منتقى الأصول المجلد 7

هوية الكتاب

المؤلف: السيد عبد الصاحب الحكيم

المطبعة: مطبعة الأمير

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1418 ه-.ق

الصفحات: 456

المكتبة الإسلامية

منتقی الأصول

تقريرالابحاث آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الروحاني

الشهيد آية اللّه السيد عبد اللّه الصاحب الحكيم

الجزء السابع

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: منتقی الأصول ج 7

المؤلف: الشهيد آية اللّه السيد عبدالصاحب الحكيم

المطبعة: الهادي

الطبعة: الثانية 1416 ه

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 7000 ريال

حقوق الطبعة محفوظة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

ص: 4

قاعدة اليد

اشارة

ص: 5

ص: 6

قاعدة اليد

لا إشكال في تقدم القاعدة المذكورة على الاستصحاب وان لم تكن من الأمارات ، بل كانت من الأصول ، لأنها واردة في موارده غالبا ، فيلزم من تخصيص دليل الاستصحاب لدليلها عدم بقاء مورد لها إلا نادرا ، فيوجب ذلك لغوية اعتبارها كقاعدة كلية كما لا يخفى.

ثم أنه لا أهمية في البحث عما يتعلق بلفظ « اليد » من كونه لفظا حقيقيا أو كنائيا أو غير ذلك ، بعد معرفة المراد منها وهو الاستيلاء الخارجي. كما لا أهمية في الكلام في كون مسألة اليد مسألة أصولية أو فقهية.

وإنما يقع المهم من الكلام فيها في جهات :

الجهة الأولى : في حجية اليد على الملكية.

وهي من المسلمات في الجملة لدى الأعلام واستدل لها ببناء العقلاء والسنة.

ص: 7

أما السنة : فهي روايات أربع :

الأولى : موثقة حفص بن غياث التي فيها : « أرأيت إذا رأيت شيئا في يد رجل أيجوز لي أن أشهد انه لا؟. قال علیه السلام : نعم. فقال الرّجل : اشهد انه في يده ولا اشهد انه له فلعله لغيره ، فقال أبو عبد اللّه علیه السلام : أفيحل الشراء منه؟. قال : نعم. فقال علیه السلام : فلعله لغيره ، فمن أين جاز لك ان تشتريه ويصير ملكا لك ثم تقول بعد الملك هو لي وتحلف عليه ، ولا يجوز ان تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك. ثم قال علیه السلام : لو لم يجز هذا لم يقم للمسلمين سوق » (1).

ووجه الاستدلال بها : انه علیه السلام أجاز الشهادة على الملك باعتبار أن الشيء المشهود به في يد المشهود له ، كما أجاز الشراء بهذا الاعتبار.

يؤكده استفهام الإمام علیه السلام التقريري للسائل ونقضه عليه حين توقف من أداء الشهادة على أنه له ، فانه يدل على ان هذا الأمر من الارتكازيات العقلائية التي لا تقبل الإنكار ، ولذلك اقتنع السائل بنقض الإمام علیه السلام .

ولكن التحقيق عدم دلالة الرواية المذكورة على حجية اليد على ملكية المال الّذي يكون باليد ، وذلك لأن جواز الشراء والحكم بملكية المشتري للمبيع لا يتوقف على كون البائع مالكا للمبيع ، بل يكفي فيه كونه مالكا للتصرف فيه. وعليه فما ذكره الإمام علیه السلام نقضا على السائل في توقفه من جواز الشراء من ذي اليد لا يدل على جواز الشهادة على الملكية باعتبار اليد ، إذ لا ملازمة بين جواز الشراء وجواز الشهادة على الملك. نعم ، بينه وبين جواز الشهادة على ملك التصرف ملازمة. فمن اقتناع السائل بالنقض يستكشف ان المسئول عنه هو جواز الشهادة على ملك التصرف ، وأن المال له تصرفا وولاية أعم من أن يكون مملوكا

ص: 8


1- وسائل الشيعة : 18 / 215 باب : 25 من أبواب كيفية الحكم ، الحديث 2.

له أو لا يكون. وإلا لم يقتنع السائل إذ لا ملازمة كما عرفت.

فالرواية - بمقتضى ظاهر النقض واقتناع السائل به - لا تدل إلا على جواز الشهادة على ملكية التصرف لا ملكية نفس المال.

وهذا وإن كان خلاف ظاهر التعبير ب- « أشهد انه له » بدوا ، إذ ظاهره كونه الشهادة بالملكية ، إلاّ انه كثيرا ما يقع استعمال مثل هذا التعبير فيما يشابه ما ذكرناه في لسان أهل العرف ، كما لا يخفى على الملتفت إلى موارد الاستعمال.

ويدل عليه قوله علیه السلام في النقض : « ثم تقول بعد الملك هو لي » ، فانه ظاهر في ان : « هو لي » وشبهه ليس مفاده بيان الملكية ، بل ما يترتب عليها من ولاية التصرف ، فيدل على ان الكلام بين الإمام والسائل دائر حول الشهادة بولاية التصرف لا الملكية ، وإلا لكان الأنسب ان يقول « ثم تقول بعد الشراء هو لي » لا بعد الملك ، فالتفت.

وأما التزام ان المفروض كون الدوران في المورد المسئول عنه بين يد الملك ويد الغصب ، بحيث إذا انتفى احتمال الغصبية يعلم بأنها يد ملك لا ولاية - مثلا - وحينئذ فتكون هناك ملازمة بين جواز الشراء وبين جواز الشهادة ، لأن الشراء انما يكون باعتبار الحكم بالملكية لليد ، وهو يلازم جواز الشهادة.

فهو مما لا شاهد عليه في الرواية ، لأن المسئول عنه قضية حقيقية مطلقة قد يتفق وقوعها للسائل بلا تقييد لها بنحو خاص.

ولو سلم ذلك. فلا يدل على المدعى أيضا ، بعد البناء على ان جواز الشراء انما يستند إلى ملكية التصرف بالمال لا ملكية نفس المال. فان اليد حينئذ انما تدل على الملكية في خصوص المورد باعتبار العلم بالملازمة بين ملكية التصرف وملكية المال ، لأن المفروض ان الدوران بين الملكية والغصبية ، فإذا جاز التصرف فقد انتفى احتمال الغصب فيثبت احتمال الملكية ، فاليد إذا دلت على ملكية التصرف بالمال - كما هو ظاهر النقض - فقد دلت بالملازمة على ملكية المال لذي اليد ، فجواز الشهادة

ص: 9

بالملكية - الّذي يدعى استظهاره من السؤال والجواب في الرواية ، وان ناقشنا فيه واستظهرنا كون السؤال عن الشهادة بملكية التصرف بقرينة النقض وقناعة السائل به - يختص بالمورد باعتبار الملازمة الاتفاقية المذكورة ، فمع ثبوت ملكية التصرف وجواز الشهادة عليها بلحاظ اليد تثبت ملكية نفس المال فتجوز الشهادة عليها.

وبالجملة : فدلالة اليد على الملكية في المورد باعتبار الملازمة ، غير دلالتها على الملكية مطلقا ومطابقة كما هو المدعى.

وعلى هذا ، فلا دلالة للرواية المذكورة على حجية اليد على الملكية.

الثانية : ما عن أمير المؤمنين علیه السلام في حديث فدك حيث قال علیه السلام لأبي بكر : « أتحكم فينا بخلاف حكم اللّه؟ قال : لا. قال علیه السلام : فان كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت انا فيه ، من تسأل البينة؟. قال : إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه. قال علیه السلام : فإذا كان في يدي شيء فادعى فيه المسلمون تسألني البينة على ما في يدي ... » (1) الخبر.

وتقريب الاستدلال بها : أن الإمام علیه السلام جعل نفسه منكرا ومدعى عليه بما انه ذو يد ، وجعل أبا بكر مدعيا باعتبار مخالفة قوله للحجة - فاستنكر على أبي بكر مطالبته له بالبينة - ولا حجة في المقام سوى اليد ، والدعوى المفروضة هي الملكية ، فاليد حجة عليها.

ولكن الإنصاف عدم دلالة الرواية على المدعى ، لأن المعنى العرفي للمدعي والّذي عليه المشهور هو : « من لو ترك ترك » ، والخلاف بين الإمام علیه السلام وأبي بكر إنّما هو في تطبيق حكم من أحكام القضاء ، وهو مطالبة المدعي بالبينة دون المدعى عليه ، واستنكار الإمام علیه السلام على أبي بكر انما هو في مطالبته بالبينة ، لأنه ليس مدعيا ، بل مدعى عليه ، لأنه ذو يد ، ومقتضى اليد صيرورته

ص: 10


1- وسائل الشيعة : 18 / 215 باب : 25 من أبواب كيفية الحكم ، الحديث 3.

مدعى عليه وصيرورة أبي بكر مدعيا فعليه البينة ، لأنه بترك أبي بكر الدعوى يجري كل أمر على ما كان عليه ويستمر على حاله السابق. فاحتجاج الإمام علیه السلام لنفي وجوب البينة عليه بأنه ذو يد لا يدل على كون اليد حجة ، بل لصيرورة ذيها مدعى عليه. ولا يلزم ان يكون للمدعى عليه حجة كي يقال انها هاهنا منحصرة في اليد فتكون حجة على الملكية.

نعم ، لو قيل بان المدعي هو من خالف قوله الحجة ثم الاستدلال بالرواية ، لكنك عرفت ان المشهور على تفسيره بغير ذلك.

الثالثة : رواية حمزة بن حمران : « أدخل السوق فأريد ان أشتري جارية تقول أني حرة. فقال علیه السلام : اشترها إلا ان تكون لها بينة » (1) ..

ووجه الاستدلال بها : انه علیه السلام أجاز شراء الجارية مع ادعائها الحرية إلاّ ان تقوم البينة على حريتها ، فلا بد ان يستند الشراء إلى حجة وهي اليد لا سبب آخر كالبينة ، لأنه لو كان مصحح الشراء هو قيام البينة على المملوكية لما اتجه الحكم بعدم جواز الشراء عند قيام البينة على الحرية ، لأنها معارضة بالبينة القائمة على الرقية ، فلا بد ان تكون هي اليد - لأنها لا تعارض البينة - فتكون حجة على الملكية.

والتحقيق : عدم سلامة الاستدلال بها من الإشكال ، لأن ظاهر المورد هو سبق الرقية على الجارية - لامتياز الجواري في ذلك الزمان عن غيرهن - فترجع دعواها للحرية حينئذ إلى دعوى انقلابها عن الرقية إلى الحرية ، ومقتضى الاستصحاب - مع عدم البينة - بقاء الرقية ، فلعل الحكم بجواز الشراء مستند إلى الاستصحاب وهو مورود للبينة - كما لا يخفى - ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم ظهور المورد في سبق الرقية لعدم الامتياز ، بل

ص: 11


1- وسائل الشيعة : 13 / 31 باب : 5 من أبواب بيع الحيوان ، الحديث 2.

الظاهر دعواها الحرية مطلقا وعدم الرقية أصلا. فلا ظهور للرواية في استناد جواز الشراء إلى اليد ، إذ لم يفرض سائل معين يدعي الملكية وله يد على الجارية ، بل قد يكون البائع مجهول الحال ، بل لا يدعي الملكية بل يدعي عدمها - كما لا يخفى على من لاحظ أسواق بيع الجواري ، فان البائع غالبا لا يكون المالك - ولكنه في نفس الوقت يدعي المسوغ الشرعي لبيع هذه الجارية ، فقد يكون جواز الشراء مستندا إلى أصالة الصحة في عمل الغير وهي الحجة التي تسوغ الشراء ، وترتفع بالبينة. فلا دليل على إناطة الشراء باليد كي يكون الحكم بحجيتها حكما بملكية ذي اليد للجارية.

الرابعة : موثقة يونس بن يعقوب : « عن أبي عبد اللّه علیه السلام في امرأة تموت قبل الرّجل أو رجل قبل المرأة. قال : ما كان من متاع النساء فهو للمرأة ، وما كان من متاع الرّجال والنساء فهو بينهما. ومن استولى على شيء منه فهو له » (1).

وتقريب الاستدلال بها : انه علیه السلام قال : « ومن استولى على شيء منه فهو له » فحكم بالملكية بمجرد الاستيلاء وهو معنى اليد ، وبإلغاء خصوصية المورد يتعدى إلى باقي الموارد ويحكم فيها بحجية اليد على الملكية.

ولكنه غير تام ، لأن الظاهر من السؤال عدم وجود حجة شرعية في المورد توجب ثبوت شيء من المتاع إلى أحدهما ، وان الورثة في مقام الحيرة والتردد ، ولأجل ذلك حكم الإمام علیه السلام بملكية المتاع الخاصّ بالمرأة للمرأة استنادا إلى ظاهر الحال لأن اختصاص المرأة بالمتاع يوجب الظهور في ملكيتها للمتاع ، لا من جهة اليد ، إذ قد لا يكون لأحدهما يد معين على متاعه الخاصّ ، ومع ذلك يحكم بملكيته له من باب الظهور الحالي.

ومنه يظهر انه يمكن ان يكون الحكم بالملكية في صورة الاستيلاء لا من جهة

ص: 12


1- وسائل الشيعة : 17 / 525 باب : 8 من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث 3.

اليد ، بل من جهة كون الاستيلاء مرجحا لملكية المستولي للمستولى عليه ، لأنه يوجب ظهور ذلك ، بل بقرينة ما ذكرناه أولا من ان مفروض المقام عدم الحجة على التعيين ، وحكمه في صورة الاختصاص بملكية ذي الاختصاص ، وبالاشتراك في الملكية في المتاع المشترك يمكن الجزم بهذا الاحتمال ، وان التقسيم انما هو بلحاظ الظاهر الحالي للمتاع.

ولو سلمنا دلالة الرواية على ان الحكم بالملكية في صورة الاستيلاء باعتبار اليد ، فلا دليل على التعدي إلى سائر الموارد ، لأنه يمكن ان يكون للمقام خصوصية أوجبت اعتبار اليد فيه دليلا على الملكية ، بل هو الظاهر من الحكم الأولي في الرواية ، فانها لا تجري في غير المورد مما يكشف عن خصوصية فيه. فالتفت.

وقد تبين من جميع ما ذكرنا : انه لا دلالة لهذه الروايات على حجية اليد على الملكية أصلا. وكأن استظهار الفقهاء حجية اليد منها مبني على ما ارتكز في أذهانهم من حجيتها. فتدبر جيدا.

واما بناء العقلاء : فقد يقرب : بان العقلاء بانون على التعامل مع ذي اليد في الأسواق بلا توقف وتردد حتى قيام الحجة على ملكية ذي اليد لما في يده. وما ذلك إلا لأجل اعتبارهم اليد حجة على ملكية ذيها.

ولكن هذا التقريب لا يفي بحجيتها على الملكية ، لأنه انما يكشف عن اعتبارهم اليد حجة على ملكية ذي اليد للتصرف في المال الّذي في يده لا ملكية نفس المال ، لأنهم لا يعتنون في كون البائع مالكا أو وليا أو غير ذلك ولا يهمهم ذلك ، وانما المهم لديهم هو كون البائع مالكا للتصرف ، فلا يدل عدم توقفهم في التعامل على اعتبارهم اليد حجة على الملك ، بل حجة على ولاية التصرف لا أكثر ، وليس المهم في مقام التعامل كون البائع مالكا للمال كي يكون عدم توقفهم دليلا على حجية اليد على الملكية عندهم.

ويمكن الاستشهاد على ذلك بتعليل الإمام علیه السلام في رواية حفص

ص: 13

المتقدمة التي قربناها في حجية اليد على ملكية التصرف ، بأنه : « لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق » ، فانه تعليل لحجية اليد على ملكية التصرف ، فيكشف عن أن توقف قيام السوق انما هو على اعتبار اليد حجة على ملكية التصرف. لا على اعتبارها حجة على ملكية المال ، إذ لا يتوقف قيام السوق على ذلك ، لأن صحة التعامل لا تبتني على ملكية كلا الطرفين للمال.

فبناء العقلاء بهذا التقريب لا يكون دليلا على حجية اليد على الملكية.

نعم ، يمكن التمسك على حجيتها ببنائهم في بعض الموارد الجزئية ، كما لو مات شخص وكان في بيته مال كثير ، وقد يكون أكثر من شأنه ، فانهم يحكمون بملكيته للمال لأنه تحت استيلائه وتصرفه ولو لم تقم حجة عليها ، ولذا لو ادعى شخص بعض تلك الأموال يطلب منه إقامة البينة ، ولا يعتبر انه مدع بلا معارض. وكما لو كان بيد شخص مال يتصرف فيه وادعى آخر انه ولي المال لا مالكه. فأنكر ذو اليد وادعى ملكيته للمال ، فإنه يحكم له بالملكية لأنه ذو يد ما لم تقم البينة على عدمها.

فمن مثل هذه الموارد يستكشف بناء العقلاء على ملكية ذي اليد لما في يده من المال لأجل اليد. وإذا ثبت بناء العقلاء على حجيتها ، فعدم الردع من الشارع كاف في صحة العمل بها ، ولو لم يكن في البين إمضاء صريح. فيتحصل : ان اليد حجة على الملكية في الجملة.

الجهة الثانية : في أن اليد هل تكون أمارة أو أصلا.

ولا يخفى ان هذا البحث علمي صرف لا أثر عملي له ، لأن الحال لا يفترق في اليد سواء كانت أمارة أو أصلا ، لأن الأثر المختلف فيه من هذه الناحية انما يدور في محورين :

الأول : في إثبات اللوازم ، فانها إذا كانت أمارة كانت حجة على لوازم الملكية بخلاف ما إذا كانت أصلا.

الثاني : معارضتها مع الأمارات والأصول ، فإنها إذا كانت أمارة فهي تعارض

ص: 14

الأمارات الأخرى وتتقدم على الأصول ، بخلاف ما إذا كانت أصلا فانها تؤخر عن الأمارات ولا تتقدم على الأصول.

ولكن الحال فيها لا يختلف في كلا المحورين :

أما الأول : فلما بينا سابقا من أنه لا فرق بين الأمارة والأصل في عدم تكفل دليل اعتبارهما لإثبات لوازم مؤداهما بهما ، فالأمارة بدليل اعتبارها ليست حجة على اللازم كما أن الأصل كذلك.

نعم ، بعض الأمارات يكون لسانها الكشف عن المؤدى ولازمه ، وإثباتهما واقعا في مرتبة سابقة عن دليل اعتبارها ، فيتكفل دليل اعتبارها إثبات حجيتها فيه.

كما هو الحال في خبر الواحد ، فان الاخبار بالمؤدى إخبار عرفا بلازمه ، فيكون بمنزلة قيام خبرين خبر على المؤدى وخبر على اللازم ، فدليل اعتبار الخبر يتكفل لاعتباره في اللازم والملزوم. وهذا غير متحقق في اليد لأن اليد على الملكية ليست يدا على لوازمها ، فلوازم الملكية لا تثبت باليد. ولو فرض ان اليد على الملكية يد على لوازمها ، فلا يختلف الحال في كونها أمارة أو أصلا ، لأن دليل الاعتبار على كلا التقديرين يشملها لأنها من قبيل اليدين لا اليد الواحدة كما في الخبر.

وأما المحور الثاني : فلما عرفت من انه لا كلام في تقدم اليد على الاستصحاب وباقي الأصول ، كما انه لا إشكال في تقدم الأمارات الأخرى عليها كالبينة ، سواء كانت أصلا أم أمارة. فمن هنا يعلم عدم الأثر العملي للكلام في هذه الجهة ، فالبحث فيها علمي بحث ، وتحقيق الكلام في ذلك يستدعي بيان الفرق بين الأمارة والأصل ، والمراد من الأصل هاهنا.

فنقول : الوظائف العملية المتبعة في مقام الظاهر وعدم انكشاف الواقع على ثلاثة أقسام :

الأول : ما يلحظ فيه الجهل بالواقع ويفرض الواقع مجهولا ومستورا. وأن

ص: 15

هذه الوظيفة وظيفة للجاهل مع غض النّظر عن كون الواقع ما هو ومثل هذا يعبر عنه بالأصل كالبراءة.

الثاني : ما يلحظ فيه الواقع ، بمعنى أن مفاده يكون هذا هو الواقع ، لا أن يفرض مستورا. ومثل هذا يعبر عنه بالأمارة.

الثالث : ما كان وسطا بين القسمين وبرزخا بينهما بان كان وظيفة للجاهل وعدم العلم بالواقع ، ولكن كان فيه نظر إلى الواقع وجهة كشف عنه. فهو يشارك الأول في كونه وظيفة الجهل وعدم العلم وبهذا يفترق عن الثاني. ويشارك الثاني في كونه ذا جهة كشف ونظر إلى الواقع وبهذا يفترق عن الأول. ومثل هذا يعبر عنه بالأصل المحرز.

والمراد بأصلية اليد في قبال أماريتها انما هو النحو الثالث - أعني انها من الأصول المحرزة - لا النحو الأول. لا من جهة أن حجية اليد ثبتت ببناء العقلاء ، وليس للعقلاء أحكام ظاهرية يتعبدون بها ، بل نظرهم دائما إلى الواقع ، لأن هذا غير تام ، إذ يمكن ان يكون لهم أحكام ظاهرية تعبدية يعملون بها عند استتار الواقع حفظا للنظام ورعاية للشئون ، بل من جهة أن بناءهم على اعتبار اليد لما فيها من نظر إلى الواقع وكشف عنه.

فالكلام يقع في أن اليد أمارة أو أصل محرز - وان كان الظاهر من الاعلام في المقام إرادة الأصلية بالنحو الأول - وغاية ما يمكن ان يقال في تقريب الأمارية ثبوتا : ان الاستيلاء الخارجي لازم بالطبع لملكية المال ولازم لملكية التصرف ، فهو لازم أعم لملكية المال. لكن لزومه لملكية المال أقوى من لزومه لملكية التصرف ، من جهة غلبة ملكية المال وكون الاستيلاء الخارجي ناشئا عنه ، لغلبة نشوء ملكية التصرف عن ملكية المال. فمن جهة اللزوم الطبعي والغلبة المذكورة يكون لزوم الاستيلاء لملكية المال أقوى ، فيكون فيه نحو كشف عن الملكية ، وهو المعبر عنه بالكشف الناقص ، فتكون طريقا

ص: 16

للواقع وأمارة عليه.

واما إثباتا : فلا دليل على تعيين أحد الأمرين فيها ، إذ غاية ما هو ثابت ان فيها نظرا إلى الواقع وكشفا عنه. أما ان اعتبارها كان بهذا النحو فقط ، أو بنحو أخذ الواقع مجهولا فلا دليل عليه.

نعم ، يرجح جانب الأمارية بالاستظهار واستبعاد الأصلية ، وان الارتكاز العرفي ظاهر في كون التعبد بها لأجل طريقتها إلى الواقع.

وإلاّ فلا برهان على تعيين أحد النحوين.

وعلى كل فليس ذلك بمهم ، لما عرفت من عدم الثمرة العملية. وإنما دخلنا في هذا المبحث جريا على طريقة الاعلام.

الجهة الثالثة : في ان اليد هل تكون حجة مطلقا ، بمعنى انها حجة على الملكية ولو علم حال اليد سابقا في أنها غير مالكية ، بل كانت يد عادية أو إجارة مثلا. ثم شك في تبدلها إلى المالكية؟. أو تختص حجيتها في صورة الجهل بعنوان اليد السابق ، بحيث كان يحتمل أن تكون يد مالكية عند الاستيلاء؟.

اختار كل من المحقق الأصفهاني والنائيني والعراقي اختصاص حجيتها بصورة جهل العنوان وعدم حجيتها مع العلم بعنوان السابق وهو كونها غير مالكية. ووجه كل منهم ذلك بوجه يختلف عن توجيه الآخر.

فاما ما ذكره المحقق الأصفهاني ، فحاصله : انه بناء على أن اليد حجة من باب الطريقية فلا يصح التمسك بها في المقام - إلا على القول بان الطريقية من باب اللزوم الطبيعي ، لأنه متحقق في المقام ، إذ لا يتقيد تحققه بعدم المانع ، لأن عدم المانع شرط فعلية اللزوم لا تحققه ، فلا يمنع العلم بالحال من تحققه ، فملاكها متحقق ثبوتا - ، لأن اعتبارها من باب الطريقية يستدعي وجود ملاك الطريقية فيها كي يصح اعتبارها من هذه الناحية ، وإلا فلا يصح.

وفي المقام ينتفي ملاك الطريقية ، لأن طريقية اليد إلى الواقع : ان كان من باب

ص: 17

غلبة الملكية في اليد ، فهذا في المقام معارض بغلبة بقاء اليد على ما كانت عليه لغلبة بقاء الحادث على ما وجد عليه.

وحينئذ تتقيد الغلبة الأولى بالغلبة الثانية ، فيكون الغالب من افراد اليد ان تكون مالكية إلا إذا وجد الفرد النادر ، فان الغالب فيه بقاؤه على عنوانه. فالغلبة الأولى ضيقة الدائرة ، فلا يلحق مثل هذا المشكوك بالأيدي المالكية ، ويمتنع اعتبارها طريقا حينئذ لانتفاء ملاك الطريقية.

وان كان من باب ان الاحتواء الاعتباري يتقوى جانبه بالاحتواء الخارجي - كما قرب قدس سره الطريقية بذلك - فكذلك يجري فيه ما تقدم ، فان تقوي الاحتواء الاعتباري بالاحتواء الخارجي انما هو فيما إذا لم يكن ثبوت خلافه مرتكزا في الذهن بواسطة تقوي بقاء الحال على ما كان عليه ، فالمعارضة أيضا حاصلة ونتيجتها التقييد المذكور.

نعم ، لو قلنا بان اعتبارها من باب الأصلية لا الأمارية ، جاز التمسك بإطلاق دليل اعتبارها - لو كان له إطلاق وتم - في اعتبارها في المورد المزبور. هذا ملخص ما أفاده قدس سره (1) بتوضيح.

ولكن (2) هذا منه غريب جدا ، لأن الطريقية الملحوظة في الأمارات انما يقصد

ص: 18


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1. 329 - الطبعة الأولى.
2- هذا وقد أورد عليه ( دام ظله ) في الدورة الثانية : أن المقصود من تضييق الغلبة الثانية ان كان انتفاء الغلبة الأولى فهذا باطل جزما ، لأن الفرد النادر لو كان جميعه على خلاف الغلبة الأولى لا ينافي تحقق الغلبة الأولى فضلا عن كون أغلبه كذلك. فلو فرض ان أغلب أهل بلد كانوا شجعانا الا أغلب أهل شارع واحد منه فانه لا ينافي ان يقال : ان أغلب أهل البلد شجعانا. وإن كان أريد من ذلك تحقق المزاحمة بين الغلبتين وسقوط اليد عن الأمارية لأجل التزاحم. فيدفعه : ان غلبة مالكية اليد مزاحمة دائما للغلبة الاستصحابية سواء كان في عنوانها - كما فيما نحن فيه - أو في متعلقاتها - كما في سائر الموارد فكيف تكون حجة في مورد دون آخر؟

بها الطريقية النوعية الشأنية لا الشخصية الفعلية ، بحيث يختص اعتبار الأمارة في مورد تكون كاشفة عن الواقع فعلا دون غيره ، ولذلك يقال بحجية الظاهر ولو كان الظن الشخصي على خلافه.

والسر فيه : ان المناط في اعتبار الشيء طريقا وإمارة ليس متمحضا في الطريقية والكشف عن الواقع ، بل في الأمارة المعتبرة مصلحة خاصة أوجبت اعتبارها ، ولكن الاعتبار كان بعنوان الطريقية والكشف لا بملاكه ، فالطريقية حكمة للاعتبار لا ملاك وعلة ، ولذلك لو تخلف في بعض الموارد لا يخرج الدليل عن الحجية ، كما انها لو وجدت في موارد أخر ليست موضوع دليل الاعتبار ، لا يكون ذلك موجبا لحجية تلك الموارد ، ومن هنا يعلم بان الاعتبار لا يدور مدار تلك الطريقية وجودا وعدما.

ولأجل ذلك يلتزم بان في الأمارة جهة الموضوعية ، بمعنى ان اعتبارها كان بلحاظ مصلحة خاصة فيها ، وليست متمحضة في جهة الطريقية.

وعليه ، فما أفاده من انه في المقام لا يكون ملاك الطريقية في اليد لانتفائه بالمعارضة المذكورة ، فلا يصح اعتبارها فيه. ينافي ما يلتزم به من كون الظن في الأمارات نوعيا لا شخصيا ، ووجود جهة الموضوعية في الأمارة. فما ذكره مساوق لإنكار ذلك ، فالمعارضة المذكورة لا تنافي اعتبار اليد في المقام ، كما لا ينافي الظن الشخصي على الخلاف لاعتبار الظاهر. والاستحسان الظني المنعقد على خلاف مؤدى خبر الواحد لاعتبار الخبر ، مع ان كلا منهما يوجب رفع الكشف والطريقية.

فمن هنا يعلم ان المراد بالكاشفية النوعية أن الأمارة لو خليت وطبعها كانت كاشفة نوعا عن الواقع ، وهذا متحقق فيما نحن فيه ، لأن اليد مع قطع النّظر عن العلم بحالها السابق كاشفة نوعا عن الملكية ، وإلاّ فلو اعتبرت الكاشفية الفعلية للزم

ص: 19

خروج الخبر القائم على خلافه الاستحسان ، فانه يوجب رفع كاشفيته النوعية الفعلية ، مع انه لا يلتزم به أحد ، فلا بد من كون المراد بالكاشفية النوعية معنى لا ينافي ذلك وهو ما ذكرناه ، فالتفت وتدبر جيدا.

واما ما ذكره المحقق النائيني فهو : ان اليد انما تكون أمارة بما انها مشكوكة الحال ، فاستصحاب عدم تبدل حالها وبقائها على ما كانت عليه يكون حاكما عليها ، لأنه يخرجها عن كونها مشكوكة الحال بإثباته عدم كونها يد ملك ، فهو يحقق الغاية وهي العلم بالحال ، فيرتفع موضوع اعتبار اليد (1).

وتحقيق الكلام بنحو يتضح الإشكال عليه ، وعدم تمامية ما ذكره : ان العلم المأخوذ غاية لاعتبار اليد.

إما ان يضاف إلى نفس الواقع - أعني : الملكية وعدمها - فيكون اعتبار اليد مشروطا بعدم العلم بالملكية أو عدم الملكية.

واما ان يضاف إلى عنوان ينطبق على اليد من دون لحاظ الواقع من كونها يد عادية أو ولاية أو مالكية.

وهذا العنوان الّذي جعل العلم به غاية لاعتبار اليد :

تارة : يكون امرا منتزعا عن الواقع ، يعني انه ينتزع عن تحقق الملكية وعدمها.

وأخرى : لا يكون كذلك ، بل كان امرا حقيقيا لا يرتبط تحققه بالواقع. فالصور ثلاث :

أما الصورة الأولى - وهي ما أخذ العلم [ الغاية ] متعلقا بالملكية وعدمها - فلا إشكال في تقدم اليد على الاستصحاب ، لأن مجرى الاستصحاب حينئذ هو عدم الملكية. ومجرى اليد هو الملكية. فهما واردان على موضوع واحد ، فتقدم اليد لا محالة

ص: 20


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 225 - الطبعة القديمة.

كما لا يخفى.

وأما الصورة الثانية - وهي ما أخذ العلم متعلقا بعنوان اليد المنتزع عن الملكية وعدمها - : فالأمر فيه أوضح ، لأن مورد الاستصحاب وان كان هو العنوان ، لكن نسبة العنوان - حسب الفرض - إلى الملكية - الواقع - وعدمها ليست نسبة الموضوع إلى الحكم كي يقدم على ما يجري في الواقع ، بل نسبة المعلول إلى العلة ، فما يكون جاريا في نفس الواقع كاليد يكون مقدما على الاستصحاب ، لأنها تجري في مرحلة منشأ انتزاعه.

والّذي يظهر من كلامه قدس سره إرادة هذه الصورة لأنه أخذ الجهل بالحال - أعني : بحال اليد - موضوعا لاعتبار اليد. ومعلوم انه يريد من حالها كونها يد عادية أو مالكية أو شبهه لا غير ذلك.

ومن الواضح ان اليد العادية تنتزع عن عدم الملكية ، لأن الغصب هو التصرف في مال الغير بدون إذنه ، وان اليد المالكية تنتزع عن الملكية.

فإذا كان الحال المأخوذ قيدا للعلم والجهل ، عنوانا منتزعا عن الملكية أو عدمها ، فالاستصحاب الجاري فيه لا يكون حاكما على اليد ، لأن نسبة العنوان الّذي هو موضوع الاستصحاب إلى مفاد قاعدة اليد ليست نسبة الموضوع إلى الحكم ، بل نسبة المعلول إلى العلة ، فتكون اليد مقدمة عليه.

نعم ، لو أخذ العنوان بالنحو الثاني - كما هو في الصورة الثالثة - بان كان أمرا حقيقيا لا انتزاعيا عن الواقع ، وكان نسبته إلى الواقع نسبة الموضوع إلى الحكم ، فيكون الاستصحاب حاكما على اليد لأنه يجري في موضوعها.

ولكنه مجرد فرض لا تحقق له في الخارج ، لأن هذه العناوين المتصورة التي يمكن أخذها في متعلق العلم والجهل - كعنوان العادية والمالكية وغيرهما - عناوين انتزاعية كما بيّنا ، وغيرها لا وجه لأخذه في متعلق العلم والجهل إذ لا دليل عليه

ص: 21

وقد اعترض (1) المحقق العراقي قدس سره - كما في بعض تقريراته - على ما ذكره

ص: 22


1- وقد ذكر في ضمن اعتراضه : ان الجهل بعنوان اليد ان أخذ في الموضوع كان الاستصحاب واردا لعدم نظر نفس اليد إلى موضوعها ، وإلاّ لزم من وجود حجيتها عدمها لأنها إذا رفعت الجهل فقد رفعت موضوع الحجية. وأما إذا كان مأخوذا بنحو الموردية كانت اليد حاكمة على الاستصحاب لأن الاستصحاب لا يتصرف في موضوع اليد ولكن اليد تثبت عنوانها ظاهرا وكونها يد ملك لا غضب فتقدم على الاستصحاب. وما أفاده قدس سره ممنوع بكلا شقيه ، أما الثاني : فلان الدليل كما لا يمكن أن يتصرف في موضوعه وينفيه كذلك لا يمكن أن يتصرف في مورده بنفيه ، إذ كما ان الدليل لا يمكن أن ينفك عن موضوعه كذلك لا يمكن أن ينفك عن مورده ، والفرق انما هو في أخذ الموضوع في رتبة سابقة دون المورد. وعليه فكيف تصور نفي اليد للجهل بالعنوان وإثبات انها يد مالكية لا عادية وبذلك كانت حاكمة على الاستصحاب ولم يتصور ذلك فيما إذا كان الجهل مأخوذا موضوعا لليد مع أن المحذور مشترك؟ وأما الأول فلان اليد إذا لم يمكن إحرازها في تحقيق موضوعها أو نفيه فكيف يجري الاستصحاب ويكون واردا على اليد والحال أن مورد الاستصحاب واليد واحدة فيلزم ان يرفع الاستصحاب الجهل المأخوذ في موضوعه فان لدينا شكا واحدا مورد الاستصحاب من جهة ومورد اليد من جهة. فإذا لم يجر فيه اليد للمحذور المزبور لم يجر فيه الاستصحاب أيضا. فلاحظ. فما أفاده قدس سره في مقام الاعتراض غير وجيه. والتحقيق في مقام الإشكال على المحقق النائيني ان يقال : ان المتيقن في الأدلة والأمارات هو اعتبارها في مورد لا يعلم بمتعلقها ، وليس ذلك من جهة امتناع التعبد في مورد العلم ، بل لأن اعتبارها من باب الكشف والطريقية وهو ظاهر في كونه في مورد الجهل إذ المعلوم لا معنى لجعل الطريق إليه. ولا يخفى أن هذا الملاك انما يقتضي ملاحظة الجهل بنفس المؤدى وذي الطريق والمنكشف. أما الجهل بعناوين ملازمة لذلك فلا مقتضى للحاظها بالمرة. فمثلا يلحظ في حجية الخبر الجهل بالواقع المخبر عنه ، أما الجهل بمطابقة الخبر للواقع الّذي هو ملازم للجهل وبالواقع فلا وجه لملاحظته بنحو الموضوع أو المورد. وما نحن فيه كذلك فان المتيقن ملاحظة الجهل بالواقع في حجية اليد ، اما الجهل بعنوان اليد الملازم للجهل بالواقع فلا مقتضى لملاحظته ولا دليل عليه فالالتزام بتقييد حجية اليد بالجهل بالعنوان مما لا وجه له أصلا فتدبر. فانه لا يخلو عن دقة.

المحقق النائيني من أخذ الجهل بالحال في موضوع اعتبار اليد : بان الجهل بالحال مأخوذ بنحو الموردية لا الموضوعية كما هو الحال في باقي الأمارات ، وإلا لكانت اليد من الأصول لا الأمارات.

وعلى هذا ، فلا مجال لجريان الاستصحاب في عرض اليد ، فضلا عن تقدمه عليها ، لأن لازم أمارية هذه اليد كونها بدليل اعتبارها رافعة للجهل عن ملكية ما في اليد لصاحبها ، ولازم تطبيق يد الملك عليها هو الحكم بعدم كونها يد غصب ظاهرا ، فيرتفع حينئذ موضوع الاستصحاب لحكومتها عليه (1).

وما ذكره بظاهره غير تام ، لأن الجهل الّذي يقال بأخذه في الأمارة بنحو الموردية وفي الأصل بنحو الموضوعية - تخلصا عن الإشكال بلزوم حكومة الأصل على الأمارة لو أخذ الجهل في موضوعها - انما هو الجهل بالواقع ، وليس متعلق الجهل فيما نحن فيه هو الواقع كي يورد عليه بهذا الإيراد العام ، وانما متعلقه هو حال اليد ، وهذا لا ينافي كون الجهل بالواقع مأخوذا في الأمارة بنحو الموردية لا الموضوعية ، فالفرق ان الجهل المأخوذ في موضوع اليد هو الجهل بواقع اليد لا بالواقع الّذي تثبته اليد وتكون أمارة عليه. فالإشكال المذكور على المحقق النائيني أجنبي عن مفاد كلامه.

إلاّ أن يرجع ما ذكره إلى بيان : ان ملاك أخذ الجهل بحال اليد في موضوعها ليس هو إلا لأن العلم بحالها علم بالواقع والجهل بحالها جهل به ، فمرجع أخذ الجهل بحالها في موضوعها إلى أخذ الجهل بالواقع في اعتبارها. وهذا هو المنفي بالإيراد العام من أن أخذ الجهل في مورد الأمارة لا في موضوعها.

وبهذا يتجه ما أفاده إيرادا على المحقق النائيني.

ص: 23


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار :4/ 23 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

واما ما ذكره المحقق العراقي ، فهو : ان الظاهر من أدلة اعتبار اليد اختصاص اعتبارها بغير هذه الصورة. بل مجرد الشك في شمول دليل الاعتبار لهذه اليد كاف في عدم ثبوت حجيتها ، لأن الدليل على اعتبار دليل لبي وهو بناء العقلاء ، والدليل اللبي لا إطلاق له كي يتمسك به في مورد الشك.

وأما الأدلة اللفظية ، كالاخبار ، فهي واردة في مقام تقرير سيرة العقلاء وبنائهم على اعتبار اليد ، لا في مقام التأسيس كي يصح الأخذ بإطلاقها في إثبات حجية هذه اليد ، بل المتبع ما ثبت من السيرة من مقدار حجيتها (1).

ولا يخفى ان ما ذكره قدس سره أولا من كون الدليل لبيا ويكفي في عدم الاعتبار ، الشك في شموله لمثل هذه اليد لو لم نقل بظهوره في غيره وانصرافه عنه. مما لا إشكال فيه.

ولكن ما ذكره أخيرا من عدم إمكان التمسك بالأخبار مع تسليم دلالتها على الحجية لأنها في مقام الإمضاء لا التأسيس. لا وجه له.

وتحقيق ذلك : ان الدليل المتكفل لبيان حكم مماثل لحكم موجود متحقق الاعتبار ، يمكن ان يكون على أحد أنحاء ثلاثة :

لأنه تارة يكون إخباريا. وأخرى يكون إنشائيا.

فالأخباري : ما تكون صورته إنشاء الحكم ، ولكن يكون المقصود منه هو الاخبار عن تحقق متعلقه وهو الحكم ، نظير الأوامر الإرشادية التي تتصور بصورة الإنشاء ولكن يكون واقعها الاخبار عن تحقق متعلقها في الخارج.

والإنشائي : تارة : يكون منبعثا عن إرادة إيصال حكم الغير العام الّذي يكون هو على صفته ، وذلك كالأوامر التبليغية ، فان أمر الأب ابنه بالصلاة أمر حقيقي المقصود منه البعث ، وليس من الأخبار في شيء ، ولكن الغرض منه إيصال أمر اللّه

ص: 24


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 22 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

تعالى لولده ، والملحوظ فيه الأمر على طبق ذلك الأمر العام المأمور به كلي المكلف. وهذا في العرفيات كثير.

وأخرى : لا يكون كذلك ، بان لم يلحظ فيه إيصال الحكم الآخر ولا الاخبار عنه ، بل لوحظ فيه إنشاء الحكم صرفا. غاية الأمر ان هذا الحكم مماثل لذلك الّذي اعتبره الغير لا أكثر.

ومن هذا الدليل بأنحائه الثلاثة ينتزع عنوان الإمضاء والتقرير لحكم الغير ، وهو واضح الوجه.

ولا يخفى ان الدليل ان كان على النحوين الأولين ، فالتمسك بإطلاقه من دون لحاظ الحكم المعتبر من الغير ومقدار دائرته ممنوع ، لأن الملحوظ في الإنشاء هو ذلك الحكم ، اما بنحو الاخبار عنه أو إيصاله ، فلا استقلال لهذا الحكم المنشأ أصلا.

واما إذا كان بالنحو الأخير ، فلا مانع من التمسك بإطلاقه لو كان له إطلاق بلا لحاظ الحكم المماثل له ، لعدم ارتباطه به في مقام الجعل والإنشاء لعدم لحاظه فيه أصلا. بل هو حكم مستقل. غاية الأمر انه مماثل لذلك الحكم.

والأدلة الشرعية التي تتكفل إنشاء الأحكام المماثلة للأحكام العقلائية العرفية كلها من النحو الثالث ، فان الدليل لم يلحظ فيها الا إنشاء الحكم وجعله على المكلف بلا لحاظ إيصال حكم العقلاء للمكلف أو الاخبار عنه.

ومن هنا يتمسك بإطلاق قوله تعالى : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) في إثبات حلية بعض البيوع غير المعتبرة عرفا ، لأن لسانه إنشاء حكم مستقل لم يلحظ فيه إيصال حكم العقلاء ولا الاخبار عنه. غاية الأمر انه يفيد حكما مماثلا لما عليه العقلاء ، وهذا لا يضر في التمسك بإطلاقه.

وحينئذ فلا وجه لمنع التمسك بإطلاق الاخبار الواردة في اعتبار اليد حجة على الملكية.

ودعوى : ان مثل هذا الدليل لا ينتزع عنه عنوان الإمضاء ، لأن الظاهر من

ص: 25

الدليل الإمضائي ما كان ملحوظا فيه حكم الغير ، والمفروض عدم لحاظ حكم الغير في هذا الدليل ، فلا يكون دليلا إمضائيا ، مع ان الأدلة الشرعية يصطلح عليها بأنها إمضائية واردة في مقام تقرير أحكام الغير ، فلا بد ان لا تكون على هذا النحو.

مندفعة : بان إطلاق لفظ الإمضاء على الأدلّة الشرعية المذكورة ليس باعتبار لحاظ حكم الغير فيها ، فان لسانها يأبى عن ذلك ، بل باعتبار كون الحكم المنشأ بها مماثلا لما عليه العقلاء لا أكثر. فهي في واقعها تأسيسية وان كان عنوانها إمضائية.

فالمراد بالإمضاء ما يساوق عدم الردع والموافقة لا إنفاذ ما عليه الآخرون حتى يتوهم لزوم ملاحظة ذلك في الموضوع. أو فقل : ان الإمضاء هنا بلحاظ مقام الثبوت لا الإثبات ، وما يضر بالتمسك بالإطلاق هو الثاني لا الأول ، فتأمل تعرف.

والتحقيق في أصل المسألة : ان سيرة العقلاء دليل لبّي ، وقد عرفت ان مجرد التشكيك في قيامها يكفي في عدم جواز التمسك بها. وأما الأخبار فليس لها إطلاق من هذه الجهة ، لكون المسوق له البيان أمر آخر ، كما لا يخفى على من لاحظها هذا مع قطع النّظر عن التشكيك في أصل دلالتها على حجية اليد. فتدبر.

الجهة الرابعة : لا يخفى ان اليد كما لا إشكال في ترتيب آثار الملك عليها ، كذلك لا شبهة في وجوب ترتيب آثارها في مقام الدعوى ، فيطالب المدعي على ذي اليد بالبينة ، ويكون هو منكرا ، سواء ثبت للمدعي ملكية المال سابقا أم لم تثبت.

ولكن الكلام في انه لو أقر ذو اليد بملكية المدعي للمال سابقا ، فهل تنقلب الدعوى إلى دعوى انتقال المال إليه فيكون هو مدعيا فعليه الإثبات ويكون الغير منكرا أو لا تنقلب؟ المشهور على الانقلاب.

ولا يخفى ان موضوع الدعوى الثانية المبحوث عنها ينبغي ان يكون هو تحقق السبب الناقل ، كالبيع والهبة وغيرها وعدمه ، لا الانتقال وعدمه ، لأن الانتقال أمر انتزاعي ينتزع عن ملكية الغير في اللاحق وعدم ملكية المالك السابق في اللاحق ، فهو متأخر عن الملكية فلا كلام فيه ، لأن الكلام فيما هو سابق عن الملكية ، وهو

ص: 26

تحقق السبب الناقل - ولذلك يدعى حصول الانقلاب وتترتب عليه آثاره بالنسبة إلى الملكية الفعلية لذي اليد -.

قد ذهب المحقق الأصفهانيّ إلى انه بالإقرار بالملكية السابقة لا تتشكل دعوى أخرى. ولو قلنا بتشكيل دعوى أخرى فلا انقلاب ، بل المدعي في الدعوى الأولى مدع في الدعوى الثانية والمنكر منكر.

اما الأول : فقد قربه : بان الدعوى من الدعاء وطلب الشيء ، فهي من المعاني الإنشائية ، فما لم يقع الشيء موضوعا للطلب لا يقع في مصب الدعوى ، والإقرار بالملكية السابقة للمدعي مع دعواه الملكية الفعلية [ وان كان اخبارا بتحقق السبب الناقل خ ل ] بالانتقال منه بالالتزام ، ولكنه ليس الاخبار باللازم بالملازمة يكون موجبا لتشكيل دعوى به ، بل لا بد في ذلك من وقوعه في مصب الدعوى وإنشاء الطلب به ولذلك لو وقع النزاع بين اثنين في ان المعاملة الواقعة بينهما هل كانت هبة أو بيعا ، فادعى كل منهما إحدى المعاملتين ، فان لكل من البيع والهبة لوازم يختلف حالها من حيث الدعوى والإنكار ، فلا بد من صيرورتها مصب الدعوى كي يتعين المدعي والمنكر ، وإلا فمجرد ادعاء البيع لا يوجب ادعاء لوازمه ، وكذلك ادعاء الهبة ، فإذا كان موضوع الدعوى هو البيع والهبة بما هما بيع وهبة من دون لحاظ لوازمهما المختلفة كان الشخصان متداعيين. ولو كان مصب الدعوى البيع والهبة ولكن بما هما معرفان لثبوت العوض وعدمه ، كان مدعي البيع مدعيا لأن الأصل على خلاف قوله ، ومدعي الهبة منكرا. ولو كان مصبها البيع والهبة من حيث الجواز واللوازم ، كان مدعي الجواز مدعيا ، لأن الأصل على خلافه ، إذ الأصل عدم الجواز.

فدعوى الملزوم لا تستلزم تشكيل دعوى باللازم قهرا ما لم تنشأ دعوى مستقلة فيه ، والانتقال هاهنا لم يقع مصب الدعوى وان وقع موضوع الاخبار بالملازمة.

واما الثاني - يعني نفي الانقلاب - فقد قرّبه : بان المعروف ان اليد أمارة ،

ص: 27

والأمارة على المسبب أمارة على السبب ، فاليد كما تكون حجة على المسبب ، وهو الملكية الفعلية ، كذلك تكون حجة على السبب الناقل. وحينئذ فمدعي الانتقال ذو حجة وهي اليد ، فيكون منكرا لا مدعيا ويكون مقابله مدعيا ، فلا يتحقق الانقلاب (1).

وفي كلا تقريبيه ما لا يخفى :

أما تقريبه لعدم تشكيل دعوى ثانية ، فأساسه : ان الدعوى من الأمور الإنشائية المتقومة بالإنشاء والجعل ، فالاخبار بشيء لا يكون دعوى به ما لم ينضم إليه طلبه.

ولا يخفى انه بملاحظة الاستعمالات العرفية للدعوى والادعاء غير المسامحية ، يعلم بان الدعوى نوع من أنواع الاخبار ، وهو الاخبار في ظرف التردد والشك ، ولا يتوقف تحققها على إنشاء طلب ، بل كثيرا ما يستعمل « المدعي » في المخبر بخبر في ظرف الشك مع عدم تحقق أي إنشاء منه ، فالمخبر بالهلال يقال له مدعي رؤية الهلال ، لأن المقام مقام شك.

وعليه ، فحيث ان الانتقال من الأمور المشكوكة الواقعة موضوعا للتردد ، فالاخبار بها ولو بالملازمة يشكل دعوى به بلا كلام.

وأما ما استشهد به من مثال البيع والهبة فلا يصلح للنقض ، لأن مصب الدعوى في العوض انما هو في العوض الخاصّ من كونه شخصيا أو كليا في الذّمّة. ومدفوعا أو غير مدفوع. وأحدها ليس من لوازم البيع كما لا يخفى ، وانما لازم البيع ثبوت عوض ، ولكنه لا يكون محط الدعوى.

وأما اللزوم والجواز ، فهما من اللوازم الشرعية للبيع والهبة لا اللوازم العرفية ، فليس الاخبار بالبيع اخبارا باللزوم عرفا ، كما ان الاخبار بالهبة ليس اخبارا

ص: 28


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 337 - الطبعة الأولى.

بالجواز عرفا.

وأما تقريبه لعدم الانقلاب بأن اليد أمارة ، والأمارة على المسبب أمارة على السبب. فهو غير وجيه على مذهبه في ان الأمارة ليست حجة في لوازمها ، وانها كالأصل في ذلك وليس تحقق السبب الناقل ملزوم أعم للملكية الواقعية والظاهرية كي يثبت بثبوت الملكية الفعلية باليد ، وانما هو ملزوم للملكية الواقعية ، ولا ملازمة بين الحكم بالملكية ظاهرا وتحقق السبب الناقل ظاهرا.

وعليه ، فلا حجة لذي اليد على تحقق السبب الناقل ، فيحصل الانقلاب لموافقة قول المدعي الأول للأصل وهو استصحاب عدم السبب الناقل ، فله المطالبة بالبينة عليه ويكون ذو اليد مدعيا.

ثم لا يخفى ان الأصل المذكور - أعني : أصالة عدم تحقق السبب الناقل - انما يتعبد به بلحاظ ما يترتب على نفس التعبد من أثر شرعي من جواز المطالبة بالبينة لمن وافقه قوله وهو المقر له بمقتضى الإقرار ، لا بلحاظ ما يترتب على نفس المتعبد به من أثر وهو بقاء ملكية المقر له لأن ذلك ينافي مفاد اليد من ملكية ذي اليد ، والمفروض بقاؤها على حجيتها بالنسبة إلى الملكية الفعلية ، ولا يكون الإقرار موجبا لارتفاع حجيتها ، بل لازم الإقرار هو جعل المدعي طرفا للأصل المذكور فيكون منكرا بمقتضاه لا أكثر ، كما هو شأن جميع الأصول الجارية في طرف الدعوى ، لأن المفروض ان المدعي يدعي العلم بعدم تحقق مفاد الأصل وانقلاب الحالة السابقة ، فلا يجري الأصل في حقه كي يثبت قول المنكر.

نعم ، انما يجري الأصل في حق المنكر ، بل هو لا يجري في حقه أيضا لأنه يعلم بالبقاء ، والحاكم لا يحق له خصم الدعوى بإجراء الأصل ، لأن القضاء لا بد ان يكون بالبينات والأيمان كما هو مقتضى النبوي المشهور (1) ، فلا فائدة في الأصل إلا

ص: 29


1- دعائم الإسلام 2 / 518 ، الحديث 1857.

كون الموافق له منكرا. فالتفت.

ولذلك يترتب آثار ملكية ذي اليد قبل خصم الدعوى ، كما انه لو لم يحلف المقر له على عدم تحقق السبب الناقل في صورة عدم إقامة ذي اليد للبينة على التحقق لا يصح له التمسك به في إثبات ذلك ، مما يكشف عن ان الإقرار انما استلزم صحة تمسك المقر له بالأصل من ناحية صحة مطالبته ذي اليد بالبينة على تحقق الناقل لا غير.

وهذا - أعني : الانقلاب - على القول بعدم حجية اليد في اللوازم والملزومات - كما هو الحق - واضح ، لأن اليد لا تثبت بالملازمة تحقق السبب الناقل ، فلا يرتفع موضوع الأصل ، فيصح جريانه ويترتب عليه آثار التعبد بمقتضى الإقرار لا آثار المتعبد به كما عرفت. وكذلك لو قلنا بان اليد من الأصول لا الأمارات كما لا يخفى.

ولكنه على القول بان الأمارة حجة في اللوازم ، فيشكل تصوير الانقلاب حينئذ ، لأن اليد - بناء على انها أمارة - على هذا تثبت تحقق السبب الناقل ، فلا يبقى لجريان الأصل مجال.

ولكنه - مع هذا - يمكن تصوير حصول الانقلاب بنحو لا يتنافى مع أمارية اليد وحجيتها على الملكية ، وذلك بتقريب : ان موافقة الأصل المقتضية لكون الشخص منكرا لا مدعيا ليس المراد منها الموافقة للأصل الفعلي الجاري مع وجود الحجة واقعا ، بل المراد منها موافقة الأصل الجاري في نفسه ومع قطع النّظر عن وجود الحجة من بينة وأمارة رافعة لموضوعه تكوينا ، ولا إشكال في وجود هذا الأصل في المقام ، وهو أصالة عدم تحقق السبب الناقل.

وحينئذ فمع وجود اليد فحيث انها حجة في الملزوم وهو تحقق السبب الناقل - بدعوى ان الأمارة تثبت الملزومات الواقعية - فحجيتها فيه توجب ارتفاع موضوع الأصل المذكور - وهو عدم الطريق - فلا مجال لجريانه أصلا.

أما مع إقرار ذي اليد للمدعي بملكيته السابقة الملازم لدعوى تحقق السبب

ص: 30

الناقل ، فحيث ان اثره هو الاعتراف بطرفية المدعي للأصل وارتباطه به ، كانت اليد حجة في خصوص مدلولها المطابقي وهو الملكية دون الالتزامي - أعني : تحقق السبب الناقل - لأن اليد لا تكون حجة مع الإقرار ، وحجيتها تضييق بمقدار الإقرار ، بحيث تنتفي حجيتها في مفاد الإقرار واثره ، لأن إقرار العقلاء على أنفسهم نافذ وجائز ، وإقرار ذي اليد بملكية المدعي السابقة - الّذي لازمه دعوى تحقق السبب الناقل - مفاده ارتباط المدعي المقر له بالأصل المذكور ، وهذا ينافي حجية اليد على تحقق السبب الناقل ، فيصح له التمسك به في هذه الدعوى ويكون له المطالبة بالبينة لصيرورته منكرا ، فاليد حجة على خصوص الملكية الفعلية ، أما على ملزومها فلا ، لمنافاتها حينئذ مع الإقرار (1).

وبالجملة : فبالإقرار تنقلب الدعوى وتشكل دعوى ثانية موضوعها تحقق السبب الناقل وعدمه ، وهي غير الدعوى الأولى التي موضوعها الملكية وعدمها

ص: 31


1- لا يخفى أن الإقرار بالملكية السابقة ليس إقرارا بعدم تحقق السبب الناقل إذ لا ملازمة كما لا يخفى مضافا إلى أنه لو كان كذلك لكان دعواه تحقق السبب الناقل منافيا لإقراره فيؤخذ بإقراره وتخصم الدعوى ، وإذا لم يكن الإقرار بالملكية السابقة إقرارا بعدم تحقق السبب الناقل فلا ينافي حجية اليد على تحقق السبب الناقل ، فلا وجه لنفي حجيّتها عليه ، لعدم منافاتها للإقرار. وهذا لا ينافي كون مفاده جواز التمسك بالأصل في المطالبة بالبينة ، لأن المفروض أن موافقة الأصل عبارة عن موافقة الأصل الجاري في نفسه لا بالفعل. وعليه فيكون المقام من باب التداعي لأن كلا من الشخصين يوافق قوله الحجة ، لو لم نقل بان مفاد الإقرار جواز التمسك بالأصل بنحو التعليق يعني لو كان هناك أصل فلا مانع من التمسك به ، وقيام الحجة على المدعى وهي اليد يرفع موضوع الأصل تكوينا ، فلا أصل كي يجوز التمسك به فلا يتحقق الانقلاب وذلك لا ينافي الإقرار أصلا كما لا يخفى. وعلى كل فالأمر سهل بعد أن عرفت عدم حجية اليد في ملزوم مفادها - إذ لا يأتي هذا الكلام بناء عليه - كما ان ما ذكرناه في مقام توجيه فتوى المشهور بالانقلاب بنحو لا يتنافى مع ما ستعرفه ، كما سيتضح مع غض النّظر عن صحته وعدمها. مضافا إلى أنه لم يعلم بناء المشهور على أمارة اليد بل يمكن أن تكون أصلا عندهم. فالتفت.

لأن مفاد الإقرار جعل المقربة هو الأصل الجاري في نفسه.

ولو لا الإقرار لما انقلبت الدعوى ولما تشكلت دعوى أخرى ، لأن عدم السبب الناقل وان كان موضوع الأصل ، إلاّ أنه لا يصح للمدعي التمسك به إذ لا حجية له على كونه طرف الملكية السابقة ، بل لا دعوى لذي اليد بتحقق السبب الناقل ، إذ لا يدعي سوى الملكية ، لأنه لم يخبر مع عدم الإقرار بالسبب الناقل ولو بالملازمة كما لا يخفى.

ثم لا يخفى عليك ان الدعوى الثانية انما تتشكل ويحصل الانقلاب إذا كان المدعي منكرا لتحقق السبب الناقل. أما مع عدم كونه منكرا وانما يقول بجهالة الحال وانه مالك المال الآن بمقتضى الأصل فلا تتشكل دعوى ثانية ، لعدم وجود قول للمقر له في تحقق السبب الناقل مقابل ذي اليد كي تكون هناك دعوى ثانية ، ويكون قوله موافقا للأصل فيكون منكرا ، بل الدعوى موضوعها الملكية وعدمها ، والمدعي يدعي الملكية بحسب القواعد ، وحينئذ فلذي اليد التمسك بيده في إثبات ملكيته الفعلية ونفي الأصل بها.

ولا مجال لجريان الأصل وثبوت مؤداه في قبال اليد ، لما عرفت من ان الأصل المذكور انما يجري بلحاظ أثر التعبد من جواز المطالبة بالبينة وصيرورة طرفه منكرا ، لا بلحاظ أثر المتعبد به من بقاء الملكية السابقة.

ولا يذهب عليك أن تشكل الدعوى الثانية وحصول الانقلاب لا يفرق فيه بين أن يكون المقر له هو المدعي أو المورث أو الموصي لنفس الملاك.

ولكنه يقيد بصورة كون المدعي أو الوارث أو الموصى له منكرا لتحقق السبب الناقل كما عرفت.

وبهذا يندفع الإشكال على المشهور - في فتواهم : بأنه لو أقر ذو اليد للمدعي أو لمورثه بالملكية السابقة لما في يده انقلبت الدعوى وصار ذو اليد مدعيا والمدعي منكرا ، لأن إقراره للمدعي بالملكية السابقة مساوق لدعوى الانتقال منه إليه ،

ص: 32

فيكون مدعيا وعليه البينة ، ويكون المدعي منكرا لموافقة قوله الأصل - بان الفتوى بالانقلاب تنافي اعتراض الإمام علیه السلام على أبي بكر في مطالبته البينة من الزهراء علیهاالسلام ، لأنها اعترفت بملكية رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله سابقا ، وهذا يساوق دعوى الانتقال منه صلی اللّه علیه و آله إليها علیهاالسلام ، فتكون الزهراء علیهاالسلام مدعيا وأبو بكر - باعتبار ولايته على المسلمين - منكرا ، لأن ملكية الرسول لفدك لو بقيت لانتقلت إلى المسلمين بعد وفاته بمقتضى الرواية المخلوقة : « نحن معاشر ... » المفروض تسليمها من قبل الزهراء علیهاالسلام . وعليه فالبينة تكون على الزهراء علیهاالسلام لا على أبي بكر ، فكيف استنكر عليه الإمام علیه السلام ونسب إليه الحكم بغير حكم اللّه؟

وجه الاندفاع واضح ، لأن أبا بكر لم ينكر على فاطمة علیهاالسلام دعوى تحقق السبب الناقل وهو النحلة ، وانما ادعى جهالة الحال وان المال باق على ملك رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله بمقتضى القواعد الشرعية حتى يثبت خلافه ، فلا دعوى أخرى ، بل الدعوى موضوعها الملكية وعدمها لا تحقق السبب الناقل وعدمه ، فلفاطمة علیهاالسلام التمسك بيدها في إثبات الملكية - كما فعلت - ولا منافاة بين ذلك وبين إقرارها لأن إقرارها لم يرفع اليد عن حجيتها على الملكية - كما عرفت - ولا يصح لأبي بكر مطالبتها بالبينة.

ومما يدل على عدم إنكار أبي بكر لدعوى النحلة هو : أنه حين رد البينة التي أقامتها الزهراء علیهاالسلام لم يطالب الإمام علیه السلام باليمين على عدم النحلة ، مما يكشف عن انه لم يدع عدم النحلة ، بل كان يدعي جهالة الحال ، ولذلك كان استنكار الإمام علیه السلام موضوعه المطالبة بالبينة لا عدم الحلف.

وبالجملة : ففتوى المشهور بالانقلاب في صورة لا تطبق على مسألة فدك ، وهي صورة إنكار المقر له لدعوى السبب الناقل ، فلا إشكال على المشهور.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس سره في دفع الإشكال المذكور على المشهور

ص: 33

ما حاصله : ان الملكية إضافة وعلقة قائمة بالطرفين المالك والمملوك ، إلاّ انها تختلف في ظرف التبدل باعتبار موارده. ففي مثل البيع يكون التبدل في ناحية المملوك ، بمعنى ان طرف العلقة الرابطة بين المال والمالك من ناحية المالك على حاله.

وانما الطرف من ناحية المال قد حلّ وربط بمملوك آخر غير ذلك ، فالإضافة على حالها ، وانما التبدل بين المالين ، وهو طرف الإضافة. وفي مثل التوريث بالعكس يكون التبدّل في ناحية المالك ، فان طرف العلقة من ناحية المالك يحل بموته ويربط بمالك آخر مع بقاء الإضافة وارتباطها بالمال على حالها ، وقد يكون التبدل في نفس العلقة كما في الهبة فانها تتضمن إعدام إضافة المال للمالك وإيجاد إضافة أخرى بين المال والموهوب له.

ومثل الهبة الوصية التمليكية الموجبة لانتقال المال إلى الموصى له بعد الموت.

وأما الوصية العهدية ، فهي خارجة عن تمام الأقسام ، لأنها لا توجب التمليك ، بل تتكفل تعيين مصرف المال بعد الموت.

وعلى هذا ، فالاعتراف بملكية المورث حيث انه اعتراف بملكية الوارث لعدم التبدل فيها - كما عرفت - فيكون كالاعتراف بملكية نفس المدعي في انقلاب الدعوى.

بخلاف الاعتراف بملكية الموصي لأنها أجنبية عن ملكية الموصى له ، فالاعتراف له كالاعتراف للأجنبي ، فلا يوجب الانقلاب.

والمقام من هذا القبيل ، لأن المسلمين ليسوا بوارثين بل الانتقال إليهم من قبيل الانتقال بالوصية التمليكية.

وعليه ، فلا يكون الاعتراف بملكية الرسول صلی اللّه علیه و آله السابقة موجبا لانقلاب الدعوى ، فلا تخرج الزهراء علیهاالسلام عن كونها منكرة وأبو بكر عن كونه مدعيا. مضافا إلى ان كون المقام من قبيل الوصية التمليكية ممنوع ، بل الظاهر انه من قبيل الوصية العهدية فالمسلمون لا يدعون ملكية المال أصلا.

ص: 34

وحينئذ فلا يكون الاعتراف بملكية الموصي المرتفعة يقينا مع عدم الانتقال إلى المدعي - ذي اليد - موجبا لانقلاب الدعوى ، لعدم الأثر في الاعتراف بها مع ارتفاعها يقينا. هذا حاصل ما أفاده قدس سره (1).

ويرد عليه :

أولا : ان علقة الملكية من الأمور الاعتبارية المتقومة بالطرفين بنحو يستحيل وجودها بدون الطرفين ، كاستحالة وجود العرض بدون معروضه.

وعليه ، فيستحيل بقاء العلقة مع تبدل أحد الطرفين ، بل بارتفاع أحدهما ترتفع هي ، فإذا حصلت علقة بين المال ومالك آخر ، أو بين المالك ومال آخر ، فهي علقة ملكية أخرى. فما ذكره قدس سره من إمكان بقاء العلقة على حالها مع تبدل أحد الطرفين لا مجال له.

وعليه ، فلا فرق بين الموصى له والوارث في كون تملكهما بملكية ثانية.

وثانيا : ان مركز الدعوى الثانية إنما هو الانتقال في حياة الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وان الملكية المعترف بها هل استمرت إلى حال الوفاة أو انقطعت أثناء الحياة ، فلا ربط لذلك بسنخ ملكية المسلمين بعد الوفاة وانها استمرار لتلك الملكية أو سنخ آخر من الملكية ، بل بقاء ملكية الرسول صلی اللّه علیه و آله إلى وفاته هي مركز الدعوى والنزاع القائم ، بحيث لو ثبت البقاء لكانت « فدك » للمسلمين قطعا وبلا ترديد ، لأن المفروض تسليم الرواية المخلوقة.

وملكية الرسول لفدك في حياته ترتبط بالمسلمين ، فالاعتراف بها سابقا يوجب كون المسلمين ممن لهم الحق في المطالبة بالبينة على الانتقال ويعدون منكرين في قبال فاطمة علیهاالسلام ، سواء كانوا ورثة أم موصى لهم ، إذ لا علاقة بالدعوى بما بعد الوفاة ، بل مركزها ما قبل الوفاة وكونهم طرف الدعوى

ص: 35


1- الكاظمي الشيخ محمد علي ، فوائد الأصول 2 / 229 - الطبعة الأولى.

لارتباطها - أعني الملكية - بهم - كما عرفت -.

وعليه ، فلا وجه لتعليل اعتراض الإمام علیه السلام على أبي بكر في طلبه البينة : بان الملكية المعترف بها ليست عين الملكية المدعاة ، فلا يحصل الانقلاب ، لأن المفروض ان مركز الدعوى بقاء ملكية الرسول صلی اللّه علیه و آله لإبقاء الملكية مطلقا ، وملكية الرسول صلی اللّه علیه و آله أجنبية عن ملكية المسلمين على التقديرين - أعني : الوراثة والوصاية - اما لاختلاف الإضافة أو لاختلاف سنخ الملكية.

وبالجملة : فلا يظهر لما ذكره المحقق النائيني وجه وجيه. فتدبر.

واما المحقق العراقي ، فقد ذهب إلى : ان مقتضى القاعدة عدم انقلاب الدعوى بالإقرار للمدعي بالملكية السابقة لحكومة اليد على الأصل.

ولكن قام الإجماع على الانقلاب في صورة الإقرار بملكية المدعي أو المورث. واما في صورة الإقرار بملكية الموصي فلا إجماع على الانقلاب ، فمقتضى القاعدة عدمه ، والإجماع المذكور يقتصر فيه على مورده لأنه دليل لبي لا إطلاق له. وحيث ان الإقرار في مسألة فدك للموصي لا للمورث لم يلزم منه انقلاب الدعوى ، فيتجه اعتراض الإمام علیه السلام على أبي بكر في مطالبته إياه بالبينة مع انه ذو يد.

ولا يخفى ان هذا - مع غض النّظر عن كون الانقلاب مقتضى القاعدة كما عرفت ، وكون الإجماع في مورده ليس تعبدا محضا ، بل الفقهاء يعللون الانقلاب ، فلا وجه للتمسك به مع كونه على خلاف القاعدة - ليس اعتذارا عن المشهور دفعا للإشكال عليهم. فالتفت.

فالأولى في الاعتذار ما عرفته فتدبره فانه بالتدبر حقيق واللّه سبحانه وتعالى ولي التوفيق.

ص: 36

الجهة الخامسة : في ان اليد هل تكون حجة على الملكية مطلقا ولو شك في قابلية ما عليه اليد للملكية والنقل والانتقال ، كما لو شك في كون من باليد عبدا أو حرا ، أو تختص في صورة العلم بالقابلية ، فتكون حجة على إضافة الملكية إلى ذي اليد.

وعلى الأول : يقع الكلام في مسألتين :

الأولى : ما إذا علم حال العين في انها ليست قابلة للنقل والانتقال واليد سابقا ، بان كانت العين وقفا واليد يد ولاية أو إجازة أو نحوهما ، ثم شك في مالكية ذي اليد للعين لا حقا.

الثانية : ما إذا علم حال العين فقط ولم يعلم حال اليد ، بل احتمل ان تكون اليد من أول حدوثها مالكية.

ولا يخفى ان الكلام في هاتين المسألتين في طول ثبوت حجيتها المطلقة ، وإلا فمع ثبوت اختصاص حجيتها بما له القابلية ، فلا إشكال في عدم حجية اليد في المسألتين للشك في القابلية كما لا يخفى.

أما الكلام في المسألة الأولى ، فيعلم من الكلام في الجهة الثالثة الّذي مر مفصلا ، وعرفت فيه عدم حجية اليد ، لأن القدر المتيقن غير هذا فراجع.

وأما الكلام في المسألة الثانية فهو يقع في مرحلتين :

الأولى : مرحلة الثبوت. والتكلم فيها في تحقق ملاك الطريقية والكاشفية الناقصة في اليد ، بناء على اعتبارها من باب الطريقية.

وليس الكلام فيه بمهم في المقام ، لأن الطريقية بالمعنى الّذي ذكرناه سابقا - وهي الطريقية النوعية غير المنتفية بوجود المزاحم - متحققة هاهنا ، إذ اليد طريق بنفسها إلى الملكية لو لا بعض الحالات التي تكتنفها. وبالمعنى الّذي قرره المحقق الأصفهاني هناك من الطريقية النوعية الفعلية أيضا متحققة ، لأن غلبة بقاء العين على ما كانت عليه - لغلبة بقاء الحادث - انما تزاحم - في المقام - غلبة كون الأموال

ص: 37

ملكا طلقا لا وقفا.

وأما غلبة اليد المالكية فلا تزاحم بها ، فالطريقية الفعلية متحققة لتحقق ملاكها بلا مزاحم ومقيد - كما قرره قدس سره هاهنا - وهو يخالف المسألة السابقة ، لأن غلبة البقاء هناك في حال اليد لا في نفس العين كما في هاهنا.

وقد تمسك المحقق الأصفهاني لحجية اليد فيما نحن فيه بالإطلاق.

ولا يخفى ان أصح ما استدل به - عنده - من الأدلة اللفظية هو قوله علیه السلام في رواية يونس : « ومن استولى على شيء منه فهو له » ، وهي بدلالتها اللفظية لا إطلاق لها لاختصاصها بالمورد ، لمفاد : « منه » ، والتمسك بها في غير المورد انما كان من باب إلغاء خصوصية المورد.

لا يخفى انه إذا كان للمورد خصوصيات متعددة وعلم بعدم دخل بعض خصوصياته في الحكم يكون مطلقا من ناحية هذه الخصوصية دون غيرها.

والخصوصية الملغاة في مورد الرواية انما هي خصوصية كون المال من متاع الرّجل والمرأة وموت أحدهما - بتقريب حصول العلم بعدم دخل هذه الإضافة في الحكم بالملكية لليد وان عرفت ما فيه - فالإطلاق فيها من هذه الناحية.

ولكنه توجد في المورد خصوصية أخرى يحتمل دخلها في الحكم بالملكية لليد ، وهي : كون المال قابلا للملكية والتردد في المالك ، وهي منتفية فيما نحن فيه للشك في قبول المال للملكية ، فلا يمكن التمسك بالإطلاق ، إذ لا إطلاق للرواية من هذه الناحية.

وعليه ، فيقع الكلام في معارضة اليد بأصالة عدم حصول السبب المسوغ وعدمها.

وقد قرب المحقق الأصفهاني عدم تعارض الأصل مع اليد وحكومة اليد عليه : بان اليد لما كانت حجة على الملكية فهي حجة على ملزومها وهو حصول السبب المسوغ للبيع. وعليه فتكون اليد حاكمة على الأصل.

ص: 38

ولا يخفى ما فيه ، لما عرفت من ان اليد ليست حجة في اللوازم والملزومات ، ولو كانت أمارة ، بل هي حجة في نفس مفادها لا أكثر.

فالأولى التمسك في المقام بأصالة الصحة في عمل الغير ، فنصحح العقد الحاصل بها ، وهي مقدمة على استصحاب عدم حصول السبب المسوغ.

وقد يقال : ان مثل المورد هو مورد اليد الّذي وقع التسالم على اعتبارها فيه ، لأن أصالة عدم حصول السبب المسوغ ، كأصالة عدم حصول السبب الناقل مع العلم بعدم الملكية السابقة ، فكما ان اليد لا تتعارض مع هذا الأصل فكذلك لا تتعارض مع ذاك.

ولكنه يقال : فرق بين المقامين ، لأن القدر المتسالم عليه هو عدم معارضة أصالة عدم تحقق السبب الناقل لليد. واما مع العلم بتحقق السبب ولكن الشك في تحقق المؤثر لسببيته والمسوغ له ، فلا يعلم تقدم اليد على الأصل الجاري لنفي تحقق المسوغ. ويمكن إجراء هذا الإشكال في جميع صور الشك في الصحة من جهة الشك في تحقق بعض شروطها كالعلم بالعوضين وغيره.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس سره في المقام : ان اليد قد أخذ في موضوع حجيتها قابلية المحل للملكية والنقل والانتقال ، لأن مفادها : ان المال قد انتقل من مالكه الأول إلى ذي اليد بأحد الأسباب الناقلة ، وذلك انما يكون بعد الفراغ عن كون المال قابلا للنقل والانتقال ، والوقف ليس كذلك ، لأن الانتقال فيه انما يتحقق بعد عروض السبب المسوغ للنقل ، واليد لا تتكفل ذلك. بل استصحاب عدم طرو المسوغ يقتضي سقوط اليد لأنه يرفع موضوع اليد ، فيكون حاكما عليها (1).

وقد أورد المحقق العراقي قدس سره - في بعض تقريراته - : ان أخذ القابلية الواقعية في موضوع اليد - مضافا إلى عدم تماميته - يستلزم سقوط اليد عن الحجية

ص: 39


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 266 - الطبعة الأولى.

بمجرد الشك في القابلية وعدمها ، لأنه شك في تحقق الموضوع ، فلا تصل النوبة إلى جريان الاستصحاب وحكومته على اليد.

فكلامه مع المحقق النائيني في جهتين :

الأولى : عدم أخذ القابلية في موضوع اليد.

الثانية : انه لو أخذت ، فلا حاجة الاستصحاب ، بل مجرد الشك كاف في سقوط اليد عن الحجية.

أما الجهة الثانية : فهي غير تامة ، لأنه لا إشكال في ان لجريان الاستصحاب في عدم تحقق المسوغ - مع قطع النّظر عن اليد - أثرا شرعيا كعدم جواز بيعه وغيره من أحكام الوقف ، فيمكن أن يكون جريانه بلحاظ أثره الشرعي.

وأما التعبير بالحكومة ، فيمكن توجيهه : بان الدليل الحاكم لا يختص بما كان مخرجا لفرد كان مشمولا فعلا للدليل المحكوم لو لا الدليل الحاكم ، بحيث كان للدليل المحكوم اقتضاء فعلي لشمول هذا الفرد.

بل هو يعم ما كان كذلك وما كان مخرجا لفرد يتوهم شمول الدليل الآخر له ، وان لم يكن فيه مقتضى الشمول فعلا.

والاستصحاب هاهنا أثبت عدم تحقق قابلية العين للملكية ، وهي - أي العين - مما يتوهم شمول دليل اليد لها في حد نفسها ومع قطع النّظر عن كونها مشكوكة الحال وان الشبهة موضوعية ، وان كان ليس فيه اقتضاء الشمول فعلا باعتبار الشك.

وعليه ، فالاستصحاب جار ويكون حاكما على اليد بهذا اللحاظ ، وهذا لا ينافي سقوط اليد عن الحجية للشك. فلا إشكال على المحقق النائيني من هذه الناحية.

نعم ، لو كان مراده قدس سره أن سقوط اليد عن الحجية انما هو لأجل الاستصحاب ، بحيث لولاه لكانت اليد حجة - كما لعله الظاهر من كلامه فتأمل -

ص: 40

اتجه عليه الإيراد : بأنه لا حاجة إلى الاستصحاب في ذلك ، بل بمجرد الشك تسقط اليد عن الحجية ، لأن الشبهة مصداقية كما لا يخفى.

وأما (1) الجهة الأولى - وهي العمدة في المقام كما أشرنا إليه - فتحقيق الكلام

ص: 41


1- تحقيق الحال في المسألة باختصار : ان اليد الحادثة على العين تارة يشك في انها حدثت عن تملك بعقد أو بغيره أو حدثت لا عن تملك. ومثل ذلك هو المتيقن من بناء العقلاء على الحجية وأخرى يعلم بأنها حدثت عن عقد أو نحوه وشك في صحة العقد وعدم صحته ، وفي مثل ذلك يمكن ان يقال ان بناء العقلاء على غض النّظر عن اليد وملاحظة السبب الناقل فيرى أنّه صحيح أو ليس بصحيح ويحكم بالملكية وعدمها بملاحظته. ولا أقل من التشكيك في حجية اليد في مثل هذه الصورة. وقد يقال انهم يحكمون بحجية اليد ما لم يثبت لديهم بطريق معتبر بطلان العقد ، ولا يحكمون بالملكية استنادا إلى اليد جزما ، وليس بناؤهم على ترتيب أثر الملكية قطعا. وبالجملة مع العلم بالسبب الناقل والشك فيه إما أن يقال بقصر نظرهم عليه وسقوط اليد عن الحجية مطلقا ويقال بسقوطها في مورد ثبوت بطلان السبب. ومفروض كلام النائيني قدس سره ، من هذا القبيل فان المفروض العلم بسبق الوقف واحتمال عروض المصحح لبيعه. وفي مثله لا تكون اليد حجة بل لا بد من ملاحظة السبب الناقل فيتمسك له مثلا بأصالة الصحة أو غيرها. ومع الغض عن ذلك فلا يشك في أنه مع ثبوت بطلان السبب تسقط اليد عن الحجيّة وهذا كما ذكرناه ما ادعاه النائيني قدس سره فان استصحاب عدم طرد المسوغ يترتب عليه بطلان البيع فيثبت بطلانه بواسطة الاستصحاب فيرتفع موضوع حجية اليد وتسقط عن الاعتبار. وبهذا البيان للمسألة وتوجيه كلام النائيني قدس سره لا يتم ما جاء في كلام المحقق الأصفهاني من قياس هذا الاستصحاب باستصحاب الملكية الجاري في مطلق موارد اليد ، فان استصحاب الملكية لا ينفي موضوع اليد ولا يترتب عليه شرعا بطلان العقد بخلاف هذا الاستصحاب. كما أنه لا وجه لما جاء في كلام العراقي في البحث في ان المأخوذ هو القابلية الواقعية أو الجهل بها وتفصيل الكلام في ذلك ، في مقام الإيراد على النائيني ، إذ عرفت أن محل الكلام لا يرتبط بأخذ القابلية ونحوها بل يرتبط بملاحظة السبب الناقل ولا يخفى عليك ان محل الكلام هو مورد العلم بسبق عدم القابلية اما مع عدم فرض ذلك بلا شك رأسا في ان ما تحت اليد ملك أو وقف فلا إشكال في حجية اليد وعدم توقف العقلاء في البناء على ملكية ذي اليد ومعاملته معاملة المالك.

فيها يستدعي بيان المراد من القابلية المبحوث عنها هاهنا. فنقول : ليس المراد من القابلية ، القابلية بمعناها الفلسفي الّذي هو عبارة عن الاستعداد الذاتي للعين. لوضوح حصول التبدل في العين من هذه الناحية ، فتارة تكون ذات قابلية. وأخرى لا تكون كذلك مما يكشف عن عدم إرادة ذلك المعنى منها ، بل المراد منها تأثير السبب الناقل في العين. فإذا حكم الشارع بان السبب الناقل يؤثر في هذه العين الانتقال كان لها قابلية. وان حكم بعدم التأثير لم يكن لها قابلية. فالقابلية وعدمها ينتزعان عن حكم الشارع بتأثير السبب في نقل العين وعدمه.

وعلى هذا ، فقد يقال : بان محققات القابلية وشروطها - في العين المسبوقة بعدم القابلية - تكون شروطا في تأثير العقد في هذه العين ، نظير العلم بالعوضين وطيب النّفس ، فيقال : العقد مؤثر وناقل لهذه العين إذا كان قد حصل الأول إلى الخراب - مثلا -. فمرجع الشك في بقاء عدم القابلية وعدمه إلى الشك في حصول السبب الناقل وعدمه - إذ عدم حصوله أعم من عدم وجوده بالمرة أو حصوله غير صحيح - ولا إشكال في عدم استلزام ذلك لسقوط اليد عن الحجية ، فلا ثمرة في الكلام حينئذ.

ولكنه وإن سلم ذلك ، إلاّ ان هذا النوع من الشروط - وهو شرط القابلية للنقل والانتقال - له خصوصية عن غيره ، ولذلك وقع محل الكلام دون غيره.

وعلى كل ، فليس هذا بمهم وضائر ، لأن الكلام في أخذ القابلية للملكية في موضوع اليد مطلقا مع غض (1) النّظر عن سبق القابلية أو عدمها وتحقق عقد

ص: 42


1- فيه تأمل يظهر من ملاحظة تحقيق كلام النائيني قدس سره في الحاشية.

وعدمه. بل موضوع الكلام ما إذا كانت عين في يد شخص وكانت مشكوكة القابلية ، فهل اليد تكون دليلا على الملكية أو لا.

لا إشكال في ذلك - أعني كونها دليلا على الملكية - إذ لا إشكال في عدم اعتبار القابلية في موضوع اليد ، لما نراه من بناء العقلاء على عدم ملاحظة قابلية ما في اليد للملكية ، بل يعاملون ذا اليد معاملة المالك ويبنون على ما في يده ملكا وان كان لديهم شك في قابلية المحل للملكية ، ويتأكد ذلك بملاحظة التعليل لاعتبار اليد الوارد في رواية حفص من توقف قيام السوق للمسلمين على ذلك ، إذ لا ريب في انه مع اعتبار القابلية وعدم حجية اليد مع الشك فيها يأتي المحذور السابق لأن أغلب ما في سوق المسلمين مشكوك القابلية ، فالتفت.

يبقى الكلام في اعتبار عدم العلم بعدم القابلية في موضوع حجية اليد.

وقد قرّبه المحقق العراقي : بأنه لا إشكال في ان دليل اعتبار اليد دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن ، والقدر المتيقن من بناء العقلاء هو اعتبار اليد مع عدم العلم بعدم القابلية.

اما مع العلم بعدمها فلا يبنون على حجية اليد على الملكية ، فيختص موضوع اعتبار اليد بعدم العلم بعدم القابلية. وحينئذ فمع الشك وسبق العلم بعدم القابلية يكون استصحاب عدم القابلية مقدّما على اليد على قول ومعارض لها على قول آخر ، فانه على القول بان دليل الاستصحاب مفاده التعبد ببقاء اليقين وتنزيل الشك منزلة اليقين ، يكون الاستصحاب مقدما على اليد لأنه يحقق العلم تنزيلا بعدم القابلية فيرتفع به موضوع اليد. وعلى القول بان مفاد دليل الاستصحاب تنزيل المشكوك منزلة المتيقن ، وان اليقين مأخوذ مرآتا للمتيقن لا يكون مقدّما ، لأن الاستصحاب لا يرفع الجهل بالقابلية ولو تنزيلا ، بل يكون معارضا لليد (1).

ص: 43


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار :4/ 27 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وفي كلامه - بشقيه - نظر :

أما حديث التفرقة بين القولين في جريان الاستصحاب وتقدمه على اليد.

ففيه ما سيأتي من تصحيح تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي مطلقا وعلى كل تقدير ، حيث ان نسبة الأصل المذكور إلى اليد كنسبة الأصل السببي إلى الأصل المسببي ، فان الأصل الجاري فيما كان الجهل فيه أو في عدمه موضوعا لمجرى أصل آخر يكون سببا ، وذلك الأصل الآخر مسببيا كما سيتضح فيما بعد إن شاء اللّه تعالى.

وأما حديث أخذ الجهل بعدم القابلية في موضوع اليد شرعا. فيتضح عدم تماميته بما عرفت من ان الجهل قد يؤخذ موردا وقد يؤخذ موضوعا. وان الفرق بين الأصول والأمارات ان الجهل في الأولى مأخوذ بنحو الموضوعية ، وفي الثانية الأصول والأمارات ان الجهل في الأولى مأخوذ بنحو الموضوعية ، وفي الثانية مأخوذ بنحو الموردية. وإلا فهما لا يفترقان في عدم جريانهما في صورة العلم بالواقع ، واختصاص جريانهما في صورة الجهل بالواقع ، فاليد وان كان اعتبارها مختصا بما إذا كان عدم القابلية مجهولا ، إلاّ انه لا يعلم كون الجهل قد أخذ بأي النحوين ، فقد يكون مأخوذا بنحو الموردية ولا دليل على كونه مأخوذا بنحو الموضوعية ، فتدبر جيدا.

ثم أنه قدس سره ذهب إلى عدم أخذ القابلية بوجودها الواقعي في موضوع حجية اليد ، لاستلزام سقوط اليد عن الحجية في كثير من الموارد ، مما يؤدي إلى اختلال النظام المشار إلى نفيه في رواية حفص بقوله علیه السلام : « ولو لم يجز ذلك لم يقم للمسلمين سوق ». ولا يخفى ان ظاهر ما أفاده قدس سره هو خلط في موارد الشك في القابلية بين سبق عدم القابلية وعدم السبق بذلك.

وقد عرفت ان محل الكلام الأول دون الثاني. ثم ان الاستدلال باختلال النظام غير مسلم إذ ليس من موارد الشك في القابلية بذلك الموجبة لاختلال النظام ، مع أنها لو تمت فانما تتم في موارد العلم بسبق عدم القابلية ، إذ الالتزام بعدم حجية اليد في موارد العلم بسبق عدم القابلية لا يستلزم الاختلال قطعا ، لعدم كونها

ص: 44

بحد من الكثرة بحيث يلازم سقوط اليد اختلال النظام ، فلاحظ.

الجهة السادسة : في ان اليد كما تكون دليلا على ملكية العين ، هل تكون دليلا على ملكية المنفعة أم لا؟

وأساس الكلام على ان الاستيلاء الّذي هو معنى اليد هل يمكن ان يحصل على المنفعة ، كما يمكن ان يكون على نفس العين أم لا؟

وقبل الخوض في تحرير المسألة لا بد من ان نعرف الثمرة من البحث فيها.

ولا يخفى ان الغرض إثبات ملكية المنفعة باليد ، كما تثبت ملكية العين بها ، بحيث تكون اليد طريقا إلى إثبات ملكية المنفعة.

فقد يقال : ان ملكية المنفعة تابعة لملكية العين ، فاليد على العين طريق لملكية العين وبها تثبت ملكية المنفعة ، فلا يحتاج في إثبات ملكية المنفعة إلى إثبات تحقق الاستيلاء عليها وحجيته على ملكيتها ، فلا ثمرة حينئذ.

ولأجل ذلك قيل : بان الثمرة تظهر في صورة اختصاص الاستيلاء على المنفعة دون العين ، وذلك كالمتصدي لإجارة الدار والصلح على المنفعة ، فان له استيلاء على المنفعة باعتبار تصديه للمعاملة عليها دون العين ، إذ العين بيد الغير ، فثبوت ملكية المنفعة منحصر باليد عليها إذ لا يد لمالكها على العين كي تثبت ملكيتها بتبع ملكية العين.

ويشكل هذا : بان الاستيلاء على المنفعة لا يعقل انفكاكه عن الاستيلاء على نفس العين ، والتصدي للإجارة والصلح لا يحقق الاستيلاء ، وإلا لكان الفضولي المتصدي لإجارة الدار فضوليا له استيلاء على المنفعة ، مع انه ليس كذلك.

فالأولى ان يقال : بان الثمرة تظهر في صورة ما إذا كان الشخص له استيلاء على العين والمنفعة وعلم بعدم ملكيته العين ، كالمستأجر للوقف أو لدار غيره ، فان المستولي على المنفعة - في هذا الفرض - وان كان له استيلاء على العين ، لكنه ليس مالكا لها - كما هو المفروض - فلا يمكن استكشاف ملكية المنفعة بالاستيلاء على

ص: 45

العين.

إذا عرفت ذلك : فالمنسوب إلى الفاضل النراقي قدس سره تخصيص حجية اليد بالأعيان دون المنافع ، ثبوتا وإثباتا.

أما ثبوتا : فلأنه لا يتصور تحقق الاستيلاء الخارجي على المنافع ، لأنه انما يتحقق في الأمور القارة التي لها ما بإزاء في الخارج كالأعيان.

أما الأمور التدريجية ، فلا يتصور تحقق الاستيلاء عليها ، لأن موضوع الثمرة والمهم في المقام هو الاستيلاء على المنفعة المستقبلة الحدوث. أما الاجزاء الموجودة ، فلا أهمية ولا غرض في الاستيلاء عليها. والمنفعة المستقبلة عبارة عن الاجزاء الأخرى التي بعد لم تحصل ، وانما يكون حصولها بعد هذا الآن ، فهي معدومة الآن فلا يتحقق الاستيلاء بالنسبة إليها ، إذ لا استيلاء على المعدوم. والمنفعة من الأمور التدريجية الحاصلة بالتدرج فلا يتحقق الاستيلاء عليها.

وأما إثباتا : فلأن الأدلة على حجية اليد لا إطلاق لها إلا روايتي يونس وحفص.

والأولى : موضوعها الأعيان ، لرجوع الضمير في : « منه » إلى متاع البيت وهو من الأعيان.

والثانية : وان كانت بحسب صدرها عامة للتعبير بالشيء ، وهو أعم من العين والمنفعة ، إلا ان في الكلام ضميرا يرجع إلى بعض افراد العام وهو الأعيان ، وذلك في قوله : « تشتريه » فان الشراء يتعلق بالأعيان لا بالمنافع. فيدور الأمر بين ان يكون المراد من العام هو هذه الافراد ، أو يكون استعمال الضمير من باب الاستخدام ، فلا أقل من صيرورة الكلام مجملا ، وهو كاف في عدم جواز التمسك به في إثبات المطلوب (1).

ص: 46


1- المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة2/ 578 الموضع السادس من الفصل الخامس الطبعة القديمة -.

وقد أورد عليه السيد الطباطبائي قدس سره في كتاب القضاء (1) ، بوجهين :

الأول : انه يمكن تصور الاستيلاء على المنافع مستقلا على الاستيلاء على الأعيان كالمزرعة الموقوفة على العلماء والسادة مع كون العين بيد المتولي وصرف حاصلها ومنافعها فيهم ، فان لهم الاستيلاء على المنافع المرسلة إليهم.

الثاني : النقض عليه بحق الاختصاص ، فكما يتصور الاستيلاء على حق الاختصاص كما في العين الموقوفة المختصة بأربابها ، كذلك يتصور الاستيلاء على المنافع.

وقد أورد على الوجه الأول : بان المراد من المنافع التي هي موضوع البحث ما يقابل الأعيان ، وهي التي تكون تدريجية التحقق ومعدومة الوجود فعلا ، والمنافع المذكورة المستوفاة من المزرعة الموقوفة داخلة في الأعيان ، وان أطلق عليها لفظ المنفعة باعتبار استخراجها من عين أخرى.

وأورد على الوجه الثاني : بان الاستيلاء على الأعيان تختلف آثاره باختلاف الأعيان ، والاستيلاء على الدار اثره ملك العين وعلى الموقوفة اختصاصها بالمستولي ، وعلى الأرض الحجرة أولويته بها فالكل من باب الاستيلاء على الأعيان لا الاستيلاء على العين تارة وعلى الحق بأنحائه أخرى.

أما الإيراد على الوجه الأول فلا شبهة فيه كما هو واضح.

ولكن الإيراد على الوجه الثاني لا يمكن الالتزام به ، لأنه قدس سره يصرح في أوائل كلامه بمضمون الإيراد ، فلا وجه للإيراد به عليه ، إذ منه يعلم إرادة شيء آخر من نقضه لا يتوجه عليه هذا الإيراد.

ويمكن ان يريد من كلامه : ان حق الاختصاص نوع من أنواع الملكية

ص: 47


1- الطباطبائي الفقيه السيد محمد كاظم. العروة الوثقى3/ 122 - الطبعة الأولى.

كملكية العين وملكية المنفعة وملكية الانتفاع. فمتعلق حق الاختصاص من سنخ متعلق ملكية المنفعة. وبعبارة أخرى : ان الاختصاص من سنخ المنفعة ، فكما يثبت حق الاختصاص باليد على العين الموقوفة - مثلا - فكذلك تثبت ملكية المنفعة بالاستيلاء على العين ، إذ لا فرق بينهما.

وقد ذكر صاحب البلغة قدس سره - كما حكي عنه (1) - : ان قبض المنافع بقبض العين ، بدليل جواز مطالبة الموجر للمستأجر بالأجرة بمجرد القبض ، فما لم يقبضه المنفعة لم يكن له المطالبة بالأجرة ، لأن المعاملة قد وقعت على المنفعة.

وفيه : - كما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره - كما حكي عنه - ان مقتضى القاعدة جواز المطالبة بالأجرة بمجرد المعاملة ، لأن الموجر يملك العوض بالمعاملة ، كما ان المستأجر يملك المعوض - وهو المنفعة - بها أيضا. فالحكم بعدم جواز المطالبة بالعوض في سائر المعاملات قبل الإقباض حكم على خلاف القاعدة وليس على وفقها ، من باب الالتزام الضمني من كلا المتعاقدين على ان التسليم بعد الإقباض. فيقتصر فيه على مورده وهو غير الإجارة ، فانهم حكموا فيها بعدم جواز المطالبة بالأجرة قبل التمكين من استيفاء المنافع لا قبل قبض المنفعة.

فصحة المطالبة بالأجرة حين قبض العين انما هو من جهة حصول التمكين على الاستيفاء لا من جهة إقباض نفس المنفعة.

بل هذا الوجه جار في سائر المعاوضات ، فان صحة المطالبة بالعوض فيها متوقفة على التمكين من استيفاء المعوض لا على قبضه ، فالتفت.

وقد أفاد المحقق الأصفهاني في رد ما ذكره الفاضل النراقي : ان منافع الأعيان حيثيات وشئون قائمة بها وموجودة بوجودها على حد وجود المقبول بوجود القابل ، واما السكنى بالمعنى الفاعلي ، فهي من أعراض الفاعل لا من منافع الدار.

ص: 48


1- بحر العلوم بلغة الفقيه 3 / 315 - الطبعة الأولى.

فحيثية المسكنية هي منفعة الدار ، وما دامت الدار على هذه الصفة تكون المنفعة مقدرة الوجود عند العقلاء ، فتقبل كل صفة اعتبارية من الملك والاستيلاء.

ولا يخفى ان المراد من المسكنية التي تكون هي منفعة الدار إن كان هو قابلية الدار للسكنى ، فهم لا يلتزمون بكون المنفعة هي القابلية ، وان كان هو المسكنية الفعلية فهي مضافا إلى انها من شئون الفاعل تدريجية الحصول ، فتكون معدومة.

والتحقيق ان يقال : ان بناء العقلاء على ملكية المنفعة عند الاستيلاء على العين بحيث يعدونها من شئون الاستيلاء على العين مما لا إشكال فيه ولا ريب يعتريه ، سواء في ذلك كون العين مملوكة للمستولي أو غير مملوكة له.

فلا يهمنا كثيرا معرفة قبول المنفعة للاستيلاء وتصوير المنفعة بشكل يقبله بعد البناء المذكور من العقلاء.

وقد يكون هذا البناء منهم لبنائهم على تحقق الاستيلاء على المنفعة ، أو لأجل غلبة ملكية المنفعة عند الاستيلاء على نفس العين فتدبر جيدا ولا تغفل.

الجهة السابعة : في جواز الشهادة على الملك استنادا إلى اليد.

ولا بد أولا من بيان ثمرة الكلام ، إذ قد يتوهم عدم الثمرة لأنه لا يختلف الحال في الشهادة على اليد أو على الملك في ترتب الأثر المطلوب ، وهو ثبوت ملكية المشهور له بل قد يقال : بان الاحتياج إلى الشهادة في مقام الدعوى ، ولا تنفع البينة المستندة إلى اليد مع وجود بينة معاكسة لها ، إذ البينة المستندة إلى اليد لا تزيد على نفس اليد واليد لا تعارض البينة على الخلاف. هذا مع ان البينة المستندة إلى اليد ، مع التفاتها إلى البينة المخالفة تسقط عن الحجية ، لأجل استنادها إلى غير الحجية وهو موجب للفسق.

فنقول : الثمرة تظهر في ما لو كان المطلع على استيلاء المشهور له واحدا وكان هناك شخص آخر مطلعا على ملكية المشهود له السابقة ، فانه بناء على قيام الطرق والأصول مقام العلم تكون شهادة كل من الشخصين بالمسبب - أعني : الملكية -

ص: 49

بلحاظ وجود الطريق لكل منهما وان كان مختلفا ، مجدية في المقام لتمامية البينة على الملكية. بخلاف ما لو شهد بالسبب الّذي يعلمانه ، لأن كلا منهما يشهد بسبب غير السبب الّذي يشهد به الآخر ، فلا تتم البينة على أحد السببين كي يترتب عليه الأثر. فالشهادة على اليد في الفرض لا أثر لها بخلاف الشهادة على الملك ، لأنها جزء البينة ، فبضميمتها إلى الشهادة الأخرى على الملك تتم البينة ويترتب الأثر.

والّذي يقرب في النّظر عدم جواز الشهادة استنادا إلى اليد ، وذلك لأن الإخبار الجائز هو الخبر الصادق في قبال الخبر الكاذب. والصدق والكذب عنوانان ينتزعان عن مطابقة الخبر للواقع وعدم مطابقته ، ومع الشك في المطابقة لا يجوز الإخبار قطعا ولو لأجل التجري لكونه طرف العلم الإجمالي.

وعليه ، فإذا قامت اليد على الملكية لا يحرز أن الإخبار عن الملكية مطابق للواقع ، فلا يحرز أنه صدق.

نعم ، لو كان اليد حجة في اللوازم كانت حجة في مطابقة الخبر للواقع ، ولكن عرفت منع ذلك.

وبالجملة : الحكم الشرعي غير مترتب على مؤدى اليد مباشرة ، بل متعلق بعنوان ملازم له ، وهي غير حجة في لوازمها بخلاف البينة ، فانها إذا قامت على الملكية كان لها دلالة التزامية ، على ان الإخبار عنها مطابق للواقع ، وهي حجة في الدلالة المطابقية والالتزامية.

وإذا ظهر عدم جواز الإخبار بمقتضى اليد تكليفا ، ظهر عدم جوازه وضعا ، فلا يكون الإخبار حجة لفسق المخبر به جزما.

وهذه الجهة مما غفل الأعلام عنها ، ولم أجد من تنبه لذلك ، وانما أوقعوا الكلام في اعتبار العلم في جواز الشهادة وقيام اليد مقام العلم ، فتدبر.

وكيف كان فالمشهور - على ما حكي - على المنع عن الشهادة استنادا إلى اليد ، لأخذ العلم الوجداني في موضوع جواز الشهادة.

ص: 50

وتحقيق الكلام في هذه الجهة يستدعي البحث في نواح ثلاث :

الأولى : في أخذ العلم موضوعا لجواز الشهادة.

الثانية : في انه على تقدير موضوعية العلم فهل هو مأخوذ بنحو الصفتية أو الطريقية؟.

الثالثة : في قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي.

أما موضوعية الأولى - أعني العلم لجواز الشهادة - فلا إشكال فيها ولا ارتياب لدلالة الاخبار الكثيرة عليها. هذا ولكن يقرب جدا : ان يكون المنظور في الاخبار النهي عن الشهادة استنادا إلى التخمين والحدس الظني الّذي كثيرا ما يستند إليه المخبرون ، ولا نظر لها إلى اعتبار العلم بالمخبر به ، كما لا يخفى على من لاحظها والأمر هيّن.

وأما الناحية الثانية - وهي كيفية أخذه وانه بنحو الصفتية أو الطريقية ، فالكلام فيها يبتني على القول بإمكان أخذ العلم موضوعا بأحد النحوين.

أما من لا يرى إمكان أخذه بنحو الصفتية وانحصاره في جهة الطريقية ، فهو في سعة عن الكلام فيها.

وذلك كالمحقق الأصفهاني قدس سره ، فانه أفاده في تقريب ذلك بان : أخذ العلم في الموضوع معناه أخذه بميزاته عن الصفات الأخرى.

فالملحوظ فيه هو الجهة المميزة له عن غيره ، وإلاّ فلو أخذ بلحاظ بعض الجهات المشتركة بينه وبين غيره ، لا يكون أخذا له في الموضوع ، بل أخذا للجامع المشترك بينه وبين غيره.

ولا يخفى ان الجهة المميزة للعلم التي هي بمنزلة الفصل له هي جهة الطريقية والكشف التام. فان بها يكون العلم علما ويكون مباينا للظن وغيره من الصفات. فمعنى أخذ العلم في الموضوع أخذه بهذه الجهة ، إذ لا جهة أخرى تميزه عن باقي الصفات.

ص: 51

وقد تقدم منا في مباحث القطع : ان هذا التقريب غير مانع من إمكان أخذ العلم بأحد النحوين.

ومحصل ما ذكرناه هناك : ان العلم وان كان فيه جهة واحدة هي المميزة له عن سائر الصفات النفسيّة وبها صار علما ، وهي جهة الطريقية والكشف التام.

إلا ان هذه الجهة تارة : يترتب عليها الأثر بما هي هي ومع غض النّظر عن الواقع المرآتي بها والمنكشف بواسطتها. وأخرى يكون الأثر مترتبا عليها بلحاظ الواقع المنكشف بها. فالانكشاف في كلا الموردين موضوع للأثر ، لكنه بنفسه وبلحاظ ذاته يكون كذلك في مورد وبلحاظ الواقع المنكشف به يكون كذلك في المورد الآخر.

وعليه ، فأخذ العلم في الموضوع بما هو صفة خاصة معناه أخذ الجهة المميزة له بنفسها وبما هي. وأخذه بما هو طريق هو لحاظ الجهة المميزة فيه باعتبار كشفها عن الواقع ، فكأن الواقع هو الملحوظ فيه وان كان العلم هو الموضوع حقيقة.

وإذا اتضح إمكان تصور أخذ العلم بهذين النحوين ولو كان المميز للعلم جهة واحدة ، فلا بد من تعيين انه على أي النحوين قد أخذ موضوعا لجواز الشهادة.

والّذي يظهر من مساق الروايات الواردة في اعتبار العلم في موضوع جواز الشهادة هو أخذه بنحو الطريقية. فان الظاهر منها كون المنظور هو حفظ الواقع عن التغيير والتبديل ، وان أخذ العلم انما هو للمحافظة على حقوق الناس وان الشهادة لا بد ان تكون على أساس ومستند ولا تكون مجازفة في القول وتهور كي تحفظ الحقوق عن الضياع.

وأما الناحية الثالثة - وهي قيام الطرق مقام القطع الموضوعي - : فهو انما يتحقق بناء على القول بان دليل الأمارة يتكفل تنزيلها منزلة العلم ، لما تقدم من التمسك بإطلاق دليل التنزيل في ترتيب جميع آثار العلم عليها. لكنك عرفت عدم ثبوت التنزيل المذكور لعدم وفاء الأدلة به. خصوصا في مثل اليد التي لا يعرف انها

ص: 52

أمارة أو أصل ، فكيف يستطاع ان يشخص مفاد دليلها على احتمال كونها إمارة؟ فلاحظ.

أما على الأقوال الأخرى في ما يتكفله دليلها ، فلا تقوم مقام القطع المأخوذ في الموضوع.

أما على ما ذكره الشيخ - واخترناه أخيرا - من تكفل دليلها تنزيل المؤدى منزلة الواقع (1) ، فعدم القيام واضح ويتلخص وجهه بما بينه صاحب الكفاية قدس سره في أوائل مباحث القطع في مقام الإيراد على الشيخ من : ان دليل الاعتبار إذا كان متكفلا لتنزيل المؤدى منزلة الواقع ، فالملحوظ فيه استقلالا هو المؤدى والواقع ، والأمارة والقطع ملحوظان في هذا التنزيل باللحاظ الآلي المرآتي. وقيام الأمارة مقام القطع الموضوعي يستدعي لحاظ الأمارة والقطع بالاستقلال في دليل التنزيل ، فلا يمكن ان يتكفل دليل الأمارة لتنزيل المؤدى منزلة الواقع وتنزيل الأمارة منزلة العلم ، لاستلزامه اجتماع لحاظين أحدهما آلي والآخر استقلالي وهو ممتنع (2).

وأما على ما ذهب إليه المحقق الخراسانيّ من جعل المنجزية والمعذرية. فقد يتوهم قيامها مقامه باعتبار كون الدليل يتكفل تنزيلها منزلة العلم في ذلك.

ولكنه غير صحيح لوجهين :

الأول : ان جعل المنجزية والمعذرية يقتضي لحاظ الواقع بالاستقلال ، لأن مفاده ان الواقع يتنجز بالأمارة ، فقيامها - حينئذ - مقام القطع الموضوعي يقتضي لحاظ نفس الأمارة بالاستقلال ، فيلزم اجتماع اللحاظين.

ص: 53


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /4- الطبعة القديمية.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /264- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثاني : ان دليل التنزيل هاهنا ليس لفظيا ذا إطلاق كي يتمسك به في ترتيب جميع الآثار ، إذ هو منتزع عن ترتيب أثر خاص للعلم وهو المنجزية والمعذرية على الأمارة ، فيؤخذ بالقدر المتيقن ، وهو التنزيل بلحاظ هذا الأثر الخاصّ لا بلحاظ جميع الآثار - كما مر ذلك في بيان حكومة الأمارة على الاستصحاب -

وأما على المختار سابقا من كون دليل الأمارة يتكفل اعتبارها علما وجعلها كذلك ، المعبر عنه بجعل الوسطية في الإثبات وتتميم الكشف - كما عليه المحقق النائيني (1) - فلأن دليل الاعتبار انما يقتضي ترتيب آثار العلم الموضوعي عليها فيما إذا لم يكن للأمارة بهذا الاعتبار أثر خارجي لا يوجب تصرفا بدليل ، فانه يحكم حينئذ بدلالة الاقتضاء ، بان موضوع الحكم في ذلك الدليل الظاهر في الفرد الحقيقي أعم من الفرد الحقيقي والاعتباري ، كي يترتب الأثر على هذا الفرد المعتبر ، وإلا لكان الاعتبار لغوا.

والمفروض ان للأمارة بهذا الدليل القائم على اعتبارها علما أثرا يترتب عليها ، وهو المنجزية والمعذرية ، لأن موضوعها أعم من العلم الحقيقي الوجداني والعلم الاعتباري.

فلا تتم دلالة الاقتضاء بالنسبة إلى الآثار الأخرى ، لعدم لغوية الاعتبار الترتب أثر عليه بلا تصرف تقتضيه دلالة الاقتضاء ، كما لا يصح التمسك بإطلاق دليل الاعتبار لاحتياجه إلى مئونة زائدة ، وهي التصرف في موضوع الآثار وجعله أعم من الفرد الحقيقي والاعتباري - وقد تقدم بيان ذلك في حكومة الأمارة على الاستصحاب فراجع -

هذا ، ولكن لصاحب المستند قدس سره تقريبا لوفاء الأمارة بتحقق موضوع جواز الشهادة ، على الأقوال الأخرى في الأمارة.

ص: 54


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 7 - الطبعة الأولى.

وقد ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره في رسالته في اليد. وحاصله : ان الملكية ليست من الموضوعات الواقعية كي يكون مرجع التعبد بها إلى التعبد بحكمها ، فهي لا تكون معلومة بل المعلوم حكمها. وانما هي من الأحكام الاعتبارية المجعولة أو الأمور الانتزاعية المنتزعة عن الأحكام الشرعية - كما عليه الشيخ -

وعليه ، فعند قيام الأمارة على الملكية تثبت هناك ملكية ظاهرية إما اعتبارية أو انتزاعية ، ويتعلق بها العلم الوجداني ، فتصح الشهادة بالملكية لتحقق موضوعها حقيقة تكوينا ببركة الأمارة.

أما تحقق الملكية الظاهرية بقيام الأمارة ، فهو بناء على جعل المؤدى واضح ، لأن المفروض ان المجعول حكم ظاهري وهو الملكية أو ما ينتزع عنه الملكية من الأحكام الموجب لثبوتها في مرحلة الظاهر (1).

ولكنه قد لا يتضح بناء على جعل المنجزية أو جعل الوسطية في الإثبات ، لأجل انها على هذين البناءين أجنبية عن ثبوت حكم ظاهري بها.

إلا أنه يمكن تصويره على هذين البناءين. بأنه عند قيام الأمارة ، ففي مقام العمل والوظيفة العملية تترتب آثار الملكية الواقعية ، فللملكية نحو ثبوت ، وهو معنى الملكية الظاهرية.

نعم ، يبقى في المقام شيء ، وهو : ان مصب الدعوى هو الملكية الواقعية والثابت بالأمارة المعلوم بالعلم الوجداني ، هو الملكية الظاهرية ، فما هو المعلوم الّذي تصح الشهادة به غير مصب الدعوى ، فلا يجدي ما ذكر من التقريب.

ولكنه قدس سره أجاب عنه : بأنه لما كان إحراز الملكية الواقعية صعبا جدا بل غير ميسور عادة - لأن ثبوت ملكية الشخص انما تكون بأسبابها ، والحكم بملكية الأسباب وصحتها انما يكون بإجراء الأصول والقواعد الظاهرية - كان

ص: 55


1- أصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 340 - الطبعة الأولى.

المدار في الدعاوي والنزاعات ثبوت الملكية الفعلية المتحققة بحسب الأدلة والقواعد الشرعية المتعارفة ، لا على الملكية الواقعية. والملكية الفعلية ثابتة بالأمارة - كما عرفت - وهي معلومة بالعلم الوجداني فتصح الشهادة بها.

وقد حكى المحقق الأصفهاني عن المحقق في الشرائع (1) ، كلاما لمنع الشهادة بمقتضى اليد مضمونه : انه لو أوجبت اليد الملك لم تسمع دعوى من يقول الدار التي في يد هذا لي ، كما لا تسمع لو قال ملك هذا لي. انتهى. وقد استظهر منه المحقق الأصفهاني انه في مقام إنكار ثبوت الملكية باليد ، وإلاّ لكان الاعتراف بها مساوقا للاعتراف بالملكية ، فيكون كالاعتراف بالملكية في عدم سماع دعوى المعترف حينئذ.

فحكم بسخافته - وهو عجيب منه جدا لما عرف منه من التحفظ على الموازين العرفية والآداب العقلائية في تعبيراته بالنسبة إلى من هو أصغر من المحقق الحلي شأنا وأقصر باعا -.

وأورد عليه بوجهين :

الأول : انه إنكار لحجية اليد على الملكية مع انه مسلم ومحل الكلام غير هذا ، فانه جواز الشهادة بمقتضى اليد بعد الفراغ عن حجيتها ، لا كونها توجب الملكية.

الثاني : ان الفرق بين الدعويين موجود ، حيث ان الأولى تتضمن الإقرار بالسبب - لأن معنى كون اليد حجة كونها طريقا وسببا ظاهريا للملكية وهو يقبل الفساد - وهو لا يكون منافيا ومكذبا لدعواه بملاحظة المناقشة في شرائطه ، كما إذا قال هذا الّذي اشتراه زيد من عمر - وهو لي فانه يجامع فساد الشراء ، بخلاف الثانية ، فانها تتضمن الإقرار بملك المدعى عليه ، وهو مناف لدعواه الملك ، فلا يقبل

ص: 56


1- المحقق الحلي جعفر بن الحسن. شرائع الإسلام /339- الطبعة القديمة.

منه كما لا يخفى (1).

ولكن الّذي يظهر من كلام المحقق الحلي انه ليس في مقام إنكار حجية اليد على الملكية الّذي هو خارج عن محل الكلام. بل هو في مقام إنكار حجية اليد على الملكية التي هي موضوع التخاصم والنزاع ومحل النفي والإثبات - كي تجوز الشهادة بالملك استنادا إليها - في فرض تمامية شروط حجية اليد على الملكية من جهل العنوان والقابلية وغيرهما.

فمراده : ان هذه اليد المفروض كونها حجة على الملكية الظاهرية في المقام لو كانت موجبة للملك الّذي هو محل النزاع وموضوع الخصام ، لكان الاعتراف بها اعترافا بالملكية المتنازع فيها ، فمقتضى القاعدة عدم سماع دعوى المعترف حينئذ ، لأنه أقر لذي اليد بما يدعيه ، فيكون كإقراره الصريح بملكية المدعى عليه في عدم سماع دعواه حينئذ.

فاليد وان كانت تفيد ملكية ذيها ، لكن الملكية الثابتة بها لا تنفع في خصم الدعوى ، والإقرار بها ضمنا لا يجدي المدعى عليه نفعا أصلا.

وبعبارة مجملة : المراد كون الملكية التي هي موضوع الدعوى غير الملكية الثابتة بمقتضى اليد ، وإلاّ لكان الإقرار باليد موجبا لعدم سماع دعوى المعترف واللازم منتف.

وعليه ، فلا مورد للإشكالين المذكورين عليه ، لأنه ليس في مقام إنكار أصل حجية اليد على الملكية ، بل كلامه لا ينافي حجيتها عليها ، وان الثابت بها ملكية ظاهرية ولكنها لا تنفع.

كما انه لا فرق بين الدعويين - من جهة ان الاعتراف في إحداهما بالسبب وهو يقبل الفساد - إذ ليس المراد ان إيجاب اليد الملكية الظاهرية موجب لعدم

ص: 57


1- الأصفهاني الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 341 - الطبعة الأولى.

سماع الدعوى بالإقرار ، كي يقال : إن الإقرار هاهنا بالسبب بذاته وهو يقبل الفساد لا بالسبب بما هو سبب ، إذ المفروض كون الإقرار بالسبب بما هو سبب ، هو العلة التامة لثبوت الملكية ظاهرا الّذي هو محل الكلام في جواز الاستناد إليه في الشهادة ولا جوازه.

بل المراد ان الملكية الثابتة باليد ان كانت هي الملكية التي تكون موضوع الدعوى ومصبها بالإقرار بها لزم ما هو منتف ، وهو عدم سماع دعوى المعترف بها لأن إقراره يكون مكذبا لدعواه ، فلا بد ان تكون ملكية أخرى غير ما هي مصب الدعوى.

وبهذا التوجيه لكلام المحقق لا يتوجه عليه شيء أصلا ، إلا ما قد يقال - كما عرفت من كلام صاحب المستند - من : ان موضوع الدعاوي ليس إلا الملكية الظاهرية لعدم ثبوت الملكية الواقعية خارجا ، لأن إحراز الملكية بأسبابها انما يكون بتوسط الأصول والطرق ، فالثابت هو الملكية الظاهرية واليد تثبتها.

فيأتي الإشكال وهو : لزوم عدم سماع الدعوى بالإقرار بها مع انه يناقش فيه. فلا بد من رجوع كلامه إلى نفي حجية اليد على الملكية بالمرة لا نفي حجيتها على الملكية التي تكون موضوع الخصام لعدم تماميته حينئذ.

ولكن يمكن التخلص عنه : بان الطرق والأصول الجارية في إثبات الملكية ليست كلها في عرض واحد ، بل هي طولية ، لأن بعضها يجري في أصل السبب كأصالة القصد الجارية عند الشك في تحقق قصد الإنشاء في البيع ، واليد الجارية عند الشك في ملكية البائع وغيرهما. وبذلك تتحقق الملكية من ناحية السبب. ثم الدليل على هذه الملكية انما هو اليد والبينة والاستصحاب وشبهها ، والملكية الثابتة بهذه الطرق كلها ظاهرية وليست واقعية. فعند دعوى المدعى ملكية المال وإقراره باليد يعلم منه بقرينة الإقرار باليد بان موضوع دعواه ليست الملكية الظاهرية مطلقا ولو كانت الثابتة باليد - لأنه تكذيب لدعواه - ، بل الملكية الظاهرية التي تكون في

ص: 58

مرحلة سابقة على اليد وفي مرتبة الأصول في السبب - مثلا - وكذلك لو لم يقر باليد ولكن كانت اليد معلومة له.

وعليه ، فموضوع الدعوى غير الملكية الثابتة باليد ، فيشكل جواز الشهادة استنادا إلى اليد ، لأن المشهود به غير مصب الدعوى. فلا إشكال على المحقق في كلامه.

نعم ، في صورة عدم إقراره باليد وعدم وضوحها له ، لا مانع من جواز الشهادة لمن يعلم باليد. لأن دعواه انما هي الملكية الظاهرية مطلقا - ان لا قرينة على إرادة الملكية الظاهرية في المرحلة السابقة على اليد - وهي معلومة بالوجدان بمقتضى اليد ، فتجوز الشهادة بها.

فالمتحصل : انه لا بد من التفصيل بين صورة الإقرار باليد أو العلم بها وصورة عدمها. ففي الأولى لا تجوز الشهادة بمقتضى اليد ، لأن المشهود به غير مصب الدعوى. وفي الثانية لا مانع منها لاتحاد مصب الدعوى مع المشهود به. فالتفت وتدبر.

وأما الاستدلال على جواز الشهادة بمقتضى اليد برواية حفص بن غياث المتقدمة في أدلة حجية اليد ورواية معاوية بن وهب التي ذكرها في الوسائل مستشهدا بها على جواز الشهادة بمقتضى الاستصحاب ، ففيه منع :

أما رواية حفص ، فهي مضافا إلى ما تقدم من مناقشة دلالتها على حجية اليد على الملكية ضعيفة السند لا يمكن الاعتماد عليها في إثبات الحكم.

وأما رواية ابن وهب ، فهي غير دالة على المطلوب ، لأن ظاهر السؤال فيها ان الشخص يرى استحقاق الورثة للمال بمقتضى الموازين الظاهرية ، لكن القاضي لا يعمل بذلك تعنتا بل متوقف على الشهادة ، كما هو ظاهر قوله : « ولا تقسم » ، فسأل الإمام علیه السلام عن جواز الشهادة في مثل ذلك لأجل إيصال الحق إلى أصحابه.

ص: 59

فالحكم بجواز الشهادة هنا لا يستلزم صحة الشهادة في كل مورد حتى المورد الّذي يتوقف ثبوت الحق ظاهرا على الشهادة ، إذ الحق في مورد الرواية ثابت ظاهرا مع قطع النّظر عن الشهادة لعدم المدعي في مقابل الورثة المعلومين ، فانتبه ولا تغفل.

الجهة الثامنة : في الأيدي المتعددة على العين الواحدة.

لا شبهة ولا إشكال في الحكم بالملكية المشتركة المشاعة عند تعدد الأيدي عن العين الواحدة.

إلا ان الإشكال في ان الحكم بالملكية المشاعة هل هو من جهة تحقق اليد على الحصة المشاعة أو من جهة أخرى ، فالبحث علمي صرف ، وهو يقع في جهات ثلاث :

الجهة الأولى : في إمكان تحقق الاستيلاء واليد على الحصة المشاعة.

الجهة الثانية : في وجود ما يدل على تحققها عليها فيما نحن فيه بعد الفراغ عن إمكان الاستيلاء ثبوتا.

الجهة الثالثة : في جهة الحكم بالملكية المشاعة على القول بعدم تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة ثبوتا أو إثباتا.

أما الجهة الأولى وهو - مقام الثبوت - فتحقيق الكلام فيه يتوقف على بيان المحتملات في معنى ملكية المشاع ومعنى الاستيلاء الّذي هو معنى اليد.

أما ملكية المشاع ، فقد قيل - كما هو المختار - بأنها ملكية واحدة طرفها متعدد ، وهو طرف المالك. فأحد طرفي العلقة الملكية مشدود بالمال والآخر مشدود بذوي الأيدي ، فكل فرد له انتساب إلى هذه الملكية ، بحيث تترتب آثار الملكية المستقلة عند انضمام الجميع.

وقيل بأنها ملكيات متعددة بتعدد الحصص ، فكل فرد له ملكية مستقلة لحصته الخاصة به. وهذه الملكيات المتعددة ..

ص: 60

تارة يقال : بأنها متعلقة بأمر شخصي خارجي ، ويعبر عنه بالكسر المشاع ، بحيث تكون كل حصة من كل جزء يمكن فرضه للعين مملوكة للفرد ، فالمملوك جزء خيالي فرضي.

وأخرى يقال : بأنها متعلقة بأمر كلي من قبيل الكلي في المعين - لامتناع تحقق السريان والشيوع في الأمر الجزئي - بان يكون المملوك هو الحصة الخاصة من العين المتحققة في ضمن هذا المعين وهو العين.

ثم ان الاحتمالين في الكلي في المعين ، وهما كونه امرا خارجيان من قبيل الفرد على سبيل البدل ، وكونه أمرا كليا من قبيل الكلي في الذّمّة ، فالمملوك أمر كلي في الذّمّة يتصوران هاهنا.

وان كان الاحتمال الثاني فيه لا مجال له فيما نحن فيه ، بل لا معنى له كما لا يخفى (1). فمن يقول بان الكلي في المعين من مصاديق الكلي في الذّمّة لا وجه له لأن يقول بان ملكية المشاع بنحو ملكية الكلي في المعين. فالاحتمالات في ملكية المشاع - على هذا - ثلاثة :

وأما الاستيلاء ، فليس المراد منه قطعا خصوص الاستيلاء الخارجي المقولي ، كالاستيلاء على الخاتم بلبسه وعلى الدّابّة بركوبها ، لصدق اليد على الأراضي الواسعة مع عدم تحقق الاستيلاء الخارجي عليها.

فلذلك ذكر المحقق الأصفهاني : بان المراد منه أعم من الاستيلاء المقولي والاستيلاء الاعتباري ، كالاستيلاء على الأعيان الواسعة ، فانه بالبناء العرفي يعتبر الاستيلاء عليها وان لم يكن بمستول عليها حقيقة (2).

ولكن الإنصاف ان الاستيلاء امر انتزاعي ينتزع عن التصرفات الخارجية

ص: 61


1- وجهه ان مقتضى ذلك كون العين مملوكة لصاحبها الأول والشريكان لهما في ذمته - لأن الملكية لم تتعلق بأمر خارجي في المعين أصلا - ولا يظن وجود قائل بذلك فالتفت.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 331 - الطبعة الأولى.

في العين ، حتى في مثل لبس الخاتم وركوب الدّابّة ، فالاستيلاء الحاصل على الأعيان الواسعة وغيرها استيلاء انتزاعي لا اعتباري قائم بوجود المعتبر ، بل له وجود حقيقي ، غاية الأمر انه انتزاعي ولا حقيقي مقولي. ففي الاستيلاء احتمالان.

ثم ان الاستيلاء الحقيقي المقولي في مورده لا يمكن تصوره على الحصة المشاعة بأي معنى من المعاني التي ذكرناها لملكية المشاع ، لأنه يكون على العين كلها ، إذ لا وجود للحصة المشاعة متعينا كي يتحقق الاستيلاء عليه خارجا.

وأما الاستيلاء الاعتباري ، فهو خفيف المئونة ، إذ لا يحتاج إلى مئونة خارجية أصلا ، لتقومه بنفس المعتبر وليس له ما بإزاء في الخارج ، فيمكن تحققه على الحصة المشاعة بأي تصوير ذكر لملكيتها ، ويكون شأنه شأن ثبوت الملكية لها الّذي هو ثبوت اعتباري ، فكما يتصور ملكية الحصة المشاعة واعتبارها على جميع الاحتمالات ، كذلك يمكن تصور اعتبار الاستيلاء عليها.

وأما الاستيلاء الانتزاعي ، فتصوره بالنسبة إلى الحصة المشاعة على الاحتمال الأول لملكيتها ممكن ، لأن العقلاء ينتزعون من تصرف الشخصين بالعين تصرفا خارجيا مع استئذان كل واحد منهما من الآخر وبلا مزاحمة ثالث لهما ، استيلاؤهما على العين بنحو يناسب ملكيتهما للعين ، بحيث يكون استيلاء كل منهما ناقصا وبانضمامهما يكون استيلاؤهما استيلاء تاما ، فهو يناسب الملكية بالمعنى الّذي اخترناه.

وأما على الاحتمال الثاني ، فانتزاع الاستيلاء على الحصة المشاعة من التصرفات الخارجية لا يمكن تحققه ، لأن التصرفات الخارجية لا تكون في الكسر المشاع ، لأنها انما تكون في الأمور المفروزة المتعينة ، فهي تقع على العين كلها.

نعم ، التصرفات المعاملية كالبيع والهبة والصلح يمكن تحققها بالنسبة إلى الكسر المشاع. فمنها يمكن انتزاع تحقق الاستيلاء على الكسر المشاع.

ومثله - في الكلام - الاحتمال الثالث الّذي هو جعل الحصة المشاعة بنحو الكلي في المعين ، ولكنه أمر خارجي على سبيل البدل.

ص: 62

هذا كله في مقام الثبوت.

وأما الجهة الثانية - وهو مقام الإثبات - الّذي يكون الكلام فيه في تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة خارجا وعدم تحققه.

فأما على الاحتمال الأول في ملك المشاع ، فلا إشكال في انتزاع الاستيلاء خارجا والحكم بالتنصيف من جهة اليد ، إذ لا يحتاج ذلك إلى أكثر من موضوع المسألة المفروض ، وهو كون العين بيد شخصين أو أكثر يتصرفان فيها. كما ان اعتبار الاستيلاء أيضا متحقق.

وأما على الاحتمالين الأخيرين ، فحيث لا تصرفات خارجية واقعة على الحصة المشاعة تكشف عن اعتبار الاستيلاء عليها ، أو ينتزع عنها الاستيلاء ، لأنها تقع على العين كلها فلا تحقق لليد على الحصة المشاعة ، بل اليد على العين بمجموعها.

نعم ، إذا رؤي منهما التصرفات المعاملية الواقعة على الحصة المشاعة يحكم باستيلائهما على الحصة أو ينتزع عنها ذلك.

ولكنه فرض زائد على موضوع المسألة - كما لا يخفى.

ثم انه في صورة عدم ثبوت الاستيلاء على الحصة المشاعة إثباتا أو ثبوتا ، فلا بد من بيان الوجه في الحكم بالملكية المشتركة المشاعة - وهو الجهة الثالثة من جهات البحث - :

وقد ذكر للحكم بالتنصيف والملكية المشاعة وجوه :

الوجه الأول : ما في المستند من دلالة رواية يونس بن يعقوب - الواردة في المتاع - على ذلك ، لقوله علیه السلام : « ومن استولى على شيء منه فهو له » ، فانها تدل على ان المستولي على شيء فهو له ، وهذان الشخصان قد استوليا على هذا المال فهو لهما ، وبمقتضى قاعدة التساوي في الشركة المبهمة انه بينهما نصفين.

ويعضده الروايات الدالة على الحكم بالتنصيف فما لو تداعى شخصان مالا

ص: 63

وكان بيدهما ولم يكن لأحدهما بينة أو كانت لكليهما (1) ، ثم انه نفي دلالة رواية حفص على ذلك ، فانه بعد ما ذكر توهم دلالتها باعتبار انها تدل على الملازمة بين جواز الشراء ممن بيده المال والشهادة بملكيته ، فكلما جاز الشراء جازت الشهادة بالملكية ، ولا إشكال في جواز شراء العين من هذين الشخصين ، فمقتضى الرواية الدالة على الملازمة هو الحكم بملكيتهما للعين. ذكر : ان هذا غير تام ، لأن الرواية إنما تدل على ان هذا المال الّذي بيديهما بينهما دون غيرهما ، فملكيته لا تتعداهما إلى ثالث ، اما انه لكليهما أو لأحدهما فذلك لا تدل عليه الرواية وأجنبي عن مفادها (2).

ولا يخفاك ان ما ذكره بجهاته الثلاثة غير تام ..

أما رواية يونس بن يعقوب ، فهي انما تدل على المدعى لو قلنا بأن لهما استيلاء واحدا يرتبط بهما معا ، كما قررناه على الاحتمال الأول لملكية المشاع ، فانه يكون مشمولا للرواية ، لأن هذا المال يكون لهما استيلاء عليه فهو لهما ، لاندراجهما تحت : « من استولى » أما لو قلنا بان لكل منهما استيلاء مستقلا تاما - كما عليه صاحب المستند - فلا يتم ما ذكره من دلالتها على المدعى ، لأن كلا منهما يكون مشمولا للرواية - لا كليهما معا - لأن له استيلاء على المال كله ، ومقتضى الرواية ثبوت المال له ، فيتعارضان.

وأما ما ذكره من انه تعضده الروايات الواردة في مقام التداعي ، فلا وجه له ، لما ستعرفه من أن محل الكلام ما لم يكن أي دعوى وتداع في البين ووجود الفرق بين الصورتين.

وأما ما ذكره بالنسبة إلى رواية حفص ، فالوجه الّذي يرتكز عليه ما ذكره

ص: 64


1- وسائل الشيعة 18 / 188 باب : 12 - من أبواب كيفية الحكم ، الحديث : 3.
2- المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة2/ 579 - الطبعة الأولى.

بحيث يخرج عن كونه دعوى جزافية ، هو انه لاحظ بان الحكم بملكية ذي اليد انما هو بلحاظ نفي ملكية الغير باليد ، واستفادة ملكية الشخص ذي اليد تكون بالملازمة ، فمصب الرواية انما هو على نفي ملكية الغير كما يشهد به قول السائل : « فلعله كان لغيره ».

ولكنه غير سديد ، فان الظاهر من الرواية كون الملحوظ هو الحكم بملكية ذي اليد باليد بلا لحاظ نفي ملكية الغير. وأما قول السائل المذكور ، فهو لبيان وجود الشك في ملكية ذي اليد ، إذ لو لم يشك في انه لغيره لا وجه للتوقف في ملكية ذي اليد ، فالحكم بالملكية لا يرجع أولا إلى نفي ملكية الغير ، بل إلى إثبات ملكية ذي اليد وعدم الاعتناء بالشك.

وعلى أي حال فليس تحقيق ذلك بمهم بعد ضعف سند الرواية وعدم دلالتها على حجية اليد على الملكية.

الوجه الثاني : قاعدة العدل والإنصاف. المستفادة من الروايات الواردة في الموارد الجزئية ، ومقتضاها الحكم بالتنصيف والشركة فيما لو دار المال بين شخصين مع عدم المرجح لملكية أحدهما بالخصوص ، لأنه مقتضى الإنصاف ، فان الترجيح بدون مرجح ينافيه.

ولكن الإنصاف عدم تمامية الاستدلال بها فيما نحن فيه ، لأنها - على تقدير تسليمها - انما تتم في صورة العلم بعدم ملكية غير هذين الشخصين ، ودوران ملكية العين بينهما فقط ، فلا بد في الاستدلال بها على المدعى من فرض العلم بعدم ملكية غير من بيدهما المال ، أو ادعاء ان اليد من الأمارات وان الأمارة تثبت اللوازم وحجة في الدلالة الالتزامية فاليد حجة فيها. وقد تقرر في محله انه في صورة وقوع المعارضة بين الأمارتين يسقط عن الحجية خصوص مورد المعارضة من الدلالات ويبقى الباقي على حجيته ، فيسقط في المقام خصوص الدلالة المطابقية التي موضوعها ملكية ذي اليد للمال لكل من اليدين لمعارضتها بالدلالة الالتزامية لليد الأخرى.

ص: 65

أما الدلالة الالتزامية على نفي ملكية غير ذوي اليدين فهي باقية على حجيتها ، لعدم كونها موضوع المعارضة.

وكلا الفرضين ممنوعان ..

أما فرض العلم ، فلأنه خلاف الفرض ومحل الكلام ، لأن المفروض تردد الملكية بينهما وبين غيرهما ، لا بينهما بالخصوص. مضافا إلى ان المدعى ثبوت الحكم المذكور لهذه الصورة مطلقا ، والقاعدة لا تشملها بجميع افرادها.

وأما الفرض الثاني ، فقد عرفت عدم ثبوت أمارية اليد ، كما عرفت انها لو كانت فلا تكون حجة في الدلالة الالتزامية ، لأن الأمارات ليست حجة فيها بقول مطلق.

وأما الحكم بعدم ملكية الغير في صورة الحكم بملكية شخص ، فهو ليس لأجل الدلالة الالتزامية ، بل لأجل الملازمة الظاهرية بين ثبوت ملكية الشخص وعدم ملكية غيره ، وهي غير متحققة فيما نحن فيه ، لأن اليد سقطت عن الحجية على الملكية بالمعارض فلا يترتب عليها ما هو أثر الملكية الظاهرية.

الوجه الثالث : الاستدلال بالخبر المرسل الدال على التنصيف في ما لو تداعى في عين اثنان ولا يد لهما عليها (1). ففي الفرض لما كانت يد كل منهما حجة على ملكيته فيتساقطان لمزاحمة كل منهما الأخرى ، إذ لا يمكن اجتماع سببين متزاحمين على مسبب واحد ، لاستحالة اجتماع ملكيتين مستقلتين لعين واحدة ، وإذا سقطت اليدان عن الحجية تكون العين كما لو لم يكن للمتداعيين عليها يد فيشملها المرسل الحاكم بالتنصيف.

وهذا الوجه - كأخويه - غير وجيه ، لأن مورد الخبر صورة التداعي ووجود الدعوى على الملكية. والمفروض في المقام عدم وجود شيء من ذلك غير اليد ،

ص: 66


1- سنن البيهقي 10 / 255 ، إلاّ ان فيها ( ليس لأحدهما بيّنة ).

بحيث يكون الشك في ملكيتهما أو عدم ملكيتهما وملكية غيرهما ، لا في ملكيتهما أنفسهما وانه أيهما المالك.

وعليه فلا يتجه الاستدلال بالخبر المذكور ، إذ الحال يفترق بين وجود الدعوى وعدمه ، لأن الدعوى لما كانت بمنزلة الاخبار ، فدعوى كل منهما الملكية كما تكون إخبارا بها تكون اخبارا بلازمها وهو عدم ملكية غيره - لأن الاخبار بالشيء اخبار بلازمه - فدعواهما بالنسبة إلى نفي ملكية غيرهما معا دعوى بلا معارض. ومن المعلوم الحكم على طبقها ، فملكية الغير معلومة العدم حكما في صورة الدعوى ، فيكون الفرض من موارد قاعدة العدل والإنصاف التي يحكم فيها بالتنصيف المشاع مع عدم المرجح لأحد المتداعيين.

وهذا بخلاف صورة عدم الدعوى ، لعدم العلم بعدم ملكية الغير. والمفروض فيما نحن فيه ذلك. فتعدية الحكم من تلك الصورة إلى هذه بلا ملاك ومستند.

ومن هنا ظهر عدم صحة التمسك بالروايات الدالة على الحكم بالتنصيف في صورة التداعي وكون العين بيد المتداعيين وعدم المرجح - كما فعل صاحب المستند كما مر عليك -.

وعلى هذا يتضح عدم صحة التمسك بأحد هذه الوجوه.

فالذي ينبغي أن يقال : انه على الاحتمال الأول في ملكية المشاع حيث انه لا إشكال في تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة ، فالحكم بملكيتها لأجل اليد وشمول دليل اعتبارها.

وأما على الاحتمالين الأخيرين ، فقد عرفت عدم تحقق الاستيلاء على الحصة المشاعة.

فان قلنا : بان الاستيلاء على تمام العين وان كان استيلاء مستقلا ، إلاّ انه استيلاء ناقص ضعيف بحيث يكون استيلاؤهما بمنزلة استيلاء واحد تام - بتقريب ان التصرف إذا خرج عن الاختيار وكان قهريا لم ينتزع عنه عنوان الاستيلاء ،

ص: 67

والتصرف منهما وان لم يكن في نفسه قهريا بل باختيارهما ، لكنه حيث يتوقف على الاذن من الطرف الآخر كان قهريا من هذه الجهة ، فيكون استيلاء كل منهما استيلاء ضعيفا لأن فيه جهة غير اختيارية - أمكن دعوى وجود بناء العقلاء على ملكيتهما للمال دون غيرهما من دون تعيين الحصة ، وبمقتضى قاعدة التساوي في الشركة المبهمة يكون الحكم هو التنصيف.

وان قلنا : بان استيلاء كل منهما استيلاء مستقل تام - كما عليه صاحب المستند فانه ذكر انه لا مانع من تحقق استيلاءين كذلك على عين واحدة - بحيث لو كان وحده لدل على ملكية المستولي وحده للعين ، فلا محيص عن القول بسقوط اليدين عن الحجية للتزاحم.

ولا وجه حينئذ للحكم بالتنصيف والملكية المشتركة المشاعة ، فتدبر جيدا.

الجهة التاسعة : في الحجية اليد مع شك ذيها في الملكية.

وقد حررت هذه المسألة على نحوين :

الأول : يرتبط بتكليف نفس ذي اليد بالنسبة إلى ما في يده لو شك في ملكيته له ، فهل يترتب آثار الملكية بملاك اليد أو لا؟

الثاني : يرتبط بتكليف الغير بالنسبة إلى ما في يد الشاك المصرح بعدم العلم ، فهل يترتب على ما في يده آثار ملكيته له مع تصريحه بعدم علمه بملكيته للمال ، أو تختص حجية اليد بصورة دعواه الملكية أو سكوته.

وقد حرر المسألة بهذا النحو صاحب المستند قدس سره . كما حررها بالنحو الأول المحقق الأصفهاني قدس سره . ولا يختلف الحال فيما هو المهم على التقديرين.

والعمدة في ثبوت دعوى الاختصاص - كما عليه صاحب المستند - خبرا جميل بن صالح وإسحاق بن عمار.

أما صحيحة جميل بن صالح : « رجل وجد في بيته دينارا. قال : يدخل منزله

ص: 68

غيره؟ قلت : نعم كثير. قال : هذه لقطة. قلت : فرجل وجد في صندوقه دينارا؟ قال : يدخل أحد يده في صندوقه غيره أو يضع فيه شيئا؟ قلت : لا. قال : فهو له » (1) ، فقد قرب صاحب المستند الاستدلال بها على المدعى - بعد ان بين قصور أدلة اعتبار اليد عن شمول هذه الصورة - بأنه علیه السلام حكم فيما هو في داره الّذي لا يعلم انه له مع كونه في يده على ما مر ومستوليا عليه أنه ليس له. وأيضا علل كون ما وجد في الصندوق له بما يفيد العلم بأنه ليس لغيره.

فالصدر يدل على عدم حجية اليد بالنسبة إلى ذي اليد في صورة التردد (2).

ويرد عليه ما أفاده السيد الطباطبائي قدس سره في ملحقات العروة من : ان عدم إدخال شخص غيره يده في صندوقه لا يلزم منه ارتفاع الشك في كون الدينار له أو لغيره ، ولا يوجب العلم بعدم كونه لغيره ، إذ يمكن ان يكون الشك من جهة كونه عارية أو أمانة أو غيرهما ، أو من جهة وضع غيره للدينار في صندوقه اتفاقا ، ولا ينافي ذلك ما هو المفروض من عدم إدخال شخص غيره يده عادة (3).

فالذيل يدل على عدم الاختصاص ، لأنه حكم بملكية ذي اليد مع تحقق الشك لديه في ان الدينار له أو لغيره.

ولكنه قدس سره أورد على استدلال صاحب المستند بالصدر : بأنه لم يصرح فيه بأنه لا يعلم انه له أو لغيره ، بل الظاهر علمه بأنه ليس له ، فهو أجنبي عما نحن فيه.

ولكن ما ذكره رحمه اللّه غير واضح الوجه ، إذ لا ظهور في الرواية ولا قرينة على ما ادعاه من فرض العلم بعدم كون الدينار له ، بل الموارد الغالبة على خلافه ، فان الغالب فيما لو وجد الشخص في داره مالا حصول الشك في كونه له أو

ص: 69


1- وسائل الشيعة 17 / 353 باب 3 من أبواب اللقطة ، الحديث : 1.
2- المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة2/ 577 - الطبعة الأولى.
3- الطباطبائي الفقيه السيد محمد الكاظم. العروة الوثقى3/ 120 - الطبعة الأولى.

لغيره ، والعلم بعدم ملكيته انما يكون في موارد خاصة - ليس في الرواية ما يدل على المورد منها - كما لو كان صاحب الدار عارفا بمقدار ما يملكه من المال ، أو كان ما وجده نحوا من المال يخالف نحو ما يملكه عادة.

وقد أورد المحقق الأصفهاني رحمه اللّه على الاستدلال بصدر الرواية على المدعى بما يرجع إلى ان عدم حكم الإمام علیه السلام في المورد بملكية ذي اليد انما كان لأجل معارضة غلبة اليد المالكية بغلبة أخرى.

وذلك لأنه مع كثرة الداخلين يكون احتمال كون المال لذي الدار معارضا بالاحتمالات الكثيرة التي موضوعها كون المال لغيره ، يكون ضعيفا ، فلا غلبة في صورة وجود الداخل ، فينتفي ملاك حجية اليد على الملكية (1).

ولكن ما ذكره قدس سره عجيب ، لأنه جار في جميع موارد الشك في ملكية ذي اليد التي يدور الأمر بين ملكيته وملكية غيره غير المعين ، لتعدد الاحتمالات المعارضة لاحتمال كون المال لذي اليد وكثرتها ، كما لا يخفى.

وأما احتمال انه مع تعدد الداخل للدار أو الواضع في الصندوق يتعدد الاستيلاء على الدار وعلى الصندوق ، ومعه تكون اليد معارضة بيد أخرى ، دون صورة التفرد.

فهو وان لم يبعد بالنسبة إلى الصندوق ، إذ قد يتعارف إذن صاحب الصندوق لغيره في الاستفادة من صندوقه بوضع المال ، لكنه بعيد بالنسبة إلى الدار ، إذ دخول الناس في دار الغير ولو كان كثيرا لا يحقق الاستيلاء على الدار.

والّذي ينبغي ان يقال : ان الاستيلاء كما عرفت منتزع عن التصرف الخارجي الاختياري ، فإذا لم يكن وضع الشيء في دار إنسان بعلمه واختياره لم يعد عرفا مستوليا على ذلك المال.

ص: 70


1- الأصفهاني المحقق محمد حسين. نهاية الدراية3/ 333 - الطبعة الأولى.

نعم ، إذا وضعه بنفسه أو بإذنه كان مستوليا عليه وان غفل بعد ذلك عنه.

فمع عدم إحراز استيلائه وان هذه العين التي يشك في ملكيتها الآن هو كان قد وضعها في هذا المكان ليكون مستوليا عليها عرفا ، أو وضعها غيره بلا علمه واختياره فلا يكون مستوليا عليها لعدم تحقق منشأ الاستيلاء عليها منه أصلا.

لا يصح الحكم بملكيته لعدم إحراز يده على المشكوك فلا ملاك للحكم بملكيته.

ومن هذا القبيل مورد الصدر - أعني : الدينار الموجود في الدار - فانه بعد ان كان يدخل إلى الدار غيره كان استيلاؤه على الدينار الموجود فيها غير محرز ، لاحتمال كونه من غيره ولم يكن وجوده في الدار عن اختياره ، فلا يكون مستوليا عليه. فلذلك لم يحكم علیه السلام بملكية صاحب الدار للدينار ، بل حكم بأنه لقطة.

وأما مع إحراز استيلائه كان الحكم بملكية المشكوك متعينا لتحقق ملاكه.

ومنه مورد الذيل ، وهو الدينار الموجود في الصندوق ، لأنه إذا لم يكن أحد غيره يدخل يده في الصندوق يتعين كون الواضع للدينار صاحب الصندوق ، فيكون الدينار بيده وتحت استيلائه ، فالحكم بملكيته على طبق قاعدة اليد.

فالمتعين في المقام التفصيل بين صورة إحراز الاستيلاء فيحكم بملكية ذي اليد - إذ لا يبعد بناء العقلاء على ذلك - وبين عدم إحرازه فلا يحكم بالملكية لعدم تحقق ملاكها.

والتفصيل في الرواية بين صورة دخول غيره الدار وعدمه وبين إدخال غيره يده في الصندوق وعدمه ، إنما هو لأجل ما ذكرناه.

هذا ، ولكن الإنصاف ان ذيل رواية جميل لا دلالة له على حجية اليد على ملكية ذي اليد نفسه ، إذ هي ظاهرة في انحصار الاستيلاء بذي اليد بنحو يطمئن بكون المال له وعدم احتمال كونه لغيره احتمالا معتدا به ، إذ المراد من وضع أحد شيئا

ص: 71

في الصندوق ليس وضعه من دون علمه وباستيلاء خاص به ، بل وضعه فيه بواسطته وبطريقه بحيث يكون الواضع مباشرة هو صاحب الصندوق ، وذلك بقرينة تقابل وضع شيء مع إدخال أحد يده في الصندوق. وحينئذ فإذا نفي إدخال أحد يده في الصندوق مع نفي وضع صاحب الصندوق مال الغير فيه ، يتعين بحكم العادة كون المال لصاحب الصندوق وكون التردد في غير محله وأشبه بالوسوسة ، فقوله علیه السلام : « فهو له » ليس حكما تعبديا ، بل هو اخبار عن نتيجة نفي الأمرين. فتدبر.

وأما رواية إسحاق بن عمار الموثقة : « عن رجل نزل في بعض بيوت مكة ، فوجد فيها نحوا من سبعين درهما مدفونة فلم تزل معه ولم يذكرها حتى قدم الكوفة كيف يصنع؟ قال : فاسأل عنها أهل المنزل لعلهم يعرفونها. قلت : فان لم يعرفوها. قال : يتصدق بها » (1). فقد قرب صاحب المستند دلالتها على ما ذهب إليه : بأنه لا شك ان الدراهم كانت في تصرف أهل المنزل على ما عرفت ، ولو انهم قالوا لا نعلم انها لنا أو لغيرنا فيصدق انهم لا يعرفونها فلا يحكم بملكيتها لهم (2).

والمهم في رد الاستدلال بها أمران :

الأول : عدم وضوح تحقق الاستيلاء على المدفون.

والثاني : ورودها في الكنز ، وهو ذو أحكام خاصة لا ترتبط بالقواعد الكلية والأصول العامة. فلا يتجه الاستدلال بها على الاختصاص.

والحاصل : أن الظاهر تحقق بناء العقلاء على حجية اليد بالنسبة إلى ذي اليد نفسه مع إحراز استيلائه ويده ، وإلا فلا ملاك للحكم بملكيته خارجا. فتدبر.

الجهة العاشرة : في حجية يد المسلم على التذكية.

وثمرة الكلام انما تظهر في ما لم تكن على المشكوك تذكيته أمارة على التذكية

ص: 72


1- وسائل الشيعة 17 / 355 باب 5 من أبواب اللّقطة ، الحديث : 3.
2- المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة2/ 578 - الطبعة الأولى.

من سوق المسلمين أو أرض الإسلام أو تصرف المسلم بل لم يكن إلاّ في يد المسلم من دون انضمام تصرفه المتوقف على التذكية إليها ، أو سوق المسلمين أو غير ذلك من الأمارات الدالة على التذكية ، كما لو وجد اللحم في يد المسلم وهو في الطريق ولم يعلم انه ذاهب به ليأكله أو ليلقيه وينبذه.

فان قلنا : بأمارية يد المسلم بنفسها جاز ترتيب آثار التذكية على هذا اللحم ، وإلا فلا يجوز ترتيبها ما لم ينضم إليها التصرف المتوقف على التذكية.

وحيث تعين محل الكلام ، فعدم أمارية اليد على التذكية - بحيث تكون أمارة في قبال أرض الإسلام وسوق المسلمين وتصرف المسلم واضح ، لعدم الدليل عليها أصلا ، لأن الاخبار واردة في بيان أمارية سوق المسلمين وأرض الإسلام ، وأما يد المسلم فلا دليل على أماريتها.

نعم ، هناك خبر واحد وارد في يد المسلم وهو خبر إسماعيل بن عيسى الآتي - إلا أن الحكم بالحلية فيه مرتب على تحقق التصرف المتوقف على التذكية من المسلم دون مجرد كونه في يده ، وكون التصرف موردا ولا يخصص الوارد ، فلا يدل أمارية اليد بما هي يد.

وعلى هذا ، فلا حاجة إلى صرف الكلام إلى مرحلة الثبوت وتحقيق وجود ملاك الأمارية في يد المسلم وغير ذلك مما يتعلق بهذا الشأن.

نعم ، لا بأس في التعرض إلى أمرين :

الأمر الأول : ان حجية سوق المسلمين وأرض الإسلام وتصرف المسلم على التذكية ، هل مرجعه إلى أصالة الصحة في فعل المسلم أو أنه جعل مستقل لأمارات مستقلة لا يرتبط بأصالة الصحة؟.

ذهب صاحب الجواهر قدس سره إلى ان مرجع الجميع إلى أصالة الصحة في فعل المسلم. ولأجل ذلك حكم بعدم أمارية اليد المجردة عن التصرف المتوقف

ص: 73

على التذكية (1).

ويورد عليه بما أفاده المحقق الهمداني قدس سره في مصباحه من : أن أصالة الصحة في فعل الغير المسلم انما تثبت صحة العمل الصادر من المسلم المشكوك في صحته للشك في وجود بعض شرائطه - مثلا - ولا تثبت وجود المشكوك وتحققه خارجا ، فهي في المقام تثبت صحة البيع أو صحة الصلاة بمشكوك التذكية ، أما أنها تثبت التذكية المشكوكة كي تصح صلاة المشتري فيه فلا ، فلا وجه لإرجاع أمارية هذه الأمور إلى أصالة الصحة.

ولا يخفى ان البحث المذكور بحث علمي صرف ، ولا أثر له في مقام العمل.

الأمر الثاني : ان اليد على تقدير ثبوت أماريتها على التذكية ، فهل هي أمارة مستقلة منفصلة عن سوق المسلمين ، أو ان سوق المسلمين أمارة على التذكية باعتبار أماريته على يد المسلم لا باعتباره نفسه ، فهو أمارة على الأمارة؟.

والأثر العملي في هذا الكلام ظاهر ، فانه لو كان سوق المسلمين أمارة مستقلة على التذكية للحكم بما في يد الكافر الموجود في سوق المسلمين بالتذكية.

بخلاف ما لو لم يكن أمارة مستقلة ، بل كان أمارة على الأمارة للعلم بعدم تحقق يد المسلم التي هي الأمارة في الفرض ، فلا أثر لسوق المسلمين. نعم ، في صورة الشك بتحقق يد المسلم بان شك في كون ذي اليد مسلما أو كافرا يحكم بمسلميته بمقتضى السوق ، وهذا معنى أمارية سوق المسلمين.

وقد ذهب المحقق الهمداني قدس سره إلى الثاني مستظهرا ذلك من رواية إسماعيل بن عيسى ( موسى خ ) : « عن الجلود الفراء يشتريها الرّجل في سوق من أسواق الجبل ، أيسأل عن ذكاته إذا كان البائع مسلما غير عارف؟. قال علیه السلام : عليكم أنتم ان تسألوا عنه إذا رأيتم المشتركين يبيعون ذلك. وإذا رأيتم

ص: 74


1- النجفي الشيخ محمد حسن. جواهر الكلام8/ 56 - الطبعة الحديثة.

يصلون فيه فلا تسألوا عنه ».

ووجه الاستظهار : انه علیه السلام في فرض الشراء من السوق فصل في مقام وجوب السؤال عن ذكاة الجلد بين كون البائع مشركا فيجب السؤال وكونه مسلما فلا يجب ، مما يكشف عن ان السوق بنفسه لا عبرة فيه ، بل انما يعتبر باعتبار كشفه عما هو أمارة وهو يد المسلم ولذلك لم يعتبر في صورة العلم بيد الكافر في مورد الرواية ، إذ لا موضوع لأمارية السوق حينئذ (1).

وفيه ما لا يخفى ، فانه لا ظهور ولا قرينة في الرواية المذكورة على كون المورد من موارد سوق المسلمين ، وكون الملحوظ فيها أماريته وعدمها ، بل ذيل الرواية الّذي يقتضي إيكال عدم وجوب السؤال إلى رؤية تصرف المسلم بالصلاة يدل على عدم لحاظ السوق أصلا ، وإلا لكان المناسب إيكال عدم وجوب السؤال إلى رؤية بيع المسلمين لإحراز يدهم وتصرفهم.

فالإنصاف ان هذه الرواية لا تدل على ما ذهب إليه الفقيه الهمداني رحمه اللّه ، فتبقى عمومات اعتبار سوق المسلمين في الحكم بالتذكية سالمة عن المخصص. وبذلك يكون السوق أمارة بنفسه على التذكية.

الجهة الحادية عشرة : في أمارية يد الكافر على عدم التذكية. ويلحق بهذا البحث الكلام في أمارية أرض الكفر وسوق الكفار على عدم التذكية.

فهل أن يد الكافر بنفسها أمارة على عدم التذكية ، أو انها ليست بأمارة ، والحكم بعدم التذكية في موردها لأصالة عدم التذكية؟ ومثلها أرض الكفر وسوق الكفار.

والثمرة في هذا الكلام تظهر في موارد :

منها : ما لو تعارض سوق المسلمين ويد الكافر ، بان كان اللحم بيد كافر بائع

ص: 75


1- الفقيه الهمداني الشيخ آغا رضا مصباح الفقيه / 141 - كتاب الطهارة - الطبعة القديمة.

في سوق المسلمين ، فانه بناء على ان الحكم بعدم تذكية ما في يد الكافر لأجل أمارية يده على عدم التذكية ، تتعارض الأمارتان - أعني سوق المسلمين ويد الكافر - وبناء على ان الحكم المذكور من جهة أصالة عدم التذكية يكون السوق مقدما على اليد ، لأنه إمارة وهي واردة على الأصل كما لا يخفى.

ومنها : ما لو اجتمعت يد الكافر ويد المسلم ويتصور ذلك فيما لو كانت يد الكافر على جزء من الحيوان ويد المسلم على جزء آخر ، لأن الحكم بالتذكية أو عدمها إنما يكون بالنسبة إلى مجموع الحيوان لا إلى خصوص الجزء الموجود في اليد إذ التذكية التي تكون اليد أمارة عليها أو على عدمها إنما هي تذكية الحيوان كله لا تذكية هذا الجزء خاصة الّذي تحت اليد. فتدبر - فانه على القول بأمارية يد الكافر تتعارضان. وعلى القول بعدم أماريتها تكون يد المسلم مقدمة على أصالة عدم التذكية.

ومنها : ما لو كانت الذبيحة فعلا بيد كافر وكانت قبلا بيد مسلم فانه بناء على أمارية يد الكافر تكون متعارضة مع يد المسلم لأنها حين حدوثها كانت أمارة على التذكية حدوثا وبقاء ، فتتعارض الأمارتان. وبناء على عدم أماريتها تكون يد المسلم مقدمة على الأصل.

وقد استدل لأمارية يد الكافر وأرض الكفر وسوق الكفار بأمور :

الدليل الأول : مصحح إسحاق بن عمار : « لا بأس في الصلاة في الفراء اليماني وفيما صنع في أرض الإسلام. قلت : فان كان فيها غير أهل الإسلام؟. قال علیه السلام : إذا كان الغالب عليها المسلمين فلا بأس » (1).

والاستدلال بها على المدعى من وجوه :

الوجه الأول : مفهوم الشرط ، حيث انه علیه السلام علق عدم البأس على

ص: 76


1- وسائل الشيعة 2 / 1072 باب : 50 من أبواب النجاسات ، الحديث : 5.

كون الغالب على الأرض المسلمين ، فيدل التعليق على ثبوت البأس عند عدم غلبة المسلمين وبذلك يثبت المدعى.

ولكنه كما ترى ، فان ثبوت البأس عند عدم غلبة المسلمين بمقتضى التعليق أجنبي عن أمارية سوق الكفّار الّذي هو المدعى ، فانه موضوع آخر وغاية ما يقتضيه التعليق هو ثبوت البأس في هذا المورد ، أما ملاكه فلا تتكفل بيانه الرواية ، فقد يكون الملاك هو أصالة عدم التذكية لتحقق موضوعها وعدم الأمارة على خلافها ، لكون المفروض عدم غلبة المسلمين ، فلا سوق لهم كي يرد على الأصل المذكور. فترتيب البأس على ارتفاع الغلبة قد يكون لأجل ارتفاع الرافع لموضوع الأصل.

الوجه الثاني : مفهوم الوصف ، حيث انه علیه السلام علق الحكم بنفي البأس على الغلبة الموصوفة بغلبة المسلمين ، ومقتضاه ثبوت البأس عند الغلبة الموصوفة بغلبة غير المسلمين. فيكون المراد : إذا كان الغالب عليها غير المسلمين ففيه بأس.

وظاهر ذلك استناد ثبوت البأس إلى غلبة غير المسلمين لا إلى أمر آخر ، لأن موضوع ثبوت البأس وعدمه في الموردين هو الغلبة ، والاختلاف في الحكم انما كان من جهة الاختلاف في الوصف.

وهذا الوجه غير سديد ، لما حقق في محله من عدم حجية مفهوم الوصف وعدم اعتباره شرعا.

الوجه الثالث : ان الظاهر كون الإمام علیه السلام في مقام إعطاء الضابط في الطرفين - أعني : التذكية وعدمها - لا أنه في مقام بيان حكم طرف دون آخر. وحيث انه جعل المناط في الحكم بالتذكية هو غلبة المسلمين يكون ذلك قرينة منه على اعتبار الغلبة في الطرف الآخر ، فان المناط ثبوتا في التذكية وعدمها هو الغلبة. فاستفادة اعتبار غلبة الكفار في الحكم بعدم التذكية ليس من جهة المفهوم ، كي يقال بان الوصف غير المعتمد على موصوف لا مفهوم له ، بل من جهة قرينة المقام ، وهي

ص: 77

كونه علیه السلام في مقام إعطاء الضابط في الطرفين لا إعطاؤه في طرف ، وإيكال السائل إلى جهله في طرف آخر.

وهذا الوجه - كأخويه - لا يجدي لإثبات المدعى ، لأن ما يرتكز عليه من كون الإمام علیه السلام بصدد بيان الضابط للطرفين غير مسلم لأن المسئول عنه والّذي كان الإمام بصدد بيان حكمه ليس إلاّ ما كان مصنوعا في أرض الإسلام. أما ما كان في أرض الكفر أو سوق الكفار ، فلا ظهور في الخبر على انه علیه السلام كان بصدد بيان حكمه. فجعل الضابط في طرف هو الغلبة لا يستفاد منه كونه هو الضابط في الطرف الآخر لقرينة المقام. فالتفت.

الدليل الثاني : رواية إسماعيل بن عيسى المتقدمة.

وقرب المحقق الأصفهاني قدس سره دلالتها على أمارية يد الكافر : بأنها - بمقتضى الأمر بالسؤال - تدل على وجوب الاجتناب عما كان بيد الكافر ، فيدور الأمر بين ان يكون منشأ ذلك أصالة عدم التذكية ، أو عدم الأمارة الرافعة وهي يد المسلم أو يد الكافر. وحيث ان الظاهر كون المنشأ هو الثالث تحفظا على ظهور كون الإسناد إلى ما هو له ، كان ذلك دليلا على أماريتها ، لأنها لا تكون بنفسها حجة على عدم التذكية إلاّ إذا كانت أمارة (1).

ولكن الإنصاف انها لا تدل على المدعى ، لأن الظاهر ان وجوب السؤال هو الّذي تدل عليه الرواية وهو وجوب شرطي لا نفسي. فيرجع مفادها إلى انه إذا أريد ترتيب آثار التذكية على هذا اللحم الّذي هو بيد المشرك فلا بد من الفحص ، ولا يكفي في ترتيب الآثار كونه بيد المشرك. بخلاف ما إذا كان بيد المسلم فان ترتيب آثار التذكية جائز بمجرد كونه بيد المسلم بلا فحص وسؤال. فينتزع من هذا حجية يد المسلم وأماريته دون يد المشرك ، ولا ينتزع منه أمارية يد المشرك على

ص: 78


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 344 - الطبعة الثانية.

العدم ، لأن مرجع وجوب السؤال إلى عدم الاعتناء بيد المشرك وعدم ترتيب آثار التذكية عليها ، وهذا لا يدل إلاّ على عدم الأمارية لا على الأمارية على العدم.

وبالجملة : حيث كان الأمر في الرواية بالسؤال وظهور ذلك في كون وجوبه شرطيا - بمعنى انه شرط لترتيب آثار التذكية - لا يكون في الرواية أي دلالة على أمارية يد الكافر ، بل انما تدل على عدم أماريته.

نعم ، لو كان الحكم في الرواية بوجوب الاجتناب ، لأمكن ادعاء ظهور استناده إلى يد الكافر ، فيدل على حجيته على العدم.

ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ الحكم بوجوب السؤال ، ووجوب الاجتناب مستلزم له ، وهو - أعني : وجوب السؤال - لا يدل إلاّ على عدم الاعتناء بيد الكافر في مقام ترتيب آثار التذكية.

وهذا انما ينفي الأمارية على التذكية ، لا انه يثبت الأمارية على عدمها.

كما يقرر مثل هذا الكلام في وجوب التبين عند اخبار الفاسق المستفاد من آية النبأ ، فانه يقال : انه وجوب شرطي مرجعه إلى عدم جواز ترتيب آثار الواقع المخبر به عند اخبار الفاسق الا بعد السؤال والعلم بصحته وهذا انما يدل على عدم حجية خبر الفاسق لا على حجيته على عدم وقوع المخبر به.

الدليل الثالث : انه من المسلم عند الأصحاب انه إذا كانت الذبيحة بيد الكافر في سوق المسلمين أو أرضهم ، فهي محكومة بعدم التذكية.

وهذا دليل على اعتبارهم يد الكافر أمارة بحيث تعارض أمارية السوق ، فيتساقطان ويرجع إلى أصالة عدم التذكية. وإلاّ فنفس أصالة عدم التذكية لا تجدي ، لأنها محكومة للسوق لأنه أمارة بلا معارض.

وفيه : ان تسليمهم ليس بحجة بحيث يمكن التمسك به في قبال القواعد المقررة ، لأنهم بين ..

من لا يرى السوق والأرض أمارة مستقلة ، بل هما أمارة على الأمارة - كما

ص: 79

عرفت عن الفقيه الهمداني - ففي صورة العلم بيد الكافر تنتفي أمارية السوق أو الأرض.

ومن يرى رجوع هذه الأمارات إلى أصالة الصحة في فعل المسلم كما عرفت عن صاحب الجواهر - وهي غير جارية في صورة العلم بكون اليد يد كافر.

ومن يرى تخصص عموم أمارية السوق بيد الكافر ، لرواية إسماعيل بن عيسى ، فلا يكون تسليمهم بذلك حجة على من لا يرى رأيهم - بل ليس بناء منهم على أمارية يد الكافر - فيلتزم بعدم الاعتناء بيد الكافر في سوق المسلمين.

هذا ، مضافا إلى ان تسليمهم لا يدل على بنائهم على أمارية يد الكافر ، بل يمكن أن يكون لأجل انتفاء ملاك أمارية سوق المسلمين بالنسبة إلى يد الكافر وهو الغلبة - وستأتي الإشارة إليها عن قريب -. كما يلتزمون بسقوط خبر الواحد عن الحجية عند معارضته للشهرة مع التزامهم بحجية الخبر وعدم حجية الشهرة. بتوجيه : ان الشهرة توجب عدم الوثوق بصدق الخبر الّذي هو ملاك حجيته - وان أورد عليهم بان الملاك خبر الثقة لا الخبر الموثوق به -.

وبالجملة : فمن الممكن ثبوتا تصور التزام الأصحاب بتقدم اللاحجة على الحجة لبعض الوجوه.

والمتحصل : انه لا دليل على أمارية يد الكافر وأرض الكفار وسوقهم على عدم التذكية ، وليس الثابت إلا عدم حجيتها.

الجهة الثانية عشرة : في ان يد المسلم نفسها أو مع اقترانها بالتصرف ، هل هي حجة على التذكية مطلقا أو تختص بغير المستحل للميتة بالدباغ؟.

قد ذكر المحقق الأصفهاني (1) : ان الكلام يكون تارة في مقام الثبوت. وأخرى

ص: 80


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 347 - الطبعة الأولى.

في مقام الإثبات.

أما الكلام في مقام الثبوت ، فمحصله : ان الحكم بالتذكية إما أن يكون لأجل توقف حفظ النظام عليه والتسهيل على المؤمنين به. أو لأجل الغلبة - أعني : غلبة كون ما في أيدي المسلمين من ذبائحهم - وإما لأجل ظهور حال المسلم في إحراز التذكية عند تصرفه المتوقف على التذكية.

فعلى الأول : فهو متحقق بالنسبة إلى ذبيحة المستحل ، لأن غالب المسلمين من أهل السنة ، وهم يستحلون ذبيحة الكتابي ، فالتحرز عن ذبائحهم يوجب العسر والاختلال غالبا.

وعلى الثاني : فكذلك ، لأن معنى الغلبة كون الغالب مما في أيدي المسلمين مذكى لا غيره ، وهو متحقق بالنسبة إلى المستحلين ، إذ الغالب مما في أيديهم كونه مذكى بالذبح لا بالدباغ.

وعلى الثالث : فالامر مشكل ، لأن ظهور حال المسلم بالنسبة إلى المستحل غير جار ، للعلم بأنه يحرز التذكية بالدباغ ، فظهور حاله في إحراز التذكية لا يكشف عن التذكية بالذبح دون الدباغ.

وعلى كل ، ففي الوجهين الأولين لإحراز ملاك الأمارية كفاية.

وأما مقام الإثبات : فالإطلاقات الدالة على أمارية اليد على التذكية مطلقا تامة ، ولا يتوهم وجود مقيد لها الا خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « كان علي بن الحسين علیه السلام رجلا صردا فلا تدفئه فراء الحجاز لأن دباغها بالقرظ. فكان يبعث إلى العراق فيؤتى مما قبلكم بالفرو فيلبسه. فإذا حضرت الصلاة ألقاه وألقى القميص الّذي يليه ، وكان يسأل عن ذلك فيقول : ان أهل العراق يستحلون لباس الجلود الميتة ويزعمون ان : دباغه ذكاته » (1). والاستدلال بها على

ص: 81


1- وسائل الشيعة 3 / 338 باب : 61 من أبواب لباس المصلي ، الحديث : 2.

التقييد واضح.

ولكنه يشكل بضعف سندها ، وعدم صراحتها في الإلزام - إذ يمكن ان يكون فعله علیه السلام للتنزه اللائق منه بمثل الصلاة أو الاحتياط فانه حسن - بحيث يمكن معارضتها للإطلاقات الواردة في هذه الموارد وتقييدها لها.

وأما ما ذكر : من أنها كما يستدل بها على المنع كذلك يستدل بها على الجواز ، للإجماع القائم على عدم جواز الانتفاع بالميتة مطلقا ، وعدم التفكيك بين الاستعمال في الصلاة وغيرها ، فلبس الإمام علیه السلام

لفرو العراق في غير الصلاة مع استحلالهم الميتة بالدبغ دليل على الجواز ، فلا بد ان يحمل نزعه في الصلاة على التنزه.

فغير سديد ، إذ لم يعلم قيام الإجماع بنحو يصح الاعتماد عليه ، كيف؟ وقد خالف في ذلك بعض مستدلا بهذه الرواية على حلية استعمال الميتة أو ما في حكمها في غير الصلاة.

مضافا إلى ما تشير إليه بعض الاخبار من الفرق بين الاستعمال في الصلاة وغيرها ، حيث يسأل السائل عن الصلاة فيما اشتراه من السوق. مما يكشف عن ان جواز الشراء للمشكوك وما يترتب عليه من استعمال مفروغ عنه لدى السائل ، وانما الإشكال في جواز الصلاة فيه.

وعلى أي حال ، فلا إشكال في عدم نهوض هذه الرواية للتقييد فتبقى الإطلاقات على حالها.

الجهة الثالثة عشرة : في أمارية اليد على غير الملكية من الاختصاصات كالزوجية والنسب.

فهل يثبت بالاستيلاء على المرأة زوجيتها له ، وعلى صبي بنوته له أم لا؟.

والبحث في هذه الجهة ليس بمهم ، إذ لا يتصور الاستيلاء على الزوجة والابن خصوصا في زماننا هذا. مضافا إلى عدم الدليل على أمارية اليد في الموردين ، الا ما يتوهم من شمول إطلاق قوله علیه السلام : « ومن استولى على شيء منه فهو له ».

ص: 82

ولكن شمولها للمدعى - بعد تسليم دلالتها على أمارية اليد مطلقا بإلغاء خصوصية المورد - يستلزم فروضا (1) ، بعيدة عن الظاهر والذوق السليم كما لا يخفى.

وعليه ، فلا إشكال في عدم أمارية اليد بالنسبة إلى إثبات الزوجية والنسبية ، وان نسب إلى العلامة (2) ، السيد الطباطبائي ( قدس سرّهما ) (3) ظهور أماريتها على البنوة من كلاميهما. فتدبر.

وقد يستدل لثبوت الزوجية بأصالة الصحة ، بتقريب : ان المسلم حيث لا يجوز له النّظر وسائر العلاقات إلى الأجنبية ، فظاهر حاله يقتضي زوجية المرأة التي ينظر إليها ويباشرها.

إلا انه يشكل : بأن الثابت بها ليس إلا حلية نظره وغيره وعدم حرمته ، وأما نفس الزوجية المقصود ثبوتها لترتيب آثارها ، فلا تثبت إلا بالملازمة ، وستعرف عدم تكفل أصالة الصحة لإثبات اللوازم.

الجهة الرابعة عشرة : « في قبول قول ذي اليد وأخباره بطهارة ما في يده أو نجاسته ونحوهما مما يكون من شئون العين.

وقد حكي عن الحدائق ظهور الاتفاق عليه من الأصحاب ، وادعى عليه السيرة المستمرة (4).

ص: 83


1- منها : ان يفرض كون المراد من اللام في « له » أعم من الاختصاص بالملك والاختصاص بالحق ليشمل مثل الزوجية. ومنها : الالتزام بعموم : « شيء » للإنسان فانه وان صح إطلاقه عليه بحسب اللغة ، إلا انه يندر عرفا ذلك في الاستعمالات فلا يستفاد من لفظ : « شيء » ما يعم الإنسان.
2- العلامة الحلي. قواعد الأحكام /230- كتاب القضاء - الطبعة القديمة.
3- الطباطبائي الفقيه السيد محمد كاظم. العروة الوثقى3/ 196 - الطبعة الثانية.
4- البحراني الفقيه الشيخ يوسف. الحدائق الناظرة5/ 252 - الطبعة الأولى.

وقد استدل على ذلك بروايات عديدة :

منها : رواية محمد بن الحسين الأشعري - الواردة في التذكية - « كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني علیه السلام : ما تقول في الفرو - يشتري من السوق؟. قال علیه السلام : إذا كان مضمونا فلا بأس » (1). فان الظاهر من الضمان هو اخبار البائع بالتذكية.

ويشكل الاستدلال بها ...

أولا : بان الظاهر كون موردها سوق المسلم ويده ، وكلاهما حجة على التذكية ، فلا وجه لتوقف جواز الشراء على أخباره ، فالرواية غير واضحة المفاد.

وثانيا : بأنه لو حمل المورد على غير وجود الحجة ، بان حمل على الشراء ممن يستحل الميتة بالدباغ - مثلا - فلا ظهور في إرادة اخبار البائع بالتذكية من الضمان ، فيحتمل ان يراد منه توصيف البائع الرافع للغرر ، لأن اختلاف الجلد بين المذكى وغيره يوجب تفاوته من حيث السعر والقيمة السوقية ، فشراء الجلد مع الجهالة يكون شراء غرريا ، بخلاف ما إذا وصفه البائع وكان الشراء للموصوف بالتذكية ، فان الغرر يرتفع بذلك وهذا لا ينافي عدم حجية اخبار البائع. أو يراد من الضمان هو الالتزام بكونه مذكى والتعهد بذلك ، وهو لا ينافي عموم حجية أخباره - كما أشار إليه المحقق الأصفهاني (2) -.

ومنها : ما ورد في بيع الدهن المتنجس من لزوم إعلام المشتري (3). فانه لو لا حجية خبره ولزوم الأخذ به لما كان وجه لوجوب إعلامه.

ويشكل الاستدلال بها ...

أولا : بان الغالب حصول الاطمئنان بصحة المخبر بالنجاسة ، لأنه اخبار عن

ص: 84


1- وسائل الشيعة 3 / 338 باب 61 من أبواب لباس المصلّي ، الحديث : 3.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 349 - الطبعة الأولى.
3- وسائل الشيعة 12 / 66 باب 6 من أبواب ما يكتسب به ، الحديث : 3 و 4.

نقص في ماله المبيع ، وهو سبب للاطمئنان بصحة الخبر.

وثانيا : بان الاخبار في الشبهة المصداقية غير لازم ، وانما يجب فيما إذا كان عدم الاعلام منشأ لتسبيب ارتكاب النجس - مثلا - كأكله - لما دل على حرمة التسبيب -. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانه بدون الاعلام يكون البائع مسببا إلى شرب النجس ، فوجوب الاعلام انما هو لأجل دفع التسبيب ، وهذا لا يرتبط بحجية قوله واخباره - كما لا يخفى -.

ومنها : رواية ابن بكير الواردة فيمن أعار ثوبا لا يصلى .. فيه حيث قال علیه السلام : « لا يعلمه بذلك. قلت : فان أعلمه؟ قال علیه السلام : يعيد (1) ، فان الأمر بالإعادة دليل على حجية خبره وإعلامه ، وإلا فلا وجه للأمر بالإعادة.

وللمناقشة فيه مجال ، لأن الطهارة شرط بوجودها العلمي لصحة الصلاة لا بوجودها الواقعي ، فمع علمه بوقوع صلاته في النجس مع عدم سبق علمه بالنجاسة قبل الفراغ من الصلاة لا تجب عليه الإعادة فضلا عن اخباره بذلك ، فالأمر بالإعادة لا يكشف عن حجية إعلامه بالنجاسة ، فلا بد من حمل الأمر بالإعادة على الاستحباب والاحتياط ، وهو غير ملازم لحجية خبره ، بل يكفي فيه الاحتمال.

ومنها : ما ورد من أمر الإمام علیه السلام باشتراء الجبن من السوق والنهي عن السؤال من البائع (2). فانه يدل على حجية خبره ، إذ لو لا حجيته لما اتجه النهي عن السؤال.

والاستدلال بها غير وجيه لوجهين :

الأول : انه من المعلوم ان كون الجبن من الميتة أو فيه الميتة لا يضر بطهارته وجواز استعماله ، للاتفاق على استثناء الإنفحة واللبن في الضرع من ما لا يجوز

ص: 85


1- وسائل الشيعة 2 / 1069 باب 47 من أبواب النجاسات ، الحديث : 3.
2- وسائل الشيعة 17 / 91 باب 61 من أبواب الأطعمة المباحة ، الحديث : 4 و 8.

استعماله من الميتة ، فالنهي عن السؤال ولو كان خبر البائع حجة غير واضح الوجه كما لا يخفى.

الثاني : انه على تقدير القول بحرمة استعمال الجبن الّذي فيه الميتة ، فمن المحتمل ان يراد من السؤال المنهي عنه الفحص عن حاله ، نظير السؤال المأمور به في قوله علیه السلام : « عليكم أنتم ان تسألوا إذا رأيتم المشركين يبيعون ذلك » (1).

ومنها : ما ورد في اخبار البائع بالكيل والوزن الدال على تصديقه في ما يدعيه من الكيل (2).

ولكنه لم يظهر منه ان ذلك من باب تصديقه فيما يدعيه وحجية اخباره ، إذ يمكن ان يكون من باب ارتفاع الجهل بتوصيفه ، فيرتفع به الغرر ، وهذا لا يلازم حجية خبره.

ومن الأمور التي استدل بها على حجية قول ذي اليد : السيرة المستمرة القائمة على ان ذا اليد إذا أقر لأحد المتداعيين فيما في يده به كان المقر له بمنزلة ذي اليد منكرا ويكون الآخر مدعيا فيطالب بالبينة ، وليس هذا أثر الإقرار ، لأن اثره خصوص نفيه عن نفسه ، اما ثبوته لغيره المعين فليس من مقتضيات الإقرار ، فلا بد أن يكون ذلك لحجية قول ذي اليد ، فيكون المقر له منكرا لموافقة قوله الحجة.

ويشكل الاستدلال بها ، لأنه لم يعلم كون الاتفاق المذكور انما حصل لأجل حجية قول ذي اليد ، بل ظاهر المستند - بل صريحه - التمسك لهذه الفتوى بالمستفيضة الدالة على ان لو أقر ذو اليد بما في يده لغيره فهو له (3). ولصدق انه ذو يد عرفا بالإقرار له. وكلاهما أجنبي عن حجية قول ذي اليد كما لا يخفى.

واما الاستدلال بالمستفيضة الدالة على ان من أقر لعين لأحد فهي له ،

ص: 86


1- وسائل الشيعة 2 / 1072 باب 50 من أبواب النجاسات ، الحديث : 7.
2- وسائل الشيعة 12 / 257 باب 5 من أبواب عقد البيع وشروطه ، الحديث : 6.
3- المحقق النراقي ملا أحمد. مستند الشيعة2/ 580 - الطبعة القديمة.

بدعوى ان ذلك يرجع إلى حجية الاخبار ، إذ أثر الإقرار انما هو نفي الملكية عن نفسه لا أكثر.

ففيه : انه يمكن ان الحكم المذكور الّذي تدل عليه المستفيضة من باب نفوذ الإقرار في حق الغير - بملاك : من ملك شيئا ملك الإقرار به - مضافا إلى كون موردها ما لم يكن المقر له طرفا للتداعي مع آخر ، فاستفادة كون الحكم بالملكية بالإقرار لا لخصوصية الإقرار بل لحجية الاخبار. وإلغاء خصوصية موردها بحيث يستفاد حجية الاخبار مطلقا مشكل جدا. فتدبر.

فالمتعين هو الاستدلال بالسيرة المستمرة على الأخذ بقول ذي اليد واعتباره مطلقا من دون اعتبار شروط حجية خبر الواحد فيه. ويسندها خبر معاوية بن عمار : « عن الرّجل من أهل المعرفة بالحق يأتيني بالبختج (1) ، ويقول : قد طبخ على الثلث : وانا أعرفه انه يشربه على النصف فأشر به بقوله وهو يشربه على النصف؟.

فقال علیه السلام : لا تشربه. قلت : فرجل من غير أهل المعرفة ممن لا نعرفه انه يشربه على الثلث ولا يستحله على النصف يخبرنا أن عنده بختجا على الثلث قد ذهب ثلثاه وبقي ثلثه يشرب منه؟. قال علیه السلام : نعم (2). فان ذيلهما بقرينة الصدر يدل على جواز الاعتماد على قول ذي اليد مع انتفاء ما يوجب اتهامه في خبره ، فتدبر. وباللّه الاعتصام. هذا تمام الكلام في قاعدة اليد (3).

والكلام بعدها في أصالة الصحة.

ص: 87


1- العصير المطبوخ.
2- وسائل الشيعة 17 / 234 باب 7 من أبواب الأشربة المحرّمة ، الحديث : 4.
3- تم الفراغ منها : في 22 / 6 / 1382 ه

ص: 88

أصالة الصّحّة

اشارة

ص: 89

ص: 90

أصالة الصحة

أصالة الصحة (1)

والكلام فيها في جهات ثلاث :

الأولى : في موارد جريانها.

الثانية : في مقدار الآثار المترتبة عليها.

الثالثة : في نسبتها مع الأصول والأمارات.

ص: 91


1- لا يخفى ان ما ذكره المحقق الأصفهاني من تقريب وحدة قاعدة الفراغ وأصالة الصحة بإرجاعهما إلى أصالة الصحة في عمل نفسه وعمل غيره لا يخلو عن منع. وذلك لاختلاف القاعدتين موضوعا ، لأن موضوع قاعدة الفراغ هو الشك الحادث بعد العمل ، واما موضوع قاعدة الصحة هو الشك في عمل الغير ولو في أثناء مباشرته للعمل مع اختلافهما موردا ، لأن الغالب في موارد قاعدة الفراغ ما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشك في الغفلة. والغالب في موارد قاعدة الصحة ما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشك في مبالاة العامل وتسامحه وبينهما فرق بعيد. فتدبر. والأمر سهل لعدم الأثر العملي الواضح لهذه الجهة.

ويتضح الكلام فيها بعد معرفة دليل اعتبارها وحجيتها.

ولا بد قبل التعرض إلى ذكر الدليل من بيان أمرين :

الأمر الأول : ان لحمل الصحة مقامات ثلاثة :

المقام الأول : حسن الظن والاعتقاد بان يكون الشخص حسن الظن بعمل غيره ويعتقد صحته بلا لحاظ الأثر الخارجي المترتب عليه أصلا.

وهو - أعني : الظن والاعتقاد - وان كان أمرا غير اختياري ، إلاّ ان مقدماته من تصفية النّفس وتمرينها اختيارية ، فالتكليف به بلحاظ أسبابه. ان لم نقل بان الاعتقاد أمر اختياري ، لأنه عبارة عن عقد القلب ، فيصح تعلق التكليف به.

المقام الثاني : مقام المعاشرة ، بمعنى ترتيب آثار الصحيح على عمل الغير وقوله في مقام المعاشرة. فيعاشره معاشرة القائل للصحيح واقعا.

وهذان المقامان يرتبطان بعالم الأخلاق وتحسين الحالة الاجتماعية وحفظ التحابب بين الافراد.

المقام الثالث : مقام ترتيب الأثر الخارجي العملي ، بمعنى ترتيب الآثار الخارجية العملية للعمل الصحيح على عمل الغير.

الأمر الثاني : ان هناك حسنا وقبيحا ، وصحيحا وفاسدا. وهما يختلفان ، بمعنى ان الفساد لا يساوق القبح ، والصحة لا تساوق الحسن - لا يخفى ان المراد من الحسن عدم القبح - فقد يكون العمل فاسدا ولكنه ليس بقبيح ، لمعذورية العامل في عمله الفاسد. كما أنه قد ينعكس الفرض فيكون العمل قبيحا وليس فاسدا ، كما في المعاملات التي ينطبق عليها عنوان محرم.

ولا يخفى ان المقام الأول يرتبط بعالم الحسن والقبح لا الصحة والفساد ، كما لا يخفى عليك ان ما نحن بصدده هو المقام الثالث من مقامات الحمل على الصحة المرتبط بالصحّة والفساد لا بالحسن والقبح.

إذا عرفت هذين الأمرين ، فاعلم : انه قد استدل لاعتبار أصالة الصحة في

ص: 92

الجملة بالأدلة الأربعة :

اما الكتاب : فقد استدل منه بآيات :

الأولى : قوله تعالى : ( وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ) (1). ووجه الاستدلال بها : انه قد جاء تفسيرها في الكافي : « لا تقولوا الا خيرا حتى تعلموا » ، والمراد بالقول هو الظن والاعتقاد ، وبما انهما ليسا من الأمور الاختيارية كي يصحح التكليف بهما ، فلا بد ان يراد ترتيب آثار الاعتقاد الصحيح ، ومعاملة الناس في أفعالهم معاملة الصحيح.

ويشكل الاستدلال بها ...

أولا : ان الظاهر انها في مقام النهي عن السب واللعان والأمر بالقول الطيب الحسن ، كما فسرت في رواية أخرى بذلك (2).

وثانيا : انه لو سلم إرادة الاعتقاد من القول ، فقد عرفت إمكان تعلق التكليف به فلا حاجة إلى تقدير الآثار.

وثالثا : انه لو سلم دلالتها على الأمر بترتيب الآثار ، فهي انما تدل على ترتيب آثار الحسن لا الصحيح ، وقد عرفت الفرق بينهما.

الثانية : قوله تعالى : ( إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ) (3). حيث يراد من الظن الإثم هو ظن السوء قطعا لا ظن الخير ، وحيث ان الظن غير قابل لتعلق التكليف به فلا بد ان يكون المتعلق ترتيب آثار الظن السوء ، فهو منهي عنه ، فلا بد من الحمل على الصحة.

ص: 93


1- سورة البقرة ، الآية : 83.
2- عن جابر عن أبي جعفر علیه السلام في قوله تعالى : ( وقولوا للناس حسنا ) قال علیه السلام : قولوا للناس أحسن ما تحبون ان يقال لكم فان اللّه يبغض اللّعان السباب الطعان على المؤمنين الفحاش المتفحش السائل الملحف ويحب الحليم العفيف المتعفف.
3- سورة الحجرات الآية : 12.

والإشكال في الاستدلال بها يعلم مما تقدم ، فان الظن قابل لتعلق التكليف به باعتبار أسبابه الاختيارية. مضافا إلى انها لو دلت على حرمة ترتيب الآثار ، فهي انما تدل على حرمة ترتيب الآثار ، فهي انما تدل على حرمة ترتيب آثار العمل السيئ لا الفاسد.

الثالثة : قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1). حيث تدل على وجوب الوفاء بكل عقد واقع ، ومعناه ترتيب آثار العقد الصحيح عليه ، والخطاب للناس جميعا. فهي تدل على وجوب ترتيب آثار الصحة من كل أحد على المعاملة الواقعة.

ويمنع الاستدلال بها لوجوه :

أحدها : ان الخطاب فيها لخصوص المتعاملين لا لجميع المكلفين.

ثانيها : ان المفروض كون مورد الحمل على الصحة مشتبه بالشبهة المصداقية ، إذ لا يعلم ان الواقع هل هو العقد الصحيح أو العقد الفاسد الّذي خرج عن العموم بالتخصيص ، ولا يصح التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية.

ثالثها : انها أخص من المدعى ، لأن المدعى جريان أصالة الصحة في جميع الأعمال لا في خصوص العقود كما تدل عليه الآية.

وأما السنة : فروايات :

منها : ما في الكافي عن أمير المؤمنين علیه السلام : « ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك عنه ، ولا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوء وأنت تجد لها في الخير سبيلا » (2).

ولا يتجه الاستدلال بها لجهتين :

الأولى : ان ظاهرها انها في مقام الأمر بحسن الظن والاعتقاد ، خصوصا بملاحظة ذيل الرواية حيث يقول فيها : « ولا تظنن بكلمة خرجت ... »

ص: 94


1- سورة المائدة ، الآية : 1.
2- الكافي : باب التهمة وسوء الظن ، الحديث : 3. إلاّ انّ فيها كلمة محملا بدل سبيلا.

الثانية : انه لو سلم دلالتها على وجوب ترتيب الآثار - ولا دلالة لصدرها على خصوص وجوب الظن الحسن - ، فهي انما تدل على وجوب ترتيب آثار العمل الحسن لا الصحيح. فهي على كلتا الجهتين لا ترتبط بما نحن بصدده.

ومنها : قول الصادق علیه السلام لمحمد بن الفضل : « يا محمد كذب سمعك وبصرك عن أخيك ، فان شهد عندك خمسون قسامة انه قال وقال لم أقل فصدقه وكذبهم » (1).

ولكنها انما تدل على وجوب حمل الأخ المؤمن على الصحة في مقام المعاشرة وترتيب آثار الصدق على دعواه ، فان موردها ذلك وموضوعها موردها.

ولا يخفى انها لا ترتبط بمقام القلب وحسن الظن ، إذ يبعد ان يأمر بالظن بصحة قول فرد مؤمن وتكذيب خمسين قسامة. فلا بد من حملها على التكذيب العملي والأمر بعدم ترتيب ما يترتب على الكذب وشبهه.

ومنها : ما ورد أن المؤمن لا يتهم أخاه المؤمن ، وانه إذا اتهم أخاه انماث الإيمان في قلبه كانمياث الملح في الماء (2). وتقريب الاستدلال بها : ان حمل المعاملة الصادرة من المؤمن على الفاسدة اتهام له بعدم المبالاة والمعرفة بشئون المعاملات الدينية ، فهو منهي عنه ، فلا بد من الحمل على الصحيح ، وترتيب آثار الصحيح عليها.

ولكنه محل تأمل ومنع ، فان الرواية تحتمل وجوها أربعة :

الأول : انها واردة في مقام عقد القلب على كون الواقع من المؤمن صحيحا ، فلا ترتبط بمقام الخارج أصلا.

الثاني : انها واردة في مقام ترتيب آثار الصحيح في مقام المعاشرة.

ص: 95


1- وسائل الشيعة 8 / باب : 157 من أبواب أحكام العشرة ، الحديث : 4. وفيها عن محمد بن فضيل عن أبي الحسن موسى علیه السلام .
2- الكافي ، باب التهمة وسوء الظن ، الحديث : 1.

الثالث : انها واردة في مقام ترتيب آثار الصحيح الخارجية.

الرابع : انها واردة في النهي عن اتهام المؤمن في أقواله بالكذب.

وإذا كانت تحتمل وجوها أربعة ولا معين لأحدها ، فلا يتجه الاستدلال بها على المدعى ، بل القرينة معينة لغير ما نحن بصدده.

وذلك لأنه لو حملت على الاحتمال الثالث لشملت أقوال المؤمن ، لأن لسانها آب عن التخصيص ، وذلك يقتضي ترتيب آثار الصدق على أقواله ، وهو مما لا يمكن الالتزام به ، لأنه يرجع إلى حجية قول المؤمن بحيث يترتب عليه ما يترتب على الواقع.

كما ان الظاهر ان الاتهام انما هو بحمل فعل المؤمن على السوء لا على الفاسد. هذا لو قلنا بان الاتهام من الأفعال الخارجية ، اما مع القول بأنه من الأفعال القلبية ، فنحن في غنى عما ذكر كما لا يخفى.

وأما الدليل العقلي : فهو لزوم اختلال النظام من ترك الحمل على الصحة ، وهو واضح بالوجدان - وعليه فيدل على اعتبارها فحوى التعليل الوارد في خبر حفص المتقدم - وتفيده بان تخلفها في موارد الحاجة لا يستدعى ذلك. فاسد ، لأن أظهر مواردها العقود النكاحية ، والإيقاعات الطلاقية ، فلو لا أصالة الصحة لاختل نظام الزواج بلا ارتياب.

واما الإجماع : فالقول منه لا وجود له ، إذ تحرير المسألة كان متأخرا زمانا.

وأما العملي ، المعبر عنه بالسيرة وبناء العقلاء ، فلا إشكال في انعقاده - على ترتيب آثار الصحة على العمل الصادر من الغير - ولا ارتياب. وعدم الردع في صحة التمسك بها.

ودعوى : كون البناء قد يكون لوجود الأمارات أو الأصول الخاصة. واضحة البطلان ، ضرورة ان البناء حاصل في صورة انتفاء الأمارة والأصل.

إذا تبين ذلك فمقامات البحث في هذه المسألة متعددة. ولكن يجمعها الجهات

ص: 96

الثلاث التي ذكرناها آنفا.

المقام الأول : في ان المحمول عليه الفعل هل هو الصحة الواقعية أو الصحة عند الفاعل؟. فإذا صدر من شخص عمل فهل يحمل على انه صحيح واقعا ، فيترتب عليه آثار الواقع. أو يحمل على انه صحيح باعتقاد الفاعل ونظره ، فيترتب عليه آثاره ان كانت له آثاره بالنسبة إلى الحامل؟

وتظهر ثمرة ذلك : انه لو بنينا على إجراء أصالة الصحة عند الفاعل ، فلا تجدي في ترتيب الآثار على علمه إلا في موارد اتفاق الحامل مع الفاعل في الرّأي اجتهادا أو تقليدا. أو الموارد التي يكون الحكم الظاهري في حق أحد نافذا واقعا في حق الآخرين ، ومحل ذلك مما لا نعهده. أو الموارد التي يكون الحكم الظاهري في حق الشخص موجبا لصحة عمله واقعا لديه أيضا كمعتقد الجهر في مورد الإخفات ، فان صلاته صحيحة واقعا في حقه للنصوص الخاصة أو لحديث لا تعاد. واما في غير ذلك ، فلا يمكن ترتيب آثار العمل الصحيح على ما أتى به. بخلاف ما إذا بنينا على إجراء أصالة الصحة الواقعية ، فانه يترتب الأثر على عمله مطلقا. كما ان لازم الحمل على الصحيح عند الفاعل انه يختص بمن يعرف الصحيح والفاسد ، اما من لا يكون عالما بالصحيح والفاسد فلا معنى للحمل على الصحيح عنده ، إذ هو جاهل على الفرض ، فلا صحيح عنده وفي علمه. فانتبه.

ولا بد في تحقيق الكلام أن يقال : ان الحامل تارة : يعلم علم الفاعل بالصحيح والفاسد. وأخرى : يعلم بجهله بهما. وثالثة : يجهل حاله ولا يعلم بأنه عالم بالصحيح والفاسد أم جاهل بهما.

وفي صورة علمه بأنه يعلم الصحيح والفاسد تارة : يعلم موافقته اجتهادا أو تقليدا. وأخرى : يعلم مخالفته. وثالثة : يجهل الحال من موافقته له ومخالفته. فالصور خمس ..

أما صورة علمه بعلم الفاعل بالصحيح والفاسد وموافقته له اجتهادا أو

ص: 97

تقليدا ، فلا أثر في الخلاف في الحمل على الصحة الواقعية أو الصحة عند الفاعل ، إذ الأثر المرغوب يترتب على كلا الحالين.

وأما صورة مخالفته له في الصحيح والفاسد ، فالمخالفة تارة : تكون بالتباين ، كما لو اعتقد أحدهما وجوب الجهر في ظهر يوم الجمعة والآخر وجوب الإخفات.

وأخرى : تكون بالعموم المطلق ، كما لو اعتقد أحدهما صحة العقد بالفارسي والآخر فساده واختصاص الصحيح بالعربي.

فعلى الأول : لا إشكال في الحمل على الصحة عند الفاعل ، لأن الحمل على الصحة الواقعية في الفرض حمل للفاعل على خلاف ما يعتقده ويدين به ، ولا إشكال في عدم صحة ذلك.

نعم ، على الثاني للحمل على كلا المعنيين مجال ، فمع حمله على الصحة الواقعية تترتب عليه آثار الواقع. واما مع حمله على الصحة عند الفاعل فلا يمكن ترتيب آثار الواقع عليه ، إذ يمكن ان يكون الصادر منه ما هو فاسد بنظر الحامل ، فكيف يترتب عليه آثار الواقع؟

وهكذا الحال في صورة جهله بموافقته له ومخالفته كما لا يخفى.

وأما صورة العلم بجهله بالصحيح والفاسد ، فلا معنى لحمله على الصحيح عند الفاعل ، إذ المفروض كونه جاهلا لا اعتقاد له. فلو فرض جريان أصالة الصحة في المورد ، فلا إشكال في كونها الصحة الواقعية.

ومثل هذه الصورة في الحكم صورة الجهل بحاله ، وانه هل يعلم الصحيح والفاسد أو يجهلهما؟

هذه هي شقوق المسألة المحررة.

وتعيين الحكم بالنسبة إلى الموارد مشكل جدا بعد أن لم يكن دليل الأصل المزبور لفظيا ، كي يتمسك بإطلاقه ، بل كان دليلا لبيا. ولذلك اختلفت فيه كلمات

ص: 98

الاعلام. والّذي يظهر من المحققين العراقي في تقريرات بحثه (1) ، والأصفهاني في رسالته (2) ، العموم ما عدا صورة اختلافهما بنحو التباين. والمنسوب إلى الفقيه الهمداني العموم حتى لهذه الصورة.

والكلام يقع في مرحلتين :

الأولى : في ان المحمول عليه الفعل ما هو - وهو عنوان البحث -؟

والتحقيق ان يقال : انه ان استند في أصالة الصحة إلى ظاهر حال المسلم وانه لا يأتي إلا بما يوافق الموازين ، فهو لا يقتضي أكثر من الصحة عنده ، لأن هذا هو ما يقتضيه ظاهر حاله. وان استند فيها إلى السيرة ، فهي تقتضي الحمل على الصحة الواقعية لقيامها على ذلك.

الثانية : في عموم جريان الأصل للموارد المذكورة وعدمه.

والأقرب هو العموم ، لقيام السيرة على جريان الأصل بلا توقف وتردد في جميع الموارد. نعم ، لا يمكن الجزم بقيام السيرة على جريان أصالة الصحة في مورد العلم بجهل العامل بالصحيح والفاسد ، بحيث تكون مطابقة عمله للصحيح الواقعي من باب الصدقة والاتفاق ، ولذلك يكون الحكم بجريانها في هذا المورد محل إشكال وتوقف وان كان ليس ببعيد ، فان كثيرا من العوام يجهلون الصحيح والفاسد ، مع ان السيرة على حمل عملهم على الصحيح.

المقام الثاني : في أصالة الصحة في العقود.

ومحل الكلام - كما أشار إليه الشيخ (3) - هو جريان أصالة الصحة عند الشك في صحة العقد وفساده قبل استكمال أركانه وانعقاده - بأن كان منشأ الشك الشك في تحقق أحد الأركان - ، وعدم جريانه قبل الاستكمال.

ص: 99


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار :4/ 80 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 312 - الطبعة الأولى.
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /418- الطبعة القديمة.

والّذي نقله الشيخ عن المحقق الثاني قدس سره هو القول الثاني مستدلا على ذلك بوجهين :

الأول : ان نسبة الأصل إلى العقد نسبة الحكم إلى موضوعه ، لأن مؤداه صحة العقد وموضوعه الشك في الصحة والفساد ، وذلك في مرتبة متأخرة عن تحقق العقد كي يتصف بالصحّة والبطلان. ومع الشك في تحقق بعض أركان العقد يكون الشك في وجود العقد لا في صحته ، فلا مجال لجريان أصالة الصحة.

الثاني : ما ذكره بعنوان التفريع على دعواه ، ولكن الظاهر من تفصي الشيخ عنه انه وجه مستقل ، وهو : الفتوى بتقديم قول من يدعي وقوع المعاملة على الحر فيما لو ادعى أحد المتعاقدين بيع العبد وادعى الآخر بيع الحر. ولو كانت أصالة الصحة جارية في المقام لما توجهت هذه الفتوى.

وأجاب الشيخ عن الأول : بأنه ان كان المراد من وجود العقد وجوده الشرعي ، فهو عين الصحة ، إذ العقد غير المؤثر ليس عقدا شرعا. وان كان المراد منه وجوده العرفي ، فهو متحقق مع الشك ، بل مع القطع بالعدم ، إذ العقد الواقع على الحر عقد عرفا وان كان فاسدا ، فالحال لا يختلف بالنسبة إلى جميع الشروط غير العرفية على كلا التقديرين.

وأما الثاني : فالجواب عنه بما قرره الفقيه الهمداني قدس سره في حاشيته على الرسائل ، وبيانه : ان عدم جريان أصالة الصحة في المورد المذكور ليس من أجل عدم تحقق موضوعها وهو العقد ، وإلاّ للزم ان لا تجري في صورة كون موضوع الدعوى هو الثمن ، بأن ادعى البائع البيع بعبد والمشتري بحر ، لأن نسبة الثمن والمثمن إلى وجود العقد متساوية ، مع انه قد أفتى جملة من الفقهاء بان القول قول مدعي الصحة للأصل. فلا بد ان يرجع تقديم قول مدعي الفساد وعدم إجراء أصالة الصحة في مورد كون الموضوع للدعوى هو المثمن إلى وجه آخر غير ما تخيله المحقق الكركي واستدل به على دعواه.

ص: 100

ولعل الوجه هو : انه لما كان موضوع الأثر في هذه الصورة هو وقوع العقد الصادر على العبد ، إذ لا أثر لوقوعه على الحر أصلا ، لأنه يكون حينئذ بمنزلة العدم ، فجريان أصالة الصحة في العقد الواقع لا يثبت كون المبيع هو العبد فلا أثر لجريانها ، فلا تجري ، فتكون أصالة عدم السبب الناقل بلا حاكم.

وهذا بخلاف صورة ما إذا كان موضوع الدعوى هو الثمن ، وانه حر أو عبد ، لأن مورد الأثر صحة العقد الواقع على المثمن المعين وتحقق النقل والانتقال به ، فجريان أصالة الصحة يجدي في ترتب الأثر ويلزمه ثبوت الثمن في ذمة المشتري وان لم يكن معينا - لأن الأصل المزبور لا يعينه -.

وان كان قد يرد على هذا التوجيه : بأنه في الصورة الأولى يمكن جريان أصالة الصحة باعتبار طرف الثمن فانه يشك في ثبوت الثمن في ذمة القابل بواسطة العقد الواقع فتجري أصالة الصحة فيه ، فتأمل. ولكنه ليس بمهم إذا المهم هو إثبات ان عدم إجراء أصالة الصحة في المثال لم يكن لما ادعاه المحقق قدس سره من عدم تمامية الأركان لإجرائها فيما لو كان الخلاف في الثمن. أما توجيه الفرق بما ذكر فليس إثبات صحته بمهم.

وعبارة الشيخ قدس سره - في بعض النسخ - في مقام الجواب لا تخلو عن إبهام ..

والّذي يظهر منها التفريق بين صورة التمليك المجاني والعوضي.

أما الأول : فحيث ان المالك بدعواه تمليك الحر لا يدعي على الآخر شيئا ولا يطالبه بشيء ، وانما الأثر على ثبوت دعوى تمليك العبد ، كان موضوع الدعوى وأحكامها هو دعوى ثبوت تمليك العبد - أما دعوى تمليك الحر ، فهي ساقطة عن الاعتبار لعدم الأثر - فيكون القول قول منكر التمليك المذكور فعليه اليمين إن لم تقم البينة على خلافه. ولا مجال لأصالة الصحة للشك في تحقق موضوعها لعدم العلم بتحقق التمليك كي تجري فيه أصالة الصحة. أما التمليك الواقع فجريان أصالة

ص: 101

الصحة فيه لا يثبت وقوعه على العبد كما لا يخفى.

وأما الثاني : فهو داخل في المسألة المعنونة في كلام الأصحاب. وقد أجرى بعضهم أصالة الصحة. ولا يفرق فيه - كما يظهر من تعبيره بالعوضين - بين أن يكون الاختلاف في الثمن أو المثمن ، وإن كان ظاهر عنوان المسألة كون الاختلاف في الثمن. لكن الملاك في كلتا الصورتين واحد. فالتفت وتدبر. فعبارته ومقابلته لا تخلو من غموض ، وأكثر نسخ الكتاب قد حذف فيها الشق الأول من الترديد. وعلى كل فليس الأمر بهذه المثابة من الأهمية.

وأعلم ان الأعلام المتأخرين (قدس سرهم) عدلوا عن تحرير محل النزاع بنحو ما ذكره الشيخ رحمه اللّه إلى نحو آخر وهو : ان أصالة الصحة هل يختص جريانها في ما إذا كان الشك في صحة العقد ناشئا عن الشك في شرائط العقد بما هو عقد ، كالماضوية والعربية وغيرهما. أو يعم ما إذا كان الشك ناشئا عن الشك في شرط شرعي يعتبر في العقد أو المتعاقدين أو العوضين مع إحراز شرائطه العرفية. أو يعم ما إذا كان الشك ناشئا عن الشك في شرط شرعي أو عرفي مع إحراز إنشاء البيع؟ وجوه وأقوال ...

وقد ذهب المحقق النائيني إلى الأول ، واستدل عليه : بان معقد الإجماع القولي على أصالة الصحة هو أصالة الصحة في العقود ، وظاهره تعلق الصحة والفساد بالعقد بما هو عقد ، وذلك انما يتحقق فيما إذا كان الشك في أحد شرائط العقد بما هو عقد. أما إذا كان الشك في أحد شرائط المتعاقدين أو العوضين ، فالشك في الصحة والفساد لا يتعلق بالعقد ابتداء ، بل هو يتعلق بأمر آخر ، ولازمه تعلق الشك بالعقد ، فاتصاف العقد بالصحّة حينئذ من باب الوصف بحال متعلق الموصوف ، وإلاّ فالعقد بما هو لا قصور فيه وانما القصور من جهة المتعلق أو العاقد (1).

ص: 102


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 245 - الطبعة القديمة.

وقد دفعه المحقق الأصفهاني قدس سره بوجوه ثلاثة :

الأول : بان قصور معقد الإجماع غير ضائر بعد قيام السيرة العملية على إمضاء المعاملات المشكوكة ولو كان منشأ الشك هو الشك في الإخلال بشرط من شرائط العوضين أو المتعاقدين.

الثاني : ان الصحة والفساد في أي حال تضافان إلى العقد دون غيره. وهذا لا يرتبط بإضافة الشرط إلى غيره ، فكون الشرط لغيره لا يضر في إضافة الفساد للعقد عند انتفاء هذا الشرط. ومعقد الإجماع هو البناء على صحة العقد عند الشك لا البناء على وجود شرط العقد ، كي لا يكون شاملا لمورد يكون الشك فيه في شرط المتعاقدين أو العوضين.

الثالث : ان الدعوى المذكورة تبتني على انعقاد إجماعين قولين أحدهما في باب العبادات والآخر في باب العقود والإيقاعات بعنوانها.

وأما مع انعقاد الإجماع على البناء على صحة كل عمل له أثر - سواء كان عباديا أم معامليا - فلا وجه للدعوى المذكورة ، لأن الصحة في معقد الإجماع لم تسند إلى العقد بما هو عقد ، بل إلى العمل العبادي أو المعاملي ، وظاهر أن جميع الشرائط دخيلة في ترتب الأثر على المعاملة بما هي معاملة (1).

ولا يخفى أنه يمكن توجيه ما أفاده المحقق النائيني بنحو لا يرد عليه الوجهان الأخيران ، ببيان : ان المتداول في تعبيرات الفقهاء هو إطلاق الصحة على العقد بمجرد تمامية شرائطه الراجعة إليه ، مع عدم إطلاقهم الصحة على مثل العوضين والمتعاقدين ، بل يطلقون القابلية على العوضين والأهلية على المتعاقدين فيقولون عقد صحيح وقع من أهله وفي مورد قابل. إلاّ ان الّذي يهون الخطب اننا لا نعترف بحجية مثل هذا الإجماع كما عرفت ، والدليل الّذي لدينا على أصالة الصحة هو

ص: 103


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 313 - الطبعة الأولى.

السيرة خاصة ، فلا بد من ملاحظة موردها ، وعلى هذا فالأمر في صحة ما ذكره النائيني وعدمه سهل.

وقد ذهب المحقق العراقي إلى ما نتيجته توافق ما ذهب إليه الشيخ - وهو جريان الأصل عند الشك في أي شرط مع إحراز الشرائط العرفية للعقد الّذي هو الوجه الثاني - فانه بعد أن ذكر أمرين :

أحدهما : ان الشرائط المعتبرة في صحة العقد وتأثيره الفعلي لترتب الأثر ليست على نمط واحد ..

فمنها : ما يرجع اعتباره إلى دخله في السبب ، وهو العقد ، كالموالاة بين الإيجاب والقبول ، والماضوية وغيرهما.

ومنها : ما يرجع اعتباره إلى دخله في قابلية المسبب للتحقق ، وهذه الطائفة بين ما يكون محله المتعاقدين كالبلوغ والعقل وغيرهما. وبينما يكون محله العوضين كالمعلومية والمالية. وبين ما يكون محله نفس المسبب كعدم الربوية والغررية في البيع.

وثانيهما : ان صحة كل شيء بحسبه ، لكونها بمعنى التمامية ، وتمامية كل شيء انما هي بلحاظ وفائه بالأثر المرغوب عنه في قبال فاسدة الّذي لا يكون كذلك فصحة الإيجاب بمعنى أنه لو تعقبه قبول صحيح لحصل أثر العقد.

وصحة العقد عبارة عن تماميته في نفسه ، بحيث لو ورد على محل قابل لأثر فيه النقل والانتقال وترتب عليه الأثر المرغوب. فهي - أعني : الصحة - في العقد عبارة عن مفاد قضية تعليقية لا تنجيزية ، وهو كونه بحيث لو ورد على محل قابل لا تصف بالمؤثرية الفعلية.

بعد أن ذكر هذين الأمرين. أفاد : ان الشك في الصحة والفساد ..

ان كان مسببا عن الشك في وجود بعض الشرائط العرفية للسبب أو المسبب ، كالشك في التوالي بين الإيجاب والقبول المعتبر عرفا ، ومطلق المالية في

ص: 104

العوضين ، فلا تجري أصالة الصحة لا في السبب ولا في المسبب ، لرجوع هذا الشك إلى الشك في مجرى أصالة الصحة ، مع انه لا بد من إحراز عنوان موضوعه عرفا.

وان كان مسببا عن الشك في وجود بعض الشرائط الشرعية مع إحراز الشرائط العرفية ، فان كان الشرط المشكوك فيه من شرائط العقد جرت أصالة الصحة في العقد ، لأنه عقد عرفي مشكوك الصحة والفساد شرعا. وان كان من شرائط المسبب كالبيع ، فلا تجري أصالة الصحة في العقد لإحراز صحته ، لأنها مفاد قضية تعليقية وهي محرزة ولو مع القطع بانتفاء شرط المسبب ، وانما تجري في نفس المسبب وهو البيع مثلا ، لأنه بيع عرفي مشكوك الصحة والفساد شرعا. وان كان من شرائط السبب والمسبب ، بان كان الشك من الجهتين ، جرت أصالة الصحة في السبب والمسبب (1).

هذا محصل ما ذكره المحقق العراقي قدس سره ، وهو نتيجة يوافق الشيخ وان كان يختلف عنه بحسب المقدمات.

وقد استدل على ذلك بالسيرة ولزوم اختلاف النظام ، وانهما يقتضيان التعميم لجميع صور الشك مع إحراز عنوان موضوع الصحة عرفا ، ولا بد حينئذ من التفصيل بين موارد الأصل من كونه السبب أو المسبب.

ولكن السيد الخوئي - كما في بعض تقريرات بحثه - لم يرتض هذا الاستدلال ، ولذلك التزم بما التزم به المحقق الثاني والعلامة وأستاذه النائيني من اختصاص جريان أصالة الصحة في مورد الشك في شروط العقد دون غيره ، إذ اعتبر في جريانها إحراز القابلية الشرعية والعرفية في الفاعل والمورد.

فانه بعد ما حرر موضوع المسألة ، وبيّن صور الشك ، وذكر ان المحقق الثاني والعلامة (قدس سرهما) ذهبا إلى عدم جريان أصالة الصحة عند الشك في قابلية

ص: 105


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 82 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الفاعل أو المورد العرفية والشرعية. حكم بصحة ما ذهب إليه متمسكا لذلك بعدم وجود دليل لفظي لأصالة الصحة كي يتمسك بعمومه وإطلاقه ، بل دليلها ليس سوى السيرة ولم يحرز قيامها على ترتيب آثار الصحيح عند الشك في القابلية - وهو كاف في الحكم بعدم جريان أصالة الصحة - بل المحرز قيامها على عدم ترتيب الآثار ، وضرب لذلك مثالين :

أحدهما : ما لو باع زيد دار عمرو مع اعترافه بكونها دار عمرو ، وشك في كونه وكيلا عن عمرو أو لا.

والثاني : ما لو طلق زيد زوجة عمرو وشك في كونه وكيلا عنه.

فان العقلاء لا يرتبون آثار البيع الصحيح أو الطلاق الصحيح على ما صدر من زيد ، وهذا لا يرجع إلا لعدم ترتيب آثار الصحة عند الشك في القابلية. ثم أشار إلى ما ذكره الشيخ من قيام السيرة على ترتيب آثار الصحة على المعاملات الصادرة من الناس في الأسواق مع عدم إحراز قابلية الفاعل. وذكر ان ترتيب الآثار ليس من جهة أصالة الصحة بل من جهة قاعدة اليد وإحراز القابلية باليد ، ولذلك لا تجري أصالة الصحة فيما تقدم من المثالين لعدم كونه موردا لقاعدة اليد (1).

وللمناقشة فيما ذكره مجال ، فان السيرة قائمة على إجراء أصالة الصحة في الموارد التي لا يكون هناك أصل أو أمارة يستند إليها ، كالشك في البلوغ ، أو الرشد ، أو في مجهولية العوضين ، أو زيادة أحدهما على الآخر في المعاملة الربوية ، أو وقوع الطلاق في أيام الطهر ، أو حضور عدلين عند إنشائه ، وغير ذلك مما لا طريق إلى إثباته من يد أو غيرها. واليد انما تثبت المالكية ، أما بلوغ البائع أو رشده فلا تقتضي شيئا منهما ، فلا وجه لما ذكره من أن قابلية الفاعل تحرز بقاعدة اليد. مع أن الشك لا ينحصر في قابلية الفاعل ، إذ قد يكون في قابلية المورد.

ص: 106


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 327 - الطبعة الأولى.

وأما ما ذكره من النقض ، فهو لا يدل على المدعى من جهتين :

الأولى : ان استناد العقد أو الإيقاع إلى المالك مما هو مأخوذ في موضوع أصالة الصحة ، لأن مفاد أصالة الصحة مفاد : ( أوفوا ) في قوله تعالى : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، وظاهر أنه قد أخذ في موضوع الوفاء استناد العقد إلى المالك كما أخذ في موضوعه العقد ، لظهور الكلام في ذلك عرفا بحيث لا يكون ما يدل على عدم نفوذ بيع غير المالك مخصصا لعموم : ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) .

وعليه ، فعدم جريان أصالة الصحة انما هو لأجل عدم إحراز موضوعها وهو العقد المستند إلى المالك ، لا من جهة قيام السيرة على عدم جريانها عند الشك في القابلية.

الثانية : أن حصول الأثر وترتبه في المثالين يتوقف على إحراز المالك أو الزوج استناد المعاملة إليه ، لا من جهة كون الاستناد مأخوذا في موضوع النفوذ ، بل من جهة أن المالك انما يجب عليه تسليم الدار للمشتري إذا صدر منه العقد ، وهكذا الزوج. وأصالة الصحة في العقد الواقع لا تثبت خصوصية استناد العقد إلى المالك كي يجب على المالك ترتيب الآثار ، بل هي أجنبية عن المالك.

وبالجملة : عدم جريان أصالة الصحة في المثالين ليس لأجل قيام السيرة على عدم ترتيب الآثار عند الشك في القابلية ، بل هو من جهة خصوصية في المقام ، فلا يرد النقض بهما.

وعلى هذا ، فالالتزام بجريان الأصل المزبور عند الشك في مطلق الشرائط الشرعية المعتبرة في العقد أو في غيره مع إحراز الشرائط العرفية للعقد مما لا إشكال فيه ، لتمامية الدليل ، وهو السيرة واختلال النظام ، سواء قلنا بان صحة العقد مفاد قضية تعليقية - كما هو شأن المقتضيات أجمع - وان الأصل يجري في المسبب - كما ذهب إليه المحقق العراقي على ما عرفت -. أو قلنا بان للعقد صحة أخرى هي التي تكون مجرى الأصل لا تلك ، وهي صحة فعلية منتزعة عن تأثيره وترتب الأثر

ص: 107

عليه - فانه وإن كان مقتضيا للأثر لا علة تامة ، والشرائط متممات التأثير وشرائط تأثيره ، لكنه هو المباشر للتأثير ، فانه هو المؤثر والأثر يترتب عليه ، كمباشرة النار للإحراق مع كونها مقتضية له لا علة تامة ، فصحته يراد بها هذا المعنى وهي فعلية - فالأصل دائما يجري في العقد ولو كان الشك في شرائط غيره ، لأنه سبب للشك في صحته - كما سيتضح لك ذلك عن قريب إن شاء اللّه تعالى - ولا يجري في المسبب اما لعدم الحاجة إلى ذلك ، أو لعدم قابليته للاتصاف بالصحّة والفساد ، كما يذكر ذلك في مبحث الصحيح والأعم ، وتحقيقه ليس هذا موضعه.

كما انه لا يمكن الالتزام بما التزم به المحقق الأصفهاني قدس سره من جريان أصالة الصحة مع الشك في الشرائط العرفية ، لما سنذكره في بعض التنبيهات إن شاء اللّه تعالى. فانتظر.

ثم ان السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) بعد كلامه المزبور نسب إلى الشيخ قدس سره جريان أصالة الصحة - مع التنزل والالتزام بعدم جريان الأصل مع الشك في القابلية - فيما إذا شك في صحة عقد من جهة الشك في قابلية أحد المتعاقدين مع إحراز قابلية الآخر. بتقريب : انه مع إحراز قابلية الموجب - مثلا - وكان الشك في صحة العقد من جهة الشك في قابلية القابل تجري أصالة الصحة في الإيجاب ، فيحكم بتأثير الإيجاب وهو معنى صحة العقد. وأورد عليه بان صحة كل شيء بحسبه ، فصحة الجزء معناها قابليته للجزئية ولا يثبت بها وجود الجزء الآخر ولا صحته ، فجريان أصالة الصحة في الإيجاب لا يثبت وجود القبول ولا صحته فلا وجه لما ذكره.

ولكن ما نسبه إلى الشيخ وأورد عليه بما عرفت أجنبي عن ظاهر كلام الشيخ. فانه في مقام الإيراد على المحقق الثاني الّذي ادعى ان ظاهر حال المسلم لا يصح ان يتمسك به المضمون له - فيما إذا اختلف مع الضامن في وقت الضمان - وانه كان قبل بلوغ الضمان أو بعده - لأنه لا يتم إلا مع استكمال العقد للأركان التي

ص: 108

منها شروط المتعاقدين. وان كلامه على إطلاقه ممنوع لإمكان التمسك به في صورة وتعدد طرفي العقد وإحراز قابلية أحد الطرفين لأن الظاهر انه لا يتصرف فاسدا.

وأين هذا من جريان أصالة الصحة في الإيجاب وترتب الأثر عليه؟ بل هو أجنبي عن أصالة الصحة بالمرة. فالتفت ولا تغفل.

المقام الثالث : في اختلاف الصحة بحسب مواردها. وبيان ذلك : ان الصحة على نحوين تأهلية ، وفعلية.

فالأولى عبارة عن قابلية الشيء لترتب الأثر عليه لو انضم إليه غيره مما له الدخل في ترتب الأثر.

والثانية : تنتزع عن ترتب الأثر الخارجي فعلا على الشيء والصحة التأهلية انما يتصف بها أجزاء المؤثر ولا تتصف بغيرها لأن الأثر لا يترتب فعلا على كل جزء بل على المجموع ، فالصحة في الجزء عبارة عن كونه بحيث لو انضم إليه سائر الاجزاء والشرائط لترتب الأثر ، فالصحيح ما كان بهذه الحيثية ، كالإيجاب بالعربي فانه جزء العقد المؤثر ، والفاسد ما لم يكن بهذه الحيثية ، كالإيجاب بالفارسي على القول باعتبار العربية فيه.

وعليه ، فجريان أصالة الصحة في الجزء لا يثبت الجزء الآخر ، لعدم توقف صحته عليه ، ولا يقتضي ترتب الأثر المتوقف على المركب عليه.

والصحة الفعلية انما يتصف بها المجموع المركب المؤثر. وهو لا يتصف بغيرها كما لا يخفى.

ومن هنا تبين أن صحة كل شيء بحسبه ، إذ الأشياء ليست على حد سواء في الصحة ، فالجزء لا يتصف إلاّ بالصحّة التأهلية ، والكل بالنسبة إلى اثره على العكس لا يتصف إلا بالصحّة الفعلية.

وبه يندفع ما قد يتوهم من : ان جريان أصالة الصحة في الإيجاب - مثلا - تكفي في ترتيب آثار الصحة ولو لم يحرز القبول ، إذ لا وجه لتخصيص دليل أصالة

ص: 109

الصحة بغير المورد ، ومع جريانها يترتب الأثر ، لأنه معنى : الصحة الفعلية. ووجه الاندفاع واضح ، فان جريان أصالة الصحة في الإيجاب لا تجدي في المطلوب ، لأن صحته تأهلية والأصل يجري بمقدارها ، فلا تخصيص لدليل الأصل ، كما انه لا يترتب الأثر على جريانها فيه ، فالتفت.

وهذا الأمر هو الّذي عقد له الشيخ فصلا مستقلا ، وهو واضح لا غبار عليه ولا إشكال فيه.

وإنما الإشكال فيما فرعه الشيخ عليه من الموارد التي ذكر أن جريان أصالة الصحة فيها لا تثبت المشكوك المتوقف ترتب الأثر عليه وان جريان أصالة الصحة في العقد في عدم ثبوت المشكوك بها نظير جريانها في عدم ثبوت القبول بها ، وهي ما لو شك في تحقق القبض في الهبة أو في الصرف أو السلم بعد العلم بتحقق الإيجاب والقبول ، أو شك في إجازة المالك لبيع الفضولي ، أو كان العقد في نفسه مبنيا على الفساد كبيع الوقف بحيث يكون المصحح من الطوارئ ، أو شك في وقت بيع الراهن الرهن مع إذن المرتهن ورجوعه وانه كان قبل الرجوع أو بعده ، فانه أفاد : ان جريان أصالة الصحة في الهبة أو الصرف أو السلم لا تثبت تحقق القبض ، كما أن جريانها في بيع الفضولي لا يثبت إجازة المالك ، والأولى بعدم الجريان مورد بيع الوقف مع الشك في وجود المسوغ له ، وان جريانها في الاذن لا يثبت وقوع البيع صحيحا وجريانها في الرجوع لا يقتضي فساد البيع ، لأن صحة كل منهما تعليقية تأهلية ، فهي في الاذن كونه بحيث لو وقع البيع بعده وقبل الرجوع كان صحيحا ، وفي الرجوع كونه بحيث لو وقع البيع بعده لكان فاسدا ، وهي محرزة وجدانا. كما ان جريانها في نفس البيع لا يجدي ، لأنه لا يثبت بها رضا المالك المرتهن ، لأنه بظاهره يوهم المنافاة ، لما ذكره في الفصل السابق من الالتزام بجريان أصالة الصحة عند الشك في شرط من شروط المتعاقدين أو العوضين ، إذ الموارد المذكورة كلها من هذا القبيل.

ص: 110

فالمهم : بيان مراد الشيخ ونظره والتوفيق بين ما ذكره أولا وأخيرا ، بنحو يرتفع توهم التنافي ويتضح الحال للمستشكل.

والّذي ينبغي أن يقال : أما في مسألة الهبة والصرف والسلم وتوقفهما على القبض ، فالوجه في عدم جريان أصالة الصحة يمكن أن يكون هو : ان الشك في الصحة الفعلية للعقد في مرحلة البقاء لا في مرحلة الحدوث لأن العقد حين تحققه كان متصفا بالصحّة التأهلية ، ويشك بقاء في صحته الفعلية وعدمها ، وأصالة الصحة لا تجري فيما إذا كان الشك بين الصحة والبطلان بقاء ، بل يختص جريانها فيما إذا كان الشك من حين حدوث العقد - لأنه هو المناسب لدليل أصالة الصحة ثبوتا - وهو في المقام غير متحقق إذ لا شك حين حدوثه في صحته ، كما لا يخفى.

وأما مسألة بيع الفضولي ، أو الراهن بلا إجازة المرتهن ، فالسبب في عدم جريان أصالة الصحة فيه يمكن أن يكون أحد وجوه ثلاثة :

الأول : ما ذكر في مسألة الهبة وأخويها ، لأن الشك في الصحة والبطلان بقاء لا حدوثا ، لأن صحة العقد التأهلية محرزة حين حدوثه.

الثاني : أنه على تقدير جريان أصالة الصحة في مرحلة البقاء ، فهي انما تجري لو كان الشك بين الصحة والفساد رأسا - إذ هو ظاهر أدلتها - أما مع كون الشك في الصحة التأهلية والصحة الفعلية ، فلا دليل على جريانها وتعيينها المعنى الثاني والمقام من هذا القبيل ، لأن الشك في إجازة المالك يوجب الشك في بقاء العقد على صحته التأهلية ، أو صيرورته صحيحا فعليا بالإجازة.

الثالث : ما أشرنا إليه سابقا من أن موضوع الصحة هو العقد المضاف إلى المالك ، وأصالة الصحة انما تجري مع إحراز موضوع الصحة ، وهو غير محرز في الفرض للشك في إجازة المالك ، فلا مجال لجريانها. بل تكون صحة العقد تأهلية لأنه جزء المؤثر.

وأما مسألة بيع الوقف ، فلا يعرف لها وجه خصوصا مع كون الشك في

ص: 111

الصحة الفعلية والفساد رأسا.

إلاّ أن يكون نظر الشيخ إلى انه بعد ان كان العقد الواقع على الوقف بنفسه فاسدا ، وكان طرو المسوغ مصححا له كان طرو المسوغ جزء الموضوع للأثر بحيث يكون موضوع الصحة هو العقد والمسوغ ، فالعقد جزء المؤثر ، فصحته تأهلية ، فلا تجدي في إثبات الجزء الآخر وهو المسوغ ، فتأمل.

وأما مسألة بيع الراهن الرهن والاختلاف بينه وبين المرتهن في وقت البيع ، فعدم جريان أصالة الصحة يمكن أن يكون الوجه فيه هو دوران صحة العقد حين صدوره بين التأهلية والفعلية - لأنه ان كان قبل الرجوع ، فصحته فعلية. وان كان بعده ، فصحته تأهلية ، لأنه يكون كبيع الفضولي - وقد عرفت أنه غير مورد أصالة الصحة.

ولكن ظاهر الرسائل كون الوجه فيه : كون العقد بدون إجازة من له الحق - وهو المرتهن - جزء الموضوع ، فصحته تأهلية لا فعلية نظير العقد بالنسبة إلى إجازة المالك في بيع الفضولي ، فالتفت.

نعم ، قد يستشكل في هذا الفرع : بأنه لم لا يجري الأصل في نفس المسبب - وهو البيع - مع ان المفروض كون الشك في صحته الفعلية وفساده ، ويمكن الجواب عنه : بان الأمر في المسبب أيضا دائر بين الصحة الفعلية والصحة التأهلية ، كما في نفس العقد حرفا بحرف ، فلا تجري أصالة الصحة فيه. فتدبر جيدا.

المقام الرابع : في وجوب إحراز عنوان موضوع الأثر.

وبيان ذلك : انه لا بد في ترتيب آثار الصحة على العمل الصادر من إحراز عنوانه الّذي به يكون موضوعا للأثر ، فمع عدم إحراز عنوانه لا تجري أصالة الصحة.

ص: 112

وقد عقد الشيخ رحمه اللّه لذلك فصلا مستقلا (1). ولكنه ذكره فقط بلا ان يبين الوجه فيه والدليل عليه ، ولعله (2) لوضوحه ، لأن العمل إذا لم يكن بنفسه

ص: 113


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول -1. الطبعة القديمة.
2- تحقيق الكلام في هذه الجهة بإجمال : انه لا إشكال في انه يعتبر في جريان أصالة الصحة من كون الفاعل في مقام الإتيان بالعمل الّذي هو موضوع الأثر ، فما لم يكن الشخص في مقام التطهير لا يحمل عمله على الصحة ، وكذا إذا لم يكن في مقام البيع والنكاح وغيرهما من المعاملات ، لا يحمل ما يصدر منه على الصحة. إنما الإشكال في انه إذا أحرز انه في مقام الإتيان بالعمل ذي الأثر الخاصّ ، ولكن شك في تحقق ما هو مقوم عقلا لتحقق موضوع الأثر كالقصد في العقود الإنشائية وكإزالة النجاسة في غسل الثوب أو العصر بناء على تقدم الغسل به ، فهل تجري أصالة الصحة أو لا؟ قد يقال : ان أصالة الصحة تتكفل ترتب الأثر على العمل ، ولا تتكفل تحقق نفس العمل ، فمع الشك في نفس العمل لا مجال لأصالة الصحة. ويمكن الإشكال في ذلك : بان الأثر يترتب على إجراء الماء - مثلا - ولكن بواسطة تعنونه بعنوان الغسل أو ترتب الغسل عليه بنحو المسببية التوليدية ، وكذا يترتب على الإيجاب والقبول بواسطة القصد. وعليه ، فينبغي ان يبحث في أن أصالة الصحة هل تتكفل ترتب الأثر المترتب على الفعل بلا واسطة ، أو الأعم منه ومن المترتب بواسطة؟ ولا بد في ذلك من ملاحظة ما عليه السيرة وبناء العقلاء ، لا سلوك طريقة الاستدلال العقلي - كما أشير إليه - ثم ان بعض من ذهب إلى إجراء أصالة الصحة مع عدم إحراز القصد المقوم ، كمثال التطهير ، التزم في إجراء أصالة الصحة في عمل الغائب مع عدم إحراز قصد النيابة في عمله. فقد يورد عليه : ان ذلك ينافي مبناه من جريان أصالة الصحة مع عدم إحراز القصد المقوم. ويمكن ان يدفع الإيراد : بان أصالة الصحة إنما تلغي احتمال الفساد في العمل الصادر ، وهذا يختص بما إذا كان الشك راجعا إلى جهة دخيلة في الصحة. وليس قصد النيابة دخيلا في صحة العمل ، إذ العمل صحيح حتى إذا لم يقصد النيابة ، نعم ، لا يقع عن المنوب عنه ، وهذا أجنبي عن الصحة. وبعبارة أخرى : ان العمل إذا فرض انه صحيح قصد فيه النيابة أم لم يقصد ، لم تكن أصالة الصحة متكفلة لإثبات النيابة مع الشك ، نظير ما إذا دار أمر الصلاة بين كونها نافلة الصبح أو فريضة ، فأصالة الصحة لا تثبت قصد الفريضة بها. ثم انه يقع الكلام في جهة أخرى ، وهي انه إذا أحرز قصد النيابة ، ولكن احتمل فساد العمل من جهات أخرى ، فهل ينفع إجراء أصالة الصحة في العمل لإثبات براءة ذمة المنوب عنه أم لا؟ وهذا ما يأتي تحقيقه ، فلاحظ.

وبذاته موضوع الأثر بل بما هو معنون بالعنوان الكذائي ، فلا بد في إجراء أصالة الصحة من إحراز موضوع الصحة وهو العمل المعنون بعنوان كذا لا مجرد نفس العمل ، إذ الأثر غير مترتب عليه بنفسه ، فمع عدم إحرازه لا يحرز موضوع الصحة ، فلا تصل النوبة إلى إجراء أصالة الصحة.

وبعبارة أخرى : ان الوجه فيه هو وجوب إحراز موضوع الصحة عرفا في ترتيب آثار الصحيح ، إذ مع عدم إحرازه لا يعقل ترتبها ، فإذا كان الموضوع هو العمل المعنون ، فلا بد من إحراز العنوان الّذي به يكون العمل موضوعا ، كعنوان الصلاة في الأفعال الخاصة ، أو التعظيم في القيام ، أو الخضوع في السجود ، أو غير ذلك.

وعليه ، فبلا إحراز موضوع الصحة عرفا ، لا مجال لجريان أصالة الصحة.

وقد يستشكل : بان ما ذكر يتم بالنسبة إلى ترتيب آثار الصحة الشرعية عند الشك في الشرائط الشرعية ، فانه مع إحراز الشرائط العرفية يحرز الموضوع العرفي « الصحة الشرعية خ ل » لأصالة الصحة. أما بالنسبة إلى الشرائط العرفية عند الشك فيها فلا يتم ، إذ لا يحرز موضوع الصحة عرفا عند الشك فيها ، فيلزم ان لا تجري أصالة الصحة عند الشك في الشرائط العرفية ، مع انه لا إشكال في جريانها ، كيف؟! والسيرة العرفية وبناء العقلاء قامت على جريانها - غير السيرة المتشرعة - ومعناه إجراء العرف الأصل عند الشك في بعض شرائط العمل عندهم ، وهو لا يتفق مع ما ذكر في توجيه لزوم إحراز العنوان العرفي في جريان الأصل.

ص: 114

والجواب عن الإشكال المذكور : ان المراد من الموضوع الواجب إحرازه هو ما كانت نسبة الأثر إليه نسبة العرض إلى معروضه ، والمسبب إلى سببه ، والمقتضي إلى مقتضية ، والأثر إلى ذي الأثر إذ لا يخفى انه ليس كل ما له دخل في ترتب الأثر يكون دخيلا في التأثير وسببا للأثر ، ويتضح ذلك في العلل والمقتضيات التكوينية ، فان مجرد النار ليست علة تامة للإحراق ، بل يبوسة المحل والملاقاة شرط في ترتب الأثر - أعني الإحراق - ، ولكن الإحراق انما يستند إلى النار ونسبته إليها نسبة العرض إلى معروضه ، فانها هي المؤثرة فيه ، والشرائط من الملاقاة ويبوسة المحل دخيلة في تأثير النار لا أنها بنفسها مؤثرة. فالشرط العرفي ان كانت نسبته إلى الأثر نسبة المعروض إلى العروض والمقتضي إلى المقتضى بحيث يكون جزء المؤثر ، وجب إحرازه عند إجراء أصالة الصحة شرعا وعرفا. وان لم تكن نسبته كذلك بل كانت من قبيل الشرط وعدم المانع لم يلزم إحرازه في إجراء أصالة الصحة شرعا وعرفا ، لعدم دخالته في موضوع الأثر وهو مورد جريان أصالة الصحة التي قامت عليها السيرة العرفية كما في الإشكال.

فجملة القول : انه لا بد في إجراء أصالة الصحة من إحراز الموضوع للصحة ، وهو ما كان مباشرا للتأثير ، ولا يلزم إحراز جميع الشرائط العرفية ولو لم تكن دخيلة في الموضوعية.

وعليه ، فلا يرد الإشكال المذكور. إلا ان يدعى قيام السيرة على جريان أصالة الصحة بمجرد إحراز صورة العنوان ولو لم يحرز العنوان أو غيره من اجزاء الموضوع ، كجريانها بالنسبة إلى الغسل مع الشك في وصول الماء إلى بعض الاجزاء ، مع انه مقوم للموضوع عقلا ، كما ذهب إلى هذا المحققان الخراسانيّ (1)

ص: 115


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /245- الطبعة الأولى.

والأصفهاني (1). (قدس سرهما).

ولكن ثبوت ذلك محل نظر وشك ، وهو كاف في منع هذه الدعوى.

وقد مثل الشيخ رحمه اللّه لصغرى المقام - أعني : ما يشترط فيه إحراز العنوان - بالغسل ، وانه لا تجري فيه أصالة الصحة ما لم يحرز كون الفاعل بعنوان التطهير ، لأن الغسل بظاهره ليس فيه صحيح ولا فاسد.

وهذا بظاهره قد يستغرب وقوعه من الشيخ ، لأن الطهارة انما هي من آثار نفس الغسل ، إذ لا يشترط في حصولها كونه بعنوان التطهير كما لا يخفى.

ولم أجد من المحققين من تعرض لتوجيه كلام الشيخ.

وغاية ما يمكن ان يقال في هذا المجال : ان اتصاف الشيء بالصحّة والفساد لا يدور مدار ترتب الأثر وعدم ترتبه فقط ، فلا يقال للغسل الحاصل بواسطة قوة الريح وإلقائها الثوب في الماء انه صحيح لو طهر الثوب أو فاسد لو لم يطهر.

وانما يدور مدار ترتبه وعدم ترتبه مع كون الفعل صادرا بداعي ترتب الأثر ، فالغسل إذا كان صادرا بعنوان التطهير يتصف بالصحّة والفساد ، أما إذا لم يكن متحققا بهذا الداعي فلا يتصف بهما ، فمع عدم إحراز العنوان لا تحرز قابلية الفعل للاتصاف بالصحّة والفساد.

ثم ان الشيخ بعد ان تعرض إلى هذه الجهة ذكر أمرا آخر ، وهو : بيان الفرق بين مثل الصلاة على الميت ، والصلاة عنه تبرعا أو استيجارا ، أو الحج عن العاجز ، حيث حكم الأصحاب بإجراء أصالة الصحة في الأول ورتبوا عليها سقوط الوجوب عن الغير ، وعدم إجرائها في الثاني حيث اشترطوا الثقة والعدالة في النائب والمستأجر مما يكشف عن عدم اعتبارهم أصالة الصحة فيه.

وقد ذكر قدس سره لتوجيه التفريق وجهين :

ص: 116


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 318 - الطبعة الأولى.

الأول : انه في صلاة النائب لا يعلم كونه في مقام إبراء ذمة الميت في صلاته أو لا يعلم كونه في مقام الصلاة ، وإلا فمع العلم بحاله وانه في مقام الإتيان بالصلاة إبراء لذمة الميت يلتزم بالحمل على الصحة وجريان الأصل في العمل عند الشك ، والطريق إلى الوصول إلى ذلك هو العدالة بحيث يوثق بقوله ودعواه انه في مقام الإبراء.

الثاني : ان لفعل النائب الصادر بعنوان النيابة حيثيتين : إحداهما : حيثية كونه فعلا للنائب. والأخرى : حيثية كونه منتسبا إلى المنوب عنه بلحاظ جهة التسبيب ، ويترتب على الفعل باعتبار كل من الحيثيتين ما لا يترتب عليه باعتبار الأخرى.

والصحة من الحيثية الأولى لا تثبت الصحة من الحيثية الثانية التي هي موضوع الأثر وهو فراغ الذّمّة وعدم وجوب الإعادة.

وهذا بخلاف مثل الصلاة على الميت مما يكتفي في إسقاط الذّمّة تحقق الفعل من الغير.

وقد صار هذا الكلام محلا للنقض والإبرام بين المحققين الأعلام.

والتحقيق : انه لا محيص عن الالتزام به. وذلك لأن هاتين الحيثيتين عرضيتان ، فالفعل - بمعناه الاسم المصدري - بذاته ينتسب إلى النائب باعتباره المباشر له ، وينتسب إلى المنوب عنه بلحاظ التسبيب بالاستئجار ، فإذا شك المنوب عنه في صحة هذا الفعل المتحقق في الخارج باعتبار انتسابه إليه ، فلا مجال له لإجراء أصالة الصحة فيه كي يترتب عليه آثار الفعل الصحيح المنتسب إليه من فراغ الذّمّة ، لأنه بهذا اللحاظ فعل نفسه ، وأصالة الصحة موضوعها فعل الغير لا فعل الشخص نفسه.

نعم ، لو شك المنوب عنه في صحة الفعل باعتبار انتسابه إلى النائب بلحاظ ترتيب آثاره من استحقاق الأجرة وغيره ، أمكنه إجراء أصالة الصحة فيه ، لأنه بهذا الاعتبار فعل الغير ، ولكن الصحة من هذه الحيثية لا تثبت الصحة من

ص: 117

الحيثية الأخرى. إلا بأحد وجوه ثلاثة :

الأول : ان يكون مفاد أصالة الصحة ثبوت المشكوك تكوينا وخارجا حقيقة ، فمع جريانها بالاعتبار الأول يثبت المشكوك تكوينا فيرتفع شك المنوب عنه حقيقة ويحصل له العلم الوجداني باجتماع الاجزاء والشرائط.

الثاني : ان يكون أثر الصحة بالاعتبار الثاني في طول أثر الصحة بالاعتبار الأول ، بان يكون هذا موضوعا لذاك شرعا ، فإذا ثبت بأصالة الصحة أثر الصحة بالاعتبار الأول يترتب جزما أثر الصحة بالاعتبار الثاني.

الثالث : ان تكون الإضافة الثانية في طول الإضافة الأولى - فالطولية بين الإضافتين لا بين الأثرين - بان يكون الفعل الصادر من النائب هو موضوع الإضافة إلى المنوب عنه لا نفس الفعل بذاته ، ويكون موضوع الأثر هو فعل النائب الصحيح. وعليه فبجريان أصالة الصحة في فعل النائب يترتب الأثر المرغوب.

وجميع هذه الوجوه منتفية :

أما الأول : فواضح ، لأن مفاد أصالة الصحة هو التعبد بصحة العمل الصادر لا إثبات تحقق المشكوك تعبدا فضلا عن إثباته تكوينا وحقيقة.

وأما الثاني : فلأن دعوى كون فراغ الذّمّة - أعني : ذمة المنوب عنه الّذي هو أثر الصحة بالاعتبار الثاني - حكما من أحكام استحقاق الأجرة الّذي هو من آثار الصحة بالاعتبار الأول ، واضحة المنع.

وأما الثالث : فلأن موضوع الإضافة هو نفس العمل الخارجي ، فهو بنفسه مضاف إلى النائب ، كما انه بنفسه مضاف إلى المنوب عنه ، فالإضافتان غير طوليتين بل عرضيتين.

فإذا ثبت التعبد بصحة العمل باعتبار إضافته إلى النائب التي مرجعها إلى ثبوت آثار عمل النائب الصحيح لا غير ، لا تترتب آثار عمل المنوب عنه الصحيح ، كما لا يخفى.

ص: 118

ولكن هذا انما يتم في صورة حياة المستنيب كالنيابة في الحج عن العاجز.

أما في صورة استئجار الولي أو الوصي ، فلا مانع من جريان أصالة الصحة في العمل بلحاظ إضافته إلى المنوب عنه ، لأن الاستئجار يكون من الولي أو الوصي ، وعمل المنوب عنه بالنسبة إليهما فعل الغير ، فيكون موردا لأصالة الصحة وتترتب آثار الصحيح بالنسبة إليهما.

ثم لا يخفى ان هذا كله مبني على تفسير النيابة ، بأنها تنزيل الفاعل نفسه منزلة المنوب عنه في فعله ، بحيث يكون الفاعل وجودا تنزيليا للمنوب عنه فيكون للفعل انتسابان عرضيان.

أما لو قيل : بان النيابة ليست سوى فعل الشخص عملا لنفسه ، غاية الأمر ان نتيجة هذا العمل ترجع إلى الغير ، فيكون منوبا عنه ، فلا إشكال في كون جريان أصالة الصحة في فعل النائب بما هو فعل للنائب كافيا في فراغ ذمة المنوب عنه ، لأن فراغ ذمته أثر للعمل الصحيح الصادر من الغير ، فالتفت.

المقام الخامس : فيما يثبت بأصالة الصحة من الآثار.

والتحقيق : ان الثابت بها ليس إلاّ آثار العمل الصحيح الشرعية ، دون لوازمه وملزوماته العقلية والعادية ، كما لا يثبت بها الجزء المشكوك كي تترتب عليه آثاره. ولا يفترق الحال في هذا بين أن نقول بأن قاعدة الصحة إمارة أو أصل - كما هو الأقرب ، لاعتبارها في مورد ينتفي فيه ملاك الأمارية ، وهو مورد جهل الفاعل بالصحيح والفاسد - لما ذكرناه آنفا من أن الأمارة بنفسها ليست حجة في لوازم مفادها وملزوماته - نعم ، قد يكون قيام الأمارة على الملزوم أو اللازم منشئا لقيام إمارة من فصيلتها على اللازم أو الملزوم ، كما في الخبر ، لأن الاخبار بالملزوم اخبار باللازم وبالعكس ، فيثبتان بالأمارة الثانية ، ولكن هذا ليس من حجية الأمارة في اللوازم والملزومات - كما لا يخفى - وهذا مما لا إشكال فيه.

وانما الإشكال فيما فرّعه الشيخ رحمه اللّه على هذا من : أنه إذا شك في ان

ص: 119

الشراء الصادر من الغير كان بما لا يملك كالخمر والخنزير أو بعين من أعيان ما له ، فلا يحكم بخروج تلك العين من تركته ، بل يحكم بصحة الشراء وعدم انتقال شيء من تركته إلى البائع ، لأن كون الثمن خلا أو شاة - مثلا - ليس مفاد أصالة الصحة ، كما انه ليس من آثار الصحة شرعا ، بل هو من اللوازم العقلية ، لأن صحة البيع متوقفة عقلا على ان يكون الثمن هو هذا ، فلا يثبت بأصالة الصحة.

وقد ذكر في مقام الإشكال على هذا التفريع وجهان :

الأول : انه ان جرت أصالة الصحة في العقد الواقع بلا ان يترتب عليها انتقال المثمن إلى المشتري ، كان جريانها بلا أثر - إذ أثرها هو حصول النقل والانتقال وهو غير متحقق كما هو الفرض - فلا معنى لجريانها. وان ترتب عليها انتقال المثمن إلى المشتري بلا انتقال العين من تركته إلى البائع ، كان البيع بلا عوض وهو خلاف مفهوم البيع.

الثاني : العلم الإجمالي بكون أحد العينين ليس ملكا له ، لأنه ان وقع البيع بالخل - مثلا - فقد خرج عن ملكه. وان وقع بالخمر فالمبيع ليس ملكه. فإجراء الأصلين - أعني : أصالة الصحة ، وأصالة بقاء العين على ملكيتها للمشتري - يستلزم مخالفة قطعية للعلم الإجمالي ، وهي غير جائزة.

ولكن هذين الوجهين لا ينهضان لمنع جريان أصالة الصحة في المورد المزبور.

أما الأول : فيدفع بان الحكم بعدم انتقال الخل لا يستلزم الحكم بوقوع البيع بلا عوض ، بل يقتضي عدم ثبوت العين الخاصة ثمنا ، أما عدم ثبوت الثمن بالمرة فهذا أجنبي عن ذلك ، بل ثمن المثل ثابت في الذّمّة.

وأما الثاني : فهو أجنبي عن عدم قابلية الأصل للجريان ، إذ عدم جريان الأصل في الفرض يكون لأجل وجود المانع ، لا لأنه في نفسه غير قابل - الّذي هو محل الإشكال - ولذلك فلا مانع من جريانه فيما لو لم يكن العلم الإجمالي منجزا ، كما

ص: 120

لو كان أحد الطرفين خارجا عن محل الابتلاء ، فالتفت وتأمل جيدا واللّه سبحانه ولي التوفيق.

المقام السادس : في معارضة أصالة الصحة مع غيرها من الأصول.

والكلام.

تارة : يكون في حكم الأصل بالنسبة إلى الأصل الحكمي الجاري في نفسه في جميع مواردها ، وهو أصالة عدم ترتيب الأثر وتحقق النقل والانتقال في العقود.

وأخرى : يكون في حكمها بالنسبة إلى الأصل الموضوعي الجاري في نفسه في بعض الموارد ، كأصالة عدم البلوغ عند الشك في صحة العقد وفساده من جهة الشك في البلوغ ، فان البلوغ أمر حادث فالأصل عدمه.

ثم انه حيث لم يثبت أمارية القاعدة أو أصليتها - وان لم يكن فرق بينهما من حيث عدم ثبوت اللازم والملزوم بها كما أشرنا إليه - لا بد من الكلام من الجهتين ، فيتكلم في حكمها بناء على الأمارية ، كما يتكلم في حكمها بناء على الأصلية.

أما نسبتها مع الأصل الحكمي ، فهما في رتبة واحدة لاتحاد موردهما ، فأصالة الصحة معناها ترتب الأثر ، كما ان أصالة الفساد معناها عدم ترتب الأثر.

فان قلنا بأنها أمارة ، سواء أثبتت اللازم أو لم تثبته ، تكون مقدمة على الأصل الحكمي بالورود - كما حققناه - وإلاّ فبالتخصيص لا بالحكومة ، وان كانت قول المشهور. وعلى كل فهي مقدمة عليه لا محالة ، لأنها رافعة لموضوعه اما تكوينا - كما هو مبنى الورود - أو تنزيلا - كما هو مبنى الحكومة -.

وان قلنا بأنها أصل ، فمقتضى القاعدة التي تقتضيها الصناعة هو تعارضهما وتساقطهما ، لكن الاتفاق تم على تقدم أصالة الصحة ، إما للزوم اللغوية - لأن أكثر مواردها بل كلها يوجد فيها أصل حكمي ، فيلزم من سقوطها تخصيص الأكثر وهو قبيح - أو للزوم اختلال النظام ، أو لقيام سيرة المتشرعة على جريانها في مثل هذه الموارد.

ص: 121

وأما حكمها بالنسبة إلى الأصل الموضوعي ..

فان قلنا بأنها إمارة وهي تثبت اللازم والملزوم ، كانت حاكمة على الأصل أو واردة عليه - على الخلاف الّذي عرفته - لأن قيامها على الصحة يثبت تحقق الموضوع المشكوك ، فلا يبقى مجال للأصل النافي لقيام الأمارة في مورده.

وان قلنا بأنها أمارة ، ولكن لا تثبت اللوازم والملزومات ..

فقد يتوهم : تقدم الأصل عليها ، حيث أنه أصل موضوعي وهي أمارة حكمية ، وما هو في رتبة الموضوع - ولو كان أصلا - مقدم على ما هو في رتبة الحكم - ولو كان أمارة -.

ولكنه توهم فاسد ، لأنه انما يتم إذا كان مفاد الأمارة ثبوت الحكم على تقدير ثبوت الموضوع - أعني : ثبوت الحكم للموضوع بنحو القضية الحقيقية - فان الأصل الجاري في رتبة الموضوع ينقح الموضوع فيتقدم عليها.

أما إذا كان مفاد الأمارة ثبوت الحكم في مورد الشك في الموضوع - كما فيما نحن فيه - لم يكن الأصل الجاري في الموضوع مقدما عليها ، لأنه وان رفع الشك تعبدا ، ولكنه - أعني : الشك - لم يؤخذ في موضوع الأمارة كي ينتفي موضوعها بجريانه ، بل هو مأخوذ بنحو الموردية.

وعليه ، فالأمارة في نفسها لا مانع من جريانها. كما ان الأصل الموضوعي يترتب عليه نفي ترتب الأثر ، فيتعارضان والنتيجة هي التساقط.

وان قلنا بأنها أصل لم يكن شك - بمقتضى القواعد الصناعية - في تقدم الأصل الموضوعي عليها لرفعه لموضوعها كما لا يخفى.

ولكن الصناعة وان كانت على هذين القولين تقتضي عدم جريان أصالة الصحة فعلا. ولكن الالتزام بها في هذه الموارد قول الأصحاب ، وعللوه : بلزوم اللغوية والسيرة العقلائية. وكلا التعليلين غير صالحين لإسناد القول المذكور.

أما لزوم اللغوية فلأن دليل أصالة الصحة ليس لفظيا كي يقال بأنه يلزم من

ص: 122

نفي أصالة الصحة في هذه الموارد استعمال المطلق في الفرد النادر.

وأما السيرة العقلائية ، فلأنها انما تكون حجة لو لم يردع عنها. ويمكن ان يكون الشارع قد اكتفي في مقام الردع بهذه الأصول النافية للترتب الأثر ، فلا دليل على حجيتها. نعم ، الّذي يمكن التمسك به في إثبات القول المذكور هو قيام سيرة المتشرعة بما هم متشرعة على التمسك بأصالة الصحة في هذه الموارد. فتدبر.

هذا بالنسبة إلى أصل المطلب. يبقى الكلام في كلام الشيخ بالنسبة إلى الأصل الموضوعي ، فقد اضطربت نسخ الرسائل في نقل كلام الشيخ ووقع الخلط فيها بين كلامه وكلام السيد الشيرازي (قدس سرهما). والّذي نقله المحقق الأصفهاني عن الشيخ يخالف ما في النسخ بالمرة ، فقد نقل كلاما له والسيد الشيرازي وذكر ان الشيخ صحح كلام السيد الشيرازي كما رآه بخطه الشريف.

أما ما نقله عن الشيخ ، فمحصله : ان أصالة الصحة تقتضي صحة العقد ، بمعنى جامعيته للشرائط التي منها البلوغ - مثلا - فيترتب عليها النقل والانتقال. والاستصحاب يقتضي - بضميمة الجزء الآخر المحرز بالوجدان وهو العقد - عدم ترتب الأثر لتمامية موضوع الفساد ، وهو العقد الصادر من غير البالغ. فيتعارض الأصلان.

ثم اعترض على هذه المعارضة : بأن الأثر يترتب على العقد الصادر من البالغ ، فنفي هذا الأثر بإثبات ضد السبب يكون بالملازمة ، لأن عدم الأثر بعدم السبب لا بوجود ضد السبب ، فيبقى الاستصحاب بلا أثر فلا يجري فتبقى أصالة الصحة بلا معارض.

ثم عدل عن هذا الأصل - أعني : أصالة عدم البلوغ - إلى أصل آخر وهو أصالة عدم السبب الناقل ، أو أصالة عدم صدور العقد من البالغ الّذي هو موضوع عدم الأثر - كما مر - فتتحقق المعارضة بين الأصلين ، لأن أحدهما ينفي الأثر والآخر يثبته.

ولكنه قدس سره أجاب عن هذه المعارضة : بان أصالة عدم السبب

ص: 123

بالنسبة إلى نفي الأثر من باب اللااقتضاء ، لأن عدم السبب انما لا يقتضي وجود المسبب لا انه يقتضي عدمه. وأصالة الصحة بالنسبة إلى إثبات الأثر من باب الاقتضاء ، لأنها تثبت مقتضى الأثر ، ولا مزاحمة بين ما له الاقتضاء وما لا اقتضاء له. وعليه فتجري أصالة الصحة بلا مزاحم ولا معارض وتتقدم على الأصل الموضوعي.

هذا ما نقله عن الشيخ قدس سره (1).

والإشكال على ما ذكره أخيرا واضح ، لأن ما يتكفل لبيان شيء بنحو اللااقتضاء وما يتكفل لبيان ضده بنحو الاقتضاء لم يثبت كون تنافيهما من باب التزاحم ، كي يقال بعدم المزاحمة ، بل سيأتي انه من باب التعارض. وعلى تقدير كونه من باب التزاحم فهما انما لا يتزاحمان فيما لو لم يكن في الدليل الدال على الأمر اللااقتضائي اقتضاء للااقتضاء. أما مع وجود المقتضى للاقتضاء يحصل التزاحم طبعا. وما نحن فيه كذلك ، لأن التعبد بالأصل انما يكون بلحاظ وجود المصلحة في المتعبد به والمقتضي لثبوته ، فالامر اللااقتضائي الثابت بالاستصحاب له مقتضي قهرا فيحصل التزاحم.

واما ما ذكره عن السيد الشيرازي (2) ، فحاصله : ان المراد بالصحّة في أصالة الصحة إن كان نفس ترتب الأثر ، فلا إشكال في تقدم أصالة عدم البلوغ عليها ، لأن الشك في ترتب الأثر يكون ناشئا عن الشك في بلوغ العاقد ، والأصل المذكور يرفعه تعبدا كما هو شأن كل أصل سببي مع الأصل المسببي. وان كان بمعنى استجماع الشرائط التي منها البلوغ ، يحصل التعارض بين الأصلين بلا حكومة لأحدهما على الآخر ، لأن أصالة الصحة مقتضاها صدور العقد من البالغ ، ومقتضى الاستصحاب - بضميمة الجزء الآخر - صدوره من غير البالغ.

وبعد ان ذكر هذا اعترض على هذه المعارضة : بان مفاد أصالة الصحة هو

ص: 124


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 323 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 323 - الطبعة الأولى.

التعبد بوجود العقد الصحيح ، ومفاد الاستصحاب التعبد بعدم سببية العقد الموجود ، ولا تقابل الا بين وجود العقد الصحيح وعدمه ، أو بين سببية العقد الموجود وعدمها.

وهذا الاعتراض مجمل المفاد ويحتمل فيه وجوه ثلاثة :

الأول : ما ذكره الشيخ من كون الاستصحاب من الأصول المثبتة ، لأن نفى الأثر المترتب على الضد بإثبات الضد الآخر يكون بالملازمة.

الثاني : ان الأثر انما يترتب على وجود العقد الصحيح ، فنفي صحة العقد الواقع لا تستلزم نفي ترتب الأثر ، بل الّذي يستلزم هو نفي العقد الصحيح ، وهو غير مفاد الاستصحاب.

الثالث : اختلاف مورد الأصلين ، فان المعارضة بين الأصلين انما تكون إذا كان موردهما واحدا ، وأما مع تعدد موردهما ، فلا يحصل بينهما التعارض. ومورد الاستصحاب هو عدم سببية العقد الموجود ، ومورد أصالة الصحة هو وجود العقد الصحيح ، فمورد كل منهما يختلف عن الآخر ، فلا تعارض بينهما.

وهذا الوجه هو الّذي حمل عليه المحقق الأصفهاني عبارة السيد ، مستشهدا على ذلك بما ذكره السيد في مقام دفع هذا الاعتراض ، بان مفاد أصالة الصحة ليس هو التعبد بوجود العقد الصحيح ، بل هو التعبد بصحة العقد الواقع ، فيتحد مورد النفي والإثبات ، فيحصل التعارض.

وعليه ، فالسيد التزم بالمعارضة بين أصالة الصحة والاستصحاب الموضوعي الجاري في المقام.

وعليه ، فمقتضى الصناعة تساقط الأصلين ، ولكن سيرة المتشرعة قائمة على العمل بأصالة الصحة في هذه الموارد كما ذكرنا. فتدبر جيدا واللّه ولي التوفيق. انتهى الكلام في أصالة الصحة (1) والكلام بعده في :

ص: 125


1- وذلك في يوم الأربعاء 19 / 8 / 82.

ص: 126

قاعدة الفراغ والتّجاوز

اشارة

ص: 127

ص: 128

قاعدة الفراغ والتجاوز

اشارة

والكلام فيها في جهات :

الجهة الأولى : في أنها قاعدة أصولية أو قاعدة فقهية.

لا إشكال في كونها قاعدة فقهية ، لأن جميع التعاريف للمسألة الأصولية بشتى أنواعها تشترك في كون مورد المسألة الأصولية هو الشبهة الحكمية ، ومورد القاعدة التي نحن بصددها انما هو الشبهة الموضوعية كما لا يخفى ، فلو انطبقت جميع خصوصيات المسألة الأصولية على القاعدة لما استلزم كونها مسألة أصولية لكون موردها هو الشبهة الموضوعية.

هذا ولكن تقدم تعريف المسألة الأصولية بما لا يختص إجراؤه بالمجتهد ، بل بما يعم حكمه الشبهة الموضوعية ، فراجع.

إلاّ ان يراد من بيان ضابط المسألة الأصولية بيان الضابط لمسائل معينة

ص: 129

حررت لغرض الاستنباط ، فلا تشمل مسائل الشبهة الموضوعية والأمر سهل.

الجهة الثانية : ان الشك تارة : يكون متعلقا بوجود الشيء ، وأخرى : يتعلق بصحة العمل الموجود والأول مورد قاعدة التجاوز والثاني مورد قاعدة الفراغ فما يتكفل الإلغاء حكم هذين الشكين هل هو قاعدة واحدة أو قاعدتان؟. وقع الكلام ، في ذلك ، وهو يقع في مرحلتين : مرحلة الثبوت ، ومرحلة الإثبات.

أما مرحلة الثبوت فالكلام فيها يقع في إمكان كون ما يتكفل إلغاء الشكين قاعدة واحدة.

وقد بين في وجه عدم إمكان كونه قاعدة واحدة تقريبات متعددة :

أحدها : ان متعلق الشك الأول وجود الشيء ، وهو مفاد كان التامة ، ومتعلق الشك الثاني صحة الموجود ، وهو مفاد كان الناقصة. وهما - أعني : نسبة كان التامة ونسبة كان الناقصة - نسبتان متغايرتان لا جامع بينهما ، كي يمكن بيان حكمهما بدليل واحد.

ولكن نسب إلى الشيخ قدس سره المناقشة في هذا التقريب ببيان : انه يمكن إرجاع الشك في صحة العمل الموجود إلى الشك فيها بمفاد كان التامة ، وذلك بان يكون الشك في وجود العمل الصحيح ، وهو مفاد كان التامة ، فكلا المتعلقين بهذه النسبة ، فيمكن بيان حكم الشكين بدليل واحد ، لإمكان الجامع (1).

ولكن المحقق العراقي رحمه اللّه (2) ، أورد على الشيخ : بان مورد الأثر

ص: 130


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /414- الطبعة القديمة.
2- التحقيق ان ما أفاده قابل للمناقشة ، فان الأثر العملي يترتب على مجرد وجود العمل الصحيح ، سواء كان ذلك في العبادات أم في المعاملات. وأما في المعاملات: فقد يشكل بان إحراز وقوع العقد الصحيح لا ينفع في ترتب الأثر ، بل لا بد من إحراز ان هذا العقد صحيح. وفيه : انه يكفي في ترتب الأثر إحراز وقوع البيع الصحيح على العين الكذائية بين الشخصين ، لأن مقتضاه انتقال كل من العينين إلى مالك الأخرى. ولا حاجة إلى إحراز صحة العقد الواقع. واما ما ذكره قدس سره من مثال قضاء السجدة المنسية وبيان ترتب الأثر فيه على إحراز صحة العمل الواقع ، ولا يكفي مجرد وقوع العمل الصحيح. ففيه : ان دليل لزوم قضاء السجدة لم يقيد بما إذا كانت الصلاة صحيحة ، بل هو مطلق من هذه الناحية ، وانما اعتبر صحة العمل في لزوم القضاء من جهة استظهار ورود الأمر بالقضاء لتصحيح العمل ، فلا يثبت الأمر به مع فساد العمل للغويته. ولا يخفى ان اللغوية ترتفع في ما إذا ترتب على القضاء فراغ الذّمّة والقطع بالامتثال ولو لم يحرز ان هذا العمل صحيح ، وما نحن فيه كذلك ، فانه إذا ثبت بالقاعدة المبحوث عنها وجود الصلاة الصحيحة وجاء المكلف بالسجدة بعد العمل الّذي في يده ، يحرز فراغ ذمته. بخلاف ما إذا ترك القضاء ، فانه لا يقطع بفراغ الذّمّة ، فالأثر لا ينحصر بصورة إحراز صحة العمل الموجود بمفاد كان الناقصة ، بل يترتب على إحراز وجود الصحيح بمفاد كان التامة.

يختلف ، فتارة : يكون موضوعه وجود الشيء بمفاد كان التامة. وأخرى : يكون اتصاف شيء بشيء بنحو مفاد كان الناقصة. فإرجاع الشك في الصحة إلى الشك بنحو مفاد كان التامة لا يجدي في ترتب الأثر المرغوب ، حيث أخذ مورد الأثر الشك في اتصاف العمل بالصحّة ، وهو مفاد كان الناقصة (1).

كما أورد عليه المحقق الأصفهانيّ قدس سره : بان العمل الصحيح المأخوذ وجوده في موضوع الشك إما ان يكون بالإضافة إلى الصحة مطلقا ، بمعنى انه لا يلحظ فيه كونه صحيحا ، بل يلحظ الشك في وجوده فيرجع إلى القسم الأول من الشك. واما ان يكون بالإضافة إليها مقيدا ، بان يلحظ العمل المتصف بالصحّة

ص: 131


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 38 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فيكون بنحو مفاد كان الناقصة. كما انه لا يمكن ان يكون مهملا ، لامتناع الإهمال في مقام الثبوت.

ولكنه قدس سره أفاد في مقام التفصي عن هذا الإشكال - أعني : إشكال اختلاف النسبتين - مع التزامه بان مورد الأثر الشك في الصحة : ان الصحة المشكوكة تارة تلحظ بمفاد كان التامة. وأخرى تلحظ بمفاد كان الناقصة. فان لوحظ في مورد الشك وجود الصحة بلا لحاظ اتصاف عمل خاص بها ، كان ذلك بمفاد كان التامة. وان لوحظ وجود اتصاف عمل بها ، بان لوحظت وصفا لعمل خاص كانت بمفاد كان الناقصة. وعليه فلا ملزم للالتزام بان الملحوظ في هذا القسم هو اتصاف العمل بالصحّة ، بل ليس هو إلاّ صحة العمل فانه مورد الأثر ، فيمكن لحاظه بمفاد كان التامة.

وعليه ، فلا مانع للجمع بين القاعدتين من جهة تباين نسبتيهما ، لاتحادهما ذاتا (1).

ثانيها : ما ذكره المحقق الأصفهاني بعد تفصيه عن إشكال تباين النسبتين بما عرفت وهو : انه لا جامع بين الشك في وجود الشيء والشك في صحة الشيء كي يتكفل بيان حكمهما دليل واحد (2).

وربما يقال : انه يمكن تصوير الجامع بان يكون عنوان المشكوك ، فيتكفل الدليل إلغاء الشك ، والبناء على تحقق المشكوك وثبوته أعم من نفس العلم وصحته.

ويشكل على هذا : بان موضوع الكلام تصوير الجامع في مرحلة متقدمة على الشك ، فالمطلوب تصوير الجامع في متعلق الشك ، بحيث يكون الدليل متكفلا لبيان إلغاء الشك فيه فيعم القسمين ، وهو لا يتصور بين الصحة والوجود.

وللمحقق الأصفهاني بيان لإمكان تصوير الجامع وعدم مانعية ما ذكره من

ص: 132


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدّراية3/ 296 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدّراية3/ 296 - الطبعة الأولى.

اختلاف متعلق الشك وعدم الجامع له ، محصله : ان الصحة التي تكون متعلقا للشك ويكون الشك فيها موردا للقاعدة ، تارة : تكون بمعنى ترتب الأثر. وأخرى : تكون بمعنى استجماع العمل للاجزاء والشرائط وثالثة : تكون عنوانا انتزاعيا للاستجماع.

فإن كان المراد بها الأول والثالث ، كان ما ذكر من عدم تصور الجامع بين المتعلقين مسلما كما لا يخفى. ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ ليس مفاد القاعدة المتكفلة لإلغاء الشك ترتب الأثر ولا العنوان الانتزاعي ، إذ ليس هو موضوعا للأثر ، بل مفادها استجماع العمل للشرائط والاجزاء الّذي هو موضوع الآثار الشرعية والعقلية ، فيرجع الشك في الصحة إلى الشك في وجود الكل ، فيكون متعلق الشك بقسميه هو الوجود - وان اختلف موضوعه ، حيث انه تارة يكون الكل وأخرى يكون الجزء - وذلك كاف في تحقق الجامع (1).

ولكن ما أفاده قدس سره لا يجدي شيئا ، لما أشار إليه المحقق العراقي (2) من : ان موضوع الأثر قد يكون صحة العمل الخارجي لا وجود العمل التام وتحققه في الخارج ، فرجوع متعلق الشك إلى وجود الكل ، بحيث يكون مفاد القاعدة وجود الكل لا كلية الموجود. لا يتلاءم مع ما ذكرناه من كون موضوع الأثر في بعض الموارد تمامية الموجود لا وجود التام.

هذا ، ولكن بعد ان أرجعت الصحة إلى مفاد كان التامة ، بحيث اتحد المتعلقان نسبة ، فما ذكر من عدم تصور الجامع بالتقريب الثاني لا مجال له ، إذ يمكن تصور جامع عنواني يشار به إلى كلتا الصورتين - لأنه لا يلزم كونه جامعا حقيقيا ذاتيا - كلفظ الموصول ، أو لفظ : « شيء » ، فيقال مثلا : « إذا شككت في وجود شيء فابن على وجوده » أو : « كل ما شككت في وجوده فابن عليه » ، فانه يعم الشك في وجود

ص: 133


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدّراية3/ 296 الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد حسين. نهاية الأفكار4/ 38 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

ذات العمل ووجود صحة العمل فانها شيء من الأشياء.

ثالثها : ان متعلق أحد الشكين أصل وجود الشيء ومتعلق الآخر صحة الشيء مع الفراغ عن أصل وجوده. فالشيء في أحدهما مفروض الوجود وفي الآخر ليس بمفروضه ، ولا جامع بين ما هو مفروض الوجود وما هو ليس بمفروضه.

ولكن هذا التقريب غير تام كأخويه السابقين ، لأنه بعد ان عرفت ان إمكان أخذ متعلق كلا الشكين بمفاد كان التامة ، فلا ملزم حينئذ لأخذ فرض الوجود في أحدهما بل هو غير ملحوظ أصلا ، لأنه فرع كون المأخوذ مفاد كان الناقصة ، بحيث يكون أصل الوجود مفروغا عنه والشك فيما يتعلق به من الصحة. أما مع أخذ المتعلق هو الصحة بمفاد كان التامة ، فلا تصل النوبة إلى أخذ فرض الوجود في المتعلق ، إذ لا معنى له.

نعم ، العمل في المورد مفروض الوجود ، ولكن ذلك أجنبي عن متعلق الشك.

رابعها وخامسها : ان الجزء لما كان في مرحلة جزئيته مندكا في الكل فلا يلاحظ مع لحاظ الكل إلاّ بنحو الاندكاك وباللحاظ الآلي ، وانما يلاحظ بالاستقلال في مرحلة سابقة عن لحاظ الكل ، فلحاظه الاستقلالي سابق رتبة على لحاظه الآلي.

فإذا أريد بيان حكم الشك في الكل والجزء بدليل واحد ، فلا بد من لحاظهما معا بنحو الاستقلال ، فيلزم حينئذ اجتماع لحاظين للجزء أحدهما آلي والآخر استقلالي ، كما ويلزم تأخر المتقدم رتبة وهو اللحاظ الاستقلالي كما لا يخفى. وكلا هذين الأمرين ممتنعان.

وقد تفصى المحقق النائيني قدس سره عن ذلك بما محصله : ان الشك في الاجزاء لم يلحظ في جعل القاعدة الواحدة كما لوحظ نفس المركب ، وانما المجعول ابتداء هو عدم الاعتناء بالشك بعد التجاوز عن العمل ، ثم قامت الأدلة الخاصة على اعتبار القاعدة في موارد الشك في الاجزاء ، فهي حاكمة على الأدلة الأولية.

ص: 134

فلو لا قيام الأدلة الخاصة لاختص مورد القاعدة بالشك بعد الفراغ ، ولذلك يقتصر في التعدي إلى الاجزاء بمقدار ما قام الدليل بالنسبة إليه.

ومن هنا يظهر الوجه في خروج اجزاء الطهارات الثلاث عن موضوع القاعدة ، لاختصاص الأدلة باجزاء الصلاة ، فلا يتعدى منها إلى غيرها لعدم الدليل على إلحاقها بها ، كما انها ليست بداخلة « تحت خ ل » في ضمن الدليل الأولي.

ولا حاجة بعد هذا إلى تعليل خروجها بورود تخصيصها بالأخبار أو الإجماع.

هذا ملخص ما أفاده المحقق المذكور قدس سره . ووجه التفصي به واضح بين ، إذ الملحوظ ابتداء ليس إلاّ الكل فلا يجتمع لحاظان كما لا يلزم تأخر المتقدم (1).

ولكنه غير تام ، لأن الدليل الحاكم المتكفل لبيان اعتبار القاعدة في الاجزاء ..

ان كان لسانه ومفاده هو الكشف عن أن المراد بموضوع الحكم في الدليل الأولي أعم من الجزء والكل ، فيكون مفاده إخباريا ، ويثبت للجزء نفس الحكم الثابت للكل بدليله ، عاد المحذور بالنسبة إلى الدليل الأولي - كما لا يخفى - وان كان مفاده تنزيل الجزء منزلة الكل في الحكم بجعل حكم مماثل له ، كان ذلك التزاما بتعدد القاعدة ، وهذا يعني الالتزام بالمحذور.

وبالجملة : فما ذكره قدس سره إما لا يجدي في دفع المحذور ، أو يرجع إلى الالتزام بالمحذور.

فالأولى في التفصي عنه أن يقال : ان المحذور انما يرد لو كان الملحوظ عند جعل القاعدة نفس الجزء والكل ، ولكن لحاظ المصاديق بخصوصياتها في جعل الحكم عليها غير لازم - كما هو الحال في القضايا الحقيقية - بل هو غير ممكن

ص: 135


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 232 - الطبعة الأولى.

بالنسبة إلى بعض الموارد لعدم تناهي المصاديق أو تميزها فيها ، بل يكفي في جعل الحكم على المصاديق من لحاظها بعنوانها المنطبق عليها - كما يقرر ذلك في بيان الوضع العام والموضوع له الخاصّ - والحكم عليها بواسطة العنوان ، فيكون موضوع الحكم هو العنوان وهو الملحوظ دون المصاديق.

وعلى هذا فلا ملزم للحاظ الجزء والكل بأنفسهما عند جعل القاعدة ، بل مع لحاظ جامعهما العنواني وهو لفظ : « الشيء » مثلا وجعله موضوع الحكم فيها.

وعليه ، فلا يبقى لما ذكر مجال ، لوحدة اللحاظ وعدم تعدده ، كي يلزم ما ذكر من اجتماع اللحاظين وتأخر السابق لعدم لحاظ الجزء ولا الكل بأنفسهما.

سادسها : ما ذكره الشيخ في التنبيه الرابع لا بعنوان المحذور (1) ، ولكن المحقق النائيني ذكره محذورا يتحقق من وحدة القاعدة ، وهو محذور التدافع.

ومحصل ما ذكره قدس سره : انه إذا شك في الإتيان بالجزء في أثناء العمل بعد التجاوز عن محله ، فباعتبار لحاظ الجزء بنفسه يصدق انه تجاوز عن محله فلا يعتنى بالشك وباعتبار لحاظ المركب بما هو يصدق انه لم يتجاوزه فيجب عليه التدارك. فيلزم التدافع في مفاد القاعدة بلحاظ الاعتبارين.

وبعد ان ذكر هذا ، أورد على نفسه : بان التدافع حاصل على القول بتعدد القاعدة ، فانه بمقتضى قاعدة التجاوز لا يعتني بالشك لحصول التجاوز عن محل المشكوك ، وبمقتضى قاعدة الفراغ يعتني بالشك لعدم حصول التجاوز عن المركب.

وأجاب عنه : بأنه مع تعدد الجعل تكون قاعدة التجاوز حاكمة على قاعدة الفراغ ، لأن الشك في صحة العمل وفساده مسبب عن الشك في الإتيان بالجزء ، والمفروض ان الشك السببي يلغى بقاعدة التجاوز فينتفي موضوع قاعدة الفراغ تعبدا ، وهو الشك في الصحة والفساد.

ص: 136


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /412- الطبعة القديمة.

ثم أورد على نفسه : بأنه لا فرق في حكومة أحد الأصلين على الآخر بين ان يكونا مجعولين بجعلين - كما هو الحال في الاستصحاب والبراءة - أو بجعل واحد - كحكومة أحد الاستصحابين على الآخر -. فمع شمول القاعدة لمورد قاعدة التجاوز - وهو الشك في الجزء بعد التجاوز عنه - تتحقق الحكومة بلا فرق بين الجعل الواحد والجعلين.

وأجاب عنه : بان حكومة أحد الأصلين على الآخر - المجعولين بجعل واحد - تتوقف على تحقق موردهما في حد أنفسهما ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، لأن جريان قاعدة الفراغ يتوقف على الانتهاء من العمل ، وهو غير متحقق لفرض الشك في الأثناء ، فلا موضوع لقاعدة الفراغ كي يقال بحكومة قاعدة التجاوز عليها ، بل المتحقق فيه عكسها. فالمورد باعتبار يدخل في القاعدة ، وباعتبار آخر يدخل في عكسها ، ولا وجه لدعوى الحكومة في مثل هذا.

هذا ملخص ما أفاده في تقريب المحذور (1).

ولكنه لا يرجع إلى محصل ، لأن التدافع المدعى ..

ان كان بين قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ ، فالمفروض انه لا موضوع لقاعدة الفراغ ، لكون الشك في أثناء العمل - وبذلك قرر عدم الحكومة - فليس في البين إلاّ قاعدة التجاوز.

وان كان التدافع بين منطوق القاعدة ومفهومها بلحاظ الاعتبارين ، فإذا كان المورد - بلحاظ الجزء - مشمولا للقاعدة الواحدة المجعولة - لأنه مورد قاعدة التجاوز المفروض شمول القاعدة لمواردها لأنها قاعدة جامعة - يندفع التدافع بالحكومة ، لأن الشك في الصحة مسبب عن الشك في وجود الجزء كما عرفت ، فجريان القاعدة بلحاظ الجزء يوجب انتفاء الشك بلحاظ الكل تعبدا.

ص: 137


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 465 - الطبعة الأولى.

هذا ، مع انه يمكن ان يقال : بعدم وصول النوبة إلى الحكومة ، وذلك لأنه سيأتي في دفع المحذور السابع : انه قد أخذ التجاوز في مورد القاعدة - بناء على وحدتهما - بالمعنى الأعم من الحقيقي - المتحقق في الشك في الصحة - والادعائي المسامحي - المتحقق في الشك في الوجود على ما سيظهر - فمورد الحكم بالتعبد هو التجاوز بالمعنى الأعم ، ومقتضى ذلك انه إذا تحقق التجاوز بأي معنى كان يتحقق موضوع التعبد والحكم بإلغاء الشك ، والمفروض ان التجاوز بأحد معنييه - وهو المسامحي - متحقق في الفرض فيتحقق موضوع القاعدة ، وتجري بلا إشكال ولا تدافع. فالتفت.

سابعها : ان اسناد التجاوز إلى الشيء في مورد قاعدة التجاوز اسناد مجازي مسامحي ، لأن الشيء لا يعلم تحققه كي يتجاوز عنه ، وانما يسند حقيقة في هذا المورد إلى المحل. واسناده إلى الشيء في مورد قاعدة الفراغ اسناد حقيقي لتحقق العمل خارجا فيصدق التجاوز عنه حقيقة ، فنسبة التجاوز إلى الشيء في أحد الموردين مجازية وفي الآخر حقيقية ، وحيث لا جامع بين النسبتين - لأن النسبة من المعاني الحرفية - امتنع تكفل دليل واحد لبيان حكم الموردين بالنسبة إلى المتجاوز عنه.

ويمكن التخلص من محذور هذا التقريب بان اختلاف النسبتين انما يتحقق في صورة ما إذا أريد من التجاوز في كلا الموردين معناه الحقيقي الموضوع له ، فان اسناده إلى الشيء يختلف حقيقة ومجازا باختلاف الموردين.

اما إذا أرجعنا المسامحة في الإسناد المتحققة في مورد قاعدة التجاوز إلى المسامحة في الكلمة ، بان التزمنا في التجاوز بمعنى أعم ، بحيث يكون اسناده إلى الشيء في هذا المورد بهذا المعنى حقيقيا. لم تختلف النسبتان حينئذ.

وبالجملة : التخلص عن المحذور يكون بالالتزام بمعنى للتجاوز أعم من معناه الحقيقي ، بحيث يكون اسناده إلى الشيء في كلا الموردين بهذا المعنى حقيقيا ، فيرجع

ص: 138

المجاز إلى الكلمة لا الإسناد ، فانه بذلك لا اختلاف بين النسبتين ، فيمكن تكفل دليل واحد لحكمهما معا.

وبهذا جميعه تبين انه لا مانع ثبوتا من الجمع بين القاعدتين ووحدتهما ، إذ لم يتم شيء من هذه المحذورات المذكورة كما عرفت.

وفي قبال القول بعدم إمكان وحدتهما ثبوتا القول بلا بدية وحدتهما ثبوتا ، ورجوع قاعدة الفراغ إلى قاعدة التجاوز. بتقريب : ان الشك في صحة العمل ينشأ دائما عن الشك في وجود جزء أو شرط في ذلك العمل باعتبار ان الصحة عبارة عن الوصف الانتزاعي المنتزع عن مطابقة المأتي به للمأمور به. وقاعدة التجاوز تتكفل إلغاء الشك في وجود الشيء بعد تجاوز محله ، فيرتفع الشك في الصحة تعبدا ، فاعتبار قاعدة الفراغ على هذا يكون لغوا (1).

ولكنه محل نظر ، لأن قاعدة الفراغ تجري في موارد لا تجري فيها قاعدة التجاوز ، كما لو شك بعد الفراغ من الصلاة في تحقق الموالاة بين حروف الكلمة أو كلمات الآية ، فان مثل هذا الموالاة لا تعد عرفا وجودا مستقلا يتعلق به الشك ويكون الشك فيه موضوعا للتعبد بإلغائه ، كي يكون الشك فيها من موارد قاعدة التجاوز ، بل الشك فيها يرجع في نظر العرف إلى الشك في صحة الكلمة أو الآية - لأنها بنظره من شئونهما وأطوارهما - ، ففي مثل هذا المورد لا يكون الشك في صحة الصلاة مسببا عن الشك في وجود شيء كي يكون محكوما بقاعدة التجاوز ومرتفعا بها تعبدا.

وأيضا : يعتبر في قاعدة التجاوز - كما سيتضح - الدخول في الغير المترتب على المشكوك ، وهذا لا يعتبر في قاعدة الفراغ ، بل المعتبر فيها هو البناء النفسيّ على الانتهاء من العمل ، سواء دخل في الغير أم لم يدخل. وبذلك يتعدد موردهما أيضا

ص: 139


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 271 - الطبعة الأولى.

ولا يتحد كي ترجع الثانية إلى الأولى للحكومة ولزوم اللغوية ، وذلك كما يظهر في مثل ما لو شك بعد الفراغ من العمل في الجزء الأخير منه ولم يكن قد دخل في عمل آخر مترتب عليه ، فانه لا مجال في مثل هذا لجريان قاعدة التجاوز لعدم توفر شرطها مع انه مورد لقاعدة الفراغ.

والمتحصل : ان ما ذكر انما يتم لو كانت موارد قاعدة الفراغ كلها أو الأغلب منها قابلة لجريان قاعدة التجاوز ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فان هناك موارد جمة تكون مجرى لقاعدة الفراغ دون قاعدة التجاوز ، فاعتبار قاعدة الفراغ على هذا لا يكون لغوا.

هذا ، مع أن الحكومة انما تثبت في موارد السببية والمسببية الشرعية وليس ما نحن فيه كذلك ، لأن الصحة ليست من الآثار الشرعية لوجود الجزء بل هي معنى انتزاعي يحكم به العقل ، وليس مجعولا شرعيا فالأصل الجاري في إثبات الجزء لا يكون حاكما على الأصل الجاري في إثبات الصحة ، فلاحظ ولا تغفل.

هذا كله في مقام الثبوت ، الّذي بقين منه : انه يمكن ثبوتا أن يكون كل من القاعدتين قاعدة مستقلة بنفسها ، كما يمكن كونهما قاعدة واحدة ، كما يمكن رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ - كما عليه المحقق النائيني - وهناك احتمال آخر وهو عدم وجود قاعدة التجاوز بالمرة وانه ليس إلا قاعدة الفراغ ، فالاحتمالات أربعة.

وأما الكلام في مقام الإثبات ، فهو حول ما يتكفله الدليل من تعيين أحد هذه الاحتمالات الأربعة ، فنقول - وباللّه الاعتصام -.

أما الاحتمال الثاني - وهو كونهما قاعدة واحدة - فلا يساعد عليه الدليل ، لأنه مبني - كما عرفت - على الالتزام بالتوسع في معنى التجاوز وكونه أعم من المعنى

ص: 140

الحقيقي ، وهذا لا مجال له بالنسبة إلى بعض النصوص (1) ، مما يمكن ان تكون نسبة التجاوز والمضي فيها إلى الشيء بمعناه الحقيقي نسبة حقيقية ، فانه مع إمكان حمل اللفظ على ظاهره اللغوي لا وجه للتصرف فيه وحمله على غير معناه الموضوع له.

وأما الاحتمال الثالث - وهو رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ بالتقريب السابق الّذي ذكرناه في دفع المحذور الرابع من كون المجعول أولا هو قاعدة الفراغ ثم نزل الشك في وجود الجزء منزلة الشك في الكل في خصوص باب الصلاة - فهو ممتنع من جهتين.

الأولى : عدم اختصاص قاعدة التجاوز موردا بالصلاة ، بل تجري في غيرها كما ستعرف.

الثانية : انه مع تسليم الاختصاص بالصلاة ، فلا دليل على ان ذلك - أعني عدم الاعتناء بالشك في الجزء فيها - كان من باب التنزيل أو الحكومة ، كما قرره قدس سره ، كي يرجع الجعل إلى قاعدة واحدة هي قاعدة الفراغ ، إذ لا ظهور من لفظ النصوص في ذلك.

هذا ، ويمكن ان يقرب ما أفاده قدس سره : ان الروايات الواردة في إلغاء الشك في اجزاء الصلاة مذيلة بحكم عام ، كقوله علیه السلام في رواية زرارة الآتية : « إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء » (2) ، وقوله في رواية إسماعيل الآتية : « كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه » (3). وهذا الحكم العام ظاهر في كون موضوعه الشك في الصحة لا الوجود ، كما هو مقتضى لفظ التجاوز والمضي على المشكوك والخروج منه فان جميع ذلك ظاهر في كون الشيء مفروغا عن وجوده ، وإنما الشك في شأن من شئونه وهو

ص: 141


1- كقوله علیه السلام : كل شيء شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو.
2- وسائل الشيعة 5 / 336 باب : 23 من أبواب الخلل ، الحديث : 1.
3- وسائل الشيعة 4 / 971 باب : 15 من أبواب السّجود ، الحديث 4.

الصحة.

وإذا تم هذا ، يظهر ان تطبيق هذا الحكم على المصاديق المذكورة في الصدر لا يكون إلا من باب تنزيل الشك فيها منزلة الشك في الصحة ، وهو مما يقتصر فيه على مورده المتيقن وهو خصوص اجزاء الصلاة.

هذا غاية ما يمكن ان يوجّه به ما أفاده قدس سره ، لكن يرد عليه : ان الذيل إذا كان ظاهرا في كون الموضوع هو الشك في الصحة فالتحفظ عليه يستلزم التصرف في ظهور الصدر وحمل المصاديق المذكورة فيه على بيان مصاديق الشك في الصحة لا الوجود ، إذ ليست دلالتها على إرادة الشك في الوجود بنحو النص الّذي لا يمكن التصرف فيه.

فتكون الروايات ظاهرة صدرا وذيلا في بيان قاعدة الفراغ كما سنقرّبه.

ولو لم يمكن الجمع بذلك ، فما أفاده من الجمع بحمل الرواية على التنزيل ليس جمعا عرفيا ونتيجة ذلك إجمال النصوص وعدم استفادة شيء منها. فلاحظ.

وأما الاحتمال الأخير ( الرابع ) - وهو عدم الأساس لقاعدة التجاوز ، وان المجعول ليس إلاّ قاعدة الفراغ ، فلا يلغي الشك في الوجود شرعا - فهو وان كان احتمالا في قبال الفتاوى والإجماع ، لكنه مما يمكن الجزم به عند لحاظ روايات الباب المستدل بها على ثبوت القاعدة ، فان عمدتها روايتا زرارة (1) ، قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : رجل شك في الأذان وقد دخل في الإقامة؟ قال علیه السلام : يمضي. قلت : رجل شك في الأذان والإقامة وقد كبر؟. قال علیه السلام : يمضي. قلت : رجل شك في التكبير وقد قرأ؟. قال علیه السلام : يمضي. قلت : شك في القراءة وقد ركع؟. قال علیه السلام : يمضي ، قلت : شك في الركوع وقد سجد؟. قال علیه السلام : يمضي على صلاته. ثم قال : يا زرارة إذا خرجت من شيء ثم دخلت

ص: 142


1- وسائل الشيعة 5 / 326 باب : 23 من أبواب الخلل الحديث : 1.

في غيره فشكك ليس بشيء - وإسماعيل بن جابر (1) - عن أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث قال : ان شك في الركوع بعد ما سجد فليمض ، وان شك في السجود بعد ما قام فليمض ، كل شيء شك فيه مما قد جاوزه ودخل في غيره فليمض عليه -.

وقبل الكلام فيهما لا بد من بيان شيء ، وهو : ان الشك في الشيء قد يطلق ويراد به الشك في أصل وجود الشيء. وقد يطلق ويراد به الشك في شأن من شئون الشيء مما يرجع إلى صحته مع تسليم وجوده ، فهو قابل لكلا الإطلاقين ، إلاّ انه مع عدم القرينة ظاهر عرفا في الأول - أعني الشك في وجود الشيء - إذا عرفت هذا فنقول :

أما رواية زرارة ، فصدرها وان كان يشتمل على التعبير بالشك في الشيء الظاهر عرفا في الشك في وجوده ، إلاّ ان ذيلها الوارد بنحو تطبيق كبرى كلية على الموارد الجزئية المذكورة في الصدر ظاهر في كون الشك في صحة الشيء ، لقوله فيه : « يا زرارة إذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشكك ليس بشيء » ، فان الخروج من الشيء ظاهر عرفا في كون أصل الشيء موجودا ، لأنه مع عدم وجوده لا يتحقق الخروج عنه.

فلو لم نقل بان ظهور الذيل في الشك في الصحة مع الفراغ عن أصل الوجود موجب لتغيير ظهور الصدر في الشك في الوجود ، بأن يكون المراد من الشك في صحة الشيء ، فان التعبير قابل لذلك ، لأنه وارد مورد التطبيق ، وأقوائية ظهوره في مؤداه من ظهور الصدر. فلا أقل من تصادم الظهورين ، فتكون الرواية مجملة لا يعتمد عليها في شيء من القاعدتين.

وأما رواية إسماعيل ، فالكلام فيها كالكلام في سابقتها ، فان قوله : « شك فيه »

ص: 143


1- وسائل الشيعة 4 / 971 باب : 15 من أبواب السجود ، الحديث : 4.

ظاهر - كما عرفت - في الشك في الوجود ، ولكن قوله : « جاوزه » ظاهر في التجاوز عن نفس الشيء ، وهو يقتضي تحقق وجود الشيء ، فيتصادم الظهوران ، لدوران الأمر بين حمل : « جاوزه » على خلاف ظاهره والتصرف فيه بإسناده إلى المحل ، أو حمل : « شك فيه » على الشك في صحته. ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، بل إبقاء ظهور لفظ التجاوز على اسناده الحقيقي أولى ، لظهور قوله : « فليمض عليه » في ان تحقق أصل الشيء مفروغ عنه وإلاّ فلا يتحقق المضي عليه ، كما لا يخفى.

فالمتحصل : عدم إمكان الاعتماد على هاتين الروايتين في إثبات قاعدة التجاوز ، فلا يثبت لها أساس في النصوص ، فلا يبقى الا قاعدة الفراغ.

وعلى هذا فلو شك في الصلاة في جزء سابق وقد دخل في غيره ، ينبغي له العود للإتيان به ، إلاّ إذا كان قد دخل في ركن لفوات محل التدارك حينئذ ، حتى مع العلم بترك الجزء. وعليه فان كان الجزء المشكوك من غير الأركان ، كالقراءة أو التشهد فلا يبطل عمله بمقتضى حديث : « لا تعاد ». وان كان من الأركان ، كالركوع بعد دخوله في السجدة الثانية حكم ببطلان عمله ولزوم الإعادة.

ولو انتفى هذا الاحتمال أو لم يمكن الالتزام به ، فلا محيص عن الالتزام بتعدد القاعدتين ، وان أحدهما - وهي قاعدة التجاوز - موضوعها الشك في وجود الشيء بعد التجاوز عن محله. والأخرى - وهي قاعدة الفراغ - موضوعها الشك في صحة الشيء بعد فرض وجوده ، وعلى هذا البناء يقع الكلام في الجهات الأخرى للبحث.

الجهة الثالثة : في عموم قاعدة التجاوز لجميع صور الشك في الوجود ، أو اختصاصها بالصلاة ، كما ذهب إليه المحقق النائيني على ما عرفت.

وقد استدل للعموم بإطلاق لفظ : « شيء » في رواية زرارة ، وعموم لفظ : « كل شيء » في رواية إسماعيل. فانهما غير ظاهرين في خصوص شيء دون آخر ، فلا محيص عن الالتزام بالعموم ، لدلالتهما على ذلك.

ولكن من خص جريانها باجزاء الصلاة قرب عدم دلالة الروايتين على

ص: 144

العموم ، بان : « شيء » في رواية زرارة لفظ مطلق ودلالة المطلق على الإطلاق انما هو بتمامية مقدمات الحكمة ، وإحداها عدم وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب ، وهي منتفية في المقام لوجود القدر المتيقن في مقام التخاطب وهو اجزاء الصلاة - باعتبار كونها مورد الرواية - فلا يمكن التمسك بإطلاق لفظ : « شيء » لعدم انعقاده. واما لفظ : « كل شيء » ، فهو كسابقه ، لأن ، « كل » لا تدل على العموم بنفسها وانما بلحاظ دلالة مدخولها ، وبعبارة أخرى : ان : « كل » تدل على عموم ما يراد من مدخولها ، وإلاّ فهي بنفسها غير دالة على الاستغراق والعموم ، فتتوقف دلالتهما على العموم على انعقاد مقدمات الحكمة في لفظ : « شيء » الّذي هو مدخولها ، وإحداها - وهي عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب - منتفية ، لوجوده وهو مورد السؤال.

ولكن هذا التقريب انما يتجه صدوره ممن يقول باعتبار عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب من مقدمات الحكمة - كالمحقق الخراسانيّ - اما من لا يقول بتوقف انعقاد الإطلاق على عدم وجود القدر المتيقن - كالمحقق النائيني - ، فصدور هذا التقريب منه غير واضح الوجه.

مع ان نفس المبنى مناقش فيه ، إذ لا يلتزم أحد بحمل المطلقات على خصوص مواردها - حتى المحقق الخراسانيّ - فلا وجه لاعتبار عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب في التمسك بالمطلقات.

ولو تنزل على ذلك ، فما ذكر في الرواية الثانية من ان لفظ : « كل » لا تدل على العموم بالوضع ، بل بمقتضى دلالة مدخولها ، فالمتبع هو عموم المدخول ، وهو يكون بتمامية مقدمات الحكمة ، وهي غير تامة كما عرفت.

غير وجيه ، لما حقق في محله من ان : « كل » من ألفاظ العموم بحيث تدل عليها بالوضع ، فلا يحتاج في دلالتها عليه إلى تمامية مقدمات الحكمة. وكلام المحقق الخراسانيّ مختلف من هذه الناحية.

وبالجملة : فما ذكر في التخصيص باجزاء الصلاة انما يتم بتمامية أمرين :

ص: 145

أحدهما : اعتبار عدم القدر المتيقن في مقام التخاطب من مقدمات الحكمة.

والآخر : عدم دلالة : « كل » على العموم بالوضع ، بل باعتبار ما يراد من مدخولها.

أما قاعدة الفراغ ، فهي عامة لجميع الأعمال ، لأنه وان كانت بعض رواياتها واردة في الطهور والصلاة ، إلاّ ان هناك روايتين يتمسك بهما للعموم :

إحداهما : رواية : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » فان : « كل » دالة على العموم ولا ظهور لها في فرد دون آخر.

والأخرى : رواية باعتبار ما ذكر فيها من قوله علیه السلام : « فانه حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » ، فانه وان لم يكن تعليلا - كما قيل - لكنه أشبه به ، ولسانه لا يختص بالوضوء - وان كان موضوعه - بل هو ظاهر في ان الشخص حين يتوجه للعمل أو حين يشتغل فيه يكون أكثر التفاتا إلى خصوصيات العمل وجزئياته المعتبرة فيه من وقت شكه ، وهذا لا يختص بعمل دون آخر.

فالمتحصل مما ذكرناه : ان كلتا القاعدتين تجريان في جميع الموارد التي تنطبقان عليها.

الجهة الرابعة : في عموم قاعدة التجاوز للشك في جزء الجزء ، كما لو شك في الآية السابقة وهو في اللاحقة ، أو في الكلمة السابقة في الآية وهو في اللاحقة ، أو في الحرف السابق من الكلمة وهو في اللاحق.

وقد قرب عدم عمومها واختصاصها بجزء العمل بوجوه ثلاثة :

الأول : ما قرره المحقق النائيني من : انه لا وجود لقاعدة التجاوز كي يتمسك بعموم دليلها أو إطلاقه ، وانما هي من باب تنزيل الجزء منزلة الكل ، وإلحاقه حكما بالكل ، فلا بد من الاقتصار على المقدار المنزل منزلة الكل ، وليس في أدلة التنزيل ما يتكفل تنزيل جزء الجزء منزلة الكل ، بل هي مقتصرة في التنزيل على خصوص الاجزاء كما لا يخفى على من لاحظ الروايات.

ص: 146

وهذا الوجه قد عرفت ما فيه من عدم الدليل إثباتا على تكفل الدليل تنزيل الجزء منزلة الكل ، بل ظاهره - لو تم - بيان قاعدة كلية عامة.

الثاني : ان المعتبر في قاعدة التجاوز ، التجاوز عن محل المشكوك ، فلا بد من فرض محل له قد جعله الشارع وقرره ، بحيث يكون فرض المحل امرا زائدا على المأمور به لا أمرا يتقوم به المأمور به ، فمع عدم وجود محل مقرر له شرعا لا يتحقق موضوع قاعدة التجاوز ، فلا وجه لجريانها ، وجزء الجزء لا محل له كي يقال تجاوز عنه ، فمثلا : امر الشارع بتكبيرة الإحرام في الصلاة وهي : « اللّه أكبر » ، فسبق كلمة : « اللّه » على كلمة : « أكبر » ليس امرا ملحوظا لدى الشارع ومأمورا به ، بل ليس المأمور به الا التكبيرة لا إجزاءها ، والسبق المذكور من مقوماتها ، فلا يقال لمن عكس وقال : « أكبر اللّه » انه جاء بالمأمور به ( التكبيرة خ ل ) من غير ترتيب ، بل يقال انه لم يجئ بالمأمور به ، فالترتيب المذكور من مقومات المأمور به لا أمر زائد عليه تعلق به الأمر الشرعي.

وهذا الوجه غير تام ، لأنه لا دليل على ما ذكره فيه من فرض كون المحل امرا زائدا على المأمور به مقررا من قبل الشارع ، بحيث يلحظ الترتب الشرعي ، بل الأدلة بالنسبة إلى المحل عامة فهي تدل على انه لو تجاوز عن محل الشيء المقرر له مطلقا سواء كان التقرير شرعيا - كأجزاء الصلاة - أو غيره - كما في آيات السورة وكلمات الآية وأحرف الكلمة - فانه يصدق التجاوز عن المحل بالنسبة إلى كل هذه الأمور.

الثالث : دعوى الانصراف ببيان : ان لفظ : « الشيء » في الروايات منصرف إلى الأجزاء بخصوصها دون أجزائها ، فعليها يحمل اللفظ ، فتختص القاعدة بها. وهذا كانصراف لفظ : « الحيوان » في أدلة عدم جواز الصلاة في اجزاء غير المأكول منه عن الإنسان إلى غيره.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى تمامية هذه الدعوى بالنسبة إلى أحرف

ص: 147

الكلمة ، لأنها وان كانت شيئا بالدقة ، لكن لفظ : « الشيء » في الرواية لا يشملها عرفا وينصرف عنها.

وهذه الدعوى لا تبتني على برهان كي يناقش فيه ، بل هي دعوى وجدانية يسهل لكل أحد المناقشة فيها بدعوى عدم الانصراف.

والتحقيق : ان المعتبر في جريان قاعدة التجاوز هو الدخول في الغير المترتب ، بحيث تكون ذات الغير المأمور بها محرزة ، وان لم يحرز بكونها امتثالا لفرض الشك في الجزء السابق.

وعليه ، نقول : ان المركب المؤلف من اجزاء ..

تارة : يكون الإخلال بأحد اجزائه لا يوجب سلب وصف الجزئية عن سائر الاجزاء بحيث يكون ذات الجزء متحققة ، كما لو لم يجئ بالركوع وأتى بالسجود ، فانه يصدق على السجود انه ذات الجزء المترتب عليه ، فمع الشك في الركوع وهو في السجود يكون الشك بعد الدخول في غير المترتب.

وأخرى : لا يكون كذلك ، بل يكون الموجود من الاجزاء في ظرف فقدان البعض الآخر مباينا عرفا للموجود مع وجود البعض الآخر ، وفي مثله لو شك في بعض الاجزاء وقد دخل في غيرها لا يصدق انه دخل في الغير المترتب على المشكوك لاحتمال فقدان المشكوك ، فيكون هذا الجزء مباينا للمأخوذ في العمل بذاته ، فلا يكون قد دخل في الغير المترتب - ولو كان ترتبه عقليا - وهذا نظير اجزاء الكلمة الواحدة فان الراء من : « أكبر » لا تتصف بأنها جزء : « أكبر » إلاّ إذا جيء بالكلمة بتمامها ، فالانضمام كما هو شرط للامتثال يكون مقوما لصدق عنوان المأمور به وصيرورة كل حرف جزء لذات المأمور به.

وعليه ، فمع الشك في التلفظ بالكاف وقد دخل في الراء لا يصح إجراء قاعدة التجاوز ، لعدم إحراز الدخول في الغير. ومثله التكبير المتقوم بكلمة : « اللّه أكبر ». بالنحو الخاصّ ، فان انضمام الكلمتين مقوم لصدق عنوان التكبير على اجزائه ، وكل

ص: 148

كلمة بمفردها لا تكون جزء للتكبير ، فمع الشك في قول : « اللّه » وهو في : « أكبر » لا مجال لإجراء قاعدة التجاوز. ولعل مثله اجزاء الآية ، وكل عنوان واقعي يتقوم بالمجموع كالحمد والشهادة ونحو ذلك.

والضابط : هو ما عرفت من عدم تحقق ذات الجزء مع الإخلال بالجزء الآخر ، بحيث يعد المتحقق مباينا بذاته لجزء المأمور به المنضم إلى غيره وقد يقع الإشكال في تشخيص بعض المصاديق.

فالتفصيل في جريان قاعدة التجاوز في جزء الجزء بالنحو الّذي عرفت هو المتعين.

ثم إن ثمرة هذا المبحث تكون كثيرة لو لم نقل بجريان قاعدة الفراغ في مورد الشك في صحة الجزء بعد الفراغ منه ، فانه مع البناء على جريان قاعدة التجاوز بالنسبة إلى جزء الجزء لو شك بعد الفراغ من الجزء في جزء الجزء لا تجب الإعادة ، ومع البناء على عدم جريانها تجب.

أما مع القول بجريان قاعدة الفراغ في الجزء بعد الفراغ منه ، فلا يختلف الحال عملا في مورد الشك بعد الفراغ عن الجزء في جزئه باختلاف البناءين ، لجريان قاعدة الفراغ في الجزء نفسه ، لأن الشك المذكور يرجع إلى الشك في صحته بعد الفراغ منه ، وهو مورد القاعدة. فظهور الثمرة العملية ينحصر - على هذا القول - في مورد الشك في أثناء العمل.

الجهة الخامسة : في عموم قاعدة التجاوز للشك في الشرط في أثناء المشروط.

وقد ذكر الأصفهاني لمنع العموم وجوها وأجاب عنها.

الأول : ان نسبة الشرط إلى جميع الاجزاء نسبة واحدة ، فمع الشك في تحققه في الجزء السابق يشك قهرا بتحققه في الجزء اللاحق الفعلي ، فإحرازه بالقاعدة بالنسبة إلى الجزء السابق لا يجدي شيئا ، لعدم إمكان إحرازه بها بالنسبة إلى الجزء

ص: 149

الفعلي ، لعدم تحقق التجاوز عنه ، فيكون اعتبار قاعدة التجاوز في الفرض لغوا ، للتلازم بين الشك في شرط الجزء السابق وشرط الجزء الفعلي اللاحق.

والجواب : ان هذا الوجه انما يتم بالنسبة إلى ما لا يمكن تبدله ( حدوثه خ ل ) في الأثناء كالطهارة ، أما ما يمكن تبدله كالستر ، فلا يتم هذا الوجه فيه ، ومثاله : لو لبس في أثناء الصلاة ما يستره قطعا وشك بعد ذلك في ان ما كان لابسه سابقا كان ساترا أو لم يكن ، فانه لا ملازمة في مثل الفرض كما لا يخفى ، فاعتبار قاعدة التجاوز لا يكون لغوا لجريانها في هذه الموارد ، وهو كاف في رفع اللغوية ، فإطلاق المنع لا يخلو عن الخدش.

الثاني : انه يعتبر في قاعدة التجاوز ان يكون الشيء ذا محل ، والشروط لا محل لها كي يتحقق التجاوز عنه.

والجواب : انه ...

ان أريد بعدم المحل ان المشروط ليس ظرفا ومحلا للشرط ، كما ان الكل ليس محلا للجزء ، فهذا لا يختص بالشرط المقارن بل يعمه ويعم السابق واللاحق ، فكما تجري القاعدة بالنسبة إلى الشرط السابق - كالوضوء على القول بشرطية نفسه - باعتبار كون محله هو الزمان السابق ، فكذلك فلتجر بالنسبة إلى المقارن باعتبار كون محله الزمان المقارن وقد تجاوز عنه الفاعل.

وان أريد بان الشرط انما هو شرط للمجموع لا لكل جزء جزء ، فلا محل له ، وانما المجموع محله. ففيه : انه قد حقق في محله ان الشرط انما هو للمركب ، وثبت بان المركب هو عين الاجزاء بالأسر ، فهو شرط للاجزاء بأسرها فيكون شرطا لكل جزء جزء.

واستشهد على ذلك : بأنه لو انتفى الشرط في بعض الاجزاء دون بعض وأمضى العمل ، لا يقال بتبدل الشرط وانه شرط جديد باعتبار ان الشرط الواقعي للمجموع وهذا للبعض ، بل يقال بانتفائه في بعض دون آخر. فالتفت.

ص: 150

الثالث : ان الشروط من الكيفيات والحالات للمشروط ، فلا يتحقق التجاوز عنها لا بالحقيقة ولا بالمسامحة ، بل التجاوز بكلا معنييه يتحقق بالنسبة إلى المتكيف بها دونها ، فلا مجال حينئذ لجريان قاعدة التجاوز فيها ، لعدم صدق موضوعها.

والجواب : ان الشروط على قسمين : قسم له وجود مستقل ، كالستر والاستقبال والطهارة ، وقسم لا يكون كذلك ، بل يكون كيفا للغير ، كالترتيب والموالاة. فالقسم الأول يتحقق بالنسبة إليه التجاوز ، فلا يكون مشمولا لهذا التقريب. نعم يبقى القسم الثاني ، فان الكلام فيه تام ، لأنه من كيفيات المشروط فلا وجود له إلا بتبع مشروطه.

إلى هنا يظهر ان المحقق الأصفهاني يلتزم بالتفصيل بين ما له وجود مستقل من الشروط وبين ما لا وجود له كذلك ، فتجري القاعدة في الأول دون الثاني.

وقد سبقه إلى ذلك الشيخ وتقريبه واضح ، لأخذ الشيء موضوعا للشك الّذي هو مورد القاعدة ، وواضح عدم صدقه عرفا على ما لا وجود له بنفسه.

إلا أنه قدس سره ذكر بيانا آخر يحقق فيه عدم جريان القاعدة في مطلق الشروط ، ومحصله : ان التجاوز قد فسر في بعض النصوص بالخروج عن الشيء والدخول في غيره ، وهذا يستدعي المغايرة بين المتجاوز عنه والمتجاوز إليه ، ولا إشكال في عدم صدق هذا المعنى عرفا في الشروط. فان الاستقبال - مثلا - واحد مستمر ، لأنه متعدد بحيث يصدق على الاستقبال في الركعة الثانية انه غير الاستقبال في الأولى ، ومع عدم المغايرة لا يتحقق الخروج والدخول في الغير كما لا يخفى ، فلا موضوع لقاعدة التجاوز في الشروط ، فلا مجال لجريانها (1).

وهذا التقريب وان كان بحسب النّظر الأولى وجيها ، إلاّ انه يمكن المناقشة فيه بما ذكر في باب استصحاب الأمور التدريجية ، من : ان الأمر التدريجي وان كان

ص: 151


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 302 - الطبعة الأولى.

مستمرا ومتصلا وواحدا دقة إلاّ انه قد يعد عرفا متعددا بلحاظ طرو بعض الحالات عليه ، كما بالنسبة إلى الليل والنهار ، فانهما يعدان عرفا أمرين ، مع ان الزمان مستمر لا انقطاع فيه.

وعليه ، فالاستقبال - مثلا - وان كان مستمرا غير منقطع ، إلاّ انه بلحاظ اعتبار الشروط للمركب - وهو الاجزاء بالأسر - يعد شرطا لكل جزء ، فيرى متعددا بنظر العرف بهذه الجهة وان كان واحدا بالنظر الدقي ، فتتحقق المغايرة عرفا بين الاستقبال في جزء والاستقبال في جزء آخر ، فيصدق الخروج عن الشيء والدخول في غيره.

هذا كله بالنسبة إلى الشروط التي تكون بنفسها متمحضة في الشرطية وليس فيها جهة أخرى غير جهة الشرطية.

وبعده يقع الكلام في الشروط التي تكون فيها جهة أخرى غير جهة الشرطية ، بأن تكون بنفسها متعلقا للأمر وموضوعا لأثر ما ، نظير صلاة الظهر ، فانها شرط في صحة صلاة العصر مع انها بنفسها متعلق للأمر وموضوعا للأثر ، فهل مثل هذه الشروط يكون الشك فيها مجرى قاعدة التجاوز بعد الفراغ والبناء على جريانها في الشروط الأخرى.

ووجه تخصيصها بالكلام جهتان :

الأولى : احتمال اختصاص أدلة القاعدة بموارد الشك في القسم الأول من الشروط مضافا إلى الاجزاء.

ويدفعه : ان الأدلة عامة لجميع موارد الشك في الوجود مما كان المشكوك ، له محل مقرر ولو كان مركبا تاما ، فيتمسك بعمومها ، ولا وجه لاحتمال اختصاص الأدلة بموارد دون أخرى.

ويؤيده ورود إلغاء الشك في النص بالنسبة إلى الأذان والإقامة ، مع انها ليست جزءا للصلاة ، وهي مأمور بها بالاستقلال ، لكن لها جهة ارتباط بالصلاة ،

ص: 152

ومثلها الأذان.

الثانية : ان مفاد قاعدة التجاوز ليس هو ترتيب الأثر على وجود المشكوك ، بل هو البناء على تحقق المشكوك ووجوده ، بحيث لا يلزم الإتيان به بعد هذا.

وعليه ، فجريان القاعدة في صلاة الظهر في أثناء العصر أو بعدها يقتضي عدم لزوم الإتيان بالظهر بعد تمام العصر ، لأن مفادها هو البناء على تحقق المتجاوز عنه ، فمقتضاها تحقق الإتيان بالظهر ، فلا وجه حينئذ لوجوب الإتيان بها بعد العصر ، مع انه لا يلتزم به أحد. فالالتزام بجريان قاعدة التجاوز يلزم منه ما ذكر ، كما ان عدم الالتزام به يستلزم تخصيص دليلها بلا وجه.

والتحقيق في رفع هذه الشبهة ، والتوفيق بين عدم الالتزام بعدم لزوم الإتيان بالظهر وجريان القاعدة فيها : ان قاعدة التجاوز وان كان مفادها هو البناء على وجود المشكوك وتحققه ، إلاّ انها انما تقتضي التعبد بالمشكوك بمقداره.

والمشكوك الّذي يكون موردا للقاعدة هاهنا ليس هو صلاة الظهر بقول مطلق ، لأنها بنفسها وبلحاظها ذاتها ، لم يتجاوز عن محلها ، وانما يكون التجاوز عن محلها بلحاظ جهة شرطيتها لصلاة العصر. فالمشكوك الّذي يكون مورد القاعدة في الفرض انما هو صلاة الظهر بهذا الاعتبار - أعني باعتبار شرطيتها للعصر ودخالتها في صحة العصر - لا بلحاظها نفسها وذاتها ، فجريان قاعدة التجاوز في صلاة الظهر لا ينافي الالتزام بوجوب الإتيان بها بعد العصر.

ثم إن الشيخ رحمه اللّه فصّل - احتمالا لا اختيارا - بين الشروط التي يكون محل إحرازها قبل العمل - كالوضوء - والشروط التي يكون محل إحرازها أثناء العمل - كالاستقبال - فأجرى قاعدة التجاوز في الأول مع الشك في أثناء العمل دون الثاني ، لأنه لا بيد من إحرازه للاجزاء المستقبلة.

فلا بد من الكلام في هذه الجهة ، كما لا بد من دفع توهم سراية ما ذكر بالنسبة إلى صلاة الظهر بالإضافة إلى اجزاء العمل ، لأن فيها جهة الشرطية للاجزاء

ص: 153

اللاحقة - لارتباطيتها - فإحراز الإتيان بالجزء يجدي لما سبق من الاجزاء دون ما لحق لعدم التجاوز عن محله.

وتوضيح الكلام على وجه يتضح به الحال يتوقف على بيان أقسام الشروط - بلحاظ جهة ارتباطها بالعمل التي هي شرط له - وأحكامها.

فنقول : الشروط على أقسام أربعة :

الأول : ان يكون فيه جهة زائدة على جهة الشرطية ، كأن يكون موضوعا لحكم بنفسه مضافا إلى جهة شرطيته ، كأجزاء الصلاة ، فان كلا منها مأمور به بنفسه ، كما انه شرط لغيره.

الثاني : ان يكون متمحضا في جهة الشرطية ، وكان بوجوده الواحد المستمر أو بوجوده المجموعي شرطا لكل جزء من أجزاء العمل ، كما لعله يظهر من أدلة اعتبار الاستقبال انه كذلك وأنه أمر واحد معتبر في جميع أجزاء الصلاة.

الثالث : ما كان كذلك وكان شرطا لكل جزء في ظرفه ، كالتستر.

الرابع : ما كان كذلك ، ولكنه كان مما لا بد من إحرازه قبل العمل ، كالوضوء - على قول - أما النحو الأول ، فلا إشكال في ان جريان قاعدة التجاوز فيه في الأثناء مجد ، لأنه بذاته له محل مقرر شرعا قد تجاوز عنه ، فإذا جرت قاعدة التجاوز فيه بلحاظ جهة جزئيته تحقق هذا الجزء تعبدا ، فيتحقق شرط الاجزاء اللاحقة تعبدا.

فلا وجه حينئذ لأن يقال بعدم إجرائه لعدم تحقق التجاوز عن المحل بالنسبة إلى ما لحق من الاجزاء ، لأن إجراءها فيه لا يكون بلحاظ جهة شرطيته كي يتأتى ما ذكر ، بل لحاظه نفسه وجهة جزئيته.

وأما النحو الثاني ، فلا مجال لقاعدة التجاوز فيه في الأثناء مع فرض إحرازه بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة لوجهين.

الأول : إن الشرط انما هو الشرط المستمر لا كل جزء منه ، فجريان قاعدة

ص: 154

التجاوز فيه بالنسبة إلى الاجزاء السابقة لا يثبت الشرط إلاّ بالملازمة - كما لا يخفى - وهو بنفسه لا أثر له شرعا ، لأن الأثر يترتب على وجوده المستمر.

وقد يقال : بأنه يمكن إجراء قاعدة التجاوز فيه ويضم إليها الاستصحاب ، بان يستصحب فيثبت استمراره بالاستصحاب ، لأنه موضوعه ، فيترتب الأثر لأن الشرط هو موضوع الاستصحاب ، ولا مانع من استصحاب الشرط كيف ما كان.

لكنه يشكل : بان الاستصحاب يتوقف على ثبوت اليقين السابق بالمستصحب إما الوجداني ، أو التعبدي ، وكلاهما منتف.

أما الأول : فواضح ، لأنه الفرض.

وأما الثاني : فلأنه انما يثبت بقاعدة التجاوز ، وجريانها يتوقف على كون موضوعها مما يترتب عليه الأثر بنفسه ، وقد عرفت ان لا أثر له مطلقا ، فلا تجري بنفسها فيه.

الثاني : انه يعتبر في جريانها تحقق التجاوز عن محل المشكوك ، وإذا كان الشرط هو المجموع أو المستمر لا يتحقق التجاوز عنه ما دام في الأثناء ، كما لا يخفى.

وأما النحو الثالث ، فلا يرى هناك مانع لجريانها بالنسبة إلى الاجزاء السابقة ، لأن المفروض كونه شرطا لكل جزء في ظرفه ، فقد تحقق التجاوز عنه بالتجاوز عن نفس الجزء.

وأما النحو الرابع ، وهو موضوع الكلام الشيخ ، فالحق فيه عدم جريانها فيه في الأثناء ، لعدم إجرائها. وذلك لأن ذات الشرط لا يكون مأمورا به بنفسه ، وإلاّ لكان دخيلا في المركب فيكون جزءا ، وهو خلاف الفرض ، وانما أخذ التقيد به دخيلا ، وجزءا في الصلاة ، فالشرطية تنتزع عن أخذ التقيد بالعمل. ومعنى التقيد في هذا النحو من الشروط ، هو كون العمل المركب مسبوقا بالعمل وهو الوضوء ، فحيث ان العمل المركب عبارة عن اجزائه ، فكل جزء أخذ فيه مسبوقيته بالوضوء ، فإحراز المسبوقية بالقاعدة بالنسبة إلى الاجزاء السابقة لا يجدي بالنسبة إلى اللاحقة ، لأنها

ص: 155

لم يتجاوز عن محلها ، فلا يتحقق موضوع القاعدة بالنسبة إليها.

وهذا الكلام بعينه جار في مورد الشك في صلاة الظهر في أثناء العصر ، لأن الصورتين بملاك ونحو واحد.

هذا تمام الكلام في جريان قاعدة التجاوز في الشروط ، فتدبر جيدا.

الجهة السادسة : في عموم قاعدة الفراغ للإجزاء ، بمعنى انه إذا شك في صحة الجزء بعد الفراغ عنه ، فهل تجري قاعدة الفراغ فيه فيبني على صحته ، أو لا بل تختص بمورد الشك في صحة الكل؟. الّذي يقتضيه عموم رواية زرارة : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » هو جريانها في مورد الشك في صحة الجزء ، إذ لا وجه لاختصاصها بالكل. وان كانت الرواية الثانية موضوعها الصلاة والطهور. والتمسك بالعموم على التعميم كاف في المطلوب ، فلا حاجة حينئذ إلى الاستدلال بفحوى قاعدة التجاوز ، من انه إذا كان الشك في وجود الجزء ملغى في نظر الشارع فإلغاء الشك في صحته أولى.

مضافا إلى انه لم يعلم كون هذه الأولوية من أي نوع هي ، هل هي من الأولوية القطعية أو الظنية التي ترجع إلى القياس؟

نعم ، يستثنى من ذلك ما إذا كانت جهة الشك مقومة لتحقق الجزء كالموالاة في حروف الكلمة ، أو الترتيب بين حروفها ، فانه مع الشك فيها لا يمكن إجراء القاعدة لإثبات صحة الكلمة لعدم إحراز الكلمة كي يتعبد بصحتها ، فتدبر.

الجهة السابعة : في ان قاعدة الفراغ هل تعم ما إذا كان منشأ الشك في الصحة هو الشك في الشرط أو لا؟ والحق العموم ، لمقتضى عموم رواية زرارة السابقة ، إذ لا ظهور فيها في كون المنشأ هو الشك بالإخلال بجزء دون شرط.

ثم ان للشيخ رحمه اللّه كلاما في الموضع السادس يرتبط بهذه الجهة من الكلام ، وهذا نصه : « ان الشك في صحة المأتي به حكمه حكم الشك في الإتيان ، بل هو هو ، لأن مرجعه إلى الشك في وجود الشيء الصحيح ، ومحل الكلام ما لا يرجع

ص: 156

فيه الشك إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة ، كما لو شك في تحقق الموالاة المعتبرة في حروف الكلمة أو كلمات الآية. لكن الإنصاف ان الإلحاق لا يخلو عن إشكال ، لأن الظاهر من اخبار الشك في الشيء انه مختص بغير هذه الصورة ... ».

وهذه العبارة لا تخلو عن غموض ، وهي مع قطع النّظر عن التعليل المذكور يمكن حملها على أن قاعدة الفراغ محكومة لقاعدة التجاوز ، لأن نسبتها إليها نسبة الأصل المسببي إلى الأصل السببي ، لأن الشك في الصحة ينشأ من الشك في وجود جزء أو شرط ، ويمكن إحرازه بقاعدة التجاوز ، فلا يبقى لقاعدة الفراغ موضوع تعبدا. وبذلك يكون حكم الشك في الصحة حكم الشك في الإتيان.

وهذا انما يتحقق فيما إذا كان منشأ الشك مما له وجود مستقل بحيث يصدق التجاوز عنه ويكون قابلا للتعبد بنفسه ، أما ما لا يكون كذلك ، كالموالاة بين حروف الكلمة والترتيب بين الكلمات ، فلا يتم ما ذكر ، لعدم جريان قاعدة التجاوز في مثل هذه الأمور لعدم استقلاليتها في الوجود فلا يتحقق التجاوز عنها فهذه الفروض تكون محل إشكال.

ولكن هذا التفسير لا يتلاءم مع التعليل المذكور لأن ظاهره رجوع مورد قاعدة الفراغ إلى مورد قاعدة التجاوز لا انتفاء موضوعها تعبدا بجريان قاعدة التجاوز الظاهر في تعدد المورد نوعا.

وعلى هذا تكون العبارة غير واضحة المراد ، لأن ما ذكره بعد التعليل من كون محل الكلام ما لم يرجع الشك فيه إلى الشك في ترك بعض ما يعتبر في الصحة كالموالاة. غير تام - بحسب النّظر البدوي - لأن المنشأ إذا كان هو الشك في مثل الموالاة يرجع الشك إلى الشك في وجود العمل الصحيح أيضا.

فالجمع بين التعليل وما ذكره بعده مشكل (1).

ص: 157


1- يمكن ان يكون نظره قدس سره إلى التفصيل بين الشرائط المعتبرة شرعا في الصحة مما لا يتقوم بها العمل المشروط كالطهارة والاستقبال بالنسبة إلى اجزاء الصلاة ، وبين الشرائط المقومة عقلا للعمل وليست معتبرة شرعا في صحته ، ولا وجود لها مستقل عن وجود المشروط كالموالاة في الكلمة ، فان فقدانها يستلزم عدم صدق الكلمة على الحروف الملفوظة. ففي الأول تجري القاعدة مع الشك في الشروط لأنها ذات وجود مستقل ومتعلقة للأمر الشرعي. واما في الثاني فيشكل جريانها في نفس الشرط لعدم تعلق الأمر به ولا في المشروط لظهور الأدلة في كون موضوع القاعدة هو الشك في أصل الوجود لا ما إذا علم وجود شيء وشك في انه هو الجزء أو غيره. فمراده ان محل الكلام في إلحاقه بالشك في الوجود هو القسم الثاني لا الأول لأن الأول ، مجرى القاعدة بنفسه بلا حاجة إلى الإلحاق. كما انه يشكل الإلحاق في القسم الثاني للاستظهار المتقدم ، فلا بد من التماس دليل آخر على إثبات صحة العمل مع الشك فيه. فتدبر. وقد تحمل بعض الاعلام في توجيه كلام الشيخ رحمه اللّه واللّه سبحانه العالم.

ويمكن ان يقال في مقام التوفيق : ان ما يعتبر في الصحة عنوانا تارة : يكون في نفسه خارجا عن حقيقة الشيء ، كالطهارة والاستقبال ، فانهما من شروط الصلاة ولكنهما خارجان عن حقيقتهما ، إذ صدق الصلاة لا يتقوم بهما. وأخرى : يكون مقوما ، كالموالاة بين الحروف والكلمات ، فانها مقومة عقلا لصدق الكلمة والآية وبدونها لا تصدقان ، ولذلك كانت من الشروط العقلية ، فإذا وجد الشك في الموالاة حصل الشك في وجود نفس الكلمة أو الآية.

ومن هنا يتضح المراد من كون محل الكلام ما لم يكن من هذا القبيل - أعني : من قبيل الشك في الموالاة - ، فان ما كان من هذا القبيل تجري فيه قاعدة التجاوز رأسا ، فلا إشكال فيه.

فالمراد : ان محل الكلام في السراية - أعني : سراية أدلة قاعدة التجاوز إليه باعتبار رجوع الشك فيه إلى الشك في الوجود - هو النحو الأول. أما النحو الثاني فلا إشكال فيه لأن الشك فيه شك في الوجود ، فلا يتكلم في السراية بالنسبة إليه لشموليته لقاعدة التجاوز بلا كلام.

ص: 158

وبهذا لا يكون هناك تناف بين التعليل وما ذكره بعده ، إذ ليس المفاد ما قد يستظهر من ان ما كان من قبيل الموالاة محل إشكال في إرجاعه إلى مورد قاعدة التجاوز كي تشمله أدلتها ، بل المفاد انه من مواردها فلا كلام فيه ، وانما الكلام في غيره.

وعليه ، فلا وجه لما ذكره المحقق الأصفهاني من : انه ان أراد عدم جريان قاعدة الفراغ في الفرض فهو وجيه ، لأن موردها الشك في صحة الموجود لا في الموجود. وان أراد عدم جريان قاعدة التجاوز في نفس الموالاة فهو وجيه أيضا ، لعدم استقلالها في الوجود ، إلاّ انه يمكن جريان القاعدة في نفس الجزء للشك في وجوده ( انتهى ). فانه لا مجال حينئذ إلى مثل هذا كما لا يخفى.

الجهة الثامنة : فيما يعتبر في قاعدة التجاوز. والكلام في موضعين :

الأول : في اعتبار التجاوز عن المحل وتعيينه.

لا إشكال في اعتبار التجاوز عن المحل في جريان قاعدة التجاوز ، فانه من مقومات موضوعها ، لما عرفت من ان التجاوز عن نفس المشكوك مع فرض الشك غير متصور إنما الإشكال في تعيين المحل الّذي لا بد من تحقق التجاوز عنه ، فهل هو خصوص المحل الشرعي الّذي قرره الشارع ، أو هو أعم منه ومن غيره من العقلي والعادي؟ - فان المحل ..

تارة : يكون مقررا من قبل الشارع ، كمحل اجزاء الصلاة ، فان الترتيب الخاصّ بينها من مقررات الشارع.

وأخرى : يكون مقررا من قبل العقل بمقتضى الوضع أو غيره وليس مقررا من قبل الشارع ، نظير تقدم : « اللّه » على « أكبر » في التكبيرة ، أو تقدم حروف الكلمة بعضها على بعض ، فان ذلك ليس من مجعولات الشارع بحيث يكون العكس إتيانا بالمأمور به من غير ترتيب ، بل من مقررات العقل ، فلو عكس لم يتحقق المأمور به بالمرة بنظر العقل.

ص: 159

وثالثة : يكون بمقتضى العادة والالتزام العادة والالتزام النوعيّ أو الشخصي ، كما لو كان من عادة شخص الصلاة في أول الوقت أو الموالاة في الغسل أو نظير ذلك -.

أما التجاوز عن المحل الشرعي فمما لا كلام فيه أصلا.

وانما الكلام في التجاوز عن المحل العقلي أو العادي ، فهل تجري قاعدة التجاوز مع حصوله أو لا.

أما التجاوز عن المحل العقلي ، فالتحقيق كفايته في جريان القاعدة لإطلاق الأدلة ، إذ لم يقيد التجاوز فيها بالمحل المقرر شرعا بل أخذ مطلقا ، ويصدق على الدخول في الغير مطلقا تجاوز عن محل الشيء ، ولو كان الترتيب غير شرعي ، فيكون مشمولا للأدلة.

هذا مع انه يمكن ان يقال : ان المحل العقلي معتبر شرعا ، فيكون محلا شرعيا ، وذلك لأن الأمر يتعلق بالكلمة بكيفيتها الخاصة لا بذات الحروف كيف ما تحققت. وبعبارة أخرى : ان الأمر متعلق بالكلمة الخاصة ، وهي عبارة عن الحروف بالكيفية الخاصة ، فالترتيب بين حروف الكلمة ملحوظ في متعلق الأمر ، فيكون شرعيا.

هذا مع ما تقدم من عدم جريان قاعدة التجاوز في مثل الكلمة والتكبيرة مع الشك في جزئها مع قطع النّظر عن كون المحل عقليا أو شرعيا. وعلى هذا فالبحث المزبور يخلو عن الفائدة ، فالتفت.

وأما التجاوز عن المحل العادي ، فقد بنى الشيخ رحمه اللّه على التأمل في كفايته في جريان القاعدة ، لإطلاق الأدلة وعموم التعليل في قوله : « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » ، فانه ظاهر في تقديم الظاهر على الأصل ، فالمدار على الظهور النوعيّ ولو كان من العادة ، ولأنه يلزم من جريانها تأسيس فقه جديد ومخالفة إطلاقات كثيرة (1).

ص: 160


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /411- الطبعة القديمة.

ولكن الإنصاف ان ما ذكره من شمول إطلاق الأدلة للفرض وعموم التعليل له غير ثابت ، وذلك لأن الظاهر من الأدلة ان الشيء المتجاوز عنه مما له محل بالنظر إلى ذاته وبقول مطلق ، بحيث لا يختلف فيه مكلّف عن آخر.

وهذا غير متحقق بالنسبة إلى ما له محل عادي ، فان كون محل الشيء هو هذا ليس بلحاظ ذاته بل بالإضافة إلى الشخص أو النوع ، فمثل هذا لا يكون مشمولا للأدلة من رأس.

ونظير هذا ما يقال من عدم شمول ما دل على حرمة الصلاة في اجزاء محرم الأكل لما كان محرما بالعرض بالنسبة إلى مكلف خاص - كما لو كان لحم الغنم مضرا له فيحرم أكله عليه - ، باعتبار ظهور الدليل في إرادة محرم الأكل بقول مطلق وبالنظر إلى ذاته.

وأما التعليل ، فهو لا يقتضي التعميم ، لأن ظاهره انه مقام تقديم خصوص ظهور حال المسلم في انه في مقام أداء الوظيفة الشرعية لا يترك ما هو جزء أو شرط على الأصل لا مطلق ظهور حاله ، فلا يشمل تقديم ظهور حاله في عدم ترك ما اعتاده النوع أو بشخصه بلحاظ الاعتياد النوعيّ أو الشخصي كما ذكره قدس سره ، لعدم دخله في مقام أداء الوظيفة الشرعية ، لعدم ارتباطه بها ، كما لا يخفى.

الثاني : في اعتبار الدخول في الغير وتعيينه.

لا إشكال في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة التجاوز ، لأخذه في الرواية في موضوع القاعدة. وإنما الإشكال في أن الغير الّذي لا بد من الدخول فيه هل هو مطلق الغير ولو لم يكن مترتبا شرعا على المشكوك كما هو مقتضى إطلاق الغير في النصوص ، كمقدمات الأفعال ، نظير الهوي إلى السجود بالنسبة إلى الركوع؟

أو خصوص الغير المترتب شرعا ، كالسجود بالنسبة إلى الركوع ، فلا يدخل ما كان من قبيل المقدمات؟. فان كان المراد هو مطلق الغير ، كان قيد الدخول في الغير المأخوذ في الرواية قيدا توضيحيا للتجاوز والخروج عن الشيء ، لأن التجاوز لا

ص: 161

يتحقق إلاّ بالدخول في الغير ، ولا يكون قيدا احترازيا.

ومن هنا لا يتضح المراد من ما ذكره الشيخ في الموضع الثالث من أن الدخول في غير المشكوك تارة : يكون محققا للتجاوز. وأخرى : لا يكون ، بل يكون التجاوز حاصلا بدونه ، لأن التجاوز مطلقا لا يتحقق إلا بالدخول في الغير (1).

وقد ذهب المحقق العراقي قدس سره إلى : ان مقتضى الإطلاقات الدالة على اعتبار التجاوز عن المحل هو اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا ، لعدم تحقق التجاوز عن المحل بدونه ، وان أخذه في لسان النصوص لأجل كونه محققا للتجاوز عن المحل لا لخصوصية فيه (2).

أقول : ان التجاوز عن المحل لا يتحقق إلا بالاشتغال بما يكون بينه وبين المتجاوز عنه طولية وترتب ، فالاشتغال بالذكر في أثناء القيام لا يعد تجاوزا عن محل القراءة لعدم الترتب والطولية بينهما ، بخلاف ما إذا دخل في الركوع.

وبما ان الركوع عن قيام لا يمكن بدون الهوي إليه عقلا فاعتبار القراءة عن قيام واعتبار الركوع بعدها مستلزم لترتب الهوي إلى الركوع على القراءة ، وتأخره عنها إما بحكم الشرع بدعوى ان اعتبار ذي المقدمة - وهو الركوع - مستلزم لاعتبار مقدمته. واما بحكم العقل بلحاظ توقف الركوع على الهوي ، فإذا فرض تأخر الركوع عن القراءة كان الهوي إليه متأخرا عنها أيضا. وعليه فالدخول في الهوي مستلزم للتجاوز عن محل القراءة وهو القيام غاية الأمر التجاوز عن محله العقلي لا الشرعي ، لعدم أخذ الهوي متعلقا للأمر.

وعليه ، فلا بد من البحث في ان المحل الّذي يعتبر التجاوز عنه هو المحل الشرعي ، كالدخول في الركوع بالنسبة إلى القراءة ، أو ما يعم المحل العقلي كالدخول

ص: 162


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /411- الطبعة القديمة.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 54 - طبعة المؤسسة النشر الإسلامي.

في الهوي بالنسبة إليها.

وأما الالتزام باعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا لأجل تقوم التجاوز به فهو ، مصادرة وأول الدعوى ، إذ عرفت ان التجاوز عن المحل يتحقق بالدخول في مثل الهوي. نعم ، التجاوز عن المحل الشرعي لا يكون إلاّ بالدخول في الغير المترتب شرعا ، فينبغي إيقاع الكلام في هذه الجهة كما عرفت.

هذا مضافا إلى ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من : ان عنوان التجاوز عن المحل لم يؤخذ في لسان النصوص ، بل المأخوذ التجاوز عن الشيء المشكوك ، والمراد به التجاوز بالعناية والمسامحة ، لأن التجاوز الحقيقي لا يصدق إلا إذا فرض وجود الشيء. ومن الواضح صدق التجاوز عن القراءة مسامحة إذا دخل في الهوي ، ولا يعتبر فيه الدخول في المترتب شرعا.

إذن ، فالمطلقات لا تقتضي اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا ، بل يكفى مطلق المترتب ، ويقع الكلام بعد ذلك في وجود ما يقيد هذه العمومات أو المطلقات ظاهره اعتبار الدخول في المترتب شرعا.

وقد ذهب الشيخ رحمه اللّه إلى ذلك وأفاده في بيانه : ان الظاهر من صحيحة إسماعيل بن جابر - المتقدمة - هو ذلك ، وذلك لظهور انه علیه السلام ذكر الأمثلة المذكورة في الصدر توطئة وتحديدا للقاعدة الكلية المذكورة في الذيل ، فمقتضاه ان الغير الّذي لا بد من الدخول فيه في جريان القاعدة ما كان من قبيل السجود بالنسبة إلى الركوع والقيام بالنسبة إلى السجود ، وان ما كان من قبيل الهوي والنهوض لا يعد غيرا ، يكون الدخول فيه محققا لموضوع القاعدة ، وإلاّ لقبح ذكر السجود والقيام في مقام التحديد والتوطئة. « انتهى » (1).

وقد نفاه المحقق الأصفهاني قدس سره : بان الظاهر ان الأمثلة المذكورة في

ص: 163


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /411- الطبعة القديمة.

الصدر من باب التمثيل لا التحديد ، وإلاّ للزم الأخذ بجميع خصوصيات الصدر فيقتصر فيها على مورده وهو الشك في الركوع بعد الدخول في السجود والشك في السجود بعد الدخول في القيام.

والقول بالتفكيك بين موضوع الشك والغير ، بحمل ذكر الأول على التمثيل وذكر الثاني على التحديد تحكم بحت. وعدم تعرض الإمام علیه السلام للانتصاب والهوي ليس من جهة عدم اعتبار الدخول فيهما ، بل لأجل ان الغفلة الموجبة للشك لا تحصل - عادة - في حالهما لقربهما من الفعل المشكوك (1).

ولكن ما ذكره لا يمكن الالتزام به ، لظهور ان ذكر الخصوصيات في رواية إسماعيل انما هو في مقام تحديد الغير.

واما ما ذكره من استلزام ذلك للالتزام بجميع خصوصيات الصدر المستلزم للاقتصار على خصوص مورد الرواية ..

فهو ممنوع ، للعلم بأن خصوصية الركوع والسجود لم تؤخذ في موضوع الشك ، وإلا لكان تعقيب الصدر بالقاعدة الكلية لغوا محضا - كما لا يخفى - فبالجملة : ان الصدر ظاهر في كونه في مقام التحديد والتوطئة للقاعدة الكلية ، وهو يشتمل على جهتين :

موضوع الشك.

والغير الّذي لا بد من الدخول فيه.

ومقتضى القواعد الأولية هو الأخذ بكلتا الجهتين بخصوصياتهما ، إلاّ انه حيث كان هناك مانع من الأخذ بخصوصيات الجهة الأولى لاستلزامه لغوية ذكر القاعدة الكلية اقتصر على الأخذ بخصوصيات الجهة الثانية حيث لا مانع منه.

فالتفكيك في الصدر بالقول بأنه تحديد من جهة وتمثيل من جهة مما لا بد منه

ص: 164


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 309 - الطبعة الأولى.

فتدبر.

إلحاق : أفتى صاحب المدارك قدس سره بعدم الاعتناء بالشك في الركوع لو كان في حال الهوي إلى السجود ، وبالاعتناء بالشك في السجود في حال نهوضه إلى القيام (1).

وقد أشكل عليه صاحب الحدائق رحمه اللّه ، بان هذه الفتوى أشبه بالفتوى بالمتناقضين (2).

وقد أورد على صاحب الحدائق : بان هذا الكلام مما لا يصلح صدوره من الفقيه ، لأن قاعدة التجاوز ليست من القواعد العقلية التي لا تقبل التخصيص والتقييد ، بل هي من القواعد التعبدية التي يقتصر فيها على مورد الدليل ، فكما لا تجري القاعدة بالنسبة إلى اجزاء الوضوء لورود النص ، فكذلك يمكن ان لا تجري في مورد الشك في السجود في حال النهوض لورود النص أيضا (3).

ولكنه يمكن الاعتذار عنه ، بان نظره إلى ان قاعدة التجاوز من القواعد العامة ، فاما أن يكون دليلها شاملا لمورد الشك في الشيء بعد الدخول في مقدمة الفعل الآخر فيكون عاما لجميع الموارد. واما ان لا يكون شاملا فيكون عالما لجميع الموارد أيضا. فالتفكيك بين الموارد غير ظاهر.

وعلى كل ، فالظاهر استناد صاحب المدارك في فتواه إلى روايتي عبد الرحمن الواردتين في كلا الموردين المتضمنتين لمضمون الفتوى ..

أما الأولى فهي : « قلت لأبي عبد اللّه : رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لم يركع؟. قال علیه السلام : قد ركع » (4).

ص: 165


1- العاملي الفقيه السيد محمد. مدارك الأحكام4/ 249 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- البحراني الفقيه الشيخ يوسف. الحدائق الناظرة9/ 177 - الطبعة القديمة.
3- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 302 - الطبعة الأولى.
4- وسائل الشيعة 4 / 937 باب : 13 من أبواب الركوع ، الحديث : 6.

وأما الثانية ، فهي : « قلت لأبي عبد اللّه رجل رفع رأسه عن السجود فشك قبل أن يستوي جالسا فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟. قال علیه السلام : يسجد قال : فرجل نهض من سجوده فشك قبل ان يستوي قائما فلم يدر أسجد أم لم يسجد؟. قال علیه السلام : يسجد » (1).

وهاتان الروايتان غير متباينتين منطوقا لاختلاف موردهما.

وانما الكلام في نسبتهما مع رواية إسماعيل بن جابر .. فمن يذهب إلى اعتبار الدخول في مطلق الغير بمقتضى الإطلاق - كالمحقق الأصفهاني - كان في سعة ، لأن غاية ما يترتب على قوله هو خروج الدخول في النهوض عن الاعتبار بمقتضى الرواية الثانية بالتقييد ، لأن المستفاد من رواية إسماعيل قاعدة كلية يقيد إطلاقها في هذا المورد.

ولا محذور فيه ولا التواء. هذا مع ان التأمل في الرواية الثانية يقرب حملها على قاعدة الفراغ ، وذلك لأنه في سؤاله الأول فرض رفع رأسه عن السجود ثم تحقق الشك ، وهو ظاهر في وقوع السجود منه ، فشكه في السجود وعدمه لا بد ان يرجع إلى الشك في انه سجد واحدة أو اثنتين ، ولكنه لا يتلاءم مع تقييد الشك بما قبل الاستواء جالسا ، إذ لا يختلف الحال في ذلك بين كونه قبل الجلوس أو بعده. مع ان ظاهر النص كون المشكوك فيه نفس ما رفع رأسه عنه.

وعليه ، فاما ان تحمل الرواية على إرادة رفع رأسه عن السجود متخيلا ذلك ثم شك فيه ، أو تحمل على إرادة الشك في صحة سجوده الواقع ، ويمكن ان ينفى السجود بانتفاء بعض خصوصياته المعتبرة فيه - فالشك فيها يصحح قوله : « أسجد أم لم يسجد » - كما ورد في بعض النصوص انه لا سجود لمن لم يصب أنفه بما يصيب جبينه ، وهو مستعمل عرفا وليس ببعيد ، وفي مثله يحتمل الفرق بين الجلوس وما

ص: 166


1- وسائل الشيعة 4 / 972 باب : 15 من أبواب السجود ، الحديث : 6.

قبله باعتبار ان الجلوس حالة أخرى والسائل يشك في ان النهوض للجلوس هل هو حالة أخرى أو لا؟. وقد ورد في بعض روايات قاعدة الفراغ اعتبار الدخول في حالة أخرى وحمل النص على هذا الاحتمال اقرب عرفا (1) ، فيكون أجنبيا عن قاعدة التجاوز فتدبر. ومثله سؤاله الآخر ، لوحدة السياق واتحاد التعبير في السؤالين.

وأما من يرى دلالة الرواية على اعتبار الدخول في خصوص الغير المترتب شرعا ، فالتنافي بين هذه الرواية - أعني : رواية إسماعيل - والرواية الأولى عنده حاصل ، لأن رواية إسماعيل بصدرها تقتضي - بمقتضى ورودها للتحديد - إلغاء الدخول في الهوي عن الاعتبار ، وهذه الرواية - أعني : رواية عبد الرحمن - تدل على اعتباره ، فالتنافي ظاهرا حاصل بينهما. أما الرواية الثانية فهي واردة على مقتضى القاعدة المستفادة من رواية إسماعيل. فلا بد من علاج هذا التنافي وحلّه.

وقد قرب المحقق النائيني عدم التنافي والعلاج بما بيانه : ان السجود تارة : نقول بأنه من الأفعال. وأخرى : نقول بأنه من الهيئات.

فعلى الأول : لا بد من القول باعتبار آخر مرتبة الهوي المتصل بالهيئة الساجدية أو تمام الهوي بعد الركوع في حقيقة السجود ، فإذا تحقق أول جزء منه فقد تحقق السجود.

وعلى هذا لا تكون هناك منافاة بين الروايتين ، لأنه على الاعتبار الثاني - أعني : اعتبار تمام الهوي في حقيقة السجود - تكون رواية عبد الرحمن موضوعها الشك في الركوع بعد السجود ، لأن المفروض انه دخل في السجود بمجرد تحقق الهوي منه ، وهذا الموضوع هو بنفسه موضوع رواية إسماعيل.

ص: 167


1- لم يظهر وجه الأقربية ، بل الأقرب هو الأول ، فيكون المورد من موارد قاعدة التجاوز قبل الدخول في الغير المترتب وهو الجلوس بعد السجود. فلاحظ ( منه عفي عنه ).

وعلى الاعتبار الأول - أعني : اعتبار آخر مراتب الهوي في حقيقة السجود - تحمل رواية عبد الرحمن على هذه المرتبة بقرينة رواية إسماعيل الواردة في مقام التحديد ، فيتحد موردهما ، فلا منافاة بينهما بل بينهما تمام الوفاق.

وعلى الثاني : فيخرج الهوي عن حقيقة السجود ، فيحصل التعارض بين الروايتين ، إلاّ انه يمكن علاجه بالالتزام بتقييد رواية إسماعيل لرواية عبد الرحمن ، وذلك لأن دلالة رواية عبد الرحمن على كفاية مطلق الدخول في الهوي انما كانت بالإطلاق ، فيمكن تقييده وحمله على خصوص الهوي المنتهى إلى السجود بواسطة رواية إسماعيل الدالة على اعتبار الدخول في السجود (1).

ولكن (2) ما أفاده في بيان تقييد رواية عبد الرحمن عجيب منه ، وذلك لما تقرر من ان التقييد إنما يقتضي تخصيص موضوع الحكم بالطبيعة الملازمة للقيد.

وبعبارة أوضح انه عبارة عن تقييد موضوع الحكم في الدليل المطلق ، وهو الطبيعة السارية بحصة خاصة منه مع المحافظة على موضوعية الطبيعة للحكم ، فأحد الدليلين انما يكون مقيدا للآخر فيما كان مفاده أن موضوع الحكم ليس هو الطبيعة على الإطلاق بل الطبيعة المتقررة في الفرد الخاصّ منها.

أما إذا كان مفاد أحد الدليلين أن موضوع الحكم هو الحصة الخاصة لا الطبيعة المتحصصة ، فلا يكون هذا مقيدا للدليل الآخر الدال على ان موضوع الحكم

ص: 168


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 474 - الطبعة الأولى.
2- يمكن ان يناقش أيضا : ان دلالة رواية إسماعيل على الاعتناء بالشك قبل السجود إنما هي بالمفهوم - على ما يأتي - ومن الواضح ان المفهوم بالنسبة إلى رواية عبد الرحمن مطلق لشموله لحالتي القيام والهوي ، واختصاص رواية عبد الرحمن بحالة الهوي ومقتضى القواعد الصناعية تقييد المفهوم برواية عبد الرحمن والالتزام بتعدد الشرط في إلغاء الشك في الركوع. ويحتمل ان إلغاء الشك حال الهوي يستلزم إلغاء خصوصية الشك حال السجود ، لأنه متأخر عن الهوي ، فيتحقق التعارض بين النصين ، فلاحظ. ( منه عفي عنه ).

هو الطبيعة السارية ، بل يكون متعارضا معه ومنافيا له.

فحمل المطلق على المقيد انما يصلح لو كان لسان المقيد بالنحو الأول لا الثاني. فمثلا لو ورد : « أكرم العالم » ثم ورد : « أكرم العادل » ، فتارة : يستفاد من الدليل الثاني تقييد موضوع الحكم وهو العالم بالعادل. وأخرى : يستفاد منه ان موضوع الحكم هو العادل بلا دخل للعلم فيه.

فعلى الأول : يحمل المطلق عليه. وعلى الثاني : لا يحمل لتنافيهما في مقام الدلالة - كما لا يخفى - وما نحن فيه من قبيل الثاني ، وذلك لأن مفاد رواية عبد الرحمن على ما ذكره الاعتبار بالشك الحادث حال الهوي مطلقا سواء تعقبه السجود أو لم يتعقبه.

ومفاد رواية إسماعيل الاعتبار بالشك الحادث في خصوص السجود ، فقد أخذ حدوثه في حال السجود موضوعا للحكم فيها. وأما بقاؤه إلى حال السجود مع كون حدوثه حال الهوي فهو غير معتبر في هذه الرواية.

وبالجملة : ليس مفاد رواية إسماعيل على اعتبار الشك الحاصل في السجود ولو بقاء كي يقيد به إطلاق رواية عبد الرحمن لعدم المنافاة بينهما حينئذ ، بل مفادها ان موضوع الاعتبار هو الشك الحادث في السجود دون الحادث في حال الهوي ، فهما متنافيان مفادا ، ولا وجه لحمل إحداهما على الأخرى ، إذ مقتضى كونها مقيدا للإطلاق كون مفادها هو عدم الاعتناء بالشك الحاصل حال الهوي المتعقب بالسجود ، وهو أجنبي عن مفادها بالمرة كما هو واضح جدا.

كما أن أعجب منه إيراد السيد الخوئي عليه : بان التنافي بين المنطوقين غير حاصل ، وإنما هو بين مفهوم رواية إسماعيل ومنطوق رواية عبد الرحمن ، ولا مفهوم لرواية إسماعيل إلاّ بنحو السالبة بانتفاء الموضوع لأخذ الشك في مدخول الشرط ،

ص: 169

فلا تصلح للتقييد حينئذ (1).

ووجه العجب : ان الاستدلال برواية إسماعيل على نفي اعتبار الدخول في الهوي لم يكن باعتبار مفهوم الشرط كي يقال بأنه هنا سالبة بانتفاء الموضوع كمفهوم آية النبأ. بل كان باعتبار مفهوم التحديد الّذي قيل عنه بأنه أقوى المفاهيم وان لم يذكر في كتب الأصول ، وهو تام هاهنا كما لا يخفى. فالإيراد بما ذكر خروج عن الفرض.

مع انه يمكن الالتزام بمفهوم الشرط هاهنا وعدم كون الشرط لبيان تحقق الموضوع ، كي يكون المفهوم بنحو السالبة بانتفاء الموضوع. بتقريب ان موضوع الكلام في الحديث هو الشاك والمقام مقام بيان حكمه ، فقوله علیه السلام : « ان شك في الركوع بعد ما سجد » تفصيل في الشاك ، فالموضوع المقسم هو الشاك في الركوع ، فيكون المفهوم انه ان شك قبل ما سجد يعتني بشكه ، وليس الموضوع هو الشاك في الركوع بعد السجود ، فانتبه.

هذا ، مع ان الشرط المسوق لبيان تحقق الموضوع إذا كان مقيدا بما لا يكون دخيلا في الموضوع عقلا - كما فيما نحن فيه وآية النبأ - قد يلتزم بثبوت المفهوم فيه إذا انتفى ذلك القيد ، وان ناقشناه في محله ، فراجع مبحث الاستدلال على حجية خبر الواحد بمفهوم آية النبأ ، وقد تقدم ان من جملة القائلين بالمفهوم السيد الخوئي.

ثم أنه ( حفظه اللّه ) أجاب عن الصحيحة بقصورها عن إثبات المدعى بنفسها.

بتقريب : انه قد عبر فيها بلفظ : « أهوى » بصورة الماضي ، وهو يدل على تحقق الهوي ومضيه ، فيكون موردها هو الشك بعد الوصول إلى السجود ، ولا دلالة فيها على عدم الاعتناء بالشك في الركوع حال الهوي.

نعم ، لو عبر بلفظ المضارع لدلت على المدعى ، واستشهد لما ذكر بمراجعة

ص: 170


1- الواعظ الحسيني. محمد سرور. مصباح الأصول3/ 303 - الطبعة الأولى.

الاستعمالات العرفية وان قولنا : « زيد يصلي » يختلف مفادا عن : « زيد صلى » ، فالأوّل يدل على اشتغاله في الصلاة والثاني يدل على انتهائه منها وتحققها منه.

وهذا التقريب منه غير تام ، فان لفظ : « أهوى » وان دل على تحقق الهوي ومضيه ، إلا انه لا ينافي إرادة الشك حال الهوي ، نظير قوله علیه السلام في بعض النصوص : « بعد ما سجد » وشبهه ، فانه لا إشكال في إرادة الشك حال السجود منه مع دلالة اللفظ على تحققه بعد تحقق السجود.

نعم ، ما ذكره في مثل : « صلى » و « يصلي » تام ، ونكتة الفرق : ان اللفظ تارة يكون موضوعا لمجموع اجزاء العمل بحيث لا يصدق على كل جزء بخصوصه.

وأخرى يكون موضوعا للمجموع ولكن يصدق على كل جزء من أجزائه. فالأوّل نظير لفظ : « الصلاة » ، فانها موضوعة لمجموع الاجزاء ولا يصدق على كل جزء لفظ : « الصلاة » ، ولا تصدق الصلاة قبل الإتيان بالمجموع. والثاني نظير لفظ السجود ، فانه يصدق على كل جزء من هذه الهيئة الخاصة سجود ، ويصدق السجود بتحقق أول جزء منه.

فما كان من قبيل الأول لا يصح التعبير به بلفظ الماضي بعد تحقق مجموع الاجزاء ، ولذلك كان التعبير بلفظ : « صلى » ، دالا على تحقق الصلاة منه ومضيها ، والتعبير بلفظ : « يصلي » دالا على الاشتغال بها.

أما ما كان من قبيل الثاني ، فيصح التعبير به بلفظ الماضي بعد الإتيان بأول جزء منه ولو لم ينته منه ، فيقال : « زيد سجد » إذا تحقق منه السجود ولو كان حين الاخبار عنه مشغولا بعد بالسجود. ومن قبيل : « السجود » لفظ : « الهوي » فانه لم يوضع لمجموع اجزاء العمل الخاصّ بل يصدق على كل جزء منه لفظ الهوي ، فلا مانع من التعبير بلفظ : « أهوى » الدال على تحقق الهوي ومضيه مع إرادة حال الهوي ، ولا منافاة بين الأمرين ويشهد له التعبيرات الكثيرة الواردة في لسان

ص: 171

النصوص ، فراجع.

وعليه ، فلا ظهور في الرواية في كون موردها هو الشك في الركوع بعد الوصول إلى السجود.

فالأولى في الجمع بين الروايتين أن يقال : أن رواية عبد الرحمن تدل على إلغاء الشك الحاصل بعد تحقق الهوي ، وهذا مطلق يحتمل فردين :

الأول : الشك حال الهوي.

الثاني : الشك بعد الانتهاء منه والوصول إلى السجود.

فان كلا منهما يصدق عليه شك بعد الهوي. ورواية إسماعيل تدل على إلغاء خصوص الفرد الثاني من الشك دون الأول ، فيقيد بها إطلاق رواية عبد الرحمن. ولا يرد على هذا الحمل الإشكال المزبور الّذي ذكرنا وروده على ما ذكره المحقق النائيني ، لأن المطلق لم يؤخذ هاهنا هو الشك حال الهوي ، كي يقال بان رواية إسماعيل منافية مفادا لتلك الرواية ، لأن مفادها كون موضوع الحكم هو الشك الحادث حال السجود فقط ، فالطبيعة السارية غير مأخوذة في موضوع الدليل المقيد ، بل أخذ هاهنا الشك بعد الهوي ، وهو مأخوذ في موضوع رواية إسماعيل ، لأن موضوعها هو الشك الحادث حال السجود ، وهو شك بعد الهوي كما لا يخفى.

هذا ، مع ان التحقيق عدم تصور تحقق التجاوز عن الركوع بالهوي إلى السجود ، لأن الهوي إذا لم يكن قد وصل إلى حد الركوع وشك في الركوع لم يكن متجاوزا عن محل الركوع لتمكنه من الركوع فعلا بلا أي شيء ، بل هذا الهوي من مقدمات الركوع. وان كان الهوي متجاوزا حد الركوع ، فهو ليس بنفسه مما يترتب على الركوع بل المترتب هو مجموع الهوي بين القيام والسجود. إذن فلا يتصور تحقق التجاوز عن الركوع بتحقق الهوي ، لأنه بكلا حدّيه غير محقق للتجاوز ، لأنه ليس من الدخول في الغير المترتب ولو بالترتب غير الشرعي.

ص: 172

وعليه ، فاما ان تحمل الرواية على بيان حكم تعبدي بإلغاء الشك في الركوع إذا وجد الإنسان نفسه مشغولا بالهوي إلى السجود ولو لم يكن من مصاديق قاعدة التجاوز. واما ان تحمل على تحقق الشك بعد السجود لا قبله ويكون المراد بقوله : « أهوى إلى السجود » هو الكناية عن سجوده. والاحتمال الأول بعيد جدا بل يقطع بخلافه فيتعين الثاني (1).

ص: 173


1- ثم انه يقع الكلام في موردين : المورد الأول : في جريان قاعدة التجاوز مع الدخول في جزء مستحب كالشك في القراءة بعد الدخول في القنوت. وتحقيق الكلام : انه إما ان نلتزم بان القنوت جزء مستحب بالتصوير المتقدم في أواخر مبحث الصحيح والأعم ، واما ان لا نلتزم بذلك ، ونقول باستحالته كما ذهب إليه بعض ونلتزم بأنه مستحب في واجب. فعلى الأول : تجري قاعدة التجاوز في القراءة. وعلى الثاني لا تجري. وذلك لأن التجاوز عن المحل المعتبر في قاعدة التجاوز لا يتحقق إلا إذا فرض أخذ المشكوك سابقا على المدخول فيه بان اعتبر سابقيته عليه كما اعتبر تأخر المدخول فيه عنه. وإلا فمجرد الدخول في الغير المترتب المعتبر تأخره عن المشكوك لا يوجب صدق التجاوز عن محل المشكوك ، لعدم أخذ المشكوك سابقا عليه ، فلم يفت محله ، ولا يصدق التجاوز عنه. ولذا بيّنا ان قاعدة التجاوز لا تجري في صلاة الظهر مع الشك فيها بعد الدخول في صلاة العصر ، لعدم اعتبار سابقيتها على صلاة العصر فيها وان اعتبر ذلك في صلاة العصر ، نعم ، بمقدار شرطيتها لصلاة العصر تجري فيها قاعدة التجاوز. وعلى هذا فإذا كان القنوت جزء للواجب بحيث يشمله الأمر المؤكد على ما قربناه ، كان يعتبر في القراءة المتعلقة لهذا الأمر ان تكون سابقة على القنوت ، فإذا دخل في القنوت تحقق التجاوز عن القراءة فمع الشك فيها تجري القاعدة. وأما إذا لم يكن القنوت جزء ، بل كان مستحبا ظرفه الصلاة. فهو وان اعتبر فيه ان يكون مسبوقا بالقراءة. لكن لم يؤخذ في القراءة ان تكون سابقة على القنوت ولذا لو تركه لا يلزم إخلال في القراءة. ومقتضاه ان الدخول في القنوت لا يحقق التجاوز عن القراءة لعدم فوات محلها ، فلا تجري قاعدة التجاوز فيها مع الشك إلا بمقدار تصحيح القنوت بها ، لأنها بهذا المقدار مما تحقق التجاوز عنه ، كما في مثل صلاة الظهر وصلاة العصر. فتدبر. المورد الثاني : في جريان قاعدة التجاوز في مثل السجدة إذا شك فيها وهو في القيام للثالثة مع علمه بنسيان التشهد. والحق عدم الجريان ووجهه : ان المعتبر في التجاوز الدخول في ذات الغير المترتب - كما عرفت -. ومن الواضح ان القيام المترتب على السجود هو القيام المسبوق بالتشهد لا مطلق القيام. فمع العلم بعدم تحقق التشهد يعلم بان هذا القيام ليس هو القيام المترتب بذاته على السجود ، فلا يتحقق به التجاوز عن محل السجدة. وهذا الوجه هو العمدة. لا ما ورد في بعض الكلمات من لغوية القيام شرعا في تنزيله منزلة العدم ، أو انه بالعود إلى التشهد يكون الشك شكا في المحل. فتدبر. هذا حكم ما لو علم بترك التشهد. أما لو شك فيه أيضا بان شك في الإتيان بالسجدة والتشهد فله صورتان : إحداهما : ان يشك فيهما بنحو التلازم وبشك واحد ، بان كان يدور أمره بين الإتيان بهما معا وتركهما معا. والأخرى : ان يشك في كل منهما بشك مستقل بلا تلازم بينهما. أما الصورة الأولى : فالحكم فيها انه لا تجري فيها قاعدة التجاوز لا في السجدة ولا في التشهد. أما في السجدة ، فلأنه مع الشك في تحقق التشهد لا يعلم ان القيام الّذي هو فيه المترتب على السجود أو غيره ، كما أشرنا إليه ، فلا يجوز تحقق التجاوز ، فيكون من موارد الشبهة المصداقية لعموم القاعدة. وأما في التشهد ، فلعدم إحراز تجاوز المحل بالنسبة إليه وذلك لأن المعتبر في التشهد ان يكون بعد السجود وقبل القيام ، فمحله ما بين السجدة والقيام ، فمع الشك في تحقق السجدة لا يحرز تجاوز محل التشهد عند الدخول في القيام ، لأن تجاوز محله يتوقف على تحقق السجدة ، والمفروض تحقق الشك فيها. ومن هنا يظهر الحال في الصورة الثانية وانه لا مجال لجريان قاعدة التجاوز في السجدة ولا في التشهد.

ص: 174

تذنيب : (1) في الشك في الجزء الأخير من العمل ، وهو يتصور على وجوه :

ص: 175


1- تحقيق الكلام في جريان قاعدة التجاوز عند الشك في الجزء الأخير : ان الاحتمالات أو الأقوال فيها أربعة : عدم الجريان مطلقا سواء دخل في امر مرتب شرعا كالتعقيب ، أو دخل في المنافي السهوي والعمدي كالاستدبار. والجريان مطلقا. والتفصيل بالجريان في الأول دون الثاني. والتفصيل بالعكس. وهذا هو الأقوى. وبيانه : ان التجاوز عن المحل يعتبر فيه أخذ المتجاوز عنه سابقا على المدخول فيه ولا يكفي فيه مجرد أخذ المدخول فيه متأخرا عن المشكوك كما عرفت في القنوت والقراءة وصلاة الظهر وصلاة العصر. وبعبارة أخرى ، يكون السبق مأخوذا في صحة السابق ، ولا يكفي أخذه في صحة اللاحق. وعليه ، فمثل التعقيب وان أخذ متأخرا عن التسليم ، إلا أنه لم يؤخذ في التسليم ان يكون قبل التعقيب ، بل يصح ولو لم يتعقبه تعقيب. فلو قدم التعقيب لم يبطل التسليم ، بل يبطل التعقيب لفقدان شرطه. وعليه فلا يتحقق التجاوز عن التسليم بالدخول في التعقيب - كما ادعي لأجل انه دخول في الغير المترتب شرعا - ، نظير الوضوء لو أخذ بنفسه شرطا للصلاة فانه قد عرفت ان قاعدة التجاوز انما تجري فيه بمقدار ما يصحح به الصلاة لا بإتيانه بقول مطلق وهكذا في مثل صلاة الظهر لو شك فيما بعد الدخول في العصر. ومن الغريب ان من يذهب في تلك الموارد إلى عدم إجراء قاعدة التجاوز إلاّ بمقدار تصحيح المشروط بالمشكوك ، يذهب في ما نحن فيه إلى جريان القاعدة لإثبات التسليم ، مع انهما من واد واحد. فتدبر. فظهر بهذا البيان وجه عدم جريان القاعدة عند الشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب. وأما جريانها عند الشك فيه بعد الدخول في المنافي السهوي والعمدي ، فقد ينفي بان المنافي ليس أمرا مترتبا على التسليم كي يكون الدخول فيه محققا للتجاوز. ولكن التحقيق : ان التسليم وان لم يؤخذ سابقا على المنافي في لسان الأدلة. إلا انه من ملاحظة دليل مانعية المنافي إذا وقع أثناء الصلاة يستفاد اعتبار تعقب التسليم للتشهد بلا فصل بالمنافي ، فيعتبر في التسليم ان يقع عقيب التشهد بلا ان يفصل المنافي بينهما. فمحل التسليم بعد التشهد بلا فصل ، فإذا فرض تحقق المنافي في الأثناء لزم من ذلك فوات محل التسليم وتجاوزه ، فالشك فيه والحال هذه يكون من الشك بعد التجاوز ، فيكون من موارد القاعدة. هذا تحقيق الحال في هذه المسألة وقد ظهر مما ذكرناه وجوه الأقوال الأخرى ومناقشتها. هذا بالنسبة إلى قاعدة التجاوز. وأما جريان قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء الأخير فتحقيق الكلام فيه بإجمال : ان الشك في الجزء الأخير تارة : يكون مع عدم الدخول في الغير أصلا ، بل هو بعد على هيئة المصلى ولكن يشك انه جاء بالجزء الأخير أو لم يجئ. وفي مثله لا تجري قاعدة الفراغ لعدم العلم بتحقق المضي والفراغ من العمل لاحتماله ان يكون سكوته من الآنات المتخللة بين أفعال الصلاة ، لا الآن المتعقب للتسليم ، فلا يحرز موضوع القاعدة. وأخرى : يكون مع الدخول في المنافي السهوي كالاستدبار. ومحل الكلام ما إذا وجد نفسه في حالة غير صلاتية ، بمعنى انه لم يكن ناويا للصلاة وشك في أن ذلك كان منه قبل التسليم سهوا أو انه كان منه بعده ، ومثّل له بما إذا أفاق فرأى نفسه في السجود وشك في انه سجود الشكر بعد الصلاة أو انه سجود الركعة الأخيرة ، فان حالته الفعلية حالة غير صلاتية ، وقد اعتبر المحقق النائيني في جريان القاعدة بتحقق معظم الاجزاء. ونوقش بان تحقق المعظم يلحظ في تحقق عنوان الصلاة في قبال عدمه لا في كون الشك بعد الفراغ في قبال كونه في الأثناء الّذي هو المقصود فيما نحن فيه. والتحقيق : ان المراد من لفظ الفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل فان مفهومه يساوق ذلك فانه بمعنى الخلو ، ومن الواضح ان تحقق المنافي السهوي بالنحو الّذي فرضناه يحقق عدم الاشتغال بالعمل والخلوّ عنه لعدم كونه ناويا للصلاة فعلا ، فيصدق به الفراغ فيكون من موارد القاعدة. وليس المراد بالفراغ هو الإتمام والانتهاء من العمل في قبال كونه في الأثناء ، بل صدق الفراغ على الإتمام من باب استلزامه للخلو وعدم الشغل. ولو سلم كون المراد منه هو إتمام العمل والانتهاء منه ، فلا يخفى ان المراد بالعمل ما يعم الصحيح والناقص لا خصوص الصحيح التام ، لأنه ينافي فرض الشك في الصحة. ومن الواضح انه يصدق بتحقق المعظم ، فإذا تحقق المعظم صدق الفراغ عن العمل والانتهاء منه بعد الدخول في القاطع ، فان الدخول في القاطع دخول في حالة مباينة للصلاة ، والمفروض تحقق الصلاة بتحقق المعظم ، فقد صدق الانتهاء من الصلاة - بالمعنى الأعم - ولعل هذه النكتة هي السبب في اعتبار المحقق النائيني تحقق المعظم في جريان القاعدة ، فلا يتوجه عليه النقاش المزبور. هذا مع انه ليس في روايات الباب ما ورد فيه التعبير بالفراغ الا رواية زرارة الواردة في الوضوء المتكفلة للتفصيل بين الشك في أثناء الوضوء والشك بعده وهي واضحة الدلالة بملاحظة صدرها على كون المراد بالفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل وعدم الخلو منه. فلا فلاحظها. هذا كله بالنسبة إلى عنوان الفراغ. وأما لفظ المضي ، فقد ذهب السيد الخوئي إلى انه بمعنى الفوات وعدم إمكان التدارك ولذا لم يلتزم بجريان القاعدة إذا كان الشك بعد الدخول في المنافي العمدي خاصة كالتكلم لاحتمال كونه سهويا فيمكن التدارك. ولكن فيه : انه لا قرينة على هذا الظهور بل الظاهر انه بمعنى التحقق في الزمان الماضي والسابق ، وعليه ، فلا يختلف الحال فيه بين الدخول في المنافي السهوي أو العمدي ، بعد تحقق معظم الاجزاء لصدق مضي الصلاة إذا وجد نفسه فعلا في حالة غير صلاتية. كما هو محل الكلام. ثم لا يخفى انه بناء على ما ذكرناه من كون المراد بالفراغ ما يقابل الاشتغال بالعمل ، لا يتحقق الفراغ إلا بالبناء على تمامية العمل ، فيكون الفراغ المقصود هو الفراغ البنائي ، لكن لا من باب استعمال لفظ الفراغ في الفراغ البنائي دون الحقيقي كي يقال انه لا دليل عليه بعد كونه خلاف الظاهر ، بل الفراغ مستعمل في الفراغ الحقيقي ، لكن الفراغ الحقيقي بالمعنى الّذي عرفته لا يتحقق إلا بعدم نية العمل وبنائه على تماميته ، إذ ما دام ناويا للعمل يكون مشتغلا به. نعم ، الفراغ بمعنى الإتمام والانتهاء في مقابل الأثناء يتحقق حقيقة ولو بدون بناء إذ العمل يتم ولو فرض انه بعد بانيا على عدم التمامية اشتباها وسهوا. واما الاشتغال فلا حقيقة له الا نية العمل لأن الصلاة معنى قصدي يتقوم بالقصد فما دام ناويا للصلاة فهو بعد مشتغلا بها ولو كان اشتغاله سهويا ، فلاحظ تعرف.

ص: 176

ص: 177

الأول : أن يكون الشك فيه مع عدم الاشتغال بشيء أصلا وعدم تحقق السكوت الطويل الموجب لفوات محل التدارك ، ولا إشكال في عدم كون مثل هذا الشك موردا لقاعدة التجاوز ، لعدم تحقق التجاوز عن المحل والدخول في الغير المعتبر في جريان القاعدة.

الثاني : ان يكون الشك بعد الاشتغال بأمر غير مرتب على الجزء الأخير ولكنه كان منافيا له بوجوده العمدي ، كما لو شك في التسليم وهو مشغول في الكلام.

وقد بنى السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - في مصباح الأصول - على عدم جريان قاعدة التجاوز في مثل هذا الفرض ، لعدم التجاوز في مثل هذا الفرض ، لعدم التجاوز عن المحل وإمكان التدارك لكون المفروض انه ليس منافيا للجزء الأخير بوجوده المطلق بل بوجوده العمدي ، فيمكن التدارك لاحتمال كون الكلام صدر عن سهو (1).

وفيه :

أولا : ان فوات محل التدارك ليس مقوما لتحقق التجاوز عن المحل وإلا للزم أن يخص جريانها في موارد الشك في الشيء مع الدخول في الغير الركن ، فلا تشمل مورد الشك في التكبيرة وهو في القراءة والشك في السجود وهو في التشهد أو في القيام ، ولا ملتزم بذلك ، كيف؟ وهذه الموارد مورد النصوص.

وثانيا : انه لم يؤخذ في لسان الرواية التجاوز عن المحل من مقومات قاعدة التجاوز كي يقال بأنه في مثل هذا الفرض لا تجري القاعدة لعدم التجاوز عن المحل ، بل المقوم لجريان القاعدة هو صدق التجاوز عن الشيء بالعناية ، سواء تجاوز عن المحل أم لم يتجاوز ، لأنه هو المأخوذ في لسان الرواية موضوعا للقاعدة.

ص: 178


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 293 - الطبعة الأولى.

وفي مثل الفرض يصدق التجاوز بالعناية باعتبار أن الملتفت إلى العمل لا يترك الجزء الأخير ويأتي بالمنافي ، فمع إتيانه بالمنافي يصدق لا محالة التجاوز عن التسليم بالعناية ، فيتحقق موضوع القاعدة.

وهذا الوجه مأخوذ مما أفاده المحقق الأصفهاني في مقام تحقيق معنى الغير الّذي لا بد من الدخول فيه ، وبه جزم بان المراد به مطلق الغير مما لا يجتمع مع ترك المشكوك حال الالتفات (1).

ومما ينبغي ان يعلم ان هذا الكلام في هذا الفرض مبني على اعتبار الدخول في مطلق الغير ، وإلا فمع اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا بالخصوص لا إشكال في عدم جريان القاعدة حينئذ.

الثالث : ان يكون الشك فيه بعد الاشتغال بأمر مرتب عليه شرعا ، ولكنه غير مانع من تداركه ، كالشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب.

وقد بنى المحقق النائيني قدس سره في هذا المثال بالخصوص على جريان قاعدة التجاوز لصدق الدخول في الغير ، واستشهد على ذلك بإلغاء الشك في الأذان بعد الدخول في الإقامة الوارد في رواية زرارة السابقة. بتقريب : ان الحكم بعدم الاعتناء بالشك في الأذان بعد الدخول في الإقامة يشرف الفقيه على القطع بعدم الاعتناء بالشك في التسليم بعد الدخول في التعقيب ، لاتحادهما في الخروج عن حقيقة الصلاة (2).

وأورد عليه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) بإيرادين :

الأول : انه لا ملازمة بين الموردين في جريان قاعدة التجاوز ، لأنه منوط بالتجاوز عن المحل ، وهو لا يصدق إلاّ فيما كان محل المشكوك سابقا بحسب الجعل

ص: 179


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 309 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول2/ 234 - الطبعة الأولى.

الشرعي على الغير الّذي صار الشك بعد الدخول فيه ، وكان محل الغير مؤخرا عن المشكوك فيه.

وهذا المعنى موجود في الأذان والإقامة دون التسليم والتعقيب فان الأذان قد أخذ محله شرعا سابقا على الإقامة أخذ محلها متأخرا عن الأذان ولو بلحاظ أفضل افرادها.

والتعقيب وان أخذ مؤخرا عن التسليم ، لكن التسليم لم يؤخذ شرعا سابقا على التعقيب ، إذ لا يشترط في التسليم وقوعه قبل التعقيب كما لا يخفى ، فالتجاوز عن المحل صادق عند الشك في الأذان حال الاشتغال بالإقامة ، وغير صادق عند الشك في التسليم حال الاشتغال بالتعقيب ، فجريان قاعدة التجاوز هناك لا يستلزم جريانها هنا.

الثاني : بالنقض بما لو شك في إتيان الصلاة حال الاشتغال بالتعقيب ، فانه مع الالتزام بجريان القاعدة في الشك في التسليم مع الاشتغال بالتعقيب باعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا ، لا بد من الالتزام بجريانها في الشك في الصلاة مع الاشتغال بالتعقيب بنفس الاعتبار ، لأن التعقيب مترتب شرعا على الصلاة. مع انه لا ملتزم بذلك من الفقهاء بل المتفقهين (1).

وهذان الإيرادان وجيهان في الجملة ، ولكنه يمكن مناقشتهما في أنفسهما ..

أما الأول : فهو تام لو لم يلتزم بما أفاده المحقق الأصفهاني الّذي ذكرناه في الوجه الثاني ، لتقوم صدق التجاوز عن المحل باعتبار السابقية على الغير شرعا.

أما مع الالتزام بما أفاده قدس سره من عدم اعتبار صدق التجاوز عن المحل في جريان القاعدة ، بل المعتبر هو صدق التجاوز بالعناية ، فلا يبقى فرق فارق بين الصورتين - أعني : صورة الشك في الأذان وصورة الشك في التسليم - لتحققه في

ص: 180


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 294 - الطبعة الأولى.

صورة الشك في التسليم حال الاشتغال بالتعقيب بنفس الاعتبار السابق ، وهو ان الملتفت لا يترك التسليم ويأتي بالتعقيب ، فمع إتيانه بالتعقيب يصدق التجاوز عن التسليم بالعناية.

فالفرق الّذي ذكره مع الالتزام بهذا القول لا يكون فارقا.

وأما الثاني : وهو النقض ، فحله بناء على الالتزام بهذا الرّأي بان صدق التجاوز المسامحي عن الشيء غير المترتب شرعا انما يتحقق بملاك ان الملتفت لا يجمع بين الأمر الداخل فيه وترك المشكوك عمدا. وهذا الملاك انما يوجب الصدق المسامحي فيما لو كان عدم ترك المشكوك لأجل امتثال الأمر المتعلق به ، أما لو كان عدم تركه ليس لأجل امتثال الأمر المتعلق به ، بل لأجل امتثال الأمر المتعلق بالغير الداخل فيه ، فلا يكون هذا الملاك موجبا لصدق التجاوز المسامحي عن المشكوك ، فلا يكون المورد مجرى لقاعدة التجاوز.

بيان ذلك فيما نحن فيه : ان عدم ترك التسليم والدخول في التعقيب عمدا من الملتفت انما يكون لأجل امتثال الأمر المتعلق بالتسليم ، ولأن تركه يوجب بطلان الصلاة وليس هو لأجل تحقق مشروعية التعقيب - لأنه غير مشروع قبل انتهاء الصلاة - وان كان بعدم الترك يصير مشروعا. أما عدم ترك الصلاة عمدا من الملتفت والدخول في التعقيب ، فهو ليس إلا لأجل تحقق مشروعية التعقيب وحتى لا يكون الإتيان به بدون الصلاة لغوا ، وليس لأجل امتثال الأمر المتعلق بالصلاة ، إذ بالترك لا يتحقق شيء ولا يفوت محلها.

ولأجل ذلك لا يصدق التجاوز عن الصلاة فلا تكون موردا لقاعدة التجاوز ، بخلاف التسليم فانه يصدق التجاوز عنه فتجري فيه قاعدة التجاوز. فالفرق بين الصورتين بجريان قاعدة التجاوز في الأولى دون الثانية هو هذه الجهة ، فالتفت ولا تغفل.

ثم انه قد يشكل على جريان القاعدة في التسليم بعد الدخول في التعقيب ..

ص: 181

بان رواية إسماعيل لما كانت واردة في مقام التحديد ، فهي كما تدل على تحديد الغير بالغير المترتب شرعا كذلك تدل على تحديد موضوع الشك والغير بالجزء الشرعي ، بحيث يكون كل من المشكوك المتعبد به والغير الداخل فيه جزء للعمل ، فلا تشمل القاعدة ما كان الشك في جزء مع الدخول في غير الجزء المترتب كالتسليم والتعقيب. ولو تنزل عن ظهورها في ذلك ، فلا أقل من احتماله ومع احتمال ذلك يلزم إجمال العموم المذكور في الذيل من هذه الجهة ، لاحتفافها بما يصلح للقرينية ، فلا يصح التمسك به على التعميم ، بل يقتصر فيه على القدر المتيقن ، وهو ما ذكرناه من كون المشكوك والمدخول فيه جزءين لعمل واحد.

والجواب : منع ظهورها في ذلك ، فانه لا دلالة في الكلام على ذلك كي يؤخذ به بمقتضى مفهوم التحديد. وأما احتماله فهو وان كان موجبا لإجمال العام المذكور في الذيل ، إلاّ ان ذلك لا يضر بالتعميم لعموم رواية زرارة ، وإجمال رواية إسماعيل لا يضير بظهور عموم رواية زرارة في التعميم.

الرابع : ان يكون الشك فيه بعد الدخول في المنافي المطلق - أعني : العمدي والسهوي - كالاستدبار والحدث.

ولا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز لو التزم باعتبار الدخول في الغير المترتب ، لأن المنافي غير مترتب كما لا يخفى.

وأما مع الالتزام بكفاية الدخول في مطلق الغير ، فلا مانع من جريان القاعدة فيه لصدق التجاوز المسامحي بالملاك السابق الذّكر.

وقد بنى السيد الخوئي على عدم جريانها ، لعدم صدق التجاوز عن المحل لأن التسليم غير مأخوذ سابقا على المنافي (1).

ولكنه يرد عليه ما عرفت من عدم اعتبار صدق التجاوز عن المحل ، بل ليس

ص: 182


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 293 - الطبعة الأولى.

المعتبر إلا صدق التجاوز العنائي. وقد عرفت صدقه.

وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره في المقام : بان مختاره في الدورة السابقة كان جريان القاعدة حيث يصدق الدخول في الغير المترتب شرعا ، لأن المنافي مباح بعد الصلاة لقوله : « تحليلها التسليم » فيكون مترتبا على الصلاة ، لأن التسليم محلل للمنافيات. إلا انه عدل عنه في هذه الدورة باعتبار اختصاص أدلة القاعدة بما كان الغير المدخول فيه من اجزاء المركب أو من ملحقاته لا مطلق الغير ولو كان أجنبيا ، فلا تكون الصورة مجرى للقاعدة ، لأن الغير المدخول فيه أجنبي عن المركب (1).

ولكن ما ذكره أخيرا يندفع بإطلاق النصوص وعدم ظهورها في الاختصاص بمورد خاص.

وأما ما ذكره أولا - والظاهر ارتضاؤه له بنفسه وعدم عدوله عنه بذاته ، بل انما عدل عن نتيجته - من ترتب المنافي على التسليم باعتبار كون التسليم محللا ، فلا نعرف له وجها ظاهرا ، لأن المنافي كالاستدبار لا معنى لترتبه بلحاظ ذاته على التسليم ، وانما يتصور ترتبه باعتبار حكمه ، وهو ذو أحكام أربعة : الحرمة التكليفية ، والحرمة الوضعيّة - وهي القاطعية والمنافاة - والجواز التكليفي والجواز الوضعي.

والأولان يترتبان عليه إذا حصل في الأثناء ، والأخير - ان يترتبان عليه إذا حصل بعد الفراغ. فإذا كان المنافي محكوما بهذه الأحكام بالاعتبارين ، فلا يتصور ترتبه بنفسه على الصلاة كي يكون الدخول فيه محققا للدخول في الغير المترتب ، وانما هو بأحد صوره مترتب وهو الفرد المحلل ، ولكن الواقع حيث لا يعلم حاله فلا يمكن الجزم بأنه الفرد المترتب أو غيره فلا يعلم بتحقق الدخول في الغير المترتب. نعم ، لو كان بجميع أحكامه ملحوظا بعد الفراغ كان مترتبا شرعا ولكنه ليس كذلك ، فتصور ترتب مثل الاستدبار على التسليم غير واضح. فتدبر.

ص: 183


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 472 - الطبعة الأولى.

تنبيه :

قد يقال : بان اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا يستلزم عدم جريان قاعدة التجاوز في جزء الجزء ، لما عرفت من ان الترتيب بين أجزاء الجزء ليس بشرعي ، بل هو مقوم للمأمور به بحيث يكون الإخلال به إخلالا بنفس الجزء المأمور به لا إتيانا به بغير ترتيب ، كما تقدم تقريبه في تكبيرة الإحرام. وعليه فمع الشك في جزء الجزء مع الدخول في الجزء الآخر للجزء ، كالشك في كلمة : « اللّه » مع الدخول في كلمة : « أكبر » لا يتحقق الشك بعد الدخول في الغير المترتب شرعا لعدم ترتب كلمة : « أكبر » على كلمة : « اللّه » شرعا ، بل الترتيب بينهما عقلي ، فلا مجال لجريان قاعدة التجاوز.

ولكنه يمكن التفصي عن هذا الإشكال بأحد وجهين :

الأول : أن الترتيب وان كان مقوما للمأمور به عقلا إلا ان هذا لا ينافي تعلق الأمر به ، وذلك لأن المأمور به إذا كان متقوما بالترتيب كان مركبا من مادة وصورة ، فالمادة هي نفس الألفاظ الخاصة كلفظ : « اللّه » و : « أكبر » في التكبير ، والصورة هي الهيئة الخاصة التي يؤتى بالألفاظ عليها. وحينئذ فالأمر بهذا المركب أمر بمادته وصورته ، لأن معناه الإتيان بهذه الألفاظ بالنحو الخاصّ من التقديم والتأخير ، فالصورة التي هي عبارة أخرى عن الترتيب مأمور بها كما أن المادة مأمور بها ، وذلك لا يتنافى مع تقوم المأمور به بالترتيب. فمثلا بيت الشعر عبارة عن الألفاظ الخاصة على الهيئة المخصوصة بحيث إذا كان الإتيان بالألفاظ لا على الهيئة المخصوصة لا يعد ذلك شعرا ، فالوزن مقوم لصدق الشعر ، فالأمر بالشعر لما كان معناه الأمر بالألفاظ الموزونة يكون في الواقع أمرا بالوزن كما هو أمر بنفس الألفاظ.

وعليه ، فإذا كان الترتيب مأمورا به شرعا كان الدخول في الجزء الآخر للجزء دخولا في الغير المترتب شرعا.

ص: 184

الثاني : انه لو تنزل عن هذا وقيل بعدم تعلق الأمر بالترتيب ، فرواية إسماعيل لا دلالة لها على عدم إلغاء الشك في جزء الجزء بعد الدخول في غيره غير المترتب شرعا ، وذلك لأن غاية ما تدل عليه بمقتضى مفهوم التحديد هو عدم اعتبار الدخول في المقدمات عند الشك في الجزء ، أما عدم اعتبار كون المشكوك جزءا مستقلا للعمل فهو وان كان محتملا إلا انه لا دلالة لها بوجه على ذلك ، كما لا دلالة لها على اعتبار كون المشكوك وظرف الشك جزءين لعمل واحد على ما عرفت.

وعليه ، فيمكن التمسك على تعميم القاعدة لجزء الجزء برواية زرارة فالتفت.

هذا تمام الكلام فيما يعتبر في جريان قاعدة التجاوز.

الجهة التاسعة : في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ.

والكلام في هذه الجهة في مقامين :

المقام الأول : فيما إذا كان الشك في صحة العمل ناشئا عن الشك في غير الجزء الأخير ، بحيث يتحقق الفراغ بمجرد الإتيان بالجزء الأخير.

فهل يعتبر الدخول في الغير مطلقا ، أو لا يعتبر مطلقا بل يكتفي بمجرد الفراغ ، أو يفصل بين الوضوء وغيره فيعتبر في الأول دون الثاني؟ وجوه وأقوال.

ومقتضى إطلاق الأدلة الدالة على اعتبار القاعدة عدم اعتبار الدخول في الغير ، إذ لم يؤخذ في موضوعها سوى تحقق المضي عن العمل ، وهو يتحقق بمجرد الفراغ ولو لم يدخل بعد في غير العمل.

وقد قيل بتقييد هذه المطلقات برواية زرارة الواردة في باب الوضوء عن أبي جعفر علیه السلام : قال علیه السلام : « إذا كنت قاعدا على وضوئك فلم تدر أغسلت ذراعيك أم لا فأعد عليهما وعلى جميع ما شككت فيه أنك لم تغسله أو لم تمسحه مما سمى اللّه ما دمت في حال الوضوء ، فإذا قمت من الوضوء وفرغت منه وقد صرت إلى حال أخرى في الصلاة أو غيرها فشككت في بعض ما سمى اللّه مما

ص: 185

أوجب اللّه عليك فيه وضوءه لا شيء عليك فيه .. » (1).

بتقريب : انه أخذ في إلغاء الشك بعد الفراغ الصيرورة في حال أخرى ولم يكتف بمجرد الفراغ. وهي وان كان موضوعها الشك في الوضوء إلاّ انه بضميمة عدم القول بالفصل بين الوضوء وغيره من الأعمال تدل بالالتزام على اعتبار الدخول في الغير عند الشك في غير الوضوء بعد الفراغ عنه ، فيبنى حينئذ على تقييد المطلقات بهذه الرواية كما هو شأن كل مطلق ومقيد.

إلاّ ان هذا القول غير وجيه ، إذ لم يثبت عدم الفصل بين الوضوء وغيره ، فيحتمل ان يكون الوضوء له خصوصية تقتضي اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ فيه ، وهي لا توجد في غيره من الأعمال ، بل ثبت بعدم قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء وجريانها في غير اجزائه ، وجود الفرق بين الوضوء وغيره ، فلا يبعد ان يعتبر الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ فيه دون غيره.

ثم انه قد استشكل في دلالة الرواية على أصل المدعى - أعني : اعتبار الدخول في الغير - من وجوه :

الأول : أن موضوع الشك بعد الفراغ لم يبين في الرواية ، فيمكن ان يحمل على الجزء الأخير فيكون الدخول في الغير من محققات الفراغ عن الوضوء لا أمرا زائدا عليه.

ووجه الحمل : هو ظهور المطلقات في كفاية مطلق الفراغ ، فوجه الجمع بينهما حمل الرواية على كون موضوع الشك هو الجزء الأخير ، فلا يكون هناك تغاير وتناف بينهما حتى بالإطلاق والتقييد ، بل تكون الرواية واردة في بيان إحدى صغريات الكبرى الدالة عليها المطلقات ، لما عرفت ان المضي عن العمل لا يتحقق مع الشك في الجزء الأخير إلاّ بالدخول في الغير.

ص: 186


1- وسائل الشيعة 1 / 330 ، باب 42 من أبواب الوضوء ، الحديث : 1.

وفيه ما لا يخفى : فان هذا انما يتجه ان يقال لو لم يذكر في الصدر مورد الشك ، فيقال الرواية مجملة من هذه الجهة فتحمل على إرادة الشك في الجزء الأخير جمعا بينها ، وبين المطلقات. أما بعد ان ذكر صريحا في الصدر بكون موضوع الشك هو جميع اجزاء الوضوء من غسل ومسح ، فلا وجه لهذا القول حينئذ ، وذلك لأن الظاهر من الرواية هو المقابلة بين حال القعود على الوضوء وحال القيام عنه في الحكم المترتب على الشك في الاجزاء ، وهي تقتضي ان يكون موضوع الشك الّذي أخذ في حال القعود عينه موضوعا للشك الحاصل في حال القيام ، وإلا لانتفت المقابلة ، لأن المقابلة انما تتحقق بين الحكمين ، إذا كانا واردين على موضوع واحد ، أما إذا تعدد موضوعهما واختلف فلا مقابلة بينهما كما لا يخفى.

وبالجملة : فموضوع الشك بعد القيام هو عين موضوع الشك حال القعود وهو جميع الأجزاء.

الثاني : أن ظاهر الرواية كون الذيل بيانا لمفهوم الصدر ، وهو : « إذا كنت قاعدا ... » لا لخصوصية فيه بنفسه ، فالظاهر حينئذ كون المدار هو الشك في الأثناء كما هو مقتضى المنطوق ، والشك بعد الفراغ كما هو مقتضى المفهوم ، سواء دخل في الغير أو لم يدخل.

وعليه ، فلا منافاة بين هذه الرواية وبين المطلقات ، بل هما بمفاد واحد.

والجواب : ان الذيل ليس كذلك ، لأن المذكور فيه موضوع وجودي ، فلا معنى لكونه مفهوما للصدر ، لأن المفهوم عبارة عن انتفاء الحكم عند انتفاء الأمر المترتب عليه فلا بد ان يؤخذ فيه موضوع عدمي يترتب عليه عدم الحكم ، كما ان مفهوم الشرط فيما نحن فيه : « إذا لم يكن قاعدا » بنحو السالبة بانتفاء الموضوع وليس هو « إذا كنت قائما » عن الوضوء أو نحوه من التعبيرات.

وبالجملة : ترتيب الحكم على موضوع وجودي أجنبي عن بيان المفهوم ، وكون الحكم المترتب عليه باعتبار كونه محققا لمفهوم الشرط ، فالتفت.

ص: 187

الثالث : ان الفراغ عن العمل ملازم مع الكون على حال أخرى ولو كانت هي السكون ، وإلا لما صدق الفراغ. وليس المذكور في الرواية الا الصيرورة في حال أخرى وهو ليس بأمر زائد عما يقتضيه صدق الفراغ والمضي ، فليس في الرواية قيد زائد على نفس الموضوع وهو الفراغ والمضي. فلا دلالة لها على التقييد.

وهذا الوجه انما يتجه لو لم تفسير الحال الأخرى في الرواية وذكرت مطلقة ، إذا يمكن حملها على ما لا يزيد على تحقق الفراغ ، إلا انها فسرت في الرواية بالدخول في ما يغاير العمل الّذي كان فيه ، كما يدل عليه قوله : « وصرت إلى حال أخرى في الصلاة وغيرها » ، فلا يتجه هذا القول حينئذ ، فالتفت.

فالمحصل : ان هذه الوجوه غير ناهضة لنفي دلالة الرواية على التقييد مطلقا. فلا بد من الالتزام بدلالتها على التقييد بالدخول في الغير لكن لا مطلقا بل في خصوص الوضوء.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى اعتبار الدخول في الغير مطلقا سواء في ذلك الوضوء وغيره.

ببيان : ان الأدلة الدالة على حجية القاعدة منها ما يدل على التقييد بالدخول في الغير كرواية زرارة ، ومنها ما لم يعتبر في أكثر من المضي والتجاوز كموثقتي ابن بكير وابن أبي يعفور. فيدور الأمر بين حمل المطلق على الفرد الغالب ، فان الغالب من موارد الشك موارد الدخول في الغير. وبين حمل القيد على الغالب ، فلا يظهر في كونه قيدا احترازيا. والأول هو المتعين ، لا من جهة اقتضاء الدليل المقيد للمفهوم ولا لحمل المطلق عليه ، وانما هو لأجل انصراف المطلق في نفسه إلى الفرد الغالب باعتبار كون الماهية تشكيكية بحيث يكون شمولها للفرد النادر خفيا بنظر العرف ، فان ذلك يوجب انصراف المطلق عنه إلى الفرد الغالب لا باعتبار نفس الغلبة فانها لا توجب الانصراف. ولو تنزل عن ذلك فلا أقل من كونه قدرا متيقنا في مقام

ص: 188

التخاطب ، فالمطلق في نفسه قاصر عن شمول مورد عدم الدخول في الغير (1).

وهذا الّذي ذكره لا تمكن الموافقة عليه بجميعه ، لوجوه :

الأول : انه عدّ رواية زرارة من أدلة قاعدة الفراغ ، مع انك عرفت انها تعد من أدلة قاعدة التجاوز - وان ناقشنا في دلالتها على ذلك - الثاني : أنه جعل وجود القدر المتيقن في مقام التخاطب مانعا عن انعقاد الإطلاق ، مع انه : قدس سره لا يرى ذلك في مبحث المطلق والمقيد ، ويورد على المحقق الخراسانيّ في اختياره ذلك (2).

الثالث : ان ما ذكره من إيجاب التشكيك للانصراف مناقش فيه كبرويا وصغرويا ..

أما كبرويا ، فلأنه قد حقق في محله بان نظر العرف انما يتبع في تعيين المفاهيم وتشخيصها من حيث السعة والضيق ، أما نظره في تشخيص المصداق فهو مردود لا يعتمد عليه ، فعدم صدق المطلق على الفرد النادر بنظر العرف لخفائه غير قادح في التمسك بإطلاقه ولا يوجب صرفه عنه بعد ان كان يصدق عليه حقيقة.

وأما صغرويا ، فلان التشكيك انما يوجب الانصراف - لو سلم كبرويا - فيما كان التفاوت بين الافراد من حيث الظهور والخفاء. أما فيما كان التفاوت بينها من حيث الأظهرية والظهور ، بمعنى ان صدق الطبيعة على هذا الفرد كان أظهر من صدقها على ذلك فلا يتحقق الانصراف. وما نحن فيه كذلك ، فان صدق الطبيعة ( الفراغ ) على مورد الدخول في الغير أظهر من صدقه على مورد عدم الدخول في الغير كما لا يخفى ، لا ان صدقه على مورد عدم الدخول في الغير خفي وصدقه على مورد الدخول ظاهر. فتدبر.

ص: 189


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 471 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 530 - الطبعة الأولى.

وإذا لم يثبت القول بالتقييد مطلقا ولم يثبت القول بعدم التقييد مطلقا ، فالالتزام بالتفصيل بين باب الوضوء وبين غيره باعتبار الدخول في الغير فيه دون غيره هو المتعين.

والمقام الثاني : فيما كان الشك في صحة العمل ناشئا عن الشك في الجزء الأخير. ولا بد من تحقق الدخول في الغير - في الجملة - في جريان القاعدة لتوقف صدق الفراغ عن العمل والمضي عنه بالدخول في الغير ، لأنه مع عدم الدخول في الغير وبقاء محل التدارك لا يتحقق مضي العمل ، إذ يمكن ان لا يكون قد أتى بالجزء الأخير المحقق للمضي والفراغ.

وقد ذكر بعضهم ان الشك في الجزء الأخير تارة : يكون بعد الدخول في الغير.

وأخرى : يكون قبل الدخول في الغير إلاّ انه كان قد حصل اليقين آناً ما بتحقق الفراغ عن العمل. وثالثة : يكون قبل الدخول في الغير وعدم حصول اليقين بتحقق الفراغ. فالقاعدة في الصورتين الأولتين تجري دون الصورة الثالثة (1).

وأورد الشيخ قدس سره عليه في ذهابه إلى جريان القاعدة في الصورة الثانية : بأن الفراغ لا يصدق باليقين به آناً ما ، ونفس اليقين الآني السابق المتبدل إلى الشك لا موضوعية له ، بل هو طريق إلى الواقع ، فلا دليل على حجيته بعد تبدله بالشك إلا أحد أمرين ... قاعدة اليقين ، وهي غير ثابتة. وظهور حال اليقين في كونه مطابقا للواقع ، وهذا الأمر لا دليل عليه وغير ثابت.

وأما جريان القاعدة في الصورة الأولى وعدم جريانها في الثلاثة ، فملاكه واضح لا يحتاج إلى بيان ولا إشكال فيه (2).

ص: 190


1- النجفي الفقيه الشيخ محمد حسن. جواهر الكلام2/ 361 - الطبعة الحديثة.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. كتاب الطهارة /162- الطبعة القديمة.

ولكن ما ذكره الشيخ رحمه اللّه يمكن الخدشة فيه بتقريب : ان صدق الفراغ والمضي عن العمل المركب يكون بأحد امرين ... الإتيان بالجزء الأخير منه. وقطعه والاقتصار على بعض أجزائه بعد مضي قسم منه يصدق عليه لفظ المركب في نفسه ، فانه بالإتيان بهذا المقدار لا يصدق الفراغ عرفا ما دام مشغولا بباقي الاجزاء ، ولكنه مع قطعه وعدم المضي في باقي الاجزاء يصدق تحقق العمل والفراغ منه. وهذا واضح ولا إشكال فيه.

ولما كانت وحدة المركبات الاعتبارية - ومنها الصلاة - انما هي بالقصد والنية - إذ لا وحدة لها حقيقية لاختلاف اجزائها ماهية ومقولة - كان اليقين بالفراغ ولو آناً ما سببا لتحقق الفراغ ، لأنه موجب لتبدل القصد والنية فيتحقق الانقطاع ، وبذلك يصدق العمل والفراغ عنه.

فجريان القاعدة في هذه الصورة ليس من جهة موضوعية اليقين في نفسه ، بل لأجل تحقق الانقطاع بحصوله الموجب لصدق موضوع القاعدة ، وهو الشك في صحة العمل بعد الفراغ عنه.

وبذلك يظهر انه لا محيص عن الالتزام بما ذكره صاحب الجواهر من جريان القاعدة في الصورتين الأولتين ، وانه لا وجه لما ذكره الشيخ في مقام الإشكال عليه.

ولبعض الفقهاء تقريب لتصحيح كلام الجواهر والخدشة في كلام الشيخ بيانه :

انه مع اعتبار تحقق الفراغ في جريان القاعدة يدور الأمر بين إرادة الفراغ الحقيقي ، وإرادة الفراغ الادعائي ، وإرادة الفراغ البنائي - يعنى البناء على تحقق الفراغ عن العمل - لا يمكن الالتزام بإرادة المعنى الحقيقي والمعنى الادعائي للفراغ.

أما الأول ، فلأنه انما يصدق عند الإتيان بالعمل بجميع أجزائه وشرائطه ، فاعتباره يلزم تعطيل قاعدة الفراغ ، لأن موردها الشك في صحة العمل لفقد جزء أو شرط ، والفراغ الحقيقي غير صادق مع هذا الشك.

وأما الثاني ، فلأنه يصدق بالإتيان بمعظم الاجزاء ، فاعتباره يستلزم صحة

ص: 191

جريان القاعدة مع الشك في الصحة بعد الإتيان بالمعظم وقبل الانتهاء من العمل ، مع انه لا إشكال في عدم صحة ذلك ، لعدم صحة جريان القاعدة في أثناء العمل.

وإذا لم يمكن الالتزام بإرادة الفراغ الحقيقي ولا الفراغ الادعائي تعين الالتزام بإرادة الفراغ البنائي ، وهو يحصل باليقين بالتمام. فجريان القاعدة مع تحقق اليقين الآني بالفراغ ليس لأجل حجية اليقين بعد زواله أو لأجل ظهور الحال كي ينفى بعدم الدليل عليه بل لأجل صدق الموضوع المأخوذ في لسان الدليل ، وهو الفراغ البنائي (1).

ولكن ما ذكره لا تمكن الموافقة عليه لوجهين :

الأول : انه يمكن الالتزام بإرادة الفراغ الحقيقي بلا استلزام للمحذور المذكور - أعني : محذور التعطيل - وذلك بالالتزام بكون متعلق الفراغ العمل الجامع بين الصحيح والفاسد - لا خصوص العمل الصحيح كي يلزم ما ذكر - وبذلك يتحقق الفراغ الحقيقي بلا عناية ولا تكلف مع الشك في فقد جزء أو شرط كما لا يخفى.

وتوهم : أن الأمر يدور حينئذ بين التصرف في لفظ الفراغ والتصرف في متعلقه بحمله على الأعم فما هو المرجح؟ كي يلتزم بالأخير.

فاسد ، فان التصرف في المتعلق بحمله على الأعم مما لا بد منه على القولين ، بل هو صريح الروايات ، لأن فيها اسناد الفراغ إلى العمل مع الشك فيه مما يكشف عن إرادة الأعم ، فالالتزام بإرادة المعنى الحقيقي للفراغ لا يستدعي مئونة زائدة بخلاف العكس.

الثاني : ان اعتبار تحقق الفراغ البنائي في جريان قاعدة الفراغ مطلقا يستلزم عدم جريان القاعدة مع الإتيان بالجزء الأخير والشك في الإتيان بما قبله بلا فصل ، كالإتيان بالتسليم مع الشك في التشهد ، فانه في حال الشك لا يقين له بالفراغ ، إذ

ص: 192


1- الحكيم الفقيه السيد محسن ، مستمسك العروة الوثقى 2 / 518 - الطبعة الأولى.

يحتمل ان يكون إتيانه بالتسليم عن غفلة لا أنه عن التفات وبعد الإتيان بالتشهد ، وفي تلك الحال كان غافلا ، فلم يتحقق منه الفراغ البنائي أصلا. مع أنه لا إشكال في جريان القاعدة في هذه الصورة.

فالمحصل : ان ما ذكره هذا القائل لا يعرف له وجه ظاهر ، فالمتعين هو ما ذكرناه.

بقي الكلام في جريان قاعدة الفراغ في الصور الأربع التي ذكرناها للشك في الجزء الأخير عند الكلام في جريان قاعدة التجاوز فيه.

فالتحقيق : ان جريان القاعدة في الصورتين الأوليتين - وهما : صورة تحقق الشك مع عدم الاشتغال بشيء مناف أصلا وعدم تحقق السكوت الطويل الماحي لصورة الصلاة. وصورة تحقق الشك مع الإتيان بالمنافي العمدي كالكلام بالنسبة إلى الصلاة - انما يصح لو تحقق في الحالين اليقين بالفراغ ولو آناً ما. أما مع عدم تحققه فنفس الحالين لا يحققان المضي والفراغ كما لا يخفى.

وأما الصورتان الأخيرتان - وهما : صورة تحقق الشك مع الاشتغال بأمر مرتب على العمل ، كالتعقيب بالنسبة إلى الصلاة. وصورة تحقق الشك مع الاشتغال بالمنافي العمدي والسهوي - فالقاعدة جارية فيهما.

أما جريانها في الأخيرة فواضح ، لانقطاع العمل بالاشتغال بالمنافي وتحقق الفراغ عنه وصدق مضيه كما لا يخفى.

وأما جريانها في الثلاثة ، فلأن الاشتغال في الأمر المترتب بعنوانه الخاصّ - كالاشتغال في التعقيب بما انه تعقيب لا بما انه دعاء أو ذكر مثلا - لا يكون إلا بعد البناء على الفراغ واليقين بالانتهاء من العمل ، وذلك موجب لصدق المضي ، لانقطاعه بتبدل القصد. هذا تمام الكلام في جريان قاعدة الفراغ عند الشك في الصحة للشك في الجزء.

ص: 193

الجهة العاشرة (1) : في تحقق جريان قاعدة الفراغ لو كان منشأ الشك هو

ص: 194


1- تحقيق الكلام في جريان قاعدة التجاوز أو الفراغ عند الشك في الشرط ، ان يقال : ان الشرط على أقسام : ما يكون شرطا مقوما للمأمور به عقلا بحيث يتقوم به صدق عنوان المأمور به كقصد الصلاتية في تحقق عنوان الصلاة ، وقصد الظهرية في تحقق عنوان الظهر. وما يكون شرطا مقوما للجزء ، كقصد الركوع في تحقق الركوع ، إذ ليس كل انحناء ركوع بل الانحناء الركوعي هو المأتي بعنوان الركوع. وكالموالاة بين الحروف في تحقق الكلمة. وما يكون شرطا شرعيا للكل ، كالاستقبال بالنسبة إلى الصلاة. وما يكون شرطا شرعيا للجزء ، كالجهر بالنسبة إلى القراءة. أما الشرط المقوم عقلا للمأمور به كالنية ، فقد التزم البعض بجريان قاعدة التجاوز فيه إذا تحققت شرائطها. وذهب البعض إلى عدم جريانها فيه ، كما يظهر من مراجعة الفرع الأول من فروع العلم الإجمالي من العروة وما كتب حوله. والتحقيق : ان متعلق الأمر هو عنوان الصلاة أو الظهر ، وقصد الصلاتية أو الظهرية محقق لعنوان المأمور به. من دون ان يلحظ في متعلق الأمر جزء أو شرطا وانما هو شرط تكويني. وعلى هذا فلا معنى لإجراء القاعدة فيه ، إذ لا يقع مثله مورد التعبد الشرعي لعدم دخله شرعا في المأمور به ، فالتعبدية لا يجدي شيئا ولا يترتب عليه أثر شرعي مترقب ، وترتب عنوان المأمور به عليه ترتب عقلي لا ينفع فيه التعبد. وبهذا يظهر انه لا وجه يقتضي جعله موردا للكلام كما ارتكبه الاعلام. ولعله إلى ذلك ينظر المحقق العراقي في منعه جريان القاعدة فيه معللا بان المعتبر في العمل نشوؤه عنه لا نفسه ، فانه يمكن ان يكون نظره إلى ما ذكرناه من عدم اعتباره في العمل وانما المعتبر هو عنوان الصلاتية أو الظهرية. ولو تنزلنا عن هذه الجهة فنقول : ان القصد المعتبر إما يكون قصدا واحدا مستمرا وعليه يبتني مبطلية نية القطع أو القاطع ، كما التزم به بعضهم ، واما يكون متعددا بتعدد الاجزاء فهو معتبر في كل جزء ولذا لا تبطل الصلاة بنية القطع. ولا يخفى ان قاعدة التجاوز انما تجري في القصد إذا كان اعتباره بالنحو الثاني لصدق التجاوز عنه بتجاوز الجزء. أما إذا كان اعتباره بالنحو الأول ، فلا مجال لجريان القاعدة فيه لأن المفروض انه امر واحد مستمر ومحله جميع العمل ، فلا يتحقق التجاوز عنه في الأثناء. هذا بالنسبة إلى جريان قاعدة التجاوز في النية. وأما بالنسبة إلى قاعدة التجاوز في نفس العنوان المأمور به ، فتحقيق الحال فيه : انه يتصور على أنحاء. فتارة يقال : انه أمر واحد مستمر يعنون به مجموع العمل. وأخرى يقال : انه متعدد بتعدد الاجزاء ، وهو تارة : يكون متقوما بمجموع الاجزاء بحيث لا ينطبق إلا على المجموع ، نظير الحمى القائمة باجزاء البدن فان كل جزء لا يقال انه محموم ، بل مجموع البدن محموم. وأخرى : يكون متقوما بكل جزء فكل جزء ينطبق عليه انه صلاة أو ظهر. ولا يخفى انه لا مجال لتوهم جريان قاعدة التجاوز في العنوان بناء على الاحتمالين الأولين ، لعدم تحقق التجاوز عنه بعد تقومه بالكل. نعم ، لتوهم جريان القاعدة فيه مجال على الاحتمال الثالث لتجاوز محله بتجاوز الجزء ، وان وقع محل الإشكال من جهات أخرى. وأما الشرط المقوم للجزء عقلا ، كقصد الركوعية في الركوع ، فقد ظهر الحال فيه مما ذكرناه في شرط الكل ، إذ عرفت انه لا مجال لتوهم جريان القاعدة في الشرط العقلي التكويني لعدم ترتب أثر شرعي عليه. وأما إجراء القاعدة في وصف الركوعية ، فللمنع عنه مجال ، لأن الانحناء الركوعي مباين عرفا للانحناء غير الركوع والذاتان متباينان ، والمطلوب هو الذات المعنونة بعنوان الركوع. ومن الواضح ان إثبات تحقق الركوعية لا يثبت تحقق الذات المعنونة وهي الركوع إلا بالملازمة. وأما إجراء القاعدة في نفس الركوع فقد تقدم الاستشكال فيه بدعوى انصراف اخبار القاعدة إلى الشك في أصل الوجود لا في اتصاف الموجود بعنوان الجزء. نعم ، يمكن إجراء قاعدة الفراغ في الانحناء وإثبات صحته بناء على عدم اعتبار إحراز العنوان في جريانها. وسيجيء البحث فيه. وأما الشرائط الشرعية المعتبرة في الكل ، فالحق فيها هو التفصيل بين ما هو معتبر حال العمل كالاستقبال والستر ونحوهما ، وما هو معتبر سابقا على العمل كالوضوء على قول ، فتجري القاعدة في الثاني دون الأول. والوجه في ذلك - على سبيل الإجمال - أن التجاوز عن المحل بالنسبة إلى ما هو معتبر في حال العمل لا يصدق ولو مع دخول المكلف في الجزء اللاحق ، إذ غاية ما يمكن تصوير تحقق التجاوز عن محل الشرط مع الدخول في الجزء اللاحق هو ما يقال : من ان المعتبر في كل جزء تقيده بالشرط المفروض ، فمع التجاوز عن الجزء يتحقق التجاوز عن التقييد المأخوذ فيه فتجري القاعدة في تقيده بالشرط ، ويترتب الأثر مع إحراز التقيد بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة. ولكن هذا المطلب لا يمكن الالتزام به ، فان التقيد من شأن المفاهيم والعوارض ولا يتصور في المعاني المتباينة مثل الطهارة والركوع ، فان كلا منهما يباين الآخر فلا معنى لأن يكون أحدهما مقيدا بالآخر إذ الطهارة من عوارض المكلف لا الركوع. نعم ، يتصور أخذ التقييد بنحو آخر ، وهو ان يكون الواجب هو الركوع المقارن للطهارة ، فيؤخذ القيد وصف المقارنة للطهارة. ولكن هذا مما لا يلتزم به ، وإلا لأشكل الأمر في استصحاب الطهارة ، فانه لا يثبت الوصف الملحوظ المأخوذ في الواجب وهو وصف المقارنة. وعليه ، فالذي يلتزم به في باب الشروط هو أخذ الشرط بنحو المعية في الوجود مع الجزء ، نظير نفس الاجزاء فيما بينها إلا ان الفرق تعلق الأمر بالجزء دون الشرط. ومن الواضح ان أخذ الشرط بهذا النحو لا يستلزم كون الجزء محلا له وظرفا بحيث يكون التجاوز عنه تجاوزا عن الشرط ، بل بالإتيان بالجزء دون الشرط لم يفت محل الشرط ويمكن الإتيان به مع الجزء في كل وقت ولو بإعادة الجزء. وقد يلتزم في باب الشروط بوجه آخر وهو اعتبار الإضافة إلى الشرط بمعنى ان الواجب هو إيقاع الجزء في ظرف الشرط ، فيلحظ الجزء مضافا إلى الزمان الخاصّ وهو زمان الشرط. ولكن لو تم هذا لم ينفع في المطلوب ، لأن طرف الإضافة هو نفس الزمان دون الخصوصية ، فالشك في الخصوصية - أعني الشرط - لا يستلزم الشك في طرف الإضافة بل في خصوصيته. والوجه فيه : ان طرف الإضافة لو كان هو الزمان الخاصّ لا شكل الأمر في مثل استصحاب الشرط كالطهارة ، لعدم إثباته إضافة الجزء للطهارة حتى يتحقق طرف الإضافة ، فكيف يجدي في الامتثال؟ فمقام الثبوت والإثبات يساعدان على كون طرف الإضافة نفس الزمان والخصوصية للزمان نفسه لا مأخوذة في الإضافة ، فيعتبر ان تكون الصلاة في زمان فيه طهارة ، فيصح إجراء استصحاب الطهارة لإثبات خصوصية الزمان ، نظير استصحاب الخمرية لإثبات حرمة شرب المائع المشكوك ، فانه لا يثبت كون شرب هذا المائع شرب خمر ، ولكن يثبت به انه شرب مائع هو خمر ، وليس الملحوظ في الحكم أزيد من ذلك ، فليس المحرم الشرب المضاف إلى الخمر بل الشرط المضاف إلى مائع هو خمر. وعليه ، فإذا ثبت ان طرف الإضافة هو الزمان ، والشرط لوحظ كخصوصية للزمان لا طرفا للإضافة ، فالمشكوك لا يكون طرف الإضافة بل خصوصية الطرف ، وهي مما لم يفرض لها محل. هذا مع أخذ الشرط طرفا للإضافة لا يظهر منه سوى كون الشرط ظرفا للجزء لا العكس ، فاعتبار كون الركوع في حال الطهارة ظاهر بحسب لسان الدليل في كون الطهارة ظرفا للركوع لا كون الركوع ظرفا للطهارة فانتبه. فتبين من جميع ذلك انه لا مجال لجريان قاعدة التجاوز في الشرط المقارن. وأما الشرط السابق على العمل ، فالقاعدة تجري فيه إذا شك فيه بعد الدخول في العمل لتجاوز محله بعد الدخول ، لأن ظرفه هو الزمان السابق على العمل. وهذا مما لا إشكال فيه. إنما الإشكال في انه هل يعتبر إحرازه للاجزاء اللاحقة أو لا؟ ذهب المحقق العراقي إلى لزوم ذلك ، وان القاعدة لا تنفع إلا في ما مضى من الاجزاء ، إذ ما يأتي من الاجزاء لم يتجاوز عنه ، ودليل القاعدة انما يتعبد بها بمقدار ما تحقق التجاوز عنه ، وهذا منه مبني على اعتبار التجاوز عن نفس المشروط لا خصوص المشكوك ، وهو مما لا دليل عليه ، إذ غاية ما يدل عليه الدليل اعتبار التجاوز عن المشكوك ، وهو فيما نحن فيه حاصل ، إذ الشرط إذا كان مأخوذا سابقا على العمل فمع الدخول في العمل يتحقق التجاوز عن محله حتى بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة لأن شرطها هو الفعل السابق عن العمل. نعم ، بالنسبة إلى الأعمال المستقلة الأخرى كصلاة ثانية لا تنفع ، لأن قاعدة التجاوز انما تتعبد بالمشكوك بمقدار التجاوز عنه ، والوضوء للصلاة الأخرى لم يتجاوز عن محله بالدخول في هذه الصلاة. نعم ، هو تجاوز عن محل الوضوء لهذه الصلاة ، فلا تثبت القاعدة إلا وضوء هذه الصلاة لا غير ، فيلزمه الوضوء للصلوات الأخرى. ومن هنا ظهر الحال ما إذا شك في صلاة الظهر بعد دخوله في صلاة العصر ، فان قاعدة التجاوز في صلاة الظهر انما تثبت تحقق صلاة الظهر بمقدار تأثيرها في صحة العصر ، واما صلاة الظهر بما هي واجبة مستقلا فلم يتجاوز عن محلها ، إذ لا يعتبر فيها ان تكون قبل العصر بل المعتبر ان تكون العصر بعدها فيلزمه على هذا الإتيان بالظهر بعد العصر. هذا تمام الكلام في الشروط

ص: 195

ص: 196

ص: 197

الشك في الشرط ، وذلك يتوقف على بيان أقسام الشروط.

وقد ذكر المحقق العراقي قدس سره أقساما عديدة للشروط وذكر حكمها مما يرتبط بما نحن بصدده من جريان قاعدة الفراغ ، مع ذكره حكمها بالنسبة إلى جريان قاعدة التجاوز.

ومحصل ما أفاده : ان الشروط.

منها : ما يكون شرطا عقليا في تحقق عنوان المأمور به من الصلاتية والظهرية ونحوهما ، كالنية ، فان هذه العناوين لما كانت أمورا قصدية فلا تتحقق إلا بالقصد والنية.

ومنها : ما يكون شرطا شرعيا لصحة المأمور به بعد الفراغ عن تحقق عنوانه ، كالطهور والستر والاستقبال ونحوها.

ومنها : ما يكون شرطا عقليا لنفس الجزء ، بمعنى كونه مما يتوقف عليه وجود الجزء عقلا ، كالموالاة بين حروف الكلمة.

ومنها : ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، كالجهر والإخفات بناء على القول بكونهما شرطا للقراءة ، لا للصلاة في حال القراءة.

ثم ما كان شرطا شرعيا إما أن يكون مما له محل مقرر شرعا ، بان يكون قبل

ص: 198

الدخول في المشروط كصلاة الظهر بالنسبة إلى العصر ، وكالطهارة على قول. أو لا يكون له محل مقرر ، كالستر والاستقبال.

فالأقسام خمسة.

أما ما كان شرطا عقليا لعنوان المأمور به ، بمعنى أنه مقوم لتحققه عقلا كالنية ، فلا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز فيه مع الشك ، وذلك لأنه مضافا إلى عدم وجود محل له مقرر شرعا مع اختصاص القاعدة بذلك ، لا تكون القاعدة تجدي في إحراز عنوان المشروط ، فان جهة نشوء الأفعال عن قصد الصلاتية ونحوها من اللوازم العقلية للقصد والنية ، فالتعبد بوجود القصد لا يجدي في إثبات هذه الجهة. وكذلك لا تجري قاعدة الفراغ في المشروط مع الشك ، لاختصاصها بما إذا كان العمل محرزا بعنوانه وكون الشك في صحته وفساده ، نظير قاعدة الصحة في عمل الغير - فانهما من سنخ واحد - ومع فرض الشك في القصد يشك في تعنون العمل بعنوانه المطلوب ، فلا مجال لقاعدة الفراغ.

هذا بالنسبة إلى النية المقومة لعنوان المأمور به.

أما بالنسبة إلى النية بمعنى قصد القربة ، فمع الشك فيها في الأثناء لا تجري قاعدة التجاوز - وان قلنا بكونها مأخوذة في المأمور به شرعا لا عقلا - لعدم كونها ذات محل مقرر شرعا كي يصدق عليها عنوان التجاوز من المحل.

وأما قاعدة الفراغ فهي تجري بناء على كونها شرطا شرعيا ولو بنحو التقييد. وأما بناء على القول بكونها شرطا عقليا فلا تجري ، لعدم الشك في صحة المأتي به الشرعية ، بمعنى استجماع المأتي به للاجزاء والشرائط الشرعية ، فانه محرز مع القطع بعدم اقترانه بقصد القربة فضلا عن الشك.

وأما ما كان شرطا شرعيا للصلاة مع عدم وجود محل له شرعي كالستر ، فلا تجري فيه قاعدة التجاوز لعدم صدق التجاوز عن المحل بالدخول في المشروط.

وأما قاعدة الفراغ : فتجري في المشروط للشك في صحته بالشك في الشرط.

ص: 199

هذا بعد الفراغ منه. أما إذا كان الشك في الأثناء ، فقاعدة الفراغ انما تجري إذا كانت الاجزاء الماضية بنحو يكون لها بنظر العرف عنوان مستقل كالركعة ، دون غيره مما لا يعد كذلك كالآية. إلا ان قاعدة الفراغ انما ينفع جريانها في الأثناء لو كان الشرط محرزا حال الشك بالنسبة إلى الاجزاء اللاحقة ، أما مع الشك فيه حتى بالإضافة إلى الاجزاء اللاحقة والحالية ، فلا ينفع جريانها فيما مضى من الاجزاء ، فلا مجال على هذا لجريانها.

وأما الشرط الشرعي ذو المحل ، كصلاة الظهر بالنسبة إلى صلاة العصر ونحوها ، فما ذكره قدس سره مما يرتبط بالمقام من جريان قاعدة التجاوز وقاعدة الفراغ لا يزيد عما ذكرناه سابقا نتيجة فراجع.

وأما ما يكون شرطا عقليا للجزء كالموالاة بين حروف الكلمة ، فلما كان الشك فيه يرجع إلى الشك في وجود الكلمة ، تجري فيها - أي : في الكلمة - قاعدة التجاوز.

وأما ما يكون شرطا شرعيا للجزء ، كالجهر والإخفات - لو قيل بكونهما شرطا للقراءة - فلا تجري فيه قاعدة التجاوز لعدم صدق الشيء على مثله ، فالأدلة منصرفة عنه.

وأما المشروط ، فهو وان صدق عليه الشيء إلا ان الشك ليس في وجوده بل في صحته ، فهو مورد لقاعدة الفراغ. إلا ان البحث عنه قليل الجدوى لورود النص على عدم الإعادة مع نسيان الجهر والإخفات فضلا عن صورة الشك ، ولم نعثر على مثال للفرض غير هذا.

هذا ملخص ما أفاده قدس سره (1) ، ولكن في كلامه مواقع للنظر.

الأول : ما ذكره من عدم جريان قاعدة التجاوز مع الشك في تحقق القصد

ص: 200


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 63 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

بتقريب : أن موضوع الأثر ليس هو القصد ، بل ما يلازم القصد عقلا من تعنون العمل بعنوان المأمور به أو جهة نشوء الأفعال عن قصد العنوان المأمور به - كما قد يظهر من كلامه - أعني : الترديد في موضوع الأثر فإثبات تحقق القصد بالقاعدة لا يقتضي ثبوت الجهة المرغوبة.

ووجه النّظر فيه : أن الشك في تحقق القصد ملازم للشك في تعنون العمل بعنوان المأمور به أو نشوء الأفعال عن قصد العنوان ، فلا ملزم حينئذ لإجراء قاعدة التجاوز في نفس القصد كي يتأتى ما ذكره ، بل يمكن حينئذ إجراء القاعدة في نفس موضوع الأثر - وهو أحد الأمرين - لتحقق الشك فيه بالشك في تحقق القصد ، فلا يرد ما أفاده كما لا يخفى.

الثاني : ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ في الفرض نفسه لعدم إحراز عنوان العمل مع اعتباره في جريانها قياسا على أصالة الصحة في عمل الغير ، لأنهما من سنخ واحد والاختلاف في مورد جريانهما.

ووجه النّظر فيه : ان هذا - على تقدير تسليمه - انما يتأتى في صورة الشك في تحقق أصل قصد العنوان كالشك في تحقق قصد الصلاتية ، لعدم إحراز العنوان. أما مع العلم بقصد الصلاتية والشك في خصوصية القصد من الظهرية والعصرية ونحوهما ، فلا مجال لما ذكره من منع جريان قاعدة الفراغ ، لإحراز عنوان العمل من كونه صلاة والشك في صحته وفساده.

مع ان ما ذكره من لا بدية إحراز عنوان العمل في جريان قاعدة الفراغ ، كاعتباره في قاعدة الصحة غير مسلم لأن اعتباره في أصالة الصحة لم يكن لقيام دليل عليه ، بل لعدم الدليل على عدم اعتباره ، حيث ان دليل أصالة الصحة - كما عرفت - دليل لبي لا لفظي ، وهو السيرة العقلائية ، ومعه يقتصر على القدر المتيقن بمجرد الشك ، فمع الشك في اعتبار إحراز عنوان العمل وعدمه ، يبنى على الاعتبار من باب عدم الدليل على عدمه والأخذ بالقدر المتيقن من دليل الأصل ، وهو غير

ص: 201

صورة عدم الإحراز.

وما نحن فيه ليس كذلك ، لأن دليل قاعدة الفراغ ليس دليلا لبيا بل هو دليل لفظي ، يمكن التمسك بعمومه مع الشك ولم يقم دليل آخر على اعتبار إحراز العنوان ، فلا وجه لتخصيص القاعدة بصورة إحرازه ، بل الوجه تعميمها لصورة عدم الإحراز تمسكا بالعموم.

وعليه ، فيصح جريانها فيما نحن فيه للشك في أن هذا العمل المأتي به مطابق للمأمور به أو غير مطابق ، فتجري فيه قاعدة الفراغ وتثبت صحته ولو لم يحرز العنوان ، فتدبر.

وبالجملة : لا دليل صناعيا على ما أفاده ، فلا وجه لرفع اليد عن العموم لأن الشك في الصحة يجامع الشك في العنوان فيشمله الدليل. إلا ان يدعى انصراف لفظ الشيء في قوله : « كل ما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » (1) ، إلى كونه مشيرا إلى الأفعال بعناوينها المأخوذة في ترتب الأثر لا إلى ذات العمل ، وهي غير سهلة الإثبات.

الثالث : ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ مع الشك في تحقق قصد القربة ، بتقريب : انه لا شك في صحة المأتي به بمعنى مطابقته للاجزاء والشرائط المأمور بها شرعا ، للعلم بالمطابقة مع اليقين بعدم تحقق قصد القربة فضلا عن صورة الشك فيه.

ووجه النّظر فيه : انه بعد عدم معقولية أخذ قصد القربة في متعلق الأمر بالعمل أو في متعلق أمر آخر ، وحكم العقل بوجوب الإتيان بالعمل مقارنا لقصد القربة ، لتوقف تحقق الغرض عليه وتحصيله واجب في مقام الامتثال ، لا يمتنع على الشارع الاكتفاء في مقام الامتثال بالإتيان بما يحتمل معه تحقق الغرض ، إذ لا مانع من ذلك عقلا ، إذ أي محذور في ان يقول الآمر بأني اكتفي في مقام الامتثال باحتمال تحقق الغرض دون الجزم به.

ص: 202


1- وسائل الشيعة 5 / 336 باب 23 من أبواب الخلل ، الحديث : 3.

وإذا ثبت ذلك في نفسه ، فيمكن أن يثبت فيما نحن فيه ، بان يكتفي الشارع بالإتيان بما يحتمل تحقق الغرض به في الامتثال ، فيكتفي بما يحتمل مقارنته لقصد القربة.

ويكون الدليل المتكفل لذلك هو عموم دليل قاعدة الفراغ ، فانه يدل على عدم الاعتناء بالشك والاكتفاء بالمأتي في مقام الامتثال ، ومنه ما نحن فيه ، فيكون من الاكتفاء بما يحتمل تحقق الغرض به ، وقد عرفت انه لا مانع منه ، وانه من صلاحيات الشارع. فالتفت.

الرابع : ما ذكره من عدم جريان قاعدة الفراغ في الأثناء مع الشك في الشرط الشرعي للعمل ، إلا إذا كان ما مضى من الاجزاء بنحو يعد عملا من الأعمال.

فانه غير وجيه ، لأنه إن كان لأجل استفادته من بعض النصوص كقوله علیه السلام : « كل ما مضى من صلاتك وطهورك ... » - فانه يستفاد منه كون مجرى القاعدة أمرا ذا عنوان مستقل كعنوان الصلاة والطهور - فذلك يدفعه إطلاق قوله علیه السلام : « كل ما شككت فيه مما مضى فشكك ليس بشيء » ، فانه بإطلاقه يشمل الكل والجزء وذا العنوان وغيره.

مضافا إلى ان ما ذكره هاهنا ينافي ما ذكره في آخر كلامه من كون الجزء المشكوك في شرطه موردا لقاعدة الفراغ في نفسه ، إلا انها لا تجري لانتفاء الأثر.

وأما ما ذكره من عدم جريان قاعدة التجاوز عن ما لا محل له من الشروط الشرعية كالستر والاستقبال وقصد القربة - على أحد القولين - فيعرف صحته بإطلاقه وعدم صحته مما نقحناه سابقا. فراجع.

الجهة الحادية عشرة : في جريان قاعدة التجاوز في الطهارات الثلاث.

والتحقيق : انه لا إشكال في عدم جريان قاعدة التجاوز عند الشك في فعل من افعال الوضوء بعد الدخول في غيره وقبل الفراغ من الوضوء فقد انعقد الإجماع على ذلك ، وادعى الشيخ ورود الاخبار الكثيرة في ذلك (1).

ص: 203


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /412- الطبعة القديمة.

وقد ألحق الأصحاب الغسل والتيمم بالوضوء في عدم جريان قاعدة التجاوز ، فأدلة قاعدة التجاوز مخصصة بالأخبار والإجماع.

هذا كله مما لا كلام فيه ، وانما الكلام في موثقة ابن أبي يعفور : « إذا شككت في شيء من الوضوء وقد دخلت في غيره فليس شكّك بشيء. انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه » (1) ، حيث ان ظاهرها إلغاء الشك في أحد الاجزاء الوضوء مع الدخول في الجزء الآخر ، وهو يقتضي جريان قاعدة التجاوز في أجزاء الوضوء.

وذلك ينافي معقد الإجماع ودلالة الاخبار على خروج أفعال الوضوء عن عموم القاعدة.

وقد تخلص الشيخ من هذه المنافاة بإرجاع الضمير في : « غيره » إلى الوضوء ، فيكون مفاد الصدر إلغاء الشك في جزء الوضوء مع الدخول في غير الوضوء لا غير الجزء من الاجزاء الأخرى. وهذا لا يتنافى مع معقد الإجماع والأخبار ، لأن مفادهما عدم إلغاء الشك ما دام في الأثناء.

ثم أنه قدس سره أفاد : ان الظاهر من الموثقة كون هذا الحكم - وهو عدم إلغاء الشك في أثناء الوضوء - ليس حكما تعبديا صرفا خارجا عن مقتضى القاعدة وثبت بالتخصيص ، وانما هو حكم على طبق القاعدة ، بمعنى انه حكم جزئي لقاعدة كلية تنطبق موردا على الوضوء ، كما هو مقتضى ذيلها ، فان ظاهره انه حكم كلي طبق على المورد ، فالمستفاد من الرواية قاعدة كلية مقتضاها عدم إلغاء الشك في جزء العمل ، ما دام في أثناء العمل واختصاص الإلغاء بما إذا دخل في غير العمل (2).

ومن هنا يتوجه عليه إشكالان :

أحدهما : ان هذا يستلزم إلغاء الشك في جزء من اجزاء الوضوء باعتبار

ص: 204


1- وسائل الشيعة 1 / 330 ، باب : 42 من أبواب الوضوء ، الحديث : 2.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /412- الطبعة القديمة.

الشك في جزئه بعد الدخول في غيره ، كالشك في غسل بعض اليد بعد الفراغ منها والدخول في غيرها من إعمال الوضوء ، لأنه يصدق عليه انه شك في جزء العمل بعد الفراغ عن العمل والدخول في غيره ، مع ان إلغاء هذا الشك خلاف الإجماع لانعقاده على الاعتناء بمطلق الشك في الأثناء.

والآخر : هو حصول التعارض بين هذا الخبر وبين الأخبار الدالة على إلغاء الشك في الشيء بعد التجاوز عنه ، فيما إذا شك في جزء من أجزاء الوضوء بعد الدخول في غيره من الاجزاء وقبل الفراغ من الوضوء ، إذ باعتبار انه شك بعد تجاوز المحل يكون مشمولا لاخبار قاعدة التجاوز. وباعتبار انه شك في جزء العمل قبل الفراغ عن العمل يكون موردا لهذا الخبر.

وقد يستشكل : بان التعارض المذكور حاصل دائما بين منطوق دليل قاعدة التجاوز ومفهوم قاعدة الفراغ عند الشك في الجزء بعد تجاوزه وقبل الفراغ عن العمل ، إذ مفاد قاعدة التجاوز عدم الاعتناء بالشك ومفهوم قاعدة الفراغ الاعتناء به لأنه في الأثناء.

ولكنه فاسد جدا ، لما عرفت ان هذا التعارض البدوي ينحل بحكومة دليل قاعدة التجاوز على دليل قاعدة الفراغ ، لأن الشك في الصحة مسبب عن الشك في الجزء ، فيرتفع بجريان قاعدة التجاوز فيه.

وهذا غير ما نحن فيه ، لأن المورد واحد لكلتا القاعدتين ، وموضوع إحداهما عين موضوع الأخرى ، إذ لا شك الا شك واحد تنطبق عليه كلتا القاعدتين.

وقد تفصى الشيخ رحمه اللّه عن هذين الإشكالين : بان الوضوء بأجزائه كلها فعل واحد بنظر الشارع ، بمعنى : ان هذا الأمر المركب في الحقيقة اعتبره الشارع أمرا واحدا ، فلم يلحظ كل جزء منه فعلا مستقلا بل لوحظ المجموع فعلا واحدا. والمصحح لهذا الاعتبار هو وحدة المسبب وهو الطهارة ، فانها أمر بسيط غير مركب يترتب على الوضوء ، وهذا أمر ليس بالغريب المستبعد لارتكاب المشهور مثله

ص: 205

بالنسبة إلى افعال الصلاة ، فانهم لم يجروا قاعدة التجاوز في كل جزء من اجزاء الفاتحة أو الآية أو الكلمة ، بل الظاهر كون الفاتحة - بل القراءة - بنظرهم فعلا واحدا ، بل القرينة على هذا الاعتبار والشاهد له هو إلحاق المشهور الغسل والتيمم بالوضوء في هذا الحكم ، إذ لا وجه له بحسب الظاهر إلا ملاحظة كون الوضوء أمرا واحدا باعتبار وحدة مسببه ، فيطرد في الغسل والتيمم. وإذا ثبت هذا الأمر وتقرر ، فلا وجه حينئذ لكلا الإشكالين ، لأن اجزاء الوضوء لم تلحظ بنظر الشارع أفعالا مستقلة كي يتحقق التجاوز عنها والدخول في غيرها - فتكون موردا للتعارض - أو يتحقق الشك في اجزائها بعد الفراغ عنها - فيشملها الذيل فيلزم مخالفة الإجماع - ، بل لوحظ مجموعها فعلا واحدا ، فالتجاوز عنها لا يتحقق إلاّ بعد الفراغ من الوضوء ، فالاعتناء بالشك في الأثناء انما كان لعدم صدق التجاوز بنظر الشارع.

ومن الغريب ما جاء في تقريرات السيد الخوئي ( دام ظله ) من حمل كلام الشيخ في نفي جريان قاعدة التجاوز في الوضوء على : ان المطلوب في باب الوضوء هو الطهارة ، وهي أمر بسيط لا اجزاء له ، وأما الوضوء فهو مقدمة للمأمور به وليس متعلقا للأمر الشرعي ، فلا تجري فيه قاعدة التجاوز. ثم أورد عليه بإيرادين (1). ووجه الغرابة : ان كلام الشيخ في المقام لا غموض فيه ، بل هو صريح فيما بيناه ولا إشارة فيه إلى ما جاء في التقريرات. فلاحظه تعرف.

وقد أورد المحقق العراقي قدس سره على الشيخ في تقريبه المزبور بوجهين :

الأول : ان وحدة الوضوء الاعتبارية ( لا تجتمع مع ) تنافي التصريح في صدر الرواية بالشك في شيء من الوضوء الّذي يفيد كون الوضوء عملا ذا أجزاء.

الثاني : انه لو كان الملاك والعلة في هذا الاعتبار وحدة الأثر المترتب على العمل ، لاطرد ذلك في سائر العبادات من الصلاة وغيره ، فان الصلاة مما يترتب

ص: 206


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول /3/ 314 - الطبعة الأولى.

عليها أثر واحد بسيط وهو النهي عن الفحشاء ونحوه ، مع انه لا إشكال في عدم اطراده لعدم الاعتناء بالشك في جزء الصلاة بعد التجاوز عنه وقبل الفراغ من الصلاة ، بلا ريب ولا إشكال. وذلك دليل عدم اعتبار الوحدة ، وإلاّ لما جرت قاعدة التجاوز في الأثناء (1).

وكلا الوجهين مخدوش فيهما :

أما الأول : فلأن الواحد بالاعتبار لا بد وان يكون مركبا في نفسه وواقعه ، وإلا لما احتيج إلى اعتبار وحدته.

وعليه ، فهو ذو مرتبتين : مرتبة الاعتبار ، وهو فيها أمر واحد بسيط. والمرتبة السابقة على الاعتبار ، وهو فيها أمر مركب ذو أجزاء. ولا إشكال في صحة إطلاق المركب عليه باعتبار المرتبة السابقة على الاعتبار ، بل لا إشكال في صحته مع التصريح باعتبار الوحدة ، بان يقول المعتبر : « هذا الأمر ذو الاجزاء قد اعتبرته واحدا » ، فمع قيام الدليل وثبوت اعتبار الوحدة يحمل التعبير الدال على التركيب على لحاظ المرحلة السابقة على الاعتبار ، ومنه ما نحن فيه ، فالتعبير في الصدر بالشك في شيء من الوضوء لا ينافي اعتبار الوحدة لو ثبت وتم الدليل عليه.

وأما الثاني : فلأن الأثر الّذي يترتب على العمل تارة : يكون تكوينيا. وأخرى : يكون جعليا. والأثر الشرعي تارة : تكون نسبته إلى ذي الأثر نسبة الحكم إلى الموضوع. وأخرى : تكون نسبته إلى ذيه نسبة المسبب إلى السبب - والفرق بين السبب والموضوع ليس محل بيانه هنا بل يذكر في مبحث النهي عن المعاملة - والأثر المترتب على الوضوء وأخويه أثر شرعي نسبته إلى ذيه نسبة المسبب إلى السبب. فملاكية وحدة المسبب لاعتبار وحدة الوضوء انما تقتضي اطراد ذلك في كل أمر يترتب عليه أثر نسبته إليه نسبة المسبب إلى السبب دون كل أمر

ص: 207


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 49 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

يترتب عليه أثر ما.

وهذا انما يكون في العقود ، لأنها سبب في ترتب آثار عليها. أما الصلاة ونحوها من العبادات فآثارها تكوينية لا جعلية ، فلا تصلح مادة للنقض على الاطراد ، لعدم اعتبار الوحدة فيها ، بل النقض انما يتوجه بباب العقود.

ولكن لم يثبت الالتزام بجريان قاعدة التجاوز في اجزائها قبل تمامها كي يكون ذلك دليلا على عدم اعتبار الوحدة مع وحدة المسبب. كما ان عدم الالتزام بها في هذا الباب لا يستلزم أي محذور.

ثم أنه قدس سره ذكر تقريبا للتخلص عن منافاة الموثقة للأدلة الخاصة ، ومحصله : انه يلتزم برجوع الضمير في : « غيره » إلى الوضوء بقرينة الإجماع والنص وقرب المرجع ، وذلك يرجع إلى الالتزام بتقييد التجاوز عن المشكوك فيه في خصوص اجزاء الوضوء بالتجاوز الخاصّ المساوق للتجاوز عن الوضوء مع إبقاء التجاوز في الذيل على إطلاقه وظهوره في مطلق التجاوز عن الشيء ، ومرجع الالتزام بتقييد التجاوز في باب الوضوء إلى التوسعة في محل الجزء وانه لا يتحقق التجاوز عن محله الا بعد الفراغ من الوضوء.

وبالجملة : الموثقة صدرا وذيلا ظاهرة في اعتبار القاعدة ، إلا أن موضوعها - وهو التجاوز - مقيد بنحو خاص في خصوص مورد الرواية وهو الوضوء. ولا محذور في تقييد المورد ، بل هو واقع ، مثل تقييد مورد مفهوم آية النبأ المفروض كونه في الموضوعات الخارجية بصورة انضمام خبر عدل آخر ، مع إبقاء الكبرى على شمولها لقبول خبر العادل بلا ضميمة خبر عدل آخر إليه في غير المورد.

وبهذا البيان يندفع ما ذكر من الإشكال على الموثقة.

وقد ذكر الإشكالات وبيان اندفاعها بهذا التقريب. ولا حاجة لنا ببيانه.

وما ذكره قدس سره من توجيه الرواية وان كان أمرا دقيقا وجيها في نفسه ، إلاّ ان إرادته من مثل هذا التعبير لا يساعد عليه الذوق العرفي لأساليب

ص: 208

الكلام ، وذلك لأن لفظ الوضوء وان كان اقرب إلى الضمير من لفظ : « شيء » ، لكن المسوق له الكلام هو : « شيء » ، والوضوء ملحوظ من متعلقات ما هو المسوق له الكلام ، وذلك يقتضي كون مرجع الضمير هو : « شيء » ، لا الوضوء. مضافا إلى ان تقييد مورد العام ، أو المطلق بقيد وإثبات حكم العام له بلسان ثبوت الحكم لسائر افراد العام - كما لو قال : « أكرم زيدا العالم إذا كان عادلا » لوجوب إكرام العالم - مستهجن عرفا وان رجع إلى أخذ الموضوع في المورد بنحو خاص ، كما لا يخفى على من له مرانة في كلام العرب.

وأما ما ذكره بالنسبة إلى آية النبأ ففيه : ان مورد الآية لم يطرأ عليه تقييد ، إذ ليس المورد هو الموضوع الخارجي ، بل موردها خبر الفاسق في الموضوع الخارجي. والمفروض ان الآية نفت حجيته بلا تقييد.

والمتحصل : ان ما أفاده الشيخ قدس سره في مدلول الرواية وتوجيهه بنحو لا يرد عليه الإشكالات وان كان في نفسه متينا ولكنه احتمال لا دليل عليه. كما ان ما ذكره المحقق العراقي وجيه لو لا بعده عن الذوق العرفي.

فالأولى في حل إشكال معارضة الإجماع والنص أن يقال : (1) ان الضمير في

ص: 209


1- ان ضمير « غيره » يرجع إلى الجزء المشكوك فيه ، ولكن المراد بالشك فيه ليس الشك في وجوده - كما هو ظاهره الأولى مثل الشك في صحته - ، فتكون الرواية ناظرة إلى إهمال الشك في صحة الجزء بعد الدخول في غيره ، فلا تنافي بما دل على الاعتناء بالشك في وجود الجزء إذا كان في أثناء الوضوء ، كرواية زرارة المتقدمة ، والقرينة على حمل الشك في الشيء في رواية ابن أبي يعفور على الشك في الصحة هي الذيل الوارد مورد التطبيق ، وذلك لأن تجاوز الشيء لا يصدق إذا لم يكن نفس الشيء موجودا. فقوله و « انما الشك إذا كنت في شيء لم تجزه » ظاهر في المفروغية عن تحقق الشيء ، فيكون قرينة على كون المراد بالشك فيه هو الشك في صحته لا في وجوده ، وقد تقدم صحة إرادة الشك في الصحة من الشك في الشيء ، وان كان خلاف الظهور الأول لكن يحمل الكلام عليه مع القرينة. ويمكن ان يحل الإشكال في الرواية بوجه آخر وهو أن يقال : بان المراد من ضمير : « غيره » هو الوضوء والملحوظ في الرواية نفي الشك في الصحة لا في الوجود ، بأن يكون المراد بالشك في الشيء ليس مدلوله المطابقي بل المدلول الالتزامي بنحو الكناية وهو الشك في الصحة ، لأن الشك في وجود بعض الأجزاء يلازم الشك في صحة الوضوء ، فتكون رواية ناظرة بصدرها وذيلها إلى بيان جريان قاعدة الفراغ في الوضوء إذا كان الشك بعد الانتهاء عنه ، وعدم جريانها إذا كان الشك في الأثناء. وبهذا البيان نتخلص عن إشكال تقييد المورد الّذي تقع فيه إذا كان المنظور في الصدر جريان قاعدة التجاوز. ولكن هذا الوجه انما نلتزم به ونرفع اليد عن الوجه الأول الّذي هو أقرب للظاهر إذا فرض ان رواية زرارة الدالة على الاعتناء بالشك في أثناء الوضوء تشمل مطلق الشك الأعم من الشك في صحة الجزء أو وجوده ، فتكون قرينة على التصرف في هذه الرواية وحمل صدرها على إرادة الدخول في غير الوضوء واما لو فرض استظهار كون موردها خصوص الشك في وجود الجزء - كما هو القريب - فلا وجه لرفع اليد عن التوجيه الأول وحمل الرواية على بيان جريان قاعدة الفراغ في أثناء الوضوء مع الشك في صحة الجزء ، فتدبر.

« غيره » وان كان بالظهور البدوي راجعا إلى الشيء المشكوك فيه ، إلاّ ان إرجاعه إلى الوضوء بقرينة الإجماع والنص على عدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء ، وقرب المرجع لا يكون فيه مخالفة صريحة للظاهر ، فإذا أرجع الضمير في : « غيره » إلى الوضوء ، كان الصدر ظاهرا في عدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء ، وان عدم الاعتناء بالشك انما يكون بعد الفراغ من الوضوء ، وحينئذ يرتفع التنافي بين الصدر وبين الإجماع والنص كما لا يخفى.

يبقى تطبيق الحصر في الذيل على الصدر ، والأفضل ان يقال فيه : ما أشرنا إليه سابقا في روايات الباب ، وهو : ان الذيل ليس ظاهرا في ضرب قاعدة كلية بمفاد قاعدة التجاوز - كما أفاده العراقي - بل يمكن ان يكون لضرب قاعدة كلية بمفاد قاعدة الفراغ ، وذلك بقرينة اسناد التجاوز إلى نفس الشيء الظاهر في كون أصل الشيء مفروغا عن وجوده والشك في صحته ، وان كان الشك في الشيء ظاهرا بدوا

ص: 210

في الشك في أصل وجود الشيء ، إلاّ انه يحمل على الشك في الصحة بقرينة اسناد التجاوز ، وكونه تطبيقا على الصدر الّذي عرفت انه من موارد قاعدة الفراغ.

وحمل الذيل على ما أفاده الشيخ خلاف الظاهر ، لأنه يستلزم ان يكون متعلق الشك غير متعلق التجاوز ، وهو خلاف ظاهر الكلام ، كما انه يلزم منه التأويل المذكور للتخلص عما يرد عليه من الإشكال وهو مئونة زائدة غير ظاهرة من الكلام.

فالحاصل : ان الرواية أجنبية بالمرة عن جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء ، بل هي متكفلة صدرا وذيلا لبيان جريان قاعدة الفراغ فيه ، فلا منافاة بينها وبين الإجماع والنص فالتفت.

ثم انه لا وجه لإلحاق الغسل والتيمم بالوضوء في عدم جريان قاعدة التجاوز بعد اختصاص الإجماع والنص بالوضوء ، لشمول مطلقات القاعدة لهما بلا مخصص ومقيد. فتدبر (1).

ص: 211


1- قد عرفت عدم جريان قاعدة التجاوز في أجزاء الوضوء. فهل تجري قاعدة الفراغ فيها مع الشك في صحتها أو لا؟. فمثلا إذا دخل في غسل اليد اليسرى وشك في صحة غسل اليمنى أو الوجه لفقد بعض شرائطه ، فهل تجري قاعدة الفراغ لإثبات صحة الغسل أو لا؟. ولا يخفى ان البحث في ذلك بعد الفراغ عن جريان القاعدة في الشك في صحة الجزء بعد الفراغ منه بقول مطلق وفي سائر المركبات. والتحقيق : ان مقتضى العموم كقوله عليه السلام : « كل شيء شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو » هو جريان القاعدة في الوضوء. وانما الشبهة من جهة رواية زرارة الآنفة الذّكر الدالة على الاعتناء بالشك في الأثناء. لكن عرفت انها ظاهرة في كون موضوعها خصوص الشك في وجود الجزء فلا تشمل الشك في صحة الجزء المشكوك. هذا وقد استثنى السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - من ذلك ما إذا كان الشك فيما سماه اللّه سبحانه في كتابه كما لو شك في الغسل بالماء المطلق أو المضاف ، فانه لا تجري قاعدة الفراغ في الجزء المشكوك لكون الشك فيما سماه اللّه كما يظهر من قوله : « فاغسلوا وجوهكم ... » بضميمة « فان لم تجدوا ماء » ، وإذا كان الشك فيما سماه اللّه سبحانه كان مشمولا لرواية زرارة الدالة على الاعتناء بالشك فيه. وما ذكره حفظه اللّه تعالى لا يخلو عن كلام وذلك : لأن المستفاد من رواية زرارة إن كان الاعتناء بالشك في خصوص وجود الاجزاء غسلا أو مسحا بحيث كان قوله عليه السلام فيها : « مما سماه اللّه ... » قيدا توضيحيا ، لأن جميع الغسلات والمسحات مما ذكرت في الكتاب الكريم ، فلا نظر للرواية حينئذ إلى الشك في مثل الغسل بالماء أو من الأعلى أو غير ذلك مما يرتبط بصحة الجزء. وإن كان المستفاد منها هو الاعتناء بالشك في كل ما يرتبط بالوضوء من اجزاء وشرائط بقول مطلق ، فيكون قوله عليه السلام « مما سماه اللّه » قيدا احترازيا. ومن الواضح ان مقتضاها حينئذ تخصيص قاعدة الفراغ أيضا فلا تشمل مورد الشك في أثناء الوضوء ، لكن لا يخفى ان التقييد بما سماه اللّه كما يستلزم طرح قاعدة الفراغ في اجزاء الوضوء في خصوص ما إذا رجع الشك فيه إلى الشك فيما سماه اللّه كذلك يستلزم تقييد إلغاء قاعدة التجاوز في خصوص ذلك المورد ، فالالتزام بعدم جريان قاعدة التجاوز في اجزاء الوضوء وشرائطه بقول مطلق ، وتخصيص عدم جريان قاعدة الفراغ بخصوص ما إذا رجع الشك إلى الشك فيما سماه اللّه ليس بصحيح. فما أفاده لا يخلو عن إشكال ، وبعبارة أوضح نقول : ان القدر المتيقن من الرواية هو نظرها إلى إلغاء قاعدة التجاوز في الوضوء بلا إشكال لدى الكل ، وعليه فيكون التقييد المزبور راجعا إلى تقييد إلغاء قاعدة التجاوز لا خصوص قاعدة الفراغ. فانتبه. ثم أنك قد عرفت ان الرواية تختص بالشك في خصوص وجود الغسلات والمسحات ولا نظر لها إلى غير ذلك. وعليه فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ في اجزاء الوضوء بقول مطلق. فتدبر.

الجهة الثانية عشرة : هل يختص جريان قاعدة الفراغ بصورة الشك في الغفلة والذّكر حال العمل أو يعم صورة ما إذا علم بالغفلة ولكنه احتمل الإتيان بالمشكوك من باب الاتفاق؟.

التزم المحقق النائيني (1) ، بالتعميم لعموم الأدلة. وخالفه السيد الخوئي (2) ،

ص: 212


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 481 - الطبعة الأولى.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 306 - الطبعة الأولى.

فالتزام بالتخصيص ، بمقتضى التعليل المذكور في الرواية ، ولكون مرجع القاعدة إلى أصالة عدم الغفلة ، وهي انما تجري مع الشك في الغفلة ، اما مع العلم بها فلا وجه لجريانها.

والتحقيق ان يقال : ان القاعدة إن كانت من الأصول التعبدية ، فمقتضى عموم دليلها هو تعميم جريانها للصورتين لتحقق موضوعها وهو الشك في الصحة.

وان (1) كانت من الأمارات ، فالأمر يختلف باختلاف ملاك الأمارية ، فقد ذكر لها ملاكات ثلاثة :

الأول : ما ذكره المحقق النائيني ، وهو الملازمة النوعية بين الإرادة المتعلقة بالمركب والإتيان بالجزء ، فان إرادة المركب هي المحركة لكل واحد من الاجزاء في محله وان كان الجزء حال الإتيان به مغفولا عنه إلاّ ان الإتيان به ناش عن الإرادة الإجمالية الارتكازية ولا يحتاج إلى تعلق الإرادة التفصيلية به (2).

الثاني : ان العاقل إذا أراد الإتيان بعمل ما فمقتضى القاعدة عدم غفلته عن الإتيان بخصوصياته واجزائه ، فهذا الوجه في الحقيقة يرجع إلى أصالة عدم الغفلة.

الثالث : ان العاقل إذا اعتاد على عمل ما ، وأراد الإتيان به فهو بمقتضى طبعه وعادته لا يترك اجزاء العمل وخصوصياته.

ص: 213


1- تحقيق الحال في ذلك بإجمال : ان ما ذكر لكون قاعدة الفراغ أمارة وجوه استحسانية لا دليل عليها ، مع ان الأول يرتبط بقاعدة التجاوز ولا يشمل قاعدة الفراغ ، لأن من مواردها المتيقنة مورد احتمال الغفلة من حين العمل ، ولا يتأتى فيه الملاك المزبور. واما استفادة الأمارية من التعليل المذكور في رواية الوضوء ، وهو قوله عليه السلام : « هو حين يتوضأ اذكر من حين يشك » فسيأتي الكلام فيه وبيان اختصاصه بصورة خاصة ، فلا يصلح لتقييد المطلقات. اذن ، فالعمل على طبق مطلقات الباب الشاملة لصورة العلم بالغفلة متعين.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 463 - الطبعة الأولى.

فعلى الملاك الأول ، يختص جريان القاعدة بصورة العلم بتحقق الالتفات أول العمل المركب وان احتمل تبدله إلى الغفلة في الأثناء ، إذ مع عدم العلم بالالتفات لا يحرز تحقق ملاك جريان القاعدة ، وهو الملازمة بين إرادة المركب والإتيان بالجزء ، إذ لا يعلم بتحقق الإرادة للمركب.

وعلى الملاك الثاني : تشمل القاعدة صورة الشك في الغفلة والذّكر من أول العمل لأصالة عدم الغفلة من العاقل عن خصوصيات العمل الّذي يشرع فيه.

ولكنها لا تشمل صورة العلم بالغفلة وان احتمل تبدلها إلى الذّكر في الأثناء لمزاحمة استصحاب الغفلة لهذا الأصل العقلائي في أماريته وكشفه.

وعلى الملاك الثالث : فالقاعدة تشمل جميع الصور حتى صورة العلم بالغفلة واستمرارها إلى ما بعد محل المشكوك فيه ، لثبوت الملاك في هذه الصورة - وهو اقتضاء الطبع والعادة للإتيان بالجزء وان كان مغفولا عنه بالمرة - نعم ، يستثنى منها صورة ما إذا كانت الغفلة عن الجزء أو الشرط ناشئة عن الجهل بحكمه فان العادة لا تقضي بالإتيان به لعدم تحققها بالنسبة إليه ، كما لو لم يكن يعلم بوجوب السورة ولم يكن يخطر على باله وجوبها وشك بعد الإتيان بالعمل في أنه جاء به مع السورة أو بدونها.

فالمتحصل ان الصور أربع :

الأولى : العلم بتحقق الالتفات حال العمل والشك في تبدله في الأثناء إلى الغفلة.

الثانية : الشك في تحقق الغفلة أو الذّكر حال العمل.

الثالثة : العلم بالغفلة حال العمل والشك في تبدله إلى الالتفات في الأثناء.

الرابعة : العلم بالغفلة واستمرارها.

فالقاعدة بالملاك الأول تجري في خصوص الصورة الأولى.

وبالملاك الثاني تجري في الصورتين الأولتين.

ص: 214

وبالملاك الثالث تجري في جميع الصور إلا ما عرفت استثناءه من الصورة الأخيرة.

وقد يستدل على جريان قاعدة الفراغ في صورة العلم بالغفلة عن المشكوك فيه برواية الحسين بن أبي العلاء : « سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الخاتم إذا اغتسلت؟ قال : حوّله من مكانه. وقال : في الوضوء تديره فان نسيت حتى تقوم في الصلاة فلا آمرك ان تعيد الصلاة » (1) ، فانها تدل على عدم الاعتناء بالشك في وصول الماء إلى البشرة بعد الفراغ مع العلم بالغفلة عن ذلك وعدم الالتفات إليه لنسيان تحريك أو تحويل الخاتم.

وقد نوقش الاستدلال بها : بان الظاهر من الخبر ان التحويل والإدارة مطلوبان في أنفسهما لا باعتبار وصول الماء إلى البشرة المخفية بالخاتم ، إذ لا وجه لذكر التحويل في الغسل والإدارة في الوضوء لو كانا مطلوبين لا لإيصال الماء لكفاية العكس في ذلك ، بل كل منهما كاف في ذلك في الوضوء والغسل. فهذا التفريق بينهما شاهد في مطلوبيتهما في أنفسهما ، غاية الأمر علم من الخارج عدم وجوبهما ، بل نفس الخبر يدل على ذلك لقوله : « فان نسيت فلا آمرك ان تعيد الصلاة » ، فانه يدل على انهما ليسا شرطين لصحة الغسل والوضوء ، بل هما امران راجحان فيهما. وعلى كل فالخبر أجنبي عن المدعى.

ولكن هذه المناقشة لا تخلو من إشكال ، فانه مما لا يخفى على من له أدنى ذوق ان سؤال السائل عن الخاتم في الغسل ليس إلاّ لما يترتب عليه من منع لوصول الماء أو شك في ذلك ، أما السؤال عن الخاتم لاحتمال خصوصية فيه فهذا بعيد عن ظاهر السؤال. فتوجيه الجواب بما ذكر بعيد عن ظاهر السؤال.

فالتحقيق في الإشكال على الاستدلال بهذه الرواية ، أن يقال : ان طريق العلم

ص: 215


1- وسائل الشيعة 1 / 329 ، باب 41 من أبواب الوضوء ، الحديث : 2.

بوصول الماء إلى البشرة تحت الخاتم وعدمه موجود غالبا ، وذلك بملاحظة الخاتم من ناحية الضيق والسعة ، ولو وصل إليه الماء فهو بغير الشرط الشرعي من الترتيب ، فلا بد من حمل الرواية على صورة العلم بعدم وصول الماء - لا الشك فيه لعدم تحققه غالبا - فيكون غرض الإمام علیه السلام هو الأمر بإيصال الماء ولزوم غسل ما تحت الخاتم ، والإدارة والنزع طريقان إليه والاختلاف بينهما تفنن في التعبير لا لخصوصية فيهما والإشارة إلى كفايتهما معا. ثم ما ذكره من عدم الأمر بالإعادة عند النسيان يحمل على العفو عن عدم وصول الماء إلى بعض البشرة في صحة الصلاة بعد فراغها ويكون مقيدا لحديث : « لا تعاد » ان التزمنا بشموله لصورة الإخلال بغسل بعض البشرة ، ولم نقل بظهوره في الاختصاص بصورة ترك أصل الطهارة ولا يشمل صورة الإخلال بها.

الجهة الثالثة عشرة : في جريان القاعدة مع الشك في الصحة مع كون صورة العمل محفوظة.

وتوضيح الحال : ان الشك في الصحة تارة : يكون ناشئا عن الشك في أمر اختياري للمكلف ، كالإتيان بالجزء أو الشرط. وأخرى : يكون ناشئا عن الشك في أمر غير اختياري له ، كما لو صلى إلى جهة معينة ، ثم يشك في ان هذه الجهة هي القبلة أو لا؟ فان كون هذه الجهة هي القبلة ليس بأمر اختياري للمكلف. ويعبر عن هذه الصورة بالشك في الصحة مع كون صورة العمل محفوظة.

فالقسم الأول ، هو القدر المتيقن من موارد قاعدة الفراغ.

وأما القسم الثاني ، فهو محل الكلام.

وقد اختار المحقق النائيني عدم جريان القاعدة فيه ، لأن الأدلة انما تشمل صورة الشك في انطباق المأتي به على المأمور به. أما صورة الشك في انطباق المأمور

ص: 216

به على المأتي به - كما فيما نحن فيه - فلا تشمله الأدلة (1).

ولم يذكر وجه عدم شمول الأدلة له.

ولا يخلو الحال في الوجه فيه عن أحد أمور ثلاثة :

اما إجمال الأدلة فيقتصر فيها على القدر المتيقن ، وهو غير هذه الصورة.

واما انصرافها إلى غير هذه الصورة.

واما دعوى : ان سياق الكلام يدل على ان مورد القاعدة ما إذا كان الشك راجعا إلى العمل بحيث يكون محله العمل لا ان يكون المشكوك فيه أمرا خارجا عنه وان ارتبط به.

والأول : لا يعترف به قدس سره ، إذ لا يقول بإجمال الأدلة.

والثاني : ممنوع في نفسه ، مضافا إلى أنه لا يقول بالانصراف الا في موارد خاصة - وهي موارد التشكيك في الصدق - ليس ما نحن فيه منها.

والثالث : لا يخلو عن المغالطة ، لأن الشك وان تعلق أولا ، وبالذات بالأمر الخارج عن العمل ، لكنه يسبب الشك في صحة العمل باعتبار تحقق الشرط بالموجود ، فيكون موردا للقاعدة.

وبهذا البيان يندفع ما يظهر منه قدس سره من : ان الشك هاهنا راجع إلى وجود الأمر ، ومجرى قاعدة الفراغ هو الشك في الامتثال ، ووجه اندفاعه : ان أصل وجود الأمر لا شك فيه ، إذ لا شك في شرطية الاستقبال ، وانما يشك في موافقة ما أتي به لما هو المأمور به ، وهو مجرى القاعدة.

فالتحقيق ان يقال : ان بني على أصلية القاعدة ، فالقول بجريانها في هذه الصورة متعين ، لإطلاق الأدلة ، ولا دليل يعتد به على التخصيص ، إلاّ ان يدعى انصرافها إلى ما إذا كان الشك في الموافقة وعدمها إلى ما يرجع إلى اختياره بحيث

ص: 217


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 482 - الطبعة الأولى.

يكون عدم مطابقة المأتي به للمأمور به ناشئة عن تركه الاختياري ، لا عن امر آخر ، فتأمل.

وأن بني على الأمارية بمقتضى التعليل بالأذكرية ، أو بغيره من الملاكات ، فلا وجه لجريانها ، لأن الأذكرية انما هي بالنسبة إلى ما يمكن صدوره منه وتحققه باختياره ، أما بالنسبة إلى ما هو خارج عن اختياره فلا يتحقق ملاك الأذكرية ، إذ الشك في الصورة لا يرجع إلى الغفلة وعدم الالتفات ولا يرتبط بها أصلا ، إذ هو حاصل حتى مع العلم بالاتجاه إلى هذه الجهة والالتفات إليه. فتدبر.

الجهة الرابعة عشرة : فيما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشبهة الحكمية ، كما لو صلى وشك في ان صلاته كانت مع السورة أو بدونها مع الجهل بوجوب السورة.

وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره : ان الشك تارة : يكون في مطابقة عمله لفتوى مجتهده الّذي تحقق منه تقليده. وأخرى : يكون في مطابقة عمله للمأمور به الواقعي مع عدم تحقق تقليد منه.

ففي الشق الأول تجري القاعدة ، لكون الشك في مطابقة المأتي به للمأمور به المعين ، فيكون كالشبهة الموضوعية.

وأما الشق الثاني ، فلا تجري فيه القاعدة ، لأن التكاليف الواقعية تكون منجزة بواسطة العلم الإجمالي ، فيجب الخروج عن عهدته اما بإحراز إتيانه أو بإتيان بدله الظاهري ، كما في صورة الانحلال بالتقليد. وقاعدة الفراغ لا تثبت انطباق الأمر الواقعي المجهول على المأتي به (1).

وما أفاده في كلا الشقين ممنوع ..

أما الشق الأول ، فلا بد من التفصيل بين الأمارية والأصلية ، فتجري على

ص: 218


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 481 - الطبعة الأولى.

الثاني دون الأول ، لعدم تحقق ملاكها مع الجهل بالحكم حال العمل كما تقدم.

مع ان ما ذكره من كونه من الشبهة الحكمية عجيب ، لأنه بعد تقليده تعين لديه المأمور به وانه مع السورة - مثلا - فالشك يرجع حينئذ إلى انه جاء بالمأمور به أو لا ، وهذا شك في الموضوع كما لا يخفى. نعم ، قبل التقليد كان جاهلا حكما ، إلا أنه في حال إجراء القاعدة بعد التقليد يرتفع جهله الحكمي ، فالشق المذكور من صور الشبهة الموضوعية.

وأما الشق الثاني ، فما ذكره من عدم انحلال العلم الإجمالي وتنجزه ، ان كان تمهيدا لبيان عدم جريان القاعدة ، فلا كلام فيه ، واما ان كان تتمة للاستدلال على عدم جريانها ، فلا يعرف له وجه ، لأن قاعدة الفراغ مؤمنة في صورة العلم التفصيليّ بالتكليف ، فضلا عن صورة العلم الإجمالي ، فلا فرق في الانحلال بين التقليد وعدمه.

الجهة الخامسة عشرة : هل يعتبر في جريان قاعدة الفراغ ان يكون الشك حادثا بعد العمل أو لا ، فتجري ولو كان الشك قد حدث في الأثناء؟

التحقيق : هو الأول.

أما على القول بان القاعدة أمارة ، فواضح : لأنه إذا فرض ان الشك كان في أثناء العمل فلا تتحقق أذكريته ، بل لا معنى لها ، إذ حاله قبل الفراغ كحاله بعد الفراغ لأنه شاك في الحالين.

وأما على القول بأنها أصل ، فلظهور الروايات في كون موضوع الإلغاء هو الشك المتعلق حدوثا بالعمل الماضي المفروغ عنه لا الشك الحادث قبل الفراغ المستمر إلى ما بعد الفراغ كما لا يخفى (1).

ص: 219


1- وقد تعرض بعض الاعلام في هذا المبحث إلى فرع تقدم تحقيق الكلام فيه في أوائل الاستصحاب وهو ما إذا شك الإنسان قبل صلاته في الطهارة والحدث وكانت حالته السابقة هي الحدث فاستصحبه ثم غفل وصلى ، وبعد صلاته تنبه ، وحصل له الشك في صحة صلاته لاحتمال الطهارة واقعا. ولهذا الفرع صورتان : إحداهما : ان يعلم بأنه لم يتوضأ بعد الاستصحاب وانما يتمحض احتمال الصحة باحتمال الطهارة الواقعية ، والأخرى : ان يحتمل أنه توضأ بعد الاستصحاب كما يحتمل ان يكون غفل وصلى بدون وضوء رافع للحدث الثابت بالاستصحاب. وقد التزم المحقق النائيني بجريان قاعدة الفراغ في الصورة الثانية دون الأولى ، ووجّه جريانها بان حكم استصحاب الحدث لا يزيد على حكم اليقين الوجداني به ولا شك انه مع اليقين بالحدث قبل الصلاة ثم شك بعد الصلاة في أنه توضأ ثم صلى أو غفل وصلى تجري في حقه قاعدة الفراغ ، فكذلك ما إذا كان مستصحب الحدث. وأما عدم جريانها في الصورة الأولى ، فلأجل الاستصحاب الجاري قبل العمل وعدم احتمال انتقاضه ، وقاعدة الفراغ ناظرة إلى الاستصحاب الجاري بعد العمل بلحاظ الشك الحاصل بعد العمل ، ولا نظر لها إلى الاستصحاب الجاري قبل العمل بلحاظ الشك الحاصل قبل العمل. وقد ناقشه المحقق العراقي : بأنه لا وجه للتفكيك بين الصورتين ، فإن القاعدة لا تجري في كلتا الصورتين ، وذلك لأن المعتبر في القاعدة ان لا يكون الشك في الصحة مسبوقا بشك آخر قبل العمل من سنخه أو غير سنخه. وبما ان الشك في كلتا الصورتين مسبوق بشك آخر قبل العمل لم يكن من موارد القاعدة. كما انه ناقش ما أفاده في الصورة الأولى من عدم حكومة قاعدة الفراغ على الاستصحاب الجاري قبل العمل ، بان الاستصحاب بما أنه حكم مجعول بلحاظ التنجيز والتعذير فلا يجري إلا مع الالتفات ، اما مع الغفلة كما هو المفروض فيما نحن فيه فلا مجال لتأثيره لامتناع التنجيز في حق الغافل ، إذن فلا استصحاب أثناء العمل كي يكون مقدما على قاعدة الفراغ. أقول : قد تقدم منا تقريب جريان استصحاب الحدث مع الغفلة ببيان : ان الاستصحاب إنما يتكفل التنجيز في الأحكام التكليفية دون الوضعيّة كالحدث والطهارة والملكية والزوجية ونحو ذلك ، فلا مانع من جريانه مع الغفلة ، فكما أن وجودها الواقعي لا يرتفع بالغفلة كذلك وجودها الظاهري ، ولذا تترتب آثار الملكية ونحوها من الأحكام الوضعيّة مع الغفلة عنها. وأما ما أفاده في مناقشة جريان قاعدة الفراغ في الصورة الثانية ، من عدم جريان قاعدة الفراغ في الشك المسبوق بشك آخر من سنخه أو من غير سنخه. فيمكن التأمل فيه بأن أصل الكبرى التي فرضنا وان كانت لا تخلو عن قرب بعد حملها على ان يكون المراد من إرادة الشك غير المسانخ ما لو نحو ارتباط بالشك في الصحة لا مطلق الشك غير المسانخ ولو كان أجنبيا بالمرة عن الشك في الصحة إذ لا وجه له محصل. ووجه قرب ذلك : ان الشك في الصحة وان كان حادثا بعد العمل إلا ان المرفوع بقاعدة الفراغ هو الشك في أداء الوظيفة والخروج عن العهدة ، ومع وجود الشك السابق ، لا يرجع الشك في الصحة إلى الشك في أداء الوظيفة لأن الشك السابق معين لوظيفة خاصة على المكلف والمعلوم عدم أدائها. لكن الإشكال في تطبيقها على ما نحن فيه ، فانها تختص بما إذا كان الشك السابق حادثا حين العمل لا ما إذا كان قبل العمل بمدة واحتمل الالتفات حال العمل ، والعمل بما هو مقتضى وظيفة الشاك من الوضوء ورفع الحدث الاستصحابي ، فان أداء الوظيفة مشكوك في هذا الحال لا معلوم العدم. فلا مانع من جريان القاعدة. وعلى هذا فالتفصيل بين الصورتين كما أفاده المحقق النائيني وجيه. فتدبر. ثم ان المحقق العراقي تعرض إلى البحث في جهتين آخرتين : الجهة الأولى : في ان المضي على المشكوك فيه في مورد قاعدة التجاوز رخصة أو عزيمة ، وقد ذهب قدس سره إلى انه عزيمة ، فلا يجوز الإتيان بالمشكوك ولو برجاء الواقع ويكون الإتيان به من الزيادة العمدية بالنسبة إلى المشكوك والغير الّذي دخل فيه وذلك يوجب البطلان ، واستند في ذلك إلى ظهور الأمر بالمضي في اخبار الباب وقوله عليه السلام : « بل قد ركعت » في وجوب البناء على وجود المشكوك فيه وتحققه في محله ، فلا يشرع الاحتياط لعدم الموضوع له بعد حكم الشارع بوجود المشكوك. هذا ما أفاده قدس سره. ويمكن المناقشة في استدلاله وما رتبه من الأثر على مدعاه. أما استدلاله ، فلأنه من الواضح ان قوله عليه السلام : « بلى قد ركعت » لا يراد به الاخبار عن تحقق الركوع واقعا ، وانما هو تعبد ظاهري بتحقق الركوع ومن البين ان الحكم الظاهري لا يمنع من الاحتياط فيما نحن فيه ، لأنه مسوق مساق التأمين والتعذير فهو رخصة لا عزيمة. وأما الأمر بالمضي ، فهو أمر واقع مورد توهم الحظر يعني : حظر المضي ولزوم العود وإتيان المشكوك ، فلا يفيد سوى عدم الحظر وعدم لزوم العود لا لزوم المضي وحرمة العود ، فالتفت. وأما ما رتبه من الثمرة ، وهو ان الإتيان بالمشكوك يكون من الزيادة العمدية ، فيرد عليه : انه لا يتم في الاجزاء التي يتقوم صدق زيادتها بإتيانها بقصد الجزئية كالقراءة والتشهد ونحو ذلك ، إذ بالإتيان بها رجاء لا تصدق الزيادة لعدم قصد الجزئية. نعم ، في مثل السجود والركوع بناء على القول بتحقق زيادتهما بمجرد الإتيان بهما بذاتهما ولو لم يقصد بهما الجزئية يتأتى ما ذكره. مع إمكان الرجوع إلى أصالة عدم زيادة الركوع في نفى عروض المبطل على الصلاة الواقعية. فتأمل. الجهة الثانية : في انه إذا دار امر الجزء الفائت بين ما يستلزم فواته البطلان كالركن وما لا يستلزم فواته البطلان كغير الركن ، فهل تجري قاعدة التجاوز في كلا الجزءين وتسقط بالمعارضة أو لا؟ كما لو علم إجمالا بفوات الركوع منه أو التشهد فانه قد يقال ان كلا من الركوع والتشهد مجرى القاعدة ومقتضى ذلك التساقط. لكنه « قدس سره » ذهب إلى عدم جريان القاعدة في مثل التشهد ، وذلك لأنه يعتبر في قاعدة التجاوز ان يكون المشكوك على تقدير وجوده واقعا مما يجزم بأنه مأتي به على طبق أمره ، فلو لم يكن المشكوك كذلك لم تجر القاعدة لعدم ترتب أثر عملي على التعبد بالمضي عليه ، وما نحن فيه كذلك ، لأن وجود التشهد ملازم لفوات الركوع وهو مستلزم لبطلان صلاته ، فلا يترتب على وجوده أثر عملي حتى يثبت بالقاعدة. وببيان آخر يقال : انه في الفرض يعلم تفصيلا بعدم الإتيان بالتشهد موافقا لأمره ، إما لعدم الإتيان به رأسا واما للإتيان به في صلاة باطلة. ومع العلم التفصيليّ المزبور لا مجال لجريان القاعدة فيه. فتكون قاعدة التجاوز في الركوع بلا معارض. وقد تلقي ما أفاده بالقبول وطبق في فروع متعددة من فروع العلم الإجمالي في العروة الوثقى. وهو بيان علمي رصين ، لكنه لا يخلو عن مناقشة وذلك : لأن قاعدة التجاوز إما ان يكون مفادها الصحة الفعلية للصلاة بحيث يكون مقتضى جريانها إثبات الأمر بغير المشكوك فيكون العمل المأتي به موافقا للأمر ، واما ان يكون مفادها الصحة من جهة المشكوك خاصة فهي تتكفل التأمين من ناحية المشكوك من دون إثبات أمر ظاهري آخر غير الأمر بالمقام. فعلى الأول : لا يمكن إجراء القاعدة مع تعدد الجزء المشكوك ركنا كان أم غير ركن ، لأن إجراءها في كل واحد منهما يقتضي إفادة الصحة الفعلية وإثبات أمر ظاهري بغير المشكوك وهذا يمتنع مع فرض الشك في إتيان الجزء الآخر المستلزم للشك في الصحة ، وليس لدينا قاعدة واحدة تجري في كلا الجزءين المشكوكين معا ، لأن كل جزء مشكوك موضوع مستقل لعموم دليل القاعدة. وعلى الثاني : فلا مانع من جريان القاعدة في التشهد في نفسه لعدم العلم بتركه والمفروض انهما تتكفل التأمين من ناحية عدم الإتيان به خاصة وهو غير معلوم ، فلا يتجه ما ذكره من العلم بعدم امتثال أمره إما لتركه أو لترك الركن الموجب للبطلان ، فانه يتم لو فرض تكفل القاعدة للتأمين الفعلي لا التأمين من جهة كما هو الفرض. نعم ، يبقى إشكال اللغوية وان التأمين من ناحية التشهد لا أثر له مع عدم صحة العمل. ويندفع : بان قاعدة التجاوز الجارية في الركوع تثبت الصحة وتنفي البطلان. فلا يكون جريانها في التشهد بلا أثر ولغوا. نعم ، لمكان العلم الإجمالي تتحقق المعارضة بين القاعدتين ، وبعبارة أخرى : يكفي في رفع اللغوية ترتب المعارضة على جريانها لأن اللغوية ترتفع بأدنى أثر. ولا وجه لطرح قاعدة التجاوز في التشهد خاصة. فتدبر واللّه سبحانه العالم.

ص: 220

ص: 221

ص: 222

الجهة السادسة عشرة : في جريان قاعدة الفراغ فيما إذا كان منشأ الشك احتمال عدم صدور الأمر من المولى ، كما لو صلى ثم شك في دخول وقتها حين الإتيان بها وعدمه ، فان الشك في الصحة هاهنا ناشئ عن الشك في تعلق الأمر بالصلاة. وكما لو اغتسل للجنابة ثم شك في انه كان جنبا فيصح غسله أو لا؟.

وقد ذكر السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - انه لا إشكال في عدم جريان قاعدة الفراغ ، لأن قاعدة الفراغ أمارة على وقوع الفعل من المكلف باجزائه وشرائطه ، فلا كاشفية لها بالنسبة إلى ما هو من فعل المولى وصدور الأمر منه. ويدل عليه ما ورد من التعليل بالأذكرية ، فانه من المعلوم ان كونه أذكر حال العمل

ص: 223

بالنسبة إلى ما يصدر منه من الأعمال دون ما هو من أفعال المولى (1).

ولكن التحقيق أن هذا التقريب لعدم الجريان غير واف فيه ، فان الشك في كلا المثالين يرجع إلى ما هو من أفعال المكلف ، فالتعليل بالأذكرية يشمله بلا توقف.

أما مثال الصلاة ، فلأن صحة الصلاة لا تدور مدار تعلق الأمر بها فعلا ، كما يدل على ذلك صحة صلاة الصبي بعد دخول الوقت وقبل بلوغه لو بلغ في أثناء الوقت ، مع انه لم يكن مأمورا بها فريضة. بتقريب : ظهور دليل وجوب الصلاة كون المقصود تحققها بشرائطها المعتبرة فيها ، فلا يشمل الدليل من تحققت منه الطبيعة التي تكون متعلقا للأمر ولو كان ذلك بلا أمر ، بل المدار هو تحقق ما هو قابل في نفسه لتعلق الأمر به - وبعبارة أخرى : تحقق فرد الطبيعة التي تعلق بها الأمر وان لم يشمل الأمر هذا الفرد - وهو الصلاة بشرائطها ومنها الوقت. فالشك يرجع إلى الشك في كون الصلاة في الوقت أو لا ، وهذا من أفعال المكلف ، وان لازم الشك في صدور الأمر من المولى. فالمورد مشمول للتعليل كما هو ظاهر.

نعم ، هاهنا شيء وهو ان الظاهر من لسان أدلة قاعدة الفراغ وإلغاء الشك في العمل بعد مضيه ، ان الإلغاء يكون في مقام لولاه لوقع المكلف في كلفة الإعادة ، فهي بلسان رفع الكلفة. أما في غير هذه الصورة فلا تجري القاعدة ولا يتحقق الإلغاء.

وعلى هذا فلا بد اتباع السيد الطباطبائي « قدس سره » (2) في التفصيل فيما نحن فيه بين ما إذا كان الشاك في صحة الصلاة للشك في دخول الوقت جازما بدخول الوقت حال الشك فتجري القاعدة. وما إذا لم يكن جازما بدخول الوقت حال الشك ، بل كان شاكا أيضا ، فلا تجري القاعدة. اما جريانها في الأول ، فلأنه مع

ص: 224


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 308 - الطبعة الأولى.
2- الطباطبائي الفقيه السيد محمد كاظم. العروة الوثقى - المسألة الخامسة في أحكام الأوقات.

عدم الحكم بإلغاء الشك يكون المكلف مأمورا بالصلاة حال الشك لدخول الوقت ، فيقع في كلفة الإعادة ، وهذا مما تنفيه أدلة القاعدة.

وأما عدم جريانها في الثاني ، فلأنه لو لم يحكم بصحة الصلاة لا يقع المكلف في الكلفة لفرض الشك فعلا بدخول الوقت الملازم للشك في صدور الأمر ، وبمقتضى استصحاب عدم دخول الوقت يثبت عدم الأمر تعبدا ، فيكون هذا المورد خارجا عن الأدلة في نفسه.

وأما مثال الغسل ، فلأن الشك فيه شك فيما يرجع إلى المكلف ، وهو الكون جنبا ، فهو مشمول للتعليل بالأذكرية ، فيكون من موارد القاعدة في نفسه. لكن المشهور والمسلم عدم جريانها فيه.

ولعل السر فيه ما يقال من : أن عدم وجوب الوضوء للصلاة لا يترتب على صحة الغسل ، بمعنى ان صحة الغسل موضوع لعدم وجوب الوضوء ، حتى يكون إجراء قاعدة الفراغ في الغسل ذا أثر شرعي وهو رفع وجوب الوضوء وجواز الدخول في الصلاة بدونه ، لأن وجوبه يترتب على أمرين - بنحو الجمع - وهما : تحقق الحدث الأصغر ، وعدم الكون جنبا ، فمع تحققهما يجب الوضوء.

ولا يخفى انه بجريان القاعدة في الغسل مع الشك في أصل الجنابة لا يثبت تحقق الجنابة كي ينتفي موضوع وجوب الوضوء ، فانه أجنبي عن مفاد القاعدة ، فباستصحاب عدم الجنابة يثبت موضوع وجوب الوضوء ، فلا يجدي إثبات صحة الغسل في رفع كلفة الوضوء ، فتبقى القاعدة بلا أثر ، فلا يتجه جريانها من جهة عدم الأثر.

الجهة السابعة عشرة : في كون القاعدة من الأصول أو الأمارات.

وقد ذكرنا انه قد ذكر للأمارية ملاكات ثلاثة :

أحدها : ما ذكره المحقق النائيني من الملازمة النوعية بين إرادة المركب

ص: 225

والإتيان بالجزء في محله ولو مع الغفلة حال الجزء (1).

والثاني : ما أشار إليه المحقق الأصفهاني من كون الإتيان بالاجزاء والشرائط أمرا بمقتضى العادة والطبع المستند إليها (2).

والثالث : ما قرره السيد الخوئي ، من الأصل في العاقل القاصد للإتيان بالمركب عدم الغفلة عن الإتيان بأجزائه وشرائطه (3).

وكل من هذه الملاكات غير صالح لاعتبار قاعدة الفراغ من باب الأمارية والكشف.

أما الأول : فلعدم ثبوت الملازمة النوعية بين إرادة المركب والإتيان بالجزء في ظرفه ولو مع الغفلة - بلا استناد إلى العادة - إلا في صورة كون الاجزاء من سنخ واحد كالمشي والقراءة المتكررة ونحوهما. أما ما كانت الاجزاء فيها ليست من سنخ واحد بل متغايرة ، فالملازمة مع الغفلة لا تثبت إلا مع الاعتياد ، بحيث يكون الإتيان به مستندا إلى العادة لا إلى الملازمة.

وأما الثاني : فهو مختص بصورة الاعتياد على العمل ، فلا ينبغي - مع اعتبار القاعدة بلحاظه - أن تجري في صورة عدم الاعتياد ، ككثير من المعاملات وبعض العبادات كالحج لغير المعتاد وكالصلاة في أول الإسلام أو التكليف إذا لم يسبق منه الاعتياد على الصلاة.

وأما الثالث : فهو يقتضي إلغاء قاعدة الفراغ بالمرة ، لأن أصالة عدم الغفلة من الأصول العقلائية المسلمة فاعتبار القاعدة بلحاظه لا يكون إلا إمضاء للعمل به لا تأسيسا لقاعدة مستقلة.

مضافا إلى أنه لم يعلم من حال العقلاء العمل بهذا الأصل في عمل الشخص

ص: 226


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 463 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 305 - الطبعة الأولى.
3- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 262 - الطبعة الأولى.

نفسه بل المتيقن هو العمل به في عمل الغير ، فلا يصلح للملاكية لظهور كون موارد القاعدة عمل الشخص نفسه. فتدبر جيدا.

فالمتحصل : ان شيئا من هذه الملاكات لا يصلح ملاكا لأمارية قاعدة الفراغ.

يبقى الكلام في التعليل بالأذكرية الوارد في بعض الروايات وهو قوله « علیه السلام » : هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك ».

وهو يحتمل معان ثلاثة :

الأول : التعبد بالواقع من باب غلبة الذّكر نوعا.

الثاني : التعبد بالذكر الشخصي من باب غلبة الذّكر النوعيّ ، فيثبت الواقع بالملازمة.

الثالث : التعبد بالذكر الشخصي رأسا بلا لحاظ شيء فيه ، فيثبت الواقع بذلك.

فمع حمل التعليل على الوجه الأول يكون شاملا لصورة العلم بالغفلة الشخصية. بخلاف ما إذا حمل على الوجهين الأخيرين ، فانه لا يكون شاملا لهذه الصورة ، إذ يمتنع التعبد بالذكر الشخصي مع العلم بالغفلة.

والظاهر منه هو الوجه الأخير ، فانه علیه السلام يسند الأذكرية إلى نفس الشاك بلا تعليل بشيء من غلبة الذّكر نوعا ونحوه.

ثم انه لا يخفى ان الالتفات والذّكر غير قابل للتفضيل مع اتحاد موضوعه ، فان الشخص إما أن يكون ملتفتا أو غير ملتفت ، فالتفاضل في الالتفات والذّكر لا يكون إلا بنحو المسامحة.

وعليه ، فلا بد من أن يكون التفضيل المسند إلى الذّكر بلحاظ موجباته ، فيكون المراد أن موجبات الذّكر في حال العمل أكثر منها في حال الشك ، وإنما جعل التفضيل في نفس الذّكر تسامحا وتجوزا.

ثم أن المشهور في معنى التعليل : ان المكلف في حال العمل أذكر منه في حال

ص: 227

الشك ، فهو يأتي بالعمل في محله وظرفه لالتفاته إليه.

ولكن الوجه المذكور أجنبي عن مدلول الكلام ، لأن الشاك ملتفت إلى نفس الجزء في حال شكه ، فليس هو في حال العمل أكثر التفاتا منه في حال الشك.

كما أنه ليس الملحوظ في حال الشك هو الإتيان فعلا بالجزء ، كي يقال بأنه في حال العمل أذكر منه فيأتي به دون حال الشك لعدم التفاته ، بل متعلق الشك انما هو تحقق إيقاع العمل المشكوك في محله ، وانه هل جاء به أو لا؟ فمورد التفضيل انما هو هذا الأمر.

فيكون مفاد الرواية (1) : ان المكلف في حال العمل تكون موجبات الالتفات إلى تحقق جزء العمل منه بالنسبة إليه أكثر منها في حال الشك ، لقربه من محل الجزء حال العمل وبعده منه حال الشك ، ولوجود بعض القرائن من حس أو حال قد يغفل عنها بعد عمله ، فاستمراره في العمل وبناؤه على الإتيان بالجزء ، يكون كاشفا

ص: 228


1- التحقيق في مفاد الرواية : انها ناظرة سؤالا وجوابا إلى صورة خاصة ، فلا تصلح للتقييد ، لأن المسئول عنه صورة خاصة لا مطلق الشك بعد الفراغ كي يكون التعليل مقيدا. وتوضيح ذلك : ان المراد بالأذكرية هاهنا هو توفر موجبات الذّكر والالتفات لا التفاضل في نفس الذّكر ، فانه لا يقبل التفاضل - كما أشير إليه في المتن. وعليه ، فالمراد ان الإنسان حين وضوءه تكون موجبات ذكره أزيد مما إذا كان في حالة أخرى ، وذلك لأنه يستطيع أن يرى ما غسل وما لم يغسل من أعضائه ، بخلاف حالة شكه ، فان الأعضاء تيبس فلا يستطيع التمييز ، وهذا أمر يقال في حق الوسواسي الّذي يكثر من التأمل والغسل ثم يحصل له الوسوسة بعد الشك فلا يستطيع ان يتميز ما غسله عما لم يغسله ، فيقال له : انك حين العمل تستطيع المعرفة أكثر من حال الشك ، فالرواية واردة في مثل هذا الشخص ، والقرينة على ذلك نفس السؤال بلفظ المضارع : « رجل يشك بعد ما يتوضأ » ، فانه ظاهر في كونه أمرا استمراريا لا من باب الصدفة ، وهذا إنما يكون عند الوسواسي. وإذا كان المسئول عنه صورة خاصة ، كان الجواب مختصا بها ، ولا نظر له إلى مطلق الشك بعد الفراغ فتدبر.

عن تحقق الجزء منه ، فيلغى الشك فيه ولا يعتنى به ، لأن بناءه على الإتيان به في حال كثرة موجبات الالتفات يكون مقدما على الشك فيه في حال قلتها.

ولا يخفى ان هذا يختص بصورة تحقق الالتفات منه حال العمل والبناء على تحقق المشكوك ، ثم حدث عنده الشك بعد العمل.

أما صورة العلم بالغفلة أو التردد فيها ، فلا يشملها التعليل ، لعدم تحقق الظاهر المقدم على الشك لديه - وهو البناء على تحقق المشكوك في حال كثرة موجبات الالتفات - أو عدم إحرازه.

ومن هنا يمتنع القول بكون هذا الكلام واردا للتعليل بحيث يدور الحكم مداره وجودا وعدما وضابطا وملاكا للأمارية ، ضرورة أن صورة الشك في الغفلة وعدمها من الموارد المتيقنة لجريان قاعدة الفراغ ، مع أنها تخرج بمقتضى هذا الكلام.

مضافا إلى عدم ظهور ذلك من نفس اللفظ - كما لا يخفى - فلا محيص عن الالتزام بكونه من قبل الحكمة لا العلة ، وبهذا يثبت عدم الدليل على لحاظ جهة الطريقية والكشف في جعل قاعدة الفراغ ، بل لو ثبت ذلك لم يكن دليلا على كونها من الأمارات ، بل تكون من الأصول المحرزة التي تتفق مع الأمارة بلحاظ جهة الطريقية فيها ، وتختلف عنها بكون الشك مأخوذا في موضوعها - كما هو الحال في قاعدة الفراغ - دون الأمارة.

فالحاصل : انه لا دليل على أمارية القاعدة ولو ثبت لحاظ جهة الطريقية في اعتبارها ، فيتعين كونها من الأصول.

الجهة الثامنة عشرة : في شمول القاعدة لصورة احتمال الإخلال العمدي.

والمقصود بالكلام ليس هو احتمال الإخلال العمدي في الأثناء ، إذ العاقل لا يستمر بالعمل عادة إذا أخلّ به عمدا ، وانما الفرض هو ما إذا رأى نفسه خارجا عن العمل واحتمل ان يكون لانتهائه عن العمل ، أو لرفعه اليد عنه عمدا لغاية من الغايات. وعلى هذا ، فالتعليل الوارد في رواية الوضوء لا يشمل المورد بالتقريب

ص: 229

الّذي أفاده الشيخ وتبعه عليه العراقي ، وهو ان مفاد التعليل ان احتمال الترك السهوي خلاف فرض الذّكر ، واحتمال الترك العمدي خلاف إرادة الإبراء ، لأنه يحتمل انه عدل عن قصد الإبراء. نعم ، المطلقات تشمل المورد.

وقد تقدم المراد من التعليل وانه بنحو لا يصلح لتقييد المطلقات. فلاحظ.

الجهة التاسعة عشرة : في نسبتها مع الاستصحاب.

ولا إشكال في تقدمها عليه ..

أما مع فرض الأمارية أو كونها من الأصول المحرزة دون الاستصحاب ، فواضح.

وأما مع فرض تساويهما في الأصلية ، فتقدمها عليه بالتخصيص ، إذ ما من مورد قاعدة الفراغ إلا والاستصحاب جار فيه موضوعا ، فيلزم من تقدم الاستصحاب عليها إلغاؤها بالمرة ، فتدبر جيدا وتأمل.

وقد تقدم - بحمد اللّه - الكلام في قاعدتي الفراغ والتجاوز في يوم الأحد الموافق 1 - 2 - 1383. والكلام بعده في :

ص: 230

القرعة

اشارة

ص: 231

ص: 232

القرعة

وقد وردت فيها روايات مختلفة المؤدى - كما قيل - فمورد : « القرعة لكل أمر مجهول » (1) ، و : « القرعة لكل أمر مشتبه » (2) ، و : « القرعة لكل أمر مشكل » (3).

وقد أفاد المحقق العراقي : بان دليل القرعة ..

ان كان هو الأخير ، لم يكن هناك علاقة للقرعة بأي أصل من الأصول ، لظهور المشكل فيما لا تعين له في الواقع ، كما لو أعتق أحد عبيده ، وما لا تعين له في الواقع - وبعبارة أخرى الأمر المردد - لا يكون موردا لأصل من الأصول.

وأما لو كان دليلها الروايتين الأوليين ، فتكون موردا للتعارض مع الأصول ، ولكنه في خصوص موارد الشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي دون الشبهة الحكمية مطلقا والشبهة الموضوعية البدوية ، لظهور المشتبه والمجهول في كونه وصفا لذات الشّيء المعنون من جهة تردده بين الشيئين أو الأشياء ، لا وصفا لحكمه ولا

ص: 233


1- وسائل الشيعة 18 / 189 باب 13 من أبواب كيفية الحكم ، الحديث : 11.
2- وسائل الشيعة 18 / 189 باب 13 من أبواب كيفية الحكم ، الحديث : 11.
3- عوالي اللئالي 2 / 112 - الطبعة الأولى.

عنوانه ، فلا يشمل موارد الشبهات الحكمية لأن الاشتباه فيها في حكم الشيء لا في ذاته ، ولا الشبهات الموضوعية لأن الاشتباه في انطباق عنوان ما هو موضوع الحكم على الموجود الخارجي لا فيما قد انطبق عليه العنوان بعد الفراغ عن تحقق الانطباق خارجا ، بل يختص في المشتبه موضوعا المردد.

ثم أنه في هذا الحال ..

تارة : يكون المشتبه متعلقا لحكم اللّه ، فلا تجري القرعة لوجود المانع ، وهو العلم الإجمالي المنجز غير المنحل بالقرعة. ثم استقرب انحلاله بها ، لكونها من باب جعل البدل ، فالعمدة في المنع هو الإجماع على عدم جريانها في المورد.

وأخرى : يكون متعلقا لحق الناس ، فلا بد فيه من الاحتياط التام أو الناقص - ان لم يمكن التام - للعلم الإجمالي ، ومع عدم إمكان كلا النحوين من الاحتياط كالولد المردد كان المورد من موارد القرعة ، وان احتمل العمل بقاعدة العدل والإنصاف في بعض هذه الموارد. ثم يتعرض بعد ذلك إلى نسبتها مع الاستصحاب (1).

هذا فهرست ما أفاده قدس سره ، ولكنه لا يخلو من نظر في أغلب مقطوعاته ..

فما ذكره من تفسير المشكل ، وتفسير المشتبه بنحو يختص بالشبهة الموضوعية المقرونة بالعلم الإجمالي ، ومن عدم انحلال العلم الإجمالي بها. كل ذلك موضوع المناقشة ، وليس المورد محل الكلام فيها ، لأنه لا أثر يترتب عليه.

وانما الّذي لا بد ان يقال : هو أن القرعة بمقتضى رواياتها عامة لجميع موارد الاشتباه البدوية والمقرونة بالعلم الإجمالي الحكمية والموضوعية.

ولكن الاستصحاب التزموا بها في موارد خاصة ولم يلتزم بها أحد في جميع الموارد.

فلا بد من رفع اليد عن ظاهر الأدلة ، لأن إبقاءها يستلزم تخصيص الأكثر

ص: 234


1- البروجردي. الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار4/ 104 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

المستهجن.

وبهذا يظهر انه لا يتجه البحث عن نسبتها مع الاستصحاب ، لأنه إذا قام الدليل من إجماع أو رواية على العمل بها في خصوص مورد ، فلا يتوهم حينئذ تقدم الاستصحاب أو غيره من الأصول أو الأمارات عليها ، بل يكون الدليل مخصصا لعموم أدلة الأصول والأمارات.

ومع عدم قيامه على العمل بها في خصوص مورد لم يكن مجال لأن يعمل بها فيه كي تلاحظ نسبتها مع الأصول الجارية في ذلك المورد. فتدبر والتفت واللّه الموفق (1).

وقد تم البحث فيها في يوم الثلاثاء 3 / 2 / 1383.

ص: 235


1- الكلام في القرعة من ناحيتين : الناحية الأولى : في تحقيق مواردها ، والضابط العام لمجراها ، وهي ناحية فقهية ليس المقام محل ذلك الناحية الثانية : في نسبتها مع الاستصحاب وسائر الأصول ، وهي محل الكلام فيما نحن فيه .. وقد يتوهم معارضتها للأصول باعتبار ورود قوله عليه السلام : « كل مجهول ففيه القرعة » الظاهر في جريان القرعة هي جميع موارد الجهل. ولكن التحقيق انه توهم فاسد ، لأن أدلة الأصول أخص منها ، لأن كل أصل يشبه دليله في مورد خاص من موارد الجهل. حتى الاحتياط ، فانه وان كان عقليا ، لكن ورد في موارده تقرير الشارع له وعدم إيجاب القرعة. فالالتزام بالقرعة يوجب طرح جميع الأصول وهو مما لا معنى له ، فلا بد من حمل القول المزبور على تقدير صحة سند الرواية ، اما على إرادة المجهول المطلق ، من حيث الواقع والظاهر المساوق للمشكل ، فتكون موارد الأصول خارجة موضوعا ، أو على بيان أصل تشريع القرعة في المجهول وعدم تشريعها في غير موارد الجهل ، ردا على احتمال جريانها مطلقا. الّذي يمكن ان يكون جاء في ذهن السائل والسؤال مجمل من هذه الناحية ، فيكون الجواب مما لا إطلاق له ، فلاحظ. والحمد لله رب العالمين. انتهى مبحث القرعة في هذه الدورة الثلاثاء 25 / 11 / 1394 ه.

ص: 236

تعارض الاستصحاب مع الأصول

اشارة

ص: 237

ص: 238

تعارض الاستصحاب مع الأصول

أما أصالة البراءة ..

فما كان منها مدركه العقل لا يعارض الاستصحاب لأنه بيان للحكم الظاهري ، فينتفي موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ومثله ما كان مدركه النقل المساوق لحكم العقل ، كالمستفاد من الآية الشريفة : ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1) بناء على دلالتها على البراءة.

وإذا كان مدركه مثل قوله علیه السلام : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي (2) ، فقد ذكر في الرسائل وجوها ثلاثة لعدم المعارضة :

ص: 239


1- سورة الإسراء : الآية 15.
2- وسائل الشيعة : 18 / باب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث 60.

الوجه الأول : ان مورد الاستصحاب خارج تخصصا عن عموم هذه الرواية ، لأنه يصدق على المستصحب انه شيء ورد فيه نهي ولو بلحاظ الزمان السابق.

الوجه الثاني : ان مورد الاستصحاب خارج بالورود ، وذلك لأن النهي الثابت بعدم نقض اليقين محقق للغاية ، فترتفع به الرخصة المغياة.

الوجه الثالث : - وهو الّذي اختاره الشيخ قدس سره - هو تقريب الحكومة.

وبيانه : ان مفاد الاستصحاب هو تعميم النهي السابق إلى الزمان اللاحق تنزيلا ، فيكون رافعا لموضوع الإباحة تعبدا ، فيتقدم على البراءة الثابتة بالرواية بالحكومة ، فانه كما لو ثبت بنفس الدليل الأولى للحرمة استمرارها وعمومها لجميع الأزمان حقيقة يتقدم ذلك الدليل على البراءة ، فكذلك ما يتكفل لإثبات الاستمرار تنزيلا وان كان الأول يتقدم بالتخصص أو الورود.

والثاني : بالحكومة والاستصحاب من قبيل الثاني فانه بمنزلة المعمم للنهي إلى الزمان اللاحق ، فيكون حاكما على البراءة ، فان الرخصة مغياة بورود النهي المحكوم عليه بالدوام ، والاستصحاب يثبت الدوام ولو بنحو التنزيل.

وقد أورد الشيخ قدس سره (1) على الوجه الأول : بان الفرد المشكوك حرمته لا حقا غير المعلوم حرمته سابقا ، فهما فردان متغايران ، فورود النهي عن أحدهما لا يوجب صدق وروده عن الآخر ، كالأفراد العرضية لكلي ، فكما ان النهي عن فرد لا يكون نهيا عن الآخر ، فكذلك ما نحن فيه. والتفريق في الافراد بين ما كان تغايرها بتبدل الأحوال والأزمان - وهي الافراد الطولية - وغيرها من الافراد شطط من الكلام.

وفيه ما لا يخفى : فان المفروض ان المورد في نفسه من موارد الاستصحاب ،

ص: 240


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /423- الطبعة القديمة.

ومبنى الاستصحاب على اتحاد القضية المشكوكة والمتيقنة بحيث يصدق النقض أو الإبقاء.

ومع الالتزام بان المشكوك فرد غير الفرد المتيقن لا يتحقق حينئذ ما هو الأساس في الاستصحاب من الاتحاد ، وهذا خلاف الفرض والواقع ، فان تبدل الحالات لا يوجب التعدد.

فالأولى في الإيراد أن يقال : بان مفاد الرواية كون الغاية هي الوصول وفعلية الحكم لا مجرد وروده ولو آناً ما ، وهي غير متحققة حال الشك ، لأن الحكم فيه غير وأصل وليس فعليا لفرض الشك. وكونه فعليا في السابق لا يجدي في تحقق الغاية لأنها : « ما وصل حكمه فعلا » لا : « ما كان حكمه واصلا » كما هو مقتضى التعبير بالمضارع.

وأورد قدس سره أيضا على الوجه الثاني : بان ظاهر الرواية كون الغاية ورود النهي عن الشيء بعنوانه الأولي لا بما انه مشكوك الحكم ، والنهي الثابت بالاستصحاب بعنوان كونه مشكوكا ، وإلا فيمكن عكس القضية بان يقال : ان النهي عن النقض انما يثبت في صورة عدم ثبوت الإباحة بالأصل ، فيختص الاستصحاب في غير مورد جريان البراءة.

وتقريب ما ذكره بنحو لا يتجه عليه ما قد يوجه من ان ذلك مجرد دعوى : بان أساس كون الرواية من أدلة البراءة إرادة الوصول والعلم بالحكم من الورود لا ثبوته الواقعي - وإلا خرجت عن أدلة البراءة - فمفادها يكون كل شيء مجهول الحكم مطلق حتى يعلم حكمه الواقعي ، ففرض الجهل والعلم بالحكم يقتضي أخذ الحكم المعلوم أو المجهول في مرحلة سابقة على الشك والجهل الفعلي ، سواء كان ثبوته السابق للشيء بعنوان الأولي أو بعنوان الشك كالحكم الثابت بالأصل سابقا ثم يشك في استمراره.

وعليه ، فالغاية هي العلم بالحكم الثابت في المرحلة السابقة عن الشك

ص: 241

الفعلي ، فلا يكون النهي الثابت بالاستصحاب محققا للغاية ، لأن ثبوته كان بلحاظ الشك الفعلي لا في المرحلة السابقة عليه. فالتفت.

وأما ما ذكره الشيخ قدس سره ، فهو انما يتم بناء على ان مفاد أدلة الاستصحاب تنزيل الشك منزلة اليقين والحكم بان الشاك متيقن ، فان الغاية وهي العلم بالحكم تتحقق به تنزيلا فيكون حاكما. أما بناء على ان مفادها تنزيل المشكوك منزلة المتيقن - كما هو مذهب الشيخ - ، فلا تتم دعوى الحكومة ، لأن الغاية هي العلم بالواقع والحكم لا ثبوت الواقع ، فثبوت الحكم تعبدا بالاستصحاب لا يحقق الغاية.

ولا بد (1) ، في تحقيق الحال في نسبة الاستصحاب مع البراءة من بيان المجعول

ص: 242


1- العمدة في الإشكال ما كان من أدلة البراءة مفاده جعل الحلية الظاهرية كقوله علیه السلام : « كل شيء حلال ... ». وأما ما كان مفاده رفع المؤاخذة ، فقد عرفت انه كالبراءة العقلية. ودعوى ارتفاع موضوع الحلية الظاهرية تعبدا بقيام الاستصحاب لتكفل دليله جعل اليقين وفرض الشاك متيقنا ، فيكون الاستصحاب حاكما. يدفعها - بعد تسليم ذلك - أولا : ان موضوع الحلية ليس امرا عدميا وهو مجرد عدم العلم والجهل كي يرتفع بالإثبات ، بل هو أمر وجودي وهو الاحتمال وذلك لعدم جريان دليل البراءة في حق الغافل مع انه غير عالم ، بل تجري في حق الملتفت المتردد ، فيكشف ذلك عن أخذ جهة وجودية في الموضوع وليس هو مجرد عدم العلم ، وليست تلك الخصوصية سوى الاحتمال والتردد ، ومن الواضح ان التعبد بالعلم لا يلازم التعبد بعدم الاحتمال ، فان التعبد بأحد الضدين لا يلازم التعبد بعدم الآخر. وعليه ، فلا يرتفع موضوع البراءة بقيام الاستصحاب. وثانيا : - وهو العمدة - ان ظاهر دليل الاستصحاب المتكفل للنهي عن النقض بمثل « لا ينبغي » الظاهر في كون متعلقه أمرا اختياريا - لعدم صحة حمل « لا ينبغي » على الإرشاد - كون المجعول هو اليقين بمعنى لزوم ترتيب آثار بقائه عملا ، فلا نظر في الدليل إلى جعل صفة اليقين والتعبد بها ، بل نظره إلى لزوم ترتيب آثار اليقين بقاء ، وأين هذا من جعل اليقين؟! فلا يتصرف دليل الاستصحاب في موضوع البراءة بل هو يتنافى معها رأسا ، لأن مقتضاها الحلية ومقتضاه الإلزام فيتصادمان من دون مرجح على الآخر. ولكن الّذي يهون الخطب ، انا لم نلتزم بجعل الحلية في الشبهات الحكمية لاختصاص الدليل بالشبهات الموضوعية. ولا نعهد - فعلا - موردا يصطدم فيه الاستصحاب الحكمي مع البراءة فيها ، وأما الاستصحاب الموضوعي فهو مقدم على البراءة ، لما سيجيء من تقديم الأصل السببي على المسببي. فلاحظ وسيأتي التوقف في ذلك بالنسبة إلى البراءة وبيان الحكومة بوجه آخر. وأما ما ذكره في الكفاية من تقديم الاستصحاب على البراءة بما ذكر وجهه في حاشيته على الرسائل - كما حكي عنه - فجوابه ظاهر كما أفاده المحقق الأصفهاني فراجع تعرف.

بأدلة الاستصحاب ، فنقول - وبه سبحانه الاعتصام - : الأقوال في المجعول ثلاثة :

الأول : - وهو ما اختاره الشيخ (1) ، والخراسانيّ (2) - ان المجعول بها هو المتيقن ، بمعنى ان التعبد انما كان بالمتيقن حال الشك فاليقين والشك لوحظا مرآتا لمتعلقهما موضوعا أو حكما ولم يلحظا بأنفسهما.

الثاني : ان المجعول هو الطريقية ، بمعنى أن التعبد بنفس اليقين من جهة طريقيته وكاشفيته عن الواقع.

الثالث : - وهو الّذي التزم به المحقق النائيني (3) - ان المجعول هو نفس اليقين ، ولكن لا من باب الطريقية بل بلحاظ الجري العملي.

والوجه الأخير لا نعرف له وجها في مقام الثبوت ، لأن المجعول ان كان هو نفس الجري العملي ، بمعنى ان التعبد انما هو بتحقق الجري العملي نحو المكلف به ، فهو أجنبي عما نحن بصدده من إثبات الحكم أو نفيه بالاستصحاب لأنه مرتبط بمقام الامتثال ، ومفاده الحكم بموافقة الأمر وتحقق الامتثال ، والمفروض انه بالاستصحاب يثبت التكليف - مثلا - ، فيجب امتثاله ، لا أن مفاده انه لا يجب عليه لموافقته وعمله

ص: 243


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 318 الطبعة القديمة.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /384- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 343 - الطبعة الأولى.

بالأمر (1).

وان كان التعبد باليقين - لا بنفس الجري العملي - ولكن بلحاظ الجري العلمي - كما هو الظاهر من كلامه - فلا يخفى ان المحركية والجري العملي على طبق اليقين فرع انكشاف الواقع باليقين وتنجزه عليه ، فليس هو متفرعا على اليقين رأسا ، بل عليه بضميمة جهة الطريقية فيه ، فلا معنى لاعتباره بهذا اللحاظ بلا لحاظ جهة الطريقية ، فيرجع حينئذ إلى القول الثاني الّذي فرّ منه.

وعلى هذا فالأمر ثبوتا يدور بين القولين الأولين ، وهما : جعل المتيقن. وجعل اليقين من باب الطريقية.

وأما إثباتا ، فروايات الاستصحاب على نحوين :

فمنها : ما هو بلسان الاخبار عن عدم انتقاض اليقين بالشك ، وهذا النحو ظاهره التعبد بنفس اليقين ، وذلك لأنه يرجع إلى الاخبار عن اعتبار عدم نقض اليقين بالشك ، واعتبار صفة اليقين في مرحلة الشك ، إذ لا معنى للاخبار عن عدم الانتقاض حقيقة كما لا يخفى.

ومنها : ما هو بلسان الإنشاء كقوله : « ولا ينقض اليقين بالشك ». ولا يخفى ان النهي عن نقض اليقين بالشك لا معنى له على حقيقته ، لانتقاضه حقيقة فالنهي عنه محال لأنه تكليف بغير الممكن ، فلا بد من رجوعه إلى أمر ممكن وهو النهي عن النقض عملا وإيجاب الإبقاء عملا.

والعمل على طبق اليقين لازم لأمرين : أحدهما : اليقين باعتبار كاشفيته ومحركيته. والآخر : المتيقن ، فان الامتثال بنظر العامل من آثار نفس المتيقن والواقع المنكشف باليقين دون نفس اليقين ، ولكنه في الحقيقة من آثار اليقين فهو عمل على

ص: 244


1- لاحظ ما ذكرناه حول كلام المحقق المذكور في بيان عدم إمكان تكفل الأدلة لجعل الاستصحاب وقاعدة اليقين ، فعله ينفعك.

طبق اليقين. فالنهي عن النقض عملا كما يمكن ان يكون للتعبد بنفس اليقين كذلك يمكن ان يكون للتعبد بنفس المتيقن. والكلام وان كان ظاهرا في الأول ، لكنه يظهر في الثاني بعد ملاحظة بعض النصوص مما يكون التعبد فيها بلحاظ ما يترتب على الوجود الواقعي للمتيقن لا العلمي ، كرواية زرارة الأولى التي يكون التعبد فيها بلحاظ ما يترتب على الطهارة من الآثار ، كالدخول في الصلاة وأمثاله. فان الطهارة شرط واقعي للصلاة لا علمي ، فلا بد من رجوع التعبد فيها إلى نفس المتيقن - وهو الطهارة - لا إلى اليقين بها ، إذ اليقين بها ليس الملاك في ترتيب الأثر المرغوب عليه.

ويشهد لما ذكرنا أيضا : ان سؤال السائل في أغلب الروايات انما هو عما يترتب على شكه ، وانه بشكه هل يبني على انقلاب الواقع عما كان عليه أو على عدم ترتيب آثاره أو يبني على بقائه وعدم تبدله فتترتب عليه آثاره؟. فالتفت.

وعليه ، فإذا تعيّن ان المجعول انما هو المتيقن لا صفة اليقين ، فيشكل الأمر في تقدم الاستصحاب على البراءة المأخوذ في موضوعها الجهل بالحكم وفي غايتها العلم بالحكم - بل يشكل الأمر أيضا في تقدم الأمارات عليها بناء على ما هو التحقيق من كون مفاد أدلتها تنزيل المؤدى منزلة الواقع - لأن التعبد بنفس الحكم لا بالعلم به كي يكون حاكما عليها لتكفله تحقيق الغاية ورفع الموضوع تنزيلا وتعبدا. وقد تقدم إيضاح ذلك في نفي حكومة الأمارات على الأصول إذا كان مؤداها تنزيل المؤدى منزلة الواقع - والعلم الوجداني بهذا الحكم المتعبد به لا يكفى في الورود ، لما عرفت من أخذ متعلق العلم الحكم السابق في ثبوته على مرحلة الشك الفعلي ، والحكم المتعبد باستمراره ودوامه انما هو بلحاظ حال الشك - كما لا يخفى - فلا يكون العلم به محققا للغاية -

وتوهم : ان ملاك الحكومة هو نظر أحد الدليلين إلى الآخر بمدلوله اللفظي ، وهو متحقق هاهنا ، لأن التعبد وان كان واقعا بالحكم لكنه بلسان التعبد باليقين فيكون حاكما على الأدلة المأخوذ في موضوعها اليقين ، نظير : « لا شك لكثير الشك »

ص: 245

و : « الطواف بالبيت صلاة » ، فان التعبد فيها واقعا بالحكم والآثار مع أنها حاكمة على الأدلة الأخرى باعتبار أخذ نفس الشك والصلاة في الدليل.

فاسد : لأن تحقق نظر أحد الدليلين إلى الآخر فيما إذا كان التعبد فيه بنفس آثار الموضوع أو بنفيها بلسان إثبات الموضوع أو نفيه كما في : « لا شك » ، فان المتعبد به نفي الآثار المترتبة على الشك بلسان نفي الشك ، ولذلك كان ناظرا لأدلة اعتبار الشك ، ومثله على العكس : « الطواف بالبيت صلاة » (1).

أما ما نحن فيه ، فليس كذلك ، لأن التعبد لم يكن بآثار اليقين بلسان التعبد باليقين حتى يكون ناظرا إلى الأدلة الأخرى وحاكما عليها. بل التعبد بالمتيقن بلسان التعبد باليقين ، والمتيقن ليس من آثار اليقين كما لا يخفى. فلا يكون الدليل المتكفل واقعا للتعبد به ناظرا إلى أدلة اليقين ، ولو كان التعبد بلسان اليقين فلا يكون حاكما ، لأن التنزيل الموجب للحكومة هو التوسعة أو التضييق في الموضوع بلحاظ ترتيب آثاره أو نفيها. دون غيره ، فالتفت.

وتحقيق الحال بوجه يرتفع به الإشكال : ان روايات البراءة على أنحاء ثلاثة :

النحو الأول : ما كان بنحو : « رفع عن أمتي ما لا يعلمون ». والتحقيق : ان المراد بالعلم فيها ليس هو الصفة الوجدانية النفسانيّة ، بل مطلق الحجة والدليل على الحكم ، وذلك لأنه مما لا إشكال فيه ان مفادها ليس هو نفي الواقع بعدم العلم وبيان ان ثبوت الحكم الواقعي دائر مدار العلم ، كما انه لا إشكال في عدم كون الشارع في مقام إهمال الواقع وعدم نصب طرق وأمارات عليه. فالمفهوم من هذا النص ان الشارع في مقام عدم العلم والطريق إلى الواقع لم يجعل الاحتياط - إذ كان بإمكانه جعله فلم يجعله - لأنه إذا لم يكن في مقام نفي الواقع ورفعه واقعا ، كما انه ليس في مقام إهمال الواقع وإيكال العلم به إلى الصدفة والاتفاق ، فلا بد ان يكون المراد هو

ص: 246


1- إشارة إلى ان التعبد فيها بنفس الآثار لا بنفيها بلسان إثبات الموضوع.

عدم جعل الاحتياط ورفع الحكم ظاهرا عند عدم الطريق إلى الواقع ، وإلا - فلو كان المراد رفع الحكم وعدم جعل الاحتياط والطرق - لكان إهمالا للواقع ، وهو خلف.

وبتقريب آخر : انه لا إشكال في وجود طرق غير علمية إلى الواقع. ولا إشكال انه عند ورود هذا النص لم يفهم منه أحد إلغاء اعتبار هذه الطرق ، بل المفهوم انما هو رفع التكليف وعدم جعل الكلفة بالاحتياط منة على الأمة ولطفا.

وبما ان نفي الاحتياط امتنانا انما يتحقق في مقام يكون في جعله كلفة ، وهذا انما يكون مع عدم وجود ما يثبت التكليف ، أما مع وجود الدليل المثبت له فنفي الاحتياط لا يكون منة ولطفا ، إذ ليس فيه رفع كلفة.

فبهاتين المقدمتين - وهما : كون الرواية في مقام نفي الاحتياط فقط لا نفى طرق الواقع أجمع من أمارة واستصحاب واحتياط ، لأنه ليس في مقام إهمال الواقع ، كما انه ليس في مقام نفيه ، وكون نفي الاحتياط من باب الامتنان وهو انما يتحقق في صورة عدم الطريق المثبت للحكم. بهاتين المقدمتين - يثبت كون موضوع البراءة عدم الطريق والحجة على الحكم لا عدم العلم الوجداني.

وان أبيت إلا عن استظهار الصفة الوجدانية من العلم ، فنقول : ان البراءة انما تجري في حال عدم العلم في صورة عدم وجود الطريق إلى الحكم ، فيرجع ذلك إلى تقييد الموضوع. وبهذا يكون الاستصحاب واردا على البراءة لأنه رافع لموضوعها حقيقة ببركة التعبد.

ولو لم يثبت - جدلا - ما ذكرناه ، فلا مفرّ عن الالتزام بالمعارضة بين الاستصحاب والبراءة.

ولكن نحو المعارضة يختلف باختلاف الآراء في مفاد الرواية ، فانه اختلف في ان المرفوع بها ما هو؟ والأقوال ثلاثة :

الأول : كون المرفوع بها الحكم الكلي ، فتختص بالشبهات الحكمية.

ص: 247

الثاني : كون المرفوع بها مطلق الحكم الكلي والجزئي ، فتعم الشبهات الحكمية والموضوعية.

الثالث : ان المرفوع بها خصوص الموضوع ، فتختص بالشبهات الموضوعية.

والفرق بين هذا الوجه وسابقه : ان الرفع في السابق متعلق بنفس الحكم الجزئي ، وهاهنا متعلق بموضوعه ، وان كان في الحقيقة متعلق به بلسان رفع موضوعه.

فبناء على القول الأول : لا تجري البراءة - بهذا الدليل - في الشبهات الموضوعية ، فتختص المعارضة في خصوص الشبهات الحكمية ، ولا محذور في الالتزام بالمعارضة وعدم الالتزام بالاستصحاب في هذه الشبهات - كما قد التزم به بعض بغير هذا الوجه.

وبناء على القول الثاني : تختص المعارضة أيضا في موارد الشبهات الحكمية ، لأن الاستصحاب الجاري في الموضوع يكون حاكما على البراءة الجارية في الحكم الجزئي - كما سيأتي بيانه في الشك السببي والمسببي - وبناء على القول الثالث : - تكون المعارضة بين الاستصحاب والبراءة في مطلق موارد الشك الموضوعي ، فالالتزام بالتساقط مشكل ، إذ يلزم منه نفي جريان الاستصحاب مطلقا أو في الغالب وهو مما لا يمكن الالتزام به ، فلا بد من الالتزام بتقدمه عليها بالتخصيص ، كما لا بد من الالتزام بذلك في تقدم الأمارات على البراءة - لعين الملاك فلاحظ -

ولكن عرفت ان النوبة لا تصل إلى هذا الحل ، بل الأمارات والاستصحاب واردة على البراءة على الأقوال كلها ، فتدبر.

النحو الثاني : قوله : « كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي ». ولم تثبت صراحة هذه الرواية في ثبوت أصالة البراءة ، إذ يمكن ان يكون المراد من الورود الثبوت الواقعي للأحكام ، فيكون مفادها بيان الإباحة الأصلية للأشياء حتى يتعلق بها

ص: 248

نهي من المولى ، وبهذا يكون مفادها أجنبيا عن البراءة بالكلية.

نعم ، لو لم يكن المراد بالورود هو الثبوت الواقعي ، بل الوصول كانت دليلا على البراءة ، ولكنه لم يؤخذ في الغاية إحراز النهي والوصول العلمي بل أخذ مطلق الوصول والورود وظاهره إرادة وصول الحكم الواقعي وثبوته في ذمة المكلف بأي طريق كان ، ومنه الاستصحاب ، فيكون واردا لأنه محقق للغاية تكوينا ، كما لا يخفى.

النحو الثالث : مثل : « كل شيء لك حلال حتى تعرف انه حرام بعينه .. ». ودلالة هذه الرواية على البراءة مناقشة في ان ثبوت الحلية في المصاديق المذكورة في الموثقة انما هو بواسطة الأصول والأمارات الموضوعية السابقة بالرتبة على الاستصحاب والبراءة ، كأصالة الصحة وقاعدة اليد ، فيكون الحكم بالحلية حكما بمفاد تلك القواعد الظاهرية وفي مقام الأمر بعدم الاعتناء بالاحتمال الناشئ عن الوسواس ونحوه مع وجود القواعد ، لا حكما بمفاد أصالة البراءة كي يستكشف جعل البراءة في مثل هذه الموارد.

وأما أصالة الاشتغال ..

فالاستصحاب مقدم عليها ، لأن موردها الشك في براءة الذّمّة بملاك لزوم دفع الضرر المحتمل ، ومع قيام الاستصحاب على التعيين يزول احتمال الضرر لقيام الحجة الشرعية على تعيين أحد الافراد.

وهكذا الكلام بالنسبة إلى أصالة التخيير. فان حكم العقل بالتخيير في فرض التحير ، وبالاستصحاب يرتفع التحير.

وبالجملة : الاستصحاب وارد على الأصول العقلية من براءة واحتياط وتخيير ، لأنه رافع لموضوعها تكوينا ببركة التعبد الشرعي.

ص: 249

تعارض الاستصحابين

تعارض الاستصحابين (1)

ويقع الكلام بعد ذلك في تعارض الاستصحابين.

وقد ذكر الشيخ (2) رحمه اللّه صورا متعددة للاستصحابين المتعارضين من كونهما موضوعيين أو حكميين أو مختلفين. ومن كونهما وجوديين أو عدميين أو مختلفين. وغير ذلك. إلا أن هذا الاختلاف لا أثر له في اختلاف حكم المتعارضين.

وانما الكلام يقع في صورتين هما الجامع بين هذه الصور المختلفة في محل الكلام ، وهما :

الأولى : ان يكون الشك في أحدهما مسببا عن الشك في الآخر ، كالشك في بقاء نجاسة الثوب المغسول بماء كان متيقن الطهارة ، فان الشك في بقاء نجاسة الثوب مسبب عن الشك في بقاء طهارة الماء.

الثانية : ان يكون الشك فيهما مسببا عن أمر غيرهما.

وأما تصور كون الشك في كل منهما مسببا عن الآخر - كما ينسب إلى المحقق النراقي - فهو باطل لما ستعرفه من ان السببية والمسببية تنشئان من كون أحد المشكوكين من أحكام الآخر ، وهذا يعني كون أحدهما موضوعا للآخر ، فيمتنع ان يكون كل من المشكوكين موضوعا للآخر - كما لا يخفى - وعليه ، فالكلام يقع في مقامين :

المقام الأول : في الشك السببي والشك المسببي.

وتحقيق الكلام فيه : انه مما لا إشكال فيه عند الاعلام تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي ، وانما الإشكال في وجه التقديم من حكومة ، وورود وغيرهما ،

ص: 250


1- لم أتوفق لحضور درس سيدنا الأستاذ ( حفظه اللّه ) في هذه المباحث لبعض الموانع ونظرا إلى طلبي منه تقريرها لي ، أجابني إلى ذلك. ولعل هذا التقرير يخالف تقريرات الآخرين نظرا لتبدل الرّأي. فلينتبه.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /424- الطبعة القديمة.

فالكلام في جهتين :

الجهة الأولى : في وجه التقديم.

وقد ذكر لذلك وجوه متعددة :

الأول : ما ذكره الشيخ من الإجماع على ذلك كما يظهر للمتتبع ، فان الفقهاء لا يتوقفون في تقدم الأصل السببي على المسببي.

ولكن الاعتماد على الإجماع في مثل ما نحن فيه مشكل ، إذ لا يحرز كونه إجماعا تعبديا بعد وجود الوجوه العقلية وغيرها المستدل بها على التقديم ، فلا يكشف عن قول المعصوم علیه السلام .

الثاني : (1) ما أفاده الشيخ أيضا - وهو المهم من الوجوه التي ذكرها - من ان

ص: 251


1- ما ذكره الشيخ رحمه اللّه في الوجه الثاني مرجعه [ حمل السيد الأستاذ ( دام ظله ) عبارة الشيخ على ما حمل عليه في الدرس في الدورة السابقة ، لا على ما هو مذكور في المتن. فالتفت ( المقرر ) ] إلى الورود ويمكن ان يقرب بوجهين : الأول : ان يكون المراد بالشك عدم الحجة فيكون نقض اليقين في مورد الأصل المسببي بالحجة وفيه : أولا : انه ينافي ما التزم به قريبا من حكومة الأمارة على الاستصحاب لا ورودها كما هو مقتضى هذا التوجيه. وثانيا : ان المراد بالحجة الرافعة هي الحجة على الواقع المتيقن في السابق كالخبر فان مفاده الكشف عن الواقع والمفروض انه حجة في مؤداه. وليس الاستصحاب كذلك ، لأنه حكم ظاهري مجعول في ظرف الجهل لا بعنوان انكشاف الواقع ، وان تكفل التنجيز والتعذير كسائر الأحكام الظاهرية كأصالة الطهارة. الثاني : ان يكون المراد بالشك عدم العلم ولو بعنوان آخر ، ومع العلم بالحكم بعنوان ظاهري يرتفع الموضوع قهرا. وفيه : ما تقدم في مناقشة صاحب الكفاية عند البحث في تقدم الأمارة على الاستصحاب فراجع. وقد يوجه كلام الشيخ رحمه اللّه بان الأصل السببي يحقق موضوع دليل الحكم الثابت لمجراه فيكون هو الحكم ، وهو المقدم على الأصل المسببي لا الأصل. وهذا مما لا تأباه عبارته ، ولعله مأخذ ما ذكره صاحب الكفاية من إجزاء الأمر الظاهري الجاري في تحقيق متعلق التكليف كأصالة الحل والطهارة واستصحابهما. وقد أورد على هذا الالتزام بإيرادات متعددة عمدتها ان مقتضاه الحكم بطهارة المغسول بالماء المستصحب الطهارة ولو انكشف بعد ذلك انه نجس وهو مما لا يلتزم به أصلا. وفي مراجعة مبحث الاجزاء فائدة. ثم ان هذا الوجه يختص بما إذا كان مجرى الأصل السببي حكما شرعيا قابلا للجعل بنفسه كالطهارة والحلية ونحوهما. ولا يتأتى فيما إذا كان مجراه موضوعا تكوينيا كالعدالة والحياة ، لعدم ثبوته به حقيقة حتى يمكن تطبيق الدليل. فانتبه. وبالجملة : فما أفاده الشيخ رحمه اللّه في الوجه الثاني غير تام. وأما ما ذكر في الوجه الثالث : فقد تصدى قدس سره لمناقشته بما لا يخلو عن إشكال. والتحقيق في مناقشته : ان قلة المورد لا تعد محذورا إذا لم يساعد الدليل على العموم ، فأي ضرر في أن يكون الاستصحاب قاعدة في موارد خاصة. وإن كان مراد المستدل ان ذلك يتنافى مع مورد الرواية ، حيث ان موردها إجراء الاستصحاب في الموضوع وهو الطهارة. ففيه : انه يمكن ان لا يكون المنظور في النص إجراء الاستصحاب في نفس الطهارة والوضوء ، بل في عدم وجوب الوضوء كما هو مورد السؤال ، فالمستصحب هو المسبب رأسا لا السبب. ومما يؤيد عدم تقدم الأصل السببي على المسببي انه لم يتصد في النص إلى إجراء الاستصحاب في السبب وهو عدم الرافع ، وهو النوم. وأما ما ذكره في الوجه الرابع ، ففيه : ان الاشتغال لا يكون مجرى للاستصحاب كما تقدم بيانه في مبحث الأقل والأكثر ، والأصل المسببي في مورد الرواية هو الأصل الجاري في نفي وجوب الوضوء وهو يوافق الأصل السببي ، وقد تقدم إمكان كون المنظور في الرواية هو جريان الأصل في المسبب رأسا. وأما ما أفاده أخيرا تحت عنوان .. ، ففيه : ان الكلام ليس في ترتيب آثار الأصل السببي بل الكلام في عدم معارضته بالأصل المسببي وليس فيما ذكره إشارة إلى ان ارتكاز العرف عليه ، مع ان المبحث عقلي لا عرفي. والمتحصل : ان شيئا من هذه الوجوه الأربعة لا يفي بالمطلوب. ولا يخفى عليك ان مقتضى الوجه الثاني هو الورود ، أما الثالث والرابع فمقتضاه من هذه الجهة مجمل ، وانما هما يتكفلان التقديم لا أكثر. وأما دعوى تقديم الأصل السببي على المسببي بالحكومة - كما عليه المحقق النائيني على ما نقل كلامه في المتن - فيدفعها ما عرفت في تقديم الاستصحاب على البراءة من ان المفهوم من أدلة الاستصحاب بملاحظة النهي عن النقض بمثل « لا ينبغي » إرادة النقض والإبقاء العملي ، وهذا لا يرجع إلى جعل اليقين واعتباره ، بل إلى الأمر بترتيب آثار بقاء اليقين. هذا مع غض النّظر عما أشرنا إليه في المتن من ان التعبد باليقين بشيء لا يستلزم التعبد باليقين بآثاره. والنافع في دعوى الحكومة إثبات التعبد باليقين بالأثر لا التعبد باليقين بالموضوع. فلاحظ. والّذي يمكن ان يقال في وجه تقديم الأصل السببي على المسببي : هو ان الأصل السببي ناظر إلى مفاد الأصل المسببي وملغ له ، فيكون حاكما. وذلك لأن التعبد بطهارة الماء - مثلا - مرجعه إلى ترتيب آثار طهارته ومن جملتها حدوث الطهارة للمغسول به بعد نجاسته وصيرورته طاهرا. ومن الواضح ان مرجع التعبد بالحدوث هنا إلى إلغاء الحالة السابقة وعدم الاعتناء بها ، وهذا ينافي جريان الاستصحاب في المغسول به ، لأن إبقاء الحالة السابقة يتنافى مع إلغائها وعدم الاعتناء بها. فيكون الأصل السببي ناظرا لمفاد الأصل المسببي فيتقدم عليه بالحكومة. وبالجملة : إطلاق دليل الاستصحاب الشامل لمورد الشك السببي يمنع من شمول الإطلاق للشك المسببي. وهذا هو معنى الحكومة في ما نحن فيه ، فلا يرد الإشكال فان الحكومة تكون بين دليلين لا في دليل واحد. إلا ان هذا انما ينفع في إثبات حكومة الاستصحاب السببي على خصوص الاستصحاب الجاري في الشك المسببي ، لأنه متفرع على ملاحظة الحالة السابقة ، فيكون محكوما لما يقتضي إلغاءها. وأما مثل أصالة الإباحة أو الطهارة الجارية في الشك المسببي فلا ينفع البيان المزبور لإثبات محكوميتها للاستصحاب السببي لعدم النّظر فيها إلى الحالة السابقة ، بل هي تتكفل مجرد الثبوت. فتصطدم مباشرة مع أثر الأصل السببي. وتحقيق الكلام في هذا المجال : ان المولى إذا ألزم المكلف المتحير والمتردد بين احتمالين بأحد الطرفين بأي لسان كان الإلزام. من جعل المؤدى أو جعل اليقين وصفا أو عملا أو المنجزية ، كان مرجع الإلزام - عرفا - إلى إلغاء الاعتناء بالطرف الآخر من الترديد ولعل هذا ما يقصده الشيخ بإلغاء احتمال الخلاف - لا بمعنى جعل العلم واعتباره - لأنه يلتزم بجعل المؤدى ونتيجة ذلك هو نفي ما يقتضي اعتباره لأن لسانه لسان نفي ترتيب الأثر لا مجرد عدم الاعتناء به. وعليه فيكون الاستصحاب حاكما على البراءة في مورده ، لتكفل دليل الاستصحاب تعيين أحد طرفي الترديد لأن لسانه لسان عدم النقض والإبقاء وهو ناظر إلى إلغاء احتمال الخلاف وعدم الاعتناء به فينفي أصالة الإباحة الراجعة إلى الاعتناء بالاحتمال. وهكذا الكلام في أصالة الطهارة. ولا تصح دعوى العكس ، لأن كلا من أصالة البراءة وأصالة الطهارة لا يتكفل تعيين أحد المحتملين ، بل تتكفل بيان وظيفة المكلف مع فرض تردده وشكه وغض النّظر عن الواقع. وليس كذلك الأمارة والاستصحاب. والمتحصل : ان حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي بالبيان السابق. وأما حكومة الاستصحاب السببي على البراءة وأصالة الطهارة في الشك المسببي بل مطلقا فهي بالبيان الأخير. فتدبر واعرف. ومن هذا البيان ظهر تقريب حكومة الأمارة على الاستصحاب لو لم تتم دعوى الورود بالبيان السابق ، فان الأمارة بمقتضى دليل اعتبارها تتكفل إلغاء احتمال الخلاف فتنصرف في موضوع الاستصحاب وتنفيه ، والاستصحاب وان كان كذلك لكن لم يؤخذ الجهل موضوعا في الأمارات بل موردا. ومعه لا وجه لإنكار صاحب الكفاية - في مباحث التعادل والترجيح - دعوى الحكومة بعدم النّظر ، إذ عرفت منشأ نظر دليل اعتبار الأمارة إلى دليل الاستصحاب ولو لم يلتزم بان المجعول فيها الطريقية. وأما ما يظهر من عبارته - في ذلك المبحث - من احتمال تكفل دليل الاعتبار مطلقا ولو في الأصول لإلغاء احتمال الخلاف فهو غير واضح ، إذ لا يحتمل هذا المعنى في أدلة البراءة أصلا.

ص: 252

ص: 253

ص: 254

الأصل السببي بجريانه يمنع من شمول العموم لمورد الأصل المسببي ، وذلك لأن العام انما هو عدم نقض اليقين بالشك ، ومع جريان الأصل السببي لا يكون نقض اليقين في مورد الأصل المسببي بالشك ، بل بالدليل ، وان كان موضوع الحكم وهو الشك واليقين ثابتا. بخلاف العكس ، فانه بجريان الأصل المسببي لا يرتفع صدق النقض بالشك في مورد الأصل السببي ، فالأصل السببي بجريانه يتصرف في محمول الأصل المسببي - وهو النقض بالشك - لا في موضوعه - وهو الشك - فالتفت (1).

والإشكال عليه : بان ما ذكر من عدم قابلية مورد الشك المسببي لشمول العموم له انما يتحقق على تقدير الالتزام بالأصل السببي ، ولكنه محل الكلام وما هو الوجه في الالتزام به وطرح الأصل المسببي؟.

مندفع : بان مقتضى شمول العام - وهو حرمة النقض في مورد الشك السببي - ثابت لصدق النقض بالشك والمانع مشكوك فينفي بأصالة عدم التخصيص. بخلاف الشك المسببي ، فان مقتضى الشمول - وهو صدق النقض بالشك - معلق على عدم ثبوت العام في مورد الشك السببي ، وقد عرفت ثبوته بأصالة عدم التخصيص.

وعليه : فقد يشكل : بأنه بعد فرض ان موضوع الحكم في كلا الموردين ثابت وهو اليقين السابق والشك اللاحق - ولما كانت نسبة الحكم بعدم النقض إليهما على حد سواء إذ نسبة حكم العام إلى افراده بالسوية ، لأنها جميعها في عرض واحد ، لم يكن وجه لجعل شمول الحكم العام لفرد ببناء العقلاء على أصالة عدم التخصيص مانعا عن شموله لفرد آخر ، لأن أصالة عدم التخصيص جارية فيهما على حد سواء مع قطع النّظر عن الآخر.

وعليه ، فلا وجه لجعل أصالة عدم التخصيص في مورد الشك السببي مانعة عن شمول العام لمورد الشك المسببي ، إذ لو لا جريانه وثبوت حكم العام لمورد الشك

ص: 255


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /425- الطبعة القديمة.

السببي بواسطتها ، كان حكم العام ثابتا في مورد الشك المسببي ، ولم يثبت بناء العقلاء على جريانها في الفرد السببي دون المسببي ويندفع بما أفاده قدس سره : من الوجه العقلي في بيان عدم صلاحية الشك المسببي لمانعيته عن شمول حكم العام للشك السببي.

ومحصله : ان فردية الشك المسببي لحكم العام بحيث يكون مشمولا له انما تتحقق بعد فرض رفع اليد عن حكم العام في مورد الشك السببي المفروض فرديته ، ورفع اليد عنه في هذا المورد لا وجه له بعد فرض فرديته إلا ثبوت حكم العام وشموله لمورد الشك المسببي ، وهذا دور ، فمانعية الأصل المسببي عن الأصل السببي انما تكون بوجه دائر ، فثبوت أصالة عدم التخصيص في مورد الشك السببي واقتضائها لشمول حكم العام له لم يكن عن دعوى تعبد محض من العقلاء ، كي يقال بعدم ثبوت ذلك منهم ، بل كان من جهة ثبوت المقتضي فيه وعدم صلاحية الشك المسببي للمانعية عنه إلا على وجه دائر.

وبالجملة : أن الأصل في مورد الشك السببي يجري لثبوت مقتضى الجريان فيه ، وبجريانه لا يبقى مورد الشك المسببي قابلا لفرديته الفعلية لحكم العام وشمول الحكم له للتصرف في محموله ، وهو النقض بالشك ، ويمتنع كون الأصل المسببي مانعا عن جريان الأصل السببي إلا على وجه دائر. فلا وجه حينئذ لطرح الأصل السببي والأخذ بالأصل المسببي ، لثبوت مقتضية وعدم المانع بخلاف العكس كما عرفت. هذا محصل ما يمكن ان يستفاد من عبارة الرسائل فانها تبدو بألفاظها ومعانيها مرتبكة غير متلائمة.

الثالث : ما أفاده الشيخ رحمه اللّه بعنوان الجواب عن الإشكال الأخير على الوجه الثاني بقوله : « وان شئت قلت : ان حكم العام من قبيل لازم الوجود للشك السببي كما هو شأن الحكم الشرعي وموضوعه ... » (1) وقد حملها المحقق الخراسانيّ في

ص: 256


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /426- الطبعة القديمة.

حاشيته على الرسائل وتابعة المحقق الأصفهاني في حاشيته على الكفاية (1) على ما يبدو منها أولا من أن الشك المسببي باعتبار كونه معلولا للشك السببي وان حكم العام باعتبار كونه - بالنسبة إلى الشك السببي - من قبيل لوازم الوجود كانا متأخرين عن الشك السببي وفي مرتبة واحدة ، فيمتنع ان يكون الشك المسببي محكوما بحكم العام لأنه يستلزم كونه موضوعا له وذلك يقتضي تقدمه عليه ولو بالطبع وهو خلاف المفروض من كونهما في مرتبة واحدة.

وقد أورد عليه المحقق الأصفهاني إيرادات متعددة. والوجه الّذي اشترك به مع أستاذه الخراسانيّ هو ما قرره من ان عموم « لا تنقض » ينحل إلى أحكام متعددة بتعدد أفراد الموضوع ، فالحكم الّذي يقصد ترتبه على الشك المسببي غير الحكم الّذي وفرض كونه معه في مرتبة واحدة. كما لا يخفى.

ولكنه يبعد حمل كلام الشيخ قدس سره على هذا التقريب لوضوح فساده ، فالأولى ان يقال ان مراده قدس سره ان الشك المسببي لا يصلح لأن يكون مانعا عن حكم العام الثابت للشك السببي لأن المانع عن الشيء يكون سابقا عليه في المرتبة لأنه في مرتبة موضوعه وعلته ، وحكم العام والشك المسببي في مرتبة واحدة ، لأنهما معا من قبيل لوازم الوجود بالنسبة إلى الشك السببي ، فيمتنع ان يكون الشك المسببي مانعا عن الحكم الثابت في مورد الشك السببي لأن مانعيته عنه تقتضي تقدمه عليه ولو طبعا.

وعلى هذا الوجه لا يرد شيء مما أورده المحقق الأصفهاني. فلاحظ.

الرابع : ما ذكره المحقق النائيني (2) : من أن الأصل في الشك السببي رافع تشريعا لموضوع الأصل في الشك المسببي. وبما ان جعل الأحكام بنحو القضايا الحقيقة فلا نظر للحكم إلى وجود موضوعه وعدمه ، بل الدليل يتكفل ثبوته على تقدير وجود الموضوع.

ص: 257


1- المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 132 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 4 / 683 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي

وعليه ، فلا يصلح الأصل في الشك المسببي للمنع عن الأصل السببي ، لأن مانعيته عنه معناها المحافظة على موضوع نفسه ، لأنه يمنع عما يمنع عن موضوعه ، وقد عرفت أن الحكم لا يصلح لذلك وانما هو يثبت على تقدير ثبوت الموضوع اما انه يكون بنحو يثبت الموضوع فذلك أجنبي عن مفاد أدلة الأحكام ، فانها انما تتكفّل ثبوت الأحكام على تقدير ثبوت موضوعاتها ، ولا تتكفل ثبوت الموضوعات.

وهذا الوجه غير تام نقضا وحلا ..

أما الأول ، فانه ينتقض بالمتزاحمين ، فان الحكم في كل منهما يمنع عما يمنع عن موضوعه ، وهو الحكم الآخر الموجب لصرف القدرة إلى متعلقه المانع عن موضوع ذاك الحكم ، وهو القدرة ، نظير التزاحم بين وجوب إنقاذ هذا الغريق ووجوب إنقاذ ذاك الغريق ، فان وجوب إنقاذ كل منهما يقتضي صرف القدرة إلى متعلقه وهذا يعنى المحافظة على موضوعه والمنع عن الحكم الآخر المانع عن موضوعه باقتضائه صرف القدرة إلى متعلقه.

وأما الثاني : فمجمله ان امتناع كون حكم الشك المسببي مانعا عن حكم الشك السببي ، إما لأجل ان دليل الحكم في القضايا الحقيقية يتكفل ثبوته على فرض ثبوت الموضوع ، فيمتنع حينئذ تكفله للمحافظة على موضوعه لأنه خلف. وإما لأجل ان الحكم بعد فرض كونه ثابتا على تقدير الموضوع كان متأخرا عن موضوعه ، فيمتنع ان يؤثر فيما هو في رتبة العلة لموضوعه ، وهو المانع ، لاستلزامه تقدم المتأخر على مرتبته وهو محال.

فان كان المحذور هو الأول ، فهو تام في نفسه ، إذ محافظة دليل الحكم على موضوع الحكم خلف فرض كونه متكفلا لثبوته على تقدير الموضوع ، ولكنه انما يمتنع ذلك بالمباشرة. اما إذا كان دليل الحكم مؤثرا في شيء يلزمه الموضوع ، فلا محذور فيه ، نظير تأثير الحكم المأخوذ في موضوعه القدرة في حكم العقل بعدم

ص: 258

صحة تعجيز المكلف نفسه المستلزم لتحصيل القدرة والمحافظة عليها بنفس الخطاب المتكفل لبيان الحكم. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان دليل الحكم انما يؤثر في رفع المانع المستلزم لثبوت الموضوع ، وليس تأثيره في ثبوت الموضوع بالمباشرة.

وان كان الثاني فحلّه - في نفسه - بوجهين : - وان كان ما يرتبط بما نحن فيه هو الثاني دون الأول ، إلاّ أنه ذكرناه استقصاء للحل بالنسبة إلى غير ما نحن فيه من الموارد -

الأول : ان يكون التأثير بقاء لا حدوثا بمعنى : ان الحكم الثابت لموضوعه فعلا يؤثر في المحافظة على موضوع استمرار الحكم ، فالحكم المتأخر عن الموضوع المحافظ عليه هو الحكم في مرحلة الاستمرار والبقاء.

أما الحكم المؤثر فهو الحكم في مرحلة الحدوث ، وهو غير متأخر رتبة عن موضوع الحكم في مرحلة استمراره وبقائه.

الثاني : ان يكون التأثير في مرحلة الاقتضاء ، وذلك لأن الحكم الثابت على تقدير ثبوت موضوعه انما هو الحكم الفعلي. اما الحكم في مرحلة الاقتضاء وقبل الوصول إلى حد الفعلية فهو ثابت ولو لم يثبت الموضوع ، فيمكن ان يكون المؤثر في رفع المانع عن الموضوع فيما نحن فيه إنما هو الحكم في مرحلة الاقتضاء الثابت قبل ثبوت الموضوع ، وهو غير متأخر رتبة عن مرحلة الموضوع وعلله ، وبالمحافظة على الموضوع يثبت الحكم الفعلي فتدبر جيدا.

الخامس : ما عن المحقق النائيني قدس سره من أن الأصل المسببي لا يصلح لمعارضة الأصل السببي ، لاستلزامه تقدم الشيء على نفسه ، لأن الشك السببي علة للشك المسببي ، والحكم المترتب عليه - أي على المسبب - في رتبة متأخرة عنه ضرورة تأخر كل حكم عن موضوعه. والحكم في الشك السببي بما أنه رافع للشك المسببي يكون في رتبة سابقة عليه ، فمعارضة الحكم في الشك المسببي للحكم في الشك السببي يستلزم تقدم الشيء على نفسه - لأنه متأخر عنه

ص: 259

بمرحلتين - ، وهو محال (1).

وهذا الوجه كسابقه غير تام ، لأن اتحاد الرتبة بين الأصلين المتعارضين ليس شرطا في إمكان التعارض - كي تكون معارضة المتقدم للمتأخر مستلزمة للمحال من تقدم الشيء على نفسه - ، بل المعارضة تصح بين المتقدم والمتأخر زمانا فضلا عن فرض التقدم والتأخر الرتبي. نظير تعارض الأصول في أطراف العلم الإجمالي في الأمور التدريجية.

الجهة الثانية : في كيفية التقديم ، فهل هو بالورود أو الحكومة؟ أو غيرهما؟

الحق انه بالورود ، وبيانه يتضح بذكر وجه التقديم فانتظر.

وقد ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى انه بالحكومة ، بتقريب انه حيث : تعتبر السببية الشرعية بين الشك السببي والمسببي ، بان يكون أحد المشكوكين من آثار المشكوك الآخر شرعا.

ويعتبر أيضا كون الأصل السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي ، وهو الشك.

يكون الأصل السببي حاكما على الأصل المسببي ، لأنه رافع لموضوعه.

والإشكال فيه : بان من مقومات الحكومة هو نظر أحد الدليلين إلى الآخر في مرحلة دلالته ، وهذا لا يتم في مثل الاستصحابين ، إذ الاستصحاب بجميع افراده مدلول لدليل واحد ، لأن استناد الحكم الاستصحابي في شتى موارده من دليل واحد ، فلا يتحقق فيه شرط الحكومة ، وان قلنا بانحلال الدليل العام إلى قضايا متعددة بتعدد موارده ، إذ ذلك لا يستلزم تعدد الأدلة وتحقق النّظر المقوم للحكومة ، إذ لا معنى له في القضايا الانحلالية الحاصلة بالتعمل العقلي.

مندفع : بان هذا ناشئ عن عدم التفريق بين الحكومة الظاهرية والحكومة الواقعية ، فان اعتبار نظر أحد الدليلين إلى الآخر المستلزم لتعدد الدليل خارجا انما

ص: 260


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 682 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

هو في مورد الحكومة الواقعية ، كحكومة أدلة إلغاء شك كثير الشك على أدلة أحكام الشك. دون الحكومة الظاهرية - كما فيما نحن فيه - فانه لا يعتبر فيها إلا كون الدليل الحاكم رافعا لموضوع الآخر في عالم التشريع.

ويؤخذ على هذا الكلام مؤاخذات :

الأولى : ان الحكومة بأي معنى كانت - واقعية أو ظاهرية - لا بد فيها من نظر الدليل الحاكم إلى المحكوم ، إذ لا وجه لتقدم الدليل المتكفل لنفي الموضوع على الدليل المتكفل لإثبات الحكم لموضوعه الواقعي إلا كونه ناظرا إلى نفي آثاره وأحكامه الثابتة له بالدليل المحكوم. وإلا فلا وجه لتقدمه عليه ، إذ مفاد الحاكم نفي الموضوع تشريعا لا تكوينا كي تنتفي آثاره الشرعية الثابتة له بمقتضى الدليل المحكوم.

الثانية : انه لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم لزوم النّظر في الحكومة الظاهرية ، فالمقام ليس من موارد الحكومة الظاهرية كما قرره قدس سره ، إذ ليس المراد من الحكومة الظاهرية كون الدليلين متكفلين للحكم الظاهري ، بل المراد أن أحد الدليلين لا يكون ناظرا إلى مدلول الآخر بحسب الواقع - وان كان ذلك الآخر دليلا ظاهريا إذ واقع كل بحسبه - بل يكون ناظرا إليه ومتصرفا فيه مع فرض الإغماض عن الواقع والجهل به - ولذلك عرفها قدس سره في مبحث التعادل والتراجيح بما كان موضوع الدليل الحاكم متأخر الرتبة عن موضوع الدليل المحكوم ، كحكومة الأمارات على الأدلة الواقعية - فتمامية الحكومة الظاهرية في المورد انما تتحقق بفرض الشك في تحقق موضوع الاستصحاب المسببي ، وهو غير مفروض بل غير متحقق ، إذ موضوعه - وهو الشك واليقين - لا شك فيه مع قطع النّظر عن الاستصحاب السببي ، فالحكومة لو تمت فهي واقعية ، وهي تستلزم النّظر بلا كلام ، كما اعترف به قدس سره في صريح كلامه.

الثالثة : - وهي أهم المؤاخذات - انه لو تنزلنا عن ذلك وقلنا بإمكان تحقق الحكومة الواقعية بين مدلولي دليل واحد فالأصل السببي غير حاكم على الأصل

ص: 261

المسببي كما ادعى ، إذ الحكومة تتقوم بالتصرف في موضوع المحكوم توسعة وتضييقا.

والأصل السببي لا يتصرف في موضوع الأصل المسببي ، سواء قلنا بان المجعول بدليل الاستصحاب هو اليقين أو المتيقن ..

أما بناء على تكفله جعل المتيقن ، فعدم حكومته واضح ، وذلك لأن موضوع الاستصحاب هو اليقين والشك ، وبجريان الأصل السببي لا يرتفع الشك بالأثر الّذي يكون مجرى الأصل المسببي تعبدا ، إذ به يثبت الموضوع وتترتب عليه آثاره ، فالتعبد انما هو بنفس الآثار لا باليقين بها.

وبعبارة أوضح : ان الّذي يتكفله الأصل السببي انما هو تنزيل الأثر منزلة الواقع ، لا تنزيل اليقين به منزلة اليقين بالواقع.

والحكومة انما تتحقق بالمفاد الثاني لا الأول ، واليقين الوجداني بالواقع التعبدي لا يجدي في رفع الموضوع ، إذ المأخوذ في الموضوع هو اليقين بالواقع بنحو التقييد لا التركيب ، والأصل لا يتكفل التعبد بالمقيد بما هو كذلك ، بل انما يتعبد بالقيد ، وهو لا يحقق ثبوت المقيد بما هو مقيد - وقد مر بيان ذلك تفصيلا في رد إمكان دعوى حكومة الأمارة على الاستصحاب بناء على جعل المؤدى فراجع -

وأما بناء على تكفله جعل اليقين بالمستصحب ، فتارة : يلتزم بأنه كما يتكفل جعل اليقين بالمشكوك يتكفل أيضا جعل اليقين بآثاره ولوازمه الشرعية. وأخرى : لا يلتزم بذلك ، بل يلتزم بأنه يتكفل جعل اليقين بنفس المشكوك فقط وتترتب عليه نفس الآثار ، فالتعبد بنفس الآثار لا باليقين بها.

فالكلام في البناء الأول - أعني : البناء على جعل المتيقن لا اليقين - يجري بعينه على الالتزام الثاني - أعني : الالتزام بالتعبد بنفس الآثار لا باليقين بها - كما هو واضح جدا.

وأما على الالتزام الأول ، فالأصل السببي وان كان يتكفل التعبد باليقين بطهارة الثوب كما يتعبد بطهارة نفس الماء - مثلا - إلا ان الاستصحاب المسببي

ص: 262

أيضا يتكفل - في نفسه - التعبد باليقين بنجاسة الثوب بقاء ، فأحد الأصلين يتكفل التعبد باليقين ببقاء المستصحب والآخر يتكفل التعبد باليقين بزواله ، فكيف يجعل أحدهما حاكما على الآخر؟ وبأي ملاك يكون ذلك؟.

ونتيجة ما ذكرناه : أن الأصل السببي لا يكون بدلالته الالتزامية الشرعية حاكما على الأصل المسببي ، إذ لا يتكفل رفع الموضوع تعبدا ، بل الأصلان متعارضان ، فالأصل المسببي بدلالته المطابقية يعارض الأصل السببي بدلالته الالتزامية - إذ دلالته المطابقية لا تتنافى بنفسها مع دلالة الأصل المسببي - وعليه فالأصل السببي ..

اما ان يكون مجراه ذا أثر آخر غير المشكوك في مورد الأصل المسببي ، كطهارة الماء ، فان لها أثر غير طهارة الثوب المشكوكة وهو حلية الشرب.

وإما ان ينحصر اثره الشرعي بالمشكوك بالشك المسببي.

فعلى الأول : يكون الأصل السببي متكفلا بالالتزام الشرعي لثبوت كلا الأثرين من حلية الشرب وطهارة الثوب في استصحاب طهارة الماء. والأصل المسببي بدلالته على نجاسة الثوب إنما ينافيه في إحدى دلالتيه الالتزاميتين ، وهي دلالته طهارة الثوب المغسول بالماء ، فالمعارضة انما تكون بين هذه الدلالة الالتزامية وبين الأصل المسببي ، فتجري قواعد التعارض بينهما بالخصوص ويبقى الأصل السببي بدلالته المطابقية والالتزامية الأخرى سالما عن المعارض فيلتزم به.

هذا إذا قلنا بان للأصل دلالات التزامية متعددة بتعدد الآثار ، ولم نقل بان دلالة الأصل السببي على ترتب آثاره المتعددة بدلالة التزامية واحدة تتكفل ترتب جميع آثاره بنحو الإطلاق ، وإلا فمع القول بذلك يكون الأصل المسببي مقيدا لإطلاق الدلالة الالتزامية وبذلك يجمع بينهما عملا.

وعلى الثاني : فالتعارض بين الدلالة الالتزامية الوحيدة للأصل السببي والدلالة المطابقية للأصل المسببي ، ومقتضى التعارض التساقط ، وبعده يبقى مجرى

ص: 263

الأصل السببي بلا أثر شرعي ، فيكون التعبد به لغوا ، فيسقط الأصل السببي باللغوية لا بالتعارض ، إذ قد عرفت عدم التنافي بين الدلالتين المطابقيتين للأصلين حتى بدوا.

والمحصل : انه في مورد المنافاة بين الأصلين يسقطان معا لتعارضهما ولا يتقدم أحدهما على الآخر. وبعد ذلك فان كان للمستصحب في مورد الأصل السببي أثر آخر غير موضوع المعارضة جرى وترتب بواسطته ذلك الأثر ، وإلا لم يجر أصلا للغوية التعبد ، فلاحظ.

ومن هنا يظهر ما في بعض كلمات الشيخ في الرسائل ، وقرره المحقق الخراسانيّ (1) في الكفاية في تقريب وجه تقدم الأصل السببي على الأصل المسببي من : أنه مع الأخذ بالأصل السببي يكون رفع اليد عن الأصل المسببي بوجه بخلاف العكس فان الأخذ بالأصل المسببي يستلزم رفع اليد عن الأصل السببي بلا وجه أو على وجه دائر.

فان هذا التقرير غير وجيه بعد ما عرفت ، إذ مع الأخذ بالأصل المسببي بأي وجه كان ، فان كان لمجرى الأصل السببي أثر آخر ، لا ترفع اليد عنه بل يبقى ثابتا ويترتب بواسطته ذلك الأثر. وان لم يكن له أثر ، فرفع اليد يكون بوجه غير دوري وهو اللغوية ، لا بوجه دائر ولا بلا وجه.

ومركز الغفلة ، هو أخذهم الأصل السببي بمجراه ودلالته المطابقية طرف المعارضة مع الأصل المسببي. ومعه لا يتم الوجه الّذي ذكروه ، إذ الأصل السببي في مورد يؤخذ به ولا ترفع اليد عنه ، وفي مورد ترفع اليد عنه ولكن بوجه وهو لغوية التعبد به.

وأما ما أفاده الشيخ في الوجه الثاني - على ما وجهنا به عبارة الكتاب - من :

ص: 264


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /431- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أنه بجريان الأصل السببي يرتفع صدق النقض بالشك في مورد الشك المسببي ، إذ النقض يكون بالدليل.

ففيه : ما أشرنا إليه في مبحث تقريب ورود الأمارة على الاستصحاب من أنه مع الالتزام بإرادة الشك الوجداني من الشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب لا عدم الحجة ، لا وجه للالتزام بإرادة السببية من الباء في قوله : « بالشك » ، بل يكون المراد عدم نقض اليقين في مورد الشك ، سواء كان الاستناد إليه أو إلى غيره ، فكون النقض بالدليل في مورد الشك المسببي مع جريان الأصل السببي لا يجدي في خروج المورد عن عموم دليل الاستصحاب مع ثبوت الشك في مورده كما هو الفرض. فتدبر جيدا.

والّذي ينبغي ان يقال : ان الأصل السببي يتقدم على الأصل المسببي بالورود ، وذلك لما تقدم في تقريب ورود الأمارة على الاستصحاب : ان المراد بالشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب ، هو عدم الحجة والدليل لا الصفة الوجدانية الخاصة.

وعليه ، فالأصل السببي بجريانه يرفع موضوع الأصل المسببي وهو الشك - بمعنى عدم الحجة - لأنه يكون دليلا وحجة على خلاف الحالة السابقة فيه ومعه يرتفع موضوعه.

وبما ان المقتضي لجريان الأصل السببي ثابت لتمامية موضوعه ، وليس هناك ما يمنع من جريانه إلا ما يتوهم من الأصل المسببي ، ولما كان الأصل السببي - بدلالته الالتزامية - رافعا لموضوعه تكوينا ونافيا لمقتضيه ، فلا يصلح حينئذ للمانعية عن الأصل السببي ، إذ مانعيته تتوقف على ثبوته المتوقف على عدم جريان الأصل السببي ، فيمتنع ان يستند عدم جريان الأصل السببي إليه للزوم الدور. وليس الأصل المسببي ناظرا إلى نفس مجرى الأصل السببي بحيث يرتفع بجريانه موضوعه كي يحصل التمانع من الطرفين ، ويكون مقتضى كل منهما متوقفا على عدم الآخر ، فلا يصلح أحدهما بخصوصه دون الآخر للمنع عن الآخر.

ص: 265

وهذا الوجه تام في جميع الصور ، سواء كان الأصل المسببي مخالفا للأصل السببي أم موافقا ، وسواء كان مجرى الأصل السببي بنفسه أثرا شرعيا - كطهارة الماء - أم لم يكن كذلك بل كان أمرا تكوينيا يترتب عليه أثر شرعي - كالكريّة - وان كان توهم عدم تقدم الأصل السببي في الأخير أقوى والاستدلال عليه أوجه لأن المجعول في الحقيقة بالأصل السببي هو الحكم ، فيكونان متعارضان ، لأن أحد الأصلين يثبت الحكم والآخر ينفيه.

لكن ذلك لا يجدي بعد ان عرفت ان الملاك هو كون الأصل السببي رافعا لموضوع الأصل المسببي دون العكس إذ لا يرفع الأصل المسببي الشك في مجرى السببي - وهو الأمر التكويني - فيكون المقتضى في أحدهما منجز الثبوت وفي الآخر معلقا فلا يصلح للمانعية إلا على وجه دائر ، وليس الملاك هو كون أحدهما يثبت الموضوع والآخر الحكم كي يتأتى ما ذكر - هذا كله بالنسبة إلى الاستصحابين المتعارضين وكان أحدهما سببا والآخر مسببا.

واما لو كان الأصل السببي غير الاستصحاب كأصالة الطهارة ، فقد استشكل المحقق الأصفهاني قدس سره في تقدمها على الاستصحاب المسببي ..

ولعل الوجه فيه : ان المأخوذ في موضوع الاستصحاب انما هو عدم الحجة ، وأصالة الطهارة ليست حجة على الطهارة ، بل هي قاعدة منتزعة عن ثبوت الحكم في موارد الشك ، والدليل الدال عليها وان كان في نفسه حجة إلا انه حجة على الطهارة الظاهرية لا على الواقع ، فلا يرتفع بأصالة الطهارة ولا بدليلها موضوع الاستصحاب المسببي.

وهذا الوجه مخدوش بوجهين :

الأول : انه لم يثبت ان المأخوذ في موضوع الاستصحاب هو عدم الحجة ، بل يمكن الالتزام بأنه عدم المستند في مقام العمل ، ولا يخفى ان الدليل على ان الطهارة

ص: 266

الظاهرية مستند في مقام العمل ، ولذلك يصح قصد القربة فيما يحتاج إلى الطهارة من الأعمال.

الثاني : انه لو سلم كون المأخوذ عدم الحجة لا مطلق عدم المستند ، فالطهارة حجة بالمعنى المأخوذ عدمه في موضوع الاستصحاب ، وهو المنجزية والمعذرية ، فان المعذر في صورة المخالفة والمنجز في صورة الموافقة ليس إلاّ هذا الحكم الظاهري وهو الطهارة ، لأنه وان كان حكما ظاهريا إلا انه حكم طريقي لتنجيز الواقع نظير وجوب الاحتياط المستفاد من الدليل الشرعي في كونه حكما طريقيا لتنجيز الواقع - ولذا يكون العقاب مع عدم الاحتياط ومخالفة الواقع ، على مخالفة الواقع لا على مخالفة وجوب الاحتياط - وعليه ، فمع الالتزام بما التزم به المحقق الخراسانيّ من كون أدلة الطهارة حاكمة بالحكومة الواقعية على أدلة الاشتراط - أعني : أدلة شرطية الطهارة للصلاة وغيرها - بمعنى انها توجب التصرف في موضوعها بجعل أحد أفراده ولو كان في مرحلة الظاهر فيثبت للطهارة الظاهرية الأثر المترتب على عنوان الطهارة بلسان الأدلة. كان للدليل الدال على ترتب الأثر على الطهارة هو الوارد على الاستصحاب ، إذ دليل الطهارة لا يتكفل سوى إثبات الموضوع ليترتب عليه الأثر المدلول لذلك الدليل ، فترتب الأثر المخالف للحالة السابقة في الشك السببي بواسطة الدليل الاجتهادي ، فهو الوارد على الاستصحاب.

وهذا الكلام [ لا يتأتى في ] الاستصحاب السببي ، لأنه انما يتكفل المتيقن على انه الواقع المشكوك ، وعرفت ان ما يتكفل إثبات الفرد الواقعي لا يكون حاكما على الدليل الآخر.

وأما مع عدم الالتزام بذلك ، بدعوى : ان موضوع الأثر بلسان الأدلة هو الطهارة الواقعية ، ودليل الطهارة انما يتكفل ثبوتها في حال الشك والجهل بالواقع فهي طهارة ظاهرية. فدليل الطهارة بنفسه يكون واردا إذ مرجعه حينئذ إلى إثبات

ص: 267

أثر الطاهر للمشكوك بنفسه لا بواسطة الدليل الآخر ، إذ ذاك انما يثبت ترتب الأثر على موضوعه وهو الطهارة الواقعية.

وبالجملة : فأصالة الطهارة تكون سببا لرفع اليد عن الاستصحاب المسببي على أي تقدير ، فتدبر.

المقام الثاني : في الشكين المسببين عن ثالث ..

كالشك في نجاسة هذا الإناء والشك في نجاسة ذاك المسببين عن العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، إذ لولاه لما حصل الشك في نجاسة كل منهما بل يعلم بطهارتهما. والعلم الإجمالي تارة : يتعلق بالحكم الاقتضائي أو بما يستتبعه ، كالعلم المتعلق بنجاسة أحدهما فانه يستتبع وجوب الاجتناب عنه وهو حكم اقتضائي ، فيكون جريان الأصلين معا مستلزما للمخالفة العملية القطعية. وأخرى : يتعلق بحكم غير اقتضائي أو بما لا يستتبعه ، كالعلم المتعلق بطهارة أحدهما مع سبق نجاستيهما ، فلا يكون جريان كلا الأصلين مستلزما للمخالفة العملية القطعية. نعم ، يستلزم المخالفة الالتزامية بالبناء على نجاستيهما مع العلم بطهارة أحدهما.

فالكلام يقع في موردين :

المورد الأول : ما إذا كان يلزم من إجراء كلا الأصلين مخالفة قطعية عملية للتكليف المعلوم بالإجمال.

والكلام تارة : يكون في وجود المقتضي لجريان كل من الأصلين. وأخرى في ثبوت المانع وعدمه بعد فرض وجود المقتضي.

أما وجود المقتضي : فقد نفاه الشيخ في الرسائل وادعى قصور الأدلة عن شمول المورد ، بتقريب : تحقق المنافاة بين صدر الدليل وذيله بالنسبة إلى الفرض ، وذلك لأن مجرى كل منهما بخصوصه حيث كان متيقن الحدوث مشكوك البقاء كان مشمولا للصدر وهو : « لا تنقض اليقين بالشك » ، ومقتضاه جريان كلا الأصلين وحرمة النقض في كليهما ، وبما أن أحدهما متيقن الارتفاع كان مشمولا للذيل ، وهو :

ص: 268

« ولكن تنقضه بيقين آخر » ، ومقتضاه لزوم النقض في أحدهما وعدم جريان أحد الأصلين.

ولا يخفى ان ما يقتضيه الصدر يتنافى مع ما يقتضيه الذيل ، إذ السالبة ( الموجبة خ ل ) الكلية - وهي مدلول الصدر - تناقضها الموجبة ( السالبة خ ل ) الجزئية - وهي مقتضى الذيل - فيتعارض الصدر والذيل بالنسبة إلى المورد ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، فيكون الدليل مجملا ، فيؤخذ به بما في القدر المتيقن ، والمورد ليس منه فيكون قاصرا عن شموله.

وبهذا الوجه يخرج المورد عن موارد المعارضة ، إذ ليس هو من موارد جريان الأصلين كي تتحقق المعارضة بينهما (1).

ولكن ما ذكره الشيخ لا يمكن الالتزام به لوجهين :

الأول : ان ظاهر الخبر لزوم كون اليقين الناقض المذكور في الذيل من سنخ اليقين بالحدوث - كما هو ظاهر المقابلة بين الصدر والذيل - فلا يصلح اليقين الإجمالي لنقض اليقين التفصيليّ ، فيكون المورد مشمولا للأدلة ، بلا ان يحصل التنافي فيها.

الثاني : انه لو سلم إرادة اليقين الأعم من الإجمالي والتفصيليّ من اليقين المذكور في الذيل ، وعدم ظهور الكلام في لزوم السنخية بين اليقين الناقض والمنقوض ، فلا وجه أيضا لدعوى قصور الأدلة عن شمول المورد ، إذ من الأدلة ما لا يشتمل على الذيل المزبور ، بل يقتصر فيه على الصدر ، فهو لا يقصر عن شمول المورد ، ولا يسرى إجمال غيره إليه لانفصاله عنه.

وقد أشير إلى هذين الوجهين في الكفاية (2).

ص: 269


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /429 الطبعة القديمة.
2- ويمكن الخدشة فيما أفاده قدس سره ثانيا بأنه انما يتم الرجوع إلى الروايات الخالية عن الذيل لو فرض ان الذيل المزبور كان من القرائن المتصلة فانه يستلزم إجمال ما اتصل به خاصة ، أما لو فرض انه من القرائن المنفصلة كما هو الظاهر لأن : « لكن » هنا للاستدراك ، فتكون كلاما مستقلا - فلا يتم ما أفاده لأنها تكون مقيدة لجميع النصوص حتى غير المذيلة بها لأن نسبتها إلى الجميع على حد سواء والتحقيق : انه لا ظهور لكلام الشيخ في إرادة إجمال الأدلة كما حملت عليه عبارته بل نظره قدس سره إلى أمر آخر وتوضيحه : انه قدس سره أخذ انطباق الذيل في مورد العلم الإجمالي مفروغا عنه وبنى إيراده على ذلك ، فانه بعد ان كان مقتضى الذيل لزوم نقض الحالة السابقة في المعلوم بالإجمال فلا يخلو الحال إما ان يجري الاستصحاب في كلا الطرفين أو في أحدهما المعين أو في أحدهما المخير ، والجميع باطل. أما الأول : فلأنه مناف للأمر بالنقض في أحدهما المعلوم بالإجمال المفروض ثبوته. وأما الثاني : فلأنه ترجيح بلا مرجح. وأما الثالث : فلأن الفرد المردد ليس فردا ثالثا له وجود في الواقع فيتعين سقوط الاستصحاب في كلا الموردين. هذا توضيح ما أفاده وهو أجنبي عن دعوى الإجمال في الدليل كما لا يخفى.

وأما الكلام في ثبوت المانع وعدمه ، فتحقيقه : أنه مع الالتزام - كما هو الحق - بكون العلم الإجمالي علة تامة لتنجيز الواقع بحيث يمتنع جعل الحكم الظاهري - سواء كان مؤدى الأصل أو الأمارة - في أطرافه يكون العلم الإجمالي بالتكليف في المقام مانعا عن جريان كل من الأصلين ، لكون الواقع المنجز محتمل الانطباق على كل من الفردين ، فيمتنع أن يجري الأصل في كل منهما - كما مر توضيح ذلك في مبحث العلم الإجمالي.

ومع هذا الالتزام يخرج المورد أيضا عن موارد المعارضة ، إذ لا يكون من موارد جريان الأصول في نفسه.

نعم ، بناء على ما اختاره المحقق النائيني ، من كونه علة تامة بالنسبة إلى حرمة المخالفة القطعية ، وبنحو الاقتضاء بالنسبة إلى وجوب الموافقة القطعية ، فتجوز المخالفة الاحتمالية - بناء على هذا - يكون المورد من موارد المعارضة ، إذ العلم

ص: 270

الإجمالي لا يمنع من جريان كل من الأصلين ، بل يكون مانعا عن أحدهما ، إذ جريانهما معا يستلزم المخالفة القطعية المحرمة ، وإذ لا مرجح لأحدهما على الآخر في نفسه يحصل التعارض بينهما - إذ الأخذ بأحدهما ترجيح بلا مرجح -.

وهل الحكم التساقط أو التخيير؟ التحقيق : انه التخيير لا التساقط كما حققناه في مباحث الاشتغال.

المورد الثاني : ما لا يلزم من إجرائهما مخالفة عملية للتكليف المعلوم بالإجمال ، فالتحقيق انه مع الالتزام بما هو ظاهر الشيخ - على ما تقدم - من قصور الأدلة عن شمول موارد العلم الإجمالي ، فلا مجال لدعوى إمكان إجرائهما أو معارضتهما ، إذ المورد مشكوك المصداقية.

إلا ان الّذي يؤخذ على الشيخ في الألسنة والتحريرات ، ما التزم به من جريان الأصلين فيما لو توضأ غفلة بمائع مردد بين البول والماء - فيجري استصحاب بقاء الحدث واستصحاب طهارة الأعضاء - مع العلم بانتقاض الحالة السابقة لأحدهما كما لا يخفى.

والوجه فيه وحل الإشكال سنتعرض له قريبا إن شاء اللّه تعالى فانتظر.

ومع عدم الالتزام بذلك ، والالتزام بما هو الحق - من كون العلم الإجمالي علة تامة للتنجيز بحيث يمتنع جعل الحكم الظاهري مطلقا في أطرافه - لا وجه أيضا للالتزام بجريان أحد الأصلين وإن كان المعلوم بالإجمال حكما غير اقتضائي ، لما تقرر في مبحث الاشتغال من امتناع جعل الحكم الظاهري في أطراف العلم الإجمالي سواء تعلق بحكم اقتضائي أو بغيره.

وأما مع الالتزام بما ذهب إليه المحقق النائيني من كونه مقتض للتنجز فهو علة لحرمة المخالفة القطعية دون وجوب الموافقة القطعية.

أو الالتزام بأنه علة تامة لوجوب الموافقة القطعية ، ولكن امتناع جعل الأصول في أطرافه يختص بما إذا كان المعلوم بالإجمال حكما اقتضائيا تنجيزيا ، دون

ص: 271

ما كان متعلقه حكما غير اقتضائي ، إذ لا تنجيز كي يتنافى مع جعل الأصول - كما هو ظاهر الكفاية - (1).

مع الالتزام بأحد هذين الالتزامين ، فمقتضى القاعدة صحة جريان كلا الأصلين في الفرض بلا معارضة - كما التزم به في الكفاية - لثبوت المقتضي وعدم المانع من المخالفة القطعية العملية.

إلا ان المحقق النائيني قدس سره : لم يلتزم بذلك في الأصول المحرزة والتزم به في خصوص الأصول غير المحرزة.

وقرب التفصيل بينهما : - كما في مصباح الأصول (2) - انه حيث كانت الأصول المحرزة - كالاستصحاب - تتكفل جعل الشاك متيقنا ، فجريان الاستصحابين في الفرض معناه التعبد بكونه متيقنا بنجاسة هذا والتعبد بكونه متيقنا بنجاسة ذاك ، وهذان التعبدان ينافيان العلم الوجداني بطهارة أحدهما.

وأما الأصول غير المحرزة ، فحيث لا تتكفل جعل اليقين ، بل انما تتكفل تعيين الوظيفة العملية في مرحلة الظاهر ، فلا ينافي جعل نجاسة كلا الإناءين ظاهرا العلم الإجمالي بطهارة أحدهما واقعا.

وأورد عليه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) نقضا وحلا.

أما النقض : فبما لو كان أحد جنبا وصلى وشك بعد الانتهاء من الصلاة في انه اغتسل للصلاة أو لا؟ فانه يحكم بصحة الصلاة بمقتضى قاعدة الفراغ ، وبوجوب الغسل للصلوات الآتية بمقتضى استصحاب بقاء الحدث ، مع العلم الإجمالي بمخالفة أحد هذين الأصلين للواقع وكلاهما من الأصول الإحرازية.

وأما الحل : بأنه انما يتم لو كان التعبد باليقين بنجاسة كلا الإناءين - بنحو

ص: 272


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /432- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول /260- الطبعة الأولى.

العموم المجموعي - إذ التعبد باليقين بالمجموع ينافي العلم بانتفائه ، والأمر ليس كذلك ، إذ لا يقين بنجاسة المجموع بما هو مجموع ، بل التعبد يكون بنجاسة كل من الإناءين ، لتحقق موضوع الاستصحاب في كلا الطرفين - وهو اليقين السابق والشك اللاحق - والعلم الإجمالي لا يمنع من جريان كل واحد من الأصلين بخصوصه إذ لا يتنافى معه.

ثم انه بعد هذا تعجب من الشيخ والنائيني في التزامهما بجريان الاستصحاب في مثل ما لو توضأ بمائع مردد بين البول والماء - كما أشرنا إليه - مع العلم الإجمالي بمخالفة أحد الأصلين للواقع.

إلاّ ان التحقيق عدم ورود شيء مما أفاده على المحقق النائيني بعد إمكان رجوع كلامه قدس سره إلى أحد وجهين :

الأول : ان التعبد باليقين بنجاسة كل من الإناءين وان كان يغاير التعبد باليقين بنجاسة الآخر لتعدد الموضوع خارجا ، إلا انه في الحقيقة يرجع إلى تعبد واحد بنجاسة كلا الإناءين بنحو التعبد بالمجموع ، لا الجمع بين التعبدين ، وهو بهذه الجهة ينافي العلم الإجمالي بطهارة أحدهما وانتفاء المجموع.

ونظير ذلك ما يقال في منع الجمع بين طلب المهم وطلب الأهم ، بأنه يرجع في الحقيقة إلى طلب الجمع فيكون من طلب الضدين ، وان كان بحسب الظاهر من الجمع بين الأمرين ، كما أشار (1) إلى ذلك بقوله : « ان هذا وان لم يكن من طلب الجمع بحسب الظاهر في نفي إلاّ انه بحسب النتيجة والواقع مرجعه إلى ذلك » ويشهد لذلك مراجعة الوجدان في الأمور التكوينية ، فان العلم بوجود زيد والعلم بوجود عمرو يرجع في الحقيقة إلى العلم بوجودهما ويرجع إلى ذلك.

ص: 273


1- من هنا يتضح وهن ما جاء في تقريرات بحث السيد البروجردي رحمه اللّه من ان نكتة رجوع ذلك إلى طلب الجمع مما لم تدركها افهام من كان سابقا. فلاحظ.

الثاني : ان التعبد باليقين وجعل الشاك متيقنا لا ينافي بنفسه العلم الوجداني بالخلاف ، لأن التعبد لا يعدو التنزيل والجعل وهو كثيرا ما يكون على خلاف الواقع كما في سائر موارد الحكومة. وإنما المنافاة بين التعبد باليقين في كلا الطرفين والعلم الإجمالي ، ناشئة من كون التعبد باليقين بالنجاسة يقتضي ترتيب الآثار الشرعية للنجس على المشكوك المستصحب ، وذلك انما يكون بتوسط تنجيز (1) الواقع فعلا بجعل اليقين ، فالتعبد باليقين بنجاسة كلا الإناءين يقتضي تنجز الواقع في كلا الطرفين ، وهذا ينافي العلم بطهارة أحدهما للعلم بعدم كون الواقع في أحدهما منجزا.

وبالجملة : فالتعبد الاستصحابي في كلا الطرفين لما كان يرجع إلى جعل المنجز الفعلي للواقع في كليهما كان منافيا لمقتضى العلم الإجمالي من عدم تنجز الواقع في أحدهما.

وهذا الوجه أمتن من سابقه ، إذ الأول وجه تصوري لا برهان عليه.

وبهذا الوجه يندفع الإيراد بالنقض ، إذ قاعدة الفراغ وان كانت من الأصول المحرزة - كما اعترف بذلك المحقق المزبور قدس سره - إلا انها لا تتكفل تنجيز الواقع مع استصحاب الحدث كي تنافي العلم الإجمالي ، بل تتكفل التعذير والحكم

ص: 274


1- وبذلك تفترق الأصول المحرزة عن غيرها ، إذ غير المحرزة لا تتكفل جعل المنجز الفعلي للواقع ، وان كانت فعلا مؤداها ، بل الواقع انما ينجز بها على تقدير المصادفة. والتنجز الّذي تتكفله الأصول المحرزة هو التنجز الفعلي ، وهو واقع التنجز ، بحيث يرى المكلّف ان الواقع بقيام الأصل صار في عهدته ، كما لو تيقن وجدانا ، وهذا ينافي العلم بعدم كونه في أحد الطرفين في العهدة. واما التنجز الّذي يتكفله الأصول غير المحرزة فهو التنجز التعليقي ، وهو لا ينافي العلم الوجداني ، إذ لا يرى المكلّف ان الواقع بقيام الأصل صار منجزا في كلا الطرفين ، فلاحظ. بهذا الوجه تفترق الأصول المحرزة عن غيرها لا بلحاظ كون التقييد في المحرزة بلحاظ ترتيب الإصر ، إذ هو مشرك بين كلا الأصلين ، فلاحظ وتدبّر.

بفراغ الذّمّة فلا تنافي العلم الإجمالي.

ومنه يتضح أيضا الوجه في الحكم بجريان الأصول فيما لو توضأ بمائع مردد بين الماء والبول ، ونظيره مما يكون التلازم بين مجرى أحد الأصلين وعدم مجرى الآخر ، فان استصحاب الطهارة لا يتكفل التنجيز إذ الطهارة ليست حكما اقتضائيا ، فلا تنافي بين الأصلين وبين العلم الإجمالي ، فتدبر جيدا.

وأما توجيه ما ذكره الشيخ من جريان الأصلين في الفرض مع التزامه سابقا بقصور الأدلة عن شمول موارد العلم الإجمالي ، فبتقريب : أن المعلوم بالإجمال - وهو زوال أحدهما - لا يترتب عليه أثر شرعي ، إذ الواحد المردد بينهما ليس بموضوع لأثر شرعي ، فلا يكون مشمولا للذيل ، وهو وجوب النقض إذ لا يشمل إلاّ ما كان مورد الأثر.

وعليه فيبقى الصدر بلا مزاحم ، فيشمل بإطلاقه المورد ، ولا مانع منه ، إذ لا يلزم من جريانها مخالفة عملية لتكليف منجز.

وبالجملة : ما يكون مانعا عن ثبوت المقتضي لجريان الأصلين وعن تأثيره مفقود في الفرض ، فيثبت الأصلان. وقد أشار قدس سره إلى ذلك في كلامه ، فلاحظه وتأمل واللّه ولي العصمة.

انتهى تحرير مبحث تعارض الاستصحاب مع غيره من الأصول والأمارات في يوم الأربعاء السابع عشر من شهر رجب في السنة الثالثة والثمانين بعد الألف والثلاثمائة ، واما تدريسه فقد انتهى في تمام من ربيع الأول من هذه السنة ، ويليه مبحث التعادل والترجيح.

ص: 275

ص: 276

التّعادل والتّرجيح

اشارة

ص: 277

ص: 278

التعادل والترجيح

تمهيد

لما كان معنى التعادل هو تساوي الأدلة في المزايا ، والترجيح هو اشتمال أحدها على مزية ليست في الآخر. كان المهم من موارده الروايات المتعارضة ، بل كان مورده تعارض الأدلة. فلا بد أولا من تعريف التعارض وبيان ضابطه كي تتميز الموارد التي تجري فيها قواعد الترجيح والتعادل من غيرها. فنقول - ومنه نستمد العصمة - الاحتمالات في ضابط التعارض ثلاثة :

الأول : انه تنافي المدلولين ، كأن يكون أحد المدلولين منافيا للآخر ، كما إذا كان أحدهما الوجوب والآخر الحرمة. وهو الّذي ينسب إلى المشهور.

الثاني : انه تنافي الدليلين بلحاظ تنافي مدلوليهما ، فالتنافي أولا وبالذات بين المدلولين أنفسهما ، وينسب إلى الدليلين بالمسامحة - لما هناك من المناسبة بين الدليل والمدلول - ولا تنافي بين الدليلين في مرحلة الدلالة حقيقة ، لأن كلا منهما يفيد الظن النوعيّ ، بل مورد الكلام ما كان الدليلان كذلك.

ص: 279

نعم ، لو كان دليلية الدليل من باب الظن الشخصي ، لكان التنافي الحقيقي بينهما ممكن الوقوع ، إذ لا مجال لإفادتهما معا الظن الشخصي كما لا يخفى ، لكنه خلاف الفرض.

وهذا التنافي المسامحي هو الّذي ينطبق عليه التعارض حقيقة ، فالتنافي منسوب إلى الدليلين بالمسامحة ، والتعارض منسوب إليهما حقيقة ، ولا منافاة كما لا يخفى.

الثالث : انه تنافي الدليلين لكن لا بلحاظ تنافي مدلوليهما ، بل بلحاظ مقام الإثبات والدليليّة ، فان كلا منهما يحاول إثبات ما ينافي ما يريد إثباته الآخر.

وينفي الاحتمال الأول بما أفاده بعض الأعاظم من : ان التعارض انما يتحقق بين أمرين موجودين خارجا - فيعارض أحدهما الآخر - والمدلولان بذاتيهما لا يمكن وجودهما لتنافيهما ، فلا معنى لحصول التعارض بينهما ، فتأمل (1).

فيدور الأمر بين الاحتمالين الآخرين.

ويمكن ان يقال في ترجيح الاحتمال الثالث : ان المفهوم من لفظ التعارض عرفا هو المدافعة الحاصلة بين شيئين أو أشياء على شيء واحد ، بحيث تكون غاية كل منهما الحصول على ذلك الشيء.

وهذا للاحتمال الثالث اقرب منه إلى الاحتمال الثاني ، فان كلا من الدليلين - على الاحتمال الثالث - يحاول إثبات مضمونه وجعله حقيقة خارجية.

وليس على الاحتمال الثاني هذا المعنى ، إذ ليس هناك امر يدافع أحد الدليلين الآخر لغاية الحصول عليه.

هذا مع عدم تصور التنافي في مقام الدلالة والكشف بعد اعتبار الظن النوعيّ في الحجية لا الظن الشخصي ، وحمله على التنافي مسامحة وكون التنافي حقيقة بين ذات المدلولين خلاف الظاهر.

ص: 280


1- الخراسانيّ الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /437- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مضافا إلى ان هناك من لا يقول بتكفل الأمارات أحكاما شرعية ظاهرية ، بل يقول بأن مفادها الحجية أو المنجزية ونحوهما.

فالتدافع بين الأمارات انما يكون في مقام الإثبات لا مقام الدلالة ، إذ لا نظر للاعتبار إلى المدلول أصلا.

وما ذكرناه يمكن ان يكون مراد صاحب الكفاية (1) ، وان احتمل غيره والأمر سهل.

ثم ان التنافي في الدلالة على وجه التناقض غير متصور ، لأن الدلالة من الأمور الوجودية ، فالتنافي بين الدلالتين لا يكون إلاّ على وجه التضاد.

ثم ان صاحب الكفاية ذكر : ان التنافي قد يكون عرضيا ، كما لو علم إجمالا بكذب أحدهما مع عدم امتناع اجتماعهما أصلا.

ويبدو من المحقق النائيني الإشكال فيه ، وان مثل ذلك يكون من موارد اشتباه الحجة باللاحجة (2).

والتحقيق : ان العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين له صور ثلاث :

الأولى : ان يعلم بسقوط أحدهما من باب العلم بعدم إمكان الجمع بين الدليلين مع عدم العلم بكذب أحدهما واقعا بحيث لا يتميز ، كما في الأصلين المتعارضين في موارد العلم الإجمالي ، فان الجمع بين الحكمين الظاهريين ممتنع لاستلزامه الترخيص في المعصية ، ولا يعلم بكذب أحدهما في الواقع.

الثانية : ان يعلم بعدم صحة أحد الخبرين واقعا ، وهو المعبر عنه بالكذب الخبري ، كما لو قام أحد الخبرين على وجوب القصر والآخر على وجوب التمام ، وعلم بعدم وجوب إحدى الصلاتين.

الثالثة : ان يعلم بعدم صدق أحد الخبرين بالكذب المخبري.

ص: 281


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /437- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 703 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

والصورة الأخيرة هي مورد اشتباه الحجة باللاحجة دون الأولتين ، فالإشكال لو كان فإنما هو على إطلاق الكفاية على أصل مراده ، فلاحظ.

وعلى كل حال فهذا ليس بمهم في محل الكلام بعد ما عرفت تحقيق الحال.

وانما المهم من الكلام يقع فيما أفاده من خروج بعض الموارد عن التعارض ، وهي : موارد الحكومة والورود والجمع العرفي ، والخاصّ والعام والمطلق والمقيد والنص أو الأظهر والظاهر.

فالكلام في موارد :

المورد الأول : في الحكومة : والبحث فيها في جهتين :

الأولى : في وجه تقديم الدليل الحاكم على المحكوم ، وقد سبق الكلام في ذلك مفصلا ، فراجع.

الثانية : في معنى الحكومة بنظره - أي صاحب الكفاية - وانها عنده عبارة عن نظر أحد الدليلين إلى الآخر في مرحلة دلالته ، مطلقا بأي نحو من أنحاء النّظر.

أو انها بنظره أخص من ذلك ، بمعنى انها نظر أحد الدليلين إلى الآخر بالشرح والتفسير بكلمة : « أعني » ونحوها - كما نسب ذلك إليه المحقق النائيني قدس سره (1).

قد يقال : بان الضابط لديه هو النحو الأول ولا أساس لنسبة المحقق المذكور إليه تخصيص ضابطها بالنظر بنحو الشرح ، لظهور عبارته في المقام في الأول. ويؤيده ما أفاده في الحاشية (2) من موافقته الشيخ رحمه اللّه (3).

ولكن الإنصاف ان النسبة المذكورة غير مجازفة في القول ، بل لها أساس تبتني عليه ، وهو ما ذكره في المقام في نفي حكومة الأمارات على الأصول من : ان دليل

ص: 282


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /438- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /256- الطبعة الأولى.
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /432- الطبعة القديمة.

اعتبارها ليس ناظرا إلى أدلتها وشارحا لها.

ومراده بالشرح خصوص التفسير بألفاظه لا مطلق النّظر والقرينية - إذ انه شرح بالملازمة - لما يذكره بعد ذلك في وجه تقدم الأظهر على الظاهر ومنه العام والخاصّ من انه بالقرينية ، مع التزامه انه ليس بنحو الحكومة ، بل بنحو الجمع العرفي ، فانه ظاهر في ان مطلق القرينية غير موجب للحكومة ، وإلاّ لكان تقدم الأظهر على الظاهر بنحو الحكومة عنده ، ولا يلتزم به ، فتدبر.

المورد الثاني : في الجمع العرفي : والكلام فيه مع صاحب الكفاية من جهتين :

الأولى : في وجود مورد للجمع العرفي غير تقديم النص أو الأظهر على الظاهر ، وهو ما كانت ملاحظة كلا الدليلين موجبة للتصرف فيهما.

قد يذكر لذلك ما إذا ورد الدليل على وجوب شيء ، وورد الآخر على وجوب غيره ، فانه بملاحظتهما معا يحملان على بيان الوجوب التخييري ، وتلغى خصوصية التعيين المستفادة بالإطلاق من كل منهما ، الموجبة لحصول التنافي بين الدليلين.

ولكن هذا في الحقيقة من باب تقديم النص على الظاهر ، لأن كلا منهما نصّ في الوجوب ، ظاهر في التعيين بواسطة الإطلاق ، فظاهر كل منهما ينافي نصّ الآخر ، فالمثال من موارد تقديم النص على الظاهر ، وما يكون أحدهما قرينة على التصرف في الآخر.

وقد يجعل هذا المورد من موارد تعارض الإطلاقين ، والقاعدة تقتضي التساقط ، برفع اليد عن إطلاق كل منهما المقتضي للتعيين. وعليه لا يكون المورد من موارد الجمع العرفي أصلا ، بل هو نظير تعارض العامين من وجه وتساقطهما في المجمع.

الثانية : ما ذكره من ان تقديم الأدلة المتكفلة للأحكام بعناوينها الثانوية - كأدلة نفي الضرر أو الحرج - على الأدلة المتكفلة للأحكام بعناوينها الأولية بالجمع

ص: 283

العرفي بحمل الأولى على الحكم الفعلي والثانية على الحكم الاقتضائي - فهو مثال لما تكون ملاحظة الدليلين موجبة للتصرف في أحدهما كما لا يخفى -.

وفيه تأمل لوجهين :

الأول : ان الحكم الاقتضائي بمعنى لا معنى له فيما نحن فيه ، وبمعنى آخر لا يلتزم به صاحب الكفاية.

بيان ذلك : انه (1) ، ان أريد بالحكم الاقتضائي ما هو المشهور المصطلح للوجود الاقتضائي للشيء ، وهو ان المقتضى - بالفتح - بوجود مقتضية ، وينسب إليه الوجود مسامحة وبالعرض ، فالحكم موجود لوجود مقتضية.

فهذا لا معنى له في الفرض ، لأن المقتضي الّذي يترشح عنه المعلول في الأحكام هو الجاعل وهو اللّه سبحانه وتعالى ، فالأحكام - مطلقا - موجودة منذ الأزل بوجوده الأزلي ، وهذا غير ما نحن فيه ، لأن المراد ان المحمول على الاقتضاء هو الحكم المدلول للدليل في قبال غيره لا ذات الحكم بلحاظ جاعله وموجده.

وان أريد به كونه ذا مصلحة يقتضي تحققها ، فهو ذو اقتضاء للتحقق باعتبار وجود المصلحة في متعلقه. فهو غير معقول ، لأن نفس المصلحة معادلة لمتعلقه بالوجود ومتأخرة عنه ، فلا يعقل ان تكون موجودة في رتبة الحكم ويكون للحكم بها نحو ثبوت.

وان أريد به الحكم الطبعي الّذي هو عبارة عن ثبوت الحكم لذات الموضوع بلا لحاظ عوارضها الخارجية ، فالموضوع مهمل في مقام الإثبات - إذ لا يعقل

ص: 284


1- أقول : ليس الحكم الاقتضائي ما هو الظاهر في لسان الأصوليين - وهو ما كان واجدا للملاك ، فهو ذو اقتضاء للثبوت ، لواجديته لملاكه ، ولكن هناك مانع من فعلية هذا الملاك - وقد عرضت هذا على السيد الأستاذ - دام ظله - فأقره ، وقرب واجدية الملاك بان الأدلة المتكفلة لبيان الأحكام بالعنوان الثانوي ، ظاهرة في الامتنان والتسهيل ، وذلك ظاهر في ان رفع الحكم لم يكن لعدم الملاك ، بل من باب التسهيل على المكلف ، وإلاّ فالملاك موجود ، وعلى هذا فما ذكر من التفصيل لا مجال له ، فينحصر الإشكال على الآخوند بالثاني ، فتدبر.

إهماله في مرحلة الثبوت - فالدليل مهمل بالنسبة إلى الفرد الخاصّ.

ويكون الدليل الدال على نفي الحكم عن الفرد الخاصّ مخصصا للموضوع.

فهو وان كان معقولا إلاّ انه قدس سره لا يلتزم به ، لأنه يقتضي عدم ثبوت الملاك في الموضوع الخاصّ. مع انه يلتزم ببقاء الملاك ويستفيد بقاءه من إطلاق نفس الدليل الدال على الحكم ، ومع الالتزام بالإهمال فيه كيف يستفاد منه ثبوت الملاك في مورد المزاحمة؟.

الثاني : انه مع التنزل والتسليم بوجود معنى معقول للحكم الاقتضائي لا محذور فيه. فما ذكره من الحمل العرفي المذكور يحتاج إلى إقامة الدليل عليه. ولا نرى لذلك وجها ، كما انه لم يذكر الوجه فيه ، فهو يرجع إلى الجمع التبرعي غير المستند إلى وجه ، وهو غير حجة كما لا يخفى.

والتحقيق : هو التفصيل بين ما يكون دليل حكم العنوان الأولي متكفلا لحكم اقتضائي كالوجوب ، وما يكون الدليل متكفلا للإباحة ، ففي الأول يقع التعارض بين دليل الحكم الأولي ودليل الحكم الثانوي ولا وجه لحمل الأول على الحكم الاقتضائي في الثاني ، فالتفت.

المورد الثالث : في الورود ، وقد تقدم الكلام مفصلا في وجه تقديم الوارد على المورود ، وفي بطلان ما ساقه الآخوند رحمه اللّه من الوجه على التقديم وعدم تماميته فلا نعيد.

واما تقديم الأمارة على الاستصحاب ، فقد تقدم الكلام فيه مفصلا ، وتقدم بعض الإشارة إلى ما ذكره في الكفاية في هذا البحث ، فراجع.

المورد الرابع : في تقديم الخاصّ والمقيد على العام والمطلق.

وبما ان هناك من يرجع العام والخاصّ إلى المطلق والمقيد - كالمحقق النائيني (1) - لا بد من تقديم الكلام عن تقدم المقيد والمطلق.

ص: 285


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 443 - الطبعة الأولى.

وفي تحقيق الحال في ذلك لا بد من تحقيق امر له كل المساس فيما نحن فيه ، كما له المساس المهم فيما يأتي من البحث عن انقلاب النسبة (1).

ص: 286


1- تحقيق الكلام في هذا المقام ان يقال : ان تعدد الإرادة في الكلام ووجود الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية بالمعنى المذكور في المتن مما لا إشكال فيه ولا يقبل الإنكار ، كما انهما قد يختلفان - كما في موارد الاستعمالات الكنائية - وقد يتفقان. وانما الإشكال في طريق تشخيص المراد الجدي للمتكلم وكونه على طبق ظاهر كلامه أو غيره ، وانه هل هو بواسطة ظاهر اللفظ كما هو المعروف - حيث ان المعروف تشخيص المراد الجدي من طريق ظاهر اللفظ فيكون الظاهر حجة ، وهو المعبّر عنه بأصالة الظهور ومطابقة مقام الإثبات لمقام الثبوت - ، أو انه بطريق آخر؟. الحق هو الثاني ، وذلك لأن المراد الجدي للمتكلم يعرف بأمرين ينضم أحدهما للآخر. أحدهما : إحراز كون المتكلم في مقام الجد في كلامه وانه يريد بيان امر واقعي به في قبال الهزل أو غيره. والآخر : إحراز مدلول الكلام وما قصد به تفهيمه. فإذا حصل هذان الأمران يحصل العلم بالمراد الواقعي وانه مطابق للمراد الاستعمالي وما قصد تفهيمه. فمثلا : لو قال : « جاء زيد من مكة المكرمة » ، فلدينا أمور ثلاثة : الأمر الخارجي من مجيء زيد وعدمه ، والمراد التفهيمي ، والمراد الجدي وهو ما قصد الحكاية عنه. ولا يخفى ان الأول لا يعرف بالخبر ، وهو خارج عنه ، ولذا يتحقق الخبر مع العلم بعدم المطابقة والكذب ، فليس الأمر الخارجي وهو ذات ما أخبر عنه بمراد جدي ، وانما المراد الجدي هو ما قصد الحكاية عنه بما هو متعلق القصد ، أو فقل : ان الاخبار عن الشيء هو المراد الجدي. وهذا هو المطلوب معرفته بالكلام ، وهو يعرف - كما تقدم - بإحراز مدلول الكلام ، وإحراز قصد الحكاية به ، وان المتكلم في مقام الاخبار لا في مقام آخر. وهذا ليس من حجية الظهور في شيء ، إذ إحراز مدلول الكلام ينشأ من العلم بالوضع وملاحظة القرائن. وإحراز انه في مقام الجد ينشأ من قرينة حالية أو مقالية. وقد يقال : ان المراد الجدي قد يتخلف عن المراد الاستعمالي سعة وضيقا ، كما لو كان مراده الجدي المعنى الخاصّ وكان اللفظ المستعمل فيه مطلقا ، فإذا حصل هذا الاحتمال في الكلام فلا دافع له إلا ظهور الكلام وعدم التقييد ، وهذا معنى حجية الظهور. ويندفع هذا القول : أولا : بأنه لا يتم فيما كان المعنى الآخر مباينا للموضوع له ، إذ لا يحتمل إرادته من اللفظ بلا قرينة بعد عدم دلالة اللفظ عليه ، إذ كيف يقصد الحكاية عن معنى بما لا يدل عليه؟ وثانيا : بأنه لا يتم حتى في مثل المطلق والمقيد ، لأن الجميع يلتزمون بأن إحراز كونه في مقام الجد في الجملة لا يجدي في إثبات ان مراده المطلق إذا احتمل انه ليس في مقام الجد من بعض الجهات ، بل لا بد من إحراز كونه في مقام الجد في تمام المدلول ومن جميع الجهات ، وإذا أحرز ذلك لم يحتج في إثبات مراده إلى الكشف عنه من طريق الظهور ، للعلم بأن مراده تمام المدلول ، وإذا لم يحرز ذلك لم يمكن تشخيص ان مراده المطلق من طريق اللفظ. وعمدة التحقيق : ان المراد بقصد الجد والحكاية ليس ما يساوق معنى الإرادة والنية ، بل ما يساوق معنى الداعي المترتب على الشيء. ومن الواضح انه لا يمكن ان يكون الداعي إلى الشيء ما لا يترتب عليه ، فلا يمكن ان يقصد الحكاية عن معنى بما لا يدل عليه لعدم ترتبها عليه ، ومعنى إحراز الداعي إلى الحكاية يحرز ان مراده لا يتعدى مدلول اللفظ ، لأن الفرض انه قصد الحكاية عن امر بما قصد تفهيمه ، فتدبر. ومن هنا يظهر ان مجرى مقدمات الحكمة في باب المطلق والمقيد انما هو المراد الاستعمالي لا المراد الجدي ، لوضوح تبعية المراد الجدي للمراد الاستعمالي ، وما قصد تفهيمه والانتقال منه إليه ، فلا بد في تشخيص المراد الجدي من معرفة المراد الاستعمالي سعة وضيقا ، وهو يحصل بالقرينة ، والقرينة على إرادة الإطلاق هي مقدمات الحكمة - كما يبين في محله - وبدونها لا يمكن إحراز المراد الاستعمالي ، ومعه لا يمكن تشخيص المراد الجدي ، وإذا توفرت المقدمات في المراد الاستعمالي فلا حاجة حينئذ لجريانها في المراد الجدي كما هو واضح. ثم انه مما ذكرناه يظهر ان دلالة الكلام على المراد الجدي مع إحراز انه في مقام الجد تكون دلالة قطعية لا تحتمل الخلاف ، لأنها تنشأ من ضم جهة وجدانية - وهي كونه في مقام الحكاية - إلى جهة عقلية ، وهي استحالة ان يكون الداعي إلى الشيء ما لا يترتب عليه. وعلى هذا الأساس يشكل الأمر في موارد تقديم النص أو الأظهر على الظاهر ، فان المعروف بين الأصحاب تقديم النص - وهو ما لا يمكن إرادة غير معناه المفهوم منه - على الظاهر ، وهو ما يمكن أن يراد به غير معناه المفهوم منه ، لكنه كان ظاهرا في المعنى المعروف. وذلك فانه - على ما ذكرناه - لا فرق بين النص والظاهر في عدم احتمال إرادة غير معناه المفهوم منه. فان الظاهر وان أمكن ان يستعمل ويراد به معنى آخر ، لكنه لا يصح بلا نصب قرينة ، إذ إرادة غير الظاهر من دون قرينة غير صحيحة ، فمع عدم القرينة لا يكون المفهوم من اللفظ سوى المعنى الظاهر فيه ، والمفروض ان المدلول الاستعمالي هو ما قصد تفهيمه للمخاطب ، فينحصر ان يكون هو المعنى الظاهر لاستحالة إرادة غيره بدون قرينة ، لعدم ترتب التفهيم على حاق اللفظ ، وإذا ثبت ان المراد الاستعمالي هو المعنى الظاهر ، كان هو المراد الجدي قطعا ، لما تقدم من ان قصد الحكاية انما هو بما قصد تفهيمه لا بغيره. وبالجملة : ما يمكن ان يقصد تفهيمه هو ظاهر الكلام ، فتكون دلالته على المستعمل فيه قطعية - كالنص - بمقتضى البيان المزبور ، كما ان دلالته على المراد الجدي قطعية ، لأن المفروض انه قصد الحكاية بما قصد تفهيمه ، فبمقتضى ذلك تكون دلالة الكلام على المرادين الاستعمالي والواقعي قطعية. وبذلك لا يبقى فرق بين النص والظاهر في المدلول الفعلي لكل منهما وان دلالة كل منهما عليه قطعية. فأي وجه لتقديم النص على الظاهر؟. وقد يقال : ان احتمال وجود القرينة المتصلة بالنسبة إلى الكلام الظاهر وغفلة الناقل لنا عنها في مقام السماع أو النقل ، موجود. وانما يدفع بأصالة عدم الغفلة التي عليها مبنى العقلاء في أمورهم. وهذا الأصل لا يعتنى به مع وجود النص على خلاف الظاهر ، فيسقط الظاهر عن الدلالة القطعية على مدلوله. ولكن هذا لو تم في نفسه ، فانما يتم لو كان احتمال الغفلة معتدا به ، وإلاّ فلا مجال له. هذا ، ولكن المشكلة المزبورة انما يظهر أثرها في بعض الموارد ، كما لو كان المعنى الآخر الظاهر معنى مباينا للمعنى الظاهر فيه. واما الموارد الأخرى التي تجعل من مصاديق تقديم النص على الظاهر ، فيمكن حلّ المشكلة فيها ، وهي متعددة : الأول : مورد ورود الدليل الظاهر على الوجوب أو الحرمة ، وورود النص على الترخيص في الترك أو الفعل. فان المشهور هو حمل دليل الإلزام على أصل الرجحان من استحباب أو كراهة. ويمكن البناء على ذلك بالالتزام بما ذهب إليه المحقق النائيني قدس سره في صيغة الأمر والنهي ، من عدم دلالتهما وضعا على الإلزام ، وانما يدلان على مجرد الطلب والزجر. غاية الأمر ان العقل يحكم بلزوم الامتثال إذا لم يرد ترخيص من الشارع ، واما مع ثبوته فلا يحكم بوجوب الامتثال. وعليه ، فورود النص على الترخيص - فيما نحن فيه - يرفع موضوع حكم العقل بالإلزام ولا يصطدم مع ظهور الأمر أو النهي أصلا. الثاني : مورد المطلق والمقيد. ويمكن ان يقال في الجمع بينهما : بان أساس استفادة الإطلاق هو إحراز كون المتكلم في مقام البيان ، وهذا يستفاد غالبا من ظهور الحال وليس من طريق قطعي. وعليه ، فيمكن ان يجعل ورود الدليل المقيد رافعا لهذا الظهور ، سواء أرجع إلى التصرف في المراد الاستعمالي ، بحيث يكشف عن عدم كونه في مقام تفهيم المطلق ، أو رجع إلى التصرف في المراد الجدي ، بأن يكشف عن عدم كونه في مقام الجد بتمام المدلول. فان كلا منهما كاف في رفع التنافي وان كان الأول أولى اعتبارا ، لأن الالتزام بإفادة المطلق استعمالا مع عدم إرادته منه جدا في جميع هذه المطلقات على كثرتها مستبعد جدا ، إذ ليس في ذلك داع عقلائي واضح. وقد نبّه على هذه الجهة الفقيه الهمداني قدس سره في بعض كلماته الفقهية. ومن هنا ظهر الكلام في العام والخاصّ لو التزم برجوع العام إلى المطلق وان دلالة الأداة على العموم تتبع ما يراد من المدخول. واما لو التزم بان الدلالة على العموم وضعية ، فالكلام فيه نؤجله إلى مجال آخر خشية الإطالة. الثالث : ما إذا ورد دليل على تعلق الحكم بأمر ذي اجزاء وورد دليل آخر يدل على تعلقه ببعض اجزائه ، كما ورد في أدلة التيمم ما ظاهره لزوم مسح الوجه وورد ما ظاهره كفاية مسح الجبهة والجبينين ، فانهما متعارضان بدوا ، إذ الوجه اسم لمجموع أجزائه فلا يصدق على الجبين. وقد بنى الأصحاب على حمل مسح الوجه على مسح بعضه حملا للظاهر على النص ، وقد عرفت ما في ذلك من إشكال. ويمكن ان يقال : ان إضافة الفعل إلى الوجه تارة يراد بها تعلق الفعل ببعضه ، كما لو قال : « لمست وجهه ». وأخرى : يراد بها تعلقه بتمامه ، كما لو قال : « غسلت وجهه ». ومثله غيره من الأمور المركبة ، فانها قد تصدق على الكل وقد تصدق على البعض. وإذا ثبت اختلاف موارد الاستعمال ، فظهور مسح الوجه في إرادة مسح تمامه لا يكون إلاّ بواسطة السياق ، وهذا الظهور السياق انما يكون لو لم يكن نصّ على كفاية مسح البعض ، ومع النص لا يستظهر العرف من السياق إرادة تمام الوجه ، فتدبر واللّه سبحانه ولي التوفيق. ثم انه ذكر صاحب الكفاية في أواخر كلامه عن موارد الجمع العرفي : بأنه لا فرق فيما بين ان يكون السند فيها قطعيا أو ظنيا أو مختلفا ، فيقدم النص أو الأظهر وان كان بحسب السند ظنيا على الظاهر ولو كان بحسبه قطعيا. وهذا الأمر ذكره لدفع ما قد يتوهم من : عدم تقديم النص الظني السند على الظاهر القطعي السند من جهة حصول التعارض بين دليل اعتبار السند في الظني ودليل اعتبار الظاهر في القطعي ، والنسبة بينهما هي العموم من وجه. ولكنه توهم فاسد المنشأ ، وذلك لأنك عرفت ان ورود النص يستلزم سقوط الظاهر عن ظهوره. وعليه فبما ان دليل الحجية يتكفل التعبد بصدور كل ما كان امرا ممكنا ولا يلزم منه محذور على تقدير ثبوته واقعا ، لم يكن مانع من التعبد بصدور النص ، إذ لا محذور على تقدير ثبوته لعدم صلاحية الظاهر لمصادمته ، بل هو ناف للظاهر ومسقط له ، فتدبر.

ص: 287

ص: 288

ص: 289

وهو ما تعرض إليه في الكفاية في مبحث المطلق والمقيد من : ان المراد من البيان المأخوذ في إحدى مقدمات الحكمة هل هو بيان المراد الاستعمالي أو بيان المراد الجدي الواقعي (1).

وتوضيح ذلك : ان كون الآمر في مقام البيان هل المراد منه كونه في مقام بيان مراده الاستعمالي ، يعني ما يقصد تفهيمه من اللفظ وإحضاره في ذهن المخاطب بواسطته ، من الإطلاق أو التقييد ، فإذا لم يأت بالقيد يعلم منه انه أراد منه تفهيم المطلق لا المقيد وإلاّ لقيّد.

أو المراد منه كونه في مقام بيان المراد الواقعي لمصب الحكم من نفس الذات أو الذات المقيدة ، فإذا لم يرد المقيد في الدليل يكشف عن ان مراده الواقعي هو الذات المطلقة لا المقيدة ، وإلاّ لبينها بالإتيان بالقيد مع المطلق ، فيدلان على المقيد بنحو تعدد الدال والمدلول؟.

والثمرة في الخلاف تظهر فيما لو ورد المقيد المنفصل.

فانه على الأول لا ينثلم بوروده الإطلاق ، لأن المقيد انما يكشف عن ان المراد الواقعي هو غير المطلق ، فهو يوجب التصرف في المراد الواقعي لا في الإطلاق ، بل المطلق على حاله واستعماله في الإطلاق - إذ لا تصرف للمقيد في المطلق في مرحلة الاستعمال كما لا يخفى - فيصح التمسك به في غير مورد التقييد ، في إثبات كون المراد الواقعي غير المقيد مطلقا.

واما على الثاني : فينثلم إطلاق المطلق ، لأن ورود التقييد يكشف عن ان

ص: 290


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /248- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الآمر لم يكن في مقام بيان تمام مراده الجدي وإلاّ لبينه بالقيد حينذاك. فينتفي أساس مقدمات الحكمة ، وهو كون المتكلم في مقام البيان ، فلا يصح التمسك بالإطلاق في غير مورد التقييد ، لعدم تمامية مقدمات الحكمة في المطلق المصححة للتمسك بإطلاقه.

وقد اختار صاحب الكفاية الأول ، وان المقصود كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي ليكون حجة وقانونا على المكلف - لكشفه عن المراد الجدي ببناء العقلاء على مطابقة المراد الاستعمالي للمراد الجدي - حتى تقوم حجة أقوى على تقييد المراد الجدي فيؤخذ بها ولا ينثلم بها إطلاق المطلق.

واستدل على ذلك بتمسك أهل العرف بالمطلقات في غير مورد التقييد في نفى مشكوك القيدية. وهذا يكشف عن ان اعتبارهم للبيان بالنحو الأول لا الثاني ، لأنه على النحو الثاني لا يصح التمسك بالمطلق لانهدام أساس مقدماته - كما عرفت - فتمسك أهل العرف دليل إنّي على إرادة كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي لا الواقعي (1).

وقد أنكر المحقق النائيني قدس سره (2) وجود نحوين للإرادة ، وانه ليس للاستعمال - الّذي حقيقته إلقاء المعنى باللفظ ولحاظها ثانية في المعنى - إرادة مغايرة لإرادة المعنى الواقعي ، بل المستعمل ان كان قد أراد المعاني الواقعة تحت الألفاظ فهو ، وإلاّ كان هازلا.

وتتضح عدم وجاهة ما أفاده بما حقق من ان للمتكلم الملتفت إرادتين :

أحدهما : إرادة تفهيم المعنى باللفظ وإحضار المعنى بواسطة اللفظ.

الثانية : إرادته نفس المعنى ، بمعنى ان المعنى الّذي قصد تفهيمه كان مرادا له

ص: 291


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /248- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- تعرض إلى ذلك في مبحث العام والخاصّ في البحث عن مجازية العام المخصص. - راجع التقرير الكاظمي -.

واقعا وانه لم يكن في التفهيم في مقام الاستهزاء ونحوه.

فالنحو الأول هو المقصود بالإرادة الاستعمالية والمراد الاستعمالي. والنحو الثاني هو المقصود بالإرادة الجدية الواقعية والمراد الواقعي.

والكلام فيما نحن فيه : ان الشرط في التمسك بالإطلاق هل هو كون المتكلم في مقام بيان مراده الاستعمالي التفهيمي ، أو كونه في مقام بيان مراده الواقعي؟

فما أفاده من عدم التفكيك بين الإرادتين غير وجيه (1).

نعم ، يمكن التنظر فيما أشار إليه صاحب الكفاية (2) من الثمرة التي بنى عليها استدلاله على ما ذهب إليه بما أفاده المحقق المزبور - وتعرض له غيره من الأعاظم - من إنكار انثلام الإطلاق بعد ورود التقييد بالنسبة إلى غير مورده على القول الثاني.

وذلك ببيان : ان ما ذكره صاحب الكفاية انما يتم فيما لو كانت المقدمة كون المتكلم في مقام بيان تمام المراد بلحاظ التمام بنحو العموم المجموعي ، بمعنى ان تكون هناك إرادة واحدة تتعلق ببيان امر واحد وهو تمام المراد. وذلك لأن ورود التقييد يكشف عن عدم كونه في مقام بيان التمام بنحو المجموع ، فينثلم الإطلاق لانتفاء

ص: 292


1- وقد أنكر المحقق النائيني التفكيك بين الإرادة الاستعمالية والإرادة الجدية ، ببيان : ان المقصود بالإرادة الاستعمالية إذا كان إرادة إيجاد المعنى باللفظ ، فهي عين الإرادة الجدية وليست معنى آخر غيرها ، لتقوم الاستعمال بذلك. وان كان المقصود منها الإرادة الهزلية المنفكة عن إرادة الإيجاد - وبعبارة أخرى : كان المقصود هو الإرادة لا بداعي الجد - فذلك مما لا يتصور له معنى معقول في الإرادة الاستعمالية. ولا يخفى ان هذا الإنكار بهذا البيان ناشئ عن التعبير بالجد في قبال الإرادة الاستعمالية ، وإلاّ فهو لا يرتبط بواقع الدعوى ، إذ لا إشكال في وجود إرادتين في الاستعمال ، إرادة التفهيم وهي الإرادة الاستعمالية ، وإرادة الحكاية من الخارج بالمفهم وهي الإرادة الواقعية ، والانفكاك بينهما بديهي الحصول في بعض الاستعمالات كالاستعمالات الكنائية. فالمراد بالإرادة الجدية التي يقال انها غير الإرادة الاستعمالية ، وانها مجرى المقدمات ، أم الاستعمالية وهي الإرادة الواقعية. لا الإرادة بداعي الجد ، كي يقال ان الإرادة الاستعمالية لا تنقل عن الجد وإلاّ كان المتكلم هازلا لا مستعملا ، فالإنكار ناشئ عن التعبير فقط دون واقع المطلب.
2- أفاد - دام ظله - في مباحث العموم ما يرد هذه التنظّر.

أساس المقدمات المصححة للتمسك به في مورد الشك.

ولكن لا وجه للالتزام بذلك ، بل المقدمة هي كون المتكلم في مقام بيان مراده بالنسبة إلى كل خصوصية وقيد ، فالتمام ملحوظ بنحو العموم الاستغراقي ، بمعنى ان البيان متعلق بكل خصوصية ويضاعف إلى كل قيد ويلحظ فيه كل وصف بنحو الانفراد ، فورود التقييد انما يكشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان بالإضافة إلى هذا القيد بالخصوص دون غيره ، فيبقى الإطلاق سالما بالنسبة إلى باقي القيود ويصح التمسك به في مورد الشك لتمامية مقدماته بالنسبة إليها.

نعم ، ينثلم إطلاق اللفظ - على هذا القول - بالنسبة إلى مورد القيد ، لعدم تمامية المقدمات بالنسبة إليه. بخلافه على القول الآخر لتماميتها بالنسبة إلى مورد القيد أيضا ، كما عرفت. ولكنه غير ضائر في ما نحن بصدده من نفي الثمرة المذكورة.

فالتمسك بالإطلاق في غير مورد القيد بعد ورود المقيد صحيح على البناءين.

ومن هنا يظهر عدم صحة الاستدلال ببناء العرف على التمسك بالإطلاق بعد التقييد على القول الأول - وهو إرادة كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي - لعدم كشف ذلك - إنّا - عن الالتزام بهذا القول بعد ان عرفت صحة التمسك به على القولين.

ولكن قول صاحب الكفاية هو المتعين ، ولا بد من تعيين موضوع النزاع قبل تحرير الّذي ينبغي ان يقال في الاستدلال عليه ، فنقول : إن انفكاك الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الواقعية مما لا إشكال فيه ، سواء في الإخباريات أو الإنشائيات.

فالأوّل : نظير الاستعمالات الكنائية ، فان المراد تفهيمه باللفظ هو اللازم ، ولكن المقصود بالأخبار هو الملزوم من دون أي قصد للاخبار عن اللازم - إذ قد يكون كذبا -.

والثاني : كإنشاء الأمر لا بداعي البعث ، فان المراد تفهيمه هو الطلب والأمر ولكن لم يكن ذلك بقصد التحريك والبعث نحو المأمور به ، بل كان بداعي آخر

ص: 293

كالامتحان.

فالمراد الجدي الواقعي الّذي هو الاخبار والكشف عن الواقع في الإخباريات والتحريك والبعث ونحوهما - بحسب المنشأ - في الإنشائيات ينفك عن المراد الاستعمالي الّذي هو تفهيم هذا المعنى الخاصّ باللفظ. وإذا ثبت إمكان انفكاكها عنها ، فان قلنا ..

بان المراد الجدي الواقعي نحو ثبوت وجود مماثل لوجود المراد الاستعمالي ، بحيث يكون الكلام كاشفا عن المرادين بنحو الطولية ، بمعنى انه ينتقل من المراد الاستعمالي وهو التفهيم إلى المراد الجدي وهو الاخبار أو البعث - كما يتصور هذا على القول بان الإنشاء إبراز لأمر نفسي موجود في النّفس كما لا يخفى - كان للنزاع في ان المراد من كونه في مقام البيان - هل كونه في مقام بيان المراد الواقعي أو المراد الاستعمالي؟ - مجال واسع.

أما لو كان المراد الواقعي متفرعا في الوجود على المراد الاستعمالي ، بمعنى انه يتعلق بما قصد تفهيمه باللفظ وانه لا وجود له في غير عالم الكلام ، لم يبق للنزاع مجال ، وذلك لأنه بعد ان كان المراد الواقعي قد تعلق بما هو المقصود بالتفهيم فلا معنى لإجراء مقدمات الحكمة فيه لإحرازه من دون إحراز المقصود تفهيمه المتعلق هو به ، إذ لا فائدة في ذلك بدون إحراز المراد بالتفهيم ، فيتعين ان يكون إجراؤها في المراد الاستعمالي ، ويثبت كون المراد الجدي على طبقه ببناء العقلاء بلا حاجة لمقدمات الحكمة.

والصحيح في المراد الواقعي هو الثاني كما عرفت في تصويره ، فانه متفرع في وجوده على المراد الاستعمالي ويتعلق بما قصد تفهيمه ، لا انه ذو وجود مستقل في النّفس يكشف عنه اللفظ بواسطة المراد الاستعمالي ، لما عرفت من انه من قبيل الداعي للتفهيم ، والداعي - بوجوده الداعوي لا الحقيقي الخارجي - متفرع عما يدعو إليه.

ص: 294

إذا تم ما عرفت ، فاعلم : ان من يلتزم بأن ظهور المطلق في الإطلاق يتوقف على إحراز كون المتكلم في مقام بيان المراد الجدي - كالمحقق النائيني - يرى ان ورود المقيد كاشف عن عدم كون المتكلم في مقام البيان بالنسبة إلى هذا القيد ، فينثلم الإطلاق في هذا المورد كما عرفت ، فلا يحصل التعارض والتنافي بين الدليل المقيد والدليل المطلق في مورد القيد ، لعدم شمول المطلق لهذا المورد بعد ورود التقييد ، لأنه يكون كالتقييد المتصل الموجب لقلب الظهور. فتقدم المقيد على المطلق على هذا القول واضح لا يحتاج إلى مزيد بيان.

واما على القول بأن المراد من كون المتكلم في مقام البيان كونه في مقام بيان مراده الاستعمالي ، فيشكل الأمر ، لأن ظهور المطلق في الإطلاق يبقى ولا ينثلم بعد ورود المقيد لنظر المقيد إلى المراد الجدي لا الاستعمالي ، فيكون كل من المطلق والمقيد كاشفا عن المراد الجدي في مورد القيد فيحصل التنافي بينهما لاختلاف مفادتيهما. فان مفاد المطلق : ان عدم دخل الخصوصية مراد جدا. ومفاد المقيد : ان دخل الخصوصية مراد واقعا. والالتزام بتعلق الإرادة بكلا الأمرين لا مجال له. وإذا ثبت التنافي بينهما مفادا فأيهما المقدم؟ وبأي وجه؟

ولا بد من التكلم في مقامين :

الأول : في ان استعمال المطلق في الإطلاق بلا ان يكون على طبقه مراد جدي وواقعي ، هل يكون استعمالا لغويا أو لا يكون كذلك بل يكون استعمالا عقلائيا عرفيا؟

الثاني : في وجه تقديم المقيد على المطلق بعد تحقق عدم لغوية استعمال المطلق في الإطلاق بلا إرادة واقعية على طبقه.

اما المقام الأول : فتحقيق الحال فيه : ان الاستعمال المذكور لا يكون لغويا بأحد وجهين :

الأول : ما أفاده صاحب الكفاية من : ان استعمال العام في العموم والمطلق في

ص: 295

الإطلاق يكون حجة وقاعدة للمكلف حتى تقوم حجة أقوى على خلافه ، فاستعمال العام في الاستغراق وان لم يكن بإرادة جدية للعموم إلاّ انه لا يكون بذلك لغوا لكونه مستتبعا لتحقق الحجية بالنسبة إلى مورد القيد ، وهو كاف في رفع اللغوية ، لأن جعل الحجية بنفسه أثر عقلائي يرفع اللغوية (1).

الثاني : ما أفاده المحقق الأصفهاني من وجود الإرادة الجدية على طبق العموم حين الاستعمال إلاّ انها محدودة لورود التخصيص ، فهي في غير مورد التخصيص مستمرة لاقتضاء مصلحتها ذلك ، وامّا فيه فمرتفعة بورود التخصيص ، فيكون ورود التخصيص بالنسبة إلى الإرادة الواقعية من قبيل الناسخ (2).

وليس المهم في المقام تحقيق أي الوجهين ، فانه متروك إلى محله ، بل المهم هو الإشارة إلى وجود ما يرفع اللغوية المتوهمة في الاستعمال.

واما المقام الثاني : فتحقيق الحال فيه : ان المطلق والمقيد تارة يكونان متفقين في الإثبات والنفي ك- : « أكرم العالم » و « أكرم العالم العادل » أو : « لا تكرم الجاهل » و : « لا تكرم الجاهل الفاسق ». وأخرى يكونان مختلفين نفيا وإثباتا نظير : « أكرم العالم » و : « لا تكرم العالم الفاسق ».

فأفاد صاحب الكفاية : انه مع الاختلاف نفيا وإثباتا ، فلا إشكال في تقديم المقيد على المطلق.

واما مع الاتفاق في النفي والإثبات ، فيدور الأمر بين التصرف في المطلق بحمله على المقيد والتصرف في المقيد بحمله على بيان أفضل الافراد. إلاّ انه بعد ان ذكر هذا اختار تقديم المقيد وحمل المطلق عليه لأنه أظهر في التعيين - بمعنى دخالة الخصوصية في الحكم لظهور القيد في كونه احترازيا ، لا التعيين مقابل التخيير حتى يقال انه يستفاد من إطلاق القيد لا وضعه وظهوره. فيدور الأمر بين الإطلاقين فلا

ص: 296


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /218- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 231 - الطبعة الأولى.

مرجح فيه - من المطلق في عدمه ونفي دخالة الخصوصية ، فيقدم عليه ببناء العرف (1).

إلاّ ان ما أفاده من أظهرية المقيد يشكل الالتزام به بناء على الالتزام بما ذهب إليه قدس سره من كون المقدمة هي الكون في مقام بيان المراد الاستعمالي.

وذلك لأن مقدمات الحكمة الجارية في تشخيص المراد الاستعمالي قطعية المفاد ، لأنها عقلية ، فجريانها يوجب القطع بإرادة الإطلاق من اللفظ. فظهور المطلق في الإطلاق قطعي بواسطة مقدمات الحكمة ، فهو نصّ في الإطلاق لعدم احتمال خلافه من الكلام.

ولا يخفى ان الأظهرية والظاهرية (2) انما هي في عالم الاستعمال والمراد من اللفظ. فان الكلام ان كان يدل على المعنى بحيث لا يحتمل خلافه منه كان نصا فيه.

وان كان يدل عليه مع احتمال خلافه فهو ظاهر فيه ، فقد يكون احتمال الخلاف ضعيفا فهو أظهر ، والآخر الّذي يكون احتمال الخلاف فيه أقوى يكون ظاهرا ، ومع نصية المطلق في الإطلاق لا وجه لدعوى أظهرية المقيد في التعيين منه في عدم التعيين.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس سره ان المقيد المنفصل يقدم على المطلق بالقرينية ، إذ ضابط القرينية في حال الانفصال هو ان اللفظ يكون بنحو لو كان متصلا بالكلام لأوجب التصرف في ظهوره ، والقدر المتيقن منه هو الوصف والحال ونحوهما من الفضلات في الكلام. والمقيد المنفصل بهذه المثابة ، فانه لو كان متصلا لقلب ظهور المطلق وتصرف فيه. إلاّ ان الفرق بين المقيد المتصل والمقيد المنفصل ان الأول يوجب التصرف في ظهور الكلام الكاشف عن المراد الجدي. والثاني انما

ص: 297


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /250- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- دفع لما قد يتوهم من انه يمكن ان يكون المراد بالأظهرية الأظهرية في مقام الكشف عن المراد الجدّي. كما لا يخفى.

يتصرف في المراد الجدي دون المراد الاستعمالي ، فالمطلق بعد وروده يبقى على ظهوره الإطلاقي (1).

وما أفاده قدس سره محل نظر من جهتين :

الجهة الأولى : ما ذكره من انّ تقدم المقيد على المطلق بالقرينية ، ووجه الإشكال فيه : ان القرينة لها اصطلاحان : قرينة بالمعنى الأعم. وقرينة بالمعنى الأخص.

اما القرينة بالمعنى الأخص ، فهي على نحوين :

الأول : ما يكون مقترنا بالكلام بحيث يوجب التصرف في موضوع الحجية ، وهو ظهور الكلام ، نظير : « يرمي » في قولك : « رأيت أسدا يرمي » ، فانها توجب - ببناء العرف - قلب ظهور لفظ : « الأسد » في : « الحيوان المفترس » إلى ظهوره في « الرّجل الشجاع » ، لأن الرماية بالنبل من شئون الرّجل لا الحيوان المفترس.

وملاك التقديم واضح : فانه بعد ان كان الالتزام بكلا الظهورين غير ممكن للمنافاة ، فيدور الأمر بين التصرف في ظهور لفظ : « الأسد » في معناه الحقيقي وظهور لفظ : « يرمي » في معناه.

والأول هو المتعين بعد ان سيق لفظ « يرمي » للقرينية ، فان الالتزام بظهوره يوجب قلب ظهور لفظ : « الأسد » ، فيرتفع التنافي ، بخلاف الالتزام بظهور : « الأسد » ، فانه لا يوجب التصرف في ظهور : « يرمي » لعدم كونه قرينة عليه ، فيحصل التنافي ولا ترتفع غائلته.

الثاني : ما يكون منفصلا عن الكلام إلاّ انه ناظر بدلالته اللفظية إلى المراد الجدي من الدليل الآخر ، فيوجب التصرف فيه تضييقا وتوسعة ، وهذا كالدليل الحاكم بالنسبة إلى المحكوم.

وملاك تقديمه واضح أيضا ، لأن بناء العقلاء على مطابقة المراد الجدي للمراد

ص: 298


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 535 - الطبعة الأولى.

الاستعمالي فيما لم يقم المتكلم الدليل على ان مراده غير المقدار المفهم. اما مع إقامته الدليل على ذلك ، فلا وجه لبنائهم على كون مراده الواقعي ما فهمه بالكلام.

ويجمع هذين النحوين كونهما مقدمين على ذي القرينة مطلقا ولو كانا أضعف ظهورا منه كما لا تلاحظ بينهما النسبة.

واما القرينة بالمعنى الأعم ، فهي ما تشمل الأظهر بالنسبة إلى الظاهر ، ونحوه مما كان أحد الدليلين ناظرا إلى المراد الجدي من الدليل الآخر ، ولكن لا بالدلالة العرفية بل بالدلالة الالتزامية العقلية ، نظير المخصص بالنسبة إلى العام والمقيد بالنسبة إلى المطلق ، فانه يقال أيضا بان تقديم الخاصّ والمقيد على العام والمطلق بالقرينية ، إلاّ انها ليست كالقرينية السابقة ولذا يلاحظ فيها الأظهرية وتراعى فيها النسبة ، لعدم وجود ملاك التقدم المطلق فيها كما في تلك.

فالمقيد المنفصل بالنسبة إلى المطلق ليس كالقرينة - بالمعنى الأخص - بالنسبة إلى ذي القرينة ، إذ لا يوجب التصرف في الظهور لانفصاله عن الكلام وانعقاد الظهور قبل وروده. كما انه ليس ناظرا بدلالته اللفظية إلى المطلق ، كالحاكم بالنسبة إلى المحكوم ، بل ناظرا إليه بالالتزام العقلي باعتبار حكم العقل بعدم إمكان اجتماع الحكمين المطلق والمقيد. فالتزامه قدس سره بتقدمه على المطلق بالقرينية بالمعنى الأخص بحيث لا يلاحظ فيه الأظهرية ولا يراعى فيه النسبة كالمقيد المتصل ، مما لا يعرف له وجه أصلا.

الجهة الثانية : ما ذكره من بقاء ظهور المطلق في الإطلاق على حاله بعد ورود المقيد المنفصل ، وانما التصرف في المراد الجدي.

ووجه الإشكال فيه : ما عرفت من انه بعد البناء على جريان مقدمات الحكمة في تشخيص المراد الجدي لا المراد الاستعمالي يكون ورود المقيد مخلا بإطلاق المطلق بالنسبة إلى هذا القيد ، لأنه يكشف عن عدم كونه في مقام البيان الّذي هو أساس انعقاد الإطلاق ، فيقدم المقيد عليه بلا كلام لعدم الإطلاق المنافي له.

ص: 299

وهذا الالتزام لا يجتمع مع الالتزام ببقاء المطلق على إطلاقه. وقد عرفت التزامه قدس سره بكلا الأمرين. وهو ما لا يمكن تصور وجهه.

وحيث عرفت انه لم نلتزم بما التزم به قدس سره من جريان مقدمات الحكمة في تشخيص المراد الجدي ، بل التزمنا بما التزم به صاحب الكفاية من جريانها في المراد الاستعمالي.

فلا محيص حينئذ من الالتزام ببقاء ظهور المطلق على إطلاقه بعد ورود المقيد ، إلاّ انه من الواضح تقديم المقيد على المطلق في الحجية وتضييق حجيته بالنسبة إلى المراد الجدي ، لأقوائية ظهوره في معناه من ظهور المطلق فيه.

واما ما تقدم من الإشكال على صاحب الكفاية من : ان ظهور المطلق في الإطلاق بمقدمات عقلية فتكون دلالته عليه قطعية.

فيدفع : بان المقدمات وان كانت عقلية لكنها لا توجب القطع ، لأنها غير قطعية بمجموعها ، لأن كونه في مقام البيان انما يرجع إلى ظهور حاله في ذلك ، وظهور الحال لا يوجب القطع بما يتعلق به ويترتب عليه ، فنتيجة المقدمات غير قطعية لأنها تتبع أخسها ، فكل منهما ظاهر في معناه - وإلى ذلك يرجع تعبير القوم بالظهور الإطلاقي - إلاّ ان الظهور المستفاد من الوضع أقوى من الظهور المستفاد من ظاهر الحال ، فيكون ظهور المقيد أقوى من ظهور المطلق ، لأن الأول لفظي والأخير بظاهر الحال.

وبناء العرف والعقلاء على تقييد حجية الظاهر في الكشف عن المراد الجدي بما إذا لم يقم دليل أظهر منه ، فان الظاهر يؤخر عن مقام الحجية ويقدم الأظهر ، فلا يكون حينئذ بين المقيد والمطلق تدافع في مقام الحجية عرفا ، لأن المقيد هو المقدّم ، فلا تعارض بينهما.

هذا كله في المقيد والمطلق.

اما العام والخاصّ ، فتحقيق الكلام فيهما ، انه قد وقع الخلاف في ان دلالة العام

ص: 300

على العموم ، هل هي بالوضع أو لا ، بحيث يحتاج في العام إلى إجراء مقدمات الحكمة في مدخول الأداة؟. ثم القائلون بالوضع يختلفون في أن المخصص المنفصل هل يوجب التصرف في ظهور العام في العموم - بتقريب : ان لفظ العموم موضوع لإرادة استيعاب جميع الافراد ما لم تقم قرينة متصلة أو منفصلة على العدم - أو لا ، بل يبقى العام على ظهوره العمومي ، ويكون المخصص ناظرا إلى المراد الجدي.؟

وقد عرفت أيضا الكلام في مقدمات الحكمة ، وانها تجري في تعيين المراد الجدي أو المراد الاستعمالي ، وهو يجري أيضا فيما نحن فيه إذا قلنا بالاحتياج إلى مقدمات الحكمة في المدخول في استفادة العموم.

فالاحتمالات أربعة ، والخاصّ مقدم على العام على جميعها.

أما على القول بأن اللفظ موضوع للعموم والخاصّ المنفصل موجب للتصرف في ظهوره ، والقول بعدم الوضع وجريان مقدمات الحكمة في المراد الجدي ، فواضح ، لأن ورود الخاصّ موجب لانهدام ظهور العام في العموم فلا تنافي.

وأما على القولين الآخرين ، فالعام وان كان يبقى على ظهوره العمومي ، إلاّ ان الخاصّ مقدم عليه لأقوائية ظهوره - وجه الأظهرية : ان دلالة الخاصّ على الفرد المخصص دلالة مطابقية ، بخلاف دلالة العام عليه فانها دلالة تضمنية ، لوضوح ان العام ليس بموضوع لكل فرد فرد ، بل لمجموع الافراد.

والدلالة المطابقية أقوى من التضمنية وان كانتا لفظيتين ، فلاحظ - وقد عرفت تقييد حجية الظاهر عرفا بما إذا لم يكن دليل أظهر منه.

المورد الخامس : في تقديم النص أو الأظهر على الظاهر. والكلام فيه يتضح مما سبق من بيان ان حجية الظاهر مقيدة بما إذا لم يقم ما هو أقوى منه ظهورا ، فورود النص أو الأظهر يوجب خروج الظاهر عن موضوع الحجية فلا يكون بينهما تدافع في هذا المقام فلا تعارض.

وبذلك اتضح خروج موارد المقيد والمطلق والخاصّ والعام والظاهر والأظهر

ص: 301

عن مفهوم التعارض بالمعنى الّذي اخترناه ، لعدم التدافع بينهما في مقام الحجية والدليليّة بحسب بناء العرف والعقلاء. كما عرفت - قبل الآن - خروج موردي الحكومة والورود عن تعريفه. فلا تجري فيها جميعا أحكام التعارض فتدبر.

تتمة : فيما يتعلق بالخاص والعام والمقيد والمطلق

قد عرفت ان الخاصّ بعد وروده يدفع العام عن موضوع الحجية ، لتقييد حجية العام بما إذا لم يقم دليل أقوى منه على خلافه كالخاص. وهكذا الحال في المطلق بالنسبة إلى ورود المقيد.

فعليه ..

ان كان الخاصّ أو المقيد قطعي الورود ، كان موجبا لخروج العام أو المطلق عن الحجية بالتخصص ، لانتفاء موضوع الحجية تكوينا وحقيقة ، لأن موضوعها هو العام الّذي لم يرد دليل على خلافه أقوى ظهورا منه ، وقد ورد قطعا على خلافه في الفرض ، فلا حجية للعام بالتخصص.

وان كان ظني الورود ، كان دليل حجيته المتكفل للبناء على وروده والعمل به حاكما على دليل حجية العام أو المطلق ، لأنه ينفي القيد تعبدا وتنزيلا لا تكوينا فيكون حاكما.

وعليه ، فلا وجه لما أفاده المحقق النائيني من اختصاص مورد التخصص بما إذا كان الخاصّ قطعي الدلالة والسند. وفي غيره مما كان الخاصّ ظنيهما أو ظني أحدهما يكون دليله مقدما على دليل العام بالحكومة.

بتقريب : انه ليس المأخوذ في موضوع الحجية عدم ورود الخاصّ كي تكون قطعية الورود موجبة للتخصص ، بل موضوع الحجية مقيد بالشك ، فمتى ارتفع الشك حقيقة عند ورود الخاصّ خرج العام عنها بالتخصص ، وذلك كما إذا كان الخاصّ قطعيهما ومتى لم يرتفع الشك حقيقة ، بل بالتعبد والتنزيل كما في غير هذه الصورة - لأنه مع ظنية أحدهما تكون النتيجة ظنية - كان دليل الخاصّ حاكما على أصالة

ص: 302

العموم المتكفلة لحجية العام ، لتكفله لنفي الموضوع تنزيلا.

وذلك لأن الأساس الّذي بنى عليه اختياره - وهو تقييد أصالة العموم بحال الشك - لا صحة له ، لأن أصالة العموم من الأمارات ، لأنها من الأصول اللفظية العقلائية وقد تحقق عند الكل ان الشك لم يؤخذ في موضوع الأمارة قيدا لاستلزامه كون نسبتها إلى الاستصحاب نسبة التحاكم لا الحكومة - كما عرفت بما لا مزيد عليه - مضافا إلى انه لو كانت أصالة العموم فيما نحن فيه قد قيد موضوعها بحال الشك ، لكان بين دليلي العام والخاصّ تحاكم لا حكومة ، لأن استفادة الخاصّ من الدليل الخاصّ كان أيضا بأصالة الظهور. فحجية الخاصّ مقيدة بحال الشك أيضا ، فيكون دليل العام رافعا له تعبدا ، فكل من دليل العام ودليل الخاصّ يرفع موضوع الآخر وهذا هو معنى التحاكم.

فالوجه الوجيه ما ذكرناه من اختصاص حجية العام بعدم ورود الأقوى كالخاص ، ويتفرع عليه ما عرفت من كون المناط في الحكومة والتخصص ظنية الورود وقطعيته.

وقد يتساءل : بأنه إذا كان تقديم المخصص على العام بالحكومة أو بالتخصص ، فما هو الوجه في اعتبار الأظهرية وملاحظة النسبة بعد ان تقرر ان الحاكم يتقدم على المحكوم بأي نحو كان ظهورا ونسبة بالإضافة إلى المحكوم؟. وما هو الوجه في جعل التخصيص منفردا عن الحكومة بحثا وأحكاما؟

والجواب عن هذا التساؤل يتضح من مطاوي ما ذكرناه ، فان الحاكم ليس هو نفس الخاصّ ، حتى يتأتى فيه ما ذكر للحكومة من أحكام ، وانما الحاكم دليله الّذي يتكفل التعبد به والبناء عليه باعتبار انه بذلك يتكفل رفع موضوع الحجية ، لأنه مقيد بعدم ورود الأقوى ظهورا.

ولأجل ذلك لا بد من اعتبار أظهرية الخاصّ كي تتحقق حكومة دليل

ص: 303

اعتباره ، كما انه لا بد من ملاحظة النسبة ، لانتفاء الأظهرية في صورة كون نسبتهما العموم من وجه ، فلا يكون دليل اعتباره حاكما ، لأنه لا يتكفل ورود الأقوى ظهورا.

وبالجملة : نفس الدليل الخاصّ ليس من افراد الحاكم ، وانما الحاكم دليل اعتباره وأحكام الحكومة تجري فيه دون نفس الخاصّ ، بل لا بد في الخاصّ من اعتبار الأظهرية ليكون دليله متكفلا لنفي موضوع دليل العام فيكون حاكما.

في الفرق بين التعارض والتزاحم

اخرج الأصوليون بعض موارد تنافي الحكمين الساري إلى الدليلين عن أحكام التعارض ورتبوا لها أحكاما خاصة ، واصطلحوا عليها بموارد التزاحم. فما هو ضابط هذه الموارد ، ولم لا تجري أحكام التعارض فيها؟

ذهب المحقق الخراسانيّ قدس سره إلى : انه متى ما ثبت وجود الملاك لكلا الحكمين فالمورد من موارد التزاحم. ومتى لم يثبت وجود الملاكين كان المورد من موارد التعارض. فالتزاحم عنده هو التنافي في فرض ثبوت الملاك. والتعارض هو التنافي في فرض عدم ثبوته (1).

وذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى : اختلاف موردي التزاحم والتعارض ، فكل منهما له مقام يستقل عن مقام الآخر وينفرد عنه.

وذلك ، فان التنافي بينهما ..

ان كان يرجع إلى التنافي في مرحلة الجعل والتشريع ، بحيث لا يمكن جعل كلا الحكمين. فهو التعارض - كالتنافي بين وجوب الشيء وحرمته ، فانه يستحيل جعل كلا الحكمين من المولى لتضادهما -.

وان كان يرجع إلى التنافي في عالم الامتثال ومرحلة فعلية الحكمين ، بأن كان

ص: 304


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /299- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

جعل كلا الحكمين في نفسه وبنحو القضية الحقيقة ممكنا للمولى ، فلا تنافي بينهما في عالم الجعل ، وانما التنافي بينهما في مرحلة فعليتهما ، باعتبار عدم إمكان امتثالهما معا لعدم تحقق موضوعيهما معا.

فهو التزاحم - كوجوب إنقاذ هذا الغريق ووجوب إنقاذ ذاك الثابتين بدليليهما في زمان واحد - فان جعل كلا الحكمين لا محذور فيه ، لأن جعل الأحكام بنحو القضية الحقيقية وهو لا ينظر إلى ثبوت الموضوع وعدمه ، بل هو ثابت ولو لم يكن الموضوع ثابتا وموجودا ، فاجتماع الغريقين مع عدم القدرة الا على إنقاذ أحدهما لا يوجب التنافي بين الحكمين في عالم الجعل ، بل في عالم الفعلية ، لأجل التردد في صرف القدرة في هذا الطرف فيكون حكمه فعليا دون الآخر أو بالعكس.

ولا يخفى ان هذا - أعني : تعيين أحدهما - ليس من شأن المولى والجاعل ، إذ لا يرتبط بمولويته وبجعله ، بل من وظائف غيره ، وهو لا يضرّ بنفس الجعل ، لأنه ينفي موضوع الحكم الآخر ، لا انه ينفي الحكم عن موضوعه ، فلاحظ (1).

والمورد الّذي تظهر فيه ثمرة الخلاف بين المحققين ( قدست أسرارهما ) هو مورد توارد الحكمين المتنافيين على موضوع واحد ، بحيث لا يكون التنافي ناشئا من جهة العجز عن الجمع بين الامتثالين مع ثبوت الملاك لكل من الحكمين ، كالصلاة في الدار المغصوبة بناء على الاتحاد والانحصار ، فانها مشمولة لدليل : « صل » ولدليل : « لا تغصب » فان مثل هذا المورد من موارد التزاحم عند المحقق الخراسانيّ لوجود الملاك - كما يلتزم به - ومن موارد التعارض عند المحقق النائيني ، لرجوع التنافي إلى عالم الجعل لا إلى مرحلة الفعلية ، لعدم إمكان اجتماع الأمر والنهي وامتناعه.

وفي غير هذا المورد لا تظهر الثمرة بين القولين وان اختلفا مفادا ، لثبوت الملاك في مثل مثال الإنقاذ ، مما تعدد فيه موضوع الحكمين.

ص: 305


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 704 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 270 - الطبعة الأولى.

وعلى كل ، فيقع الكلام فيما أفاده المحقق النائيني قدس سره من تفسير التزاحم بالتنافي في مرحلة الفعلية لا في مرحلة الجعل ، وان تعيين الوظيفة ليس براجع إلى المولى الجاعل بل إلى غيره.

وتحقيق الحال : ان ما ذكره لو تمّ متين جدا ، لأنه يوجب انحياز موارد التعارض عن التزاحم بالكلية ، لأن التعارض الّذي يهمنا البحث عنه وعن الفرق بينه وبين التزاحم هو التنافي بين الأدلة - كما عرفت - سواء أكان بلحاظ الدليليّة أو الدلالة.

وهذا المعنى ليس بثابت في مورد التزاحم على هذا الاختيار ، لأن التنافي في مرحلة الفعلية ان تم انفصاله عن عالم التشريع والجعل - كما هو الفرض - لم يكن مرتبطا بالأدلة كما هو ظاهر جدا ويكون أجنبيا عن التعارض بمفهومه العرفي الّذي ذكرناه ، وبه يكون محط الأحكام. إلاّ انّ تماميته والتسليم بأن مثل هذا التنافي لا يسري إلى مرحلة الجعل محل نظر.

بيان ذلك : ان المأخوذ في موضوع التكليف في مثل المثال الّذي استشهد به على كون التنافي في مرحلة الفعلية دون الجعل ، اما ان يكون هو القدرة في حد نفسها - مع قطع النّظر عن المزاحمة - أو يكون المأخوذ هو القدرة الفعلية ولو مع المزاحمة. فان كان المأخوذ هو القدرة الفعلية ، فلا تحقق لها فيما نحن فيه في كل من المتعلقين ، فيكون المورد من موارد عدم وجود الموضوع ، فلا معنى لفرض التزاحم.

وان كان المأخوذ هو القدرة في حد نفسها - كما هو الظاهر من فرض التزاحم ، بل بدونه - فهي متحققة بالنسبة إلى كل من المتعلقين ، لأن كلا من الإنقاذين مقدور بنفسه ومع قطع النّظر عن مزاحمه ، فيكون كلا منهما فعلي الحكم لتحقق شرطه ، فيحصل التدافع بين الحكمين الفعليين ، إذ لا يمكن امتثالهما معا لعدم القدرة على كلا الإنقاذين بنحو الجمع ، إذ الموجود قدرة واحدة يتردد صرفها في أحد الفردين ، وبذلك يلغو جعل كلا الحكمين معا - كما يلغو جعل الحكم على غير

ص: 306

المقدور - ، لعدم فرض الداعوية والتحريك في كليهما معا لعدم القدرة على متعلقيهما جمعا ، فيسري التنافي إلى مرحلة الجعل ، إذ يتردد المجعول بينهما بعد ان لم يمكن جعلهما معا ، ومن التنافي في مرحلة الجعل يسرى التنافي إلى الدليل المتكفل لبيان الجعل. كما اعترف بذلك قدس سره ، فانه ذكر : ان ملاك التخيير في صورة التنافي في مرحلة الجعل هو تقييد كل من الإطلاقين للآخر ، وظاهر ان الإطلاق ليس امرا غير الدليل.

وبذلك لا يظهر انحياز مفهوم التعارض عن موارد التزاحم.

والّذي ينبغي ان يقال : ان لفظ التزاحم لم يرد في آية ولا رواية ، وانما هو لفظ اصطلح به على بعض الموارد التي تشترك في جملة أحكام جعلها الأصوليون لها - كما أشرنا إليه في صدر الفصل - فلا بد من معرفة حد التزاحم من معرفة مقدار تلك الآثار.

والّذي نراه ان هذه الأحكام انما تجري في صورة تنافي الحكمين من جهة عجز المكلف وعدم قدرته على الإتيان بمتعلقيهما ، لا تنافيهما مطلقا ولو من حيث أنفسهما.

فالكلام يقع في جهات ثلاث :

الأولى : في بيان جريان جميع هذه الأحكام في هذه الصورة ، أعني صورة كون التنافي ناشئا عن العجز خاصة.

الثانية : في بيان عدم جريان أحكام التعارض التعبدية في هذه الصورة ، إذ لقائل ان يقول : انه بعد فرض ان هذا النحو من التنافي يسري إلى الدليلين فيوجب تعارضهما ، فما هو الوجه في العدول عن إجراء أحكام التعارض الثابتة بالأدلة الشرعية في هذه الصورة إلى إجراء أحكام أخرى لم يرد بها تشريع؟

الثالثة : في بيان ان موضوع الخلاف بين المحققين - الخراسانيّ والنائيني - هل يندرج تحت أحد العنوانين - التزاحم والتعارض - أم له حكم آخر؟ ومنه يظهر

ص: 307

عدم جريان أحكام التزاحم بمجموعها في غير مورد كون التنافي ناشئا عن العجز خاصة.

أما الجهة الأولى : فتحقيق الكلام فيها : ان أحكام باب التزاحم هو ..

التخيير في صورة تساوي المتعلقين في المزايا ، اما بملاك الترتب الّذي محصله تقييد امر كل منهما بترك الآخر ، أو بحكم العقل بلزوم الإتيان بأحدهما للمحافظة على ملاكات الأحكام مهما أمكن - على القول بعدم الترتب - أو الترجيح في صورة اشتمال أحدهما على مزية من أهمية الملاك وتقييده بالقدرة العقلية مع تقييد الآخر بالقدرة الشرعية ، وعدم وجود بدل له يحصّل الملاك مع وجوده للآخر ، فان ذا المزية يقدم بحكم العقل.

ومن الظاهر جدا ان هذه الأحكام من تخيير وترجيح انما تثبت في صورة العجز عن الجمع بين الامتثالين ، إذ مع إمكانه لا تصل النوبة إليها ، بل لا بد من الإتيان بكلا المتعلقين. كما انها لا تجري بجملتها في غير صورة التنافي الناشئ عن خصوص العجز ، كما يظهر في الجهة الثالثة من جهات الكلام.

واما الجهة الثانية : فتحقيق الكلام فيها : ان الحكمين المتنافيين ، اما ان يكونا مدلولين لدليل واحد ، ك- : « أنقذ كل غريق » المنحل إلى أحكام متعددة متزاحمة في مورد الاجتماع وعدم القدرة. واما ان يكونا مدلولين لدليلين.

فعلى الأوّل : فخروج المورد موضوعا عن أحكام التعارض لا يحتاج إلى بيان ، لأن موضوع التعارض هو التنافي بين الدليلين لا في مدلول دليل واحد.

وعلى الثاني : فمحل الكلام ما كان العجز عن الامتثالين اتفاقيا - لا دائميا مثل : « لازم زيدا دائما » و : « لازم عمرا دائما » مع افتراق عمرو عن زيد ، فان مثل هذا ليس من موارد التزاحم للغوية كلا الجعلين مطلقا ، فيرجع إلى موارد التعارض قطعا - وذلك كموارد انطباق العامين من وجه على موضوع واحد أو في مورد واحد بحيث لا يمكن امتثالهما معا ، فبناء على خروج مورد العامين من وجه عن موضوع الأدلة

ص: 308

التعبدية المتكفلة لأحكام التعارض فالامر واضح ، ويكون المرجع فيه هو الأحكام العرفية من التساقط أو التخيير.

واما بناء على دخوله في موضوع الأدلة ، فمحل الكلام في هذه الجهة ما كان الحكمان المتنافيان واردين على موضوعين ، بحيث يكون منشأ التنافي هو خصوص العجز لا ما إذا كانا واردين على موضوع واحد - كالوجوب والحرمة المستفادين من مثل : « أكرم العلماء ولا تكرم الفساق » المجتمعين على العالم الفاسق - فانه موضوع الكلام في الجهة الثالثة ، فانتظر.

وتحقيق الكلام في محل الكلام : انه اما ان يكون لأحد المتعلقين مزية على الآخر بحيث توجب قوة اقتضائه للحكم. أو يتساويان في الأهمية.

فعلى الأوّل : يتقدم الأهم وتتضيق دائرة إطلاق المهم بحكم العقل.

بيان ذلك : ان كلا من الحكمين ذو مقتضى ثبوتا ، - وهو الملاك - وإثباتا - وهو الإطلاق - إلاّ انه لما كان مقتضى الثبوت - أعني : الملاك - في أحدهما أقوى من مقتضى الآخر ، يرى العقل ان الأهم صالح للمانعية عن المهم ثبوتا لحكمه بلزوم صرف القدرة إلى متعلقه دون متعلق المهم ، فيمنع من شمول الإطلاق للفرد المهم في صورة المزاحمة ، ولا يرى ذلك - أي المانعية - في طرف المهم ، لأنه غير صالح لمنع ثبوت الأهم ، فيبقى إطلاقه سالما حال المزاحمة ، وبذلك يرتفع التنافي بين الإطلاقين ، لأن أحد الإطلاقين بضميمة حكم العقل بلزوم صرف القدرة في الفرد الأهم لا يشمل هذا الغرض لعدم القدرة على متعلقه.

ومع ارتفاع المنافاة بين الإطلاقين يخرج المورد عن التعارض موضوعا ، فلا مجال للقول بجريان أحكامه فيه.

وعلى الثاني : فالحكم هو التخيير ، إلاّ انه ..

تارة : يكون بالالتزام بالترتب ، بمعنى تقييد امر أحدهما بعدم الإتيان بالآخر. وهذا رافع للتنافي الموجود بالنظر البدوي ، لثبوت الأمر في صورة عدم امتثال الآخر

ص: 309

وعدم انثلام الإطلاق.

نعم ، يسقط في صورة امتثال الآخر ، لكنه لحصول العجز عن متعلقه ، لأنه بالإتيان بأحدهما يحصل العجز القهري عن الآخر ، فيكون تقييد أمر كل منهما بعدم الآخر من باب تقييد الحكم بالقدرة على متعلقه وليس تقييدا بأمر زائد على موضوع الحكم كي يكون ذلك تصرفا بالدليل.

نعم ، يبقى شيء ، وهو : انه يلزم حصول عصيان أحدهما بامتثال الآخر ، إذ الأمر لا يقيد بعدم العجز الاختياري ، وإلاّ لما حصل العصيان غالبا ، مع ان الالتزام بحصول العصيان في الفرض ممنوع.

والجواب : ان عدم حصول العصيان انما هو بحكم العقل ، إذ لا يستطيع التفصي عن هذا المقدار من الترك بعد ان كان لا يستطيع الجمع بين الامتثالين فلا عصيان بترك أحدهما إلى الآخر ، فالتخيير في المقام يرجع إلى الجمع بين الدليلين ، بحيث يرتفع التنافي بينهما ، فلا تصل النوبة إلى أحكام التعارض لارتفاع موضوعها.

وأخرى : لا يكون بالالتزام بالترتب - لعدم تماميته بنظر بعض والتزامهم بتساقط الدليلين - بواسطة حكم العقل بالتخيير بينهما ، بحيث لا يجوز تركهما والاشتغال بأمر ثالث من باب محافظته على تحصيل ملاكات الأحكام. وبذلك يثبت حكم تخييري للشارع على طبق حكم العقل ولا مجال له غير هذا ، فلا معنى لإجراء أحكام التعارض.

ولكن هذا يبتني على الالتزام بتحقق الملاك في كلا المتعلقين كما هو المشهور. اما مع المناقشة في ذلك ، فلا محيص عن الالتزام بدخوله في موارد التعارض وجريان أحكامه فيه ولا محذور فيه. إلاّ انه مجرد فرض. فتدبر.

واما الجهة الثالثة : فتحقيق الكلام فيها : ان المورد الّذي كان محل الخلاف وظهور الثمرة بين المحققين ليس من موارد التزاحم ولا من موارد التعارض ، بل هو برزخ بينهما.

ص: 310

وذلك لأن آثار التزاحم أجمع لا تجري فيه ، كما لا تجري فيه أحكام التعارض التعبدية.

اما عدم جريان أحكام التزاحم ، فلأن التخيير بملاكيه : ملاك الترتب وملاك حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى مهما أمكن مع الالتزام بالتساقط ، غير جار هنا مع تساوي الحكمين في الأهمية من جهة الملاك. وذلك ..

اما عدم التخيير بملاك الترتب ، فلأمرين :

الأول : ان من شروط صحة الترتب - كما يذكر في بعض تنبيهات مبحثه - ان لا يكون المتعلقان لا ثالث لهما ، إذ مع كونهما كذلك لا معنى لتعليق الأمر على عصيان الآخر ، لأن عصيان أحدهما يحصل بالإتيان بالمتعلق الآخر ، فيكون الأمر به لغوا لأنه من باب طلب تحصيل الحاصل.

وهذا المناط موجود فيما نحن فيه ، لأن عصيان الحرمة انما يكون بالإتيان بمتعلق الوجوب ، فلا معنى لتعليق الوجوب على عصيان الحرمة ، إذ لا مجال للبعث والتحريك بعد عصيان الحرمة والإتيان بمتعلق الأمر.

الثاني : ان الترتب انما يلتزم به لرفع التنافي بين الحكمين من جهة عدم القدرة والعجز عن الامتثالين معا ، لأنه يرجع إلى جعل الطولية في الامتثال الرافع لعدم القدرة.

وبذلك يصحح اجتماع الحكمين زمانا لأن محذور اجتماعهما يرتفع بالالتزام بالترتب. اما لو كانت هناك جهة أخرى موجبة للتنافي غير جهة العجز ، فلا يفيد الترتب في رفعه ، والمقام من هذا القبيل ، فان اجتماع الوجوب والحرمة لا ينحصر محذوره في مرحلة الامتثال كي يرتفع بالترتب ، بل هو ممتنع في نفسه وفي مرحلة انقداح الإرادة والكراهة ، والترتب لا ينظر إلى رفع التنافي في هذه المرحلة.

واما عدم التخيير بواسطة حكم العقل ، فلأنه مع تساوي الحكمين في الملاك يحصل الكسر والانكسار بين الملاكين ، ويكون نتيجته إباحة المتعلق ، ولا حكم

ص: 311

للعقل بلزوم أحدهما ، لعدم اقتضاء ملاكه بعد مزاحمته بالملاك الآخر ، ويتضح ذلك بملاحظة العرفيات.

واما عدم جريان أحكام التعارض ، فلأنه بعد العلم بثبوت الملاك لكل من الحكمين في المتعلق لا محيص عن الحكم بالإباحة كما عرفت ، فلا معنى لترجيح أحدهما على الآخر بملاك الأشهرية ونحوها من الأحكام التعبدية ، للعلم بعدم جعل كلا الحكمين بعد تساوي الملاك ، والترجيح انما يتم في صورة احتمال جعل أحدهما واشتباهه ، إذ للشارع جعل الطريق الأشهر مثلا طريقا إلى حكمه.

واما في صورة كون ملاك أحد الحكمين أهم من ملاك الآخر ، فذو الملاك الأهم مقدم قطعا على غيره للعلم بجعله وتشريعه دون الآخر لانعدام ملاكه بالتزاحم.

ومن هنا يتضح الوجه في كون هذا المورد برزخا بين التعارض والتزاحم وليس من أحدهما لعدم جريان أحكام كل منهما فيه.

وبذلك يظهر ان تحديد التزاحم بأنه التنافي بين الحكمين من خصوص جهة العجز عن الجمع بين الامتثالين وان سرى إلى الدليلين هو المتعين ، فان رجع هذا إلى ما أفاده المحقق النائيني قدس سره فهو ، وإلاّ فهو تعريف ثالث غيرهما ، فتدبر جيدا واللّه سبحانه العالم.

ص: 312

فصل

اشارة

هل يختص مورد التعارض بخصوص ما ثبت حجيته بالدليل اللفظي من الأدلة ، أو يعم ما ثبت بالدليل اللبي؟.

قد يتوهم الاختصاص بتقريب : انه مع الشك في حجية كل من الدليلين في مورد المعارضة ، لا دليل على حجيتهما لو كان الدليل لبيا ، للأخذ به في القدر المتيقن دون مورد الشك ، ومع انتفاء حجيتهما يخرجان عن موضوع التعارض. وهذا بخلاف ما لو كان دليلهما لفظيا ، لثبوت حجيتهما بالإطلاق.

وهو مندفع : بان الاقتصار على القدر المتيقن في الدليل اللبي انما يكون فيما لو احتمل تقييده بقيد غير ثابت ، إذ مع الشك لا إطلاق له حتى يتمسك به. وليس الأمر كذلك فيما نحن فيه ، فان الدليل اللبي يتكفل إثبات حجية الخبر أو غيره بالمقدار الّذي يتكفله الدليل اللفظي لو كان.

نعم ، يقيد بعدم المانع العقلي عن حجيته كما يقيد الدليل اللفظي بذلك. فالدليل

ص: 313

لفظيا كان أو لبيان يتكفل حجية الدليل والخبر الاقتضائية ، بمعنى : حجيته في حد نفسه ومع قطع النّظر عن المحذور العقلي الثابت في مورد التعارض ، فهما في مورد المعارضة داخلان في حد ذاتيهما تحت دليل الحجية بنحويه - إذ لا يحتمل تقييد حجيتهما بغير مورد المعارضة ، بل حجيتهما اقتضائية كما عرفت - فيتحقق بهما موضوعه.

وبعد كل هذا مما عرفته يقع الكلام في مقامات :

المقام الأول : في تأسيس الأصل والقاعدة في الدليلين المتعارضين كي يكون هو المرجع في صورة عدم ثبوت الأحكام الشرعية لمورد ما.

فهل هو التساقط ، أو التخيير ، أو الاحتياط ، أو التوقف؟. - والمراد بالتوقف هو التوقف عن الرجوع إلى ثالث يخالفهما ، كالرجوع إلى أصالة الإباحة عند ورود الدليلين على الحرمة والوجوب ، بل لا يخرج في مقام العمل عن أحدهما على حسب ما تقتضيه الأصول والقواعد الموافقة لأحدهما.

وبذلك يتضح الفرق بينه وبين الاحتياط ، فانه العمل بنحو يدرك الواقع مع الإمكان بالجمع بين الدليلين عملا ، كما لو دل أحدهما على الوجوب والآخر على الاستحباب أو الإباحة. كما يتضح الفرق بينه وبين التساقط والتخيير ، لأن الأول هو عدم العمل بكلا الدليلين والرجوع إلى الأصول العملية ، سواء وافقت أحدهما أم خالفت.

والثاني هو العمل بأحد الدليلين ، سواء كانت القاعدة على طبقه أم على خلافه.

وتحقيق الحال : انه اما ان يلتزم في باب الأمارات بالسببية أو يلتزم بالطريقية.

فعلى القول بالسببية. أفاد الشيخ قدس سره ان الأصل التخيير ، لدخول المورد في موارد التزاحم ، لأنه بقيام الأمارة تحدث مصلحة في متعلقها ، فيكون ملاكا

ص: 314

الحكمين ثابتين ، فالحكم - في مثل الحال - هو التخيير (1).

وللمناقشة في ما ذكره مجال ، لأن التنافي اما ان يكون منشؤه خصوص العجز وعدم قدرة المكلف على الجمع بين الامتثالين ، كما في فرض الحكمين المتواردين على موضوع معين. واما ان يكون منشؤه تنافي الحكمين في أنفسهما كما في فرض اجتماع الوجوب والحرمة على موضوع واحد.

فما يكون من موارد التخيير والتزاحم هو النحو الأول ، لاجتماع ملاكي الحكمين في الموضوعية ، إلاّ انه لا يختلف الحال على القول بالسببية والطريقية ، لوجود الملاكين على التقديرين.

واما النحو الثاني ، فهو خارج عن موارد التزاحم والتخيير وان قيل بالسببية ، إذ يعلم عدم جعل كلا الحكمين بعد فرض تحقق ملاكيهما ، لحصول الكسر والانكسار فيتساوى الفعل والترك ، فلا وجه للتخيير اللزومي الثابت بحكم العقل ، بل الحكم هو الإباحة كما تقدم.

مضافا إلى ان التخيير في الفعل الواحد مما لا يمكن تحققه في بعض الأحيان وهو ما إذا لم يكن الوجوب أو الحرمة المدلولين للدليلين تعبديا ، إذ معه لا يكون أحدهما قهري الحصول ، بل يمكن تركهما معا كما لا يخفى - لأن الترك أو الفعل قهري الحصول ، ولا يمكن تعديهما كي يحكم بلزوم أحدهما.

نعم ، التخيير بمعنى الإباحة الّذي يرجع إلى التخويل في أحد الأمرين لا مانع منه ، إلاّ انه غير التخيير المصطلح في باب التزاحم.

واما بناء على الطريقية : فالذي التزم به الشيخ (2) ، وصاحب الكفاية (3) هو التوقف وان اختلفا بحسب الطريق. ولا بد في تحقيق الحال من بيان امرين :

ص: 315


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /439- الطبعة القديمة.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /439- الطبعة القديمة.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /439- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأول : ان التعارض من حيث السند الّذي هو مورد أحكام التعارض انما يتحقق فيما كان الدليلان قطعيي الدلالة أو ظنييها ، ولكن لم يمكن التوفيق عرفا بين دلالتيهما ، فانه حينئذ يعلم بعدم شمول دليل الحجية لكل منهما ، لعدم إمكان الأخذ بهما معا اما مع كونهما ظني الدلالة وأمكن التوفيق بينهما عرفا بحيث يرتفع التنافي الظاهري البدوي ، فلا تعارض بينهما لإمكان شمول دليل الحجية لكل منهما بعد الجمع ورفع التنافي.

الثاني : ان الالتزام بالتساقط في مورد المعارضة انما هو لأجل عدم إمكان التخيير ، وإلاّ فمع إمكانه فلا وجه للالتزام به لأنه في الجملة جمع بين الدليلين فيرتفع التنافي.

وحينئذ فنقول : ان التخيير ..

تارة : يطلق ويراد به التخويل في الفعل والترك أو في أحد الفعلين وعدم الحرج والمانع من الأخذ بكل منهما ، وهو معنى الإباحة.

وأخرى : يطلق ويراد به الوجوب التخييري بمعنى لزوم أحدهما وعدم جواز تركهما معا ، بل لا بد من الأخذ بأحدهما. والتخيير الّذي هو محل الكلام هو التخيير بالمعنى الثاني لا الأول.

لأن التخيير بالمعنى الأول انما يكون بعد تساقط الدليلين والرجوع إلى الأصول ، ومحل الكلام ما كان قسيما للتساقط ومعترضا لوقوعه ، وهو المعنى الثاني منه. وهو ..

تارة : يكون في الحكم الفرعي ، فيكون تخييرا عمليا في المسألة الفرعية ، بمعنى وجوب الإتيان بأحد الفعلين ، كالتخيير بين خصال الكفارة.

وأخرى : يكون في المسألة الأصولية ، يعني في الدليل على الحكم ، فيكون بمعنى وجوب الأخذ بأحد الدليلين. وهو ..

تارة : يكون بين الدليلين على الحكم كالخبرين.

ص: 316

وأخرى : بين دليلهما المتكفل للتعبد بهما.

فهو يكون في مقامات ثلاثة.

ثم ان التخيير ثبوتا يتصور على أنحاء ثلاثة :

الأول : تعلق الأمر والوجوب بكل من الفردين مقيدا بترك الآخر.

الثاني : انه سنخ وجوب متعلق بكل من الفردين مشوب بجواز الترك ، كما يختاره صاحب الكفاية في ماهية الوجوب التخييري (1).

الثالث : انه وجوب أحدهما ، كما يختاره المحقق النائيني (2).

والكلام في التخيير في المسألة الفرعية إثباتا انما يكون بناء على الالتزام بأن التخيير هو النحو الأول ، لا على الالتزام بأنه على النحوين الآخرين.

وذلك ، لأن الدليلين المتنافيين إما ان يكونا عامين من وجه بحيث يكون التنافي بحسب المجمع ، أو يكونا جزئيين دالين على وجوب شيئين.

فان كان عامين من وجه ، فالالتزام في موضع التنافي بوجوب أحدهما ، أو بوجوب كل منهما ، سنخ خاص يستلزم التفكيك في مدلول دليل واحد بالنسبة إلى افراده.

وان كانا جزئيين ، فظاهرهما الدلالة على وجوب كل منهما بخصوصه بالمعنى المعروف للوجوب ، فلا يتفق مع كون الواجب أحدهما أو مدلولهما الوجوب بنحو خاص منه ، لأنه طرح للدليلين لا جمع بينهما عرفا.

وبعد هذا فاعلم : انه قد يمكن التخيير في المسألة الفرعية ، كما لو دل أحد الدليلين على وجوب صلاة الظهر ، والآخر على وجوب صلاة الجمعة. أو دل أحدهما على وجوب شيء والآخر على حرمة شيء آخر. وعلم بعدم جعل كلا الحكمين بخصوصه بنحو الجمع ، فانه يمكن إلغاء خصوصية التعيين في كل من

ص: 317


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /140- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 182 - الطبعة الأولى.

الحكمين وجعل وجوبهما تخييريا ، بمعنى ان يكون وجوب كل منهما مقيدا بترك الآخر ، إذ يمكن ان يكون الأمر في الواقع كذلك ، لأنه لا مانع من جعل وجوب الجمعة والظهر تخييريا. ومع إمكانه فيجمع بين الدليلين بذلك فيرتفع التنافي بينهما ويكون كل منهما مشمولا لدليل الحجية.

نعم ، لا بد من تقييد ذلك بما إذا لم يعلم بعدم جعل أحد الحكمين أصلا ، بل علم بعدم لزوم الإتيان بهما معا ، إذ مع العلم بعدم جعل أحد الحكمين بالمرة ، لا يرتفع التنافي والتكاذب بالجمع بالوجوب التخييري بهذا النحو ، لأن مقتضاه هو اجتماع الوجوبين لو لم يأت بكل منهما لحصول شرطيهما معا ، وهو يتنافى مع عدم جعل أحدهما بالمرة.

اما مع عدم العلم بعدم جعل أحد الحكمين من أساسه ، بل كان العلم متعلقا بعد لزوم الإتيان بكل منهما ، فهو متعلق بعدم الجمع عملا لا جعلا وتشريعا ، فالجمع التخييري يرفع التنافي كما عرفت.

وقد يستشكل : بأن كلا من الدليلين له دلالتان : دلالة مطابقية ، وهي دلالته على الوجوب التعييني - ودلالة التزامية ، وهي دلالته على نفي أصل وجوب الآخر. إذ بعد فرض العلم بعدم جعل كلا الحكمين بنحو التعيين ، كان الدليل الدال على وجوب أحدهما تعيينا دالا بالالتزام على نفي وجوب الآخر ، لأن مقتضى الوجوب التعييني لأحدهما عدم جعل الآخر من رأس. وعليه فالتصرف في المدلول المطابقي لكل منهما بإلغاء خصوصية التعيين ، لا يرفع التنافي الحاصل من جهة الدلالة الالتزامية ، لعدم تبعيتها للدلالة المطابقية في الحجية وان تبعتها في الوجود.

والجواب عن هذا الإشكال : ان الدلالة الالتزامية ..

تارة : تكون عرفية كما لو كان التلازم عرفيا.

وأخرى : تكون غير عرفية ، بل عقلية أو اتفاقية كما لو كان التلازم عقليا أو اتفاقيا.

ص: 318

والحجة من الدلالات الالتزامية هي العرفية ، لأنها موجبة للظهور العرفي للكلام ، دون غير العرفية.

ودلالة كل من الدليلين بالالتزام على نفي وجوب المتعلق الآخر ليست دلالة عرفية ، لأن التلازم بين وجوب أحدهما تعيينا ، وعدم وجوب الآخر اتفاقي ، إذ لا محذور في اجتماع الوجوبين التعيينيين في نفسه ، فلا حجية لهذه الدلالة كي توجب التوقف في الجمع بالتخيير ، فلاحظ.

ولو لم يمكن التخيير في المسألة الفرعية - كما لو دل أحد الدليلين على الحرمة والآخر على الوجوب ، أو دل أحدهما على إباحة شيء والآخر على وجوب شيء آخر - ، وعلم بعدم جعل أحد الحكمين - فانه لا معنى للتخيير اللزومي بين الإباحة والوجوب ولو في شيئين. أو الحرمة والوجوب في شيء واحد. أو دل أحد الدليلين على وجوب شيء والآخر على وجوب آخر أو حرمته ، وعلم من الخارج بعدم جعل أحد الحكمين من رأس ، فانه لا يمكن التخيير بالنحو الأول كما عرفته - فيقع الكلام في إمكان التخيير في المسألة الأصولية ، يعنى بين الدليلين في الحجية ، بمعنى لزوم العمل بأحدهما وترتيب الآثار عليه ، بحيث يحكم بمؤداه ويعمل بمقتضاه - كما هو المشهور عند تعارض المجتهدين المتساويين في المميّزات في الفتوى -

وقد عرفت ان الوجوب التخييري يتصور على أنحاء ثلاثة. فالكلام يقع في إمكان كل نحو من الأنحاء فيما نحن فيه بالنسبة إلى الحجية ثبوتا فتحقيقه : ان التخيير بأنحائه الثلاثة في المسألة الأصولية لا يتصور له معنى معقول.

اما التخيير بمعنى وجوب أحدهما - كما التزم به المحقق النائيني على ما عرفت ، بتقريب : ان عنوان أحدهما جامع انتزاعي ينطبق على كل من المتعلقين ، فكما يمكن تعلق الحكم بالجامع الحقيقي بين شيئين أو أشياء فيكون التخيير عقليا ، كذلك يمكن تعلق الحكم بالجامع الانتزاعي العنواني ، ويكون التخيير شرعيا. فملخص الفرق بين التخيير العقلي والشرعي هو ان الحكم في الأول متعلق بجامع حقيقي. وفي الثاني

ص: 319

متعلق بجامع انتزاعي (1) - ، بان يقال : انه كما يلتزم في باب الواجب بهذا الأمر كذلك يلتزم به في باب الحجية ، فيقال ان موضوع الحجية هو أحد الدليلين ، وهو جامع انتزاعي ينطبق على كل من الدليلين ، وهو معنى التخيير الشرعي في باب الحجية والدليليّة ، فلأن الفرق بين المقامين موجود. لأن التخيير في الوجوب في متعلق الحكم الّذي يكون الحكم محركا إليه وباعثا نحوه ، والمتعلق لا بد من فرضه غير موجود خارجا حال الحكم ، بل يتعلق به الحكم ليحصل الانبعاث نحوه. فيمكن ان يتعلق الحكم بالطبيعي أو الجامع الانتزاعي ، فيوجد بوجود أحد فرديه.

اما الدليلان ، فهما موضوعا الحجية لا متعلقا لها. والموضوع لا بد من فرض وجوده سابقا على الحكم ، كنفس المكلف بالنسبة إلى أحكامه. فلو وجد الدليلان فكل منهما ينطبق عليه عنوان : « أحدهما » ، فيدور الأمر حينئذ بين ان يكون كلاهما موضوعين للحجية ، أو أحدهما المعين. أو أحدهما على البدل.

وكل من الاحتمالات باطل ..

اما الأول : فلأنه خلاف الفرض ، لأن الفرض هو التخيير في الحجية لا ان كلا منهما حجة.

واما الثاني : فلأنه ترجيح بلا مرجح.

واما الثالث : فلأن أحدهما على البدل لا وجود له خارجا ، لأن كل فرد عبارة عن نفسه لا عبارة عنه أو غيره. فالموجود خارجا هو الفرد نفسه لا الفرد أو غيره.

وعليه ، فالالتزام بهذا النحو من التخيير مشكل ثبوتا. ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بإمكانه في عالم الثبوت ، ففيه :

أولا : انه لا يجدي في إجراء آثار التخيير المفروضة ، وهي صحة الالتزام بمؤدى أحدهما والحكم والفتوى بمقتضاه ، أو العمل على طبقه بقصد التقرب لو كان متوقفا عليه ، ونحو ذلك.

ص: 320


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 184 - الطبعة الأولى.

وذلك لأن موضوع الحجية - على الفرض - هو أحدهما ، فالجائز ترتيب آثار هذا العنوان فقط. ولا يخفى ان ما يتكفل لإثبات خصوص وجوب الظهر أو الجمعة مثلا هو الفرد بخصوصه لا بما انه أحدهما ، فلا يصح الالتزام بما يؤديه الفرد عملا إذ ما قامت عليه الحجة هو الجامع ، كالوجوب مثلا. اما خصوصية وجوب الظهر أو غيرها فلم تقم عليه الحجة.

وبالجملة : فالجائز هو ترتيب آثار ما يشترك في بيانه كلا الدليلين ، كأصل الوجوب. اما خصوصياته التي يختلف الدليلان في بيانها ، فهي ليست من مؤديات الجامع ، بل من خصوصيات الافراد ، فلا وجه للالتزام بها في مقام العمل لخروجها عن مقتضى الحجية.

وثانيا : انه لا معنى للتخيير بهذا المعنى في بعض الموارد ، كما لو دل أحد الدليلين على الوجوب والآخر على الحرمة ، فانه لا معنى للالتزام بأن الحجة هو الجامع بين الدليلين المذكورين ، إذ لا جامع بين مدلوليهما كي يلتزم به مقتضى حجية الجامع ، فلاحظ.

وأما التخيير بمعنى سنخ وجوب مشوب بجواز الترك ، بأن يقال فيما نحن فيه :

ان الحجية ثابتة لكل من الدليلين لكنها سنخ حجية ضعيفة متوسطة بين الحجية واللاحجية.

فلأنه - مع قطع النّظر عن عدم تعقل ذلك في نفسه ، إذ الكلام فيه يحتاج إلى بسط مقال لا يسعه المجال - يقال : ان المقصود من الحجية أو معناها - بأي معنى كانت من ان المجعول هو المؤدى فيترتب عليه المنجزية والمعذرية ، أو الطريقية ، أو نفس الحجية - هو ترتب المنجزية والمعذرية على الحجة ، فمع اجتماع الدليلين وحجيتهما في أنفسهما بهذا السنخ من الحجية الضعيفة يدور الأمر بين ان تترتب المنجزية على كلا الدليلين مطلقا ، أو لا تترتب مطلقا ، أو تترتب على تقدير دون آخر.

ص: 321

فعلى الأول : يلزم المحذور لاجتماع المنجزين على امرين متضادين ذاتا أو عرضا.

والثاني : خلف فرض الحجية.

والثالث : يقع الكلام فيه في النحو الثالث لرجوعه إليه.

واما التخيير : بمعنى الوجوب المشروط بأن يكون وجوب كل منهما مقيدا بترك الآخر ، فالمراد منه في باب الحجية أحد احتمالات ثلاثة :

الأول : ان تكون حجية كل منهما مقيدة بعدم حجية الآخر ، وهو باطل لأنه يستلزم ان تكون حجية كل منهما مانعة عن حجية الآخر ، فتكون حجيتاهما متمانعتين. فلا يمكن اجتماعهما أصلا ، لأن إحداهما تمنع عن الأخرى ، فينتفي موضوع التخيير.

الثاني : ان تكون حجية كل منهما مقيدة بعدم العمل على طبق مؤدى الآخر ، وهو باطل أيضا ، إذ يمكن ان يكون مؤدى أحدهما وجوب الشيء والآخر حرمته ، فمع ترك العمل على طبق الدليل الدال على الحرمة بالإتيان بالفعل ، لا معنى لحجية الدال على الفعل والأمر بالعمل به ، إذ لا معنى للأمر بالفعل مع الإتيان به. مع ان هذا الفرض يقتضيه.

الثالث : ان تكون حجية كل منهما مقيدة بعدم الاستناد إلى الآخر ، وهو فاسد ، لاستلزامه شمول الحجية لكل منهما ، مع عدم الاستناد إلى كل منهما ، لحصول شرط حجية كل منهما ، فيرجع التنافي.

وهذا المحذور يتأتى في الفرض الثاني أيضا ، إذ مع ترك العمل بمؤدى كل منهما يكون دليل الحجية شاملا لكل منهما ، فيرجع المحذور لحصول التنافي.

والمتحصل : ان التخيير في باب الحجية بأنحائه الثلاثة في باب الأحكام لا يتصور له معنى معقول ، فتدبر جيدا.

نعم ، هناك نحو آخر يتصور ثبوتا للتخيير في مقام الحجية ، وهو ان تكون

ص: 322

حجية كل منهما مقيدة بالبناء على الالتزام بمؤداه ، فمع عدم البناء على الالتزام بمقتضاه لا يكون مشمولا للحجية.

وهذا معنى معقول ثبوتا فيمكن ان يحمل عليه ما ورد من أدلة التخيير بين الدليلين في بعض الموارد ، بلا حاجة إلى تكلف تأويل له بالحمل على التخيير في المسألة الفرعية ، كما هو الحال لو لم يثبت تعقل التخيير في المسألة الأصولية.

إلاّ ان هذا النحو لا يجدي فيما نحن فيه ، إذ لا يرفع التنافي بين الدليلين عرفا - كما في التخيير في المسألة الفرعية - ، إذ لا يستلزم التصرف بمؤدى كل منهما بنحو يرتفع التنافي ، بل كل باق على مؤداه ، فلا وجه للالتزام به في المورد الّذي نحن فيه.

ومع عدم تعقل تلك الأنحاء ثبوتا ، وعدم إمكان الالتزام بهذا النحو إثباتا ، فلا محيص عن الالتزام بأحد الاحتمالات الأخرى ، من التساقط أو التوقف أو غيرهما.

وقد عرفت ان الشيخ التزم بالتوقف وتساقط الدليلين في الدلالة المطابقية لهما وبقائهما على الحجية في نفي الثالث - وهو معنى التوقف - وبنتيجة ذلك التزم صاحب الكفاية قدس سره إلاّ انه بغير الطريق الّذي سلكه الشيخ ، بل ذهب إلى ان الدليلين لا يتساقطان ، بل يسقط أحدهما عن الحجية ويبقى الآخر تحت دليل الحجية ، غاية الأمر انه لا تترتب آثار العلم الإجمالي على ذلك - كما في مسألة اشتباه الحجة باللاحجة - بل هما بالنسبة إلى الدلالة المطابقية كالمتساقطين ، نعم ، يظهر الأثر في شيء آخر أجنبي عن محل الكلام وهو نفي الثالث.

وبيان ذلك (1) : ان دليل الحجية لا يشمل ما يعلم كذبه من الأدلة كما لا يخفى.

ص: 323


1- قد يبدو الالتزام بسقوط أحدهما وبقاء أحدهما - بهذا المقدار من العنوان - مشكلا ، لكن القوم يلتزمون بنظيره في بعض الموارد : فمن ذلك : مورد تعلق الأمر بفردين من طبيعة واحدة بلا ان يكون لأحدهما خصوصية يمتاز بها على الآخر ، كموارد قضاء الصوم إذا كان الفائت يومين - مثلا - وموارد الدين الثابت في الذّمّة كدينارين. فانه يلتزم فيما إذا أتى المكلّف بأحد الفردين بلا تعيين سقوط أحد الأمرين وبقاء الآخر بلا تعيين الساقط والباقي منهما ، فلو أعطاه دينارا بعنوان الوفاء التزم ببقاء دينار في الذّمّة بلا تعيين كونه أي الدينارين. ومن ذلك : مورد الاضطرار إلى أحد أطراف العلم الإجمالي لا بعينه ، بناء على الالتزام بالتوسط في التنجيز - كما عليه الشيخ «ره» - فانه يلتزم بوجوب الاجتناب عن أحدهما بلا تعيينه ، لكون الاضطرار إلى أحدهما بلا تعيين. ثم ان الالتزام ببقاء أحدهما على الحجية بنحو لا يترتب عليه أثر إحدى الخصوصيّتين ، لا بد وان يوجّه بكون موضوع الحجية هو العنوان الانتزاعي الجامع بين الخبرين - وهو عنوان أحدهما - وليس المراد به أحدهما المعين في الواقع ، لأنه مضافا إلى كونه ترجيحا بلا مرجح ، يترتب عليه آثار العلم الإجمالي ، وهو مما لا يقصده صاحب الكفاية ، كما انه ليس المراد به أحدهما المردد كي يرد عليه انه لا خارجية له ، بل المراد به ما عرفت من أحدهما الجامع بين الخبرين ، ولأجل ذلك لا يثبت به سوى الجامع بين المدلولين. وقد عرفت ان لمثل هذا نظائر ، كمثال الدين والاضطرار. وهذه الموارد تختلف ، فتارة : يترتب على بقاء أحدهما أثر الفرد الخاصّ ، كما في موارد الأمر المتعدد كالدين. وأخرى : لا يترتب عليه أي أثر كأخبار خمسة متعارضة في الدلالة على الأحكام الخمسة. وثالثة : يترتب عليه أثر الجامع ، كما لو لم يكن تعارض الخبرين في الوجوب والحرمة. هذا غاية ما يمكن توجيه كلام الكفاية به ، وبه تندفع بعض الإيرادات عليه. ولكن يرد عليه : أولا : انا لم نلتزم في محله - ( يلاحظ مبحث النية من كتاب الصوم ) - بأساس هذا الالتزام ، وبيّنا عدم معقولية سقوط أحد الأمرين وبقاء الآخر ، وانما يسقط الأمران معا ويحدث امر آخر ناش من غرض واحد. وهذا لا يتأتى في ما نحن فيه ، فإنا إذا التزمنا بسقوط كلا الخبرين عن الحجية ، فأي مقتض لحدوث حكم جديد يتعلق بأحدهما؟ وثانيا : مع عدم تعقل ما ذكر ، ان ثبوت الجامع بين المدلولين .. ان كان بأحدهما الانتزاعي ، فهو ليس فردا خارجيا غير الفردين الساقطين عن الحجية ، فمقام الإثبات قاصر عن شموله. ولعله إلى ذلك يرجع إشكال الشيخ على التخيير : بأن أحدهما ليس فردا ثالثا كي يشمله دليل الحجية الثابت لافراد الخبر. وان كان بكلا الخبرين ، فهو راجع إلى حجيتهما معا ، وهو خلاف مدعاه من سقوط أحدهما عن الحجية. هذا مع ان الجامع مدلول ضمني للخبرين ، والأخذ بالمدلول التضمني مع سقوط المطابقي عن الحجية لا وجه له للتلازم بينهما في الحجية ، فتدبر جيدا.

ص: 324

وحيث ان أحد الدليلين معلوم الكذب كان خارجا عن دليل الحجية بلا كلام.

واما الآخر ، فهو محتمل الإصابة وغير معلوم المخالفة للواقع فيبقى مشمولا لدليل الحجية.

وبما ان خروج أحدهما عن الحجية وبقاء الآخر ليس إلاّ بعنوان أحدهما لا أكثر ، إذ لا تعين للمعلوم بالإجمال ظاهرا في الواقع بحيث لو انكشف كان الآخر غير معلوم الكذب وكان هو معلومه ، فكل واحد منهما ليس بمعلوم الكذب واقعا دون الآخر ، فالمعلوم كذبه لا تعين له الا بهذا المقدار - أعني : أحدهما - ومثله غير معلومه ، فالحجة وغير الحجة هو أحدهما بلا عنوان.

بذلك خرج المورد عن اشتباه مورد الحجة باللاحجة - كاشتباه خبر العادل بخبر الفاسق - إذ المعلوم بالإجمال في ذاك المورد له تعين في الواقع يمتاز به عن غيره ، بحيث إذا انكشف كان هو دون غيره ، كخبر زيد مثلا ، فكانت إحدى الخصوصيّتين اللتين يتكفل الدليلان بيانهما ثابتة في الواقع ومنجزة للعلم بها إجمالا ، فلا بد من الاحتياط - في مورده - وهذا بخلاف ما نحن فيه ، لأن الحجة ليس إلاّ الخبر بعنوان أحدهما ، فكلتا الخصوصيّتين لا منجز عليهما كي يتعين الاحتياط ، لأن كلا منهما غير معلوم الحجية بعنوانه الّذي يكون متعلق العلم الإجمالي.

نعم ، يترتب على الخبر الّذي يكون حجة واقعا نفي الثالث. فنفي الثالث يكون بأحدهما بلا عنوان ، لا بكليهما ، لأن أحدهما ساقط عن الحجية.

وبهذا يتفق مع الشيخ في النتيجة (1).

وللنظر فيما أفاده مجال من وجوه :

ص: 325


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول - 439 - طبعة مؤسسة آل البيت عليهم السلام.

الأول : ان شرط الحجية هو احتمال الإصابة ، وهو متحقق في كل من الدليلين في نفسه ، فكل منهما بنفسه يشتمل على شرط الحجية فيكون موضوعا للحجية ، فلا وجه للالتزام بخروج أحدهما عن الحجية بالعلم الإجمالي ، إذ العلم الإجمالي لا يكفى في رفع الموضوع بعد تحقق الشرط في كل منهما في حد ذاته.

الثاني : انه لو سلمنا خروج أحدهما عن الحجية وبقاء أحدهما على الحجية ، فكون أحدهما على البدل وبلا عنوان موضوعا للحجية غير وجيه ، إذ لا تعين ل- : « أحدهما على سبيل البدل » في الواقع ولا وجود له كي يكون قابلا لشمول الحجية له - كما تقدم - الثالث : انه لو سلمنا بإمكان تصور الفرد على البدل ، إلاّ ان إثبات حجيته يحتاج إلى دليل آخر يتكفل ذلك ، لأن دليل الحجية يتكفل إثبات الحجية لكل فرد بخصوصه ، فهو قاصر عن شمول الواحد على سبيل البدل ، فلاحظ.

وعلى كل ، فهل الوجه هو التساقط مطلقا ، أو الاحتياط ، أو التوقف؟

اما الاحتياط فلا أصل له الا رواية (1) مخدوش في سندها وراويها حتى ممّن يتساهل في العمل بالأخبار - كصاحب الحدائق - واما التوقف في العمل الّذي يرجع إلى الاحتياط بملاك أدلته المذكورة في مورد البراءة فكالأول ، لاختصاص رواياتها بموارد ليس ما نحن فيه منها.

فالمتعين هو التوقف ، بمعنى نفي الثالث ، كما التزم بها الشيخ ، لما تحقق في محله (2) من عدم تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية في مثل ما نحن فيه ، مما لم يعلم بانتفاء المدلول المطابقي واقعا بل يحتمل ثبوته ، وحيث ان الدليلين متصادمان في دلالتهما الالتزامية عن الحجية لخروجهما عن مورد المعارضة ، فكل من الدليلين ينفي الثالث بالالتزام. ومنه يظهر منع الالتزام بالتساقط مطلقا.

ص: 326


1- هي مرفوعة زرارة ، المروية في غوالي اللئالي 4 / 133 ، حديث : 229.
2- راجع الكلام في ذلك في مبحث اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده.

ثم انه لا يخفى ان الأصل المذكور غير ذي أثر عملي بالنسبة إلى الخبرين المتعارضين لأنهما مورد الاخبار العلاجية ، فهما خارجان عن الأصل كيف كان ، فلاحظ.

تذييل : هل الجمع مهما أمكن أولى بحيث انه مع إمكانه ولو بضرب من التأويل لا يرجع إلى الأصول الأولي ولا الأصل الثانوي - وهو مفاد الاخبار العلاجية -؟

وقع الكلام في ذلك ، وقد أطنب في الكلام عن هذه القاعدة بعض (1). وغاية ما يمكن الاستدلال به على هذه الدعوى وجهان :

الأول : ان دليل الاعتبار والحجية يتكفل لزوم العمل بالدليل الا في فرض لزوم محذور عقلي في العمل به ، فإذا أمكن العمل بنحو يرتفع المحذور العقلي كان مقتضى دليل الحجية لزوم العمل به.

وعليه ، فبما ان كلا من الدليلين موضوع للحجية ، فدليلها يتكفل لزوم العمل بهما بالمقدار الّذي لا يلزم منه المحذور العقلي ، فإذا أمكن تأويلهما بنحو يرتفع بينهما التنافي الظاهر المانع عن العمل بهما عقلا فهو المتعين ، لأنه مقتضى دليل الاعتبار.

الثاني : انه كما يرتكب التأويل في مقطوعي الصدور لرفع التنافي بينهما ، كذلك مقتضى دليل الحجية ذلك في مظنوني الصدور ، لأنه يتكفل الإلزام بمعاملتهما معاملة مقطوعي الصدور ، فيترتب عليهما آثار المقطوعين صدورا.

وقد أنكر الشيخ رحمه اللّه هذين الدليلين ، باعتبار اختلاف المورد الّذي نحن فيه عن مورد القاعدة بأدلتها المذكورة.

ببيان : ان الأمر فيما نحن فيه يدور بين الالتزام بدليل حجية الظهور والالتزام بدليل حجية السند. وذلك فان كلا من الخبرين موضوع لدليلين :

أحدهما : دليل حجية السند واعتباره.

ص: 327


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /433- الطبعة القديمة.

والآخر : دليل اعتبار الظهور وحجيته.

والقدر المشترك بين الالتزام بالقاعدة والالتزام بالأخبار العلاجية هو الأخذ بدليل اعتبار السند وتصديق الخبر في أحدهما. ويبقى الأمر بعد هذا دائرا بين العمل بدليل اعتبار الظهور في هذا الخبر أو طرحه والعمل بدليل اعتبار السند للخبر الآخر ، فالمورد خارج عن مورد القاعدة ، لأنها تبتني على ثبوت الاعتبار ، كي يقال بأن مقتضاه لزوم العمل بالمقدار الممكن ، وهذا في ما نحن فيه محل الإشكال والكلام.

ومنه يظهر : انه لا وجه لقياس المقام بالدليلين القطعيي الصدور ، لثبوت دليلي اعتبار السند في كل منهما ويبقى دليلا اعتبار الظهور متعارضين ، فيجمع بينهما بالمقدار الممكن الرافع للتنافي ويؤخذ بالدليلين بالنحو الميسور.

وعلى هذا فلا دليل على هذه القاعدة ، بل الدليل على خلافها وهو الاخبار العلاجية ، إذ بالالتزام بهذه القاعدة لا يبقى مورد لهذه الاخبار الا ما شذ ، فتكون لغوا.

وقد يستشكل : بأنه قد تقدم انه لو ورد دليلان يدلان على وجوب شيئين مع العلم بعدم وجوبهما تعيينا يتصرف فيهما بتقييد إطلاق كل منهما الدال على التعيين بترك العمل بمتعلق الآخر ، فيكون وجوبهما تخييريا ، وبه يرتفع التنافي ويكون كلا الدليلين مشمولين لدليل الحجية. فكما يرفع التنافي هناك بالتقييد فليرفع فيما نحن فيه به أيضا فيحمل - مثلا - : « ثمن العذرة سحت » (1) ، على عذرة الإنسان ، ويحمل : « لا بأس ببيع العذرة » (2) على عذرة غيره ، فيرتفع التنافي فيكون دليل الحجية شاملا لكلا الدليلين.

والجواب : ان بين المقامين فرقا فارقا ، فان المورد السابق لما كان التنافي فيه بحسب بعض المدلول - وهو التعيينية - التزم برفع اليد عن ذلك البعض في كلا

ص: 328


1- وسائل الشيعة 12 / 126 باب 40 من أبواب ما يكتسب به ، حديث : 1.
2- وسائل الشيعة 12 / 126 باب 40 من أبواب ما يكتسب به ، حديث : 2 و 3.

الدليلين بالتقييد الّذي هو حقيقة الوجوب التخييري ، فيبقى الباقي - وهو أصل الوجوب - مطابقا للمتفاهم العرفي للدليل ، إذ هو بعض المدلول لا انه غيره.

بخلاف هذا المورد ، فان التنافي في كل المدلول ومجموعه كما لا يخفى ، وليس هناك مورد يفترق فيه أحد الدليلين عن الآخر ، فالالتزام برفع اليد عن مورد التنافي التزام بتساقط الدليلين. والالتزام بالنحو المذكور من التقييد التزام بجمع تبرعي لا يتفق مع التفاهم العرفي للكلام فيحتاج إلى الدليل.

والمحصل : ان الجمع بين الدليل إذا لم يكن عرفيا موافقا لمتفاهم الكلام بحيث يكون للكلام ظهور فيه - وان لم يكن بدويا - فلا دليل عليه.

ثم انه قد تقدم (1) ذكر بعض موارد الجمع العرفي ، وكان منها تقديم الأظهر على الظاهر.

ولكن تشخيص الأظهر على الظاهر قد يشكل باعتبار اختلاف الإفهام.

وقد ذكر الاعلام بعض الموارد شخصوا فيها ذلك وجعلوها مطردة في جميع مصاديقها :

فمنها : لو اجتمع المطلق الشمولي والمطلق البدلي وكانا متنافيين ، مثل « أكرم

ص: 329


1- لا بأس قبل التعرض إلى تحقيق بعض صغريات الجمع العرفي من التنبيه على امر ، وهو : ان الاخبار العلاجية لو تمت بأي نحو من أنحائها من تخيير أو ترجيح ، هل تشمل موارد الجمع العرفي ، كموارد العام والخاصّ والمطلق والمقيد ، أو لا تشمل تلك الموارد ، بل تختص بموارد التعارض المستحكم عرفا بين الدليلين؟ وقد تعرض صاحب الكفاية إلى ذلك وبيّن وجه الشمول كما بيّن دفعه. وتحقيق ذلك بإجمال : انه لا يمكن فرض كون هذه الاخبار العلاجية رادعة عن السيرة المستمرة على تقديم النص على الظاهر في الموارد الثابتة فيها ، وذلك للعلم بصدور المخصصات للعمومات والمقيدات للمطلقات من قبل الشارع قبل صدور الاخبار العلاجية ، ومن الواضح ان صدورها يكون لغوا لو فرض عدم إقرار الشارع لطريقة العقلاء القائمة على الجمع بينهما ، إذ بناء العرف عند صدورها وقبل ورود الرادع على الجمع العرفي ، والمفروض ان الشارع لا يقرّ ذلك فيكون صدورها لغوا ، إذ لا يترتب عليه المقصود ، فتدبر.

عالما » و : « لا تكرم الفاسق » فانه ادعي أظهرية الأول من الثاني.

وقد قرب المحقق النائيني قدس سره ذلك بوجهين :

الأول : انه مع الالتزام بالإطلاق الشمولي في مورد الاجتماع والتنافي لا يلزم التصرف بالإطلاق البدلي ، فان مفاد الإطلاق البدلي ثبوت الحكم إلى أحد الافراد ، فإخراج بعض الافراد عنه لا يوجب التصرف بمدلوله المذكور ، فان الحكم ثابت لأحد الافراد كما لا يخفى. نعم ، يوجب تضييق دائرة متعلقه.

والالتزام بمدلول الإطلاق الشمولي ، لأن مدلوله ثبوت الحكم لكل فرد فرد ، فرفع اليد عن الحكم في بعض الافراد يستلزم التصرف في مدلوله فالتنافي من جهة الإطلاق الشمولي يرجع إلى مدلول الكلام. ومن جهة الإطلاق البدلي ليس كذلك. فيتعين رفع اليد عن الإطلاق البدلي ، لأنه ليس فيه رفع لليد عن مدلول الكلام وتصرف في ظاهر الدليل.

الثاني : ان عموم المطلق البدلي لجميع افراده باعتبار حكم العقل بتساوي الافراد وعدم المميز لأحدها على الآخر. ومع وجود الإطلاق الشمولي يرتفع حكم العقل المذكور ، إذ مقتضاه وجود الميزة لهذا الفرد ، فيخرج عن دائرة المطلق البدلي ، فتكون نسبة الإطلاق الشمولي إلى البدلي نسبة الوارد إلى المورود ، كما لا يخفى (1).

وقد أورد على الأول :

أولا : بأنه وجه استحساني لا عبرة به في الترجيح في باب الألفاظ في مقام التفهيم ، ولا يقوم دليلا على تعيين مراد المتكلم وحجة عليه يستند إليه في مقام الفتوى واستنباط المسألة الأصولية ، فان شأن الأصولي إيصال دليله إلى العلم أو العلمي ، وليس الوجه موجبا للعلم كما انه لا دليل على ثبوته والالتزام به شرعا ولو بتوسط سيرة العقلاء ، فلاحظ.

وثانيا : بان كل إطلاق بدلي يشتمل على إطلاق شمولي ، وهو جواز التطبيق

ص: 330


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 519 - الطبعة الأولى.

بالنسبة إلى كل فرد ، فيحصل التعارض بينهما. فيلزم من تقدم الإطلاق الشمولي التصرف في مدلول الإطلاق البدلي بلحاظ اشتماله على الشمولية.

وعلى الثاني : بأن حكم العقل بتساوي الافراد لم يكن مأخوذا في موضوع الإطلاق البدلي كي يكون الدليل الشمولي الدال على المزية رافعا لموضوعه وواردا عليه ، بل هو مستفاد من نفس الإطلاق ومقدمات الحكمة الجارية فيه فلا تكون نسبة الإطلاق الشمولي إليه نسبة الوارد إلى المورود (1).

هذا ، ولكن يمكن توجيه كلام المحقق النائيني بنحو لا يتوجه عليه أي إيراد ، ويتضح ذلك ببيان أمور ثلاثة :

الأول : ان ظهور المطلق في الإطلاق لما كان بمقدمات الحكمة فيقدم عليه كل ما « يصادم الإطلاق خ ل » يصلح للدلالة على التقييد لفظيا كان أم عقليا ، وذلك :

اما لانهدام الإطلاق بورود ما يصلح للمقيدية - لو قلنا بجريان مقدمات الحكمة في المراد الجدي - لانتفاء إحدى مقدمات انعقاده وهي عدم البيان ، لأن المراد به على هذا عدم البيان إلى الأبد ، وقد انتفى بالدليل على الشمول.

أو لأجل قيام الحجة الأقوى ظهورا على خلافه مع بقائه على إطلاقه - لو قيل بجريانها في المراد الاستعمالي ، إذ عليه لا يكون المقيد المنفصل رافعا للإطلاق - وهذا واضح لا غبار عليه وقد تقدم بيانه مفصلا.

الثاني : ان استفادة البدلية والشمولية انما هي بقرينة خارجية وليست من نفس مدلول الكلام ، إذ المطلق بمقدمات الحكمة لا يدل إلاّ على نفس الطبيعة مجردة عن كل قيد ووصف.

اما إرادة الطبيعة كذلك الموجودة بوجود أحد افرادها - كما هو مقتضى البدلية - أو جميعها - كما هو مقتضى الشمول - فذلك يعلم من دليل آخر خارجي.

كما استفيدت البدلية من : ( أَقِيمُوا الصَّلاةَ ) لعدم إمكان الجمع بين جميع

ص: 331


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 334 - الطبعة الأولى.

الوجودات فلا يصح الأمر بها واستفيدت الشمولية من : ( أَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ ) للغوية تعلق الحلية ببيع واحد من جميع البيوع كلها.

الثالث : (1) - وهو عمدة الأمور - ان التنافي في الإطلاق البدلي والشمولي انما هو بين نفس الشمولية والإطلاق ، فان دلالة الإطلاق في المطلق البدلي على الطبيعة من دون أي قيد ينافيه شمول الإطلاق الآخر لبعض الافراد. وإلاّ فبين الإطلاقين لا يوجد أي تناف. ويدلّ على ذلك انه لو كان كلا الإطلاقين بدليين لم يكن هناك أي تناف نظير : « أكرم عالما » و : « لا تكرم فاسقا ».

وهذا كاشف عن انه لا تنافي بين الإطلاقين بما هما بل من ناحية أخرى. كما

ص: 332


1- هذا ما بنينا عليه سابقا ، لكن الإنصاف حصول التنافي بين الإطلاقين بحيث لا يمكن اجتماعهما وإرادتهما في آن واحد. نعم ، منشأ التنافي هو إرادة الشمول في أحد الإطلاقين ، ولكن ليس نتيجة ذلك حصول التنافي بين الشمولية والإطلاق الآخر ، بل نتيجته حصول التنافي بين الإطلاقين ، نظير التنافي الحاصل بين الإطلاقين الناشئ من تنافي الحكمين ، بحيث لو لم يكن الحكمان متنافيين لم يكن تناف بين الإطلاقين بتاتا ، فالتفت. هذا ولكن الإنصاف ان تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي مما عليه السيرة العرفية ، وأمر ثابت لا يقبل الإنكار ، ولذا لا نجد أحدا يتوقف في تقديم دليل : « لا تغصب » على دليل وجوب الصلاة بناء على امتناع اجتماع الأمر والنهي. ولعل السر في هذا الأمر المسلم هو عدم التضاد بين هذين الحكمين فلا منافاة بين الدليلين. اما بناء على عدم التضاد بين الأحكام الا في مرحلة الامتثال فواضح ، إذ يمكن امتثال هذين الحكمين بلا تزاحم ولا تناف بينهما ، فلا مانع من الالتزام بكلا الإطلاقين ، غاية الأمر يحكم العقل بلزوم اختيار الفرد غير المحرم في مقام امتثال الأمر جمعا بين الامتثالين. واما بناء على التضاد بين الأحكام في أنفسها ، فلأن دليل التضاد لا إطلاق له حتى يشمل هذه الصورة ، بل ملاك التضاد بين الأحكام في أنفسهما ، فلأن دليل التضاد لا إطلاق له حتى يشمل هذه الصورة ، بل ملاك التضاد المذكور في محله لا يشمل ما نحن فيه ، لتعلق الأمر بالطبيعة على نحو البدلية وتلعق النهي بكل فرد ، فلا مجمع للحكمين. ولو سلم التضاد أمكن ان يعالج بملاحظة مرجحات باب التزاحم ، فيقدم دليل الإطلاق الشمولي ، لأنه مقدم على الإطلاق البدلي في مقام التزاحم ، لإمكان امتثال البدلي في غير الفرد المحرم ، فتدبر.

أنه ليس التنافي بين شمولية أحد الإطلاقين وبدلية الآخر ، لما عرفت من ان الالتزام بالشمول لا يوجب التصرف في البدلية ، بل التصرف في متعلقها وهو الطبيعة المرسلة ، ولذا يرتفع التنافي بمجرد تقييد الطبيعة مع المحافظة على أصل البدلية وكون الموضوع أحد الافراد ، فالتنافي انما هو بين الشمول والإطلاق ، والشمولية هي الموجبة لحصول التنافي.

إذا عرفت ذلك يتضح الوجه في تقدم المطلق الشمولي على البدلي ، لأن دلالة الإطلاق البدلي على الشمولي بمقدمات الحكمة.

وقد عرفت - بالمقدمة الأولى - انها انما تقتضي الشمول والعموم مع عدم الدليل أو ما يصلح للدليلية على الخلاف.

وعرفت - بالمقدمة الثانية - ان الشمولية التي هي منشأ التنافي والتصادم - كما هو مقتضى المقدمة الثالثة - تعلم بقرينة خارجية ودليل أجنبي عن مدلول الكلام. وهو صالح لتقييد الإطلاق البدلي ، فيكون متقدما عليه لا محالة ، اما لانهدام الإطلاق البدلي أو لقيام الحجة الأقوى على خلافه.

ويمكن استظهار هذا من كلامه قدس سره بما أفاده من : انه بتقديم الإطلاق الشمولي لا يتصرف في البدلي ، فانه ظاهر في ان البدلية ليست محل التنافي ، فتقديم الشمولية لا يوجب التصرف فيها ، فلاحظ.

وبهذا لا وجه حينئذ للإيراد عليه بأنه وجه استحساني ، أو ان الإطلاق الشمولي معارض بإطلاق شمولي آخر.

إذ قد عرفت ان تقدمه عليه ليس لمحض الاستحسان ، بل لانهدام إطلاقه أو عدم شمول دليل الحجية له.

كما ان الإطلاق الشمولي الآخر ثابت من مقدمات الحكمة بالدلالة الالتزامية ، وهي منهدمة أو معارضة بما هو أقوى منها دلالة. وهي القرينة العقلية على الشمول.

ص: 333

والمتحصل : انه لا مانع من الالتزام بأظهرية الإطلاق الشمولي من الإطلاق البدلي وتقدمه عليه مطلقا ، بل لا بد من الالتزام به مطردا ، فتدبر جيدا فيما ذكرناه فانه لا يخلو عن دقة.

ومنها : ما لو تعارض العام مع المطلق الشمولي ، فقد ذكر : ان العام مقدم على المطلق بتقريب ، ان ظهور العام في العموم لما كان بالوضع كان تنجيزيا. بخلاف ظهور المطلق في الإطلاق فانه معلق على تمامية مقدمات الحكمة التي منها عدم البيان ، ومع صلاحية العام للبيانية تنتفي هذه المقدمة فينهدم الإطلاق من أساسه ويتقدم العام عليه (1).

وقد أورد عليه صاحب الكفاية : بان عدم البيان المأخوذ في مقدمات الحكمة انما هو عدم البيان في مقام التخاطب لا مطلقا. لفرض كونه في مقام بيان المراد الاستعمالي لا الواقعي - والعام ليس بيانا في مقام التخاطب لانفصاله عن المطلق ، فيكون ظهور المطلق في الإطلاق تاما فيتعارض الظهوران ، فلا بد في ترجيح أحدهما على الآخر من ملاحظة خصوصيات كل منهما بحسب الموارد ، ولا يمكن الجزم والحكم بتقدم أحدهما على الآخر بقول مطلق (2).

وقد اختار المحقق النائيني (3) تقدم العام على المطلق ولم يتعرض مقررو بحثه إلى بيان السر في ذلك بعد إشكال الكفاية.

والسر فيه ما عرفته سابقا من اختياره كون مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الجدي الواقعي ، وهذا يقتضي كون ورود ما يصلح للبيانية - ولو كان منفصلا - هادما للإطلاق لارتفاع مقدمات انعقاده.

ص: 334


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /457- الطبعة القديمة.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /450- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 729 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فالذي ينبغي ان يقال (1): انه لا بد من التفصيل على البناءين في مجرى

ص: 335


1- تحقيق الكلام : ان تقديم المقيد على المطلق قد عرفت انه من باب كشف المقيد عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، الّذي هو الأساس في ثبوت الإطلاق ، وعرفت انه يخلّ بالمراد الاستعمالي. وهذا انما يتم في مورد يمكن ان يلتزم بذلك - أعني : عدم كونه في مقام البيان ، اما ما لا يمكن الالتزام به - كما لو كان الموضوع المقيد موضوع السؤال في المطلق ، أو كان الإطلاق واردا لبيان حكم عمل المكلف بحيث لا يتصور انه يسمع التقييد بعد ذلك - كما أشرنا إليه في مبحث المطلق والمقيد فراجع - فلا يقدم المقيد على المطلق ، بل يحصل التعارض بينهما. والكلام فيما نحن فيه انما هو في غير هاتين الصورتين ، بل في مورد لو كان بدل العام دليلا مقيدا لقيد المطلق ، فيتكلم في ان العام هل يؤدي مهمة الدليل المقيد فيقيد به المطلق ويكون كاشفا عن عدم كونه في مقام البيان ، أو ليس له هذه المهمة؟ والتحقيق : ان تقديم العام على المطلق يتوقف على الالتزام بأن دلالة العام على العموم وضعية بواسطة الأداة لا إطلاقية بواسطة مقدمات الحكمة ، وكون دلالة الأداة تتبع إطلاق المدخول. فانه على الأول يصلح العام لأن يكون كاشفا عن عدم كون المتكلم في مقام البيان ، فيتصرف في المطلق ولا يصلح المطلق للتصرف في العموم ، لأن دلالة العام غير منوطة بمقدمات الحكمة بل هي بالوضع. واما على الثاني ، فلا يصلح العام للتصرف في المطلق ، لأنه يتوقف على مقدمات الحكمة ، فيكون المورد من موارد تعارض الإطلاقين. والبحث في كون العموم في العام هو مدلول الأداة أو انه مقتضى مقدمات الحكمة ، والأداة لا تتكفل الا بيان خصوصية العموم من استغراقية أو بدلية ، قد أشرنا إليه في مبحث العام والخاصّ ، وقد قربنا الثاني ، ونزيد هنا توضيحا لما تقدم. أولا : ان مدخول الأداة قد لا يكون في بعض الأحيان مما له عموم افرادي ، بحيث يكون له افراد متعددة ، كقول القائل : « سهوت في كل الصلاة » أو : « وقع كل الصلاة في النجس » ، فان الصلاة هنا ليس لها افراد متعددة يقصد بيان إرادتها بواسطة : « كل » ، بل لا يقصد إلاّ بيان استغراق حالة السهو لجميع حالات وآنات الصلاة ، فهي لا تفيد سوى الاستغراق ، والالتزام بتعدد المعنى لها غير صحيح ، لأن الملحوظ انها تستعمل في مثل : « أكرم كل عالم » ، ومثل المثال السابق في معنى واحد ، لا معنيين. وثانيا : ان مدلول قول المولى : « أكرم كل عالم » إذا حلّلناه نجده بمعنى : « أكرم كل فرد من افراد العالم » ، وهنا يصح ان يسأل ان المراد بالعالم خصوص الفقيه أو الأعم ، وهذا يكشف عن عدم إفادة لفظ : « كل » التعميم من حيث أنواع العالم ، فلا بد من دليل آخر يدل على التوسعة ، وهو ليس إلاّ مقدمات الحكمة. ثالثا : انه لو فرض كون الدلالة على العموم بواسطة الأداة ، لأشكل الأمر في تقديم الخاصّ على العام ، بل كانا متعارضين ، بناء على ما عرفت من ان دلالة اللفظ على المعنى دلالة قطعية ، فلا وجه حينئذ لتقديم الخاصّ على العام الّذي هو مبنى السيرة العقلائية العرفية. ووجه ذلك منحصر بالالتزام بكون دلالة الأداة على العموم يتبع سعة المدخول المستفاد من جريان مقدمات الحكمة فيه. وبالجملة : فلفظ : « كل » يفيد شمول الحكم لجميع الأفراد ، في قبال العموم البدلي الّذي لا يكون الحكم متعلقا الا بفرد على البدل ، اما تعلق الحكم بكل فرد فرد أو بالمجموع ، فهو خارج عن مفاد لفظة : « كل » ، بل يستفاد من قرائن أخرى ، فتدبر.

مقدمات الحكمة.

فعلى البناء على كون مجراها هو المراد الجدي - كما عليه النائيني - يكون العام مقدما على المطلق بلا كلام ، لأنه رافع لمقدماته فيختل الإطلاق - لكن الأمر الّذي لم يعلم وجهه هو التزام المحقق النائيني بذلك مع التزامه بأن دلالة العام على العموم بالإطلاق لا بالوضع ، إذ يكون التعارض على هذا بين الإطلاقين - وعلى البناء على كون مجراها هو المراد الاستعمالي - كما عليه الآخوند - لا وجه لتقدم العام على المطلق ، لانعقاد ظهور المطلق في الإطلاق قبل ورود العام ، لتمامية مقدمات الحكمة ، فتكون المعارضة بين شمول كل منهما وإطلاق الآخر فترجع المعارضة إلى الشمولين.

وكون شمول العام بالوضع وشمول المطلق بالقرينة العقلية ، لا يوجب تقدم العام على المطلق ، إذ لم يعلم أقوائيتها من الدلالة العقلية.

نعم ، لو كان الشمول في المراد الجدي - بمعنى ان مقتضى المقدمات العقلية هو العموم في المراد الجدي - كان العام مقدما عليه ، لأن ملاك الشمول في الإطلاق هو تساوي الإقدام وعدم الميزة لبعض الافراد على بعض ، فيكون تخصيص بعضها

ص: 336

بالحكم ترجيحا بلا مرجح ، ومع ورود العام يخرج بعض الافراد لوجود المقيد ، ولا يجري هذا في العام لكون دلالته بالوضع لا بهذا الملاك ، فالتفت.

ومنها : ما لو تعارض مفهوم الشرط مع مفهوم الغاية. فقد التزم المحقق النائيني بتقدم الثاني على الأول ، لأن دلالة الكلام على مفهوم الغاية بالوضع ودلالته على مفهوم الشرط بالإطلاق ، وهو متوقف على تمامية المقدمات المختلفة بورود ما يصلح للتقييد (1).

والكلام فيه كبرويا ، ما عرفت من التفصيل بين البناءين في مجرى مقدمات الحكمة.

وصغرويا ، ما تقدم منه قدس سره في محله من : ان دلالة الكلام المغيا على المفهوم بالإطلاق لا بالوضع ، بعين ما ثبت في مفهوم الشرط ، فليراجع.

ومنها (2) : ما لو دار الأمر بين التخصيص والنسخ. كما لو ورد خاص أولا ثم ورد بعد حضور وقت العمل به عام ، ودار الأمر بين تخصيص العام بالخاص ونسخ الخاصّ بالعامّ.

أو ورد عام أولا ثم ورد بعد حضور وقت العمل به خاص ودار امره بين ان يكون ناسخا للعام - بمعنى انه رافع لحكم العام من حين وروده لا من أول ورود العام - أو مخصصا له - بمعنى انه كاشف عن عدم إرادة الخاصّ من العام أولا - ولا ثمرة في هذا القسم ، إذ لا إشكال في ارتفاع حكم العام عند ورود الخاصّ ، سواء كان مخصصا أو ناسخا.

نعم ، تظهر الثمرة فيما لو كان أثر عملي لثبوت حكم العام في المدة بين ورود

ص: 337


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 733 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- هذا البحث يمكن ان يقال انه علمي بحت ، إذ لا مورد له في الخارج ، لأن مفاد الدليل المتأخر سواء كان عاما أو خاصا انما هو بيان ثبوت الحكم من الأول لا من حين وروده. وعليه فلا يحتمل ان يكون ناسخا ، بل يتعين ان يكون مخصصا ، وبعبارة أخرى : لا اختلاف في زمن المنقول والمبيّن من الحكم ، بل في زمن النقل والبيان.

العام والخاصّ من قضاء أو كفارة أو نحوهما.

وعلى كل حال ، فقد حكم بتقديم التخصيص على النسخ ، بمعنى تقديم ظهور الدليل في الدوام والاستمرار على أصالة العموم ، فيخصص العام ، وذلك لندرة النسخ وشيوع التخصيص وكثرته ، فانه يوجب ضعف ظهور أصالة العموم في مدلولها.

وقد ذكر صاحب الكفاية : ان هذا مناف لما التزم به في تقديم العام على المطلق من أقوائية ظهور العام لأنه تنجيزي وظهور الإطلاق تعليقي. لأن ظهور الكلام في الدوام والاستمرار انما هو بالإطلاق ، بخلاف ظهوره بالعموم فانه بالوضع ، فمقتضى ذلك الوجه لا بد من تقديم أصالة العموم على الإطلاق فيما نحن فيه لا العكس.

واما شيوع التخصيص ، فهو انما يوجب أقوائية الظهور الإطلاقي لو كان من قبيل القرائن المكتنفة للكلام ، بحيث يوجب تبدل ظهور العام. وإلاّ فهو لا يقتضي الأقوائية وان أوجب الظن بالتخصيص ، فلاحظ.

فالذي يظهر منه قدس سره هو التوقف في ترجيح أحد الظهورين بنفسه.

وقد أفاد المحقق النائيني قدس سره ان الدوام والاستمرار ليس بثابت بالإطلاق حتى يقع الكلام في ترجيح أحد الظهورين. بل هو ثابت بالاستصحاب.

توضيح ذلك : ان الدوام والاستمرار.

تارة : يلحظ وصفا وعارضا على الجعل ، نظير الحكم بوجوب الحج على المستطيع ، فانه قد لا تحصل الاستطاعة أصلا فلا ثبوت للحكم الفعلي مع استمرار هذا الجعل ودوامه مطلقا.

وأخرى : يكون وصفا للمجعول دون الجعل. نظير جعل وجوب التسبيح ساعة عند الدخول إلى البلد ، فإن الاستمرار ساعة من شئون المجعول وهو الوجوب دون الجعل إذ الجعل واحد كما لا يخفى.

والنسخ الّذي يرجع إلى قطع الاستمرار ورفع الدوام انما يرتبط باستمرار

ص: 338

الجعل لا المجعول ، فان الاستمرار وعدمه في المجعول لا يرتبط بالنسخ أصلا.

وإذا كان الاستمرار من صفات الجعل ويتوقف عليه توقف العارض على معروضه لم يصلح الدليل المتكفل لإنشاء الجعل لبيان الاستمرار ، لأنه متأخر عن وجود الجعل ، والدليل الإنشائي انما يتكفل إيجاد الجعل ، فيمتنع ان يتكفل بنفسه إثبات استمراره ، بل لا بد من دليل آخر يتكفل بيان الاستمرار.

وليس من الأدلة الاجتهادية ما يصلح لبيان ذلك الا ما يتوهم من قوله : « حلال محمد صلی اللّه علیه و آله حلال إلى يوم القيامة ... » ، وهذا الدليل ظاهر في بيان دوام الشريعة المحمدية بما لها من الأحكام والمجموع بما هو مجموع ، لا دوام كل حكم من أحكامه.

وعليه ، فالدليل الّذي يتكفل الاستمرار هو الاستصحاب ، فباستصحاب الحكم يثبت بقاؤه ودوامه واستمراره.

وإذا كان الاستمرار ثابتا بالاستصحاب لم يصلح لمعارضة أصالة العموم في ما نحن فيه ، لأنها دليل اجتهادي حاكم أو وارد عليه بلا كلام.

مع امتناع جريان الاستصحاب في بعض الصور ، وهو صورة تأخر الخاصّ ، فانه مع احتمال كون الدليل مخصصا وان حكم العام لم يكن ثابتا للخاص من حينه ، لا مجال لاستصحاب الحكم لأن الشك في أصل الحدوث ، فيبتني جريانه على قاعدة اليقين وهي غير تامة.

وبالجملة : ليس في المقام ظهوران يعارض أحدهما الآخر ، بل المعارضة البدوية بين الاستصحاب وأصالة العموم ، ولا كلام في تقدمها عليه. فالالتزام بالنسخ - بحسب قواعد المعارضة - متعين.

إلاّ انه لما كان بناء العقلاء منعقدا على عدم العمل بأصالة العموم لو كان هناك خاص ولو كان سابقا أو لاحقا ، لأنه يكون قرينة عليه ، لم يمكن الالتزام بأصالة العموم فيما نحن فيه.

ص: 339

فعدم الالتزام بالعموم انما كان لهذا الأمر ، لا لأقوائية ظهور دليل الاستمرار ، إذ دليله الأصل ولا ظهور فيه ، فتدبر جيدا (1).

والّذي يتخلص من كلامه امران :

الأول : ان استمرار الجعل لا يمكن بيانه بنفس الدليل المتكفل لبيان الجعل. لأنه متأخر عن وجود الجعل ، فلا يمكن بيانه بنفس الدليل المتكفل لإيجاد الجعل. فالدليل عليه هو الاستصحاب ، إذ لا دليل اجتهاديا يتكفل بيانه.

الثاني : ان الخاصّ المتقدم والمتأخر يكون قرينة على العام ، بحيث يسلم ظهوره - كما في أحد تقريرات بحثه (2) - أو يكون حاكما عليه لأقوائية ظهوره من ظهور العام - كما في التقرير الآخر (3) - والكلام معه يقع في كلا الأمرين :

اما الأمر الأول (4) : فتحقيقه : ان الدليل بدلالته على نفس الجعل وان كان

ص: 340


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول1. 733 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2. 513 - الطبعة الأولى.
3- الكاظمي الشيخ محمد على فوائد الأصول 4 - 733 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
4- هذا ما ذكرناه سابقا. والتحقيق ان الجعل ليس مدلولا للكلام كي يبحث عن كون استمراره مما يؤدى بإطلاقه أو لا يؤدى ، لأنه فرع أصل الثبوت. وذلك لما أشرنا إليه في مبحث دوران الأمر بين العموم واستصحاب حكم المخصص ، من كون الجعل عبارة عن نفس الفعل الخارجي الصادر من المولى ، نظير الاخبار والإنشاء والاستعمال ، بل هو نفس الإنشاء بداعي تحقق المنشأ في ظرفه ، أو لإبراز الاعتبار النفسيّ. ومن الواضح ان الاستعمال والاخبار والإنشاء ليست من مداليل اللفظ المستعمل في ذلك المقام ، بل هي تتحقق بإلقاء الكلام وإرادة المعنى به ، فهي مسببة عنه لا محكية به. هذا ، مع انه ليس من سنخ المفاهيم القابلة للسعة والضيق ، بل هو من سنخ الوجودات ، نظير المعنى الحر في على ما حقق في محله. ومن الواضح انه يعتبر في الإطلاق ان يكون المعنى مدلولا للفظ ، وان يكون من المفاهيم القابلة للسعة والضيق. وكلا الأمرين مفقودان في الجعل ونحوه مما عرفت. هذا كله مضافا إلى ما حققناه في مباحث الخيارات من : انه لا بقاء للعقد الإنشائي ، لأن الإنشاء يتصرم بتصرم الاستعمال. وإذا فرض ان الجعل بمعنى الإنشاء كما بيّنّاه في مبحث القطع ، كان متصرم الوجود فلا بقاء له. نعم ، الأثر يترتب عليه لمجرد حدوثه ، فإذا حصل الإنشاء في ظرف يتحقق المنشأ في ظرفه ولو كان بعيدا عن ظرف الإنشاء ، بل ولو لم يكن المنشأ في ذلك الظرف قابلا للاعتبار ، كما في الوصية بوقف داره بعد موته بسنة. وعلى هذا ، فلا يتصور الشك في بقاء الجعل كي يرجع فيه إلى الإطلاق أو غير ذلك. نعم ، هنا شيء ، وهو : ان المنشأ انما يترتب في ظرفه اللاحق على الإنشاء السابق إذا لم يرفع المنشئ اليد عن المنشأ ، أو أنشأ ما أنشأه أولا ، وهذا الشرط اما هو مأخوذ بوجوده الواقعي أو مأخوذ بوجوده العلمي ، بأن يكون عدم العلم وعدم وصول الجعل المخالف كافيا في تحقق المنشأ في ظرفه لدى العقلاء ، فالشك في النسخ يرجع إلى الشك في تحقق إنشاء مخالف للإنشاء السابق ، فيمكن ان يرجع في نفيه إلى الاستصحاب. لكن الاستصحاب لا يقاوم العموم ، فإذا تأخر العام عن الخاصّ كان حاكما أو واردا على الاستصحاب ، وكان متكفلا لبيان تحقق الإنشاء المخالف. واما ما ذكره المحقق النائيني من الرجوع إلى الخاصّ والحكم بالتخصيص في هذه الحال. فهو غريب كما أوضحناه في المتن. فلاحظ.

يمتنع ان يتكفل بيان استمراره لتأخره عن وجود الجعل ، إلاّ انه بالدلالة الالتزامية يمكن ان يتكفل بيان الاستمرار.

بيان ذلك : ان فعلية الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية لا تتحقق الا مع بقاء الجعل إلى زمان فعليته ، فمثلا : لو علق الحكم على امر لم يكن حال الجعل بحاصل ثم حصل ، فالحكم انما يكون فعليا في هذا الفرض - أعني : فرض حصول الشرط - لو كان الجعل مستمرا إلى هذا الزمان ، وإلاّ فلو رفع الجعل لم يصر الحكم فعليا كما هو واضح جدا. كما انه يلغو الجعل لأمر متأخر إذا فرض رفع اليد عنه ، لأن الجعل إنما هو بلحاظ تحقق المجعول وهو لا يتحقق مع رفع الجعل ، ففعلية الحكم تستلزم استمرار الجعل ودوامه.

وعليه ، فالدليل المتكفل لجعل الحكم في زمان وفعليته في وقت يدل بالالتزام على استمرار الجعل إلى ذلك الوقت ، فالدليل يتكفل بيان استمرار الجعل بالالتزام

ص: 341

بمقدار ثبوت فعلية الحكم المجعول.

فمع ثبوت استمرار المجعول بالإطلاق - كما فيما نحن فيه ، حيث ان ثبوت الحكم للافراد الطولية بواسطة الإطلاق - يكون الدليل المتكفل للجعل دالا بالالتزام على استمرار الإطلاق المجعول ، فهو مفاد الإطلاق التزاما. ولعله إلى هذا يرجع ما يذكره الاعلام من ان ظهور الدليل في الاستمرار بالإطلاق.

وبذلك لا يحتاج إلى إثبات الاستمرار بالاستصحاب ، إذ هو مفاد نفس الدليل بالالتزام.

واما الأمر الثاني : فهو موضع العجب من كلامه بالنسبة إلى الخاصّ المتقدم. وذلك لأن مفاد العام ..

ان كان هو ثبوت الحكم من الزمان الأول - أعني : زمان النبي صلی اللّه علیه و آله ، كما هو الظاهر من النصوص الواردة عن أهل البيت علیهم السلام - فلا كلام في تقدم الخاصّ عليه ، إذ لا يحتمل حينئذ كونه ناسخا للخاص ، لأن الخاصّ يكون قرينة عليه موجبة للتصرف اما في ظهوره أو في حجيته. ولكنه خلاف الفرض ، إذ المفروض ان الأمر يدور بين التخصيص والنسخ ، وعلى الفرض المذكور يتعين التخصيص.

وان كان مفاده ثبوت الحكم من حين ورود الدليل - كما هو الفرض ، إذ عليه يتأتى احتمال النسخ - فلا تنافي بين العام والخاصّ حدوثا ، إذ لا منافاة بين الحكم على فرد في زمان والحكم عليه في زمان آخر. وانما التنافي بين حكم العام وبقاء حكم الخاصّ ، إذ يلزم اجتماع الحكمين المتنافيين على موضوع واحد.

وقد عرفت انه قدس سره يرى : ان بقاء جعل حكم الخاصّ انما يكون بالاستصحاب لا بنفس الدليل. فكيف يكون الاستصحاب قرينة على العام وموجبا للتصرف في ظهوره أو في حجيته؟! كما انه لا معنى لجعل الخاصّ قرينة بعد عدم تكفله بمدلوله لحال البقاء. هذا هو موضع العجب والّذي لا نعرف له حلا

ص: 342

يتوافق مع القواعد الصناعية ، إذ ليس من يدعي مصادمة الاستصحاب لأصالة العموم فضلا عن كونه موجبا لإلغائها في مورده.

واما السيرة العقلائية ، فلم يثبت قيامها في مفروض البحث. نعم ، هي قائمة على تقديم الخاصّ من الروايات على العام ، لكن أشرنا إلى انه لا احتمال للنسخ في النصوص لأنها جميعها تتكفل بيان الحكم من الأول ، فلا يتصور فيها النسخ ، فتكون خارجة عن مورد البحث.

ولم يتعرض أحد من الاعلام إلى هذه الجهة من كلامه ، بل من تعرض لكلامه ركز مناقشته على أصل الدعوى من إيجاب الخاصّ التصرف في العام ظهورا أو حجية.

ومما ذكرنا يتضح عدم صحة ما أفاده السيد الخوئي - كما في بعض تقريراته - في حل التردد من : ان الخاصّ المقدم يكون قرينة عرفية على العام ينافي ظهوره. ومن : ان مفاد العمومات ثبوت الأحكام العامة في زمان النبي صلی اللّه علیه و آله لا من حين صدورها ، لأن الأئمة علیهم السلام مبينون للأحكام لا مشرعون ، فلا احتمال للنسخ (1).

إذ الأخير وان كان تاما في نفسه لكنه خروج عن موضع الدعوى إذ المفروض فيه تردد الأمر بين النحوين.

والأول محل الكلام ، لأن ثبوت حكم الخاصّ في زمان العام على مذهبه وان كان بالإطلاق ، إلاّ انه لم يظهر بعد كون الإطلاق قرينة عرفية على العام ، فتدبر.

والتحقيق ان يقال : اما في صورة تقدم الخاصّ ان مفاد العام ..

ان كان ثبوت الحكم من الزمان الأول لا من حين وروده ، فلا إشكال في تقدم الخاصّ على العام إذ لا احتمال للنسخ حينئذ ، بل التخصيص متعين ، اما لانهدام ظهور العام أو لعدم حجيته على الكلام في ظهوره في العموم بالوضع أو بالإطلاق.

ص: 343


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 385 - الطبعة الأولى.

وجريان مقدمات الحكمة في المراد الاستعمالي أو الجدي على الأخير -

وان كان مفاده ثبوت حكم العام من حين وروده - كما هو المفروض - فيدور الأمر بين تخصيص العام بالخاص ونسخ الخاصّ بالعامّ ، وحيث ان ثبوت الاستمرار والدوام كان بالإطلاق - إذ دلالة الدليل عليه بالالتزام من جهة الإطلاق فهو من ملازمات الإطلاق - فمن يلتزم بتقديم ظهور العام الوضعي على الظهور الإطلاقي لاختلال الإطلاق الحاصل من الظهور الوضعي على الظهور الإطلاقي لأنه مسبب عن ظهور الوضع فيتعين عليه فيما نحن فيه الالتزام بالنسخ وتقديم أصالة العموم.

ومن لا يلتزم بذلك - كما تقدم منا - فليس لديه ما يرجح به أحد الظهورين على الآخر فلا بد من ملاحظة كل مورد بنفسه وخصوصياته ، والحكم بترجيح أحدهما على طبقها.

اللّهم إلاّ ان يدعى ان كثرة التخصيص وندرة النسخ وان لم تكن من القرائن العرفية المكتنفة للكلام بحيث توجب عدم انعقاد ظهور للعام في العموم من أول الأمر ، إلاّ انها موجبة لتضعيف ظهوره في العموم بحيث يكون الظهور الإطلاقي في الفرض أقوى من ظهور العام ، فيتعين التخصيص دون النسخ ولكن هذه دعوى تحتاج إلى إثبات كما لا يخفى.

واما في صورة تأخر الخاصّ ، فالامر لا يدور بين النحوين على التقديرين ، لأنه على تقدير كون مفاد الخاصّ هو ثبوت الحكم من أول الأمر ، فالتخصيص متعين ، إذ لا يحتمل كونه ناسخا على هذا الفرض ، لأن مفاده نفي الجعل لا نفى استمراره.

وعلى تقدير كون مفاده ثبوت الحكم من حين وروده ، فالنسخ متعين ، ولا يحتمل التخصيص إذ لا تنافي بين مفاد الخاصّ والعام حدوثا ، بل التنافي بين مفاد الخاصّ واستمرار جعل حكم العام ، فتقدم الخاصّ معناه الالتزام بالنسخ كما لا

ص: 344

يخفى.

وتوهم تأتي الاحتمالين لو تردد مفاد الخاصّ بين ان يكون ثبوت الحكم من الأول أو من الحين ، إذ عليه يحتمل كونه ناسخا أو مخصصا.

واضح الفساد : إذ مع إجمال الخاصّ بالنسبة إلى ثبوت حكمه من أول الأمر يؤخذ بالقدر المتيقن منه ، وهو ثبوت الحكم من حين وروده ، فتبقى أصالة العموم إلى حين وروده سالمة عن المعارض ، فيتعين الالتزام بالنسخ أيضا ، فلاحظ.

وللمحقق العراقي كلام في المقام ينافي جميع ما تقدم ، محصله : ان دوران الأمر بين النسخ والتخصيص لا يرجع إلى التصادم بين الظهورين كي تصل النوبة إلى الجمع الدلالي وترجيح الأقوى ظهورا ، بل التصادم بين أصالة الجهة وأصالة الظهور.

وذلك لأن النسخ تصرف في جهة الكلام ، إذ مرجعه إلى ان الكلام لم يكن صادرا عن واقع بحيث يجب على المكلف الأخذ به ، بل كان بداع آخر مع حفظ ظهوره ودلالته على مدلوله ، فيكون نظير صدور الكلام عن تقية.

وعليه فاحتمال النسخ لا يرجع إلى مقام الظهور والدلالة ، بل يرجع إلى مرحلة جهة صدور الكلام ، فيكون التعارض فيما نحن فيه بين أصالة الجهة وأصالة الظهور ، فلا معنى للبحث عن ترجيح أحدهما على الآخر في مقام الدلالة والظهور.

وما أفاده قدس سره لا يرجع إلى محصل ، وحيث انه ربط مورد النسخ بمورد التقية لا بد من معرفة حقيقة التقية في تحقيق مناقشة ما أفاده ، فنقول : ان التقية على نحوين :

الأول : التقية في مقام العمل ، وذلك بأن يكون الدليل الدال على الحكم دالا عليه واقعا وجدا ، بحيث يجب على المكلف امتثاله ويأثم بمخالفته ، غاية الأمر يكون الملاك لجعل الحكم ملاكا ثانويا محدودا واقعيا ، وهو التقية وحفظ النّفس من الهلاك.

الثاني : التقية في مقام الحكم ، وذلك بأن لا يكون مراد واقعي على طبق

ص: 345

الإنشاء ، بل كان الإنشاء بداع آخر غير الواقع وهو الاحتراز عن الضرر ، فالغرض متمحض في الإظهار لا غير ، فلا يجب على المكلف الأخذ بذلك.

وتشبيه مورد النسخ بمورد التقية - بتقريب كونه يرجع إلى بيان ان صدور الحكم لم يكن عن إرادة واقعية بحيث يتحتم على المكلف الالتزام به ، بل كان هناك غرض آخر - يتناسب مع إرادة المعنى الثاني من التقية ، إذ على الأول يجب على المكلف الأخذ بالحكم للإرادة الجدية على طبقه ، ويكون ارتفاعه عند ارتفاع ملاكه من باب تبدل الموضوع كالمسافر والحاضر.

وعليه ، يكون النسخ والتخصيص في مرحلة واحدة ، إذ التخصيص يكشف أيضا عن عدم الإرادة الحقيقية على طبق العام. فالدليل الناسخ والمخصص يشتركان في ان مفادهما نفي ظهور الدليل في مفاده جدا وحقيقة ، فالتصادم يرجع إلى مرحلة الدلالة والكشف عن المراد الجدي :

فتتجه حينئذ مراعاة المرجحات الدلالية.

هذا إذا كان مراده بالتقية في مقام الحكم ذلك ، كما هو المشهور. واما إذا كان مراده منها معنى يجتمع مع الإرادة الحقيقية للحكم ، وذلك بأن تكون التقية هي صدور الحكم وإرادته جدا ، ولكن لا بداعي الجد بل بداعي حفظ النّفس - مثلا - وهو أيضا لا يجب امتثاله ، لأنه وان كان مرادا جدا لكن إرادته الجدية لم تكن بداعي الجد ، فيكون معنى النسخ حينئذ غير ما ذكر من رجوعه إلى بيان عدم القصد الحقيقي على طبق المنسوخ.

بل هو : ان يكون الكلام على طبقه مراد حقيقي ، إلاّ ان هذا لم يكن عن داعي الجد في الواقع على حد تعبيره ، بل كان بداع آخر ، فالنسخ بيان لعدم كون المراد الواقعي عن داعي الجد ، فيختلف حينئذ عن التخصيص مرحلة ، لأن التخصيص بيان لعدم كون العموم مرادا جدا ، فهو في مرحلة المراد الحقيقي ، والنسخ بيان لعدم كون المراد الجدي بداعي الجد وبملاك واقعي بل كان بداع آخر ، فهو في مرحلة

ص: 346

الداعي للإرادة الجدية ، وهو المعبر عنه بجهة الصدور.

فهذا المعنى - على تقدير تسليم صحته وعدم الخدشة فيه بعدم تصور عدم كون الإرادة الجدية بداعي الجد - لا يجدي في كون التعارض بين أصالة الجهة وأصالة الظهور ، بل لا تصل النوبة في المعارضة إلى أصالة الجهة.

وذلك ، لأن شأن أصالة الجهة شأن أصالة الصدور في لزوم فرض تماميتها في كلا الدليلين ابتداء وملاحظة مدلوليهما ، فان أمكن الجمع بينهما عرفا بنحو يرتفع التنافي بها فهو ، وإلاّ سرى التنافي بينهما إلى السندين ، إذ لا يمكن صدور المتنافيين معا.

ففي ما نحن فيه ، وان كان احتمال النسخ يرجع إلى التصرف في الجهة بهذا المعنى - إلاّ انه يفرض تمامية الجهة في كل من الدليلين ابتداء وتلحظ المعارضة بين المدلولين ، فان أمكن الجمع بينهما لا تصل النوبة إلى تعارض أصالتي الجهة أو الصدور ، وإلاّ سرى التنافي إلى المرتبة السابقة على الدلالة من الجهة أو الصدور ، إذ لا تنافي بين أصالتي السند أو الجهة في كل من المدلولين لو لا تنافي مدلوليهما ، فمع إمكان الجمع لا تصل النوبة إلى التنافي بين السندين أو الجهتين وإلاّ سرى إليهما.

وعليه ، فالتعارض بين ظهوري العام والإطلاق لما كان حاصلا فيما نحن فيه ، إذ يمتنع العمل بأصالة الظهور في كل منهما لمنافاة المراد الجدي في أحدهما له في الآخر ، فلا بد من ملاحظتهما وملاحظة مرجحات أحدهما على الآخر ، ولا نحتاج إلى أكثر من هذا.

واما عدم صحة تسمية هذه المعارضة بالدوران بين النسخ والتخصيص - لأن النسخ لا يرتبط بمرحلة الظهور - فهو لا يضر بواقع المطلب من حصول المعارضة بينهما وترتب الأثر الشرعي عليه ، وعدم وصول النوبة إلى المعارضة بين أصالة الجهة وأصالة الظهور.

فمحصل الإشكال : ان النسخ بمعنى لا يرجع إلى التصرف بأصالة الجهة ،

ص: 347

وبمعنى آخر وان كان يرجع إليها إلاّ ان المعارضة في مرحلة الظهور.

انقلاب النسبة

هذا كله في الجمع العرفي الدلالي فيما كان التعارض بين دليلين. واما إذا كان التعارض بين أكثر من دليلين ، فهل يلاحظ الجمع والعلاج بين كل منهما وغيره دفعة واحدة ، أم يصح الترتيب في العلاج ويلزمه انقلاب النسبة بين بعض المتعارضات والآخر ، كما لو ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم فساق العلماء » ثم ورد : « لا تكرم النحويين » ، فانه مع الالتزام بالترتيب في العلاج لو خصص العام أولا : بدليل « لا تكرم الفساق » انقلبت نسبته مع دليل : « لا تكرم النحويين » إلى العموم من وجه بعد ما كانت العموم المطلق. بخلاف ما لو لوحظ العلاج دفعة واحدة ، فانه يخصص العام بكلا الخاصّين ويبقى الباقي؟

فمحل الكلام : انه مع التعارض بين أكثر من دليلين هل يلزم الترتيب في العلاج بين المتعارضات فتنقلب النسبة بين المتعارضات الأخرى ، أو لا يلاحظ الترتيب ، بل تلاحظ المتعارضات دفعة واحدة؟

وقد فصل الشيخ الأعظم قدس سره بين صور التعارض.

فحكم في بعضها بعدم صحة الترتيب في العلاج ، وهي صور ما إذا كانت نسبة المتعارضات إلى الدليل نسبة واحدة ، كما لو كانت نسبتها نسبة الخاصّ إلى العام ، نظير ما لو ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم النحويين » و : « لا تكرم الصرفيين ».

وحكم في البعض الآخر بملاحظة الترتيب في العلاج ، وهي صور ما إذا كانت نسبة المتعارضات مختلفة ، كما لو ورد عام ثم ورد عام آخر نسبته مع الأول نسبة العموم من وجه ثم ورد مخصص لأحدهما ، نظير : « أكرم العلماء » و : « لا تكرم فساق العلماء » و : « يستحب إكرام العدول » ، فانه حكم بتخصيص : « أكرم العلماء »

ص: 348

بدليل : « لا تكرم فساقهم » ، فتنقلب نسبته إلى دليل : « يستحب إكرام العدول » إلى نسبة الأخص مطلقا فيخصص به.

وتكون النتيجة : حرمة إكرام فساق العلماء ووجوب إكرام عدولهم واستحباب إكرام العدول من غير العلماء.

وقد استدل على عدم صحة الترتيب في الأول :

أولا : بان تقديم أحد الخاصّين المعين على العام ثم ملاحظة نسبة العام مع الخاصّ الآخر ترجيح بلا مرجح ، فيتعين ملاحظتهما معا بالنسبة إلى العام.

وثانيا : بأنه مع تخصيص العام بأحد المخصصين لا ينعقد له ظهور في الباقي الا مع إحراز عدم المخصص ، ومع وجود الخاصّ الآخر لا مجال لإحراز عدم المخصص حتى بالأصل.

وعليه ، فلا ينعقد له ظهور في الباقي كي يصلح لمعارضة الخاصّ الآخر ، وملاحظة النسبة بينهما.

وبالجملة : انعقاد ظهور العام في الباقي حتى يكون صالحا للمعارضة يتوقف على العلاج بالنسبة إلى الخاصّ الآخر ونفي مخصصيته ، والعلاج بالنسبة إليه يتوقف على انعقاد ظهوره كي تلاحظ النسبة بينه وبين الدليل الآخر.

وبهذا الدليل دفع توهم صحة الترتيب في العلاج ، مع كون أحد الخاصّين ثابتا بالإجماع أو العقل. فانه وان أقره في نفس الترتيب ، لأنه يكون كالمخصص المتصل الّذي لا إشكال في تقدمه على العام ، لكنه لم يقره في دعوى انقلاب النسبة به - كما ادعاه المتوهم -.

واستدل على ملاحظة الترتيب في الثاني : باستلزام عدم الترتيب لمحذور طرح النص ، أو طرح الظاهر في مدلوله أجمع.

وذلك : لأنه لو لم يرتب في العلاج وقدم العام الآخر وخصص به العام ، كما لو خصص : « أكرم العلماء » ب- « يستحب إكرام العدول » فاما ان يخصص العام بالخاص

ص: 349

وهو : « لا تكرم فساق العلماء » أولا.

فعلى الثاني يلزم طرح النص ، لأن الخاصّ نصّ في مدلوله والعام ظاهر فيه ، وعلى الأول يلزم طرح الظاهر مطلقا ، وهو ممنوع ، لأن العام نصّ في منتهى التخصيص ، فيلزم من طرحه طرح النص.

وبالجملة يلزم من عدم الترتيب طرح أحد النصين ، وهو محذور كما لا يخفى (1).

وقد يورد على ما أفاده الشيخ قدس سره أخيرا من ملاحظة الترتيب وانقلاب النسبة في القسم الثاني بوجهين :

الأول : في ما ذكره في نفي توهم صحة الترتيب وانقلاب النسبة من عدم انعقاد ظهور للعام في الباقي الا بعد العلاج ونفي المخصص ، ومع وجوده لا يتم له ظهور ، فيخرج عن موضوع المعارضة لأنه يكون مجملا.

فانه جار في هذا القسم - على ما يظهر منه - إذ مع فرض وجود المزاحم للعام المخصص وهو العام الآخر ، لا ينعقد للعام ظهور في الباقي بعد التخصيص الا بعد العلاج ونفي مزاحمة العام الآخر له ، وإلاّ كان مجملا ، فلا يصلح للتخصيص ، فالكلام المتقدم في تلك الصورة يجري بعينه في هذه الصورة.

الثاني : فيما ساقه من الدليل على لا بدية الترتيب وانقلاب النسبة به في الصورة الثانية.

فانه يمكن الخدشة فيه : بان الأمر لا ينحصر بين الترتيب في العلاج ولزوم المحذور الّذي ذكره ، كي يتعين الالتزام بالترتيب وانقلاب النسبة فرارا عن المحذور ، بل يمكن الالتزام بشق ثالث ، وهو تساقط الأدلة بمجموعها بالمعارضة ، فانه إذا كان تخصيص : « أكرم العلماء » بدليل : « يستحب إكرام العدول » يلزم منه المحذور المزبور ، يقع التعارض بين مجموع : « لا تكرم فساق العلماء » و : « يستحب إكرام العدول »

ص: 350


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /458- الطبعة القديمة.

و : « أكرم العلماء ».

والنتيجة هي التساقط - نظير الخاصّين الموجبين لخلو العام عن المورد - فالمحذور لا يوجب الالتزام بانقلاب النسبة ، بل يمكن الالتزام بالتساقط لأجله.

ولكن الإنصاف ان كلا الوجهين غير تامين.

اما الثاني : فلأنه يمكن ان يكون مراد الشيخ امرا غير ما ذكر لا يتوجه عليه الإشكال المذكور.

وقبل التعرض لبيانه لا بد لنا من الإشارة إلى شيء وهو : ان المعارضة بين الدليلين المتساويين في النسبة لا تتحقق مع كون حجية أحد الدليلين الفعلية تستلزم وقوع محذور غير محذور المعارضة ، فانه مع هذا لا يكون الدليل المستلزم للمحذور صالحا للمانعية عن الدليل الآخر ، فيبقى الدليل الآخر بلا معارض.

إذا عرفت هذا فنقول : انه حيث كان الالتزام بالعامّ الآخر غير المنافي للخاص - وهو : « يستحب إكرام العدول » - وحجيته الفعلية في المجمع مستلزما لوقوع محذور طرح أحد النصين - كما عرفت - كان غير صالح للمانعية عن العام الآخر ، وهو : « أكرم العلماء » في المجمع. وعليه فيكون العام ثابتا في هذا المجمع ويخصص بالخاص حينئذ.

وذلك نتيجة انقلاب النسبة ، فلا تمكن حينئذ دعوى التساقط لأنها فرع ثبوت المعارضة الفعلية ، وقد عرفت عدمها بعد كون الالتزام بأحد العامين مستلزما للمحذور.

ومن هنا يتضح الجواب عن الإيراد الأول ، وهو إيراد المهافتة. فانه (1) ، يبتني

ص: 351


1- فان ما ذكره هناك يبتني على القول بانقلاب النسبة ، فانه ادعى عدم انعقاد الظهور له في الباقي كي يقال بانقلاب النسبة ، وفي المقام لم يلتزم بالانقلاب ، بل التزم بما هو نتيجة الانقلاب ، وهو حجية العام المخصص في المجمع ، دون الآخر ، فلا مهافتة.

على كون العام الآخر صالحا للمانعية ، إذ يجري حينئذ الكلام المتقدم.

وقد عرفت عدم صلاحيته للمانعية والمعارضة بعد فرض كون الالتزام به مستلزما للمحذور.

كما انه يمكن دفعه بوجهين آخرين ، وهما :

الأول : ان المانع من انعقاد الظهور في الباقي ليس هو مطلق وجود المعارض كي يكون عدمه شرطا في انعقاد الظهور ، بل هو وجود الأظهر المتقدم عليه ، فعدم الأظهر هو الشرط في انعقاد الظهور في الباقي ، وليس العام الآخر فيما نحن فيه أظهر من العام المخصص بالخاص ، إذ المفروض كون النسبة بينهما عموما من وجه ، ولم تفرض أظهريته حتى يكون صالحا للتقدم عليه وتخصيصه بغير المجمع.

وهذا بخلاف القسم الأول ، فان المفروض فيه وجود الأظهر المانع من انعقاد ظهور العام في الباقي وهو الخاصّ.

الثاني : ان العام المخصص ، وهو : « أكرم العلماء » نصّ في منتهى التخصيص.

وعليه ، فهو متقدم على العام الآخر ومخصص له بهذا المقدار ولو كان مجملا غير معين وتكون رتبته سابقا في العام الآخر ، لأسبقية رتبة الخاصّ على العام ، فلا يصلح العام الآخر لمعارضته في المقدار الزائد على منتهى التخصيص.

ومعه يتمسك بإطلاقه في إثبات إرادة جميع الباقي ويخصص العام الآخر به حينئذ بهذا المقدار ، كما هو الحال في كل خاص بالنسبة إلى العام ، فلاحظ.

والمتحصل مما أفاده الشيخ قدس سره : انه يلتزم بأن للعموم ظهورا ثانويا في الباقي بعد التخصيص وبه تنقلب النسبة ، إلاّ انه غير تام ولا ينعقد في صورة لوجود المعارض الصالح للتخصيص ، فلا يقيد الترتيب في العلاج في انقلاب النسبة ، وتام في بعض الصور الأخرى لعدم المانع ، فيكون الترتيب في العلاج سببا لانقلاب النسبة.

وعلى هذه الجهة يتركز كلام صاحب الكفاية رحمه اللّه وإليها ينظر في

ص: 352

تحقيقه. فقد أفاد قدس سره في الكفاية : بأن النسبة الملحوظة بين الأدلة المتعارضة انما هي بملاحظة ظهور الكلام في مدلوله ، ومع ورود المخصص المنفصل لا ينثلم ظهور العام في العموم كي يدعى انقلاب النسبة ، إذ المخصص المنفصل انما يقتضي تضييق المراد الجدي من العام مع بقاء العام على عمومه ، فتبقى نسبته مع غيره بعد التخصيص هي عينها التي كانت قبل ملاحظة المخصص.

وإلاّ لم يكن وجه لانعقاد ظهور له في الباقي دون غيره من المراتب ، لعدم الوضع وعدم القرينة المعينة ، وانعقاد الظهور في الباقي يتوقف على أحدهما كما لا يخفى (1).

وقد ذكر المحقق النائيني قدس سره وجها لتقريب انقلاب النسبة ، وتوضيحه : ان للكلام دلالات ثلاث :

دلالة تصورية ، وهي انتقال المعنى من اللفظ عند إبرازه وهي لا تتوقف على صدور اللفظ عن إرادة وقصد ، بل هي تحصل ولو لم يكن صدور اللفظ عن اختيار ، وهي نفس الدلالة الوضعيّة عند بعض.

ودلالة تصديقية ، وهي الحاصلة من ضم بعض اجزاء الكلام إلى بعض وملاحظة القرائن المحفوف بها الكلام فقد يكون دالا على غير المعنى الوضعي الأولي ، لوجود القرائن المغيرة لظهوره الأولي ، ويسند المجموع إلى المتكلم ويحكم بأنه قصد تفهيم هذا المعنى المستفاد من الكلام ، وهذه الدلالة تتوقف على صدور الكلام عن إرادة وقصد.

ودلالة ثالثة ، على كون المعنى المقصود تفهيمه هو المراد للمتكلم جدا وواقعا ، ويعبر عنها بالدلالة التصديقية في الكشف عن المراد الجدي. وموضوع الحجية هي القسم الثالث من الدلالات المذكورة ، فان الكشف النوعيّ للكلام عن المراد الجدي هو الّذي يكون موضوع الحجية والاعتبار عند العقلاء.

ص: 353


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية /452- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والمعارضة بين الأدلة انما هي باعتبار الكشف النوعيّ لكل منهما عن المراد الجدي المنافي للآخر بحيث لا يمكن الالتزام بكل منها - وإلاّ فمع الغض عنه لا تعارض بين الأدلة بلحاظ المستعمل فيه في كل منها ، إذ مع العلم بأنه لا مراد جديا على طبق المستعمل فيه والمقصود بالتفهيم لا يكون هناك تزاحم وتعارض بين الأدلة -

ولأجل ذلك تلاحظ النسبة في باب المعارضة بلحاظ مقدار الكشف النوعيّ للدليل عن المراد الجدي فمع تخصيص أحد الدليلين بالمخصص المنفصل تتضيق دائرة كشفه عن المراد الجدي ، إذ يعلم ان المراد الجدي أضيق مما يتوهم ، فيتضيق موضوع الحجية قهرا.

ومعه تنقلب النسبة بالضرورة ، إذ بعد فرض تضييق دائرة كشف العام عن المراد الجدي ، وكون الملحوظ في باب المعارضة هو كشف الدليلين عن المراد الجدي ، كانت نسبة العام المخصص إلى العام الآخر نسبة الخاصّ إلى العام ، لأن ما يلحظ في مقام المعارضة أخص فيه منه في العام الآخر.

ولا وجه لملاحظة مجموع مدلول العام بعد ان لم يكن كاشفا بمجموعه عن المراد الجدي.

وبالجملة : فموضوع أصالة الظهور هو الكشف عن المراد الجدي الواقعي ويثبت بها نفس المراد الجدي ومطابقته لظاهر الكلام ومدلوله الاستعمالي وبذلك تفترق عن أصالة الجهة ، فانها تجري في تعيين كون الكلام مسوقا لبيان المراد الواقعي ، وانه صادر عن الإرادة الحقيقية الجدية لا عن تقية أو امتحان أو نحوهما فأصالة الجهة تجري في إثبات الإرادة الجدية وأصالة الظهور تجري لإثبات المراد الجدي وما تعلقت به الإرادة الجدية بعد فرض ثبوتها وتحققها.

ومن هنا يظهر ما في كلام السيد الخوئي - كما في بعض تقريرات بحثه (1) -

ص: 354


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 387 - الطبعة الأولى.

من المسامحة والغفلة في عدّ أصالة الظهور وأصالة الجهة أصلا واحدا يختلف التعبير عنه - وهو يتضيق بعد ورود المخصص فتتضيق الحجية قهرا ، وتنقلب النسبة.

ولكن ما أفاده قدس سره - وان كان قد استوضحه بحيث جعل انقلاب النسبة بملاحظته من القضايا التي قياساتها معها - لا تمكن الموافقة عليه. وذلك لأن مراده ..

ان كان ان موضوع المعارضة هو الكشف عن المراد الجدي لأنه موضوع الحجية ، فمع تخصيص الدليل بالمنفصل تتضيق دائرة كشفه فتنقلب النسبة حينئذ.

ففيه :

أولا : ان الكشف الّذي يكون موضوع الحجية ليس هو الكشف الشخصي الفعلي الظني أو العلمي ، كي يكون قيام الدليل الآخر المنافي له رافعا له ، إذ لا يبقى معه علم أو ظن بثبوت المراد الجدي على طبق الكلام.

وانما هو الكشف النوعيّ الطبيعي الثابت مع الظن بالخلاف ، بل مع العلم به - وان لم يكن موضوع الحجية في هذا الحال - إذ معناه ان الدليل لو خلي ونفسه كاشف وموجب للظن بالمراد الجدي نوعا ، ولا يخفى اجتماع هذا المعنى مع الظن الشخصي بالخلاف.

وقيام الدليل المخصص لا يوجب تضييق دائرة كشفه النوعيّ كي تنقلب النسبة في مقام المعارضة ، بل يبقى الدليل على ما هو عليه من الكشف وان لم يكن حجة فيه.

وثانيا : ان الكشف النوعيّ ليس هو موضوع الحجية ، بل موضوعها امر آخر وهو الظهور ، بمعنى ان الدلالة الاستعمالية للكلام الظاهرة في المعنى هي التي تكون موضوع الحجية على المراد الجدي عند العقلاء ، نعم ، منشأ ذلك هو ما يقتضيه الظهور من الكشف النوعيّ عن المراد الجدي.

والدليل على ذلك ما هو المتداول على الألسنة والمرتكز في الأذهان من :

ص: 355

« حجية الظاهر » و « ان الظاهر حجة عند العقلاء » ، ونحو ذلك من التعبيرات ، وظاهر انه ليس المراد من الظهور هو نفس الكشف النوعيّ ، بل ما هو من صفات الكلام المساوق للوضوح وعدم الإبهام والخفاء.

اما نفس الكشف النوعيّ ، فهو ليس موضوع الحجية وانما هو ملاكها ، نظير الطريقية التي تكون منشأ لحجية نفس الخبر ، لا ان الطريقية بنفسها حجة عند الشارع أو عند العقلاء.

وان كان مراده ان الملحوظ في مقام المعارضة هو الحجية ، إذ مع فرض عدم حجية أحد الدليلين في مدلوله لا تعارض ، فمع تضييق دائرة الحجية بورود المخصص تنقلب النسبة قهرا ويكون العام المخصص أخص مطلقا من العام الآخر.

ففيه - مضافا إلى انه لا يستدعي مثل هذا التطويل والإسهاب وبيان ان الكشف النوعيّ هو موضوع الحجية ، إذ الحجية تتضيق دائرتها بورود المخصص أيا كان موضوعها ، فيكفي ان يقال بنحو الإيجاز انه بقيام الدليل تتضيق دائرة الحجية ، ومعه تنقلب النسبة ولا داعي إلى هذا التطويل - انه :

ان أريد بذلك ان طرفي المعارضة هما الظهوران بما انهما حجة بحيث يكون وصف الحجية مقوما لموضوع التعارض.

فهو ممنوع ، إذ من البديهي ان الملحوظ في المعارضة وأقوائية الدلالة وضعفها انما هو ذات الدليلين بلا لحاظ اتصافهما بالحجية ، بل الاتصاف انما يكون بعد العلاج ، فقد يتكافأ الدليلان فيسقطان معا عن الحجية ، وقد يتقدم أحدهما لكونه أقوى فيتصف بها دون الآخر ، فالحجية في طول التعارض والعلاج ، لأنها مأخوذة في موضوع التعارض ، فلاحظ.

وان أريد ان طرفي المعارضة هو ذات الظهورين ولكن بالمقدار الّذي يكونان به موضوعا للحجية ، فحيث انه بورود المخصص يكون الظهور الموضوع للحجية أضيق دائرة من ظهور العام الآخر فتنقلب النسبة قهرا.

ص: 356

ففيه : انه ...

ان أريد بالحجية الحجية الفعلية. فقد عرفت انها في طول التعارض والعلاج ، إذ مع المعارضة لا معنى لفرض الحجية الفعلية لكلا الظهورين ، لأنها مركز المعارضة وما عليه التدافع.

وان أريد بها الحجية الشأنية الاقتضائية. فهي لا تتضيق بالتخصيص ، إذ الظهور يبقى على ما كان من قابليته للحجية لو لا المعارض الأقوى.

ولو تنزلنا عن ذلك ، فما قرره قدس سره لا يفيد في إثبات المدعي من ترتب آثار انقلاب النسبة وتقدم العام المخصص على غيره من العمومات المعارضة له.

لأن تقدم الخاصّ على العام انما هو باعتبار أقوائية دلالته وظهوره في الخاصّ من العام - كما أشرنا إليه سابقا - ولا يخفى انه بورود الدليل الخاصّ لا تتضيق دائرة دلالة العام بحيث تقتصر على الباقي الّذي هو موضع التنافي ، بل هو على ظهوره العمومي - كما هو الفرض - وانما المتضيق هو دائرة الحجية ، فالباقي مدلول للعام في ضمن دلالته على العموم فلا يكون العام المخصص أقوى ظهورا في الباقي من العام الآخر ، إذ كل منهما يدل عليه ضمنا بلحاظ دلالته على العموم ، وان كان أحدهما أضيق دائرة في مقام الحجية من الآخر ، إلاّ انه لا يجدي في التقدم ، فتدبر جيدا.

هذا كله فيما يتعلق بكلام هؤلاء الاعلام. وتحقيق الحال ، ان يقال (1) : ان من

ص: 357


1- لا يخفى انه ينبغي ان يبحث عن : ان أحد العامين من وجه إذا خصص بمخصص ، هل يتحقق فيه ملاك تقديم الخاصّ على العام أو لا؟ وهكذا لو خصص العام بأحد الخاصّين ، هل يفقد الخاصّ الآخر ملاك التقديم على العام أو لا؟ ولا أهمية لبيان انقلاب النسبة وعدمه ، فان هذا العنوان لم يؤخذ في موضوع دليل بل المدار على ما عرفت ، فانه هو محط الأثر العملي في تقديم دليل على آخر وعدم تقديمه ، ولو بقيت النسبة على حالها بين الدليلين. وتمهيدا لذلك لا بد من الإشارة إلى الآراء في تقديم الخاصّ على العام ، وهي وجوه : منها : ما قربناه من ان دلالة العام على العموم تتبع جريان مقدمات الحكمة في المدخول ، فيكون الخاصّ منافيا لإطلاق المدخول ، فيتأتى فيه الوجه في تقديم المقيد على المطلق ، وهو كشفه عن عدم كون المتكلم في مقام البيان من جهة المقيد فلا إطلاق له. ومنها : ما ذهب إليه المحقق النائيني - في بعض كلماته - من انه لأجل قرينية الخاصّ على العام ، والقرينة مقدمة عرفا على ذي القرينة بلا كلام ، وعلى هذا بني تقديم الخاصّ على العام ولو كان ظهور الخاصّ أضعف من ظهور العام. ومنها : ما يظهر من صاحب الكفاية وغيره ، من انه لأجل كون الخاصّ أظهر من العام ، والأظهر يقدّم على الظاهر عرفا. إذا عرفت ذلك فلنبدأ في الكلام بالصورة الثانية ، وهي : ما إذا ورد عامين بينهما العموم من وجه ، ثم ورد خاص لأحدهما يخصصه في مورد الافتراق ، كما لو ورد : « أكرم العلماء » وورد : « لا تكرم النجفيين » ، وورد : « لا تكرم العالم غير النجفي ». وليعلم ان البحث يقع في : ان الخاصّ بمجرد ثبوته ووجوده هل يؤثر في قلب النسبة بين : « لا تكرم النجفيين » و : « أكرم العلماء » بالمعنى الّذي عرفته لانقلاب النسبة أو لا يؤثر؟ وليس البحث في انه بعد إعمال الخاصّ وتقديمه هل تنقلب النسبة أو لا؟ كي يرد عليه : بأنه ما الوجه في ملاحظة الخاصّ أوّلا قبل العام الآخر. يبقى في المقام شيء لا بد من التنبيه عليه فيما نحن فيه ، وان تعرض له الاعلام في مجال آخر ، وهو : انه على القول بانقلاب النسبة ولزوم الترتيب في العلاج في بعض الموارد ، قد نعين لزوم الترتيب في العلاج بين الخاصّين الصادرين عن إمامين ، فيخصص العام بالأول ، فمع ورود الثاني تكون نسبته مع العام نسبة العموم من وجه لا نسبة العموم المطلق. وأورد عليه في مصباح الأصول : بأنه قد مرّ مرارا بأن الكلام الصادر عن المعصومين بمنزلة كأنه كلام واحد ، لأنهم في مقام بيان الأحكام لا تأسيسها ، فلا وجه حينئذ لملاحظة الخاصّ الأسبق زمانا ثم يلاحظ المتأخر ، بل يخصص العام بهما دفعة واحدة كما تقدم. والتحقيق ان يقال : ان القائل بانقلاب النسبة اما لأجل ان المخصص المنفصل يهدم ظهور العام في العموم كالمخصص المتصل ، باعتبار ان ظهور العام في العموم بالإطلاق ، واعتبار جواز المقدمات في المراد الجدي كما تقدم ، أو لأجل انه يضيق دائرة حجيته ، وموضوع المعارضة هو الدليل بلحاظ حجيتهما - مع بقاء ظهور العام في العموم اما لأن ظهوره بالوضع أو بالإطلاق ، ولكن المقدمات تجري في المراد الاستعمالي. وعلى كلا التقريبين يتعين الترتيب في الملاحظة مع السبق الزماني ولو من امام واحد. اما على الأول ، فواضح ، لأنه بعد ورود الخاصّ الأول ينهدم ظهور العام في الباقي ، فتكون نسبة الثاني حين وروده نسبة العموم من وجه ، كما لا يخفى. واما على الثاني ، فظهور العام وان كان بعد ورود الخاصّ الأول على حاله ، إلاّ ان حجيته - التي هي مناط المعارضة لا ظهوره - تتضيق قطعا ، فيكون العام حجة في غير مورد الخاصّ الأول ، ويبقى هكذا حتى ورود الخاصّ الثاني ، ومعارضة الخاصّ الآخر انما هي بمقدار حجيته لا بمقدار ظهوره كما هو الفرض. وهما بهذا اللحاظ عامّان من وجه ، وان كان بينهما بلحاظ الظهور عموم وخصوص مطلق. ومن هنا يظهر ما في كلام مصباح الأصول من الابتعاد عن موضع الكلام ونكتته ، فان كون كلام الكل بمنزلة كلام واحد لا ينافي ما ذكرنا ، إذ تعدد الصادر منه الكلام ووحدته لا ترتبط بنكتة المطلب التي بيّناها ، المتقومة بالسبق الزماني وان صدر الكلامان عن امام واحد. نعم ، هذا - أعني : ما ذكرناه - انما يجدي بالنسبة إلى من أدرك الإمامين وسمع من الأول الخاصّ الأول ومن الآخر الثاني. اما بالنسبة إلى من تأخر عن زمان الأئمة عليهم السلام ، وعثر على العام والمخصصين المترتبين زمانا ، فلا يجدي ما ذكر ، لأن ما ذكرناه متقوم بكون العام حجة لديه في غير مورد الخاصّ الأول ثم يرد الخاصّ الآخر ، والحجية انما تكون بالوصول ، ومع وصول المجموع دفعة واحدة لم يكن العام قبل ورود أحد الخاصّين حجة بالنسبة إليه كي تنقلب نسبته مع وروده ، بل هو في هذه الحال حجة في غير مورد الخاصّين. فلاحظ.

ص: 358

يلتزم بأن دلالة ألفاظ العموم على الاستغراق ليست بالوضع وبنفسها ، بل بتبع ما يراد من مدخولها بحسب جريان مقدمات الحكمة فيه.

ويلتزم أيضا بأن مجرى مقدمات الحكمة هو المراد الجدي بحيث يكون الدليل المنفصل موجبا لتضييق دائرة ظهوره الإطلاقي كالمتصل ، وكاشفا عن انه لم يكن في مقام البيان من جهة المقيد ، فينهدم إطلاقه من هذه الجهة وينعقد في غيرها.

من يلتزم بهذين الالتزامين ، لا محيص له عن الالتزام بانقلاب النسبة ، إذ مع ورود الدليل الخاصّ المنافي لأحد العامين ينهدم إطلاقه وينعقد في غير مورد القيد ، فيكون بالنسبة للعام الآخر خاصا.

وبما ان المحقق النائيني يلتزم بكلام الالتزامين فانقلاب النسبة لديه ضرورة واضحة.

ص: 359

واما من يلتزم بدلالة ألفاظ العموم عليه بنفسها لا بتبع ما يراد من مدخولها. أو يلتزم بجريان مقدمات الحكمة في المراد الاستعمالي بحيث لا يكون المخصص المنفصل هادما لظهوره الإطلاقي بل رافعا لحجيته على المراد الجدي.

فلا وجه لالتزامه بانقلاب النسبة ، إذ ظهور العام في الاستغراق لا ينهدم بورود المخصص ، فتبقى نسبته مع العام الآخر كما كانت قبل التخصيص.

نعم ، بناء على ان ورود الخاصّ المنفصل يكون هادما لظهور المطلق في المراد الاستعمالي أيضا ، بحيث يكشف عن انه ليس في مقام البيان لمراده الاستعمالي ، يتجه القول بانقلاب النسبة وان كانت مقدمات الحكمة جارية في المراد الاستعمالي كما لا يخفى.

فمجمل القول : ان انقلاب النسبة لا محيص عن القول به على بعض الالتزامات في باب العام والمطلق ، ولا وجه له على الالتزامات الأخرى.

هذا كله في بيان انه بعد التخصيص هل ينقلب ظهور العام وينعقد له ظهور ثانوي في الباقي فتنقلب النسبة ، أو لا ينقلب ظهوره وبقي على ما كان عليه فلا تنقلب النسبة (1)؟

ص: 360


1- اما بناء على المسلك المختار ، فلأن العام نصّ في بعض افراده بنحو الجملة ، يعني لا يمكن ان يفرض انه ليس في مقام البيان في بعض الافراد بنحو الموجبة الجزئية. نعم ، إثبات الحكم للجميع انما هو بالإطلاق ، فإذا ورد المخصص للعام ، كشف عن عدم كونه في مقام البيان من جهته ، ودل بالملازمة على ان العام في مقام البيان من جهة غيره من الافراد ، فكان العام بمقتضى دلالة الخاصّ التزاما نصا في بعض الافراد غير الخاصّ ، ومقتضى ذلك ان يكون مقدما على العام الآخر غير المخصص ، لأنه نصّ في مورد الاجتماع ، فيكون كما لو فرض ان مورد الاجتماع كان موردا لأحد العامين ، بحيث لا يمكن حمله على غيره لأن تخصيص المورد مستهجن. ولا يقال : ان هذا انما يتم إذا لوحظ الخاصّ أولا ، ولم يقدم الخاصّ على العام الآخر. وذلك ، لأن ملاحظة العامين أولا تستلزم التصرف في التخصيص ، لأن عدم حجية العام في المجمع من باب التساقط ، وهو لا يستلزم كونه نصا في غير المجمع كي تنقلب النسبة بينه وبين الخاصّ الآخر. وعليه ، فلا بد من تقديم الخاصّ في مقام العلاج ، لأنه بوجوده يتصرف في ظهور العام ويوجب قلب النسبة بدلالته الالتزامية ، فيكون المورد من قبيل تقديم الوارد على المورود ، فالتخصيص رافع لموضوع التساقط ، لكن التساقط لا يرفع موضوع التخصيص لأنه لا يوجب الانقلاب. واما صورة كون أحد الخاصّين قطعيا ، فالانقلاب أيضا متعين ، لأنه مع القطع بخروج بعض الافراد ، لا مجال لجريان أصالة العموم في العام ، فيعلم ان مورد العموم غير الخاصّ ، فتكون النسبة بين العام والخاصّ الآخر هي العموم من وجه. ولا مجال لدعوى تقديم الخاصّ الآخر ، للعلم بخروج الخاصّ القطعي ، سواء قدم الخاصّ الآخر ، أو لوحظ في عرض واحد ، أو لا؟ فلاحظ. واما صورة الخاصّ الأخص ، فلا وجه لتقديمه أولا بدعوى العلم بخروجه على كل تقدير ، لأن أحد تقديري العلم هو التخصيص بالأعم ، بل يخصص العام بهما معا ، فلاحظ. هذا تقريب الانقلاب على المختار. واما على مختار صاحب الكفاية ، فالامر كذلك ، لأنه بعد ملاحظة الدلالة الالتزامية للخاص يكون وروده موجبا خصوصية العام المخصص في غير مورده ، فيكون أظهر في الجمع من العام الآخر ، وكذلك على مختار القرينية ، فلاحظ. هذا تحقيق الكلام. واما كلمات الاعلام ففيها كلام. اما مطلب صاحب الكفاية ، فيرده : ان أساس تقديم العام المخصص على العام الآخر لم يكن على انقلاب الظهور وتبدله وعدمه ، بل على نصوصية في المجمع بملاحظة الدلالة الالتزامية للخاص ، سواء بقي على ظهوره في العموم أو لم يبق ، فهو كما عرفت نظير العام الّذي يكون مورد الاجتماع موردا له ، فانه لا يخرج عن ظهوره في العموم بذلك ، ولكنه يقدم على العام الآخر ، فكأنه قدس سره لاحظ لفظ : « انقلاب النسبة » وناقش ذلك على هذا الأساس ، والحال انه لا وجه لذلك ، بعد عدم ورود هذا التعبير في لسان دليل. واما مطلب النائيني ، فقد حققنا رده في المتن بنحو التفصيل ، والعمدة ان موضوع النسبة ليس هو الظهور الحجة ، بل الظهور بنفسه الّذي له مقتضى الحجية ، وان لم يكن حجة فعلا للمعارضة أو لغيره. واما كلام الشيخ ، فهو لا يخلو عن إجمال. هذا ، ولكن الّذي يبدو لنا ان هذا المبحث لا نفع فيه كثير كما كنا نتخيل سابقا ، إذ في هذه الصورة لا بد من الالتزام بنتيجة انقلاب النسبة ، سواء قلنا به أم لم نقل به ، وذلك. اما في صورة العامين من وجه وتخصيص أحدهما المخصص ، فلا بد من تقديم العام المخصص ، اما للانقلاب ، واما لعدم المورد له واستلزامه لغويته ، كما أشار إليه الشيخ. واما في صورة المخصصين اللذين أحدهما قطعي ، فلا بد من تقديم الخاصّ الآخر على العام لعدم الانقلاب. واما لأن تقديم العام في المجمع يستلزم لغوية الخاصّ الآخر وعدم ثبوت الحكم لعنوانه مع انه نصّ فيه ، فمثلا لو ورد : « أكرم العالم » وورد : « لا تكرم النحويين » وكان قطعيا ، وورد : « لا تكرم العالم النجفي » ، ففي الفقيه النجفي يتعارض الخاصّ مع العام. فان قدم العام واقتصر في التخصيص على النجفي النحوي بقي الخاصّ الآخر ، ولم يبق مورد بعنوانه. واما في صورة الخاصّ الأخص ، فلو قدم الخاصّ الأخص ، فلا بد من تقديم الخاصّ الآخر الأعم اما لعدم الانقلاب واما لاستلزامه اللغوية أيضا كما تقدم ، وقس على هذا البيان سائر الصور ، فلاحظ جيدا. يقع الكلام في نصوص ضمان العارية واختلافها ، وتحقيق الحال فيها : اما نصوص الاشتراط ، فالاستثناء فيها أشبه بالمنقطع ، بناء على ما تقرر في محله من الجمع بين أدلة الشروط وأدلة الأحكام الأولية بحملها على ثبوت الحكم في نفسه ، فدليل نفي الضمان راجع إلى بيان عدم الاقتضاء في العارية بما هي ، ودليل الثبوت مع الشرط راجع إلى بيان الاقتضاء بلحاظ الشرط ، ولا منافاة أصلا بين الحكمين. ولو سلم انه من التخصيص ، فلا ينافي سائر الروايات ، لأنها واردة مورد الشرط وعدمه كما أشير إلى ذلك في المتن. واما نصوص الدرهم والدينار ، فهي : أولا : غير ظاهرة في خصوصية الدرهم والدينار بما هما ، بل بلحاظ جهة جامعة ، كما يقال : « ان فلانا يحب الدينار » فانه لا ظهور له في انه يحبه لنفسه ، بل بما هو نقد أو غير ذلك. وثانيا : ان خصوصيتها ملغاة بمقتضى ما تقرر من ان ترتيب الحكم الواحد على موارد متعددة يكشف عن إلغاء الخصوصية ، كما في دم الطير والأرنب ونحو ذلك. وعليه فلا بد من ملاحظة الجهة الجامعة ، وهي مرددة بين أمور ، فتكون مجملة ، ولكن روايات الذهب تبين الجامع ، ولا أقل من ارتفاع التنافي فيها. وثالثا : انه لا عقد سلبي للروايات المزبورة مطلقا ، لأنها في مقام بيان ان عدم الضمان ينتفي في هذه الموارد ، لا انها في مقام نفي الضمان مطلقا وثبوته هنا ، فلا دلالة لها على الحصر حينئذ ، ومقتضى ذلك ثبوت الضمان في جميع هذه المذكورات لعدم التنافي. ولو سلم التنافي بملاحظة وجود العقد السلبي وغض النّظر عما ذكرناه ، فيقع التعارض بين العقد السلبي لكل منها والعقد الإيجابي للآخر ، لكن روايات الدرهم والدينار تقيد إحداهما الأخرى. واما النسبة بينها وبين روايات الذهب والفضة ، فهي العموم من وجه. وقد يقال : بتقديم العقد السلبي ، لأن دلالته بالعموم والعقد الإيجابي دلالته بالإطلاق. ولكن لو سلم كبرى هذا المطلب فهي هنا غير مسلمة ، لأن تقديم العام هاهنا يقتضي إلقاء المطلق بالمرة أو تخصيصه بالفرد النادر جدا وهو مستهجن. هذا مع عدم العموم لتقييد كل منهما بالآخر في الدينار والدرهم ، مما يكشف عن عدم إرادة العموم قطعا. ثم انه لو تحقق التعارض ، فقد يقال بالرجوع إلى العموم الفوقاني الدال على عدم الضمان ، ولكن ذلك يشكل : بأنه يبتني على عدم انقلاب النسبة ، وإلاّ فالعموم الفوقاني يتضيق أيضا لتقيده جزما بروايات الدرهم والدينار ، فيكون حاله حال العقد السلبي في تلك الروايات ، ومن هنا يعلم ارتباط هذا الفرع بمسألة انقلاب النسبة ، فلاحظ. نعم ، يتعرض لصورة تعارض العام مع الخاصّين المستغرقين وكيفية معالجة التعارض ، كما يتعرض لصورة تعارض أحد العامين من وجه مع العام الآخر والخاصّ المخصص له. واما شمول الاخبار العلاجية للعامين من وجه ، فعلى القول بتعدد التعبد في المقامات الثلاثة - كما أشير إليه في المتن ، وهو المذهب الصحيح - فلا وجه للقول بالشمول ، لأن الاخبار العلاجية تتكفل الترجيح من جانب الصدور ، وواردة في مورد لا يمكن البناء على صدور الخبرين معا ، ففي المورد الممكن التزام صدورهما لا إشكال حينئذ. وما نحن فيه كذلك ، لإمكان الالتزام بصدورهما والتساقط في الدلالة وحجية الظهور في بعض المدلول. نعم ، في المورد الّذي يكون التساقط في جميع المدلول تسري المعارضة للصدور ، إذ لا معنى للتعبد بصدور ما لا يؤخذ به أصلا ، فيقع التعارض في أدلة اعتبار السند. وقد يقال : بان الخبر العام منحل إلى اخبار متعددة بتعدد الافراد ، فالخبر بمورد الاجتماع غير الخبر بمورد الافتراق ، فيكون التعارض بين الخبرين الضمنيين ، ونتيجته الترجيح أو التخيير في أحدهما. والجواب : ان الخبر الضمني في المقام خبر تحليلي لا خبر عرفي ، وإلاّ فالحكاية أو الإنشاء واحد لا يقبل التعدد ، وانما التعدد في مقام التطبيق والفعلية. وتوضيح ذلك. أولا : ان التعارض في النقلين وهما ينقلان قول المعصوم وهو واحد لا متعدد ، والانحلال على تقدير في المنقول لا في النقل. وثانيا : ان الانحلال المتعقل انما هو في القضايا الخارجية ، كبيع الصفقة ، والاخبار بفسق هؤلاء ، ونحو ذلك ، فيكذب من جهة دون أخرى. ولا يتعقل في القضايا الحقيقية ، فلو قال : « السم قاتل » وتخلف ذلك في بعض الافراد لم يكن الا كاذبا لا صادقا وكاذبا ، وذلك لأن القضية الحقيقية اخبار بالملازمة بين المحمول والموضوع بلا نظر إلى وجود الموضوع خارجا والانحلال في مقام التطبيق. والأحكام الشرعية كلها منشأة بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية ، فلاحظ. واما على القول بوحدة التعبد في المقامات الثلاثة ، وان مرجع التعبد بالصدور إلى التعبد ، بالمضمون أيضا ، فقد يتصور سراية التعارض الدلالي إلى التعارض السندي ، لعدم إمكان الجمع بين التعبدين بصدورهما معا. ولكنه مبنى فاسد أولا. وثانيا : لا تساعده اخبار العلاج إثباتا ، موضوع التعارض المطلق ومن جميع الجهات لا من جهة دون أخرى ، فلاحظ. واما ما أفاده السيد الخوئي في المقام ، فالكلام معه في جهات : في تحديده محل الكلام. وفي تفصيله بين العام والمطلق. فان غاية تقريبه : ان الإطلاق حيث انه بمقدمات الحكمة ، وهي تجري من قبل المكلف نفسه والسامع للخبر ، فمع تضاد الحكمين يعلم إجمالا بعدم كونه في مقام البيان في أحد الإطلاقين ، فلا تتم مقدمات الحكمة في أحدهما ، فلا ينعقد لأحدهما ظهور كي تتحقق المعارضة ، بخلاف العموم فان دلالته وضعية. والإشكال عليه : بأن مجرى المقدمات هو المراد الاستعمالي لا الجدي ، وهو غير معلوم العدم في أحدهما. يمكن ردّه : بأن بيان المراد الاستعمالي بنحو الإطلاق مع عدم كونه مرادا جدا ، انما يقرب على أساس كون الإطلاق يكون قاعدة ظاهرية يرجع إليها عند الشك ما لم يثبت التقييد ، ومثل هذا مفقود فيما نحن فيه ، لأنه بعد ورود الإطلاق الأول ، فلا محصل لإرادة القاعدة الظاهرية من الإطلاق الثاني ، فكيف بين الإطلاق استعمالا ولا يراد جدا؟ فانه لغو محض. اذن فالتفكيك موجود بين العام والمطلق بما بيناه. ولكن هذا لو تم لأشكل الأمر في مطلق التعارض ، إذ التعارض يتوقف على تمامية مقتضى الحجية في كل الدليلين في نفسه ، فقد يقال : ان الظهور انما يكون حجة إذا لم يكن له معارض ، فعدم المعارض أخذ في موضوع الحجية. وعليه فكل من المتعارضين ساقط عن الحجية ، فلا تعارض أصلا لعدم حجية الظهور في كل منهما ، فيكونان كالمجملين ، فلا فرق فيما ذكره بين العامين من وجه وبين المتباينين ، فتدبر.

ص: 361

ص: 362

ص: 363

ص: 364

ثم انه على القول بانقلاب الظهور بالتخصيص وانقلاب النسبة ، لا بد من التكلم في انه هل يلزم الترتيب في العلاج بحيث تنقلب النسبة بينه وبين الطرف الآخر غير الملحوظ ابتداء أو لا؟

والتحقيق : انه لا بد من التفصيل بين صورتي ما إذا ورد عام وورد خاصان ينافيانه. وما إذا كان هناك عامان وخاص ينافي أحدهما.

ففي الصورة الأولى لا وجه للالتزام بالترتيب وتقديم أحد الخاصّين ثم ملاحظة العام والخاصّ الآخر ، لأن تقديم أحدهما بخصوصه ترجيح بلا مرجح ، فلا بد من الالتزام بتخصيص العام بكل منهما دفعة واحدة.

نعم ، يستثنى من ذلك صورة ما إذا كان أحد الخاصّين قطعيا والآخر ظنيا ، فانه يقدم الخاصّ القطعي على الظني ، ثم تلاحظ النسبة بين العام والخاصّ الظني.

والوجه في ذلك : ان الدليل الخاصّ الظني انما يتقدم على العام ببناء العقلاء لكونه صالحا للبيانية ، وهذا إنما يتم بعد فرض انعقاد ظهور العام في العموم ، ومع وجود الدليل القطعي على عدم إرادة بعض الافراد تتضيق دائرة العام تكوينا للعلم بعدم كون المتكلم في مقام البيان من هذه الجهة ، فتنقلب النسبة بينه وبين الخاصّ الظني قهرا.

وهذا بخلاف الخاصّ القطعي ، فان تقدمه على العام لا يتوقف على بناء العقلاء ، وظهور العام في العموم ليقينيته ، فهو متقدم عليه سواء خصص العام بذلك الخاصّ أم لم يخصص. وبعبارة أخرى : تقدمه عليه ليس من باب التخصيص كي تكون ملاحظته ابتداء من الترجيح بلا مرجح ، بل للعلم به وبعدم إرادة العموم.

وبالجملة : تقدم الخاصّ الظني على العلم وصلاحيته للبيانية انما يفرض عند ثبوت العموم ، ومع العلم بعدم ثبوته وانه لم يكن في مقام البيان من بعض الجهات لا

ص: 365

مجال لتقدمه على العام لانقلاب النسبة إلى العموم من وجه.

واما الصورة الثانية - نظير ما لو ورد : « أكرم العلماء » ثم ورد : « لا تكرم فساقهم » ثم ورد : « يستحب إكرام العدول » - فلا يخلو الحال فيها من إحدى ثلاث :

الأولى : ان يكون العام المخالف للخاص أظهر من العام غير المخالف له.

الثانية : ان يكون العام غير المخالف أظهر من العام المخالف.

الثالثة : ان يكونا متساوي الظهور.

ففي الحال الأولى : لا ثمرة عملية للكلام في صحة تقديم الخاصّ ثم مراعاة النسبة بين العامين ، لأن العام المخالف للخاص يتقدم على العام الآخر سواء قلنا بتقديم الخاصّ وانقلاب النسبة أو لم نقل ، لأظهريته.

واما في الحال الثانية : فالثمرة العملية موجودة ، لأنه إذا قدم الخاصّ وصارت نسبة العام المخصص إلى العام الآخر نسبة الخاصّ إلى العام ، كان أظهر منه فيتقدم عليه ، بخلاف ما إذا لم يقدم ، فان العام الآخر يقدم عليه في الجمع لأنه أظهر فيه منه.

وعليه ، فللكلام في لزوم تقديم الخاصّ في مقام العلاج أو عدم لزومه مجال.

والتحقيق : انه ..

ان قلنا بأن تقدم الخاصّ على العام ليس من جهة الأظهرية ، بل من جهة كون عدمه مأخوذا في موضوع أصالة العموم ، فيكون عدمه جزء المقتضي ويتقدم عليه مطلقا ولو لم يكن بأظهر ، ويكون وجود الأظهر غير الخاصّ من قبيل وجود المانع - ان قلنا بهذا - كان الوجه ملاحظة الخاصّ ابتداء ، إذ ملاحظة المقتضي بشئونه أسبق من ملاحظة عدم المانع وباقي اجزاء العلة.

وعليه ، فلا وجه لملاحظة العام الآخر قبل لحاظ الخاصّ أو معه لأن نسبته إلى العام المخالف للخاص نسبة المانع ، ولا وجه لملاحظته قبل تمامية مقتضية ولحاظ حده ، فلا بد من ملاحظة الخاصّ أولا ثم يلاحظ العام الآخر.

واما ان قلنا - كما هو الحق - بأن تقدم الخاصّ للأظهرية ، فلا يتجه تقديم

ص: 366

لحاظه على لحاظ العام الآخر ، بل الوجه انهما يلحظان معا ويخصص بهما العام لتساويهما في مقام المعارضة بالنسبة إلى العام ، فلاحظ.

واما في الحال الثالثة : فقد يقال بلزوم ملاحظة الخاصّ أولا ثم ملاحظة العام المخصص مع العام الآخر.

وغاية ما يمكن ان يقال في توجيهه : ان المعارضة بين الطرفين انما تتحقق بعد فرض تمامية موضوع الحجية ومقتضيها في كلا الطرفين. ولما كان تقدم الخاصّ وملاحظته ابتداء موجبا للتصرف في موضوع المعارضة ظهورا أو حجية أو كشفا - على الخلاف - بحيث تنقلب النسبة بين العامين بملاحظته. بخلاف تقدم العام ، فانه ليس من باب التصرف ولا يوجبه ، بل العام المطروح يبقى على ما هو عليه من الحجية والظهور في المجمع ولو لم تكن حجيته فعلية ، فلم توجب ملاحظته انقلاب النسبة بين العام والخاصّ إلى التباين أو غيره. لما كان الأمر كذلك كانت نسبة ملاحظة الخاصّ إلى معارضة العام الآخر نسبة الوارد والمورود ، لأن ملاحظته ابتداء ترفع موضوع المعارضة فيتقدم عليه قهرا بملاك تقدم الوارد على المورود.

ولكن هذا الوجه وان كان تاما في نفسه إلاّ انه لا يجدي فيما نحن فيه ، لأن مثل هذا الوجه انما يجدي في مورد يكون فيه الدليل ثابتا في مقام الإثبات بحيث يكفي الوجه في رفع بعض المحاذير التي تذكر ، نظير الترتب المجدي في رفع استحالة اجتماع الحكمين ، فان تصوره في مقام الثبوت مساوق لتحققه إثباتا ، لتمامية الدليل في مرحلة الإثبات. امّا في ما نحن فيه فليس الأمر كذلك ، لأن تقدم الدليل الخاصّ وملاحظته أولا في مقام المعارضة ليس أمرا مفروضا عنه إثباتا ، والكلام في وجهه الثبوتي. بل هو محل الإشكال. فلا يجدي ما ذكر من ان ملاحظة الدليل أولا رافعة لموضوع المعارضة بين العامين ، لأنه وان كان كما ذكر ، إلاّ ان الملاحظة الابتدائية للخاص هي محل الإشكال والكلام ولا دليل عليها.

وليس هذا نظير الوارد والمورود ، فان الوارد بمدلوله رافع لموضوع الدليل

ص: 367

الآخر ، وحيث انه موضوع الحجية فيتقدم لثبوت مقتضية وعدم المانع. وفي المقام ليس المدلول كذلك ، بل البناء عليه والأخذ به وملاحظته أولا كذلك ، وهي لا دليل عليها ولم يثبت مقتضيها.

هذا ، ولكن الإنصاف ثبوت الدعوى المذكورة ، وذلك لأن انقلاب النسبة ..

ان قرب بدعوى : ان المخصص بوروده يتصرف في ظهور العام ويقبله عما كان عليه ، كانت مرتبة الخاصّ فيما نحن فيه أسبق من مرتبة العام المعارض ، فانه في مرتبة المقتضي لأنه مانع عن ثبوته ، والعام المعارض في مرتبة المانع ، لأنه مانع عن تأثير المقتضي لا عن ثبوته ، إذ هو لا يتصرف في الظهور الّذي يكون موضوعا لأصالة العموم. وعليه فلا بد من ملاحظة الخاصّ أولا إذ لا وجه لملاحظة أحد العامين مع الآخر قبل تمامية المقتضي في أحدهما وثبوت عمومه - كما عرفت قبل قليل -

وان قرب انقلاب النسبة : بأن موضوع المعارضة ما كان موضوع الحجية من الأدلة ، أو بان المعارضة بلحاظ الكشف النوعيّ ، فمعارضة أحد العامين للآخر لا تثبت الا بعد فرض تمامية حجيتهما أو كشفهما في مدلولهما ، ومع وجود المخصص لأحدهما تتضيق حجيته أو كشفه قهرا ، فلا يكون معارضا للعام الآخر ، بل يكون مخصصا.

وبالجملة : تحقق المعارضة بين الدليلين لا يتم إلاّ بتمامية ما به التعارض في كلا الدليلين ، وثبوت الخاصّ يضيق ما به التعارض في أحدهما ، فتنقلب النسبة قهرا.

هذا تمام الكلام في مرحلة ثبوت المسألة.

ويقع الكلام بعد ذلك في تحقيق صور المسألة وبيان حكمها من انقلاب النسبة - على القول به - وعدمه. وغير ذلك مما ينبغي تحقيقه ، وهي متعددة.

الصورة الأولى : ما إذا ورد عام وخاصان. وهي تتفرع إلى فروع.

الأول : ان يكون الخاصان متباينين.

ص: 368

الثاني : ان يكون بين الخاصّين عموم من وجه.

الثالث : ان يكون بينهما عموم مطلق.

اما الفرع الأول : فان لم يلزم من تخصيص العام بكلا الخاصّين محذور الانتهاء إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه أو بقاؤه بلا مورد - نظير : « أكرم العلماء » و : « لا تكرم النحويين ، ولا تكرم الأصوليين » - فلا إشكال في تخصيص العام بهما دفعة واحدة ، إذ لا وجه لملاحظة أحدهما ابتداء ، فانه ترجيح بلا مرجح كما عرفت آنفا.

واما ان لزم من تخصيصه بهما المحذور - نظير : « أكرم العلماء ، ولا تكرم فساقهم ، ويستحب إكرام العدول منهم » ، فلا يخصص العام بهما ، بل يقع التعارض بينهما وبين العام وتكون نسبتهما إليه نسبة التباين.

وقد ذكر لهذا النحو أحوال ستة :

الأول : ان يكون الخاصان أرجح من العام.

الثاني : ان يكون العام أرجح منهما.

الثالث : ان يكون راجحا بالنسبة إلى أحدهما مرجوحا بالنسبة إلى الآخر.

الرابع : ان يكون راجحا بالنسبة إلى أحدهما مساويا للآخر.

الخامس : ان يكون مساويا لأحدهما مرجوحا بالنسبة إلى الآخر.

السادس : ان يكون مساويا لهما.

اما في الحال الأول ، فلا إشكال في تقدم الخاصّين وطرح العام من رأس.

واما في الثاني ، فلا إشكال أيضا في الأخذ بالعامّ. وانما الإشكال في انه هل يطرح كلا الخاصّين ، أو لا يطرح إلاّ أحدهما ، فيقع التعارض العرضي بينهما ويقدم الراجح منهما ، أو يتخير بينهما ويخصص به العام؟

وقد اختار صاحب الكفاية الثاني (1) ، ووافقه الاعلام من بعده.

ومركز الخلاف يرجع إلى ان طرف المعارضة هل هو مجموع الخاصّين فلا

ص: 369


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /452- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يطرح إلاّ أحدهما ، أو جميعهما فيطرحان معا؟

ولا بد من توضيح الحال ببيان الفرق بين الجميع والمجموع ، مع غض النّظر عن نفس التعبير ، إذ لا يخلو التعبير بهما عن غموض.

فنقول : ان طرف المعارضة تارة يؤخذ ذات الدليلين ، وأخرى يؤخذ وصف اجتماعهما وانضمامهما.

والمراد بالمجموع هو هذا المعنى ، يعني ان المأخوذ في طرف المعارضة وصف الاجتماع فلا يستلزم تقديم العام الا إلغاء هذا الوصف ، وهو لا يقتضي إلاّ طرح أحدهما لا كليهما. والمراد بالجميع هو المعنى الأول.

والالتزام بأن طرف المعارضة هو المجموع بهذا المعنى الّذي عرفته غير وجيه لوجهين :

الأول : ان طرف المعارضة لا بد وان يكون دليلا فيه جهة الدلالة والحجية ، كي تكون معارضته للدليل الآخر من إحدى الجهتين. وليس وصف الاجتماع دليلا أخذ موضوعا للحجية ويشتمل على جهة الدلالة ، فلا يصلح لأن يكون طرف المعارضة.

الثاني : لو سلم إمكان كونه طرف المعارضة - بالتنزل عن اعتبار جهة الدلالة أو الدليليّة في المعارض - فليس هذا النحو من المعارضة مشمولا للاخبار العلاجية المتضمنة لتقديم الراجح وطرح المرجوح ، إذ معنى الطرح جعل المانع من حجية أحد الطرفين ، وقد عرفت ان وصف الاجتماع لم يؤخذ في موضوع الحجية كي يكون قابلا للطرح والأخذ.

وعليه ، فالمتعين ان يكون طرف المعارضة هو ذات الدليلين ، بمعنى ان يكون كل منهما معارضا للعام في ظرف انضمام الآخر إليه ، نظير وجوب المركبات ، فان الواجب هو كل واحد من الاجزاء ، لكن عند انضمام الآخر إليه لا مجموعها ولا كل واحد بنفسه ، ومعروض الوجوب هو نفس الجزء لا بقيد الانضمام ، بل عند الانضمام.

ص: 370

ثم انه لو قيل بإمكان التبعيض في حجية العام ، بمعنى إمكان كون العام حجة في بعض مدلوله دون الآخر في بعض موارد المعارضة - كما ستأتي الإشارة إليه - ففي المقام تتشكل حينئذ معارضتان متعددة الأطراف ، إذ كل من الخاصّين يعارض ما ينافيه من مدلول العام وظهوره في مقام الحجية.

ومع فرض أرجحية العام من الخاصّين يطرح الخاصان معا ، لأرجحية كل قسم من العام من الخاصّ المعارض له ، فتقدم العام مع رجحانه على هذا القول واضح لا غبار عليه.

واما على القول بعدم إمكان التبعيض وان مصب الحجية في العام واحد لا يتبعض ، فطرف المعارضة مع كلا الخاصّين هو مجموع العام ، فالعام معارض لكل من الخاصّين في حال انضمام الآخر إليه ، ففي المقام معارضتان إلاّ ان أحد الطرفين فيهما واحد وهو العام - نظير ما لو كان هناك ثلاث أوان شرقي وغربي ووسط ، ووقعت في حين واحد نجاستان ترددت إحداهما بين الإناء الوسط والغربي ، والأخرى بين الإناء الوسط والشرقي ، فان أحد الطرفين في العلمين الإجماليين واحد وهو الإناء الوسط ، ويكون الأصل فيه معارضا لكل من الأصلين في الطرفين الآخرين ، لو قيل بالمعارضة بين الأصول في أطراف العلم الإجمالي - ففي فرض أرجحيته من كلا الخاصّين يتقدم عليهما في المعارضتين لرجحانه عليهما ويطرحان معا.

ويمكن ان يقال : انهما معا يكونان طرف المعارضة لأنهما بمنزلة دليل واحد ، فلا تكون الا معارضة واحدة طرفاها العام وكلا الخاصّين ، يتقدم عليهما العام في فرض رجحانه ويسقطان معا ، لأنهما بمنزلة دليل واحد وظهور واحد ، كما يسقط الدليل الواحد بمعارضة ما هو أرجح منه ، فكذلك الخاصان.

والمحصل : انه إذا كان طرف المعارضة ذات الدليلين يسقطان معا عند أرجحية العام منهما.

ص: 371

ولا وجه لما ذكره السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - من : انه بعد ان كان العلم الإجمالي متعلقا بكذب أحد الأدلة الثلاثة ، فلا وجه لطرح كلا الخاصّين عند تقديم العام ، إذ بعد تقديمه لا يعلم إلاّ بكذب أحدهما فيحصل التعارض عرضا بينهما ، وتجري فيهما أحكام المعارضة من ترجيح أو تغيير.

وذلك لأن مجرد العلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يجدي في تحقيق المعارضة (1) بين الدليلين ، بل لا بد من انضمام امر آخر إليه ، وهو اشتمال كل من الدليلين على مقتضى الحجية وقابليتهما لها ، بحيث تكون حجيتهما فعلية لو لا المعارضة العرضية الحاصلة بالعلم الإجمالي بكذب أحدهما ، فالعلم الإجمالي بنفسه كاحتمال المصادفة للواقع ، فكما ان احتمال مصادفة الخبر للواقع لا يكون بنفسه مناطا لشمول دليل الحجية للخبر ما لم يكن في الخبر اقتضاء للحجية ، كذلك العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين لا يكون بنفسه مناطا للمعارضة بين الدليلين ما لم يكن في الدليلين اقتضاء الحجية.

وهذا غير موجود فيما نحن فيه ، إذ بعد ترجيح العام وتقدمه يلزم طرح الخاصّين كلاهما ، لأنهما طرفا المعارضة - كما عرفت - ومعنى الطرح جعل المانع عن حجية كل منهما بتقديم الطرف الآخر ، فالعلم الإجمالي بكذب أحدهما لا يوجب تشكيل معارضة أخرى عرضية بينهما ، لكون حجية كل منهما مقرونة بالمانع من غير جهة المعارضة.

نعم ، لو كان طرف المعارضة وصف الاجتماع ، كان ما ذكر في محله ، لأن المطروح هو وصف الاجتماع من دون تعرض لنفس الدليلين ، وهما في أنفسهما حاويان لمقتضى الحجية. لكنك عرفت بطلان هذا الالتزام ، فلاحظ.

واما لو تساوى العام والخاصان ، فيختلف الحال على القولين : القول بإمكان التبعيض في حجية العام. والقول بعدمه.

ص: 372


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 390 - الطبعة الأولى.

فعلى الأوّل : فحيث قد عرفت انه تتشكل معارضتان طرف كل منهما أحد قسمي العام والخاصّ المنافي له.

فله الأخذ - في هذا الفرض - بطرف العام - أي ببعضه - في إحدى المعارضتين ، وبالخاص في الأخرى ، لأنه مخير مع التساوي في الأخذ بأي طرف من المعارضة.

وعلى الثاني : فالمعارضة وان كانت متعددة ، إلاّ ان أحد الطرفين فيها واحد وهو مجموع العام ، فيتعين اما الأخذ بالعامّ بمجموعه وطرح الخاصّين معا ، أو الأخذ بالخاصين وطرح العام - واما على الاحتمال الآخر من ان المعارضة واحدة طرفها كلا الخاصّين والعام ، فالتخيير المذكور بين أخذ العام وطرح الخاصّين وأخذ الخاصّين وطرح العام يكون واضحا جدا -

واما لو كان العام راجحا بالنسبة إلى أحدهما مساويا للآخر.

فعلى القول بإمكان التبعيض وتعدد المعارضة وطرفاها ، فالحكم واضح ، إذ يؤخذ بالشق الراجح من العام ويتخير في الشق الآخر المساوي للخاص الآخر بين الأخذ به وطرح الخاصّ المقابل له ، وطرحه والعمل بالخاص.

واما على القول بعدم إمكانه ، فقد يقال : بأنه بعد ان كان العام راجحا من أحد الخاصّين ، فيمكن ان يطرح الخاصّ المرجوح بالاخذ بالعامّ ثم يتخير في المعارضة الأخرى بين العام والخاصّ الآخر المساوي ، فله طرح العام والأخذ بالخاص وبالعكس. وبذلك قد تكون النتيجة هي العمل بأحد الخاصّين فقط.

ولكن هذا القول غير وجيه ، لأن تقديم العام على الخاصّ المرجوح انما يصح بعد فرض حجيته الفعلية التعيينية ، ومع وجود المعارض الآخر للعام لا يصلح العام لإلغاء الخاصّ المرجوح ما لم يؤخذ به ، ويتعين في الأخذ دون الخاصّ المساوي. وعليه فمع الأخذ به يطرح الخاصّ المرجوح. واما مع طرحه والعمل بمعارضة الخاصّ المساوي ، فيبقى المرجوح بلا معارض فيعمل به.

ص: 373

ونتيجة ذلك : انه اما ان يؤخذ بالعامّ ويطرح كلا الخاصّين ، أو يؤخذ بالخاصين ويطرح العام ، فتدبر.

واما على الاحتمال الآخر من وحدة المعارضة بكون طرف المعارضة مع العام هو كلا الخاصّين ، فيشكل شمول الاخبار العلاجية لمثل الفرض مما يتفاوت فيه سند الخاصّين من جهة الرجحان ، إذ الظاهر منها كون موضوعها معارضة الدليلين بنحو يكون لكل منهما سند واحد فيلاحظ الأرجح منهما.

وليس الأمر فيما نحن فيه كذلك ، لتعدد السند واختلافه ، فليس هناك سند واحد للدليلين الخاصّين يلاحظ الترجيح بينه وبين سند العام.

فالمتعين هو الرجوع إلى القاعدة الأولية ، وهي التساقط كما عرفت.

اللّهم إلاّ ان يقال - توسعا في الخيال - ان الظاهر من أدلة العلاج كون المرجحات المذكورة انما هي لترجيح مضمون أحد المتعارضين على الآخر بلا اعتبار وحدة السند ولا نظر إليها ، بمعنى ان طرف المعارضة إذا اشتمل على بعض هذه المرجحات دون الطرف الآخر فقدم عليه وطرح الآخر.

وعليه ، ففي المقام يلاحظ سند مجموع الخاصّين يحصل الكسر والانكسار بين سنديهما ، ثم يلاحظ بالنسبة إلى سند العام ، والمتعين هو العام لأرجحية سنده من سند الخاصّين.

واما لو كان العام راجحا بالنسبة إلى أحدهما مرجوحا بالنسبة إلى الآخر.

فعلى الالتزام بإمكان التبعيض ونتيجته ، فالحكم ظاهر ، إذ اللازم الأخذ بالقسم الراجح من العام وطرح الخاصّ المقابل له وطرح القسم المرجوح منه والعمل بالخاص منه المعارض له.

واما على الالتزام بعدم إمكانه وتعدد المعارضة ولكن أحد الطرفين فيهما واحد وهو العام ، فالعام لا يصلح لأن يكون مانعا عن الخاصّ المرجوح في معارضته له ، لأنه انما يصلح ان يكون كذلك بعد فرض تعينه وعدم وجود ما يصلح

ص: 374

لمانعية حجيته ، ومع فرض وجود الخاصّ الأرجح يسقط العام عن الحجية لاقتران مقتضيها بالمانع ، فيبقى الخاصّ المرجوح بلا مانع. ونتيجة ذلك هو تعين الأخذ بالخاصين.

واما على الاحتمال الآخر وإمكان كون المقام مشمولا للاخبار العلاجية - بالتقريب الّذي عرفته - فالحكم هو التخيير لحصول التساوي بين سند العام وسند الخاصّين بعد الكسر والانكسار ، فيتخير بين الأخذ بالعامّ وطرح الخاصّين ، والأخذ بهما وطرح العام.

واما لو كان العام مرجوحا بالنسبة لأحدهما مساويا للآخر.

فالحكم على القول بتعدد المعارضة وتعدد طرفيهما - كما هو الحال على القول بإمكان التبعيض في حجية العام - واضح أيضا ، إذ يؤخذ بالخاص الراجح على معارضه من قسمي العام ، ويتخير في المعارضة الأخرى بين الأخذ بالعامّ - أعني : ببعضه المعارض للخاص المساوي - والأخذ بالخاص.

واما على القول الآخر - أعني : تعدد المعارضة واتحاد أحد طرفيها - فالمتعين هو الأخذ بالخاصين ، إذ العام مع وجود الخاصّ الأرجح لا يصلح لمعارضة الخاصّ المساوي ومانعيته عنه لاحتفاف حجيته بالمانع ، فهو مطروح بلا إشكال ، فيؤخذ بالخاص المساوي مع تعين الأخذ بالخاص الراجح ، وبذلك تكون النتيجة هي الأخذ بالخاصين وطرح العام.

واما على الاحتمال الأخير الّذي عرفت تقريبه ، فالمتعين هو الأخذ بالخاصين أيضا ، لأرجحية سندهما بعد الكسر والانكسار من سند العام فيطرح ، فلاحظ وتدبر.

يبقى الكلام فيما أفاده السيد الخوئي من : ان التعارض ليس بين العام ومجموع الخاصّين فقط ، بل بين كل واحد من الأدلة الثلاثة والآخرين ، إذ العلم الإجمالي انما هو بكذب أحدها فقط ، ولذلك فما ذكره لهذا الفرض من أحكام بحسب صوره

ص: 375

الستة جار في مطلق موارد التعارض بين أكثر من دليلين مما كان العلم الإجمالي متعلقا بكذب أحدها ، كما لو قام الدليل على وجوب شيء وآخر على حرمة شيء آخر وثالث على كراهة امر ثالث وعلم إجمالا بكذب أحد هذه الأدلة (1).

ولا بد في بيان عدم نهوض ما ذكره من التكلم في جهتين :

الأولى : ان مفهوم التعارض المأخوذ في أدلة العلاج هل يشمل موارد العلم الإجمالي بكذب أحد الدليلين مع عدم تنافيهما ذاتا ، بحيث يكون السبب في التنافي هو العلم الإجمالي فقط ، أو يختص بموارد تنافي الدليلين ذاتا وبحسب مدلوليهما أنفسهما؟

الثانية : انه مع الالتزام بشمول التعارض لموارد العلم الإجمالي ، فهل يشمل موارد تنافي أكثر من دليلين أو لا؟

اما الجهة الأولى : فلمدع أن يدعي اختصاص التعارض في مدلول الاخبار العلاجية بموارد التنافي الذاتي بين الدليلين بحيث يكون كل منهما بمدلوله وظهوره ينافي الآخر ، دون موارد التنافي العرضي الناشئ من العلم الإجمالي الثابت من الخارج بعدم اعتبار مضمون أحدهما مع التلاؤم بين الدليلين بحسب مدلوليهما وعدم المنافاة بينهما من ناحيتهما أنفسهما. وإلى هذا يشير كلام المحقق النائيني قدس سره (2).

ويمكن تقريبها : بأن التنافي المقوم لمعنى التعارض لا بد ان يكون عرفيا يدركه العرف ، وهو انما يتحقق مع كون كل من الدليلين بذاته وبمدلوله وظهوره ينافى الآخر ، بحيث يرى العرف التنافي بينهما عند ملاحظتهما ، كالتنافي بين الدليل الدال على وجوب شيء والدليل الدال على جوازه.

اما مع عدم تنافيهما ذاتا ، بل علم خارجا بكذب أحدهما ، فنفي كل منهما

ص: 376


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 390 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 702 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

للآخر ليس بحسب فهم العرف والملازمة العرفية ، بل بالملازمة العقلية الحاصلة من العلم الإجمالي ، فلا يصدق عليه التعارض بما له من المفهوم العرفي.

ويمكن الاستشهاد له بما تقرر في محله من تساقط الأصول المتعارضة عرضا بواسطة العلم الإجمالي - كما لو علم إجمالا بأنه مدين بدينار مثلا إما لزيد أو لعمرو ، وكان عدم الدين لعمرو له حالة سابقة دون زيد ، فان استصحاب عدم وجوب أداء هذا المال لعمرو - يعارض أصالة البراءة من وجوبه لزيد - مع الالتزام بشمول أدلة العلاج لموارد العامين من وجه.

فانه لو لا انه من المرتكز عدم المعارضة في موارد العلم الإجمالي ، لما صح القول بالتساقط ، لحصول التعارض حينئذ بين إطلاق كل من الأصلين وإطلاق الآخر ، للعلم الإجمالي بعدم صحة أحدهما ، ومقتضاه الترجيح أو التخيير لا التساقط.

وبهذا المورد ونحوه ينقض على من يلتزم بالمعارضة مع العلم الإجمالي.

ولو تنزلنا وقلنا ان التعارض بمفهومه العرفي هو مطلق التنافي أعم من العرفي والدقي ، فلا عبرة في خروج المورد عن التعارض بعدم التنافي العرفي ، فيشمل موارد العلم الإجمالي.

فيقع الكلام في الجهة الثانية ، فنقول : ان ذلك ينحصر في موارد التنافي بين الدليلين فقط ، إذ مع العلم بكذب أحدهما نافيا للآخر فيحصل التنافي.

اما في فرض التنافي العرضي أكثر من دليلين فلا يتحقق مصداق التعارض ، لأن كلا من الأدلة لا يتكفل نفي غيره من الدليلين أو الأدلة - لأن المعلوم كذبه أحدهما لا غير - بل مفاده إثبات مدلوله وان الكاذب في الدليلين الآخرين - وبذلك تحصل المعارضة العرضية بين الآخرين عند ثبوته - وهذا ليس من مفهوم التعارض في شيء ، لأن مفهومه التنافي المتقوم بنفي كل منهما للآخر ، وقد عرفت ان كلا من الأدلة لا يتكفل إلاّ إثبات ذاته ، اما نفي غيره فليس من مقتضاه أصلا ،

ص: 377

فيخرج عن مورد المعارضة.

ومن هنا يتبين بطلان ما أفاده أولا من : ان التعارض ليس بين العام ومجموع الخاصّين فقط ، بل بين كل واحد من الأدلة الثلاثة وأخويه ، لأن المعلوم بالإجمال هو كذب أحدهما فقط ، فلاحظ وتأمل واللّه ولي العصمة.

وأما الفرع الثاني : وهو ما إذا كان بين الخاصّين عموم من وجه - فله صورتان :

الأولى : ان لا يكون بينهما تناف في المجمع ، كما لو قال : « أكرم العلماء » ثم قال : « لا تكرم فساق العلماء ، ولا تكرم النحويين ».

الثانية : ان يكون بينهما تناف في المجمع ، نظير : « أكرم العلماء ، ولا تكرم فساقهم ، ويستحب إكرام النحويين » فانهما متنافيان في المجمع وهو النحوي الفاسق ، إذ أحدهما يقتضي حرمة إكرامه والآخر يقتضي استحبابه.

اما الصورة الأولى : فالكلام فيها عين الكلام المتقدم في الفرع الأول :

من لزوم تخصيص العام بهما دفعة واحدة بلا تقديم أحدهما وملاحظة النسبة بين العام بعد تخصيصه والخاصّ الآخر ، لأنه ترجيح بلا مرجح ، فيما لم يلزم من تخصيصه بهما محذور الانتهاء إلى ما لا يجوز الانتهاء إليه أو بقائه بلا مورد.

ومن معاملتهما مع العام معاملة المتباينين ، وفرض الأحوال الست المتقدمة فيما لزم المحذور المذكور ، فراجع.

واما الصورة الثانية : فلا تصل النوبة فيها إلى الكلام في صحة تقديم أحدهما على الآخر في مقام العلاج ، إذ كل منهما لا يصلح لأن يكون مخصصا مع وجود المعارض له ، فلا بد من إجراء أحكام التعارض فيما بينهما في مورد المنافاة.

فان التزم بالتساقط ، كان العام في مورد المنافاة سالما عن المخصص فيعمل به ، ويخصص بكلا الخاصّين في غير هذا المورد دفعة واحدة ، إذ يكونان كالمتباينين بلا مرجح لأحدهما على الآخر. وان التزم بالتخيير أو الترجيح ، خصص بما أخذ به

ص: 378

منهما ، فلاحظ.

واما الفرع الثالث : وهو ما إذا كان بين الخاصّين عموم مطلق ، وهما ..

تارة : غير متنافيين كما لو كانا متحدي الحكم ، نظير : « أكرم العلماء ، ولا تكرم النحويين ، ولا تكرم فساق النحويين ».

وأخرى : متنافيان كما لو كانا مختلفي الحكم ، نظير : « أكرم العلماء ، ولا تكرم النحويين ، ويستحب إكرام عدول النحويين ».

ففي الحال الأولى : لا وجه لملاحظة أحدهما قبل الآخر مع العام ولا مرجح لأحدهما على الآخر ، فالوجه ملاحظتهما معا وتخصيص العام بهما دفعة لتساوي نسبتهما إلى العام.

واما ما أفاده المحقق العراقي في لزوم تقديم الخاصّ الأخص على الآخر. فتنقلب النسبة بين العام وبين الخاصّ الأعم إلى العموم من وجه ، من : ان الخاصّ الأخص معلوم التخصيص فهو خارج يقينا عن العام ، ويبقى غيره مشكوكا ، فيتمسك بأصالة العموم ، وتنقلب النسبة بين العام والخاصّ الأخص (1).

ففيه : أنه ..

ان كان المفروض في الترديد هو تخصيص العام بمقدار الأخص ، اما به استقلالا ، أو في ضمن تخصيصه بالأعم.

فهو لا يجدي في المطلوب ، لأن تردد المخصص بين عنوانين الأخص والأعم ، يرجع إلى التردد بين المتباينين ، لا الأقل والأكثر - كي يؤخذ بالقدر المتيقن - نعم ، هو افرادا كذلك لا عنوانا - كما هو الفرض - وان كان المفروض في الترديد هو تخصيص العام بالخاص الأخص اما وحده أو مع تخصيصه بالأعم ، بحيث يكون المخصص على كلا التقديرين هو الدليل الأخص ، إلاّ انه تارة وحده. وأخرى مع غيره - بخلاف الفرض الأول ، فان إخراج

ص: 379


1- العراقي المحقق آغا ضياء الدين. حاشية فوائد الأصول3/ 442 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الفرد الأخص اما بالدليل الأخص أو بواسطة الدليل الأعم -

ففيه :

أولا : ان القدر المتيقن انما يفرض بعد فرض الترديد بين الأمرين ، والترديد انما يكون بالعلم الإجمالي بأحد الطرفين ، وهو انما يكون فعلي التأثير مع عدم فرض الدليل المعين لأحد الطرفين ، والمفروض ان مقتضى القواعد الأصولية هو تعيين الطرف الآخر - أعني : تخصيص العام بهما دفعة واحدة - فيرتفع الترديد وينحل العلم الإجمالي حكما ، فلا مجال للأخذ بالقدر المتيقن بلحاظ تردد التخصيص بين الأقل والأكثر.

وثانيا : ان أحد فروض تخصيص العام بالأخص تخصيصه مع الأعم ، وفي هذا الفرض لا ينعقد للعام ظهور في غير مورد الأخص ، فكيف يجعل تخصيص العام بالخاص الأخص على جميع تقاديره موجبا لانعقاد ظهور له في الباقي - أي في غير مورد الأخص -؟ ونظيره يرد على الفرض الأوّل ، فانه بعد فرض كون أحد تقادير خروج مورد الأخص تقدير تخصيصه بالأعم ، فلا وجه لجعل خروجه على جميع تقاديره موجبا لانقلاب النسبة بينه وبين الخاصّ الآخر الأعم.

هذا ان أريد بالقدر المتيقن في مقام التخصيص. واما ان أريد به في مقام المراد الجدي والواقع وان المتيقن خروج مورد الأخص عنه. ففيه : انه ليس متيقنا في نفسه لإمكان كون الخاصّ في الواقع كاذبا ، وانما هو بحسب الأدلة اللفظية والقواعد المقتضية لتقديمها ، فيرجع إلى التردد باعتبار التخصيص لا باعتبار الواقع ، فتدبر.

وعلى كل ، فلا وجه لتقديم الخاصّ الأخص على الخاصّ الأعم كي تنقلب النسبة بين العام وغيره ، بل اللازم تخصيص العام بهما دفعة واحدة.

نعم ، يبقى في المقام سؤال فائدة التخصيص بالخاص الأخص بعد إمكان إخراج الفرد بالأعم.

وجوابه ما تقرر في محله في حل محذور لغوية ورود العام والخاصّ المتوافقين ،

ص: 380

من إمكان وجود خصوصية للخاص يكون بها ذا أهمية ، أو كونه مورد السؤال ، أو نحو ذلك.

واما في الأخرى ، فالوجه هو تخصيص الخاصّ الأعم بالخاص الأخص ثم تخصيص العام بالباقي ، إذ لا يصلح الخاصّ الأعم لتخصيص العام بمدلوله أجمع لوجود المانع عن حجيته في بعض افراده ، وهو الخاصّ الأخص ، فيخصص به ويبقى حجة في غير مورد الأخص فيخصص به العام ، كما يخصص بالأخص أيضا ويكونان حينئذ كالمتباينين حكما وافرادا.

هذا كله فيما إذا كان كلا الخاصّين - الأعم والأخص - منفصلين عن العام.

اما لو كان الأخص متصلا ، كما لو قال الآمر : « أكرم العلماء إلاّ فساق النحويين » ثم قال : « لا تكرم النحويين » ، فهل تنقلب النسبة بين العام والخاصّ المنفصل أو لا؟. التزم الاعلام بانقلاب النسبة باعتبار انعقاد ظهور العام في غير مورد الخاصّ المتصل من أول الأمر ، فتكون نسبته إلى الخاصّ المنفصل نسبة العموم من وجه.

والّذي ينبغي ان يقال : ان من لا يلتزم بانقلاب النسبة بملاك كون المعارضة والنسبة انما هي بين الظهورات وعدم اختلال الظهور التصديقي بالمخصص المنفصل - كما عليه صاحب الكفاية - لا بد في الفرض من ان يلتزم بانقلابها.

لاختلال المقدمة الثانية التي بنى عليها مذهبه - وهي عدم اختلال الظهور بالمخصص المنفصل - ، إذ الظهور التصديقي يختل بالمخصص المتصل وينعقد ظهور ثانوي في غير مورد الخاصّ ، فتنقلب نسبة العام إلى الخاصّ المنفصل قهرا لتضيق دائرة ظهوره الّذي هو الملحوظ في باب المعارضة.

واما من يلتزم بانقلاب النسبة اما لأجل كون المخصص وان كان منفصلا يهدم ظهور العام في العموم ، أو من جهة تضييق دائرة حجيته وهي الملاك في المعارضة وملاحظة النسبة ، فلا بد له من التفصيل فيما نحن فيه بين صورة ورود

ص: 381

المخصص المنفصل الأعم قبل حضور وقت العمل ، وصورة وروده بعده.

ففي الصورة الأولى : لا وجه لانقلاب النسبة ، لأن ظهور العام في الباقي بعد تخصيصه بالمتصل انما ينعقد بتمامية مقدمات الحكمة ، وهي انما تنعقد بناء على هذا القول إلى حين زمان العمل لا حين الكلام ، والخاصّ المنفصل حكمه حكم المتصل في كونه بيانا للعام وهادما لظهوره ، فمع وروده قبل زمان العمل لا ينعقد للعام ظهور في الباقي لفقدان إحدى مقدمات ظهوره فيه وهي عدم البيان.

وكذلك حجيته في الباقي لا تتم قبل زمان العمل مع ورود المخصص ، لأنه مانع عن الحجية ، إذ العام لا يكون حجة في العموم الا حين زمان العمل وعدم المخصص.

وفي الصورة الثانية : فحيث انه حين زمان العمل انعقد ظهور العام في الباقي لتمامية مقدماته ، كما انه كان حجة فيه لعدم المانع ، فلا تكون نسبة الخاصّ الوارد بعد ذلك نسبة الخاصّ إلى العام ، بل نسبة العموم من وجه.

وبالجملة : فحيث انه على الالتزام بانقلاب النسبة بلحاظ كون الخاصّ المنفصل كالمتصل في هدمه الظهور ، لم يكن فرق بين كون الخاصّ الأخص متصلا أو منفصلا في عدم انقلاب النسبة إلى حكم الأعم ، وان كان منفصلا كحكم الأخص ، وان كان متصلا في هدمه للظهور ، ففي صورة وروده قبل تمامية مقدمات الحكمة وانعقاد ظهور للعام في الباقي يكون مخصصا للعام بلا كلام.

والحكم في زماننا كذلك ، إذ مع فرض إمكان العثور على المخصص المنفصل بالفحص لا يكون العام حجة في خصوص الباقي ولا ظاهرا فيه ، إذ زمان العمل بالنسبة إلينا يكون بعد الفحص ، فلاحظ. وقد مرت الإشارة إلى هذا الكلام فيما تقدم من مباحث انقلاب النسبة ، فراجعه.

ثم ان المحقق النائيني قدس سره بعد ان اختار انقلاب النسبة في الفرض المذكور ، ألحق به فرضا آخر ، وهو : ما إذا ورد مضافا إلى العام المخصص بالمتصل وإلى الخاصّ المنفصل ، عام آخر مجرد عن الخاصّ المتصل ، نظير : « أكرم العلماء ،

ص: 382

وأكرم العلماء الا فساق النحويين ولا تكرم النحويين » ، فاختار فيه انقلاب النسبة بين العام المجرد وهو : « أكرم العلماء » ، وبين الخاصّ المنفصل وهو « لا تكرم النحويين » (1).

ونسب إليه السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - في توجيهه وجهين :

الأول : ان العام الأول قد تخصص بالمخصص المتصل بالعامّ الثاني يقينا ، فيكون مفاد العام الأول عين مفاد العام الثاني المخصص بالمتصل ، ومن الظاهر ان النسبة بينه وبين الخاصّ المنفصل هي العموم من وجه.

الثاني : ان الخاصّ المنفصل مبتلى بالمعارض ، وهو العام المتصل به أخص الخاصّين ، فلا يكون صالحا لتخصيص العام الأول.

ثم أورد على الأول : بأنه لا وجه له بعد ما تقدم من عدم الوجه من تخصيص العام بأحد المخصصين أولا ثم ملاحظة نسبته مع الخاصّ الآخر.

وعلى الثاني : بأنه وان كان تاما في نفسه ، لكنه لا يصلح دليلا لانقلاب النسبة وحصول المعارضة بين العام المجرد وبين الخاصّ المنفصل ، لأنه بعد ابتلاء الخاصّ المنفصل بالمعارض لا بد من معالجة التعارض بينهما ، ثم ملاحظة العام المجرد.

فان التزم بالتساقط ، كان العام بلا معارض في مورد المنافاة فيكون هو المحكم. وان لم يلتزم بالتساقط ، فان أخذ بالعامّ المتصل به أخص الخاصّين ترجيحا أو تخييرا يطرح الخاصّ المنفصل ، فيبقى العام المجرد بلا معارض. وان أخذ بالمخصص المنفصل كذلك يخصص به العام ، لكون نسبته إليه نسبة الخاصّ والعام لا العموم من وجه. فلا تعارض بين العام المجرد والمخصص المنفصل أصلا ، انتهى (2).

إلاّ انه بعد ملاحظة ما تقدم من المحقق النائيني قدس سره من عدم الالتزام بتخصيص العام بأخص الخاصّين أولا ، ثم ملاحظة النسبة بينه وبين الخاصّ الآخر

ص: 383


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 744 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 39 - الطبعة الأولى.

للأعم - فيما لو كانا منفصلين - يحصل الاطمئنان بأن نظره في الفرض إلى وجود نكتة يفترق بها عن الفرض السابق. فالإيراد عليه بما تقدم من عدم الوجه في تقديم أحدهما على الآخر لتساوي نسبتهما إلى العام في غير محله ، بل كان اللازم معرفة نكتة الفرق والكلام فيها نفيا أو إثباتا.

ويمكن توجيه الفرق : بأن الخاصّ الآخر المتصل بالعامّ حيث انه بمدلوله المطابقي اللفظي يدل على نفي حكم العام عن مورده ، وبمفهومه اللفظي يدل على تخصيص حكم العام والمراد الجدي منه بغير مورده ، فيعلم بواسطة ذلك ان المراد الجدي في العام المجرد لا يزيد على ذلك ، كما لو كان ذلك مفاد دليل آخر ، إذ لا إشكال مع ورود دليل خارجي يدل على ان المراد الجدي من العام هو المقدار الكذائي في تضييق دائرة العام بالإضافة إلى المراد الجدي.

فالسر فيما يستفاد من العام المتصل به الخاصّ الأخص ، ليس نفي الحكم عن مورد الخاصّ وإثبات الحكم لغير مورده فقط ، إذ الخاصّ المتصل - على هذا - انما يخصص العام المتصل به ولا يرتبط بالعامّ المجرد ، ولا يكون بين العام المجرد والمحفوف بالخاص تناف لتوافقهما في الحكم ، وان كان أحدهما أضيق دائرة فلا يقتضي انقلاب النسبة.

بل السر ، هو : ان ما يستفاد منه بالمفهوم اللفظي انما هو تخصيص المراد الجدي بغير مورده فيضيق قهرا حجية العام المجرد ويحصر دائرة المراد الجدي فيه فتنقلب النسبة بينه وبين الخاصّ المنفصل قهرا - وبهذا الاعتبار الحق قدس سره هذا الفرض بفرض اتصال الخاصّ الأخص في انقلاب النسبة -

وهذا بخلاف ما إذا كان الخاصّ الأخص منفصلا ومستقلا في الكلام ، إذ بتقديمه لا يدل على تخصيص حكم العام بغير مورده ، بل لا يتكفل سوى نفي حكمه عن مورده ، واختصاص حكم العام بغير مورده يكون بواسطة تمامية مقدمات الحكمة ، ومع صلاحية الخاصّ الأعم في نفسه للتخصيص لكون نسبته نسبة

ص: 384

الخصوص المطلق كان مانعا عن انعقادها. وقد أشير إلى هذه النكتة في أجود التقريرات (1) ، فلاحظ.

واما الإيراد الثاني ، فهو تام لو كان المحقق النائيني قد ساق الوجه دليلا على المعارضة وانقلاب النسبة في الفرض ، إلاّ ان سوقه بنحو الدليل انفرد به السيد الخوئي في تقريره دون المرحوم الكاظمي ، فانه ذكره دفعا لتوهم قد يذكر (2) ، فلاحظ والأمر سهل.

الكلام في روايات ضمان العارية

وقد تعرض الاعلام بعد هذا المبحث إلى الكلام في روايات ضمان العارية ، وتكلموا في الجمع بينها ، وفي انقلاب النسبة بين بعضها.

والّذي ذكره السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - ان الروايات على أصناف خمسة.

الأول : ما يدل على نفي ضمان العارية مطلقا (3).

الثاني : ما يدل على نفي ضمان العارية في غير الدرهم ، وإثباته فيه (4).

الثالث : ما يدل على نفي ضمان العارية في غير الدينار ، وإثباته فيه (5).

الرابع : ما يدل على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضة ، وإثباته في عاريتهما (6).

الخامس : ما يدل على نفي الضمان في غير مورد الاشتراط ، وإثباته في

ص: 385


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2/ 519 - الطبعة الأولى.
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول4/ 744 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- وسائل الشيعة 13 / 237 باب 1 ، من أبواب أحكام العارية الحديث : 10.
4- وسائل الشيعة 13 / 240 باب 3 ، من أبواب أحكام العارية ، الحديث : 3.
5- وسائل الشيعة 13 / 239 باب 3 ، من أبواب أحكام العارية ، الحديث : 1.
6- وسائل الشيعة 13 / 240 باب 3 ، من أبواب أحكام العارية ، الحديث : 4.

مورده (1).

ثم ذكر بعد ذلك : ان نسبة ما يدل على ثبوت الضمان مع الشرط مع سائر المخصصات نسبة العموم من وجه - لإمكان ان يكون الاشتراط في غير عارية الدرهم أو الدينار أو الذهب أو الفضة ، وإمكان ان تكون عارية أحدهما بلا اشتراط - ومقتضى القاعدة - كما عرفت - تخصيص العام بجميع هذه المخصصات.

واما ما دل على نفي الضمان في غير الدرهم وإثباته فيه ، وما دل على نفى الضمان في غير الدينار وإثباته فيه ، فهما بمنزلة دليل واحد ، لأن العقد الإيجابي من كل منهما يقيد العقد السلبي من الآخر ، لأنه ينافيه وأخص منه ، فيجمع بينهما كذلك ويكونان بمنزلة دليل واحد ، وتقع المعارضة بعد ذلك بينه وبين ما دل على نفى الضمان في غير عارية الذهب والفضة وإثباته فيهما ، لأن النسبة بين العقد السلبي لهذا الدليل وبين العقد الإيجابي لما دل على نفي ضمان غير عارية الذهب والفضة هي العموم من وجه - لأن العقد السلبي لهذا الدليل مفاده نفي الضمان عن غير عارية الدرهم والدينار سواء كان ذهبا أو فضة أو غيرهما.

والعقد الإيجابي لذاك مفاده إثبات ضمان عارية الذهب والفضة سواء كان درهما أو دينارا أو غيرهما من غير المسكوك - ويدور الأمر بين رفع اليد عن أحد الإطلاقين ، ومقتضى القاعدة هو التساقط ، إلاّ انها غير تامة هاهنا ، لأن رفع اليد عن إطلاق دليل ثبوت ضمان عارية الذهب والفضة في مورد المعارضة بالتساقط - يلزم تخصيصه بالفرد النادر - لأن إعارة الدينار والدرهم نادرة لعدم الانتفاع بها مع بقاء عينها غالبا وهو مستهجن.

هذا محصل ما أفاده السيد الخوئي في المقام (2) ، وهو بعينه ما أفاده الشيخ ، الا

ص: 386


1- وسائل الشيعة 13 / 240 باب 3 ، من أبواب أحكام العارية ، الحديث : 3.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور مصباح الأصول 3 / 396 - الطبعة الأولى.

انه قدس سره لم يتعرض لذكر أدلة نفي الضمان في غير مورد الاشتراط أصلا (1).

إلاّ انه لا بد من التعرض إلى جهات أغفلها السيد الخوئي في كلامه :

الجهة الأولى : الجمع بين المخصصات أنفسها ، لأنها - على النحو الّذي ذكره متنافية في مفادها. فان المدلول الإيجابي لما دل على نفي الضمان في غير عارية الاشتراط ينافي المدلول السلبي لباقي الأدلة المخصصة ، وهي ما دل على نفي الضمان في غير عارية الدرهم ، وما دل على نفي الضمان في غير عارية الذهب والفضة ، وما دل على نفي الضمان في غير عارية الدينار. وهكذا المدلول السلبي لأدلة ضمان العارية مع الاشتراط ، فانه ينافي المدلول الإيجابي للأدلة الأخرى المذكورة.

وذلك لأن أدلة ضمان العارية مع الاشتراط تقتضي بمدلولها الإيجابي ضمان العارية مع الاشتراط ، سواء كانت العارية درهما أو غير درهم ، دينارا أو غير دينار ، ذهبا وفضة أو غيرهما ، وذلك ينافي المدلول السلبي لأدلة نفي ضمان غير عارية الدرهم ، لأنها تقتضي بمدلولها السلبي نفي ضمان غير عارية الدرهم ، سواء اشترط الضمان أم لم يشترط ، فيتنافيان في عارية غير الدرهم مع الاشتراط ، فان أحدهما يثبت الضمان فيه والآخر ينفيه.

وهكذا الحال بالنسبة إلى المدلول السلبي لأدلة نفي ضمان غير عارية الدينار ، ولأدلة نفي ضمان غير عارية الذهب والفضة.

وتقتضي أيضا بمدلولها السلبي نفي الضمان مع عدم الاشتراط ، سواء كانت العارية درهما أو غير درهم ، دينارا أو غيره ، ذهبا أو فضة أو غيرها.

وذلك ينافي المدلول الإيجابي لما دل على ثبوت الضمان في هذه الموارد ، إذ هو بإطلاقه يدل على ثبوته ولو مع عدم الاشتراط ، فيحصل التنافي في عارية الدرهم أو الدينار أو غيرهما من أنواع الذهب والفضة مع عدم الاشتراط.

ومع وجود التنافي بين نفس المخصصات لا يتجه تخصيص العام الفوق بها

ص: 387


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /460- الطبعة القديمة.

أجمع - حكم به في مصباح الأصول (1) - ، لما أشرنا إليه من عدم صلاحية الخاصّ للتخصيص مع ثبوت المعارض له في بعض مدلوله ، بل لا بد من علاج التعارض بينها ثم يخصص العام بها بعد العلاج.

وعليه ، فهي صالحة للتخصيص في مورد عدم التنافي ، إذ هي متساقطة في الجمع ومورد التنافي ، فلا حجية لها فيه.

فالمقدار الخارج من العام هو موارد عارية الدرهم والدينار والذهب والفضة مع الاشتراط ، إذ هذا المقدار هو المتفق عليه في دلالة المخصصات المزبورة ، وغيره موضع التنافي.

إلاّ ان ما ذكرناه من الجمع والنتيجة انما يتم بناء على ما أفاده من تصنيف الروايات إلى هذه الأصناف الخمسة بالنحو المذكور سلبا وإيجابا.

واما على ما هو الصحيح في مفادها ، فلا يتم ذلك ، إذ مفادها ليس كما قرره ( حفظه اللّه ) ، فان ما دل على نفي الضمان في غير عارية الدرهم أو الدينار أو الذهب والفضة وإثباته فيها صرح فيه بأن ثبوت الضمان فيها أعم من صورة الاشتراط وعدمه.

وعليه ، فلا معارضة بين مدلولها الإيجابي والمدلول السلبي ، لما دل على نفى الضمان في غير صورة الاشتراط ، إذ يكون المدلول الإيجابي لهذه الأدلة أخص مطلقا من المدلول السلبي لذلك الدليل - للتصريح بثبوت الحكم في مورد المنافاة والنص عليه ، فلا تكون دلالته على ثبوت الحكم فيه بالإطلاق أو العموم كي يتعارض الإطلاقان أو العمومان ، بل بالنص والتعيين ، وقد تقرر في محله ان نسبة الدليل العام مع ذكر الافراد تعيينا تكون أخص من العام الآخر - ، فيخصص به عموم المدلول السلبي لدليل اعتبار الشرط في ثبوت الضمان ، وترتفع المنافاة حينئذ.

واما المنافاة بين المدلول السلبي لهذه الأدلة والمدلول الإيجابي لذلك الدليل

ص: 388


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 398 - الطبعة الأولى.

والمعارضة بينهما ، فهي منتفية أيضا ، لأن استثناء ضمان عارية الدراهم والدنانير كان بعد استثناء صورة الاشتراط من العام ، فيكون استثناء عارية الدراهم والدنانير من اختصاص الضمان بصورة الاشتراط ، المستفاد من العام واستثناء صورة الاشتراط ، فالاستثناء كان من مفاد المجموع من المستثنى والمستثنى منه ، وهو اختصاص الضمان بصورة الاشتراط.

ويشهد له - مضافا إلى الظهور العرفي للكلام - نفي الفرق في عدم الضمان بين صورتي الاشتراط وعدمه ، فانه تأكيد لمفاد الاستثناء من المجموع.

وعليه ، فلا مدلول لأدلة ضمان عارية الدرهم والدينار كي ينافي ويعارض المدلول الإيجابي لدليل الضمان في صورة الاشتراط. وهكذا الحال لو قلنا بأن استثناء عارية الدرهم والدينار من أصل العام لا المجموع ، فانه وان ثبت المدلول السلبي - وهو المستثنى منه - إلاّ انه ورد عليه استثناء ان أحدهما المدلول الإيجابي للضمان في صورة الاشتراط ، فلا تتجه دعوى المعارضة ، لأن المدلول السلبي ضيق الدائرة من أول الأمر بواسطة المدلول الإيجابي ، فلا يصلح للمعارضة لعدم شموله لمورد المدلول الإيجابي. وبعبارة أخرى : ان ذلك يكون من قبيل استثناء الأمرين معا ، ولا يعقل في هذا الحال تنافي المستثنى منه مع المستثنى وتعارضه معه ، فلاحظ.

واما عارية الذهب والفضة ، فاستثناؤها وان كان مستقلا ومن العموم رأسا بلا استثناء لصورة الاشتراط أصلا ، إلاّ انه حيث ينفي الفرق بعد الاستثناء بين صورتي الاشتراط وعدمه ، يستظهر منه بأن ثبوت الضمان مع الاشتراط في غيرهما من المفروغ عنه ، فالمدلول السلبي - وهو العموم - وان كان عاما لغيرهما مع الاشتراط ، إلاّ انه بقرينة نفي الفرق بعد استثنائهما بين صورة الاشتراط وصورة عدمه يعلم بأن المراد منه غير صورة الاشتراط ، وان الضمان في صورة الاشتراط مفروغ الثبوت ، فتدبر.

وعليه ، فيكون المقدار الخارج من العام الفوق بواسطة هذه المخصصات هو

ص: 389

موارد عارية الدرهم وعارية الدينار وعارية الذهب أو الفضة ولو مع عدم الاشتراط ، ومورد عارية غيرها مع الاشتراط.

وهذا وان كان يوافق مقتضى ما أفاده السيد الخوئي في الجمع من تخصيص العام الفوق بجميع هذه المخصصات. إلاّ انه لا يتأتى إلاّ بناء على ما عرفت من مفاد الأدلة ، لا بناء على ما ذكره من مفادها ، فان الجمع بناء على ما أفاده كما سبق لا كما أفاده.

الجهة الثانية : دفع التفصي المذكور عن استلزام رفع اليد عن إطلاق المدلول الإيجابي - لما دل على ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضة بواسطة التساقط ، لمعارضته بالمدلول السلبي لما دل على ضمان عارية الدرهم والدينار ، لتخصيص المطلق بالفرد النادر المستهجن عرفا - : بأنه لا استهجان في ذلك بعد فرض كون المتكلم أثبت الحكم بدليل منفصل لهذا الفرد النادر ، فلا يستهجن ان يكون ذلك الدليل المنفصل قرينة على إرادة الفرد النادر من المطلق.

إذ لم يتعرض - في مصباح الأصول - إلى ذلك مع سبق التفصي ، وكان الأنسب التعرض لدفع التفصي لا ذكر ما ذكره الشيخ وإهمال ما ذكر من التفصي عنه.

وحاصل الإشكال على ما ذكر : ان الإشكال ليس من جهة استهجان ترتيب الحكم على الفرد النادر كي يتفصى عنه بما ذكر ، بل من جهة استعمال المطلق وإرادة الفرد النادر منه ، واستهجانه يرتبط بالقواعد العربية ، فلا ينتقض بثبوت الحكم للفرد النادر بدليل منفصل مع كون إرادته بلفظه لا بواسطة المطلق.

الجهة الثالثة : في بيان مناسبة التعرض لهذه المسألة في ذيل صورة وجود عام فوق وعام آخر متصل بأخص الخاصّين وخاص أعم منفصل - فانه أهمل ذكر هذه الجهة مع لزوم التعرض إليها ، لوضوح كون المسألة فقهية ، فلا بد من ذكر مناسبة ذكرها في مثل هذا المجال من مجالات علم الأصول -

ص: 390

والوجه في ذكرها هاهنا هو : وجود عام فوق ، وهو ما دل على نفي ضمان العارية مطلقا. وخاص أخص متصل بعام آخر ، وهو ما دل على نفي الضمان الا في الدراهم والدنانير. وخاص أعم ، وهو ما دل على ثبوت الضمان في الذهب والفضة.

إلاّ ان الكلام في تلك الصورة لا يجري هاهنا ، إذ مع الالتزام في تلك الصورة بما التزم به المحقق النائيني من انقلاب النسبة بلحاظ دلالة الخاصّ الأخص على تخصيص المراد الجدي بغير مورده ، لا يمكن الالتزام به هنا ، لأن ذلك انما يتم لو كان الخاصّ الأعم منفصلا. وفي المقام ليس كذلك ، إذ هو أيضا متصل بالعامّ ، فان الدليل لم يدل على ثبوت الضمان في عارية الذهب والفضة فقط ، بل دل على نفي الضمان في العارية إلاّ فيهما.

وعليه ، فكلاهما - أي الخاصّ الأخص والخاصّ الأعم - يدلان على تخصيص حكم العام الفوق بغير موردهما في مرتبة واحدة ، بلا وجه لتقدم لحاظ أحدهما على الآخر ، لكونهما بنحو واحد بالإضافة إلى العام الفوق.

وهكذا الكلام فيما دل على نفي الضمان الا مع الاشتراط.

فذكر هذه المسألة عقيب تلك الصورة ليس إلاّ لأجل المشابهة ، لا لأجل الاشتراك في الحكم ، فلاحظ وتدبر.

الصورة الثانية - من صور المسألة - : ما إذا ورد عامان ومخصص ، وذلك على أنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون المخصص واردا على مورد الاجتماع والتنافي بين العامين ، فيكون مخصصا لهما ، لكونه أخص مطلقا منهما ، ويرتفع التعارض بينهما ، وذلك نظير ما لو ورد : « أكرم العلماء » وورد : « لا تكرم الفساق » ثم ورد : « يكره إكرام فساق العلماء » فان الخاصّ يخصص كلا من العامين بغير مورده ، وبذلك يرتفع التعارض بينهما ، إذ تعارضهما في مورد الخاصّ - أعني : فساق العلماء - فلاحظ.

الثاني : ان يكون المخصص واردا على مورد الافتراق من أحدهما ، كما لو ورد :

ص: 391

« يستحب إكرام العلماء » ، و « لا تكرم الفساق » ، ثم ورد : « يجب إكرام عدول العلماء ».

وقد تقدم الكلام في هذا النحو في أوائل هذا البحث ، فراجع.

هذا إذا كان المخصص مخرجا لتمام مورد الافتراق ، كما في المثال المتقدم.

اما لو كان مخرجا لبعضه ، كما لو كان المخصص في المثال : « يجب إكرام عدول الفقهاء » فانه بتقديم الخاصّ لا تنقلب النسبة بين العامين - في مورد الالتزام بانقلابها في هذا النحو -

الثالث : ان يكون المخصص واردا على مورد الافتراق لكل من العامين ومخرجا له ، كما لو ورد : « يستحب إكرام العلماء » ، و : « يكره إكرام الفساق » ، ثم ورد : « يجب إكرام عدول العلماء » ، و : « يحرم إكرام فساق الجهال ». والوجه هو تقديم كلا الخاصّين وتخصيص العامين بهما ، فتنقلب النسبة بينهما إلى التباين ، لاختصاص كل منهما بعد تخصيصه بالعلماء الفساق ، وأحدهما يدل على استحباب إكرامه والآخر يدل على كراهته.

ولا بد حينئذ من إجراء قواعد التعارض فيما بينهما بالخصوص.

إلاّ ان السيد الخوئي - كما في مصباح الأصول - ذهب إلى وقوع التعارض بين الأدلة الأربعة العامين والخاصّين ، لأن العلم الإجمالي الّذي هو منشأ التعارض يتعلق بكذب أحد الأربعة لا بكذب أحد العامين فقط (1).

وفيه : ما تقدم منا من الإشكال عليه من : ان العلم الإجمالي بنفسه لا يكون منشأ للتعارض ما لم يكن في الأدلة اقتضاء الحجية ، ونفي كون التعارض يكون بين أكثر من دليلين لأن معناه التنافي الراجع إلى نفي أحدها للباقي ، وهذا ليس بثابت فيما نحن فيه كما سبق فراجع تعرف.

الصورة الثالثة : ما إذا تعارض دليلان بالتباين وورد مخصص ، وهو على أنحاء ثلاثة أيضا :

ص: 392


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 400 - الطبعة الأولى.

الأوّل : ما إذا كان المخصص مخصصا لأحدهما ، فانه يتقدم عليه وتنقلب النسبة حينئذ بين العام المخصص والعام الآخر من التباين إلى العموم والخصوص المطلق ، فيخصص العام الآخر به ، وذلك كما لو ورد : « أكرم العلماء » وورد : « لا تكرم العلماء » ثم ورد : « أكرم العلماء العدول » ، فان الأخير يخصص دليل : « لا تكرم العلماء » بغير مورده ، وهو العلماء الفساق ، وحينئذ يكون أخص مطلقا من دليل : « أكرم العلماء » فيخصصه أيضا بغير مورده.

ومن هذا الباب أدلة إرث الزوجة من العقار ، فان منها ما يدل على إرثها منه مطلقا (1) ، ومنها ما يدل على عدم إرثها منه مطلقا (2) ، ومنها ما يدل على إرث خصوص أم الولد (3) ، فانه يخصص ما يدل على عدم إرثها مطلقا ، فتنقلب النسبة بين هذا الدليل وبين ما يدل على إرثها مطلقا ، فيخصص به.

الثاني : ان يكون المخصص واردا على كل واحد منهما ، مع عدم التنافي بين المخصصين أنفسهما ، فيخصص بهما كلا العامين وتنقلب النسبة بينهما إلى العموم من وجه ويقع التعارض بينهما في مورد الاجتماع ، نظير ما لو ورد : « أكرم العلماء » وورد : « لا تكرم العلماء » ثم ورد : « أكرم النحويين » وورد : « لا تكرم الأطباء » ، فان دليل : « لا تكرم الأطباء » يخصص دليل : « أكرم العلماء » بغير الأطباء ، ودليل : « أكرم النحويين » يخصص دليل : « لا تكرم العلماء » بغير النحويين ، فتكون النسبة بين العامين بعد التخصيص العموم من وجه ، إذ يفترقان في الطبيب غير النحوي وفي النحوي غير الطبيب - إذ الأول مورد افتراق : « لا تكرم العلماء » والثاني مورد افتراق « أكرم العلماء » - ويجتمعان في غير الطبيب وغير النحوي كالفقيه ، فان أحدهما يدل على حرمة إكرامه والآخر يدل على وجوبه.

ص: 393


1- وسائل الشيعة 17 / 522 باب : 7 من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث : 1.
2- وسائل الشيعة 17 / 517 باب : 6 من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث : 1 و 8.
3- وسائل الشيعة 17 / 523 باب : 7 من أبواب ميراث الأزواج ، الحديث : 2.

الثالث : ان يرد المخصص على كل منهما ويكون بين المخصصين تناف. كما لو دل دليل على وجوب إكرام العلماء ، ودل آخر على حرمة إكرامهم ، ودل ثالث على وجوب إكرام عدولهم ، ودل رابع على حرمة إكرام النحويين.

والموجود في مصباح الأصول : انه لا أثر للقول بانقلاب النسبة والقول بعدمه في هذه الصورة ، إذ على القول بانقلابها تكون النسبة بين دليل وجوب إكرام العلماء ودليل عدم وجوب إكرامهم بعد خروج العالم النحوي من الأول وخروج العالم العادل من الثاني هي العموم من وجه ، حيث يجتمعان في العالم العادل النحوي ، ويفترقان في العالم العادل غير النحوي وفي العالم الفاسق النحوي ، فيحكم بوجوب إكرام العالم العادل غير النحوي وبعدم وجوب إكرام العالم الفاسق النحوي ، ويرجع إلى الأصول العملية أو الترجيح أو التخيير في إكرام العالم العادل النحوي.

واما على القول بإنكار الانقلاب ، يسقط العامان من الاعتبار رأسا ويؤخذ بالخاصين ، وحيث ان بينهما العموم من وجه يعمل بهما في مورد افتراقهما ويرجع إلى الأصول العملية أو الترجيح أو التخيير في مورد الاجتماع - وهو العالم العادل النحوي - فتكون النتيجة عين نتيجة القول بانقلاب النسبة انتهى (1).

ولا يخفى ما فيه ، إذ يرد عليه :

أولا : ما تقدم من انه مع التنافي بين المخصصات بالعموم من وجه ، لا وجه لتخصيص العام بها قبل علاج التعارض الحاصل فيما بينها ، كما ارتكبه هاهنا في مصباح الأصول.

وثانيا : انه مع تخصيص العامين بالخاصين بلا لحاظ تعارضهما قبلا ، فلا يكون مورد التنافي والاجتماع هو « العادل النحوي » في المثال المذكور كما ذكره ، كي ينتفي الفرق بين القولين القول بالانقلاب والقول بعدمه ، إذ العادل والنحوي خارجان عن كلا العامين بعد التخصيص ، بل المجمع ومورد التنافي يكون هو الفاسق

ص: 394


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 402 - الطبعة الأولى.

غير النحوي.

وعليه ، فلا ينتفي الفرق بين القولين ، إذ مورد الرجوع إلى الأصول العملية أو الترجيح والتخيير على القول بالانقلاب يكون الفاسق غير النحوي. وعلى القول بعدمه يكون العادل النحوي. وذلك كاف في الفرق ، فلاحظ.

نعم ، على ما قررناه من لزوم معالجة المعارضة بين الخاصّين قبل تخصيص العام بهما ، لا يكون هناك فرق عملي بين القولين.

وذلك لأنه بعد لحاظ المعارضة بين الخاصّين يتساقطان (1) ، في المجمع وهو « العادل النحوي » ، فيكون مدلول أحدهما : « لا تكرم فساق النحويين » والآخر : « أكرم عدول غير النحويين من العلماء » ، وبعد ذلك يخصص بهما العامان بهذا المقدار ، فيكون مدلول أحد العامين : « أكرم العلماء إلاّ فساق النحويين » ومدلول الآخر : « لا تكرم العلماء الا عدول غير النحويين » ، فتكون النسبة بينهما العموم من وجه ، ومورد الاجتماع هو : « العادل النحوي والفاسق غير النحوي » ، ومورد افتراق دليل الوجوب : « العادل غير النحوي » فانه غير مشمول لدليل الحرمة ، ومورد افتراق دليل الحرمة : « الفاسق النحوي » فانه غير مشمول لدليل الوجوب.

ولا يخفى ان مورد افتراق كل منهما مشمول لمخصص الدليل الآخر ، فان « العادل غير النحوي » مشمول لدليل : « أكرم العدول غير النحويين » المخصص لدليل : « لا تكرم العلماء » ، وكذلك : « الفاسق النحوي » ، فانه مشمول لدليل : « لا تكرم فساق النحويين » المخصص لدليل : « أكرم العلماء ».

فبالنسبة إلى موارد الافتراق لا يختلف الحال على القولين ، لثبوت الحكم فيها اما بواسطة العامين لو قلنا بانقلاب النسبة وحصول التعارض في المجمع فقط. أو

ص: 395


1- هذا أحد فرض المسألة ومثله الكلام في الفرض الآخر - أعني فرض جريان الترجيح أو التخيير بينهما - فانه لا يفرق الحال بالنسبة إلى ثبوت الحكم في مورد الافتراق أو الاجتماع على القولين وان تضيق مورد الاجتماع على هذا الفرض. فلاحظ تعرف. ( المقرر ).

بواسطة الخاصّين لو لم نقل به وأخذنا بأحد العامين ترجيحا أو تخييرا ، بلحاظ حصول المعارضة في مجموع المدلول ، إذ مورد افتراق العام الآخر المطروح يثبت له الحكم بواسطة الخاصّ المخصص للعام المأخوذ به.

واما مورد الاجتماع ، فالحال كذلك لا يختلف على القولين ، لأن الحكم في المجمع على القول بانقلاب النسبة هو ترجيح أحد العامين مع وجود المرجح أو التخيير بينهما ، فيثبت فيه حكم أحد العامين ، وكذلك على القول بعدم الانقلاب ، إذ يثبت في المجمع حكم أحد العامين تخييرا أو ترجيحا ، فتدبر.

هذا بناء على شمول الاخبار العلاجية الدالة على لزوم الأخذ بأحد المتعارضين ترجيحا أو تخييرا لمورد العامين من وجه.

واما بناء على ما هو المشهور من عدم شمولها لموردها ، فالفرق بين القولين موجود فيما نحن فيه ، إذ على القول بانقلاب النسبة يكون حكم العامين التساقط في المجمع ، فلا يثبت فيه حكم أحدهما. وعلى القول بعدم الانقلاب لا يكون الحكم التساقط ، لأنهما يكونان متباينين لا عامين من وجه ، فتشملهما الاخبار العلاجية فيكون المجمع مشمولا لأحد العامين ، فلاحظ جيدا.

هذا تمام الكلام في صور انقلاب النسبة ، ومنه يتضح الحكم فيما قد يفرض من الصور.

ويقع الكلام بعد ذلك في حكم المتعارضين بحسب الأدلة الشرعية.

ولا بد من بيان مورد المعارضة ، فنقول : انه بعد ان عرفت ان التعارض عبارة عن التنافي الحاصل بين الدليلين في مقام الحجية ، بمعنى ان يكون كل منهما مزاحما للآخر في كسب الحجية لجانبه.

وهذا انما يتم في فرض ثبوت مقتضى الحجية في كل منهما ، بمعنى ان يكون كلا منهما موضوعا للحجية لو لا المانع ، وهو الدليل الآخر.

ومن هنا يظهر : انه يمتنع حصول التعارض في مورد يكون موضوع الحجية

ص: 396

ومقتضيها هو القطع أو الظن الفعلي ، بمعنى انه في المورد الّذي يكون ثبوت الحجية لكلا الدليلين موجبا للتعارض لعدم إمكان اجتماع حجيتهما اما ذاتا أو عرضا ، يمتنع حصول التعارض لو كان ملاك الحجية فيهما هو القطع أو الظن الشخصي بالمفاد ، لامتناع حصول اليقين بمفاد كلا الدليلين ، أو الظن الفعلي به لفرض التنافي بينهما ، اما الذاتي أو العرضي فيكون من اليقين بالضدين أو الظن بهما وهو محال ، مع لزوم ثبوت مقتضى الحجية في نفسه ومع قطع النّظر عن المعارض.

وعليه ، فمورد المعارضة ما كان موضوع الحجية فيه هو الظن النوعيّ ، إذ لا يمتنع قيام الدليلين المقتضيين للظن النوعيّ على متنافيين ، فيحصل التعارض بينهما ، لامتناع حجية كلا الدليلين بعد تنافي مدلوليهما.

وإذا حصل التعارض بين المدلولين - بمعنى التعارض بين أصالتي الظهور فيهما - يسري إلى السند - فيحصل التعارض بين دليل حجية سند كل منهما ودليل حجية سند الآخر - لو كان قابلا للتعارض ، كالسندين الظنيين - إذ بعد كون مفاد الخبرين متنافيين يمتنع التعبد بسند كل منهما وصدوره ، إذ مرجعه إلى التعبد بمؤدى الخبر ، والمفروض تنافيهما في المؤدى ، إذ لا معنى للتعبد بخصوص الصدور بلا رجوع ذلك إلى إيجاب العمل على طبق مؤداه ، كما لا يخفى - دون القطعيين ، إذ القطع بالصدور لا يترتب عليه تعبد به كي يقال بامتناع التعبد بصدورهما مع تنافي مدلوليهما ، لرجوع التعبد بالصدور إلى إيجاب العمل على طبق مفاده ومؤداه ، بخلاف الظن بالصدور فانه موضوع التعبد.

وحيث تصل النوبة إلى التعارض بين السندين ، كان ذلك محل الكلام في المقام. فيقع الكلام في تمامية دلالة النصوص الواردة في هذا المورد على أي حكم من الأحكام من ترجيح ، وتخيير ، وتوقف واحتياط.

- وقد عرفت فيما سبق ان الّذي تقتضيه القاعدة الأولية في المتعارضين هو التوقف ، بمعنى نفي الثالث ، لتساقط الدليلين في دلالتيهما المطابقيتين دون الالتزاميتين

ص: 397

لعدم التنافي فيها بينها - ولا بد لنا قبل الخوض في تحقيق الحال من تأسيس الأصل عند دوران الأمر بين الترجيح والتخيير ، بمعنى انه بعد فرض استفادة لزوم العمل بأحدهما - المتعارضين - وعدم جواز طرحهما معا ، ولكن لم يتعين بالأدلة أحد الأمرين من الترجيح والتخيير ، وشك في ذلك ، فهل مقتضى القواعد هو تعين الأخذ بما فيه المزية والمرجح ، أو لا بل مقتضاها التخيير بينهما؟

وثمرته : بأنه لو تم قيام القاعدة على الترجيح ، كفى ذلك دليلا عليه بمجرد الشك في ثبوت أدلة التخيير بلا حاجة إلى إقامة الدليل الخاصّ عليه.

والتحقيق : ان مقتضى القاعدة تعيين الأخذ بذي المزية والمرجح ، لأنه معلوم الحجية على التقديرين دون الآخر ، لدوران الأمر بين التعيين والتخيير.

وكون المسألة في موردها محل خلاف ، للمناقشة في كون الأصل هو التعيين بأن القدر المتيقن من التكليف ، هو التكليف بالجامع ، وغيره الزائد عليه مشكوك فيه ، فأصالة البراءة تنفيه وهي معذرة ، فيثبت التخيير دون التعيين.

لا يضر فيما نحن فيه - ولذا التزم بأن الأصل فيما نحن فيه يقتضي الترجيح ، من لا يلتزم بالتعيين في مسألة الاشتغال - وذلك لأن دوران الأمر بين التعيين والتخيير هناك انما هو بالنسبة إلى الحكم الشرعي الفرعي ، فأصالة البراءة يمكن دعوى جريانها في نفي التعيين.

واما في ما نحن فيه ، فالدوران بين التعيين والتخيير بالنسبة إلى الحجية ، والمفروض ان الأصل في باب الحجية مع الشك هو عدم الحجية ، وذلك ينتهي بنا فيما نحن فيه إلى الترجيح. بعكس أصالة البراءة في مسألة الاشتغال ، وذلك لأنه مع احتمال لزوم الترجيح يكون غير ذي المزية مشكوك الحجية ، والأصل عدمها ، فالامر يدور حينئذ بين ما هو مقطوع الحجية ومشكوكها ، ولا إشكال في لزوم الأخذ بما هو مقطوع الحجية ، إذ مشكوك الحجية مساوق لمقطوع عدم الحجية.

ص: 398

إلاّ ان هذا التقريب يتم لو قلنا بأن الحجية التخييرية فعلية كما لو كان مرجع الحجية التخييرية إلى حجية العنوان الانتزاعي وهو عنوان أحدهما ، فان كلا منهما منطبق هذا العنوان. أو قلنا انها معلقة على ترك الأخذ بالآخر. ولكن عرفت التشكيك في صحة هذين التصويرين للحجية التخييرية ، وان الوجه المعقول لها هو تعليق الحجية على الأخذ بالخبر نفسه ، فيكون حجة على تقدير الأخذ به ، وقد أشار إلى هذا الوجه غير واحد من الاعلام.

وعليه فلا مجال بناء على هذا القول - للتقريب المذكور - لعدم حجية كل منهما قبل الأخذ به بناء على التخيير ، فقبل الأخذ بكل منهما لا يدور الأمر بين ما هو مقطوع الحجية ومشكوكها ، لأن ذا المزية لا يكون حجة قطعا الا على القول بالترجيح أو بعد الأخذ به ، وكلاهما غير متحقق. لكنه مع هذا يتعين الأخذ بذي المزية (1) ، بتقريب : انه بعد فرض وجوب الأخذ بأحدهما من باب حكم العقل

ص: 399


1- تحقيق الكلام في المقام ان يقال : انه لا دليل من الخارج على لزوم الأخذ بإحدى الحجتين المتعارضتين من خبرين أو فتويين أو غيرهما مما يعلم بعدم سقوطهما معا عن الحجية. نعم ، قد يجب الأخذ بإحداهما مقدمة لتحصيل الحجة في بعض الموارد. توضيح ذلك : ان لتعارض الحجتين صورا : إحداها : ان يكون مفادهما حكما خاصا مع وجود دليل عام يتكفل حكم جميع الافراد ، كما لو ورد : « أكرم العلماء » ، ثم ورد : « لا تكرم النحويين » وورد : « أكرم النحويين ». الأخرى : ان يكون هناك علم إجمالي بالتكليف ويتعارض الدليلان في تعيينه. الثالثة : ان لا يكون هناك دليل عام ولا علم إجمالي ، بل التكليف محتمل بدوا ويتعارض الدليلان في إثباته ونفيه. اما الصورة الأولى ، فالأثر العملي لإثبات لزوم الأخذ بأحد الدليلين الخاصّين انما يظهر لو فرض ان محتمل الترجيح هو الدليل الخاصّ المخالف للعام ، وهو قوله : « لا تكرم النحويين » في المثال المتقدم. واما لو فرض انه هو الدليل الموافق للعام ، فلا أثر للزوم الأخذ بأحدهما ، لأن نتيجته هو الأخذ بالموافق ، وهو يتفق عملا مع طرحهما والرجوع إلى العام الفوقاني. وكيف كان : فلا دليل في مثل ذلك على لزوم الأخذ بأحدهما ، سوى ما قد يقال : من لزوم الفحص عن المخصص عند إرادة العمل بالعامّ ، والمفروض إمكان تحصيل الدليل المخصص بواسطة الأخذ به. ولكنه غير سديد ، لأن الثابت في بناء العقلاء إناطة العمل بالعامّ بالفحص عن المخصص المحتمل الوجود ، وانه مع التمكن من استكشافه لا يجوز العمل بالعامّ. واما لزوم إيجاد المخصص ، فهذا مما لم يثبت من بنائهم وما نحن فيه كذلك ، لأن الأخذ بالدليل محقق لحجيته فيكون مخصصا ، وبدونه لا يكون حجة ، ولا دليل على لزوم إيجاد الحجة على التخصيص ، وانما الثابت هو لزوم الفحص عما هو حجة على التخصيص ، فانتبه. واما الصورة الثانية ، فهي مما نلتزم فيها بلزوم الأخذ بأحد الدليلين لمن لا يريد الاحتياط ، بل يريد الاقتصار على بعض المحتملات ، إذ لا بد في تعيينه أحد المحتملات من استناده إلى حجة تستلزم انحلال العلم الإجمالي حكما ، فيلزمه الأخذ بأحد الدليلين. ولكن لا يمكن الاستناد إلى هذا البيان في باب التقليد إذا دار امر المجتهدين بين التعيين والتخيير ، والحكم بلزوم تقليد محتمل التعيين ، كما لو كان أحدهما أورع واحتمل تعين تقليده ، وذلك بأن يقال ان المكلّف قبل تقليده يعلم إجمالا بثبوت تكاليف كثيرة ، فلا بد في الخروج عن عهدتها - مع عدم الاحتياط - من الاستناد في عمله إلى حجة ، فيلزمه الأخذ بفتوى أحد المجتهدين ، ويتعين عليه قول محتمل الترجيح للجزم بحجيته على تقدير الأخذ به بخلاف قول الآخر. والسر في عدم صحة هذا القول ، هو : ان الدوران المزبور بين القولين انما هو في موارد الاختلاف. اما مع الاتفاق ، فلا تعارض كي يدور الأمر بينهما فيكون كل منهما حجة. وبما ان موارد الاتفاق كثيرة بحد ينحل العلم الإجمالي بها ، ففي مورد الاختلاف لا يكون هناك علم إجمالي ، بل ليس إلاّ احتمال التكليف احتمالا بدويا ، فيكون المورد من موارد الصورة الثالثة. وقد يدعي فيها عدم جريان البراءة للزوم الفحص عن الحجة ، ومع إمكان تحصيلها - كما في المقام بواسطة الأخذ بأحدهما - لا يمكن التمسك بالبراءة العقلية. ولكن هذا الكلام ممنوع ، بأن اللازم هو الفحص عن الحجة المحتملة الوجود لا إيجاد الحجة ، وما نحن فيه من الثاني لا الأول ، كما عرفت في الصورة الأولى ، فما نحن فيه نظير وعظ الراوي الفاسق ليصير عادلا فيصير خبره حجة ، فانه مما لا يتوهم انه واجب من باب لزوم تحصيل الحجة. اذن فقبل الأخذ بأحدهما لا حجة شرعا على التكليف لعدم الجزم بالتعيين ، فيكون المورد من موارد قاعدة قبح العقاب بلا بيان. هذا تمام الكلام في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب الحجج والأدلة على الطريقية. واما على السببية ، فقد عرفت رجوع التعارض إلى التزاحم ، وقد عرفت تحقيق الحال في دوران الأمر بين التعيين والتخيير في باب التزاحم في مباحث اجتماع الأمر والنهي ، فراجع. ولكن الّذي ذكرناه هناك يرتبط بدوران الأمر بين التعيين والتخيير في المتزاحمين بناء على كون التزاحم هو التنافي بين الحكمين في مقام الامتثال مع وجود الإطلاق لكلا الحكمين ، بحيث يرجع التخيير إلى تقييد إطلاق كل منهما بترك امتثال الآخر. وبناء على ما نسب إلى الكفاية من كون التزاحم هو التنافي في المقتضيين مع عدم تكفل الدليلين للحكم الفعلي ، بحيث يكون الأمر بأحدهما المعين أو التخيير بينهما بحكم العقل من باب لزوم تحصيل الفرض الملزم. واما بناء على كون التخيير بينهما بحكم الشارع ، بدعوى سقوط كلا الدليلين واستكشاف حكم شرعي آخر بالتخيير بينهما. فلم نتكلم فيه ، ولا بأس بتحقيقه بنحو الإجمال فنقول : ان مرجع دوران الأمر بين التعيين والتخيير على هذا المبنى إلى دوران الأمر بين التعيين والتخيير في الحكم الشرعي في المسألة الفرعية. وقد تقدم في مباحث الأقل والأكثر تحقيقه مفصلا. وقد قربنا هناك الالتزام بالبراءة على جميع محتملات الوجوب التخييري. لكن التحقيق انه لو التزمنا في حقيقة الوجوب التخييري انه سنخ وجوب وسط بين الوجوب التعييني والاستحباب. والتزمنا بأن الاختلاف بين الوجوب والاستحباب لا يرجع إلى الاختلاف في البعث والإرادة شدة وضعفا ، بل هما ينتزعان عقلا عن ترخيص المولى في الترك وعدمه ، لأن كل طلب يجب موافقته عقلا إذا لم يرخص المولى في الترك - كما عليه المحقق النائيني - كان المتعين فيما نحن فيه هو الاحتياط ، وذلك لأن مرجع الوجوب التخييري على هذا المبنى إلى الطلب الّذي حكم الشارع بالترخيص في عدم امتثاله إلى بدل ، فمن ملاحظة ذلك ينتزع العقل الوجوب التخييري للشيء في قبال التعييني المنتزع من الطلب مع عدم الترخيص في الترك مطلقا ، والاستحباب المنتزع عن الطلب مع الترخيص في الترك مطلقا ، فإذا تعلق الطلب بشيء وشك في التخيير بينه وبين غيره ، فمرجع ذلك إلى الشك في ترخيص الشارع في تركه إلى بدل وعدمه. ومن الواضح ان العقل - على هذا المبنى - يحكم بلزوم الامتثال والإتيان بمتعلق الطلب ما لم يحرز الترخيص ، فمع عدم إحرازه يتعين موافقته وعدم جواز مخالفته ، فتدبر تعرف.

ص: 400

بوجوب تحصيل الحجة على الحكم للعلم الإجمالي ، فمع الأخذ بذي المزية يعلم بحصول الحجة على الواقع ، اما من جهة انه حجة في نفسه لو ثبت الترجيح ثبوتا ، أو

ص: 401

من جهة الأخذ به لو ثبت التخيير.

واما مع الأخذ بغير ذي المزية ، فلا يعلم بتحصيل الحجة لاحتمال لزوم الترجيح ، فالأخذ بذي المزية متعين بحكم العقل ، فلاحظ.

وبعد هذا لا بد في تحقيق الحال في حكم المتعارضين بحسب المستفاد من النصوص.

وقد التزم الشيخ قدس سره بلزوم الترجيح بمقتضى الطائفة الأولى (1).

وأنكر لزومه صاحب الكفاية قدس سره والتزم باستحبابه ، وان الوظيفة في الخبرين المتعارضين هي التخيير.

بدعوى : ان اخبار الترجيح قاصرة الشمول للمورد لخروجه موضوعا عنها ، ولو تنزل عن ذلك ، فلا بد من الالتزام بحملها على الاستحباب جمعا بينها وبين ما دل على التخيير مطلقا.

توضيح ذلك : ان الخبر الجامع لمزايا الترجيح هو المقبولة (2) ، والمرفوعة (3) ، وهما - مع غض النّظر عما بينهما من الاختلاف في المفاد ، لتقديم الترجيح بصفات الراوي على الشهرة في الأولى وتأخيره عنها في الثانية - يختصان بمورد التحاكم وفصل الخصومة. ودلالتها على لزوم الترجيح في مقام الإفتاء محل إشكال ، خصوصا بملاحظة ان ارتفاع الخصومة مع التعارض لا يكون إلاّ بالترجيح ، لأن التخيير لا يحل النزاع كما لا يخفى.

ولا يبقى معها مجال دعوى دلالتها على الترجيح في مقام الفتوى بوحدة الملاك لوجود الفرق الفارق بين المقامين.

ومع التنزل عن ذلك بادعاء عدم الخصوصية لمورد التحاكم ، وان التعرض

ص: 402


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /450- الطبعة القديمة.
2- وسائل الشيعة 18 / 75 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 1.
3- غوالي اللئالي 4 / 133 ، الحديث : 299.

إليه لأنه مورد السؤال ، فهي ظاهرة في مورد التمكن من لقاء الإمام علیه السلام ، ولأجله لم يرجع إلى التخيير مع فقد المرجح. فلا تصلح لتقييد إطلاقات التخيير في زمان عدم التمكن من لقائه علیه السلام كزماننا الّذي نحن فيه.

واما الاخبار الأخرى الدالة على الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، فكونها من اخبار ترجيح أحد المتعارضين على الآخر محل إشكال ، بل الظاهر انها من باب تمييز الحجة عن اللاحجة - فيخرج عن باب التعارض ، لاشتراط اشتمال كلا الخبرين على مقتضى الحجية في تحققه - بدعوى : ان الخبر المخالف للكتاب أو الموافق للعامة بنفسه لا يكون حجة ، كما تشير إلى ذلك هذه الاخبار المتضمنة لكون مثل هذا الخبر زخرفا وباطلا ونحوهما ، لا انه لا يكون حجة فعلا بواسطة المعارض الأقوى.

والّذي تحتمله عبارة الكتاب في تقريب هذه الدعوى أحد وجوه ثلاثة :

الأول : ان الخبر المخالف للكتاب أو الموافق للعامة بملاحظة وجود الخبر الموافق للكتاب أو الخبر المخالف للعامة الموثوق بصدوره ، يحصل الاطمئنان بوجود خلل ، اما في صدوره ، أو جهته ، أو ظهوره ، فيحصل العلم بعدم حجيته في مورد المعارضة ، هذا امر ارتكازي أرشدت إليه الروايات الدالة على ان مثل هذا الخبر زخرف ، أو انه لم نقله ، ونحو ذلك ، مما يدل على عدم حجية الخبر في نفسه في هذا المورد.

الثاني : ان عدم حجية مثل هذا الخبر انما هو باعتبار دلالة هذه الاخبار على ذلك بلحاظ لسانها المذكور ، لا باعتبار الاطمئنان الخارجي ، لعدم حجيته كي تكون دلالتها إرشادية ولا يختص ذلك بمورد المعارضة ، لظهورها في ان مجرد المخالفة للكتاب والموافقة للعامة هي الموجبة لعدم حجية الخبر وكونه باطلا وزخرفا بلا خصوصية لمورد المعارضة.

الثالث : انه يحصل الاطمئنان بواسطة هذه الاخبار بعدم حجية الخبر المخالف

ص: 403

للكتاب أو الموافق للعامة في مورد المعارضة ، فالاطمئنان يحصل من هذه الاخبار ، لا انه حاصل من الخارج والاخبار مرشدة إليه.

والّذي تحصل : ان اخبار الترجيح لا تشمل موضوعا مورد الخبرين المتعارضين الّذي نحن فيه. ولو تنزل عن ذلك وقيل بشمولها لما نحن فيه ، فلا بد من التصرف فيها بحملها على الاستحباب ، إذ تقييد مطلقات التخيير بها يستلزم تخصيصه بالفرد النادر - لندرة كون الخبرين متساويين في جميع المزايا - وهو مستهجن ، فطريق الجمع هو حمل اخبار الترجيح على الاستحباب لا اللزوم. هذا محصل ما ذكره صاحب الكفاية رحمه اللّه (1).

وقد نوقش في كلامه بجهاته ..

اما ما ذكره في كون المقبولة واردة في مورد التحاكم فلا تشمل غيره من الموارد ..

فوجه المناقشة فيه : ان صدر الرواية في المقبولة وان كان ظاهرا في كون الترجيح في مقام الحكومة ، إلاّ ان ما بعده ظاهر في كون الترجيح بين الروايتين بلا لحاظ هذا المقام بل مطلقا.

واما ما ذكره من ظهورها في مورد التمكن من لقاء الإمام علیه السلام فيختص الحكم بذلك ..

فوجه المناقشة فيه (2) : انه بمناسبة الحكم والموضوع يعلم بعدم الفرق في الترجيح بين زمان الحضور وغيره ، إذ من المعلوم انه لا وجه لكون الشهرة أو غيرها مرجحا في زمان دون آخر كما لا يخفى.

واما ما ذكره في غيرها من اخبار الترجيح وانها من باب تمييز الحجة عن

ص: 404


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /443- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- سيأتي في تحقيقه - دام ظله - عدم صحة هذه المناقشة ورجوع جميع نصوص المقام إلى تمييز الحجة عن اللاحجة. فراجع.

اللاحجة.

فقد نوقش فيه : بأن بعض الاخبار وان كانت ظاهرة في التمييز ، إلاّ ان هناك غيرها مما هو ظاهر في مقام ترجيح الحجة على الحجة ، لا في مقام التمييز.

فلا بد ان تحمل هذه الاخبار على إرادة المخالفة لنص الكتاب كالمخالفة بنحو التباين الكلي ، إذ من المعلوم وجدانا تخصيص كثير من عمومات الكتاب بالأخبار ، فيكون هذا العلم قرينة على هذا الحمل وتحمل الاخبار الأخرى الظاهرة في الترجيح على إرادة المخالفة لظاهر الكتاب ، كالمخالفة بنحو العموم والخصوص ونحوه ، فدلالة هذه الاخبار تامة ، بعد الجمع المذكور.

وهذا الجواب هو المناسب للاحتمال الثاني لكلامه رحمه اللّه ، لا ما أجيب به من : بطلان دعوى حصول الاطمئنان ، لوجود خلل في الخبر الموافق للعامة لموافقتنا لهم في كثير من الأحكام ، فلعل ما يؤديه الخبر من موارد الموافقة (1) ، فان هذا الجواب انما يتناسب مع الاحتمال الأول والثالث كما لا يخفى ، فلاحظ.

واما ما ذكره من انه مع الالتزام بشمول هذه الاخبار موضوعا لما نحن فيه ، لا بد من حملها على الاستحباب لاستلزام تقييد مطلقات التخيير بها إرادة الفرد النادر من المطلق ..

فوجه المناقشة فيه : ان ذلك انما يلزم مع الالتزام بالترجيح بغير موافقة الكتاب ومخالفة العامة من المرجحات المنصوصة وغيرها. اما مع الالتزام بالترجيح بخصوصهما دون غيرهما ، فموارد التخيير كثيرة لكثرة موارد التساوي في الخصوصيات ، فلاحظ.

هذا مجمل المناقشة المذكورة في كلمات الاعلام (قدس سرهم) لكلام صاحب الكفاية رحمه اللّه ، إلاّ ان المقام يستدعي زيادة في التحقيق والدقة ، فلا كفاية بالنحو الّذي أنهى به صاحب الكفاية ومجيبوه الكلام ، فلا بد من تحقيقه من

ص: 405


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 408 - الطبعة الأولى.

استعراض الاخبار الواردة في المورد والانتهاء بما يقتضيه الذوق والصناعة منها ، فنقول - وبه الاعتصام - : الاخبار على طوائف خمس :

الأولى : ما ظاهره لزوم الترجيح ببعض المزايا ، كالشهرة وموافقة الكتاب ومخالفة العامة (1).

الثانية : ما ظاهره جواز التخيير والأخذ بأيهما شاء (2).

الثالثة : ما ظاهره لزوم الاحتياط ، يعني الأخذ بالأحوط (3).

الرابعة : ما ظاهره لزوم التوقف (4).

الخامسة : ما ظاهره لزوم الترجيح بأحدث الخبرين (5).

اما طائفة الترجيح بالشهرة ونحوها ، فهي اخبار كثيرة ..

والجامع منها للمرجحات خبران : مقبولة عمر بن حنظلة ، ومرفوعة زرارة المروية في غوالي اللئالي.

اما مقبولة ابن حنظلة (6) ، فمع الغض عن سندها - وان عبر عنها بالمقبولة (7) - لا تصلح للدلالة على الترجيح في مورد تعارض الخبرين لجهات :

الأولى : ان الجري العرفي في حل المخاصمات لا يتناسب والتحاكم عند رجلين يرتضيهما كلا المتداعيين ، إذ لا تنحل الخصوصة مع اختلافهما ، ففرض التحاكم عند

ص: 406


1- وسائل الشيعة 18 / 84 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 29.
2- وسائل الشيعة 18 / 87 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 40.
3- وسائل الشيعة 18 / 111 باب 12 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 1.
4- وسائل الشيعة 18 / 75 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 1.
5- وسائل الشيعة 18 / 79 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 17.
6- وسائل الشيعة 18 / 75 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 1.
7- وذلك لأنه لو كان المراد بها ثبوتها عند الأصحاب يعني انجبار ضعف سندها بالشهرة والاعتبار ، لكان ذلك وجها لاعتبارها سندا. ولكن مقبوليتها انما كانت باعتبار صفوان بن يحيى وهو كما قيل من الأصحاب الإجماط. أي الّذي أجمع العصابة على تصحيح ما يصح عنهم وذلك غير مسلم عند الكل حتى من يلتزم بانجبار ضعف الرواية بالشهرة. ( المقرر ).

رجلين في الرواية لا يعلم له وجه بحسب المجرى العرفي. ولو أريد - كما هو الظاهر من النص - الرجوع إلى ما يتفقان عليه ، فمع الاختلاف لا يكون كل منهما حجة في حكمه ، فلا معنى للسؤال عن الترجيح.

الثانية : ان المفروض في الرواية (1) ، والمسلم عند الفقهاء ، انه لا حق لمجتهد الحكم على خلاف ما حكم به مجتهد آخر ، فكيف يتصور ثبوت حكمين منهما مختلفين؟! ، بل لا بد لأحدهما من إمضاء حكم الآخر الّذي قد حكم أولا.

الثالثة : انه مع صلاحية كل منهما لفصل الخصومة ، لا يتصور عدم عثوره على الرواية المعارضة لما استند إليه ، مع فرض كون الحاكم الآخر من الرّواة ، كما هو الشأن في المجتهدين في زمان الحضور ، إذ عدم عثوره عليها يعني تقصيره في الفحص ، ومعه لا يجوز له القضاء والحكم ، ومع عثوره عليها كيف يحكم على إحداهما بلا ملاحظة ما هو الحكم عند التعارض؟!.

الرابعة : انه من المتسالم عند الفقهاء انه لا حق للمتخاصمين الفحص عن مستند حكم الحاكم ، بل لا بد من التعبد به كيف ما كان ، فكيف يفرض امر الإمام علیه السلام لهما بالفحص عن المستند؟!.

الخامسة : ان الرواية أولا وآخرا انما تدل على ترجيح أحد الحكمين على الآخر ، لا إحدى الروايتين على الأخرى ، كما يدل عليه قوله علیه السلام : « الحكم ما حكم به أعدلهما .. » وقوله علیه السلام : « فيؤخذ به ( يعني بالمجمع عليه ) من حكمهما ويترك الشاذ الّذي ليس بمشهور » ، وقوله علیه السلام : « ينظر ما وافق حكمه حكم الكتاب والسنة وخالف العامة فيؤخذ به ويترك ما خالف الكتاب .. ».

السادسة : انه لو سلم كونها في مقام ترجيح إحدى الروايتين على الأخرى ، فهي ظاهرة في مقام عدم كون التعارض بين السندين - كما هو مفروض البحث - ، بل التعارض في مقام آخر.

ص: 407


1- بقوله علیه السلام : الرادّ عليه كالرادّ على اللّه.

وقد تمسك السيد الخوئي لذلك بإطلاق المشهور على أحد الخبرين ، فان لفظ الشهرة لغة بمعنى الوضوح المساوق للاطمئنان والعلم العادي.

وهذا يعني : ان المشهور مقطوع الصدور وغيره مقطوع عدم الصدور ، واستشهد لذلك بقوله علیه السلام : « فان المجمع عليه لا ريب فيه » ، فان نفي الريب ظاهر في حصول العلم بالمجمع عليه ، وقوله هذا ظاهر في كونه إشارة إلى امر ارتكازي عرفي ، وبقوله : « امر بيّن رشده وامر بيّن غيّه .. » ، فان تطبيق بيّن الرشد على المجمع عليه ظاهر في كونه مجزوم الحجية ، ومعه فإذا كان كلا الخبرين مشهورين كانا مقطوعي السند فلا تعارض بين السندين (1).

إلاّ انه يشكل : بان المراد بالشهرة لو كان هو الشهرة في روايته عن شخص الإمام علیه السلام بحيث يكون الراوي عن الإمام متعددا ، كان ما ذكر في محله ، لأنه يكون من قبيل المتواتر.

وان كان هو الشهرة عن شخص راو عن الإمام علیه السلام بحيث يتحد الراوي عن شخص الإمام مباشرة ويتعدد الرواية عن هذا الراوي ، لم يتم ما ذكر ، إذ لا يحصل الاطمئنان بصدور الخبر بل يكون كغيره من الاخبار. ولا دليل (2) على إرادة الأول ، إذ إطلاق الشهرة على النحو الثاني متعارف.

واما قوله : « لا ريب فيه » ، فلا يصلح شاهدا لما ذكر ، إذ يمكن ان يكون المراد

ص: 408


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 412 - الطبعة الأولى.
2- قرّب دام ظله في الدورة الثانية إرادة الشهرة بالمعنى الأول أعني الشهرة في الطبقة الأولى الرواية عن الإمام علیه السلام ببيان انه مضافا إلى كونه ظاهر النص لظهور قوله « قد رواهما الثقات عنكم » في ذلك ان الشهرة في الطبقات اللاحقة المتوسطة مع وحدة الراوي عن الإمام علیه السلام لا يستلزم ترجيحا في جانب السند إذ هو لا يزيد على السماع من الراوي عن الإمام علیه السلام مباشرة فغاية الأمر يقطع برواية زرارة مثلا عن الإمام علیه السلام اما صدور الحديث عنه علیه السلام فلا يرتبط بالشهرة مع ان النقل عن الإمام علیه السلام بوسائط كان قليلا في تلك العصور ، ولذا إن ثبت إرادة الشهرة عن الإمام علیه السلام مباشرة كان ذلك مستلزما للقطع بصدور النص فلا يرتبط بترجيح جانب السند بالشهرة فتدبر.

به نفي الريب عنه بالنسبة إلى غير المشهور لا في نفسه ، وذلك بقرينة تثليث الأقسام فيما بعد وإطلاق المشتبه على غير المشهور ، فانه يقتضي كونه مشكوك الصدور لأنه مما يعلم عدم صدوره.

فالأولى في الاستدلال على المدعى بما يفرضه الراوي من معرفة كلا الحكمين حكميهما من الكتاب والسنة ، فانه ظاهر في ان مستنديهما هما الكتاب والسنة - وهما امران قطعيان بلا إشكال - ، وانه لا إشكال من ناحية الصدور ومنشأ الحكمين ، وانما الاختلاف نشأ من جهة الاختلاف في الاستظهار من الكتاب والسنة. فالترجيح (1) ، بعد هذا لا يكون في مقام السندين ، بل في مقام آخر غيرهما ، إذ لا شك في السندين.

ثم انه (2) بعد ان لم يعين إرادة النحو الثاني من لفظ المشهور ، بل كان اللفظ مطلقا ، استفيد من إطلاقه إمكان إرادة كلا النحوين ، ومع هذا - أعني : إرادة كلا النحوين من المشهور بمقتضى الإطلاق - لا بد من ان لا يفرض الترجيح في مقام السند وبلحاظ التعارض فيه ، إذ بعض افراد المشهور لا تعارض فيه في مقام السند للقطع بصدور أحدهما.

وبالجملة : فالمقبولة لا تصلح للتمسك بها على المدعى لا بلحاظ سندها ولا دلالتها.

والعجب ان الشيخ رحمه اللّه ، قد أشار إلى بعض جهات الإشكال فيها ، ثم التزم بصراحتها في لزوم الترجيح بين الروايتين ، وأتعب نفسه الزكية في الجمع الدلالي بينها وبين المرفوعة (3).

واما مرفوعة زرارة ، فالكلام حول دلالتها لا يغني ولا يسمن من جوع.

ص: 409


1- هذا بالنسبة إلى الترجيح بما بعد الشهرة.
2- هذا بالنسبة إلى الترجيح بالشهرة.
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /447- الطبعة القديمة.

لضعف سندها ، حتى انه ضعّفها سندا من لا عادة له بتضعيف الاخبار والقدح بسندها ، وهو صاحب الحدائق.

واما الاخبار الأخرى ..

فاما ما يتكفل الترجيح بخصوص مخالفة العامة وطرح الموافق لهم ، فهو وان كان متعددا وتام الدلالة إلاّ انه مخدوش السند ، لروايته عن رسالة القطب الراوندي بسنده الصحيح ، إلاّ انه نقل عن النراقي التشكيك في صحة نسبة هذه الرسالة إلى شخص الراوندي ولم تثبت شهادة غيره بصحة نسبتها إليه بمستند قطعي ، - حتى صاحب الوسائل ، فانه يذكر طرقا أربعة يتوصل بها إلى إثبات نسبة الكتاب إلى صاحبه -.

ومن هنا يظهر الوجه في ما نقل عن المحقق الحلي من : انه لا وجه للترجيح بمخالفة العامة - وثبوت مسألة علمية كهذه - برواية رويت عن الإمام الصادق علیه السلام ، إذ بعد ان عرفت الشك في ثبوت الروايات المنسوبة إلى القطب ، فلا يبقى ما يصلح للدلالة على الترجيح بمخالفة العامة الا المقبولة ، وقد عرفت ما فيها وما في الاستدلال ، بها ، فكيف يستند إليها في مثل هذه المسألة المهمة ، فلا وجه لما أنكر عليه المتأخرون بدعوى : وجود الروايات على ذلك البالغة حد الاستفاضة المعتبرة سندا ودلالة. وقد أناط اللثام عن ذلك المحقق الأصفهاني (1).

واما ما يتكفل الترجيح بموافقة الكتاب وطرح المخالف له.

فمنه ما هو ظاهر في عدم حجية المخالف للكتاب في نفسه ، إلاّ انه قد عرفت حمله على إرادة المخالفة لنص الكتاب ، كالمخالفة بنحو التباين الكلي ، بقرينة العلم بثبوت تخصيص وتقييد بعض عمومات ومطلقات الكتاب بالأخبار.

ومنه ما قد يظهر - كما ادعي - في مقام الترجيح في مورد أصول الدين لا فروعه.

ص: 410


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 167 - الطبعة الأولى.

واما ما يظهر منه الترجيح - لا تمييز الحجة عن اللاحجة - في مورد الفروع - لا الأصول - المحمول على إرادة المخالفة لظاهر الكتاب ، كالمخالفة بالعموم والخصوص ، فهو (1) أربع روايات : المقبولة ، والمرفوعة ، ورواية عن رسالة القطب ، ورواية عيون الاخبار عن الإمام الرضا علیه السلام . اما الأوليان ، فعدم صحة الاعتماد عليهما ظاهر مما تقدم وكذلك الثالثة. واما رواية عيون الاخبار ، فهي وان كانت بالمقدار الّذي يذكر منها شاهدا وافية الدلالة ، إلاّ انه بملاحظة صدرها (2) ، يتضح عدم كونها واردة في مقام تعارض الخبرين بل في مقام آخر ، فلا تصلح للاستدلال.

وبذلك يتحصل : انه لا يمكن التمسك بشيء من الاخبار على الترجيح ، فتدبر.

واما التوقف ، فالذي يتمسك به له روايتان : أحدهما : المقبولة.

والأخرى : رواية سماعة بن مهران المروية في الاحتجاج : « قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : يرد علينا حديثان واحد يأمرنا بالاخذ والآخر ينهانا؟.

قال : لا يعمل بواحد منهما حتى تلقى صاحبك فتسأل. قلت : لا بد ان نعمل بواحد منهما؟ قال : خذ بما فيه خلاف العامة » (3).

والأولى : مع ما عرفت ما فيها ، وان موردها الحكمان لا الروايتان ، حدد فيها

ص: 411


1- بل التحقيق انه لا بد من حمل النص الوارد في ترجيح الموافق على المخالف للكتاب على تمييز الحجة من اللاحجة ، لا ترجيح إحدى الحجتين على الأخرى ، وذلك أولا لما تقرر في محله من ان لفظ المخالفة لا يظهر منه المخالفة بنحو التباين أو العموم من وجه ، اما المخالفة بنحو الإطلاق أو التقييد أو العموم والخصوص فهو مما لا يعد مخالفة عرفا. وثانيا ان الغالب في الروايات المتعارضة هو ما يرد منها في أبواب العبادات ، وليس في الكتاب الكريم عمومات أو إطلاقات بالنسبة إليها ، فلا يتصور المخالفة من هذه الجهة لعدم الموضوع ، فلا معنى لحمل الاخبار المتكفلة للترجيح عليها. بل لا بد من حملها على المخالفة بالتباين ومثله يكون الخبر ساقطا عن الحجية في نفسه فتدبر.
2- وسائل الشيعة 18 / 81 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 21.
3- وسائل الشيعة 18 / 88 باب : 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 42.

التوقف بلقيا الإمام علیه السلام ، فهي تختص بزمان الحضور لا الغيبة كزماننا.

والثانية : ضعيفة السند ، مع معارضتها بالمقبولة ، لكون الحكم فيها بالتوقف من أول الأمر والحكم بالترجيح بعد عدم إمكانه ، والحكم في المقبولة بالتوقف ، بعد فقد المرجح. مضافا إلى تحديد التوقف بلقيا الإمام علیه السلام ، فهي مختصة أيضا بزمان الحضور.

واما الاحتياط ، فروايته مرفوعة زرارة ، وقد عرفت ما في الاستدلال بها ، فلا نعيد.

واما ما ظاهره لزوم الترجيح بالأحدثية ، فهو روايات :

الأولى : رواية الحسين بن مختار ، عن بعض أصحابنا ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام : « قال : أرأيتك لو حدثتك بحديث العام ثم جئتني من قابل فحدثتك بخلافه بأيها كنت تأخذ؟. قال : كنت آخذ بالأخير. فقال لي : رحمك اللّه تعالى » (1).

الثانية : رواية أبي عمرو الكناني ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، وهي توافق في المضمون الرواية الأولى ، لكن زيد فيها : « أبى اللّه إلاّ ان يعبد سرا اما واللّه لئن فعلتم ذلك انه لخير لي ولكم أبى اللّه لنا في دينه الا التقية » (2).

الثالثة : رواية محمد بن مسلم قال : « قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام : ما بال أقوام يروون عن فلان عن فلان عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله لا يتهمون بالكذب فيجيء منكم خلافه؟. قال : ان الحديث ينسخ كما ينسخ القرآن » (3).

الرابعة : رواية المعلى بن خنيس : « قال : قلت لأبي عبد اللّه علیه السلام إذا جاء حديث عن أولكم وحديث عن آخركم بأيهما نأخذ؟. قال : خذوا به حتى يبلغكم عن الحي ، فان بلغكم عن الحي فخذوا بقوله. قال : ثم قال أبو عبد اللّه ( عليه

ص: 412


1- وسائل الشيعة 18 / 77 باب 9 ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 7.
2- وسائل الشيعة 18 / 79 باب 9 ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 17.
3- وسائل الشيعة 18 / 77 باب 9 ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 4.

السلام ) : انا واللّه لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم » (1).

وهذه الروايات لا تصلح للدلالة على المدعي.

اما الأوليان (2) ، فالمفروض فيهما هو القطع بصدور كلام الحديثين ، لأن

ص: 413


1- وسائل الشيعة 18 / 78 باب 9 ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 8.
2- تحقيق الكلام في هاتين الروايتين من حيث مدلولهما ، ان يقال : أن ظاهرهما - كما أشير إليه في المتن - كون الحكمين المختلفين صادرين من نفس الإمام علیه السلام مشافهة ، فالالتزام بالاخذ بالمتأخر لا يرتبط بترجيح سند إحدى الروايتين المتعارضتين على الأخرى وتعيين صدورها. فهما أجنبيتان عن محط الكلام ، لكن لو تم مدلولهما وسندهما ، أشكل الأخذ بهما على ظاهرهما ، وذلك لأن مرجع مفادهما إلى بيان ان الحكم السابق ليس حكما واقعيا يلزم الأخذ به ، وانما هو حكم صوري اقتضت المصلحة بيانه موقتا. وبما ان مطلق الروايات المتكفلة للحكمين المختلفين في زمان الصدور ، إذ لا تصدر الروايتان منهما في آن واحد عادة ، بل تكون أحدهما متقدمة زمانا على الأخرى ، فمقتضى هذه النصوص ان إحدى هاتين الروايتين - وهي السابقة - صدرت لغير الحكم الواقعي ، فإذا علم بالسابقة من الروايتين كانت معلومة البطلان ، وان اشتبه الحال كما في الروايتين الصادرتين من امام واحد ، كان المورد من اشتباه الحجة باللاحجة ، لأن أحدهما الواقعية المعينة معلومة البطلان ولكنها غير مميزة. وعلى هذا لا يبقى للتعارض مورد أصلا ، وهو خلاف النصوص الأخرى التي تفرض للتعارض موضوعا ، وخلاف الضرورة من الصدر الأول إلى الآن ، فان وجود التعارض بين الروايات هو من الأمور المفروغ عنها بين الكل ، فمدلول هذه النصوص مما يصطدم مع الضرورة فلا يمكن الركون إليه. ومع الغض عن هذا الإشكال ، نقول : ان لزوم الأخذ بالأحدث لا وجه له الا التقية .. اما في الحكم السابق وارتفاعها فعلا ، فيتعين الأخذ باللاحق لارتفاع العارض. واما في الحكم اللاحق لاقتضاء التقية رفع اليد عن الحكم الواقعي. ومن الواضح اختصاص هذا بما إذا كان أحد الحكمين موافقا للتقية ، دون ما إذا لم يكن أحدهما كذلك ، فإطلاق الحكم بلزوم الأخذ بالأحدث في الروايتين مما لا يظهر له وجه. هذا ، مضافا إلى ان التشريع الناسخ للتشريع السابق وان كان للإمام عليه السلام ومن صلاحياته ، إلاّ انه لم يكن يتصدى خارجا إليه ، بل كان بيانه الحكم من باب انه الحكم الواصل إليهم عن النبي صلى اللّه عليه وآله ، كما يشير إليه التعبير في الروايتين المزبورتين ب- : « حدثتك بحديث » ، كما انه لا يحتمل في حقهم عليهم السلام فلا بد وان يكون ناشئا عن ملاحظة ظروف التقية التي تحيط بهم أو بالسائل. وعلى هذا الأساس يكون مقتضى القاعدة هو الأخذ بالحكم الأحدث ولو لم يبيّن ذلك في النصوص ، وذلك لأنه اما ان يكون الحكم السابق موافقا للتقية ، فبيان خلافه متأخرا يكشف عن زوال التقية ، فيلزم الأخذ به. واما ان يكون اللاحق هو الموافق للتقية ، فيلزم الأخذ به للتقية. فالحكم اللاحق يلزم الأخذ به ، اما للتقية أو لأنه الحكم الواقعي ، لكن لا يخفى ان هذا هو حكم من كان في زمن التقية ، فلا يشمل من كان في غير زمن التقية ، كزماننا الّذي نحن فيه ، بل المستفاد من هذه النصوص هو لزوم الأخذ بما يخالف العامة بالنسبة إلى من هو في هذه الأزمنة لأنه هو الحكم الواقعي ، فلا يستفاد من هذه النصوص امر زائد على اخبار الترجيح بمخالفة العامة. وهذا البيان أولى مما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره من اختصاص هذه النصوص بزمن التقية وهو زمن الحضور ، فلا تتكفل حكم زمن الغيبة ، فالمرجع فيه الاخبار العلاجية الأخرى. فانه يرد عليه : ان الاخبار العلاجية نصّ بالنسبة إلى زمن الحضور فانه القدر المتيقن منها ، إذ لا يحتمل انها تتكفل بيان حكم زمن الغيبة خاصة. وعليه فتكون معارضة لهذه الاخبار ، وهذا بخلاف ما بيناه من استفادة الأخذ بمخالف العامة في غير زمن الغيبة من نفس الاخبار بلا احتياج إلى الرجوع إلى الاخبار العلاجية في ذلك ، ولعل مراده ما ذكرناه.

المفروض انه هو الّذي يحدث المخاطب لا انه يروى عنه فالمخاطب يسمع الحديث مباشرة منه ، فليس التنافي بين السندين بل يكون بحسب الظهور ، فيحمل الأول السابق على التقية كما يشير إليه ذيل رواية الكناني ، وهذا هو الّذي يفهمه المخاطب بالحديثين بحسب المتعارف.

واما الثالثة ، فهي أيضا ظاهرة في كون الخبرين مقطوعي الصدور للتعبير : « بأنه يجيء منكم خلافه » ، فمجيء خلاف ما حدث به عن الرسول صلی اللّه علیه و آله منسوب إليهم مباشرة ، وهو لا يتناسب مع عدم الجزم بصدوره منهم ، كما ان ظاهر السؤال هو المفروغية عن صدورهما معا لا التشكيك في أحدهما ، وانما الإشكال في مخالفتهم علیهم السلام للرسول صلی اللّه علیه و آله مع ما صدر منهم من انهم لا يفتون بما يخالف سنة الرسول ، ويؤيده تقرير الإمام علیه السلام

ص: 414

له ورفع ما في ذهنه بأن الحديث ينسخ ، مشيرا إلى انهم علیهم السلام اطلع من غيرهم بنسخ أحاديث الرسول في زمانه صلی اللّه علیه و آله فيبينونه الآن.

واما الرابعة ، فعدم صلاحيتها للدلالة على المدعى من جهة ظهورها في لزوم الأخذ بالحديث حتى يبلغ عن الحي خلافه ، فانه ظاهر في اختصاص لزوم الأخذ بالأحدث بزمان الحضور بلحاظ معرفة الأئمة علیهم السلام ما يقتضيه أحوال زمانهم من التقية وعدمها ، ويشهد له قوله بعد ذلك : « انا واللّه لا ندخلكم إلاّ فيما يسعكم » الظاهر في كون اختلاف الحكم باعتبار اقتضاء حال زمان الحكم له ، وهذا يختص في زمان الحضور وان ما يقوله الإمام الحي لا بد من الأخذ به وان خالف حكمه حكم الإمام السابق ، لأن تفاوت حكمهم علیهم السلام بتفاوت حال الزمان الّذي هم فيه من حيث لزوم التقية وعدمها ، ولأنهم علیهم السلام يلحظون في أحكامهم ما يقتضيه الحال ، فلاحظ.

واما ما ظاهره ان الوظيفة هي التخيير ، فسيأتي الكلام فيه بعد التكلم في مقامين :

المقام الأول : انه مع التنزل عن المناقشات في سند بعض روايات الترجيح (1) ، فالقدر المتيقن هو لزوم الترجيح بموافقة الكتاب ومخالفة العامة ، لدلالة الاخبار المروية عن رسالة القطب عليه.

واما الترجيح بغيرهما من الشهرة أو صفات الراوي ، فلم يرد ذلك الا في المقبولة والمرفوعة ، وقد عرفت عدم نهوض الأولى دلالة والثانية سندا ، ومع التنزل والالتزام بدلالة الأولى وانجبار ضعف سند الثانية بعمل الأصحاب - كما ادعاه الشيخ - فلا بد من الالتزام بلزوم الترجيح بالشهرة وصفات الراوي من الأعدلية والأوثقية وغيرهما مما ذكره لكنه يقع الكلام في الجمع بين الروايتين المذكورتين للتنافي الحاصل بينهما ، إذ قدم الترجيح بالصفات على الترجيح بالشهرة في المقبولة ،

ص: 415


1- وهي روايات رسالة القطب الراوندي.

وأخر في المرفوعة ، فيحصل التعارض بينهما في مورد تعارض الخبرين ، وكان أحدهما مشهورا والآخر راويه أعدل ، إذ مقتضى المرفوعة تقديم المشهور منهما ، ومقتضى المقبولة تقديم المروي عن الأعدل.

وقد ذكر الشيخ رحمه اللّه وجوها ثلاثة للجمع :

الأول : ان الترجيح بالصفات في المقبولة انما كان في مورد تعارض الحكمين لا الروايتين ، فهي غير ناظرة فيه إلى تعارض الروايتين بخلاف المرفوعة ، فالمقدم يكون هو الخبر المشهور بمقتضى المرفوعة ولا تعارضها المقبولة أصلا.

الثاني : ان مقتضى دلالة المرفوعة على لزوم الأخذ بالمشهور عند معارضته للشاذ هو الأخذ في المورد بالمقبولة لأنها أشهر من المرفوعة ، ومعه يكون المقدم هو الخبر المروي عن الأعدل دون المشهور.

الثالث : انه لم يثبت من المشهور تقديم الخبر المشهور على غيره ولو كان أصح منه سندا ، فلم يثبت عمل الأصحاب بالمرفوعة في الفرض كي يحصل التعارض بينها وبين المقبولة ، فالمحكم يكون هو المقبولة ويقدم الخبر الأصح سندا على المشهور (1).

ولا يخفى اختلاف النتيجة على الوجوه ، إذ هي على الوجه الأول غيرها على الوجهين الآخرين.

اما الوجه الأول ، فهو تام بلا إشكال.

واما الثالث ، فهو عجيب بعد دعوى انجبار ضعف سند المرفوعة بعمل الأصحاب بها ، إذ عمل الأصحاب بها انما يثبت بعملهم بها في المورد الّذي تفترق به عن المقبولة - إذ في مورد اتفاقها معها لا يعلم كون عملهم بمضمونها ، إذ قد يكون بمضمون غيرها الموافق لها - ، والمورد الّذي تفترق به المرفوعة عن المقبولة هو هذا بالخصوص ، فمنع عمل المشهور بها فيه لا يتناسب مع دعوى عمل المشهور بها.

ص: 416


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /447- الطبعة القديمة.

واما الثاني ، فقد استشكل فيه المحقق الأصفهاني رحمه اللّه من جهات :

الأولى : انه لم يثبت شهرة المقبولة رواية ، إذ يمكن ان يكون التعبير عنها بالمقبولة من جهة كون راويها صفوان بن يحيى ، وهو من أصحاب الإجماع الذين أجمعت العصابة على تصحيح ما صح عنهم - كما أشرنا إليه - لا من جهة شهرتها رواية.

الثانية : ان الحكم بترجيح المقبولة استنادا إلى المرفوعة يتوقف على كون جعل الحكم في المرفوعة بنحو القضية الطبيعية أو بنحو القضية الحقيقية ، وتنقيح الملاك بحيث يكون الحكم الّذي تتكفله شاملا لها.

الثالثة : ان الالتزام بترجيح المقبولة بواسطة المرفوعة وطرح المرفوعة يستلزم المحال ، لأن الالتزام بالمرفوعة في ترجيح المقبولة يستلزم طرح المرفوعة كما لا يخفى ، فيلزم من الأخذ بالمرفوعة طرحها ، وهو محال لأن ما يلزم من وجوده عدمه محال (1).

إلاّ ان ما ذكره أخيرا لا نعرف له وجها ، وذلك لأن المرفوعة بإطلاقها تقتضي الأخذ بالمشهور سواء كان المعارض له الشاذ أصح منه سندا أو لم يكن كذلك ، فهي تشمل المقبولة وتشمل الخبر المعارض بالأصح سندا ، فشمولها للمقبولة يستلزم طرحها بالنسبة إلى الخبر المعارض بالأصح ، فالأخذ بها في بعض مدلولها يستلزم طرحها في البعض الآخر لمدلولها ، فلا يكون ذلك مما يلزم من وجوده عدمه ، لاختلاف مورد الأخذ والطرح ، فتدبر.

نعم ، الوجه الّذي يؤخذ على الشيخ ، هو عدم التزامه بترجيح المقبولة بمقتضى مدلولها أيضا ، لأنها أيضا تقتضي ترجيح المشهور على الشاذ ، والمفروض أيضا ان جعل الحكم فيها بنحو القضية الطبيعية أو بنحو القضية الحقيقية ، ولكن سريان الحكم إليها بتنقيح الملاك ، إذ هو الملاك في ترجيح المقبولة بمدلول المرفوعة

ص: 417


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 165 - الطبعة الأولى.

كما عرفت ، فلاحظ.

والمتحصل مما ذكرناه : انه يلتزم بالترجيح بالشهرة والصفات بلا تعارض.

المقام الثاني : انه بناء على الترجيح ، هل يجوز التعدي من المرجحات المنصوصة إلى غيرها في مقام الترجيح ، أو لا يجوز ذلك ، بل يلزم الاقتصار على المنصوص منها؟. التزم الشيخ بلزوم التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة مما يوجب أقربية ذي المزية إلى الواقع من معارضه ، واستند في ذلك إلى وجوه أربعة :

الأول : ظهور الترجيح بالأصدقية في المقبولة والأوثقية في المرفوعة ، في انه باعتبار ما فيهما من الطريقية إلى الواقع وإيجابهما أقربية الخبر إليه بلا مدخلية لخصوصيتهما في الترجيح أصلا.

وأيد ذلك : بأن الراوي بعد سماع الترجيح بمجموع الصفات لم يسأل عن وجود بعضها ، وانما سأل عن حكم صورة تساوي الروايتين في جميع المزايا المنصوصة وغيرها ، حتى قال : « لا يفضل أحدهما على الآخر » ، وهذا كاشف عن فهمه كون كل من هذه الصفات وما شابهها مزية مستقلة توجب الترجيح.

الثاني : تعليله علیه السلام في المقبولة الأخذ بالمشهور بأن : « المجمع عليه لا ريب فيه » ، إذ المراد بنفي الريب نفيه بالإضافة إلى الشاذ - لا النفي مطلقا بحيث يكون قطعيا من جميع الجهات ، إذ لا معنى معه لفرضهما مشهورين لامتناع القطع بهما بجميع جهاتهما - فيكون المعنى : ان الريب والاحتمال الموجود في الخبر الشاذ غير موجود في المشهور. ومقتضى التعدي عن مورد النص في العلة ان كل خبرين كان في أحدهما احتمالا لا يوجد في الآخر ، بحيث يكون اقرب من ذلك بعدم هذا الاحتمال كان الآخر مقدما.

الثالث : تعليلهم علیهم السلام لتقديم الخبر المخالف للعامة بأن : « الحق والرشد في خلافهم » ونحوه ، إذ من المعلوم ان هذه القضايا غالبية لا دائمة - لاتفاقنا معهم في بعض الأحكام - فكأن التعليل ناظر إلى ان ما يخالفهم اقرب إلى الواقع من

ص: 418

موافقتهم لغلبة مخالفتهم ، فيتعدى إلى كل مزية توجب أقربية ذيها من غيره بمقتضى التعليل.

الرابع : قوله علیه السلام : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » ، فانه يدل بإطلاقه على انه إذا دار الأمر بين امرين في أحدهما ريب وليس في الآخر ذلك الريب يجب الأخذ به ، وليس المراد نفي مطلق الريب بل نفيه بالإضافة (1).

وقد ناقشه المحقق الخراسانيّ في الوجوه الثلاثة الأول دون الرابع - ولعله لوضوح المناقشة فيه ، إذ لم يرد هذا التعبير في اخبار الترجيح ، بل هو وارد في اخبار البراءة والاحتياط ، فلا يصلح للاستشهاد به على المدعى فيما نحن فيه - اما المناقشة في الوجه الأول : فبأنه لم يعلم كون تمام الملاك في الترجيح بالأصدقية والأوثقية هو ما فيها من جهة الطريقية والكشف عن الواقع ، لاحتمال دخالة خصوصية في الترجيح خصوصا بملاحظة الترجيح بما لا يحتمل الترجيح به إلاّ تعبدا ، كالأفقهية لعدم جهة الطريقية فيها.

واما المناقشة في الوجه الثاني : فبأن المشهور في الصدر الأول يكون مما لا ريب فيه في نفسه لحصول الاطمئنان بصدوره ، ولا بأس بالتعدي إلى غير الشهرة من كل ما يوجب الاطمئنان بالصدور دون كل مزية.

ونظيرها المناقشة في الوجه الثالث ، بدعوى : ان الخبر الموافق يحصل الاطمئنان والوثوق بوجود خلل في جهة من جهاته فتنتفي حجيته ، ولا بأس بالتعدي إلى كل ما كان كذلك دون كل مزية وان لم توجب الاطمئنان (2).

والتحقيق : ان ما ذكره في مناقشته الوجه الأول وجيه ، إلاّ انه ترك المناقشة فيما ساقه الشيخ تأييدا لكلامه ، وهو عدم سؤال السائل عن صورة انتفاء بعض الصفات دون بعض.

ص: 419


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /450- الطبعة القديمة.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /447- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ووجه المناقشة في ذلك : انه لم يعلم ان السائل فهم مرجحية هذه الصفات وغيرها ، واما قوله : « لا يفضل أحدهما على الآخر » فلعله يكون ناظرا إلى عدم التفاضل في هذه الصفات المذكورة دون كل مزية.

واما مناقشته في الوجهين الآخرين فلا تمكن الموافقة عليها.

اما المناقشة في الوجه الثاني : فلأن إرادة عدم الريب في نفسه المساوق لحصول الاطمئنان والوثوق بالصدور ممنوعة ، لأن المفروض هو الحكم بلزوم الأخذ الفعلي بالمشهور للعلة المذكورة ، ولا يخفى ان مجرد القطع بالسند لا يوجب لزوم الأخذ فعلا بالخبر قبل تمامية جهاته الأخرى من جهة الصدور والدلالة.

ومع فرض تماميتها فيهما فعلا يأتي محذور فرض الخبرين مشهورين كما لا يخفى.

فلا بد من إرادة عدم الريب بالإضافة إلى الخبر المعارض - إذ إرادة عدم الريب في نفسه من جميع الجهات غير ممكنة ، لفرضهما بعد ذلك مشهورين ويمتنع العلم بمطابقتهما كليهما للواقع - فيكون المعنى - كما عرفت - ان الريب الثابت في ذلك الخبر ليس موجودا في هذا الخبر ، وهو لا يلازم الاطمئنان بموافقة الخبر الواقع ، بل قد يقارنه أحيانا ، إذ قد يكون مما فيه الريب في نفسه كشأن كل خبر.

واما المناقشة في الوجه الثالث : فلأنك قد عرفت ان المخالفة في نفسها لا توجب الوثوق بالرشد دائما - لكثرة الاتفاق بيننا وبين العامة - ولذلك كانت هذه الاخبار من اخبار الترجيح ، وانما هي أمارة غالبية توجب أقربية المخالف للواقع من الموافق. ومن هنا يندفع ما ذكره من احتمال إرادة رجحان نفس المخالفة وان لها موضوعية وخصوصية في نفسها.

هذا كله مع ان بعض هذه المناقشات ترجع إلى بيان عدم دلالة الاخبار على الترجيح من حيث الصدور ، لاستلزام المرجح المذكور فيها الوثوق بالصدور وهذا خلف المفروض ، إذ المفروض الكلام في التعدي بعد الالتزام بكون هذه الروايات

ص: 420

تتكفل الترجيح من حيث الصدور للروايتين المتعارضتين الواجدتين لمقتضى الحجية في حد أنفسهما ، فتدبر.

واما ما أورده السيد الخوئي من : ان نفس المخالفة - على هذا - تكون أمارة توجب الظن بنفس الخبر المخالف مع قطع النّظر عن المعارض ، فالتعدي يقتصر فيه على مثل ذلك ولا بأس به (1).

فهو غير وجيه ، لأن كون الرشد في خلافهم ، انما يكون أمارة ظنية على كون الحق في ما خالف العامة ، لا كون الحق هو الخبر المخالف ، لأن المخالف للعامة أعم من مفاد خصوص هذا الخبر وغيره لتنوع الأحكام ، فالمخالفة لا تكون أمارة على صحة خصوص هذا الخبر ، لعدم انحصار المخالفة بمفاده ، فتعليل الأخذ بالمخالف بها انما يتجه باعتبار إيجابها كون المخالف أقرب إلى الحقيقة والواقع من الموافق - لكونه أحد مصاديق المخالفة - لا باعتبار أنه بنفسه قريب إلى الواقع ، فلا بد من التعدي إلى كل مورد يكون أحد الخبرين اقرب إلى الواقع من معارضه ، وان لم تقم أمارة على قربه في نفسه.

والّذي يتحصل : ان الوجه هو الالتزام بما التزم الشيخ من التعدي إلى غير المرجحات المنصوصة على القول بالترجيح.

هذا ، ولكن الإنصاف عدم صحة ما أفاده قدس سره ، وذلك لأن نفس اخبار الترجيح تصدت للحكم بالتخيير مع تساوي الخبرين في المرجحات المفروضة واحدا بعد واحد ، ولو فهم السائل عموم الترجيح بأيّ مزية لكان ينبغي ان يسأل عن صورة التساوي في مطلق المزايا - بهذا العنوان - لا التساوي في المرجحات المذكورة في صدر النص ، بل لا معنى لسؤاله عن المرجحات واحدا بعد آخر لو فرض دلالة قوله : « فان المجمع عليه لا ريب فيه » على الترجيح بكل مزية ، لأنه يفهم منه ذلك فيأخذ بإطلاقه ، فلا موضوع للسؤال حينئذ عن صورة تساويهما

ص: 421


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 422 - الطبعة الأولى.

من حيث الشهرة ونحو ذلك. وقد نسب هذا الإشكال إلى صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل (1).

يقع الكلام بعد ذلك في اخبار التخيير ، وهي ثمان روايات :

الأولى : ما عن فقه الإمام الرضا علیه السلام في حديث : « ... وقد روى ثمانية عشر يوما ، وروى ثلاث وعشرين يوما » ، وبأي هذه الأحاديث أخذ من جهة التسليم جاز » (2).

الثانية : ما في ذيل مرفوعة زرارة من قوله علیه السلام بعد فرض السائل كون الخبرين موافقين للاحتياط أو مخالفين له : « إذا فتخير أحدهما فتأخذ به وتدع الآخر » (3).

الثالثة : رواية الحسن بن الجهم عن الإمام الرضا علیه السلام : « قلت يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيهما الحق؟. قال علیه السلام : فإذا لم تعلم فموسع عليك بأيهما أخذت » (4).

الرابعة : مرسلة الكافي حيث قال : « وفي رواية أخرى : بأيهما أخذت من باب التسليم وسعك » (5).

الخامسة : رواية الحرث بن المغيرة عن أبي عبد اللّه علیه السلام : قال : « إذا سمعت من أصحابك الحديث وكلهم ثقة ، فموسع عليك حتى ترى القائم فترد إليه » (6).

السادسة : رواية سماعة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « سألته عن رجل

ص: 422


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /237- الطبعة الأولى.
2- مستدرك وسائل الشيعة 3 / باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 12 - الطبعة الأولى.
3- الأصول الكافي 1 / 67 ، باب اختلاف الحديث ، الحديث : 10.
4- وسائل الشيعة 18 / 87 باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 40.
5- وسائل الشيعة 18 / 80 باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 19.
6- وسائل الشيعة 18 / 87 باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 41.

اختلف عليه رجلان من أهل دينه في امر كلاهما يرويه : أحدهما يأمره بالاخذ والآخر ينهاه ، كيف يصنع؟ قال علیه السلام : يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه » (1).

السابعة : ما روى عن علي بن مهزيار ، قال : « قرأت في كتاب لعبد اللّه بن محمد إلى أبي الحسن علیه السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد اللّه علیه السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم : صلهما في المحمل ، وروى بعضهم : لا تصلهما الا على الأرض. فوقع علیه السلام موسع عليك بأية عملت (2).

الثامنة : مكاتبة محمد بن عبد اللّه بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عجل اللّه تعالى فرجه وقد سئل فيها عن استحباب التكبير بعد التشهد الأول ... إلى ان قال علیه السلام في الجواب : ان في ذلك حديثين : اما أحدهما : فإذا انتقل من حالة إلى أخرى فعليه التكبير.

واما الآخر : فانه روي : انه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية وكبر ثم جلس ثم قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير وكذلك التشهد الأول يجري هذا المجرى ، فأيهما أخذت من باب التسليم كان صوابا » (3).

وقد نوقش في الاستدلال بالأربع الأولى بضعف سندها - مع تمامية دلالتها - إذ لم يثبت كتاب فقه الرضا كي يصح الاعتماد عليه ، وشذوذ المرفوعة وإرسالها ، وإرسال رواية الحسن بن الجهم ورواية الكافي.

وقد شكك في كون مرسلة الكافي رواية مستقلة غير الروايات الأخرى ، واحتمل انها إشارة إلى بعض هذه الروايات المذكورة.

ص: 423


1- وسائل الشيعة 18 / 77 باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 5.
2- وسائل الشيعة 18 / 88 باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 44.
3- وسائل الشيعة 18 / 87 باب 9 من أبواب صفات القاضي ، الحديث : 39.

ولكنه (1) ، تشكيك لا أساس له ، يدفعه ظهور كلام الكافي في انه رواية مستقلة وعدم ثبوت هذا التعبير في رواية غيرها. فالعمدة في الإشكال في الاستدلال بها إرسالها ، مع إمكان التشكيك في دلالة رواية الحسن بن الجهم ، فان فرض وثاقة كلا الرجلين ظاهر في فرض اطمئنانه بصدور الخبرين ، ولكن يجهل الواقع منهما ، فتكون أجنبية عن التخيير في مقام الحجية.

واما الرواية الخامسة - أعني : رواية الحرث - فقد نوقش الاستدلال بها بضعف سندها بالإرسال ، وعدم دلالتها على المدعي - أعني : التخيير في مقام التعارض ، كما فهمه الأصحاب - بدعوى (2) ظهورها في حجية اخبار الثقة وجواز العمل بها في نفسها مع قطع النّظر عن مقام المعارضة.

إلاّ انه يدفع هذه الدعوى ويمنع الاستظهار المذكور من الرواية جهات فيها :

الأولى : تعليق الحكم بالوسعة على وثاقة الكل ، فانه لا يتناسب مع كون المنظور إليه تعدد الواقعة وتعدد الاخبار وان كل خبر يكون مرويا عن ثقة ، إذ لا ترتبط حجية أحدها بوثاقة الراوي للآخر ، بل ملاك الحجية وثاقة الراوي لنفس الخبر سواء كان الراوي لغيره ثقة أو لم يكن كذلك. كما انه لا يمكن ان يحمل على إرادة الحديث الّذي سلسلته ثقات كلهم ، إذ تعدد الواسطة في الخبر في زمان الإمام نادر جدا ، بل الغالب هو الرواية عن الإمام علیه السلام رأسا.

مضافا إلى انه لا يتناسب مع فرض السماع من الكل ، إذ هو ظاهر في تعدد الرّواة عرضيا لا طوليا ، إذ لا يصدق على المخبر بذي الواسطة بأنه سمع من افراد السلسلة كما لا يخفى.

وعليه ، فتعليق الحكم على وثاقة الكل ظاهر في تعدد الخبر في الواقعة

ص: 424


1- ارتضى هذا التشكيك في الدورة الثانية وشبه قول الكليني المزبور بحكاية أي مجتهد لمدلول النصوص بقوله « روى كذا ».
2- أشار إلى ذلك المحقق العراقي والتزم به السيد الخوئي.

الواحدة ووثاقة الرّواة فيكون من موارد التعارض.

الثانية : ان الظاهر من الرواية كون منشأ الترديد والمشكلة هو وثاقة الكل ، وانه مع عدم وثاقة البعض لا تكون هناك مشكلة ، وهذا انما يتناسب مع موارد التعارض دون غيره ، إذ لا مشكلة في وثاقة الكل في غير مورده ، بل يؤخذ بالجميع.

الثالثة : ظهور قوله علیه السلام : « فموسع عليك » في عدم الإلزام بالاخذ بالخبر ، وهذا لا يتناسب مع كون المقصود بيان حجية خبر الثقة ، إذ المناسب لها هو الإلزام بالاخذ والحكم بوجوبه ، ولا معنى لجواز الأخذ بعد عدم وجود المعذر والمنجز في مطلق مواردها غيرها.

ويضاف إلى هذه الجهات الثلاث في الإشكال : انه لم يرد في غير هذا الخبر في لسان رواية الإلزام بالعمل بخبر الواحد ابتداء ، بلحاظ كونه امرا ارتكازيا لا يحتاج إلى بيان ، وانما المسئول عنه غالبا هو مصداق الثقة ، وذلك يضعف حمل الرواية على ما ذكر.

هذا ولكن لا يمكن البناء على دلالتها لوجهين :

أحدهما : انها غير ظاهرة في التخيير بين الخبرين ، بل هي ظاهرة في السعة ، ولعل ذلك يرجع إلى تساقط الاخبار والرجوع إلى الأصل المبيح ، فمدلول هذه الرواية نظير مدلول قوله : « الناس في سعة ما لم يعلموا ».

والآخر : انها واردة في حكم زمان الحضور والتمكن من الوصول إلى الإمام علیه السلام ، فلا تنفع في إثبات حكم مثل زماننا.

واما الرواية السادسة - أعني : رواية سماعة ، فقد نوقش فيها : بأن موردها حيث كان من موارد دوران الأمر بين محذورين - للترديد بين الحرمة والوجوب - وكان الحكم فيها عقلا هو التخيير ، فقوله علیه السلام : « فهو في سعة » بيان وتقرير لهذا الحكم العقلي لا أكثر ، وليس هو حكم بالتخيير بالاخذ بإحدى الروايتين في مقام التعارض.

ص: 425

إلاّ انه يشكل :

أولا : بأن ما ذكره السائل من ان أحدهما يأمره والآخر ينهاه انما كان على سبيل المثال لمورد الاختلاف بين الروايتين ، لا ان المسئول عنه هو هذا النحو من الاختلاف.

وثانيا : بأنه لو سلم ذلك ، فليس المورد من موارد دوران الأمر بين محذورين ، لأنه انما يكون كذلك مع العلم بأصل الإلزام ، ولم يثبت ذلك للشك في حجية كل من الخبرين ، فيمكن ان يكون الحكم غير الوجوب والحرمة كالإباحة.

فالتحقيق ان يقال : ان السؤال في الرواية ان كان عن العمل ، وانه الفعل والترك ، كان قوله علیه السلام : « فهو في سعة » ظاهرا في إرادة التوسعة في مقام العمل ويكون مرجع ذلك إلى الحكم بالبراءة. وان كان السؤال عن الأخذ بإحدى الروايتين ، كان المزبور ظاهرا في إرادة التوسعة في مقام الأخذ بإحدى الروايتين فيرجع ذلك إلى التخيير.

وتعيين أحد المعنيين من قوله علیه السلام انما يتم بتعيين جهة السؤال ، وحيث انه لم يظهر من الأمر والنهي المفروضين في الخبر إرادة الأمر الوجوبيّ والنهي التحريمي منهما - كي يصلح الكلام ، لكون المسئول عنه هو العمل لحصول التحير معه - فيمكن حملهما على الأعم من الأمر الوجوبيّ والاستحبابي والنهي التحريمي والتنزيهي ، بقرينة إطلاق الجواب وعدم تقييده بصورة الأمر الوجوبيّ والنهي التحريمي ، ومعه يتعين كون المسئول عنه هو الأخذ بالرواية وكون المراد بالسعة التخيير ، كعدم التحير والضيق في مقام العمل مع دوران الأمر بين الوجوب والكراهة أو الحرمة والاستحباب أو الاستحباب والكراهة كي يحكم بالسعة ، فلاحظ.

هذا ، ولكن الإنصاف انها غير تامة الدلالة ، لورودها في مورد التمكن من لقاء المعصوم علیه السلام ، مع ان قوله : « فهو في سعة ... » متفرع على قوله : « يرجئه » ،

ص: 426

ظاهر في عدم العمل بكلا الخبرين والرجوع إلى الأصل العملي ، لا لزوم العمل بأحد الخبرين. واما لفظ الأمر والنهي فهما ظاهران في الإلزاميين كما حقق في محله ، بل يمكن جعل قوله : « فهو في سعة » قرينة على ذلك.

واما الرواية السابعة - أعنى : رواية علي بن مهزيار - فقد ناقش السيد الخوئي الاستدلال بها : بأن مورد الرواية والتخيير في نافلة الفجر بين الإتيان بها في المحمل والإتيان بها على الأرض ، وظاهر حكم الإمام علیه السلام بجواز الإتيان بها في المحمل وعلى الأرض والتخيير بين الصورتين ، ان التخيير واقعي ، لأنه لو لم يكن الحكم الواقعي هو التخيير لكان الأنسب للإمام علیه السلام - بمقتضى مقامه - بيان الحكم الواقعي لا التخيير بين الحديثين.

وعليه ، فالحكم بالتخيير ليس ناظرا إلى التخيير بين الحديثين ، بل لأن الحكم الواقعي هو التخيير ، فلا دلالة للرواية على المدعى (1).

ولكن الخدشة في هذه المناقشة ظاهرة ، فان المورد ليس من موارد التخيير ، للعلم بجواز الصلاة على الأرض ، وانما المشكوك جوازها في المحمل ، فلا يظهر الأمر في : « صلهما في المحمل » في تعينه ، بل في الإباحة لأنه في مقام توهم الحظر ، فالامر دائر بين جواز الصلاة فيه وعدم جوازها ولا يكون مثل هذا من موارد التخيير ، وليس دائرا بين جوازها في المحمل فقط وجوازها على الأرض فقط كي يظهر الحكم بالتخيير في كونه بيانا للحكم الواقعي ، فظاهر الحكم بالتخيير هو التخيير في المسألة الأصولية والأخذ بإحدى الروايتين.

ويؤيده قوله علیه السلام : « موسع عليك بأية عملت » ، فانه ظاهر في الحكم بالتوسعة في مقام العمل بالرواية ، وان السائل في سعة بأي رواية عمل لا في الإتيان بأي الكيفيتين شاء.

وأما دعوى : كون الأنسب مع هذا السؤال هو بيان الحكم الواقعي لو كان

ص: 427


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 425 - الطبعة الأولى.

غير التخيير لا الحكم بالتخيير بين الحديثين.

فمندفعة : بأن إغماض الإمام علیه السلام عن بيان الحكم الواقعي في المسألة الخاصة ببيان حكم كلي في المسألة الأصولية الكثيرة الابتلاء ، يمكن ان يكون لمصلحة هناك في نفسه كالمصلحة في عدم الابتداء ببيان الحكم.

مضافا إلى إمكان دعوى (1) ، عدم كون المسئول عنه هو الوظيفة الواقعية بالنسبة إلى الصلاة ، وانما هو حكم الاختلاف بين الاخبار في المورد. فالجواب المناسب هو بيان الحكم لمقام المعارضة لا بيان الوظيفة العملية الفرعية.

واما الرواية الثامنة - أعني : مكاتبة الحميري - فقد ناقش السيد الخوئي الاستدلال بها أيضا : بأنه لا تعارض بين الحديثين المفروضين في الرواية ، إذ بينهما عموم مطلق ، ومقتضى القاعدة هو الجمع بينهما بحمل المطلق على المقيد الّذي مقتضاه عدم استحباب التكبير بعد التشهد الأول ، وانما حكم الإمام علیه السلام باستحباب التكبير والتخيير بين الإتيان به وعدمه ، لأنه ذكر في نفسه ، والذّكر مستحب في الصلاة في جميع أحوالها (2).

إلاّ ان ما ذكره من ان حكم الإمام علیه السلام بالتخيير واستحباب التكبير باعتبار انه ذكر في نفسه غير وجيه ..

اما على القول بأن للصلاة اجزاء مستحبة كما لها اجزاء واجبة - فالقنوت ، مثلا جزء للصلاة إلاّ انه مستحب - فواضح ، لأن سؤال السائل عن كون التكبير بعد التشهد الأول في نفسه وبعنوانه الخاصّ من اجزاء الصلاة المستحبة ، فالحكم بالتخيير من باب استحباب الذّكر في نفسه لا تتلاءم مع السؤال ، إذ ليس الذّكر من اجزاء الصلاة المستحبة حتى على هذا القول ، لعدم ثبوت المحل الخاصّ له.

واما على القول بأن المستحبات في الصلاة ليست اجزاء لها ، بل هي

ص: 428


1- هذه الدعوى خلاف الظاهر كما لا يخفى.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 425 - الطبعة الأولى.

مستحبات استقلالية ظرفها الصلاة - كما يلتزم به السيد الخوئي بلحاظ ان فرض الجزء المستحب للواجب خلاف فرض كونه واجبا - فلان المسئول عنه هو استحباب التكبير بعنوانه في هذا المحل الخاصّ بحيث يؤتى به في ذلك المحل بداعي أمره المختص به - نظير الإتيان بالقنوت في محله الخاصّ بداعي أمره ، وعدم صحة الإتيان به بداعي الأمر بالقنوت في غير ذلك المحل - فالحكم باستحبابه من باب انه ذكر لا يجدي في الإتيان به بداعي الأمر بخصوصية محله ، إذ لا محل للذكر بخصوصه.

وعليه ، فلا إشكال في كون التخيير بين الأخذ بالحديثين انما هو بلحاظ استحباب التكبير في نفسه وعدمه.

واما عدم مناسبة ذلك لكون النسبة بينهما العموم المطلق ، فيمكن توجيهه : بحمل الرواية العامة المطلقة على كون موردها التكبير بعد التشهد الأول ، بحيث تكون نصا في استحبابه بعده - كما هو الحال في كل عام ومطلق بالنسبة إلى مورده - فيحصل التعارض بينهما وان كانت النسبة العموم من وجه ، لتساويهما من حيث الظهور بالنسبة إلى مورد التنافي.

ويشهد لذلك الحكم المذكور من الإمام علیه السلام مع التفاته علیه السلام إلى ان مقتضى الجمع العرفي هو التقييد وانه لا تنافي بينهما عرفا ، وعدم سؤال السائل عن ذلك وتقبله الجواب.

ويمكن الاستشهاد لذلك من نفس الرواية ، حيث عبر علیه السلام : « ان في ذلك حديثين اما أولهما ... » ، والمشار إليه هو التكبير بعد التشهد الأول ، وهو ظاهر في ان المطلق وارد فيه ، فتأمل (1).

والمتحصل : ان هذه الرواية لا إشكال فيها من جهة دلالتها. نعم ، المناقشة

ص: 429


1- إشارة إلى المناقشة في هذا الاستظهار ، لإمكان إرادة ان ما ورد مما تتكفل حكم هذا المورد حديثان ، فلا دلالة له على كون مورد المطلق مورد السؤال.

التي يمكن فرضها فيها وفي سابقتها ما ذكره المحقق الأصفهاني (1) ، من عدم الإطلاق فيها ، لاختصاصها بمورد المستحبات - لا خصوص موردها كما قد يظهر من السيد الخوئي لعدم احتمال الخصوصية بهذا المقدار وإلاّ لأشكل الأمر في كثير من الأحكام ، لاستفادة كثير من الأحكام من المطلقات التي يرد كثير منها في مورد خاص - فلا يمكن التعدي منها إلى مورد كون مدلول الخبرين المتنافيين إلزاميا لعدم الجزم بعدم الخصوصية ، خصوصا بملاحظة ذهاب المشهور إلى حجية الخبر الضعيف في باب المستحبات ، كما بيّن في مسألة قاعدة التسامح في أدلة السنن.

واما ما ذكره السيد الخوئي بعد كل هذا من : عدم الدليل للتخيير في مقام الإفتاء ، مع عدم المرجح في كلام العلماء ، مما يضعف الاعتماد على الاخبار المسوقة له (2).

فهو ليس بوجه ، إذ أكثر القدماء التزموا بالتعدي إلى غير المرجحات المنصوصة من المزايا ، وهذا يعني - كما أشرنا إليه - عدم وجود مورد يتكافأ فيه الخبران في المزايا والقرب إلى الواقع ، فلعل عدم حكمهم بالتخيير من جهة فقدان المورد له.

واما الحكم بالتساقط لو كان ، فلم يظهر كونه في مورد التعارض بنحو التباين ، بل يمكن ان يكون في مورد التعارض بالعموم من وجه ، وسيأتي الكلام فيه ، وان المشهور على عدم جريان الاخبار العلاجية في مورده.

والّذي يتحصل : انه يمكن الجزم بثبوت التخيير بين الروايتين المتعارضتين ، وبملاحظة الروايات الخمس الأولى مع ضعف سندها لبلوغها حد الاستفاضة.

وبملاحظة ما ورد في ديباجة الكافي من اسناد التخيير إلى الإمام علیه السلام رأسا بعنوان انه من مقوله لا بنحو الرواية ، بعنوان انه مما روى عنه - كي

ص: 430


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 338 - الطبعة الأولى.
2- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 426 - الطبعة الأولى.

يشكل بإرسالها - فإنه ظاهر في ثبوت التخيير لديه بواسطة الخبر الموثوق لديه ، بحيث يصحح نسبة القول إلى الإمام علیه السلام ، بل حتى مع فرض حصول الجزم بصدوره لديه يكون ذلك قرينة على المدعى لقرب العهد من الإمام علیه السلام ، ودقة الكليني في الحديث بحيث يعلم بان أسباب حصول الجزم لديه من الأسباب المتعارف حصول القطع بها أو الوثوق.

وبملاحظة ما يستفاد من الاخبار الثلاثة الأخيرة ، وان نوقش في دلالة بعضها ، وباختصاص الآخر في المستحبات.

وبثبوت الحكم بالتخيير من الصدر الأول إلى الآن.

فانه بملاحظ مجموع ذلك يحصل الجزم بأن التخيير بين المتعارضين ثابت في الجملة ، وانه مما له الأساس في الأدلة ، لكن قد عرفت المناقشة في أكثر هذه النصوص من حيث الدلالة والسند ، وبذلك لا يظهر للتخيير وجه صحيح يمكن الاعتماد عليه (1).

ص: 431


1- وجملة القول في المقام : انه لم يثبت لدينا ما دل على الترجيح بالشهرة أو بموافقة الكتاب أو غير ذلك ، كما لم يثبت لدينا ما دل على التخيير ، فلا بد من الرجوع إلى القاعدة. وتحقيق الحال بإجمال : انه قد عرفت منّا في مبحث حجية خبر الواحد التوقف في حجية الخبر إلاّ إذا كان مفيدا للاطمئنان والوثوق. وعليه ، فإذا كان ملاك الحجية هو حصول الاطمئنان الشخصي لم يتصور تحقق التعارض بين الخبرين ، لأن التعارض لا يكون إلاّ إذا كان كل من الخبرين جامعا لشرائط الحجية في نفسه ومع قطع النّظر عن المعارضة ، ومن الواضح استحالة تحقق الاطمئنان بأمرين مختلفين متباينين. فلا موضوع لبحث الترجيح والتخيير على ما سلكناه في حجيّة خبر الواحد. نعم ، إذا كان أحد الخبرين موافقا للعامة يمكن دعوى حصول الوثوق بالخبر الآخر ، لما عرفت من ان الدلالة قطعية وكذا الجهة لفقدان احتمال التقية ، واما السند فيتحقق الوثوق به بلحاظ وثاقة الراوي. ومعه لا يحصل الوثوق في الرواية الأخرى ، لعدم جريان أصالة الجهة فيها بعد ملاحظة وجود الرواية المخالفة. وبذلك يمكن ان يقال : ان الترجيح بمخالفة العامة الوارد في بعض النصوص انما هو على القاعدة ، فلا مانع من الالتزام به. ثم انه بناء على الالتزام بالتخيير في مورد التعارض يقع الكلام في جهتين : الجهة الأولى : في ما يفتي به المجتهد الّذي ورد لديه الخبران المتعارضان. وقد ذهب صاحب الكفاية إلى : انه يصح له ان يفتي بما اختاره من الخبرين ، لأن اختياره يستلزم قيام الحجة على الحكم ، فيصح له الإفتاء به استنادا إلى الحجة. كما ان له ان يفتي بالتخيير في المسألة الأصولية ، بأن يسوّغ للمقلد الأخذ بأحد الخبرين ويعمل بما يأخذ به منهما ولو كان على خلاف ما اختاره المجتهد. واما التخيير في المسألة الفرعية فلا وجه للإفتاء به ، لعدم الدليل على التخيير في المسألة الفرعية ، لأن كل حجة تقوم على ثبوت مدلولها بنحو التعيين. فالحكم الظاهري الثابت في حق المقلد هو أحدهما المعين بحسب ما يختاره من الحجة ، فلا منشأ للتخيير فيها ، فان التخيير الثابت تخيير في الحكم لا في العمل. وما ذكره قدس سره واضح لا كلام لنا فيه. الجهة الثانية : في ان التخيير بدوي أو استمراري؟ ذهب صاحب الكفاية إلى : انه استمراري تمسكا بالاستصحاب ، لو لم نقل بأنه قضية الإطلاقات. ودعوى : ان موضوع التخيير هو المتحير ، ولا تحير بعد اختيار أحدهما ، فلا مجال للتمسك بالإطلاق أو الاستصحاب لاختلاف الموضوع. مندفعة : بان التحير بمعنى تعارض الخبرين والتردد فيهما باق على حاله ولم يزل بالاختيار ، وبمعنى آخر من الحيرة في مقام الوظيفة العملية لم يؤخذ في موضوع الأدلة الدالة على التخيير. هذا ما أفاده في الكفاية في هذا المقام. والتحقيق : ان متعلق الشك قبل الاختيار يختلف عنه بعد الاختيار ، فان متعلق الشك قبل الاختيار هو حجية كل من الخبرين تعيينا أو تخييرا أو عدم حجية أحدهما ، فأخبار التخيير تثبت حجية كل منهما بنحو التخيير والبدلية. وبعد اختيار أحدهما يعلم انه حجة عليه ولا يحتمل زوالها ، بل يقطع بأن ما أخذ به حجة إمّا تعيينا أو تخييرا. وانما يشك في انه هل له إلغاء حجية ما أخذ به بترك الأخذ به والأخذ بغيره ، أو لا؟ ومن الواضح ان هذا الشك يختلف عن الشك الأول ، بل هو في طول الحكم بالتخيير الثابت للشك الأول ، فلا يمكن التمسك بالإطلاقات لأن موضوعها الشك الأول ، كما لا معنى للتمسك بالاستصحاب لأن الحكم المشكوك غير الأول. ولعل هذا هو مراد من ذهب إلى ان موضوع التخيير هو التحير والمفروض زواله. وبالجملة : التخيير على هذا بدوي لا استمراري ، ولا حاجة إلى التطويل بعد الإشارة إلى نكتة المنع ، فتدبرها فانها لا تخلو عن دقة.

ص: 432

ثم انه مع احتمال الترجيح بذي المزية يتمسك بإطلاقات التخيير في إثبات حجية غير ذي المزية ، وبذلك ينفي ما يقتضيه الأصل من تعيين الأخذ بذي المزية ، كما عرفت في ما سبق.

نعم ، الاحتياط يقتضي الأخذ بذي المزية لو لم يكن مخالفا للاحتياط في المسألة الفرعية ، لاحتمال تعينه دون غيره ، خصوصا إذا كان موافقا لحجة أخرى من عام ونحوه.

نعم ، لو كان مخالفا للاحتياط في المسألة الفرعية ، كما لو كان مدلوله الإباحة ومدلول الآخر الوجوب ، كان الأحوط الأخذ بالآخر لموافقته للاحتياط عملا كما لا يخفى.

يبقى الكلام في امر وهو : انه على القول بالترجيح هل يلتزم بالترتيب بين المرجحات وتقديم بعضها على الآخر في مقام التزاحم أو لا؟

توضيح ذلك : ان ..

من المرجحات : ما يرجع إلى مقام أصل الصدور ، بمعنى انه يوجب تقوية صدور الخبر في قبال الآخر ، وذلك كالأوثقية والأصدقية ونحوهما ، فان مجيء الخبر عن الموثق انما يقوي أصل صدوره عن المعصوم علیه السلام . اما كون صدوره لغير تقية وغيرها ، فلا يرتبط بوثاقة الراوي وصدقه كما لا يخفى.

ومنها : ما يرجع إلى مقام جهة الصدور ، بمعنى انه على تقدير الصدور يبقى احتمال صدوره لغير بيان الحكم الواقعي وهو التقية ، كمخالفة العامة فانها ترتبط بجهة الصدور لا بأصله ، إذ المخالفة للعامة لا تقتضي صدوره ، بل تقتضي انتفاء

ص: 433

احتمال الصدور للتقية الموجود في غيره المعارض له.

ومنها : ما يرجع إلى المضمون ومفاد الخبر ، كالشهرة في الفتوى - وهو واضح -.

فيقع الكلام في : انه مع التزاحم بين المرجح الصدوري وغيره ، هل يقدم الخبر ذو المرجح الصدوري. أو غيره ، أو لا يقدم أحدهما على الآخر ، فيرجع إلى التخيير أو التساقط؟

ذهب الشيخ قدس سره إلى تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي (1).

وذهب الميرزا حبيب اللّه الرشتي قدس سره - تبعا للوحيد البهبهاني قدس سره (2) - إلى تقديم المرجح الجهتي على المرجح الصدوري (3).

وذهب المحقق الخراسانيّ رحمه اللّه إلى عدم تقديم أحدهما على الآخر ولزوم الرجوع مع التزاحم إلى مطلقات التخيير (4).

اما تقريب الشيخ لمدعاه : فهو : ان الرجوع إلى المرجح الجهتي انما يكون بعد فرض العلم بصدور كلا الخبرين كالمتواترين ، أو تكافؤ احتمال الصدور فيهما معا ، وذلك لتفرع مقام الجهة على مقام الصدور ، فان الصدور لتقية انما يفرض بعد فرض أصل الصدور كما لا يخفى.

وعليه ، فمع وجود المرجح الصدوري لأحد الخبرين لا يكون احتمال الصدور في كل منهما متكافئا ، والمفروض عدم العلم بصدورهما ، فلا يبقى مجال لتحكيم المرجح الجهتي.

ص: 434


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /468- الطبعة القديمة.
2- الوحيد البهبهاني المحقق محمد باقر. الفوائد الحائرية /215- الفائدة : 21.
3- الرشتي المحقق ميرزا حبيب اللّه. بدائع الأفكار /455- المقام الرابع في ترتيب المرجّحات.
4- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /454- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وناقش في ذلك صاحب الكفاية مدعيا قصور الأدلة عن الالتزام بالترتيب وتقديم بعض المرجحات على بعض مع التزاحم ، بيان ذلك : انه بناء على الالتزام بالتعدي لغير المرجحات المنصوصة - كما عليه الشيخ - فالمرجح هو الأقربية إلى الواقع أو الظن بالصدور - على الخلاف في ملاك التعدي - وهذه المرجحات ليست مرجحات بعنوانها الخاصّ ، بل بعنوان إيجابها الأقربية أو الظن.

وعليه ، فمع تزاحم المرجحين يلاحظ الأقرب إلى الواقع أو المظنون صدوره فيؤخذ به ان كان وإلاّ فالمرجع مطلقات التخيير. واما بناء على عدم التعدي والاقتصار فيه على المنصوص من المرجحات ، فما قد يستدل به على الترتيب هو المقبولة ونحوها ، إلاّ انه لكثرة إطلاقات الترجيح الخالية عن الترتيب والواردة مورد البيان ، لا بد ان تحمل المقبولة على عدم كونها واردة لبيان حكم تزاحم المرجحات وعدم كونها ناظرة إلى ذلك المقام ، بل هي لبيان ان هذا مرجح وذلك مرجح لا أكثر ، لعدم صلاحيتها لتقييد المطلقات. وعليه فمع التزاحم لا دليل على الترتيب في تقديم أحدهما على الآخر فالمرجع هو مطلقات التخيير.

واما ما ذكره الشيخ من تفرع مقام الجهة عن مقام الصدور ، فقد ناقش فيه : بأنه انما يتم ويجري في الترتيب المدعى لو التزم بكون المرجح الجهتي مرجحا للخبر في ذلك المقام بخصوصه - أعني : مقام جهة الصدور - ولكنه غير صحيح ، بل هو راجع إلى مقام الصدور وترجيح صدور أحد الخبرين على الآخر - وان لم يوجب تقوية احتمال صدوره - وذلك لامتناع التعبد بالصدور مع الالتزام بصدوره عن تقية ، فلا يمكن الالتزام بأن الموافقة للعامة تدل على كون صدور المتعبد به لتقية ، للغوية التعبد حينئذ لعدم ترتب الأثر المرغوب. فالمرجحات كلها ترجع إلى مقام واحد ، وهو مقام الصدور ، فلا تفرع لبعضها على بعض.

لكن الإنصاف يقضي بعدم ورود ما ذكره صاحب الكفاية على الشيخ ، وان نظر الشيخ إلى جهة أغفلها صاحب الكفاية في مقام الإيراد. توضيح ذلك : ان احتمال

ص: 435

التقية وعدمه متفرع على أصل الصدور ، بمعنى انه انما يثبت بعد فرض الصدور ، فمحتمل التقية وغيره انما هو الكلام الصادر واقعا دون غيره ، وموضوع الترجيح الجهتي هو عدم احتمال التقية. فالترجيح انما يترتب على غير محتمل التقية على تقدير صدوره ، فمع وجود ما يرفع موضوع هذا المرجح ، وهو أصل الصدور تعبدا ، ينفي الترجيح به ، لارتفاع موضوعه بالحكومة ، والمرجح الصدوري في الخبر الموافق للعامة بتحكيمه يرفع موضوع المرجح الجهتي في الخبر المخالف - وهو أصل صدوره - دون العكس ، لأن المرجح الجهتي في الخبر المخالف وان كان يرجع إلى مقام الصدور - يعني يرجح صدور ذيه من غيره - إلاّ انه بتحكيمه لا يرتفع موضوع المرجح الصدوري في الخبر الموافق ، لعدم كون موضوعه أصل الصدور كما لا يخفى. فتقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي لأجل حكومته عليه.

وهذا الوجه وان كان يتلاءم مع ما ذكره الشيخ من تفرع مقام الجهة على مقام الصدور ، إلاّ انه لا يرتبط بما ذكره في صدر كلامه من اختصاص الترجيح بالمرجح الجهتي بالمتكافئين في الصدور علما أو تعبدا ، لجريانه ولو مع عدم التكافؤ كما لا يخفى. ولذلك فهو لا يصلح لأن يكون تقريبا لكلام الشيخ ، وان كان تاما في نفسه ووجها للتقديم المدعى.

والّذي يمكن تقريب عبارة الشيخ به هو : ان احتمال التقية في الخبر الموافق للعامة ، لا يكون في نفسه موجبا لطرح الخبر ، بل انما يطرح به الخبر مع قيام الأمارة المعتبرة على تأييده ، والخبر المخالف يكون أمارة على التقية في الخبر الموافق ، فان الظن بصدوره ظن بالتقية في مقابله ، إلاّ انه لا يجدي في طرحه ما لم يثبت التعبد به.

وحينئذ ، فاما ان تغلب الأمارة المخالفة ، أو تغلب الموافقة ، أو لا يغلب إحداهما على الأخرى. فمع غلبة المخالفة لا يبقى مجال لاحتمال التقية في الموافقة ، لنفي الصدور من أصله ، فلا مجال للترجيح بعدم وجود هذا الاحتمال. ومع غلبة الموافقة تنتفي أمارية المخالفة ، فلا يكون احتمال التقية في نفسه موجبا للطرح. واما مع

ص: 436

تساويهما وتكافئهما في السند ، فتصل النوبة حينئذ إلى الترجيح بمخالفة العامة ، فالمرجح الجهتي انما يفرض مع التكافؤ ، لأنه مع عدمه لا مجال للترجيح به ، اما لغلبة ذي المرجح أو لغلبة معارضه. ومع وجود المرجح الصدوري في إحداهما يرتفع التكافؤ فلا مجال للمرجح الجهتي ، وهو : أي : المرجح الجهتي - وان رجع إلى مقام الصدور ، بمعنى انه موجب لترجيح التعبد بصدور ذيه دون غيره ، إلاّ انه في وجوده لما كان متفرعا على أصل الصدور كان المرجح الصدوري رافعا لموضوعه ، فيكون حاكما عليه كما تقدم تقريبه.

وهذا الوجه وان لم تحرز تماميته ، إلاّ انه يتلاءم مع عبارة الشيخ أولا وآخرا ، ولا تهمنا مناقشته بعد ما عرفت ان أساس التقديم الّذي ينظر إليه الشيخ - وهو الحكومة - تام في نفسه ، فلا يتجه عليه ما أورده المحقق الخراسانيّ ، إذ ذلك لا يتوقف على رجوع المرجح الجهتي إلى مقام الجهة ترجيحا ، بل هو تام على الالتزام برجوعه إلى مقام الصدور - كما يلتزم به الشيخ - لأنه يبتني على تفرع المرجح الجهتي على مقام الصدور موضوعا لا ترجيحا ولا محذور فيه.

كما انه لا يبتني على استظهار الترتيب من المقبولة ونحوها ، كي يقال بأنها ليست في مقام البيان من هذه الجهة ، وانها ليست ناظرة إلى صورة التزاحم بين المرجحات ، فانه لا تزاحم بينهما بناء على الحكومة أصلا. كما انه لا يتنافى على القول بالتعدي ، لأن مخالفة العامة انما توجب الأقربية أو الظن بفرض عدم احتمال التقية على فرض الصدور ، والمرجح الصدوري ينفيه كما عرفت فلا مجال له.

واما ما ادعاه الميرزا الرشتي قدس سره خلافا للشيخ وجزم به بنحو عجيب وأنكر على الشيخ بتعبير غريب ، فمحصله : انه يستفاد من الروايات ان المرجح الجهتي انما يكون في مقطوعي الصدور ، وذلك يستلزم بالبداهة تحكيمه في ظنيهما ، وذلك لأن ظنية الصدور واحتمال عدمه ان لم يكن موجبا لطرح الخبر فلا يكون موجبا للتعبد به ، فتقديم ذي المزية الجهتية على غيره في فرض القطع

ص: 437

بالصدور وانسداد باب احتمال عدم الصدور ، يستلزم لا محالة تقديمه على ما يكون ظنيا في صدوره.

وتقريب ما ادعاه يتضح ببيان شيء ، وهو : ان كل خبر وان كان يشتمل على مقامات ثلاثة : مقام الصدور وجهته والدلالة ، إلاّ ان التعبد مع احتمال المخالفة للواقع من هذه الجهات الثلاث تعبد واحد مفاده لزوم الأخذ به ، والبناء على انه الواقع ، وعدم الاعتناء بما يوجب الخلل فيه صدورا أو جهة أو دلالة ، وليس التعبد يتعدد بتعدد المقامات ويستلزم كل منها إلغاء احتمال الخلل في مقام معين بخصوصه ، ومع كون الخبر قطعيا من بعض الجهات فالتعبد به يرجع إلى إلغاء احتمال الخلل في غيرها.

وعليه ، فان كان الخبر مقطوع الصدور كان احتمال الخلل فيه أقل لأنه يكون من جهتين فقط ، فتقديم ذي المزية الجهتية على الآخر مع قلة احتمال المخالفة فيه يستلزم بالبداهة تقديمه على الآخر مع كثرة احتمال الخلاف فيه ، كما إذا كان ظني الصدور لكون احتمال الخلاف فيه من جهاته الثلاث. ثم انه قدس سره أضاف إلى ذلك : ان الموافق للعامة يدور امره بين عدم الصدور رأسا ، كما لو كان ظنيا ، لدلالة الاخبار على إلغائه وعدم صدقه ، وبين الصدور للتقية ، كما لو كان قطعي الصدور ، لدلالة الاخبار على ان ما سمع منهم يشبه قول العامة فهو تقية.

ويشكل هذا الأخير - بما ذكره المحقق الخراسانيّ - بامتناع الدوران المذكور ، لاحتمال ان يكون الخبر الموافق صادرا لبيان الحكم الواقعي - كما لو كان الحكم الواقعي موافقا لقول العامة - والمخالف ليس بصادر أصلا ، أو انه صادر لكنه لم يرد به ظاهره ، ولزوم حمله على التقية أو البناء على عدم صدوره انما يتم في فرض كون المعارض المخالف قطعيا بجميع جهاته ، إذ يتعين معه كون الموافق اما غير صادر أو صادرا للتقية ، ومع عدم قطعيته بجهاته كلها - كما هو الفرض - لا دليل على دوران

ص: 438

الموافق للعامة بين عدم صدوره أو صدوره للتقية (1).

واما ما ذكره أولا من الملازمة البديهية ، فالمناقشة فيه واضحة ، وذلك لأنه مع القطع بصدور كلا الخبرين يكون احتمال المخالفة للواقع في الخبر الموافق للعامة أقوى من المخالف ، لانتفاء احتمال التقية فيه ووجوده في الموافق ، فاحتمال المخالفة في المخالف أضعف منها في الموافق ، لانحصاره فيه في مورد الدلالة وجهة الصدور من غير احتمال التقية ، بخلاف الموافق فانه في مورد الدلالة وجهة الصدور مع احتمال التقية ، واما مع عدم القطع بصدورهما ، فيزيد في الخبر المخالف احتمال المخالفة في الصدور ، والخبر الموافق وان كان كذلك أيضا ، إلاّ انه مع وجود المرجح الصدوري فيه يكون احتمال المخالفة في الصدور أضعف منه في الخبر المخالف. فلعل جهة تقديم المخالف على الموافق مع القطع بالصدور لأجل أضعفيّة احتمال المخالفة فيه من الموافق ، وذلك ليس موجودا مع الظن بالصدور ، لعدم أقوائية احتمال المخالفة في الموافق لضعف احتمالها فيه في جانب الصدور بوجود المرجح وقوته في المخالف ، فلا يستلزم تقديم المخالف من القطعيين تقديمه من الظنيين ، وليس هو من الأمور البديهية كما ادعاه.

وللميرزا المذكور كلام آخر ذكره في الكفاية وأورد عليه ، لكن لا يهمنا ذكره.

والمتحصل هو : لزوم الالتزام بما التزم به الشيخ من تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي ، فتدبر.

هذا كله في صورة ما إذا كانت النسبة بين الخبرين المتعارضين هما التباين.

واما لو كان بينهما العموم من وجه ، فهل تشملهما الاخبار العلاجية الدالة على الترجيح أو التخيير أو لا ، فيرجع فيهما إلى الأصل الأولي وهو التساقط؟

والتحقيق في المقام ان يقال : انه ..

تارة : يلتزم بأن لكل خبر تعبد واحد يرجع إلى إلغاء احتمال الخلاف فيه في

ص: 439


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /456- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مقاماته الثلاثة : الصدور وجهته والمدلول ، ومعناه هو التعبد بمفاد هذا الخبر ومضمونه والإلزام بالاخذ به.

وأخرى : يلتزم - كما عليه الأكثر - بثبوت تعبدات ثلاثة في كل مقام تعبد ، فهناك تعبد بصدور الخبر ، وتعبد بأنه لبيان الحكم الواقعي ، وتعبد بمدلوله وظاهره ، وهذه التعبدات عرضية ويترتب عليها جمعا الأثر ، لا طولية ، لعدم الأثر لكل منها بخصوصه.

فان قلنا بالثاني ، فلا يتصور التبعيض في حجية السند في الصدور ، لأن المتعبد به في هذا المقام - وهو الصدور - امر واحد بسيط غير قابل للتعدد لوحدة متعلقه وهو الكلام.

نعم ، التبعيض في حجية المدلول ممكنة بتعدد المدلول ، فيمكن صدور التعبد ببعضه دون الآخر.

إلاّ انه قد عرفت فيما تقدم ان التعارض في مقام الصدور انما يحصل مع عدم إمكان العمل بمدلول كل من المتعارضين ، بحيث يكون التعبد بصدور كل منهما لغوا فيحصل التعارض بينهما.

ومع كون التعارض في المقام - الفرض - في بعض المدلول دون الآخر ، فلا يحصل التعارض في مقام الصدور بينهما ، لإمكان العمل بمدلول كل منهما ببعضه ، وهو كاف في رفع لغوية التعبد بصدور كل منهما ، لوجود العمل على طبقه ولو بلحاظ بعضه.

وبالجملة : فعلى هذا الالتزام لا يمكن تصور التبعيض في حجية الصدور مع عدم ثبوت التعارض في هذا المقام الّذي هو موضوع الأحكام ، فلا تصل النوبة إلى الكلام في شمول الاخبار العلاجية وعدمها.

وبهذا البيان تعرف ما في دعوى السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - كما في مصباح الأصول - ، لإمكان التبعيض في حجية الصدور - مع التزامه بهذا الالتزام - منظّرا

ص: 440

له بقيام البينة على ملكية زيد لعشرة دراهم وقيام أخرى على نفي ملكيته لخمسة ، فانه يؤخذ بالبينة الأولى في إثبات ملكيته لخمسة دراهم ، وهو معنى التبعيض (1).

ولكن التنظير المذكور ليس بشيء ، فان التبعيض في مورد البينة انما هو في المدلول - وهو الملكية - وقد عرفت انه قابل للتبعيض لتعدده ، لا الصدور للقطع به ، بل لا معنى له ، لأن مفادها ليس الحكاية عن الإمام علیه السلام . وموضوع الكلام في الخبر هو التبعيض في حجية الصدور ، فلا يتجه القياس المذكور.

ثم انه فرض أولا احتمال القول بالتساقط في المجمع ، والأخذ بكل من العامين في مورد افتراقه عن الآخر ، مستدلا على ذلك : بأن طرحهما في مورد افتراقهما طرح للحجيّة بلا معارض ، وهو ممنوع. ثم فرض احتمال الرجوع في المجمع إلى الاخبار العلاجية ، وبنى صحة هذا الاحتمال وتنجزه على ثبوت معقولية التبعيض في الحجية وعدمها ، ثم جزم بمعقولية التبعيض بعد ذلك.

ولا يخفى على النبيه ان الالتزام بالتساقط في خصوص المجمع والالتزام بهما في مورد الافتراق ، التزام بالتبعيض في الحجية المفروض كونه محل الإشكال ، فكيف يفرض الكلام في معقولية التبعيض وعدمها متأخرا عن فرضه ، وانه يكون بناء على الاحتمال الآخر ، بحيث انه مع عدم معقوليتها ينتهي إلى عدم الرجوع إلى الاخبار العلاجية ، وتعين الالتزام بالتساقط في خصوص المجمع ، مع انه يستلزم تساقطهما في مجموع مدلولهما ، كما لا يخفى على المتدبّر؟. كما انه على هذا - أعني : فرض التبعيض على القول بالتساقط - لا يصح الانتهاء إلى الرجوع إلى الاخبار العلاجية بفرض معقولية التبعيض ، كيف؟ والمفروض انه لازم كلا القولين!.

وان قلنا بالأول ..

فتارة : يلتزم بأن مفاد هذا التعبد الواحد إلغاء احتمال الخلاف في المقامات الثلاثة للخبر ، فهو يتكفل إلغاء احتمال الخلاف في كل مقام ضمنا.

ص: 441


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 428 - الطبعة الأولى.

وأخرى : يلتزم بأن مفاده ليس ذلك ، بل مفاده رأسا الإلزام بمضمون الخبر ، ولازم ذلك هو إلغاء احتمال الخلاف في مقاماته الثلاثة ، لأن ان مفاده رأسا ذلك.

فعلى الأوّل : يكون الكلام فيه عين الكلام على القول الأول من امتناع التبعيض في الحجية في مقام الصدور ثبوتا ، لعدم معقولية التبعيض فيه ، كي ينفى احتمال الخلاف ضمنا في بعضه دون الآخر. وعدم شمول الاخبار العلاجية له إثباتا ، لعدم انتهاء المعارضة إلى مقام السند والصدور.

وعلى الثاني : فلما كان التعبد بالخبر يرجع إلى الإلزام بالاخذ بمضمونه ومفاده والبناء على انه حكم اللّه ، كان التبعيض في حجيته ممكن التحقق بلا إشكال ، لتعدد المدلول وإمكان التفكيك بين افراده في الحجية والتعبد. فشمول الاخبار العلاجية ثبوتا ممكن على هذا الالتزام ، إلاّ ان الكلام في شمولها إثباتا ، بمعنى ان مقتضى الاخبار العلاجية ومفادها بنحو يشمل مورد العامين من وجه أو لا يشمل ، بل يختص بمورد المتباينين.

والحق : عدم شمولها ، لعدم سريان التعارض إلى مقام السند والصدور كما عرفت ، واختصاص الاخبار في المتعارضين في هذا المقام كما عرفت مرارا. والسر فيه : ان موضوع الأحكام في الاخبار المزبورة هو الخبران المتعارضان ، وظاهر ان المخبر به انما هو قول المعصوم وصدور هذا الدال منه علیه السلام ، وليس هو نفس المدلول والمضمون.

وبعبارة أخرى : ان الإخبار بقوله علیه السلام لا بمقول القول. وعليه فالتعارض بين الخبرين معناه التعارض بينهما في هذا المقام ومن هذه الجهة - أعني جهة الخبر - لأن معناه التنافي بينهما في مدلوليهما المخبر به ، وذلك يكون لو كان التنافي مقام الصدور ، بمعنى انه لا يمكن الالتزام بصدور هذين الكلامين ، فلاحظ.

والمتحصل : انه لا وجه للالتزام بشمول أدلة العلاج في مورد التعارض بالعموم من وجه ، لأنه ممتنع إثباتا على بعض التقادير ، وإثباتا وثبوتا على بعض

ص: 442

آخر.

ولو تنزلنا عن الالتزام بتعدد التعبد أو رجوعه إلى المتعدد ، والتزمنا بوحدته حقيقة وحكما. وتنزلنا عن الالتزام باختصاص الاخبار العلاجية بمورد التعارض في مقام السند والصدور ، والتزمنا بعمومها لجميع الموارد. كان اللازم مراعاة الترجيح والتخيير بين الخبرين بمجموع مدلوليهما لا بخصوص مورد الاجتماع ، لأن التعارض انما هو بين هذا الخبر وذاك وان كان منشؤه التنافي في بعض المدلول ، إلاّ ان يلتزم بشمول الاخبار لمورد التعارض بين الخبرين الضمنيين أيضا ، فتختص ملاحظة المرجحات في مورد الاجتماع لصدق الخبر الضمني على بعض المدلول ، لأن الاخبار بالمجموع استقلالا اخبار بالبعض ضمنا.

إلاّ ان إثبات ذلك من الاخبار مشكل جدا ، بل ممنوع ، لظهورها في إرادة الخبرين بالاستقلال ، فلاحظ وتدبر.

يبقى الكلام فيما أفاده السيد الخوئي في ما لو كان التعارض بين الإطلاقين من :

سقوط الروايتين في مورد الاجتماع من الأول بلا حاجة إلى الرجوع إلى المرجحات ، وذلك لأن الإطلاق بمعنى اللابشرط القسمي المقابل للتقييد غير داخل في مدلول اللفظ ، إذ اللفظ موضوع للماهية المهملة المعبر عنها باللابشرط المقسمي فلا يروي الراوي عن الإمام علیه السلام إلاّ ثبوت الحكم للطبيعة المهملة ، واما إطلاقه فهو خارج عن مدلول اللفظ ويثبت بحكم العقل بعد تمامية مقدمات الحكمة ، وعلى هذا فلا تعارض بين الخبرين باعتبار نفس مدلوليهما ، إذ لا تنافي بين ثبوت الحكم بوجوب إكرام العالم على نحو الإهمال وحرمة إكرام الفاسق على هذا النحو أيضا ، فلا تنافي بين الخبرين أيضا ، ولا سبيل للعقل إلى الحكم بأن المراد منهما وجوب إكرام العالم مطلقا ولو كان فاسقا وحرمة إكرام الفاسق مطلقا ولو كان عالما ، لأنه حكم بالجمع بين الضدين ، والحكم بالإطلاق في أحدهما دون الآخر ترجيح بلا

ص: 443

مرجح ، فيسقط الدليلان معا في مادة الاجتماع (1).

وتحقيق الحال فيما ذكره - بعد ظهور ان نظره في ذلك إلى ان إجراء مقدمات الحكمة انما هو بيد المكلف لا الراوي ، بل الراوي لا ينقل سوى ثبوت الحكم للطبيعة المهملة ، والعقل يستظهر بمقدمات الحكمة إرادة العموم ، وهي غير تامة فيما نحن فيه - ان الراوي اما ان ينقل المعنى أو اللفظ ، والمراد بنقل المعنى واسناده إلى المعصوم علیه السلام هو الاخبار بصدور الدال على هذا المعنى من المعصوم لا صدور نفس المعنى ، إذ الصادر منه علیه السلام هو اللفظ لا المدلول كما لا يخفى.

فان كان الراوي ناقلا بالمعنى ، فمعناه انه ينقل صدور الدال على المعنى الإطلاقي ، وهو العموم من الإمام علیه السلام ، وهذا يعني إجراؤه بشخصه مقدمات الحكمة في كلام الإمام علیه السلام لا المكلف. نعم ، المكلف يجري مقدمات الحكمة في كلام الراوي كي يستظهر صدور المطلق من المعصوم ، باعتبار ان الراوي يخبر بصدور الدال على هذا المعنى الّذي يبديه من الإمام علیه السلام .

ولو كان النقل باللفظ ، فمقدمات الحكمة من الأمور الواقعية المستفادة من الراوي وروايته ، فان عدم نصب القرينة انما يعلم من الراوي ، وهكذا كونه في مقام البيان ، فانه يعرف من ملاحظة خصوصيات الحديث وشئونه ، وهو ما يرتبط بالراوي. وعليه فالمعنى الإطلاقي يكون مدلولا لكلام الراوي ، وليس هو خصوص الطبيعة المهملة ، والإطلاق يحكم به العقل بواسطة مقدمات الحكمة ، ومعه يحصل التعارض بين الروايتين باعتبار مدلوليهما ، فلاحظ.

ولو أغمضنا النّظر عن هذا كله ، والتزمنا بأن إجراء مقدمات الحكمة بيد المكلف ، فما رتبه على ذلك من سقوط الدليلين في مورد الاجتماع لعدم تمامية المقدمات ، لاستلزامه الإطلاق فيها الحكم بالجمع بين الضدين ، والالتزام بإطلاق أحدهما ترجيح بلا مرجح انما يتم لو كان مجرى المقدمات المذكورة هو المراد

ص: 444


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول3/ 429 - الطبعة الأولى.

الجدي ، وقد عرفت في صدر المبحث خلاف ذلك وان مجراها المراد الاستعمالي ، ومعه لا محذور في انعقاد الإطلاق في كل منهما ، نظير العامين بالوضع ويلتزم بتعارضهما في مورد الاجتماع كالعامين بلا فرق أصلا لا موضوعا ولا حكما ، فتدبر.

هذا تمام الكلام في مبحث التعادل والترجيح ، وبه تمت الدورة الأصولية ، والحمد لله أولا وآخرا وهو ولي التوفيق. وكان ذلك في صباح الاثنين الموافق للثامن عشر من شهر شوال سنة ( 1383 ه ) ، وقد تم تسجيله مساء الاثنين في اليوم نفسه ، نسأله جلت عظمته ان يوفقنا للعلم والعمل الصالح ليكون ذلك ذخرا لنا يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من أتى اللّه بقلب سليم ، انه سميع مجيب وهو حسبنا ونعم الوكيل.

عبد الصاحب الحكيم

ص: 445

ص: 446

الفهرس

قاعدة اليد

الجهة الأولى : في حجية اليد على الملكية... 7

الأولى : موثقة حفص بن غياث... 8

الثانية : ما عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث فدك... 10

الثالثة : رواية حمزة بن حمران... 11

الرابعة موثقة يونس بن يعقوب... 12

الاستدلال ببناء العقلاء... 13

الجهة الثانية : في ان اليد هل تكون امارة أو أصلا... 14

ما يمكن ان يقال في تقريب امارية اليد ثبوتا... 16

الجهة الثالثة : هل ان اليد حجة مطلقا ولو علم حال اليد سابقا في أنها غير مالكية. أو تختص حجيتها في صورة الجهل 17

توجيه المحقق الأصفهاني لاختصاص الحجية بصورة جهل العنوان والمناقشة فيه... 17

توجيه المحقق النائيني للاختصاص والمناقشة فيه... 20

توجيه المحقق العراقي للاختصاص والمناقشة فيه... 24

الجهة الرابعة : هل الاقرار بالملكية السابقة تشكل دعوى أخرى أم لا... 26

ص: 447

كلام المحقق الأصفهاني في عدم تشكيل دعوى أخرى ومعه عدم الانقلاب والمناقشة فيه 27

تشكل الدعوى الثانية وحصول الانقلاب فيما إذا كان المدعي منكرا... 32

فتوى المشهور بالانقلاب لا تنافي اعتراض الامام (عليه السلام) على أبي بكر... 32

ما افاده المحقق النائيني في دفع الاشكال المذكور على المشهور والمناقشة فيه... 33

دعوى المحقق العراقي بان مقتضى القاعدة هو عدم الانقلاب... 36

الجهة الخامسة : هل اليد حجة على الملكية ولو شك في قابلية ما عليه اليد للملكية أم لا؟... 37

اعتبار عدم العلم بعدم القابلية في موضوع حجية اليد... 43

الجهة السادسة : ان اليد كما انها دليل على الملكية دليل على المنفعة أم لا؟... 45

دعوى النراقي في تخصيص حجية اليد بالأعيان وايراد السيد الطباطبائي عليه... 46

دعوى صاحب البلغة في المقام... 48

الجهة السابعة : جواز الشهادة على الملك استنادا إلى اليد... 49

كلام المشهور في المنع عن الشهادة وما يقتضي التحقيق فيه... 50

ايراد المحقق الأصفهاني على الشرايع وبيان عدم تماميته... 56

الاستدلال برواية حفص ورواية وهب على جواز الشهادة... 59

الجهة الثامنة : في الأيدي المتعددة على العين الواحدة... 60

تحقق الاستيلاء واليد على الحصة المشاعة ثبوتا وإثباتا... 60

الوجوه الحاكمة بالتنصيف والملكية الشاعة... 63

الجهة التاسعة : في حجية اليد مع شك ذيها في الملكية... 68

خبران يستدل بهما على اختصاص حجية اليد بصورة العلم... 68

الجهة العاشرة : في حجية يد المسلم على التذكية... 72

امارية سوق المسلمين على التذكية... 73

الجهة الحادية عشرة : في امارية يد الكافر على عدم التذكية... 75

ص: 448

ما يستدل بها على امارية يد الكافر والمناقشة فيها... 76

الجهة الثانية عشرة : في ان يد المسلم هل هي حجة على التذكية مطلقا أو تختص بغير المستقل للميتة بالدباغ؟ 80

الجهة الثالثة عشرة : في امارية اليد على الزوجية والنسب... 82

الجهة الرابعة عشرة : في قبول قول ذي اليد واخباره بطهارة ما في يده أو نجاسته... 83

الروايات المستدلة بها على القبول والمناقشة فيها ... 84

أصالة الصحة

والكلام فيها في مواقع... 91

ما يستدل بها من الكتاب على اعتبار أصالة الصحة والمناقشة فيه... 93

ما يستدل بها من السنة على اعتبار أصالة الصحة والمناقشة فيه... 94

ما يستدل بها من السنة على الفعل هل هو الصحة الواقعية أو الصحة عند الفاعل... 97

المقام الثاني في جريان أصالة الصحة في العقود... 99

مناقشة الشيخ مع المحقق الثاني في عدم جريان أصالة الصحة في القصد قبل استكمال أركانه 100

تحرير النزاع علم نحو الذي حرره الاعلام المتأخرون... 102

كلام المحقق النائيني في المقام ومناقشة المحقق الأصفهاني وتوجيه كلام النائيني... 102

كلام المحقق العراقي في المقام والاستدلال بالسيرة... 104

مناقشة السيد الخوئي في الاستدلال بالسيرة والمناقشة فيها... 105

المقام الثالث : في اختلاف الصحة بحسب مواردها... 109

توضيح وبيان لكلام الشيخ في المقام... 111

المقام الرابع : في وجوب احراز عنوان موضوع الأثر... 112

توجيه كلام الشيخ في تعيين صغرى للمقام... 116

تفريق الشيخ في جريان أصالة الصحة بين الصلاة على الميت والصلاة عنه وتمامية ذلك 116

المقام الخامس : فيما يثبت بأصالة الصحة من الآثار... 119

المقام السادس : في معارضة أصالة الصحة مع غيرها من الأصول... 121

ص: 449

نسبتها مع الأصل الحكمي... 121

نسبتها مع الأصول الموضوعي واضطراب كلمات الشيخ في المقام وتحقيق القول فيه 123

قاعدة الفراغ والتّجاوز

الكلام فيها في جهات... 129

الجهة الأولى : في انها قاعدة أصولية أو قاعدة فقهية... 129

الجهة الثانية : هل هما قاعدة واحدة أم قاعدتان... 130

وجوه سبعة لعدم امكان كونهما قاعدة واحدة ومناقشة الاعلام فيها... 130

مقام الاثبات لا يتكفل كونهما قاعدة واحدة... 140

اجمال النصوص بالنسبة إلى استفادة رجوع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ... 141

الروايات المثبتة لقاعدة التجاوز لا يمكن الاعتماد عليها... 142

الجهة الثالثة : في عموم قاعدة التجاوز وعدم اختصاصها بالصلاة... 144

الجهة الرابعة : عموم قاعدة التجاوز للشك في جزء الجزء... 145

وجوه التقريب اختصاصها بجزء العمل... 146

مقتضى التحقيق في المقام... 148

الجهة الخامسة في عموم قاعدة التجاوز للشك في الشرط في اثناء المشروط... 149

ما افاده المحقق الأصفهاني لمنع العموم... 149

شروط التي تكون بنفسها متعلقا للأمر... 152

تحقيق الكلام في الشروط وأحكامها... 154

الجهة السادسة : في عموم قاعدة الفراغ للاجزاء... 156

الجهة السابعة : عموم قاعدة الفراغ ما إذا كان منشأ شك في الصحة هو الشك في الشرط 156

ما يمكن ان يقال في المقام التصحيح كلام الشيخ الجهة الثانية : فيما يعتبر في قاعدة التجاوز 159

اعتبار التجاوز عن المحل وتعيينه... 159

ص: 450

التجاوز عن المحل العقلي والعادي... 160

اعتبار الدخول في الغير وتعيينه... 161

ما يستفاد منه اعتبار الدخول في المترتب شرعا... 163

فتوى صاحب المدارك وما قيل حولها... 165

تقريب المحقق النائيني في عدم التنافي بين رواية إسماعيل ورواية عبد الرحمن... 167

مناقشة النائيني والسيد الخوئي في المقام... 168

مقتضى التحقيق في المقام... 172

تذنيب : في الشك في الجزء الأخير من العمل... 175

وجوه المسألة... 178

اعتبار الدخول في الغير المترتب شرعا يلزم عدم جريان القاعدة في جزء الجزء... 184

الجهة التاسعة : في اعتبار الدخول في الغير في جريان قاعدة الفراغ... 185

كلام المحقق النائيني في اعتبار الدخول مطلقا في الوضوء في غيره والمناقشة فيه... 188

ما إذا كان الشك في صحة العلم ناشئا عن الشك في الجزء الأخير... 190

الجهة العاشرة : جريان قاعدة الفراغ لو كان منشأ الشك هو الشك في الشرط... 194

كلام المحقق العراقي في بيان اقسام الشروط... 198

مناقشة مع المحقق العراقي... 200

الجهة الحادية عشرة : في جريان قاعدة التجاوز في الطهارات الثلاث... 203

تخلص الشيخ عن منافاة دلالة الاخبار على خروج أفعال الوضوء عن عموم القاعدة مع رواية ابن أبي يعفور 204

ايراد المحقق العراقي على الشيخ والجواب عنه... 206

مقتضى التحقيق في المقام... 209

الجهة الثانية عشرة : في جريان قاعدة الفراغ مع العلم بالغفلة... 212

الاستدلال على جريان القاعدة برواية الحسين بن العلاء... 215

الجهة الثالثة عشرة : في جريان القاعدة مع الشك في الصحة مع كون صورة العمل محفوظة 216

ص: 451

ما يقتضيه التحقيق بناء على أصلية القاعدة واماريتها... 217

الجهة الرابعة عشرة : فيما إذا كان الشك في الصحة ناشئا عن الشبهة الحكمية... 218

الجهة الخامسة عشرة : هل يعتبر في جريان قاعدة الفراغ ان يكون الشك حادثا بعد العمل أو لا؟ 219

الجهة السادسة عشرة : في جريان قاعدة الفراغ فيما إذا كان منشأ الشك احتمال عدم صدور الأمر من المولى 223

الجهة السابعة عشرة : في كون القاعدة من الأصول أو الأمارات... 225

عدم تمامية ما ذكر من الملاكات لأمارية القاعدة... 226

الجهة الثامنة عشرة : في شمول القاعدة لصورة احتمال الاخلال العمدي... 229

الجهة التاسعة عشرة : في نسبتها مع الاستصحاب... 230

القرعة

ما افاده المحقق العراقي في دليل القرعة... 233

والذي لا بد ان يقال في القرعة... 234

تعارض الاستصحاب مع الأصول

تعارض الاستصحاب مع أصالة البراءة... 239

وجوه ثلاثة ذكرها الشيخ لعدم المعارضة وتمام الكلام فيها... 240

تحقيق الحال يحتاج إلى تحقيق المجعول في الاستصحاب... 242

تحقيق في روايات البراءة... 246

مقتضى المعارضة بعد القول بعدم ورود الاستصحاب... 247

تعارض الاستصحاب مع أصالة الاشتغال... 249

تعارض الاستصحابين... 250

الشك السببي والشك المسببي والكلام في جهتين... 250

وجوه خمسة لتقديم الشك السببي على المسببي... 251

تمامية ما افاده الشيخ في الوجه الثالث وعدم ورود ما أورده الأصفهاني... 256

ص: 452

عدم تمامية ما أفاده المحقق النائيني في الوجه الرابع والخامس... 257

الحق تقديم الشك السببي بالورود... 260

مؤاخذات ثلاث على كلام المحقق النائيني للتقديم بالحكومة... 261

ما إذا كان الأصل السببي غير الاستصحاب... 266

الشكين المسببين عن ثالث... 268

ما إذا كان يلزم من اجراء كلا الأصلين مخالفة قطعية عملية... 268

العلم الاجمالي بالتكليف في المقام مانع عن جريان كل من الأصلين... 270

ما إذا كان لم يلزم من اجراء الأصلين مخالفة عملية... 271

التعادل والترجيح

تمهيد

تعريف التعارض وبيان ضابطة... 279

ايراد النائيني على صاحب الكفاية فيما إذا كان التنافي عرضيا... 281

الموارد الخارجة عن التعارض... 282

معنى الحكومة عند صاحب الكفاية... 282

وجود مورد للجمع العرفي غير تقديم النص أو الأظهر على الظاهر... 283

ما يرد على صاحب الكفاية في وجه تقديم الأدلة المتكلفة للأحكام بعناوينها الثانوية على المتكفلة بعناوينها الأولية 284

تقديم الخاص والمقيد على العام والمطلق... 285

توضيح كلام الكفاية في المراد من البيان المأخوذ في أحدي مقدمات الحكمة... 290

انكار المحقق النائيني وجود نحوين من الإرادة والمناقشة فيه... 291

انفكاك الإرادة الاستعمالية عن الإرادة الواقعية... 293

حصول التعارض فيما إذا كان المراد من البيان هو بيان مراد الاستعمالي... 295

كلام النائيني في ان القيد المنفصل يقدم على المطلق بالقرينة والمناقشة فيه... 297

مناقشة مع المحقق النائيني في التزامه ببقاء ظهور المطلق

ص: 453

في الإطلاق بعد ورود القيد المنفصل... 299

الخاص مقدم على العام على جميع الاحتمالات... 300

خروج مورد تقديم النص على الأظهر أو الظاهر عن التعارض... 301

تتمة : فيما يتعلق بالخاص والعام والمقيد والمطلق... 302

الفرق بين التعارض والتزاحم... 306

تفسير المحقق النائيني التزاحم بالتنافي في مرحلة الفعلية لا في مرحلة الجعل... 306

احكام باب التزاحم انما تجري في صورة العجز بين الامتثالين... 308

عدم جريان احكام التعارض في صورة العجز... 308

موضوع الخلاف بين المحققين الخراساني والنائيني لا يندرج تحت عنوان التزاحم ولا التعارض 310

فصل : لا يختص مورد التعارض بما ثبت حجيته بالدليل اللفظي... 313

الأصل في الدليلين المتعارضين... 314

التزام الشيخ بالتمييز على القول بالسببية في الأمارات والمناقشة فيه... 314

التزام الشيخ والخراساني بالتوقف بناء على الطريقية وتحقيق الحال فيه... 315

التخيير بأنحائه الثلاثة لا يتصور له معنى في المسألة الأصولية... 319

المتعين في المقام هو التوقف بمعنى نفي الثالث... 323

تذييل : هل الجمع مهما أمكن أولى؟... 327

من موارد تقديم الأظهر على الظاهر ما لو اجتمع المطلق الشمولي والمطلق البدلي وكانا متنافيين 329

توجيه كلام النائيني في المقام... 331

من موارده ما لو تعارض العام مع المطلق الشمولي... 334

من موارده ما لو دار الأمر بين التخصيص والنسخ... 337

توضيح كلام المحقق النائيني في عدم ثبوت الدوام والاستمرار بالإطلاق... 338

مناقشة مع المحقق النائيني في مقامين من كلامه... 340

مناقشة مع السيد الخوئي في المقام... 343

ص: 454

بيان كلام المحقق العراقي في المقام والمناقشة فيه... 345

انقلاب النسبة... 348

تفصيل الشيخ بين صور التعارض... 348

دفع ما أورد على الشيخ في المقام... 350

تقريب المحقق النائيني لانقلاب النسبة... 353

مناقشة مع المحقق النائيني فيما افاده في المقام... 355

تحقيق الحال في المقام... 357

تفصيل للزوم الترتيب في العلاج بين صورتي ما إذا ورد عام وورد خاصان ينافيانه وما إذا كان هناك عامان وخاص ينافي أحدهما 365

الصورة الأولى : إذا ورد عام وخاصان... 368

حكم ما إذا ورد عام كان والخاصان متباينين... 369

رجوع مركز الخلاف إلى ان طرف المعارضة هو الجميع أو المجموع وبيان صور المسألة بناء على كل منهما 369

مناقشة مع السيد الخوئي في التزامه بان التعارض ليس بين العام ومجموع الخاصين فقط 375

حكم ما إذا أورد عام وكان بين الخاصين عموم من وجه... 378

حكم ما إذا ورد عام وكان بين الخاصين عموم مطلق... 379

حكم إذا كان الخاص الأخص متصلا... 381

الكلام في روايات ضمان العارية... 385

أصناف خمسة ذكرها السيد الخوئي للروايات... 385

جهات ثلاث يلزم التكلم عنها... 387

الجهة الأولى : في بيان الجمع بين المخصصات أنفسها... 387

الجهة الثانية : دفع التفصي المذكور عن استلزام رفع اليد عن اطلاق المدلول الإيجابي 390

الجهة الثالثة : مناسبة التعرض لهذه المسألة في المقام... 390

ص: 455

الصورة الثانية : ما إذا ورد عامان ومخصص... 391

حكم المتعارضين بحسب الأدلة الشرعية... 396

بيان مورد المعارضة... 397

تأسيس الأصل عند دوران الأمر بين الترجيح والتخيير... 398

التزام الشيخ بلزوم الترجيح بمقتضى الطائفة الأولى من الأخبار... 402

مناقشة الأعلام مع الكفاية في عدم لزوم الترجيح... 404

استعراض الأخبار الواردة في المورد والانتهاء بما تقتضيه الذوق والصناعة فيها... 406

عدم صلاحية مقبولة ابن حنظلة للدلالة على الترجيح... 406

الأخبار الأخرى لا يكن التمسك بشئ منها على الترجيح... 410

روايات ظاهرها لزوم الترجيح بالأحدثية... 412

مناقشة في الاستدلال بها على المراد... 413

الالتزام بلزوم الترجيح بالشهرة وصفات الراوي... 415

هل يلزم الجمود على المرجحات المنصوصة أم يجوز التعدي إلى غيرها... 418

روايات ثمان يستدل بها على التخيير... 422

استظهار عدم دلالة رواية الحرث على المطلوب وبيان منعه... 424

مناقشة في الاستدلال برواية سماعه على التخيير... 425

خدشة في مناقشة السيد الخوئي في الاستدلال برواية علي بن مهزيار... 427

مكاتبة الحميري وتمام الكلام فيها... 428

على القول بالترجيح هل يلتزم بالترتيب بين المرجحات... 433

تقريب دعوى تقديم المرجح الصدوري على المرجح الجهتي... 434

مناقشة الميرزا الرشتي مع الشيخ وبيان مراد الشيخ... 437

عدم شمول الأخبار العلاجية لمورد ما إذا كان بين الخبرين العموم من وجه... 439

التعارض بين الإطلاقين... 443

الفهرس... 447

ص: 456

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.