منتقى الأصول المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: السيد عبد الصاحب الحكيم

المطبعة: مطبعة الأمير

الطبعة: 1

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1413 ه.ق

الصفحات: 526

المكتبة الإسلامية

منتقی الأصول

تقريرالابحاث آية اللّه العظمی السيد محمد الحسيني الروحاني

الشهيد آية اللّه السيد عبد اللّه الصاحب الحكيم

الجزء الثاني

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: منتقی الأصول ج 2

المؤلف: الشهيد آية اللّه السيد عبدالصاحب الحكيم

المطبعة: الهادي

الطبعة: الثانية 1416 ه

الكمية: 2000 نسخة

السعر: 7000 ريال

حقوق الطبعة محفوظة

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

الاجزاء

اشارة

ص: 4

مبحث الاجزاء

وهو من المباحث الجليلة القدر علما وعملا.

وموضوعه كما حرره في الكفاية ان الإتيان بالمأمور به على وجهه هل يقتضي الإجزاء أو لا (1)؟. وعمدة البحث فيه هو الكلام عن إجزاء المأمور به بالأمر الواقعي الثانوي - الاضطراري - عن الأمر الواقعي الأولي ، وإجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن الأمر الواقعي.

ولكن صاحب الكفاية تعرض في بدء بحثه إلى الكلام عن بعض الجهات غير الدخيلة في أساس البحث المذكور والتي لا تغني ولا تسمن من جوع ، ناهجا في ذلك ما يعتاده القدماء من محاولة بيان المراد من موضوع الكلام بشرح ألفاظه (2).

فمن هنا تعرض صاحب الكفاية إلى بيان المراد من كلمة : « وجهه ». والمراد من كلمة : « يقتضي ». وكلمة : « الاجزاء ». ونحن نقتصر في المقام على توضيح ما جاء

ص: 5


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /81- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- ذكر سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) : ان بعض الأعلام أسهب في شرح ألفاظ قاعدة : « الجمع مهما أمكن أولى » بحيث يقرب عشرين صفحة بذكر احتمالات معاني الألفاظ ودفعها ونحو ذلك. ( منه عفي عنه ).

في الكفاية - تبعا - فنقول :

اما : « وجهه ». قد ذكر : ان المراد منه هو الكيفية المعتبرة في المأمور به شرعا وعقلا ، وليس المراد منه الكيفية المعتبرة شرعا ، ولا المراد منه قصد الوجه الّذي قيل باعتباره في العبادة.

اما عدم إرادة الكيفية المعتبرة شرعا فلوجهين :

الأول : انه يلزم ان يكون قيدا توضيحيا ، لأن الكيفية المعتبرة شرعا يدل عليها عنوان المأمور به ، فلا يكون : « على وجهه » قيدا احترازيا بل توضيحا لعنوان : « المأمور به ».

الثاني : انه يلزم خروج التعبديات عن حريم النزاع لدى من لا يرى إمكان أخذ قصد القربة ونحوه شرعا ، إذ لا إشكال لديه في أن الإتيان بالمأمور به العبادي على الكيفية المعتبرة شرعا. يعني بدون قصد القربة - لا يقتضي الإجزاء ولا نزاع في ذلك فيختص النزاع في التوصليات.

وامّا عدم إرادة قصد الوجه فلوجهين أيضا :

الأول : عدم اعتباره إلا من القليل ، فلا معنى لإرادته في عنوان يشترك في تحريره الجميع.

الثاني : خروج الواجبات التوصلية عن حريم النزاع ، لعدم اعتبار قصد الوجه - عند من يعتبره - في غير العباديات.

هذا مضافا إلى عدم الوجه في تخصيصه بالذكر دون سائر القيود المعتبرة لا ميزة له على غيره.

واما : « الاقتضاء » ، فقد ذكر : ان المراد منه هو العلّية والتأثير لا الكشف والدلالة ، ولا يخفى ان الاقتضاء مطلقا بمعنى العلية والتأثير ، إلا أنه تارة : يكون التأثير في الوجود الواقعي للشيء فيصطلح عليه بالعلية. وأخرى : يكون في الشيء بوجوده العلمي فيصطلح عليه بالكشف والدلالة. وإلاّ فهو في مقام

ص: 6

الكشف بمعنى التأثير حقيقة لكنه تأثير في الوجود العلمي لا الواقعي.

وعلى كل المراد منه هاهنا هو العلية والتأثير لا الكشف والدلالة ، وأيد ما ذكره بأنه قد نسب في موضوع النزاع إلى الإتيان لا الأمر ، فانها تتناسب مع إرادة العلية منه ، إذ الكشف من شئون الألفاظ والأدلة لا من شئون الأفعال فانها مؤثرة واقعا.

وقد يورد عليه بوجهين :

أحدهما : بأنه لم يرد الاقتضاء في كلام القوم منسوبا إلى الإتيان ، بل ورد منسوبا إلى الأمر - وهو يتناسب مع إرادة الكشف والدلالة منه -. وعليه فالاستشهاد على ما ادعاه من إرادة العلية منه بنسبة الاقتضاء إلى الإتيان في غير محله ، لأن النسبة المذكورة لم يذكرها غيره ولا معنى لاستشهاده على إرادة شيء من كلام القوم أو من كلامه بما جاء في كلامه بخصوصه كما هو واضح.

وأجيب عن هذا الوجه : بأنه قدس سره ليس في مقام بيان كون المراد من الاقتضاء في كلام القوم هو العلية ، بل في مقام بيان ان الأنسب في تحرير البحث هو جعل الاقتضاء بمعنى العلية والتأثير لا بمعنى الكشف والدلالة (1).

نعم يبقى سؤال وهو : انه إذا كان الملحوظ في كلامه هذه الجهة ، فما هو معنى التعليل بنسبة الاقتضاء إلى الإتيان مع انه وارد في كلامه بالخصوص؟.

ويمكن الجواب عنه : بأنه يمكن ان يكون نظر صاحب الكفاية إلى تصحيح نسبة الاقتضاء إلى الإتيان بهذه الجهة ، فيكون المعنى انه من أجل ان البحث ينبغي ان يكون عن الاقتضاء بمعنى العلية نسبنا الاقتضاء إلى الإتيان لملاءمته معه. وليس نظره - كما قد يظهر بدوا - إلى تعليل كون البحث عن الاقتضاء بمعنى العلية بنسبة الاقتضاء إلى الإتيان كي يرد عليه ما ذكر.

ص: 7


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 146 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : النّظر إلى تعليل نسبة الاقتضاء إلى الإتيان بإرادة العلية من الاقتضاء ، لا إلى تعليل إرادة العلية من الاقتضاء بنسبته إلى الإتيان. فتدبر.

الثاني : وهو الّذي أشار إليه تحت عنوان : « ان قلت ». وتوضيحه : ان الكلام لا ينحصر في اقتضاء الإتيان بالمأمور به للإجزاء ، بل يقع النزاع في بعض الصور في دلالة الدليل على الإجزاء ، فلا معنى لفرض النزاع مطلقا في الاقتضاء بمعنى العلية. بيان ذلك : ان موضوع الكلام تارة : يكون إجزاء المأمور به عن أمره كإجزاء المأمور به بالأمر الواقعي الأولي عن أمره ، وإجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري عن أمره ، واجزاء المأمور به بالأمر الظاهري عن أمره. وأخرى : يكون في إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي.

فالكلام في الأول - لو فرض - يكون في الاقتضاء بمعنى العلية ، إذ لا تلحظ دلالة الدليل في هذا المقام.

واما في الثاني : فالنزاع في الحقيقة في دلالة الدليل على إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري - كل بحسب دليله - عن الأمر الواقعي ، فالمناسب في هذا النحو إرادة الكشف والدلالة من الاقتضاء.

وأجاب عنه قدس سره : بان وقوع النزاع في هذا النحو في دلالة الدليل مسلم لا ينكر ، لكنه لا يتنافى مع كون النزاع الأساسي في ان نفس الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري يؤثر في الإجزاء ، بلحاظ وفائه بالملاك وعدم وفائه ، وينضم إليه النزاع المزبور - أعني النزاع فيما هو مقتضى الدليل - ، وهو منشأ الخلاف في النزاع الأول ، بمعنى ان النزاع في الإجزاء الإتيان وعدمه للخلاف في دلالة الدليل على الوفاء بالملاك وعدمه أو مقدار الوفاء. فيكون هناك نزاعان كبروي وصغروي ، كما انه في النحو الأول يكون نزاع واحد كبروي لو فرض نزاع ، إذ لا كلام في إجزاء المأمور به عن نفس أمره لوفائه بملاك أمره وتحصيله غرضه.

ص: 8

وقد استشكل في الجواب : بان فرض وقوع النزاع في الصغرى - أعني في دلالة الدليل - لا يتناسب مع المسألة الأصولية ، إذ من شرائط المسألة الأصولية كما تقدم ان تكون نتيجتها كلية جارية في جميع الموارد ، ولذا قيل بخروج قاعدة الطهارة عن الأصول لاختصاصها بباب الطهارة ، مع كون مفادها مفاد قاعدة الحلّ والبراءة. ولا يخفى ان الكلام في دلالة كل دليل كدليل : « التراب أحد الطهورين » (1) ونحوه لا ينتهي بنا إلى نتيجة عامة ، بل نتيجتها خاصة بمورد الدليل كالطهارة أو الصلاة أو غيرهما.

هذا مضافا إلى انه إذا كان منشأ الخلاف الكبروي هو النزاع في دلالة الدليل ، فالمناسب هو تحرير النزاع في دلالة الدليل وتشخيص مفاده لتحسم به مادة النزاع الكبروي وينتهى منه إلى النتيجة الكبروية ، لأن الأولى هو تحرير الكلام فيما هو سر الخلاف وتنقيحه فيه كما لا يخفى.

مع ان فرض تحقق النزاع الكبروي مشكل ، كالإشكال في فرضه بالنسبة إلى إجزاء المأمور به عن أمره ، إذ إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي وعدمه يبتني على أمور توجب التسليم به لو ثبتت ، وهي الوفاء بالملاك ، أو عدم وفائه ، أو عدم إمكان تدارك المصلحة الفائتة كما سيجيء إن شاء اللّه تعالى ، وعليه فالنزاع في الحقيقة ليس في أصل الكبرى وانما في ما تثبت به وهي مقدار الوفاء بالملاك وتحديده ، وهذا يستكشف من دليل الحكم الاضطراري أو الظاهري.

وبالجملة : لا نزاع في أصل الكبرى بما هي هي ، بل بما تبتني عليه الكبرى فيرجع النزاع صغرويا فينبغي ان يكون في دلالة الدليل ومقتضاه (2).

ص: 9


1- عن أبي جعفر علیه السلام : « فان التيمم أحد الطهورين ». وسائل الشيعة 2 / 991 باب : 21 من أبواب التيمم حديث : 1.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 146 - الطبعة الأولى.

وقد يجاب : بان النزاع ليس في دلالة كل دليل في مورده الخاصّ كي يدعى ان نتيجة ذلك النزاع خاصة بمورد الدليل ولا تتعداه إلى غيره ، وانما يفرض في أمر كلي ينطبق على جميع الأدلة ، وهو ان الدليل - أي دليل كان - في أي حال وعلى أي نحو يكون دالا على وفاء المأمور به بالملاك الواقعي فيكون مجزيا. وعدم وفائه به فلا يكون مجزيا؟. فهل إطلاقه يقتضي وفاء المأمور به بالملاك أولا؟. فالبحث إنما هو في الملازمة بين الإطلاق ووفاء المأمور به بالملاك. ولا يخفى ان نتيجتها قاعدة كلية تنطبق على كل مورد من دون خصوصية لمورد على آخر.

وعلى هذا فالبحث فيها يتلاءم مع كون المسألة أصولية.

ولا يخفى ان هذا الجواب تصحيح لأصولية البحث في الإجزاء وكون مسألته من المسائل الأصولية ، ولا يصحح كلام الكفاية ، فان الاقتضاء عليه وان لم يكن بمعنى الدلالة والكشف. ولكنه ليس بمعنى العلّية والتأثير أيضا ، بل البحث أجنبي عن الاقتضاء ، فانه عن الملازمة بين الإطلاق والوفاء بالملاك. وعلى كل فالأمر سهل.

واما : « الإجزاء » فقد أفاد : بان المراد به معناه اللغوي والعرفي ، وهو الكفاية ، غاية الأمر ان المكفي عنه يختلف ، فتارة : يكون إسقاط القضاء. وأخرى : يكون إسقاط الإعادة. ومع إمكان حمله على المراد العرفي اللغوي لا يتجه جعل معناه اصطلاحيا ، بمعنى إسقاط القضاء أو إسقاط الإعادة.

وبعد ان فرغ من ذلك تعرض إلى جهة الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة دلالة الأمر على المرة أو التكرار ، إذ قد يتوهم عدم الفرق بينهما ، حيث انه على القول بعدم الاجزاء لا بد من تكرار الفعل ، كما انه بناء على دلالته على التكرار لا بد من تكرار العمل. ببيان : ان المبحوث عنه في تلك المسألة يختلف عنه في هذه المسألة ، فان المبحوث عنه في تلك هو تشخيص المأمور به وتعيينه ،

ص: 10

وانه هل الوجودات المتعددة أو الوجود الواحد ، والبحث في هذه عن ان الإتيان بما هو المأمور به هل يجزي أو لا ، فهو في طول تعيين المأمور به؟.

كما تعرض إلى بيان الفرق بين هذه المسألة وبين مسألة تبعية القضاء للأداء التي يبحث فيها عن ان القضاء هل هو بأمر جديد أو يثبت بنفس الأمر الأدائي؟ ، ولكن لم يظهر الوجه في تعرضه لذلك بعد عدم وجود القدر الجامع بين المسألتين الموجب لتوهم كونهما راجعتين إلى بحث واحد ، كيف؟ وموضوع تبعية القضاء للأداء عدم الإتيان بالفعل المأمور به ، وموضوع هذه المسألة هو الإتيان بالمأمور به ، وكان عليه قبل بيان الفرق الإشارة إلى ما به الاشتراك الموهم للاتحاد ، لا التعرض رأسا إلى بيان ما به الامتياز. فلاحظ. وعلى كل فالفرق واضح بين جهة البحث في هذه المسألة وجهة البحث في مسألة التبعية.

وبعد ان أنهى الكلام في هذه المقدمات تطرق إلى البحث فيما هو موضوع الكلام - أعني اجزاء الإتيان بالمأمور به وعدمه -. وأوقع الكلام في مقامين :

المقام الأول : في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالنسبة إلى أمره ، كأجزاء الإتيان المأمور به بالأمر الواقعي عن الأمر الواقعي ، أو المأمور به بالأمر الظاهري بالنسبة إلى الأمر الظاهري ، والمأمور به بالأمر الاضطراري بالنسبة إلى الأمر الاضطراري.

وهو مما لا إشكال فيه ، وذلك لأن المأمور به المأتي به اما ان يكون وافيا بالملاك الباعث نحو الأمر. أو لا يكون وافيا به.

فالثاني خلف كونه مأمورا به ، لأن الأمر لا يتعلق إلا بما هو واف بملاكه ، ولزم ان يكون غيره هو المأمور به لا هو لعدم وفائه بملاك الأمر.

والأول يلزمه سقوط الأمر لحصول الغرض ، والأمر تابع لحصول الغرض ، فإذا حصل سقط الأمر وإلاّ لم يكن تحصيله غرضا للأمر وغاية له.

وبالجملة : تحقق امتثال الأمر بإتيان المأمور به بذلك الأمر لا كلام فيه

ص: 11

ولا خلاف.

انما الكلام في جواز تبديل الامتثال بالإتيان بفرد آخر للمأمور به يكون هو امتثالا للأمر وعدم جوازه.

ادعى صاحب الكفاية جوازه في بعض الموارد ، وهي ما إذا لم يكن المأمور به علة تامة لحصول الغرض.

بيان ذلك : ان المأمور به تارة : يكون علة تامة لحصول الغرض ، كما لو أمر المولى عبده بإهراق الماء في فمه لأجل رفع العطش ، فأهرق العبد الماء في فيه ، فان المأمور به علة تامة لحصول الغرض وهو رفع العطش ، ففي هذا الفرض لا يجوز تبديل الامتثال عقلا لسقوط الأمر بمجرد الإتيان بالفعل ، فلا يبقى مجال لامتثاله ثانيا. وأخرى : لا يكون علة تامة لحصول الغرض ، بل تكون نسبته إليه نسبة المقتضي أو المعد ، كما لو كان حصول الغرض يتوقف على فعل اختياري للمولى نفسه مثل ما لو أمره بإحضار الماء لرفع العطش ، فإن مجرد إحضار الماء لا يحصّل الغرض ، بل يتوقف حصوله على انضمام شرب المولى للماء ، ففي هذا الفرض يجوز عقلا تبديل الامتثال والإتيان بفرد آخر أفضل منه - مثلا - ليكون هو امتثالا عن الأمر ، لعدم حصول الغرض بالفعل الأول كما هو الفرض.

وأيد هذه الدعوى ، بل دلل عليها بما جاء في النصوص (1) من الأمر بالصلاة جماعة لمن كان قد صلّى فرادى وان اللّه يختار أحبّهما إليه (2).

وقد استشكل في هذه الدعوى : بأنه يستحيل ان لا يكون المأمور به علة

ص: 12


1- الكافي : 3 / 379 - باب الرّجل يصلي وحده من كتاب الصلاة. تهذيب الأحكام : 3 / 269 - الحديث : 94. الفقيه : 1 / 251 - الحديث : 41 إلى 43.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /83- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تامة لحصول الغرض لتبعية الأمر لتحصيل الغرض من المأمور به : فيستحيل ان يتوسط بين الفعل وحصول الغرض مقدمة غير اختيارية للمكلف ، بل المأمور به لا ينفك عن الغرض من الأمر ، واما ما ذكر من مثال الأمر بإحضار الماء للشرب ، فالغرض من الأمر هاهنا ليس هو نفس الشرب ، فإنه أمر اختياري للمولى لا يرتبط بالعبد ، فلا معنى لانبعاث الأمر عنه ، بل الغرض منه هو التمكن من الشرب وهو لا ينفك عن المأمور به كما لا يخفى.

وعليه ، فالإتيان بالفعل مطلقا يكون موجبا لحصول الغرض لأنه علة تامة له المستلزم لسقوط الأمر المانع من جواز تبديل الامتثال (1).

والعجيب من صاحب الكفاية استدلاله على المدعى بالنصوص المزبورة ، مع ان الكلام في تبديل الامتثال ثبوتي يحرر لأجل معرفة المراد بهذه النصوص.

ولا يخفى ان الكلام يدور بين الجواز عقلا والمنع عقلا ، فلا معنى للاستدلال على الجواز بالروايات وبالدليل في مقام الإثبات ، إذ لو ثبت المنع عقلا يعلم بعدم إرادة ما هو ظاهر الدليل الإثباتي وان المراد به خلاف ظاهره ، فيصرف عن ظاهره ، فلا يتوصل إلى إثبات الجواز بالدليل في مقام الإثبات. نعم لو وصلت المرحلة إلى التشكيك في الجواز والامتناع أمكن التمسك بالدليل الإثباتي في إثبات الجواز ويكون دليل الوقوع دليلا على الإمكان ، ولكن النوبة لا تصل إلى ذلك بل الأمر دائر بين النفي والإثبات.

فلا معنى للاستدلال بالدليل الإثباتي على عدم المنع.

وبالجملة : الكلام فيما نحن فيه انما هو في مرحلة الثبوت لمعرفة امتناع تبديل الامتثال وجوازه تمهيدا وتوطئة لتشخيص المراد من هذه النصوص ونظائرها. فلا يتجه الاستدلال بها على أحد الطرفين ثبوتا كما هو ظاهر جدا.

ص: 13


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 148 - الطبعة الأولى.

وعلى أي حال فهذا نقاش أشبه باللفظي ، فلا أثر لتطويل الكلام فيه.

وانما المهم تحقيق أصل الدعوى. فنقول : الكلام ..

تارة : يقع في تحقيق جواز تبديل الامتثال وعدم جوازه بالمعنى اللفظي لتبديل الامتثال ، الراجع إلى البحث في جواز رفع عنوان الامتثال الصادق على فعل وتطبيقه على فعل آخر وجعله هو الامتثال دون ذلك الفعل الأول.

وأخرى : لا يقع في مؤدى هذا اللفظ ، بل يبحث في جواز الإتيان بفرد آخر - بعد الإتيان بما يكون امتثالا لو اكتفي به - بنحو عبادي قربي يقصد به تحصيل ما هو ملاك الأمر الأقصى فيكون امتثالا واقعيا. ولا يتعين الأول لأن يكون امتثالا وان تعين على تقدير الاكتفاء به.

ولا يخفى ان البحث فيما لم يكن الفعل علة تامة لحصول الغرض كما لو كان هناك غرض أقصى من الفعل يحصل باختيار المولى ، إذ لو كان الفعل علة تامة لحصول الغرض يسقط به الأمر ويحصل به الغرض فلا مجال للتعبد بالفعل ثانيا ولا تجري فيه وجوه الجواز الآتية كما سيتضح إن شاء اللّه تعالى.

ويتضح الفرق جليا بين نحوي الكلام في ضمن البحث.

ولنوقع البحث على النحو الثاني. فنقول : انه قد يذكر لجواز الإتيان بالفعل ثانيا بنحو عبادي وقابل لانطباق عنوان الامتثال الواقعي عليه وانصرافه عن الآخر وجوه ثلاثة :

الوجه الأول : الالتزام بان الواجب - فيما لو كان هناك غرض أقصى يتوسط بينه وبين الفعل ما لا اختيار للمكلف فيه كفعل المولى - هو الحصة المقارنة لترتب الغرض الأقصى عليها ، فما لم يترتب عليها الغرض الأقصى لا تكون واجبة ولا يشملها الوجوب ، كما يقال في ان الوجوب المقدمي إنما يترشح على المقدمة الموصلة دون غيرها ، بمعنى ان الواجب من المقدمات هو المقدمة التي يترتب عليها الواجب دون ما لا يترتب عليه ، وفي مقابله القول بان الواجب

ص: 14

مطلق المقدمة الموصلة وغيرها.

وبالجملة : إذا التزم بمبنى المقدمة الموصلة فيما نحن فيه وقيل ان الوجوب المترشح عن تحصيل الغرض والناشئ عنه انما يثبت للفعل الموصل للغرض بمعنى الحصة الملازمة لترتب الغرض فغيرها لا تتصف بالوجوب المقدمي للغرض ، أمكن الإتيان بفعل آخر بعد الإتيان بأول مع فرض عدم حصول الغرض الأقصى بالأول فعلا ، فيمكن الإتيان بفعل آخر برجاء تحصيل غرض المولى به ليكون مصداقا للامتثال ، فإذا حصل غرض المولى به كان هو الواجب وما به الامتثال لأنه هو الموصل دون الأول.

وبعبارة أخرى : حيث انه بعد لم يسقط الأمر بالأول وعدم العلم بكونه هو الامتثال ، أمكن الإتيان بفرد برجاء الأمر وتحصيل غرض المولى ، فيكون امتثالا وواجبا لو حصل به غرض المولى. فالإتيان بفرد آخر يمكن ان يكون امتثالا وبرجاء الأمر جائز بلا كلام على الالتزام بالمقدمة الموصلة.

الوجه الثاني : انه لو لم يلتزم بالمقدمة الموصلة وان الواجب ما يصلح للإيصال ومطلق ما هو مقدمة موصلا كان أولا ، فيكون الفعل الأول امتثالا جزميا ويسقط به الأمر للامتثال به لكنه مع هذا يمكن الإتيان بفرد آخر بداعي تحصيل ما هو محبوب للمولى والوصول إلى ما هو ملاك الأمر. فانه إذا كان للمولى غرض أقصى مرغوب فيه - كالشرب في مثال الأمر بإحضار الماء - ولم يتحقق بالفرد الأول وان سقط به الأمر ، أمكن ان يؤتى بفرد آخر برجاء تحصيل ما هو محبوب المولى به وهو الشرب ، فإذا جاء بإناء ثان بهذا القصد كان الفعل عباديا صحيحا - نظير الاحتياط - ، فإذا تحقق الغرض الأقصى به كان موضوع آثار الامتثال ، بمعنى يكون حاويا لملاك الامتثال فيكون امتثالا واقعيا يترتب عليه أثر الامتثال دون الأول.

الوجه الثالث : - وهو المنسوب إلى المرحوم المحقق الشيخ كاظم

ص: 15

الشيرازي قدس سره - وهو وجه عرفي محصله : انه إذا كان للمولى غرض أقصى لا يحصل بمجرد الإتيان بالفعل ، فالعرف يرى في مثل الحال ان المكلف مخير بين إبقاء الفرد الأول وبين إتلافه والإتيان بفرد جديد آخر ، فهناك وجوب تخييري متعلق بإبقاء الفرد الأول والإتيان بفرد آخر بنحو التخيير.

ولا يخفى انه من المقرر في مورد الوجوب التخييري جواز الإتيان بكلا فردي الوجوب دفعة ويكون كل منهما امتثالا للأمر.

وعليه ، فيمكن للمكلف أن يأتي بفرد آخر جديد في عرض إبقاء الفرد الأول الّذي هو طرف التخيير ، فيأتي - في مثال الأمر بالماء - بإناء ثان في حال إبقاء الإناء الأول ، فيكون كل من الإبقاء والإتيان بإناء ثان امتثالا للأمر التخييري ، فالفرد الثاني يقع امتثالا للأمر. وهذا امر عرفي واضح.

ومن الظاهر ان هذا الوجه إنما يتم في المورد الّذي يكون الإبقاء اختياريا للمكلف كما في الإتيان بالإناء الّذي فيه ماء ، إذ يتمكن المكلف من إراقة الماء فينعدم الفرد. واما المورد الّذي لا يكون الإبقاء اختياريا للمكلف ، فلا يتم ذلك ، إذ لا يكون الإبقاء حينئذ طرف الوجوب التخييري كما في مورد الأمر بالصلاة ، فان إبقاء المكلف للصلاة التي جاء بها ليس اختياريا له ، إذ لا يتمكن من رفعها وإعدامها بأي طريقة ، فان الفعل قد وقع فلا يرتفع كما هو ظاهر جدا.

وعلى أي حال فهو وجه لا بأس به.

والمتحصل : ان هذا المعنى من تبديل الامتثال أمر معقول ولا محذور فيه.

وقد ذهب المحقق العراقي - كما في تقريرات بحثه - إلى عدم معقولية تبديل الامتثال ، ببيان : انه ان التزمنا بالمقدمة الموصلة صح الإتيان بفرد آخر برجاء امتثال الأمر به وتحصيل غرض المولى ، وحينئذ إذا اختاره المولى في تحصيل غرضه كان هو مصداق الامتثال دون الأول ، فلا يكون من باب تبديل الامتثال ، لأن الفرد الأول غير امتثال. وان لم نلتزم بالمقدمة الموصلة كان الإتيان

ص: 16

بالفرد الأول مسقطا للأمر لكونه امتثالا ، فلا مجال للإتيان بفرد آخر ثانيا ليصير امتثالا لعدم الأمر (1).

وهو كما لا يخفى يبتني على إرادة تبديل الامتثال بالمعنى الأول ، فيرجع النقاش لفظيا ، لا بالمعنى الّذي عرفت معقوليته ، وعليه يمكن حمل النصوص الواردة في أمر من صلى فرادى بالصلاة جماعة. اما بناء على المقدمة الموصلة فواضح ، فانه يستكشف من هذا الدليل ان للصلاة غرضا أقصى يمكن ان يحصل بكلا الفردين ، فما هو الأفضل لدى اللّه هو الّذي يكون محصلا للغرض باختياره ، فيقع امتثالا دون الآخر. وهكذا بناء على الوجه الثاني ، إذ للمولى ان يختار في تحصيل غرضه ما هو الأفضل منهما فيكون في الحقيقة هو مصداق الامتثال وان لم يكن أمر بعد الإتيان بالفرد الأول. واما بناء على الوجه الثالث ، فالأمر فيه كذلك ، فانه وان وقع كل من الفردين امتثالا للأمر ، لكن يمكن ان يختار أحبهما في مقام استحقاق الثواب باعتبار تحصيل الغرض الأقصى به ، ولا يتعدد الثواب لوحدة الملاك والغرض الباعث للأمر التخييري ، إلا انه يلزم الاقتصار على مورده ، أعني الصلاة جماعة أو مطلق الصلاة ، إذ لا بد في جواز تبديل الامتثال بالمعنى الّذي عرفته من إحراز وجود غرض أقصى للمولى ، فمع عدم الدليل عليه لا يتجه الإتيان بالفعل ثانيا لعدم وجود ملاك المقربية والامتثال فيه. والدليل فيما نحن فيه مختص بالصلاة ، فيستكشف منه وجود غرض أقصى في الصلاة فقط اما بنحو العموم ، أو في خصوص صلاة الجماعة.

ولا يخفى انه مع عدم الالتزام بجواز تبديل الامتثال بأي معنى كان والالتزام بمنعه عقلا يشكل الأمر في هذه النصوص من حيث مفادها. وتقريب الإشكال : انه اما ان يلتزم بان الصلاة الأخرى المعادة متعلقة للأمر - الوجوبيّ

ص: 17


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 263 - الطبعة الأولى.

أو الاستحبابي - أو لا يلتزم بذلك. فعلى الأول تكون امتثالا آخرا لأمر آخر فلا معنى لاختيار إحداهما ، إذ كل منهما مأمور به وقد وقعت امتثالا لأمرها فيستحق العبد ثوابين. وان لم يلتزم بوجود امر آخر متعلق بها ، فيشكل الإتيان بها مع عدم الأمر بها وسقوط الأمر الأول وعدم جواز تبديل الامتثال.

والتخلص من هذا الإشكال : بان اختيار أحبهما إليه انما هو راجع إلى مقام الثواب الّذي هو تفضل منه سبحانه ، أجنبي بالمرة عن مفاد الإشكال كما لا يخفى بأدنى تأمل.

وقد التزم المحقق الأصفهاني بتعدد الأمر ، ووجّه وحدة الثواب باختيار أحبهما بوجهين :

الأول : ان الثواب حيث انه من توابع القرب فإذا اجتمع مؤثران في القرب وكان تأثير أحدهما أكثر من الآخر ، كانا مشتركين في القدر المشترك بمعنى انه لا يحسب لكل منهما القدر المشترك بينهما ، بل القدر المشترك يجعل لهما كليهما ويضاف إليه الزائد الّذي يؤثر فيه أحدهما خاصة وهو معنى اختيار أحبهما.

الثاني : ان اجتماع المثلين في شيء واحد ممتنع كاجتماع الضدين ، فإذا كان هناك مؤثران في القرب لم يؤثر كل منهما على حدة ، لاستلزامه اجتماع فردين من القرب وهو من اجتماع المثلين ، بل المؤثر أحدهما فيمكن ان يختار اللّه في مقام التأثير ما هو الأكثر تأثيرا (1).

ولا يخفى عليك ان كلا الوجهين مخدوشان :

اما الأول : فدعوى اتحاد المؤثرين في القدر المشترك دعوى بلا دليل ، فان العقل يحكم باستحقاق الثواب - بأي معنى كان الثواب بفعل ما يوجبه ،

ص: 18


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 148 - الطبعة الأولى.

فإذا تعدد الموجب تعدد الثواب أيضا بحكم العقل ، ولا وجه لاتحاد التأثير بعد كون كل منهما قابلا في نفسه وذاته للمؤثرية.

واما الثاني : فهو أجنبي بالمرة عن مقام اتحاد المثلين ، فان مقامه الوجودات الخارجية لا النّفس ، والقرب والبعد من صفات النّفس. وقد تكرر منه إمكان اجتماع المتضادين في النّفس كالكراهة والإرادة.

وعلى كل ، فما ذكره لم يتضح وجهه ، فانه لا يمتنع ان يأتي العبد في حين واحد بفعلين مقربين يكون كل منهما موجبا للقرب ومستلزما للثواب ، وإلاّ لجرى ما ذكره في جميع الواجبات والمستحبات ولا يلتزم به.

والمتحصل : انه مع تعدد الأمر لم يظهر وجه اتحاد الثواب واختيار أحدهما في مقام الثواب ، فمع عدم الالتزام بإمكان تبديل الامتثال بالمعنى الّذي ذكرناه ، يبقى الإشكال في مفاد الرواية على حاله. فلاحظ.

المقام الثاني : في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو الظاهري عن الأمر الواقعي.

والكلام في موقعين :

الموقع الأول : في إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي ، كما لو كان مأمورا بالصلاة مع التيمم ثم ارتفع العذر ، فهل يجب عليه الإتيان بالصلاة مع الوضوء أو لا يجب ، بل يكون الإتيان بالصلاة مع التيمم مجزيا عنه؟.

ولا بد قبل الخوض في البحث من التعرض إلى جهتين :

الجهة الأولى : في بيان موضوع الكلام ، وهو ما كان موضوع الأمر الاضطراري متحققا في الواقع بحيث يكون للأمر الاضطراري ثبوت واقعي في حين الإتيان بالعمل ، وذلك كما إذا أخذ في موضوعه الاضطرار آناً ما ، فتحقق كذلك ، أو كان موضوعه الاضطرار المستمر إلى نهاية الوقت فتحقق كذلك أيضا.

ص: 19

فانه في كلا الفرضين يكون للأمر الاضطراري ثبوت واقعي.

واما إذا لم يكن الأمر الاضطراري ثابتا واقعا لعدم تحقق موضوعه واقعا. وانما جيء بالعمل استنادا إلى إحراز تحقق الموضوع وجدانا ، أو بالاستصحاب - لو سلم جريانه في مثل الفرض - ، ثم انكشف الخلاف وعدم تحققه واقعا - كما لو كان موضوع الأمر هو الاضطرار تمام الوقت ، فتخيل انه يستمر الاضطرار معه إلى نهاية الوقت ، أو قيل بصحة إجراء الاستصحاب في أمر استقبالي.

فاستصحب بقاء الاضطرار إلى نهاية الوقت ، فجاء بالعمل الاضطراري ثم انكشف الخلاف بارتفاع الاضطرار في أثناء الوقت -.

فليس هذا الفرض موضوع الكلام ، إذ لا مأمور بالأمر الاضطراري لعدم وجود الأمر الاضطراري ، كي يقع الكلام في إجزائه ، بل فرض الاستصحاب يكون من باب الإتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري ، والكلام في إجزائه يقع في الموقع الثاني.

وجملة القول : ان موضوع الكلام انما هو الإتيان بما هو مأمور به بالأمر الاضطراري واقعا ، بحيث يكون الملاك وموضوع الأمر الاضطراري ثابتا في الواقع فيثبت الأمر بتبعه.

الجهة الثانية : في تأسيس الأصل ومعرفة القاعدة الأولية في الكلام ، بمعنى انه لا بد من معرفة ان مقتضى القاعدة والأصل الأولي - لو لم يتكفل دليل الأمر الاضطراري الإجزاء - هل هو الإجزاء أو عدمه؟ ، بحيث يرجع اليد مع قصور الدليل المتكفل للأمر الاضطراري للاجزاء. ولا يخفى انه إذا كان مقتضى الأصل الأولي هو الإجزاء ، لم يكن البحث في تكفل دليل الأمر الاضطراري الإجزاء وعدمه بذي أهمية وأثر عملي مهم ، إذ الإجزاء ثابت على كلا التقديرين اما باعتبار دلالة دليل الأمر الاضطراري أو باعتبار الأصل

ص: 20

والقاعدة الأولية. فأثر البحث في مقتضى دليل الأمر الاضطراري انما يظهر لو كان مقتضى الأصل هو عدم الإجزاء كما لا يخفى.

والكلام في الأصل تارة : في الأصل اللفظي. وأخرى : في الأصل العملي. والّذي نحققه فعلا هو الأصل اللفظي ، فنقول : ان مقتضى إطلاق دليل الأمر الواقعي الأولي لزوم الفعل مطلقا وفي جميع آنات الوقت سواء جاء بالمأمور به الاضطراري أو لا ، خرج عنه زمان الاضطرار باعتبار عدم القدرة عليه فيتقيد الحكم عقلا لاشتراط القدرة على متعلقه في تحققه ، فإذا ارتفع الاضطرار وعدم القدرة في أثناء الوقت كان إطلاق دليله محكما لعدم المانع ، وشموله لما إذا جاء بالمأمور به بالأمر الاضطراري أو لم يجئ.

وبالجملة : مقتضى الإطلاق لزوم إعادة الفعل وعدم الإجزاء. هذا بالنسبة إلى لزوم الإعادة.

اما بالنسبة إلى لزوم القضاء ، فان قلنا بان القضاء تابع للأداء ، وأن دليل الأداء هو الّذي يتكفل إيجاب القضاء ، كان الأمر فيه كالإعادة ، فان إطلاق دليل الأمر الواقعي يتكفل لزوم الفعل سواء جيء بالمأمور به الاضطراري أو لم يجئ ، وهو يقتضي لزوم الفعل مطلقا إلى آخر العمر ، فيجب القضاء بمقتضى إطلاق الدليل. وان قلنا بأنه بأمر جديد لم يكن هناك إطلاق يتكفل وجوبه كما لا يخفى ، لارتفاع الأمر الأولي بخروج الوقت والشك في شمول دليل القضاء للمورد ، فالمرجع هو الأصل العملي.

والأمر الغريب ان صاحب الكفاية بعد ان يتكلم في تحقيق المطلب ثبوتا بنحو مفصل ثم يتعرض لمقام الإثبات ، وان إطلاق دليل الأمر الاضطراري يقتضي الإجزاء ، يذكر أمرا يقتضي عدم وجود ثمرة للبحث ، وهو : انه مع عدم إطلاق دليل الأمر الاضطراري ، فمقتضى الأصل العملي - الّذي هو المرجع

ص: 21

حينئذ - هو عدم وجوب الإعادة. لأنه شك في التكليف (1).

ولا يخفى ان هذا يقتضي الإجزاء سواء من جهة الدليل المتكفل للأمر الاضطراري أو من جهة الأصل ، فلا ثمرة في البحث عن دلالة الدليل ومقتضاه كما لا يخفى.

إلا ان يكون مراده قدس سره من قوله : « فالمتبع هو الإطلاق » إطلاق دليل الأمر الواقعي أو الاضطراري لا خصوص إطلاق دليل الأمر الاضطراري. وقد عرفت ان مقتضى إطلاق دليل الأمر الواقعي هو عدم الاجزاء فتظهر الثمرة العملية في البحث.

ولكن هذا خلاف ظاهر كلامه كما لا يخفى على من يلاحظه.

وبعد هاتين المقدمتين يقع الكلام في أصل المبحث ، وهو إجزاء الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري.

وقد تعرض صاحب الكفاية إلى بيان أنحاء ما يمكن ان يقع عليه المأمور به الاضطراري ثبوتا وأنها أربعة : لأنه اما ان يكون وافيا بملاك الأمر الواقعي بتمامه ، أو لا يكون وافيا بتمامه. والثاني اما ان يكون المقدار الباقي من المصلحة والملاك مما لا يمكن تداركه ، أو يكون مما يمكن تداركه ، والثاني اما ان يكون ذلك المقدار مصلحة ملزمة ، أو لا يكون كذلك. فالصور أربعة :

الأولى : ان يكون وافيا بتمام ملاك الأمر الواقعي.

الثانية : ان يكون وافيا ببعض الملاك ويكون المقدار الباقي مما لا يمكن تداركه.

الثالثة : ان يكون وافيا ببعض الملاك وأمكن تدارك الباقي وكان ملزما.

الرابعة : ان لا يكون المقدار الباقي الممكن تداركه ملزما ، بل بنحو

ص: 22


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /85- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يوجب الاستحباب.

والكلام في كل صورة يقع من جهات ثلاثة :

الأولى : في اقتضائه الاجزاء.

الثانية : في جواز البدار بمعنى الإتيان به في أول الوقت.

الثالث : في جواز تعجيز النّفس وإيجاد الاضطرار اختياريا.

اما الصورة الأولى : فهي تقتضي الاجزاء بلا كلام ، لحصول تمام ملاك الأمر الواقعي بالمأمور به الاضطراري ، فلا مجال لوجود الأمر الواقعي حينئذ.

واما جواز البدار ، فهو يتوقف على إحراز وفاء المأمور به الاضطراري بملاك الأمر الواقعي بمجرد الاضطرار ، إذ لا إشكال في جوازه لعدم فوات مصلحة الواقع به.

واما إذا كان وفاء المأمور به الاضطراري بالملاك مقيّدا باليأس عن ارتفاع الاضطرار أو بالانتظار إلى آخر الوقت ، فلا يجوز البدار بدون اليأس لعدم وفاء المأتي به بملاك الأمر الواقعي ولا يتحقق الإجزاء.

واما الاضطرار اختيارا فقد يدعى جوازه ، إذ لا قبح فيه بعد عدم فوات مصلحة الواقع به.

ولكنه يتوقف على إحراز ان وفاء المأمور به الاضطراري بالملاك بمطلق الاضطرار سواء حصل اختيارا ، أو قهرا وبدون اختيار.

ومع عدم إحراز ذلك ، وإحراز أو احتمال كون وفائه بالملاك يختص بصورة ما إذا كان حصول الاضطرار قهريا وبدون اختيار فلا يجوز التعجيز وإيجاد الاضطرار اختيارا ، إذ فيه تفويت لمصلحة الواقع الملزمة أو احتمال تفويتها مع حكم العقل بتحصيلها الموجب للعلم باشتغال الذّمّة بتحصيلها ، فلا يكفى الإتيان بالمأمور به الاضطراري لعدم إحراز فراغ الذّمّة.

واما الصورة الثانية : فلا إشكال في تحقق الإجزاء فيها ، لعدم وجود الأمر

ص: 23

الواقعي بعد ان كانت المصلحة الفائتة غير ممكنة التدارك ، إذ لا ينشأ عنها أمر بالفعل لعدم إمكان تحصيلها.

واما البدار ، فلا بدّ من ملاحظة ان المصلحة الفائتة التي لا يمكن تداركها هل هي بنحو ملزم بعد ملاحظة ما في البدار من إدراك مصلحة أول الوقت ووقوع الكسر والانكسار؟ أو لا ، فان كانت بنحو ملزم أشكل جوازه ، لأن فيه تفويتا لمصلحة لازمة الحصول. وان لم تكن بنحو ملزم جاز البدار بلا إشكال ولم يتعرض صاحب الكفاية إلى التفصيل المزبور.

واما تعجيز النّفس والاضطرار اختيارا - بعد فرض وفاء الفعل بمقدار من المصلحة في هذا الحال أيضا بلحاظ أن مطلق الاضطرار كاف في تحصيل الفعل لبعض الملاك - فهو مشكل الجواز لو كانت المصلحة الفائتة بنحو ملزم دون ما لم تكن كذلك كما هو واضح.

واما الصورة الثالثة : فالحق عدم الإجزاء ، لوجود المصلحة الملزمة التي يمكن تداركها فتكون منشئا للأمر.

واما البدار ، فلا مانع منه ، إذ ليس فيه تفويت لمصلحة الواقع بعد فرض لزوم الإتيان بالفعل بعد ارتفاع العذر كما انه يجوز له تأخير العمل إلى ما بعد العذر فيأتي بعمل واحد لا غير. فيكون المكلف مخيرا بين الإتيان بالعمل الاضطراري هذا الاضطرار والاختياري بعد ارتفاع الاضطرار وبين الإتيان بالعمل الاختياري فقط عند ارتفاع الاضطراري.

واما الاضطرار اختيارا ، فهو مما لا مانع منه بعد عدم استلزامه للتفويت لعدم الإجزاء ، لكنه ليس عملا عقلائيا - عادة - لفرض عدم الاجزاء ولزوم الإتيان بالعمل الاختياري لا محالة.

واما الصورة الرابعة : فالحق فيها الإجزاء لعدم كون المصلحة الفائتة بنحو تكون منشئا للأمر الإلزامي. نعم تكون منشأ للأمر الاستحبابي ، كما انه لا

ص: 24

إشكال في جواز البدار والاضطرار اختيارا لأن ما يفوت من المصلحة بسببهما غير لازم التحصيل ، فلا مانع من تفويته عقلا. هذا توضيح ما ذكره صاحب الكفاية في مرحلة الثبوت - وان كان قدس سره لم يتعرض للاضطرار اختيارا - ثم ذكر قدس سره مرحلة الإثبات وأفاد ان مقتضى إطلاق دليل الأمر بالتيمم هو الإجزاء (1).

وقد لا يتضح بدوا الارتباط بين ما ذكره في مقام الثبوت من التفصيل وبين ما انتهى إليه بحسب الدليل الإثباتي ، بحيث يرى ان ما ذكره في مقام الثبوت تطويل بلا طائل ، بعد ان كان إطلاق الدليل يقتضي الإجزاء ، فلا بد من بيان جهة الارتباط بنحو يخرج كلامه الثبوتي عن اللغوية والتطويل. ثم بيان تقريب دلالة الإطلاق على الاجزاء.

وقبل ذلك لا بد من التنبيه على شيء وهو ان البحث عن الاجزاء بالنسبة إلى الإعادة موضوعه ما إذا كان موضوع الأمر الاضطراري حصول الاضطرار في بعض الوقت لا جميعه بحيث يكون ارتفاع العذر في الأثناء غير مناف لوجود الأمر الاضطراري في حين العذر ، لأنه لو كان موضوع الأمر الاضطراري هو الاضطرار في تمام الوقت - كما عليه المحقق النائيني والأغلب - ، فلا مجال للبحث عن الإجزاء من حيث الإعادة ، لأن ارتفاع العذر في أثناء الوقت يكشف عن عدم وجود امر اضطراري واقعا وبالمرة كي يتكلم في اجزاء إتيان المأمور به بامره ، بل البحث عن الاجزاء على هذا البناء ينحصر في البحث عنه من حيث إسقاط القضاء لا غير ، وموضوع البحث فعلا هو الاجزاء من حيث الإعادة أو القضاء ، فالمفروض على هذا كون الاضطرار في بعض الوقت موضوعا واقعا للحكم الاضطراري لا الاضطرار في تمامه فلا تغفل.

ص: 25


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /85- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبعد هذا نقول : انه حيث أفاد في مرحلة الثبوت ان جميع الصور الثبوتية تقتضي الإجزاء ما عدا الصورة الثالثة وبين ان مقتضاها ثبوت الأمر التخييري بالفعل الاضطراري حال الاضطرار والاختياري بعد ارتفاعه أو خصوص الفعل الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار ، لما كان الحال كذلك كان مقتضى الإطلاق هو نفي كون الأمر الاضطراري على الصورة الثالثة ، فمقتضاه الإجزاء حينئذ ، إذ ما عدا هذه الصورة من الصور يقتضي الإجزاء. فجهة الارتباط بين مرحلة الثبوت ومرحلة الإثبات واضحة ، فان المقصود بدلالة الدليل على الإجزاء هو نفيه الصورة الثالثة.

واما وجه اقتضاء إطلاق الدليل نفي هذه الصورة الملازم لدلالته على الاجزاء ، فهو ان الصورة الثالثة - كما عرفت - تقتضي التخيير في الواجب بين الفعل الاضطراري عند الاضطرار والاختياري بعده وبين خصوص الفعل الاختياري بعد ارتفاع العذر ، فيكون الواجب الاضطراري في هذه الصورة مشتملا على خصوصيتين خصوصية التقييد بالفعل الآخر الاختياري التي هي مفاد « الواو ». وخصوصية التخيير بينه وبين الفعل الاختياري التي هي مفاد « أو ».

ولا يخفى ان كلتا هاتين الخصوصيّتين منافيتان لمفاد الإطلاق ، لأن كلا منهما جهة زائدة على أصل الوجوب في الواجب. فيكون مقتضى الإطلاق المنعقد لدليل الأمر الاضطراري نفي كلتا الخصوصيّتين وان الواجب هو خصوص الفعل الاضطراري لا هو وغيره ولا هو أو غيره الملازم لنفي الصورة الثالثة المستلزم للإجزاء ، فمقتضى الإطلاق في النتيجة هو الإجزاء.

وهذا البيان واضح في مثل قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً ) (1) مما اشتمل على الأمر.

ص: 26


1- سورة النساء الآية : 43. سورة المائدة الآية : 6.

واما في مثل : « التراب أحد الطهورين » (1) مما لا يشتمل على الأمر فلا يتأتى فيه هذا التقريب ، إذ لا يتكفل بيان الوجوب ولا الواجب كي يتمسك بإطلاقه في نفي تقييده والتخيير بينه وبين غيره.

وقد يقرب التمسك بإطلاقه في الدلالة على الإجزاء بان ظاهر الدليل تنزيل البدل الاضطراري - كالتراب - منزلة المبدل منه - كالماء - ، فيتمسك بإطلاق التنزيل في إثبات كونه بمنزلته في الوفاء بتمام الغرض ، فيكون مجزيا كما عرفت.

ولكنه لا يخلو من نظر ، فان دليل التنزيل ليس ناظرا إلى جميع جهات المنزل عليه في مقام التنزيل ، فليس المتكلم في مقام البيان من جهة الوفاء بالغرض وعدم وفائه ، بل النّظر إلى التنزيل في مقام التكليف والأمر وتعيين الواجب فهو أجنبي عن مقام الوفاء بالغرض.

ولكن يمكن تقريبه بنحو آخر وهو ان يقال : ان الدليل يتكفل تنزيل التيمم منزلة الوضوء في تعلق التكليف به وبيان ان الصلاة مع التيمم كالصلاة مع الوضوء في كونها متعلقة للوجوب.

وبما ان وجوب الصلاة مع الوضوء في ظرف الاختيار وجوب تعييني غير تخييري ، فيكون مقتضى دليل التنزيل هو تنزيل الصلاة مع التيمم منزلة الصلاة مع الوضوء في هذه الجهة وهي كون وجوبها تعيينيا لإطلاق دليل التنزيل من جهة الوجوب وتعلق الأمر في التنزيل من هذه الخصوصية الراجعة إلى الوجوب.

وبالجملة : دليل البدل الاضطراري سواء كان بلسان الأمر أو التنزيل يقتضي نفي التخيير بينه وبين غيره كما هو الحال في الصورة الثالثة. وعليه

ص: 27


1- عن أبي جعفر علیه السلام : « فان التيمم أحد الطهورين ». وسائل الشيعة 2 / 991 باب : 21 من أبواب التيمم حديث : 1.

فيكون مقتضى إطلاق الدليل الاجزاء.

فمرجع كلام صاحب الكفاية إلى ان التخيير ملازم لعدم الاجزاء فإذا نفي بالإطلاق كان مقتضاه الإجزاء كما لا يخفى.

وقد يورد على التمسك بالإطلاق في نفي التخيير والتقييد بما بيانه : ان التمسك بإطلاق الدليل في نفي القيد المشكوك انما يتم في مورد تمامية موضوعه وثبوته ، فالتمسك بإطلاق كل دليل انما يصح في ظرف ثبوت موضوعه لتفرع ثبوت أصل الحكم على ثبوت الموضوع ، فمع عدم ثبوت موضوعه يعلم بعدم ثبوت الحكم.

وعليه ، فموضوع الأمر الاضطراري هو العذر والاضطرار ، فلا يصح التمسك بإطلاق في نفي التخيير والتقييد في غير ظرف ثبوت موضوعه وهو ظرف ارتفاع الاضطرار ، بل التمسك بإطلاقه انما يصح بالنسبة إلى القيود المشكوكة في ظرف الموضوع.

ولكنه يندفع : بتصور الإطلاق والتقييد في ظرف غير موضوعه ، مثلا : إذا ورد حكم بوجوب التصدق على المسافر ، فانه يمكن تقييد هذا الحكم ثبوتا بما إذا لم يتصدق في حال الحضر ، فمع الشك في ذلك يمكن التمسك بإطلاق : « يجب التصدق على المسافر » - مثلا - في إثبات وجوب التصدق عليه مطلقا. سواء كان قد تصدق في الحضر ، أو لم يتصدق في حال الحضر وعدم السفر. وذلك لأن عدم الوجوب على المسافر لو كان قد تصدق في الحضر يرجع في الحقيقة واللب إلى تقييد الوجوب عليه بصورة عدم التصدق في حال الحضر.

ومن هذا القبيل ما نحن فيه فان نفي وجوب المأمور به الاضطراري عند الإتيان بالفعل الاختياري في حال الاختيار يرجع إلى تقييد دليل الأمر الاضطراري لبا بصورة عدم الإتيان بالفعل الاختياري في ظرف الاختيار ، فينفي مع الشك بإطلاق الدليل.

ص: 28

وبالجملة : فالإيراد بمنع التمسك بالإطلاق من حيث توقفه على فرض ثبوت موضوعه وعدم صحته في ظرف عدم موضوع الحكم غير تام.

فالأولى في مقام الإيراد ان يقال :

أولا : انه يختص بالإجزاء من حيث إسقاط الإعادة فقط ولا يقتضي الاجزاء من حيث القضاء ، كما هو بخصوصه موضوع البحث عند من يرى موضوعية الاضطرار تمام الوقت للحكم الاضطراري. فلا يشمل ما إذا تحقق الاضطرار تمام الوقت.

والوجه فيه هو انه مع استمرار العذر إلى آخر الوقت لا تكون خصوصية التعيينية ملازمة للقول بالإجزاء كي يكون مقتضى الإطلاق الإجزاء - بلحاظ انه ينفي التخيير - ، بل القائل بعدم الاجزاء يرى تعين الفعل الاضطراري في الوقت وعدم جواز تركه والإتيان بالفعل الاختياري خارج الوقت. فتعين الفعل الاضطراري في الوقت وعدم الترخيص في تركه والإتيان بالفعل الاختياري خارج الوقت امر يشترك فيه القائل بالاجزاء وعدمه ، فليس نفي التخيير ملازما للاجزاء.

ودعوى : ان الصورة الثبوتية الثالثة تقتضي اشتمال الواجب الاضطراري على خصوصيتين إحداهما تقيده بالفعل الاختياري بعد العذر. والأخرى التخيير بينه وبين الفعل الاختياري بعد العذر. والأمر الثابت - مع استمرار العذر إلى آخر الوقت - هو انتفاء خصوصية التخيير التي هي بمفاد « أو » سواء على القول بالاجزاء أو القول بعدمه.

واما تقيده بالفعل الاختياري بعد ارتفاع العذر الّذي هو الخصوصية بمفاد « الواو » فهذا لازم القول بعدم الاجزاء فقط ، إذ القائل بالاجزاء لا يرى لزوم الإتيان بالفعل الاختياري خارج الوقت بعد ارتفاع العذر. وقد تقدم ان الإطلاق ينفي كلتا الخصوصيّتين فهو ينفي خصوصية التقيد بالفعل الاختياري

ص: 29

بعد العذر خارج الوقت الملازم لنفي القول بعدم الاجزاء والقول بالاجزاء.

وان لم يكن انتفاء خصوصية التخيير ملازمة لعدم الاجزاء في الفرض كما عرفت.

مندفعة : بان لزوم الإتيان بالفعل الاختياري بعد العذر خارج الوقت أو في أثنائه ، لا يرجع إلى تقييد الحكم الاضطراري ولا متعلقه ، بل هو حكم آخر استقلالي ناشئ عن المصلحة الفائتة اللزومية ، فلا يصح التمسك بإطلاق الدليل لنفيه ، لأن التمسك بإطلاق الدليل انما يصح في مورد يرجع القيد المشكوك إلى الواجب أو الوجوب ، وهذا القيد كما عرفت لا يرجع إلى الوجوب ولا الواجب. إذ كل منهما امر مستقل بذاته واف بمقدار من المصلحة اللزومية ، وليس وجوب أحدهما ولا الواجب فيه معلقا على امتثال الآخر. فهذا نظير التمسك بإطلاق دليل وجوب الصلاة الخاصة في نفي الأمر بالفرد الخاصّ من الصوم.

وبالجملة : ما قرره من التمسك بالإطلاق في نفي وجوب الفعل الاختياري مع الاضطراري لا نسلمه لعدم تماميته ، وانما الصحيح تمسكه بالإطلاق في نفي التخيير بينه وبين الفعل الاختياري ، وقد عرفت عدم إجدائه في مورد استمرار الاضطرار إلى آخر الوقت لعدم اختصاص القول بالاجزاء في نفي التخيير ، إذ يتعين الفعل في الوقت على كلا القولين.

وثانيا : ان ما ذكره لا يجدي في إثبات الإجزاء بالنسبة إلى الإعادة ، وذلك لأن القول بالتخيير بين الفعل الاضطراري حال الاضطرار والفعل الاختياري بعد ارتفاع الاضطرار في الوقت ليس لازما للقول بعدم الإجزاء فحسب ، بل القائل بالاجزاء يلتزم بالتخيير أيضا ، إذ من الظاهر انه لا يقول أحد بلزوم الفعل الاضطراري معينا ولو مع ارتفاع العذر في أثناء الوقت وإمكان الفعل الاختياري.

ص: 30

بل الفعل الاضطراري يجوز تركه والإتيان بالفعل الاختياري بعد العذر عند الكل فالتخيير لازم أعم للقول بالاجزاء والقول بعدمه.

وعليه ، فالتمسك بالإطلاق في نفي التخيير لإثبات الاجزاء لا وجه له بعد ان كان التخيير مما يلتزم به القائل بالاجزاء.

واما خصوصية تقيد الفعل الاضطراري الواجب بالإتيان بالفعل الاختياري بعد العذر وهي الخصوصية الثانية في الصورة الثالثة الثبوتية ، فقد عرفت عدم صلاحية الإطلاق لنفيها ، لعدم رجوع الخصوصية إلى الواجب ولا إلى الوجوب ، وعرفت ان ما هو المسلم في نفسه هو التمسك بالإطلاق في نفى خصوصية التخيير.

وهذا غير ثابت فيما نحن فيه لاشتراك القولين في الالتزام بالتخيير.

وخلاصة القول : ان ما أفاده المحقق صاحب الكفاية بعد توجيهه ، بما عرفت امر لا يجدي في إثبات إجزاء الأوامر الاضطرارية لا عن الإعادة لأن التخيير لازم أعم للقولين. ولا عن القضاء - في موضوعه وهو استمرار العذر إلى نهاية الوقت - ، لأن التعيين لازم أعم للقولين. فلاحظ.

الوجه الثاني : مما قيل في إجزاء الأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي وعدمه : ان هذه المسألة من صغريات مسألة التمسك بإطلاق العام بعد انتهاء زمان التخصيص التي تحرر في باب الاستصحاب من الأصول وموضوعها ما إذا ورد عام ثم ورد تخصيصه بفرد في ظرف معين وشك في استمرار حكم المخصص بعد ذلك الظرف المعين أو ثبوت حكم العام. فيقع الكلام في إمكان استصحاب حكم الخاصّ أو التمسك بإطلاق دليل العام في إثبات حكم العام للفرد؟ فان الحال فيما نحن فيه كذلك. وذلك لورود دليل مطلق يتكفل بيان وجوب الفعل بالطهارة المائية على جميع الافراد ، ثم خرج منه الفرد المضطر غير المتمكن في حال اضطراره وعذره ، فإذا زال اضطراره يشك في ثبوت حكم العام له وشمول

ص: 31

دليل العام له.

فما يقال هناك من إمكان التمسك بإطلاق دليل العام وعدمه يقال هنا لأنه من صغريات تلك المسألة.

نعم ، احتمال استصحاب حكم المخصص منتف هنا للعلم بعدم وجوب الفعل الاضطراري بعد ارتفاع الاضطرار.

وبالجملة : هذه المسألة من صغريات تلك المسألة فلا حاجة لإتعاب النّفس في الإجزاء وعدمه.

والتحقيق : ان هذا الوجه باطل وان مسألة الإجزاء لا ترتبط بتلك المسألة وليست من صغرياتها ، إذ يرد على هذا الوجه أمور :

الأول : انه لو سلم يتناول حل مشكلة الإجزاء وعدمه من حيث الإعادة فقط ، ولا يشمل الإجزاء من حيث القضاء الّذي هو بخصوصه موضوع بحث الكثيرين بلحاظ اختيارهم كون الموضوع للأمر الاضطراري هو الاضطرار في تمام الوقت ، فلا يتصور الاجزاء إلا بلحاظ القضاء كما أشرنا إليه.

وذلك لأن التخصيص بالفرد المعذور انما كان لإطلاق دليل الفعل في الوقت.

اما دليل القضاء فلم يخصص لأنه مستقل وليس البحث في شموله لمن أتى بالمأمور به الاضطراري من صغريات البحث في التمسك بدليل العام بعد زمان التخصيص.

وبالجملة : حيث وقع البحث من الكثيرين في الاجزاء من حيث القضاء فقط لم يتجه بناء المسألة على مسألة التمسك بإطلاق العام بعد انتهاء زمان التخصيص ، لعدم شموله للإجزاء من حيث القضاء ، فلا بد من ان يكون نظر الباحثين جهة عامة لفروع المسألة.

الثاني : انه عليه لا بد ان يختص النزاع في مسألة الاجزاء بما إذا كان

ص: 32

الاضطرار في أثناء الوقت لا من أوله. وذلك لما تقرر في تلك المسألة من ان خروج الفرد بالتخصيص إذا كان من أول أزمنة الحكم كان التمسك بإطلاق العام بعد انتهاء زمان التخصيص مما لا إشكال فيه ولا خلاف ولذا يلتزم بجواز التمسك بإطلاق ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) (1) في نفي الشك بعد انتهاء زمان خيار المجلس لأن دليله اقتضى التخصيص من أول أزمنة الحكم. نعم إذا كان التخصيص بعد شمول حكم العام للفرد المخصص بعض الوقت كان التمسك بإطلاق العام بعد زمان التخصيص محل كلام.

وعليه ، فإذا كان الاضطرار من أول زمان الحكم ، وفي أول الوقت بحيث خرج الفرد عن الحكم من أول زمان الأمر بان كان فاقدا للماء من حين الزوال كان التمسك بإطلاق دليل العام بعد ارتفاع العذر من المسلمات فلا كلام فيه فيختص الكلام بما إذا كان الاضطرار في الأثناء ، مع ان الحال في الإجزاء وعدمه لا يفرق فيه - في كلمات القوم - بين كون الاضطرار من الأول أو في الأثناء.

الثالث : - وهو عمدة الإشكال على الوجه المزبور - ان شمول إطلاق دليل العام بعد ارتفاع العذر - فيما نحن فيه - امر مسلم لا ينكره أحد وشاهدنا على ذلك ، انه لو لم يأت بالفعل الاضطراري يجب عليه الفعل الاختياري بعد ارتفاع العذر بمقتضى الإطلاق ، فلو كان مجرد التخصيص بالفرد المضطر في بعض الوقت مانعا عن شمول الإطلاق له فيما بعد الاضطرار لم يفترق فيه صورة الإتيان بالفعل الاضطراري وعدمه ، ومقتضاه عدم وجوب الفعل الاختياري لو عصى الأمر الاضطراري ، مع انه لا قائل به. فهذا مما يكشف عن ان شمول الإطلاق لما بعد ارتفاع العذر امر مسلم لا كلام فيه وانما الكلام في جهة أخرى وهي ان دليل الأمر الاضطراري هل يقتضي الصدّ من شمول

ص: 33


1- - سورة المائدة الآية : 1.

الإطلاق لو أتى بالمأمور به الاضطراري.

فالبحث ليس في أن التخصيص هل يقتضي نفي شمول الإطلاق لما بعد زمان التخصيص أو لا يقتضي؟ ، فان شموله في نفسه ثابت ولا يمنع عنه التخصيص ، وإلاّ لم يجب الفعل الاختياري ولو لم يأت بالفعل الاضطراري عصيانا ، لعدم الدليل عليه. وانما البحث في ان الإتيان بالمأمور به الاضطراري بمقتضى دليله هل يمنع من شمول الإطلاق أو لا يمنع؟.

فالكلام في مانعية الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن الإطلاق - بمقتضى دليل الأمر الاضطراري - لا في مانعية نفس تخصيص الأمر الواقعي لشمول الإطلاق.

فلا تبتني هذه المسألة على تلك وليست من صغرياتها ، لأن جهة البحث في تلك المسألة مفروغ عنها هنا ولا كلام فيها ، للجزم بأحد طرفيها والبحث في جهة أخرى. فلاحظ.

الوجه الثالث : ما قرره المحقق النائيني - كما في أجود التقريرات (1) - في بيان الاجزاء من حيث الإعادة ومحصله : انه اما ان يكون موضوع الأمر الاضطراري هو الاضطرار تمام الوقت ، فإذا انتفى الاضطرار في الأثناء كشف عن عدم ثبوت الأمر الاضطراري بالمرة ، فإذا كان إحراز الاضطرار تمام الوقت - المتوقف عليه الإتيان بالعمل في أول الوقت - بالاستصحاب الاستقبالي ، ابتني الكلام في الإجزاء هنا على إجزاء الأمر الظاهري ، إذ يتحقق بالاستصحاب أمر ظاهري ثم يظهر كون الواقع خلافه. وان كان موضوع الأمر الاضطراري هو الاضطرار بعض الوقت ، كان الإتيان بالمأمور به الاضطراري مجزيا لو ارتفع العذر في الأثناء للإجماع على عدم وجوب صلاتين في وقت واحد. والمفروض انه

ص: 34


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 196 - الطبعة الأولى.

جاء بصلاة واجبة ، فلا تجب الأخرى جزما.

وهذا الوجه واضح المنع فانه يختص بباب الصلاة ، إذ موضوع الإجماع هو عدم تعدد الواجب الصلاتي في وقت واحد ، فهو غاية ما يثبت الاجزاء في باب الصلاة ، ولا يخفى ان الأوامر الاضطرارية لا تختص بباب الصلاة بل تتعدى إلى غيرها من الواجبات ولم يثبت قيام الإجماع على عدم تعدد الواجب مطلقا في الوقت الواحد.

وبالجملة : هذا الوجه أخص من المدعى.

والعجيب من السيد الخوئي « دام ظله » انه بعد أن قرر الإشكال على المحقق النائيني في تعليقته على التقريرات وذكر انه لا دليل على الاجزاء في غير باب الصلاة قال : « فان كان لدليل الأمر بالفعل الاضطراري إطلاق يقتضي جواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ولو كان الاضطرار مرتفعا بعده فهو المرجع ، وإلاّ فأصالة البراءة تقتضي عدم وجوب الإعادة ، فمقتضى القاعدة هو الإجزاء في موارد الأمر الاضطراري مطلقا » (1).

ووجه الغرابة فيه هو : رجوعه إلى أصالة البراءة لنفي وجوب الإعادة ، مع ان شمول إطلاق دليل الواجب الاختياري في نفسه لما بعد ارتفاع العذر امر مسلم مفروغ عنه. والكلام فيما يمنع عنه ، والشاهد على شموله ما عرفت من انه لو لم يأت بالفعل الاضطراري في حال الاضطرار لا يستشكل أحد في وجوب الفعل الاختياري عليه بعد ارتفاع الاضطرار بدليل الواجب ، فالتمسك بأصالة البراءة في قبال إطلاق الدليل لا يعرف وجهه.

مضافا إلى ان ما ذكره من الرجوع إلى إطلاق دليل الأمر الاضطراري إذا اقتضى جواز الاكتفاء به في مقام الامتثال ولو ارتفع الاضطرار في الأثناء ،

ص: 35


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 196 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.

وكونه هو المحكم المرجع ، وان كان تاما في نفسه ، إلا ان الّذي ينبغي ذكره بيان تقريب اقتضاء إطلاق دليل الأمر الاضطراري للإجزاء وجهة دلالته عليه ، فانه هو الّذي ينبغي ان يحرر ، لا بيان الرجوع إلى الإطلاق لو اقتضى الإجزاء ، فلاحظ.

وقد قرب الإجزاء في بحثه - كما في مصابيح الأصول (1) - بنحو آخر يختلف عما جاء في التعليقة. وبيانه : ان الأمر الاضطراري ملازم للاجزاء وذلك لأن الصور الثبوتية للأمر الاضطراري كما جاء في الكفاية أربعة ، ثلاثة منها تلازم الاجزاء وواحدة وهي الصورة الثالثة - حسب ترتيب الكفاية - تقتضي عدم الإجزاء كما عرفت بيانه.

والأمر الاضطراري في هذه الصورة - أعني الثالثة - غير معقول ، وذلك لرجوع الأمر فيه إلى التخيير بين الأقل والأكثر ، فان الفعل الاختياري مأمور به ، اما وحده أو مع الفعل الاضطراري وهو - أي التخيير بين الأقل والأكثر - محال كما يحقق في محله إن شاء اللّه تعالى. وإذا ثبت انه في الصورة الثالثة ليس هناك امر اضطراري وانه إذا وجد فهو لا ينفك عن ان يكون بأحد الأنحاء الثلاثة الأخرى ، وقد عرفت انه ملازم للإجزاء فيها جميعها فيمكن على هذا دعوى ملازمة الأمر الاضطراري للإجزاء بلا احتياج إلى تقريب إطلاق أو قيام ضرورة وإجماع.

وفيه : ان التخيير بين الأقل والأكثر بعنوانه غير معقول كما ذكر ، لكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى إرجاع ما ظاهره التخيير بين الأقل والأكثر إلى التخيير بين المتباينين بدعوى ان طرف التخيير هو الأقل بحده وبشرط لا وهو مباين للأقل بشرط شيء الّذي يتحقق بالأكثر.

ص: 36


1- بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول1/ 263 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : قد تقرر في محله تصوير التخيير بين الأقل والأكثر بنحو معقول وهو إرجاعه إلى التخيير بين المتباينين ، فيرتفع المحذور الّذي يذكر في التخيير بين الأقل والأكثر كما يجاب في محله عن الإيراد بعدم الأثر في التخيير. فانتظر.

وخلاصة الإيراد عليه : ان التخيير بين الأقل والأكثر بإرجاعه إلى التخيير بين المتباينين كما سيجيء لا محذور فيه ، فيمكن إرجاع ما نحن فيه إلى ذلك النحو من التخيير. فالتفت.

الوجه الرابع لتقريب الإجزاء - وهو يختص بالأوامر الضمنية كما سيتضح - : ان دليل الفعل الاضطراري ..

تارة : يكون متكفلا لبيان محققية الفعل لما هو الشرط أو الجزء في المأمور به الواقعي. غاية الأمر أنه يقيد بصورة الاضطرار والعذر. مثلا إذا أخذ في المأمور به الواقعي شرط خاص كالطهارة بالنسبة إلى الصلاة ثم بيّن بدليل آخر أن الفعل الكذائي محقق لهذا الشرط وسبب له ، كالدليل الدال على سببية الوضوء للطهارة ، فمقتضى إطلاق هذا الدليل سببية الوضوء للطهارة في مطلق حالات وآنات المكلف.

فإذا جاء دليل يبيّن فيه بان التيمم كالوضوء في محققيته للطهارة ووجودها به كقوله علیه السلام : « التراب أحد الطهورين » ولكنه في ظرف خاص وهو ظرف الاضطرار ، لم يكن منافيا لدليل سببية الوضوء ، بل كان الإتيان به في ظرفه إتيانا للفعل واجدا لشرطه الواقعي ، نظير ما لو دل دليل على سببية غسل الجمعة للطهارة في يوم معين وهو يوم الجمعة ، فانه لا تنافي بين دليل الغسل والوضوء.

فإذا كان دليل الفعل الاضطراري يتكفل بيان محققية الفعل للشرط الواقعي للمأمور به كدليل : « التراب أحد الطهورين » بالنسبة إلى دليل شرطية

ص: 37

الطهارة وهو : « لا صلاة إلاّ بطهور » (1) ، غاية الأمر انه يقيد بصورة العذر وحاله ، فإذا جاء بالتيمم في حال العذر فقد تحقق منه الشرط للمأمور به الواقعي وهو الطهارة ، فيكون قد جاء بالصلاة المأمور بها واقعا ، وهي الصلاة مع الطهارة ، فلا كلام في الإجزاء لأنه في الحقيقة يكون من الإتيان بالمأمور به الواقعي ولا إشكال في إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمره.

وبالجملة : ليس لدينا في هذا الفرض مأمور به بالأمر الاضطراري ، بل ليس إلا الأمر الواقعي. غاية الأمر دليل الاضطرار يتكفل التوسعة فيما هو المحقق للشرط فيضيف إلى الوضوء - مثلا - التيمم في سببيته للطهارة. ومن هنا يقال انه لو توضأ في مواضع جواز التيمم للعذر صح الوضوء لإطلاق دليله الشامل لصورة العذر ، وعدم منافاة دليل التيمم له ، إذ هو يتكفل سببية التيمم ولا ينفي سببية الوضوء.

وعليه ، فالمأتي به مع التيمم يكون هو المأمور به الواقعي لأنه صلاة مع الطهارة ، فلا إشكال في إجزائه ، فيخرج الفرض نتيجة عن محل الكلام في الإجزاء وعدمه ، إذ لا تعدد للأمر في المقام.

وأخرى : يكون دليل الاضطرار متكفلا للأمر بالفعل الاضطراري مع العذر - لا بيان اشتراك الفعل الاضطراري مع الفعل الاختياري في الأثر المعتبر في المأمور به - كالأمر بالجلوس في الصلاة مع العجز عن القيام ، وكالأمر بالتيمم مع العذر لو قيل بان الشرط هو الوضوء لا الطهارة الحاصلة بأحدهما ونحو ذلك. فلا إشكال في إجزاء الفعل الاضطراري عن الأمر الواقعي أيضا.

بيان ذلك : ان دليل الشرطية لا يتكفل تكليفا وإلزاما بالفعل - حتى يختص بصورة التمكن - ، بل انما يتكفل بيان دخالة هذا الفعل في حصول

ص: 38


1- وسائل الشيعة 1 / 256 ، باب : 1 من أبواب الوضوء ، حديث : 1 و 6.

المركب وتوقفه على وجود الشرط ، بمعنى انه مع عدم الإتيان به لا يتحقق المركب المأمور به ، فحقيقة الأمر بالشرط الإرشاد إلى اعتبار هذا الفعل في تحقق المأمور به ، ومعه لا يختص الاشتراط بصورة التمكن ، بل مقتضى إطلاق الدليل هو كونه شرطا في حال التمكن وعدمه ، إذ عدم التمكن من الشرط لا ينافى شرطيته ودخالته في تحقق المركب ، نظير الشروط في الأمور التكوينية ، فان دخالتها في تحقق المركب وتوقف وجوده عليها لا يختص بحال دون حال. فان توقف « الإسكنجبين » على السكّر لا يرتفع في حال عدم التمكن من السكّر أو توقفه على الطبخ الخاصّ للأجزاء المعينة.

وبالجملة : مقتضى دليل الشرطية هو كونه شرطا مطلقا تمكن أو لم يتمكن ، إذا جاء دليل يتكفل بيان شرطية شيء في حال عدم التمكن ..

فتارة : يكون لسانه لسان جعل شرط مستقل غير الشروط المعتبرة ، بمعنى انه لا يتعرض بمفاده إلى الشروط الأخرى ، بل يتكفل جعل شرط آخر في هذا الحال ، فهو خارج عما نحن فيه. إذ الشرط الاختياري بعد على اعتباره في حال العذر. وانما أضيف إليه شرط آخر ، فلا يكون من باب الأمر الاضطراري ، بل لا بد من الإتيان بكلا الشرطين مع التمكن عقلا - ولا ملازمة بين التمكن وانتفاء الشرط الاضطراري ، إذ يمكن ان يكون موضوعه الاضطرار الشرعي كالحرج لا العقلي.

وأخرى : لا يكون مفاده ذلك ، بل يكون ناظرا إلى الشرط المعتبر غير المتمكن منه فعلا ، فيتكفل بيان ان الشرط في هذا الحال هو هذا الفعل ، كالجلوس ، فينفي شرطية القيام. فيكون دليل شرطية الجلوس حاكما على دليل شرطية القيام وموجبا لتقييد شرطيته في حال التمكن ، ومتكفلا لجعل شرطية الجلوس في حال العذر ، مع بقاء الأمر الأول بالمركب على حاله وانما تبدل الشرط.

ص: 39

وعليه ، فيكون الشرط الواقعي للمأمور به بالأمر الصلاتي الواقعي هو الجلوس - مثلا - في حال العذر ، فيكون الإتيان بالصلاة من جلوس إتيانا بالمأمور به الواقعي ، وهو ملازم للإجزاء ، لإجزاء إتيان المأمور به بالنسبة إلى أمره.

بتعبير آخر نقول : ان دليل شرطية الجلوس لا يتعرض إلى الأمر بأصل الصلاة مع القيام ، بل يتعرض إلى دليل شرطية القيام المتكفل لإطلاق شرطيته ، فيتكفل بمقتضى الحكومة تقييد دليله بحال التمكن ، ويكون الشرط للصلاة في حال الاضطرار هو الجلوس ، فالساقط في حال الاضطرار هو شرطية القيام لا الأمر بالصلاة ، بل هو باق كما كان. لكن قيّد المأمور به بشرط آخر وهو الجلوس ، فالإتيان بالصلاة من جلوس إتيان بالمأمور به الواقعي ، وهو يقتضي الإجزاء وسقوط الأمر بالصلاة ، للإتيان بما هو المأمور به بشرطه.

وخلاصة القول : ان إجزاء الفعل الاضطراري عن الأمر الواقعي واستلزامه لسقوط في مورد تكفل دليل الاضطرار بيان سببية ومحققية الفعل لما هو الشرط في المأمور به ، ومورد تكفله بيان شرطية الفعل في حال عدم التمكن ونفي شرطية غيره في هذه الحال أمر واضح جدا لا يحتاج إلى تكلف بيان ومزيد برهان ، كما جاء في التقريبات الأخرى للاجزاء. ولعله لأجل وضوحه وكونه على طبق القاعدة كان الإجزاء في فتاوى الأعلام أمرا مفروغا عنه ولا يتردد فيه أحد ، بل ان الفقيه الهمداني رحمه اللّه التزم بطرح رواية موثقة مفادها لزوم القضاء في مورد الإتيان بالفعل الاضطراري ، لجهات منها مخالفتها للقاعدة العقلية المسلمة وهي الإجزاء ، ومنافاتها لها.

ولكن الّذي ينبغي التنبيه عليه - كما أشرنا إليه - هو ان هذا التقريب الّذي ذكرناه يتكفل بيان الإجزاء في الأوامر الضمنية الاضطرارية كالأوامر المتعلقة بالشروط والأجزاء.

ص: 40

واما بالنسبة إلى الأمر الاضطراري بمركب آخر غير المركب المأمور به في حال الاختيار ، فلا يتكفل هذا التقريب بيان إجزاء الإتيان بالمأمور به عنه ، فلو فرض وجود مثل ذلك في الشرع لم يصح تطبيق هذا التقريب عليه ، واستنتاج إجزاء المأتي به الاضطراري عن الأمر الواقعي.

فان أساس ثبوت الإجزاء - على التقريب الّذي ذكرناه - هو إرجاع الفعل الاضطراري إلى كونه فردا للمأمور به الواقعي في عرض الفرد الاختياري ، فيكون مسقطا للأمر بلا كلام ، لإجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمره. وهذا المعنى لا يتأتى فيما إذا تعدد الأمر كما لا يخفى. هذا كله بالنسبة إلى الإجزاء من حيث الإعادة.

واما الإجزاء من حيث القضاء الّذي عرفت ان محل الكلام فيه ما إذا أخذ الاضطرار تمام الوقت موضوعا للأمر الاضطراري ، إذ لا يتصور في المقام الإجزاء من حيث الإعادة ، لأن ارتفاع العذر في الأثناء يكشف عن عدم ثبوت الأمر الاضطراري.

ثم لا يخفى ان الكلام في الإجزاء من حيث القضاء إنما يقع في ما إذا كان مقتضى القاعدة الأولية ثبوت القضاء ، لقيام الدليل عليه. فيتكلم في أن الفعل الاضطراري يكفي عن القضاء أو لا يكفى ، إذ لو لم يثبت القضاء بدليل في نفسه لا معنى للبحث في إجزاء الفعل الاضطراري عنه وكفايته ، لعدم ثبوته. والبحث في الاجزاء والكفاية يقتضي ثبوت كلا الطرفين المجزي والمجزى عنه والكافي والمكفي.

وطريق معرفة ثبوت القضاء بقول مطلق في جميع الواجبات عند عدم الإتيان بما هو المأمور به الواقعي في الوقت. أحد وجوه :

الأول : ان يكون هناك إطلاق يقتضي وجوب الفعل مطلقا في الوقت وخارجه إلى آخر العمر ، ثم يأتي دليل منفصل يدل على التوقيت بوقت معين ،

ص: 41

ولكن يستكشف من مجموع الدليلين أو من دليل التوقيت ان التوقيت لا يرجع إلى أصل المطلوب بل إلى تمامه. وبعبارة أوضح : يفهم من قرينة داخلية أو خارجية ان التوقيت مأخوذ بنحو تعدد المطلوب لا وحدته ، أو يرجع إلى دخالة الوقت في ملاك أقوى ملزم ، فإذا فات الفعل في الوقت كان مقتضى الإطلاق ثبوت وجوب الفعل خارجه ، إذ لم يقيد أصل الواجب بالوقت. وانما كان هناك مطلوب آخر لم يؤت به ، وهو الإتيان بالواجب وإيقاعه في الوقت ، أو يكون مقتضى عموم الملاك ثبوت الحكم خارج الوقت لفوات بعضه بخروج الوقت ، والمفروض كون الباقي ملزما بالفعل.

وعلى هذا الأساس يقال بتبعية القضاء للأداء وان دليل الأداء نفسه يتكفل إيجاب القضاء.

الثاني : ان لا يلتزم بإطلاق دليل الفعل الواجب وشموله إلى ما بعد الوقت ، بل ما يدل عليه هو وجوب الفعل في الوقت لا أكثر ، لكن يرد دليل خارجي يدل على ان التوقيت المأخوذ في الدليل انما هو على نحو تعدد المطلوب لا وحدته ، وان في المقام مطلوبين أحدهما الفعل. والآخر إيقاعه في الوقت ، فإذا فات الثاني بخروج الوقت بقي الأول أعني طلب الفعل على حاله.

الثالث : ان لا يكون مقتضى الإطلاق تعدد المطلوب ، ولا ذلك مقتضى دليل خارجي ، بل يكون الوقت والواجب بنحو وحدة المطلوب ، ولكن يثبت دليل خارجي على لزوم الإتيان بالفعل مع عدم الإتيان بالواجب الواقعي في الوقت ، فيثبت لزوم القضاء.

والحاصل : أنه بأحد هذه الوجوه الثلاثة يمكن إثبات لزوم القضاء بقول مطلق في جميع الواجبات ، فيتكلم في هذا الفرض في كفاية الفعل الاضطراري عنه ، واستلزامه لسقوطه وعدم كفايته.

ومع هذا لا وجه للتمسك في نفي وجوب القضاء بإجراء أصالة البراءة

ص: 42

باعتبار الشك فيه ، وهو شك في التكليف الّذي تجري فيه أصالة البراءة ، لأن فرض الكلام وجود دليل يدل على لزوم القضاء وهو شامل في نفسه لما نحن فيه. والكلام في إجزاء الفعل الاضطراري عنه ، اما مع الشك فيه فليس هو محل الكلام ، إذ لا معنى للبحث في إجزاء الفعل الاضطراري عنه وعدم إجزائه - كما لا يخفى -.

ثم ان الوجه في إجزاء الفعل الاضطراري عن القضاء بناء على ما قربناه من الإجزاء عن الإعادة واضح ، إذ موضوع لزوم القضاء هو عدم الإتيان بالواجب الواقعي في الوقت. وقد عرفت بمقتضى التقريب المزبور - ان الفعل الاضطراري يكون فردا للمأمور به الواقعي ، لأن دليله اما ان يتكفل بيان محققية الفعل في حال الاضطرار لما هو الشرط الواقعي ، أو يتكفل بيان شرطية الفعل للمأمور به الواقعي في حال العذر ، بحيث ينفي بالملازمة شرطية الفعل الاختياري ، ويستلزم تقييد إطلاقه بحال الاختيار وعدم العذر. وعلى كلا التقديرين يكون إتيان الفعل الاضطراري إتيانا لما هو المأمور به واقعا ، ومعه يسقط الأمر بالفعل ، فلا يبقى ثابتا إلى ما بعد خروج الوقت ، بل الحال فيه هاهنا عين الحال في الإعادة ، كما انه لا يتحقق موضوع القضاء ليشمله دليل القضاء المنفصل ، لعدم ترك الواجب الواقعي في وقته.

وبالجملة : نفس التقريب السابق في نفي الإعادة يتأتى في نفى القضاء بلا زيادة ولا نقصان ، فالتفت.

وقد قرب نفي القضاء في الكفاية بما تقدم بيانه ، من التمسك بإطلاق دليل الفعل الاضطراري في نفي التخيير الملازم للإجزاء عن الإعادة - بالبيان المتقدم - ، فيستلزم الإجزاء عن القضاء ، إذ مع سقوط الأمر بالإعادة في ظرف الإعادة يسقط الأمر بالقضاء جزما ، لتفرعه على الأمر بالفعل في الوقت. فبيانه قدس سره وان اختص بنفي الإعادة لكنه يلازم نفي القضاء.

ص: 43

ولكن عرفت الإشكال عليه بان هذا لا يشمل الإجزاء عن القضاء فيما لو كان موضوع الأمر الاضطراري هو الاضطرار تمام الوقت ، لأن تعيين الفعل في الوقت الثابت بالإطلاق ليس لازما للقول بالاجزاء. بل القائل بعدم الاجزاء يقول بتعيين الفعل الاضطراري في الوقت وعدم جواز تركه ، فالتمسك بالإطلاق في نفي التخيير وإثبات التعيين لا يلازم الإجزاء ، بل هو لازم أعم للإجزاء وعدمه ، فلا يتكفل تقريبه إثبات الإجزاء عن القضاء.

وجاء في تقريرات المحقق النائيني رحمه اللّه تقرير الإجزاء عن القضاء بما محصله : ان القيد المتعذر في تمام الوقت اما ان يكون دخيلا في ملاك الواجب مطلقا ، حتى في حال التعذر ، كالطهور. فلا يمكن الأمر بفاقده في الوقت لعدم كون الفاقد ذا مصلحة ، واما ان لا يكون دخيلا في ملاك الواجب حين تعذره ، كالطهارة المائية ، فلا تكون الفريضة فائتة بملاكها لحصوله بالفعل مع التيمم ، فلا يجب القضاء لأن القضاء تابع لفوت الفريضة في الوقت بملاكها. فالأمر بالفاقد في الوقت يكشف عن تحقق الملاك به - وإلاّ لما أمر به - ومعه لا معنى لإيجاب القضاء (1).

وقد أورد عليه : بان هذا انما يتم في ما لو فرض وحدة المصلحة والملاك في الأمر الاضطراري والواقعي وهو غير مفروض ، إذ يمكن ان يكون الأمر الاضطراري بملاك آخر ومصلحة أخرى - مع فوات مصلحة الواجب الواقعي في حال التعذر - ، فيتكلم في ان هذه المصلحة هل يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع أو لا؟.

وعليه ، فالأمر الاضطراري لا يكشف عن وفاء الفعل بمصلحة الواقع ، لإمكان ان يكون ناشئا عن مصلحة أخرى في الفعل ، دون ان يكون فيه مصلحة

ص: 44


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 195 - الطبعة الأولى.

الواقع لدخالة القيد المتعذر في تحققها.

والّذي يظهر بعد كل هذا ان الوجه التام والقريب إلى الأذهان في إثبات الإجزاء من حيث الإعادة والقضاء هو ما ذكرناه. فتدبر.

الموقع الثاني : في اجزاء الأمر الظاهري عن الأمر الواقعي ، كما لو قام أصل أو أمارة على عدم وجوب السورة في الصلاة ، فصلى بدون سورة ، ثم انكشف ان السورة واجبة ، فهل تكون الصلاة بدون سورة مجزية عن الواقع أو لا؟.

وقبل الخوض في محل الكلام لا بد من التنبيه على ما هو موضوع البحث ، فنقول : موضوع البحث ما إذا استند في عمله إلى حجة شرعية في الواقع ، بحيث لا تنسلب حجتها في ظرفها مع انكشاف كون الواقع على خلافها.

وبتعبير آخر : ما إذا كان للحكم الظاهري ثبوت واقعي انقطع بانكشاف الواقع وانتهى أمده بمعرفة الواقع ، فلا يشمل ما إذا كان له وجود تخيلي يتضح انتفاؤه من أول الأمر بانكشاف الواقع ، كما إذا استند إلى ما تخيل انه حجة شرعية ، كخبر فاسق تخيل انه خبر عادل فانه وان كان في حين العمل معذورا لجهله المركب ، ولكن لم يثبت في حقه حكم ظاهري واقعا بل تخيلا ، إذ لم تقم الحجة الواقعية في حقه ، بل ما تخيل انه حجة ، وهو لا يستلزم ثبوت الحكم الظاهري.

والسرّ في عدم دخول مثل هذا الحكم الظاهري في موضوع البحث ، ما يشير إليه صاحب الكفاية في ذيل مبحث الاجزاء (1) من عدم اجزاء الحكم المقطوع به عن الواقع ، وذلك لأن جميع ما يقال في تقريب الاجزاء في الأوامر الظاهرية بنحو التعميم أو التفصيل لا يتأتى في مثل هذا ، إذ لا وجود للحكم

ص: 45


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /88- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الظاهري كي يبحث عن اجزاء العمل على طبقه عن الواقع. فهو خارج عن موضوع البحث في الاجزاء وعدمه. فموضوع البحث ما إذا كان للحكم الظاهري ثبوت واقعي في زمان محدود يتحدد بانكشاف الخلاف ، بحيث يكون انكشاف الخلاف رافعا للحكم الظاهري من حينه لا من أول الأمر ، فهو لا يكشف عن عدم ثبوت الحكم الظاهري وانما يقتضي ارتفاعه. كما إذا استند في عمله إلى قول المجتهد المفروض انه حجة في حقه ، ثم بعد حين انكشف له باجتهاده ان الواقع على خلاف رأي المجتهد الّذي كان يقلده ، فان انكشاف الخلاف لا يسلب حجية القول المجتهد في ظرفها ولا يكشف عن عدم حجيته ، فلا يقتضي الا رفع الحكم الظاهري لا نفيه من أول الأمر ، فللحكم الظاهري ثبوت واقعي ، فيبحث في انه يقتضي اجزاء العمل المأتي به على طبقه عن الواقع أو لا.

ومن هذا البيان يظهر ان تبدل الرّأي الحاصل للمجتهد وانكشاف كون الحكم الواقعي خلاف ما كان يرتئيه أولا لا يدخل في موضوع البحث - بالنسبة إلى عمل نفسه دون مقلديه كما سيظهر - ، وذلك لأن الحكم الظاهري الثابت في نظره أولا بواسطة الاستناد إلى حجة حكم تخيلي ، فانه ينكشف لديه انه قد اشتبه في استفادة الحكم المذكور ، اما لاشتباهه في دلالة الدليل فكان يتخيل ظهوره في شيء ثم يظهر له انه ظاهر في غيره ، أو لاشتباهه في سند الدليل بتخيل ان الخبر لعادل فظهر انه لغير عادل.

وبالجملة : الّذي يتبين للمجتهد في أغلب الموارد انه لم يكن ما استند إليه في مقام العمل وإبداء الرّأي حجة شرعية - فلم يكن ما تخيل انه ظاهر بظاهر فلا يكون حجة ، وما تخيل انه خبر عادل بخبر عادل وهو غير حجة وهكذا - ، فليس للحكم الظاهري السابق وجود واقعي في حقه ، إذ ليس هناك ما يقتضيه ، لأنه ينشأ عن قيام الحجة ، بل كان له وجود تخيلي انكشف عدمه من أول الأمر

ص: 46

بانكشاف عدم حجية ما استند إليه في مقام الحكم من ظهور ونحوه. فيشكل الاجزاء في حقه بالنسبة إلى عمل نفسه.

نعم يتأتى بحث الاجزاء في الفرض بالنسبة إلى عمل مقلديه ، إذ قول المجتهد بالنسبة إليهم حجة واقعا ، فيكون الحكم الأول ثابت في حقهم في مرحلة الظاهر واقعا ، وان ارتفع بالحكم الثاني المستنبط أخيرا ، لكنه ارتفع من حين الرّأي الثاني لا من أول الأمر. فتدبر.

وبعد هذا نقول : ان البحث يقع في اجزاء الحكم الظاهري أعم من ثبوته بأصل أو أمارة ، وأعم من كون انكشاف خلافه بأمارة ظنية أو بعلم وجداني. وفي المسألة أقوال كثيرة ، ولا يهمنا سطرها ، وانما المهم بيان ما يحتمل من وجوه الاجزاء.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى الإجزاء في بعض الأصول دون الأمارات إذا كان اعتبارها بنحو الطريقية. - ولا يخفى ان الفرق بين الأمارة والأصل ، ان الشك وعدم العلم مأخوذ في موضوع الأصل دون الأمارة ، فان عدم العلم مأخوذ فيها بنحو الظرفية لا بنحو الموضوعية ، وتحقيق الفرق بين أخذه موضوعا وأخذه ظرفا يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى من مباحث الأصول العملية -.

اما ما ذكره بالنسبة إلى اجزاء بعض الأصول وهو ما كان متكفلا لتنقيح ما هو موضوع التكليف وبلسان جعله وإيجاده ، كأصالة الطهارة وأصالة الحلية واستصحاب الطهارة والحلية ، بناء على كون المجعول في الاستصحاب حكما ظاهريا مماثلا للحكم الواقعي الّذي قواه صاحب الكفاية (1).

فقد أفاد : ان أصالة الحل والطهارة بما انهما يتكفلان جعل الموضوع وإيجاده في ظرف الشك ، كان مقتضى ذلك ترتب الشرطية على ما هو المجعول

ص: 47


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 392 و414- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بهما ، فيكون دليلهما متكفّلا لتوسعة صدق موضوع الشرطية المأخوذ في دليل الاشتراط ، فيكون حاكما على أدلة اشتراط الطهارة والحلية لتكفله بيان أحد افراد الموضوع ، ويكون المأتي به مع الطهارة أو الحلية الظاهرية واجدا لشرطه واقعا ، لأن الشرط الواقعي هو الأعم. فتكون الطهارة المجعولة في ظرف الشك نظير الطهارة الأصلية الثابتة لمطلق الأشياء - غير ما استثني من الأعيان النجسة - أو الطهارة المتحققة بعد التطهير بالكرّ. وعليه فيكون العمل مجزيا عن الواقع للإتيان بما هو المأمور به بشرطه ، ولا يكون العلم بالنجاسة من باب انكشاف فقدان الشرط ، بل من باب ارتفاع الشرط كطروّ النجاسة على ما كان طاهرا حسب أصله ، لتحقق الشرط سابقا وهو الطهارة الظاهرية وقد ارتفعت بالعلم لتحديدها به.

وبالجملة : فأصالة الطهارة تكون حاكمة على أدلة الاشتراط ، فتثبت الشرطية للطهارة الثابتة بها (1).

وقد أورد على ما أفاده قدس سره بالنقض والحل ولا بد قبل التعرض لبيان الإيرادات من إيضاح كلام الكفاية وسبر مراده ، كي يتضح الحال في ما أورد عليه نقضا وحلا. وإيضاحه يتوقف على بيان مقدمتين :

المقدمة الأولى : ان الحكومة - كما ذكره في محله - عبارة عن نظر أحد الدليلين إلى الدليل الآخر وتصرفه فيه في مرحلة دلالته ، اما في عقد الوضع أو الحمل.

وهذا يتصور بأنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون الدليل المحكوم متكفلا لجعل حكم على موضوع اعتباري جعلي ، فيأتي دليل آخر يتكفل إيجاد فرد من افراد ذلك الموضوع وجعله

ص: 48


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /86- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

اعتبارا في مورد ما ، فيترتب عليه الحكم الثابت بالدليل المحكوم قهرا. مثلا : لدينا دليل يتكفل جواز بيع المملوك ، كما لدينا دليل يتكفل جعل الملكية واعتبارها في مورد الحيازة. فان هذا الدليل يتكفل إيجاد الموضوع فيتسع صدق الموضوع به.

ويثبت الحكم له بالدليل الأول المتكفل لجواز بيع المملوك. ومثله ما إذا استصحبت الملكية ، فانه - على بعض المباني - يتكفل إيجاد الملكية ، نظير دليل من حاز ملك. غاية الأمر ان موارد الاعتبار تختلف ، فهذا يتكفل الاعتبار في مورد الحيازة ، وذلك في مورد الشك. فالدليل المتكفل لإيجاد الموضوع ليس له نظر إلى ترتب الحكم عليه الثابت بالدليل الآخر ، بل الحكم ثابت قهرا بمقتضى الدليل الآخر بعد تحقق الموضوع في عالمه. - نعم لا بد من الالتفات إلى ترتب الحكم عليه كي يخرج الاعتبار عن اللغوية بلا ان يكون الاعتبار بلحاظ ثبوت الأثر بدليل الاعتبار ، بل دليل الاعتبار لا يتكفل سوى الإيجاد والاعتبار لا غير -.

ومن هنا خرج هذا النحو عن الحكومة الاصطلاحية المتقومة بنظر أحد الدليلين إلى الآخر ، لعدم كون دليل الاعتبار ناظرا لدليل ثبوت الحكم على الموضوع الاصطلاحي وانما يشترك مع الحكومة في الأثر ، وهو تقدم الدليل المتكفل لإيجاد الموضوع على ما يتكفل ترتيب الحكم على الموضوع ، بل لا تنافي بينهما كما عرفت تقريبه.

الثاني : ان يكون الدليل المحكوم بحسب ظاهره متكفلا لجعل الحكم على الموضوع الواقعي ، فيتكفل دليل آخر اعتبار كون هذا الفرد فردا للموضوع مع عدم كونه كذلك حقيقة ، فان هذا الدليل يكون ناظرا إلى ترتيب الأثر الثابت بالدليل المحكوم على الموضوع الاعتباري بتكفله التوسعة في موضوع الحكم وجعله أعم من الحقيقي والاعتباري ، فيثبت الأثر للموضوع الاعتباري بالدليل المحكوم. فالدليل الحاكم يكون ناظرا إلى ترتب الحكم على موضوعه ومتكفلا بنفسه إلى إثباته بالدليل المحكوم ، باعتبار انه يتكفل التوسعة في موضوعه.

ص: 49

فالفرق بين هذا النحو وسابقه : ان الحكم يترتب على الموضوع الاعتباري في الأول بنفس الدليل المحكوم بلا ان يكون الدليل الحاكم دخيلا في هذا الأمر ، بخلافه في النحو الثاني فان الأمر وان كان يثبت بالدليل المحكوم لكن بواسطة الدليل الحاكم ونظره في الاعتبار إلى ترتب الأثر الّذي يتكفله الدليل المحكوم.

الثالث : ان يكون الدليل الحاكم متكفلا لإثبات حكم مماثل على موضوعه ، لا إثبات نفس الحكم الثابت بالدليل المحكوم - كما في بعض أدلة التنزيل - ، ولعل قوله : « الطواف في البيت صلاة » (1) يرجع إلى هذا النحو ، فانه بهذا اللسان ناظر إلى إثبات شرطية الطهارة ونحوها للطواف ، ولكن يثبت به حكم مماثل لحكم الصلاة ، لا ان نفس الشرطية المنشأة في قوله مثلا : « لا صلاة إلاّ بطهور » (2) تثبت للطواف ، بل يثبت المماثل لها.

المقدمة الثانية : ان الدليل المتكفل لإثبات موضوع ظاهري بلحاظ ترتب أثر معين له ، تارة : يكون لهذا الأثر أثر مناقض ثابت لضد موضوعه ، نظير استصحاب الملكية لزيد ، فانه يترتب عليه أثر الملكية لجواز النقل والانتقال ، وللملكية ضد وهو الوقف ، له أثر مناقض لأثر الملكية ، وهو عدم جواز النقل والانتقال. وأخرى : لا يكون للموضوع الظاهري الثابت بالدليل ضد ذو أثر مناقض لأثره ، نظير الطهارة بلحاظ الشرطية للصلاة ، فانه ليس للنجاسة أثر يناقض الشرطية وهو المانعية عن الصلاة ، إذ لم تؤخذ النجاسة مانعا ، بل المأخوذ هو الطهارة في موضوع الشرطية - وقد تقرر ان أحد الضدين إذا أخذ شرطا امتنع أخذ الضد الآخر مانعا لتساوي الضدين رتبة واختلاف الشرط والمانع في

ص: 50


1- كنز العمال 3 / 10 الفصل الرابع في السعي والطواف. حديث : 206.
2- وسائل الشيعة 1 / 365. أبواب الوضوء حديث : 1.

الرتبة - ، نعم للنجاسة آثار لا تناقض الأثر المرغوب ، كنجاسة الملاقي ونحوها.

وهذان النحوان يشتركان في جهة ويمتازان في جهة أخرى.

اما اشتراكهما : ففي انه بقيام الدليل على ثبوت الموضوع يحكم ظاهرا بنفي جميع آثار الضد الآخر المناقضة لأثر الموضوع وغيرها.

اما في النحو الأول : فواضح ، فانه بعد ان ترتب على استصحاب الملكية - مثلا - جواز النقل والانتقال يحكم ظاهرا بنفي عدم جواز النقل والانتقال ، ولا يمكن الالتزام بهما للتناقض.

واما في النحو الثاني : فان الأثر المترتب على الضد وان لم يكن مناقضا للأثر المترتب على الموضوع الظاهري ، لكن الحكم بثبوته ظاهرا ملازم لنفي ضده في مرحلة الظاهر المستلزم لنفي آثار الضد ، فبعد ان حكم بطهارة الماء - مثلا - المستلزم لنفي نجاسته فعلا وفي مرحلة الظاهر لا يعقل ترتيب آثار النجاسة وان لم تكن مناقضة لأثر الطهارة ، إذ لا يعقل الحكم بالطهارة ونفى النجاسة وترتيب آثار النجاسة ، فيحكم بطهارة ملاقيه ظاهرا ونحوه.

واما امتيازهما : ففي ان الدليل المتكفل لإيجاد فرد ظاهري لموضوع الحكم حقيقة إذا لم يكن للأثر المترتب عليه أثر مناقض له ثابتا لضده ، كان ثبوت ذلك الأثر للموضوع المجعول ثبوتا واقعيا ، بمعنى انه يثبت له في مرحلة الواقع ونفس الأمر ، إذ هو فرد من افراد موضوعه ولو في ظرف معين ، فيثبت له واقعا بمقتضى دليله الخاصّ. ومن هذا القبيل الطهارة بالنسبة إلى الشرطية في الصلاة ، فان الدليل الّذي يثبت الطهارة ويكوّنها ويعتبرها في مرحلة الشك يقتضي ثبوت الشرطية للطهارة واقعا ، لأن موضوعها هو الطهارة وهي امر اعتباري ، واعتبار الشارع لها في مرحلة الشك تحقق فرد تكويني لها ، فتثبت له واقعا من دون مانع ، فيكون حال دليل الطهارة حال الدليل المتكفل اعتبار الطهارة إذا طهّر النجس في الكرّ في ثبوت الشرطية لها واقعا لأنه فرد للموضوع.

ص: 51

واما إذا كان لضده أثر مناقض للأثر المترتب عليه ، فبما ان الدليل لا يتكفل نفي الضد الآخر واقعا وتكوينا حتى تنتفي آثاره الواقعية واقعا بل يتكفل نفي الضد ظاهرا ، فلا يمتنع ان يكون ثابتا في الواقع وتثبت له آثاره بدليلها. فحينئذ يتعارض الدليلان الدليل المتكفل لاعتبار الموضوع الّذي يترتب عليه أثر خاص ، والدليل المتكفل لإثبات أثر - للموضوع الواقعي المفروض تحققه - مناقض لذلك الأثر ، إذا لا يمكن اجتماع هذين الحكمين المتناقضين معا على موضوع واحد. ومن هذا القبيل : الملكية لزيد الثابتة بالاستصحاب التي يترتب عليها جواز النقل والانتقال. فانه إذا كانت العين في الواقع وقفا كان أثرها مناقضا للأثر الثابت بالاستصحاب ، وذلك لعدم جواز بيع الوقف ولا يقبل النقل والانتقال : فاستصحاب ملكية زيد يقتضي جواز البيع والنقل والانتقال. والوقفية الواقعية - بمقتضى الدليل الواقعي - تقتضي عدم جواز ذلك. فيتعارض الدليلان لعدم إمكان اجتماع الحكمين.

ففي الحال هذه اما ان يلتزم بتخصيص الأدلة الواقعية وتقييدها بحال الشك وجريان الاستصحاب ، بان يقال : ان عدم جواز بيع الوقف الثابت بدليله الواقعي انما هو في غير حال الشك وقيام الأصل على عدم الوقفية ، وامّا مع ذلك فهو جائز واقعا ولا يحكم بعدم الجواز واقعا. أو لا يلتزم بذلك لوصمة التصويب فيه بتقيد الأحكام الواقعية على الموضوع بحال العلم به.

وانما يلتزم بان الجواز ظاهري والحكم بعدمه واقعي ، فيجمع بين الدليلين بذلك. فإذا زال الشك وعلم بالوقفية يرتفع الحكم الظاهري بجواز البيع لارتفاع موضوعه ، ويتأتى فيه حديث الاجزاء.

وهذا بخلاف الصورة الأولى ، فانه حيث لا مانع من ثبوت الحكم واقعا للموضوع باعتبار عدم ترتب الأثر المناقض على ضده لو كان ثابتا في الواقع ، مع وجود المقتضي لذلك ، وهو كونه فردا للموضوع تكوينا ، كان ثبوت الحكم له

ص: 52

ثبوتا واقعيا لا يتصور فيه انكشاف خلاف ، بل يرتفع بارتفاع موضوعه لانكشاف الخلاف في موضوعه.

وإذا تبين هذا فنقول : ان أدلة الاشتراط تتكفل إثبات الشرطية للطهارة ودخل وجودها في العمل الصلاتي - مثلا - ، فالدليل المتكفل لجعل الطهارة وإيجادها في عالمها الواقعي لها - أعني العالم الاعتباري - يكون موجبا لترتب الشرطية عليها بالدليل الأول ، لأنه قد حقق أحد مصاديق الموضوع ، فيترتب عليه الحكم قهرا ، فيكون حاكما على أدلة الاشتراط بالمعنى الأول للحكومة التي عرفت انها ليست من أنواع الحكومة الاصطلاحية ، لعدم النّظر في الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم أصلا ، لأنه لا يتكفل سوى جعل فرد وإيجاده من دون ان ينظر إلى ترتب الحكم الثابت بذلك الدليل عليه مما تقدم.

وبالجملة : حال أصالة الطهارة بالنسبة إلى دليل الاشتراط حال ما يتكفل تكوين « عالم » حقيقة بالنسبة إلى دليل : « أكرم العلماء » ولما لم يكن للشرطية أثر مناقض مترتب على النجاسة الواقعية ، إذ لم تؤخذ النجاسة مانعا لامتناع ذلك كما عرفت الإشارة إليه ، كان ثبوت الشرطية للطهارة الظاهرية - بمعنى المجعولة في حال الشك بالطهارة والنجاسة الواقعيتين - ثبوتا واقعيا.

فالطهارة الظاهرية شرط واقعا. فيكون العمل الّذي جاء به مع الطهارة الظاهرية واجدا لما هو الشرط واقعا ، فإذا زال الشك وعلم بالنجاسة وزالت الطهارة الظاهرية لم يكن في العمل بالنسبة إلى الشرط انكشاف خلاف الواقع لوجدانه للشرط واقعا ، وانما يكون من باب تبدل الموضوع فتزول الشرطية قهرا ، لارتفاع موضوعها كما لو تنجس الطاهر.

وعليه ، فالمقصود من حكومة أصالة الحل والطهارة على أدلة الاشتراط هذا المعنى من الحكومة - أعني حكومة ما يتكفل إيجاد ما هو الموضوع واقعا وتكوينه - ، فيترتب عليه الأثر واقعا بأدلة الاشتراط.

ص: 53

نعم أصالة الطهارة بالنسبة إلى غير الشرطية من الآثار التي ثبت ضدها للنجاسة كجواز الشرب ، إذ لا يجوز شرب النجس ، لا تتكفل ثبوتها الواقعي ، وذلك لأن الموضوع الّذي تكفلت بيان طهارته في حال الشك إذا كان نجسا واقعا تثبت له آثار النجاسة الواقعية في الواقع كعدم جواز الشرب ، ودليل الطهارة يتكفل جواز شربه ، فيتعارضان ، وقد عرفت ان مقتضى الجمع الصحيح هو الالتزام بان الحكم الثابت بالأصل حكم ظاهري والثابت للنجس الواقعي حكم واقعي ويتقرر فيهما ما قرّر في كيفية الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي.

وهكذا الحال بالنسبة إلى آثار النجاسة الخاصة غير المناقضة لأثر الطهارة ، كتنجيس الملاقي - إذ ليس عدم تنجيس الملاقي من آثار الطهارة المجعولة ، بل المجعول هو تنجيس الملاقي للنجاسة - ، فان أصالة الطهارة تتكفل نفيها ظاهرا لاستلزامها نفي النجاسة ظاهرا كما عرفت.

وعليه ، فإذا زال الشك وانكشف الخلاف انكشف خلاف الحكم الظاهري الثابت ، وزال الحكم الظاهري من حين انكشاف الخلاف.

وخلاصة الكلام : ان أصالة الطهارة بضميمة دليل الاشتراط تتكفل إثبات الشرطية واقعا ، فيكون زوال الطهارة ظاهرا موجبا لارتفاع موضوع الشرطية وهو الطهارة ، ولا يتصور في الشرطية كشف خلاف الواقع ، لعدم المانع من ثبوت الشرطية واقعا مع وجود المقتضي وهو دليل الشرطية.

واما بالنسبة إلى غير الشرطية من الآثار المترتب ضدها على النجاسة فهي تتكفل ثبوته ظاهرا لأنه مقتضى الجمع بين الدليلين.

ومن هنا خصّ صاحب الكفاية بالاجزاء مورد حكومة أصالة الطهارة على أدلة الاشتراط وبالنسبة إلى الشرطية والشطرية. فالتفت جيدا.

وبوضوح ما ذكرنا يتضح عدم الوجه فيما أورد على صاحب الكفاية نقضا : بان أصالة الطهارة إذا كانت تتكفل التوسعة الواقعية في موضوع له.

ص: 54

لزم ان لا يحكم بتنجس ما يلاقي النجس واقعا المحكوم بطهارته ظاهرا ، ويحكم بطهارته بعد انكشاف الخلاف لأنه لاقى الطاهر في حينه.

كما لزم ان يحكم بصحة الوضوء أو الغسل بالماء الثابتة طهارته بأصالة الطهارة أو استصحابها ، مع كونه نجسا واقعا - لو انكشف ذلك - ، لأن شرط صحة الوضوء والغسل طهارة الماء وقد تحققت.

وبأنه لو كان الاستصحاب كأصالة الطهارة يتكفل التوسعة في الموضوع واقعا.

لزم ان نحكم بصحة البيع المترتب على استصحاب ملكية زيد للمال مع انكشاف انه وقف واقعا أو انه ملك لعمرو ، لتحقق موضوع صحة البيع وجواز النقل والانتقال وهو ملكية زيد.

والحال انه لا يلتزم أحد بهذه اللوازم حتى صاحب الكفاية نفسه (1).

ووضوح عدم ورود هذه النقوض : ان نجاسة الملاقي من أحكام النجس ، إذ لم يؤخذ عدم النجاسة حكما للطهارة شرعا. وبما ان الطهارة تضاد النجاسة كان الحكم بطهارة الماء ظاهرا ملازما لنفي النجاسة ظاهرا الملازم لنفي نجاسة ملاقيه ظاهرا لا واقعا. وعليه إذا انكشف نجاسة الماء واقعا زال الحكم الظاهري ، وعلم بان الملاقي قد لاقى ما هو نجس فيترتب عليه حكم ملاقاة النجس وهو النجاسة.

وبالجملة : الحكم بطهارة الملاقي حكم ظاهري لا واقعي كالشرطية ، للفرق الواضح كما أشرنا إليه في أصل التقريب.

وهكذا الحال في عدم صحة الوضوء والغسل ، لأنه لم يثبت أخذ الطهارة في الوضوء والغسل شرطا كي تثبت للماء واقعا لعدم المانع ، بل يمكن ان يدعى

ص: 55


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 200 - الطبعة الأولى.

أخذ النجاسة فيهما مانعا ، فالذي يتكفله دليل الطهارة حينئذ نفي المانعية ظاهرا بالملازمة العقلية ، فإذا انكشف الخلاف بالعلم بنجاسة الماء فقد انكشف كون الوضوء مع المانع الواقعي ، لعدم نفي المانعية واقعا بأصالة الطهارة.

وبالجملة : لا يعلم ان أصالة الطهارة بالنسبة إلى الوضوء والغسل تتكفل حكما واقعيا يقتضي صحتهما ، لاحتمال أخذ النجاسة مانعا فيهما وعدم أخذ الطهارة شرطا ، وقد عرفت ان اعتبار أخذ الضدين ظاهرا انما ينفي آثار الضد الآخر - ولو لم تكن مناقضة لآثاره - ظاهرا لا واقعا.

واما النقض باستصحاب الملكية لزيد ، فعدم وروده لأجل ان للملكية ضدا ، له أثر يناقض أثرها ، وذلك الأثر هو عدم جواز النقل والانتقال. فجواز النقل والانتقال الثابت باستصحاب ملكية زيد بمقتضى الجمع بين الدليلين جواز ظاهري يرتفع بانكشاف خلافه ، فتكون المعاملة واقعة على ما هو وقف أو ملك عمرو واقعا وحكمها عدم الصحة واقعا.

ولعل النقض المذكور قد جاء في ذهن صاحب الكفاية فخصّ حكومة الاستصحاب باستصحاب الطهارة لا مطلق الاستصحاب ، فقال : « واستصحابهما ... ».

والحاصل : ان موارد النقوض يختلف فيها الحال عن مورد الشرطية فلا يلزم بهما صاحب الكفاية.

وقد أورد المحقق النائيني على صاحب الكفاية مضافا إلى بعض النقوض بالحل وهو أربعة وجوه :

الأول : ان الحكومة بنظر صاحب الكفاية تتقوم بان يكون الدليل الحاكم مفسرا وشارحا للدليل المحكوم ، بتضمنه ألفاظ الشرح كلفظ : « أعني » وما شابهه ، ولأجل ذلك لم يلتزم بحكومة أدلة نفي الضرر والحرج على أدلة الأحكام الواقعية.

ص: 56

وعليه ، فلا تتجه دعوى حكومة أصالة الطهارة وأصالة الحل والاستصحاب على أدلة الاشتراك لعدم كون لسانهما لسان الشرح والتفسير (1).

وفيه :

أولا : انه لم يثبت من صاحب الكفاية هذا الالتزام في باب الحكومة وان كان له شاهد في بعض عباراته في الكفاية - كما بينا ذلك في محله - ، لصراحة متابعته الشيخ في حاشيته على الرسائل في تفسير الحكومة في نفي ذلك (2).

ومقتضى القاعدة وان كان نسبة ما تتضمنه الكفاية إليه دون التعليقة مع الاختلاف ، لتأخر الكفاية ، إلاّ انه حيث لم يكن لما ذكره في الكفاية ظهور جزمي فيما نسب إليه لم يمكن نسبة المعنى المذكور إليه.

وثانيا : ان المهم فيما نحن فيه هو بيان تقدم أصالة الطهارة على أدلة الاشتراط ، وتكفلها التوسعة الواقعية في مصاديق الشرط ، وقد عرفت وجهه ، اما كون جهة هذا التقديم هي الحكومة أو غيرها فهذا لا يهم فيما نحن بصدده ، فالإيراد المذكور إيراد لفظي صرف يرجع إلى بيان عدم صحة تسمية جهة التقديم بالحكومة ، وهو غير مهم في أصل الدعوى وتحقيق الاجزاء.

الثاني : ان أصالة الطهارة يستحيل ان تكون متكفلة للتوسعة الواقعية للشرط ، لأنها تتكفل جعل الطهارة في مرحلة الظاهر ومورد الشك بالواقع ، فكيف تكون بنفسها موجبة لثبوت حكم واقعي لها وهو الشرطية؟ (3).

وفيه : انها انما تتكفل جعل الطهارة في مرحلة الظاهر ، وذلك لا ينافي ان يثبت للطهارة الظاهرية المجعولة حكم واقعي ، وقد عرفت ان أصالة الطهارة انما تتكفل التوسعة الواقعية في الشرط ، وهو لا ينافي كون المجعول بها حكما ظاهريا.

ص: 57


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 198 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. حاشية فرائد الأصول /257- الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 198 - الطبعة الأولى.

وبتعبير آخر : ما ذكره قدس سره انما يتجه لو ادعى اتحاد ما تتكفل جعله أصالة الطهارة وما تستلزم توسعته واقعا ، إذ بعد فرض ان المجعول بها امر ظاهري قد لوحظ الجهل بالواقع فيه لا يمكن فرض تكفلها توسعة المجعول بها واقعا وإيجاد فرد واقعي ، فانه خلف فرض كون المجعول بها امرا ظاهريا.

واما مع اختلاف المجعول بها وما تستلزم توسعته فلا محذور فيه ، والأمر كذلك ، فان أصالة الطهارة لا تتكفل التوسعة الواقعية في نفس الطهارة ، بل تتكفل التوسعة في الشرط الواقعي وما هو موضوع الشرطية واقعا ، وهذا لا ينافى كون المجعول بها الطهارة الظاهرية ، إذ لا امتناع في كون الطهارة الظاهرية شرطا واقعا.

الثالث : ان الحكومة على نحوين : نحو يكون الدليل الحاكم في رتبة الدليل المحكوم ، بان لا يكون الشك في الدليل المحكوم مأخوذا في موضوع الدليل الحاكم ، نظير دليل : « لا شك لكثير الشك » بالنسبة إلى أدلة الشكوك في الصلاة ، فانهما في رتبة واحدة لاتحاد موضوعيهما رتبة ، وهذا النحو يعبر عنه بالحكومة الواقعية والدليل الحاكم فيه يكون معمما واقعا للدليل المحكوم أو مخصصا بلسان الحكومة. ونحو يكون الدليل الحاكم متأخرا في المرتبة عن الدليل المحكوم ، بان كان الشك في الدليل المحكوم مأخوذا في الدليل الحاكم ، فيتأخر موضوعه المستلزم للتأخر الرتبي ، يعبر عن هذا النحو بالحكومة الظاهرية ، لأن الدليل الحاكم فيه لا يتكفل التوسعة أو التضييق في الدليل المحكوم واقعا لفرض ثبوته في مرحلة الشك بالواقع ، بل يتكفل التوسعة أو التضييق في مرحلة الظاهر والإحراز ، فيترتب عليه آثار الواقع ما لم ينكشف الخلاف ، ومع انكشافه ينكشف عدم ثبوت الأثر الواقعي ، لعدم تحقق موضوعه ، فيكون مقتضى القاعدة عدم الاجزاء. والحكومة فيما نحن فيه من هذا القبيل ، لكون المفروض أخذ الشك في الواقع في موضوع أدلة الأصول ، فلا تكون الأصول في رتبة الدليل الواقعي ، بل

ص: 58

يكون نظرها إلى ترتب الحكم على المجعول بها ظاهرا وفي ظرف الشك.

وعليه ، فمع انكشاف الخلاف يتضح عدم وجدان العمل لشرطه الواقعي ، فلا وجه للحكم بالاجزاء حينئذ (1).

وفيه : ان ما ذكره يتم لو كانت الحكومة بأحد النحوين الأخيرين الذين يتكفل الدليل الحاكم فيها ترتيب الحكم والنّظر فيه إلى ترتب الأثر ، فيتكفل بنفسه التوسعة فيما هو موضوع الحكم ، فانه يقال عليه : انه إذا فرض انه يتكفل جعل الموضوع في مرحلة الظاهر فلا محالة يتكفل جعل الحكم له ظاهرا أيضا فيتأتى فيه انكشاف الخلاف.

واما إذا كان المراد من الحكومة هو المعنى الأول لها الّذي قد عرفت ان الدليل الحاكم فيه لا يتكفل سوى إيجاد الموضوع بلا ان يكون ناظرا إلى ترتيب الحكم عليه ، بل الحكم يثبت له بدليله الخاصّ ، فلا يتكفل سوى التوسعة في مقدار صدق ما هو الموضوع وانطباقه ، لا التوسعة في الموضوع ، فلا يتأتى فيه ما ذكره لأن ثبوت الحكم للمجعول يكون ثبوتا واقعيا ، لا معنى لانكشاف الخلاف فيه.

وقد عرفت ان حكومة أصالة الطهارة على أدلة الاشتراط التي ادعاها صاحب الكفاية من النحو الأول ، لأن موضوع الشرطية أمر اعتباري ينوجد بالاعتبار والجعل وهو الطهارة ، وأصالة الطهارة تتكفل إيجاد فرد للموضوع في ظرف خاص بلا ان تتكفل هي جعل الحكم وترتيب الأثر ، بل تثبت الشرطية بدليلها للطهارة باعتبار انطباق الموضوع عليها وكونها فردا من افراده كالطهارة المجعولة للأشياء بحسب أصلها أو بعد التطهير بالكرّ ، فهي انما تتكفل التوسعة في دائرة انطباق الموضوع لا في دائرة نفس الموضوع. فتدبر.

الرابع : ان حكومة أصالة الطهارة إذا كانت بلحاظ انها تتكفل إيجاد

ص: 59


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 199 - الطبعة الأولى.

الموضوع وجعل ما هو المماثل ، وبتعبير آخر : إذا كانت جهة حكومة أصالة الطهارة واستصحابها هو تكفلهما إيجاد حكم ظاهري ، لزم ان يلتزم بالحكومة في موارد الأمارات ، لأنها تتكفل جعل حكم ظاهري مماثل للمؤدى ، فالأمارة القائمة على طهارة الماء تتكفل بدليل اعتبارها جعل الطهارة واعتبارها ظاهرا ، فتثبت لها الشرطية واقعا لأنها فرد للموضوع الاعتباري ، فلا يتصور فيه كشف الخلاف أيضا ، فلا يتجه التفصيل بين الأصول والأمارات ، مع ان ملاك الحكومة والاجزاء في كليهما متحقق (1).

ولا يخفى ان هذا الإيراد - وان كان لا يخلو عن وجه في نفسه - لكنه من مثل المحقق النائيني قدس سره غير وجيه ، لأنه قدس سره لا يلتزم بكون المجعول في باب الأمارات حكما ظاهريا ، بل ما يلتزم به كون دليل الاعتبار متكفلا لجعل الطريقية وتتميم الكشف - كما سيجيء توضيحه في محله - ، فالنقض على صاحب الكفاية بالأمارات غير وجيه ، كما ان لا يصلح ان يكون إيرادا جدليا يذكر لإلزام صاحب الكفاية بالنقض ، لأن صاحب الكفاية يتفق مع المحقق النائيني في عدم كون المجعول حكما ظاهريا بدليل الأمارة ، وان كان يختلف معه في كون المجعول بدليل الأمارة المنجزية والمعذرية التي يدعي المحقق النائيني عدم معقولية جعلها.

فهذا الإيراد انما يورد على من يلتزم بان المجعول في باب الأمارة حكم ظاهري مماثل ، إذ يتجه النقض بالأمارة حينئذ وطلب الفارق بين الموردين.

وقد تصدى المحقق الأصفهاني للإجابة عنه وبيان الفرق الفارق بين الأصل والأمارة بما بيانه : ان لسان دليل الأصل يختلف عن لسان دليل الأمارة فان لسان الأصل مفاده جعل فرد ظاهري للطهارة في مقابل الفرد الواقعي ، مع

ص: 60


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 199 - الطبعة الأولى.

غض النّظر عن الواقع ، فيتكفل قهرا ثبوت الحكم لهذا الفرد يوجب التوسعة في موضوع الحكم ، فيكون أعم من الفرد الواقعي والظاهري ، فلا يتصور فيه كشف خلاف. ولسان الأمارة مفاده جعل الفرد الواقعي واعتباره وبيان ان مفاد الأمارة هو الواقع ، فلا تتكفل جعل شيء في قبال الواقع بل تتكفل اعتبار هذا هو الواقع ، فلا يقتضي التوسعة في موضوع الحكم ، بل تتكفل ثبوت آثار الواقع لما اعتبر بها ، فإذا تبين انه غير الواقع كان من باب انكشاف الخلاف ، إذ لم تثبت الآثار الواقعية له ، بل تثبت آثار الواقع للبناء على انه الواقع ، فيتصور فيه انكشاف الخلاف بخلاف الأصل ، فانه لما لم يكن الاعتبار فيه بلحاظ الواقع كان متكفلا للتوسعة في الموضوع وثبوت الآثار الواقعية ، فلا معنى لانكشاف الخلاف ، بل يزول الحكم بزوال موضوعه (1).

ولا يخفى ان هذا الجواب لا يدفع الإشكال على ما قرّبنا به عبارة الكفاية ، لأنه لم نلتزم بتكفل دليل الأصل التوسعة في الموضوع وترتيب الحكم على الفرد الظاهري ، كي يفرق بين الأصل والأمارة في كيفية المفاد ونحو اللسان ، بل قد عرفت تقريبه ، بان الأصل لا يتكفل سوى جعل الموضوع الظاهري من دون لحاظ ترتب الحكم عليه ، فيترتب عليه الحكم الثابت بدليله الخاصّ على طبيعي الموضوع الاعتباري ، فهو انما يوجب التوسعة في دائرة صدق الموضوع لا دائرة نفس الموضوع. وهذا المعنى يتأتى في مفاد الأمارة ، فانها تتكفل جعل الموضوع الاعتباري ظاهرا فتحقق فردا للموضوع فيثبت له الحكم قهرا بدليله لأنه أحد افراد الموضوع ، واختلاف اللسان وكون النّظر في الأمارة إلى جعل الموضوع بلحاظ الواقع لا يكون فارقا بعد ان كانا مشتركين فيما هو ملاك ثبوت الأثر الواقعي واقعا وهو تكفلها إيجاد فرد للموضوع الاعتباري ،

ص: 61


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 153 - الطبعة الأولى.

ولا نظر لهما إلى ترتب الآثار ، كي يقال : ان نظر الأصل إلى ترتب الأثر الواقعي واقعا ، ونظر الأمارة إلى ترتب أثر الواقع ظاهرا.

فالحق في الجواب ان يقال : ان الفرق الفارق بين الأصل والأمارة لا يرجع إلى اختلاف لسانيهما ، بل إلى اختلاف المجعول بهما ، فالمجعول بالأصل غير المجعول بالأمارة ، بيان ذلك : ان المجعول بالأصل هو الطهارة بلا نظر إلى الواقع أصلا ، بل تعتبر الطهارة بالأصل مع غض النّظر عن الواقع وبإسدال الستار عليه ، فيكون الطهارة الثابتة بالأصل فردا لطبيعي الطهارة الاعتبارية الثابت لها الأثر بالدليل المعين ، في مقابل الفرد الواقعي وفي عرضه فيثبت لها الأثر الواقعي كما يثبت للطهارة الواقعية ، لكون كل منهما فردا تكوينيا لما هو موضوع الأثر. وهذا بخلاف الجعل في الأمارة ، فانه بلحاظ الوصول إلى الواقع ، فالمجعول بالأمارة هو الطهارة بما انها الطهارة الواقعية وبما هي ثابتة واقعا - ولذا يصح نسبة مفاد الأمارة إلى اللّه على انه الواقع ، والالتزام به على انه كذلك ، بخلاف مفاد الأصل فانه لا يصح الالتزام به على انه الواقع ، وهذا امر تشترك فيه جميع الالتزامات في المجعول في باب الأمارة من المنجزية أو الطريقية أو الحجية أو الحكم المماثل ، فان الجميع يلتزمون بهذا المعنى وانه عند قيام الأمارة يصح الالتزام بمفادها بما انه الواقع ويصح نسبته إليه تعالى كذلك فيقال حكم اللّه الواقعي كذا -.

وعليه ، فالفرد الثابت بالأمارة لا يكون في عرض الواقع ، بل في طوله فتترتب عليه آثار الواقع ظاهرا لا الأثر الواقعي ، فيتصور فيه كشف الخلاف بانكشاف انه غير الواقع دون ما هو مفاد الأصل.

ولإيضاح هذا المعنى جيدا ورفع الإبهام فيه كاملا نقول : انه إذا ثبت حكم على طبيعي موضوع ، كما إذا ثبت الحكم على طبيعي العالم ، فكان له فرد تكويني حقيقي ، وثبت بالدليل فرد اعتباري - وان لم يكن حقيقة كذلك - ثبت

ص: 62

ذلك الحكم لكلا الفردين الحقيقي والاعتباري ، لأن كلا منهما فرد للطبيعي ، فإذا اعتبر الفرد الاعتباري - بلحاظ جهة ما كالشك فيه - ثابتا متحققا ، بان ورد الاعتبار على الفرد لا على الطبيعي ، كان دليل الاعتبار بمقتضى ذلك متكفلا لثبوت آثار الفرد الاعتباري عليه في مرحلة الشك ، فإذا تبين انه ليس الفرد الاعتباري كان من باب انكشاف الخلاف ويزول الحكم حينئذ ، ويتبين ان لا موضوع لترتيب الآثار ، إذ لم يكن ذلك الفرد الاعتباري ثابتا في الواقع ، إذ الاعتبار الثاني في طول الاعتبار الأول فتترتب عليه آثاره لا في عرضه ، كي تترتب عليه الآثار الواقعية.

إذا عرفت هذا فما نحن فيه كذلك ، فان الأثر وهو الشرطية قد ترتب على طبيعي الطهارة التي هي امر اعتباري ، فلها فرد واقعي لم يؤخذ في موضوعه الشك كالطهارة المعتبرة عند التطهير بالكرّ أو كالطهارة الأصلية.

وقد ثبت لها فردا آخر ظاهرا وهو الطهارة المعتبرة بالأصل ، لكنه ثابت في عرض الفرد الواقعي ، ولذا كان الاعتبار واردا على مفهوم الطهارة وكلّيها. فثبت له الشرطية كما تثبت للفرد الواقعي.

ولكن الطهارة الثابتة بالأمارة ليست كذلك ، فانه لم يعتبر بها مفهوم الطهارة وطبيعيها ، وانما المعتبر هو الطهارة الواقعية ، أعني الفرد الواقعي للطهارة الاعتبارية - وهو غير المأخوذ في موضوعه الشك - ، فظهر : ان المعتبر في الأمارة هو الطهارة بما انها الواقع.

وعليه ، فلا تثبت لها آثار طبيعي الطهارة المأخوذ في الموضوع ، بل تثبت لها آثار الواقع ، إذ هي فرد اعتباري للواقع ، فهي في طوله ، فتترتب عليه آثاره ، وإلاّ لما اتجه اعتبار الواقع ، بل كان اللازم ان يعتبر أصل الطهارة ويتحقق كليهما في عالم الاعتبار والجعل كي تترتب عليه الآثار الواقعية ، ومعه يتصور انكشاف الخلاف بظهور عدم ثبوت الطهارة الواقعية والفرد الواقعي المعتبر للطهارة ،

ص: 63

فينكشف عدم تحقق ما هو موضوع الأثر - وهو الشرطية - فيكون العمل فاقدا للشرط الواقعي. وذلك لا يثبت في مفاد الأصل ، لأن المعتبر هو المفهوم - وهو ثابت في عالم الاعتبار لا ينكشف عدم تحققه - وليس المعتبر به الفرد الواقعي. وعليه فترتب عليه آثار المفهوم ومنها الشرطية واقعا ، فيكون العمل واجدا للشرط الواقعي في ظرفه. ولم ينكشف عدم تحقق الشرط لتحقق موضوع الشرطية ، بل يزول الشرط وينعدم بزوال الشك فتدبر.

وخلاصة القول : ان الفرق الفارق هو الاختلاف في ما هو المجعول فيهما واقعا وثبوتا فلاحظ.

وبهذا البيان يتضح ان ما أفاده في الكفاية من الاجزاء في موارد الأصول الجارية في تحقيق ما هو موضوع التكليف أو متعلقه ، لا مانع عن الالتزام به ، بل لا محيص عنه لسلامته عن أيّ محذور قيل فيه.

ثم انه قدس سره التزم بعدم الاجزاء في موارد الأمارات الجارية في تنقيح ما هو الموضوع أو المتعلق بناء على الطريقية ، وبالاجزاء بناء على السببية.

واما الأصول والأمارات الجارية في نفس الأحكام الشرعية ، فقد التزم بعدم الاجزاء في مواردها مطلقا ، قيل بالطريقية أو السببية (1).

اما عدم التزامه بعدم الاجزاء في مورد الأمارة الجارية في تحقيق الموضوع أو متعلق الحكم بناء على الطريقية فقد بين سرّه بما تقدم من المحقق الأصفهاني قدس سره في بيان الفرق بين الأصل والأمارة - ولعله استخلصه من ظاهر عبارة الكفاية - ، من ان لسان دليل الأمارة جعل الموضوع بما انه الواقع ، فتتكفل جعل آثار الواقع عليه ، فالأمارة القائمة على الطهارة تتكفل بيان تحقق ما هو الشرط واقعا ، فيتصور فيه كشف الخلاف بانكشاف عدم ثبوت الطهارة

ص: 64


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /87- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الواقعية ، وقد تقدم بيان عدم وفاء هذا المعنى بالمطلوب ، وبيان ما هو التحقيق في الفرق الفارق من انه اختلاف المجعول واقعا وثبوتا فلا نعيد.

واما التزامه بالاجزاء في مورد الأمارة الجارية في تحقيق الموضوع أو المتعلق بناء على السببية ، فقد بيّنة بأنه حيث يكون مؤدّى الأمارة بقيام الأمارة ذا مصلحة واقعية ، فيتأتى فيه الاحتمالات الثبوتية المتأتية في المأمور به الاضطراري ، من ان المصلحة اما ان تكون وافية بتمام مصلحة الواقع أو بعضها ، ولم يمكن تدارك الباقي أو أمكن ، وكان لازم التدارك أو غير لازم التدارك ، وقد تقدم ان جميع الاحتمالات الثبوتية غير الاحتمال الثابت ملازم للاجزاء ، كما عرفت ان مقتضى الإطلاق نفي الاحتمال الثالث المستلزم لثبوت الاجزاء.

وقد أورد عليه : بان هذا انما يتم بناء على السببية التي يلتزم بها المصوبة وأهل الخلاف ، دون التي يلتزم بها أهل الحق المخطئة (1).

ولا بد لنا في وضوح كلام الكفاية نفيا أو إثباتا في هذه الجهة والجهة الأخرى - أعني التزامه بعدم الاجزاء مطلقا في الأصول والأمارات القائمة على الحكم - وما ذكره من الأصل العملي عند الشك في اعتبار الأمارة من باب الطريقية أو السببية ، واختلاف الحال فيه عن الأصل العملي في باب الأوامر الاضطرارية أو الظاهرية بناء على السببية. من البحث في الاجزاء مستقلا بنحو كلي ، وبه تتضح كل جهة من جهات كلامه. فنقول : ان الأصل أو الأمارة التي يثبت بها حكم ظاهري ، تارة تكون جارية في الموضوع. وأخرى في نفس الحكم.

فالأولى : كما إذا قامت البينة أو الاستصحاب على موت زيد الّذي يترتب عليه آثار شرعية.

والثانية : كالأمارة القائمة على وجوب صلاة الجمعة.

ص: 65


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 202 - الطبعة الأولى.

وانكشاف الخلاف وان الواقع على خلاف مؤدى الأمارة ، تارة يحصل بالعلم الوجداني التكويني. وأخرى يحصل بحجة وأمارة أخرى بحيث تمنع من نفوذ الأولى.

ولا يخفى انه قد يشتبه الأمر على بعض ، فلا يتصور دخول صورة قيام الحجة الأخرى على خلاف الأولى في موضوع الكلام ، ويخصص الكلام فيما إذا حصل الانكشاف بالعلم.

وجهة ذلك : ان قيام الأمارة الأخرى والحجة الثانية المتأخرة لا يمنع من حجية الأمارة الأولى في ظرفها ، ولا ينفي كون مفاد الأولى هو الوظيفة العملية الفعلية للمكلف في حينه ، وعليه فلا يتصور فيه كشف خلاف الأولى من أول الأمر وان الواقع على خلاف مفادها ، إذ لا تنفي حجيتها في ظرف قيامها وعدم وجود الحجة الأقوى المتأخرة.

ولا يخفى انه توهم فاسد ينشأ من عدم الالتفات إلى ما هو محل الكلام وموضوع النزاع.

وذلك لأن موضوع الكلام : ما إذا قامت أمارة على تعيين الوظيفة الفعلية الظاهرية واستمر ذلك ، ثم انكشف ان هذه الوظيفة الظاهرية لم تكن على طبق الواقع.

وهذا كما يتصور في العلم كذلك يتصور بقيام حجة أخرى.

اما صورة قيام العلم فواضحة. واما صورة قيام الحجة ، فلان الحجة الأخرى وان لم تمنع من حجية الأولى في حينها ولا تنفي كون مفاد الأولى هو الوظيفة الظاهرية الفعلية في ظرفها ، لكن مفادها ان الواقع هو مؤداها وان غيره ليس بواقع ، فيكون مفادها ان الوظيفة الظاهرية السابقة على خلاف الواقع ، فالعلم والأمارة الأخرى يشتركان في عدم نفي حجية الأمارة السابقة وكون مؤداها في حينها هو الوظيفة الفعلية - إذ بالعلم ينكشف الواقع ، وذلك لا يمنع

ص: 66

من كون الأمارة القائمة على خلافه حجة قبل حصوله - ، إلاّ انهما يتكفلان الكشف عن ان تلك الوظيفة الفعلية لم تكن على طبق الوظيفة الواقعية ، فيقع الكلام في ان تلك الوظيفة الفعلية الظاهرية مع العلم بمخالفتها للواقع وجدانا أو تعبدا وبالأمارة ، هل تجزي عن الواقع ولا يلزم الإتيان بالوظيفة الواقعية فعلا ، أو بما يترتب الآثار الشرعية على فوات الواقع - لو فرض فواته - أو لا تجزي؟.

وبالجملة : بعد العلم بعدم الإتيان بالوظيفة الواقعية ، يتكلم في ان ما جاء به من الوظيفة الظاهرية هل يكفي فلا يلزم الإتيان بالواقع أو بما يترتب على فواته شرعا ، أو لا يكفي فلا بد من ترتيب آثار عدم الإتيان بالواقع من الإتيان به لو لم يفت وقته أو قضائه لو فات الوقت ونحو ذلك من الآثار الشرعية؟.

والمتحصل : ان عدم تكفل الأمارة الأخرى نفي حجية الأولى ، بل تتكفل تحديدها زمانا لا يكون ملاكا لخروج المورد عن محل الكلام ، إذ مورد العلم الوجداني بالخلاف كذلك ، إذ لا ينكشف بالعلم عدم حجية الأمارة القائمة ، بل هي حجة في ظرفها. فالملاك في موضوع الكلام هو انكشاف كون مؤدى الأمارة على خلاف الواقع ، وهذا كما يحصل بالعلم يحصل بأمارة أخرى لأنها تنفي مفاد الأولى - وان لم تنفي حجيتها -. فيقع الكلام - كما عرفت - في اجزاء الوظيفة الظاهرية عن الواقع وعدمه.

وأنت خبير بأنه بعد وضوح ما هو محل النزاع لا يبقى مجال لتوهم الاجزاء بناء على الطريقية ، بل عدم الاجزاء بملاحظة ما هو محل الكلام من القضايا التي قياساتها معها ، إذ بعد العلم - وجدانا أو تعبدا - بعدم الإتيان بما هو الوظيفة في الواقع لا وجه عقلائيا ولا عقليا في الالتزام بعدم ترتيب آثار عدم الإتيان بالواقع وكفاية فعل أجنبي عن الواقع عنه.

نعم غاية ما تتكفله الأمارة الأولى هو المعذرية وعدم استحقاق المؤاخذة على مخالفة الواقع للجهل به مع العذر الموجب لقبح العقاب. ولكن الجهل لا

ص: 67

يرفع الآثار المترتبة على مخالفة الواقع ، فلا بد من ترتيبها بعد العلم بالمخالفة.

وبالجملة : إطلاق أدلة الآثار المترتبة على عدم الإتيان بالواقع كإطلاق دليل القضاء ونحوه محكم ، ولم يثبت ان الإتيان بالوظيفة الظاهرية مانع عن شموله.

ومع هذا فقد ذكر للاجزاء وجوه :

الأول : ما تقدم ذكره من ان قيام الحجة الأخرى لا يمنع من حجية الأولى في ظرفها ، فيكون لدينا حجتان ، إحداهما تقضي بالاجزاء وهي الأولى التي تحدد أمدها بالأخرى. والثانية تقضي بعدمه وهي الأخرى الفعلية ، ولا وجه لترجيح الأخرى على الأولى والالتزام بمقتضاها من عدم الاجزاء.

ووضوح وهن هذا الوجه لا يخفى على من له أقل فضل ، فان الحجة الأخرى وان لم تنف حجية الأولى في حينها ، إلاّ انها تمنع من حجيتها فعلا وبقاء ، فالحجة الثابتة فعلا على الواقع هي الثانية ، وهي تقتضي بان الحكم الواقعي غير ما أدّت إليه الحجة السابقة ، وانه لا بد من ترتيب الآثار الواقعية لعدم الإتيان بالواقع ، فلا بد من العمل بها لأنها حجة في حقنا فعلا ، وغيرها ليس حجة فعلا ، بل كان حجة وانقطعت حجيته بقيامه.

وبعبارة أخرى : انه لا بد علينا من العمل بالأمارة الفعلية والالتزام بمقتضاها ، ومقتضاها ترتيب آثار عدم الإتيان بالواقع في ظرفه ، وليس هناك حجة فعلية تعارضها ، لانقطاع حجية الأولى بقيام الأمارة الثانية.

الثاني : ان الإتيان بالوظيفة الظاهرية المخالفة للوظيفة الواقعية كان عن استناد إلى حجة في حينه ، ومرجع الحجية إلى الاكتفاء بما قامت عليه عن الواقع وعدم المؤاخذة عليه ، وقيام الحجة الأخرى لا ينفي حجية الأولى في ظرفها ، بل يمنع من حجيتها بقاء ، فلا يكون مقتضاها عدم الاستناد في مقام العمل إلى الحجة.

ص: 68

وهذا الوجه وان لم يكن كسابقه في الوهن ، لكنه غير سديد ، فانه لا يخلو عن نوع مغالطة ، وذلك لأن معنى الحجية الثابتة للأمارة هو المنجزية والمعذرية ، أعني ما يصح به احتجاج المولى على العبد لو صادف الواقع ، واحتجاج العبد على المولى لو خالف ، والأول المقصود بالمنجزية والثاني هو المقصود بالمعذرية ، فيكون العبد موظفا بما تؤدّيه الأمارة ما دامت قائمة ويكتفي به عن الواقع في حال قيامها. فإذا انقطعت حجيتها وانكشف ان الواقع على خلاف ما أدّته لزم ترتيب الآثار الواقعية على عدم إتيانه ، ولا مجال للاكتفاء بالوظيفة الظاهرية عن الواقع بعد فرض انكشاف الخلاف والعلم بأنها على خلاف الواقع بالحجة الأخرى ، لأن الاكتفاء بمؤداها عن الواقع - بمعنى المعذورية عنه - انما يثبت ما دامت قائمة وحجة ، فإذا انتفت حجيتها لم يثبت الاكتفاء بها عن الواقع. وهكذا الحال لو التزم بان المجعول في الأمارة هو الحكم المماثل ، فانه بلحاظ ترتب المنجزية والمعذرية عليه ، والمعذرية مستمرة باستمرار الحجية ، فإذا انقطعت الحجية انقطعت المعذورية ولزم العمل بالواقع الّذي قامت عليه الحجة المخالفة.

وبالجملة : الاكتفاء بمؤدى الأمارة عن الواقع انما هو ما دامت الأمارة حجة ، فإذا انتفت حجيتها بقيام حجة أخرى أقوى منها امتنع الاكتفاء بمؤداها ، إذ لا وجه له ، لأن غاية ما تتكفله الأمارة الأولى هو المعذرية عن الواقع ، بمعنى عدم صحة المؤاخذة على الواقع ، وهي ثابتة ، ولكنها انقطعت بقيام الأمارة الأخرى فلا بد من ترتيب الآثار الواقعية التي تقضي بها الأخرى ، ومنها وجوب القضاء أو الإعادة ونحوهما. فلاحظ.

الثالث : ان الالتزام بعدم الاجزاء مستلزم للعسر والحرج ، وذلك فان إعادة الصلاة أربعين سنة على من قلد مجتهدا لا يقول بوجوب السورة هذه المدة ، ثم قلد من يقول بوجوبها ، وكان قد أتى بالصلاة بدون سورة ، موجب للحرج الشديد بلا كلام ، وهكذا الالتزام ببطلان جميع معاملات من قلّد مجتهدا يذهب

ص: 69

إلى جواز العقد بالفارسية وعمل على قوله ، ثم قلّد من يذهب إلى بطلان العقد بالفارسية ، فانه موجب للعسر ، ونحو ذلك من موارد البناء على بطلان الأعمال السابقة وعدم ترتيب الأثر عليها. وعليه فينفي عدم الاجزاء بأدلة نفي العسر والحرج فيثبت الاجزاء.

وفيه : انه لو تم الدليل على نفي الحرج في الشريعة - فانه أول الكلام - ، فموضوعه الحرج الشخصي لا النوعيّ. ولذا لا يجوز ترك الوضوء بالماء البارد لمن لا يكون عليه حرجيا بلحاظ انه موجب للحرج نوعا. ومعه لا بد من ملاحظة كل مورد بخصوصه ، فإذا كان عدم الاجزاء فيه موجبا للحرج بنى على الاجزاء بمقدار ما يرتفع به الحرج لا مطلقا وفي جميع الأعمال. ومن الطبيعي ان أصل الحرج ومقداره يختلف باختلاف الأشخاص ، فلا يمكن الحكم لأجله بالاجزاء بقول مطلق ، بل يحكم بالاجزاء في مورد الحرج خاصة.

ولا يخفى ان هذا يرجع إلى تسليم كون مقتضى القاعدة عدم الاجزاء ، ورفع اليد منها بلحاظ العنوان الثانوي ، كرفع اليد عن سائر الأحكام الثابتة بلحاظه.

والمتحصل : انه لا دليل على الاجزاء والقاعدة تقتضي عدمه.

وبعد هذا يقع الكلام في جهات كلام صاحب الكفاية الثلاث :

الجهة الأولى : في التزامه بالاجزاء في موارد الأمارات القائمة على الموضوع أو المتعلق بناء على السببية. وقد عرفت توجيهه بان مؤدى الأمارة يكون ذا مصلحة واقعية ، فتأتي فيها الاحتمالات الثبوتية في المأمور به الاضطراري الّذي عرفت انها تنتهي إلى الالتزام بالإجزاء (1).

وقد أورد عليه المحقق النائيني رحمه اللّه : بان هذا انما يتم بناء على

ص: 70


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /86- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

السببية التي يلتزم بها المصوبة وأهل الخلاف. لا السببية التي يلتزم بها أهل الحق والمخطئة المعبر عنها ب- : « المصلحة السلوكية ». فان ما ذكره لا يصح مطلقا بناء عليها ، وذلك : لأن الواقع يبقى على ما هو عليه من المصلحة بعد قيام الأمارة ، ولا يكون مؤدى الأمارة ذا مصلحة بنفسه ، نعم لا بد ان يكون في العمل على طبق الأمارة مصلحة يتدارك بها ما فات من مصلحة الواقع ، فلا وجه للاجزاء بالنسبة إلى الإعادة ولا بالنسبة إلى القضاء.

اما الإعادة فواضح ، إذ لم تفت مصلحة العمل بعد لبقاء الوقت وإمكان الإتيان به واستيفاء مصلحته ، فلا يكون هناك مصلحة متداركة لمصلحة الواقع ، نعم إذا كان انكشاف الخلاف بعد فوات أول الوقت في مثل الصلاة ، لزم ان يكون في سلوك طريق الأمارة مصلحة يتدارك بها مصلحة أول الوقت لا أكثر ، لأنها هي الفائتة دون غيرها.

واما القضاء ، فلان الفائت ليس إلاّ مصلحة الوقت دون المجموع من العمل والوقت ، إذ يمكن استيفاء مصلحة ذات العمل بالإتيان به بذاته خارج الوقت ، فالثابت من المصلحة في العمل على طبق الأمارة ليس إلاّ ما يتدارك به مصلحة الوقت الفائتة دون مصلحة ذات العمل ، لإمكان الاستيفاء ، فيجب القضاء لأن مصلحة ذات العمل ملزمة يلزم استيفاؤها. نعم إذا استمر الاشتباه إلى آخر العمل كان للاجزاء وجه لفوات مصلحة العمل على المكلف أيضا ، فلا بد من ان تكون هناك مصلحة يتدارك بها تلك المصلحة. فتدبر (1).

وأورد عليه : بان ما ذكر من عدم الاجزاء وجيه بالنسبة إلى الإعادة دون القضاء ، وذلك.

اما بالنسبة إلى الإعادة ، فلان غاية ما يفوت من المصلحة مصلحة أول

ص: 71


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 202 - الطبعة الأولى.

الوقت ، وهي مما يمكن تداركها مستقلا ، لأن مصلحة إيقاع الصلاة أول الوقت ليست مصلحة مرتبطة بمصلحة أصل الصلاة ، بل هي مصلحة استقلالية ظرفها الصلاة ، مثل مصلحة القنوت ونحوه من المستحبات - هذا يبتني على ما يلتزم المورد من عدم معقولية الجزء أو الشرط المستحب ، بل مرجع الكل إلى المستحب في الواجب فيكون ذا مصلحة مستقلة - ، اما مصلحة نفس الصلاة فهي غير فائتة لإمكان استيفائها بفعل الصلاة لعدم فوات الوقت.

واما بالنسبة إلى القضاء ، فلأنه بخروج الوقت وانكشاف الخلاف بعد مضيه تفوت مصلحة الوقت الملزمة ، وهي مصلحة ارتباطية بمصلحة أصل الصلاة ، بمعنى انه لا يمكن تداركها واستيفاؤها الا في ضمن الصلاة. نظير حسن طعم الطعام ، في التكوينيات ، فانه لا يمكن استيفاؤه بدون نفس الطعام كما لا يخفى.

وعليه بعد فرض تدارك ما فات من المصلحة يلزم تدارك مصلحة الوقت الفائتة ، وقد عرفت ان تداركها لا يكون إلاّ في ضمن مصلحة الصلاة ، ففرض تدارك مصلحة الوقت يلزمه فرض تدارك مصلحة الصلاة ، ومعه لا مجال لإيجاب القضاء لحصول مصلحة العمل بدونه.

وبالجملة : فلا بد من التفصيل - بناء على السببية الحقة - بين الإعادة والقضاء ، فيلتزم بالاجزاء في الثاني دون الأول (1).

ولكن هذا الإيراد لا يخلو من بحث ، وذلك لأنه انما يتم لو كان اللازم - في صورة خطاء الأمارة - تدارك نفس المصلحة الفائتة وإيجاد فرد مماثل لها. واما لو كان اللازم هو جبران المصلحة الفائتة بما يرفع الفوات والخسارة ، سواء كان بتدارك نفس المصلحة الفائتة أو بمصلحة أخرى تجبر فوات تلك المصلحة كما

ص: 72


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 274 - الطبعة الأولى. بحر العلوم علاء الدين. مصابيح الأصول 1 / 276 - الطبعة الأولى.

هو الحق فلا يتم هذا الإيراد.

وتوضيح ذلك : ان وجه الالتزام بالمصلحة السلوكية هو ان الأمارة كثيرا ما لا تصادف الواقع ، فيكون العمل عليها مفوتا لمصلحة الواقع ، وعليه فإيجاب العمل عليها من قبل المولى الحكيم يلزمه عقلا ان يجبر فوات مصلحة الواقع بجعل مصلحة في سلوك الأمارة والعمل عليها ، وإلاّ لكان الالتزام بالعمل بها قبيحا ، لأن فيه تفويتا للمصالح الواقعية الملزمة. ومن الواضح ان العقل لا يحكم - رفعا للقبح - بلزوم تدارك نفس المصلحة الفائتة ، بل غاية ما يحكم به هو لزوم الجبران ، بحيث لا يفوت العبد شيئا من آثار المصلحة سواء كان يتدارك نفس المصلحة أو بإيجاد مصلحة أخرى جابرة ، فان القبح يرتفع بذلك كما لا يخفى.

وإذا ثبت انه يمكن ان يكون الجبران بمصلحة ليست من سنخ المصلحة الفائتة ، فيمكن ان يكون تدارك مصلحة الوقت بمصلحة أخرى غير مرتبطة بمصلحة الصلاة فتبقى مصلحة الصلاة بلا تدارك فيجب القضاء ، ومع الشك في ذلك فاللازم هو الاحتياط ، للعلم أولا بعدم استيفاء مصلحة الصلاة والشك في تداركها ، فقاعدة الاشتغال تقضي بلزوم تحصيل العلم باستيفائها وهو لا يكون إلاّ بالقضاء.

فالمتحصل : ان إيراد المحقق النائيني رحمه اللّه على صاحب الكفاية وجيه.

الجهة الثانية : في تفصيله - بناء على السببية - بين الأمارات القائمة على الموضوع أو المتعلق ، كالأمارات القائمة على جزئية السورة للصلاة والأمارات القائمة على الحكم ، فالتزم بالاجزاء في الأولى وبعدمه في الثانية ، فانه قد يتساءل عن وجه الفرق والسرّ في التفصيل (1).

ص: 73


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /87- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ولتوضيح جهة الفرق : لا بد أولا من الإشارة إلى جهة ثبوت المصلحة في المؤدى الّذي هو مفاد الالتزام بالسببية ، فنقول : ان الوجه فيه أحد امرين :

الأول : ان الأمر الّذي تتكفله الأمارة كسائر الأوامر الشرعية الواقعية لا بد ان يكون بملاك وجود المصلحة في متعلقه ، وإلاّ لم يتجه البعث نحو متعلقه من الحكيم العادل. ولا خصوصية للأمر الواقعي في كونه تابعا للمصلحة في متعلقه دون غيره ، فما تقوم عليه الأمارة من امر يكون متعلقه ذا مصلحة.

الثاني : ان إيجاب العمل على طبق الأمارة كثيرا ما يفوّت مصلحة الواقع على المكلف ، لكثرة خطاء الأمارة ، وعليه فلا بد ان يكون مؤداها مشتملا على مصلحة تجبر بها فوات مصلحة الواقع.

إذا عرفت هذا فاعلم ان سرّ الفرق يرجع إلى كون الوجه في الالتزام بالسببية هو الأول.

وذلك : لأن الأمارة القائمة على الموضوع أو المتعلق مرجعها إلى بيان كون الأمر الواقعي متعلقه كذا ، والأمر بالإتيان بهذا المتعلق ، ومقتضى ذلك ثبوت المصلحة الباعثة للأمر الواقعي في ما هو مؤدّى الأمارة - كالصلاة بدون السورة مثلا - ، فيكون امتثاله سببا للاجزاء لاستيفاء مصلحة الأمر الواقعي وصيرورته بعد العمل بلا ملاك فيسقط ، ولا يمكن ان يتعلق بنفسه بالمتعلق الواقعي لتعلقه واقعا بما هو مؤدى الأمارة لثبوت الملاك فيه ، وهو لا يتعلق واقعا بأمرين. وأما الأمارة القائمة على الحكم ، كالأمارة القائمة على وجوب الجمعة ، فهي لا تنفي وجوب صلاة الظهر واقعا ، لأن غاية ما تتكفله احداث مصلحة في وجوب الجمعة ، فيكون وجوبها واقعيا ، وهو لا ينافي وجوب الظهر ، لأن مفاد الأمارة وجوب هذا العمل ، ولا تتكفل نفي وجوب غيره فيبقى وجوب غيره على ما هو عليه من المصلحة. ولا تفي مصلحة مؤدى الأمارة بها لأنها مصلحة أخرى

ص: 74

وكل منهما ملزمة. نعم لو كان مفاد الأمارة كون الواجب الواقعي هو الجمعة كان للاجزاء وجه لانقلاب مصلحة الواقع من الظهر إلى الجمعة ، ولكنه خلاف الفرض ، لأنه من مورد قيام الأمارة على المتعلق وان الواجب هذا ، لا على أصل الحكم وان هذا واجب من دون تعرض لإثبات ونفي غيره.

وبالجملة : مع قيام الأمارة على أصل الحكم يكون كل من الواقع ومؤدى الأمارة واجبا واقعيا ذا مصلحة في متعلقه ولا يجزي أحدهما عن الآخر ، إلاّ ان يدل دليل خارجي على عدم وجوب عملين واقعيين من سنخ واحد كصلاتين في وقت واحد ، فانه كلام آخر غير مقتضي القاعدة.

ومحصل الفرق : ان الأمارة القائمة على المتعلق أو الموضوع بما ان لها نظرا إلى الواقع الثابت المتقرر ، فهي تقلبه عما كان عليه وتجعل المصلحة الباعثة نحوه في مؤداها ، فيسقط بالإتيان بمؤداها. واما القائمة على الحكم ، فغاية ما تثبته تحقيق مؤداها واقعا لصيرورته بها ذا مصلحة ، واما الواقع الثابت فلا تقبله عما هو عليه من المصلحة لعدم نظرها إليه أصلا.

واما بناء على الوجه الثاني ، فلا يفترق الحال بين الأمارة القائمة على الحكم وغيرها في الاجزاء مطلقا ، إذ بقيام الأمارة على الحكم أو غيره لا بد ان يكون فيه مصلحة تسدّ عن مصلحة الواقع وتفي به ، وهذا ملازم للاجزاء لاستيفاء مصلحة الواقع بما هو مؤدى الأمارة ، لأن المصلحة الثابتة فيه قد لوحظ فيها تدارك مصلحة الواقع مطلقا ، وهو يقتضي الاجزاء.

الجهة الثالثة : فيما ذكره عند الشك في كون حجية الأمارات بنحو الطريقية أو بنحو السببية ، من ان القاعدة تقتضي عدم الإجزاء ولزوم الإعادة في الوقت للعلم باشتغال ذمته بما يشك في فراغها منه بما أتى به بضميمة أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف ، ولا يعارض هذا الأصل استصحاب عدم

ص: 75

فعلية التكليف ، لأنه لا يثبت مسقطية ما أتى به إلاّ بنحو الأصل المثبت (1).

فان هذا الكلام لا يخلو عن إجمال وغموض ، ولا بد في توضيحه من الإشارة إلى مواضع الغموض والتساؤل. فنقول : ما المراد من العلم باشتغال الذّمّة وثبوت التكليف؟ هل العلم التفصيليّ بثبوت التكليف الواقعي بعد كشف الخلاف ، أو المراد العلم الإجمالي؟.

فان كان المراد من العلم العلم التفصيليّ ، ففيه : ان مجرد العلم التفصيليّ بثبوت التكليف لا يكفي في لزوم إفراغ الذّمّة ما لم يعلم فعلية ذلك التكليف الثابت ، وهي غير معلومة ، لأن حجية الأمارة إذا كانت بنحو الطريقية كان التكليف فعليا ، وإذا كانت بنحو السببية لا يكون التكليف الواقعي فعليا ، بل التكليف الفعلي على طبق مؤدى الأمارة ، وقد أتى به دون الواقع ، وبذلك يحصل له الشك في ثبوت التكليف الواقعي وأصل البراءة ينفيه. ولو تنزلنا وقلنا : بكون التكليف الواقعي المعلوم فعليا ، كان ذلك بنفسه موجبا للزوم امتثاله جزما بحكم العقل ، لعدم الإتيان بمتعلقه ، فإجراء أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف وضمنه إليه لم يعرف وجهه الصناعي.

وان كان المراد به العلم الإجمالي ، فإما ان يراد به العلم الإجمالي في مرحلة الحدوث ، فيقال : انه يعلم قبل العمل وبعد قيام الأمارة بثبوت تكليف فعلي عليه اما على طبق مؤدى الأمارة - لو كانت حجيتها بنحو السببية - ، أو بالواقع - لو كانت حجيتها بنحو الطريقية -. واما ان يراد به العلم الإجمالي في مرحلة البقاء ، فيقال : انه يعلم بعد العمل وانكشاف الخلاف بأنه مكلف بالواقع المنكشف فعلا أو بمؤدى الأمارة الّذي جاء به.

فان أريد به العلم الإجمالي في مرحلة الحدوث ، الّذي يقتضي بدوا الإتيان

ص: 76


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /87- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بكل من مؤدى الأمارة والواقع بمقتضى تنجيز العلم الإجمالي ، لاحتمال فعلية كل من التكليفين فتجب موافقته قطعا ، فهو منحل حكما بقيام الأمارة على كون التكليف الفعلي على طبق مؤداها ونفي فعلية غيره بالملازمة ، إذ قد تقرر في محله انه إذا قامت أمارة معينة لما هو المعلوم بالإجمال في أحد الأطراف ينحل العلم الإجمالي ولا يكون منجزا ، كما إذا علم إجمالا بنجاسة أحد هذين الإناءين ، فقامت البينة على ان النجس هو هذا الإناء فانها تنفي نجاسة الآخر بالملازمة ، ومعه لا يجب الاجتناب الا عما قامت البينة على نجاسته دون الآخر ، لانحلال العلم الإجمالي حكما. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن مفاد الأمارة كون التكليف الفعلي هو مؤداها ، فتنفى بالملازمة فعلية الواقع ، وعليه فلا يجب الإتيان بغير مؤداها ، لعدم كون الواقع فعليا بمقتضى الأمارة وانحلال العلم الإجمالي. ولو فرض التنزل والالتزام بعدم انحلال العلم الإجمالي وكونه منجزا في المقام ، فهو بنفسه يقتضي بالإتيان بالفرد المشكوك الآخر ، أعني الواقع بعد الإتيان بمؤدى الأمارة بلا احتياج للتمسك بأصالة عدم الإتيان بما هو مسقط للتكليف ، لأن مقتضى تنجيز العلم الإجمالي لزوم الإتيان بجميع افراده تحصيلا للموافقة القطعية ، فأي ميزة لهذا العلم أوجبت الاحتياج إلى ضمّ أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف؟.

وان كان المراد به العلم الإجمالي في مرحلة البقاء ، فمرجعه إلى العلم باشتغال الذّمّة اما بتكليف ساقط - لو كان مؤدى الأمارة - ، أو بتكليف باق - لو كان هو الواقع - ، ومثل هذا العلم لا حظّ له من التنجيز لخروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء وعدم كون التكليف المعلوم على جميع تقاديره فعليا فلا يكون منجزا.

وبعد هذا كله ننقل الكلام إلى جهة أخرى من كلامه ، وهي ما ذكره من ان استصحاب عدم فعلية الواقع لا تثبت مسقطية المأتي به إلاّ على القول

ص: 77

بالأصل المثبت (1).

فانه قد يتساءل : بان مجرد إثبات عدم فعلية الواقع تكفي في نفي التكليف فعلا ، سواء كان ما أتى به مسقطا أو لم يكن ، فما هي جهة الاهتمام بهذا الأمر مع فرض ثبوت عدم فعلية الواقع بالأصل؟.

هذه هي مواضع الغموض في كلامه وقد تبين انها في جهتين :

الجهة الأولى : في تشخيص المراد من العلم ، وبيان جهة الحاجة إلى أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف.

ويمكن رفع الغموض في هذه الجهة بان يقال : ان المقصود بالعلم هو العلم التفصيليّ ، وبالأصل الاستصحاب الموضوعي الّذي يثبت به بقاء التكليف ، لا الاستصحاب الحكمي - أعني استصحاب نفس بقاء التكليف -. بيان ذلك : انا نعلم تفصيلا بثبوت الحكم الواقعي قبل الإتيان بمؤدى الأمارة ، سواء كانت حجية الأمارة من باب الطريقية أو من باب السببية ، فان الحكم الواقعي له نحو تقرر على كلا التقديرين ، وقد وقع الكلام في كيفية ثبوته وتقرره. وقد ذهب صاحب الكفاية في مبحث الجمع بين الأحكام الواقعية والظاهرية إلى انه يكون في مورد الطرق والأمارات حكما إنشائيا لو علم به يصير فعليا ويتنجز (2).

وعليه ، فبعد الإتيان بمؤدى الأمارة وانكشاف الخلاف نعلم تفصيلا بان الحكم الواقعي كان ثابتا بثبوت إنشائي ، لكنا نشك في بقائه وارتفاعه من جهة الشك في كون المأتي به مسقطا وعدمه ، فيستصحب عدم الإتيان بما هو مسقط للتكليف ، فيترتب عليه بقاء التكليف - ولا يجري استصحاب بقاء التكليف ، لإمكان إجراء الأصل في الموضوع ، ومعه لا تصل النوبة إلى إجرائه في المسبب - ،

ص: 78


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /87- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /277- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وبمقتضى ان الاستصحاب يكون بمنزلة العلم الموضوعي الطريقي ، يكون الحكم الواقعي الثابت بالاستصحاب الموضوعي معلوما تعبدا لا تكوينا ، فتثبت فعليته ، لأن المفروض ان ثبوته كان بنحو لو علم به كان فعليا. وإذا ثبتت فعليته وجب امتثاله بالإتيان بمتعلقه.

وقد يستشكل على هذا الاستصحاب بلزوم الدور ، وذلك لأن جريانه متوقف على ثبوت الأثر المتوقف على فعلية الحكم ، وفعلية الحكم تتوقف على جريان الاستصحاب ، فيلزم الدور ، ولا يخفى ان هذا الإشكال سار في جميع الموارد التي يجري فيها الأصل لإثبات الأثر المأخوذ في موضوعه العلم بالحكم الواقعي كالفعلية ونحوها. وجوابه في محله وليس محله هاهنا.

الجهة الثانية : جهة الارتباط بين أصالة عدم كون الواقع فعليا وإثبات مسقطية المأتي به.

ولرفع الغموض من هذه الجهة نقول : ان النّظر في إجراء استصحاب عدم فعلية الواقع هو إيجاد المعارض لأصالة عدم كون الإتيان بما يسقط معه التكليف ، كي تسقط عن العمل ، والمعارضة تتوقف على كون استصحاب عدم فعليه الواقع مثبتا ، لكون المأتي به مسقطا ، فإذا كان إثباته بالملازمة العقلية ، يكون من الأصل المثبت فلا يكون حجة ، فلا يعارض أصالة عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف ، بل يكون هذا مقدما على استصحاب عدم فعلية الواقع بملاك تقدم الأصل السببي على المسببي. بيان ذلك : ان التنافي بين الأصلين وان كان موجودا ، لأن الغرض من أصالة عدم الإتيان بمسقط التكليف إثبات فعلية الواقع واستصحاب عدم فعليته ينفيه ، إلاّ ان الأصل المثبت للفعلية لما لم يكن مثبتا لها رأسا - بمعنى ان موضوعه ليس هو بقاء الفعلية - وانما يثبتها بتوسط إثبات عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف ، واستصحاب عدم فعلية الواقع لا يثبت الإتيان بالمسقط إلاّ بنحو الملازمة ، كان استصحاب عدم الإتيان بالمسقط

ص: 79

مقدما على استصحاب عدم فعلية الواقع ، لأنه يتكفل نفي مفاد استصحاب عدم الفعلية بإثباتها ، واستصحاب عدم الفعلية لا ينفي مفاده ومجراه إلاّ بالملازمة غير المعتبرة شرعا ، فيكون رفع اليد عن استصحاب عدم فعلية الواقع بوجه - وهو استصحاب عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف لأنه ينفيه - ، ولا يكون رفع اليد عن استصحاب عدم الإتيان بما هو المسقط بوجه ، إذ الأصل الآخر لا ينفيه كما هو الفرض ، أو بوجه دائر ، وهو نفي جريان استصحاب عدم الإتيان بما يسقط معه التكليف بأصالة عدم الفعلية المتوقفة على عدم جريان استصحاب عدم الإتيان بالمسقط.

وبالجملة : الوجه في تقديم استصحاب عدم المسقط على استصحاب الفعلية هو الوجه في تقديم الأصل السببي على المسببي ، فانهما من قبيلهما وان لم يكونا من مصاديقهما.

ومثل هذا يقال في الجواب عما يدعى من معارضة الاستصحاب التعليقي بالاستصحاب المنجز دائما بتقريب : ان المستصحب حرمته تعليقا كان حلالا جزما قبل حصول المعلق عليه ، فتستصحب حليّته بعد حصوله ، فيتعارض الأصلان. مثلا : بعد قيام الدليل على حرمة العنب إذا غلى ، وشك في سراية هذا الحكم إلى الزبيب وعدمها ، فتستصحب هذه الحرمة التعليقية ، فيقال : ان الزبيب حين كان عنبا كان إذا غلى يحرم والآن بعد ان صار زبيبا يشك في ذلك فيستصحب كونه كذلك وبقاؤه على ما كان. ولكن هذا الاستصحاب معارض باستصحاب فعلي منجز ، وهو استصحاب حلية الزبيب الثابتة له قبل الغليان ، فيقال : ان الزبيب كان حلالا قبل الغليان ، وبعد الغليان يشك في حليته وحرمته فيبنى على انه حلال بالاستصحاب.

فانه يقال في مقام رد هذه الدعوى : ان استصحاب الحلية الفعلية لا ينفى الحرمة التعليقية التي هي مؤدى الاستصحاب الآخر إلاّ بالملازمة العقلية ، لأن

ص: 80

عدم الحرمة التعليقية ليس من آثار الحلية الفعلية شرعا كما لا يخفى. بخلاف استصحاب الحرمة التعليقية فانه ينفي الحلية الفعلية بعد الغليان شرعا وبالملازمة الشرعية ، لأن عدم الحلية من آثار الحرمة التعليقية شرعا.

وعليه ، فعدم العمل باستصحاب الحلية يكون بوجه ، وعدم العمل باستصحاب الحرمة التعليقية يكون بدون وجه أو على وجه دوري ، فيتعين العمل باستصحاب الحرمة التعليقية ، وهذا الوجه أحسن ما يقال في جواب دعوى المعارضة. فقد قيل في جوابها وجوه لا تخلو عن مناقشة ظاهرة ، فراجع مبحث الاستصحاب التعليقي في الأصول.

وبعد جميع هذا يحسن التعرض لتنبيهات المسألة ، وهي ثلاثة :

التنبيه الأول : - وقد ذكره في الكفاية (1) - كما أشرنا إليه فيما تقدم (2) ، ان موضوع الكلام في الاجزاء ما إذا كان هناك حكم ثابت ظاهري أو اضطراري ، فيبحث عن كونه مجزيا عن الواقع وعدمه.

اما إذا لم يكن هناك حكم متقرر له ثبوت ، وانما تخيل ثبوته ، فهو أجنبي عن بحث الاجزاء ، إذ لا حكم كي يبحث عن اجزائه وعدمه ، بل عدم الاجزاء في مثله مما لا كلام فيه ، إذ لا يتجه الاجزاء بوجه من الوجوه المذكورة له لعدم انطباقها عليه. ومن هنا يظهر عدم الإشكال في عدم الاجزاء فيما إذا قطع بحكم ثم انكشف خلافه ، إذ القطع لا يوجب تحقق الأمر لا واقعا ولا ظاهرا ، فلا يكون في البين إلاّ تخيل لثبوت الحكم. فلا وجه لاجزاء المأتي به مع عدم كونه الواقع.

نعم قد يكون ما أتى به مشتملا على مقدار من المصلحة ، بحيث لا يمكن معه تدارك الباقي من مصلحة الواقع ، فلا يجب الإتيان بالواقع حينئذ ، لكنه ليس

ص: 81


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /88- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- راجع 2 / 45 من هذا الكتاب.

من جهة اجزاء المقطوع به عن الواقع ، بل من باب عدم إمكان تدارك مصلحة الواقع الباقية ، ولكن هذا إثباتا يحتاج إلى دليل خاص ، وقد ثبت في بعض الموارد كما إذا صلّى جهرا في مورد الإخفات وبالعكس ، وكما إذا صلّى تماما في السفر مع الجهل بكون الوظيفة غير ما أتى به ، فان الدليل دل على الاكتفاء بالعمل وعدم لزوم الإعادة مع معاقبته على تقصيره في السؤال والتعلّم ، مما يكشف عن عدم كون ما أتى به متعلقا للحكم ، وانما هو محصل لبعض المصلحة بحيث لا يمكن تدارك الباقي ، ولذا لا تجب الإعادة ولكن يعاقب على ذلك باعتبار انه فوّت على نفسه مصلحة الواقع الملزمة.

التنبيه الثاني : - وقد ذكره في الكفاية أيضا (1) - وموضوعه ، بيان عدم الملازمة بين الاجزاء والتصويب ، فانه قد يتوهم ملازمة القول بالاجزاء للتصويب ، لأن مرجع الاجزاء إلى كون الواقع هو مؤدى الأمارة الّذي هو التصويب. وانه كان من الجدير بالذكر ان يذكر هذا الأمر وجها لإبطال الاجزاء ، فيقال : ان الاجزاء ملازم للتصويب ، وهو - أي التصويب - باطل بالإجماع ، فكذلك ما هو لازم له وهو الاجزاء.

والّذي ادعاه في الكفاية نفي ملازمة القول بالاجزاء للتصويب ، بل عدم معقوليته ، لاستلزامه لزوم عدم الشيء من وجوده.

وبيان ذلك : ان الحكم له في نظر صاحب الكفاية مراتب أربع ، مرتبة الاقتضاء ومرتبة الإنشاء ومرتبة الفعلية ومرتبة التنجيز - وشرح المراد من كل منها ليس محله هاهنا ، وانما المقصود هنا الإشارة إليها - ، والّذي يرتبط بمحل الكلام فعلا من هذه المراتب هو مرتبة الفعلية والإنشاء دون مرتبتي الاقتضاء والتنجز ، ثم ان الّذي ذهب إليه صاحب الكفاية في الجمع بين الأحكام الظاهرية

ص: 82


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /88- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والواقعية ، كما أشرنا إليه ، هو كون الحكم الواقعي في موارد الطرق والأمارات إنشائيا ، بحيث لو حصل العلم به يصير فعليا ، سواء في ذلك القول بالطريقية والقول بالسببية ، فان الواقع يكون إنشائيا والأمارة مانعة عن فعليته لا أكثر.

ولا يخفى ان الحكم الّذي دلت الأدلة على اشتراك العالم والجاهل فيه انما هو الحكم الإنشائي ، فان أدلة الاشتراك لا تقتضي أكثر من ذلك ، اما الحكم الفعلي فهو يختص بالعالم لأن موضوعه العلم بالحكم الإنشائي.

وبهذا البيان ظهر ان القول بالاجزاء الّذي هو فرع الالتزام بالسببية في حجية الأمارة ، لا يلازم التصويب بمعنى ارتفاع الحكم الواقعي ، لبقاء الحكم الواقعي على ما هو عليه ، ولكنه بمرتبة الإنشاء والأمارة المخالفة مانعة عن فعليته. وهكذا الحال لو التزم بالاجزاء بناء على الطريقية. بل لا يعقل التصويب في مورد الأمارة والحكم الظاهري ، لأن الجهل بالحكم الواقعي مأخوذ في موضوع الحكم الظاهري ، فلا بد ان يفرض ثبوت واقع يتعلق به الجهل والعلم ، فلو فرض ارتفاع الحكم الواقعي بقيام الأمارة يرتفع الشك في الواقع فيلزم ارتفاع موضوع الحكم الظاهري ، فيلزم من وجود الحكم الظاهري عدمه وذلك محال. هذا إيضاح ما ذكره في الكفاية.

والتحقيق ان يقال : انه ان التزمنا في الجمع بين الأحكام الظاهرية والأحكام الواقعية بما يلتزم به صاحب الكفاية ، من ان الأحكام الواقعية أحكام إنشائية ، كان الحق ما ذهب إليه صاحب الكفاية في المقام من عدم الملازمة بين الاجزاء والتصويب. وان لم نلتزم بذلك اما من جهة ان المرتبة الإنشائية للحكم بالمعنى الّذي يفرضه لها صاحب الكفاية ، لا يمكن تعلّقه ، وبمعنى آخر معقول - يذكر في محله - ترجع إلى المرتبة الفعلية ، والحكم الّذي يكون مشتركا بين العالم والجاهل هو الحكم الفعلي ، وهو الّذي يقع البحث في ارتفاعه وبقائه في موارد الأمارات والطرق. واما من جهة ان المرتبة الإنشائية بالنحو الّذي يصوّرها

ص: 83

صاحب الكفاية وان كان امرا معقولا في نفسه إلاّ ان الحكم الّذي يشترك فيه العالم والجاهل هو الحكم الفعلي لا الإنشائي ، لأن الحكم الفعلي هو الّذي فيه جهة البعث دون الإنشائي ، فانه لا بعث فيه ، بل هو في الحقيقة ليس حكما.

وبالجملة : لو لم نلتزم بمذهب صاحب الكفاية والتزمنا بان الحكم الواقعي في مورد الطرق والأمارات فعلي لا إنشائي ، فهل الالتزام بالاجزاء يلازم التصويب وارتفاع الحكم الواقعي أو لا؟. نقول : انه حيث عرفت ابتناء القول بالاجزاء على القول بالسببية ، فان كان شأن السببية ومرجعها إلى رفع الحكم الواقعي بلحاظ ثبوت المصلحة المعادلة لمصلحة الواقع في مؤدى الأمارة ، فيوجب ذلك تخيير الشارع بين العمل بالواقع والعمل على طبق الأمارة ، فيرتفع الوجوب التعييني الواقعي ويصير الوجوب الثابت تخييريا ، وعلى هذا الأساس يقال بالاجزاء ، لأن الواجب أحدهما وقد جاء به فيتحقق الامتثال - إذا كان مرجع السببية إلى ذلك - ، فالقول بالاجزاء ملازم للتصويب ، لارتفاع الحكم الواقعي الثابت ، فان الحكم الواقعي كان هو الوجوب التعييني وقد فرض تبدّله إلى الوجوب التخييري بقيام الأمارة. وان كان مرجع السببية إلى رفع موضوع الحكم الواقعي بقاء لا حدوثا ، فيسقط امتثاله في مرحلة البقاء لارتفاع موضوعه ، وذلك ببيان : ان الحكم الواقعي يبقى فعليا على ما هو عليه ، إلا انه بعد الإتيان بمؤدى الأمارة المشتمل على مصلحة يستوفي بها مصلحة الواقع لا يبقى مجال بعد ذلك لامتثال الواقع لسقوطه باستيفاء مصلحته ، فيكون نظير ما لو وفى عمرو الدّين الّذي في ذمة زيد ، فان المأمور بالوفاء وان كان زيدا لكنه بأداء عمرو يرتفع موضوع الأمر فيسقط بعد ان كان. فالحكم الواقعي لا يرتفع بقيام الأمارة ، بل يبقى لكنه يسقط بامتثال الأمر الظاهري ، لارتفاع موضوعه في مرحلة البقاء لا الحدوث وإلاّ لزم ارتفاعه بقيام الأمارة. ان كان مرجع السببية ذلك لم يكن القول بالاجزاء ملازما للتصويب ، لبقاء الأمر الواقعي على ما كان عليه وعدم ارتفاعه

ص: 84

بقيام الأمارة.

والّذي يتحصل : ان القول بالاجزاء لا يلازم التصويب بقول مطلق ، حتى بناء على السببية التي يلتزم بها أهل الخلاف ، فيكون ذلك جهة إيراد على القائلين بالاجزاء. والّذي كان بناؤنا عليه في الدورة السابقة هو ملازمة القول بالاجزاء للتصويب حتى بناء على السببية بمعنى المصلحة السلوكية ، فانتبه وتدبر.

التنبيه الثالث : - وقد ذكره المحقق النائيني قدس سره - انه لا فرق في عدم الاجزاء وكونه مقتضى القاعدة الأولية بين اختلاف الحجة بالنسبة إلى شخص واحد أو شخصين ، فكما لا يجوز ترتيب آثار الواقع على ما كان يبني عليه أولا من الحكم تبعا للحجة كذلك لا يجوز ترتيب آثار الواقع على ما قامت عليه الحجة إذا كانت الحجة لديه على خلافه ، فلا يجوز لمن لا يرى صحة العقد بالفارسية ان يكون أحد طرفي العقد مع من يرى صحة العقد بالفارسية وأجراه بذلك. وهكذا لمن يرى نجاسة العصير العنبي لا يجوز ان يعامل مع من يرى طهارته معاملة الطاهر إذا علم بملاقاته للعصير. ولا يجوز لمن يرى جزئية السورة ان يقتدي بمن لا يرى جزئيتها إذا ترك السورة. وغير ذلك من موارد العبادات والمعاملات. نعم قد يستثنى من ذلك باب الطهارة والنجاسة ويحكم فيها بالاجزاء ، وذلك لما جرت عليه السيرة المتشرعة التي يعلم بانتهائها إلى زمان الأئمة علیهم السلام بلا ردع منهم ، على معاملة الناس معاملة الطهارة وان اختلفوا معهم في الرّأي في كيفية التطهير وإعداد النجاسات ، بل ويشهد لذلك صريحا معاملتهم مع أهل الخلاف معاملة الطاهرين مع اختلافنا معهم في تعيين النجاسات وكيفية التطهير منها ، فهم قد لا يرون الدّم نجسا أو يرون التطهير منه بمجرد زواله عن البدن أو الثوب ، ومع هذا يعاملون معاملة الطاهرين بلا

ص: 85

توقف أحد مما يكشف عن انخرام قاعدة عدم الاجزاء في هذا الباب (1).

وأضاف السيد الخوئي إلى هذا الاستثناء استثناء باب آخر ، وهو باب النكاح متمسكا بما ورد من ان لكل قوم نكاحا ، فانه يدل على البناء على صحة نكاح كل من يرى عقده نكاحا وان لم يكن ثابتا عند الغير ، فيلزم ترتيب آثار الصحة على النكاح بالفارسية على من لا يرى صحته وهكذا (2).

وتحقيق الحال يقتضي التكلم في جهات ثلاثة :

الجهة الأولى : فيما قرره من عدم الفرق في حكم عدم الاجزاء بين شخص واحد أو شخصين ، مرجعه إلى تفريع عدم إمضاء عمل شخص في حق الآخر إذا كان على خلافه في الرّأي تفريعه على عدم الاجزاء. وهو غير وجيه ، فان هذا البحث لا يرتبط ببحث الاجزاء أصلا ، إذ عدم إمضاء عمل شخص في حق الآخر المخالف له في الرّأي لا يختص بالبناء على عدم الاجزاء ، بل الحال أعم من القول بعدم الاجزاء والقول بالاجزاء.

واما على القول بعدم الاجزاء فواضح.

واما على القول بالاجزاء ، فلان أساسه على ما عرفت هو الالتزام بالسببية التي مرجعها إلى كون مؤدى الأمارة ذا مصلحة فعلية ملزمة ، فيكون التكليف الفعلي على طبق مؤدى الأمارة ، ومن الواضح ان هذا المعنى يختص بمن قامت لديه الأمارة ، اما من قامت عنده الأمارة على خلاف ذلك أو علم بالواقع فالحكم الفعلي في حقه هو ما قامت عليه الأمارة لديه أو ما علم به ، ولا ينقلب الواقع إلى ما قامت عليه الأمارة لدى الشخص الآخر لفرض انكشاف الواقع لديه اما تكوينا بالعلم أو تعبدا بالأمارة ، وتلك الأمارة لدى غيره ليست حجة

ص: 86


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 208 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 286 - الطبعة الأولى.

عليه كي يكون متعلقها ومؤداها ذا مصلحة واقعية مجزية عن الواقع. فالبحث في هذا الأمر لا يرتبط بالاجزاء وعدمه ، بل موضوع البحث فيها هو ما بيّنه الشيخ في مكاسبه (1) ، وأشار إليه في رسائله (2) وهو ان الحكم الظاهري في حق شخص هل يكون حكما واقعيا في حق غيره أو لا؟ ومن الواضح ان صيرورته واقعيا في حق غيره مجرد وهم ولفظ لا أكثر.

الجهة الثانية : في كون استثناء باب الطهارة من جهة الحكم بالاجزاء فيها. وقد عرفت ان ذلك لا يبتني على الاجزاء ، فلا يجوز لمن يرى لزوم التعدد في التطهير من البول ترتيب آثار الطهارة على الصبّ مرة واحدة ممن يرى عدم لزوم التعدد ، لو قلنا بالاجزاء ، وإلاّ لزم ترتيب آثار الطهارة على مجرد زوال الدم عن بدن المخالف لأنه يرى الطهارة بذلك ولو علمنا بعدم وصول الماء إليه أصلا وهو مما لا يلتزم به أحد ، فالذي توجه به السيرة القطعية على معاملة الناس معاملة الطاهرين وان اختلفوا رأيا في باب الطهارة والنجاسة ، مع عدم العلم ببقاء النجاسة وعدم التطهير ، بل مع احتمال حصول الطهارة الواقعية هو أحد وجهين :

الأول : البناء على ان غيبة المسلم مطهرة مطلقا ولا تختص بمورد دون آخر ، بل مع احتمال حصول الطهارة الواقعية لبدن المسلم أو ثوبه في غيبته يبني على طهارته وان اختلف رأيا في كيفية التطهير.

الثاني : البناء على جريان أصالة الصحة في عمل الغير مطلقا ولو مع الاختلاف تقليدا أو اجتهادا في العمل الصحيح ، وذلك بترتيب آثار الصحيح الواقعي على العمل المأتي به إذا احتمل ان يكون قد جيء به على ذلك النحو ولو عفوا بدون اختيار وقصد ، فيرتب على تطهير من يرى اجزاء المرة آثار

ص: 87


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب /101- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /29- طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الصحة الواقعية لا الصحة عند الفاعل. وهذه المسألة خلافية ، وقد التزم بها بعض ، وتحقيق أحد الطرفين فيها يكون في بعض جهات الكلام في أصالة الصحة ، وموضوعها ان دليل أصالة الصحة هل هو يقتضى ترتيب آثار الصحة الواقعية على العمل أو الصحة الفاعل؟ فراجع.

الجهة الثالثة : فيما استثناه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - أعني باب النكاح - مستدلا بما ورد من ان لكل قوم نكاحا. ومن الواضح ان هذا النص أجنبي عما نحن فيه ، فانه وارد لبيان إلغاء اعتبار الشروط المأخوذة في النكاح شرعا بالنسبة إلى نكاح غير المسلمين ، وان صحة النكاح بالنسبة إليهم مترتبة على ملاحظة الشروط المعتبرة لدينهم في النكاح ، وذلك لأن مقتضى عموم أدلة اعتبار الشروط هو اعتبارها في صحة كل نكاح سواء صدر من مسلم أو من غيره ، فهذا النص ورد لتخصيص اعتبار تلك الشروط الواقعية في نكاح المسلمين فقط ، فصحة نكاح المسلم تتوقف على توفره على الشروط المعتبرة فيه ، فإذا اختلف شخصان في ذلك وبنى أحدهما على فقدان نكاح الآخر لبعض الشروط لا يجوز ترتيب آثار الصحة عليه ، إذ النص المذكور لا يشمل مثل ذلك ، وانما هو ناظر إلى نكاح غير المسلمين من أقوام الكفر ، فلا يلغي اعتبار الشرط الواقعي بالنسبة إلى نكاح المسلم إذا كان يرى عدم اعتباره ، بل هو يؤكد اعتبارها ويخصصه بنكاح المسلمين.

هذا تمام الكلام في هذا التنبيه. وبه يتم الكلام في الاجزاء (1) (2).

ص: 88


1- وقد تم تدريسا في يوم 14 / ع 1 / 85 وكتابة في يوم 2 / ع 2 / 85 ، إذ لم أكن في المباحث الأخيرة في النجف الأشرف ، وقد كرر تقريرها عليّ سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) ، فلا زال متفضلا.
2- ملخص ما أفيد في الدورة المتأخرة في النجف الأشرف حول إجزاء الأمر الظاهري الوجه الثالث : من وجوه الإشكال على صاحب الكفاية هو : ان دليل التوسعة لا بد وأن يأخذ الطهارة مفروغا عنها ، ثم يثبت سعة الشرطية ، مع انه في مقام جعل الشرطية. والجواب : إنه بمقتضى الحكومة يتكفل التوسعة بالمدلول الالتزامي ، فهو بالمطابقة يتكفل جعل الطهارة المستلزم لترتب الأثر وهو الشرطية ، فتكون دلالته على التوسعة بالالتزام نظير سائر موارد الحكومة المتكفلة للتوسعة. فتدبر. كما إن إشكال : إن المورد من موارد الحكومة الظاهرية ، يمكن دفعه : مضافا إلى ما في المتن ، من إن الدليل يتكفل التوسعة الواقعية لدليل الشرطية ولا ينافي ذلك كونه متكفلا لحكم ظاهري ، إذ الحكم الظاهري لا يمتنع أن يكون له أثر واقعي. ثم ان جريان مطلب الكفاية في أصالة الحل يبتني على أمرين : الأول : كون المراد من محرم الأكل هو هذا العنوان لا جعله طريقا إلى مصاديقه الخارجية كالأسد والهر. الثاني : كون الشرط هو كون الملبوس مما يؤكل لحمه لا أن المانع هو لبس محرم الأكل فلاحظ. ثم إن الفرق بين الأمارة والأصل : ان مرجع التعبد بالأمارة إلى التعبد بوجود الشرط لأنه هو مؤدي الأمارة وهو لا أثر له الا الدخول في الصلاة ، فإذا انكشف الخلاف فلا وجه للإجزاء ، بخلاف الأصل فإنه يتعبد بنفس الطهارة ويجعلها ويوجدها ويترتب عليه صحة الصلاة لوجدان الشرط. ثم ان ما ذكره في الكفاية من التمسك بإطلاق دليل الحجية بناء على السببية لإثبات الاجزاء غير واضح. أما أولا : فلان عمدة الدليل هو بناء العقلاء ، وهو دليل لبي لا إطلاق له. وإما ثانيا : فلأن دليل الحجية ولو كان لفظيا لا يتكفل الأمر. وأما ما ذكره في مورد الشك من الرجوع إلى أصالة عدم سقوط التكليف مع العلم الإجمالي ، فقد يورد عليه : بأنه لا تنجيز للعلم الإجمالي هاهنا لخروج أحد طرفيه عن محل الابتلاء. والجواب : إنه لم يتمسك بالعلم الإجمالي وإنما تمسك بأصالة عدم إتيان ما يسقط به التكليف فتدبر. هذا ما يرتبط بمطلب الكفاية. وأما تحقيق المقام : فلا بد من تحديد محل الكلام ، فقد يقال : إن عمدة البحث في الشبهات الحكمية لا الموضوعية ، ولكن الأمر بالعكس ، لأن جميع موارد الشبهة الحكمية أو أكثرها يرجع إلى تبدل الرّأي لأجل انكشاف عدم الحجية واقعا ، وهذا راجع إلى الأمر الظاهري التخيلي لا الأمر الظاهري الحقيقي ، وهو خلاف محل الكلام. والحق في المقام اجزاء الأمر الظاهري الموضوعي أصلا كان أم إمارة في العبادات دون المعاملات. والسر فيه : إن الشارع حين يتحقق منه التعبد الظاهري المؤمن - مثلا - يكون قد تصدى للمنع عن حكم العقل بالاشتغال حين الشك أو استصحاب التكليف لو كان وقلنا بجريانه. ومع هذا يسقط الحكم الواقعي جزما بعدم قابليته للداعوية مع حكم العقل بالأمان إذ قوام التكليف بالداعوية ، وهي تتقوم بالخوف والرجاء ، فإذا أتى المكلف بالعمل ثم انكشف الخلاف فالموجب لثبوت التكليف الواقعي إما قاعدة الاشتغال أو الاستصحاب أو إطلاق دليل الأمر الواقعي. أما قاعدة الاشتغال فلا تجري ، لأن الشك في حدوث التكليف. واما إطلاق الأدلة ، فقد يقرب جريانه بان المورد كموارد الغفلة التي يسقط فيها التكليف ثم يعود بالالتفات. ولكن الحق عدم جريانه ، لأن المورد من مصاديق المسألة المعروفة وهي دوران الأمر بين عموم العام واستصحاب حكم المخصص ، وهو من موارد عدم العام لأنّ الثابت حكم واحد مستمر ، وقد انقطع استمراره ، فلا مجال للتمسك بالدليل لإثبات الحكم بعد الانقطاع ، كما في الأمر بالوفاء بالعقد فلاحظ. وأما الحكم في موارد الغفلة ، فثبوته بعد الغفلة إنما هو للقطع بثبوت التكليف ، وعدم الفرق بين صورة عروض الغفلة من أول الأمر التي يكون للإطلاق فيها مجال ، وصورة العروض في الأثناء. ومن هنا يمكن أن يقرب ثبوت الحكم بعد الغفلة بأن الإطلاق المثبت للحكم بعد الغفلة مع كونها من أول الأمر يثبت الحكم بعد الغفلة في الأثناء بالملازمة ، والقطع بعدم الفرق. ومن هنا يتضح إن قيام الأمارة لو كان من أول الأمر لم يجر فيه البيان السابق ، لأنه يمكن التمسك بالإطلاق بعد زوال الجهل. ولكن هذا يقتضي ثبوت الحكم في الأمارة القائمة في الأثناء بالملازمة ، كما أشير إليه في صورة الغفلة. وعلى هذا فيختص هذا البيان بخصوص الأمارة أو الأصل الّذي لا يمكن ان يقوم من الأول ، كقاعدة الفراغ ، أو التجاوز ، والظن في الركعات أو الأفعال - على تقدير اعتباره - ، ثم إنه لو تم هذا البيان لا يعارض بحديث لا تعاد لأن ظاهره ثبوت الإعادة في مورد قيام المقتضي لها وقد عرفت عدم تمامية المقتضي للإعادة في موارد قاعدة الفراغ ، فيختص مدلولها بخصوص النسيان. فتأمل. ويمكن أن يقرب الاجزاء بوجهين آخرين : أحدهما : إنه عند قيام الأمارة أو الأصل يثبت جواز الاكتفاء بالعمل في مقام الامتثال ، وبعد الانكشاف يستصحب ذلك. ودعوى : إن الإطلاق حاكم على الاستصحاب. تندفع : بان الإطلاق يثبت الحكم الواقعي ، وهو لا ينافي جواز الاكتفاء الثابت بالاستصحاب ، لأنه متفرع على الحكم الواقعي. ولكن هذا الوجه انما يتم في موارد يكون جواز الاكتفاء ثابتا شرعا ، كموارد قاعدة الفراغ والتجاوز. أما موارد البينة ونحوها فلا ، إذ جواز الاكتفاء فيها عقلي لا شرعي ، فلا معنى لاستصحابه. واستصحاب الطبيعي يكون من القسم الثالث وهو لا نلتزم به. والآخر : إنه عند قيام الأمارة يثبت الترخيص في ترك الواقع ، فيستصحب ذلك بعد الانكشاف ، وهو ينفي الوجوب بناء على ما تقدم من إن الوجوب بحكم العقل الثابت بلحاظ الطلب وعدم الترخيص ، وإذا ثبت الترخيص فلا وجوب ولو كان هذا الترخيص بواسطة الأصل. وقد يقال : إن مقتضي ذلك عدم ثبوت الوجوب مطلقا في موارد الأمر لاستصحاب الترخيص قبل التشريع. وهذا خلاف ما يبني عليه القوم من الأخذ بالدليل وإثبات الوجوب ، إلا إذا أثبت الاستحباب بالدليل. وفيه : إن الترخيص قبل الشرع ثابت في ضمن الإباحة وقد انتفت قطعا هنا بوجود الطلب ولو استحبابا. واستصحاب طبيعي الترخيص من القسم الثالث من استصحاب الكلي وهو ممنوع وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن المستصحب هو الترخيص الظاهري الثابت سابقا الّذي يجتمع مع الطلب الواقعي ، وهو غير معلوم الزوال. ثم إن هذا البيان وسوابقه للاجزاء يتأتّى حتى الأمارات القائمة على الحكم. ولا يختص بالموضوع فلاحظ. ثم إنه لو تم الأجزاء على القول بالطريقية ، فلا إشكال في ثبوته على السببية لنفس البيانات. ولو فرض عدم الإجزاء والرجوع إلى إطلاق الأدلة الدالة على لزوم الإعادة أو القضاء. فهل يحكم بالإجزاء على السببية أو لا؟. التحقيق : ان للسببية مسالك ثلاثة : الأول : السببية بمعنى عدم الواقع إلا ما قامت عليه الأمارة ، وهذا هو المنسوب إلى الأشاعرة ومقتضاه هو الاجزاء ، بل لا موضوع للأجزاء وعدمه لأنه لا واقع هنا غير ما أدت إليه الأمارة حتى يقال إنه مجز عنه. الثاني : المصلحة السلوكية التي بنى عليها الشيخ ، ومقتضاها التفصيل بين الالتزام بتبعية القضاء للأداء وكون التوقيت بنحو تعدد المطلوب ، والالتزام بعدم التبعية وانه بأمر جديد وان التوقيت بنحو وحدة المطلوب. فعلى الأول لا وجه للاجزاء من حيث القضاء ، إذ لم تفت الا مصلحة الوقت ، وأما مصلحة الفعل فهي قابلة للتدارك ، وعلى الثاني يلتزم بالأجزاء لفوات مصلحة الواجب السابق ، فلا بد من تداركه ومع تداركه لا يصدق الفوت الموضوع للقضاء. الثالث : السببية المعتزلية الراجعة إلى انقلاب الواقع عما كان أولا ، ومقتضاها عدم الاجزاء ، إذ غاية ما يقرب الاجزاء عليها بأن المورد عليها يكون كموارد الأوامر الاضطرارية. لكن بيان الأجزاء في الأوامر الاضطرارية - الراجع إلى ان أدلة الأوامر الاضطرارية تقتضي تصنيف المكلفين - لا يجري هاهنا ، إذ لا يقتضي دليل الحجية ولا نفس الأمارة تصنيف المكلفين. كما ان الوجه الآخر الراجع إلى تكفل دليل الأمر الاضطراري تحقيق الشرط كالطهارة بالتيمم لا يجري هاهنا ، فلاحظ وتدبر. يبقى الكلام في بعض خصوصيات كلام الكفاية كتفصيله على السببية بين إمارة الموضوع وإمارة الحكم وقد أوضحنا الفرق في المتن فلاحظ. وأما رجوعه مع الشك إلى أصالة عدم المسقط بضميمة العلم بالشغل فالمراد به كما تقدم ليس التمسك بالعلم الإجمالي بل بالعلم الإجمالي ولضميمة استصحاب ما يثبت بقاء التكليف ، فالتنجز بقاء بواسطة الاستصحاب. وهذا أحسن ما يمكن توجيه كلام الكفاية به ولا يرد عليه سوى إن هذا الاستصحاب من استصحاب الفرد المردد لا الكلي القسم الثاني ، لأن الوجوب لا يتعلق بطبيعي الصلاة الجامعة بين الظهر والجمعة - مثلا - فليس المستصحب كلي الوجوب بل الفرد المردد بين فرديه ، وليس نظير الحدث مما كان المجعول أمرا كليا لا تعلق له بشيء : وتحقيق ذلك الأمر في محله ، مع انه لو رجع إلى استصحاب القسم الثاني فنحن لا نقول به أيضا. فلاحظ.

ص: 89

ص: 90

ص: 91

ص: 92

مقدّمة الواجب

اشارة

ص: 93

ص: 94

مقدمة الواجب

قبل الخوض في المهم لا بد من التنبيه على جهة وهي : انه قد يتساءل عن جهة إطناب صاحب الكفاية في مبحث المقدمة. والبحث في أمور دقيقة نظرية ، مع اعترافه أخيرا بعدم الثمرة العملية لهذا البحث وان ما ذكر له من الثمرات ليس بثمرة له.

والجواب : ان موضوع هذا البحث الطويل وان كان بحسب العنوان والمدخل هو وجوب المقدمة ، لكن الواقع انه يشتمل على أبحاث دقيقة نظرية لا ترتبط في حقيقتها بوجوب المقدمة وعدمه ، وكل منها ذو آثار عملية في الفقه ومقام الفتوى. اما أصل وجوب المقدمة فالبحث عنه نفيا وإثباتا مختصر جدا مع انه غير خال عن الثمرة العملية كما سنشير إليه.

اما تلك الأبحاث الاستطرادية غير المرتبطة بوجوب المقدمة.

فمنها : البحث عن إمكان الشرط المتأخر ومعقوليته وعدمه ، فانه بحث دقيق طويل يستهلك قسما كبيرا من مبحث وجوب المقدمة ، مع انه لا علاقة له بوجوبها وعدمه ، فسواء كانت المقدمة واجبة أو غير واجبة يبحث عن إمكان الشرط المتأخر ، وتترتب عليه آثار عملية فقهية ، كإمكان الالتزام بالكشف في

ص: 95

المعاملة الفضولية المتعقبة للإجازة بناء على إمكانه ، واما بناء على عدم إمكانه فلا مناص عن الالتزام بالنقل ، وثمرة كلا الالتزامين تظهر في النماء المتجدد الحاصل بين زمان العقد والإجازة ، فانه بناء على الكشف يكون للمشتري واما بناء على النقل فيكون للبائع لأنه نماء حدث في ملكه.

ومنها : بعض صغريات بحث المقدمة الموصلة ، وهو البحث عن كون المشروع من المقدمات العبادية هل هو الموصل منها أو الأعم؟ مع قطع النّظر عن وجوبه وعدمه وثمرة هذا البحث ظاهرة ، فان الإيصال إذا كان دخيلا في مشروعية الوضوء للصلاة مثلا ، فلازمه عدم صحة الوضوء إذا لم يترتب عليه الواجب ، بخلاف ما إذا لم يعتبر في المشروعية وكان المشروع مطلق المقدمة.

ومنها : البحث في إمكان الواجب المعلق وعدمه ، فانه مما لا يرتبط بوجوب المقدمة وعدمه وله آثار مهمة في الفقه ، كلزوم الإتيان بالمقدمة عقلا إذا لم يبنى على وجوبها شرعا ، وعلم المكلف انه لا يقدر على الإتيان بها عند دخول وقت الواجب.

وغير ذلك من المباحث التي لا تخفي على النبيه.

واما الثمرة العملية للبحث في وجوب المقدمة ، فهو كون المورد من موارد التعارض بناء على وجوب المقدمة لو كانت المقدمة محرمة وكونه من موارد التزاحم بناء على عدم وجوبها. بيان ذلك : انه إذا وجب شيء كإنقاذ الغريق وكانت له مقدمة محرمة ، وهي الاجتياز في ملك الغير بدون اذنه ، فلو قلنا بوجوب المقدمة كان المورد من موارد التعارض ، لعدم إمكان تعلق الحرمة والوجوب بشيء واحد ، فيتعارض دليل التحريم مع دليل الوجوب بخلاف ما إذا التزمنا بعدم وجوب المقدمة ، فانه يكون من موارد التزاحم ، لاختلاف متعلق الحكمين ، وعدم المحذور في جعل الحرمة والوجوب لكل من متعلقيهما في نفسه ، لكن الحكمين لا يمكن امتثالهما معا لعدم القدرة فيقع التزاحم بينهما ، ومن الواضح

ص: 96

اختلاف الأثر العملي بين ما إذا كان المورد من موارد التعارض أو من موارد التزاحم.

وجملة القول : ان هذا الإطناب ليس موضوعه وجوب المقدمة ، بل موضوعه كثير من المباحث التي يتعرض لها بالمناسبة ، مع ان بحث وجوب المقدمة لا يخلو عن ثمرة عملية كما عرفت.

وبعد هذا يقع الكلام في أمور :

الأمر الأول : والبحث فيه من جهتين :

الجهة الأولى : في ان هذه المسألة مسألة أصولية أو فقهية أو غيرهما.

والّذي أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه هو : انه يمكن فرض المسألة بنحو تكون من المسائل الفقهية ، كأن يفرض البحث عن وجوب المقدمة وعدمه. كما يمكن فرضها بنحو تكون من المسائل الأصولية ، كأن يفرض البحث عن ثبوت الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها ، فانها بذلك تكون من المسائل الأصولية ، لأن نتيجتها تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، وهو وجوب المقدمة المعينة كالوضوء - كما يشير إليه في أواخر المبحث - ، وبهذا الاعتبار لا بد من تحرير المسألة بهذا النحو كي تندرج في مسائل علم الأصول ولا تكون من المسائل الاستطرادية في هذا العلم ، إذ مع إمكان فرض البحث بنحو تكون من المسائل لا وجه لفرضه بنحو تكون خارجة عن العلم ويلتزم بان ذكرها بنحو الاستطراد. هذا مما أفاده في الكفاية (1).

وقد أفيد - خلافا له - بان المسألة لا يمكن ان تكون من المسائل الفقهية ، وذكر لذلك وجوه ثلاثة :

الأول : - ما أفاده المحقق النائيني رحمه اللّه - ان المسألة الفقهية ما كان

ص: 97


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /89- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

موضوعها امرا خاصا كوجوب الصلاة أو الصوم أو نحوهما. اما ما كان موضوعها عنوانا عاما ينطبق على عناوين خاصة فليست بمسألة فقهية ، وذلك كمسألة وجوب المقدمة ، فان المقدمة عنوان عام ينطبق على عناوين خاصة في الأبواب المختلفة كالوضوء ونحوه. فلا تكون من المسائل الفقهية وان كان محمول المسألة هو الوجوب وعدمه (1).

وأورد عليه المحقق العراقي رحمه اللّه : بالنقض ببعض المسائل الفقهية مما كان موضوعها عاما لا يختص بباب دون آخر ، كمسألة وجوب الوفاء بالنذر ، فانه يشمل كل منذور سواء كان صلاة أو حجا أو صوما أو غيرها. ومسألة ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده وعكسها - أي ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده - فان الموصول يعم جميع العقود التي تنطبق عليها الصلة كالبيع والإجارة وغيرهما (2).

الثاني : - ما أفاده المحقق العراقي قدس سره - ان المسألة الفقهية ما كان الحكم المبحوث عنه فيها ناشئا عن ملاك واحد ، ووجوب المقدمة ليس كذلك ، لأن وجوب كل مقدمة بوجوب ذيها ، فملاكه يكون ملاك وجوب ذيها ، ولا يخفى اختلاف الأحكام في الملاكات فملاك وجوب الصلاة غير ملاك وجوب الصوم وهكذا ، فوجوب المقدمة يختلف ملاكه باختلاف موارده فلا تكون المسألة من المسائل الفقهية (3).

وفيه :

أولا : ان تعيين الضابط لمسائل العلم ليس امرا يرجع إلى اختيار كل أحد ، وإلاّ لما صح الإيراد بعدم الطرف والعكس على أحد ، بل الملحوظ فيه أحد

ص: 98


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 213 - الطبعة الأولى.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 313 - الطبعة الأولى.
3- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 312 - الطبعة الأولى.

امرين : اما ان تكون هناك مسائل مجموعة اصطلح عليها باسم خاص ، فيلحظ الجامع بينها ويفرض كونه هو الضابط لمسائل العلم ، واما ان يلحظ الغرض والملاك في تدوين العلم وتحرير مسائله ، فينتزع الضابط للمسائل بلحاظه. واما فرض الضابط بلا لحاظ أحد هذين الأمرين ، بل بالاختيار ، فذلك ما لا وجه له.

ولا يخفى ان الضابط للمسألة الأصولية بلحاظ غرض علم الفقه ، انما هو كل ما يبحث فيه عن عوارض فعل المكلف الشرعية ، سواء تعدد ملاكه أو اتحد ، فمسألة وجوب المقدمة على هذا من المسائل الفقهية ، وزيادة قيد اتحاد الملاك بلا وجه ظاهر.

وثانيا : ان وجوب المقدمة بعنوان انها مقدمة يكون بملاك واحد في جميع موارده وهو ملاك المقدمية ، فانه هو الّذي يوجب ترشح الوجوب على المقدمة في كل الموارد وليس له ملاك آخر غيره.

الثالث : - وهو ما أفاده السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - ان البحث ليس عن خصوص وجوب مقدمة الواجب أو استحباب مقدمة المستحب وانما البحث في الحقيقة يرجع إلى مطلوبية مقدمة المطلوب بقول مطلق بلا خصوصية للوجوب والاستحباب ، وذكر الوجوب في العنوان ليس إلاّ لأهميته لا لخصوصية فيه ، ومعه لا تكون المسألة فقهية ، لأن جامع الطلب ليس من الأحكام الشرعية والعوارض التي تفرض لفعل المكلف ، إذ ما يعرض على فعل المكلف هو خصوصيات الطلب ، بل تكون المسألة مما يستنبط بواسطتها حكم شرعي وهو وجوب المقدمة أو استحبابها كما لا يخفى (1).

وفيه : ان جامع الطلب لو كان امرا متقررا في قبال الوجوب أو الاستحباب ، أو لم يكن كذلك ولكن كان البحث عن مطلوبية المقدمة بكلّي

ص: 99


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 293 - الطبعة الأولى.

الطلب بلا نظر إلى خصوصية الوجوب والاستحباب ، كان ما ذكر في محلّه ، لكنه ليس كذلك ، بل الطلب المأخوذ في العنوان قد أخذ عنوانا ومرآتا للوجوب والاستحباب ، فالبحث يرجع في الحقيقة إلى وجوب مقدمة الواجب واستحباب مقدمة المستحب ، غاية الأمر انه يشار إليهما بلفظ وعنوان واحد.

وبعبارة أخرى : ان لكل من خصوصيتي الوجوب والاستحباب دخل في وجوب المقدمة واستحبابها ، وليس الترشح من جهة أصل الإرادة والطلب فقط ، وإلاّ لما اتجه وجوب مقدمة الواجب دون المستحب ، بل غاية ما يثبت مطلوبيتها ، اما كون الطلب وجوبيا فلا دليل عليه. فالانتهاء إلى وجوب مقدمة الواجب واستحباب مقدمة المستحب من البحث كاشف عن تعلق النّظر في البحث بخصوصيتي الوجوب والاستحباب ، غاية الأمر انه عبّر عنهما بعنوان واحد وهو لا يعني إلغاء الخصوصية ، وبذلك لا تخرج المسألة عن الفقه لأن البحث عن مطلوبية المقدمة عنوانا لا حقيقة. فتدبر.

والإنصاف : ان المسألة ليست من المسائل الأصولية ولا الفقهية ، وانما هي من مبادئ الأصول.

اما عدم كونها من مسائل الأصول : فلما عرفت في مبحث ضابط المسألة الأصولية من ان المسألة الأصولية ما كانت نتيجتها رافعة لتحير المكلف في مقام العمل ، اما تكوينا كمباحث الملازمات العقلية ، أو تعبدا ، كمباحث الأمارات. ولا يخفى ان هذه المسألة لا تتكفل هذه الجهة ، إذ لا تحيّر للمكلف في مقام العمل وأداء الوظيفة ، إذ لا بد عليه من الإتيان بالمقدمة تحصيلا لامتثال ذيها وجبت شرعا أو لم تجب ، فوجوب المقدمة وعدمه لا يؤثر في عمل المكلف أصلا.

واما عدم كونها من مسائل الفقه : فلان المسائل الفقهية ما يبحث فيها عن عوارض الفعل الشرعية العملية لا مطلق العوارض الشرعية. ولا يخفى ان وجوب المقدمة شرعا لا أثر عمليا له ، إذ لا إطاعة له ولا عصيان ولا ثواب عليه

ص: 100

ولا عقاب ولا بعث فيه ولا زجر وقد عرفت ان المكلف يلزمه الإتيان بالمقدمة سواء كانت واجبة شرعا أو لم تكن.

واما كونها من المبادئ : فلما عرفت من ان ثمرتها العملية تحقيق صغرى لمسألة التعارض بناء على الوجوب ، أو صغرى لمسألة التزاحم بناء على عدم الوجوب ، وكل من مسألتي التزاحم والتعارض من مسائل الأصول ، فهي بذلك تكون من مبادئ المسألة الأصولية فلاحظ.

الجهة الثانية : في ان المسألة عقلية أو لفظية.

ذهب صاحب الكفاية إلى كونها عقلية لا لفظية - كما قد يظهر من صاحب المعالم (1) - والوجه فيه : ان أصل الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته محل إشكال ، فلا بد من إيقاع البحث فيه ، ولا معنى لإيقاع البحث في مقام الإثبات وكون وجوب المقدمة مدلولا للفظ بأي الدلالات ، أو عدم كونه مدلولا له بأحدها (2).

ولا يرد على صاحب الكفاية : ان موضوع البحث لا يتحمل البحث في مقامين الثبوت والإثبات - كما هو ظاهر الكفاية - ، لأن مرجع البحث الإثباتي في ثبوت الدلالة الالتزامية على وجوب المقدمة إلى تحقيق وجود الملازمة ثبوتا وعدمه ، فالبحث في مقام الإثبات ينتهي إلى تحقيق مقام الثبوت (3).

وجه عدم ورود هذا الإيراد : ان الملازمة التي هي ملاك الدلالة الالتزامية هي الملازمة العرفية ، والمبحوث عنه ثبوتا هو كلي الملازمة ، ومع كون أصل الملازمة محل الإشكال لا تصل النوبة إلى مرحلة الإثبات ، وتحقيق أي نوع ثابت من أنواع الملازمة وعلى أي حال فالأمر سهل.

ص: 101


1- العاملي جمال الدين. معالم الدين في الأصول /61- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /89- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 261 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

الأمر الثاني : في تقسيمات المقدمة.

وقد تعرض في الكفاية إلى ذكر تقسيمات متعددة لها :

التقسيم الأول : انقسامها إلى المقدمة الداخلية ، وهي : الأجزاء المأخوذة في المأمور به. والمقدمة الخارجية ، وهي : الأمور الخارجة عن الماهية التي يتوقف وجود المأمور به عليها.

وقد تعرض صاحب الكفاية إلى البحث عن المقدمة الداخلية من جهتين :

الجهة الأولى : في صحة إطلاق المقدمة عليها ، إذ قد يستشكل (1) في ذلك : بان المقدمية تتوقف على كون المقدمة سابقة على ذي المقدمة ، والأجزاء غير سابقة على المركب ، لأن الكل هو عين الاجزاء ، ونفس الشيء لا يكون سابقا عليه. والجواب الّذي أشار إليه في الكفاية عن هذا الإشكال هو : ان الأجزاء بالأسر فيها جهتان واقعيتان إحداها مترتبة على الأخرى ، فان في كل جزء جهة ذاته وجهة اجتماعه مع غيره من الأجزاء. ولا يخفى ان جهة الذات متقدمة على جهة اجتماع الذات مع الذات الأخرى تقدم المعروض على العارض ، لأن جهة الاجتماع عارضة على الذوات.

وعليه فنقول : إذا لوحظت الأجزاء بجهة ذاتها كانت المقدمة ، وإذا لوحظت بوصف الاجتماع والانضمام كانت الكل ، فالمقدمة سابقة على الكل وذي المقدمة سبق المعروض على العارض ، وهذا السبق يصحح إطلاق المقدمية عليها.

ويمكن التعبير عن الفرق بين الأجزاء والكل بحسب اصطلاح المعقول : بان الأجزاء ما لوحظت لا بشرط ، والكل ما لوحظ بشرط شيء (2).

وقد نبّه عليه في الكفاية تمهيدا للإشارة إلى الإشكال على جواب صاحب التقريرات عن الاستشكال في مقدمية الأجزاء : بان الجزء ما لوحظ بشرط لا (3) ،

ص: 102


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /90- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /40- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار -3. الطبعة الأولى.

وانه ناشئ عما قيل في بيان جهة الفرق بين الاجزاء الخارجية كالمادة والصورة المعبر عنهما في الإنسان بالنفس والبدن ، والاجزاء التحليلية كالجنس والفصل المعبر عنهما بالحيوان والناطق الموجبة لعدم صحة حمل المادة على الصورة وبالعكس في ظرف صحة حمل كل من الجنس والفصل على الآخر ، فقد قيل في بيان جهة الفرق : ان الاجزاء الخارجية مأخوذة بشرط لا فلا يصح حملها ، والأجزاء التحليلية مأخوذة لا بشرط ، فكان ذلك منشأ لأن يكون جواب صاحب التقريرات في بيان الفرق بين الجزء والكل بان الجزء مأخوذ بشرط لا ، غفلة منه بان ذلك لا يتلاءم مع كونه جزء للكل لأن الكلية والجزئية متضايفان.

وأخذ الجزء الخارجي بشرط لا بلحاظ الحمل لا بلحاظ الجزئية والكلية.

الجهة الثانية : في دخولها في محل النزاع ، والّذي قرّره في الكفاية عدم دخولها في محل النزاع لوجهين :

الأول : وهو ما أشار إليه في حاشية له في المقام : ومرجعه إلى عدم المقتضي للوجوب الغيري فيها ، وذلك لأن ما يدل على وجوب المقدمة وترشح الوجوب عليها ، انما هو الارتكاز العقلائي العرفي ، وهو غاية ما يدل على ثبوت الوجوب والترشح في مورد تعدد الوجود ومغايرة وجود المقدمة لوجود ذيها ، اما مع عدم مغايرة وجود المقدمة لوجود ذيها واتحادهما في الوجود ، وتصحيح المقدمية بوجه من الوجوه الدقيقة العقلية ، كما في الجزء والكل ، فالدليل قاصر عن إثبات وجوبها وترشح الوجوب من ذيها عليها (1).

الثاني : وهو ما ذكره في متن الكفاية ، ومرجعه إلى وجود المانع من تعلق الوجوب الغيري بها ، وبيان ذلك : ان الاجزاء لما كانت عين الكل في الوجود كان الأمر النفسيّ المتعلق بالكل متعلق بها حقيقة ، فهي متعلقة للوجوب النفسيّ ،

ص: 103


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /91- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعليه فيلزم من تعلق الوجوب الغيري بناء على ثبوت مقتضية اجتماع حكمين على موضوع واحد وهو محال ، لأنه من باب اجتماع المثلين وهو في المنع كاجتماع الضدين ، فالأجزاء لا تكون متعلقة للوجوب الغيري وان ثبت مقتضية فيها لوجود المانع وهو استلزامه للمحال (1).

وقد ذكر للتفصي عن هذا المحذور وجهان :

الأول : ما ذكره المحقق النائيني رحمه اللّه من : انه لا مانع من تعلق الوجوب الغيري بالأجزاء مع تعلق الوجوب النفسيّ بها إذا رجع إلى تعلق حكم واحد بها مؤكّد لا حكمين مستقلين كي يستلزم اجتماع المثلين ، فمحذور اجتماع المثلين يرتفع بالالتزام بالتأكد في الوجوب ، كما يلتزم به في غير الأجزاء من الواجبات النفسيّة إذا كانت مقدمة لواجب آخر ، نظير صلاة الظهر فانها مقدمة لصلاة العصر فهي واجبة بوجوب مؤكد لثبوت ملاك الوجوب الغيري فيها بضميمة تعلق الوجوب النفسيّ.

ولكنه استشكل في هذا الوجه بدعوى : ان التأكد انما يتصور في غير المورد الّذي يكون الوجوب الغيري معلولا للوجوب النفسيّ ، نظير مثال صلاة الظهر. واما إذا كان الوجوب الغيري معلولا لنفس الوجوب النفسيّ كالأجزاء ، فان وجوبها الغيري المفروض يترشح من وجوبها النفسيّ ، فيمتنع فرض التأكد فيه (2).

وأورد عليه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) : بان امتناع التأكد انما يتم لو كان أحدهما سابقا على الآخر زمانا ، بمعنى ان وجود أحدهما بعد وجود الآخر ، لا ما كان أحدهما متقدما على الآخر رتبة مع تقاربهما في الوجود كما فيما نحن فيه ، إذ

ص: 104


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /90- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 218 - الطبعة الأولى.

العلة لا تنفك عن المعلول وجودا والسبق واللحوق بينهما رتبي لا زماني فلا مانع من التأكد (1).

وفيه : ان جهة استحالة التأكد لا يفترق فيها الحال بين النحوين. فان الوجه في امتناع تأكد المعلول مع العلة : ان ترشح الوجوب الغيري لما كان معلولا للوجوب النفسيّ لا يمكن فرضه إلا بفرض تحقق الوجوب النفسيّ خارجا ووجوده كي يترشح منه الوجوب الغيري ويكون مؤثرا في وجوده تأثير العلة بالمعلول ، ولا يخفى ان لكل وجود حد خاص معين ، وعليه فإذا فرض ترشح الوجوب الغيري عن الوجوب النفسيّ مقارنا لوجوده ، فاما ان يكون لكل منهما وجود مستقل فيلزم اجتماع المثلين. واما ان ينعدم الوجوب النفسيّ بحدّه الخاصّ ويحدث فرد جديد للوجوب مؤكد فيلزم انعدام علة الوجوب الغيري - إذ قد عرفت أنه الوجوب النفسيّ بحدّه الوجوديّ - ، وهو مساوق لعدم وجود الوجوب الغيري لانعدام المعلول بانعدام علته ، ففرض التأكد بين المعلول والعلة ملازم لفرض انعدام العلة بحدّها الوجوديّ الّذي به قوام التأثير ، وهو مستلزم لانعدام المعلول وهو خلف فرض التأكد ، ولا يخفى ان هذا الوجه لا يرتفع بدعوى المقارنة بين وجود المعلول ووجود العلة زمانا والاختلاف رتبة ، فان ملاكه أعم ، فكما يمتنع التأكد مع التقدم الزماني لعين الوجه ، فكذلك يمتنع مع التقدم الرتبي والعلية وان تقارن زمان العلة والمعلول. فلاحظ.

الثاني : ما ذكره في الكفاية من انه قد تقرر في مبحث اجتماع الأمر والنهي ان اختلاف الوجه والعنوان يجدي في رفع غائلة امتناع اجتماع الحكمين المتضادين ، فلا بد ان يكون كافيا في رفع غائلة اجتماع الحكمين المتماثلين لأنه موجب لتعدد المعنون ، ولا يخفى ان العنوان الّذي يثبت له الوجوب الغيري في

ص: 105


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 300 - الطبعة الأولى.

الأجزاء غير العنوان الّذي يثبت له الوجوب النفسيّ فيها ، فان الوجوب النفسيّ طارئ على عنوان المركب الخاصّ من صلاة وصوم وغيرهما ، والغيري طارئ على الاجزاء بعنوان المقدمية ، فيختلف العنوان وبه ترتفع غائلة اجتماع الحكمين المتماثلين.

وأورد عليه في الكفاية : ان عنوان المقدمية لم يؤخذ جهة تقييدية ، فليس الوجوب بعارض على عنوان المقدمة ، بل هو عارض على ذات المقدمة وما هي بالحمل الشائع مقدمة ، فعنوان المقدمية مأخوذ بنحو الجهة التعليلية ، فتكون ذوات الأجزاء متعلقة للوجوب النفسيّ باعتبار انها عين المركب ، ومتعلقة للوجوب الغيري لأنها مقدمة فيجتمع المثلان في واحد (1).

فتحصل من مجموع ما ذكرنا خروج الأجزاء عن موضوع الكلام ، فموضوع الكلام هو المقدمات الخارجية التي لا ينبسط عليها الوجوب النفسيّ.

التقسيم الثاني : انقسامها إلى المقدمة العقلية والشرعية والعادية.

فالعقلية : ما توقف وجود الشيء عليها عقلا.

والشرعية : ما توقف وجود الشيء عليها شرعا.

والعادية : ما توقف وجود الشيء عليها عادة.

وقد أفاد صاحب الكفاية : بان التحقيق يقضي برجوع الكل إلى العقلية ، وانه ليس لدينا مقدمة غير عقلية.

اما الشرعية : فلان توقف وجود الشيء عليها شرعا لا يكون إلاّ بأخذها شرطا في الواجب والمأمور به ، ولا يخفى ان استحالة المشروط بدون شرطه عقلية.

وبعبارة أخرى : توقف وجود الواجب - بما أنه واجب - على وجود الشرط

ص: 106


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /90- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

مما يحكم به العقل بعد أخذه شرطا.

واما العادية : فهي بمعنى خارجة عن المقسم ، ولا تكون مقدمة حقيقة. وبمعنى آخر ترجع إلى العقلية ، فانها بمعنى كون التوقف عليها بحسب الاعتياد والتعارف مع إمكان وجود ذيها بدونها نظير لبس الحذاء أو الرداء عند الخروج إلى السوق ، لا تكون مقدمة حقيقة لأن معنى المقدمية مساوق للتوقف ، والفرض انه لا توقف هنا ، وإطلاق المقدمة على مثله مسامحي. وبمعنى ان التوقف عليها فعلا واقعي لكنه باعتبار عدم إمكان غيره عادة لا عقلا ، كتوقف الصعود على السطح على نصب السلّم تكون مقدمة عقلية ، لأن العقل يحكم باستحالة الصعود بدون مثل النصب فعلا وان كان ممكنا في نفسه وذاته ، لأن العقل انما يحكم باستحالة الطفرة لا بعدم إمكان الصعود بدون مثل النصب ذاتا كما لا يخفى (1).

التقسيم الثالث : انقسامها إلى مقدمة الصحة ومقدمة الوجود ومقدمة الوجوب ومقدمة العلم.

وقد التزم ان موضوع البحث هو مقدمة الوجود دون غيرها ، لرجوع مقدمة الصحة إلى مقدمة الوجود ، لأن مفروض الكلام هو مقدمة الواجب ، ولا يخفى ان مقدمة صحة العمل وما عليه يتوقف صحة العمل يرجع إلى كونه مقدمة لوجود الواجب ، إذ الواجب انما هو الصحيح دون الأعم ، كي يتوهم انفراد مقدمة وجوده عن مقدمة صحته.

واما مقدمة الوجوب : فلان الوجوب النفسيّ لا يتحقق إلا بعد تحققها ،

ص: 107


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /91- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام . لا يظهر من كلامه رجوع الكل إلى العقلية إذ لم ينكر وجود المقدمة العادية بأحد معنييها ، وعدم رجوعها إلى العقلية ، وانما التزم بخروجها عن محل النزاع لعدم وجود ملاك الوجوب الغيري فيها وهو التوقف. وهو لا ينافي كونها مقدمة عادة وعرفا. ( المقرر ).

نظير الاستطاعة بالنسبة إلى وجوب الحج ، ومعه لا يعقل فرض ترشح الوجوب من ذيها عليها ، للزوم طلب الحاصل.

واما مقدمة العلم : فهي مما لا يتوقف وجود الواجب عليها واقعا ، فان الصلاة إلى كل جهة من الجهات المحتملة للقبلة لا تكون دخيلة في حصول نفس الواجب الواقعي ، نعم هي دخيلة في حصول ما هو واجب عقلا وهو حصول العلم بالامتثال ، فتكون واجبة بالوجوب العقلي الإرشادي من باب وجوب الإطاعة لا الوجوب الشرعي المولوي من باب الملازمة ، لعدم كونها مقدمة له.

واعلم : ان هذين التقسيمين لا يستدعيان أكثر من إيضاح مطلب الكفاية ، إذ لا يتكفلان بحثا علميا ومطلبا دقيقا ، ولذلك اقتصرنا في الكلام عنهما على مطلب الكفاية. وانما المهم هو البحث في الشرط المتأخر الّذي يجيء ذكره في التقسيم الآخر فلاحظه.

التقسيم الرابع : انقسامها إلى المقدمة المتقدمة والمقدمة المقارنة والمقدمة المتأخرة.

فانها ان كانت سابقة زمانا على ذيها كانت متقدمة. وان كانت مقارنة في وجودها لوجود ذي المقدمة كانت مقارنة. وان كانت لاحقة له في الوجود كانت متأخرة.

وقد وقع الكلام في معقولية المقدمة المتأخرة ، وبتعبير آخر : « الشرط المتأخر » ، كالأغسال الليلية المعتبرة عند بعض في صحة صوم المستحاضة في اليوم السابق.

وجهة الإشكال في معقولية الشرط المتأخر هي : ان معنى كونه شرطا ومقدمة انه دخيل في وجود المشروط وتحققه ، بحيث يكون من اجزاء علته ، وعليه فإذا فرض وجود المشروط في زمان سابق على زمان وجود الشرط المفروض أنه دخيل في التأثير لزم ان يؤثر المعدوم - وهو الشرط - في الموجود - وهو المشروط - ،

ص: 108

وتأثير المعدوم في الموجود محال.

وقد أسرى صاحب الكفاية هذا الإشكال إلى الشرط المتقدم المتصرم وجوده عند وجود المشروط : كالعقد في الصّرف والسّلم ، فان حصول الملكية انما يكون بعد القبض ، ولا يخفى انه لا وجود للعقد حينه فيلزم تأثير المعدوم في الموجود ، إذ لا كلام في دخالة العقد في تحقق الملكية. بل في كل عقد بالنسبة إلى غالب أجزائه ما عدا الجزء الأخير منه ، لأن الإنشاء بألفاظه دخيل في تحقق الأثر المنشأ مع انه لا وجود لغالب الألفاظ حال تحقق الأثر (1).

وبهذه التسرية ألزم صاحب الكفاية نفسه والأعلام بحلّ الإشكال ، إذ الالتزام به في هذه الموارد ونظائرها يستلزم تأسيس فقه جديد وأحكام غريبة ، لأن الإشكال لو كان يقتصر على الشرط المتأخر خاصة ، لأمكن الالتزام به ونفى الشرط المتأخر وتوجيه ما ورد مما ظاهره ذلك لقلة موارده ، اما بعد ان صار الإشكال ساريا في موارد كثيرة جدا فالالتزام به مشكل جدا فلا بد من حلّه.

والّذي أفاده في الكفاية في مقام الحل هو : ان الشرط والمؤثر في الحقيقة ليس ما يصطلح عليه الشرط ويسمى به ، وانما هو امر آخر مقارن للمشروط ، وهذا الأمر ثابت بالنسبة إلى الشرط المقارن أيضا. بيان ذلك : ان الشرط اما ان يكون شرطا للحكم ، سواء كان حكما تكليفيا أو وضعيا. واما ان يكون شرطا للمأمور به.

اما الحكم ، فقد ادعى : ان الشرط الحقيقي المؤثر فيه هو الوجود العلمي للشرط لا الخارجي ، والوجود العلمي مقارن للحكم مطلقا. بتقريب : أنه قد تقرر في محلّه ان العلة باجزائها لا بد ان تكون من سنخ المعلول - وهو المعبّر عنه بقانون السنخيّة - ، فلا بد ان يتحد أفق العلة مع أفق المعلول - ، ويمتنع ان يكون

ص: 109


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /92- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أفق العلة غير أفق المعلول ، فإذا كان المعلول من الأمور الذهنية امتنع ان تكون علته من الأمور الخارجية لامتناع تأثير الخارجي في الذهنيات ، وإلا لزم وجود الخارجي بما انه كذلك في الذهن وهو محال.

وعليه ، فبما ان الحكم الشرعي - تكليفيا كان أو وضعيا - من افعال المولى الاختيارية ، فهي صادرة عن إرادة المولى ومنبعثة عنها ، فلا معنى لتأثير الأمور الخارجية فيه ، وانما ينقل الكلام إلى مصدر نشوء الإرادة وتحقيقها ، فبما ان أفق الإرادة ليس هو الخارج وانما هو النّفس امتنع ان يؤثر فيها شيء من الخارجيات ، ولذا كانت مقدماتها ذهنية ، ومنها تصور الشرط الخارجي فانه يوجب إرادة الحكم ويؤثر فيها ، فالمؤثر هو العلم بالشرط وتصوره لا نفس الشرط بوجوده الخارجي لامتناع تأثيره في الإرادة كما عرفت ، وهذا المعنى كما يتأتى في الشرط المتقدم والمتأخر يتأتى في الشرط المقارن أيضا ، فان المؤثر في الحقيقة هو تصور وجوده لا نفس وجود الخارجي ، لامتناع تأثير الخارجيات في الإرادة.

وبالجملة : في مورد ثبوت الشرط للحكم ، يكون الشرط في الحقيقة هو الوجود العلمي التصوري لذلك الأمر لا نفس ذلك الأمر الخارجي ، فانه هو الّذي يصلح للتأثير في الإرادة دون المطابق الخارجي. ومن الواضح ان تصور الشرط يكون مقارنا للمعلول ، أعني الإرادة ، وان كان مطابقه متأخرا أو متقدما ، فلا يلزم تأثير المعدوم في الموجود. واما تسمية الأمور الخارجية بالشروط فهي بلحاظ كونها مطابقا لما هو الشرط في الحقيقة : أعني الوجود الذهني لها.

واما المأمور به فقد ادعى : ان الشرط في الحقيقة ليس ما يصطلح عليه بالشرط ، وانما هو إضافة خاصة للمأمور به طرفها ذلك الأمر ، والإضافة مقارنة مطلقا للمأمور به. بتقريب : ان الشيء لا يكون متعلقا للأمر وموردا له إلاّ إذا كان معنونا بعنوان حسن يستلزم تعلق الأمر به ، ومن الواضح الّذي لا إشكال فيه اختلاف الحسن والقبح باختلاف الوجوه والاعتبارات الناشئة من

ص: 110

الإضافات ، فالشيء باعتبار إضافة خاصة يكون ذا وجه به يتصف بالحسن.

وعليه ، فالذي يكون دخيلا في تعلق الأمر وصيرورة الشيء مأمورا به نفس إضافة ذات المأمور به إلى أمر آخر بإضافة خاصة لا نفس الأمر الآخر الّذي يكون طرف الإضافة.

وعلى هذا فشرطية شيء للمأمور به مرجعها إلى كون إضافة المأمور به إليه محصلة لوجه يوجب اتصافه بالحسن ، فمرجعها إلى دخالة إضافة المأمور به في تعلق الأمر وتأثيرها فيه. ومن الظاهر انه كما تكون إضافة شيء إلى أمر مقارن له موجبة لتعنونه بعنوان حسن به يكون متعلقا للأمر ، كذلك يمكن ان تكون إضافته إلى أمر متقدم عليه أو متأخر عنه موجبة لذلك ، فالتأثير في الحقيقة في جميع ذلك إلى الإضافة وهي الشرط حقيقة ، وهي مقارنة للمأمور به مطلقا. اما نفس الأمر المقارن أو المتقدم أو المتأخر فإطلاق الشرط عليه باعتبار أنه طرف الإضافة لا غير ، لا باعتبار انه الشرط حقيقة كي يتوهم استلزام ذلك تأثير المعدوم في الموجود في مورد الشرط المتأخر.

والمتحصل : ان الشرط في الحقيقة أمر مقارن للمشروط - سواء كان الحكم أو المأمور به - ، وإطلاق الشرط على الأمور المتأخرة والمتقدمة ، بل المقارنة بلحاظ نوع من العلاقة والارتباط بينها وبين ما هو الشرط حقيقة والمؤثر في الواقع.

هذا إيضاح ما ورد في الكفاية في التفصّي عن الأشكال المذكور (1).

وقد قيل في التفصي عنه : ان اجزاء العلة على نحوين : نحو يكون دخيلا في نفس تأثير المقتضي في المعلول. ونحو لا يكون دخيلا في التأثير وانما يكون مقربا للمعلول من علته ، ويعبر عنه في الاصطلاح بالمعدّ ، نظير الخطوات

ص: 111


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /93- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

التدريجية غير الخطوة الأخيرة المنتهية إلى المكان الّذي يراد الوصول إليه ، فان الخطوة الأولى والثانية وهكذا - وان كانت مما يتوقف عليها الكون في المكان لكنها - غير مؤثرة في نفس الكون في ذلك المكان ، وانما أثرها مقربية ذلك المكان للمؤثر وهو الخطوة الأخيرة.

وهذا النحو من الأجزاء - أعني المعدات - لا يمتنع تقدمها على المعلول بحيث تكون معدومة عند حصوله كما في المثال المزبور ، فان الخطوات السابقة منعدمة عند الكون في المكان الخاصّ ، وانما الّذي تلزم مقارنته للمعلول هو الأجزاء المؤثرة فيه.

وعليه ، فحيث ان الشرائط الشرعية كلها من قبيل المعدّات المقربة لم يمتنع تقدمها على المشروط وكونها منعدمة عند وجوده (1).

وهذا الجواب مضافا إلى انه يرفع الإشكال في خصوص الشرط المتقدم لا المتأخر - إذ ليس هو من قبيل المعدّ - يبتني على استظهار كون الشروط الشرعية من قبيل المعدّات ، وهو لا يخلو من جزاف ، ولعلنا نعود إلى هذا الجواب وما حوله من الكلام مرة أخرى.

ثم ان المحقق الأصفهاني ذكر امرا - في تعليقته على مطلب الكفاية في شرائط الحكم - بعنوان الإيراد على صاحب الكفاية ، ثم تصدى إلى جوابه ، وتوجيه كلام صاحب الكفاية وتصحيحه في بعض أنحائه.

اما ما ذكره بعنوان الإيراد فهو : ان للبعث والتحريك الاعتباريين الذين هما من افعال المولى الآمر جهتين : جهة تعلق إرادة الآمر بهما. وجهة ذاتيهما ووجوديهما الحقيقيّين. فهما بلحاظ الجهة الأولى كسائر مرادات المولى لا يتأثر ان

ص: 112


1- تعرض إليه في نهاية الدراية 1 / 170 وادعى ان الالتزام بكون جميع الأسباب والشرائط الشرعية معدات ، جزاف.

بالأمور الخارجية ، لأن الإرادة من الكيفيات النفسانيّة فلا يؤثر فيها ما هو خارج عن أفق النّفس. ولكنهما بلحاظ هذه الجهة خارجان عن محل الكلام ، فان محل الكلام جهة وجودهما الحقيقي ، وبهذا اللحاظ يبقى الإشكال في محله ولا ينحل بما أفيد ، لإمكان توقف وجود البعث الحقيقي على الأمور الخارجية ، وعليه فيقع الكلام في صحة توقفه على ما هو متأخر عنه وجودا. هذا ما ذكره بنصّ العبارة - تقريبا - وهو لا يخلو عن إجمال (1). وسيتضح في طيّ ذكر كلمات الاعلام وما يدور حولها ، لذلك سنترك الكلام فيه وننتقل إلى كلام علم آخر وهو المحقق النائيني ...

فقد أورد على ما أفاده صاحب الكفاية من إرجاع الشروط إلى التصور وعلم الآمر : بأنه نقل للكلام إلى غير موضعه ، وناشئ عن الخلط بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية.

بيان ذلك : ان إنشاء الحكم يتصور على نحوين :

الأول : ان يكون بنحو القضية الخارجية ، وذلك بان ينشأ الحكم على موضوع متحقق ثابت خارجي ، كما يقال - مثلا - « أكرم زيدا » ، فان الحكم قد رتب على موضوع خارجي موجود ولم يعلق على شيء ، وهذا النحو من الأحكام يكون الدخيل في ملاكه وموضوعه علم المولى بلا تأثير للأمور الخارجية ومطابقات العلم فيه ، فيعلم المولى بان زيدا صديق له فيوجب إكرامه ويثبت الحكم بذلك ، وان لم يكن زيد في الواقع صديقا له. ومن الواضح ان فعلية الحكم هاهنا لا تنفك عن إنشائه وجودا ، إذ الفرض انه لم يعلق على شيء ، بل ثبت على موضوع موجود خارجا. نعم هي متأخرة عن إنشائه رتبة.

الثاني : ان يكون بنحو القضية الحقيقية ، وذلك بان ينشأ الحكم على

ص: 113


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 170 - الطبعة الأولى.

موضوع مقدّر الوجود ، ولا يلحظ فيه مقام الخارج وانه ثابت خارجا أو لا ، بل الحكم ينشأ بنحو التعليق على وجود الموضوع خارجا بلا نظر للمولى إلى الخارج أصلا ، فيقال مثلا : « يجب الحج على من يستطيع » اما تشخيص المستطيع خارجا والحكم عليه فهو أجنبي عن المولى وليس من وظيفته ، بخلاف القضية الخارجية فان المولى في حكمه ناظر إلى الخارج ومرجع حكمه إلى تشخيص الموضوع وتعيينه بنفسه.

ولا يخفى ان فعلية الحكم يمكن أن تنفك عن إنشائه - في القضايا الحقيقية - فيتحقق إنشاؤه فعلا بلا ان يكون فعليا ، إذ فعليته تدور مدار ثبوت موضوعه ، فقد لا يكون الموضوع حال الإنشاء متحققا ، فلا يكون الحكم فعليا وثابتا أيضا. ومن هنا التزم قدس سره بإمكان انفكاك الجعل عن المجعول وان للمجعول عالما غير عالم الجعل. ونظّر له بالوصية التمليكية ، فان إنشاء التمليك يكون في حال الحياة مع ان الملكية لا تتحقق إلا بعد الموت بالإنشاء السابق ، لأن موضوعها هو الموت وهو لم يكن متحققا حال الإنشاء.

وكما تفترق القضايا الحقيقية عن الخارجية في هذه الجهة - أعني انفكاك الحكم المجعول عن الجعل والإنشاء زمانا - كذلك تفترق عنها في جهة أخرى ، وهي ان المؤثر في ثبوت الحكم في القضايا الخارجية على ما عرفت هو علم المولى بتحقق الموضوع وتشخيصه ذلك ، وان لم يكن في الواقع ثابتا. اما القضايا الحقيقية فليس الحال فيها كذلك ، فان المؤثر في ثبوت الحكم من حيث الموضوع هو وجود الموضوع خارجا علم به المولى أو لم يعلم ، لأن الفرض كون الحكم منشأ على تقدير ثبوت الموضوع فيدور مدار ثبوته الواقعي لا مدار علم المولى ، بخلاف القضية الخارجية ، لأن الحكم لم ينشأ على تقدير الموضوع ، بل أنشئ فعلا على الموضوع الخارجي ، فترجع جهة ثبوته إلى علم المولى بتوفر جهات الموضوع فيما حكم عليه وان لم يكن كذلك واقعا.

ص: 114

وإذا تبين هذا يعلم ان ما ذكره صاحب الكفاية من رجوع شرائط الحكم إلى التصور والعلم انما يتمّ في ما إذا كانت الأحكام بنحو القضايا الخارجية ، لا ما إذا كان الحكم بنحو القضية الحقيقية ، لما عرفت في انحصار التأثير في الأولى في نفس العلم لا إلى الخارجيات. وعليه فلا يمتنع ان يكون مطابق العلم متقدما أو متأخّرا ، لأن التأثير لصورته وهي مقارنة لا لوجوده الخارجي. اما القضايا الحقيقية فقد عرفت ان فعلية الحكم فيها لا ترجع إلى علم المولى وعدم علمه ، بل ترتبط بوجود الموضوع وتحققه وعدمه. ومحل الكلام في الشرط المتأخر هو هذا النحو من الأحكام لا النحو الأول ، فما جاء في الكفاية يكون نقلا للكلام إلى غير موضعه وخلطا بين القضايا الحقيقية والقضايا الخارجية (1).

وعلى أي حال فمحل الكلام وموضع البحث في نظر المحقق النائيني هو الأحكام المنشأة بنحو القضية الحقيقية ، لأنها التي يتصور دخل الأمور الخارجية فيها ، فيقع البحث في انه هل يمكن ان يفرض امرا متأخرا عن الحكم وجودا دخيلا في وجود الحكم وتحققه أو لا؟ ، دون المنشأة بنحو القضية الخارجية لعدم تأثير الأمور الخارجية فيها ، بل المؤثر فيها ليس إلاّ علم المولى وهو مقارن ، وان كان المعلوم متأخرا أو متقدما لعدم تأثيره. اما الحكم المنشأ بنحو القضية الحقيقية فلما لم يكن لعلم المولى تأثير في تحققه وفعليته ، بل التأثير لوجود موضوعه ، فيتصور ان يؤثر فيه ما هو متأخر عنه ، فيتكلم في انه هل يمكن ان يؤثر في وجود الحكم ما هو متأخر زمانا عنه أو لا؟. والّذي بنى عليه المحقق المذكور عدم إمكان ذلك وامتناعه عقلا. ببيان : ان تعليق الحكم على امر مرجعه إلى أخذ ذلك الأمر في موضوع الحكم ، ومرجع ذلك إلى أخذه مفروض الوجود في مرحلة سابقة على الحكم في ثبوت الحكم ، بمعنى ان ثبوت الحكم متفرع على

ص: 115


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 222 - الطبعة الأولى.

تحققه وثبوته ، فلا بد ان يفرض وجوده في مرحلة ثبوت الحكم فان هذا هو معنى فرض وجود الموضوع الّذي عرفت توقف فعلية الحكم عليه.

وعليه ، فيمتنع ان يعلق الحكم على امر متأخر عنه ، ويكون الأمر المتأخر شرطا له ، إذ الحكم - على هذا - يوجد قبل وجود الأمر المتأخر ، وهذا يستلزم الخلف ، لأن معنى كونه شرطا أخذه مفروض الوجود في مرحلة ثبوت الحكم ، وثبوت الحكم على تقدير تحققه ، فثبوت الحكم مع عدم تحققه يرجع إلى وجود الحكم قبل وجود موضوعه وهو خلف محال. بهذا التقريب انتهى المحقق النائيني إلى امتناع الشرط المتأخر.

وأورد عليه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) : بان أخذه شرطا ومفروض الوجود وربط الحكم به بنحو ارتباط امر بيد الشارع الجاعل ، فيتبع كيفية الجعل والتقدير والفرض ، فإذا فرض ان الجاعل فرض الارتباط بينه وبين الحكم بوجوده المتأخر عن الحكم ، بمعنى انه أخذه مفروض الوجود في زمان متأخر وتأثيره في ثبوت الحكم بهذا النحو ، فلا يمتنع ان يوجد الحكم قبله ، إذ لم يؤخذ مفروض الوجود حال الحكم ، بل أخذ مفروض الوجود في الزمان المتأخر ، فلا يستلزم ثبوت الحكم قبله الخلف المحال ، بل يكون ذلك مطابقا لما هو المفروض والمجعول من قبل الشارع. وعلى هذا فلا يمتنع الشرط المتأخر من هذه الجهة (1).

ولا بد في تحقيق الحال في كلام المحقق النائيني وما يدور حوله من كلام من تحقيق بعض الأمور :

الأمر الأول : في انه هل يكون وراء إنشاء المولى وجعله امرا يكون مرتبطا بالأمور الخارجية؟ ، وبتعبير آخر : هل ان للمجعول - بتعبير - والمعتبر

ص: 116


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 313 - الطبعة الأولى.

والأمر الاعتباري - بتعبير آخر - عالما غير عالم الجعل والاعتبار ، ويكون مرتبطا بالأمور الخارجية أو لا؟.

وتحقيق الحال : ان في هذا الأمر مسالك ثلاثة :

المسلك الأول : - وهو مسلك المحقق النائيني رحمه اللّه - ان المجعول والمعتبر له عالم غير عالم الجعل والاعتبار ، فيمكن ان ينفك عنه ، فيتحقق الجعل دون المجعول لارتباط المجعول بأمور خارجية تتحقق فيما بعد ، وقد نظّر لذلك بباب الوصية التمليكية ، فان الموصي ينشئ التمليك حال الحياة مع عدم حصول الملكية في تلك الحال ، بل تحصل بعد الموت ، فالاعتبار منفك عن المعتبر.

وبالجملة : الّذي يدعيه ان فعلية المجعول لا تلازم فعلية الجعل ، بل هي ترتبط بالأمور الخارجية فتدور مدارها وجودا وعدما. ومن هذه الجهة يقع البحث في الشرط المتأخر كما تقدم تقريبه. وهذا أصل قرّره وبنى عليه كثير من الآراء الأصولية كامتناع الشرط المتأخر والواجب المعلق وغير ذلك (1).

وقد نوقش هذا الوجه :

أولا : بان المعتبر لا تقرّر له ولا عالم سوى عالم الجعل والاعتبار ، فيستحيل ان ينفك عن الاعتبار ويوجد متأخرا عنه ، فانه نظير الماهية المتصورة في الذهن ، فانها كما لا يمكن انفكاكها عن التصور ، فيوجد التصور بدون الماهية المتصورة ، لأن واقعها هو التصور ، كذلك لا يمكن انفكاك المعتبر عن الاعتبار والمجعول عن الجعل لتمحض واقعه في الجعل والاعتبار ، وليس له واقع وراء ذلك ، فلا يمكن تخلفه عنه.

وثانيا : - أو بتقريب آخر - ان نسبة الاعتبار إلى المعتبر نسبة الإيجاد إلى الوجود ، وقد تقرر ان الإيجاد والوجود متحدان ذاتا ، والتغاير بينهما اعتباري فلا

ص: 117


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 127 و 145 - الطبعة الأولى.

يمكن تصور الانفكاك بينهما.

المسلك الثاني : - وهو ما يظهر من كلمات المحقق الأصفهاني - ان الاعتبار بحسب ذاته وواقعه يرجع إلى الفرض والبناء ، نظير التخيل والادعاء كأنياب الأغوال ، إلاّ ان يختلف عنه بان الفرض إذا كان متعنونا بعنوان حسن ، كما إذا كان ذا مصلحة سمّي اعتبارا وخرج عن مجرد الفرض كالتخيّل. والتعنون بالعنوان الحسن المقوم لتحقق الاعتبار والمعتبر قد يكون مرتبطا بأمور خارجية بحيث تكون دخيلة في ذلك. فالاعتبار والمعتبر لا ينفكان إلا أنهما يتحققان بلحاظ تعنون القرار بعنوان حسن ، ولكنهما قد يتأخران تحققا عن الفرض لتأخر التعنون بالحسن ، باعتبار ارتباطه بالأمور الخارجية. وعلى هذا الأساس يقع البحث في الشرط المتأخر ، وذلك بان يقال : انه هل يمكن ان يكون من الأمور الخارجية المؤثرة في حصول العنوان الحسن وتحقق الاعتبار والمعتبر ، ما هو متأخر وجودا عن ترتب الأثر أو لا؟.

وهذا المسلك باطل كما أشار إليه المحقق الأصفهاني نفسه فان الاعتبار هو عبارة عن الإنشاء والجعل بداع عقلائي لا لصرف الفرض والبناء - كي يكون نظير أنياب الأغوال - وعليه فهو لا يتأخر عن نفس القرار والجعل ، ولا ينفك عنه المجعول والمعتبر - كما هو المفروض - ولا يتوقف ثبوته على نفس ترتب الآثار.

المسلك الثالث : - ما يظهر من المحقق العراقي - وهو ان الجعل والمجعول لا ينفكان وليس للجعل عالم غير عالم المجعول بل عالمهما واحد ، وفعلية المجعول لا تنفك عن الجعل. إلاّ ان تأثير المجعول وترتب الآثار العقلائية عليه قد تنفصل عن فعلية المجعول فلا تترتب عليه الباعثية والمحركية بمجرد وجوده ، بل يكون ترتبها بلحاظ ثبوت بعض الأمور الخارجية وبتعبير آخر : ان فعلية المجعول وان كانت ثابتة بالجعل ، لكن فاعليته قد تنفصل عنها ، فيحصل الانفكاك بين

ص: 118

الفاعلية والفعلية لتوقف الفاعلية على حصول بعض الأمور الخارجية. ومن هذه الجهة يقع البحث في الشرط المتأخر فيقال : انه هل يمكن تأثير أمر في فاعلية الحكم وترتب الأثر عليه يكون متأخرا عنه أو لا يمكن؟. وإلاّ فنفس الحكم ثابت بنفس الجعل غير معلق على شيء بالمرّة.

وهذا المسلك مخدوش من وجهين :

الأول : انه غير تام في نفسه ، فانه مع البناء والالتزام بان الحكم ثابت بنحو الفعلية وغير مقيد بأيّ امر من الأمور ، يمتنع الالتزام بعدم ترتب الباعثية والمحركية عليه ، وانه غير واجب الإطاعة فعلا ، فانه مما لا محصل له ، إذ يرجع إلى تخصيص الحكم العقلي بلزوم الإطاعة وهو ممتنع حتى من قبل الشارع.

وبالجملة : بعد تمامية الحكم بجميع جهاته لا وجه لعدم ترتب الأثر عليه وتوقفه على امر لا يرتبط بالحكم.

الثاني : ان المورد بذلك يخرج عن موضع البحث ، إذ موضع البحث هو تقييد نفس الحكم وتعليقه على شرط متأخر ، لا تقييد ترتب الأثر عليه بشرط متأخر مع كون نفس الحكم ثابتا بقول مطلق. وبنحو أوضح نقول : ان الغرض هو البحث عما يرى بالبداهة شرطا متأخرا للحكم وتصحيحه بنحو يرفع الأشكال ، فإرجاع ذلك إلى كونه شرطا لغير الحكم وهو ترتب الأثر عليه وكون الحكم ثابتا بلا تعليق مما يخالف الظهور البديهي للشرط ، خروج عن محل الكلام ونقل الكلام إلى موضع آخر لا يهمنا البحث عنه فعلا. وبانتفاء كل من المسالك الثلاثة يشكل البحث في الشرط المتأخر ، إذ لا يتحدد موضعه ومحلّه كي يدور النفي والإثبات والنقض والإبرام حوله.

فالتحقيق ان يقال : ان الإنشاء ليس عبارة عن اعتبار المعنى المنشأ من قبل المنشئ ، بل هو - كما حقق في محلّه على ما تقدم - التسبيب إلى تحقق الاعتبار العقلائي للمعنى المنشأ الموجد باللفظ ، بمعنى ان المنشأ

ص: 119

يتسبب بإنشائه إلى تحقق اعتبار العقلاء لما أنشأه باللفظ ، اما لأجل تحقق الاعتبار العقلائي في نفسه فيكون بعمله وإنشائه متسببا لتطبيق الاعتبار الكلي على المورد أو لأجل أنه بإنشائه يحدث الاعتبار العقلائي بعد أن لم يكن ثابتا قبل الإنشاء. وببيان أوضح : أنه تارة : يكون للعقلاء اعتبار كلي بنحو القضية الحقيقية ، كأن اعتبروا الملكية عند إنشائها - مثلا - ، فإذا إنشاء المنشئ يكون مسببا إلى تطبيق ذلك الاعتبار الكلي على مورد إنشائها لإيجاده ما هو موضوع الحكم العقلائي واعتبار العقلاء. وأخرى : لا يكون لهم اعتبار كلي. بل يتحقق اعتبارهم عند تحقق كل إنشاء ، فالمنشئ يتسبب بإنشائه إلى احداث اعتبار العقلاء.

وعلى أيّ حال : فالاعتبار انما هو من قبل العقلاء لا نفس المنشئ ، نعم يمكن تسمية الإنشاء بالجعل ، لكنه لا بالمعنى الحقيقي للجعل ، لما عرفت من انه لا يتكفل سوى التسبيب لجعل العقلاء.

ثم ان الاعتبار العقلائي قد يكون مرتبطا بالأمور الخارجية ، وذلك لأنه يتبع قصد المنشئ وكيفية إنشائه. فتارة ينشئ المعنى مطلقا بمعنى انه يقصد تحقق اعتباره حال إنشائه فيكون الاعتبار على طبق قصده. وأخرى ينشئه مقيدا ، بمعنى انه يقصد تحققه في ظرف خاص أو عند وجود أمر معين. فيكون الاعتبار على نحو قصده فلا يتحقق الاعتبار إلا في ذلك الظرف وعلى النحو الّذي قصده وأنشأه.

وبذلك يتضح ان للمجعول عالما غير عالم الإنشاء والجعل - بالمعنى المسامحي - ، وان لم ينفك عن الجعل العقلائي ، ويمكن ان يكون مرتبطا بالأمور الخارجية ولا يتمحض ارتباطه بالموجودات الذهنية كنفس الإنشاء ، فيقع الكلام حينئذ في انه هل يمكن ان يكون مرتبطا بما يكون متأخرا عنه في وجوده أو لا؟. فيتجه الكلام في الشرط المتأخر أو يتحدد موضعه ، وبعد هذا ننقل الكلام إلى ...

ص: 120

الأمر الثاني : الّذي يدور البحث فيه حول تشخيص نوع الارتباط الموجود بين المجعول والأمور الخارجية.

وقد عرفت ان مرجع الارتباط بالأمور الخارجية هو كيفية الإنشاء والجعل ، لأن الاعتبار العقلائي تابع لقصد المنشئ ، فقد يقصد تحقق المعنى في ظرف معين ، فلا يتحقق الاعتبار إلا في ذلك الظرف ، وهذا هو معنى الارتباط ، فيعلم بذلك بان الارتباط بين الأمر الخارجي المفروض والمجعول ليس من قبيل ارتباط العلة بالمعلول ، بمعنى ان يكون الأمر الخارجي دخيلا في تحقق الاعتبار ومؤثرا فيه ، كي يستشكل بأن الاعتبار فعل من افعال العقلاء تابع للإرادة فلا يمكن ان يؤثر فيه ما هو خارج عن أفق النّفس من الخارجيات. وانما الارتباط بينهما ناشئ عن كيفية الإنشاء والجعل ، فانه كما عرفت تابع لقصد المنشئ ، فإذا أنشأ المعنى وقصد تحققه في فرض وتقدير خاص كان الاعتبار في ذلك الظرف الخاصّ وعلى ذلك التقدير المعين ، ولا يخرج بذلك عن كونه فعلا من افعال العقلاء تابعا لتحقق الإرادة بلا تأثير للخارجيات فيها أصلا.

الأمر الثالث : في تحقيق معنى الفرض والتقدير الّذي ورد في كلام المحقق النائيني في مقام بيان المراد من القضية الحقيقية من أن موضوعها مأخوذ بنحو فرض الوجود ، وانه هل يمكن ان يكون الأمر المتأخر مأخوذا بنحو الفرض والتقدير أو لا يمكن؟. ولا بد قبل ذلك من البحث في ان هذه القيود المأخوذة في القضية الحقيقية بنحو فرض الوجود هل هي من قبيل قيود متعلق التكليف أو لا ، بل تكون من قبيل آخر؟. بيان ذلك : ان قسما من القيود يكون راجعا إلى متعلق التكليف ولا يجب تحصيله ، كما إذا كان من الأمور غير الاختيارية كالوقت في مثل : « صل في الوقت الكذائي » ، أو كان من الأمور الاختيارية ولكن أخذ قيدا بوجوده - لا بذاته كي يجب تحصيله نظير أخذ الطهارة في الصلاة - ، وذلك كالمسجد في مثل : « صل في المسجد » ، فان كلا من

ص: 121

المسجد والوقت مما لا يلزم تحصيله مع رجوعه إلى المتعلق ، فان متعلق التكليف هو الحصة الخاصة كالصلاة في الوقت أو في المسجد. وقسما من القيود لا يكون راجعا إلى المتعلق مع كونه قيدا للحكم - بمعنى تقيد الحكم به - كظرف الحكم ، فان الحكم إذا تحقق في زمان خاص كان متقيدا به واقعا مع ان ذلك الزمان لم يؤخذ قيدا في المتعلق ، بل المتعلق في حيّز الخطاب مطلق من جهته وان كان لا ينفك عنه حقيقة.

إذا عرفت ذلك ، نقول : ان قيود الحكم في القضية الحقيقية المفروضة الوجود - والقدر المتيقن منها الأمور غير الاختيارية - هل هي راجعة إلى المتعلق فتكون من قيوده ويكون المتعلق هو الحصة المتقيدة بها وان لم يلزم تحصيلها ، أو انها لا ترجع إلى المتعلق؟.

والثمرة انه إذا كانت راجعة إلى المتعلق ومن قيوده كان فرض وجود الأمر المتأخر بمكان من الإمكان ، لأن مرجع ذلك إلى تقييد متعلق الحكم بالقيد وإضافته إليه بجعله الحصة المضافة إليه بنحو من أنحاء الإضافة. ومن الواضح ان كيفية التقييد والإضافة بيد الجاعل ، فيمكن ان يقيد المتعلق بالمتأخر بجعله الحصة المتعقبة بذلك الأمر كتقييده بالمقارن وجعله الحصة المقارنة له.

وهذا بخلاف ما إذا لم تكن راجعة إلى المتعلق ، فانه لا يمكن يؤخذ منها ما هو متأخر من الحكم قيدا له.

والتحقيق : انها لا ترجع إلى متعلق التكليف ، وذلك لوجوه :

الأول : الوجدان الشاهد على عدم رجوع بعض تلك القيود في بعض مواردها إلى متعلق الحكم نظير الحيازة أو البيع الّذي يكون سببا لملكية العين المحازة أو المباحة. فان من الظاهر ان متعلق الحكم - وهو الملكية - هو ذات العين كالأرض والكتاب من دون ان تتقيد في مقام طروء الحكم عليها بالحيازة والبيع ، مع ان كلا من الحيازة والبيع مأخوذ بنحو فرض الوجود ، إذ تحقق الملكية انما

ص: 122

يكون عند تحققهما ، فهما من قيود تحقق الملكية لكنهما لا يرجعان إلى المتعلق ، فان اعتبار الملكية موضوعه نفس العين بذاتها ، لا العين بقيد الحيازة أو البيع ، نعم لا يتحقق الاعتبار إلا عند تحقق الحيازة أو البيع ، لكنه لا يعنى رجوعه إلى المتعلق.

الثاني : ان تحقق الحكم تابع لتحقق ملاكه ودواعيه ، ومن الواضح أنه تابع لثبوت المصلحة في متعلقه ، والفعل بلحاظ المصلحة المترتبة عليه له مرحلتان : مرحلة اتصافه بالمصلحة بأن يكون ذا مصلحة ، ومرحلة فعلية مصلحته بمعنى مرحلة الترتب الفعلي للمصلحة عليه ، فمن القيود ما يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، وهذا النحو لا يكون واجب التحصيل. ومنها ما يكون دخيلا في فعلية مصلحة الفعل وترتبها عليه ، وهذا يكون لازم التحصيل. ومثاله في التكوينيات : شرب الدواء ، فانه قبل تحقق المرض لا يكون ذا مصلحة أصلا ، فالمرض دخيل في اتصاف الدواء بالمصلحة ، بمعين ان شربه يكون ذا مصلحة ، ولكن قد يشرب الدواء ولا تترتب عليه المصلحة وهي الشفاء ، لفقد بعض الشروط الدخيلة في ترتبها نظير الاعداد بالنحو الخاصّ من حرارة خاصة وكمّية خاصة وغيرهما ، فمثل الوضع على النار للحرارة يكون دخيلا في ترتب المصلحة على الدواء المشروب ولذا يكون لازم التحصيل.

وعليه ، فما يكون دخيلا في أصل الاتصاف بالمصلحة يكون دخيلا في تحقق الإرادة التي ينبعث عنها الحكم ، فتحقق الإرادة مترتب على تحققه - وان لم يكن بنفسه مؤثرا بالمباشرة لمعلولية الإرادة للصور الذهنية بلا تأثير للخارجيات - ، إذ بعد تحققه يتصور الآمر مصلحة الفعل فيبعث نحوه لحصول الشوق إليه عندئذ ، ومثل هذا لا يكون مأخوذا في متعلق الإرادة والحكم لفرض تحققه حين تعلق الإرادة بالفعل ، فلا يتجه إضافة ، المتعلق إليه. إذا تمّ هذا فاعلم : ان الشروط المأخوذة بنحو فرض الوجود كلها تكون دخيلة في اتصاف الفعل بالمصلحة ، فتكون سابقة على الإرادة والحكم فلا يتجه أخذها في متعلق الحكم.

ص: 123

الثالث : ان ارتباط قيود المتعلق به ينشأ من تقييد طبيعي المأمور به بوجود القيد الخاصّ ، بمعنى ان المأمور به يكون هو الحصة المضافة إلى وجود القيد الخاصّ بإضافة معينة خاصة ، وذلك يكون بتوسيط بين مفهوم المأمور به ومفهوم القيد بلحاظ المرآتية عن الواقع والنّظر إلى الخارج والحكاية عنه. وهذا المعنى غير ثابت في فرض الوجود ، فإن فرض الوجود مرجعه إلى فعل نفسي محصله الإتيان بهذا العمل حين وجود ذلك العمل ، فالارتباط الثابت بفرض الوجود ارتباط بين الواقعين والخارجين ، وليس ذلك بمعنى تقييد أحدهما بالآخر وإضافته إليه وكونه الحصة المتقيدة به ، بل بمعنى تحقق ذلك خارجا عند تحقق هذا ، وهذا ينافي البناء النفسيّ على ذلك. فسنخ الارتباط بينهما يختلف عن سنخ ارتباط المتعلق بقيوده ، فالارتباط بينهما ناشئ من الاتحاد في التحقق والمقارنة في الوجود بفرض الجاعل وبنائه على هذا العمل. والارتباط بين المتعلق وقيوده ناشئ من تقييده بها وإضافته إليها.

وعليه ، فلا مجال لرجوع الشروط المفروضة الوجود إلى قيود المتعلق ، فيقع الكلام بعد هذا في صحة كون مفروض الوجود متأخرا عن الحكم.

والتحقيق : انه ممنوع ، وذلك لأن فرض الوجود الّذي هو عبارة عن ربط مخصوص لا محصل له ولا معنى سوى الربط بنحو الترتب ، بمعنى كون وجود الحكم مترتبا على ما فرض وجوده فانه معنى فرض الوجود ومن المعلوم أنه لا يعقل ترتب وجود الحكم على وجود الشرط المتأخر عنه ، بل لا بد من مقارنته للحكم ، لأن الترتب لازم لمقارنة المترتب على المترتب عليه أو تأخره عنه زمانا ولا يعقل تقدمه عليه ، ومن هنا يتعين القول باستحالة الشرط المتأخر بالتقريب الّذي قرّره المحقق النائيني من لزوم الخلف منه.

ومن هذا البيان يظهر أن ما أفاده السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) في مقام الإيراد على المحقق النائيني قدس سره : بان الفرض والربط بين الحكم

ص: 124

والشرط تابع لكيفية الجعل وفرض الجاعل ، فيمكن ان يفرض الارتباط بين الحكم والأمر المتأخر كما مرّ تفصيله. غير وجيه ، لأنك قد عرفت ان واقع الفرض والتقدير ترتيب وجود الحكم على وجود الشرط من قبل الجاعل ، فترتيبه على أمر متأخر غير معقول.

واما ما أفاده صاحب الكفاية من تصحيح الشرط المتأخر بإرجاع الشرط حقيقة إلى أمر مقارن ، وهو الوجود العلمي ، وان اختلف مطابقه الخارجي من جهة المقارنة والتقدم والتأخر. فقد عرفت الإيراد عليه من قبل المحقق النائيني من أنه خلط بين القضايا الخارجية التي يتبع الحكم فيها علم المولى وتشخيصه الموضوع والقضايا الحقيقية التي يؤخذ فيها الموضوع مفروض الوجود بلا دخل لعلم المولى وتصوره في البين.

واما ما جاء في حاشية المحقق الأصفهاني في مقام الإيراد على صاحب الكفاية من : ان للبعث اعتبارين : اعتبار أنه فعل من افعال المولى ، واعتبار انه موجود حقيقي. وانه بالاعتبار الأخير يتأثر بالخارجيات. فقد عرفت انه لا يخلو عن غموض ، وغاية ما يمكن توضيحه به هو ما تقدم من المسلك الثاني في باب الاعتبار الّذي عرفت ظهوره من كلماته قدس سره ، من ان الاعتبار عبارة عن الفرض ، ولكنه يختلف عنه بأنه الفرض المتعنون بعنوان حسن أو المترتب عليه أثر عقلائي - على اختلاف تعبيراته - وبذلك يتأثر بالأمور الخارجية الموجبة للتعنون بالحسن ، فنفس الفعل وان كان من أفعال المولى إلا أن وجود الاعتبار والمعتبر حقيقة يرتبط بالتعنون بالحسن الّذي يتأثر بالأمور الخارجية.

ولكنك عرفت الخدشة في نفس المسلك منه قدس سره وأن الاعتبار ليس إلا البناء والقرار بداع عقلائي. كما يرد عليه : إن توقف الاعتبار على التعنون بالعنوان الحسن لا يخرجه عن حقيقته وهي الفرض الّذي هو فعل من افعال المولى المستلزم لامتناع تأثره بالخارجيات ، واختلاف الاعتبار واللحاظ في البعث

ص: 125

لا يستلزم تغيير حقيقته.

ثم ان المحقق العراقي قدس سره حاول تصحيح الشرط المتأخر في الشرعيات والتكوينيات ببيان : ان حقيقة الشرط ليس كما يقال من أنه المتمم لتأثير المقتضي كي يمتنع تأخره ، لاستحالة تأثير المعدوم في الموجود. وانما حقيقته هو كونه طرفا لإضافة المقتضي إليه فيتحدد بها ويتحصص بواسطتها ، فيكون بهذه الإضافة مؤثرا من دون أن يكون لنفس الشرط تأثير في وجود المعلول ، بل المؤثر ليس إلا المقتضي ، لكنه هو الحصة الخاصة منه ، فالمؤثر في الإحراق ليس هو مطلق النار ، بل الحصة الخاصة منها وهي النار المجاورة للشيء ، أو يكون طرفا لإضافة المعلول إليه ، فيكون بتلك الإضافة قابلا للانوجاد والتأثير ، فليس الشرط كما يدعى هو المتمم لفاعلية الفاعل أو قابلية القابل ، بل هو طرف إضافة وتحديد بها تحصل الفاعلية للفاعل والقابلية للقابل ، ومن الواضح انه لا يمتنع ان يكون طرف الإضافة من الأمور المتأخرة بعد ان كانت الإضافة مقارنة ولم يكن للأمر المتأخر أي تأثير (1).

ولا يخفى ما فيه : لأنه إن أريد من الإضافة الخاصة التي بها يكون المعلول قابلا للانوجاد أو المقتضي قابلا للإيجاد الإضافة الاعتبارية اللحاظية ، لم يتجه الالتزام بتأثيرها في قابلية العلة أو المعلول ، فانها لا تعدو التصور والبناء ، فلا معنى لدخالتها في تأثيرها في قبول المعلول للانوجاد والعلة للإيجاد ، فانه من الواضح إن تأثير النار في الإحراق وقابلية الشيء للحرق لا يرتبط بعالم اللحاظ والإضافات بل هو مرتبط بعالم الخارج وناشئ عن الجهات الخارجية ، وهذا أمر لا يشك فيه أحد ، فدعوى تأثير نفس الإضافة في القابلية بحيث لا يكون المضاف قبل اللحاظ الخاصّ قابلا للتأثر أو التأثير لا ترجع إلى محصل.

ص: 126


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 275 - الطبعة الأولى.

واما إذا أريد من الإضافة الإضافة الحقيقة المقولية التي لها تقرر واقعي ، فهي تتوقف على تحقق طرفيها فعلا ، والمفروض أنه بصدد تصحيح كون طرفها غير متحقق فعلا ، فلاحظ جيدا.

وملخص ما حرّرناه : هو امتناع الشرط المتأخر بناء على كون الأحكام مجعولة بنحو القضية الحقيقة ، وما قيل في تصحيحه من الوجوه التي عرفتها لا تغني ولا تسمن من جوع. وعليه فلو ورد ما ظاهره شرطية الأمر المتأخر ، كما لو ورد ما يدل على حصول الملكية من حين العقد إذا أجاز المالك بعد حين - في عقد الفضولي - ، فلا بد من الالتزام بخلاف ظاهره بحمله على كون الشرط عنوانا انتزاعيا عن وجود الأمر المتأخر في زمانه ، كعنوان التعقب به ، فالمؤثر هو العقد المتعقب بالإجازة ، فالشرط هو عنوان التعقب وهو أمر مقارن دون طرف الإضافة أعني الإجازة. فلا يتحقق المحذور.

فعلى هذا يمكننا أن ندعي : بان الشرط المتأخر بمعنى ممتنع وبمعنى آخر معقول ، لكنه بالمعنى المعقول خلاف الظاهر ، لأن الظاهر من الدليل كون الشرط هو نفس الأمر المتأخر ، وقد عرفت ان معقوليته تكون بإرجاع الشرط إلى العنوان الانتزاعي.

وقد اشترط المحقق النائيني في الالتزام بأن الشرط هو العنوان الانتزاعي كعنوان التعقب امرين :

الأول : قيام الدليل على شرطية الأمر المتأخر بحيث لا يمكن توجيهه إلاّ بذلك.

الثاني : مساعدة العرف والعقل على كون الشرط هو العنوان الانتزاعي في خصوص المورد لا مطلقا لفرض تجويز العقل لذلك في نفسه (1).

ص: 127


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 228 - الطبعة الأولى.

وقد استشكل المحقق الخوئي في الشرط الثاني : بأنه بعد فرض معقولية هذا المعنى ثبوتا وإمكان حمل الدليل الإثباتي عليه - بل انحصار محمله به -. فلا معنى لتقييد ذلك بمساعدة العرف والعقل ، إذ ليس للعرف والعقل مجال تشريع في قبال الشارع المقدس (1).

والظاهر ان هذا الاستشكال ناشئ عن عدم التدقيق في معرفة مراد المحقق النائيني قدس سره ، فان مراده ليس ان للعرف والعقل جهة تشريعية في قبال الشارع ، وانما نظره إلى أن هذا المعنى وان كان في نفسه معقولا لكن قد لا يساعد العقل في خصوص مورد لخصوصية فيه على كون الشرط هو المعنى الانتزاعي ، بان كان يرى عدم دخالة هذا المعنى في الحكم ، كأن يرى أن المؤثر في ملكية - لو كان غير العقد مؤثر - هو نفس الرضا دون عنوان التعقب. أو لا يساعد العرف عليه بحسب مرتكزاته بحيث لم يمكنه توجيه الدليل إلى الوجه العقلي المعقول وحمله عليه. ففي مثل هاتين الحالتين لا يحمل الدليل على ذلك المعنى الثبوتي ، لأنه مناف للفهم العرفي أو الإدراك العقلي كمنافاة ظاهره للحكم العقلي بامتناع الشرط المتأخر. فلا بد من طرحه وما أفاده هاهنا نظير لما يقال في باب الاستصحاب من ان المحكم في تعيين موضوع الحكم الوارد في الدليل هل هو العقل أو العرف أو المتبع لسان الدليل؟ ، فانه لا يعني ان العقل والعرف يحكم في قبال الشارع بتعيين الموضوع ، بل النّظر إلى أن العقل هل يحكم نظره في دخالة هذا الوصف - مثلا - في الموضوع الشرعي أو عدم دخالته بان كان يراه من الجهات التعليلية؟ ، أو انه هل يتبع العرف بحسب مرتكزاته وفهمه ، فما يراه موضوعا شرعيا للحكم الشرعي يؤخذ به أو لا؟. وبتعبير آخر : وظيفة العقل والعرف تعيين ما هو الموضوع عند الشارع بحسب القواعد المقررة لكل منهما

ص: 128


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 316 - الطبعة الأولى.

لا تعيين موضوع الحكم قبالا للشرع وحكمه به. فالاستشكال لا مجال له.

يبقى الكلام في شيء وان لم يكن مرتبطا بمحل كلامنا ، وهو ما أفاده المحقق النائيني قدس سره : من أن كل قيد أخذ في الخطاب ولم يكن لازم التحصيل لا بد أن يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود (1) ، وقد التزم بذلك وكرّر التنبيه عليه. فلا بد من معرفة مقدار وجاهة هذا المفاد.

والتحقيق انه غير وجيه.

وذلك لأن القيود التي تؤخذ في الخطاب على أنحاء ثلاثة :

الأول : قيود المتعلق.

الثاني : ما يكون مرتبطا بالحكم بنفسه ، كالزمان فان نسبته إلى الحكم نسبة الظرف إلى المظروف.

الثالث : ما لا يكون بنفسه وبلحاظه خاصة ارتباط مع الحكم أصلا.

ومن الواضح ان الّذي يحتاج إلى أخذه مفروض الوجود هو النحو الثالث الّذي لا ارتباط له بنفسه مع الحكم أصلا ، فمع لحاظ المولى كلا من الحكم والقيد لا يمكنه جعل الارتباط بينهما من دون توسط شيء آخر إلا بنحو فرض الوجود. وهذا بخلاف مثل الزمان فانّه يمكنه جعل الارتباط بينهما من دون توسط شيء آخر بدون فرض الوجود ، فيقول مثلا : « أوجبت التصدق في يوم الجمعة » ، لأن الزمان يكون مرتبطا بالشيء لو وجد فيه بلا توسط شيء ، بخلاف مجيء زيد بالنسبة إلى وجوب التصدق ، فانه لا ارتباط بينهما أصلا لو وجدا متقارنين إلا بالفرض والتقدير. نعم يمكن الربط بينهما بغير الفرض والتقدير إذا توسط بينهما شيء آخر كالزمان ، فانه يقال : « يجب التصدق في زمان مجيء زيد » ، لكنه خلاف الفرض ، إذ المفروض ان المولى لا يلحظ شيئا غير الحكم والقيد ، ومعه

ص: 129


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 132 - الطبعة الأولى.

لا يمكن الربط بينهما إلا بالفرض والتقدير ، وهو - أعني فرض الوجود - ليس شيئا آخر زائدا كالزمان ، بل هو فعل نفسي مرجعه إلى إيجاد أحد الشيئين مترتبا على وجود الآخر كما عرفت.

ومن هنا يتضح الحال في قيود المتعلق ، إذ بعد تقيد المتعلق بها وكونه الحصة الخاصة ، لا حاجة إلى ربطه بالحكم بأخذه مفروض الوجود لتحقق ارتباطه به بتوسط ارتباط الحكم بالمتعلق بلا احتياج إلى فرض وجوده. فتدبر.

هذا كله بالنسبة إلى ما يرجع إلى شرائط الحكم التكليفي أو الوضعي.

واما ما يرجع إلى شرائط المأمور به المتأخرة ، فالإشكال فيها من جهتين :

الجهة الأولى : - وهي تعمّ جميع موارد الشرط المتأخر للمأمور به - : ان الأثر المترتب على المأمور به والّذي بلحاظه يتعلق به الأمر - أعني المصلحة الواقعية - اما ان يكون مترتبا على المشروط قبل حصول الشرط. أو يكون مترتبا بعد حصول الشرط ، إذ المفروض تخلل العدم بين الشرط والمشروط ، فان كان مترتبا على المشروط قبل حصول الشرط لزم ان يؤثر المعدوم في الموجود ، لأن مقتضى شرطية المتأخر تأثيره فيه ، والفرض انه - أي الشرط المتأخر - معدوم عند حصول الأثر. وان ترتب بعد حصول الشرط كان المشروط حينئذ منعدما ، فيلزم أيضا تأثير المعدوم في الموجود. فعلى كلا التقديرين يلزم ما هو المحال من تأثير المعدوم في الموجود.

ورفع الإشكال من هذه الجهة بأحد وجهين :

الأول : ان يلتزم بترتب الأثر عند حصول الشرط مع عدم كون المشروط دخيلا في التأثير ، بل هو يكون من قبيل المعدّ للأثر ، بمعنى أنه يقرب المعلول من العلة - كما مر - وقد عرفت ان المعدّ يمكن أن يكون سابقا ، إذ لا يستلزم سبقه تأثير المعدوم في الموجود لعدم كونه من اجزاء المؤثر.

الثاني : ان يجاب بما أفاده صاحب الكفاية قدس سره ، وذلك بعد إنكار

ص: 130

تبعية الحكم للمصلحة الواقعية في متعلقه ، وانما هو تابع للحسن المتعنون به المأمور به ، فيقال حينئذ : بان الحسن يختلف بالوجوه والاعتبارات الناشئة من اختلاف الإضافات ، فالحسن ينشأ من إضافة خاصة ، وعليه فالدخيل في تحقق المأمور به هو نفس الإضافة إلى الأمر المتأخر أو غيره. وتسمية الأمر المتأخر شرطا ليس إلا بلحاظ كونه طرف الإضافة من دون ان يكون دخيلا في تحقق المأمور به. ومن الواضح أن الإضافة من الأمور المقارنة وان كان طرفها متأخرا. فشرط المأمور به في الحقيقة أمر مقارن وهو الإضافة الخاصة ، لأنها هي الموجبة لتعنون العمل بالحسن دون طرفها ، إذ وجود الأمر المتأخر لا يوجب تعنون المأمور به بالحسن ما لم يلحظ المأمور به مضافا إليه ومتقيدا به (1).

وقد بنى المحقق النائيني قدس سره ارتفاع الإشكال هاهنا على الالتزام بتعلق الأمر الضمني كالأجزاء ، ثم قرر هذا المعنى وهو : ان الأمر الضمني متعلق بالشرائط ، ومعه يرتفع الإشكال (2).

ولكنا لم نعلم الربط بين تعلق الأمر الضمني بالشرط وارتفاع الإشكال ، لأن الإشكال إن كان من جهة ان تحقق المأمور به فعلا يتوقف على وجود الأمر المتأخر ، فيكفي في دفعه تعلق الأمر بنفس التقيد ولو لم يتعلق بنفس القيد ، لأنه - أي التقيد - مقارن للمأمور به. وان كان من جهة ترتب الأثر ، فلا بد من الإجابة عنه بما عرفت من الوجهين ، ولا يندفع بتعلق الأمر بالشرط ، لأنه متأخر وجودا عن المشروط ، فارتفاع الإشكال لا يرتبط بتعلق الأمر الضمني بالشرط أصلا.

الجهة الثانية : - وهي خاصة بمورد المثال الّذي يذكر لشرط المأمور به

ص: 131


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /93- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 221 - الطبعة الأولى.

المتأخر ويتصدون لتصحيحه ، وهي تقيد صحة صوم المستحاضة بغسل الليلة الآتية - فإن الإشكال فيه ليس من جهة تأخر الشرط عن المشروط ، كي يدفع بما عرفت ، بل الإشكال فيه من جهة ان من يلتزم باعتبار الغسل يلتزم به من باب أنه دخيل في تحقق الطهارة المعتبرة في الأعمال السابقة كالصوم ، فيقع الإشكال في صحة تأثير المتأخر في تحقق الشرط المتقدم الّذي هو الطهارة المفروض مقارنته للعمل ، إذ الطهارة اما أن تحدث في ظرف العمل - كما هو المفروض - أو بعده ، فان حدثت في ظرف العمل لزم تأثير المعدوم - وهو الغسل - في الموجود. وان لم تحدث في ظرف العمل ، بل حدثت في زمان الغسل لزم وقوع العمل بلا طهارة. فالعمدة في الإشكال في هذا المورد هو هذه الجهة ، ولكن الأعلام لم يتعرضوا لها ولا لحلها ، بل تابعوا صاحب الكفاية ، سوى المحقق النائيني فانه تعرض لبيان جهة الإشكال فيها فقط.

والوجه ان يقال : انه حيث يرجع الغسل إلى شرطية الحكم الوضعي وهو الطهارة ، فمن يلتزم بإمكان شرطية المتأخر للحكم الوضعي كصاحب الكفاية ينحل الإشكال هنا لديه. ومن لا يلتزم بإمكان ذلك كما هو المختار تبعا للمحقق النائيني يشكل الأمر في المورد ، فلو دل دليل قطعي على اعتبار الغسل في صحة العمل السابق لا بد من توجيهه : إما بان يلتزم بأن الشرط نفس الغسل لا بلحاظ تأثيره في الطهارة. أو يلتزم بان الشرط هو العنوان الانتزاعي المقارن للعمل كعنوان التعقب ، كما قد التزم بذلك في باب عقد الفضولي ، لكن الأمر هاهنا أشكل ، لأن ما يتعنون بعنوان التعقب في مورد العقد موجود وهو نفس العقد الّذي هو المقتضي للملكية.

اما ما نحن فيه فقد لا يوجد ذلك ، بل لا يكون المؤثر في الطهارة سوى الغسل المتأخر ، فليس هناك ما يتعنون بعنوان التعقب يكون هو المؤثر ، بل ليس لدينا سوى نفس العنوان ، والالتزام بتأثيره نفسه مشكل جدا. وذلك كما لو

ص: 132

استحاضت قبل الفجر بقليل ولم تغتسل إلا بعد الفجر ، إذ المعتبر هو الغسل للصلاة وهو لا يعتبر إلا حال الصلاة ولا يلزم ان يكون قبل الفجر ، فيمضي مقدار من الصوم قبل الغسل ، وليس غيره ما يؤثر في الطهارة كي يقال ان ذلك الشيء بعنوان تعقبه بالغسل مؤثر في الطهارة. فالتفت.

والغريب من السيد الخوئي إغفاله التعرض إلى هذه الجهة من الإشكال في المورد ، والاكتفاء بما جاء في الكفاية مع تنبيه المحقق النائيني على الإشكال كما عرفت.

وإلى هنا ينتهي الكلام فيما يرجع إلى شرائط المأمور به. ولا بأس بالتنبيه على أمر وهو : انه قد وقع في عبارات بعض الأعلام - كالسيد الخوئي والمحقق العراقي - في هذا المقام التعبير عن المأمور به : بأنه الحصة الخاصة (1) وهذا المعنى قد يتنافى مع الالتزام بجريان البراءة في الأقل والأكثر الارتباطيين ، لأن أساس الالتزام بها هو كون المأمور به نفس الأجزاء وذاتها ، فينحل العلم الإجمالي بالعلم التفصيليّ بوجوب الأقل. اما إذا لم يكن المأمور به نفس الأجزاء فقط ، بل كانت فيه جهة إضافية خارجة عن دائرة الأمر وهي عنوان الحصة الخاصة أشكل التمسك بالبراءة عند الشك في شرطية شيء أو جزئيته ، للشك في تحقق الحصة الخاصة بدون المشكوك. فليكن هذا على ذكر منك حتى نصل إلى محلّه ونرى ما هو الحق فيه.

هذا تمام الكلام في الشرط المتأخر. وننتقل بعد ذلك إلى الكلام في ...

الأمر الثالث : والكلام فيه في تقسيمات الواجب ، وهي متعددة :

التقسيم الأول : انقسامه إلى المطلق والمشروط.

وقد ذكر صاحب الكفاية : انه قد عرف كل منهما بتعريفات أورد عليها

ص: 133


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 315 - الطبعة الأولى. البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار 1 / 275 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

بعدم الطرد والعكس ، ولكن الحق انه لا وجه للإيراد عليها بذلك ، لأنها تعريفات لفظية يقصد منها تقريب المعنى إلى الذهن ، لا تعريفات حقيقية يقصد منها بيان الحقيقة والماهية ، كي يورد عليها بأنها غير مطردة أو غير منعكسة.

ثم أفاد بعد ذلك : أن الإطلاق والاشتراط وصفان إضافيان ، فان الواجب قد يكون مطلقا بالإضافة إلى شيء ومشروطا بالإضافة إلى آخر ، إذ الإطلاق من جميع الجهات وبقول مطلق غير متحقق في واجب من الواجبات ، إذ كل واجب لا بد أن يكون وجوبه مشروطا بشرط ولا أقل من اشتراطه بالشرائط العامة من البلوغ والعقل. فعلى هذا يقال : إن كل واجب لوحظ بالإضافة إلى أمر ، فاما أن يكون وجوبه متقيدا به أو لا يكون ، فالأوّل هو الواجب المشروط. والثاني هو الواجب المطلق (1).

وقد وقع الكلام بين الاعلام في إمكان الواجب المشروط ، بمعنى إمكان رجوع القيد إلى الوجوب وتقييد الوجوب به ، بحيث لا يتحقق إلا بعد تحققه. والآراء فيه ثلاثة :

الأول : ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري - على ما في التقريرات - من عدم إمكان رجوع القيد إلى الوجوب ، وانما هو راجع إلى الواجب والوجوب فعلي مطلق (2).

الثاني : ما التزم به صاحب الكفاية خلافا لما نسب إلى الشيخ ، من إمكان رجوع القيد إلى الوجوب وتعليق تحققه على الشرط (3).

الثالث : ما التزم به المحقق النائيني ، من ان القيد راجع إلى المادة المنتسبة ، وإليه ارجع كلام الشيخ لا إلى الأول ، مدعيا استحالة الأول لرجوعه إلى

ص: 134


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /95- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /45- 46 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /95- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الواجب المعلق وهو محال (1).

وقد استدل الشيخ على رأيه ، مع اعترافه بان مقتضى القواعد العربية رجوع القيد إلى الهيئة في الجملة الشرطية لا المادة بوجهين :

الأول : ان مفاد الهيئة معنى حرفي غير قابل للإطلاق والتقييد ، لأن التقييد من شأن المفاهيم القابلة للسعة والضيق ، والحرف موضوع للافراد الجزئية وهي غير قابلة للتقييد ، فيمتنع رجوع القيد إلى مفاد الهيئة لعدم قابليته للتقييد.

الثاني : - وهو وجه وجداني - ان الإنسان إذا توجّه إلى شيء إما ان يتعلق به طلبه باعتبار اشتماله على المصلحة الداعية للأمر أو لا يتعلق به طلبه ، أما الفرض الثاني فهو خارج عن محل الكلام. وأما الفرض الأول ، فالمصلحة التي تترتب عليه إما أن تترتب عليه بقول مطلق بلا تعليق على شيء فيتعلق به طلبه على جميع تقاديره. وأما ان تكون تترتب عليه على تقدير خاص ، فيكون ذو المصلحة هو الفعل على ذلك التقدير ، فيتعلق الطلب والشوق بذلك الفعل على ذلك التقدير. فالشوق فعلي متعلق بما هو استقبالي ، لأن الآمر إذا علم بترتب المصلحة عليه في المستقبل يتعلق به شوقه فعلا ويطلبه في نفس الحين بلا تعليق. وهذا أمر وجداني يلتفت إليه كل أحد ويجده من نفسه.

بهذين الوجهين استدل الشيخ على ما ذهب إليه من عدم رجوع القيد إلى الهيئة ورجوعه إلى المادة.

وقد تنكر صحة نسبة هذا الالتزام إلى الشيخ باعتبار ما يقرره في مكاسبه في مبحث جواز التعليق في العقود من : ان الوجه في بطلان التعليق هو قيام الإجماع على عدم صحته ، وبطلان العقد به ، مما يظهر منه انه لو لا الإجماع لكان مقتضى القواعد صحة التعليق في العقد ، مع ان هذا يتنافى مع الالتزام بعدم صحة

ص: 135


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 132 - الطبعة الأولى.

تقييد مفاد الهيئة ، لأن الإنشاء مدلول الهيئة أيضا فكيف يصح تعليقه وتقييده ثبوتا (1).

وبالجملة : الالتزام بصحة نسبة الالتزام المذكور إلى الشيخ لازمه الالتزام بوقوع التهافت في كلماته ، وهو مما يجلّ عنه مثل الشيخ في مثل هذا المطلب الواضح.

والإنصاف : انه لا مناقضة بين الالتزام بعدم صحة رجوع القيد إلى الهيئة والالتزام بصحة التعليق في العقود ، وذلك لأن ما يدور البحث حول صحة تعليقه وعدمها ليس نفس الإنشاء ، وانما هو المنشأ كالتمليك. ومن الواضح أن المنشأ مدلول اسمي ، فالتمليك مدلول للمادة في قول المنشئ : « ملّكت » ، وهي من الأسماء الموضوعة للمفاهيم. وهكذا سائر المنشآت فانها مداليل المواد.

والمفاهيم الاسمية قابلة للتعليق والتقييد ثبوتا ، فلو لا الإجماع لصح أن يلتزم بصحة التعليق في العقود ، ولا ينافي ذلك التزامه بعدم صحة تقييد مفاد الهيئة لأنه معنى حرفي غير قابل للتقييد.

وقد تفصّى صاحب الكفاية عن الوجه الأول بما قرّره من : ان المعنى الحرفي لا يختلف عن المعنى الاسمي في كونه مفهوما عاما ، وان اختلف معه في كيفية الوضع ونحوه ، وعليه فكما ان المعنى الاسمي يقبل التقييد لقابليته للسعة والضيق كذلك المعنى الحرفي لاشتراكهما في المفهومية التي هي موضوع الإطلاق والتقييد (2).

وتحقيق الكلام في المقام : ان عمدة الإشكال وأساسه امر مغفول عنه في عبارات الأعلام ، وان اعترف به المحقق النائيني في بعض كلماته وهو : ان الجملة

ص: 136


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب /100- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /97- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الشرطية تفيد تعليق الجزاء على الشرط ، وربط أحدهما بالآخر بنحو من أنحاء الربط ، سواء قلنا أنّ ذلك مفاد نفس الأداة كان ، أو قلنا بأن مفاد الأداة ليس إلاّ كون تاليها واقعا موقع الفرض والتقدير ، والتعليق يستفاد من « الفاء » أو « ثم » أو غيرهما من الأدوات الداخلة على الجزاء ، أو من نفس ترتيب الجزاء على الشرط والهيئة التركيبية الخاصة - فان تحقيق أحد الوجهين الذين ذهب إلى أولهما أهل الميزان وإلى ثانيهما أهل العربية ، وليس بمهم في المقام - ، إذ لا اختلاف بينهم في النتيجة ، فان القدر المسلم لدى الطرفين هو أن مفاد الجملة الشرطية تعليق الجزاء على الشرط ، اما سببه فهو محل الاختلاف.

ومن البديهي ان الربط الموجود في الجملة الشرطية انما هو ربط بين المفاهيم التركيبية ، أعني المفهوم التركيبي لجملة الشرط والمفهوم التركيبي لجملة الجزاء ، لا بين المفاهيم الإفرادية. فمفاد : « إذا جاء زيد يجيء عمرو » تعليق مجيء عمرو على مجيء زيد وترتيب نسبة مجيء عمرو على نسبة مجيء زيد ، وليس مفادها تعليق نفس المجيء في الجزاء على مجيء زيد ، إذ مرجع ذلك إلى الحكم الفعلي على عمرو بالمجيء الخاصّ وهو المترتب على مجيء زيد ، نظير : « عمرو جاء بالمجيء المترتب على مجيء زيد ».

وهذا امر لا يجده المخبر بالجملة الشرطية من نفسه ، فانه لا يعلم بمجيء زيد فكيف يحكم بثبوت المجيء المقدر عليه؟. كما أنه ليس مفادها الحكم بالمجيء على عمرو على تقدير مجيء زيد برجوع القيد إلى الموضوع لا الحكم ، لوضوح انه يصح إطلاق الجملة الشرطية مع التصريح بأخذ موضوع الجزاء بنحو مطلق بلا تقييده بشيء. فمن البديهي ان المخبر بالجملة الشرطية لا يجد في نفسه إلاّ أنه يخبر عن الربط بين المفهومين التركيبين - أعني مفهومي جملتي الشرط والجزاء - ، بحيث إذا سئل عن قصده لأجاب بذلك. ومن هنا يأتي الإشكال ، فإن المفاهيم التركيبية من المعاني الحرفية لأنها مداليل هيئات الجمل

ص: 137

أو الإضافة أو غيرهما. فيشكل تحقق الربط بين المفهومين التركيبيين لامتناع تحقق الربط بين المعاني الحرفية وتقييد أحدهما بالآخر على جميع المذاهب في المعنى الحرفي.

بيان ذلك : ان الآراء في وضع الحروف مختلفة ، وعمدتها أقوال عديدة :

الأول : ان الموضوع له الحرف هو الافراد الخاصة الخارجية أو الذهنية للمفاهيم العامة (1).

الثاني : ما ذهب إليه صاحب الكفاية من ان الحروف موضوعة للمفاهيم العامة كالأسماء ، ف : « من » ولفظ الابتداء موضوعان إلى مفهوم الابتداء (2).

الثالث : ما ذهب إليه المحقق النائيني من ان الموضوع له الحرف هو النسبة الكلامية التي عرفت ان المراد منها هي النسبة الذهنية بين المفاهيم الاسمية ، لاحتياج المفاهيم الاسمية إلى رابط يربطها لعدم الارتباط بينها في أنفسها ، فشأن الحرف الربط بين المفاهيم الاسمية (3).

الرابع : ما ذهب إليه المحقق الأصفهاني من ان المعنى الحرفي هو الوجود الرابط الّذي هو نوع رابع من أنواع الوجود (4). وقد عرفت رجوع هذا الوجه إلى اختيار المحقق النائيني.

الخامس : ما ذهب إليه السيد الخوئي من أنّ الحروف موضوعة لتضييق المعاني الاسمية ، لأنها واسعة النطاق في الصدق فاحتيج إلى تفهيم الحصة الخاصة منه إلى وضع شيء فكان هو الحروف (5). وقد تقدم انه لا محصل له إلا ان يرجع

ص: 138


1- الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /16- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /12- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 18 - الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 16 - الطبعة الأولى.
5- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه1/ 79 - الطبعة الأولى.

إلى اختيار العلمين النائيني والأصفهاني (1).

وعلى كل : فتقييد المعنى الحرفي وربطه. وبتعبير آخر ورود معنى حرفي على معنى حرفي آخر ممتنع على جميع هذه الأقوال الخمسة.

اما على القول الأول : فواضح ، لأن التقييد انما يطرأ على المفاهيم القابلة للسعة والضيق دون الأفراد التي لا تقبل السعة والضيق أصلا.

واما على القول الثاني : فلأنه وان كان المعنى الحرفي من سنخ المفاهيم التي تقبل السعة والضيق ، إلا أنه لا يمكن تقييده أيضا ، لأن صاحب الكفاية وان التزم بأن الموضوع له الحرف هو المفهوم العام ، لكنه أخذ في وضع الحرف كون المعنى ملحوظا آليا ، وبه افترق عن المعنى الاسمي. وبهذا القيد يمتنع تقييد المفاهيم الحرفية ، وذلك لأن لازم كون المعنى الحرفي ملحوظا آلة للغير كون الغير ملحوظا بالاستقلال.

وعليه ، فإذا كان الربط الثابت بين المعنيين الحرفيين ملحوظا آلة - لكونه معنى حرفيا - كان لازمه لحاظ ذيه وهو المعنى الحرفي المقيد استقلالا ، والمفروض انه معنى حرفي ملحوظ باللحاظ الآلي ، فيلزم ان يكون المعنى الحرفي ملحوظا في حين واحد بلحاظين ، وهو ممتنع كما يقرره صاحب الكفاية. ومن هنا يظهر ان ما أفاده في دفع إشكال الشيخ من كون المعنى الحرفي عاما غير مجد في ما نحن فيه ، إذ الإشكال يتأتى من ناحية أخرى لم يتعرض لدفعها في كلامه ، وهي استلزام التقييد اجتماع اللحاظين.

واما على القول الثالث : فلان الربط انما يكون بين المفاهيم الاسمية ، والمعنى الحرفي ليس من سنخ المفاهيم ، بل هو من سنخ الوجود غير القابل للربط ، لأنه على ما تقدم من شئون الوجود وكيفية من كيفياته.

ص: 139


1- راجع 1 / 114 من هذا الكتاب.

واما على القول الرابع : فالأمر فيه كالأمر على الثالث ، فان التقييد انما يطرأ على المفاهيم دون ما هو من سنخ الوجود وهو الوجود الرابط ، الّذي هو كيفية من كيفيات وجود الشيء.

واما على القول الخامس : فلان القائل لا يدعي الوضع لمفهوم التضييق ، لأنه من المعاني الاسمية ، وانما يدعي الوضع لواقع التضييق وهو غير قابل للتقييد والربط ، لعدم كونه قابلا للسعة والضيق.

فتحصل ان تقييد أحد المفهومين التركيبيين وربط أحدهما بالآخر مما قام البرهان على استحالته ولا إشكال فيه ، كما ان مفاد الجملة الشرطية هو الربط بين المفاهيم التركيبية بالبداهة ، فكيف يجتمع الأمر البديهي الواضح مع الأمر البرهاني الثابت.

ولا يخفى ان ما أفاده الشيخ رحمه اللّه من رجوع القيد إلى المادة لا يجدي في رفع الإشكال ، لأن مرجعه إلى تحقق الربط بين المفاهيم الإفرادية الّذي قد عرفت انه خلاف الوجدان ، فان الشخص المخبر بالجملة الشرطية لا يرى من نفسه إلا أنه يخبر بالربط بين المعاني التركيبية ، وهذه البداهة وان لم تكن واضحة في الجملة الإنشائية ، ولا سبيل لنا إلى إنكاره بالبداهة والبرهان السابق على عدم كون المعلق هو المفهوم الأفرادي ، إلا أنه من المعلوم أن حال الجملة الشرطية في كلتا الصورتين واحد لا يختلف ، وقد ثبت ان الربط في الجملة الشرطية الخبرية بين المفاهيم التركيبية وجدانا بل برهانا ، فيثبت ذلك في الإنشائية أيضا.

كما انه لا يجدي في رفع الإشكال ما أفاده السيد الخوئي من : ان الإنشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ ، فليس ثمة معنى حرفي يكون مدلولا للهيئة ، بل مدلولها فعل من افعال النّفس تبرزه (1).

ص: 140


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 323 - الطبعة الأولى.

وذلك : لأن التعليق لا يرد على نفس الإبراز والاعتبار لأنه فعلي ، وانما يرد على المعتبر وهو كون الفعل في عهدة المكلف. ومن الواضح أن هذا من المفاهيم التركيبية الحرفية ، لأنه مدلول هيئة الإضافة ، فيأتي الكلام في صحة تعليقه وتقييده بالشرط.

والتحقيق في رفع هذا الإشكال ان يقال :

ان الاخبار والإنشاء - كما مرّ سابقا (1) - خارجان عن مدلول الجملة الخبرية والإنشائية ، وانما هما أمران نفسيان قصديان ، والجملة لا تدل إلا على النسبة بين الموضوع والمحمول لا أكثر. وهذه النسبة تارة تكون متعلقة للاخبار ، كما إذا قصد الحكاية عن ثبوتها. وأخرى متعلقة للإنشاء كما إذا قصد تحققها. وقد استشهدنا على ذلك بان من الجمل الخبرية ما لا يسمى اخبارا قطعا ، كما إذا قال : « علمت ان زيدا قائم » ، فان : « زيدا قائم » جملة خبرية ذات موضوع ومحمول ، مع انها لا تسمى خبرا ، إذ ليس القصد الحكاية عن تحقق مضمونها ، بل القصد الحكاية عن تحقق العلم بتحقق مضمونها فالجملة الخبرية الاسمية لا تدل إلا على النسبة الاتحادية بين الموضوع والمحمول ، بمعنى ان الموضوع والمحمول أمر واحد ، والاخبار ليس جزء مدلولها ، وانما يطرأ عليها ، وهو عبارة عن قصد الحكاية عن ثبوت هذه النسبة أو لا ثبوتها. ومن هنا يعلم ان ثبوت النسبة أو لا ثبوتها خارجان عن مدلول الجملة أيضا ، فلا دلالة لها على الثبوت وعدمه ، بل هي انما تدل على خصوص النسبة. اما ثبوتها فيعلم من دال آخر وهو القرينة العامة عند عدم أداة النفي ، وعدم ثبوتها يعلم من أداة النفي كليس ولا ونحوهما. فكل من الاخبار والثبوت خارجان عن مدلول الهيئة وليس مدلولها سوى النسبة. وهكذا الحال في الإنشاء ، فانه عبارة

ص: 141


1- راجع 1 / 148 من هذا الكتاب.

عن قصد تحقق النسبة - لا الحكاية عن ثبوتها - فتحقق النسبة خارج عن مدلول الهيئة كنفس القصد. وإذا اتضح ذلك يتضح اندفاع الإشكال ، فان مفاد الجملة الشرطية ليس تعليق إحدى النسبتين على الأخرى وتقييدها بها ، كي يدعى أن ذلك يستلزم تقييد المعنى الحرفي وهو ممتنع. وانما مفادها تعليق ثبوت إحدى النسبتين على ثبوت الأخرى ، فالجملة الشرطية الاخبارية تتكفل الاخبار بترتب ثبوت هذه النسبة على ثبوت تلك. وقد عرفت ان ثبوت النسبة خارج عن مدلول الهيئة فلا يكون من المعاني الحرفية وانما هو معنى اسمي قابل للتقييد. وهكذا الحال في الجملة الإنشائية فانها تتكفل تعليق تحقق الجزاء على ثبوت الشرط. وقد عرفت ان التحقق خارج عن مدلول الهيئة وهو من المعاني الاسمية القابلة للتقييد والتعليق ، فما هو المعلق على ثبوت الشرط غير المعنى الحرفي ، بل أمر خارج عن مدلول الكلام الحرفي ، وبذلك نجمع بين امتناع تقييد المعاني الحرفية وبداهة كون الربط في الجملة الشرطية بين المفاهيم التركيبية.

ومن هنا يظهر إمكان الواجب المشروط وعدم استحالته عقلا كما ادعاه الشيخ في الوجه الأول ، لأن القيد لا يطرأ على مدلول الهيئة وانما يطرأ على ما هو خارج عن مدلولها - أعني ثبوت النسبة - ، فالمقيد ليس نفس النسبة الطلبية المدلولة للهيئة ، وانما هو ثبوت النسبة ، وهو معنى اسمي قابل للتقييد ، ونتيجة ذلك عدم تحقق الوجوب إلا عند تحقق الشرط. فالتفت.

وبما ذكرناه يتضح انه يمكن التفصي عن الإشكال المزبور بما أفاده السيد الخوئي من : ان مدلول الهيئة الإنشائية إبراز الاعتبار النفسانيّ. ببيان : انه وان كان الاعتبار فعليا لكن المعتبر هو ثبوت الفعل في الذّمّة ، فالمقيد هو الثبوت الخارج عن مدلول الهيئة وهو من المعاني الاسمية كما تقدم. فالتفت.

ثم انه حفظه اللّه تعرض إلى ذكر بعض الإشكالات الواردة على الواجب المشروط والإجابة عنها.

ص: 142

الإشكال الأول : ما أشير إليه من أن معنى الهيئة من المعاني الحرفية وهي غير قابلة للتقييد.

وأجاب عنه : بان المعنى الحرفي انما لا يقبل التقييد بمعنى التضييق ، واما التقييد بمعنى التعليق الّذي هو مفاد أداة الجملة الشرطية فلا مانع منه (1).

وفيه :

أولا : أنه ظاهر في الالتزام بان معنى الهيئة من المعاني الحرفية ، وهو خلاف ما قرره أولا من خروج مدلولها عن المعاني الحرفية وأنه إبراز الاعتبار النفسانيّ.

وثانيا : أنه مناف لما قرّره في مبحث المعنى الحرفي من أن الحروف موضوعة للتضييق بما فيها أدوات الشرط ، فدعوى أن أداة الشرط لم توضع للتضييق لم يظهر لها وجه منه.

وبالجملة : ما أفاده هنا يستظهر منه إغفال عمّا قرّره في مبحث المعنى الحرفي من رأي.

الإشكال الثاني : ما أفاده المحقق النائيني من ان معنى الهيئة من المعاني الحرفية غير القابلة للحاظ الاستقلالي الّذي يقتضيه التقييد ، فلا يصح تقييدها لأنها ملحوظة آلة.

وأجاب عنه : بأنه يمكن ان يلحظ المعنى استقلالا فيقيد ، ثم يلحظ المقيد آلة في حال الاستعمال ، فالقيد يطرأ على ما هو ملحوظا استقلالا ثم المقيد يلحظ آلة في حال الاستعمال (2).

وفيه : انه وان أشار إليه في الكفاية لكنه بلحاظ مقام الإنشاء لا مقام اللحاظ ، ان المعنى المقيد عند لحاظه بقيد التقيد آليا إما أن يكون ملحوظا

ص: 143


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 320 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 129 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.

بالاستقلال المقوم للتقييد أو لا يكون. فان كان ملحوظا بالاستقلال لزم أن يجتمع اللحاظان فيه الآلي والاستقلالي. وان لم يكن ملحوظا بالاستقلال امتنع طروّ القيد عليه ولحاظه مقيدا حال الاستعمال ، لتقوم القيد بان يكون ذوه ملحوظا استقلالا.

وبالجملة : لا يجتمع تقيد المعنى الحرفي مع كونه ملحوظا آليا.

ثم انه قد تكرر في كلام السيد الخوئي التعبير بكون الاعتبار متعلقا بأمر على تقدير (1).

ولا بد من تحقيق هذا الأمر ومدى صحته وسقمه ، فانه مما يترتب عليه آثار عملية ، كصحة الالتزام بالكشف الانقلابي في عقد الفضولي. بيان ذلك : أنه وقع الكلام في عقد الفضولي المتعقب بالإجازة في أن الإجازة هل تكون موجبة لحدوث الملكية مثلا من حينها المصطلح عليه بالنقل ، أو كاشفة عن تحققها من حين العقد المصطلح عليه بالكشف؟. وهناك قول ثالث ، وهو أن الإجازة تكون موجبة لتحقق الملكية وترتب آثارها من حين العقد إلا أن حدوث الملكية السابقة يكون بالإجازة لا أنه كان من حين العقد ، ويعبّر عن هذا المعنى بالانقلاب ، وبه تصحح الروايات الدّالة على ترتب آثار المنشأ من حين العقد مع عدم معقولية الكشف الحقيقي.

وقد تبنى المحقق الإيرواني هذا الرّأي ، وعبّر عنه بالبرزخ بين الكشف والنقل ، وحاول تصحيحه بنحو يكون حكما على طبق القاعدة لا حكما تعبديا (2). وتابعة السيد الخوئي في ذلك (3). ولا يخفى ان صحة هذا المبنى تتوقف على الالتزام بإمكان تعلق الاعتبار الفعلي بالملكية أو نحوها في الزمان اللاحق ، وعلى تقدير

ص: 144


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 323 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الإيرواني الشيخ ميرزا علي. حاشية المكاسب /127- الطبعة الأولى.
3- التوحيدي محمد علي. مصباح الفقاهة4/ 142 - الطبعة الأولى.

شيء آت أو تعلقه بالملكية في الزمان السابق ، وبتعبير أخصر : إمكان اعتبار الملكية اللاحقة أو الملكية السابقة وعدمه. فلو تمّ بطلان هذا الأمر وامتناعه لم يثبت للانقلاب أساس.

فموضوع الكلام : هو تعلق الاعتبار فعلا بالملكية السابقة أو اللاحقة.

والّذي يبدو النّظر عدم إمكان ذلك عقلا ، وذلك : لأن الاعتبار الفعلي يتعلق بالملكية في الزمان المعين الخاصّ أو غيره من التقديرات ، بحيث تلحظ الملكية مرتبطة بالزمان الخاصّ. ومن الواضح ان كلا من الملكية والزمان مفهوم مستقل لا ارتباط بالآخر بما هو كذلك ، لأن كل مفهوم له تقرر خاص بحدّ واقعي ثابت.

وعليه ، فارتباط أحد المفهومين بالآخر بالنحو الّذي يصحح استعمال الحرف بينهما فيقال : « الملكية في الزمان المعين الكذائي » انما يكون بلحاظ وجود أحد المفهومين مرتبطا بوجود الآخر بنحو ارتباط ، كارتباط الظرفية بالنسبة إلى زمان المصحح لاستعمال « فيه » بمعنى أن يكون بين وجود كل منهما ووجود الآخر نحو إضافة ونسبة. وقد تقرّر ان مدلول الحرف ومعناه هو النسبة الذهنية بين المفهومين الناشئة عن لحاظ كل منهما مرتبطا بالآخر ، بحيث تكون النسبة من كيفيات اللحاظ ، فلحاظ زيد قائما يحقق النسبة الذهنية بين زيد والقيام. كما تقرر أن النسبة الذهنية بين المفهومين وضع لها الحرف لتكون مرآتا للخارج والنسبة الخارجية بين الوجودين الخارجيين ، فتحكي عنها حكاية المماثل عن المماثل ، لا بمعنى استلزامها لانتقال النسبة الخارجية إلى الذهن كما هو شأن سائر الاستعمالات لامتناع ذلك. فالنسبة الذهنية تطابق النسبة الخارجية ولو لم تكن متحققة حقيقة ، ولكن تؤخذ في عين الحال بنحو الفرض. فالنسبة بين القيام وزيد قد تتحقق في الذهن بلا أن يكون لها مطابق خارجي متحقق ، ولكنها تتحقق بالنحو الّذي يفرض به تحقق النسبة الخارجية وبكيفيته وهذا هو معنى المطابقة.

ص: 145

وبتعبير آخر : النسبة الذهنية بين زيد والقيام عبارة عن الصورة الذهنية لوجود زيد قائما. فالنسبة الذهنية صورة للنسبة الخارجية.

وإذا تقرر هذا ، فالملكية في الزمان الكذائي التي يراد اعتبارها فعلا قد لوحظ وجودها مرتبطا بوجود الزمان بنحو الظرفية ، فقولنا : « الملكية في يوم الجمعة » معناه الملكية المتحققة والموجودة في يوم الجمعة ، ومعه يمتنع اعتبارها ، إذ لا معنى لإيجاد الملكية الموجودة في يوم الجمعة. فمرجع اعتبار وإيجاد الملكية في الزمان اللاحق إلى إيجاد الملكية الموجودة في الزمان اللاحق لعدم إمكان فرض هذا العنوان ، أعني الملكية في الزمان اللاحق ، إلا بأخذ قيد الوجود في الملكية ، فيقال : « الملكية الموجودة في الزمان اللاحق » وبذلك يمتنع اعتبارها وإيجادها فعلا للخلف.

وبتعبير آخر : إذا توقف الاعتبار والإيجاد على أخذ قيد في المعتبر ناش منه ومعلول له وبلحاظ تحققه كان ذلك ممتنعا لاستلزامه أخذ المتأخر في مرحلة سابقة عليه ، إذ المفروض أن الملكية في الزمان اللاحق يراد إيجادها فعلا ، فكيف يؤخذ وجودها في موضوع الاعتبار والإيجاد؟. فبذلك يتضح امتناع كون الاعتبار متعلقا بأمر على تقدير الّذي ورد مكررا في عبارات السيد الخوئي ، كما يتضح امتناع القول بالكشف الانقلابي ، وتمام تحقيق ذلك في محلّه من مبحث التجارة والبيع.

ثم ان المحقق النائيني تصحيحا للواجب المشروط التزم برجوع القيد إلى المادة المنتسبة ، ببيان : ان القيد يرجع إلى المادة ، ولكن لا بمعنى كون القيد من قيود الواجب والوجوب يكون فعليا ، لأنه يرجع إلى الواجب المعلق الّذي التزم به صاحب الفصول (1) وهو باطل ، بل بمعنى ان القيد يطرأ على المادة من

ص: 146


1- الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /79- الطبعة الأولى.

حيث ورود النسبة عليها ، بتقريب : ان الشيء قد يكون متعلقا للنسبة الطلبية مطلقا من غير تقييد. وقد يكون متعلقا للنسبة الطلبية حين اتصافه بقيد في الخارج ، مثلا الحج المطلق لا يتصف بالوجوب ، بل المتصف به وهو الحج المقيد بالاستطاعة الخارجية ، فما لم يوجد هذا القيد يستحيل تعلق الطلب به وكونه طرفا للنسبة الطلبية ، فالقيد راجع إلى المادة ولكن لا بما هي ، بل بما هي منتسبة إلى الفاعل.

هذا ما أفاده المحقق النائيني بنص عبارة التقريرات تقريبا (1).

ولكن الّذي يتوجه عليه : أن تقيد المادة بالقيد بحيث يكون الواجب هو الحصة الخاصة - أعني الفعل على تقدير القيد الخاصّ - أمر مشترك بين الواجب المعلق والواجب المشروط ، وانما الاختلاف في أن فعلية الوجوب في المعلق متحققة قبل تحقق القيد ، بخلاف الوجوب في الواجب المشروط ، فيقال : بأنه ما الوجه في هذا الأمر؟ ان كان وجهه رجوع القيد في الوجوب المشروط في الحقيقة إلى النسبة ، عاد المحذور الّذي يحاول الفرار منه ، وهو لزوم تقييد المعنى الحرفي غير القابل للتقييد. وان لم يرجع القيد إلى النسبة ، فلا وجه لتوقف فعلية الوجوب على حصول القيد.

والحقيقة ان ما ذكرناه لا يعدّ إشكالا على مطلب المحقق النائيني ، بل هو أشبه بالسؤال عن مراده فيما أفاده ، فانه لم يوضح بأكثر مما عرفت كما انتهى بمجرد الادعاء. فالذي ينبغي هو التساؤل عن مراده لا الإيراد عليه كما قد يظهر من السيد الخوئي (2).

هذا كله في المرحلة الأولى من البحث التي أشار إليها صاحب التقريرات بوجهه الأول - أعني مرحلة معرفة إمكان الواجب المشروط ورجوع القيد إلى

ص: 147


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 130 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 130 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.

الهيئة وعدمه - وقد عرفت تصور رجوع القيد إلى أصل الوجوب.

يبقى الكلام في المرحلة الثانية التي أشار إليها بالوجه الثاني ، وهي رجوع القيد إلى المادة لبّا وان سلمنا إمكان رجوعه إلى الهيئة عقلا.

وقد عرفت تقريب ذلك : بأن الشيء إما أن لا يكون ذا مصلحة بجميع تقاديره ، فلا يتعلق به الإرادة. واما أن يكون ذا مصلحة على بعض تقاديره ، فيتعلق به الإرادة الفعلي على ذلك التقدير ، لأن العلم بتحقق المصلحة فيه في ذلك التقدير موجب لانقداح الشوق فعلا إليه ، أي إلى الفعل على ذلك التقدير. فلا يتصور التعليق في الإرادة ، بل أمرها دائر بين الوجود والعدم أصلا.

وقد تصدى صاحب الكفاية رحمه اللّه إلى منع ذلك ، ببيان : ان الفعل قد يكون ذا مصلحة على بعض تقاديره فيتعلق به الإرادة الفعلية ، إلا أنه يكون هناك مانع من طلبه فلا يبعث نحوه فعلا ، بل يبعث نحوه على تقدير زوال المانع (1).

ولا يخفى انه مرجع إيراد صاحب الكفاية إلى : أن الإرادة التشريعية هي الإرادة المستتبعة للبعث والطلب ، فمع وجود المانع عن البعث لا تكون الإرادة إرادة تشريعية التي هي ملاك الحكم ، بل الموجود ليس إلاّ الشوق وهو غير كاف في الحكم.

وبدون هذا الإرجاع لا يظهر لإيراد صاحب الكفاية ربط بكلام الشيخ ، بل ظاهره أنه من واد آخر.

وعلى كل فالتحقيق ان يقال : انه إذا التزمنا بان حقيقة الحكم ليس إلاّ الإرادة وإبرازها لا أكثر - كما قد يلتزم به المحقق العراقي (2) - كان ما أفاده

ص: 148


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /97- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- العراقي المحقق الشيخ ضياء الدين. مقالات الأصول /106- الطبعة الأولى.

الشيخ هو المتعين (1) ، إذ مع كون الفعل ذا مصلحة على تقدير خاص أو مطلقا ، لا تتعلق به الإرادة ولا يتصور التعليق فيها ، لأنها فعل نفسي غير اختياري ينشأ عن العلم بالمصلحة ، فمع تصور المصلحة في الفعل يتحقق الشوق إليه فعلا بلا تعليق على شيء ، وأما الإبراز فالمفروض تحققه بالإنشاء. فالحكم بحقيقته ووجوده الواقعي ثابت متحقق بدون تعليق.

وان التزمنا بان حقيقة الحكم تختلف عن حقيقة الإرادة وانه أمر اعتباري مجعول مستتبع للإرادة كان ما ذكره صاحب الكفاية هو المتعين ، لأن الإرادة وان تحققت في النّفس بتصور المصلحة إلاّ أن الاعتبار والجعل يمكن ان يكون له مانع عن تحققه فيعلق تحققه على زوال المانع ، لأنه فعل اختياري قابل للتعليق ، فلا يتحقق الحكم الا عند تحقق القيد ، وان كانت الإرادة متحققة من السابق لعدم تصور التعليق في تحققها ، بل تتعلق بالأمر اللاحق لتصور المصلحة فيه فعلا الّذي هو ملاك تحقق الإرادة.

إذا عرفت التحقيق ، يبقى لدينا تشخيص أي الوجهين أصح ، وأن حقيقة الحكم هل هي عين الإرادة وإبرازها ، أو أنه امر جعلي اعتباري؟. الحق هو الثاني وانه أمر مجعول اعتباري ، فانه المرتكز بين الأصوليين ، بل بين الناس ، فان الإيجاب يرونه امرا غير محض الإرادة ، بل عبارة عن إلزام اعتباري.

ويدل عليه ورود الأدلة الرافعة للأحكام بلحاظ بعض العناوين الثانوية ، كالجهل والضرر والعسر والحرج وغيرها ، بضميمة ظهورها في الامتنان ، فان ذلك ظاهر في كون الحكم شيئا بيد الشارع يستطيع وضعه ويستطيع رفعه ، فرفعه امتنانا ، إذ لو كان الحكم عبارة عن الإرادة لم يكون رفعه ووضعه بيد الشارع لأنها غير اختيارية.

ص: 149


1- سيأتي منه ( دام ظله ) في مبحث استصحاب الحكم التعليقي العدول عن ذلك ، الالتزام بان الإرادة لا تحصل الا عند حصول القيد. ( منه عفي عنه ).

ولا معنى للتعبير : بان الرفع كان لأجل الامتنان ، بل الارتفاع يكون لعدم تحقق مبادئها خارجا.

نعم لو لم يكن لسان هذه الأدلة لسان امتنان لم يكن لها دلالة على المدعى إذ يمكن ان يكون الرفع لعدم الإرادة لا لأجل الامتنان ، وانه كان يتمكن من الوضع فرفعه منّة ، الظاهر في كونه امرا اختيارا بيد الشارع.

وبالجملة : كون الحكم من المجعولات لا يمكن لنا إنكاره وجدانا ودليلا.

ثمّ أن صاحب الكفاية أشار إلى سؤال قد يتجه ، محصله : ان تصور المانع عن الحكم أمر معقول لو كان الحكم تابعا للمصلحة فيه ، فانه يمكن ان يفرض وجود المانع عن تحقق المصلحة فيه واما بناء على ان الحكم تابع لوجود المصلحة في متعلقه فيشكل وجود المانع منه ، لفرض تحقق المصلحة في متعلقه ، ولذا تعلقت به الإرادة ، كما ان المفروض تبعيته للمصلحة ، فمقتضى ذلك تحققه بلا تعليق على شيء.

وأجاب عنه : بان تبعية الأحكام للمصالح في متعلقاتها إنما يلتزم به في الأحكام الإنشائية. اما الأحكام الفعلية والبعث الفعلي ، فهو تابع للمصالح فيه ، ومعه يتصور المانع عن تحقق المصلحة فيه فيعلق على تقدير زواله (1).

ولكنه لأجل عدم وضوح وجود مرتبة إنشائية للحكم يكون له فيها وجود حقيقي ، لأن الإنشاء لا بداعي البعث لا يكون وجودا حقيقيا له ، والإنشاء بداعي البعث هو معنى الحكم الفعلي إذ لا يتصور إلا في فرض يمكن تحقق البعث بدون مانع.

لأجل ذلك ، عدل المحقق الأصفهاني إلى الإجابة عن السؤال ، بان المقصود من تبعية الحكم للمصلحة في متعلقه ليس تبعيته بنحو تبعية المعلول

ص: 150


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /98- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

للعلة ، بل بنحو تبعية المقتضى للمقتضي ، وعليه فيمكن فرض المانع مع وجود المصلحة في المتعلق. فلاحظ وتدبر (1).

هذا تمام الكلام في الواجب المشروط ، وقد عرفت انه لا دليل على امتناعه ثبوتا ولا إثباتا.

ويبقى الكلام في بعض الجهات المرتبطة بالبحث :

الجهة الأولى : فيما أفادوه - لغرض ربط البحث بمبحث وجوب المقدمة - من ان وجوب المقدمة بما انه مترشح عن وجوب ذيها ، فهو تابع في الإطلاق والاشتراط لوجوب ذيها ، فإذا كان وجوب ذي المقدمة مشروطا بشرط كان وجوبها كذلك (2).

ويتوجه على هذا : ان ما ينتهي إليه بعد إثبات الملازمة ليس وجوب المقدمة ، بمعنى ان يثبت لها وجوب مجعول مترشح عن وجوب ذيها ، بل ما ينتهي إليه هو كون المقدمة متعلقة للإرادة كذيها.

فالثابت هو الملازمة بين إرادة ذيها وإرادتها لا بين تعلق الحكم بذيها وتعلقه بها ، فوجوب المقدمة ليس امرا مجعولا. بل بمعنى تعلق الإرادة بها ، وحقيقته ذلك لا غير. - وبذلك يفرّ عن إشكال لغوية جعل الوجوب لها - وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون وجوب المقدمة تابعا في الاشتراط لوجوب ذيها ، إذا عرفت أن وجوب المقدمة حقيقته إرادة المقدمة ، وقد عرفت ان الإرادة غير قابلة للتعليق ، بل إما أن توجد أو لا توجد ، والوجوب المشروط في ذي المقدمة هو الحكم الجعلي لا الإرادة المتعلقة به ، بل هي مطلقة فتتعلق الإرادة الفعلية بالمقدمة وان كان وجوب ذي المقدمة مشروطا.

وهذا الإيراد قد كان يجول في الذهن منذ القديم ولم نر له حلا.

ص: 151


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 183 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /95- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام . المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 148 - الطبعة الأولى.

الجهة الثانية : فيما تعرض صاحب الكفاية في بيان الثمرة بين اختياره في الواجب المشروط واختيار الشيخ رحمه اللّه .

ومحصل ما أفاده قدس سره : ان الشرط الّذي يعلق عليه الوجوب في الخطاب خارج عن محل النزاع على المختار من رجوعه إلى الوجوب ، لأنه يكون مقدمة وجوبية ، وقد عرفت عدم تأتي النزاع فيها فلا نعيد.

واما على مختار الشيخ : فهو وان كان من قيود الواجب إلاّ انه أخذ بنحو لا يكون قابلا لترشح الوجوب عليه ، وذلك لأن الواجب هو الشيء على ذلك التقدير ، فالوجوب متعلق بذلك الشيء على تقدير الشرط ، فتعلق الوجوب به يكون من باب طلب الحاصل (1).

وتوضيح ذلك : أن الشرط قد أخذ قيدا للواجب على أن يكون حصوله طبعيا ومن دون تسبيب من المولى ، فالوجوب متعلق بالفعل على تقدير حصول ذلك الشرط من نفسه وبطبعه ، وحينئذ قبل حصوله يمتنع أن يتعلق به طلب المولى وبعثه لأنه خلف أخذه قيدا على ان يتحقق طبعيا ، وبعد حصوله يمتنع ان يتعلق به الطلب لأنه طلب الحاصل. فالضمير في قوله : « فمعه » يرجع إلى حصول ذلك الشرط.

ومن هنا يندفع الإيراد على صاحب الكفاية : بأنه إذا كان الوجوب فعليا والواجب بقيده استقباليا ، فتعلقه بالقيد لا يكون من طلب الحاصل لأنك عرفت ان مراد صاحب الكفاية ان تعلق الوجوب بالشرط بعد حصوله يكون من طلب الحاصل كما لو كان مقدمة وجوبية ، لا أنه كذلك قبل حصوله ، بل المحذور في تعلقه به قبل حصوله أمر آخر يعلم من طي الكلام. فالتفت.

واما المقدمات الوجودية للواجب المشروط غير المعلق عليها وجوبه :

ص: 152


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /99- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فهي على مختار صاحب الكفاية لا تكون متعلقة للطلب الا بعد حصول الشرط ، لتبعية وجوبها في الاشتراط لوجوب ذيها ، إذ لا وجوب لذي المقدمة قبل حصول الشرط كي يترشح منه وجوب المقدمة.

واما على مختار الشيخ فهي تكون متعلقة للطلب قبل حصول الشرط ، لكون وجوب ذي المقدمة حاليا قابلا لأن يترشح منه وجوب المقدمات.

نعم ، الأمر في المعرفة والتعلّم يختلف عنه في غيرها من مقدمات الوجود ، فانه لا يبعد دعوى وجوبها قبل حصول الشرط حتى على المختار في الواجب المشروط ، ولكن لا من باب الملازمة ، بل من باب آخر ليس التعرض له محلّه هاهنا. هذا ملخص ما أفاده في الكفاية وقد ظهرت بذلك الثمرة بين القولين (1).

الجهة الثالثة : وهي ما أشار إليه في الكفاية تحت عنوان : « تذنيب » من ان إطلاق الواجب على الواجب المشروط قبل حصول شرطه مجاز على المختار ، لعدم التلبس فعلا بالوجوب. نعم إذا كان بلحاظ حال التلبس يكون حقيقة (2).

وهكذا بناء على مختار الشيخ ، ولو بدون لحاظ حال حصوله لفعلية التلبس على اختياره (3).

واما الصيغة مع الشرط : فاستعمالها حقيقي على القولين ، لأنها مستعملة على مختار الشيخ في الطلب المعلق أعني شخص الطلب الموضوعة له. وعلى المختار في الطلب المقيد ، ولكن نحو تعدد الدالّ والمدلول ، إذ الدلالة على التقيد بدال آخر وهو القيد.

وأنت إذا لاحظت ما جاء في الكفاية مما عرفته ، تعرف انه بيان لأمر لا أثر له أصلا لا عمليا ولا علميا ، فسواء كان الاستعمال حقيقيا أو مجازيا لا يختلف

ص: 153


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /99- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /100- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /45- 46 - الطبعة الأولى.

الأثر ، وليس هذا البحث بحث علمي. فتدبر.

التقسيم الثاني : انقسامه إلى المعلّق والمنجّز.

وهو الّذي ابتكره صاحب الفصول ، والّذي أفاده في بيان المراد من كل منهما هو : ان المنجز ما يتعلق وجوبه بالمكلف ، ولا يتوقف حصوله على امر غير مقدور ، كالمعرفة. والمعلق ما يتعلق وجوبه بالمكلف ، ويتوقف حصوله على امر غير مقدور له ، كالحج ، فان الوجوب يتعلق به في أول أزمنة الاستطاعة أو خروج الرفقة ، لكن فعله يتوقف على مجيء وقته وهو غير مقدور للمكلف كما هو واضح (1).

وقد أنكر الشيخ رحمه اللّه هذا التقسيم (2).

ووجّه صاحب الكفاية إنكاره : بان الواجب المعلق الّذي ذكره صاحب الفصول هو بعينه الواجب المشروط بالمعنى الّذي اختاره الشيخ ، فليس للمعلق معنى معقول في قبال المشروط ، ثم ذكر قدس سره : ان إنكار الشيخ في الحقيقة يرجع إلى إنكار الواجب المشروط بالمعنى المشهور له الّذي اختاره صاحب الكفاية ، لا إلى إنكار الواجب المعلق بالمعنى الّذي فرضه صاحب الفصول.

وبتعبير آخر : انه لم ينكر واقع الواجب المعلق الّذي فرضه صاحب الفصول ، وانما أنكر تسميته بالمعلّق بعد ان أطلق عليه المشروط (3).

وقد تصدى البعض إلى بيان ان إنكار الشيخ يرجع واقعه إلى إنكار الواجب المعلق بواقعه لا بلفظه ، وأن ما ذهب إليه الشيخ من معنى الواجب المشروط يختلف عن معنى الواجب المعلق الّذي فرضه صاحب الفصول (4).

ص: 154


1- الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /79- الطبعة الأولى.
2- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /51- 52 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /101- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
4- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 130 - الطبعة الأولى.

وحيث انه لا يرجع إلى ثمرة عملية فلا ملزم لنا للبحث عن ذلك.

وانما نوقع الكلام في أصل الواجب المعلق ، وأنه هل يمكن تحققه أو لا يمكن.

وقبل ذلك لا بد ان تعرف ثمرة هذا التقسيم ، لأنه في الحقيقة تقسيم للواجب المطلق.

والّذي ادعاه صاحب الكفاية : عدم الثمرة ، وذلك لأن ما رتبه على وجود الواجب المعلق من فعلية وجوب المقدمة من آثار إطلاق الوجوب وحاليته لا من آثار استقبالية الواجب. وعليه فلا وقع لهذا التقسيم بعد ان كان بكلا قسميه من الواجب المطلق ، واختلاف أنحاء الواجب لا توجب التقسيم ما لم توجب الاختلاف في الأثر ، وإلاّ لكثرت تقسيماته إلى عدد كبير. وقد عرفت عدم الاختلاف في الأثر (1).

وأورد على صاحب الكفاية : بوجود الأثر المترتب على التقسيم ، وذلك تصحيح وجوب المقدمة قبل تحقق زمان الواجب ، إذ قد يستشكل في ذلك ، فبدعوى وجود الواجب المعلق يصحح وجوب المقدمة قبل تحقق زمان ذيها ، إذ مع امتناعه يمتنع وجوبها قبل زمان ذيها ، فالتقسيم لا يخلو من ثمرة تصحح التعرض لذكره والبحث عن خصوصيات اقسامه.

وبعد ذلك علينا ان نعرف امتناع الواجب المعلق وعدمه. فقد ادّعي امتناعه عقلا ، وذكر له وجوه :

الوجه الأول : - ما عن المحقق النهاوندي وقد ذكره في الكفاية - أن الإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية في جميع الخصوصيات والآثار ، غير ان الأولى تتعلق بفعل الغير ، والثانية تتعلق بفعل نفس الشخص ، وبما أن الإرادة

ص: 155


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /101- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

التكوينية يستحيل انفكاكها عن المراد ، لأنها الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات ، فكذلك يستحيل انفكاك الإرادة التشريعية عن المراد وهو فعل الغير.

وعليه ، فيمتنع الواجب المعلق لامتناع تعلق الإرادة الفعلية بأمر متأخر ، لاستلزامه انفكاك المراد عن الإرادة ، وهو ممتنع.

وقد تفصى عنه صاحب الكفاية بوجوه ثلاثة : -

الأول : إنكار امتناع انفكاك المراد عن الإرادة التكوينية ، وعدم امتناع تعلق الإرادة التكوينية بأمر استقبالي ، فانه من الواضح أنه قد يكون ما تعلق به الشوق مما يحتاج إلى مقدمات كثيرة كطي المسافات ونحوه ، ولا يخفى ان فعل هذه المقدمات لا يكون له إرادة استقلالية ، بل يتبع إرادة الوصول إلى المكان المقصود ، بحيث لو لا إرادته لما تعلقت بالمقدمات إرادة ، فقد تعلقت الإرادة بالأمر الاستقبالي بدليل الانبعاث نحو فعل المقدمات بلا أن تتعلق بها إرادة استقلالية ، بل إرادة تبعية مترشحة عن إرادة ذيها فعلا.

الثاني : ان المقصود من تعريف الإرادة بأنها الشوق المؤكد المستتبع لتحريك العضلات نحو المراد الموهم لامتناع تعلقها بالمتأخر زمانا لامتناع تحريك العضلات نحوه ، ليس ما هو الظاهر من إرادة التحريك الفعلي ، بل المراد منه تحديد مرتبة الشوق الّذي يسمى بالإرادة ، وانه هو الحدّ الخاصّ الّذي يستتبع التحريك شأنا لا فعلا ، لإمكان ان يتعلق الشوق فعلا بأمر استقبالي غير محتاج إلى تمهيد مقدمة ، ويكون الشوق المتعلق به أقوى وآكد مما تعلق بأمر فعلي ، بحيث يستتبع التحريك فعلا.

الثالث : انه لو سلم عدم إمكان انفكاك الإرادة التكوينية عن المراد ، فالحال في الإرادة التشريعية يختلف عنه في التكوينية ، إذ الطلب لا بد وان يتعلق بما هو متأخر ، وذلك لأن الطلب والأمر انما يكون لجعل الداعي وإحداثه في نفس

ص: 156

المكلف نحو المأمور به ، ولا يخفى ان حدوث الداعي يتوقف على بعض المقدمات ، كتصور العمل بما يترتب عليه من مثوبة وعلى مخالفته من عقوبة ، وهذا مما لا يمكن أن يتحقق إلا بعد البعث بزمان ولو قليلا جدا ، فالبعث يتعلق بالأمر المتأخر عنه دائما ، وإذا لم يستحل ذلك مع قصر الزمان فلا يستحيل أيضا مع طوله ، وذلك لأن ملاك الاستحالة والإمكان لا يختلف فيه الحال بين قصر المدة وطولها بعد انطباق الموضوع عليها ، وهو انفكاك المراد عن الإرادة التشريعية ، فإذا فرض ان الانفكاك قهري ولا يرى العقل مانعا فيه فطول الزمان وقصره لا يوجب اختلاف الحال فيه فتدبر (1).

وقد نوقش في الوجه الأول : بان ما ذكر شاهدا لتعلق الإرادة بما هو متأخر لا يصلح للاستشهاد به. وذلك لأن الشوق إلى المقدمة بما أنها مقدمة وان لم يحصل إلا بتبع الشوق المتعلق بذيها ، إلا أن الشوق المتعلق بذيها لم يبلغ حدّ الإرادة لعدم وصوله حدّ التحريك والباعثية لتوقف حصوله على المقدمات ، بخلاف الشوق إلى المقدمة فانه لا مانع من وصوله إلى حدّ التحريك والباعثية ولذا يكون إرادة ، فإرادة المقدمة غير تابعة لإرادة ذي المقدمة ، كيف؟ وإرادة ذي المقدمة غير متحققة ، بل الشوق إلى المقدمة تابع للشوق إلى ذي المقدمة ، وهو كاف في التحريك لعدم المانع. فالتبعية في أصل تعلق الشوق لا في حدّه ووصوله إلى مرحلة الباعثية (2).

كما انه نوقش الوجه الثاني : بان (3) المراد من تعريف الإرادة بالشوق المؤكد المحرك للعضلات ليس ما استظهره صاحب الكفاية ، من انه بيان لمرتبة الشوق وان لم يكن محركا بالفعل ، بل المراد هو الشوق المحرك فعلا وغيره لا يسمّى

ص: 157


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /102- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 186 - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 185 - الطبعة الأولى.

إرادة وان بلغ ما بلغ ، وقد أقيم على ذلك البرهان من كلام أهل الفن ، والبحث فيه ومعرفة الحقيقة من كلامهم وأدلتهم خارج عن الأصول ، وانما الّذي نقوله دليلا على عدم تمامية كلام صاحب الكفاية ، وان الإرادة هي الشوق المحرك للعضلات فعلا هو ما يلمسه وجدان كل أحد من أنه قد يحصل الشوق إلى شيء فيستتبع تحريك عضلاته نحوه ويعدّ إرادة ، ويحصل شوق آكد منه بمراتب إلى شيء آخر من دون استتباع لتحريك العضلات لوجود المانع ولا يعدّ إرادة ، فالشوق إلى الاستجمام مثلا غير المحرك للعضلات لعدم وجود المال الكافي آكد بمراتب من الشوق إلى قراءة كلمة يستتبع تحريك العضلات. ومن الواضح أن الثاني يعدّ إرادة دون الأول ، وهذا دليل على عدم كون أخذ تحريك العضلات في تعريف الإرادة لتحديد مرتبة الشوق الّذي يكون إرادة ، ولا لكان إطلاق الإرادة على الشوق الأول أولى. فلاحظ.

واما الوجه الثالث : فقد نوقش بوجهين : أحدهما : ذكره المحقق الأصفهاني (1). والآخر : ذكره المحقق النائيني (2) ، إلا ان ما ذكراه لا يرجع في الحقيقة إلى منع ما أفاده صاحب الكفاية في نفسه ، وعدم توجهه على المحقق النهاوندي ، بل مرجع ما ذكراه إلى منع ورود كلام صاحب الكفاية وعدم تماميته على كل من الوجه الّذي أفاده كل منهما في بيان استحالة الواجب المعلق. فهو ليس في الحقيقة منعا لكلام صاحب الكفاية ، بل هو منع لتوجهه عليهما في ما يفيده كل منهما في بيان الاستحالة ، وانه أجنبي عن منع الاستحالة بالوجه الّذي يفيده كل منهما.

ولأجل ذلك نؤجل بيانه إلى ان تصل النوبة إلى ذكر ما أفاده كل منهما

ص: 158


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 186 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 136 - الطبعة الأولى.

في وجه استحالة الواجب المعلق.

هذا ما يرتبط بكلام صاحب الكفاية.

اما ما يربط بأصل الوجه الّذي ذكره المحقق النهاوندي في منع الواجب المعلق ، فالحق عدم تماميته فان الإرادة التشريعية ليس كالإرادة التكوينية مما يستحيل انفكاكها عن متعلقها ، لأن متعلقها فعل الغير وهو ليس بإرادي للمريد بل للغير ، وانفكاك فعل الغير عن الإرادة التشريعية أمر متحقق بالبداهة كموارد العصيان وعدم الإطاعة ، نعم الإرادة التشريعية إنما تستتبع طلب الفعل من الغير - الّذي هو فعل المريد - وهو غير منفك في الواجب المعلق لصدور الطلب والإيجاب من المولى.

وبالجملة : ما يمتنع انفكاكه عن الإرادة التشريعية إنما هو الطلب لا نفس فعل الغير ، فان انفكاكه بديهي التحقق ، والمفروض تحقق الطلب بلا انفكاك عن الإرادة التشريعية. فلا يتجه ما أفاده المحقق النهاوندي في وجه المنع.

الوجه الثاني : - وهو ما أفاده المحقق الأصفهاني - ان الأمر والطلب انما هو جعل ما يمكن ان يكون باعثا وداعيا ومحركا للمكلف نحو الفعل ، بحيث يصدر الفعل عن المكلف باختياره بداعي البعث الصادر من المولى ، إذ ما يترتب عليه المصلحة هو الفعل الاختياري للعبد والحصة الخاصة لا مطلق الفعل ولو كان بالقهر والجبر وإذا كانت حقيقة الطلب هو ما يمكن ان يكون باعثا امتنع تعلقه بالأمر الاستقبالي ، إذ مع تمامية جميع المقدمات وانقياد المكلف لأمر المولى لا يمكن انبعاثه نحو الفعل ، فلا يتحقق البعث بنحو الإمكان بالأمر أيضا.

وبتقريب آخر : نقول : ان البعث والانبعاث متضايفان - كالعلة والمعلول - فلا يصدق أحدهما بدون الآخر ، فلا بعث بدون انبعاث ، كما لا انبعاث بدون بعث ، وقد تقرر إن المتضايفين متكافئان في القوّة والفعليّة ، فإذا كان أحدهما فعلي التحقق كان الآخر كذلك ، ويمتنع ان يكون أحدهما متحققا بالفعل والآخر

ص: 159

بالقوة ، وعليه فإذا كان الأمر عبارة عن جعل ما يمكن أن يكون باعثا فهو بعث بالإمكان ، فلا يتحقق واقعا إلا فيما يمكن تحقق الانبعاث.

وبتعبير آخر : أن الأمر إذا كان بعثا بالإمكان لزم تحقق الانبعاث بالإمكان عند تحققه لمكان التضايف. ففي المورد الّذي لا يتحقق الانبعاث الإمكاني لا يصدق البعث الإمكاني أيضا المساوق لعدم الأمر. وموردنا من هذا القبيل ، فانه مع تعلق الأمر بالفعل الاستقبالي لا يمكن الانبعاث نحوه في فرض حصول جميع مقدماته ، وإذا لم يتحقق الانبعاث إمكانا لم يتحقق البعث بالإمكان ، وهذا يرجع إلى عدم تحقق الأمر لأن حقيقته ليس إلا جعل ما يمكن أن يكون باعثا.

ومن هنا ينقدح : ان ما أورده صاحب الكفاية على المحقق النهاوندي من تحقق انفكاك المأمور به عن الأمر وتأخره في الوجود في مطلق الأوامر ، فلا محيص عن الالتزام بالواجب المعلق.

ليس بوارد على ما بيّن من وجه الاستحالة ، إذ ليس المحذور انفكاك تحقق الفعل خارجا عن الأمر ، بل المحذور هو انفكاك الانبعاث عن البعث ، وقد عرفت أن المراد من الانبعاث هو الانبعاث إمكانا لا خارجا ، فانه هو طرف التضايف لا الانبعاث الخارجي.

وعليه ، فإذا كان الأمر متعلقا بأمر فعلي كان الانبعاث ممكنا في كل وقت يفرض الانقياد فيه دون ما إذا تعلق بأمر استقبالي على ما عرفت ، وتأخر الانبعاث الخارجي عن الأمر غير ضائر ، لأنه ليس بطرف التضايف.

وعليه ، فلا يشترك الأمر بالفعل الحالي والأمر بالفعل الاستقبالي فيما هو ملاك الاستحالة ، لحصول الانبعاث إمكانا في الأول دون الثاني. فلا يتجه إيراد صاحب الكفاية (1).

ص: 160


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 186 - الطبعة الأولى.

ومن هنا يظهر ما ذكرناه سابقا من : أن مناقشة المحقق الأصفهاني لصاحب الكفاية في الوجه الثالث لا ترجع في الحقيقة إلى منعه في نفسه ، بل إلى بيان أنه غير مصحح ورافع لمحذور الواجب المعلق الّذي ذكره هو قدس سره ، لابتنائه على الالتزام بالتضايف بين البعث والانبعاث ، وكلام الكفاية أجنبي عنه.

والإنصاف ان ما التزم به من أن حقيقة الأمر جعل ما يمكن ان يكون باعثا وداعيا ، بلا وجه ملزم - وان تمّ ما رتبه عليه من استحالة الواجب المعلق - ، بل يمكننا الالتزام بأن حقيقة الأمر إنما هي جعل ما يقتضي الداعوية والبعث ، بمعنى جعل ما يمكن له اقتضاء الداعوية والتأثير فيها. ومن الواضح أن وجود المانع من تأثير المقتضى في مقتضاه سواء كان المانع من الخارج ، أو لأجل عدم قبول المحل ، لا ينافي كونه مقتضيا ، فالنار مقتض للإحراق ولو لم تكن فعلا مؤثرة فيه باعتبار وجود المانع. لأن معنى المقتضي هو ما يكون مؤثرا لو حصلت باقي اجزاء العلة من الشرط وعدم المانع ، فوجود المانع لا يرفع اقتضاء المقتضي ولا ينافيه.

وعليه ، فعدم إمكان الدعوة فعلا والانبعاث عن الأمر في الواجب المعلق لا ينافي كون الأمر مقتضيا للبعث والدعوة ، لأن عدم التمكن ناشئ من وجود المانع ، وعدم قابلية المورد للانبعاث ، وهذا لا يضير في اقتضاء الأمر فليس في مورد الواجب المعلق ما يتنافى مع حقيقة الأمر كي يلتزم بعدم الأمر.

ولعل نظر المحقق العراقي في ما ذكره في مقام الإجابة عن هذا الوجه : بان الأمر وان كانت حقيقته جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، لكنه لا يشترط ان يكون ممكن الدعوة فعلا ، بل يكفي فيه إمكانه ولو في المستقبل (1) ، لعل نظره في

ص: 161


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 310 - الطبعة الأولى.

ذلك إلى ما ذكرناه. فلاحظ.

وبالجملة : الّذي يبدو لنا هو عدم تمامية الوجه الّذي أفاده المحقق الأصفهاني في بيان استحالة الواجب المعلق.

الوجه الثالث : - وهو ما أفاده المحقق النائيني - ان كل قيد لا يكون واجب التحصيل لا بد وان يؤخذ مفروض الوجود بالنسبة إلى الحكم ، بمعنى أن يكون وجود الحكم مترتبا على وجوده كما مرّ تقريبه في مبحث الشرط المتأخر.

وعليه فإذا لم يكن قيد الواجب غير الاختياري كالزمان بواجب التحصيل فهو لا محالة يكون قيدا للحكم بنحو فرض الوجود - لأنه يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة - ، وإذا ثبت ذلك امتنع تحقق الوجوب فعلا قبل حصول ذلك القيد ، لكون المفروض ترتب ثبوت الحكم وتحققه على تحقق ذلك القيد - كما هو مقتضى فرض الوجود - فوجوده قبل وجود القيد يستلزم الخلف.

ويمكن تقريب امتناع الواجب المعلق على بناء المحقق النائيني في باب جعل الأحكام ، وانها مجعولة بنحو القضية الحقيقية ، وان جميع القيود التي لا يجب تحصيلها تؤخذ بنحو فرض الوجود - يمكن تقريبه - بوجه آخر وهو ان يقال : ان القدرة على المأمور به من شرائط التكليف عقلا ، فإذا فرض تقيد الواجب بقيد غير مقدور كالزمان ، امتنع تعلق الوجوب به قبل حصول قيده ، لأن وجود الحكم يترتب على وجود القدرة على متعلقه لأنها شرطه فتكون مأخوذة بنحو فرض الوجود الّذي عرفت استلزامه لتأخر الحكم عن قيده. فقبل حصول قيد المتعلق وهو الزمان لا قدرة عليه ، ومعه يمتنع تعلق الوجوب به لاستلزامه تقدم الحكم على موضوعه وهو خلف باطل.

ثم انه تصدى لدفع إيراد صاحب الكفاية قدس سره السالف الذّكر بعد بيانه بما محصله : ان تأخر الفعل عن الحكم انما هو في الحكم المجعول بنحو القضية الخارجية ، إذ جعله يكون ابتدائيا وبلا سابقة ، لأنه يرتبط بتشخيص

ص: 162

المولى تحقق موضوع الحكم ، فعند جعل الحكم الفعلي يتصور المكلف ما يترتب على إطاعة الحكم ومعصيته من ثواب وعقاب ، وذلك يستلزم انفكاك الواجب عن الوجوب.

اما بالنسبة إلى الحكم المجعول بنحو القضية الحقيقية - الّذي عرفت ان جعل الأحكام الشرعية كلها بهذا النحو - فتأخر الفعل عن الحكم ليس من الأمور القهرية الضرورية - كي يدعى ان الالتزام بالواجب المعلق ليس بالشيء الجديد المستحدث ، فإن الأحكام كلها تتعلق بأمر متأخر - ، وذلك لأن إنشاء الحكم بنحو القضية الحقيقية يكون سابقا على فعليته ، لتوقف فعليته على حصول شرائطها وقيودها المأخوذة بنحو فرض الوجود ، فيمكن ان يهيئ المكلف نفسه للامتثال قبل فعلية الحكم ، وذلك بتصور ما يترتب على إطاعة الحكم الّذي سيتحقق عند تحقق شرطه من الثواب وعلى معصيته من العقاب إلى غير ذلك مما يكون مقربا للامتثال ، فلا ينتظر العبد بعد ذلك إلا صيرورة الحكم فعليا لينبعث نحو متعلقه بلا تأخر.

وبالجملة : ما يدعى : من ان انفكاك الفعل عن الحكم أمر سار في جميع الأحكام ، وانه امر تقتضيه طبيعة الحكم وواقعه ، فلا خصوصية للمتعلق من هذه الجهة كي يدعى امتناعه. مندفع : بما عرفت من عدم سرايته بعد فرض كون جعل الأحكام بنحو القضية الحقيقية ، لإمكان اتصال الحكم مع الفعل بلا انفكاك.

لا نقول : بان عدم الانفكاك بين الحكم ومتعلقه لا يتحقق دائما بناء على جعل الأحكام بنحو القضية الحقيقية ، إذ يمكن ان يتحقق الانفكاك بداهة ، إذ قد لا يكون الشخص عالما بالحكم قبل حصول الشرط وانما يعلم به بعد ذلك ، فيحدث في نفسه التهيؤ للامتثال بعد حصول الحكم وفعليته.

وانما الّذي نريد ان نقوله : هو ان الانفكاك الحاصل ليس امرا دائميا

ص: 163

تقتضيه طبيعة الحكم وملاك جعله ، بتقريب انه لجعل الداعي وهو متأخر قهرا عن جعل الحكم لكي ينتهي من ذلك إلى جواز الواجب المعلق. فالحكم بطبيعته لا يتعلق بالأمر المتأخر دائما ، بل التأخر ينشأ من العوارض الخارجية ، وهذا لا يعني تعلق الحكم بأمر متأخر عنه الّذي يحاول المدعي إثباته كي يصل إلى إثبات دعواه من عدم استحالة الواجب المعلق. فلاحظ (1).

ومن هنا يتضح لك ان ما أفاده لدفع الوجه الثالث الّذي ذكره صاحب الكفاية ، وان رجع إلى منعه في نفسه وبيان عدم تماميته ، وبه يختلف عن نحو مناقشة المحقق الأصفهاني فيه ، لأنها لا ترجع إلى منعه في نفسه بتاتا ، لكنه إنما يدفعه في نفسه مبنيا على تقدير خاص وبناء معين ، وهو تقدير الالتزام بكون جعل الأحكام بنحو القضايا الحقيقية ولا يرجع إلى منعه بتاتا على جميع التقادير.

وبتعبير آخر : ان هذا المنع لا يلزم به صاحب الكفاية ، لإمكان ان يدعي نفي كون الأحكام مجعولة بنحو القضية الحقيقية.

والّذي يتحصل ان ما ذكره صاحب الكفاية إيرادا على الوجه الّذي ذكره المحقق النهاوندي لم تظهر الخدشة فيه من كلام هذين العلمين ، فوروده محكم.

هذا بالنسبة إلى ما يرتبط بكلام صاحب الكفاية.

واما نفس الوجه الّذي أفاده في بيان استحالة الواجب المعلق من رجوع قيد المتعلق الّذي لا يجب تحصيله إلى الموضوع المأخوذ بنحو فرض الوجود ، فيمتنع وجود الحكم قبله.

فالخدشة فيه تظهر مما تقدم منا من إنكار هذه الكلية التي يتكرر ذكرها في كلامه ، فليس كل ما لا يجب تحصيله يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود ، بل قد عرفت أن القيود على أنحاء ثلاثة : منها : ما يرجع إلى المتعلق. ومنها : ما يكون

ص: 164


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 136 - الطبعة الأولى.

مرتبطا بالحكم بنفسه ، كالزمان فان نسبته إلى الحكم نسبة الظرف إلى المظروف ومنها : ما لا ارتباط له بالحكم بنفسه أصلا. وعرفت ان ما يحتاج إلى أخذه مفروض الوجود هو النحو الثالث فقط دون مثل الزمان وقيود المتعلق ، إذ لا وجه يقتضي فرض الوجود فيهما ، وليس فرض الوجود امرا مدلولا لدليل شرعي كي يتمسك بإطلاقه.

وعليه ، فالقيد الّذي علق عليه الواجب - في الواجب المعلق - وان لم يجب تحصيله إلا أنه ليس مأخوذا في الموضوع بنحو فرض الوجود ، لأنه من قيود المتعلق التي لا تؤخذ كذلك ، على ما تحقق ، وإذا لم يتقيد بها الوجوب لم يمتنع أن يوجد قبلها ، فيكون الوجوب حاليا والوجوب استقباليا.

ودعوى : ان ما لا يجب تحصيله يكون دخيلا في اتصاف الفعل بالمصلحة ، فيكون ذلك ملاكا لأخذه في موضوع الحكم ومفروض الوجود (1).

مندفعة : فانه لا ملازمة بين ما لا يجب تحصيله وبين دخالته في الاتصاف بالمصلحة ، بل يمكن أن يكون الأمر غير الاختياري الّذي لا يجب تحصيله في وجود المصلحة وفعليتها ، كما لو كان الدواء غير نافع للمريض إلا في استعماله في وقت خاص كوقت النوم ونحوه. فان الوقت الخاصّ غير دخيل في الاتصاف بالمصلحة ، بل في وجودها وفعليتها ، فيكون ما تترتب عليه المصلحة هو الحصة المقيدة به ، فيتعلق به التكليف فعلا ، فالطبيب يأمر فعلا بشرب الدواء ليلا وعند النوم.

وعليه ، فيمكن ان يكون القيد المأخوذ في الواجب المعلق من هذا القبيل ، ويكون ما يترتب عليه المصلحة هو الحصة الخاصة المقيدة به ، مع عدم لزوم تحصيله لعدم اختياريته. فيتعلق به الوجوب فعلا لتحقق ملاكه. فلاحظ جيدا.

ص: 165


1- كما عن المحقق النائيني قدس سره .

الوجه الرابع : وهو ما أشار إليه في الكفاية ان القدرة على العمل من شرائط التكليف عقلا ، فيكون الوجوب معلقا على تحققها ، وهي في الواجب المعلق غير متحققة في ظرف الوجوب لعدم القدرة على الواجب في ظرفه ، فيكون الوجوب قد تحقق قبل تحقق شرطه ، وأخذ الشرط القدرة في وقت الامتثال مرجعه إلى أخذها بنحو الشرط المتأخر. وهو ممنوع (1).

ومن هنا يظهر ان ما ذكره صاحب الكفاية في الجواب عن هذا الوجه : بان القدرة وان كان شرطا للتكليف ، لكنها القدرة في ظرف الامتثال لا في ظرف الأمر ، غاية الأمر تكون مأخوذة بنحو الشرط المتأخر.

لا يفي بالمطلوب على جميع التقادير ، لإنكار الشرط المتأخر من قبل بعض كما قرر في نفس الوجه ، فالالتزام بالشرط المتأخر لا يدفع الإيراد.

فالتحقيق ان يقال : ان إطلاق الشرط على القدرة لا يراد منه شرطية القدرة بالمعنى الفلسفي للشرط ، وهو ما كان دخيلا في تحقق المشروط ومن اجزاء العلة ، بل يراد منه شرطيتها بمعنى مصحح التكليف والموجب لخروجه عن اللغوية فلا يمتنع تأخرها عن الحكم ، نظير ما يقال : ان ترتب الأثر على الأصل شرط اعتباره وجريانه ، مع ان ترتب الأثر عليه متأخر رتبة عنه لا سابق عليه. وقد ذكرنا - هذا المعنى في مبحث التعبدي والتوصلي فراجع (2) -.

وعليه ، فإذا لم تكن القدرة دخيلة في التأثير كي تؤخذ في الموضوع ويمتنع تأخرها عن الحكم ، بل كانت دخيلة في تصحيح العمل من الحكيم بحيث يخرج عن اللغوية - ولذا كانت شرطا في التكليف الصادر من الحكيم لا غيره - يكتفى منها بالقدرة على الواجب في ظرف الامتثال ليمكن الانبعاث نحوه وإتيانه ، ولا

ص: 166


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /103- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- راجع 1 / 416 من هذا الكتاب.

يضير تأخرها عن أصل الوجوب لعدم أخذها في موضوعه ، وليست نسبتها إليه نسبة جزء العلة إلى المعلول.

والّذي يتحصل ان ما ذكر من الوجوه لبيان استحالة الواجب المعلق غير واف في إثبات استحالته ، فهو أمر ممكن ثبوتا ولا محذور فيه ظاهر. بل قيل : انه بالإضافة إلى إمكانه ثبوتا واقع إثباتا ، فلا يتجه إنكاره ، وذلك في موارد ثلاثة :

الأول : الواجبات التدريجية المقيدة بالزمان كالصوم ، فان الوجوب متعلق بالجزء الأخير من الإمساك ، وهو الإمساك في الجزء الأخير من النهار - متعلق به - من أول الفجر. ونظير الصلاة من أول الوقت ، فان الوجوب متعلق بآخر جزء منها المقيد بمضي زمان جميع الأجزاء السابقة عليه - متعلق به - من حين دخول الوقت ، لأن المفروض وحدة الوجوب والواجب في كلا الموردين فيلزم الفصل بين الوجوب والواجب.

الثاني : الواجبات التدريجية غير المقيدة بزمان معين كالصلاة أثناء الوقت ، فان الوجوب يتعلق بالجزء الأخير منها من حين الابتداء بها.

الثالث : الواجبات التي يكون لها مقدمات يتوقف عليها حصولها ، إذ الوجوب متعلق بالواجب قبل الإتيان بمقدماته ، مع انه لا يمكن الإتيان به قبلها ، فيلزم الفصل بين الوجوب والواجب وهو الواجب المعلق الّذي يدّعى امتناعه.

وهذه الأمور كما تذكر لبيان تحقق الواجب المعلق خارجا ، تذكر في مقام النقض على من يلتزم باستحالة الواجب المعلق ببيان : ان وقوع مثل ذلك خارجا ينافي دعوى استحالة الواجب المعلق.

وقد تصدى المحقق النائيني إلى التفصي عن هذه النقوض ، وبيان عدم المنافاة بين دعوى استحالة الواجب المعلق وتحقق مثل هذه الموارد ، بعد ان أوردها نقضا على دعوى استحالة الشرط المتأخر أيضا. ببيان : ان وجوب

ص: 167

الإمساك في أول الفجر مشروط ببقاء شرائط التكليف إلى آخر الوقت ، فإذا انتفى أحدها في الأثناء يكشف عن عدم تحقق الوجوب من أول الوقت.

وعليه ، فالتكليف بالإمساك من أول الوقت مشروط ببقاء شرائط التكليف إلى الغروب. فتحقق الشرائط في آخر الوقت متأخر زمانا عن تحقق التكليف مع انه شرطه ، وهكذا الحال في الصلاة أول الوقت ، لأن وجوبها أول الوقت مشروط ببقاء شروطها إلى مقدار أربع ركعات بعد أول الوقت ، وهو شرط متأخر.

هذا بالنسبة إلى النقض بالمورد الأول.

واما ما أفاده في مقام التفصي عن كلا النقضين فتوضيحه :

اما النقض بالمورد الأول على دعوى امتناع الشرط المتأخر ، فحلّه : انه بعد ان عرفت استحالة الشرط المتأخر عقلا ، فلا بد من الالتزام بان الشرط في مثل المورد الّذي دل الدليل فيه على أخذ المتأخر شرطا ليس هو نفس الأمر المتأخر ، بل العنوان المنتزع عن وجوده في ظرفه كعنوان التعقب ، إذ قد عرفت ان الالتزام بذلك في بعض الموارد لا محيص عنه ، فانه فيه جمعا بين الحكم العقلي باستحالة الشرط المتأخر وظاهر الدليل الّذي أخذ فيه المتأخر شرطا ، فيكون الشرط في الحقيقة في المورد هو بالنسبة إلى كل جزء من اجزاء العمل التدريجي هو الحياة المقارنة المسبوقة والملحوقة بمثلها ، فان عنوان السبق واللحوق أمر مقارن للجزء.

واما النقض به على دعوى امتناع الواجب المعلق فحلّه : ان الواجب وشرطه إذا كانا تدريجيين كانت فعلية الوجوب تدريجية أيضا ، وذلك لأن فعلية الحكم بفعلية موضوعه ، فبعد ان كان الشرط تدريجي الحصول كانت فعلية الحكم تدريجية أيضا بتدريجية الشرط. وعليه فلا يكون التكليف المتعلق بالجزء الأخير فعليا من أول الوقت ، بل يصير فعليا عند حصول الشرط في ظرفه ، ولا

ص: 168

منافاة بين تدريجية الحكم ووحدته ، كسائر الأمور التدريجية التي تتصف بالوحدة (1).

ثم انه قد يتساءل عن شيء وهو : ان المحقق النائيني رحمه اللّه ذهب إلى استحالة الواجب المعلق من جهة رجوعه في الحقيقة إلى الشرط المتأخر الّذي بنى على امتناعه.

وعليه ، فكان من السهل عليه ان يدفع النقض المذكور على كلتا دعوييه - أعني دعواه امتناع الشرط المتأخر ، ودعواه امتناع الواجب المعلق - بوجه واحد وهو : الالتزام بكون الشرط وما علق عليه الوجوب هو العنوان المنتزع ، فتنحل كلتا جهتي النقض. فما هو الوجه في العدول في مقام حل النقض على دعوى امتناع الواجب المعلق عن الوجه الّذي ذكره في حل النقض عن دعوى امتناع الشرط المتأخر وهو الالتزام بكون الشرط هو عنوان التعقب المنتزع؟!.

والجواب عن هذا السؤال : بان الشرط المأخوذ في موضوع التكليف بالجزء الأخير ، بل غيره من الاجزاء ، هو القدرة عليه ، ومن الواضح ان العقل إنما يحكم بشرطيتها نفسها بملاك تقوم التكليف بها ، لأنه تحريك لقدرة العبد على الفعل ، دون العنوان المنتزع عن وجودها في ظرفها ، فوجوب الإمساك في آخر النهار مقيد بنفس القدرة عليه لا بالقدرة على غيره من الاجزاء اللاحقة للقدرة عليه. فان العقل يحكم بان متعلق الحكم لا بد وان يكون مقدورا ، فنفس القدرة مما يحكم بشرطيتها العقل.

فلا محيص في حل النقض إلا بما عرفت من دعوى عدم فعلية الحكم قبل فعلية القدرة على الجزء.

نعم القدرة على الاجزاء السابقة أو اللاحقة ليس مما يحكم العقل

ص: 169


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 145 - الطبعة الأولى.

بشرطيتها ، لتعلق التكليف بالجزء المسبوق والملحوق ، بل هي من الشرائط الشرعية - بمقتضى وحدة الواجب وارتباطيته - ، فيمكن أن يفرض كون الشرط هو العنوان المنتزع كما عرفت ، فيتخلص به عن محذور امتناع الشرط المتأخر.

وهكذا الحال في شرطية الحياة للتكليف بالجزء ، فان الحياة في وقت العمل شرط للتكليف لتقوّم التكليف بها لأنه توجه الخطاب إلى الحي ، فلا يكفي فيها العنوان المنتزع عن وجودها في الزمان اللاحق ، بل نفس الحياة في ظرف الجزء الأخير شرط تعلق التكليف.

واما ما ذكره في مقام التخلص عن النقض بالمورد الثاني فهو : ان العمل إذا لم يكن مقيدا بقيد غير مقدور كالزمان يكون مقدورا ولو بالواسطة ، وعليه فالجزء الأخير وان كان متأخرا في وجوده ، إلاّ انه لما كان مقدورا عليه فعلا بالقدرة على الإتيان بالاجزاء السابقة صح تعلق التكليف به فعلا لأنه مقدور عليه بالواسطة ، فمحذور الواجب المعلق وهو تعلق التكليف بما هو مقيد بغير المقدور كالزمان المستلزم لأخذ القدرة بنحو الشرط المتأخر غير متحقق هاهنا ، لأن التكليف متعلق بالمقدور فعلا.

ومن هنا يظهر التفصي عن النقض بالواجبات ذوات المقدمة ، فانها مقدورة فعلا بالقدرة على مقدماتها ، فلا مانع من تعلق التكليف فعلا بها ، إذ الشرط وهو القدرة متحقق فعلا. كما أنه لم يقيد الواجب بقيد لا بد وأن يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود كالزمان - كما هو المفروض - فكلا المحذورين في الواجب المعلق منتفيان في كلا الموردين.

وقد تفصى المحقق الأصفهاني قدس سره عن النقض بالواجبات التدريجية مطلقا - المقيدة بالزمان وغيرها - بعين ما تفصى به المحقق النائيني عن النقض بالواجبات التدريجية المقيدة بالزمان من : الالتزام بتدريجية فعلية الحكم بتدريجية حصول الشرط من دون منافاة ذلك لوحدة الحكم والشرط ، كما هو

ص: 170

الحال في سائر الأمور التدريجية المتصفة بالوحدة.

ولكنه تفصى عن النقض بالواجبات ذوات المقدمة بوجه آخر وهو : الالتزام بان التكليف بذي المقدمة قبل الإتيان بالمقدمة لا يكون فعليا وان تعلق به الشوق ، لوجود المانع عن فعليته ومحركيته. واما التكليف بالمقدمة فهو فعلي لترشح الشوق عليها من الشوق المتعلق بذيها ، والمفروض انه لا مانع من محركية الشوق المتعلق بها فيتعلق بها الطلب الفعلي.

وبالجملة : يلتزم المحقق الأصفهاني بفعلية البعث نحو المقدمة دون البعث نحو ذيها ، وانما التلازم بينهما في تعلق الشوق ، فان تعلقه بذي المقدمة ملازم لتعلقه بها (1).

والّذي يتحصل : ان هذه الموارد الثلاثة لا تصلح نقضا على من يلتزم باستحالة الواجب المعلق ، لإمكان حلّه بوجه معقول ثبوتا ، فيلتزم به إثباتا ، جمعا بين الحكم العقلي باستحالة الواجب المعلق ودلالة الدليل الشرعي على هذه الموارد.

ثم ان صاحب الكفاية بعد ان أنهى الكلام عن إمكان الواجب المعلق ، تعرض إلى تحديد الوجوب المقدمي والمقدار الواجب من المقدمات - بيانا لثمرة الواجب المعلق - ، وهذا كما لا يخفى يبتني على مقدمتين :

الأولى : بيان نحو الوجوب النفسيّ الّذي يكون قابلا لأن يترشح منه الوجوب الغيري فعلا.

الثانية : بيان المقدمة القابلة لترشح الوجوب.

فقوله قدس سره : « ثم لا وجه لتخصيص المعلق ... » لتحقيق المقدمة الأولى ، وتوضيح ما أفاده : ان الملاك في الواجب المعلق حيث كان فعلية الوجوب

ص: 171


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 187 - الطبعة الأولى.

وحاليته مع استقبالية الواجب الّذي يقصد منه ثبوت وجوب المقدمات فعلا ، لم يتجه تخصيص الواجب المعلق بما علق على أمر غير مقدور ، كما جاء في الفصول ، بل ينبغي تعميمه إلى كلما علق على أمر متأخر ، سواء كان مقدورا أو غير مقدور ، وسواء كان المقدور المتأخر مما يقبل لترشح الوجوب عليه في ظرف الواجب أو لا يقبل لاشتراك الجميع في كون الوجوب فعليا والواجب استقباليا.

وبذلك يختلف المعلق عن المشروط ، لعدم فعلية الوجوب في المشروط قبل وجود الشرط إلا في صورة واحدة ، وهي أن يكون الشرط مأخوذا بنحو الشرط المتأخر وفرض حصوله في ظرفه ، فيعلم بتحقق الوجوب فعلا فيترشح منه الوجوب الغيري (1).

وبذلك يكون الوجوب القابل لأن يترشح منه الوجوب الغيري فعلا أنواع ثلاثة :

الأول : الوجوب المنجّز.

الثاني : الوجوب المعلق بالنحو الّذي عمّمه صاحب الكفاية.

الثالث : الوجوب المشروط بالشرط المتأخر مع فرض حصول الشرط.

ولا يخفى أن ما ذكره استدراكا على تخصيص صاحب الفصول الواجب المعلق بما علق على أمر غير مقدور بتعميمه إلى كل ما يؤخذ قيدا للواجب في ظرف متأخر ولو كان مقدورا. لا وجه له.

وذلك لأن الأمر المقدور الّذي علّق عليه الواجب اما أن يعلق عليه الواجب بلا قيد تأخره ، بل مطلقا ولو كان فعلا ، فهذا لا يرجع إلى الواجب المعلق بل يكون واجبا منجزا. واما ان يقيد الأمر بالزمان المتأخر ويؤخذ قيدا للواجب بهذا القيد - كما هو ظاهر العبارة - ، فيخرج عن كونه مقدورا لتقيده بما

ص: 172


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /103- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

هو غير مقدور وهو الزمان ، فيندرج في ما أفاده صاحب الفصول من ان الواجب المعلق ما علق على أمر غير مقدور إلا أن يكون الإيراد على صاحب الفصول لفظيا بان يقال له : بأنه ينبغي تعميم الواجب المعلق لما علق على أمر غير مقدور بنفسه أو بالواسطة ، وإلاّ فكل ما يعلق عليه الواجب بقيد التأخر يكون غير مقدور لتقيده بما هو غير مقدور. فتدبر.

واما ما أفاده في الواجب المشروط من أنه إذا علق على شرط متأخر وفرض حصوله في ظرفه كان الوجوب فعليا قبل حصول الشرط. فقد يدعى عدم خلوّه من المسامحة ، وذلك ببيان : ان صاحب الكفاية التزم بأن حقيقة شرط الحكم ليس إلاّ الوجود العلمي للأمر الخارجي من دون دخل لنفس الخارج في ثبوت الحكم ، لاستحالة ذلك بعد أن كان الحكم فعلا إراديا للحاكم.

وعليه ، فالحكم يدور مدار تصور المولى وإحرازه وجود الشرط خارجا ، سواء طابق إحرازه الواقع أو لم يطابق. فلا وجه حينئذ لتوقيف فعلية الوجوب المشروط على حصول الشرط المتأخر في ظرفه ، بل فعليته تدور مدار لحاظ المولى للشرط سواء تحقق خارجا أو لم يتحقق ، نعم في مثل شرائط المأمور به يتجه هذا الأمر ، باعتبار أنه جعل الأمر الخارجي طرفا للإضافة والتقيد ، فلا بد من فرض وجوده خارجا كي يعلم بتحقق الإضافة والتقيد.

وبالجملة : لما كان شرط الحكم حقيقة هو الوجود العلمي ، وهذا لا يتوقف على تحقق مطابقة خارجا ، لم يكن وجه لما أفاده صاحب الكفاية في المقام.

والإنصاف ان هذا لا يرد على صاحب الكفاية. كما لا يرد عليه ان الالتزام بالواجب المشروط مطلقا ينافي ما قرّره من ان شرط الحكم هو الإحراز لا نفس المحرز ، إذ بعد تبعية الحكم للصور الذهنية فلا معنى لتعليقه على تحقق شيء خارجا ، بل الأحكام اما موجودة من الأزل لتحقق لحاظ الشرط أزلا أو غير موجودة

ص: 173

من الأزل لعدم تحققه من الأزل. كما أشار إليه الشيخ (1) في تقريب رجوع الشرط إلى المادة لا الهيئة ، إذ امر الإرادة دائر بين الوجود والعدم لتبعيته للصور الذهنية واللحاظات.

وجه عدم ورود الإيراد الأول : أن الحكم المترتب على موضوع معين لا بد وان يحرز في موضوعه المعين وجود ملاكه والمصلحة الداعية إليه.

وعليه ، فإذا كان الحكم شخصيا مرتبا على فرد معين من الافراد كان جعل الحكم منوطا بإحراز المولى وجود الملاك في هذا الفرد الموضوع ، فإذا أحرز المولى ان زيدا محصل لما هو ملاك الحكم أمر بالشيء الكذائي ، ولا يضير في ذلك عدم مطابقة إحرازه لما هو الواقع ، إذ الحكم يناط بالإحراز والعلم بوجود شرط الملاك ، سواء طابق الواقع الخارجي أو لم يطابق. واما إذا كان الحكم كليا مرتبا على طبيعة بلا لحاظ خصوصية افرادها ، كان جعل الحكم منوطا بإحراز المولي وجود الملاك في الموضوع الكلي لا غير ، فعليه أن يحرز أن هذا الكلي مما يترتب عليه الملاك وليس عليه أن يحرز تحقق الملاك في افراده ، إذ الحكم ليس على كل فرد بعنوانه الخاصّ ، بل على كل فرد بعنوان الكلي. ولا فرق بين الحكم الشخصي والكلي في لزوم إحراز الملاك في موضوعه ، وانما الفرق ان الحكم الشخصي يستدعي إحراز تحققه في الفرد - لأنه موضوع الحكم - ، والحكم الكلي لا يستدعي إحراز تحققه في الفرد ، بل في الكلي فقط.

فعلى هذا فإذا أحرز المولى ان وجود شيء بعد حين دخيل في ثبوت الملاك فعلا في الشيء وكان هناك جماعة افراد أحرز المولى تحقق الشرط فيهم وجّه إليهم الخطاب شخصيا ، فيقول مثلا : « يجب عليكم كذا ». واما إذا لم يحرز وجود الملاك فيهم أجمع ، بل أحرزه في بعضهم ولم يحرزه في بعض آخر وأحرز عدمه في

ص: 174


1- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /52- الطبعة الأولى.

بعض ثالث ، فلا يمكن توجيه الخطاب إليهم شخصيا بإنشاء واحد ، بل لا يسعه إلا ان ينشئ الحكم على الموضوع الكلي ، وقد عرفت أنه لا يستدعي سوى إحراز كون العنوان محصلا للغرض وملاك الحكم بلا نظر إلى الافراد ، فإذا أحرز ان الاستطاعة بوجودها المتأخر محصلة للملاك ، ولم يحرز تحقق الاستطاعة في بعض الأشخاص ، أنشأ الحكم على الموضوع الكلي فيقول : « يجب الحج فعلا على المستطيع بعد حين » ، وبعد هذا يكون أمر تطبيق الموضوع على المكلفين بيدهم لا بيد المولى ، فان وظيفته ليس إلا جعل الحكم على موضوعه ، فمن علم انه يتحقق منه هذا الشرط فقد أحرز انه فرد الموضوع الكلي ، فيحرز ثبوت الحكم له ، وبدونه لا يحرز كونه فردا للموضوع كي يحرز ثبوت الحكم له.

فلا يقال : انه بعد أخذ الإحراز شرطا لا معنى لتقييد ثبوت الحكم بوجود الشرط في ظرفه.

فان هذا إنما يتم في الأحكام الشخصية دون الكلية ، لأنها لا تناط بإحراز تحقق الشرط خارجا ، إذ لا نظر للمولى إلى عالم الخارج ، بل تناط بإحراز دخالة الشرط في الملاك ، فالخطاء انما يتصور في هذا الفرض في دخالة الشرط في الملاك لا في أصل وجود الشرط.

ولا ينافي هذا الالتزام بكون الأحكام منشأة بنحو القضية الخارجية لا الحقيقية ، إذ المنفي هو أخذ الشرط بنحو فرض الوجود وترتيب وجود الحكم على وجوده اما جعل الحكم فعلا على الموضوع الكلي ، وكون أمر تطبيقه بيد المكلف لا بيد المولى ، فلا مانع من الالتزام به ، وهو لا ينافي القضية الخارجية كما في قول القائل : « كل من في الدار عالم » ، ولكنه إذا سئل عن : « أن زيدا كان في الدار أو لا » يجيب لا أدري. مع ان حكمه بنحو القضية الخارجية.

وبالجملة : كون الأحكام الشرعية بنحو الحكم الكلي لا الشخصي ، فلا يكون أمر تطبيق الموضوع بيد المولى بل بيد العبد ، مما يلتزم به صاحب الكفاية

ص: 175

وان رجع إلى القضية الحقيقية ، فانها بهذا المعنى لا ينكرها صاحب الكفاية ، بل المنكر هو أخذ الشيء مفروض الوجود.

ويشهد لما ذكرنا نفس التزامه بالواجب المشروط ، فانه لا يتلاءم الا مع ما ذكرناه.

ومن هنا يتضح الجواب عن الإيراد الثاني ، فان مقدمات الإرادة وان كانت تامة ، إلاّ انه قد يمنع مانع من جعل الحكم ، فإذا أحرز المولى تمامية المصلحة بعدم المانع ينشئ الحكم معلقا على عدم المانع بنحو كلي ويكون التطبيق بيد المكلفين. وقد أشار صاحب الكفاية فيما تقدم إلى هذا الجواب ، وانه قد تتحقق الإرادة بتحقق مقدماتها ، لكن يمنع مانع من جعل الحكم فيعلقه على زوال المانع.

ولا يخفى انه إنما يتم بالتوجيه الّذي عرفته من الحكم على الموضوع الكلي المفروض فيه زوال المانع وإلاّ فمجرد مانعية المانع لا تكفي في رفع الإشكال ، إذ للمستشكل ان يدعي بأنه كما كان إحراز الشرط دخيلا بنفسه دون نفس وجود الشرط ، فكذلك إحراز عدم المانع دون نفس عدم المانع ، لأنه من الخارجيات التي يمتنع تأثيرها في الإرادة ، فإذا أحرز المولى عدم المانع في المستقبل أنشأ الحكم فعلا بلا وجه لتعليقه على زواله.

فالجواب الصحيح ما عرفت من أن ما هو مرتبط بالمولى إحراز تمامية المصلحة بعدم المانع ، لا إحراز تحققه وعدم تحققه ، والملاك في إنشاء الحكم هو الأول دون الثاني. فتدبر جيدا.

هذا كله بالنسبة إلى المقدمة الأولى.

واما المقدمة الثانية : فقد تعرض إليها بقوله : « قد انقدح من مطاوي ... » ، وتوضيح ما أفاده : ان المقدمات بجميعها قابلة لترشح الوجوب عليها إلا أنواع ثلاثة :

الأول : مقدمة الوجوب ، والوجه في عدم قابليتها لترشح الوجوب عليها

ص: 176

ما عرفت من توقف حصول الوجوب على حصولها ، فلو ترشح الوجوب عليها والحال هذه لزم طلب الحاصل وهو محال.

الثاني : المقدمة الوجودية المأخوذة عنوانا للمكلف كالمسافر والحاضر ، فان السفر وان كان مقدمة وجودية لصلاة القصر ، لكنه يمتنع ترشح التكليف عليه ، لأن تعلق التكليف بالفعل لا يتحقق إلا عند تحققه ، لأنه أخذ في موضوع الحكم فلا بد من وجوده في وجود الحكم ، ومع ذلك يمتنع ترشح الوجوب عليه لاستلزامه طلب الحاصل أيضا.

الثالث : المقدمة الوجودية المأخوذة في الواجب بقيد حصولها اتفاقا ، بمعنى ان يكون الواجب هو الفعل المقيد بهذا القيد الحاصل بنحو الاتفاق عن اختياره أو غير اختيار ، لا بالبعث والتحريك نحوه. فان ترشح التكليف عليه قبل حصوله خلف فرض أخذه قيدا إذا حصل بنحو الاتفاق. وبعد حصوله يكون طلبا للحاصل.

فغير هذه الأنواع الثلاثة من المقدمات الوجودية لا مانع من تعلق الوجوب به إذا كان فعليا.

ص: 177

ص: 178

المقدمة المفوتة

وبعد هذا كله يقع الكلام في ثمرة الواجب المعلق ، فقد ادعي : ان ثمرته تصحيح وجوب المقدمات المفوتة قبل زمان الواجب (1).

ولأجل ذلك ننقل الكلام إلى أصل المقدمات المفوتة وما دار من البحث حولها ، ولو كان أجنبيا عن مبحث الواجب المعلق ، ولكنه يذكر في ذيله لمناسبة له معه كما ستعرفه من طيات الحديث فيها.

فنقول : أنه وقع التسالم على وجوب بعض المقدمات قبل تحقق وقت ذيها إذا لم يتمكن على الإتيان بها بعد حلول وقت ذيها ، وهي موارد :

منها : التسالم على وجوب حفظ الماء قبل الوقت لمن يعلم أنه لا يجده بعد الوقت ، بل قد أفتى البعض بلزوم تحصيل الماء قبل الوقت لو علم انه لا يتمكن منه بعد الوقت.

منها : التسالم على لزوم الغسل للصوم قبل الفجر. فان وقت الواجب متأخر عن وقت وجوب المقدمة.

ص: 179


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /104- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ومنها : الحكم بوجوب حفظ الاستطاعة في أشهر الحج ، مع أنها مقدمة وجوبية ، بل أفتى البعض بلزوم حفظها مطلقا ولو قبل أشهر الحج ، فلا يجوز صرف المال مثلا في غير الحج ، وهكذا الحكم بلزوم تحصيل المقدمات الوجودية قبل وقت الحج ، كالسير مع الرفقة ونحوه.

ومنها : الحكم بلزوم التعلم على الصبي قبل بلوغه إذا علم بفوت الواجب بعد البلوغ لو تركه.

وجهة الاستشكال في هذه الموارد ونظائرها هي : ان الوجوب المقدمي حيث انه وجوب تبعي مترشح عن الوجوب النفسيّ ، فإذا فرض تأخر فعلية الوجوب النفسيّ لتأخر زمان الواجب ، فبأي ملاك تجب المقدمات قبل ذلك مع عدم فعلية الوجوب؟. خصوصا في مثل المقدمات الوجوبية كالاستطاعة.

وبتقريب آخر نقول : ان هذه المقدمات لا بد وان لا تكون واجبة أبدا ، لأنه في حال تمكن منها قبل زمان ذيها لا تجب لعدم فعلية الوجوب النفسيّ ، وبعد زمان ذيها لا يتمكن عليها ، فيسقط الوجوب النفسيّ لعدم القدرة على الواجب. فبأي وجه تصحح الفتوى ويوجه التسالم على وجوب المقدمات في الموارد المذكورة؟.

وقد أطلق على هذا النحو من المقدمات ب- : « المقدمات المفوتة » بلحاظ فوات الواجب بتركها.

وقد تصدى صاحب الكفاية قدس سره إلى تصحيح الفتوى بالوجوب قبل الوقت بوجوه ثلاثة :

الوجه الأول : الالتزام بالواجب المعلق في هذه الموارد ، فيكون الوجوب فعليا قبل وقت الواجب ، ويكون الواجب استقباليا.

وعليه ، فيصح الحكم بوجوب المقدمة المفوتة قبل الوقت لفعلية الوجوب النفسيّ الّذي هو المناط في الترشح ووجوب المقدمة وان تأخر زمان الواجب.

ص: 180

الوجه الثاني : الالتزام بالواجب المشروط بالشرط المتأخر ، فيلتزم بان الوقت أو غير الوقت من الشروط شرط للوجوب ولكن بنحو الشرط المتأخر ، فإذا علم بحصوله في ظرفه يعلم بفعلية الحكم فعلا قبل حصول الشرط ، فلا مانع من ترشح الوجوب على المقدمات لفعلية الوجوب النفسيّ قبل حصول الشرط ووقت الواجب ، فلا يلزم على كلا الوجهين وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، بل اللازم ليس إلا الإتيان بالمقدمة قبل الإتيان بذيها وهو ليس بمحذور. كيف؟ وذلك شأن غالب المقدمات فانه يؤتى بها قبل ذيها.

وبالالتزام بالوجه الثاني أنكر ثمرة الواجب المعلق ، لأن الثمرة منه ليس إلاّ إمكان التفصي عن الإشكال المزبور والتخلص عن محذور وجوب المقدمة قبل وجوب ذيها ، وقد عرفت انه ينحل الإشكال بالالتزام بالواجب المشروط بنحو الشرط المتأخر ، وينتفي المحذور به فلا ملزم للالتزام بالواجب المعلق كما هو نظر صاحب الفصول ، فلو التزم باستحالة الواجب المعلق لم يترتب عليه الحيرة في التخلص عن محذور وجوب المقدمات المفوتة قبل زمان ذيها.

ثم انه وان كان الالتزام بكل من الواجب المعلق والواجب المشروط بالشرط المتأخر ممكنا ثبوتا ، إلاّ انه يحتاج إلى دليل في مقام الإثبات ، بل قد يكون ظاهر الدليل هو تعليق فعلية الوجوب على حصول الشرط الّذي ينافى كلا من الواجب المعلق والمشروط بالشرط المتأخر ، نظير قوله علیه السلام : « إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاة والطهور » (1).

وقد تنبه صاحب الكفاية إلى هذه الجهة ، وتصدى لحلّها بما محصله : انه إذا تم الدليل على وجوب المقدمة قبل زمان ذيها نستكشف من ذلك بطريق الإن

ص: 181


1- عن أبي جعفر علیه السلام : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة. وسائل الشيعة 1 / 261 باب 4 من أبواب الوضوء ، حديث : 1.

سبق وجوب ذي المقدمة وكون المتأخر زمان إتيانه لا وجوبه ، لعدم طريق للتخلص إلاّ بذلك ، لأن وجوب المقدمة يستحيل ان يكون قبل وجوب ذيها.

الوجه الثالث : وهو الالتزام بوجوب هذه المقدمات بالوجوب النفسيّ التهيئي ، وذلك بعد العلم بعدم سبق وجوب ذي المقدمة اما لعدم تصوره ثبوتا أو لعدم مساعدة الدليل عليه إثباتا ، فانه لا محيص عن الالتزام بذلك إذ الوجوب الغيري محال لعدم وجوب ذي المقدمة. فيلتزم بالوجوب النفسيّ غاية الأمر انه ليس لغرض في نفس المقدمة ، بل لتحصيل غرض الواجب والتهيؤ للإتيان به في ظرفه (1).

هذا ما أفاده صاحب الكفاية في التخلص عن إشكال وجوب المقدمات المفوتة قبل زمان ذيها.

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في الوجه الثاني الّذي ادعى صاحب الكفاية أنه طريق للتخلص عن الإشكال غير طريق الالتزام بالواجب المعلق ، وانه ظهر به عدم انحصار التفصي عن العويصة بالتعلق بالتعليق.

وجهة الإشكال أنه لا فائدة في الالتزام بالشرط المتأخر ما لم يلتزم بتأخر زمان الواجب. ببيان : ان الغرض تصحيح وجوب المقدمة قبل زمان ذيها ، فلا بد من فرض تأخر زمان الواجب وتقيّده بوقت معين متأخر ، فالالتزام بالشرط المتأخر الملازم لفعلية الوجوب المصحح لوجوب المقدمة فعلا إنما يتعقل بناء على الالتزام بالواجب المعلق ، فحالية الوجوب وفعليته لتحقق شرطه في ظرفه لا تكفي ما لم يلتزم بالواجب المعلق ، لكون المفروض تأخر زمان الواجب عن زمان وجوبه.

وبالجملة : الفرض ان الواجب مقيد بزمان معين ، فالالتزام بفعلية

ص: 182


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /105- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الوجوب قبله لتصحيح وجوب مقدماته التزام بالواجب المعلق أيضا ، لأنه التزم بانفكاك زمان الوجوب عن الواجب ، فلا محيص عن الالتزام به وان التزم باشتراط الوجوب بالشرط المتأخر وحصول الشرط في ظرفه (1).

وعلى أي حال فالتفصي بالوجهين الأولين ، أعني الالتزام بالجواب المعلق وبالجواب المشروط بالشرط المتأخر ، يبتني على القول بإمكانها ثبوتا ، واما مع القول باستحالتهما فلا يتجه التفصي بهما عن الإشكال.

ومن هنا استشكل المحقق النائيني قدس سره في التفصي بهما لما عرفت من التزامه باستحالة كل من الواجب المعلق والشرط المتأخر ، كما أضاف إلى وجه الاستشكال : ان الالتزام بهما لا ينفع في إثبات إيجاب التعلم قبل البلوغ وقبل الاستطاعة ، لعدم تحقق التكليف بذي المقدمة قبلهما جزما ، مع انه لو التزم بتحقق الوجوب قبلهما فلازمه إيجاب سائر المقدمات لا خصوص التعلّم ، مع انه لا يقول أحد بلزوم المسير إلى الحج على من يعلم بتحقق الاستطاعة فيما بعد. فما هو الفرق بينه وبين سائر المقدمات الوجودية؟ (2).

ولأجل ذلك سلك طريقا آخر للتفصي عن الإشكال.

وقد أشار أولا إلى وجه آخر للتفصي وهو : الالتزام بمتمم الجعل.

وبيانه : ان مصلحة الواجب إذا كانت تامة فعلا قبل فعلية الوجوب ، بحيث كان عدم التكليف به فعلا لعدم القدرة عليه لا لعدم تمامية ملاكه ، تعلق التكليف بمقدماته التي لا يتمكن منها بعد حصول زمانه ، ويعبر عنه بمتمم الجعل.

وضابطه : ان يكون غرض المولى يتحقق بفعل بنحو خاص لا يمكنه الأمر به كذلك ، كالفعل بقصد الأمر ، فيتصدى لإنشاء حكمين يتوصل بهما إلى

ص: 183


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 191 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 148 - الطبعة الأولى.

تحصيل غرضه. فما نحن فيه كذلك ، لأن التكليف مثلا بالصوم قبل الفجر ممتنع ، والمفروض انه بترك الغسل تفوت مصلحة الصوم لعدم القدرة عليه بدونه ، فيتعلق تكليف مستقل بالغسل فعلا يكون متمما للجعل وتكليف الصوم نفسه (1).

ولكنه لم يبين عليه في المقام ، لعدم اطراده في سائر الموارد ، إذ الالتزام بتمامية المصلحة قبل البلوغ أو قبل الاستطاعة مما لا يمكن ، فلا وجه حينئذ للأمر بالتعلم ، وعلى تقدير الالتزام بذلك فلازمه عدم التفريق بين التعليم وغيره من المقدمات الوجودية وهو مما لا يلتزم به أحد.

واما ما سلكه من الطريق للتفصي ، فهو يتضح ببيان جهات ثلاث :

الأولى : انه قد تقرر ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار عقابا وينافيه خطابا وان خالف في ذلك بعض ، فذهب إلى عدم منافاته عقابا وخطابا - كما ينسب إلى أبي هاشم (2) -. وذهب بعض إلى منافاته خطابا وعقابا. ولكن الحق ما عرفته من منافاته خطابا وعدم منافاته عقابا.

وذلك اما منافاته خطابا : فلان التكليف انما هو بلحاظ جعل الداعي للمكلف نحو الفعل - اما بان نلتزم ان حقيقته ذلك ، أو ان ذلك لازمه الأخص وان حقيقته هو نفس الإرادة التشريعية ، أو جعل الفعل في العهدة ، فان إبراز الإرادة أو جعل الفعل في العهدة إنما هو بلحاظ ترتب الداعوية عليه - ، وفي مورد الامتناع يمتنع حصول الداعي نحو الفعل وتحقق التحرك والانبعاث إليه ، وهذا لا ينافي كونه اختياريا باختيارية سببه ، فان قوام صحة التكليف ليس اختيارية الفعل فقط ، بل إمكان الانبعاث وحصول الداعي نحوه.

نعم من يلتزم بان حقيقة التكليف ليس إلاّ جعل الفعل في عهدة المكلف

ص: 184


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 149 - الطبعة الأولى.
2- شرح مختصر الأصول / 96.

بلا شرط تحقق الداعوية نحوه - كما قد يظهر من بعض عبارات السيد الخوئي - (1) له ان يلتزم هاهنا بان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار خطابا ، لأن التكليف يكون كسائر الأحكام الوضعيّة التي لا يعتبر فيها إمكان الانبعاث ، بل تتعلق بذمة المكلف وان لم يكن قادرا أصلا.

واما عدم منافاته عقابا : فلان الفعل وان خرج عن القدرة ، لكنه حيث كان ذلك بالاختيار كان امتناعه اختياريا ، فيستحق العقاب على تركه ، لأن ملاك العقاب اختيارية العمل ، ولأجل ذلك يتحقق العقاب على قتل شخص نفسه لو رمى جسمه من السطح ، فان الاصطدام بالأرض المحقق للموت لا يكون اختياريا بعد الرّمي ، ولذا يمتنع التكليف بتركه في تلك الحال ، ولكنه حيث ان كان منشؤه الاختيار لم يمتنع عقابه إذ يعدّ ذلك قتلا للنفس اختياريا وان كان حين حصوله غير اختياري.

الثانية : ان العقل يحكم بلزوم تحصيل غرض المولى الملزم إذا لم يتمكن من إيجاد الأمر على طبقه لعدم التفاته أو لغير ذلك ، كما لو رأى العبد ابن سيده في الحوض بحيث لو تركه يغرق ، ولم يكن سيده حاضرا ، فانه يجب عليه إنقاذه تحصيلا لغرض مولاه الملزم ، لأنه يعلم لو كان سيده حاضرا لأوجب عليه إنقاذ ابنه.

نعم لو كان المولى متمكنا من الأمر ولم يأمر لم يجب على العبد تحصيل غرضه في هذه الحال ، لأن عدم امره مع تمكنه يكشف عن عدم إرادته تحصيل هذا الغرض ولو كان ملزما في نفسه.

الثالثة : ان القدرة على العمل تارة : لا تكون دخيلة في الملاك ، بل تكون شرطا عقليا لتصحيح التكليف ، وإلاّ فالملاك بدونها حاصل وأخرى : تكون دخيلة

ص: 185


1- الواعظ الحسيني محمد سرور. مصباح الأصول2/ 108 - الطبعة الأولى.

في الملاك ، فتكون شرطا شرعيا ، وهي في هذه الفرض تارة : تكون دخيلة في الملاك مطلقا في أي ظرف تحققت. وأخرى : تكون دخيلة فيه على تقدير خاص وظرف معين لا مطلقا. والثانية : تارة : تكون دخيلة فيه بعد حصول شرط الوجوب ، ولو قبل تحقق زمان الواجب. وأخرى : تكون دخيلة فيه بعد تحقق زمان الواجب ، فالقدرة الحاصلة قبل ذلك غير محصلة للملاك أصلا. فالاحتمالات أربعة. اما الأول والثاني : فيلزم على تقديرهما وجوب تحصيل المقدمات في أول أزمنة الإمكان. واما الثالث : فيفرق فيه بين المقدمات المفوتة قبل حصول شرط الوجوب والمقدمات المفوتة بعد حصوله ، فلا يحرم تفويتها على الأول دون الثاني. واما الرابع : فلا يجب الإتيان بالمقدمات المفوتة قبل وقت الواجب.

هذا محصل ما أفاده قدس سره وقد أطال فيه الكلام (1).

والتحقيق ان يقال : ان قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » تذكر لدفع توهم : عدم اختيارية الأفعال ، لأن كل فعل إرادي حين تعلق الإرادة به يكون واجبا ، وحين عدم تعلقها به يكون ممتنعا ، وذلك لأن الإرادة لما كانت هي الجزء الأخير للعلة التامة ، فعند تحققها يكون تحقق المعلول قهريا بحكم استحالة تخلف المعلول عن العلة - ومن هنا قيل : ما لم يجب لم يوجد - ، وعند عدم تحققها يكون انتفاء المعلول ضروريا ، لأن المعلول لا يوجد بدون علته ، فالفعل الإرادي يدور أمره بين الضرورة والامتناع فلا يكون اختياريا ، لأنه اما ان تتعلق به الإرادة فيكون ضروريا ، أو لا تتعلق به الإرادة فيكون ممتنعا ، لأن المعلول ضروري الوجود عند وجود علته كما انه عدم عند عدم علته.

فانه يقال في رده : ان الوجوب الناشئ عن الإرادة الّذي يعبّر عنه واجب بالغير لا بالذات ، لا يتنافى مع اختيارية الفعل ، كما ان الامتناع الناشئ

ص: 186


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 150 - الطبعة الأولى.

عن عدم الإرادة الّذي يقال عنه انه ممتنع بالغير ، لا يتنافى مع كون عدم الفعل كوجوده اختياريا ، فان الضرورة والامتناع الذين يتنافيان مع اختيارية الفعل هما الضرورة والامتناع السابقان على مرتبة الإرادة لا اللاحقان لها الناشئان منها. فالفعل وان كان ضروريا بالإرادة لكنه اختياري ، لأجل ان ضروريته بالإرادة. فالقاعدة المذكورة أساس بيانها والتنبيه عليها هو دفع هذا الوهم ، وقد طبقت على موارد :

المورد الأول : ما أشرنا إليه من كون الامتناع - في الفعل الإرادي - ناشئا من عدم الإرادة ، فانه قيل عنه : ان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.

واما تحقيق صحة تعلق الخطاب بالفعل الممتنع لعدم الإرادة وعدم صحته فليس محله هاهنا ، وان كان الحق عدم صحته ، فلا يصح ان يتعلق الخطاب بعثا أو زجرا بالفعل على تقدير عدم تعلق الإرادة به ، لأن الفعل على هذا التقدير ممتنع الحصول ، والمفروض ان التكليف انما هو لإيجاد الداعي والمورد غير قابل لذلك.

المورد الثاني : المسببات التوليدية بعد حصول السبب ، فانها بعد حصول السبب وقبل تحققها لا تكون إرادية ، بل تكون ضرورية الحصول ، كما هو المقصود من المسبب التوليدي ، نظير القتل الحاصل بعد رمي السّهم أو بعد إلقاء الشخص بدنه من شاهق.

فقد يتوهم : انه يمتنع تحقق العقاب عليها ، لأنها في ظرف تحققها ليست اختيارية.

لكنه يندفع بالقاعدة المذكورة ، فان الامتناع في المسببات التوليدية إنما نشأ عن الإرادة والاختيار لتعلقها بالسبب ، وهذا يصحح ترتب آثار الفعل الاختياري على المسبب من صحة المؤاخذة عليه ونحوها ، لأن إرادة السبب إرادة للمسبب بنظر العقلاء ، فالفعل اختياري بنظرهم.

نعم يمتنع تعلق التكليف به في الحال المفروضة ، إذ التكليف لا يتقوم

ص: 187

بصدق اختيارية الفعل كصحة العقاب عليه ، بل يتوقف على إمكان التحريك والدعوة ، وهو غير متحقق لعدم القدرة على الفعل ولا على الترك بعد حصول السبب ، فلا يكون المورد موردا لإيجاد الداعي والبعث لعدم قابليته لذلك.

المورد الثالث : ان يكون الفعل في نفسه من الأفعال الإرادية التي تتعلق بها الإرادة بنفسها مباشرة - لا كالمسببات التوليدية - ، فيفعل المكلف فعلا يستلزم سلب إرادية ذلك الفعل ، فيكون ضروريا بلا ان تتعلق به الإرادة. نظير حركة المرتعش ، فانه من الموارد التي تطبق عليها القاعدة المزبورة ، فيدعى فيه بصحة العقاب على الفعل غير الإرادي ، لأنه وان كان فعلا غير اختياري إلا ان عدم الاختيار لما كان ناشئا عن الاختيار كان ذلك مصححا لترتب آثار الفعل الاختياري عليه - من صحة المؤاخذة عليه - بنظر العقلاء.

نعم يمتنع والحال هذه تعلق التكليف به ، لأنه ليس بمقدور ، فلا يتحقق الداعي المقصود إيجاده بالتكليف. فالامتناع بالاختيار في هذه الموارد لا ينافى الاختيار عقابا وان كان ينافيه خطابا. لكنه ينبغي أن يقال : انه ان كان الفعل المسلوب عنه الإرادة مبغوضا للمولى بجميع افراده وأحواله كان تطبيق القاعدة على المورد في محله ، لأنه فعل باختياره ما ينتهي إلى فعل مبغوض للمولى وان كان غير مقدور عليه في ظرفه ، لكن عدم القدرة بعد ان كانت ناشئة عن الاختيار لا تنافي الاختيار. واما إذا كان الفعل المسلوب عنه الإرادة مبغوضا للمولى في بعض افراده وهو الفرد الإرادي ، بمعنى ما تتعلق به الإرادة مباشرة وما يقع عن اختيار في ظرفه فلا وجه للحكم بصحة العقاب على الفعل المزبور بمقتضى القاعدة ، لأنه فعل غير مبغوض للمولى ، إذ هو ليس بإرادي فعلا.

فالوجه التفصيل بين الصورتين ، وتشخيص كل منهما يتبع ما يستظهر من لسان دليل الحكم والحرمة والمبغوضية.

ولا يخفى ان الّذي يتناسب مع ما نحن فيه هو هذا المورد دون مورد

ص: 188

المسببات التوليدية ، إذ الواجب ذو المقدمة المفوتة من الأفعال الإرادية في نفسه ، وليست نسبة المقدمة المفوتة إليه نسبة السبب التوليدي إلى مسببه. وقد عرفت ان الحكم بصحة العقاب مطلقا في هذا المورد غير وجيه.

لكن المورد يختلف عما نحن فيه أيضا من جهتين :

الأولى : ان المورد الّذي نحن فيه يختص بالواجبات العبادية كالحج والصلاة والصوم مما يعتبر فيها الإرادة والقصد إليها ، فلا كلام فيها من هذه الجهة كما هو الحال في المورد الثالث.

الثانية : ان الإشكال فيما نحن فيه ليس من جهة مخالفة التكليف الفعلي المتعلق بالعمل ، كي يقال إنه هل أخذ الفعل الإرادي في متعلق الحكم أو مطلق الفعل ، بنحو ينسب إلى اختيار الفاعل ولو بالواسطة؟ ، فان الفرض ان الواجب مقيد بزمان متأخر فلا يتمكن منه فعلا ، لعدم اختيارية قيده. وانما الكلام في سلب القدرة عليه في ظرفه بترك بعض مقدماته ، فليس فيما نحن فيه تكليف بالفعل يتكلم بان مخالفته تتحقق بالنسبة إليه مع انسلاب الإرادة عنه بذلك ، أو لا تتحقق إلا باعمال الإرادة فيه بخصوصه ، كما هو الحال في مورد الثالث.

وعليه ، فأساس الإشكال والبحث فيما نحن فيه هو التساؤل عن الملزم للإتيان بالمقدمات المفوتة ، لأنه قبل حصول زمان الواجب لا وجوب يترشح عليها ، وبعد حصول زمانه لا تكليف بالواجب لعدم القدرة عليه بتركها ، فحالها من هذه الجهة حال المقدمات الوجوبية من عدم تعلق الإلزام بها.

وقد ذكر للجواب عنه - غير ما جاء في الكفاية (1) - وجهان :

الأول : ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من ان الملاك في ظرفه إذا كان تاما لا قصور فيه يحكم العقل بحرمة تفويته ولزوم المحافظة عليه في زمانه ،

ص: 189


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /104- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعليه فهو يحكم بلزوم المقدمة المفوتة ، لأن بالإتيان بها محافظة على الغرض وبفواتها تفويت للغرض ، وبالملازمة بين حكم العقل والشرع يتعلق وجوب شرعي بالمقدمة ويعبر عنه بمتمم الجعل.

واستشهد على هذا المعنى بموارد الإرادة التكوينية ، فان الشخص إذا علم بأنه سيبتلى في سفره بالعطش ، وانه لا يجد الماء في الطريق ، يرى نفسه ملزما بحكم العقلاء بتهيئة الماء واستصحابه معه قبل الابتلاء به محافظة على تحصيل الغرض الملزم في ظرفه وهو رفع العطش ، ويعد مذموما عند العقلاء لو ترك أخذ الماء معه. والإرادة التشريعية كالإرادة التكوينية في سائر الجهات كما حقق في محله.

وبالجملة : وجوب المقدمة شرعا انما هو كحكم العقل بلزوم المحافظة على غرض المولى الملزم وقبح تفويته بترك مقدماته (1).

الثاني : ما أفاده السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) من ان لزوم المقدمة المفوتة من باب وجوب المقدمة العلمية. بيان ذلك : ان العقل كما يحكم بصحة العقاب على مخالفة التكليف الّذي سيتحقق في المستقبل ولو بترك بعض ما يستلزم تركه مخالفته في ظرفه ، كذلك يحكم بصحة العقاب على تفويت غرض المولى الملزم للزوم تحصيله. فإذا علم المكلف ان للمولى غرضا ملزما يتحقق بالفعل في الزمان المستقبل ، حكم العقل بلزوم المحافظة عليه وصحة العقاب على تفويته في ظرفه ، فإذا توقف تحققه على الإتيان بفعل في هذا الزمان لزم ذلك بحكم العقل لأنه مقدمة علمية (2).

وهذان الوجهان وان كانا تامّين في أنفسهما ، إلا ان ربطهما بقاعدة :

ص: 190


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 151 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 361 - الطبعة الأولى.

« الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » لا وجه له محصل.

اما ما أفاده المحقق النائيني : فقد عرفت ان العقل والشرع يحكمان بلزوم المقدمة بملاك حرمة تفويت الغرض ولزوم المحافظة عليه. ومن الواضح ان تفويت الغرض وعدم المحافظة عليه يحصلان بمجرد ترك المقدمة المفوتة ، فتحقق المخالفة للتكليف بترك المقدمة نفسها ، فيكون العقاب عليه وهو فعل اختياري كما لا يخفى.

وعليه فتطبيق قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » ناشئ عن المسامحة ، إذ العقاب على ترك المقدمة وتفويت الغرض به لا على ترك الواجب ، كي يقال انه ممتنع بالاختيار وهو لا ينافي الاختيار. وقد عرفت ان ترك المقدمة أمر اختياري لتعلق الإرادة به مباشرة ، فالعقاب عليه عقاب على ما هو بالاختيار.

واما ما أفاده السيد الخوئي : فهو وان ارتبط بالقاعدة المذكورة بنحو ارتباط ، لأن لزوم المقدمة كان بحكم العقل بصحة العقاب على تفويت الغرض الملزم في ظرفه ، وترك الواجب الّذي يترتب عليه الغرض وان كان استقباليا. فلقائل ان يقول : ان الواجب في ظرفه ممتنع ، فلا يصح العقاب عليه. فيجاب : بالقاعدة المزبورة ، وان الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار فالوجه مرتبط بالقاعدة بنحو ارتباط. إلا أن التنصيص عليها في خصوص المورد وجعلها من متممات الحكم بلزوم المقدمة غير وجيه ، لأن المفروض ان الحكم بلزوم المقدمة كان من باب حكم العقل بلزوم المقدمة العلمية فهو تام في نفسه ، والإشكال بان الواجب في ظرفه ممتنع إشكال عام يسري في كثير من الموارد ، ويدفع بما تكرر من أن اختيارية الامتناع لا تنافي الامتناع ، وليس هو إيرادا خاصا بالمورد حتى يفرض كون القاعدة من متممات وجه الحكم بلزوم المقدمة. وإلاّ كان اللازم التنصيص عليه فيما إذا التزم بالواجب المعلق في دفع الإشكال ، لأنه يقال أيضا : انه لا يصحح العقاب على ترك الواجب في ظرفه لأنه ممتنع بترك المقدمة ،

ص: 191

فلابد من بيان هذه القاعدة.

وبالجملة : الحكم باللزوم لا بد وان يفرض مفروغا عنه لوجه من الوجوه المذكورة التامة في نفسها ، ويكون ذكر القاعدة لدفع توهم يقال ، لا ان تكون القاعدة قواما لوجه الحكم باللزوم ومتمما له فتدبر ولاحظ.

ثم انه بعد ان تبين أن أساس الحكم بلزوم المقدمة المفوتة ، هو حرمة تفويت الغرض الملزم فقد يتوهم : ان هذا انما يتمّ فيما لم تكن القدرة دخيلة في تحقق الملاك ، بل كان الفعل بنفسه واجدا للملاك ولو لم يكن مقدورا نظير ترتب الغرض على الدواء عند تحقق المرض ولو لم يكن مقدورا ، إذ لو كانت القدرة دخيلة في تحقق الملاك لم يكن تحصيل القدرة لازما ، إذ قبل القدرة ليس هناك غرض ملزم يلزم المحافظة عليه ويحرم تفويته. ولا يلزم تحقيق هذا الأمر ، أعني واجدية الفعل للملاك.

إلاّ انه يندفع : بما مر من تصوير دخالة القدرة في الملاك بأنحاء ثلاثة الّذي ورد في كلام المحقق النائيني :

النحو الأول : ان تكون القدرة دخيلة في الملاك بوجودها المطلق ، بمعنى ان الملاك يتحقق بتحققها في أي ظرف كان. ومن الواضح ان المقدمة تجب في أول أزمنة إمكانها ، لحصول القدرة على الواجب بواسطتها ، فيكون الفعل واجدا للملاك في ظرفه ، فيحرم تفويته بترك المقدمة. فالقدرة وان كانت دخيلة في تحقق الملاك ، لكن دخالتها بنحو لا يمنع من وجوب المقدمة المفوتة.

النحو الثاني : ان تكون القدرة الدخيلة في الملاك هي القدرة على الواجب بعد حصول بعض مقدمات الوجوب التي يتوقف عليها الملاك ، كالاستطاعة بالنسبة إلى الحج.

والحكم في هذا الفرض هو لزوم المقدمة الوجودية المفوتة بعد حصول شرط الوجوب ، لكون الفعل في ذلك الحين واجدا للملاك فيحرم تفويته ، وعدم

ص: 192

لزومها قبل حصول شرط الوجوب ، لعدم تمامية ملاك الواجب فلا يحرم تفويته ، إذ ليس فيه تفويت للغرض الملزم.

النحو الثالث : ان تكون القدرة الدخيلة هي القدرة على الواجب بعد دخول وقته ، ولا إشكال في عدم لزوم المقدمة المفوتة ، إذ الفعل وان كان مقدورا عليه في زمانه قبل زمانه ، لكنه غير واجد للملاك. فلا يحرم ترك المقدمة ، إذ ليس فيه تفويت للغرض الملزم. وقد عرفت عدم لزوم جعل الفعل واجدا للملاك في ظرفه ، وانما اللازم هو المحافظة على الملاك الفعلي الملزم.

فيتحصل : ان أخذ القدرة في الملاك لا يلازم عدم وجوب المقدمة المفوتة بقول مطلق ، بل هو ملازم له في الجملة.

والتحقيق : ما عرفته ، وقد أفاده المحقق النائيني قدس سره .

ثم انه قد يشكل : بأنه إذا فرض وجوب الملزم للإتيان بالمقدمات المفوتة ، لم يختلف الحال في مطلق المقدمات ، بل مقتضى ذلك وجوبها ، إذ ملاك الإلزام هو المقدمية وحصول التفويت بتركها ، وهو أمر مطّرد في جميع المقدمات المفوتة ، مع انه لا يلتزم بذلك في مطلق المقدمات ، ولذا يفتى بجواز إجناب الشخص نفسه قبل الوقت مع علمه بعدم تمكنه من الغسل في الوقت.

والجواب عن الإشكال : ما أفاده صاحب الكفاية : من انه يمكن اختلاف المقدمات في نحو دخالتها في الملاك فتارة : تكون القدرة على المقدمة دخيلة في الملاك بقول مطلق ، فيلزم تحصيل المقدمة قبل زمان ذيها. وأخرى : لا يكون الأمر كذلك ، بل يكون الدخيل في الملاك هي القدرة على المقدمة في زمان ذيها ، بحيث لا يكون للقدرة عليها قبل زمان ذيها أي تأثير في الملاك. فلا يلزم تحصيلها قبل زمان ذيها ، لعدم الملزم حينئذ (1) حتى على فرض كون وجوب المقدمة وجوبا

ص: 193


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /105- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

شرعيا مترشحا من وجوب ذيها ، وذلك بالالتزام بالواجب المعلق أو نحوه كما عليه صاحب الكفاية ، وذلك لأن القدرة على الواجب من قبل المقدمة في زمانه إذا كانت دخيلة في الملاك كانت شرطا للوجوب ، فلا يلزم تحصيلها قطعا ، إذ المقدمة الوجوبية لا تجب بالوجوب المقدمي فالتفت.

هذا تمام الكلام في المقدمات المفوتة غير التعلّم.

ولا بأس بالتعرض إلى أمرين أفادهما المحقق النائيني قدس سره :

الأمر الأول : ان اشتراط القدرة على الواجب في زمانه ودخالتها بخصوصها في الملاك دون مطلق القدرة ، انما يصح في التكليف العام إذا كان العجز عن المقدمة في زمانه اتفاقيا وفي بعض الأحيان. كالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، فان الغالب هو تمكن المكلفين من الوضوء بعد الوقت ، وتحقق العجز عنه في أثناء الوقت اتفاقي لا غالبي. واما إذا كان العجز من المقدمة في زمانه وتوقفه على تحققها قبل زمانه غالبيا أو دائميا. نظير المسير بالنسبة إلى الحج ، فان القدرة على الحج في زمانه تتوقف على المسير إليه قبل زمانه غالبا ، وعدم توقفه على ذلك وإمكان المسير إليه بعد زمانه اتفاقي ونادر جدا ، فلو كان الأمر كذلك ، ودلّ دليل بظاهره على كون الدخيل في الملاك هو القدرة على الواجب في زمانه ، فاللازم حمل الدليل على خلاف ظاهره ، اما بجعل الدخيل في الملاك هو القدرة المطلقة ، أو القدرة عليه بعد حصول شرط الوجوب ، وذلك لأن الالتزام بظاهره يستلزم تخصيص التكليف العام بالفرد النادر ، وهذا قبيح ومستهجن ، إذ قد عرفت ان المكلف القادر على الإتيان بالحج بعد زمانه بدون المسير إليه قبله نادر جدا.

نعم إذا جاء دليل يدل على اشتراط القدرة بعد زمان الواجب ، وكان نصا في مدلوله ، كان المتعين الالتزام به ولو استلزم اختصاص التكليف بالفرد النادر (1)

ص: 194


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 153 - الطبعة الأولى.

وأورد على التفرقة بين النص والظاهر : بان تخصيص التكليف العام بالفرد النادر ، اما ان يكون مستهجنا وقبيحا أو لا ، فان كان قبيحا لم يتجه الالتزام بالدليل المستلزم لذلك ولو كان نصا بل المتعين طرحه. وان لم يكن قبيحا لم يتجه التصرف بظاهر الدليل المستلزم لذلك ، إذ لا مانع من إبقائه على ظاهره. فالتفرقة بين النص والظاهر لم يظهر لها وجه (1).

والتحقيق : ان للتفصيل وجها وجيها وهو : ان تقدم ظهور المخصص على ظهور العام انما هو باعتبار أقوائية ظهوره من ظهور العام ، ففي المورد الّذي يكون فيه استبعاد للتخصيص أو استهجان وقبح يضعف ظهور المخصص ولا يكون مع ذلك مفيدا للظن النوعيّ الّذي هو الملاك في حجية الظهور عند العقلاء ، فلا يصلح ظهوره للتصرف في العام لعدم حجيته. اما إذا كان المخصص قطعيا لا يحتمل الخلاف ، فيكون قرينة - بعد فرض عدم إمكان الالتزام بالعموم لانتهائه إلى التخصيص بالأكثر المستهجن - على وجود قرينة لفظية أو نحوها على تعلق الحكم من أول الأمر بالعنوان الخاصّ النادر وهو غير مستهجن.

وبالجملة : الفرق هو ان المخصص القطعي يكون دليلا على كون بيان الحكم من أول الأمر على العنوان الخاصّ ، وليس كذلك الحال في المخصص الظني ، فانه ترتفع حجيته لضعف ظهوره وعدم صلاحيته لمزاحمة ظهور العام بواسطته للاستبعاد والاستهجان.

وهذا المعنى ثابت متقرر وينص عليه في مسألة تخصيص الأكثر ، فانه يلتزم بعدم الالتزام بالمخصص الظني المستلزم لخروج أكثر الافراد. بخلاف ما إذا كان المخصص قطعيا كالإجماع ، فانه يكون محكما ولو استلزم خروج أكثر الأفراد ، لكن يلتزم رفعا للاستهجان بكون ذلك قرينة على كون بيان الحكم من

ص: 195


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 153 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.

أول الأمر على الموضوع الخاصّ النادر ، وهو مما لا استهجان فيه.

الأمر الثاني : ان القيود المأخوذة في واجب واحد قد تختلف ، فيكون الشرط في بعضها القدرة عليه في زمان الواجب فلا يجب فعله قبل الوقت ، وان ترتب على تركه فوات الواجب في ظرفه ، ويكون في بعضها الآخر هو مطلق القدرة عليه ولو قبل زمان الواجب ، فيلزم الإتيان به وتحقيقه قبل الوقت إذا علم بتفويت الواجب في ظرفه بتركه. وتعين أحد النحوين يتبع فيه دلالة الدليل الخاصّ.

وقد مثّل للأول : بالوضوء بالنسبة إلى الصلاة ، فان ظاهر الآية الشريفة : ( إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا ... ) الآية (1). هو تعليق وجوب الوضوء على القيام إلى الصلاة ، ومن الواضح ان المراد بالقيام دخول الوقت بنحو الاستعمال الكنائي ، لا نفس القيام ، إذ لا يقيد وجوب الوضوء بحال القيام إلى الصلاة.

وعليه ، فتكون مصلحة الوضوء اللزومية مقيدة بدخول الوقت. وعليه فيكون الشرط هو القدرة عليه بعد الوقت.

ومثل للثاني : بالماء الّذي هو مقدمة إعدادية ، فانه يستكشف من الرواية الصحيحة الدالة على لزوم إبقائه قبل الوقت ، ان الشرط هو القدرة المطلقة ولو قبل الوقت (2).

ولا يخفى انه قد أورد على المحقق النائيني قدس سره في المثال للثاني بالماء واستشهاده بوجود النص الصحيح - أورد عليه - : بأنه لا رواية صحيحة تتضمن هذا المعنى ، وقد نقل عنه ان أقرّ أخيرا بذلك واعترف (3).

واما تمثيله للأول بالوضوء واستشهاده بالآية ، ففيه ما لا يخفى : لأنه لو

ص: 196


1- سورة المائدة ، الآية : 5.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 153 - 154 - الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 154 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.

سلم كون القيام كناية عن دخول الوقت ، فغاية ما تدل عليه دخالة الوقت في تحقق الملاك الملزم للوضوء ، وان وجوبه مقيد بدخول الوقت كالواجب ، واما دخالة القدرة عليه بالنحو الخاصّ في تحقق الملاك فهو مما لا تتكفل الآية بيانه ، إذ لا تعرض لها إلى أصل دخالة القدرة وعدم دخالتها أو كيفية دخالتها في الملاك ، بل الآية ليست بأصرح من قوله علیه السلام : « إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاة والطهور » (1) في تقييد الوجوب بالزوال.

وبالجملة : الكلام في دخالة القدرة ونحوها ، والآية إنما تتكلف دخالة الوقت في المصلحة ، وهو لا يدل على كون الدخيل هو القدرة بعد الوقت ، بل يمكن ان تكون القدرة المطلقة دخيلة في تحقق الملاك وان كان الوجوب بعد الوقت ، لأن الوقت دخيل أيضا في الملاك. فالتفت.

واما التعلم ومعرفة الأحكام : فقد ادعى المحقق النائيني : عدم اندراجها في المقدمات المفوتة ، لعدم انسلاب القدرة على الإتيان بالواجب بترك التعلم ، بل الواجب يكون مقدورا ، ولذا يصح تعلق التكليف به في حال الجهل كتعلقه به في حال العلم. وعلى هذا فلا يكون الوجه في إيجاب التعلم هو قاعدة : « عدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار » لعدم تحقق موضوعها ، إذ لا يمتنع الفعل بترك التعلّم.

وعليه ، ففي فرض ترك التعلم ..

تارة : يكون المكلف متمكنا من الاحتياط وإحراز الإتيان بالواجب في ظرفه ، فلا إشكال في عدم وجوب التعلم حينئذ ، لعدم الوجه فيه بعد إمكان الإتيان بالواجب وإحراز الامتثال.

ص: 197


1- عن أبي جعفر علیه السلام : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة. وسائل الشيعة 1 / 261 باب 4 من أبواب الوضوء : حديث : 1.

وأخرى : لا يكون المكلف متمكنا من الاحتياط في ظرف الامتثال وإحراز الامتثال ، بل غاية ما هنالك هو احتماله موافقة ما جاء به لما هو المأمور به واقعا ومصادفته للواقع ، كما في بعض موارد حصول السهو والشك ، وعدم العلم بحكمه ، فانه قد لا يتمكن من الاحتياط فيأتي بالعمل بنحو يحتمل موافقته للواقع كما يحتمل مخالفته للواقع. ففي مثل هذه الحال يجب التعلم بحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، وذلك لأن التكليف وان كان مجهولا إلا أنه لا يكون مجرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، كي يطمئن العبد بعدم العقاب ، وذلك لأن العقل انما يحكم بمعذورية الجاهل وقبح عقابه فيما لم يكن هناك بيان أصلا ، أو كان ولكن لم يتمكن المكلف من العثور عليه وتحصيله بعد التصدي لذلك ، اما مع وجود البيان وعدم الفحص عنه وإهمال التصدي لمعرفة ما بينه المولى وانه هل يتكفل حكما إلزاميا أو لا؟ فلا يستقل العقل بقبح العقاب مع مخالفة الواقع جهلا.

وعليه ، فإذا استحق العبد - فيما نحن فيه - العقاب على المخالفة ، فمع احتمالها يحتمل العقاب ، فلا بد من دفعه لحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، ودفعه انما يكون بالتعلّم. فلزوم التعلّم ملاكه حكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل ، لا قاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » أو لزوم تحصيل غرض المولى.

وبهذا البيان يتضح انفراد التعلّم عن المقدمات المفوتة من جهتين :

الأولى : ان وجوب الإتيان بالمقدمات المفوتة انما يثبت في المورد الّذي يعلم بثبوت التكليف المتوقف على المقدمة في ظرفه علما وجدانيا أو تعبديا أو عاديا ، إذ بدون ذلك لا يعلم بوجود الملزم كي يجب تحصيله. وليس الأمر كذلك في وجوب التعلّم ، فانه يثبت مع احتمال التكليف احتمالا عقلائيا ، وان لم يتحقق العلم ، إذ باحتمال التكليف يحتمل العقاب بمخالفته ، فيحكم العقل بلزوم دفع الضرر المحتمل.

الثانية : ان استحقاق العقاب على المقدمات المفوتة يثبت من حين تركها ،

ص: 198

لأن فوات الواجب يكون بتركها.

واما العقاب في صورة ترك التعلم فهو منوط بالإتيان بالواجب فان خالف الواقع ثبت استحقاق العقاب في ذلك الحين ، لأن العقاب على ترك الواجب وهو لا يفوت بمجرد ترك التعلم.

هذا محصل ما أفاده المحقق النائيني قدس سره في المقام (1).

وهو - مع غض النّظر عما أفاده أخيرا من ثبوت استحقاق العقاب بترك المقدمات المفوتة من حين تركها ، فانه لا يخلو من بحث ليس المقام محلّه فقد ناقشه المحقق الأصفهاني (2) - وجيه وتامّ. فان التعلم ليس من المقدمات المفوتة ، وملاك وجوبه يختلف عن ملاك وجوبها بالتقريب الّذي بينّاه.

إلا أن السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) ناقش في هذا الكلام على إطلاقه ، وذكر : ان ترك التعلم في بعض موارده يلازم سلب القدرة على الواجب في ظرفه ، فيندرج بذلك في المقدمات المفوتة ويترتب عليه حكمها من لزومه بملاك لزوم تحصيل غرض المولى وقاعدة : « الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار » ، لو لم تؤخذ القدرة في ظرف الواجب دخيلة في الملاك.

وذلك لأن ترك التعلم قد يستلزم الغفلة وعدم الالتفات إلى وجوب بعض الاجزاء أو الشرائط المعتبرة في الواجب ، فالإتيان بها مع الغفلة عنها خارج عن حيّز القدرة ، فيستلزم ترك التعلم عدم التمكن من الواجب وعدم توجه الخطاب به إلى المكلف. كما أنه قد يستلزم عدم تمكنه منه ، لتوقف القدرة عليه على تعلمه ، كترك تعلّم القراءة أو الذّكر لمن لا يعرف النطق بالعربية أصلا ، فانه بترك التعلم تنسلب القدرة على الواجب.

ص: 199


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 154 - 157 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 198 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : دعوى خروج التعلم عن المقدمات المفوتة ممنوعة على إطلاقها. نعم هي مسلمة في الجملة ، كما في موارد إمكان الاحتياط أو احتمال إدراك الواقع (1).

ولكن يمكن الدفاع عن المحقق النائيني : بان كلا من الموردين - اللذين ذكرهما السيد الخوئي - لا يصلح شاهدا على اندراج التعلّم - في بعض موارده - في المقدمة المفوتة.

اما مورد ترك تعلم مثل القراءة ونحوها من متعلقات الأحكام لا نفس الأحكام ، فتحقيق المناقشة فيه موكول إلى محلّه ، وانما نشير إلى جهة المناقشة فقط فنقول : ان تعلم القراءة ونحوها يكون دخيلا في إيجاد القدرة لا المحافظة على القدرة الموجودة ، وملاك وجوب المقدمات المفوتة موضوعه المحافظة على القدرة ، واما إلحاق إيجاد القدرة بالمحافظة عليها فتحقيقه موكول إلى محلّه كما عرفت.

واما مورد استلزام ترك التعلم لحصول الغفلة عن الحكم الملازم لامتناع امتثاله ، فمناقشته تظهر ببيان شيء : وهو انه قد استشكل في رفع المؤاخذة في حال النسيان الوارد في حديث الرفع ، بان الحكم مرتفع في حال النسيان جزما لاستحالة تكليف الناسي عقلا لغفلته ، فارتفاع الحكم ليس امرا مربوطا بيد الشارع كي يكون رفعه امتنانا على العباد.

وقد أجيب عنه : بان الغرض رفع المؤاخذة على ترك المقدمات الموجبة لعدم النسيان ، وذلك لأن الحكم وان ارتفع بالنسيان ، إلا ان النسيان قد ينشأ من أمر اختياري للعبد ، وهو ترك التحفظ ، فيمكن تصور ثبوت المؤاخذة على ترك التحفظ المؤدي للنسيان لا على مخالفة الحكم المنسي. فحديث الرفع

ص: 200


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 367 - الطبعة الأولى.

يتكفل رفع هذه المؤاخذة منة وتفضلا على العباد. فترك التحفظ المؤدي للغفلة لا يوجب العقاب وان انتهى إلى ترك الواجب الواقعي (1).

إذا عرفت هذا نقول : إن ترك التعلم المؤدي إلى الغفلة وان أوجب امتناع الواجب بالاختيار ، إلا أنه قام الدليل على عدم تحقق المؤاخذة عليه ، وهو حديث الرفع ، فلا يكون التعلم واجبا في هذا الفرض لرفع المؤاخذة على تركه الكاشف عن عدم لزوم تحصيله شرعا. وان شئت قلت : إن حديث الرفع يكشف عن دخل القدرة على الواجب من جهة التعلم في ظرف الواجب ، فالقدرة عليه من جهة التعلم قبل زمانه غير دخيلة في ملاك الواجب ، فلا يجب تحصيلها أو المحافظة عليها أصلا.

فالتعلم وان كان من المقدمات المفوتة في بعض موارده ، لكنه لا يشترك معها حكما لقيام الدليل الخاصّ على عدم لزوم تحصيله.

وبذلك يظهر : ان ما أفاده المحقق النائيني من خروج التعلم - الّذي يكون واجبا - عن المقدمات المفوتة ، لأن تركه لا يستلزم امتناع الواجب ، وانما يستلزم امتناع إحراز الواجب ، متين. فلاحظ وتدبّر.

هذا تمام الكلام في المقدمات المفوتة.

يبقى الكلام في أمر تعرض له صاحب الكفاية بعنوان : « تتمة » ، وهو انه لو دار الأمر في القيد الوارد في الخطاب بين رجوعه إلى الهيئة ، فيكون قيدا للوجوب. ورجوعه إلى المادة فيكون قيدا للواجب. فهل هناك قاعدة مطردة تعيّن رجوعه إلى خصوص أحدهما المعين أو لا توجد قاعدة مطردة ، فلا بد من ملاحظة كل مورد بخصوصه والحكم بما تقتضيه القرائن والمناسبات لو كانت؟.

ص: 201


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /197- الطبعة الأولى.

ذهب الشيخ إلى تعيين رجوعه إلى المادة (1). وخالفه صاحب الكفاية بذهابه إلى عدم الوجه في رجوعه إلى أحدهما ، بل المرجع القرائن الخاصة لو كانت وإلاّ فالأصول العملية (2).

وقبل الشروع في تحقيق المطلب لا بد من ذكر امرين :

الأمر الأول : في ثمرة البحث ، وهي واضحة ، وذلك لأن القيد إذا كان راجعا إلى الهيئة لم يجب تحصيله لأنه شرط للوجوب ، بخلاف ما إذا كان راجعا إلى المادة فانه يكون من القيود الوجودية للواجب فيجب تحصيله ، بل للبحث ثمرة ولو كان القيد مما لا يجب تحصيله لو رجع إلى الواجب ، كما لو أخذ قيدا إذا حصل من باب الصدفة والاتفاق ، وهي : وجوب المقدمات الوجودية للواجب التي يجب تحصيلها قبل حصول القيد لفعلية الوجوب قبله ، بخلاف ما لو كان راجعا إلى الهيئة ، فان الوجوب لا يكون فعليا قبل حصوله فلا يجب الإتيان بسائر المقدمات الوجودية ، ومن هنا صح ما جاء في الكفاية من قوله : « وان يكون راجعا إلى المادة على نهج يجب تحصيله أو لا يجب » فلاحظ.

الأمر الثاني : انه قد تقدم من الشيخ إنكار إمكان رجوع القيد إلى الهيئة ، وبيان امتناع الواجب المشروط ، ومع ذلك لا يتجه له تحرير النزاع والحكم برجوع القيد إلى المادة من جهة الترجيح اللفظي. مع انه على مذهبه متعين عقلا.

ويندفع هذا الإيراد بوجهين :

الأول : انه يمكن ان يكون تحرير الشيخ للكلام في هذا الموضوع مبني على التنزل عن مذهبه مجاراة للخصم ، وهذا امر مألوف في طريقة المحققين مثل

ص: 202


1- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /49- الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /105- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الشيخ رحمه اللّه .

الثاني : ما ادعي من ان الشيخ لم ينكر الواجب المشروط ببعض المعاني في قبال رجوع القيد إلى صرف المادة ، كرجوعه إلى المادة المنتسبة كما نسبه إليه المحقق النائيني (1). أو كون الوجوب المشروط عبارة عن سنخ إرادة غير الإرادة المطلقة وهي الإرادة على تقدير ، كما ادعاه المحقق العراقي ، فانها كما ذكر سنخ إرادة تختلف بها عن الإرادة المطلقة حتى بعد حصول التقدير والقيد (2). فللكلام على هذه المباني مجال ، إذ يتكلم في رجوع القيد إلى المادة المنتسبة أو الإرادة فتكون الإرادة الثابتة سنخ إرادة خاصة ، أو إلى ذات المادة.

وعلى كل حال فقد ادعى الشيخ رجحان تقييد المادة على تقييد الهيئة ، وان اللازم في مثل الفرض الالتزام برجوع القيد إلى المادة دون الهيئة ، وقد ذكر لذلك وجهين :

الوجه الأول : ان إطلاق الهيئة يكون شموليا ، كما في شمول العام لافراده ، فان وجوب الإكرام على تقدير الإطلاق يشمل جميع التقادير التي يمكن ان يكون تقديرا له ، وإطلاق المادة يكون بدليا غير شامل لفردين في حالة واحدة (3).

وقد أوقع الكلام في هذا الوجه في مقامين :

المقام الأول : في تحقيق الكبرى الكلية التي فرضها الشيخ ، وهي ترجيح الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي ، عند دوران الأمر بين رفع اليد عن إحداهما.

فقد أنكرها صاحب الكفاية بدعوى : انه لا وجه لترجيح أحدهما على

ص: 203


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 130 - الطبعة الأولى.
2- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 296 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
3- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /49- الطبعة الأولى.

الآخر بعد ان كان كل منهما ثابتا بمقدمات الحكمة والإطلاق ، فان مفاد مقدمات الحكمة يختلف باختلاف الموارد ، فكما تقتضي الشمولية في مورد قد تقتضي البدلية في غيره ، كما انها قد تقتضي التعيين في بعض الموارد ، وإذا كان منشأ ثبوت كل منهما متحدا لم يكن وجه لتقدم أحدهما على الآخر لتساويهما ظهورا ، ولعل منشأ الترجيح ما رأى من تقدم عموم العام على إطلاق المطلق وترجيحه عليه ، والغفلة عن ان مرد ذلك لا يرجع إلى شمولية العام ، بل إلى كون شموله بالوضع وشمول المطلق بالإطلاق ، فيكون العام أظهر منه ، لأن ظهوره وضعي وظهور المطلق إطلاقي (1).

ولكن خالفه المحقق النائيني ووافق الشيخ في لزوم ترجيح المطلق الشمولي على الإطلاق البدلي عند دوران الأمر بينهما ، فإذا ورد مثلا : « أكرم العالم » ثم ورد : « لا تكرم فاسقا » ، فانه يقيد المطلق البدلي بغير العالم ويبقى الإطلاق الشمولي على إطلاقه (2).

وقد تعرضنا لبيان وجه ما أفاده في الاستدلال على هذه الدعوى ، وبيان ما ذكر من المناقشة فيه ، كما ذكرنا وجها للدعوى بعنوان توجيه ما أفاده قدس سره أثبتنا به صحة الدعوى ، وان المتعين موافقته فيما ذهب إليه من ان الإطلاق الشمولي يرجح على الإطلاق البدلي ، كل ذلك ذكرناه في مبحث التعادل والترجيح (3).

فقد كانت النتيجة : هو أن المعارضة في باب الإطلاق الشمولي والإطلاق

ص: 204


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /106- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 160 - الطبعة الأولى.
3- وقد أعاده سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) بتفصيله إتماما للفائدة ، وحيث انه وافق التقرير المحرر سابقا كان إعادة تحريره تطويلا بلا طائل ، وانما المهم الإشارة إلى نتيجة الدعوى بعد توجيهها. فراجع ما أوضحناه تعرف. ( منه عفي عنه ).

البدلي ، بين الشمول في طرف المطلق الشمولي ونفس الإطلاق في طرف المطلق البدلي.

وبما ان الشمولية ليست من مفاد الإطلاق ومقدمات الحكمة ، بل مفاد دليل خارجي يختلف باختلاف الموارد ، كان الشمول مقدما على الإطلاق ، اما لأجل انهدام مقدمات الحكمة فيه ، بناء على كون مجراها هو المراد الجدي الملازم لأن تكون إحدى مقدماته عدم البيان إلى الأبد المنتفية بورود البيان بالشمول. أو لأجل أقوائية ظهور دليله على ظهور المطلق في الإطلاق ، بناء على كون مجراها هو المراد الاستعمالي ، فقد تقرر ان كل دليل يصادم الإطلاق ولم يكن من سنخه يكون مقدما عليه بلا كلام لأحد الوجهين المشار إليهما فعلا ، وبهذا الوجه الّذي أوضحناه بمقدمات ثلاث تعين علينا موافقة المحقق النائيني في أصل الكبرى الكلية ، وهي ترجيح الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي فان نسبة دليل الشمول إلى مقدمات الحكمة نسبة الوارد إلى المورود.

المقام الثاني : في انطباق هذه الكبرى الكلية على موردنا الّذي نحن فيه ، وكون المقام من صغرياتها ، والّذي يظهر من الشيخ وصاحب الكفاية المفروغية عن هذه الجهة وانما الكلام في الكبرى فقط.

إلاّ انه استشكل في ذلك : بأنه لو سلمت الكبرى الكلية - أعنى ترجيح الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي - فلا تنطبق على ما نحن فيه ، وعليه فلا تصلح دليلا على تعيين رجوع القيد إلى المادة دون الهيئة.

وبيان ذلك : ان القيد الّذي يدور أمره بين الرجوع إلى المادة أو الهيئة اما ان يكون متصلا أو منفصلا.

فان كان متصلا : لم ينعقد للهيئة ظهور في الإطلاق وكذا المادة ، لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينية الموجب لإجماله فلا يبقى موضوع للترجيح ، إذ ليس هناك إطلاق شمولي وإطلاق بدلي كي يرجح أحدهما على الأخر.

ص: 205

وان كان منفصلا : فلأنه وان انعقد لكل من الدليلين ظهور في الإطلاق ، إلاّ ان تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي من جهة أقوائية ظهوره انما يكون فيما إذا كان التنافي بين الإطلاقين بحسب ذاتيهما ، بان كان مدلول كل منهما ينافي الآخر في نفسه. واما إذا لم يكن بينهما تناف ، بل علم بخطإ أحدهما من الخارج ، لم يكن وجه لتقديم الأقوى ظهورا على غيره. وما نحن فيه كذلك ، إذ ليس بين كل من الإطلاقين منافاة ذاتية ، إلاّ انه بعد ورود التقييد وتردد أمره بين رجوعه إلى المادة أو الهيئة يعلم إجمالا بعدم موافقة أحدهما للواقع (1).

وفيه ما لا يخفى : اما حكمه بإجمال الدليلين فيما لو كان القيد متصلا ، فوجه الخدشة فيه : انه قد عرفت ان التصادم انما هو بين شمول أحد الإطلاقين والإطلاق الأخر ، ومن الواضح ان القيد المتصل إنما يوجب إجمال الإطلاق البدلي ، لأنه يتوقف على تمامية مقدمات الحكمة ، وبوجودها يصلح للقرينية فلا تتم المقدمات ولكنه لا يوجب إجمال الشمول ، لأنه ليس بمدلول للدليل اللفظي كي يوجب إجماله وجود القيد المتصل المجمل ، بل هو مفاد قرينة عقلية لا ترتبط بعالم اللفظ ، فلا يوجب القيد المجمل إجمالها.

واما حكمه بعدم الترجيح في صورة انفصال القيد ، فلا يظهر وجهه : لأن التعارض البدوي بين الدليلين الّذي يرتفع بالجمع العرفي بينهما بما عرفت ، إنما هو عبارة عن تنافيهما وعدم إمكان اجتماعهما معا تحت دليل الحجية ، وهذا كما يتحقق بالتنافي الذاتي بين الدليلين كذلك يتحقق بالتنافي العرضي المتحقق بالعلم الخارجي بكذب أحدهما. وكما يجري وجه الجمع الّذي عرفته في صورة التنافي وبحسب ذاتهما كذلك يجري في صورة التنافي بالعرض ، ولا وجه للتفكيك بين الصورتين.

ص: 206


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 338 - الطبعة الأولى.

فالتحقيق ان يقال في وجه عدم انطباق الكبرى الكلية على المورد : ان أساس تقديم الإطلاق الشمولي على الإطلاق البدلي على ما عرفت ، هو بيان ان لكل من الإطلاقين دالّين ومدلولين ، إطلاق وشمول وإطلاق وبدلية ، والدال على الإطلاق غير الدال على الشمول أو البدلية بضميمة ان المعارضة بين شمول أحدهما وإطلاق الآخر ، وهذا المعنى غير متحقق فيما نحن فيه ، فان الشمول بالمعنى المصطلح ليس هو مفاد الهيئة ، وإلا لما ثبت ذلك بالإطلاق ومقدمات الحكمة ، بل كان في ثبوته محتاجا إلى جريان مقدمات عقلية أخرى غير مقدمات الحكمة. ولذلك عبّر عنه صاحب الكفاية بقوله : « فإن وجوب الإكرام على تقدير الإطلاق يشمل جميع التقادير ... » (1) ، فانه إشارة إلى ان الشمول ليس بمعناه المصطلح ، المراد به شمول افراد الطبيعة.

الوجه الثاني : ان تقييد إطلاق الهيئة يستلزم تقييد إطلاق المادة والتصرف فيه ، إذ يمتنع أخذ المادة بدون قيد الوجوب ، وتقييد المادة لا يستلزم تقييد إطلاق الهيئة وهو واضح. ومن الواضح انه إذا دار الأمر بين تقييد وتقييدين كان الترجيح للتقييد الواحد ، إذ الالتزام بالتقييدين ارتكاب لمخالفة الظاهر بأكثر من الالتزام بالتقييد الواحد ، لأن التقييد على خلاف الأصل. وعليه فيتعين إرجاع القيد إلى المادة لأنه يستلزم تقييدا واحدا (2).

وقد ناقش فيه صاحب الكفاية ، والتزم بلزوم الالتزام بالتفصيل بين القيد المتصل والقيد المنفصل. ببيان : انه إذا كان القيد متصلا ورجع إلى الهيئة كان ذلك مانعا عن انعقاد الظهور الإطلاقي في المادة ، لانتفاء محل الإطلاق فيها بعد امتناع ثبوتها بدون قيد الوجوب ، فلا ظهور للمادة في الإطلاق كي يكون

ص: 207


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /106- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /49- الطبعة الأولى.

التصرف فيه مخالفة للظاهر ، بل تقييد الهيئة يرفع موضوع الظهور الإطلاقي ، لا انه يتصرف في الظهور الثابت ، والأول ليس فيه مخالفة للأصل ، إذ مخالفة التقييد للأصل باعتبار انه مناف لظهور الإطلاق وموجب لرفع اليد عنه والتقييد هاهنا ليس كذلك. واما إذا كان منفصلا ، فحيث أنه قد انعقد ظهور للمادة في الإطلاق ، فرجوع القيد إلى الهيئة يوجب رفع اليد عن هذا الظهور وهو خلاف الأصل.

وبالجملة : الوجه انما يتجه في ما كان القيد منفصلا ، اما إذا كان متصلا فلا يدور الأمر بين تقييد وتقييدين ، بل بين تقييد وتقييد ، لأن تقييد الهيئة يمنع من انعقاد ظهور المادة في الإطلاق ، لا انه يرفع ظهورها المنعقد ، كما هو الحال في القيد المنفصل ، والمخالف للأصل هو الثاني دون الأول (1).

ولكن المحقق النائيني قدس سره وافق الشيخ رحمه اللّه وخالف صاحب الكفاية في تفصيله ، بدعوى : انه مع دوران الأمر في رجوع القيد المتصل إلى الهيئة أو المادّة ، يكون تقييد المادة وعدم تمامية الإطلاق فيها متيقنا ، اما لرجوعه إليها واقعا أو لرجوعه إلى الهيئة.

وعليه ، فيكون تقييد الهيئة مشكوكا بدوا فينفي بأصالة الإطلاق فيها.

وبالجملة : انه مع وجود القدر المتيقن في التقييد يكون الباقي مشكوكا ينفي بأصالة الظهور في المطلق. فأصالة الظهور في طرف الهيئة بلا معارض لكون المتيقن تقييد المادة ، واما تقييدها فهو مشكوك ينفي بالأصل (2).

هذا ، ولكن حيث ان أساس هذه المناقشات والدعاوي هو استلزام تقييد الهيئة لتقييد المادة دون العكس التي أخذ في الكلمات مفروغا عنه ، لا بد لنا من معرفة مقدار صحة ذلك.

ص: 208


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /107- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 165 - الطبعة الأولى.

فقد ادعي : عدم الملازمة بين تقييد الهيئة وتقييد المادة.

وقرب المحقق الأصفهاني ذلك بوجهين (1). ذكر ثانيهما السيد الخوئي كما في تقريرات بحثه ..

وهو : أن تقيد الهيئة معناه أخذ القيد مفروض الوجود غير داخل تحت الطلب ، سواء كان اختياريا أو لا ، فيكون تحقق الحكم معلقا على تحققه. واما تقييد المادة فمعناه أخذ المتقيد تحت الطلب الملازم لوجوب تحصيل القيد إذا كان اختياريا. ولا يخفى ان النسبة بين هذين التقييدين عموم من وجه ، فهما يجتمعان في مورد ، فيكون القيد قيدا للمادة والهيئة ، ويفترقان في مورد. اما اجتماعهما ففي مثل الوقت الخاصّ بالنسبة إلى الصلاة ، فانه قيد لوجوب الصلاة كما انه قيد لصحة الصلاة. واما مورد افتراق تقييد المادة عن تقييد الهيئة فكتقيد الصلاة بالطهارة ، فان وجوبها غير مقيدة بها. واما مورد افتراق تقيد الهيئة عن تقيد المادة فكاشتراط وجوب الحج بالاستطاعة ، فان وجوبه لا يتحقق بدون الاستطاعة ، مع انه لا يعتبر في صحة الحج تحقق الاستطاعة ، فانه لو استطاع شخص ثم أزال الاستطاعة وحجّ متسكعا كان حجّة صحيحا. وإذا تبين ان بين التقييدين عموما من وجه لم يكن وجه لدعوى استلزام تقييد الهيئة لتقيد المادة ، لوجود بعض الموارد التي تتقيد فيها الهيئة دون المادة (2).

ولا يخفى ما فيه : فان القيد إذا أخذ قيدا للوجوب كان تقيد الواجب به بما انه واجب قهريا ، إذ يستحيل تحقق الواجب بدون الوجوب ، والمفروض توقف الوجوب على تحقق القيد. وعليه فيمتنع ان يؤخذ مع كونه قيدا للوجوب قيدا للواجب ، بحيث يكون التقيد به مطلوبا الملازم لطلب تحصيله - أي نفس

ص: 209


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 193 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 343 - الطبعة الأولى.

التقيد - لو كان اختياريا ، وذلك لأنه بعد أن أخذ قيدا للوجوب كان التقيد به قهريا لا ينفك عن الواجب فلا يتجه تعلق الطلب به وأخذه في حيز الطلب.

وبالجملة : ما يؤخذ قيدا للوجوب يستحيل ترشح الطلب عليه وعلى التقيد به ، وهذا امر واضح لا سترة عليه ، وعلى هذا فيمتنع ما ذكره من إمكان ان يكون القيد قيدا للوجوب والواجب ، وما ذكره من إمكان ان يكون القيد قيدا للوجوب بلا ان يتقيد به الواجب ، لما عرفت من قهرية التقييد واستحالة انفكاكه عن أخذ القيد قيدا للوجوب ، ومعه يمتنع تعلق الطلب به لأنه طلب الحاصل.

واما ما ذكره من المثال على الأول ، من قيدية الوقت الخاصّ للصلاة ولوجوبها ، إذ لا كلام في كون الوقت الخاصّ شرطا في الصحة ، كما انه قيد للوجوب ، فيمكن التفصي عنه بعد ان عرفت امتناع مثل هذا عقلا ، بان يقال : ان الوقت الخاصّ قيد للواجب فقط دون الوجوب ، وما يكون قيد الوجوب هو ما به ابتداء ذلك الوقت كالزوال والغروب ونحوهما. فحدوث الوجوب المتعلق بصلاة الظهر واستمراره قد أخذ الزوال شرطا له ولم يؤخذ الزوال قيدا للواجب ، واما الوقت من بعد الزوال إلى الغروب فهو قيد للواجب ، بمعنى ان تقيد الصلاة به قد أخذ في حيّز الطلب ، فالصلاة الواجبة هي الصلاة المأتي بها في الوقت الخاصّ المعين. وليس في هذا المعنى كبير مخالفة لظواهر الأدلة ، بل تمكن دعوى انه ظاهر الأدلة ، لأن الظاهر قيدية الزوال ونحوه للوجوب كما هو ظاهر الآية والرواية ، اما الآية فقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (1) ، واما الرواية فقوله علیه السلام : « إذا زالت الشمس فقد وجب الصلاة والطهور » (2).

ص: 210


1- سورة الإسراء ، الآية : 78.
2- عن أبي جعفر علیه السلام : إذا دخل الوقت وجب الطهور والصلاة. وسائل الشيعة 1 / 291 باب : 4 من أبواب الوضوء ، حديث : 1.

واما ما ذكره شاهدا على الثاني ، من عدم قيدية الاستطاعة للحج مع كونها قيدا للوجوب ، ففيه ما لا يخفى : فان الاستطاعة التي تكون شرطا للوجوب هو مطلق الاستطاعة ولو حصلت في آن واحد لا الاستطاعة المستمرة. وبعبارة أخرى : الاستطاعة حدوثا شرط للوجوب لا الاستطاعة بقاء ، ومن الواضح ان تقيد الحج بالاستطاعة الحادثة المرتفعة أمر لا كلام فيه ، فالواجب قد تقيد قهرا بما هو شرط للوجوب وهو الاستطاعة الحدوثية ، والاستطاعة في حال العمل ليس شرطا للوجوب كي يكون عدم اعتبارها في صحة العمل كاشفا عن إمكان انفكاك الواجب عن قيد الوجوب ، وإلاّ امتنع صحة العمل بدونها لعدم تحقق الوجوب في حال العمل لعدم شرطه.

وبالجملة : ما أخذ من الاستطاعة شرطا للوجوب قد تقيد به الواجب قهرا ، وغيره لم يؤخذ شرطا للوجوب ، فتقيد الواجب به وعدمه يحتاج إلى دليل خاص ، وعدم تقيده لا يكون دليلا وشاهدا على ما ادعاه. فلاحظ.

واما الوجه الأول فهو : ان للمادة جهتين : إحداهما : جهة المطلوبية. والأخرى : جهة الوفاء بالملاك والمصلحة مع غض النّظر عن تعلق الطلب بها ، ورجوع القيد إلى الهيئة وان أوجب تقيد المادة من الجهة الأولى ، إذ يمتنع تحقق مطلوبية المادة بدون تحقق قيد الطلب لعدم الطلب بدونه. ولكنه لا نظر له إلى الجهة الثانية ، فان الوفاء بالملاك لا يلازم الطلب.

وعليه ، فإطلاق المادة من جهة الوفاء بالمصلحة وتحقق الملاك بها بدون القيد لا ينثلم بتقييد الهيئة ، إذ النّظر في التقييد إلى جهة الطلب لا غير. ونظير هذا ثابت في موارد التزاحم ، فانه يتمسك بإطلاق المادة لإثبات تحقق الملاك بها في صورة المزاحمة مع عدم تعلق الطلب بها للمزاحمة بما هو أهم (1).

ص: 211


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 193 - الطبعة الأولى.

وهذا الوجه متين ، لكنه يبتني على صحة التمسك بإطلاق المادة في إثبات تحقق الملاك في غير صورة الطلب. ولكن سيأتي إن شاء اللّه تعالى بيان عدم تمامية هذا الوجه في إثبات الملاك في غير صورة الطلب. وان هناك وجها آخر لإثباته وهو التمسك بالدلالة الالتزامية للظهور الإطلاقي. فانتظر.

والّذي يتحصل : ان الكبرى المذكورة في كلام الشيخ ، وهي ملازمة تقييد الهيئة لتقييد المادة مسلمة.

واما تحقيق المقام بعد تسليمها فقد عرفته مما تقدم ، وان ما ذكره المحقق النائيني هو المتجه. فلاحظ.

التقسيم الثالث : انقسامه إلى الواجب النفسيّ والغيري.

وقد اختلف في تعريفهما وبيان حقيقتهما.

فعرفهما المشهور : بان النفسيّ ما كان إيجابه لا لداعي التوصل به إلى واجب آخر. والغيري ما كان الداعي فيه هو التوصل إلى واجب آخر. وهو المراد من ان النفسيّ ما وجب لنفسه والغيري ما وجب لغيره.

ولكن أورد على هذا التعريف : بأنه يستلزم ان تكون أكثر الواجبات ، بل كلها سوى المعرفة باللّه ، واجبات غيرية ، لأن الأمر بها انما يكون لأجل ما يترتب عليها من الأثر والفائدة ، فان تحصيل هذا الأثر اما ان يكون لازما أو غير لازم ، فعلى الثاني لا وجه لإيجاب العمل الّذي يترتب عليه الأثر لأجله ، لعدم كون المصلحة لزومية ، وعلى الأول كان الواجب واجبا غيريا لأنه وجب للتوصل به إلى واجب آخر. نعم المعرفة باللّه واجبة لنفسها ، لأنها محبوبة بذاتها.

والإيراد عليه : بان الأثر المترتب لما كان خارجا عن قدرة المكلف ، لأنه من خواص العمل امتنع تعلق الوجوب به ، وان كانت محبوبيته بحد اللزوم.

مندفع - كما جاء في الكفاية - : بأنها داخلة تحت قدرة المكلف بالقدرة على أسبابها ، فتكون كسائر المسببات التوليدية التي يتعلق بها التكليف بلحاظ القدرة

ص: 212

عليها بالقدرة على أسبابها. كالتمليك والتطهير ونحوهما من المسببات التوليدية المتعلقة للتكاليف.

وقد أجاب صاحب الكفاية عن هذا الإيراد : بان الفعل وان كان يترتب عليه الأثر ، إلاّ أنه معنون بعنوان حسن في نفسه ، والإيجاب متعلق به بما انه كذلك ، وان كان في الواقع مقدمة لأمر مطلوب واقعا. وهذا بخلاف الوجوب الغيري ، فان جهة الوجوب متمحضة في كونها التوصل إلى واجب نفسي. فالواجب النفسيّ بنظر صاحب الكفاية ما امر به لتعنونه بعنوان حسن وان كان مقدمة لغيره. والواجب الغيري ما امر به لأجل المقدمية والتوصل إلى الغير وان كان معنونا بعنوان حسن في نفسه. وقد ذكر انه يمكن ان يكون هذا المعنى مراد المشهور من ان الواجب النفسيّ ما أمر به لنفسه والغيري ما أمر به لأجل غيره (1).

وقد تصدى المحقق النائيني لدفع الإيراد المذكور : بان نسبة الفعل الواجب إلى الأثر ليست نسبة السبب التوليدي إلى مسببه كي يكون مقدورا بالواسطة ، بل نسبته إليه نسبة المعد إلى المعد له ، لأن الأثر لا يترتب على الفعل مباشرة أو بتوسط أمور اختيارية ، بل يتوسط بينه وبين الفعل أمر غير اختياري ، فيمتنع تعلق التكليف به ، لكونه غير مقدور حتى بالواسطة ، كما لو امره بشرب الدواء لأجل رفع المرض ، فان رفع المرض لا يترتب على شرب الدواء مباشرة ، بل تتوسط بينه وبين الشرط أمور غير اختبارية ، كمصادفة الدواء محل المرض ونحوها. وكما لو أمره بالإتيان بالماء ليشرب ، فان شرب المولى يتوقف على إرادته ، ولا يترتب على الإتيان بالماء فقط.

وبالجملة : الغايات المترتبة على الواجبات النفسيّة غير مقدورة ، ونسبة

ص: 213


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /107- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الواجب إليها نسبة المعدّ إلى المعدّ له.

ثم استشكل فيما أفاده صاحب الكفاية في دفع الإيراد : بأنه يستلزم ان يكون في الواجب النفسيّ ملاكان ملاك الوجوب النفسيّ وملاك الوجوب الغيري وهو ممتنع (1).

وبما ان تحقيق هذا الأمر ليس بذي أثر عملي في المسألة أصلا لا يتجه لنا إطالة الكلام في سبر كلمات الاعلام وتحقيقها ، فالاكتفاء بهذا المقدار لمجرد الإشارة متعين ، والقدر المتيقن هو ان الواجب النفسيّ ما وجب من دون تقيد بوجوب شيء آخر أصلا ، وليس كذلك الغيري فانه مقيد بوجوب شيء آخر. واما حقيقة كل منهما فلا يهمنا معرفتها.

وانما المهم تحقيق الأصل عند الشك في كون واجب معلوم نفسيا أو غيريا.

والكلام يقع في مقامين :

المقام الأول : في تحقيق مقتضى الأصل اللفظي.

وقد ادعى صاحب الكفاية : إمكان التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات كون الواجب نفسيا لا غيريا (2). خلافا للشيخ حيث أنكر صحة التمسك بالإطلاق. ببيان : ان مدلول الهيئة واقع الطلب لا مفهومه ، وهو لا يقبل الإطلاق والتقييد ، لأن الإطلاق والتقييد من شأن المفاهيم القابلة للسعة والضيق ، اما الواقع فهو غير قابل للسعة والضيق كما لا يخفى ، فيمتنع فيه الإطلاق والتقييد.

اما سرّ كون مدلول الهيئة واقع الطلب لا مفهومه ، فيتبين في ان الفعل يتصف بالمطلوبية بمجرد الإنشاء والأمر ، فيقال عنه انه مطلوب. ومن الواضح

ص: 214


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 167 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /108- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ان اتصاف الشيء بالعرض انما يكون بطروّ واقع العرض عليه لا مفهومه ، فالجسم لا يتصف بالبياض الا بعروض حقيقة البياض عليه. وعليه فاتصاف الفعل بالمطلوبية بمجرد الأمر يكشف عن كون مدلول الهيئة واقع الطلب لا مفهومه ، إذ مفهوم الطلب لا يصحح اتصاف الفعل بالمطلوبية (1).

وقد ناقش فيه صاحب الكفاية : بان واقع الطلب يمتنع ان يكون مدلولا للصيغة ، فان وجود واقع الطلب تابع لأسبابه التكوينية الخارجية ، لأنه من الصفات النفسانيّة الخارجية ، ولا يتحقق بالإنشاء ، فلا وجه لإنشائه لعدم وجوده بالإنشاء. فالمتعين ان يكون مدلول الصيغة مفهوم الطلب القابل لتعلق الإنشاء به ، فانه أحد أسباب وجوده ، فيوجد بوجود إنشائي وهو غير الوجود الخارجي والذهني كما تقدم تحقيقه.

واما وجه اتصاف الفعل بالمطلوبية بمجرد الأمر والإنشاء : فهو لأجل تعلق الطلب الإنشائي به ، والمقصود بوصف المطلوبية هو المطلوبية الإنشائية ، التي قد تلازم المطلوبية الحقيقية وقد تنفك عنها.

وبالجملة : الطلب العارض على الفعل والّذي يوصف به العمل المطلوب هو الطلب الإنشائي المتحقق بالإنشاء.

وإذا تبين ان مدلول الصيغة هو مفهوم الطلب ، فهو قابل للإطلاق والتقييد. وتقريب التمسك بالإطلاق في إثبات النفسيّة : هو ان مدلول الصيغة وان كان يعم الطلب النفسيّ والغيري ، لكنه قد تقدم ان الوجوب النفسيّ الوجوب الثابت سواء وجب شيء آخر أو لا ، والغيري هو الثابت عند وجوب شيء آخر فالذي يحتاج إلى التنبيه عرفا والمئونة الزائدة على أصل مدلول الكلام هو الوجوب الغيري لأنه مقيد ، فمع عدم التقييد يتمسك بإطلاق الهيئة في ثبوت

ص: 215


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /68- الطبعة الأولى.

الوجوب مطلقا ، سواء وجب شيء آخر أو لم يجب في قبال تقييده بثبوته عند وجوب غيره. وعليه فيثبت بالإطلاق كون الواجب نفسيا (1).

وقد أورد المحقق الأصفهاني على ما أفاده صاحب الكفاية إيرادات ثلاثة :

الأول : ان التفاوت بين النفسيّ والغيري لما كان من جهة ان النفسيّ ما كان الداعي إلى وجوبه حسن ذاته والغيري ما كان الداعي إلى وجوبه التوصل به إلى واجب نفسي ، وكان المحتاج إلى التنبيه عرفا هو المعنى الثاني - أعنى ما كان الداعي فيه التوصل إلى واجب آخر - كان اللازم جعل الإطلاق بمعنى عدم تقييده بانبعاثه عن داع آخر غير نفس الواجب ، لا بمعنى عدم تقييده بوجوب شيء آخر كما هو ظاهر صاحب الكفاية ، فان الإطلاق بالمعنى الّذي ذكرناه هو المتناسب مع واقع النفسيّة دون ما أفاده صاحب الكفاية ، فانه ليس بمعنى النفسيّة ، بل هو لازم لها.

الثاني : ان التقييد بالمعنى الّذي عرفته ، أعنى كونه منبعثا عن داع غير الواجب لا يتنافى مع كون البعث المنشأ جزئيا حقيقيا. وعليه فلا مانع من التمسك بإطلاق الصيغة في نفيه وان التزم بان الموضوع له هو واقع الطلب ، إذ مرجع التمسك بالإطلاق إلى التمسك بظهور الصيغة في هذا الفرد دون ذلك ، لاحتياج أحدهما إلى مئونة دون الآخر.

الثالث : ان القيود تارة تكون من الشئون والأطوار. وأخرى تكون من قبيل الدواعي والأسباب ، فإذا كان من الأول أوجب تضييق المعنى المقيد ، بخلاف ما إذا كان من قبيل الثاني ، فان تقييد الشيء بداع خاص لا يوجب تضييق معناه ، وعليه فالتقييد بالداعي لا يوجب التضييق.

وعلى هذا فلا مانع من تقييد مدلول الصيغة بداع خاص ، وان التزم بأنه

ص: 216


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /109- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فرد الطلب وواقعه ، لعدم منافاة هذا التقييد للفردية ، لأنه لا يوجب التضييق ، كي يقال : ان التضييق من شأن المفاهيم لا الافراد ، ومع ذلك فلا مانع من التمسك بإطلاق الهيئة لإثبات الفرد الخاصّ ، لأنه لا يحتاج إلى مزيد بيان (1).

وقد ذكر هذا المطلب في مبحث الواجب المشروط ، في مقام بيان إمكان رجوع القيد إلى الهيئة ، ولو التزم بان مدلولها الفرد لا المفهوم ، بتقرير : ان التقييد بمعنى التعليق لا يستلزم التضييق الممتنع في الافراد (2). وقد وافقه السيد الخوئي في ذلك ، وأورد هذا الأمر في مقام إيراده على المحقق النائيني كما تقدم ذكره فراجع.

والإنصاف ان هذه الوجوه مخدوشة كلها :

اما الأول : فلان إرجاع الإطلاق إلى نفي التقييد بكون الداعي في البعث هو واجب آخر ، وإثبات التقييد بانبعاث الوجوب عن حسن ذات الواجب يتنافى مع التمسك بالإطلاق ، لأن كلا من خصوصيتي النفسيّة والغيرية بالمعنى الّذي ذكره قيد زائد على أصل الوجوب ، سواء قلنا بان النفسيّة عبارة عن انبعاث الوجوب عن حسن نفسه فتكون قيدا وجوديا. أو انبعاثه لا عن داعي غيره فتكون قيدا عدميا. فالنفسية من هذه الجهة قيد زائد على أصل الوجوب يحتاج إلى بيان كالغيرية ، ولا وجه لدعوى أنه لا يحتاج إلى بيان زائد بعد ان كان قيدا كسائر القيود العدمية أو الوجودية. فالتمسك بالإطلاق من هذه الجهة غير صحيح. نعم في الواجب النفسيّ جهة أخرى تتلاءم مع الإطلاق ، وهي ثبوت وجوبه مطلقا وفي سائر الأحوال وجب هناك شيء آخر أو لا ، بخلاف الغيري فان وجوبه يكون في ظرف وجوب غيره ، والتمسك بالإطلاق من هذه الجهة لا

ص: 217


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 196 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 181 - الطبعة الأولى.

محذور فيه ويثبت به الوجوب النفسيّ ، فما أفاده صاحب الكفاية في جهة التمسك بالإطلاق مما لا محيص عنه.

وبالجملة : في الواجب النفسيّ جهتان :

إحداهما : كونه منبعثا عن حسن نفسه ، أو لا عن غيره.

ثانيتهما : كونه ثابتا على جميع التقادير وفي جميع الأحوال ، ولا يمكن التمسك بالإطلاق من الجهة الأولى ، لأنها قيد زائد تحتاج إلى بيان وان كان عدميا ، لأن ما لا يحتاج إلى البيان الزائد هو عدم القيد لا التقيد بالعدم ، فان التقيد بالعدم كالتقيد بالوجود قسيم الإطلاق وينفي به. نعم يمكن التمسك بالإطلاق من الجهة الثانية ، وبها يثبت الوجوب النفسيّ ، وإليها نظر صاحب الكفاية في كلامه ، فما أفاده متجه.

واما الثاني : فقد اتضحت الخدشة فيه ، لأنه متفرع على تمامية الأول ، فبعد ان عرفت أن موضوع الإطلاق لا يرتبط بداعي الوجوب ، بل بثبوت الوجوب مطلقا ، لا يبقى مجال لدعوى ان التقييد بالغيرية بهذا المعنى - أي بمعنى الانبعاث عن داع غير الواجب - لا يتنافى مع الجزئية الحقيقية ، إذ الإطلاق لا يثبت النفسيّة من هذه الجهة كي يدعى عدم منافاتها للجزئية الحقيقية ، والبحث أجنبي عنها.

واما الثالث : فلان موضوع التقييد بالداعي وما هو من قبيله مما كان في مرحلة سابقة عن وجود الشيء أو لاحقة له ، اما ان يفرض المفهوم أو المصداق. فإن فرض المفهوم فاستلزامه لتضييق دائرته أمر بديهي غير قابل للإنكار ، فان المفهوم بعد تقييده بداع خاص يتحدد صدقه على الافراد وتتضيق دائرة انطباقه ، فمفهوم الاحتراق - مثلا - ينطبق على كل فرد من افراده ، فإذا قيد بما كان ناشئا عن السبب الخاصّ كالنار تضيقت دائرة صدقه فلا ينطبق حينئذ على ما حصل من الكهرباء. وان فرض المصداق ، فهو غير قابل للتضييق ، كما هو المفروض ،

ص: 218

سواء كان القيد من قبيل الدواعي أو كان من الشئون والأطوار. فالتفريق بين القيود في استلزام نحو منها التضييق وعدم استلزام نحو آخر منه لا وجه له ، بل هي جميعها مستلزمة للتضييق ان قيد بها المفهوم ، وغير مستلزمة له ان قيد بها المصداق لعدم قابليته للتضييق.

وبعبارة أخرى : انه إذا كان الغرض من التفريق بين نحوي القيود هو بيان قابلية مدلول الهيئة التي هو الفرد الحقيقي للطلب للتقيد بالداعي الخاصّ ، لعدم كون التقييد به موجبا للتضييق الممتنع في الفرد كالتقييد بما هو من شئون الشيء ، فانه يمتنع طروّه على الفرد ، لأن مفاده التضييق وهو ممتنع في الفرد ، إذا كان الغرض ذلك فهو منتف ، لأن التقييد بكلا نحويه يؤدي إلى تضييق دائرة المقيد فيمتنع ان يتحقق فيما هو غير قابل للضيق.

وخلاصة الكلام : ان ما أفاده صاحب الكفاية في تقريب التمسك بالإطلاق ، وفي دفع ما قيل في منع الإطلاق ، وجيه من الجهة التي ينظر إليها صاحب الكفاية ، أعنى عموم الموضوع له وخصوصه.

والّذي يتحصل : انه ان التزم بكون مدلول الهيئة واقع الطلب ، أو انه النسبة الخاصة الطلبية ، كما هو التحقيق ، امتنع التمسك بإطلاق الهيئة في إثبات الوجوب النفسيّ لعدم قابليتها للتقييد.

واما بناء على ما التزم به صاحب الكفاية من كون مدلول الهيئة مفهوم الطلب القابل للتقييد ، كان التمسك بإطلاق الهيئة باعتبار هذه الجهة ممكنا.

إلا أنه يشكل من جهة أخرى تقدم ذكرها فيما مرّ ، وهي ان مدلول الهيئة بنظر صاحب الكفاية وان كان معنى عاما ، إلا أنه ملحوظ باللحاظ الآلي ، فانه هو الفارق بين معاني الأسماء والحروف في نظره قدس سره ، ولا يخفى ان الإطلاق يتنافى مع هذا الفرض ، إذ هو يستدعي تعلق اللحاظ الاستقلالي بالمطلق ، كيف؟ والمفروض انه يكون في مقام البيان الملازم لتوجه المتكلم إلى

ص: 219

المعنى استقلالا.

وعليه ، فالتمسك بإطلاق الهيئة ممتنع ، لأن معناها ملحوظ آليا وهو لا يتلاءم مع الإطلاق. وقد أشار صاحب الكفاية إلى هذا الإشكال في مبحث مفهوم الشرط (1) ، ولذا عدّ ما ذكره هناك مناقضا لما ذكره هنا ، وما ذكره في مبحث الواجب المشروط من صحة رجوع القيد إلى الهيئة.

وقد عرفت فيما تقدم التخلص عن إشكال التناقض : بأنه لم يصرح هنا بالتمسك بإطلاق الهيئة في إثبات الوجوب النفسيّ ، بل التزم بالتمسك بإطلاق الصيغة ، وهي كما لا يخفى تتألف من الهيئة والمادة ، فلعل مراده هو التمسك بإطلاق المادة - أعني نفس الواجب - في إثبات الوجوب النفسيّ ، وهي معنى اسمي ملحوظ بالاستقلال قابل للإطلاق والتقييد. وقد تقدم تقريب إطلاق المادة. وكلامه وان كان يظهر منه في بعض عباراته التمسك بإطلاق الهيئة ، لكنه يمكن ان يكون نظره إلى بيان نفي المانع من جهة خصوص الموضوع له لا في مقام اختيار هذا المعنى في نفسه والالتزام به ، بل في مقام دفع الإشكال فيه من بعض جهاته. فتأمل.

نعم ، ما جاء منه في الواجب المشروط من إمكان رجوع القيد إلى الهيئة يتنافى بحسب النّظر الأولي مع ما أفاده في مبحث مفهوم الشرط من عدم قابلية المعنى الحرفي للإطلاق لكونه ملحوظا آليا ، إذ التقييد أيضا يستدعي لحاظ المقيد استقلالا لأنه حكم على المقيد ، فيمتنع طروه على المعنى الحرفي لمنافاته لحرفيته.

ولكن قد أشرنا فيما تقدم إلى حلّ هذا التنافي البدوي. فلاحظ.

والنتيجة : ان التمسك بإطلاق الهيئة ممتنع ، لأن مدلولها هو النسبة غير القابلة للتضييق لأنه شأن المفاهيم. مضافا إلى تعلق اللحاظ الآلي بها المنافي

ص: 220


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /195- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

للإطلاق.

نعم ، لا مانع من التمسك بإطلاق المادة ومتعلق النسبة الطلبية ، فانها مفهوم اسمي ملحوظ استقلالا. فلاحظ.

المقام الثاني : في مقتضى الأصل العملي بعد عدم تمامية الأصل اللفظي.

والتحقيق : انه يختلف باختلاف الموارد ، فقد تتفق نتيجته مع النفسيّة في مورد ومع الغيرية في مورد آخر.

وقد ذكر المحقق النائيني لموارد الشك ثلاث صور :

الصورة الأولى : ان يعلم بوجوب أمرين تفصيلا وكان الوجوبان متماثلين في الإطلاق والاشتراط ، لكنه شك في كون أحدهما مقيدا بالآخر. كما لو علم بوجوب كل من الوضوء والصلاة بعد الزوال وشك في تقيد الصلاة بالوضوء فيكون وجوبه غيريا وعدم تقيده فيكون وجوبه نفسيا.

وبما ان الشك في هذه الصورة يتمحض في تقيد الصلاة بالوضوء ، إذ أصل وجوب كل منهما معلوم ، ولا بد من الإتيان بكل منهما ، فليس المشكوك الا تقيد الصلاة بالوضوء ، ومقتضى أصالة البراءة نفيه ، وعليه فيكون المكلف في سعة في إتيان الوضوء قبل الصلاة وبعدها. وهذا بالنتيجة يتفق مع كون وجوب الوضوء نفسيا فلاحظ (1).

واستشكل فيه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) : بان جريان أصالة البراءة في تقيد الصلاة بالوضوء معارض بجريانها في وجوب الوضوء النفسيّ للعلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا ، فلا وجه لإجراء البراءة في طرف مع إمكان جريانها في الآخر. ولأجل ذلك لا بد من الاحتياط بإتيان الوضوء قبل الصلاة (2).

ص: 221


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 170 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 170 - [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.

ولا يخفى ان هذا المعنى الّذي ذكره السيد الخوئي مما يلتفت إليه من له قليل علم فضلا عن مثل المحقق النائيني قدس سره ، اذن فما هو الوجه في إجراءه البراءة في التقيد مع أنه طرف العلم الإجمالي؟.

والإجابة عن هذا السؤال هي : ان المحقق النائيني يذهب إلى انحلال العلم الإجمالي المزبور ، وعدم إمكان إجراء البراءة في أحد الطرفين ، فتكون البراءة في الآخر بلا معارض. بيان ذلك : ان وجوب الوضوء معلوم على كل حال نفسيا كان أو غيريا فهو لا يكون مجرى البراءة ، ووجوب التقيد محتمل ، فيكون مجرى البراءة ، لأن أصل البراءة فيه بلا معارض بعد ان امتنع جريانه في طرف الوضوء.

وعلى هذا فتمامية ما ذكره السيد الخوئي تتوقف على مقدمتين :

المقدمة الأولى : هو الالتزام بعدم جريان البراءة في الوجوب الغيري ، باعتبار أنه ليس من المجعولات الشرعية ، بل هو من الأمور اللازمة للوجوب النفسيّ ، فهو كالأمور التكوينية غير قابل للوضع ولا للرفع ، فلا معنى لإجراء البراءة الشرعية فيه. فالوجوب القابل لجريان البراءة هو الوجوب النفسيّ لأنه حكم مجعول قابل للرفع والجعل.

وعليه ، فتكون البراءة من وجوب التقيد معارضة بمثلها ، لجريان البراءة من الوجوب النفسيّ لأنه مشكوك ، واما أصل الوجوب فهو ليس بموضوع البراءة على تقديريه - كما هو المفروض - ، وما هو موضوع البراءة مشكوك وهو الوجوب النفسيّ ، فجريان البراءة فيه يعارض جريانها في وجوب التقيد.

المقدمة الثانية : انه قد يقال - في تقريب مدعى النائيني - : بان لزوم الوضوء واستحقاق العقاب على تركه معلوم على كل حال ، اما على تركه بنفسه لو كان واجبا نفسيا ، أو على ترك الواجب النفسيّ المقيد به لو كان واجبا غيريا ، فلا يكون العقاب عليه عقابا بدون بيان ، بخلاف التقيد فانه لا يعلم لزومه ولا

ص: 222

يعلم بثبوت العقاب على تركه ، فيكون مجرى البراءة العقلية. وان لم يكن مجرى للبراءة الشرعية بمقتضى ما قرّر في المقدمة الأولى.

ويشكل : بان ترتب العقاب على ترك الوضوء اما لتركه نفسه أو ترك الواجب المقيد به بتركه ، مرجعه إلى تقرير العلم الإجمالي المدعى المانع من إجراء البراءة في طرف التقيد ، فان تحقق العقاب على ترك الوضوء لترك الواجب المقيد به يرجع إلى تحقق العقاب على ترك التقيد الواجب ، فليس ترك التقيد طرفا لترك الوضوء بكلا احتماليه كي يكون مجرى البراءة ، بل هو أحد احتمالي ترك الوضوء ، ففي الحقيقة انه يعلم إجمالا بلزوم الوضوء نفسيا لو لزوم التقيد ، وان العقاب ثابت على ترك الوضوء اما من جهة وجوبه النفسيّ أو من جهة استلزامه لترك الواجب. وبعبارة أخرى : يعلم إجمالا بثبوت العقاب على ترك الوضوء أو ترك الصلاة المقيدة به ، وإجراء البراءة في كل طرف معارض بإجرائها في الطرف الآخر ، لأن كل طرف موضوع لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

والحاصل : ان وجوب التقيد لا يكون مجرى للبراءة الشرعية كما هو مقتضى المقدمة الأولى ، ولا مجرى للبراءة العقلية كما هو مقتضى المقدمة الثانية.

ولكن التحقيق عدم تمامية كلتا المقدمتين ، وما ذكره المحقق النائيني من دعوى الانحلال وجيه ، وذلك :

اما المقدمة الأولى : فلان أساسها هو عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة فيه. وهذا مسلم في الجملة لا مطلقا ، وذلك لأن الوجوب الغيري المستفاد من الوجوب النفسيّ المتعلق بذي المقدمة أمر ذاتي لازم له غير قابل للوضع والرفع ، ولكن قد يلتفت الآمر إلى المقدمات فينشئ حكما خاصا بها ، كما لو قال : « ادخل السوق واشتر اللحم » ، فان الأمر بالمقدمة في مثل الحال أمر مجعول قابل للجعل والرفع ، فيمكن إجراء البراءة فيه مع الشك.

وبالجملة : عدم جريان البراءة فيما لا إنشاء له مستقلا من الوجوبات

ص: 223

الغيرية مسلم لعدم كونه مجعولا شرعيا ، بل هو لازم تكويني - كما يأتي تحقيقه -. واما ما له إنشاء مستقل وجعل خاص ، فلا مانع من إجراء البراءة فيه ، لأنه حكم مجعول قابل للوضع والرفع. وما نحن فيه من هذا القبيل ، إذ المفروض تعلق الأمر بالوضوء المردد بين كونه نفسيا أو غيريا ، فعلى تقدير كونه غيريا يكون من النحو الّذي تجري فيه البراءة. وعليه فوجوب الوضوء - فيما نحن فيه - قابل لجريان البراءة بكلا نحويه ، لكنه لا يكون مجرى البراءة بعد العلم به على كل حال ، فينحل العلم الإجمالي ويكون أصل البراءة في طرف التقيد بلا معارض.

واما المقدمة الثانية : فنورد عليها فعلا بأنه لم يلتزم بعدم الانحلال في مثل هذه الصورة حكما ، بل التزم بالانحلال ، فالإيراد عليه فعلا جدلي.

هذا كله حول ما ذكره في تعليقته على : « أجود التقريرات » من تقريب عدم جريان البراءة بتشكيل العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا ، فطرفا العلم الإجمالي هما وجوب الوضوء النفسيّ ووجوب التقيد النفسيّ. ولكنه في تقريرات بحثه قرر العلم الإجمالي بنحو آخر ، وقد أشار إليه في ذيل تعليقته على أجود التقريرات ، وهو : انا نعلم إجمالا بوجوب الوضوء نفسيا ، أو وجوبه غيريا ، وجريان البراءة في الوجوب الغيري معارض بجريانها في الوجوب النفسيّ (1).

ومن الواضح ان هذا المقدار من البيان لا يرتبط بما هو محل الكلام ، من لزوم التقيد وعدمه ، فان مورد الشك هو لزوم تقيد الصلاة بالوضوء وعدمه ، وقد عرفت ان المحقق النائيني ادعى جريان البراءة فيه ولم يرتض السيد الخوئي ذلك ، وتقرير الإشكال بما عرفته لا ينفع في الإلزام بالإتيان بالتقيد ، وذلك لأن

ص: 224


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 170 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى. الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 2 / 392 - الطبعة الأولى.

مقتضى العلم المذكور ليس إلا الإتيان بالوضوء ، اما الإتيان بالصلاة مقيدة به فلا ، إذ ليس ذلك من آثار الوجوب الغيري - كي يلزم ترتيبه بمقتضى العلم الإجمالي - ، وانما هو من ملازماته والمفروض أنه غير معلوم كي يعلم بلازمه ، فهو نظير عدم ترتب نجاسة الملاقي لما هو محتمل النجاسة الّذي يكون طرفا للعلم الإجمالي.

فلا بد من تتميم هذا البيان بان يقال : ان هناك علما إجماليا آخر متعلق بالوجوب النفسيّ المردد بين الوضوء والتقيد ، فلدينا علمان إجماليان ذو أطراف ثلاثة لاشتراك أحد الطرفين فيهما ، لأن أحدهما متعلق بوجوب الوضوء المردد بين النفسيّ والغيري ، والآخر متعلق بوجوب النفسيّ المردد بين الوضوء والتقيد. فوجوب الوضوء النفسيّ طرف لكلا العلمين.

وعليه ، فيقال : ان جريان البراءة في كل من أطراف هذين العلمين معارض بجريانه في الطرف الآخر ، فيمتنع جريان البراءة في طرف التقيد لمعارضته بجريانها في الوجوب النفسيّ للوضوء. فلا ينحل العلم الإجمالي - كما ادعي -.

وأنت خبير : بان هذا الوجه إنما يجدي في إثبات الاحتياط والإتيان بالصلاة مقيدة بالوضوء لو فرض ان لكل من خصوصيتي النفسيّة والغيرية أثرا خاصا بها غير أصل الإلزام الّذي هو مقتضى أصل الوجوب الجامع. كي يكون إجراء البراءة فيه بلحاظ نفي ذلك الأثر. ولكن الأمر ليس كذلك ، إذ ليس لكل منهما أي أثر إلزامي. وعليه فليست النفسيّة والغيرية موضوعا لأصل البراءة كي يدعى معارضتها بالبراءة في الطرف الآخر. واما أصل وجوب الوضوء فهو معلوم غير قابل لإجراء البراءة فيه ، فتكون البراءة من وجوب التقيد بلا معارض ، إذ البراءة لا تجري في أصل وجوب الوضوء للعلم به ، ولا تجري في خصوصية النفسيّة والغيرية لعدم الأثر فيها. فلاحظ.

ص: 225

هذا ولكن الإنصاف : ان الاحتياط بالإتيان بالوضوء قبل الصلاة ليتحقق التقيد هو المتعين ، بيان ذلك : انه وقع الكلام في جريان البراءة الشرعية التي يتكفلها حديث الرفع في نفي الوجوب الغيري المشكوك.

والسّر في ذلك هو : الخلاف في كون المرفوع في حديث الرفع هل هو الحكم الشرعي المجعول ، أو أنه المؤاخذة على مخالفة الحكم الواقعي؟ فعلى تقدير كون المرفوع نفس الحكم المجعول أمكن القول بجريان البراءة في الوجوب الغيري إذا كان مجعولا ، لا الوجوب الغيري المبحوث عنه في علم الأصول وهو الملازم للوجوب النفسيّ ، لأن هذا غير قابل للوضع والرفع ، لأنه من الأمور التكوينية غير المجعولة شرعا.

نعم قد يتفق إنشاء البعث الغيري - كما ذكرنا ذلك - ، فهو المورد القابل لجريان البراءة لو التزم بان المرفوع هو الحكم المجعول ، فان مقتضى إطلاق حديث الرفع هو رفع الحكم المجعول مطلقا نفسيا كان أو غيريا.

وعلى تقدير كون المرفوع رأسا هو المؤاخذة لا الحكم نفسه - كما هو رأي الشيخ - فاما ان يقصد رفع المؤاخذة المترتبة على نفس العمل لأجل مخالفة الحكم المتعلق به ، أو يقصد به رفع المؤاخذة المتأتية منه ولو كانت على غيره مباشرة. وبعبارة أخرى : المؤاخذة على العمل اما ان تكون على نفسه مباشرة ، أو تكون على غيره ولكن كانت بواسطته وكان هو سببا لتحقق مخالفة الحكم الثابت على غيره ، فالكلام في حديث الرفع في أنه يرفع المؤاخذة المترتبة على العمل مباشرة أو الأعم منها ومن المؤاخذة المترتبة بواسطة هذا العمل. وبتعبير أوضح : هل حديث الرفع يرفع المؤاخذة على العمل ، أو المؤاخذة من جهة العمل ولو لم تكن عليه بل على غيره؟.

فعلى الأول : يمتنع جريان البراءة في نفي الوجوب الغيري ، إذ من الواضح انه لا مؤاخذة على ترك الواجب الغيري بما انه كذلك ، بل تتحقق

ص: 226

المؤاخذة عند تركه لترك الواجب النفسيّ بتركه ، فالمؤاخذة على ترك الواجب النفسيّ لا ترك الواجب الغيري. وعليه فلا معنى لشمول حديث الرفع للوجوب الغيري.

واما على الثاني : فالوجوب الغيري مشمول لحديث الرفع ، إذ بترك الواجب الغيري يترتب العقاب على ترك الواجب النفسيّ بتركه.

وبما ان المختار - كما سيأتي تحقيقه في محله إن شاء اللّه تعالى - هو كون المرفوع هو المؤاخذة على نفس العمل ، لا الحكم المجعول ، ولا المؤاخذة المترتبة عند تحقق العمل أعم من ان تكون على نفس العمل أو على غيره ، كان القول بعدم جريان البراءة الشرعية في الوجوب الغيري هو المتعين.

واما البراءة العقلية : فهي غير جارية بلا إشكال ، لأن ملاكها هو قبح العقاب بلا بيان ، ومرجع ذلك إلى أنه لو كان في الواقعة حكم واقعي تترتب على مخالفته في نفسه المؤاخذة ، بحيث يكون مقتضيا لها ، فلا تصح المؤاخذة على مخالفته بدون الوصول إلى المكلف والعلم به. فموضوع القاعدة وجود المقتضي للعقاب ، ولكنه لا يؤثر بدون البيان. ومن الواضح ان الوجوب الغيري لا يقتضي العقاب والمؤاخذة ، إذ ليس على مخالفته بنفسه عقاب ، فهو خارج عن موضوع ثبوت البراءة العقلية.

فالمتحصل : ان الوجوب الغيري غير قابل للبراءة العقلية ولا الشرعية.

وعليه ، فحيث يعلم إجمالا بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا ، كان جريان البراءة من وجوب التقيد النفسيّ معارض بجريانها في وجوب الوضوء النفسيّ.

ودعوى : الانحلال بالعلم بوجوب الوضوء الجامع بين النفسيّ والغيري ، فلا يكون مورد البراءة.

مندفعة : بان كلي الوجوب وطبيعيه ليس مجرى البراءة ، لأنه ليس بكلا

ص: 227

نحويه قابل لجريانها ، وما هو مجرى البراءة وهو خصوص الوجوب النفسيّ مشكوك وليس بمعلوم ، فالمقتضي للبراءة فيه ثابت ، فيعارض البراءة من وجوب التقيد. فالوجه في عدم جريان البراءة هو : عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة فيه.

ولأجل ذلك لا يتجه من السيد الخوئي إنكار الانحلال ، ودعوى لزوم الاحتياط ، لأن كلامه صريح في جريان البراءة في الوجوب الغيري ، ومعه تتجه دعوى الانحلال ، لأن وجوب الوضوء معلوم وغير قابل لجريان البراءة ، فتكون البراءة من وجوب التقيد بلا معارض. إلاّ ان يشكّل العلم الإجمالي بوجوب الوضوء نفسيا أو وجوب التقيد نفسيا ، فان البراءة في كل منهما معارضة للآخر ، لكنه خلاف ظاهر كلامه في تعليقته وتقريرات بحثه كما أشرنا إليه. فتدبر.

الصورة الثانية : ان يعلم بوجوب شيء فعلا مردد بين كونه نفسيا أو غيريا ، مع العلم بأنه لو كان غيريا كان وجوب ذي المقدمة فعليا ، لكن لم يصل إلينا ، نظير ما لو علم بأنه نذر اما الإتيان بالوضوء أو الصلاة ، بحيث لو كان هو الوضوء كان وجوبه نفسيا ، وان كان هو الصلاة كان وجوب الوضوء غيريا ، فهو يعلم اما بوجوب الوضوء بخصوصه أو بوجوبه مع الصلاة.

وقد اختار المحقق النائيني لزوم الإتيان بالوضوء للعلم بترتب العقاب على تركه ، اما لأجل تركه نفسه أو لأجل ترك ذي المقدمة من ناحيته. واما ترك ذي المقدمة من ناحية غير الوضوء ، فهو مما لا يعلم بترتب العقاب عليه ، فاصل البراءة من الفعل لا مانع منه.

وقد نسب إلى صاحب الكفاية في هذه الصورة : القول بالبراءة بالنسبة إلى الوضوء أيضا ، واستشكل فيه : بأنه لا يتم بناء على إمكان التفكيك في تنجز المركب ، فيكون منجزا من جهة غير منجز من جهة أخرى ، إذ المقام من هذا القبيل ، فان وجوب الصلاة من جهة الوضوء منجز ومن جهة غيره ليس بمنجز ،

ص: 228

فجريان البراءة فيه من غير ناحية الوضوء لا ينافي عدم جريانها من ناحيته (1).

وبالجملة : مرجع كلام المحقق النائيني إلى دعوى انحلال العلم الإجمالي إلى العلم التفصيليّ بلزوم الوضوء واستحقاق العقاب على تركه ، وشك بدوي في لزوم الصلاة بسائر اجزائها وشرائطها ، فتكون مجرى البراءة بلا معارض.

وقد وافقه السيد الخوئي على ذلك ، فذهب إلى انحلال العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بلزوم الوضوء ، وشك بدوي في وجوب الصلاة ، فيكون وجوبها مجرى البراءة بلا معارض لعدم جريانها في الوضوء بعد العلم بوجوبه (2).

وما أفاده المحقق النائيني مخدوش من جهات :

الأولى : ما أفاده من دعوى الانحلال للعلم التفصيليّ بوجوب الوضوء والشك في وجوب الصلاة.

وجهة الخدشة في ذلك : قد عرفتها بما تقدم من عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة ، فلا يكون طبيعي الوجوب مجرى البراءة ، بل مجراه خصوص الوجوب النفسيّ وهو مشكوك في الفرض ، فتكون البراءة من وجوب الصلاة معارضة بالبراءة من وجوب الوضوء نفسيا. فلا ينحل العلم الإجمالي بما ذكر ، لفرض تعارض الأصلين الّذي هو قوام منجزية العلم الإجمالي.

اللّهم إلا ان يقال ان المحقق النائيني يلتزم بكون الشرائط متعلقة للأمر النفسيّ الضمني كالأجزاء. وعليه فيكون الوجوب النفسيّ للوضوء معلوما على التقديرين إلا انه على تقدير استقلالي وعلى آخر ضمني. ومن الواضح قابلية الأمر الضمني لجريان البراءة. وعليه فيمتنع جريان البراءة من وجوب الوضوء حينئذ للعلم بكليّة المانع منها ، فتكون البراءة من وجوب الصلاة بلا معارض

ص: 229


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 171 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 389 - الطبعة الأولى.

فالتفت.

الثانية : ما أفاده من تطبيق الالتزام بالتفكيك في تنجز المركب على ما نحن فيه.

ولإيضاح وجه الخدشة فيه لا بأس بالإشارة إلى المقصود بالتفكيك في مقام التنجز فنقول : ان المركب بما انه عين اجزائه كان ترك كل جزء موجبا لترك المركب ، فترك المركب يمكن ان يكون بترك كل جزء على حده ، وإذا كان المركب واجبا كان تركه بترك أي جزء من اجزائه موجبا للمؤاخذة والعقاب. وقد ذكر في مبحث الأقل والأكثر انه يمكن عقلا التفكيك في اجزاء المركب ، فيكون ترك المركب بترك بعضها موجبا للمؤاخذة وتركه بترك البعض الآخر غير موجب للمؤاخذة.

وعلى هذا الأساس بني على إجراء البراءة العقلية من الزائد على الأقل المتيقن ، وانحلال العلم الإجمالي بالوجوب المردد بين الأقل والأكثر. بتقريب : ان المؤاخذة على ترك الواجب من جهة ترك الأقل معلومة فلا تجري فيها البراءة.

واما المؤاخذة على تركه من ترك الزائد المشكوك فهي غير معلومة فيكون الزائد مجرى البراءة وان استلزم نفي المؤاخذة على ترك الواجب - لو كان المشكوك جزء واقعا - ، إذ لا امتناع من نفي العقاب على ترك الواجب من جهة وإثباته من جهة أخرى.

وصاحب الكفاية حين أنكر جريان البراءة العقلية في الأقل والأكثر انما هو لأجل إنكاره إمكان التفكيك ، فلا ينحل العلم الإجمالي (1).

إذا عرفت هذا نقول : ان نظر المحقق النائيني إلى تطبيق هذه القاعدة على ما نحن فيه ، فان العقاب على ترك الصلاة من جهة ترك الوضوء معلوم ،

ص: 230


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /364- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والعقاب على تركها من غير ناحيته غير معلوم فتجري فيه البراءة بلا معارض.

ولكن الإنصاف ان هذا الوجه إنما يتم بالنسبة إلى خصوص اجزاء المركب دون الشرائط ، لأنها لا يتقوم بها المركب فلا يكون تركها تركا للمركب كالأجزاء ، بل يكون تركها سببا وملازما لترك المركب ، فليس هناك تروك متعددة للمركب بتعدد الشرائط كي يتصور التفكيك بينها في المؤاخذة وعدمها ، ووضوح هذا المعنى موكول إلى محلّه ، وانما القصد هو الإشارة إلى جهة الإشكال في كلامه من هذه الجهة ، وان إقحام ذلك المبحث فيما نحن فيه وتطبيقه عليه في غير محلّه.

الثالثة : ما أفاده من حمل كلام صاحب الكفاية على هذه الصورة واستشكاله في إجرائه البراءة من الوضوء.

وجهة الخدشة فيه : ان نظر صاحب الكفاية إلى صورة أخرى غير هذه الصورة ، وهي ما إذا علم إجمالا بوجوب شيء مردّد بين كونه نفسيا أو غيريا مع العلم بأنه لو كان غيريا فذي المقدمة ليس بفعلي ، كما إذا علمت الحائض بوجوب الوضوء عليها ، لكنها ترددت في كونه نفسيا أو غيريا لأجل الصلاة ، والمفروض - بحكم كونها حائضا - عدم وجوب الصلاة عليها فعلا. ومن الواضح ان إجراء البراءة في هذه الصورة لا إشكال فيه ، إذ مع العلم بعدم فعلية الواجب النفسيّ الّذي يحتمل كون الواجب المعلوم قيدا له ، لا يكون العلم الإجمالي بوجوب الشيء المردد بين كونه نفسيا وغيريا منجزا ، لأنه لو كان غيريا لا يكون فعليا ، فلا يكون أحد طرفيه فعليا ، فهو ليس بمنجز على كل تقدير ، فلا مانع من جريان البراءة فيه. فلاحظ.

ونتيجة الكلام : ان المتعين في هذه الصورة هو الاحتياط بإتيان الوضوء والصلاة المقيدة به للعلم الإجمالي بالوجوب النفسيّ المردد بينهما ، ولا وجه لانحلاله بناء على ما عرفت من عدم قابلية الوجوب الغيري لجريان البراءة ،

ص: 231

لتعارض الأصلين حينئذ.

ولكنه انما يؤاخذ به من يلتزم بكون الشروط متعلقة للأمر الغيري - كما هو الحق - واما من يلتزم بكونها متعلقة للأمر الضمني كالأجزاء كالمحقق النائيني ، فالعلم الإجمالي منحل لجريان البراءة في طرف دون آخر كما عرفت.

الصورة الثالثة : ان يعلم تفصيلا بوجوب أمرين وشك في كون أحدهما المعين شرطا للآخر ، مع عدم العلم بتماثل الوجوب فيهما من حيث الشرائط ، كما إذا علمنا بوجوب الصلاة نفسيا في الوقت الخاصّ ، وعلمنا بوجوب الوضوء وشك في أنه نفسي أو غيري ، وإذا كان نفسيا فهو غير مقيد بالوقت الخاصّ ، وإذا كان غيريا فهو مقيد به لتبعيته لوجوب ذي المقدمة.

وقد ذكر المحقق النائيني ان الشك في هذه الجهة يتصور من جهات ، وهو في جميعها مجرى البراءة :

الأولى : الشك في وجوب تقيد الصلاة بالوضوء ، وقد تقدم ان الأصل فيه هو البراءة من وجوبه.

الثانية : الشك في وجوب الوضوء قبل الوقت ، لاحتمال كونه نفسيا أو انه يختص بما بعد الوقت ، فتجري البراءة من وجوبه قبل الوقت.

الثالثة : الشك في ان الوضوء قبل الوقت هل يسقط وجوب الوضوء بعد الوقت أو لا؟ ومرجع هذا الشك إلى الشك في أن وجوب الوضوء بعد الوقت هل هو مطلق أو مختص بمن لم يتوضأ قبله ، ومقتضى البراءة عدم وجوبه بالنسبة إلى من توضأ قبل الوقت ، فأصالة البراءة عن تقيد الصلاة بالوضوء وعن وجوبه قبل الوقت وعن وجوبه لمن توضأ قبل الوقت بلا معارض.

وقد ذكر ان نتيجة البراءة في الجهة الأولى والثالثة نتيجة النفسيّة ، ونتيجتها في الجهة الثانية نتيجة الغيرية في تقيد الوجوب بما بعد الوقت ، لأنه

ص: 232

شرط لوجوب الصلاة أيضا (1).

وقد ذكر السيد الخوئي في مقام تحقيق هذه الصورة : انه يمكن ان تتصور على وجهين :

الأول : ان يكون هناك علم إجمالي بوجوب الوضوء المردد بين النفسيّ والغيري من دون علم بالتماثل مع الصلاة في الإطلاق والاشتراط ، لكن يعلم انه ان كان وجوب الوضوء نفسيا فهو ثابت قبل الوقت فقط ، وان كان غيريا فهو ثابت بعد الوقت ، فهنا علم إجمالي بوجوب الوضوء قبل الوقت أو وجوبه بعده ، وقد تقرر في محله ان العلم الإجمالي في التدريجيات منجز كغيره. وعليه فيمتنع إجراء البراءة من وجوب الوضوء النفسيّ قبل الوقت وإجرائها من تقيد الصلاة بالوضوء بعد الوقت ، لأنه يستلزم عدم لزوم الإتيان بالوضوء بالمرّة. وهو مخالفة عملية قطعية للعلم الإجمالي.

وعليه فمقتضى العلم الإجمالي الإتيان بالوضوء قبل الوقت والإتيان بالصلاة متقيدة به. نعم لا يلزم الوضوء بعد الوقت إذا أتى به قبله لكفاية الوضوء قبله وان لم يكن واجبا.

الثاني : ان يعلم إجمالا بوجوب الوضوء المردّد بين النفسيّ والغيري بلا علم بالتماثل ، لكنه يعلم انه ان كان غيريا فهو مقيد بالوقت وان كان نفسيا فهو غير مقيد به ، بل مطلق بالنسبة إلى ما قبل الوقت وبعده.

وما أفاده المحقق النائيني في الجهات الثلاث لا يخلو من خدشة :

اما ما أفاده من جريان البراءة في الشك في تقيد الصلاة بالوضوء. فجهة الخدشة فيه : ما مر من عدم انحلال العلم الإجمالي بوجوب الوضوء أو التقيد ، والبراءة في أحدهما معارضة بالبراءة في الآخر.

ص: 233


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 171 - الطبعة الأولى.

واما ما أفاده من جريان البراءة في الشك في الوجوب النفسيّ للوضوء قبل الوقت فيخدش : بعدم إمكان البراءة ، لأنها مستلزمة لتضييق دائرة الواجب وتقليل افراده التخييرية ، وهذا ينافي الامتنان المفروض انه ملاك البراءة. ولذا يمنع من جريان البراءة في كل مورد يوجب جريانها للتضييق على المكلف والكلفة عليه لا السعة.

واما ما أفاده من جريان البراءة من الوضوء بعد الوقت لو أتى به قبله على تقدير كونه غيريا. فهو في نفسه وان كان تاما ، إلاّ ان الّذي ينبغي ان يذكر في وجهه علميا هو : ان المعلوم على تقدير الغيرية هو أصل تقيد الواجب بالوضوء ، واما تقيده به على ان يؤتى به بعد دخول الوقت فهو غير معلوم ، فتنفى الخصوصية المذكورة بالبراءة.

واما ما ذكره في وجه ذلك : من كون المعلوم لزوم الإتيان بالوضوء لمن لم يأت به قبل الوقت ، اما من أتى به قبله فلا يعلم لزوم الإتيان به بعد الوقت ، فينفي وجوبه عليه بأصالة البراءة. فهو وجه ليس بعلمي (1).

والتحقيق : ان الوجه الأول الّذي ذكره السيد الخوئي وان كان وجها علميا لا خدشة فيه ، إلا انه لا يرتبط بما هو نظر المحقق النائيني ، فان نظره في كلامه إلى الوجه الثاني كما لا يخفى.

واما الإشكال على المحقق النائيني في ما أفاده من جريان البراءة في الجهات الثلاث للشك. فتحقيق الحال فيه :

اما لزوم الاحتياط في الشك في تقيد الصلاة بالوضوء ، وان كان تاما في نفسه ، إلا انه قد عرفت أن المحقق النائيني لا بد له من الذهاب إلى البراءة ، لالتزامه بتعلق الأمر الضمني بالشرائط الموجب لانحلال العلم الإجمالي ، لكون

ص: 234


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 393 - الطبعة الأولى.

جريان البراءة في طرف التقيد بدون معارض ، كما تقدم بيانه وتوضيحه ، وقد عرفت ان التحقيق عدم الانحلال ولزوم الاحتياط لتعلق الأمر الغيري بالشرائط وعدم قابليته للبراءة.

واما الإشكال عليه بعدم صحة نفي الوجوب قبل الوقت مع الشك فيه ، لكون البراءة موجبة للتضييق ، وهو ينافي الامتنان ففيه :

أولا : ان هذا المعنى وان كان إشكالا على المحقق النائيني ، لكنه مما لا يتجه الالتزام به من قبل المستشكل ، لأن دليل البراءة في نظره لا يختص بحديث الرفع - كما يرى الشيخ ذلك - ، كي يقال باختصاص مجراها بما يكون في جريانها امتنانا على العباد ، لأنه لسان حديث الرفع. بل أنه التزم بان استصحاب عدم التكليف من أدلة البراءة أيضا ، وخالف في ذلك الشيخ رحمه اللّه حيث استشكل في تماميته دليلا على البراءة. ومن الواضح ان دليل الاستصحاب لا يختص بمورد الامتنان. وعليه فحديث الرفع ان لم يشمل الشك في الصورة المزبورة فاستصحاب عدم التكليف يكفي في إجراء البراءة فيه بنظر المستشكل.

وثانيا : ان ما ذكره لا يصلح إشكالا على المحقق النائيني أيضا ، وذلك لأن نفي الوجوب قبل الوقت ان لم يمكن بأدلة البراءة لمنافاتها الامتنان ، فهو ممكن بالاستصحاب ، إذ يمكن استصحاب عدم الوجوب إلى الوقت ولا مانع منه.

ولنا ان ندافع عن المحقق النائيني فنقول : ان نظره هو نفي التكليف قبل الوقت ، ولم يثبت أنه التزم به لجريان أصل البراءة ، وصدور التعبير بالبراءة لا صراحة فيه في كون الدليل هو أصل البراءة ، بل يمكن ان يكون تعبيرا عن نتيجة الاستصحاب المحكم في المقام. فتأمل.

واما ما أفاده من عدم علمية الوجه الّذي ساقه المحقق النائيني لبيان عدم وجوب الوضوء بعد الوقت لمن أتى به بعده ، وان الوجه العلمي ان يحرر بنحو آخر ، وهو ما تقدم. فهو غير سديد لأنه إنما يتم إذا التزم بلزوم الإتيان

ص: 235

بالتقيد لمكان العلم الإجمالي ، فانه يقال - كما أفاده المحقق الخوئي - ان أصل التقيد معلوم ، اما التقيد بالوضوء بالخصوصية المعينة - أعني كونه بعد الوقت - فهو غير معلوم فتجري فيه البراءة. ولكن المحقق النائيني لم يلتزم بلزوم التقيد ، بل عرفت انه أجرى البراءة منه ، فلا معنى أن يقال إن أصل التقيد معلوم والشك في خصوصية زائدة عليه ، بل المتعين هو تحرير الوجه بالنحو الّذي ذكره من ان المعلوم هو لزوم الوضوء على من لم يأت به قبل الوقت ، اما من أتى به قبله فلزومه عليه بعده غير معلوم فتجري فيه البراءة.

هذا تمام الكلام في تأسيس الأصل وتحقيقه بمقامه.

وهاهنا تنبيهان ذكرهما صاحب الكفاية ، وتابعة في التعرض إليهما الأعلام ، وتبعا للاعلام ولما يترتب عليهما من أثر علمي وعملي نتعرض إليهما بالتفصيل.

التنبيه الأول : وموضوعه استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الأمر الغيري وموافقته.

وقد تعرض صاحب الكفاية فيه إلى جهات ثلاث :

الجهة الأولى : بيان عدم استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الأمر الغيري وموافقته (1).

وقد ذكر لتقريبه وجوه :

الأول : ما جاء في الكفاية من : بناء العرف والعقلاء على عدم العقاب والثواب على المقدمات ، ولذا لا يرون من يترك واجبا ذا مقدمات متعددة انه مستحق لعقابات متعددة بعدد المقدمات ، كما لا يرون من يأتي بمثل هذا الواجب بمقدماته مستحقا لثوابات متعددة ، بل لا يرونه مستحقا لغير عقاب واحد أو

ص: 236


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /110- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ثواب واحد على ترك الواجب أو فعله (1).

الثاني : ما ذكره المحقق الأصفهاني في تعليقته على الكفاية ، وهو وجه برهاني لا عرفي كالأول ، ومحصله : ان الوجوب المقدمي بما انه معلول لوجوب ذي المقدمة ، لكون الغرض منه غرض تبعي لا استقلالي ، كانت محركيته وباعثيته تبعية أيضا بتبع باعثية ومحركية الأمر النفسيّ ، فان الانبعاث نحو امتثال الأمر النفسيّ لازم للانبعاث نحو امتثال الأمر الغيري ، كملازمة البعث الغيري للبعث النفسيّ ، وإذا كان الانبعاث عن الأمر الغيري تابعا للانبعاث عن الأمر النفسيّ كان أمرا ارتكازيا كنفس البعث الغيري قد لا يلتفت إليه بنحو التفصيل ، وكما أنه غير مستقل في مقام البعث والانبعاث كذلك هو غير مستقل في مقام عدم الانبعاث ، فان عدم الانبعاث عنه بتبع عدم الانبعاث عن الأمر النفسيّ ، وعليه فلا يكون الانبعاث عنه موجبا للقرب ، ولا عدمه موجبا للبعد ، فلا يكون امتثاله موجبا للثواب ولا عدمه موجبا للعقاب (2).

الثالث : وهو وجه برهاني آخر ، فان ما ذكره المحقق الأصفهاني بهذا المقدار لا يخرج عن كونه وجها صوريا لا يخلو عن خدشة عند التأمل.

ومحصل ما نريد ان نقوله بيانا لهذا الوجه هو : ان الثواب انما ينشأ عن إتيان العمل مرتبطا بالمولى بالإتيان به بداعي الأمر - الّذي هو معنى الامتثال - ، فترتب الثواب على موافقة الأمر الغيري انما تتصور بالإتيان بالمقدمة بداعي الأمر الغيري ، ومن الواضح ان الأمر الغيري لا يصلح للداعوية والتحريك

ص: 237


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /110- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام . هذا ما أفاده سيدنا - دام ظله - في مجلس الدرس ، لكن ظاهر الكفاية ان الوجه برهاني لا عرفي ، لتعبيره باستقلال العقل ، وان لم يبين جهته. وعلى كل فهو وجه في نفسه وان لم يكن مراد صاحب الكفاية. هكذا تفضل سيدنا الأستاذ - دام ظله - أخيرا بعد عرض الأمر عليه. ( منه عفي عنه ).
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 197 - الطبعة الأولى.

أصلا ، فلا يمكن الإتيان بالعمل بداعي امتثال الأمر الغيري. أما انه لا يصلح للداعوية والتحريك ، فلان المكلف عند الإتيان بالمقدمة اما ان يكون مصمما وعازما على الإتيان بذي المقدمة أو يكون عازما على عدم الإتيان به ، فان كان عازما على الإتيان به ، فإتيانه المقدمة - مع التفاته إلى مقدميتها كما هو المفروض - قهري لتوقف ذي المقدمة عليها ، سواء تعلق بها الأمر الغيري كي يدعى دعوته إليها أو لا ، فالإتيان بالمقدمة في هذا التقدير لا ينشأ عن تحريك الأمر الغيري ، بل هو أمر قهري ضروري ومما لا محيص عنه. وان كان عازما على عدم الإتيان بذي المقدمة ، فلا يمكنه قصد الأمر الغيري بالإتيان بالمقدمة ، إذ ملاك تعلق الأمر الغيري بالمقدمة هو جهة مقدميتها والوصول بها إلى الواجب النفسيّ ، لو لم نقل - إذ وقع الكلام في أن المقدميّة جهة تعليلية للوجوب الغيري أو جهة تقييدية - : بان موضوع الأمر الغيري هو المقدمة بما هي مقدمة لا ذات المقدمة.

ومن الواضح أنه مع قصد عدم الإتيان بذي المقدمة لا تكون جهة المقدمية وتوقف الواجب عليها ملحوظة عند الإتيان بالمقدمة ، ومعه لا معنى لقصد امتثال الأمر الغيري بالعمل ، إذ جهة تعلق الأمر الغيري غير ملحوظة أصلا.

ويتضح هذا الأمر على القول بكون الأمر الغيري متعلقا بالمقدمة الموصلة ، فانه مع القصد إلى ترك الواجب النفسيّ لا يكون المأتي به واجبا بالوجوب الغيري ، فلا معنى لقصد امتثاله فيه لأنه ليس بمتعلق الوجوب.

وخلاصة الكلام : ان البرهان والعمل العرفي قائمان على عدم استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الأمر الغيري وموافقته.

الجهة الثانية : انه بناء على عدم كون ترك الواجب الغيري موجبا لاستحقاق العقاب ، فلو ترك مقدمة لواجب استقبالي بحيث لا يتمكن من الواجب في ظرفه عند تركها ، كما لو ترك إحدى المقدمات المفوتة كالغسل قبل

ص: 238

الفجر للصوم ، إذ بتركه لا يتمكن من الصوم في ظرفه (1).

فهل يستحق العقاب على ترك الواجب النفسيّ من حين ترك المقدمة أو من زمان الواجب نفسه؟. وقد ذكر المحقق الأصفهاني وجها لكل من الاحتمالين :

اما وجه استحقاق العقاب من حين ترك المقدمة فهو : ان ملاك الثواب هو انقياد العبد للمولى وكونه بصدد امتثاله أمره ، كما ان مناط العقاب هو طغيان العبد وخروجه عن وظيفة العبودية والرقّية ، فانها هي الجهة التي يترتب عليها العقاب عند ترك الواجب أو فعل المحرّم ، لكشف ذلك عن عدم كون العبد في مقام الانقياد إلى المولى وطغيانه على المولى. ومن الواضح ان هذا المعنى ينكشف ويحصل بترك المقدمة ، إذ يتحقق الخروج عن مقام العبودية بتركها الملازم لترك ذيها في ظرفه ، فملاك العقاب متحقق بترك المقدمة.

واما وجه عدم استحقاقه العقاب قبل مجيء زمان الواجب وانتهائه فهو :

ان الانقياد للأمر النفسيّ انما يكون في ظرفه ، ولا يعقل تحققه قبل ظرفه ، فعدم الانقياد الّذي يكون عصيانا وموجبا للعقاب هو عدمه في ظرفه أيضا ، لأنه هو نقيض الانقياد والإطاعة - للزوم اتحاد الزمان في المتناقضين - ، وعليه فملاك العقاب لا يتحقق قبل ظرف الواجب (2).

والإنصاف ان ما ذكره المحقق الأصفهاني تبعيد للمسافة ونقل للبحث إلى جهة غير ما ينبغي تحريره.

فالذي ينبغي ان يقال هو : إحالة الالتزام بأحد الوجهين على ما يلتزم به في مسألة التجري من استحقاق المتجري للعقاب وعدمه ، فان البحث هناك يقع في أن ملاك الثواب والعقاب هل هو نفس مخالفة التكليف وموافقته. وبتعبير

ص: 239


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /110- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 198 - الطبعة الأولى.

آخر : ان العقاب يكون على نفس العمل الّذي يكون مخالفا للتكليف امرا أو نهيا ، أو ان ملاك الثواب والعقاب هو ما يتصف به العبد من كونه في مقام الإطاعة والامتثال ، أو كونه في مقام المعصية والمخالفة وان لم يتحقق منه المخالفة فعلا ، نعم يشترط فيه إظهار هذه الصفة النفسيّة ، فلا يتحقق العقاب على مجرد كون العبد في مقام المعصية - لو اطلع عليه المولى - مع عدم إظهار ذلك بمظهر.

فموضوع النزاع هو : ان العقاب والثواب يترتب على نفس المخالفة والموافقة للتكليف أو يترتب على الانقياد والتجري ، والأول كون العبد في مقام الإطاعة مع إظهار ذلك. والثاني كونه في مقام المعصية مع إظهاره أيضا ، لا مجرد الصفة النفسانيّة فانها لا تقتضي ثوابا ولا عقابا.

فمع الالتزام بان العقاب يترتب على نفس التجري ولو لم تحصل المخالفة للتكليف ، لأن ملاك العقاب هو طغيان العبد على المولى الموجب لبعده عنه والحاصل بالتجري - كما عليه المحقق الخراسانيّ (1) - ، لا بد من الالتزام بان العقاب يتحقق عند ترك المقدمة لتحقق التجري به ، وإظهار عدم المبالاة بأمر المولى ، ولأجل ذلك التزم صاحب الكفاية هاهنا بترتب العقاب عند ترك المقدمة.

ومع عدم الالتزام بذلك ، والالتزام بان موضوع العقاب نفس المخالفة فلا عقاب على التجري ما لم يصادف الواقع - كما يظهر من الشيخ رحمه اللّه (2) - ، كان الوجه الالتزام - فيما نحن فيه - بترتب العقاب في ظرف الواجب ، إذ لا يتحقق ترك الواجب ومخالفته بمجرد ترك المقدمة ، لتقيده بظرف خاص وهو بعد لم يأت.

وبالجملة : لا بد من بناء الحق في المقام على ما يحقق في مسألة التجري من

ص: 240


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /259- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /5- الطبعة الحجرية.

أحد الوجهين.

واما ما يظهر من المحقق الأصفهاني من نفي ترتب العقاب عند ترك المقدمة ، ولو التزم بان موضوع الثواب والعقاب هو الانقياد وعدمه ، فهو لا يخلو عن مسامحة.

الجهة الثالثة : في توجيه ما ورد في بعض النصوص من ترتب الثواب على بعض المقدمات ، كما روي أن في كل خطوة في زيارة الحسين علیه السلام كذا من الثواب (1) ، فانه بظاهره يتنافى مع نفي الثواب على المقدمة الّذي قرّر في الجهة الأولى (2).

وقد ذكر لذلك وجوه :

منها : انه من باب التفضّل لا الاستحقاق.

ومنها : ان الثواب يكون على ذي المقدمة لكنه بزيادة المقدمات أو بمشقتها يزيد الثواب عليه من باب ان أفضل الأعمال أحمزها ، فليس الثواب على نفس المقدمة ، بل على ذي المقدمة ، فانه يثاب عليه بثواب عظيم على قدر مقدماته المذكورة في النص. وبتعبير آخر : ان للواجب - ذي المقدمة - حصصا يكون مقتضى الروايات المزبورة زيادة الثواب على هذه الحصة المعينة وعدمه في غيرها.

وتوهم : ان الوعد بالثواب على المقدمات يكشف عن استحباب هذه المقدمات في أنفسها كما يستظهر ذلك من روايات : « من بلغ » (3) ، ويبنى على التسامح في أدلة السنن.

يندفع : بأنه - لو تم في نفسه - إنما يلتزم به لو لم يكن هناك وجه آخر

ص: 241


1- كامل الزيارات / 133 فيما ورد في زيارة أبي عبد اللّه الحسين علیه السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /110- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- المحاسن / 25 والكافي 2 / 87.

يوجه به الوعد بالثواب بحيث يحافظ على كونها واجبات غيرية ويجمع بين كلتا الجهتين ، اما مع إمكان حمل النصوص على ما لا ينافي المقدمية فلا تصل النوبة إلى الحمل على الاستحباب النفسيّ فلاحظ.

هذا تمام الكلام في جهات هذا الأمر الثلاثة.

يبقى الكلام في أمر تعرض إليه الأعلام جميعا ، وهو البحث في عبادية الطهارات الثلاث وترتب الثواب عليها ، فان فيها إشكالا ، وقد قرّره الشيخ قدس سره في كتاب الطهارة بلزوم الدور (1). وتقريبه يتوقف على مقدمتين :

الأولى : ان رفع الحدث المانع من الصلاة ، - وان شئت فقل : الطهارة - انما يتحقق بالوضوء إذا وقع الوضوء على وجه العبادية المتوقف على تعلق الأمر به كي يقصد الإتيان به بداعي ذلك الأمر فيكون عبادة. إذ من الواضح انه إذا جاء بافعال الوضوء من دون ان تتعنون بعنوان العبادية وبلا ان تكون على وجه العبادة لم يتحقق بها رفع الحدث ولا استباحة الصلاة.

الثانية : انه لا أمر بالوضوء لأجل الصلاة إلا الأمر الغيري الثابت له بملاك المقدمية.

وإذا تمت هاتان المقدمتان يأتي الإشكال ، وذلك لأن الأمر الغيري انما يتعلق بالوضوء بما أنه مقدمة - باعتبار أنه رافع للحدث المانع ، ورفع المانع من المقدمات - ، ومقدميته متوقفة على الإتيان به على وجه العبادة - إذ عرفت ان رفع الحدث المانع يتوقف على إتيانه بنحو العبادة - ، والإتيان به على وجه العبادة يتوقف على الأمر به ، فعليه يكون الأمر الغيري متوقف على مقدميته ومقدميته متوقفة على الأمر الغيري به فيلزم الدور. وعبّر عن هذا الإشكال بعبارة أخرى ومحصلها : ان إيجاب الوضوء الغيري يتوقف على كون الوضوء مقدمة في نفسه ،

ص: 242


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. الطهارة /87- الطبعة الأولى.

وهذا يتنافى مع فرض كون مقدمية الوضوء تتوقف على الإتيان به بداعي امتثال الأمر ، إذ لا أمر هنا غير الأمر الغيري.

ومن هنا لا بد من رفع اليد عن إحدى المقدمتين ، فيلتزم :

اما بوجود أمر آخر متعلق بالوضوء غير الأمر الغيري ، يكون قصده مصححا لعباديته ومحصلا لمقدميته فيتعلق به بما هو كذلك الأمر الغيري ، فلا دور ، إذ الأمر الغيري وان توقف على عبادية الوضوء ، لكن عبادية الوضوء غير متقومة به ، بل بالأمر الآخر المفروض.

واما بتحقق رفع الحدث من دون التعبد بالوضوء ووقوعه بنحو العبادية ، بل يكون من لوازم الفعل كرفع الخبث ، فيرد الأمر الغيري على الوضوء لأنه مقدمة في نفسه.

ولكن الالتزام الأول خلاف فرض عدم وجود أمر غير الأمر الغيري.

والثاني مناف للإجماع المنعقد على توقف رفع الحدث بالوضوء على الإتيان به بنحو العبادة.

فالإشكال وارد ، إلاّ انه تصدي لدفعه بوجهين :

الوجه الأول : ان الوضوء في نفسه معنون بعنوان واقعي راجح في ذاته ، بذلك العنوان يكون الوضوء رافعا للحدث ، إلا أن العنوان من العناوين القصدية التي لا تتحقق إلا بالقصد إليها - نظير عنوان التعظيم -.

وعليه ، فالوضوء مع قطع النّظر عن الأمر الغيري مقدمة لتحقق رفع الحدث به بدونه بقصد ذلك العنوان الراجح في ذاته الموجب لوقوعه بنحو العبادة. فيتعلق به الأمر الغيري من دون إشكال ، لأن عبادية الوضوء لا تتوقف على الأمر الغيري - كي يلزم الدور - ، بل هو عبادة مع قطع النّظر عن الأمر الغيري. نعم هناك شيء ، وهو انه لما كان العنوان القصدي الّذي يتعنون به الوضوء مجهولا لدينا فلا طريق إلى قصده إلا بقصد امتثال الأمر الغيري

ص: 243

بالعمل ، إذ الأمر الغيري متعلق بالوضوء بلحاظ العنوان المتعنون به ، فيكون العنوان بذلك مقصودا إجمالا ، ويكون قصد امتثال الأمر الغيري طريقا إلى قصد العنوان القصدي.

وبالجملة : التقرب والعبادية الحاصلة بالوضوء ناشئة من رجحانه الذاتي بلحاظ العنوان المنطبق عليه ، وليست ناشئة من قصد الأمر الغيري.

ومن هنا يظهر ان استحقاق الثواب ليس من جهة قصد الأمر ، كي يقال بان الأمر الغيري مما لا يستحق على موافقته المثوبة ، بل من جهة رجحانه الذاتي ولكونه في نفسه عبادة.

هذا توضيح ما أفاده الشيخ من الإشكال ، والوجه الأول من الجواب.

ومنه تعرف ما في الكفاية من المسامحات وذلك بأمور ثلاثة :

الأول : ذكره هذا الوجه جوابا عما قرّره من الإشكال في الطهارات الثلاث ، ببيان انه قد أجيب به عنه ، وما قرّره من الإشكال يختلف عما - قرّره الشيخ من إشكال الدور - كما ستعرفه إن شاء اللّه تعالى - ، فالجواب المذكور لم يذكر جوابا عن إشكال صاحب الكفاية ، بل ذكر جوابا عن إشكال الدور الّذي ذكره الشيخ.

الثاني : ذكر الجواب بنحو ناقص ، فانه لم يذكر فيه كون العنوان الّذي يتعنون به الوضوء من العناوين الراجحة في ذاتها الّذي صرح به الشيخ ، بل غاية ما جاء في الكفاية انه من العناوين القصدية ، فتقصد إجمالا بقصد امتثال الأمر الغيري. وهذا التصرف تصرف مخل بالمقصود كما سيتضح.

الثالث : الإيراد عليه بأنه لا يفي بردّ إشكال ترتب المثوبة على الوضوء. ووضوح هذه المسامحة مما لا يخفى على من لاحظ جواب الشيخ ، فانه كيف لا يفي برد الإشكال المزبور؟ مع فرض أنه راجح في ذاته ، فتكون المثوبة على رجحانه ذاتا لا على امتثال الأمر الغيري ، وقد أشار الشيخ رحمه اللّه إلى هذا

ص: 244

الإشكال واندفاعه ، فلم يعلم وجه ذكره ، ولعله لأجل عدم فرض العنوان راجحا في ذاته في تقرير الجواب الّذي ذكره.

وخلاصة القول : ان ما جاء في الكفاية من المسامحات الغريبة التي كون صدورها من مثل صاحب الكفاية مورد العجب ، وغاية ما لدينا من الاعتذار عنه أنه لم يكن يحضره حين تحرير هذا المطلب كتاب طهارة الشيخ ليطلع على خصوصيات ما جاء فيها إشكالا وجوابا ، بل كان مطلب كتاب الطهارة في ذهنه فكان ذلك منشئا لفوات بعض خصوصياته عليه.

وبعد ذلك نعود إلى أصل المبحث ، فنذكر ما ذكر من الإشكالات على عبادية الطهارات الثلاث وما قيل في الجواب عنها.

والّذي يحضرنا من الإشكالات خمسة :

الأول : ما جاء في الكفاية من ان موافقة الأمر الغيري قد فرض انها لا تستلزم القرب ، والمفروض حصول التقرب بالإتيان بالطهارات الثلاث لأجل الصلاة.

الثاني : ما جاء في الكفاية - أيضا - من أن موافقة الأمر الغيري لا تستوجب ثوابا كما فرض ، مع ترتب الثواب على الإتيان بالطهارات الثلاث لأجل الصلاة بلا إشكال.

الثالث : ما جاء في الكفاية - أيضا - من ان الأمر الغيري أمر توصلي يسقط بمجرد الإتيان بمتعلقه ، مع أنه في الطهارات الثلاث ليس كذلك ، إذ لا بد من الإتيان بها بنحو العبادة وقصد امتثال الأمر الغيري (1).

الرابع : ما ذكره الشيخ من إشكال الدور ، وان الأمر الغيري يتوقف على عبادية الوضوء وأخويه ، فإذا كانت عبادية الوضوء تتوقف على الأمر الغيري

ص: 245


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /111- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

لزم الدور. وقد مرّ توضيحه.

الخامس : ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من ان الأمر الغيري يتعلق بما هو عبادة ، والعبادية تحتاج إلى الأمر ، فاما ان تكون عبادية الوضوء ناشئة من تعلق الأمر الغيري به ، أو من تعلق أمر نفسي آخر به استحبابي.

فعلى الأول يلزم الدور.

والثاني ممتنع من وجوه :

الأول : انه لو تم ، فهو إنما يتم بالنسبة إلى الوضوء والغسل مما قام الدليل على استحبابهما في أنفسهما ، واما التيمّم فلا دليل على استحبابه في نفسه.

الثاني : ان الأمر النفسيّ الاستحبابي ينعدم بعروض الوجوب ، لامتناع اجتماع المثلين.

الثالث : انه لو كانت العبادية ناشئة من تعلق الأمر النفسيّ بها لما صح الإتيان بها بقصد أمرها الغيري من دون التفات إلى أمرها النفسيّ الاستحبابي ، مع انه لا إشكال في صحتها لو أتي بها بداعي الأمر الغيري المترشح عن الأمر بذي المقدمة بلا التفات إلى الأمر النفسيّ المتعلق بها ، ويشهد لما ذكر عدم صحة الإتيان بصلاة الظهر بداعي الأمر الغيري المتعلق بها المترشح من الأمر النفسيّ المتعلق بصلاة العصر ، من دون قصد الأمر النفسيّ المتعلق بها بذاتها.

وهكذا الإتيان بالصوم الّذي هو مقدمة للاعتكاف بداعي أمره الغيري المترشح عن الأمر بالاعتكاف بلا قصد الأمر النفسيّ المتعلق به بخصوصه. وهذا يكشف عن أن الطهارات الثلاث ليست كالصوم للاعتكاف وصلاة الظهر من كونها متعلقة للأمر النفسيّ مع كونها مقدمة ، وإلاّ لجرى فيها ما جرى فيها من لزوم قصد الأمر النفسيّ في صحة العمل (1).

ص: 246


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 174 - الطبعة الأولى.

هذا مجموع ما ذكر من الإشكالات ، واما ما ذكر من وجوه الجواب فهو :

الوجه الأول : ما أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه من ان هذه الطهارات الثلاث مستحبة في أنفسها. وهي بما هي عبادة مقدمة للصلاة ، فالأمر الغيري متعلق بما هو عبادة في نفسه (1).

وبهذا الوجه تندفع الوجوه الأربعة الأولى للإشكال.

اما الأول : فلان التقرب لم يحصل من جهة موافقة الأمر الغيري ، كي يقال ان موافقته لا تستلزم القرب ، بل من جهة ان الفعل في نفسه عبادة ومأمور به نفسيا ، فالتقرب يحصل بلحاظ موافقته للأمر الاستحبابي.

واما الثاني : فلان استحقاق الثواب ليس لأجل موافقة الأمر الغيري ، بل من جهة موافقة الأمر الاستحبابي ، ولكون الفعل راجح في ذاته.

واما الثالث : فلان الأمر الغيري هاهنا لا يختلف عنه في سائر المقدمات في كونه توصليا ، إلا ان متعلقه هاهنا ما هو عبادة في نفسه ، فلا يتحقق الإتيان بمتعلقه إلا بالإتيان به بنحو العبادية ، إذ قد عرفت ان المقدمة ما هو عبادة ، فالعبادية ليست من جهة كون الأمر الغيري عباديا كي يتجه سؤال الفرق بينه هنا وبين غيره في سائر المقدمات ، بل من جهة ان الواجب النفسيّ يتوقف على ما هو عبادة ، فمتعلق الأمر الغيري ما هو عبادة في نفسه.

واما الرابع : فلان العبادية إذا كانت ناشئة من جهة الأمر النفسيّ المتعلق بها يرتفع الدور ، إذ الأمر الغيري وان توقف على العبادية لقوام المقدمية بها ، إلا ان العبادية لا تتوقف على الأمر الغيري فلا دور.

واما ما ذكره المحقق النائيني رحمه اللّه من وجوه الإشكال على هذا الوجه فهي مندفعة :

ص: 247


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /111- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

اما الوجه الأول : فلأنه وان لم يقم دليل خارجي على استحباب التيمم في نفسه ، إلاّ ان الإجماع القائم على لزوم التعبد به مع عدم تعلق غير الأمر الغيري به ، إذا كان بنحو يصح الاعتماد عليه ودليلا على ما قام عليه كان بنفسه كاشفا عن استحبابه في نفسه ، إذ ذلك يلازم لزوم الإتيان به عبادة ، لأن لا طريق إلى ذلك غير هذا الوجه. وإذا لم يكن بنحو يصح الاستناد إليه لم يكن وجه للالتزام بلزوم الإتيان بالتيمم بنحو العبادية ، إذ لا وجه له غير الإجماع والمفروض انه غير صالح للنهوض على إثبات ما قام عليه.

واما الوجه الثاني : فلان الاستحباب وان كان يندك بالوجوب الغيري ، إلاّ ان المرتفع هو الأمر والإرادة بحدّها ، لاستلزام بقائه اجتماع المثلين ، اما واقع الإرادة الاستحبابية وذاتها فهي لا ترتفع بالوجوب الغيري ، بل تتداخل الإرادتان وتنشأ منهما إرادة واحدة مؤكدة كتداخل النورين ، وذلك يكفي في إمكان الإتيان به بنحو العبادة وفي تحقق التقرب كما سيتّضح.

واما الوجه الثالث : فلوجود الفرق بين الطهارات ومثل الصلاة الظهر والصوم للاعتكاف بحيث يصح قصد الأمر الغيري في الطهارات ولا يصح في مثل صلاة الظهر ، فلنا دعويان :

إحداهما : صحة قصد الأمر الغيري في الطهارات وتحقق التقرب بذلك.

وثانيتهما : عدم صحة قصد الأمر الغيري في مثل صلاة الظهر مما يكون واجبا نفسيا.

وتقريب الأولى : ان الطهارات وان كانت مستحبة في ذاتها ، إلاّ أنها إذا كانت مقدمة لا تكون موردا إلا للأمر الغيري ، سواء قلنا بان الأمر الغيري عبارة عن الإرادة الشديدة التبعية أو أنه عبارة عن حكم مجعول ، كما يقال في مثل : « أدخل السوق واشتر اللحم ».

ص: 248

اما إذا قلنا بأنه عبارة عن نفس الإرادة ، فتعلقها بالطهارات بحدّها مع تعلق الأمر الغيري الاستحبابية بها يستلزم اجتماع المثلين وهو محال ، بل الواقع هو اندكاك الإرادة الاستحبابية بالإرادة الوجوبية وخروج كل منهما عن حدّه الخاصّ ، وتنشأ منهما إرادة واحدة مؤكدة ، نظير اندكاك النور الضعيف بالنور القوي وانصهار أحدهما بالآخر ، فينشأ منهما نور واحد أقوى ، ولكن لا يكون لكل منهما وجود منحاز عن الآخر أصلا ، بل ليس هناك إلا وجود واحد للنور وهو النور الأقوى. فالحال في الإرادة كذلك فانه تنشأ من الإرادتين المندكتين إرادة واحدة مؤكدة يعبّر عنها بالوجوب الغيري ، إذ هو يغلب الاستحباب ، والمفروض ان الإرادة إلزامية. كما انه لا تكون إرادة نفسية كما لا يخفى ، فلا محيص عن ان تكون هذه الإرادة المؤكدة إرادة غيرية ، إلا انها ليست كسائر الإرادات الغيرية لأنها مشوبة بجهة راجحة نفسية ، ولأجل ذلك صح قصد الأمر الغيري دون الاستحبابي ، لعدم بقاء الأمر الاستحبابي ، بل لا يتصور سوى قصد الأمر الغيري ، إذ لا أمر غيره. ويحصل بقصده التقرب ، إذ هو يشتمل على جهة رجحان في ذاته ، فهو ليس على حد سائر الأوامر الغيرية كي يقال ان حصول التقرب به ينافي فرض عدم مقربية الأمر الغيري ، بل هو أمر غيري ، لكنه يختلف عن سائر الأوامر الغيرية ، لعدم تمحضه في الغيرية ، بل هو مشوب بجهة راجحة ذاتية ، فان الجهة الاستحبابية مؤثرة في تحقق التقرب وان لم يكن لها وجود بحدّها. نظير النور الضعيف فانه مؤثر في ذاته ، لكنه لا تميز له ولا انحياز.

وبالجملة : لا منافاة بين الالتزام بحصول التقرب بقصد الأمر الغيري هاهنا ، وبين ما تقدم من عدم مقربية الأمر الغيري ، إذ الأمر الغيري هاهنا يختلف عن سائر الأوامر الغيرية لاشتماله على جهة رجحان في ذاته.

واما إذا كان الأمر الغيري حكما مجعولا ، فالأمر فيه بالنسبة إلى

ص: 249

الاندكاك كذلك ، إذ بعد فرض حصول الاندكاك في منشأ الجعل وعدم وجود إرادتين ، بل ليس هناك إلا إرادة واحدة لا يعقل فرض تحقق حكمين مجعولين لخلوّهما عن منشأ الجعل ، فليس لدينا أيضا سوى حكم واحد مجعول هو الحكم الغيري المشوب بجهة رجحان نفسية.

وتقريب الدعوى الثانية : ان صلاة الظهر ونحوها مما كان واجبا في نفسه لم يثبت تعلق الأمر الغيري بها ، إذ هناك من يرى عدم صحة تعلقه لوجود المانع وهو الأمر النفسيّ ، فيرتفع موضوع الإيراد على هذا ولو سلم تعلق الأمر الغيري بها ، فهو مندك بالأمر النفسيّ. ومن الواضح ان المغلّب هو جانب الإرادة النفسيّة ، والأمر النفسيّ لأقوائيته ، فيمتنع قصد الأمر الغيري حينئذ لعدم وجوده ، فلا بد من قصد الأمر النفسيّ المتعلق بها.

واما الصوم للاعتكاف ، فموضوع البحث منه ما إذا كان الاعتكاف واجبا ولم يكن الصوم واجبا ، فيكون حاله حال الطهارات المشتملة على جهة استحباب نفسي ووجوب غيري.

ولا يخفى ان الالتزام بصحة قصد الأمر الغيري فيه وصحته بذلك لا محذور فيه ، ولم يثبت قيام الإجماع بنحو يكون حجة على خلافه ، إذ لا تصريح للكل بذلك ، فدعوى الإجماع ترجع إلى نسبة الحكم إليهم اجتهادا.

وبذلك تعرف اندفاع ما أفاده المحقق النائيني بحذافيره.

وقد تصدى صاحب الكفاية للجواب عن إشكال الاكتفاء بقصد الأمر الغيري وصحة الفعل بالإتيان به بهذا القصد ، بما توضيحه : ان الأمر الغيري حيث انه متعلق بالفعل العبادي ، فهو انما يدعو إليه ، لأن الأمر يدعو إلى ما تعلق به ، فيقصد التقرب بالفعل بتوسط قصد الأمر الغيري ، فمعنى الإتيان بالعمل بداعي أمره الغيري هو الإتيان به بالنحو العبادي ، لأنه هو الّذي يدعو

ص: 250

إليه الأمر الغيري (1).

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في هذا الجواب : بان الأمر النفسيّ الاستحبابي أو الجهة الراجحة النفسيّة ، اما ان يكون ملتفتا إليها عند العمل ، أو مغفولا عنها بالمرّة ، فان كانت ملتفتا إليها كانت هي الداعية إلى العمل ، لا الأمر الغيري ، إذ لا حاجة حينئذ إلى توسيط دعوة الأمر الغيري. وان كانت مغفولا عنها لم يتحقق القصد إليها ولو إجمالا ، فلا تتحقق العبادية ، لكون المفروض قوامها بقصد الأمر النفسيّ (2).

وهذا الإشكال بظاهره سديد ، إلا أنه قد يخدش فيه عند التأمل.

فالأولى ان يقال : - إشكالا على صاحب الكفاية - : ان المقصود ..

اما ان يكون قصد الأمر الغيري بنحو داعي الداعي ، بلحاظ أنه يدعو إلى الإتيان بالفعل بداعي الاستحباب النفسيّ لأنه متعلقه ، فيكون الأمر الغيري داعيا إلى داعوية الأمر النفسيّ ، فيؤتى بالفعل بداعي الأمر النفسيّ ، والمجموع بداعي الأمر الغيري. فإذا كان المقصود هذا المعنى ، فهذا مما لا يستشكل فيه أحد ، لفرض قصد الأمر النفسيّ ، وكون الأمر الغيري بنحو داعي الداعي أمر لا محذور فيه ، بل له نظائر وأشباه في كثير من الفروع.

وبالجملة : هذا النحو خارج عن المفروض ، إذ المفروض كون المقصود خصوص الأمر الغيري.

واما ان يكون مقصوده قصد الأمر الغيري فقط بمعنى انه يؤتى بالعمل كالوضوء بداعي الأمر الغيري لا غير ، فهذا يتوقف على تعلق الأمر الغيري بذات الوضوء. وهو يتصور على نحوين :

ص: 251


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /111- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 201 - الطبعة الأولى.

أحدهما : ان يتعلق به أمر غيري استقلالي ، باعتبار ان المقدمة إذا كانت هي العمل بقصد القربة ، فكل من العمل وقصد القربة جزء المقدمة ، وجزء المقدمة يكون مقدمة أيضا ، فيكون العمل بنفسه مقدمة ويتعلق به الأمر الغيري بذاته.

ثانيهما : ان يتعلق به أمر غيري ضمني ، باعتبار تعلق أمر استقلالي واحد بالمركب من الوضوء وقصد القربة ، وهو ينحل إلى أمرين ضمنيين غيريين يتعلق أحدهما بذات الوضوء.

وعلى أي حال فالوضوء متعلق لأمر غيري يقصد امتثاله عند الإتيان به.

وهذا المعنى لو تمّ ، فهو لا يستلزم تحقق العبادية بالقصد الإجمالي ، بلحاظ أن الأمر الغيري يدعو إلى ما تعلق به ، فان المفروض انه إنما تعلق بذات الوضوء ، فهو أنما يدعو إلى ذات الوضوء لا إلى الوضوء بقصد القربة ، فمن أين تتحقق عبادية الوضوء؟

فالمتعين في جواب إشكال الاكتفاء بقصد الأمر الغيري ما ذكرناه.

ونتيجة ما تقدم هو : ان الوجه الّذي ذكره صاحب الكفاية في رفع إشكال عبادية الطهارات وجه خال عن المحذور ، فهو ممكن ثبوتا.

إلا انه انما يتعين الالتزام به إثباتا لو لم يتم وجه آخر من الوجوه المذكورة في دفع الإشكال ، إذ ينحصر حلّ العويصة به ، ويكون هو طريق الجمع بين الإجماع على عبادية الطهارات وما يرد على العبادية من إيراد.

واما لو فرض تمامية بعض الوجوه الآتية ، فلا يتعين الالتزام بهذا الوجه ، إذ لا معين له في مقام الإثبات دون غيره.

ثم انه لا بد من التعرض - بعد إنهاء هذا المبحث - إلى بيان صحة قصد الأمر الاستحبابي في مورد تعلق الأمر الغيري بالوضوء ونحوه ، كما لو دخل الوقت أو عدمها ، فان الظاهر من تعبير صاحب الكفاية ب- : « الاكتفاء بقصد

ص: 252

امرها الغيري » هو عدم تعين قصده وجواز قصده الاستحباب كما لا يخفى ، مع انه قد يدعي عدم صحة قصد غير الأمر الغيري في مورده.

وهذا بحث تعرض إليه الأعلام 5 ، وان كان بحثا فقهيا وليس من مباحث الأصول. فانتظر.

الوجه الثاني : ما ذكره الشيخ رحمه اللّه وقد تقدم بيانه وبعض الكلام حول عبارة الكفاية بالنسبة إليه ، ومحصله : الالتزام بان الوضوء معنون بعنوان قصدي راجح في ذاته ، يكون قصد الأمر الغيري طريقا إلى قصد ذلك العنوان إجمالا ، لأن الأمر الغيري يدعو إلى ما تعلق به.

ومن الواضح انه تندفع به جميع الإشكالات ، فان المقربية والثواب انما يكونان بلحاظ كون العمل بنفسه راجحا لتعنونه بالعنوان الراجح ، لا من جهة اقتضاء امتثال الأمر الغيري لذلك ، كما ان الأمر الغيري ليس تعبديا ، بل هو توصلي ، وقصده انما هو لأجل طريقيته إلى قصد العنوان الراجح.

كما ان محذور الدور يرتفع به - كما تقدم بيانه - إذ العبادية لم تنشأ من الأمر الغيري فتوقف الأمر الغيري على عباديته لا تستلزم الدّور.

واما الإشكالات المذكورة في كلام المحقق النائيني ، فقد عرفت اندفاعها ، إذ هذا الوجه كالوجه الّذي ذكره صاحب الكفاية في النتيجة لكنه يؤاخذ :

أولا : بأنه لا ملزم للالتزام بان الوضوء متعنون بعنوان قصدي راجح في ذاته ، إذ ينحل الإشكال بالالتزام برجحان الوضوء بنفسه واستحبابه بذاته - كما ذكره صاحب الكفاية - بلا حاجة إلى فرض عنوان مجهول قصدي ، فان ذلك تبعيد للمسافة.

وثانيا : بما جاء في الكفاية من الإيراد على توجيه قصد الأمر الغيري ، بأنه لأجل تحقق قصد العنوان إجمالا للجهل به.

وتوضيحه : ان قصد العنوان المجهول بتوسط الأمر الغيري لا ينحصر

ص: 253

بأخذ الأمر الغيري داعيا إلى العمل ، بل يتحقق مع أخذه بنحو التوصيف ، وكون الداعي شيئا آخر ، فيقصد المكلف الإتيان بالوضوء المأمور به لا الوضوء بداعي الأمر. فان الوصف إشارة أيضا إلى ذلك العنوان (1).

وبمثل هذا الإيراد أورد الشيخ رحمه اللّه نفسه على من التزم بلزوم قصد الوجه في العبادات بتقريب : ان الأمر انما تعلق بهذه الأفعال بلحاظ انطباق عناوين واقعية راجحة عليها ، ولا يمكن قصد تلك العناوين تفضيلا للجهل بها ، فلا طريق إلاّ الإتيان بالفعل بداعي الوجوب ، لأنه متعلق بالفعل المعنون بذلك العنوان ، فيكون العنوان مقصودا إجمالا ، فقد أورد الشيخ على هذا التقريب ، انه لا يستلزم تعين قصد الوجه ، بحيث يكون الوجوب داعيا ، إذ قصد العنوان الواقعي الراجح يتحقق بالإتيان بالفعل المتصف بالوجوب ، بحيث يؤخذ الوجوب بنحو التوصيف لا الداعي. فتدبر.

الوجه الثالث : ما نسب صاحب الكفاية إلى الشيخ أيضا ، وهو : ان الغرض من ذي المقدمة كما لا يتحقق إلا بالإتيان به بنحو عبادي ، فكذلك بتوقف تحقق الغرض من الغاية - ذي المقدمة - على تحقق المقدمة ، والإتيان بها بنحو عبادي. فعبادية الطهارات لأجل توقف حصول الغرض من غاياتها عليها (2).

ومن الواضح : ان هذا لا يصلح حلا لأي إشكال من الإشكالات السابقة كيف؟ وهو بيان لموضوع الإشكال ، فان نتيجته ليست إلا إثبات ان الطهارات لا بد من الإتيان بها بنحو عبادي ، وهذه الجهة قد أخذت مفروغا عنها ، والمفروض ان الإشكالات مترتبة على الاعتراف بهذه الجهة ، فكيف تصلح

ص: 254


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /111- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /112- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

حلا للإشكالات ودفعا لها؟ فان موضوع البحث هو معرفة منشأ عبادية الطهارات الثلاث والسّر فيه ، بحيث تندفع به الإيرادات ، لا معرفة ان الطهارات عبادية أو غير عبادية.

ومن العجيب نسبته هذا الوجه إلى الشيخ رحمه اللّه مع ان الوجه المذكور في كلام الشيخ لا يرتبط به بالمرّة.

فان الشيخ في مقام دفع إشكال الدور المتقدم ذكره ذكر وجهين : أحدهما ما تقدم وتقدم الكلام حوله. وثانيهما هو : ان المقدمية إذا كانت متقومة بكون الفعل عباديا ، فلا محيص عن ان يلتجئ المولى إلى الأمر بذات العمل - بدون أخذ قصد الأمر فيه ، بناء على امتناع أخذه في متعلق الأمر كما تقدم البحث فيه - ، ثم إعلام المكلف بلزوم الإتيان بالفعل بداعي أمره ، وان الغرض منه لا يتحقق بدون ذلك ، وبذلك لا يحتاج إلى أمر آخر لتحقق غرض المولى بذلك ، فيكون الأمر مقوما للمقدمية ومغن عن أمر آخر ، وبذلك يرتفع الدور ، إذ عبادية الفعل وان نشأت من تعلق الأمر به ، لكن الأمر تعلق بذات العمل ، فهو لا يتوقف على الفعل العبادي كي يتحقق الدور (1).

ومن الواضح ان ما جاء في الكفاية لا ربط له بما ذكرناه عن كتاب الطهارة ، فان ما جاء في كتاب الطهارة حلّ للإشكال ، ومن العجيب ان المشكيني ادعى ان الوجه المذكور في الكفاية هو مختار التقريرات (2) ، فانه كما عرفت لا يحلّ إشكال الدور أصلا ، بل هو يمهّد موضوع الإشكال ، وقد عرفت ان الإشكال الّذي ذكره الشيخ هو إشكال الدّور فقط ، فكيف يجعل هذا الوجه جوابا له وردّا عليه؟ وبذلك نستطيع الجزم بعدم كونه مراد التقريرات وان لم

ص: 255


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. الطهارة /88- الطبعة الأولى.
2- كما في حاشية كفاية الأصول 1 / 179 - طبعة المحشاة بحاشية المشكيني.

تحضرنا التقريرات فعلا (1).

وأعجب منه ما ذكره المحقق الأصفهاني من : ان الوجه الّذي في الكفاية هو نفس الوجه المذكور في كتاب الطهارة بأدنى تغيير (2) ، فانك قد عرفت البون الشاسع بينهما وعدم ارتباط أحدهما بالآخر.

ومجمل الكلام : ان الإنسان يقف موقف الحيرة والاستغراب تجاه هذه الاشتباهات المتكررة. فلاحظ.

الوجه الرابع - وهو ما نقله صاحب الكفاية - : انه يلتزم بوجود أمرين :

أحدهما يتعلق بذات العمل. وثانيهما يتعلق بالعمل بقصد الأمر الأول ، فيتمكن المولى بهذه الطريقة من تحقيق عبادية الطهارات ، إذ بدون ذلك لا يتمكن منه ، لعدم كون الطهارات بنفسها عبادة ، وعدم إمكان أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر الأول.

وأورد عليه في الكفاية بوجهين :

الأول : ان ذات العمل ليست بمقدمة ، إذ المفروض كون المقدمة هو العمل العبادي لا مجرد الحركات الخاصة. وعليه فيمتنع ان يتعلق بها أمر غيري مترشح من الأمر النفسيّ ، إذ ملاك تعلق الأمر الغيري بالعمل كونه مقدمة للواجب النفسيّ ، فلا يتعلق بما ليس بمقدمة.

الثاني : انه قد مرّ امتناع تصحيح أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر شرعا بالالتزام بأمرين ، وانه لا محيص عن كونه مما يحكم به العقل لا الشرع.

فتصحيح عبادية الطهارات بأمرين لا يخلو عن المحذور (3).

ص: 256


1- ذكر سيدنا الأستاذ - دام ظله - في اليوم الثاني : بأنه راجع التقريرات ، فوجدها غير موافقة لما ذكره صاحب الكفاية كما جزم به أولا. ( منه عفي عنه ).
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية 1 / 203 - الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 112 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والتحقيق ان الوجه الأول لا يخلو عن بحث ، وهو : ان الأمر الأول الّذي يتعلق بالطهارات الثلاث اما ان يكون غيريا ، أو نفسيا تهيئيا ، أو نفسيا استقلاليا.

اما إذا كان غيريا - كما هو مفروض إيراد صاحب الكفاية بحسب ما فهمه من كلام المستدل - فيصح تعلقه بذات العمل على بعض الوجوه.

بيان ذلك : ان العمل مع قصد القربة اما ان يلتزم بأنهما مأخوذان بنحو التركيب ، فيكون كل منهما جزء المقدمة ، أو يلتزم بان الأمر متعلق بالعمل القربي بنحو التوصيف والتقييد.

فعلى الأول : لا امتناع في تعلق الأمر الغيري بذات العمل ، لأنه يكون بنفسه مقدمة ، فان جزء المقدمة مقدمة ، كما لا يخفى.

وعلى الثاني : فاما ان يبنى على انحلال الواجب والمأمور به إلى جزءين ، ذات العمل والتقيد ، بحيث يختص كل منهما بأمر ضمني.

وعلى هذا الأساس يبنى على جريان البراءة في الأقل والأكثر عند الشك في شرطية شيء ، كما تقدمت الإشارة إليه في أول مبحث التعبدي والتوصلي.

أو يبنى على عدم انحلال المأمور به ، وان الواجب في الحقيقة امر بسيط ، وهو الحصة الخاصة.

وعلى هذا الأساس يبنى على عدم جريان البراءة مع الشك في شرطية شيء في باب الأقل والأكثر.

فان بني على انحلال المأمور به المقيد إلى جزءين ، يكون كل منهما قابلا لتعلق الأمر به ، فلا مانع حينئذ من تعلق الأمر الغيري بذات العمل لأنه جزء المأمور به.

نعم إذا لم يبن علي الانحلال لم يتجه تعلق الأمر بذات العمل ، لأنه ليس

ص: 257

بمأمور به ولا يمكن ان يكون مأمورا به لعدم توفر الملاك فيه. فإشكال صاحب الكفاية انما يتوجه على البناء الأخير ، وإلاّ فهو على البناءين الأولين غير متجه.

وتحقيق أحد هذه المباني ليس محله هاهنا ، بل له مجال آخر يأتي التعرض إليه.

فالمتعين من إيرادي الكفاية هو الثاني ، فقد مر بيان مراد الكفاية من الإشكال على تصحيح أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر بالالتزام بأمرين ، وانه مما لا محيص عن الالتزام به فيتوجه على هذا الوجه ويضاف إليه إيرادين آخرين :

أحدهما : ما تقدم من ان الأمر الغيري غير قابل للدعوة والتحريك نحو العمل المأمور به ، فلا وجه لأن يدعو الأمر الثاني إلى دعوة الأمر الأول.

وثانيهما : ان قصد امتثال الأمر الغيري الأول بتوسط الأمر الثاني لا يستوجب المقرّبية وترتب الثواب عليه كما تقدم ، وتعدد الأمر لا يصحح ترتب الثواب وحصول القرب كما لا يخفى.

وبعبارة أخرى نقول : ان المقصود من الأمر الثاني انما هو الإتيان بالعمل بقصد الأمر الأول ليكون عباديا ، وهو غير متحقق ، إذ الأمر الأول لما كان غيريا لا يكون قصده محققا للعبادية ، إذ لا يوجب القرب ، فلا يتوصل إلى العبادية بتعدد الأمر.

هذا إذا كان الأمر المتعلق بذات العمل غيريا.

واما إذا كان نفسيا تهيئيا ، بمعنى انه أمر مستقل غير تابع لثبوت الأمر بالغاية ، ولكن الغرض منه التوصل إلى تحقق الغاية ، فهو وسط بين الأمر الغيري والنفسيّ المحض. وقد التزم بتعلقه بالمقدمات المفوتة عند عدم تمامية الوجوه المذكورة في تصحيح وجوبها قبل زمان وجوب ذيها.

فيرد عليه : انه يمتنع تعلق الأمر النفسيّ التهيئي في هذا الفرض ونحوه

ص: 258

مما كان وجوب ذي المقدمة فعليا ، وذلك لما ذكرناه في الأمر الغيري من عدم قابليته للدعوة والتحريك. ببيان : ان المكلف اما ان يكون في مقام امتثال الأمر النفسيّ بذي المقدمة أو لا يكون ، فان كان في مقام امتثال الأمر النفسيّ ، كان إتيانه بالمقدمة مما لا بد منه ، سواء قصد امتثال الأمر التهيئي أو لم يقصد. وان لم يكن في مقام امتثال الأمر النفسيّ لم يتحقق منه قصد الأمر التهيئي ، إذ قد عرفت انه بملاك التوصل إلى الواجب الآخر ، فإذا لم يقصد امتثال الواجب الآخر لم يتحقق التوصل قهرا ، فلا يلحظ ملاك الأمر التهيئي عند إتيان العمل ، فيمتنع قصد امتثاله.

نعم الأمر التهيئي المتعلق بالعمل قبل زمان الواجب الآخر المقصود التوصل به إليه ، كالمتعلق بالمقدمات المفوتة ، له قابلية الدعوة ، إذ لولاه لما أتي بالمقدمة المستلزم لترك الواجب ، فيمكن ان يكون الداعي للإتيان بالمقدمة ليس إلاّ تعلق الأمر به ، ولولاه لما أتى به وكان معذورا في ترك الواجب في ظرفه ، لعدم القدرة عليه ، وعدم الملزم لإيجادها أو المحافظة عليها قبل ظرفه.

واما إذا كان الأمر نفسيا محضا وذاتيا بلا ارتباط له بأمر آخر. فلا إشكال فيه ، إلا أنه خارج عما هو محل الكلام ، فان الغرض من هذا الوجه تصحيح عبادية الطهارات من طريق غير الأمر النفسيّ ، وإلاّ رجع هذا الوجه إلى الوجه الأول الّذي التزم فيه باستحباب الطهارات بذاتها. فالتفت.

الوجه الخامس : ما أفاده المحقق النائيني قدس سره من ان الشرائط كالأجزاء متعلقة للأمر الضمني النفسيّ ، فالإتيان بها بداعي أمرها النفسيّ الضمني كما يؤتى بالاجزاء كالركوع. وعليه فعبادية الطهارات باعتبار تعلق الأمر النفسيّ ، وبذلك تندفع الإيرادات ، إذ المقربية والثواب ناشئان من امتثال الأمر النفسيّ الضمني ، ولا أمر غيري في المقام كي يستشكل في عباديته ، وإشكال الدور يندفع بما يدفع به نفس الإشكال على تعلق الأمر بنفس العمل

ص: 259

وذي المقدمة المفروض كونه عباديا ، والمحاذير الأخرى التي ذكرها قدس سره واضحة الاندفاع (1).

وهذا الوجه - مع غض النّظر عن صحة ما التزم به من كون الشرائط كالأجزاء متعلقة للأمر الضمني ، وعدم صحته ، فانه محل كلام ، فقد ادعي امتناعه - غير سديد ، فانه لو سلم كون الأمر الضمني يتعلق بالشرائط ، فالشرط في ما نحن فيه هو الطهارة لا نفس الوضوء وهي مسببة عن الوضوء ، والإشكال في تصحيح عبادية نفس الأعمال المأتي بها ، وهي لا تكون متعلقة للأمر الضمني لأنها ليست شرطا ، كما ان الطهارة غير متعلقة للأمر الضمني ، إذ للشيخ رحمه اللّه بيان وجيه لعدم إمكان تعلق الأمر بالطهارة أصلا - يأتي ذكره في محله إن شاء اللّه تعالى - ، فالطهارة ليست على حد سائر الشرائط في كونها متعلقة للأمر الضمني النفسيّ. فتدبر.

الوجه السادس : ما ذكره السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) من انه يمكن الإتيان بإحدى الطهارات بقصد التوصل بها إلى الواجب النفسيّ التي هي مقدمة له ، فانه محقق لعباديتها ، إذ يكفي في تحقق العبادية الإتيان بالفعل مضافا إلى المولى المتحقق بقصد التوصل ، وان لم نقل بوجوب المقدمة غيريا. فعبادية الطهارات الثلاث تتحقق - بنظر السيد الخوئي - بطريقين :

أحدهما : قصد أمرها النفسيّ لو دل الدليل الإثباتي على استحبابها في أنفسها كما هو مختاره.

ثانيهما : قصد التوصل بها إلى الواجب النفسيّ ، وان لم يلتفت إلى استحبابها النفسيّ (2).

ص: 260


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 175 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 401 - الطبعة الأولى.

ولتحقيق الحال في الطريق الثاني - إذ مرّ الكلام في الطريق الأول - لا بد ان نقول : انه مما لا إشكال فيه ان هناك فرقا بنظر العرف والعقلاء بين الإتيان بالمقدمة بقصد التوصل بها إلى الواجب النفسيّ ، والإتيان بها لا بهذا القصد ، بل بقصد دنيوي في حصول المثوبة والقرب في الأول دون الثاني. فانه إذا وجب الوصول إلى الكوفة ، وكان المشي مقدمة لتحققه ، فان إتيانه بالمشي بداعي الوصول إلى الكوفة الواجب يختلف أثره في مقام الإطاعة والقرب عما لو مشى لا بقصد الوصول ، بل بقصد الترويح عن النّفس أو ترويض الجسد.

فان مثل هذا لا يقبل الخلاف ، إلا ان تحقق القرب والثواب عند الإتيان بالمقدمة بداعي التوصل بها إلى الواجب النفسيّ يمكن أن يرجع سرّه إلى أحد وجوه ثلاثة :

الأول : أنه شروع في إطاعة الأمر النفسيّ المتعلق بذي المقدمة ، بلحاظ توقفه على المقدمة ، فالإتيان بالمقدمة شروع في إطاعة الأمر النفسيّ ، فيستحق الثواب على المقدمة من باب أنه إطاعة للأمر النفسيّ لا على ذات الإتيان بالمقدمة.

الثاني : ان الثواب على نفس العمل ، إلا أنه من جهة كشفه عن تحقق صفة حسنة لدى العبد ، وهي صفة الانقياد ، وقد تقدم ان حسن الانقياد حسن فاعلي لا فعلي ، فمدح المنقاد لا يكون على فعله بل على الصفة الحسنة التي يكشف عنها الفعل ، إذ قد يكون الفعل في نفسه مبغوضا ، كما لو قتل ابن سيده بتخيل انه عدوّه. وبالجملة : التقرب الحاصل في صورة الانقياد انما يتحقق بصفة الانقياد لا بالفعل المنقاد به.

الثالث : ان الثواب على ذات العمل لمقربيته بنفسه.

ولا يخفى ان العبادية المعتبرة في ما نحن فيه هي الإتيان بالفعل بنحو مقرب. وبتعبير أوضح : هو التقرب بالفعل بحيث يكون نفس الفعل سببا للقرب

ص: 261

لكونه محبوبا للمولى.

وعليه ، فقصد التوصل بالمقدمة إنما يجدي لو ثبت ان حكم العقلاء بترتب الثواب عليه - الّذي لا كلام فيه - يرجع سرّه إلى الوجه الثالث.

واما إذا كان مرجعه إلى أحد الوجهين الأولين ، فلا ينفع في العبادية المعتبرة ، إذ لا تقرب بنفس العمل على الوجهين الأولين كما لا يخفى.

ومن الواضح ان الجزم بكون مرجعه هو الوجه الثالث في غاية الإشكال - ان لم نقل في غاية البعد - ، إذ الاحتمال الأول لا دافع له ، ولو فرض تنزلا اندفاعه ، فلا نجد في أنفسنا دافعا للاحتمال الثاني ، فانه قريب إن لم نقل أنه متعين.

ويؤيد نفي كون قصد التوصل موجبا للعبادية : ان أغلب المقدمات في كثير من الموارد يؤتى بها بقصد التوصل ، إذ لا يكون غرض للعبد فيها غير الوصول بها إلى الواجب النفسيّ ، فلازم الوجه المذكور كون جميع هذه المقدمات تعبدية ، وهذا مما لا يلتزم به أحد.

كما يؤيده : انه لو جاء بالمقدمة بقصد التوصل وجاء بذيها بداع غير قربي كالرياء ، لزم ان تكون المقدمة بما أنها مقدمة عبادية دون ذيها ، وهو مستبعد جدا.

ثم أنه قد يورد على قصد التوصل بالطهارات الثلاث وتحقق العبادية به بلزوم الدّور بتقريب : ان التوصل انما يكون بما هو مقدمة ، والمفروض ان المقدمة ما هو عبادة لا ذات العمل ، فإذا كانت العبادية ناشئة عن قصد التوصل يلزم الدور ، لأن قصد التوصل يتوقف على ان يكون العمل عبادة بنفسه ، والعبادية تتوقف على قصد التوصل ، وهو الدور.

والجواب عن هذا الإيراد : ان المراد من التوصل المقصود بالعمل ليس هو التوصل الفعلي المباشر ، بمعنى ترتب ذات الواجب على المقدمة مباشرة وفعلا. بل المراد به التوصل إلى الواجب من جهة هذه المقدمة فقط ، باعتبار انها

ص: 262

تقع في طريق الوصول إليه فيؤتى بها بقصد التوصل من جهتها ولو لم يتحقق التوصل الفعلي ، لإمكان توقف الواجب على مقدمات أخرى. فمثلا لو وجب الكون في الكوفة ، فكل خطوة في المشي مقدمة يمكن قصد التوصل بها إلى الواجب ، ومن الواضح انه لا يتحقق التوصل الفعلي إلا بآخر خطوة ، فان ما قبلها من الخطوات من قبيل المعدّ.

وبالجملة : المراد هو إيجاد القدرة على الواجب من جهة هذه المقدمة ورفع المانع من قبلها ، بحيث لو انضمت سائر المقدمات تحقق الواجب فعلا ، فالمراد من التوصل التوصل التقديري.

إذا اتضح هذا فنقول : ان المقدمة وان كان العمل العبادي إلا ان ذات العمل أيضا مقدمة باعتبار انه جزء المقدمة. وعليه فيمكن ان يقصد التوصل بذات العمل بلحاظ إيجاد القدرة على الواجب من جهته فقط ، لا القدرة الفعلية - كي يقال بتوقفها على العبادية فيمتنع حينئذ قصد التوصل - وتحقق العبادية بذلك فيوجد الجزء الآخر من المقدمة ، فقصد التوصل لا يتوقف على العبادية فتحقق العبادية به لا يستلزم الدور.

فالعمدة في الإيراد على الوجه المزبور ما ذكرناه.

والّذي ينتج من مجموع ما تقدم : ان جميع الوجوه المتقدمة غير خالية عن الإشكال سوى الوجه الّذي ذكره صاحب الكفاية الّذي يرجع إلى استحباب الطهارات ذاتا وفي أنفسها. ومن الواضح انه يستطيع بنفس هذا الوجه إثبات استحباب الطهارات الثلاث النفسيّ من دون حاجة إلى البحث عن الدليل الخاصّ على ذلك ، وذلك لأن إذا قام الإجماع على لزوم الإتيان بها على نحو عبادي - كما هو المفروض - ولم يكن وجه مصحح لعباديتها سوى الالتزام بالأمر النفسيّ كشف ذلك عن تعلق الأمر النفسيّ بها ، فانه ملازم لتعلق الأمر الوجوبيّ بالواجب المقيد بها ، لعدم التمكن منه بدون تعلق الأمر النفسيّ بها ، كي يستطاع

ص: 263

الإتيان بها بنحو عبادي فيحصل التعبد المعتبر في الواجب.

وأنت خبير في ان هذا إنما يجدي في إثبات تعلق الأمر النفسيّ بها بعد دخول وقت الواجب للملازمة بين وجوب الواجب وبين استحبابها بالتقريب الّذي عرفته ، اما تعلق الأمر النفسيّ بها قبل دخول الوقت وتعلق الأمر بالواجب النفسيّ فلا يتكفل هذا الوجه إثباته ، فانه غاية ما يتكفل توقف عباديتها على الأمر النفسيّ ، وهذا انما يثبت الأمر النفسيّ في صورة تعلق الأمر الغيري بها ، لتوقف ذي المقدمة على الإتيان بها المتوقف على استحبابها فيكشف عن تعلق الأمر النفسيّ بها ، دون ما لم يتعلق الأمر الغيري بها ، لأنه لا يقتضي لزوم الاستحباب ، بل غاية ما يقتضي انه عند وجوبها والأمر بها لا بد وان يؤتى بها بنحو عبادي المتوقف على الاستحباب.

ولأجل ذلك وقع البحث من الأعلام في إثبات استحباب الطهارات النفسيّ في كل آن من الدليل الخارجي غير هذا الوجه.

والثمرة : انه لو ثبت استحبابها النفسيّ كان الإتيان بها قبل الوقت بداعي القربة ممكنا ، بخلاف الوجه الأول ، فانه انما يتكفل إثبات استحبابها النفسيّ بعد الوقت بالملازمة المذكورة.

وهذا البحث وان كان بحثا فقهيا لا يرتبط بالأصول ، إلا أنه يحسن التعرض إليه لمزيد الفائدة فيه وعدم تنقيحه كما ينبغي.

ولا بد قبل التعرض إلى هذا المطلب من التعرض إلى بحث آخر لم ينقح كما ينبغي ..

وهو معرفة كون الشك في اعتبار شيء في الطهارات الثلاث من جزء أو شرط مجرى للبراءة أو الاشتغال ، ويتفرع على ذلك تحقيق كون الطهارة امرا مسببا عن هذه الأفعال أو أنها عنوان لها.

وتحقيق ذلك : انه قد التزم بان الشك المذكور يكون مجرى للاشتغال لا البراءة

ص: 264

وذلك : لأن الأمر تعلق بالطهارة وهي امر بسيط ، وهذه الأفعال محققات ومحصلات للطهارة ، فيكون الشك في اعتبار جزء فيها شكا في المحصل ، والمقرر انه مجرى للاشتغال ، لأنه شك في تحقق الامتثال لا في التكليف.

وقد استشكل في هذا الوجه : بان الطهارة ليست امرا مغايرا لهذه الأفعال ، فانها عنوان لهذه الأفعال ، فوجودها عين وجود الأفعال. وعليه فيكون الشك في الحقيقة شكا في التكليف الزائد ، لأن الأمر متعلق بهذه الأفعال بعنوان كونها طهارة.

وهذا الوجه مما يشعر به كلام الفقيه الهمداني وحققه المحقق الأصفهاني وتابعة على ذلك السيد الخوئي (1).

ولتوضيحه نقول : ان الأمور الاعتبارية التي تتحقق بأمر من الأمور ..

تارة : تكون نسبتها إلى ما يحققها نسبة المسبّب إلى المسبّب ، فيكون لها وجود منحاز عن وجود سببها في عالم الاعتبار ، وتكون مغايرة له نظير الملكية بالنسبة إلى العقد ، فان الملكية غير العقد.

وأخرى : تكون نسبتها إلى المحقق نسبة العنوان إلى المعنون ، بحيث ينطبق الأمر الاعتباري على نفس محققه فلا تكون بينهما مغايرة وانفصال ، نظير التعظيم الحاصل بالقيام ، فان التعظيم من الأمور الاعتبارية التي تختلف باختلاف الأنظار. ومن الواضح انه ينطبق على نفس القيام ، فيقال للقيام انه تعظيم فليس التعظيم غير القيام وجودا.

إذا عرفت ذلك نقول : ان من يذهب إلى إجراء الاشتغال في الطهارات الثلاث ينظر إلى ان نسبة الأفعال إلى الطهارة نسبة السبب إلى المسبب ، نظير العقد والملكية الحاصلة به ، ومن يذهب إلى إجراء البراءة ينظر إلى ان نسبة

ص: 265


1- الغروي الميرزا علي. التنقيح في شرح العروة الوثقى3/ 515 - 517 - الطبعة الأولى.

الأفعال إلى الطهارة نسبة المعنون إلى عنوانه نظير القيام والتعظيم الحاصل به ، فلا بد ..

أولا : من معرفة ما هو الحق من كون نسبة الطهارة إلى الأفعال نسبة المسبب إلى السبب أو نسبة العنوان إلى المعنون ، وان الاحتمال الثاني هل يمكن تعلقه أو لا؟.

وثانيا : معرفة انه إذا التزم بكون النسبة بينهما نسبة العنوان إلى المعنون ، فهل يجدي ذلك في إجراء أصالة البراءة عند الشك كما ادعي أو لا يجدي؟ ، بل لا يختلف الحال في لزوم إجراء قاعدة الاشتغال على كلا التقديرين؟.

والّذي نراه هو عدم معقولية التقدير الثاني - أعني كون النسبة بينهما نسبة العنوان إلى المعنون - ، وعلى تقدير معقوليته فهو لا ينفع في إجراء أصالة البراءة.

اما عدم معقوليته : فلان كون النسبة نسبة العنوان إلى المعنون ترجع إلى اعتبار العنوان الاعتباري للفعل الخارجي عند تحققه ، يعني ان الفعل عند وجوده يعتبر كونه كذا كالقيام ، فانه عند وجوده يعتبر انه تعظيم ، فالتعظيم عنوان اعتباري للقيام الموجود. وبعبارة أخرى : العنوان يجعل ويعتبر بإزاء المعنون ، فلا بد ان يفرض المعنون موجودا كي يعنون بالعنوان اعتبارا. ومن الواضح انه ليس للوضوء وأخويه وجود استمراري كي يعتبر كونه طهارة مستمرا ، بل وجوده وقتي منقطع ، مع ان الطهارة أمر استمراري. فعليه نقول : ان اعتبار الطهارة في مرحلة البقاء اما ان يكون مع اعتبار وجود الأفعال ، فيعتبر كونها طهارة بعد ذلك. أو بدون ذلك ، بل لا يكون سوى اعتبار الطهارة.

والثاني غير معقول ، إذ لازمه اعتبار العنوان بدون معنونه ، إذ المفروض انه لا وجود للافعال بقاء لا حقيقة ولا اعتبارا ، فتكون الطهارة عنوانا لأمر معدوم وهو غير معقول ، إذ لا وجود للعنوان بدون المعنون لتقومه به.

ص: 266

والأول يستلزم ان يكون هناك اعتباران : أحدهما : اعتبار الأفعال وكون الإنسان غاسلا ماسحا. والآخر : اعتبار كون هذه الأفعال الاعتبارية طهارة.

من الواضح انه لو استطاع أحد ان يتفوه بهذا ، فهو لغو محض ، لأنه يتمكن من اعتبار الطهارة بنفسها من دون ملزم للاعتبار الثاني ، لكن لا على وجه تكون النسبة نسبة العنوان إلى المعنون ، بل نسبة المسبب إلى السبب ، فاعتبار وجود الوضوء بقاء لا أثر فيه كما هو واضح.

وبالجملة : الالتزام بكون نسبة الطهارة إلى الأفعال نسبة العنوان إلى المعنون مما لا يساعد عليه التأمل.

واما عدم تأثير الالتزام به في إجراء البراءة : فلان الأمر لم يتعلق بنفس الأفعال ، بل بالعنوان البسيط الاعتباري المنطبق عليها ، والأفعال تكون محققة لذلك العنوان البسيط المعلوم ، فالشك فيها شك في محصل المأمور به ، إذ يشك في تحقق الطهارة بدون الجزء المشكوك ، ولا يكون الشك شكا في التكليف كما تخيل. وعليه فقاعدة الاشتغال هي المحكمة فيما نحن فيه.

والمتحصل : انه لا بد من إجراء قاعدة الاشتغال سواء التزم بان النسبة بين الطهارة والأفعال نسبة السبب والمسبب أو نسبة العنوان والمعنون.

ثم ان هاهنا مذهب ثالث ، وهو ان الأمر لم يتعلق بالطهارة حتى يقع الكلام المتقدم ، بل هو متعلق بنفس الأفعال من الغسل والمسح. وعليه فمع الشك في اعتبار جزء أو شرط زائد يكون من دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فانه شك في تكليف زائد على المتيقن ، والمقرر ان ذلك مجرى أصل البراءة.

ولا يخفى ان هذا أيضا لا ينفع في إجراء البراءة لأنه لو سلم فما يثبت به هو تعلق الأمر النفسيّ الندبي بالافعال لا الأمر النفسيّ الوجوبيّ ، فانه لا يحتمل ذلك إلا في الغسل وهو احتمال ضعيف لا يلتزم به.

والّذي بنينا عليه في بحث البراءة هو عدم جريان البراءة في الأوامر

ص: 267

الاستحبابية ، فلا فائدة في إثبات تعلق الأمر بنفس الأفعال من هذه الجهة.

نعم هناك طريق آخر لإجراء البراءة - على هذا الالتزام - وهو إجراؤها في تقيد الواجب النفسيّ بها. بيان ذلك : انه إذ فرض أخذ نفس هذه الأفعال شرطا وكان تقيد الواجب بها معتبرا والتزم بجريان البراءة في مسألة الأقل والأكثر ، سواء كان المشكوك جزءا أو شرطا أمكن جريان البراءة عند اعتبار شيء في الوضوء زائد على الأجزاء والشرائط المعلومة ، وذلك فانه إذا التزم بجريان البراءة عند الشك في أصل الشرطية ، فلا بد من إجرائها مع الشك في اعتبار خصوصية في الشرط المعلوم ، لأن التقيد بما هو معلوم الجزئية والشرطية للشرط معلوم الوجوب ، والتقيد بالأكثر الزائد غير معلوم ، فتجري فيه أصالة البراءة لرجوع الشك في الحقيقة إلى الشك في الشرطية الزائدة وهو مجرى البراءة. ففيما نحن فيه حيث يعلم بوجوب التقيد بافعال الوضوء المعلومة الدخل فيه ، ولا يعلم بوجوب التقيد بالزائد المشكوك دخله كان ذلك مجرى البراءة.

ولا يخفى ان هذا الوجه انما ينفع في إجراء البراءة لو فرض ان الشرط نفس الأفعال لا الطهارة التي تتعنون بها الأفعال أو تكون مسببة عنها. واما إذا كان الشرط الّذي يعتبر التقيد به هو الطهارة ، فلا مجال لإجراء البراءة مع الشك في دخل شيء في الوضوء أو أحد أخويه ، لأن الشرط أمر بسيط ، وهو معلوم الشرطية ، والشك لا يرجع إلى دخالة شيء في نفس الشرط كي يكون الشك في الحقيقة شكا في اعتبار التقيد به ، بل يرجع إلى دخالة شيء فيما هو محقق ومحصل لهذا الشرط المعلوم ، ومعه لا تجري البراءة ، لأن الشك لا يكون شكا في تكليف زائد على ما هو المعلوم. فلاحظ.

وحيث انحصر طريق جريان البراءة عند الشك في دخالة شيء في هذه الأفعال الخاصة في الالتزام بكونها بذاتها شرطا للواجب النفسيّ ، وليس الشرط هو الطهارة ، فلا بد من معرفة الحق في هذا الأمر ..

ص: 268

وهو : وان كان ظاهر بعض الأدلة حيث ورد فيها الأمر بنفس الوضوء لأجل الصلاة كالآية الشريفة وهي قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ... ) الآية (1) ، وكبعض الأخبار الواردة عن أهل البيت علیهم السلام (2) ، إلاّ أنه يتعين رفع اليد عن ظاهرها والالتزام بكون الشرط هو الطهارة لمجموع وجوه :

الأول : ورود التعبير عن الحدث بنقض الوضوء ، ومن الواضح ان النقض لا يتلاءم الا مع الاستمرار ، والوضوء بذاته غير قابل للاستمرار ، فانه افعال خاصة تتحقق وتتصرم لا استمرار فيه ، فلا يناسبه اسناد النقض إليه حقيقة ، فلا بد ان يكون اسناد النقض إليه مسامحيا بلحاظ انتقاض أثره الاستمراري بالحدث وهو الطهارة ، فانها قابلة للنقض لاستمراريتها.

ودعوى : انه لا ينحصر أثر الوضوء المستمر القابل للنقض بالطهارة ، بل له أثر آخر هو جواز الدخول في الصلاة واستباحة الصلاة به ، وهو حكم اعتباري مستمر يمكن ان يكون النقض بلحاظه ، فلا دلالة للتعبير بالنقض على كون الشرط هو الطهارة.

تندفع : بأنها خلاف الظاهر ، فان الظاهر ان التعبير بالنقض لبيان عدم تحقق الشرط الّذي يترتب عليه جواز الدخول في الصلاة ، فالملحوظ في النقض مقام تحقق الشرط ليترتب عليه عدم جواز الدخول في العمل المشروط به لا نفس الحكم المترتب على تحقق الشرط ويشهد له ما جاء في بعض النصوص من بيان عدم جواز الدخول في الصلاة مرتبا على انتقاض الوضوء. فلاحظ.

ص: 269


1- سورة المائدة ، الآية : 6.
2- وسائل الشيعة 1 / 256. باب : 1 من أبواب الوضوء ، حديث : 4 و 7. وسائل الشيعة 1 / 256. باب : 2 من أبواب الوضوء ، حديث 1 و 2 و 4. وسائل الشيعة 1 / 256. باب : 3 من أبواب الوضوء ، حديث 2 و 3.

الثاني : التعبير عن الوضوء بالطهور الظاهر في كون جهة شرطيته هو ترتب الطهارة عليه. فتأمل.

الثالث : ما ورد من تعليل الأمر بالوضوء للصلاة بأنه مما يترتب عليه الطهارة.

الرابع : ما ورد من ان ثلث الصلاة الطهور ، فانه ظاهر في ان الشرط هو الوضوء ، ولكن لا بذاته ، بل بما انه مطهر ، فجهة ترتب الطهارة عليه ملحوظة في شرطيته.

الخامس : تسالم الفقهاء في تعبيراتهم عن شرط الصلاة بالطهارة ، فانه مؤيد لما استظهرناه من شرطية الطهارة.

وبالجملة : من مجموع هذه الوجوه - وان كان بعضها يقبل المناقشة - يحصل الجزم بان مفاد الأدلة شرطية الطهارة لا شرطية الوضوء بذاته.

وعلى هذا يمتنع إجراء أصالة البراءة في مورد الشك في اعتبار شيء في الوضوء.

وبعد هذا يقع الكلام في أصل المبحث وهو : معرفة تعلق الأمر النفسيّ الندبي بالوضوء وعدمه. فقد عرفت ان التفصي عن إشكال اعتبار قصد القربة في الطهارات الثلاث ينحصر في الالتزام بثبوت الأمر النفسيّ بها ، ولذا أورد على صاحب الكفاية بعدم تمامية ما ذكره بالنسبة إلى التيمم ، لعدم استحبابه النفسيّ. وقد عرفت الجواب عن هذا الإيراد المأخوذ من كلام الشيخ رحمه اللّه بان استحباب التيمم يستكشف من تعلق الأمر بالصلاة بضميمة الإجماع على توقف حصول الشرط على العبادية المتوقفة على تعلق الأمر النفسيّ بالعمل.

إلاّ ان المحقق العراقي حاول الإجابة على الإيراد المزبور ببيان : وجود الدليل الإثباتي على استحباب التيمم وهو قوله علیه السلام : « التراب

ص: 270

أحد الطهورين » (1) ، بضميمة ما دل على استحباب الطهر في نفسه ، فانه يقتضي استحباب التيمم (2). وتابعة على ذلك السيد الخوئي (3).

والإنصاف عدم تمامية ما ذكراه من الجواب لوجهين :

الأول : بان الأمر الّذي يبحث عن ثبوته وتعلقه بالتيمم وغيره غير الأمر بالطهارة ، وذلك لأن الأمر المبحوث عنه أمر تعبدي ، بمعنى ان الغرض منه لا يتحقق إلا بإتيان متعلقه بقصد القربة وبنحو العبادية ، فتصحح عبادية هذه الأفعال به. وأمر الطهارة أمر توصلي لا تعبدي ، فان الغرض منه يتحقق بمجرد تحقق متعلقه ولو لم يأت به بقصد القربة ، فان الطهارة إذا تحققت يمتثل الأمر المتعلق به ولو لم يقصد بها القربة. نعم نفس تحقق الطهارة لا يكون إلا بقصد القربة بالافعال المحققة لها ، وهذا أجنبي عن كون الأمر المتعلق بها عباديا ، فان الأمر العبادي ما توقف امتثاله على الإتيان بمتعلقه بقصد القربة لا ما توقف تحقق متعلقه على قصد القربة.

وعليه ، فإثبات تعلق الأمر الثابت لعموم الطهارة بالتيمم لأنه أحد افرادها ، لا ينفع فيما نحن بصدده وإثباته من تعلق الأمر التعبدي بالتيمم لا الأمر التوصلي ، وقد نبه على هذا المعنى - أعني توصلية الأمر المتعلق بالطهارة - الشيخ رحمه اللّه في طهارته ولذلك يستغرب وقوع مثل هذا الأمر من هذين العلمين ، وبالأخص المحقق العراقي لمزاولته كتاب الطهارة.

الثاني : ان مفاد قوله : « التراب أحد الطهورين » كون التيمم محققا للطهارة ، فاستحباب الطهارة لا يجدي في إثبات استحباب ذات الأفعال ، بل

ص: 271


1- عن أبي جعفر علیه السلام : « فان التيمم أحد الطهورين ». وسائل الشيعة 2 / 991 باب : 21 من أبواب التيمم حديث : 1.
2- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 380 - الطبعة الأولى.
3- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 298 - الطبعة الأولى.

غاية ما يقتضي تعلق الأمر الغيري بها كاقتضاء الأمر بالصلاة. والّذي نحن بصدده إثبات استحباب ذات الأفعال النفسيّ كي يصحح اعتبار العبادية فيها.

وبالجملة : الطهارة كسائر الغايات المترتبة على العمل لا يقتضي الأمر بها سوى ترشح الأمر الغيري على العمل ، وهو لا يجدي في العبادية ، والكلام في ثبوت الأمر النفسيّ بذات العمل الّذي يتوقف على قصد امتثاله تحقق الطهارة.

والمتحصل : ان ما ذكر لا ينهض دليلا على استحباب التيمم النفسيّ. ولا دليل عليه غير هذا.

واما الوضوء ، فقد ادعي استحبابه النفسيّ باستظهار ذلك من الأدلة ، وعمدتها ما ورد من ان : « الوضوء على الوضوء نور على نور » (1).

وجهة الاستدلال به واضحة ، فان التعبير عن الوضوء بأنه نور يكشف عن كونه محبوبا في ذاته.

ولكن يشكل الاستدلال بها لوجهين :

الأول : ان النص لم يرد في مقام تشريع الوضوء وبيان تعلق الأمر به ، وانما هو وارد لدفع توهم أنه في فرض مشروعية الوضوء يمنع تعدد الوضوء وتجديده. ومن الواضح ان توهم امتناع الوضوء التجديدي انما يتلاءم مع كون المشروع هو الطهارة ، والوضوء مقدمة إليه لا ذات الوضوء ، وذلك لأنه لو كان ذات الوضوء مأمورا به فلا مجال لتوهم امتناع التجديد ، لأنه فرد آخر من المأمور به غير الفرد الأول ، اما لو كان المأمور به هو الطهارة فللتوهم مجال ، لاحتمال ان تكون الطهارة كالنظافة الخارجية لا تقبل التجديد ، إذ النظيف لا يقبل النظافة ثانيا. فدفع بالنص المذكور ببيان : ان الطهارة ليست كالنظافة ، بل كالنور القابل للشدة ، فيمكن ان يتأكد بنور آخر ، فالتعبير بان الوضوء نور يلحظ فيه الطهارة

ص: 272


1- وسائل الشيعة 1 / 265 باب : 8 من أبواب الوضوء ، حديث : 8.

وما هو نتيجة الوضوء ، فلا دلالة له على مشروعية الوضوء في نفسه.

الثاني : لو سلم ظهور النص في استحباب الوضوء في ذاته ، إلا انه ترفع اليد عن هذا الظهور بما ورد من الأمر بالطهارة بذاتها ، وما ورد من الأمر بالوضوء لأجل الطهارة ، فانه مع ثبوت مثل ذلك لا يبقى ظهور ما ظاهره الأمر بذات الوضوء على حاله.

ويتأكد هذا بملاحظة الأمثلة العرفية ، فلو أمر المولى عبده بشرب دواء ثم أمره بشربه لأجل رفع الحمى ثم أمره برفع الحمى ، فان الأمر بشرب الدواء وان كان ظاهرا في الأمر بنفسه ، إلا أنه بملاحظة الأمرين الآخرين لا يبقى ظهوره على حاله.

فالمتحصل : انه لا دليل على استحباب الوضوء في نفسه ، والثابت في الأدلة استحباب الطهارة. وعليه ، فنقول : ان اكتفي في تحقق الطهارة الإتيان بالوضوء بقصد الكون على الطهارة بداعي القربة فهو وإلاّ كان الدليل الدال على استحباب الطهارة في كل وقت دالا على استحباب الوضوء أيضا كذلك ، إذ لا تتحقق الطهارة إلاّ بقصد القربة بذات الأفعال ، وهو كما عرفت يتوقف على استحبابها النفسيّ ، فاستحباب الطهارة يلازم استحباب الوضوء بذاته. هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

ويقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى : وهي :

التنبيه الثاني : الّذي ذكره صاحب الكفاية - في اعتبار قصد التوصل بها إلى ذيها في صحتها. فقد ادعي توقف صحتها وعباديتها على قصد التوصل بها إلى ذيها. ووجّه ذلك بأمور :

الأول : ان عبادية المقدمة لا تتحقق إلاّ بالإتيان بها بقصد التوصل إلى ذيها. وعليه فاعتبار قصد التوصل في الطهارات باعتبار توقف عباديتها على هذا

ص: 273

التوصل بها إلى ذيها ، ولا طريق تتحقق به العبادية غيره.

الثاني : ان الأفعال ذات عنوان قصدي راجح في ذاته ولا طريق إلى قصده إلا بقصد امتثال الأمر الغيري ، باعتبار انه يدعو إلى ما تعلق به ، فيكون العنوان مقصودا إجمالا ، وقد تقدم ان قصد امتثال الأمر الغيري لا يتصور إلاّ بقصد التوصل إلى الواجب وقصد امتثاله ، إذ بدونه لا داعوية للأمر الغيري.

الثالث : ان الأمر الغيري متعلق بالمقدمة بما هي مقدمة ، وبما ان متعلق التكليف هو الحصة الاختيارية دون غيرها ، فامتثال الأمر الغيري يتوقف على قصد المقدمة بما هي مقدمة ، لتحقق اختيارية المتعلق. ومن الواضح ان قصد المقدمية لا يكون إلاّ بقصد التوصل إلى ذي المقدمة وامتثال أمره.

وقد استشكل المحقق صاحب الكفاية في تصحيح قصد التوصل بهذا الوجه ، بناء على كون المصحح لاعتبار قصد القربة هو الأمر الغيري ، ووجه اشكاله : إنكار المقدمة الأولى ، وهي تعلق الأمر بالمقدمة بما انها مقدمة بدعوى : ان المقدمية جهة تعليلية ، والأمر متعلق بذات المقدمة ، لأنها هي التي يتوقف عليها الواجب لا عنوان المقدمة ، نعم العلة في تعلق الأمر بذات العمل كونه مقدمة للعمل الواجب النفسيّ.

وقد تقدم هذا المطلب من صاحب الكفاية (1).

وأورد عليه المحقق الأصفهاني : بان الجهات التعليلية تكون في الأحكام العقلية جهات تقييدية لموضوع أو متعلق الحكم ، فالحكم عقلا بوجوب شيء لأنه كذا يرجع إلى الحكم بوجوب عنوان العلّة. نعم يتصور التفكيك بين الجهة التعليلية والموضوع الّذي يرد عليه الحكم في الأحكام العرفية أو الشرعية ، وليس ما نحن فيه من هذا القبيل (2).

ص: 274


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /112- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 204 - الطبعة الأولى.

ولم يبين قدس سره الوجه في هذه الدعوى ، بل أوكله إلى ما تقرر في محله.

ولكن يرد عليه :

أولا : بان ما أفاده من رجوع الجهات التعليلية إلى التقييدية في الأحكام العقلية ليس من المسلمات في محله ، فقد ادعي خلافه ، ووجود الجهة التعليلية في الأحكام العقلية.

وثانيا : لو سلمت أصل الكبرى فانطباقها على ما نحن فيه محل منع وذلك :

أولا : لأنها تختص بالاحكام العقلية المرتبطة بباب الحسن والقبح - كما يقال ان مرجع حكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب إلى حكمه بحسن التأديب ، بل في الحقيقة يرجع الحكم بحسن التأديب إلى الحكم بحسن الإحسان وتشخيص كون التأديب إحسانا - ، أو بباب الاستحالة والإمكان - كما يقال ان مرجع حكم العقل باستحالة أخذ قصد الأمر في متعلق الأمر ، للزوم الدور إلى حكمه باستحالة الدور - ولم يثبت عمومها إلى مطلق الإدراكات والأحكام العقلية.

وثانيا : لو سلم عمومها لمطلق الأحكام العقلية ، فوجوب المقدمة من باب الملازمة ليس من الأحكام العقلية التي يفرضها العقل بطريق البرهان ، بل هي من الأمور الوجدانية التي يحسها بالوجدان والارتكاز كل أحد. وبعبارة أخرى : إرادة المقدمة عند إرادة ذيها من الأمور التكوينية التي يدركها الوجدان كما يدرك البصر المبصرات ، وليست من الأحكام العقلية النظرية أو العملية كما لا يخفى على المتأمل.

وعليه ، فلا طريق لنا إلى معرفة كون عنوان المقدمية مأخوذا بنحو الجهة التقييدية أو الجهة التعليلية إلا الوجدان ، وهو يحكم بالثاني ، لأنه يرى ان

ص: 275

الوجوب يطرأ على ذات العمل المقدمي لا على المقدمة بما هي كذلك ، فان الآمر الّذي يأمر بالمقدمة يرى انه يأمر بذات العمل كالدخول إلى السوق من دون ان يأخذ عنوان المقدمية في متعلق الأمر. فلاحظ.

كما يرد على كل من المحققين : انه لو سلمنا أصل الكبرى وانطباقها على ما نحن فيه ، فلا يلزم مع ذلك قصد التوصل بالمقدمة - كما هو ظاهر كلاميهما كما لا يخفى -. بيان ذلك : ان القصد يطلق ويراد به ..

تارة : ما يساوق الداعي والمحرك ، كما يقول من يأكل : « قصدي من الأكل الشبع » فان القصد هاهنا بمعنى الداعي.

وأخرى : يراد به إرادة العمل واختياره ووقوعه عن التفات في مقابل وقوعه عن غفلة ، كسائر الأفعال الاختيارية.

وافتراق المعنيين خارجا واضح ، فمثلا لو رمى شخص سهما وعلم بأنه يصيب شخصا فيقتله ، وكان رميه بداعي تجربة السهم. فانه من الواضح ان قتل الشخص واصابته يكون مقصودا للرامي ومرادا له ، لكنه ليس الداعي إلى الرمي ، بل داعيه هو تجربة السهم.

ولا يخفى ان المطلوب فيما نحن فيه هو القصد بمعنى الداعي ، يعني كون الداعي إلى الإتيان بالمقدمة هو التوصل إلى ذيها.

والوجه المذكور لا يفي بلزوم ذلك ، إذ غاية ما يتكفل - بعد الاعتراف بان المأمور به المقدمة بما هي مقدمة - هو الإتيان بها بما هي كذلك عن اختيار ، لأنها هي الحصة المأمور بها.

ومن الواضح ان هذا المعنى يتحقق بمجرد الالتفات إلى المقدمية والتوصل بالعمل إلى الواجب ، ولو كان الإتيان بالعمل لداع آخر غير التوصل ، فيصدق قصد التوصل بمعنى إرادته وإرادة الإتيان بما هو مقدمة ، وان لم يكن الإتيان بداع التوصل.

ص: 276

وعلى أي حال ، فهذه الوجوه غير مجدية في إثبات لزوم قصد التوصل بعد ان عرفت ان طريق العبادية ينحصر بالإلزام بتعلق الأمر النفسيّ بها ، ومعه لا يلزم قصد التوصل ، بل يكفي الإتيان بها بما انها محبوبة في أنفسها.

الجهة الثانية : في انه بعد الفراغ عن تعلق الأمر الاستحبابي النفسيّ بالطهارات ، فالإتيان بها بداعي الاستحباب قبل دخول وقت الصلاة الواجبة مما لا إشكال فيه ، وانما الإشكال في الإتيان بها كذلك بعد دخول وقت الصلاة وتعلق الأمر الغيري بها.

وقد ذكر المحقق النائيني : ان ذلك لا محذور فيه ويقع العمل صحيحا ، بتقريب : ان الأمر النفسيّ الاستحبابي وان اندك في الأمر النفسيّ الضمني المتعلق بها - بناء على ما ذهب إليه من ان الشرائط كالأجزاء تكون متعلقة للأمر الضمني النفسيّ - ، إلاّ ان المنعدم هو حدّ المرتبة الاستحبابية دون واقع الطلب والاستحباب ، فواقعه على ما هو عليه وان لم يبق بحدّه نظير اتصال خيطين أحدهما بالآخر ، فان واقع كل منهما موجود على حاله وانما المنعدم حدّ وجود كل منهما. وعليه فيمكن الإتيان بالعمل بقصد المحبوبية بواقعها لا بحدّها.

ثم أفاد : ان الاندكاك انما يتحقق بين الاستحباب والوجوب الضمني ، اما الوجوب الغيري فهو على حاله لا يتغير.

وأوضح ذلك ببيان : ان الوضوء ونحوه له بعد دخول وقت الواجب المشروط به جهات ثلاث :

الأولى : تعلق الطلب الاستحبابي النفسيّ به.

الثانية : تعلق الطلب الوجوبيّ النفسيّ الضمني به.

الثالثة : تعلق الطلب الغيري الوجوبيّ به.

ولا يخفى ان الاستحباب يندك في الوجوب الضمني ، فينشأ منهما حكم واحد ، واما الطلب الغيري فهو يبقى بحدّه لا يتبدل ، وذلك لأن الاندكاك

ص: 277

والتداخل انما يكون فيما لو كان كل من الحكمين واردا على موضوع واحد ، فيندك أحدهما بالآخر أو الضعيف بالقوي ، لأن في بقائهما بحديهما اجتماعا للمثلين أو الضدين في شيء واحد. اما لو اختلف موضوع كل من الحكمين فلا يتداخلان ، لعدم المحذور في بقائهما بحديهما.

وعليه ، فحيث ان متعلق الطلب الاستحبابي والطلب الضمني النفسيّ ذات الوضوء ، كانا واردين على موضوع واحد ، فيندك الاستحباب في الوجوب قهرا. اما الطلب الغيري ، فحيث ان موضوعه ليس ذات الوضوء ، بل موضوعه العمل المأتي به بقصد الأمر الاستحبابي أو الضمني ، كان في طول الأمر الأول ويتعدد موضوعهما فلا يتداخلان نظير الأمر المقدمي بصلاة الظهر المترشح من الأمر بصلاة العصر ، فانه في طول الأمر النفسيّ المتعلق بصلاة الظهر ، فلا يتبدل أحدهما بالآخر.

هذا ملخص ما أفاده (1) وينبغي التنبيه على موارد الكلام والبحث في ما أفاده من دون تحقيق الحال فيه ، بل نوكله إلى مجال آخر ، وهي جهات ثلاث :

الأولى : التعبير باندكاك الاستحباب في الوجوب الضمني ، فانه قد يكون مثار الإشكال على مبنى المحقق النائيني ، من انه لا فرق بين الوجوب والاستحباب من جهة واقع الطلب ، وكون الطلب الوجوبيّ والاستحبابي بحدّ واحد والاختلاف من ناحية أخرى ، وذلك لأن الاندكاك ظاهر في أضعفية المندك في المندك فيه ، وأقوائية الثاني من الأول ، بحيث يتغلب عليه فلا بد من معرفة صحة هذا المعنى من بطلانه.

الثانية : ما أفاده من كون الشرط موردا لأوامر ثلاثة أحدها الأمر الضمني المنحل من الأمر النفسيّ بالمشروط ، فقد أشرنا إلى الخدشة فيه ، وسيأتي

ص: 278


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 177 - الطبعة الأولى.

تحقيق الحال وبيان بطلان هذا المسلك في محل آخر إن شاء اللّه تعالى. فانتظر.

الثالثة : ما أفاده من كون الوجوب الغيري في طول الأمر الاستحبابي ، وعدم اندكاكه فيه. فانه مما يحتاج إلى تحقيق ، والّذي نراه حقا هو التفصيل بين ما إذا كان متعلق الأمر الغيري العمل المقيد بكونه بداعي الأمر بحيث تكون ذات المقيد متعلقا للأمر الغيري ، وما إذا لم يكن متعلقه كذلك ، بل ما يتعلق به الأمر الغيري هو نفس تقيد العمل بداعوية الأمر الأول ، من دون أن يؤخذ ذات العمل في موضوعه - نظير ما تقرب به الكراهة في العبادات من ان متعلق الأمر هو العمل ، ومتعلق الكراهة إيقاعه في المكان الخاصّ أو بالنحو المعين ، فمتعلق كل منهما غير متعلق الآخر - ، فيلتزم بحصول الاندكاك في الحالة الأولى دون الثانية وإثبات هذه الدعوى لها مجال آخر. فانها لا ترتبط بما نحن فيه ارتباطا كليا. فلاحظ.

الجهة الثالثة : إذا جاء المكلف بإحدى الطهارات الثلاث بقصد التوصل إلى بعض الغايات كالصلاة ، ثم لم يأت بالغاية ، فهل عدم تحقق الغاية خارجا يمنع من صحتها وعباديتها أو لا؟ قد يوجه عدم الصحة بعدم ترتيب الغاية بوجوه :

الأول : انه مع الالتزام بالمقدمة الموصلة ، بمعنى ان الواجب الغيري هو المقدمة الموصلة لا مطلق المقدمة ، يكشف عدم حصول الغاية عن عدم كون المأتي به مأمورا به واقعا - بل تخيلا -. وعليه فلا يكون مقربا لعدم الأمر به ، فقصده لا يكون موجبا لمقربية العمل.

الثاني : ان يلتزم بان العبادية لا تتحقق الا بإضافة العمل إلى المولى من الناحية التي هو مضاف بها إليه حقيقة وواقعا. وعليه فمع القول بالمقدمة الموصلة والالتزام باستحباب الطهارات ، لو قصد التوصل ولم يترتب الواجب لم يقع عبادة ، لأن الإضافة المقصودة غير ثابتة واقعا والإضافة الواقعية وهي إضافة

ص: 279

الاستحباب لم تقصد ، فلا يقع العمل عبادة لعدم قصد إضافته إلى المولى بالإضافة الواقعية. وهكذا لو لم نقل بالمقدمة الموصلة ، ولكن جاء بها قبل الوقت بتخيل دخوله وتعلق الأمر الغيري بها.

الثالث : انه بناء على كون الشرائط متعلقة للأمر الضمني ، وان عباديتها تتحقق بقصد امتثاله ، فإذا جاء بالعمل بداعي الأمر الضمني ، ولم يأت بالمشروط لم يكن العمل امتثالا لأمره الضمني ، لأن الأوامر الضمنية ارتباطية في مقام الامتثال ، فلا يتحقق امتثال أحدها بدون امتثال الآخر ، فيكشف عدم الإتيان بسائر الاجزاء والشرائط عن عدم كون الوضوء متعلقا للأمر الضمني.

هذا ، ولكن عرفت ان عبادية الطهارات لا تتحقق إلا بقصد الأمر الاستحبابي المتعلق بها. ومن الواضح انه مع قصده تكون صحيحة مطلقا جيء بالغاية أو لا ، لعدم تأتي أحد هذه الوجوه فيه. فلا مجال لهذا الكلام بناء على انحصار طريق العبادية بقصد الأمر النفسيّ ، فلاحظ وتدبّر واللّه ولي التوفيق.

ص: 280

« فصل »

اشارة

لا بد من إيقاع الكلام في جهتين :

الأولى : ان الوجوب الغيري هل يتعلق بمطلق المقدمة ، أو يختص بالمقدمة التي يقصد بها التوصل إلى ذيها؟.

الثانية : ان الوجوب الغيري هل يتعلق بخصوص المقدمة التي يترتب عليها الواجب ، فيكون عدم ترتبه كاشفا عن عدم وقوع المقدمة على صفة الوجوب ، وهي المعبر عنها بالمقدمة الموصلة. أو يتعلق بمطلق المقدمة ، ولو لم يترتب عليها الواجب؟. فالكلام في مقامين :

المقام الأول : في اعتبار قصد التوصل.

وقد نسب إلى الشيخ القول به ، وان المقدمة لا تكون واجبة ما لم يقصد بها التوصل إلى ذيها ، بمعنى ان الوجوب يتعلق بالمقدمة التي يقصد بها التوصل (1). كما وجه كلام صاحب المعالم (2) الظاهر في اعتبار التوصل قيدا للوجوب لا الواجب بما ذهب إليه الشيخ تصحيحا لكلامه.

ص: 281


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /72- الطبعة الأولى.
2- العاملي جمال الدين. معالم الدين في الأصول /74- الطبعة الأولى.

إذ يورد عليه : انه بعد البناء على وجوب المقدمة وترشح الوجوب الغيري من الوجوب النفسيّ ، لا إشكال في تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها إطلاقا واشتراطا ، لعدم انفكاك الوجوبين ، وهو أمر وجداني يحسه كل أحد. وعليه فإذا قيد وجوب المقدمة بإرادة ذيها ، فاما ان يقيد وجوب ذيها بإرادته أو لا يقيد ، بل يكون مطلقا من هذه الجهة ، فإذا قيد وجوب ذي المقدمة بإرادته - التزاما بعدم التفكيك - كان ممنوعا لاستحالة حصول الوجوب مع تعلق الإرادة بالعمل الّذي يراد البعث نحوه ، فانه تحصيل الحاصل. وإذا لم يقيد لزم انفكاك وجوب ذي المقدمة عن وجوب المقدمة وهو باطل كما عرفت.

لأجل ذلك صحح كلام صاحب المعالم أخذه قيدا للواجب ، فيكون وجوب المقدمة فعليا كوجوب ذيها بدون قصد التوصل.

وعلى أي حال : فيقع الكلام في اعتبار قصد التوصل قيدا للواجب بالوجوب الغيري وعدم اعتباره.

ولا بد قبل ذلك من معرفة ثمرة البحث ، إذ قد يدعى عدم الثمرة فيه ، إذ لا إشكال في انه لو أتى بالعمل المقدمي لا بداعي التوصل بل بداع آخر غيره يترتب الأثر عليه ولا يلزم إعادته ثانيا بقصد التوصل - حتى على القول باعتباره - ، فلو أمر بشراء اللحم ، فذهب إلى السوق بداعي رؤية زيد لا بداعي شراء اللحم ، فانه يصح منه بعد ذلك شراء اللحم ولا يلزمه الخروج من السوق ثم العود إليه بداعي التوصل. أذن فما فائدة اعتباره والبحث فيه؟. وقد تعرض في التقريرات (1) إلى بيان ثمرتين :

إحداهما : وهي تظهر في خصوص المقدمات العبادية ، بناء على انحصار طريق العبادية بقصد الأمر الغيري. وذلك ببيان : انه بناء على اعتبار قصد

ص: 282


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /72- 73 - الطبعة الأولى.

التوصل ولزوم الإتيان بالمقدمة عبادة بقصد امتثال الأمر الغيري ، لو لم يقصد التوصل بالمقدمة لم تقع على وجه العبادية ، إذ يمتنع قصد امتثال الأمر الغيري مع عدم قصد التوصل لكونه قيدا للمتعلق ، فقصد التوصل دخيل في تحقق العبادية لأن امتثال الأمر يتوقف على الإتيان بمتعلقه وهو لا يكون إلاّ بقصد التوصل.

وقد فرع على ذلك عدم صحة الصلاة إلى جهة واحدة فقط - في فرض لزوم الصلاة إلى الجهات الأربع - ، إذ لم يقصد بها التوصل إلى الواجب وهو الصلاة إلى الجهات الأربع.

وأنت خبير بان هذه الثمرة لا تترتب على المسلك الّذي اخترناه ، وهو كون عبادية المقدمات بتعلق الأمر النفسيّ بها وقصد امتثاله ، كما ذهب إليه صاحب الكفاية ، لأن الأمر النفسيّ لم يؤخذ في متعلقه قصد التوصل ، فيمكن قصد امتثال الأمر وتحقق العبادية بنفس العمل من دون قصد التوصل.

واما ما ذكره من التفريع فعجيب لوجهين :

الأول : ان الكلام فيما نحن فيه في مقدمة الوجود ، والصلاة إلى كل جهة مقدمة للعلم ، وهي ليست واجبة من باب الوجوب الغيري المقدمي ، بل من جهة حكم العقل من باب دفع الضرر المحتمل كما أشرنا إليه في أوائل المبحث ، فالمثال أجنبي عما نحن فيه بالمرّة.

الثاني : انه لو سلمنا كونها من باب مقدمة الوجود ، فعباديتها لا تنحصر في قصد امتثال أمرها الغيري كي يتوقف على قصد التوصل ، لأنها عبادة في نفسها. وما يدعى من لزوم قصد الأمر الغيري انما هو في ما لم تكن المقدمة بنفسها عبادية لا في مطلق المقدمات العبادية ، فانه من الواضح انه لا يعتبر في عبادية صلاة الظهر قصد التوصل بها إلى صلاة العصر ، فانها تصح ولو بني على عدم الإتيان بصلاة العصر مع انها مقدمة لصلاة العصر.

ص: 283

وبالجملة : لا ينحصر طريق العبادية في مطلق المقدمات بقصد الأمر الغيري ، بل ينحصر في المقدمات غير العبادية في أنفسها. فلاحظ.

الثانية : - وهي التي تعرض إليها في الكفاية (1) ، ولعله لم يتعرض للأولى لأجل ما ذكرناه - انه إذا كانت المقدمة مع قطع النّظر عن الوجوب الغيري محرمة في نفسها ، كالعبور في الأرض المغصوبة مقدمة لإنقاذ الغريق ، فانه بناء على القول بوجوب مطلق المقدمة يكون العبور في الأرض غير حرام ولو لم يقصد به التوصل إلى الواجب ، لأنه واجب مطلقا فترتفع الحرمة بوجوبه. واما بناء على القول بوجوب المقدمة التي يقصد بها التوصل ، فيكون العبور مع عدم قصد التوصل حراما ، لأنه ليس بواجب فلا حكم يزاحم الحرمة.

إذا اتضح ذلك ، فقد استدل على اعتبار قصد التوصل في معروض الوجوب الغيري بوجهين :

الوجه الأول : ما ذكره في التقريرات وذكره المحقق الأصفهاني ببعض تغيير : ان الوجوب الغيري متعلق بعنوان المقدمة دون ذوات الأعمال ، فليس هو متعلق بالمشي بذاته ، بل بما انه مقدمة ، فعنوان المقدمة مأخوذ في معروض الوجوب الغيري ، لما حقق من ان الجهات التعليلية تكون تقييدية في الأحكام العقلية ، فمرجع حكم العقل بحسن ضرب اليتيم للتأديب إلى حكمه بحسن التأديب ، وضرب اليتيم من مصاديقه فيكون محكوما بالحسن قهرا. وهكذا مرجع حكمه باستحالة أخذ الأمر في متعلقه للزوم الدور ، إلى حكمه باستحالة الدور وتطبيقه على المورد.

ثم انه قد تقرر أيضا ان متعلق الأمر هو الحصة الاختيارية ، إذ غير الاختيارية غير قابلة للبعث والدعوة. ومن الواضح ان الاختيار يتقوم بتحقق القصد إلى العمل إذ بدونه لا يكون اختياريا بل قهريا.

ص: 284


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /114- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وعليه ، فلا يتحقق الواجب الغيري إلا بالقصد إلى المقدمة وقصد المقدمية لا يفترق عن قصد التوصل حقيقة. فهذا الوجه يبتني على مقدمتين.

إحداهما : تعلق الوجوب الغيري بعنوان المقدمة.

والأخرى : توقف تحقق الواجب بما انه واجب على قصده ، فلا يتحقق الواجب الغيري إلا بقصد المقدمية ، وهو في الحقيقة قصد التوصل بها إلى ذيها.

الوجه الثاني : وهو وجه عرفي ، وهو انه لا ريب في إنّا نجد أن من يأتي بالمقدمة بدون قصد التوصل بها إلى ذيها ، بل بداع آخر ، لا يعدّ في العرف ممتثلا للوجوب الغيري وآتيا بمتعلقه ، مما يكشف عن كون معروضه هو المقدمة التي يقصد بها قصد التوصل (1).

بهذين الوجهين استدل في التقريرات على مدعاه ، ولكن قد عرفت ما في الوجه الأول بكلتا مقدمتيه ، فقد عرفت عدم تمامية الأولى وعدم إجراء الثانية ، إذ هي لا تستلزم القصد بمعنى الداعي فلا نعيد.

ثم ان المحقق النائيني قدس سره حكم بتشوش عبارة التقريرات ، وعدم ظهور المراد منها بوضوح وجلاء ، لذلك تصدى لبيان محتملات الكلام ، والبحث فيها ، فأفاد : انه ..

اما ان يكون المقصود هو اعتبار قصد التوصل في تحقق العبادية والامتثال بالمقدمة فهو حق ، وقد تقدم البحث فيه.

واما ان يكون المقصود هو اعتبار قصد التوصل في معروض الوجوب فهو ممنوع ، لعدم دخل قصد التوصل في مقدمية المقدمة فيستحيل تقيد الواجب به. ثم ذكر في تقريب اعتباره الوجه الأول بنحو الاختصار ، وأورد على المقدمة الأولى منه : بان جهة المقدمية جهة تعليلية لا تقييدية.

واما ان يكون نظره إلى اعتبار قصد التوصل في مقام المزاحمة ، بمعنى انه

ص: 285


1- كلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /72- الطبعة الأولى.

إذا كانت المقدمة في نفسها محرمة فلا تصير واجبة بالوجوب الغيري إلا بقصد التوصل. ببيان : ان المقدمة إذا كانت محرمة وتوقف عليها واجب فعلي - كتوقف إنقاذ الغريق على اجتياز أرض الغير بدون إذنه - ، فلا ترتفع حرمة المقدمة ما لم يؤت بها بقصد التوصل ، وكون المكلف في مقام امتثال الواجب ، وإلاّ كانت الحرمة على حالها باقية ، ولا مقتضي لرفع اليد عنها. فيرد عليه : ان المزاحمة انما هي بين وجوب ذي المقدمة الموقوف على المقدمة المحرمة وبين حرمتها ولو لم نقل بوجوب المقدمة أصلا ، فالتزاحم إنما هو بين واقع الإنقاذ والتصرف في الأرض المغصوبة مثلا ، وقصد التوصل أجنبي عن ذلك رأسا. نعم يترتب على ذلك خطاب تحريمي على نحو الترتب كما في تمام الخطابات المتزاحمة ، ويظهر ذلك عن قريب إن شاء اللّه تعالى. هذا محصل ما أفاده قدس سره (1).

ويقع البحث معه في ما ذكره من الاحتمال الثالث ، أعني اعتبار قصد التوصل في مقام المزاحمة وما أورده عليه. اما الاحتمالان الآخران فقد عرفت تحقيق البحث في الأول. واما الثاني فهو محل الكلام وستعرف ما هو الأقرب إلى الوجدان.

والكلام معه فيما أفاده في تقريب الاحتمال الثالث ودفعه من جهات :

الأولى : ما يظهر منه من تسليم كون المقام من باب المزاحمة. فقد تقدم في أول مبحث المقدمة انه مع الالتزام بوجوب المقدمة يكون المورد من موارد التعارض ، لتوارد الحكمين على موضوع واحد. نعم لو لم نقل بوجوب المقدمة تحقق التزاحم بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها.

الثانية : انه لو سلم كون المقام من موارد التزاحم ، فحكمه هو ارتفاع الحكم المهم وبقاء الحكم الأهم من دون دخل لقصد امتثال الأهم وعدمه ، فان

ص: 286


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 235 - الطبعة الأولى.

التزاحم بين ذات الحكمين ، فوجود أحدهما يرفع الآخر قصد امتثاله أو لم يقصد ، فتخصيص ارتفاع الحرمة بخصوص صورة قصد التوصل ما لا يعرف له وجه. وعليه فلا وجه لإقراره هذه الجهة والإيراد عليه من جهة أخرى.

الثالثة : فيما أورد على كلام التقريرات من ان باب التزاحم أجنبي عن وجوب المقدمة وقصد التوصل.

إذ فيه : ان كون باب التزاحم أجنبيا عن وجوب المقدمة وقصد التوصل ، لا ينافي دعوى اختصاص المزاحمة هنا بصورة قصد التوصل ، إذ يمكن ان يتصادق البابان الأجنبيان في مورد واحد ويرتبط أحدهما بالآخر في ذلك المورد وان انفصلا في أنفسهما وملاكاتهما ، فأجنبية أحدهما عن الآخر لا تمنع من انطباقهما على المورد الواحد. فتدبر.

الرابعة : فيما أشار إليه من وجود خطاب تحريمي على الترتب ، فانه غير وجيه ، فان الترتب بين المقدمة وذيها غير معقول ، فانه انما يرفع غائلة التزاحم لا غائلة التضاد. وتحقيق ذلك وتوضيحه يوكل إلى محلّه. وعليه فلا مكان للمناقشة فيه بالتطويل كما جاء في تعليقة التقريرات للسيد الخوئي ( حفظه اللّه ) (1).

ونعود بعد هذا إلى ما استدل به في التقريرات على مدعاه ، وقد عرفت الإشكال في الوجه الأول البرهاني.

واما الوجه الوجداني ، فهو بالمقدار الّذي ذكرناه لا يفي بالمطلوب ، ويمكن إيضاحه : بان نفس الوجه الّذي يقام دليلا على أصل وجوب المقدمة يقتضي تعلق الوجوب بخصوص المقدمة التي يقصد بها التوصل. وذلك فان ما يذكر دليلا على أصل الملازمة هو بناء العرف على وجوب المقدمة ، ويكشف عنه وجود بعض الأوامر العرفية بالمقدمة كما يقول المولى لعبده : « ادخل السوق

ص: 287


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 236 - الطبعة الأولى.

واشتر اللحم » ، ونحن نرى ان العرف يرى ان من يؤمر بالمقدمة هو من كان في مقام امتثال الأمر بذيها ، واما من ليس في مقام امتثال الأمر النفسيّ فلا يؤمر بالمقدمة بنظر العرف ، ويعدّ أمره بها لغوا محضا ، إذ الغرض منه تحصيل الواجب ، وهو غير متحقق كما هو الفرض ، ولا يرد النقض بصحة تكليف من يعلم بعصيانه ، إذ يمكن ان يكون تكليفه لإلقاء الحجة عليه فيترتب عليه عقابه ومؤاخذته ، وهذا غير متحقق بالنسبة إلى الأمر الغيري إذ لا عقاب على مخالفته ، فالأثر المصحح له ليس إلاّ تحصيل الواجب والمفروض انتفاؤه.

وعلى هذا فدعوى اعتبار قصد التوصل في الواجب الغيري قريبة.

واما ما أفاده صاحب الكفاية من منع اعتباره وعدم معقوليته بتقريب : ان ملاك الوجوب الغيري والغرض منه هو توقف الواجب على المقدمة ومقدميتها له. ومن الواضح ان هذا يتوفر في سائر المقدمات بلا دخل لقصد التوصل فيه أصلا ، فقصد التوصل غير دخيل فيما هو ملاك الوجوب الغيري ، ومما يكشف عن حصول الغرض من مطلق المقدمة ولو لم يقصد بها التوصل هو سقوط الوجوب الغيري مع الإتيان بالمقدمة من دون قصد التوصل بها إلى ذيها ، فلا يجب عليه الإتيان بها مرّة أخرى بقصد التوصل ، ولو لم يكن الغرض حاصلا بمجرد المقدمة من دون دخل قصد التوصل فيه لم يسقط الأمر الغيري لعدم حصول غرضه.

وبالجملة : فالمقتضي للوجوب الغيري وهو المقدمية موجود في مطلق المقدمات ، والمانع من تعلق الوجوب مفقود ، إذ المانع الّذي يتصور ليس إلاّ تعلق الحرمة بالعمل فيمنع من البعث إليه وهو غير مفروض هاهنا. ومن هنا يظهر عدم صحة النقض بسقوط الوجوب الغيري لو أتى بالفرد المحرم من المقدمة - فيما كان لها فردان - ، مع عدم تعلق الوجوب به ، فسقوط الوجوب لا يقتضي كونه مأمورا به. ووجه عدم الصحة هو : ان عدم تعلق الوجوب بالفرد المحرم لمانعية

ص: 288

الحرمة من وجوبه ، فالمقتضي وان كان موجودا إلا أن تأثيره يتوقف على عدم المانع وهو غير متحقق لوجود المانع. فتتلخص دعوى الكفاية : بان المقتضي للوجوب الغيري موجود والمانع مفقود فيتحقق المقتضى - بالفتح - وهو الوجوب (1).

ففيه :

أولا : النقض عليه بما لو التزم بان عنوان المقدمية مأخوذ في متعلق الوجوب الغيري الملازم - كما عرفت - لأخذ قصد التوصل في الواجب الغيري - بنظره ، إذ استشكاله انما كان في المقدمة الأولى لا الثانية - ، فانه مما لا إشكال فيه سقوط الوجوب لو أتى بالمقدمة من دون قصد التوصل ، وعدم لزوم الإتيان بها ثانيا ، مع انه يلتزم بكون الواجب هو المقدمة بقصد التوصل.

وثانيا : الحلّ ، بان المعلول لا يتحقق بمجرد وجود المقتضي وثبوت عدم المانع ، فان للعلة اجزاء أخرى كالشرط والمعدّ ، فلعل قصد التوصل يكون شرطا لتأثير المقتضي ، ولم يثبت بنحو جزمي عدم شرطيته وعدم دخل غير المقدمية في الواجب ، ومجرد احتمال الشرطية تكفي في دفع البرهان على عدم أخذ قصد التوصل في الواجب الغيري ، فان مراد صاحب الكفاية الاستدلال على عدم أخذه لا بيان عدم الدليل على أخذه. فالاحتمال يكفي في إبطاله ، وهو احتمال عقلائي ان لم يجزم به خصوصا بعد ما عرفت من تقريب الوجه العرفي فتدبر ولاحظ.

المقام الثاني : في اعتبار ترتب الواجب على المقدمة.

وقد اختاره في الفصول واستدل عليه بوجوه (2). وخالفه في ذلك صاحب

ص: 289


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /114- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الحائري الطهراني الشيخ محمد حسين. الفصول الغررية /86- الطبعة الأولى.

الكفاية ، فذهب إلى تعلق الوجوب الغيري بعموم المقدمة ترتب عليها الواجب - المعبر عنها بالمقدمة الموصلة - أو لم يترتب. واستدل على مختاره بوجوه أربعة :

الأول : ان الملاك والغرض من الوجوب الغيري متوفر في مطلق المقدمات من دون اختصاص له بصنف دون آخر ، وذلك لأن الغرض هو حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة ، وليس هو ترتب ذي المقدمة. وذلك لأن الغرض هو ما يترتب على الشيء من اثره. ومن الواضح ان الّذي يترتب على المقدمة من أثر هو حصول ما لولاه لما أمكن حصول ذي المقدمة ، اما ترتب الواجب - ذي المقدمة - فليس من الأمور التي يحصل بالمقدمة ، بل لا يحصل بمجموع المقدمات في غير المسببات التوليدية ، لتوقف حصول الواجب في الأفعال الاختيارية على إرادة المكلف له فلا يحصل بدون إرادته وان حصل جميع مقدماته. وعليه فلا يمكن ان يفرض ترتب الواجب غرضا من الوجوب الغيري كي يخصص الوجوب بخصوص ما يترتب عليه الغرض وهو المقدمة الموصلة. بل الغرض هو ما ذكر من كونه حصول ما بدونه لا يمكن ان يحصل ذو المقدمة. وبديهي ان هذا يترتب على مطلق المقدمات من دون اختصاص له بقسم خاص منها. وبما انه لا يعتبر في الواجب الا ما له دخل في غرضه كان الواجب الغيري هو مطلق المقدمة لاشتراك الجميع في الدخل في الغرض.

الثاني : انه بعد ان عرفت ان ترتب الواجب يختص بالمقدمة التوليدية ، لأنها التي يحصل بها المسبب من دون توسط إرادة الفاعل ، كحصول الإحراق بالإلقاء بالنار ، فلو فرض انه هو الغرض من الوجوب الغيري واختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة لزم إنكار وجوب المقدمة في مطلق الواجبات غير الواجبات التوليدية ، فيلتزم بوجوب العلة التامة فيها ، لعدم تخلف المعلول عنها ، اما غيرها فقد عرفت ان الواجب لا يحصل بمجموع المقدمات لتوسط الإرادة بعد ان كان الفعل اختياريا.

ص: 290

وقد يورد عليه : ان كل فعل لا بد وان يكون له علة تامة لا يتخلف عنها ، ضرورة ان الممكن لا يوجد بدون علة. وعليه فكما يلتزم في الواجبات التوليدية بوجوب علتها التامة ، كذلك يلتزم بوجوب العلة التامة في سائر الواجبات ، لعدم تخلف الواجب عنها فتكون مما يترتب عليها الغرض.

وفيه : ان وجود العلة التامة لكل واجب مسلّم لكن من اجزاء العلة التامة في الأفعال الاختيارية إرادة الفاعل الفعل. ومن الواضح ان الإرادة ليست من الأمور الإرادية الاختيارية - وإلا لزم التسلسل - ، فيمتنع ان يكون متعلقا للتكليف. وعليه فيمتنع تعلق التكليف بالعلة التامة لأن من اجزائها ما لا يقبل تعلق التكليف به ، وهذا بخلاف الأفعال التوليدية فان جميع اجزاء العلة التامة من الأفعال الاختيارية ، لعدم توسط الإرادة ، فيصح تعلق الوجوب الغيري بالعلة التامة في موردها.

الثالث : انه من الواضح ان الوجوب الغيري يسقط بمجرد الإتيان بالمقدمة بلا انتظار لترتب الواجب عليها ، فانه يكشف عن عدم اعتبار ترتب ذي المقدمة ، وإلاّ لما سقط الطلب بمجرد الإتيان بالمقدمة ، لعدم العلم بتحقق الواجب بمجرده.

الرابع : - وقد تخيل انه من الوجه الثالث لكن التحقيق انه وجه مستقل كما سيأتي بيانه - ان سقوط الأمر يكون بأحد أمور أربعة : الموافقة والمخالفة وارتفاع موضوع التكليف - كغرق الميت الرافع لموضوع التكليف بالتغسيل ، أو التكفين - وحصول الغرض من دون تعلق الأمر به لمانع ، كما يسقط الأمر التوصلي بفعل الغير للواجب أو بالفرد المحرم. ومن الواضح ان سقوط الأمر بالإتيان بالمقدمة ليس بالمخالفة ، كما انه ليس بارتفاع موضوع التكليف للإتيان بمتعلقه وليس من جهة حصول الغرض به من دون تعلق الأمر به ، لأنه لا مانع من تعلق الأمر به ، إذ المانع الّذي يتصور هو كونه حراما فعليا ، وليس ما نحن

ص: 291

فيه كذلك ، فإذا كانت المقدمة واجدة الملاك تعلق بها الأمر كما يتعلق بغيرها لعدم الفرق بينهما. فيتعين ان يكون السقوط من جهة الموافقة وهو المطلوب.

هذا توضيح ما جاء في الكفاية (1).

وقد استشكل المحقق الأصفهاني في الوجه الأول وذكر : انه لا يمكن ان يكون الغرض غير ما هو مسلك صاحب الفصول. ببيان : ان الغرض المفروض لا يخلو ..

اما ان يكون هو الملازمة بين عدم المقدمة وعدم إمكان ذيها ، التي عبر عنها صاحب الكفاية بما لولاه لما أمكن ذي المقدمة ، وقد عبّر عنها المحقق الأصفهاني بالمعنى السلبي التعليقي تارة وبالاستلزام العدمي أخرى (2).

واما ان يكون إمكان ذي المقدمة ذاتا ووقوعيا.

واما ان يكون التمكن من ذي المقدمة والقدرة عليه.

اما الأول : فهو ليس بأثر لوجود المقدمة ، بل هو لازم أثرها ، فان أثر المقدمة انما يكون امرا وجوديا لا عدميا.

واما الثاني : فإمكان ذي المقدمة مطلقا ، وكذلك التمكن عليه ، متحقق بإمكان المقدمة والتمكن عليها لا بوجودها ، فهما من آثار إمكان المقدمة والتمكن عليها لا من آثار وجودها.

ثم أخذ في تقريب مسلك صاحب الفصول (3).

والّذي يهمنا البحث عنه فعلا هو القسم السلبي من كلامه - أعني ما نفي به مسلك صاحب الكفاية - لا القسم الإيجابي - أعني الّذي أثبت به مسلك صاحب الفصول -. فنقول : انه يمكن ان يفرض كون الغرض هو التمكن من

ص: 292


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /115- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- لاحظ حاشيته على شرحه المقام ، قد أوضح الإشكال فيها جيدا. ( منه عفي عنه ).
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 205 - الطبعة الأولى.

ذي المقدمة ، ولكن لا بالمعنى الاصطلاحي الفلسفي للتمكن ، كي يرد عليه ما عرفت ، بل بمعنى عرفي وبيان ذلك : ان التمكن على الشيء ذي المقدمات يتصور عرفا على نحوين :

أحدهما : التمكن بالواسطة ، وذلك قبل الإتيان بمقدماته التي يتمكن على الإتيان بها ، فانه يقال عرفا انه يتمكن على ذي المقدمة ولكن بواسطة ، لأنه لا يستطيع إعمال إرادته في ذي المقدمة بلا واسطة.

ثانيهما : التمكن عليه بدون واسطة ، بحيث يستطيع إعمال إرادته فيه بلا واسطة ، كما لو جاء بالمقدمة فانه يتمكن من إعمال إرادته في ذيها بلا واسطة المقدمة.

وعليه ، فيمكن ان يدعى كون الغرض من المقدمة هو حصول التمكن على الواجب بالمعنى الثاني وهو التمكن بلا واسطة ، وهو يتوقف على وجود المقدمة لا على التمكن منها كما عرفت.

وبالجملة : إمكان كون الغرض هو التمكن من ذي المقدمة بالمعنى الّذي ذكرناه ثابت لكن لا يتعين ذلك الا بنفي إمكان كون الغرض هو ترتب ذي المقدمة أو ما يلازمه ، وإلاّ احتاج ترجيح أحدهما على الآخر إلى دليل إثباتي. فالتفت.

واما الوجه الثاني : فقد عرفت الاستشكال فيه : بان كل واجب ممكن ، فلا يوجد الا بوجود علته التامة ، فالعلة التامة في كل واجب توليدي أو غيره مما يترتب عليها الواجب ، فتكون واجبة ، ولا يختص الوجوب الغيري بالأسباب التوليدية. كما عرفت ما أجاب صاحب الكفاية من ان الإرادة من اجزاء العلة التامة في الواجبات الاختيارية الإرادية ، وهي غير قابلة لتعلق التكليف بها ، لأنها ليست بالاختيار لاستلزام ذلك التسلسل.

وهذا الجواب مخدوش لوجهين :

ص: 293

الأول : ان المتقرر في محله - كما سيجيء في مبحث التجري - ان الإرادة لا يمتنع ان تكون بالاختيار ، وانما الّذي يمتنع هو تقوم الإرادة بالإرادة والاختيار ، فانه مما يستلزم التسلسل. وبعبارة أخرى : انه لا يجب ان تكون الإرادة بالإرادة للزوم التسلسل ، لا انه لا يمكن ان تنشأ الإرادة عن إرادة غيرها ، فانه لا محذور فيه ، بل وقوعه يشهد له الوجدان ، كما يتضح بملاحظة بعض الأمثلة العرفية. وعليه فلا يمتنع تعلق التكليف بالإرادة لأنها يمكن ان تكون اختيارية قابلة للبعث.

الثاني : انه لو تنزلنا وسلمنا امتناع اختيارية الإرادة مطلقا وامتناع تعلق البعث بها لأجل ذلك ، فهو لا يرتبط بما نحن فيه من فرض تعلق الوجوب الغيري بها ، لأن الوجوب الغيري الّذي يفرض ثبوته وتعلقه بالمقدمة ليس حكما مجعولا متكفلا للبعث على حد سائر الوجوبات ، وانما عبارة عن شوق نفساني يتعلق بالمقدمة بتبع تعلق الشوق بذيها ، فحقيقة الوجوب الغيري ليست إلاّ شوقا مترشحا عن الشوق النفسيّ المتعلق بذي المقدمة. ومن الواضح ان متعلق الشوق لا يعتبر فيه ان يكون اختياريا ، فكثيرا ما يتعلق الشوق بأمر غير اختياري ، ولا وجه لاعتبار كونه اختياريا كما لا يخفى.

فعليه ، لا مانع من تعلق الوجوب الغيري بالإرادة ، اما لأجل كونها اختيارية ، أو لأجل عدم اعتبار الاختيار في متعلق الوجوب الغيري.

واما الوجه الثالث : - ويتبعه الوجه الرابع ، لأنهما بملاك واحد ، ولذا تخيل وحدتهما وكونهما وجها واحدا لا وجهين - فيمكن دفعه : بان سقوط الأمر الغيري بالمقدمة عند الإتيان بها لا يكشف عن تعلق الأمر الغيري بذاتها ، فانه يمكن ان يكون من قبيل سقوط الأمر بالجزء عند الإتيان به ، مع انه لا يقطع بفراغ الذّمّة الا عند الإتيان بجميع اجزاء المركب الارتباطي ، فمع عدم الإتيان بها تبقى الذّمّة مشغولة. فالإتيان بالجزء مسقط لأمره - إذ لا يجب الإتيان به فعلا

ص: 294

ثانيا - ، لكن سقوطه مراعى بالإتيان بباقي الاجزاء وبدونه لا يستقر السقوط. وعليه فما نحن فيه يمكن ان يكون من هذا القبيل ، فان الأمر الغيري وان كان يسقط بمجرد الإتيان بالمقدمة ، لكنه سقوط مراعى بالإيصال وترتب الواجب ، وبدونه يلزم الإتيان بها ثانيا.

والّذي يتحصل من مجموع ما ذكرنا : ان ما ذكره صاحب الكفاية من الإشكالات على القول بوجوب المقدمة الموصلة والمحاذير فيه غير تام في نفسه ، سوى الإشكال الأول الّذي يبتني على أخذ الغرض هو التمكن لا فعلية الترتب. ولا يخفى انه ليس بمحذور ثبوتي في القول بالمقدمة الموصلة فالقول بالمقدمة الموصلة ممكن في نفسه ، وانما الالتزام به أو بعدمه ينظر فيه ما تقتضيه الوجوه الإثباتية.

لكن المحقق النائيني قدس سره ذهب إلى استحالة الالتزام بوجوب خصوص المقدمة الموصلة ، لأنه يستلزم محاذير ثلاثة. وبيان ذلك - كما جاء في أجود التقريرات - : ان الإيصال المعتبر ليس من الصفات الخارجية التي تتنوع باعتبارها المقدمة وتنقسم إلى قسمين ، نظير الكفر والإيمان في الإنسان ، وانما هو من الصفات الانتزاعية المنتزعة عن الإتيان بذي المقدمة ، فإذا أخذ هذا القيد الانتزاعي المتوقف تحققه على الإتيان بذي المقدمة في الواجب المقدمي لزم :

أولا : ان يكون الواجب النفسيّ مقدمة للمقدمة لتوقف تحقق الإيصال على تحققه ، وهو باطل لاستلزامه الدور ، لأن الواجب النفسيّ يتوقف على تحقق المقدمة ، فإذا كان مقدمة لها كان تحققها منوطا بتحققه فيلزم الدور.

وثانيا : ان يكون الواجب النفسيّ واجبا بوجوب ناشئ من المقدمة ، لأنه يكون مقدمة لما هو واجب كما تقرر في الوجه الأول ، وهو باطل أيضا لمحذور الدور ، فان وجوب المقدمة انما يترشح من وجوب ذيها ، فهو معلول لوجوبه ، فإذا كان وجوب ذيها معلولا لوجوبها لزم الدور.

ص: 295

وثالثا : ان تكون ذات المقدمة مقدمة للمقدمة وهو يستلزم الخلف أو التسلسل.

اما لزوم كونه مقدمة للمقدمة الواجبة : فلان المقدمة الواجبة على الفرض هي الذات بقيد الإيصال ، فكل من الذات والتقيد بالإيصال جزء المقدمة ، وجزء الشيء مقدمة له لتوقفه عليه ، فذات المقدمة مقدمة للمقدمة الموصلة.

واما لزوم الخلف أو التسلسل : فلأنه إذا كانت ذات المقدمة مقدمة للمقدمة وللواجب الغيري ، ترشح عليها الوجوب قهرا. وحينئذ نقول : ان الوجوب الآخر اما ان يتعلق بذات المقدمة من دون اعتبار الإيصال ، فهو خلف المدعى من اعتبار قيد الإيصال في الواجب الغيري وكرّ على ما فرّ منه ، واما ان يتعلق بالمقدمة الموصلة ، فهو يستلزم ان تكون ذات المقدمة مقدمة للمقدمة الموصلة إلى المقدمة الموصلة ، فيترشح عليها الوجوب الغيري ، وحينئذ اما ان يتعلق بها بذاتها فقط وهو خلف. أو بقيد الإيصال فيلزم ان تكون ذاتها مقدمة وهكذا يستمر هذا الكلام في الذات إلى غير نهاية.

والإنصاف ان هذه المحاذير الثلاثة غير تامة :

اما الأول : فلان قيد الإيصال لم يؤخذ مقوما للمقدمية ، وانما أخذ مقوما للواجب الغيري ، اما المقدمة فهي ذات العمل ، وعليه فلا دور ، لأن ما يتوقف على الواجب النفسيّ هو الواجب الغيري بما هو كذلك لا المقدمة ، وما يتوقف عليه الواجب النفسيّ هو ذات العمل بلا حيثية وجوبه الغيري.

واما الثاني : فلان الوجوب المترشح من قبل الواجب الغيري على الواجب النفسيّ غير الوجوب الّذي يترشح منه الوجوب الغيري ، فان ما يترشح منه الوجوب الغيري هو الوجوب النفسيّ المتعلق بذي المقدمة. وأما ما يترشح من الواجب الغيري فهو وجوب غيري ، وهو غير الوجوب النفسيّ فلا دور. غاية الأمر أنه يلزم أن يترشح من قبل الوجوب النفسيّ وجوب غيري

ص: 296

يتعلق بما تعلق به ، وهو لا محذور فيه.

واما الثالث : فلان ذات المقدمة وان كانت مقدمة للمقدمة بقيد الإيصال ، باعتبار أنها جزؤها ، ولكنها مقدمة داخلية ، وقد تقدم أنها غير قابلة لتعلق الوجوب الغيري بها حتى بنحو التأكد ، فلا يتأتى فيها الكلام السابق لعدم موضوعه.

هذا مضافا إلى أنّه يمكن أن يدّعى : كون الواجب الغيري بنحو يلازم الإيصال وترتب الواجب ، لا بأن يؤخذ الإيصال قيدا في الواجب ، ومعه ترتفع جميع هذه المحاذير ، لكونها مبتنية على أخذ قصد الإيصال بعنوانه في الواجب الغيري. فلاحظ.

والمتحصل : هو عدم تمامية ما أفاده المحقق النائيني من المحاذير.

وتحقيق الكلام : ان البحث يقع في مقامين :

الأول : في بيان معقولية القول بالمقدمة الموصلة وإمكانه.

الثاني : - بعد الفراغ عن معقوليته - في بيان الدليل عليه إثباتا ، فإن مجرد المعقولية لا يكفي في الالتزام به بعد فرض معقولية القول الآخر. ومجرد دعوى اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة لا يغني ولا يسمن من جوع.

اما المقام الأول ، فتحقيقه : انّه لا بدّ من ذكر بعض احتمالات القول بالمقدمة الموصلة. وبيان ما يدور حولها من كلام. فنقول : انه قد استقرب كون الواجب الغيري متعلقا بخصوص العلّة التامّة التي يترتب عليها الواجب قهرا ، فلا بدّ من النّظر إلى ما ذكر من المحاذير المتقدمة ، وبيان التفصّي عنها ان أمكن. وهي سبعة ، أربعة ذكرها صاحب الكفاية (1) ، وثلاثة ذكرها المحقق النائيني (2).

فاما ما ذكره صاحب الكفاية.

ص: 297


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /116- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 237 - الطبعة الأولى.

فالأوّل منها : لا يرتبط بالمرّة مع القول المزبور ، وذلك لأن حاصله هو : ان الغرض من الوجوب لو كان هو الترتب ، فهو ممّا لا يتحقق بمجموع المقدمات فضلا عن كلّ واحد منها.

ومن الواضح ان موضوع هذا الإيراد هو دعوى تعلق الوجوب بكلّ مقدمة ، فتنفى بان كلّ مقدّمة ممّا لا يترتب عليها الغرض ، وهذا أجنبي عن القول المزبور ، فان دعواه تعلق الوجوب بالعلّة التامّة لا بكلّ مقدّمة ، فالإيراد أجنبي موضوعا عن هذا القول.

وامّا الثاني : فحاصله دعوى اختصاص الوجوب الغيري بالأسباب التوليدية - لو قيل بالمقدّمة الموصلة - ، ولا يتعلق بالعلّة التامّة في غير المسببات التوليدية ، لأنّ أحد اجزائها هو الإرادة ، وهي غير قابلة لتعلق التكليف بها.

وهذا يرتبط بالقول المزبور ، لأنّه قول بتعلق الوجوب بالعلّة التامّة ، وصاحب الكفاية بوجهه الثاني ينفيه ، ويدّعي اختصاصه بالسبب التوليدي ، ولكنك عرفت الخدشة فيه :

أوّلا : بان الإرادة قابلة لتعلق التكليف بها ، لإمكان كونها إرادية ، والممتنع برهانا هو لزوم كونها إرادية.

وثانيا : بان الوجوب الغيري قابل لتعلقه بالإرادة وان كانت غير اختيارية ، لأنّه ليس عبارة عن بعث وانّما هو عبارة عن شوق نفسي. ومن الواضح إمكان تعلق الشوق النفسيّ بالأمر غير الاختياري.

ولو تنزلنا عن ذلك وقلنا بعدم اختيارية الإرادة مطلقا ، وعدم صحة تعلق الوجوب الغيري بها. فهذا لا يمنع من القول بالمقدّمة الموصلة بهذا المعنى ، وذلك بان يلتزم بان متعلق الوجوب هو سائر المقدمات غير الإرادة ، نظير ما يقال في قصد القربة. فان وجود المانع من تعلق التكليف بقصد القربة لا يمنع من تعلق التكليف بغيرها ممّا هو دخيل في الغرض. فالوجوب الغيري متعلق بغير الإرادة

ص: 298

من المقدمات ، وعدم تعلقه بالإرادة لمانع عدم القدرة وان كانت دخيلة في الغرض.

وهذا وان لم يكن قولا بتعلق الوجوب بالعلّة التامّة لكنه حكما مثله فتدبر.

وامّا الثالث والرابع : فحاصلهما هو سقوط الوجوب الغيري عند الإتيان بالمقدّمة الكاشف عن تعلقه بها من دون اعتبار الإيصال. ولا يخفى أنّه ينافى الالتزام بوجوب خصوص العلّة التامّة.

لكنك عرفت الإشكال فيه.

وبيانه : أنّه كما أنّه إذا أتى بجزء المأمور به الارتباطي يسقط الأمر الضمني المتعلق بالجزء ، ولكنّه مراعى بالإتيان بسائر الاجزاء ، لأنّ سقوطه من دون مراعاة ينافي الارتباطية والأمر الضمني ، والسّر فيه ان الأمر الضمني له جانبان ، جانب الداعوية وجانب الامتثال وسقوطه بالموافقة ، فعند الإتيان بالجزء تنتفي داعوية الأمر الضمني ، ولكنه لا يسقط بمجرد ذلك ، بل امتثاله يتوقف على الإتيان بباقي الاجزاء المرتبطة به ، كذلك ما نحن فيه ، فانّه إذا فرض وجوب العلّة التامّة كانت كلّ مقدّمة واجبة بالوجوب الضمني لأنّها جزء الواجب ، فعند الإتيان بها ترتفع داعوية الأمر الضمني ، ولكنّه لا يسقط إلاّ بالإتيان بسائر اجزاء العلّة التامّة الملازم لترتب الواجب.

وامّا ما ذكره المحقق النائيني ، فقد عرفت الإشكال في كلّ واحد بنفسه. فلا ترد على هذا القول ، كما عرفت أنّها جميعها تبتني على أخذ قيد الإيصال بعنوانه في الواجب الغيري ، وهذا القول لا يتكفل ذلك ، فان واقعه تعلق الوجوب بذات العلّة التامّة ، من دون أخذ قيد الإيصال ، نعم هي ملازمة للإيصال لكنّه لا يترتب على ذلك آثاره ومحاذيره. فلاحظ.

وإذا ظهر انّ القول بالمقدّمة الموصلة بهذا المعنى معقول في نفسه ، فيقع الكلام في ..

ص: 299

المقام الثاني - أعني مرحلة الإثبات - :

وقد نسب صاحب الفصول الاستدلال على دعواه ، وهي اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة ، بأنه الإشكال في صحة منع المولى عن جميع مقدّمات الواجب غير التي يترتب عليها الواجب ، فيصرح بتحريم المقدّمة غير الموصلة ، فانّه يكشف عن عدم تعلق الوجوب بها ، وإلاّ لامتنع عنها ، فانّه من باب اجتماع المتضادين (1).

وأورد عليه صاحب الكفاية بوجهين :

الأول : وهو يتكفل منع دلالته على المدعى. وذلك ببيان : انّ الملازمة المدعاة لا تكون علّة تامة لتعلق الوجوب الغيري بالمقدّمة ، وانّما هي مؤثرة بنحو الاقتضاء ، وفعلية تأثيرها تتوقف على عدم وجود المانع ، فإذا كان هناك مانع من تعلق الوجوب الغيري كتعلق الحرمة بالمقدّمة ، فلا يثبت الوجوب لها ، فمانعية المنع لا تكشف عن اختصاص الوجوب الغيري بالموصلة ، إذ تعلق الوجوب بغيرها يمكن أن يكون لأجل وجود المانع لا لعدم المقتضي.

الثاني : وهو يتكفل نفي الاستدلال وبيان عدم إمكان المنع عن المقدّمة غير الموصلة لزوم المحذور من جهتين :

الأولى : انّه يلزم أن لا تتحقق مخالفة للواجب في تركه ، وذلك لأنّ وجوب الواجب معلق على القدرة عليه ، والقدرة عليه بالقدرة على مقدماته. ومن الواضح أنّه كما تعتبر القدرة على المقدمات عقلا تعتبر القدرة عليها شرعا ، بأنّ لا تكون ممنوعا عنها ومحرمة شرعا ، وإلاّ كانت غير مقدورة ، فإذا فرض المنع عن المقدّمة غير الموصلة واختصاص الجواز بالموصلة ، كان تحقق القدرة على المقدّمة شرعا منوطا بإتيان الواجب ، فمع عدم الإتيان به كانت المقدّمة محرمة لأنّها غير موصلة ،

ص: 300


1- الحائري الشيخ محمد حسين. الفصول الغروية /87- الطبعة الأولى.

فكان غير مقدور فيسقط وجوبه ، فلا يكون تركه مخالفة.

الثانية : انّه إذا فرض كون ثبوت القدرة على المقدّمة منوطا بصورة الإتيان الواجب ، فتكون القدرة عليه منوطة بالإتيان به فيكون وجوبه مختصا بصورة الإتيان به ، وهو محال لأنّه من طلب الحاصل (1).

أقول : ورود الإيراد الأول يبتني على كون نظر صاحب الفصول في كلامه إلى الاستدلال على وجوب خصوص المقدّمة الموصلة دون غيرها ، فانّه يورد عليه بان ما ذكر لا دلالة له على ذلك ، وهذا المعنى هو الّذي فهمه صاحب الكفاية وتابعة المحقق النائيني (2) ، فحملا كلام الفصول على الاستدلال.

امّا لو كان نظره - كما فهمه المحقق الأصفهاني (3) - إلى نفي محالية القول بالمقدّمة الموصلة في قبال من ادعى محاليته ووجود المحاذير فيه. فالإيراد بعيد عن محط نظر المدعي ، إذ كلام الفصول يتضمن إمكان اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة كالفرض الّذي ذكره ، والإيراد لا يتكفل منع صحة الفرض ، بل غاية ما يتكفل منع دلالة الفرض على الاختصاص ، وهو غير ملحوظ في الاستشهاد بالفرض إذ الملحوظ فيه دلالته على إمكان الاختصاص لا ثبوت الاختصاص.

نعم الإيراد الثاني موجه ، فانّه يتكفل منع الفرض.

ولكن أورد عليه المحقق النائيني ان جواز المقدّمة غير مشروط بالإيصال ، ليتوقف تحققه على تحقق الإيصال خارجا ، بل المتوقف عليه انّما هو تحقق ما هو جائر شرعا ، إذ المفروض ان الإيصال قيد للواجب لا للوجوب ، وبما انّ المقدّمة الخاصة وهي الموصلة مقدورة للمكلف ، للقدرة على إيجاد قيده وهو الإيصال ، والمفروض جوازها شرعا ، فهو يكفي في تحقق القدرة على الواجب ، لكفاية جواز

ص: 301


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /120- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 237 - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 209 - الطبعة الأولى.

المقدّمة في الجملة فيها ، وعليه فلا يلزم ان لا يكون ترك الواجب مخالفة وعصيانا (1).

وما ذكره من ان الإيصال ليس قيدا للجواز بل هو قيد لتحقق الجائز ، نظير أجزاء الصلاة ، فانّ كلا منها واجب بالوجوب الضمني ولو لم يأت بالآخر ، إلاّ أن اتصاف المأتي به بالوجوب يتوقف على الإتيان بغيره.

وقد يوجه كلام صاحب الكفاية ويدفع كلام النائيني بوجهين :

الوجه الأول : ان الجواز والمنع لما كانا واردين على ذات واحدة ، وهي ذات المقدّمة ولكن أخذ في المنع عدم الإيصال كما أخذ في الجواز الإيصال ، كان ذلك ملازم قهرا لتقييد أصل الجواز بالإيصال ، وذلك لأنّه عند تحقق المقدّمة وقبل تحقق الإيصال لا تكون المقدّمة متصفة فعلا بالجواز ولا بالمنع ، فإذا تحقق الإيصال اتصفت بالجواز. ومن الواضح ان تحقق الإيصال لا يلازم تحقق خصوصية تكوينية منوعة للمقدّمة ، كما لا يكشف عن وجود خصوصية يكون الفعل بها متصفا بالجواز ، فيكون الإيصال كاشفا عن سبق ثبوت الجواز للفعل ، إذن لا تأثير له في الفعل إلاّ اتصافه بالجواز ، فالفعل الجائز بما أنّه جائز لا يكون إلاّ بالإيصال فللمكلف ان لا يأتي بالفعل الواجب ، فلا تتحقق المقدّمة الجائزة فيتحقق الجواز باختيار المكلف ، وليس هناك حصة جائزة منحازة عن الحصة الممنوعة.

الوجه الثاني : ان الجواز الثابت هنا ليس هو الجواز بمعنى الإباحة ، بل الجواز بالمعنى الأعم - أعني عدم المنع - ، وهو ليس بحكم مجعول كي يعلق على شرط أو يتعلق بحصة خاصة ، وانّما المجعول ليس إلاّ المنع ، وهو متعلق بالمقدّمة بقيد عدم الإيصال. وعليه فإذا تحقق الإيصال كان رافعا للمنع ومانعا

ص: 302


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 240 - الطبعة الأولى.

منه ، فعدم المنع انما يتحقق بالمانع عن المنع ، وهو الإيصال. وعليه فيكون الجواز - وهو عدم المنع - مشروطا بالإيصال ، إذ مع عدم الإيصال يثبت المنع لثبوت قيده. فلاحظ.

والحقّ ان إيراد. المحقق النائيني وارد ، وكلا الوجهين مخدوشان :

امّا الأول : فلأنّ الجواز متعلق بالحصة المقيّدة ، أعني المقدّمة بقيد الإيصال ، بحيث كان قيد الإيصال قيدا للمتعلق لا الحكم. وعليه فقبل تحقق الإيصال لم يثبت متعلق الحكم ، لعدم حصول جزئه الآخر وهو التقيد ، فليس الإيصال دخيلا في الاتصاف بالجواز ، بل دخيل في تحقق متعلق الجواز ومصداق ما هو الجائز ، فانّه محقق لخصوصية التقيد المأخوذة في المتعلق ، فالجواز ثابت من أول الأمر على الحصّة المقيّدة كما أفاد المحقق النائيني ، نظير اجزاء الصلاة كما عرفت.

وعليه ، فالواجب مقدور عليه للقدرة على مقدّمته فتركه يكون مخالفة ، كما أن وجوبه لا يكون معلقا على الإتيان به كي يكون من طلب الحاصل المحال.

وامّا الثاني : فلأنّ المنع إذا كان متعلقا بالمقدّمة المقيّدة بعدم الإيصال ، كان عدمه قهرا متعلقا بالمقدّمة بقيد الإيصال ، فيكون الإيصال دخيلا في تحقيق الخصوصية المأخوذة في متعلق عدم المنع ، وثبوت الجزء الآخر لغير الممنوع وهو التقيد بالإيصال. لا دخيلا في ثبوت عدم المنع كي يجيء ما تقدم.

وعليه ، فيكون الواجب مقدورا للقدرة على مقدّمته ، فلا يكون وجوبه معلقا على الإتيان به ، فيكون تركه مخالفة وعصيانا كما لا يكون من طلب الحاصل.

وخلاصة الكلام : ان الإيراد الثاني على صاحب الفصول غير صحيح.

وامّا الأول فهو انّما يمنع الاستدلال على ثبوت اختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة لا الاستدلال على إمكانه الّذي يمكن ان يكون نظر

ص: 303

القائل إليه.

واما إيراد المحقق النائيني على صاحب الفصول فمحصله : ان جواز المنع عن بعض المقدمات لا يلازم اختصاص ملاك الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة ، لأن التوقف ان لم يكن هو ملاك الوجوب لزم عدم تعلق الوجوب بجميع المقدمات وإنكار وجوب المقدّمة وان كان هو الملاك ، فامّا ان يكون هو الملاك بقول مطلق من دون تقييده بشيء كان اللازم وجوب جميع المقدمات لاشتمالها على الملاك. وان كان الملاك هو الحصّة الخاصة من التوقف ، وهي ما يستحيل انفكاك الواجب عنه في الخارج ، لزم اختصاص الوجوب بالمقدمات التوليدية وهو ممّا لا يلتزم به (1).

ويمكن الجواب عنه بتصوير شق آخر للترديد وهو : كون الملاك هو التوقف على ما يلازم وجود ذي المقدّمة ، وليس لازمه تعلق الوجوب بالمقدّمة الموصلة ، بل يمكن الالتزام بتعلق الوجوب بما يلازم المقدّمة الموصلة لا بعنوان المقدّمة الموصلة ، فلا يرد عليه أي محذور كما أشرنا إليه. امّا هذا العنوان الملازم فسيأتي تحقيقه.

ومن مجموع ما ذكرناه يتبين أن ما ذكره في الفصول يصلح وجها لبيان إمكان القول بالمقدّمة الموصلة.

والغريب من المحقق النائيني ما يظهر من كلامه من الاعتراف بصحة الفرض الّذي ذكره صاحب الفصول ، مع ان لازمه اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة الّذي ذهب إلى محاليته عقلا وثبوت المحاذير فيه.

امّا وجه اعترافه بصحة الفرض المزبور ، فلما جاء في تقريرات بحثه من قوله : « ان جواز المنع لا يدل ... » فانّه ظاهر في الاعتراف بجواز المنع الّذي

ص: 304


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 238 - الطبعة الأولى.

عرفت ان لازمه اختصاص الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة. وفي كون الإشكال عليه من ناحية أخرى وهي عموم الملاك ونحوه.

وبالجملة : فظاهر كلامه هنا يتنافى مع ما تقدّم منه من عدم معقولية المقدّمة الموصلة.

والّذي صار بأيدينا من مجموع ما تقدّم هو : إمكان القول بالمقدّمة الموصلة ، وإمكان القول بوجوب مطلق المقدّمة ، فأيّها يتعين الالتزام به؟. استدل صاحب الفصول على الأول بوجوه ثلاثة ذكرها صاحب الكفاية :

الأول : ان طريق ثبوت وجوب المقدّمة ليس إلاّ حكم العقل بالملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته ، والقدر المتيقن منه هو الملازمة بين وجوب شيء ووجوب خصوص مقدمته الموصلة.

الثاني : ان العقل والضرورة قاضيان بصحة تصريح الآمر بعدم إرادة المقدّمة غير الموصلة في الوقت الّذي يقضيان فيه بقبح تصريحه بعدم إرادة مطلق المقدّمة أو خصوص الموصلة.

الثالث : انّه لما كان الغرض من وجوب المقدّمة هو التوصل بها إلى الواجب ، فلا بدّ ان يكون حصوله مأخوذا في مطلوبيتها ، فان من يريد شيئا لأجل التوصل إلى آخر لا يريده إذا تجرد عنه بلا إشكال.

واستشكل في هذه الوجوه صاحب الكفاية ببيان : انّه بعد ان تقدّم منا بيان ثبوت حكم العقل بوجوب مطلق المقدّمة بلا تخصيص له بخصوص الموصلة ، فلا يبقى مجال لدعوى كون القدر المتيقن منه وجوب الخصوص الموصلة ، وبذلك يندفع الوجه الثاني ، فانّه ليس للآمر الحكيم التصريح بعد مطلوبية المقدّمة غير الموصلة لثبوت الملاك فيها كغيرها.

نعم ، له ان يصرح بعدم حصول المطلوب أصلا - مع حصولها فقط - لكون نظره الأصلي إلى المطلوب النفسيّ ، فحين عدم حصوله لا نظر له إلى

ص: 305

حصول المقدّمة وان كانت مطلوبة تبعا وهذا لا يعني عدم وجوبها ، لأن التصريح المزبور ناشئ من تبعية الوجوب الغيري لا عدمه.

وامّا الوجه الثالث ، فاندفاعه بما ثبت من ان الغرض والملاك في الوجوب الغيري ليس هو التوصل ، بل التمكن من ذي المقدّمة وهو متوفر في جميع المقدمات (1).

فأساس مناقشة صاحب الكفاية وارتباط كلامه بكلام صاحب الفصول هو : انّه بعد انّ تمّ الاستدلال على كون الغرض هو التمكن وعدم إمكان اختصاص الوجوب بخصوص الموصلة ، لا وجه لما ذكر من عدم الدليل على وجوب غير الموصلة أو صحة تصريح الآمر بعدم إرادة غير الموصلة ونحو ذلك ، فانّه لا ينهض في قبال الاستدلال المتقدّم.

ومناقشته وجيهة لشق استدلاله المتقدّم ، إلاّ إنا ناقشنا كلامه المتقدم ولم يثبت لدينا من كلامه سوى إمكان القول بوجوب المقدّمة الموصلة لا تعينه ، فلا بدّ لنا من الوقوف موقف المتأمل في أدلة الفصول لا الوقوف موقف المستظهر لها كما فهمه صاحب الكفاية.

والإنصاف ان الوجه الأول لا مناقشة فيه ، فانّه لا طريق لدينا إلى إحراز حكم العقل ، ومع عدم إحرازه من حيث المقدار وغيره لا نستطيع الجزم به ، وعدم الجزم في حكم العقل ملازم للجزم بعدم الحكم كما لا يخفى ، فالقدر المتيقن من حكم العقل ليس إلاّ وجوب خصوص المقدّمة الموصلة لا غير.

ومنشأ التردد المذكور وان كان هو التردد في كون الملاك هو التوصل إلى الواجب والتمكن منه ، فكان الأنسب تحقيق ما هو الملاك إلاّ إنّه حيث لا طريق لنا إلى ذلك وكان وجوب المقدّمة الموصلة محرزا على كل تقدير ، فالمحرز من حكم

ص: 306


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /118- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

العقل هو دون غيره ، وان لم يعلم الملاك فيه تفصيلا ، إذ لا يعتبر حكم العقل معرفة ملاك ما يحكم به بنحو التفصيل ، بل يكفي العلم الإجمالي بثبوت ملاك الحكم في المورد.

وبالجملة : فالوجه الأول يكفي في الحكم بوجوب خصوص المقدّمة الموصلة ، ومعه لا نحتاج إلى بعض الاستدلالات المذكورة ، فانّها لا تنهض على المدعى كما جاء في كلام المحقق الأصفهاني من الاستدلال : بأنّ الغرض من المقدّمة لما كان تبعيا ، والغرض الأصلي انّما هو في ذي المقدّمة فمع حصول المقدّمة وعدم حصول ذي المقدّمة لا غرض من هذه المقدّمة (1). فانّه لا يخلو عن مصادرة ، فان المتجه هو البحث عن الغرض والملاك في وجوب المقدّمة وانّه هل هو التوصل إلى الواجب أو التمكن منه؟. امّا تبعية الغرض من المقدّمة ، فهو لا يعتبر في وجوبها مطلقا لو كان الغرض من وجوبها هو التمكن من ذيها. فكلامه قدس سره بعيد عن نقطة البحث.

ثمّ انّك قد عرفت تصوير القول بالمقدّمة الموصلة بالالتزام بتعلق الوجوب الغيري بالعلّة التامّة بلا ورود أي محذور فيه.

وبعد ان تبين نهوض الدليل على اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة ، يمكننا القول بكونه متعلقا بالعلّة التامّة ، فلا يكون لدينا إلاّ وجوب غيري واحد متعلق بالعلّة التامّة.

إلاّ أنّه يتنافى مع ما هو المتسالم عليه بين الاعلام ، والمفروغ منه لديهم ، من تعلق الوجوب بكل مقدّمة بنفسها ، بحيث تتعدد الوجوبات الغيرية بتعدد المقدّمات ، وانّما النزاع في اقتصار الوجوب على المقدّمات الموصلة أو عمومه لجميعها.

ص: 307


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 206 - الطبعة الأولى.

وقد حاول المحقق العراقي - كما جاء في تقريرات بحثه - نفي صحّة القول باختصاص الوجوب الغيري بالعلّة التامّة عن طريق البرهان والوجدان.

امّا البرهان فبيانه : انّ المقدمات يختلف نحو تأثيرها. فمنها : ما يكون تأثيره بنحو الاقتضاء والفاعلية ، وهو المعبر عنه بالمقتضي. ومنها : ما يكون تأثيره على نحو الشرطية ، وهو الشرط. ومنها : ما يكون تأثيره بنحو الإعداد ، وهو المعدّ. ومن الواضح ان اختلاف أنحاء المقدمات يستلزم اختلاف نحو تقييد الواجب النفسيّ بها ، فيتعدد التقيد بتعدد أنحاء التأثير ولا يرجع إلى نحو واحد ، وظاهر ان التقيد متعلق للأمر النفسيّ الضمني ، فيترشح منه أمر غيري مستقل متوجه إلى كل مقدّمة من المقدّمات ، فيتعدد الأمر الغيري بتعدد المقدّمات سنخا.

وامّا الوجدان فتقريبه : انّه لا إشكال في إمكان الإتيان بكل مقدّمة بقصد أمرها الاستقلالي كالوضوء في باب الصلاة وهذا لا يتلاءم مع كون الأمر المتعلق به ضمنيا ، إذ لو كان ذلك لما جاز قصد أمرها الاستقلالي ، بل يكون مصداقا للتشريع (1).

والإنصاف : انّ محاولة المحقق العراقي فاشلة ، للخدشة في برهانه من وجوه :

الأول : انّه أخص من المدعى ، فانّه إذا كان تعدد سنخ التأثير في المقدمات هو الموجب لتعدد التقيدات التي ينشأ منها الوجوب الغيري ، فمقتضى ذلك تعلق وجوب غيري واحد بالمقدمات المتحدة في نحو التأثير كالمعدات أو الشروط ، لأن التقيد بها واحد فيترشح منه وجوب غيري واحد. والمدعى غير ذلك ، فانّ المدعى تعلق الوجوب بكل مقدّمة مقدّمة.

الثاني : انّ الكلام لا يختص بالمقدّمة الشرعية التي أخذ التقيد بها جزء

ص: 308


1- الآملي الشيخ ميرزا هاشم. بدائع الأفكار1/ 390 - الطبعة الأولى.

للواجب النفسيّ ، بل هو في مطلق المقدّمة ولو كانت عقلية ، ومن الواضح انّ التقيد بالمقدّمة العقلية لم يؤخذ في الواجب النفسيّ كي يترشح منه وجوب غيري على المقدّمة ، فالوجوب الغيري لا يرتبط بالتقيد وإلاّ لاختص بالمقدّمة الشرعية.

الثالث : انّ الوجوب الغيري ليس معلولا للأمر الضمني والإرادة الضمنية المتعلق بالتقيدات ، وانّما هو معلول للغرض التبعي الناشئ من الغرض الأصيل ، وهو اما التمكن من الواجب أو حصوله ، والّذي يفرض غرضا على القول بالمقدّمة الموصلة هو حصول الواجب والوصول إليه ، وهو غرض واحد تنشأ ضمن إرادته إرادة المقدّمات ، وإرادته لا تستلزم ان تتعلق بكل مقدّمة إرادة ، بل يمكن ان تنشأ عنه إرادة واحدة تتعلق بمجموع المقدّمات. وهذا الغرض وان كان تبعيا لكنّه ناشئ من الغرض الأصيل المتوفر في ذي المقدّمة ولا ارتباط له بالأوامر الضمنية المتعلقة بالتقيدات.

وامّا ما استشهد به من الوجدان بإمكان الإتيان بالوضوء للصلاة بداعي أمره المستقل ، فهو غريب بعد ان عرفت فيما تقدم من النقض والإبرام في صحة قصد الأمر الغيري في الوضوء ، وان الأمر المقصود امتثاله ما هو؟ فكيف يتضح ذلك سريعا بالوجدان؟!.

والخلاصة ان ما أفاده المحقق العراقي لا يخلو عن خدشة. فلا دافع لدعوى تعلق الوجوب بالعلّة التامّة ، غير انّه خلاف المتسالم والمفروغ عنه بين الاعلام - ان صحّ كون هذا دافعا -.

ثمّ أنّه لو لم يلتزم بتعلق الوجوب الغيري بالعلّة التامّة والتزم بأنّه متعلق بكلّ مقدّمة مستقلا ..

فهل يمكن تصوير اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة بنحو معقول سالم عن كل محذور؟ تصدى الاعلام لتصويره بوجه معقول.

ص: 309

فذهب المحقق العراقي إلى تعلق الوجوب الغيري بالمقدّمة الموصلة ، لكن لا بنحو أخذ الإيصال قيدا ، بل هو مأخوذ بنحو القضية الحينية نظير حمل النوع على الإنسان ، فانّه لا يصح إلاّ عند لحاظ الإنسان ، مع انّ الموضوع ليس هو الإنسان المقيّد باللحاظ ، لأنّه كذلك يكون جزئيا ذهنيا لا نوعا كليا ، وانّما الموضوع هو الإنسان في ظرف اللحاظ وحينه ، ونظير تقيد الأوامر الضمنية المتعلقة بالاجزاء بعضها ببعض ، فانّ الأمر الضمني المتعلق بكل جزء لا يكون متعلقا به مستقلا ، بل عند تعلق مثله بالجزء الآخر ، لكن لا بنحو يكون مقيّدا به فهو غير مقيّد ولا مطلق.

وعليه ، فالواجب الغيري هو المقدّمة في حين الإيصال أو الحصة التوأم كما يعبر بها كثيرا بنحو لا يؤخذ الإيصال قيدا ، فلا يرد عليه أي محذور (1).

أقول : قد تكرر من المحقق العراقي (2) هذا المعنى في موارد متعددة وأصر عليه بنحو جديّ وجزمي ، ولكنّا لا نقرّ تطبيقه فيما نحن فيه.

بيان ذلك : انّ القضية الحينية انّما تكون معقولة في المورد الّذي لا يكون الإطلاق معقولا ، سواء كان التقييد معقولا أو غير معقول ، إذ لا لزوم للتقييد في حصر الحكم بالحصة الخاصة ، لأنّه بحكم طبعه لا يتعدى عنها - كما عرفت - والّذي يحضرنا بذلك موردان :

أحدهما : ما مثّل به من : « الإنسان نوع » ونحوه ممّا يعبر عنه بالمعقولات الثانوية التي يفرض كون موطن الحمل بها الذهن ولا واقع لها سواه ، وحينئذ فيمتنع ان يكون الموضوع مجردا عن اللحاظ ومطلقا من جهته ، إذ لا معنى للوجود الذهني سوى اللحاظ ، كما يمتنع هاهنا التقييد به ، لأنّ اللحاظ يوجب

ص: 310


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 340 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- قد مرّ ذلك في المعنى الحرفي في تفسير كلام صاحب الكفاية فراجع.

جزئية الملحوظ بما هو ملحوظ. وهو ينافي حمل مثل النوع عليه. وعليه فيقال : انّ الموضوع هو ذات الإنسان ونفس الماهية لا بقيد اللحاظ ، ولكن في حين اللحاظ وظرفه ، فليست الماهية المحمول عليها مطلقة ولا مقيدة.

ثانيهما : ما مثّل به من الأمر المتعلق باجزاء المركب ، وذلك لأن الإرادة المتعلقة بالمركب إرادة واحدة تضم جميع الأجزاء - ويشبهها قدس سره باللحاف - فكل جزء ليس متعلقا للإرادة بنفسه ومستقلا ، فالإرادة الضمنية المتعلقة بكل جزء لا تنفك عن الإرادة الضمنية المتعلقة بالجزء الآخر ، فهي ليست مطلقة من هذه الجهة ، وحينئذ يمكن أن يقال ان عدم انفكاك كل إرادة عن الأخرى لا يلازم تقييد متعلق كل منها بمتعلق الأخرى ، بل قد يقال أنّه لغو محض ، لحصول نتيجة التقييد وعدم انفكاك متعلق كل منها عن الآخر. فتحقق كل جزء مأخوذ في متعلق كلّ أمر ضمني بنحو القضية الحينية.

امّا في المورد الّذي يمكن تصور الإطلاق فيه من جهة القيد ، فتصور أخذ القيد بنحو القضية الحينية محل إشكال. وذلك كسائر قضايا الأحكام الاستقلالية بناء على كون الأحكام مجعولة بنحو القضية الحقيقية لا الخارجية ، إذ يقال ان المولى إذ لاحظ متعلق الأمر ولاحظ القيد فامّا ان يقيده به أو لا يقيده به ، اما نفس جعل الحكم مع لحاظ القيد من دون تقييد ، فهذا لا يستلزم شيئا ، بل يكون من قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان ، فلا أثر له في ثبوت نتيجة التقييد.

وما نحن فيه كذلك ، فانّ الأمر الّذي يتعلق بالمقدّمة يتعلق بها استقلالا لا ضمنا والدعوى انّه يتعلق بالحصّة التي تلازم الإيصال. فنقول نفس لحاظ المقدّمة في ظرف الإيصال لا يستلزم تخصيص الحكم بها ما لم ينص المولى على تقييد متعلق الأمر ، وإلاّ فالامر متعلق بذات المقدّمة ، ولحاظ ظرف الإيصال معها لحاظ أجنبي لا أثر له في أي شيء ما دام لا يغير من واقع الأمر وكيفية الإرادة ، كما هو الحال في الأوامر الضمنية.

ص: 311

وبعبارة أخرى : ان الأمر إذا لم يكن بنحو يستلزم اختصاص متعلقه بحصة معينة ، فنفس لحاظ الحصة حال الأمر لا يستلزم ذلك ما لم يرجع إلى التقييد وإنشاء الحكم على المقيد ، بل يكون اللحاظ المزبور من قبيل ضم الحجر إلى جنب الإنسان لا ربط له بالأمر ، ومتعلقه بما هو متعلق الأمر.

بل عدم تصور القضية الحينية في قضايا الأحكام لا يختص بالبناء على كون جعل الأحكام بنحو القضية الحقيقية ، بل هو ثابت ولو كان جعلها بنحو القضية الخارجية ، إذ غاية ما يدعى في تصورها : انّ المولى إذا جعل الحكم على الموضوع الخارجي فهو غير مطلق بالإضافة إلى صفاته الفعلية كالقيام مثلا ، كما لا داعي إلى التقييد ، فانّ نتيجته حاصلة فيكون القيام مأخوذا بنحو القضية الحينية.

ومن الواضح : إنّ هذا إنّما يتم في الصفات اللازمة غير القابلة للتغير كاللون الخاصّ ، اما القابلة للتغيير كالأفعال ، نظير القيام ، فيأتي فيها الكلام السابق ، فان الإطلاق من جهتها غير ممتنع كما إذا زال القيام ، فيسأل عن موضوع أمر المولى وأنّه هل هو زيد مطلقا قائما كان أو قاعدا ، أو خصوص زيد القائم ، ولحاظ قيام زيد أو وجوده خارجا حال الحكم لا يستلزم تعلق الحكم به بنحو يختص بحال القيام ، إذ للآمر ان يصرح بالإطلاق ، فلا يختص الحكم بحال القيام إلاّ بالتقييد. وهذا بخلاف الموردين السابقين ، فانّ نحو الحكم فيهما يتنافى مع التصريح بالإطلاق ، فنتيجة التقييد حاصلة ، فلا وجه للتقييد ويمكن عدمه ولا منافاة لغرضه. فتدبر.

والمتحصل : ان تخصيص الوجوب بالمقدّمة الموصلة بنحو القضية الحينية لا نعرف له توجيها سديدا.

وقد ذهب المحقق الأصفهاني إلى تصوير المقدّمة الموصلة بلا أخذ الإيصال قيدا ، بدعوى : انّ الواجب هو المقدّمة بالفعل.

ص: 312

وتوضيح ذلك : انّ المقدمات بأنحائها لا تكون مقدمات فعلية ، إلاّ إذا ترتب الواجب عليها ، وبدون ذلك تكون مقدمات بالقوة ، فالمقتضي الموجود وحده من دون وجود سائر اجزاء العلّة فاعل بالقوة ، والموجود مع سائر اجزاء العلّة فاعل بالفعل ، والشرط الموجود فقط من دون اقتران بالمقتضي مصحح للفاعل بالقوّة. وامّا الموجود مع المقتضي فهو مصحّح بالفعل ، وهكذا الحال في غيرهما من أنحاء اجزاء العلّة ، فكلّ منها ان وجد من دون انضمام جميع اجزاء العلّة ينسب إليه أثره بالقوّة ، ومع انضمام الاجزاء الأخرى ينسب إليه الأثر بالفعل.

وحينئذ يقال : انّ متعلق الوجوب الغيري هو المقدمات الفعلية لا مطلق المقدمات ولو كانت بالقوّة ، وهذا المعنى ملازم للإيصال ، لأنّ الفعلية لا تتحقق إلاّ بتحقق الواجب ، من دون أن يؤخذ الإيصال قيدا (1).

وتابع السيّد الخوئي المحقق الأصفهاني في هذا التصوير (2).

ولكنّه تصوير قابل للمناقشة من جهتين :

الأولى : انّ الفرق الّذي جعله بين المقدّمة الموصلة وغير الموصلة هو تأثير المقدّمة في أثرها المترقب على اختلاف أنحائها ، فلا بدّ ان نلاحظ انّ هذا التأثير هل يوجب فرقا واقعيا بين المقدمات ، بحيث تختلف واقعا ، فيقال الحكم متعلق بهذا الصنف دون الأعم ، أو أنّه لا يوجب الفرق الواقعي أصلا؟ فيشكل التقريب المزبور.

والحقّ انّه لا يوجب فرقا واقعيا ، فالمقتضي في حال تأثيره عين المقتضي في حال عدم تأثيره من دون أي اختلاف بينهما ذاتا أصلا وانّما الاختلاف في أمر

ص: 313


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 206 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 420 - الطبعة الأولى.

خارج ، وهو تحقق التأثير بهذا الفرد دون ذلك. ومن الواضح ان التأثير ليس إلاّ عين وجود الأثر كما يصرح بذلك قدس سره ، فانّه كثيرا ما ينص على ان الإيجاد والوجود امر واحد لا أمران ، فأخذ التأثير في متعلق الأمر الغيري أخذ لوجود الواجب فيه ، وهو ما قصد الفرار منه ، وأمّا المؤثرية فهي عنوان انتزاعي عن تحقق التأثير والأثر نظير عنوان الإيصال ، فأخذه لا يختلف عن أخذ قيد الإيصال.

الثانية : - وهي المهمّة في المقام - ان المهم من المقدّمات الّذي يدور الكلام حوله ، لا يرتبط ترتب أثره فعلا بوجود سائر اجزاء العلّة وهو المعدات.

بيان ذلك : انّ الواجب تارة يكون من المسببات التوليدية التي لا يتوسط بينه وبين مقدماته الإرادة ، نظير الإحراق المترتب على النار. وأخرى يكون من الأفعال الإرادية الاختيارية التي لا تتحقق إلاّ بالإرادة المباشرة. ولا يخفى ان البحث انّما هو في القسم الثاني من الواجبات ، للمفروغية عن وجوب السبب التوليدي ، بل ذهب البعض إلى كونه متعلق الأمر النفسيّ حقيقة.

ومن الواضح انّ المقدمات التي تسبق الإرادة في الأفعال الاختيارية كلّها من قبيل المعدّ ، إذ المقتضي لتحقق الفعل ليس سوى الإرادة ، والفعل لا يتخلّف عنها ، وما يؤثر في فاعلية الإرادة وتأثيرها بحيث يكون دخيلا في حصول الفعل بنحو المباشرة فهو لا يعدو أفق النّفس بمقتضى قانون السنخية ، إذ الإرادة من افعال النّفس ، فلا يؤثر فيها ما هو خارج عن أفق النّفس. امّا المقدّمات الخارجية ، فكلّها من قبيل المعدّ شأنها تقريب المعلول لعلّته من دون أي تأثير مباشر في نفس حصول المعلول.

وعليه ، فنقول : إذا كان أثر المعد هو المقربية لا غير ، فهي متحققة بتحققه مطلقا ، وجد المعلول أو لم يوجد ، فالقرب من المكان المطلوب الكون فيه يحصل بنقل الخطي سواء أراد المكلّف تحقيق الفعل أو لم يرد. فلا يختلف الحال في المعد

ص: 314

من جهة ترتب أثره بين تحقق ذي المقدّمة وعدمه ، والمهم من المقدمات التي يقع البحث عنها هي من هذا القبيل ، فالإتيان بالماء للوضوء بل ونفس الوضوء ونحوه معد للصلاة مع الطهارة.

اما نفس الإرادة ، فالمفروض أنّه لا يتخلف عنها الواجب المراد ، ولو فرض تخلفه عنها فليس البحث في وجوبها وعدمه بذي أهمية أصلا.

وبالجملة : المقدمات المرغوبة لا يختلف حالها من حيث ترتب الأثر بين تحقق ذي المقدّمة وعدمه ، فالقول بان الواجب خصوص ما ترتب عليه أثره لا يلزمه اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة.

ومن الغريب ما جاء في كلام المحقق الأصفهاني من انّ المعد الّذي لا ينضم إليه سائر المقدمات مقرب بالقوة لا بالفعل.

وعلى هذا فما أفاده المحقق الأصفهاني في تصوير القول بالمقدّمة الموصلة لا يعرف له وجه سديد.

ونهاية الكلام : انّ أخذ عنوان المؤثرية أو الإيصال أو نحوهما في متعلق الوجوب الغيري ليس بمعقول ، لا لأجل ما تقدم ذكره من المحاذير ، فقد عرفت دفعه ، بل لأجل ان هذه العناوين لا تنتزع إلاّ عن ترتب الواجب وحصوله ، والمفروض انّ أخذها انّما هو لأجل كون الغرض حصول ذي المقدّمة ، فأخذ ما ينتزع عن حصوله فيما كان الغرض من وجوبه حصوله بديهي البطلان.

وامّا اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة لا بنحو أخذ قيد الإيصال ، بل بنحو يلازمه بالتقريبين اللذين عرفت أحدهما من المحقق العراقي والآخر من المحقق الأصفهاني ، فهو ممّا لا محصل له.

يبقى تصوير واحد ، وهو ما تقدّم الكلام فيه ، وهو ان يكون متعلق الحكم هو العلّة التامّة بمجموع أجزائها.

وهذا التصوير وان استحسناه فيما تقدم ، إلاّ انّه يمكن المناقشة فيه ممّا

ص: 315

عرفت من مناقشة كلام المحقق الأصفهاني.

وبيان ذلك : ان العلّة التامّة في الأفعال الاختيارية بمعنى ما يكون مؤثرا في حصول الواجب ، بحيث يكون حصول الواجب به ، ليس إلاّ الإرادة وتوابعها. امّا المقدمات الخارجية فوظيفتها ليس إلاّ الاعداد ومقربية الواجب للفاعل من دون ان يكون لها أي تأثير مباشر في حصول الواجب ، فانّها قد تحصل ولا يحصل الواجب أصلا.

وعليه ، فإذا فرض الالتزام بكون متعلق الوجوب هو العلّة التامّة لزم اختصاص الوجوب بالإرادة وشرائطها ، لأن المعدّ وان كان اصطلاحا من اجزاء العلّة التامّة ، ومقتضاه دخوله في ضمن الواجب الغيري ، إلاّ أنّه حيث كان الالتزام بوجوب العلّة التامّة انّما هو لأجل كون ملاك الوجوب الغيري حصول الواجب ، وقد عرفت انّ ما هو المحصل للواجب ليس إلاّ الإرادة وليس شأن المعد تحصيل الواجب وانّما شأنه مقربية الواجب ، فلا محالة يكون متعلق الوجوب ما به يحصل الغرض وهو الإرادة وشئونها.

ولا يخفى انّه لا يترتب أي أثر على وجوب الإرادة وعدمها ، وانّما الآثار العملية المفروضة انّما تفرض على تقدير وجوب المقدمات الخارجية ، وهي بهذا البيان خارجة عن دائرة متعلق الوجوب الغيري.

ومن هذا البيان تعرف السرّ في إصرار صاحب الكفاية على انّ ما يترتب على المقدّمة ليس إلاّ التمكن من الواجب دون حصول الواجب ، وان الغرض من وجوبها - على تقديره - لا بدّ وان يفرض التمكن لا الحصول لأنّه لا يترتب عليها.

فانّه قد اتضح انّ جميع المقدّمات لا تؤثر سوى المقربية والتمكن على الواجب لا غير.

ص: 316

وعليه ، فالمتعين الالتزام بوجوب مطلق المقدّمة.

وبهذا ينتهي تحقيق الحقّ في المقدّمة الموصلة.

يبقى شيء لا بأس بالإشارة إليه وهو : ما تعرض إليه المحقق النائيني قدس سره من بيان كلام صاحب الحاشية في المقدّمة الموصلة ، فانّه ذكر : انّه أنكر على صاحب الفصول الالتزام بأخذ قيد الإيصال في الوجوب الغيري ، وسلك طريقا آخر في تخصيص الوجوب بالمقدّمة الموصلة ، وهو الالتزام بان الواجب هو المقدّمة من حيث الإيصال.

وقد أوضحه قدس سره بما ملخصه : ان الغرض من المقدّمة وملاك الوجوب الغيري لما كان التوصل إلى الواجب ، كان وجوب المقدّمة لأجل الإيصال ، وحينئذ فيختص الوجوب بصورة ترتب الواجب ووقوع المقدّمة في سلسلة العلّة التامّة ، لعدم توفر الملاك في غيرها ، ولكن لا بأن يؤخذ قيد الإيصال قيدا فيها لامتناعه كما عرفت. وان يكون الواجب هو المقدّمة في حال الإيصال. وبتعبير آخر : الواجب هو الحصّة التوأمة مع ذيها. فيكون القيد والتقييد خارجين. كما انّه لا يكون مطلقا من جهته ، لأنّ امتناع التقييد يستلزم امتناع الإطلاق ، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة لا تقابل السلب والإيجاب ، كما ذهب إليه الشيخ رحمه اللّه . فالتزم بتعين الإطلاق في المورد الّذي يمتنع فيه التقييد. وانّما يكون مهملا ثبوتا من هذه الناحية ، لامتناع كلا الأمرين ، كما يمتنع ان تؤخذ الحيثية المزبورة بنحو نتيجة التقييد ، لأنّ الوجوب الغيري تابع للوجوب النفسيّ في شئونه وخصوصياته ، فكما لا يكون الوجوب النفسيّ بالنسبة إلى متعلقه إلاّ مهملا ولا تعرض لخطابه إلى حالتي وجوده وعدمه إطلاقا ولا تقييدا ولا بنحو نتيجة التقييد ، فكذلك الوجوب الغيري بالنسبة إلى ذي المقدّمة لا بدّ ان يكون مهملا كما هو مقتضى التبعية.

ص: 317

وهذا ملخص ما جاء في تقريرات الكاظمي (1). وقريب منه ما في أجود التقريرات (2).

والأمر الّذي لا بدّ من التنبيه عليه هو : انّ الظاهر من هذا البيان - مع غض النّظر عمّا في بعض جهاته من الإشكال - هو تصحيح كلام صاحب الحاشية الّذي نتيجته اختصاص الوجوب بالمقدّمة الموصلة. ولم يظهر منه الإشكال فيه. وهذا يتنافى مع التزامه بامتناع القول بالمقدّمة الموصلة ، وان الوجوب يتعلق بمطلق المقدّمة. فلاحظ.

ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة :

ثمّ انّه قد ذكر للنزاع المزبور ثمرة وهي : حرمة العبادة التي تكون ضدا لواجب أهم ، لأن تركها يكون مقدمة للواجب فيكون واجبا فيحرم الفعل. هذا بناء على القول بوجوب مطلق المقدّمة. وامّا بناء على القول بوجوب المقدّمة الموصلة فلا يكون الفعل حراما ، لأنّ الترك الواجب هو الترك الموصل لا مطلق الترك ، والفعل ليس نقيضا للترك الموصل لجواز ارتفاعهما معا والنقيضان لا يرتفعان.

وقد استشكل في هذه الثمرة بأنّ الفعل على كلا القولين لا يكون نقيضا للواجب لأنّ نقيض كل شيء رفعه فنقيض مطلق الترك هو عدمه ، وهو ينطبق على الفعل ، كما انّ نقيض الترك الموصل عدمه ، وهو ينطبق على الفعل وعلى الترك غير الموصل.

وعليه ، فكما يكون الفعل حراما على القول بوجوب مطلق الترك ، مع انّه

ص: 318


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول1. 293 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2. 240 - الطبعة الأولى.

ليس بنقيض. وإنّما هو مصداق ما هو النقيض ، كذلك كونه حراما على القول بوجوب المقدّمة الموصلة ، لأنه مصداق النقيض أيضا. وانّما النقيض على هذا القول له فردان ، وعلى القول الأول له فرد واحد ، وهو فرق غير فارق ، فالعبادة محرمة على كلا القولين في الفرض المزبور.

وقد أجاب عنه صاحب الكفاية بقوله : « وأنت خبير بما بينهما من الفرق ، فان الفعل في الأول لا يكون إلاّ مقارنا لما هو النقيض من رفع الترك المجامع معه تارة ومع الترك المجرد أخرى ، ولا يكاد يسري حرمة الشيء إلى ما يلازمه فضلا عما يقارنه أحيانا ، نعم لا بدّ ان لا يكون محكوما فعلا بحكم آخر خلاف حكمه ، لا ان يكون محكوما بحكمه ، وهذا بخلاف الفعل في الثاني ، فانّه بنفسه يعاند الترك المطلق وينافيه ، لا ملازم لمعانده ومنافيه ، فان لم يكن عين ما يناقضه بحسب الاصطلاح مفهوما ، لكنه متحد معه عينا وخارجا ، فإذا كان الترك واجبا فلا محالة يكون الفعل منهيا عنه قطعا. فتدبر جيدا » (1).

هذا محصل ما يذكر في إيضاح الثمرة ، ويقع الكلام في امرين :

الأول : في بيان مراد صاحب الكفاية من كلامه الّذي ساقه في تقريب الثمرة.

الثاني : في تحقيق الحال في صحة الثمرة وعدمها.

امّا كلام الكفاية ، فهو يختلف بتقريبه الثمرة عن التقريب الّذي أشرنا إليه بإجمال. كما أنّه يبدو غامضا لأول وهلة فقد قال قدس سره : « انّ ثمرة القول بالمقدّمة الموصلة هي تصحيح العبادة التي يتوقف على تركها فعل الواجب ، بناء على كون ترك الضد ممّا يتوقف عليه فعل ضده ، فان تركها على هذا القول لا يكون مطلقا واجبا ، ليكون فعلها محرما ، فتكون فاسدة ، بل فيما

ص: 319


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /121- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يترتب عليه الضد الواجب ، ومع الإتيان بها لا يكاد يكون هناك ترتب ، فلا يكون تركها مع ذلك واجبا ، فلا يكون فعلها منهيا عنه فلا تكون فاسدة » (1).

والّذي يظهر منه بدوا هو : كون قيد الإيصال مأخوذا للوجوب ، فبدونه لا وجوب. وعليه فمع الفعل لا يتحقق شرط الوجوب فلا يجب الترك.

ولكن هذا المعنى لا يمكن عادة ان ينسب إلى مثل صاحب الكفاية الّذي صرح بأنّ القائل بالمقدّمة الموصلة لا يقول بأنّ الإيصال قيد الوجوب بل هو قيد الواجب وهو بعد لم يبعد عن هذا المطلب كي يدعى إمكان الغفلة في حقه عن هذا الشيء. كما انّه لا يبقى مجال للإيراد وجوابه على هذا المعنى ، فانّه أجنبي عنه بالمرة كما لا يخفى على من له أدنى التفات.

وقد حمل المحقق الأصفهاني قدس سره عبارته على أخذ قيد الترتب والإيصال في النقيض ، فنقيض الترك الموصل لا بدّ وأن يؤخذ فيه الإيصال. فالفعل لا يكون نقيضا للترك الموصل لأنّه غير موصل.

وأورد عليه : بأنه لا يعتبر في النقيض أخذ القيد المأخوذ في بديله ، لأنّ نقيض كل شيء رفعه ، فليس نقيض الجسم الأبيض غير الجسم الأبيض ، بحيث يكون الأبيض قيدا للغير لا للجسم (2).

والتحقيق : انّه يمكن أنّ يكون مراد الكفاية معنى غير ما ذكر ، خال عن الإشكال ، وهو ان يقال : انّ الواجب إذا كان هو المقدّمة الموصلة والوجوب يتعلق بها ، فلا كلام انّ تأثير الوجوب في المقيد انما يكون عند تحقق قيده ، فبدونه لا يقع على صفة الوجوب ، فالصلاة بدون الطهارة لا تقع على صفة الوجوب وان كانت الطهارة قيدا للواجب.

ص: 320


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /121- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 210 - الطبعة الأولى.

وعليه ، ففي ظرف عدم الإيصال وهو ظرف الفعل لا يكون الترك على تقدير وقوعه واقعا على صفة الوجوب ، لعدم حصول قيده الّذي به يكون واجبا ، وإذا كان الترك في هذه الحال غير واجب كان نقيضه وهو الفعل غير حرام.

وبالجملة : بلحاظ ظرف عدم الإيصال لا يكون نقيض الفعل لو تحقق مكانه وبدله واجبا فلا يحرم الفعل. وهذا المعنى لا إشكال فيه.

واما تحقيق الحال في صحة الثمرة ، فقد استشكل فيها المحقق الأصفهاني - بعد تقريبها بما عرفته - أولا : بان القول بالمقدمة الموصلة يرجع اما إلى الالتزام بوجوب العلة التامة ، أو بوجوب ذات المقدمة ولكن بقيد تأثيرها.

وعليه ، فالواجب على الأول - فيما نحن فيه - هو الترك مع الإرادة فانه العلة التامة. ومن الواضح ان نقيض المركب الاعتباري انما يكون عبارة عن نقيضي الجزءين ، لأنه لا واقع له الا الجزءين ، إذ الاعتبار نقيضه عدمه. وعليه فنقيض الواجب فيما نحن فيه هو الفعل مع عدم الإرادة ، فيكون مجموع الفعل مع عدم الإرادة محرما. ومن الواضح انه مع الفعل لا يمكن تحقق الإرادة ، فيتحقق المحرم فيكون الفعل محرما ضمنا. وبنحو هذا البيان قرب تحريم الفعل على الالتزام الثاني (1).

وفيه - مع قطع النّظر عما أفاده في بيان نقيض المركب الاعتباري - :

أولا : ان هذا انما يتوجه على التقريب الّذي ذكره للثمرة. اما التقريب الّذي ذكره صاحب الكفاية بالبيان الّذي عرفته فلا يتوجه عليه ما ذكره ، فانا نقول : ان الفعل في ظرف عدم الإيصال لا يكون نقيضا لما هو واجب وهو الترك فلا يكون محرما.

ودعوى : ان الفعل مع عدم الإرادة نقيض ما هو الواجب فيكون محرما

ص: 321


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 210 - الطبعة الأولى.

كما جاء في الإشكال.

تندفع : بان الحرمة المتعلقة بأحد النقيضين من جهة وجوب الآخر - بتقريب أنها غير وجوب الآخر - انما تثبت في ظرف يكون النقيض فيه متصفا بالوجوب بحيث يؤثر فيه الحكم ، بحيث لو وقع النقيض بموقع الآخر لكان واجبا ، وقد عرفت ان الترك في ظرف عدم الإيصال لا يكون متصفا بالوجوب ، فلا يكون الفعل محرما لأن بديله في ظرفه غير واجب. فتدبر.

وثانيا : ان نقيض المركب إذا كان عبارة عن نقيضي الجزءين ذاتيهما. كان مقتضى ذلك تعلق الحرمة بذاتي النقيضين ، فأخذ وصف المجموع في متعلق الحرمة لم يعلم له وجه محصل.

وعلى تقدير تعلق الحرمة بذاتي الجزءين يأتي الكلام الّذي عرفته في تقريب عبارة الكفاية. فلاحظ.

وخلاصة الكلام : ان تقريب الثمرة بما جاء في الكفاية بالبيان الّذي ذكرناه لا نعرف فيه مناقشة.

إلاّ ان أصل الثمرة بجميع أنحاء تقريباتها تتوقف على مقدمة أشار إليها في الكفاية وهي : كون ترك الضد مقدمة لفعل الضد الآخر حتى يتصف بالوجوب ، وإلاّ لم يكن واجبا فلا يكون فعل الضد محرما.

والحق كما سيأتي هو عدم مقدمية ترك أحد الضدين للضد الآخر ، لكونهما في رتبة واحدة ، والمقدمية تتوقف على اختلاف الرتبة فانتظر لذلك مزيد تحقيق واللّه تعالى هو الموفق.

واعلم أن المحقق النائيني ذكره ثمرة الاختلاف بين مسلك صاحب الفصول وأخيه صاحب الحاشية في المقدمة الموصلة ، وذلك في المقدمة المحرمة :

فانها تقع محرمة على مسلك صاحب الفصول إذا لم يترتب عليها الواجب من دون احتياج إلى الالتزام بالترتب ، إذ المقدمة على مسلكه تنقسم إلى قسمين :

ص: 322

ما يكون موصلا وهو واجب ، وما لا يكون موصلا وهو محرم لعدم ما يرفع الحرمة لأنه ليس بواجب أصلا.

واما بناء على مسلك أخيه فلا تقع المقدمة على صفة الحرمة إلاّ بنحو الترتب ، لأن الواجب هو ذات المقدمة من دون تقييد له بقيد الإيصال ، بل عرفت أنه مهمل من ناحيته ، فليس هناك قسمان للمقدمة يتصف أحدهما بالوجوب دون الآخر. وعليه فلا تقع محرمة إلاّ بنحو الترتب وهو ان تعلق الحرمة على عصيان الوجوب ، فتكون الحرمة مشروطة بعصيان الوجوب - كما هو المقرر في باب الترتب من تعليق وجوب أحد الضدين على عصيان وجوب الضد الآخر الأهم لارتفاع المزاحمة -.

لكنه قدس سره استشكل في تقريب الترتب بهذا النحو ببيان : ان الترتب وان صححناه في بابه ، لكنه انما يصح بالنسبة إلى الحكمين الواردين على موضوعين ، فيكون الحكم المتعلق بهذا الموضوع ثابتا عند عصيان الحكم المتعلق بالموضوع الآخر ، كما في مثال مزاحمة وجوب أحد الضدين لوجوب الآخر ، كمزاحمة وجوب الإزالة لوجوب الصلاة ، فان موضوع الحكمين متعدد.

اما الحكمان المتعلقان بموضوع واحد فلا يصح الترتب فيهما.

وسرّه هو : ان عصيان أحد الحكمين يلازم الإتيان بمتعلق الآخر ، فلا معنى لثبوت الحكم الآخر لتحقق متعلقه ، فان عصيان الوجوب بالترك ، فلا معنى للحرمة حينئذ. كما ان عصيان الحرمة بالفعل ، فلا معنى حينئذ للوجوب. وسيأتي تحقيقه في محله إن شاء اللّه تعالى. وما نحن فيه كذلك ، لأن الحرمة والوجوب يتعلقان بالمقدمة ، فلا معنى لفرض الترتب بينهما.

نعم يمكن فرض ترتب حرمة المقدمة على عصيان وجوب ذي المقدمة ، فتكون حرمة العبور في الأرض المغصوبة مشروطة بعصيان وجوب إنقاذ الغريق ، وهو لا مانع منه ، لتعدد متعلق الحكمين فيصح فرض الترتب.

ص: 323

هذا ملخص ما أفاده المحقق النائيني بتوضيح منا (1).

وقد أورد المحقق الخوئي على ما ذكره أخيرا من فرض الترتب بين وجوب ذي المقدمة وحرمة المقدمة : بأنه يستلزم أولا طلب الحاصل. وثانيا عدم كون ترك الواجب مخالفة وعصيانا.

اما استلزامه لطلب الحاصل ، فلان وجوب الشيء يتوقف على القدرة عليه ، والقدرة عليه تتوقف على القدرة على مقدماته ، وهي تتوقف على جوازها شرعا ، فإذا فرض تعليق حرمة المقدمة على عصيان وجوب ذي المقدمة فلازمه فرض جواز المقدمة في صورة عدم عصيان وجوب ذي المقدمة وهي فرض الإتيان به ، وقد عرفت ان الأمر به يتوقف على جواز مقدمته ، لاعتبار القدرة عليه في صحة الأمر ، فيكون الأمر به في فرض الإتيان به وهو طلب للحاصل.

واما عدم كون تركه مخالفة وعصيانا ، فلأنه إذا فرض كون المقدمة محرمة على تقدير عصيان الأمر بذي المقدمة ، فمع ترك ذي المقدمة تكون المقدمة محرمة فيكون ذيها غير مقدور ، فلا يكون مأمورا به ، فلا يتحقق العصيان بتركه ، لعدم الأمر به لأجل عدم القدرة عليه (2).

والإنصاف : ان كلا من الوجهين غير وارد.

اما عدم ورود الوجه الأول ، فوضوحه يتوقف على ذكر أمرين :

الأول : ان موضوع الترتب ما إذا كان التنافي بين الحكمين في مقام امتثالهما ، لا ما إذا كان التنافي بينهما في أنفسهما. وذلك لأن تصحيح الترتب وفرضه إنما هو لأجل رفع المنافرة بين الحكمين في مقام الامتثال مع الالتزام بثبوتهما معا.

ولأجل ذلك لا يشمل ما إذا كانت المنافرة بين الحكمين ذاتية ، كالحرمة

ص: 324


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 242 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 424 - الطبعة الأولى.

والوجوب الواردين على موضوع واحد ، فانهما ضدان لا يجتمعان ، ولا يجدي الترتب في رفع المنافرة بينهما أصلا.

وهذا أمر مسلم لدى الملتزمين بالترتب ، وتحقيقه سيجيء في محله ان شاء اللّه تعالى.

الثاني : ان عدم القدرة على نحوين : عدم القدرة على الشيء في نفسه ، وعدم القدرة على الشيء من جهة المزاحم.

فالأولى : نظير عدم قدرة المشلول على الصعود إلى السطح.

والثانية : نظير عدم القدرة على إنقاذ أحد الغريقين ، فان القدرة على الإنقاذ في نفسه ثابتة ، لكن عدم القدرة عليه لأجل المزاحم ، لأن كلا من الحكمين بمقتضى دعوته إلى متعلقه وتحريكه نحوه يحاول صرف القدرة في متعلقه ، فيكون عدم القدرة على إنقاذ كل غريق لأجل مزاحمتها بحكم شرعي.

والقدرة المعتبرة في صحة التكليف هي القدرة عليه في نفسه لا من جهة عدم المزاحم ، فان أساس الالتزام بالترتب على ذلك. فعدم القدرة لأجل المزاحمة لا يمنع من الأمر.

وهذا أمر مسلم كسابقه ، وسيتضح في مبحث الترتب. فانتظر.

إذا عرفت ذلك نقول : ان الأمر بذي المقدمة في الفرض لا يتوقف على جواز مقدمته لأنه وان لم يكن مقدورا بدون جوازها إلاّ ان عدم القدرة عليه لأجل المزاحم وهو الحرمة ، وإلاّ فالقدرة عليه في نفسه حاصلة ، وقد عرفت ان عدم القدرة لأجل المزاحم لا يمنع من الأمر والبعث ، فما ذكر من ان الأمر بذي المقدمة يتوقف على جواز المقدمة المتوقف على الإتيان بذي المقدمة ، غريب جدا بعد ما عرفت من تسليم عدم مانعية عدم القدرة لأجل المزاحم للأمر.

وأشدّ منه غرابة هو الإيراد بالوجه الثاني : فان الحرمة - على الفرض - معلقة على العصيان ، فيستحيل ان يكون ذلك مستلزما لعدم تحقق العصيان ،

ص: 325

فان وجود الحرمة إذا كان فرع العصيان كان ذلك لازما لوجود الأمر ، إذ العصيان فرع وجود الأمر ، فكيف تكون حرمة المقدمة موجبة لعدم تحقق العصيان وعدم الأمر بالواجب؟ ، فانه خلف ، بل يستلزم ان يلزم من وجود الحرمة عدمها ، لأن وجود الحرمة انما يكون مترتبا على العصيان ، فإذا كان وجودها لازمه عدم الأمر فلا عصيان ، كان لازم ذلك ارتفاعها لعدم شرطها وهو العصيان ، فيلزم من وجودها عدمها.

ولعل الوجه في ذكر هذا الإيراد : ما تقدم من صاحب الكفاية من ذكره ردا على تجويز المنع عن المقدمة غير الموصلة. ولكنه غفلة عن ان المنع مقيد هناك بعدم الإيصال وهو امر تكويني خارجي لا يرتبط بالأمر ، والمنع هنا مقيد بالعصيان وقد عرفت انه لا يستلزم ما ذكر فما ذكرناه من الإيراد لا يرد على صاحب الكفاية. فتدبر.

هذا تمام الكلام في المقدمة الموصلة (1). ننتقل بعده إلى الكلام في.

ثمرة المسألة

وقد ذكر لها ثمرات متعددة. كبرء النذر بفعل المقدمة بناء على الوجوب لو نذر فعل الواجب. وحصول الإصرار على الحرام بترك واجب مع مقدماته الكثيرة بناء على وجوبها ، وعدم جواز أخذ الأجرة على المقدمة لو قيل بوجوبها بناء على عدم جواز أخذ الأجرة على الواجبات.

وقد نوقش فيها : بأنها لا تصلح ثمرة للمسألة الأصولية ، لأنها بذلك لا تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي. بل في مقام تطبيق الكبرى الكلية

ص: 326


1- ولم يتعرض سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) إلى البحث عن الأصلي والتبعي ، لأنه مما لا أثر له عملي أصلا ، ولم يعرف ربطه بجهة من جهات بحث المقدمة. فالتفت.

على مصاديقها.

كما ذكر صاحب الكفاية عن الوحيد البهبهاني رحمه اللّه بيان الثمرة بنحو آخر وهو : صيرورة المورد من موارد اجتماع الأمر والنهي في المقدمة المحرمة بناء على الوجوب. وناقش فيه صاحب الكفاية بوجوه ثلاثة استشكل في بعضها (1).

ونحن بعد ان بينا سابقا ثمرة المسألة لا نرى حاجة إلى تحقيق هذه الثمرات ومعرفة صحتها وعدمها. فقد ذكرنا سابقا ان الثمرة هي صيرورة المورد من موارد التعارض بناء على الوجوب لو كانت المقدمة محرمة ، بمعنى انه يقع التعارض بين دليل حرمة المقدمة ودليل وجوب ذي المقدمة ، لأن وجوب ذي المقدمة لما كان لازما ذاتا لوجوب المقدمة المنافي لحرمتها ، بحيث لا يمكن التفكيك بين وجوبيهما ، كان دليل الحرمة منافيا لدليل وجوب ذي المقدمة لعدم إمكان الالتزام بهما معا لتنافي مدلوليهما ، إذ منافاة الحرمة لوجوب المقدمة ملازمة لمنافاتها لوجوب ذي المقدمة بعد فرض عدم إمكان التفكيك بينهما ، فيكون دليل الحرمة معارضا لدليل الوجوب.

واما بناء على عدم الوجوب ، فيكون المورد من موارد التزاحم ، بمعنى انه يقع التزاحم بين وجوب ذي المقدمة وحرمة المقدمة ، لعدم إمكان امتثال كلا الحكمين من دون منافاة بينهما في أنفسها. فلاحظ وتدبر.

فأثر المبحث ، هو : تنقيح صغرى من صغريات باب التزاحم أو باب التعارض الّذي يترتب على كل منهما آثار عملية فقهية مهمة ، وسيأتي عن قريب إن شاء اللّه تعالى تحديد باب التزاحم وباب التعارض وفصل كل منهما عن الآخر. فانتظر.

ص: 327


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /124- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

يبقى الكلام في أمرين :

أحدهما : البحث في الأصل للمسألة الّذي يرجع إليه مع الشك.

ثانيهما : البحث عن الدليل على وجوب المقدمة.

تأسيس الأصل في المسألة

اما البحث عن الأصل في المسألة فتحقيقه : ان موضوع الأصل تارة : يلحظ المسألة الأصولية أعني الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمته.

وأخرى : يلحظ المسألة الفقهية أعني نفس وجوب المقدمة.

والأصل الّذي يمكن فرضه في المقام هو الاستصحاب.

وهو لا يجري في المسألة الأصولية ، وذلك لأن الملازمة بين الوجوبين - بأي معنى فسّرت من كونها أمرا واقعيا ، أو انتزاعيا ينتزع عن حصول أحد المتلازمين عند حصول الآخر ، أو كونها عبارة عن دوام حصول الجزاء عند حصول الشرط - ليست لها حالة سابقة لأنها أزلية ، فان كانت فهي أزلية الوجود وان لم تكن فهي أزلية العدم. وعليه فلا يقين في مرحلة الحدوث بأحد الطرفين كي يستصحب. ومن الواضح ان جريان الاستصحاب يتوقف على اليقين بالحدوث.

واما وجوب المقدمة ، فهو مسبوق بالعدم لعدم تحققه قبل وجوب ذي المقدمة ، فيستصحب عدمه بعد وجوب ذيها.

وقد استشكل في هذا الاستصحاب من وجوه :

الأول : ان وجوب المقدمة على تقدير ثبوته ليس مجعولا مستقلا ، بل هو من قبيل لوازم الماهية فلا تناله يد الجعل إثباتا ونفيا.

وأجاب عنه صاحب الكفاية : بأنه وان كان من لوازم الماهية إلا أنه يكون مجعولا يتبع جعل وجوب ذي المقدمة. وهذا الجعل التبعي يكفي في صحة كونه

ص: 328

امرا بيد الشارع ، إذ لا يعتبر كونه بيده مباشرة (1).

والكلام مع صاحب الكفاية في جوابه من جهتين :

الأولى : ما ذكره من تسليم كون وجوب المقدمة بالإضافة إلى وجوب ذيها من قبيل لوازم الماهية. فانه عجيب منه قدس سره ، فان لازم الماهية لا يكون له وجود مستقل منحاز عن وجود الماهية ، بل يكون امرا انتزاعيا ينتزع عن ذات الماهية في أي عالم وجدت من ذهن أو خارج. كالزوجية بالإضافة إلى الأربع.

ووجوب المقدمة ليس كذلك ، فان له وجودا منحازا عن وجوب ذي المقدمة ، غاية الأمر انه ينشأ منه. فان من يدعي وجوب المقدمة يدعي تعلق الإرادة الغيرية بالمقدمة ، فهناك إرادتان وشوقان : أحدهما يتعلق بالمقدمة. والآخر يتعلق بذيها.

الثانية : ما ذكره من كفاية الجعل بالعرض في صحة الاستصحاب.

والكلام في هذه الجهة موكول إلى محله في مبحث الاستصحاب ، في مقام تحقيق صحة جريان الاستصحاب في مثل الجزئية والشرطية من الأمور الانتزاعية التي لا وجود لها الا منشأ انتزاعها ، وان نفيها هل يرجع إلى نفى منشأ انتزاعها أو لا يرجع إلى ذلك؟. فانتظر.

الثاني : ان وجوب المقدمة لو ثبت ، فهو غير اختياري للشارع ، لأنه لازم قهري لوجوب ذي المقدمة ، وإذا لم يكن اختياريا لم يجر الأصل فيه ، لأنه غير قابل للوضع والرفع.

وفيه : انه وان لم يكن اختياريا عند حصول وجوب ذي المقدمة ، لكنه قبل حصوله اختياري لأنه مقدور عليه بالواسطة ، فهو كالمسبب التوليدي بعد حصول سببه ، فانه لا مانع من جريان الأصل فيه لأنه اختياري باختيارية سببه.

الثالث : ان وجوب المقدمة لا يترتب عليه أي أثر عملي ، وجريان الأصل

ص: 329


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /125- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

انما يكون بلحاظ الأثر العملي.

وفيه : ان ما أشير إليه من الثمرات العملية المتعددة للمسألة يكفي في صحة جريان الأصل ، وان لم تكف في إثبات أصولية المسألة ، وهي الجهة التي يتركز النقاش فيها بلحاظها.

الرابع : ما ذكره في الكفاية من ان جريان الأصل يستلزم احتمال التفكيك بين المتلازمين ، لأن احتمال الملازمة موجود ، فالحكم بعدم وجوب المقدمة فيه احتمال التفكيك بين المتلازمين ، واحتمال التفكيك بينهما محال كنفس التفكيك.

واستشكل فيه صاحب الكفاية : بان الدعوى ان كانت هي الملازمة بين الحكمين الإنشائيين فلا ورود للإشكال ، لأن الأصل لا نظر له إلى الحكم الإنشائي ولا يرتبط بمقام الإنشاء. وان كانت هي الملازمة بين الحكمين في مراتبهما - يعني ولو كانا فعليين - كان الإشكال في محله ، وحينئذ لا يصح التمسك بالأصل وصح التمسك بالإشكال في إثبات بطلان الأصل ، كما جاء في بعض النسخ الأخرى للكتاب (1).

أقول : من الغريب ما ذكره صاحب الكفاية من الترديد ، فان دعوى كون الملازمة بين الحكمين الفعليين لا مجال للترديد فيها ، إذ الفرض ان الملازمة المدعاة هي الملازمة بين الإرادتين والشوقين الفعليين. وأين هذا من الملازمة بين الحكمين الإنشائيين.

وعلى كل ، فيمكن الجواب عن الإشكال المذكور : بان احتمال التفكيك لا يجدي في منع التمسك بالأصل بعد مساعدة الدليل عليه ، فان العقلاء لا يعتنون بمجرد الاحتمال.

كما أفاد هذا البيان الشيخ رحمه اللّه في دفع الإشكال على جواز التعبد

ص: 330


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /126- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

بالظن ، بأنه وان كان لا طريق إلى الجزم باستحالته إلاّ انه يحتمل ذلك ، واحتمال الاستحالة يكفي في الحكم بالمنع.

فقد دفعه : بان احتمال استحالة التعبد لا يضير ولا يعتنى به عقلائيا بعد مساعدة الدليل الإثباتي على التعبد. فلاحظ (1).

تحقيق أصل المبحث

واما تحقيق أصل المبحث وما هو مدار البحث بين الأعلام من وجوب المقدمة وعدمه. فقد وصلت النوبة إليه وقد اختلفت الأقوال في وجوب المقدمة وعدمه والتفصيل بين الواجب منها وغيره.

ولا يهمنا التعرض إلى التفصيلات سوى ما قد يقال من التفصيل بين السبب التوليدي فلا يجب ، وغيره من المقدمات فيجب. بتقرير : ان السبب التوليدي متعلق للأمر النفسيّ الثابت للمسبب ، لأن الأمر انما يكون لإحداث الداعي والإرادة للمأمور به ، والمسبب التوليدي لا يمكن فيه إعمال الإرادة مباشرة ، لأنه يخرج عن الاختيار بحصول سببه ، بل الإرادة تتعلق بسببه ، فالامر النفسيّ في الحقيقة يتعلق بالسبب. فإذا وجب القتل فقد وجب الرمي وهكذا.

وللمحقق النائيني رحمه اللّه كلام في المقام محصله : ان الأسباب والمسببات التوليدية على قسمين :

الأول : ما يكون لكل منهما وجود منحاز عن الآخر كالرمي والقتل ، والأكل والشبع ، فان وجود القتل والشبع غير وجود الرّمي والأكل.

الثاني : ما لا يكون للمسبب وجود غير وجود السبب ، فلا يكون الا وجود واحد يعبر عنه بعنوان السبب تارة والمسبب أخرى ، كالغسل والتطهير والإلقاء

ص: 331


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /24- الطبعة الأولى.

والإحراق. فان كلا منهما متحد وجودا مع مسببه.

اما القسم الأول ، فالامر انما يتعلق بالمسبب ، لأنه هو المحصل للملاك ، ولا معنى لصرف الأمر عنه إلى سببه لأنه اختياري بالواسطة وهو يكفي في صحة التكليف ، فيقع الكلام في وجوب السبب بالوجوب الغيري وعدمه.

واما القسم الثاني ، فهو خارج عن محل النزاع ، لأن الأمر إذا تعلق بأحدهما فقد تعلق بالآخر قهرا ، لأنهما واقعا امر واحد متعدد العنوان. وعليه فلا معنى للنزاع في انه إذا وجب المسبب هل يجب السبب بالوجوب الغيري أو لا يجب؟ (1).

أقول : ما ذكره من فصل القسمين وإدخال أحدهما في محل النزاع دون الآخر مسلم كبرويا كما أفاد قدس سره ، انما الإشكال فيما ساقه للقسم الثاني من الأمثلة كالغسل والتطهير والإلقاء والإحراق ، لأن هذه الأمثلة من القسم الأول ، لأن التطهير له وجود غير وجود الغسل ، كيف والتطهير موجود اعتباري والغسل موجود حقيقي واقعي؟! ، كما ان وجود الإحراق غير وجود الإلقاء ، لأن الإحراق عبارة عن إيجاد الحرقة ، وإيجاد الحرقة ووجودها متحدان واقعا وحقيقة ومتغايران اعتبارا ، كما هو شأن كل إيجاد شيء ووجوده. ومن الواضح ان وجود الحرقة غير وجود الإلقاء خارجا وحقيقة.

وبالجملة : لو وجد خارجا وجود واحد ذو عنوانين - كما قد نعثر له على مثال في مبحث اجتماع الأمر والنهي - تمّ فيه ما ذكره من خروجه عن محل الكلام واختصاص محل الكلام في القسم الأول.

وعليه ، فالكلام في وجوب المقدمة وعدمه يشمل الأسباب التوليدية كما يشمل غيرها.

ص: 332


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 219 - الطبعة الأولى.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى وجوب المقدمة ، واستشهد على ذلك بالوجدان ، فانه يشهد على ان من أراد شيئا أراد مقدماته ، واستشهد على هذا المعنى بوجود الأوامر الغيرية في الشرع والعرف ، كما يقول المولى لعبده : « ادخل السوق واشتر اللحم » فان الأمر بدخول السوق على حد الأمر بشراء اللحم ، فيكون امرا مولويا. ومن الواضح انه لا خصوصية لهذه المقدمة ، بل باعتبار وجود الملاك فيها ، وليس إلا المقدمية والتوقف. فيكشف ذلك عن وجوب جميع المقدمات بالوجوب المولوي الغيري. ثم تعرض قدس سره إلى ذكر دليل الحسن البصري على وجوب المقدمة الّذي هو كالأصل لأدلة القوم - كما ذكر قدس سره - ، وناقشه بعد إصلاحه بتعيين المراد من بعض اصطلاحاته (1).

ولكن الحق عدم وجوب المقدمة ، إذ الوجدان لا يشهد بذلك ، كما ان ما استشهد به من الأوامر العرفية المتعلقة بالمقدمة لا يصلح للشهادة على ما يحكم به الوجدان ، إذ ليست هذه الأوامر أوامر مولوية ، بل هي إرشادية ، وذلك لأن الأمر المولوي انما يجعل لجعل الداعي في نفس المكلف إلى العمل وتحريكه نحوه ، والأمر الغيري لا صلاحية له لذلك كما تقدم بيان ذلك. فان العبد ان كان بصدد امتثال امر ذي المقدمة جاء بالمقدمة كان هناك أمر بها أو لم يكن ، وان لم يكن بصدد امتثاله لم يكن الأمر الغيري داعيا للإتيان بها بما هو أمر غيري ، فلا صلاحية للأمر الغيري للدعوة والتحريك ، فلا بد ان تكون هذه الأوامر المفروض تعلقها بالمقدمة أوامر إرشادية تتكفل الإرشاد إلى مقدمية الشيء وتوقف الواجب عليه.

وخلاصة الكلام : انه لم يثبت لدينا وجوب المقدمة لعدم الدليل عليه. ولو ثبت فهو يشمل مطلق المقدمات الموصلة وغيرها والسبب التوليدي وغيره.

ص: 333


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /126- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

تذنيب : لا يخفى انه لو التزم بوجوب مقدمة الواجب ، فلازمه الالتزام باستحباب مقدمة المستحب بعين الوجه القائم على وجوب مقدمة الواجب.

واما مقدمة الحرام ، فقد ادعي ان المحرم منها - على القول بالملازمة بين حكم الشيء وحكم مقدمته - هو ما لا يتوسط بينهما وبين ذيها اختيار وإرادة ، وهي الأسباب التوليدية في المحرمات التوليدية ، كالرمي بالنسبة إلى القتل المحرم ، والإرادة في المحرمات الإرادية - بناء على صحة تعلق التكليف بها -.

اما غير هذا النحو من المقدمات كالمعدات ونحوها فلا يكون محرما.

وقد قرب صاحب الكفاية خروجها عن دائرة التحريم : بان التحريم عبارة عن طلب الترك ، فيكون الترك واجبا ، فتكون مقدماته واجبة أيضا ، فكل مقدمة يكون تركها مما يتوقف عليه ترك الحرام تكون واجبة الترك ، ومن الواضح ان ترك الحرام لا يتوقف على ترك سائر المقدمات ، إذ الاختيار لا يسلب بفعلها ، فيتحقق الترك مع فعلها ، وهو دليل عدم التوقف ، فما يتوقف عليه ترك الحرام ليس إلاّ الإرادة في الأفعال الاختيارية والسبب التوليدي في الأفعال التوليدية (1).

ولكن هذا التقريب لا يجدي من يذهب إلى ان النهي ليس طلب الترك ، بل هو الزجر عن الفعل ، فلازمه الزجر عن مقدماته ، لأن متعلق النهي نفس الفعل.

وغاية ما يقرب به نفي حرمة سائر المقدمات - بناء على هذا المعنى - ان يقال : ان وجوب المقدمة أو حرمتها بما انه مترشح عن وجوب ذيها أو حرمته ، فثبوت الوجوب لها أو الحرمة فرع دخالتها في ثبوت ملاك الوجوب والحرمة بنحو دخالة ذيها فيهما. وبما ان حرمة الشيء تنشأ عن وجود المفسدة في فعله أو

ص: 334


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /128- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

المصلحة الملزمة في تركه ، بحيث لو لا تركه لوجدت المفسدة أو فاتت المصلحة ، فمقدمة الحرام انما تحرم إذا كان لها هذا الأثر وهو منحصر بالمقدمة التوليدية. اما غيرها ففعله لا يلازم وجود الحرام ، كي يقال انه لو لا تركه لوجدت المفسدة أو فاتت المصلحة. وبنظير هذا البيان يثبت وجوب مقدمة الواجب ، إذ وجوب الواجب لأجل اشتماله على مصلحة ملزمة أو لأجل ان في تركه مفسدة ملزمة بحيث لو لا فعله لفاتت المصلحة أو وجدت المفسدة لأن تركها يلازم ترك الواجب. فلاحظ وتدبر فانه لا يخلو عن دقة.

ثم ان الكلام الجاري في مقدمة الحرام يجري بعينه في مقدمة المكروه حرفا بحرف. فاعرف.

هذا تمام الكلام في مبحث المقدمة ، وقد انتهى البحث فيه في يوم السبت المصادف الخامس من ذي القعدة سنة 1385 ه. نسأل اللّه تعالى التوفيق والهداية إلى سواء السبيل إنه حسبنا ونعم الوكيل.

ص: 335

ص: 336

الضّد

اشارة

ص: 337

ص: 338

مبحث الضد

اشارة

موضوع البحث هو : أنّ الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده أو لا يقتضي؟ وهو من المباحث الأصولية والعقلية ، ولا نطيل في بيان ذلك لوضوحه من ملاحظة نحو البحث ونتيجته.

نعم لا بأس بالتنبيه على ما يراد من الاقتضاء ، وما يراد من الضد ، كما فعل صاحب الكفاية لتحديد محل البحث ومدار الكلام. فنقول :

المراد بالاقتضاء - كما ذكره صاحب الكفاية (1) وتابعة عليه غيره - : أعم من ان يكون بنحو العينية - كما ادعي في بعض الفروض - أو الجزئية - كما ادعي أيضا ذلك بلحاظ تركب الأمر - ، والالتزام أعم من كونه لزوما بينا بالمعنى الأخص وغيره وبتعبير آخر نقول : المراد بالاقتضاء هو اللابدّية من أي طريق كانت.

واما الضد ، فالمراد منه : مطلق المنافي والمعاند ، سواء كان امرا وجوديا - وهو المعبر عنه بالضد الخاصّ - أو كان امرا عدميا - وهو المعبر عنه بالضد

ص: 339


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /129- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

العام ، ويعبر عنه أيضا بالترك - وليس المراد منه هو الضد بالمعنى الفلسفي المختص بالأمر الوجوديّ المعاند لغيره تمام المعاندة ، فلا يشمل الضد العام. وهناك معنى آخر للضد العام ، وهو الأمر الوجوديّ الجامع للأضداد الوجودية. وهذا لا كلام لنا فيه ، بل هو خارج عن موضوع الكلام.

وعلى هذا ، فينبغي إيقاع الكلام في مسألتين :

الأولى : اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن الضد الخاصّ.

والثانية : اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام وهو الترك.

المسألة الأولى : في ان الأمر بالشيء هل يقتضي النهي عن ضده الخاصّ أو لا؟.

وقد ادعي اقتضائه النهي عن ضده الخاصّ لوجوه :

أهمها وعمدتها - ما ذكره صاحب الكفاية - : من دعوى مقدمية ترك أحد الضدين لفعل الآخر.

بيان ذلك : ان عدم أحد الضدين مقدمة للضد الآخر ، ومما يتوقف عليه الضد الآخر ، فإذا وجب أحدهما وجبت مقدماته ومنها عدم ضده ، فإذا وجب ترك ضده فقد حرم ضده قهرا.

اما تقريب مقدمية ترك أحد الضدين للآخر : فبان التمانع والتنافر بين الضدين مما لا شبهة فيه ، وإذا كان كل من الضدين مانعا عن حصول الآخر كان عدم كل منهما من أجزاء علة الآخر ، لأن عدم المانع من اجزاء العلة ، وقد فرض مانعية الضد فعدمه من اجزاء علة ضده ، وإذا كان من اجزاء العلة كان من المقدمات.

فهاتان المقدمتان هما أساس دعوى مقدمية عدم الضد للضد الآخر.

وعلى هذا فينبغي ان يكون البحث في مقدمية ترك أحد الضدين للضد الآخر. وقد ذكر فيها وجوه :

ص: 340

الأول : مقدمية عدم كل منهما للآخر مطلقا.

والثاني : عدم المقدمية مطلقا.

والثالث : التفصيل بين الضد الموجود والضد المعدوم ، فعدم الأول مقدمة دون عدم الثاني.

والرابع : مقدمية العدم للوجود دون مقدمية الوجود للعدم.

والخامس : مقدمية الوجود للعدم دون العكس.

والّذي ذهب إليه المتأخرون تبعا لسلطان العلماء هو عدم المقدمية بقول مطلق.

وقد ناقش صاحب الكفاية قدس سره القول بالمقدمية بوجوه ثلاثة :

الأول : انه يستلزم الدور ، وذلك لأن عدم أحد الضدين إذا كان مقدمة للآخر من باب انه عدم المانع فيكون من اجزاء علته ، كان وجود أحد الضدين مقدمة لعدم الآخر أيضا ، لتوقف عدم الشيء على مانعة كما يتوقف نفس الشيء على عدم مانعة ، فيكون عدم أحدهما متوقفا على وجود الآخر ، كما ان وجود الآخر يتوقف على عدم ضده ، فيلزم الدور الباطل.

الثاني : النقض بالمتناقضين ، وبيانه : انه لا إشكال في ان بين المتناقضين منافرة ومعاندة شديدة وأكيدة ، مع انه من المسلم كون أحدهما في رتبة عدم الآخر ، وليس عدم أحدهما مقدمة للآخر ، كيف؟ وهو يستلزم ان يكون الشيء مقدمة لنفسه ، لأن عدم أحدهما نفس الآخر.

وعليه ، فمجرد وجود المعاندة لا تستلزم مقدمية أحد المتمانعين للآخر ، وإلاّ لكان انطباق ذلك على المتناقضين أنسب لما بينهما من شدة المعاندة والممانعة.

الثالث : - وهو ما ذكره في الكفاية أولا ، وعبارة الكفاية لا تخلو عن تشويش ، وقد حملها المحقق الأصفهاني على إرادة ما بيانه : - انه لا إشكال في كون كل من الضدين مع الآخر في رتبة واحدة ، فليس أحدهما متقدما على الآخر ، ومن

ص: 341

المسلمات أيضا ان وجود كل ضد وعدمه في رتبة واحدة ، فانهما يتواردان على محل واحد ، فعدم الشيء في رتبة وجوده بلا إشكال. وعليه فيكون عدم كل ضد في رتبة الضد الآخر قهرا ، لأنه في رتبة نفس الضد ، والمفروض بالمقدمة الأولى ان نفس الضد في رتبة ضده الآخر (1).

وهذا الوجه لا يصلح ان يكون بيانا لعبارة الكفاية ، فانها بعيدة جدا ، بل أجنبية عن هذا المعنى وتأبى الحمل عليه بأي وجه من الوجوه ، وهو يظهر بأدنى ملاحظة. وعليه فكان الأولى ان يذكر وجها مستقلا في دفع دعوى المقدمية ، ينظر في صحته وسقمه ، لا ان يذكر ويسند لصاحب الكفاية ثم يستشكل فيه.

والّذي يبدو لنا ان مراد صاحب الكفاية من عبارته هو : انه ليس بين الضدين الا التمانع والمعاندة في مقام التحقق ، فكل منهما يمنع الآخر عن التحقق ، فالتمانع في مرتبة وجوديهما لا في مرتبة عليتهما.

وعليه ، فهما متحدان رتبة من دون ان يكون أحدهما سابقا على الآخر ، وإذا كان كذلك فالشيء الّذي يرفع هذا التمانع ، بمعنى يرفع المانع عن وجود أحد الضدين من جهة الضد الآخر ، لا بد ان يكون في رتبة الضد ، لأنه يرفع المانع في مرحلة وجوده ورتبته لا في مرحلة علته ورتبتها. وعدم الضد له هذا الشأن ، فانه انما يرفع المانع في هذا المقام فهو في رتبة الضد الآخر وليس سابقا عليه. فنظر صاحب الكفاية إلى ان العدم لا يؤثر إلاّ في رفع ما أثر فيه الوجود ، والمفروض ان ما يؤثر فيه الوجود هو المانعية في رتبة نفس الشيء لا في رتبة علته واجزائها.

وهذا المعنى يمكن تطبيقه على عبارة الكفاية ، وان كانت العبارة لا تخلو من تشويش ، فيمكن ان يكون مقصوده : « وحيث لا منافاة أصلا بين أحد

ص: 342


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 219 - الطبعة الأولى.

العينين وما هو نقيض الآخر وبديله ، بل بينهما كمال الملاءمة ... » هو ان العدم لما كان يرفع التمانع الثابت بالضد وكان بينه وبين الضد كمال الملاءمة ، فبه يرتفع تلك الممانعة ، فكان في رتبة الضد قهرا.

وبالجملة : فما يريده صاحب الكفاية هو ما ذكرناه ، وسيتضح ذلك جدا من كلامه في ضمن البحث ، فتدبر.

وقد أورد على الدور : بان توقف كل من الضدين على عدم الضد الآخر فعلي ، وتوقف عدم الضد على الضد الآخر تقديري ، فيرتفع الدور.

بيان ذلك : ان عدم الشيء لا يستند إلى وجود المانع عن الشيء الا في صورة وجود المقتضي والشرط ، وإلاّ فلو لم يكن المقتضي موجودا استند العدم إليه ، فيعلل عدم تحقق الحرقة - عند عدم وجود النار - بعدم وجود النار لا بوجود الرطوبة ، كما يعلل أيضا بعدم الملاقاة عند وجود النار ، والرطوبة بدون الملاقاة ، نعم يعلل بوجود الرطوبة لو تحققت ملاقاة النار للجسم.

واما وجود الشيء فهو يستند إلى جميع اجزاء علته فعلا.

وعليه ، فوجود الضد يستند فعلا إلى عدم الضد الآخر لأنه من اجزاء علته. واما عدم الضد فهو لا يستند إلى وجود الضد الآخر الا في صورة وجود مقتضية وشرطه فاستناده إليه تقديري ، بمعنى أنه معلق على وجود المقتضي والشرط ، وهو لا يتحقق دائما. وذلك لأن وجود الضدين اما ان يلحظا بالإضافة إلى إرادة شخص واحد أو بالإضافة إلى شخصين.

فعلى الأول : لا يمكن تحقق المقتضي ، وذلك لأنه مع إرادة المانع عن الضد وهو الضد الآخر - كما هو الفرض - لا يمكن ان تكون هناك إرادة أخرى متعلقة بالضد ، فمع إرادة السواد لا يمكن إرادة البياض. وعليه ففي فرض وجود أحد الضدين لا بد ان يفرض انتفاء مقتضي الضد الآخر - وهو الإرادة - ، فيستند عدم الضد الآخر إلى عدم المقتضي لا إلى وجود الضد المانع.

ص: 343

وعلى الثاني : فالمقتضي لكلا الضدين وان أمكن فرض وجوده ، لعدم امتناع تعلق إرادة أحد الشخصين بإيجاد أحد الضدين وتعلق إرادة الشخص الآخر بإيجاد الضد الآخر ، إلاّ ان وجود أحدهما يستند إلى أقوائية قدرة أحد الشخصين على الآخر بحيث يتغلب عليه. فيكون عدم الضد الآخر لأجل عدم حصول شرطه ، وهو القدرة لا لأجل وجود المانع وهو الضد. فلا يستند عدم الضد إلى وجود الضد الآخر إلاّ بنحو التعليق والتقدير.

وقد أجاب عنه صاحب الكفاية : بأنه وان رفع إشكال الدور ونفي التوقف الفعلي من الطرفين ، إلاّ ان محذور الدور موجود بحاله وهو لزوم الخلف ، لأن الاعتراف بصلاحية استناد العدم إلى وجود الضد - عند فرض وجود المقتضي والشرط - اعتراف بكون وجود الضد في رتبة سابقة على عدم الضد الآخر - لأنه في رتبة المانع - فيمتنع ان يستند وجود الضد إلى عدم الآخر ، لأنه يستلزم تقدم ما هو المتأخر وهو خلف.

وربما يقال : بان استناد عدم أحد الضدين إلى وجود الآخر معلق على وجود المقتضي والشرط ، فالاستناد إليه مأخوذ بنحو القضية الشرطية. ومن الواضح ان صدق القضية الشرطية لا يستلزم صدق طرفيها ، كما يشهد له قوله تعالى : ( لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللّهُ لَفَسَدَتا ) (1) ، وقد عرفت امتناع تحقق المقتضي أو الشرط لأحد الضدين مع الضد الآخر. ومعه لا يكون وجود أحد الضدين صالحا للمانعية في حال من الأحوال لامتناع صدق المقدم. فينتفي محذور الخلف أيضا.

واستشكل فيه صاحب الكفاية : بان هذا القول يساوق نفي مانعية كل من الضدين للآخر ، ومعه لا يكون عدم أحدهما مقدمة للآخر ، لأن أساس ذلك

ص: 344


1- سورة الأنبياء ، الآية : 22.

هو مانعية كل منهما للآخر.

ومن هنا يثار سؤال أو إشكال : بان نفي التمانع بين الضدين ينافى الوجدان والبديهة ، فان التمانع بينهما كالنار على المنار والشمس في رابعة النهار - كما قال في الكفاية - كما ان عدم المانع من المقدمات بلا إشكال ، فما قيل ممّا ينافى ذلك شبهة في مقابل البديهة ، وهي لا تكون مورد القبول.

وأجاب عنه في الكفاية : ان التمانع بين الضدين وان سلم بلا تردد ، لكنه بمعنى يختلف عن المعنى الّذي يكون عدمه من المقدمات ، فدعوى المقدمية ناشئة من الخلط بين المعنيين.

بيان ذلك : ان التمانع بين الأمرين تارة : يكون في مرتبة الوجود ، بمعنى انه لا يمكن اجتماعهما في الوجود. وأخرى : يكون في مقام التأثير بمعنى ان يكون أحد الأمرين مانعا عن تأثير مقتضي الآخر فيه ، فالمانع الّذي يكون عدمه من المقدمات هو المانع بالمعنى الثاني نظير الرطوبة المانعة من تأثير النار في الحرقة. ومانعية الضد الآخر من قبيل الأول. فان التمانع بينهما ليس إلاّ بمعنى التمانع في الوجود وعدم إمكان وجود أحدهما مع وجود الآخر من دون أن يؤثر أحدهما في مقتضي الضد الآخر ويمنع من تأثيره ، فلا يكون عدمه من المقدمات.

وهذا المعنى هو الّذي كان ينظر إليه صاحب الكفاية في الوجه الثالث من وجوه اشكاله على المقدمية (1). وسيتضح جيدا في مطاوي البحث.

هذا خلاصة ما أفاده في الكفاية بتوضيح (2).

ولكن المحقق الأصفهاني قدس سره لم يرتض إنكار المقدمية ، وحاول تصحيحها بلا ورود أي إشكال.

ص: 345


1- أعني : بالترتيب الّذي ذكرناه ، اما بالترتيب الكفاية فهو الوجه الأول. ( منه عفي عنه ).
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /130- 132 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وقد أوضح قبل الدخول في أصل المبحث المقصود بالتقدم الرتبي بالطبع ، ببيان : ان ملاك التقدم والتأخر بالطبع هو ان لا يكون لأحد الشيئين وجود الا وللآخر وجود ولا عكس ، بمعنى انه يمكن فرض وجود الآخر بدون وجود ذلك الشيء كالواحد والكثير فانه لا يمكن ان يفرض للكثير وجود الا ويكون للواحد وجود ، مع انه يمكن ان يوجد الواحد بدون وجود الكثير ، فالمتقدم هو الواحد والمتأخر هو الكثير.

ثم ذكر ان منشأ هذا التقدم أحد أمور أربعة :

الأول : ان يكون الشيء المتقدم من علل قوام الآخر كالجزء والكل ، فان الكل يتقوم باجزائه ، ولذا لا يمكن ان يفرض له وجود الا ويكون لأجزائه وجود ، مع انه يمكن ان يفرض لجزئه وجود بلا ان يكون له وجود.

الثاني : ان يكون المتقدم مؤثرا في المتأخر كالمقتضي والمقتضى.

الثالث : ان يكون المتقدم مصححا لفاعلية الفاعل وهو المعبر عنه بالشرط.

الرابع : ان يكون المتقدم متمما لقابلية القابل ، وهو المعبر عنه بعدم المانع أو الشرط العدمي ، كعدم الرطوبة المتمم لقابلية المحل للاحتراق.

وبعد هذا البيان أفاد : ان عدم الضد متقدم بالطبع على الضد الآخر ، لأنه لا يمكن ان يفرض للضد وجود الا ويكون الضد الآخر غير موجود ، بخلاف العكس فانه يمكن ان يكون أحد الضدين غير موجود وليس للآخر وجود ، لإمكان عدم كلا الضدين ، فمثلا لا يمكن فرض السواد الا ويثبت عدم البياض ، ولكن يمكن ان يفرض عدم البياض من دون ثبوت السواد.

ومنشأ التقدم الطبعي لعدم الضد على الضد الآخر هو : كون عدم الضد متمما لقابلية المحل لعروض الضد الآخر عليه ، إذ بدونه لا يكون المحل قابلا ، فلا يكون المحل قابلا للبياض إلا في صورة عدم السواد.

ص: 346

اما دعوى : توقف عدم أحد الضدين على الضد الآخر ، التي هي أساس الدور الّذي ذكره صاحب الكفاية.

فقد دفعها قدس سره : بان العدم لا يحتاج إلى فاعل وقابل ، فليس هو شيئا قابلا للتأثر وعليه فلا يحتاج إلى ما يكون مصححا لفاعلية الفاعل أو متمما لقابلية القابل بالنسبة إليه ، فينتفي توقف عدم أحد الضدين على وجود الآخر.

هذا مجمل ما يتعلق بالمقام ونخبة كلامه الّذي أسس عليه مقدمية عدم الضد للضد الآخر بلا ورود إشكال الدور (1).

والكلام معه ينبغي ان يكون في جهتين :

الجهة الأولى : فيما ذكره ملاكا للتقدم بالطبع مع حصر منشئه بالأمور الأربعة المزبورة. فانه مما لا نعرف له وجها صحيحا ، إذ يرد عليه : انه اما ان يكون المقصود من ملاك التقدم بالطبع هو عدم تحقق نفس وجود المتأخر الا والمتقدم موجود دون العكس ، أو عدم إمكان وجود المتأخر الا وللمتقدم وجود ولا عكس.

فعلى الأول : لا يصح هذا ملاكا للتقدم بالطبع ، لتخلفه في بعض الموارد ، كما لو كان هناك ماءان أحدهما كثير والآخر قليل وجعل أحدهما في عرض الآخر وجنبه ، ولم يكن هناك إلا ماكينتان للحرارة إحداهما ضعيفة النار لا تؤثر إلا في حرارة القليل والأخرى قوية تؤثر في حرارة كليهما ، ووضع الماء بنحو ينحصر إيجاد حرارتهما من غير طريق هاتين الماكنتين ، فانه حينئذ لا توجد حرارة الماء الكثير الا وحرارة القليل موجودة دون العكس إذ قد توجد حرارة القليل بالماكنة الضعيفة النار ولا توجد بها حرارة الكثيرة.

ومن الواضح جدا انه لا تقدم وتأخر بين حرارة القليل والكثير.

ص: 347


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 219 - 220 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : يتخلف المورد فيما لو كانت هناك علتان إحداهما تؤثر في شيئين والأخرى تؤثر في شيء واحد ، وفرض انحصار العلتين صدفة. فانه لا يوجد أحد الشيئين المعين إلا والآخر موجود دون العكس. وبدون ان يكون في البين تقدم وتأخر رتبي.

وعلى الثاني : فكذلك لتخلفه أيضا في بعض الموارد ، كما لو فرض ان علة شيء منحصرة تكوينا في أمر واحد ، وهذه العلة كما تؤثر في ذلك الشيء تؤثر في شيء آخر ، وكان لذلك الشيء الآخر علة أخرى تؤثر فيه وحده. فحينئذ لا يمكن وجود ذلك الشيء الا وللآخر وجود ، لأنه لا يوجد إلاّ بالعلة المشتركة وهي تؤثر في كلا الشيئين ، ولكن يمكن أن يوجد الآخر بدون أن يوجد ذلك الشيء كما وجد بعلته الخاصة لا بالعلة المشتركة.

فضابط النقض : ان يكون هناك معلولان لعلة واحدة وكان لأحدهما علة تؤثر فيه خاصة وليس للآخر مثل ذلك.

ومن الواضح : انه لا يكون بين هذين الشيئين تقدم وتأخر.

وعلى هذا فما ذكر ضابطا للتقدم بالطبع غير وجيه.

الجهة الثانية : فيما ذكره من نفي الدور بان العدم لا يحتاج إلى فاعل وقابل ، إذ فيه :

أولا : انه يتنافى مع ما عليه الوجدان والعرف من تعليل عدم الشيء بوجود المانع ، بحيث يكون المانع موردا للمناقشة ونحو ذلك ، فيقال لمن لم يحرق الجسم : « لم لم يحترق ». فيجيب : ان عدم الإحراق لوجود الرطوبة. ومن الواضح ان لم سؤال عن العلة.

وثانيا : انه يتنافى مع تصريح أهل الفن بان عدم العلة علة العدم ، فيسند العدم إلى عدم العلة في كلماتهم.

وعليه ، نقول : إذا كان علة العدم عدم العلة. فعدم السواد إذا كان علة

ص: 348

لوجود البياض فعدمه علة عدم البياض. ومن الواضح ان عدمه ليس إلاّ السواد - لأن نفي النفي إثبات - فيكون السواد علة عدم البياض ، والمفروض ان عدم البياض علة للسواد بملاك المقدمية فيلزم الدور ، ويكون وجود أحد الضدين علة لعدم الآخر في الوقت الّذي يكون عدم الآخر علة لوجود ذلك الضد.

وقد يدفع هذا التقريب للدور بما ذكره قدس سره دفعا لتقريب آخر للدور ذكره هو. وهو وجهان :

الأول : ان العدم لا علة له لأنه غير قابل للتأثر فلا يحتاج إلى فاعل وقابل.

الثاني : انه لو سلم ان العدم له علة ، فعلة عدم الضد عدم عدم الضد الآخر ، وهو ليس نفس الضد ، إذ عدم العدم مفهوم سلبي لا يصلح للانطباق على الأمر الوجوديّ ، وإلاّ لزم انقلاب ما حيثية ذاته طرد العدم إلى ما ليس كذلك (1).

والتحقيق ان كلا الوجهين لا ينهضان على رفع الدور.

اما الأول : فلما عرفت من انه يتنافى مع ما عليه الوجدان وتصريحات أهل الفن من تعليل العدم بوجود المانع. بل هو قدس سره اعترف بذلك ، لكنه ادعى ان هذا علة تقريبية لا علة واقعية حقيقية ، لأن العدم لا يقبل التأثر. فاستناد العدم إلى عدم العلة استناد حقيقي لا تشوبه شائبة المسامحة والتجوز ، لكنه لا بنحو استناد المعلول إلى العلة ، فليكن كذلك فانه يكفينا صحة كون منشأ العدم عدم العلة ولو لم يكن بنحو العلية ، لأنه يكفي في تحقق التقدم الرتبي لعدم العلة على عدم المعلول. فيلزم الدور.

ص: 349


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 220 - الطبعة الأولى.

واما الثاني : فلان ما ذكره وان كان له صورة برهان وتحقيق ، لكنه يتنافى مع البداهة ، وذلك لأن عدم العدم اما ان يكون صرف مفهوم لا واقع له أصلا أو يكون له واقع. فان كان صرف مفهوم لا واقع له أصلا ، فهو لا يصلح للتأثير في عدم المعلوم ، إذ المفهوم ليس له قابلية التأثير والسببية ، بل ذلك من شأن الوجودات. وان كان له واقع ، فلا بد من فرضه هو الوجود ، وإلاّ للزم ان يفرض واقع ثالث غير واقع المتناقضين وهما الوجود والعدم ، وهذا مما يحيله الوجدان والبرهان ، إذ ليس هناك واقع ثالث ليس هو بواقع لأحد المتناقضين.

وهذا مضافا إلى ان مقدمية عدم المانع ليست من جهة ان له نحو تأثير في المعلول أو في قابلية المحل لعروض المعلول ، بل انما هو لأجل ارتفاع ما يكون سببا في عدم قابلية المحل ومنشئا لمنع تأثير المقتضي في مقتضاه ، فليس لعدم الرطوبة خصوصية الا كونه ارتفاعا لما يكون موجبا لحجز النار عن التأثير والوقوف في قبال تأثيرها في الاحتراق لسلبه قابلية المحل له.

فعلى هذا يكون فرض عدم الضد من المقدمات مساوقا لفرض نفس الضد مانعا عن التأثير وسببا في عدم تأثير المقتضي ، لأن مرجع مقدمية عدم الشيء ليس إلاّ إلى مانعية نفس ذلك الشيء.

وعليه ، فلا نحتاج في إثبات الدور إلى ان نقول ان عدم العدم هو نفس الوجود ، فيكون هو المانع ، بل نفس فرض مقدمية عدم الضد مساوق لفرض مانعية نفس الضد ، فيلزم الدّور. وهذا هو الّذي ينظر إليه صاحب الكفاية في كلامه في تقريب إشكال الدور.

وخلاصة الكلام : ان ما أفاده المحقق الأصفهاني في المقام لا يمكن الالتزام به ، فيتعين القول بإنكار المقدمية. كما اعترف قدس سره أخيرا بعدمها وقرب إنكارها.

وهذا كله بالنسبة إلى إشكال الدور.

ص: 350

واما إشكال النقض بالمتناقضين ، فقد خدش فيه المحقق الأصفهاني وتابعة السيد الخوئي : بان ارتفاع الوجود لما كان عين العدم البديل له لم يعقل ان يكون عدم الوجود مقدمة للعدم ، لأنه يلزم ان يكون الشيء مقدمة لنفسه ، فعدم المقدمية لعدم المتناقضين للآخر من جهة المحذور المزبور ، فلا يقاس عليه الضدان لأنه قياس مع الفارق (1).

ومن العجيب جدا ان تصدر من المحقق الأصفهاني والسيد الخوئي هذه المناقشة ، فقد عرفت تقريب كلام الكفاية بما لا يبقى مجال لورود هذا الإشكال ، كيف؟ وهذه المناقشة مأخوذة متممة لإشكال صاحب الكفاية.

وليس نظر صاحب الكفاية الا إلى بيان ان مجرد المعاندة والمنافرة بين الشيئين لا تستلزم مقدمية عدم أحدهما للآخر ، وإلاّ لجرى ذلك في المتناقضين مع انه محال ، فيكشف ذلك ان مجرد المعاندة غير مستلزمة للمقدمية. فمحالية مقدمية عدم النقيض لنقيضه قد أخذت في إيراد صاحب الكفاية فلا يحسن ان تكون ردا عليه.

واما الإشكال الأول فقد عرفت تقريبه.

وملخص ما يريد ان يقوله صاحب الكفاية : ان التمانع بين الضدين لما كان بمعنى عدم جواز اجتماعهما وامتناع وجودهما معا في محل واحد وآن واحد ، ففي مرتبة وجود الضد يمتنع ان يوجد الضد الآخر ، فالعقل لا يحكم بأزيد من لزوم ثبوت عدم الضد في مرتبة وجود الآخر ، من دون ان يقتضي ذلك تقدّم العدم على الوجود. وليست مانعية الضد بمعنى مزاحمتها لتأثير المقتضي للضد الآخر كي يلزم عدمها في مرحلة المؤثر ورتبته وهي سابقة على الأثر.

ص: 351


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 224 - الطبعة الأولى. الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه 3 / 24 - الطبعة الأولى.

وبالجملة : لما كان التمانع بين الضدين بمعنى امتناع اجتماعهما ، فالعقل لا يرى سوى لزوم ثبوت عدم أحدهما عند وجود الآخر كي لا يلزم المحال ، وهذا لا يستدعي تقدم عدم أحدهما على الآخر.

وخلاصة الكلام : ان الوجوه التي ذكرها صاحب الكفاية في المقدمية خالية عن الإشكال ، فيتعين بها نفي المقدمية.

ثم ان المحقق النائيني نفي المقدمية بوجه استلّه من الإشكال الّذي ذكره الكفاية على الدور. ومحصل ما أفاده قدس سره : ان مانعية المانع في رتبة متأخرة عن وجود المقتضي بشرطه ، فما لم يوجد المقتضي لا تتحقق المانعية ، لأن معنى المانعية هي المانعية عن تأثير المقتضي ، فيلزم ان يكون المقتضي موجودا. وبما ان المقتضي بشرطه لا يمكن ان يتحقق لكلا الضدين - كما مرّ تقريبه - لم يكن الضد مانعا عن ضده أصلا. وعلى هذا البيان بنى انه لو كان أحد الضدين مأخوذا شرطا في المأمور به امتنع أخذ الآخر مانعا. وبذلك حلّ مشكلة اللباس المشكوك التي تضاربت النصوص في نحو اعتباره. فمنها ما ظاهره كون لبس ما يؤكل لحمه شرطا. ومنها ما ظاهره كون لبس ما لا يؤكل لحمه مانعا. وبيانه في محله من الفقه (1).

وقد أورد على هذا الوجه ، ولا نرى ملزما لذكر الإيراد ودفعه بعد تقريب نفي المقدمية بما عرفت. فلاحظ.

ثم انه قد أشرنا إلى وجود القول بالتفصيل بين عدم الضد المعدوم وعدم الضد الموجود ، فالثاني مقدمة دون الأول. وهو المنسوب إلى المحقق الخوانساري قدس سره .

ص: 352


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 255 - الطبعة الأولى. الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 307 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وتقريبه : - كما قرره المحقق النائيني قدس سره - : ان وجود أحد الضدين يمنع من قابلية المحل لعروض الضد الآخر ، فيكون عدمه وارتفاعه دخيلا في تحقق قابلية المحل ، بخلاف ما إذا لم يكن أحد الضدين موجودا ، فان المحل قابل لعروض كلا الضدين من دون توقف على عدم أحدهما الآخر.

وناقشه المحقق النائيني : بان هذا إنما يتم لو التزم بان بقاء الأكوان لا يحتاج إلى مؤثر ، فالضد الموجود لا مؤثر فيه في مرحلة بقائه ، وهو مانع من تحقق الضد الآخر لسلبه قابلية المحل.

اما لو التزم كما هو الحق باحتياج البقاء إلى مؤثر كالحدوث لاشتراكهما في ملاك الاحتياج إلى المؤثر وهو الإمكان ، فان الشيء الممكن ممكن في بقائه كما هو ممكن في حدوثه. لم يتم ما ذكره فان المحل بقاء وفي الآن الآخر قابل لعروض كلا الضدين ، وبما انه يمتنع تحقق مقتضي كلا الضدين لأن اجتماعهما لما كان محالا كان تحقق مقتضيهما محالا أيضا ، لأن اقتضاء المحال محال. وعليه ففي فرض وجود أحد الضدين ، يكون عدم الآخر مستندا إلى عدم مقتضية لا إلى وجود المانع فلا تصل النوبة إلى مانعية الضد الموجود أصلا كي يكون عدمه مقدمة ، إذ عدم ضده يستند مع وجوده إلى عدم مقتضية (1).

وخدش في هذا الكلام السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) بان تحقق مقتضي كلا الضدين في نفسه لا محالية فيه ، فيجوز ان يتحقق لكل من الضدين مقتضية في نفسه ولكن الممتنع تأثير كلا المقتضيين.

وحديث « اقتضاء المحال محال » لا يتأتى فيما نحن فيه ، وانما يتأتى فيما إذا تعلق المقتضي الواحد بالمتنافيين.

ص: 353


1- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول1/ 310 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 259 - الطبعة الأولى.

ولكنه لم يسلم للمحقق الخوانساري التفصيل المزبور ، فقد ناقشه : بأنه لا يخلو الحال اما ان لا يكون مقتضي الضد المعدوم موجودا ، أو يكون مقتضي كلا الضدين موجودا ، فعلى الأول يستند عدم الضد إلى عدم مقتضية لا إلى المانع وعلى الثاني يستند عدم الضد إلى مزاحمة مقتضي الضد الموجود لمقتضيه وغلبته عليه لأقوائيته ، فيرجع العدم إلى ضعف مقتضية وقصوره عن التأثير لوجود المزاحم الأقوى ، فلا يستند عدم الضد في كلتا الحالتين إلى نفس وجود ضده ، بل اما ان يستند إلى عدم مقتضية أو إلى مزاحمة مقتضي الضد الآخر الموجود لمقتضيه ، فلا يكون الضد الموجود مانعا في حال من الأحوال كي يكون عدمه مقدمة (1).

أقول : الّذي يقتضيه الإنصاف هو تسليم القول بالتفصيل.

واما ما ذكره السيد الخوئي من استناد عدم الضد - عند وجود كلا المقتضيين - إلى مزاحمة مقتضي الضد الموجود لمقتضي الضد المعدوم وغلبته عليه ، هو أمر يتنافى مع ما عليه البديهة والوجدان من ان المزاحم والمانع هو نفس الضد الموجود ، فلا يتوقف أحد من الحكم باستناد عدم وجود الماء في الإناء الّذي فيه الثلج بعد إجرائه فيه ، إلى نفس وجود الثلج وانه لو لا الثلج لدخل الماء في الإناء. فالمانع بنظر كل أحد هو نفس الضد فيقال انه لولاه لتحقق الضد الآخر.

والسرّ فيه هو : ان وجود الضد يسلب قابلية المحل لعروض الضد الآخر عليه ، فيمنع من تأثير المقتضي في مقتضاه ، فبارتفاعه تتحقق قابلية المحل لعروض الضد الآخر عليه ، وهذا هو المقصود بعدم المانع ، نظير عدم الرطوبة الرافع لتأثير الرطوبة في عدم مؤثرية النار في الإحراق.

إلاّ ان هذا التفصيل لا ينفع في ما نحن فيه من متعلقات الأحكام

ص: 354


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 30 - الطبعة الأولى.

الشرعية.

بيان ذلك : ان الضدين :

تارة : يكونان من الأعيان التي لها وجود قار بحيث لا ترتفع بعد وجودها بعدم الإرادة فقط.

وأخرى : يكون من الأفعال التي يكون لها وجود تدريجي فتنعدم بمجرد عدم الإرادة ، لأن المقتضي المباشر لها هو إرادة الفاعل المختار.

اما النحو الأول ، وهو ما كان من الموجودات القارة فيتصور فيه الحدوث والبقاء ، فيدعى ان الضد بقاء مانع عن ضده الآخر كما قربناه. ولا يكون عدم الإرادة رافعا له ، لأن المقتضي المباشر له بقاء ليس هو الإرادة ، فالسواد إذا وجد يبقى ولو لم تستمر إرادة بقائه.

واما النحو الثاني ، وهو ما كان الأفعال التي هي موجودات تدريجية لا قرار لها ، بل ما يتحقق منها يتصرم وينعدم بانعدام اجزاء الزمان الّذي تحقق فيها ، فبقاؤه منوط بالإرادة ، فان المختار إذا أراد فعل وإذا لم تتحقق منه الإرادة لا يتحقق منه الفعل قهرا. وعليه نقول : ان الفعل الموجود بالنسبة إلى ضده المأمور به لا يكون من قبيل الضد الموجود ، بل من قبيل الضد المعدوم ، لأن الجزء الّذي تحقق منه قد انعدم وما سيتحقق منه معدوم فعلا ولا يتحقق إلاّ بإرادة فعله. فمثلا إذا شرع المكلف في الصلاة ثم تنجس المسجد ، فليس هنا شيء قار له وجود يكون مضادا للتطهير وإزالة النجاسة ، وانما الّذي يمنع من الإزالة ولا يجتمع معها هو الجزء الّذي سيتحقق وهو معدوم فعلا ، فيكون من الضد المعدوم لا الموجود ، اما ما تحقق فقد انعدم وتصرم.

وبالجملة : لما كانت متعلقات الأحكام من الأفعال التدريجية الحصول بلا ان يكون لها وجود قار لم ينفع التفصيل المزبور ، لأنها دائما تكون من الضد المعدوم بالبيان الّذي عرفته ، وقد عرفت عدم المقدمية في الضد المعدوم. فلا يكون

ص: 355

التفصيل سوى تفصيل علمي خال عن الثمرة العملية.

وخلاصة البحث : ان تقريب اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضده بدعوى المقدمية لا محصل له.

وهناك تقريب آخر للاقتضاء ذكره صاحب الكفاية وهو : يتقوم بدعوى الملازمة بين وجود أحد الضدين وعدم الآخر فيستلزم النهي عنه ببيانين :

البيان الأول : ان المتلازمين لا يصح اختلافهما في الحكم ، فلا يجوز ان يكون أحدهما واجبا والآخر محرما ، لعدم إمكان امتثال الحكمين بعد فرض تلازم متعلقيهما وجودا. وعليه فلما كان وجود الضد ملازما لعدم ضده كان طلبه ملازما لطلب ترك ضده لعدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.

والإشكال في هذا البيان واضح كما جاء في الكفاية : فان عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم لا يستلزم توافقها فيه ، بمعنى ان يكون كل منهما محكوما بما يحكم به الآخر. بل هناك شق ثالث وهو خلو أحد المتلازمين من الحكم ، وهو يحقق عدم اختلاف المتلازمين في الحكم من باب السالبة بانتفاء الموضوع ، فليكن ما نحن فيه كذلك ، فيكون أحد الضدين واجبا من دون ان يكون ترك ضده محكوما بحكم من وجوب أو غيره.

البيان الثاني : - وقد أشار إليه صاحب الكفاية - ما تقدم من عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم بضميمة ما هو المسلم من عدم خلو الواقعة من الحكم ، فيلزم ان يكون ترك الضد محكوما بحكم غير مخالف لحكم ضده وليس هو إلاّ الوجوب (1).

ولا يرد الإشكال السابق على هذا البيان كما لا يخفى.

ولكن يرد عليه : ان عدم خلو الواقعة عن الحكم انما يسلم بالنسبة إلى

ص: 356


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /312- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الأشياء بلحاظ عناوينها الأولية ، بملاك ان المكلف لا بد ان تعين وظيفته العملية ولا يبقى متحيرا في مقام العمل ، اما إذا طرأ على الشيء ما يوجب ارتفاع هذا الملاك ، فلا يلزم ان يكون له حكم مجعول شرعا ، كما فيما نحن فيه ، فانه بعد وجوب أحد المتلازمين لا يبقى المكلف متحيرا بالنسبة إلى الآخر لتحققه قهرا بتحقق الواجب ونظيره مقدمة الواجب.

وبالجملة : إذا طرأ على الشيء عنوان ثانوي يوجب ارتفاع تحير المكلف بلحاظ وظيفته العملية بالنسبة إليه ، لا دليل على امتناع خلو الواقعة المذكورة عن حكم شرعي. إذ الملاك المزبور مرتفع كما هو الفرض ، وليس غيره ملاك للزوم وجود الحكم في الواقعة.

المسألة الثانية : في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام ، أعني الترك.

وقد يتوهم اقتضاؤه بالدلالة التضمنيّة ، لأن حقيقة الوجوب مركبة من طلب الشيء والمنع من تركه ، فالمنع عن الترك جزء الوجوب فيقتضيه الأمر بنحو التضمن كما لا يخفى.

ويندفع هذا التوهم بما ذكره صاحب الكفاية من : ان حقيقة الوجوب ليست مركبة من جزءين ، وانما هي عبارة عن مرتبة أكيدة من الإرادة الملازمة للمنع من الترك ، فالتعبير عن الوجوب بأنه المنع من الترك تعبير عنه بلازمه ، لأجل تحديد تلك المرتبة الأكيدة من الإرادة ، وليس هو لأجل كونه جزء حقيقة الوجوب. ومن هذا البيان توصل صاحب الكفاية إلى نفي دعوى العينية ، فانه بعد ان كان المنع من الترك من لوازم الأمر امتنع ان يكون عينه ، لأن الملازمة بين الشيئين تقتضي المغايرة الاثنينية وهو يتنافى مع دعوى العينية. إلاّ ان يراد من العينية هو وجود طلب واحد منسوب حقيقة إلى الوجود ، فيكون بعثا إليه وينسب مجازا وبالعرض إلى الترك فيكون زجرا عنه.

ص: 357

وبالجملة : الّذي يظهر من كلام صاحب الكفاية هو دعوى الملازمة بين الأمر بالشيء والنهي عن الترك (1).

وللمحقق النائيني في المقام كلام محصّله : انه إذا فسرنا النهي بطلب الترك ، فمعنى النهي عن الترك هو طلب تركه ، وطلب ترك الترك عين طلب الفعل واقعا وان تغاير عنه مفهوما ، لأن ترك الترك لا واقع له غير الفعل وإلاّ لزم ان يكون هناك واقع وراء المتناقضين وهو محال ، ولأجل ذلك اشتهر ان نفي النفي إثبات.

فعليه ، يكون الأمر بالشيء عين النهي عن الترك.

إلاّ ان هذا لا يرتبط بما نحن فيه ، فانه انما يرتبط بما إذا كان هناك إنشاءان أحدهما يتضمن طلب الفعل والآخر يتضمن النهي عن الترك ، فنقول :

ان أحدهما يرجع إلى الآخر وكل منهما عين الآخر حقيقة. اما إذا كان هناك إنشاء واحد يتضمن طلب الفعل فلا يتأتى فيه ما ذكر ، إذ قد يغفل الآمر عن ترك تركه كي يطلبه ، فيقال انه عين طلب الفعل ، وما نحن فيه من هذا القبيل. هذا ملخص كلامه (2).

وفيه : ما لا يخفى ، فانه ان أريد من الأمر والنهي نفس الإنشاء اللفظي بان كانا اسمين للفظ الّذي ينشأ به المفهوم ، كان من الواضح تغاير الأمر بالفعل والنهي عن الترك ، فانه قوله : « صلّ » - مثلا - يغاير قوله : « لا تترك الصلاة » بالبداهة ، سواء ذلك في صورة وجود الأمر والنهي خارجا وصورة وجود أحدهما. وان أريد من الأمر والنهي واقع الإنشاء ، أعني به الطلب النفسيّ ، كان طلب الشيء عين النهي عن ضده العام بعد ان كان المنهي عبارة عن طلب الترك ، سواء تعدد الإنشاء فكان إنشاء للنهي وإنشاء للأمر أم اتحد الإنشاء فكان للأمر

ص: 358


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /133- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 251 - الطبعة الأولى.

فقط ، لأن حقيقة الأمر لا تختلف عن حقيقة النهي ، فاللفظ الكاشف عن أحدهما يكشف عن كليهما ، بل هو يكشف عن حقيقة واحدة هي امر بلحاظ الفعل ونهي بلحاظ الترك.

ومن العجيب جدا ما أورده السيد الخوئي من : ان النهي إذا كان عبارة عن طلب الترك وكان الأمر بالشيء عين النهي عن تركه ، لا معنى لأن يقال ان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن الترك ، فانه عينه ، فلا محصل له ، فانه بمثابة ان يقال ان الأمر بالشيء يقتضي الأمر بالشيء (1).

ووجه الغرابة : ان كلامه ان كان يرجع إلى بيان ان المراد بالاقتضاء ما يساوق العلية لا ما هو أعم منها ومن العينية والتضمن ، فلا يصح التعبير بالاقتضاء في مورد العينية ، فيكون إشكالا على أخذ الاقتضاء بمعنى أعم ، فليس محله هاهنا ، وقد سبق منه تقرير ما فرضه النائيني من عموم المراد بالاقتضاء ، بل صرح به في تقريرات بحثه للفياض (2).

وان كان يرجع إلى عدم صحة التعبير بالاقتضاء في مورد العينية مع غض النّظر عما سبق. فهو لا يتوجه على المحقق النائيني بعد ما فرض هو وغيره من الاعلام عموم المراد بالاقتضاء ، وانه بمعنى يصح إطلاقه في مورد العينية. فالمراد بان الأمر بالشيء يقتضي النهي عن تركه مع انه عينه هو ان أحدهما يرجع إلى الآخر ، لا بمعنى علية الأمر للنهي الّذي يتنافى مع فرض العينية.

وبالجملة : لم يظهر محصل لهذا الإيراد.

وتحقيق المقال في هذه المسألة :

ان الأمر والنهي ان كانا اسمين للفظ الّذي يتحقق به إنشاء الطلب ،

ص: 359


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 251 - [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 8 - الطبعة الأولى.

فالامر اسم لصيغة : « افعل » والنهي اسم لصيغة : « لا تفعل » - ان كانا كذلك - فلا يكون الأمر بشيء مقتضيا للنهي عن تركه بنحو من أنحاء الاقتضاء لا بنحو العينية ولا التضمن ولا الملازمة. فان كلا منهما وجود مستقل حقيقي فلا يكون عين الآخر ، كما انه لا يلزم عن تحقق الأمر بشيء بهذا المعنى تحقق النهي عن تركه كذلك لا باللزوم البين بالمعنى الأخص ولا البيّن بالمعنى الأعم.

وان كانا اسمين لواقع الإنشاء ، فان قلنا ان النهي عبارة عن طلب الترك فيكون النهي عن الترك عبارة عن طلب تركه ، كان الأمر بالشيء عين النهي عن تركه ، لأن طلب ترك الترك يرجع في واقعه إلى طلب الفعل. وان قلنا ان النهي عبارة عن الزجر عن الفعل ومبغوضية المنهي عنه ، لم يكن الأمر بالشيء عين النهي عن تركه ، لأن محبوبية العمل وإرادته تغاير مبغوضية الترك وكراهته ، فان كلا منهما وجود مستقل وصفة من صفات النّفس تغاير في واقعها الأخرى.

كما انه لم يكن الأمر ملازما للنهي عن الترك ، لأن المحبوبية تنشأ من وجود المصلحة ، والمبغوضية تنشأ من وجود المفسدة ، فتعلق المحبوبية بالفعل لوجود مصلحة فيه لا تلازم تعلق المبغوضية في الترك ، إذ لا يلزم ان يكون في الترك مفسدة إذا كان في الفعل مصلحة ، بل غاية ما يكون في الترك هو عدم المصلحة وهو لا يكون منشئا للمبغوضية.

ثمرة المسألة

ذكر صاحب الكفاية : ان ثمرة البحث تظهر فيما كان ضد المأمور به عباديا كالصلاة بالنسبة إلى الإزالة ، فانه بناء على اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده بضميمة ان النهي عن العبادة يستلزم فسادها تقع العبادة فاسدة للنهي عنها ، وبناء على عدم اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده تقع صحيحة لعدم النهي عنها.

ص: 360

وأنكر البهائي قدس سره هذه الثمرة ، والّذي ذكره صاحب الكفاية عنه في تقريب الإنكار هو : ان العبادية والتقرب يتوقف على تعلق الأمر بالعمل. ومن الواضح ان الضد العبادي لا امر به لارتفاع الأمر به بمزاحمته مع الواجب الأهم ، فلا يقع صحيحا سواء قلنا بأنه منهي عنه أو لم نقل بذلك. فلا يترتب على الالتزام بتعلق النهي بالضد الأثر المذكور - أعني فساد العبادة -.

وأورد عليه صاحب الكفاية : بان الأمر وان ارتفع بالمزاحمة إلاّ ان ملاك الأمر ثابت وموجود وهو المحبوبية الذاتيّة ، إذ لا مقتضي لارتفاعه. والمزاحمة انما تقتضي ارتفاع الأمر لا غير. وعليه فالتقرب بالملاك يكفي في تحقق العبادية ولا يتوقف على وجود الأمر ، وهو انما يصح لو لم يكن منهيا عنه ، لأن النهي يستلزم الفساد ، فتظهر الثمرة (1).

لكن المحقق النائيني قرب دعوى البهائي بنحو لا يكون لما أورده صاحب الكفاية مجال.

ومحصل ما أفاده : انه اما ان يشترط في صحة العبادة تعلق الأمر بها فعلا.

أو لا يشترط ذلك ويلتزم بكفاية الملاك في صحة العبادة.

فعلى الأول : يقع الضد العبادي فاسدا ، سواء قلنا باقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده أو بعدم اقتضائه ، لأن الأمر بالضد مرتفع لأجل مزاحمته للأمر بالأهم ، لأنه يستحيل طلب الضدين.

وعلى الثاني : يقع صحيحا على القولين اما بناء على عدم الاقتضاء فواضح.

واما بناء على الاقتضاء ، فان العبادة وان كانت منهيا عنها إلاّ ان النهي المتعلق بها نهي غيري ناشئ عن مقدمية تركها للمأمور به أو ملازمته له ، وليس

ص: 361


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /133- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

هو ناشئا عن مفسدة في نفس متعلقه كي يكون مزاحما لما فيه من المصلحة وموجبا لاضمحلالها. فيرتفع موجب التقرب ، فالمصلحة في الضد العبادي تصحح التقرب ولا رافع لها ولا مزاحم (1).

ولا يخفى ان هذا التقريب أوجه علميا مما ذكره صاحب الكفاية ، كما انه لا يرد عليه إيراد صاحب الكفاية من كفاية التقرب بالملاك ، فان التقريب يشير إلى هذه الجهة ويعطيها حكمها فتدبر.

وتحقيق الحال فيه ؛ ان المقصود بالملاك تارة يكون هو المحبوبية الذاتيّة. وأخرى يكون هو المصلحة المترتبة على المتعلق. والظاهر ان مقصود المحقق النائيني بالملاك المصحح للعبادية هو المصلحة ، ويدل عليه وجهان :

الأول : تصريحه بعدم نشوء النهي عن مفسدة في المتعلق كي تزاحم ملاك الأمر وتوجب اضمحلاله ، فانه ظاهر في كون نظره بالملاك إلى المصلحة.

الثاني : انه لو كان المنظور بالملاك هو المحبوبية لما صح التقرب بالعمل بناء على النهي عنه ولو كان نهيا غيريا ، لأن النهي يستلزم مبغوضية العمل ولو لمفسدة في غيره ، ومع كونه مبغوضا كيف يصح التقرب به لامتناع كونه محبوبا حينئذ؟ فكلامه لا يتم إلاّ بفرض كون مراده من الملاك هو المصلحة ، الّذي لا يرتفع بالمبغوضية الغيرية.

إلاّ انه يرد عليه :

أولا : ان قصد المصلحة لا يمكن تحققه هنا.

وذلك : لأن العمل إذا فرض كونه عباديا كانت المصلحة مما يترتب على العمل بقيد كونه عباديا. اما ذات العمل فلا تترتب عليه المصلحة.

وعليه ، فلا يصلح ترتب المصلحة لأن يكون داعيا إلى الإتيان بالعمل ،

ص: 362


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 262 - الطبعة الأولى.

لعدم ترتبه عليه ، والداعي ما كان بوجوده العلمي سابقا وبوجوده العيني لاحقا.

وبالجملة : لا يمكن ان يؤتى بالعمل بداعي المصلحة ، إذ لا مصلحة فيه ، بل المصلحة تترتب على العمل العبادي فقصد المصلحة في طول تحقق العبادية لا محقق لها ، فهو نظير الإتيان بالعمل بداعي ترتب الثواب أو الفرار من العقاب ، فانه في طول العبادة لا محقق لها ، كما تقدم بيان ذلك في مبحث التعبدي والتوصلي.

وثانيا : لو فرض إمكان تحقق قصد المصلحة ، فهو لا يكون مقربا ، لما تقدم من انه يعتبر في المقربية ارتباط العمل بالمولى بنحو ارتباط ، والإتيان بالعمل لأجل ترتب المصلحة عليه لا يرتبط بالمولى فلا يكون العمل مقربا لعدم ربطه بالمولى.

وعلى هذا لا يستقيم ما أفاده المحقق النائيني من إنكار الثمرة ، إذ الملاك المصحح ليس إلاّ المحبوبية ، وهو لا يتحقق مع تعلق النهي بالعمل.

ولكن الّذي يسهل الخطب ما عرفت من الالتزام بعدم اقتضاء الأمر بشيء النهي عن ضده ، اما لأجل إنكار دعوى المقدمية التي هي عمدة أساس القول بالاقتضاء. واما من جهة إنكار وجوب المقدمة.

هذا مع ان النهي على تقدير الالتزام به بمعنى طلب ترك الضد ، أعني وجوب تركه اما لأجل المقدمية أو لأجل التلازم ، ووجوب الترك لا يتنافى مع محبوبية الفعل في نفسه ، إذ ليس النهي الّذي ينافيها الا الزجر عن الفعل وليس هو طلب الترك ، فالنهي الثابت هاهنا على تقديره لا يتنافى مع مقربية الفعل لإمكان ان يكون كل من الترك والفعل محبوبا في نفسه ، إلاّ ان محبوبية أحدهما تغلب الأخرى فتكون منشئا للأمر ، وهو لا يلازم مبغوضية غير المأمور به ، ولذلك قلنا ان الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده العام. فلاحظ.

ص: 363

ثم انه بناء على عدم الاقتضاء لا شبهة في ارتفاع الأمر بالضد عند تعلق الأمر بضده الآخر ، لعدم إمكان الجمع بين الضدين فالامر بكليهما محال ، فإذا تعلق الأمر بالضد الأهم ارتفع الأمر بضده ولو لم يكن منهيا عنه.

وعليه ، فيقع البحث في مصحح الضد العبادي مع ارتفاع الأمر به ، وهو أحد وجوه يقع البحث في كل منها وهي :

أولا : الالتزام بتعلق الأمر به بنحو الترتب.

وثانيا : الالتزام بمصححية قصد الملاك. والمهم في البحث عن هذا الوجه هو البحث عن طريقة إحراز الملاك بعد ارتفاع الأمر.

وثالثا : الالتزام بصحة قصد الأمر بالضد المزاحم ، ولو لم يكن مأمورا به كما ذهب إليه المحقق الكركي ( وهو المحقق الثاني ) في خصوص تزاحم العبادة الموسعة مع واجب مضيق كتزاحم صلاة الظهر مع إزالة النجاسة.

ولنبدأ بالوجه الأخير ، فنقول : حكي عن المحقق الثاني صحة الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر في الواجب الموسع المزاحم لواجب مضيق.

وقد اختلف في تقريب كلامه صاحب الكفاية مع المحقق النائيني.

فالذي ذكره صاحب الكفاية في تقريب كلامه هو : ان هذا الفرد المزاحم بالواجب الأهم وان كان خارجا بالمزاحمة عن دائرة الأمر وليس مصداقا للمأمور به ، وانما هو مصداق للطبيعة بما هي لا بما هي مأمور به ، إلاّ انه حيث يكون كسائر الافراد في الوفاء بالغرض الباعث للأمر ، وعدم افتراقه معها في ذلك ، لم ير العقل المحكم في باب الامتثال ، فرقا بينه وبين غيره من الافراد في تحقق الامتثال به ، فإذا جاء به العبد قاصدا امتثال الأمر يتحقق الامتثال به ويسقط الأمر بالامتثال ويعد العبد ممتثلا ومطيعا بنظر العقل.

هذا ما جاء في الكفاية في مقام تقريب الوجه المذكور ، وقد قرره صاحب

ص: 364

الكفاية (1).

والّذي ذكره المحقق النائيني هو : ان الفرد المزاحم لا يكون مأمورا به ، لأنه لا يكون مقدورا.

إلاّ انه لما كان الأمر متعلقا بصرف وجود الطبيعة لا بخصوصية الافراد ، ولذلك كان التخيير بين الافراد عقليا لا شرعيا. وبما ان القدرة على بعض افراد الطبيعة تحقق القدرة على نفس الطبيعة.

وعليه ، فالامر فيما نحن فيه متعلق بصرف وجود الطبيعة للقدرة على بعض افرادها وهي غير المزاحمة للواجب.

ومن الواضح ان انطباق الطبيعة على الفرد المزاحم قهري ، فإذا جاء به العبد تحقق به الامتثال ، لأن ملاك الامتثال انطباق المأمور به على المأتي به ، فكما يتحقق الامتثال بغير المزاحم من الافراد للانطباق ، كذلك يتحقق بالفرد المزاحم للانطباق. فالفرد المزاحم وان لم يكن مأمورا به بنفسه لكنه مصداق المأمور به.

هذا محصل ما جاء في تقريرات المحقق النائيني قدس سره (2).

وجهة الفرق بين التقريبين : ان الفرد المزاحم في تقريب صاحب الكفاية قد فرض كونه خارجا عن دائرة المأمور به ، وانه ليس فردا للطبيعة بما هي مأمور به.

واما في تقريب المحقق النائيني فقد فرض كونه مصداقا للطبيعة بما هي مأمور بها.

وعلى أي حال فنحن نوقع الكلام في كلا التقريبين.

اما تقريب الكفاية فقد أورد عليه - كما أشار إليه في الكفاية - بان الأمر

ص: 365


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /136- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول1/ 313 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي. المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 / 263 - الطبعة الأولى.

لا يدعو إلاّ إلى ما تعلق به ، فيستحيل أن يؤتى بالفرد المزاحم بداعي الأمر ، مع انه خارج عن دائرة المأمور به ، إذ الأمر لا يدعو إليه والحال هذه (1).

وتحقيق الكلام ان يقال : ان المقصود من داعي الأمر ليس ما هو ظاهره وهو داعي نفس الأمر لأن الداعي ما يكون بوجوده الخارجي متأخرا عن العمل وهو المعبر عنه بالعلة الغائية. ومن الواضح ان الأمر لا يترتب في الخارج على العمل بل هو سابق عليه. فالمقصود من داعي الأمر هو داعي موافقة الأمر ، لا بمعنى موافقة نفس الأمر فانه تعبير مسامحي ، بل موافقة المأمور به ، أو المقصود داعي الجري على طبق الأمر وامتثاله.

ومن الواضح انه بهذا المعنى الأخير يمكن الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر ، لأن الأمر لما كان ناشئا عن ثبوت غرض ملزم في متعلقه وكان الأمر لأجل تحصيل هذا الغرض ، وبما ان الفرد المزاحم محصل للغرض الباعث نحو الأمر ، صح أن يؤتى به بداعي الجري على طبق الأمر. وبتعبير آخر يؤتى بالفرد المزاحم بداعي تحصيل الغرض الداعي إلى الأمر لغرض إسقاط ذلك الأمر ، بحيث لو لم يكن الأمر ثابتا لما جيء بالعمل.

وبهذا التقريب يصح ان يقال : انه يمكن الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر.

إلاّ انه - كما عرفت - يبتني على ان يكون الفرد المزاحم محصلا للغرض ، وطريق معرفة ذلك سيأتي تحقيقه في الكلام على الوجه الثاني ، الّذي نبحث فيه عن طريق إحراز الملاك بعد ارتفاع الأمر.

واما تقريب المحقق النائيني فقد أورد عليه قدس سره : بأنه انما يتم بناء على كون أخذ القدرة شرطا للتكليف من باب حكم العقل بقبح تكليف

ص: 366


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /136- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

العاجز.

وذلك لأن الطبيعة لما كانت مقدورة بالقدرة على بعض افرادها ، صح تعلق التكليف بها من دون تقييد ، لأن الجامع بما هو جامع مقدور فيصح تعلق الحكم به.

واما بناء على كون اشتراط القدرة من جهة اقتضاء نفس التكليف لذلك وهو الحق ، فان التكليف انما هو

لأجل إعمال إرادة المكلف في الفعل ، وتحريك العبد نحو الإتيان بالعمل بإرادته ، فطبيعة التكليف تقتضي تعلقه رأسا بما هو مقدور ، إذ لا قابلية لغير المقدور لتعلق التكليف في نفسه.

بناء على هذا البناء لا يتم ما ذكره المحقق الكركي ، لأن متعلق التكليف ليس هو الطبيعة بما هي هي ، بل الطبيعة المقدورة. ومن الواضح ان الفرد المزاحم ليس فردا لطبيعة المقدورة فلا يكون فردا للطبيعة بما هي مأمور به بل بما هي هي ، وهو لا ينفع في صحة الإتيان بها بداعي الأمر. هذا محصل ما أورده المحقق النائيني (1).

وهو لا يخلو عن ضعف بكلا شقيه ..

أعني : ما ذكره من عدم تقيد المتعلق بالقدرة بناء على كون اشتراط التكليف بالقدرة بحكم العقل من باب قبح تكليف العاجز.

وما ذكره من كون الحق تقيد المتعلق بالقدرة لأجل كون اشتراط القدرة مما يقتضيه نفس التكليف وطبيعته.

اما ما اختاره من كون اشتراط القدرة من جهة اقتضاء طبيعة التكليف ذلك ، سواء حكم العقل بقبح تكليف العاجز أو لم يحكم. فالحق فيه : انه لا وجه لاشتراط القدرة سوى حكم العقل بقبح تكليف العاجز وكون التكليف انما هو

ص: 367


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 263 - الطبعة الأولى.

لجعل الداعي لا ينافي ذلك.

بيان ذلك : ان ارتباط التكليف بإرادة المكلف يتصور على أنحاء ثلاثة : لأنه ..

اما ان يكون ارتباطا تكوينيا ، نظير ارتباط تحريك الآلة في تشغيل الماكنة المنتجة لبعض المصنوعات كالأسباب التوليدية لمسبباتها ، فيكون حدوث التكليف محركا للإرادة وموجدا لها فينتج العمل المطلوب.

واما ان يكون ارتباطا جعليا يتوقف على الاعتبار والبناء.

ثم ان هذا يتصور على نحوين :

الأول : ان يكون التكليف عبارة عن اعتبار الداعوية الفعلية وجعل ما يكون داعيا بالفعل نحو العمل.

الثاني : ان يكون عبارة عن اعتبار ما يمكن ان يكون داعيا وجعل ما له اقتضاء الداعوية ولو لم يكن داعيا بالفعل.

وما ذكره المحقق النائيني انما يتم بناء على الوجهين الأولين ، فانه لا يكون قابلا في نفسه لتعلقه بغير المقدور ، إذ المفروض انه مرتبط تكوينا بالإرادة ، فلا يتصور تعلقه بغير المقدور ، أو انه يدعو فعلا نحو الفعل ، والدعوة الفعلية لا تتصور لغير المقدور.

واما بناء على الوجه الثالث ، فالتكليف قابل في نفسه للتعلق بغير المقدور ، لأن حقيقته جعل ما يقتضي الداعوية ، ولا يمتنع وجود المقتضي مع عدم حصول شرطه أو مع وجود مانعة. وبعبارة أخرى : لا يمتنع وجود المقتضي مع عدم فعلية تأثيره ، فيمكن ان يتعلق التكليف في نفسه بغير المقدور - فيكون نظير وجود النار بدون الإحراق - ، إلا انه حيث كان جعل مقتضى الداعوية لغوا بالنسبة إلى غير المقدور لعدم ترتب الأثر عليه ، كان ذلك قبيحا. فمرجع اشتراط القدرة على هذا الوجه إلى قبح تكليف العاجز لأجل كونه لغوا لا إلى عدم

ص: 368

إمكانه.

ومن الواضح ان حقيقة التكليف ليست إلاّ جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وهي أجنبية عن الوجهين الأولين.

وعليه ، فاشتراط القدرة لا يكون إلاّ من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز لأنه لغو محض ، وكون التكليف انما هو لجعل الداعي لا ينافي ذلك بعد ان عرفت ان المقصود جعل ما يمكن ان يكون داعيا ، وقد عرفت انه قابل في نفسه لأن يتعلق بغير المقدور ، ولكن المانع منه ليس إلاّ كونه عملا لغوا لا يصدر من الحكيم.

واما ما التزم به - بناء على كون اشتراط القدرة من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز - من تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغير المقدور ، لأن الجامع مقدور بالقدرة على بعض افراده.

فالحق انه لا يمكن الالتزام به ، وذلك لأن تعلق الأمر بالجامع بحيث يسري إلى جميع افراده المقدور منها وغير المقدور انما يتم بالإطلاق ، فينطبق المأمور به على غير المقدور لأنه أخذ بنحو يشمله. وتعلقه بالجامع المطلق بحيث يسري إلى جميع افراده غير معقول ، لأنه قد مرّ بيان ان استحالة التقييد تارة تلازم استحالة الإطلاق وأخرى تلازم ضرورة الإطلاق ، لأن امتناع التقييد تارة يكون لأجل استحالة الحكم على المقيد ، فيستحيل الإطلاق أيضا ، لأن معنى الإطلاق يرجع إلى الحكم على جميع افراد المطلق ومنها المقيد ، والمفروض استحالة ثبوت الحكم له. وأخرى يكون لأجل استحالة نفس التقييد وقصر الحكم على بعض الافراد ، فيجب الإطلاق لامتناع ثبوت الحكم لخصوص بعض الافراد.

وما نحن فيه من قبيل الأول ، فان استحالة ثبوت الحكم لغير المقدور ليس لأجل امتناع قصر الحكم على بعض الافراد ، بل لأجل امتناع ثبوت

ص: 369

الحكم له بخصوصه ، وإذا استحال ثبوت الحكم لغير المقدور فهو ممتنع مطلقا ، سواء كان بعنوانه الخاصّ أو بعنوان مطلق. فالإطلاق ممتنع كالتقييد.

وبالجملة : الجامع وان كان مقدورا ، إلاّ ان هذا لا أثر له بعد ان كان الملاك الموجب لامتناع ثبوت التكليف بغير المقدور بعنوانه الخاصّ - وهو قبح تكليف العاجز - موجودا في ثبوت الحكم لمطلق الافراد ، بحيث تندرج الافراد غير المقدورة فيه.

وعلى هذا ، فالفرد غير المقدور وان كان فردا للطبيعة بما هي هي ، إلاّ انه ليس فردا لها بما هي مأمور به.

والمتحصل ان التقريب الّذي ذكره المحقق النائيني لا يسلم عن الإشكال ، بخلاف التقريب الّذي ذكره صاحب الكفاية ، لكنه كما عرفت يتوقف على إحراز وجود الملاك في الفرد المزاحم.

ثم ان المحقق الأصفهاني أورد على المحقق النائيني - وأوضح الإيراد مفصلا السيد الخوئي (1) -.

وخلاصة الإيراد : ان الواجب الموسع ، له نحوان من الافراد ، طولية وعرضية.

والالتزام بكون اشتراط القدرة من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز ، انما ينفع في تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره فيما لو كان التزاحم بين بعض الافراد العرضية للموسع ونفس الواجب المضيق ، إذ يقال حينئذ : ان الجامع مقدور للقدرة على بعض افراده ، وهي الافراد العرضية الأخرى ، فيصح تعلق الوجوب بالجامع.

اما لو كان التزاحم بين الفرد الطولي والواجب المضيق ، بحيث كانت

ص: 370


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 58 - الطبعة الأولى.

جميع الافراد العرضية في آن من الآنات مزاحمة لواجب مضيق ، نظير مزاحمة الإزالة للصلاة ، فلا ينفع ما ذكره إلاّ بالالتزام بالواجب المعلق ، وذلك لأن الجامع في آن المزاحمة غير مقدور لعدم القدرة على أي فرد من افراده ، لكون المفروض مزاحمة كل منها للواجب الأهم. فإذا كان الجامع غير مقدور امتنع تعلق التكليف بالجامع فعلا. نعم بناء على الواجب المعلق يلتزم بأنه فعلا متعلق بالجامع في الآن الّذي يلي آن المزاحمة ، لأنه مقدور في ذلك الآن ، لكنه قدس سره لا يلتزم بالواجب المعلق ويرى انه مستحيل كما تقدم. هذا إيضاح ما أفاده المحقق الأصفهاني (1) وهو وجه لطيف. لكنه لا يخلو عن مناقشة سيأتي التعرض لها في غير هذا المقام فانتظر.

وقد ذهب السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) إلى : ان القدرة ليست شرطا للتكليف وانما هي شرط لحكم العقل بلزوم الإطاعة.

وقد قرب هذه الدعوى : بان الإنشاء لما لم يكن عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ، إذ اللفظ ليس وجودا تكوينيا للمعنى ، كما انه لا يصلح ان يكون وجودا اعتباريا له ، لأن الاعتبار فعل نفساني يقوم بالنفس ، ولا يحتاج فيه إلى اللفظ ، وانما كان عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ وإظهاره ، لم يكن التكليف عبارة عن إنشاء البعث والتحريك نحو العمل ، وانما كان عبارة عن جعل الفعل في عهدة المكلف ، وهذا يستتبع حكم العقل بوجوب الامتثال والإطاعة.

وإذا كانت حقيقة التكليف ذلك لم يمتنع تعلقها بغير المقدور ، إذ هو كسائر الأحكام الوضعيّة التي لا شك في صحة تعلقها بغير المقدور. فيصح جعل الفعل في عهدة المكلف غير القادر.

نعم هي شرط في حكم العقل بلزوم الامتثال والإطاعة ومأخوذة في

ص: 371


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 247 - الطبعة الأولى.

موضوعه ، فحكمه بوجوب الإطاعة لا يتعلق بغير القادر.

وعلى هذا ، فلا يمتنع تعلق التكليف بالجامع بين المقدور وغيره ، لأن حقيقة التكليف لا تتنافى مع عدم القدرة ، بل تعلق التكليف بالجامع ضروري ، لأن التقييد إذا كان ممتنعا كان الإطلاق ضروريا ، لأن التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب - لا تقابل العدم والملكة - ، فإذا امتنع أحدهما وجب الآخر.

وتوهم : ان تعلق التكليف بالجامع بحيث يسري إلى غير المقدور يستلزم اللغوية ، لأن المفروض ان حكم العقل بلزوم الإطاعة قد أخذ في موضوعه القدرة ، فلا فرق في لغوية التكليف بين تعلقه بغير المقدور منفردا أو في ضمن الجامع.

يندفع : بأنه يكفي في رفع لغوية تعلق التكليف بالجامع صحة الإتيان بالفرد المزاحم بداعي الأمر لو بنى على عصيان الأمر بالأهم ولولاه لما صح ، وهذا المقدار من الأثر رافع للغوية ومصحح للعمل (1).

ويتخلص مما أفاده أمور :

الأول : كون التكليف عبارة عن جعل الفعل في عهدة المكلف والانتهاء إلى هذا الرّأي بواسطة نفي كون الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ.

الثاني : ان القدرة ليست شرطا للتكليف ، وانما هي شرط لمنجزيته أو بعبارة أخرى : شرط لحكم العقل بلزوم الإطاعة.

الثالث : ان امتناع التقييد يستلزم ضرورة الإطلاق.

الرابع : ارتفاع اللغوية بقصد الأمر بالفرد المزاحم.

ولنا في جميع هذه الأمور كلام ومؤاخذات :

اما الأمر الأول : فالكلام الّذي لنا فيه ليس في بيان حقيقة التكليف وانها

ص: 372


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 66 - الطبعة الأولى.

ما هي فلهذا مجال آخر ، وانما الكلام في طريقة استدلاله على ذلك وانتهائه إليه ، فان صدوره منه غريب جدا.

بيان ذلك : ان هناك أمرين وقع كل منهما محل النزاع.

أحدهما : حقيقة التكليف ، وانها هل هي جعل الفعل في عهدة المكلف ، أو انها إنشاء التحريك والبعث وجعل الداعي.

ثانيهما : حقيقة الإنشاء ، وانها هل هي إيجاد المعنى باللفظ أو إبراز الاعتبار النفسانيّ.

ومن الواضح ان النزاع في الثاني يجري على كلا القولين في الأول ، فيقع الكلام بناء على كون التكليف عبارة عن جعل الفعل في العهدة في ان الإنشاء هل هو إيجاد المعنى باللفظ أو إبراز الاعتبار النفسانيّ. وهكذا يقع نفس الكلام بناء على كون التكليف عبارة عن جعل الداعي.

كما ان النزاع في الأول يجري على كلا القولين في الثاني فيقع النزاع في حقيقة التكليف وانها ما هي ، بناء على كون الإنشاء عبارة عن إيجاد المعنى باللفظ ، كما يقع بناء على كون الإنشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ ، إذ يقال ان المبرز هل هو جعل الفعل في عهدة المكلف أو جعل البعث والداعي؟.

وبالجملة : كل من الأمرين يقع فيه البحث مستقلا عن الآخر ، ويجري فيه النزاع بناء على كلا القولين في الآخر ، فلا يكون اختيار أحد القولين في أحدهما مستلزما لاختيار أحدهما المعين في الآخر ، إذ انه يتلاءم مع كليهما في الآخر.

وعليه ، فالالتزام بان الإنشاء عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ لا ينتهي منه رأسا إلى كون التكليف جعل الفعل في عهدة المكلف.

وكلام السيد الخوئي ظاهر في ذلك بل صريح ، فلا وجه له.

واما الأمر الثاني : فليس الوجه فيه الا ما ذكره من ان حقيقة التكليف انما هي جعل الفعل في عهدة المكلف ، فتعلقه بغير المقدور لا مانع عنه ، ولا

ص: 373

يشترط بلحاظ حقيقته ان يتعلق بالحصة المقدورة.

وهذا لا ينفع فيما اراده ، وذلك لأنه ..

ان أراد ان حقيقة التكليف لا تختلف عن سائر الأحكام الوضعيّة أصلا ، فجعل الفعل في العهدة الناشئ من التكليف نظير صيرورة الفعل في العهدة الناشئ من الإجارة ، فكما يصح تعلق الحكم الوضعي بغير المقدور يصح تعلق التكليف به.

ففيه : ان لازم ذلك صحة تعلق التكليف بغير المقدور رأسا وبنفسه فقط ، إذ من الواضح إمكان تعلق الحكم الوضعي بغير المقدور كالنائم ونحوه. وهذا مما لا يقول به أحد ولا يلتزم به القائل ، إذ لا يلتزم القائل ولا غيره بصحة تكليف العاجز عن القيام بالصلاة قائما. مع ان الكل يلتزمون بصحة الحكم باشتغال ذمة من لا يجد عند عروض بعض أسباب اشتغالها.

وان أراد انها تختلف عن سائر الأحكام الوضعيّة ، فليس اختلافها الا من ناحية الغرض من جعل التكليف ، فان الغرض منه إيجاد الداعي نحو الفعل.

فحقيقته : جعل الفعل في العهدة بغرض إيجاد الداعي نحو العمل. بخلاف سائر الأحكام الوضعيّة ، فليس الغرض منها ذلك. وإذا كان الغرض من التكليف ذلك امتنع شموله لغير المقدور ، لحكم العقل بقبح تكليف العاجز للغويته ، فالقدرة شرط لنفس التكليف ، ولو التزم بان حقيقته جعل الفعل في العهدة. وليست شرطا لحكم العقل بلزوم الامتثال.

واما حديث رفع اللغوية بتحقق الامتثال وسقوط الأمر لو جيء بالعمل من دون إرادة ، لأنه أحد افراد المأمور به.

فيدفعه : ان لغوية العمل انما هي بلحاظ عدم ترتب الأثر المرغوب عليه ، لا بلحاظ عدم ترتب مطلق الأثر. وبما انك عرفت ان الأثر المرغوب من التكليف انما هو إيجاد الداعي نحو العمل ، كان التكليف بغير المقدور ممتنعا ، لأنه

ص: 374

لغو لعدم ترتب الأثر المرغوب عليه.

ثم ان الّذي يظهر منه ( حفظه اللّه ) - بناء على ان حقيقة التكليف جعل الداعي وإنشاء البعث هو - تسليم ما ذكره المحقق النائيني من ان اشتراط القدرة في التكليف إذا كان من باب حكم العقل بقبح تكليف العاجز صح تعلق التكليف بالجامع.

وهذا وان لم يصرح به ، لكنه يستفاد من طي كلماته.

وأنت قد عرفت الإشكال في ذلك ، وبيان امتناع سراية الحكم للحصة غير المقدورة ، وان الملاك في منع تعلق التكليف بالحصة غير المقدورة رأسا موجود في سراية التكليف إلى الحصة غير المقدورة. فالتفت.

واما الأمر الثالث : ففيه :

أولا : ما عرفت من ان امتناع التقييد إذا كان لأجل امتناع ثبوت الحكم للمقيد - كما هو الحال فيما نحن فيه - كان الإطلاق ممتنعا لاستلزامه ثبوت الحكم للمقيد وقد فرض امتناعه. نعم إذا كان امتناع التقييد لأجل امتناع قصر الحكم على بعض الافراد كان الإطلاق ضروريا ، ولكنّ الأمر فيما نحن فيه ليس كذلك ، بل هو من القسم الأول.

وثانيا : ان امتناع التقييد انما يستلزم ضرورة الإطلاق إذا كان الممتنع تقييد الحكم بأي حصة كانت ، اما إذا امتنع تقييد الحكم بخصوص هذه الحصة لم يجب الإطلاق ، إذ هناك شق ثالث غير ممتنع ، وهو تقييد الحكم بخصوص الحصة الأخرى المعاكسة للحصة الممتنعة.

وما نحن فيه كذلك : فان الممتنع ثبوت الحكم للحصة غير المقدورة ، اما خصوص الحصة المقدورة فلا يمتنع ثبوت الحكم لها. فامتناع تقييد الحكم بالحصة غير المقدورة لا يلازم ثبوت الإطلاق ، إذ يمكن ثبوت الحكم لخصوص الحصة المقدورة وهو مما لا محذور فيه.

ص: 375

وثالثا : - وهو العمدة - ان تعلق التكليف بالجامع بحيث يشمل المقدور وغير المقدور يتنافى مع فرض التزاحم ، لأن التزاحم يكون لأجل تنافي الحكمين بحيث لا يمكن اجتماعهما ، فيرتفع أحدهما ويبقى الآخر وهو الأهم.

وعليه ، ففرض ثبوت التزاحم بين فرد الواجب الموسع والواجب المضيق وتقديم الواجب المضيق لازمه ارتفاع الأمر بالفرد المزاحم وعدم شموله له وإلاّ لعاد التزاحم.

وبالجملة : فرض التزاحم ينافي الالتزام بتعلق الأمر بالجامع.

وهذا الإيراد لم نعرف الوجه في غفلة الاعلام عنه ، فانه لا يرد على خصوص السيد الخوئي ، بل يرد على المحقق النائيني ، لأنه قرر تعلق الأمر بالجامع على تقدير دون آخر. بل يرد على أصل تقريب المحقق النائيني لكلام الكركي ، فانه تقريب غير علمي.

والّذي تحصل : ان القدرة شرط للتكليف بحكم العقل من باب قبح تكليف العاجز على جميع المسالك.

ونتيجة البحث : ان التقريب الّذي ذكره المحقق النائيني لكلام المحقق الكركي لا يخلو عن خدشة وإشكال ، فلا يمكن الالتزام به.

واما التقريب الّذي ذكره صاحب الكفاية ، فقد عرفت وجاهته ، لكنه يبتني على إحراز الملاك في الفرد المزاحم ، فهو لا ينهض وجها مستقلا لتصحيح العبادة ما لم ينضم إليه الوجه الآخر الّذي يبين فيه طريقة إحراز الملاك ومع إحرازه لا حاجة إلى ذلك الوجه إلاّ بناء على توقف العبادة على قصد الأمر وعدم كفاية غيره.

ثم ان كلام المحقق الكركي لو تم ، فهو انما ينفع في مورد تزاحم الواجب الموسع والواجب المضيق ، دون مورد تزاحم الواجبين المضيقين كما لا يخفى.

هذا مع انه لا تزاحم بين الواجب الموسع والواجب المضيق لما سيأتي في

ص: 376

مبحث التزاحم من بيان ذلك ، فقد ذكر المحقق النائيني وجها لتقديم الواجب المضيق على الواجب الموسع عند تزاحمهما ، وهذا الوجه ينتهي إلى بيان عدم ثبوت التزاحم بينهما بالمرّة وسيجيء تحقيق ذلك إن شاء اللّه تعالى.

وعليه ، فالوجه الّذي ذكره المحقق الكركي لا ينفع في تصحيح العبادة فيما نحن فيه أصلا ، لأن موضوعه خارج عن باب التزاحم.

ويقع الكلام بعد ذلك في الوجه الثاني والبحث فيه عن طريق إحراز الملاك وقد ذكر لذلك وجهان :

الأول : ما التزم به المحقق النائيني قدس سره ، وهو التمسك بإطلاق المادة. بتقريب : ان متعلق الأمر إذا كان مطلقا كشف ذلك عن ثبوت الملاك في مطلق الافراد لاعتبار وجود الملاك في متعلق الأمر.

وقد استشكل رحمه اللّه في ذلك من وجوه عديدة :

الأول : انه بناء على ما ذهب إليه من ان اشتراط القدرة في متعلق التكليف ، انما هو لأجل اقتضاء نفس الخطاب ذلك ، فنفس ورود الأمر يكون موجبا لتقييد متعلق الأمر بالقدرة فلا يكون مطلقا لوجود الدليل على التقييد.

الثاني : انه لو أنكر استلزام الأمر تقييد متعلقه بالقدرة ، فلا أقل من كونه صالحا للقرينية على التقييد ، ومع وجود ما يصلح للقرينية لا يصلح التمسك بإطلاق الكلام بل يكون الكلام مجملا من تلك الناحية.

الثالث : ان استكشاف عدم التقييد والإطلاق من عدم ورود القيد ، انما هو لأجل استلزام التقييد مع عدم بيانه نقض الغرض ، لإمكان ان يأتي العبد بغير واجد القيد من الافراد اعتمادا على الإطلاق فيستلزم نقض الغرض من الأمر ، إذ لا يتوصل بذلك إلى ما هو الغرض من الأمر.

وهذا المعنى غير تام فيما نحن فيه ، فان عدم التقييد بالقدرة لفظا مع تقيده واقعا بها لا يستلزم نقض الغرض ، إذ لا يمكن الإتيان بغير المقدور كما هو

ص: 377

الفرض ، فعدم الدليل على التقييد بالقدرة لا يستكشف منه الإطلاق.

الرابع : ان التمسك بالإطلاق في إثبات واجدية المتعلق للملاك يتوقف على كون الآمر في مقام بيان ما هو واجد للملاك - فان التمسك بالإطلاق يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان -. ومن الواضح ان الآمر ليس إلاّ في مقام بيان ما يرد عليه الأمر ، وما هو مطلوب من المكلف ، دون ما هو واجد للملاك ، فانه غير منظور في الكلام كما لا يخفى على كل أحد.

وقد أجاب قدس سره عن الوجه الأول : بان التقييد بالقدرة إذا كان في مرتبة سابقة على تعلق الأمر ، بحيث ورد الأمر على المقيد ، كان ذلك كاشفا عن دخل القدرة في الملاك. واما إذا كان المتعلق في المرتبة السابقة مطلقا غير مقيد ، وانما تقيد بعروض الطلب عليه ، فالتقييد نشأ من نفس عروض الطلب ، بحيث ورد الطلب على المطلق وانما تقيد في مرحلة عروضه ، لم تكن القدرة دخيلة في الملاك ، لأن إطلاق المتعلق في المرحلة السابقة هو الكاشف عن وجود الملاك في مطلق الافراد ، والأمر لا يقتضي تقييد متعلقه في المرحلة السابقة عليه. فهو مطلق غير مقيد.

ومن هنا يظهر الجواب عن الوجه الثاني : فان الأمر كما لا يقتضي تقييد المتعلق لا يصلح لتقييده.

وأجاب عن الوجه الثالث : بان استكشاف الإطلاق من عدم ذكر القيد ليس من جهة استلزام التقييد بدون ذكر القيد نقض الغرض ، بل من جهة لزوم الخلف ، فان المتكلم إذا كان في مقام البيان فلا بد ان يبين التقييد لو كان مراده واقعا ، وإلاّ لزم خلف فرض كونه في مقام البيان ، وهو يتنافى مع كون المتكلم حكيما.

وفي هذا لا يختلف الحال بين ما نحن فيه وغيره. وهذا المعنى هو المقصود من التعبير بتبعية مقام الإثبات لمقام الثبوت. فتدبر.

ص: 378

وأجاب عن الوجه الرابع بما نصه : « قلت : التمسك بالإطلاق تارة : يكون لأجل الكشف عما هو مراد المتكلم من الكلام ، ومن المعلوم انه يتوقف على إحراز كونه في مقام البيان ، وإلاّ لما كان الإطلاق كاشفا عن تعلق إرادته بالمطلق. وأخرى : يكون لأجل كشف المعلول عن علته بطريق الإن ، وهذا لا يتوقف على كون المولى ملتفتا إلى ذلك فضلا عن كونه في مقام بيانه. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فانا إذا فرضنا ان ما يرد عليه طلب المتكلم في ظاهر كلامه هو مطلق الفعل دون المقدور منه ، والمفروض ان ما يرد عليه الطلب لا بد ان يكون ذا ملاك ومصلحة على مذهب العدلية ، فيكشف ذلك عن ان الواجد للملاك هو مطلق الفعل ، دون المقدور منه ، وهذا الكشف قهري لا يدور مدار كون المولى في مقام بيانه وعدمه ... » (1).

أقول : ما ذكره أولا في ابتداء كلامه من ان التمسك بالإطلاق تارة يكون لأجل الكشف عن مراد المتكلم من كلامه. وأخرى يكون من باب كشف المعلول عن علته. والأول هو الّذي يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان دون الثاني ، فانه يصح التمسك به وان كان المتكلم غافلا ، فان الّذي يقول : « وجدت الحرارة » يدل كلامه على وجود النار ، سواء كان ملتفتا أو غافلا من باب الانتقال من المعلول إلى العلة.

ما ذكره من ذلك وجيه كبرويا ، لكن تطبيقه على ما نحن فيه لم يؤد في الكلام كما ينبغي ، بل كان بيانه بنحو مجمل لا يفي بالمطلوب.

إذ يرد عليه : ان المقصود ..

ان كان هو التمسك بإطلاق الكلام في إثبات ان المتعلق في المرحلة السابقة على الأمر هو مطلق الفعل ، وينتقل من ذلك إلى وجود الملاك في مطلق

ص: 379


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 269 - الطبعة الأولى.

الفعل للملازمة ، فيكون ذلك من باب كشف المعلول عن العلة ، لا ما توهم في الإشكال من التمسك بالإطلاق في إثبات وجود الملاك في المطلق رأسا. ان كان المقصود ذلك كما هو ظاهر تقريرات الكاظمي ، فيرد عليه : ان إثبات إطلاق المتعلق في المرحلة السابقة على الأمر يتوقف على كون المتكلم في مقام البيان ، وهو ليس كذلك ، إذ ما أثر بيان المتعلق في المرتبة السابقة مع قطع النّظر عن الملاك ، كي يكون المتكلم في مقام بيانه ، فهو أبعد من كون المتكلم في مقام بيان ما هو واجد للملاك.

وان كان المقصود هو التمسك بإطلاق الكلام في مرحلة الاستعمال ، وانه لم يرد عليه قيد في ظاهر التعبير. ففيه : ان إطلاق الكلام في مرحلة الاستعمال لا يلازم وجود الملاك في المطلق ما لم يحرز ان المراد الواقعي هو المطلق ، ولا طريق إلى إحرازه الا مقدمات الحكمة. فيعود الإشكال.

وغاية ما يمكن ان يقال في توجيه هذا الكلام ، بحيث يكون له صورة علمية ويخرج عن بداهة البطلان هو : ان واقع الأمر ليس إلاّ بالخطاب المتكفل لإنشائه ، وليس له واقع يكون الكلام حكاية عنه ، وانما واقعه وواقع متعلقه ليس إلاّ نفس الإنشاء والكلام. وحيث ان المتعلق في الكلام خال عن القيد فهو مطلق ، فيكشف ذلك عن توفر الملاك فيه من دون تقييد ، فليس هو من باب التمسك بالإطلاق ، بل نفس عدم التقييد لفظا يكشف عن ذلك ، لأن المتعلق مطلق لفظا والمفروض ان واقعه هو اللفظ والإنشاء.

وهذا الوجه وان لم يخل عن مناقشات ، لكن لا مجال لذكرها. والعمدة في المناقشة هو : ان الدليل الدال على تبعية الأحكام للمصالح من إجماع أو عدم اللغوية والحكمة لا يقتضي سوى توفر الملاك في ما انبسط عليه الأمر وبعث نحوه ، وان كان قد تعلق في ظاهر الخطاب بالمطلق ، ولا ملازمة بين وجود الملاك وأخذ الشيء في متعلق الأمر خطابا ، والمفروض فيما نحن فيه ان الأمر وان كان

ص: 380

يرد على المطلق لا على المقيد ولكن انما ينبسط في مرحلة عروضه على الحصة المقدورة دون الأعم. فتدبر جيدا.

الثاني : التمسك بالدلالة الالتزامية. ببيان : ان الكلام إذا كان له دلالتان دلالة مطابقية ودلالة التزامية وسقطت الدلالة المطابقية عن الحجية كانت الدلالة الالتزامية حجة في مدلولها ، لأن الدلالة الالتزامية انما تتبع الدلالة المطابقية في الوجود والتحقق ، فلا يمكن حصولها بدون الدلالة المطابقية ، ولا تتبعها في الحجية فيمكن التفكيك بينهما في مقام الحجية.

وهذا المعنى فرضه البعض من الواضحات التي لا تحتاج إلى مزيد برهان ، ولأجل ذلك أطلق الشيخ رحمه اللّه في مبحث تعارض الخبرين ان نفي الثالث يكون بهما (1). من دون ان يستدل عليه فكأنه من الواضحات.

والوجه فيه هو : ان بناء العقلاء انعقد على حجية الظهور ، فكل ظاهر حجة ، فإذا كان الكلام له ظهوران وانتفت حجية أحدهما بقي الآخر مشمولا لدليل الحجية ، فسقوط الدلالة المطابقية عن الحجية لا يستلزم سقوط الالتزامية عنها ، لأن الكلام ظاهر في المدلول الالتزامي ، والظاهر حجة ببناء العرف والعقلاء.

وإذا تم ذلك نقول : ان الدليل الدال بالمطابقة على ثبوت الأمر وتعلقه بشيء يدل بالالتزام على ثبوت الملاك فيه ، لعدم ثبوت الأمر بدون ملاك ، فإذا علمنا بعدم تعلق الأمر فيه في مورد المزاحمة انتفت حجية الدلالة المطابقية للعلم بخلافها ، ولكن الدلالة الالتزامية تبقى على الحجية لتوفر ملاك الحجية فيها من دون رافع ، والمفروض انها لا تتبع الدلالة المطابقية في الحجية.

هذا محصل ما يقال في تقريب الوجه الثاني ، وقد تبين ان أساسه هو

ص: 381


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول / 441 و453- الطبعة الأولى.

الالتزام بإمكان انفكاك الدلالة الالتزامية عن الدلالة المطابقية في الحجية وهذه المسألة وقعت محل الكلام ولم تتفق فيها كلمات الأعلام.

وممن لم يلتزم بإمكان التفكيك بين الدلالتين في الحجية ، والتزم بتبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في الوجود والحجية ، السيد الخوئي ( حفظه اللّه ).

وأورد على الالتزام بالتفكيك بإيرادين : أحدهما نقضي ، والآخر حلي.

اما النقض : فبموارد لا يلتزم فيها بالمدلول الالتزامي مع سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية ، وقد ذكرها أربعة :

الأول : ما إذا قامت البينة على ملاقاة الثوب للبول وعلمنا من الخارج بكذب البينة وعدم الملاقاة ، ولكن احتملنا تنجس الثوب من جهة أخرى لملاقاته للدم ، فانه لا يلتزم أحد بنجاسة الثوب في الفرض أخذا بالمدلول الالتزامي للبينة - وهو النجاسة ، لأن الإخبار عن الملاقاة للبول اخبار عن نجاسته لملازمتها للملاقاة - ، إذ الساقط عن الحجية ليس إلاّ الدلالة المطابقية ، وهي الدلالة على الملاقاة للبول ، والمفروض هو إمكان التفكيك بين الدلالتين في مقام الحجية.

الثاني : ما إذا كانت الدار - مثلا - في يد زيد وقامت بينة على أنها لعمرو وأخرى على أنها لبكر ، فتساقطت البينتان في المدلول المطابقي للمعارضة ، فانه لا يلتزم أحد بمدلولهما الالتزامي الّذي تشتركان فيه وهو عدم كون الدار لزيد بحيث يجري على هذه الدار حكم مجهول المالك.

الثالث : ما إذا شهد واحد على ان هذه الدار - التي في يد زيد - لعمرو وأخر على انها لبكر ، فانه لا تكفي شهادة الواحد في إثبات المدعى ، لكنهما يشكلان بينة على المدلول الالتزامي وهو عدم كون الدار لزيد ، ولكن لا يلتزم أحد بنزع الدار من زيد وإجراء حكم مجهول المالك.

ص: 382

الرابع : إذا كانت دار في يد عمرو وقامت بينة على انها لزيد. وأقر زيد بأنها ليست له ، فان البينة تسقط في مدلولها المطابقي لمعارضته للإقرار وهو مقدم عليها ، ولا يلتزم أحد بمدلولها الالتزامي وهو عدم كون الدار لعمرو مع انه لا يعارض الإقرار.

واما الحل : فبتقريبين :

أحدهما : ان الدلالة الالتزامية ترتكز على أمرين : الأول : ثبوت الملزوم. والثاني : ثبوت الملازمة بينه وبين اللاّزم ، فمع انتفاء أحدهما تنتفي الدلالة الالتزامية ، وعليه فمع عدم ثبوت المدلول المطابقي الّذي هو عبارة أخرى عن عدم ثبوت الملزوم ، تنتفي الدلالة الالتزامية ، ولا يختلف الحال في ذلك بين مرحلة الحدوث والبقاء.

ثانيهما : ان ظهور الكلام في المدلول الالتزامي ليس بنحو الإطلاق ، وانما هو الحصة الخاصة الملازمة للمدلول المطابقي ، فالاخبار عن ملاقاة الثوب للبول اخبار عن نجاسته البولية لا مطلق النجاسة. وعليه فمع العلم بانتفاء المدلول المطابقي يعلم بانتفاء المدلول الالتزامي وهو الحصة الخاصة ، واما احتمال ثبوت غير الحصة الخاصة فهو مما لا دليل عليه ، لأنه خارج عن المدلول الالتزامي. فلا يكون حجة فيه بارتفاع الدلالة المطابقية لأنه ليس بمدلوله (1).

والتحقيق ان يقال : ان دلالة الكلام على المدلول الالتزامي تارة : تكون عقلية تنشأ من كون ثبوت الملازمة بمقدمات عقلية برهانية ، لا تصل إليها أذهان العامة والعرف. وأخرى : تكون عرفية بمعنى ان يكون للكلام ظهور عرفي في المدلول الالتزامي ، كما إذا كانت الملازمة عرفية واضحة لدى العرف.

والدلالة الالتزامية العرفية على صور : لأن المدلول الالتزامي ..

ص: 383


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 74 - الطبعة الأولى.

تارة : يكون حكما والمدلول المطابقي موضوع الحكم. فالملازمة بينهما جعلية تعبدية لا عقلية ولا شرعية.

وأخرى : يكون المدلول الالتزامي معلولا والمطابقي علة.

وثالثة : بالعكس ، فيكون المدلول الالتزامي علة والمطابقي معلولا.

ورابعة : يكون المدلولان متلازمين من دون ان يكون بينهما علية ومعلولية. كدلالة ما يدل على وجود زيد في الغرفة على عدم وجوده في صحن الدار.

ولا يخفى ان محل الكلام هو الدلالة الالتزامية العرفية لا العقلية ، لأن العقلية وان عبّر عنها بالدلالة إلاّ انها خارجة حقيقة عن باب دلالات الألفاظ الناشئة من الظهور. فليس للكلام ظهور في اللازم العقلي ، وانما يحصل العلم به من العلم بثبوت الملزوم حقيقة أو تعبدا. والكلام انما يقال أنه دال على اللازم العقلي باعتبار دلالته على ثبوت الملزوم فيثبت اللازم بحكم العقل للملازمة ، لا ان نفس الكلام دال عليه وظاهر فيه. بل لا ظهور للكلام الا في المدلول المطابقي.

ومن هنا يظهر وجه خروج هذه الدلالة عن موضوع النزاع ، لأن موضوع النزاع هو حجية الدلالة الالتزامية وظهور الكلام في المدلول الالتزامي ، بعد سقوط حجية ظهوره في المدلول المطابقي ، وقد تبين ان لا ظهور للكلام في اللازم العقلي فلا دلالة التزامية كي يبحث عن حجيتها وعدمها.

هذا مع ان الدلالة العقلية والحكم العقلي بثبوت اللازم انما يكون مع إحراز ثبوت الملزوم - كما عرفت - ، فمع العلم بانتفاء المدلول المطابقي أو التشكيك في ثبوته لا تكون هناك دلالة عقلية ولا يثبت الحكم العقلي بثبوت اللازم.

فيتضح بذلك كون موضوع الكلام هو خصوص الدلالة العرفية ، وهي بجميع اقسامها غير داخلة في موضوع الكلام ، فان الصورة الأولى والثانية

ص: 384

خارجتان عنه.

اما الأولى : فلان الحكم لا جعل له مستقل بنفسه ، بل هو مرتبط بموضوعه ، فالمجعول هو الحكم على هذا الموضوع الخاصّ ، فمع العلم بانتفاء الموضوع يعلم بانتفاء الحكم ، كما انه مع الشك في ثبوت الموضوع وعدم إحرازه ولو تعبدا لا يمكن التعبد بالحكم لعدم إمكان جعل الحكم بدون موضوع ، فكما يشك في ثبوت الموضوع يشك في ثبوت الحكم ، فنفس ما يقتضي سقوط الدلالة المطابقية عن الحجية وعدم ثبوت المدلول المطابقي يقتضي سقوط الدلالة الالتزامية عن الحجية لارتباط المدلول الالتزامي بالمدلول المطابقي في الثبوت.

واما الثانية : فلإمكان دعوى ان الإخبار عن العلة إخبار عن الحصة الخاصة من المعلول ، لتحصص المعلول من جهة العلة ، فالإحراق من النار غير الإحراق من غيرها ، فالمدلول الالتزامي هو الحصة الخاصة ، فمع العلم بعدم العلة يعلم بعدم المعلول الخاصّ ، فانتفاء المدلول المطابقي يلازم انتفاء المدلول الالتزامي.

واما الصورة الثالثة والرابعة : فهما موضوع البحث ، إذ الاخبار عن المعلول لا يكون إخبارا عن حصة خاصة من العلة ، بل عن العلة بقول مطلق لعدم تحصص العلة من جهة المعلول ، فان النار المحرقة وغيرها واحدة ، ولا يختلف الحال فيها بين صورتي الإحراق وغيرها ، فلا يعلم بانتفاء المدلول الالتزامي عند العلم بانتفاء المدلول المطابقي ، فيبحث في حجية الدلالة الالتزامية في مدلولها. وهكذا الإخبار بالملازم يكون اخبارا عن الملازم بقول مطلق ، لأنه لا يتحصص بوجود ملازمه ، كالإخبار عن الوجوب فانه إخبار بالملازمة عن عدم الإباحة.

ثم ان محل الكلام في هاتين الصورتين صورة عدم إحراز ثبوت المدلول المطابقي وجدانا أو تعبدا ، فمع إحراز عدم ثبوته واقعا وجدانا أو تعبدا فهي خارجة عن محل الكلام.

ص: 385

والوجه في ذلك هو : ان ثبوت المدلول الالتزامي عند انتفاء المدلول المطابقي واقعا انما هو بإطلاق الدلالة الالتزامية ودلالتها على ثبوت اللازم مطلقا ، سواء وجد المدلول المطابقي أو لم يوجد ، والإطلاق هاهنا غير ثابت ، لأن الدلالة الالتزامية ليست مما يساق لها الكلام ، فليس المتكلم في مقام البيان من جهتها. مع انه لا يعقل ثبوت الدلالة بقول مطلق لتفرع الدلالة الالتزامية عن المطابقية. فلا يعقل ان يكون المدلول الالتزامي هو اللازم سواء وجد الملزوم أو لم يوجد. فالقدر المتيقن من الدلالة الالتزامية هو ثبوت المدلول الالتزامي عند وجود المطابقي.

إذا عرفت ذلك تعرف الإشكال فيما ذكره السيد الخوئي نقضا وحلا.

اما النقض : فبعض موارده مختص بصورة العلم ، كمثال إخبار البينة بملاقاة الثوب للبول ، وقد عرفت خروجه عن محل الكلام.

هذا مع ان المورد من موارد العلم بخطاء المستند في الإخبار ، لأن المستند في الاخبار عن المدلول الالتزامي هو العلم بالملاقاة للبول ، والمفروض العلم بعدمه ، والعلم بخطاء مستند الاخبار يوجب سقوطه عن الحجية ولو بالنسبة إلى الدلالة المطابقية. فلو أخبر عن الهلال وعلمنا ان منشأ خبره هو رؤيته لخيط في السماء تخيل انه هلال مع احتمال وجود الهلال لم يكن خبره حجة ، فسقوط الدلالة الالتزامية هاهنا لا لأجل تبعيتها للدلالة المطابقية بل لأجل العلم بكذب المستند.

والبعض الآخر كالمورد الثاني لا مانع من الالتزام به وليس فيه مخالفة لضرورة الفقه ، بل هناك من يلتزم بها من دون تردد (1).

هذا مع ان مثال الإخبار عن الملاقاة والنجاسة خارج عن محل الكلام

ص: 386


1- كالمحقق العراقي قدس سره هكذا أفاد سيدنا الأستاذ ( دام ظله ). ( منه عفي عنه ).

لوجهين آخرين :

الأول : ان الإخبار عن النجاسة ليس من سنخ الدلالة الالتزامية ، والشاهد عليه ثبوت النجاسة لو كان ما يتكفل إثبات الموضوع هو الأصل ، مع ان الأصل لا دلالة له التزامية كما قرر في محله. فتأمل.

الثاني : ان المورد من موارد ما كان المدلول المطابقي موضوعا والمدلول الالتزامي حكما ، وقد عرفت خروجه عن محل البحث ، لأن الاخبار عن الموضوع اخبار عن حصة خاصة من الحكم ، لأن النجاسة - مثلا - لم تجعل بقول مطلق بل جعلت للملاقي ، فالمخبر به التزاما نجاسة الملاقي ، فإذا علم بعدم الملاقاة للبول فقد علم بعدم نجاسة الملاقي ، فانتفى المدلول الالتزامي للعلم بخلافه.

واما الحل : فالوجه الثاني يخدش بوجهين :

أحدهما : ان يكون الإخبار عن الملزوم اخبارا عن حصة خاصة من اللازم - على تقدير تسليمه - ، قد عرفت اختصاصه ببعض الموارد دون بعض.

الثاني : انه ما المانع من دعوى حجية الدلالة الالتزامية في ذات الحصة الخاصة على تقدير التشكيك في ثبوت المدلول المطابقي لا ثبوت عدمه وإحراز انتفائه ، كي يقال باستلزامه ثبوت عدم المدلول الالتزامي؟.

والوجه الأول انما يتم في الدلالة العقلية ، لأن الحكم بثبوت اللازم لا يكون إلاّ بعد العلم بثبوت الملزوم ، وقد عرفت خروجها ، اما الدلالة العرفية فلا تتوقف على ثبوت الملزوم ، بل منشأ تحققها دلالة الكلام على ثبوت الملزوم ، وهي متحققة ، إذ الدلالة المطابقية انما تسقط عن الحجية لا عن الثبوت. ويشهد لما ذكرنا ان الدلالة الالتزامية تثبت للكلام مع العلم بانتفاء الملزوم وعدم إرادة المدلول المطابقي جدا ، كما في الاستعمالات الكنائية. فتدبر.

فالذي ينبغي ان يقال في نفي حجية الدلالة الالتزامية عند انتفاء حجية

ص: 387

الدلالة المطابقية هو : ان الدلالة الالتزامية وان كانت من مصاديق الظهور - الّذي هو ملاك حجيتها - ، إلاّ ان حجية الظهور انما هي بعمل العقلاء وبنائهم على التمسك به وتقرير الشارع لهم ، فالطريق إلى إحراز حجية الظهور في المدلول الالتزامي شرعا بعد سقوط الدلالة المطابقية ، ليس إلاّ بناء العقلاء ، وهو لم يثبت على ذلك لعدم توفر شاهد عرفي لدينا ، والتشكيك يكفي في نفيه لأنه دليل لبي لا لفظي كي يتمسك بإطلاقه ، إذ لم يرد في لسان دليل : « ان الظاهر حجة » ، والدليل اللبي يقتصر فيه على القدر المتيقن. فعدم حجية الدلالة الالتزامية لعدم الدليل لا لما ذكر.

هذا ولكن الإنصاف ان بناء العقلاء قائم على الأخذ بالمدلول الالتزامي ولو لم يكن المدلول المطابقي حجة ، لعدم تعلق أثر عملي به أو نحوه كما يشهد لذلك ملاحظة سيرتهم في الإقرارات والدعاوي. فتدبر.

هذا ولكن لو سلم ان الدلالة الالتزامية حجة ، فهو لا ينفع في محل الكلام وإثبات الملاك بالدلالة الالتزامية لوجهين :

الأول : ان المورد من موارد العلم بانتفاء المدلول المطابقي - الّذي هو المستند للاخبار عن الملاك - للعلم بعدم الأمر عند المزاحمة.

الثاني : ان الدلالة هاهنا عقلية لا عرفية ، لأن ملازمة الأمر لثبوت الملاك في متعلقه ليس مما يستوضحه العرف ويدركه ، كيف؟ وقد أنكره قسم كبير ، فاكتفوا بوجود الملاك في نفس الحكم دون متعلقه ، بل أنكر البعض ضرورة نشوء الحكم عن مصلحة فيه أو في متعلقه كالأشاعرة.

وقد عرفت خروج كلتا الصورتين عن مبحث حجية الدلالة الالتزامية.

ونتيجة ما تقدم : انه لا دليل على ثبوت الملاك في متعلق الحكم عند ارتفاع الحكم.

وعلى هذا لم يثبت لدينا فعلا ما يصحح الضد العبادي ، لأن ما ذكره

ص: 388

المحقق الثاني قد عرفت الإشكال فيه ، مع انه يتوقف على إحراز الملاك في الفرد المزاحم ، وقد عرفت انه لا طريق إليه ، ودعوى العلم بثبوته فيه وعدم الفرق بينه وبين سائر الافراد جزافية ، لاحتمال ان يكون ارتفاع الحكم لارتفاع المقتضي بالمزاحمة لا لوجود المانع فقط.

فيقع الكلام في الوجه الثالث المذكور لتصحيح العبادة وهو : الالتزام بتعلق الأمر بها بنحو الترتب. فالكلام فعلا في ..

الترتب

ومسألة الترتب ليست من مسائل الأصول العريفة في القدم ، بل لم يرد لها في كتب القدماء ذكر ولا أثر ، والمعروف ان أول من انتبه للترتب هو المرحوم صاحب كشف الغطاء ، ولكن جاء في أجود التقريرات نسبة الالتزام به إلى المحقق الكركي الّذي هو أسبق من كاشف الغطاء زمانا (1).

وعلى أي تقدير ، فمهمة الترتب هو تصحيح الأمر بالضدين المتزاحمين بنحو يكون كلا الأمرين في زمان واحد من دون ترتب محذور عليه. وقد اختلف الاعلام فيه نفيا وإثباتا وكثر النقض والإبرام فيه ، والّذي أسس أركانه هو السيد المجدد الشيرازي قدس سره . والّذي نقح البحث فيه ورتبه من المتأخرين هو المحقق النائيني قدس سره .

وقد قدم السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) على أصل البحث في إثبات الترتب ونفيه بعض التنبيهات المتعلقة به.

ولكنه يتنافى مع أصول فن ترتيب المباحث ، فلا معنى للبحث عن ان الترتب هل يجري في هذا المورد أو لا؟ قبل البحث عن نفس الترتب ومعرفة

ص: 389


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 286 - الطبعة الأولى.

حقيقته ، فالأولى تأخيرها عن أصل المبحث وأساسه.

وكيف كان ، فدعوى الترتب بنحو الإجمال تمهيدا للدخول فيه هي : ان الضد المهم يكون متعلقا للأمر بشرط عصيان الأمر بالأهم أو ترك الأهم ، بحيث يجتمعان في زمان واحد.

وقد سلك للاستدلال لصحته مسلكان : أحدهما عرفي والآخر برهاني.

اما الوجه العرفي فتقريبه : ان ثبوت الترتب ووقوعه في الأوامر العرفية والشرعية مما لا إشكال فيه ، فنرى ان الأب يأمر ابنه بالذهاب إلى المدرسة ، ثم يقول له إذا لم تذهب إلى المدرسة فابق في البيت ، فالأمر بالبقاء في البيت مشروط بترك الذهاب إلى المدرسة مع عدم سقوط الأمر به.

ومن المعلوم انه لا يرى بذلك أي محذور واستحالة. هذا في العرفيات.

واما في الشرعيات ، فكما لو وجب على المكلف قصد الإقامة في البلد الّذي سافر إليه ، فانه يجب عليه الإفطار والقصر لو لم يقصد الإقامة ، فالأمر بالإفطار مشروط بعدم قصد الإقامة مع تعلق الأمر بها فعلا ، فالأمران يجتمعان في زمان واحد.

وإذا ثبت وقوع الترتب فهو خير دليل على الإمكان وعدم الاستحالة.

والتحقيق : ان هذا المثال العرفي ونحوه وان كان ظاهرا في وقوع الترتب ، إلاّ انه لو فرض قيام الدليل الجزمي على استحالة الترتب وامتناع وقوعه فلا بد من صرف هذه الموارد عن ظاهرها ، بدعوى ان الأمر بالبقاء في البيت في المثال المزبور يرجع في الحقيقة إلى النهي عن الكون خارج الدار والمدرسة ، أو أنه يرجع إلى الإرشاد إلى وجود المصلحة في البقاء فيكون امرا إرشاديا ، أو انه ثابت بعد سقوط الأمر بالذهاب إلى المدرسة لفوات وقته ، فالأمثلة العرفية لا تصلح دليلا في قبال برهان الاستحالة.

واما المثال الشرعي المذكور والّذي فرع عليه فروعا متعددة جعلها

ص: 390

شاهدا على الترتب ، فهو أجنبي عما نحن فيه وبعيد عنه ، فان ما نحن فيه ما يكون بين متعلق الأمرين تضاد في أنفسهما بحيث لا يمكن اجتماعهما معا كإنقاذ غريقين وليس قصد الإقامة والإفطار من هذا القبيل ، فانه لا تضاد بينهما في أنفسهما إذ يمكن الجمع بينهما ، وانما لم يمكن الجمع بينهما خارجا لأجل النهي عن الصوم بدون قصد الإقامة ، فالتضاد بينهما عارضي ناشئ من نحو جعل حكميهما وعدم جعل حكم أحدهما في مورد الآخر ، فالمثال المزبور لا يرتبط بما نحن فيه فلا يصلح شاهدا على وقوع الترتب.

واما المسلك البرهاني : فقد عرفت ان المحقق النائيني هو أفضل من نقح الاستدلال عليه.

وقد الف استدلاله من مقدمات :

المقدمة الأولى : أوضح فيها أمرين :

الأمر الأول : ان منشأ التزاحم والتنافي بين الحكمين هو الّذي لا بد من ارتفاعه دون غيره لعدم الموجب لارتفاع غيره ، والسقوط بدون موجب محال.

وعليه فان كان منشأ التزاحم هو إطلاق كل من الخطابين فيرتفع بتقييد إطلاق المهم ، لارتفاع منشئه. واما إذا كان منشأ التزاحم هو نفس فعلية الخطابين فاللازم سقوط أصل الخطاب بالمهم لا إطلاقه.

ثم عقب هذا الأمر بالتعرض إلى ما جاء من الشيخ الملتزم باستحالة الترتب وسقوط أصل الخطاب بالمهم - ما جاء منه - من الالتزام في مورد تعارض الخبرين بناء على السببية بتقييد وجوب العمل بكل منهما بترك العمل بالآخر ، بدعوى ان المحذور ناشئ من إطلاق وجوب العمل بكل منهما فيرتفع برفع منشئه وهو يكون بالتقييد ، وهذا يرجع إلى كون خطاب كل منهما مترتبا على ترك العمل بالآخر.

واستشكل فيه بما نصه : « وليت شعري إذا كان الالتزام بالترتب من طرف

ص: 391

واحد ممتنعا كما فيما نحن فيه ، فهل ضمّ ترتب آخر والالتزام بترتبين يوجب ارتفاع المحذور؟ » (1).

أقول : لا يخفى ان ما ذكره أولا من الترديد في منشأ التزاحم وأثر كل من طرفي الترديد ، ليس دخيلا في تصحيح الترتب ، وانما هو بيان لموضوع النزاع ونقطة الخلاف ومنشئه ، فإيراده في مقدمات تصحيح الترتب الظاهر في دخله في معرفة إمكانه ليس بجيد.

واما إيراده على الشيخ قدس سره بما عرفت ، فيمكن دفعه بما أشار إليه في الكفاية من الإشكال في الترتب : بان التكليف بالمهم وان كان مشروطا بعصيان الأهم فلا يطارد الأمر بالأهم ، إلاّ ان الأمر بالأهم مطلق فهو يطارد الأمر بالمهم (2).

ومن الواضح ان هذا الإشكال يرتفع بتقييد كل من الأمرين بعصيان الآخر.

وعليه ، فالتزام الشيخ باستحالة الترتب من جانب واحد لا يلازم الالتزام باستحالته من جانبين ، إذ يمكن ان يكون وجه استشكاله في صحة الترتب من جانب واحد ما ذكره صاحب الكفاية الّذي عرفت انه لا يتأتى في مورد كون الترتب من الجانبين. فتدبر.

الأمر الثاني : ان المحذور من تعلق الأمر بكلا الضدين الّذي يحاول تصحيحه بوجه من الوجوه بالترتب ، ليس إلاّ طلب الجمع بين الضدين ، وهو ليس بمقدور ، ولا يخفى ان هذا المعنى يرتفع بالترتب ، لأن التكليف بالمهم يكون في طول التكليف بالأهم لا في عرضه ، ويشهد له انه لو فرض إمكان الجمع بين

ص: 392


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 287 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /134- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

متعلقي الخطابين المترتب أحدهما على ترك متعلق الآخر لم يقعا على صفة المطلوبية ، فانه يكشف عن ان المطلوب ليس الجمع بين الضدين وإلاّ لوقع كل من الفعلين على صفة المطلوبية. مثال ذلك : إذا أوجب الكون في المسجد وأوجب قراءة القرآن عند ترك الكون في المسجد ، فانه إذا دخل المسجد وقرأ القرآن لا تقع القراءة على صفة المطلوبية ، فانه يكشف ان نفس الترتب يمنع من تحقق طلب الجمع بين الضدين المحال (1).

أقول : ان هذا الأمر كسابقه ليس من مقدمات تصحيح الترتب ، وانما هو وجه مستقل تام إجمالي لتصحيح الترتب ، لأنه يتكفل بيان ارتفاع محذور طلب الضدين بالترتب ، وهذا مصحح له بنفسه من دون احتياج إلى ضم مقدمات أخرى.

هذا مع ان كلامه في نفسه لا يخلو عن مناقشة ، فان ما ذكره من ان المحذور في تعلق الأمر بكل من الضدين هو كونه طلبا للجمع بين الضدين ، وهذا المحذور يرتفع بالترتب. ليس بوجيه ، بيان ذلك : انه سيأتي إن شاء اللّه تعالى في مبحث المطلق والمقيد البحث في أن الإطلاق هل هو عبارة عن الجمع بين القيود أو هو عبارة عن رفض القيد؟ ، فهل إطلاق : « العالم » في دليل : « أكرم العالم » معناه دخالة كل ما يتصور قيديته للطبيعة في الحكم ، فالعدالة دخيلة والفسق دخيل والبياض دخيل والسواد كذلك وهكذا ، أو معناه عدم دخالة أي قيد من القيود ، ولم يؤخذ في الموضوع سوى ذات الطبيعة؟. والّذي يقتضيه النّظر هو الثاني. وعليه فإطلاق الأمر بكل من الضدين يرجع إلى الأمر بالضد سواء وجد الضد الآخر أو لم يوجد ، فالمطلوب ليس إلا نفس الضد دون الجمع بينهما.

نعم ، لو كان الإطلاق معناه الجمع بين القيود ، كان مقتضى إطلاق الأمر

ص: 393


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 286 - الطبعة الأولى.

بكل من الضدين. إرادة كل من الضدين مع الآخر (1) ، إذ وجود الضد الآخر دخيل في الموضوع فالمطلوب هو الضد مع وجود ضده. ولكن عرفت ان التحقيق خلافه.

وبالجملة : ليس المطلوب ومتعلق الأمر الا ذات الضد ، وليس هناك امر آخر متعلق بكلا الضدين.

نعم طلب الجمع بين الضدين ينتزع من طلب كل منهما لا على ان يكون هناك طلب حقيقي بالجمع.

وقد يقال : ان غرض القائل ليس وجود طلب متعلق بالجمع بين الضدين ، وانما غرضه تحقق واقع طلب الجمع بين الضدين لا عنوانه ، وهو مستحيل ، وقد نبه المحقق النائيني قدس سره على إرادة ذلك في بعض كلماته.

ولكن يرد عليه - بعد توجيهه بان مقتضى الإطلاق ثبوت طلب كل من الضدين ولو في حال الاشتغال بالضد الآخر ، ففي هذه الحال يتحقق واقع طلب الجمع بين الضدين - : بان هذا المحذور لا يرتفع بالالتزام بالترتب ، وذلك لأنه في حال الاشتغال بفعل الضد المهم اما ان يلتزم بعدم الأمر بالأهم ، وهو خلف المفروض ، إذ المفروض اجتماع الأمرين في زمان واحد. واما ان يلتزم بثبوت الأمر بالأهم كما هو المفروض ، فيلزم تحقق واقع طلب الجمع بين الضدين. فتدبر جيدا.

واما ما ذكره شاهدا على كون الترتب مانعا من طلب الجمع بين الضدين ، وهو ما لو أتى بكلا المتعلقين لو فرض إمكان اجتماعهما ، فهو لا يصلح لما اراده. فانه انما يصلح لو فرض فعلية كلا الحكمين ومع هذا لا يكون متعلقهما واقعين

ص: 394


1- ليس ذلك من طلب الجمع ، بل من طلب أحد الضدين عند وجود الآخر ، لا ان الطلب متوجه لهما معا ، فالفرق ليس إلا في ان وجود الآخر على هذا الاحتمال دخيل في الملاك دون احتمال رفض القيود. وإلا فالأمر في فرض وجود الآخر ثابت على كلا القولين. فالتفت. ( منه عفي عنه ).

على صفة المطلوبية ، فانه يكشف عن عدم طلب الجمع بين الضدين ، وليس الأمر كذلك ، لأنه مع الإتيان بالأهم يرتفع الأمر بالمهم لفقدان شرطه وهو ترك الأهم.

فعدم وقوع المهم على صفة المطلوبية لأجل عدم الأمر. وهذا أجنبي عما نحن فيه. فلاحظ.

المقدمة الثانية : ان الواجب المشروط لا ينقلب مطلقا عند حصول شرطه ، بل يبقى كما كان قبل حصوله مشروطا به.

والوجه فيه : ان كل شرط يقيد به الحكم يرجع إلى الموضوع ويكون قيدا لموضوع الحكم فيلزم أخذه مفروض الوجود حين التكليف ، بمعنى ان التكليف يرد عليها بعد تحققها خارجا. فكل شرط موضوع كما ان كل موضوع شرط.

ومن المعلوم ان كل موضوع لا ينسلخ عن موضوعيته عند وجوده ، فلا يكون الحكم بدون موضوع. فدعوى انقلاب الواجب المشروط مطلقا عند حصول شرطه تساوق دعوى خروج الموضوع عن موضوعيته بعد وجوده خارجا.

ثم أخذ قدس سره في بيان منشأ التوهم المزبور ، وانه ناشئ عن الخلط بين ما هو موضوع الحكم وما هو داعي الجعل ، بتخيل رجوع الشرط إلى كونه داعيا للجعل ، فلا يتقيد به الجعل ولا المجعول بعد وجوده ، بل يكون الحكم مطلقا وان تخلف الداعي خارجا. فان الحكم يرد بإكرام زيد بداعي تشجيعه على الاشتغال والتحصيل ، فلا يتقيد الحكم بالداعي ، ولذا يثبت الحكم وان لم يحصل التشجيع على الاشتغال.

وذكر قدس سره ان هذا التخيل فاسد ، إذ رجوع الشرط إلى كونه داعيا للجعل يستلزم كون الإنشاءات المقيدة ببعض الشروط من قبيل الإخبار. بيان ذلك : ان الشرط إذا كان داعيا للجعل ، فمعناه ارتباط الجعل به فلا يتحقق الجعل الا بعد حصوله لأنه هو الّذي يدعو إليه.

وعليه ، فمرجع الإنشاء المقيد بالشرط إلى الاخبار عن تحقق الجعل لكل

ص: 395

مكلف عند تحقق الشرط. وهذا باطل ضرورة.

وبالجملة : ان الشرط قيد الموضوع وليس من دواعي الجعل ، والتعبير عنه بالشرط تارة وبالسبب أخرى ليس إلاّ اصطلاح صرف يختلف البناء عليه باختلاف موارده. وإلاّ فهما حقيقة من قيود الموضوع. وعليه فلا ينقلب الواجب المشروط مطلقا عند حصول شرطه ، ويترتب على هذا بقاء اشتراط الأمر بالمهم عند حصول شرطه وهو عصيان الأمر بالأهم. فارتباط هذه المقدمة بتصحيح الترتب هو انه لو التزم بانقلاب الواجب المشروط مطلقا عند حصول شرطه لزم ان يكون الأمر بالمهم عند عصيان الأمر بالأهم مطلقا فيكون في عرضه فيعود التمانع. بخلاف ما لو التزم بأنه يبقى مقيدا ولا ينقلب عن اشتراطه فانه يكون في طوله فلا تمانع.

هذا خلاصة المقدمة الثانية بتوضيح منا (1).

وقد أورد عليها إيرادات متعددة رأينا إهمالها أولى ، لعدم ارتباطها بما هو المهم في المقام.

والّذي ينبغي ان نوقع البحث فيه حول هذه المقدمة هو : تفهم المقصود بما جعل موضوع الخلاف في هذه المقدمة ، وهو ان الواجب المشروط هل ينقلب مطلقا عند حصول شرطه أو لا؟ فان إدراك المقصود منه بنحو يكون له صورة معقولة يبدو لنا صعبا ، وذلك لأن الشرط المأخوذ قيدا للحكم اما ان يؤخذ قيدا حدوثا وبقاء. واما ان يؤخذ قيدا حدوثا فقط.

فان أخذ قيدا حدوثا وبقاء ، فمعناه ارتباط الحكم به في حدوثه وبقائه ، وهذا يتنافى مع إطلاق الحكم عند حصوله ، فانه خلف فرض تقيد الحكم به بقاء ، إلاّ ان شخصا لا يدعي صيرورته مطلقا بمجرد حصول شرطه سواء كان الشرط

ص: 396


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 287 - الطبعة الأولى.

من قيود الموضوع أو لا.

وان أخذ قيدا حدوثا فقط ، الّذي معناه ثبوت الحكم في مرحلة بقائه ولو لم يكن هذا الشرط موجودا ، فهذا يرجع إلى إطلاق الحكم في مرحلة بقائه وعدم تقييده ، وهو مما لا إشكال فيه ولا يختلف فيه اثنان سواء كان الشرط من قيود الموضوع أو لا.

فبقاء التقيد في الفرض الأول وعدم بقائه في الفرض الثاني من باب الضرورة بشرط المحمول ومما لا يختلف فيه أصلا. وليس لدينا فرض ثالث غيرهما. اذن فما معنى النزاع في ان الواجب المشروط هل ينقلب مطلقا عند حصول شرطه أو لا ينقلب؟ ، وما هو المقصود منه؟ بعد ان كان الأمر دائرا بين فرضين لا ثالث لهما ، والالتزام في أحدهما ببقاء التقييد وفي الآخر بارتفاعه بلا خلاف ولا شبهة ، فانه مقتضى دليل الاشتراط.

ودعوى : انه يمكن ان يكون المقصود هو النزاع في ان الحكم في الآن الّذي يفرض حصول الشرط فيه بوصف كونه شرطا - سواء أخذ شرطا حدوثا فقط أو حدوثا وبقاء - ، هل يبقى مقيدا بذلك الشرط أو يكون مطلقا بالنسبة إليه؟ ، فالنزاع بلحاظ زمان حصول الشرط مع فرض شرطيته لا بلحاظ زمان ما بعد حصوله كي يأتي التشقيق السابق.

غير مجدية في تصحيح النزاع ، إذ إطلاق الحكم بالنسبة إلى الشرط عند حصوله بلحاظ آن حصوله غير معقول ، فان الشيء لا ينقلب عما وقع عليه فلا يتصور الخلو عن الشرط في زمان حصوله. فلا يتصور للإطلاق معنى معقول كي يكون موضوع النفي والإثبات.

هذا مع ان نفي الإطلاق والالتزام ببقاء التقييد في ذلك الآن يثبت سواء كان الشرط راجعا إلى الموضوع أو ليس براجع إليه بل له حقيقة أخرى غير الموضوع ، لأن الحكم مرتبط به على كل تقدير كما هو مقتضى دليل الشرطية ،

ص: 397

فنفي ارتباطه به ينافي دليل الشرطية.

فلم يظهر الوجه في الاهتمام لإثبات كون الشرط من قيود الموضوع وراجعا إليه حقيقة.

هذا ان كان المقصود بالإطلاق المعنى المصطلح وهو ثبوت الحكم في حالتي وجود الشرط وعدمه.

وان أريد بالإطلاق معنى آخر وهو : شمول الحكم للشرط وسرايته إليه بان يكون داعيا إليه باعثا نحوه ، نظير داعوية وجوب الصلاة نحو الطهارة ، فيقصد بالتقييد عدم دعوة الحكم إلى الشرط وانه عند وجوده لا يكون الحكم مطلقا بمعنى داعيا إليه. فهذا المعنى وان كان معقولا في نفسه إلاّ أنه سيأتي منه قدس سره بيان عدم نظر الحكم إلى شروطه وانه لا يكون داعيا إليها ، فتقديم الكلام فيه بالعنوان المذكور في المقدمة ، وهو عنوان ان المشروط لا ينقلب مطلقا عند تحقق شرطه ، لا وجه له.

مضافا إلى ان عدم الانقلاب وبقائه على التقييد لا يختص بالالتزام برجوع الشرط إلى الموضوع ، بل يتأتى ولو كان للشرط حقيقة أخرى ، ولذلك التزم صاحب الكفاية وغيره بان مقدمة الوجوب لا يترشح عليها الوجوب من الواجب لأنها شرط الحكم لا الواجب (1) ، مع العلم بان صاحب الكفاية لا يلتزم برجوع الشروط إلى الموضوع.

والمتحصل : ان إهمال ذكر هذه المقدمة هو الّذي كان يتعين على المحقق النائيني رحمه اللّه . فالتفت.

المقدمة الثالثة : ان فعلية الحكم مساوقة لحصول الجزء الأخير من الموضوع ، بمعنى انه لا يكون هناك فصل زماني بين الحكم وموضوعه ، بل التقدم

ص: 398


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /99- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والتأخر بينهما رتبي ، فان الفصل الزماني بين الحكم وموضوعه خلف فرض كون الموضوع موضوعا ، فلو فرض في بعض الواجبات ثبوت لزوم تخلل آن ما بين الموضوع والحكم يكشف ذلك عن دخل الآن المزبور في الموضوع ، بحيث يكون هو الجزء الأخير لموضوع الحكم. وعلى هذا الأساس بنى على بطلان الشرط المتأخر لاستلزامه تقدم الحكم على شرطه.

وكما انه لا فصل بين الحكم وموضوعه في الزمان - لأن نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلة إلى المعلول. ومن الواضح انه لا انفكاك بين العلة والمعلول زمانا ، بل الاختلاف بينهما في المرتبة - كذلك لا فصل بين الحكم وامتثاله زمانا ، بل التقدم والتأخر بينهما رتبي ، لأن نسبة الحكم إلى الامتثال نسبة العلة إلى المعلول.

واما دعوى لزوم الانفكاك بين الحكم والامتثال زمانا في المضيقات ، واعتبار مضي زمان ما للحكم على وقت الامتثال. بتقريب : ان وجود الإمساك - مثلا - إذا لم يكن متقدما على الإمساك أول الفجر آناً ما. فاما ان يكون المكلف مقارنا لحدوث الخطاب أول الفجر متلبسا بالإمساك ، أو متلبسا بالإفطار ، فان كان متلبسا بالإمساك لزم تعلق الطلب بالحاصل وهو محال. وان كان متلبسا بالإفطار امتنع تعلق الطلب بالإمساك في ذلك الحين لأنه غير مقدور ، فان الشيء لا ينقلب عما وقع عليه ، والمفروض انه كان متلبسا بالإفطار في ذلك الحين فكيف ينقلب ويصير إمساكا؟.

فهي مندفعة :

أولا : بالنقض بالعلة والمعلول التكوينيين ، فانه يقال : انه عند وجود العلة اما ان يكون المعلول موجودا أو معدوما فان كان موجودا لزم ان تكون علة للحاصل ، وان كان معدوما استحال وجوده في زمان عدمه - سواء كان مع عدمه أو بتبدل العدم إلى الوجود - فتكون العلة علة للمستحيل. وكل من علة الحاصل

ص: 399

والمستحيل محال. فعلية يلزم تقدم العلة على المعلول زمانا ولا يلتزم به أحد.

وثانيا : بالحل في الجميع ، بان وجود المعلول والامتثال في الآن الّذي تتحقق فيه العلة والخطاب إذا كان من غير ناحيتهما وبسبب آخر غيرهما تأتى ما ذكر ، اما إذا كان من ناحيتهما ومستندا إليهما فلا محذور فيه وان تقارنا في الزمان.

وثالثا : ان تقدم الخطاب على زمان الامتثال لا يترتب عليه الأثر المطلوب ، فيكون لغوا. بيان ذلك : ان المكلف ان كان عالما بأنه يتعلق به الخطاب حال الفجر كفى ذلك في امتثاله الخطاب حين الفجر ، وفرضه قبل الفجر لا أثر له لأن المحرّك هو الخطاب المقارن وان لم يكن عاملا بثبوت الخطاب في حقه قبل الفجر فلا يجدي ألف خطاب في محركيته.

ورابعا : ان الخطاب لو كان متقدما على الامتثال ولو آناً ما لزم تعلق الفعلي بما هو متأخر ، وهذا يرجع إلى الالتزام بالواجب المعلق وهو محال كما حقق في محله.

وخامسا : ان هذا الإشكال لو تم ، فهو يسري إلى الموسعات ولا يختص بالمضيقات ، مع انهم لا يلتزمون بلزوم الفصل الزماني بين الحكم وامتثاله في الموسعات ولذلك يلتزم بصحة العمل الموسع إذا فرض مقارنة أول جزء منه لآخر جزء من الموضوع في الوجود.

والمهم من تحرير هذه المقدمة هو بيان ان الأمر بالأهم وعصيانه الّذي هو بديل امتثاله والأمر بالمهم المشروط بعصيان الأهم متحدة زمانا من دون ان يكون بينهما سوى التقدم والتأخر الرتبي ، وهذا واضح مما تقدم ، وبه يندفع جملة من الإشكالات الموردة على الترتب ، وقد ذكر منها اثنين :

أحدهما : ان عصيان الأمر بالأهم متحد مع زمان امتثال خطاب المهم ، فلا بد من فرض تقدم خطاب المهم على زمان امتثاله ، وهو مستلزم للالتزام

ص: 400

بالشرط المتأخر والواجب التعليقي وكلاهما باطلان.

ثانيهما : ان الأمر بالمهم إذا كان مترتبا على عصيان الأهم فلا يثبت إلا بعد تحقق العصيان ومضي زمان امتثال الأمر بالأهم ، فيكون حدوث الأمر بالمهم بعد سقوط الأمر بالأهم ، لتأخر الأمر بالمهم عن عصيان الأهم ، فلا يلزم اجتماع الأمرين في زمان واحد ، وهذا خلف فرض الترتب لأنه لتصحيح اجتماع الأمرين في زمان واحد.

وهذا الإشكال وان لم يذكره بهذا الترتيب ، بل ذكره بنحو التشقيق ، إلاّ ان الّذي يعنينا أمره هذا المقدار.

وعلى كل ، فقد أجاب عن الإشكال الأول بوجهين :

أحدهما : انه قد يتبين بالمقدمة المذكورة ان زمان الامتثال لا ينفك ولا يتأخر عن زمان الخطاب ، فزمان الخطاب بالمهم وزمان امتثاله وزمان عصيان الأمر بالأهم متحد.

ثانيهما : انه إشكال لا يختص بمسألة الترتب ، بل يعم جميع الواجبات ، فما يتفصى به عن المحذور فيها يتفصى به عنه فيما نحن فيه.

وأجاب عن الإشكال الثاني : بان الالتزام بتأخر خطاب المهم عن العصيان زمانا يبتني على القول بلزوم تأخر الحكم عن شرطه. واما على التحقيق من مقارنة الخطاب بشرطه ، فيكون الأمر بالمهم في زمان عصيان الأهم ، وهو زمان الأمر بالأهم - لما عرفت من اتحاد زمان الأمر وزمان عصيانه أو امتثاله - ، فيجتمع الأمران في زمان واحد.

ثم بين غرابة التزام الشيخ رحمه اللّه بلزوم تأخر الخطاب بالمهم عن العصيان - في المقام - ، مع انه لا يقول بذلك في مطلق الشرائط.

مع انه لا يعقل الفرق بين ما نحن فيه وبين سائر الشرائط.

ص: 401

هذا خلاصة ما حرره في المقدمة الثالثة (1).

وهو لا يخلو عن إشكال. بيان ذلك : ان المستشكل على الترتب باستلزامه الشرط المتأخر ، وانه يبتني على القول بإمكانه أخذ جهة انفصال الخطاب عن امتثاله زمانا امرا مفروغا عنه ومما لا بد منه ، وعليه فرع الإشكال المذكور ، فالالتزام بالواجب المعلق عند المستشكل أمر مسلم وانما الإشكال من جهة ابتناء إمكان الترتب على الالتزام بالشرط المتأخر.

وعليه ، فتحرير الإشكال بالنحو الأول الوارد في كلام المحقق النائيني ليس تحريرا علميا صحيحا ، فانه أخذ انتهاء القول بالترتب إلى الالتزام بالواجب التعليقي محذورا كانتهائه إلى الالتزام بالشرط المتأخر ، وأورد عليه بسراية هذا الإشكال إلى جميع الواجبات ، وقد عرفت انه ليس محذورا في نظر المستشكل بل هو أمر مفروغ عنه في محله ، وانما هو مبنى الإشكال بالشرط المتأخر ، فليس استشكاله من جهة استلزام الترتب للقول بالواجب التعليقي ، لأنه يقول به بل استشكاله من جهة استلزامه الترتب للشرط المتأخر فيمتنع عند من يقول به وذلك بتقريبين :

الأول : ان عصيان الأمر بالأهم كامتثاله منفصل زمانا عنه ، فإذا رتب الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم لزم ان يكون الأمر بالمهم في غير زمان الأمر بالأهم لفرض انفصاله عن عصيانه زمانا. فلا بد ان يؤخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر كي يكون الأمر بالمهم سابقا عليه زمانا ، فيجتمع الأمران في زمان واحد الّذي هو محط نظر دعوى الترتب.

الثاني : ان زمان الامتثال إذا كان متأخرا عن زمان الأمر ، فالامر بالمهم متعلق بفعل متأخر زمانا ، ففي حال وجود الأمرين - أعني حال العصيان الّذي

ص: 402


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 288 - الطبعة الأولى.

هو شرط المهم - لا مزاحمة ، لعدم محركية المهم لمتعلقه في تلك الحال ، وبعد العصيان يسقط الأمر بالأهم ، فيكون الأمر بالمهم وحده من دون مزاحم ، وهذا خلف الترتب ، فلا بد من أخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر كي يكون الأمر سابقا عليه ، فيكون محركا نحو متعلقه في حال وجود الأمر بالأهم.

فالقول بالترتب لا يصح ما لم يلتزم بأخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر على القول بكون الواجبات تعليقية - ولأجل ذلك ذكر صاحب الكفاية شرطية العصيان بنحو الشرط المتأخر ، بنحو كأنه مفروغ عنه لو سلم شرطيته فلاحظ عبارته (1) -.

ويشهد لما ذكرناه - مضافا إلى اعتراف المحقق المزبور به ، والتصريح بان هذين الإشكالين يردان ممن يلتزم بلزوم تقدير آن ما بين الحكم وامتثاله - ان الإشكال بالشرط المتأخر على الترتب بالنحو الّذي عرفته وبالنحو الّذي ذكره هو لا يتأتى إلا على هذا التقدير ، فلو لم يلتزم بلزوم الفصل الزماني بين الحكم وامتثاله لم يكن الترتب مبتنيا على القول بالشرط المتأخر ، كي تبتني صحته على صحة الشرط المتأخر.

وبالجملة : فما ذكره في تحرير الإشكال والجواب عنه ليس نحوا علميا.

وخلاصة الجواب عن الإشكال المذكور بتقريبيه هو : إنكار مبنى الإشكال وهو ضرورة انفكاك الحكم عن متعلقه زمانا التي ادعاها صاحب الكفاية في مبحث الواجب المعلق فينحل الإشكال المزبور.

وكما يرد ما عرفت على هذه الجهة من كلامه يرد على ما أفاده في الجواب عن الإشكال الثاني الّذي ذكره من انه يبتني على القول بلزوم انفكاك الحكم عن شرطه ، بان الالتزام بلزوم انفكاك الحكم عن شرطه ولزوم تقدم الشرط على

ص: 403


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /134- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الحكم زمانا مما لا يقول به أحد ، فانه يرجع إلى إنكار الشرط المقارن وإرجاع جميع الشروط إلى الشرط المتقدم ، وهذا مما لا يظن التزام أحد به ، كيف؟ والمفروض ان الإشكال انما هو في تقدم الشرط وتأخره لا في مقارنته ، فنسبة هذا القول إلى أحد عجيبة جدا ، وأعجب منها نسبتها إلى الشيخ الأنصاري قدس سره كما يظهر من استشكاله عليه في التزامه بلزوم تقدم العصيان على الحكم بالمهم بان ملاكه موجود في جميع الشروط فلا وجه للتفكيك بين الشرائط ، مما يكشف عن كون ملاكه أمر سار في جميع الشرائط ، وليس هو إلاّ دعوى لزوم انفكاك الشرط عن المشروط زمانا وضرورة تقدمه عليه.

وخلاصة ما تقدم : ان كلام المحقق النائيني في هذا المقام خال عن التنقيح ولا يخلو عن بعض خلط.

واما الإيراد على صحة الترتب وانه يبتني على الشرط المتأخر : بان تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأهم يستلزم ثبوت الأمر بالمهم في حال عصيان الأمر بالأهم ، وهو حال سقوطه ، لأن العصيان علة لسقوط الأمر ، فلا يجتمع الأمران في زمان واحد ، إذ العصيان كما يكون علة لثبوت الأمر بالمهم يكون علة لسقوط الأمر بالأهم ، فلا بد من أخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر كي يسبقه الأمر بالمهم فيجتمع الأمران في زمان واحد.

فقد تعرض له المحقق النائيني وأشار إلى جوابه (1).

وتحقيق الكلام في جوابه - كما أوضحه الأصفهاني - هو : انه لا إشكال في ان العصيان سبب لسقوط الأمر وارتفاعه ، وإلاّ لم يتحقق العصيان كما في ترك الواجب الموسع في أول وقته. كما انه لا إشكال في ان تحقق العصيان يلزم وجود الأمر في حاله كي يضاف إليه العصيان والمخالفة ، وإلا فلا موضوع للعصيان كي

ص: 404


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 291 - الطبعة الأولى.

يقال أنه عصى الأمر إذ لا امر. فهو نظير امتثال الأمر في لزوم ثبوت الأمر في حاله ، وإلاّ فلا موضوع للامتثال.

والجمع بين هذين الأمرين البديهيين وهما سببية العصيان للسقوط وضرورة وجود الأمر حال العصيان هو ان يقال : ان سقوط الأمر بالعصيان المتحقق الّذي لا يصدق - أعني العصيان المتحقق - إلا بمضي آن ما عن زمان الامتثال ، والأمر انما يثبت في الحال الّذي يتحقق فيه العصيان.

وتوضيح ذلك : انه في الآن الّذي يتحقق فيه العصيان والمخالفة يكون الأمر ثابتا وهو آن الامتثال ، وبمضيّ آن ما على ذلك الحال وزمان الامتثال يسقط الأمر لعدم إمكان امتثاله ، فمثلا في الآن الأول من النهار يكون الأمر بالإمساك ثابتا ، فإذا لم يمسك المكلف ومضي ذلك الآن فقد مضى زمان الامتثال فيسقط الأمر في الآن اللاحق لآن الامتثال.

فان شئت قلت : المسقط للأمر هو مضي زمان الامتثال ولو آناً ما ، أو المسقط له هو العصيان المتحقق ، وقد عرفت عدم تحقق هذا العنوان الا بمضي آن ما من زمان الامتثال. فمن يقول بان العصيان مسقط للأمر غرضه هذا المعنى ، لا انه حال العصيان يسقط الأمر ، فان ذلك محال كما عرفت.

وعليه ، ففي حال العصيان يكون الأمر بالأهم ثابتا ، فيجتمع مع الأمر بالمهم زمانا لثبوته في ذلك الحال أيضا ، وبعد مضي زمان العصيان والامتثال يسقط الأمر بالأهم فلا يكون زمان ثبوت الأمر بالمهم هو زمان سقوط الأمر بالأهم. فتدبر (1).

ثم انه قد اتضح ان مهمة هذه المقدمة ليست إلا دفع بعض الإشكالات على الترتب ، فليست هي من مقدمات تصحيح الترتب وبيان صحته من الجهة

ص: 405


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 231 - الطبعة الأولى.

المقصودة من الترتب ، وهي رفع محذور اجتماع الأمرين بالضدين في زمن واحد.

فجعلها من مقدمات الترتب لا يخلو عن مسامحة. واعلم ان السيد الخوئي ذكر جهتين :

إحداهما : ان القول بإمكان الترتب وعدمه لا يبتني على القول بإمكان الواجب المعلق وعدمه ، لأن ملاك أحدهما يختلف عن ملاك الآخر ولا يرتبط به ، فيمكن القول بالترتب على القولين في الواجب المعلق.

ثانيتهما : بيان ان إمكان الترتب لا يتوقف على القول باستحالة الواجب المعلق والشرط المتأخر ، فمع القول بإمكانهما لا يكون الترتب ممكنا (1).

ولا يخفى ما في كلتا الجهتين :

اما الأولى : فالإشكال فيها من وجهين :

الأول : ان أساس الإشكال في الترتب في فرض أخذ العصيان شرطا هو انتهاؤه إلى الالتزام بالشرط المتأخر لا الواجب المعلق ، فانه قد عرفت أخذه مفروغا عنه في مقام الإشكال ، فإغفال الإشكال في الترتب من جهة الشرط المتأخر وقصر النّظر على خصوص جهة الواجب المعلق فيه نحو من المسامحة.

الثاني : ان الاستشكال في الترتب باستلزامه الشرط المتأخر أو الواجب المعلق ليس استشكالا عليه بقول مطلق وبجميع صوره ، بل على خصوص صورة أخذ العصيان شرطا دون البناء على العصيان أو نفس الترك ، فلا يتخيل أحد بان الترتب بجميع صوره يترتب على إمكان الواجب المعلق ، حتى يدفع ذلك ويبين ان الترتب بقول مطلق لا يرتبط بالواجب المعلق إمكانا واستحالة. فتدبر.

واما الثانية : فوجه الغرابة فيها هو انه لم نعهد من يدعي أو يتخيل توقف

ص: 406


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 109 - الطبعة الأولى.

القول بالترتب على القول باستحالة الشرط المتأخر والواجب المعلق ، فالتعرض لهذا التخيل ودفعه خارج عن حدود البحث العلمي فانه تطويل بلا طائل.

واما الوجه الّذي ذكره للتخيل المزبور : فهو وجه واضح الإشكال لأول وهلة ، وليس له صورة برهان قوية بحيث يولد هذه الشبهة لدى البعض ، فلاحظه في تقريرات الفياض تعرف ما قلناه.

ثم أنه تعرض في بعض كلماته إلى ما يقال : من تأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم برتبتين ، لأن الأمر بالمهم متأخر عن عصيان الأمر بالأهم لأنه شرطه ، وهو - أي العصيان - متأخر رتبة عن نفس الأمر بالأهم ، فيتأخر الأمر بالمهم عن الأمر بالأهم بمرتبتين.

وناقشه : بان التقدم أو التأخر بالرتبة والطبع منوط بملاك كامن في صميم ذات المتقدم أو المتأخر ، وليس امرا خارجا عن ذاته ، ولذا يختص هذا التقدم أو التأخر بما فيه ملاكهما فلا يسري منه إلى ما هو متحد معه في الرتبة فضلا عن غيره ، ولذا قلنا بتقدم العلة على المعلول لوجود ملاك التقدم فيها ، واما عدمها فلا يتقدم عليه مع أنه في مرتبتها. وعلى هذا الضوء ففيما نحن فيه وان كان الأمر بالأهم مقدما على عصيانه بملاك أنه علة له ، إلا انه لا يوجب تقدم على الأمر بالمهم لانتفاء ملاكه. « انتهى » (1).

وأنت خبير بان ما ذكره لا يرجع إلى محصل ، فان الملاك الّذي يذكر للتقدم والتأخر الطبعي موجود في الأمر بالمهم والأمر بالأهم ، وهو ان لا يوجد المتأخر إلا والمتقدم موجود ولا عكس ، فان الأمر بالمهم لا يوجد إلا والأمر بالأهم موجود ولا عكس. فيكون الأمر بالأهم متقدما رتبة قهرا.

وببيان آخر : ان الأمر بالأهم إذا كان علة للعصيان وكان العصيان علة

ص: 407


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 111 - الطبعة الأولى.

للأمر بالمهم لأنه موضوعه أو شرطه ، كان الأمر بالأهم علة العلة. ومن الواضح ان علة العلة متقدمة على المعلول رتبة وتقدمها برتبتين. فان الوجه الّذي يوجّه به التقدم برتبة أو برتبتين في سائر الموارد ويتلقى بالقبول ليس إلا مثيل هذا الوجه الّذي وجه به التقدم برتبتين فيما نحن فيه. فتدبر جيدا. وهذا الأمر الّذي تعرضنا إليه وان كان أجنبيا عن هذه المقدمة ، لكن رأينا التعرض إليه إتماما للفائدة وتنبيها على بعض موارد التسامح في هذه الكلمات.

المقدمة الرابعة : - وهي أهم مقدمات الترتب وأساسه الّذي يرتكز عليه - ومحصلها بتوضيح : ان ثبوت التكليف وانحفاظه في تقدير من التقديرات يكون بأحد طرق ثلاثة :

الأول : ان يكون مشروطا بوجوده أو مطلقا بالإضافة إليه ، كثبوت التكليف بوجود إكرام العالم في ظرف العدالة ، لأجل أخذها في موضوعه أو أخذ الموضوع مطلق العالم الشامل للعادل.

وهذا انما يتصور في الانقسامات السابقة على الخطاب ، بمعنى الثابتة من دون ثبوت الخطاب والحكم.

ويكون كل من التقييد والإطلاق فيها لحاظيا. لأن الحكم إما ان يلحظ بالإضافة إليها مقيدا أو مطلقا.

الثاني : ان يكون الحكم مشروطا بوجوده أو مطلقا بالإضافة إليه ، ولكن لا بالإطلاق أو التقييد اللحاظيين ، بل بنتيجة الإطلاق والتقييد ، وهذا انما يكون في الانقسامات اللاحقة وهي المتفرعة في ثبوت على ثبوت الحكم كالعلم والجهل بالحكم ، فانه يمتنع فيها التقييد اللحاظي لامتناع تقييد ثبوت الحكم بالعلم به ، لأن لحاظ العلم به فرع ثبوت الحكم فلا يتفرع ثبوت الحكم عليه ، إلا ان الغرض إذا فرض تقيده بصورة العلم بالحكم ، فيعلم بواسطة الدليل الخارجي ، كما ثبت من الأدلة انحفاظ الخطابات في حال العلم والجهل في غير الجهر

ص: 408

والإخفات والقصر والإتمام ، واما في موردهما فالخطاب غير محفوظ في ظرف الجهل. فنفس الخطاب المثبت للحكم يمتنع ان يقيد بالتقييد اللحاظي بالانقسامات اللاحقة للحكم. نعم يقيد بدليل آخر بذلك المعبّر عنه بمتمم الجعل. ويصطلح على هذا الإطلاق بالإطلاق الذاتي والملاكي في قبال الإطلاق اللحاظي.

الثالث : ان يكون منشأ انحفاظ الحكم في التقدير هو نفس الحكم ، لاقتضائه وضع هذا التقدير أو رفعه ، فيكون محفوظا في كلتا الصورتين لا محالة ، وهذا كما في كل خطاب بالنسبة إلى وجود متعلقه وعدمه. فان الإطلاق والتقييد بقسميهما - يعني الذاتي واللحاظي - مستحيلان بالنسبة إلى تقدير وجود المتعلق وعدمه.

اما استحالة التقييد اللحاظي ، فلان وجوب الفعل بقيد وجوده يستلزم اختصاص وجوبه بصورة وجوده ، وهو يستلزم طلب الحاصل ، ووجوبه بقيد عدمه يستلزم اختصاص وجوبه بصورة عدمه وهو طلب المحال ، لأن تحقق الفعل في ظرف الترك محال لانتهائه إلى اجتماع النقيضين. وإذا ثبت امتناع التقييد ثبت امتناع الإطلاق ، لأن التقابل بينهما تقابل العدم والملكة.

واما استحالة التقييد الذاتي ، فلما تقدم أيضا.

ومنه يعلم استحالة الإطلاق الذاتي ، لأن الإطلاق في قوة التصريح بكلا التقديرين ، فيلزم منه طلب المحال والحاصل.

وعليه ، فلا وجه لدعوى ان انقسام المكلف إلى المطيع والعاصي من الانقسامات اللاحقة ، فيثبت الإطلاق بالإضافة إليها بنتيجة الإطلاق.

وذلك لأن المفروض إثبات انحفاظ الحكم في تقدير الفعل والترك اللذين هما منشأ الإطاعة والمعصية. ومن الواضح ان تقدير الفعل والترك ليس من الانقسامات اللاحقة ، لأنه يمكن لحاظ الفعل والترك حال الأمر ، بل لا بد من

ص: 409

لحاظهما كي يكون الأمر بعثا نحو الفعل وزجرا عن الترك ، فليس منشأ عدم الإطلاق اللحاظي هو عدم إمكان لحاظهما كي يقال بثبوت نتيجته ، بل منشؤه محذور آخر ثابت في كلا القسمين من الإطلاق والتقييد.

ويظهر مما بيناه : ان انحفاظ الحكم في القسم الثالث من جهة انه من لوازم ذاته ، فان ثبوت الحكم وتعلقه بشيء يقتضي وضع تقدير وهدم تقدير آخر ، فالوجوب يقتضي وضع تقدير الوجود وهدم تقدير العدم والتحريم بعكسه. واما انحفاظ الحكم في القسمين الأولين فهو من جهة التقييد بالتقدير أو الإطلاق بالإضافة إليه ، وإلاّ فذات الحكم لا يقتضي انحفاظه في ذاك التقدير.

وبذلك يحصل الفرق بين انحفاظ الحكم في القسم الثالث وانحفاظه في القسمين الأولين من جهتين :

الأولى : ان نسبة الحكم إلى التقدير في القسمين الأولين نسبة المعلول إلى العلة ، لأن تقييد الحكم بأمر مرجعه إلى أخذه في موضوعه ، وقد ثبت ان نسبة الموضوع إلى حكمه من سنخ نسبة العلة إلى معلولها ، هذا في صورة التقييد.

واما في صورة الإطلاق ، فلأنه في رتبة التقييد ، فإذا كانت مرتبة التقييد مرتبة العلية كانت مرتبة الإطلاق كذلك. واما نسبة الحكم إلى التقدير في القسم الثالث ، فهي نسبة العلة إلى المعلول ، لأن الخطاب له نحو علية بالإضافة إلى الامتثال ، لأنه يقتضي وضع أحد التقديرين وهدم الآخر ، فتكون نسبته إلى التقدير المحفوظ فيه نسبة العلية.

الثانية : ان الحكم في القسمين الأولين لا يكون متعرضا لحال التقدير وضعا ولا رفعا ، لأن نسبته إليه نسبة الموضوع إلى الحكم. ومن الواضح ان الحكم لا يكون متعرضا لحال موضوعه ، بل هو مترتب على وجوده. بخلاف الحكم في القسم الثالث ، فانه متعرض لحال التقدير المحفوظ فيه وضعا ورفعا ، فانه يقتضي وضع تقدير وهدم آخر.

ص: 410

وعلى ضوء هذا البيان يتضح : عدم التنافي والتزاحم بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم المقيد بالعصيان ، وذلك فان الأمر بالأهم محفوظ في تقدير عصيانه لاقتضائه هدمه ، إلاّ انه لا يتعرض لأكثر من هدم تقدير العصيان من دون ان يكون له نظر على تقدير ثبوت هذا التقدير.

والأمر بالمهم لا يتعرض لحال هذا التقدير ، لأنه مأخوذ في موضوعه ، وقد عرفت استحالة تعرض الحكم لحال موضوعه ، نعم هو يقتضي إيجاد متعلقه على تقدير العصيان. فالامر بالمهم لا يترقى ويصعد إلى مرتبة الأهم ويكون فيه اقتضاء لموضوعه ، والأمر بالأهم لا يتنزل ويقتضي شيئا ما وراء رفع موضوع الأمر بالمهم حتى يكون في عرض المهم ، فالخطابان وان كانا محفوظين في ظرف العصيان ، إلاّ انهما لا يتمانعان لأنهما في مرتبتين طوليتين.

هذا توضيح ما جاء في أجود التقريرات لبيان هذه المقدمة (1).

وقد أشرنا إلى ان على هذه المقدمة يرتكز الترتب وينهض القول به.

إلاّ ان هذا المقدار والنحو من البيان لا يفي بما هو الغرض الأساسي والنكتة الأصلية منه ، بل ظاهره لا يخلو عن إيرادات ، ولذا تناولتها أقلام الأعلام فأورد عليها :

أولا : بأنّ امتناع التقييد لا يستلزم امتناع الإطلاق ، بل يستلزم ضرورته ، لأن التقابل بينهما تقابل السلب والإيجاب لا العدم والملكة (2).

وثانيا : بان كون الإطلاق في مرتبة التقييد لا يقتضي تأخر الحكم عما يكون مطلقا بالنسبة إليه ، كما كان يقتضي ذلك تقييد الحكم ، فان التقديم والتأخير لا يكون إلا بملاك ، وملاك التأخر في التقييد والحكم موجود. واما في

ص: 411


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 293 - الطبعة الأولى.
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 114 - الطبعة الأولى.

الإطلاق - المفروض كونه في مرتبة التقييد - والحكم فلا. فان العلة متقدمة رتبة على المعلول. واما عدم العلة فهو وان كان في رتبة العلة فلا موجب لتقدمه على المعلول.

وثالثا : بان نسبة الحكم إلى العصيان ليست نسبة العلة إلى المعلول كما هو واضح ، بل نسبة المعروض إلى العارض ، لأن العصيان يضاف إلى الأمر فيقال عصيان الأمر فهو مترتب عليه ومتقدم به ، لكن بنحو تقدم العارض بالمعروض لا المعلول بالعلة ، فيختلف العصيان عن الامتثال في ذلك.

ورابعا : بالعجب عن إهماله الإطلاق والتقييد في متعلق الحكم ، وقصر الكلام في الإطلاق والتقييد في موضوعه ، مع تأتي ما ذكر من الإطلاق الذاتي واللحاظي في المتعلق كما يتأتى في الموضوع (1).

وخامسا : بان الأساس الّذي من أجله يلتزم بالترتب هو ارتفاع طلب الجمع بين الضدين بالترتب وهذا لا يتم بالبيان المذكور.

بهذه الإيرادات التي نقلناها بنحو مختصر جدا أورد على البيان السابق.

ولكن أعود فأكرر : ان هذه المقدمة هي الأساس الّذي يبتنى عليه الترتب وما ذكره المحقق الأصفهاني في تصحيحه نستطيع ان نقول انه مستقى منه كما سيتضح. إلاّ ان المنشأ الّذي سبب توجه هذه الإيرادات هو عدم أداء النكتة الأساسية المقصودة بيانها في مثل البيان السابق ، بل يضاف إلى هذه الإيرادات إيراد آخر وهو التنافي الظاهر بين دعوى عدم إطلاق الأمر بالنسبة إلى وجود متعلقه ، مع ان المطلوب به ليس إلا وجود الطبيعة والملحوظ في متعلقه هو وجودها. وهذا كغيره ناشئ من عدم التنبيه على الغرض الأصلي الّذي كان

ص: 412


1- هذا الإيراد وتاليه للمحقق الأصفهاني ، وهما أكثر واقعية ومساسا بواقع المطلب من سوابقهما ، لأنها أشبه بالإيرادات اللفظية. هكذا تفضل سيدنا الأستاذ ( دام ظله ). فالتفت ( منه عفي عنه ).

المرحوم النائيني بصدد بيانه.

ولأجل ذلك يلزمنا توضيح المقصود وبيان روح المطلب وحذف ما أضيف إليها من زوائد. لكي يتضح لك صدق ما قلناه من ان الوجه الّذي يصحح به الترتب هو هذا البيان ، فنقول : ان المدعى هو ان الترتب يرفع التنافي بين الأمرين في مرحلة التأثير الفعلي والداعوية الفعلية ، فهو يتكفل منع اجتماع تأثيرهما في زمان واحد ، بمعنى أنه بالترتب يمتنع ان يفرض حصول تأثير كل منهما الفعلي في زمان واحد ، وان اجتمع كلاهما في زمان واحد ، وهذا المعنى الّذي يقتضيه الترتب ناشئ عن وجود خصوصية تكون حدا لتأثير أحدهما وبداية لتأثير الآخر. هذه الخصوصية هي العصيان بتعبير ، ومخالفة الأمر وعدم تأثيره بتعبير آخر ( وهو الّذي نواظب على تكراره ).

ووضوح ما ادعيناه يكون ببيان ان الأمر لا إطلاق له ولا تقييد بالنسبة إلى عدم مؤثريته ، سواء لوحظ الإطلاق أو التقييد في الموضوع أو في المتعلق ، وذلك لأن معنى التقييد في الموضوع هو ترتب الحكم على الخصوصية المأخوذة قيدا وأخذها مفروضة الوجود بحيث يكون ثبوت الحكم مرتبطا بتحقق تلك الحصة المقيدة ، واما الإطلاق في الموضوع فمرجعه إلى نفي دخالة الخصوصيات ، وهو يعني ثبوت الحكم بثبوت أي فرد من الافراد ، لتعليق الحكم فيه على نفس الطبيعة الموجودة في ضمن افرادها. والتقييد في المتعلق معناه تعلق الحكم بالحصة الخاصة وداعويته إليها بالخصوص فلا تتصف الطبيعة بالطلب إلاّ إذا كانت الخصوصية المأخوذة قيدا منضمة إليها ، والإطلاق فيه يعني نفي دخالة الخصوصية في مرحلة تعلق الحكم ، ومرجعه إلى ثبوت الحكم لكل فرد من افراد الطبيعة واتصاف كل فرد بالطلب.

وجملة القول : ان مرجع التقييد والإطلاق إلى التوسعة والتضييق في الموضوع الّذي يترتب عليه الحكم أو في المتعلق الّذي يرد عليه الحكم ويتصف

ص: 413

به.

وهما لا يتأتيان بالنسبة إلى خصوصية عدم مؤثرية الأمر ، فانه لا يتصور الإطلاق فيها ولا التقييد لا بلحاظ الموضوع ولا بلحاظ الحكم.

وذلك لأن مؤثرية الأمر وعدم مؤثريته من الأمور اللاحقة لتحقق الأمر والمتفرعة عليه ، بحيث لا يتصور وجودها من دون وجود الأمر ، ففي الظرف الّذي يفرض فيه وجود المؤثرية أو عدمها لا بد ان يفرض فيه وجود الأمر نفسه.

وعليه ، فيتضح الحال في نفي إمكان الإطلاق والتقييد بالنسبة إلى عدم المؤثرية بوجهين.

الأول : ان عدم مؤثرية الأمر لا تفرض إلاّ بفرض وجود الأمر وتقومه بالمتعلق وتفرعه على الموضوع المفروض له ، فلا معنى لأن يؤخذ في متعلق الأمر أو موضوعه ، لأن فرضها مستلزم لفرض ثبوت الأمر ومتعلقه وموضوعه وتمامية هذه الجهة ، كما لا معنى لأن ينفي أخذه في متعلقه وموضوعه بالإطلاق ، لأن مرجعه إلى بيان ان متعلق الأمر أو موضوعه هو الطبيعة سواء انضم إليها عدم المؤثرية أو لم ينضم وقد عرفت انه لا معنى لذلك بعد فرض ثبوت المتعلق والموضوع للأمر كل بحده ، بفرض عدم مؤثرية الأمر. - وهذا الوجه عرفي وجداني -.

الثاني : ان عدم المؤثرية إذا كان متفرعا على الأمر ، فأخذه في متعلق الأمر ممتنع للزوم الخلف ، مع لزوم داعوية الشيء لداعوية نفسه ، لأن الأمر يدعو إلى ما تعلق به ، وذلك يساوق علية الشيء لعلية نفسه. كما يمتنع أخذه في موضوع الأمر ، لأن مرجعه إلى فرض تفرع وجود الأمر عليه وكون ثبوته منوطا به. وقد عرفت ان الأمر بالعكس. وهكذا الحال في الإطلاق في المتعلق والموضوع ، فان مرجع الإطلاق وان كان إلى نفي دخالة الخصوصية وكون الحكم مرتبا على الذات أو متعلقا بالذات انضم إليها القيد أو لم ينضم ، إلا انه بعد ان كان فرض عدم المؤثرية ملازم لفرض ثبوت الحكم كان ثبوت الحكم وتعلقه بالذات أو ترتبه

ص: 414

على ذات الموضوع في ظرف عدم المؤثرية امر معلوم لا يحتاج إلى بيان ، كي يتكفله الإطلاق ببيان عدم دخل أي خصوصية في المتعلق أو الموضوع ، فإطلاق الحكم بالنسبة إلى مؤثرية نفسه كإطلاقه بالنسبة إلى نفسه مما لا معنى له.

ويتضح من ذلك : ان الحكم في حال عصيان الأمر ومخالفته ثابت ، لكنه لا بالتقييد ولا بالإطلاق ، بل نفس فرض عصيان الأمر ملازم لفرض الأمر في ذلك الحال ، بل نستطيع ان نقول ان إطلاق الموضوع من جهة عدم مؤثرية الأمر غير معقول بعد فرض ان الحصة المقيدة به متفرعة على الأمر ، وذلك لأن معنى الإطلاق وان كان نفي تأثير الخصوصية إلا ان مرجعه إلى سراية الحكم إلى جميع الافراد ، فالإطلاق في الموضوع مرجعه إلى كون الحكم مترتبا على كل فرد فرد وان لم يكن لخصوصية فرديته ، بمعنى ان حصول أي فرد موجب لتحقق الحكم ، وقد عرفت انه لا معنى لأن يكون حصول الفرد المقيد بالعصيان موجبا لتحقق الأمر ، بل حصوله متفرع على تحقق الأمر ، فلا يتصور الإطلاق بالإضافة إلى هذا الفرد.

وبعبارة أخرى : ان الموضوع - بالإطلاق - وان كان هو ذات الطبيعة السارية في جميع افرادها. إلاّ ان من الواضح ان المأخوذ هو الذات التي يمكن فرض ترتب الحكم عليها ، فهي لا تشمل الذات المقيدة بعدم مؤثرية الأمر ، لأنها مما لا يمكن فرض ترتب الحكم عليها ، فهي ليست من افراد الموضوع ، فلا ينفع الإطلاق في إثبات تعلق الحكم على عدم مؤثريته.

وإذا تبين ذلك تعرف ما رمينا نحوه من تصحيح الترتب ، وذلك لأن المفروض ان الأمر بالمهم معلق على عصيان الأمر بالأهم ، فمرحلة داعويته انما هي بتحقق عصيان الأهم ، وظرف عصيان الأهم ظرف لانتهاء داعوية الأهم ، لما عرفت من عدم كونه ناظرا إلى عصيانه إطلاقا أو تقييدا ، ولا يتكفل أمرا وراء العصيان ومترتبا عليه ، فالعصيان نهاية داعوية الأهم وتأثيره ، كما انه ابتداء تأثير

ص: 415

المهم ، وبذلك لا تتحقق أي مزاحمة بين الأمرين في مقام الداعوية والتأثير ، فلا مانع من وجودهما في زمان واحد.

وقد أوضح المحقق الأصفهاني هذا المعنى ببيان مختصر. أجمع ، فأفاد قدس سره : بان التنافي بين الأمرين انما هو ناشئ من تزاحمهما في مقام المؤثرية الفعلية ، لأن كلا منهما يحاول التأثير الفعلي لإتيان متعلقه ، فان الغرض من الأمر هو ذلك ، والمفروض عدم القدرة على أكثر من واحد ، وبالترتب ترتفع هذه المنافاة وينتهي التزاحم في مقام الدعوة الفعلية بحيث لا يتصور فعلية دعوة أحدهما مع فعلية دعوة الآخر ، وذلك لأن الأمر بالمهم إذا علق على عصيان الأهم ، ففي فرض فعلية تأثير الأهم لا موضوع للأمر بالمهم فلا وجود له كي يتخيل مزاحمته للأهم. وفي فرض فعلية تأثير المهم يستحيل تصور مزاحمته لفعلية تأثير الأهم ومانعيته عنه ، لأن المفروض ان اقتضاء المهم منوط بعدم فعلية تأثير الأهم ، فكيف يتصور ان تكون فعلية تأثيره اللاحقة لاقتضائه مانعة عن فعلية تأثير الأهم؟.

وبالجملة : لا يتصور فعلية تأثير المهم مع وصول الأهم إلى مرحلة الفعلية في التأثير ، لأنه بوصوله إلى ذلك ترتفع فعلية تأثير المهم بارتفاع نفس الأمر ، فلا يعقل ان يصل كلا الأمرين الترتبيين إلى مرحلة الفعلية في التأثير في زمان واحد ، بل الفرض الّذي يصل فيه أحدهما - أيهما كان - إلى مرحلة الفعلية في التأثير مساوق لفرض عدم وصول الآخر إلى حد التأثير الفعلي ، وإذا تبين ارتفاع التزاحم في التأثير ظهر صحة الترتب ، إذ لا محذور في جعل كلا الأمرين ما لم ينته إلى التزاحم في التأثير الفعلي (1).

وهذا البيان وان كان يختلف بحسب الصورة عن البيان السابق الّذي

ص: 416


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 243 - الطبعة الأولى.

وجهنا به كلام المحقق النائيني ، لكنه في الحقيقة مستقى منه ومستوحى عنه.

والاختلاف بين المحققين في ان المحقق الأصفهاني فرض المحذور في اجتماع طلب الضدين هو التنافي بينهما في مرحلة تأثيرهما الفعلي ومحاولة كل منهما صرف القدرة إلى متعلقه ، وهو يرتفع بالترتب بالتقريب الّذي عرفته. واما المحقق النائيني فقد فرض المحذور هو طلب الجمع بين الضدين ، وجعل مصب كلامه نفي ذلك ، ولكن كلامه - على ما قربناه - لا يرتبط برفع هذا المحذور ، ولعله عدل عن ذلك أو ان نظره من أول الأمر إلى ما ينظر إليه المحقق الأصفهاني من ان طلب الجمع يعني تحقيق التزاحم بين الأمرين في مقام تأثيرهما الفعلي ، ولأجل ذلك أغفله بالمرة في هذه المقدمة.

وعلى أي حال فقد تحصل لدينا في تصحيح الترتب وجهان :

أحدهما : ما ذكرناه توجيها لكلام المحقق النائيني من ان داعوية كل منهما تفترق زمانا عن داعوية الآخر ، فداعوية الأهم محدودة بالعصيان لعدم نظر الأمر إلى ما وراء العصيان ، لأنه مما لا يقبل النّظر لا بالإطلاق ولا بالتقييد ، وداعوية المهم تبتدي بالعصيان لتعليقه عليه ، فأي تزاحم بين الأمرين حينئذ.

ثانيهما : ما ذكره المحقق الأصفهاني من ان الترتب يستلزم نفي فرض وصول كل من الأمرين إلى مرحلة التأثير الفعلي في ظرف واحد ، بل فرض فعلية تأثير أحدهما مساوق لفرض عدم وصول الآخر إلى حد التأثير الفعلي ، فيرتفع به أساس المحذور وهو التزاحم في مقام التأثير الفعلي. فانه انما يتصور لو فرض إمكان وصول كل منهما إلى حد التأثير الفعلي في زمان واحد.

وبكلا هذين الوجهين يرتفع إشكال صاحب الكفاية على الترتب : بان الأمر بالمهم وان كان لا يزاحم الأمر بالأهم لأنه في طوله ، لكنّ الأمر بالأهم بإطلاقه يطارد المهم ويزاحمه.

فانه يدفع : بان المقصود ان المحذور ان كان ناشئا عن إطلاق الأهم

ص: 417

بخصوصية ، فقد عرفت بالوجه الأول ان الأمر بالأهم لا إطلاق له بلحاظ ظرف العصيان. وان كان المقصود ان المحذور في ثبوت الأمر بالأهم في زمان المهم لاستلزامه مطاردته ومزاحمته في مرتبته - أي مرتبة المهم - فقد عرفت اندفاعه بالوجه الثاني ، فان الأمر بالأهم وان كان موجودا في زمان الأمر بالمهم ، إلاّ انه لا يزاحمه ، إذ المزاحمة انما تنشأ من فعلية تأثير كل من الأمرين. ومن الواضح انه مع فعلية تأثير الأهم لا تأثير للمهم ، فكيف يتصور وقوع التزاحم بينهما ، بعد تفرعه على وصول كل من الأمرين إلى حد التأثير الفعلي؟!.

وغريب من السيد الخوئي أمران :

أحدهما : ان يكرر في عباراته : طلب الجمع ، وبيان ارتفاعه بالترتب ، مع ما عرفت من إن المحذور ليس هو إلاّ الجمع بين التأثيرين الفعليين مع عدم ارتفاع طلب الجمع بالترتب ، لاجتماع الأمرين في زمان واحد.

ثانيهما : أن يكون قصده هو نفي مزاحمة المهم للأهم ، وليس في كلامه لنفي مزاحمة الأهم للمهم عين ولا أثر ، مع ما عرفت انهما عمدة إشكال الكفاية على الترتب. فانتبه.

واما ما ذكره الشيخ الأعظم رحمه اللّه في باب تعارض الأمارتين من الالتزام - بناء على السببية - بالترتب من الجانبين ، فيجب الإتيان بمؤدى كل منهما عند ترك الآخر (1) ، وأورد عليه المحقق النائيني بما تقدم من أن استحالة الترتب من جانب واحد تستدعي استحالته من الجانبين بطريق أولى.

فيمكن ان يكون نظره إلى دفع محذور صاحب الكفاية حيث رآه صحيحا ، وهو لا يندفع إلاّ باشتراط الأمر بكل منهما بترك الآخر لارتفاع

ص: 418


1- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /438- الطبعة الأولى.

المطاردة بينهما بذلك ، كما لا يطارد المهم الأهم ، وقد ذكرنا هذا التوجيه فيما تقدم. واما ارتباط ما ذكره الشيخ بالترتب - حيث ان ظاهره التخيير بين الضدين - فهو يظهر عند ترك كل من المتعلقين ، إذ لازمه اجتماع الأمرين في زمان واحد ، ولا محذور فيه بعد ان كان كل منهما مشروطا بترك متعلق الآخر لارتفاع المطاردة بينهما فلا مانع من اجتماعهما في ظرف واحد.

ومن العجيب ما نقل عن بعض من إنكاره ارتباط ما ذكره الشيخ بالترتب ورجوعه إلى التخيير بين الضدين ولزوم الإتيان بأحدهما ، وهو لا مساس له بالترتب. فان هذا ناشئ عن عدم التأمل في نظر الشيخ ومقصده.

ومما ينبغي ان ينتبه إليه ان الوجهين المزبورين المذكورين لتصحيح الترتب انما يرتبطان ببعض صور الترتب ، وهو تعليق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم ومخالفته ، دون ما لو علق الأمر بالمهم على ترك الأهم ، إذ حديث عدم الإطلاق والتقييد بالإضافة إلى عدم مؤثرية الأمر وعصيانه أجنبي عنه بالمرة ، كما ان حديث عدم التزاحم بين تأثير الأمرين الفعلي لتعليق المهم على عدم فعلية تأثير الأهم لا يرتبط به كما لا يخفى.

ولأجل ذلك رأينا ان نسلك في تقريب الترتب وتصحيحه مسلكا آخر غير هذين المسلكين ، وان كان في الحقيقة مستقى منهما غير مبتكر.

وهو ان نقول : ان ارتفاع التزاحم في مقام التأثير الفعلي يتحقق بمجرد تعليق الأمر بأحدهما على عدم متعلق الآخر ، الملازم لصورة كون فعليه تأثير أحدهما في ظرف عدم تحقق متعلق الآخر ، فان الأمر إذا كان كذلك امتنع تحقق التزاحم بين الأمرين في مقام فعلية التأثير ، إذ مع فعلية الأمر بالأهم لا يتحقق ترك متعلقه فلا يثبت الأمر بالمهم لعدم موضوعه ، ومع فعلية تأثير الأمر بالمهم يمتنع ان تفرض فعلية تأثير الأمر بالأهم ، لأن فعلية تأثير المهم مرتبة على ترك

ص: 419

متعلق الأهم الملازم لعدم وصول الأهم إلى مرحلة الفعلية في التأثير - إذ لو أثر فعلا لتحقق المتعلق - ، فكيف يفرض في هذا الحال - أعنى حال الفعلية تأثير لمهم - وصول الأهم إلى مرحلة الفعلية في التأثير؟.

وبالجملة : ارتفاع التزاحم لا يتوقف على تعليق المهم على عدم مؤثرية الأهم الفعلية ، بل يتحقق ارتفاعه بتعليقه على عدم تحقق متعلق الأهم كما عرفت.

وعليه ، فيصح الترتب سواء علق الأمر بالمهم على عصيان الأمر بالأهم أو على ترك متعلقه.

بهذه البيانات الثلاثة يصح الترتب في الجملة أو مطلقا.

وقد قرب المحقق العراقي صحة الترتب بوجه آخر يختلف عن الوجه الّذي ذكرناه ببياناته الثلاثة.

وإيضاحه - على ما ذكره المحقق الأصفهاني - : هو ان طلب وجود الشيء مرجعه إلى طلب طرد عدم الشيء من جميع الجهات التي يتحقق بها عدمه ، كعدم مقدماته ووجود أضداده ، فطلب البياض مرجعه إلى طلب طرد عدمه من جهة عدم مقدماته ، فيعني ذلك ان له اقتضاء وجودها ، ومن جهة وجود السواد ، فيعني ذلك ان له اقتضاء عدمه. ومن الواضح امتناع اجتماع طلب كل من الضدين لاستلزامه اجتماع المقتضيين المتنافيين في شيء واحد.

ولكن ذلك إذا أخذ الأمر بقول مطلق ، وقد تخرج إحدى جهات العدم عن حيّز الأمر بحيث لا يكون للأمر اقتضاء بالنسبة إليها ، كما لو أخذ المطلوب طرد العدم من جميع جهاته سوى جهة وجود الضد ، فانها أخذت من باب الاتفاق والمصادفة ، ففي الفرض لا يكون للأمر اقتضاء لعدم ضد متعلقه.

وعليه ، فتقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم يرفع التنافي بين

ص: 420

الأمرين ، لأن مرجع الأمر بالمهم إلى طلب سدّ باب العدم من جميع الجهات غير جهة وجود الأهم ، لأخذ عدم الأمر بالأهم في موضوع الأمر بالمهم ، ولا تنافي بين قيام المولى بصدد سدّ باب العدم في طرف الأهم من جميع الجهات حتى جهة وجود ضده المهم ، وقيامه بصدد سدّ باب عدم المهم في ظرف انفتاح عدم الأهم اتفاقا ، إذ لا محركية له نحو طرد عدم المهم إلا في ظرف عدم الأهم من باب الاتفاق.

وقد أفاد رحمه اللّه بان صحة الترتب - بهذا البيان - لا تتوقف على كونه بنحو الواجب المشروط ، بل يصح بنحو الواجب المعلق ، فيكون الأمر بالمهم فعليا ، لكنه بالفعل على تقدير العصيان وعدم الأهم اتفاقا ، إذ لا اقتضاء له في هذا الحال نحو عدم الأهم فلا منافاة بين الأمرين (1).

ولكن هذا البيان لا يخلو عن مناقشة من وجهين :

الأول : ان تصحيح الترتب بنحو الواجب المعلق يبتني على الالتزام بالواجب المعلق ، وقد عرفت ما فيه من الكلام ، فلا يلزم بهذا القول من يرى امتناع الواجب المعلق.

الثاني : ان الترتب وان رفع اجتماع المقتضيين المتنافيين في طرف الأهم لتعليق الأمر بالمهم على عدم الأهم من باب الاتفاق ، فلا اقتضاء له نحو عدمه كي ينافي الأمر بالأهم الّذي له اقتضاء نحو وجوده ، إلا انه لا يرتفع به اجتماعهما في طرف المهم ، لأن الأمر به على تقدير العصيان يكون فعليا ، فله اقتضاء نحو وجوده ، والمفروض ان الأمر بالأهم في هذا الحال فعلي لإطلاقه ، فله اقتضاء عدمه ، فيلزم المحذور من طلب الضدين.

هذا إذا لوحظ ما هو ظاهر البيان من أن المحذور في طلب الضدين هو

ص: 421


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 234 - الطبعة الأولى.

اجتماع المقتضيين المتنافيين في شيء واحد ، لأن الأمر بأحدهما يقتضي وجوده والأمر بالآخر يقتضي عدمه ، وان هذا المحذور يرتفع بالترتب.

اما إذا كان المقصود كون المحذور هو التنافي في مقام المحركية الفعلية ، وانه يرتفع بالترتب ، لأن تعليق أحدهما على عصيان الآخر يرفع إمكان وصول الأمر معا إلى مرحلة الفعلية في التأثير فلا يقع التزاحم - ان كان المقصود ذلك - ، فهذا راجع إلى ما تقدم وليس وجها مستقلا في قبال ما تقدم.

وبالجملة : هذا البيان ما لم يرجع إلى ما قربناه لا يخلو عن مناقشة.

وعليه ، فالوجه الصحيح الّذي يقال في تصحيح الترتب ما عرفته ، وحاصله : ان تعليق الأمر بأحدهما على عدم فعلية تأثير الآخر ، أو عدم متعلق الآخر ، يستحيل معه فرض تنافي الأمرين في مقام المحركية الفعلية وهو محذور طلب الضدين.

وجوه الإشكال على الترتب

وفي قبال هذه الوجوه المذكورة في تصحيح الترتب وجوه أخرى ذكرت لبيان استحالة الترتب وهي :

أولا : انه من المقرر امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم ، بحيث يكون أحدهما محكوما بغير ما حكم به الآخر ، بل اما ان يكونا متوافقين في الحكم أو يكون الآخر غير محكوم بحكم أصلا. والالتزام بالترتب يتنافى مع هذه القاعدة المسلمة ، وذلك لأن ترك الأهم ملازم للفعل المهم. ومن الواضح ان ترك الأهم حرام ، لأنه نقيض الواجب ، ووجوب الشيء يستلزم حرمة نقيضه. فيلزم ان يكون أحد المتلازمين حراما والآخر واجبا. وهو خلاف القاعدة المقررة (1).

ص: 422


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 243 - الطبعة الأولى.

وفيه : ان مفروض الكلام الضدان اللذان لهما ثالث ، اما الضدان اللذان لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، فهما خارجان عن مسألة الترتب لأن عدم أحدهما يلازم وجود الآخر قهرا ، فلا معنى للأمر به عند عدم الآخر.

وعليه ، فالقاعدة المقررة وان كانت مسلمة لكنها لا تتنافى مع الترتب ، لأن ملاك امتناع اختلاف المتلازمين في الحكم ليس إلا استحالة امتثال الحكمين بعد فرض التلازم بين متعلقيهما ، بل اما ان يمتثل هذا أو يمتثل ذلك.

وهذا المحذور غير جار فيما نحن فيه ، لأنه بعدم ترك الأهم - يعني امتثال الحرمة - يرتفع موضوع الأمر بالمهم ، فلا تنافي بينهما في مقام التحريك الفعلي.

وبعبارة جامعة : ليس المحذور في اختلاف المتلازمين في الحكم سوى محذور طلب الضدين ، وقد عرفت ارتفاعه بالترتب ، فلا يكون ذلك إشكالا على الترتب ونفيا لصحته.

وثانيا : - ما ينسب إلى المحقق الشيرازي قدس سره - ان المهم إذا كان واجبا كان نقيضه وهو الترك محرما ، وحينئذ نقول : ان المحرم اما ان يكون هو الترك المطلق حتى الموصل إلى فعل الأهم. أو هو خصوص الترك المقارن لترك الأهم - وهو غير الموصل -. فان كان المحرم هو الترك المطلق كان ذلك منافيا لوجوب الأهم ، وفرض أهميته وارتفاع وجوب المهم بوجوده ، إذ كيف يتلاءم فرض حرمة ترك المهم عند وجود الأهم ، مع فرض ارتفاع وجوب المهم عند وجود الأهم؟. وان كان المحرم هو خصوص الترك غير الموصل ، فليس هذا نقيض الفعل ، بل نقيضه هو تركه ، وهو ملازم لأمرين أحدهما الفعل والآخر الترك الموصل.

ومن الواضح ان الحكم لا يسري من الملازم إلى ملازمه ، وعلى تقدير فرض كونه مصداقا للنقيض وسراية الحكم إليه ، فهو انما يستلزم ثبوت الوجوب التخييري له ، لفرض ان للنقيض فردين أحدهما الفعل والآخر هو الترك

ص: 423

الموصل.

فمحصل الإشكال : ان الالتزام بحرمة الترك غير الموصل من جهة وجوب الفعل تستلزم اما إنكار وجوب الفعل أو كون الوجوب المتعلق بالفعل وجوبا تخييريا لا تعيينا وهو مما لا يلتزم به ، وذلك لأن الترك غير الموصل ليس نقيض الفعل ، بل الفعل لازم نقيض الترك غير الموصل. فتدبر (1).

ويرد عليه وجهان :

الأول : هو إنا نلتزم بان متعلق الحرمة هو ذات الترك ، إلاّ ان هذه الحرمة لما كانت ناشئة عن وجوب الفعل وليست بدليل مستقل ، والمفروض ان وجوب الفعل مقيد بصورة ترك الأهم ، كانت حرمة الترك مقيدة بحال ترك الأهم ، فمتعلق الحرمة هو ذات الترك ، لكن زمان التحريم هو حال ترك الأهم. ومن الواضح ان ذلك الترك في هذا الحال ينحصر بالترك غير الموصل ، فلا يتصور فيه الإطلاق والسراية للترك الموصل كي يستلزم الخلف المدعى.

الثاني : ان هذا الوجه لو سلم ولم يتمكن من مناقشته ، فهو لا يستلزم إنكار الترتب ونفي صحته ، بل غاية ما يستلزم أحد أمرين اما دعوى عدم تشخيص نقيض الفعل الّذي يتعلق به التحريم ، وإمكان ان يكون امرا ثالثا غير مطلق الترك والترك غير الموصل لا تصل إليه أذهاننا فعلا. واما الالتزام بعدم تأتي قاعدة استلزام وجوب الشيء حرمة ضده العام في هذا المقام ، لأن حرمة الضد يستلزم من وجودها عدمها كما عرفت. وكل من هذين الأمرين لا ينفي صحة الترتب ولا يستلزم إنكاره. فتدبر.

وثالثا : ما ذكره في الكفاية بعنوان الجواب عن دعوى عدم المطاردة بين الأمرين ، لأن الأمر بالمهم في طول الأمر بالأهم من : انه وان انتفت المطاردة

ص: 424


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 244 - الطبعة الأولى.

بينهما في مرتبة الأهم ، إلاّ انها ثابتة في مرتبة المهم ، لأن الأمر بالمهم فعلي فهو يقتضي متعلقه ، والأمر بالأهم فعلي كذلك فهو يقتضي متعلقه أيضا ، وليس محذور طلب الضدين في عرض واحد سوى ان أحدهما يقتضي ضد ما يقتضيه الآخر ومعاندة ، مع انه يكفي في المحذور ثبوت المطاردة من طرف الأهم ، لأنه على هذا الحال يكون طاردا للضد كما لو لم يكن ترتب أو عصيان فيلزم المحذور (1).

وفيه : ما تقدم من ان محذور طلب الضدين في عرض واحد ليس هو اقتضاء أحدهما ما ينافي مقتضى الآخر ، كي يدعى عدم ارتفاعه بالترتب ، بل المحذور هو تزاحم المقتضيين في مقام التأثير والمحركية الفعلية ولولاه لما امتنع طلب الضدين وان اقتضى أحدهما ضد ما يقتضيه الآخر ، كما لم يمتنع اجتماع نارين في آن واحد إحداهما تقتضي ضد ما تقتضيه الأخرى إذا لم يصلا إلى مرحلة فعلية التأثير.

وقد عرفت ان الترتب يرفع تنافي الأمرين في مقام الفعلية ، بل يستحيل تحقق تنافيهما في صورة الترتب.

وقد تعرض السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - على ما في المحاضرات - إلى نقل كلام صاحب الكفاية ، والإيراد عليه بنحو مفصل (2). ولا موجب لنقل مناقشته ولكن نشير إلى امرين في كلامه لا يخلوان عن غرابة :

أحدهما : حكمه على صدور إشكال صاحب الكفاية منه بالغرابة. فان ما ذكره صاحب الكفاية ليس إلا تلخيصا لروح الإشكال على الترتب ، وليس الإشكال على الترتب بذلك قبل تصدي من تأخر لدفعه وحلّه ، امرا يعد غريبا ، فانه هو الإشكال المتداول المعروف لخّصه صاحب الكفاية بما ذكر ، فالحكم بغرابة

ص: 425


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /135- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 137 - الطبعة الأولى.

صدوره عن صاحب الكفاية مساوق لحكمه بغرابة التزامه بعدم صحة الترتب.

ثانيهما : ما ذكره في بيان عدم تحقق الطرد من طرف الأهم فقط ، من ان الأمر بالأهم انما يكون طاردا للأمر بالمهم لو كان ناظرا إلى متعلقه ومستدعيا لهدمه ، ولكن الفرض أنه غير ناظر إليه وانما هو ناظر إلى موضوعه ومقتض لدفعه.

ووجه غرابته : ان المطاردة لا تتوقف على ان يكون أحدهما مستدعيا لهدم متعلق الآخر ، وإلاّ لم يكن بين طلب الضدين في عرض واحد مطاردة لعدم تعرض أحدهما لمتعلق الآخر ، بل كل ناظر إلى متعلقه ، وانما هي تتحقق باعتبار مطالبة كل من الأمرين صرف القدرة في متعلقه والمفروض انها قدرة واحدة ، فيقع التزاحم بينهما.

والخلاصة : ليس إشكال صاحب الكفاية سوى الإشكال البدوي المعهود ، فجوابه هو التقريب الّذي يقال في تصحيح الترتب ، فلا حاجة إلى تكلف الجواب عنه بنحو آخر. فلاحظ.

ورابعا : ما ذكره في الكفاية أيضا ، من ان الالتزام بتعدد الأمر بنحو الترتب هو ترتب العقاب على مخالفة كل من الأمرين ، فيستحق التارك لكلا الضدين عقابين لتعدد المعصية بعد فرض تعدد الأمر ، مع ان استحقاقه عقابين غير معقول ، إذ الجمع بين الضدين ممتنع ، فلا معنى لترتب العقاب على ترك الضدين لأنه عقاب على ما ليس بمقدور.

وبالجملة : فلازم الترتب تعدد العقاب في صورة ترك كلا الضدين وهو يستلزم العقاب على ترك غير المقدور ، وهو عدم فعل الضدين في زمان واحد وهو محال. فالترتب مما يستلزم المحال (1).

وأجيب عن هذا الإشكال بما ملخصه : ان العقاب ليس على ترك

ص: 426


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /135- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الضدين وعدم فعلهما ، فلا يقال له لم لم تفعل الضدين كي يدعى ان فعلهما غير مقدور فكيف يعاقب على تركه؟ ، بل العقاب على الجمع بين ترك الضدين ، فيعاقب على تركه كلاهما ، بمعنى انه يقال له لم تركت كلا الضدين ، ومن الواضح ان ترك الضدين أمر مقدور له. فان ترك الأهم كان مقدورا له للقدرة على فعله ، فتركه يستلزم استحقاق العقاب ، وفي حال تركه يكون فعل المهم مأمورا به وهو مقدور عليه ، فتركه في حال ترك الأهم مقدور ، فيصح العقاب عليه.

وبالجملة : فكل من الضدين في حال الأمر به مقدور فيكون تركه مستلزما للعقاب فمع تركه كليهما فقد عصى كلا الأمرين فيعاقب على عصيانهما بعقابين ولا يلزم عن ذلك ترتب العقاب على أمر غير مقدور (1). فالتفت.

هذا تمام الكلام في أصل الترتب إثباتا ونفيا وقد نتج مما ذكرناه صحة الترتب وعدم ثبوت استحالته.

ويقع الكلام بعد ذلك في بعض ما يتعلق به من مسائل وجهات في ضمن تنبيهات خمسة.

ص: 427


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 142 - الطبعة الأولى.

تنبيهات الترتب

التنبيه الأول : قد يتساءل متسائل ، بأن غاية ما ثبت مما تقدم هو صحة وقوع الترتب وإمكانه ثبوتا ، ولكنه مما لا دليل عليه إثباتا ، إذ لم يرد في لسان أي دليل ثبوت حكم بنحو الترتب ، فلا أثر له لهذا البحث المطنب خارجا.

وقد تنبه لذلك صاحب الكفاية وتابعة غيره ، فتصدى للإجابة عن هذا السؤال بان الترتب لا يحتاج إلى دليل إثباتي خاص ، فإمكان ثبوته مساوق لوقوعه لمساعدة مقام الإثبات عليه (1).

وتلخص الدعوى : بان العقدة في مسألة الترتب هو إمكانه وتصحيحه ثبوتا ، وإلاّ فمقام الإثبات لا يحتاج إلى دليل خاص ، بل نفس دليلي الأمرين يكفي في ذلك. بيان ذلك : ان التنافي بين الأمرين انما ينشأ من إطلاق دليل كل منهما ، بحيث يثبت الأمر في زمان داعوية الآخر. وإذا ثبت ان هذا المعنى غير معقول فلا بد من علاجه ، فاما ان يرفع اليد عن أصل دليل أحدهما ، أو يرفع اليد عن إطلاقه فيقيد ثبوت الأمر بحال عصيان الآخر أو ترك متعلقه - كما هي دعوى الترتب -.

والثاني هو المتعين ، إذ لا وجه لرفع اليد عن أصل الدليل مع ارتفاع التنافي بالتقييد. لأن الدليل يتكفل ثبوت الحكم مطلقا. غاية الأمر ان ذلك غير معقول ، فيرفع اليد عن الإطلاق لا أصل الحكم ، إذ دليل أصل الحكم موجود ولا وجه لرفع اليد عنه.

وبالجملة : الترتب عملية للجمع بين الحكمين اللذين دل الدليل عليهما

ص: 428


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /137- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

معا ، لعدم إمكان الالتزام بهما معا من دون الترتب ، فيتعين الالتزام به بمجرد تصور إمكانه ، إذ لا وجه لطرح أحد الحكمين مع تصور الوجه المعقول لثبوته وقيام الدليل على ثبوته.

وبعبارة أخرى : ان دليل الأمر بالمهم يتكفل ثبوته مطلقا ، وبما انه ثبت استحالة ثبوته مع فعلية الأهم يرفع اليد عن الدليل في خصوص ذلك الفرض للقطع بخلافه ، فيبقى الدليل متكفلا للأمر بالمهم في غير ذلك الفرض ، إذ لا وجه يقتضي رفع اليد عنه مع حجيته في نفسه. فلا يحتاج الترتب إلى دليل ، بل هو عملية تجري على الدليل الثابت خارجا ، ويتعين إجراؤها حيث لا يتصور غيرها مع المحافظة على نفس الدليل.

التنبيه الثاني : ان الواجبين المتزاحمين يتصوران على أنحاء ثلاثة :

الأول : ان يكون كل منهما مضيقا ، كالإزالة والصلاة في آخر وقتها.

الثاني : ان يكون كل منهما موسعا ، كصلاة اليومية وصلاة الآيات.

الثالث : ان يكون أحدهما موسعا والآخر مضيقا ، كصلاة الظهر وإزالة النجاسة عن المسجد. ولا إشكال في دخول الصورة الأولى في مبحث الترتب ، فانها محط نظر الأصحاب.

كما لا إشكال في خروج الصورة الثانية عنه ، لما سيأتي إن شاء اللّه تعالى من بيان خروج هذا النحو عن كبرى التزاحم.

وانما الكلام في الصورة الثالثة :

فقد ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى جريان الترتب فيها ودخولها في مبحثه (1). ووجّه هذا الحكم السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) - كما في المحاضرات - بأنه مبني على التزامه بان التقابل بين الإطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة ،

ص: 429


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 314 - الطبعة الأولى. الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 373 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

فإذا امتنع التقييد في مورد يمتنع الإطلاق فيه ، وبما انه يمتنع تقييد الواجب الموسع بصورة الإتيان بالفرد المزاحم - لمكان التضاد بينهما - امتنع إطلاقه بالنسبة إليه. وعليه فيقع التزاحم بين إطلاق الواجب الموسع وخطاب الواجب المضيق ، فلا يمكن الجمع بينهما ، بل لا بد من رفع اليد عن أحدهما اما إطلاق الموسع أو خطاب المضيق.

وأورد عليه : بأنه قد عرفت ان التقابل بين الإطلاق والتقييد ليس من تقابل العدم والملكة ، بل تقابل التضاد ، فإذا امتنع التقييد كان الإطلاق ضروريا ، لاستحالة الإهمال في مقام الثبوت.

ويرجع سرّ ذلك إلى كون الإطلاق عبارة عن رفض القيود لا الجمع بينها فحقيقته بيان عدم دخل القيد في الموضوع أو المتعلق.

ومن الواضح انه لا مانع من الإطلاق بالنسبة إلى الفرد المزاحم ، إذ معناه عدم دخله في الموضوع كعدم دخل الفرد غير المزاحم وهو مما لا محذور فيه.

وعليه ، فلا منافاة بين إطلاق الواجب الموسع وخطاب الواجب المضيق (1).

وفي هذا البيان بحث من جهات - مع موافقتنا له في أصل الدعوى ، وهو عدم كون المورد من موارد التزاحم - :

الأولى : في إيراده وبيان ان امتناع التقييد يستلزم ضرورة الإطلاق.

إذ فيه : ما تقدم من ان امتناع التقييد تارة يكون لامتناع الحكم على الحصة الخاصة. وأخرى يكون الامتناع ثبوت الحكم لخصوصها.

فعلى الأول يمتنع الإطلاق أيضا ، لأن نتيجته سراية الحكم إلى جميع الحصص ومنها هذه الحصة.

ص: 430


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 114 - الطبعة الأولى.

نعم على الثاني يكون ضروريا. مع انه يكون ضروريا إذا لم يمكن الحكم على الحصة المقابلة للحصة التي يمتنع ثبوت الحكم لها ، وإلاّ لم يكن الإطلاق ضروريا إذ ثبوت الحكم يتصور على أنحاء ثلاثة : ان يثبت لمطلق الحصص. وان يثبت لخصوص حصة معينة. وان يثبت لخصوص غير تلك الحصة. فإذا امتنع ثبوته لخصوص تلك الحصة ، كان الأمر دائرا بين الاحتمالين الآخرين ولم يكن الإطلاق ضروريا. وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان تقييد الحكم بصورة غير الفرد المزاحم لا محذور فيه.

وبالجملة : فما ذكره في الإيراد لا يخلو عن خدشة ، وهو ناشئ عن تخيل كون حقيقة الإطلاق مجرد رفض القيود ، مع انه ليس كذلك ، بل هو تسرية الحكم إلى مطلق الافراد وجميعها الملازم لنفي دخالة خصوصية كل فرد في الحكم. وعليه فلا يكون امتناع التقييد مساوقا لضرورة الإطلاق وشمول الحكم للفرض الّذي يمتنع تقييده به.

الثانية : ان امتناع ثبوت الإطلاق والمحذور فيه ليس إلاّ عدم توفر القدرة على متعلقه عند الفرد المزاحم ، فالمحذور فيه هو عدم القدرة من جهة المزاحم.

ومن البيّن انه قد مرّ الكلام في ذلك مفصلا عند التعرض لكلام المحقق الكركي ، وقد تعرض القائل لحل الإشكال هناك ، فلا يظهر لنا الوجه في عدم تنبيهه هنا على ذلك وعدم إحالة الأمر في هذه الصورة إلى ما تقدم.

الثالثة : - وهي المهمة في المقام - ان المحقق النائيني قدس سره أكد مرارا على ان المحذور المستلزم لتزاحم الواجبين إنما هو من إطلاق كل من الواجبين وهو يرتفع بالترتب ، فلا معنى بعد تأكيده على ذلك لتوجيه ذهابه إلى جريان الترتب في هذه الصورة بكون المحذور في التقييد وهو يستلزم المحذور في الإطلاق.

وبعبارة أخرى : المقصود تطبيق مسألة الترتب على هذه الصورة ،

ص: 431

والمفروض ان نظره في إجراء عملية الترتب هو رفع التزاحم بين الحكمين الناشئ من الإطلاقين ، فامتناع الإطلاقين من جهة أدائهما إلى التزاحم ، فلا معنى لتوجيه انطباق الترتب في هذه الصورة بان امتناع الإطلاق من جهة امتناع التقييد ، إذ لو كان نظره إلى هذه الجهة لتأتي نفس البيان بالنسبة إلى المضيقين ، فيقال : انه يمتنع تقييد كل منهما بصورة وجود الآخر ، فيمتنع الإطلاق ، فيقع التزاحم بين الإطلاقين.

وبالجملة : لا وجه لتركيز كون المحذور في التقييد. فتدبر.

التنبيه الثالث : ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى عدم جريان الترتب بين الواجبين المقيد أحدهما بالقدرة شرعا.

ووجّهه في بعض كلماته : بان الترتب يتوقف على إحراز الملاك في الواجب المهم حال المزاحمة ، وإذا كان أحد الواجبين مقيدا بالقدرة الشرعية - ومعناه القدرة العرفية على الشيء التي هي أخص من القدرة العقلية ، فانها القدرة على الشيء من دون مشقة - يرتفع موضوعه بالواجب الآخر ، لعدم القدرة عليه بواسطة المزاحمة. وعليه فلا يكون واجدا للملاك حال المزاحمة لعدم حصول شرط وجوبه الدخيل في ثبوت ملاكه.

اما وجه لزوم واجدية المهم للملاك حال المزاحمة ، فهو لأجل إثبات الأمر بمجرد ارتفاع المزاحمة بالعصيان ، لأن المقتضي موجود والمانع وهو المزاحم مفقود. فلا يحتاج ثبوت الأمر إلى دليل آخر. ومن هنا التزم بان إمكان الترتب مساوق لوقوعه من دون احتياج إلى دليل الإثبات ، لتمامية جهات ثبوت الأمر على الترتب.

وأورد على هذا الوجه بإنكار لزوم واجدية المهم للملاك حال المزاحمة إذ لا وجه له. اما توجيهه بان ذلك لأجل ثبوت الأمر بمجرد ارتفاع المزاحمة. فهو يندفع : بأنه قد عرفت ان طريق ثبوت الأمر الترتبي هو نفس دليل كل من

ص: 432

الواجبين كما تقدم توضيحه. بل ادعى انه بناء على انه لا طريق لإحراز الملاك سوى الأمر يمتنع توقف الترتب على وجود الملاك حال المزاحمة لاستلزامه الدور ، لأن تعلق الأمر يتوقف على ثبوت الملاك وثبوت الملاك يتوقف على تعلق الأمر فيلزم الدور (1).

ولا يخفى انه قدس سره وان اقتصر في بعض كلماته على توجيه المقام بما عرفت ، لكنه ذكر في موضع آخر ما يمكن توجيه المقام به بنحو لا يرد عليه ما عرفت.

بيان ذلك : ان الواجب إذا أخذ في موضوع وجوبه القدرة ، فيراد بها القدرة العرفية - كسائر ما يؤخذ في موضوع الحكم في لسان الدليل ، فانه يراد به المعنى العرفي -. ومن الواضح انه إذا ورد المنع الشرعي عن الفعل لا يكون مقدورا عرفا ، وان كان مقدورا عقلا ، إذ القدرة العرفية هي التمكن على الشيء من دون مشقة ودون منع شرعي. وعليه يكون المنع الشرعي رافعا لموضوع الوجوب فلا يثبت.

وبما ان أحد الواجبين المتزاحمين - فيما نحن فيه - يكون مقيدا بالقدرة شرعا ، وهو الوضوء عند تزاحمه بوجوب حفظ النّفس المحترمة ، كان وجوب الآخر المطلق رافعا لموضوعه ونافيا له بذلك ، فلا يبقى موضوع الحكم المقيد عند وجود الوجوب الآخر كي يدعى التمسك بالإطلاق في إثباته حال العصيان لوجود الوجوب الآخر.

فملخص البيانين : ان ثبوت الأمر بالمهم في حال العصيان اما ان يكون بالملاك أو بالإطلاق وكلاهما منتف.

لعدم الملاك بعد ارتفاع موضوعه.

ص: 433


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 272 - الطبعة الأولى.

وتوقف شمول الإطلاق على إحراز الموضوع. وهو منتف لأن الأمر بوجوده مانع عن القدرة عرفا.

وقد وقع هذا البيان - أعني الثاني - موقع الإشكال ، ومحصله : ان الأمر بأحدهما المطلق لا يكون مانعا عن القدرة على الآخر المقيد بها بوجوده ، بل انما يكون مانعا إذا وصل إلى مرحلة الداعوية والتأثير ، وهي منتفية في حال العصيان ، فيكون الموضوع حال العصيان موجودا ، فيشمله الإطلاق بناء على الترتب فلا مانع من الالتزام بالترتب هاهنا.

ولكنه يمكن المناقشة فيه ومنع جريان الترتب في مثل الفرض وموافقة المحقق النائيني في ذلك. وذلك بتقريب : ان فرض الترتب يختلف عن هذا الفرض ، فان الترتب انما يفرض فيما إذا كان كل من الواجبين تام الموضوع بحيث يثبت وجوبه لو لا المزاحم ، فليس المحذور سوى تزاحم الوجوبين فيعالج بالترتب ، وليس الأمر كذلك في الفرض ، إذ ليس الموضوع تاما في كلا الوجوبين ، لأن وجود الأمر بنفسه يكون رافعا للقدرة العرفية - فيكون الأمر المطلق رافعا لموضوع الأمر المقيد بالقدرة ، فتكون نسبته إليه نسبة الوارد إلى المورود - فلا يقال عرفا لمن هو منهي عن العمل أنه قادر عليه وان كان عاصيا له بحيث لو أقدم يقال انه أقدم مع عدم تمكنه للنهي.

ويشهد لذلك : انه لو جاء بالتيمم قبل ان يصرف الماء في الواجب الآخر - أعني حفظ النّفس المحترمة - كان مشروعا ، ولا يلتزم أحد ببطلانه. وهذا يعني صدق عنوان غير الواجد للماء على المكلف ، فلو أريد تصحيح الوضوء والحال هذه - بالترتب - لزم ان يفرض تحقق عنوان الواجد كي يكون موضوعا للوجوب.

ومن الواضح ان صدق عنوان الواجد وغير الواجد في زمان واحد غير معقول.

ص: 434

ولعل النكتة في توهم كون المقام كسائر موارد الترتب هو الخلط بين القدرة على متعلق الحكم والقدرة على استعمال الماء المفروض أنها موضوع وجوب الوضوء.

ويمكن ان يقرب عدم جريان الترتب في خصوص مسألة الوضوء بنحو آخر : وهو ان يقال ان موضوع وجوب التيمم غير الواجد. ومن الواضح ان الوضوء لا يكون واجبا في المورد الّذي يجب فيه التيمم ، سواء كان موضوعه الواجد أو لم يكن موضوعه ذلك. وعليه فبالأمر الشرعي باستعمال الماء في غير الوضوء يصدق عنوان غير الواجد فيثبت وجوب التيمم ، وبثبوته يثبت عدم وجوب الوضوء فالدليل الدال على لزوم استعمال الماء في سبيل حفظ النّفس المحترمة يكشف بالملازمة عن عدم وجوب الوضوء لإثباته وجوب التيمم بإثبات موضوعه ، والمفروض ان دليل وجوب الوضوء مقيد بمورد لا يثبت فيه وجوب التيمم ، فلا مزاحمة بين وجوب صرف الماء في سبيل حفظ النّفس المحترمة ووجوب الوضوء ، لأن دليله دال بالملازمة على نفي وجوب الوضوء ، فلا تصل النوبة إلى المزاحمة بين الوجوبين.

واعلم ان المستشكل على نفي الترتب في الفرض المذكور ذكر فيما لو تزاحم وجوب الحج مع وجوب أداء الدّين : انه لو كان المعتبر في موضوع وجوب الحج هو التمكن من أداء فريضة الحج كان وجوب الدّين رافعا لموضوعه ، فلا يجب الحجّ لارتفاع موضوعه ، كما انه لا مجال للترتب حينئذ. وان كان المعتبر في موضوع وجوب الحج هو التمكن من الزاد والراحلة فقط ، فيقع التزاحم بين الوجوبين ، لأن التمكن من الزاد والراحلة حاصل فعلا فيثبت موضوع وجوب الحج ويجري الترتب حينئذ. ثم اختار ان الأقوى الثاني لدلالة النصوص عليه.

وهذا الكلام غير واضح ، لأن التفرقة بين الصورتين غير وجيهة ، إذ المعتبر في كلتا الصورتين هو التمكن ، غاية الأمر انه معتبر بقول مطلق في إحداهما

ص: 435

ومعتبر بخصوص نوع معين - وهو التمكن من الزاد والراحلة - في الأخرى. وعليه نقول : اما ان يؤخذ التمكن بالمعنى العقلي ، فالموضوع في كلا الفرضين ثابت. واما ان يؤخذ بالمعنى العرفي فهو في كليهما غير ثابت ، إذ مع وجوب أداء الدين لا تمكن عرفا من الزاد والراحلة. ثم لنا سؤال الفرق بين مثال الحج لو كان موضوع وجوبه التمكن على أداء الفريضة ، ومثال الوضوء المأخوذ في موضوعه وجدان الماء ، حيث التزم بعدم جريان الترتب في الأول وجريانه في الثاني ، مع ان نسبة الأمر الآخر إلى موضوع كل منهما على حد سواء في كلا الموردين ، فان كان الأمر بوجوده رافعا للموضوع لزم إنكار الترتب في مسألة الوضوء ، وان كان بداعويته رافعا للموضوع لزم إثبات الترتب في مسألة الحج. فالتفت ولا تغفل.

التنبيه الرابع : لا يخفى ان الترتب انما يجري فيما إذا تعلق الأمران بالضدين اللذين لهما ثالث ، كالصلاة وإزالة النجاسة وكإنقاذ غريقين. اما إذا تعلق الأمران بالضدين اللذين لا ثالث لهما كالحركة والسكون ، فلا يتأتى الترتب بينهما ، لأن ترك أو عصيان أحدهما يتحقق بفعل الآخر فلا معنى لتعلق الأمر به في ذلك الحال.

وهذا الأمر كبرويا واضح لا غبار عليه ولا شبهة فيه. وانما الإشكال في بعض الموارد التي وقع الخلاف في أنها من صغريات ذلك أو لا؟ وذلك كمسألة ما إذا أخفت في موضوع الجهر وجهر في موضع الإخفات ، فانه قد ورد بان ذلك إذا كان عن جهل تقصيري كان عاصيا وصحت صلاته (1) ، فوقع الكلام في الجمع بين ثبوت العصيان وتعلق الأمر بما أتى به من الصلاة ، ويحقق الكلام في ذلك في مسألة البراءة والاشتغال.

ص: 436


1- وسائل الشيعة باب 26 من أبواب القراءة ، حديث : 1.

وقد ذكر من جملة وجوه الجمع ما ذكره كاشف الغطاء رحمه اللّه من : تخريج هذا الحكم على الترتب ، فالتزم بان الأمر متعلق بالإخفات عند عصيان الأمر بالجهر (1).

ولهذه الجهة تعرضنا للبحث في هذه المسألة ، لكن بالمقدار المرتبط بمبحث الترتب دون سائر الجهات فان تحقيقها موكول إلى محله.

وعلى كل : فقد عرفت ان كاشف الغطاء أفاد ان المسألة من مصاديق الترتب.

وأورد عليه الشيخ في رسائله : بأنا لا نتعقل الترتب. واكتفي بهذا المقدار من البيان (2).

وأورد المحقق النائيني على الشيخ : بالنقض فيما ذكره في مسألة تعارض الخبرين بناء على السببية من الالتزام بالترتب من الطرفين.

وقد تقدم منّا الدفاع عن الشيخ ، وبيان وجهة نظره في تلك المسألة بنحو لا يتنافى مع إنكاره الترتب في مثل ما نحن فيه فراجع (3).

كما أورد المحقق النائيني رحمه اللّه على كاشف الغطاء بوجوه :

منها : ان المسألة ليست من مصاديق الترتب كي يدعى تقرره فيها ، لأن الجهر والإخفات عن الضدين اللذين لا ثالث لهما ، إذ القارئ لا يخلو عن أحدهما ، وقد ثبت ان الترتب لا يجري في الواجبين المتضادين اللذين لا ثالث لهما لامتناعه (4).

وأورد عليه في المحاضرات : بان متعلق الأمر ليس هو الجهر أو الإخفات ،

ص: 437


1- كاشف الغطاء الشيخ محمد جعفر. كشف الغطاء /27- الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /309- الطبعة الأولى.
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /438- الطبعة الأولى.
4- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 311 - الطبعة الأولى.

بحيث يفرض في موضوع الأمرين هو القراءة كي لا يتخلف القارئ عن أحدهما ، بل متعلق الأمر هو القراءة الجهرية أو القراءة الإخفاتية. ومن الواضح انهما ليسا من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، إذ المكلف قادر على تركهما معا بترك أصل القراءة (1).

وهذا الإيراد غير متوجه ، إذ الفرض الّذي يبحث فيه في المقام فرض معين يقصد إثبات الأمر فيه ، وهو فرض تحقق القراءة الإخفاتية ، فالمأخوذ في الموضوع هو القارئ بنحو إخفاتي ، وليس الموضوع مطلق المكلف فيؤمر بالصلاة الجهرية والإخفاتية بنحو الترتب ، إذ لا يلتزم أحد بلزوم الصلاة الإخفاتية بمجرد ترك الجهرية ، كما لا يلتزم أحد بثبوت عقابين على ترك كلتا الصلاتين كما انه ليس الموضوع هو المصلي فيؤمر بالقراءة الجهرية والإخفاتية بنحو الترتب ، إذ لو ترك أصل القراءة في الصلاة لا يلتزم أحد بأنه مكلف بالقراءة الإخفاتية لتحقق موضوع الأمر بها. إذن فالكلام موضوعه القارئ الّذي قرأ إخفاتا بدل الجهر. ومن الواضح ان القارئ لا يخلو حاله عن أحد الوصفين كما اعترف به نفس المستشكل ، فهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما فلا يتأتى الترتب.

وبالجملة : المفروض هو الجاهل المقصر الّذي جاء بالقراءة الإخفاتية لا الّذي ترك القراءة الجهرية ، فقد أخذ في الفرض موضوعية القارئ إخفاتا لا تارك القراءة جهرا - فتدبر - وليس المقصود تطبيق الترتب بين القراءتين في سائر الصور كي يتأتى الإيراد المذكور.

ومنها : ان الأمر انما يصير فعليا بإحراز موضوعه وبدونه لا يكون فعليا كما لا يخفى. وعليه فإذا كان موضوعه مما لا يقبل الإحراز بان كان إحرازه

ص: 438


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 167 - الطبعة الأولى.

مساوقا لانعدامه لم يعقل ترتيب الحكم عليه للغوية جعله بعد ان كان بما لا يصل إلى مرحلة الفعلية ، ولأجل ذلك يمتنع أخذ النسيان والغفلة موضوعا لحكم من الأحكام ، لأن إحراز نسيان الشيء والالتفات إليه يلازم ارتفاع النسيان وانعدامه كما لا يخفى ، فلا يصل الحكم المرتب عليه إلى مرحلة الفعلية في حال من الأحوال فيكون جعله لغوا. وما نحن فيه من هذا القبيل ، لأن العلم بعصيان الأمر بالجهر مساوق لارتفاع الجهل ومعرفة لزوم الجهر عليه فلا يتحقق منه العصيان ، فيمتنع تعليق الحكم على العصيان في الفرض لعدم صيرورته فعليا أصلا فيكون لغوا (1).

ويمكن المناقشة في هذا الوجه : بأنه انما يلزم ويتم لو كان المأخوذ في الأمر بالإخفات عصيان الأمر بالجهر. اما إذا أخذ في موضوعه ترك الجهر فلا يتم ما ذكر ، لإمكان العلم بترك الجهر والالتفات إليه مع الجهل بوجوبه فيكون الحكم فعليا.

وقد عرفت ان تقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم بلا ملزم ، بل يمكن تقييده بترك الأهم لارتفاع التزاحم به ، فليلتزم فيما نحن فيه بذلك.

وعليه ، فالإيراد الأول هو المتوجه دون الثاني. ونضيف إليه محذورا آخر في جريان الترتب ، وهو : ان عصيان الأمر بالجهر أو تركه لا يكون في الفرض إلاّ بالإتيان بالإخفات. وعليه فيمتنع ان يتعلق به الأمر معلقا على عصيان الأمر بالجهر أو تركه ، لكون المفروض ان العصيان معلول القراءة الإخفاتية ، فكيف تتفرع القراءة الإخفاتية على العصيان لتفرع الأمر بها عليه وهي متفرعة على الأمر؟!.

بيان ذلك : ان توجيه صحة الصلاة الإخفاتية مع تحقق العصيان انما

ص: 439


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 311 - الطبعة الأولى.

يكون ببيان ان الصلاة الإخفاتية تفي بمقدار من المصلحة الملزمة بنحو لا مجال حينئذ لتدارك الباقي من مصلحة الجهر مع لزومه ، وإلاّ فيؤمر بالجهر حينئذ ، فالحال فيهما نظير أكل الشخص المأمور بالأكل الجيّد ، للنوع الرديء الموجب للشبع فلا يبقى معه مجال للأكل الجيد فيسقط الأمر به مع مؤاخذته لتفويته مصلحة الجيد الملزمة.

وعليه ، فثبوت الأمر بالإخفات انما يكون في الفرض الّذي لا يبقى مجال لاستيفاء مصلحة الجهر ، وإلاّ فيؤمر به لا بالإخفات. وليس ذلك إلاّ حال الإتيان بالإخفات ، إذ قبل الإتيان به إما ان يترك الجهر آناً ما أو يترك الصلاة بالمرة إلى آخر الوقت. اما تركه الجهر في بعض الوقت فلا يكون موضوعا لوجوب الإخفات ، إذ لا يلتزم أحد بأنه متى ما أخر المكلف صلاته الجهرية عن أول الوقت كلف بالإخفات ، كما انه لا معنى للأمر به مع إمكان استيفاء مصلحة الجهر. واما لو ترك الصلاة بالمرة فكذلك لا يكون مكلفا بالصلاة الإخفاتية لخروج الوقت ولا يكشف ذلك عنه ، فموضوع الأمر بالإخفات هو الترك أو العصيان المساوق لاستيفاء بعض المصلحة وعدم إمكان استيفاء الباقي منها ، وذلك لا يكون إلا بالإتيان بالصلاة إخفاتا. فيلزم ان يعلق الأمر بالشيء على الترك المتحقق بذلك الشيء وهو مما لا إشكال بامتناعه. ومن الواضح ان هذا المحذور لا يبتني على ان يكون الجهر والإخفات من الضدين اللذين لا ثالث لهما ، إذ هو يتأتى حتى بناء على ان الأمر يتعلق بالقراءة الجهرية والإخفاتية ، أو بالصلاة الجهرية والإخفاتية ، لأنه ينشأ من تقييد الأمر بالإخفات بالترك الخاصّ لا بمطلق الترك. فالتفت.

التنبيه الخامس : لا يخفى ان الترتب انما يجري لرفع محذور التزاحم بين الحكمين ، فلو كان في اجتماع الحكمين محذور آخر غير التزاحم فلا يرفعه الترتب ، كما لو لزم من اجتماع الحكمين اجتماع الضدين في شيء واحد. مثاله :

ص: 440

ما لو التزم باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده الخاصّ ، فيكون الأمر بكل من الضدين مقتضيا لتعلق النهي بالضد الآخر ، فيلزم اجتماع الأمر والنهي في كل من الضدين. ومن الواضح انه لا يرتفع ذلك بالترتب ، لأن الأمر بكل منهما في حال عصيان الأهم ثابت ، فيثبت منه نهي عن كل منهما. فيجتمع الضدان في شيء واحد.

إلاّ انه ذكر المثال بنحو آخر وهو : اجتماع الوجوب والحرمة في ترك المهم ، لأن الترك مقدمة للواجب الأهم ، فهو واجب كما انه نقيض الواجب فيكون محرما. وهو غير مهم في المقام. فانتبه.

وقد تعرض إلى بيان هذه الجهة المحقق الأصفهاني رحمه اللّه (1).

وهو في نفسه متين. إلاّ ان لنا مناقشة مع المحقق المذكور ترجع إلى عالم الاصطلاح والتعبير ، فانها وان لم تكن أساسية دخيلة في أصل المطلب ، إلاّ انه قدس سره لالتزامه بالتعبير عن المطالب بالألفاظ المناسبة لها بنحو الدقة ، ولذا يستشكل كثيرا على التعبير عن بعض المطالب ببعض الألفاظ ويبني على إبدالها بلفظ آخر - لأجل ذلك - كان موردا لما سنبينه من المناقشة. وبيان ذلك : ان الثابت أن الأحكام بما انها أمور اعتبارية لا تضاد بينها بأنفسها - مع الغض عن المبدأ والمنتهى - ، لأن الاعتبار خفيف المئونة فلا محذور في اعتبار الأحكام الخمسة في شيء واحد ، إلاّ انه يقع التضاد بين الأحكام من جهة المبدأ ، فان اعتبار الوجوب حيث ينشأ من تعلق الإرادة بالفعل يكون مضادا لاعتبار الحرمة. حيث انه ينشأ من تعلق الكراهة بالعمل ، فالحرمة والوجوب متضادان من جهة مبدئهما.

وقد أنكر البعض وقوع التضاد من جهة مبدأ الأحكام وحصره من جهة

ص: 441


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 244 - الطبعة الأولى.

مقام الامتثال ، فذكر : ان التضاد بين الحرمة والوجوب من جهة ان الحرمة تقتضي زجر المكلف عن العمل وردعه ، والوجوب يقتضي بعثه ومحركيته نحو العمل ، والزجر والبعث لا يجتمعان ، فهما إذن ضدان من جهة مقام الامتثال المعبر عنه بحيثية المنتهى.

وقد ذهب إلى ذلك المحقق الأصفهاني وهو المتفرد بذلك من الأصوليين (1).

وعليه ، فليس محذور اجتماع الأمر والنهي في كل من الضدين سوى تزاحمهما في مقام الداعوية والمحركية ، إلا ان الترتب لا يرفع هذا التزاحم لامتناعه ، لأن ترك أو عصيان أحد الأمرين مساوق للإتيان بمتعلق الحكم الآخر ، فعصيان الحرمة مساوق لنفس الفعل كما ان عصيان الوجوب مساوق للترك. فيمتنع الترتب حينئذ لاستلزامه طلب الحاصل.

فكان ينبغي على المحقق الأصفهاني ان يذكر : ان الترتب لا يجري في مثل هذا التزاحم ، وهو التزاحم في فعل واحد بملاك عدم جريانه في مورد التزاحم في الضدين اللذين لا ثالث لهما ، لا ان الترتب انما يرفع محذور التزاحم دون غيره. فلاحظ وانتبه.

التنبيه السادس : إذا كان أحد المتزاحمين أسبق زمانا من الآخر ، كما إذا فرض عدم قدرة المكلف الا على قيام واحد يصرفه في صلاة الظهر أو صلاة العصر ، فيتزاحم وجوب القيام في كل منهما مع وجوبه في الأخرى.

وقد مثّل المحقق النائيني قدس سره لذلك بمثال آخر ، وهو : فرض عدم قدرة المكلف الا على القيام في الركعة الأولى أو الثانية (2).

ص: 442


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 42 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 318 - الطبعة الأولى. الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 380 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وبما ان هذا المثال خارج عن موارد التزاحم كما سيأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى في ضابط التزاحم ، نقتصر في موضوع الحديث على المثال الأول.

فنقول : انه إذا كان الواجب المتأخر أهم من الواجب الفعلي ، فهل يمكن الالتزام بالترتب أو لا؟. بمعنى انه يلتزم بكون وجوب القيام في الواجب الفعلي كالظهر في المثال مترتبا على عصيان الأمر بالقيام في الواجب المتأخر كالعصر.

ذهب المحقق النائيني قدس سره إلى امتناع الترتب في المقام لوجهين :

الأول : ان تعليق الأمر الفعلي على عصيان الأمر المتأخر لا بد وان يكون بأخذ العصيان بنحو الشرط المتأخر - كما هو واضح جدا - وهو ممتنع كما قرر في محله. نعم تعليق الأمر الفعلي على تعقب العصيان ، فيكون الشرط هو عنوان التعقب لا نفس العصيان ، أمر معقول لكنه يحتاج إلى دليل خاص ، وإلاّ فنفس إمكان الترتب لا يقتضيه ، وليس لدينا ما يدل على شرطية التعقب.

الثاني : ان أساس جواز الترتب هو كون المهم في ظرف عصيان الأهم مقدورا وقابلا لتعلق الخطاب به ، وهذا المعنى لا يتحقق فيما نحن فيه ، فان عصيان الأمر المتأخر لا يوجب مقدورية المهم فعلا ، لحكم العقل فعلا بحفظ القدرة للواجب المتأخر الأهم ، فلا يرتفع محذور المزاحمة وعدم القدرة بالترتب بعد وجود حكم العقل الفعلي بحفظ القدرة وهو رافع للقدرة على القيام فعلا ومزاحم للأمر بالمهم.

ويمكننا ان نقول : ان نظر المحقق النائيني قدس سره في هذا الوجه إلى أن طرف المزاحمة في الحقيقة ليس هو الوجوب المتأخر كي تدفع بإجراء عملية الترتب ، لأن داعويته متأخرة فلا تزاحم داعوية الأمر بالمهم الفعلي. وانما طرف المزاحمة هو الوجوب العقلي الفعلي المتعلق بحفظ القدرة للواجب المتأخر ، فليس مقصوده ان طرف المزاحمة كلا الوجوبين ، فإجراء الترتب بين المهم وأحدهما لا ينفع بعد وجود المزاحم الآخر.

ص: 443

وقد يقال : بإجراء عملية الترتب بين وجوب المهم ووجوب حفظ القدرة ، فيلتزم بتعليق وجوب الظهر قائما - مثلا - على عصيان وجوب حفظ القدرة على القيام للعصر. فيرتفع التزاحم بين هذين الحكمين.

ومنعه قدس سره : بان المهم - كالقيام للظهر - من افراد عصيان الحكم بلزوم حفظ القدرة ، فيمتنع ان يعلق الخطاب به على عصيان وجوب حفظ القدرة ، لأن عصيان وجوب حفظ القدرة انما يتحقق بصرفها ، اما في نفس القيام للظهر أو في فعل وجودي آخر كحمل الثقيل.

وعليه نقول : ان شرط الخطاب بالمهم اما ان يكون صرف القدرة في نفس القيام ، فيلزم منه تعلق الحكم بشيء على تقدير وجوده وهو محال. واما ان يكون صرف القدرة في فعل آخر ، فلا يكون المهم مقدورا حينئذ ، فيستحيل تعلق الطلب به على هذا التقدير.

وهذا الأمر مطرد في كل ما كان المهم من افراد عصيان الأهم. فتدبر (1).

فتحصل : ان في إجراء الترتب في ما نحن فيه جهات من الإشكال :

اما الجهة الأولى : وهي كون الترتب مستلزما للشرط المتأخر وهو ممتنع ، وشرطية عنوان التعقب تحتاج إلى دليل. فهي قابلة للمناقشة بأن شرطية عنوان التعقب لا تحتاج إلى دليل خاص كشرطية نفس العصيان ، فانه مقتضى دليل الحكمين ، لأنه بعد ان امتنع الالتزام بإطلاق كلا الدليلين بالنسبة إلى حال تعقب أحدهما بعصيان الآخر وعدم تعقبه ، وكان تقييد أحدهما بتعقبه بعصيان الآخر رافعا للمحذور ، تعين الالتزام بذلك ، إذ لا موجب لطرح الدليل المطلق رأسا إذا أمكن الالتزام به في بعض موارده.

ص: 444


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 318 - 320 - الطبعة الأولى. الكاظمي الشيخ محمد علي. فوائد الأصول 1 / 380 - 383 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

وبالجملة : التقريب الّذي يذكر لأخذ العصيان شرطا من دون دليل خاص عينه يأتي في أخذ عنوان التعقب فلا حاجة بنا إلى الإطالة.

وقد تعرض المحقق النائيني إلى ذلك في بعض كلماته في مكان آخر. وذكره السيد الخوئي (1) أيضا.

ومن العجيب ما ورد في تعليقة أجود التقريرات للسيد الخوئي من : انتهائه إلى جواز الترتب في المقام بعد دفعه الجهة الأولى من الإشكال ، مما يظهر منه انه فهم من كلام أستاذه النائيني انحصار المحذور في هذه الجهة ، فاندفاعه يستلزم الالتزام بالجواز ، مع انك عرفت ان عمدة المحذور هو الجهة الثانية كما لا يخفى على من لاحظ « أجود التقريرات » (2).

واما الجهة الثانية : فقد يورد على التقرير الأول لها ، بان تقييد الأمر بالمهم بعصيان الأهم يرفع مزاحمة وجوب حفظ القدرة للأمر بالمهم ، لأن وجوب حفظ القدرة وجوب طريقي للتمكن من امتثال الأمر بالأهم ، فهو نظير الوجوب الغيري المقدمي ينشأ بمقتضى وجود الأمر بالأهم. وعليه فهو يتبعه في الداعوية الفعلية ، فإذا لم يكن الأمر بالأهم ذا داعوية فعلية في ظرفه لم يكن وجوب حفظ القدرة ذا داعوية فعلية نحو متعلقه ، فإذا قيد الأمر بالمهم بعصيان الأهم في وقته ، فقد قيد بعدم داعوية الأهم ، فإذا علم المكلف بتحقق العصيان منه لم يكن وجوب حفظ القدرة فعلا ذا داعوية فعلية ، فيثبت الأمر بالمهم من دون مزاحم.

وبالجملة : بإجراء عملية الترتب بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم ترتفع المزاحمة بين الأمر بالمهم والأمر بحفظ القدرة للأهم من دون تقييد للأمر بالمهم

ص: 445


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 322 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 318 - الطبعة الأولى.

بعصيان الأمر بحفظ القدرة ، بل يبقى على ما هو عليه من الإطلاق من هذه الجهة ، إلا ان نتيجة تقييده بالعصيان متحققة ، لعدم داعويته الفعلية مع عصيان الأمر بالأهم.

ولكنه يخدش بوجهين :

الأول : ان أساس عملية الترتب على انه مع امتثال الأمر الأهم والإتيان بمتعلقه يرتفع الأمر بالمهم ، لأن ذلك هو الّذي يرفع التزاحم بين الأمرين. وهذا المعنى لا يتحقق فيما نحن فيه بين الأمر بحفظ القدرة والأمر بالمهم ، فان الأمر بالمهم موجود مع الإتيان بمتعلق الأمر بحفظ القدرة فيما لو بنى على عصيان الأمر بالأهم لتحقق شرط الأمر بالمهم. فيقع التزاحم بينهما ، فلا يترتب أثر الترتب المرغوب ونتيجته المطلوب بين الأمر بالمهم والأمر بحفظ القدرة ، بإجراء عملية الترتب بين الأمر بالأهم والأمر بالمهم.

نعم لو كان الأمر بالمهم يرتفع بالإتيان بمتعلق الأمر بحفظ القدرة من دون تقييده بعصيانه كان لما ذكر وجه ، ولكن الأمر ليس كذلك كما عرفت.

الثاني : ان ما ذكر من ارتباط وتبعية داعوية الأمر بحفظ القدرة لداعوية الأمر بالأهم في ظرفه غير وجيهة ، فانه من الممكن عقلا ان يكون الأمر بحفظ القدرة داعيا مع عدم داعوية الأمر بالأهم. نعم ذلك غير واقع لمنافاته لسيرة العقلاء لأنه عمل غير عقلائي لا انه غير ممكن ، وقد عرفت ان ذلك لا يدفع محذور اجتماع الأمرين بالضدين ، وانما الّذي يدفعه هو فرض داعوية أحدهما في فرض لا يمكن ان يكون الآخر داعيا ، لا انه لا يكون الآخر داعيا مع إمكانه ، إذ مع إمكان داعويته يمكن ان يصل كل منهما إلى مرحلة الفعلية في مقام التأثير فيقع التزاحم.

وبالجملة : الأمر بالمهم والأمر بحفظ القدرة يمكن ان يكون كل منهما داعيا فعلا إلى متعلقه في زمان واحد ، وذلك هو محذور التزاحم.

ص: 446

ولا يخفى ان الإيراد المذكور لا يتوجه على التقرير الثاني لكلام النائيني قدس سره لعدم فرض المزاحمة فيه بين الأمر بالمهم والأمر بالأهم ، وانما هي بين الأمر بالمهم والأمر بحفظ القدرة رأسا ، فلا يتجه تقييد الأمر بالمهم بعصيان الأمر بالأهم المتأخر.

والّذي يظهر من « المحاضرات » - بالنظرة العاجلة - ان نظر المحقق النائيني في الجهة الثانية من الإشكال هو فرض المحذور في لزوم اجتماع الحكمين - أعني الحكم بوجوب المهم والحكم بوجوب حفظ القدرة للأهم - في زمان واحد ، فأورد عليه : بان هذا لازم عملية الترتب في سائر الموارد ، بل أساس الترتب لتصحيح اجتماع الحكمين في زمان واحد. فالالتزام بامتناع الترتب هنا لأجل هذا اللازم يستدعي الالتزام بامتناعه مطلقا لأجل هذا اللازم أيضا (1).

وهذا عجيب جدا ، فان نظر المحقق النائيني ليس إلى مجرد اجتماع الحكمين كي ينقض عليه بمطلق موارد الترتب ، بل إلى التزاحم الواقع بينهما لإطلاق كل منهما بالإضافة إلى الآخر ، وهذا المعنى لا يوجد في مطلق موارد الترتب لارتفاع التزاحم بين الحكمين بواسطة عملية الترتب ، وهذا ظاهر بأدنى ملاحظة لكلام المحقق النائيني. فراجع.

واما الجهة الثالثة : فقد أورد عليها السيد الخوئي كما في « المحاضرات » - بعد الإسهاب في بيانها - ، بأنه إنما يتم ذلك لو فرض ان عدم حفظ القدرة انما يكون بنفس القيام وعينه ، بحيث تكون نسبتهما نسبة المتناقضين ، فمع ارتفاع أحدهما وعدمه يتحقق الآخر ويكون تقدير عدم أحدهما عين تقدير الآخر ، ولكن الأمر ليس كذلك ، فان عدم حفظ القدرة وتركه يلازم القيام لا عينه. ومن الواضح صحة الأمر بأحد افراد اللازم على تقدير تحقق ملازمه ، فيصح

ص: 447


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 348 - الطبعة الأولى.

الأمر بالقيام بصلاة الظهر على تقدير ترك حفظ القدرة ، إذ لا يكون ذلك من الأمر بشيء على تقدير حصوله ووجوده ، لما عرفت من ان ترك حفظ القدرة ليس عين القيام. فحال القيام لصلاة الظهر حال الصلاة على تقدير ترك الإزالة ، إذ المكلف على تقدير تركها لا يخلو عن حال اما فعل الصلاة أو فعل آخر ولا أقل من السكون. هذا ملخص ما جاء في المحاضرات (1).

وهو غير سديد ، فان حفظ القدرة وإبقاءها وان كان عنوانا ثبوتيا ، لكنه لا واقع له غير العدم ، فواقعه عدم صرف القدرة في شيء آخر ، فهو نظير العصيان الّذي واقعه عدم امتثال المأمور به مع انه عنوان ثبوتي ، ونظير الفوت الّذي واقعه عدم الإتيان بالمأمور به مع جهة استقراره عليه ، مع انه عنوان ثبوتي ، ولذلك لا يثبت بالأصل الجاري في عدم الإتيان. فليس واقع هذه العناوين الثبوتية سوى العدم ليس إلاّ. وإذا تبين ان حفظ القدرة من الأمور التي واقعها العدم ، وهو عدم صرف القدرة في شيء آخر ، لا ان لها واقعا وجوديا كسائر الأمور الوجودية ، ولأجل ذلك لا يعبّر عنه إلاّ بالمعنى العدمي الّذي عرفته - كما لا يعبر عن العصيان والفوت إلا به -.

إذا تبين ذلك تعرف ان عدم حفظ القدرة يتحقق بنفس صرفها في فعل آخر لا انه لازم للعدم ، وإذا كان الأمر كذلك امتنع تعليق الأمر بالقيام لصلاة الظهر على ترك حفظ القدرة عليه لصلاة العصر ، لأن مرجع ذلك إلى تعليق الأمر بالقيام على تحقق القيام لصلاة الظهر أو في غيرها من الأفعال ، وعلى كلا الحالين يمتنع تعلق الأمر به ، فلاحظ.

التنبيه السابع : في جريان الترتب بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها. كما لو كانت هناك مقدمة محرمة لواجب أهم ، كالاجتياز في الأرض المغصوبة لإنقاذ

ص: 448


1- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه3/ 350 - الطبعة الأولى.

الغريق ، فانه لا إشكال في ارتفاع الحرمة لو جاء بالواجب بعد تحقق المقدمة واتصاف المقدمة بالوجوب الغيري - على القول به - ، كما انه لا إشكال بينهم فتوى في حرمة المقدمة لو لم يتحقق الواجب بعد المقدمة ، فيرون ان الدخول إلى الأرض المغصوبة محرم إذا لم يكن لأجل ان يترتب الواجب عليه ، وقد وقع البحث في تعليل ذلك ، مع أن الدخول في الأرض المغصوبة لا يخرج بذلك عن كونه مقدمة والمفروض انها واجبة.

فذهب الشيخ إلى : ان حرمتها لأجل اعتبار قصد التوصل إلى الواجب في وجوب المقدمة ، وهو منتف في الفرض فتكون المقدمة على حكمها الأول (1).

كما ذهب صاحب الفصول إلى : اعتبار الإيصال في وجوب المقدمة ، وهو منتف فيما نحن فيه ، فتكون المقدمة على حكمها الأول.

وقد مرّ الكلام في كلا القولين مفصلا.

وبما ان المحقق النائيني ممن تبع صاحب الكفاية في الالتزام بوجوب مطلق المقدمة وعدم اختصاصه بحصة منها دون أخرى ، خرّج هذا الفرض على مسألة الترتب ، فذهب إلى : ان حرمة المقدمة مترتبة على عصيان وجوب ذي المقدمة ، فعند عدم الإتيان بذي المقدمة تكون المقدمة محرمة بحكم الترتب.

إلا ان إجراء الترتب في المقام يرد عليه لأول وهلة إيرادان :

أحدهما : استلزامه اما الالتزام بالشرط المتأخر الممتنع لو فرض ان المرتب عليه حرمة المقدمة فعلا هو عصيان وجوب ذي المقدمة. واما الالتزام بما يحتاج إلى دليل خاص وهو غير موجود لو فرض ان المعلق عليه حرمة المقدمة هو عنوان التعقب بعصيان وجوب ذيها.

ثانيهما : استلزامه اجتماع الحكمين المتضادين وهما الوجوب والحرمة ، لأن

ص: 449


1- الكلانتري الشيخ أبو القاسم. مطارح الأنظار /72- الطبعة الأولى.

المقدمة على الفرض محرمة لتحقق المعلق عليه في الخارج وهو التعقب لو فرض أخذه شرطا ، كما انها واجبة بالوجوب الغيري لأن الوجوب النفسيّ قبل تحقق العصيان موجود فيترشح منه وجوب غيري على المقدمة ، فيجتمع الحكمان المتضادان في المقدمة في زمان واحد. وهو محال.

وقد تخلص المحقق النائيني من هذين الإيرادين بعد تقديم مقدمتين :

إحداهما : ان الوجوب الغيري وان كان حكما آخر غير الوجوب النفسيّ ، إلاّ انه في مرتبة الوجوب النفسيّ ، بمعنى انه يقتضي ما يقتضيه الأمر النفسيّ ، فكما ان الأمر النفسيّ بصدد تحصيل متعلقه في الخارج بوضع تقدير الطاعة وهدم تقدير المعصية كذلك الأمر الغيري ، فانه أيضا بصدد تحصيل الواجب النفسيّ فيقتضي تقدير الطاعة ويهدم تقدير المعصية ، وهذا المعنى هو المراد من عبارة صاحب الحاشية بان المقدمة واجبة من حيث الإيصال ، وليس مراده تقييد وجوب المقدمة بالإيصال كما توهّم (1).

ثانيتهما : ان الوجوب الغيري حيث انه وجوب تبعي مترشح عن الوجوب النفسيّ ، فهو تابع له اشتراطا وإطلاقا ، وبما انك قد عرفت عدم معقولية إطلاق الخطاب النفسيّ ولا تقييده بالإضافة إلى فرض طاعته ومعصيته ، فلا يعقل أيضا الإطلاق والتقييد في الوجوب الغيري بالإضافة إلى فرض إطاعة الأمر النفسيّ وعصيانه.

ومن هذين المقدمتين انتهى إلى دفع المحذورين.

اما المحذور الأول : فقد التزم بان الشرط هو عنوان التعقب ، وهو لا يحتاج إلى دليل خاص ، بل هو مقتضى حكم العقل كما في موارد الاشتراط بالقدرة. ببيان : ان المقدمة بعد ان فرض كونها محرمة في حد ذاتها ورفع اليد عن

ص: 450


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد تقي. هداية المسترشدين /207- الطبعة الأولى.

حرمتها لأجل مقدميتها للواجب ، وبما ان خطابها في مرتبة خطاب ذيها - كما هو مقتضى المقدمة الأولى - فلا محالة يكون وجوبها في تلك المرتبة ، فإذا فرض عدم وقوعها في طريق التوصل إلى ذيها فلا إشكال في تعلق الحرمة بها حينئذ ، وهذا في الحقيقة يعنى شرطية التعقب بالعصيان للحرمة.

واما المحذور الثاني فيدفعه : ان عدم جواز اجتماع الحكمين المتضادين انما هو لأجل وقوع التزاحم بينهما في مقام الامتثال ، وهذا غير متحقق فيما نحن فيه ، لأن حرمة المقدمة انما هي في فرض عصيان ذي المقدمة ، وقد عرفت ان الوجوب المقدمي لا نظر له إلى ما بعد العصيان والطاعة ، فداعوية كل منهما في فرض غير فرض داعوية الآخر ، وأحد الخطابين هادم لتقدير أخذه موضوعا للخطاب الآخر ، فلا تزاحم بينهما في مقام الداعوية.

وبالجملة : البيان الّذي يصحح به الترتب بين الواجبين النفسيين يصحح به نفسه الترتب بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها.

هذا ما أفاده المحقق النائيني في المقام (1).

وقد أورد عليه السيد الخوئي ( حفظه اللّه ) في تعليقته على التقرير ، بما تعرضنا إليه في مبحث المقدمة الموصلة من استلزام القول بالترتب محذورين مهمين : أحدهما : طلب الحاصل. وثانيهما : خروج الواجب النفسيّ عن كونه واجبا. ببيان : ان وجوب الشيء يتوقف على القدرة عليه ، وهي تتوقف على القدرة على مقدماته المتوقفة على جوازها شرعا ، فإذا فرض تعليق الحرمة على عصيان ذي المقدمة ، فلازمه فرض اختصاص جواز المقدمة بتقدير عدم عصيانه وهو فرض الإتيان به ، وقد عرفت ان الأمر به يتوقف على جواز مقدميته ، فيكون الأمر به متوقفا على الإتيان به وهو طلب الحاصل. هذا مع أن عدم جواز المقدمة

ص: 451


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 321 - الطبعة الأولى.

إذا علق على عصيان وجوب ذي المقدمة ، فمع فرض عصيانه تحرم المقدمة ، فيكون الواجب النفسيّ غير مقدور فيرتفع وجوبه ، إذ التكليف بغير المقدور ممتنع (1).

وهذا البيان غريب جدا ، فان مفروض كلام المحقق النائيني هو الجمع بين الحكمين في زمان واحد بحيث تكون المقدمة في حال العصيان واجبة كما انها محرمة - فانه مقصود الترتب - فكيف يفرض استلزام تعليق الحرمة على العصيان لتعليق الجواز على عدم العصيان؟!. وهذا البيان أخذه السيد الخوئي من إيراد صاحب الكفاية (2) على من ادعى جواز تصريح الآمر بحرمة المقدمة غير الموصلة دون الموصلة. ولكنه فرق كبير بين المقامين ، إذ لم يفرض في ذلك المورد سوى حرمة المقدمة غير الموصلة وجواز الموصلة. والمفروض هنا هو جواز مطلق المقدمة وانما الغرض تصحيح تعلق الحرمة بنحو الترتب الملازم للمحافظة على بقاء الجواز في حال الحرمة.

هذا مع ما تقدم من الإشكال على أصل الكلام في نفسه وحل جهة المغالطة فيه. فراجع.

فالعمدة في الإيراد على المحقق النائيني ان يقال : ان ما ذكره يبتني على عدم الالتزام بتضاد الأحكام ، وانما لا يمكن اجتماعهما في مورد واحد لتزاحمها في مقام الامتثال وعدم القدرة على امتثال جميعها ، لأنه قد عرفت ارتفاع التزاحم بالترتب ، إلا أنه قدس سره لا يلتزم بذلك ، وقد أشرنا إلى انه قد تفرد المحقق الأصفهاني من بين الأصوليين إلى نفي التضاد من حيث المبدأ (3).

اما المحقق النائيني وسائر الأصوليين فهم يلتزمون بتحقق التضاد من

ص: 452


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 236 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /118- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 42 - الطبعة الأولى.

جهة المبدأ ، فتضاد الحرمة والوجوب لأجل انبعاث الحرمة عن الكراهة والوجوب عن الإرادة وهما متضادان. ومن الواضح ان هذا المحذور لا يرتفع بالترتب كما أشرنا إليه سابقا ، فان الترتب انما يرفع محذور التزاحم لا غير.

وعليه ، فالالتزام بالترتب هنا يلزمه الالتزام بجواز اجتماع الحكمين في زمان واحد في مورد واحد ، وهو ممتنع لكونه من اجتماع الضدين.

ونتيجة ما ذكرناه هو : انه بناء على الالتزام بوجوب المقدمة يقع التعارض بين دليل حرمة المقدمة ودليل وجوب ذي المقدمة ، لأنه يقتضي وجوب المقدمة ، فيقع التكاذب بينهما ، لاقتضاء أحدهما ضد ما يقتضي الآخر ، وبناء على عدم الالتزام بوجوب المقدمة يكون المورد من موارد تزاحم حرمة المقدمة ووجوب ذي المقدمة لعدم إمكان الجمع بينهما في مقام الامتثال ، ولا مانع من الالتزام بالترتب حينئذ بتعليق حرمة المقدمة على عصيان وجوب ذيها. وإلى هذا المعنى أشرنا في أول مبحث مقدمة الواجب في بيان ثمرة البحث فراجع.

التنبيه الثامن : في إجراء الترتب بين التدريجيين.

لا يخفى ان الواجبين المتزاحمين ..

تارة : يكونان آنيين كانقاذي الغريقين ، فلا يكون عصيان أحدهما إلا آنيا ، إذ بمجرده يسقط الأمر لفوات موضوعه.

وأخرى : يكون أحدهما تدريجيا والآخر آنيا كإنقاذ الغريق والصلاة.

وثالثة : يكون كل منهما تدريجيا ، لكن عصيان كل منهما يتحقق بمجرد ترك جزء منه ، فلا يكون عصيانه إلا آنيا ، نظير الصوم الّذي يتحقق تركه بمجرد تركه في جزء من النهار فيسقط الأمر بذلك ، ونظير صلاة الآيات مع صلاة الوقت المضيقة.

ورابعة : يكون كل منهما تدريجيا ، وكان عصيان أحدهما وهو الأهم تدريجيا أيضا ، بمعنى ان الأمر به لا يسقط بمجرد العصيان ، بل يجب آناً فآنا فيستمر

ص: 453

عصيانه باستمرار الأمر به ، نظير الإزالة والصلاة ، فان وجوب الإزالة مستمر فإذا عصاه في الآن الأول وجب في الآن الثاني وهكذا.

ومحل الكلام في هذا التنبيه هو هذا القسم دون الأقسام الأخرى ، فيبحث في صحة الترتب فيه بأن يؤخذ خطاب الصلاة معلقا على عصيان خطاب الإزالة.

وجهة الإشكال فيه : ان الأمر بالصلاة امر ارتباطي ، بمعنى ان امتثاله انما يتحقق بالإتيان بجميع اجزائه ، وإلاّ فلا يقع أحدها على صفة المطلوبية. فوقوع التكبيرة على صفة المطلوبية مشروط بالإتيان بالتسليم ، فإذا زاحمها واجب أهم كالإزالة ، فحيث انه لا يكفي مجرد عصيان الأمر بالإزالة في الأمر بالصلاة لغرض تجدد الأمر بالإزالة واستمراره في جميع آنات الصلاة وعدم سقوطه بمجرد العصيان كي يبقى الأمر بالصلاة بدون مزاحم فلا بد في تصحيح الأمر بالصلاة من تعليقه على عصيان الأمر بالإزالة مستقرا ، ولازم ذلك الالتزام بالشرط المتأخر ، إذ لازمه تقييد الأمر بالصلاة بعصيان الأمر بالإزالة في ظرف التسليم وغيره من أجزاء الصلاة ، فيمتنع الترتب في المقام عند من يرى استحالة الشرط المتأخر.

ودعوى : الالتزام بشرطية التعقب بالعصيان وهو شرط مقارن.

تندفع : بان ذلك يحتاج إلى دليل خاص ، وهو غير موجود ، ولا يكفي في الالتزام به بمجرد إمكانه كشرطية العصيان.

هذا محصل الإشكال في جريان الترتب في هذا القسم على ما ذكره المحقق النائيني. ولازمه كما قال : كون مبحث الترتب قليل الجدوى لكثرة هذا القسم في موارد التزاحم وقلة سائر الأقسام.

وقد دفعه المحقق النائيني قدس سره بدعوى : عدم احتياج شرطية التعقب هاهنا إلى دليل خاص ، بل مجرد إمكانه يكفي بملاك شرطية القدرة. بيان

ص: 454

ذلك : انه بعد ان كان اشتراط الأمر بالفعل التدريجي الارتباطي بالقدرة على جميع اجزائه بحيث تكون القدرة على آخر جزء دخيلة في وجوب أول جزء من الأمور المسلمة ، وقد عرفت ان ذلك لا يتوجه إلا بالالتزام بشرطية عنوان التعقب بالقدرة المتأخرة لامتناع شرطية نفس القدرة المتأخرة لاستلزامه الشرط المتأخر وهو محال. فشرطية عنوان التعقب مما يفرضها العقل بدلالة الاقتضاء تصحيحا لتعلق الأمر بالفعل التدريجي الارتباطي الّذي لا ينكره أحد.

ومن الواضح ان شرطية العصيان في سائر موارد الترتب إنما هي من باب شرطية القدرة ، إذ الواجب المهم لا يكون مقدورا إلا في ظرف عصيان الأمر بالأهم.

وعليه ، فدخالة عصيان الأمر بالإزالة في ظرف التسليم في وجوب التكبيرة انما يكون من جهة ان القدرة على التسليم لا تكون إلا بالعصيان المذكور ، وقد عرفت ان دخالة القدرة على الجزء الأخير في وجوب الجزء الأول لا توجّه إلا بأخذ الشرط عنوان التعقب. فالدليل الثابت الّذي يقضي بأخذ الشرط في التدريجيات عنوان التعقب بالقدرة المتأخرة نفسه يقضي بأخذ الشرط عنوان التعقب بالعصيان المتأخر ، لأن التعقب بالعصيان حقيقته التعقب بالقدرة وليس شيئا آخر وراء التعقب بالقدرة ، فلا يحتاج إلى دليل خاص ، لتوفر الدليل على اشتراط التعقب بالقدرة في التدريجيات.

هذا بيان ما أفاده المحقق النائيني في دفع الإيراد المزبور (1).

ويرد عليه : ان قياس المقام على شرطية القدرة غير وجيه لوجوه ثلاثة :

الأول : ان موضوع اشتراط القدرة وعدم العجز انما هو الفعل القابل لطروّ العجز والقدرة عليه ، بحيث يكون مقسما للعجز والتمكن ، ويمكن تحديده

ص: 455


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 315 - الطبعة الأولى.

بما يرجع عدم قدرة عليه إلى قصور في المكلف لا في نفسه ، وما نحن فيه ليس من هذا القبيل ، فان عدم القدرة على امتثال كلا التكليفين والإتيان بمتعلق أحدهما عند الإتيان بمتعلق الآخر من جهة قصور في نفس العمل لأن ذلك جمع بين الضدين وهو محال في نفسه وخارج عن مقسم العجز والتمكن ، فالتكليف فيما نحن فيه من باب التكليف بالمحال - وهو الجمع بين الضدين - لا من باب التكليف بغير المقدور ، فهما يختلفان موضوعا فلا يتجه قياس ما نحن فيه على باب اشتراط القدرة.

الثاني : لو تنزلنا وسلمنا اتحاد القسمين موضوعا وانهما من باب واحد وهو التكليف بغير المقدور بإرجاع التكليف بالمحال إليه فهما يختلفان ملاكا ، بمعنى ان الملاك في استحالة التكليف بما يعجز عنه المكلف في نفسه غير الملاك في استحالة التكليف بغير المقدور من جهة المزاحم ، وهو ما نحن فيه ، لأن متعلق كل منهما مقدور في نفسه لا قصور فيه ، وانما ينشأ عدم القدرة من جهة المزاحم.

وذلك لأن ملاك عدم التكليف بغير المقدور في نفسه اما قبح تكليف العاجز - بنظر العقل - كما هو المشهور. واما دعوى اقتضاء التكليف نفسه الاختصاص بالمقدور ، لأنه لإيجاد الداعي وتحريك المكلف نحو العمل وهو يتصور بالنسبة إلى الفعل المقدور كما عليه المحقق النائيني على ما سبق بيانه مفصلا.

اما ملاك عدم التكليف بغير المقدور من جهة المزاحم فهو يتقوم بأمرين :

أحدهما : عدم إمكان وجود الأمرين بالضدين بعد فرض عدم قدرة المكلف إلا على أحدهما ، فبقاء كل من الأمرين ممتنع.

ثانيهما : انه مع لزوم رفع اليد عن أحدهما وكان أحدهما أرجح من الآخر ، فرفع اليد عن الأرجح لازمه ترجيح المرجوح على الراجح وهو ممتنع ، فيتعين سقوط المرجوح فسقوط المرجوح ملاكه هذان الأمران وهما أجنبيان عن ملاك

ص: 456

سقوط التكليف بغير المقدور في نفسه كما لا يخفى. ومن الواضح عدم تأتي ملاك الاستحالة في ذلك القسم هنا ، لأن المفروض ان متعلق كل تكليف مقدور في نفسه ، فلا محذور في محركيته نحوه ، ولا قبح في تكليفه به بالنظر إليه خاصة ، كما ان كلا التكليفين لا يرجعان إلى تكليف واحد متعلق بالضدين كي يقبح ذلك بنظر العقل وتمتنع محركية التكليف نحو متعلقه. فليس المحذور الا في الجمع بين التكليفين مع لزوم ترجيح المرجوح على الراجح فيسقط المرجوح لذلك ، ومع هذا لا يصح قياس ما نحن فيه بباب اشتراط التكليف بالقدرة وجعلها من واد واحد ملاكا. فتدبر.

الثالث : لو تنزلنا عن هذا أيضا وسلمنا اتحاد القسمين موضوعا وملاكا ، فلا نسلم جريان ما أفاده قدس سره فيما نحن فيه مما كان توقف التكليف فيه على القدرة اتفاقيا لا دائميا.

بيان ذلك : ان الالتزام بشرطية التعقب بالقدرة على الجزء المتأخر في الواجبات التدريجية انما كان من جهة وضوح وجود الواجبات التدريجية الارتباطية وانحصار المصحح لها بأخذ عنوان التعقب شرطا. ومن الواضح ان توقف وجوب الجزء السابق على الإتيان بالجزء اللاحق أمر دائمي في الواجبات الارتباطية لا ينفك عنها لو لم نقل بأنه مقوم لواقع الارتباطية المفروضة ، فيلتزم فيها بشرطية التعقب وان كان ذا مئونة زائدة. اما توقف وجوب المهم على القدرة عليه من جهة عدم الأهم المزاحم له فهو امر اتفاقي لا دائمي ، وبما ان هذه القدرة لا تتحقق إلا في ظرف عصيان الأهم ، تعين قهرا أخذ العصيان شرطا من باب أنه ظرف القدرة على العمل ، نظير ما لو ورد تكليف بشيء ولم يكن مقدورا عليه إلا في زمان خاص تعين تقييده بذلك الزمان من باب انه زمان القدرة عليه ، فشرطية العصيان أمر قهري لا محيص عنه ، لأنه من باب شرطية نفس القدرة كما عرفت. اما عنوان التعقب فهو غير مقوم للقدرة كما لا يخفى ، فأخذه شرطا

ص: 457

يحتاج إلى دليل خاص ، والدليل الدال على أخذه في المورد المتوقف فيه الجزء السابق على القدرة المتأخرة توقفا دائميا لا معنى لإعماله في المورد الّذي يكون التوقف فيه على القدرة المتأخرة اتفاقيا ، فان عدم الالتزام به في الواجبات التدريجية لازمه إنكار وجود الواجبات التدريجية مع أنها ضرورية الوجود ، وهذا المحذور لا يلزم بعدم الالتزام بشرطيته فيما نحن فيه كما لا يخفى ، إذ غاية ما يلزم عدم صحة الترتب في الواجبات التدريجية وهو ليس بمحذور. فلاحظ.

فالوجه الّذي يصحح به أخذ عنوان التعقب هنا ما أشرنا إليه ، ويمكن استفادته من كلامه قدس سره في بعض المواقع ، من ان إطلاق الدليل الدال على وجوب المهم يكفي في إثبات الوجوب مقيدا بعنوان التعقب بالعصيان ، بالبيان الّذي ذكرناه لتصحيح أخذ عصيان الأهم شرطا في وجوب المهم - الّذي هو أساس الترتب - من دون حاجة إلى دليل خاص إثباتي ، وذلك بان نقول : ان مقتضى إطلاق دليل المهم ثبوت الحكم مطلقا سواء تعنون متعلقه بعنوان التعقب بعصيان الأهم في الآن المتأخر أو لم يتعنون بهذا العنوان ، وحيث ان ثبوت الحكم في الصورة الثانية - أعني صورة عدم التعنون بعنوان التعقب - يلزم منه محذور حصول التزاحم بين الحكمين في الزمان المتأخر الموجب لسقوط الأمر بالمهم في ظرفه الملازم لسقوطه من أول الأمر ومن حين الشروع بالعمل ، فيرفع اليد عن الإطلاق في هذه الصورة لامتناع الأخذ به لمحذور التزاحم المانع من الجمع بين الحكمين. ويبقى دليله بالنسبة إلى صورة التعقب بالعصيان على ما كان عليه لعدم الموجب لرفع اليد عنه لانحصار محذور التزاحم بتلك الصورة دون هذه. فالتفت وتدبر واللّه وليّ التوفيق.

انتهى مبحث الضد والحمد لله رب العالمين وهو حسبنا ونعم الوكيل. وكان تاريخ الانتهاء منه يوم الأحد الثاني عشر من ربيع الثاني سنة 1386 ه.

ص: 458

فصل : أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه

هذا البحث مما لا ثمرة له أصلا من حيث العمل ، وان ذكرت له ثمرة وهي تصحيح وجوب الكفارة على من أفطر في نهار رمضان ولم يبق على شرائط الوجوب إلى آخر النهار.

ولكن ناقشها المحقق النائيني رحمه اللّه بظهور عدم ارتباط ذلك بهذا البحث في باب الصوم من الفقه (1).

ولأجل ذلك نكتفي بنقل ما أفاده في الكفاية في هذا المبحث لمجرد الاطلاع على صورة الخطاب من دون تحقيق وتمحيص.

فنقول : انه وقع الكلام في انه هل يجوز امر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه أو لا يجوز. ومن الواضح أنه يراد من الجواز الإمكان لا الجواز بمعنى الإباحة والترخيص.

ذهب صاحب الكفاية إلى عدم الجواز. ويظهر وجه اختياره بوضوح

ص: 459


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 209 - الطبعة الأولى.

أمرين أشار إليهما في كتابه.

الأول : ان المراد بالجواز في عنوان البحث هو الإمكان الوقوعي لا الإمكان الذاتي.

ومجمل الفرق بينهما هو : ان الإمكان الذاتي يرجع إلى كون الذات في حد نفسها ممكنة غير ممتنعة الوجود من حيث هي ، كاجتماع النقيضين الّذي يكون محالا في نفسه. اما الإمكان الوقوعي فهو يرجع إلى عدم استلزام وجود الذات للمحال بحيث لا يترتب على وجودها محذور من لزوم خلف أو دور أو نحو ذلك ، فالإمكان الوقوعي ما لا يستلزم المحال ، والذاتي ما ليس بمحال في نفسه. فالمقصود من الإمكان هنا الإمكان الوقوعي دون الذاتي ، إذ لا يتعلق غرض للأصولي في تحقيق ذلك ، فان غرضه يتعلق بوقوع الأشياء وما يترتب عليها من أثر ، مع بعد إنكار الإمكان الذاتي فيما نحن فيه ، إذ لا يدعى كونه محالا في نفسه كاجتماع الضدين.

الثاني : ان المراد من الضمير في : « شرطه » هو : تارة يكون مرتبة أخرى للأمر غير المرتبة التي هو فيها ، كأن يأمر إنشاء مع علمه بانتفاء شرط فعلية الأمر. وأخرى : يكون المراد نفس المرتبة فيأمر إنشاء مع علمه بانتفاء شرط الإنشاء وهكذا. اما الأول فليس هو موضوع البحث ، إذ لا إشكال في جوازه كالأوامر الامتحانية ونحوها ، إذ قد يأمر الآمر من دون ان يكون له داعي للبعث حقيقة.

وعليه ، فموضوع البحث هو الإمكان الوقوعي لأمر الآمر مع علمه بانتفاء شرط مرتبة الأمر التي يقصدها الآمر من الأمر. ومن الواضح أنه غير جائز وقوعا لاستلزامه حصول المعلول من دون علته وهو خلف ، وذلك لأن الشرط من اجزاء العلة فحصول الأمر مع عدم الشرط يكون من وجود المعلول بدون علة وهو خلف فرض العلية.

ص: 460

هذا بيان ما أفاده في الكفاية (1).

ولا بد من التنبيه إلى لزوم البحث في نقطتين من كلامه :

إحداهما : في بيان وجود الفرق بين الإمكان الذاتي والإمكان الوقوعي ، وتحقيق ذلك إثباتا أو نفيا في غير هذا المقام. وقد تعرض له المحقق الأصفهاني مفصلا في مباحث القطع (2).

ثانيتهما : في تصور الأمر الإنشائي مع علمه بانتفاء شرط الفعلية كالأوامر الامتحانية ، وان مثل ذلك هل هو إنشاء للطلب حقيقة أو صورة إنشاء وحقيقته معنى آخر ، ولذا لا يطلق عليها لفظ الأمر إلاّ مجازا كما اعترف به قدس سره ؟. وتحقيق ذلك موكول إلى غير هذا المجال ، لعدم الثمرة العلمية في تحقيقه فعلا.

وقد حاول المحقق النائيني إنكار الموضوع لهذا المبحث ببيان : ان الحكم ان كان مجعولا بنحو القضية الحقيقية فهو مرتبط بواقع الشرط وليس لعلم المولى وعدمه أي أثر في ثبوته وعدمه ، وانما التشخيص بيد المكلف. وان كان مجعولا بنحو القضية الخارجية فلا إشكال في ان الحكم يدور مدار علم الحاكم من دون دخل لوجود الموضوع خارجا وعدمه ، لأن الإرادة تنبعث عن الصور الذهنية وما يكون في أفق النّفس دون ما يكون في خارجها. فلا موضوع للنزاع المذكور ، إذ على تقدير لا دخل للعلم وعدمه في ثبوت الحكم لموضوعه ، وعلى تقدير لا إشكال في ارتباط الحكم بالعلم (3).

وتحقيق صحة هذا البيان وعدم صحته مما لا يهمنا كثيرا بعد ان عرفت انتفاء الثمرة في البحث المذكور ، وانما المقصود هو الإشارة لا غير.

ص: 461


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /137- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية2/ 41 و 1 / 62 - الطبعة الأولى.
3- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 209 - الطبعة الأولى.

ص: 462

فصل : متعلق الأوامر

وقع الكلام بين الأعلام في أن متعلق الأوامر والنواهي هل هو الطبائع أو الأفراد؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى الأول. وقد تعرض في هذا المبحث إلى بيان جهات أربع :

الأولى : ان متعلق الأمر هو وجود الطبيعة لانفسها.

الثانية : بيان المقصود من الطبيعة والفرد في محل النزاع.

الثالثة : في بيان المقصود من طلب الوجود بعد ان كان الوجود مسقطا للطلب.

الرابعة : الإشارة إلى عدم ارتباط البحث بمبحث أصالة الماهية أو الوجود.

اما الجهة الأولى : فتحقيقها ، ان الطبيعة بما هي هي ليست إلا هي لا تكون مقسما لتعلق الأمر وعدمه ، فهي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، ولذا قيل ان ارتفاع النقيضين جائز في هذه المرتبة ، فمتعلق الأمر انما هو وجود الطبيعة لا ذات الطبيعة.

ص: 463

واما الجهة الثانية : فالفرق بين الطبيعة والفرد هو : ان المراد بالطبيعة ذات الماهية مع قطع النّظر عن العوارض اللازمة لوجودها من زمان ومكان ونحوهما ، والمراد بالفرد هو الماهية المقيدة بهذه العوارض اللازمة. فمن يدعي ان متعلق الأمر هو الطبيعة يريد ان الأمر هو طلب وجود الطبيعة بذاتها من دون نظر إلى العوارض والمشخصات اللازمة لها في الوجود ، بحيث لو تصور - محالا - انفكاكها عن الطبيعة لم يلزم تحقيقها. ومن يدعي ان متعلق الأمر هو الفرد يريد ان متعلق الأمر هو وجود الطبيعة المتقيدة بهذه العوارض ، فهي دخيلة في متعلق الأمر ومقومة له.

وقد أوكل صاحب الكفاية معرفة صحة اختياره ، وهو تعلق الأمر بالطبيعة لا الفرد إلى مراجعة الوجدان فانه يقضي بذلك ، فان الآمر لا يجد في نفسه إلاّ إرادة ذات العمل من الغير مع غض النّظر عن العوارض اللازمة ومن دون تعلق غرض له بها أصلا ، بل ليس مطلوبه سوى الطبيعة بذاتها.

وبالجملة : فقضايا الأحكام في نظر صاحب الكفاية كالقضايا الطبيعية في غيرها في كون الحكم على نفس الطبيعة بما هي من دون ملاحظة دخل الخصوصيات اللازمة لوجودها فيها ، بل كالقضايا المحصورة فان الحكم فيها أيضا على الطبيعة ، لكن لوحظ فيها سرايتها في جميع افرادها أو بعضها.

وخلاصة رأي الكفاية هو : ان الأمر يتعلق بوجود الطبيعة من دون لحاظ تقييدها بالعوارض اللازمة من مكان وزمان وغيرهما. وإثباته لا يحتاج إلى برهان بل في مراجعة الوجدان كفاية (1).

ووضوح تمامية هذا الرأي بشئونه وعدم تماميته تظهر بالتعرض إلى كلمات غيره من الاعلام وتمييز صحيحها من سقيمها.

ص: 464


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /138- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والّذي ذكره المحقق النائيني قدس سره في هذا المقام بعد ان تعرض إلى نقل ما ذهب إليه بعض الأعاظم من رجوع النزاع في هذه المسألة إلى النزاع في كون التخيير بين الافراد عقليا أو شرعيا ، لأنه ان كان متعلق الأمر هو الطبيعة كان التخيير بين افرادها عقليا. وان كان الافراد كان الفرد متعلقا للأمر بنفسه فيكون التخيير فيها شرعيا. ومناقشته : بان التخيير الشرعي يستلزم تقدير كلمة : « أو » بالنسبة إلى كل فرد ، لأنها هي التي تؤدي التخيير فيكون الواجب هذا أو ذاك أو ذاك وهكذا. ومن الواضح ان افراد الطبيعة بحسب الغالب لا نهاية لها فيمتنع التقدير المذكور. هذا مع ان التخيير العقلي في الجملة مسلم لا نزاع فيه ، فلا وجه لتوجيه النزاع وإرجاعه إلى ما ذكر للتنافي بين التسالم المطلق على وقوع التخيير العقلي وذهاب البعض إلى تعلق الأوامر بالافراد الّذي حقيقته هو التخيير الشرعي كما عرفت : الّذي أفاده قدس سره بعد هذا البيان - : ان أساس النزاع في الحقيقة على النزاع في إمكان وجود الطبيعي في الخارج وعدم وجوده. وتوضيح ذلك : ان المراد من وجود الطبيعي ليس وجوده بما هو كلي يقبل الانطباق على كثيرين ، فان هذا يتنافى مع ما هو مسلم من ان الشيء ما لم يتشخص لم يوجد. بل المقصود ان الوجود الطارئ هل يطرأ على ذات الطبيعة مع قطع النّظر عن اللوازم القهرية والمشخصات من زمان ومكان ونحوهما ، وانما هي توجد قهرا من باب امتناع وجود الشيء بدون تشخص ، أو انه يطرأ على الطبيعة المتشخصة بهذه المشخصات والمتقيدة بهذه العوارض؟. وبتعبير آخر : ان المشخصات هل تكون في مرتبة الوجود فيكون معروض الوجود - كالتشخصات - هو الماهية. أو انها في مرتبة سابقة على الوجود فيكون معروضه هو الماهية المتشخصة؟. فمن يقول بوجود الطبيعي يقصد الرّأي الأول وان الوجود يتعلق بالطبيعي ذاته. ومن يقول بامتناعه يرى الرّأي الثاني وان الوجود يطرأ على الطبيعة المتشخصة لا نفس الطبيعة.

ص: 465

وعليه ، فالبحث فيما نحن فيه يبتني على النزاع المذكور ، فمن يرى تعلق الوجود بالطبيعة ذاتها يذهب إلى ان متعلق الإرادة التكوينية والتشريعية نفس الطبيعة مع قطع النّظر عن التشخصات. ومن يرى تعلق الوجود بالطبيعة المتشخصة يذهب إلى ان متعلق الإرادة التكوينية والتشريعية الطبيعة المتقيدة بالمشخصات.

واختار قدس سره الأول مستشهدا عليه بالوجدان ، وان متعلق الإرادة في أفق النّفس ليس إلاّ ذات الطبيعة ، وبما ان الإرادة التشريعية على حد الإرادة التكوينية كان متعلقها نفس الطبيعة.

ثم انه رتب على هذا المبحث ثمرة عملية مهمة وهي : انه بناء على تعلق الأوامر بالطبائع وإثبات ان نسبة كل من الكليين في مورد الاجتماع إلى الآخر من قبيل المشخص وهو خارجة عن دائرة الحكم - بناء عليه - ، فيكون جواز الاجتماع من الواضحات.

هذا ملخص ما أفاده قدس سره في المقام (1).

ولا يخفى انه يختلف عن التقريب الّذي ذكره صاحب الكفاية.

والجهة التي يشتركان فيها معا هي : جعل المقصود بالفرد الطبيعة المتقيدة باللوازم والمشخصات ، فقوام الفردية بنظرهما 0 عن النحو الّذي سلكه صاحب الكفاية في تقريب المطلب ونهجه مسلكا آخر ، فيمكن ان يكون فيما بيانه : ان صاحب الكفاية فرض أمرين مفروغا عنهما وهما :

أولا : كون متعلق الغرض هو ذات الطبيعة مع قطع النّظر عن عوارضها

ص: 466


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 210 - الطبعة الأولى.

اللازمة.

وثانيا : إمكان وجود الطبيعي.

ومن الواضح انه بعد فرض هذين الأمرين لا مجال لتحقق النزاع في أن متعلق الأمر هو الطبيعة أو الفرد ، بل لا محيص عن الالتزام بتعلقه بالطبيعة لوجود المقتضي وقابلية المحل. فكلام الكفاية في تحرير النزاع واختيار أحد القولين أشبه بالقضية بشرط المحمول ، وهو لا يتناسب مع النزاع العلمي الّذي لا بد ان يتجه فيه أحد القولين.

وبالجملة : لا وجه لأخذ الأمرين المذكورين مفروغا عنهما ، ثم تحرير النزاع ، إذ لا نزاع بعد المفروغية عنهما. إذن فيتجه النزاع المذكور لو تحقق النزاع في أحد الأمرين المذكورين ، والأول منهما لا يشك فيه اثنان ، بخلاف الثاني ، فيتعين ان يبنى النزاع في تعلق الأمر بالطبيعة أو الفرد على النزاع في إمكان وجود الطبيعي فيكون متعلق الطلب لوجود المقتضي وقابلية المحل ، وعدم إمكان وجوده فيكون متعلق الطلب هو الفرد لعدم قابلية الطبيعي للوجود كي يتعلق به الطلب ، لأن المطلوب هو الوجود. فلا يكتسب النزاع صورة معقولة الا على هذا الأساس دون النحو الّذي سلكه صاحب الكفاية ، وهذا هو نظر المحقق النائيني في تغيير نحو تحرير المبحث وان لم يصرح به.

اما ما ذكره المحقق النائيني من القول برجوع البحث في المسألة إلى البحث عن ان التخيير بين الافراد عقلي أو شرعي ومناقشته بوجهين ، فسيأتي التعرض لذلك في آخر المبحث في ضمن تنبيه ، وفيه تعرض صحة القول المذكور وعدمه كما تعرف وجاهة المناقشة التي ذكرها المحقق النائيني وعدمها. كما تعرف ان النّظر في هذا القول هو بيان ثمرة المسألة أو بيان رجوع النزاع إلى ذلك كما فهمه منه المحقق النائيني فانتظر.

يبقى الكلام في جهتين من كلامه قدس سره جهة اختص بها وجهة

ص: 467

اشترك فيها مع صاحب الكفاية.

اما ما اختص بذكرها فهي : ما ذكره في بيان المراد من وجود الفرد والطبيعي من ان المشخصات هل تكون عارضة على الطبيعة في مرتبة الوجود وفي عرضه - وهو المراد من وجود الطبيعي - ، أو تكون عارضة في رتبة سابقة على الوجود ، فيكون الوجود عارضا على الطبيعة المتشخصة - وهو المراد من وجود الفرد -؟. ولا يخفى ان هذا الترديد لا منشأ له ولا يظهر من كلمات المختلفين في وجود الطبيعي والفرد ، فانه لا خلاف لديهم ولا إشكال عندهم في ان هذه المشخصات من آثار الوجود ولوازمه لاحتياجه إلى زمان ومكان ونحوهما ، فلا معنى لأن ينسب إليهم كونها في رتبة سابقة على الوجود وان الوجود يطرأ على الماهية المتشخصة ، وتفسير وجود الفرد بذلك. فانتبه.

واما ما اشترك فيه مع صاحب الكفاية فهو : ما عرفته من بيان تقوم الفردية بالمشخصات والعوارض اللازمة.

وهذا أمر لا يخلو عن مناقشة ، فان التفرد إنما يكون بالوجود نفسه لا باللوازم العارضة ، فان كل عارض موجود فرد لطبيعي وفرديته بوجوده ، ويمتنع ان يكون تفرد الطبيعة بالعوارض اللازمة لأجل ذلك.

وعلى هذا فيتحصل لدينا فعلا على صاحب الكفاية إيرادان :

أحدهما : في كيفية تحريره النزاع وفرضه.

ثانيهما : في جعله العوارض اللازمة قوام الفردية وما به تفرد الطبيعة.

ويرد عليه ثالثا : انه خرج عن موضوع النزاع ، فان ظاهر النزاع في ان متعلق الأوامر هو الطبيعة أو الفرد المغايرة بين القولين والتباين بينهما ، وليس هذا ظاهر الكفاية ، فقد أفاد ان متعلق الأمر هو الطبيعة وليس هو الطبيعة مع العوارض اللازمة.

وهذا نزاع آخر غير الأول ، فان النزاع الأول في ان متعلق الأمر ما هو؟.

ص: 468

والنزاع الآخر في سراية الأمر من الطبيعة إلى العوارض اللازمة ووجهه أحد الأمرين : أحدهما : اتفاق المتلازمين في الحكم. ثانيهما : مقدمية الفرد لوجود الطبيعي على قول ، فيجب بالوجوب المقدمي.

وقد مر البحث في كل من الوجهين وبيان عدم تمامية دعوى وجوب المقدمة ، ودعوى لزوم اتفاق المتلازمين في الحكم وان الثابت ليس إلا عدم جواز اختلافهما فيه.

وبالجملة : ما ذكره صاحب الكفاية خروج عن عنوان النزاع المفروض وانتقال منه إلى معنى آخر. فالتفت.

وعلى أي حال ، فقد اتضح ان النزاع في ان متعلق الأمر هو الطبيعة أو الفرد - بعد فرض كون متعلق الغرض هو الطبيعة - يبتني على النزاع في وجود الطبيعة ، فإذا ثبت وجود الطبيعي ثبت تعلق الأمر به.

والّذي ينبغي ان يقال في تحقيق الكلام : انه مما لا إشكال في ان افراد الطبيعة الموجودة متباينة ، فكل فرد يباين الآخر مباينة تامة ، ولذا لا يصح حمل أحدهما على الآخر ، كما انه مما لا إشكال فيه انتزاع مفهوم الوجود من هذه الخصوصيات والوجودات المتعددة ، ومن المقرر امتناع انتزاع مفهوم واحد من الأمور المتباينة ، فلا بد اذن من وجود جهة مشتركة بين هذه الوجودات تصحح انتزاع مفهوم واحد منها ، فكل وجود يشتمل على جهتين جهة خصوصيته التي بها يباين غيره. وجهة مشتركة بينه وبين غيره - ولأجل ذلك قيل ان ما به الامتياز فيها عين ما به الاشتراك وهو الوجود - ، فبملاحظة الجهة الخاصة يكون الوجود وجود الفرد ، وبملاحظة الجهة المشتركة يكون وجودا للطبيعي ، فهو وجود واحد يكون وجودا للفرد وللطبيعي من جهتين ، فيلتزم بوجود الطبيعي بهذا التقريب وهو يعين ان يكون متعلق الأمر هو الطبيعة لتمامية المقتضي وهو تعلق الغرض به وتوقفه على قابلية المحل ، وقد ثبتت بالبيان المذكور فالمطلوب هو

ص: 469

الوجود بلحاظ الجهة المشتركة بين سائر الوجودات من دون إرادة خصوصيات الوجودات. فالتفت (1).

هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

اما الجهة الأولى التي تتكفل بيان ان متعلق الطلب ليس ذات الطبيعة وانما هو وجودها ، وقد عرفت تعليل صاحب الكفاية لذلك بان الطبيعة بما هي ليست إلاّ هي لا مطلوبة ولا غير مطلوبة ، لا موجود ولا غير موجودة فلا تصلح لتعلق الطلب. وهذا المعنى مسلم في الطبيعة بما هي ، ولأجل ذلك قيل ان ارتفاع النقيضين ممكن في هذه المرحلة ، ببيان : ان المقصود بالطبيعة بما هي هي الطبيعة التي قصر النّظر على ذاتها وذاتياتها فقط من دون لحاظ أي أمر خارج عن ذاتها وذاتياتها ، فإذا وصفت بالمطلوبة أو بعدم المطلوبة في هذه الحال لزم ان تكون المطلوبية أو عدمها من ذاتياتها ، وإلاّ لكان خلف قصر النّظر على الذات والذاتيات. ومن الواضح خروج الطلب وعدمه والوجود وعدمه عن قوام ذات الطبيعة.

والإنصاف ان هذا المعنى لا ينفي صحة تعلق الطلب بالطبيعة بما هي ، ولا يستلزم امتناعه كما حاول صاحب الكفاية به ، فان الممتنع بالبيان المزبور انما هو حمل شيء على الماهية في تلك المرحلة ومع المحافظة على هذه الجهة ، اما عروض شيء خارج عن ذات الماهية على ذاتها بما هي فلا يأباه البرهان المزبور ، لعدم استلزامه فرض ذاتية ما ليس من الذاتيات ولا استلزامه الخلف فالطبيعة بما هي لا تأبى عروض أمر خارج عليها. والمفروض في ما نحن فيه هو عروض الطلب على الطبيعة بما هي ، وهو لا يرتبط بنفي حمل الطلب عليها. فاستدلال صاحب الكفاية بذلك منشؤه الخلط بين حمل شيء خارج على الطبيعة بما هي

ص: 470


1- ذكر سيدنا الأستاذ ( دام ظله ) : ان هذا البيان مبني على الالتزام بأصالة الوجود ( منه عفي عنه ).

وعروض شيء عليها بما هي هي ، والممتنع هو الأول ، دون الثاني ، ومحل الكلام هو الثاني دون الأول.

فالذي ينبغي ان يقال في توجيه تعلق الأمر بوجود الطبيعة لا بذاتها بما هي هو : ان تعلق الأمر يتبع ما فيه تحقق الغرض ووجوده. ومن الواضح ان الغرض لا يترتب على الماهية بما هي ، بل يترتب على وجود الماهية خارجا ، فمن الطبيعي ان يكون هو متعلق الأمر دون ذات الماهية.

وهذا أمر واضح لا غبار عليه.

اما الجهة الثالثة من الكلام : وهي البحث عن تصحيح تعلق الأمر بالوجود. فان هذا يبدو مشكلا لأول وهلة.

وبيان الإشكال : ان الوجود يوجب سقوط الأمر فكيف يكون متعلقا للأمر ، مع ان متعلق الأمر ما به قوام الأمر ووجوده؟. هذا مع ان تعلق الطلب بالوجود يلزمه طلب الحاصل وهو محال لكونه لغوا فلا يصدر من الحكيم.

وقد تفصى صاحب الكفاية عن الإشكال : بان المطلوب ليس هو وجود الفعل ، بل متعلق الطلب صدور الوجود وجعله البسيط وإفاضته. وبعبارة أخرى : المطلوب هو الإيجاد لا الوجود (1).

وفي هذا الجواب ما لا يخفى : فانه قد تقرر ان الإيجاد والوجود والجعل والمجعول شيء واحد في الحقيقة والتغاير بينهما اعتباري ، فان الوجود بملاحظة صدوره من الفاعل يعبر عنه بالإيجاد وبملاحظة وروده على الفعل القابل يعبر عنه بالوجود. وإذا كانا امرا واحدا حقيقة فيمتنع تعلق الطلب بالإيجاد لعين الوجه في امتناع تعلقه بالوجود وهو طلب الحاصل. والتغاير الاعتباري اللحاظي لا يرفع المحذور ، إذ لا يغير الواقع والمحذور بلحاظه كما لا يخفى.

ص: 471


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /139- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وهناك وجه آخر لحلّ هذا الإشكال نقله في الكفاية وهو : الالتزام بان متعلق الطلب هو نفس الماهية والغاية منه وجودها ، فلا يلزم تعلق الطلب بما هو حاصل كما لا يخفى.

وأورد عليه في الكفاية : ان الطبيعة بما هي هي ليست إلاّ هي فلا يعقل تعلق الطلب بها (1).

وقد تقدم منا توضيح هذا القول والمناقشة فيه.

فالذي ينبغي ان يقال في الإشكال على هذا الوجه وبيان بطلانه هو : ان الإشكال المذكور - أعني استلزام تعلق الطلب بالوجود لطلب الحاصل - لا يختص بالطلب فقط ، بل يتأتى في غيره وهو الإرادة التكوينية لسائر الأفعال ، فانها عبارة عن الشوق الواصل إلى حد التأثير وعدم وجود الموانع في الخارج ، فتعلق الشوق بالوجود يستلزم تعلقه بما هو حاصل ، وهو مما لا معنى له لأنه يستلزم تحصيل الحاصل.

بل في الحقيقة ان الإشكال في باب الطلب انما هو لأجل تأتي الإشكال في باب الإرادة والشوق ، لأن الطلب ينشأ في الحقيقة عن وجود الإرادة التشريعية وتعلقها بفعل المكلف المستتبعة لطلبه منه ، كما ان الطلب انما هو لأجل دعوة المكلف وتحريكه نحو متعلقه ، فهو يستتبع تعلق الإرادة التكوينية من المكلف بما تعلق به.

وعليه ، فالتصدي إلى حلّ الإشكال في خصوص الطلب لا يجدي بعد ان كان الإشكال متأتيا في الإرادة والشوق ، وهما من مستلزمات وجود الطلب ، فان الطلب تابع للإرادة التشريعية ومستتبع للإرادة التكوينية المتعلقتين بما تعلق به ، فلا بد من بيان الوجه الّذي به يصحح تعلق الجميع بالوجود.

ص: 472


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /139- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وجملة القول : ان عمدة الإشكال في متعلق الإرادة في مورد الطلب وغيره ، وإلاّ فالطلب أمر اعتباري خفيف المئونة يمكن حلّ الإشكال فيه بسهولة ، ولكن لا ينفع في دفع الإيراد عن تعلق الإرادة. فالمهم هو التصدي لحلّ الإشكال في متعلق الإرادة ، ومنه يظهر اندفاعه في متعلق نفس الطلب فانه خفيف المئونة.

فنقول حينئذ : قد عرفت ان الإرادة عبارة عن الشوق الواصل إلى حد التأثير في متعلقه دون مطلق الشوق ، فلذا لا يعد الشوق إلى الممتنعات إرادة. ومن الواضح انه لا يمكن فرض متعلق الشوق هو الطبيعة بداعي وجودها ، إذ الشوق من الصفات النفسيّة غير الاختيارية فلا معنى لوجود الداعي لها وعدمه ، بل هي اما ان توجد أو لا توجد. هذا أولا.

وثانيا : ان الشوق قد يتعلق بما يعلم بعدم تحققه عقلا أو عادة كالشوق إلى اجتماع النقيضين أو الطيران إلى السماء ، ولا معنى لأن يقال ان متعلق الشوق هنا هو الطبيعة بداعي وجودها للعلم بعدم وجودها. اذن فالوجه المزبور وان دفع الإيراد من جهة الطلب لتأتيه فيه لأنه خفيف المئونة بعد كونه اعتباريا ، لكنه لا يدفع الإيراد من جهة الإرادة. وقد عرفت ان الإشكال في مورد الطلب لا يختص بمتعلق الطلب ، بل هو ثابت في متعلق الإرادة.

فيتلخص : ان متعلق الإرادة والشوق لا يمكن ان يكون هو الوجود الخارجي للشيء لأنه تحصيل الحاصل ، كما لا يمكن ان يكون هو ذات الفعل بداعي الوجود لخروج باب تعلق الشوق عن عالم الدواعي ، كما انه قد يتعلق بما لا يقبل الوجود. وتعلقه بالوجود الذهني لا معنى له ، لأنه ليس مورد الأثر ومصدر الغرض بلا كلام فلا يتعلق به الشوق والإرادة.

وهذا من جهة ، ومن جهة أخرى ان وجود الإرادة والشوق في النّفس أمر لا يقبل الإنكار والمكابرة. اذن فما هو الحل؟!.

التحقيق ان يقال : ان متعلق الشوق هو الوجود الخارجي ، لكن ليس

ص: 473

الفعلي بل الفرضي والتقديري. بيان ذلك : ان النّفس عند لحاظها وجود الشيء قد تتعلق به الرغبة والشوق لملاءمته للطبع ولترتب بعض الآثار المرغوبة عليه ، ومرجع ذلك ليس إلى تعلق الشوق بالوجود الذهني اللحاظي لعدم كونه مورد الأثر ، ولا إلى تعلقه بالوجود الخارجي الفعلي لامتناعه في بعض الأحيان كتعلق الشوق بالطيران إلى السماء ، وانما مرجعه إلى ان النّفس تفرض الوجود الخارجي وتزعم ثبوته وتخلقه في عالمها ، فتراه مورد الأثر فيتعلق به الشوق ، فحين يلحظ الشخص الوجود الخارجي للشيء ويراه مورد الأثر لو ثبت فعلا ، تعلق به شوقه قبل تحققه فعلا ويكون متعلق شوقه هو الوجود الخارجي الفرضي المخلوق للنفس ، وبما ان هذا الوجود له جهة فقدان وهي الفعلية فيتحرك المشتاق إلى تحقيق الفعلية في فرض إمكانها ، فالوجود الخارجي بجهة خلقه وفرضه متعلق الشوق ، وإعمال الإرادة فيه بلحاظ إخراجه من عالم الفرض إلى عالم الفعلية فله جهتان : جهة وجدان وهي بالفرض ، وبها يكون متعلق الإرادة. وجهة فقدان وهي الفعلية ، وهي مورد إعمال الإرادة وتحريك العضلات وهي مما لا بد منها إذ لا تتعلق الإرادة بما هو موجود من جميع الجهات وهذا المعنى الّذي ذكرناه امر ارتكازي وان كان مغفولا عنه ، فهو مضافا إلى كونه برهاني لانحصار حل الإشكال فيه امر عرفي.

ولعل هذا هو مراد المحقق العراقي على ما يحكى عنه من : ان متعلق الإرادة هو الوجود الزعمي ، يعني ما تزعم النّفس ثبوته وتحققه بتقريب : ان النّفس لها قوة الخلق والإيجاد في عالم النّفس. فللشيء أنحاء من الوجود ، كالوجود الذهني والوجود الفرضي الزعمي الّذي تخلقه النّفس والوجود الخارجي. وهو بنحو الثاني متعلق للشوق ولا محذور فيه (1).

ص: 474


1- البروجردي الشيخ محمد تقي. نهاية الأفكار1/ 383 - طبعة مؤسسة النشر الإسلامي.

اما الجهة الرابعة في كلام صاحب الكفاية : فهي ما أفاده من نفي ارتباط الكلام بالقول بأصالة الوجود. وتوضيح ذلك : انه قد تقرر ان كل ممكن مركب من زوجين أحدهما الذات والآخر الوجود. فزيد الخارجي مركب من أمرين الزيدية والوجود. وتقرر أيضا امتناع ان يكون كل من هذين الأمرين أصيلا في عالم الثبوت والتقرر وعدم معقولية ذلك ، فوقع النزاع في ان الأصيل منهما ما هو؟ هل هو الوجود والماهية امر انتزاعي لا تقرر له واقعا ولا أصالة له؟. أو انه الماهية والوجود ينتزع عنهما؟. فقد يقال : ان البحث المزبور في تعلق الأمر بالوجود وان المطلوب وجود الطبيعة انما يتأتى بناء على الالتزام بأصالة الوجود. اما بناء على أصالة الماهية فلا مجال له ، إذ لا واقعية للوجود ولا يكون مورد الغرض فلا معنى لتعلق الأمر به بل الأمر يتعلق بالطبيعة.

ولكنه يندفع : بأنه بناء على أصالة الماهية وان لم يكن الوجود متعلقا للأمر لكن الطبيعة بما هي لا تكون أيضا متعلقة للأمر وانما متعلق الأمر الماهية الخارجية ، لأن ما يكون متعلقا للغرض هو الأمر الخارجي دون ذات المفهوم ، فاما ان يتعلق الطلب بالوجود ان كان هو الأصيل أو بالماهية الخارجية ان كانت هي الأصيل. فتدبر.

يبقى شيء في كلام الكفاية وهو : انه بعد ان ذكر ان متعلق الطلب هو وجود الطبيعة لا الطبيعة بما هي هي ، لأنها ليست إلاّ هي غير قابلة لتعلق الطلب وعدمه. قال : « نعم هي كذلك ( يعني الطبيعة بما هي هي ) تكون متعلقة للأمر لأنه طلب الوجود ، فافهم » (1).

وتوضيح ذلك : انه وقع الكلام في ان حقيقة النهي هل هي غير حقيقة الأمر ، أو انها حقيقة واحدة. ولكن الاختلاف في المتعلق - ويأتي التعرض لذلك

ص: 475


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /139- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

في أول مبحث النواهي إن شاء اللّه تعالى -؟ فالأوّل يراد به ان حقيقة النهي هي الزجر عن العمل وحقيقة الأمر هي البعث نحو العمل ، والمتعلق لكليهما واحد والاختلاف في حقيقتهما. والثاني يراد به ان حقيقة كل من الأمر والنهي هي الطلب ، إلاّ ان الأمر طلب الوجود والنهي طلب الترك وأخذ الوجود والترك في حقيقة الأمر والنهي أخذ لهما في مدلول الهيئة ، فان مدلول المادة في كليهما واحد لا يتغير ، فان مادة : « صل » و: « لا تصل » يؤديان معنى واحد وهو الصلاة. اذن فالاختلاف لا بد وان يرجع إلى الهيئة ، فيتعين ان يكون مدلول الهيئة في الأمر هو طلب الوجود ومدلول الهيئة في النهي طلب الترك ، كي يحصل التمييز بين الأمر والنهي. وهذا لا يحتاج إليه القائل بالأول ، إذ الاختلاف والتمييز بين الحقيقتين حاصل بأخذ الأمر بمعنى البعث وأخذ النهي بمعنى الزجر ، فلا يحتاج إلى تقدير الوجود والترك. وصاحب الكفاية ممن يلتزم بالثاني ، فيتعين عليه ان يقول بان مدلول الهيئة في الأمر هو طلب الوجود ، وبما ان الهيئة من مصاديق الأمر فالامر على هذا اسم لطلب الوجود ، والمفروض ان الوجود وارد على الطبيعة بما هي فيكون الأمر بذلك واردا عليها بما هي هي.

ولكن الّذي يظهر من صاحب الكفاية بقوله : « فافهم » انه يتوقف في صحة هذا البيان. والوجه الّذي به يظهر عدم صحة هذا البيان هو : ان مقتضى هذا البيان ان لفظ الأمر اسم للمركب من طلب الوجود ، فلا واقع له سوى هذا المركب. ومن الواضح ان هذا المركب بما هو غير عارض على الماهية بما هي ، فليس متعلق طلب الوجود هو الماهية ، بل الماهية متعلق نفس الوجود وهو متعلق لنفس الطلب. فليس للأمر واقع بسيط يكون متعلقا بالطبيعة بما هي ، وانما واقعه المركب المذكور وهو بمجموعه غير عارض على الماهية ، بل العارض عليها أحد جزئيه وهو الوجود. فلا يقال ان طلب الوجود متعلق بالطبيعة بما هي هي. فلاحظ.

ص: 476

واما ما ذكره قدس سره في مقام بيان ان متعلق الأمر هو الطبيعة من : ان متعلق الأمر هو الطبيعة بوجودها السّعي لا وجودها الخاصّ (1).

فلا يتوجه عليه : ان الوجود يلازم التفرد والتخصص فلا معنى للتعبير بالوجود السعي فانه غير معقول ، لمنافاة الفردية للسعة.

وذلك لأن الفردية في نظر صاحب الكفاية على ما عرفت ليست بالوجود ، بل باللوازم والمشخصات. وعليه فيصح له فرض السعة في الوجود. اما ان هذا الوجود السعي المتعلق للأمر هل يكتفي فيه بواحد أو لا بد من الإتيان بجميع الوجودات؟ فبيان ذلك محله في أول مبحث النواهي. فانتظر.

تنبيه : قد تقدم ان ذكرنا ان المحقق النائيني نسب إلى بعض الأعاظم إرجاع النزاع في المسألة إلى ان التخيير بين الافراد عقلي أو شرعي ، وتقدم منه قدس سره الإيراد عليه بوجهين :

أحدهما : احتياج التخيير الشرعي إلى تقدير كلمة : « أو » بعدد الافراد وهي غير متناهية غالبا.

وثانيهما : مسلمية وجود التخيير العقلي في الجملة من قبل الكل ، وهو ينافى الاختلاف في ان متعلق الأمر هو الطبيعة أو الفرد لأن مرجع دعوى تعلقه إلى الفرد إلى امتناع تعلقه بالطبيعة وهو ينافي الالتزام بجوازه في بعض الأحيان الظاهر من الالتزام بالتخيير العقلي (2).

وتحقيق الحال على وجه يرتفع به الغموض عن أصل الدعوى والإيراد ، ان التخيير الشرعي :

تارة : يلتزم بأنه تعلق الحكم بكل فرد وخصوصية بنفسها ، بمعنى ان كل

ص: 477


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /139- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 210 - الطبعة الأولى.

خصوصية لوحظت بنفسها وأخذت في متعلق الوجوب التخييري.

وأخرى : يلتزم بان مرجعه إلى تعلق الحكم بعنوان انتزاعي ينطبق على كلتا الخصوصيّتين - مثلا - ، وهو عنوان : « أحدهما » فيكون الفرق بينه وبين التخيير العقلي هو ان متعلق الحكم في التخيير العقلي هو الجامع الحقيقي بين الافراد ، وفيه يكون هو الجامع الانتزاعي.

فعلى الأول : لا تكون مسألتنا راجعة إلى ما ادعى من كون التخيير عقليا أو شرعيا ، إذ من يدعي كون متعلق الأمر هو الافراد لا يلتزم بملاحظة كل فرد بخصوصيته المباينة لخصوصية الفرد الآخر ، بل يلتزم بملاحظة الجهة الجامعة والمشتركة بين سائر الافراد بما هي افراد ، وهي مثلا الطبيعة المتشخصة أو الطبيعة الموجودة ، فخصوصيات الافراد غير ملحوظة ، والمفروض توقف الوجوب التخييري على هذا المبنى على لحاظ خصوصيات الأفراد.

وعلى الثاني : لا يتوقف الوجوب التخييري على ملاحظة الخصوصيات ، كما لا يتوقف على تقدير كلمة : « أو » لكون المتعلق شيئا واحدا ينطبق على الخصوصيات وهو العنوان الانتزاعي ، فيكون القول بكون متعلق الأمر هو الافراد قولا بكون التخيير شرعيا لأن الفرد جامع انتزاعي عن الافراد بما هي افراد لا حقيقي ، والقول بكون المتعلق هو الطبيعة قولا بكون التخيير عقليا لأن الطبيعة جامع حقيقي.

فيتلخص : ان رجوع المسألة إلى كون التخيير شرعيا أو عقليا انما يتم بناء على الالتزام في الوجوب التخييري بان المتعلق هو عنوان انتزاعي عن الافراد بما هي افراد كعنوان : « أحدهما ». والمحقق النائيني يرى هذا الرّأي ، فلم يظهر وجه إيراده باحتياج التخيير إلى تقدير كلمة : « أو ».

اما الوجه الثاني من الإيراد فوضوح اندفاعه في مجال آخر. فالتفت وتدبر واللّه سبحانه الموفق.

ص: 478

فصل : نسخ الوجوب

إذا وجب شيء ثم نسخ وجوبه بدليل ، فهل للدليل المنسوخ أو الناسخ دلالة على بقاء الجواز بالمعنى الأعم أو لا؟.

ذهب صاحب الكفاية إلى الثاني (1) ، وهو الصحيح.

وتقريبه : ان الدليل الناسخ لا يقتضي سوى رفع الحكم الثابت وهو الوجوب من دون تعرض إلى حال الجواز وغيره ، فعدم دلالته واضح جدا. واما الدليل المنسوخ الدال على الوجوب ، فإذا التزمنا بان الوجوب أمر بسيط لا تركب في حقيقته فعدم دلالته على الجواز واضح ، إذ ما كان يدل عليه وهو الوجوب قد ارتفع بالفرض ولا دلالة له على غيره أصلا. وان التزم بان الوجوب مركب من جزءين جواز الفعل والمنع من تركه. فقد يدعى دلالة المنسوخ على الجواز بالدلالة التضمنية ، إذ هو قبل النسخ كان يدل بالمطابقة على الوجوب وبالتضمن على الجواز ، لأنه جزء الوجوب ، فإذا ارتفعت دلالته المطابقية عن الحجية بواسطة الناسخ تبقى دلالته التضمنية على حالها لعدم تبعية الدلالة

ص: 479


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /139- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية. ولكن هذا غير صحيح :

لإنكار المقدمة الأولى أولا. وهي : دعوى تركب الوجوب ، فان الوجوب أمر بسيط لا تركب فيه ، والتعبير عنه بالمضمون المركب تعبير عنه باللازم.

وإنكار المقدمة الثانية ثانيا ، وهي : دعوى عدم تبعية الدلالة التضمنية للدلالة المطابقية في الحجية ، وتحقيق ذلك وان كان ينبغي ان يكون فيما تقدم من مبحث تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية ، لكن جرت السيرة على التعرض إليه في مبحث التعادل والترجيح فهو موكول إلى محله. ولو تنزلنا وسلمنا عدم التبعية فهو انما نسلمه في المركبات الاعتبارية التي يكون لكل جزء منها وجود مستقل عن وجود الآخر نظير الدار. دون المركبات الحقيقية التي لا يكون لها الا وجود واحد بسيط.

والسر فيه : ان انتفاء وجود المركب الاعتباري لا يساوق انتفاء وجود اجزائه ، لفرض ان لها وجودا مستقلا ، فيمكن ان يقال بقاء دلالة الدليل الدال على وجود الجزء بالتضمن اما انتفاء وجود المركب الحقيقي فهو مساوق لانتفاء وجود اجزائه ، لفرض ان الوجود واحد فقط فليس هناك وجودان أحدهما للجزء والآخر للكل ، فلا معنى لبقاء الدلالة التضمنية بعد انتفاء الدلالة المطابقية لعدم المدلول التضمني بعد انتفاء المدلول المطابقي لأن المدلول المطابقي هو وجود المركب الملازم لوجود جزئه. وقد عرفت انه وجود واحد لا تعدد فيه ، فانتفاؤه ملازم لانتفاء وجود جزئه.

وبعبارة أخرى نقول : مع وحدة وجود المركب لا ثبوت للدلالة التضمنية للجملة ، إذ دلالتها التضمنية عبارة عن كشفها عن ثبوت الجزء ووجوده بتبع كشفها عن وجود الكل ، والمفروض انه لا وجود للجزء بنفسه كي يكون مدلولا للكلام. بخلاف ما إذا كان المركب اعتباريا ، فان الجزء له وجود مستقل في نفسه ، فدلالة اللفظ على وجود المركب يكون موجبا للكشف عن وجود الجزء أيضا.

ص: 480

نعم هناك دلالة تصورية على مفهوم الجزء في كلا المقامين ، ولكنه لا ينفع ، فان المقصود ثبوت الجزء ووجوده. وقد عرفت انه لا دلالة تضمنية عليه في المركب الحقيقي لعدم وجود الجزء مستقلا.

وما نحن فيه من هذا القبيل - أي من قبيل المركب الحقيقي - ، إذ لا يدعي أحد ان الوجوب مركب من أمرين مستقلين وإنشاءين متعددين ، بحيث يكون لكل منهما وجود مستقل كي لا ملازمة بين انتفاء وجود الكل وانتفاء وجود الجزء. بل وجود الوجوب بجزئية وجود واحد. فلا تبقى دلالة الدليل التضمنية بانتفاء المدلول بالدلالة المطابقية. فلاحظ.

وإذا لم يثبت الدليل على بقاء الجواز فلا بد من الرجوع إلى الأصل العملي.

وعليه ، فقد يدعى إجراء استصحاب الجواز لليقين به سابقا والشك فيه لاحقا فيثبت الجواز بالأصل.

وناقشه صاحب الكفاية : بان هذا الاستصحاب من استصحاب الكلي القسم الثالث ، وضابطه الشك في بقاء الكلي الموجود في ضمن فرد للشك في حدوث فرد آخر مساوق لارتفاع الفرد السابق. وهو لا يجري كما حقق في محله.

نعم يستثنى منه ما إذا كان الفرد المشكوك حدوثه ليس فردا مغايرا للأول في نظر العرف كما إذا كان من نظير الشك في بقاء كلّي السواد الموجود سابقا في ضمن مرتبة قوية منه للشك في بقاء ذلك الفرد في ضمن مرتبة ضعيفة بحيث يعدّ في العرف انه من تغير الحالات لا من تعدد الافراد. فانه لا مانع من إجراء الاستصحاب هنا ، ولكن الأحكام ليست كذلك بل هي متغايرة عرفا.

ومن هنا قد يرد عليه : بان الوجوب والاستحباب من هذا القبيل ، لأن الاختلاف بينهما في المرتبة ، فإذا شك في بقاء الجواز في ضمن الاستصحاب صح إجراء استصحاب الكلي.

ص: 481

ولكنه دفعه : بان الاختلاف بينهما حقيقة وان كان من حيث المرتبة ، إلاّ انهما بنظر العرف فردان متغايران ، ومن الواضح ان المحكم في باب الاستصحاب هو نظر العرف والمدار عليه لا على النّظر الدّقّي (1).

هذا ما أفاده في الكفاية. ولكن ناقشه المحقق الأصفهاني : بان المراد من الوجوب والاستحباب ان كان هو الأمر الاعتباري المجعول من قبل الشارع ، فهما متباينان وليس الاختلاف بينهما في الشدة والضعف. وان كان هو الإرادة ، فالاختلاف بينهما من حيث الشدة والضعف ، ولا يكون كل منهما بنظر العرف مغايرا للآخر. ولكن هذا لا يعني الالتزام بإجراء الاستصحاب ، بل لا بد من التفصيل بين الالتزام في باب الاستصحاب بان المجعول بأدلته الحكم المماثل للحكم المستصحب أو الحكم المستصحب كما يظهر من صاحب الكفاية (2) والشيخ (3) رحمه اللّه . والالتزام بان المجعول بأدلته هو منجزية الواقع أو الطريقية إليه وفرض الشاك متيقنا بالواقع. فعلى الأول لا يجري استصحاب الإرادة لأنها ليست من المجعولات الشرعية وليست موضوعا لحكم شرعي فلا معنى للتعبد ببقائها وجعلها من قبل الشارع. وعلى الثاني يجري استصحاب الإرادة لأنها قابلة للتنجيز أو يترتب عليها الحكم العقلي بالجري على طبقها كما لو كان متيقنا بها (4).

هذا ملخص ما أفاده المحقق الأصفهاني نقلناه لأجل التنبيه على عدم كون الإرادة من المجعولات الشرعية وليست من موضوعات الأحكام الشرعية. فالتفت فانه ينفعك في بعض الموارد.

ص: 482


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /140- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /414- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
3- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. فرائد الأصول /383- الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 251 - الطبعة الأولى.

فصل : الوجوب التخييري

اشارة

لا إشكال في وقوع الوجوب التخييري في الشرعيات والعرفيات ، وانما الكلام في تصويره بنحو لا يتنافى مع حقيقة الوجوب ، فان جهة الإشكال فيه هي منافاته لحقيقة الوجوب ، إذ أساس الوجوب عدم جواز ترك متعلقه ، والوجوب التخييري يجوز ترك متعلقه ، والمذكور في تصويره وجوه أشار إلى بعضها صاحب الكفاية.

الاحتمال الأول : - وقد اختاره صاحب الكفاية - كونه سنخ وجوب مشوبا بجواز الترك.

ببيان : ان الغرض المترتب على الأمرين ان كان واحدا ، فيكشف عن وجود جامع حقيقي بين الفعلين يكون هو المؤثر في ذلك الغرض ، لأن الواحد لا يصدر إلاّ عن واحد ، ويكون الجامع هو متعلق الأمر واقعا لأنه متعلق الغرض ، ويكون التخيير عقليا لا شرعيا ، وان كان الغرض متعددا ، فلا بد ان يفرض ان حصول أحدهما يمنع من حصول الآخر بحيث لا يمكن اجتماع كل من الغرضين - إذ لو أمكن حصولهما معا تعين الأمر التعييني بكل من الفعلين - ، فيتعلق الوجوب بكل منهما. لكن يجوز تركه إلى بدله وهو الآخر لا مطلقا ، فهو

ص: 483

وجوب وسط بين الوجوب التعييني والاستحباب. فملخص دعوى صاحب الكفاية : ان الوجوب التخييري سنخ وجوب يعرف بآثاره ولوازمه كوحدة العقاب على ترك الفعلين وعدم جواز ترك كل منهما لا إلى بدل (1).

ويمكن ان نوضحه : بأنه إرادة وسط بين الإرادة الاستحبابية والإرادة الوجوبية ، فهي أقوى من إرادة الاستحباب ولذا لا يجوز ترك متعلقها مطلقا وأضعف من إرادة الوجوب ولذا يجوز ترك متعلقها إلى بدل ، بخلاف إرادة الوجوب فانه لا يجوز ترك متعلقها أصلا.

وهذا الاختيار وان كنا قد قربناه وقويناه سابقا ودفعنا ما يخدش به ، حتى قيل أنه ناش عن عدم تصور الوجوب التخييري ، وإلاّ فما هو ذلك السنخ من الوجوب وما تحديده؟ - ونظير ذلك ما ورد منه قدس سره في تعريف الوضع من انه نحو اختصاص ، فكان مورد الاعتراض لعدم تحديده ذلك النحو - لكن الّذي يبدو لنا فعلا انه لا يخلو من مناقشة وذلك لوجهين :

الأول : انه يتنافى مع ما يراه الوجدان في الواجبات التخييرية العرفية من ثبوت وجوب واحد لا وجوبين.

الثاني : انه لو فرض تعدد الوجوب وانه سنخ خاص منه ينشأ عن مرتبة معينة من الإرادة ، فما هو الوجه في سقوطه عن أحدهما عند الإتيان بالآخر؟.

وبتعبير آخر نقول : انه بعد فرض تعدد الوجوب وتعلقه بكل من الفردين معينا ، فلو جاء المكلف بأحد الأمرين اما ان لا يسقط الوجوب المتعلق بالآخر أو يسقط؟ ، فان التزم بعدم سقوطه كان ذلك منافيا لما هو الثابت الّذي لا إشكال فيه من سقوط الوجوب وعدم بقائه عند الإتيان بأحد الأمرين. وان التزم بسقوطه كان ذلك التزاما بتقييد وجوب أحدهما بترك الآخر وعدمه ، وهو غير

ص: 484


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /140- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

خال عن المحذور كما سيأتي بيانه في الاحتمال التالي إن شاء اللّه تعالى.

فما ذكره صاحب الكفاية لا تمكننا المساعدة عليه ، ولو لا تصريحه بامتناع تعلق الوجوب التخييري بالفرد على البدل لاستظهرنا من كلامه إرادة ذلك بالمعنى الّذي سنوضحه فانتظر.

ثم ان ما ذكره في صورة وحدة الغرض المترتب على الأمرين من رجوع التكليف إلى الجامع ، لأنه هو المؤثر في الغرض لقاعدة ان الواحد لا يصدر إلاّ عن واحد.

لا يخلو من خدشة وان ذكره في غير هذا المقام (1) أيضا ، وذلك لأن هذه القاعدة تنطبق على الواحد الشخصي. اما الواحد النوعيّ فيمكن صدوره عن متعدد ، إذ لا برهان على امتناعه ، لاختصاص برهان الامتناع بالواحد الشخصي ، بل الوجدان على خلافه لأن صدور الواحد النوعيّ عن المتعدد لا شبهة فيه كالحرارة الصادرة عن الشمس وعن الكهرباء وعن الحركة ، ولا جامع حقيقي بين هذه الأمور كما لا يخفى.

وبالجملة : فكلام صاحب الكفاية بجهتيه لا يخلو عن مناقشة فتدبر.

الاحتمال الثاني : ان الوجوب التخييري في الحقيقة وجوب تعييني متعلق بكل من الفعلين ، لكنه مشروط بترك الآخر.

وأورد عليه المحقق النائيني بإيرادات أربعة - بعد ان بناه على تعدد الغرض ، ولكن بنحو لا يمكن الجمع بينهما ، إذ مع إمكان الجمع بينهما يتعين الأمر بكل منهما مطلقا. كما انه مع وحدة الغرض لا معنى لتعين أحدهما عند ترك الآخر ويؤمر به نفسه ، بل الأمر مطلقا لا بد ان يكون بنحو التخيير -.

الأول : ان فرض تعدد الغرض فرض لا غير كفرض أنياب الأغوال.

ص: 485


1- راجع ما أفاده في تصوير الجامع الصحيحي.

ولعله يقصد انه لا شاهد عليه من العرف ، فان موارد التخيير في العرف لا تنشأ عن تعدد الغرض ، بل الغرض فيها واحد ، فمن أي طريق يعلم تعدده ويبنى التخيير على فرض التعدد.

الثاني : ان الإطلاق ينفي اشتراط الوجوب على كل منهما بترك الآخر ، إذ التقييد خلاف الأصل.

الثالث : انه يبتني على صحة القول بالترتب لأنه التزام به. وهو مما لا يمكن فرضه على من يقول بامتناع الترتب ، مع ان الوجوب التخييري مما يلتزم به الجميع.

الرابع : ان المورد خارج عن مورد التزاحم بين الخطابين كي يرفع بالتقييد المدعى ، إذ التزاحم بين الملاكين في الملاكية ، فان ملاكية أحد الغرضين انما تفرض عند ترك الآخر ، بمعنى انه لا يمكن ان يكون كل منهما ملاكا للحكم ، بل أحدهما الغالب هو الملاك ، لأن الملاك المزاحم بملاك آخر لا يصلح للداعوية إلى التكليف ، فلا مناص من كون أحد الملاكين على البدل ملاكا فعليا ، فينتج خطابا واحدا بأحد الشيئين على البدل لا خطابين مشروطين (1).

أقول : لا يخفى ان الملتزم بهذا القول تارة يلتزم به من باب انحصار تصوير الوجوب التخييري بهذا النحو وعدم تعقل غيره ، فلا يرد عليه الإيراد الأول والثاني ، إذ نفس الدليل الإثباتي على التخيير كاف في تعين الالتزام به ، وأخرى يلتزم به من باب انه وجه من وجوه تصوير الواجب التخييري فللإيرادين مجال ، فانه لا شاهد عرفا عليه كي تحمل عليه الأدلة الشرعية ، بل يمكن ان يدعى ان غالبية وحدة الغرض قرينة عامة على عدم كونه بهذا النحو مع اندفاعه بالإطلاق. ولكنه انما ينفي بهذين الوجهين لو فرض تصور معنى عرفي

ص: 486


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 185 - الطبعة الأولى.

يمكن حمل الأدلة عليه ، اما لو لم يتصور إلا معنى بعيد أيضا عن فهم العرف فيتردد الوجوب التخييري بين الوجهين وتختلف الآثار العملية والعلمية على كلا القولين ، ولا يمكن الجزم بأحدهما.

اما الإيراد الثالث ، فلا يرد لما عرفت من انه لا تنافي بين الالتزام بالترتب من كلا الطرفين - كما هو الحال فيما نحن فيه - وبين إنكار الترتب من طرف واحد. وعليه فالالتزام بهذا الوجه لا يتنافى مع إنكار الترتب.

واما الإيراد الرابع ، فلو تم لجرى في مطلق موارد التزاحم ، لأن استيفاء أحدهما يمنع من استيفاء الآخر.

والحل في الجميع : انه لا فرق بين هذا المورد وسائر الموارد في تمامية الملاك والتزاحم بين استيفائي الملاكين لا بين الملاكين في الملاكية ، فيكون التزاحم بين الخطابين لكون المقصود بهما هو استيفاء الملاكين كما لا يخفى.

فالمتوجه من هذه الإيرادات هو الإيرادان الأولان بالمقدار الّذي ينفيان تعينه لا معقوليته.

ويرد عليه ثالثا ما أفاده المحقق الأصفهاني قدس سره : من ان الغرضين ان فرض كون استيفاء أحدهما سابقا يمنع من استيفاء الآخر ، فاللازم الأمر بالفعلين دفعة لتحصيل كلا الغرضين. وان فرض كون استيفاء أحدهما مطلقا يمنع من استيفاء الآخر ، فاللازم انه مع إيجاد كلا الفعلين لا يترتب كل من الغرضين ، فانه نظير اجتماع المقتضيين للضدين فانه لا يتحقق أحدهما كما لا يخفى ، وهذا مما لا يلتزم به أحد. وان فرض كون وجود كليهما موجبا لحصول غرض ثالث ، فاللازم فرض التخيير بين أطراف ثلاثة كل من الفعلين ومجموعهما وهو خلف الفرض (1).

ص: 487


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 254 - الطبعة الأولى.

ونقول : انه ليس خلف الفرض فقط بل غير معقول ، لأن الأطراف إذا كانت ثلاثة كان وجوب أحدهما مشروطا بترك كلا العدلين لا أحدهما ، إذ مع ترك أحدهما لا يتعين وجوب غيره ، بل يجوز الإتيان بكل من الآخرين.

وعليه ، ففيما نحن فيه يلزم ان يكون الأمر بكلا الفعلين مشروطا بتركهما - لأن كلا منهما عدل كليهما كما هو الفرض - ، وهو غير معقول ، بل الالتزام بثبوت التخيير بين الأقل والأكثر يكشف عن عدم كونه بهذا النحو ، لأنه لو كان بهذا النحو لم يكن التخييريين الأقل والأكثر معقولا ، إذ لا معنى لتقييد وجوب الأكثر بترك الأقل. كما لا يخفى.

ويرد عليه رابعا : ان تقييد وجوب أحدهما بترك الآخر يلزمه عدم وقوع كل منهما على صفة الوجوب لو جاء بهما معا ، لعدم تحقق شرطه وهما مما ثبت خلافه - وهذا الوجه يرد حتى لو فرض وحدة الغرض فهو لا يرتبط بعالم تعدد الغرض والتضاد بينهما -.

ويرد عليه خامسا : لزوم تعدد العقاب لو ترك كلا الأمرين لوجوب كل منهما في حقه.

ولا يرد عليه : انه لا مانع من الالتزام به إذ لم يثبت خلافه. إذ ثبوت خلافه في العرفيات مما لا إشكال فيه وهي شاهد على ما نحن فيه.

الاحتمال الثالث : تعلق الوجوب بكل منهما تعيينا مطلقا لكنه يسقط بفعل الآخر.

وقد ادعى المحقق النائيني : انه مما لا يصح ان يتفوه به أحد ، ولذلك حمله على الوجه السابق. والوجه في ذلك : ان سقوط الوجوب انما يكون باعتبار عدم إمكان استيفاء الغرض الثابت في متعلقه ، وهذا انما يتصور في مورد تزاحم الغرضين بحيث يكون كل منهما مع وجوده مانعا من وجود الآخر ، وإذا كان كذلك رجع إلى الوجه السابق ، إذ مع وجود أحدهما لا معنى للأمر بالآخر لعدم إمكان

ص: 488

استيفاء غرضه ، فيتقيد الأمر بكل منهما بترك الآخر ، وقد عرفت الإشكال فيه (1).

ولا يمكن حمله على صورة وحدة الغرض لما ذكرناه من عدم الوجه حينئذ في وجوب كل منهما تعيينا لعدم ملاك التعيينية فيه.

الاحتمال الرابع : وجوب المعين عند اللّه تعالى شأنه وهو ما يختاره المكلف في علمه عزّ وجل.

وفيه :

أولا : ان الوجوب التخييري في العرفيات لا يمكن حمله على ذلك ، لعدم كون المولى العرفي ممن يعلم الغيب كي يتعلق امره بما يختاره المأمور في علمه.

وثانيا : انه إذا فرض تساوي الفعلين في الوفاء بالغرض ، فلا وجه للأمر التعييني بأحدهما المعين ، فانه لغو لا يصدر من عاقل إلاّ إذا انحصر تصور التخيير ومعقوليته بذلك.

وثالثا : انه يلزم اختلاف المكلفين في الواجب لاختلافهم في الاختيار ، فيتعدد الواجب بتعدد الأطراف ، وهو مما يعلم خلافه ، إذ من المعلوم كون الواجب في حق جميع المكلفين واحدا لا يختلف.

الاحتمال الخامس : ان يكون الواجب أحدهما. وهو مذهبان :

أحدهما : ان يراد منه مفهوم أحدهما وعنوانه المنطبق على كل من الأمرين في نفسه ، فان كلا منهما يصدق عليه انه أحد الأمرين ، نظير مفهوم : « من يسكن الدار » المنطبق على كل من زيد وعمرو بخصوصه إذا كانا يسكنانها.

ثانيهما : ان يراد منه واقع أحدهما وهو الصوم والعتق - مثلا -. وهو تارة يقصد به أحدهما المعين كالصوم بعينه وأخرى يقصد به أحدهما غير المعين كالصوم أو العتق ، المعبر عنه بالفرد على سبيل البدل ، فالتقسيم إلى المعين وغير

ص: 489


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 182 - الطبعة الأولى.

المعين انما هو بلحاظ واقع أحدهما لا مفهومه ، فان مفهوم أحدهما لا ينقسم إلى بعينه وإلى لا بعينه فانه معين دائما. ومحل الكلام في أحدهما مصداقا هو أحدهما لا بعينه فلدينا احتمالان :

الأول : كون الواجب مفهوم أحدهما.

الثاني : كون الواجب واقع أحدهما غير المعين.

ولا يخفى ان أحد الافراد لا بعينه تارة يقصد به عدم دخل الخصوصية الشخصية ، فيساوق الإطلاق. وأخرى يراد به الفرد المردد وإحدى الخصوصيّتين من دون تعيين والمقصود به : « لا بعينه » هنا هو المعنى الثاني فانتبه.

اما احتمال وجوب أحدهما مفهوما ، فهو تارة يلتجئ إليه بعد إبطال جميع احتمالات الوجوب التخييري بحيث ينحصر الاحتمال المعقول فيه ، فلا محيص عن الالتزام به وان كان خلاف الظاهر. وأخرى يلتزم به كوجه مستقل في قبال غيره ، فلا إشكال في بطلانه ، إذ متعلق الأمر ما يكون مورد الأثر والغرض ومن الواضح ان الغرض لا يترتب على مفهوم أحدهما ، بل انما يترتب على كل من الأمرين بواقعه.

واما احتمال وجوب أحدهما لا بعينه - مصداقا - ، فقد التزم به المحقق النائيني قدس سره وأطال الكلام في بيانه بما لا أثر له في تحقيق الدعوى. ومحصل ما جاء من كلامه هو بيان عدم المانع من تعلق الإرادة التشريعية بأحدهما لا بعينه ، والمقتضي موجود لترتب الغرض على كل منهما وتعيين أحدهما ترجيح بلا مرجح ، وبيان انحصار المانع في تعلق الإرادة التكوينية بالمردد (1).

وهذا غريب من مثل المحقق المزبور ، فان اللازم عليه كان بيان ما يحتمل ان يكون محذورا ودفعه لا مجرد دعوى عدم وجود المانع لا أكثر من دون بيان

ص: 490


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 183 - الطبعة الأولى.

وجه ذلك فان ذلك لا يتناسب مع علمية البحث.

ثم انه قدس سره أنكر دعوى تعلق الوجوب بأحدهما مفهوما بدعوى انه لا حاجة إلى توسيط الجامع بعد إمكان تعلق الحكم بالواقع رأسا. ومن الغريب ما جاء في التعليقة للسيد الخوئي من تقرير تعلق الحكم بأحدهما لا بعينه واختياره ، ثم إرجاعه بعد ذلك إلى القول بكون المطلوب مفهوم أحدهما ، مع ما عرفت من تبيانهما وإنكار المحقق النائيني للثاني (1). فالتفت ولا تغفل.

وعلى كل حال فعلينا ان نذكر ما قيل في وجه امتناع تعلق التكليف بالفرد المردد أو الفرد على البدل. وهو وجوه :

الأول : ما يذكره الشيخ الأعظم في مسألة بيع الصاع من صبرة - حيث وقع الإشكال في متعلق البيع والتمليك ، فادعى انه الصاع المردد - من : ان الفرد المردد لا وجود له في الخارج فيمتنع تعلق الملكية به. وأجاب عنه الشيخ : بان ذلك يتنافى مع تعلق الصفات الواقعية به دون الأمور الاعتبارية كالملكية ونحوها ، لأن الاعتبار خفيف المئونة (2).

الثاني : ما ذكره في الكفاية في حاشية له في المقام من : ان الصفات الاعتبارية وان تعلقت بالفرد المردد ، بل وكذا الصفات الحقيقية كالعلم الإجمالي المتعلق بنجاسة أحد الإناءين ، إلاّ ان في البعث خصوصية تمنع من تعلقه بالفرد المردد ، فان البعث انما هو لإيجاد الداعي وتحريك المكلف نحو إتيان العمل المتعلق للأمر اختيارا وعن إرادة. ومن الواضح ان الإرادة لا تتعلق بالفرد على البدل ، إذ لا وجود له ولا واقع ، وهي انما تتعلق بالخارجيات فلا يكون التكليف المتعلق بالفرد المردد قابلا للتحريك فيكون ممتنعا (3).

ص: 491


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 183 [ هامش رقم (1) ] - الطبعة الأولى.
2- الأنصاري المحقق الشيخ مرتضى. المكاسب /195- الطبعة الأولى.
3- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /141- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الثالث : ما ذكره المحقق الأصفهاني قدس سره : من ان العرض حقيقيا كان أو اعتباريا لا بد وان يتقوم بمحل ، ومن الواضح ان الفرد على البدل والمردد لا واقع له أصلا لا خارجا ولا مفهوما ، فان كل ما يوجد في الذهن أو في الخارج معين لا تردد فيه ، فان الوجود مساوق للتشخص والتعين ويتنافى مع التردد - وعلى حد بيان صاحب الكفاية : ان كل موجود هو هو لا هو أو غيره (1) - ، وإذا لم يكن للمردد واقع امتنع ان يكون معروضا لغرض اعتباري أو حقيقي كما لا يخفى جدا (2).

الرابع : ما ذكره المحقق الأصفهاني أيضا : من ان الصفات التعلقية كالعلم والتصور والبعث قوامها بمتعلقها ، بمعنى ان وجودها بوجود متعلقها وليس لها وجود وواقع منحاز عن واقع متعلقها ، فوجود التصور عين وجود المتصور بما هو كذلك.

وعليه ، فتعلق البعث بالفرد المردد يلزم منه اما انقلاب المعين - وهو البعث - إلى المردد. أو انقلاب المردد - وهو المتعلق - إلى المعين لأن وجودهما واحد ، وكلا الأمرين خلف محال (3).

هذا محصل الإيرادات على تعلق التكليف بالفرد المردد وهي في الحقيقة ثلاثة ، إذ الأول يرجع إلى الثالث كما لا يخفى.

وشيء منها لا ينهض مانعا عن تعلق التكليف بالفرد المردد ، ولأجل ذلك يمكننا ان ندعي ان متعلق الوجوب التخييري هو أحد الأمرين على سبيل

ص: 492


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /246- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 255 و 3 / 284 في هوامشه على الجزء الأول - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 255 و 3 / 284 في هوامشه على الجزء الأول - الطبعة الأولى.

البدل في الوقت الّذي لا ننكر فيه ان الفرد المردد لا واقع له ، وان كل موجود في الخارج معين لا مردد.

وبتعبير آخر نقول : ان المدعى كون متعلق الحكم مفهوم الفرد على البدل ، أو فقل هذا أو ذاك ، بمعنى ان كلا من الأمرين يكون مورد الحكم الواحد ، لكن بنحو البدل في قبال أحدهما المعين ، وكلاهما معا بنحو المجموع.

ووضوح ذلك يتوقف على ذكر مقدمتين :

الأولى : ان مفهوم الفرد على البدل أو الفرد المردد الّذي يعبر عنه بالتعبير العرفي ب- : « هذا أو ذاك » من المفاهيم المتعينة في أنفسها ، فان المردد مردد بالحمل الأولي لكنه معين بالحمل الشائع ، نظير مفهوم الجزئي الّذي هو جزئي بالحمل الأولي كلي بالحمل الشائع فالفرد على البدل مفهوم متعين ، ولذا نستطيع التعبير عنه والحكم عليه وتصوره في الذهن كمفهوم من المفاهيم فهو على هذا قابل لتعلق الصفات الحقيقية والاعتبارية به كغيره من المفاهيم المتعينة.

الثانية : ان الصفات النفسيّة كالعلم ونحوه لا تتعلق بالخارجيات ، بل لا بد وان يكون معروضها في أفق النّفس دون الخارج ، وإلاّ لزم انقلاب الخارج ذهنا أو الذهن خارجا وهو خلف فمتعلق العلم ونحوه ليس إلاّ المفاهيم الذهنية لا الوجودات الخارجية.

وإذا تمت هاتان المقدمتان تعرف صحة ما ندعيه من كون متعلق العلم الإجمالي في مورده والملكية في صورة بيع الصاع من صبرة والبعث في الواجب التخييري هو الفرد على البدل ومفهوم هذا أو ذاك. فانه مفهوم متعين في نفسه كسائر المفاهيم المتعينة ولا يلزم منه انقلاب المعين مرددا ، إذ المتعلق له تعين وتقرر ، كما لا يلزم كون الصفة بلا مقوم ، إذ المفهوم المذكور له واقع.

يبقى شيء ، وهو : ان الصفات المذكورة وان تعلقت بالمفاهيم ، لكنها مرتبطة بالواقع الخارجي بنحو ارتباط ومأخوذة مرآة للواقع ، والمفروض انه لا

ص: 493

واقع لمفهوم الفرد المردد فكيف يتعلق به العلم؟!. وحلّ هذا الإشكال سهل ، فان ارتباط المفهوم المعلوم بالذات بالواقع الخارجي ليس ارتباطا حقيقيا واقعيا ، ويشهد له انه قد لا يكون العلم مطابقا للواقع ، فكيف يتحقق الربط بين المفهوم والخارج؟ ، إذ لا وجود له كي يكون طرف الربط ، ولأجل ذلك يعبر عن الخارج بالمعلوم بالعرض. اذن فارتباطه بنحو ارتباط لا يستدعي ان يكون له وجود خارجي كي يشكل على ذلك بعدم الواقع الخارجي لمفهوم الفرد المردد.

ومما يؤيد ما ذكرناه من إمكان طروّ الصفات على الفرد المردد : مورد الإخبار بأحد الأمرين ، كمجيء زيد أو مجيء عمرو ، فانه من الواضح انه خبر واحد عن المردد ، ولذا لو لم يأت كل منهما لا يقال انه كذب كذبتين ، مع انه لو رجع إلى الإخبار التعليقي لزم ذلك ولا تخريج لصحة الإخبار إلاّ بذلك.

يبقى إشكال صاحب الكفاية وهو : ان التكليف لتحريك الإرادة ، والإرادة ترتبط بالخارج ارتباطا تكوينيا ، فيمتنع التكليف بالمردد ، إذ لا واقع له كي يكون متعلق الإرادة (1).

والجواب عنه : أنّه لا ملزم لأن نقول بان التكليف لأجل التحريك والبعث والدعوة نحو متعلقه بجميع خصوصياته وقيوده ، بل غاية ما هو ثابت ان التكليف لأجل التحريك نحو ما لا يتحرك العبد نحوه من دون التكليف المزبور بحيث تكون جهة التحريك وسببه هو التكليف المعين وان اختلف عن متعلقه بالخصوصيات.

ومن الواضح ان تعلق التكليف بالفرد المردد يستلزم الحركة نحو كل من الفعلين على سبيل البدل ، فيأتي العبد بأحدهما منبعثا عن التكليف المزبور ، وهذا يكفي في صحة التكليف وكونه عملا صادرا من حكيم عاقل.

ص: 494


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول / 141 [ هامش رقم (1)] - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

ونتيجة ما تقدم : انه لا مانع من تعلق التكليف بالفرد على البدل وبأحدهما لا بعينه ، بمعنى كون كل منهما

متعلقا للتكليف الواحد ، ولكن على البدل لا أحدهما المردد ولا كلاهما معا. وبذلك يتعين الالتزام به فيما نحن فيه لفرض ثبوت الغرض في كل من الفعلين على حد سواء ومن دون مرجح ، فلا بد من كون الواجب في كل منهما بنحو البدلية والتردد.

وهذا المعنى لا محيص عنه في كثير من الموارد ولا وجه للالتزام ببعض الوجوه في العلم الإجمالي ، كدعوى ان المتعلق هو الجامع والترديد في الخصوصيات. وفي مسألة بيع صاع من صبرة ، كدعوى ان المبيع هو الكلي في الذّمّة ولكن مع بعض القيود ، أو دعوى أخرى لا ترجع إلى محصل. وتحقيق الكلام في كل منهما موكول إلى محله.

فالمختار على هذا في الواجب التخييري كون الواجب أحدهما لا بعينه ، كما التزم به المحقق النائيني ، وان خالفناه في طريقة إثباته.

تتمة في التخيير بين الأقل والأكثر وتصحيحه :

قد ورد في الشريعة التخيير بين الأقل والأكثر ، كالتخيير في التسبيح الواجب في الركعتين الأخيرتين بين التسبيحة الواحدة والثلاث - على قول -.

وهو بظاهره مورد الإشكال ، إذ لقائل ان يقول : ان الغرض ان كان يحصل بالأقل فلا مجال للامتثال بالأكثر أصلا ، إذ الغرض إذا كان يحصل بالأقل فيسقط الأمر بمجرد الإتيان به. وان كان لا يحصل بالأقل ، فلا وجه لجعله طرف التخيير والاكتفاء به في مقام الامتثال.

وقد تصدى صاحب الكفاية لدفع هذا الإشكال وتصحيح التخيير بين الأقل والأكثر ببيان : انه يمكن ان يكون المحصل للغرض عند وجود الأكثر هو الأكثر دون الأقل الّذي في ضمنه وبعبارة أخرى : يكون الأقل محصلا للغرض

ص: 495

إذا وجد بحده ولا يكون محصلا للغرض إذا وجد في ضمن الأكثر ، بل المحصل حينئذ للغرض هو الأكثر ، وإذا كان الأمر كذلك تعين التخيير بين الأقل والأكثر ، لأن كلا منهما محصل للغرض ولا مرجح يقتضي تعيين أحدهما دون الآخر.

وقد يشكل : بان هذا انما يتم في المورد الّذي لا يكون للأقل وجود مستقل لو وجد الأكثر نظير الخطّ الطويل والخطّ القصير ، فانه لا وجود للقصير مستقل عند وجود الخطّ الطويل. اما لو كان للأقل وجود مستقل مع وجود الأكثر نظير التسبيحة الواحدة والتسبيحات الثلاث فلا يتم ما ذكر ، إذ الأقل موجود بحده دائما فيتحقق به الغرض فلا تصل النوبة إلى الأكثر أبدا.

وأجاب عنه في الكفاية : بأنه يمكن ان يكون ترتب الغرض على الأقل بشرط عدم الانضمام ، ومع الانضمام يكون الغرض مترتبا على الأكثر ، فيكون الأقل مأخوذا بشرط لا. فيصح التخيير حينئذ. هذا محصل ما جاء في الكفاية (1). وبه يصحح التخيير بين الأقل والأكثر ، وان كانت النتيجة إرجاعه إلى التخيير بين المتباينين ، لإرجاعه إلى التخيير بين المأخوذ بشرط لا والمأخوذ بشرط شيء ، فهو تصحيح للتخيير بين الأقل والأكثر بتخريجه على التخيير بين المتباينين لا التزام بالتخيير بين الأقل والأكثر.

وللمحقق الأصفهاني هاهنا كلام طويل في مقام الفرق بين مثالي الكفاية ، والإيراد عليه أخيرا ، ولكن لا يهمنا التعرض إليه إذ لا جدوى فيه (2).

ص: 496


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /142- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 255 - الطبعة الأولى.

فصل : الوجوب الكفائي

قد يظهر من الكفاية ان البحث فيه على حدّ البحث في الوجوب التخييري ، إلا ان موضوع البحث هناك كان متعلق الحكم ، وهاهنا موضوع الحكم وهو المكلف (1).

ولكن سيظهر إن شاء اللّه تعالى الاختلاف بينهما من بعض الجهات.

وتحقيق الكلام فيه : انه بناء على كون التكليف عبارة عن إرادة الفعل وإبرازها ، يمكن ان يدعى عدم تعلق الوجوب الكفائي بمكلف أصلا - كي يبحث عن حقيقته - بدعوى إمكان عدم تعلق التكليف بمكلف على هذا المبنى ، إذ يمكن ان تتعلق الإرادة بالعمل من دون ان تتوجه النّفس إلى الشخص المراد منه العمل ، وانما يلزم على العبد تحصيل مراد المولى بحكم العقل لإبراز المولى إرادته بالإنشاء.

اما لو لم يلتزم بذلك ، بل التزم بان التكليف عبارة عن البعث ، وهو كما يتقوم بالمبعوث إليه يتقوم بالمبعوث ، أو انه إرادة فعل للغير ، أو انه اشتغال ذمة

ص: 497


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /143- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

الغير بالعمل ، فالتكليف لا بد فيه من مكلف ، فيقع البحث في تحقيق المراد منه في الوجوب الكفائي.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى أنه سنخ وجوب يتعلق بكل مكلف ، وهو يعرف بآثاره ولوازمه من عقاب الكل لو أخلّوا بامتثاله جميعا وسقوطه بامتثال البعض (1).

وقد تقدم الإشكال فيه فلا نعيد.

وهناك احتمالات أخرى تعرض إليها المحقق الأصفهاني (2) - بعد ان أبان عن لزوم وجود موضوع للتكليف ونفي دعوى عدم ضرورة ذلك التي قد عرفتها - نذكرها وغيرها ، وهي : ان يكون الموضوع والمكلف هو الواحد المعين. أو المردد.

أو صرف الوجود. أو المجموع. أو الجميع. أو كل واحد واحد مشروطا بترك الآخر.

اما كون المكلف هو الواحد المعين فهو خلف الفرض في المقام.

واما كونه الواحد المردد ، فقد نفاه المحقق الأصفهاني بما تقدم من الإيرادين على تقوم التكليف بالمردد (3). وقد عرفت اندفاعهما وانه لا محذور في تقوم التكليف بالمردد.

واما كونه صرف الوجود ، فهو يطلق في اصطلاح الأصوليين على أول الوجود المعبر عنه بناقض العدم الكلي ، كما يطلق على الوجود المبهم من حيث الخصوصيات ، كما انه يطلق أيضا على اللابشرط القسمي المساوق للإطلاق

ص: 498


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /143- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 284 في هوامشه على الجزء الأول - الطبعة الأولى.
3- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 284 في هوامشه على الجزء الأول - الطبعة الأولى.

الملازم للانطباق على كل فرد فرد. اما اصطلاح الفلسفة ، فالمراد به ما لا تكون فيه جهة عدم فلا ينطبق إلا على الواجب جلّ اسمه.

فان أريد منه المعنى الأول - أعني أول الوجود - فلا معنى له ، إذ مقتضاه كون المكلف هو أول وجود المكلفين ، وهو أسهم - على حد تعبير الأصفهانيّ (1) - ، وإرادة أول من قام بالعمل غير صحيحة ، إذ موضوع التكليف لا بد وان يؤخذ مفروض الثبوت فيلزم ان يكون الفعل مفروض الثبوت وهو يتنافى مع طلب تحصيله.

ومن العجيب التزام المحقق النائيني بان المكلف هو صرف الوجود بهذا المعنى (2). وتقرير السيد الخوئي له (3) مع ما عرفت ما فيه.

وقد ناقش المحقق الأصفهاني في إطلاق صرف الوجود على أول وجود ونفي صحة هذا الإطلاق ولا يهمنا التعرض إليه (4).

وان أريد منه المعنى الثاني - أعني الوجود المبهم - فهو محال ، إذ لا إهمال في مقام الثبوت والواقع ، فانه ممتنع كما أشير إليه مكررا.

وان أريد به المعنى الثالث - أعني اللابشرط القسمي - ، فمرجعه إلى تعلق الحكم بكل فرد فرد ، وهو راجع إلى الجميع وسيأتي البحث فيه. ومنه يظهر انه يمتنع تعلق التكليف بالجامع الانتزاعي بين المكلفين كعنوان أحدهم لأن المراد به ان كان صرف الوجود فقد عرفت ما فيه وان كان مطلق الوجودات سيأتي ما فيه.

واما كونه مجموع المكلفين :

ص: 499


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 285 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 187 - الطبعة الأولى.
3- الفياض محمد إسحاق. محاضرات في أصول الفقه2/ 203 - الطبعة الأولى.
4- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 285 - الطبعة الأولى.

فأورد عليه المحقق الأصفهاني بإيرادين :

أحدهما : ان تعلق التكليف الواحد بمجموع أشخاص غير معقول ، لأنه لجعل الداعي وانقداح الداعي في نفس كل فرد فرد مع وحدة البعث غير معقول. بل لا بد من تعدد البعث. وليس المجموع شخصا واحدا كي ينقدح الداعي في نفسه.

ودعوى : حصول ذلك خارجا كأمر مجموع اشخاص برفع حجر لا يرفعه إلاّ المجموع.

مندفعة : بان مرجع ذلك إلى أمر كل واحد باعمال قدرته في رفع الحجر لو انضم إليه الآخر ، إذ أثر قدرته لا يظهر إلا مع الانضمام.

ثانيهما : ان لازمه عدم حصول امتثال الواجب الكفائي بفعل البعض ، بل لا بد من الإتيان به من قبل جميع المكلفين. وهو خلف الفرض في الواجب الكفائي (1).

واما كونه كل واحد مشروطا بترك الآخر. فيدفعه : ان لازمه عدم امتثال أحدهم لو جاءوا به دفعة واحدة لعدم تحقق شرط الوجوب بالنسبة إلى كل منهم وهو ترك الآخر بلا فرق بين الأفعال القابلة للتعدد كالصلاة على الميت أو غير القابلة كالتكفين والدفن. وهو مما لا يلتزم به أحد ، بل يعد الجميع ممتثلين.

واما كونه جميع المكلفين ، فقد ذهب إليه المحقق الأصفهاني (2).

ويرد عليه : أولا : - ما ذكره قدس سره - من ان لازمه عدم حصول الامتثال لو اشترك جماعة في الفعل كدفن الميت ، إذ لم يتحقق من كل منهم المأمور به ، وهو دفن الميت ولا امر بغيره ، مع ان الملتزم به تحقق الامتثال من كل

ص: 500


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 285 - الطبعة الأولى.
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 285 في هوامشه على الجزء الأول - الطبعة الأولى.

منهم.

وثانيا : ان هذا التكليف المنبعث عن غرض واحد لا بد ان لا يكون ذا غرض عند إتيان الفعل من قبل أحد المكلفين ، ولذلك يسقط التكليف به.

وعليه ، فلا بد من تقييده بصورة عدم إتيان الغير بالفعل ، فيرجع إلى القول بالاشتراط وقد عرفت ما فيه.

فالمتعين علينا الالتزام بكون المكلف هو الفرد المردد ، بمعنى ان الوجوب تعلق بكل منهم على سبيل البدل.

ومن مجموع ما ذكرناه يظهر لنا : اختلاف الوجوب الكفائي والوجوب التخييري في موارد :

الأول : تأتي احتمال تعلق الوجوب التخييري بالجامع الانتزاعي وإرادة صرف الوجود منه ، فانه لا مانع من إرادة أول وجود الطبيعة كما هو الحال في كثير من متعلقات الأوامر. وعدم تأتي احتمال تعلق الوجوب الكفائي بصرف وجود المكلفين فانه مما لا معنى له.

الثاني : الإشكال على الالتزام بان الوجوب بنحو الوجوب المشروط من جهة واحدة في الواجب الكفائي. ومن جهتين في الوجوب التخييري.

الثالث : إمكان دعوى إنكار احتياج التكليف إلى موضوع ومكلف - على بعض المباني -. وعدم إمكان هذه الدعوى بالنسبة إلى احتياجه إلى متعلق وهو الفعل فلاحظ وتدبر.

تذييل : قد عرفت ان المحقق النائيني قدس سره التزم بتعلق الوجوب الكفائي بصرف وجود المكلف ، لكنه استثنى من ذلك صورة ما إذا كانت هناك ملاكات متعددة ولم يمكن استيفائها جميعا ، بل كان استيفاء أحدها مانعا من استيفاء الباقي. ففي مثل هذه الصورة لا مانع من تعلق التكليف بكل منهم مشروطا بعدم تحقق الفعل من الآخر ، كما لو فرض ان شخصين فاقدين للماء

ص: 501

وجدا ماء يكفي لأحدهما فقط ، فان الأمر بحيازة الماء يتوجه إلى كل منهما مشروطا بعدم حيازة الآخر.

وبعد ان ذكر ذلك تعرض الذّكر فرع وهو : ما إذا كان واجدا الماء في الفرض متيممين ، فهل يبطل تيمم كل منهما ، أو لا يبطل تيممهما ، أو يبطل تيمم أحدهما على البدل؟. اختار بطلان تيممهما معا مع كون وجوب الحيازة مشروطا بترك الآخر. ببيان : ان لدينا أمورا ثلاثة ، الأمر بالوضوء ، والأمر بالحيازة ، والقدرة على الحيازة. لا إشكال في ان الأمر بالوضوء مترتب على الحيازة الخارجية. واما الأمر بالحيازة فقد عرفت انه مشروط بعدم سبق الآخر. واما القدرة على الحيازة فهي فعلية بالنسبة إلى كلا الشخصين ، إذ كل منهما يتمكن في نفسه من حيازة ماء ، وبما ان بطلان التيمم مرتب على القدرة. فهو يتحقق بالنسبة إلى كل منهما. فيبطل تيمم كل منهما (1).

وأورد عليه السيد الخوئي في الحاشية : بان موضوع بطلان التيمم كما انه وجدان الماء كذلك موضوع الأمر بالوضوء ، فإذا فرض تحقق الموضوع للبطلان فقد تحقق موضوع الأمر بالوضوء. فهناك ملازمة بين بطلان التيمم والأمر بالوضوء ، لأن موضوع التيمم عدم الوجدان وموضوع الوضوء هو الوجدان. كما انه التزم ببطلان تيمم السابق منهما في صورة سبق أحدهما إلى الحيازة دون الآخر لكشفه عن عدم قدرة الآخر على الوضوء فلا يبطل تيممه (2).

وتحقيق الحال ان يقال : ان الأمر بالتيمم لما كان موضوعه عدم وجدان الماء ، فبمجرد القدرة على استعمال الماء يرتفع موضوعه فينتقض التيمم ، والقدرة على استعمال الماء بالنسبة إلى كل منهم موجودة ، إذ يتمكن كل منهم من السبق إليه واستعماله ، فيرتفع تيمم كل منهم. اما الأمر بالوضوء فموضوعه وان كان

ص: 502


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 189 - الطبعة الأولى.
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات2. 189 - الطبعة الأولى.

وجدان الماء إلا انه حيث كان مرجعه إلى إلزام كل منهم بصرف الماء وإعمال قدرته في استعمال الماء ، والمفروض ان الجميع لا يتمكنون من صرف قدرتهم دفعة واحدة وفي عرض واحد في ذلك ، كان أمر الكل في عرض واحد محالا لوقوع التزاحم في مقام الامتثال ، فلا محالة من توجه التكليف بالوضوء إلى كل منهم عند ترك الآخرين استعمال الماء. فلا منافاة بين بطلان تيمم الجميع في عرض واحد وتعلق الأمر بكل منهم مشروطا بترك الآخر ، وان كان موضوعهما واحدا وهو وجدان الماء.

واما ما ذكره المحقق النائيني من حديث الأمر بالحيازة ، فلا نعلم ارتباطه بما نحن فيه ، فان الحيازة ليست شرطا من شروط الوضوء ، بل هي مقدمة من مقدماته الوجودية فتكون واجبة بالوجوب الغيري لتحصيل الوضوء.

فنحن في المدعى نتفق مع المحقق النائيني ، لكن نختلف عنه في طريقة الإثبات. واما ما ذكره السيد الخوئي من الملازمة بين بطلان التيمم والأمر بالوضوء لوحدة موضوعهما. فلا وجه له ، إذ قد عرفت ان هذا مسلم إلا أن في الوضوء خصوصية تقضي بعدم الأمر به إلا بنحو الاشتراط.

واما ما ذكره من عدم بطلان تيمم غير السابق في صورة السبق لكشفه عن عدم قدرته. ففيه ما لا يخفى ، فان الفرض ما إذا كان كل منهما قادرا على الحيازة من أول الأمر ولم يقدم عليها ، فسبق أحدهما انما يرفع القدرة بقاء لا حدوثا. نعم لو لم يكن مجال أصلا للحيازة قبل السابق كان السبق مانعا من تحقق القدرة ، لكنه خلاف الفرض.

وقد يستشكل على المحقق النائيني في حكمه ببطلان التيمم بأنه قدس سره التزم في مسألة ما لو أباح شخص لجماعة مالا يكفي لحج واحد منهم فقط ، بأنه لا يجب على كل منهم الحج مع ان الاستطاعة تصدق في حقهم جميعا كصدق وجدان الماء في حق المتيممين جميعا ولزوم الوضوء على كل منهم مشروطا بترك

ص: 503

الآخرين.

والحل : ان نظره قدس سره إلى ان إباحة المال بالنحو المذكور لا تكون محققة لاستطاعة كل منهم فعلا ، وذلك لأن الإباحة كانت لواحد منهم بنحو الجامع ، وهو لا يحقق استطاعة كل منهم التي هي موضوع الوجوب ، بل لا يستطيع أحدهم الا بعد الاستيلاء على المال وتطبيق الجامع على نفسه ، وبما ان ذلك يعد تحصيلا للاستطاعة لم يجب لعدم وجوب تحصيل ما هو شرط الوجوب ، وبعبارة أخرى : الفرق بين مسألة التيمم ومسألة الحج : ان المراد من القدرة في باب التيمم مطلق التمكن. والمراد بها في باب الحج هو الاستيلاء على الزّاد والرّاحلة أو ملكيتهما ، وكلاهما لا يحصل بإباحة المال لواحد من الجماعة ما لم يستول عليه فعلا ويطبق الجامع عليه.

ولكن قد ذكرنا في باب الحج : ان وجوب الحج يتحقق بإباحة المال للجميع ، ويكون واجبا على كل منهم ، فإذا استولى عليه أحدهم ارتفع الوجوب عن الآخرين ، نظير وجوب الوضوء في هذا الفرع ، وقد أوضحنا نكتة المناقشة هناك فراجع.

ص: 504

فصل : الموسع والمضيق

المراد من الواجب الموسع : ما أخذ فيه الوقت بمقدار أوسع من الزمان الّذي يستدعيه الفعل. كصلاة الظهر ونحوها.

والمراد من الواجب المضيق : ما أخذ فيه الوقت بمقدار الزمان الّذي يستدعيه الفعل كالصوم المقيد بما بين طلوع الفجر وغروب الشمس.

وقد استشكل في صحة كلا النحوين :

اما الإشكال في صحة المضيق ، فبان الانبعاث لا بد من تأخره عن البعث آناً ما ، لأن الإرادة تتوقف على حصول مقدماتها من تصور الفعل والجزم بالمصلحة العائدة ونحو ذلك ، وهذا يستلزم زيادة زمان الوجوب على زمان الواجب.

وعليه ، فلو فرض تحقق الوجوب قبل زمان الواجب ، مع أنه مشروط به ، استلزم ذلك تقدم المشروط على شرطه وهو محال ، لأنه من تقدم المعلول على علته. وان فرض تحقق الوجوب في أول زمان الواجب تأخر الانبعاث عنه آناً ما وهو خلف الفرض لاستلزامه خلوّ بعض الزمان عن الواجب فيه. فعليه لا بد من الالتزام بتقدم الوجوب على وقت الواجب ، مع عدم اشتراطه به ، كي يكون

ص: 505

الانبعاث في أول وقت الواجب ولا يلزم تقدم المعلول على علته وهذا ملازم لنفي المضيق.

وأجاب عنه المحقق النائيني قدس سره : بان تقدم البعث على الانبعاث وان كان بديهيا ، لكنه تقدم رتبي لا زماني ، لأنه لا يزيد على تقدم العلل التكوينية على معلولاتها ، وهو تقدم رتبي لا زماني فلا مانع من كون زمان البعث والانبعاث واحدا (1).

أقول : هذا الجواب وان كان صحيحا لكنه مما لا تصل النوبة إليه.

وذلك لأن أساس الإشكال في صحة الواجب المضيق هو فرض شرطية الوجوب بزمان الواجب ، وهذا لا نعرف له وجها ظاهرا. فان المفروض في المضيق كون الزمان بمقدار الواجب. اما ان الوجوب في ذلك الحال كي يكون تمديد الوقت وجعل وقت الوجوب قبل الوقت المفروض خلف التضييق فهذا مما لا يلتزم به القائل بالمضيق ، وليس في تحديد المضيق إشعار به ، فيمكن ان يفرض تقدم زمان الوجوب على زمان الواجب في مطلق الواجبات - كما عليه صاحب الكفاية (2) - ، وهو لا ينافي التضييق كما لا يخفى. وما ذكرناه هو الأساس في حل الإشكال لا ما أفاده المحقق النائيني فانه جواب مبنائي.

واما الإشكال في صحة الموسع ، فبان الواجب في الآن الأول اما ان يجوز تركه إلى غير بدل ، فهو يتنافى مع وجوب الواجب ، إذ لازمه كونه غير لازما.

واما ان لا يجوز تركه إلى غير بدل ، فمعناه كون سائر الأبدال وهي الأفعال في الآنات الأخرى أعدال تخييرية ، فيكون وجوبه تخييريا وهو خلف الفرض.

ص: 506


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 190 - الطبعة الأولى.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /103- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

والجواب عنه - كما في حاشية الأصفهاني (1) بتوضيح منا - : ان الواجب هو طبيعي الفعل في طبيعي الوقت ، فان للوقت حركتين توسطية وهي حركة من المبدأ إلى المنتهى ، وقطعية وهي كل آن آن ، فالمتوهم توهم ان الواجب هو الفعل الملحوظ مع الحركة القطعية ، بمعنى ان الفعل في كل آن ، فيرد الإشكال المذكور حينئذ. ولكن الأمر ليس كذلك ، بل الواجب هو الفعل المقيد بطبيعي الوقت بنحو الحركة التوسطية ، فيكون وجوب الفعل في كل آن وجوبا عقليا تخييريا لتطبيق طبيعي الفعل المقيد بطبيعي الوقت على كل فرد فرد عقلا ، والتخيير العقلي ليس خلف الفرض ، فانه لا يتنافى مع كون الوجوب الشرعي تعيينيا.

وبعد ذلك يقع الكلام في جهات :

الجهة الأولى : في دلالة الدليل الدال على الواجب الموقّت - موسعا كان أو مضيقا - على وجوب الفعل خارج الوقت.

والتحقيق : عدم دلالة الدليل عليه - كما عليه صاحب الكفاية (2) - ، إذ لا وجه للدلالة لو لم يلتزم بالدلالة على عدم الوجوب عملا بمفهوم الغاية ، فان المدعى في التوقيت بغاية دلالته على نفي الحكم بعد حصول الغاية ، وغاية ما يذكر هناك هو إنكار هذه الدلالة ودعوى سكوت الدليل عما بعد الغاية. اما دلالته على ثبوت الحكم بعد الغاية فلا يدعيه أحد.

وقد ادعى الفرق بين كون التقييد بالوقت بدليل متصل وكونه بدليل منفصل. فلا دلالة في الأول واما في الصورة الثانية فيدل الدليل على ثبوت الحكم بعد الوقت لظهور التقييد المنفصل في كون التقييد بنحو تعدد المطلوب لا وحدته ، فإذا انتفى أحدهما بقي الآخر على حاله.

ص: 507


1- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية1/ 257 و 3 / 286 - الطبعة الأولى. الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. الأصول على نهج الحديث - 43.
2- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /144- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

وهذه الدعوى واضحة الفساد ، فانه لا فرق بين الزمان وغيره من القيود ، فكما لا يلتزم في غيره بكون القيد مأخوذا بنحو تعدد المطلوب ، بل يرجع إلى تقييد أصل المطلوب فكذلك في الزمان والتفرقة بينهما لا وجه لهما مع وحدة الملاك في المقامين ، والالتزام في غير الزمان بما يلتزم به في الزمان يستلزم سدّ باب حمل المطلق على المقيد وهو خلاف الضرورة العرفية ومما لا يبني عليه أحد.

فالمتعين : الالتزام بعدم دلالة الدليل على ثبوت الواجب خارج الوقت سواء كان التقييد بمتصل أو بمنفصل.

نعم يستثنى من ذلك صورة واحدة أشار إليها في الكفاية وهي : ما إذا كان دليل الواجب مطلقا وكان دليل التقييد بالوقت منفصلا مجملا ، فانه إذا كان مجملا من حيث صورة التمكن من الإتيان بالعمل في الوقت وعدمه ولا إطلاق له يثبت التوقيت في كلا الحالين ، كان القدر المتيقن التقييد بالوقت في صورة التمكن ، وفي صورة عدمه لا يعلم التقييد ، فيرجع إلى إطلاق دليل الواجب المتكفل لإثبات الوجوب في مطلق الزمان ، وبعبارة أخرى : يكون الحال في هذه الصورة كما لو ورد رأسا التقييد بالوقت مع التمكن بالخصوص. فيثبت الواجب بعد الوقت بإطلاق الدليل (1).

الجهة الثانية : إذا دل دليل آخر على ثبوت القضاء ولزوم الفعل بعد الوقت ، فهل يكشف ذلك عن تبعية القضاء للأداء - بمعنى كون التقييد بالوقت بنحو تعدد المطلوب - أو لا يكشف ، بل هو أمر مستقل؟.

وهذا المعنى مما يترتب عليه آثار عملية في كثير من موارد الفقه تعرف في محالها.

وقد أفاد المحقق النائيني ان الاحتمالات الثبوتية ثلاثة :

ص: 508


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /144- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

أحدها : ان يكون هناك امران : أحدهما متعلق بذات العمل. والآخر بإيقاعه في الوقت الخاصّ. فإذا انتفى الثاني لتعذر متعلقه بقي الأول على حاله.

ثانيها : ان يكون التقييد بالوقت مختصا بحال الاختيار ، فهناك امر واحد بذات العمل المقيد للمختار ، وبذاته من دون تقييد ، لغيره ، نظير الأمر بالتمام للحاضر وبالقصر للمسافر.

ثالثها : ان يكون امرا جديدا مستقلا ، موضوعه فوت الواجب الأول.

هذا بالنسبة إلى مقام الثبوت. اما بالنسبة إلى مقام الإثبات ، فقد اختار قدس سره الوجه الثالث لوجوه ثلاثة :

الأول : ان الظاهر من لفظ القضاء هو تدارك ما فات في وقته. ومن الواضح انه لا معنى للتدارك على كلا الوجهين الأولين ، لأن ثبوت الفعل خارج الوقت بنفس الأمر الأول. وبعبارة أوضح نقول : ان خصوصية الوقت غير قابلة للتدارك ، وذات الفعل لم تفت حتى تتدارك ، إذ هو ثابت بالأمر الأول ولم يسقط بخروج الوقت.

الثاني : ثبوت القضاء شرعا في الحج والصوم المنذورين في وقت معين ، مع انه من الواضح ان النذر يتبع قصد الناذر ، وقصده انما تعلق بالعمل المقيد بالوقت الخاصّ بنحو الوحدة ، ومعه لا يبقى الأمر بذات العمل بعد الوقت لعدم موافقته للقصد ، فيكشف ذلك عن القضاء فيهما بأمر جديد ، وظاهر انه لا يختلف الحال في ثبوت القضاء بين الموارد ، بل هو في جميعها بنحو واحد.

الثالث : ان مقتضى الوجهين الأولين اتصال الأمر بالفاقد بالأمر بالواجد زمانا كما لا يخفى ، مع ان زمان القضاء منفصل عن زمان الأمر بالأداء بحسب الغالب ، نظير الأمر بقضاء الصوم ، فانه لا يتوجه الأمر به - على بعض المباني وهو استحالة الواجب المعلق - الا مقارنا للفجر ، مع ان فواته يكون من أول الليل - على أقل تقدير ، إذ يمكن ان يكون في أثناء النهار ، كما لو أكل أول النهار - ،

ص: 509

فيفصل الليل بين الأمر الأدائي والأمر القضائي وكالأمر بقضاء الصلاة ، فانه يتوجه بعد خروج الوقت ، ففي فرض عدم التمكن الا من أقل من ركعة واحدة في الوقت يسقط الأمر الأدائي مع عدم توجه الأمر بالقضاء إلا خارج الوقت ، فيفصل هذا الزمان بين الأمرين (1).

وللمناقشة في كلام المحقق النائيني قدس سره بكلا جهتيه الثبوتية والإثباتية مجال واسع.

اما المناقشة في الجهة الثبوتية ، فبجعله الاحتمالات الثبوتية ثلاثة ، مع ان المعقول منها اثنان هما الأول والثالث. واما الثاني فهو غير صحيح ، إذ مقتضاه جواز التأخير اختيارا نظير جواز السفر والصلاة قصرا ، إذ المكلف على هذا الاحتمال صنفان : صنف مكلف بالصلاة في الوقت وهو المتمكن. وآخر مكلف بالصلاة في خارجه وهو غير المتمكن. نظير انقسام المكلف إلى المكلف بالتمام وهو الحاضر والمكلف بالقصر وهو المسافر. وهو مما لا يقول به ولا يحتمله أحد.

واما المناقشة في الجهة الإثباتية ، فهي بالخدشة في جميع الوجوه :

اما الأول : فلان القضاء لغة عبارة عن الإتيان بالعمل ، لكنه عرفا اما ملازم أو مطابق للتدارك ، فلا يعبر في العرف بالقضاء الا عن العمل الّذي يتدارك به ما فات من المصلحة دون مجرد الإتيان بالعمل ومقتضى ذلك تبعية القضاء للأداء لا عدمها كما ادعاه قدس سره ، إذ لا معنى للتدارك لو كان واجبا مستقلا ذا مصلحة مستقلة أجنبية. فان معنى التدارك بدلية أحد العملين للآخر وكونه عوضا منه ، وهو لا يعم في اختلافهما من حيث المصلحة. فالتدارك ظاهر في ان هذا الفرد تدارك عن الصحة التي كان يلزم ان تكون في الوقت. اما الفوت فهو لا يصدق حقيقة ، إذ الطبيعة لم تفت ، لكنه يصدق مسامحة باعتبار فوت

ص: 510


1- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات1/ 191 - الطبعة الأولى.

الحصة الخاصة ، فيقال ان الطبيعة فاتت في الوقت.

واما الثاني : فينقض عليه بمسألة بيع العبد المكاتب وتخلف الوصف ، فانه يلتزم بصحة البيع وعدم بطلانه ، مع ان العقود تابعة للقصود وما وقع لم يقصد. ومسألة الوقت لو تعذر الموقوف عليهم ، فانه يلاحظ الأقرب مكانا أو نحوه مع انه غير مقصود. يوجه ذلك بان المقصود في معاملة البيع أمران العبد وخصوصية الكتابة بنحو تعدد المطلوب ، فتخلف أحدهما لا يبطل الآخر ، وهكذا في مسألة الوقف. فيمكن ان ندعي ذلك في مسألة النذر ، فنقول : ان النذر وان كان بظاهره متعلقا بالمقيد بما هو مقيد ، لكنه منحل في الحقيقة إلى قصدين نظير العقود. ويظهر ذلك من عدم ظهور السؤال في النصوص عن ثبوت أمر جديد ذي مصلحة مستقلة ، بل عما هو من شأن النذر السابق وتوابعه نفسه ، فالسائل كأنه يسأل الإمام علیه السلام عن النذر هل هو كسائر العقود أو لا؟ ، فالجواب اما ان يكون تخطئة لنظر الناذر ببيان ان الواقع ينحل إلى قصدين ونذرين : أحدهما بذات العمل والثاني بإيقاعه في الوقت الخاصّ. أو يكون حكما تعبديا بالانحلال ، فيكون حاكما على ما هو الظاهر من وحدة القصد والمنذور والظاهر هو الأول ولا ظهور له في الثاني ، ولا أقل من الإجمال فلا دلالة للمورد المذكور على المدعى.

واما الثالث : فالانفكاك ليس في زمان الأمر ، بل في زمان فعلية الأمر ، ففعلية الأمر مقيدة بوقت خاص لا نفس الأمر ، ووحدة الأمر مع تعدد فعليته شيء لا يقبل الإنكار ، نظير ما لو نذر صوم يوم ما أو وجب عليه قضاء يوم ما ، فان فعلية الحكم تكون عند كل فجر مع ان الحكم واحد ، ولا ينشأ عند كل فجر امر كما لا يخفى. فالدليل الدالّ على كون القضاء في الصلاة بعد انتهاء الوقت الّذي هو الإجماع - لو سلم ولم ينكر - ، فغاية ما يقتضي تقييد الدليل الأول في هذه القطعة الزمانية ، فلا يكون الأمر فعليا فيها وان كان موجودا.

ص: 511

والمتحصل : ان ظهور القضاء في التدارك يقتضي التبعية وكون التقييد بنحو تعدد المطلوب وليس فيه إشكال.

الجهة الثالثة : لو شك في كون التقييد بنحو وحدة المطلوب ، فلا يثبت القضاء إلاّ بدليل خاص ، أو تعدده فيثبت بنفس الدليل الأول فما هو مقتضى الأصل؟.

قد يتوهم ان مقتضى الاستصحاب ثبوت القضاء لاستصحاب وجوب العمل الثابت أولا.

لكن نفاه صاحب الكفاية (1) ، ولم يبين وجهه ولعله لأجل وضوحه. فان المعتبر في الاستصحاب اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة موضوعا ، والزمان إذا كان مأخوذا في المتعلق يكون مقوما لا حالة بنظر العرف. بخلاف ما يؤخذ في الموضوع. والمفروض انتفاء الزمان فلا تتحد القضيتان فلا يجري الاستصحاب.

وهذا المعنى يحقق في محله من مسألة الاستصحاب.

وقد أطال المحقق الأصفهاني - هنا - في بيان الاستصحاب فيما نحن فيه بشقوقه من الشخصي والكلي بأقسامه ، وإنكار جميعها ، ثم توجيه الاستصحاب ببعض التوجيهات الراجعة إلى جعل الزمان حالة لا قواما (2). وهو خلاف التحقيق.

ولكن الحق : جريان الاستصحاب في كلي الوجوب المردد بين الوجوب الضمني والنفسيّ الاستقلالي الثابت أولا ، فيكون من القسم الثاني من استصحاب الكلي ، وذلك بناء على انحلال الأمر بالمشروط لا وحدته الّذي هو مبنى جريان البراءة في الشروط ، فان الوجوب الثابت للعمل بذاته في السابق

ص: 512


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /144- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- الأصفهاني المحقق الشيخ محمد حسين. نهاية الدراية3/ 286 - الطبعة الأولى.

مردد بين الضمني ، بناء على وحدة المطلوب ، والاستقلالي بناء على تعدده. فيستصحب الكلي الثابت أولا ويترتب عليه أثره من الدعوة والتحريك.

الجهة الرابعة : في جريان الاستصحاب في الشبهة الموضوعية ، بمعنى انه لو ثبت القضاء وشك في عدم الإتيان بالعمل في الوقت ..

فهل يجري استصحاب عدم الإتيان بالفعل في الوقت وينفع في إثبات القضاء أو لا؟.

الحق هو : انه إذا كان موضوع القضاء عدم الإتيان بالعمل في الوقت ، فيجري الاستصحاب ويثبت به موضوع القضاء مباشرة. واما إذا كان موضوعه امرا وجوديا ملازما لعدم الإتيان ، وهو فوت العمل ، فلا ينفع الاستصحاب ، لأن إثبات الموضوع يكون بالملازمة ، فيكون من الأصول المثبتة كما لا يخفى. وهذا المعنى أشار إليه صاحب الكفاية في ذيل مبحث الإجزاء (1) ، وتعرض إليه المحقق النائيني في هذا المبحث (2) (3) ونحن تعرضنا إليه هنا مع سبق مروره تبعا للمحقق النائيني ، فالتفت.

لفت نظر : لا يخفى ان هذا الترديد لا يتأتى بناء على ان القضاء في مورد ثبوته بالأمر الأول ، إذ الشك في امتثاله يكفي في لزوم الإتيان بالعمل لقاعدة الاشتغال ، مع ان استصحاب عدم الإتيان بالواجب يجري بلا إشكال ، ولا يكون موضوع القضاء هو الفوت أو غيره. فالتفت. وليكن هذا من ثمرات الخلاف في تبعية الأداء للقضاء وعدمها. فتدبر واعلم.

ص: 513


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول - 87 - طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .
2- المحقق الخوئي السيد أبو القاسم. أجود التقريرات 1 - 192 - الطبعة الأولى.
3- ظاهر الكفاية وأجود التقريرات : المفروغية عن كون الموضوع هو الفوت ، وانما الكلام في تشخيص مفهومه ، وهل انه امر عدمي أو وجودي؟. فانتبه ( منه عفي عنه ).

ص: 514

فصل : الأمر بالأمر

إذا أمر المولى شخصا بان يأمر آخر بشيء ، فهل يكون ذلك امرا للآخر ، بحيث يجب عليه الإتيان بالشيء مع اطلاعه ولو لم يأمره الواسطة ، أو لا يكون أمرا له؟.

وثمرة ذلك تظهر في موارد من الفقه. ومنها : الأمر بأمر الصبيان بالصلاة كقوله : « مروا صبيانكم بالصلاة » (1) فانه على الأول تثبت مشروعية عبادة الصبي وتعلق الغرض بها ، فتكون مجزية عن الواجب لو صلاّها وبلغ في أثناء الوقت.

وقد ذهب صاحب الكفاية إلى التفصيل - وهو الحق - بين صورة ما إذا كان الغرض من الأمر بالأمر هو حصول ذلك الشيء ، وليس الغرض من توسيط أمر الغير سوى تبليغ امره كما هو المتعارف في أمر الرّسل بالأمر ، وصورة ما إذا كان الغرض يحصل بنفس الأمر من دون تعلق غرض بالفعل أو مع تعلقه ولكن بقيد تعلق أمر الغير به. فيكون الأمر بالأمر امرا بالشيء في الصورة الأولى ، إذ المفروض علم العبد بكون الفعل متعلق غرض المولى وكون المولى بصدد

ص: 515


1- وسائل الشيعة 3 / 12. باب 3، حديث : 5.

تحصيله ، فيحكم العقل بلزوم الإتيان بالعمل تحصيلا لغرض المولى ويستحق الذم لو ترك. وعدم أمره مباشرة مع تمكنه منه لا يمنع من ذلك بعد صيرورته بصدد تحصيله ، فانه كاف في حكم العقل بلزوم تحصيل غرض المولى. واما الصورة الثانية فلا يلزم الإتيان بالعمل قبل أمر الغير ، إذ ليس نفس الفعل محصلا لغرض المولى كي يلزمه الإتيان به بحكم العقل (1).

ص: 516


1- الخراسانيّ المحقق الشيخ محمد كاظم. كفاية الأصول /144- طبعة مؤسسة آل البيت علیهم السلام .

فصل : الأمر بعد الأمر

إذا ورد امر بشيء ولم يمتثله العبد فورد أمر آخر بنفس ذلك الشيء ، فهل يلزمه تكرار العمل ، أو يكون الأمر الثاني تأكيدا للأمر الأول؟.

وهذا الشيء كثيرا ما نراه في النصوص والروايات.

وموضوع البحث ما إذا كان المتعلق طبيعة واحدة ولم يذكر لأحدهما أو لكليهما سبب ، وإلا فالظاهر التكرار ، كما لو قال : « إذا جاء زيد فتصدق وإذا جاء عمرو فتصدق » ، أو قال : « تصدق » ثم قال : « إذا جاء عمرو فتصدق ». فالتفت.

وبالجملة : فالأمر الثاني يدور حاله بين التأسيس والتأكيد.

ويقتضي التأكيد إطلاق المادة ، إذ الطلب تأسيسا لا يتعلق بطبيعة واحدة مرتين من دون تقييد ، بل كان متعلق الأول عين متعلق الثاني ، لاستلزامه اجتماع المثلين في واحد.

ويقتضي التأسيس انصراف الهيئة ، فان الظاهر منها هو الطلب التأسيسي.

ومقتضى القاعدة وان كان تقديم الثاني على الأول ، لأن ظهور الأول تعليقي ، والثاني تنجيزي فيرفع موضوع الأول.

ص: 517

لكن مفروض الكلام بنحو لا يكون هناك ظهور انصرافي في التأسيس في نفسه ، فان الظاهر في مثله انصراف التأكيد لا التأسيس. فالتفت. وتدبر واللّه ولي التوفيق.

انتهى مبحث الأوامر تحريرا في يوم 16 - 7 - 86 ه.

ص: 518

الفهرس

ص: 519

ص: 520

الفهرس

الاجزاء... 5

تعريف الأجزاء ... 5

إجزاء الاتيان بالمأمور به بالنسبة إلى امره... 11

جواز تبديل الامتثال بالامتثال... 12

وجوه ثلاثة لجواز الاتيان بالفعل ثانيا بنحو عبادي... 14

إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري عن الأمر الواقعي... 19

كلام صاحب الكفاية في المقام... 22

توضيح وتوجيه كلام صاحب الكفاية... 25

مناقشة مع صاحب الكفاية... 29

الوجه الثاني في بيان اجزاء الأمر الاضطراري والمناقشة فيه... 31

كلام المحقق النائيني في بيان اجزاء الأمر الاضطراري والمناقشة فيه... 34

الوجه الرابع في بيان اجزاء الأمر الاضطراري ( المختص بالأوامر الضمنية )... 37

الإجزاء من حيث القضاء... 41

إجزاء الاتيان بالمأمور به بالأمر الظاهري عن الأمر الواقعي... 45

تحديد موضوع البحث... 45

توجيه وتصحيح كلام صاحب الكفاية في إجزاء الأمر الظاهري في بعض الأصول... 47

إيراد المحقق النائيني على كلام صاحب الكفاية والمناقشة فيه... 56

عدم إجزاء الأمر الظاهري الثابت بالامارة... 64

وجوه استدل بها لاجزاء الأمر الظاهري... 68

ص: 521

تصحيح ايراد المحقق النائيني على الكفاية في التزامه بالاجزاء في موارد الأمارات القائمة على الموضوع أو المتعلق بناء على السببية 70

توجيه تفصيل صاحب الكفاية بين الأمارات القائمة على الموضوع أو المتعلق والقائمة على الحكم 73

مناقشة مع الكفاية في التزام بعدم الاجزاء عند الشك في كون حجية الأمارات بنحو الطريقية أو السببية 75

تنبيهات الاجزاء التنبيه الأول : موضوع الكلام في اجزاء الأمر الظاهري... 81

التنبيه الثاني : عدم ملازمة الاجزاء للتصويب... 82

التنبيه الثالث : اختلاف الحجة بالنسبة إلى شخص واحد أو شخصين... 85

مقدمة الواجب... 95

المباحث التي يبحث عنها في هذا الباب... 95

مسألة مقدمة الواجب مسألة أصولية أم فقهية... 97

مسألة مقدمة الواجب مسألة عقلية أم لفظية... 101

تقسيم المقدمة إلى الداخلية والخارجية... 102

تقسيم المقدمة إلى العقلية والشرعية والعادية... 106

تقسيم المقدمة إلى الصحة والوجود والوجوب والعلم... 107

تقسيم المقدمة إلى المتقدمة والمقارنة والمتأخرة... 108

كلام صاحب الكفاية في تصحيح الشرط المتأخر... 109

مناقشة المحقق النائيني مع صاحب الكفاية في المقام... 113

تحقيق كلام المحقق النائيني وما يدور حوله من كلام... 116

ايراد المحقق الأصفهاني على كلام صاحب الكفاية في المقام والمناقشة فيه... 125

تصحيح المحقق العراقي للشرط المتأخر والمناقشة فيه... 126

اشتراط أمرين في الالتزام بأن الشرط هو العنوان الانتزاعي... 127

هل ان كل قيد أخذ في الخطاب ولم يكن لازم التحصيل لا بد ان يكون مأخوذا بنحو فرض الوجود 129

ص: 522

تقسيم الواجب إلى المطلق والمشروط... 133

كلام الشيخ في عدم امكان رجوع القيد إلى الهيئة... 135

تحقيق الكلام في معقولية الواجب المشروط... 136

عدم معقولية تعلق الاعتبار بأمر على تقدير... 142

التزام المحقق النائيني برجوع القيد إلى المادة المنتسبة في تصحيح الواجب المشروط... 146

كلام الشيخ في رجوع القيد إلى المادة لبا... 148

تبعية وجوب المقدمة لوجوب ذيها في الإطلاق والاشتراط... 151

ثمرة الفرق بين اختيار الكفاية واختيار الشيخ في الواجب المشروط... 152

مجازية اطلاق الواجب على الواجب المشروط على رأي صاحب الكفاية... 153

تقسيم الواجب إلى المعلق والمنجز... 154

دعوى المحقق النهاوندي في امتناع الواجب المعلق والمناقشة فيها... 155

دعوى المحقق الأصفهاني في امتناع الواجب المعلق والمناقشة فيها... 159

دعوى المحقق النائيني في امتناع الواجب المعلق والمناقشة فيها... 162

دعوى المحقق الخراساني في امتناع الواجب المعلق والمناقشة فيها... 166

نقوض ثلاثة على دعوى استحالة الواجب المعلق وتمام الكلام فيها... 167

تحديد الوجوب المقدمي والمقدار الواجب من المقدمات... 171

المقدمة المفوتة... 179

موارد وجوب المقدمة قبل ذيها... 179

تصحيح صاحب الكفاية لوجوب المقدمة المفوتة... 180

تصحيح المحقق النائيني لوجوب المقدمة المفوتة... 183

تحقيق الحال في المسألة... 186

حكم التعلم ومعرفة الأحكام... 197

دوران امر القيد بين الرجوع إلى الهيئة أو المادة... 201

دعوى الشيخ في رجحان تقييد المادة على الهيئة... 203

تقسيم الواجب إلى النفسي والغيري... 212

ص: 523

تعريف الواجب النفسي والغيري... 212

اقتضاء الأصل اللفظي عند دوران الواجب بين النفسي والغيري... 214

اقتضاء الأصل العملي عند دوران الواجب بين النفسي والغيري... 221

استحقاق العقاب والثواب على مخالفة الأمر الغيري وموافقته... 236

تصحيح عبادية الطهارات الثلاث... 242

اشكالات خمس في عبادية الطهارات الثلاث... 245

وجوه في دفع الاشكالات... 247

مقتضي الأصل العملي عند الشك في اعتبار شئ في الطهارات الثلاث... 264

عدم اعتبار قصد التوصل بالطهارات الثلاث إلى غاياتها في صحتها... 273

تصحيح الاتيان بالوضوء بعد دخول الوقت بداعي الاستحباب... 277

تصحيح الاتيان بالوضوء بقصد التوصل إلى غاية لم يأت بها... 279

فصل : في اعتبار قصد التوصل في الواجب الغيري... 281

اشتراط الايصال في الواجب الغيري ( المقدمة الموصلة )... 289

تحقيق في معقولية القول بالمقدمة الموصلة... 297

عدم اختصاص الوجوب بالمقدمة الموصلة... 309

ثمرة القول بالمقدمة الموصلة... 318

ثمرة القول بوجوب المقدمة... 326

حكم الشك في وجوب المقدمة ( تأسيس الأصل )... 328

أدلة وجوب المقدمة... 331

مقدمة المستحب والحرام والمكروه... 334

مبحث الضد... 339

تعريف الضد والاقتضاء... 339

اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص... 340

مقدمية عدم أحد الضدين للضد الآخر... 340

تفصيل في مقدمية عدم الضد بين الضد المعدوم والموجود... 352

مبنى التلازم في اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده الخاص... 356

ص: 524

اقتضاء الأمر بالشيء النهي عن ضده العام... 357

ثمرة القول بالاقتضاء... 370

تصحيح الضد العبادي مع قصد الأمر بالضد المزاحم... 374

تصحيح الضد العبادي مع قصد الملاك... 377

تصحيح الضد العبادي بالقول بالترتب... 385

بيان ونقد المقدمات التي أقامها المحقق النائيني لصحة الترتب... 391

البرهان المختار لاثبات الترتب... 413

تقريب المحقق العراقي لصحة الترتب والمناقشة فيه... 420

وجوه الاشكال على الترتب... 422

تنبيهات الترتب... 428

التنبيه الأول : امكان الترتب مساوق لوقوعه... 428

التنبيه الثاني : جريان الترتب في بعض الصدر من الواجبين المتزاحمين... 429

التنبيه الثالث : عدم جريان الترتب بين الواجبين المقيد أحدهما بالقدرة شرعا... 432

التنبيه الرابع : جريان الترتب في الضدين اللذين لهما ثالث... 436

التنبيه الخامس : عدم رفع محذور اجتماع الحكمين من غير التزاحم بالترتب... 440

التنبيه السادس : تزاحم حكمين أحدهما أسبق زمانا من الآخر... 442

التنبيه السابع : جريان الترتب بين حرمة المقدمة ووجوب ذيها... 448

التنبيه الثامن : اجراء الترتب بين التدريجيين... 453

فصل : أمر الأمر مع علمه بانتفاء شرطه... 459

فصل : متعلق الأوامر... 463

التحقيق في أن الأمر متعلق بالفرد أو الطبيعة... 469

فصل : نسخ الوجوب... 479

فصل : حقيقة الوجوب التمييزي... 483

ص: 525

المختار في حقيقة الوجوب التمييزي... 489

التميز بين الأقل والأكثر... 495

فصل : حقيقة الوجوب الكفائي... 497

فصل : الواجب الموسع والمضيق... 505

تبعية القضاء للأداء... 508

فصل : الأمر بالأمر... 515

فصل : الأمر بعد الأمر... 517

الفهرس ... 521

ص: 526

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.