المفوضة والغلاة واصنافهم نسبتهم مشايخ قم وعلمائهم إلى القول بالتقصير. كما زعموا أن نسبة علم الغيب إلى النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة (علیهم السلام) لاتخلوعن غلوّ.
وفي مقابل ذلك کان اصحاب الاتجاه العقلي وعلماء بغداد يتهمون القميين بالتقصير.
قال الشيخ المفيد: قد سمعنا حكاية ظاهرة عن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الوليد (رحمه الله)لم نجد لها دافعاً في التقصير، وهي ما حكي عنه أنه قال: أول درجه في الغلونفي السهوعن النبي والإمام، فإن صحّت هذه الحكاية، فهومقصّر، مع أنه من
ص: 279
علماء القميّين ومشایخهم.
يمثل الاتجاه العقلي، الفقهاء الذين كانوا يعتمدون على الأصول العقلية، ولهم طريقتهم الخاصة بهم في الاستدلال العقلي، كالقديمين (العمّاني والاسكافي)
وأصحاب الاتجاه العقلي، كانوا في الغالب من خرّيجي مدرسة بغداد، والسبب فيذلك أن المباحث العقلية كثرت في بغداد، ولا سيما علم الكلام. فبالنسبة إلى الغلو، كانوا يردّون الاتهام وينسبون القميين إلى التقصير، وقد كان هذا النزاع قائماً إلى أن طواه الشيخ المفيد.
ولواء الاتجاه العقلي كان معقوداً لطائفة من المجتهدين، من أشهرهم: الحسن بن أبي عقيل (ت 329ﻫ.ق) الّذي مرّ ذكره، والظاهر حسب النسبة أنه كان فقيها بعمّان(1) وكانت الصلة بينه وبين الحواضر العلمية ضعيفة، ولاجل ذلك ينقل عنه بعض الفتاوى الشاذّة، كعدم تنجس الماء القليل بمجرد الملاقاة، وعدم وجوب طواف النساء، وعدم اشتراط رضي المرأة في نكاح بنت أخيها وبنت أختها عليها. هذا في ساحة الفقه، أما فی ساحة الأصول، كان لايعمل إلاّ بالأخبار المتواترة أوالأخبار القطعية؛ ولكنه كالمفيد والمرتضى کان يدعى التواتر كثيراً في مالا تواتر فيه.(2)
ص: 280
والفقيه الثاني من هذا الاتجاه، هومحمد بن أحمد بن الجنيد (ت: 1381ﻫ.ق) المعروف بالاسكافي، قال الشيخ: «كان جيّد التصنيف حسنه إلاّ أنه كان يرى القول بالقياس، فتركت لذلك كتبه ولم يعوّل عليها». لذا مسلك الرجل لم يكن مورد الرضا لأعلام الأمّة كالمفيد والمرتضى. فقد أفرد الشيخ المفيد (رحمه الله) على نقد مسلكه رسالتين: رسالة «نقض رسالة الجنيدي إلى أهل مصر» ورسالة «المنقض على ابن الجنيد في إجتهاد الرأي». ومع الأسف لم يصل إلينا شئ من الرسالتين. كما أنه المفيد ردّ علىابن الجنيد في ثنايا كتابيه: «المسائل الصاغانية» «والمسائل السروية» ويظهر من ردوده أن ابن الجنيد كان متاثراً بالمناهج الفقهية السنیّة.(1)
وكان يحمل لواء هذا الاتجاه الشيخ المفيد (رحمه الله) فانّه وإن كان من أجلّة تلاميذ ابن الجنيد، وقد استفاد منه كثيراً؛ لكنه عارض طريقته في الاستدلال وخطّأه في موارد عديدة.
وقد حكي عن شيخ الشريعة الاصفهاني أنه قال: إن لبعض الفقهاء حقاً عظيماً في تثبيت الهوية الفكرية للشيعة في سالف الزمان، منهم الشيخ المفيد فقد جعل الفقه ينحومنهج أهل البيت (علیهم السلام) صائناً له عن التحريف والضلال. وإن لأكثر فقهائنا مع تثبّتهم في الفقه، فتاوى شاذة تخالف فتاوى مشاهير الفقهاء ولكن المفيد (رحمه الله) مع أنه
ص: 281
تتلمّذ على أيدى اهل القياس، لم يتأثر بأفكارهم وابعد القياس عن فقهه.(1) هذه مسيرة الشيخ المفيد (رحمه الله) الفكرية بالنسبة إلى الإتجاه العقلي.
وأمّا مسيرته بالنسبة إلى الاتجاه النقلى ومواجهته مع اهل الحدیث، فإنه ردّ عليهم ردّاً عنيفاً، حیث قال في حقّهم: «أصحابنا المتعلقين بالأخبار، أصحاب سلامة وبُعد ذهن، وقلّة فطنة، يمرّون على وجوههم فيما سمعوه من الأحاديث ولا ينظرون في سندها ولايفرّقون بين حقها وباطلها ولايفهمون ما يدخل عليهم في اثباتهاولايحصلون معاني ما يطلقونه منها».(2) وأيضا قال: «وقد وجدنا جماعة وردوا إلينا من قم، يقصّرون تقصيراً ظاهراً في الدين، وينزلون الائمة (علیهم السلام) عن مراتبهم، يزعمون أنهم كانوا لايعرفون كثيراً من الأحكام الدينية، حتى ينكت في قلوبهم. ورأينا في اولئك من يقول أنّهم ملتجئون في أحكام الشريعة إلى الرأي والظنون؛ ويدعون مع ذلك انهم من العلماء، وهذا هوالتقصير الّذي لاشبهة فيه».(3)
وقال أيضاً، ردّا على ما اثبته الشيخ أبوجعفر ابن بابويه (الصدوق) في كتبه من الأخبار المسندة عن الأئمة (علیهم السلام): «فليس يجب العمل بجميعه إذا لم يكن ثابتاً من الطرق التي تعلق بها قول الأئمة (علیهم السلام):إذ هي أخبار أحاد لا توجب علماً ولا عملاً، وروايتهاعمن يجوز عليه السهووالخلط. وانما روى أبوجعفر (رحمه الله) ما سمع، ونقل ما حفظ، ولم يضمن العهدة في ذلك. وأصحاب الحديث ينقلون الغث والسمين، ولا
ص: 282
يقتصرون في النقل عن المعلوم، وليسوا بأصحاب نظر وتفتيش ولا فكر فيما يروونه وتمييز، فاخبارهم مختلطة، لا يتميزّ منها الصحيح من السقيم إلاّ بنظر في الأصول واعتماد على النظر الّذي يوصل إلى العلم بصحة المنقول».(1) فهذه كانت طريقة الشيخ المفيد (رحمه الله) بالنسبة إلى الإجتهاد.
ثم بعده، قد استمرت هذه الطريقه وهى طريقة الإعتدال في الإجتهاد، واتبع تلاميذه نفس هذه المدرسة كالسيد المرتضى وسلاّر والشيخ الطوسي وغيرهم
الأول: تدوين القواعد الأصولية
من أبرز مميّزات هذا الدور تدوين القواعد الأصولية في سياق علمي، وقد تمثل ذلك في تأليف كتابين: «التذكرة باصول الفقه» للشيخ المفيد. -اورد مختصره الكرا جكي في كنز الفوائد. و«الذريعة إلى أصول الشريعة» للسيد المرتضى.
الثاني: ظهور الكتب الفقهية الاستدلالية
رغم أن بدايات هذا الدور عرفت بالفقه المأثور كما مرّ ذكره لكن الفقهاء توسّعوا بعد ذلك في عمليات الإستنباط متجاوزين النصوص إلى اكتشاف موارد التطبيق. ونلاحظ ذلك عياناً في كتب المفيد ومن بعده.
الثالث: ظهور كتب الفقه المقارن
ص: 283
الّف الشيخ المفيد كتاب «الاعلام»، والسيد المرتضى كتابيه «الانتصار» و«الناصريات» في الفقه المقارن.
الرابع: عرض الأحكام الفقهية على شكل أجوبة على مسائل واستفتائات كانت ترد على الفقهاء من مختلف الأقطار.
الخامس: ردّ إعتبار أخبار الاحاد والاهتمام بالاجماعات. كما يظهر من ابن الجنيد والمفيد والمرتضى وغيرهم.(1)
ص: 284
البحث عن دور الإنطلاق كما ذكرنا بالنسبة إلى جميع أدوار الإجتهاد يقع في أمور خمسه:
1) تحديد دور الإنطلاق
2) التعريف بدور الإنطلاق
3) فقهاء الدور وأهم مؤلفاتهم
4) منهج الإجتهاد في دور الإنطلاق
5) أهم خصائص دور الإنطلاق
وإليك البحث عن هذه الأمور في الدور الثاني من أدوار الإجتهاد.
يبدا هذا الدور من عهد الشيخ الطوسي (ت 460ﻫ.ق) إلى عهد المحقق الحلّي (ت671ﻫ.ق) أي من منتصف القرن الخامس إلى منتصف القرن السابع.
قد انطلق الإجتهاد على يد الشيخ الطوسي في هذا الدور، حيث استطاع بما أوتي من نبوغ أن یخطوبالفقه، بل بعلوم الشريعة كلّها، خطوات عظيمة إلى الأمام فكان (رحمه الله)
ص: 285
إمام الحياة العلميّة والإجتهادية، وزعيمها الأوحد في ذلك العصر(1) وقد استأثر الشيخ بعواطف تلاميذه ومعاصريه، واستطاع أن يحتلّ في قلوبهم مكانة رفيعة احاطته بهالة من القداسة بحیث قد یقال:جعلت مناقشة آرائه تبدوا کإهانةٍ لشخصيته الفذّة.(2)
يمكن أن نقسّم فقهاء هذا الدور إلى قسمين:
ألف) الشيخ ومعاصروه.
ب) فقهاء بعد الشيخ.
1) أبوجعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460ق)
ولد شيخ الطائفة، أبوجعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي في مدينة طوس في أيران، في شهر رمضان سنة (385 ﻫ.ق) وهاجر إلى بغداد سنة (408 ﻫ.ق) ولم يُنقل في التراجم والتاريخ شيئاً كثيراً عن الفترة الزمنیة التي قضاها الشيخ في مسقط رأسه ولا عن اساتذته.
إلاّ أنه تتلمذ في بغداد على علمين كبيرين هما: الشيخ المفيد والسید المرتضى. فصار علماً للفقه ومرجعاً للشيعة بعد رحيل استاذة الشريف المرتضى سنة (43ﻫ.ق) وقد تقاطر إليه العلماء والفضلاء للتلمذة عليه وبلغت عدة تلاميذه ثلاثمائة من
ص: 286
مجتهدى الشيعة.
وبلغ الأمر من الاعتقاد به والإكبار له أن جعل له الخليفة أنذاك «القائم بأمر الله» كرسيّ الكلام، وقد كان لهذا الكرسيّ يوم ذلك عظمة وقدر فوق الوصف، اذ لم يسمحوا به إلاّ لمن برز في علومه وتفوق على اقرانه، ولم يكن في بغداد يوم ذاك من یفوقه قدراً أويفضل عليه علماً، فكان هوالمتعين لذلك الشرف إلی أن جائت أحداث بغداد المؤلمة التي أدّت إلى احراق مكتبة الشيعة سنة (447ه.ق) التي انشأها أبونصر سابور وزير بهاءالدولة البويهي، وكانت من دور العلم المهمة في بغداد، ولم يكن في الدنيا أحسن كتباً منها، كما أن بغداد كانت في ذلك الزمان عاصمة البلاد الإسلامية، ولم يكن في ذلك الزمان مدينة في العالم أهمّ منها.
وقد اُحرقت هذه المكتبة العظيمة فيما احترق من محالّ الكرخ، وتوسعت الفتنة، حتى احرقوا كتب الشيخ وكرسيّه الّذي كان يجلس عليه للكلام. وضاع قسم كبير منها في هجوم السلاجقة على الكرخ.
وقد اضطرّ الشيخ أن يهاجر إلى النجف الأشرف سنة (449ه.ق) ليؤسّس فيها جامعة علمية من جديد، وبقى هناك مدّت اثنتي عشرة سنة، إلی أن توفي سنة (460ﻫ.ق) ودفن في داره، وتحولت الدار بعده إلی مسجد في موضعه اليوم.(1)
ص: 287
في مجال الفقه:
1) «النهاية في مجرّد الفقه والفتاوى»: كان كتاباً دراسيّاً زمناً طويلاً إلى زمنالمحقق الحلّي قبل تأليف كتاب «الشرائع»، وكما يظهر من عنوانه، كان كتاباً على نهج الفقه المأثور، حيث يقتصر فيه على الروايات والنصوص مجرّداً عن الأسانيد.
2) «المبسوط في فقه الإماميه»: الّفه على مسلك المجتهدين، كما وصفه في مقدمته: أنه كتاب لم يصنّف مثله.
3) «الخلاف في الفقه»: يعدّ كتاباً فی الفقه المقارن، تناول فیه الاراء وتقويمها وموازنتها وترجيح ما اختاره على غيره من الآراء.
في مجال الحديث:
1) «تهذيب الأحكام»: هوشرح استدلالي روائي لكتاب المقنعة لاستاذه الشيخ المفيد (رحمه الله)الّفه في حياة استاذه، وقد طبّق فيه منهج الإستنباط الروائي على أبواب الفقه كلّها.
2) «الاستبصار»: الّفه لمعالجة التعارض والاختلاف بين الأخبار.
في مجال الأصول:
«عدّة الأصول»: فاق هذا الكتاب سائر الکتب الأصولية السابقة عليه واصبح محوراً للتدريس والشرح والتعليق إلى قرون متأخرة، وهویحوي جميع المسائل الأصولية، قال عنه السيد مهدي بحرالعلوم(ت 1212ﻫ.ق): «هواحسن كتاب صنّف في علم
ص: 288
الأصول».(1)
في مجال الرجال والفهرست:
الشيخ هوالّذي فتح باب البحث عن علم الدراية والحديث، والّف كتباً رجاليةمختلفة وهى:
1) «الرجال في من روى عن رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) وعن الأئمة (علیهم السلام)»: الّف هذا الكتاب باسلوب الطبقات من أصحاب النبي (صلی الله علیه و آله و سلم) ثم أصحاب كل واحد من الأئمة (علیهم السلام).
2) «اختيار معرفة الرجال»: وقد هذّب فيه رجال الكشي الموسوم «بمعرفة الناقلين عن الأئمة الصادقين (علیهم السلام)»، حیث عمد الشيخ إلى تهذيبه وتجريده من الزيادات والاغلاط واملاه على تلاميذه في المشهد الغروي (وقد بدأ إملائه يوم الثلاثاء. 26 من صفر 456ﻫ.ق)
3) «الفهرست في شرح المصنّفين من رجالات الشيعة»: ذكر فيه أصحاب الكتب والأصول، وأنهى إليهم وإليها اسانيده عن مشايخه.
وهذه الكتب الثلاثة اضافة إلى فهرست النجاشي -الّذي کان معاصر للشيخ- تعتبر المصادر الأربعة الأساسية لتوثيق رجال روايات الشيعة واسانيدها.
في مجال التفسير:
«التبيان في تفسير القرآن» يعد الكتاب الامّ لتفاسير الشيعة، وهوأول تفسير الّف من أوّل القرآن إلى آخره، وفقاً لمذهب أهل البيت (علیهم السلام).
ص: 289
في مجال الكلام:
1) «تلخيص الشافي في الإمامة» هوتلخیص لکتاب،«الشافي» الّذي ألّفه الشريف المرتضى (رحمه الله).
2) «تمهيد الأصول في علم الكلام» وهوالشرح على القسم النظرى من رسالة«جمل العلم والعمل» للشريف المرتضى.(1)
وفي مجالات أخرى: ككتاب «الغيبة» إلى غير ذلك من أثاره القيمة.
2) أبوالصلاح الحلبي (374-447ق)
هوفقيه متبحر، قرأ على الشيخ الطوسي. قال استاذه الشيخ الطوسي في ترجمته: تقي بن نجم الحلبي، ثقة له، كتب قرأ علينا وعلى المرتضى. وأهمّ آثاره هو«الكافي في الفقه».
3) أحمد بن على النجاشي (372-450ق)
النجاشي (رحمه الله) كوفي أسدي، نشأ في بيت كبير من بيوتات وجهاء أهل الكوفة، وأمّا سكناه كان في بغداد، وتتلمّذ على الشيخ المفيد وحسين بن عبيدالله الغضائري وغيرهما وشارك الشيخ الطوسي في كثير من مشايخه، ووالده كان من علماء بغداد، كما أن جدّه أحمد بن العباس كان من العلماء، وأما جدّه الأعلى وهوعبدالله بن النجاشي فکان والیاً على الأهواز من قبل المنصور ويصفه الشيخ في التهذيب بقوله:
ص: 290
كان النجاشي- وهورجل من الزهاد- عاملاً على الأهواز وفارس انتهى. هذا وقد روى عن أبي عبدالله (علیه السلام) الرسالة المعروفة منه إلى النجاشي، التي نقلها المجلسى (رحمه الله) في «البحار»، عن رسالة «الغيبة» للشهيد الثاني، ونقلها الشيخ الأنصاري أيضاً في «المكاسب المحرّمة».
وأمّا أحمد بن علي النجاشي فهوالثقة الصدوق المعتمد المسكون إليه، الخبيربأحوال الرواة وانسابهم وماورد فيهم من مدح أوذمّ وطبقاتهم ومصنفاتهم وأصولهم ورواياتهم، قُدّم على أعلام الجرح والتعديل لكثرة اطلاعه واحاطته، واتفقت كلمات علمائنا بترجيح أقواله على أقوال سائر أئمّة الجرح والتعديل.
ثمّ أن النجاشي بعد فتنة بغداد وإحراق مكتبة الشيعة، هاجر إلى مطير آباد وهی قرية من نواحي سامرّا كانت احد منتزهاتها، وقد بنيت في خلافة المأمون، وتوفي هناك سنة خمسين وأربع مأة.(1)
قد یطلق علی الدورة التی تلت عصر الشيخ بعصر الركود (460-600ﻫ.ق). لأن الفقهاء من بعده لم يجرؤوا على مخالفة طريقته ومنهجه وآرائه، لشدة تعظميهم له والاعتقاد بتفوقه وغزارة علمه وتسلطه على مصادر الشريعة وفنون الكلام والاستدلال ولکن هذا الرأی محل نظر وتأمل جدّاً،نعم هجوم السلاجقة علی البغداد وعلی الشیعة ورموزهم والإغارة علیهم وقتلهم وإحراق تراثهم وتسفیرهم العلماء واجبارهم
ص: 291
لترک البغداد، صار السبب الأساس لتحقق الرکود والفترة فی حرکة إجتهاد الشیعة لأجل زوال المرکز الأساس لعلوم الامامیة وتفرّق علمائهم فی البلاد ومع ذلك كلّه، فقد انجبت هذه الفترة فقهاء كبار نشير إلى أهمّهم:
4) ابن البراج الطرابلسي (400-481ق)
له مناظرات مع شيخه الطوسي، وهومؤلّف الكتب المهمّة: «المهذّب»، و«الجواهر في الفقه»، و«شرح الجمل».
5) أبوعلي الطوسي (ت حوالي 515ق)
الحسن بن محمد بن الحسن الطوسي، هوابن شيخ الطائفة، قرأ على أبيه، ومن آثاره الفقهية «شرح النهاية».
6) الفضل بن الحسن بن الفضل الطبرسي (471-548ق)
مؤلف كتاب التفسير الشهير: «مجمع البيان في تفسير القرآن».
7) قطب الدين الراوندي (ت 573ق)
مؤلف الكتاب القيّم «فقه القرآن في بيان آيات الأحكام».
8) أبوالفتوح الرازي (ت حوالي 550ق)
مؤلف التفسير الضخم «روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن».
9) ابن حمزة الطوسي (ت حوالي 550ق)
مؤلف «الوسيلة إلى نيل الفضيلة».
10) أبوالمجد الحلبي (ت 566ق)
مؤلف «اشارة السبق إلى معرفة الحق».
ص: 292
11) السيد ابن زهرة الحلبي (511-585ق)
مؤلف «غُنية النزوع» ومباحث الكتاب تدور على محاور ثلاثة: الأول: الكلام: المشتمل على أهم المسائل الكلامية، الثاني: أصول الفقه، الثالث: الفروع والأحكام الشرعية.
12) قطب الدين البيهقي الكيدري (من علماء القرن السادس)
مؤلف «إصباح الشيعة بمصباح الشريعه».
13) سديدالدين الحمّص الرازي
مؤلف «المصادر في اصول الفقه» و«المنقذ من التقليد».
14) ابن شهرآشوب (488-588ق)
مؤلف «مناقب آل ابي طالب».
15) ابن ادريس الحلّي (543-598ق)
يعدّ ابن أدريس أول من خطا بالفقه خطوات واسعة، فهوبتأليف كتابه المشهور: «السرائر الحاوي لتحرير الفتاوى» أول من نفض غبار الركود عن كاهل الفقه الشيعي، ثم اقتفی أثره جلّ من تأخّروا عنه.
16) معين الدين المصرى (ت حوالي 630ق)
صاحب كتاب «التحرير».
17) ابن معد بن فخار (ت 620ق)
مؤلف «الرد على الذاهب إلى تكفير أبي طالب».
18) ابن نما الحلّي (565-645ق)
ص: 293
وهوأحد مشايخ المحقق الحلّي.(1)
انطلق إجتهاد الشيعة على يد الشيخ الطوسي، فهووإنّ اتبع في فتاواه ومؤلفاته الفقهية نهج استاذيه المرتضى والمفيد إلا أنه مع ذلك بلغ التفريع والتخريج على يدهإلى مستوى عال واستخرج قواعد عقليه واعتمد عليها في مقام التفريع، كما يصرّح به في اوّل كتابه «المبسوط» حيث قال:
«فإنّي لا أزال أسمع معاشر مخالفينا من المتفقهة والمنتسبين إلى علم الفروع، يستحقرون فقه أصحابنا الإمامية ويستنزرونه (إلى أن قال): وهذا جهل منهم بمذهبنا، وقلّة تأمل لأصولنا، ولونظروا في أخبارنا وفقهنا، لعلموا أنّ جلّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا، منصوصاً عليه تلويحاً عن أئمتنا.(2)
وكان الفقهاء قبل الشيخ يعتمدن النصوص والروايات من غير بحث أسانيدها، وكان الشيخ أوّل من فتح مجال البحث عن ذلك، وأسّس قاعدة حجيّة خبر الاحاد، وبالجمله: أن الشيخ (رحمه الله) بتأليفاته القيّمة وفّر كل أدوات الممارسة الفقهية الإجتهادية نظرياً وتطبيقيّاً، وهذه خطوة كبيرة وانطلاقه كبرى إذا ما قيست إلى ما قبل عصره.
واستمرتأثیر شخصية الشیخ العلمية فیمن جاء بعده فکانوا لایخرجون عن نتائج استنباطاته، وقد بلغ عدم الجرأة على مخالفة طريقة الشيخ إلى حد القول: «ان كتبه
ص: 294
المعروفة في الفقه والحديث، لعظم مكانتها، خدرت العقول، وسدّت عليها منافذ التفكير في نقدها قرابة قرن، وقيل: إنّهم لقبوا ب(المقلدين) نظراً لإلتزامهم منهج الشيخ الطوسي وعدم خروجهم على آرائه».(1)
ولذلک سمیت هذه البرهة الزمنية بعصر الركود.أسباب ظاهرة الركود:
1- الضغط من قبل السلطات الحاكمة انذاك على الشيعة، كالغزنويين في الشرق والأيوبيين في الشام ومصر، وخصوصاً السلاجقة في العراق. حیث احرق طغرل بك مكتبة بغداد، ما أدی إلی لجوء الشيخ الطوسي إلى النجف، والنجاشي إلى مطير آباد وسلاّر إلى ايران وتوفّي في نواحي تبريز.
ومعلوم أن في الجو المشحون بالعداء والبغضاء لاتسنح الفرصة لأيّ نشاط علمي، فإن الحياة العلميّة رهن الظروف المناسبة والصالحة لتنمية الأفكار.(2)
2- حظيت آراء الشيخ الطوسي بقدسيّه نزّهته عن النقد، واستمرّت تلك النظرة إلى مدّة مديدة.(3) قال صاحب المعالم: «إن أكثر الفقهاء بعد الشيخ الطوسي كانوا يقلّدون فتاوى الشيخ، لاعتقادهم بشخصيته العلمية وحسن ظنهم به».(4)
ص: 295
3- ربّما يذكر عامل آخر للركود، وهوأن الشيخ بهجرته إلى النجف قد انفصل عن حوزته العلمية في بغداد، وبدأ ينشئ في النجف حوزة فتية حوله من أولاده أومن الراغبين في الالتحاق بالدراسات الفقهية، ومن الطبيعى أن الحوزة الفتية لا ترقى إلى مستوى التفاعل المبدع.(1)
يمكن أن نلخص أهمّ خصائص دور الإنطلاق فيما يلي:(2)
1) تدوين قوانين الإستنباط وقواعده، وفقاً لمذهب أهل البيت (علیهم السلام)، وتوضيح مبانيه ومنهاجه في كل من اصول الفقه والحديث والرجال. وقد جعلت مصادر الإستنباط وأدلّة الفقه في هذا الدور فی الكتاب والسنة والاجماع والعقل، ولعلّ ابن ادريس الحلّي، كما عن الشيخ المظفر، هوأوّل من صرّح بهذا.(3) نعم أن الاجماع الّذي يعدّ من الأدلّة في مذهب الإمامية، أريد منه ما يكون في ضمنه قول المعصوم، أويستكشف منه قوله، ولوبدلالة عقلية، خلافاً لمذاهب العامة فيكون في الواقع كاشفاً عن السنة.
كما أن المراد من العقل حكمه اليقيني لا الظنون والاقيسة وماشابهها.
ص: 296
2) تطبيق القواعد المذكور للاستنباط في الفقه بصورة موسعة، وفي جميع الأبواب، كما يرى في «المبسوط» وبذلك استطاع فقهاء الإمامية أن يثبتوا قدرة مدرسة أهل البيت (علیهم السلام) على علاج التفريعات والمسائل الفقهية المستحدثة مهما تنوّعت وتفرّعت.
3) الحوار مع المذاهب الفقهية الأخرى والمقارنة فيما بينها سواء بنحوالفتاوى المجرّدة أوبشكل موسّع واستدلالي، كما تظهر من كتاب «الخلاف».
4) الاهتمام بتوفير أدوات الإستنباط الرجالية والحديثية.
5) القول بحجية خبر الاحاد، خلافاً لما كان عليه كثيراً من الأصحاب، كالمفيدوالمرتضى وابن قبة وإن استمر القول بإنكارها بواسطة أمثال ابن ادريس الحلّي (رحمه الله) وابن زهرة وابن البراج والطبرسي إلى ما بعد الشيخ.
6) الاهتمام بالدراسات القرانية ویعتبر تفسير «التبيان» للشيخ من أغنى الكتب التفسيرية، حيث عكس مدى الاهتمام البالغ من قبل الشيخ بالجانب القرآني، وكما أن كتاب «فقه القرآن» لمؤلّفه القطب الراوندي يعد أوّل مؤلف اختص بايات الأحكام، وأيضاً «تفسير مجمع البيان للطبرسي» و«روض الجنان» لابن الفتوح الرازى یظهر اهتمام الأصحاب بكتاب الله.
7) بظهور ابن ادريس الحلّي بعد فترة من الركود العلمي، عادت حركة الإجتهاد إلى نشاطها، وظهر في علماء الشيعة من تجاوز بفكره وإجتهاده كثيراً من آراء الشيخ (رحمه الله) وبذلك كسر الجمود الّذي كان عليه الفقهاء من تلامذة الشيخ ومقلّديه.
8) في دور الانطلاق «حوزة بغداد» تعدّ أهمّ مركز إجتهادي لمذهب الإمامية. ثم
ص: 297
بعد اشتعال نار الفتنه في بغداد، هاجرالشيخ إلى النجف الأشرف حیثه أسّس حوزة علمية فيها. ثم في أواخرهذا الدور بدأ تكوّن مركز علمي جديد، صار في الدور الثالث هوالمركز الأصلي للعلم والإجتهاد في مذهب الإمامية، وهوحوزة الحلّة.
9) بانتهاء دور الإنطلاق، يتمّ عصر القدماء الذين يعدّ فقههم فقها مأثوراً، وبما أنّهم كانوا قريبي العهد بعصر الأئمة الهداة (علیهم السلام) وكان عندهم كثير من الأصول والآثار والقرائن التي فقدت في العصوراللاحقة، تعدّ فتاواهم وآرائهم الفقهية عند البعض كالسيد البروجردي (رحمه الله) حجةً، فإذا اجمعوا على رأي واحد يكون هذا الإجماع حجة، وهذا ما يسمى بإعتبار الشهرة عند القدماء.
ص: 298
وألبحث يقع حول أمور خمسة:
1) تحديد دور الاستقلال
2) التعريف بدور الاستقلال
3) فقهاء دور الاستقلال وأهم مؤلفاتهم.
4) منهج الإجتهاد في دور الاستقلال
5) أهمّ خصائص دور الاستقلال
يبدء هذا الدور من منتصف القرن السابع، أي من عصر المحقق الحلّي(602-676ﻫ.ق) ويستمرّ باستمرار النشاط الفقهي لأعالم هذا الدور، حتى نهاية القرن العاشر، أي إلى زمن الشهيد الثاني (911-966ﻫ.ق)(1)
بعد ظهور ابن ادريس الحلي فقد بدئت مدرسة الحلّة نشاطها، حیث یبدأ الدور
ص: 299
الثالث واعقبه آخرون من نفس هذه المدرسة، وبعدها إزدهرت ونشطت مدرسة جبلعامل واصفهان في نفس هذا الدور.
مدرسة الحلّة: بعد ابن ادريس الحلّي، جاء دور الاُسر العلمية الحليّة التي أسهم علماؤها في جلّ العلوم الإسلامية ومدرسة أهل البيت، ولاسيما بمايرتبط بالإجتهاد وإستنباط الأحكام، بقسط وافر.
ومن أهمّ هذه الاُسر في هذه الحقبة الممتدة من القرن السادس إلى أوائل القرن الحادي عشر: آل نما وآل طاووس الهذليون والأسديّون.(1) ومن بين أشهر علماء الحلّة، علی مستوى الإجتهاد، المسمّون بالحليين الستة، أعني: ابن ادريس الحلّي، والمحقق الحلّي، ويحيى بن سعيد الحلّي، والعلاّمة الحلّي، وفخرالمحققين الحلّي، والفاضل المقداد السيوري الحلّي،(2) وأيضاً ابن فهد الحلّي يعد من أشهر فقهاء هذا الدور في مدرسة الحلّة. (757-841ﻫ.ق)
وقد استمر نشاط مدرسة الحلّة حتى أواخر القرن التاسع، ومع أنّ الحملة المغولية دمرت الكثير من الآثار العلمية في حاضرة العراق، إلاّ أن الحوزة العلمية في الحلّة بقيت مصونة من شرّهم واستمر نشاطها.
فانّ المغول بعد هجومهم على الشرق الإسلامي بسطوا سلطتهم علی حاضرة البلاد الإسلامية بغداد، بعد حروب مهلكة مفجعه أدت إلی سقوط الدولة العباسية على يد هولاكوعام (656ﻫ.ق) واستقر حكم المغول على المسلمين إلى أن اعتنق
ص: 300
بعضهم الإسلام، ويعدّ محمود غازان خان الّذي استلم السلطة (664-704 ﻫ.ق)أوّل من اعتنق الإسلام، ثم أعقبه محمد خدابنده أولجاتيوالذی تسلم زمام الأمور (عام 704-716ﻫ.ق) وقد انتحل التشيع بفضل العلامة الحلّي بعد مناظرات جرت بينه وبين علماء المذاهب الأربعة في محضر السلطان، حیث ظهرت قوّة منطقه عل كل من حضر، فطلب السلطان منه أن يلازمه في السفر والحضر، وهكذا اخذ العلامة يصاحبه مع تلاميذه وكتبه فاسّس مدرسة سيّارة، تقام كلّما حطّ السلطان بمكان، حتى أنّ العلامة فرغ من تأليف بعض كتبه في مدينة «سلطانية» من محافظة زنجان، فلمّا اعتنق المغول الإسلام والتشيع واخذوا ینشرون العلم، بدأ الركب الحضاري يتقدم بعد ما اصابته فتنة المغول، ولم تمض مدّة حتى بدأ المسلمون، بأخذ زمام الأمور من يد المغول في السياسة والثقافة والاقتصاد. وقد كانت الامور مستقرة في البقاع الإسلامية إلى عصر السلطان بهادرخان (716-736ﻫ.ق) ولكن تغيّرت الأوضاع بعد وفاته. فعادت الفوضى إلى البلا، وتمزقت البلاد واستبدّ بكل جزء منها أمير، كامراء آل جلايرجوباني وآل مظفر واينجووسربدارية. وفي تلك الأوضاع ظهر بتيمور لنک وبسط نفوذه على اصقاع شاسعة بعد أن أراق دماء كثيرة ودام حكم التيمورية (127) سنة لم یکم همهم فیها سوى الركوب على رقاب الناس، فانعكست سيرتهم السيّئة على الصعيد العلمي والثقافي، بما فی ذلک العلوم الإسلامية والفقه والإجتهاد، ممّا أعقب فتور النشاط الاجتهادي.(1)
ص: 301
مدرسة جبل عامل:
بدأ التشيع في بلاد الشام من حین اقصاء أبي ذر الغفاري إلىها ثم انتعش في أيام الفاطميين؛ لکنه انتکس في زمن الأيوبيين ولمّا استولى المغول واعقبتهم دولة المماليك تنفّس الشيعة الصعداء في الشام رغم اضطهاد الممالیک، لهم وفي تلك الظروف بادر الشهيد الأول إلى انشاء مدرسة جزّين التی فاثمرت واتسعت وتلتها حوزات علمية آخرى كحوزة بعلبك والكرك وجبع، وظهر علماء وفقهاء عظماء في هذه المدرسة من أهمّهم واشهرهم على صعيد الإجتهاد والفقهاهة، الشهيد الأول والمحقق الكركي والشهيد الثاني، أي ثلاثة من المسمّين بالشاميّين الخمسة المذكورين في الكتب الفقهية(1) واستمرّت مدرسة جبل عامل حتى سقطت دولة المماليك على يد السلطان سليم العثماني الّذي امتدّ نفوذه إلى بلاد الشام، في عام (930ﻫ.ق) وهناك عاد الضغط على الشيعة مرّة أخرى، واستشهد الشهيد الثاني (966ﻫ.ق)، فاخذ النشاط الفقهي في مدرسة جبل عامل بالتقلّص شيئاً فشيئاً، ما حدا بكثير من الفقهاء إلی الهجرة إلى ايران والعراق.(2)
مدرسة اصفهان:
مع إطلالة القرن العاشر قضى الحكم الصفوي على التيمورية، وبذلك وقعت البلاد الإسلاميه تحت حکم دولتين عظيمتين: الصفوية والعثمانية. حكمت الأولى في اصقاع الشرق الإسلامي (من عام 905 إلى 1135ﻫ.ق) وحكمت الثانية في
ص: 302
اصقاع الغرب الإسلامي وأكثر البلاد العربية، وقد استأثر الفقهاء باهتمام كلا الدولتين بغية اضفاء الشرعية على حكمهما، خصوصاً الدولة الصفوية التي قامت على دعامة التشيع وولاية الأئمة الاثني عشر: التي فوّضت الأمور بعد غيبة الإمام الثاني عشر إلى الفقهاء العظام الجامعين لشرائط الافتاء، فازدهرت العلوم الإسلامية، لاسيما الفقه في عهد الدولة الصفوية، وبدأ النشاط الفقهي في ايران ولاسيما الحوزة العلمية بأصفهان الّتی هاجر إليها كثيراً من العلماء والفقهاء من جبل عامل، كالمحقق الثاني والشيخ بهاءالدين وغيرهما. فكانت حوزة اصفهان فی عهد الدولة الصوفية ذات نشاط كبير تخرّج منها علماء افذاذ فی اختصاصات مختلفة واستمرّ نشاطها العلمي من أواخر الدور الثالث إلى الأدوار اللاحقة، فأخذت الابحاث الفقهية خصوصاً في ايران تزدهر فيما يرجع إلى فقه الدولة ونظام الحكم الإسلامي، والّفت كتب كثيرة في المجال الفقهي كالرسائل الخراجية والرسائل الكثيرة حول صلاة الجمعة.(1)
الأمر الثالث: فقهاء دور الاستقلال وأهم مؤلفاتهم(2)
1) المحقق الحلّي:
نجم الدين جعفر بن الحسن بن يحيى بن سعيد الحلّي (602-676ﻫ.ق) كان مرجع أهل عصره في الفقه. ويكفي في مقامه أنّ كتاب «شرائع الإسلام» أصبح كتاباً دراسياً منذ تأليفه إلى يومنا هذا، وصار محطاً للشرح والتعليق عبر القرون، وقد وصفه
ص: 303
العلامة الحلي في اجازته ابى زهرة بأنه كان أفضل أهل عصره في الفقه، واستدركهصاحب المعالم بقوله: لوكان ترك التقييد بأهل زمانه، كان اصوب، إذا لا أرى في فقهائنا مثله على الاطلاق.
وحكي أن الخواجة نصيرالدين طوسي حضر درس المحقق وطلب منه اكمال الدرس، فجرى البحث في مسألة استحباب التياسر في العراق فقال الخواجة: لا وجه للاستحباب؛ لأن القياس إن كان من القبلة إلى غيرها فهوحرام، وإن كان من غيرها إليها فواجب، فقال المحقق في الحال: بل منها إليها فسكت الخواجة، ثم الّف المحقق في ذلك رسالة لطيفة وارسلها إلى الخواجة فاستحسنها.
أهمّ مؤلفاته:
أ) «شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام»: وهومن أحسن المتون الفقهية ترتيباً، ومعظم الموسوعات الفقهية الضخمة التي الّفت بعد عصر المحقق هی شروح له، كما هومذكور في «الذريعة إلى تصانيف الشيعة».
ب) المختصر النافع.
ج) المعتبر في شرح المختصر.
د) معارج الأصول.
2) أحمد بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس (ت 673 ﻫ.ق)
هوأوّل من إخترع تفريع الأخبار إلى أقسامها الأربعة: الصحيح والحسن الموثق والضعيف، بعدما كان الصحيح عند القدماء بغير المعنى الّذي اصطلحه عليه، وقد صبّت الأخباریّة حمم غضبها على ابن طاووس وتلميذه العلامة الحلي؛ لاجل
ص: 304
تنويعهما الأخبار بهذا النحو.أهمّ مؤلفاته:
أ) «بشرى المحققين»: في ستّه مجلّدات.
ب) «الملاذ»: في أربعة مجلّدات.
ممّا يؤسف أن هذين الكتابين مما لعب بهما الزمان، ولم تصلنا نسخة منها.
ج) «حلّ الاشكال في معرفة الرجال»:
وقد جدّد صياغة الكتاب صاحب المعالم واسماه ب-«التحرير الطاووسي».
د) «الفوائد العدّة»: وهوكتاب في أصول الفقه.
3) على بن موسى بن جعفر بن محمد بن طاووس (ت 664ﻫ.ق)
يصل نسب إبن طاووس إلى السبط الأكبر (علیه السلام) وتكنى اسرة طاووس بابن طاووس نسبة إلى جدّهم الأعلى محمد بن اسحاق، فإنه كان جميل الصورة، بهي المنظر إلاّ أنّ قدميه لم يتناسب مع جمال هيئته.
أهمّ مؤلفاته:
أ) «اقبال الاعمال».
ب) مهج الدعوات».
ج) «اللهوف في قتلی الطفوف».
د) «جمال الاسبوع».
ص: 305
ه) «غياث سلطان الورى لسكلان الثرى»: وهذا الاخير في الفقه.(1)4) يحيى بن سعيد الحلّي (601-689ﻫ.ق)
له تصانيف منها:
أ) «الجامع للشرائع»: في الفقه.
ب) «المدخل في اصول الفقه».
ج) «نزهة الناظر في الجمع بين الاشباه والنظائر».
5) يوسف بن المطهر الحلّي: والد العلاّمة الحلي
6) الفاضل الآبي (كان حيّا عام 673ﻫ.ق)
وهومؤلّف: «كشف الرموز في شرح المختصر النافع».
7) الحسن بن علي بن داود الحلي (647-707ﻫ.ق)
صاحب كتاب الرجال المعروف بابن داود.
8) العلاّمه الحلي الحسن بن يوسف بن المطهر (648-726ﻫ.ق)
يصفه ولده بالمؤيّد بالنفس القدسية والاخلاق النبويّة ويعرّفه ابن داود في رجاله:
«علاّمة وقته، صاحب التحقيق والتدقيق، كثير التصانيف، انتهت رئاسة الإمامية إليه في المعقول والمنقول».
أهمّ كتبه:
أ) «متنهى المطلب في تحقيق المذهب».
ص: 306
ب) «تلخيص المرام في معرفة الأحكام».
ج) «غاية الأحكام في تصحيح تلخيص المرام».
د) «تحرير الأحكام الشرعيه على مذهب الامامية».
ه) «مختلف الشيعة في احكام الشريعة».
و) «تبصرة المتعلمين في احكام الدين».
ز) «تذكرة الفقهاء».
ح) «مبادى الوصول إلى علم الأصول».
ط) «تهذيب الوصول إلى علم الأصول».
ی) «نهاية العقول إلى علم الأصول».
وقد ذكر أن العلاّمة الّف خمسة عشر كتاباً في الفقه، وعشرة في اصول الفقه -والّف في المنطق: «الجوهر النضيد»، وفي الكلام: «شرح التحريد»، و«الباب الحادي عشر»-.
9) فخر المحققين محمدبن الحسن الحلّي (682-771ﻫ.ق)
وهو ابن العلاّمة الحلّي، مؤلّف الموسوعة الفقهية الضخمة «ايضاح الفوائد في حلّ مشكلات القواعد». ومن آثاره الأصولية «غاية السؤول في شرح تهذيب الأصول».
10) قطب الدين الرازى (م 776 ت)
تلميذ العلامة وقد قرأ قواعده عليه بناحية ورامين سنة (713ﻫ.ق) وكتب العلاّمة على ظهر كتابه عبارة تدل على مكانته: كان قطب الدين الرازى من ذرّية الصدوق.
ص: 307
وكتاباه في المنطق: «شرح الشمسية» وهوشرح «رسالة الشمسية» لنجم الدين علي بن عمر الكاتبی القزويني و«شرح المطالع في المنطق» للقاضي سراج الدین محمود بن أبي بكر الأرموي كانا من الكتب الدراسية في الحوزة العلمية.11) الشهيد الأول محمدبن مكّي العاملي (734-786ﻫ.ق)
ولد بجزين وقد استجاز من مشايخ الفريقين، وروى مصنفات أهل السنة عن نحوأربعين شيخاً، قال استاذه فخر المحققين: أفضل علماء العالم، سيّد فضلاء بني آدم.
أهمّ آثاره الفقهية:
«ذكرى الشيعة».
«الدروس الشرعية في فقه الإمامية».
ج) «اللمعة الدمشقيه»: وقد ألف هذا الكتاب بطلب من علي بن المؤيّد ملك خراسان عام (782ه.ق.) وهومن ملوك السربداريّة.
وقد ذكر له خمسة عشر كتاباً في الفقه، ومن الطف كتبه «القواعد والفوائد» وهذالکتاب قد يعدّ أول تأليف في هذا المضمار وقد احتوى على (330) قاعدة و(100) فائدة.
12) عبدالمطلب بن محمدبن علي الأعرج (681-754ﻫ.ق)
13) عبدالله بن محمدبن علي الأعرج
14) ابن المتوّج عبدالله بن سعيد البحراني، وابنه أحمدبن عبدالله
15) الفاضل المقداد بن عبدالله السيورى الحلّي (ت 828ﻫ.ق)
ص: 308
له كتب:
أ- «التنقيح الرائع في شرح الشرائع في الفقه».
ب- «كنز العرفإن في فقه القران».ج- و«شرح الباب الحادي عشر» وقد أصبح من الكتب الدراسية إلى يومنا هذا. علماً أن «الباب الحادي عشر» للعلامة الحلّي، و قد حیث اختصر «مصباح المتهجد» للشيخ الطوسي بالتماس الوزير محمد بن محمد القوهدهي، ورتبه على عشرة أبواب، وسمّاه «منهاج الصلاح في مختصر المصباح» ثم أضاف إليه ما لابدّ منه لعامة المكلّفين، من مسائل اصول الدين، وسمّى اضافاته «الباب الحادي عشر فيما يجب على عامّة المكلفين من معرفة أصول الدين»، ولما كان هذا الباب جامعاً لمسائل العقائد صار محلاّ لأنظار المحققين وتولّوه بالشرح والتعليق والترجمة ونظموه في الشعر عربيا وفارسيا. ومن أشهر الشروح عليه هو«النافع يوم الحشر في شرح الباب الحادي عشر» للفاضل المقداد.(1)
16) ابن فهد أحمد بن محمد الاسدى الحلّي (757-841ﻫ.ق)
قد جمع بين المعقول والمنقول والظاهر والباطن والعمل باحسن ما كان يجمع.(2)
أهمّ تأليفاته:
أ- «المهذب البارع إلى شرح النافع».
ص: 309
ب- «عدّة الداعي ونجاح الساعي».
وقد توفّي بكربلاء عن عمر ناهز (84) سنة وله هناك قبر يزار.
17) مفلح الصيمري (كان حياً عام 878ﻫ.ق)(1)الشيخ مفلح بن حسن، من تلاميذ أحمد بن فهد الحلّي وله مؤلفات مهمّة:
منها: «غاية المرام في شرح شرائع الإسلام» و«جواهر الكلمات في صيغ العقود والايقاعات».
18) إبن أبی جمهور الأحسائى (كان حياً عام 901ﻫ.ق)(2)
من آثاره في الفقه: «الاقطاب الفقهية والوظائف الدينيه على مذهب الإمامية» ومن تأليفه في الحديث: «غوالي اللآلي العزيزية في الأحاديث الدينية».
19) الشيخ حسين الصيمري (ت 933ﻫ.ق)(3)
من مؤلفاته: «محاسن الكلمات في معرفة النيات» و«جواز الحكومة الشرعية».
20) المحقق الکرکی:
الشيخ علي بن الحسين بن عبدالعالي الكركي العاملي (ت 868-940ﻫ.ق)(4)
یعرف بالمحقق الثاني، ولد في كرك نوح التي كانت معقلاً للشيعة فی البقاع منذ الفتح الإسلامي، بسبب وجود بعض القبائل الموالية للإمام علي (علیه السلام) ، التي دخلت مع
ص: 310
الجيوش التی فتحت بلاد الشام، ودخلت البقاع أمثال الهمدانين وخزاعة. ولد المحقق الثاني في هذا البلد العريق في تشيّعه، فدرس الفقه على المذهب الشيعي في بلده على شيوخ العلم في زمانه، كالشيخ علي بن هلال الجزائري، ثم خرج طالباً لعلوم الفرق الإسلامية، فهاجر إلى مصر، لدراسة فقه المذاهب الأربعة، فاخذ هناكمن علمائها، وحصّل الاجازات من شيوخها بالرواية، خصوصاً الصحاح الستّة، وبالأخصّ صحيح البخاري وصحيح المسلم وموطأ مالك ومسند أحمد بن حنبل.
وبعد ظهور الدولة الصفوية، احتاجت في أوّل أمرها إلى فقهاء يعلّمون الناس أمور دينهم، ويتولّون منصب القضاء لإدارة شئون الناس وكان لعلماء جبل عامل السهم الأوفر في هذا المضمار، فقد هاجروا إلى ايران وتولّوا أمور الدولة، وكانت بلدة المحقق الكركي تعجّ بالعلماء، حیث كان فيها أكثر من ثلاثين عالماً، فهاجروا إلى ايران، وفوّض الشاه الصفوي إليهم تنظيم شؤون الدولة، حسبما يقتضيه الشرع الحنيف، وشغل علماء جبل عامل في الدولة الصفوية مناصب حسّاسة مهمة منها: الأمير وشيخ الإسلام ونائب الإمام والمفتي ومروّج المذهب. وكان الشيخ الكركي على رأس المهاجرين في أول نجاح الشاه اسماعيل، فوّلاه منصب شيخ الإسلام في اصفهان العاصمة للدولة الصفوية وكتب إلى علماء كرك وجبل عامل یحثّهم على النهوض إليه للجهاد في نشر الدين الحنيف، ولمّا توافر لديه عدد من رجال الدين، عيّن في كل بلد وقرية إمامً يعلّم الناس شرائع الإسلام، ويؤمّهم في الصلاة، ثم نصب نفسه لتعليم كبار رجال الدولة كالامير جعفر وزير الشاه، وامدّه الشاه اسماعيل بسبعين الف دينار شرعي سنويا ليصرفها على المدارس، ولمّا تولّى الشاه طهماسب سنة 930، قرّب المحقق الكركي ولقّبه نائب الإمام، وكان علماء الكرك يبعثون
ص: 311
الرسائل إلى اخوانهم في كرك وبعلبك وجبل عامل يحثّونهم على الالتحاق باصفهان فالمحقق الكركي ارسل إلى الشيخ حسين بن عبدالصمد -والد الشيخ البهائي- وحثه علی السفر إلیه. ثم لعب الكركيون دوراً فعالا في تنظيم الحياة العلميّة والثقافية والاقتصادية والعمرانية في ايران؛ اذ فتحوا المدارس وصرفوا على الطلاب، ونظّمواالخراج والقضاء وظبطوا اتّجاه القبلة في أكثر بلاد العجم وهندسوا المساجد والمآذن والقباب والّفوا الكتب في الدفاع عن مذهبهم وردّوا على علماء السنة ورهبان النصاري.
قال المحقق البحراني: جعل (الشاه طهماسب) أمور المملكة بيده (المحقق الكركي) وكتب رقماً إلى جميع الممالك بامتثال ما يأمر به الشيخ المذكور، وكتب أيضاً ان اصل الملك إنما هوللمحقق الكركي؛ لأنه نائب الإمام (علیه السلام) .(1)
وقال السيد نعمة الله الجزائري في كتابه «شرح غوالي اللألي»: «مكنّه السلطان العادل الشاه طهماسب من الملك والسلطان وقال له: أنت أحقّ بالملك؛ لانّك النائب عن الإمام، وإنّما أكون من عمّالك أقوم باوامرك ونواهيك» وأكّد أيضاً: «أن معزول الشيخ لا يستخدم ومنصوبه لا يعزل».
وكتب الشاه طهماسب - أيضاً- بخطّه في جملة ما كتبه في حق هذا المولى:
«... حيث إنه يبدوويتضّح من الحديث الصحيح النسبة إلى الإمام الصادق (علیه السلام) «انظروا إلى من كان منكم، قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف احكامنا
ص: 312
فارضوا به حكماً، فإنى قد جعلته حاكماً، فإذا حكم بحكم فمن لم يقبله منه فإنّما بحكم الله استخفّ وعلينا ردّ وهورادّ على الله وهوعلى حدّ الشرك»، وواضح أن مخالفة حكم المجتهدين الحافظين لشرع سيّد المرسلين، هووالشرك في درجة واحدة، لذلك فإنّ كلّ من يخالف حكم خاتم المجتهدين ووراث علوم سيّد المرسلين، نائب الأئمة المعصومين، لازال اسمه العلّي عليا عاليا ولا يتابعه فإنه لامحاله ملعون مردود وعن مهبط الملائكة مطرود سيؤخذ بالتأدبيات البليغة والتدبيرات العظيمة... كتبه طهماسب بن شاه اسماعيل الصفوي الموسوي.(1) فالمحقق الكركي يعتبر باعث النهضة الشيعية في ايران ومجدّد المذهب وواضع الأسس الشرعية الدستوريّة للدولة الصفوية.
ولكن بالرغم من عظمة الشيخ وجلالته واجلال السلطان له فقد كان يعاملهم معاملة خاصة وقد اعترض على شاه اسماعيل عندما أمر بقتل سيف الدين أحمد بن يحيى التفتازاني شيخ الإسلام بهرات، لأجل تعصّبه في التسنن، حیث اعترض عليه في قتله ايّاه وخطّأه في ذلك وقال: لولم يقتل لأمكن أن يتمّ عليه بالحجج والبراهين العقلية والنقلية حقيّة مذهب الإماميّة وبطلان مذهب أهل السنة والجماعة، ويلزم بذلك ويسكت ويذعن من إلزامه جميع ماوراء النهر وخراسان بحقيّة مذهب الشيعة، ولذلك كان الشيخ متأسفا دائماً.(2)
ص: 313
ومع كل هذا لم يسلّم من الحسّاد، فقد عاب عليه معاصره ومنافسه الشيخ إبراهيم القطيفي قبوله جوائز السلاطين، وبعض تلامذة الشيخ الكركي رجع عنه واتصل بالشيخ القطيفي وطالب مع جماعة من العلماء ممن كان بينهم وبين الشيخ على كدورة، أن يتباحث مع الشيخ علناً في مجلس الشاه طهماسب في مسألة صلاة الجمعة حتى يعاونه في البحث تلك الجماعة من العلماء في المجلس، وكان يعاونهمفي ذلك جماعة من الأمراء أيضاً عداوة للشيخ علي. ولكن لم يتفق هذا المقصود وفي تلك الأوقات كتب بعض الاشرار مكتوباً مشتملاً على أنواع الكذب بالنسبة إلى الشيخ علي.
لهذه الأسباب ترك المحقق الثاني ایران مع ما كان له فيها من الجاه العظيم وسكن العراق، وقد توفي سنة (940ﻫ.ق) بالنجف وقيل أنه مات شهيداً مسموماً، قاله الشيخ حسين بن عبدالصمد والد الشيخ البهائي.(1)
أهمّ كتبه القيّمة:
أ- «جامع المقاصد في شرح قواعد العلاّمة»؛ وقد حكي عن الشيخ محمدحسن النجفي أنه قال: إن الفقيه إذا كان بين يديه «جامع المقاصد» و«وسائل الشيعة» و«جواهر الكلام» استغنى عن اىّ مصدر آخر للاستنباط.(2)
ب- «رسائل المحقق الكركي». ولابدّ من الاشارة إلى أن المحقق الثاني اول من أحضر مسائل الحكومة إلى الساحة الفقهية.
ص: 314
21) إبراهيم القطيفي (م 945ﻫ.ق)
وكان مع الشيخ علي الكركي (المحقق الثاني) شریکاً في الدرس عند الشيخ علي بن هلال الجزائري. وقد دارت بينهما مناظرات في مسائل فقهية اهمّهما مسألة الخراج وصلاة الجمعة، فالّف المحقق رسالة: «قاطعة اللجاج في تحقيق الخراج» نقضها القطيفي بكتاب «السراج الوهّاج لدفع عجاج قاطعة اللجاج». ثم الّف المحققالأردبيلي رسالة دافع فيها عن القطيفي.
ومن فتاوى القطيفي حرمة صلاة الجمعة في عصر الغيبة ردّا على المحقق الكركي القائل بوجوبها مع حضور الفقيه الجامع لشرائط الفتوى وكونه إماماً.(1)
22) الشهيد الثاني:
زين الدين الجبّعى العاملي (911-966ﻫ.ق) ولد في سنة (911ﻫ.ق) في جبّع واشتغل بقراءة القرآن وفنون الأدب والفقه على والده، ثم ذهب إلى ميس لتكميل دراسته فحضر فيها على الشيخ علي الكركي من سنة (933ﻫ.ق) إلى (935ﻫ.ق) ثم ذهب إلى كرك نوح وحضر ابحاث السيد حسن بن السيد جعفر ثم غادر سنة (934ﻫ.ق) إلى جبّع وبقى هناك إلى سنة (937ﻫ.ق) واشتغل بالمذاكرة والمطالعة، ثم ارتحل إلى دمشق وبقي هناك سنة واحدة، حضر فيها دروس الطب والفلسفة والهيئة، ثم عاد إلى مسقط رأسه سنة (938ﻫ.ق)، واقام فيها إلى سنة (941ﻫ.ق.) ثم رجع مرة أخرى إلى دمشق ودرس المذاهب الإسلامية هناك، ثم غادر إلى مصر سنة
ص: 315
(944ﻫ.ق) وكانت مصر يومئذ مركزاً كبيراً من مراكز الحركة العقلية، فحضر كثيراً من الحلقات الموزعة من أصحاب مختلف المذاهب الإسلامية، والتقى بشيوخ الفقه والحديث والتفسير والأدب.
فكانت مدة اقامته في مصر ثمانية عشر شهراً، ثم غادر إلى الحجاز، وبعد قضاء الحج رجع إلى مسقط رأسه جبّع واستمر في التدريس والكتابة والتوجيه والارشاد حتى بدا له أن يزور العتبات المقدسة فقصد العراق، وبعدما انهى زيارته توجه إلىبعلبك في سنة (953ﻫ.ق) فاشتغل بالتدريس والافتاء على المذاهب السنّية ومذهب أهل البيت (علیهم السلام) وبقى هناك إلى (955ﻫ.ق) ثم رجع إلى وطنه وكان هذا خاتمة اوقات الامان وبداية مالقيه من الضغط الشديد والمراقبة عليه واحاطته بالعيون والجواسيس، واستشهد في سنة (965ﻫ.ق) في اواسط سلطنة الشاه طهماسب، وكان السبب في شهادته أن جماعة من العامة قالوا لرستم باشا الوزير الأعظم للسلطان سليمان الخلیفة العثمانی أن الشيخ زين الدین يدعى الإجتهاد ويتردد إليه كثير من علماء الشيعة ويقرؤن عليه كتب الإمامية وغرضهم بذلك اشاعة التشيع فارسل رستم پاشا في طلب الشيخ، وكان وقتنذٍ بمكة المعظمة، فأخذوه من مكة وذهبوا به إلى استنابول فقتلوه فيها من غير أن يعرضوه على السلطان سليمان.(1)
من أهم كتبه الفقهية:
أ- «مسالك الافهام في شرح شرائع الإسلام».
ص: 316
ب- «الروضه البهية في شرح اللمعة الدمشقية».
لقد شهد الفقه ونشاط الإجتهاد في هذا الدور الطويل تطوّراً ملحوظاً فاق التطور الّذي حصل في الأدوار السابقة، من حيث الكم والكيف.
ولقد لاحظنا في الأدوار السابقة تلک المحاكاة التي ابتلى بها الفقه الشيعي من خلال مسايرته للفقه السنّي وما نلاحظه في هذا الدور هوالابتعاد عن تلک المحاكاة وبذلک بدأت حركة الإجتهاد تنحوباتجاه الاستقلال التام عن التأثّر بالفقه غيرالشيعي، وانتج هذا الاتجاه إجتهاداً متمايزاً بادواته ومنهاجه ومصادره وعملياته ومدوّناته عن سائرالمذاهب.
واثمرت الاستقلالية الاجتهاد هذه ظهور موسوعات فقهية استدلالية ضخمة، وبلغ الإجتهاد مرتبة عالية من المستوى العلمي، ويلاحظ ذلك في الموسوعات الفقهية التي دوّنها العلامة والشهيدان.(1)
لکن هذا الاستقلال لایعنی أن منهج إجتهاد الشيعة كان في معزل عن إجتهاد العامة، ففي نفس هذا الدور جری تدوین موسوعات مهمّه في مستوى الفقه المقارن، كما هوواضح في آثار العلامة «كالتذكرة» والشهيد الأول «كذكرى الشيعة».
ونتيجة لتفاعلات بعض الظروف السياسية، بعد ابتعاد مذهب أهل البيت (علیهم السلام) عن ساحة السياسة، برزت في هذا الدور الدولة الصفوية في ايران وقد اوجب هذا توجّه
ص: 317
حركة الإجتهاد عند الشيعة إلى الاهتمام بفقه الدولة، والبحث عن الأحكام المتعقلة بها، وبذلك اولی منهج الإجتهاد في أواخر هذا الدورعناية واسعة إلى هذا الجانب من الموضوعات الفقهية المهمّة.
يتميّز هذا الدور من الإجتهاد بأمور مهمّة كثيرة، نشير إلى أهمها:
1) يتميّز هذا الدور بظاهرة الاستقلال عن مجاراة المذاهب الأخرى في المادة أوالمنهج، واعتماد تراث الشيعة خاصّة، من دون نظر إلى إجتهاد العامّة ومناهجهم في الاستدلال إلاّ في كتب الفقه المقارن، كما مرّ ذكره، ولأبد أن نتذكر أن هذا الدور فيالفقه الإمامي ترافق زمنیاً مع عصر انحصار فقه العامة في المذاهب الأربعة والتحقق الكامل لانسداد باب الإجتهاد.
2) في علم اصول الفقه دونت مؤلفات من قبيل: «معارج الأصول» للمحقق و«نهاية الوصول إلى علم الأصول» للعلاّمة فتميز هذه المؤلفات بالأصالة والعمق واعتماد الأصول المستفادة من نصوص أهل البيت (علیهم السلام) كأصل الإستصحاب، وقد جعل المحقق قاعدة الإستصحاب دليلاً خامساً في عرض الأدلة الأربعة الأخرى، كما بحث المسائل الأصولية المهمة كحجية خبر الثقة في هذه الكتب کان أكثر نضجاً من غيرها.
3) وفي علم الدراية قسّم الحديث بتقسيم رباعي إلى صحيح وحسن وموثق وضعيف، بعد أن كان يقسّم قبل ذلك إلى الصحيح والضعيف، وذلك نتيجة تطور البحث عن حجيّة خبر الواحد.
ص: 318
4) في علم الرجال دونت مجاميع رجالية عديدة تجمع تراجم طبقات الرجال وحالاتهم، بشكل أدق كرجال العلامة ابن داود.
5) أن استقلالية فقه الإمامیة عن فقه العامة أوجب ترتيب مسائله على أساس حصرعقلي وضعه المحقق الحلي، وهوتقسيمه إلى الأقسام الأربعة:
1) العبادات 2) العقود 3) الايقاعات 4) الأحكام.
وأساس هذا التقسيم: هوأن الحكم الشرعي إمّا أن يتقوم بقصد القربة أولا، والأول العبادات، والثاني إمّا أن يحتاج إلى اللفظ والانشاء أولايحتاج، والثاني الأحكام والأولإما أن يحتاج إلى طرف أوطرفين والأول الإيقاعات والثاني العقود.(1)
وهذا التقسيم وان كان حيّاً في تقسيم أبواب الإجتهاد الإمامى الا انه مع ذلك يوجد هناك بعض التأملات بالنسبة إليه، حيث أن باب الأحكام فيه أبواب ضخمة عظيمة قد يندرج تحته الكثير من أبواب الفقه مما لايتناسب مع الأبواب الثلاثة الأخرى. هذا أولاً، وأما ثانياً وهوالعمدة في ذلك فهوأن هذا التقسيم ناظر إلى الظروف الزمانية للشيعة التي ابتعد فيها فقه الإمامية عن التأثیر الاجتماعی وكان بعيداً عن التدخل في أمور السياسة وتدبير الأمور على وفق احكام الشريعة، فالمنظور في هذا التقسيم هوالبعد الفردي للاجتهاد، وليس الجانب العملي له الذي هوعبارة عن برنامج متكامل لادارة المجتمع والحياة.
6) وقد اثمر استقلال إجتهاد الإمامية في تهذيبه عن البحوث الزائدة
ص: 319
أوالاستدلالات الغريبة واتقان صناعة الاستناد إلى الأدلة الشرعية في ثوب علمي ومنهج فنّي. وقد اصبحت الكتب الفقهية المؤلّفة في هذا الدور للمحقق والعلامة والشهيدين هي الكتب التي استقطبت اهتمام الدارسين والباحثين واصبحت محل الشرح والتعليق عليها والرجوع إليها.
7) وفي هذا الدور بدأ تدوين فقه القواعد أوالقواعد الفقهية، فالشهيد الأول ألّف: «القواعد والفوائد» والّف بعده الفاضل المقداد «نضد القواعد الفقهية» والشهيدالثاني «فوائد القواعد».
8) ومن امتيازات هذا الدور التوسع في تطبيق القواعد على الفروع، خصوصاً فيفقه المعاملات، فبمقارنة كتب هذا الدور مع كتب الدور السابق يظهر مدى الفرق بينهما في هذا الجانب.
9) وفي هذا الدور أيضاً استمر منهج الدراسات المقارنة ولکن بنحواوسع وأكثر، تارة بين المذاهب الفقهية، وأخرى بين فقهائنا خاصّة.
10) ومن المميزات المهمّة في هذا الدور اتجاه الإجتهاد الإمامى إلى تدوين وتقنين فقه الدولة والحكم الإسلامي لمذهب أهل البيت (علیهم السلام) والتصدّي لتجسيد دور النيابة العامة في عصر الغيبة، سواء من خلال تنظيم جهات المرجعية الدينية الّذي بدأه الشهيد الأول، أومن خلال الاشراف على الدولة، كما حدث للمحق الكركي في الدولة الصفوية، وبهذا يكون الإجتهاد الإمامي قد اتجه في هذا الدور إلى الاستقلال التام في مجال النظرية والتطبيق، مع تطوره من فقه الأحوال الشخصية إلى فقه
ص: 320
المجتمع والدولة، وهى خطوة كبيرة في عصر الغيبة.(1)
وفي الختام بقى أمر مهم لابدّ من الإشارة إليه، وهوأن مدرسة المحقق الأردبيلي التي تبعه تلميذاه صاحب المدارك وصاحب ألمعالم، وإن راجت في حوزة النجف ولكن ظهر في نفس الوقت فقهاء من حوزات مختلفة كحوزة اصفهان كان منهجهم عدم التشدد بالنسية إلى الأخذ بالروايات وعدم الافراط في الإتجاه العقلي، علماً أن هذا الإتجاه كان هوالرائج قبل المحقق الأردبيلي، ونشير إلى اسماء بعض فقهاء هذه المناهج في الدور الخامس إن شاء الله تعالى.
ص: 321
ص: 322
ويقع البحث فيه حول الأمورالآتیة:
1) تحديد زمن الدور الرابع.
2) التعريف بالدور الرابع.
3) أهم المجتهدين في هذا الدور.
4) منهج الإجتهاد في هذا الدور.
5) أهم خصائص هذا الدور.
الدور الرابع من الأدوار التي مرّت بحركة الإجتهاد عند الإمامية يبدء من زمن المحقق الاردبيلي (رحمه الله) (ت 993ﻫ.ق) أي العقود الأخيرة من القرن العاشر، وينتهي بظهور حركة الاخبارية على يد المحدّث الأمين الاسترابادي (ت 1033ﻫ.ق).(1)
سمّي هذا الدور بدور الافراط؛ بسبب ظهور اتجاه عقلي متشدّد فی الإجتهاد فی هذا العصر وكان رائده المحقق الأردبيلي (رحمه الله) (ت 993ﻫ.ق) فإنه بما كان يتمتع به من
ص: 323
نبوغ علمي وثقافة عقلية استطاع أن يوجّه النقد نحوجملة من فتاوى مشهور الفقهاء،هذا من جانب، كما شدّد أيضاً من جانب آخر علی التدقیق فی الروايات سنداً ودلالة، وأوجب حينئذٍ الميل نحوالأخذ بالقواعد والأصول العامّة والعقلية، وكذلك التوسّع في الأخذ بإطلاقات وعمومات القران الكريم، ومحاولة تخريج المسائل الفقهية على أساسها.(1)
1) المحقق أحمد الأردبيلي (ت 993ﻫ.ق)
كما يعدّ المحقق الأردبيلي من أعلام الدور الرابع في الحقيقه يعدّ الرائد هذا الدور. وقد قيل في حقّه: «أمره في الجلالة والثقة والأمانة أشهر من أن يذكر وفوق ما تحوم حوله العبارة، كان متكلما فقيها، عظيم الشأن، جليل القدر، رفيع المنزلة، أورع أهل زمانه واعبدهم واتقاهم...»(2) ويعرّفه المحدّث البحراني بقوله: «لم يسمع بمثله في الزهد والورع، له مقامات وكرامات لا مجال لذكرها».
وكانت السلطة الصفوية انذاك بيد الشاه عباس الصفوي الذی كان يبالغ في تعظيمه وتمجيده ويرسل إليه بكل جميل، یدعوه إلی القدوم إلى ايران وهويتحاشى قبول ذلك.(3)
ص: 324
ولقد تميزّ المحقق الاردبيلي بطريقة خاصّة في استدلالاته الفقهية في كتابه القيّم«مجمع الفائدة والبرهان». فقد كان يعتمد في استدلاله على الفكر والإجتهاد التحليليّ، ولهذا تميّزت مدرسته عن المدارس الأخرى بميّزة التحرّر من حصار التبعيّة للمشهور من الفقهاء. هذا من جانب، ومن جانب آخر تشددّ في الأخذ بالروايات من ناحية اسانيدها ومن حيث دلالتها أومعارضتها مع روايات أوقواعد أخرى، ورغم أنه أوجب اغناء الاستدلال الفقهي وتعميقه فيما بعد، إلاّ أنه أوجب نحواً من التحفّظ تجاه الاعتماد على الأحاديث والنصوص المأثورة، والميل نحوالأخذ بالقواعد العامة والأصول العقلية، وكذلك توسّع في الأخذ بإطلاقات وعمومات القرآن الكريم، كما اهتم أيضاً بآيات الأحكام والّف فيها «زبدة البيان»، محاولاً تخريج كافّة الأبواب الفقهية على الآيات الشريفة.(1)
وقد قيل عن مدرسته: إنه يعتمد على مبدأ السماح والسهولة في أحكام الشريعة على أساس قول الله تعالی: )ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِى الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ( [الحج / 78] وقول رسول الله (صلی الله علیه و آله و سلم) : «بعثت بالحنيفية السمحة».(2) وأهمّ مؤلفاته كما ذكرنا «مجمع الفائدة والبرهان في شرح ارشاد الاذهان» للعلّامه الحلّی (رحمه الله) وهودورة فقهيه كاملة وموسوعة كبيرة تشمل جميع أبواب الفقه إلاّ كتاب النكاح، وللمحقّق الأردبيلي في هذا الكتاب أراء خاصّة خالف فيها الرأي المشهور بين العلماء.
ص: 325
2) السيد محمد العاملي صاحب المدارك (946-1011ﻫ.ق)قرأ على المحقق أحمد الأردبيلي، كان شريك خاله الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني في الدرس، وكان كل واحد منهما يقتدي بالاخر في الصلاة ويحضر درسه. وهوقليل التأليف وكثير التحقيق والتدقيق وقد سلك مذهب استاذه في التشددّ بالأخذ بالروايات وعدم قبول السند بسهولة، وردّ أكثر أراء المشهورة من المتأخرين في الأصول والفقه، ومع ذلك كان يعتمد على الروايات المسلّمة ويضعف ما يرويه غير الإمامي الاثني عشري.(1)
وتاليفه القيّم، هو«مدارك الأحكام في شرح شرائع الإسلام»، خرّج فیه العبادات في ثلاثة اجزاء، ومن أرائه الخاصة قوله بوجوب صلاة الجمعة، كما ذهب إليه جدّه لأمّه الشهيد الثاني.
3) الشيخ حسن صاحب ألمعالم (959-1011ﻫ.ق)
الشيخ حسن ابن الشهيد الثاني العاملي، انتقل هووابن اُخته السيّد محمد صاحب المدارك إلى النجف وتتلمذا على يد المحقق الأردبيلي، الذی كان يخصّهما بالتدريس وراء ما يلقيه على سائر الطلاب.
ومن أهم مؤلفاته:
أ) «معالم الدين وملاذ المجتهدين» خرّج فیه مقدمة في الأصول وقسماً من كتاب الطهارة، ولم تزل مقدمته كتاباً دراسياً منذ تأليفه إلى يومنا هذا.
ص: 326
ب) «منتقى الجُمان(1) في الأحاديث الصحيح والاحسان»
خرج منه العبادات إلى الحج، وهوأول كتاب في انتقاء الأحاديث الصحيحة والحسنة. وذهب إلى عدم قبول السند الاّ إذا ثبتت عدالة الراوی بشاهدين عدلين، فلم يكتفي هووابن اخته، صاحب المدارك بشهادة العدل الواحد اوبشهادة الخبير الرجالي الواحد، وهذا منتهي التشّدد والتطرّف في قبول الحديث، ومع ذلك نجد في هذا الاتجاه أن صاحب ألمعالم ذهب إلى القول بحجيّة مطلق الظن، بعد أن تشدّد في اسانيد الراوايات.(2)
کما ذكرنا، أسس المحقق الأردبيلي منهجاً ومدرسة متمیزین بالنسبة لمنهج السابقين، وتبعه في ذلك تلميذاه صاحب المدارك وصاحب ألمعالم.
وأساس منهجه هوالاعتماد على الاستدلال العقلي وتوجيه النقد نحوجملة من فتاوى المشهور، والتشدد في قبول الأخبار، وفي مجال التعامل مع الروايات يمكن ان نقول: إن ظاهرة تربيع الأحاديث التي كانت من أهمّ ملامح الدور السابق، في هذه المرحلة تحقق التطبيق العملي لها، وقد بيّن الشيخ حسن في ديباجة كتابه «منتقى الجمان» ما دعاه إلى الخوض في هذا الموضوع، ومنهجه فيه، وكونه يتلخّص في
ص: 327
تقسيم الأحاديث حسب الأبواب الفقهية المعروفة وأورد الكتاب والأبواب علىالترتيب المعمول به لدى الفقهاء، ثم أورد النصوص التي لا نزاع في صحتها، برمز «صحى»، ثم الأخبار المشهورة ذات سند الصحیح برمز «صحر» ثم الأخبار الحسان برمز «ن» وأعرض عن ذكر الموثق.
وهذا منتهى التشدّد والتطرّف في التعامل مع الحديث، وقد أدى بشكل تلقائی إلى تقليص مصادر الإستنباط الأساسيّة المتمثلة في النصوص المأثورة عن ائمّه أهل البيت (علیهم السلام) وإلى التوجه نحومصادر أخرى كالتوسع في الأخذ بآيات القرآن الكريم والقواعد العقلية، بل نجد في هذا الاتجاه المتطرف أن صاحب ألمعالم يميل إلى القول بحجية مطلق الظن بعد ان تشدّد في اسانيد النصوص المروّية عن أهل البيت (علیهم السلام).(1)
يمكن أن نلخّص أهمّ خصاص الدور الرابع والاتجاه الإفراطي نحوالتحليل العقلي في الاستدلال الفقهي وتوجیه النقد لآراء المشهور والتشدّد بالنسبة إلى الأخذ بالاخبار، إلى مايلي:
1) الاهتمام بعلم أصول الفقه واستخدام الصناعة العقليه والفلسفية في اثبات بعض مسائله، كما يلاحظ ذلك من مقدمة «معالم الدين» و«الوافيه» للفاضل التوني
ص: 328
(ت1071ﻫ.ق). ومتون فاضل التونی من أفضل المتون الأصولية من حيث المنهجية وصياغة المطالب، ومازالت آراؤه محل اعتناء الأصوليين كالشيخ الأنصاري والآخوند الخراساني.2) تضييق دائرة حجيّة أخبار الآحاد.
3) التشكيك في قيمة كثير من اجماعات القدماء وآرائهم المشهورة أوالمسلّمة ونقدها صناعيا وعقلياً.
4) الاعتماد على القواعد العقلية والفلسفية في الاستدلال الفقهي.
5) اعداد الأرضية المناسبة للاتجاه نحوحجيّة مطلق الظن، بعد التشدّد في البحوث الرجاليه وطرق توثيق الرواة، ما أجب عدم إمكان إحراز صحّة جملة منها، وبالتالي فقد جملة من النصوص.
6) التوسّع في الاعتماد على العمومات والمطلقات الواردة في آيات الأحكام أوالسنة القطعية.(1)
ص: 329
ص: 330
وسيقع الكلام حول أمور خمسة:
1) التحديد بالزمني للدور الخامس.
2) التعريف بالدور ووجه تسميته.
3) أهمّ الشخصيّات البارزة في هذا الدور.
4) منهج الإجتهاد في هذا الدور.
5) أهمّ خصائص هذا الدور.
قد يسمّى الدور الخامس بدور التفريط، كما سيظهر وجهه، يبدأ من ظهور منهج المحدّث الأمين الاسترابادى (ت 1034ﻫ.ق) وينتهى بالشيخ يوسف البحراني (ت1186ﻫ.ق) وظهور الوحيد البهبهاني (ت 1205ﻫ.ق)
ظهر في مواجهة الاتجاه العقلي المتشدد، اتجاه آخر سُمِّىَ بالإتجاه الأخباري وأصحاب هذه الاتجاه مالوا بالنسبة إلى الدليل العقلي إلى التفريط، والتزموا بعدم حجيّة الإستدلالات العقلية والفلسفية، وبالنسبة إلى الظهورات ذهبوا أيضاً إلى جانب التفريط فاعتقدوا عدم حجيّة ظهورات الكتاب. وفي مقابل مدرسة الأردبيلي التزموا
ص: 331
بحجيّة روايات الكتب الأربعة والغاء تنويعها إلى الأقسام الأربعة وادّعى بعضهمقطعيّة ما في الكتب الأربعة، من الروايات.
الشخصيات الكبيرة المهمة التي لها دور اساسي في تأسيس مدرسة الاخبارية وتشييد أركانها هم:
1) المحدث الأمين الاسترابادي (ت 1033ﻫ.ق)
محمد أمين بن محمد شريف، ترجم له الحرّ العاملي في تذكرة المتبحّرين قائلاً: «فاضل، محقق، ماهر، متكلم فقيه، محدّث، ثقة، جليل».(1)
تتلمّذ الأمين الاسترابادي علی جملة من كبار العلماء، كصاحب المدارك وصاحب المعالم، ورحل إلى الحجاز لمتابعة دراسته على يد الميرزا محمد بن على الاسترابادي صاحب «منهج المقال في علم الرجال» (ت 1028ﻫ.ق). يقول الامين الاسترابادى: «... وبعد أن قرأت عنده علم الحديث أشار الىّ قائلاً: «أحي طريقة الاخباريين وارفع الشبهات المعارضة لها، لأن هذا المعنى كان يدور في خاطري، ولكن الله قدّر أن يكون على يدك» إلى أن قال: «فالّفت «الفوائد المدينة» ولمّا عرضته عليه أجابني مستحسناً لما جاء فيه واثنى عليّ بالجميل».(2)
ومن عنوان الكتاب «الفوائد المدنية في الرد على من قال بالإجتهاد والتقليد» يفهم
ص: 332
موضوعه وهونفى الإجتهاد والتقليد. ويذكر في مقدّمة كتابه ما أحدثه العلاّمة الحلّي ومن وافقه خلافاً لمعظم الامامية أصحاب الأئمة هوأمران: أحدهما تقسيم الأحاديثإلى أقسام أربعة والثاني: العمل بظنون المجتهدين والتزامه بکثیر من القواعد الأصولية المسطورة في كتب العامّة.(1)
وبعد أكثر من عقدين من زمن تأليف «الفوائد المدنية» ردّ فقيه أصولي على كتابه: نورالدين العاملي أخوصاحب المدارك (ت 1068ﻫ.ق) کان مجاوراً في مكّة، بكتاب سمّاه «الشواهد المكية في دحض حجج الفوائد المدنية»، ثم توفّى الاسترابادي في مكّة المكرمة ودفن فيها في السنة الثلاثة والثلاثين بعد الألف.(2)
2) المجلسي الأول (1003-1070ﻫ.ق)
المولى محمدتقي المجلسي، له كتب منها: «شرح الصحيفة» وشرح من لا يحضره الفقيه المسمى «بروضة المتقين».(3)
قال في المجلس الأول في شرحه «الفقيه» ما لفظه:
والحاصل أن الدلائل العقلية التي ذكرها بعض الأصحاب، وبنوا عليها الأحكام أكثرها مدخولة، والحق في أكثرها مع الفاضل الاسترابادي.(4)
ص: 333
3) الفيض الكاشاني (1007-1091ﻫ.ق)
هومحمد بن محسن بن فيض الكاشاني، له كتب ورسائل كثيرة منها:
أ) كتاب «الأصول الأصيلة» الّذي الّفه في تأييد مشرب الاخبارية وتزيف الظنون الإجتهادية.
ب) «مفاتيح الشرايع»، وهواحسن تصانيفه في الفقه.
ج) «الوافي» وجمع فيه أحاديث الكتب الأربعة.
د) «المحجة البيضاء في احياء تهذيب الاحياء».
ه) «تفسير الصافي».
4) محمد بن الحسن الحرّ العاملي (1033-1104ﻫ.ق)
هوصاحب التصانيف الرائعه، منها «وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة»، الّفه في المشهد الرضوي. وقد منح له منصب قاضي القضاة ومشیخة الإسلام.
5) المجلسي الثاني (1037-1110ﻫ.ق)
هوالمولى محمدباقر بن العالم الجليل محمدتقى بن المقصود علي، المعروف بالمجلسي. ألّف المحدث النوري رسالة في ترجمته اسماها، الفيض القدسي في ترجمة المجلسي.
وقد الّف المجلسي الثاني دائرة معارف شيعیّة يوم لم يكن أثر لمثل هذه الموسوعة فی الأواسط الإسلامية، وهي «بحار الانوار الجامعة لدرر أخبار الائمّة الاطهار (علیهم السلام)» ويتلوه في المكانة كتابه الاخر المسمّى «بمرآة العقول في شرح أخبار الرسول» وهوأول من الّف بالفارسية، ولم يكن التأليف بالفارسية امراً معهوداً بين العلماء
ص: 334
الاّالقلائل، من هذه المؤلفات: «حق اليقين» و«عين اليقين» و«عين الحياة» و«تحفة الزائر».
ویُسمّی هولاء الثلاثة الذين قاموا بجمع الروايات ضمن مجامع حديثيّة ضخمة هى «الوافي» و«وسائل الشيعة» و«بحار الأنوار»، قد يسمّون بالمحمدين الثلاثة الأواخر (محمد محسن الفيض الكاشاني، ومحمدحسن الشيخ حرّ العاملي، ومحمدباقر المجلسي) في مقابل من يسمون بالمحمدين الثلاثة الأوائل وهم: (محمد بن يعقوب الكليني، ومحمد بن الحسين الصدوق ومحمد بن حسن الطوسي).
6) السيد هاشم البحراني (توفي 1107ﻫ.ق)
يعرّفه المحدّث یوسف البحراني بأنه فاضل محدث منتسب للاخبار، وانتهت إليه رئاسة البلد، فقام بالقضاء وتولّى الأمور الحسبيّة، ومن مصنفاته: «البرهان في تفسير القران».(1)
7) الشيخ يوسف البحراني (1107-1186ﻫ.ق)
محدث كبير وفقيه متبحر، كان أخباريا صرفاً، ثم رجع إلى الطريقة الوسطى، وكان يقول: إنّها طريقة المجلسي، توفّي في كربلاء وصلى عليه المحقق البهبهاني.(2)
ألّف كتباً كثيرة أشهرها: «الحدائق الناضرة في أحكام العترة الطاهرة» وكان الشيخ
ص: 335
البحراني أخباريّاً معتدلاً جدّاً، وله دور مهم في محاولة توازن القوى وتبريد غليانالصراع.
قال في ترجمة الأمين الاسترابادي ما ملخصه:
«كان فاضلاً محققاً وهوأول من فتح باب الطعن على المجتهدين وتقسيم الفرقه الناجية إلى أخباري ومجتهد، وأكثر من التشنيع على المجتهدين وما أحسن وما أجاد ولا وافق الصواب لما قد ترتب على ذلك من عظيم الفساد».(1)
ويقول أيضاً في المقدمة الثانية عشرة من الحدائق ما ملخصه:
قد كنت في أول الأمر ممن ينتصر لمذهب الاخباريين، إلاّ أن الّذي ظهر لي بعد التأمل هو إغماض النظر عن هذا الباب أمّا أولا: لاستلزمه القدح في علماء الطرفين وثانياً: فلانّ ما ذكروه في وجوه الفرق بينهما جلّه، بل كله لايثير فرقاً في المقام.(2)
8) الميرزا محمد الاخباري (1178-1235ﻫ.ق)
محمد بن عبدالنبي النيسابوري ينتهي نسبه إلى الإمام محمد الجواد (علیه السلام) ولد في الهند وتتلمذ على يد الوحيد البهبهاني. يقول صاحب «الروضات»: «لاشبهة في غاية فضله إلاّ أنه لما تجاهر بتحقير علمائنا الاعلام صرف الله عنه قلوب أهل القلوب، وهومن المتطرفين في الأخباریّة». كان هووالشيخ جعفر كاشف الغطاء زميلي دراسة؛ ولكنه نهج منهج الأخباریة على خلاف الشيخ جعفر. ففى ايّام الشيخ كاشف الغطاء
ص: 336
(ت 1228ﻫ.ق) تعرضت الحركة الاخبارية إلى الهجوم علیها عند عودتها الی الظهور.فاضطر الميرزا محمد الأخبارى، إلى مغادرة العراق إلى الدولة القاجارية فوقع الشاه تحت تأثير محمد الأخبارى، وقد دفع هذا كاشف الغطاء واتباعه إلى أن يحفّوا إلى ايران لمحاربة هذه الظاهرة، ثم غادر الميرزا إلى الكاظمية، حيث قتل هووابنه الأكبر سنة (1232ﻫ.ق). من آثاره العلميّة الكثيرة: «قبسة العجول في الأخبار والأصول»، «كشف القناع عن عورة الاجماع»، إلى غير ذلك من الكتب الاخرى.(1)
قد رفع راية الاخبارية الشيخ محمد امين الإسترابادي وتتلخص فكرته في الأمور التالية:
1) عدم حجيّة ظواهر الكتاب إلاّ بعد ورود التفسير عن ائمة أهل البيت (علیهم السلام).
2) نفي حجيّة حكم العقل في المسائل الأصولية وعدم الملازمة بين حكم العقل والنقل.
3) نفي حجيّة الاجماع بلا فرق بين المحصل والمنقول.
4) قطعيّة صدور كلّ ما ورد في الكتب الأربعة، لاهتمام الأصحاب بها، فلا يحتاج الفقيه إلى دراسة اسانيدها وتنويعها إلى الأقسام الأربعة المشهورة.
5) الغاء الإجتهاد والتقليد ووجوب الرجوع إلى الأخبار، وهذا ما ذهب إليه
ص: 337
المتطرّفون من الاخبارية ورجع عنه علمائهم المحققون كصاحب الحدائق.
6) التوقف في الحكم إذا لم يدلّ دليل من السنة على حكم الموضوع والاحتياط في العمل.
وقد أنهى بعض المؤلّفين الفروق بين الأخباريين والأصوليين إلى أربعين فرقاً، والحق أن جوهر الفروق هوالذی ذكرناه والفروق الاخر أمّا تعود إلى تلك الخمسة أوإلى أمور جزئية.(1)
وبعد تأليف «الفوائد المدنية»، اشتهر هذا الكتاب فی الحوزات العلمية والعلماء وقد انقسموا تجاهه إلى قسمين. قسم منهم ذهب إلى نفيه وإنكاره، وقسم أیده وهم الاخبارية الذين استعرضنا اسمائهم، كالمجلسيين والفيض الكاشاني والشيخ الحرّ العاملي وصاحب الحدائق.
قال الحرّ العاملي رداً على من ادّعى أن الشيخ محمد أمين رئيس الاخباريين:
«ومن العجب، دعواه ان صاحب «الفوائد المدنية» رئيس الاخباريين، وكيف يقدر على اثبات هذه الدعوى: مع أن رئيس الاخباريين هوالنبي (صلی الله علیه و آله و سلم) والأئمة (علیهم السلام) لأنهم ما كانوا يعملون بالإجتهاد، وإنما كانوا يعملون بالأخبار قطعاً.(2)
وقال الفيض الكاشاني: «فإنه (محمد أمين الاسترابادي) كان يقول بوجوب العمل بالأخبار وطرح طريقة الإجتهاد (إلى أن قال): ولعمرى أنه قد اصاب في ذلك،
ص: 338
وهوالفاتح لنا هذا الباب وهادياً فيه إلى سبيل الصواب.(1)
وأمّا القسم الآخر من العلماء الذين وقفوا في مواجهة الأخباریّة المحقق البهبهاني، الّذي سنذكر منهجه في الدور السادس إن شاءالله.
مرّ بنا في البحث عن منهج الإجتهاد في الدور الأوّل. أنّه قد شهده اتجاهین: الإتجاه العقلي والإتجاه الحديثي، وقد ظهر من بينهما اتجاه ثالث وسط معتدل. كان لوائه بيده الشيخ المفيد (رحمه الله).
وقد وصف الشيخ المفيد أصحابنا الاخباريين في القديم والذاهبین إلى الإتجاه الحديثي بقوله:
«أصحابنا المتعلقين بالأخبار أصحاب سلامة في الذهن وقلّة فطنة، يمرون على وجوههم فيما يسمعون من الأحاديث ولا ينظرون في سندها ولا يفرّقون بين حقّها وباطلها ولا يفهمون ما يدخل عليهم في اثباتها ولا يحصلون معاني ما يطلقونه منها».(2)
فمن هذا يمكن أن نعرف أن منهج الأخباريين القدماء كان في تلقّى الأخبار ونقلها وتأييدها على ما وصفه الشيخ المفيد هوالاعتماد على ما يسمعون وعدم التأمل والدقة في أسناد الأخبار ولا في محتواها ومضمونها. فهذا هوالذي ميزهم والّذي يعدّ امراً
ص: 339
منهجيّاً وسلوكياً بالنسبة إلى الأمور العلميّة لديهم.
وأمّا الاخباريّون الجدد، فلا تقف أفكارهم ومدرستهم في جانب المنهجية فقط، فمن باب المثال یروی اصحاب الاخبارية القديمة، كما نقلنا عن الشيخ المفيد، الحديث غالباً بلا دقّة في السند أوبلا تأمل في المضمون، وأمّا الاخبارية الحديثه يلتزمون بقضايا ومبانٍ في الأمور المهمّة:
مثل قولهم بعدم حجيته ظواهر الكتاب وعدم حجيّة الشهرة أوالاجماع وعدم إعتبار العقل في الاستدلال الفقهي، وحجيّة جميع الروايات المروية في الكتب الأربعة، بل وفي غيرها، ووجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية التحريميّة وعدم جواز التقليد.
يقول الشيخ السبحاني في هذا المجال:
«هناك فرق جوهرى بين الأخباریّة التي نادى بها الأمين الاسترابادي، وبين الأخباریّة في عصر الأئمة (علیهم السلام)، وهوأن الأخباریّة في عصر الأئمة (علیهم السلام) كانت تعنى ممارسة الأخبار وتدوينها ونقلها دون اعمال الدقّة بين صحيحها وسقيمها، وأمّا الأخباریّة التي ابتدعها الامين الاسترآبادي فهي أخباريّة منهجيّة لها أسسها ودعائمها، وقد القى الفكرة بصورة البرهان والنقد على الأسس التي اعتمد عليها الأصوليون، فلذلك لايمكن عدّ الأخباریّة الحديثه امتداداً جوهريّاً للاخباريّة في عصر الأئمة (علیهم السلام)، نعم كانت الأخباریّة البدائية ملهمة للشيخ الأمين على أن يصبغها بصبغة علمية».(1)
من هنا، يمكن أن نستنتج أن الفرق بين الأخباریّة القديمة والحديثة، هو أن القديمة
ص: 340
الأخباریّة في المنهجية فقط والحديثة هم اخبارية في المنهج والمبنى.
الأول: هوالشيخ الرجالى الكبير المعروف ميرزا محمد الاسترابادي مؤلّف الكتب الرجالية. الثلاثة: «منهج المقال» و«الوسيط» و«الوجيز».
وقد زوّج كريمته لمحمد أمين الاسترابادى، المتوفي (1028ﻫ.ق) في مكّة المكرّمة. ويقول محمد أمين: أن الميرزا محمد، أشار إليه بتجديد طريقة الأخباريين ورفع الشبهات المعارضة لها. فالّف «الفوائد المدنية» ولمّا عرضه عليه أجابه مستحسناً لما جاء فيه وأثنى عليه بالجميل.
ولكن هنا لابد من وقفه قصيرة؛ إذ كيف يمكن أن يكون المشير والآمر هوالميرزا محمد الّذي افنى عمره في تأليف الكتب الرجالية التي غايتها الوقوف على أحوال الرواة والعمل بقول الثقة وترك غيره، بينما يرى الأخباري قطعية روايات الكتب الأربعة، وبالتالی عدم حاجة إلى دراسة أحوال الراوي وتنويعها إلى الأقسام الأربعة.(1)
الثاني: ما ذكره بعض المعاصرين وهو أن الجذور الأساسية لنشأة الحركة الاخبارية تعود إلى الصراع الشديد الّذي كان يجرى في العصر الصفوى، بصورة مكتومة، بين المؤسّسة السياسيّة والفقهية فقد أخذ الصفويون يضيقون من سعة دائرة نفوذ الفقهاء. وفي هذه الفترة ظهرت الحركة الأخباریّة التی وتمكّنت من شق المدرسة الفقهية عند
ص: 341
الشيعة الإمامية إلى شطرين متصارعين.(1)
أقول: هذا الكلام تحليليّ تاريخيّ وسياسيّ، وإن لم يبعد في نفسه، ولعلّ هناکبعض الشواهد والقرائن التاريخيّة ما يقوّي هذه الظنّة(2) ولكن مع ذلك كلّه، إن إثبات هذه الدعوى والقول بأن الصفوية كانوا من الأسباب والبواعث الموجدة لحركة الأخباریّة، مشكل جدّا يحتاج إثباته إلى قرائن أقوى من ذلك فإن المؤسس الأخبارى الشيخ محمد الاسترابادي لم تکن صلة بالدولة الصفوية، بل إنه درس في النجف ثم انتقل إلى مكّة المكرمة وبعد إشارة استاذه، سافر إلى المدينة والّف كتابه، أمّا دعوى أن هذا كان مرتبطاً بالحكم الصفوي، فلا دليل عليه.
نعم يمكن أن يقال إن الصفويون کانوا یرجّحون الأخباریّة على الأصوليّة لاغراضهم السياسيّة الخاصّة التي كانت لهم في هذا المجال.
الثالث: ما نقله الشهيد المطهري عن استاذه السيّد البروجردي (رحمه الله) حيث قال:
«كنت مرّة عند المرحوم السيد البروجردي (رحمه الله) وهوفي بروجرد، فسمعت منه كلاماً لم أسمعه من أحد حتی الآن، وكم تأسّفت على عدم سؤإلي عنه» كان كلامه يدور حول الاخباريين، وكان يحلّل الجذور التاريخية لظهور تیّارهم الفكري فقال: «إنى أظن أنّ المدرسة الأخباریّة في الشرق انبثقت عن المدرسة المادية في الغرب، وذلك أن ظهور الاخباريين تزامن مع ظهور جمع من الغربيين يقولون بالفسلفه الحسيّة،
ص: 342
حيث إنّهم أنكروا العقل كمصدر للمعرفة، وقالوا إنّنا لانعتقد إلاّ بما نشاهده أوما نعرفه من خلال التجربة، فهم أنصار الحس ومعارضوا العقل، وكان هذا في وقت كانت العلاقات فیه قويّة جدّاً بين ايران الصفوية والدول الاروبية، وكذلك ظهرت عندنا في نفس تلك الفترة نهضة تندّد بالعقل وتديّنه ولكنها ليست بالشكل الغربي المادّي. بل بشكل تأييدللأخبار وقالوا: ليس للعقل حق أن يتدخّل في الدين بتاتاً، ويا للأسف فقد تركت هذه الأفكار آثاراً كثيرة علينا.» انتهى.(1)
ولكن مع ذلك كله لايحكى هذا الكلام إلاّ عن المقارنة بينهما، وأمّا السببيّة والتأثير والتأثّر فتبقى في إطار الحدس، لا أكثر.
الرابع: وهوالعامل الأصلى لظهور حركة الاخبارية وقد ذكرناه في الدور الخامس وهوأن الحركة الأخبارية وُلِدَت كردِّ فعل على الاتجاه الإفراطي الذي ذهب إليه بعض العلماء في الدور الرابع من التشدّد في أخذ الأخبار والمناقشة في اسنادها هذا من جانب، ومن جانب آخر، الاعتماد بكثرة على الاستدلالات العقليّة.
قد يُتوهم أن من الأمور التي يتميّز بها الأخباري عن الأصولي، الاعتقاد بشأن الدور السياسيّ لعالم الدين وعدمه. فالأخبارى، بما أنه ينكر الإجتهاد والتقليد، لا يرى دوراً سیاسیّاً لعالِم الدين، فعنده لا فرق بين عالم الدين وسائر المكلّفين من وجهة النظر السياسية، خلافاً للأصولي الذی یری، بما أنّه يلتزم بالإجتهاد والتقليد أن للمجتهد
ص: 343
شأناً خاصّاً في ساحة السياسة ومن هنا يمكن أن يقال إن ولاية الفقيه من الفوارق الممیزة بين المدرستين، حيث إن المدرسة الأصولية تلتزم بها، وتجري على وفقها، أما المدرسة الأخبارية فتنكرها ولاتعتقد بالولاية أوأى شأناً خاص لها.(1)
أقول:إن الرجوع إلى الأراء العلمية للأخباريّة وأيضاً ملاحظه سيرتهم السياسيّة يدلان على أن الأمر ليس كذلك. فإن هناك كثيرون من الأخباریّة أذعنوا بدور سياسي لعالم الدين و أقرّوا بولایته على أمور الأمة في عصر الغيبة.
فهذا المجلسي الأول، من علماء الأخبارية، يصرّح في البحث عن مجرى الحدود، بأنه:
يقيم الإمام والحاكم الحدود أيضاً ولا شك في المنصوب الخاص، أمّا العام كالفقيه، فالظاهر منه (خبر مقبولة عمر بن حنظلة) أنه يقيم، للأخبار السالفة في باب القضاء من قوله: «قد جعلته حاكماً».(2) وهذا الفيض الكاشاني يعقتد بلزوم صرف سهم الإمام إلى الفقيه المأمون، وأن حكم الفقيه نافذ؛ لأنه مأذون من الإمام الصادق (علیه السلام) .(3)
ويقول الفيض الكاشاني -أيضاً-: «فوجوب الجهاد والأمر بالمعروف والنهی عن المنكر والتعاون على البرّ والتقوى والإفتاء والحكم بين الناس بالحق وإقامة الحدود
ص: 344
والتعزيرات وسائر السياسات الدينية، من ضروريات الدين، وهى القطب الأعظم في الدين (إلى أن قال) وكذا اقامة الحدود والتعزيرات وسائر السياسات الدينيّة فإنّ للفقهاء المأمونين اقامتها في الغيبة بحق النيابة عنه.(1)
وکذلک یصرّح العلاّمة المجلسي بالنيابة العامة في فترة الغيبة لعالم الدين ویریأن الحكم راجع إليه.(2)
وامّا بالنسبة إلى سيرة العلماء الأخباريين، أيضاً، فإن كثيرین منهم كالمجلسيين والفيض الكاشاني والشيخ الحر العاملي، والسيد هاشم البحرانى، وغيرهم، قد تصدوّا للأمور الولائية والسياسيّة في الدولة الصفوية، بعنوان شيخ الإسلام، واحرزوا رياسة الدين والدنيا للمجتمع في ذلك المضمار.(3)
لا شك أن فی الحركة الأخباریّة لها آثارها السلبية وآثارها الإيجابيّة، فمن آثارها السلبية:
1) تشتت صف الفقهاء: فبما أن الأخبارى كان لا يقيم للأصولي وزناً ويتهمه بالتطّفل على موائد الاخرين، الأصولي يتهم الأخباري بالجمود والركود فإن هذه الحركة صارت منشأ للخلاف والنقاش وانكسار صف علماء الدين وأدت إالی إثارة
ص: 345
الفتن بين المؤمنين في الاماكن المختلفة في إيران والعراق والبحرين.
2) قلّة الاهتمام بعلم الأصول.
3) مواجهة حركة الإجتهاد بالفتور والركود.
وامّا آثارها الإيجابية:
1) تأليف الجوامع الحديثية الضخمه منها: «وسائل الشيعة»، و«الوافي»، و«بحار الانوار».2) اعادة التفسير الروائي:
بعد تأليف تفسير علي بن إبراهيم القمي (رحمه الله) الّذي كان تفسيراً روائياً، تُرك هذا النوع من التفسير، إلى أن جاء دور الأخباریّة، فالّف السيد هاشم البحراني (ت 1107ﻫ.ق) «البرهان في تفسير القران» والشيخ عبد علي العروسي الحويزي «تفسير نور الثقلين» وبذلک تمّ إحیاء منهج التفسير الروائى من جديد.
3) تنمية نشاط الإجتهاد من جديد
لا شك فی ان الافراط الّذي ابتلى به الإجتهاد في دور الرابع، والتفريط الّذي ابتلى به في الدور الخامس، كانا حالة استثنائية لم تدم سوى مدة محدودة من عمر حركة الإجتهاد التي أسست بيد الأئمة الهداة (علیهم السلام) على أسس علمية معقولة متينة. و هذه الحالة إنما حصلت نتيجة التأثّر السطحى، إمّا بمقولات عقلية أوبالظواهر السطحية لبعض الأخبار، دون التعمق والتدبّر والنفوذ إلى اسرارها، ومن هنا كانت حالة استثنائيه طارئة ففى نفس الدورین الرابع والخامس نشاهد كثيراً من الفقهاء وهم يواجهون كلا الاتجاهين ويسدّون الطريق بوجه نفوذهما واستقراهما في الحوزات
ص: 346
العلميّة.
ومن كبار هؤلاء الفقهاء:
1) الشيخ محمد بهاءالدين (953-1030ﻫ.ق)
2) الشيخ جواد الكاظمي (كان حيّاً عام 1029ﻫ.ق)
3) سلطان العلماء (ت 1064ﻫ.ق)
4) الفاضل التوني (ت 1071ﻫ.ق)
5) محمد صالح المازندراني (ت 1080ﻫ.ق). مؤلف «شرح المعالم» و«حاشيةشرح اللمعة»
6) فخرالدين الطريحي (ت 1085ﻫ.ق)
7) محمدباقر السبزواري (1018-1090ﻫ.ق) صاحب «ذخيرة المعاد في شرح الإرشاد» و«كفاية الأحكام»
8) حسين الخوانساري (ت 1098ﻫ.ق)
9) جمال الدين الخوانساري (ت 1125ﻫ.ق)
10) الفاضل الهندى(1062-1137ﻫ.ق) صاحب: «كشف اللثام عن قواعد الأحكام».
فهؤلاء بعض روّاد الإجتهاد الذين لازموا طريقة الإجتهاد، ولم يميلوا، إلى الإفراط ولا إلى التفريط في نشاطهم الفقهي. وبجهادهم، اضمحلّ كلا الإتجاهين المتطرفين، ورجع الفقه الإمامي إلى طريقته الأصلية ومنهجه القويم الّذي أثمر نتاجه في الدورالسادس علی يد استاذ الكل: الوحيد البهبهاني (قدّس سرّه) .
ص: 347
ص: 348
هذا البحث سیدور حول أمور خمسة، بحسب ما كان في الأدوار السابقة.
الأمر الأول: التحديد الزمنى للدور السادس(1)
بدء هذا الدور من منتصف القرن الثاني عشر الهجري تقريباً، وإستمر حتى منتصف القرن الثالث عشر، وهذه المرحلة المباركة بدأت بأستاذ الكل العلامة الوحيد البهبهاني (ت 1206ﻫ.ق) وإستمرت حتّى زمن الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري (ت 1281ﻫ.ق)
الأمر الثاني: التعريف بالدور السادس(2)
إن التصدي لمواجهة مدرسةالأخباریة وإن کان من قبل عدّة من الفقهاء، ذوى النباهة وحرية الفكر واصالته، كالسيد حسين بن جمال الدین الخوانساري (ت 1068ﻫ.ق) أومعاصره الشيخ محمد بن الحسن الشرواني (ت 1098ﻫ.ق) وابنه جمال الدین (ت1125ﻫ.ق) وتلميذ ولده صدرالدين الرضوى القمي (ت 1160ﻫ.ق)، ولكن ماقام به هؤلاء الأعاظم من جهود هو الذی مهد الطريق لظهور
ص: 349
المدرسة الأصولية العميقة الأصيلة على يد الفقيه والمحقق الكبير الوحيد البهبهاني(ت 1205ﻫ.ق) الّذي استطاع أن يقضى على الاتجاه الأخبارى، ويعيد المؤسسة الفقهية إلى حركتها الأصولية السويّة، ومسيرتها الصحيحة، بعد صراع مرير بين إتجاهين متطرّفين، دام قرابة قرنين من الزمن.
وقد تخرّج من مدرست استاذ الكل الوحيد البهبهاني، طبقات من كبار الفقهاء العظماء أمثال: السيد مهدي بحرالعلوم، والشيخ جعفر كاشف الغطاء، والسید طباطبایی صاحب «رياض المسائل» والميرزا القمي، والسيد محمد المجاهد، وشريف العلماء، والنراقيين، و تخرّج على يد هؤلاء، جيل آخر من الفقهاء الكبار كصاحب «الجواهر»، وصاحب «هداية المسترشدين»، إلى أن وصل الأمر إلى الشيخ الأعظم الأنصاري 1.
1) الوحيد البهبهاني، رائد هذا الدور
السيد محمدباقر بن محمد اكمل، الملقّب باستاذ الكل، والوحيد البهبهاني، ولد سنة (1117ﻫ.ق) في اصفهان وقرأ المقدمات فيها، ثم إنتقل إلى النجف وأكمل فيها دروسه عند السيد محمدالطباطبائي البروجردي، جدّ السيد بحرالعلوم، والسيد صدرالدين القمي شارح كتاب «وافية الأصول»، ثم انتقل إلى بهبهان، معقل الاخباريين في ذلك الزمان، ومكث هناك ثلاثين سنة تقريباً، لعب خلالها دوراً هامّاً في التعليم والتربية والتأليف، ثم بدا له لوأنه هاجر إلى الأماكن المقدّسة لكان أحسن. فنزل النجف الأشرف ولم يلبث فيها إلاّ قليلاً، ثم إنتقل إلى كربلاء، التی
ص: 350
حيث كانت تعجّ بالاخباريين يومئذ.
وكان نزول الوحيد البهبهاني بهذه المدينة إيذاناً بمرحلة جديدة في الإتجاه الأصولي والإجتهاد ومواجهة المدرسة الاخبارية، ونجح الوحيد في رسالته العلمية، وإبراز الاتجاه الأصولي واستقطاب خيرة تلامذة الشيخ يوسف البحراني؛ حیث جمعهم حوله لتزوی بعد ذلک الحركة الاخبارية وتنزوی، حیث لم تستعد نشاطها بعد ذلك التاريخ، وبذلك ظهرت مكانته العلمیة السامية وإنتهت إليه زعامة الشيعة ورئاسة المذهب الإمامي، وخضع له جميع علماء عصره.(1)
وقد انصبت جهوده على محورين:
الأول: التصدّی لشنّ حملة عنيفة على الإتجاه الأخباري، وذلك من خلال الأساليب المختلفة، منها:
1) أسلوب المناظرة والمباحثة العلمية
ينقل المامقاني في «التنقيح» حكاية ملخصها: انّ الشيخ الوحيد عند ما نزل كربلاء حضر أبحاث الشيخ يوسف البحراني ايّاماً، ثم وقف يوماً في الصحن الشريف ونادى بأعلى صوته: أنا حجّة الله عليكم، فاجتمعوا عليه وقالوا ما تريد؟ فقال: أريد من الشيخ يوسف أن يمكّنني من منبره ويأمر تلامذته أن يحضروا تحت منبري، فاخبروا الشيخ يوسف بذلك، وحيث إنه كان يومئذاً عادلاً عن مذهب الأخباریّة خائفاً من إظهار ذلك من جهّالهم، طابت نفسه بالإجابة، فارتقى منبر الشيخ، وباحث
ص: 351
تلامذته ثلاثة أيام فعدل ثلثا التلاميذ إلى مذهب الأصولية.(1)
ونقل الشيخ عباس القمي (رحمه الله) عن أحد سدنة الروضة الحسينيّة، أنه شاهد ذات ليلة الشيخ يوسف البحراني والوحيد البهبهاني وهما واقفین يتحاوران في الحرم، فلما حان وقت إغلاق أبواب الصحن انتقلا إلى خارج الصحن من الباب الّذي ينفتح على القبلة وإستمرّا في حوارهما إلى الفجر، فلما أذّن الموذّن لصلاة الصبح رجع الشيخ يوسف إلى الحرم ليقيم الصلاة جماعة، ورجع الوحيد إلى الصحن وافترش عبائته على طرف مدخل باب القبلة واذّن وأقام وصلىّ صلاة الصبح.(2)
2) أسلوب التصنيف والتأليف العلمي
خلف الشيخ الوحيد تراثاً علميّا بلغ مايقرب من ستّين كتاباً دحض فيها شبهات الأخباريين نشير إلى أهمّها:
1) «رسالة الإجتهاد والأخبار»: خاطب فيها الاخباريين بقوله: ما الوجه في مطاعنكم الشديدة المنكرة بالنسبة إلى المجتهدين وما المحلّل لهتك حرمة الأحياء والأموات من المؤمنين؟ ولِمَ هذه التفرقة بين المؤمنين؟(3)
2) «الفوائد الحائرية».
3) «الرد على شبهات الأخباريين».
ص: 352
4) «شرح مفاتيح الشرايع».
5) «التعليقة على الرجال الكبير» وهومنهج المقال للأسترابادي.
3) التضييق على أقطاب الحركة الأخباریّة
كان الوحيد يمنع تلاميذه من حضور درس الشيخ يوسف البحراني، ويفتى بحرمة الاقتداء بهم، وفي المقابل نجد الشيخ يوسف قد أوصى أن يصلي عليه بعد وفاته الشيخ الوحيد البهبهاني، وكان يسمح لتلاميذه بحضور دروس الوحيد، وكان يقول: كل يعمل بموجب تكليفه.(1)
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، قام الوحيد بتربية نخبة من الفقهاء الأصوليين، ليحافظوا على خط الزعامة الدينية من بعده، ولذلك نجد أن جميع فقهائنا من القرن الثاني عشر إلى يومنا هذا، يرجعون بصورة مباشرة إلى الوحيد البهبهاني، ولذلك يطلق عليه استاذ الكل أوالاستاذ الأكبر.
فمن تلامذته المباشرين، يكفينا أن نشير إلى بعض فحولهم فمنهم:
1) السيد مهدي بحرالعلوم (ت 1212ﻫ.ق) مؤلف: «الفوائد الرجالية».
2) الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت 1227ﻫ.ق) مؤلف: «كشف الغطاء»
3) الشيخ أبوعلى الحائري المازندراني (ت 1216) مؤلف: «منتهى المقال»
4) السيد علي الطباطبائي (ت 1231ﻫ.ق) مؤلف: «رياض المسائل».
ص: 353
5) الميرزا أبوالقاسم القمي (ت 1231ﻫ.ق) مؤلف: «قوانين الأصول».
6) السيد جواد العاملي (ت 1226ﻫ.ق) مؤلف: «مفتاح الكرامة».
7) الشيخ أسدالله التستري (ت 1237ﻫ.ق) مؤلف: «كشف القناع»و«مقابيس الأنوار».
ثم أعقبهم جيل آخر من تلامذة تلاميذه، منهم: المحقق أحمد النراقي، الشيخ محمدتقي صاحب «هداية المسترشدين»، السيد عبدالفتاح المراغي صاحب «العناوين»، السيد محمدباقر الشفتي وصاحب الجواهر(1)
إشارة إلى اجوبة الوحيد لمعالجة موقف الأخبارية
الأصل الأول: ذهبت الأخبارية إلى أن العمل بظواهر القرآن تفسير بالرأي
أجاب الوحيد: إن التمسك بظواهر القرآن بعد الفحص عن المخصّص والمقيّد وما ورد حولها من أئمة أهل البيت (علیهم السلام) ليس من تفسير القرآن بالرأي.
الأصل الثاني: ليس للعقل دور في إستنباط الأحكام الشرعية، فإن دين الله لايصاب بالعقول. وقد قام الوحيد (قدّس سرّه) بتأليف رسالة في الحسن والقبح العقليين، أثبت فيها حجيّة حكم العقل في المستقلات العقلية، وأنه لاصلة لقولهم: إن دين الله لايصاب بالعقول بهذا النمط من الإستدلال والمراد من قولهم هذا عبارة عن الظنون المتراكمة بإسم القياس والاستحسان والمصالح المرسلة، دون الأحكام العقلية
ص: 354
القطعيّة كإستقلال العقل بقبح العقاب بلابيان، وأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.
الأصل الثالث: إن الأصوليين يعتمدون على الاجماع مع أن الاجماع أصل لأهل السنّة.فأجاب المحقق البهبهاني بأنه اشتراك في اللفظ فالإجماع عندالأصوليين يختلف جوهراً عن الإجماع عند أهل السنةّ، إذ إنّ أهل السنة يتكلّون على الإجماع بما هوإجماع والشيعة ترى أن الاجماع طريق إلى تحصيل رأي المعصوم على الأساليب المقرّرة في الأصول.
الأصل الرابع: إن تمام الأحاديث الواردة عن إئمة أهل البيت (علیهم السلام) قطعية، ولا حاجة إلى علم الرجال. كما صرح به الأمين الاسترابادي وإستدلّ بأن أحاديثنا محفوفة بالقرائن المفيدة للقطع.
وقد أجاب المحقق البهبهاني عن هذا المدّعى وأخذ بتفنيد تلك القرائن في رسالة الإجتهاد والأخبار.(1)
2) السيد محمد مهدي بحرالعلوم (ت 1212ﻫ.ق)
هومن أبرز تلامذة الوحيد وله تخصص كبير في مجال الفقه والأصول، وقد تصدّى لزعامة الشيعة في حياة استاذه الوحيد، وكان يحضر في درسه مأة العلماء كالنراقي وصاحب «رياض المسائل» وصاحب «مفتاح الكرامة» وصاحب «المناهل».
ص: 355
وقد ترك أكثر من ثلاثين مؤلفاً في العلوم المختلفة، منها كتاب «الرجال» وكتابان في علم الأصول. «الفوائد الأصولية» و«الدرّة البهيّة».
3) الشيخ جعفر كاشف الغطاء (ت 1228ﻫ.ق)
هومن أكبر علماء هذه الدورة ومن أبرز تلامذة الوحيد، وكتابه الكبير: «كشفالغطاء عن مبهمات الشريعة الغرّاء» من الكتب القيمة. ونُقِل عن الشيخ الأعظم الأنصاری 1 أنه قال: لوأن فرداً قد عرف بإتقان القواعد الأصولية التي ذكرها في أول كتاب «كشف الغطاء» فهوعندى مجتهد ولمكانة كاشف الغطاء العلمية نجد الشيخ الأعظم في كتابه القيّم «المكاسب» ينقل آرائه ويعبّر عنه ببعض الأساطين.
كما ذكرنا قد قام الوحيد البهبهاني في هذا الدور بتصحيح عملية الإجتهاد في الفقه الإمامي و تنقحیها ممّا لحق بها من شبهات وانحرافات، نتيجة التطرف المشار إليه في كل من الإتجاه الإفراطي في الدور الرابع والإتجاه التفريطي في الدور الخامس.
فمن ناحية إستطاع أن یبطل جملة من أراء المحقق الأردبيلي (قدّس سرّه) وعالج مشكلة توثيق الاسناد والرواة في تعليقته على «الرجال الكبير» وهو«منهج المقال» للإسترابادي ومن ناحية أخرى، صمّم على مواجهة الإتجاه الأخباري، ووضّح أن الإجتهاد في الفقه الإمامي يختلف عن الإجتهاد عند العامّة وأن التشابه اللفظي أوجب توهم أن ماورد في الروايات من الردّ على إجتهاد العامة يشمل هذا الإجتهاد. واتضحت أيضاً من خلال إفادات المحقق البهبهاني الحاجة إلى علم أصول الفقه، وأنه من دونه ذلك لايمكن أن يتمّ إستنباط الحكم الشرعي، وقد قسّم المحقق
ص: 356
البهبهاني الحجج الشرعية إلى الإمارات الشرعية وسمّاها الأدلة الإجتهادية وإلى الأصول العمليّة وسمّاها الأدلة الفقاهتية.
وكذلك اتضح على يديه الفرق بين أصول الفقه عند الشيعة، وأصول الفقه عند العامّة. وإتضح أيضاً مبنى حجيّة الاجماع عند الشيعة، وأنه ليس دليلاً مستقلاً، بل إذا كان كاشفاً عن السنة يعتمد عليه، والاّ فلا إعتبار له.والحق أنه قد تحققت صحوة أصولية وفقهية عظيمة على يد الوحيد البهبهاني، إعتدل بها منهج الفقه الإمامي ووجد مساره الأصيل المستقل عن المناهج الفقهية الأخرى، وعما كان يثار بوجهه من الغبار والشبهات المتطرّفة.(1)
لقد تبين مما ذكرنا أهمّ مميّزات هذا الدور وأبرز خصائصه وهی:
1) تصعيد النشاط الفقهي ومكافحة الرجعية والجمود وإعادة العقل إلى ساحة الاستدلال.
2) ظهور إبتكارات أصولية كتقسيم الأدلة إلى الإجتهادية والفقاهتية.
3) تمّ في هذا الدور القضاء على الاخبارية وأفكارها، حتى أن الشيخ البحراني مال إلى المدرسة الأصولية وفقاً لما صرح به في المقدمة الثانية عشرة من مقدمات «الحدائق».
4) تأليف موسوعات في علم الأصول «كقوانين الأصول» و«هداية المسترشدين».
ص: 357
وظهور موسوعات فقهية كثيرة، «كمعتمد الشيعة في احكام الشريعة» للشيخ مهدى النراقي و«مستند الشيعة في أحكام الشريعة» للشيخ أحمد النراقي و«مفتاح الكرامة» و«جواهرالكلام».(1)
المراكز العلمية في الدور السادس:
كانت للشيعة آنذاك حوزات علمية عامرة في مناطق مختلفة، ومن بينها حوزةإصفهان حيث كانت ذات نشاط كبي،ر تخرج منها علماء أفذاذ كالمحقق البهبهاني. وقد إنقرضت الدولة الصفوية عام (1135ﻫ.ق) في هذا الدور وحدثت إضطرابات لم تدم طويلاً حیث تسلمت الدولة الزندية زمام الأمور. وفی هذا الدور عجّت حوزة شيراز بالأصوليين والأخباريين والحكماء والفلاسفة وفي أواخره أیضاً نشطت حوزة كربلاء والنجف وبدئتا دورهما الأساسي الذی شهدناه فی العصور المتأخرة.
وأيضاً في هذا الدور إنحصر الإتجاه الأخباري في حوزة البحرين والقطيف والأحساء.(2)
ص: 358
في هذا الدور أيضاً نبحث عن أمور خمسة:
الأمر الأول: التحديد الزمني للدور السابع(1)
هذا الدور هوامتداد للدور المتقدم واستمرار للمنهج، إلاّ المنهج السابق وصل على يد أحد الأفذاذ وهوالشيخ الأنصاري إلى القمّة في النضح والعمق، بحيث يمكن إعتباره دوراً جديداً في تاريخ الإجتهاد، وعلى هذا يبدء هذا الدور من حياة الشيخ الأعظم الأنصاري (1214-1281ﻫ.ق) ويستمرّ إلى عصر الإمام الخميني (قدّس سرّه) والثورة الإسلامية في إيران.
الدور السابع هوإستمرار لنفس المنهج الإجتهادي الّذي أرست مبانيه مدرسة الوحيد البهبهاني وتلامذته الفقهاء العظام، إلاّ أن هذا المنهج احتاج إلی جيلين من فقهاء هذه المدرسة، لیصل إلی القمّة في النضخ والإبداع والشمول، بحيث أصبح يعدّ دوراً جديداً في الإجتهاد، ويتضح ذلك من المقارنة بين كتابي الشيخ الأعظم
ص: 359
«المكاسب» في فقه المعاملات و«فرائد الأصول» مع مصنّفات فقهاء هذه المدرسةقبل الشيخ، فإن الفارق بينهما يعدّ فارقاً كبيراً في المضمون والمنهجيّة وصناعة الإستدلال في الفقه والأصول.
وقد تخرّج على يد الشيخ الأعظم فقهاء كبار، أمثال الميرزا الشيرازي الكبير (ت1312ﻫ.ق) والشيخ حبيب الله الرشتي (ت 1312ﻫ.ق) والشيخ ملا علي الكني (ت1306ﻫ.ق) ومئات من المحققين والمجتهدين.(1)
1) الشيخ المرتضى الأنصاري، رائد هذا الدور(2)
رائد هذه الحركة الجديدة هوالشيخ المحقق مرتضى بن محمد أمين المعروف بالأنصاري وقد ولد عام (1214ﻫ.ق) في بلدة دزفول من ايران وتوفّى سنة (1281ﻫ.ق) ودفن في النجف الأشرف.
بعد أن أنهى الشيخ الأنصاري مقدمات العلوم وشرع في الأصول والفقه في مسقط رأسه لم يقنع بما تعلّم فأعدَّ العدّة مع والده لزيارة العتبات المقدسة (عام 1232ﻫ.ق) ومكث في كربلاء أربع سنوات، ویومها كان على رأس العلماء في الحوزة العلمية في كربلاء العلمان الجليلان:
السيد محمد المجاهد (ت 1243ﻫ.ق) صاحب «المناهل» في الفقه، وشريف
ص: 360
العلماء (ت 1245ﻫ.ق) إلى أن إحتلّ وإلى بغداد مدينة كربلا المقدسة، فغادرالشيخ مهجره ونزل الكاظمية، وبقى فيها سنة واحدة، ثم هاجر إلى النجف الأشرف، فحضر هناك دروس المحقق الشيخ موسى كاشف الغطاء، قرابة سنتين ثم غادر العراق متوجهاً إلى موطنه (عام 1235ﻫ.ق) فمكث فيه مدّة قليلة ثم جاب المدن الإيرانية للإستفادة من علمائها.
بدأ الشيخ برحلته العلمية من دزفول، ونزل في مدينة بروجرد، فحضر درس الشيخ اسدالله البروجردي (ت 1290ﻫ.ق) وأقام فيها شهراً واحداً ثم غادرها إلى إصفهان وحضر درس السيد محمدباقر الشفتي (ت 1260ﻫ.ق) وقد جرت بينه وبين الشيخ مباحثات ومناظرات، وقف من خلالها السيد على عظمة الشيخ، فطلب منه الاقامة في اصفهان، لكن الشيخ فضل أن يغادرها إلى بلدة كاشان وكان زعيمها العلمي انذاك الشيخ أحمد النراقي (ت 1245ﻫ.ق) صاحب كتاب «مستند الشيعة في أحكام الشريعة» وقد وجد في محاضراته ضالّته، فمكث فيها أربع سنين حضر خلالها دروسه ونبغ في الفقه والأصول على يديه. ولمّا عزم الشيخ على مغادرة كاشان نال من أستاذه «النراقي» اجازة مفصّلة. ثم ذهب إلى مشهد الرضا (علیه السلام) وبقى هناك مدّة، ثم رجع إلى العراق فدخل النجف الأشرف (عام 1246ﻫ.ق) وكانت الرئاسة العلمية فیها على عاتق الشيخ علي بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء (1254ﻫ.ق) والشيخ محمدحسن صاحب الجواهر(ت 1266ﻫ.ق) وقد حضر دروس الشيخ كاشف الغطاء إلى أن إستقلّ بالتدريس وضاع صيته في أوساط النجف العلمية. ولمّا لبّى الشيخ محمدحسن صاحب الجواهر نداء ربه (عام 1266ﻫ.ق) إنتخب الشيخ بتوصیة منه مرجعاً للشيعة وانتقلت الزعامة العلمية إليه بلا منازع إلى أن لبّى نداء ربّه
ص: 361
ليلة الثامن عشر من شهر جمادى الأولى عام (1281ﻫ.ق).
وللشيخ الأنصاري جملة من المؤلفات والآثار العلمية المهمة إلاّ أن أهمّ کتبه الكتابان المعروفإن: كتاب «الفرائد» المشهور بالرسائل وكتاب «المكاسب».
وقد أصبحا منذ تأليفهما إلى يومنا هذا كتابين دراسيّين في الحوزات العلمية في الأصول والفقه یدرّسان في أعلى مستويات الدراسة الحوزوية «السطوح».
وكان الشيخ يلقى دروسه في الجامع الهندى في النجف الأشرف وهناک تخرج عليه عدد كبير من المجتهدين وقد عدّ بعضهم أسماء تلاميذه فبلغ (315) مجتهداً عالماً، وسنشير هنا إلى أسماء مشاهيرهم الذين لعبوا دوراً هاما في حفظ التراث الفكري للشيخ الأعظم (قدّس سرّه) وهم:
1) السيد حسن الكوهكمري (ت 1299ﻫ.ق)
2) السيد المجدد الميرزا حسن الشيرازي (1230-1312ﻫ.ق)
والسيد ميرزا الحسن الشيرازى كان من اشهرتلامذة الشيخ الأعظم، وصار زعيماً للطائفة بعد رحيله، حیث التف حوله عدد غفير من الفضلاء لکنّه وعلى أثر نشوب الفتن فی النجف الأشرف غادرها إلی سامراء التی أسّس فيها حوزة علميه كبيرة.
3) الشيخ ميرزا حبيب الله الرشتي (1234-1316ﻫ.ق)
4) الشيخ محمدحسن الآشتياني (1248-1320ﻫ.ق)
5) الشيخ محمدرضا الهمداني (1250-1322ﻫ.ق) مؤلف «مصباح الفقيه» وهوشرح لشرائع الإسلام.
6) السيد محمدكاظم الطباطبائي اليزدي (1247-1337ﻫ.ق) مؤلف «العروة
ص: 362
الوثقى» وكذا تعليقة معروفة على مكاسب الشيخ الأنصاري.
7) المحقق الخراساني (1255-1329ﻫ.ق) مؤلف «كفاية الأصول» الّذي عليه محورالبحث والدراسة في الحوزات العلمية.
8) الشيخ ميرزا محمدحسين النائيني (1274-1355ﻫ.ق)
9) ضياءالدين العراقي (1278-1361ﻫ.ق)
10) الشيخ محمدحسين الأصفهاني (1296-1361ﻫ.ق)
11) الشيخ أبوالحسن الاصفهاني (1248-1365ﻫ.ق)
12) الشيخ عبدالكريم الحائري (1274-1355ﻫ.ق)
والشيخ عبدالكريم الحائري تلقى المقدمات في مدينة يزد ثم هاجر إلى النجف الأشرف فحضر درس السيد محمد الفشاركي والمحقق الخراساني ثم غادر العراق ونزل مدينة أراك وفي السنة (1340ﻫ.ق) غادر اراك إلى قم التی عزم على الإقامة فيها وتأسيس الحوزة بها.(1)
الحوزة العلمية فی قم
کانت مدينة قم المقدسة عامرة بالعلم والفقه منذ القرن الثاني إلى أواخر القرن الرابع. فالمحدثون القميّون عرفوا في الحديث والفقه كإبراهيم بن هاشم وابنه علي بن إبراهيم وأحمد بن خالد الرقي والاشعريّین وغيرهم. ثمّ شهدت قم فترة من الرکود العلمی إلى أن قدم إلیها رجل العلم ومثال الزهد والتقوى الشيخ عبدالكريم الحائري
ص: 363
اليزدي (قدّس سرّه) حیث أسس الحوزة العلمية التی ظل یدرس فيها إلى أن لبّى نداء ربّه في سنة(1375ﻫ.ق)
وقد حضر درسه جيل كبير من الفقهاء الذين صاروا فيما بعد أساطين الحوزة ومراجع للفقه والأصول منهم: الإمام الخميني والسيد الكلپايگاني والشيخ الاراكي (قدّس سرّهم) .
13) السيد حسين البروجردي (1292-1380ﻫ.ق)
تلقى المقدمات في موطنه ثم غادر إلى إصفهان (1309-1318ﻫ.ق) ثم توجّه إلى النجف الأشرف فحضر بحث المحقق الخراساني، وبعد إتمام دروسه ترك النجف الأشرف ونزل بروجرد. وفي سنة (1364ﻫ.ق) غادر مسقط رأسه إلى قم مستجیباً لطلب بعض العلماء المقيمين بقم ومنهم السيد الإمام الخميني (قدّس سرّه) .(1)
الف) في مستوى أصول الفقه:
في مطلع هذا الدور استطاع الشيخ الأعظم أن يوسّع المنهج الأصولي الّذي أسّسه الوحيد البهبهاني وتلامذته فيستحدث نظريات جديدة ووضع مصطلحات جديدة وأبرز أصالة المنهج الأصولي، وقد قسّم الشيخ 1 بحوث أصول الفقه إلى قسمين رئيسیين: مباحث الألفاظ، وهي التي ترتبط بتحديد وتنقيح دلالات الدليل اللفظي، والمباحث العقلية، ويقصد بها البحث عن الحجج العقلية والشرعية. وقد تطوّر في
ص: 364
هذا الدور علم أصول الفقه تطوراً جوهرياً.
فأوّلاً: هذّبت مسائله وأُخرجت منها البحوث المرتبطة بعلوم أخرى كانت قد دخلت في هذا العلم بشكل استطرادي كبوحث كلامية والأدبية والفقهية.
ثانياً: إتّضحت طبيعة المسألة الأصولية وجری تعريفها بشکل دقيق بإعتبار أنها العلم بالأدلة المشتركة للفقه والتي لاتختص بباب دون باب، لفظية كانت أوشرعية أوعقلية. فأصبح علم الأصول بمثابة منطق الفقه.
ثالثاً: قسمت مسائل علم الأصول تقسيماً فنيّاً جامعاً كمايلى:
1) مباحث الألفاظ: يبحث فيها عن دلالات الألفاظ وأقسامها
كالأمر والنهي وأدوات المفهوم والعموم والخصوص والاطلاق والتقييد ونحوذلك.
2) مباحث الإستلزامات العقليّة: ويبحث فيها عن علاقات التلازم والتمانع بين الأحكام، كالملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته أوحرمة ضدّه أوإمتناع ؤجتماع الأمر والنهي أوالأمر بالضدين أوإقتضاء حرمة عبادة أومعاملة لفسادها.
3) مباحث الحجج والإمارات (الأدلة الإجتهادية) ويبحث فيها عما يثبت الحكم الشرعي، ويدخل في هذا القسم البحث عن الاجماع والشهرة والسيرة العقلائية والمتشرعية والظنون المعتبرة شرعاً، كالظهورات والخبر الواحد. ويبحث في مقدمة هذا القسم عن بحوث تمهيدية كالبحث عن حجيّة القطع والفرق بين الحجيّة الذاتية والتعبديّة.
4) مباحث الأصول العملیة (الأدلة الفقاهتية): ويبحث فيها عن الوظائف المقررة شرعاً أوعقلاً للمكلف، عند الشك في التكليف، من إستصحاب أوبراءة أوإحتياط أوتخيير.
ص: 365
5) مباحث تعارض الأدلّة: ويبحث فيها عن التعارض بين أدلة وما يفترق به عن التزاحم.
ب) في مستوى الفقه:
في هذا الدور تطوّرت صناعة الإستدلال الفقهي، من حيث المضمون ومنهج الاستدلال.
فمن ناحية: إتسعت آفاق البحث في كلّ مسألةّ فشملت أدقّ التعريفات والشقوق والتقادير المتصورة فيها، فتنامت البحوث الفقهية وازداد حجمها.
و من ناحية ثانیة: إمتازت عملية الإجتهاد في هذا الدور بالإستفادة من المنهج الأصولي، وأصبح لكل قسم من أقسام الفقه منهجه المتميز والخاص به، فمنهج الإجتهاد في فقه العبادات، يختلف عن منهج فقه المعاملات، من حيث نوع الأدلّة، ففى العبادات تتوفّر النصوص والروايات الخاصة، بخلاف العقود والايقاعات، التی يُستند فيها غالباً إلى العمومات والقواعد الثابتة بها أوإلی سيرة العقلاء.
ومن ناحية ثالثة: يتميّز منهج الإستدلال الفقهي في هذا الدوربتقنين عملية الإجتهاد بالأدلة اللبيّة المتمثلة في الإجماعات والشهرة والسيرة العقلائية أوالمتشرعية فهذه العناوين وإن لم تكن حجة شرعية بعناوينها الذاتية إلا أنها يمكن أن تكشف في بعض الأحيان عما هودليل شرعى على الحكم. فبالنسبة للإجماعات والشهرات، إذا كانت من قبل قدماء الأصحاب يمكن أن تكشف عن وجود موقف شرعى متسالم عليه في عصرالأئمة عند المتشرعة أوعند أصحاب الأئمة (علیهم السلام)، أويكشف عن وجود سنّة غير واصلة الينا في تلك المسألة. كما يمكن أن تؤثر في الكشف عن الخلل
ص: 366
والنقص في بعض شروط حجيّة الرواية المعتبرة بحسب ظاهرها، أوتؤثّر في فهم أدقّ وقراءة أصح للنص المعتبر والّذي يستند إليه.وبالنسبة للسيرة العقلائية أوالمتشرعية فقد تعرض الفقهاء إلى توضيح أنحاء الإستدلال بها سواء في مجال إستكشاف كبرى الحكم الشرعي، أوإستكشاف دلالة بالسيرة في دليل لفظى أوغير لفظى أوتشخيص شرط إرتكازي منها، يحقّق موضوعاً لقاعدة أخرى ولحكم شرعي ثابت، كما في إكتشاف الشروط الضمنية، كشرط السلامة وعدم الغبن في العقود المعاوضية.(1)
1) كان الدور السابع في الحقيقة إكمالاً للأسس التي ورثها الشيخ الأنصاري وتلاميذه عن المحقق البهبهاني وتلامذته. ولكن مع فارق جلي، وهوإعطاء منهجية لتلك الأصول وتنظيمها بشكل جديد.
2) رغم أنّ الفقه ذو أبواب متعدّدة؛ لكن فقهاء هذا الدور صبّوا إهتمامهم على العبادات والعقود المختصة بالمعاملات، وبذلك قلّ التصنيف في الأحوال الشخصية، وکان أقل منه فیما يرجع إلى الأحكام والسياسات.
3) تبويب المسائل الأصولية بشكل بديع لم یکن معتمداً في الأدوار السابقة حیث تطور تنظيم أبواب علم أصول الفقه تطوراً جوهرياً كما مرّ ذكره.
4) ظهور نمط في التأليف في الفقه والأصول بإسم التقريرات، وهوكالأمالي بين
ص: 367
القدماء، مع فرق بينهما، وهوأن الاستاذ يملي والتلميذ يكتب وینشر بإسم التلميذ مع أن المحتوى من الاستاذ بخلاف الأمالي التی تنشر بإسم الأستاذ.5) ظهور رسائل عملية بلغات مختلفه ليرجع إليها المكّف في أعماله الشرعية.(1)
6) تطور صناعة الإستدلال الفقهي، من حيث المضمون والمنهج، كما أشرنا إليه.
7) تطوّر بحوث علم الرجال وظهور نظريات جديدة للتوثيق وبالتالي تصحيح أسانيد الروايات. وقد تبلورت من خلال ذلك قواعد رجالية عامّة للتوثيق.
8) من حيث المادة الفقهية، أيضاً إنفتح الفقه الإستدلالي فی هذا الدورعلى النظريات الحديثة في القانون الوضعى وغيره، فإستجدت موضوعات فقهيه مستحدثة عالجها الفقه.
9) إهتمام الفقهاء بشئون الأمّة والحاجات الدينية، فمن ناحية إهتم الفقهاء بربط الأمة بالشريعة عن طريق التقليد وإرجاع الناس إلى الفقهاء والمجتهدين وتنظيم جهاز المرجعية الدينيّة وتقويته وتشييد الحوزات العلمية وتربية العلماء والمبلغين وتعیین الوكلاء في أرجاء البلاد وإستلام الأموال والحقوق الشرعية والتصدي لمّا يمكن حلّه من مشاکل الناس وفصل خصوماتهم، وبتعبیرآخر: التصدي للأمور الحسبيّة التي تنشأ من فكرة النيابة العامة عن الإمام المعصوم في عصر الغيبة.
ومن ناحيه ثانية: تصدّى المجتهدون في هذا العصر لمواجهة الحضارة الغربية التي بدأت تغزوا العالم الإسلامي وتستعمر بلاد المسلمين وتسيطر على ثرواتهم
ص: 368
ونفوسهم وتفسد أنظمتهم وحكوماتهم، فكان لابدّ للفكر الديني والإجتهاد أن يواجه هذا المدّ الحضاري الغازی وقد تصدّى جملة من الفقهاء والمجتهدين في هذا الدور لأداء هذه المسؤليّة فظهرت دراسات علمية في الإقتصاد الإسلامي والفقه السياسيونظرية الحكم في الإسلام وغير ذلك.
كما صدرت فتاوی ذات طبیعة ميدانية من قبل المرجعية الدينية للتصدي للكفار ومواجهة النفوذ الإستعماري الغربي ونجد ذلك علی سبیل المثال فی فتوى الميرزا الشيرازي الكبير (ت 1312ﻫ.ق) بتحريم «التنباك» فی مواجهة مطامع الإستعمار البريطاني في إيران، ونجد أيضاً في فتوى الشيخ محمدتقى الشيرازي (ت 1338ﻫ.ق) بالجهاد في العراق ضد الإحتلال البريطاني، العمل الذي إشترك فيه الفقهاء مع الشعب.
وموقف المحقق الخراساني (ت 1329ﻫ.ق) والميرزا النائيني (ت 1355ﻫ.ق) وسائر المراجع والفقهاء العظام في الحوزات العلمية في النجف الأشرف وفي إيران ضد الإستبداد القاجاري وطرح نظرية الحكم الدستوري الشرعي، أوما يسمى بإسم المشروطة.(1)
10) من أهمّ مميزات هذا الدور مواجهة الحكم الإسلامي وحركة الإجتهاد للحركات العلمانية التي تدعو إلی عدم تدخّل الدين في الحياة والمجتمع؛ إذ تصدى الكثيرون من المجتهدين للنظريات الواردة من الغرب بعد أنّ رأوا تأثیرها فی أبناء
ص: 369
أمتنا الإسلامية. وفي هذا السبيل إستشهد الكثيرون من العلماء والفقهاء الكبار أمثال: الشهيد الشيخ فضل الله نوري والشهيد السيد حسن المدرس، ولایزال العلماء يبذلون مهجهم فى سبيل الدفاع عن الإسلام الأصيل حتی الیوم.
ص: 370
ويقع البحث في أمور خمسة:
الدور الثامن وهودور تحقق النظام السياسي وفقاً لحركة الإجتهاد في مذهب أهل البيت (علیهم السلام). يبدء هذا الدور من عصر زعامة السيد الإمام الخميني (قدّس سرّه) ، القائد الرباني للأمة الإسلامية وذلک بعد وفاة السيد البروجردي (1292-1380ﻫ.ق) ومازال هذا الدور مستمراً إلى وقتنا الحاضر (1430ﻫ.ق) مع كل نشاط ونضج وسلوك تكاملي.
كما شاهدنا بالنسبة إلى الأدوار السابقة، إن الفقه وإن كان ذا أبواب متعدّدة. تشمل جميع أبعاد الحياة من العبادات والمعاملات والسياسات لكن الفقهاء التابعين لمذهب أهل البيت (علیهم السلام) و بسبب کونهم فی معزل عمّا يرتبط بالإجتماع والسياسة، كان أكثر إهتمامهم منصّباً على الأحكام المرتبطة بالعبادات، وفي الرتبة الثانية على العقود والمعاملات. وقلّما تجد مباحث ترتبط بالأحكام والسياسات. إلا أنه بعد مرجعية السيد الإمام وحركته السياسيّة ضدّ الحكومة الاستبدادية ونظام السلطة، بدأ یزداد تدخّل الفقهاء في البحث عن الأمور السياسية والأحكام المرتبطة بنظام الحكم في الإسلام، وظل هذا المسلك ینمو و ینضج شيئاً فشيئاً في الحوزات العلمية المقدسة،
ص: 371
وخاصة في قم والنجف، حتى نجحت الثورة الإسلامية في ايران؛ وبعد انتصار الثورةإنبعثت روح علميّة جديدة في الحوزة العلمية، مستفيدة من تجارب الماضى ومتطلعة إلى آفاق المستقبل والمتسجّدات التي أمّلتها حاجة الدولة الإسلامية إلى القوانين والتشريعات التي تنظم شؤون الدولة ومؤسساتها.
1) السيد الإمام روح الله الموسوي الخميني (قدّس سرّه) (1320-1409 ﻫ.ق)
السيد الخميني هوالزعيم الأكبر والإمام الأعظم، رائد الدور الثامن، أحد الشخصيات القلیلة التي يجود بها الدهر، تلقى المقدمات في موطنه «خمين»، ثم إنتقل إلى أراك عام (1339ﻫ.ق) يوم كان شيخه المحقق الحائري زعيماً لحوزة أراك ولمّا إنتقل الاستاذ إلى مدينة قم غادرها إلى قم، فأقام فيها إلى عام (1383ﻫ.ق) فحضر دروس أستاذه الحائري في الفقه والأصول كما حضر دروس الشيخ محمد علي الشاه آبادي في المعقول والعرفإن، ولمّا لبّى المحقق الحائري (قدّس سرّه) نداء ربّه عام (1355ﻫ.ق) إستقل بالتدريس وربّى جيلاً كبيراً في هذه البرهة، ولمّا حلّ السيد البروجردي فی مدينة قم وأضفى على الحوزة نشاطاً علميّاً خاصاً، حضر السيد الإمام دروسه حضوراً فعالاً. وبعد التحاق السيد البروجردي بالرفيق الأعلى، أخذ يدرس ويكتب، وكان له حوزة فقهيّة تضّم عدداً كبيراً من الفضلاء.(1) وأيضاً في هذا الوقت تصدّى للمرجعية وإصدار الفتوى، وقد كثر مقلّدوه في شتّى بلاد العالم من إيران
ص: 372
وغيرها، وأيضاً ظلّ الإمام قائماً بأعباء الزعامة الدينية والسياسية، وقد قام بوجه حكومة الشاه ونظام السلطنة فأصدر طاغوت ايران أمره بابعاده إلى تركيا، فحلّ فيها ما يقربمن عام واحد، ثم نفىّ إلى العراق ومن هناك تولّی قيادة الثورة الإسلامية، للقضاء علی النظام الشاهنشاهي وبعد الإطاحة بنظام الشاه، إستمرت قيادته ما يربوعلى (11) سنة، ألقى خلالها العديد من المحاضرات السياسية والإجتماعية والأخلاقية إلى أن وافاه الأجل في عام (1409ﻫ.ق)
وقد ترك السيد الإمام ثروة علميّة كبيرة في شتّى الموضوعات من الفقه والأصول والتفسير والفلسفة والعرفان والاخلاق والحديث وغيرها، وهنا نشير إلى بعضها، وبالخصوص المرتبطة منها بالفقه والأصول:
1) «المكاسب المحرمه».
2) «كتاب البيع».
3) «كتاب الطهارة».
4) «التعليقه على كفاية الأصول».
5) «تحرير الوسيلة».
6) «الحكومة الإسلامية».
کانت شخصية الإمام الخميني (قدّس سرّه) شخصية لامعة، حيث أثبت بثورته أنّ الإسلام دين للماضي والحاضر والمستقبل، وأنه ليس للإنسان المتحضر بدّ من التمسك بأهداف ذلك الدين القيّم؛ وفي الختام لابدّ من القول إن الكلام عن السيد الإمام
ص: 373
وخدماته الجليلة وآثاره ومعطياته للأمّة یحتاج إلی مقال مسهب بل كتاب مفرد.(1)
2) الشهيد السيد محمدباقر الصدر
ولد الشهيد الصدر في مدينة الكاظميّة عام (1353 ﻫ.ق) ودخل المدرسة في مدينة الكاظمية وإستطاع في المدّة التي لم يكمل فيها تمام الصفوف الإبدائية أن يضرب أروع الأمثلة في النبوغ الفكري. ثم هاجر إلى النجف الأشرف سنة (1365 ﻫ.ق) وكان عمره حينئذٍ إثنتي عشرة سنة. وقد قرأ أكثر الأبحاث المسمّاة في مصطلح الحوزة العلمية بالسطوح العلیا بلا أستاذ، وتتلمّذ في مرحلة بحث الخارج على يد علمين من أعلام النجف الأشرف وهما: الشيخ محمد رضا آل ياسين والسيد الخوئي، وقد أنهى دراساته الأصولية في سنة (1378ﻫ.ق) وبدأ بتدريس الخارج لعلم الأصول في نفس تلك السنة، وبدأ بتدريس الخارج لعلم الفقه في سنة (1381 ﻫ.ق).(2)
ثم تعرض السيد الشهيد للإعتقال من قبل السلطة البعثية الغاشمة في العراق أربع مرّات، وقضى شهيداً على يد النظام البعثی وذلك بعد إعتقاله الأخير بثلاثة أيام تقريباً، حيث جاوؤا بجثمانه الطاهر إلى النجف الأشرف سنة (1400 ﻫ.ق)
ص: 374
فقد كان السيد الشهيد يعتقد أنّ تأييد الثورة الإسلامية تكليف شرعي عيني، وهوجهاد عظيم، وكان يقول: «إن هؤلاء الذين يطلبون منّي أن أتريث وأن أتّخذ موقفاً من الثورة الإسلامية لكي لاأثير السلطة الحاكمة في العراق، حفاظاً على حياتي ومرجعيتي لايعرفون من الأمور إلاّ ظواهرها، إنّ الواجب على هذه المرجعية وعلى النجف كلّها أن تتخذ الموقف المناسب والمطلوب تجاه الثورة الإسلامية في ايران...ما هوهدف المرجعيّات على طول التاريخ؟ أليس هوإقامة حكم الله عزّوجلّ على الأرض؟ وها هي مرجعية الإمام الخميني1 قد حققت ذلك، فهل من المنطقي أن أقف موقف المتفرّج ولا إتّخذ الموقف الصحيح والمناسب حتى لوكلّفني ذلك حياتي وكل ما أملك؟!(1)
ثمّ خلّف السيد الشهيد مؤلفات قيّمة في مختلف مجالات الفكر الإسلامي، من أهمّها في مستوى الفقه والأصول هي:
1) «البنك اللاربوي في الإسلام».
2) «بحوث في شرح العروة الوثقى».
3) «الفتاوى الواضحة».
4) «بحوث في الأصول».
5) «الإسلام يقود الحياة».
3) السيد القائد علي الحسيني الخامنئي
ص: 375
ولد السيد عام (1358ﻫ.ق) في مدينة مشهد المقدسة، وقد تعلّم جامع المقدمات والصرف والنحوفي الثانوية، ومن ثمّ توجّه إلى الحوزة العلمية وتعلّم الأدب والمقدمات على يد والده وباقي الاساتذة هناك، وأكمل دروس السطوح في الحوزة المقدسة في مشهد، وتوجه إلى النجف الأشرف للزيارة والدراسة الحوزوية العليا بعد أن أكمل دورة خارج الفقه والأصول على يد المرجع الكبير السيد الميلاني في مدينةمشهد المشرفة. وفي النجف حضر دروس الخارج لدى السيد محسن الحكيم والسيد محمود الشاهرودي وغيرهما، حيث أعجبه المنهج الدراسي في النجف، وطلب من والده أن يسمح له بأن يبقى في النجف، ولكن بسبب بعض الظروف العائليّة اضطرته للعودة إلى مشهد، ثم انتقل منها إلی مدينة قم المقدسة. واستمر بمتابعة دروسه العليا في الفقه والأصول والفلسفه متتلمّذاً على أیدی المراجع العظام كالسيد البروجردي والإمام الخميني والشيخ مرتضى الحائري والعلامة الطباطبائي (قدّس سرّهم) . ثم ترك مدينة قم وذهب إلى مشهد لرعاية والده الّذي قد أصيب بمرض في عينه، وتابع سماحته دروسه العلمية في مدينة مشهد المشرفة على يد السيد الميلاني (قدّس سرّه) وقام أيضاً بتدريس الفقه والأصول والمعارف الدينية للطلاب والشباب.
دخل السيد القائد الخامنئي معترك الجهاد السياسيّ عندما كان مقيماً في مدينة قم المقدسة مع بدایة الإمام الخميني1 حركته الثورية، وخاض غمار الجهاد بشكل مباشر وفعّال، بالرغم من خطرالعديد من التقلبات والمنعطفات وأعمال التعذيب والنفي والسجن. وقد إبتلى باعتقالات عديدة، بلغت ستة مرّات. وأيضاً نفّاه النظام البهلوي المجرم في عام (1356ﻫ.ق) إلی مدينه ايرانشهر وبقى فيها ست أشهر، إلا
ص: 376
أنه مع تصاعد جهاد الشعب الإيرانيّ استطاع أن يعود إلى مدينة مشهد المقدسة من منفّاه، لكي يساند الثوار والمجاهدين. وقبل انتصار الثورة، أسس الإمام الخميني 1: مجلس الثورة الإسلامية انضم السيد الخامنئي إلى عضوية المجلس امّا انتصار الثورة الإسلامية، فقد شغل مناصب متعددة، کإمامة الجمعة في طهران وممثل أهالى طهران في مجلس الشورى وممثل الإمام الخميني 1 في أمور شتى، ثمّ منصب رئيس الجمهورية وقد تعرض إلى محاولة اغتيال دنيئة في مسجد أبي ذر بمدينة طهران قامتبها جماعة إرهابیة الضالّة.
وبرحيل الإمام الخميني 1 عقد الفقهاء والمجتهدين في مجلس الخبراء جلسة تمّت مبايعة السيد القائد الخامنئي وليّاً لأمر المسلمين وقائداً للثورة الإسلامية المباركة بأكثريّة الآراء.
وللسيد القائد مؤلّفات قيّمة كثيرة في مختلف مجالات الفكر الإسلامي، من أهمّها في مجال الفقه والإجتهاد:
1) «الصابِئة».
2) «المهادنة».
3) «تقريرات أبحاث الخارج في القصاص والجهاد والمكاسب المحرمة صلاة المسافر و غیرها».
4) «أجوبة الاستفتائات».
كما أشرنا سابقاً يبدأ الدور الثامن بجهاد المرجعية العليا، وعلى رأسها الإمام
ص: 377
الخميني 1 ضد الحكم البهلوي، حيث إستطاع الإمام أن يخلص الأمة ويعبّئ طاقاتها ضده حتى سقوطه واقامة حكم إسلامي يعتمد النظرية الفقهية، طبقاً لمذهب أهل البيت (علیهم السلام) في الحكم، وهي نظرية ولاية الفقيه التي كان قد شرحها وهذّبها وأوضح معالمها في بحوثه الفقهية التي ألقاها على تلامذته في النجف الأشرف، ثم وفّقه الله سبحانه وتعالى لتطبيقها وتجسيدها واخراجها إلى النور في ايران الإسلامیة. فكانت الجمهورية الإسلامية اليوم، وما فيها من دستور وقوانين مستمدّة من الفقه الإسلامي،حصيلة وثمرة من ثمرات فكر وجهاد هذا الإمام الّذي كان من أبرز فقهاء ومراجع هذا العصر الفقهي الزاهر.(1)
فالمنهج الإجتهادي الّذي كان السيد الإمام رائده وحامل لوائه، منهج يؤمن بالإجتهاد، وفق أسلوب السلف الصالح الّذي يعبّر عنه السيد الإمام بالفقه الجواهري، وكان يعتقد بعدم جواز التعدّی عنه وبأن الإجتهاد فقط بهذا المنهج صواب وصحيح. إلاّ أنه يصرّح بأنّ ذلك لايعني أن الفقه الإسلامي غير متطوّر. ففي نفس الوقت الّذي کان يؤکد فیه الإمام على ضرورة الالتزام الكامل بالمنهج الّذي سار عليه السلف الصالح من المجتهدين نجده من جهة أخرى، يؤكّد على حيويّة الفقه الإسلامي، من خلال إدراك الوقائع والإحداث في بعدي الزمان والمكان ومدى تأثيرهما في عمق عمليّة الإجتهاد.(2)
وکان یؤکّد علی أنّ الحكومة من وجهة نظر المجتهد الواقعي، هي تجلّي الفلسفة
ص: 378
العملية للفقه في تعاطيه مع كافّة المعضلات الإجتماعية والسياسية والعسكرية والثقافية، والفقه هوالنظرية الواقعية والتامة لإدارة حياة الإنسان من المهد إلى اللحد.(1)
وقد قال الإمام الراحل في نداء له إلى مراجع الشيعة وعموم العلماء: على المجتهد أن يكون مسلّماً بمسائل عصره، محيطاً بها، فلم يعدّ مستساغاً للشباب والناس عموماً أن يقول مرجعهم ومجتهدهم: إنّنى لا أبدي رأياً في القضايا السياسية، فالتعرف على أسلوب التعامل في مواجهة الأ لاعيب والدسائس السائدة في الثقافة العالمية وعمقالرؤية الإقتصاديّة، وكيفية التعامل مع النظام الإقتصادي العالمي والتعمّق في السياسة، وحتى معرفة السياسيين والساسة والمعادلات الحاكمة، كلّ هذا هومن خصائص المجتهد الجامع للشرائط، كما ينبغى على المجتهد أن يتحلّى بالفطنة والذكاء والفراسة وهويتصدّى لتوجيه المجتمع الإسلامي الكبير بل والمجتمع العالمي بأسره.
فاضافة إلى الإخلاص والتقوى والزهد الّذي هومن شأن المجتهد، فانّ عليه أن يكون مديراً ومدبّراً حقيقياً.(2)
هذا هوالمنهج الأساس للإمام في الإجتهاد وكيفيّته، الّذي أثر في الجوّالعلمي والفقهي للحوزة العملية. كما أن السيد الشهيد الصدر (قدّس سرّه) أيضاً سلك هذا المسلك فإنه أيضاً كان يعتقد أن إستنباط كثير من الأحكام الشرعية لابدّ وأن يقوم على أساس النزعة الإجتماعيّة والعالميّة في فهم الأحكام من أدلّتها، لا على أساس النزعة الفرديّة
ص: 379
الضيّقة -كما أشار إلى ذلك السيد الحائري في ترجمته لحياة السيد الشهيد (رحمه الله)(1)- فإن كثيراً من أدلّة الأحكام الشرعيّة لونظرنا إليها وفق النزعة الاجتماعية العالمية لاختلف فهمنا لها عمّا إذا نظرنا إليها وفق النزعة الفرديّة الضيّقة، فمثلاً أخبار التقية والجهاد وحرمة الربا تفهم في ضوء أحدى النزعتين بشكل، وتفهم في ضوء النزعة الأخرى بشكل أخر.(2)
وقد حاول السيد الشهيد في كتابه «الإسلام يقود الحياة» بيان عطاء الفكر الإسلامي على مستوى حاجة الأمة الإسلاميّة، بعد قيام الجمهوريّة الإسلامية فيايران، حيث استجدّت في الأمّة الإسلامية بعد انتصار الإسلام على صعيد الحكم في ايران، حاجات فكريّة متناسبة مع طرح الإسلام كدولة تستمدّ أصالتها من السماء، فقام السيد الشهيد 1 بمحاولة النظر للفكر الإسلامي في ضوء هذه المستجدّات.(3)
كان السيد الشهيد (قدّس سرّه) يعتقد بأهميّة وضرورة إقامة حكومة إسلامية في عصر الغيبة. يقول السيد الشهيد في رسالة له بهذا الخصوص خلاصته:
«في هذا المجال نودّ أن نؤكّد الحقائق التالية:
الحقيقة الأولى: إن تطبيق الإسلام فرضيّة واجبة وإنّ إعادة الإسلام إلى كلّ مجالات الحياة وإقامة النهضة الحقيقية للأمّة على أساسه شرط ضروري في استعادتها لمجدها وكرامتها.
ص: 380
الحقيقة الثانية: أن تطبيق الإسلام على مجتمع معاصر يتطلّب إجتهاداً حيّاً متحركاً واعيا قادراً على الإتصال المباشر بمصادر الإسلام.
الحقيقة الثالثة: أنّ الفقه الإسلامي الإمامي هوالمدرسة الوحيدة في الفقه الإسلامي العظيم التي واصلت حركتها العلمية وإجتهادها المتحرك، ومارست صيغها الفقهية والإجتهادية على مرّ الزمن ولا زال الإجتهاد والمجتهدون فيها قادرين على إستنباط الحلول المناسبته لمشاكل الحياة من الشريعة.(1)
وفي نفس المسار نجد أن السيّد الخامنئي يبدي قلقه بشأن بعض مظاهر الضعف والجمود المهيمن على الحوزة، وخاصة الفقه، مما يوجب على أساتذة الحوزة وطلابها بذل الجهود في سبيل تطوير الفقه وعلومه بشكل يمكن معه تحوّل الفقه إلىنظريّة إدارة حقيقية وكاملة للإنسان والمجتمع. ملبّياً شتى الاحتياجات الإجتماعية والحكومية والقضايا والموضوعات المستجدّة.(2)
يمكن أن نشير إلى أهم مميّزات هذا الدور وخصائصه وهي كما يلي:
1) اهتمام كثير من المجتهدين وأساتذة الحوزة العلمية بمسائل السياسية والإجتماع علی ضوء الإسلام وإستكشاف الرأي الشرعي إزاءها والخروج عن حصرها فی إطار المسائل الفردية والعبادية فقط.
2) تدوين دستور الجمهورية الإسلامية وفقاً للإجتهاد الإمامي ومذهب
ص: 381
أهل البيت (علیهم السلام) بمشارکة كثيرین من العلماء والمجتهدين الذين كانوا یمثلون الأمة في مجلس الخبراء لتنظيم الدستور الإسلامي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
3) اهتمام الحوزة والاساتذة في حل عن المعضلات المرتبطة بإدارة المجتمع والمسائل المستحدثة التي تطرح في شتّى جوانب الحياة.
4) مواجهة الإجتهاد الإسلامي مع السلطة العلمانيّة الحاكمة في العالم، والمدنية المكوّنة وفق الفلسفة الليبرالية والديموقراطية الغربية.
5) احياء الإسلام والتأكيد على أهمية الرجوع إلى الكتاب والسنة في جميع العالم الإسلامي، بالنسبة إلى جميع أبناء الإسلام وشبابهم خاصّة، والجهاد في سبيل فتح باب الإجتهاد، بعد انسداده في القرون المتتالية.
وهذه الخصائص الخمسة، إنما ذكرناها على سبيل المثال والإشارة، لا على سبيلالحصر، وإلا فإن الدور الثامن من هذه الأدوار، حافل بالكثير من المميزات والخصائص، وفي الختام، نبتهل إلى الله سبحانه وتعالى أن يمنّ على المسلمين بإتباع الكتاب والسنة. وأخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وآله الطاهرين
11 / 4 / 1388 - 9 رجب 1430
تمّ التصحیح والمقابلة مع بعض الإضافات والتعلیقات للطبعة الثانیة بعون الله تعالی تحت رعایة الحجّة ارواحنا لتراب مقدمة افداء
واخر دعوینا ان الحمد لله ربّ العالمین
29/3/1401 - 19 ذی القعدة الحرام 1443 - 19 ژوئن 2022
قم المقدّسة
ص: 382
1. ابن رشد، «بدایه المجتهد و نهایه المقتصد»، منشورات الرضی، أفست عن طبعه القاهره، قم.
2. ابوالقاسم الخوئی، «التنقیح من العروه الوثقی»، مؤسسه الإمام الخوئی.
3. ابوالقاسم الخوئی، «معجم رجال الحدیث»، مدینه العلم، قم.
4. ابوالقاسم الخوئی،«القوانین المحکمه فی الاصول»، طبعه حجریه، تبریز، 1316ﻫ.ش.
5. احمد بن شعیب النسائی، «بیت الآفکار الدولیه»، بیروت.
6. احمدبن علی الخطیب البغدادی، «تاریخ بغداد»، دار الکتب العلمیه، بیروت. 1997.
7. احمد بن علی المقریزی، «الخطط المقریزیّه»، دار التحریر للطباعه، القاهره
8. احمد بن فارس، «معجم مقایس اللغه»، تحقیق عبدالسلام هارون، دار الفکر، بیروت 1979م.
9. احمد بن محمد الفیّومی، «المصباح المنیر»، دار الهجره، قم 1414ﻫ.
10. احمد بن محمد بن خلکان، «وفیا الاعیان و آنباء ابناء الزمان»، مکتبه النهضه المصریه، القاهره 1984م.
ص: 383
11. الآخوند الخراسانی، «کفایه الاصول»، مؤسسه آل البیت (علیهم السلام) لإحیاء التراث، قم، 1329ﻫ.
12. آغا بزرگ الطهرانی، «تاریخ حصر الاجتهاد»، تحقیق محمد علی الانصاری، مؤسسه تحقیقات و نشر معارف اهل البیت (علیهم السلام)، قم
13. آغا بزرگ الطهرانی، «الذریعه إلی تصانیف الشیعه»، دار الضواء، بیروت.
14. جعفر سبحانی، «موسوعه طبقات الفقهاء»، مؤسسه الإمام الصادق (علیه السلام) ، قم 1418ﻫ.
15. جعفر کاشفالغطاء، «الحق المبین فی تصویب المجتهدین وتخطئه الآخباریین»، الذخائر للنشر، 1999.
16. حسن نصرالله، «تاریخ کرک نوح»، دار التعارف للمطبوعات، بیروت.
17. حسین عزیزی، «مبانی و تاریخ تحول اجتهاد»، بوستان کتاب، قم 1384ﻫ.ش.
18. خضر عبدالفتاح، «أزمّه البحث العلمی فی العالم العربی»، مطبعه سفیر، الریاض، 1412ﻫ.
19. الخلیل بن احمد الفراهیدی، «ترتیب کتاب العین»، دار الاعلی، بیروت، 1969.
20. الشاطی، «الموافقات فی اصول الفقه»، دار الفکر، بیروت، لا تاریخ.
21. شاه ولیّالله الدهلوی، «الانصاف فی بیان سبب الاختلاف»،
22. عبدالرحمن الجزیری، «الفقه علی المذاهب الربعه»، دارالکتب العلمیه، بیروت، 2003
ص: 384
23. عبدالرحمن السخاوی، «المقاصد الحسنه»، دارالکتاب العربی، بیروت. لاتاریخ.
24. عبدالرحمن بن ابیبکر جلالالدین السیوطی، «تاریخ الخلفاء و القاب الصحابه»، مطبعه السعاده، القاهره، 1371ﻫ.
25. عبدالله المامقانی، «تنقیح المقال فی علم الرجال»، المطبعه المرتضویه، النجف الاشرف.
26. عبدالله بن عبد الرحمان الدارمی، «سنن الدارمی»، دار المغنی، الریاض.
27. عبدالوهاب ابراهیم، «منهج البحث فی الفقه الاسلامی»، دار ابن حزم، بیروت، 2000.
28. عبدالوهاب خلاف، «خلاصه التشریع الاسلامی»، دار القلم، الکویت.
29. عبدالوهاب خلاف، «مصادر التشریع الاسلامی فیما لانصّ فیه»، دار القلم، دمشق.
30. مهدیپور علی، «در آمدی بر تاریخ علم اصول»، (مدخل الی تاریخ علم الاصول).
31. المیرزا النّوری، «مستدرک الوسائل»، مؤسسه آل البیت لإحیاء التراث، قم.
32. النجاشی، «رجال النجاشی»، مؤسسه النشر التابعه لجامعه المدرسین، قم.
33. وهبی سلیمانی غاوجی، «ابو حنیفه النعمان إمام الائمه الفقهاء»، دار القلم، دمشق، 1999.
34. یاقوت الحموی، «معجم البلدان»، دار الفکر، بیروت.
ص: 385
35. یوسف البحرانی، «لؤلؤ البحرین»، مؤسسه النشر التابعه لجامعه المدرسین، قم.
36. محمد بن الحسن الطوسی، «التبیان فی تفسیر القرآن»، تحقیق احمد قصیر العاملی، النجف.
37. محمد بن الحسن الطوسی، «تهذیب الاحکام»، دار التعارف للمطبوعات، بیروت.
38. محمد بن جریر الطبری، «تاریخ الطبری»، روائع التراث، بیروت، لاتاریخ.
39. محمد بن سعد، «طبقات ابن سعد، الطبقات الکبری»، دار احیاء التراث العربی، بیروت، 1996.
40. محمد بن عبدالکریم الشهرستانی، «الملل والنحل»، دار المعرفه، بیروت،1395ﻫ.
41. محمد بن علی الآردبیلی، «جامع الروات»، مطبعه نگین، قم، 1334ﻫ.
42. محمد بن علی الشوکانی، «ارشادالفحول»، دار الفکر، بیروت، لا تاریخ.
43. محمد بن علی شمسالدین الذهبی، «تذکره الحفاظ»، دار الکتب العلمیه، بیروت 1998.
44. محمد بن مرتضی الفیض الکاشانی، «مفاتیح الشرایع»، مؤسسه تحقیقات و نشر معارف اهل البیت (علیهم السلام)، قم.
45. محمد بن مکرم ابن منظور، «لسان العرب»، دار صادر، بیروت، لا تاریخ.
46. محمد بن یعقوب الکلینی،«الکافی»، المکتبه المرتضویه، طهران.
47. محمدتقی تستری، «قاموس الرجال»، قم، ایران
ص: 386
48. محمدتقی الحکیم، «الآصول العامه للفقه المقارن»، مؤسسه تحقیقات و نشر معارف اهل البیت (علیهم السلام)، قم، لا تاریخ
49. محمدحسین الطباطبائی، «المیزان فی تفسیر القرآن»، مؤسسه الاعلمی، بیروت، 1980.
50. محمدرضا المشهدی، «تفسیر کنزالدقائق و بحر الغرائب»، مؤسسه الطبع و النشر، ایران.
51. محمدرضا المظفر، «المنطق»، دار التعارف، بیروت، 1985.
52. محمدرضا النعمانی، «شهید الآمه و شاهدها»، مرکز الابحاث و الدراسات التخصصیه للشهید الصدر، قم، 1421ﻫ
53. محمد سلام مدکور، «مناهج الاجتهاد فی الاسلام»، جامعه الکویت، الکویت. 1973.
54. محمد فرید وجدی، «دائره معارف القرن العشرین»، دار المعرفه للطباعة والنشر، بیروت، لبنان.
55. محمود شکری الآلوسی، «تاریخ نجد»، مکتبه مدبولی، القاهره.
56. مرتضی الانصاری، «المکاسب المحرمه»، مؤسسه آل البیت (علیهم السلام) لإحیاء التراث، قم.
57. مرتضی العسکری، «معالم المدرستین»، دار التعارف للمطبوعات، بیروت.
58. مرتضی مطهری، «اسلام ومقتضیات زمان»، (الاسلام ومقتضیات العصر).
59. مصطفی جعفرپیشه فرد، «فقه دولت در تراث امامیه»، ج 1ص15(غیر مطبوع).
ص: 387
إن عنوان البحث من العناوین الجدیدة التی لم یُصنّف حوله تألیف وتصنیف بشکل مستقل وإن أمکن اصطیاد جذوره من مطاوی الکتب المدوّنة المرتبطة بالفقه وأصوله، لا سیّما التألیفات المختصّة بالاجتهاد وأطواره وتاریخه... والعارف بکیفیة التحصیل فی الحوزات العلمیة ومراتبها ودرجاتها یعلم أنّ الغرض الأقصی لطالب العلوم الدینیّة هو نیل درجة الاجتهاد، وسوف یواجه هذا الطالب خلال دراسته بحراً مترامی الأطراف من الآراء والفتاوی المشتّتة، وذلک یجعل ضروریاً: لیتمکّن من تحدید موقعه فی بحر الفقه الواسع، وموقع کلّ رأی یسمعه من جغرافیا الدراسات الفقهیّة لیتمکّن من المقارنة بین تلک الآراء. فإنّ مَثَل العارف بالمدارس والمناهج مثل القائم علی قمّة الجبل ینظر إلی الأطراف ویشرف علی جمیع النواحی. وهذه الحقیقة ساریة وجاریةٍ فی جمیع المجالات والعلوم وبالأخصّ فی الفقه الذی یعدّ من أدقًّ العلوم وأهمّها للإنسان؛ لأجل ارتباطه بتکالیفه تجاه ربّه الکریم. وتهذف هذه الدراسة إلی التعرّف علی المناهج والمدارس، والاطلاع علی خصائص کلّ مدرسة، ومعرفة نقاط القوّة والضعف فیها، والتقریب بین المذاهب بإزالة أسباب سوء الفهم وغیر ذلک من الآثار والثمرات المترتبة علی هذا البحث التی تظهر فی خلال الدراسة إن شاء الله.
المؤلف
من المقدمة بتصرف
ص: 388