منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة المجلد 5

هوية الکتاب

أعمال المؤتر العلمي الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3666 لسنة 2019

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 A4 2019

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2 : 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: اعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع الطبعة الاولى.

بيانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية، (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الأمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الأخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3666 لسنة 2019

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda

رقم تصنيف LC:

BP38.02.M8 A4 2019

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2 : 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: اعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع الطبعة الاولى.

بيانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية، (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الأمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الأخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: احادیث خاصة (رد الشمس).

مصطلح موضوعي: الاخلاق الاسلامية - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الفقر - العراق - تاریخ - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - نحو - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

عنوان اضافي: نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية

المؤتمر العلمي الثاني (2)

أعمال المؤتر العلمي الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة

الجزء الخامس

للمدة

13 - 14 / ربيع الأول / 1439 ه الموافق 2 - 3 / 12 / 2017 م

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1440 ه - 2019 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الألكتروني:

www.inahj.org

الإيميل:

Info@lnahj.org

تنویه:

إن الأفكار والآراء المذكورة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة تخلي العتبة الحسينية المقدسة مسؤوليتها عن أي انتهاك لحقوق الملكية الفكرية

ص: 4

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

«وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا»

صَدَقَ اللهُ العَلِيُّ العَظِيم

مریم: 50

ص: 5

ص: 6

المحور اللغوي والأدبي

ص: 7

ص: 8

إنسانية الخطاب العلوي قراءة معرفية في الأبعاد القيمية

اشاره

م. د. آمال خلف علي آل حيدر كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) الجامعة

ص: 9

ص: 10

توطئة

نظر الإمام علي (عليه السلام) بدقة وعمق وشمول للإنسان ، و درس جميع أبعاد حياته وعلاقته مع خالقه، ونفسه، ومجتمعه، وحكومته وغير ذلك، فوضع له نظاماً خاصاً لهذه الحقوق والواجبات، وجعله مسؤولاً عن رعايتها وصيانتها؛ ليُنشئ مجتمعاً إسلامياً تسوده العدالة الاجتماعية، والعلاقات الوثيقة بين أبنائه القائمة على أساس الثقة والتعاون والمحبة، وغير ذلك مما يسهم في تنظيم العلاقات الإنسانية بين أفراد المجتمع، وكان للإمام علي (عليه السلام) الدور الكبير في وضع المناهج التربوية الحية لتنظيم سلوك الإنسان ، فضلاً عن تطوير حياته وبناء حضارته على أُسس رصينة تضمن له الاستقرار النفسي من خلال بيان معنى الاسلام الحقيقي للناس، وإنه دين الأخلاق والصفح والحلم، ودين التسامح الذي يظهر الإنسان فيه مدى حبه للآخرين وسعيه للارتباط معهم بروابط إنسانية قائمة على أسس الخير والمحبة ، ودعا أيضاً إلى نبذ التعاليم الجاهلية والالتزام بالتعاليم الاسلامية التي أنقذت الإنسان من الجهل والظلم والضلال ، و يبدو ما ذكرناه آنفاً واضحاً جلياً في ثنايا الخطاب العلوي، سواء کان خطباً أو رسائل تهدف إلى بث روح الإخاء والمحبة بين المسلمين فضلاً عن حرصه على وحدة الصف والكلمة.

ص: 11

المطلب الأول: القيم الأخلاقية وأبعادها في أنسنة الخطاب العلوي

أسس الإمام علي (عليه السلام) دعائم العلاقة السليمة التي ينبغي أن تقوم بين الإنسان وخالقه، كالتسليم المطلق لإرادته تعالى شأنه، والعبودية الخالصة له والخشية والخوف منه، فضلاً عن طاعته والتوجه إليه وحده دون غيره، فضلاً عن علاقة الأفراد فيما بينهم، من خلال عنايته (عليه السلام) بتربية المجتمع الإسلامي الإنساني، حيث جاءت محاولاته لمعالجة الانحراف الأخلاقي في المجتمع فضلاً عنه في الإنسان نفسه، من خلال التعرف على جذوره العميقة أولاً، حيث عزا السبب الرئيس في انحراف المجتمع إلى حب الدنيا و التعلق بحبالها الواهمة کا ورد في الحديث النبوي الشريف ((حبُ الدنيا رأس كل خطيئة))، إذ يترتب على هذا الحب فقدان بصيرة الإنسان، فضلاً عن تعطيل العقل وإعمال الشهوات والهوى التي تصبوا إليها النفس الخاسرة.(1)

يشخص الإمام (عليه السلام) مجموعة من العقاقير الإنسانية لمعالجة الانحراف الإنساني في المجتمع منها:

أولاً: - التقوى

ورد في إحدى خطب الإمام (عليه السلام) التي تضمنت وصفه الدقيق للمتقین موضحاً السر الكامن وراء وصولهم إلى هذه المرتبة من الكمال المتمثل بالتقوى بقوله ((فالمتقون فيها هم أهل الفضائل، منطِقُهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيُهم التواضع، غضوا أبصارهم عمَا حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهُم، نُزلَتْ أنفسهم منهم في البلاء كالتي نُزلَتْ في

ص: 12

الرخاء، ولولا الأجل الذي کُتِبَ لهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفةَ عين شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب، عظُمَ الخالقُ في أنفسهم، فَصَغُرَ ما دونَهُ في أعيُنِهِم))(2)، يصف الإمام المتقين فيقول: «فالمتقون فيها هم أهل الفضائل« أي إن المتقين في الدنيا هم أصحاب الفضائل بل أهلها أي أصل الفضائل، فهي تنبع منهم، ثم يوالي الإمام (عليه السلام) وصفهم فيقول: »منطِقُهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيُهم التواضع «فلا يقولون بألسنتهم إلا الصواب والحق والصدق، أما ملبسهم فهو البساطة والتواضع فضلاً عن عدم التكلف للملبس، فهم لم يشغلوا أنفسهم بأمرٍ غير ذا أهمية عندهم، أما مشيُهم فينماز بالتواضع وعدم الكِبَر والخُيلاء، فهم بذلك مصداق للحديث الشريف «مَنْ تواضع لله رفعه الله «تواضعوا لله فرفع شأنهم فضلاً عن مراتبهم، واستغرق الإمام في وصفهم فأضاف «غضوا أبصارهم عما حرم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم« انتهج المتقون خطاً مستقيماً لأنفُسِهم فأشاحوا بأبصارهم عما حرمه الله، وصموا أسماعهم عن غير العلم النافع في رضا الله تعالى، فالتقوى تعني الالتزام بأوامر الله تعالى ونواهيه وهي في (عرف الشرع والقرآن عبارة عما يتقی به من النار)(3)، إن للتقوى مضمون قرآني محض جاء به الاسلام فكراً مجسداً بسلوك عملي؛ لأنها تعني امتزاج النظرية بالتطبيق(4) فكانوا مصداقاً فعلياً للتقوى، كذلك تابع أمير المؤمنين وصفه للمتقين فقال: «نُزلَتْ أنفسهم منهم في البلاء كالتي نُزلَتْ في الرخاء، ولولا الأجل الذي کُتِبَ لهم، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفةَ عين، شوقاً إلى الثواب، وخوفاً من العقاب« يتبين من هذا الوصف حال المتقين الذين لا يأبهون بالبلاء النازل أو الذي ينزل تباعاً في ساحتهم، فقد وطنوا أنفسهم على التسليم المطلق لمشيئة الخالق فلا يستشعرون الألم الظاهري بل على العكس من ذلك فأنهم يتذوقون حلاوة الإيمان من خلال مرارة البلاء؛ لأنه يقربهم الله زُلفي

ص: 13

، فضلاً عن الرغبة الكبرى لملاقاة العلي القدير؛ تشوقاً للفوز بثوابه وخوفاً من عقابه إن طالت بهم الآجال ، أما قوله (عليه السلام) «عَظُمَ الخالق في أنفسهم، فصَغُرَ ما دونه في أعينهم« أي صاروا لا يعظمون شيئاً سوى الله سبحانه وتعالى وهذا مصداق لقول أمير المؤمنين «إنما عبدتك لأنك أهلاً للعبادة «فتصاغر كل ما هو دون مرتبة الإله تعالى شأنه في أعينهم، كذلك ما ورد في وصية الإمام علي (عليه السلام) للحسنين عليها السلام حيث قال: - ((أُوصيكما بتقوى الله، وألا تبغيا الدنيا وأن بغتكما، ولا تأسفا على شيئٍ منها زوي عنكما، وقولا بالحق، واعملا للأجر، وكونا للظالم خصماً، وللمظلوم عوناً، أُوصيكما وجميع ولدي وأهلي ومَنْ بلغه کتابي بتقوى الله، ونظم أمركم، وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جد کما يقول (صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام)، الله الله في الأيتام فلا تُغبُوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم))(5) يوصي الإمام ولديه بوصايا خاصة وأخرى عامة وثالثة مشتركة، فالخاصة منها هي ألا تبغيا الدنيا وأن بغتكما، أي لا تُجْهِدا أنفسكما بطلب الدنيا حتى وإن طلبتكما؛ لأن طالب الدنيا لا يلقى إلا العناء والتعب، حتى وإن تذرع بضرورة الكسب فهذا الكسب سيتُرك ورائه كما قال تعالى ((وللآخرة خيرٌ لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى))(6)، كذلك عدم الضجر والتأسف على ما تأخر أو مُنِعَ عنكما لعل فيه خيرٌ لكما لقوله «ولا تأسفا على شيء زوي عنكما«، وقول الحق في أصعب الأحوال «وقولا بالحق، وأن تبغيا من عملكما الأجر من الخالق لا من المخلوق «واعملا للأجر«، وأن تكونا خصماء للظالم وللمظلوم عوناً وابغيا في ذلك القربة لله تعالى «وكونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً«، أما الوصايا العامة «ونظم أمركم« أي أن تعمدوا إلى تنظيم أموركم بالشكل الذي يضمن سير العمل بالوجه الأمثل، كذلك ذکر الإمام (عليه السلام) «صلاح ذات بينكم «أي لا تتركوا أمراً فاسداً بینکم واعمدوا

ص: 14

إلى إصلاحه فإنه أنفع للمجتمع فضلاً عن أفراده وكما يصف النبي صلى الله عليه وآله وسلم (صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام) مع ما للصلاة والصيام من الأجر والفضل عند الله، أفاض الإمام (عليه السلام) في وصاياه العامة فذكر الأيتام وأعطاهم مساحة في المجتمع حيث شدد على رعايتهم في كافة المجالات التربوية والاجتماعية فضلاً عن الاقتصادية فقال: «الله الله في الأيتام فلا تُغبُوا أفواههم، ولا يضيعوا بحضرتكم«، أما وصيته المشتركة فهي تقوى الله، ويهدف إلى دعوة الناس للتعاون فيما بينهم والتطوع لخدمة بعضهم بعضاً، فضلاً عن الاهتمام بمناطق الضعف والحاجة في المجتمع من خلال الحث على إصلاح هذا الضعف الحاصل في مختلف جوانبه الدينية والدنيوية.

ثانياً: - حُسن الخُلُق

إن المجتمع الذي لا يتعامل أفراده بالأخلاق الحسنة، لا يمكن له بلوغ الأهداف السامية لبعثة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؛ لأن الأخلاق هي مَنْ يُوصِلْ الإنسان إلى المقامات الإنسانية العالية ولا ينبغي أن يقتصر التمسك بالأخلاق الحسنة على إظهارها عند التعامل مع الآخرين فقط من دون أن تترك أثراً على تنمية الشعور الأخلاقي الإنساني المتمثل بالروح، ومن ثم ترجمتها على مستوى العمل الظاهري، لقد تجلت القيم الأخلاقية بمضامينها الإنسانية العالية، كالتحلي بروح الصفح والعفو، والتعايش، والتسامح، فضلاً عن ترك التحاسد في وصية الإمام (عليه السلام) لابنه الإمام الحسن (عليه السلام) عند انصرافه من صفين حيث قال ((وأمسك عن طريق إذا خفت ضلالته، فإن الكف عن حيرة الضلال خير من ركوب الأهوال، وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك، وعود نفسك التصبر على المكروه، ونعم الخُلق التصبر، یا

ص: 15

بني اجعل نفسك میزاناً فيما بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب أن تظلمَ، وأحسن كما تحب أن یُحسن إليك، واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك، وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك))(7) يُعني هذا النص باستنهاض الإنسان ليمارس دوره الفاعل في الحياة، ويستظهر طاقاته الكامنة من خلال تسلحه بعلو الهمة والطموح المشروع، يوضح الإمام (عليه السلام) مجموعة من الأخلاق الفاضلة التي ينبغي أن يعمل الإنسان جاهداً لكسبها فيقول: «فأحبب لغيرك ما تحب أن تظلمَ من خصال حُسن الخُلُق أن تُحب لغيرك ما تُحبهُ لنفسك من الخير وعدم الظلم، «وأحسن کما تحب أن يحسن إليك» وكما يُجب الإنسان أن يُحسن إليه بالقول والفعل فعليك أن تُحسن للآخرين قولاً وفعلاً، «واستقبح من نفسك ما تستقبحه من غيرك« وأن تكره ما يصدر منك من أفعالٍ او أقوال لا توسم بالصحة، وأن لا تُجمل قبيح أفعالك قبالة أفعال غيرك، «وارضَ من الناس بما ترضاه لهم من نفسك« وأن تقبل ما يصدر من الناس کما تريد أن يقبلوا بما يصدر منك، وهذا مصداق لنص الحديث الشريف «حب لأخيك كما تُحب النفسك» وهذا يعني التخلص من حُب الأنا، بل يُجاوز ذلك بإيثار أخيه المسلم على نفسه ومشاركته إياه في السراء والضراء، وكل ذلك يرجع إلى الأصل الأول وهو حُسُنُ الخُلُق الذي لأجله اختار الله عزَ وجل النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ»(8)

ثالثاً: - الصبر والتصبر

إن القيم التي توزعت في أرجاء النهج تنماز بالأخلاقيات الرفيعة ذات الطابع الإنساني، والتي استمدت جذورها الإنسانية من القرآن الكريم والرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، والتي تمثل الحجر الأساس لرقي المجتمعات.(9)

ص: 16

حيث يصف الإمام (عليه السلام) الصبر والتصبر بأنهما نِعم الخُلُق، وکما جاء في القرآن الكريم قوله تعالى: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ»(10)، حيث يُعد الصبر والصلاة الأداتان المفضلتان لتمكين الإنسان من التحرك، ومواجهة التحديات الصعبة التي يواجه بها أئمة الكفر والضلال، فلابد من توافر الصبر في علاقة الإنسان بنفسه ومساحة اشتغاله، كذلك الصلاة التي توضح علاقة الإنسان بالله تعالى شأنه.(11)، يُعد الصبر العنصر الحافظ والمحامي للمجتمعات من التراجع وبذل الأرواح وخوض الصعاب لأجل الوصول إلى الهدف الأسمى، ولابد من الإشارة إلى أن الصبر نوعان، صبرٌ محمود وهو الصبر على الطاعات والعبادات وترويض النفس على ترك الشهوات، وصبرٌ مذموم وهو الصبر على الذل والهوان(12)، يقول أمير المؤمنين (عليه السلام) ((لا یُعدم الصبور الظفر إن طال به الزمن))(13)، كذلك قوله (عليه السلام) ((مَنْ ركب مركب الصبر اهتدى إلى ميدان النصر))(14)، فالصبر هو الطريق المُوصلة إلى الصواب وإن طال به الوقت.

رابعاً: - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقال (عليه السلام) أيضاً ((وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباين مَنْ فعله بجُهدك، وغاية الدين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإقامة الحدود، والجهاد عماد الدين ومنهاج السعداء، ومَنْ جاهد على إقامة الحق وفِق، والمجاهدون تفتح لهم أبواب السماء، وثواب الجهاد أعظم الثواب))(15)، إن الأمر بالمعروف وإنكار المنكر واجب على كل مسلم، فيوجه الإمام (عليه السلام) نظر المجتمع نحوهما فيقول ((وأمر بالمعروف تكن من أهله، وأنكر المنكر بيدك ولسانك وباین مَنْ فعله بجُهدك)) يتوجب على الفرد المسلم بأن

ص: 17

يأمر بالمعروف ويحثُ عليه مثل بِرُ الوالدين، وحُسن الخُلُق، والعفة، والإنفاق في سبيل الله وغيرها كثير مما أُثِر من المعروف، فضلاً عن الترغيب بالمعروف معللاً هذا الأمر بالمعروف؛ کینونته من أهل المعروف، أي يكون المعروف ممدوحاً أينما ذُکِر وبأي حال ذُكِر، أما إنكار المنكر، فوجب أن يكون الإنكار باليد، أي تغيير المنكر بالفعل، واستخدم الإمام (عليه السلام) مفردة «اليد» كناية عن الفعل، فضلاً عن إنكار المنكر باللسان، فنری استخدام لفظة «اللسان» كناية عن القول بإنكار المنكر، إذن لابد من إنكار المنكر قولاً وفعلاً، فضلاً عن مباينة أي - ترك - من اعتاد فعل المنكر بكل الجهد، لكيلا يكون على المؤمنين من حرج في عدم القدرة على تغيير الحال.

ص: 18

المطلب الثاني: القيم العبادية وأثرها في التكامل الإنساني

للقيم العبادية مقاصد و آثار متعددة منها ارتباط المخلوق بالخالق جلَ وعلا والذي يوصله إلى المقصد الأساس وهو «تزكية الإنسان« فتعمل القيم العبادية على تزويد الإنسان بالطاقة المحركة، ولكي يصل الإنسان إلى مستوى التكامل لابد أن يعمل جاهداً لاكتساب القيم العبادية فضلاً عن القيم الأخلاقية على أرفع المستويات مثل الاهتمام بالعدل في علاقته بخالقه أو بأسرته أو بأصدقائه أو بمجتمعه أو بأمواله أو بنفسه، ويذكر أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبة له في أركان الإسلام وفضل القرآن ((إن أفضل ما توسل به المتوسلون إلى الله سبحانه، الإيمان به وبرسوله، والجهاد في سبيله، فإنه ذروة الإسلام، و كلمة الإخلاص فإنها الفطرة، وإقامُ الصلاة فإنها المِللة، وإيتاء الزكاة فإنها فريضةٌ واجبةٌ، وصوم شهر رمضان فإنه جُنةٌ من العقاب، وحجُ البيت واعتمارهُ فإنهما ينفيان الفقرَ وير حضان الذنب، وصلة الرحِم، فإنها مَثراةٌ في المال، ومنسأةٌ في الأجل، وصدقة السر فإنها تُكفِر الخطيئة، وصدقةُ العلانية فإنها تدفع مِيتَةَ السوء، وصنائع المعروف فإنها تَقي مصارعَ الهوانِ، أفيضوا في ذكر اللهِ فإنه أحسن الذكرِ، وارغبوا فيما وعدَ المتقين، فإن وعدهُ أصدقُ الوعودِ، واقتدوا بهدي نبيكم فإنه أفضلُ الهدي، واستنوا بسنتهِ فإنها أهدى السُنن، وتعلموا القرآن فإنه أحسنُ الحديثِ، وتفقهوا فيهِ فإنه ربيعُ القلوبِ، واستشفوا بنورهِ فإنه شِفاءُ الصدورِ، وأحسنوا تلاوتهُ فإنه أنفعُ القصصِ، فإن العالمَ العاملَ بغيرِ علمهِ کالجاهلِ الحائرِ الذي لا يستفيقُ من جهلهِ، بل الحجةُ عليه أعظمُ، والحسرةُ لهُ ألزمُ، وهو عندَ اللهِ ألومُ))(16) بين الإمام (عليه السلام) ضرورة التمسك بقيم السماء العبادية التي من شأنها رفع مستوى الإنسان

ص: 19

إلى التكامل الإنساني والذي يسعى الإمام جاهداً لإيصال أفراد المجتمع إليه، من خلال الحث المستمر على لزوم الطاعة لفروض السماء، من توحيدٍ لله تعالى شأنه، وإيماناً برسوله، وجهاداً في سبيله، فضلاً عن إقامة الصلاة والصيام، والزكاة وحج البيت الحرام وتعاهد الصدقة سراً كانت أم جهراً، وقراءة القرآن والغور في أعماقه لاستخراج كنوزه الثمينة، فضلاً عن الالتزام بسنة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله).

كذلك اهتم الإمام (عليه السلام) ببيان فلسفة جملة من التشريعات العبادية قائلاً: ((فرض الله سبحانه الإيران تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن الكبر، والزكاة تسبيباً للرزق، والصيام ابتلاءً لإخلاص الخلق، والحج تقوية للدين، والجهاد عزاً للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء، وصلة الأرحام منماة للعدد، والقصاص حقناً للدماء، وإقامة الحدود إعظاماً للمحارم، وترك شرب الخمر تحصيناً للعقل، ومجانبة السرقة إيجاباً للعفة، وترك الزنا تحصيناً للأنساب، وترك اللواط تكثيراً للنسل، والشهادة استظهاراً على المجاحدات، وترك الكذب تشریفاً للصدق، والاسلام أماناً من المخاوف، والإمامة نظاماً للأمة، والطاعة تعظيماً للإمامة))(17)، وضح الإمام (عليه السلام) علل التشريعات العبادية موضحاً وشارحاً لها حيث علل الإيمان تطهيراً للنفس البشرية من الشرك، والصلاة تنزيهاً عن خصلة الكِبرَ، والزكاة سبباً للرزق، والصيام اختباراً للخلق في صبرهم على الطاعات، والحج إظهاراً لقوة الدين، والجهاد إعزازاً للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للناس كافة، والنهي عن المنكر ردعاً للمتجاوزين على حرمات الله، والقصاص حماية للنفوس المحترمة، وإقامة الحدود تعظيماً للحرمات وعدم انتهاكها مجدداً، وترك شرب الخمر صيانة

ص: 20

للعقل البشري، وترك الزنا تحصيناً للأنساب من الاختلاط المحرم، وترك الكذب شرفاً للصدق، فلا يجتمع الكذب والصدق إطلاقاً؛ لعلو مرتبة الصدق في المجتمعات، حتى لو خفتت أنواره لفترة من الزمن، والاسلام يضمن الأمن الإنساني بمختلف صنوفه، والإمامة دستوراً ينظم حياة المسلمين في كل ما تحتاج إليه، والطاعة تعظيماً للإمامة وهو مصداق للآية الكريمة في قوله تعالى ((يا أيها الذين آمنوا أطیعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول))(18)، فكل ما تطرق إليه الإمام من قیم عبادية هي كفيلة بتكوين المجتمع الإنساني المتكامل

ومن خطبة له (عليه السلام) في بيان قدرة الله تعالى وتمجيده قال ((فأمَا أهل طاعته فأثابهم بجواره، وخلدهم في داره، حيث لا يضعن النزَال، ولا تتغير بهم الحال، ولا تنوهم الأفزاع، ولا تنالهم الأسقام، ولا تعرض لهم الأخطار، ولا تشخصهم الأسفار، وأما أهل المعصية فأنزلهم شرَ داره، وغلَ الأيدي إلى الأعناق، وقرن النواصي بالأقدام، وألبسهم سرابيل القطران، ومقطعات النيران في عذاب قد اشتد حره، وباب قد أُطبق على أهله في نار لها کلبٌ ولجبٌ، ولهبٌ ساطعٌ وقصيفٌ هائلٌ، لا يضعن مقيمها، ولا يفادي أسيرها ولا تُفصم كبولها. لا مدة للدار فتفني، ولا أجل للقوم فيُقضى))(19).

إن الحديث عن تزكية النفوس وتطهير الطباع وتنمية دواعي العفة والطهارة ليست شعارات عاطفية، أو کمالات خُلُقية، وإنما هي أصل لتماسك المجتمع وأساس بقائه، فضلاً عن بناء الشخصية الإنسانية للمجتمع المسلم وتحصينه ضد محاولات الهدم والتخريب، لذلك تستدعي ضرورة العمل الجاد في الدعوة إلى الله تعالى والحث على القيم العبادية بكافة تمثلاتها، والدعوة إليها، والتذكير

ص: 21

بالله واليوم الآخر، والحساب والعقاب، من خلال العمل على تعزيز الترابط بين الناس والقرآن وعِبَرهِ وحِکَمِهِ وأحكامه، ولا يغفل ذا لُبٍ رشيد عن المخاطر والصعاب التي تَحُفُ بحياة المؤمنين المتمسكين بدينهم، والتي بُنيت على العبودية لله تعالى، وعلى الطهر والعفاف والفضيلة، حيث يعمل الشيطان وجنوده جاهداً للإطاحة بمن يسير على جادة الصواب ، وهذا مصداق قوله تعالى: «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا»(20). إن القيم العبادية ليست رأياً بشرياً ولا نظاماً وضعياً، وإنما هي قیم ربانية المصدر عبادية المقصد يُراد بها وجه الله ورضوانه، فيها الأسوة والقدوة، كما جاء في قوله تعالى «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»(21)، وفيها الاقتداء والهداية كقوله تعالى «أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ»(22)

ص: 22

المطلب الثالث: المجتمع الإنساني في الخطاب العلوي قراءة قيمية

شهد المجتمع الاسلامي متغيرات في المفاهيم التي جاء بها القرآن الكريم والنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مما تطلب جهداً كبيراً من الإمام علي (عليه السلام) في إعادة الناس إلى القرآن والسنة النبوية، فكان لابد للإمام أن يبين مجموعة ليست بالقليلة من المعطيات الفكرية التي واكبت حركة النمو القيمي والمعرفي، فضلاً عن المتغيرات السياسية بعد انتقال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الرفيق الأعلى، وقد عمد الإمام إلى صرف أنظار العقلاء للأساس الذي يقوم عليه المجتمع فضلاً عن الأساس الذي يقوم عليه الأمن الإنساني ألا وهو ( القيم الفكرية )، حيث ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال ((مَنْ استحكمت لي فيه خصلة من خصال الخير احتملتهُ عليها، واغتفرتُ فَقْدَ ما سِواها، ولا أغتفر فَقْدَ عقلٍ ولا دين، لأن مفارقة الدين مفارقة الأمن، فلا يتهنأ بحياة مع مخافة، وفَقْد العقل فَقْدُ الحياة، ولا يُقاس إلا بالأموات))(23)، نلحظ من محتوى الحديث بيان التلازم القيمي بين الأمن والتوحيد الله تعالى، فكل مجتمع فارق الدين فلابد ألا يهنأ بحياته، وعدم الهناء الذي أشار إليه الإمام هو انعدام الأمن في المجتمع.(29) وتؤكد سيرة الإمام علي (عليه السلام) مع أفراد المجتمع في سياسة الدولة من خلال وضعها في إنجاح التنمية الإنسانية، فضلاً عن توجيهاته لولاته وموظفيه في الأمصار، ومن أبرزها عهده لمالك بن الأشتر حين أوكل إليه ولاية مصر والذي يُعد دستوراً إنسانياً للحكام، حيث أكد على تطبيق

ص: 23

العدل والمساواة بين أفراد المجتمع، فضلاً عن حفظ حقوقهم المادية والمعنوية، وإن اختلفت أديانهم وتوجهاتهم حيث قال الإمام (عليه السلام) ((وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخٌ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في الخلق))(25)، تتجلى أبهى صور الإنسانية في هذا العهد من خلال الوصايا التي تدعو إلى اللين وخفض الجناح في حدود المعقول والواجب، من إظهار الرحمة والمحبة، وعدم التسلط على الرعية التي لا تمتلك حولاً ولا قوة قبالة الحاكم، ونرى الوصف الإنساني الدقيق الذي أكد عليه الإمام بقوله ((إما أخٌ لك في الدين، وإما نظيرٌ لك في الخلق)) الذي يُراد منه إشعار الحاكم بإنسانيته لا بحاکميته على الرعية، فيكون سبُعاً ضارياً ينتهز الفرص المناسبة لينال من فريسته إلاّ ترسيخاً للفكر الإنساني في الأذهان ضمن الدستور العلوي، وقيمية هذا التصنيف تمثل الامتداد الطولي إلى النظرية الإنسانية التي يمثلها الخطاب السماوي فالقيم التي عرضها الخطاب العلوي هي قيم قرآنية حث عليها الله جل جلاله

نرى أن الإمام (عليه السلام) يلفت نظر واليه إلى ما هو أهم من أخذ الضرائب من الناس، وهو ما يعرف آنذاك ب (جباية الخراج)، وإنما عمله الرئيس هو إصلاح أمور أهل البلد في كافة الجوانب الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية حيث يقول (عليه السلام): ((هذا ما أمر به عبد الله عليٌ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر، في عهده إليه حين ولاَه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعارة بلادها))(26)، حيث يؤكد الإمام (عليه السلام) على إعطاء الأولوية للتنمية الإنسانية من خلال طرق مختلفة، منها زيادة الإنتاج مبيناً ذلك في قوله (عليه السلام) ((ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ

ص: 24

من نظرك في استجلاب الخراج))، يوجه الإمام نظر وُلاتَهُ إلى ضرورة استصلاح الأرض بكافة الطرق الممكنة لما فيه الخير والصلاح للأمة؛ لأنه مدعاة لعمارة الأرض البور فضلاً عن الفائدة المتوخاة منها، بدأً من تشغيل الأيدي المعطلة عن العمل إلى عمران الأرض سواء كان بالزراعة أو الصناعة أو تشييد المباني أكثر من الاهتمام بمقدار الخراج المستحصل من هذه الأرض.

ص: 25

الخاتمة

تكمن فلسفة العمل الإنساني بالقيم التي يُؤمن بها الإنسان، والتي تُشكل سلوكاً واقعياً في الخارج، وهذه القيم تمثل المنظومة المعرفية التي يستمد منها الإنسان محركيته، والمنظومة المعرفية للإمام علي (عليه السلام) منظومة قرآنية؛ لذا کشف البحث عن نتاجها في: -

1. کشف البحث عن القيم الأخلاقية التي رسمت ملامح البعد الإنساني في الخطاب العلوي المتمثلة ب (حُسن الخُلُق والتقوى والصبر والسلم والتسامح).

2. کشف البحث عن إنسانية الخطاب العلوي التي تمثلت ب «حب الخير»، و «التعاون«، و «النصح والارشاد« ومسعى الإمام علي (عليه السلام) بإيجادها في السلوك العملي الإجرائي.

3. أثبت البحث أن الخطاب العلوي خطاب قيمي، لم يبتعد عن دائرة الخطاب المعرفي، بل هو خطاب إصلاحي تجسدت فيه المفاهيم السماوية، وشكلت المنطلقات له

4. بين البحث أسس بناء المجتمع الإنساني، من خلال قراءة الأبعاد القيمية في المجتمع وفق المنهج القرآني والعمل على تفعيلها.

5. أثبت البحث أثر القيم العبادية في التكامل الإنساني عن طريق إرساء دعائم العلاقة السليمة بين الإنسان وخالقه.

6. أظهر البحث روعة توظيف الخطاب العلوي في معالجة أمراض المجتمع، لاسيما في الجوانب الأخلاقية التي تُشكل جوهر حركة الإنسان الإيمانية.

ص: 26

هوامش البحث:

1. ينظر: أعلام الهداية 2 / 290.

2. نهج البلاغة / 329، 330.

3. البحر المحيط 2 / 101.

4. ينظر: الأثر القرآني في نهج البلاغة 418، 419.

5. نهج البلاغة / 452، من وصية له عليه السلام 47.

6. سورة الضحى: آية: 4، 5.

7. الإمامة والسياسة 1 / 89.

8. سورة القلم: آية: 4.

9. الإنسانية المثالية عند الحسن بن علي عليها السلام، دراسة تحليلية في تراثه / 55.

10. سورة البقرة: آية: 153.

11. ينظر: في رحاب القرآن 8 - سنة التعميم في القرآن / 168.

12. ينظر: مکارم الأخلاق ورذائلها 2 / 42.

13. نهج البلاغة 4 / 40.

14. بحار الأنوار 68 / 96.

15. تصنیف غرر الحکم 175 - 190 و 331 - 330، المعجم الموضوعي لنهج البلاغة 140 - 150 و 216 - 239.

16. نهج البلاغة / 186، 187.

17. أعلام الهداية 2 / 289.

18. سورة النساء: آية: 59.

19. نهج البلاغة / 185.

20. سورة النساء: آية: 27.

21. سورة الأحزاب: آية: 21.

22. سورة الأنعام: آية: 90.

23. بحار الأنوار 5 / 59.

24. الأمن الإنساني في خلافة الإمام الحسن عليه السلام / 61.

25. نهج البلاغة / 170.

26. نهج البلاغة / 457.

ص: 27

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. الأثر القرآني في نهج البلاغة دراسة في الشكل والمضمون، تأليف د. عباس علي حسين الفحام، ط 1، 1430 ه - 2010 م، لبنان - بيروت.

2. أعلام الهداية 2 / الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، لجنة التأليف في المعاونية الثقافية للمجمع العلمي لأهل البيت عليهم السلام ، ط 6، 1630 ه - 2009 م، لبنان - بيروت.

3. الإمامة والسياسة، أبو محمد عبد الله بن مسلم ابن قتيبة الدينوري (ت 276 ه)، ط 3، 2009 م، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.

4. الأمن الإنساني في خلافة الإمام الحسن عليه السلام - دراسة مقارنة بين مفاهيم القرآن والعترة ومفاهيم الأمم المتحدة رؤى نظرية أم وسائل تطبيقية، السيد نبيل الحسني، ط 1، 1438 ه - 2016 م، مؤسسة علوم نهج البلاغة، العراق - كربلاء المقدسة - العتبة الحسينية المقدسة.

5. الإنسانية المثالية عند الحسن بن علي عليهما السلام (دراسة تحليلية)، تأليف الدكتور رحیم کریم علي الشريفي ، ط 1، 1435 ه - 2014 م ، دار البرهان، بيروت - لبنان.

6. بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، العلامة الشيخ محمد باقر المجلسي (ت 1111)، ط 2، 1403 ه - 1983 م، مؤسسة الوفاء، بيروت - لبنان.

7. البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي محمد بن يوسف الغرناطي (ت 745 ه)،

ص: 28

ط 2، 1392 ه - 1978 م، دار الفكر.

8. تصنیف غرر الحکم، عبد الواحد الآمدي التميمي من علماء القرن الخامس الهجري.

9. في رحاب القرآن 8 - (سنة التعميم في القرآن)، محمد مهدي الآصفي، ط 1، 1424 ه - 2003 م، المشرق للثقافة والنشر، یاران - طهران.

10. المعجم الموضوعي لنهج البلاغة، اویس کریم محمد (معاصر)، مجمع البحوث الإسلامية، ط 2، 1408 ه، مشهد.

11. مکارم الأخلاق ورذائلها، ولي أمر المسلمين السيد علي الخامنئي، إعداد السيد علي عاشور، ط 1، 1428 ه - 2008 م، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت - لبنان.

12. نهج البلاغة، شرح الشيخ محمد عبده، ط 1، 131 ه - 2010 م، مطبوعات دار الأندلس النجف الأشرف، بيروت - لبنان.

ص: 29

ص: 30

أوصاف خَلْق الانسان في نهج البلاغة الخطبة الغرَّاء العجيبة إنموذجا دراسة أسلوبية

اشارة

م. د. سحر ناجي المشهدي

ص: 31

ص: 32

المقدمة

في هذه الدراسة سنسلط الضوء على أهمية الالفاظ الواصفة للخلق الانساني في وصف الامام علي (عليه السلام) في نهجه الثري تفصيلا وبيانا، وبيان أهم الأوصاف التي جاءت في (الخطبة العجيبة أو الخطبة الغرّاء) التي بينت أوصاف الانسان منذ بدأ تكوينه نطفة فعلقة ثم مضغة..... الخ.

و فيها بيان لعظمة الخالق في وصفه للانسان، إذ ركزت دراستنا على انسانية الامام في وصفه بالفاظ متداولة مستنبطة من النهج القرآني الذي تعدد فيه وصفه الخلقي الانساني الذي أخذ بعدين في هذا الوصف (البعد او الدلالة الحقيقية و البعد او الدلالة المجازية)، واكثر خطب النهج التي حفلت بهذه الأوصاف هي هذه الخطبة؛ و لعل السبب في وسمها بهذا الاسم لوصفها الانساني الخلقي.

و دراستنا تقوم على الوصف التحليلي للخطبة ودراسة الالفاظ تحليلا لغة واصطلاحا ومن ثم دراستها داخل السياق العلوي ووظيفة المفردة اللغوية جمالية واداء.

فشغلت الفاظ مراحل خلقه مساحة واسعة من الخطاب العلوي غطى فقرات كاملة و مستقلة، و منهجنا في البحث هو الدراسة التحليلية الأسلوبية التركيبية؛ لفهم طبيعة النص العلوي و معرفة اسراره، وقد تنوعت مصادر البحث فجاءت تاريخية و بلاغية وادارية و شروح للنهج، و آخر دعوانا ان الحمد لله رب الهالمين و الصلاة و السلام على نبي المرسلين سيدنا محمد و آله و صحبه أجمعين.

أولاً: الخطبة الغراء (النَّص):

قالَ أميرُ المؤمنين عليُ بن أبي طالبٍ (عليه السَّلام): «أمْ هَذا الذَّي أنْشَأه في

ص: 33

ظلماتِ الأرحامِ، و شُغُفُ الأستارِ، نُطْفة دِهاقاً، و عَلَقَة محاقا، و جنیناً و راضعاً، وولِيداً و يَافعاً، ثمَّ منحَه قلباً يافعاً، ولسَاناً لافِظاً، وبَصَراً لاحِظاً، ليفهمَ مُعتبراً، ويقصّر مزدجراً، حتى إذا قامَ اعتداله، واستوى مثاله، نفرَ مستکبراً، وخَبطَ سادِراً، ماتحاً في غرب هواه، کادحا سعياً لدنياه، في لذات طربه، و بذوات أربه ثمَّ لايحتسب رزية، ولا يخشع تقية، فماتَ في فتنته غريراً، وعاشَ في هفوتهِ يسيراص، لم يُفِد عوضاً، و لم يقضِ مُفترضاً، دهمته فجعات المنية في غبر جماحه، و سنن مراحه، فظلّ سادراً، و باتَ ساهراً، في غمرات الآلآم، و طوراق الأوجاع و الأسقام، بين أخٍ شقيق، ووالد شفيق، وداعية بالويلِ جزعاً، و لادمة للصَّدِر قلقاً، والمرء في سكرةِ ماهثة، و غمرة كارثة، و أنّةٍ موجعة، و جذبة مكربة، و سوقة متعبة، ثم أدرج في أكفانه مبلسا، و جذب منقادا سلسا، ثم ألقي على الاعواد رجیع و صب، و نضو سقم، تحمله حفدة الولدان، و حشدة الاخوان، الى دار غربته، و منقطع زورته، و مفرد وحشته، حتى اذا انصرف المشيع، و رجع المتفجع، أقعد في حفرته نجيا لبهتة السؤال، و عثرة الامتحان. و اعظم ما هنالك بلية نزول الحميم، و تصلية الجحيم، و فورات السعير، و سورات الزفير، لافترة مريحة، و لادعة مزيحة، و لاقوة حاجزة، و لاموتة ناجزة، و لاسنة مسلية، بين اطوار الموتات، و عذاب الساعات! إنا بالله عائذون!

عباد الله، أين الذين عمروا فنعموا، و علموا ففهموا، وانظروا فلهواء وسلموا فنسوا! امهلوا طويلا، و منحوا جميلا، و حذروا اليما، ووعدوا جسيما! احذروا الذنوب المورطة، و العيوب المسخطة.

أولي الأبصار و الاسماع، و العافية و المتاع، هل من مناص أو خلاص، أو معاذ أو ملاذ، أو فرار أو محار! أم لا؟ «فأنى تؤفكون«! أم أين تصرفون؟ أم

ص: 34

بماذا تغترون! وإنما حظ احدکم من الأرض، ذات الطول و العرض، قید قده، متعفرا على خده! الآن عباد الله و الخناق مهمل، والروح مرسل، في فينة الارشاد وراحة الاجساد، و باحة الاحتشاد، و مهل البقية، و أنف المشية، و إنظار التوبة، وانفساح الحوبة، قبل الضنك و المضيق، و الروع و الزهوق، و قبل قدوم الغائب المنتظر و إخذة العزيز المقتدر». نهج البلاغة: خ 83 / 71 - 74

ثانياً: الدراسة:

«أمْ هَذا الذَّي أنْشَأه في ظلاتِ الأرحامِ، و شُغُفُ الأستارِ، نُطْفة دِهاقاً، و عَلَقَة

محاقا، و جنيناً و راضعاً، وولِيداً و يَافعاً(1).

بدأ الامام (عليه السلام) خطبته ببيان خلقة الانسان و ما انعم عليه من نعم ظاهرة وباطنة مستفهما ب(أم) التي أختلف شُراَّح النهّج فيها، اذعدها المعتزلي (ابن ابي الحديد) على احد الوجهين: إمَّا أن تكون (استفهامية) على حقيقتها، أو (منقطعة) بمعنى (بل) بل اتلو علیکم نبأه(2)، أما البحراني فرجح الاستفهام؛ لأنه في معرض التقريع و اعتبار النفس و الخلقة على جزئیات النعم، وكأن (أم) معادلة لهمزة الاستفهام والتقدير: أليس الله فيما اظهره من العجائب عبرة للانسان، أما الخوئي فقال: «لايخفى مافي ماذكره من الاغلاق و الابهام بل عدم خلوه من الفساد، إذ لم يفهم من كلامه أن (أم) متصلة ام منفصلة، فان قوله: (أم) للاستفهام مع قوله: وكأن (ام) معادلة همزة الاستفهام يفيد کون (أم) متصلة إلا أنه ينافيه قوله هو استفهام في معرض التقريع لأنّ (أم) المتصلة لابدّ أن تقع بعد مزة التسوية»(3).

ثم أتم كلامه بأنه يجوز جعل (أم) متصلة مسبوقة بهمزة الاستفهام اي اذکرکم وأعظکم بما ذکرته وشرحته لكم أم أذكركم بهذا الذي حاله كذا و كذا، ويجوز

ص: 35

جعلها منفصلة مسبوقة بالهمزة للاستفهام الانکاري الإبطالي، و التقدير أليس فيما ذكرته تذكرة للمتذر و تبصرة للمتبصر، بل في هذا الانسان الذي حاله فلان، واختتم قائلا: «وهذا كله مبني على عدم كون الخطبة ملتقطة و أن لا يكون قبل قوله (عليه السّلام) أم هذا (آه)، حذف وإسقاط من السيد، وإلا فمعرفة حال (أم) موقوفة على الاطلاع و العثور بتمام الخطبة(4)

وقوله: (في ظلمات الارحام) هما ظلمنا البطن و الرحم، اذ خلق الانسان بالترتیب (عناصر و مرکبات تغذيه ثم أخلاط وبعدها النطفة و العلقة و المضغة و العظلم و اللحم)

قال تعالى: «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ «ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ. ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ»(5).

وجاء في ترتيب احواله و تنقل السن به الى ان يتناهی شبابه في فقه اللغة و سر العربية: «مادام في الرحم فهو جنين فإذا وُلِد فهو وليد ومادام لم يستتم سبعة أيام فهو صديغ، لأنّه لا يشتد صدغه الى تمام السبعة ثم مادام يرضع فهو رضيع ثم اذا قطع عنه اللبن فهو فطيم «و جاء في ترتيب سن الغلام «يقال للصبي اذا وُبِد رضيع وطفل ثم فطيم ثم دارج ثم حَفْر ثم يافع ثم شَدخ ثم مُطَبَّخ ثم کوکب»(6).

وذكر لنا (عليه السلام) اثنان وعشرون اسماً منصوباً (نطفةً، علقةً، جنيناً، راضعاً، و ليداً، يافعاً، معتبراً، مزدجراً، مستكبراً، سادراً، ماتحاً، کادحاً، لا يحسب، لا يخشع، غریرا، مبلسا، منقادا، سلسا، رديع، صب، نضو سقم، و نجيا) كلها أحوال، و العامل فيها ما قبلها من الأفعال، و (سعیًا) مصدر و (في

ص: 36

الذات طربه) متعلق ب (کادحاً) و قد يحتمل الحال، و (تقية) مفعول لأجله، و(يسيراً) صفة، و تقديره زمانا يسيرا، و (جزعا، قلقاً) منصوبان على المفعول له(7).

بدأ الامام حديثه عن خلقة الانسان ذاماً له عن نشأته في (ظلمات الأرحام): و الظلمات قد تكون ظلمة البطن و الرحم و المشيمة، و شغف الأستار و الشُغُف غلاف القلب، ثم بدأ يتحدث عن مراحل تكوينه؛ تحقيراً له متصدراً بالنطفة، و ذكر العناصر ثم المركبات التي تغذيه (نطفة، علقة، مضغة، عظام، لحوم،..... الخ)

ثالثا: الألفاظ التي تدلُّ على مراحل خلق الانسان:

1. النًّطفة: ورد هذا اللفظ في اكثر من موضع من النهج(8).

ف«النون و الطاء و الفاء اصلان أحدهما جنس من الحلي، و الآخر ندوة و بلل، ثم يستعار و يتوسع به، و النطفة هي الماء الصافي»(9).

وقد اطلقت في القرآن الكريم للدلالة على الماء القليل للرجل، الذي يكون منه الولد، فالفاظ القران لم تطلق لتحبس ولكنها وجدت ليتم تداولها و الارتقاء بدلالتها(10).

وتشكل المرحلة الأولى لتشكيل الجنين، وقد وردت في قول الإمام (عليه السلام) تحقيرا للانسان قائلا: «أم هذا الذي أنشأناه من نطفة دهاقاً»(11)، فوصفت ب(دهاقا)، و الدَّهَقُ: خشبيتان يُغمَزُ بهما الساق، و كأس دِهاق: مَلأى. و أدهقتها: شددتُ ملأها(12).

وجاء هذا اللفظ مفردا في ستة مواضع أخرى من النهج، منها قوله (عليه

ص: 37

السلام): «و قد رأيت أن أقطع هذه النطفة إلى شرذمة منكم»(13).

وقال في موضع آخر: «ما لابن آدم و الفخر أوّله نطفة و آخره جيفة و لايرزق نفسه ولايدفع حتفه»(14)

وجاء هذا اللفظ مجموعا على زنة (فُعَلُ): «كلاّ و الله إنهم (الخوارج) نطف في أصلاب الرّجال و قرارات النساء»(15)، و مجموعا على زنة (فِعَال) في قوله الى عامله على الصدقات: «و ليروحها (الناقة) في الساعات و لیمهلها عند النطاف و الاعشاب»(16).

2. العَلَقة: وهي المرحلة الثانية من رحلة الجنين في رحم أمه وتطلق من قبل و العَلَقُ: الدَّمُ الجمد قبل أن ييبس و قطعته عَلَقة(17).

قال ابن فارس: «العين و اللام و القاف أصل كبير صحيح يرجع الى معنی واحد، وهو أن يناط الشّيء بالشيء العالي. ثم يتسع الكلام فيه، و المرجع كله الى الاصل الذي ذكرناه، ... و العلق: الدم الجامد، و قياسه صحيح، لأنه يعلق بالشيء؛ و القطعة منه عَلَقَة»(18)

قال تعالى: «خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ»(19)

وخلق الانسان اي ابن آدم، من دم، وأراد بالانسان الجمع، فكلهم خلقوا من علق بعد النطفة، و العلقة قطعة من الدم الرطب، وخص الانسان بالذكر تشریف له؛ اذ بين قدر نعمته عليه بأنه صار بشراً سوِّيا من علقة مهينة(20) و يبدأ العلوق في اليوم السابع لللقيح، فتعلق النطفة في جدار الرحم(21).

(مِحَاقاً) «ام هذا الذي أنشأناه في ظلمات الارحام...... نطفة دهاقا و علقة محاقا»، ويقال لمحقه الله فانمحق: ذهب خيره و برکته و نقص، وهو آخر الشهر

ص: 38

اذا انمحق الهلال فذهب(22).

جعل العلقة محاقا؛ لأنّها لم تحصل لها الصورة الانسانية بعد.

3. الجَّنين: مادام في الرحم يسمی جنینا قال تعالى: «وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ»(23) الجيم و النون أصل واحد، وهو الستر، يقال: أجنت الحامل الجنين أي الولد في بطنها و جمعه أجِنَّة(24).

4. الرَّاضِع: مابعد الولادة فيكون راضعا يمتص ثديها، قال ابن فارس: «الراء و الضاد و العين أصل واحد، وهو شرب اللَّبن من الضّرع أو الثّدي. تقول رَضِع المولود يرضَع»(25)

قال في صفة اصحاب الجمل: «وان اعظم حجتهم لعلى انفسهم يرتضعون أما قد فطمت»(26)

وعلى زنة (فَعَال) «فلما احلولت لكم الدنيا في لذتها و لا تمكنهم من رضاع اخلاقها»(27)

و متصلا ب(ها): «حتى تقوم الحرب بكم على ساق.... حلوا رضاعها»(28)

و جاء اسم الفاعل (راضع) في صفة الانسان إذ قال الامام (عليه السّلام) «أنشأناه في ظلمات الارحام... و جنینا و راضعا«(29)

5. الوليد: الولد: اسم يجمع الواحد و الكثير للذكر والانثى، و الوليد هو الصبي، و الوليدة الامة، ويقال: وَلَدُ الرجل ووُلْدُه في معنىً، و وَلَدُه و رَهْطُه في معنىً، و شاة والد: حامل، و الجميع وُلَّد(30).

قال ابن فارس: «الواو واللام و الدال: أصل صحيح، و هو دليل النَّجل و النسْل، ثم يقاس عليه غيره. من ذلك الوَلد، و هو للواحد و الجميع، و يقال

ص: 39

للواحد وُلْدٌ أيضاً«(31)

و تکرر لفظ (مولود) منها قوله (عليه السلام): «من الوالد الفان، المقر للزمان، المدير العمر، المستسلم للدنيا، الساكن مساكن الموتى، و الظاعن عنها غدا؛ الى المولود المؤمل مالايدرك»(32)

و فيها وصية الامام لابنه الحسن (عليه السَّلام) جمع فيها اصناف المواعظ و النصائح، فجرد نفسه الزّكية والداً للكل او مثالا لكل الاباء، وابنه الحسن ولدا لكل الأولاد فهو امام مبشر ومنذر بلا سلاح.(33)

6. الفطيم: فطمت الصبي أمّه تفطمه: تقطعه عن الرِّضاع، و الغلام فطيم و مفطوم، و الجارية فطيمة و مفطومة(34).

قال ابن فارس: «الفاء و الطاء و الميم أصل صحيح يدلُّ على قطع شيء عن شيء. يقال: فَطَمَت الأم ولدها، و فطمت الرجل عن عادته.. ومنه فِطام الأم ولدَها»(35).

و جاء فطيما على زنة (فعيلا) في قوله (عليه السّلام):(36)

7. اليافع: اليَفاع: التلُّ المُنيف، و كل شيء مرتفع يَفاع، و غلام يفعة، وأيفعَ ويَفَعَ اي شبَّ و لم يبلغ، وجمعه أيفاعٌ(37).

قال ابن فارس: «الياء و الفاء و العين: كلمة تدلُّ على الارتفاع. فالیَفَاع: ماعلا من الارض. ومنه يقال: أيفعَ الغُلام، إذا علا شبابه، فهو يافع ، ولا يقال مُوفِع»(38).

ص: 40

رابعاً: أنواع السجع في الخطبة الغرّاء:

السجع أو الفاصلة هي الكلمة الاخيرة في القرينة، و يسميها بعضهم قافية النثر(39).

ويعرف بأنه: «توافق الفاصلتين في الحرف الاخير من النثر»(40)

وأتضح في خطب الامام هيمنة السجع على النصوص. وقد تنوعت أنواع السجع:

1. السجع المطرف: و هي ان تتفق الكلمتان في حروف السجع لا في الوزن(41).

2. و عرفه ابن الزملكاني (ت 651 ه) قائلا: «فان فات الوزن سمي مطرفا»(42)

3. وذهب عبد العزيز عتيق بأنه ما: «اختلفت فيه الفاصلتان او الفواصل وزنا واتفقت رویا»(43)

4. المرصع: ماكانت احدى القرينتين من الالفاظ او اكثر مافيها مثل مايقابله من الاخرى في الوزن و التقفية أو ماتفقت فيه الفاظ احدى الفقرتين او اكثر في الوزن و التقفية.

5. المتوازي: ما اتفقت فيه الفاصلتان في الوزن و التقفية

6. المتوازن: ان تراعى في الكلمتين الاخيرتين من القرينتين الوزن دون التقفية(44). و يبدو ان نهاية بيت الشعر تسمى القافية ونهاية النثر سجعا ونهاية الآية فاصلة(45).

ويحتوي السجع على مؤثرات صوتية نغمية تتردد بشكل سلسا، ومن خلالها يستطيع الفرد ايجاد روابط بين طرفي الكلام للمتكلم و المخاطب، فيحدث ايحاءات بلاغية جمالية مما يجعل النص قويا متماسكا غير مجتزء، اذ تتشابه نهايات الفقرات و

ص: 41

سنقوم بتقسيم الخطبة الى فقرات لمعرفة انواع السجع الواردة فيها:

7. السجع المطرف: ورد هذا النوع من أنواع السجع في عدة مواضع من الخطبة و منها:

حتى إذا قامَ اعتداله: ا ع / ت / دَ ا / لُ / هُ 7 حروف

واستوى مثاله: مِ / ثَ ا / لُ / 5 حروف

اختلف الوزن بين المقطعين ف(اعتداله) على زنة (افْتِعَالهُ) و (مِثالُهُ) على زنة (فِعاله)؛ الا أنهما اتفقا في الروي لكل منهما (لُهُ)، وأفعالهما (قامَ و استوی) يدلان علی کمال الخلقة

(حتى اذا قام اعتداله) بتناسب و استقامة فأتمَّ خلقه و تناسبت اعضاؤه و كملت قوته فلما اتمّ خلقه نفی و استكبر و لم يأتِ ما امر وادركه الموت، و ذهب البحراني الى أنه استعار الغب لهواه فيملأ به ذو الغرب غربه من الماء و رشح الاستعارة بذكر المتح، لأن طرفي التشبيه مذکور و هو تشبیه بلیغ، و لأن الهوى يكون سببا لملأ الصحائف للاعمال(46).

و جاء السجع المطرف ايضا في قوله (عليه السلام): «نفر مستکبرا و خبط سادرا»

وتقطيعه: نفرَ مستکبراً: نَ / فَ / رَ / مُ س / تَ ك / بِ / رَاً 7 حروف

و خَبطَ سادِراً: خَ / بَ / طَ / سَ ا / دِ / رَاً 5 حروف

و الفاصلتان (مُسْتَكْبِراً، سَادِرَاً) اختلفا في الوزن (مُفْتَعِلاً، فَاعِلَاً)؛ إلاّ إنّهما اتفقا في في حروف الروي و التقنية (راً). وأفعالهما (نفر و خبط) على زنة (فَعَلَ) يدلان على الامتناع و الإباء و هي من صفات الانسان المغرور، و النفر: «النون

ص: 42

والفاء والراء: أَصل صحيح يدل على تجافٍ و تباعد. منه نفر الدّابة و غيره نِفاراً، و ذلك تجافيه و تباعده عن مكانه و مقره»(47).

أما الخبط «فالخاء والباء و الطاء أصلٌ واحد يدلُّ على وطءٍ و ضَرب. يقال خبط البعير الأرض بيده: ضربها. ويقال خَبَط الوَرَقَ من الشَّجَر، وذلك اذا ضربه ليسقُط»(48).

و قوله: مَاتِحاً في غرب هواه: هَ / و ا / هُ 4 حروف

کادِحا سعياً لدُّنياه: لِ / دُ ن / يَ ا / هُ 6 حروف

فالفاصلتان (هَواهُ دُنْيَاهُ) اختلفتا في الوزن؛ لكنّهما اتفقتا في في الروي لكل منهما (اه) و الفاظ (ماتِحاً و کادِحاً) على زنة (فاعِلاً)يدلان على اسم الفاعل (من قام بفعلي المتح و الكدح، و هما من صفات الانسان ف(المتح): الميم و التاء و الحاء أصيل يدلُّ على مَدَّ الشّيء وإطالته، و متح النهار: امتدَّ، والمَتح الاستقاء(49).

والكَدْح: الكاف و الدال و الحاء أصل صحيح يدلُّ على تأثير في شيء، و کدحه خدشه و کدح کسب زمنه قوله« إنّك كادح «ای کاسب(50).

لم يُفِد عوضاً: عِ / وَ / ضَ اً

و لم يقضِ مُفترضاً: مُ ف / تَ / رِ / ضَ اً

اتفق حرفا الروي (ضاً)، و اختلفا في الوزن ف(عِوَضَاً) على زنة (فِعَلاً)، و (مُفْتَرِضَاً) على زنة (مُفْتَعِلاً).

و قوله (عليه السلام): «ثم أدرج في أكفانه مبلسا و جذب منقادا سلسا»

مُبلِساً: مُ ب / لِ / سَ اً

ص: 43

سَلِسَاً: سَ / لِ / سَ اً

والفاصلتان (مُبْلِسَاً) و (سَلِسَاً) اتفقتا في حرفي الروي (سَاً) و اختلفتا في الوزن؛ ف(مُبْلِسَاً) على زنة (مُفْعِلاً) و(سَلِسَاً) على زنة (فَعِلاَ)، وأفعالهما (أدْرِجَ) و (جُذِبَ)

ف(أُدرِجَ، و جُذِب) دليل على أنّه مسيَّر، و أكفان و منقاد

حتى اذا أنصرف المُشِّيع: ا ل / مُ / شَّ / يِ ع

و رجع المُتفَجِّع: ا ل / مُ / تَ / فَ / جِ ع

فالمُشَيِّع: على زنة مُتَفَّعِل، والمُتَفَجِّع على زنة (مُتَفَعِّل) واتفقا في الروي (ع) فهو سجع مطرف، و(المُشَيِّع و المُتَفَجِّع) لفظان يدُّلان على من قام بحمل الميت لوداعه لمثواه الاخير

و أنْظِرُوا فَلَهوْا: أَن / ظِ / رُو / فَ / لَ / هُ و

سُلِّمُوا فَنَسُوا: سُ ل / لِ / مُ و / فَ / نَ / سُ و

اتفقت الفاصلتان في حرفي الروي (وا) واختلفتا في الوزن؛ ف (لَهَوا) على زنة (فَعَوا)، و (نَسُوا) على زنة (فَعُوا)، وافعالهما (أنظِرُوا) و (سُلِّمُوا)

احْذَرُوا الذُّنوب المُوَرِّطَة و العُيُوب المُسْخِطَة:

ا ل / مُ / وَ ر / رِ / طَ ة

ا ل / مُ س / خِ / طَ ة

اتفقت الفاصلتان في حرفي الروي (طَة) و اختلفتا في الوزن؛ ف(المُورِّطَة) على زنة (المُفعِّلَة)، و (المُسْخِطَة) على زنة (المُفْعِلَة)

ص: 44

والملاحظ التوافق بين (الذُّنوب و العيوب) فكلاهما على زنة (فُعُول) وهي صيغة جمع الكثرة، و الملاحظ أن الأمام وصف الذنوب ب(المُورِّطة) للدلالة على عظم هذه الذنوب

ووصف العيوب بصفة (المُسْخِطَة) للدلالة على السخط.

الأسماع: أَ ل / أ س / مَ / عِ

المَتَاع: أ ل / مَ / تَ / عِ

اتفاقهما في الروي دون الوزن

و قوله (عليه السلام): «فأنى تؤفكون أم أين تُصرَفُون! أم بماذا تَغْتَرُّن»

تٌ ؤ / فَ / كُ / وُ ن 6 حروف

تُ ص / رَ / فٌ / وٌ ن 6 حروف

تَ غ / تَ / ر رُ / وُ ن 7 حروف

اتفق السجع (تؤفكون و تصرفون) في حرفي الروي و الوزن؛ فكلاهما على زنة (تُفْعَلُوُن)؛ و لكنهما لم يتفقا في الوزن مع الفاصلة الثالثة (تَفْعَلُوُن) فأتفقوا في الروي واختلفوا في الوزن و هي من السجع المطرف، فختم المقاطع بحرف النون مسبوقا بحروف المد يحدث التطريب وهو ما اشار اليه الزركشي اذ ذهب الى ان ختم المقاطع بحروف المد و اللين واتباعها بالنون هي حكمة التمكن من التطريب(51).

تقول د. عائشة عبد الرحمن: «لعل جلال الفواصل القرانية في نسقها الفريد، يعفينا من لدد خصومة بين اصحاب اللفظ واصحاب المعنى، لا يعرفها

ص: 45

ذوق العربية المرهف في البيان الاعلى بالكتاب العربي المبين«(52).

المَضِيق: مَ / ضِ / يِق على زنة (مَفعِل)

الزُّهُوق: ز زُ / هُ / وُ ق على زنة (الفُّعُول)

اتفاق في الروي دون الوزن فهو سجع مطرف.

8. السجع المتوازي: ورد هذا النوع في اكثر من موضع من هذه الخطبة و منها:

((نطفة دِهَاقاً و علقة مِحاقاً)): نُ ط / فَ / ةٍ / د / ه ا / ق ا 9 حروف عَ / لَ / قَ / ةٍ / مِ / حَ ا / ق ا 9 حروف

ف(دِهاقَاً، مِحَاقَاً) علی زنة (فِعَالَاً) تساوى فيهما الوزن و حرف الروي فجاء (اقا) لكل منهما فهو من السجع المتوازي، و افعالهما (دهق) و (محق)، و فيهما يقول ابن فارس: (دهق): «الدال و الهاء و القاف يدلُّ على امتلاء في مجيء و ذهاب واضطراب. يقال أدْهَقْتُ الكأسَ: ملأتُها. قال الله تعالى: «وَكَأْسًا دِهَاقًا»(53)

و محق: الميم و الحاء و القاف كلمات تدلُّ على نقصان. و حقه: نقصه. و كلُّ شيء نقص وُصِف بهذا، و المَحاق: آخر الشَّهر إذغ تمحقَّ الهلال»(54) و نطف: «النون والطاء و الفاء أصلان أحدهما جنس من الحلي، و الآخرة نُدُوَّة و بلل، ثم يستعار و يتوسع فيه(55).

جَنيناً راضِعاً و وليدا يافعا: جَ / نِ ي / نَ اً / رَ ا / ضِ / عَ اً 10 حروف وَ / لِ ي / دَ ا / فِ / عَ اً 10 حروف

فالجنين و الوليد كلاهما على زنة (فَعِيل) تشابه وزنهما دون الاتفاق في حرف

ص: 46

الروي، و (رَاضِعَاً، يَافِعَا) على زنة (فَاعِلاً) اسم الفاعل من الفعلين (رضَعَ و يَفعَ) تشابه فيهما الوزن و الروي فجاء (عا) لكل منهما.

لَ ا / فِ / ظَ اً: 10 حروف

لَ ا / حِ / ظَ اً: 10 حروف، فجانس بين (لافظاً و لاحظاً) في الحركات و الوزن، واختلف بحرف واحد وهو عين الكلمة (الفاء و الحاء)، والجناس يبعث في الذهن للمتلقي و السامع تجاوب موسيقس تتماثل الفواصل فيه فتشد الاسماع و تهتز تاقلوب، و لتقوية جرس الالفاظ وجب الانتباه للسامع بألفاظ متجانسة، و السجع هو سجع متوازي اتفقا في الوزن و القافية.

لِيفهم مُعْتَبِرَاً: لِ / يَ فْ / هَ م / مُ ع / تَ / بِ / رَ اً 11 حرف

و يقصّر مزدجراً: يُ / قَ صُ / رُ / مُ ز / دَ / جِ / رَ اً 10 حروف

نلحظ تنويعاً في ايقاع السجع؛ وذلك لأنّه (عليه السلام) في مقام التعليل، والفرق بين المقطعين بحرف واحد، و السجع متزازي، اتفقت الفاصلتان في الروي (رَاً)، و في الوزن (مُفْتَعِلَاً)

في لذَّات طربه: لَ ذ / ذَ ا / تِ / طَ / رَ / بِ ه 4 حروف

و بدوات أربه: بَ / دَ / وَ ا / تِ / أَ / رَ / بِ ه 4 حروف

و الجناس واضح بين اللفظين و الاختلاف بينهما بحر في (أ، ط)، اتفقت الفاصلتان في الروي (ربه)، و في الوزن (فَعَلِهِ).

و الأرب: الهمزة و الراء و الباء لها اربعة اصول اليها ترجع الفروع: و هي الحاجة و العقل و النصيب و العَقد. فأما الحاجة فقال الخليل: الأرَب الحاجة، و ما أربك الى هذا، اي ما حاجتك وهو العقل، و منه الفوز و المهارة بالشيء، وهو

ص: 47

نصيب اليسر من الجزور(56).

ثمَّ لا يحتسب رَزِّية: (لا) رَ / زِ ي / يَ ه النبر (يَ ه)

ولا يخشع تَقِّية: (لا) تَ / قِ ي / يَ ه (يَ ه)

وكلا اللفظين منفیان ب(لا) النافية غير العاملة، وهي تنفي حدوث الفعل في الزمنين الحاضر والمستقبل و الفعلان (يحتسب و يخشع) يدلان على

والرَزِّية و التَّقية على زنة (فَعِّية) اتفقا في الوزن وفي حرفي الروي (ية)

فماتَ في فتنته غريراً: غَ / رِ ي / رَ اً

و عاشَ في هفوتهِ يسيرا: يَ / سِ ي / رَ اً

و کلا اللفظين على زنة (فعيلا) اتفقا في الوزن و في حرفي التقفية (رَ اً) وهو سجع متوازي،

و هنا مقابلة ضدية بين (مات و عاش)، وهنا يصور الامام (عليه السّلام) مرحلة اخرى ينتقل فيها الانسان الى رحلة جديدة، فمات: أصلها موت «الميم و الواو و التاء أصل صحيح يدلُّ على ذهاب القوة من الشّيء. منه المون: خلاف الحياة«(57).

دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ المَنِيَّةِ في غُبَّرِ جِمَاحِه: غُ ب / بَ / رِ / جِ / مَ ا / حِ / هِ

و سَنَنِ مِرَاحِهِ: سَ / نَ / نِ / مِ / رَ ا / حِ / هِ

وبين (جماحه و مراحه) اتفاق في الوزن (فعاله) و التقفية (احه)

فظلّ سادراً: فَ / ظَ ل / لَ / سَ ا / دِ / رَ اً 8 حروف

و باتَ ساهراً: بَ ا / تَ / سَ ا / هِ / رَ اً 8 حروف

ص: 48

وأفعال (ظلَّ وبات) يدلان على الاستمرارية، و(سادِراً و ساهِراً) بينهما جناس مضارع اذ اختلفا في حرف واحد وهو (الدال و الهاء) مع تقاربهما في المخرج، اتفقا في الوزن وفي التقفية، فجاء كلاهما على زنة (فاعلاً) وفي التقفية (رَاً) وبينهما سجع متوازٍ.

و السادر الخبط: خبط البعير اذا ضرب بيديه الى الارض، و مشي لايتوقی شيئا، و السادر: المتحير، و السادر: الذي لايهتم ولا يبالي ماصنع و يحتمل كلاهما.

السادر هاهنا (المغمى عليه) وكأنه السكران، و أصله من سدر البعير من شدة الحر وكثرة الطّلاء بالقَطِران فهو كالنائم لايحس، وأريد به (المرض)، و (لادِمة للصدر): ضاربة له، و التِدام النساء: ضربهنَّ الصدور عند النياحة. سكرة مُلْهِثة: تجعل الإنسان لاهثاً لشدّتها(58).

في غمرات الآلآم: ا ل / ء ا / لَ ا / مِ 7 حروف

و طوراق الأوجاع و الأسقام: ا ل / أ و / جَ ا / عِ 7 حروف

ا ل / أَ س / قَ ا / مِ 7 حروف

التوافق بين (الالام، الأوجاع، الأسقام) وهي الفاظ تدل على (الالم و الوجع و الضيق)

وكلها على زنة (أفْعَال) و هو جمع قلة

بين أخٍ شقيق: شَ / قِ ي / قِ ن

و والد شفيق: شَ / فِ ي / قِ ن

فالاتفاق في الوزن (فعيل) و القافية (يق)، و هو من السجع المتوازي، و

ص: 49

التناسب بين (أخ و والد) و كلاهما يدلان على صلة القربى

تحمله حفدة الولدان: حَ / فَ / دَ ة / ا ل / وِ ل / دَ ا ن 11 حرف

وحشدة الاخوان: حَ / شَ / دَ ة / ا ل / أ خ / و ا ن 11 حرف

تماثل الفواصل في عدد الحروف و المقاطع، و الجناس بين (الولدان و الاخوان) الذين يمثلون الاقارب، والسجع متوازي اتفقت حروف الروي (ان)، وتشابها في وزنيهما (فعلان) ، و(حفدة و حشدة) تدلُّ على صلة القرب.

الى دار غربته: غُ ر / بَ / تِ / هِ

و منقطع زورته: زَ و / رَ / تِ / هِ

و مفرد وحشته: وَ ح / شَ / تِ / هِ

اتفقت الفواصل (غربته و زورته و وحشته) في الوزن (فعلته) والقافية (تِه) فهو سجع متواز، و الفاظ (دار و منقطع و مفرد) نجد فيها

و اعظم ما هنالك بلية نزول الحميم

نزول الحميم: ا ل / حَ / مِ / ي م

و تصلية الجحيم: ا ل / جَّ / حِ / يِ م

و فورات السَّعير: ا ل / سَّ / عِ / يِ ر

و سورات الزَّفير: ال / زَّ / ف ي ر

و لفظ (أعظم) لفظ تفضيل و (ما) زائدة، دليل على أن أشدّ انواع العذاب هو (نزول الحميم)

ص: 50

جاءت الفواصل متوافقة بين (حميم و جحيم) کلاهماعلى زنة (فعيل) مسبوقة بأداة التعريف (ال) اتفقا في الوزن والقافية فالسجع متواز، و كذلك (السَّعير و الزَّفير) علی زنة (الفَّعيل اتفقا في الزنة و الروي (ير) و الالفاظ كلها تدلُّ على العذاب و البلاء و الجزاء.

وتناسق مجيء (فورات و سورات) على زنة جمع مؤنث سالم ليدل على قلتها.

لا فَترَة مُرِيحَة: (لا) مُ / رِ ي / حَ ه

ولا دَعَةٌ مُزِيحَة: (ولا) مُ / زِ ي / حَ ه

ولا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ: (ولا) حَ ا / جِ / زَ ه

و لا مَوتَةٌ ناجِزَةٌ: (ولا) نَ ا / جِ / زَ ه

اتفقت الفاصلتان (مريحة و مزيحة) في الوزن (فعيلة) وحرف الروي (حة) وهو من السجع المتوازي، وبين (حاجزة و ناجزة) على زنة (فاعلة) واتفقا في حرف الروي (جزة) وهو سجع متواز.

وتكررت في المقاطع (لا) النافية الزائدة للتوكيد، و بعدها جاء مصدر المرة (فترة، دعة، قوة، موتة) ويدل على المبالغة و القوة

بين أطوار الموتات و عذاب السَّاعات إنا بالله عائذون!

أطوَار المَوتاتِ: ا ل / مَو / تَ ا / تِ

و عَذَابِ السَّاعَاتِ: ا ل / سَّ ا / عَ ا / تِ

و کلا اللفظين على زنة (فعلات) وهو جمع مؤنث سالم؛ فلم يأتِ بالموت طورا واحدا، و لم يأتِ بعذاب ساعة واحدة؛ بل جاء بهما جمعا مؤنثا سالما اتفقت

ص: 51

الفاصلتان في الوزن، و في حرفي الروي (ات) وهو سجع متواز.

عباد الله، أين الذَّين عُمِّروا فَنَعِمُوا، و عُلِّمُوا فَفَهِمُوا، و أنْظِرُوا فَلَهوْا، و

سُلِّمُوا فَنَسُوا!

عُمِّروا فَنَعِمُوا: عُ م / مِ / رُ و / فَ / نَ / عِ / مُ و

عُلِّمُوا فَفَهِمُوا: عُ ل / لِ / مُ و / فَ / فَ / هِ / مُ و

وافعال الجواب (نُعِمُوا، فُهِموا) مبنية للمجهول، و الملاحظ اتصال الكلام بالفاء الواقعة في جواب الاستفهام ب(أين)

أُمهِلُوا طَوِيلاً، و مُنِحُوا جَمِيلاً، و حُذِّرُوا ألَيمَاً، و وُعِدُوا جَسِيماً!

أُمهِلُوا طَوِيلاً: أُ م / هِ / لُ / و طَ / وِ ي / لَ ن

مُنِحُوا جَمِيلاً: مُ نِ / حُ و / جَ / مِ ي / لَ ن التماثل في حروف الروي بین (لن)

حُذِّرُوا ألَيمَاً: حُ ذ / ذِ / رُ و / أَ / لِ ي / مَ ن

و وُعِدُوا جَسِيماً: وُ / عِ / دُ و / جَ سِ ي / مَ ن التناسب في الروي فتلفظ (من)؛ إلاّ أنَّها تكتب (لاً)، و اتفقت الفواصل في وزنها على زنة (فَعِيلَاً) وجاء موقعهما مفعولا به لافعالهم

مَنَاص: مَ / نَ / ا ص

خلاص: خَ / لَ / ا ص

اتفاق في الوزن (فَعَال) وفي الروي (ا ص)

معاذ: مَ / عَ / ا ذ

ص: 52

مَلاذ: مَ / لَ / ا ذ

اتفاقهما في الوزن (فَعَال)، و في القافية (اذ)، و بينهما جناس غير تام، فاختلف اللفظان في عين الفعل (العين و اللام)

فِرار: فِ / رَ / ا ر

مِحار: مِ / حَ / ار

اتفاقهما في الوزن (فِعَال)، و في التقفية (ار)

الأرض: أ ر / ض العرض: عَ ر / ض

اتفاقهما في الوزن (الفَعْل) والروي (رض)

مهمل: مُ ه / مَ ل مرسل: مُ ر / سَ ل

اتفاقهما في الوزن (مُفْعَل)، و في حرف الروي (ل)

البقية و المشية و التوبة و الحوبة

9. السجع المتوازن: جاء هذا النع في عدد من مواضع الخطبة و كما يأتي:

((أم هذا الذي أنشأناه في ظلمات الأرحام، و شغف الأستار)):

الالفاظ - مقطع الفاصلة - عدد الحروف

الأرحام أ ل / أَ ر / حَ ا م 5 حروف

الاستار أ ل / أ س / تَ ا ر 5 حروف

استعمل الامام السجع في الفاصلتين، و هما (الأرحام، و الأستار) على زنة (أفْعَال) و هو وزن جمع قلة، و ختم بالمقطعين (حام و تار)، فأتفقا في الوزن دون

ص: 53

الروي وهو من السجع المتوازن، والفاظ ( ظلمات، الأرحام، والأستار): كلها تدلّ على (الخفاء و الستر)

ثمَّ منحَه قلباً يافعاً، و لسَاناً لافِظاً، و بَصَراً لاحِظاً،

يَ ا / فِ / عَ اً: 10 حروف

لَ ا / فِ / ظَ اً: 10 حروف

لَ ا / حِ / ظَ اً: 10 حروف

وكلًا من (يافعاً، لافظاً، لاحظاً) على زنة (فاعلاً) اسم فاعل، اتفقت (يافعا) و (لافظا، لاحظا) في الوزن دون الروي فهو من السجع المتوازن، و اشتقت الفاظهم من أفعال مختلفة (يفع) و (لفظ، لحظ) لكن الافعال كلها تدلُّ على وظيفة أجزاء البناء الجسماني للانسان؛ فالقلب هو الحافظ للمودة و الحب.

واللحظ: «لحظ العين؛ و لحَاظُها: مؤخرها عند الصُّدْغ»(59)، و اللسان يدل على وظيفة تأدية الكلام فيلفظ الكلام و اللفظ: «اللام و الفاء و الظاء كلمة صحيحة تدل على طرح الشَّيء؛ و غالب ذلك أن يكون من الفم. تقول: لفظ بالكلام يَبقِظ لَفظَا»(60).

و البصر يدل على الرؤية واللحظ و البصر: «

وداعية بالويلِ جزعاً: جَ / زِ / عَ اً

و لادمة للصَّدرِ قلقاً: قَ / لِ / قَ اً

اتفقا في الوزن (فَعِلَاً)، واختلفا في الروي (عاً، قَاً)

و المرء في سكرةِ ملهثة: مُ ل / هِ / ثَ ة

ص: 54

و غمرة كارثة: كَ ا / رِ / ثَ ة

و أنّةٍ موجعة: مُ و / جِ / عَ ة

و جذبة مكربة: مُ ك / رِ / بَ ة

و سوقة متعبة: مُ ت / عِ / بَ ة

اتفقت الفواصل في الوزن، فجاءت (مُلهِثة، مُوجِعَة، مُكرِبة، مُتْعِبَة) على زنة (مُفْعِلَة) واختلفت في القافية او (الروي) فهو سجع متوازن. ثم ذكر صفات حال الميت (و المرء في سكرة ملهثة) و (غمرة كارثة) قال الامام: «ثم ادرج في أكفانه مبلسا: حزينا، وجذب منقادا سلسا، سهلا لين، ثم القي على الاعواد، الاسرة، رجيع وصب و نضو سقم، من جهة ابتلائه بتارات الامراض کالابل الرجيع الذي يردد الاسفار (تحمله حفدة الولدان و حشدة الاخوان)

ثم ألقي على الاعواد رجیع و صب و نضو سقم

رجيع و صب: وَ ص / بٍ

و نضو سقم: سَ ق / مٍ

اتفق اللفظان فجاءا على زنة (فَعْلٍ) واختلفا في الروي، فهو سجع متوازن.

المُنتَظَر: مُ ن / تَ / ظَ ر (المُفتَعَل)

المُقتَدر: مُ ق / تَ / دَ ر (المُفتَعَل)

اتفق اللفظان في رویهما (ر) و في وزنيهما فهو سجع متوازن.

ويبدو لنا أن الأمام استخدم اسلوب التقريع لينبه الانسان على أنه مازال في حال التربية، و مسؤوليته إزاء اصحابه تدفعهه إلى الصلاح. و فيه تصویر عجز الانسان امام صنع الخالق و قدرته.

ص: 55

خامساً: الخاتمة

بعد هذا الرحلة مع (الفاظ الانسان في نهج البلاغة) توصل بحثنا إلى عدد من النتائج التي اجملت بالآتي:

1. كان لهذه الخطبة أثر كبير في حياة المسلمين في عهد الامام علي (عليه السلام)؛ إذ كشفت علاقة الانسان بربه، و علاقته مع نظيه من بني آدم، فقدم الامام وصايا إلى المجتمع الاسلامي بأسره وهي تهتم بالانسان، و علاقته بالخالق الجليل، فنهى النفس عن الأمل و الاعتماد على طول الاجل، وانتقاله من نطفة في رحم امه الى تشييع جثمانه الاخير وذكر (المشيع و المتفجع) و هي الفاظ تدلُّ على صورة الانسان وهو منقاداً الى حفرته و مثواه الاخير

2. وصور الجزاء بألفاظ (الحميم، السعير، الزفير، الجحيم) وفيها دلالة على الضيق و الحزن وذكر (الالام، الاسقام و الاوجاع) التي دلت على الوجع و الالم.

3. وظف الامام علي (عليه السلام) الالفاظ الدَّالة على خلق الانسان اتبّاعا لما جاء في القرآن الكريم؛ فبدأ بنطفة و علقة و جنین ثم راضع، و ولید، فطيم، و یافع، وكلُّها ألفاظ تدلُّ على مراحل تكوينه الجسماني، و هو ترتیب جاء أغلبه في المؤلفات التي تتناول المعجمات الموضوعية ك(فقه اللغة و سر العربية) للثعالبي.

4. تنوعت فواصل السجع في هذه الخطبة الغراء فجاءت بين المطرفة و المتوازية والمتوازنة؛ إلاّ أنَّ السجع المتوازي احتلَّ النصيب الوافر من هذه الخطبة ك(دهاقا و محاقا) و (راضعا و یافعا) و (معتبرا، ومزدجرا) ومن بعده المتوازن

ص: 56

ک(جزعا و قلقا) و (ملهثة و موجعة و مکربة ومتعبة) ومن ثم المطرفة ك(طربه و اربه) و (مستكبرا و سادرا) و

5. كثرت الاساليب البلاغية في الخطبة من تشبیه و جناس وهي من المحسنات التي تنمق الكلام و تزينه، و جاء الجناس غير التام في مواضع كثيرة من الخطبة ك(سادرا، و ساهرا) و شقيق، و شفيق).

6. و آخر دعوانا أن الحمد للهّ رب العالمين و الصلاة و السّلام على نبينا محمد وآله.

هوامش البحث:

(1) نهج البلاغة: خ 83 ، 71.

(2) ظ: شرح نهج البلاغة 344

(3) منهاج البراعة: 6 / 27 و شغف الاستار: غلاف القلب استعاره للمشيمة

(4) ظ: المصدر نفسه.

(5) المؤمنون 12 - 14

(6) فقه اللغة وسر العربية: الثعالبي: 76.

(7) ظ: منهاج البراعة: 6 / 27 و ظ: في ظلال نهج البلاغة: محمد جواد مغنية:

(8) ظ: المعجم المفهرس لالفاظ النهج: 1486.

(9) مقاییس اللغة (مادة نطف): 5 / 440.

(10) دلالة الالفاظ: ابراهیم انیس: 106

(11) نهج البلاغة: خ 83، 72

(12) مقاییس اللغة: 3 / 364

(13) نهج البلاغة: خ 48، 47

(14) نهج البلاغة: الحكم القصار 454، 418.

(15) نهج البلاغة: خ 60، 53

(16) نهج البلاغة: ك 25، 284

(17) ظ: العين: 1 / 161

ص: 57

(18) مقاییس اللغة: 4 / 125

(19) العلق / 2

(20) ظ: الجامع لأحكام القرآن: القرطبي: 20 / 107.

(21) ظ: الكليات و الجزئيات في القران الكريم: 18

(22) ظ: مقاییس اللغة: 3 / 56

(23) النجم / 32

(24) مقاییس اللغة: 6 / 21

(25) مقاییس اللغة: 2 / 400

(26) نهج البلاغة: خ 22، 37

(27) المصدر نفسه: خ 105، 106

(28) المصدر نفسه: خ 138، 139

(29) المصدر نفسه: خ 83، 72.

(30) ظ: العين: 8 / 71.

(31) مقاییس اللغة: 6 / 143

(32) نهج البلاغة: ك 31، 292

(33) ظ: منهاج البراعة: 20 / 6

(34) ظ: العين: 7 / 442

(35) مقاییس اللغة: 4 / 510

(36) نهج البلاغة: خ 192، 219.

(37) ظ: العين: 2 / 261

(38) مقاییس اللغة: 6 / 157.

(39) ظ: البرهان في علوم القران: الزركشي: 1 / 53

(40) المصدر نفسه:1 / 76.

(41) المصدر نفسه: 1 / 79، و ظ: الاتقان: السيوطي: 2 / 1.

(42) التبيان في علم البيان المطلع على اعجاز القرآن: 178.

(43) علم البديع: عبد العزيز عتيق: 217.

(44) ظ: الاتقان: 2 / 1.

ص: 58

(45) الصوت اللغوي في القرآن: محمد حسين الصغير: 144.

(46) ظ: منهاج البراعة: 6 / 28

(47) مقاییس اللغة: 5 / 459

(48) المصدر نفسه: 2 / 241.

(49) ظ: مقاییس اللغة: 5 / 293

(50) ظ: المصدر نفسه: 5 / 167

(51) البرهان في علوم القرآن: 1 / 89

(52) الاعجاز البياني للقران: 279

(53) مقاییس اللغة: 2 / 307

(54) المصدر نفسه: 5 / 301.

(55) ظ: المصدر نفسه: 5 / 440

(56) مقاییس اللغة: 1 / 90.

(57) مقاییس اللغة: 5 / 283

(58) ظ: شرح نهج البلاغة: ابن ابي الحديد: 6 / 345

(59) مقاییس اللغة: 5 / 238

(60) المصدر نفسه: 5 / 259

ص: 59

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

1. الاتقان في علوم القرآن: لجلال الدين السيوطي (ت 911 ه)، دار الكتاب العربي، 1999.

2. الاعجاز البياني للقران و مسائل ابن الازرق (دراسة قرانية و بيانية)، ط 2، دار المعارف - القاهرة، 1984.

3. الايضاح في علوم البلاغة: محمد بن عبد الرحمن بن عمر جلال الدين القزويني (ت 739، تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، ط 3، دار الجيل، بیروت

4. البرهان في علوم القرآن: بدر الدين محمد بن عبد الله (ت 794 ه)، تحقیق:

محمد ابو الفضل ابراهيم، المكتبة العصرية، صیدا، بیروت، 1972 م.

5. الجامع لأحكام القرآن: لمحمد بن احمد الانصاري، دار الفكر، د.ت.

6. شرح نهج البلاغة: ابن ابی الحدید، تحقيق: محمد ابراهيم، ط 1، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، 2007 م.

7. فقه اللغة و سر العربية: لابي منصور الثعالبي (ت 430 ه)

8. كتاب العين: لابي عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 100 - 175 ه) تحقيق: مهدي المخزومي و ابراهيم السامرائي، د.ت.

9. معجم مقاييس اللغة: لأبي الحسين احمد بن فارس بن زکریا (ت 395 ه)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر، د.ت.

ص: 60

10. الكليات و الجزئيات في القرآن الكريم (دراسة دلالية): رسالة ماجستير (سلام محمد یاسین) باشراف أ. د. يحيى عبد الرؤوف جبر، جامعة النجاح الوطنية، نابلس - فلسطين، 2011.

11. في ظلال نهج البلاغة (محاولة لفهم جديد): شرح: محمد جواد مغنية، دار الكتاب الاسلامي، 2005.

12. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبیب الله الهاشمي الخوئي، تحقیق: علي عاشور، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، 2003 م.

13. دلالة الالفاظ: ابراهیم انیس ، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، 1978 م.

14. نهج البلاغة و المعجم المفهرس لألفاظه: ط 1، دار التعارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، 1990 م.

15. نهاية الايجاز في دراية الاعجاز: فخر الدين الرازي، مكتبة الاداب، مصر، 1367 ه.

16.ظ: التبيان في علم البيان المطلع على اعجاز القرآن: ابن الزملكاني کمال الدين عبد الواحد بن عبد الكريم (ت 651 ه)، تحقیق: د احمد مطلوب و د. خديجة الحديثي، ط 1، مطبعة العاني، بغداد، 1964 م.

17. علم البديع: عبد العزيز عتيق، دار النهضة العربية، 1985.

18. الصوت اللغوي في القرآن: محمد حسين الصغير، ط 1، دار المؤرخ العربي، بيروت - لبنان، 2000 م.

ص: 61

ص: 62

الخطاب العلوي والولاة دراسة في استراتيجية الخطاب ودلالتها السياسية

اشارة

د. طالب حسين كلية الإمام الكاظم (عليه السلام)

ص: 63

ص: 64

مقدمة

يعد موضوع السلطة واحداً من أخطر المواضيع في الحياة الاجتماعية، وتتأكد خطورته في المجتمع الأسلامي، كون أن من يمسك السلطة فيه تكون له السيطرة على الأموال والنفوس التي اكد الشارع المقدس على حرمتها شبه المطلقة، فجعل الأصل فيها الحرمة في حين جعل الأصل في الأمور الأخرى الحل والبراءة.

ولهذه الخطورة الكبرى كان للسلطة حضور بارز في خطاب أمير المؤمنين عليه السلام کما عكسته نصوص نهج البلاغة، وهي نصوص مع صراحتها في بيان هذه الخطورة دينيا واجتماعيا وسياسيا، تثير اشكالية عندما نقرئها في ضوء منهج تحليل الخطاب المعاصر واستراتيجياته، حيث نجد ان هذه النصوص والخطاب في حالة كون المرسل اليه واليا له عليه السلام منتجة وفق استراتيجية واحدة وهي الاستراتيجية التوجيهية، في الوقت الذي يوجد تباین كبير بين الولاة من حيث علاقتهم بأمير المؤمنين عليه السلام في رؤيته لادارة المجتمع ومسؤوليات الوالي، فهناك من كان متاهيا مع شخصية أمير المؤمنين عليه السلام، وهناك من لم یکن يحمل الرؤية نفسها، بل نجده ينحرف عنه في أول اختبار حقيقي.

ومن هنا كان هذا البحث وإشكاليته، إذ حسب النظرية الحديثة في تحليل الخطاب، إن لكل خطاب إستراتيجية خاصة يستند اختيارها وإنتاجها على طبيعة العلاقة التي تربط المرسل بالمرسل إليه؛ التي بدورها لها تأثيرها على الهدف من الخطاب، مما يعني أن التنوع النوعي لعلاقة أمير المؤمنين مع ولاته؛ يفترض انتاج خطاب متنوع الاستراتيجية وليس خطابا باستراتيجية واحدة، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، نجد ان الاستراتيجية التي أُنتِج خطاب أمير المؤمنين بها، في ادواتها و آلياتها - کما سيتضح في البحث - تضع الوالي في زاوية المسؤولية

ص: 65

والمساءلة، وهو أمر يتنافى مع خطاب الاسلام السياسي الاثني عشري الذي يمنح السلطة بعد ثيوقراطي وإمتيازا وفوقية على المجتمع ، بحيث ترجح كفته على كفة المجتمع عند التعارض في ادارته.

ووفق هاتين الجهتين كان لهذا البحث هدفان:

الاول: محاولة تحديد الدلالة التي تستبطنها وحدة استراتيجية أمير المؤمنين عليه السلام في خطابه لولاته، التي يمكن أن تفسر لنا عدم انتاجه بأحد الاستراتيجيات الاخرى التي تتوافق مع علاقته بولاته، قربا وبعدا.

الثاني: محاولة تحديد مدى شرعية ومصداقية خطاب الاسلام السياسي الذي يمنح السلطة بعدا ثيوقراطيا، وهل يجد له سندا في خطاب السلطة عند أمير المؤمنين عليه السلام.

والبحث في هدفيه هذين، إنطلق من قراءة كون الخطاب عندما انتج بهذه الاستراتيجية من قبل أمير المؤمنين عليه السلام أراد إيصال رسالة إلى المسلمين مفادها: أن لا كرامة للسلطة الا اذا أقامت حق وأزالت باطل، وان صاحب السلطة ليس له أي امتیاز دیني، بل المراقبة والمسؤولية والحساب علية أشد وأقسی.

وللتحقق من صحة هذه القراءة وإنتسابها فنيا إلى خطاب أمير المؤمنين عليه السلام، تم بناء البحث في ثلاثة مباحث تنتهي بخاتمة واستنتاج، وهي الآتي:

المبحث الأول: تم فيه تحديد الاطار النظري الذي ستتم معالجة موضوع البحث من خلاله ادواته وآلياته، فتم فيه تحديد ماهية الخطاب وانواع استراتيجياته، وبيان عناصره التي لها دور في استنطاق دلالة الخطاب.

المبحث الثاني: في هذا المبحث تم إستقراء نماذج من خطاب أمير المؤمنين

ص: 66

عليه السلام لولاته حسب درجات علاقتهم معه، وبيان الاستراتيجية الى انتجت فيها، التي ستكون الموضوع الذي سيستنطق في المبحث الثالث من حيث دلالته السياسية.

المبحث الثالث: سيمثل هذا المبحث المرحلة الأخيرة في اختبار القراءة التي تم الانطلاق في حل اشكالية البحث، حيث سيتم بيان التضاد بين الاستراتيجية التي أُنتج فيها خطاب أمير المؤمنين عليه السلام، وبين طبيعة العلاقة التي تربطه بولاته، وبيان الدلالة السياسية لهذا التضاد.

وأما الخاتمة فهي لبيان أهم نتائج البحث، التي ستمثل المعيار في تقييم خطاب الاسلام السياسي الاثني عشري المتعلق بطبيعة السلطة في المجتمع، والتي سيكون ها دورها الفكري والفني في حماية المجتمع من التسلط عليه باسم الدين و مذهب أهل البيت عليهم السلام.

ص: 67

المبحث الأول الخطاب بين اللغوي واللالغوي

اولا: البنية اللالغوية:

يعد لفظ الخطاب من الالفاظ التي تطورت دلالتها في الثقافة اللغوية العربية، فبعد ان كان ترادف لفظ الكلام والحديث(1)، صار اخص منهما، بعد أن أخذ دلالة اصطلاحية تتضمن عديد من المفاهيم نتيجة اختياره مقابلا لمصطلح discourse الذي بدوره تطور من «الدلالة اللسانية الكلاسيكية التي كانت تقابله مع الجملة واللسان الى الدلالة في لسانیات الخطاب التي تقوم بما يأتي:

1. انه تنظيم يتجاوز الجملة، فيستنفر بنیات غير الجملة مثل كعبارات الحظر التي لا تأخذ الشكل اللفظي للجمل قواعديا مثل عبارة لا تدخين.

2. ان هذا التنظيم لابد ان يكون موجه فهو زيادة على كونه مصمم حسب مرمی المتكلم فانه يتطور في الزمان.

3. انه شكل من اشكال الفعل اي انه عمل من المتكلم يهدف الى تغيير وضعية، وينظر اليه في اطارات نفسانية واجتماعية متنوعة.

4. انه متفاعل حيث ينسق الطرفان ملفوظاتهما كل حسب موقف الآخر بما يشمل ما هو غير لفظي مثل شأن المخاطب.

5. انه مظروف بمقامه فلا يكون المقام مجرد إطار او زينة تحيط به، بل ان الخطاب نفسه قد يقوم بتحديد مقامه وأن يحوره اثناء التلفظ.

6. انه مُتكَفَّل به فهو يرجع الى جهة هي مصدر التحديدات الشخصية والزمانية

ص: 68

والفضائية وتبين ما هو الموقف الذي تتوخاه مما تقول ومن مخاطبها.

7. انه محکوم بمعايير فهو يخضع كل سلوك اجتماعي لمعاییر اجتماعية عامة زيادة على معايير خاصة خاصة بقوانين الخطاب، فكل عمل تلفظ لا يمكن أن يقع من دون أن يسوغ حقه في تقديم نفسه بالصورة التي هو عليها.

8. ان الخطاب لا يكون له معنى الا داخل عالم خطابات اخرى يشق لنفسه طريقا خلالها، فالخطاب الفلسفي لا يستشهد دلاليا بالطريقة نفسها في الخطاب الاعلامي».(2)

ونتيجة لهذه العناصر فان الخطاب صار ينظر اليه على انه فعل لغوي يتضمن جانبين: «جانب شكلي وجانب وظيفي... يتضح الأول في كون الخطاب بناء او كتلة تفوق أو تساوي الجملة، وبالتالي فهو مكون من وحدات متماسكة ومنسجمة، واما الجانب الثاني؛ فينظر إلى الخطاب بانه استعمال اللغة من طرف الفاعل المتكلم»(3)، وهما متولدان من البعد القواعدي والبعد التداولي للغة، فان نحوية كل لغة توجب أن يخضع شكل الخطاب الى قواعد موضوعية لابد ان يلتزم بها منتج الخطاب في تشکيل بنية النص اللغوية؛ مادة الخطاب الملموسة، كما أن تداولية اللغة تمنح بعدا فنيا للنص وتبعا له الخطاب، حيث ان تنوع القواعد اللغوية وترابط المعجمي - القواعدي مع ما هو بلاغي - ابداعي يمنح منتج الخطاب القدرة على انتاج دلالات متعددة لم يكن بالإمكان انتاجها لو لم يتم الاستناد الى هذا الترابط، الذي به سيكون الخطاب اشبه ما يكون ب«جسم له ذاته وحركته وزمنه... يخضع لنظام داخلي؛ ولكنه يتحرك بحرية مستقلة... فهو لون يختلف عن النص»(4).

ومع هذا فان الخطاب لا ينتج تأثيره إلا بعد اكتمال مكوناته، وهي مكونات

ص: 69

ثلاثة لكل منها دورها في تحقق ماهية الخطاب:

1. المرسل: وهو منتج الخطاب ورسالته الذي لابد أن تكون له كفاءة لغوية وكفاءة تداولية التي من خلالها يستثمر راس ماله اللغوي والمعرفي والفكري في نص فعلي يتضمن رسالة خاصة، وهي خصوصية ناتجة عن المقصد الذي يسعى المرسل اليه الوصول اليه من خلال خطابه، فاذا كان «هدفه الاقناع فانه يختار من الادوات اللغوية والآليات الخطابية من يبلغه مراده، وان كان هدفه السيطرة مثلا يعمد الى الادوات التي تكفل تحقيقها»(5).

2. المرسل اليه: وهو مع كونه مَن يتوجه له الخطاب بعد انتاجه من المرسل، إلا أن له دوره في سلسلة انتاجه، اذ كونه مستقلا في وجوده التكويني عن المرسل، لا يمنع من أن يكون؛ من حيث انه المحل الذي يتحقق القصد فيه؛ في سلسلة العلة الفاعلية للخطاب، للارتباط السببي بين العلة الغائية والعلة الفاعلية(6)، لذا فان لغة الخطاب التي تعبر عن مقاصد المرسل تعتمد عليه، وعليه فانه یمارس بشكل غير مباشر دورا في توجيه المرسل عند اختیار ادواته والياته في صياغة الخطاب، لذا على المرسل أن يستحضر وضعه بعناصره المختلفة التي ترتبط برسالته، فيكون «المرسل اليه حاضرا في ذهن المرسل عند انتاج خطابه سواءً كان حضورا عينيا ام استحضارا ذهنيا، وهذا الشخوص أو الاستحضار... هو ما يسهم في حركية الخطاب، بل يسهم في قدرة المرسل التنويعية ويمنحه افقا لممارسة اختيار استراتيجية خطابه»(7).

3. السياق: وهو يمثل كل العناصر التي تحيط بطرفي الخطاب التي ترتبط بالظروف التي يُنتج الخطاب في اطارها، لذا یکون السياق المكون المشترك بينها بما يتضمنه من عناصر الزمان والمكان والحدث الذي يعالجه الخطاب

ص: 70

والخصوصيات المعرفية للمرسل اليه؛ وهو ما جعل السياق «ياخذ... الدور الفعال في الارسال والتلقي معا... [وذلك] ان المرسل لا يغفل السياقات في عملية انتاج لخطاب ما، كما لا يهمل المرسل اليه السياقات في فهمه لمعان ودلالات الخطاب»(8).

ثانيا: الخطاب استراتيجية بلاغية

إن الخطاب فعل كلامي تداولي؛ ينتجه المرسل لتحقيق هدف ما الذي يعد المؤثر الاساس في انتاجه ملفوظات الخطاب، كما انه يسهم في تأويلها من قبل المرسل اليه، إذ ان الخطاب «ليس مجموعة الفاظ وعبارات»(9) محصورة في اطار ما هو معجمي، وانما هو فعل انجازي تداولي لا تنتجه هذه الالفاظ والعبارات «إن لم ينجم عن المجموع الكلي لها دلالة تتجاوزها»(10).

إن هذا التجاوز انما هو عملية ابداعية من المرسل ينتجها من خلال المزج بين المعجمي والتداولي، لذا فإن الخطاب «لا يمكن او على الاقل لا يستقيم الا في اطار... الترتيب والنظام، وبالتالي فهو يفرض على اجزاء موضوعه مهما تداخلت وتشابكت وتزامنت انواعا من التقديم والتأخير»(11) وغير ذلك من من الآليات البلاغية التي تسمح بها قواعدية اللغة.

وهذا التجاوز واعادة الصياغة لما هو معجمي - قواعدي هو الاطار العام للاستراتيجية التي يستند اليها المرسل في التأثير في المرسل اليه، فهي تتمثل بكل «ما يتخذه المرسل للتلفظ بخطابه من اجل تنفيذ ارادته والتعبير عن مقاصده التي تؤدي لتحقيق اهدافه من خلال استعمال العلامات اللغوية وغير اللغوية وفقا لما يقتضيه السياق بعناصره المتنوعة ويستحسنه المرسل»(12).

ومن هنا تعددت الاستراتيجيات التي يعتمدها المرسل في انتاج خطابه

ص: 71

؛التي بدورها تعتمد على «تحقيق اهداف العملية التخاطبية... وتكون لها ميزات ومسوغات تخدم هذا الهدف»(13)، الذي يعد لهذا السبب احد معايير تصنيف استراتيجيات الخطاب، وعلى اساسه تصنف الاستراتيجيات الى الاصناف الآتية:

1. الاستراتيجية التضامنية: من خلالها يجسد المرسل علاقته بالمرسل اليه...

ومدى احترامه لها ورغبته في المحافظة عليها او تطويرها بازالة معالم الفروق بينها(14)، ويهدف المرسل باتباعها الى عديد اهداف تجمعها تعميق العلاقة مع المرسل اليه والحفاظ على الالفة بينهما(15)

2. الاستراتيجية التوجيهية: المرسل في هذه الاستراتيجية «يولي عنايته... تبليغ قصده وتحقيق هدفه الخطابي بإغفال جانب التأدب التعاملي الجزئي في الخطاب... ومن ومن هذا المنطلق، فإن الخطاب ذا الاستراتيجية التوجيهية يعد ضغطا و تدخلا ولو بدرجة متفاوتة على المرسل اليه وتوجيهه لفعل مستقبلي معين»(16).

3. الاستراتيجية التلميحية: هي الاستراتيجية التي تكون فيها «البنية اللغوية الظاهرة للملفوظ مجرد ممر او معبر للوصول الى الفعل الإنجازي غير المباشر الذي يقصد اليه المتكلم»(17)، ويعتمدها المرسل عندما لا يريد تحمل مسؤولية الخطاب والعدول عن اكراه المرسل اليه او احراجه(18).

4. استراتيجية الاقناع: وهي التي يكون فيها الخطاب يهدف الى «اقناع المرسل اليه بما يراه المرسل، أي لإحداث تغيير في الموقف الفكري او العاطفي لديه»(19)، والمرسل يختارها لعديد أسباب في مقدمتها حرصه ان يتم استقبال الخطاب وتحقيق ما يهدف اليه من دون حاجة الى عنصر الضغط والاكراه، وذلك لأن «تأثيرها التداولي في المرسل اليه أقوى ونتائجها أثبت وديمومتها أبقى»(20).

ص: 72

وهنا لابد من الاشارة الى هذا التصنيف ليس بمعزل عن العلاقة بين طرفي الخطاب، لانها من ابرز عناصر السياق التي تؤثر في تحديد استراتيجيات الخطاب، إذ «لا يكفي وجود طرفي الخطاب لإتمام العملية التواصلية، فلابد من وجود علاقة ومعرفة مشتركة بينهما»(21)، وهو أمر له أهميته في خطاب امير المؤمنين عليه السلام کما سيتبين لنا في المبحث الثالث حيث ستكون طبيعة العلاقة السابقة على الخطاب لها دورها الاساس في الاستنطاق السياسي لهذا الخطاب.

ص: 73

المبحث الثاني: الولاة والخطاب التوجيهي

ان تنوع استراتيجية الخطاب ليس امرا شكليا محضا، بل هو تابع لتنوع رؤية منتج الخطاب حول موضوع الخطاب و المرسل اليه، مما يعني ان الاستراتيجية لها كاشفية مزدوجة ايجابية تتمثل بتحقيق الاسباب الموجبة لاختيارها، وسلبية تتمثل في عدم اختيار واحدة من الاستراتيجيات الاخرى التي يمكن ان تكون شكلا للخطاب.

ومن هنا لابد لنا من تحديد استراتيجية خطاب امير المؤمنين مع ولاته اولا؛ قبل استنطاق الدلالة السياسية التي تستبطنها، وفي هذا الاطار سنميز بين خطابين لأمير المؤمنين عليه السلام من حيث المرسل اليه، فهناك الخطاب الموجه الى مرسل اليه حاضر لديه بوجوده الخارجي مشخص بعناصره السياقية بحيث يكون الخطاب منتج على نحو القضية الخارجية، وهناك خطاب موجه الى مرسل اليه حاضر لديه بوجوده الذهني بحيث يكون الخطاب منتج على نحو القضية الذهنية، ولذا سنطلق على النوع الأول الخطاب الخارجي والثاني الخطاب الذهني.

اولاً: الخطاب الفعلي

في هذا النوع من الخطاب لدينا عديد من الناذج منها ما يكون المرسل اليه تربطه علاقة اقرب الى علاقة تماهي مع شخصية امير المؤمنين عليه السلام في رؤيتها السياسية العقائدية كعلاقته مع الاشتر، وهناك نماذج تكون بعيدة عن مثل هذه العلاقة كما في علاقته مع زياد بن ابيه، كما هناك من الولاة من يكون وسطا بين ذلك، وسنعرض لكل منها، مع انه يكفي النوع الاول ويكون تعميم

ص: 74

الدلالة الى النوعين الآخرين بقياس الاولوية.

1. خطاب الاشتر: المتمثل بعهده المعروف، وهو عهد تبدأ فقراته بأمر صريح تارة بالمادة وتارة بالصيغة، فالأمر بالمادة نجده في فقرات مثل:» هذا ما أمر عبد الله أمير المؤمنين مالك بن الحارث الاشتر...، وقوله: آمره بتقوى الله...، وقوله: وآمره بكسر شهوته...، والامر بالصيغة كما في قوله: لكن احب الذخائر إليك...، وقوله واشعر قلبك الرحمة للرعية...»(22).

کما نجد صيغ النهي في الخطاب؛ كقوله عليه السلام: «لاتنصبن نفسك لحرب الله...، وقوله: وإياك ومساماة الله...»(23).

وهذه الاوامر والنواهي جاءت بعد تصريحه عليه السلام في عتبة نص العهد أن هذا الخطاب موجه من مرسل لديه سلطة دينية - سياسية على المرسل اليه بقوله عليه السلام: عبد الله أمير المؤمنين.

كما أنه عليه السلام زيادة على استخدامه لأدوات الأمر والنهي وآلية تجاهل العلاقة الخاصة، استخدم زيادة على ذلك آلية أخری، كآلية التحذير؛ كما في قوله عليه السلام: «ان النفس أمارة بالسوء»(24)، وقوله عليه السلام: فانه لا يدي لك بنقمته(25)، وقوله عليه السلام: إن الله يذل كل جبار ويهين كل مختال(26)، وقوله عليه السلام: من ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده ومن خاصمه الله أدحض حجته(27).

کما يلاحظ انه عليه السلام عندما دخل في تفاصيل العهد، نجده قد أستند الى آليات لغوية يغلب عليها التحضيض والتعليل، وذكر العواقب التي تتداخل في النتيجة مع آلية التحذير، فقوله عليه السلام: وليكن احب الأمور إليك أوسطها في الحق... فإن سخط العامة يجحف برضى الخاصة(28)، وقوله عليه السلام: وإنما

ص: 75

عمود الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء؛ العامة من الأمة، فليكن صغوك إليهم وميلك معهم، وقوله عليه السلام: ولا تعجلن الى تصديق ساع، فإن الساع غاش، وقوله (عليه السلام): لايدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله الى جلب إنفساخه بغير الحق، فإن صبرك على ضيق ترجو إنفراجه وفضل عاقبته خير من غدر تخاف تبعته(29)، وقوله عليه السلام: وأياك والدماء وسفكها بغير حلها، فإنه ليس شئ أدعى لنقمته ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال النعمة وانقطاع سفك الدماء بغير حلها(30).

وهذه الأدوات والآليات تكشف عن كونه عليه السلام قد أتبع الاستراتيجية التوجيهية مع مالك الاشتر رحمه الله، إذ أن الصياغة الشكلية لهذه الاستراتيجية تتم من خلال الامر بأدواته والنهي والتحذير وذكر العواقب(31).

2. خطاب محمد بن ابي بكر: عندما نأتي الى هذا الخطاب، نجد أدوات وآليات خطاب الأشتر تتكرر هنا، فأمير المؤمنين عليه السلام عندما خاطبه بدء معه بالأمر، كقوله عليه السلام: أخفض لهم جناحك وأن لهم جانبك وأبسط لهم وجهك، ويعلل له اسباب هذا الإلزام من خلال آلية التحذير وذكر العواقب، بقوله عليه السلام: إن الله تعالى يسائلكم معشر عباده عن الصغيرة من أعمالكم والكبيرة، والظاهرة والمستورة، فإن يعذب، فأنتم أظلم، وإن يعفو، فهو أكرم(32).

وزيادة على الأوامر؛ نجد التحضيض على الفعل من خلال صيغة التحذير بعواقب عدم القيام به، فبين عليه السلام أن متعلقات هذه الأوامر مما تعد من عدة الإنسان ليوم الآخرة، وذلك بقوله عليه السلام: فأحذروا عباد الله الموت وقربه، وأعدوا له عدته، فإنه يأتي بأمر عظيم وخطب جليل، بخير لا يكون معه

ص: 76

شر أبدا، أو بشر لا يكون معه خير أبدا(33).

3. خطاب عبد الله بن عباس: مع هذه الشخصية نجد ان التحذير هو الأداة الأبرز في الخطاب، كقوله (عليه السلام): إنك لست بسابق اجلك ولا مرزوق ما ليس لك، واعلم ان الدهر يومان: يوم لك ويوم عليك، وأن الدنيا دار دول، فما كان منها لك أتاك على ضعف، وما كان منها عليك لم تدفعه بقوتك(34)، وعندما يخاطبه بأدوات الامر نجدها مقترنة بالتحذير والتذكير بعواقب الأمور، كما في قوله عليه السلام: سع الناس بوجهك ومجلسك وحكمك، وإياك والغضب، فإنه طيرة من الشيطان، وأعلم أن قربك من الله ليباعدك من النار، وما باعدك من الله يقربك من النار(35).

وهذا التحذير وذكر عواقب الأمور تطور الى تهديد فعلي بأقسى العقوبات عندما ارتكب ابن عباس مخالفة مالية، إذ خاطبه قائلا: «سبحان الله أما تؤمن بالمعاد أو ما تخاف نقاش الحساب»(36)، فنحن امام احدى آليات الاستراتيجية التوجيهية وهي السؤال التي تحصر المرسل اليه في زاوية ضيقة وذلك بضرورة الجواب الذي لن يكون في صالحه، إذ سوف يستعمله المرسل في الضغط عليه، وهو ما فعله أمير المؤمنين عليه السلام، إذ بعد أن أجابه إبن عباس بأن المال الذي أخذه هو حقه في بيت المال، قال له أمير المؤمنين عليه السلام: «أما بعد؛ فإن من العجب أن تزين لك نفسك أن لك في بيت المال من الحق أكثر ما لرجل من المسلمين، فقد أفلحت إن كان تمنيك الباطل وإدعائك ما لا يكون؛ تنجيك من المآثم وتحل لك المحارم... فأرجع هداك الله الى رشدك وتب الى الله ربك، وأخرج للمسلمين من أموالهم، فعما قريب تفارق من ألفت وتترك ما جمعت وتغيب في صدع من الارض غير موسد ولا ممهد»(37)، فهنا كان جواب إبن عباس المنطلق في

ص: 77

توبيخه والضغط عليه كي يغير من موقفه ويرجع عنه.

كما انه عليه السلام استعمل آلية أخرى من آليات التوجيه، وهي آلية النداء التي دمجها مع آلية السؤال في سياق واحد، اذ خاطبه قائلا:» أيها المعدود عندنا - كان - من ذوي الألباب؛ كيف تستسيغ شرابا وطعاما وانت تعلم انك تأكل حراما وتشرب حراما»(38)، وهو دمج بهدف التوبيخ، إذ حسب مضمون النداء لا ينبغي له القيام بالفعل المستفهم عنه، لأنه لا ينسجم مع القيم التي نودي بها، ولكنه ذلك تخلى عنها، وهو أمر لا يجوز صدوره ممن يؤمن بقيم الدين الاسلامي وأحكامه، لذا بين أمير المؤمنين له عواقب عمله هذا؛ بقوله عليه السلام: «فأتق الله ورد إلى هؤلاء القوم أموالهم، فانك إن لم تفعل ثم مكنني الله منك لأُعذِرَن مع الله فيك ولأضربنك بسيفي الذي ما ضربت به أحد إلا دخل النار»(39).

إلى هنا انتهينا من نماذج الولاة المقربون، وهي نماذج تدل بالأولوية على كون خطاب الولاة غير المقربين اي الذين لا يشاطرون أمير المؤمنين عليه السلام موقفه السياسي والاداري من يتولى مسؤولية حكم المجتمع، سيكون موجها لهم بالأستراتيجية نفسه، وهذا ما نجده بالفعل، ففي خطابه لزياد بن ابيه واليه على البصرة بعد ابن عباس، خاطبه بلغة الأمر الصارم «دع الإسراف مقتصدا وأذكر في اليوم غدا، وأمسك من المال بقدر ضرورتك»(40)، ثم يعقب هذه الأوامر بآلية الأستفهام، بقوله عليه السلام: «أترجو أن يعطيك الله أجر المتواضعين وأنت عنده من المتكبرين وتطمع وانت متمرغ في النعيم... ان يوجب لك ثواب المتصدقين»(41)، فهنا قد ضمَّن أمير المؤمنين عليه السلام هذه الآلية آلية التحذير، لكون استفهامه استفهاما استنكاريا، وهما من آليات الأستراتيجية التوجيهیة، وهذا التحذير والتوبيخ نجده في خطاب والي آخر وهو المنذر بن جارود العبدي

ص: 78

وقد خان بعض ما ولّاه من اعماله، فقد خاطبه عليه السلام قائلا: «أما بعد، فإن صلاح أبيك غرني منك... فإذا أنت فيما رقي إلي عنك لا تدع لهواك إنقيادا ولا تبقي لآخرتك عتادا، تعمر دنياك بخراب آخرتك وتصل عشيرتك بقطيعة دينك»(42)، وبعد هذه العتبة النصية التي محورها بيان فساده ونقصه «أخذ في توبيخه والحكم بنقصانه وحقارته»(43) بقوله عليه السلام: «لئن كان ما بلغني عنك حقا، لجمل اهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك فليس باهل ان يسد به ثغر أو ينفذ به أمر، أو يعلى له قدر أو يشرك في امانة، أو يؤمن على خيانة»(44). وهكذا نجد لغة الخطاب واستراتيجته في اطار واحد مع التباين في العلاقة مع المرسل اليه وهو ما له دلالته التي سنقف عليها في المبحث الثالث.

ثانيا: الخطاب الذهني

هذا النوع من الخطاب يكون موجها الى طبيعي المرسل الیه، مع غض النظر عن خصوصياته الشخصية، وقد أنتج أمير المؤمنين عليه السلام مثل هذا الخطاب عندما بين الصفات التي على من يتولى الولاية الإتصاف بها، ففي خطابه الى رعيته بدئه بالتوبيخ لهم بقوله عليه السلام:» أيتها النفوس المختلفة، والقلوب المشتتة؛ الشاهدة أبدانهم، الغائبة عنهم عقولهم، أُضاركم على الحق وانتم تنفرون عنه نفور المعزى من وعوعة الاسد«(45)، وختمه بلغة تحذيرية تبين عواقب من يتصدى للولاية وهو ليس اهلا لها، وذلك بقوله: «قد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم مهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول، فيتخذ قوما دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الأمة»(46).

ص: 79

إن هذا الخطاب فعل قولي خبري، يبين عدد من الصفات الواجب انتفاؤها عن الوالي، له فعل إنجازي تهديدي «القصد منه توجيه أفعال المرؤوسين«(47)، بقرينة عتبة نص هذا الخطاب المتقدمة التي يبن فیها أمير المؤمنين عليه السلام واقع المخاطبين بها من الباطل والنفور من الحق، إذ أن استمرارهم على هذا الواقع أمر مرفوض شرعا، مما دفعه عليه السلام الى انتاج هذا الفعل الإنجازي، لما يتمتع به من سلطة؛ وهي سلطة؛ وهي «السلطة الدينية التي تسوغ إستعمال هذه الاستراتيحية لمن يريد توجيه الناس وتبليغهم بما توجبه الشريعة، وبما تحرمه»(48).

ويظهر وجه الفعل الانجازي التهديدي من خلال بيان عواقب وجود هذه الصفات السلبية في الوالي وهي عواقب تؤدي الى ضياع الحقوق والظلم الاجتماعي وهلاك المجتمع، مع انه عليه السلام كان بمكنه ان ينتج الخطاب مستحضرا مرسل اليه مسلما يفترض فيه الالتزام بتعاليم الدين كما هو الاصل في فعل المسلم لملاك قاعدة اصالة الصحة، يبين فيه الصفات الايجابية التي لابد توفرها في الوالي، وهي الكرم والعلم والعدل والأمانة ومحيي السنة، واستعمال استراتيجية تلميحية او تضامنية تحرص على العلاقة الودية مع المرسل اليه، فهذا العدول الى الخطاب التهديدي لابد أن يستبطن دلالة تتعلق بموقف أمير المؤمنين حول منصب الحكم والولاية، وهذا ما سنحاول استنطاقه في المبحث القادم.

ص: 80

المبحث الثالث: الاستراتيجية والدلالة السياسية

قد تم الاشارة سابقا إلى أن استراتيجية الخطاب تتنوع وفق معايير ثلاثة، معيار العلاقة بين طرفي الخطاب ومعيار شكل الخطاب و معیار قصد الخطاب(49)، وإذا كانت هذه المعايير من الناحية النظرية منفصلة عن بعضها، فإنها من الناحية الوجودية مترابطة، اذ يمكن أن توجد علاقة سبية توليدية فيما بينها، التي تصل الى درجة العلاقة الجدلية، فإن منتج الخطاب لن يبدأ إنتاج خطابه إلا بعد أن يتولد لديه هدف يسعى إلى تحقيقه، وهذا الهدف وان كان من الناحية المفهومية مستقل عن طرفي الخطاب، إلا أنه في تحققه الفعلي له علاقة بالمرسل اليه، فإن طبيعة علاقته الفكرية والثقافية بالمرسل لها دورها في توليد الهدف عنده، لذا فإن العلاقة بين الطرفين «تنعكس... على تشكيل الخطاب بإختيار الاستراتيجية الملائمة التي تعبر عن قصد المرسل»(50)، وهذا الانعکاس انما هو نتيجة كون هذه العلاقة «من عناصر السياق المؤثرة... على تشكيل الخطاب»(51).

إذن على مستنطق الخطاب أن يتوقف عند العلاقة بين طرفي الخطاب في محاولته معرفة اسباب اختيار الاستراتيجية والدلالة المستبطنة لهذا الاختيار، وفيما يتعلق ببحثنا نجد أن علاقة أمير المؤمنين عليه السلام بالولاة المخاطبين لم تكن على درجة واحدة؛ فهناك الولاة القريبون وهناك الولاة الذين لا يملكون هذه القرابة، وهو ما تكشفه نصوص امير المؤمنين عليه السلام.

ص: 81

اولا - الولاة القريبون

لا نعني بالقرب هو القرب لأسباب شخصية، بل نعني القرب الناتج عن الاتفاق في الرؤية الدينية والسياسية والاتفاق في القيم التي يجب ان يحملها من يتولى المسؤولية في المجتمع المسلم، ويتمثل هؤلاء الولاة بمالك الاشتر و محمد بن أبي بكر وعبد الله بن عباس.

اما قرابة مالك، فلكونه» من وجوه الصحابة والتابعين، علاقته وإختصاصه بأمير المؤمنين عليه السلام مما اتفقت عليه الخاصة والعامة... قال فيه امير المؤمنين عليه السلام: «كان لي كما كنت لرسول الله صلى الله عليه و آله»(52)، وقد كان أمير المؤمنين يصرح في أكثر من مورد بعظم منزلته، ففي رده على إنزعاج محمد بن أبي بكر بسبب عزله وتولية مالك بدله، قال عليه السلام: «إن الرجل الذي کنت وليته مصر، كان لنا رجلا ناصحا، وعلى عدونا شدیدا ناقما، فرحمه الله، فلقد إستكمل أيامه ولاقی حمامه، ونحن عنه راضون، أولاه الله رضوانه وضاعف الثواب له«(13)، و في بيان أهليته الكاملة للولاية، خاطب اهل مصر قائلا:» أما فقد بعثت إليكم عبدا من عباد الله عزوجل لا ينام أيام الخوف ولا ينكل عن الاعداء ساعات الروع، أشد على الفجار من حريق النار»(24)، وفي نعيه عندما أستشهد، قال عليه السلام:»... رحم الله مالكا لو كان جبلا لكان فندا، ولو كان حجرالکان صلدا، لله مالك وما مالك؟ وهل قامت النساء عن مثل مالك»(55).

إذن نحن أمام علاقة في أعلى درجات الترابط عقائديا وسياسيا، ومثل هذه العلاقة لا تقتضي الاستراتيجية التوجيهية، لان في هذه الاستراتيجية «يسعی المرسل الى تثبيت الفرق بينه وبين المرسل اليه بممارسة السلطة في خطابه... عندما يتكئ عليها عند التلفظ بالخطاب بتجسيدها في لغته»(56)، وهذا الإتكاء نجده

ص: 82

صريحا في خطاب أمير المؤمنين عليه السلام بقوله في عهده لمالك «هذا ما أمر به عبدالله أمير المؤمنين»(57)، فهو يتكلم معه بوصفه أميراً للمؤمنين أي بما يملك من سلطة، كما انه ناداه باسمه المجرد خاليا من أي وصف من الاوصاف التي اقرها له في مناسبات عديدة التي تقدمت قبل قليل، هذه الصفات التي تقتضي - وفق نظرية استراتيجيات الخطاب - ان تكون استراتيجية خطابه استراتيجية تضامنية، التي احدى مسوغات استخدامها «تطور العلاقة بين طرفي الخطاب»(58)، يسعی المرسل من خلالها إلى «الرغبة في تقريب المرسل اليه... ومنحها الأولوية في الخطاب»(59)، الأمر الذي يكون على العكس من الاستراتيجية التوجيهية التي تتجاهل هذه العلاقة في الخطاب(60).

وهذه المفارقة بين العلاقة بين طرفي الخطاب واستراتيجيته، نجدها تتكرر مع محمد بن أبي بكر، ففي الوقت الذي يصرح فيه أمير المؤمنين بالمنزلة الخاصة له، نجد استراتيجية خطابه اليه استراتيجية توجيهية، ففيما يتعلق بالمنزلة الخاصة اله عنده، فانه عليه السلام عندما نعاه عند استشهاده، قال: »عند الله نحتسبه ولدا صالحا وعاملا کادحا وسيفا قاطعا ورکنا دافعا»(21)، كما كان حريصا على مشاعره، وهو ما جسده في خطابه له عندما وصل اليه انزعاجه بسبب عزله عن ولاية مصر، إذ استخدم استراتيجية تضامنية معه، بقوله :» قد بلغنی موجدتك من تسريح الأشتر الى عملك، وانني لم ذلك استبطاء لك في الجهد ولا ازدیادا لك في الجد، ولو نزعت ما تحت يدك من سلطانك لوليتك ماهو ایسر عليك مؤونة وأعجب لك ولاية»(62)، وهذه المنزلة لمحمد بن ابي بكر التي كشف عنها أمير المؤمنين عليه السلام، وصفته كتب علم الرجال؛ بأنه «رجل جلیل القدر؛ عظیم المنزلة؛ قريب من أمير المؤمنين... ومن السابقين المقربين منه ومن الحواريين»(63).

ص: 83

في هذه النصوص لأمير المؤمنين بحقه، نجد آلية بارزة من آليات الاستراتيجية التضامنية، وهي آلية المكاشفة مع المرسل إليه، من خلال «إستعمال الصراحة مع المرسل إليه(64)، وهي على العكس من استراتيجيته عندما خاطبه عن توليته الولاية ومنحه مسؤولية السلطة في المجتمع.

وهذا الأمر تكرر مع عبد الله بن عباس، حيث يصرح أمير المؤمنين بالمنزلة الخاصة له عنده، عندما خاطبه قائلا: «أما بعد فإني كنت أشركتك في أمانتي وجعلتك شعاري وبطانتي، ولم يكن من أهلي رجل أوثق منك في نفسي، لمواساتي ومؤازرتي، وأداء الأمانة عني»(65)، وهو على العموم يُعد «جلیل القدر، مدافع عن أمير المؤمنين عليه السلام»(66).

ثانيا - الولاة غير المقربين

وهم الولاة اللذين لم تكن لهم تلك المنزلة التي تقدمت للولاة المقربين، وكان إختيار أمير المؤمنين عليه السلام لهم لحسن الظاهر ولدواع إدارية بحتة، إذ الشخصيات المقربة مهما كان عددها لم تكن تكفي لسد وظيفة الوالي في كل الولايات.

وهؤلاء الولاة ومع التضاد بين علاقتهم به عليه السلام مقارنة مع علاقته بالولاة القريبين، نجد استراتيجية خطابه لهم هي تكرار للاستراتيجية نفسها مع الولاة المقربين، ففي خطابه لزياد بن أبيه عندما إستخلفه على البصرة بعد إبن عباس، قال له عليه السلام: «وإني أقسم صادقا لئن بلغني أنك خنت في في المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا، لأشدن عليك شدة تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر والسلام»(67)، وهو خطاب له الاستراتيجية نفسها في خطابه عليه السلام إبن عباس عندما خان الأمانة في ولاية البصرة الذي تقدم في ص 12.

ص: 84

وفي خطابه الى المنذر بن جارود العبدي، بعد وصول الاخبار بأنه أساء التصرف، قال عليه السلام: «أما بعد فإن صلاح أبيك غرَّني منك، وظننت أنك تتبع هديه وتسلك سبيله... ولئن كان ما بلغني عنك حقا، لجَمل اهلك وشسع نعلك خير منك، ومن كان بصفتك، فليس بأهل أن يُسد به ثغر، أو ينفد به أمر أو یعلی به قدر ، أو يشرك في أمانة، أو يُؤمن على خيانة»(68).

ثالثا: وحدة الاستراتيجية والدلالة السياسية

من خلال ما تقدم من تنوع العلاقة بين أمير المؤمنين عليه السلام وبين ولاته، فإننا نكون أمام اشکالية نتيجتها إما طرح نظرية استراتيجيات الخطاب والنظر إليها على انها لا تصلح اطارا لتحليل الخطاب، واما تقدیم قراءة الخطاب أمير المؤمنين مع ولاته تفسر لنا انتاجه لهذا الخطاب وفق استراتيجية واحدة، هذا اولا، وثانيا لماذا كانت هذه الاستراتيجية توجيهية وليس غيرها من الاستراتيجيات الاخرى.

والسبب في هذا الانحصار لحل الاشكالية، انها جاءت نتيجة اقتضاء هذه النظرية أن تكون الاستراتيجية تابعة للعلاقة بين طرفي الخطاب، سواء في وحدتها وفي تنوعها، وحيث ان العلاقة كانت متعددة - كما تقدم قبل قليل -، كان لابد ان تتنوع الاستراتيجية، كأن تكون تضامنية او تلميحية، مع الولاة المقربين، و توجيهية مع الولاة غير المقربين، غير أننا نجد استراتيجية واحدة تعاملت مع جميع الولاة في علاقة واحدة ، بحيث تم التعامل مع المقربين وكأنهم غير مقربين.

إذن نحن امام احدى خيارين في حل الاشكالية إما التصرف في العلاقة وإما التخلي عن نظرية استراتيجيات الخطاب، وهذا الخيار الثاني غير وارد، لاسيما وانها تستند في التحليل الى لغة العرب وسننها في النحو واللاغة(69)، زيادة على انها

ص: 85

على أقل تقدیر کانت اصلا موضوعا للبحث، مما يعني إنه علينا البحث عن حل الاشكالية في طبيعة العلاقة بين طرفي الخطاب، الأمير عليه السلام والولاة، وهل انه قد قصد تغيير هذه العلاقة عند انتاج الخطاب؟

وبالفعل هذا ما قام به عليه السلام، فإن القارئ لخطابه المتعلق بالسلطة السياسية، يجده يلغي كل منزلة وخصوصية يمتلكها المخاطَب قبل استلامه السلطة، وعند استلامه السلطة سيكون في موضع الحساب والمراقبة، بغض النظر عن كونه ممن لايُخشى خيانته وانحرافه، لذا نجده عليه السلام بعد توبيخه إبن عباس وتوعده بأشد العقاب، بين له إن هذا التوبيخ والعقاب يشمل كل من يمسك سلطة ولو كانا سبطي النبي صلى الله عليه وآله؛ ولديه الحسن والحسين عليهما السلام، إذ قال له: «والله لو أن الحسن والحسين فعلا ما فعلت؛ ما كانت ما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بإرادة حتى آخذ الحق منهما، وأزيح الباطل عن مظلمتهما»(70).

إن هذا الإلغاء من أمير المؤمنين عليه السلام للعلاقة السابقة على إستلام السلطة، ناشئ عن رؤيته عليه السلام الى المسؤولية الدينية الكبيرة التي تقع على عاتقه، وعلى من يمنحه سلطة في المجتمع، إذ ان أي انحراف وخيانة في ممارسة هذه المسؤولية سيكون - وحاشاه الله - شريکا فيها، وهو ما صرح به عليه السلام، ففي خطابه لإبن عباس، قال: «ما جرى على يدك ولسانك من خير أو شر، فإنا شریکان في ذلك»(71)، ولذا كان يرى الواجب على صاحب السلطة أن يتخلى عن شأنیته الذاتية، ويتنزل الى مستوى عامة الناس، فيما هم عليه من واقع، وطبق ذلك على نفسه قبل غيره من الولاة، إذ يقول: «أأقنع نفسي بان يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم»(72).

ص: 86

والذي يؤيد هذا التحييد من أمير المؤمنين للعلاقة السابقة على الخطاب، وإلغاء دورها في اختيار استراتيجيته، أنه كان يبرز خصوصية هذه العلاقة ويشهد لمن يمتلك تلك الخصوصية بمكانته المميزة عنده، عندما يكون المخاطب خارج السلطة، وهذا ما لمسناه في خطاب الولاة المقربين، عندما يكونون في السلطة ومقارنتها مع تقييمه لهم خارج السلطة كما هو الحال في النماذج التي قدمناها.

وبالنتيجة؛ فإن استراتيجية خطاب أمير المؤمنين عليه السلام كانت على مقتضى النظرية، إذ نزل الوالي المقرب منزلة غير المقرب، ومن ثمة فإن العلاقة التي حكمت طرفي الخطاب لم تكن علاقة تضامن وقرب، بل كانت علاقة رئيس بمرؤوس، اي علاقة سلطة، وهي حسب النظرية تقتضي استراتيجية توجيهية، فلا إشكالية حينئذ.

ومن هنا ندرك مدى البعد في الرؤية بين ما يطرحه خطاب الاسلام السياسي عند بعض المنتسبين الى المذهب الاثني عشري من تصورات للسلطة في المجتمع و منحه الامتياز الثيوقراطي لمن يمسك بها، وبين رؤية أمير المؤمنين عليه السلام، فإذا الحسن والحسين ومالك الاشتر وابن عباس، تلغي كل خصوصياتهم الكمالية عندما يتعلق الأمر بالسلطة، فكيف يمنح البعض نفسه منزلة المعصوم ويكون الوصي على المجتمع!!!.

ص: 87

خاتمة واستنتاج

يمكن أن يطرح البحث خلاصة النتائج التي توصل إليها، من خلال ما تقدم من تحليل الخطاب أمير المؤمنين الموجه الى ولاته وفق نظرية استراتيجية الخطاب، في النقاط الآتية:

1. ان لكل خطاب استراتيجية خاصة تابعة لطبيعة علاقة طرفي الخطاب، یکون اختيارها، وجودا وعدما تابعا لموقف المرسل من اقراها وعدمه.

2. أن أمير المؤمنين يُحِّيد أو يُلغي العلاقة السابقة مع من يوليه السلطة السياسية.

3. أن الاستراتيجية التي انتج بها أمير المؤمنين عليه السلام لخطابه مع الولاة كانت استراتيجية توجيهية مستندا فيها الى علاقة السلطة معهم.

4. إن أمير المؤمنين يرى أن صاحب السلطة لا يملك أي امتیاز ثيوقراطي في ممارسة السلطة.

5. أن المسؤولية الدينية لمن يمسك السلطة أشد وأخطر مقارنة بمن لا يمسكها.

واستنادا إلى هذه النتائج يمكن القول: إن الثقافة التي يدعوا لها خطاب الاسلام السياسي من سلطة ثيوقراطية لا تجد لها سندا في خطاب أمير المؤمنين عليه السلام، بل انه ينفيها ويسلب عنها شرعية الانتماء الى الاسلام، مما يجعل من الواجب على اتباع مذهب أهل البيت الوقوف ضد هذه الثقافة، لأنها زيادة على لا شرعيتها الدينية، فانه تؤسس الى ديكتاتورية باسم الاسلام مما يفقدها الشرعية العقلائية والسياسية.

ص: 88

هوامش البحث:

1. ينظر: ابن فارس، ابو الحسين احمد: معجم مقاییس اللغة، ط 1، دار احیاء التراث العربي . بيروت 2001. ص 304.

2. الفيروز آبادي، محمد بن يعقوب: القاموس المحيط، ط 1، مؤسسة الرسالة، بيروت 1986، ص 103.

3. ينظر: معجم تحليل الخطاب: اشراف: باتریك شارودو - دومينيك منغنو، ترجمة: عبد القاهر المهيري - حمادي صمود، ط بلا، المركز الوطني للترجمة، تونس 2008. ص 180 - 189.

4. قسمية، دليلة: استراتيجيات الخطاب في الحديث النبوي، رسالة ماجستير مقدمة الى مجلس كلية الآداب واللغات، جامعة الخضر، الجزائر 2011 - 2012. ص 18.

5. بوحوش، رابح: الأسلوبیات و تحليل الخطاب، ط 1، مديرية النشر، الجزائر دت. ص 89.

6. ينظر الرابط: blog-post/05/2011 /Brahamiblogspot.com.

7. ينظر: الصدر، رضا: الفلسفة العليا، ط 1، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1986. ص 146.

8. الشهري ، عبد الهادي ظافر: استراتيجيات الخطاب، ط 1، دار الكتاب الجديد، بيروت 2004. ص 48.

9. الهيص، فريدة: استراتيجيات الخطاب في مقامات الحربري، رسالة ماجستير مقدمة لمجلس كلية الاداب، جامعة محمد خضر، بسكرة، الجزائر 2014 - 2015. ص 5.

10. الصفدي، مطاع: استراتيجية التسمية في نظام الانظمة المعرفية، ط 1، مركز الاناء القومي، بیروت 1986، ص 102.

11. م س، ص ن.

12. الجابري ، محمد عابد: تكوين العقل العربي، ط 3، مركز دراسات الوحدة العربية، بیروت 1988. ص 253.

13. الشهري: استراتيجية الخطاب، م س، ص 62.

14. قسيمة: استراتيجيات الخطاب في الحديث النبوي، م س، ص 79.

15. ينظر: الشهري: استراتيجية الخطاب، م س، ص 210.

16. م س، ص 261 - 262.

17. م س، ص 322.

18. م س، ص 370.

ص: 89

19. م س، ص 372 - 373.

20. م س، ص 445.

21. م س، ص 445.

22. قسمية: استراتيجيات الخطاب في الحديث النبوي، م س، ص 65.

23. نهج البلاغة ، ص 416 - 417.

24. م س، ص 417 - 418.

25. نهج البلاغة، ص 416 - 417.

26. م س، ص 417.

27. م س، ص 418.

28. م س، ص 418.

29. م س، ص 418 - 419.

30. م س، ص 434.

31. م س، ص ن.

32. ينظر: الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص

33. قسمية: استراتيجيات الخطاب في الحديث النبوي، م س، ص 90 - 116.

34. نهج البلاغة: ص 372.

35. م س، ص 373.

36. م س، ص 453.

37. م س، ص 455.

38. م س، ص 402..

39. ینظر: البحراني، میثم بن علي: شرح نهج البلاغة، ط 2، دار الحبيب، قم 1430. ص 876.

40. نهج البلاغة، ص 402.

41. م س، ص 403.

42. م س، ص 367.

43. م س، ص ن.

44. م س، ص 452.

45. البحراني: شرح نهج البلاغة، م س، ص 930.

ص: 90

46. نهج البلاغة، ص 452.

47. م س، ص 196.

48. م س، ص 197.

49. الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص 325.

50. م س، ص ن.

51. ينظر: الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص 89، ص 114، ص 149.

52. م س، ص 88.

53. م س، ص ن.

54. الجواهري، محمد: المفيد من معجم رجال الحديث، ط 2، منشورات مكتبة محلاتي، قم 1424. ص 477.

55. وينظر: الخوئي، ابو القاسم: معجم رجال الحديث، ط 1، مطبعة الآداب، النجف الاشرف 1977. ج 14 ص 169 - 172.

56. نهج البلاغة، ص 396 397.

57. م س، ص 400.

58. الخوئي: معجم رجال الحديث، م س، ج 14 ص 171.

59. الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص 237.

60. نهج البلاغة، ص 416.

61. الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص 236.

62. م س، ص ن.

63. ينظر: م س، ص ن.

64. نهج البلاغة، ص 397.

65. نهج البلاغة، ص 396.

66. الجواهري: المفيد من معجم رجال الحديث، م س، ص 67.

67. الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص 302.

68. نهج البلاغة، ص 401.

69. الجواهري: المفيد من معجم رجال الحديث، م س، ص 338.

70. نهج البلاغة، ص 367.

ص: 91

71. م س، ص 452.

72. ينظر على سبيل المثال: الشهري: استراتيجيات الخطاب، م س، ص 34، ص 92، ص 330.

73. نهج البلاغة، ص 403.

74. م س، ص 366.

75. م س، ص 407.

ص: 92

المصادر والمراجع

1 - ابن فارس: معجم مقاييس اللغة، ط 1، دار احياء التراث العربي، بيروت 2001.

2 - البحراني، ميثم بن علي: شرح نهج البلاغة، ط 2، دار الحبيب، قم 1430.

3 - بوحوش، رابح: الأسلوبيات وتحليل الخطاب، ط 1، مديرية النشر، الجزائر د ت.

4 - الجابري ، محمد عابد: تكوين العقل العربي ،ط 3، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1988.

5 - الجواهري، محمد: المفيد من معجم رجال الحديث، ط 2، منشورات مكتبة محلاتي، قم 1424.

6 - الخوئي، ابو القاسم: معجم رجال الحديث، ط 1، مطبعة الآداب، النجف الاشرف 1977.

7 - الشهري، عبد الهادي ظافر: استراتيجيات الخطاب، ط 1، دار الكتاب الجديد، بيروت 2004.

8 - الصدر، رضا: الفلسفة العليا، ط 1، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1986.

9 - الصفدي، مطاع: استراتيجية التسمية في نظام الانظمة

المعرفية، ط 1، مركز الاناء القومي، بيروت 1986.

10 - الفيروزآبادي: القاموس المحيط، ط 1، مؤسسة الرسالة، بيروت 1986.

11 - قسمية، دليلة: استراتيجيات الخطاب في الحديث النبوي، رسالة ماجستير مقدمة الى مجلس كلية الآداب واللغات، جامعة الخضر، الجزائر 2011 - 2012.

12 - معجم تحليل الخطاب: اشراف: باتريك شارودو - دومينيك منغنو، ترجمة: عبد القاهر المهيري - حمادي صمود، ط بلا، المركز الوطني للترجمة، تونس 2008.

ص: 93

13 - نهج البلاغة، ط 2، دار المختار، القاهرة 2007.

14 - الهيص، فريدة: استراتيجيات الخطاب في مقامات الحريري، رسالة ماجستير مقدمة لمجلس كلية الآداب، جامعة محمد خضر، بسكرة، الجزائر 2014 - 2015.

blog-post/05/2011 /Brahamiblogspot.com -15

ص: 94

تجليات الحجاج في الخطبة الغراء للإمام علي (عليه السلام) دراسة في وسائل الاقناع

اشارة

أ. م. د. مسلم مالك الاسدي

جامعة كربلاء / كلية العلوم الاسلامية

ص: 95

ص: 96

المقدمة

الْحَمْدُ للهَّ الَّذِي عَلَا بِحَوْلِهِ وَدَنَا بِطَوْلِهِ مَانِحِ كُلِّ غَنِيمَةٍ وَفَضْلٍ وَكَاشِفِ كُلِّ

عَظِيمَةٍ وَأَزْلٍ أَحْمَدُهُ عَلَى عَوَاطِفِ كَرَمِهِ وَسَوَابِغِ نِعَمِهِ وَأُومِنُ بِهِ أَوَّ بَادِياً وَأَسْتَهْدِيهِ قَرِيباً هَادِياً وَأَسْتَعِينُهُ قَاهِراً قَادِراً وَأَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ كَافِياً نَاصِراً وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً صلى الله عليه وآله عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ أَرْسَلَهُ لِإِنْفَاذِ أَمْرِهِ وَإِنْهَاءِ عُذْرِهِ وَتَقْدِيمِ نُذُرِهِ.

و وبعد:

في أمة تمور مورا في شتات الخلاف بين اناس سايروا طريقة محمد (صلى الله عليه واله) وتحالفوا مع الحق ونصروا المظلوم، وآخرين جانبوه وتتبعوا الشيطان وملذاته ووعوده الباطلة، وامم محيطة متربصة بالمسلمين تنتظر الانقضاض لاعادة هيمنتها ونفوذها وعزها التليد، بين هذا وذاك يقف بقية الله في الارض صادحا بالحق داعيا الى الله موجها الى الطريق القويم الى السراط المستقيم دعوة مبجلة ومدرجة في صحائف من نور تلقفها الناس حفظا ودراسة وتحبيرا فكانت النهج البليغ الذي ارتأى الباحث ان يكون بعضه ميدانا للدراسة وان تكون الخطبة الغراء هي المثال المدروس بالبحث الموسوم (تجليات الحجاج في الخطبة الغراء للإمام علي (عليه السلام) دراسة في وسائل الاقتناع) اقناع امة انجرفت بعض الشيء نحو حبائل الشيطان واخذ بعض افرادها السير في دهاليز الظلام فكان لابد من صوت صادح يوقف عجلتها الهاوية الى اتون الجحيم ويعيد نصابها الى الطريق القويم فوقف الامام خطيبا محذرا منفرا للناس موضحا المسالك وطرق الحق ومستقر متبعها ومحذرا لمن تخلف عنها من غضب الرب وناره، محاججا لهم في كل ذلك مستعملا لغة جميلة تجمع في مضانها الفخامة والجزالة والبلاغة تجتمع فيها اساليب الخبر والانشاء والبيان اساليب ابداعية اقناعية اثمرت كل منها في بناء

ص: 97

منظومة حجاجية وفرت في النهاية وكما ينقل راوي الخطبة ما اصاب القوم بعد سماعها من اقشعرار الجلود وبكاء العيون ورجفة القلوب خوفا من خشية الله وعقابه والطمع في نوال توبته وثوابه وكرمه.

لذا سنتتبع تلك الاساليب اللغوية المتوشحة بصبغة حجاجية استعملها الامام للوعظ والارشاد ولجلب القلوب والاسماع.

وسنعرض كل ذلك على شكل فقرات اولها: الاستفهام، الامر، النفي الشرط، الاستعارة، والكناية، مرتبة حسب وفرتها في النص.

1. الاستفهام:

الاستفهام احد الاساليب اللغوية والبنى التركيبية المهمة التي يلجأ اليها المرسل لكي يبعد نصوصه الابداعية عن المباشرة والتقريرية وليحقق الاثر الذي يبتغيه منها بعمل نوع من التواصل والتفاعل بينه وبين المتلقي من خلال الاستفهام عن الشيء وطلب الاجابة والاستفهام في معناه ((طلب العلم بشيء يكن معلوماً من قبل، وهو الاستخبار الذي قالوا فيه أنَّه طلب خبر ما ليس عندك، أي طلب الفهم))(1) ولكنه في الابنية الادبية يخرج عما وضع له في أصل معناه من طلب الفهم - الا نادرا - لتأدية معانٍ مجازية متعددة يساند الباث في ذلك تعدد أدوات الاستفهام وتنوع معانيها واستعمالاتها الامر الذي يسهم في منح الباث مقدرة لتحميلها بشتى الاغراض التي يرغب بإيصالها الى متلقيه ويجعلهم امام ايحاءات شتى بين الاجابة على تساءل مطلق وبين اعمال الذهن وكده لمعرفة مطلب السائل هل هو حقيقي ام ان له مآرب أخرى مجازية متوشحة بلمحة حجاجية مقصودة تتكشف بعد التركيز على عناصر السياق المختلفة وملابسات الحديث الذي ورد فيه الاستفهام وبسبب ما يتحف به المرسل من قدرة في ايصال

ص: 98

افكاره، ومن امثلة هذا العنصر في الخطبة الغراء قوله عليه السلام(2) ((فَهَلْ ينَتْظَرِ أَهْلُ بَضَاضَةِ الشَّبَابِ إِلَّا حَوَانِيَ الْهَرَمِ وَأَهْلُ غَضَارَةِ الصِّحَّةِ إِلَّا نَوَازِلَ السَّقَمِ وَأَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إِلَّا آوِنَةَ الْفَنَاءِ مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ وَأُزُوفِ الِنْتِقَالِ وَعَلَزِ الْقَلَقِ وَأَلَمِ الْمَضَضِ

وَغُصَصِ الْجَرَضِ وَتَلَفُّتِ الِسْتِغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَالْأَقْرِبَاءِ وَالْأَعِزَّةِ وَالْقُرَنَاءِ فَهَلْ دَفَعَتِ الْأَقَارِبُ أَوْ نَفَعَتِ النَّوَاحِبُ وَقَدْ غُودِرَ فِي مَحَلَّةِ الْأَمْوَاتِ رَهِيناً وَفِي ضِيقِ

الْمَضْجَعِ وَحِيداً قَدْ هَتَكَتِ الْهَوَامُّ جِلْدَتَهُ وَأَبْلَتِ النَّوَاهِكُ جِدَّتَهُ وَعَفَتِ الْعَوَاصِفُ

آثَارَهُ وَمَحَا الْحَدَثَانُ مَعَالِمَهُ وَصَارَتِ الْأَجْسَادُ شَحِبَةً بَعْدَ بَضَّتِهَا وَالْعِظَامُ نَخِرَةً بَعْدَ قُوَّتِهَا وَالْأَرْوَاحُ مُرْتَهَنَةً بِثِقَلِ أَعْبَائِهَا مُوقِنَةً بِغَيْبِ أَنْبَائِهَا لَا تُسْتَزَادُ مِنْ صَالِحِ عَمَلِهَا وَلَا تُسْتَعْتَبُ مِنْ سَيِّئِ زَلَلِهَا)) يتوجه الامام بخطابه الى اصحابه متعجبا من جلد الانسان وشدته وعظيم كبريائه ومضائه بصورتين ركبتا بتوافق بين استفهام اول ب(هل) التي تعنى بالتصور الذي أفضى إلى انجاز فعل كلامي توشح بتموجات مستقبلية واقعة لا محالة فما بعد الشباب والجلد وغضارة الوجه الصحة، النوازل والامراض، وطول مدة البقاء، الفناء والموت والرجوع الى دار الحق بعد الغواية او الايمان في الدار الاولى فالأمام من خلال هذا العنصر قدم سؤالا ولكنه طرح الاجابة معه لأنها معروفة للداني والقاصي ولكن بين الاستفهام وجوابه اتت الفجوة التي طرحت ميدانا للحجاج فإذا كان المصير معروفا والعمر يمر كما تمر النسمة والفناء قادم والاخرة مشرعة ابوابها مستقبلة زوارها فلماذا العصيان والتخلق بالسوء والعيش بالمهالك وطلب العلو والرفعة؟.

وبعدها تعود الاداة (هل) مرة اخرى وهي ترد بالتعجب مرة اخرى لتحقق فعلا انجازيا ثانيا يمر فيه الموت حاملا في طريقة اروحا قطفت ورقتها، وساحت مع الردى، فعلا تعجبيا بين روحا مرتفعة لبارئها وبكاء الاقارب والاهل على

ص: 99

عزيز مفارق، فالأداة هل هنا لا تطلب من المتلقي الجواب عنها بل الجواب اختفت معالمه لأنه معلوم للجميع وبديهي ولكن بداهته مزلزلة لأنها تتحدث عن صدمة عميقة تحدث للإنسان عند إحساسه باقترابه من الختام، فهو لم ولن يتقبل من دون مقاومة مشهد انفصاله عن الأرض وبهائها، أو انفصاله عن أحبابه وأصحابه(3) على الرغم من علمه بحتمية الموت والخلاص، ولان هذا الامر من البديهيات القارة التي لا لبس فيها ولا نكوص ولكنه يضل راغبا في العيش فيها مها كانت ظروف عيشه، فالأمام يسأل الصحابة بصيغة الاستفهام ليصور مشهدا مستقبليا لهم وواقعا يخالج قلوبهم ونفوسهم يحسون باقترابه كلما سار بهم الزمن يتخوفون منه ولكنهم لا يقدمون لحياتهم بعده شيئا وهنا البؤرة التي التقت فيها عناصر الحجة.

وقوله(4) ((عِبَادَ اللَّهِ أَيْنَ الَّذِينَ عُمِّرُوا فَنَعِمُوا وَعُلِّمُوا فَفَهِمُوا وَأُنْظِرُوا فَلَهَوْا

وَسُلِّمُوا فَنَسُوا أُمْهِلُوا طَوِياً وَمُنِحُوا جَمِيلًا وَحُذِّرُوا أَلِياً وَوُعِدُوا جَسِيماً احْذَرُوا

الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ وَالْعُيُوبَ الْمُسْخِطَةَ أُولِ الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْعَافِيَةِ وَالْمَتَاعِ هَلْ

مِنْ مَنَاصٍ أَوْ خَاَصٍ أَوْ مَعَاذٍ أَوْ مَاَذٍ أَوْ فِرَارٍ أَوْ مَحَارٍ أَمْ لَا فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ أَمْ أَيْنَ

تُصْرَفُونَ أَمْ بِمَا ذَا تَغْتَرُّونَ وَإِنَّاَ حَظُّ أَحَدِكُمْ مِنَ الْأَرْضِ ذَاتِ الطُّوْلِ وَالْعَرْضِ قِيدُ

قَدِّهِ مُتَعَفِّراً عَىَ خَدِّهِ)) تستمر اليات التعجب مما يحصل من خروج على الطريقة، ومن تجاوز للحدود الربانية التي جعلت خطوطا معتمدة لا يمكن تجاوزها؛ ذكرها الامام (عليه السلام) اولا ثم يأتي بأدوات الاستفهام مستفهما عن افعال العباد متعجبا منها فمن انعم واعطي واكرم قوبل بالرفض وبالذنوب والاغترار والتجاهل على الرغم من معرفة الطريق واستشراف السبيل من لدن الانسان ومعرفته بان النهاية هي الموت الذي لابد ان يكون المرء ملاقيه يوما ولكنه على

ص: 100

الرغم من كل ذلك يتمادی بالعصيان، ولكي يكمل الامام صورته التعجبية من خلال هذا الاسلوب نراه يعمل على ان يجعل الجمل الاستفهامية متراكمة لان هذا التراكم أكسب النص بعداً دلالياً عميقاً؛ أدى إلى فتح فضاء تأويلي كبير يمنع انغلاق النص على الرغم من انتهائه(5) وهذا هو الأمر المتطلب اساسا فالمراد منه عمل نوع من التواشج بين المرء والثوابت والحقيقة التي تمثل مقداره و حجمه مقابل نعم الله وعقابه.

ومنها وقوله(6) ((وَلَسْتُمْ أَبْنَاءَ الْقَوْمِ وَالْبَاءَ وَإِخْوَانَهُمْ وَالْأَقْرِبَاءَ تَحْتَذُونَ

أَمْثِلَتَهُمْ وَتَرْكَبُونَ قِدَّتَهُمْ وَتَطَئُونَ جَادَّتَهُمْ فَالْقُلُوبُ قَاسِيَةٌ عَنْ حَظِّهَا لَهِيَةٌ عَنْ

رُشْدِهَا سَالِكَةٌ فِي غَیْرِ مِضْمَرِهَا كَأَنَّ الْمَعْنِيَّ سِوَاهَا وَكَأَنَّ الرُّشْدَ فِي إِحْرَازِ دُنْيَاهَا)).

تستمر صفة التعجب المحملة بشيء من الاستنكار المتخفية خلف اسلوب الاستفهام الذي جاء هذه المرة معتمدا على الأداة (الهمزة) التي تحمل في طياتها التصديق والتصور وتحتاج الى اجابة ولكنها اجابة انتفت الحاجة اليها في النص الان الباث لم يكن يتطلبها لأنها معروفة للمتلقي بل كان الجواب هنا داخلا في مدار التأثير وطلب الرجوع الى النفس ومراقبة المحيط او لستم أبناء القوم فأين هم؟ واین آبائكم؟ وأين اخوتكم وزوجاتكم؟ كلهم ساروا تباعا وذهبوا سراعا وتلقفهم الموت أوليس هذا الامر کافيا؟ ليعود الإنسان إلى رشده ويعيد بناء نفسه وتستقيم أخلاقه.

لقد حاول الامام من خلال هذا الأسلوب إجراء نوع من التفاعل بينه وبين المتلقي، بوساطة جعل الأخير يجيب في ذاته عن سؤال يكاد يكون جوابه ماثلا امامه ومتحققا في كل لحظة جوابا يكاد يكون هو مدارها وسنة منتهاها لا يتعدى الكائن المخيف الذي يدعى بالموت ومستقرها حفرة تسمى القبر.

ص: 101

2. الامر:

عندما يقف من يمتلك مقومات المجد والرفعة والسؤدد على اعواد الناس خطيبا وهو بليغهم وولي امرهم واعلاهم حسبا وافضلهم نسبا وأولهم ایهانا لابد ان تتوشح جمله بشيء من الأمر الذي يستعمل لتحقيق مبتغاه لذا نجد الخطبة الغراء تحتوي في مضانها شيئا مما تقدم بوساطة أسلوب يتميز بقدرته على منح المتكلم شعور بالقوة، لأنَّه في معناه الوضعي: ((صيغة تستدعي الفعل، وقول ينبئ عن استدعاء الفعل من جهة الغير على وجه الاستعلاء والإلزام))(7) ولكنها قوة حولها الامام للنصح والالتماس من عباد الله تقوى الله والسير في تعاليمه وتحقيق مطالبه وتقديس ذاته مستغلا تلك القوة لتحقيق معنی قصديا او تأثیرا مقصودا ((لان فعل الكلام الانجازي يتعدد بكونه فعلا انجز ضمن قول ما))(8) وهذا الانجاز نراه مرتبطا بأفعال الامر التي تلفظها الإمام أثناء خطبته يقول(9) ((فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِيَّةَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ وَاقْتَرَفَ فَاعْتَرَفَ وَوَجِلَ فَعَمِلَ وَحَاذَرَ فَبَادَرَ وَأَيْقَنَ فَأَحْسَنَ وَعُبِّرَ فَاعْتَبَرَ وَحُذِّرَ فَحَذِرَ وَزُجِرَ فَازْدَجَرَ وَأَجَابَ فَأَنَابَ وَرَاجَعَ فَتَابَ وَاقْتَدَى فَاحْتَذَى وَأُرِيَ فَرَأَى فَأَسْرَعَ طَالِباً وَنَجَا هَارِباً فَأَفَادَ ذَخِرَةً وَأَطَابَ سَرِيرَةً))

فعل الأمر في (أتقوا) فعل كلامي انجز الوعد والتهديد مع محاولة توجيه الافعال الى حوادث اخر لزيادة الاثر فالتقوى يجب ان توازن تقوى من سمع نداء الله وتعاليمه فخشع لها واقترف فعل الكسب واعترف بما جاء به الرب لم يكن مجانبا للحق او خارجا عن سبل الشريعة، تقوی من و جل خوفا من قوة الله فعمل الخير وسار بالصواب ورجع الى رشده وتاب عن ارتكاب المعاصي واقتدى بالصالحين واعمالهم واحتذى افعالهم، فامتلأت صحيفته بالعمل الصالح وطابت نفسه وسريرته بما لاقاه.

ص: 102

وقوله(10) ((وَاعْلَمُوا أَنَّ مَجَازَكُمْ عَلَى الصِّرَاطِ وَمَزَالِقِ دَحْضِهِ وَأَهَاوِيلِ زَللهَ

وَتَارَاتِ أَهْوَالِهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ وَأَنْصَبَ الْخَوْفُ

بَدَنَهُ وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ وَأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَظَلَفَ الزُّهْدُ شَهَوَاتِهِ

وَأَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ وَقَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ وَتَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ السَّبِيلِ))

يعود الامام لدعوة العباد الى التقوی مکررا الفعل مرة فمرة ليحقق منه منجزا وليکمل دعوته وهذا التكرار للفعل لتحقيق غاية تأثيرية متطلبة من لدن الامام وينشدها النص (لان التكرار من الظواهر اللسانية التي تلبي حاجة نفسية وذهنية في حياة المتكلم))(11) فتكرار فعل التقوى تلبي حاجة في ذهن الامام تعايش معها منذ ولد وحاول أن يمرر شعلتها لانصاره واصحابه مذکرا و مکررا لها في اغلب مواطن اللقاء ومحددا فيها النعم وبترکها ما يجري على العباد من مهالك النقم فالتقوى يجب أن يحتذي طالبها بمن انصب الخوف من عذاب الله بدنه، وبمن اسهره التهجد وازال هو وقيام الليل عابدا نومه، وارجف ذكر الله لسانه خوفا من عذابه وسطوته وطمعا في نعيمه وكرمه.

وقوله(12) ((احْذَرُوا الذُّنُوبَ الْمُوَرِّطَةَ وَالْعُيُوبَ الْسْخِطَةَ أُولِ الْأَبْصَارِ وَالْأَسْمَاعِ

وَالْعَافِيَةِ وَالْمَتَاعِ)) يدخل الفعل الكلامي (احذروا) في تشكيل الأحداث المستقبلية منها والحاضرة فالحذر من ذنب يسعف الانسان بعد تمهل الى نار لا تحمد ويبعده عن جنة اعدت للشاکرین احذروا وقد منحكم الله ما يجنبكم المعاصي والآثام ومنحكم الابصار والاسماع والعافية والمتاع وكلها تتطلب الشكر ولكنها ايضا مصدر النقمة اذا ما استغلت من لدن البشر بالباطل والسوء ففعل الأمر حقق قوة انجازية حددتها إرادة المتكلم وقصده وهي ارادة متعلقة بطلب ايقاع المأمور به وعدم ایقاع المنهي عنه.

ص: 103

3. النفي:

النفي ((أسلوب لغوي يقصد به النقض والإنكار))(13) يستعمله الباث لدفع ما يتردد في ذهن المتلقي من أمور كان يعتقد بحدوثها، فيعمل على إزالة ذلك الاعتقاد و محو الشك بالنفي والإنكار(14) بوساطة جملة من الادوات (لا، ولن، وما، ولم، وليس.) وهذه الادوات تعد عوامل حجاجية توجه قول المتلقي في آن واحد(15) ((يحقق بها المتكلم وظيفة اللغة الحجاجية المتمثلة بإذعان المتلقي وتسليمه عبر توجيه الملفوظ))(16) والمتلقي الى ادراك النتيجة التي يريدها المتكلم ويعلم مغزاها لما يمتلكه هذا الاسلوب من وسائل اقناع متحققة من قوة تأثيرية تكسبه قوة حجاجية(17) تنتج من خلال السماح للمتكلم بالتعبير المتزامن عن صورتين متقابلتين الصوت الذي يتبنی جانب الاثبات وصوت المتكلم المتبني للنفي(18) وعند تتبعنا للمواضع التي ورد فيها هذا العنصر الحجاجي في الخطبة الغراء للأمام علي (عليه السلام) نراه ينفي ويقطع من خلال النفي مطالب العودة لتصحيح المسار واعادة الأمور إلى نصابها الصحيح بعد ان وضع الحد ووصلت الانفس إلى مقام بارئها تنتظر حسابه يقول(19) ((الِامْتِحَانِ وَأَعْظَمُ مَا

هُنَالِكَ بَلِيَّةً نُزُولُ الْحَمِيمِ وَتَصْلِيَةُ الْجَحِيمِ وَفَوْرَاتُ السَّعِيرِ وَسَوْرَاتُ الزَّفِرِ لَا فَتْرَةٌ

مُرِيحَةٌ وَلَا دَعَةٌ مُزِيحَةٌ وَلَا قُوَّةٌ حَاجِزَةٌ وَلَا مَوْتَةٌ نَاجِزَةٌ وَلَا سِنَةٌ مُسَلِّيَةٌ بَیْنَ أَطْوَارِ

الْمَوْتَاتِ وَعَذَابِ السَّاعَاتِ إِنَّا بِاللِّهَ عَائِذُونَ))(20).

ان عاملية النفي الحجاجية في النص لا يمكن ادراكها إلا بإدراك النتيجة التي يريد المتكلم توجيه المتلقي اليها(21) فالنتيجة معروفة حددها السياق ووفرها النص فجهنم لا يفتر العذاب فيها ولا يسكن حتى يستريح المعذب من الألم ولا تكون فيها راحة ولا قوة تمكنه من حجز العذاب ورفعه ولا غفوة تسهم في تخفيف الالم

ص: 104

المبرح، كما يظهر في النص متحدثا اخر وبصورة غير مباشرة فنفي الراحه معناه هنالك تعب ونفي الدعة والسلامة معناها وجود الالم ونفي القوة تحضر مقابلها الضعف ونفي الموت معناها الحياة السرمدية المنتشية بالعذاب المتواصل إلى ما لانهاية له.

ومنها قوله عليه السلام(22): ((لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً وَلَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً يَحْتَذُونَ مِثَالً وَيَمْضُونَ أَرْسَالً إِلَی غَايَةِ الِنْتِهَاءِ وَصَيُّورِ الْفَنَاءِ)) اکتسب النص بعدا حجاجيا لتكرار اداة النفي في النص مرتين وجهت المتلقي الى نتيجة واحده فالمنية لا تكف عن استئصالها للأحياء وهؤلاء لا يكفون عن عمل السيئات ويحتذون مثالا من محيطهم او ممن سبقهم من الآباء والأجداد على الرغم من معرفة هؤلاء لمستقر اولئك ومكانتهم التي تبوؤها من النار، ولكنهم تبع لهم وشيع لا يستنکفون عن مجاراتهم في الاعمال السيئة والدوام عليها.

وقوله(33): ((فَاتَّقُوا اللَّهَ عِبَادَ اللَّهِ تَقِيَّةَ ذِي لُبٍّ شَغَلَ التَّفَكُّرُ قَلْبَهُ وَأَنْصَبَ الْخَوْفُ بَدَنَهُ وَأَسْهَرَ التَّهَجُّدُ غِرَارَ نَوْمِهِ وَأَظْمَأَ الرَّجَاءُ هَوَاجِرَ يَوْمِهِ وَظَلَفَ الزُّهْدُ

شَهَوَاتِهِ وَأَوْجَفَ الذِّكْرُ بِلِسَانِهِ وَقَدَّمَ الْخَوْفَ لِأَمَانِهِ وَتَنَكَّبَ الْمَخَالِجَ عَنْ وَضَحِ

السَّبِيلِ وَسَلَكَ أَقْصَدَ الْمَسَالِكِ إِلَی النَّهْجِ الْمَطْلُوبِ وَلَمْ تَفْتِلْهُ فَاتِاَتُ الْغُرُورِ وَلَمْ تَعْمَ

عَلَيْهِ مُشْتَبِهَاتُ الْأُمُورِ ظَافِراً بِفَرْحَةِ الْبُشْرَى وَرَاحَةِ النُّعْمَى فِي أَنْعَمِ نَوْمِهِ وَآمَنِ يَوْمِهِ وَقَدْ عَبَرَ مَعْبَرَ الْعَاجِلَةِ حَمِيداً وَقَدَّمَ زَادَ الْجِلَةِ سَعِيداً))

لو تتبعنا النص السابق نلاحظ الاداة (لم) والتي تكررت مرتين اتت لنقض السيء واثبات الجيد فهي تساير النص الذي امعن كثيرا في وصف المومن وصفاته من وجه الاثبات والامر نفسه استمر من النفي الي انقض صفات سيئة ليدل على نقيضها فنفی کثرة النوم وتفتل العباد فيه لينصرف إلى التهجد وذكر الله والصلاة

ص: 105

وقيام الليل لعبادته ولم تعم المتشابهات بصره وبصيرته فلم يقع فيما يحذر منه، انه الانسان المتكامل الذي تجمعت فيه الصفات المتطلبة والمحببة إلى الرب والى رسله واوليائه، واذا كان صاحب هذه الصفات قد وجد فلماذا لا تتعاور الناس طريقته؟ ولماذا لا تسایر منهجهه؟

4. الشرط:

الشرط هو ((أحد أساليب نظم الجملة، يقوم على تعليق عبارتين، كثيراً ما تكون الأولى سبباً للثانية، أو مرتبطة بها على معنى من المعاني))(24)، أي أنَّه يتكون من جملتين ترتبط كل منها بالأخرى ارتباطاً وثيقاً، فتكون إحداهما سبباً لنتيجة تمثلها الجملة الأخرى، بحيث لا تستقل إحداهما عن الأخرى من حيث المعنى، ومن حيث التركيب(25).

فتكون الاحداث متعينة أو مشروطة بعضها ببعض يقول عليه السلام(26):

((حَتَّى إِذَا تَصَرَّمَتِ الْأُمُورُ وَتَقَضَّتِ الدُّهُورُ وَأَزِفَ النُّشُورُ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ضَرَائِحِ الْقُبُورِ وَأَوْكَارِ الطُّيُورِ وَأَوْجِرَةِ السِّبَاعِ وَمَطَارِحِ الْمَهَالِكِ سِرَاعاً إِلَی أَمْرِهِ مُهْطِعِنَ إِلَی مَعَادِهِ رَعِياً صُمُوتاً قِيَاماً صُفُوفاً يَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِسْتِكَانَةِ وَضَرَعُ الِسْتِسْلَامِ وَالذِّلَّةِ قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَانْقَطَعَ الْأَمَلُ وَهَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً وَأَلْجَمَ الْعَرَقُ وَعَظُمَ الشَّفَقُ وَأُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَی فَصْلِ الْخِطَابِ وَمُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ وَنَكَالِ الْعِقَابِ وَنَوَالِ الثَّوَابِ.)) فجملة الشرط وجوابه جملة فعلية فيها تراتبية الزمن متغيرة سائرة بالنفس إلى مبتغاها مهما طال الوقت فلا بد للبعث من ازوف ولا بد للنشور والرجعة من وعد ولا بد للضرائح من أن تفتح وبقايا الانسان ان تجمع اینما كانت وانی اودعت فلا بد ان تجيب دعوة الداعي وتلتحق بالميعاد المحتوم الذي لاشك فيه وحتى مع

ص: 106

مجيء الجملة الفعلية التي لا تدل على الثبوت کما هو معروف مع الجمل الاسمية ولكنها هنا اثبتته ولكن اشرعت في مقياسها الازمنة وجعلت وقت هذا اليوم غير معروف لمن يسكن في البسيطة واثبتت علمه الله تبارك وتعالى.

ومنها قول (27): ((أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُاَتِ الْأَرْحَامِ وَشُغُفِ الْأَسْتَارِ نُطْفَةً

دِهَاقاً وَعَلَقَةً مِحَاقاً وَجَنِيناً وَرَاضِعاً وَوَلِيداً وَيَافِعاً ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً وَلِسَاناً

لَفِظاً وَبَرَاً لَحِظاً لِيَفْهَمَ مُعْتَبِرِاً وَيُقَصِّرَ مُزْدَجِراً حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ وَاسْتَوَى

مِثَالُهُ نَفَرَ مُسْتَكْبِاً وَخَبَطَ سَادِراً مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ

طَرَبِهِ وَبَدَوَاتِ أَرَبِهِ ثُمَّ لَا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً وَلَا يَخْشَعُ تَقِيَّةً فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً وَعَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِراً لَمْ يُفِدْ عِوَضاً وَلَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ وَسَنَنِ مِرَاحِهِ)) فالأداة (اذا) جاءت مرة اخرى مستعملة للمتوقع بحصوله وهو الاستنفار والتكبر الحاصلان بع اكتمال الخلقة نموا، امرا تعارف عليه الناس وبه جبلوا فبعد ان كان نسيا في ظلمات الارحام ويتسلسل خلقه من حال الى حال حتى الاكتمال ينجرف عاصيا مخالفا لسيد الكمال ولواهب المثل ومنعم المكارم و حتی مع مجيء الشرط وجوابه جملا فعلية متمتعة بغير الثبات لخروج بعض الانام عن القاعدة الاساس لكن الغلبة الغالبة تسایر ما طرح وهذا ما رغب الامام ان يوصله من خلال الشرط فالترابط الذي ولدته الأداة جاء مع مفعولاتها محاججة للمتلقي العاصي لربه والمبتعد عن اعرافه واحکامه والمنزاح عن نعیم طريقه السائر في ركب المتخلفين من العصاة والمتتبعين شهوات الكبر والهوى.

وقوله عليه السلام(28): ((فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا يُونِقُ مَنْظَرُهَا

وَيُوبِقُ مَخْبَرُهَا غُرُورٌ حَائِلٌ وَضَوْءٌ آفِلٌ وَظِلٌّ زَائِلٌ وَسِنَادٌ مَائِلٌ حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا وَاطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا وَقَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا وَأَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا وَأَعْلَقَتِ

ص: 107

الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ قَائِدَةً لَهُ إِلَی ضَنْكِ الْمَضْجَعِ وَوَحْشَةِ الْمَرْجِعِ وَمُعَايَنَةِ الْمَحَلِّ وَثَوَابِ الْعَمَلِ. وَكَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً وَلَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ

اجْتِرَاماً يَحْتَذُونَ مِثَالً وَيَمْضُونَ أَرْسَالً إِلَی غَايَةِ الِنْتِهَاءِ وَصَيُّورِ الْفَنَاءِ)).

تتكرر الأداة اذا وتأتي مرة بعد اخرى تنبي وتجمع بين صورتين الدنيا والاخرة الاولى كدر مشربها كثير الطين والوحل بما تلزق بالإنسان من ادرانها تغري الانسان بالنعم وتهلكه عن طريقها بوساطة منحه سبل الطمأنينة والدعة ثم تلقفته المنية سراعا وتقمصته بعد ان انهكت قواه واعتل جسده واصبح واقعا في شباكها مغترما من جمالها وزينتها وكل هذا صوره الامام لسامعيه جاعلا اداة الشرط کفاصل لما كان اولا وبعد الشرط نتيجة ذلك المتحصل ونهاية مورده فهما متلازمان معلومان للمتلقي لذا حاججهم عليه افضل الصلاة والسلام بما يعرفوه ولكنه يبني الإنسان ويصف اوليته ثم ينهي كل ذلك بنتيجة ذلك التصرف ازاء شبابه وعندما يزف الوقت وتدني المنية او تتحقق فيلتحق بربه وهو مغرم العمل سيء الفعل مجانب للصواب.

5. الاستعارة:

الاستعارة احد عناصر التعبير الادبي غير المباشرة والتي يتجه اليها الاديب او الباث لكي يحمل الرسالة بدلالات اخر غير محددة في النص بل تتطلب من المرسل اليه وقفة لمعرفة المراد منها وبهذا تحقق مشاركة فاعلة بينهما والاستعارة «مجاز بلاغي فيه انتقال معنی مجرد إلى تعبير مجسد، من غير التجاء إلى أدوات التشبيه أو المقارنة»(29) وهي صالحة في مختلف ضروب الكلام، وتكثر بصفة خاصة عندما يرتقي الفن إلى الذروة عند الاديب(30) لكونها طريقة مثلى لاستبطان الأفكار وتنقل تأثيراتها بما تخلفه من صور ورموز سواء أكانت العلاقة التي تخلقها بين

ص: 108

المعاني علاقة مشتركة أم ضدية، قريبة أم بعيدة، ولكونها تضع الأشياء في علاقات حية جديدة تفيد شرح المعنى، وتفعل في النفس ما لا تفعله الحقيقة، وتفيد تأكيد المعنى والمبالغة فيه والإيجاز، ثم أنها عنصر مهم من عناصر التوليد والتجديد(31) وبسبب ما يتمتع به هذا العنصر نراها ترد في اكثر من موضع في الخطبة الغراء كما يظهر في قوله(32) (عليه السلام): ((فَإِنَّ الدُّنْيَا رَنِقٌ مَشْرَبُهَا رَدِغٌ مَشْرَعُهَا يُونِقُ مَنْظَرُهَا وَيُوبِقُ مَخْبَرُهَا غُرُورٌ حَائِلٌ وَضَوْءٌ آفِلٌ وَظِلٌّ زَائِلٌ وَسِنَادٌ مَائِلٌ حَتَّى إِذَا أَنِسَ نَافِرُهَا وَاطْمَأَنَّ نَاكِرُهَا قَمَصَتْ بِأَرْجُلِهَا وَقَنَصَتْ بِأَحْبُلِهَا وَأَقْصَدَتْ بِأَسْهُمِهَا وَأَعْلَقَتِ الْمرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ قَائِدَةً لَهُ إِلَی ضَنْكِ الْمَضْجَعِ))

للتأثير في المتلقي قارب الامام بين الدنيا وصفات مادية مختصة بمتطلبات الكائنات فاستعارها لها فطابق بینها (زمانها) وبين ما يكدر الحياة ليبين لاصحابه حقيقتها وصفتها التي غابت عن بعضهم فاستعار المشرب لها من وجهة الاستعارة المكنية ولكنه شرب کدر کالماء الموحل كثير الطين وجعل لها منظرا ولكنه منظر قبیح مهلك لمن يتعلق بها يعيش من فيها غرورا حائلا لا بقاء بعده ولا عقب، ثم يستعير قمص الفرس وغيره لها من باب الاستعارة المكنية ايضا بعد ان میهن جسمه ويضعف فيرفع رجليه وينزلهما معا وبعدها يجعل للمنية اوهاق (حبال) الموت الذي تمسك بعنق الانسان لتتلقفه سراعا الى دار اخرى الى الاخرة صورة رسمها الامام وكثف معناها واسهب في رسم دلالاتها ليبين لهم حقيقة الدار التي ينعمون بها حياة ويستقتلون عليها وهي في حقيقتها كدراء غبراء لا استقامة فيها ولا دوام عيشها الم والخروج منها مشقة، فلماذا كل هذا الاندفاع لطلبها والرغبة في تحصیل مباهجها الزائلة.

ص: 109

وقال (33): ((وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي عَلَيْهِمْ لَبُوسُ الِسْتِكَانَةِ وَضَرَعُ الِسْتِسْاَمِ وَالذِّلَّةِ قَدْ ضَلَّتِ الْحِيَلُ وَانْقَطَعَ الَأمَلُ وَهَوَتِ الْأَفْئِدَةُ كَاظِمَةً وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَيْنِمَةً وَأَلْجَمَ الْعَرَقُ وَعَظُمَ الشَّفَقُ وَأُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَةِ الدَّاعِي إِلَی فَصْلِ الْخِطَابِ وَمُقَايَضَةِ الْجَزَاءِ وَنَكَالِ الْعِقَابِ وَنَوَالِ الثَّوَابِ)).

تتمثل في النص صورة رسمت لتصور مشهد النشور والتوجه للحساب منظرا في حكم الغبيات التي انتشرت حيثياته في بعض الآيات القرآنية فلبوس الاستكانة والخضوع تغطي ارواح العباد فألبس الثوب وهو مادي ولكنه اضاف له الاستكانة التحول الصورة الى شيء اخر يمثل في حقيقته الخضوع والندم والضعف للأرواح الصاعدة الى ربها منتظرة الشروع في نشر صحيفة اعالها دون ان يكون للأخير اي قدرة للاعتراض او القول فالنص يفصح بمدلولات الضعف والتبعية والسكينة والانقياد وهوان الانفس انهيار الافئدة وخلت من المسرة وانتفى وانتهى الأمل من النجاة ولم يبقى لها سوى الانتظار لفصل الخطاب وانتظار الجزاء عقابا کان ام ثواب.

6. الكناية

الكناية من الأساليب البيانيّة التي من شأنها أن تمنح النصوص الشعريّة غنًى دلاليّاً بسبب التكثيف المعنويّ الذي تضمّه في طيّاتها، والذي تعبّر فيه عن المعنى المراد التعبير عنه في أقصر طريق لذلك عرفها الجرجاني بقوله: «هي أن یرید المتكلم إثبات معنى من المعاني فلا يذكره باللفظ الموضوع له في اللغة ولكنه يجيء إلى معنى هو تاليه وردفه في الوجود فيومئ به إليه ويجعله دليلا عليه»(34)، وهي أيضا عدول عن التصريح بالمعنى إلى ما هو أجمل منه وأليق ؛ لخدمة أغراض تتصل بالأدب ورهافة الحس(35)، فالكناية ذات دلالتين تقوم كل منها في إنتاج معنی أولي

ص: 110

مباشر يمكن تشبيهه بالواجهة، وآخر عمیق ناتج عن فكرة اللزوم التي تحصل بعد التركيز في الغرض الذي يرمي إليه المتكلم(36)

يقول عليه السلام(37): ((وَأَعْلَقَتِ الْمَرْءَ أَوْهَاقَ الْمَنِيَّةِ قَائِدَةً لَهُ إِلَی ضَنْكِ الْمَضْجَعِ وَوَحْشَةِ الْمَرْجِعِ وَمُعَايَنَةِ الْمحَلِّ وَثَوَابِ الْعَمَلِ. وَكَذَلِكَ الْخَلَفُ بِعَقْبِ السَّلَفِ لَا تُقْلِعُ الْمَنِيَّةُ اخْتِرَاماً وَلَا يَرْعَوِي الْبَاقُونَ اجْتِرَاماً يَحْتَذُونَ مِثَالً وَيَمْضُونَ أَرْسَالًا إِلَی غَايَةِ الِنْتِهَاءِ وَصَيُّورِ الْفَنَاءِ)). تظهر علاقة الاستلزام في النص حركية المنية ونهاية عملها وموقع الانسان فيها فمكانه المرقد الضيق ومحله المشهد المؤلم والمرقد الضنك الموحش، کناية استغلها الامام لرسم صورة النهاية الدنيوية لجذب انظار اصحابه و ليبين لهم الامر عيانا و مصورا و واقعا بشيء الفوه وعايشوه فنهاية الجميع هذا المكان فلا هذا التدافع على طلب السعة والاندفاع في تحصيل الشهوات والرغبة في التمتع بالطيبات اذا كان الامر مألوفا والمرقد معدا والخارج من كل ما تقدم لا يستقدم للحياة نفسها مرة الاخرى.

ومنها قوله عليه السلام(38): ((وَالْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ وَغَمْرَةٍ كَارِثَةٍ وَأَنَّةٍ مُوجِعَةٍ

وَجَذْبَةٍ مُكْرِبَةٍ وَسَوْقَةٍ مُتْعِبَةٍ ثُمَّ أُدْرِجَ فِي أَكْفَانِهِ مُبْلِساً وَجُذِبَ مُنْقَاداً سَلِساً ثُمَّ أُلْقِيَ

عَلَى الْأَعْوَادِ رَجِيعَ وَصَبٍ وَنِضْوَ سَقَمٍ تَحْمِلُهُ حَفَدَةُ الْوِلْدَانِ وَحَشَدَةُ الْإِخْوَانِ إِلَی

دَارِ غُرْبَتِهِ وَمُنْقَطَعِ زَوْرَتِهِ وَمُفْرَدِ وَحْشَتِهِ)) يبرز في النص الاستلزام الذي انتجته الكناية التي يصور من خلالها النزع ولحظات افول الروح الى بارئها لحظة الغمرة الشدة التي تحيط بالعقل والحواس لتنقلها من زمن الى اخر قاطعة لأمل البقاء والتعلق في الدنيا وهو يعاني النزع وجذبة الروح جذبات النفس عند الاحتضار والشروع في نزع الروح وهوغير قادر على المانعة او الرفض حجج متسلسلة حاول الامام عليه السلام أن يقدمها للأصحاب والانصار والمسلمين من واقعهم

ص: 111

المعاش ومن محيطهم فالموت وقبله النزع جميعهم قد مروا به وشاهدوه عيانا يأخذ الاصحاب والاخوة والاباء دون جهد او معارضه وهو دائر بينهم يسقطهم من حيث لا يحتسبون فلم التكبر والغرور اذا كانت نهايتها بالجذب والسوقة المتعبة التي لا ينفك كائن من لقائها وتجربتها.

ص: 112

الخاتمة

بين وموت الجسد والنشور للحساب يقف الحق صارخا صادحا بالجمال موصفا لهما ببلاغة نادرة واساليب غراء تنثال منها الجزالة والقوة والبلاغة والصدق انثيالا، وتوصف بما النهايات والنتائج با ورد فيها عن النبي الاكرم عن جبرائيل عن الله فضمنها الامام عليه السلام في خطبته الغراء التي كانت مصورة لمشهد حقيقي لمستقبل القوم ووصفت الواقع الذ يعيشوه واين يتجه بهم هذا العيش الضال او السليم، بين هذا وذاك حاججهم الامام مستعملا جملة من الاساليب اللغوية التي حقق بها مراده و جذبت اليه افئدة القوم وعقولهم وجعلتهم في معترك بين حب الدنيا والطمع في نوال الاخرة بين حب التمتع القصير وتحقيق الرغائب وبين العيش السرمدي تحت ظلال الجنة التي دارت محاور الخطبة بجملتها حول ما تقدم

هوامش البحث:

1. البلاغة والتطبيق: 131.

2. نهج البلاغة: 167 - 168.

3. ينظر: الموت في الفكر الغربي: 23.

4. نهج البلاغة: 169.

5. ينظر / أسلوبية البناء الشعري؛ دراسة أسلوبية في شعر سامي مهدي: 98.

6. نهج البلاغة: 169.

7. الصاحبي في فقه اللغة ومسائلها وسنن العرب في كلامها: 138

8. التداولية جورج بول، ت قصي العتابي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الرباط، ط 1.

9. نهج البلاغة: 166.

10. م . ن: 169.

11. مدخل الى التحليل اللساني للخطاب الشعري: 39.

ص: 113

12. نهج البلاغة: 173.

13. إحياء النحو: 30.

14. ينظر / في النحو العربي نقد وتوجيه: 246.

15. العوامل الحجاجية في شعر البردوني: 10.

16. العوامل الحجاجية في اللغة العربية: 47.

17. الحجاج احمد مطر: 107.

18. ينظر: بلاغة الخطاب وعلم النص: 94.

19. ينظر: العوامل الحجاجية في شعر البردوني: 10.

20. نهج البلاغة: 172.

21. العوامل الحجاجية في شعر البردوني النفي انموذجا: 12.

22. نهج البلاغة: 163.

23. نهج البلاغة: 166.

24. قواعد النحو العربي وفق نظرية النظم: 351.

25. ينظر / في النحو العربي نقد وتوجيه: 284.

26. نهج البلاغة: 193.

27. نهج البلاغة: 171 - 172.

28. نهج البلاغة: 192 - 193.

29. معجم مصطلحات الأدب: 315، وينظر / اللغة في الأدب الحديث: 252

30. ينظر / فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين: 717.

31. ينظر / البلاغة الواضحة (البيان والمعاني والبديع): 365.

32. نهج البلاغة: 162.

33. نهج البلاغة: 163 - 168.

34. دلائل الإعجاز: 66، وينظر / نقد الشعر: 157، ينظر / نظرية اللغة في النقد العربي: 236.

35. ينظر / الكناية في البلاغة العربية: 113.

36. نهج البلاغة: 162 - 163.

37. نهج البلاغة: 162.

38. نهج البلاغة: 113.

ص: 114

المصادر والمراجع

1. إحياء النحو ، إبراهيم مصطفى إبراهيم، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1951 م.

2. أسلوبية البناء الشعري، دراسة أسلوبية في شعر سامي مهدي، أرشد محمد علي، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد - العراق، ط 1، 1991 م.

3. بلاغة الخطاب وعلم النص، صلاح فضل، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1992.

4. البلاغة الواضحة في (البيان والمعاني والبديع)، علي الجارم، مصطفی امین، مؤسسة الصادق للطباعة والنشر، طهران - إيران ، ط 3، 1921 ه.

5. البلاغة والتطبيق، أحمد مطلوب - کامل حسن البصير، دار الكتب، جامعة الموصل، ط 2، 1999 م.

6. التداولية جورج بول، ت قصي العتابي، الدار العربية للعلوم ناشرون، الرباط، ط 1.

7. الخطاب الحجاجي في ديوان لافتات 2 لأحمد مطر مقاربة تداولية، فوزية زيار رسالة ماجستير مطبوعة بالالة الكاتبة وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ، جامعة وهران الجزائر، 2001.

8. دلائل الإعجاز، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن عبد العزيز الجرجاني (ت 471 أو 474 ه)، تح: أبو فهر محمود محمد شاكر، مطبعة المدني ن القاهرة، دار المدني، جدة، ط 3، 1993 م.

9. الصاحبي في فقه اللغة ومسائلها، وسنن العرب في كلامها، أبو الحسن أحمد بن فارس بن زکریا، تح: أحمد حسن بسج، منشورات محمد علي بيضون، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1997 م.

10. العوامل الحجاجية في اللغة العربية:، عز الدين الناجح، مكتبة علاء الدين للنشر والتوزيع، صفاقس، تونس، 2011.

ص: 115

11. العوامل الحجاجية في شعر البردوني النفي انموذجا، الطاف اسماعيل احمد، مجلة كلية العلوم الاسلامية، جامعة بغداد، العدد 43، 2015.

12. فنون الشعر في مجتمع الحمدانيين، مصطفى الشكعة، عالم الكتب، بيروت، 1981 م.

13. في النحو العربي نقد وتوجيه، د: مهدي المخزومي، منشورات المكتبة العصرية، صيدا - بیروت، د. ت.

14. قواعد النحو العربي وفق نظرية النظم، د: سناء حميد البياتي، دار وائل للنشر والتوزيع، عمان - الأردن، 2003 م.

15. الكناية في البلاغة العربية ، د: بشير كحيل، مكتبة الآداب، القاهرة - مصر، ط 1، 2006 م.

16. اللغة في الأدب الحديث (الحداثة والتجريب) جاکوب کورك، ترجمة: ليون يوسف، عزيز عمانوئيل، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، 1989 م.

17. معجم مصطلحات الأدب، مجدي وهبة، مكتبة لبنان، 1974 م.

18. الموت في الفكر الغربي، جاك شورون، ترجمة: كامل يوسف حسن، مطبعة الرسالة، الكويت، 1986 م.

19. نظرية اللغة في النقد العربي، د: عبد الحكيم راضي، مكتبة الخانجي، القاهرة، د. ت.

20. نقد الشعر، أبو فرج قدامة بن جعفر(ت 337 ه)، تح: د. محمد عبد المنعم خفاجي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، د. ت.

21. نهج البلاغة، للامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب، شرحه الامام الأكبر: محمد عبدة، خرج مصادره: الشيخ حسين الأعلمي، شركة الاعلمي للمطبوعات، بيروت - لبنان،

ص: 116

جدلية الذوات في الخطاب العلوي قراءة إنسانية

أ. م. د. حازم طارش حاتم

كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) الجامعة

ص: 117

ص: 118

توطئة:

کشف أصول الخطاب العلوي في ضوء نظرية التلقي، ترسم لنا أبعاد نظرية التواصل التي يحققها الخطاب في ضوء ملابسات السياق الثقافي الخارجي، الذي تتغير به أصول المخاطبات؛ لأن مقتضيات الخطاب تستدعي ذلك، فظروف نشأة الخطاب، تحكي أهداف الخطاب، والغايات التي يرمي إليها، ولاسيما أن الخطابات وظيفتها الأساسية التأثير في المتلقي، وهنا يأشر نقطة الخلاف بين طرفي الخطاب في القضية المطروحة؛ ولاسيما أن الخطاب العلوي خطاب کوني، وأن تمثل بشكلها الخاص في مخاطباته، إلا أنه محمولاته الإنسانية ذات الأبعاد الإرشادية، والأساليب الإقناعية الحجاجية، كشفت عن جدلية الذوات المعبئة بالقيم الإنسانية غير أن هذه المفاهيم الإنسانية تتغایر بالمفهوم، فضلاً عن المنطلقات التي تأسس هذه المفاهيم وبواعثها التطبيقية التي تشكلت في الخطاب العلوي.

فالبحث يسعى إلى الكشف عن هذه المفاهيم الإنسانية بشقيها المتولدة من طرفي الخطاب، التي تمثل التناقض في الحد والمفهوم؛ لأن التغاير تغایر بالمنطلقات والركائز، فضلاً عن الفهم، والمنطلقات الإنسانية التي يدفع بها الإمام علي «عليه السلام» هي منطلقات أساسها القرآنية تنشد التكامل والرقي للإنسان، وتسعى إلى تجنبه المهالك، وبهذا الوعي تشكل الخطاب العلوي، وهو بذلك يجادل المفاهيم الإنسانية الواطئة التي تشكلت في نفس المتلقي، وحکیت سلوكه، والخطاب العلوي يحكي عملية الجذب بین المفاهيم، ولاسيما أن الخطاب العلوي يستعرض هذه المفاهيم على وفق جدلية المواقف بين أطراف الخطاب التي شكلت الخط البياني في استظهار القيم النبيلة التي تستدعيها المواقف، وهذه المواقف بالمقابل تظهر قيم تضاد قيم النبل، وهذا التقابل بين القيم يحكي الصور الإنسانية، المغايرة في المفهوم بين الذوات المتحاورة، والبحث يكشف عن مسوغات حركة الإنسان - المصلحة - التي تشكل المفهوم الإنساني

ص: 119

المطلب الأول: قيم الذوات المتجادلة وأبعادها الإنسانية

المنظور الإنساني منظور قیمي، وهذه القيم متنوعة تُسم في بناء إنسانية الإنسان، على هذا الأساس أن التجادل بين الذوات جدال قيمي، بواعثه المنظومة المعرفية التي تستند إليها الذات المتبادلة، وهذا ما عكسه الخطاب العلوي القائم على الدعوة الإنسانية قال أمير المؤمنين (عليه السلام»: ((أما بعد، فإنَّ معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة، وتعقب الندامة، قد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لکم مخزون رأيي، لو كان يطاع لقصير أمر! فأبيتم عليّ إباء المخالفين الجفاة، والمنابذین العُصاة، حتّى ارتاب الناصح بنصحه، وضنّ الزند بقدح، فكنتُ أنا وإيّاكم كما قال أخو هوازن:

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى *** فلم تستبيحوا النصح إلا ضحی))(1))

يستهل أمير المؤمنين «عليه السلام« خطابه بمقدمة «كلية كبرى«، يبني عليها استدلاله الحجاجي الإقناعي من أجل إيقاع الأثر في السامع، فضلاً عن ذلك توليد قوة إنجازية تمثل فعلاً غير مباشر إزاء «الناصح«، وهو القبول والرضا، فقوله (عليه السلام)

إنَّ معصية الناصح الشفيق العالم المجرب تورث الحسرة وتعقب الندامة (مقدمة کبری)، ثم ينتقل من هذه الكبرى إلا «المقدمة الصغرى«:

1. كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري.

2. ونخلت لكم مخزون رأيي.

3. لو كان يطاع لقصير أمر.

ص: 120

وهنا يستظهر الخطاب العلوي القيم الإنسانية التي تمثلت في «النصح»، الذي يستبطن الخير والحب للآخرين، لاسيما أن «الناصح« عالم ومجرب و مشفق، ويستلزم قبول قوله، والعمل بنصيحته، غير أن جدلية القيم تظهر في المخالفة الناصح؛ لأنهم «مخالفين» و «جفاة»، ومنابذین و «عصاة»، فصار حاله حال «قصير بن سعد اللخمي« مولى جذيمة الأبرش ملك على شاطئ الفرات، وكانت الزبّاء ملكة الجزيرة، وكانت من أهل باجرمي، وكانت تتكلم العربية، وكان جذيمة قدوترها بقتل أبيها، كتبت إليه أنها لم تجد مُلك النساء إلا قبيحاً في السماع وضعفاً في السلطان، وأنها لم تجد لملكها موضعاً ولا لنفسها كفؤاً غيرك فاقبل إليّ لأجمع ملكي إلى ملكك، وأصل بلادي ببلادك وتقلد أمري مع أمرك تريد بذلك الغدر، فلما أتی کتابها جمه جذيمة أهل الحجا والرأي من ثقاته، فعرض عليهم ما دعته إليه، فاجتمع رأيهم على أن يسير إليها فيستولي على ملكها، وكان فيهم قصير فخالفهم فيما أشاروا به، وقال: رأي فاتر وغدر حاضر، فلم يوافق جذيمة، فهلك(2)، واستحضار الذاكرة التاريخية في ذهن المتلقي يولد تكثيفاً في الدلالات، فضلاً عن القيم المتقابلة التي شكلت جدلية في المنظومة المعرفية الطرفي الخطاب، والأمام علي «عليه السلام» يستظهر حاله مع القوم «فكنتُ أنا وإيّاكم كما قال أخو هوازن:

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى *** فلم تستبيحوا النصح إلا ضحی».

وهذا الاستظهار هو استظهار للقيم التي استدعاها المقام، ومظاهر هذا الاستدعاء «أنا» و «إياكم» في ذلك بعد أشاري يأشر المقابلة بين القيم التي شكلت صراعاً بين المتخاطبين، وهذا ما كان واضحاً في الاستشهاد الشعر ي.

وقال «عليه السلام» في ذم المتقاعسين عن الجهاد: ((يا أشباه الرجال ولا

ص: 121

رجال! حُلُوُم الأطفال، وعقول ربّات الحجال لو وددتُ أني لم أراكم، ولم أعرفكم معرفة. والله. جرّت ندماً، وأعقبت سدماً قاتلكم الله! لقد ملأتم قلبي قيحاً وشحنتم صدري غيظاً، وجرعتموني نغب التّهمام أنفاساً، وأفسدتم علي رأيّي بالعصيان والخذلان، حتى لقد قالت قریش: إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب))(3)).

يستفتح أمير المؤمنين «عليه السلام« خطابه بالنداء، ويستعمل أداة «یا» التي تستعمل للقريب والبعيد، ودلالتها في الخطاب للبعيد، لغاية حجاجية يريد الكشف عن حالة التذمر وعدم القبول على القوم ثم يأخذ بالتعريف بهم:

أشباه الرجال ولا رجال!

حُلُوُم الأطفال.

وعقول ربّات الحجال.

والقيمة التي يظهرها الخطاب العلوي «فساد الرأي» و «العصيان» و «الخذلان»، التي هي نتاج عدم الدراية والمعرفة، التي جادلت قيم المعرفة والدراية بشؤون الحرب التي تكفل للإنسان إنسانيته وتحافظ عليها التي تمثلت بالقيم التي عرضها أمير المؤمنين «عليه السلام»، التي تبين ما على الإنسان القيام به إلاّ أن قيم «الخوف» و «حب الدنيا» أذهبت بالإنسان على خلاف ما يقتضيه العقل والعلم والمعرفة، مما أفقده إنسانيته، وهذا الصراع القيمي يتضح بعبارة الخطاب العلوي «وددتُ أني لم أراكم، ولم أعرفكم معرفةً. والله، ...، قاتلكم الله!»، وأمير المؤمنين «عليه السلام» ينأى بنفسه عن هؤلاء القوم الذين فقدوا إنسانيتهم، بفقدهم القيم، التي أكدها بقول قريش: «إنّ ابن أبي طالب رجل شجاع، ولكن لا علم له بالحرب».

ص: 122

وقال «عليه السلام» لأصحابه عندماعزم على المسير إلى الخوارج ((أيّها النّاس، إيّاكم وتعلّم النجوم إلاّ ما يُهتدى به في برّ أو بحر، فإنّها تدعو إلى الكهانة، والمُنجّمُ، کالكاهن، والكاهنُ كالسّاحر، والسّاحر، والسّاحر کالكافر، والكافر في النار سيروا على اسم الله))(4).

مقتضيات الخطاب استدعت من المتكلم التنبيه «أيّها«، فضلاً عن التحذير «إياكم»؛ لأن القيمة التي يعرضها الخطاب قيمة توحيدية أساسية تمثل ركيزة أساسية في معتقد الإنسان إلا وهي «التوكل على الله»، وهذا ما أثبته الخطاب في قوله «سيروا على اسم الله»، وهو بذلك يثبت قيم للإنسان أبعادها تكاملية تتشكل في بناء الجانب الروحي؛ لهذا جاء التنبيه والتحذير من فقدان هذه القيمة بإتباع «تعلم النجوم» التي هي باب إلى «الكهانة»، وهذه القيمة تحط من قيمة الإنسان، لهذا نجد بأن الخطاب تشكل بشكل استدلالي:

الكاهن كالساحر «مقدمة كبرى»

الساحر کافر «مقدمة صغرى»

الكافر في النار «النتيجة»

وهذا التقابل القيمي بين «مدعي الغيب» والذي «يتوكل على الله»، يولد بعداً إنجازياً «اتركوا الكهانة»، وهنا تقع الجدلية القيم التي تمثل الأبعاد المعرفية لطرفي الخطاب.

وفي خطبته «عليه السلام» التي يستنفر الناس فيها لمحاربة أهل الشام من قوله: ((أُفّ لكم! لقد سئمت عتابكم! أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا؟ وبالذل من العز خلفا؟ إذا دعوتكم إلى جهاد عدو کم دارت أعينهم كأنهم من

ص: 123

الموت في غمرة، ومن الذهول في سكرة، يرتج علیکم حواري فتعمهون، وكأنّ قلوبكم مأنوسة فأنتم لا تعقلون))(5). في هذا النص توبیخ وضجر من أعمالهم وأفعالهم فقوله «عليه السلام» «أُفٍّ لكم!» أي تباً، واللام في «لكم« لبيان المتضجر لأجله(6)، ثم يعول على طاقة الاستفهام الإقناعية التي في الغالب على الضمني لا على الصريح، وهذا الأمر أهتم به دیکرو في «نظرية المساءلة» حيت بيّن أنّ الافتراضات الضمنية هي التي تجعل منه أسلوباً حجاجاً؛ لأن الإجابة مهما كان نوعها لابد من أن تسلم بتلك الافتراضات(7)، فالافتراض في الخطاب يقتضي «الإنكار» وهذا يمثل الحجة؛ لأن الاستفهام خرج من دلالته الأصلية طلب الجواب إلى دلالته المجازية.

أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا؟.

وبالذل من العز خلفا؟.

وهنا تتضح القيم المتضادة المتجادلة بين «الحياة الدنيا» و «الحياة الآخرة»، وبين «الذل» و «العز»، التي ترسم الخط التكاملي في بناء الدائرة الإنسانية للإنسان المؤمن، بخلاف الذين اتخذوا القيم المذمومة التي ترسم مستوى الهبوط الإنسانية؛ و لذا شبههم تشبيهاً مركباً، فمرة بأنّ أعينهم تدور حيرة وتردداً وخوفاً من أحد أمرين: إما مخالفة دعوته للجهاد، أو الإقدام على الموت، وفي كلا الأمرين خطر، ثم شبه حالتهم تلك في دوران أعينهم وحيرتهم بحال المغمور في سكرات الموت، الساهي فيها عن حاضر أحواله المشغول بما يجده من الألم، وهذا التشبية التمثيلي مأخوذ من قوله تعالى: «فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ»(8)

وقال «عليه السلام» في توبيخ أصحابه من أهل الكوفة على التباطؤ عن نصرة

ص: 124

الحق: ((يا أهل الكوفة، ...، یا أشباه الإبل غاب عنها رُعاتُها! کُلّما جمعت من جانب تفرقت من آخر، ...، قد انفرجتم عن ابن أبي طالب انفراج المرأة عن قُبلها، إنّي لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبيي، وإنّي لعلى الطريق الواضح ألطُقُه لقطاً))(9).

المقتضى القولي استلزم من المخاطِب استخدام النداء، لغرض حجاجي تنبي المخاطَب ولفت انتباهه بما يجب عليه، فالمضمون القضوي للفعل القولي بأن المخاطبين «ليس رجال»، فالخطاب يحمل دلالة النفي والتقرير بحسب تصنيف «سیرل« تكمن قوته الإنجازية في إعلان الحجة على المخاطَب(10)، بعدما استعمل الاسم الصريح، ثم غایر بعد ذلك بقوله: «یا أشباه الرجال»، وهذا التغاير ما هو إلا تغاير في القيمة، والذي تمثل في سلوكه الخارجي في «التجمع» و «التفرق»، وهذه الجدلية في القيم كانت كمقدمة أولى لتقديم الحجة على المخاطب، وإلزامه بها مستعيناً بالصورة التشبيهية بيان انفراج الصحابة عن ابن أبي طالب في المعركة، بانفراج المرأة عند الولادة ، وفي ذلك كناية عن العجز والدناءة في العمل(11)، وهذا ما ولد فعلاُ إنجازياً توبيخياً، ثم استعمل الضمير الاشاري في موضعين:

1. إنّي لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبيي.

2. وإنّي لعلى الطريق الواضح ألطُقُه لقطاً.

وهنا جدلية القيم التي تظهر، لاسيما في الاستعمال البعد الاشاري الذي يحيل إلى ذات أخرى، تتقاطع معها في القيم(12)، ويرمي القول إلى إلزام المخاطِب بالحجة التي مفادها:

بما أني لعلى بينة من ربي، ومنهاج من نبيي، وأني على الطريق يجب أن لا تتفرقوا عني؛ لأن في ذلك خسران؛ لأنهم فقدوا عقلاً مدبراً ورئيساً بارزاً،

ص: 125

فشبههم بالانفراج، وبما أنّ التمثيل يقوم على أساس المشابهة بين جمهور المسلمين بين العلاقات، فإنّ علاقة جمهور المسلمين بالإمام علي «عليه السلام« علاقة تتسم بالخوف من الجهاد(13).

وقوله «عليه السلام« في ذم المتقاعسين عن القتال: ((دعوتكم إلى نصر إخوانکم، فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر، ثم خرج إلىّ منکم جنيد، متذائب ضعيف «كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ»(14))(15).

تقابل القيم في الصورة التشبيهية بين الدعوة إلى (النصرة) و(التخاذل) من قبل القوم، تمثل في حالهم بحال الجمل المصاب بالقرعة الذي يردد صوتاً قبيحاً، وبحال البعير الهزيل المعقور عندما ينهض متثاقلاً، ويسير متثاقلاً، ثم يوظف النص القرآني في بيان حال القلة التي خرجوا بها إلى الحرب، وفي هذا دليل على الضعف والتخاذل، وهذا التجاذب بين القيم أخذ يشكل ملامح الإنسانية لدى طرفي الخطاب في ضوء المباني المعرفية التي يرتكز كلا الطرفين، لاسيما أن المتكلم مبانیه قرآنية.

ولجوء المتكلم إلى «القانون الإخبار« من المكونات الأساسية في عملية التواصل، وعملية تزويد المتلقي بالمعلومات تجعل هذه المعلومات حجة على المتلقي(16):

فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر.

وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر.

ثم خرج إلىّ منکم جنيد، متذائب ضعيف.

وفي قوله «إخوانكم« ترغیباً لهم على القتال، وبث الحمية في نفوسهم، ومن فاعلية الخطاب العلوي تضمين النص القرآني على سبيل صورة المشبه به، وهذه سمع أسلوبية للإمام «عليه السلام(17).

ص: 126

المطلب الثاني: جدلية التقابل الإنساني في الخطاب العلوي

السياق الخارجي هو الحاكم في رسم أسلوبية الخطاب، لاسيما إذا كان غرض المخاطِب أيقاع الأثر، فضلاً عن سرعة الإنجاز، وحتی یکون ذلك أتخذ المخاطِب «التقابل« مسلكاً لتوليد التفاعل المعرفي الإنساني؛ لأن التقابل «تضاد في المعاني(18)، قال ابن الأثير: ((واعلم أنّ في تقابل المعاني باباً عجيب الأمر، يحتاج إلى فضل تأمّل، وزيادة نظر وتدبّر،...، وهذا الباب ليس في علم البيان أكثر نفعاً منه ، ولا أعظم فائدةً))(19).

وأسلوبية الخطاب العلوي وظفت هذا التقابل في استظهر القيم الإنسانية المتقابلة التي تحكي الأبعاد المعرفية للذوات المتحاورة التي شكلها أمير المؤمنين «عليه السلام« في خطابه، فقوله: ((ولقد بلغني أنّ الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقُلبَهَا، وقلائدها ورُعُثها، ...، فلو أنّ امرأً مُسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان عندي جديراً، فيا عجباً! عجباً والله یُميتُ القلب، ويجلب الهم من اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم! فقبحاً لكم وترحاً، حين صرتم غرضاً رمی غار عليكم ولا تغيرون، وتغزَونَ ولا تعزُون، ويُعصى الله وترضون!))(20)).

أضحى الأخبار في ضوء «مبدأ التعاون» وظيفة أساسية في تقليل المسافة بين المتخاطبين للوصول، لاسيما أنه ضمن وقائع وأحداث واقعية تثبت صدق مضمون الخبر:

الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة.

ص: 127

فينتزع حجلها وقُلبَهَا، وقلائدها ورُعُثها.

واستعمال هذه التقنية «الوقائع والأحداث التاريخية« لبيان فضاعت الفعل، ووضاعة القيم ودناءتها، التي يحملونها، ثم يرتب الإمام «عليه السلام» على هذه الإحداث والوقائع حدثاً يمثل مقدار القبح «فلو أنّ امرأً مُسلماً مات من بعد هذا أسفاً ما كان به ملوماً، بل كان عندي جديراً»، وهذه المواجهة بين القيم ولدت صورة عن الهيئة التي كانوا عليها القوم، وبشاعة هذه الصورة، ومع بشاعة هذه الصورة وقباحة منظرها، التي تجسدت بأصل فعلهم التطبيقي نجد «اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم وتفرقكم عن حقكم!»، والبدا الحق يقتضي عكس ذلك الفعل، وهذا ما يفسر وجه التعجب من قبل الإمام «عليه السلام» «فيا عجباً! عجباً والله يُميتُ القلب»، و «يجلب الهم»، لا بل توجيه القول مباشرة، وفضحهم، وفي ذلك حجة عليهم ، وقطع الطريق عنهم:

حين صرتم غرضاً یُرمی يُغار عليكم ولا تغيرون.

وتغزَون ولا تعزُون.

ويُعصى الله وترضون.

وهذه نتيجة في نفس الوقت صدرها الإمام في خطابه إلى المتلقي الحاضر، والغائب الكوني، وهي دعوة إلى الابتعاد «عن قبائح الأفعال« لاسيما التي تنافي الإنسانية؛ لأن الخاسر في ذلك هو الذي قام بالفعل، وليس الذي وقع عليه الفعل.

وقال «عليه السلام» في الخوارج: (( كلمةُ حق يُراد بها باطل! نعم إنّه لا حُكم إلاّ لله ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا الله، وإنه لابدَّ للنّاس من أمير برٍ أو

ص: 128

فاجرٍ يعمل في إمرته المؤمن، ويستمع فيها الكافر))(21).

ارتدادات الحق على لسان المدعين، يراد منه إيهام العامة، فضلاً عن تحسين الصورة الخارجية لهم، بمعنى الحفاظ على الصورة الإنسانية الطالبة للحق، وهذه القيمة الإنسانية ثبتها الإمام «عليه السلام» نعم إنّه لا حُكم إلاّ لله»، ولكن هذه الدعوة من قبل المدعين كانت باطلة؛ لأنهم لا يعملون بها، ولا يسيرون عليها، وهنا جاءت الإشكالية القيمية بين «الإدعاء»، و «الواقع»، وهذا يخلق تناقض وصراع داخلي، الكاشف عنه السلوك التطبيقي العملي الذي هو خارج «الإدعاء»، والمسوغ لهذه الدعوة «لابدَّ للنّاس من أمير برٍ أو فاجرٍ»، وهم بذلك يريدون أن يقولون بحسب القول المضمر «لا يشترط إمامة الإمام علي عليه السلام»؛ كونه عادلاً، فتداخل القيم عکس حجم الصراع فيما بين الحقيقتين الواقعية وخلافها، عاما أن نتاج هذا الصراع الداخلي في المواقف المختلفة جعلت القيم تناقض السلوك الذي يمثل المنطلقات المعرفية للأشخاص التي تشكل جوهر القناعات، التي في ضوئها يتشكل السلوك الخارجي الذي يبتعد دائرة الإنسانية، والخطاب في طياته يستلزم فعلاً إنجازياً (التنبيه والحث على الإمساك بالحق قولاً وفعلاً).

وقال (عليه السلام): ((ما أنتم لي بثقةٍ سَجيس الليالي، وما أنتم بر کنٍ يُمال بکم، ولا زوافر عزٍ یفترق إليكم. ما أنتم إلا كإبل ضلَّ عنها رُعاتها، فکُلَّما جُمعت من جانب انتشرت من آخر))(22).

يكشف النفي في بعده التداولي عن الجوانب الإثباتية التي تحملها المحمولات الخيرية في صياغاتها المنفية، ويمكن بيان ذلك:

ما أنتم لي بثقةٍ سَجيس الليالي، أنا لا أثق بكم، وأنتم ليس أهل للثقة. وما أنتم بر کنٍ يُمال بكم - أنا لا اعتمد عليكم، وأنتم ليس أهل لأن يعتمد عليكم

ص: 129

ولا زوافر عزٍ یفترق إليكم

ما أنتم إلا كإبل ضلَّ عنها رُعاتها - أنتم قوم لا تملكون عقلاً، فتفرقتم عن الحق.

کشف القناع عن القيم في الخطاب العلوي، لاسيما الخطاب الموجه إلى الناس ينصحهم إلى الطريق السدید یرسم في بعده الإجرائي دعوة إلى هذه القيم؛ كونها تشكل قيماً إنسانية، فضلاً عن أنها تكشف عن المضادات لهذه القيم التي شكلت وجهاً لوجه جدلاً قيمياً، وهذا الجدل له أبعاد حجاجية تريد تصدير خطاباً إعلامياً يعلن فيه عن «القيم الإنسانية« التي تحفظ هوية الإنسان، وترسم الملامح الحقيقية للإنسان.

وقال عليه السلام: ((والله لا أكونُ كالضَّبع: تنام على طُول اللّدم، حتَّی يصل إليها طالبُها، ويختلها راصدها، ولكني أضرب بالمُقبل إلى الحق المدبر عنه، وبالسامع المُطيع العاصي المُريب أبداً، حتّى يأتي عليَّ يومي)(23).

افتتاح الخطاب بالتوكيد بالقسم أعطي طاقة حجاجية عالية، وأنتج مفهوماً دلالياً هدم فيه الأفكار والآراء التي تشكل عالم خطاب الخصوم في صيغته: (ليس ق «قضية» ب «صادقة»)(24)، والمفهوم الذي هدمه الخطاب (لا أكونُ كالضَّبع)، التي (تنام على طُول اللّدم)، حتَّى يصل إليها طالبُها، ويختلها راصدها)، وفي ذلك فعلاً انجازياً يتمثل في «أنتم كالضّبع»، وهذا يستلزم منها صفاتها «تنام على طُول اللّدم»، و«يصل إليها طالبُها»، و«يختلها راصدها»، وفي ذلك حجة على متلقي الخطاب الذي تمثل بهذه القيم التي تحط من قدره، والتي تبتعد عن الإنسانية؛ لهذا كانت محل النفي والاعتراض من الإمام «عليه السلام»، واستدرك مؤشراً في البعد الذاتي إلى القيم التي مثلها في «الحق» و«السامع المطيع»، وقد لجأ المتكلم إلى استعمال العامل الحجاجي «لكن» من أجل تقيد الإمكانات الحجاجية(25)، فالقيمة

ص: 130

الحجاجية في هذا القول تخدم نتيجة واحدة «أني ملازم للحق، وتابع له» حتی يأتي يومي، وهذا العامل الحجاجي أصبح عنصر توجيه، وتعزيز للخطاب(26)، وبذلك تنكشف القيم الحقيقية الإنسانية التي أضحت تقابل القيم الهابطة، والتي بدورها أخذت تتجادل معها، فتولد الجدل المبني على القيم المعرفية التي تملكت الإنسان، وبرز في الجانب السلوك العملي الخارجي الذي يمثل المرآة العاكسة للمعطيات الداخلية للفرد الإنساني.

وقال «علیه السلام»: ((يزعم أنّه قد بايع بيده، ولم يُبايع بقلبه، فقد أقرَّ بالبيعة، وادّعى الوليجة، فليأت عليها بأمر يُعرف، وإلا فليدخل فيما خرج منه))(27).

يستند المتكلم على تقنية «طرائق الفصل أو الانفصال «، وهي من التقنيات الحجاجيّة القائمة: ((على كسر وحدة المفهوم بالفصل بين عناصره المتضامن بعضها مع بعض، مردّه إلى زوج الظاهر / الواقع أو الحقيقة))(28)، ولا يتسنى هذا الفصل إلاّ في العناصر التي تؤلف وحدة واحدة يتم فصلها لغايات حجاجيّة، وهدف هذا الوصل استبعاد أحد العنصرين، ثم تأكيد العنصر المتبقي منها(29)، فالزعم: ادعاء - العلم والعلم يقتضي مطابقة الواقع، وهو أنه لم يبايع بقله، بل بايع بيده، وهذا غير مطابق للحقيقة وانفصال عنها، والحقيقة أنه بايع، وفي ذلك جدل بين الذات الواحدة التي خالفت المفهوم من أجل الإيهام، وهي بفعلها هذا ناصرت الباطل، وتركت الحق ، فالجدل الإنساني في القيم هو الذي يشكل المظهر السلوكي الخارجي، وهذا ما نجده في البيعة التي شكلت الجانب السلوكي للمفاهيم الداخلية التي على أساسها يفسر ذلك السلوك.

وقال (عليه السلام) ((والله لا يزالون حتَّى لا يدعوا الله محرماً إلاّ استحلُّوا، ولا عقداً إلاّ حلّوه، وحتّى لا يبقى بيت مدرٍ ولا وبرٍ، إلاّ دخله ظلمهم ونبا به سوء

ص: 131

رعيهم، وحتّى يقوم الباكيان يبكيان، باكٍ لدينه، وباكٍ يبكي لدنياه))(30).

التوكيد بالقسم يعطي طاقة حجاجية عالية، وينتج مفهوماً دلالياً يهدم فيه الأفكار والآراء التي تشكل عالم خطاب الخصوم في صيغته: (ليس ق «قضية» ب «صادقة»)(31)، وهو يريد به أثبات:

لا يدعوا لله محرماً إلاّ استحلُّوا.

ولا عقداً إلاّ حلّوه.

والخطاب يريد تقرير نتيجة سلوكية من هذه المقدمات إلا وهي:

وحتى لا يبقی بیت مدرٍ ولا وبرٍ، إلاّ دخله ظلمهم ونبا به سوء رعيهم.

وحتّى يقوم الباكیان یبکیان، باكٍ لدينه، وباكٍ يبكي لدنياه.

فالتقابل القيمي في الخطاب العلوي يكشف عن حجم الصراع الداخلي، المبني في الأصل على الجوانب المعرفية التي تملكت الإنسان، التي تشكلت في صورتين «باكٍ لدينه، وباكٍ يبكي لدنياه«، وهذا يمثل طرفي نقيض في الجوانب القيمية الإنسانية، وفلسفة الخطاب ترمي إلا بيان أحوال الناس ومسالكها إزاء المواقف الحياتية، وفيه دعوة إلى تبني القيم التي لا تناقض الإنسانية، بل التي تحقق فعلاً إنسانياً.

فالمنجز اللفظي في الخطاب العلوي يستند إلى مرتكزات أساسية لها علاقة وثيقة ببنية التكوين الفكري لذهنية الإمام «عليه السلام»، والتي لا يمكن فصلها عن المضمون القرآني(32)، وكان فيها الإمام (عليه السلام) ((يصدر عن رؤية كونية شاملة محاورها ثلاثة موضوعات لا انفصال بينها هي: الله والعالم والإنسان))(33).

ص: 132

الخاتمة:

تسمية الخطاب بأنه إنساني، أو توصيفه بالإنسانية قائم على أساس القيم التي يحكيها الخطاب في تضاعيف نصوصه؛ لأن القيم هي التي تحفظ کنه الإنسان، وجوهره، والخطاب العلوي يحمل الكثير من القيم؛ لأن بواعثه إرشادية توجيهيه تسعى إلى الحفاظ على الإنسان كونه قيمة عليا، وهو المخاطب في أصل الخطاب؛ لذا وقف البحث على نتائج منها:

1. أضحت المضامين الإنسانية في الخطاب العلوي أبعاداً حجاجية إقناعية، تستلزم الفعل الإنجازي من قبل المخاطَب.

2. شكلت القيمة الإنسانية في الخطاب العلوي حجةً على متلقي الخطاب، لاسيما أن المخاطب تمثلت فيه قیم «الجبن، والخوف، والرفض من الجهاد« مما تولد جدلاً بين القيم.

3. کشف الخطاب عن الصراع الداخلي في الذات الواحدة، وهذا الصراع قيمي يتضح ويبان بفعل المواقف التي يتعرض لها الإنسان.

4. التجأ الخطاب العلوي إلى تبني استراتيجيات متعدد تمثلت في أساليب متنوعة أظهرت تناقض القيم، لاسيما في السلوك الخارجي الكاشف عن الجوانب المعرفية المتبناة من قبل طرفي الخطاب.

5. بيّن الخطاب العلوي غاياته الخطابة في ضوء القيم الإنسانية التي يطرحها، ويقلبها القيم التي تعارضها وتناقضها، لاسيما في المواقف المحرجة، وهي دعوات الجهاد والنصرة، والدفاع عن الدين.

6. قرب الخطاب العلوي عن طريق الصور التشبيهية الكثير من الوقائع

ص: 133

والأحداث التاريخية التي كان لها مساس في الحاضرة العربية.

7. تضمن الخطاب العلوي الكثير من الأفعال غير المباشرة، من أجل توليد أفعال إنجازية تمثل دعوة صريحة من قبل المتكلم.

8. الخطاب العلوي لم يبتعد عن دائرة الخطاب القرآني في الجوانب الإنسانية، بل كان النص القرآني المعضد، والساند والحاضر في أصل الخطاب، بل لا ينفك عنه.

هوامش البحث:

1. الخطبة: 35.

2. ينظر: مجمع الأمثال: أبو الفضل النيسابوري: 234.، دار المعرفة - بيروت، تحقیق: محمد محيي الدين عبد الحميد

3. الخطبة: 27،

4. الخطبة: 79.

5. الخطبة: 34.

6. ينظر: مجمع البيان في تفسير القرآن: للطبرسي: 7: 80.

7. ينظر: البلاغة والحجاج من خلال نظرية المساءلة: لميشال ماير "بحث": 394: ضمن (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم): إشراف حمادي صمود.

8. سورة الأحزاب: الآية: 19 - 33.

9. الخطبة: 97.

10. ينظر: نظرية الفعل الكلامي: 120.

11. ينظر: نهج البلاغة: ضبط نصه د. صبحي الصالح: 178. (الهامش).

12. ينظر: عن الذاتية في اللغة: إمیل بنفنست: 110.

13. ينظر: حجاجية الصورة الفنية في الخطاب الحربي "خطب الإمام علي" إنموذجاً": د. علي عمران: 94

14. السورة الأنفال: الآية: 6.

15. الخطبة: 39.

16. ينظر: الحجاج في الشعر بنيته و أساليبه: د. سامية الدريدي: 150.

ص: 134

17. ينظر: الأثر القرآني في نهج البلاغة: د. عباس علي حسين: 207.

18. ينظر: بلاغة الخطاب وعلم النص: د. صلاح فضل 177،

19. المثل السائر: 2: 265.

20. الخطبة: 27.

21. الخطبة: 40.

22. الخطبة: 34.

23. الخطبة: 6.

24. ينظر: الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية: د. عبد الله صولة: 270.

25. ينظر: الحجاج في درس الفلسفة: 54.

26. ينظر: العوامل الحجاجية في اللغة العربية: د. عز الدين الناجح: 25.

27. الخطبة: 8.

28. الحجاج: أُطُرُه ومنطلقاته وتقنياته: (بحث): 343، وحجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الإمام علي (عليه السلام): 125.

29. ينظر: الحجاج في البلاغة المعاصرة - بحث في النقد المعاصر: 132 - 133.

30. الخطبة: 98.

31. ينظر: الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية: د. عبد الله صولة: 270.

32. ينظر: الأثر القرآني في نهج البلاغة "دراسة في الشكل والمضمون": د. عباس علي حسين: 350.

33. عبقرية الإمام علي: عباس محمود العقاد: 42.

ص: 135

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

الكتب المطبوعة

1 - الأثر القرآني في نهج البلاغة "دراسة في الشكل والمضمون": د. عباس علي حسين، ط 1، منشورات الفجر، لبنان - بيروت، 1430 ه - 2010 م.

2 - بلاغة الخطاب وعلم النص: د. صلاح فضل، ط 1، دار الكتاب المصري، القاهرة، 1425 ه - 2004 م.

3 - الحجاج في البلاغة المعاصرة - بحث في النقد المعاصر: د. محمد سالم محمد الأمين الطلبة، ط 1، دار الكتاب الجديد، بيروت - لبنان، 2008 م.

4 - الحجاج في الشعر بنيته وأساليبه: د. سامية الدريدي، ط 2، عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع، الأردن - إربد، 2012 م.

5 - الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية: د. عبد الله صولة، ط 2، دار الفارابي - بيروت، كلية الآداب والفنون والإنسانيات منّوبة، ودار المعرفة للنشر - تونس، 2007 م.

6 - الحجاج في درس الفلسفة: إعداد وإنجاز خلية البحث التربوي لمادة الفلسفة بأكاديمية أنفا، (د - ط)، دار البيضاء، أفريقيا الشرق - المغرب، 2006 م.

7 - حجاجية الصورة الفنية في الخطاب الحربي "خطب الإمام علي" إنموذجاً": د. علي عمران، (د - ط)، مطبعة دار نینوی، دمشتق - سورية، 1430 ه - 2009 م.

8 - حجاجية الصورة في الخطابة السياسية لدى الإمام علي "رضي الله عنه": د. کمال الزماني، ط 1، عالم الكتب الفحديث، الأردن - إربد، 1012 م.

9 - عبقرية الإمام علي: عباس محمود العقاد، (د - ط)، دار الفکر للطباعة والنشر، بيروت

ص: 136

10 - العوامل الحجاجية في اللغة العربية: د. عز الدين الناجح، ط 1، مكتبة علاء الدين للنشر والتوزيع، صفاقس، تونس، 2011 م.

11 - عن الذاتية في اللغة: إميل بنفنست، ط 1، دار البيضاء، أفريقيا الشرق - المغرب، 2010 م و

12 - مجمع البيان في تفسير القرآن: الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي (ت 548 ه)، ط 1، دار القارئ دار الكتاب العربي، لبنان - بيروت 1430 ه - 2009 م

13 - مجمع الأمثال: أبو الفضل النيسابوري، تحقیق: محمد محيي الدين عبد الحميد، (ط - د) دار المعرفة، لبنان - بيروت.

14 - نهج البلاغة: ضبطه نصه وابتكر فهارسه العلمية: د. صبحي الصالح: ط 1، مطبعة الرسول، إيران - قم، 1426 ه.

15 - نظرية الفعل الكلامي بين علم اللغة الحديث والمباحث اللغوية في التراث العربي الإسلامي: الأستاذ هشام إبراهيم عبد الله الخليفة، ط 1، مكتبة لبنان ناشرون، لبنان - بیروت، 2007 م.

البحوث في الدوريات العلمية

1 - البلاغة والحجاج من خلال نظرية المساءلة: لميشال ماير "بحث": ضمن (أهم نظریات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم): إشراف حمادي صمود، منشورات كلية الآداب - منّوبة، جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، تونس (د - ت).

2 - الحجاج: أُطُرُه ومنطلقاته وتقنياته: (بحث): ضمن (أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم): إشراف حمادي صمود، منشورات كلية الآداب - منّوية، جامعة الآداب والفنون والعلوم الإنسانية، تونس (د - ت).

ص: 137

ص: 138

جزالة أسلوب الامام علي (عليه السلام) في مقام الحرب السبك المعجمي والحذف أنموذجين

اشارة

أ. د. حسن منديل حسن العكيلي

جامعة بغداد / كلية التربية للبنات

ص: 139

ص: 140

مقدمة

الحَمدُ للهِ رب العالمین، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ على النَّبِيِّ وآلهِ الطَّيْبِنَ الطَّاهِرينَ... وبعد.

فيتناول البحث أسلوب الامام علي (عليه السلام) وقوة فصاحتة ورباطة جأشه في لغته ولا سيما في الحروب التي خاضها، لكونها موقفا نفسيا خاصا يستدعي أسلوبا خاصا ولغة تنسجم مع المقام والحال التي تتطلبه الحروب وظروفها المختلفة، من الحذر والشجاعة ورباطة الجأش والصبر والقيادة الحكيمة، والمبادئ التي يحملها القائد المقاتل والالتزام بأخلاقيات الحرب وقواعدها. كل ذلك يؤثر في لغة القائد إذ يستدعي خطابا خاصا يوظف في رفع المعنويات لتحقيق الانتصار. وسنرى أن الأمام أقوى فصاحة وأدق تعبيرا وأكثر تماسكا وربطا في التعبير في مقام الحرب من السلم.

والبحث يتناول فقرات من خطاب الامام في مقام الحرب في ضوء معيار السبك المعجمي وهو من معايير علم النص السبعة اللذين يتجلى بهما التماسك الدلالي بين وحدات النص وانسجام معانيه، فضلا عن معيار الحذف، ذلك أن هذين المعيارين يمكن أن يكونا أهم مقياسين للغة في حال الظروف الشديدة والمواقف العسيرة يدلان على التماسك النفسي لانعكاسها على أسلوب الخطيب وشجاعته..

ولا بد من الإشارة الى أن هذا الموضوع تناولته احدى الطالبات (أميرة عبد الرسول) في رسالة ماجستير أشرفت عليها. وقد توسعت فيه وطبقت المعايير السبعة لعلم النص على خطب الامام علي ع في الحرب. ومن الله التوفيق هو حسبنا ونعم الوكيل

ص: 141

التمهيد:

علم النص:

النص من المفاهيم الجديدة التي بدأت تستعمل في اللغة العربية. والذي ظن بعض الدارسين أنه مجموعة من الجمل، بل هو وحدة كلية كبرى متكاملة، میزتها الأساسية تماسكها النحوي وترابطها الدلالي قصد الإبانة والإفادة. قيل أنه استدراك لما فات الدراسات السابقة، لوقوفها في التحليل عند مستوى الجملة. فلا يعني هذا أن

الجملة عفى عليها الزمن ولم يعد لها أهمية، وذلك لأن المنهج الجديد نفسه لا يغفل الجملة، بل ينظر اليها من خلال علاقاتها مع الجمل الأخرى المكونة للنص. وإن علم النص فهم النحوية محضا فهو لايزال في هذه المرحلة رهين لبعض قيود نحو الجملة أي لسانیات الجملة. ذهب أغلب مؤرخي نحو النص الى صعوبة نسبة هذا العلم الى عالم معين أو حصره في بلدٍ أو مدرسةٍ أو اتجاهٍ محدود(1).

وقد شهدت أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، تطوراَ ملحوظاَ في ميدان الدرس اللساني الحديث نتج عنه میلاد فرع معرفي جديد باسم علم النص، وقد ظهرت ارهاصات هذا العلم على يد العالم هاريس (harris) الذي يعد الأب الحقيقي لعلم اللغة التحويلي والتوليدي(2).

أما التوليدي فهو علم يرى في وسع أي لغة أن تنتج ذلك العدد اللانهائي من الجمل التي ترد بالفعل في اللغة، وأما التحويلي فهو العلم الذي يدرس العلاقات القائمة في مختلف عناصر الجملة(3).

أقام نحو النص بناءه على أنقاض نحو الجملة، في بداية النصف الثاني من

ص: 142

القرن الماضي في كتاب (تحليل الخطاب) الذي حث على ضرورة العلاقات النحوية بين الجمل.

ثم تطورت هذه الإرهاصات في السبعينيات من القرن نفسه على يد العالم الهولندي فاندایك ( vandaik) الذي دعا إلى أهمية أن يشمل الوصف النحوي لتلك العلاقات، وما يطرأ عليها من تغيرات في المستوى السطحي فقط.

فأثبتت قواعد هذا العلم ورسخت مضامینه على يد العالم الأمريكي روبرت دی بو جراند (robert de beaugrand ) في ثمانينيات القرن الماضي، ولاسيما بعد وضع سبعة معايير (السبك، الحبك، القصدية، تقبلية، الإعلامية، المقامية، التناص) يجب أن تتوافر في النص مجتمعة ليكون نصا(4).

يعدُّ النص أساس الإهتمام في الدراسات الراهنة فالإنتقال من نحو الجملة إلى نحو النصّ دليل على الإنتقال الى الدلالة، وهي لُبّ اللسانيات الحديثة فقد تناول هذا العلم النصّ وحدة لغوية متكاملة، والتي تعني في معناها الأولي نسيج، لما هنالك من تماسك وتشابك بالخيوط التي تشكل قطعة قماش، وكذلك الكلمات والفقرات بالنسبة للنص.

النّصيّة Textuality

تمثل النصيّة أو النصانية قواعد صياغة النص. وقد استنبط دي بوجراند و درسلر معايير يجب توافرها في كل نص، وإذا كان أحد هذه المعايير غير متحقق في النص فإنه يعد غير اتصالي. وهذه المعايير (السبك، الحبك، القصد، القبول، الاعلام، المقامية، التناص)(5).

تعتمد النصية على مجموعة من الوسائل التي تؤهلها إلى أن تكون نصية.

ص: 143

فعلاقات الاتساق القائمة في النص هي التي تكوّن النصية في النص. إذن النصية اكتمال النص جميع معالمه التي تؤهله الى ان يكون نصا. إن كل ما يتوفر على خاصية كونه نصا يمكن أن يطلق عليه (النصية). وهذا ما يميزه عمّا ليس نصا، ولكي تكون لأي نص نصية يجب أن يعتمد على مجموعة الوسائل اللغوية التي تخلق النص، بحيث تُسهم هذه الوسائل في وحدته الشاملة(6). إذن يجب التوافق بين النص من جهة، ووسائل المحافظة على معايير النصية من جهة أخرى، على وفقِ رؤية دي بوجراند ليكون ملائما(7).

ص: 144

المبحث الأول: الحرب وأخلاقها لدى الامام علي (عليه السلام)

نتناول هنا بعض التعاليم الحربية التي تمثل القاعدة الأساسية في الدخول الى الحرب. وكان الإمام علي عليه السلام خبيرا بأساسيات الحرب ومبادئها، مثلها مثل سائر الموضوعات التي تناولها في خطبه. كحديثه عليه السلام تارة عن المتقين، وأخرى عن الخلافة والأمارة، وثالثة عن شؤون الأسرة والمجتمع وغيره. يعطي الامام عليه السلام الحلول والمعالجات، وكيفية التعامل مع جزئیات تلك الموضوعات والتي منها موضوع (الحرب) فنجده عليه السلام يخاطب ابنه محمد ابن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجملومن کلام له (عليه السلام) لابنه محمّد بن الحنفية لمّا أعطاه الراية يوم الجمل: ((تَزُولُ الجِبَالُ وَلاَ تَزُلْ! عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ، أَعِرِ اللهَ جُجُمَتَكَ، تِدْ في الاْرْضِ قَدَمَكَ، ارْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى القَوْمِ، وَغُضَّ بَصَرَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُبْحَانَهُ)) فهنا نجد مواصفات القائد الذي يتحمل مسؤولية الجند، بل وكل المعركة، وكأن عملية الحرب تبدأ اولاً من داخل المقاتل، ومن ثم ينطلق الى الخارج وسوف تكون أمامه حقيقة لا لبس فيها وهي (وأعلم أن النصر من عند الله سبحانه). وكأن القتال يقسم على قسمين، قسم يؤديه الجندي والآخر من عند الله عزّ وجلّ، ويكون واجباً على الجندي هو إحضار مقدمات النصر، ومستلزمات النصر فإذا فعلها المقاتل أي لم يزل مهما حصل ويعض ويعر ويتد ويرمي بالبصر اقصى القوم مع الغض سيكون المقاتل قد بذل أقصى غاية الجهد والباقي على الله عز وجل.

فإن فعل العبد واجبه، أتم الله عزّ وجلّ له نتائجه من ذلك العمل، طبعاً لا ننسى أن فعل الله عز وجل مرتبط بالمصلحة للعباد وكلامنا بحسب القاعدة العامة.

ص: 145

ومن التعاليم الأخرى قوله عليه السلام: ((فَوَاللهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ في عُقْرِ دَارِهِمْ إلاَّ ذَلُّوا)) وهذا دليل آخر على ما قلناه لأن الذي في عقر داره لم يقم بواجباته، بل كان بين الاهل والولدان وبين الطعام والنيام فلم يوجد أي مقدمة من مقدمات الحرب التي ذكرها الامام من الغض وعدم الزل وأشباه ذلك ولما لم تأت المقدمات - التي هي من المقاتل - والبحث في الخطب الحربية يفرز الصفات التي يجب أن يتحلى بها المقاتل قبل الدخول للحرب والتي يبلغ عددها مايقارب أربع وأربعين خطبةً منها ماهي مصرّح بعنوان الحرب (صفين، النهروان....) ومنها ما لم يصرح بعنوانها إنما تعرف بمضمونها منها:

«وَإِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الاْرِقُ وَمَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عنْهُ».

وَلْتَصْدُقْ نِيَّاتُكُمْ فِي جِهَادِ عَدُوِّكُمْ، فَوَالَّذِي لاَإلهَ إِلاَّ هُوَ إِنِّ لَعَىَ جَادَّةِ الْحَقِّ، وَإِنَّهُمْ لَعَلَى مَزَلَّةِ الْبَاطِلِ».

«فَمَنِ اسْتَطَاعَ عِنْدَ ذلِكَ أَنْ يَعْتَقِلَ نَفْسَهُ عَلَی اللهِ، فَلْيَفْعَلْ«.

«اسْتَشْعِرُوا الْخَشْيَةَ وَتَجَلْبَبُوا السَّكِينَةَ«.

«وَامْشُوا إِلَی الْمَوْتِ مَشْياً سُجُحاً»

«إِنَّ الْمَوْتَ طَالِبٌ حَثِيثٌ لاَيَفُوتُهُ الْمُقِيمُ، وَلاَ يُعْجِزُهُ الْهَارِبُ».

«وَلاَ تَذُوقُوا النَّوْمَ إِلاَّ غِرَاراً أَوْ مَضْمَضَةً»

«وَأَعْطُوا السُّيُوفَ حُقُوقَهَا، وَوَطِّئُوا لِلْجُنُوبِ مَصَارِعَهَا».

«وَأَمِيتُوا الاْصْوَاتَ فَإِنَّهُ أطْرَدُ لِلْفَشَلِ».

الى غير ذلك مما ذكره الإمام في خطبة الحربية وهذا الجانب هو أول المعركة،

ص: 146

إذ يجب أن يعالج المقاتل هذه المسائل في داخل نفسه أي يدخل المعركة في نفسه. فإذا تهيّأت تلك المقدمات انتصر نفسياً وداخلياً، فهو الآن مستعد للقتال الخارجي وسيكون بعد ذلك (النصر بأذن الله تعالى).

وكان الأمر هو أن المقاتل عليه أن لا يفكر بالنصر الخارجي لأنه منه (سبحانه وتعالى) وعليه أن يعالج داخله لينتصر ثم ينطلق للخارج. وهذا وصف وتقسيم عجبني ولم يُسمع إلا منه عليه السلام. وفیما يأتي، نذكر شواهد تأريخية على ما ذكرناه أعلاه.

روى الواقدي(8) قال: حدثني عبدالله بن (الحارث) بن الفضيل عن أبيه، عن محمد بن الحنفية قال (لما نزلنا البصرة وعسكرنا بها وصففنا صفوفنا دفع أبي عليه السلام إليّ اللواء.... إلى أن قال: فجاء أمير المؤمنين عليه السلام وفي يده شسع نعل فقال ابن عباس ماتريد بهذا الشسع يا أمير المؤمنين؟ قال أربط به ما قد تهي (أي الشق أو الخرق) من هذا الدرع من خلفي فقال ابن عباس أفي مثل هذا اليوم تلبس مثل هذا؟ فقال عليه السلام (ولِمَ) قال أخاف عليك فقال (لا تخف أن أوتي من ورائي، فوالله يابن عباس ما وليت في زحف قط) ثم قال له (البس يابن عباس) فلبس درعاً سعدية ثم تقدم الى الميمنة فقال (احملوا) ثم الى الميسرة فقال (احملوا) وجعل يدفع في ظهري ويقول تقدم يابني فجعلت أتقدم وكانت إياها حتى انهزموا من كل وجه). وهذا النص يدل على أن المعركة قد حسمت منذ بدايتها لصالح الإمام عليه السلام بل قبل أن تبدأ (لماذا؟) لأنه عليه السلام طبّق ما قال من آداب الحرب. فلم يكن بعد ذلك يعير لأي شيء عنايةً فتارة يكون حاسراً في المعركة، وأخرى يصلي ركعتين لصلاة الظهر، وأخرى يحاول أن يصلح شسع نعله غير آبهٍ ولا مكترثٍ بما حوله من الصفوف بما حسمت لصالحه قبل

ص: 147

بدايتها.

وهنا نص آخر يدل على ما قلناه فقد جاء في كتاب بهج الصباغة، وكتاب الجمل للمفيد قال محمد بن عبدالله بن عمر بن دینار قال: (علي عليه السلام لابنه محمد: خذ الراية وامضِ - وهو خلفه - فناداه يا أبا القاسم فقال يا بني لا يستفزنك ماتری. قد حملتُ الراية وأنا أصغر منك فما استفزني عدوي، وذلك إنني لم أبارز احداً إلا حدثتني نفسي بقتله، فحدّث نفسك بعون الله تعالى بظهورك، ولا يخذلك ضعف النفس، فإن ذلك أشد الخذلان. قال يا أبه أرجو أن أكون كما تُحب. قال: فالزم رايتك فإن اختلفت الصفوف فقف مكانك وبين أصحابك فإن لم تبن من أصحابك فاعلم أنهم سيرونك. قال محمد: والله اني لفي وسط أصحابي، وصاروا كلهم خلفي، وما بيني وبين القوم أحد يردّهم عني، وأنا أريد أن أتقدم في وجوه القوم، فما شعرت إلا أبي خلفي جرّد سيفه وهو يقول: لا تتقدم حتى أكون أمامك فتقدم بين يدي يهرول ومعه سيفه وبعض من أصحابه، فضرب الذين في وجهه. فنظرت إليه يُخرج الناس يميناً وشمالاً ويسوقهم أمامه(9).

وهنا نجده عليه السلام يفعل ما يقول، فكان قد حسم المعركة لصالحه منذ البداية فلا يخاف الموت لأن هذا الأمر بيد الله سبحانه، ولا يبحث عن النصر لأنه من عند الله عزّ وجلّ، بل كان مالديه هو (إلا حدثتني نفسي بقتله، فحدث نفسك بعون الله تعالى بظهورك)(10). هذا هو مفتاح النصر في كل قتال، لذلك لم ترَ علياً عليه السلام دخل معركة إلا وخرج منها منتصراً ظافراً. وهذه حقيقة عجيبة وضعنا أيدينا عليها ولا ندري لماذا أهملها التاريخ العربي ولا سيما إذا علمنا - أن التاريخ - قضى أكثر من نصفه والى وقت قريب وهو عبارة عن الزمان الذي لا يخلو من قتال أو معركة، بل ربما ندعي أن الأمم التي عاشت بلا معارك طواها

ص: 148

التاريخ بلا ذكر لها الا يسيراً.

إن للامام علي عليه السلام نظرة خاصة للحرب لا يتميز بها إلا هو عليه السلام فلا يقاتل لأجل القتال وإنما في قتاله محکوم في حدود الله عزّ وجلّ فلا تجد عنده شهوة الانتقام أو نشوة النصر.

ولاشك في أنّ التخلص من هاتين الصفتين - أعني الانتقام أو نشوة النصر - لا يمكن السيطرة عليهما إلا مع تكامل النفس والتهذيب العالي والخلق الرفيع ففي (يوم النهروان) نجد الامام عليه السلام ظل يسعى الى آخر لحظة لهداية الخوارج قبل قتالهم، لأنه عليه السلام يعلم يقيناً إنه مع الحق والحق معه وأن من قتل بسيف علي عليه السلام فهو الى النار لا محال (لماذا؟) لان المعركة كما قلنا أعلاه لا للانتقام أو لطلب النصر، وإنما من أجل الجهاد في سبيل الله تعالى فمن لم يجاهد هنا فهو في نصرة الشيطان. يتبيّن أن أهم ميزة حاول الامام عليه السلام التركيز عليها هي جعل المعركة وساحتها كغيرها من المواطن الأخرى بلا فرق فإن ساحة القتال لا ميزة فيها على السوق والمسجد ونحوها. وفيما يأتي نذكر الشواهد على ذلك:

الشاهد الأول:

موقفه يوم الاحزاب (معركة الخندق) حين غلب عمرو بن ود وجلس ليحتز رأسه، بصق عمرو بوجه الامام عليه السلام، فقام يتمشى حتى سكن غضبه ثم عاد لاحتزاز رأس عمرو بعد أن سكن غضبه فالامام لم يقتل عمرو وهو غضبان حتى لا يكون قتله بدافع شخصي، وإنما انتظر حتى سكن غضبه ليكون قتله خالصاً لوجة الله(11). فلا شهوة للإنتقام ولا نشوة للنصر ولا طلباً للثأر، وإنما هو الابتغاء وجه الله عز وجل.

ص: 149

الشاهد الثاني

عندما استولى معاوية على الفرات في معركة صفين فقد منعوا أصحابَ الإمام عليه السلام من ورود الماء ولكن لما وصل الإمام وأصحابه الى الماء لم يمنعوا أهلَ الشامِ من الماء بل أمر الإمام عليه السلام أصحابه أن خلو بينهم وبين الماء وليأخذوا ما يحتاجون منه وعندما عاتبه بعض أصحابه على ذلك أجاب عليه السلام لا أفعل ما فعل الجاهلون(12).

الشاهد الثالث

مايروى عن ابن أبي الحديد في حرب صفين أنه (بسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فصلى عليه ورده والسهام تقع بين يديه وتمر عن صاخيه يميناً وشمالا فلا يرتاع لذلك)(13). إذن كما قلنا فإن ساحة المعركة والسوق والمسجد والشارع والبيت وفي أي مكان آخر فإن المؤمن لا يختلف حاله، وما أراد أن يثبته الإمام عليه السلام من ذلك هو أن المعركة لا تعني ترك الموعظة أو هداية الناس أو شرح مسألة في التوحيد أو العقيدة أو غيرها.

الشاهد الرابع

وكان عليه السلام في حرب صفين منشغلا بالحرب والقتال وهو مع بين الصفين يرقب الشمس فقال له ابن عباس: يا امير المؤمنين ما هذا الفعل؟ فقال عليه السلام انظر الى الزوال حتى نصلي فقال له ابن عباس: يا أمير المؤمنين وهل هذا وقت صلاة أن عندنا لشغلاً بالقتال عن الصلاة فقال عليه السلام: علام نقاتلهم؟ انما نقاتلهم على الصلاة(14).

ص: 150

فالواجب الأخلاقي لا يختلف عند المؤمن في ساحة المعركة، كما لا يختلف عنه في غيرها. ثم لا نجد في كلام الإمام عليه السلام في خطبة الحربية ما فيه تفاخر الجاهلية أو السخرية من الطرف المقابل أو الإستهانة به، وإنما يعدّه (أخاً في الدين أو نظيراً له في الخلق) لذلك يحاول جاهداً هدایته وإن جاء إليه ليقتله، وهذا من أغرب الأخلاق التي تميزت بها أخلاقيات الحرب.

قال الإمام عليه السلام يوصي أصحابه: ((لاتُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَأُوكُمْ، فَإِنَّكُمْ

بِحَمْدِ اللهِ عَىَ حُجَّة، وَتَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَأُوكُمْ حُجَّةٌ أُخْرَى لَكُمْ عَلَيْهِمْ،

فَإذَا كَانَتِ الْهَزِيمَةُ بِإذْنِ اللهِ فَلَا تَقْتُلُوا مُدْبِراً، وَلاَ تُصيِبُوا مُعْوِراً، وَلاَ تُجْهِزُوا عَلَى

جَرِيح، لاَ تَهِيجُوا النِّسَاءَ بِأَذىً، وَإِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَكُمْ، وَسَبَبْنَ أُمَرَاءَكُمْ، فَإِنَّهُنَّ

ضَعِيفَاتُ الْقُوَى وَالاْنْفُسِ وَالْعُقُولِ))(15).

إن ميزة الأخلاق ومحاولة هداية الناس والحلم وعدم الإنتقام منهم هو مما يميز قول الامام عليه السلام وفعله في حروبه كلها دفع الخطيب عليه السلام. فكان عليه السلام من أكثر الناس حلماً لم يقابل مسيئاً بإسائته ولقد عفا عن أهل البصرة بعد أن ضربوا وجهه بالسيف، وقتلوا أصحابه، وردّ عائشة الى المدينة، وأطلق عبدالله بن الزبير بعد الظفر به على عدوانه وتآلبه عليه وشتمه له على رؤوس الخلائق، وصفح عن مروان بن الحكم يوم الجمل مع شدة عداوته(16).

ص: 151

المبحث الثاني: السبك المعجمي

وهو مظهر مهم من بين مظاهر اتساق النص، الا إنه يختلف عنها جميعاً إذ لا يمكن الحديث فيه عن العنصر الافتراضي المفترض ولا عن وسيلة شكلية (نحوية) للربط بين عناصر النص(17). ويسمى ايضاً الربط الإحالي، وهو يقوم من خلال المعجم ويتم بوساطة اختيار المفردات عن طريق إحالة عنصر لغوي الى عنصر آخر، فيحدث الربط بين أجزاء الجملة أو المتتاليات الجملية من خلال استمرار المعنى السابق في اللاحق، بما يمنح النص صفة النصية(18). ويقسم السبك المعجمي الى قسمين(19) هما - التكرار والتضام

اولاً - التكرار Reiteration

وهو وسيلة من وسائل السبك المعجمي، وربما الأكثر شيوعا منها، ويعرفه محمد خطابي بانه شكل من أشكال الاتساق المعجمي، يتطلب إعادة عنصر معجمي أو مرادف له أو رش به مرادف أو عنصر مطلقاً أو اسماً عاماً(20). وأعتقد أن التكرار في العنصرين الأخيرين يشابه أو يتفق مع الاستبدال فهو ايضاً يستبدل عنصر بعنصر آخر أعم منه ويفي بمعناه وينقل محمد خطابي عن الباحثين بأن الاسماء العامة هي مجموعة صغيرة من الأسماء لها إحالة معجمية معمة، مثل (اسم الانسان، اسم المكان، اسم الواقع) وما شابهها (الناس، الشخص، الرجل، المرأة، الطفل، والولد، البنت)(21). ولا يتحقق التكرار على مستوى واحد، بل مستويات عدة، مثل تكرار الحروف والكلمات والعبارات والجمل، والفقرات، والقصص(22).

ص: 152

الإحالة التكرارية

وهي الإحالة بالعودة، وهي أكثر أنواع الإحالة دوراناً في الكلام وتتمثل في (Epanaphore) تکرار لفظ أو عدة الفاظ في بداية كل جملة من جمل النص قصد التأكيد(23).

من خطبة له (عليه السلام) ((فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَفِرُّوا إِلَی اللهِ مِنَ اللهِ...))(24) وتَتطلبْ إعادة اللفظ (التكرار) وحدة الإحالة بحسب مبدئي الثبات والاقتصاد(25)، ولكنها تؤدي الى تضارب في النص حين يتكرر المشترك اللفظي مع اختلاف المدلولات(26). ويحتمل لإعادة اللفظ (التكرار) في العبارات الطويلة - أو المقطوعات الكاملة أن تكون ضارة لأنها تحبط الإعلامية ما لم يكون هناك تحفيز قوي. ومن صواب طرق الصياغة أن تخالف ما بين العبارات بتقليبها بوساطة المترادفات(27).

أشكال التكرار

1 - التكرار التام أو المحض (Full Rccurrehce)

وهو تكرار اللفظ والمعنى والمرجع واحد، أي تكرار الكلمة أكثر من مرة في النص.

ورد في نهج البلاغة أقوال يكررها الامام تکرار تام وله في ذلك أغراض.

من كتاب له عليه السلام الى معاوية: ((فَنَفْسَكَ نَفْسَكَ فَقَدْ بَیَّنَ اللهُ لَكَ سَبِيلَكَ))(29). فكرر عليه السلام كلمة (نفسك) والهدف منه إحذر نفسك لأن النفس أمّارة بالسوء والإحالة قبلية داخلية وهي من القائل إلى المتلقي.

ص: 153

ومن كتاب له عليه السلام كتبه الى أهل الأمصار يخص فيه ما جرى بينه وبين أهل صفين: ((وَكَانَ بَدْءُ أَمْرِنَا أَنَّا الْتَقَيْنَا وَالْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّنَا وَاحِدٌ، وَنَبِيَّنَا وَاحِدٌ، وَدَعْوَتَنَا فِي الاْسْاَمِ وَاحِدَةٌ، لاَ نَسْتَزِيدُهُمْ فِي الاْيمَانِ باللهِ وَالتَّصْدِيقِ بِرَسُولِهِ (صلى الله عليه وآله)، وَلاَ يَسْتَزِيدُونَنَا، الاْمْرُ وَاحِدٌ، إِلاَّ مَا

اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ دَمِ عُثْمانَ، وَنَحْنُ مِنْهُ بَرَاءٌ!)(30). كرر عليه السلام لفظة واحد أو واحدة وذلك من أجل التوكيد والتثبيت الأصول المشتركة بين الطرفين لأن كل جانب يدعو الى الاسلام والغرض تصفية الخلافات بين الطرفين.

ومن وصاياه عليه السلام التي يبعثها إلى الجيش قال عليه السلام: ((وَتفَقَّدْ

أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ، فَإِنَّ فِي صلاَحِهِ وَصلاَحِهِمْ صَلاَحاً لِمَنْ سِوَاهُمْ، وَلاَ

صَلاَحَ لِمَنْ سِوَاهُمْ إِلاَّ بِهِمْ، لاَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ عِيَالٌ عَلَى الْخَرَاجِ وَأَهْلِهِ.))(31). کرر عليه السلام لفظة (الصلاح) عدة مرات وايضاً كرر كلمة (سواه) وذلك للتوكيد عليها لأهميتهما لأن الصلاح علاج ووقاية من شح النفس، وإن صلاح هذه النخبة من القوم يؤدي الى صلاح الأمة وذلك بأستلام حقوقهم من الخراج. ويذكر الاستاذ مجيب سعد بأن الأمام كرر الفعل (عض) في ثلاثة خطب(32) أي يعرض اسلوب الإمام علي عليه السلام في أكثر من موضع من النهج ولم يتقيد بالخطبة الواحدة لأنه يتخذ المرجع واحد فإن المتكلم هو نفسه عليه السلام والمتلقي هو الجيش، فإن التوصيات والأوامر والحذر هو واحد في أي معركة ومع لقاء أي عدو، والغرض من تكرار هذا الفعل هو بعث روح الحماسة والقوة في الجيش جاء في بعض صور الامام وأكثر خطبه التكرار لألفاظ بعينها ففي المثال الاول (نفسك) والثاني (واحد) والثالث (الصلاح وسواهم) والرابع (عض) وكذلك تختلف أغراضه من خطبة الى أخرى. وهذا مما يترك اثره في ترديد اللفظ داخلی

ص: 154

المقصود غرضه. لاريب في إعادة الكلمة واسترجاع أصواتها أثره في إحداث الموسيقى(33). وهذا الأمر استوحى من سياق النص بأكمله لا بجملة واحدة يمكن لا يحدث فيها تکرار فهو على مستوى السياق للنص. ويبدو أنه حين يقتضي السياق تکرار لفظ ما فإن الايقاع سيكون مشدداً الى مضمونه بأشد ما یکون(34). وهذا نراه ايضاً في قوله عليه السلام في خطبة خطبها في صفين: ((أَمَّا بَعْدُ، فَقَدْ جَعَلَ اللهُ لِي عَلَيْكُمْ حَقّاً بِوِلاَيَةِ أَمْرِكُمْ، وَلَكُمْ عَلَيَّ مِنَ الْحَقِّ مثْلُ الَّذِي لِي عَلَيْكُمْ، فَالْحَقُّ أَوْسَعُ الاْشْيَاءِ فِي التَّوَاصُفِ، وَأَضْيَقُهَا فِي التَّنَاصُفِ، لاَيَجْرِي لِاحَد إِلاَّ جَرَى عَلَيْهِ، وَلاَ يَجْرِي عَلَيْهِ إِلاَّ جَرَى لَهُ، وَلَوْ كَانَ لِاحَد أَنْ يَجْرِيَ لَهُ وَلاَ يَجْرِيَ عَلَيْهِ، لَكَانَ ذلِكَ خَالِصاً لله سُبْحَانَهُ دُونَ خَلْقِهِ، لِقُدْرَتِهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَلِعَدْلِهِ فِي كُلِّ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ صُرُوفُ قَضَائِهِ، وَلكِنَّهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يُطِيعُوهُ...))(35). کرر عليه السلام (لي، ولكم، علي وعلیکم) عدة مرات والغرض رفع الفوارق بين الخليفة أو القائد أو الأمام ورعيته وقارن بين حالات، وكرر الفعل (جری) المختلف صیغة التوكيد على العدل الالهي وصروف القضاء في خلقه وتقلبات الأمور الجارية على الناس من امتحانات و ابتلاءات من (افقار، اغناء، أمراض، إحياء، أمانة، وغير ذلك..) لتكرار الفعل سبع مرات أثره وإيقاعه في إحداث موسيقى ونغم خاص. ولهذا نرى الصيغة على هيئة الفعل ولم تأتي على هيئة اسم وذلك لعدم ثبات هذه الحقيقة.

3 - تكرار المعنى واللفظ مختلف

ويشمل الترادف وشبه الترادف كما في قول الامام عليه السلام: ((فَإِنَّهُ لَيْسَ

مِنْ فَرَائِضِ اللهِ عزوجلّ شَيْءٌ النَّاسُ أَشدُّ عَلَيْهِ اجْتِماعاً، مَعَ تَفْرِيقِ أَهْوَائِهِمْ، وَتَشْتِيتِ

آرَائِهِمْ، مِنَ تَعْظيمِ الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ))(36). فكرر عليه السلام لفظتا (تفرق، تشتت)

ص: 155

وهما يتفقان في المعنى ويختلفان باللفظ وكذلك (أهوائهم، آرائهم) فالهوى ما تميل له نفسه والرأي ماتقره نفسه وهو تابع للهوى. فالمرجع واحد وهو الناس والعلاقة داخلية قبلية عادت علی سابق من كلام له عليه السلام في التخاذل والتقاعس عن الحرب ((أَتْلُوا عَلَيْكُمُ الْحِكَمَ فَتَنْفِرُونَ مِنْهَا، وَأَعِظُكُمْ بِالمَوْعِظَةِ الْبَالِغَةِ فَتَتَفَرَّقُونَ عَنْهَا))(37). كرر عليه السلام الالفاظ المتفقه أو شبه متفقة بالمعنى ومختلفة باللفظ (أتلوعلیکم، أعظكم) (الحكم، الموعظة البالغة) و(فتنفرون، وتتفرقون) و(منها، عنها) اتفقت المتتاليات الجملية بمعناها واختلفت بالفاظها والغرض من ذلك توضيح مایُمَکَن في نفوس القوم من التخاذل والتقاعس. فالمرجع واحد وهو المخاطبون (انتم) والعلاقة قبلية داخلية.

ومن كلام له عليه السلام: ((فَأَعِينُوني بِمُنَاصَحَة خَلِيَّة مِنَ الْغِشِّ، سَلِيمَة

مِنَ الرَّيْبِ، فَوَ اللهِ إِنِّ لاَوْلَ النَّاسِ بِالنَّاسِ!))(38). كرر عليه السلام الالفاظ المترادفة (خلية وسليمة) و(من الغش ومن الريب) وكرر ايضاً بتكرار محض إني أولى الناس بالناس. خاطب الامام عليه السلام اصحابه منهم المرجع في الخطبة (انتم) والعلاقة داخلية فهي بين المتكلم والمتلقي والعلاقة قبلية. فكانت جميع الإحالات قائمة بدورها على أتم وجه إذ أحكمت هذه الوسيلة الإتساقية في ربط أجزاء النصوص ربطاً مسبوقاً جميلاً مؤديةً معناه بأتم وجه.

3 - التكرار الجزئي (Partial Rccurrehce)

وهو مایکرر بالاستعمالات المختلفة للجذر اللغوي.

ومن قول له عليه السلام ((وَمَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عنْه))(39). فاشتق عليه السلام من جذر (نام - ينم) وكرر اللفظ لمشابهة الفعل الذي يفعله الانسان وسوء عاقبته.

وفي قول له عليه السلام ((راجِعَتُ الناسِ قد رجعتْ))(4). أخذ عليه

ص: 156

السلام من جذر رجع الفعل الماضي رجعت واشتق اسم الفاعل منه وهم الناس الراجعين نسبة للفعل الذي استعمله (رجعت).

وقوله عليه السلام: ((وَإِيَّاكَ وَالاْعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الاْطْرَاءِ فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ أَوْثَقِ فُرَصِ الشَّيْطَانِ فِي نَفْسِهِ، لِيَمْحَقَ مَا يَكُونُ مِنْ إِحْسَانِ الْمُحْسِنِينَ.))(40). كرر عليه السلام (الاعجاب، يعجبك) و (الثقة، اوثق) و (الاحسان، المحسنين) فأخذ من (عجب) و (وثق) و(حسن) هذه الألفاظ کررت باشتقاقها.

قال عليه السلام: ((إِيَّاكَ وَالدَّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَیْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَة، وَلاَ أَعْظَمَ لِتَبِعَة، وَلاَ أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَة، وَانْقِطَاعِ مُدَّة، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ

بِغَیْرِ حَقِّهَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ مُبْتَدِىءٌ بِالْحُكْمِ بَیْنَ الْعِبَادِ، فِيَا تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ

يَوْمَ الْقِيَامةِ))(42). کررعليه السلام الألفاظ (سفكها، سفك، تسافكوا) واخذها من جذر (سفك) وايضاً كرر لفظة (دماء) وهو تكرار محض.

ومن كتاب له عليه السلام الى معاوية: ((فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا، وَاجْتِيَاحَ

أَصْلِنَا، وَهَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ وَفَعَلُوا بِنَا الاْفَاعِيلَ)(43). فكرر عليه السلام (هموالهموم) من جذر (همّ) و(فعلوالافاعيل) من جذر(فعل).

وظيفة التكرار وأهميته في أنه(44).

1. يسعى الى تدعيم التماسك النصي.

2. يسعى الى تحقيق العلاقة المتبادلة بين العناصر المكونة للنص، لتحقيق التماسك النصي وذلك عن طريق امتداد عنصر ما في بداية النص حتی اخره، وهذا العنصر قد يكون كلمة أو عبارة أو جملة فيساعد بربط

ص: 157

عناصر النص. يقوم التكرار بهذه الوظائف بشرط اساسي هو أن يكون العنصر المكرر نسبة وروده عالية في النص(45).

4 - التوازي

يتم بتكرار البنية مع ملئها بعناصر جديدة. وهو ربط بين عناصر متساوية في الحال عنصر سابق وعنصر آخر متصل به أو لاحق، كل من هذين العنصرين حر، أي له كيانه الوظيفي الكامل(46). ويعني نوعاً من التشابه، فلا تطابق تام ولا تمایز مطلق، وفيه يكون التكرار غیر کامل، إذ قد تتساوى الوحدات الدلالية في الطول(47).

ومن كتاب له عليه السلام إلى بعض امراء جيشه ((فَانْهَدْ بِمَنْ أَطاعَكَ إِلَی مَنْ

عَصَاكَ، وَاسْتَغْنِ بِمَنِ انْقَادَ مَعَكَ عَمَّنْ تَقَاعَسَ عَنْكَ))(48). تساوت الوحدات الدلالية في الصيغة، فلا یزید بعضها على بعض بالطول وايضاً تتفق بالمعنی والايحاء الدلالي بين العبارتين (فانهد بمن أطاعك إلى من عصاك) (واستعن بمن انقادمعك - عمن تقاعس عنك).

من كتاب له عليه السلام الى معاوية: ((وَكَيْفَ أَنْتَ صَانِعٌ إِذَا تَكَشَّفَتْ عَنْكَ

جَلاَبِيبُ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ دُنْيَا قَدْ تَبَهَّجَتْ بِزِينَتِهَا، وَخَدَعَتْ بِلَذَّتِهَا، دَعَتْكَ فَأَجَبْتَهَا،

وَقَادَتْكَ فَاتَّبَعْتَهَا، وَأَمَرَتْكَ فَأَطَعْتَهَا))(49). جاءت الوحدات الدلالية متوازية في كل شي حتى في الحركات والسكنات والطول والمعنى فوازی علیه السلام بين (تبهجت بزينتها مع خدعت بلذتها) و (دعتك فأجبتها مع قادتك فاتبعتها مع امرتك فأطعتها)، فشكلت ما يشبه الأزواج من الأعمدة التي يقام عليها البيت. أي قاعدة رصينة.

ومن كلام له عليه السلام: ((وَمَتَى كُنْتُمْ يَا مُعَاوِيَةُ سَاسَةَ الرَّعِيَّةِ، وَوُلاَةَ أَمْرِ

ص: 158

الاْمَّةِ؟ بِغَیْرِ قَدَم سَابِق، وَلاَ شَرَف بَاسِق))(50). جاء التوازي بين (ساسة الرعية وولاة أمر الأمة) (بغير قدم سابق، ولا شرف باسق) فكانت العبارات کحلقة سلسلة متصلة متماسكة ومتناسقة فظهر بمظهر منسجم تام المعنى والدلالة.

ومن كلام له عليه السلام کلم به الخوارج: ((فَأُوبُوا شَرَّ مَآب وَارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الاْعْقَابِ))(51). وازی علیه السلام بين اللفظتين (أوبوا - إرجعوا) الفعلين يدلان على العودة وأوبوا أي انقلبوا إلى ربكم وهي العودة الأخروية، وارجعوا وهو الارتداد على الاعقاب والعبارتان متوازيتان بكل مقاطعها.

ثانياً - التضام أو المطابقة أو المصاحبة المعجمية (Collacation)

وهو توارد زوج من الكلمات بالفعل أو بالقوة نظراً لارتباطها بحكم هذه العلاقة أو تلك(52) والعلاقة النسقية التي تحكم هذه الأزواج في خطاب ما هي علاقة تعارض(53) کالالفاظ (بنت، ولد) (جلس، وقف، ليل ونهار) (أحب، أكره) وهناك علاقات أخرى مثل (الكل والجزء) أو عناصر من نفس الجزء العام مثل گرسي وطاولة.

وللتضام أثر في تقريب المعنى المراد، عندما يكون لبعض الألفاظ أكثر من معنی، وهي بموقعها هذا تقوم بما يحتاجه فهم النص من قرائن مقالية وعقلية وحالية(54)، وأيضا تفيد في فهم النص من خلال المشاكلة، وهي أن تأتي بلفظ يعبر عن المعنى أو يقربه لفهم المتلقي كما في قوله تعالى «وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ»(55) فهنا الرد على المكر هو ليس مکر، إنما يراد به أن الله يأتي بها جئتم به لتقريب معنى العقوبة وهي جزاء مکرهم. فالمطابقة تؤدي دوراً مهماً في الصياغة اللفظية والترابط المعنوي والدلالي ويقسم التضام المعجمي الى أقسام:

ص: 159

1. التضام بجميع درجاته سواء كان بين الكلمتين تضاد کامل مثل (ولد بنت) ام كان بينهما تخالف أو تناقض مثل (أحب، أكره).

2. الدخول في سلسلة مرتبة مثل (السبت والاحد...).

3. لاقة الكل والجزء، الجزء والجزء مثل (بیت ونافذة وباب).

4. الاندراج في قسم عام مثل (طاولة، کرسي).

وقد يتسع التضام ويشمل مجموعة من الكلمات لا أزواجاً مثل (شعر، أدب، کاتب)

ومن كلام له عليه السلام ((أَلاَ وَإِنِّ قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَ قِتَالِ هؤُلاَءِ القَوْمِ

لَيْاً وَنَهَاراً، وَسِّراً وَإِعْلاَناً))(56). جمع الامام في هذه الخطبة بين المتناقضين (الليل والنهار) وهما أحد أقسام التضاد.

ومن خطبة له عليه السلام في استنفار الناس الى أهل الشام: ((وَأَمَّا حَقِّي

عَلَيْكُمْ: فَالوَفَاءُ بِالبَيْعَةِ، وَالنَّصِيحَةُ في الْمَشْهَدِ وَالْغِيبِ، وَالاْجَابَةُ حِنَ أَدْعُوكُمْ،

وَالطَّاعَةُ حِنَ آمُرُكُمْ))، في كلام الامام عليه السلام مطابقات كثيرة، منها مصاحبة الغيب والشهادة فهنا يعمم الوفاء والنصيحة اللذان هما حقه على رعتيه في المشهد والمغيب.

ومن كلام له عليه السلام: ((وَالْحَمْدُ للهِ كُلَّاَ لاَحَ نَجْمٌ وَخَفَقَ)) يطابق الامام في كلامه بين مغيب النجم وظهوره اي لاستمرار حمده في كل أوقاته عليه السلام. ومن أمثلة التضاد بجميع درجاته فيصاحب عليه السلام بين المضادات (دنیا وآخرة، وجنة ونار).

ومن خطبة له عليه السلام: ((أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ أَدْبَرَتْ، وَآذَنَتْ بِوَدَاع، وَإِنَّ

ص: 160

الاْخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ، وَأَشْرَفَتْ بِاطِّاَع، أَلاَ وَإِنَّ اليَوْمَ المِضْمارَ، وَغَداً السِّبَاقَ، وَالسَّبَقَةُ

الجَنَّةُ وَالغَايَةُ النَّارُ))(59) صاحب عليه السلام بين الازواج (دنیا، آخرة) (اليوم، غدا») و(الجنة والنار) فجمع بين المضادات في عبارة واحدة وكانت رائعة في جمع الاضداد.

ومن خطبة له عليه السلام: ((وَدَعَوْتُكُمْ سِرّاً وَجَهْراً فَلَمْ تَسْتَجِيبُوا))(60)، الجمع بين هذين الضدين دليل على انه في كل حالة من الاحوال كانت دعوتي لكم فبهذين الضدين اختصر عليه السلام من عبارات حتی تکفي هذا المعنى.

وكان من کلام له عليه السلام ترتیب و تسلسل الأحداث اذ جعل الإيمان بالله وبعث الانبياء والموعد الاخرة مرتباً في خطبته: ((الْحَمْدُ للهِ النَّاشِرِ فِي الْخَلْقِ فَضْلَهُ،

وَالْبَاسِطِ فِيهمْ بِالْجُودِ يَدَهُ، نَحْمَدُهُ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ، وَنَسْتَعِينُهُ عَلَى رِعَايَةِ حُقُوقِهِ،

وَنَشْهَدُ أَنْ لاَإِلهَ غَیْرُهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، أَرْسَلَهُ بِأَمْرِهِ صَادِعاً، وَبِذِكْرِهِ

نَاطِقاً، فَأَدَّى أَمِيناً، وَمَضَى رَشِيداً، وَخَلَّفَ فِينَا رايَةَ الْحَقِّ، مَنْ تَقَدَّمَهَا مَرَقَ، وَمَنْ

تَخَلَّفَ عَنْهَا زَهَقَ ومَنْ لَزِمَهَا لِحَقَ، دَلِيلُهَا مَكِيثُ الْكَلامِ، بَطِيءُ الْقِيَامِ))(61)، رتب عليه السلام خطبته على ترتيب أصول الدين بدأ بإثبات الوجود الإلهي، ثم النبوة لمحمد صلى الله عليه وعلى آله ثم الموعد والميعاد.

ومن خطبة له عليه السلام: ((وَالْحَمْدُ لله الْكَائِنِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ كُرْسِيٌّ أَوْ

عَرْشٌ، أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ، أَوْ جَانٌّ أَوْ إنْسٌ))(62) جمع عليه السلام بين (الكرسي والعرش) و(السماء والأرض) و (الجان والانس) دلالة العموم لكل الأشياء سواء كانت من مقسم واحد أو أضداد أو غيرها فهي معناها قبل كل المخلوقات أي جمع بهذه الأزواج كل الخلق الذي سبقه الوجود الألهي.

ص: 161

المبحث الثالث: الحذف

يُعد الحذف من القضايا التي عالجتها البحوث النحوية والبلاغية والأسلوبية بوصفه انحرافاً عن المستوى التعبيري العادي(63). إن الحذف وسيلة من وسائل السبك، توظّف داخل النص، ويختلف عن الإستبدال إذ إن الأخير يتضمن تعويض عنصر لغوي في النص بعنصر آخر، إنما المحذوف لا يحل محله شيء ولكن يمكن تقديره من خلال القرائن الموجودة في النص وتربط الحذف علاقة قبلية(64).

يقول الفقي المحذوف كالموجود، اذا وجد دليل يدل عليه. ويذكر محورين أساسين يقوم عليهما التماسك في تراكیب الحذف هما(65).

1. التكرار: ويحصل كون المحذوف من لفظ المذكور او مرادف له او متعلق به.

2. المرجعية: وتسهم في تقدير المحذوف وذلك لطبيعة علاقة المرجعية لما سبق.

ويبيّن أيضا اذا كانت المرجعية بين المحذوف والمذكور، فهي داخلية لاحقة (بعدية)، واذا كانت بين المذكور والمحذوف على الترتيب فهي سابقة (قبلية)(66). وينقل عن هاليداي أكثر أنماط الحذف التي تؤدي الى تماسك النص(67):

1 - حذف الاسم

نرى الإمام عليه السلام يحذف الإسم من العبارة أو القول فما يزيده إلا تماسكاً وانسجاماً، بعيداً عن الخلل والغموض في الكلام. ومن جواب له علي السلام الى معاوية: ((فَأَرَادَ قَوْمُنَا قَتْلَ نَبِيِّنَا، وَاجْتِيَاحَ أصْلِنَا، وَهَمُّوا بِنَا الْهُمُومَ وَفَعَلُوا بِنَا الاْفَاعِيل، وَمَنَعُونَا الْعَذْبَ، وَأَجْلَسُونَا الْخَوْفَ، وَاضْطَرُّونَا إِلَی جَبَل

ص: 162

وَعْر....))(68). حذف عليه السلام العبارة (شرب الماء) في ومنعونا العذب، أي ومنعونا شرب الماء العذب. وأيضا حذف المصدر (جلسة) في وأجلسونا الحوف، وأصل الكلام وأجلسونا جلسة الخوف، وحذف المصدر (الصعود) في واضطرونا الى جبل وعر، أواضطرونا الى الصعود على جبل وعر. ولم يقع خلل في كلامه عليه السلام.

ومن كتاب له عليه السلام الى معاوية جواباً عن كتاب منه اليه: ((وَأَمَّا

طَلَبُكَ إِلَيَّ الشَّامَ، فَإِنِّ لَمْ أَكُنْ لِاعْطِيَكَ الْيَوْمَ مَا مَنَعْتُكَ أَمْسِ))(69).

حذف عليه السلام (ولاية) من عبارة فأما طلبك الیّ الشام فلولا الحذف لقال فأما طلبك الى ولاية الشام.... فحذف عليه السلام الاسم من العبارة. و من قول له عليه السلام بحذف الاسم وكذلك حرف الجر ((اللَّهُمَّ إِلَيْكَ أَفْضَتِ الْقُلُوبُ،

وَمُدَّتِ الاْعْنَاقُ، وَشَخَصَتِ الاْبْصَارُ، وَنُقِلَتِ الاْقْدَامُ، وَأُنْضِيَتِ الاْبْدَانُ. اللَّهُمَّ قَدْ

صَرَّحَ مَكْنُونُ الشَّنَآنِ))(70) فقد حذف عليه السلام (اليك) من (ومدت الاعناق) و(شخصت...ونقلت.... والضيت...) وكذلك حذف الفاعل من (صرح مكتوم الشنائن) وهو القوم. أي صرّح القوم بما يكتمون من البغضاء(71).

ومن وصية له عليه السلام لعسكره قبل لقاء العدو بصفين: ((فَإذَا كَانَتِ

الْهَزِيمَةُ بِإذْنِ اللهِ فَاَ تَقْتُلُوا مُدْبِراً، وَلاَ تُصيِبُوا مُعْوِراً،....))(72). حذف عليه السلام (بعدوكم) أي اذا كانت الهزيمة بعدوكم ويدل على ذلك ما قال له بعدها (لا تقتلوا ولا تصيبوا..) أي أن الغلبة لكم والنصر. فحذف عليه السلام الإسم المجرور مع سبك العبارة وإتساقها.

ومن خطبة له عليه السلام: ((وَلَئِنْ أَمْهَلَ اللهُ الظَّالِمَ فَلَنْ يَفُوتَ أَخْذُهُ، وَهُوَ

لَهُ بَالمِرْصَادِ عَلَى مَجَازِ طَرِيقِهِ))(73). حذف عليه السلام الفاعل وهو (الله) تبارك

ص: 163

وتعال ثم عود عليه الضمائر المنفصلة والمتصلة (وهو، له) والدليل على المحذوف أمران الفعل - أمهل الظالم لن يفوت أخذه - وذلك أن الله يمهل العباد وإنه لا يفوته الظالم(74). والأمر الثاني قوله وهو له بالمرصاد.

من كتاب له عليه السلام الى معاوية جواباً: ((أمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا كُنَّا نَحْنُ وَأَنْتُمْ

عَلَى مَا ذَكَرْتَ مِنَ الاْلفَةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَفَرَّقَ بيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَمْسِ أَنَّا آمَنَّا وَكَفَرْتُمْ،

وَالْيَوْمَ أَنَّا اسْتَقَمْنَا وَفُتِنْتُمْ))(75). حذف عليه السلام الضمير المنفصل (انتم) في العبارتين (انا امنا وكفرتم) و(انا استقمنا وفتنتم) فأن من الممكن أن يقول (انا امنا وانتم كفرتم) و (انا استقمنا وانتم فتنتم) ويدل على هذا الحذف ما تقدم من قوله عليه السلام (فإنا كنا نحن وانتم) ثم استرسل بالكلام ولم يذكر الضمير (انتم) والنفي بالضمير المتصل وان الحذف منسجم مع الكلام واضاف للكلام رونقا.

ومن وصية له عليه السلام المعقل بن قيس حين انفذه إلى الشام: ((اتَّقِ اللهَ

الَّذِي لاَبُدّ لَكَ مِنْ لِقَائِهِ، وَلاَ مُنْتَهَى لَكَ دُونَهُ، وَلاَ تُقَاتِلَنَّ إِلاَّ مَنْ قَاتَلَكَ، وَسِرِ

الْبَرْدَيْنِ،غَوِّرْ بِالنَّاسِ، وَرَفِّهْ فِي السَّیْرِ))(76). فلو بسط الكلام وأورد المحذوف في كلامه في (وسر البردين) أي وسر في وقت أو زمن البردين ويقصد (بالبردين) وقت الصباح الباكر ووقت الليل اللذان يكونان باردان بالنسبة لليوم ولكنه اسقط هذه العبارة (في وقت) من النص وأتی به على أتم معنی.

2 - حذف الفعل

يعدّه دي بوجراند أكثر ما يلفت النظر لأن التراكيب الانجليزية يمكن أن تتخلى عن العناصر الأخرى بيسر أكبر، فالعبارات التي لا يذكر فيها الفاعلون أكثر انتشارا من العبارات التي تحذف افعالها(77).

ص: 164

في خطبة للامام عليه السلام وهو يقول لأصحابه عند الحرب: ((لاَ تَشْتَدَّنَّ

عَلَيْكُمْ فَرَّةٌ بَعْدَهَا كَرَّةٌ، وَلاَ جَوْلَةٌ بَعْدَهَا حَمْلَةٌ))(78). فقد حذف الفعل في العبارة الثانية وهو (تشتدّنّ) لوروده في العبارة الأولى وعطف العبارة الأولى على الثانية فاستغنى عن ذكر الفعل مرة اخرى وذلك لمنع التكرار وطول الحديث الذي لا مبرر له.

ومن كتاب له علية السلام الى معاوية: ((وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمادِياً فِي غِرَّةِ

الاْمْنِيَّةِ مُخْتَلِفَ الْعَلاَنِيَةِ والسَّرِيرَةِ))(79). حذف عليه السلام الفعل أحذرك الثاني في العبارة وأحذرك أن تكون مختلف العلانية والسريرة ويدل على ذلك «مختلف» المنصوبة لفعل محذوف والدليل الثاني على أن الفعل أحذرك هو الفعل الأول.

ومن وصية له عليه السلام لعسكره قبل لقاء العدو بصفين: ((إِنْ كَانَ الرَّجُلُ

لَيَتَنَاوَلُ الْمَرْأَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالْفِهْرِ أَوِ الْهِرَاوَةِ فَيُعَیَّرُ بِهَا وَعَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ.))(80). حذف عليه السلام الفعل (يعير) من عبارة وعقبة من بعده والأصل ويعير عقبه من بعده ومن كلام له عليه السلام للخوارج وهم مقيمون على إنكار الحكومة ((كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن القتل ليدور على الاباء والابناء والاخوان والقرابات فما نزداد على كل مصيبة وشدة الا ايماناً ومضياً على الحق وتسليماً للأمر وصبراً على مضض الجراح)). حذف عليه السلام الافعال عن الموارد الاتية (ومضياً.. وتسليماً... وصبراً...) أي أن التقدير في العبارات نزداد مضياً على الحق، ونزداد تسليماً للأمر، ونزداد صبراً على مضض الجراح ودلّ على المحذوف المرجع السابق في بداية فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا ايمانا.

وفي قوله عليه السلام لأصحابه في ساحة الحرب وهو يوجه الجيش، يحذف الفعل تارة وبحذف الاسم تارة أخرى ويحذف الاداة تارة أخرى. مع الحفاظ على

ص: 165

صورة الخطبة وهيبتها واتمام بلاغتها وفصاحتها ودون نقص أو خلل في التوجيه: ((إِنَّهُمْ لَنْ يَزُولُوا عَنْ مَوَاقِفِهمْ دُونَ طَعْن دِرَاك يَخْرُجُ مِنْهُ النَّسِيمُ، وَضَرْب يَفْلِقُ الْهَامَ، وَيُطِيحُ العِظَامَ، وَيُنْدِرُ السَّوَاعِدَ وَالاْقدْاَمَ، وَحَتَّى يُرْمَوْا بِالمَنَاسِرِ تَتْبَعُهَا الْمَنَاسَرُ، وَيُرْجَمُوا بِالْكَتَائِبِ، تَقْفُوهَا الْحَلاَئِبُ حَتَّى يُجَرَّ بِبِلاَدِهِمُ الْخَمِيسُ يَتْلُوهُ الْخَمِيسُ، وَحَتَّى تَدْعَقَ الْخُيُولُ فِي نَوَاحِر أَرْضِهِمْ، وَبِأَعْنَانِ مَسَارِبِهِمْ وَمَسَارِحِهِمْ))(81). حذف عله السلام (دون) من عبارة (وضرب يفلق الهام) ولولا الحذف لقال ودون ضرب يفلق الهام وكذلك حذفها من (ويطيح العظام) و (ينذر السواعد والاقدام) أي (ودون ضرب يطيح العظام) و(ودون ضرب ينذر السواعد والاقدام) فكان الحذف من العبارات السابقة ب(دون، طعن، ضرب). ثم حذف (حتى) من (يرجموا بالكتائب...) ولولا الحذف لكانت (وحتى يرجموا بالكتائب) وكذلك حذف الجملة (وحتى تدع الخيول) من عبارة (بأعنان مساربهم) أي تكون (وحتى ندع الخيول بأعنان مساربهم ومسارحهم).

تعددت أساليب الحذف في هذه الخطبة، مرة بالاسم، ومرة بالاداة، وأخرى بالجملة وكلها احالات داخلية قبلية أي توحى الى داخل النص والى ما قبله، مع الحفاظ على الاتساق والانسجام الواضحان في الخطبة مع وجود القرآئن الدالة على المحذوفات وجلية التقدير لمحذوفها. فاللجوء الى الحذف ينبع من دواع جمالية وبلاغية تزيد النص رصانة وتؤدي به الى التماسك وتفعيل المشاركة بين القائل والمتلقي في انتاج المعنى وتشكيله والافادة من التراكم المعرفي لدى كل منها وبذلك يكون الحذف هو استبعاد العبارات السطحية التي يمكن لمحتواها المفهومي أن يقوم في الذهن أو أن يوسع أو أن يعدل بواسطة العبارات الناقصة(82).

ص: 166

3 - حذف العبارة

قال الامام عليه السلام في ايام صفين لأصحابه وهو يصف حالتهم في المعركة فهم في أول الأمر كانوا مغلوبين وفي آخره تمكنوا وانتصروا على عدوهم: ((وَلَقَدْ شَفَى وَحَاوِحَ صَدْرِي أَنْ رَأَيْتُكُمْ بِأَخَرَة، تَحُوزُونَهُمْ كَمَا حَازُوكُمْ))(83) فقد حذف عليه السلام المضاف في عبارة (بآخره) والتقدير بآخر المعركة أو آخر الأمر. والعلاقة بين المحذوف ومرجعه علاقة قبلية والمرجع ذكره للمعركة قبل هذا النص.

ومن خطبة له عليه السلام: ((أَيُّهَا الشَّاهِدةُ أَبْدَانُهُمْ، الْغَائِبَةُ عَنْهُمْ عُقُولُهُمْ، الْمُخْتَلِفَةُ أَهْوَاؤُهُمْ، المُبْتَىَ بِمْ أُمَرَاؤُهُمْ))(85). حذف الامام عليه السلام (يا أيها الناس) وذكر أيها للإختصار عن هذه العبارة، من كل العبارات، المثال والتقدير یا ایها الناس الشاهدة ابدانهم، يا أيها الناس الغائبة عقولهم، المختلفة أهوائهم.

4 - حذف الجملة:

ومن كتاب له علية السلام الى معاوية: ((وَأُحَذِّرُكَ أَنْ تَكُونَ مُتَمادِياً فِي غِرَّةِ

الاْمْنِيَّةِ، مُخْتَلِفَ الْعَلاَنِيَةِ والسَّرِيرَةِ))(85)، حذف عليه السلام الجملة في مختلف العلانية، والأصل وأحذزك أن تكون مختلف العلانية. قال الامام عليه السلام في بعض أيام وصفين وقد رآی الحسن عليه السلام يتسرع الى الحرب: ((الحرب: ((امْلِكُوا عنِّي هذَا الْغُاَمَ لاَ يَهُدَّنِ....))(86) اي احجر واعليه كما يحجر المالك على مملوكه(87). ف(عليّ) متعلقة بمحذوف تقديره استولوا عليه وابعدوه عني وفي قوله (املكوا) معنى البعد ولكنه اعقبه ب(عليّ) لأنهم لا يملكونه دون أمير المؤمنين إلا وقد أبعدوه عنه فلذلك قال (املكوا عليّ هذا الغلام)(88).

ص: 167

ومن كلام له عليه السلام الى الخوارج: ((فَلَقَدْ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ »صلى

الله عليه وآله»، وَإِنَّ الْقَتْلَ لَيَدُورُ بَیْنَ الاْباءِ وَالاْبْنَاءِ وِالاْخوَانِ وَالْقَرَابَاتِ))(89). فحذف عليه السلام عبارة - وأن القتل ليدور على كل من (الابناء، الاخوان، القرابات) وأصلها أن القتل ليدور على الأبناء وأن القتل ليدور على الاخوان وأن القتل ليدور على القرابات فالحذف منعا للتكرار وطول الحديث وثقل العبارات.

وما يترتب على المتلقي ليتواصل مع التحليل النصي بفهم وظيفة الحذف في التحليل من عدة جوانب(90).

1 - تقدير المحذوف.

2 - الصلة بين المحذوف والدليل عليه أو المذكور، أي البحث عن الدليل.

3 - صلة الحذف بكل من المرجعية والتكرار ومن بعد بيان نوع المرجعية.

الواضح أن الحذف مرغوب في بعض المواقف وبعض الظروف، والموقف هو الذي يحد كم من المواقف الشديدة التحديد، يعمد الناس الى الاقتصاد بها، بوساطة الحذف، أو الاختزال في وقائع البنية التعبيرية السطحية

ص: 168

الخاتمة:

تمخضت الدراسة عن تطبيق معيارين من معايير علم النص السبعة التي أوجدها العالمان: دي بوجراند ودريسلر ، هما معيارا السبك المعجمي والحذف على نص عربي عال للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، في كتاب نهج البلاغة.

إنَّ غاية علم النصّ فهم أوجه الترابط النحوي والدّلالي المتجاوزة للجملة الواحدة إلى سلسلة قصيرة، أو طويلة من الجمل تؤلف نصّاً محدداً. فكان التطبيق النصي سهلاً مرناً والنص متماسكاً ومنسجماً. وهذا شأن النص العربي عامة إذ إن اللغة العربية غير قاصرة عن احتواء علوم جديدة، أجنبية.

وإن أقوال الإمام كانت طيّعة للتطبيق لإحتوائها على عناصر التماسك النصي. ولا ننأى عن الصواب اذا قنا: إن نهج البلاغة يمثل أصالة اللغة العربية، ومعجم مفرداتها، ومنشأ بلاغتها وفصاحتها. وكانت شخصية الإمام واحدة من حيث الأسلوب والمضمون والمثل العليا التي وسمت خطبه من الشجاعة والأخلاق السامية، ملتزما مبادئ الدين الإسلامي وما جاء به النبي الأكرم. رابطا الدين بالسياسة، فكان ينهى عن السبّ والمُثلى وقطع الماء عن العدو كما فعل العدو، وأيضاً ينهى عن ضرب المرأة والجريح والطفل وكذلك ينهى عن قطع الشجرة.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله الطيبين اوسلّم تسليما.

هوامش البحث:

1. عثمان ابو زنيد - نحو النص / 31

2. رمضان عبد التواب - مدخل الى علم النص / 188

3. المصدر نفسه

ص: 169

4. ينظر: النص والخطاب والاجراء - ص 103

5. نعان بوقرة مصطلحات الأساسية / 142

6. خطابي - لسانیات النص / 13، نقلا عن هاليداي ورقية حسني cohersion in english ص 2

7. نعمان بوقرة - المصطلحات الاساسية / 138

8. الجمل والنصرة لسيد العترة في حرب البصرة / 355

9. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة 13 / 483

10. المصدر نفسه

11. قصص بطولات الإمام عليّ عليه السلام / 9

12. المصدر نفسه

13. المصدر نفسه

14. ارشاد القلوب / 193

15. نهج البلاغة 3 / 14

16. ارشاد القلوب / 196

17. خطابي - لسانیات النص / 24

18. ليندة قياس - لسانیات النص / 124

19. خطابي- لسانیات النص / 24

20. المصدر نفسه

21. المصدر نفسه 25

22. الفقي - علم لغة النص 2 / 17

23. خطابي - لسانیات النص /

24. نهج البلاغة 1 / 63

25. الثبات: إن ثبات stabilrry النص بوصفه نظاماسیبرنطيقيا يتوقف على تماسك وقائع الانظمة المشاركة فيه.

26. النص والخطاب والاجراء / 303

27. المصدر نفسه / 306

28. عثمان بوزنید - نحو النص / 139

ص: 170

29. نهج البلاغة 3 / 37

30. نهج البلاغة 3 / 114

31. المصدر نفسه 3 / 96

32. بحوث المؤتمر العلمي الدولي الاول - جامعة الكوفة، نجيب سعد، البنية الكبرى / 93

33. التصوير الفني لخطب الامام علي عليه السلام / 218

34. المصدر نفسه / 219

35. نهج البلاغة 2 / 198

36. نهج البلاغة 3 / 106

37. - نهج البلاغة 1 / 188

38. المصدر نفسه 1 / 231

39. نهج البلاغة 3 / 121

40. المصدر نفسه 1 / 119

41. المصدر نفسه 3 / 108

42. المصدر نفسه 3 / 107 - 108

43. المصدر نفسه 3 / 8

44. الفقي - علم لغة النص 2 / 21 - 22

45. المصدر نفسه.

46. بحوث المؤتمر الدولي الاول، جامعة الكوفة - تقنيات الحجاج في نهج البلاغة، مؤید ال صوينت،

47. عثمان بو زنید - نحو النص / 147

48. نهج البلاغة 3 / 6

49. نهج البلاغة 3/ 10

50. نهج البلاغة 3 / 11

51. نهج البلاغة 1 / 106

52. خطابي - لسانیات النص / 25

53. المصدر نفسه

54. عثمان بو زنيد - نحو النص / 140

55. آل عمران / 54

ص: 171

56. نهج البلاغة 1 / 68

57. نهج البلاغة 1 / 84

58. المصدر نفسه 1 / 97

59. المصدر نفسه 1 / 70

60. المصدر نفسه 1 / 188

61. المصدر نفسه 1 / 193

62. نهج البلاغة 2 / 105

63. نعمان بوقرة - المصطلحات الأساسية / 106

64. ينظر - خطابي - لسانیات النص / 21

65. الفقي - علم لغة النص 2 / 221

66. الفقي - علم لغة النص 2 / 203

67. الفقي - علم لغة النص 2 / 196

68. نهج البلاغة 3 / 9

69. المصدر نفسه 3 / 16

70. نهج البلاغة 3 / 15

71. المصدر نفسه - الهامش

72. المصدر نفسه 1 / 187

73. المصدر نفسه 1 / 187

74. المصدر نفسه - هامش

75. نهج البلاغة 3 / 122

76. نهج البلاغة 3 / 13

77. النص والخطاب والاجراء / 363

78. نهج البلاغة 3 / 16

79. المصدر نفسه 3 / 11

80. المصدر نفسه 1 / 15

81. نهج البلاغة 2 / 4

82. النص والخطاب والاجراء / 301

ص: 172

83. نهج البلاغة 2 / 206

84. نهج البلاغة 1 / 188

85. المصدر نفسه 1 / 11

86. نهج البلاغة 2 / 168

87. الاثر القرآني في نهج البلاغة / 103

88. الاثر القرآني في نهج البلاغة / 103

89. نهج البلاغة 1 / 236

90. الفقي - علم لغة النص 2 / 225

ص: 173

المصادر والمراجع

1. التعريفات، ابو الحسن علي بن محمد الجرجاني المعروف بالسيد الشريف (ت 816 ه)، تقديم د. أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، العراق، (1406 ه / 1986 م).

2. توضيح نهج البلاغة - الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي - الطبعة المحققة الاولى - سوريا 1423 - 2002 م.

3. الجمل والنصرة لسيد العترة في حرب البصرة - الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي توفي 413 هجرية طبعة مكتب الاعلام الاسلامي 1414 هجرية ایران.

4. أسس لسانیات النص، ماغورت هاینمان وفولفغنغ هاینمان - الطبعة الاولى، جمهورية العراق، بغداد - ترجمة عن الالمانية، أ.د. موفق محمد جواد المصلح. 2006.

5. أصول المعايير النصية في التراث النقدي سن بن محمد الديلمي، قم المقدسة طبعة ذوي القربی. عبد الخالق فرحان شاهي - رسالة ماجستير - كاية الآداب -جامعة الكوفة 1433 ه 2012 م

6. شرح نهج البلاغة - كمال الدين میثم بن علي بن میثم البحراني الطبعة الاولى - لبنان بيروت - 1430 - 2009 م

7. علم اللغة النصي - د- محمد ابراهيم الفقي- مدرس العلوم كلية الآداب - جامعة طنطا - الناشردار قباء - القاهرة الطبعة الأولى - 1432 - 2000 م.

ص: 174

8. قصص بطولات الامام علي عليه السلام - محمد حسن دخيل - طبعة دار المرتضی بیروت 1425 هجري

9. لسانیات النص - مدخل الى انسجام الخطاب - محمد خطابي – الناشر المركز الثقافي العالي - بيروت الحمراء - الطبعة الأولى 1991 م.

10. لسان العرب - العلامة ابن منظور - الناشر دار الحديث - القاهرة 1423 - 2003 م

11. مدخل الى علم النص، د. محمد الأخضر الصبيحي، الجزائر العاصمة الطبعة الاولى، الجزائر، 1429 - 2008.

12. مدخل الى علم لغة النص - روبرت ديبو جراند ولفغانغ دريسلر - جامعة فلوريدا - جامعة فينا - اعد الكتاب للطبع مرکز نابلس للكمبيوتر - الطبعة الأولى 1413 هجری - 1992 م - مطبعة دار الكاتب سمير اميس.

ص: 175

ص: 176

صفاتُ القضاة في نهج البلاغة قراءة تأويليّة

اشارة

الأستاذ المتمرّس

الدكتور حاكم حبيب الكريطي

ص: 177

ص: 178

أقام الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام دولة العدل الإلهي مدة خلافته، على الرغم من كثرة الحروب التي فرضها مناوؤه عليه، لأنّهم يفقدون ما يتمنّونه حتما إذا عاشوا كغيرهم في تلك الدولة. ولما كان العدلُ هو الأسُّ المكين الذي أقام علیه دولته، فقد اهتم عليه السلام باختيار القضاة والولاة، لأنّهم همُ الذين يطبقون العدل الذي يُريده عليه السلام.

ومن هنا تكرّر ذكرُ هذين الصنفين في نهج البلاغة، وعلى الرغم من اختياره عليه السلام لهؤلاء بنفسه فإنّه عليه السلام كان يوصي من يختاره بوصايا، يستنبط منها الصفات التي يُريدها فيمن يختار، وهو بهذا يضع بعضاً من الأُسس التي ينهضُ عليها بناء الدولة من جهة، ومن جهة أخرى يقطع على المتربّصين طريقِ الاعتراض على من يختاره للعملِ قاضياً أو واليا.

لقد وضع الإمام عليه السلام أسس اختيار هؤلاء وحدّ صفاتهم في الكتب التي كان يبعثها لمن يختارهُ للقضاء، أو لمن يبعثه والياً ويكلُ إليه اختيار القضاة العمله، وبذا يضعُ أمام المسلمين عامةً ما يريدُهُ في القاضي من صفات، وبهذا يهيء هم الأمان بأنّ من يتولّى الفصلً بينهم مأمون في عدالته على وفقِ طاقةِ الإنسان، ويدفع أهل الخصومات إلى الانتباه إلى ما ينتظرهم من العدل عند القاضي، وبذا يتحقق ابتداءً الهدف التربوي الذي يسعى الإمام عليه السلام إلى تحقيقه والذي يتمثّل في تنبيه المسلمين إلى الصّرامة التي تنتظرُ من يريد أنْ يُجافي الحقّ في نزاعه مع الأخرين.

وقد ذكر الإمام عليه السلام من الصفات ما یُجسّدُ الروح الاسلاميّةِ الحقّة، وقيم العرف الاجتماعي التي أقرّها الاسلام، وتلك الصفات إذا اجتمعتْ في شخصٍ سيكون على قدر كبيرٍ من الهيبةِ التي تترك آثارها على المتنازعين ، إذْ يرون

ص: 179

أنّ من يقفون أمامه للفصلِ بينهم، يمتلك القدرة التي تُعينه على الإمساكِ بالحقّ وتعرية الباطلِ.

وقد اعتمدنا في قراءة الصفات منهجاً تأويليّاً يقوم على التقاط الألفاظ المركزية في النصوص، والعودة إلى المعجم العربي للوقوف على دلالاتها، وأخذ المعاني التي يقبلها السياق، دون الوقوف على المعنى الظاهر، وبهذا تنفتح دلالات النصوص على نحوٍ يظهرُ غزارة المعاني التي تحتملها الصفة الواحدة، من دون أن تشكّل هذه القراءة عبئاً على النصوص، أو تحميلها مالا تحتملُ. وهذا القراءة تجسّدُ ما نعتقدُ به من أنّ الإمام عليه السلام ينتقي من المفردات مايرى فيه القدرة على تجسيد مايريده من معاني الصفات التي يريد أن يتزيّن بها القاضي أو الوالي، وهذا شأنه عليه السلام في استعمال اللغة في خطبه وكتبه وحِکَمِهِ الواردة في نهج البلاغة، وفي غيره من مصادر المسلمين.

أسس اختيار القضاة:

يضع الإمام عليه السلام الأسسَ التي يُستندُ إليها في اختيار القضاة الذين يرادُ لهم أنْ يتصدّوا للحكمِ بين العباد، ويفصلوا فيما يقعُ بينهم من خصوماتٍ من أجلِ حمايةِ المجتمعِ من التّشتّتِ والفرقةِ والتناحرِ والتجافي، فيقول في عهده المالك الأشتر حينما ولّاهُ مصر: ((... ثمَّ اخترْ للحكمِ بين الناسِ أفضلَ رعیّتكَ في نفسكَ.))(1).

يُعطي الإمامُ عليه السلام للوالي (الحاكم) حقَّ اختيارِ القاضي بنفسه، ولم يشأ أنْ يختاره هو عليه السلام *** وهو خليفةُ المسلمين، وإنّما أرادَ أنْ يبني

دولةَ عدلٍ تقوم على مشاركةِ الآخرين من ذوي الشأني في بنائها، ومنهم الولاةُ، فأعطاهم هذا الأمرَ وجعلهُ حقّاً لهم.

ص: 180

ويضعُ عليه السلام الأسَّ الأوّلَ للاختياِر، وهو أنْ يكونَ المختارُ أفضلَ الرعيةِ في نفسِ الوالي. وهذه الأفضليةُ لا علاقة لها بمودة الوالي لشخصٍ دون آخر، وإنّما هي الأفضليّةُ التي تقومُ على العلمِ والخبرةِ والقدرةِ على استنباطِ الأحكامِ من القرآنِ والسُنّةِ، وهذا ما يتوسّمُه الوالي في أفرادِ رعيته، واستنادا إلى هذا يكون القاضي حاکماً و مُفتياً في آنٍ معا، ومن هنا فإنّنا لا نرى فرقاً بين الأمرين على وفقِ هذه الإشارةِ العلويةِ، كما ذهب إلى ذلك أحد العلماء حينما قال: ((على أنّه لم يعلمْ کون هذا حكماً شرعياً، أو حكماً ولائياً نافذَ المفعول إلى الآن، إذا الموقفُ يناسبُ أيضا كونه من تعاليمه عليه السلام، بما هو رئيس الحكومة لمالك الأشتر بما هو منصوب من قبله على مصر))(2).

ثمّ يذكرُ الإمام عليه السلام الصفاتِ التي يريدُها فيمن يتولّى القضاء من المسلمين وهي على النحو الآتي:

القدرة على تصريف الأُمور:

يُوجبُ الإمامُ عليه السلام أنْ يكونَ القاضي: ((ممّن لا تضيقُ به الأُمورُ، ولا تُمحكهُ الخصومُ))(3).

فالصفةُ الأولى تتمثلُ في قدرةِ القاضي على تصريفِ الأُمورِ التي تُعرض عليه، ولو كانتْ ملتبسةً ببعضها، إذْ يمتلك من الحنكةِ وحسنِ التدبيرِ ما یقوی بهِ على تخليص الملتبس. واللافت للنظرِ هنا أنّ الإمامَ عليه السلام جعل الأمورَ نفسَها تضيقُ بالقاضي نفسِه بأُسلوبٍ مجازيٍّ أسبغ على التعبيرِ بُعداً جماليّا، لنا أنْ نتصوّرهُ في أنَّ الأمور تضيقُ إذا رأتْ القاضيَ غيرَ قادرٍ على حلِّ ما یُشكلُ منها، وهي تمتلك القدرة على الاتّساعِ، فمن معاني الضيق: ((ما يكون في الذي يتّسعُ ويضيق))(4). وهذا الاستعمالُ البلاغيُّ لإسنادِ الضيقِ إلى الأمورِ، یعني فيما يعنيه،

ص: 181

أنّ على القاضيَ أنْ يمتلكَ من القدرةِ المعرفيّةِ ما يمكّنهُ من إيجادِ مخرجٍ لكلِّ ما یعرضُ له من دونِ أنْ يضيق صدرهُ بما يُواجههُ.

لا تُمحكه الخصوم:

أمّا الصفةُ الثانيةُ فهي: (لا تُمحِكهُ الخصوم)، ومن أجلِ الوقوفِ على ما يريدُهُ الإمامُ بهذه الصّفةِ، نعودُ إلى دلالةِ الجذر (محك) في المعجم. جاء في لسانِ العربِ المعاني الآتيةِ(5):

1 - محك: المَحْكُ المُشارَّة والمُنازعة في الكلام.

2 - المَحْكُ: التمادي في اللَّجاجَة عند المُساوَمة والغَضب ونحو ذلك.

3 - الجواد المَحِكُ: الذي يَلِجُّ في عَدْوِه وسيره.

4 - تَماحك البَيِّعان والخَصْمان: تَلاجَّا قال الفرزذق:

يا ابنَ المَراغَةِ والهِجاءُ إذا التَقَتْ *** أعناقُه وتَاحَك الخَصْمانِ

5 - رجل مَحِكٌ ومُاحِك ومَحْكانُ: إذا كان لَجُوجاً عَسِرَ الخُلقِ، وفي حديثِ عليٍّ

عليه السلام لا تَضِيق به الأُمورُ ولا تُمْحِكُهُ الخُصومُ،

6 - رجلٌ مُمْتحِكٌ ورجلٌ مُسْتَلْحِكٌ ومُتَلاحِكٌ في الغضبِ، وقد أَمْحَكَ وأَلْكَدَ

يكون ذلك في الغضبِ وفي البُخْلِ.

إنَّ نظرةً أولى على هذه المعاني تُظهرْ لنا أنَّ الّلجاجةَ والمنازعةَ وعُسرَ الخُلُقِ هي الإطار الذي يجمعُ المعاني الجزئيّةَ الواردة تحت الجذر (محك)، ولمّا كان عمل القاضي يقتضي الاستماع لحججِ المتخاصمين وهم يقفون أمامه، وكلُّ واحدٍ منهم يسعى إلى جرجرةِ الحقَّ إلى جانبهِ، فقد يقود هذا إلى التبرّمِ والضيقِ وتفلّتِ الصبرِ

ص: 182

من القاضي، وهنا يفقد القاضي صفةً رئيسةً من الصفات التي يوجبُها الإمامُ عليه السلام فيه.

أمّا المعاني الجزئية المشار إليها فتُعطينا التصوّر الآتي لاستعمالِ الإمامِ عليه السلام ل (تُمحِكُهُ الخُصُوم):

يُعطينا المعنى الأوّلُ ما يقعُ فيه المتخاصمان أمام القاضي من الّلجاجةِ التي تقودُ إلى الغضبَ (المعنى 2)، تحت تأثيرِ الخصومةِ، التي تجرفهما إلى المساومةِ والّلجاجةِ، كما يلجُ الجوادُ في عدوهِ وسيرهِ (المعنى 3)، واختيارُ صفةِ الجواد هنا تتماهى مع حالةِ المتخاصمَين أمام القاضي، فكأنّهما في سباقٍ من أجلِ السبقِ في الحصولِ على ميلِ القاضي لأحدِهما.

أمّا المعنى الرابعُ (تماحك البيّعان والخصمان)، فيومي هذا المعنى إلى أنَّ المتخاصمَينِ كأنّهما بائعان يقفان أمام القاضي، وكلُّ واحدٍ منهما يسعى إلى الغلبةِ في بيعِ بضاعته إلى القاضي، فيستعمل ما بوسعه من الّلجاجةِ من أجلِ تحقيق ذلك. ولا يخفى ما في هذه العبارة من تجسيدٍ لتصوير سلوك الباعةِ وهو يتمثّلُ في مايأتي به المتخاصمانِ أمام القاضي.

والمعنى الخامسُ (عُسر الخلق)، وفيه نقولُ: إنّ هذه الصفةَ قد لا تكونُ ملازمةً لمن يحضرُ أمام القاضي من المتخاصمَين، ولكنّها قد تتسرّبُ إلى من لا تکونُ ملازمةً له، تحت تأثير النزاع المحتدم مع خصمه، فتكون صفةً له في موطني النزاعِ هذا في مجلسِ القاضي.

ويبقى المعنى السادس (البُخل)، وهنا نقولُ: إنَّ أحدَ المتخاصمَينِ يُدرك أنّه على غيرِ الحقِّ، وهو يُواجهُ خصمهُ أمام القاضي، فيكون بخيلاً في إعطاءِ الحق لصاحبِهِ، فيلجّ ویُنازع ويرفع صوتَهُ، من أجل التعميّةِ على القاضي.

ص: 183

لقد رسم الإمامُ عليه السلام بهتين الكلمتين هذه الصورةَ لما يمكنُ أنْ يقع في مجلس القضاء، واستناداً إلى هذا، أراد علیه السلام أن يتجمّلَ القضاة بهذه الصفةسِ، وهي عدم الاستكانةِ لتأثيرِ (المماحكة) التي يستجلبُها المتخاصمان، وهما يحولان التأثيرِ على القاضي وهو يتصدّى للحكم بينهما.

لا يتمادى في الزلّة:

أما الصفةُ الثالثةُ التي يريدها الإمامُ عليه السلام للقاضي فتأتي في قولهِ: ((ولا يتادي في الزلّةِ))(6). فما المراد بها؟.

إنّ الخطأ مما يقعُ من الإنسانِ، فإذا وقع فيه وجبَ عليه أنْ يرجع بعد ظهور الحقِّ أمامه، والإمامُ عليه السلام عدّ ما يقعُ فيه القاضي من اضطرابٍ في الحكمِ زلّةً، والزلّةُ تكون في القولِ والخطيئةِ والرأيِّ والدينِ(7)، وزللُ القاضي يكونُ في هذه الأوجهِ الأربعةِ التي تقولُ بها اللغة، فحينما يقعُ في واحدٍ منها، يكون قد زلّ عن الطريقِ القويمِ. فإذا زلّ في القول، وقال حكمَهُ بلغةٍ تُشكلُ على المتخاصمينِ، عُدَّ هذا زللاً منه، يتحتّمُ عليه أنْ لا يتمادى فيه، أيْ لا يستمرّ، يُقالُ: ((تمادی فلانٌ في غيّهِ إذا لجّ فيه، وأطال مدى غيّه، أيْ غايتهِ))(8).

وقد تُعدُّ زلّةُ القاضي خطيئةً، لأنّ الحكمَ بغيرِ الحقِّ ضربٌ من الجورِ والتعسّفِ والظلمِ، وإنْ لم يكن مقصوداً، وهنا يجبُ الرجوعُ إلى الحقِّ، وليس في هذا ما يشين، فثمّةَ حديثُ نبويٌّ عدّ التوبةَ عن الخطأ ضرباً من ضروبِ الفضيلةِ، يقولُ صلى الله عليه وآله وسلم: ((كلُّ بني آدم خطّاء، وخيرُ الخطائين التوّابون))(9). والتوبةُ هي الرجوعُ من المعصيةِ إلى الطاعةِ، وهنا تتحقّقُ الفضيلةُ المذكورةُ في الحديثِ.

ص: 184

واستناداً إلى ما تقدّمَ - أيضا - صارتْ زلّةُ القاضي في الحكمِ زلّةً في الدينِ، وهنا صارتْ سرعةُ العودة إلى جادةِ الحقِّ واجبةً، حتى لا يكون متمادياً فيما وقع فيه من زلل في هذه القضيّةَ أو تلك على ما أوصى به الإمامُ عليه السلام.

بقي من معاني (الزلّة) معنى آخرُ أرجأنا الحديث عنه ليكتملَ ما أردناهُ من المعاني السابقةِ، والمعنى هو قولهم: زلّ: إذا زَلِقَ، أيْ لا تثبُت قدمُهُ، فيكون القضاءُ (زُحلوقةً) لا تثبتْ عليه الأقدام إلا بعد التثبّتِ والتأنّي، وهذا المعنى يتناغم مع ما أشار إليه الإمامُ عليه السلام. واستنادا إلى هذا المعني صار لزاماً على القاضي أنْ يتثبّتَ في أحكامه حتى لا تزّل قدمهُ فينحدر إلى مهاوي الخطيئةِ التي مرِ ذكرُها في المعاني السابقةِ.

لا يُحجم من الرجوع إلى الحقّ:

والصّفةُ الرابعةُ من صفاتِ القاضي تردُ في قوله عليه السلام: ((ولا يَحصَرُ

من الفيء إلى الحقِّ إذا عرفه))(10)، والوقوفُ على معاني المفرداتِ المركزيّةِ في النصِ يُعيننا على تلمّسِ بعضاً مما يبسطهُ الإمامُ عليه السلام، واللفظةُ المركزيّةُ الأولى هنا هي (یُحصَرُ)، ومن معانيها في المعجم العربي ما يأتي(11):

1 - حَصِرَ صدرُهُ: ضاق، والحَصَرُ: ضيّقُ الصدرِ.

2 - حَصَرَهُ یحصِرُهُ: ضيّقَ عليه وأحاطَ به.

3 - الحصيرُ والحصورُ: الممسكُ البخيلُ الضيّقُ.

4- الحصورُ: الهيوبُ المحجمُ عن الشيء.

فالقاضي على وفقِ هذه المعاني لا يضيقُ صدرُهٌ، ولا يُحجمُ عن الرجوعِ إلى الحقِّ إذا تبيّن له أنّه جافاهُ في حكمهِ، ولا يتهيّبُ من ذلك، وإنّما يتقبّلُ أمرَ العودةِ

ص: 185

إليه بصدرٍ رحبٍ، واستبشارٍ ورضا. وهنا يكون كريما لأنّ العودةَ إلى الحقِّ مما یُحمدُ به الإنسانُ، والكريمُ اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يُحمدُ(12)، وهنا يحضُر معنی (الممسك البخيل الضيّق) رقم (3)، لمن يحصَرُ عن الرجوعِ إلى الحقِّ، إلى ما يأمرُ به الله تعالى.

أمّا اللفظةُ المركزيّةُ الثانيةُ في النصِ فهي (الفيء)، ومن معانيها التي تأتِلفُ مع السّياقِ ما يأتي:

1 - فاء إلى الأمرِ: رجع إليه.

2 - الفيء: ما كان شمساً فنسخه الظلُّ.

3 - الفيء: الغنيمة.

نخلصُ من النظر في قولِ الإمامِ عليه السلام على وفق المعاني السابقةِ إلى القولِ: إنّ القاضيَ إذا تبيّن له الحقُّ وعاد إليه بعد خروجه عن طريقه، يكونُ کمن ترك الوقوفَ في الشمسِ، ورجع ليستريح في الفيء أو الظلِّ، ويكون - أيضا - كمن حصلَ على غنيمةٍ بعودتهِ إلى الحقِّ. واستناداً إلى ما تقدّم يظهرُ لنا الاستعمالُ الفريدُ لمفرداتِ اللغةِ، وكيف استثمرها الإمامُ عليه السلام، بما يجعلها وسيلةً من وسائله عليه السلام في تربية المجتمعِ على نحوٍ جماليٍّ أخّاذٍ.

لا تُشرف نفسه على طمع:

أما الصّفةُ الخامسةُ التي ينبغي أنْ يتزيّن بها القاضي، فهي تتجلّى في قولِ الإمام عليه السلام: ((ولا تُشرفُ نفسُهُ على طمعٍ))(13). والإمامُ عليه السلام انتقى لفظةَ (تشرف) وهي تعني الاطلاع من فوق، ليُظهرَ من خلالها منزلةَ القاضي العالية المُشرفةَ على المنازل الأخرى، فضلاً عمّا تتضمّنه من دلالةِ الشّرفِ

ص: 186

والمجدِ التي يستلزمها علوُّ المنزلةِ وسموّها، ويقابلُ هذه المنزلةَ منزلة (الطمع)، التي تُعدُّ منقصةً لا يصحُّ أن يقترب منها الإنسانُ المسلمُ، فما بالُك بالقاضي المسلمِ المكلّفِ بالتفريق بين الحقِّ والباطلِ؟.

وعودٌ إلى معنی (تشرف)، وهو تطّلعُ عليه من فوق، يُظهرُ لنا بمفارقةٍ جميلةٍ البونُ الشاسعُ بين ارتفاعِ مرتبةِ القاضي، وانحطاطِ مرتبةِ (الطمع)، وقد ورد عن الإمام علي بن الحسينِ عليه السلام أنّ قطعَ (الطمع) ضربٌ من ضروبِ الخير في قوله: ((رأيتُ الخيرَ كلّه قد اجتمع في قطعِ الطمعِ عمّا في أيدي الناسِ))(14)، وورد عن الإمام الباقرِ عليه السلام أنّ (الطمع) ضربٌ من ضروبِ الذلِّ في قوله: ((بئس العبدُ عبدٌ له طمعٌ يقودُه، وبئس العبدُ عبدٌ له رغبةٌ تُذلّهُ))(15).

والإمامُ عليه السلام لم يكشفْ في قولهِ السابقِ عن نوع الطمعِ الذي يمكنُ أنْ تُشرفَ عليه نفسُ القاضي، ليجعل قولَه محيطا بأنواعِ الطمعِ كلّها، الكرامةِ والجاهِ والمالِ والحظوةِ، وكلّ ما يشغلُ نفسَهُ عن أيّ عرضٍ من أعراضِ الدنيا(16).

وثمّة أمرٌّ آخَرُ يُجسّدُهُ الفعلُ (تشرفُ) أيضاً، وهو أنّ هذه الصفةَ قد تقودُ إلى انحرافِ القاضي عن سبيلِ الحقِّ لوقوعه تحت تأثیر هواجسِ نفسِ التي تُمسكُ بها رؤيتُهُ للطمعِ ولو من علوٍّ شاهق. وهو لم يقعْ بعدُ فيما يطمعُ به. والإمامُ عليه السلام يُوصي ويُحذّرُ من خلال التركيز على هذه الصّفةِ. فصار ذكرُ الصّفةِ وسيلةً من وسئل تقويم سلوكِ القضاة.

بقي أمرٌ نرغب في الإشارة إليه وهو أنّ ابن أبي الحديد أضاف معنی آخر للإشراف وهو: الإشفاقُ والخوفُ(17)، وعلى الرغم من أنّنا لم نعثر على هذين المعنيين فيما رجعنا إليه من المعاجم، فإنّ السّياق قد لا يتناغم معهما، لأنّ مرتبةَ القاضي مرتبةٌ تتطلّع إليها الرقاب، وليس فيها ما يدعو إلى الإشفاق أو الخوف،

ص: 187

إلّا إذا كان ذلك من خشيةِ مجانبةِ الحقِّ، وهذا أمرٌ محمودٌ ومرغوبٌ فيه، ولكنّ ابن أبي الحديد لم يُرد هذا المعنى، وإنّما أراد المعنى السلبي للإشفاق والخوف.

التأنّي في الحكم:

يقولُ الإمامُ عليه السلام عن هذه الصّفةِ: ((ولا يكتفي بأدنی فهمٍ دون أقصاه وأوقفهم في الشّبهاتِ، وآخذهم بالحجج.))(18).

تُعدّ هذه الصّفةُ من الركائز الرئيسة التي يستندُ إليها القاضي قبل أن يحكمَ بين الخصمين، حتى لا يقع في دائرة الكفر التي تُحيطُ بمن لا يحكم بما أنزلَ الله تعالى: «وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ» المائدة 44، ومن هنا فإنَّ الفهمَ الأوّليَّ الذي يتشكّلُ في ذهنِ القاضي من سماعه حُججِ الخصومِ غير كافٍ، وإنّما عليه أنْ يبذل جهده من أجلِ الوصولِ إلى أقصى فهمٍ. وهذا هو شأنُ العلماء الذين يتحرّون الدقّةَ والتثبتَ وتقليبَ المسألةِ على ما الوجوه المحتملةِ لها. يقول الشيخ محمد جواد مُغنية عن الأناة التي يُوصي بها الإمام عليه السلام: ((لا يعلن الحكم النهائي إلا بعد التحري و الوقوف على جهات الدّعوى بأكملها، و البحث عما يتصل بالحادثة حكما و موضوعا. وهذه هي طريقة العلماء، فإنهم لا يتنبئون بشيء إلا بعد الاستقراء التام، و الملاحظات الدقيقة والوثوق بما يقولون))(19).

أمّا قوله عليه السلام (وأوقفهم عند الشُّبهةِ)(20)، فيعني أنّ على القاضي أنْ يكون أكثرَ الرعية تأنّيا ووقوفاً وتثبّتا عند المشكلات من الأمور، حتى يصلَ إلى دليلٍ يبني حكمَهُ عليه، وهذا هو المراد بالوقوفِ، فهو وقوفَ أناةٍ وليس وقوفَ ترك الحكم فيما یُشكلُ من الشبهات. وقد أبدى الإمام عليه السلام عجبه من الفرق المتخاصمة بقوله: ((فَيَا عَجَباً! وَ مَا لِيَ لاَ أَعْجَبُ مِنْ خَطَإِ هذِهِ الْفِرَقِ عَلَى اخْتِلاَفِ حُجَجِهَا فِي دِينِهَا! لاَ يَقْتَصُّونَ أَثَرَ نَبِيٍّ، وَلاَ يَقْتَدُونَ بِعَمَلِ وَصِيٍّ،

ص: 188

وَلاَ يُؤْمِنُونَ بِغَيْب، وَلاَ يَعِفُّونَ عَنْ عَيْبٍ، يَعْمَلُونَ فِي الشُّبُهَاتِ، وَ يَسِرُونَ فِي

الشَّهَوَاتِ))(21). فالعملُ في الشّبهات على وفقِ قول الإمامِ عليه السلام هو من الأخطاء التي يرتكبها من يعملُ ذلك، ومن هنا صار لزاماً على القاضي أن يُطيلَ الوقوفَ عند الشبهاتِ قبل أنْ يحكم فيما يعرضُ له منها.

ويبقى من هذه الصّفةِ قولُهُ عليه السلام (وآخذهم بالحُججِ)، وهذا يعني أنّ القاضي يجبُ أن يكون أكثَر النّاسِ أخذاً بالحججِ من المتخاصمَيين، لأنّه يحكمُ على وفقِ ما يتجمّعُ عنده من أدلّةٍ وحججٍ وبراهينَ، من دون أنْ يتعجّلَ في ذلك - کما قيّدته الصّفةُ السابقةُ -. هذا فضلاً عن أنّ الفقهاء ((لديهم قواعد و اصولا شرعية مقررة، وهي كثيرة بكثرة الموارد، منها قاعدة درء الحدود بالشبهات))(22).

عدم التبرّم بمراجعة الخصم:

وهذه الصّفةُ وردت في قول الإمام عليه السلام الآتي: ((وأقلّهم تبرّماً بمراجعةِ الخصمِ))(23).

إنّ وصيّة الإمام عليه السلام هذه تستدعي أنْ يكون القاضيُ صبوراً على الاستماع لحجج الخصوم ومراجعتهم فيما يقولونَ ليأخذ مما يسمعهُ وسائلَ الوقوف على حقيقةِ الأمرِ الذي بين يديه، ولا يبرم، والبرمُ: السأمُ والمللُ والضجُر(24). وما منْ شكٍّ أنّ كثرةَ الاستماع إلى ما يقولهُ الخصومُ تبعثُ في النفسِ شُمأزيزةً وقرفاً وضيقاً، وقد يخضعُ القاضي لهذه المؤثّراتِ فیبرم بما يسمعُ، وهنا قد يتسرّبُ الوهنُ إلى قدرته على انتقاءِ الحكمِ المناسب لهذه القضيةِ أو تلك. فيخرج عن طريقِ الحقِّ الذي يُريدهُ الله تعالى، ويقعُ عقلُه أسيرا لهواه. فلا يُنصف المظلومُ من الظالمِ، وهنا يكون واحداً من القاضيين اللذين يكونا في النارِ في قولِ الإمامِ عليه السلام: ((القضاةُ ثلاثةٌ واحدٌ في الجنّةِ و اثنان في النار: رجل جار متعمّدا

ص: 189

فذلك في النار، و رجل أخطأ في القضاءِ فذلك في النّار، و رجل عمل بالحقّ فذلك في الجنّة))(25).

الصبر على تكشّف الأمور:

قال الإمام عليه السلام عن هذه الصفة: ((وأصبرهم على تكشّف الأمور)). والصبرُ محمودٌ لذاته کما هو معلومٌ عند المسلمين، ولكنّ الإمام عليه السلام خصّ من يُكلّف بالقضاء بهذه الصّفةِ، فكأنّ الصبرَ بوجههِ العامِ ممّا يتحلّى به القاضي في الأصل، فتكونُ هذه الصّفةُ صفّةً إضافيّةً لصبرهِ، لأنّ الأمورَ التي تُعرضُ أمامه لا يتكشّف وجهها الحقيقي جملةً واحدةً في الغالب، وإنّما قد يتكشّفُ رويداً رويداً، بعد أخذٍ وردٍّ ومماحكاتٍ، ثمّ تقليب ذلك كلّه على الوجوه كلّها، وهذا يستدعي صبراً وأناةً ورويّةً وتمهّلاً بغية تخليص الحقِّ من الباطل، ومن هنا تظهرُ لنا أهميةُ الصبرِ المأمورِ به ليكون صفةً ملازمةً لمن يكونُ قاضيا.

وفي هذا المضمونِ نفسِهِ حذّر الإمامُ عليه السلام من تسربِّ المللِ إلى نفسِ القاضي، لأنّ في هذا مُجافاةٌ للصبر، يقول عليه السلام في وصيّةٍ له إلى قاضيه على الأهوازِ: ((وإياك والملالة فإنها من السُّخفِ والنذالةِ))(26). فقلةُ الصبِر تأتي من رقّةِ العقلِ أو ضعفه، وهذا لا يُناسبُ مقام الفصلِ بين الناسِ.

الصرامة عند اتّضاح الحكم:

أشار الإمامُ إلى هذه الصّفةِ بقوله: ((وأصر مهم عند اتّضاح الحكم))(27).

تأتي هذه الصّفةُ بعد أنْ يتبيّن للقاضي كلّ ما يتعلّق بالقضيةِ المبسوطةِ أمامه، أي بعد أنْ يعزمُ على الحكمِ فيها، ولا بأس أنْ نقف على المعاني التي يقدّمها لنا الجذر (صرم) لنقف على دلالة ما يريدُهُ الإمامُ عليه السلام بهذه الصّفةِ.

ص: 190

في لسان العرب(28):

1 - رجلٌ صارمٌ: ماضٍ في كلّ أمرٍ.

2 - رجلٌ صارمٌ: جلْدٌ ماضٍ شُجاعٌ.

3 - الصريمةُ: العزيمةُ على الشيءِ وقطعُ الأمرِ.

4 - الصَّريمةُ: إحْكامُك أَمْراً وعَزْمُكَ عليه.

5 - الصَّرامَةُ: المُسْتَبِدُّ برأْيه المُنْقَطِعُ عن المُشاورة.

6 - الصريمُ: الصبحُ لانقطاعه عن الليلِ.

ومن مزاوجةِ هذه المعاني ببعضها، تتّضحُ لنا هذه الصّفةُ على النحو الآتي:

يجبُ أنْ يكونَ القاضيُ ماضياً في كلِّ أمرٍ يُعرضُ أمامه، جلداً شجاعاً، مستبدّا برأيه (بحكمه)، منقطعاً عن مشاورةِ غيرهِ، لأنّه تثبّتَ من الأمرِ الذي أمامه، حتى بان له كالصبحِ الذي انقطع عن الليلِ، واستناداً إلى هذا يأتي حكمُهُ قاطعاً لا تردّدَ فيه، لأنّ التردّدَ في هذا الموطنِ يُضعفُ قوةَ الحقِّ التي يُريدها القاضي لحكمه.

لقد أعطتنا مفردةُ (الصّرامةِ) في هذه الصّفةِ أُفُقاً معرفيّاً ثرّاً ظهر في المعاني الستّةِ التي أمدّنا بها الاستعمالُ الاجتماعيُّ لها، وهذه المعاني أسبغتْ في الوقتِ نفسه على اللفظةِ حيويّةً وحركيّةً جعلتنا نتنقّلُ خلف المعاني التي تؤديّها من دون أنْ يشكّل ذلك عبئاً علينا، وإنّما منحنا متعةً فنيّةً اقترنتْ بالمتعةِ المعرفيّةِ التي نحنُ بصددها من هذه الصّفةِ التي وضعها الإمامُ عليه السلام للقاضي بين الناسِ.

بقي أنْ نشيرَ إلى أمر تسرّبَ من المعنى الخامس (المستبدّ برأيه المنقطعُ عن

ص: 191

المشاورة)، وهو أنَّ هذا المعنى قد يحملُ في ظاهره صفةً غير مرغوبٍ فيها (الانقطاع عن مشاورة الغير)، وهنا نقول: إنّ الحديثَ عن هذه الصّفةِ لا يأتي منقطعاً عن غيرها من الصفاتِ، وإنّما تكتملُ كلّها بإمساكِ بعضها ببعضٍ، فيكون استبداد القاضي برأيه مُغنياً عن آراء الآخرين بعد أنْ جمع الصفاتِ التي قدّمها الجذر (صرم)، ومن هنا يكونُ الاستبدادُ عدلاً في هذه الجزئيّةِ، ولو أراد القاضي أنْ يُشاورَ غيره لما انتهى إلى حكمٍ بالقضيّة لأن غيره في الغالبِ لا يمتلكُ من الصفاتِ ما يمتلكهُ هو.

وهذا الذي قدّمناهُ بشأنِ دلالةِ هذه المعاني، يكون حاضراً عند القاضي، بعد أنْ يتضحَ له الحكمُ في القضيّةِ، وهنا تكونُ الصرامةُ بالمعاني كلّها هي المستندُ الذي يشدُّ أزر القاضي وهو يحكم بما اتّضح له.

عدم التأثّر بالإطراءٌ أو الإغراء:

وردتْ هذه الصّفةِ في قولِ الإمامِ عليه السلام: ((لا يزدهيه إطراءٌ ولا يستميلهُ إغراء))(29).

نعودُ هنا إلى المعجمِ للوقوف على معاني الصّفةِ (لا يزدهيه إغراء)، ونأخذ أوّلا معاني (یزدهيه)، فيعطينا جذرها (زها) المعاني الآتيةَ(30):

1 - الزَّهْوُ: الكِبْرُ والتِّيهُ والفَخْرُ والعَظَمَةُ.

2 - الزَّهْو: الظُّلْمُ

3 - الزَّهْو: الاسْتِخْفافُ. وزَها فلاناً كلامُك زَهْواً وازْدهاه فازْدَهَى اسْتَخَفَّه

فخفّ. ومنه قولُم فان لا يُزْدَهَى بخَديعَة، وازْدَهَيْت فلاناً أَي تَاوَنْت به، وازْدَهَى فان فلاناً إذا اسْتَخَفَّه، ورجلٌ مُزْدَهٍ: أَخَذَتْه خِفَّةٌ من الزَّهْوِ أَو غیره.

ص: 192

وازْدَهاهُ على الأَمْرِ أَجْبَرَه

4 - زَها الرَّابُ اليءَ يَزْهاهُ رَفَعَه، والسّرابُ يَزْهى القُور والحُمُول كأَنه

يَرْفَعُها.

5 - وزَهَت الريحُ النباتَ تَزْهاهُ: هَزَّتْه غِبَّ النَّدَى، وزَهَتْه: ساقَتْه، والريحُ

تَزْهَى النباتَ إذا هَزَّتْه بعد غِبِّ المَطَر.

أما معنى (الإطراء)، فنقفُ على المعاني الآتية تحت الجذر (طرا):

1 - وأَطْرَى الرجلَ: أَحسَن الثناء عليه.

2 - أَطْرَى فلان فُلاناً: إذا مَدَحَه بما ليس فيه.

3 - وأَطْرَى: إذا زاد في الثناء، والإطراءُ مُاوَزَةُ الحَدِّ في المَدْحِ والكَذِبُ فيه.

ومن موالفةِ معاني الجذرين المذكورين تظهرُ لنا صورةُ الصفّةِ التي أراد الإمام عليه السلام بيانها وهي على النحو الآتي:

إنّ حسنَ الثناءِ أو مجاوزةَ الحدِّ في المديح أو الكذب فيه، لا يصحّ أنْ تؤثّرَ هذه الأقوالُ الثلاثةُ في من يتوخّى الحقَّ، ولا يمكن أنْ يقع تحت تأثيرها، فالمعنى الأوّلَ وإنْ كان صحيحاً، فلا يُخرج القاضي عن توازنه واعتدالهِ. أما المعنيان الثاني والثالثُ، فهما مما لا يُرتضى لما فيهما من الكذب، حتى وإنْ كانا في سبيل المبالغةِ والغلوّ التي يقبلها اللسان العربي في غير هذا الموضع. فإذا قُدّر للقاضي أنْ يُحسنَ الثناءَ عليه أحدٌ، أو يمدحهُ بما ليس فيه كَذِباً، فعليه أنْ يتماسكَ ولا يزدهيه ذلك، ومن زحزحة معاني (زها) إلى هذا الموضع وموالفتها مع ما قلناهُ، نقول: إنّ على القاضي أنْ لا يأخذهُ الكِبْرُ والتِّيهُ والفَخْرُ والعَظَمَةُ بما يسمعُ من الإطراء، ولا يستخفّه ذلك، فيرفعه فيبدو كالأشياء التي يرفعها السرابُ وما هو برافعها بحقًّ،

ص: 193

والسراب في اللغة: الذي يجري على وجه الأرض، يرفعُ الأشياء ويزهاها(31).

بيد أنّ ثمّةَ معنى من المعاني السابقةِ أرجأنا الإشارةَ إليه، وهو معنى (الظلم)، وهذا من أكثرِ المعاني التصاقاً بعملِ القضاةِ، فإذا استخفّ الإطراءُ القاضيَ انحرف إلى مواطنِ الزلل عن سبيلِ الحقِّ ووقع في دائرةِ الظلم التي ترتبطُ بغضبِ الله تعالى.

لقد انتقى الإمام عليه السلام اللفظتينِ السابقتينِ ليُعطينا هذا الحشدَ من المعاني الفرعيةِ التي تجتمعُ مع بعضها لتبرّز الصّفةِ التي أرادها بنمطٍ من التعبيرِ الاخّاذ.

أما قوله عليه السلام (ولا يستميلُهُ إغراء) فهو مرتبطٌ بما أظهرناه فيما مرّ من كلامنا قبل قليل، إذْ أنّ المعاني السابقةِ من (ازدهاء الإطراء للقاضي) قد تستميلُهُ إلى جهتها، وتلتصقُ به بفعلِ الكلام المؤثّر الذي نُظِمتْ فيه، والإغراءُ هنا مأخوذٌ من قولهم: ((غَرِيَ هذا الحديث في صَدْري... يَغْرى... كأَنه أُلْصِقَ بالغِراءِ وغَرِيَ بالشيء يَغْرى غَراً وغَراءً أُولِعَ به))(32)، ومن هنا فإنّ تلك المعاني المشارَ إليها، لا يخضعُ لها القاضي، ولا تستميلهُ، بل تزیده تمسّكا وثباتاً.

وصايا الإمام (عليه السلام) للقضاة:

كان من شأنِ الإمام عليه السلام أنْ يكتب لمن يُرسله قاضياً كتاباً، يحمّله جملةً من الوصايا التي يحتاجها الإنسانُ المسلم عامةً والقاضي خاصّةً لارتباطها بعمله الذي يتصدّى فيه للفصلِ بين المتخاصمين. وهذه الوصايا تتحولُّ إلى صفاتٍ يتزيّن بها القاضي أثناء عمله، فالصفاتُ الأولى التي مرَّ ذكرُها تكون ركيزةً لاختيار القاضي أوّل مرّةٍ، وهذه الوصايا ستصبحُ صفاتٍ بعد يروّضَ

ص: 194

القاضي نفسه عليها. وأغلب هذه الوصايا جاءت في كتابٍ أرسله الإمام عليه السلام إلى رفاعة لما استقضاه على (الأهواز) ومنها:

ترك الطمع:

نهى الإمامُ عليه السلام عن هذه الصفةِ في وصيتهِ لقاضيه المذكور، بقوله: ((ذر المطامع))(33). والطمعُ من الصفات التي كان الإمامُ عليه السلام يحذّرُ منها أصحابَه لما لها من تأثيرٍ على خضوعِ الإنسانِ المسلم لهوى النفس، فما بالُك بالقاضي الذي يتبوأُ مقعداً يفصل فيه بين الحقِّ والباطلِ؟ إذْ لا يمكنُ أنْ يتحقّقَ العدلُ على يديه إذا كان للطمع مكانٌ في نفسه.

وقد بيّن الإمامُ عليه السلام صورة الطمعِ في قولٍ آخرَ له، حينما وصفه بقوله: ((شعب الطمع أربع: الفرح، والمرح، واللجاجة، والتكاثر، فالفرح مكروه عند الله عز وجل، والمرح خيلاء، واللجاجة بلاء لمن اضطرته إلى حبائل الآثام، والتكاثر لهو وشغل واستبدال الذي هو أدنى بالذي هو خير))(34).

ولعلّ أول ما ينبغي الإشارة إليه هو أنّ الإمام عليه السلام يريد بالمطامع هذه المعاني الأربعة التي يجبُ أن يتجنبها الإنسان المسلمُ عامةً والقاضي خاصّةً، وقد بيّن سبب ترك الطمع فيها، فالفرحُ مكروهٌ عند الله تعالى، لأنّه غالباً ما يكون مرتبطاً بشؤون الدنيا. جاء في لسان العرب عن معنى الفرح ما يأتي: الفرحُ هو انشراحُ الصدرِ بلذّةٍ عاجلةٍ، وذلك في اللّذات الدنيويّة(35)، ومن هنا قال الله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» القصص 76، ومن هنا أيضاً تأتي الكراهةُ التي أشار إليها الإمامُ عليه السلام. أما بقيّةُ المعاني التي خصّ الإمامُ عليه السلام ارتباطها بالطمع، فهي كالفرح المشار إليه مما يشغل المسلم بشؤون الدنيا ويُبعدهُ عن التفكرِ بالآخرةِ، وهي الخيلاءُ واللجاجةُ واستبدال الدنيا بالآخرة(36)، فهي

ص: 195

أيضا مما يقدحُ بسيرةِ القاضي، ويُخرجهُ عمّا مطلوبٌ منه التحلّي به على وفقِ هذا الجزءِ من وصيّةِ الإمام للقضاةِ عليه السلام.

بقي أنْ نشيرَ إلى أنّ التكاثَر الذي أشار إليه الإمامُ عليه السلام والّذي يشكّلُ ركنا رئيساً من أركان الطمع، غالباً ما يتجسّدُ في جمعِ الأموال، ولكي يُميتُ الإمامُ عليه السلام هذه الصفةَ في نفوسِ القضاةِ، أمر الولاةَ بالإفساح لهم في العطاء، كما أمر الأشتر النخعي واليه على مصر بذلك بقوله ك((وافسحْ له في البذلِ ما يزيلُ عِلّته))(37)، ليموت أو ينقطعَ داعي الطمعِ من نفسهِ، فيجلس للقضاء بين الناسِ، وهو حاضرُ الذهنِ، ليس في ذهنه شيء يفكّرُ به من شأنِ الثروة والمال، وإنّما يكونُ تفكيرهُ منقطعاً إلى ما بين يديه من حججِ المتخاصمين. واستناداً إلى ما تقدّم، فهذا الضربُ من الطمعِ منهيٌّ عنه، ولا يصحّ من القضاةِ خاصّةً أولاً ولا من غيرهم عامّةً(38)،

مخالفة الهوى:

وهذه الوصيةُ هي قوله عليه السلام ((وخالف الهوى))(39). ومخالفةُ الهوى ركيزةٌ رئيسةٌ من ركائزِ قوامِ الدينِ للمسلمين عامةً، يقولُ الإمامُ عليه السلام في موطنٍ آخرَ عن هذه الصّفةِ: ((نظامُ الدينِ مخالفةُ الهوى))(40). والمسلمُ الثابتُ على دينه يتمسّكُ بمخالفةِ هواهُ لأنّ ذلك كفيلٌ بسيره على منهجِ الحقّ، فإنْ أطاع هواهُ قادهُ إلى مواطنِ الزللِ. أما القاضي فيتحتّمُ عليه مخالفةُ هواه مرتين، مرةً بوصفهِ واحداً من المسلمين ليكون من الثابتين على دينهم، ومرةً لأنّه يقضي بين الناس، وقد يكون هواهُ إلى أحد المتخاصمينَ، وهنا قد يجورُ في حكمه بسببِ اتّباعِ هواه. ونرجّح هنا أنّ مرادَ الإمامِ عليه السلام من وصيّته للقضاةِ بمخالفةِ الهوى يتجسّدُ في هذا الوجه تماما، ولعلّ في حادثةِ تأنيبه لشريح القاضي عندما لم

ص: 196

يساوِ بينه وبين خصمه اليهودي في قضيةِ الدرعِ خير شاهدٍ على ما نرجّحه هنا، لأنّ شريحاً كان هواه مع الإمام عليه السلام، فلم يرض منه الإمام ميله إليه، وعدّ ذلك مثلبةً في قضائه، لأنّ اتّباعَ الهوى يصدُّ عن الحقِّ كما يقولُ عليه السلام في موطنٍ آخرِ(41).

تزيين العلم بالسّمتِ الصالح:

جاءتْ هذه الوصيةُ في قوله عليه السلام: ((وزيّن العلمَ بسمتٍ صالحٍ))(42). إنّ نظرةً أولى على هذا القولِ تُظهرُ لنا أنّ القاضي يمتلكُ علماً كافياً ليفصلَ بوساطته بين المتخاصمين، لذا كانت الوصيّةُ منصبّةً على تزيين العلم الموجود عند القاضي بالسمتِ الصالح، فما المراد بالسمتِ هنا؟. نعود إلى المعجم العربي للاستعانة بِما يُقدّمهُ لنا من معانٍ تتوافقُ مع السياق تحت الجذرِ (سمت)(43) ومن تلك المعاني ما يأتي:

1 - السمتُ: السَّمْتُ حُسْنُ النَّحْو في مَذْهَبِ الدِّينِ.

2 - السمتُ: يقالُ: إِنه لحَسَنُ السَّمْت أَي حَسَنُ القَصْدِ والمَذْهَب في دينه ودنْياه.

3 - السَّمْتُ: اتِّباعُ الحَقِّ والهَدْيِ وحُسْنُ الجِوارِ وقِلةُ الأَذِيَّةِ.

4 - التَّسْمِيتُ: ذِكْرُ الله على الشيءِ وقيل التَسْمِيتُ ذكر الله عز وجل على كل حال.

5 - السَّمْتُ: السَّیْرُ على الطَّريق بالظَّنّ وقيل هو السَّیْرُ بالحَدْس والظن على غير طريق.

يُظهرُ لنا النظرُ في هذه المعاني أنّ القاضيَ حسنُ القصدِ في دينه وما يذهبُ إليه في شؤونِه وفي شؤونِ دنياه، وهذا ما يجعله متّبعاً للحقِّ والهدي، وهذه الصفات تجعلُ العدلَ غرضاً يسعى إلى تحقيقه قبل أنْ يكون قاضياً، فإذا كان قاضياً تمسّك

ص: 197

بهذه الصفاتِ بقوةِ المحبِّ لها.

ولا بأس من الإشارةِ إلى أنّ معنى (حسن الجوار وقلّةَ الأذيّةِ) الوارد في (3)، يُعطينا صفةً اجتماعيّةً يريدها الإنسان المسلمُ لنفسه، لأنّها تُظهرُ امتزاجه

بمجتمعه وائتلافهُ معه فيحصلُ على رضا الله تعالى الذي أوصى بحسن الجوار

وكفّ الأذى(44)، وهذه الصّفةُ تتجىّ فيها الروحُ السمحةُ التي يُريدها الإسلامُ

للمسلمِ، ويتجىّ فيها وجهٌ اجتماعيٌّ مرغوبٌ فيه يحتّمهُ العقلُ. وهاتان الصفتان سيكون عمل القاضي ميداناً آخرَ لتجسيدهما، فقد يحكمُ القاضي بما بمعاقبةِ أحد المتخاصمين، وبوجود هاتين الصفتين ستكون رأفةُ القاضي حاضرةً في هذا الموطن، لأنّ العقوبة فُرضتْ للإصلاحِ.

ويبقى من معاني (السمت) المعنى الرابعُ وهو (السير على الطريق بالظنِّ)، وهذه الخصلةُ تُعين القاضي على كشفِ وجهِ الحقِّ فيما يُعرض أمامه، فكَأَنَّهُ مبصرٌ

لما غَابَ عَنهُ، فيعلم بتقديره وظنّه وحدسه حَتَّى كَأَنَّهُ يرى بعينيه ما بعد عِنْهُ، أو خفي عليه، وهذه الصفةُ تتسقُ تماما مع المقوّمات التي يستندُ إليها القاضي في عمله. وتهيّء له فرصةَ وضع يده على الحكم الذي يُناسبُ القضيّة التي ينظرُ فيها باحثا عن الحقّ.

لقد تبيّن لنا بحقّ دقّة مفردةِ (السمت) التي انتقاها الإمامُ عليه السلام، إذ امتزجتْ دلالتها الاجتماعيةُ مع صفةِ العلمِ التي يتزيّنُ بها القاضي قبل أن يُصبحَ قاضيا، لتتكوّن بذلك شخصيّته التي ستنهضُ بمهمّةِ القضاءِ بين الناسِ. واستناداً على هذا ندرك الآن لماذا عُدّ (السمتُ الصالحُ) جزءا من خمسة وعشرين جزءاً من النبوّةِ(45)

ص: 198

عدم المشاورة في الحكم:

وهذه الوصيّةُ جاءتْ في قوله عليه السلام: ((... ولا تُشاورُ في الفُتيا،

فإنّما المشورةُ في الحربِ ومصالحِ العاجلِ، والدينُ ليس هو بالرأيِّ، إنّما هو

الاتّباع))(46).

أوصى الإماُم هنا قاضيهِ بعدم التشاور مع غیره فيما يتّصل بالأحكامِ التي يفصلُ بها بين المتخاصمين، حتى لا يستند إلى ما جاء في الشريعةِ من تأكيدٍ على التشاورِ والمشورةِ، كما في قوله تعالى: «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» آل عمران 159، وكما استشار رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه في وقعة بدر الكبرى، وفي شأن الأسرى يومئذٍ(47)، وما جاء من ذكرٍ للمشورةَ هنا يخصُّ ضروباً من شؤونِ الحياةِ، ذكر منها الإمامُ عليه السلام المشورةَ في الحربِ، ومصالحَ المسلمين العاجلةَ التي لا تمسُّ ثوابتَ الشريعةِ، فالدين ليس رأياً يقوله المشاوِرُ، إنّما هو اتّباعٌ لما جاء في القرآن الكريم من أحكامٍ، وكذلك ما جاء من سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم التي حفظها أهلُ البيتِ عليه السلام. وما من شيء إلا وله وجود في الكتاب والسنّةِ. يقول الإمامُ جعفرُ بنُ محمّد الصادق عليه السلام حينما سُئل عمّا يقضي به القاضي: ((قال: بالكتاب، قيل: فما لم يكن في الكتاب؟ قال: بالسنة؟، قيل: فما لم يكن في الكتاب ولا في السُّنةِ؟، قال: ليس شيءٌ من دينِ اللهِ إلا وهو في الكتاب والسنة، قد أكمل الله الدين، قال الله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ» الآية. ثم قال عليه السلام: يوفُّقُ اللهُ ويسدّدُ لذلك من يشاءُ من خلقه وليس كما تظنون))(48)

واستنادا إلى هذا فلا مسوّغ للمشاورة في أحكامِ الله تعالى، وإنّما قد تصحُّ المشاورةُ مع أهلِ العقلِ والتجربةِ، من دون أنْ يكون المشاوِرُ خاضعاً في حكمه إلى

ص: 199

آرائهم، يقول الشيخ الطوسي: ((فإنْ اشتبه عليه بعضُ الأحكام ذاكرَ أهلَ العلمِ لينبّهوهُ على دليله، فإذا علم صحته حكم به وإلا فلا))(49). وهذا وإنْ حصل فيحصل في بعض الأحوالِ، لأنّ القاضي يجب أنْ يكون عالماً بما وليّه كما ظهر لنا ذلك في الصفاتِ السابقةِ.

لقد جعل الإمامُ عليه السلام هذه الوصايا سبيلاً خطّه للقضاةِ ليسروا عليه، وستكون المحطّاتُ المشارُ إليها صفاتٍ إضافيّةً للقاضي، إذْ أنّ التمسّكُ بها سيجعلُها من مكوّناتِ شخصيّةِ القاضي، وعندها سيتمثّلها الناسُ ليتحلَّوا بها، لأنّ مرتبةَ القاضي محلّ نظرٍ ومراقبةٍ منهم، بوصفها المرتبةَ التي يحمي صاحبُها حدودَ الشريعةِ ومعالمِ الدينِ.

الاهتمام بأحوال القضاة والنظر في عملهم:

إنَّ المهمّةَ الكبرةَ التي ينهضُ بها القاضي في إقامةِ العدلِ تحتّمُ أن يتهيأ له من مطالب الدنيا الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ ما يُبعدهُ عن النظر إلى ما في أيدي الناس، ومن هنا جاء اهتمامُ الإمامُ عليه السلام بأحوال القضاةِ وأوصى عامله على مصر بمراقبةِ هذا الأمرِ، ليكون ما يوصي به عوناً لهم على حبسِ أنفسهم عن شؤون الدنيا من أجلِ العدل الذي كُلّفوا بإقامته وحمايته. ومن مظاهر اهتمام الإمامِ عليه السلام ووصاياه بهذه القضيّةِ ما نُجملُ القولَ فيه فيما يأتي:

الأمر الأول الذي أشار إليه الإمامُ عليه السلام هو منعه أنْ يكونَ رزقُ القاضي على الناسِ الذين يقضي بينهم، وإنّما جعل عطاءه من بيت المالِ حتى لا يخضع لتأثير أصحابِ المالِ، يقولُ عليه السلام: ((لا بدّ من قاضٍ ومن رزقٍ للقاضي))(50). وهذه الوصيّةُ تُلجمُ من يريد أنْ يقولَ أن عمل القاضي منحصٌر بين متاخصمين، ولا يخصُّ المسلمين كلّهم في الظاهرِ حتى يكون عطاءهُ من بيتِ

ص: 200

المالِ، لأنَّ عملَ القاضي إقامةٌ للعدلِ الذي يريدهُ اللهُ تعالى لعبادهِ، ومن هنا صار

هذا العملُ يخصُّ المسلمين كلّهم.

ويلتفتُ الأمامُ عليه السلام إلى قضيّةٍ أخرى تخصّ عطاءَ القضاةِ وأرزاقهم، فيقول يوصي عامله بذلك: ((وافسحْ له في البذلِ ما يزيلُ علّتَهُ، وتقلُّ معه

حاجتُه إلى الناسِ))(51).

يوجّهُ الإمامُ عليه السام عامله إلى أهميةِ البذلِ للقاضي والتوسعةِ عليه في العطاءِ، حتى يكون عطاؤهُ كافياً لمعيشته من دون أن يحتاجَ إلى شيءٍ قد يخلُّ بحفظِ

منزلتهِ التي هو فيها، فيشغل نفسه بالبحثِ عمّا يسدُّ حاجاته. والملاحظُ أنَّ الإمامَ

عليه السلام، قال (ما يُزيل علّته) ليظهرَ هولَ الانشغال بأمور أخرى غیر القضاء، فالعلةُ في اللغة تعني ما يأتي:

1 - العلّةُ: الحَدَث يَشْغَل صاحبَه عن حاجته، كأَنَّ تلك العِلَّة صارت شُغْلاً ثانياً مَنَعَه عن شُغْله الأَول.

2 - العلّةُ: المرض.

وعلى وفقِ هذه المعاني، تكونُ زيادةُ العطاءِ للقاضي، عوناً له على عدمِ

الانشغالِ بأيّ أمرٍ سوى ما هو فيهِ من القضاءِ بن الناسِ، لأنّ انشغالهُ بتدبیرِ

شؤونِ حياتهِ يكون شُغلاً شاغلاً له يمنعهُ من شغله الأوّل وهو القضاء، وقد

يصلُ إلى حدِّ المرضِ، فيكون علّةً له. وبهذا يخلقُ لنا المعنى اللغويُّ ل(العلّة)

فضاءً دلاليّاً أراد الإمامُ عليه السلام من خلاله أنْ يبعدَ القاضي عن كلّ ما من

شأنه التأثر على قدرته عى الفصلِ بن الحقّ والباطلِ.

وإذا تحقّقَ هذا الذي أوصى به الإمامُ عليه السلام، يتحقّق الجزء الثاني من

ص: 201

قوله عليه السلام، وهو قلّةُ حاجةِ القاضي إلى الناسِ، مما يُبعدهُ عن الخضوعِ لتأثيرِ الحاجةِ المشارِ إليها، فلا يعبأ بعد هذا بما يمكن أن يميلَ بهِ عن سبيلِ الحقِّ الذي ينشده.

ويُضيفُ الإمامُ عليه السلام أمراً آخرَ يمتن به منزلة القاضي بقوله: ((وأعطهِ من المنزلةِ لديك ما لا يطمعُ فيه غیرهُ من خاصّتك))(52).

يُذكّرُ الإمامُ عليه السلام من خلالِ هذا القولِ بقضيّةٍ اجتماعيّةٍ لها قدرٌ من

الاعتبارِ في ذلك العصرِ، وهي القربُ من ذوي السلطانِ، ويُوصي بوجوبِ إعطاءِ

القاضي منزلة يتفرّدُ بها، لا تُدانيها منزلةٌ لأيٍّ من خاصةِ الوالي، ليأمن على نفسه

من وشايةِ الخاصّةِ به، ويكون مهاباً منهم، وعندها تهابه العامةُ فلا يجرؤ أحدٌ

عليه، خشيةً من سلطةِ الوالي الذي خصّه بهذه المنزلةِ.

ولا بأس من الإشارة إلى أنّ الإمامَ عليه السلام، أراد أنْ يُبشّعَ صورةَ الوشاةِ الذين قد تحملُهم الخشيةُ على قربهم من السلطانِ، على تقبيح صورةِ القاضي عنده، فعبّر عن فعلهم هذا بالاغتيالِ (ليأمن بذلك اغتيال الرجالِ له عندك)، فما الذي تؤدّيهُ لفظةُ (الاغتيال)؟. إنّ العودةَ إلى جذرِ اللفظةِ في المعجمِ يضعُ أمامنا المعاني الآتية(53):

1 - غالهُ الشيءُ غولاً واغتاله: أهلكه وأخذهُ من حيثُ لم يدرِ.

2 - غاله يغوله: إذا اغتاله، وكلُّ ما أهلك الإنسانُ فهو غول.

3 - الغولُ: كلُّ شيءٍ ذهب بالعقلِ.

4 - أتى غولاً غائلةً: أي أمراً منكراً داهياً.

5 - التغوّلُ: التلوّنُ.

ص: 202

إنَّ هذه الحمولةَ من المعاني التي أعطانا إيّاها الجذر (غول)، تُظهر بشاعةَ ما يمكن أنْ يقومَ به خاصّة السلطانِ إذا ما أرادوا تبشيعَ صورةِ القاضي، فهم يمكنُ أنْ يهلكوهُ دون أنْ يدري بما يفعلون على وفقِ المعاني رقم (1) و(2)، والإهلاك هنا يعني فقدان القاضي للمرتبة التي يتبوأُ عليها، وهذا الفقدانُ يكونُ بمنزلةِ الداهية التي تُهلكهُ على وفقِ المعنى رقم(4).

ويبقى من المعاني السابقةِ المعنى رقم (3)، الذي يشيرُ إلى ذهابِ العقلِ، وذهابُ العقلِ هنا قد يومئ إلى أنّ تغوّلَ الخاصّةِ على القاضي قد يدفعهُ إلى فقدان عقله مجازاً، لأنّه سيلجأ إلى مدافعةِ هؤلاء، وهذا ما سيُجبرهُ على الخروجِ عن السّمتِ الصالحِ الذي مرّ ذكرهُ وهو يحاولُ ردَّ كيدَ الخصوم، وبهذا يتحقّقُ اغتياله.

ومن هنا تظهرُ لنا الحمولةُ الضخمةُ من المعاني التي أراد الإمامُ عليه السلام إبرازها، وهي معانٍ تتناغم مع السياق تماماً، وتؤدي ما لا تؤدّيه عباراتٌ طويلةٌ عند غيرِ الإمام عليه السلام، على وفقِ الرؤيةِ التأويليّةِ التي نظرنا من خلالها إلى النّصِّ.

واستناداً إلى ما تقدّم وعندما تجتمعُ للقاضي دكّةُ القضاءِ مع القرب المشارِ إليه من صاحب السلطان، يكون قد تحقّقَ له من المنزلة ما لا تكون لأحدٍ غيره، وبذا تستقرُّ نفسُهُ، ولا يبحثُ عن أيِّ أمرٍ آخرَ فيشغله عن التدبّر في خصوماتِ الناسِ، ولعلّ ما تتحقّقَ له من منزلةٍ يُغريهِ ببذلِ كلّ مجهودهِ من أجلِ أنْ لا يشوب عملَه ما يكدّرهُ، فيفقد ما هو فيه من مرتبةٍ اجتماعيّةٍ، كان عملُهُ بالقضاءِ سبباً للحصولِ عليها.

ولأهميّةِ الأمورِ التي ذكرها الإمامُ عليه السلام في قوله السابقِ، شدّدَ على النظرِ فيها ومراقبتها، فقال لعامله: ((فانظرْ في ذلك نظراً بليغاً، فإنَّ هذا الدينَ

ص: 203

كان أسيراً في أيدي الأشرارِ يُعملُ فيهِ بالهوى، وتُطلبُ به الدنيا))(54).

يطلبُ الإمامُ عليه السلام هنا أنُ تُراقبَ الأمورُ التي ذكرها مراقبةً بليغةً، ويبذلُ الوالي جهدهُ في ذلك، لأنّ الناسَ اعتادتْ على نمطٍ من القضاءِ قبل تولّيه أمور المسلمين، يقوم على الهوى وتحقيقِ المصالحِ، لأنّ الدينَ من قبل كان أسيراً بيد الأشرار، ولا يخفى ما في الجزء من قوله عليه السلام من ألمٍ على ما كان عليه القضاءُ في السنين السابقةِ لحكمه عليه السلام، فالقضاء هو وجهُ تطبيقِ الدينِ على الأرضِ، ولما كان القضاةُ أشراراً والدينُ أسيرا بأيديهم، عزفوا عن جهةِ العدلِ وجعلوا الدنيا أكبرَ همّهم. يقولُ ابنُ أبي الحديد المعتزلي معلّقاً على قولِ الإمامِ عليه السلام هذا: ((هذه إشارةٌ إلى قضاةِ عثمان وحكّامهُ، وأنّهم لم يكونوا يقضون بالحقِّ عنده بل بالهوى لطلبِ الدنيا))(55). وقد ذكر الإمامُ عليه السلام هذه الحالة التي يواجهُها هو عليه السلام وقضاتُه بقولٍ آخرِ أكثر بياناً لما يُواجههُ عليه السلام بسبب فعلِ من سبقه حيث يقول: ((قد عملتِ الولاةُ قبلي أعمالا خالفوا فيها رسول الله صلى الله عليه وآله متعمدين لخلافه، ناقضين لعهدهِ، مغيرين لسنته، ولو حملتُ الناسَ على تركها وحوّلتُها إلى مواضعها وإلى ما كانت في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتفرّقَ عني جندي حتى أبقى وحدي أو قليلٌ من شيعتي الذين عرفوا فضلي، وفرضَ إمامتي من كتابِ الله عزّ وجلّ، وسنةَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وآله))(56)، ومن هنا تتضحُ لنا الحالُ التي كانَ الإمامُ عليه السلام يعملُ على إصلاحها من خلال الاهتمام بالقضاةِ وشؤونهم.

وعلى الرغم من تشديدِ الإمام عليه السلام على اختيارِ القضاة على وفق ما رأينا، فإنّه لم يتركْ ألأمرَ عند هذا الحدِّ، وإنّما شدّد على عاملهِ بمراقبة قضاء

ص: 204

القضاةِ بقوله: ((ثم أكثر تعاهد قضائه))(57)، والمراد ب(تعاهد) هنا: إحداث العهد بما يقضي به القاضي بين الناس، وهذا التعاهدُ وهذه المراقبةُ لعملِ القاضي، تدفعهُ إلى توخّي الدقّةَ فيما يُصدرُ من أحكامٍ، والتدبّر فيما الخصوماتِ، والتأنيّ في قبول الأقوال، ليصلَ إلى حكمٍ لا يُلامُ عليه، وربّما قد تلين شدّتُه لو شعر بقلّةِ التعاهدّ لعمله من واليه.

اختلاف القضاة في الأحكامِ:

تُعدُّ هذه القضيّةُ من القضايا الكبرى التي أولاها الإمام عليه السلام اهتماما كبيراً، لأنّها تتّصلُ بإقامة العدلِ والتفريقِ بين الحقِّ والباطلِ، وفي هذا حياةٌ للمسلمين والإسلامُ على السواءِ، والاختلاف في الفُتيا بين القضاةِ ينمُّ عن اختلاطِ الحقِّ بالباطلِ عندهم، ومن هنا يكونون غيرَ قادرين على الفصل بين الناسِ في خصوماتهم، ولذا شدّد عليه السلام على ذلك وهو يصفُ ما آلَ إليه أمرُ القضاةِ في الحقبِ السابقةِ -- كما مرّ بنا بعضٌ منه في موضعٍ سابقٍ. يقولُ عليه السلام: ((تردُ على أحدهم القضيةُ في حكمٍ من الأحكامِ فيحكم فيها برأيهِ، ثم تردُ تلك القضيّةُ بعينه-ا ع-لى غيره فيحكم فيها بخلافه))(58).

يشيرُ الإمام عليه السلام هنا إلى أنَّ الاختلافَ في الأحكامِ في القضيّةِ الواحدةِ نابعٌ من الحكمِ بالرأي، والاختلاف هنا هو التضاد بعينه، لأنّ القاضي الثاني يحكمُ في القضيةِ نفسها بخلاف ما حكم القاضي الأوّل، فلم يكن الاختلافُ في الحكمِ جزئيّاً حتى يُسوّغَ. وهذا الاختلاف المطلقُ آتٍ من الحكم بالرأي، وهو أمرٌ منهيٌّ عنه، فقد ورد عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أنه قال: ((نهى النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم عن الحكمِ بالرأي والقياس))(59)، لأنّ الحكمَ ينبغي أن يوضعَ على ما في كتابِ اللهِ وسنّةِ نبيّهِ حتى يتحققَ العدلُ

ص: 205

الذي أمر اللهُ تعالى به في قوله: «وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» النساء 58. ومن هنا قال الإمام عليه السلام في موطنٍ آخرَ عن وقوع الاختلاف: ((فإن ذلك ضياعٌ للعدلِ وعورةٌ في الدينِ وسببٌ للفُرقة، وإنّما تختلفُ القضاةُ لاكتفاءِ كلِّ امرئ منهم برأيه دون الإمام))(60).

واستناداً إلى ما تقدّم صار أمراً لازماً عودةُ القاضيين المختلفين في الحكمِ في القضيّةِ الواحدةِ إلى الإمام الّي استقضاهم، يقولُ عليه السلام: ((... ثمّ يجتمعُ القضاةُ بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيُصوّب آراءهم جميعاً، وإلههم واحدٌ ونبيّهم واحدٌ وكتابهم واحدٌ))(61).

إنَّ الاختلاف في الأحكامِ بين القضاةِ في القضيّةِ الواحدةِ يُنذرُ ببُعدهم عمّا يأمرُ به الله تعالى، فإذا وقع الاختلافُ واجتمع القضاةُ المختلفون عند من استقضاهم، صوّبَ آراءهم جميعاً، وهذا يعني أنّهم قضوا بخلافِ ما أمر به اللهُ تعالى، على الرغمِ من أنّ مصادرَ التشريعِ التي يستقون منها أحكامَهم واحدةٌ، فالإلهُ واحدٌ والنبيُّ واحدٌ والكتابُ واحدٌ، وليس ثمّة ما يقود إلى الاختلافِ المذكورِ إلا الحكمُ بالرأي.

ثمّ يُظهرُ الإمامُ عليه السلام بشاعةَ ما يحكمُ به القضاة بسيلٍ من الاستفهامات الإنكاريةِ التي التي لا تدعُ حجّةً بيد من يريدُ أنْ يحتجّ لاختلافِ الفُتيا، يقولُ عليه السلام متمّاً قوله السابقَ: ((أفأمرهم الله تعالى بالاختلاف فأطاعوه. أم نهاهم عنه فعصَوه. أم أنزلَ اللهُ دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه. أم كانوا شركاء له. فلهم أن يقولوا وعليه أن يرضى أم أنزل الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول صلى الله عليه وآله عن تبليغه وأدائه))(62).

ص: 206

إنّ استعمال الإمام عليهم السلام للاستفهام الإنكاري(43) على هذا النحوِ المتتابعِ، يضعُ أمامنا مقتَه الشّديدَ عمّا يقوم به القضاة من الفصل بين الناسِ بآرائهم من دون أن يلتفتوا إلى ما يأمر به اللهُ تعالى من الاحتكامِ إلى القرآنِ والسنّةِ کما أشرنا، يضعُ ذلك أمامنا من قدرةِ الاستفهامِ الإنكاري على الجمعِ بين الإنكارِ للفعلِ والتعجّبِ منه والنهيِّ عنه والتوبيخ للقائمين به، وهذا الضربُ من الاستفهام لا يحتاجُ إلى جواب، لأنّه لم يقعْ ولا يقع في المستقبلِ، لأنّه جاء مُخالفاً لما ينبغي على القضاةِ القيام به. ولذا استعمله الإمامُ عليهم السلام بهذا التكرار ليلفتَ نظر المتلقّي إلى هولِ خطأ الفعلِ الذي وقعَ القضاة فيه.

وثمّة رأيٌ للعلامةِ المجلسي في هذا الاختلافِ الذي نحنُ بصدده، يظهرُ فيه بشاعةَ هذا الأمرِ وخطورتَه على العقيدةِ والدينِ، وخدشَهُ للعدلِ الذي يُريدهُ اللهُ

تعالى سيادتهُ بن العباد، يقولُ: ((فإنّ هذا إنّما يكونُ إما بإلهٍ آخر بعثهم أنبياءَ وأمرهم بعدمِ الرجوعِ إلى هذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم المبعوث وأوصيائه، أو بأنْ يكون اللهُ شرك بينهم و بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في النبوّة، أو بأنْ لا يكون اللهُ عزّ وجّل بيّن لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم جميعَ ما تحتاج إليه الأمةُ، أو بأنْ بيّنهُ له لكن النبيَّ قصر في تبليغِ ذلك ولم يتركْ بين الأمّةِ أحداً يعلم جميع ذلك، وقد أشار عليه السلام إلى بطلان جميع تلك الصور))(64).

ثمّ يتمُّ الإمام عليهم السلام قوله السابق، فيقول: ((والله سبحانه يقول: «مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ» الأنعام 38، فيه تبيانُ كلِّ شئ، وذكر أنّ الكتابَ يُصدّقُ بعضه بعضا وأنّه لا اختلافَ فيه، فقال سبحانه: «وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا» النساء 82. وإنّ القرآنَ ظاهرُه أنيقٌ. وباطنُه عميقٌ. لا تفنى عجائبُهُ ولا تنقضي غرائبُهُ ولا تُكشفُ الظلماتُ إلا به))(65).

ص: 207

يُجيبُ الإمام عليهم السلام هنا مؤنّباً القضاة الذين اختلفوا في الأحكامِ، بثوابت عقديّةٍ يعلمها المسلمون جميعاً، فيذكر عليهم السلام أنّ القرآن فيه تبيان لكلّ شيء، بمعنى أنّ كلّ ما يحتاج إليه الإنسان المسلمُ في حياته موجودٌ في القرآن، فالله تعالى يريدُ للإنسانِ أن يصل إلى حدِّ التكاملِ والرقيّ، والمقصودُ ب (كلّ شيء) كلّ ما يصلُ بالإنسان إلى التكاملِ، فهو دعوةٌ لبناء الإنسان(66)، والقاضي في مقدمةُ من يستحقَّ البناء على وفقِ الرؤيةِ القرآنيةِ لأن تطبيق العدلِ الذي يريدهُ اللهُ تعالى لعباده منوطٌ به. وكلّ ما يحتاجُ إليهِ للتفريقِ بين الحقِّ والباطلِ في خصوماتِ الناسِ موجودٌ في القرآنِ.

ثم يذكرُ الإمامُ أنّ القرآنَ يُفسّرُ بعضُهُ بعضاً، فالقضيّةُ التي لا يوجد لها بيانٌ في الآيةِ القريبةِ منها، تجدُ لها بياناً في آيةٍ أخرى، وهذه القاعدةُ المعرفيّةُ تيسّرُ للقاضي الفصلَ في الخصومات بين الناس من دون اختلاف، وما يقعُ بين الفقهاءِ من اختلافٍ في الأحكامِ هو من عند أنفسهم، وليس من القرآن.

وقد يُقال أنّ بعضَ القضايا التي ينظرُ فيها القضاةُ قد لا يعرفون لها حلًّا من القرآن، وهنا نقولُ: إنّ الله تعالى جعل السنّةَ النبويةَ الركن الثاني الذي يستندُ إليه العبادُ في شؤونِ دينهم ودنياهم، وهي محفوظة عند أهلِ البيتِ، واللهُ تعالى أمر بالعودةِ إليهم فيما لا يعرفهُ المسلمُ فقال - جلّ شأنه -: «فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ» النحل 43، وأهل الذكر في الآية هم أهل البيت عليهم السلام، فقد ورد عن أبي عبد الله عليهم السلام: ((الكتاب الذكر و أهله آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، أمر الله عز و جلّ بسؤالهم و لم يأمر بسؤال الجهال))(67).

ويبقى من قول الإمام عليهم السلام السابق (. وإنّ القرآنَ ظاهرُه أنيقٌ. وباطنُه عميقٌ. لا تفنى عجائبُهُ ولا تنقي غرائبُهُ ولا تُكشفُ الظلاتُ إلا به)،

ص: 208

وهذا القولُ متصلٌ باختلاف القضاةِ في الأحكامِ، فكيف نتأوّل ما يريدهُ الإمامُ عليهم السلام؟.

إنّ الإجابة هنا تقتضي الوقوفَ على معاني (الأنيق) الواردة في النصّ، ومن لسان العرب نستجلب المعاني الآتية التي تتلائم مع السياق(68).

1 - الأنقُ: الإعجابُ بالشيء، وإنّهُ لأنيقٌ مؤنِقٌ: لكل شيء أعجبك حسنهُ.

2 - أنقتُ الشيء: أحببته.

3 - المنظر الأنيق: إذا كان حسناً معجباً.

إنَّ المعنى العام الذي يجمعُ هذه المعاني هو: الإعجابُ بالشيء ومحبّته لحسنه وجماله، وبمقاربةِ هذه الصفاتِ لقول الإمامِ عليهم السلام، يكون ظاهرُ القرآنٍ حسناً جميلاً معجِباً، يُستلذُّ بقراءته، ويُتمتّعُ بمحاسنه، وهذا كلّه يكونُ سبباً للتدبّر في باطنه العميقِ، لكي يُستنبطَ منه ما يُحتاجُ إليه. ويجبُ أنْ لا يقع اختلافٌ فيما يُستنبطُ من القرآن، ويكون الحكمُ في الواقعةِ الواحدةِ واحداً، فإنْ وقع الاختلافُ فهذا من القضاة وليس من القرآنِ،

واستناداً إلى ما تقدّم فلا يمكن أن يصح وقوع الاختلافِ بين القضاةِ في الأحكامِ، لأنّ الله تعالى شاء أنْ ينظّمَ حياةَ الناسِ، بما يكفلُ لهم العيشَ بسلامٍ وأمانٍ، فإذا اختلفتْ الأحكامُ، وقع الناسُ في دائرةِ الفوضى. وهذا ما لا يصحّ أنْ يقعَ في المجتمع الإسلامي كما بينّةُ الإمامُ عليهم السلام في قوله السابق(69).

ويصفُ الإمامُ هذا الضربَ من القضاةِ الذي يجهلون ما يأمر به الله تعالى، فيصف من يكون من هؤلاء بقوله: ((جلس بين الناسِ قاضيا ضامنا لتخليصِ ما التبس على غيره، إن خالف من سبقه، لم يأمنْ منْ نقضِ حكمهِ من يأتي

ص: 209

من بعده، كفعله بمن كان قبله، وإنْ نزل به إحدى المبهماتِ، هيأ لها حشوا رثّا من رأيهِ، ثم قطع به، فهو من لبس الشبهات في مثل نسج العنكبوت لايدري أصاب أم أخطأ، إنْ أصاب خافَ أن يكونَ قد أخطأ، و إن أخطأ رجا أن يكون قد أصاب، جاهل خباط جهلات، غاش ركاب عشوات، لم يعض على العلم بضرس قاطع))(70).

وعلى الرغمِ من طولِ هذا النصّ الذي اقتبسناه من الإمام عليهم السلام، فإنّهُ يتضمّن تبشيعاً لصورةِ من يقضي برأيهِ أو يردّ رأيَ قاضٍ قبله بالرأي نفسه، ويُلاحظُ انتقاء الإمامِ عليهم السلام ل(حشوا رثاً من رأيه) للدلالةِ على أنْ لا فائدة مرجوّة ممن يقضي برأيه، بل سيكونُ جاهلاً من الذين لم يعضّوا على العلم بضرسٍ قاطعٍ، وهو يجلسُ بين الناسِ للقضاءِ بينهم.

ص: 210

كلمة في ختام البحث

يمكننا الآن أنْ نُجملَ النتائج الكبرى التي خلص إليها البحث، أما النتائج الأخرى فقد تكفّلت صفحاتُ البحثِ بالكشف عنها، وفيما يأتي أهم تللك النتائج:

1 - وضع الإمامُ عليهم السلام أولاً الأُسس التي يجب أنْ يُستندَ إليها في اختيارِ القضاۃِ، وقد ترسّختْ تلك الصفاةُ في النفوسِ حتى صارتْ صفاتٍ للقضاۃِ، وهي - كما أرادها - عليهم السلام صالحة للأزمانِ كلّها، بل بل تزدادُ الحاجةُ إليها كلّما مرّ الزمانُ، لأنّها تشكّلُ الركائز التي يُستندُ إليها في تطبيقِ العدلِ الذي يُريدهُ الله تعالى لعباده.

2 - تجلّتْ في بسط صفاةِ القضاۃِ الدقّةُ المعهودةُ في انتقاء الإمام عليهم السلام للمفردات التي يُعبّرُ بها عن الصّفةِ، فلم تُذكرْ صفةٌ وإلا وقيّدها الإمامُ بقیدٍ لغويٍّ يدفعُ الإنسانَ المسلمَ قبل القاضي إلى التفكير بالاقترابِ منها، إنٍ كانتْ حسنةً، والابتعادِ عنها، إنْ كانتْ سيّئةٍ.

3 - إنّ ما ذكرهُ الإمام عليهم السلام من صفاتٍ، منها ما قد يصحُّ أنْ يكون مشتركاً بين القضاۃِ وغيرهم، ومنا ما هو خاصٌّ بالقضاۃِ دون سواهم من الناس، لأنّها من وسائل القاضي في التفريقِ بين الحقِّ والباطلِ عند المتخاصمين.

4 - أوصى الإمامُ عليهم السلام القضاةَ بوصايا، ألزمهم التمسّكَ بها، وهي ستتحوّلُ إلى صفاتٍ بعد أنْ يُروّضَ القاضي عليها نفسُهُ وهو يتصدّى لفضّ المنازعاتِ بين المسلمين.

5 - سعى الإمام عليهم السلام إلى تحصين القضاۃِ من كلّ ما يمكنُ أنْ يؤثّر على

ص: 211

سيرهم في طريق العدل الذي يُريده الله تعالى لعباده وطبقة في دولته، فأمر الولاةَ بالاهتمام بمكانتهم الاجتماعية، ومراقبة شؤونِ عيشهم، حتى لا يشغلهم شيءٌ من أمر الدنيا عن التمعّن والتدقيق فيما يُعرضُ عليهم من شؤون المتخاصمين.

6 - اهتمّ الإمامُ عليهم السلام بمراقبةِ قضاءِ القضاةِ بنفسه، وأمر الولاةَ والعمالَ بذلك، حتى يضمن سلامةِ احقاقِ الحقِّ، وإبطال الباطلِ، ولئلا يشعر القاضي بالأمنِ المطلق، وهنا قد يقعُ تحت تأثير ذلك فيُصابُ بضربٍ من الفتور الذي قد يؤثّرُ على قضائهِ.

هوامش البحث:

1. نهج البلاغة 3 / 94.

2. القضاء في الفقه الإسلامي 67.

3. البلاغة 3 / 94.

4. ينظر: لسان العرب (ضيق).

5. ينظر: م. ن (محك).

6. نهج البلاغة 3 / 94.

7. ينظر: لسان العرب (زلل).

8. ينظر: لسان العرب (زلل).

9. سنن الترمذي 4 / 70، کنز العمّال 4 / 215.

10. نهج البلاغة 3 / 94.

11. ينظر: لسان العرب (حصر).

12. ينظر: لسان العرب (حصر).

13. نهج البلاغة 3 / 94.

14. الكافي 2 / 320.

15. م . ن.

16. ينظر: دراسات في نهج البلاغة 63.

ص: 212

17. شرح نهج البلاغة 17 / 59.

18. نهج البلاغة 3 / 94.

19. في ظلال نهج البلاغة 1 / 161.

20. كلمة (أوقفهم) هنا تعود على الرعية التي مرّ ذكرها في بداية البحث.

21. نهج البلاغة 1 / 156. ونشيرُ هنا إلى أنّ الشيخ التُستري ربط بين قول الإمام عليه السلام وبين (المتشابهات) الواردة في قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» آل عمران 7. ينظر: نهج الصباغة في شرح نهج البلاغة 19 / 144.

22. في ظلال نهج البلاغة

23. نهج البلاغة 3 / 94. وأقلّهم يعني: أقلّ الرعيّة.

24. ينظر: لسان العرب (برم).

25. دعائم الاسلام 2 / 531.

26. م ن: 2 / 534.

27. نهج البلاغة 3 / 94.

28. يُنظر: لسان العرب (صرم).

29. نهج البلاغة 3/ 94.

30. ينظر: لسان العرب (زها).

31. ينظر: نهج البلاغة (سرب).

32. لسان العرب ( غرا).

33. دعائم الإسلام 2 / 534.

34. کتاب سلیم بن قیس 473.

35. ينظر: تاج العروس (فرح).

36. في هذا إشارة إلى قوله تعالى مخاطباً بني إسرائيل: «وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ

ص: 213

ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ» البقرة 61.

37. نهج البلاغة 3 / 95.

38. ثمة ضربٌ ممدوح من الطمع، وهو الطمع في رضا الله تعالى، والطمع في دخول الجنّةِ وغيره.

ينظر تفصيل ذلك في: میزان الحكمة 2 / 2422،

39. دعائم الإسلام 2 / 534.

40. مستدرك الوسائل 12 / 116.

41. شرح نهج البلاغة 16 / 296.

42. دعائم الإسلام 2 / 536.

43. ينظر: لسان العرب (سمت).

44. جاء في الحديث الشريف عن المؤمن: (( .... وعزّهُ كفّ الأذى عن الناس))، ينظر: الخصال 1 / 7. وجاء في حدیثٍ أخرَ عن حسن الجوار: ((ليس من المؤمنين من لم يأمنُ جارهُ بوائقهُ)).

ينظر: الكافي 1 / 9، والأحاديث كثيرة في هاتين الصفتين.

45. ينظر: مجمع البحرین 2 / 413.

46. دعائم الإسلام 5 / 37.

47. ينظر: إمتاع الأسماع 1 / 97.

48. دعائم الإسلام 2 / 530.

49. المبسوط 8 / 99.

50. دعائم الإسلام 2 / 538.

51. نهج البلاغة 3 / 95.

52. نهج البلاغة 3 / 95.

53. ينظر: لسان العرب (غول).

54. نهج البلاغة 3 / 95.

55. شرح نهج البلاغة 17 / 59.

56. الكافي 8 / 83.

57. نهج البلاغة 3 / 95.

58. م، ن: 1 / 53.

59. مستدرك الوسائل 17 / 254.

ص: 214

60. دعائمُ الإسلام 1 / 360.

61. نهج البلاغة 1 / 54.

62. نهج البلاغة 3 / 55.

63. ينظر: أوضح المسالك 2 / 60، شرح الأشموني 2 / 149، شرح التصريح 1 / 348، همع الهوامع 3 / 250.

64. بحار الأنوار 2 / 284.

65. نهج البلاغة 3 / 55.

66. ينظر: الأمثل 8 / 292. رسائل المرتضی 2 / 220.

67. الكافي: 1 / 295، ويُنظر: الميزان: 12 / 147.

68. ينظر: لسان العرب (أنق).

69. ينظر تفصيل أكثر عن هذه القضيّةِ في: شرح نهج البلاغة 1 / 288.

70. بحار الأنوار 2 / 285.

ص: 215

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. إمتاع الأسماع بما للنبي من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، المقريزي (أحمد بن علي بن عبد القادر، أبو العباس الحسيني ت 845 ه)، تحقیق محمد عبد الحميد النميسي، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 1420 ه - 1999 م.

2. الأمثل (الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل)، ناصر مکارم الشيرازي، نشر مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ط 1، التصحيح الثالث 1426 ه.

3. أوضح المسالك إلى ألفية إبن مالك - ابن هشام (أبو محمد عبدالله جمال الدين بن يوسف بن أحمد بن عبدالله بن هشام الأنصاري)، دار الجيل - بيروت، الطبعة الخامسة، 1979 م.

4. بحار الأنوار، الشيخ المجلسي (ت 1111 ه)، مؤسسة الوفاء، بيروت، لبنان، ط 2، 1403 ه - 1983 م.

5. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، التستري (محمد تقي كاظم محمد علي جعفر التستري ت 1420 ه)، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، ط 1، 2011 م.

6. تاج العروس من جواهر القاموس، الزبيدي (محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني، أبو الفيض الملقب بمرتضى الزبيدي ت 1205 ه)، تحقيق: مجموعة من المحققين، دار الهداية، د. ط، د.ت.

ص: 216

7. الخصال، الشيخ الصدوق (أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن بابویه القميت 381 ه)، صححه وعلق عليه: علي أكبر الغفاري، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم المقدسة، د. ط ، د.ت.

8. دراسات في نهج البلاغة، الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الدار الاسلامية للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، لبنان ط 3 1981.

9. دعائم الإسلام ، النعمان المغربي (القاضي أبو حنيفة النعمان بن محمد التميمي المغربي ت 363 ه)، تحقيق: اصف بن علي اصغر فيضي، منشورات: دار المعارف. مصر.

10. رسائل المرتضى رسائل المرتضى، الشريف المرتضى (ت 436 ه)، تحقيق السيد مهدي رجائي، دار القرآن، 1405 ه.

11. سنن الترمذي، الترمذي (محمد بن عیسی بن سَوْرة بن موسی بن الضحاك)، تحقیق: أحمد محمد شاكر وآخرون، دار إحياء التراث العربي، بیروت، د. ط، د.ت.

12. شرح الأشموني على ألفية ابن مالك، الأشموني (علي بن محمد بن عیسی ت 900 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1، 1419 ه - 1998 م.

13. شرح التصريح على التوضيح، زين الدين المصري (خالد بن عبد الله بن أبي بكر بن محمد الجرجاوي الأزهري ت 905 ه، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 14212 ه - 2000 م.

14. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد (ت 656 ه)، تحقيق محمد أبو الفضل ابراهيم، منشورات مكتبة آية الله العظمی المرعشي النجفي، دار احیاء الكتب

ص: 217

العربية.

15. في ظلال نهج البلاغة محاولة لفهم جديد - الشيخ محمد جواد مغنية. دار العلم للملايين. بيروت - لبنان.

16. القضاء في الفقه الإسلامي، السيد كاظم الحائري، مجمع الفكر الإسلامي، ط 1، 1415 ه.

17. الكافي، الشيخ الكليني (ت 329 ه)، تحقيق علي أكبر غفاري، مطبعة حيدري، دار الكتب الإسلامي - آخوندي، ط 3، 1388 ه.

18. کتاب سليم بن قيس الهلالي، تحقيق: محمد باقر الأنصاري، منشورات: الهادي، ط 1، قم المقدّسة.

19. كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، علاء الدين بن حسام الدين (ت 975 ه)، تحقيق بكري حياني وصفوة السقا، مؤسسة الرسالة، ط 5، 1401 ه - 1981 م.

20. لسان العرب، لابن منظور (محمد بن مكم بن علي، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظورت 711 ه)، دار صادر، بيروت، ط 3، 1414 ه.

21. المبسوط ، السرخسي (شمس الدين أبو بكر بن محمد بن أبي سهل)، دراسة وتحقيق: خليل محيي الدين الميس، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، ط 1، 1421 ه - 2000 م.

22. مجمع البحرين ومطلع النيّرين، الطريحي (فخر الدين الطريحي ت 1087 ه) تحقيق: سيد احمد الحسيني الناشر: المكتبة المرتضوية لإحياء الآثار الجعفرية.

ص: 218

النوري الطبرسي ت 1320 ه)، تحقيق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، مطبعة سعید، قم، إيران.

24. میزان الحکمة، محمد الريشهري، تحقيق وطباعة ونشر: دار الحديث، ط 1، د.ت.

25. الميزان في تفسير القرآن، للعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي (ت 1402 ه)، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، ایران.

26. نهج البلاغة، الإمام علي بن أبي طالب - عليه السلام -، جمع الشريف الرضي، تحقيق الشيخ محمد عبدة، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت - لبنان.

27. همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، لجلال الدين السيوطي (ت 911 ه)، تحقيق عبد الحميد هنداوي ، المكتبة التوفيقية، مصر.

ص: 219

ص: 220

نظام الترابط الحجاجي في خطاب الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

د. حامد بدرعبد الحسين م. م.حسن رحیم حنون

كلية الدراسات القرآنية / جامعة بابل

ص: 221

ص: 222

المقدمة (مدخل نظري لروابط الحجاج)

الحجاج نظرية لسانية تهتم بالوسائل، والإمكانات اللغوية التي تمدنا بها اللغات الطبيعية لتحقيق بعض الأهداف والغايات الحجاجية فهي تنطلق من الفكرة الشائعة التي مؤداها إننا نتكلم عامة بقصد التأثير، فالجملة بإمكانها أن تشتمل على مورفيمات أو صيغ تصلح لإعطاء توجيه حجاجي للقول يضاف إلى محتواها الإخباري، وتوجيه المتلقي بهذا الاتجاه أو ذاك، ويزيد على ذلك إن الحجاج يشكل جانبًا مهمًا في المسار اللساني، ومن المداخل المهمة في مقاربة النصوص ذات الصبغة الإقناعية.

إن البعد الحجاجي والتداولي للروابط برز مع ديكرو في إطار صياغتة للتداولية المدمجة وهي النظرية التداولية التي تشكل جزءًا من النظرية الدلالية، إذ لمٌ يغفل دیکرو وزميله في أثناء صياغتهما ل(النظرية الحجاجيية في اللغة)، هذا الجانب المهم الذيٌ تمركز في أبنية اللغة بوصفها ظاهرة لغوية مهمة جدا تتدخل بطريقة مباشرة في توجيه الحجاج من خلال إحداث الانسجام داخل الخطاب والدفع باتجاه تحقيق البعد الإقناعً عبر استمالة المتلقي وتوجيهه نحو الغاية التي يريدها المتكلم.

ابان أبو بكر العزاوي الروابط الحجاجية بقولة: تربط بين قولين أو بين حجتين على الأصح (أو أكثر) وتسند لكل قول دورا محددا داخل الاستراتيجية الحجاجية العامة(1) وصنفها إلى:

الروابط المدرجة للحجج (حتى، بل، لكن، مع ذلك، لأن...)

الروابط المدرجة للنتائج (إذن، لهذا، بالتالي...)

الروابط التي تدرج حججا قوية (حتى، بل، لكن، لاسيما...)

ص: 223

روابط التعارض الحجاجي (بل، لكن، مع ذلك...)

روابط التساوق الحجاجي (حتى، لاسيما).

اولًا: روابط التعارض الحجاجً:

الرابط الحجاجي (لكن)

تربط لكم بين حجتين متفاوتين وتفيد معنى الاستدراك و تعني في النحو العربي «أن تنسب حكما يخالف المحكوم عليه قبلها كأنما لما أخترت عن الأول بخبر، فخفت أن يتوهم من الثاني مثل ذلك فتداركت بخبره إن سلبا وإن إيجابا، ولذلك لا يكون إلا بعد ملفوظ به، أو مقدر(2)، ولا تقع لكن إلا بين متنافيين بوجه واحد، و عرف عباس حسن الاستدراك، إنه ابعاد معنى فرعي يخطر على البال عند فهم المعنى الأصلي لكلام مسموع أو مكتوب(3)، وتقوم لكن «بإزالة الخواطر والاوهام التي ترد على الذهن بسببه، وهو يقتضي أن تكون ما بعد أداة الاستدراك مخالفا لما قبلها في الحكم المعنوي»(4).

ويتم الوصف الحجاجي للرابط لكن الذي يعبر عن التعارض والتنافي بين ما قبلها و ما بعدها، إذ يقدم المتكلم (أ) و (ب) باعتبارهما حجتين، الحجة الأولى موجهة نحو نتيجة معينة (ن)، والحجة الثانية موجهة نحو النتيجة المضادة لها، أي (لا - ن)، ويقدم المتكلم الحجة الثانية، باعتبارهما الحجة الأقوى، توجه القول لأول للخطاب برمته(5)، ولقد ميز ديكرو وأنسكومير، في دراستهما العديدة للرابط (لكن).

ومن ذلك قول الإمام علي (علیه السلام):((فَإِنَّكُمْ لَوْ قَدْ عَايَنْتُمْ مَا قَدْ عَايَنَ مَنْ

مَاتَ مِنْكُمْ لَجَزِعْتُمْ وَ وَهِلْتُمْ وَ سَمِعْتُمْ وَ أَطَعْتُمْ وَ لَكِنْ مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا قَدْ عَايَنُوا

ص: 224

وَ قَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ اَلْحِجَابُ وَ لَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ وَ أُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ وَ هُدِيتُمْ

إِنِ اِهْتَدَيْتُمْ وَ بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ لَقَدْ جَاهَرَتْكُمْ اَلْعِبَرُ وَ زُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَ مَا

يُبَلِّغُ عَنِ اَللِّهَ بَعْدَ رُسُلِ اَلسَّمَاءِ إِلاَّ اَلْبَشَرُ)).

نلاحظ إن الرابط الحجاجي (لكن) قد عمل تعارضا حجاجيا بين ما تقدمه وما تأخر عنه، فالقسم الأول الذي سبق الرابط هو (فَإِنَّكُمْ لَوْ قَدْ عَايَنْتُمْ مَا قَدْ عَايَنَ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ لَجَزِعْتُمْ وَ وَهِلْتُمْ وَ سَمِعْتُمْ وَ أَطَعْتُمْ)، إذ كما هو شأن الانبياء و الأولياء، فانهم بسبب علمهم و اطلاعهم على ذلك العالم كانوا يبكون ذلك البكاء الشديد، و يبيتون ليالهم خائفين وجلين، و يسهرون الليل بالبكاء و التضرع و الناس لو كانوا يعلمون ذلك لما وجد إنسان عاصي، قد تضمن حجة تخدم نتيجة ضمنية هي (عدم معاينتهم)، أما القسم الثاني، الذي جاء بعد الرابط فقد تضمن حجة تخدم نتيجة مضادة للنتيجة السابقة (لا - ن) ليرفع التردد لدى المتلقي بواسطة الاستدراك الذي لا يعني إبطال الحجة الأولى وإنما مو إعادة التصحيح ما قد توهم به المتلقي إو تردد بقبوله وهذا ما تشير إليه الحجة الثانية بعد الرابط (مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا قَدْ عَايَنُوا وقَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ اَلْحِجَابُ) التي تضمنت نتيجة ضمنية (محجوبة عنكم وغير محجوبة عن الراسخين في العلم)، ثم جاء الرابطان (الواو، إن) للربط بين اكثر من قضية و حجة غير متباعدين ليقررا الرابط بين الحجج التي جاءت بعد (لكن) (وَ قَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ اَلْحِجَابُ وَ لَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ وَ أُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ وَ هُدِيتُمْ إِنِ اِهْتَدَيْتُمْ وَ بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ لَقَدْ جَاهَرَتْكُمْ اَلْعِبَرُ وَ زُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَ مَا يُبَلِّغُ عَنِ اَللَّهِ بَعْدَ رُسُلِ اَلسَّمَاءِ إِلاَّ اَلْبَشَرُ)، وهنا تکون الحجة بعد الواو دعمت النتيجة المتعلقة بالحجة الثانية.

إن الرابط الحجاجي كشف عن استدلالات حجاجية أخرى

ص: 225

1. إن التراتيب الحجاجية التي اوجدها الرابط (الواو) إلى الحجج قد اثبت قوة النتيجة (لو عاينتم / محجوب عنكم ثم جاء الرابط (إن) لإثبات قوة الحجة التي تلته مع الحجة التي سبقته.

2. إن الروح اذا خرجت من البدن، و طارت من قفص الجسد ظهر لها كل ما كان محجوبا مخفيا لهذا قال (علیه السلام) (و قريب ما يطرح الحجاب) نستخلص نتيجة ضمنية وهي لو كان الناس كلهم يعلمون و يطلعون على ذلك العالم لاختل النظام الاجتماعي، و لما زرع الزارع، و ما اتجر التاجر، وصارت الأشغال معطلة و الحالة مضطربة.

فالغاية التي أراد الإمام (علیه السلام) توضيحها تكمن في القسم الثاني من كلامه، فإن الحجة الثانية اقوى من الحجة الأولى فهي ستواجه القول برمته نحو تبني النتيجة الضمنية المضادة (لان)، فالإمام (علیه السلام) يعلم بعذاب القبر فهذا الامر غير محجوب عنه ولكن محجوب عن الأخرين، لذلك الحجة الثانية (ب) اقوى من الحجة الأولى (أ).

و ومن أمثلة ما جاء فيه الربط كلام له (علیه السلام) لما أنفذ عبد الله بن عباس إلى الزبير قبل وقوع الحرب يوم الجمل ليستفيئه إلى طاعته: ((لا تَلْقَیَنَّ طَلْحَةَ فَإِنَّكَ إِنْ تَلْقَهُ تَجِدْهُ كَالثَّوْرِ عَاقِصاً قَرْنَهُ يَرْكَبُ اَلصَّعْبَ وَ يَقُولُ هُوَ اَلذَّلُولُ وَ لَكِنِ اِلْقَ اَلزُّبَیْرَ فَإِنَّهُ أَلْیَنُ عَرِيكَةً فَقُلْ لَهُ يَقُولُ لَكَ اِبْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَ أَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ

فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا))، فالحجة الأولى في قوله (علیه السلام) (لاَ تَلْقَیَنَّ طَلْحَةَ...) وهي حجة لا تكفي لحصول الاقناع لدى المتلقي ظاهرًا، فقد نهى الإمام (علیه السلام) ابن عباس انى يلقي طلحة، فأخبر انه كالثور الملتوي قرنه، او الثور الذي يرخي رأسه و يطأطأه، فيعقص قرنيه استعدادا للخصومة و المحاربة، و هذا اشارة الى استعداده

ص: 226

للشر بجميع معنى الكلمة، و أما قوله (علیه السلام): يركب الصعب: هو الذلول، فمعناه الاستهانة بالامور المستصعبة، و التهور في الاقدام و المجازفة في الاعمال، وشراسة الاخلاق و امال هذا الشخص لا ينفع معه الكلام لغروره، و اعجابه بنفسه، و لهذا نهى أمير المؤمنين (علیه السلام) ابن عباس ان يتفاهم مع طلحة.

ثم جاء الرابط لرفع التردد والتوهم لدى المتلقي في قبول كلامه بما تضمنة الحجة الثانية (اِلْقَ اَلزُّبَیْرَ فَإِنَّهُ أَلْیَنُ عَرِيكَةً)، من قوة تفوق الحجة الأولى ومؤدي هذه القوة الرابط (لكن) الذي افاد الاستدراك ابانة القصد من نهي ابن عباس عن لقاء طلحة، و امره أن يلقي الزبير، لأنه امكن التفاهم معه؛ لأنه لين الطبيعة و الجانب ينفع معه الكلام، ثم جاء تدعيم قوة الحجة الثانية بقوله: يقول لك ابن خالك» اي الإمام نفسه، و انما قال: ابن خالك و لم يقل يقول لك علي او أمير المؤمنين أو ابو الحسن لما في هذه الكلمة من الاستمالة و الاذكار بالنسب و الرحم، و لا يخفى ما فيها من الملاطفة، و التأثير في القلب و النفس.

الرابط الحجاجي (بل)

أداة ربط بين قولين ومعناها الإضراب عن الأول والأثبات للثاني، ويتحدد دورها في الربط نفيا أو إيجابا حسب السياق الذي ترد فيه(6) فهي تأتي» لتدارك كلام غلط فيه وتكون لترك شيء من الكلام وأخذ غيره(7)، فهي من أدوات الربط التي تستعمل للإبطال والحجاج، ولهذا الرابط حالان:

الأول: أن يقع بعده مفرد.

الثاني: أن يقع بعد جملة.

فإن وقع بعده مفرد فله حالان:

ص: 227

- إن تقدمه أمر أو إيجاب نحو: (إضرب زيدا بل عمرا) و (قام زيد بل عمرو) فإنه يجعل ما قبله كالمسكوت عنه، ولا حٌكم عليه بشيء ويثبت الحكم لما بعده.

- وان تقدمه نفي أو نهي نحو: (ما قام زيد بل عمرو) و(ولا تضرب زيدا بل عمرا) فإنه يكون لتقرير حكم الأول وجعل ضده لما بعده أي إثبات الثاني ونفي الأول.

- أما إذا وقع بعد (بل) جملة ، فيكون معنى الاضراب:

- أما الإبطال نحو قوله تعالى: «أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ» المؤمنين: 70

- وإما الانتقال من غرض إلى غرض(8) نحو قوله تعالى: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا» الأعلى: 14 - 16.

ومما جاء من ذلك في خطاب الإمام (علیه السلام) قوله: ((فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ

عَلَى اَلْمُلْكِ وَ إِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ اَلْمَوْتِ هَيْهَاتَ بَعْدَ اَللَّتَيَّا وَ اَلَّتِي وَ اَللَّهِ لاَبْنُ

أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ اَلطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ بَلِ اِنْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ

بِهِ لاَضْطَرَبْتُمْ اِضْطِرَابَ اَلْأَرْشِيَةِ فِي اَلطَّوِيِّ اَلْبَعِيدَةِ)).

وردت (بل) في هذه القول وهي من النمط الحجاجي الذي أفاد الاعتراض فقد توسطت بين حجتين فما تقدمها كان منفيا في حين جاءت الحجة التي تلتها مثبتة وبذلك يكون الرابط، قد أقام علاقة حجاجية بين نفي احتمال حصول (حرص الإمام على الملك، أو الجزع من الموت)، فالإمام (علیه السلام) اقسم باللهّ تعالى انه أشد انسا بالموت من الطفل بثدي امه، لأن محبة الطفل و ميله إلى ثدي امه أمر

ص: 228

طبيعي حيواني فهو في معرض الزوال، يعني إذا كبر الطفل و تجاوز سن الرضاع يزول ذلك الانس، و لكن انس علي (علیه السلام) بالموت لا يزول مهما عاش، وبين أثبات حقيقة سكوتة و عدم نهوضه بحقه و هو انه احتوي على عدم و اطلاع ببعض الأسرار التي أخبره بها رسول (صلى الله عليه وسلم) فيما يتعلق بالخلافة، و هي من علوم الامامة و مزاياها، و لا يشاركه فيها أحد من غير الأئمة و لا يستطيع أحد أن يسمع او يطلع على شيء من تلك الأسرار و لا يتمكن أن يتحملها (لو بحت به لاضطربتم اضطراب الارشية في الطوى البعيدة) لو باح او أظهر شيا من تلك الأسرار لاضطربت قلوب الناس كما تضطرب الحبال في الآبار العميقة، و ذلك لضعف القلوب و عدم استعداد النفوس.

و لعل الاستدراك الذي اتى به الإمام (علیه السلام) يكشف تكذيب قول من ينسب اليه الخوف من الموت، أو الحرص على الملك، أي بعد تلك المصائب و النوائب التي جرت عليّ لا أخاف من الموت، بل الموت أحب إلي من البقاء، و هذا شأن الرجال الغيارى أنهم يرجحون الموت على الحياة المملوءة بالفجائع و الفضائع، وهنا النتيجة المضادة الضمنية قد وجهت القول برمته نحو إقامة الحجة والبينة على (من ينتسب له الخوف أو الموت).

وورد أيضا الرابط الحجاجي (بل) في كتاب له (علیه السلام) إلى أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلى البصرة، قوله: ((مِنْ عَبْدِ اَللَّهِ عَلِيٍّ أَمِیرِ اَلْمُؤْمِنِینَ إِلَی أَهْلِ اَلْكُوفَةِ جَبْهَةِ اَلْأَنْصَارِ وَ سَنَامِ اَلْعَرَبِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّ أُخْبِرُكُمْ عَنْ أَمْرِ عُثْمَانَ حَتَّى يَكُونَ

سَمْعُهُ كَعِيَانِهِ إِنَّ اَلنَّاسَ طَعَنُوا عَلَيْهِ فَكُنْتُ رَجُلاً مِنَ اَلْمُهَاجِرِينَ أُكْثِرُ اِسْتِعْتَابَهُ وَ

أُقِلُّ عِتَابَهُ وَ كَانَ طَلْحَةُ وَ اَلزُّبَیْرُ أَهْوَنُ سَیْرِهِمَا فِيهِ اَلْوَجِيفُ وَ أَرْفَقُ حِدَائِهِمَا اَلْعَنِيفُ وَ كَانَ مِنْ عَائِشَةَ فِيهِ فَلْتَةُ غَضَبٍ فَأُتِيحَ لَهُ قَوْمٌ قَتَلُوهُ فَقَتَلُوهُ وَ بَايَعَنِي اَلنَّاسُ غَیْرَ

ص: 229

مُسْتَكْرَهِينَ وَ لاَ مُجْبَرِينَ بَلْ طَائِعِینَ مُخَيَّرِينَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ دَارَ اَلْهِجْرَةِ قَدْ قَلَعَتْ بِأَهْلِهَا وَ قَلَعُوا بِهَا وَ جَاشَتْ جَيْشَ اَلْمِرْجَلِ وَ قَامَتِ اَلْفِتْنَةُ عَلَى اَلْقُطْبِ فَأَسْرِعُوا إِلَی أَمِيرِكُمْ وَ بَادِرُوا جِهَادَ عَدُوِّكُمْ إِنْ شَاءَ اَللُّهَ)).

فالرابط هنا أقام علاقة حجاجية مركبة من علاقتين حجاجيتبن بين الحجة الاولى التي وردت قبل الرابط الحجاجي (بل) وهي (وَبَايَعَنِي اَلنَّاسُ غَیْرَ مُسْتَكْرَهِينَ

وَ لا مُجْبَرِينَ) والتي تحيل إلى نتيجة ضمنية (فالإمام (علیه السلام) لم يكره أحدا على البيعة)، وعلاقة حجاجية ثانية ترد بعد الرابط (بل)، (طَائِعِینَ مُخَيَّرِينَ) فهي تحمل نتيجة ضمنية مضادة للنتيجة للسابقة (بل ألجأوه (علیه السلام) إلى البيعة معه، و كانت رغبتهم في بيعته) كما وصفها خفاف الطائي لمعاوية قال: ((تهافت الناس على عليّ (علیه السلام) بالبيعة تهافت الفراش حتّى ضلّت النعل، و سقط الرداء، وطىء الشيخ))، فالرابط الحجاجي (بل) قد ربط بين الحجج والنتائج وأصبحت النتيجة الضمنية هي نتيجة القول برمته؛ لأن الحجة التي ترد بعد (بل) أقوى من الحجة التي ترد قبلها في إفادة المعنى الكلي وإقامة الحجة؛ لأن الإمام (علیه السلام) في الرسالة وضح لأهل الكوفة براءة من مقتل عثمان، ويدعم ذلك عندما بعث عمار والحسن (علیه السلام) إلى الكوفة ((فبعث عمّارا و الحسن عليه السّلام و كتب معهما كتابا: أمّا بعد، فإنّ دار الهجرة تقلّعت بأهلها فانقلعوا عنها، و جاشت جيش المرجل، و كانت فاعلة يوما ما فعلت، و قد ركبت المرأة الجمل، و نبحتها كلاب الحوأب، و قامت الفئة [الفتنة] الباغية يقودها [رجال] يطلبون بدم هم سفكوه، و عرض هم شتموه، و حرمة انتهكوها، و أباحوا ما أباحوا، يعتذرون إلى الناس دون اللهّ يحلفون لكم لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ اللهّ لا يرضى عن القوم الفاسقين، اعلموا رحمكم اللهّ أنّ الجهاد مفترض على العباد، فقد جاء كم في داركم من يحثّكم

ص: 230

عليه، و يعرض علیکم رشد کم، و اللهّ يعلم أنّي لم أجد بدّا من الدخول في هذا الأمر)).

وأن أمير المؤمنين عليه السلام كان يمتنع من بيعة النّاس له فيختبيء عنهم و يلوذ بحيطان المدينة، و لما اجتمع النّاس إليه و سألوه أن ينظر في امورهم و بذلوا له البيعة قال لهم: التمسوا غيري، و لمّا جاء طلحة و الزبير إليه (علیه السلام) و هو متعوّذ بحيطان المدينة فدخلا عليه وقالا له: ابسط يدك نبايعك فإنّ النّاس لا يرضون إلا بك، قال عليه السّلام لهما لا حاجة لي في ذلك و أن أكون لکما وزیرا خير من أن أكون أميرا فقالا إن الناس لا يؤثرون غيرك و لا يعدلون عنك إلى سواك فابسط يدك نبايعك أوّل النّاس، وعلى هذا الأساس جاءت الحجة الثانية بعد الاستدراك تنفي حصول البيعة بالإجبار او الاكراه في الحجة الأولى، ومعلوم أن الاستدراك يقتضي أن يقع بين متنافيين أو متضادين أو متناقضين، وبما أن الجملة التي سبقت الرابط هي جملة أو قول مثبت فإن ما بعد الرابط يكون منفيًا أو مضادًا أو مخالفًا وهو ما إفاد القول (طَائِعِینَ مُخَيَّرِينَ)، ويدعم الحجة الثانية هو قوله لطلحة ((أو لم تبايعني يا أبا محمّد طائعا غير مكره؟ فما كنت لأترك بيعتي: قال طلحة: بايعتك و السيف على عنقي، قال: ألم تعلم أني ما أكرهت أحدا على البيعة؟ ولو كنت مکرها أحدا لأكرهت سعدا وابن عمر... و اعتزلوا فتركتهم...)).

ثانيا: روابط التساوق الحجاجي:

الرابط الحجاجي (حتى)

تعد من أدوات الفاعلة في الترابط حيث يكمن دورها في ترتيب عناصر القول، ويفهم معناها من السياق الذي ترد فيه، ويكتسب هذا الرابط أهميته من علاقته

ص: 231

الواضحة والقوية مع المعنى الضمني والمضمر، إذ أن دورها لا يقتصر کما لو نقول (جاء زيد) فتكون (حتی زید جاء) إذا، على إضافة معلومة جديدة إلى سياق القول بل إن دور هذا الرابط يتمثل في إدراج حجة جديدة تردف الحجة التي، كان مجيء زید کثیر متوقع، بل تسبقها وتساوقها والحجتان تخدمان نتيجة واحدة لكن بدرجات متفاوتة(9) من حيث القوة الحجاجية فتتساوق الحجتان في رفد النتيجة بالطاقة الحجاجية الفاعلة، ولكن تبقى الحجة التي يأتي بها الرابط (حتى) هي أقوى من الحجة التي سبقها، أي أن يكون ما بعدها غاية لما قبلها، إذ يقول دیکرو أن: «الحجة المربوطة بواسطة هذا الرابطٌ ينبغي أن تنتمي إلى فئة حجاجية واحدة، والحجة التي ترد بعد هذا الرابط تكون هي الأقوى لذلك فإن القول المشتمل على الرابط حتى لايقبل الإبطال والتعارض الحجاجي»(10).

فالرابط (حتى) الملفوظ يساعد على تقوية إيقان المتقبل بالنتيجة بل إنه قبل ذلك يرسم له صورة المسلك الذي ينبغي عليه ان يقطعه للوصول إلى النتيجة وهو في أثناء ذلك كله يقوي النتيجة لا التي يروم الملفوظ إيصالها(11).

ومما جاء ممثلاً عن هذا الرابط قول الإمام علي (علیه السلام): (الكمال في خمس ألا يعيب الرجل أحدا بعيب فيه مثله حتى يصلح ذلك العيب من نفسه...))،

نلحظ إن الرابط (حتى) بالرغم من تنوع الغايات الاستعمالية له في هذا المثال التي تتجلى لنا نتيجة لتعدد زوايا النظر والقراءة له، فهو جاء من اجل تحقيق غاية حجاجية إقناعية، فجاء لبيان سبب، أي أن ما قبله علة وسبب وحجة لما بعده فیکون مرادفا ل(كي) التعليلية فيكون الكلام (الكمال في خمس ألا يعيب الرجل أحدا بعيب فيه مثله كي يصلح ذلك العيب من نفسه)، وهنا يمكن ان نعد ما قبله حجة وما بعده نتیجة، فالإمام (علیه السلام) يقدم حجة بأن لا يعيب الرجال احداً كي

ص: 232

يصلح ذلك العيب، فيقدم الإمام حديث في التربية الإنسانية.

ومن صور استعمال (حتى) قال (علیه السلام): ((لِكُمَيْلِ بْنِ زِيَادٍ اَلنَّخَعِيِّ يَا كُمَيْلُ مُرْ أَهْلَكَ أَنْ يَرُوحُوا فِي كَسْبِ اَلْمَكَارِمِ وَ يُدْلِجُوا فِي حَاجَةِ مَنْ هُوَ نَائِمٌ فَوَالَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ اَلْأَصْوَاتَ مَا مِنْ أَحَدٍ أَوْدَعَ قَلْباً سُرُوراً إِلاَّ وَ خَلَقَ اَللَّهُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ اَلسُّرُورِ لُطْفاً فَإِذَا نَزَلَتْ بِهِ نَائِبَةٌ جَرَى إِلَيْهَا

كَالْمَاءِ فِي اِنْحِدَارِهِ حَتَّى يَطْرُدَهَا عَنْهُ كَمَا تُطْرَدُ غَرِيبَةُ اَلْإِبِلِ)).

نرى الرابط الحجاجي (حتى) يقدم حجتين: الأولى (جَرَى إِلَيْهَا كَالْمَاءِ فِي

اِنْحِدَارِه)، والثانية (حَتَّى يَطْرُدَهَا عَنْهُ كَمَا تُطْرَدُ غَرِيبَةُ اَلْإِبِلِ)، وهذين الحجتين يخدمان النتيجة الضمنية (من عمل لخدمة أخيه الإنسان أثابه اللهّ في الدنيا قبل الآخرة)، فالنتيجة الثانية هي الأقوى، وعن أهل البيت (علیه السلام): ((إن للهّ عرشا لا يسكن تحت ظله إلا من أسدى لأخيه معروفا، أو نفّس عنه كربة، أو قضى له حاجة)).

فالخاصية الأساسية للروابط الحجاجية سليمة وتراتبية وسبب نعتها بهذه الصفة إنما يوفره الرابط الحجاجي من تقوية للحجة حتى يجعلها غير متساوية قوة وضعفا تأثيرا وإقناعا وبالتالي يكون هذا الرابط هو المحرك للعلائق الحجاجية داخل الملفوظ وداخل القسم الحجاجي(12)، فالرابط الحجاجي (حتى) يساعد على تقوية إيقان المتقبل بالنتيجة ويرسم له صورة المسلك الذي ينبغي عليه إن يقطعه للوصول إلى النتيجة(13)، وما يؤازر النتيجة الضمنية من قول الإمام (علیه السلام) قول النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) : ((ما من عبد يدخل على أهل بيت مؤمن سرورا إلاّ خلق اللهّ له من ذلك السرور خلقا يجيئه يوم القيامة كلّما مرت عليه شديدة يقول: يا ولي اللهّ لا تخف فيقول له من أنت فلو ان الدنيا كانت لي ما رأيتهالك شيئا فيقول أنا السرور الذي ادخلت على آل فلان)).

ص: 233

ثالثا: روابط التعليل الحجاجي:

الرابط الحجاجي (لأنّ)

يعد الرابط (لأن) من أهم الفاظ التعليل والتفسير وهو يستعمل لتبرير الفعل ولتبرير عدمه، فضلا عن ربط النتيجة بسببها وبعلتها.

وقد جاء هذا الرابط في كلام له (علیه السلام) عند عزمه على المسير إلى الشام: ((اللَّهُمَّ إِنِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَ كَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَ سُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَ الْمَالِ وَ الْوَلَدِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَ أَنْتَ الْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ وَ لَا يَجْمَعُهُمَا غَیْرُكَ لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لَا يَكُونُ مُسْتَصْحَباً وَ الْمُسْتَصْحَبُ لَا يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً)).

فالقسم قبل الرابط: ق 1 (اللهم أنت الصاحب في السفر) ق 2، (و أنت الخليفة في الأهل)، والمعنى ليس للهّ زمان و مکان، فهو مع المسافر تماما كما هو مع المقيم على السواء ولا يجمعهما غيرك)، بحیث یکون مصاحبا للمسافر، و خليفة على المقيم في آن واحد هذا محال بالنسبة لغيره تعالى، أما القسم بعد الرابط يتضمن ق 3 (لِأَنَّ الْمُسْتَخْلَفَ لَا يَكُونُ مُسْتَصْحَباً) ق 4 (وَ الْمُسْتَصْحَبُ لَا يَكُونُ مُسْتَخْلَفاً) والمعنى (الباقي مع المقيم مصاحبا للمسافر ولا يكون حاضرا مع المقيم، استحضر الإمام (علیه السلام) الرابط (لأن) الذي اعطي دلالة التعليل والتفسير، فالحجة الأقوى (ق 3 / ق 4)؛ لأنها اثبت کلام الإمام (علیه السلام) حول قدرة الله (عز وجل) وكانت مصداقا له إمام القوم وهي الأقرب للنتيجة الضمنية، و هي (قدرة الله (عز وجل) وعظمة وإنه مع العبد أينما كان): بدليل قوله تعالى: «وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ» الحديدة 4.

الرابط الحجاجي (لام)

تعد من أدوات الربط الحجاجي التي يكون ما بعدها علة لما قبلها ويطلق

ص: 234

عليها لام التعليل، ولام السبب، ولام کي، ويذكر المرادي» أن معنى اللام، في الأصل، هو الاختصاص، وهو معنى لا يفارقها، وقد يصحبه معان أخر، وإذا تؤملت سائر المعاني المذكورة وجدت راجعة إلى الاختصاص. وأنواع الاختصاص متعددة؛ ألا ترى أن من معانيها المشهورة التعليل...»(14).

خطاب الإمام (علیه السلام) يتضمن صورا متنوعة للرابط (الام) منها الجارة بمعنی التعليل نحو قوله (علیه السلام): ((إِنَّ للهَّ عِبَاداً يَخْتَصُّهُمُ اللُّهَ بِالنِّعَمِ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ فَيُقِرُّهَا فِي أَيْدِيهِمْ مَا بَذَلُوهَا فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَی غَيْرِهِمْ)).

اشتمل النص المتقدم على اكثر من حجة وهي: ق 1 (منافع العباد)، وق2 (فيقرها في ايدهم)، وق 3 (فَإِذَا مَنَعُوهَا نَزَعَهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَوَّلَهَا إِلَی غَيْرِهِمْ) و فالحجة الأقوى هي (ق) 3 وهي اقرب للنتيجة الموجودة في النص (يختصهم الله بالنعم)، والحجة في ق 3 جاءت تعليلا وتبريرا للنتيجة المصرح بها قبل الرابط فأحدث الرابط انسجاما بين النتيجة والحجج، و عليه يكون المعنى أن حكمة اللهّ سبحانه قضت أن يتخذ من بعض عباده وسيلة للبذل في سبيل الخير، فإن فعلوا أبقى النعمة بأيديهم، و إلا نقلها إلى من هو أولى، و أجدر، وقريب إلى ذلك قوله (علیه السلام): ((إذا وصلت اليكم النعم فلا تنفروا أقصاها بقلة الشكر))، و ((فمن قام للهّ بما يجب في نعمه عرّضها للدوام و البقاء، و من لم يقم فيها بما يجب عرضها للزوال و الفناء)).

ونعثر على صورة أخرى ل(لام التعليل الناصبة) التي تنصب الفعل المضارع وقد قال بها الكوفيّون، أما البصريون، فهي عندهم لام جر والناصب (أن) المضمرة بعدها»(15)، من ذلك قوله (علیه السلام): ((وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ اَلسَّمَاوَاتِ وَ

اَلْأَرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي اَلدُّعَاءِ وَ تَكَفَّلَ لَكَ بِالْإِجَابَةِ وَ أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ وَ

ص: 235

تَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ وَ لَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُهُ عَنْكَ وَ لَمْ يُلْجِئْكَ إِلَی مَنْ يَشْفَعُ

لَكَ إِلَيْهِ)).

نلحظ الرابط الحجاجي جاء بعد التصريح بالنتيجة، (أمرك أن تسأله)، (و تسترحمه) والحجة يعطيك ويرحمك، فجاء الرابط بعد النتيجة مباشرا لتعليل الكرم والعطاء الإلهي للعباد، فالرابط إحال المعني برمتة إلى فعل الأمر والسؤال فجاءت الحجة جواباله، ليكشف الرابط قوة التماسك بين الحجج.

الرابط الحجاجي (كي)

«انّ (کَيْ) حرفٌ يُقارِب معناه معنى اللام؛ لأنها تدلّ على العلّة والغرض، ولذلك تقع في جواب (لَمِهْ)، فيقول القائل: لِمَ فعلتَ كذا؟ فتقول: ليكونَ كذا. وهذا المعنى قريبٌ من قولك: فعلت ذلك كَيْ يكونَ كذا؛ لدلالتها على العلّة، إلَّا أنّها تستعمل ناصبة للفعل ك(أنّ)، فلذلك تدخل عليها اللام، فتقول: جئت لِكَيْ تقومَ، کما تقول: لأنْ تقومَ»(16)، ويستعمل هذا الرابط لتفسير العلة وتبريرها وبيان الحجة وتوكيد النتيجة، ويستعمل کرابط مدرج للنتائج.

وقد جيء بالرابط (كي) في كلام له (علیه السلام) بالبصرة و قد دخل على العلاء بن زياد الحارثي وهو من أصحابه: ((فَقَالَ لَهُ الْعَلَاءُ يَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ أَشْكُو إِلَيْكَ

أَخِي عَاصِمَ بْنَ زِيَادٍ قَالَ وَ مَا لَهُ قَالَ لَبِسَ الْعَبَاءَةَ وَ تَخَلَّى عَنِ الدُّنْيَا قَالَ عَلَيَّ بِهِ

فَلَمَّا جَاءَ قَالَ يَا عُدَيَّ، نَفْسِهِ لَقَدِ اسْتَهَامَ بِكَ الْخَبِيثُ أَمَا رَحِمْتَ أَهْلَكَ وَ وَلَدَكَ

أَتَرَى اللَّهَ أَحَلَّ لَكَ الطَّيِّبَاتِ وَ هُوَ يَكْرَهُ أَنْ تَأْخُذَهَا أَنْتَ أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ ذَلِكَ

قَالَ يَا أَمِیرَ الْمُؤْمِنِینَ هَذَا أَنْتَ فِي خُشُونَةِ مَلْبَسِكَ وَ جُشُوبَةِ مَأْكَلِكَ قَالَ وَيْحَكَ إِنِّ

لَسْتُ كَأَنْتَ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَی فَرَضَ عَلَى أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ

كَيْلَا يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِرِ فَقْرُهُ)).

ص: 236

النتيجة: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَ فَرَضَ عَلَی أَئِمَّةِ الْعَدْلِ أَنْ يُقَدِّرُوا أَنْفُسَهُمْ بِضَعَفَةِ النَّاسِ.

الرابط: کیلا.

الحجة: يَتَبَيَّغَ بِالْفَقِيرِ فَقْرُهُ.

ففي هذا النص يتجلى لنا إن النتيجة فسرة وعللت الحجة ثم جاء الرابط الحجاجي (لكي) ليؤكد النتيجة، ثم يعمل الرابط الحجاجي على تدريج النتائج، فيكون المعنى: أَئِمَّةِ الْعَدْلِ يساووا أنفسهم بضعفاء الناس، فيكونوا قدوة للأغنياء کیلا يهيج بالفقير ألم الفقر فيهلكه، وندعم حجة الإمام (علیه السلام) بقوله: «إن الله جعلني إماما لخلقه، ففرض علي التقدير في نفسي ومطعمي ومشربي وملبسي كضعفاء الناس، كي يقتدي الفقير بفقري، ولا يطغى الغني غناه»، وقال علي (علیه السلام): « إن الله تعالى أخذ على أئمة الهدى أن يكونوا في مثل أدنى أحوال الناس ليقتدي بهم الغني، ولا يزري بالفقير فقره».

رابعا: روابط الوصل الحجاجي.

للوصل علاقة منطقية تتمثل في تكوين قضية مركبة انطلاقا من قضيتين، ويطلق فان دايك على روابط الوصل (روابط الوصل التشريكي)، «فهي تقوم بتكوين جملة مركبة من جمل بسيطة، وعلى ذلك فعمل هذه الروابط هو حصول الاجراء الثنائي»(17) فالوصل الحجاجي يتشكل من أدوات توفرها اللغة للمرسل ليربط بين مفاصل الكلام، فيتأسس بذلك العلاقات الحجاجية المنتظرة ، فحروف العطف (الواو، الفاء، ثم) لها قيمة حجاجية كبيرة، بالإضافة إلى ربطها بين قضيتين أو أكثر (حجتين او اكثر) لنتيجة واحدة، ووضعها سلما حجاجيا ترتب فيه هذه الحجج حسب قوتها(18)

ص: 237

الرابط الحجاجي (الواو)

وظيفة هذا الرابط الجمع بين حجتين ويعمل على ترتيب الحجج وربط بعضها ببعض وتقويتها، فالواو تنهض بوظيفة الجمع بين حكمين متطابقين عكس «بل» مثلا التي تنفي مايسبقها وتثبت مايلحقها، فإن ابن يعيش اعتبر ميزة الواو في جمعها بين شيئين(19) و من ذلك كلام له (علیه السلام) لما عزم على لقاء القوم بصفين: الدعاء:»

وتضمن خطاب الإمام (علیه السلام) هذا الرابط في خطبة، لما أراده الناس على البيعة بعد قتل عثمان، إذ قال: ((دَعُونِي وَ اِلْتَمِسُوا غَیْرِي فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ وُجُوهٌ وَ أَلْوَانٌ لاَ تَقُومُ لَهُ اَلْقُلُوبُ وَ لاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ اَلْعُقُولُ وَ إِنَّ اَلآْفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ وَ اَلْمَحَجَّةَ

قَدْ تَنَكَّرَتْ، وَ اِعْلَمُوا أَنِّي إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ وَ لَمْ أُصْغِ إِلَی قَوْلِ اَلْقَائِلِ وَ

عَتْبِ اَلْعَاتِبِ وَ إِنْ تَرَكْتُمُونِ فَأَنَا كَأَحَدِكُمْ وَ لَعَلِّي أَسْمَعُكُمْ وَ أَطْوَعُكُمْ لِمَنْ وَلَّيْتُمُوهُ

أَمْرَكُمْ وَ أَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَیْرٌ لَكُمْ مِنِّي أَمِیراً)).

إن البحث في هذا النص يبين لنا عمل الرابط الحجاجي، إذ قام بالوصل بين الحجج وعمل أيضا على ترتيبها بالشكل الذي يضمن تقوية النتيجة المطروحة ودعمها وهي (دَعُونِي وَ اِلْتَمِسُوا غَیْرِي)، فكونه وزيرا لهم خيرا لهم من إمارته، لأنّ بإمارته كانوا يخرجون عليه فيكفروا، فالكثيرين صارا بسبب إمارته (علیه السلام) في غاية الخزي و الشقاوة و المخاطبون بهذا الخطاب الطّالبون للبيعة بعد قتل عثمان، إذ يطمعون منه (علیه السلام) أن يفضّلهم في العطاء و التشريف و لذا نكث طلحة و الزبير في اليوم الثاني من بيعته، و نقموا عليه التسوية في العطاء.

ثم نجد اكثر من حجة في هذا الخطاب وهي: ق 1 (أَنَا لَكُمْ وَزِيراً خَیْرٌ

لَكُمْ مِنِّي أَمِیراً)، ق 2(وَ لَعَيِّ أَسْمَعُكُمْ وَ أَطْوَعُكُمْ)،)،ق 3(وَ إِنْ تَرَكْتُمُونِي فَأَنَا

ص: 238

كَأَحَدِكُمْ)، ق 4(وَ اِعْلَمُوا أَنِّ إِنْ أَجَبْتُكُمْ رَكِبْتُ بِكُمْ مَا أَعْلَمُ وَ لَمْ أُصْغِ إِلَی قَوْلِ

اَلْقَائِلِ وَ عَتْبِ اَلْعَاتِبِ)، ق 5(إِنَّ اَلآْفَاقَ قَدْ أَغَامَتْ وَ اَلْمَحَجَّةَ قَدْ تَنَكَّرَتْ)، ق 6(وَ

لاَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ اَلْعُقُولُ)، ق 6(أَلْوَانٌ لاَ تَقُومُ لَهُ اَلْقُلُوبُ)،ق 7(فَإِنَّا مُسْتَقْبِلُونَ أَمْراً لَهُ

وُجُوهٌ) فالربط بين الحجج قد انتهى إلى سلمية تدريجية باتجاه الحجة الأقوى، ثم باتجاه النتيجة، وهنا تتضح أهمية الروابط الحجاجيّة، إذ تدخل في إطار كيفية تجاوز مضمون الخطاب الثابت، حيث لا تكتفي بنظام اللغّة في الخطاب والتواصل فقط، وإنما تفرض قيودا دلالیًة على التأويل(20).

الرابط الحجاجي (ثم)

إنها روابط الحجاج تفيد الترتيب، وتدل على أن الثاني بعد الأول وبينهما مهلة، ومما ورد في خطاب الإمام (علیه السلام) ممثلاً عن هذا الرابط، قوله (علیه السلام): ((يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَا يُرِيدُ عُثْاَنُ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَنِي جَمَلًا نَاضِحاً بِالْغَرْبِ أَقْبِلْ وَ أَدْبِرْ بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ ثُمَّ بَعَثَ إِلَيَّ أَنْ أَقْدُمَ ثُمَّ هُوَ الْنَ يَبْعَثُ إِلَيَّ أَنْ أَخْرُجَ وَ الله لَقَدْ دَفَعْتُ عَنْهُ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ أَكُونَ آثِماً)).

وقد فصل القول في هذا النص الشريف الرضي إذ يقول: قال الإمام هذا الابن عباس، و قد جائه برسالة من عثمان، و هو محصور يسأله فيها الخروج إلى ماله بينبع ليقل هتف الناس باسمه للخلافة بعد أن سأله مثل ذلك من قبل، وقال الشيخ محمد عبده: ((كان الناس ميهتفون باسم أمير المؤمنين للخلافة، و ينادون به، و عثمان محصور، فأرسل اليه عثمان يأمره أن يخرج الى ينبع، و كان فيها رزق لأمير المؤمنين، فخرج ثم استدعاه لينصره فحضر، ثم عاود الأمر بالخروج مرة ثانية))، لذلك نستجلي مجي الحجج المتتالية والمرتبة، ذات التنسيق المنسجم مع المقاصد المبتغاة من النص، فقد أفادت (ثم) في إقامة التراتبية في عرض الحجة،

ص: 239

فالرابط الحجاجي دلة على التراخي والمهلة للربط بين المعطوف والمعطوف عليه.

وقد جاء هذا الرابط في نص أخر للإمام (علیه السلام)، إذ قال: ((إِنَّ لِبَنِي أُمَيَّةَ مِرْوَداً يَجْرُونَ فِيهِ وَ لَوْ قَدِ اخْتَلَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ كَادَتْهُمُ الضِّبَاعُ لَغَلَبَتْهُمْ))، وقد قال الشريف في هذا النص: و المرود هنا مفعل من الإرواد و هو الإمهال و الإظهار و هذا من أفصح الكلام و أغربه فكأنه (علیه السلام) شبه المهلة التي هم فيها بالمضمار الذي يجرون فيه إلى الغاية فإذا بلغوا منقطعها انتقض نظامهم بعدها، فالسياق الذي ورد فيه الرابط يدل على المهلة والتراخي، وإعطاء المهلة، وعلى هذا المعنى جاءت الحجج متراخية متباعدة زمنيا، منها حجة (الاخبار بالغيب الصريح)، وهذه من کرامات الامام (علیه السلام)، وحجة (كَادَتْهُمُ الضِّبَاعُ لَغَلَبَتْهُمْ)، أي لوحاربتهم الضباع دون الاسود لقهرتهم، وهذه الحجة تكشف عن نتيجة ضمنية، ضعف الدولة الاموية فحتى الضباع تقهرهم وبعض الشراح يقولون ربّما المراد بالضباع هنا أبو مسلم الخراساني و جيشه حيث كان في بداية أمره أضعف خلق اللهّ، و المعنى ان دولة الأمويين تبقى حتى يختلفوا فيما بينهم، و عندئذ يسلبهم الملك، ومن هذه الحجج نحصل على النتيجة هي (هلاك دولة الامويين)، ويدعم هذه النتيجة قوله (علیه السلام): (ستقبل الدنيا على بني أمية، ثم تدور عليهم فتطحنهم بكلكلها حتى الا ترى منهم باقية).

ص: 240

الخاتمة

خطاب الإمام (علیه السلام)، لا يتوقف عند حوار أعدائه، بل يتجاوز إلى حجاج أتباعه، فالحجاج في الدراسات الحديثة يعني الحوار الإقناعي وهذا الحوار لا يختص بالأعداء بل يتعلق فضلا عن ذلك بالأتباع؛ لأن الإمام (ع) في كلا الحالين يناقش أطروحة ما مستهدفا إمَّا تثبيتها وإمَّا نقضها وترسيخ أخرى، ولا يجعل اهتمامه ينصب على الجمهور أو الشخص المتلقي إلا بالمقدار الذي يقتضيه المقام، فحتى في الحجاج الموجَّه إلى أتباعه أو الجمهور (المحايد) كان يتصدى لما يطرحه الآخرون من أفكار، أو يؤسس لأطروحات تتعلق بالحكم أو علاقة الإنسان بربه و بالمجتمع الذي يعيش فيه، فهذه المباحث كلها تدخل في صميم عملية الحجاج، والحجاج بهذا المفهوم هو أوسع نظرة من الجدل المختص بالخصومة.

إن الشروط التي ذكرها اللسانيون للوقوف على حجاجية النص تتطابق على نحو كبير مع خطاب الإمام (علیه السلام)، فانطلق من مقتضيات الحال ومن المعارف المشتركة في محاولته إقناع الجمهور واستعمل أدوات اللغة بما يخدم هذا التصور، وبناء على ذلك كانت الروابط المستعملة ذات دلالة واضحة يفهمها الجمهور، کما إنَّ من صفات الحجاج الناجح، هو الادعاء بالحقيقة وتقديم الأدلة التي تدعم ذلك الادعاء، لذلك كان حجاج الإمام (علیه السلام) يتصف بالقوة في اعتماد أقوى الحجج والنتائج.

هوامش البحث:

1. ينظر: اللغة و الحجاج: 27

2. الجني الداني في حروف المعاني، تح: فخر الدين قباوة: 591.

3. ينظر: النحو الوافي: 3 / 632.

ص: 241

4. شرح المفصل: 80

5. ينظر اللغة والحجاج: 58.

6. ينظر: المقتضب: 1 / 5.

7. معاني الحروف: 6.

8. اللغة والحجاج: 61.

9. اللغة و الحجاج: 27.

10. المصدر نفسة: 73.

11. ينظر: العوامل الحجاجية في اللغة: 135

12. ينظر العوامل الحجاجية في اللغة: 133 - 124.

13. ينظر: المصدر نفسه: 134.

14. الجني الداني في حروف المعاني: 119

15. الجني الداني: 114.

16. شرح المفصل: 4 / 513

17. النص والسياق استقصاء في الخطاب الدلالي والتداولي: 83.

18. ينظر: الحجاج في المثل السائر لبن الأثير: 93.

19. ينظر: العوامل الحجاجية في اللغة العربية: 153.

20. ينظر: عندما نتواصل نغير، إفريقيا الشرق، المغرب، ط 1، 2006: 82.

ص: 242

المصادر والمراجع

1. الجنى الداني في حروف المعاني، أبو محمد بدر الدين حسن بن قاسم بن عبد الله بن عليّ المرادي (المتوفى: 749 ه، تحقيق: د فخر الدين قباوة - الأستاذ محمد ندیم فاضل، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان ط 1، 1413 ه - 1992 م.

2. شرح المفصَّل: موفق الدين بن يعيش (ت 646 ه)، عالم الكتب، بیروت، د.ت.

3. شرح نهج البلاغة: عز الدين بن هبة الله بن محمد، ابن أبي الحديد المعتزلي (ت 656 ه)، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2، دار إحياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركائه، مصر، 1387 ه - 1967 م.

4. عندما نتواصل نغير، عبد السلام عشير ، إفريقيا الشرق، المغرب، ط 1، 2006.

5. العوامل الحجاجية في اللغة العربية: د. عز الدين الناجح، ط 1، مکتبة علاء الدين للنشر والتوزيع، صفاقس - تونس، 2011 م.

6. اللغة والحجاج: د. أبو بكر العزاوي، ط 1، دار الأحمدية للطباعة، الدار البيضاء - المغرب، 1426 ه - 2006 م.

7. معاني الحروف، أبو الحسن علي بن عيسى الرمانيّ (ت 386 ه)، تحقیق عرفان بن سليم العشا حسونة الدمشقيّ، المكتبة العصرية، بیروت (1428 ه - 2008 م).

8. المقتضب: أبو العباس محمد بن یزید المبرد (ت 285 ه)، تحقيق محمد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بیروت، 1382 ه - 1963 م.

ص: 243

9. النحو الوافي، عباس حسن، دار المعارف، مصر، الطبعة الثالثة (1974م).

10. النص والسياق، استقصاء البحث في الخطاب الدَّلالي والتداولي، فان دایك، ترجمة: عبد القادر قنیني، أفريقيا الشرق، بیروت، ط 1، 2000 م.

11. رسالة ماجستير

12. الحجاج في المثل السائر لابن الاثير، نعيمة يعمرانن، رسالة ماجستير، كلية الآداب واللغات، جامعة مولود معمري، الجزائر، 2012 م.

ص: 244

وصف ضلالة العلماء في نهج البلاغة قراءة تأويلية فكرية لفهم التناقض في وصف الشخصية

اشارة

أ.م.د. تومان غازي الخفاجي أ. م. د. خالد كاظم حميدي

الكلية الإسلامية الجامعة كلية الشيخ الطوسي الجامعة

ص: 245

ص: 246

مقدمة:

الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على خاتم النبيين محم وعلى آله الطيبين وصحبه المنتجبين، وبعد:

فإنّ معظم البحوث والدراسات التي كُتبت عن فهم النصوص القديمة التي مازالت تنبض بالحياة وكأنها تريد أن تقول لنا شيئا ذا بال يلبّي حاجات العصر، لم تعنَ بحلّ مشكلة التناقض التي وردت فيها، ومنها نصوص (نهج البلاغة) التي تصف الشخصيات المتناقضة في موضوع (ضلالة العلاء)، بسبب تحليل تلك النصوص بوساطة قوانين العقل المجرد، أو المنطق الأرسطي كأداة بحث صورية دقيقة الحساب تتوخى مبدأ الوضوح في المفاهيم والاستدلال على وفق قوانين العقل المجرد وهي: أولا: مبدأ ثبوت هوية الأشياء واطراد طبيعتها، وثانيا: مبدأ عدم التناقض، وثالثا: مبدأ الثالث المرفوع، الذي يمكن تسميته بمقياس العقل المجرد الثنائي القيمة الذي يعمل عمل الحاسوب الصناعي بالأرقام الثنائية (1 / 0) التكوين دائرة منطقية تقوّم الأحكام ب(إما حق × أو باطل) ولا ثالث بينهما.

هذه الأداة البحثية الدقيقة الحساب التي تبسط البحث العلمي وتسهل الحساب الدقيق السريع لا تفهم التناقض؛ لذلك ترفضه اعتمادا على قانون العقل المجرد الثاني، فلا يجوز أن يحكم العقل على هذا الشيء بأنّه مربع ودائرة في الوقت نفسه، وعلى هذا الأساس لا تصلح قوانين العقل المجرد وحدها أن تفهم التناقض الموجود في الواقع أو في النصوص، ومنها موضوع البحث الذي يسعى إلى تسليط الضوء على التناقض بين (العلم × والضلالة) غير المتعمدة، التي هي تمثل جهلا في الشخصيات العالِمَة الجاهلة التي وصفها الإمام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة.

هذه هي مشكلة البحث وهي مشكلة التناقض داخل شيء واحد، وقد

ص: 247

أعددنا لحلّ هذه المشكلة أداة منهجية ب(سميناها بنظرية التأويل العربية)، التي قامت فرضيتها الأساسية على بعض المصادر الغربية التي تبحث في منهج (معرفة المعرفة). والفرضية تقول: (إنّ رأس الإنسان الحديث بعد القرن التاسع عشر أخذ يعمل كحاسوب ذي عقلين: العقل المجرد × والقلب التدبري)، لتكوين نظام إدراك داخلي، إذا انفصمت العلاقة بينهما يصبح العقل المجرد عقيما غير منتج لمعرفة جديدة، وإذا انفصم القلب التدبري عن العقل أصبح ملكة أهواء فاسدة الاستدلال؛ لذلك يوصف العقل المجرد وحده بأنّه (نور بلا حركة)، ويوصف القلب وحده بأنّه (حركة في الظلام)؛ لذلك يحتكم نظام الإدراك الداخلي إلى التعقل الحسيّ في الموضوعات الحسية التجريبية، لتكون نظام المنهج العلمي.

وقد وصفنا نظرية التأويل بأنها (عربية)؛ لأنّ مصطلحاتها ومفاهيمها واستنباطاتها معززة ومستخلصة من نصوص قرآنية فصيحة واضحة، فضلا عن وجود نص قرآني معرفي يؤكد ما توصلنا إليه عقلا باكتشاف نظرية التأويل العربية حتى أصبح هذا النص المعرفي مختبرا لفحص نجاعة نظريتنا في تأويل النصوص، فضلا عن أنّه يدعم النظرية بمعرفة أصيلة قامت على أساسها الحضارة العربية الإسلامية.

وقد اقتضت طبيعة البحث أن يقسم على مبحثين هما:

المبحث الأول: نحو نظرية تأويل عربية.

- المبحث الثاني: تأويل نصوص نهج البلاغة التي تصف ضلالة العلماء.

وقد انقسم هذا المبحث على ثلاثة مطالب، أولهما: ضلالة العلماء بسبب عمل العقل المجرد وحده، وثانيهما: ضلالة العلماء بسبب عمل القلب وحده کملكة أهواء، وثالثهما: ضلالة العلاء بسبب انفصام نظام الإدراك الداخلي عن الواقع.

ص: 248

سائلين المولى عزّ وجلّ أن يوفقنا لخدمة الفكر العربي الإسلامي بهذا الاكتشاف التجديدي، ويكفينا من شرّ ضلالة العلماء، عليه توكلنا وإليه ننيب، وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.

المبحث الأول: نحو نظرية تأويل عربية:

تشير بعض المصادر التي تبحث في موضوع (معرفة المعرفة) إلى أنّ رأس الإنسان يضمّ حاسوبا معقدا يشتغل بعقلين(1) يشتغلان معا كنظام إدراكي داخلي هما: (العقل المجرد × والتعقل القلبي)، والتعقل القلبي إذا لم يتحكَّم به العقل المجرد، يصبح ملكة أهواء فاسدة الاستدلال، ويصبح العقل المجرد من دون القلب التدبري عقيما لا ينتج معرفة جديدة؛ لأنّ القلب هو الذي يغذِّي العقل بإبداعاته؛ لذلك يوصف العقل المجرد وحده بأنه: (نور بلا حركة)، ويُوصف التعقل القلبي وحده بأنه: (حركة في الظلام) تسوّغ أهواؤه الخطأ والحُمق والهذيان.

يشتغل عقل الإنسان المجرد بمبدأ ثبوت هوية الأشياء واطراد طبيعتها، خُلقت هكذا وستبقى إلى أبد الآبدين؛ لأنّه يجرّد الأشياء من مادتها بالتقاطه صورة لها ذات تشکیل ریاضي (رقمي / هندسي) ويطبعها على طين المخ؛ لذلك يعدّ الواقع المتغير عبر مرور الزمن عالماً زائفاً وعرضياً ودنيوياً زائلاً. هكذا تدّعي أفكار العقل المجرد بأنها تحمل الحقيقة كلها وتفرض نفسها على القلب بأنّها تمثل (اليقين المطلق) أو (الدوغمائية)، التي تصادر حرية القلب الذي يعمل كملكة تعقّل تدبّرية تنظر في عواقب الأمور عبر صيرورتها الزمانية والمكانية، بمعنی ملاحقة

ص: 249

التحوّل في هوية الأشياء من حال إلى أخرى، کتحوّل النطفة إلى علقة، والعلقة إلى مضغة إلى غير ذلك. وتلك هي الحقيقة الواقعية التي يميل القلب إلى تأييدها على الرغم من أنّه لا ينكر الحقائق العقلية المجردة الثابتة كصور مطبوعة على طين المخ، وبهذا يصبح أمام القلب الحرّ خیاران في بحثه عن الحقائق، أحدهما: خيار الحقيقة العقلية المجردة من المادة كصورة عليا حين ينظر إلى رأس الإنسان، وثانيهما: خيار الحقيقة الواقعية المادية السفلى حين ينظر القلب إلى قدمي الإنسان، فيشكك فيما أملاه العقل المجرد عليه بادعائه بلوغ اليقين المطلق أو (الدوغمائية)، إذ يرى أنْ لا ثبوتَ هناك في هويات الأشياء، وإنّما صيرورة وتغيّر دائم من حال إلى أخرى عبر مرور الزمن.

ولكي يشتغل القلب بمبدئه الخاص وهو مبدأ حرية الاختيار بين مبدأ الثبوت من جهة، ومبدأ الصيرورة عبر مرور الزمن من جهة أخرى، فإنّه يدخل في حوار نقدي فلسفي تدبري مع العقل المجرد، يرفض فيه تلك الدوغمائية التي فرضها عليه العقل المجرد، ليصبح الإنسان حُرّاً في تفكيره و مسؤولاً عن اتخاذ قراراته بحريّة لا تنتکس نحو الأَهواءِ الفوضوية التي تستعبد الإنسان بإشباع طبيعته الحيوانية، وإنما حرية مقيدة بين مبدأين متناقضين: مبدأ العقل المجرد (ثبوت هوية الأشياء واطراد طبيعتها) من جهة، ومبدأ الواقع (عدم ثبوت هوية الأشياء وعدم اطراد طبيعتها، فهي متغيرة الهويات عبر مرور الزمن).

ولكي يكون اختيار القلب الحرّ صحيحاً لابدَّ له من صناعة مقیاس نقدي فکري مُدرّج بلغة تضمّ لغة العقل المجرد، ولغة الواقع العلمية، فضلا عن لغته العاطفية الخاصة به، أما لغة العقل فتقسم المقياس على كيفيتين متضادين؛ لأنه يعمل بلغة الأرقام الثنائية (1، 0) وهي لغة الحاسوب الصناعي، كالآتي: (أسود

ص: 250

قاتم = صفر) x (أبيض ناصع = + 1) ولا ثالث بينهما، كالآتي:

إما - أبيض ناصع

أو - أسود قاتم

أما لغة التعقّل الحسيّ الذي يرى وجود عدد لا يحصى من التدرجات بين الأسود القاتم والأبيض الناصع، أو بين (الصفر والواحد)، فتقسِّم المسافة اللانهائية التدرجات بين الصفر والواحد إلى مائة درجة ليصنع الحس له مقياسًا مئويًا كمقياس درجات الطلبة السهل الاستعمال الذي نقيس بهِ النسبة المئوية لدرجة (النجاح × الفشل)، أو (السواد × البياض). ولا فرق بين النسبتين؛ لأنهما متنافرتين دمجتا في كيفية واحدة مدرَّجة، فقولنا: ٪30 أسود، يعني 70٪ أبيض، ولغرض التخلص من لغة الأضداد العقلية المجردة المُبلبلة للتعقل الحسي، فإنّ التعقل الحسي يدمج لغة الكيفيتين المتضادتين، التي تقسم العالم على ظاهرتين أو ماهيتين أو جوهرين ثابتين، ويحولهما إلى ظاهرة كمية واحدة، وعندئذ لا يكون الأسود مضادًا للأبيض، وإنّما هما ظاهرة واحدة رمادية مقدارها أو نسبتها المئوية كذا، وكذلك لا يوجد في أساس العلم الحديث شيء اسمه حار ولا بارد، وإنّما درجة حرارة مقدارها كذا(2)، تاركاً الكيفيتين المتضادتين كحدّين عقليين مثاليين، لا وجود لهما في الواقع، أو يندر وجودهما؛ لهذا يُتخذان كسقفين لكلّ قياس حسيّ يمثلان الحدود القصوى للمقياس المئوي لأسود قاتم جداً (بدرجة الصفر)، وأبيض ناصع جداً بدرجة (100٪).

أما لغة القلب فإنّها تقسم المقياس المئوي بلغتنا التي تحمل شحنة عاطفية نحو تقسيم مقياس درجة الطالب على قسمين، من الصفر إلى 49%، فيعطيها

ص: 251

القلب معنى مؤلما هو فاشل، ثم يقسم درجة النجاح على (50 - 59% = مقبول)، (60% - 60 = متوسط)، (70 - %79 = جيد)، (80 - 89٪ جيد جدًا)، (90 - %99 = امتياز). تاركاً درجة (%100) كدرجة مثالية لا يأخذها إلا الأستاذ، أو الطالب النادر الوجود.

نلحظ هنا أنّ لغة العقل المجرد تدخل في المقياس (الحسي / العقلي)، وذلك من ملاحظة تقسيم المقياس المئوي على كيفيتين متضادتين هما: (فاشل × ناجح)، ثالث بينها؛ لذلك تُرضى لعبة المقاييس الفكرية النقدية رأس الإنسان المكوَّن من عقلين: (المجرد، والقلب نصف المجرد)، كنظام إدراك داخلي من جهة، وترضي أيضاً التعقل الحسي الخارجي من جهة أخرى كحكم عذل يقطع شك القلب في نقده للعقل المجرد باليقين العلمي التجريبي النسبي، الذي لا يلغي حسابات العقل المجرد الرياضية الدقيقة، وإنما يلغي ادعاء اليقين المطلق أو الدوغمائية فحسب، التي إذا رفضها العقل المجرد يدخل نظام الإدراك الداخلي: (العقل المجرد والقلب التدبري) في جدل عقيم لا ينتهي إلى يوم القيامة، ما لم يحتكما إلى طرف ثالث خارج رأس الإنسان، هو الواقع الموضوعي المستقل عن ذواتنا، الذي يؤيد القلب في نقضه لقرار العقل القطعي، حين يقدم الواقع شواهد تؤكد فعل الصيرورة بتغيير هويات الأشياء التي افترض ثبوتها العقل المجرد إلى الأبد، ليقر بالثبوت النسبي.

لذلك يمكن رسم المقياس الذي تشترك في تكوينه جميع ملكات الإدراك الداخلي (العقل المجرد والقلب من جهة، والإدراك الخارجي (التعقل الحسي) من جهة أخرى، بالمخطط الآتي:

لغة العقل

فاشل

ناجح

لغة الحس

لغة القلب

فاشل أدنى

فاشل أعلى مقبول / متوسط / جيد / جيد جدا / امتیاز

ص: 252

على هذا الأساس يعني النقد الفكري الحرّ بأنّه كلمة تقريرية تحمل معنى الأمر بفصل الحق من الباطل، عن طريق استعمال مقياس يقاس به ما هو معطى، فإذا كان الموضوع المنقود يتعلّق بالمعرفة الطبيعية الفيزيائية النظرية فإنَّ القلب يستعمل مقياس الواقع التجريبي المدرَّج مئويا كما هو مرسوم سابقا، وإذا كان موضوع النقد يتعلق بالمعرفة العملية السلوكية، فإنَّ القلب يلجأ إلى المقياس الأخلاقي وهو (الخير) الذي يعم المجتمع متجاوزا الأنانية، فيقسِّم المقياس السابق على قسمين عقليين: (خير × شر) ولا ثالث بينهما، ثم يقسِّم التعقُّل الحسيّ الخيرَ والشرَّ على درجات كمية، ويدرِّج القلبُ الخيرَ على أقسام تجمع تحت كلمة (الفائدة) أو القيمة العليا التي تتدرج من فائدة (الأنا) الخاصة التي تسمى ب(الأنانية) والتي تعمل بمبدأ غريزي (لذة × ألم) تجاه الغذاء والجنس، وهو مبدأ يأخذ اساً قلبيا هو (مقبول) لإشباع الجانب الحيواني في الإنسان وإلا انقرض ومات، ثم تأتي درجة قلبية تساوي (الأنا) بالآخرين ذكرها الرسول (ص) بقوله: ((لا يؤمن أحدُكم حتى يحبَّ لأخيه ما يحبّ لنفسه))(4)، وتنتج من تساوي الألم واللذة، اللذين يحذف العقل أسماءَهما القلبية ويحولهما إلى لغة الأرقام الثنائية (1 / 0) كالآتي:

أنا = أنت....... (لغة المساواة القلبية التي نترجمها إلى لغة العقل بالآتي)

إما: أنا + أنت = 1 .......(1)

أو: أنا - أنت0 ..........(2) ولا ثالث بينهما.

تلي درجة المساواة القلبية (حبّ الأنا = حب الأنت)، درجة أعلى وهي درجة الأثرة، وفيها تحب الأنا الآخرين أكثر من نفسها، وهذه درجة الأنبياء والصالحين والشهداء، وتقدر درجة هذه الفئة ب(90 - %99) وهي درجة الامتياز، وقبلها المساواة بدرجة جيد جدا (80 - 89٪)، قبلها مساواة بدرجة جيد من (70 -

ص: 253

%79)، وقبلها درجة مساواة بدرجة متوسط (60 - 69٪)، وقبلها الأنانية بدرجة مقبول (50 - 59٪) مثلا.

أما الجزء الفاشل من المقياس المئوي فيسميه القلب ب(الشر)، ويبدأ بالشر المطلق كصورة عقلية مجردة من المادة لا وجود لها في الواقع، تسمى (إبليس، أو الشيطان) درجتها 0٪ من الخير. ويتدرج الشر حتى يبلغ درجة (45 - 49٪) من الخير، تلك الدرجة التي تحتاج إلى قرار قلبي للنجاح يسمِّيها القلب ب(الشفاعة).

والمهم هو أنّ النقد القلبي التدبري للعقل المجرد خلصنا من ادعاء العقل المجرد لليقين المطلق أو (الدوغائية)، وهي أهم انجازات فن التأويل الفلسفي، بمعنى الرجوع إلى الأول وهو القلب بوصفه ملكة تعقل حين يشتغل مع العقل المجرد، كنظام إدراك داخلي يقر فيه القلب بنتائج العقل المجرد، وينقضها في وقت إيقاعي شبه واحد، محتكما للواقع المتغيّر في استدراج الشواهد الحسية التي تسوغ حق النقض، ما يجعل كل معرفة بشرية نسبية، ولا وجود لمعرفة ذات يقين مطلق إلا عند الله، أو عند العقل المجرد إذا انفرد وحده، وتحجر وكأنه مدع للألوهية. ويلي إنجاز نقد التدبر القلبي أو (التأويل الفلسفي) لليقين المطلق، إنجاز مقياس الوظيفة الاجتماعية أو (الفائدة العامة) أو الخدمة، أو شمول الخير للمجتمع، كثقل يسمى (المضمون) في العلامة اللغوية القلبية الثلاثية، مقابل العلامة العقلية المجردة من المادة كشكل خفيف فارغ من المضمون (لفظ + مفهوم عقلي مجرد كلي واضح الحدود) تظهر صوره في تعريفات العقل المجرد الصورية للزواج بأنّه متعة، وللصوم امتناع عن الأكل والشرب في شهر معين ووقت معين، وللصلاة بأنها أعداد مضبوطة وحركات هندسية: قيام وركوع وسجود باتجاه معلوم. كل هذه الشكلنة السائدة عندنا اليوم، لا قيمة لها ولا فائدة فيها ما لم تؤدِّ فائدة اجتماعية

ص: 254

تتجاوز الفائدة الأنانية الضيقة، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): ((مَن لم تنهَهُ صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعدا))(5). وكذلك توجد أحاديث عن عدم نوال الصائم من أجر إلا الجوع والعطش، حين لا يقدّم الصوم فائدة لمجتمع الفقراء، أو يهذب النفس بترك العادات السيئة المؤذية للفرد وللمجتمع معا، وعليه يمكن تعديل تعريف الزواج بفائدته غير الأنانية (المتعة) السائد حتى الآن، بأنّه: (متعة + تجدد النسل)، وينقد القلب هذا التعريف ويضيف إليه الفائدة الاجتماعية بأن يعرفه: (متعة + تجدد النسل + يقوي الروابط الاجتماعية) إلى غير ذلك.

وعلى هذا الأساس يكون القلب الناقد للفكر المجرد مبتكرا ومطورا للمقاييس النقدية الفلسفية العملية، لأنّ النقد من دون مقياس نقدي عام يعدّ عبثا، ذلك أنّ تقويم شيء لا يتمّ إلا بالرجوع إلى شيء آخر غيره؛ الشيء الأول هو الموضوع المراد تقويمه، والثاني هو المقياس المستعمل للتقويم، مع ملاحظة أنّ المقاييس نفسها بحاجة إلى نقد أيضا لمعرفة حدود صلاحيتها أو عدم صلاحيتها لأداء وظيفة المقياس(6).

و(التأويل) بعدُ، يحصل داخل رأس الإنسان ذي العقلين، اللذين يعملان معا كنظام إدراكي داخلي(7)، أولهما: العقل المجرد صانع المفاهيم، أي التي يفهمها حين يقسِّم الأشياء إلى بسائط ويضع بينها حدودا واضحة ويلتقط لها صورة مرسومة بلغة الحاسوب الصناعي (0 / 1)، ويعني (الصفر) لا يمرّ تيار كهربائي في كهربائية المخ، ويعني (الواحد) يمرّ تيار. وبهذا يطبع العقل المجرد تصوراته على طين المخ بالرسم الهندسي كما يرسم الفرجال حين يثبت دبوسه على نقطة ثابتة تمثل (الصفر) بمعنى لا يتحرك، ثمّ يحرك طرفه الآخر فيرسم خطا هندسيا = + 1،

ص: 255

بمعنى يتحرّك.

وثانيهما: القلب الذي إذا ارتبط بالعقل المجرد بعلاقة فهو ملكة تعقل قلبي صانعة للثورات(8) العلمية والفكرية التي يعمّ خيرها المجتمع المحلي أو الانساني، الذي يكمن وراءه تفكُّر قلبي تدبري حرّ مبتكر، لا تقف ابتكاراته عند حد؛ لأنّه كلّما ابتكر معنى تدبریا، رسم له العقل المجرد صورة رقمية بلغة الحاسوب(0 / 1)، انتقده القلب مشككا في فكرة ثبوت هوية تلك الصورة، وقدَّم شاهدا من الواقع الحسيّ التجريبي على وجود تحوّل في هوية الأشياء عبر مرور الزمن، الذي غالبا ما يكون طويلا أو قصيرا، ما يجعل العلامة اللغوية القلبية ثلاثية ثقيلة لتضمّن لفظها معنيين: أولهما: معنى عقلي (مفهوم)، وثانيهما: معنى ناقد أو ناقض تأويلي بمعنى الرجوع إلى الأول وهو القلب، بخلاف العلامة اللغوية الصورية الخفيفة المجردة من المعنى القلبي الثقيل؛ لذلك تكون العلامات اللغوية للعقل المجرد ثنائية (لفظ + مفهوم عقلي صوري). ويتضح ذلك بالمخطط الآتي:

مفهوم عقلي - خط + 1 - نقطه 0 - علامة ثنائیة عقلیة

مفهوم عقلي - خط + 1 - خط - 1 - نقطة 0 - معنى قلبي (تأويل) - علامة ثنائية عقلية علامة ثلاثية عقلية / قلبية

هذه التشكيلات الصورية يضع لها الإنسان أسماء لفظية أو كتابية محسوسة لغرض التداول المعلوماتي بين شخص وآخر، ولا يهمنا هذا هنا؛ لأننا ناقش النظام الإدراكي الداخلي للإنسان كنظام منتج للمعاني اللانهائية التي تبدأ قلبية، وحين تتضح للعقل المجرد بلغة (النقطة + الخط) أو لغة الحاسوب الرقمية (0 / الجزء

ص: 256

1) وتصبح مفهومية ثابتة لطبعها على طين المخ، حتى ينتقدها القلب ثانية وثالثة إلى ما لانهاية، كالاتي:

نقطة 0 - خط + 1 - مفهوم - خط - 1 - (تأويل) - نفطه 0 - خط + 1 - مفهوم - خط - 1 - خط + 1 - (تأويل) - نقطه 0 - خط + 1 - مفهوم - خط - 1 - (تأویل) ...الخ

هكذا ترتقي الأمم بارتقاء معاني لغاتها القلبية التي لا تكفيها الألفاظ المحدودة؛ لذلك تلتجئ اللغة الاعتيادية إلى المشترك: (كلمة واحدة لها عدد لا يحصى من المعاني القلبیة)، نحو كلمة (الحب) التي تدلّ على الحبّ الأناني (حبّ الغذاء والجنس)، ثم الحبّ المكفوف نحو: حبّ الأم والأب والإخوة والجيران والمسلمين وسائر البشر كنظراء في الخَلْق. ثم حبّ المجردات نحو حبّ: (الوطن، والقومية، والأمة، والحرية)، ثم حبّ الله الذي يتفرّع إلى حبّ الله خوفا من ناره، وحبه طمعا في جنته، وحبه لا طمعا ولا خوفا الى غير ذلك.

وقد تتخلَّف الأمم فتفقد لغاتها جميع المعاني القلبية السابقة الرائعة ويقتصر معنى الحبّ عندها مثلا على المعنى الأناني الجنسي والغذائي حتى يظهر قادة وعلاء هذه الأمم بصورة إنسان ولكن قلوبهم قلب حيوان، قال الإمام علي (عليه السلام): ((وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِماً ولَيْسَ بِهِ فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وأَضَالِيلَ مِنْ ضُلالٍ ونَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وقَوْلِ زُورٍ... فَالصُّورَةُ صُورَةُ

إِنْسَانٍ والْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ))(9).

والملحوظ في المخطط السابق أنّ المميز للغة العقل هو النقطة والخط الصاعد،

ص: 257

والمميز لنقض القلب هو الخط النازل، أما لغة التأويل فهي مجموع (الخط الصاعد + 1 والنازل - 1) = الصفر القلبي الذي يراه العقل المجرد كحدٍّ يعني اللاشيء أو العدم، في حين يراه القلب صراعا نابضا بالحياة؛ لأنّه يشبه عمل القلب البايولوجي: (انقباض + 1، وانبساط - 1 = صفر)، لذلك يمكن ترجمة معنى (الصفر القلبي) بلغة فلسفية غربية بأنّه يمثل قانون المنطق الجدلي الرئيس وهو: (وحدة وصراع الأضداد).

وهذا القانون الجدلي هو الذي يجمع بين العقلين: (المجرد والقلبي) في رأس واحد يعمل فيه القلب كالساعة داخل كلّ شيء، دافعة إياه الى التطور والتقدم الذاتيين الى الأمام، وكأنّ العالم كله مخلوق ناقصا ويتحرك ذاتيا بساعة قلبية تدفعه ذاتيا من الداخل نحو غاية الكمال، الذي إذا نسبناه إلى الله وحده، فإنّ العالم كله يسعى إلى بلوغ كمال الله كنقطة جوهرية أولى هي صفر العالم القلبي الذي قذف بالعالم المادي بلفظة (كن) فلم يكن كاملا فجأة، وإنّما بدأ (يكون) بالمضارع، متطورا إلى الأمام (+ 1) بصيرورة زمانية من حال أدنى إلى حال أعلى، ليعود (- 1) إلى نفس النقطة الجوهرية، عودة ليست عبثية، وإنّما عودة إبداعية ترتقي فيها المادة من بسيطة (غاز الهيدروجين) إلى أن تصبح إنسانا تميز بظهور عقل مجرد له قبل عشرين ألف سنة بقفزة تطورية بسيطة أخرجت رأسه فقط من اللاهوية مع الحيوان (مستوى الصفر من العقل)، فتميز من الحيوان بصفة (عاقل = +1)؛ تسمى هذه القفزة بقفزة ال(فصل) عن الحيوان مع بقائه موصولا مع طبقته العامة بمزية (جنس الحيوان).

والفصل هو عمل العقل المجرد، أما الوصل فهو نقض أو نقد قلبي تدبري يرجع بالإنسان إلى طبقته العامة التي تضم عددا لا يحصى من الكائنات الموصول

ص: 258

بعضها ببعض وصلا يجعلها غير متمايزة الهويات(10)، لذلك يقرّ القلب بالفصل العقلي (+ 1)، ولكن ينقضه بالوصل القلبي (- 1)، والنتيجة هي الصفر القلبي ( + 1 - 1 = صفر)، الذي يوجّه انتباهنا إلى الواقع التجريبي لنرى بمقياس التعقل الحسي المئوي كمية العقل أو كمية الحيوانية الباقية في الإنسان بما هو إنسان؛ أي كماهية مجردة، أو في الأفراد حين نلحظ تدرج تعقلهم البسيطة في الأطفال عند تعلمهم اللغة البشرية، ولا تكتمل عقولهم إلا في الأربعين من العمر، وهو العمر الذي تضعف فيه الغرائز الأنانية.

ويمكن مما تقدّم رسم مخطط وظيفي يبيّن عمل كهربائية العقلين معا بالمخطط الآتي، ابتداء من المدخلات In put، حتى المخرجات Out put، يعالج تعريف الإنسان بلغة الحاسوب: (حيوان = وصل = 0 / عاقل = فصل = + 1):

لغة اعتيادية - مدخلات In put - معالجة قلبية / عقلية مجردة - مخرجات Out put

إنسان

حيوان = وصل = صفر

قلب + 1 - 1 = صفر

يمر تيار كهربائي (+ 1)

لا يمر (- 1) ينقلب

عاقل = فصل = + 1

عاقل + 1

يمر تيار كهربائي (+ 1)

نعم + لا = ()

نعم + 1

نلحظ هنا أنّ عمل العقل المجرد وحده هو العمل بالفصل + 1، أي فصل الأشياء المدمجة وتحليلها بهويات ثابتة عمّا هو دونها من طبقة مدمجة معها هي مستوى جنس الحيوان. وتنطق سماعة العقل المجرد بكلمة نعم أو كلمة (حق + 1)، أو يضيء مصباح قناته؛ لذلك توصف قناته وحدها بأنّها: (نور بلا حركة) بسبب مرور تيار كهربائي فيها، ويفسِّر العقل المجرد قناة القلب غير الناطقة بأنها تنطق بالباطل أو العدم أو اللاشيء لعدم مرور تيار كهربائي في مخرجاتها، لأنّ

ص: 259

مقياس العقل المجرد فقير يضمّ كلمتين متضادتين فقط (حق × باطل) ولا ثالث بينهما، في حين يحتدم الصراع داخل قناة القلب بآلية تقرّ بما قرره العقل المجرد (يمر تيار + 1)، وتنقضها (لا يمر - 1) في وقت إيقاعي شبه واحد، وتقدِّم أسبابا واقعية تؤيد حق النقض بملاحظة ثمرة نتائج الحوار الجدلي القلبي الإبداعي الذي لولاه لبقي العقل المجرد عقيما، ما يوجِّه انتباهنا مباشرة إلى أساس العلم الحديث، وهو البحث عن الأسباب الواقعية التي تتملكها حواسنا والتي تبيّن أسباب عدم إضاءة مصباح القلب، بأنّها تمثل مظهرا زائفا لما يعتمل من صراع في الداخل، بدلا من التعلق بأسباب غيبية بعيدة خارقة لقوانين الطبيعة التي تدمر العقل المجرد؛ الملكة المميزة للإنسان من الحيوان، وتشلّ التعقل الحسيّ التجريبي العلمي، ويبقى القلب وحده متسكعا في أزمنة وأمكنة اسطورية حرّم الله علينا الخوض فيها، وأحلّ منهج البحث العلمي التجريبي قبل أكثر من 1400 عام، وذلك قوله تعالى على لسان إبراهيم: «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ...»(11).

يظهر في الآية الكريمة أنموذج منهج البحث العلمي الذي تشترك به جميع ملكات الإدراك؛ الداخلية منها: (العقل المجرد، والقلب)، والخارجية: (التعقل الحسي)، ما يغلق مثلث الإدراك على نفسه بشكل هندسي يحصر الحقيقة في نقطة علم داخله تقلل من الجدل العقيم الدال على الجهل، بحسب المقولة المنسوبة للإمام علي (عليه السلام): ((العلم نقطة كثّرها الجاهلون))(12)، ويتضح مثلث الإدراك الذي تكوِّنه الملكات الثلاث في المخطط الآتي:

ص: 260

العقل - العلم نقطة - القلب -الحسن

يؤلف هذا الأنموذج المعرفي منهجا متطورا يجدد نفسه بنفسه، بخلاف معظم مناهج البحث الغربية، التي تخرج القلب أو مبدأ الحرية أو الإيمان من دائرة البحث، وتقصر العلم على ملكتين فقط هما: (العقل المجرد، والتعقل الحسي التجريبي). وقد سمينا هذا المنهج بمنطق علم النقطة، وسمينا آلية الجدل المعرفي الدائر في علم النقطة ب(نظرية التأويل العربية)؛ لأنّ مفاهيمها ومصطلحاتها التقنية الفكرية معرَّبة بمصطلحات قرآنية أصيلة مستمدة من الآية السابقة، وهي نصّ غفلنا عن فهمه فهما جيدا لمدة طويلة، وسنفهمه بوساطة آلية التأويل الفلسفي التي ابتكرناها وهي: (إقرار القلب بنتائج العقل المجرد، ونقضها في وقت إيقاعي شبه واحد، مسوِّغا حق النقض بأسباب موضوعية واقعية)، لنرى فاعلية هذه الآلية التأويلية الفلسفية في استقراء النصوص القديمة التي تشهد بنتائجها القيمة على صحة نظريتنا، ويشهد النص المعرفي القرآني السابق على أنّه نص معرفي قيل قبل أكثر من 1400 عام على ما يجري داخل نظام إدراكنا من جدل منهجي معرفي يجدد نفسه بنفسه، ويوجه انتباهنا نحو منهج البحث العلمي التجريبي العام، كالآتي:

1 - إجراء العقل المجرد استقراءه لظاهرة (موت الإنسان) التي يشهد عليها عدد لا يحصى من الوقائع المحصورة في حيّز الماضي والحاضر فحسب؛ لذلك يستخلص قضية كلية مطمئنا لها هي: (كل إنسان = فانٍ).

ثم يجري العقل حساب القياس الأرسطي الذي يدعّي أنّ نتائجه التنبّوئية

ص: 261

ذات يقين مطلق كالآتي:

كل إنسان = فانٍ..........(1)

وأنت = إنسان.............(2)

وبجمع المعادلتين وحذف الحدّ المشترك من طرفي المعادلة الجديدة، وهو (إنسان)، نحصل على نتيجة: (أنت = فانٍ) لا محالة في المستقبل کتنبؤ يقيني 100%.

2 - يقرّ القلب بنتائج العقل المجرد کحاسوب دقيقة سريع، ولكنّه ينقضها بسبب ادعاء العقل المجرد لليقين المطلق الذي يُخرج ملكة القلب من نظام الإدراك الداخلي، لذلك يطالب القلب بحقّ النقض على أن يقدِّم شواهد حسية تجريبية من الواقع، ولو شاهدا واحدا لينقض الحكم الكلي (اليقين المطلق النقي 100٪)، ويحوله إلى يقين نسبي 99٪. والشاهد الحسيّ هو الذي طلبه إبراهيم (عليه السلام) من الله أن يريه كيفية إحياء الموتى عن طريق الشرح المفصّل الذي يجعل حواس التلميذ تتملك تفاصيله.

3 - سأل الله نبيه هل هو مؤمن بقضية إحياء الموتی؟ فأجاب ب(نعم) کایان قلبي من منظور أخلاقي لا إيمان علمي فيزيائي. وقد استدعى القلب العقل أن يبرهن على الإيمان القلبُ الأخلاقي ببرهان (الخلف): (كارثية النتائج الأخلاقية / الاجتماعية والنفسية اللاحقة زمانيا، تلزم العقل بتعديل فرضية عدم إحياء الموتى السابقة)، عن طريق تدخُّل قدرة كلية الإقامة العدل الإلهي بعد الموت، وهذه تلزم الإيمان بالله القادر على إحياء الموتی كضرورة (أخلاقية / اجتماعية ونفسية)؛ لأنّ عدم وجود الله يجعل كلَّ شيء مباحا، وهو ما يُفكك المجتمع ويحطم نفسية الإنسان الذي يرى أنّ الحياة عبث يتساوى فيها (الظالم والمظلوم)، و(الجاهل

ص: 262

والعالم)، و(المؤمن والكافر). وهذا هو برهان الفلسفة العملية القلبية، الذي يسير بالعكس: (النتيجة النافعة للمجتمع، تؤكد صحة الفكرة السابقة زمانيا) حتى لو سمّاها أسطورة، والعكس بالعكس.

4 - عَلِمَ الله أنّ نبيه لا يريد إحياء بعض الأموات بطريقة (کن فیکون)، أو بطريقة التدخّل المباشر للقدرة الإلهية الكلية كإعجاز يخرق قوانين الطبيعة ويُلغي دور العقل المجرد في استقرائه للواقع وإجراء عملية القياس الأرسطي؛ لذلك أبي الله أن يتدخّل حتى في شرح التجربة التي طلبها إبراهيم، فجعلها بيد نبيّه نفسه يلمسها ويراها ويقيسها بمساطره، لكي يطمئن قلبه بأنّ قضية (إحياء الموتى) تظهر جلية في قانون المنطق الجدلي الرئيس وهو قانون القلب (وحدة وصراع الأضداد)، إذ لولا وجود الموت داخل الحياة لاستحال علينا الموت، كذلك الحياة موجودة في الموت، وعليه يمكن تجربة إحياء الموتى على يد الإنسان کسبق علمي غير خارق القوانين الطبيعة خرقا خارجيا يدمّر حاسوب العقل المجرد تلك الجوهرة التي تميز الإنسان من الحيوان التي أبقى الله لها مجالا للمشاركة في حساب النتائج حسابا منطقيا أرسطيا، بدليل أنّ ابراهیم (عليه السلام) سأل ربّه عن كيفية إحياء موتی الإنسان، فأمره بإجراء التجربة على الطير، ليبقي للعقل المجرد دورا كأداة بحث ریاضي قياسية كالآتي:

الإنسان كائن حي................(1)

الطير = كائن حي..................(2)

والمساويان لشيء واحد متساويان، إذن:

الإنسان = الطير...................(3)

ص: 263

والطير = يمكن إحياؤه بالتجربة......(4)

وبجمع المعادلين وحذف المشترك (الطير) من طرفي المعادلة الجديدة نحصل على النتيجة المطلوبة: (الإنسان = يمكن إحياؤه بالتجربة).

وبهذا يشارك العقل المجرد والتعقل الحسي معا في الاستدلال، ما يطمئن القلب فينغلق مثلث الإدراك على نفسه حاصرا الحقيقة في نقطة موجودة داخل حيز هندسي ضيق، يقلل الجدل العقيم حولها، ويصبح الإيمان علميا يسوّغ للقلب حق نقض قرار العقل المجرد الأول (فناء الإنسان) لا محالة، ليعدل من کلیاته وادعائه اليقين المطلق في حساباته.

ولو رجعنا إلى النظام الاستنباطي العقلي في نظرية التأويل العربية، بدلا من الاستدلال اعتمادا على تأويل نصّ قد لا يؤمن به غير المسلم، فإنّنا نجد أسبابا موضوعية تُظهر حق النقض أو النقد، وتَظهر في الاستقراء غير التام، ما يسوِّغ للقلب نقض كليات العقل المجرد (كل إنسان = فانٍ)؛ لأنّها آتية من استقراء العقل للماضي والحاضر فحسب، لاستحالة استقرائه للمستقبل. وبهذا يقرّ العقل بخطئه، ويجعل المستقبل حيزا للممکنات، ما يفتح باب البحث العلمي في المستقبل، ويعزو عدم إمكان (إحياء الموتى) الآن إلى قصور أدوات البحث العلمي، أو عدم تطور العلم ككل.

وهذا يعني وجود قوانين تحكم العالم المادي، مختلفة عن قوانين العقل المجرد العامل بمبدأ ثبوت هوية الأشياء والأفكار؛ لأنّ قوانين الواقع المادي عاملة بمبدأ (الصيرورة) أي التحوّل من حال إلى أخرى تحوّلا ذاتيا، وكأنّ لكلّ شيء قلبا یحرِّکه ذاتيا، فالحيّ له قلب يعمل کساعة تدفعه ذاتيا إلى الموت، والميت أيضا له قلب يعمل کساعة داخلية تدفعه ذاتيا إلى الحياة ثانية، وهكذا دواليك من ميت الى

ص: 264

حي ثم من حيّ إلى ميت ثانية، ثم من میت إلى حيّ... الخ، و كلّ دورة يتطوّر فيها الإنسان حتى يبلغ درجة کالا من التعقل %99 ودرجة حيوانية 1٪.

بهذه الطريقة نفهم قوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ»(13)، بأنّه يمثل (عملية نسخ دائرية مستمرة)؛ النسخ بمعنى التجديد والتطور من الخيّر إلى الأخير منه کحقيقة طبيعية لا يفهمها إلا القلب، لأنّها تشبه قانونه الذي يجمع بين الأضداد في وحدة إيقاعية: (انقباض + 1 / وانبساط - 1 = صفر)، وهذا يعني أنّ الحياة والموت متصارعان في حلبة واحدة، مرة يفوز ملاكم الحياة، ومرة يفوز ملاكم الموت الذي لا يموت أو يتقاعد، وإنّما يعاود الكَرَّة للنزال مع من غلبه، وما الثبوت الذي يراه العقل إلا شيء مؤقت. وهذا القانون القلبي العظيم هو الذي يسود الطبيعة ويجعلها تتحوّل من حال خيّرة إلى أخرى أخير منها، وهو لا يلغي دور الله، وإنّما يعززه ويبيّن قدرته الكلية؛ لأنّه يمثل (آية) أي علامة عجيبة موجودة في الآفاق وفي أنفسنا، لا يتدخل الله في تدميرها؛ لأنّه هو خالقها، وهي نفسها التي يتحدث عنها في (آية النسخ) بمعنی التجديد والتطور في الطبيعة أو في الواقع، وينعكس في الذهن نفسه کتجديد وتطور في الحكم على الواقع من الخيّر نحو الأخير منه، قال تعالى: «مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ...نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا ...أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(14)، ف(الآية) هنا مشترك تدل على العلامة الواقعية العجيبة التي تتطور ذاتيا عبر مرور الزمن، والآية هي العلامة اللغوية (النص) کانعکاس ذهني يظهر في الحكم الذي يتغيّر مواكبا لتغير الواقع من الوضع الخيّر إلى ما هو أخير منه، وهو ما يدلّ على قدرة الخالق الكلية الموجودة في تذييل الآية الكريمة.

وخلاصة القول إنّنا قدمنا فلسفة تأویل عربية يرشدها منطق عملي (عقلي /

ص: 265

قلبي) کتطوير لفرع قدیم کاد يطويه النسيان، وهو التأويل القديم الذي يتناول ظاهرة جمع الأضداد وينسب تفسيرها إلى قوى غيبية سحرية أو شيطانية أو رحمانية خارقة لقوانين الطبيعة تشلّ العقل المجرد والتعقل الحسي التجريبي (البحث العلمي)، أو تؤوِّل النصوص بشطحات المفسِّر التي لا تطرد طبيعتها فلا يستطيع العقل المجرد استقراءها لتتضح هويتها الثابتة، ليطبعها على طين المخ كبرنامج منطقي جديد (مفهوم) تشتغل بموجبه رؤوسنا بعقلين: (مجرد، وقلبي)، برنامج سهل التعليم والتطبيق الذي اكتشفناه بعون الله في آلية: (موافقة القلب لقرار العقل المجرد، ونقضه في وقت إيقاعي) شبه واحد، ثم يقدِّم دليلا موضوعيا حسيا يدلّ على أحقية فكرة النقض)، ما يحمل العقل المجرد على تعديل ادعائه الليقين المطلق في استقراء کلیاته وحساباته الرياضية.

وهكذا يتضح التجديد في مفهوم التأويل القديم الذي ذكره الجرجاني (ت 816 ه) بأنّه انعکاس مباشر ساذج لقوانين الصيرورة الطبيعة في الذهن لم يصل إلى قلبها الذي يجمع بين الأضداد في وحدة ويعمل على دفع كلّ شيء متطورا ذاتيا إلى الأمام، أو بالقفز للأعلى في الأشياء التي تعود إلى حيث ما بدأت منه في دائرة: (الموت، ثم الحياة، ثم الموت ثانية...) متطورة إلى الأعلى بشكل حلزوني يفسح فيه الجيل الميت مجالا لتطور جيناته في أبنائه، وقد شهدت على قوانين الصيرورة تطور العلوم التجريبية الحديثة التي رصدت تحوّل الضد إلى ضده وبالعكس؛ لذلك اختلط التأويل القديم بالتفسير عند الجرجاني وهو يؤول آية إخراج الميت من الحيّ وبالعكس بقوله: ((إنْ أراد به إخراج الطير من البيضة كان تفسيرا، وإنْ أراد به إخراج المؤمن من الكافر، أو العالمِ من الجاهل، كان تأويلا))(15)؛ فإخراج المؤمن من الكافر أو العالم من الجاهل) إذا كان بين

ص: 266

شيئين منفصلين بينهما علاقة تضایف ک(الابن والأب، والأستاذ وتلميذه) فإنّه لا يُسمّى تأویلا، وإنّما يسمى تفسيرا أدني من خروج البيضة من الطير، وخروج الطير من البيضة؛ لأنّ الله هنا يتحدَّث عن التناقض في الطبيعة الذي لا يعني الاستدلال الفاسد الذي ينقض العقلانية المنطقية الأرسطية، وإنّما التناقض الذي يسوّغ الاستدلال العقلاني في المنطق الجدلي كانعكاس لمنطق قلب الطبيعة، وهو ينتج من استنباط صحیح انطلاقا من مقدمات متسقة. وقد ظهر هذا التناقض بداية القرن العشرين في العلم الملك وهو الفيزياء الذرية الذي مسّ أساس العلم التجريبي عن طريق سلوك جزئيات الذرة سلوکا متناقضا کموجة طاقة تسلك سلوکا ماديا في ((تناقض قويّ يبرز في العلاقة (موجة / جسیم)؛ لا يتعلق الأمر بتاتا بصراع بين كائنين مجتمعين هما: الموجة والجسيم، بل يتناقض في الواقع نفسه الذي يتدافع مظهراه منطقيا))(16).

ص: 267

المبحث الثاني: تأويل نصوص نهج البلاغة التي تصف ضلالة العلماء:

تبيّن مما سبق أنّ من أسباب الجهل والضلالة المعرفيين اللذين يقع بهما الإنسان وحتى العلاء ناتج من تعطّل إحدى ملكات الإدراك الثلاث: (العقل المجرد، أو القلب، أو الحس التجريبي)، ما يؤدي إلى انفتاح مثلث الإدراك، فتخرج الحقيقة أو (نقطة العلم) متسكعة في فضاء غير متناهٍ، فيكثر حولها الجدل العقيم الذي يدلّ على الجهل الكارثي، ويقود الإنسان والعالم إلى الجهل والضلال المعرفي، نظرا لتحطُّم النظام العلائقي للملكات الإدراكية، فلا تعي وهي متفرقة حدود صلاحياتها الوظيفية، وتفصيل ذلك بالآتي:

المطلب الأول: ضلالة العلماء بسبب عمل العقل المجرد وحده:

إنّ عمل العقل المجرد وحده یُصادر حرية القلب ويخرجه من نظام الإدراك الداخلي، نظرا لادعاء العقل المجرد اليقين المطلق كحكم يدعيه مقوما نتائج حسابه المنطقي التي اذا تفحصّنا حسابها القياسي، فإنّنا نجده عقیما؛ لأنّه يمثل تحصیل الحاصل، أو مصادرة على المطلوب أو مغالطة تخفي النتيجة في المقدمة الكبرى، ذلك أنّ المقدمة الكلية لا يمكن أن تكون صادقة إلا إذا كانت نتيجتها صادقة(17). وهذا يعني أنّ العقل المجرد بلا قلب یکون عقيما غير منتج لمعرفة جديدة تتجاوز إمكاناته المعرفية المحدودة البسيطة الرائعة، وهي الاستقراء الرياضي، ومنه يعمم قضية كلية يتنبأ بوساطتها باطراد صفات جزئياتها في المستقبل اعتمادا على افتراض ثبوت هوية الأشياء واطراد طبيعتها)، نحو (كل إنسان = فان)، و(أنت = إنسان)، وبجمع المعادلتين وحذف الحد المشتركة (إنسان) تكون النتيجة (أنت فان) لا

ص: 268

محالة في المستقبل باليقين المطلق.

ومن أخطاء العقل المجرد عندما يعمل وحده هو تقويمه الأشياء على وفق مقياسه الحاد الذي يقسِّم الحكم على الأشياء بكيفيتين متضادتين: (أما أبيض × أو أسود) ولا ثالث بينهما.

وقد رصد الإمام علي (عليه السلام) هذا الخطأ الفكري العقلي الذي يُسيء إلى الواقع اللانهائي التدرجات عند الفقيه الذي يشتغل رأسه بعقل واحد، وهو العقل المجرد × لذلك استنكر فكر هذا الضرب من الفقهاء غير العالمين بعلاقة الله بعباده، وهؤلاء يحكمون على الله بعقولهم المجردة وحدها بأنّه رحيم بدرجة 100٪ فيشجعون الناس على ارتكاب المعاصي، أو يحكمون على الله بأنّه منتقم 100٪، فتيأس الناس من الرحمة ولا تبادر للتوبة؛ لأنّ الحكمين عقليين مجردین لا وجود لهما في الواقع، وإنّما يوجدان في مقياس العقل المجرد عند الحكم على صفات الله في ذاتها ولذاتها فيسبغ عليها العقل صفة الكلية. أما حين يحكم على صفات الله في علاقته بعباده فالمقياس الصحيح هو المقياس العملي المتعدد القيمة کالمقياس المئوي الذي يقوّم درجات الطالب، وهذا ما أكّده الإمام علي (عليه السلام) في وصفه للفقيه غير الجاهل بعلاقة الله بعباده مقابل الفقيه المبرمج عقله المجرد على المقياس الثنائي القيمة (أبيض × أسود) ولا ثالث بينهما، وذلك قوله (عليه السلام): ((الْفَقِيهُ كُلُّ الْفَقِيهِ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللِّهَ ولَمْ يُؤْيِسْهُمْ مِنْ رَوْحِ اللِّهَ ولَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ))(18).

يُمكن وصف هذه المقولة بأنّها تمثل نظرية تطبيق تأويلية، بمعنى الرجوع إلى الأول، وهو القلب التدبري، الذي يوصل ما فصله العقل المجرد، بالتطبيق العملي التدبري القلبي. وهذا الوصل الجدلي لم يلتفت إليه فريق من الفقهاء

ص: 269

المتزمتين الذين برمجوا عقولهم أنْ تحكم بمقياس العقل المجرد ثنائي القيمة: (إما أبيض × أو أسود) ولا ثالث بينهما، ما يجعل هؤلاء يضلون في أحكامهم من دون النظر القلبي التدبري الموجود في واقع الحياة التربوية، فضلا عن وجود في نصوص قرآنية كثيرة، التي جمعت بين الأحكام المتناقضة بحسب السياق المقامي، فالله تعالى (غفور رحيم) في مقام، و (شديد العقاب) في مقام آخر، فالصفتان لیستا ثابتتين عمليا؛ لأنّ الأمر متعلق بحركية العبد وعلاقته مع ربه ومع نفسه ومجتمعه، يُخطئ فيستغفر ويعمل صالحا فيغفر الله له، ولا يأس من رحمة الله الدنيوية إلا في لحظات الموت الأخيرة؛ لأنها ليست لحظات حرية ارادة.

ومن الذين وقعوا في أخطاء العقل المجرد عندما يعمل وحده هم (الخوارج)، وهم يمثلون تيارا فكريا سياسيا متطرفا، وهم الذين وصفهم الإمام علي (عليه السلام) بأنّهم طلاب حق أخطأوا في الوصول إليه، مقابل جماعة أخرى هم: (طلاب الباطل)؛ لذلك أوصى بالخوارج بعده بقوله: ((لا تُقَاتِلُوا الْخَوَارِجَ بَعْدِي، فَلَيْسَ مَنْ طَلَبَ الْحَقَّ فَأَخْطَأَهُ كَمَنْ طَلَبَ الْبَاطِلَ فَأَدْرَكَهُ))(19).

فالخوارج - إذن - يعتمدون على العقل المجرد وحده في فلسفتهم العقلية المجردة من مادة الواقع الاجتماعي، التي ترى (أنّ الحكم لله وحده)، وتعني هذه المقولة في نظريتنا: (أنّ الحكم للعقل وحده)، وإلا كيف يتصل بهم الله في كلّ صغيرة وكبيرة، وكيف يتصلون به ويستجيب لهم كلّما أرادوا ذلك؟! وهذا يعني أنّ عقيدتهم يسيطر عليها العقل المجرد، أو أنّ رؤوسهم فيها حاسوب العقل يشتغل وحده بلا قلب تدبري يهذِّب السلوك في الوصول إلى الحق، فهُم قساة القلوب يفتكون بأي قوة تقف في طريقهم، فلا يسمحون بمناقشة أفكارهم الصورية حتى أنّهم كفّروا إمامهم وأمروه بأن يشهد على نفسه بالكفر ويتوب کما شهدوا على أنفسهم

ص: 270

بالكفر وتابوا، فقال لهم (عليه السلام): ((أَبَعْدَ إِياَنِ بِاللَّهِ وَجِهَادِي مَعَ رَسُولِ

اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) أَشْهَدُ عَلَى نَفْسِيِ بِالْكُفْرِ، لَقَدْ «ضَلَلْتُ إِذاً وما أَنَا مِنَ

الْمُهْتَدِينَ». فَأُوبُوا شَرَّ مَآبٍ وارْجِعُوا عَلَى أَثَرِ الأعْقَابِ أَمَا إِنَّكُمْ سَتَلْقَوْنَ بَعْدِي ذُلاً

شَامِلاً وسَيْفاً قَاطِعاً وأَثَرَةً يَتَّخِذُهَا الظَّالِمُونَ فِيكُمْ سُنَّةً))(20).

إنّ مقولة الخوارج (لا حكم إلا لله) مقولة صورية إيمانية عقلية صحيحة 100٪، ولكنّها من دون قلب تدبري، تخلط النظرية المجردة بالتطبيق العملي السوكي، أو يجعلون النظر الصوري المجرد هو الذي يبرمج عقولهم وحده، فيصبحون مسیّرین غير أحرار، لعدم وضوح مجال التطبيق السلوكي الأخلاقي في أذهانهم الذي يشرح القواعد العملية لتقليل أخطاء السلوك الأخلاقي الموصل إلى الحق، فضلا عن عدم وضوح القواعد القلبية التي تتعلق بالعالم الفيزيائي؛ لذلك نجدهم فئة قليلة تواجه امبراطوريات في أوج عظمتها، فتفتك بهم جيوش هذه الدول ولا تتعاطف معهم الناس.

والقاعدة الأخلاقية السلوكية والطبيعية الفيزيائية الاجتماعية التي طبقها النبي (صلى الله عليه وآله) في الوصول إلى نظرية (لا حكم إلا لله) هي أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) في جميع حروبه مع قريش طبق قاعدة (إحداث انعطافة تاريخية كبيرة بأقلّ الخسائر)، وذلك ما أوضحه المفكر التونسي الدكتور محمد الطالبي بأنّ عدد الخسائر في جميع حروب النبي (صلى الله عليه وآله) بلغت 110 ضحية من قريش، أما قتلى المسلمين فبلغ 91 ضحية(21)، لكن الخوارج لم يفهموا هذا؛ لأنّ رؤوسهم تشتغل بعقل مجرد من دون قلب، يلحظ عدد الأيتام والأرامل والأحقاد التي يخلفها طلب الثأر في مجتمع الحراك السياسي؛ لذلك وصف الإمام علي (عليه السلام) ضلال قلوب الخوارج وخطأ فلسفتهم العقلية المجردة في قولهم (لا حكم

ص: 271

إلا لله) بأنّها ((كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلا لِلِّهَ ولَكِنَّ هَؤُلاءِ يَقُولُونَ

لا إِمْرَةَ إِلا لِلِّهَ وإِنَّهُ لا بُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِرٍ بَرٍّ أَوْ فَاجِرٍ يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ ويَسْتَمْتِعُ

فِيهَا الْكَافِرُ ويُبَلِّغُ اللُّهَ فِيهَا الأجَلَ ويُجْمَعُ بِهِ الْفَيْءُ ويُقَاتَلُ بِهِ الْعَدُوُّ وتَأْمَنُ بِهِ السُّبُلُ ويُؤْخَذُ بِهِ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ ويُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ))(22).

أوضح الإمام (عليه السلام) في هذا النصّ الخطأ الفكري العقلي الصوري من دون قلب تدبري، الذي وقع به الخوارج، وهو الحكم بالمقياس الصارم (إما x أو) ولا ثالث بينهما، فالكون فيه حاکم و محکوم، ولمّا كان الله هو الخالق الكلي القدرة، فإذن هو الحاكم المطلق، وغيره من المخلوقين هم المحكومون، إذن (لا حكم إلا لله).

وقد وصف الإمام (عليه السلام) مقولتهم بأنّها (كلمة حق يراد بها باطل) يعني أنّها حق على مستوى النظر العقلي التجريدي الصوري، ولكنّها باطلة أو خطأ ومدمرة للواقع المادي عندما تطبق النظرية على الواقع بقلوب قاسية ضالة لا تمّيز بين النظرية وهي نتاج العقل المجرد، والتطبيق الذي هو نتاج التعقل القلبي التدبري، الذي يضع القواعد العملية لبلوغ الصورة العقلية المثالية المجردة من المادة كهدف بعيد. فإمارة المؤمنين وسيلة أو أداة للعدل بين الناس وفرض للنظام الشرعي عليهم، وليست غاية في ذاتها، فإذا طبقها الإمام الفاجر فلا مشكلة في نزول الإمام العادل عنها ليبقى معارضایهابه الإمام الفاجر، ولكن الخوارج لم يفهموا هذا، فاعتقدوا أنّهم ظلّ الله في أرضه، لذلك على الله أن يحكم بمقياس العقل الحاد (إما أن ينصرهم × أو يقاتلوا فيقتلوا ليدخلهم الجنة بالقوة) ولا ثالث بينهما.

ومن الأخطاء التي وقع بها الخوارج أيضا هو خطأ (إعمام الجزئي)، وهذا الخطأ العقلي المجرد هو الذي ولَّد كثيرا من الكوارث الفكرية القديمة والحديثة.

ص: 272

من ذلك اعتقاد بعضهم أنّ الحجاج بالسنّة النبوية وهي جزئية، أفضل من الحجاج بالقرآن الكلي، اعتمادا على قول الإمام علي (عليه السلام) لابن عباس: ((لا تُخَاصِمْهُمْ بِالْقُرْآنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ حَمَّالٌ ذُو وُجُوهٍ تَقُولُ ويَقُولُونَ، ولَكِنْ حَاجِجْهُمْ

بِالسُّنَّةِ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَنْهَا مَحِيصاً))(23).

فالإمام (عليه السلام) يُوصي ابن عمّه في جزئية الحجاج مع الخوارج فقط بأنّ غلبتهم تكمن باستعمال السنّة النبوية؛ لأنّ السنّة تمثل القلب التدبري الشارح لكليات القرآن، أو هي التي تنتصر بالوضوح العملي لموقف الإمام وأصحابه من الخوارج، ومن ذلك محو النبي لصفة (رسول الله) في صلح الحديبية مع الكفار، وقد محا الإمام (عليه السلام) في هدنته مع معاوية صفة (أمير المؤمنين) عنه، وهي إحدى تُهَمِ الخوارج للإمام علي (عليه السلام)، ولكنّ الإمام لم يخطئ في قياسه العملي في هذه القضية على تلك، لكنّ الخوارج جعلوا ذلك خطأ فكريا استراتيجيا، وهو ليس كذلك لأنه مجرد تهدئة صورية لحقن دماء المسلمين، والخوارج لم تفهم ذلك المعنى القلبي التدبري؛ لأن عقولهم تعمل بلا قلوب، والعقل حين يعمل بلا قلب تدبري يعمم الجزئيات، ومن ذلك تكفيرهم للإمام علي (عليه السلام) وتكفيرهم للإمام علي (عليه السلام) وتكفيرهم لكل مَن وقف إلى جانبه بقول أو بفعل، أو بعدم نصرتهم عليه؛ لذلك خطابهم الإمام بقوله: ((فَإِنْ أَبَيْتُمْ إِلا أَنْ

تَزْعُمُوا أَنِّي أَخْطَأْتُ وضَلَلْتُ فَلِمَ تُضَلِّلُونَ عَامَّةَ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ (صى الله عليه وآله)

بِضَلاِ وتَأْخُذُونَهُمْ بِخَطَئِي وتُكَفِّرُونَهُمْ بِذُنُوبِ سُيُوفُكُمْ عَلَى عَوَاتِقِكُمْ تَضَعُونَهَا

مَوَاضِعَ الْبُرْءِ والسُّقْمِ وتَخْلِطُونَ مَنْ أَذْنَبَ بِمَنْ لَمْ يُذْنِبْ وقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ

(صلى الله عليه وآله) رَجَمَ الزَّانِيَ الْمُحْصَنَ ثُمَّ صَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ وَرَّثَهُ أَهْلَهُ...))(24).

يظهر إعمام الجزئي جليا في بداية النص، وكذلك في نهايته إذ يهيمن العقل

ص: 273

المجرد وحده على الحكم بثبوت هوية الزنا على من زنى منذ أن فعل فعلته إلى يوم القيامة، بخلاف رؤية النبي (صلى الله عليه وآله) الذي يرى قلبه التدبري أنّ الزاني يتطهّر عند تنفيذ العقوبة عليه؛ لذلك صلّى النبي (صلى الله عليه وآله) على الزاني المرجوم وورَّثه أهله، ولا عقاب عليه فيما يخص هذه الغلطة يوم القيامة؛ لأنّ حكم الله قد طبق عليه في الدنيا على يد رسوله (صلى الله عليه وآله)، وكذلك لا يمكن تجريد الزاني من كلّ حسناته بسبب خطأ واحد؛ لأنّ هذا التجريد غير عادل وهو خطأ فكري سببه (إعمام الجزئي).

المطلب الثاني: ضلالة العلماء بسبب عمل القلب وحده كملكة أهواء:

إذا عمل القلب وحده فإنّه لا يُسمّى قلبا تدبريا، أو ملكة تعقل؛ لأنّ القلب لا يكون كذلك إلا بارتباطه مع العقل بعلاقة لتكوين نظام إدراك داخلي، إذ يقبل القلب قرار العقل المجرد وينقضه في وقت شبه واحد متلمسا أسباب واقعية منطقية يرتضيها العقل تسوّغ حق النقض، أما إذا انفرد القلب وحده فيسمى ب(الأهواء) التي تحوّل التفكّر الإبداعي التأويلي كوعي وجودي ذاتي يُقذف إلى الخارج بفن (أولي الألباب) الثقيل بالمعرفة التدبرية، إلى نشاط غير معقول فوضوي يشبه (الحركة في الظلام)، إذ يتسكّع القلب وحده في (الأمكنة والأزمنة الأسطورية) ويدمج الذات بالموضوع فيؤدي إلى شطحات تأويلية سخيفة(25)، كقول بعض المتصوفة: (أنا الله) بدمج الذات الإنسانية (الأنا) العارفة بالموضوع الذي تفكر فيه (الله) فتساوي بينهما: (أنا = الله).

وقد حذَّر الإمام (عليه السلام) من الأهواء التي هي نتاج ملكة القلب عندما يعمل وحده من دون نور العقل، فيقول: ((إِنَّمَا بَدْءُ وُقُوعِ الْفِتَنِ أَهْوَاءٌ تُتَّبَعُ وأَحْكَامٌ تُبْتَدَعُ... ولَوْ أَنَّ الْحَقَّ خَلَصَ مِنْ لَبْسِ الْبَاطِلِ انْقَطَعَتْ عَنْهُ أَلْسُنُ

ص: 274

الْمُعَانِدِينَ ولَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا ضِغْثٌ ومِنْ هَذَا ضِغْثٌ فَيُمْزَجَانِ فَهُنَالِكَ يَسْتَوْلِي

الشَّيْطَانُ عَلَى أَوْلِيَائِهِ ويَنْجُو الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنى(26)...))(27).

(الفتنة) هي غياب ملكة الحكم العقلي الصحيح المميز بمقياسه الحاد بين (الحق × الباطل) ولا ثالث بينهما، وإذا غاب هذا الحكم العقلي المجرد انفصم القلب عن نظام الإدراك واشتغل بالهوى، ولاسيما في ما يسمى بالقضايا المتشابهة، وأبرزها أنّ البشر يرون أنفسهم بأنهم متساوون من دون فوارق فردية، كذلك رأت العامة من الناس أنهم يشبهون الأنبياء فاحتجوا على الله لماذا اختار من بينهم هذا الرجل نبياً ولم يخترْ غيره، قال تعالى راداً على هذه الفتنة «قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ»(28).

الفتنة - إذن - سببها التشابه الظاهري الذي تخدع فيه الحواسُ القلوبَ المفتونة فیستولي عليها الشيطان، أمَّا أصحاب العقول النيرة فيميزون بين (الظاهر) الخارجي المتشابه و (الباطن) الخفي الذي يكتشفه العقل بالحدس، كذلك أوضح الإمام علي (عليه السلام) انعدام النظام العقلي المنطقي أو انعدام العقلانية في وصف سلوك الذين يختلفون في الفتيا في قضية واحدة اعتمادا على دستور واحد. ويظهر ذلك في قوله: ((تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ الْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ الأحْكَامِ فَيَحْكُمُ فِيهَا

بِرَأْيِهِ ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ الْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَیْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِخِافِ قَوْلِهِ ثُمَّ يَجْتَمِعُ

الْقُضَاةُ بِذَلِكَ عِنْدَ الإمَامِ الَّذِي اسْتَقْضَاهُمْ فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً وإِلُهُمْ وَاحِدٌ

ونَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ وكِتَابُهُمْ وَاحِدٌ أَ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالاخْتِافِ فَأَطَاعُوهُ أَمْ نَهَاهُمْ

عَنْهُ فَعَصَوْهُ))(29).

لفظة (علماء) مشتقة من (العلم)، والعلم يقتضي أن يسير بنظام منطقي

ص: 275

عقلاني استنباطي صارم في عملية الاستدلال؛ لذلك يرفض العلم التناقض في الحكم على قضية واحدة استنادًا إلى دستور واحد في وقت شبه واحد، وعليه يدلّ التناقض على تعطيل ملكة (العقل المجرد) ذات المقياس الصارم الثنائي الكيفيتين المتضادين (أسود × أبيض) ولا ثالث بينهما، وتعطيل العقل المجرد يجعل القلب ملكة أهواء تستدل متحركة في الظلام، وقد سمّاها الإمام علي (عليه السلام) ب(الحكم بالرأي) ما يجعل صاحب الشهادة العلمية التي أهلته أنْ يكون قاضياً أو عالما، شخصاً ضالاً استعبدت الأهواء عقله فألَهَ من يهواه من دون الله، قال ابن عباس (ت 68 ه): ((الهوى إله معبود، وتلا قوله تعالى: «أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ»(30)، وأضله الله على علم))(31).

يؤكد ابن عباس أنّ انفصام عقل العالم عن قلبه يجعل القلب ملكة أهواء تعود بالإنسان إلى أخس من الحيوان؛ لأنَّ الأهواء تدمّر ملكة العقل المجرد فيستعبد قلبَ العالِم المالُ أو الجاهُ أو أي شيء آخر يستولي على القلب كصنم معبود؛ لذلك يبدو العالِم في الظاهر کعالم جليل له صورة الإنسان المهيب، ولكن هذه الصورة الجميلة فارغة من المضمون الأخلاقي الذي يميز الإنسان من المجنون والحيوان؛ لذلك يوصف الإنسان بأنه (حيوان + أخلاق)، ولا يوصف الحيوان بالأخلاق.

ومثل هؤلاء قد وصفهم الإمام (عليه السلام) بوصف قاسٍ بأنّ صورهم صورة إنسان له قلب حيوان وذلك قوله: ((وَآخَرُ قَدْ تَسَمَّى عَالِاً ولَيْسَ بِهِ فَاقْتَبَسَ جَهَائِلَ مِنْ جُهَّالٍ وأَضَالِيلَ مِنْ ضُالٍ ونَصَبَ لِلنَّاسِ أَشْرَاكاً مِنْ حَبَائِلِ غُرُورٍ وقَوْلِ زُورٍ... فَالصُّورَةُ صُورَةُ إِنْسَانٍ والْقَلْبُ قَلْبُ حَيَوَانٍ))(32).

كلّ ذلك يحصل بسبب تحطُّم العلاقة بين نظام الادراك في رأس الإنسان الذي يعمل بعقلين (العقل المجرد × والعقل التدبري)، إذ يبقى القلب وحده فيتحوّل

ص: 276

من ملكة تعقل تدبرية ابداعية، إلى ملكة أهواء تسوغ الخطأ والحمق والهذيان، وربما تصيب الأهواء الحواس بداء الهلوسة فيشم الإنسان في براز حیوان امتطاه أحد الصحابة ريح المسك(33).

تبيّن مما سبق الأسباب الفكرية لضلالة العلماء بأنها ناتجة من قطع العلاقة بين ملكتي الإدراك الداخليتين (العقل المجرد × القلب) لذلك ربط الإمام (عليه السلام) ملكة القلب بالعقل حتى لا تضل طريقها بالأهواء التي تعمل بمبدأ غريزي حيواني (لذة × ألم) تجاه الجنس والغذاء. أما إذا ارتبط القلب بالعقل المجرد فإنّه يُصبح ملكة تدبّر إبداعية راقية، تملّ من الفكر المألوف والمتكرر والتلقين الببغاوي للعلوم القديمة، فتتمرد عليها بوصفها ثوابت عقلية طبعها العقل على طين المخ بحسب آلية نظرية التأويل العربية: (موافقة القلب لما أقرَّه العقل، ونقضه في وقت إيقاعي شبه واحد، مقدماً الدليل المنطقي الجدلي أو الحسي التجريبي المسوِّغ لحقّ النقض).

بهذه الآلية تصبح القلوب ملكات تعقّل إبداعية منتجة لأدب أولي الألباب أو (الآیات) بمصطلح القرآن الكريم؛ آیات ما بأنفسنا؛ لذلك أكد الإمام علي (عليه السلام) على تربية وتهذيب القلب الإنساني ولاسيما قلب الرجل، الذي يولد وحشية أنانية، وذلك قوله: ((قُلُوبُ الرِّجَالِ وَحْشِيَّةٌ فَمَنْ تَأَلَّفَهَا أَقْبَلَتْ عَلَيْهِ))(34)، بمعنى أنّ قلوب النساء أكثر عاطفة ورقّة، وعليه فهي لا تحب الاستقلال أو التمركز حول الذات، أما قلوب الرجال فإنّها تميل إلى الاستقلال أو (التمركز حول الذات).

وقد أكد الإمام (عليه السلام) على إبداعية القلوب التي تملّ من تكرار المألوف، وتخوض مغامرات فكرية في عوالم مجهولة لتغذي العقل المجرد بإبداعها،

ص: 277

وذلك قوله (عليه السلام): ((إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الأبْدَانُ فَابْتَغُوا لَهَا

طَرَائِفَ الْحِكَمِ))(35).

وقد عَرَفَ الإمام (عليه السلام) سرَّ القلب البشري الذي يجمع بين المتضادات في وحدة، ومنها أضداد (الشهوة الأنانية × والتضحية من أجل الآخرين)، و(الأنانية) يعدّها الإمام علي (عليه السلام) جزءًا من الخير أو الحق الذي يتبع فيه الإنسان غرائزه، أو جزأه الحيواني فيميل إلى (الجنس والغذاء) على وفق مبدأ (لذة × ألم) لولاه لمات الإنسان وانقطع نسله؛ لذلك لا يمكن مطالبته بأن يرتقي قلبه ليعمل بمبدأ (المساواة) (الأنا) لل(أنت الآخر)، أو يعمل بمبدأ الأثرة (حب الآخر أكثر من حب النفس)، ما لم نتمكن من إشباع غريزته الجنسية وبطنه، لكنّ هناك ترتيباً على المقياس الحسي المئوي، يعطي درجة (المقبول) لهذا الإشباع الشهوي، وهناك درجات أسمى منها أخلاقية يجب أن تُعرف تدرجاتها على هذا المقياس، کما مرّ سابقا، وأقصى درجة سمو أخلاقي هي درجة الامتياز (90 - %99) وهي درجة الأنبياء والصالحين والشهداء والصديقين، التي لا يجب أنْ نقحمها ونفرضها بالقوة على قلوب عامة البشر فتدمرها؛ لأن الفرض بالقوة يولّد تغييرًا میکانیکیاً خارجیاً مدمرًا يختلف عن التغيير الذاتي الذي يحصل بالتربية القائمة على معرفة علمية، وهذا ما أكده الإمام علي (عليه السلام) بقوله: ((إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وإِقْبَالاً وإِدْبَاراً فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وإِقْبَالَهِا فَإِنَّ الْقَلْبَ إِذَا أُكْرِهَ عَمِيَ))(36).

وهذه الرؤية العلمية الراقية بسيكولوجية النفس البشرية والنفس الحيوانية الذكية أيضاً، هي نفسها من مكتشفات علم النفس السلوكي للإنسان أو الحيوان الذكي: (القرود، الكلاب، القطط، الخيول... إلخ)، كلّما سلك سلوكاً حسناً کُرِّم

ص: 278

صاحبه بما یُشبع شهوته، ولاسيما الغذائية لتنشيط الاستجابة الإيجابية، فيُصبح القلب مبصرًا متعلماً بالتجربة، وهناك طريقة مغلوطة لتغيير السلوك وهي العقاب على كل سلوك سيئ، وهذا ما نهى عنه الإمام (عليه السلام) لأنه يسبب عمی القلب کبصيرة إدراكية الذي يحول الإنسان والحيوان الذكي إلى آلة.

تُعدّ هذه الطريقة جناية على الإنسان بالذات، إذ تنظّم سلوكه بطريقة ميكانيكية خارجية مدمرة هي (الخوف)، أو الشعور بالألم؛ لذلك تتحيّن القلوب الخائفة والمتألمة الفرص للانتقام والثورة على من دمّر حريتها، في حين تتعاطف وتحزن على من رباها بالشعور باللذة تجاه السلوك الحسن، وتحوّل من رباها إلى بطل أو رمز حتى بعد موته.

المطلب الثالث: ضلالة العلماء بسبب انفصام نظام الإدراك الداخلي عن الواقع:

يُمثل نظام الإدراك الداخلي علاقة (العقل المجرد والقلب التدبري) اللذين يعملان معا بالية التأويل العربية: (موافقة القلب لقرار العقل المجرد ونقض حكمه بالتماس أسباب موضوعية تسوّغ حق النقض)، وإذا لم يعثر القلب على الأسباب الموضوعية الواقعية الحسية التي تسوّغ حق النقض يحدث جدل عقيم بين ملكتي الإدراك الداخليتين لا ينتهي إلى يوم القيامة؛ لأنّ مبدأ السببية الواقعية هو مبدأ العلم التجريبي كنوع من المعرفة التي تتملك تفاصيلها حواس الإنسان؛ لذلك يستطيع المشاهد أن يكرر التجارب التي شاهدها؛ لأنّه عرف أسباب حدوث هذه التفاصيل، ومن هنا عُرِّف العلم التجريبي بأنّه ((معرفة الشيء من خلال مسبباته))(37)، وإذا لم نعرف تلك الأسباب فإن العلماء يضلون بالاستدلال، أو يؤمنون بالأساطير والخرافات الشعبية المتداولة لمدد طويلة بحيث تأخذ شهرتها بين الناس أو بين العلماء أنفسهم وتسيطر على عقولهم كمسلات أو بدهيات لا

ص: 279

تقبل النقاش؛ لذلك وجّه الإمام (عليه السلام) من يدعي أنّه عالِم، ولاسيما في القضايا الحسية أن يستعمل ملكة الإدراك الخارجية، وهي التعقل الحسي الذي قوامه: (الملاحظة وقياس المعطيات بطريقة مباشرة)، ليكون التعقل الحسيّ حَکَماً بين العقل (المجرد والقلب) يحكم بينهما بكلمة الفصل، إذا دخلا في حوار جدلي عقیم طويل يكثِّر (نقطة العلم)، وكثرة النقطة تدلّ على الجهل.

وقد أوضحنا أنّ نظرية التأويل العربية نظرية معرفية تقوم على تكوين مثلث الإدراك الذي يحصر الحقيقة وسط حيِّز ضيق هندسي تكوِّنه ملكات الإدراك الثلاث: (العقل المجرد والقلب التدبري) كنظام إدراك داخلي، والتعقل الحسي کملكة إدراك خارجية مكملة وحاسمة للصراع الفكري الدائر في الداخل؛ لذلك ركز الإمام علي (عليه السلام) في الملاحظة المباشرة لمعطيات الحس لتفنيد نصوص الحسّ الشعبي ومنها: نظرية تلقيح أنثى الطاووس بوساطة التقاطها دمعة فَحْلِها من جفنه، وذلك قوله: ((وَمِنْ أَعْجَبِهَا خَلْقاً الطَّاوُسُ... يُفْيِ كَإِفْضَاءِ الدِّيَكَةِ ويَؤُرُّ [ينكح] بِمَلاقِحِهِ أَرَّ الْفُحُولِ الْمُغْتَلِمَةِ لِلضَّرَابِ أُحِيلُكَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مُعَايَنَةٍ لا كَمَنْ يُحِيلُ عَلَى ضَعِيفٍ إِسْنَادُهُ [النقل بالرواية]...))(38).

والمعاينة هي الملحوظة المحسوسة التي تؤيد حسابات العقل بأنّ (الطاووس طير وخصائص تلقیحه تشبه خصائص تلقيح كلّ الطيور)، بخلاف النقل بالرواية (اللغة البشرية المنفصمة عن الواقع)، التي يمكنها أنْ تنقل لنا الأكاذيب والخرافات والأساطير وتحيطها أحيانا بهالة من القدسية على الرغم من أنها من نتاج البشر غير المعصومين الذين يخطئون ويصيبون.

أما في العلوم التي تبحث في الموضوعات غير الحسية، أي غير الخاضعة للملاحظة والقياس المباشر للمعطيات، كالقضايا الإلهية والروحية، فإنّ نظام

ص: 280

الإدراك يجب أن يحذر من براهين العقل المجرد في مثل هذه القضايا؛ لأنّ العقل المجرد كحاسوب يعمل بالأرقام الثنائية يكون محدودا، وعليه يجب إقامة العقائد على الإيمان القلبي الديني معززا بما جاء به الوحي، أو الكشف العرفاني الهادئ الكاشف عن إيقاع التضاد في موضوع معرفة الصفات الإلهية مثلا، الذي يشبه إيقاع القلب (انقباض + 1 / انبساط - 1 = صفر)، والذي يتجنب الشطح الصوفي، وذلك يظهر في إجابة الإمام على سؤال بعضهم حين سأله عن رؤيته لربّه، فقال: ((أفأعبد ما لا أرى؟! فقال: وكيف تراه؟ فقال: لا تُدْرِكُهُ الْعُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الْعِيَانِ

ولَكِنْ تُدْرِكُهُ الْقُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ قَرِيبٌ مِنَ الأشْيَاءِ غَیْرَ مُلابِسٍ بَعِيدٌ مِنْهَا غَیْرَ مُبَايِنٍ مُتَكَلِّمٌ لا بِرَوِيَّةٍ مُرِيدٌ لا بِهِمَّةٍ صَانِعٌ لا بِجَارِحَةٍ لَطِيفٌ لا يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ

كَبِیرٌ لا يُوصَفُ بِالْخَفَاءِ بَصِیرٌ لا يُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ رَحِيمٌ لا يُوصَفُ بِالرِّقَّةِ تَعْنُو

الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ وتَجِبُ الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ)(39).

ص: 281

خاتمة:

خلص البحث إلى جمل من النتائج لعلَّ أهمها ما يأتي:

1 - تبيّن من البحث أهمية نظرية التأويل العربية كأداة بحث في فهم النصوص القديمة، أو تدبّر معانيها القلبية، ولاسيما التي يرد فيها التناقض في الأحكام، إذ يعمل القلب بآلية تأويلية تجعله ملكة تعقّل مبدعة إذا عمل مع العقل المجرد كنظام إدراك داخلي وظيفي، وآليته الإبداعية المعرفية هي (موافقة العقل المجرد ×ونقض قراره الكلي المدعي اليقين المطلق النقي 100٪ مبيناً أسباب النقض الموضوعية المسوِّغة لحق النقض)، ليحمل العقل المجرد على تعديل مقدماته الكلية التي يستخرج منها نتائج تدعي بلوغ اليقين المطلق أو (الدوغمائية)، وهو قرار مفروض على قلب الإنسان التدبري العامل بمبدأ (الحرية) من العقل مستعملاً لغة القلب، وأهمها (اليقين) الذي إذا كان مطلقا 100٪ فإنّه يخرج القلب من نظام الإدراك؛ لذلك ينقضه القلب مسوِّغاً النقض بأسباب موضوعية لا يرّدها العقل المجرد، ما يجعل المعرفة الإنسانية نسبية لا تبلغ (اليقين المطلق)؛ لأنّ جميع الموضوعات العلمية المحسوسة (الطبيعة الفيزيائية والاجتماعية) التي يبحث فيها نظام الإدراك خاضعة لمبدأ (الصيرورة) أي التحول من حال إلى أخرى عبر مرور الزمن.

2 - فسَّر الأنموذج المعرفي النظرية التأويل العربية أسباب الأخطاء التي يقع بها حاسوب الرأس البشري المشتغل بعقلين: (العقل المجرد × التعقّل القلبي التدبري) بأنها ناتجة من انفصام العلاقة بين عنصري نظام الإدراك، ويأتي خطأ العقل المجرد حين يعمل وحده بأن نتائجه عقيمة تمثّل تحصيل حاصل أو مصادرة على المطلوب، ما يجعل الحساب العقلي المجرد بالقياس الأرسطي عقيماً.

ص: 282

أمّا أخطاء القلب حين يعمل وحده فهي أخطاء كارثية، إذ يتحول التعقّل القلبي إلى ملكة أهواء تتسکَّع في الأزمنة والأمكنة الأسطورية، وتُسوِّغ الخطأ والحمق والهذيان حين تتجوّل الأهواء في الظلام بفضاء ما تحت صوفي يحمل صاحبه على ضلالة القول (أنا الله) مثلاً.

3 - العقل المجرد يمثل رأس الإنسان الصوري المجرد من المادة، وملكة الحس التجريبي تُمثّل قدمي الإنسان الماديتين، أما قلب الإنسان فهو الوسط الذي يجمع بين المجرد من المادة (رياضيات العقل أو المنطق الأرسطي) من جهة، والمادي المحسوس من جهة أخرى، ولهذا تشترك ملكات الإنسان الإدراكية كلها في البحث عن الحقيقة، ملكتان داخليتان (العقل والقلب)، والأخرى خارجية (التعقّل الحسيّ)، لتكوين حيز هندسي ثلاثي يحصر نقطة العلم أو الحقيقة في حيز ضيق هو مثلث الإدراك المعرفي السليم، الذي استنبطناه عقلاً، وعززه نص قرآني معرفي لتكوين أنموذج معرفي مغلق، إذا انفتح بإهمال أي ملكة إدراكية فإن نقطة الحقيقة تضيع في فضاء لا متناه یکثر حولها الجدل العقيم الذي يدل على الجهل.

هوامش البحث:

1. المنهج، معرفة المعرفة، إدغار موران: 3 / 141، و 4 / 276.

2. ظ: المنطق، نظرية البحث، جون ديوي: 18.

3. ظ: الفلسفة الألمانية الحديثة، روديجر بوبنر: 156.

4. صحیح مسلم: 1 / 67، ح (45).

5. المعجم الكبير، الطبراني: 11 / 46.

6. ظ: الفلسفة الألمانية الحديثة، روديجر بوبنر: 156 - 157.

7. ظ: المنهج، الأفكار، إدغار موران: 4 / 279.

8. ظ: فلسفة فویرباخ بين المادية والإنسانية، نادية أحمد النصراوي: 7 (المقدمة).

9. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 142.

ص: 283

10. ظ: سیمیائيات التأويل، الانتاج ومنطق الدلائل، طائع الحداوي: 213.

11. سورة البقرة: 290.

12. مستدرك نهج البلاغة، الهادي کاشف الغطاء: 163.

13. سورة الأنعام: 95.

14. سورة البقرة: 260.

15. التعريفات الجرجاني: 0 4 (التأويل).

16. المنهج، الأفكار، إدغار موران: 4 / 413.

17. ظ: المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا: 2 / 382.

18. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 669.

19. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 96.

20. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 94.

21. ظ: تجديد الفكر الإسلامي، دليل المسلم القرآني، محمد الطالبي: 128.

22. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 79

23. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 646.

24. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 241.

25. ظ: المنهج، معرفة المعرفة، إدغار موران: 3 / 149.

26. إشارة إلى قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ».. سورة الأنبياء: 101.

27. نهج البلاغة، ضبط: د. صبحي الصالح: 87.

28. سورة إبراهيم: 10 - 11.

29. نهج البلاغة، ضبط: د. صبحي الصالح: 46.

30. سورة الفرقان: 63.

31. البيان والتبيين، الجاحظ: 1 / 235.

32. نهج البلاغة، ضبط صبحي الصالح: 140 - 141.

33. روى الطبري هذا الشعور الهلوسي المعتمد على الاستدلال الهذياني الأحمق في رواية له تتصل بمعركة (الجمل)، بقوله: ((وإذا رجال من الأزد يأخذون بعر الجمل فيفتّونه، ویشمونه ويقولون: بعر جمل أمِّنا ريحه كريح المسك)). تاريخ الأمم والملوك، الطبري: 7 / 252.

ص: 284

34. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 663.

35. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 669.

36. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 694.

37. الفلسفة البراجماتية، أصولها ومبادئها مع دراسة تحليلية في فلسفة مؤسسها تشارلس ساندرس بیرس، د. علي عبد الهادي المرهج: 65.

38. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 471.

39. نهج البلاغة، ضبط د. صبحي الصالح: 344.

ص: 285

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

1. البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255 ه)، تحقيق وشرح عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (د.ت).

2. تاريخ الأمم والملوك، أبو جعفر محمد بن جریر الطبري (ت 310 ه)، منشورات الأعلمی للمطبوعات، بیروت، لبنان، ط 4، (1409 ه / 1989 م).

3. تجديد الفكر الإسلامي، دليل المسلم القرآني، محمد الطالبي، مطبعة معامل فنزي للطباعة، تونس، 2016 م.

4. التعريفات، أبو الحسن علي بن محمد الجرجاني المعروف بالسيد الشريف (ت 816 ه)، تقديم د. أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية العامة، وزارة الثقافة والإعلام، بغداد، العراق، (1406 ه / 1986 م).

5. سیمیائيات التأويل، الإنتاج ومنطق الدلائل، طائع الحداوي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط 1، 2006 م.

6. صحيح مسلم، أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري (ت 261 ه)، حقق نصوصه وصححه ورقمه وعدّ كتبه وأبوابه وأحاديثه وعلق عليه محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة (د.ت).

7. الفلسفة الألمانية الحديثة، روديجر بوبنر، ترجمة فؤاد کامل، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1987 م.

8. الفلسفة البراجماتية أصولها ومبادئها مع دراسة تحليلية في فلسفة مؤسسها تشارلس ساندرس بیرس، د. علي عبد الهادي المرهج، دار الكتب العلمية،

ص: 286

بیروت، لبنان، ط 1، 2008 م

9. فلسفة فویرباخ بين المادية والإنسانية، نادية أحمد النصراوي، دار الرافدين بیروت، لبنان، ط 5، 2017 م.

10. مستدرك نهج البلاغة، جمع الهادي کاشف الغطاء، منشورات مكتبة الأندلس، (د.ت).

11. المعجم الفلسفي، د. جميل صليبا، مطبعة سلیمانزاده، قم، ط 1، 1385 ه.

12. المعجم الكبير، الطبراني، تحقيق حمدي عبد المجيد، دار إحياء التراث العربي، بیروت، ط 2، (د.ت).

13. المنطق، نظرية البحث، جون ديوي، ترجمة زكي نجيب محمود، میراث للترجمة، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2010 م.

14. المنهج، الأفكار، إدغار موران، ترجمة د. يوسف تيبس، أفريقيا الشرق، المغرب، 2013 م.

15. نهج البلاغة، ضبط نصه وأبتكر فهارسه العلمية د. صبحي الصالح، مطبعة رسول، قم، ایران، ط 1، 1426 ه.

ص: 287

ص: 288

عتبة البداية في خطب نهج البلاغة (مقاربة سيميولوجية)

اشارة

م. د. صباح حسن عبيد التميمي

ص: 289

ص: 290

المقدمة:

تتمتع (البداية) بأهمية استراتيجية في النص عامة ونص خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - عليه السلام - بشكلٍ خاص؛ لأنّها تمثّل العنصر الذي يكشف عن آليات تكوّن النص، وتشكّله التدريجي عموديا، وهي خلاصة تلخيصية لمناخ الخطبة الدلالي كله؛ إذ تمارس دورا فاعلا في تغذية أجزاء النص التي تليها؛ من خلال فتح الأفق الدلالي أمام المتلقي بما تحمل من حمولة علاماتية يرتفع - على إثرها - مستوى التعالق بين المتن والبداية الاستهلالية لاسيما حين يستغرق المتلقي في قراءة الخطبة، بعد أن يبدأ - بوساطة القراءة المتفاعلة - بربط خيوط العلامات التي أعلنها الاستهلال مع علامات المتن، فهي عنصرٌ علاماتي استشرافي يحمل بعدا تحفيزيا إغرائيا يوجّه القراءة نحو مناطق مهمة للكشف عن جغرافية النص بأكمله.

وقد وظّف الإمام علي - عليه السلام - هذه الاستراتيجية في تشكيل خطبته وتوجيهها نحو المتلقي، وأنتجها بوسائل تحفيزية اشتغلت على توظيف مخزون علاماتي؛ فتح أفق التلقي للمتلقي بقوة اقناعية شديدة، ولاسيما المتلقي المسلم عامة / والموالي لأمير المؤمنين بخاصة.

وقد اقتضت طبيعة الدراسة أن تتشكّل من مبحثين، وقع على عاتق الأول منهما مهمّة الكشف النظري عن مصطلح الدراسة فكان عنوانه (البعد التنظيري: البداية - قراءة في المصطلح والمفهوم والأبعاد)، وأما الآخر فقد وُسِم ب(البعد الإجرائي - خطبة الفتنة أنموذجا) ليشكّل المقاربة الإجرائية للدراسة وفيه اشتغال إجرائي على استراتيجيات البداية، والكشف عن وظائفها في الخطبة الأنموذج، وملاحقة الاشارات والعلامات اللغوية المُنتجة لحقل العلائق بين المنطقة القَبْلِيَّة

ص: 291

المقدمة

(البداية) و المركزية (المتن) والبَعْدِيّة (النهاية).

إنّ قيد الايجاز الذي يتطلبه البحث المؤتَمري أسلمنا إلى ممارسة إجرائنا على خطبة واحدة من خطب کتاب (نهج البلاغة) لكن هذه الحركة الإجرائية ستكون فاتحةً لمشروع كتاب موسّع ينهض على مقاربة خطب النهج كاملةً بحسب آليات المنهج السيميولوجي في قابل الأيام إن شاء الله تعالى، وآخر دعوانا: ((إِنَّا إِلَی اَللَّهِ رَاغِبُونَ وَاَلسَّاَمُ عَلَى رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ اَلطَّيِّبِنَ اَلطَّاهِرِينَ وَسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِراً)).

ص: 292

المبحث الأوّل: البعد التنظيري

البداية - قراءة في المصطلح والمفهوم والأبعاد والوظائف

1 - البداية المصطلح والمفهوم والاشتراطات في المنظور التراثي:

يُعدّ المصطلح مفتاحا علميا للتقنين، والتبويب، والضبط للاقتراب - في العلوم الانسانية - من المنحى العلمي الموضوعي، والابتعاد عن المجانية واستسهال الدرس النقدي، وقد عرفه التراثُ ووضعَ القدماء حدوده واشتراطاته، لكنّهم لم يستعملوا مفردة (مصطلح) الشائعة عند المحدثين اليوم بل استعملوا مفردة (الاصطلاح) وقد نقلَ المصنفون المعنيون بالمصطلح من القدماء البعد المفهومي له فقالوا أنه: عبارةٌ عن اتفاق قوم على تسمية الشيء باسم ما ينقل عن موضعه الأول، أو : إخراج اللفظ من معنی لغوي إلى آخر، لمناسبة بينهما، وقيل: هو اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى. وقيل: هو إخراج الشيء عن معنی لغوي إلى معنى آخر؛ لبيان المراد(1).

لقد زادت العناية بالمصطلح في التراث العربي بعد أن تنوّعت العلوم، وكثُرت الفنون، وكان لابد للعرب من أن يضعوا لما يُستجد مصطلحات تُعيّنه مستعينين على آليات وضع مصطلحي أهمها: الوضع، والقياس، والاشتقاق، والترجمة والمجاز، والتوليد، والتعريب، والنحت، وكانت هذه الوسائل والآليات سببا في اتساع قدرة اللغة العربية واستيعابها للعلوم والآداب والفنون، وقد بذل السَلَفُ جهدا محمودا في وضع المصطلح، وكان الأساس في المصطلح أن يتّفق عليه اثنان أو أكثر، وأن يُستعمل في علمٍ أو فنٍّ بعينه، ليكون واضح الدلالة مؤديا المعنى الذي

ص: 293

یریده الواضعون، ولم يروا بأسا في أن يضع المؤلّف مصطلحه فيشيع أو يُهمل؛ إذ لا مشاحة في المصطلح(2).

إنّ اشتراطات القدماء في وضع المصطلح ترتكز على دعامتين أساسيتين هما (الاتفاق ووضوح الدلالة)، وغالبا ما تتساوى في منظورهم الدلالة المعجمية والاصطلاحية، لكنّ المصطلح التراثي - شأنه شأن المصطلح في كل زمان - قد أنتج إشكالات متعددة أهمها: الاستسهال في استعماله في ضوء قاعدة: لا مشاحة في الاصطلاح، وتعدد المصطلح الواحد الدال على البعد المفهومي الواحد، فقد تجد مصطلحات عدة لمفهوم واحد عند الناقد الواحد، وقد يتكّرر المفهوم عند غيره دون زيادة أو تطوير، على أنّ هذا لا يعني أنّهم قد أهملوا اشتراطات الوضع المصطلحي اهمالا تاما، لكنّهم استسهلوها، ولم يقيّدوا أنفسهم بها، غير أننا - وبعد التمعن في منظومتهم المصطلحية لاسيما فيما يخصّ مصطلحنا المدروس - وجدنا أن المعيار الذي يُمکِّنَك من معرفة اختيار الناقد لمصطلحٍ بعينه وإن تكرّر المفهوم نفسه عند هذا ناقد بصور مصطلحية أخرى يتمثّل بالعنونة الفصلية، فإذا وجدتَ ناقداً قد عنونَ الباب أو الفصل الذي يشتغل فيه على مصطلح (الابتداء أو الاستهلال) بمصطلحٍ بعينه فإنّ هذا يعني أنّه يًفضّل استعمال هذا المصطلح للدلالة على ذاك المفهوم دون غيره، وإن استعمل مصطلحات أخرى في متن دراسته؛ ذلك أنّ اصطفائه للمصطلح ووضعه في منطقة العنونة يحمل بين طياته عناية خاصة بهذا المصطلح دون غيره، مما يوحي بتفضيله له، واختياره إياه من بين البدائل المتاحة له.

ويقع المصطلح موضع الدرس هنا - البداية - في الاشكاليات المصطلحية السابقة نفسها؛ إذ نعثر على مصطلحات متعددة لمفهومٍ واحير في التراث النقدي

ص: 294

والبلاغي، فقد استُعمِلَت مصطلحات: (الابتداء والابتداءات، والمَبْدَأ والَمَبادِئ والافتتاحات، الاستهلال، والمطلع) للدلالة على: المنطقة القَبْلِيّة التي يبدأُ بها النصُّ الشعري أو النثري، ولكنّهم لم يستعملوا هذه المصطلحات على وتيرة واحدة؛ إذ حقّق بعضها اشتراط الشيوع والاتفاق ووضوح الدلالة، وبقي بعضها الآخر في زاوية الشذوذ الاستعمالي المقتصر على ناقد أو اثنين، وسنشتغل في هذا المبحث التنظيري على نمذجة مصطلحية مفهومية تُحدّد الاتفاق المصطلحي عند القدماء في المصطلح المقروء على وفق المعيار الذي وضعناه - اعتماد العنونة بوصفها آلية کشف عن انتخاب الناقد للمصطلح التراثي.

ولا بدّ من التنويه إلى قضية غاية في الأهمية تتمثل في أنّ مساحة اشتغالنا على المصطلح المقروء ستقتصر على منطقة الوعي بالمصطلح في التراث التي تبدأ منذ منتصف القرن الخامس تقريبا، مع ظهور المدارس النقدية والبلاغية ومدرسة (البديعيات) فيما بعد، التي عُنيَت بالتبويب والتصنيف، وعمِلَت على وفق آليات ممنهجة تسير في ضوء ثنائية (التنظير والاجراء) بصورتها البدائية، وستكون مقاربتنا للمتن النقدي القديم بحسب سنة الوفاة حفاظا على التطوّر الزمني للتنظير النقدي والبلاغي استنادا إلى معيار العنونة المذكور سلفا وبحسب الجدول الآتي:

ت | اسم الناقد | وفاته | المصطلح بحسب عنونة الباب | کتابه

1 | ابن رشيق | 456 ه | باب المَبْدَأ، والخروج، والنهاية | العمدة(3)

2 | أسامة بن منقذ | 584 ه | باب المبادي والمطالع | البديع(4)

3 | ابن الأثير | 637 ه | في المبادئ والافتتاحات | المثل السائر(5) + الجامع الكبير(6)

4 | ابن ابي الإصبع | 654 ه | باب حُسن الابتداءات | تحرير التحبير(7)

5 | النويري | 733 ه | حسن الابتداءات | نهاية الأرب(8)

ص: 295

6 | القزوینی | 739 ه | الابتداء | الإيضاح(9)

7 | العلوی | 745 ه | في المبادی والافتتاحات | الطراز(10)

8 | القلقشندي | 821 ه | الابتداء وبراعة الاستهلال | صبح الاعشی(11)

9 | ابن حجة الحموي | 837 ه | حسن الابتداء وبراعة الاستهلال | خزانة الادب(12)

10 | ابن معصوم | 1120 ه | حسن الابتداء وبراعة الاستهلال | أنوار الربيع(13)

وفي ضوء الجدول السابق يمكننا أن نسجّل بعض الملاحظ على مصطلح (البداية) في الخطاب النقدي التراثي أهمها:

1 - سجّلت دلالة (البداية) حضورا لافتا للنظر؛ لأنّ المصطلحات التي هیمنت على عناوين الأبواب تنتمي كلّها للأصل (بدأ) الذي يرجع إليه مصطلح (البداية).

2 - حضور بعض المصطلحات المستعملة التي لا تنتمي للجذر (بدأ) لكن بنسبة لا تمكنها من منافسة المصطلح المهيمن ک(الافتتاح والاستهلال).

3 - إنّ الجمع يُشكّل ظاهرة بارزة في الاستعمال المصطلحي للمفردة في عينات الجدول السابق، ويقابلها انخفاض مستوى افرادية المصطلح؛ إذ استُعمِلت مصطلحات (ابتداءات) و (افتتاحات) و(مبادئ) بصيغة الجمع بدلا من ابتداء، وافتتاح، ومبدأ بصيغة المفرد.

4 - هناك ظاهرة أخرى تتصل بثنائية المصطلح، فالناقد لا يُعنون الباب بمصطلح واحد، بل يستعمل مصطلحين للدلالة على المفهوم الواحد مثل (المبادی والافتتاحات).

ص: 296

5. إنّ المصطلح الذي نجح في اجتياز معيار الشيوع والاتفاق في التراث هو مصطلح (الابتداء)، لكنه سيمرّ باختبار آخر يمثّله معیار تراثي آخر هو (وضوح الدلالة) فهل سيتجاوز هذا الاختبار ليتمّ تثبيته بوصفه مصطلحا منتخبا باتفاق المنظومة التراثية؟

لقد وضع النقاد والبلاغيون القدماء مفهوماً متقارباً لمصطلح (البداية)؛ إذ لم يختلفوا فيه إلاّ بحدود مقدرتهم التعبيرية، وأساليبهم الكتابية، أما فحواه العام فكلّهم أجمعوا على أنّه: أن يأتي الناظم أو الناثر في ابتداء كلامه ببيت أو قرينة تدلّ على مراده في القصيدة أو الرسالة أو معظم مراده والكاتب أشدّ ضرورة إلى ذلك من غيره ليبتنی کلامه على نسق واحد دلّ عليه من أوّل عِلْم بها مقصده، إما فی خطبة تقليد، أو دعاء کتاب، فيأتي الكاتب في صدر المكاتبة بما يدلّ على عجزها؛ فإن كان الكتاب بفتح، أتي في أوله بما يدلّ على التهنئة، أو بتعزية أتى في أوّله بما يدلّ على التعزية، أو في غير ذلك من المعاني أتى في أوله بما يدلّ عليه؛ ليعلم من مبدأ الكتاب ما المراد منه. وبذلك يجعل مطلع الكلام من الشعر أو الرسائل دالا على المعنى المقصود من هذا الكلام إن كان فتحا ففتحا، وإن كان هناء فهناء، أو كان عزاء فعزاء، وكذلك يجري الحكم في غير ذلك من المعاني؛ إذ ينبغي لكل من تصدى لمقصد من المقاصد وأراد شرحه بكلام أن يكون مفتتح كلامه ملائما لذلك المقصد دالا عليه، فما هذا حاله يجب مراعاته في النظم والنثر جميعا، ويستحب التزامه في الخطب والرسائل والتصانيف، وهكذا حال التهاني والتعازی یکون مبدؤها وتصديرها بما يناسب ذلك المعنى ليكون معلوما من أول وهلة، فحيث يكون المطلع جاريا على ما ذكرناه فهو من الافتتاح الحسن، وحیث یکون جاريا على عكسه فهو معدود من القبيح.(14)

ص: 297

وإذا عدنا إلى معيار (وضوح الدلالة) الذي هو أحد اشتراطات القدماء في الاصطلاح على تسمية ما بوصفها مصطلحا، فإننا لا بدّ من أن نبحث في علاقة الدال الاصطلاحي بجذره اللغوي المعجمي، فمصطلح (الابتداء) يعود إلى الجذر (بدأ): بَدأْتُ باليءِ ابْتَدَأْتُ بالأَمْرِ بَدْءاً ابْتَدأْتُ به وبَدأْتُ اليءَ فَعَلْتُهُ ابْتِداءً وفي الحديثِ الخَيْلُ مُبَدَّأَةٌ يومَ الوِرْدِ أَي يُبْدَأُ بها في السَّقْيِ قبلَ الإِبِلِ والغَنَمِ، وبادِئُ الرأْيِ أَوَّلُهُ وابْتِداؤُهُ، وقال اللحياني أَنتَ بادئَ الرَأْي ومُبْتَدَأَهُ تُرِيدُ ظُلْمنا أَي أَنتَ في أَوَّلِ الرَّأْيِ تُريدُ ظُلْمنا(15).

ولا يخفى ما بين الجذر المعجمي والدال الاصطلاحي من التطابق القائم على دلالة البداية، والانطلاق، والأولية، والافتتاح، فكلّها دلالات تحملها الدلالة الاصطلاحية للمصطلح (الابتداء) الذي اجتاز معیار (الاتفاق) بحسب الجدول السابق، واجتاز معیار (وضوح الدلالة) مثلا تبين هنا بعد مقاربته معجميا.

وفي ضوء هذا نستنتج مخرجات مصطلحية تقضي باصطفاء مصطلح (الابتداء) عند القدماء استنادا إلى معياري (الاتفاق ووضح الدلالة) اللذين مثّلا أهم معايير الوضع المصطلحي في التراث، وبذلك ننأي بأنفسنا عن التعسّف في اختيار المصطلح التراثي، وإخضاعه لمعايير معاصرة بعيدة عن فضائه الزمكاني، ومرجعياته الثقافية، وأسسه المعرفية.

ولم يكتفِ النقاد والبلاغيون القدماء بوضع المصطلح وتحديد بعده المفهومي بالاتفاق التراكمي بل أخضعوا (المبدع) لاشتراطات تتجلّى في معظم مصنفاتهم على نحو مدرسي تعلیمي، تُشير كلّها إلى ثنائية (الخطأ والصواب)، وأسلوب (افعل ولا تفعل) الإلزامي الذي تقوم عليه ثقافتهم، فقد وضعوا أسسَ (الابتداء الحسن)، واستشهدوا له بشواهد متنوّعة قائمة على استقراء التراث الإبداعي الذي

ص: 298

سبقهم؛ لتشكّل معايير إبداعية يحاكيها المبدع إذا ما أراد لعمله النجاح، واستشهدوا بنقائضها (الابتداء المُستَقبَح)، ووقفوا عند أسباب ترديه، وقبحه؛ ليتجنبها المبدع، وينأى بنفسه عن الوقوع بمسببات القبح تلك، ويمكننا أن نلخّص اشتراطات الابتداء الحسن بالنقاط الآتية:(16)

1 - أن يراعي المبدع المقام وحال المُخاطَب، فيكون كلامه ملائما لمقصده، فيفيد المطلوب من أول وهلة، فإن كان هناءً فهناءً، وإن كان عزاءً فعزاءً.

2 - يتعيّن على المبدع النظر في أحوال المُخَاطَبين، وتفقّد ما يكرهون سماعه - في المدح والتهنئة خاصة - ويتطيرون منه، فلا يذكر في افتتاح قصيدةِ مديحٍ ما يُتطيّر منه.

3 - اتفق علماء البديع على أنّ عدم تناسب القسمين (الشطرين) في الشعر نقصٌ في حسن الابتداء.

4 - أن يتأنق المبدع فيه، ويأتي بأعذب الألفاظ، وأجزها، وأرقها، وأسهلها، نظماً وسبكاً، وأصحّها مبنىً، وأوضحها معنىً، وأخلاها من الرِّكّة والحشو والتعقيد.

فإذا جاء الابتداء عكس ما اشترطوا في حُسنه نُسب إلى القبح، ووسموه ب(الابتداء المُستقبح)، وقد استقرأوا التراث الشعري والنثري فوقفوا عند أهم الابتداءات المستقبحة؛ ليحترز المبتدئ منها، ويتجنبها في ابتداءاته.

إن كل ما تقدّم يحيل المتلقي المعاصر على الوعي النقدي والبلاغي التراثي بأهمية منطقة (البداية) وإستراتيجيتها في الأعمال الإبداعية في بعديها المكتوب (شعر ونثر) والشفاهي (الخطب)؛ إذ تمثّل عندهم نقطة إنطلاق قَبْلِيَّة نحو فتح آفاق المتن النصّي الذي يأتي بعدها أمام المتلقي، لتشتغل على استجابته النفسية

ص: 299

والعاطفية، وتضمن تلقيه الايجابي.

2 - البداية: سؤال الأهمية والأبعاد والوظائف في المنظور الحداثي:

ينحصر مجال اشتغالنا الأجرائي الذي سيأتي بمتنٍ ينتمي للحقل التراثي ومن هنا فإن العناية بمصطلح (البداية) من جهة الدال المصطلحي، والبعد المفهومي، ورهانات الاتفاق والاختلاف في المنظور الحداثي هي عناية تقع خارج حدود اهتمامنا هنا؛ لتشعّب الدرس النقدي الحداثي، وتضخّم اشكالياته المصطلحية بشأن المصطلح المدروس، فضلا عن أن العناية بمنطقة البداية بوصفها مصطلحا ذا أهمية بالغة يكاد ينحصر بأجناس أدبية بعينها تنتمي لحقل السرديات (رواية، قصة، سيرة ذاتية)، لكننا سنعتني بالبحث عن إجابات لأسئلة تتجه نحو تحقيب أهمية البداية وأبعادها ووظائفها في الدرس النقدي الحديث؛ لما في ذلك من فائدة توجّه البحث، وتحدّد مساراته الاجرائية، وبتعبير آخر فأننا سنقوم بنمذجة تنظيرية (تراثية حداثية) في محاولة منّا لتعميق الصلة بين الماضي والحاضر لخدمة الدرس النقدي المعاصر.

إن البحث عن إجابات للتساؤلات الآتية: ما أهمية البداية؟ وما وظائفها؟ وما أبعادها وحدودها؟ وهل هي منطقة ملتحمة جسديا مع متن النص أم أنّها عتبة ما قبلية؟ سيُشكّل محور عنایتنا في هذه الفقرة من التنظير؛ لأننا لم نرسّخ في التنظير التراثي السابق هذه الاجابات على نحو تفصيلي انطلاقا من ثقافة الايجاز التراثية وخصوصيته المرحلية.

تمثّل البداية لحظة حاسة تنعكس - بشكل أو بآخر - على أفق انتظار القارئ، ما دامت هي التي تعمل على تيسير ولوجه لعالم النص الحابل بالمفاجآت والانتظارات، انطلاقا من استجابته لفضول أخّاذ یکون مصدره قراءة المنطقة

ص: 300

الماقبلية (ومنها البداية) التي تُشكّل معبرا حاسما إلى عوالم النص، أما غياب عنصر الاثارة والتشويق والجذب في عناصر ما قبل النص، فيدفع القارئ إلى الاحجام عن خوض مغامرة القراءة في حالة (البداية) غير المحفّزة على متابعة القراءة، فكل بداية هي بمثابة نوع من عملية ترويض القارئ، وهي احدی رهانات البداية؛ الكسب ثقة القارئ، وتحفيزه على متابعة القراءة(17).

وتأتي أهمية البداية أو (الجملة العتبة) من كونها حلقة تواصل بين الباث والمُستَقبِل، وعبرها يتمّ تحديد العديد من المنطلقات الأولية التي تهم النص وإفضاءاته، فالبداية مجازفة وباب يقود المتلقي عبر اللغة وعلاماتها إلى عالم النص حيث يتشكّل البناء وتتفاعل المكونات من أجل تحقيق أدبية النص(18).

وتعد (البداية) - في المنظور الحداثي - عتبة أولى بعد عتبة العنوان، وتمثّل بناءً إدراكيا أوّلياً تتشكل معه أحاسيس وأُفق انتظار منسجم أو معدّل عن الأفق الذي خلقه العنوان - في النص الحداثي -، فهي استراتيجية لا تنفصل عن استراتيجيات (النص الموازي / العتبات)، فالتداخل بينهما دقيق، والترابط وطيد، وهي لا تقل اهمية عن بعض العتبات التي تحيط بالنص، ويمكن تصورها أنها موقع استراتيجي مشروط سواء في تعالقها مع العنوان أو مع ما هو خارج النص أو النص نفسه(19).

ولكنّ هذا الطرح يُفضي بنا إلى إشكالية (المكانية)، والتمظهر الموقعي لل(بداية)؛ لأنّ العتبة - كما هو راسخٌ في المنظور الحداثي - مكونٌ خارج نصّي، محیط بالنص، والبداية مكوّن ملاصق للنص، بل هو جزء لا يتجزأ من تكوينه اللغوي، فكيف نخرج من هذه الإشكالية التي لم يعتني بها المحدثون؟

لاشكّ أن الخروج من هذه الاشكالية يكمن في وضع حدود (المتن النصّي)، فهل النص هو (بؤرة المضمون) التي يحاول المبدع أن يوصلها لنا؟، فإن كان كذلك

ص: 301

فيمكننا أن نعد البداية عتبةً بوصفها منطقة قبلية تقع خارج تخوم (المتن النصّي)، وإن كان النص هو هذا الكيان اللغوي القابع خلف عتبة العنوان وما يحيط بها من عتبات أخرى، فإن البداية هنا هي جزء لا يتجزأ من هيكل المتن النصّي، فالرهان يكمن في النظر إلى النص، ولعلّ التجربة المقروءة تُحدّد عتبية البداية من عدمها، وهنا لا بدّ أن لا نُخضِع التجربة المقروءة إلى تصوراتنا القَبلِيّة الجاهزة، ونقحمها فيها، ففي عينة بحثنا هنا - خطبة الفتنة لأمير المؤمنين - تمثّل البداية عتبةً نصيّة تقع خارج المتن البؤري المركزي الحاوي للثيم المضمونية التي أراد الامام إيصالها، وقد عملت هي وجملة (مناسبة الخطبة) - التي نعدّها عتبة أخرى من صنع جامع النهج - على تهيئة المتلقي المعاصر لاستقبال النص، والانفعال معه، والاندماج في أنساقه الدلالة، والعلاماتية.

إن هذا الملفوظ الافتتاحي (البداية) يعمل على تنظيم دخول القارئ السلس في عالم النص، ومناخه الدلالي، وذلك باقتراح تعاقد ضمني للقراءة، يتأسس على أهمية بلاغة البداية المُشَفَّرَة في تلقي النص، والتحفيز على متابعة القراءة، إن هذا الملفوظ هو بمثابة العتبة المفضية إلى التخييل(20).

وتضطلع البداية بتحقيق وظائف متعددة ومتشعبة؛ إذ تتضافر استراتيجية خطاب البداية بعملية القراءة في أفق تحقیق نوع من التواصل الخفي المرغوب فيه، وذلك حينما يرتبط خطاب البداية بوعي القارئ، وفي هذا الأفق تُعطى للبداية مزية التوجيه، بشكل مسبق نحو نمط معين من القراءة، وذلك بما يتناسب ودرجة الوعي الثقافي والجمالي لهذا القارئ، وبهذا التواصل الخفي تُحرَّر قوى الأثر الكامنة في البداية (لغوية كانت أو أسلوبية أو دلالية)، وتقدّم نفسها بهذا الشكل أو ذاك، وعلى المستوى التعبيري يضطلع خطاب البداية بدور تخصیص بوصفه

ص: 302

فضاء تتحدد فيه السمات الأسلوبية الخاصة التي ستطبع النص بعد ذلك بطابعها، ومن ثمّ يبني النص منذ البداية بلاغته الكتابية الخاصة، القائمة إما على الشفافية المباشرة، أو النزوع إلى التصوير التشخيصي، تُضاف إليها وظيفة تأطير الحدث من حیث: مکان وقوعه، زمانه، وفاعله، وإما على الكثافة بما تحمله هذه الإستراتيجية من تشابك وتداخل(21).

ومن أهم وظائف (البداية) الوظيفة الإغرائية التي تعمل على جذب انتباه القارئ؛ وذلك بتحفيز رغبة القراءة لديه؛ إذ تسعى عتبة البداية بكل امكاناتها الفنية الى وضع القارئ في حالة ترقّب قصوى، في انتظار ما سيحدث، بحيث تحثّه البداية على الانغماس في تتبع التفاصيل؛ لمعرفة ما يثوي خلف سطور هذه البداية المشوّقة من أحداث ووقائع(22).

ومن إشكاليات عتبة (البداية) في الدرس النقدي الحديث تأطير حدودها المكانية وأبعادها الفيزياوية على الورق؛ إذ تشكّل عقبة عصية على الفهم البسيط، والتلقي السطحي المتسرّع لاسيما في الخطابات الابداعية المحكمة المداخل، التي تعمل على مراوغة القارئ، ولا تنصاع للقراءة من الوهلة الأولى، فقد تأتي مدمجة من المتن، وقد یمارس المبدع لعبة الخفاء والتجلّي مع المتلقي، فتارة يكشف عن بدايته، وتارة يخفيها، وقد أُنجزت محاولات متعددة في الخطاب النقدي الحديث للوصول إلى إمكانية وضع تعیینات تُحدّد أبعاد (البداية)، متی تبدأ؟ ومتى تنتهي؟ من أي الأماكن تنطلق؟ وأين تقف؟ لكنّها تبقى محاولات نسبية تتأرجح بين القبول وعدمه.

لقد وجد أحد الدارسين المحدثين أن هناك علامات نصيّة أساسية توحي للقارئ بحدوث الانتقال من (بداية) النص إلى عرضه، ولكنها علامات نسبية وليست نهائية، منها:

ص: 303

استحضار الكاتب التعيينات من نوع خطّي: نهاية فصل أو فقرة...

حضور آثار نهاية السرد الأوّلي المُفتتح به من خلال مؤشرات لغوية من قبيل: إذن، بعد هذه البداية، هذا التقديم...

الانتقال من مقطع سردي إلى آخر وصفي...

وغير ذلك من التعيينات التي تنتمي كلها - كما هو واضح - إلى حقل السرد.

ويخلص دارس آخر إلى القول أنه على الرغم من أهمية البداية فان النقاد المحدثین اختلفوا في تحديد نهايتها، فمنهم من قال أنها الجملة الاولى، ومنهم من رأي - وهم الاغلبية - أن هذه الجملة لا تكفي للتعرف على ما تؤديه البداية من وظائف، وقد اهتدى إلى وضع الكيفيات التي تتعيّن بها البداية في العمل الروائي عامة أهمها عندنا:(24)

1 - بعض العلامات التي يضعها المؤلف في نصه مثل: الفواصل، والنقاط، أو الرموز الكتابية الموحية بنقلة نوعية من البداية إلى ما بعدها.

2 - تخصيص بياض أو فراغ من شأنه أن يفصل بين البداية وما يليها ضمنيا.

وغيرها من العلامات المحددة لأبعاد البداية غير أنّها تلائم النصوص السردية الحديثة.

وبحسب ظنّي أن تحديد أطر نهائية لأبعاد (عتبة البداية) هو قضية نسبية غير ثابتة ترتبط بالتجربة المقروءة أيضا، وهي - من ناحية أخرى - تتصل بوعي المبدع المشكّل للنص، وفي تجربتنا المقروءة - خطبة الفتنة للامام علي - تتأطر أبعاد عتبة البداية بأطر دلالية، وشكلية كما سيتّضح، وفي خطب النهج تختلف أبعاد البدايات بحسب اختلاف الخطبة، وما وصل منها إلينا، وثُبّت في النهج.

ص: 304

المبحث الثاني: البعد الإجرائي

خطبة (الفتنة) أنموذجا

رقم الخطبة (92)

مناسبتها: ومن خطبة له (عليه السلام) يذكر ما كان تغلبه من الخوارج

نص الخطبة:

((أَمَّا بَعْدَ حَمْدِ اَللَّهِ، وَاَلثَّنَاءِ عَلَيْهِ، أَيُّهَا اَلنَّاسُ، فَإِنِّ فَقَأْتُ عَیْنَ اَلْفِتْنَةِ، وَلَمْ يَكُنْ

لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَیْرِي بَعْدَ أَنْ مَاجَ غَيْهَبُهَا(25) وَاِشْتَدَّ كَلَبُهَا(26).

فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِ، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ تَسْأَلُونَنِي عَنْ شَيْءٍ فِيمَا بَيْنَكُمْ

وَبَیْنَ اَلسَّاعَةِ، وَلاَ عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَتُضِلُّ مِائَةً إِلاَّ أَنْبَأْتُكُمْ بِنَاعِقِهَا(27) وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا، وَمُنَاخِ رِكَابِهَا(28)، وَمَحَطِّ رِحَالِهَا، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلًا، وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً.

وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي وَنَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ(29) اَلْأُمُورِ، وَحَوَازِبُ(30) اَلْخُطُوبِ،

لَأَطْرَقَ كَثِرٌ مِنَ اَلسَّائِلِينَ، وَفَشِلَ كَثِیرٌ مِنَ اَلْمَسْئُولِينَ، وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ(31)

حَرْبُكُمْ، وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ، وَكَانَتِ اَلدُّنْيَا عَلَيْكُمْ ضِيقاً، تَسْتَطِيلُونَ أَيَّامَ اَلْبَلاَءِ

عَلَيْكُمْ، حَتَّى يَفْتَحَ اَللُّهَ لِبَقِيَّةِ اَلْأَبْرَارِ مِنْكُمْ.

إِنَّ اَلْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ(32)، وَإِذَا أَدْبَرَتْ نَبَّهَتْ(33)، يُنْكَرْنَ مُقْبِلَاتٍ، وَيُعْرَفْنَ مُدْبِرَاتٍ، يَحُمْنَ حَوْمَ اَلرِّيَاحِ، يُصِبْنَ بَلَداً وَيُخْطِئْنَ بَلَداً.

أَلاَ إِنَّ أَخْوَفَ اَلْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ، فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ

ص: 305

عَمَّتْ خُطَّتُهَا(36)، وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، وَأَصَابَ اَلْبَلَاءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا(35)، وَأَخْطَأَ

اَلْبَلَاءُ مَنْ عَمِيَ عَنْهَا.

وَاَيْمُ اَللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ(36)، تَعْذِمُ

بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا، وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا، لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا

مِنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ أَوْ غَیْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ.

وَلاَ يَزَالُ بَلاَؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَكُونَ اِنْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلَ اِنْتِصَارِ

اَلْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَاَلصَّاحِبِ مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ(37)، تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّة(38)، وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى، وَلاَ عَلَمٌ يُرَى(39)، نَحْنُ أَهْلَ اَلْبَيْتِ مِنْهَا بِمَنْجَاةٍ(40)، وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ، ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اَللَّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ اَلْأدِيمِ(41)، بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً، وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً، وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ(42) لَا يُعْطِيهِمْ إِلَّا

اَلسَّيْفَ، وَ لاَ يُحْلِسُهُمْ(43) إِلَّا اَلْخَوْفَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ

يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ جَزُورٍ(44)، لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ اَلْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونَنِيهِ))(45).

تتشكّل بنية الخطبة العينة من ثلاثة محاور: عتبة البداية ثمّ المتن فعتبة النهاية، وتقع عتبة البداية في (123) کلمة، والمتن: (126) کلمة، والنهاية: (23) کلمة، وهي من الخطب ذات (البداية) المطوّلة؛ ولعلّ طول عتبة بدايتها جاء نتيجة حتمية لترسيخ دلالات: التنبيه، والتحذير والتخويف، والإغراء بالمتن الذي سيليها، وهو العنصر الحامل للمضمون البؤري، وتتحدد أبعاد (عتبة البداية) في الخطبة بوسائل تعیینية لغوية وطباعية شكلية، فتبدأ بقول الامام - عليه السلام -: ((أَيُّهَا اَلنَّاسُ، فَإِنِّ...)) وتنتهي بالتقرير في قوله: ((إِنَّ اَلْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ شَبَّهَتْ...

وَيُخْطِئْنَ بَلَداً)، ثم يعقبها المتن النصّي الذي يبدأ بحرف الافتتاح والتنبيه (ألاَ)،

ص: 306

وتأتي (عتبة النهاية) بعده مبتدئةً بعنصر مكاني زماني تمثّل بالظرف (عند ذلك) في قوله ((فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ...)).

وتهدف مقاربتنا إلى تشریح بنية الخطبة مكتملة تشريحا عموديا تراكميا على مستوى المحاور: (عتبة البداية + المتن + عتبة النهاية) للبحث عن (العلامات) والعلائق التي تشدّ أواصر العلامات الكليّة في جسد الخطبة وتؤدي إلى انتاج الدلالة، وأفقيا على مستوى البناء الداخلي لكلّ محور من هذه المحاور على حِدة.

إن الدلالة هي سيرورة وليست معطىً جاهزاً سابقاً على الفعل، فالسلوك السيميائي ذاته، ليس سوى خروج عن إكراهات البيولوجي والطبيعي والولوج إلى عالم ثقافي مفتوح على كلّ الاحتمالات، وبهذا المعنى فإن كل واقعة تستند من أجل دلالتها إلى سيرورة داخلية تجمع بين العناصر المُكوّنة لها ضمن ترابط جليّ لا تنفصم عُراه، إن هذه السيرورة هي ما يُطلق عليه في الدرس السيميولوجي (السيموز) - بحسب بورس - أو الوظيفة السيميولوجية، فهي في تصوّر (بورس) السيرورة التي يشتغل من خلالها شيءٌ ما كعلامة، وتستدعي ثلاثة عناصر يُنظر إليها باعتبارها الحدود التي من خلالها تستقيم السيرورة وتتحوّل إلى نسق يتحكّم في انتاج الدلالات وتداولها وهي:

1 - متوالية صوتية (كلمات) تشتغل کتمثيل رمزي متعارف عليه عند مجموعة لغوية بعينها.

2 - موضوع يستند إليه التمثيل من أجل انتاج الصور الذهنية.

3 - مفهوم يحول الموضوعات إلى صور ذهنية تُغنينا عن الوقائع(46).

ولا شكّ إنّ ((الدلالة تكتسب إطارها الموضوعي من شكل (المُرْسَلَة) أي من

ص: 307

تلك العلاقات التي تنتظم العلامات داخل نسق دال أو داخل سيرورة للدلالات المفتوحة))(47)، إن فضح البعد الدلالي في كل نسق سيميولوجي يقتضي - بحسب بارت - البحث عن تفاصيل ذلك النسق ذاته عبر الأدوات التحليلية للسانیات؛ إذ تمنح اللسانيات المشتغل في التحليل الأدوات الفعّالة في تفكيك النص الأدبي أو أيّ نسقٍ من العلامات(48).

وبناءً على ذلك فإننا سنقارب بنية الخطبة مكتملةً بمحاورها الثلاثة السابقة عبر تقسیم کلّ محور منها لسانيا إلى مستويات اللغة المعروفة: (المعجمي + التركيبي + الدلالي/ التصويري) والتفتيش داخل كل محور عن الأنساق السيميولوجية التي تحكّمت بسيرورة دلالة الخطبة كلّها.

1 - المستوى المعجمي:

ينظر إلى المعجم - في الدرس السيميولوجي الحديث - على أنّه قائمة من الكلمات او الاشارات التي تتردد بنسب مختلفة أثناء نص معين، وكلما ترددت بعض الكلمات بنفسها أو بمرادفها أو بترکيب يؤدي معناها كوّنت حقلا أو حقولا دلالية(49).

وقد هيمن على معجم عتبة البداية حقلان دلاليان كان لهما تأثيرٌ قويٌّ في انتاج الدلالة الكليّة للخطبة - على المستوى المعجمي - عبر شبكة العلاقات التي ستتشابك فيها العلامات اللغوية - فيما بعد - لتبني نظاما دلاليا تمّ تشكيلُه بوعيٍّ عالٍ، وأول هذين الحقلين هو: (حقل الفتنة) المُولِّد لدلالة النص البؤرية المركزية، والآخر (حقل الأنا) المُنتِج لدلالات: الأحقية بالخلافة، والإمامة، والعلم اللدني، والأخبار بالمستقبل، والطرف الايجابي من ثنائية (الحق والباطل)، وهي دلالات سترتبط فيما بعد بالدلالة المركزية للمتن النصّي.

ص: 308

لقد ترددت مفردة (الفتنة) في عتبة البداية بنفسها مرتين في قوله: ((فَإِنِّي فَقَأْتُ عَیْنَ اَلْفِتْنَةِ))، وقوله: ((إِنَّ اَلْفِتَنَ إِذَا أَقْبَلَتْ...)) وتردّدت أيضا بما تفرع منها من مفردات تابعة لها وهي على أرض الواقع نتائج حتمية للفتن، وهي: (الغيهب، الشِدة، الضلال، القتل، الموت، الفقد، الكرائه، الحوازب، الفشل، الحرب، الضيق، البلاء)، وقد شكّلت مجتمعة حقلا دلاليا أنيط به إنتاج دلالة (الفتنة) على المستوى المعجمي في (عتبة البداية) لتؤدي وظيفة (الترهيب)، وتخويف المُخاطَب من عواقب الفتن، ونتائجها المدمّرة، على المستوى العملي: (قتل، حرب، دمار...) وعلى المستوى النفسي: (ضيق، ضلال، فقد، فشل...).

وبالانتقال إلى حقل (الأنا) نجد أن خطاب (عتبة البداية) يُضمر ثيمة مركزية تختبئ سیمیائيا تحت السياق الاضماري المتجلي في ضمائر (الأنا) = (المتكلّم) المهيمنة على نسق الاضمار في عتبة البداية خاصة: الياء في (إنّي)، والتاء في (فقأتُ)، والياء في (غيري)، و(أسألوني)، و(تفقدوني)، و(نفسي)، و(لا تسألونني)، و(فقدتموني)، والتاء في (أنبأتكم)، إن كل هذه الضمائر الأنوية - الضمير هو علامة مضمرة - قد تحولت في السياق إلى (علامات) لغوية ارتفعت فيها نسبة الأنوية ضد (الآخر) المناويء، وبالتمعن في تكرار (الضمائر الأنوية) تتكشف لنا حركة الصراع الحادة بين (الأنا) الامام - عليه السلام -، و (الآخر) = فاعل الفتنة والمعادل الموضوعي لها = (بنو أميّة) الذين يمثلون الطرف الآخر من معادلة (الحق - الباطل)، وتتصل بهذا الحقل حركية الأفعال في عتبة البداية؛ فالامام حين يستعمل (سلوني قبل أن تفقدوني) یکرّس عنصر (الترهيب والتخويف) التي تعمل عتبة البداية - منذ بدايتها - على تحفيزه لدى المُخاطب؛ ليعرف ما ستؤول إليه الأمور إن هو لم ينتشل نفسه، ويتشبّث بطرف الحق (الامام)، ويزداد الشعور بالضياع عند

ص: 309

المُخاطَب القريب (الجماعة التي يخطب فيها الامام) حين يؤشر (حضوره) - عليه السلام - في: (سلوني)، وهو فعل يؤسس لعلمه اللدني، وإخباره بالغيب، الذي يحتاجه المُخاطَب لاستشراف المستقبل، ثمّ يُسجّل غيابه في (تفقدوني) = المستقبل، وهنا تتلبّس (الرهبة) و(الخوف)، و(الضياع) المُخَاطَب من دلالة الغياب التي يحملها فعل الفقد، فإذا غاب الامام تصاعدت نسبة الغموض في فضاء الآتي، وأصبح المستقبل أكثر تخويفاً وإرعابا للمُخاطَب؛ لما يحمله من تیه، وعدم تكشّف، وشرود، وضياع.

وبالانتقال إلى المستوى التعالقي بين المتن النصي للخطبة - على المستوى المعجمي - وبين عتبة البداية تتكشف لنا العلائق القوية بين الاثنين؛ إذ نجد تمثلات معجم البداية السابق في المتن ظاهرة جلية فيما وقع من (تکرار) المهيمن (الفتنة)؛ إذ ترددت المفردة بنفسها وبضمائر تعود عليها (اثنتا عشرة) مرّة في قوله - عليه السلام -: ((أَلاَ إِنَّ أَخْوَفَ اَلْفِتَنِ عِنْدِي عَلَيْكُمْ فِتْنَةُ بَنِي أُمَيَّةَ، فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ عَمَّتْ خُطَّتُهَا، وَخَصَّتْ بَلِيَّتُهَا، وَأَصَابَ اَلْبَاَءُ مَنْ أَبْصَرَ فِيهَا، وَأَخْطَأَ اَلْبَلاَءَ مَن عَمِي عَنْهَا))، وقوله: ((تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً، وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى، وَلاَ عَلَمٌ يُرَى، نَحْنُ أَهْلَ اَلْبَيْتِ مِنْهَا بِمَنْجَاةٍ، وَلَسْنَا فِيهَا بِدُعَاةٍ، ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اَللَّهُ عَنْكُمْ كَتَفْرِيجِ اَلْأَدِيمِ))، لا شكّ إنّ الإلحاح على تردید (الفتنة) بنفسها أو بالمُضمَر التابع لها هو تكريس لفاعليتها البنائية التي ألقت بظلالها على دلالة الخطبة بالكامل، ولكن الدلالة هنا تنفتح ويتكشّف غموض علاماتها؛ إذ یُصرّح الأمام - عليه السلام - بمُسبب الفتن، وفاعلها، فيصبح المُخاطَب ممتلئ الذهن بعد أن كان خالي الذهن على مستوى زمانية وقوع الحدث (الفتنة) المستقبلي، وفواعل الحدث المركزية المُسبّبة له (بنو أمية).

ص: 310

وقد زادت هيمنة أنساق متفرعة من حقل (الفتنة) في المتن النصّي أيضا، حين استعمل المُخاطِب (الامام - عليه السلام -) مفردات معجمية تُحيل على القوّة والقسوة والخوف والوحشية من مثل: (الناب، الضروس، تعذم، تخبط، تزبن، شوهاء، جاهلية)؛ ولم ينتخب مفردات بديلة في معجم (الناقة) مثلا، ومن هنا لا بدّ من معاينة محور الاختيار الاسلوبي، وتشخيص قصدية المُخاطِب - الامام - عليه السلام -، في اختيار المفردات الدالة على الشدّة، والقسوة، فتوظيف هذه المفردات أدى إلى جعل (المتن النصّي) امتداد حتمي ل(عتبة البداية) التي اشتملت على كل دلالات الفتن المؤدیة إلى عالم مظلم تسوده الوحشية، وتغشى فضاءَه ظلماتٌ معتمة.

وعلى الرغم من اختفاء صوت (الأنا) في (المتن) وانخفاض نسبة حضوره، وشيوع ضمائر الآخر القريب (المُخاطَب)، إلا أن وجوده الضمني حاضرا؛ إذ يُقدّم أحداث مُستشرَفَة مستقبلية بآلية السارد كليّ العلم، ويتكشّف أسلوب السرد بشكل ظاهر في نسق الأفعال التامة والناقصة المستقبلية: (تجدُنَّ، تعذم، تخبط، تزبن، تمنع، يزالون، لا يتركوا، ولا يزال، لا يكون، تَرِدُ...) وكلّها تؤسس البناء السردي القائم على وحدة الحدث المستقبلي، ووحدة الشخوص، مع اختفاء عنصري المكان المعلوم، والزمان المُحدّد بتاريخ (يوم، شهر، سنة، عقد، قرن) ما عدا حضوره المستقبلي الغيبي المُضمر في أفعال الاستقبال، لكنّ صوت (الأنا) يُعاود الظهور في عتبة النهاية التي تغلق النص ببناء دائري يعود على البداية الأولى (الأحقية في الخلافة) مع إشارات فوات الأوان حين يقول الامام - علیه السلام -: ((فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ

جَزُورٍ، لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ اَلْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلَا يُعْطُونَنِيهِ.)).

ص: 311

يُفضي تحليل (المستوى المعجمي) لنص الخطبة كاملا إلى نتيجة واضحة تُحيل على قوّة سبك المحاور المُبنْيِنَة للخطبة الصادرة عن وعيٍّ حاذقٍ ببلاغة القول المتشكّلة من عناصر بنائية متآزرة تؤدي إلى بعضها البعض بانسيابية عالية دون إقحام ما ليس لها فيها، وهي ترسّخ مقولة (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق الشهيرة)، فضلا عن أنه - أي التحليل - يُبرز وظيفة عتبة البداية القائمة على ثنائية (الترغيب، والترهيب)، الترغيب المتج-لي في فتح شهية المُخاطَب إلى معرفة دلالات العلامات الغامضة المتموقعة في عتبة البداية، والترهيب المتحقّق بعلامات التخويف المتوزّعة بين البداية والمتن والتي تجلت على نحو انتشاري في المتن النقصّي لتحقّق مستوى علائقي عالٍ بين العناصر العلاماتية المشكّلة لجسد الخطبة في مناطق (البداية والمتن والنهاية).

2 - المستوى التركيبي:

سنحاول في مقاربتنا للمستوى التركيبي النحوي أن نغادر جمودية التركيب المتأتية من صرامة النظام القواعدي التعليمي للنحو العربي الذي حوّل اللغة إلى قطع حديدية مشكّلة بانتظام ما إن تحيد عن نظامها حتى ينقلها إلى حقل آخر في میدان آخر يُسمّى (علم المعاني)، لننتقل إلى تفعيل دور الجملة المشكّلة للتراكيب اللغوية الفاعلة في النص من حيث فاعليتها في خلق علامات سيميولوجية تُسهم في تفعيل حركية الدلالة وسيرورتها عبر جسد الخطبة كله.

إن بنية التركيب تتجسّد - على المستوى اللغوي - في الجملة التي هي البنية الاساسية الصغرى وفي النص الذي يمثّل البنية الكبرى(50)؛ لذا فإنّنا سنتحرّك تحركين الأوّل خاص على مستوى التركيب الجملي في الخطبة - بمحاورها الثلاثة کما فعلنا سابقا -، والآخر عام على مستوى العلائق بين التراكيب الجملية في

ص: 312

المحاور الثلاثة كلّها.

اشتمل التركيب الجملي في نص الخطبة كاملا على مؤشّرات تركيبية هامة، فعّلت دور محاورها، وزادت من شدّ أواصرها، وبنائها المُحكَم، ورسّخت فاعلية (عتبة البداية) من خلال تحقيق وظيفتها المنوطة بها، وسنوزّع اشتغالنا - على المستوى التركيبي العام للخطبة - على بنيتين: الأولى: (بنية التركيب الجملي - الفعلیة والأسمية)، والأخرى: (بنية التركيب القَصِري)، فنعمد إلى مقاربتهما في المحاور الثلاثة كلّ محورٍ على حدة، ثمّ ننتهي إلى تركيب النتائج في المستوى التعالقي.

إنّ أهم ما يلفتُ نظرنا في عتبة البداية على مستوى البنية التركيبية الجملية ارتفاع نسبة الفعلية (التامة لا الناقصة) على الأسمية؛ إذ ترددت التراكيب الجملية الفعلية تسعا وعشرين مرّة في الأفعال: (فَقَأَتُ، لِيَجْتَرِئَ، مَاجَ، اِشْتَدَّ، اسْأَلُونِي،

تَفْقِدُونِي، تَسْأَلُونَنِي، تَهْديِ، تُضِلُّ، أَنْبَأَتْكُهُم،ْ يقُتَلُ، يَمُوتُ، فَقَدْتُمُونِي، نَزَلَتْ، لأطْرَقَ، فَشِلَ، قَلَّصَتْ، شَمَّرَتْ، تَسْتَطِيلُونَ، يَفْتَحَ، أَقْبَلَتْ، شَبَّهَتْ، أَدْبَرَتْ، نَبَّهَتْ، يُنْكَرْنَ، يُعْرَفْنَ، يَحُمْنَ، يُصِبْنَ، يُخْطِئْنَ)، ولا شكّ أن هذا التتالي الجملي الفعلي يحمل علامات: (الحركة، الاضطراب، الاختلال، التموّج، الارتفاع والانخفاض) التي تؤدّي كلّها إلى الإحساس بعدم الراحة، والإفضاء إلى الشعور بالرهبة، والخوف؛ لأنّك إذا كنتَ خالي الذهن من قضيّة ما، والأمور لديك محاطة بهالة من الغموض، وأنت بعيدٌ عنها في فضاء مغلق، وتسمع جلبة، وحركة شديدة، وانفعالات متتالية خارج فضائك المغلق وملاصقة له في الآن نفسه، فإنّ هذا كله سيُحرّك عندكَ الرهبة، والخوف من المجهول الآتي، والمستقبل الغامض، ستعيش في الحاضر - والحال هذه - بفضاء سكونيٍّ مريب، مشوب بالترقّب والحذر

ص: 313

والترصّد؛ لأنّك تسمع كلّ ذلك ولا تعرف نهايته أو مسبباته، وكذلك عتبة البداية فإنّ حضور البنية التركيبية الجملية الفعلية فيها، مع ما يرافقه من دلالة الحركة، والاضطراب، وعدم السكون، وعدم الراحة، يجعلها تُحقّق وظيفة (الترهيب) السابقة التي حققتها على المستوى المعجمي؛ لأن الحدث المركزي (فتنة بني أمية) لم يحن الإخبار عنه بعد، وهذا يولد رهبة فظيعة من الآتي الغائب، تزيدها رهبةً أخرى هذه المتوالية الجملية الفعلية الحاملة لدلالات: (الشدة، التموّج، الفقد، الضلال، القتل، الموت، النزول،، التباس الحق بالباطل - في شبّهت-، الإدبار، الإنكار، الحوم حول الشئ).

وتنتقل هذه الحركية المخيفة إلى فضاء (المتن) الجملي، فتُهيمن البنيات التركيبية الجملیة الفعلية على مستواه التركيبي محدثة ما أحدثته في البداية على نحو أكثر تخويفا، وفظاعة؛ إذ تتكرّر البنى التركيبية الجملية في الأفعال: (عَمَّتْ، خَصَّتْ، أَصَابَ، أبْصَرَ، أَخْطَأ،َ عَمِيَ، لَتَجِدُنَّ، تَعْذِمُ، تَخْبِطُ، تَزْبِنِ، تَمْنَعُ، یَتْرُكُوا، تَردِ،ُ يُفَرِّجُهَا، يَسُومُهُمْ، يَسُوقُهُمْ، يَسْقِيهِمْ، يُعْطِيهِمْ، يُحْلِسُهُمْ)، ولكنّ حضورها في (المتن) لم يتحقّق على وتيرة واحدة؛ إذا تتصاعد وتيرة الفعلية تارة، وتنخفض أخرى، في حركة عمودية متموجة هبوط ثمّ ارتفاع بحسب الدلالة، ففي قوله - عليه السلام -: ((وَاَيْمُ اَللَّهِ لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ، تَعْذِمُ

بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا، وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا، لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا

مِنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ أَوْ غَیْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ.)) تتصاعد الوتيرة لأن المقام يتطلّب التوالي، والشدّة، والقسوة، والتخويف، وتنخفض في قوله: ((وَلاَ يَزَالُ بَلاَؤُهُمْ عَنْكُمْ

حَتَّى لاَ يَكُونَ اِنْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلَ اِنْتِصَارِ اَلْعَبْدِ مِنْ رَبِّهِ، وَاَلصَّاحِبِ

مِنْ مُسْتَصْحِبِهِ)) ثمّ تعود لتتصاعد مرّة أخرى في قوله: ((ثُمَّ يُفَرِّجُهَا اَللَّهُ عَنْكُمْ

ص: 314

كَتَفْرِيجِ اَلْأَدِيمِ، بِمَنْ يَسُومُهُمْ خَسْفاً، وَيَسُوقُهُمْ عُنْفاً، وَيَسْقِيهِمْ بِكَأْسٍ مُصَبَّرَةٍ لاَ

يُعْطِيهِمْ إِلاَّ اَلسَّيْفَ، وَ لاَ يُحْلِسُهُمْ إِلاَّ اَلْخَوْفَ))، إنّ هذا التذبذب في نسبة حضور البنية التركيبية الفعلية مرتبطٌ بحساسية الحدث المسرود المُستَشرَف، فتتصاعد بتصاعد حدّة الحدث، وتنخفض بانخفاضه حتى وصول العقدة إلى الحل، ثم تأتي عتبة النهاية لترتبط بالبداية والمتن - على المستوى العلائقي - ارتباطا بنيويا فعليا، فتصدر عن متوالية فعلية تتطلبها الأحداث المستقبلية التي لا تعرف السكون: ((فَعِنْدَ ذَلِكَ تَوَدُّ قُرَيْشٌ بِالدُّنْيَا وَمَا فِيهَا لَوْ يَرَوْنَنِي مَقَاماً وَاحِداً، وَلَوْ قَدْرَ جَزْرِ

جَزُورٍ، لِأَقْبَلَ مِنْهُمْ مَا أَطْلُبُ اَلْيَوْمَ بَعْضَهُ فَلاَ يُعْطُونَنِيهِ.))، وهي عتبة نهاية تحيل على استشراف نهاية الأحداث في المستقبل بنضوب بني أُميّة، وفناء ملكهم القصّة المشهورة؛ قال ابن أبي الحديد (ت 656 ه) عن هذه النهاية: ((وهذا الكلام إخبار عن ظهور المُسَوِّدَة(51) وانقراض ملك بني أمية، ووقع الأمر بموجب إخباره صلوات الله عليه، حتى لقد صدق قوله: «تود قريش...» الكلام إلى آخره، فإن أربابَ السِّيَر كلهم نقلوا أن مروان بن محمد قال يوم الزاب لما شاهد عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس بإزائه في صف خراسان: لوددت أن علي بن أبي طالب لا تحت هذه الراية بدلا من هذا الفتى والقصة طويلة و هي مشهورة))(52)، إنّ هذه الرواية غاية في الأهمية؛ إذ تُفصح عن العلم اللدني للامام علي - عليه السلام -، وترسّخ مقولة إخباره بالغيب، والمستقبل الذي سيقع، وعتبة النهایة هنا تعود بحركة ارتدادية إلى علامات عتبة البداية التي تُحيل كلّها على أحقية الامام بالأمر، وعلمه اللدني الذي لا يصله الآخر السلبي، واستشرافه للمستقبل الآتي، وتتجلّى هنا بلاغة الإمام - عليه السلام - القائمة على إحكام صنعة الكلام وبنائه على نحوٍ ترتبطُ فيه ابتداءاتِه بانتهاء ايه في تشكيلةٍ علاماتيةٍ تغذّي سيرورةَ الدلالةِ في جسد الخطبة كلّه.

ص: 315

وتُحقّق بنية التركيب القصري حضورا فاعلا في جسد الخطبة كلّه؛ على الرغم من انخفاض مستوى الحضور الكمّي لها، إذ ترد في البداية مرّة واحدة في قول الإمام عليه السلام: ((فَاسْأَلُونِي قَبْلَ أَنْ تَفْقِدُونِي، فَوَالَّذِي نَفْيِ بِيَدِهِ لاَ تَسْأَلُونَنِي

عَنْ شَيْءٍ فِياَ بَيْنَكُمْ وَبَیْنَ اَلسَّاعَةِ، وَلاَ عَنْ فِئَةٍ تَهْدِي مِائَةً وَتُضِلُّ مِائَةً إِلاَّ أَنْبَأْتُكُمْ

بِنَاعِقِهَا وَقَائِدِهَا وَسَائِقِهَا، وَمُنَاخِ رِكَابِهَا، وَمَحَطِّ رِحَالَهِا، وَمَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَهْلِهَا قَتْلاً،

وَمَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ مَوْتاً.)) لكنّها على مستوى الحضور النوعي تحضر بفاعلية عالية؛ إذ تأتي مُحمّلَةً بعلامات هامة تؤشر ثيمة عملت عتبة البداية على ترسيخها وهي التخويف من فقد (المُستشرِف) = الامام - عليه السلام - و(إثبات العلم اللدني) له؛ إذ يأتي الاشتغال على التركيب القصري في عتبة البداية ضمن سياقها العام لتقرير ذلك وترسيخه لدى المُخاطَب؛ لأنّ بنية القصر هنا - بحسب رأيي - تمثِل تشكيلا لغوياً يُضمر صراعاً داخلياً بين (الأنا) = (الإمام - عليه السلام -) التي ستُفقد، والآخر المناوئ (بنو أمیّة)، فقصر فعل (الإنباء) على (المقصور عليه) = الإمام - عليه السلام - الذي يأتي بعد أداة الاستثناء على نحو إضماري في الفعل (أَنْبَأْتُكُم) - يعمل على تحقيق انتصار المقصور عليه (الإمام) على الآخر، وترسيخ مقولة (العلم اللدني) ويقتضي هذا من المتلقي إتباع المقصور عليه، ونبذ - الآخر المعادي.

وثمة انتظام علاماتي مُضمر عجيب بين التركيب القصري المتموقع في عتبة البداية والتركيبين القصريين اللذين تموضعا في (متن الخطبة)، وهو انتظام ناتج عن السيرورة الدلالية للخطبة كلّها؛ فبعد أن اشتغل التركيب القصري في عتبة البداية على ترسيخ دلالتي: (خوف الفقد) و(العلم اللدني) وقصره على الامام - عليه السلام -، جاء التركيبان القصريان في المتن ليشتغلا على دلالة (الترهيب

ص: 316

والتخويف) ذاتها؛ ذلك أن قوله التحذيري المبدوء بالقسم: ((وَاَيْمُ اَللَّهِ لَتَجِدُنَّ

بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ، تَعْذِمُ بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا،

وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا، لاَ يَزَالُونَ بِكُمْ حَتَّى لاَ يَتْرُكُوا مِنْكُمْ إِلاَّ نَافِعاً لَهُمْ أَوْ

غَیْرَ ضَائِرٍ بِهِمْ))

يحمل في تركيبه القصري دلالة (الترهيب) من الآتي بعد فقده، وعدم اتباعه، التي تُفضي إلى نتيجة حتمية تُرسم في تصوّر جماعة المُخاطَبين تتمثّل بإذلالهم، وتحقيرهم من لدن بني أمية إن لم ينصروا طرف الحق - الامام - في ثنائية (الحق - الباطل)، ويأتي التركيب القصري الثاني في قوله - عليه السلام -: ((وَلاَ يَزَالُ بَلاَؤُهُمْ عَنْكُمْ حَتَّى لاَ يَكُونَ اِنْتِصَارُ أَحَدِكُمْ مِنْهُمْ إِلاَّ مِثْلَ اِنْتِصَارِ اَلْعَبْدِ

مِنْ رَبِّهِ)) ليؤكّد ظاهرة الانتظام والتوافق بين التراكيب القصرية التي اتحدت لتشكيل شبكة علامية تنظم الدلالة على المستوى التركيبي بين البداية والمتن، فكأن التركيبين القصريين في المتن ما هما إلا (نتيجة) حتمية لل(سبب) الذي تمثّل بالتركيب القصري المتموضع في عتبة البداية.

3 - المستوى الدلالي (التصويري):

إذا كانت فاعلية التشكيل التصويري في النص تتجلّى في المستوى الجمالي الذي تنزاح به عن التقريرية وتُدخل المتلقي إلى عوالم خيالية، وتعمل على تفعيل ثنائية (المثير والاستجابة) في سلوكها هذا، فإنّ فاعليتها - في التحليل السيميولوجي - تبرز على نحو مزدوج؛ إذ تُفعّل الأبعاد العلاماتية المُضمرة في تشكيلها إلى جانب تفعيل الأبعاد الجمالية، ومن هنا فإن المُحلّل السيميولوجي يضطلع بمهمة ثنائية تقتضي تشريح (العيّنة التصويرية) على المستويين الجمالي والعلاماتي (لأنّ الصورة علامة مُشكَّلة فنيّاً)؛ لتحقيق هدفه المنشود: كيف أُنتِجت العلامة في النص؟ وكيف خلقت السيرورة (السيموز) الدلالية؟

ص: 317

وإذا كان المعنى يشير إلى كمٍّ ماديٍّ عديم الشكل وسابق على التمفصل (التَشَكُّل)، فإن الدلالة هي الناتج الصافي لهذه المادة وهي وجهه المتحقق بعد التشكّل، ولهذا فهي من جهة ليست مفصولة عن شروط انتاجها، فكل نسق له إرغاماته الخاصة، وله أنماطه في إنتاج دلالاته (النصوص، الصور، الوقائع الاجتماعية...)، وليست مفصولة من جهة ثانية عن التدليل ذاته، فالدلالة ليست معطى جاهزا - کما قلنا سابقا - بل هي حصيلة روابط تجمع بين أداة للتمثيل لا وبين شيء يوضع للتمثيل ضمن رابط ضروري يجمع بين التمثيل وما يوضع للتمثيل، أي ما يضمن الاحالة استقبالا على الموضوع نفسه في حالاته المتنوّعة(53)، فمعنى الشمس المادي - على سبيل المثال - يحيلنا على هذا الجرم السماوي، ولكنّ دلالتها لا تُنتج إلا إذا تشكّلت في نسق معين، فحين يقول السيّاب: (الشمسُ أجملُ في بلادي والظلام... حتى الظلام هناك أجمل فهو يحتضن العراق) فإنّ الشمس تُنتِجُ دلالتَها في هذا النسق بشكل مغاير لمعناها المادي الأوّلي، وتكتسب بعدا علاماتياً لا يتحقّق في معناها الفطري الأوّلي السابق.

إنّ العلامات التصويرية الدلالية الواردة في نص خطبة الامام تتشكّل في نسق عام تحكمه السيرورة الدلالية العامة للخطبة، والتي قد اتضح أغلبها في المستويين السابقين؛ لذا سنقف عند العلامات التصويرية في محاور الخطبة للتفتيش عن الدلالات المتفرّقة التي تُنتجها علاماتها خدمة للدلالة المركزية في نص الخطبة.

يتشكل المستوى التصويري الدلالي في الخطبة - بكلّ محاورها - من تشكيلات استعارية، ومجازية، وتشبيهية تعمل في كلّ محورٍ على حدة؛ لتخليق علامات وإشارات هامة من شأنها أن توجّه المتلقي المعاصر إلى نقاط الإضمار الدلالي الكامن خلف التشكيلات الجمالية التي تعمل في شبكة علائقية مشتركة لانتاج

ص: 318

الدلالة المركزية.

وتمثّل (عتبة البداية) - على المستوى الدلالي التصويري - السلطة المُهيمنة على الجماليات التصويرية المختزنة للعلامات، والاشارات الدالة في جسد الخطبة كلّه؛ إذ تؤدّي - بوصفها عتبة مُوَجِّهَة -: وظيفةَ الإغراء بالنسبة للمتلقي المعاصر - أنا وأنت وهم -؛ لفتح أفق التوقّع لديه، وحثّه للبحث عن مركزية الحدث الذي سيبثّه الامام - عليه السلام - في المتن بعد عبور البداية، ومحاولة التوليف بينها وبين المتن، ووظيفتي (الترهيب) و(الترغيب) بالنسبة للمُخاطَب الحاضر حضوراً زمانيا ومكانيا فعليا وقت إنتاج الخطبة في زمانها ومكانها التاريخي الحقيقي، فنصُّ الامام - عليه السلام - هو نصٌّ عابر للأزمنة، يصلُح لكلّ زمانٍ ومكان، وهو حين يصدر عن بناءٍ محكم بآليات بلاغة فاعلة، عالية المستوى، فإنّه يُعزّز من طرح عمومية الخطاب، الذي يُسجّل حضوره في كلّ زمانٍ ومكان، وتذوب فيه الخصوصية التخاطبية الضيّقة أو المحلية، وينفتح نحو الكونية الشاملة؛ لأنّ كلام الامام - عليه السلام - هو امتداد طبيعي لبلاغة الله - عزّ وجل - ورسوله - صلّى الله عليه وآله -، وهو ينتمي لحقل اللغة العُليا التي لا تُحدّدها أُطرٌ زمانية / مكانية، تقتحمُ بتجلياتها البلاغية، وبفعالية حضورها فيزياوية الزمن الطبيعية.

وقد حقّقت (عتبة البداية) وظائفها هذه بوسائل تشكيل جمالية تصويرية فاعلة يأتي في مقدمتها (التشكيل الاستعاري) الكامن في قوله - عليه السلام -: ((فَإِنِّ فَقَأْتُ عَیْنَ اَلْفِتْنَةِ)) وفاعلية هذا التشكيل تأتي من أهميته المركزية من خلال: (الموقعية) - حضوره في أول عتبة البداية -، و(أَسْطَرَة الصورة) التي أنتجت وظيفة (الترهيب والتخويف) من خلال الإحالة على عوالم وهمية خرافية قائمة على الأبعاد المثيولوجية الموروثة عند العرب، وإثارة ذهن المُخَاطَب بوسائل

ص: 319

تهويلية مثّلت عنده هاجساً نفسياً ماورائياً (الغول، السُعلاة) في المنظومة الثقافية قبل الإسلام وبعده.

فالغيلان مثلا وهي كائنات خرافية أسطورية کائنات خرافية أسطورية تتّسم بسمات خَلقية مشوّهة تميّزها عن الأنس - عيناها مشقوقتان بالطول لا بالعرض، وأما رجلاها فرجلا حمار(54) - كانت تمثّل أسطورة خرافية مرعبة لدى العربي قبل الإسلام وبعده، إنّ هذا الكائن الخرافي الوهمي الذي بين الانسانية والحيوانية، بين الذكر والأنثى والذي كان حقيقة ذهنية لدى العرب قبل الإسلام بقي في الذاكرة الشعبية بعد الإسلام(55)، ولا ريب إنّ بعض ما وصلنا من الأساطير وإن كان متأخّرا زمانياً بعد مجئ الإسلام لا يمنع من أنها حتى في تلك الصورة تحمل في تضاعيفها أصداء الماضي البعيد الذي لا يُمحى من الذاكرة الجمعية؛ لأنّ الرواية الجماعية - وهي ضرب من الرقابة الاجتماعية - قد احتفظت به، وتداولته وهو يُصّور لنا العالم الأسطوري الذي يتمّ استحضاره، ولا شك في أنّه قد استمرّ في التاريخ الإسلامي(56).

وقد تحقّقت هذه الأصداء المُخيفة في (التشكيل الاستعاري) السابق بوساطة آلية الاستبدال من خلال استعارة مفردة (عين) - عنصر بشري / حيواني مادي - لمفردة (الفتنة) - عنصر معنوي تجريدي لا يُحقّق حضورا فيزياويا ملموسا - في التركيب الإضافي (عين الفتنة)؛ وقد أنتجت هذه الحركة الانزياحية تحولاتٍ دلالية على مستوى الحقيقة والمجاز أدت إلى تفعيل دور الأسطوري الخرافي المُتخيّل وتراجع الحقيقي المادي الملموس، وقد أدّى ذلك إلى أسطرة الصورة من خلال الإحالة على (كائن مرعب مخيف بعين واحدة) يماثل الكائنات الأسطورية المترسّخة في ذاكرة المُخاطَب، وهذا يؤدي إلى تفعيل الإحساس بالخوف من هذه

ص: 320

الصورة المشوّهة التي ستظهر لهم في المستقبل القريب، وسيُشير لها الامام في متن الخطبة أيضا بتشكیلات جمالية أخرى.

ولا ريب أن التشكيل الاستعاري ليس ((مجرّد استخلاص لصفات مشتركة بين طرفيه، فقد يكون صورة لمشاعر صاحب التعبير تجاه الأشياء وموقفه نحوها))(57)؛ لذا فإنّ تشکیل (عين الفتنة) الاستعاري يؤشّر للمتلقي علامتين مهمتين أولاهما: (أحقية الامام واختلافه عن كل المتصدين لمسند الخلافة)، بوساطة مشهد البطولة والتفرّد - ((وَلَمْ يَكُنْ لِيَجْتَرِئَ عَلَيْهَا أَحَدٌ غَیْرِي)) - المتحقق بِفَقءْ عينِ (الفتنة) من لدن الإمام - عليه السلام -، البطل الحقيقي في مشهد الصراع الدائر بين (الحق) - الإمام - و(الباطل) = (الفتنة ذات العين الواحدة) المعادل الموضوعي ل(بني أمية)، وقد أشار ابنُ أبي الحديد المعتزلي لذلك حين قال: ((ومعنی فقْئِه - عليه السلام - عينَ الفتنة، إقدامه عليها حتى أطفأ نارها، كأنه جعل للفتنة عينا محدقةً يهابُها الناس، فأقدم هو عليها، ففقأ عينَها، فسكنت بعد حركتها وهيجانها. وهذا من باب الاستعارة، وإنا قال: «ولم يكن ليجترئ عليها أحد غيري» لأن الناس كلَّهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة، ولا يعلمون كيف يقاتلونهم، هل يتبعُون مولِّيهم أم لا؟ وهل يُجْهِزُون على جريحهم أم لا؟ وهل يُقسِّمون فيئهم أم لا؟ وكانوا يستعظمون قتال من يؤذّن كأذاننا، ويصلّي كصلاتنا، واستعظموا أيضا حربَ عائشة وحرب طلحة والزبير؛ لمكانهم في الإسلام... فلولا أنَّ عليّاً اجترأ على سلِّ السيف فيها ما أقدم أحدٌ عليها))(58)، وأمّا العلامة الأخرى فتتمثّل ب(دلالة الترهيب والتخويف) التي تحملها صورة (الكائن المشوّه المرعب = الفتنة ذات العين الواحدة)؛ للوصول إلى الهدف المركزي: التحذير من مغبّة عدم اتباع الحق = عليّ - عليه السلام -.

ص: 321

ومن التشكيلات الجمالية التي اشتغلت في عتبة البداية اشتغالا مزدوجا - جمالياً وعلاماتياً - التشكيل الكنائي المتمثّل بتشكيل: (شَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ) في قوله - عليه السلام -: ((وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ، وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ، وَكَانَتِ اَلدُّنْيَا عَلَيْكُمْ

ضِيقاً)) الذي هو نتيجة للكلام السابق المؤدّي لدلالة الفَقد: ((وَلَوْ قَدْ فَقَدْتُمُونِي

وَنَزَلَتْ بِكُمْ كَرَائِهُ اَلْأُمُورِ، وَحَوَازِبُ اَلْخُطُوبِ، لَأَطْرَقَ كَثِرٌ مِنَ اَلسَّائِلِينَ، وَفَشِلَ

كَثِرٌ مِنَ اَلْمَسْئُولِينَ))، وهو تشکیل متناص مع الآية القرآنية: «يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ» قد قِيل في تفسيرها أن ((الْكَشْفُ عَنْ سَاقٍ: مَثَلٌ لِشِدَّةِ الَحْالِ وَصُعُوبَةِ

الْخَطْبِ وَالْهَوْلِ، وَأَصْلُهُ أَنَّ الَمْرْءَ إِذَا هَلَعَ أَنْ يُسْرِعَ فِي الْمشْيِ وَيُشَمِّرَ ثِيَابَهُ فَيَكْشِفَ

عَنْ سَاقِهِ... فَإِذَا قَالُوا: كَشَفَ الْمَرْءُ عَنْ سَاقِهِ فَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ هَوْلٍ أَصَابَهُ وَإِنْ لَمْ

يكن كشف سَاقه. وَإِذَا قَالُوا: كَشَفَ الْأَمْرُ عَنْ سَاقٍ، فَقَدْ مَثَّلُوهُ بِالْمَرْأَةِ الْمُرَوَّعَةِ،

وَكَذَلِكَ كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقِهَا، كُلُّ ذَلِكَ تَمْثِيلٌ إِذْ لَيْسَ ثَمَّةَ سَاقٍ))(59)، وهذا ينسحب على التشكيل الكنائي (شَمَّرَتْ عَنْ سَاقٍ) الذي وظفه الإمام - عليه السلام - في عتبة البداية ليُسهم في تأكيد دلالة التهويل والتخويف والترهيب التي اشتغلت البداية على ترسيخها بوسائل تشکیل متعددة معجمية وتركيبية ودلالية.

فالتشكيل الكنائي السابق جاء متساوقا مع وظيفة البداية، لا ينفصل في دلالته، وقيمته، وفاعليته عن السياق العام لها؛ إذ يُفجّر الشعور بالرعب لدى المتلقي، ويُثير حساسيته تجاه المستقبل المرعب الآتي، ويفعّل في ذهنیته دلالات التخويف، والترهيب، وقد آزر التشكيل المجازي المتجلي في قوله - عليه السلام - ((وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ)) التشكيل الكنائي السابق لإنتاج الدلالة المطلوبة، وهو هنا (مجاز عقلي)؛ إذ أسند فعل (التقليص) = الانقباض لل(حرب) وهو ليس ها على وجه الحقيقة بل للمُتحاربين، فالفعل (قلّص) لغوية يحيل على: الانقباض

ص: 322

والانكماش الذي يسبقه التموّج والحركة الارتدادية: ((تقلّص الظلُّ وغيره، إذا انقبض.))(60)، ((وقَلَصَ وقَلَّصَ وتَقَلَّصَ، كله بمعنى انضمَّ وانزوى))(61)، وهي حركات لا تقوم بها الحرب؛ لأنّها واقعة مصنوعة بوساطة فاعلين (الجنود)، وليست متشكّلةً بإرادتها، قال ابن ابي الحديد - في قول الامام - عليه السلام - (وَذَلِكَ إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ)) -: ((أراد انضمَّتْ واجتمع-ت وذلك لأنّه يكون أشدّ لها وأصعب من أن تتفرق في مواطن متباعدة ألا ترى أن الجيوش إذا اجتمعت كلُّها واصطدمَ الفيلقان كان الأمر أصعب وأفظع من أن تكون كلُّ كتيبة من تلك الجيوش تحاربُ كتيبةً أخرى في بلاد متفرِّقة متباعدة وذلك لأن اصطدام الفيلقين بأجمعهما هو الاستئصال الذي لا شوى له و لا بقيا بعده))(62).

إنّ الإمام - عليه السلام - يُصوّرُ - في هذا التشكيل المجازي - مشهدا عظيما فيه من التهويل، والتخويف الشيء الكثير؛ إذ أنّ انقباضَ الحرب وانكماشها، وتقلّصَ فضائِها المكاني بحركة ارتدادية متموّجة وعنيفة ما هو إلاّ نتيجة حتمية لشدّة التحام الفريقين المتقاتلين، وقوّة التصاقهما ببعضهما، إلى درجة انكماش الرقعة التي يتقاتلون عليها، وانقباضها بحيث لا يرى الناظر إلى ساحة المعركة من زاوية نظر فوقية إلّا كتلةً قاتمة؛ نتيجة للتلاحم والتشابك، وهو منظر مهول يُمشهِد حالة الرعب، والخوف، والقتل، والفتك ويعرضها أمام المُخاطَب الذي يفعّل حالة التخييل الذهني فيتصوّر هذا المشهد المرعب أمامه، ويتخيّل نفسه وسط المعمعة، فيُحقق المُثِير (التشكيل المجازي = قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ) استجابةَ المُخاطَب المتمثّلة بشعوره بالرهبة والخوف من المستقبل الآتي إذا بقي صامتاً أو وقف بجانب طرف الباطل ولم يُناصر الحق.

ويمتدّ هذا النس-ق التخويفي المُضمر في التشكيلات الجمالية إلى متن الخطبة

ص: 323

فيتجلّى في تشكيلات متعددة أهمّها الاستعارة في قوله - عليه السلام - واصفاً فتنة بني أمية: ((فَإِنَّهَا فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ مُظْلِمَةٌ)) وقوله: ((تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً،

وَقِطَعاً جَاهِلِيَّةً، لَيْسَ فِيهَا مَنَارُ هُدًى، وَلاَ عَلَمٌ يُرَى))، والتشبيه في تشكيل: ((كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ)) الذي سيأتي، فبوساطة الاستعارة الأولى: (فِتْنَةٌ عَمْيَاءُ

مُظْلِمَةٌ) نتج علامات: الفوضى والحركة غير المدروسة، والاضطراب المُميت، والعتمة المُنتِجة للفضاء المظلم، وكلّها علامات تؤدّي إلى بثّ الشعور بالخوف لدى المُخَاطَب، وهو مشهد مخيف بغموض؛ لأنّ الأعمى - على سبيل المثال - إذا أُعطِي سيفاً وأُسند بسلطة تحميه وأُمر بالفتك بالناس في مكان ذي فضاءٍ مغلقٍ بإحكام سیقترف مجزرة دموية بشعة؛ إذ أن فقدانه النظر يُفقده رؤية وجوه من يفتك بهم، هذه الرؤية التي قد تُسهم في لجم عنفه عندما يرى عيون الأبرياء الصامتة تنظر إليه، وتستعطفه وهي تحاول التشبّث بالحياة التي قد يمنحها لها؛ إذا ما قرّر أن يُخفّف من قسوته، ويحد من خَرِقها، إنّ هذا المثال ينطبق على التشكيل الاستعاري السابق؛ فالفتنة خرقاء، تؤدّي إلى نتائج مدمّرة، وتصويرها بهذه الصورة يُحيل على العموم لا الخصوص الذي قد يختبئ خلفه بعض المُخاطبين، فيرى أنّ انزواءه، وعدم تدخلِه يحولُ دون وقوعه في حبائلها، والحقيقة أن الفتنة إذا وقعت عمّت.

وتُحقق الاستعارة الثانية (تَرِدُ عَلَيْكُمْ فِتْنَتُهُمْ شَوْهَاءَ مَخْشِيَّةً: أي قبيحة) بعدا علائقياً فاعلا؛ إذ تعود بحركة ارتدادية إلى التشكيل الأستعاري الأوّل (عين الفتنة) المتجلي في (عتبة البداية)؛ لتآزرَه في خلق محورٍ مهمٍّ من محاور الدلالة في السياق الدلالي العام للخطبة، وهو محور (الترهيب والتخويف)؛ إذ أنَّ تشکیل الصورتين، وتركيبهما بصورة واحدة مركّبة يُنتج تشکیلا تصویریا فاعلا: (فتنة بعين واحدة مشوّهة قبيحة)، يعمل على تكريس دلالة التخويف التي تتآزر كلّ

ص: 324

مستويات الخطبة على إيصاله للمُخاطَب.

ويختزن التشكيل التشبيهي: (كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ) الوارد في قوله - عليه السلام -: ((لَتَجِدُنَّ بَنِي أُمَيَّةَ لَكُمْ أَرْبَابَ سُوءٍ بَعْدِي كَالنَّابِ اَلضَّرُوسِ، تَعْذِمُ بِفِيهَا، وَتَخْبِطُ بِيَدِهَا، وَتَزْبِنُ بِرِجْلِهَا، وَتَمْنَعُ دَرَّهَا)) علامات دلالية هامة صدرت عن البعد المثيولوجي للناقة المُسنّة = (الناب) التي انقلبت رمزيتها في ظلّ الإسلام من دائرة المُقدّس - في الجاهلية - إلى دائرة اللامقدّس؛ إذ اقترنت بالشيطان والجهل والنفاق(63)، فتشبيه بني أميّة بالناقة الضروس السيئة الخُلق التي تعضُّ حالبَها هو تأكيد لسلبية الطرف الثاني من ثنائية (الحق - الباطل)، الذي يمثّل: الشيطنة والنفاق والجهل، وهو في الوقت نفسه - ترسيخٌ ضمنيٌّ لأحقية طرف (الأنا) = الامام - عليه السلام -، التي أحالت عليها علامات عتبة البداية، وهنا تتكشّف العلاقة الارتدادية - على المستوى التصويري الدلالي - بين عتبة البداية، والمتن النصّي للخطبة.

ص: 325

نتائج البحث وخاتمته

إنَّ أهم ما خرجت به مقاربتنا لعتبة البداية على المستويين التنظيري والإجرائي يتلخّص بالنقاط الآتية:

اتضحت للدراسة الأهميةُ الاستراتيجية التي تتمتع بها عتبة (البداية) في التراث، وقد كشفت عن وعي القدماء بمركزيتها، وبؤريتها؛ إذ مثّلت عندهم الركيزة الإنطلاقية المحورية التي يتشكّل - في ضوء نسقها المُنتَج - العمل برمّتِه؛ لذا اجتهدوا في خلق منظومة تعليمية صارمة قائمة على ثنائية (الخطأ والصواب)؛ لتنظيم توظيف هذه الآلية الاستراتيجية من لدن المبدعين، وضمان جودة استعمالها.

وجدت الدراسة أنّ أهمية البداية في الدرس النقدي الحديث تنبع من كونها لحظة حسّاسة تنعكس على أفق القراءة لدى المتلقّي، وتُحدّد مساراته، وممارساته القرائية في ضوء إغرائها له أو عدمه؛ إذ تُحدّد هذه الاستراتيجية طريقة دخوله للنص منذ تلقيه الأول.

کشفت الدراسة من خلال تشريح جسد الخطبة كاملة بعد مقاربة عتبة و البداية عن هيمنة حقل (الفتنة) وما تفرّع منه على المستوى المُعجمي؛ لمساندة عتبة البداية في تأدية وظيفتها المركزية القائمة على ثنائية (الترهيب والترغيب) التي ستمثّل سيرورة دلالية بؤرية تُهيمن على أنساق الخطبة كلّها.

أفرزت مقاربة المستوى المعجمي في عتبة البداية حقلا آخر تمثّبل بحقل (الأنا) المُفضي إلى دلالات الأحقية في الخلافة والعلم اللدني للامام - عليه السلام - والتي تؤدّي كلّها وظيفة (الترغيب والترهيب) أيضا.

إن هيمنة التركيب الجملي الفعلي على نص الخطبة يؤشّر حركية الأحداث

ص: 326

رغم سکونية (الفتن) قبل الولادة، لكنها بعد ولادتها تُفضي إلى هيمنة أنساق الاضطراب، وعدم الاستقرار، والفوضى، وهذا يتساوق مع الحركية المُنتَجة بوساطة نسق الأفعال التتابعي المتراكم، وكلّ هذا التتابع والتراكم يؤدي وظيفة (الترهيب والترغيب)؛ لأنّ التركيب الاسمي يُشيع الشعور بالهدوء والاستقرار لما فيه من ثبات، في حين أن التركيب الفعلي المهيمن على المستوى التركيبي في الخطبة يُثير عند المُخاطَب الشعور بعدم الراحة لاسيما إذا توالت التراكيب على هذا النحو الفعّال، وفضلا عن ذلك فإن التركيب الحَصْرِي لعِب دوراً هاماً في ترسيخ وظيفة (الترهيب والترغيب) المركزية.

أنتج المستوى الدلالي تشکّلات جمالية على نحو عمودي تدريجي (بداية + متن + نهاية) بوسائل تشکیل تراثية نهضت على محوري (الاستبدال): (الاستعارة والكناية) و (التماثل): (التشبيه)، فَعَّلَتْ دور العتبة، وساعدتها على إنتاج وظائفها المركزية: (الترهيب والترغيب).

كشفت الدراسة على المستوى التعالقي عن بناءٍ محكمٍ ربط محاورَ الخطبةِ العيّنة مع بعضها البعض ربطاً محکماً تآزرت فيه كلُّ عناصر الخطبة المحورية واللسانية / اللغوية والميتالغوية (الإحالية) في بناء دائري تُهيمن عليه خاصية الارتداد بين المحاور: (بداية = متن = نهاية) و(نهاية = متن = بداية).

هوامش البحث:

1. ينظر: التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (المتوفي: 816 ه)، ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر: دار الکتب العلمية بيروت - لبنان، ط 1، 1983 م: 28، وينظر: الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسی الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي (المتوفى: 1094 ه)، تحقيق: عدنان درویش - محمد المصري، مؤسسة الرسالة - بيروت، 1602 ه: 129 - 130، وينظر: کشاف اصطلاحات الفنون والعلوم،

ص: 327

محمد بن علي ابن القاضي محمّد حامد بن محمد صابر الفاروقي الحنفي التهانوي (المتوفي: بعد 1158 ه)، تقديم وإشراف ومراجعة: د. رفيق العجم، تحقيق: د. علي دحروج، نقل النص الفارسي إلى العربية: د. عبد الله الخالدي، مكتبة لبنان ناشرون - بيروت، ط 1 - 1996 م: 1 / 212.

2. معجم النقد العربي القديم، د. أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد، ط 1، 1989 م: 1 / 17.

3. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق القيرواني (ت 456 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط 5، 1981 ه: 1 / 217.

4. البديع في نقد الشعر، أسامة بن منقذ (ت 584 ه)، تحقيق: د. أحمد أحمد بدوي، ود. حامد عبد المجيد، مراجعة: الأستاذ إبراهيم مصطفی، سلسلة تراثنا، الناشر: الجمهورية العربية المتحدة - وزارة الثقافة والإرشاد القومي - الإقليم الجنوبي - الإدارة العامة للثقافة، د.ط، د.ت: 285.

5. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، الجزري، أبو الفتح، ضیاء الدين، المعروف بابن الأثير الكاتب (ت 637 ه)، تحقيق: د. أحمد الحوفي، ود. بدوي طبانة، دار نهضة مصر - القاهرة، ط 2، 1973 م: 3 / 96.

6. الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور، نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، الجزري، أبو الفتح، ضياء الدين، المعروف بابن الأثير الكاتب (المتوفي: 137 ه)، تحقيق:

مصطفی جواد، مطبعة المجمع العلمي - بغداد، 1375 ه: 187.

7. تحرير التحبير، في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، لابن أبي الإصبع المصري (ت 654 ه)، تحقيق: د. حفني محمد شرف، لجنة إحياء التراث الاسلامي، المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية الجمهورية العربية المتحدة، د.ط، د.ت: 168.

8. نهاية الأرب فنون الأدب، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهّاب النّويري (ت 733 ه)، تحقيق: د. علي ابوملحم، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 2004 م: 7: 110.

9. الإيضاح في علوم البلاغة، المعاني والبيان والبديع، الخطيب القزويني (ت 739 ه)، تحقیق ابراهيم شمس الدین، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 2003 م: 322.

10. الطراز، یحیی بن حمزة العلوي (ت 745 ه)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية - بیروت، ط 1، 2002 م: 2 / 141.

11. صبح الأعشى في صناعة الانشا، أبو العباس أحمد القلقشندي (ت 821 ه)، دار الكتب المصرية - القاهرة، 1922 م: 6 / 276.

ص: 328

12. خزانة الأدب وغاية الأرب، ابن حجّة الحموي (ت 837 ه)، تحقيق: عصام شعيتو، دار ومكتبة الهلال - بيروت، ط 1، 1987 م: 1 / 19.

13. أنوار الربيع في أنواع البديع، علي صدر الدين بن معصوم المدني (ت 1120 ه)، تحقيق: شاكر هادي شكر، مطبعة النعمان - النجف الأشرف - العراق، ط 1، 1968 م: 1 / 34.

14. ينظر: المثل السائر: 3 / 96، ونهاية الأرب: 7 / 110، والطراز: 2 / 141، وخزانة الأدب: 1 / 19، وأنوار الربيع: 1 / 34.

15. لسان العرب، محمد بن مكرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفى: 711 ه)، دار صادر - بيروت، ط 3، 1414 ه: 1 / 27.

16. ينظر: المثل السائر: 3 / 96، ونهاية الأرب: 7 / 110، والطراز: 2 / 141، وخزانة الأدب: 1 / 19، وأنوار الربيع: 1 / 34.

17. ينظر: البداية والنهاية في الرواية العربية، عبد الملك أشهبون، رؤية للنشر والتوزيع، ط 1، 2013 م: 33 - 32.

18. ينظر: هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل - دراسات في الرواية العربية، شعيب حليفي ط 1، محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، 2013: 91.

19. ينظر: هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل - دراسات في الرواية العربية: 92، و البداية والنهاية في الرواية العربية: 54 - 55.

20. ينظر: البداية والنهاية في الرواية العربية: 34.

21. ينظر: م. ن: 35 - 36.

22. ينظر: م .ن: 30.

23. ينظر: م . ن: 26 - 27.

24. ينظر: فتوحات روائية - قراءة جديدة لمنجز روائي عربي متجدّد، د. عبد الحق بلعابد، ط 1، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، دار الروافد الثقافية - ناشرون، بيروت - لبنان، 2015 م: 178.

25. الغيهب: الظلمة، وموجها: شمولها وامتدادها.

26. الكَلَب محرّكة: داء معروف يصيب الكلاب، فكل من عضته أصيب به فجُنّ ومات، وشبه به اشتداد الفتنة حتى لا تصيب أحدا إلا أهلكته. وكلبها: شرّها وآذاها.

27. ناعقها: الداعي إليها، من نعق الراعي بغنمه صاح بها لتجتمع.

28. الركاب هنا: الإبل.

ص: 329

29. کرائه: جمع کريهة.

30. الحوازب: جمع حازب وهو الأمر الشديد.

31. قلّصت: بتشديد اللام: انضمت واجتمعت وانقبضت.

32. اشتبه فيها الحق بالباطل.

33. لأنها تُعرف بعد انقضائها وتنكشف حقيقتها فتكون عبرة.

34. الخُطة بالضم: الأمر، أي شمل أمرها لأنها رئاسة عامة، وخصت بلیتها آل البيت عليهم السلام -؛ لأنها اغتصاب لحقهم.

35. من عرف الحق فيها نزل به البلاء: الانتقام من بني أمية.

36. الناب: الناقة المُسِنّة، والضروس السيئة الخلق تعض حالبها، وتعذم: من عذم الفرس إذا أكل بجفاء أو عض، وتزين: أي تضرب، و درها: لبنها، والمراد: خيرها.

37. أي انتصار الأذلاء وما هو بانتصار.

38. شوهاء: قبيحة المنظر، مخشية: مخوفة مرعبة.

39. دلیل یُهتدی به.

40. بمكان النجاة من إثمها.

41. كما يسلخ الجلد من اللحم.

42. مملوءة إلى أصبارها: جمع صبر أي إلى رأسها.

43. من أحلسَ البعير إذا ألبسه الحِلس بكسر الحاء وهو كساء يوضع على ظهره تحت البرذعة، أي لا يكسوهم إلا خوفا.

44. الجزور: الناقة المجزورة أو الشاة المذبوحة: أي ولو مدة ذبح البعير أو الشاة.

45. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (656 ه)، تحقيق محمّد إبراهيم، الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، دار الكتاب العربي، شارع المتنبّي، بغداد، ط 1، 2007 م: 7 / 30 - 31.

46. ينظر: السيميائيات - مفاهيمها وتطبيقاتها، سعید بنکَراد، دار الحوار - سورية، ط 2، 2005 م: 258 - 259.

47. السيميائيات العامة - أسسها ومفاهيمها، عبد القادر فهیم شیبانی، الدار العربية للعلوم ناشرون - بیروت، منشورات الاختلاف - الجزائر، ط 1، 2010 م: 46.

48. ينظر: السيميائيات العامة - أسسها ومفاهيمها: 48.

49. ينظر: تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)، د. محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي - الدار

ص: 330

البيضاء، ط 4، 2005 م: 58.

50. ينظر: شعرية الجملة في الشعر العربي المعاصر، د. رابح بن خوية، عالم الكتب الحديث - إربد، ط 1، 2017 م: 5.

51. پرید: ظهور الدولة العباسية.

52. شرح نهج البلاغة: 7 / 39.

53. ينظر: السيميائيات - مفاهيمها وتطبيقاتها: 264.

54. ينظر: موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، د. محمّد عجينة، دار الفارابي - بيروت، ط 1، 1994 م: 2 / 14.

55. ينظر: موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها: 2 / 43.

56. ينظر: م . ن: 2 / 51.

57. فلسفة البلاغة - بين التقنية والتطوّر، د. رجاء عيد، منشأة المعارف بالاسكندرية، ط 2، 1988 م: 338.

58. شرح نهج البلاغة: 7 / 31.

59. التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393 ه)، الدار التونسية للنشر - تونس، 1984 م: 29 / 96.

60. جمهرة اللغة، لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت 321 ه)، تحقيق: رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين - بيروت، ط 1، 1987 م: 2 / 894.

61. الصِّحاح: تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 393 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، ط 4، 1407 ه - 1987 م: 3 / 1053.

62. شرح نهج البلاغة: 7 / 36.

63. ينظر: موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها: 1 / 286.

ص: 331

المصادر والمراجع

1. أنوار الربيع في أنواع البديع، علي صدر الدين بن معصوم المدني (ت 1120 ه)، تحقيق: شاکر هادي شكر، مطبعة النعمان - النجف الأشرف - العراق، ط 1، 1968 م.

2. الإيضاح في علوم البلاغة، المعاني والبيان والبديع، الخطيب القزويني (ت 739 ه)، تحقیق ابراهيم شمس الدين، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 2003 م.

3. البداية والنهاية في الرواية العربية، عبد الملك أشهبون، رؤية للنشر والتوزيع، ط 1، 2013 م.

4. البديع في نقد الشعر، أسامة بن منقذ (ت 584 ه)، تحقيق: د. أحمد أحمد بدوي ود. حامد عبد المجيد، مراجعة: الأستاذ إبراهيم مصطفی، سلسلة تراثنا، الناشر: الجمهورية العربية المتحدة - وزارة الثقافة والإرشاد القومي - الإقليم الجنوبي - الإدارة العامة للثقافة، د.ط، د.ت.

5. تحرير التحبير، في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن، لابن أبي الإصبع المصري (ت 654 ه)، تحقيق: د. حفني محمد شرف، لجنة إحياء التراث الاسلامي، المجلس الأعلى للشؤون الاسلامية، الجمهورية العربية المتحدة، د.ط، د.ت.

6. التحرير والتنوير «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفي: 1393 ه)، الدار التونسية للنشر - تونس، 1984 م.

7. تحليل الخطاب الشعري (استراتيجية التناص)، د. محمد مفتاح، المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء، ط 4، 2005 م.

8. التعريفات، علي بن محمد بن علي الزين الشريف الجرجاني (المتوفي: 816 ه)، ضبطه وصححه جماعة من العلماء بإشراف الناشر: دار الكتب العلمية بيروت - لبنان،

ص: 332

ط 1، 1983 م.

9. الجامع الكبير في صناعة المنظوم من الكلام والمنثور، نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، الجزري، أبو الفتح، ضياء الدين، المعروف بابن الأثير الكاتب (المتوفى: 637 ه)، تحقيق: مصطفی جواد، مطبعة المجمع العلمي - بغداد، 1375 ه.

10. جمهرة اللغة، لأبي بكر محمد بن الحسن بن دريد الأزدي (ت 321 ه)، تحقيق: رمزي منير بعلبکي، دار العلم للملايين - بيروت، ط 1، 1987 م

11. خزانة الأدب وغاية الأرب، ابن حجّة الحموي (ت 837 ه)، تحقيق: عصام شعيتو، دار ومكتبة الهلال - بيروت، ط 1، 1987 م.

12. السيميائيات - مفاهيمها وتطبيقاتها، سعید بنکَراد، دار الحوار - سورية، ط 2، 2005 م.

13. السيميائيات العامة - أسسها ومفاهيمها، عبد القادر فهیم شیباني، الدار العربية للعلوم ناشرون - بیروت، منشورات الاختلاف - الجزائر، ط 1، 2010 م.

14. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (656 ه)، تحقيق محمد إبراهيم، الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، دار الكتاب العربي، شارع المتنبّي، بغداد، ط 1، 2007 م.

15. شعرية الجملة في الشعر العربي المعاصر، د. رابح بن خوية، عالم الكتب الحديث - إربد، ط 1، 2017 م.

16. صبح الأعشى في صناعة الانشا، أبو العباس أحمد القلقشندي (ت 821 ه)، دار الكتب المصرية - القاهرة، 1922 م.

17. الصِّحاح: تاج اللغة وصحاح العربية، لأبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري

ص: 333

(ت 393 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين - بيروت، ط 4،1987 م.

18. الصناعتين، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعید بن يحيى بن مهران العسكري (المتوفي: نحو 395 ه)، تحقيق: علي محمد البجاوي و محمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العنصرية - بيروت، 1419 ه.

19. الطراز، یحیی بن حمزة العلوي (ت 745 ه)، تحقيق: د. عبد الحميد هنداوي، المكتبة العصرية - بيروت، ط 1، 2002 م.

20. العمدة في محاسن الشعر وآدابه ونقده، ابن رشيق القيرواني (ت 456 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، دار الجيل، ط 5، 1981 ه.

21. فتوحات روائية - قراءة جديدة لمنجز روائي عربي متجدّد، د. عبد الحق بلعابد، ط 1، ابن النديم للنشر والتوزيع، الجزائر، دار الروافد الثقافية - ناشرون، بیروت - لبنان، 2015 م.

22. فلسفة البلاغة - بين التقنية والتطوّر، د. رجاء عيد، منشأة المعارف بالاسكندرية، ط 2، 1988 م.

23. کشاف اصطلاحات الفنون والعلوم، محمد بن علي ابن القاضي محمد حامد بن محمّد صابر الفاروقي الحنفي التهانوي (المتوفي: بعد 1158 ه)، تقديم وإشراف ومراجعة: د. رفيق العجم، تحقيق: د. علي دحروج، نقل النص الفارسي إلى العربية: د. عبد الله الخالدي، مكتبة لبنان ناشرون - بیروت، ط 1 - 1999 م.

24. الكليات معجم في المصطلحات والفروق اللغوية، أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي، أبو البقاء الحنفي (المتوفي: 1094 ه)، تحقيق: عدنان درویش - محمد المصري، مؤسسة الرسالة - بيروت، 1402 ه.

ص: 334

25. لسان العرب، محمد بن مکرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور الأنصاري الرويفعى الإفريقي (المتوفي: 711 ه)، دار صادر - بیروت، ط 3، 1414 ه

26. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، الجزري، أبو الفتح، ضياء الدين، المعروف بابن الأثير الكاتب (ت 637 ه)، تحقیق: د. أحمد الحوفي، ود. بدوي طبانة، دار نهضة مصر - القاهرة، ط 2، 1973 م.

27. معجم النقد العربي القديم، د. أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد، ط 1، 1989 م:

28. المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، د. علي توفيق الحمد، ويوسف جميل الزعبي، دار الأمل - إربد، ط 2، 1993 م.

29. موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، د. محمّد عجينة، دار الفارابي - بیروت، ط 1، 1994 م.

30. نهاية الأرب فنون الأدب، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهّاب النّويري (ت 733 ه)، تحقيق: د. علي بوملحم، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 2004 م.

31. هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل – دراسات في الرواية العربية، شعیب حليفي، ط 1، محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، 2013 م.

32. المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، نصر الله بن محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني، الجزري، أبو الفتح، ضياء الدين، المعروف بابن الأثير الكاتب (ت 637 ه)، تحقيق: د. أحمد الحوفي، ود. بدوي طبانة، دار نهضة مصر - القاهرة، ط 2، 1973 م.

33. معجم النقد العربي القديم، د. أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد،

ص: 335

ط 1، 1989 م:

34. المعجم الوافي في أدوات النحو العربي، د. علي توفيق الحمد، ويوسف جميل الزعبي، دار الأمل - إربد، ط 2، 1993 م.

35. موسوعة أساطير العرب عن الجاهلية ودلالاتها، د. محمّد عجينة، دار الفارابي - بیروت، ط 1، 1994 م.

36. نهاية الأرب فنون الأدب، شهاب الدين أحمد بن عبد الوهّاب النّويري (ت 733 ه)، تحقيق: د. علي بو ملحم، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 2004 م.

37. هوية العلامات في العتبات وبناء التأويل - دراسات في الرواية العربية، شعیب حليفي، ط 1، محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع، دمشق، سورية، 2013 م.

ص: 336

المحور الاجتماعي والنفسي

ص: 337

ص: 338

الوعي الفكري للفرد ومسؤولية الدولة الإنسانية أساس التغيير الاجتماعي في حتمية المشروع الحضاري في فكر الإمام علي (عليه السلام)

اشارة

الأستاذ الدكتور

سعد خضير عباس الرهيمي

كلية القانون - جامعة بابل(*)

ص: 339

ص: 340

المقدمة

لم تستقر البشرية عند حضارة معينة أو عند مدنية معينة، سواءً في أبسط أو أعقد مظاهرها. وليس جديدا إذا ذكرنا إنه بسبب ديناميكية «حركية» عنصرها الاساسي الإنسان «الفرد»، أخذت أحياناً طابعاً إيجابياً، وأحياناً أخرى طابعاً سلبياً. إن هذا التغير يعود حتماً إلى درجة المعرفة التي اكتسبها الإنسان من المصادر المتاحة له، سواءٌ كانت هذه المصادر داخلية النشأة، أم خارجية النشأة. تلك المعرفة التي أثرت في تكوين وعيه، حقيقياً كان أم زيفاً، ثم إنعكس بعد ذلك في تفاعله مع مجتمعه مساهماً في ازدهاره أو نكوصهِ. لقد صاحب الإنسانية في مسيرتها قيام سلطة عليا في كل جماعة إنسانية، لتحمي الأفراد بعضهم من بعض، وتمنع طغيان فئة على أخرى، في ممارسة مختلف أوجه الأنشطة. وكذلك لتحمي مكاسبهم من أي عدوان خارجي، ومن هنا ظهرت الدولة.

إنَّ ارتباط «الفرد والمجتمع والدولة» أمر حتمي وبديهي. وكذلك هو ارتباط عضوي و جوهري. ولكن عندما نتحدث عن وعي الفرد وأثرهِ في التغيبرِ الاجتماعي.(1)؟ وكذلك عندما نتحدث عن مسؤولية الدولة في احداث هذا التغيير؟ فإنَّ الأمر سیاخذُ بعداً آخرَ، لا بد من البحث في حيثياته وسبر أغواره لمعرفة نتائجه.

وفي الواقع، لايوجد فرد أو مجتمع يرفض العيش في حالة تقدم وأزدهار مستديمٍ في ظل حضارة إنسانية، أو على الأقل في ظل مدنية يعم فيها الرخاء. ولو تصفحنا التأريخ لم نجد حضارةً واحدةً، أو حتى مدنية في أبسط مظاهرها، استقرت واستوعبت إنسانية الإنسان بالكامل. فكل منها بُنيت بعد أن سَحقت بالمقابل شعبها أو شعوب أُخرى، أو حولتهم إلى عبيد، ليعيش عدد قليل من

ص: 341

الأسياد في حياة لم تستمر إلا لمدةٍ قليلة. ومع بزوغ فجر الحضارة الإسلامية، فقد تحرر الإنسان من ربق العبودية، واوجبت له القرآءة، وعظمت فكره ورشده، وغرست العلمية في ذاته. كما أصبح لكل فرد في المجتمع كيان مستقل، وأصبح لوعيه الفكري قيمة حقيقية متناسبة مع دوره في تطور الأمة. إن الموضوع الجوهري يتمحور في حقيقته حول مدى تناسب دور الفرد استناداً إلى مستوى وعيه الفكري مع منظومته المجتمعية التي تتأطر بمسؤلية الدولة. وهل يبقى هذا الدور عفوياً أم سينتظم على وفق منظومة قيمية وأخلاقية، تقوده وفق منهجية فكرية، ومن منظور عقائدي محدد؟ وهذا ما سنتناوله في التوطئة المنهجية الآتية:

توطئة منهجية: عصرنة المشروع الحضاري في الفكر العلوي

حقيقة، لم تخل أية مرحلة زمنية من مشروع حضاري، او تزامن عدة مشاريع حضارية. وسواء قُدِّر لها أَن تطبق على ارض الواقع أم لم تطبق، نجحت أم فشلت في فلسفة التطبيق. فإن الموضوع الجوهري يبقى مرتبطاً بالبحث عن ماهية وكينونة المشروع الحضاري المناسب للإِرتقاء بالفرد ومجتمعه في مسيرة التطور العام للشعوب. وهل سيتم في منظومة مغلقة أم منفتحة بكل عناصرها على المجتمعات الإنسانية الأخرى. وهل هناك حتمية لمشروع حضاري يرتبط به الفرد ومجتمعه ويعيش في ظلاله، أم لا توجد أصلا مثل هذه الحتمية. كل هذه الأسئلة وغيرها يمكن طرحها من قبل الباحثين من أجل فهم حقيقة سيرورة التطور العام لأي مجتمع، وهو يسعى حثيثة للوصول إلى ما أصطلح على تسميتها «الحضارة».

ومن الناحية الواقعية، فإنَّ تاريخ المجتمعات المعاصرة بقي وثيق الصلة بتراثه، ولا يمكن فصله عنه، مهما امتدت المدة الزمنية، ونحتت في أصولها العوامل الداخلية والخارجية. ومن هنا، فإن تناول موضوع المشروع الحضاري عند الإمام علي (عليه السلام)، یكون في غاية نضجه العلمي، خصوصاً إذا وجد سبيله نحو

ص: 342

التطبيق. ولكن سیستوقفنا الموضوع عند سؤال مهم جداً وهو: كيف يمكن إيجاد الصلة بين الأفكار التي طرحها الإمام علي (عليه السلام) في عصره، وبين الأفكار التي يتطلبها تنفيذ مشروع حضاريّ في عصرنا الحالي، حيث تفصل بيننا وبينه، مدة زمنية طويلة، تمتد لاكثر من ألف وأربعمائة سنة؟

للإجابة عن هذا السؤال، لا بد من تثبيت الحقيقة الآتية: وهي انه هناك واجهتان لكلمات وخطب وكتب وأفكار الإمام علي (عليه السلام): حيث يقول الأستاذ مطهري وأقول: لكل مدرسة فكرية أسلوبها الكلامي الخاص، و لابد لمن يريد أن يدرك مفاهيمها كاملة من أن يتعرف على أسلوبها في البيان، ولابد لمن يريد أن يتعرف على أسلوبها من أن يدرك وجهتها الخاصة في نظرتها العامة إلى الإنسان و الوجود.(2) فالدراسة الدقيقة، والبحث المعمق، للمدة الزمنية التي عاشها الإمام (عليه السلام)، والظروف المحيطة به، وفي كيفية معالجته لها، تُظهر وجود الواجهتين الآتيتين: الواجهة الأولى:

وهي الواجهة الخاصة التي تختص بعصره. وهذه الواجهة ظهرت في خطبه و کتبه. مثالها ظهور الكثير من المخاطر التي كافحها مكافحة عملية على عهده، و مکافحة كلامية بالخطب و الكتب و سائر كلماته. مثالها، السياسة المالية، وكيفية إدارة ثروات الغنائم والفتوحات، التي ورثها. وستكون بمثابة أمثلة وتطبيقات عملية، يمكن الاعتبار منها لحل مشاكل معاصرة.

الواجهة الثانية: وهي الواجهة العامة، والتي تعبر عن التعاليم التربوية العامة في الإسلام، نابعةً من القرآن الكريم و كلمات الرسول العظيم (صلى الله عليه وآله)، وهي التي ستكون المرجعية المباشرة في تطوير الأفكار التي سترد في هذا البحث إن شاء الله تعالى.

ص: 343

أسئلة البحث

1. ماهي علاقة الفرد بمنظومته المجتمعية، وماهو مستوى الوعي الحقيقي المناسب الذي يجب أن يكتسبه للارتقاء بدوره لكي يصبح مؤثراً في هذه المنظومة؟

2. ما هي المنظومة المجتمعية الملائمة لتطور الوعي الحقيقي للفرد، بوصفها الحاضنة التي تمر فيها

مختلف ادوار حياته، وفقاً للمنظور العلوي؟

3. هل يبقى دور الفرد عفوياً أم سينتظم على وفق مقاییس قيمية وأخلاقية تقوده استناداً إلى منهجية

فكرية محددة؟

4. هل إن مسؤولية الدولة تصبح ضرورية للإرتقاء بمستوى الوعي الفكري للفرد، وما هي البيئة الفكرية

والامنية والصحية والاقتصادية المناسبة لذلك؟

5. ماهو النظام الذي يصلح للانسانية وتسعد به في حياتها الاجتماعية؟(3)

6. هل يمكن استنتاجُ مشروعٍ حضاريٍّ يستند الى منظور وفكر الإمام علي (عليه السلام)، إذا أنجزت شروطه الاساسية؟

المنهجية العلمية للبحث

مشكلة البحث

كتبنا هذا البحث من اجل معالجة مشكلة ارتبطت دائما في صميم التفكير

ص: 344

الانساني، وهو يفتش عن تحقيق انسانیته في مجتمعه. وتتمثل هذه المشكلة في اختيار مشروعه الحضاري المناسب. وقد كان للإمام علي (عليه السلام)، إسهامٌ أصيلٌ وفاعلٌ في التأسيس لهذا المشروع ضمن منظومته القيمية والأخلاقية والعقائدية المتمثلة بالفكر الإسلامي الحنيف.

إِن دراسة هذه المشكلة ستستدعي صياغة كثير من الأسئلة، وستتطلب محاولة الاجابة عنها، وكذلك اتباع منهجية محددة سنذكرها لاحقاً في البحث. كما أَنَّ تناول هذه المشكلة القديمة - الحديثة، ستُعد موضوعاً دقيقاً جداً. ذلك لانها ستكمن في محاولة التمييز لمشروعٍ حضاري حدد معالمه الإمام (عليه السلام) بوضوح في مواجهة تحديات المشاريع الحضارية الأُخرى، المتصارعة في المسيرة الانسانية الطويلة.

أسباب اختيار البحث

لقد أصبح أمراً ضرورياً البحث عن الاطار الجديد لكل دولة من دول العالم، لاسيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991، تاركا الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في عالم أحادي القطب. إذ إنَّ مدة الصراعات السياسية بين هاتين القوتين العظميين، والتي دامت عشرات السنين، كانت نتيجةً لاختلافهما في كيفية إدارة ما بعد الحرب وإعادة بناء العالم. فخلال السنوات التالية للحرب، انتشرت الحرب الباردة خارج أوروبا إلى كل مكان في العالم، وإنعكست سلباً على الحياة السياسية. لقد أدى هذا إلى حدوث ضررٍ بليغٍ في الدول والمجتمعات والافراد، على الاخص في الدول النامية، ومنها تحديدا الدول الاسلامية في اسيا وافريقيا. وكذلك أدى الى مرور أغلب المجتمعات البشرية بعمليات تحول انتقالية عميقة جداً. إن هذه العوامل مجتمعة، دفعت مفکر و المجتمعات الإنسانية، باتجاه التفتيش

ص: 345

عن مسارات جديدة، للتطور الاقتصادي والاجتماعي ضمن مشاريع حضارية مستقلة تجنب شعوبها ويلات الدمار، التي نجمت عن التبعية والاستغلال. ولكن هذه المشاريع اختلفت في أختيار مقدماتها، فانعكست على نتائجها في حيز التطبيق. حيث سترد في البحث إن شاء الله تعالى تفاصيل هذا الموضوع.

أهمية البحث

إن أهمية البحث تكمن في تبيان الرؤى الفكرية للإمام علي (عليه السلام)، والبحث في منهجيته التي ستدلنا عن كيفية إدارة الصراع الفكري، في عالم يعج بأطاريح وتوجهات إيديولوجية أو مؤدلجة لا حصر لها. وكذلك البحث في إرثه العلمي، لمعرفة الأطروحة المناسبة لمرحلتنا الزمنية، والتي يمكن ان تتبلور بشكل مدنية أن لم نقل مشروعاً حضارياً، تتلائم مع طبيعة التحولات الجارية حالياً في مختلف المجتمعات الانسانية.

إنَّ المتتبع لرحلة الانسانية الطويلة ستستوقفه حضارات سرعان ما اندثرت، بالرغم مما سجلته من مآثر. وأخرى قائمة براقة في مظهرها، مملوئة جيوب «حفنة من قاطنيها، غرثی بطون غالبية ساكنيها، فهي تحمل أًفولها في جوهرها. إذاً، لا بد من استكشاف الطريق القويم على الهدي العلوي والذي لا يكون افضل من سابقه فقط، بل سيمثل الحل الأمثل في أُمة وسطا.

هدف البحث

يهدف هذا البحث إلى الإحاطة بالمفاهيم التي ابدعها امير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام). وذلك لإرساء الأسس المُنشِئة للمشروع الحضاري، والمتمثلة بمكونات المنظومة الاجتماعية أو بما يمكن تسميته مثلث الحياة السياسية وهو:

ص: 346

الفرد - المجتمع - الدولة. وكذلك إستقصاء آرائه في كيفية حدوث التأثير الفاعل والمتبادل بين الارتقاء بوعي الفرد، ضمن المنظومة القيمية العامة المؤطرَة بالفكر الإسلامي، وبين اضطلاع الدولة بمسؤليتها في توجيه و تنظیم و تعظيم هذا الوعي باتجاه التطور الهادف إلى إحداث تغيير اجتماعي أصيل، سيؤدي حتماً الى قيام حضارة مستدامة.

منهجية البحث

سنعتمد في بحثنا هذا في تحديد معالم المشروع الحضاري وتشييد صرحه الذي ارسی معالمه أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، على المنهج التحليلي الإستنباطي. وستقتضي المنهجية تحليل النصوص من مصادرها الموثوقة، من أجل الوصول الى الكنوز الفكرية العلوية الأَصيلة. وكذلك من أجل فهم العوامل التي ساهمت في تكوين أسس هذا المشروع الانساني الضخم وبالتالي إبرازه الى حيز الوجود.

فرضية البحث

أستند هذا البحث إلى فرضية مفادها أن هناك مشروعاً حضارياً مسترشداً بالمنهج الفكري الإسلامي، أختطه أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام). ولكي يمكن تطبيقه، لا بد من حدوث تغيير جوهري إيجابي في المنظومة الاجتماعية يؤدي الى تطورها. ويكون هذا التغيير مشروطاً بنهوض الدولة بمسؤليتها في تهيأة الظروف المناسبة للإرتقاء بالوعي الفكري للإنسان الى افضل مستوىً له.

خطة البحث

أولاً: التأصيل العلمي والتأريخي لمفهوم المشروع الحضاري في فكر الامام علي (عليه السلام)

ص: 347

1. التدرج والترتيب في تطبيق المنهج الاقتصادي:

2. حث التركيبة الاجتماعية نحو الانفتاح على التطور والتعايش السلمي وتكريس المتقاربات، ونبذ الإِختلافات

3. إعتماد سياسة مالية عادلة ومتوازنة

4. صياغة تدابير نوعية وذات استشراف مستقبلي لسياسة الدولة

ثانياً: تحديد كيفية حدوث الإِعتماد المتبادل للعناصر الأساسية في التطور الاجتماعي

1. ماهية الوعي الفكري للفرد كعنصر أساسي في المثلث السياسي

2. مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد وإحداث تغيير مؤسساتي الإرساء التفاعل الاجتماعي الايجابي

1 - 2 مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد

2 - 2 مسؤولية الدولة في إحداث تغيير مؤسساتي يتلاءَم مع تطوير الفرد والمجتمع

2 - 3 مسؤولية الدولة في إحداث التأثير المباشر على البيئة العامة للفرد

2 - 3 - 1 صياغة مفهوم مستديم للامن الإنساني

2 - 3 - 2 بناء الإطار الصحيح للمنظومة التعليمية

2 - 3 - 3 تكييف المنظومة الصحية للمتطلبات الإنسانية

2 - 3 - 4 إعتماد الأسس العلمية في التخطيط العمراني ووفقاً للمعايير الدولية

ص: 348

ثالثاً: حدوث التغيير في المنظومة الاجتماعية نتيجة للتغيير في البيئة العامة للفرد

رابعاً: أثر التغيير الاجتماعي في التمهيد للبيئة الملائمة للتطور إستناداً للهدي العلوي

أولاً: التأصيل العلمي والتأريخي لمفهوم المشروع الحضاري في فكر الامام علي (عليه السلام):

إِنَّ التأسيس للشروط المسبّقة لأي مشروع حضاري، تمثل قواعد انطلاقه نحو تشیید بنائِه و تحديد آفاقه المستقبلية. فالمشروع الحضاري في الفكر العلوي المستنير بالفكر الاسلامي الحنيف، تحددت خصوصیاته، بالشمولية والوسطية والإنسانية. فالتأثير القرآني شديد الوضوح في تفكير الإمام (عليه السلام)، من حيث المنهج ومن حيث المضمون، کما هو شديد الوضوح في كل جوانب تفكيره الأخرى، کالجانب التأريخي. فقد كانت معرفته بالقرآن شاملةً مستوعبةً لكل ما يتعلق بالقرآن من قريب أو بعيد.(4) کما کان متفرغاً بالكامل لتلقي التوجيه النبوي، ووعيه التام لما كان يتلقاه؛ فقد كان أعلم الناس بسنة رسول الله وكتاب الله.(5) كذلك فإن المعرفة النظرية عند الإمام (عليه السلام) قد اكتملت بالمعرفة العملية. فلو دققنا النص اللاحق (وسرت في آثارهم)، لتبين انه قد زار الآثار الباقية من الحضارات القديمة لتضاف الى رصيده المعرفي في الآثار العمرانية. كما انه قد خبر اربعة من أقطار الإسلام هي: شبه الجزيرة العربية، اليمن، العراق وسوريا(6).

فالمنهج الذي اختطه أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في صياغة المشروع الحضاري، لم يركز على الفرد ويهمل المجموع، أو يركز على المجموع ويهمل الفرد، أو يركز على الجوانب الاقتصادية ويهمل الجوانب الاجتماعية و

ص: 349

الجوانب السياسية. فهو يخطط لكلياته من دون أن يهمل جزئياته، لكي ينسجم فكره مع فلسفة تطبيقه.

ومن أجل ابراز الخطوط الأساسية في فكر الإمام علي (عليه السلام)، بوضوح، لكي نتمكّن من فهمها، ومن ثم التوجه نحو تطبيقها على أرض الواقع، لا بد لنا من التخلص ابتداءً، من حالة التزاحم الفكري. حيث يبدو وجود تداخلٍ مع موضوع الحداثة، كظاهرة عالمية تسربت الى كل القطاعات الانسانية المختلفة من الفكر الى التاريخ والى الفعل الانساني والدين.(7) فلا بد من التركيز على فكرة التجريد، من أجل سبر أغوار هذا الموضوع الدقيق والحيوي والعميق. فلو تأملنا في قول الإمام (عليه السلام)، من وصيته إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام): «أي بني، إني وإن لم أكن عمّرت عمر من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم، وفكرت في أخبارهم، وسرت في آثارهم، حتی عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى اليّ من أمورهم، قد عمرت مع أولهم الى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من کدره، ونفعه من ضرره».(8)

فسيتضح كيف يستخلص الإمام علي (عليه السلام) من التأريخ، وهو يوجه عناية فائقة له، المرتكز الفكري للتوجه الحضاري. وتبياناً لذلك، يقول محمد مهدي شمس الدين وأقول: «على هذا المدى الرحب كان الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، يتعامل مع التاريخ، لا كمؤرخ وانّما باعتباره رجل عقيدة ورسالة، ورجل دولة وحاکماً. ولم يستخدم التاريخ کمادة وعظية فقط وانّما كان يستهدف ايضاً منه النقد السياسي والتربية السياسية لمجتمعه والتوجيه الحضاري لهذا المجتمع».(9)

ففي نظر الإمام (عليه السلام)، يتدرج المنهج السليم، من استيعاب

ص: 350

حكمة التاريخ باتجاه فهم واقع الحياة المتعلقة بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. وسنحاول إستقصاء كلٍ من هذه الجوانب وكما يأتي:

1 - التدرج والترتيب في تطبيق المنهج الاقتصادي:

إِنَّ الاقتصاد الإسلامي هو اقتصاد إنساني متكافل، تحكمه حزمة من القواعد والتشريعات القرآنية، ومحاطاً في إطار التطبيق والممارسة بمكارم الأخلاق.(10)

لقد اعتمد الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، على تغيير نمط الحياة الاجتماعية والثقافية والأخلاقية للمسلمين على التدرج والترتيب في تطبيق المنهج الاقتصادي.(11) کما توخی لبرنامجِه الإصلاحي ألا يكون لمرحلة محددة فقط، بل للمراحل اللاحقة أيضاً. أي فيه صفة الاستمرار، وبالتالي لم يستهدف معالجة حالة طارئة، إنما حمل رسالة لاستشراف المستقبل.(12) ومن أجل ذلك، فقد وضع قواعد للسلوك الاقتصادي والاجتماعي القويم للدولة وللفرد. فبالنسبة للدولة، فقد حدد دورها بدقة، حيث ورد عنه: «واعلم مع ذلك أنّ في كثير منهم ضيقاً فاحشاً، وشحّاً قبيحاً، واحتكاراً للمنافع، وتحكّماً في البياعات، وذلك باب مضرّة للعامّة، وعيب على الولاة فامنع الاحتكاراً فإنّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) نهی عنه».(13) وكذلك ما ورد عنه: «ثمّ التجّار وذوي الصناعات فاستوص وأوص بهم خيراً لا المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفّق بيده لا فإنّهم موادّ للمنافع، وجلاّبها في البلاد في برّك وبحرك وسهلك وجبلك، وحيث لا يلتئم أناس لمواضعها ولا يجترئون عليها من بلاد أعدائك من أهل الصناعات التي أجرى الله الرفق منها على أيديهم فاحفظ حرمتهم، وآمن سبلهم، وخذلهم بحقوقهم» فإنّهم سلم لا تُخاف بائقته، وصلح لا تُحذر غائلته، «أحبّ الأُمور إليهم أجمعها للأمن وأجمعها للسلطان ». فتفقّد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك. وليكن البيع والشراء

ص: 351

بيعاً سمحاً، بموازين أعدل، وأسعار لا تجحف بالفريقين من البائع والمبتاع.»(14)

فیمکن إذاً، تلخيص نطاق عمل الدولة بالآتي(15):

ضرورة تدخلها من أجل توجیه اقتصادي مبرمج يستند إلى تخطيط دقيق يستهدف تحقيق التوازن الشامل في المنظومة الاقتصادية.

وجوب إسناد مراكز القرارات الحكومية الى كوادر متخصصة، وذات كفاية عالية، ومؤمنة ببرنامج السياسة الاقتصادية المستهدفة، لتتمكن أدارة الدولة من الوصول إلى أهدافها.

تفعيل منطقة الفراغ في التشريع الإسلامي، بحيث يكون النص التشريعي من السعة والفاعلية لكي يستوعب في كل مرحلة زمنية مستحدثات الحياة وبها تقضي به حاجة الأمة في تطورها.

منع سيطرة حالة الاحتكار التي ستحدث ضرراً كبيراً في السوق ويكون في مقدمة ضحاياها عموم الرعية. فهم المستهلكون لهذه السلع التي تم احتكارها.

إيلاء القطاع العام دوراً ديناميكياً في الاقتصاد الوطني لخدمة المجتمع الإسلامي.(16)

أما بالنسبة للفرد، فقد حدد دوره بدقة، من خلال تأكيده على الوعي الاقتصادي للفرد أولاً.(17) حيث ورد عن الإمام علي (عليه السلام): «أقل ما يلزمكم لله ألا تستعينوا بنعمه على معاصيه».(18) ثم بيان أهميته في بناءً الدولة المستدامة بناءً أمثلَ على وفق المعايير الأخلاقية والدينية والعادات والتقاليد المستنبطة من الكتب السماوية ثانية.(19) وذلك يتضح من قوله (عليه السلام): أتحسب أنك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر». فالإمام (عليه السلام)،

ص: 352

يؤسس أولاً لقاعدة فكرية ونظرية بضرورة التعلم والتفقه والتدبر، ومعرفة ما للمسلم وما عليه عند التعامل التجاري. وكذلك الايمان بها تعلم وعمل بما آمن به، كل في مجاله وعمله واختصاصه. حيث ورد عنه (عليه السلام): «ألا فاذكروا هادم اللذات ومنغص الشهوات وقاطع الأمنيات عند المساورة للإعمال القبيحة وأستعينوا الله على أداء واجب حقه».(20)

فإذا نظرنا إلى الجانب الاقتصادي العملي من قوله هذا، نجد ثانیاً قاعدةً عملية - تطبيقية، تحث الفرد على الإخلاص في العمل والأداء العالي لتحقيق الكفاية الاقتصادية في مختلف الأنشطة الحياتية والعبادية. وكذلك ربط العمل بالأجر الدنيوي والاخروي، لأنَّ العمل الصالح يؤدي إلى عدم انحراف القطاعات الاقتصادية عن الاهداف المحددة لها سلفاً.(21)

2 - حث التركيبة الاجتماعية نحو الانفتاح على التطور والتعايش السلمي وتكريس المتقاربات ونبذ الاختلافات

لقد أولى الإمامُ عليٌّ (عليه السلام)، موضوع التطور الاجتماعي المستديم، القائم على التعايش المشترك بين أطياف البشر، ومختلف القوى، والشرائح الاجتماعية، أهميةً قصوى وأولوية في برنامج حكومته، منذ اليوم الأول لخلافته. فعلى الرغم من التركة المثقلة بالاضطرابات التي ورثها، فقد جاء إلى منصب القيادة في الأُمة الإسلامية وقد تمزقت أواصرها واضطربت ادارتها، وأصبحت السلطة المركزية - أي سلطة الخلافة - موضع شك من جماهير الأمة.(22) حيث كان المناخ السياسي مضطرباً أشدَّ الإضطراب في واقعه؛ فقد استقبل الضعفاء والمحرومون خلافة الإمام بالغبطة والسرور، وتلقتها الطبقة الأُرستقراطية من قريش بالحقد والكراهية. بينما استقبل الإمام تخطيطه في ضوء الإسلام وبهدي

ص: 353

القرآن وأضواء السنة بكثير من التقوى والورع.(23) ومن أجل اعتماد الشفافية والتوعية بين أوساط جماهير الأمة لإيضاح نهجه و سیاسته، فقد شنّ الإمامُ حملةً توعويةً تثقيفيةً. فقد روى ابن أبي الحديد في شرحه لنهج البلاغة عن شيخه أبي جعفر الإسكافي، أن علياً (عليه السلام) صعد المنبر في اليوم الثاني من يوم البيعة، وهو يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة.(24) فكان من خطبته : «ألا لا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا، فاتخذوا العقار، وفجّروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائف الروقة، فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً، إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك، ويستنكرون، ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا. ألا وأيّما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله) يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النيّر غداً عند الله، وثوابه وأجره على الله، وأيما رجل استجاب لله وللرسول فصدَّق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا، فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بینکم بالسويّة، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء، وأفضل الثواب، لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً وما عند الله خير للأبرار».(25) لقد أعلن الإمام التزامهِ بنهجِ المساواۃِ بين أبناء الأمة، ومواطني الدولة الإسلامية. حيث كان مصمماً السير على خطى الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، بإقامة تنمية حقيقية شاملة. إذ من دونها لا يمكن أن تكون دولةً ولا أمةَ من غيرِ مجتمعٍ متماسك موحد، يقيم أفرادها ولاءاتهم للممجتمع عوضاً عن العشيرة أو القبيلة، وبالتالي فقد أنجز عنصر المواطنة.(26) لكي يكتمل أخيراً

ص: 354

المثلث السياسي: الفرد - المجتمع - الدولة. وأكد على ذلك بسياساته العملية، ومواقفه وتصريحاته العديدة. حيث ورد في كتابه المالك الأشتر، حينما ولاه مصر، ذات التنوع الديني، لبقاء قسم من أهلها على المسيحية(27)، قوله (عليه السلام): «وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً، تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق».(28) هذه الكلمات التي بقي صداها أكثر من الف وأربعمائة عام ليتم تداولها أخيراً في أروقة الأمم المتحدة في وقتنا الحاضر.

3 - إعتماد سياسة مالية عادلة ومتوازنة

لقد كانت سياسة التمييز في العطاء التي ورثها تمثل أحدى المشاكل المهمة في السياسة العامة للدولة. حيث أوجدت نقمة وسخطاً في العديد من الأوساط، لإنها ساعدت بصورة واُخرى على تنامي بذور الطبقية بين المسلمين، كمحصلة طبيعية لتراكم الأموال والثروات بين يدي بعض المسلمين، لاسيّما عند الأغنياء منهم، مما استدعى اتخاذ قراره الصارم بإلغائها.(29) حيث ساوى بين الناس، دون أي تفضيل أو تمييز. لاعتقاده بأن المساواةَ مبدأ لا يمكن المساومة عليه، ولا التنازل عنه، ولو كان ثمن ذلك اهتزاز عرش السلطة، لأن السلطة لديه لم تكن هدفاً وغاية، بل وسيلة لتحقيق المبادئ والأهداف الإسلامية(30). ومن أجل ذلك، فقد قرر تحمّل المضاعفات الخطيرة التي قد تنال من استقرار حكمه وسلطته . فقد كانت سياسته المالية امتداداً لسياسة الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، في تحقيق مبدأ المساواة بين الجميع وهو الأساس الذي لا رجعة عنه، لبناء مجتمع «العدل والاكتفاء والتوازن.(31) وهي تطبيق لمبدأ قرآني، حيث إِنًّ الأموال والثروات إنما هي ملك للهّ تعالى، وقد أُستخلف عليها الإنسان، ووضع لهذا

ص: 355

الاستخلاف شروطه وحدوده، لقوله تعالى: «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ

وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْض دَرَجات لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ».(32) ولم يدخر الإمام (عليه السلام)، جهداً ولم يهدأ له بال إلا بعد اعادة الاُمور إلى نصابها القانوني والشرعي، كما أراد اللهّ والرسول، وهو ما عمل به بكل اصرار. لذا أصبحت اجراءاته في ترسيم المعالم المالية للدولة الإسلامية، في صميم العدل والمساواة بين المسلمين، وصولا إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.(33) بل ذهب الإمام إلى تثبیت العدل الإجتماعي في سياسته المالية. (34) فإنَّ الإسلام إنما جاء قبل كل شيء بقضيتين اثنتين: أولاهما التوحيد، وثانيتهما المساواة بين الناس. وكان أغيظ ما أغاظ قریشاً من النبي ودعوته، أنه كان يدعوها إلى هذا العدل والى هذه المساواة.(30)

4 - صياغة تدابير نوعية ذات استشراف مستقبلي لسياسة الدولة

إِنَّ البحث عن حقيقة الوضع السياسي، وشكل نظام الحكم، في أي مرحلة زمنية، إنما هو البحث عن المقصد الإِستراتيجي المستهدف تحقيقه. كذلك استقصاء حالة التنمية البشرية القائمة والمخطط لها بمختلف أشكالها. فمنذ تولي أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، للخلافة والحكم، نجد أنه كان مهموماً بتطوير حياة أبناء الأمة، وتنميتها في مختلف المجالات.(36) فقد كان الإمام عليه السلام في تدبيره سياسة الدولة، لا يكافح العصبية القبلية وحدها، ولا يسوي القضية المالية فحسب، ولا يعالج النفوس المتشتتة ليس غير، وإنما أراد أن يعود بالإسلام إلى ينابيعه الأولى في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقد ابتعد الناس عن هذا العهد طيلة ثلاثين عاماً، ومهمة العودة بالمسلمين إلى الإسلام الصحيح مهمة شاقة.(37) فلم یکن إذن مجرد زعيم ديني يعنيه نشر العقيدة وتطبيق الشريعة فحسب، ولا مجرد حاکم سیاسی میهمه توطيد سلطته وحكمه،

ص: 356

بل كان صاحبَ مشروعٍ حضاريٍّ يستهدف إسعاد الإنسان وتفجير طاقاته وكفاءاته، ليتمتع بحياة كريمة، ويتجه إلى الفاعلية والإنتاج، وذلك هو المقصد الأساس للعقيدة والشريعة. فكان يشجع الناس على الجهر بآرائهم السياسية، وأن لا يترددوا في الاعتراض على الخطأ أمام الحاكم، وأن لا يتعاملوا مع الحاکم بمنطق التملق والتزلف.(38) حيث يقول: «فَلا تُكَلِّمُونِ بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، ولا

تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ - أي عند أهل الغضب - ولا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ - أي بالمجاملة - ولا تَظُنُّوا بِي اسْتِثْقَالاً فِي حَقٍّ قِيلَ لِي ولا الْتِمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِيِ فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوِ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ فَلا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ فَإِنِّ لَسْتُ فِي نَفْسِيِ بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِئَ ولا آمَنُ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِي».(39) كذلك فقد توجه نحو تنمية سياسية حقيقية تتكامل مع التنمية الاقتصادية والاجتماعية للنهوض بواقع الأمة. فلم يقم في إدارته للدولة الإسلامية على احتكار السلطة، عبر اجراءات مباشرة يصدرها، ويسنها ويطبقها بنفسه، بل كان في صميم قاعدة «كلّكم راعٍ وكلّكم مسؤول عن رعيته». فقد كان يؤمن بأن المسؤولية هي مسؤولية تكافلية وليست فردية بين أبناء الأمة. ولكن في موقع المسؤولية والإرشاد، لم يطلق العنان للآخرين ويترك الأمر لهم على الغارب، بل كان في صميم النصح والتوجيه، وإذا ما اقتضى الأمر فالمساءلة والمحاسبة والتوبيخ والعزل، إذا دعت الحاجة إلى ذلك(40).

فالنزعة الديمقراطية في كتاب «نهج البلاغة» أبين من أن تحتاج إلى بيان. فهو فضل العامة على الخاصة، وإنْ سخط الخاصة، و هذا عرفان منه لخطر العامة و مبلغ تأثيرهم في صلاح الأمة وفسادها، فقال (عليه السلام):

«ان سخط العامة يجحف برضى الخاصة، و آن سخط الخاصة يغتفر مع رضا

ص: 357

العامة، وليس أحد من الرعية أثقل على الوالى مؤونة في الرخاء و أقل معونة له في البلاء، و أكره للانصاف، و أسأل بالالحاف، و أقل شكراً عند الاعطاء و ابطاً عذراً عند المنع، و أضعف صبرا عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة. و انما عماد الدين و اجماع المسلمين، و العدة للأعداء: العامة، فليكن صفوك لهم، و میلك معهم». فهذا كلام صريح في تفضيلهم، والاعتماد عليهم(41).

ولا بد من إرساء البحث في الجانب السياسي عند موضوع القطاع العسكري. حيث أنَّ المهمات القيادية السياسية متصلة بالتعليمات العسكرية. فقد كانت شخصية الإمامِ عليٍّ (عليه السلام) الزاهدة، يقظة متحركة صامدة تجمع إلى الزهد، والقوة، والإدارة، فكان تدبير الجيوش، وإدارة شؤون الأقاليم، وإلزام الأمراء والعمال والولاة بجوهر تعليماته الخالدة، التي لم تتجاوزها التعليمات الحربية العادلة، القائمة على أسس الدراسات العسكرية المتطورة في الحروب العالمية العامة، من أشتات مهمات الإمام التي جمعها الله له سيرة وقيادة. كما كان يأخذ بالتدبير الحربي الأسلم، فيرسم الخطط السليمة وخصوصاً على الصعد الآتية: الأول يتمثل بالإنضباط العسكري الدقيق في تقويم أمراء الجيوش، واختيار الأصلح من قواد الحرب، وإناطة القيادة العامة بالأكفاء من ذوي الخبرة والدراية بشؤون الحرب. أما الثاني فهو اختيار الموقع العسكري الأمثل، والتدبير الحربي الأسلم، والزمان القتالي الأولى. أما الثالث فيتم بتهيئة الفرص المتكافئة، ويوجه نحو الإعتصام والمنعة، ويحذر من الأنقسام والفرقة. لقد كانت هذه السنن الحربية التي خطط لها الإمام تنطلق من مبدأ الدفاع عن النفس، ولا تنجرّ إلى إرادة شهوة الحرب، وتنبعث من صميم تعاليم الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في العفو والتغاضي، وتنسجم وطبيعة النظام الإسلامي في التوصل إلى معالي

ص: 358

الأمور، والابتعاد عن توافه الأغراض(42).

ثانياً: تحديد كيفية حدوث الاعتماد المتبادل للعناصر الأساسية في التطور الاجتماعي

سبق أن ذكرنا أن المثلث السياسي يتكون من: الفرد - المجتمع - الدولة. سنتناول في هذا المبحث دراسة وتحليل هذه العناصر. وسنبين ماهية كلاً منها مع التركيز على الجزء المرتبط مباشرة بالبحث. حيث سنحاول تفسير أثرها في تكوين الثقافة والوعي الفكري للفرد؛ ذلك لأنها ستكون ناتجةً من التفاعل بين المنظومة الفكرية و القيمية في المجتمع، و بين مكونات المجتمع الأخرى من جانب، و بين الدولة بكل مؤسساتها(43) من جانب آخر. كما يتبين الترابط الجوهري فيما بين مكوناتها و بين التأثيرات المتبادلة فيما بينها. وهذا سيؤدي إلى خلق منظومة قيمية جديدة للفرد أفضل من سابقتها، ضمن مجال بيئي جديد لاهو حتماً أفضل من سابقه أيضاً مما سيؤدي إلى البحث عن مشروع حضاري يستوعب الفرد و يتلائم مع المجتمع. وكما موضح في الشكل البياني الآتي:

1 - ماهية الوعي الفكري للفرد كعنصر أساسي في المثلث السياسي

بادئ ذي بدئ، يمكن وصف وعي الفرد الفكري بأنه على نوعين(46):

النوع ألاول: هو الوعي الحقيقي، الذي يتحدد بمدى قدرة الفرد على الاتصال المباشر مع البيئة المُحيطة به بوساطة منافذ الوعي المتمثلة بالحواس الخمس، و سيصبح من الممكن تعريفه: بأنه ما يمتلكه الإنسان من أفكار ووجهات نظر تتعلّق بالحياة ومفاهيمها وما يحيط به من بيئة.

النوع الثاني: فهو الوعي بالزيف، حيث يتباين واقع الإنسان بهذه الحالة مع

ص: 359

وجهات نظره وأفكاره، وقد يقتصر هذا التباين على واحد من جوانب حياة الفرد أو جميعها.

نستخلص من هذا، إنَّ الوعي الحقيقي هو الذي يكُوِّن الفكرة الحقيقية. وإذا أدركنا بأن الحقيقة هي الفكرة المطابقة للواقع، وتبيّنا بأنَّ الفكرة إذا كانت مطابقةً للواقع في ظرف معين، فلا يمكن أن تعود بعد ذلك فتخالف الواقع.(45) فسيتضح لنا أهمية المعرفة وقيمتها الموضوعية، ومدى إٍمكان كشفها عن الحقيقة. لذا، فإن الطريق الوحيد الذي تملكه الانسانية لاستكناه الحقائق والكشف عن أسرار العالم، هو مجموعة العلوم والمعارف التي لديها.(46)

شكل يمثل التأثيرات المترابطة بين تكوين الوعي الفكري للفرد و مسؤولية الدولة في المنظومة الإجتماعية

والقيمية في المجتمع

تکوین الوعي الفکري للفرد وإعداده لبناء المشروع الحضاري المستدیم

المجتمع

الدولة

ص: 360

فأرتفاع مستوى وعي الفرد الحقيقي سيبصِّرَهُ بحقيقة نفسه أولاً، وذلك تصديقاً لقوله تعالى: «بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ»(47). وسيبصّرهُ بحقيقة وجوده، وضرورة تفاعله إيجابياً مع بيئته والارتقاء بها ثانياً، وذلك تصديقاً لقوله تعالى «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَیَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرُدُّونَ إِلَیٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ«(48). وهذا ما أشار اليه أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) بقوله: «كن لدنياك كأنك تعيش أبدا، وكن لآخرتك كأنك تموت غدا.(49) يقول الأستاذ مرتضى المطهري: إنَّ هذا الحديث من ألطف الأحاديث في الدعوة إلى العمل وترك الإهمال، سواء في الأمور الدينية والأخروية أو الدنيوية.(50) وكذلك قول الإمام علي (عليه السلام): «قيمةُ كل امرىءٍ ما يُحسِنهُ»(51) الذي أورده الجاحظ في كتابه البيان والتبيين وعلق قائلًا: «لو لم نقف من هذا الكتاب إلا على هذه الكلمة لوجدناها شافية، ومجزئة مغنية، بل لوجدناها فاضلة عن الكفاية، وغير مقصرة عن الغاية.(52) وهذا ما يجعل رجل رسالة وحاكماً كالإمام علي (عليه السلام)، حريصاً على أن يدخل في وعي أمته، التي يحمل مسؤولية قيادتها ومصيرها، نظرة إلى التاريخ سليمة تجعله قوة بانية لا مخرّبة ولا محرّفة.(53) فستكون النتيجة إندفاع الانسان باتجاه التفتيش عن المشروع الحضاري المناسب، الذي سيصبح مسألةً حتميةً، لكي يتلاءَم مع مستوى تطوره عبر المددِ الزمنية المختلفة. ولكننا سنقف هنا عند تساؤلات مهمة جداً هي:

- هل يستطيع الفرد، لوحده، أن يأخذ على عاتقه، موضوع إستبصاره بجميع الأمور والمسائل ما ظهر منها وما بطن؟

- وهل يستطيع الفرد، لوحده، أنْ يُحدث تغييراً جوهرياً في المجتمع، يقود إلى أنجاز مشروعٍ حضاريٍّ أكيدٍ ومناسبٍ، أم يحتاج الى كيان كبير منتظم ومنظّم إسمه «الدولة»، والتي تهتدي بفلسفة محددة، وتأخذ على عاتقها تهيئة البيئة

ص: 361

المناسبة لذلك؟

هذا ما سوف نتناوله في الموضوع الآتي:

2. مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد وإحداث تغيير مؤسساتي لإرساء التفاعل الاجتماعي الايجابي

إنَّ العصر الحالي، يبرز دوراً متميزاً للدولة إزاء حصول أي تغيير المجتمعاتها. کیا يميّز دورها الايجابي، من خلال تحديد حقيقة أهدافها الاستراتيجي القابلة للتطبيق. إنَّ ادراك أوضاع أي بلد، ينطلق من فهم العلاقة بين الدولة والمجتمع، والتي تمثل أحد المفاتيح الرئيسة في ذلك. حيث إن كل نظريات التغيير الاجتماعي والسياسي، قديماً وحديثاً، انطلقت من تصور ما لهذه العلاقة.(54) فقد تعامل ابن خلدون مع موضوع حدوث التغيير الاجتماعي، من خلال التتبع الدقيق لعمر الدولة، بوصفها موجهة للفعل السياسي والاجتماعي، نشوءا وتطورا، وضعفا وانهيارا. كما يؤكد أن التغيير سمة ثابتة من سنن العمران البشري، ولازمة أساسية من لوازمه، ولا يحصل تطور الأفراد والمجتمعات والدول إلا بها. حيث يقول: «إن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول».(55)

أما عن ديناميكية عملية التغيير، من حيث السرعة والبطء أو القوة والضعف، فهذه ترجع إلى جملة الظروف المحيطة بعملية التغيير ذاتها. فبينما يعد ابن خلدون في القرن الرابع عشر أن عملية التغيير، شديدة الخفاء، ولاتقع إلا بعد أحقاب متطاولة، ولا يكاد يتفطن لها إلا الآحاد من أهل الخليقة. فإن عالم الاجتماع

ص: 362

الأمريكي ألفين توفلر 'Alvin Toner يرى بأننا نعيش في مجتمع متغير تحدث فيه التغيرات بصورة سريعة، ويصعب التحكم بها أو تعديلها. مما يؤشر على أن عملية التغيير محكومة بعامل الزمان والمكان. وحتى في هذا الزمن، الذي يوصف فيه العالم بالقرية الصغيرة، تتباين موجات التغيير عالميا تبعا لطبيعة كل مجتمع على حدة. فبينما تجري عملية التغيير بوتيرة سريعة في المجتمعات الغربية، تظل عملیات التغيير في البلدان النامية باهتةً وبطيئةً في كثير من الأحيان. ونتيجة خنق عملیات التغيير، يحدث التغيير فجأة بشكل عنيف، ويُحدث الكثير من الآثار السلبية.(56) ومن الملاحظ أنَّ التغيير في القيم والمعايير الثقافية، والذي يمثل أهم أنواع التغيير وأبعدها تأثيرا في المجتمع يتم ببطء شديد، وكثيراً ما لا يلاحظه أفراد المجتمع. أما التغيير على مستوى الواقع الاجتماعي اليومي فيمثل عملية مستمرة وماثلة في كل لحظة من لحظات الاجتماع الانساني. كذلك فإِنَّ تغيُّر النُظم الاجتماعية يكون أوضح وأظهر للعيان، كما أنه يتصل بالفرد من حيث أنه ينطوي على تغيير قواعد الدور أو تعلیمات أداء الدور.(57)

ويمكن فهم مدى إتساع دور الدولة ومدى تأثيرها في التغيير الاجتماعي من خلال المخطط اللاحق الذي يبين ذلك:

ومن أجل فهم مدى تأثير الدولة في خلق البيئة الحيوية المناسبة لتطور الفرد والمجتمع، سنحاول إبراز مسؤولية الدولة في ثلاثة محاور رئيسة، تشكل العناصر الاساسية في التغيير الاجتماعي، وهي:

2 - 1 مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد وبيئته الحيوية

2 - 2 مسؤولية الدولة في إحداث تغيير مؤسساتي يتلائم مع تطوير الفرد والمجتمع

2 - 3 مسؤولية الدولة في إحداث التأثير المباشر على البيئة العامة للفرد

ص: 363

2 - 1 مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد وبيئته الحيوية

إنَّ البحث في موضوع العنصر الاول من عناصر الدولة وهو العنصر الانساني، يقود الى محاولة استكشاف الخصائص الانسانية وتحفيزها داخل المحتوى الفكري للفرد، لكي تساعده على حل التناقضات في مجتمعه. ومن أجل توجيهه نحو خدمة مجتمعه و أُمته. كذلك فأن التأصيل للبعد الأخلاقي كونه رکناً مهماً من أركان الدولة، إنما يمثل شرطاً ضرورياً لنهضة الأمة. ذلك لأن جزءاً من المبدأ الصالح هو الأخلاق، وهذا يمثل فهماً حضارياً لصيرورة الأمة ونهضتها.(58) وقد عبر عن ذلك الحديث النبوي الشريف (إنما بعثت لاتمم مکارم الاخلاق).(59)

مخطط يبين مسؤوليات الدولة الأساسية(60)

وظيفة بناء المنظومة الأمنية - الأمن الداخلى - الأمن الخارجي

الوظيفة السياسية - الستراتيجيات العامة للبلاد - الوظيفة الرقابية

الوظيفة الإدارية والتشريعية - تنظيم الهيكل الإداري العام - التشريع

الوظيفة الإقتصادية التجارية - الزراعية - الصناعية - المالية

الوظيفة التعليمية - التربية و التعليم و التدريب - التعليم العالي و البحث العلمي

الوظيفة الإجتماعية - إعانة الفقراء - تحسين المستوى المعاشي العام - الوظيفة الترفيهية - الخدمات الأخرى

ص: 364

فمكارم الأخلاق تحتل أكبر مساحة من الدين، بل إن الدين كله خلق(61) فأخلاقيات الفرد المسلم تتجسد في الابتعاد عن الاساليب غير النظيفة التي تتعارض مع المتبنيات الفكرية له.(62) لان القاعدة الأساس في المبدأ الصالح الذي يعرضه الاستاذ الشهيد محمد باقر الصدر، هو الالتزام الاخلاقي وترجمة هذا الالتزام الى سلوكيات مستقيمة.(63) فهناك في الواقع أخلاقية إسلامية تعيش بدرجة وأخرى داخل العالم الإسلامي، وهي راسخة لا يمكن استئصال جذورها بمجرد تمييع العقيدة الدينية.(64) فهناك ضرورة أن تكون الأخلاق عموداَ من أعمدة بناء الدولة، لانه ما من مجتمع يتمتع بأخلاقيات رفيعة المستوى، و تشیع فيه الفضيلة، ويكون أفراده ذوي إلتزام في السلوك، إلا أن يكون مجتمعاَ قد إقترب من الإستقامة الحقة.(65)

2 - 2 مسؤولية الدولة في إحداث تغيير مؤسساتي يتلائم مع تطوير الفرد والمجتمع

بادیْ ذي بدء، لا بد من توضيح لماذا استخدمنا جملة تغيير مؤسساتي، ثم جملة - تطوير الفرد والمجتمع؟

سبق وتم شرح معنى التغيير(66)، ونضيف هنا، إنَّ التغيير قد یکون نحو الأفضل أو نحو الأسوأ، وقد يؤدي إلى تحسين أو إلى تخلف، كما إنه قد يتم بإِرادة الإنسان أو بدونها، كما إنه يمكن أن يكون جزئياً. وعموماً يمكن القول إنه التحول من الوضع الحالي إلى وضع جديد أفضل في المستقبل.

أما التطوير فهو وظيفة إدارية. فإذا كان مبنياً على أساس علمي سيؤدي الى التحسين والتقدم والازدهار. كما إنه لا يتم إلا بإرادة الإنسان ورغبته الصادقة، وشامل لجميع الجوانب المرغوب في تطويرها وتحسينها(67).

ص: 365

إنَّ جوهر التغيير المؤسساتي المبني على البحث المستمر عن الكفاءة والفعالية وحسن استخدام الموارد، يفترض أن يكون للدولة دورٌ محوريٌ فيه. فالتغيير المؤثر هو الذي يهدف إلى ضمان نجاح وسلامة تنفيذ التغييرات، والى تحقيق فوائد دائمة للتغيير.(68) كذلك فالتغيير يحتاج الى متطلبات لا يمكن تحقيق الاهداف بدونها، يأتي في مقدمتها وجود رغبة حقيقية في التغيير، وأن يكون نابعاً من الداخل، وتوافر المعلومات ثم إتخاذ القرار و البدأ في عملية التغيير.(69)

حقيقية، لقد كان الإمامُ عليُّ (عليه السلام)، سبَاقاً باستخدام الأساليب العلمية في الادارة والتخطيط الإستراتيجي. فقد أراد (عليه السلام)، أن يُحدث رغبة حقيقية لدى أفراد المجتمع آنذاك في عملية التغيير. فبدون هذه الرغبة لا تكون هناك حاجة للتغيير. أي إن التغيير لابد أن يكون نابعاً من الداخل وذلك تطبيقاً لقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ...»(70) كذلك فأن الأدلة التأريخية تؤكد إن الإمام (عليه السلام)، قد بدأ منذ اللحظة الأولى لتسلم زمام الحكم عقلية التغيير الحقيقية في كيان هذه التجربة. وواصل سعيه في سبيل انجاح عملية التغيير واستشهد، وخر صريع بالمسجد، وهو في قمة هذه المحاولة، أو في آخر محاولة انجاح عملية التغيير، وتصفية الانحراف، الذي كان قد ترسخ في جسم المجتمع الاسلامي، متمثلاً في معسكر منفصل عن الدولة الاسلامية الأم.(71) کما أن الإمام علي (عليه السلام)، قد ركز على موضوع توافر المعلومات، فبدونها لا ينجم التغيير. حيث نفذ نظاماً رقابياً وإدارياً ومالياً دقيقاً جداً، يعتمد على العيون التي يستقي منها الخليفة معلوماته، عن تصرفات الولاة والعمال في ولاياتهم البعيدة عن مركز الدولة، يشبه نظام الاستخبارات في وقتنا الحالي، لأنَّ هؤلاء العيون لا يعرفهم سوى الخليفة.(72) ومما عزز نظام المعلومات

ص: 366

هذا هو التطوع من بعض المسلمين.(73) علمًا بأن الخليفة وهو (الإمام علي (عليه السلام))، كان لا يأخذ كل المعلومات الواردة له دون تدقيق، بل يتثبت من هذه المعلومات قبل إصدار أيِّ حكم.(74) وهذا دليل على رقي الوعي الفكري لدى هذه الشريحة من أفراد المجتمع الإسلامي المعاصر للإمام (ع عليه السلام). لقد أدى كل هذا إلى فاعلية النظام الرقابي المتبع في تحقيق أهداف المراقبة، لاسيما في مراقبة تصرفات الموظفين التابعين للدولة الإسلامية.(75) وقد أشار الإمام علي (عليه السلام)، إلى ذلك عندما أمر الولاة أن يستعينوا في عملهم بمجموعة موثوقة من الأشخاص، ويجعلوهم عيوناً لهم (جهازاً) لمراقبة عمال الخراج والجزية. وهو مختلف عن الجهاز التابع للخليفة لمراقبة الولاة والعمال أنفسهم.(76) فمن قوله في كتابه إلى عامله على مصر مالك الأشتر: «ثم تفقد أعالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم، فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية. وتحفظ من الأعوان، فإن أحداً منهم بسط يده إلى خيانة اجتمعت بها عليه عندك أخبار عيونك اكتفيت بذلك شاهدا، فبسطت عليه العقوبة في بدنه و أخذته بما أصاب من عمله، ثم نصبته بمقام المذلة ووسمته بالخيانة، وقلدته عار التهمة.»(77) فلو دققنا في عهد الإمام (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)، حين ولاه مصر لوجدناه قد ركز على نقطة أساسية عند بناء الدولة، وهي أن تكون هناك معرفة تامة بالمجتمع المراد حكمه.(78) حيث ورد فيه: «اعلم يا مالك أني قد وجهتك الى بلاد قد جرت عليها دول قبلك».(79)

ويُفهم مما ورد في العهد المبارك إنه إذا أردت النجاح بتأسيس دولة أقوى مما كانت عليه سابقاً، كمصر ذات الارث الحضاري والتاريخي، ولان رعيتها قد خبروا الحياة السياسية والاقتصادية، وجربوا الدولة المدنية، يجب تطبيق البعد الإِقصادي

ص: 367

(جباية خراجها)، و البعد التنافسي (جهاد عدوها)، والبعد الاجتماعي (استصلاح اهلها)، و البعد البيئي (عارة بلادها)، والبعد المعرفي.(80) وكذلك معرفة كافة التفاصيل الأخرى المتعلقة بالدولة والتي هي موجودة ضمن نص العهد.

2 - 3 مسؤولية الدولة في إحداث التأثير المباشر على البيئة العامة للفرد

لقد أصبح من المسلم به إن الحياة الإجتماعية تتطلب تنظیماً وادارةً وحمايةً للامن الإجتماعي، والقضاء بين الناس. وذلك التنفيذ يتطلب وجود هيأة سياسية عليا تملك الولاية وحق استعمال القوة بتنفيذ القانون.(81) وعلى المستوى العملي فإن هذا الدور مناط بالدولة. ومن أجل فهم دور الدولة في إحداث التأثير المباشر على البيئة العامة للفرد، والذي يوصل الى التطور الاجتماعي المستهدف، سنحاول الاستفادة من الدروس التي بعثها الينا الإمام (عليه السلام)، في تراثه العلمي، وذلك من خلال البحث والتحليل في النقاط الاتية:

2 - 3 - 1 صياغة مفهوم مستديم للامن الإنساني

2 - 3 - 1 بناء الإطار الصحيح للمنظومة التعليمية

2 - 3 - 3 تكييف المنظومة الصحية للمتطلبات الإنسانية

2 - 3 - 4 إعتماد الأسس العلمية في التخطيط العمراني وعلى وفق المعايير الدولية

2 - 3 - 1 صياغة مفهوم مستديم للامن الإنساني

إنَّ مفهوم الأمن الفكري في الإسلام، والذي يعدُّ جزءاً من الأمن الإنساني، هو مفهوم متجذر في القرآن الكريم. كذلك فقد اتسع إلى نواحٍ أُخری کالأمن النفسي والأمن الاقتصادي والأمن الاجتماعي، ولم يغفل عن

الأمن الأخروي.(82) وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم: قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ

ص: 368

إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا».(83) وقال تعالى: «وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ».(84)

فالمحاججة الاولى، كانت في التوحيد وهو مدار حركة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام. حيث إنَّ الإيمان الحقيقي، هو ذلك الإيمان المرتكز على الإخلاص في التوحيد، وهو الذي يحقق الأمن الفكري.(85) فلا يخفى أنَّ التوحيد يُعدّ أساساً من أهم أُسس الدين الإسلامي، وعليه تبتني أهمُّ تعاليمه ونظريّاته بل عقيدته و شریعته.(86) إذ أن منطق الإسلام المبني على أساس التوحيد الخالص بما يشمل التوحيد القوة الفاعلة في العالم.(87) لقد تم طرح مفهوم «الأمن الإنساني»، وهو الصيغة المحسنة التي استقر عليها ما سُمي بالأمس مفهوم الأمن. وبعد أن شُخِّصت التطورات والتحولات التي طرأت عليه، وأصبح الأمن الفكري في مقدمته، أضحى ما هو طبيعي أن تأتي السياسات التنفيذية والإجرائية متطابقةً مع التشريعات التي أسستها، وهذا هو انعكاسٌ وتجلٍ للرؤية الفكرية التي قامت عليها الدولة. فعندما سارت أوربا في طريق الإصلاح، بدأت بإعادة النظر في قيمة الإنسان وكرامته وتساوي النوع البشري، الذي أدى بشكل طبيعي الى التزام الدولة بتوفير العيش الكريم وفرصة المشاركة المتساوية للجميع.(88) وبالتالي فإن إعادة النظر في قيمة الإنسان وكرامته، التي سُحقت لقرون طويلة، أصبحت أمراً لامناص منه. فالمنهج العلمي الذي اختطه الإمام عليٌّ بن أَبي طالب (عليه السلام)، قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، وسبق فيه عصر النهضة و الإصلاح في أوربا، هو عبارة عن منظومة معرفية عن حال الأمة وعوامل تردیها و عوامل تقدمها. وقد تجمعت لدى الإمام من الملازمة التي كانت بينه وبين الرسول

ص: 369

الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، وما كان له من العلاقة مع الصحابة والناس، وماشهده من تحولات في الأمة في المدد المتعاقبة؛ فكانت قراءةُ الإمام (عليه السلام) لكل ذلك، قد مكنته من تقديم مشروعه الشامل، والذي به يتحقق الأمن الفكري.(89) کما بقي هذا المشروع شعلةً مضيئةً، بالرغم من محاولة طمس معالمه منذ القرن الأول للهجرة النبوية. فهو الذي وضع للأُمة مرتكزات تحقیق أمنها الفكري، وذلك بقطع الطريق على أئمة الضلال في اختيار مع ما يتناسب مع أهوائهم.(90)

وبالرجوع الى الأثر الخالد كتاب «نهج البلاغة«، وإلى الدراسات والكتب التي أُعدت حول هذا الموضوع وفي مقدمتها كتاب (الأمن الفكري في نهج البلاغة لمؤلفه السيد نبيل الحسني). فإن هناك رسالة أخرجها الإمامُ عليُّ (عليه السلام) الى الناس تتضمن أصولَ الأمنِ الفكريِّ، وإن اعتمادها سيكون مُنجياً في هذه الحياة. وكذلك الإستفادة منها في المساهمة في بناء المجتمعات الإنسانية.(91) ويمكن تلخيص بعض من هذه الأصول والتي لها صلة مباشرة بالأمن الفكري، وكما يأتي:

- القراءة التي تُعد من بين أهم الأصول التي توصل الى الأمن الفكري.(92)

- التعاون على الحق. حيث جاء في قول الإمام (عليه السلام): «وكونوا على الحق أعواناً».(93)

- التفقه بالدين ومعرفة الحلال والحرام.(94)

- اعتماد النظام الإنتخابي في الوصول الى الحكم.(95)

وإذا تتبعنا جذور مفهوم الأمن الإنساني في العصر الحديث منذ الإعلان العالمي الحقوق الإنسان عام 1945، نلحظ ظهور مفهوم الأمن الإنساني من خلال التركيز

ص: 370

على إرساء بعض القواعد الكفيلة بحماية حقوق الإنسان. كما ظهرت مساهمات عديدة كان أبرزها المساهمة الحقيقية لدفع المفهوم في تقرير التنمية البشرية لعام 1994 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي. حيث تناول الإبعاد الجديدة للأمن الإنساني، من خلال أربع خصائص أساسية هي:

- الأمن الإنساني شامل عالمي، فهو حق للإنسان في كل مكان.

- مكونات الأمن الإنساني متكاملة يتوقف كل منها على الآخر.

- الأمن الإنساني ممكن من خلال الوقاية المبكرة، وهي أسهل من التدخل اللاحق.

- الأمن الإنساني محوره الإنسان ويتعلق بنوعية حياة الناس في كل مكان.

وتنبأ التقرير بأن تؤدي فكرة الأمن الإنساني على الرغم من بساطتها لثورة في إدارة المجتمعات في القرن الحادي والعشرين. كما حدد مكونات هذه الفكرة تتكون من شقين: الأول هو الحرية من الحاجة، والثاني هو الحرية من الخوف. مما يتفق مع مفهوم الأمن الإجتماعي القرآني.(96)

2 - 3 - 3 بناء الإطار الصحيح للمنظومة التعليمية

بادىء ذي بدء، إذا سلمنا بأن النتائج محكومة بمقدماتها، فإن بناءَ وتطوير منظومة تعليمية لمجتمع قائم على المعارف، ومستفيد من حق التساوي،(97) من الامكانيات التعليمية، سينتج حتماً فرداً متطوراً واعياً لحقوقه وواجباته. إن المساواة في التربية والتعليم في النظام الحقوقي الإسلامي، تنطلق من التأكيد على موضوع المساواة التامة بين أفراد المجتمع، وضمان حقهم الكامل في الاستفادة من الإمكانيات التعليمية المتاحة. والآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية

ص: 371

الشريفة تؤكد على فضيلة العلم وضرورة أكتسابه.

فالمعرفة تُعد الصفة الاساسية للمجتمع الانساني الراهن. ومن خلالها تحققت معظم التحولات العميقة والمهمة في كل مجالات الحياة لما لها من علاقة عضوية بتنمية المجتمعات الإنسانية. والمعرفة ربما هي المتغير الوحيد الذي لا ينطبق عليه قانون تناقص الانتاجية الحدية. فكلما تزايدت المعرفة أدت الى تزايد انتاجية الانسان.(98) كذلك فأن المعرفة هي احدى المكتسبات المهمة للاقتصاد والمجتمع. فبناء القدرات الانسانية وتطويرها باعتبارها العنصر الانتاجي الرئيس والمحدد الاساسي للانتاجية، انما ينطلق من تطوير كفاية وقدرات الموارد البشرية.(99) «فالعلمُ مقرونٌ بالعملِ».(100) اذن، لا بد من الانتقال نحو مجتمع المعلومات و المعرفة. ففي ظل عصر العولمة و التنافسية الشديدة بين اقتصاديات الدول؛ اصبحت العلوم والتكنولوجيا هما النهج المعاصر الذي يفرز بذور النمو وبناء الثروات والاقتصاد. ونتيجة لتطور علاقة الاتصال بين المعرفة العلمية والقوة الاقتصادية؛ نشأ مفهوم سياسات العلوم والتكنولوجيا في برامج وحكومات الدول. ولكن هذا التوجه يتطلب اعداد مستلزمات مشروع تقييم اصول المعرفة الوطنية. بالإضافة إلى تهيئة وإعداد برامج تساعد على تكوين مناخ ايجابي لإنتاج المعرفة، وهذا يستوجب حتماً تدخل حكومي لتحديد الإطار المناسب للمنظومة التعليمية.(101)

فالمجتمع القائم على المعرفة والذي يسعى لتوفير طرقٍ جديدةٍ ومشوقةٍ للتعليم والتدريب، لابد أن يسعى للتكيف مع النظم التي تفرزها التطورات الحديثة والتعامل معها بدقة وفي مقدمتها العولمة. وقد أكد المؤتمر الدولي الثاني للتعليم التقني والمهني (سيؤل، 1999) على ضرورة أن تتكيف نظم التعليم التقني والمهني مع التطورات المهمة المتمثلة في العولمة، والتغيير الدائم للمعطيات

ص: 372

التقانية، والثورة المعلوماتية والاتصالية. ولكي يحقق التعليم المهني والتقني دوره المنشود في ضوء هذه التطورات والمتغيرات، فلا بد من تطويره بشكل

يضمن تمیزه بهدف إكساب الطلاب والمتدربين معارف و معلومات نظرية، ومهارات عملية ومهنية، والعمل على تشجيعهم على التعلم الذاتي، لتحقيق مبدأ الإستدامة والتعلم مدى الحياة.(102)

2 - 3 - 3 تكييف المنظومة الصحية للمتطلبات الإنسانية

اذا كان افراد المجتمع منذ بداية ولادتهم يأتون غير متساوين في الفرص، ومن حيث الوراثة، ومن حيث التربية الأُسرية، والوضع الطبقي وما إلى ذلك، وانعكاس ذلك لاحقاً على قدراتهم ومؤهلاتهم وبالتالي عدم الوصول إلى نقطة من المساواة، فإن ذلك يجب ألا ينطبق على الجانب الصحي لافراد المجتمع. فيجب أن يكون حق تساوي الجميع في الحصول على الخدمات الصحية أياً كان نوعها وشكلها، يوازي تماماً حق تساوي الجميع في الحرية، على حد تعبير جون راولز.(103) فإذا قاربنا بين مفهومي المساواة والعدالة، بحيث تكون العدالة صفة للمؤسسات الاجتماعية وليست صفة للفرد في العصر الحديث، فإن المصادر الإسلامية تحدثت بكثرة عن العدالة(104). حيث أكدت آیات قرآنية على مفهوم العدل. وقال الإمام علي (عليه السلام) في قولهِ تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ.....»(105): العَدلُ: الِإنصَافُ، والِإحسَانُ: التَّفَضُّلُ(106) فضمان الحصول على الخدمات الصحية وعدم التمایز بين الأفراد لا يتحقق إلا من خلال ضمانة حكومية تكفل وجود قطاع صحي عام فعالٍ في هذا المجال(107)

2 - 3 - 4 إعتماد الأسس العلمية في التخطيط العمراني ووفقا للمعايير الدولية

اذا تأملنا قول الإمام علي (عليه السلام): «فلیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ

ص: 373

من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يُدرك إلا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغیر عمارة أَخرب البلاد».(108)

ثم تأملنا قول البروفيسور المعاصر مایکل باشون، الأستاذ في جامعة ستراثكلايد - بريطانيا. والذي ورد في كتابه الجغرافية الحضرية من منظور عالمي، والذي نصه:(109) .

«The policies of the national and local state can exert an important influence on urban change. Regulatory and taxation policies shape the environments that attract or repel investors" decisions about public investment determine whether infrastructure will be built».

وترجمة النص بشكل دقيق فيما يأتي:

«ويمكن لسياسات الدولة الوطنية والمحلية أن تمارس تأثيرا هاما على التغيير الحضري. وتشكل السياسات التنظيمية والضريبية البيئات التي تجتذب أو تصد المستثمرين، وتقرر القرارات المتعلقة بالاستثمار العام ما إذا كانت البنية التحتية ستبنى».

والآن لوقمنا بمقارنة النصين، سنتبين العمق الفكري، والملاحظة السبّاقة، والدقيقة، والمختصرة، التي وردت في قول الإمام علي (عليه السلام). حيث إنه:

- أولاً، نبّه عامله على مصر الى ضرورة اعطاء عمارة الأرض أولوية بالنسبة إلى الخراج. فإذا أعطينا مفهوم عمارة الأرض معناها الواسع، فسيكون شاملاً البنية التحتية، والطرق، والمياه،..... الخ.

- ثانياً، إنَّ سياسات الدولة تمارس تأثيرا مهماً على التغيير الحضري.

ص: 374

- ثالثاً، وبخلاف ذلك، أي أنَّ السياسة التي تهمل العمران، ستؤدي إلى خراب البلاد، والتي عبر عنها البروفيسور مایکل باشون.: ستشكل السياسات التنظيمية والضريبية البيئات التي تجتذب أو تصد المستثمرين.

حقيقة، إنَّ منشأ التطور هو العمران، وهو الذي يقود الى الحضارة. وقد عبر عن ذلك بن خلدون بقوله:

إن الحضارة هي نهاية العمران.(110)

إنَّ غياب التخطيط العمراني الفعال ستكون له عواقب خطيرة في ظل التوسع العمراني السريع الذي يشهده العالم. ففي الكثير من المناطق في شتى أنحاء العالم، من الممكن استشعار ذلك حقيقة. فآثارها واضحة في الإفتقار إلى السكن الملائم، ونمو الأحياء الفقيرة، والبنية التحتية غير المناسبة والمهملة، سواء كانت من الطُرق، أو وسائل النقل العام، أو المياه، أو الصرف الصحي أو الكهرباء..... الخ. وبناءً على ذلك، فإن تخطيط وإدارة المدن والقرى أصبحت على قدر كبير من الأهمية في أداء دورها كمحرك في التنمية المستدامة. وهذا ما أشار اليه مؤتمر الأمم المتحدة للإسكان والتنمية الحضرية المستدامة والذي سيعقد في كيتو بالإكوادور في الفترة من 17 - 20 تشرين الأول / أكتوبر، 2017. أول قمة للأمم المتحدة بشأن التوسع الحضري العالمي منذ اعتماد جدول أعال 2030 للتنمية المستدامة.(111)

فسيتضح جلياً من هذه المقارنات العلمية والعملية وهي واحدة من المقارنات بأنه يمكن تطبيق رؤى الإمامِ عليٍّ (عليه السلام)، على عصرنا الحالي، والاستفادة منها على أرض الواقع.

ص: 375

ثالثاً: حدوث التغيير في المنظومة الاجتماعية نتيجة للتغير في البيئة العامة للفرد

لا بد من التمييز - أولاً - بين التغيُّر الاجتماعي والتغيير الاجتماعي. حيث إن هناك فرقاً بيناً بينهما.(112) فالتغيُّر الاجتماعي يعرف على أنه التحول الذي يطرأ على البناء الاجتماعي، كزيادة عدد الأفراد في مجتمع معين أو نقصانهم. ويُعد التغيُّر الاجتماعي انتقالاً للمجتمع من حالة إلى حالة أخرى. ولا يشترط في هذا الانتقال أن يكون تطوراً، وإنما قد يكون تخلفاً وانحداراً.

أما التغيير الاجتماعي فهو التحول النابع من وجود ضرورة لإحداث تغيير معين في بيئة اجتماعية معينة أو في ناحية من نواحيها، بما يؤدي في نهاية المطاف إلى حدوث تغيير واضح لا يحيد. فهو التحول الممنهج المدروس، الذي يتم تخطيطه بشكل حرفي بما يقلل من الأخطار، وتجنب السلبيات التي قد تنتج عن عملية التحول هذه. فالتغيير الاجتماعي يحتاج دائماً إلى تضافر المجموع من أجل تحقيق النتائج المرجوة، وبالتالي يكون التخطيط له موضوعاً حتمياً يٌظهر الدور الحاسم للدولة في إنجازه.(113)

نستخلص من كل ذلك، إن التغيير الذي سيحدث في المنظومة الاجتماعية، سيكون نتيجةً لمجموعتين من العوامل وهي كالآتي:

- المجموعة المرتبطة بالتطور الإِيجابي للوعي الفكري للفرد، کنتیجة لإعادة صياغة الشخصية الإنسانية على وفق أساس سلیم، ومنهج قويم، سيحقق التكامل و السعادة الفردية والإجتماعية.(114)

- إنَّ الإسلام قد أوجد القاعدة الفكرية الصحيحة للانسان في بناء الدولة، إِذ أَنَّ تلك القاعدة الفكرية، انما تنبثق عن مبدأ مطلق الكمال(115)، وإنَّ المقياس

ص: 376

الخلقي الذي يكون ميزان للسلوك، انما هو هدف مقدس في الوقت الذي يمثل طريقا مستقیما يُنبئ عن عقيدة صحيحة.(116)

حقيقةً، إنَّ السؤال الذي سينبثق هنا هو: هل ستنعكس هذه القاعدة الفكرية في بناء الفكر الإنساني القويم أيضاً، وبالتالي في مشروعه الحضاري؟ هذا ما سوف نجد الإجابة عنه فيما يلي.

رابعاً: أثرالتغيير الاجتماعي في التمهيد للبيئة الملائمة للتطور إستناداً للهدي العلوي

بعد أن بحثنا في الكيفية التي يحدث خلالها التغيير الاجتماعي. حيث توضح القصد من خلال التركيز على الوعي الفكري للفرد، ومسؤلية الدولة إزاء ذلك. نحاول الان معرفة الأثر الذي يتركه هذا التغيير على التطور العام للمجتمع. والسؤال الذي يطرح هنا هو هل يمكن إن تكون قد نشأت في ظل هذا التغيير حقوقٍ مکتسبةٍ للفرد، تندرج تحت عنوان حقوق الانسان، كنتيجة لحصول أرتقاء في وعيه الفكري؟ وهل ستمكنه أن يصبح جديراً بها وبالتالي تمكنه أن يصبح ملائماً للتطور باتجاه مشروعه الحضاري؟

إن الاجابة عن هذا السؤال يتطلب من الدولة أن تأخذ على عاتقها مسؤولية ضمان الجوانب الآتية:

- حق الحياة

تُعدُّ حياة الانسان قيمةً ساميةً طبقاً لاحكام الشريعة الإسلامية المقدسة. وقد بینت ما ينبغي الالتزام به للمحافظة على هذا الحق. حيث يجب أن يكون كلُّ فردٍ في حالة أمان واحترام في تردده، ومكان إقامته، ومراسلاته، ومكالماته، وحواراته.

ص: 377

- حرية الفكر

يعد التفكير من المزايا الإنسانية العليا طبقاً لما ورد في المصادر الإسلامية وفي مقدمتها القرآن الكريم والسنة النبوية. حيث عُدَّ التفكر بين أعظم العبادات وأهمها.

فقد ورد ذكر التفكر في 18 آية، وهناك 149 آية أشارت الى التعقل. (117) قال تعالى: «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ»(118) وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا عبادة مثل التفكر».(119) وقال أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام): «ولا علم كالتفكر».(120) وقال ايضاً: “ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق (معرفة الله) وخافوا عذاب الحريق”.(121) وقال ايضاً: ”التفكُّر يدعو إلى البِّر والعمل به“. يقول المجلسي (رحمه الله) في شرح هذا الحديث: التفكّر المذكور في هذا الحديث المأثور يشتمل على جميع أنواع التفكّر الصحيح. فمثلاً التفكُّر في عظمة الله الذي يحمل الإنسان على خوف الله وطاعته. والتفكّر في الأخلاق المرضية الذي يدعو الإنسان إلى تحصيلها التجمُّل بها. والتفكُّر في الأحكام والمسائل الشرعية الذي يدعو الإنسان إلى العمل بها.(122)

- المساواة والعدالة الاقتصادية

المساواة الاقتصادية المطلقة حلم لا يتطابق مع طبيعة الانسان ودوافعه، ويكون ذلك نتيجة لفوارق البيئة الاجتماعية والتربوية. كما أنَّ الدافع الذاتي لدى بني الإنسان هو التفوق، وليس الميل إلى المساواة.(123) إنَّ المبدأ الأساسي هو إنَّ العمل جوهر القيمة الاقتصادية. وفي ضوء هذا المبدأ هناك إقرار باختلاف الأجور

ص: 378

والمكافآت. حيث نلحظ عدم التأسيس لفكرة حصول كل أفراد المجتمع على أجور متساوية.(124) فالمبدأ التشريعي القائل - مثلًا - إنَّ الحق الخاص في المصادر الطبيعية يقوم على أساس العمل، يعالج مشكلة عامة يستوي فيها عصر المحراث البسيط وعصر الآلة المعقدة، لأن طريقة توزيع المصادر الطبيعية على الافراد، مسألة قائمة في كلا العصرين.(125) کما نلحظ أيضاً، إن الاهتمام ينصب على رعاية التوازن في المستوى المعيشي لأفراد المجتمع. وهذا مابینه الأستاذ الشهيد السيد الصدر في كتاب إقتصادنا بما يأتي: «أن يكون المال موجوداً لدى أفراد المجتمع و متداولاً بينهم، إلى درجة تتيح لكل فرد العيش في المستوى العام، أي أن يحيا جميع الافراد مستوى واحداً من المعيشة، مع الاحتفاظ بدرجات داخل هذا المستوى الواحد تتفاوت بموجبها المعيشة، ولكنه تفاوت درجة، وليس تناقضاً كليا في المستوى، كالتناقضات الصارخة بين مستويات المعيشة في المجتمع الرأسمالي.»(126) كما أنَّ التوازن العام في المجتمع الإسلامي مدين بعد ذلك لمجموعة التشريعات الإسلامية في مختلف الحقول، فإنها تساهمُ عند تطبيق الدولة لها، في حمايةِ التوازن.(127) كذلك فقد تبنى النظام الحقوقي الإسلامي عدداً من الإجراءات تستهدف موازنة المستوى المعاشي بين أفراد المجتمع؛ لمنع حدوث الفوارق الطبقية الواسعة. فاتباعُ سياسةٍ ماليةٍ مناسبةٍ وخصوصاً فيما يتعلق بالتشريع الضريبي وإنفاق عوائدها في الحفاظ على التوازن العام، ووضع أراضٍ تحت تصرف الدولة، وإنفاق عائداتها لدعم التوازن العام،(128) تمثل إجراءات أساسية للصالح العام، ولتحسين المستوى المعاشي، على الأخص فيما يتعلق بتوسيع القطاع العام. وفي هذا الصدد يذكر السيد الأستاذ محمد باقر الصدر في كتاب إقتصادنا ما نصه: «وقد يكون أروع نص تشريعي يحدد وظيفة الفيء، ودوره في المجتمع الإسلامي بوصفه قطاعاً عاماً، هو المقطع القرآني في سورة الحشر.(129) حيث يتضح حق

ص: 379

الجماعة كلها في الثروة، و في منع الاحتكار، وكذلك في وجوب تسخير القطاع العام لمصلحة الطبقات التي تعيش دون خط الفقر. قال تعالى: «وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ...»...(130)

وقد ورد موضوع الفَيء (130) في نهجِ البلاغة، في أكثرِ من موضعٍ. فقد أكد الإمام علي (عليه السلام) على ضرورة تقسيم الفَيء على مستحقيه بقوله: «والفَيءُ فقَسَّمَهُ على مُستَحِقِّيهِ».(132) وكذلك بقوله: «..... لَئِنْ بَلَغَنِي أَنَّكَ

خُنْتَ مِنْ فَيءِ المسلِمينَ شَيئاً.....».(133) وجاء في عهد أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، إلى مالك الأشتر النخعي حينما ولاّه بلاد مصر: «ثم الله الله في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم، والمساكين والمحتاجين، وأهل البؤسی والزمني، فإن في هذه الطبقة قانعاً ومعتراً. واحفظ لله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك، وقسماً من غلات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى، وكلٌّ قد استرعيت حقه، فلا يشغلنك عنهم بطر، فإنك لا تعذر بتضييعك التافه لإحكامك الكثير المهم، فلا تشخص همك عنهم، ولا تصعر خدك هم».((134)) حيث يتضح من النص السابق، تحديد أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، المسؤولية المباشرة للحكومة في توفير الحد الادنى اللازم للعيش الكريم لكل فرد في المجتمع.(135) کما توجد مجموعة من التشريعات الإسلامية ذات الصلة بمبدأ التوازن، مثالها محاربة اكتناز النقود، والغائه للفائدة، وتشريعه لأحكام الإرث، وإعطاء الدولة صلاحيات ضمن منطقة

ص: 380

الفراغ المتروكة لها في التشريع الإسلامي، وإلغاء الاستثمار الرأسمالي للثروات الطبيعية الخام.(136)

- المساواة المدنية والإجتماعية

استناداً إلى الفكر الإسلامي، فإن جميع أفراد المجتمع متساوون في شؤون المسؤولية، والجزاء والحقوق المدنية.(137) حيث تنعدم الفروق بين المواطنين على أساس اللون، الحاكم والمحكوم، مستوى الثراء........ألخ. ويؤكد القرآن الكريم ذلك في عدد من الآيات، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا».(138) فرعاية شؤون الافراد، واستحقاقاتهم في المجتمع الإسلامي على درجة قصوى من الاهمية.(139) وقد وصف أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام)، ذلك بدقة في عهده إلى واليه على مصر مالك الأشتر بقوله: «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوی من رعیتك».(140)

- المساواة في التربية والتعليم: تم شرح هذا الموضوع سابقاً.

- المساواة في حق العمل:

إنَّ النظام الحقوقي في الإسلام أقر هذا الحق، وأكد على ضرورته وأفضيلته لما له من علاقة في بناء الاقتصاد والمجتمع. بل ومنح حق الاختيار المشروع، وتكافؤ الفرص، على أن تؤخذ المؤهلات العلمية والقدرات التي اكتسبها الأفراد، في نيل المناصب الوظيفية لقيادة المجتمع لضمان تطوره.

ص: 381

الإستنتاجات:

لقد توصلنا من خلال البحث إلى قسمين من الاستنتاجات:

القسم الأول: الاستنتاجات النظرية، وهي:

1. إنَّ البحث في فكر الإمام علي (عليه السلام)، يستوجب التمييز بين واجهتين:

- الواجهة العامة، المتمثلة بالخطب والكلمات التي حملت رسائل لإستشراف المستقبل، ويمكن من خلالها استنتاج الأفكار والنماذج والأطاريح المعاصرة.

- الواجهة الخاصة، التي توجهت لعصره، وكانت تطبيقات عملية وحلول لمشاكل عاصرت الإمام. وهي في الوقتِ ذاتهِ، غاية في الأهمية لما تحمله من حلول لكثير من القضايا والمسائل الشائكة المعاصرة.

2. عدم وجود إنقطاع حضاريٍّ، بفضل الخطب و الكتب التي وجهها الإمام (عليه السلام)، الى جميع الناس في العصور، وذلك ضمن الواجهة العامة التي ذكرناها. وهذا يعني وجودَ صلةٍ تاريخيةٍ على الصعيدِ الفكريِّ والإجتماعيِّ، من شأنها احداث تغييرٍ منهجيٍّ أصيلٍ في المجتمع.

3. أرسى الإمام (عليه السلام) أُسُسَ مشروعٍ حضاريٍّ، يمكن لأي مجتمع، أو أية أمة، تشييد بنائهِ في أية مرحلة زمنية؛ نظراً لوجود قواعد فكرية عامة موجهة للإنسانية جمعاء، وليس لفرد معين، أو مجتمع معين، أو أمة معينة.

4. هناك مسؤولية مباشرة للدولة في الارتقاء بالوعي الفكري للإنسان، وذلك من خلال التخطيط، لإحداث تغيير مؤسساتي، وتهيأة بيئة عامة تتلاءم مع تطوير الفرد والمجتمع.

ص: 382

5. سيكون ظهور هذا المشروع الحضاري حتمياً، إذا توافرت ظروف التغيير الإجتماعي، وإذا حدث تطورٌ نوعيٌّ كفايةً في الوعي الفكري للإنسان، وفي ظل رعايةٍ إنسانيةٍ شاملةٍ وهادفةٍ ومخططٍ لها، تقوم بها الدولة.

القسم الثاني: الاستنتاجات العملية وهي:

1. إنَّ أية مشروع لا يمكن تنفيذه وضمان نتيجة إيجابية له، إلا إذا أكتملت شروطه النظرية أولاً، وتهيئة الأرضية المناسبة له ثانياً. وهذه دعوة للباحثين نحو توجيه بحوثهم ودراساتهم لإثراء الموضوع.

2. ضرورة تهيئة الأرضية المناسبة لهذا المشروع لكي يتسنى تطبيقه بدقة وعناية، ومن ثم انجازه على أرض الواقع. ويكون للدولة دورٌ رئيسٌ في كل مراحل انجازه، ويتم ذلك من خلال اعداد علميٍّ متكاملٍ وصحيحٍ لجميع الظروف والشروط السياسيةِ والتشريعيةِ والاقتصاديةِ والاداريةِ والصحيةِ والتعليميةِ والبيئيةِ، والتي سنتناولها في التوصيات الآتية.

التوصيات

1. في الجانب السياسي:

- تعميق فكرة أن يكون الولاء للوطن وليس للعشيرة أو القبيلة.

- توجیه وسائل الاعلام المختلفة نحو تعميق ثقافة المجتمع، واشاعة روح التسامح والحوار بين الأفراد. ويتم ذلك من خلال تشجيع المجتمع على تقبل الانفتاح على الآخرين، والتعايش السلمي وتكريس المتقاربات التي تؤدي إلى الإنسجام الاجتماعي، ونبذ الاختلافات والتطرف.

2. في الجانب الاقتصادي

ص: 383

- اعتماد التخطيط القصير المدى والمتوسط المدى والطويل المدى ضمن ستراتيجية واضحة المعالم، من شأنها تعجيل التنمية الشاملة، الاقتصادية والاجتماعية.

- إعادة التوازن بين القطاعين العام والخاص في الاقتصاد الوطني، وبما يضمن تفاعلها الإيجابي.

- تبني سياسة اقتصادية، من شأنها القضاء على البطالة، والتضخم، ووضع سیاسة سعريةٍ تتناسب مع مستوى الأُجور.

3. في الجانب الاداري

- تنمية القدرات البشرية الحالية

- رعاية العاملين من خلال المحفزات المادية والمعنوية بحيث تساهم في خلق حالةِ استقرارٍ فکريٍّ واجتماعيٍّ.

- وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، بما يؤدي الى ملء مراکز القرارات بأشخاص ذوي كفايات علمية وادارية مناسبة.

4. في الجانب الصحي والأمني والثقافي

توفير الخدمات الصحية والامنية والثقافية بشكل يتناسب مع حاجة المجتمع.

5. في مجال التربية والتعليم

- الاهتمام بالتعليم والتدريب بمختلف مستوياته، بحيث تكون أعداد المدارس والمعاهد والجامعات متناسبة مع عدد الأفراد المتدفقين اليها.

- اصلاح نظام التعليم (التربوي والعالي)، باعتماد الأُسسِ الحديثةِ في تنميةِ

ص: 384

القدراتِ البشرية، وادخال انظمةِ التربيةِ و التعليمِ المعرفية في جميعِ المراحل.

- دعم البحث والتطوير كونه النشاط الأساس في خلق المعارف والابتكارات

- ربط مخرجات التعليم العالي بسوق العمل.

6. في الجانب الإجتماعي

سیاسة للضمان الاجتماعي والاعانات ولكافة طبقات المجتمع بما يضمن تقليص حدة الفوارق بين الافراد، وباتجاه القضاء على الإِنخفاض في المستوى المعاشي العام، ومنع الوصولِ الى خطِ الفقرِ.

ص: 385

الخلاصة

بينت التحليلات التي وردت في البحث، إنَّ هناك مشروعاً حضارياً يمكن استخلاصه من خطب و کلمات و کتب أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام). حيث توخي من خلالها، أن يعبّرَ عن حالة الرقي والتقدم والازدهار، التي يمكن أن يصل اليها الإنسان، في مرحلة معينة من تطوره، إذا تحققت الشروط الذاتية والموضوعية لذلك. وفي الحقيقة، إنما أراد أن يعبّر بهذا التطلع عن جوهر عقيدته، ويحاكي القرآن الكريم في مضمونه، في مدرسةٍ كان معلمها الأول الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله). فقد كان الإمام متوجهاً في مشروعهِ الى الإنسانية جمعاء، وليس إلى مجتمع معين، أو فئة معينة. ومن دون تمييز على أساس اللون، أو العرق، أو الطائفة، أو درجة القربي. وفي كل ذلك، كان يناشد استقامة الإنسان، التي تمثل أساس تقدمِه عندما خاطب وعيه الفكري، من أجل البلوغ بإنسانيته الى أقصى مداها، والذي عدها هدف التقدم وغايته ووسيلته. لقد نظرَ الإمام الى حركة الإنسان، من خلال تلازمها مع حاضنته الإجتماعية (داخل المجتمع الذي نشأ فيه)، من دون انسلاخه عن أبناءِ جلدتهِ، للمحافظة على المزايا والخصائص والأدوار التي اكتسبها، والتي تمكنهُ من الإضطلاعِ بمهامِ الحسم الصعبة والمصيرية، في سيرورة الإنسانية الطويلة. وبعد أن أكتملت صياغة الأطر النظرية، توجّه الإمام (عليه السلام)، الى رسم طريقة تنفيذ المشروع الحضاري. ولكنه وضع نصب عينيه، التخفيف من أعباء المسؤوليةِ الفردية، لتصبح مُلقاة على عاتقِ الدولة في تهيئة مستلزمات النهوض بالأمة. فقد أخذ بنظر الاعتبار ضرورة تسنُّم قيادات ذات كفاية عالية، ومؤمنة للإنجاز والإدارة، وتأخذ على عاتقها المسؤولية الكاملة، بإِتجاه قيام المشروع الحضاري.

ص: 386

هوامش البحث

(*) E-mail: aboforqan@yahoo.com

(1) الفرق بين التغيُّر والتغيير يدل التغيُّر على التحول المفاجئ في أحوال شيء معين، وهو مظهر واضح جداً يظهر على الشيء، وقد يحدث لكافة شؤون الحياة، وللمخلوقات المختلفة من خلال ما يعرف بالظواهر الكونية. أما التغيير فهو التحول الممنهج المدروس، الذي يتم تخطيطه بشكل حرفي بما يقلل من الأخطار، والسلبيات التي قد تنتج عن عملية التحول هذه. وفي الكثير من الأحوال قد لا تجدي عمليات التغيُّر المفاجئة في إحداث نقلة نوعية على أي مستوى من المستويات لعدة أسباب، وهنا تبرز الحاجة إلى وجود التغيير، الذي يتطلب التغيير وجود خطة واضحة المعالم، فلا تغيير من دون استشراف المستقبل، والتخطيط له، والإحاطة بكافة المتغيرات والعوامل التي قد تطراً وتحرف العملية عن مسارها الأساسي، كما يجب توقع حدوث إعاقة لعملية التغيير أيضاً، خاصة من أصحاب المصالح.

أنظر: أ.د. محمد الجوهري: علم الإجتماع، النظرية، الموضوع، المنهج، مصر، دار المعرفة الجامعية، 1998، ص 189 - 190 و ص 192 - 194.

أنظر كذالك في الموقع:

com.http://mawdoo3

(2) راجع أ. مرتضى مطهري: في رحاب نهج البلاغة، الدار الاسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، بیروت، 1992.

من ص 169 لغاية ص 173.

(3) السيد محمد باقر الصدر: فلسفتنا، دار التعارف للمطبوعات، بیروت، ط 1998، 2، ص 11

(4) محمد مهدي شمس الدين: حركة التأريخ عند الإمام علي (ع)، (دراسة في نهج البلاغة)، بیروت، لبنان، ط 1، 1985، ص 29.

ص: 387

(5) المصدر السابق، ص 31.

(6) المصدر السابق، ص 32.

(7) أحسان العارضي: جدلُ الحداثةِ وما بعدَ الحداثة في الفكرِ الإسلامي المعاصر، قراءة موجزة في اشكالية العلاقة،

مركز الفكر الإسلامي المعاصر ط 1، 2013، ص 20.

(8) المصدر السابق، ص 27.

(9) المصدر السابق، ص 8.

(10) عدنان الحاج كاظم عليان: الإمام علي بن أبي طالب (کرمه اللهّ وجهه) ودوره في ترسیم معالم الدولة الإسلامية، ص 15. أنظر في الموقع:

: http://www.haydarya.com /maktaba_moktasah /10/book_ 29/ najaf 21.html

(11) د. حيدر عبد المطلب البكاء: المنهج الاقتصادي في نهج البلاغة (قراءة معاصرة)، ص 220. الموقع: http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/15/book_54/main htm

(12) أًنظر أ. د. سعد خضير عباس الرهيمي: أنموذج لعلاج الخلل في التوازن الإقتصادي العام في ضوء عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)، مجلة المبين، السنة الثانية، العدد الثالث، نیسان 2017، ص 90.

(13) عهد الامام علي (عليه السلام) مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، في الموقع: //:http bit.ly/2vKTCF9

(14) المصدر السابق

(15) أ. د. سعد خضير عباس الرهيمي: أنموذج لعلاج الخلل في التوازن......، مصدر سابق، الصفحات: 91 و93 و96.

ص: 388

(16) المصدر السابق، ص 23.

(17) د. حيدر عبد المطلب البكاء، مصدر سابق، ص 218.

(18) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011، ص 684.

(19) أ.د.يوسف حجیم سلطان الطائي: نظرية الاستدامة اللانهائية وأبعادها في فكر الإمام علي (عليه السلام) لبناء الدولة المستدامة، مجلة المبين، مجلة فصلية محكمة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، السنة الثانية - العدد الثالث، 2017، ص 66.

(20) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011، ص 191.

(21) د. حيدر عبد المطلب البكاء، مصدر سابق، ص 204.

(22) د. زكي بدوي: الإمام علي (كرم الله وجهه) والتسامح الديني والسياسي، على الموقع:

https://goo.gl/fdVMUT

(23) أ.د. محمد حسين علي الصغير: الإمام علي (عليه السلام) قيادته سيرته، في ضوء المنهج التحليلي، ص 242، أنظر الموقع: http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/05/book_07/main.htm

(24) حسن الصفار: الإمام علي (عليه السلام) ونهج المساواة، على الموقع: .

https://goo gl/6ryQn4

(25) ابن أبي الحديد، عبد الحميد: شرح نهج البلاغة، ج 7 ص 37 الطبعة الأولى / 1987 م دار الجيل - بيروت.

(26) أ.د. زمان عبيد وناس: التنمية الاقتصادية في فكر أمير المؤمنين الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مجلة المبين، مجلة

فصلية محكمة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، السنة الثانية - العدد الثالث، 2017. ص 119 - 120

(27) حسن الصفار: الإمام علي (عليه السلام) و نهج المساواة، على الموقع: .

https://goo gl/6ryQn4

ص: 389

(28) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011، ص 541.

(29) عدنان الحاج کاظم علیان، مصدر سابق.

(30) حسن الصفار، مصدر سابق. ص 21.

(31) عدنان الحاج کاظم علیان، مصدر سابق. ص 18.

(32) سورة الأنعام، الآية: 165.

(33) عدنان الحاج کاظم علیان، مصدر سابق. ص 28.

(34) أ.د. محمد حسين علي الصغير : مصدر سابق، ص 319.

(35) الدكتور طه حسين: الفتنة الكبرى، دار المعارف بمصر، ج 1 ص10. في الموقع: http://www.muhammadanism.org/Arabic/book/Taha_Husain/grand_ riot_1.pdf

(36) أنظر أ.د. زمان عبيد وناس: مصدر سابق، ص 126.

(37) أ.د. محمد حسين علي الصغير: مصدر سابق، ص 330.

(38) حسن الصفار: التنمية الإنسانية في عهد الإمام علي عليه السلام، الموقع:

http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/15/book_93017.html

(39) نهج البلاغة خطبة رقم 207.

(40) عباس محمود العقاد: عبقرية الإمام علي، المقدمة، دار الكتاب العربي، بیروت، لبنان، 1997، ص: 129. وكذلك أنظر الموقع: / 15/ http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah ا book_207/abqariyat_alimam.pdf IIII

(41) أ. عبد الوهاب حموده: الآراء الاجتماعّية في نهج البلاغة، الموقع / https://goo.gl .

JVpHk6

(42) أُنظر في ذلك: أ.د. محمد حسين علي الصغير: مصدر سابق، ص 331 - 333.

(43) نظر ص 22 من بحثنا هذا.

(44) أُنظر الموقع:

http://mawdoo3.com

ص: 390

(45) السيد محمد باقر الصدر: فلسفتنا، مصدر سابق، ص 168.

(46) السيد محمد باقر الصدر: فلسفتنا، مصدر سابق، ص 95.

(47) القرآن الكريم، سورة القيامة، الآية (14).

(48) القرآن الكريم، سورة التوبة، الآية (105).

(49) الأستاذ مرتضى مطهري: في رحاب نهج البلاغة، الدار الاسلامية للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1992، ص 185.

(50) المصدر السابق: ص 185 - 186.

(51) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخيل، بيروت، 1 - 4، 2011. ص 616.

(52) أنظر أ. د. جواد كاظم نصر: الإمام علي (عليه السلام) مصدراً من مصادر الفكر الاسلامي، مجلة المبين، السنة الاولى، العدد الثاني، 2016، ص 170 - 171.

(53) محمد مهدي شمس الدين: مصدر سابق، ص 26

(54) أنظر: د. علي هلال: عن العلاقة بين الدولة والمجتمع. https://goo.gl/d3Jgbu

(55) أنظر: مراد بن علي زريقات: التغير الإجتماعي عند إبن خلدون، ورقة عمل مقدمة لندوة إبن خلدون التي تعقدها الجمعية السعودية لعلم الاجتماع، الرياض 2007. في الموقع:

http://www.murad-zuriekat.com/articles16.html

(56) أنظر: المصدر السابق.

(57) أنظر أ.د. محمد الجوهري: مصدر سابق.، ص 189 وص 192.

(58) د. عبد الحسين عبد الرضا العمري: البعد الاخلاقي واثره في بناء الدولة في فكر محمد باقر الصدر، مجموعة

أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر و الثقافة، العارف للمطبوعات،

بيروت، لبنان، شباط 2010. ص 530.

ص: 391

(59) أنظر الموقع: 1/ html. 109/19/http://islamport.com/d/1/alb

(60) انظر في ذلك:

- أ.د. سعد خضير عباس الرهيمي: أنموذج لعلاج الخلل في التوازن الإقتصادي العام في ضوء عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر (رض)، مجلة المبين، السنة الثانية، العدد الثالث، نیسان 2017، ص 109.

انظر كذلك:

- د. حسين عمر : مبادئ المعرفة الإقتصادية، منشورات ذات السلاسل، الكويت، ط 1، 1989، ص 376.

(61) أنظر:

https://goo.gl/RTTTwR

(62) عبود الراضي: المنهج الحركي في القرآن الكريم، دار المنتدی، بیروت، ط 3، 2009 / 28. عناصر الدولة

في فكر الشهيد الصدر، مجموع أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني الأبحاث الفكر

والثقافة، العارف للمطبوعات، بيروت - لبنان، شباط 2010، ص 530.

(63) د. عبد الحسين عبد الرضا العمري: مصدر سابق، ص 531.

(64) السيد محمد باقر الصدر: إقتصادنا، دار للمطبوعات، بیروت، ط 20، 1987، ص 16 - 17.

(65) د. عبد الحسين عبد الرضا العمري: مصدر سابق، ص 531 - 532.

(66) راجع الصفحات: 5 و 25 من بحثنا هذا.

(67) أنظر : د. عبد الرحيم محمد: التغيير ومبرراته وأسباب المقاومة، موقع شبكة الانترنيت:

http://dr-ama.com/?p=1451

(68) أنظر موقع:

https://ar.wikipedia.org

(69) أنظر: د. عبد الرحيم محمد، المصدر السابق

(70) القرآن الكريم، سورة الرعد، الآية (11).

(71) السيد محمد باقر الصدر: المحاضرة الأولى في موقع شبكة الانترنيت:

//:https

ص: 392

goo.gl/CXULJ2

(72) أنظر: أ.د. حسين على الشرهاني: منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) في معالجة الفساد المالي، مجلة المبين، مجلة فصلية محكمة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، السنة الاولى - العدد الأول، 2016، ص 94 و ص 112.

(73) أنظر: المصدر السابق، ص 99.

(74) أنظر: المصدر السابق، ص 112.

(75) أنظر: المصدر السابق، ص 95.

(76) أنظر: المصدر السابق، ص 95.

(77) عهد الامام علي (عليه السلام) مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، في الموقع:

//:http bit.ly/2vKTCF9

(78) أنظر: أ. د.یوسف حجیم سلطان الطائي: مصدر سابق، ص 66.

(79) عهد الامام علي (عليه السلام) مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، في الموقع: //:http bit.ly/2vKTCF9

(80) أنظر: أ.د.يوسف حجیم سلطان الطائي : مصدر سابق، ص 66.

(81) أنظر: د. محمد عودة: سيادة الدولة ومهامها الوظيفية في فكر السيد محمد باقر الصدر، مجموعة أبحاث المؤتمرین العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر و الثقافة، العارف للمطبوعات، بیروت، لبنان، شباط 2010. ص 661.

(82) السيد نبيل الحسني: الأمن الفكري في نهج البلاغة، دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط 1، 2015 م، ص 24.

(83) القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية (126).

(84) القرآن الكريم، سورة الأنعام، الآية (181).

(85) السيد نبيل الحسني: مصدر سابق، ص 27.

ص: 393

(86) السيد ابو الحسن نواب: الكرامة الإنسانية، دراسة في طهارة الانسان على ضوء الفقه الاسلامي، قم، نشر أديان، الاول 1389 ش / 1431 ق، ص 47.

(87) الأستاذ مرتضى مطهري:، مصدر سابق، ص 173.

(88) أنظر: نعمة العبادي: السياسات الامنية في مشروع الدولة عند الشهيد الصدر، مجموعة أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر و الثقافة، العارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، شباط 2010. ص 620.

(89) أنظر: السيد نبيل الحسني: الأمن الفكري في نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 151 وص 179.

.179 ( 98)

(90) المصدر السابق، ص 60 وص 60 وص 134.

(91) المصدر السابق، ص 60 وص 134.

(92) المصدر السابق، ص 187.

(93) المصدر السابق، ص 189.

(94) المصدر السابق، ص 200.

(95) المصدر السابق، ص 220.

(96) أنظر: نعمة العبادي: ص 627.

(97) راجع ص 38 من بحثنا هذا.

(98) أ. د. سعد خضير عباس الرهيمي: الاقتصاد المعرفي أساس التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية، مجلة جامعة بابل للعلوم الصرفة والتطبيقية، السنة 2011، المجلد 19، العدد 4، ص 522.

(99) المصدر السابق، ص 518.

(100) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخيل، بيروت، 1 - 4، 2011. ص 692.

(101) انظر في ذلك: أ.د. سعد خضير عباس الرهيمي: أنموذج لعلاج الخلل......، مصدر

ص: 394

سابق ص 93 وص 109.

(102) حمدي محمد ابراهيم رجب: بناء منظومة تعليمية قائمة على التدريب المدمج وقياس فاعليتها في تنمية مهارات صيانة الحاسب الآلي لطلاب مراكز التدريب المهني، رسالة ماجستير، كلية التربية الأولى، جامعة حلوان، 2014، ص 3.

a very short of Law (103) Raymond Wacks; Philosophy introduction، Oxford University Press، NY، 2006، P.72.

(104) أًنظر: د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت: مبادىء حقوق الإنسان في الإسلام والمذاهب الأخرى، تعریب خلیل زامل العصامي، من إصدارات المجمع العلمي العالي للثقافة والفكر الإسلامي، مرکز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، ط 2011، 1، ص 245.

(105) القرآن الكريم، سورة النحل، الآية (90).

(106) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011. ص 656.

(107) أًنظر ص 36 - 37 من بحثنا هذا فيما يتعلق بالقطاع العام.

(108) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخيل، بيروت، 1 - 4، 2011. ص 554.

( 109) Michael Pacione، Urban Geography، A global perspective، NY ،2002،P 312.

(110) بن خلدون: المقدمة، الفصل الرابع، في الموقع: / https://ar.wikisource.org wiki (111) أُنظر الموقع: / http://www.un.org/sustainabledevelopment/ar .

/habitat3

(112) أُنظر الموقع: http://mawdoo3.com /

(113) راجع ص 5 وص 25 من البحث.

(114) د. عبد الحسين العمري، مصدر سابق، ص 532.

ص: 395

(115) السيد محمد باقر الصدر: فلسفتنا، مصدر سابق ص 39.

(116) د. عبد الحسين عبد الرضا العمري. مصدر سابق، ص 531.

(117) د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت: مصدر سابق، ط 2011، 1، ص 219.

(118) القرآن الكريم، سورة آل عمران، الآية (191).

(119) د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت، مصدر سابق، ص 220.

(120) نهج البلاغة، ص 174.

(121) نهج البلاغة، ص 91.

(122) أنظر: دستغیب: التفكر. على الموقع: https://goo.gl/TvePKF

(123) د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت، مصدر سابق، ص 250.

(124) المصدر السابق، ص 251.

(125) السيد محمد باقر الصدر: إقتصادنا، مصدر سابق، 682.

(129) المصدر السابق، 682.

(127) المصدر السابق، 978.

(128) أنظر: د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت، مصدر سابق، ص 252.

(129) السيد محمد باقر الصدر: إقتصادنا، مصدر سابق، 665 - 666.

(130) القرآن الكريم، سورة الحشر، الآية (7).

(131) الفَيء: الغنيمة: تنال بلا قتال (واردات الدولة الإِسلامية)، أُنظر: نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011. ص 464 و ص 670.

(132) نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011، ص 670.

(133) المصدر السابق، ص 464.

(134) عهد الامام علي (عليه السلام) مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، في الموقع: http://bit.ly/2vKTCF9.

(135) السيد محمد باقر الصدر: إقتصادنا، مصدر سابق، 664.

(136) أنظر: المصدر السابق، 678 - 679.

ص: 396

أنظر كذلك: - أ.د. سعد خضير عباس الرهيمي: أنموذج....، مصدر سابق، ص 96 - 97 - 112.

(137) د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت، مصدر سابق، ص 248.

(138) القرآن الكريم، سورة النساء، الآية (135).

(139) د. السيد علي مير الموسوي و د. السيد صادق حقیقت، مصدر سابق، ص 248.

(140) عهد الامام علي (عليه السلام) مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، في الموقع: http://bit.ly/2vKTCF9.

ص: 397

المصادر والمراجع

أولا: مصادر البحث و مراجعه باللغة العربية:

1. القرآن الكريم.

2. البكاء، د. حيدر عبد المطلب: المنهج الاقتصادي في نهج البلاغة (قراءة معاصرة). الموقع: /54_ http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/15/book main.htm

3. الجوهري أ.د. محمد: علم الإجتماع، النظرية، الموضوع، المنهج، مصر، دار المعرفة الجامعية، 1998.

4. الراضي، عبود: المنهج الحركي في القرآن الكريم، دار المنتدى، عناصر الدولة في فكر

5. الشهيد الصدر، مجموع أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر والثقافة، العارف للمطبوعات، بیروت - لبنان، شباط 2010.

6. الرهيمي، أ. د. سعد خضير عباس: أنموذج لعلاج الخلل في التوازن الإقتصادي العام في ضوء عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)، مجلة المبين، السنة الثانية، العدد الثالث، نیسان 2017.

7. الرهيمي، أ. د. سعد خضير عباس: الاقتصاد المعرفي أساس التنمية الاقتصادية والاجتماعية في الدول العربية، مجلة جامعة بابل للعلوم الصرفة والتطبيقية، السنة 2011، المجلد 19، العدد. 4.

8. السيد نبيل الحسني: الأمن الفكري في نهج البلاغة، دار الكفيل للطباعة والنشر والتوزيع، إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة، ط 1، 2015.

ص: 398

9. الشرهاني، أ.د. حسين علي: منهج أمير المؤمنين (عليه السلام) في معالجة الفساد المالي، مجلة المبين، مجلة فصلية محكمة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، السنة الأولى - العدد الأول، 2016.

10. الصدر، السيد محمد باقر: فلسفتنا، دار التعارف للمطبوعات، بیروت، ط 2، 1998.

11. الصدر، السيد محمد باقر: إقتصادنا، دار للمطبوعات، بیروت، ط 20، 1987.

12. الصدر، السيد محمد باقر: المحاضرة الاولى في الموقع: / https://goo.gl CXULJ2

13. الصغير، أ.د. محمد حسين علي: الإمام علي (عليه السلام) قيادته سيرته.. في ضوء المنهج التحليلي، في الموقع: _ http://www.haydarya.com/maktaba moktasah/05/book_07/main.htm

14. الصفار، حسن: الإمام علي (عليه السلام) ونهج المساواة، على الموقع:

https://goo.gl/6ry Qn4

15. الصفار، حسن: التنمية الإنسانية في عهد الإمام علي عليه السلام، في الموقع: http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/15/book_9301/. html

16. الطائي، أ.د. يوسف حجيم سلطان: نظرية الاستدامة اللانهائية وأبعادها في فكر الإمام علي (عليه السلام) لبناء الدولة المستدامة، مجلة المبين، مجلة فصلية محكمة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، السنة الثانية - العدد الثالث، 2017.

17. العارضي، أحسان: جدلُ الحداثةِ وما بعدَ الحداثةِ في الفكرِ الإسلامي المعاصر، قراءة موجزة في اشكالية العلاقة، مركز الفكر الإسلامي المعاصر، ط 1، 2013.

18. العبادي، نعمة: السياسات الأمنية في مشروع الدولة عند الشهيد الصدر،

ص: 399

مجموعة أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر و الثقافة، العارف للمطبوعات، بيروت لبنان، شباط 2010.

19. العقاد، عباس محمود: عبقرية الإمام علي، المقدمة، دار الكتاب العربي، لبنان، 1967. وكذلك أُنظر الموقع: .http://www.haydarya com/maktaba_moktasah/15/book_207/abqariyat_alimam.pd

20. العمري، د. عبد الحسين عبد الرضا: البعد الاخلاقي واثره في بناء الدولة في فكر محمد باقر الصدر، مجموعة أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر و الثقافة، العارف للمطبوعات، بيروت، لبنان، شباط 2010.

21. الموسوي، د. السيد علي مير ود. السيد صادق حقیقت: مبادىء حقوق الإنسان الإسلام والمذاهب الأخرى، تعريب خليل زامل العصامي، من إصدارات المجمع العلمي العالي للثقافة والفكر الإسلامي، مركز الغدير للدراسات والنشر والتوزيع، ط 2011، 1.

22. بدوي، د. زكي: الإمام علي (كرًم الله وجهه) والتسامح الديني والسياسي، في الموقع: https://goo.gl/fdVMUT

23. بن خلدون: المقدمة، الفصل الرابع، في الموقع: .https: //ar.wilkisource/ org/ wilki

24. حسين، الدكتور طه: الفتنة الكبرى، دار المعارف بمصر، ج1، ص10.

25. وأيضاً في الموقع: /http://www.muhammadanism.org/Arabic book/Taha Husain/grand riot 1.pdf

26. حموده، أ. عبد الوهاب: الآراء الاجتماعّية في نهج البلاغة، في الموقع: //:https goo.gl/JVpHk6

ص: 400

27. دستغيب: التفكر. على الموقع:

https://goo.gl/TvePKF

28. رجب، حمدي محمد ابراهیم: بناء منظومة تعليمية قائمة على التدريب المدمج وقياس فاعليتها في تنمية مهارات صيانة الحاسب الآلي لطلاب مراكز التدريب المهني، رسالة ماجستير، كلية التربية الأولى، جامعة حلوان، 2014.

29. مراد بن علي زريقات: التغير الإجتماعي عند ابن خلدون، ورقة عمل مقدمة الندوة إبن خلدون التي تعقدها الجمعية السعودية لعلم الاجتماع، الرياض 2007. في الموقع:

http://www.murad-zuriekat.com/articles16.html 30. شمس الدين، محمد مهدي: حركة التأريخ عند الإمام علي (عليه السلام)، (دراسة في نهج البلاغة)، بیروت، لبنان، ط 1، 1985.

31. عليان، عدنان الحاج کاظم: الإمام علي بن أبي طالب (کرمه اللهّ وجهه) ودوره في ترسيم معالم الدولة الإسلامية. في الموقع: / http://www.haydarya.com maktaba moktasah/15/book_29/najaf21.html

32. عهد الامام علي (عليه السلام)، الى مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، في الموقع: http://bit.ly/2vKTCF9

33. عمر، د. حسين: مبادئ المعرفة الإقتصادية، منشورات ذات السلاسل، الكويت، ط 1، 1989.

34. عودة، د. محمد: سيادة الدولة ومهامها الوظيفية في فكر السيد محمد باقر الصدر، مجموعة أبحاث المؤتمرين العلميين اللذين عقدهما المنتدى الوطني لأبحاث الفكر و الثقافة، العارف للمطبوعات، بیروت، لبنان، شباط 2010.

30. محمد، د. عبد الرحيم: التغيير ومبرراته وأسباب المقاومة، في الموقع:

//:http dr-ama.com/?p=1451

36. مطهري، أ. مرتضى: في رحاب نهج البلاغة، الدار الاسلامية للطباعة

ص: 401

والنشر والتوزيع، بیروت، 1992.

37. النصر الله، أ. د. جواد کاظم: الإمام علي (عليه السلام) مصدراً من مصادر الفكر الاسلامي، مجلة المبين، السنة الاول، العدد الثاني، 2016.

38. نهج البلاغة، شرح علي محمد علي دخیل، بیروت، 1 - 4، 2011.

39. نواب السيد ابو الحسن: الكرامة الإنسانية، دراسة في طهارة الانسان على ضوء الفقه الاسلامي، قم، نشر أديان، الأول 1389 ش / 1431 ق.

40. هلال، د.علي: عن العلاقة بين الدولة والمجتمع. في الموقع: .

https://goo gl/d3Jgbu

41. وناس، أ.د. زمان عبيد: التنمية الاقتصادية في فكر أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، مجلة المبين، مجلة فصلية محكمة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، السنة الثانية، العدد الثالث، 2017

42. ابن أبي الحديد، عبد الحميد: شرح نهج البلاغة، ج 7 ص 37 الطبعة الأولى / 1987م دار الجيل، بیروت.

43. http://mawdoo3.com/

44. http://www.haydarya.com/maktaba_moktasah/15/fehres1.htm

45. http: //www.org/ habitat3/sustainabledevelopment/ar

ثانياً: مصادر البحث ومراجعه باللغة الانكليزية:

Raymond Wacks; Philosophy 1- of Law a very Oxford short introduction University Press، NY، 2006.

2- Michael Pacione، Urban Geography، a global perspective، NY، 2002.

ص: 402

رعاية الأيتام وبناء أسرهم أثناء الحرب وتجلياتهم الإنسانية في نهج البلاغة

اشارة

الباحثة كفاح الحداد

ص: 403

ص: 404

مدخل

يمثل الايتام شريحة عامة موجودة في كل المجتمعات الغنية والفقيرة والمتطورة والنامية، وهي ايضا احدى الشرائح الهشة في المجتمع والتي يمكن التسلط عليها او سلب حقوقها او ظلمها بسهولة لضعف القدرة الدفاعية عنها كونها تمثل افرادا قاصرين يفتقدون إلى السند الاسري الحقيقي المتمثل في الاب الذي يمثل الامن الاقتصادي والاجتماعي للاسرة، والامر الاخر ان هذه الفئة هي من الشرائح الاجتماعية ذات الاعمار الصغيرة وهي بالتالي شريحة ضعيفة من حيث البناء والقدرة وهي ايضا لم تصل إلى مرحلة الوعي بالاوضاع الاجتماعية بما في ذلك الظواهر السلبية فيه مثل ابتزاز الضعفاء او استغلال الصغار وبتعبير اخر انها شريحة تحتاج إلى الحماية والرعاية والصيانة كونها تمثل أمل المجتمع ومستقبله الاتي وعلى هذا يفترض ان تتوفر لها الأرضية السليمة لنجاح عملية التنشئة الاجتماعية والتي من ضمنها تهيئة مستلزمات عملية التربية المادية والمعنوية مما يكون لها عونا على عبور مرحلة خطيرة ومؤلمة.

ولهذا جاءت التوصيات القرانية والأحاديث النبوية باهمية رعاية الايتام، وذلك كي يعيش اليتيم بامن وامان ريثما يستوي عوده ويشتد ساعده.

من هو اليتيم

اليتم: الانفراد، واليتيم - الصبي أو الولد: فقد أباه قبل البلوغ.. والجمع يتامی وأيتام. فاليتم في اللغة له معاني منها: الانفراد والفقد والانقطاع وكلها معاني تؤثر على وضع اليتيم المادي والمعنوي على حد سواء، وبمعنى آخر فاليتم له أعظم الأثر على نفس اليتيم وبالتالي ينعكس على سلوكه.

ص: 405

المعجم الوسيط(1)

واليتم في الناس: فقدان الصبي أباه قبل البلوغ.

يقول المفضل: أصل اليتم الغفلة، وبه سمي اليتيم يتيماً لانه يتغافل عن بره(2).

اليتيم بالمعنى الاصطلاحي الفقهي

يعرف اليتيم عند الفقهاء بأنه اسم لمن مات أبوه وهو لم يبلغ الحلم، فكل صغير مات أبوه قبل سن البلوغ هو يتيم سواء كان عنده مال ام لا وقد عرَف امير المؤمنين (عليه السلام) اليتيم بقوله (عليه السلام):

عن عليّ عليه السلام عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «لا يُتْم بعد الحلم»(3). على هذا يمكن القول ان اليتيم هو الطفل الذي فقد اباه وهو لم يبلغ سن البلوغ، ويكون سن البلوغ للبنت بعد اكمال تسع سنوات قمرية وللذكر بعد اكمال خمسة عشر عاما قمريا، بمعنى ان اليتيم يكون عمره قبل هذه السن.

ويمكن تقسيم اليتامى إلى نوعين:

1. النوع الاول هم ابناء الشهداء الذين استشهد اباؤهم اما في جبهات القتال كما في حال الحشد الشعبي او نتيجة مقارعة الطواغيت والحكومات الظالمة فقضوا نحبهم على اعواد المشانق او في السجون أو المقابر الجماعية.

2. والنوع الثاني هم الذين مات اباؤهم نتيجة حوادث طبيعية كالمرض او حوادث السيارات وغيره.

ص: 406

اليتيم في القران الكريم

جاء ذكر اليتيم في القران الكريم تارة للتعريف بحقوقه واخرى لتبني الاليات السليمة في التعامل معه.. قال تعالى:

- «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(4).

- «كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ»(5)

- قوله تعالى: «يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ»(6).

- «وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا»(7).

- «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ»(8)

- «أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى * فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ»(9).

- «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا»(10)

والملاحظ ان القران الكريم لم يخاطب اليتيم نفسه انما خاطب المسؤولين عن تربيته والمحيطين به کما خاطب باقي شرائح المجتمع.. كما أن القران الكريم ادان الظواهر الاجتماعية الخاطئة التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي وعمل بها المسلمون الاوائل قبل نزول النصوص الدينية الداعية إلى رعاية اليتيم مثل دع اليتيم ومنع الطعام واكل مال اليتامى ظلما إلى غير ذلك. وكلنا يعلم أن الآيات من سورة الإنسان قد نزلت في اهل بيت العصمة (عليه السلام) في امير المؤمنين وزوجه فاطمة الزهراء وولديه ريحانتي رسول الله (صلى الله عليه وآله) الحسن

ص: 407

والحسين عليهم افضل التحايا والسلام. والملاحظ أن ذکر اليتيم جاء مع ذكر المسكين والاسير وهؤلاء كانوا في ازمة خانقة بسبب الجوع فطرقوا باب الوصي (عليه السلام) و لثلاث ليال متواليات فنزل الذكر الحكيم يعظم هذا العطاء في سورة الدهر، وقد جاء الترادف (مسکینا ويتيما واسيرا) للتعريف بالشرائح الضعيفة في المجتمع ولالفات النظر إلى اهمية برهم واطعامهم كون السورة كلها نزلت في الثناء على آل البيت (عليهم السلام) لما قدموه من ایثار لاطعام هؤلاء الثلاثة رغم انه كلفهم المبيت على الطوي.

اليتيم في السنة النبوية الشريفة

روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) انه قال: من مسح يده على راس یتیم ترحما، کتب الله له بكل شعرة مرت عليه يده حسنة.(11)

- وعنه (صلی الله علیه وآله وسلم) انه قال: (ان في الجنة دار لا يدخلها الا من فرح يتامى المؤمنين)(12).

روي أنّه لما أستشهد جعفر بن أبي طالب، أتی رسول الله (صلى الله عليه وآله) أسماء فقال لها: «أخرجي لي ولد جعفر جعفر فأُخرجوا إليه فضمّهم وشمّهم(13).

عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنّة إذا اتقي الله عزّ وجلّ وأشار بالسبابة والوسطى»(14).

- عن عجلان: قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: من أكل مال اليتيم؟ فقال: «هو كما قال الله: «إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا» - قال هو من غير أن أسأله - من عال يتيماً حتى ينقضي يتمه أو يستغني بنفسه، أوجب الله له الجنة كما أوجب لآكل مال اليتيم النار(15).

- عن سماعة بن مهران قال سمعته (عليه السلام) يقول: «إنّ الله عزّ وجلّ

ص: 408

وعد في مال اليتيم عقوبتين أمّا أحدهما فعقوبة الآخرة النار، وأمّا عقوبة الدنيا فهو قوله عزّ وجلّ «وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا»(16). يعني بذلك ليخش أن أخلفه في ذریّته کما صنع هو بهؤلاء اليتامى(17).

- عن النبي (صلى الله عليه وآله): «من قبض يتيماً من بين مسلمين إلى طعامه وشرابه أدخله الله الجنّة البتة، إلّا أن يعمل ذنباً لا يُغفر»(18).

لماذا الكلام عن اليتامى؟

سؤال يطرح نفسه دوما وربما نجد أنفسنا بحاجة للوقوف عنده:

- بداية تمثل الطفولة اهم واجمل مراحل الحياة وهي تلقي بتبعاتها على كل المسيرة الانسانية فاذا كانت هذه الطفولة معجونة بالحزن والاسى نتيجة غياب احد رکني التربية الاساسية فان الاثار تمتد مع امتداد العمر لان عملية التربية تبدأ مع الطفل حين ولادته وتستمر نتائجها مدى الحياة.

- ان الاهتمام باليتيم يساعد على توجيه النظر إلى هذه الفئة العاجزة عن تامين التزاماتها الحياتية والمالية، فاليتيم لا يستطيع التعبير عن حاجاته او مایرید، و بهذا تعرف لماذا وجه القران الكريم الخطاب لمن هم يحيطون باليتيم وليس إلى اليتيم نفسه.

- ولان اليتيم لا يفهم حقيقة الموت فقد يتصور أن غياب الاب نتيجة لسوء تصرفاته هو كأن يكون قد الح في اامر ما قبل وفاة الاب مما يجعله يشعر بالذنب طوال حياته، ومشكلة اليتامى (خاصة الصغار منهم) انهم لا يفهمون معنی الغياب الابدي.

بعض علماء التربية يجعلون تصنيف الطفل اليتيم ضمن فئة ذوي

ص: 409

الاحتياجات الخاصة والتي تستعمل للاطفال المعاقين اذ يعتبرون غياب الاب او الام اعاقة للعملية التربوية وبالتالي فهؤلاء بحاجة إلى رعاية مكثفة لاعانتهم على التكيف ضمن الأزمة التي يمرون بها.

ان اهم مشکلتان يعاني منها اليتامی هي:

1. افتقادهم لمصدر التوجيه والضبط والقانون المتمثل في سلطة الاب.

2. افتقادهم للامن الغذائي والحماية الاقتصادية باعتبار ان الاب هو مصدر تامين حاجات الاسرة الاقتصادية.

بما يعني ان الاسرة قد تتعرض للفقر والحرمان بسبب غياب الاب وهو ما وجدناه في كثير من الحالات حيث يعتري اسرة اليتيم والارملة الفقر مما يدفع بالاسرة إلى دفع هؤلاء اليتامى إلى سوق العمل منذ الصغر بما يعني انهم اجبروا على الانسلاخ عن طفولتهم ودخول عالم الكبار قبل أن يصلوا إلى السن التي يستطيعوا فيها العمل لعدم اكتمال البناء الجسدي والعقلي والادراكي، وتتعرض الكثير من البنات اليتيمات إلى الزواج القهري ماأن تصل إلى سن البلوغ لعجز اسرتها عن تامين حاجاتها الغذائية والاقتصادية ولهذا اعتبر امير المؤمنين (عليه السلام) (الفقر الموت الاكبر)(19).

3. ووهو القائل لابنه محمد بن الحنفية: يَا بُنَيَّ، إِنِّ أَخَافُ عَلَيْكَ الْفَقْرَ، فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنْه، فَإِنَّه الْفَقْرَ مَنْقَصَةٌ لِلدَّينِ، مَدْهَشَةٌ لِلْعَقْلِ، دَاعِيَةٌ لِلْمَقْت!(20)

4. وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): من ابتلي بالفقر فقد اُبتلي بأربع خصال: بالضعف في يقينه، والنقصان في عقله، وعقله، والرقة في دينه، وقلة الحياء في وجهه.(21)

ص: 410

دور الاب في الاسرة

يمثل الاب مصدر الأمن الاقتصادي والاسري ووجوده يعني الحماية والدفاع عن الاسرة كما انه يمثل القانون والضبط في الأسرة باعتبار ان القوامية مسندة اليه.. ولا ننسى ان الاب هو القدوة الصالحة لاولاده وله دوره في تشكيل الهوية الجنسية للاولاد الذكور کما انه السبب وراء نجاح البنات في الحياة لما يعززه من الشعور بالثقة والقوة والشجاعة عندهن، بالتالي فان غياب الاب يؤدي إلى عدة اثار منها ضعف الثقة بالنفس والتردد والاضطراب السلوكي اضافة إلى الشعور بالنقص وتعزيز الشعور بالحرمان، وكثير من الاطفال يصابون بالاكتئاب حينما يفقدون ابائهم حتى اولئك الذين يشعرون بالفخر في اللحظات الأولى للرحيل كأن يكون الاب مجاهدا بطلا شهيدا لكنهم مع مرور الأيام ينتابهم الاكتئاب. وفي الرواية المنقولة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) مع اليتيم الحزين الباكي لان الاخرين ينعتوه بانه لا أب له بيان لهذا الحرمان فهو يبحث عن التعويض وايجاد البديل.

وفي لقائنا مع الكثير من ایتام شهداء النظام المباد كانت هناك مآسي كثيرة ورغم قدمها الا انها مازالت مؤثرة حتى الان وقد تركت بصماتها على حياتهم الحالية ويعمق احساسهم بالتوتر کلما تعرضوا إلى مفردات حياتهم السابقة رغم مرور عقود من الزمن على غياب الاب.

حتى على صعيد العلاقات الاجتماعية (خاصة عند الذكور) نجد ان هناك ضعفا وتلكؤا في العلاقات الاجتماعية سبه عدم وجود البديل المناسب الذي يساهم في بلورة هذه العلاقات وانضاجها بسبب تعدد البدلاء، ورغم انه في كثير من الاحيان تصبح الام هي الاب ايضا في وقت واحد الا ان تاثير الجدود والاعمام والاخوال والاصدقاء يبدو جليا ما يؤدي إلى حدوث تداخل في العملية التربوية.

ص: 411

ويخطئ من يتصوران حكاية الالم تنتهي حينما يصل الاولاد إلى سنين الرشد.. انهم يبقون مع الذاكرة الاليمة التي عاشوها لطفولة حزينة.. وكثير منهم لطول فترة الالم يصاب بالتوتر على صعيد الوضع النفسي والاجتماعي واحيانا يشعروا بالاهانة لكثرة المسح على رؤسهم وبطونهم خاوية!!؟ بل يشعرون بالذلة والاهانة في مواقف تبقى منحوتة في العقل الباطن.

لكل ماعرضناه يكون الطفل اليتيم هو حالة خاصة في المجتمع ویکون المجتمع مسؤولا عنه من خلال توفير فرص الحياة الكريمة لهم. بمعنى ان اليتم (في حال اهماله) هو عامل من عوامل ایجاد الاعاقة النفسية والاجتماعية اضافة إلى انه يساهم في زيادة نسبة الأسر الفقيرة في المجتمع فباعتبار ان الاب هو المسؤول عن توفير ما تحتاج اليه الاسرة من الشؤون الاقتصادية والمالية فان غيابه قد يدفع الاسرة إلى دفع الاولاد إلى سوق العمل وهم صغار وهذا يعني ضياع فترة الطفولة والدخول إلى عالم الكبار قبل الاستعداد له جسميا ونفسيا وقد يؤدي في كثير من الاحيان إلى ترك الطفل للدراسة وانشغاله باعمال مرهقة قد لا تدر عليه المال الكثير ويبقى يزاول هذه الاعمال حتى الكبر لعدم حصوله على التعليم المهني الكافي. وقد يؤدي حرمان الطفل من الأسرة نتيجة اليتم إلي عدم شعوره بالطمأنینه واحساسه بالوحدة والاغتراب حتى لو كان موجودا في جماعة.

بيد اننا لا ننسى انه حينما تتوفر الارضية المعينة للايتام والتي تلبي احتياجاتهم النفسية والعاطفيه فان هؤلاء الصغار قد يكونوا عظاما وياتي الرسول الاكرم (صلى الله عليه وآله) ليكون النموذج الاسمى لليتيم الذي جعله اليتم يستشعر بالآم الناس قبل بعثته الشريفة وفي الآية الكريمة (الم يجدك يتيما فآوى)(22) بیان لبعض معاناته صلى الله عليه واله وسلم، وهذه الاية تشير إلى أهمية المأوى للايتام

ص: 412

باعتباره احد عوامل الاستقرار والشعور بالكرامة.

الموت في عيون الصغار

واحدة من اسباب معاناة اليتامی هو فهمهم وتفسيرهم لغياب الاب.. وفي احايين كثيرة تلجأ الأم إلى الكذب المستمر وتقول ان اباك سافر.. ويبقى الطفل ينتظر وينتظر مع شعوره المتزايد بالامتعاض الشديد.. اذ كيف ترکه الاب دون أن يخبره؟ ولماذا غاب طويلا؟ انه يفسر ذلك على ان الاب هجره (بارادته) فهو اذا لا يحبه!!.. ولذلك تشجع التوصيات الحديثة على ضرورة أعلام الأطفال بموت الاب مباشرة بعد الوفاة وان كان الأمر قاسيا لهم. كما في الرواية عن القطب الراوندي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«إن خديجة لما توفيت جعلت فاطمة تلوذ برسول الله (صلى الله عليه وآله) وتدور حوله وتسأله: يا أبتاه أين أمي؟ فجعل النبي (صلى الله عليه وآله) لا يجيبها، فجعلت تدور وتسأله: يا أبتاه أين أمي؟ ورسول الله لا يدري مايقول فنزل جبرائیل (عليه السلام) فقال: إن ربك يأمرك أن تقرأ على فاطمة السلام وتقول لها: إن أمك في بيت من قصب كعابه من ذهب، وعمده یاقوت أحمر، بين آسية امرأة فرعون و مریم بنت عمران، فقالت فاطمة: إن الله هو السلام ومنه السلام و إليه السلام».(23)

هذه الرواية تبين لنا كيفية اعلام اليتيم بالخبر المؤلم، انه (صلى الله عليه وآله) اخبر ابنته ان امها رحلت إلى الابد ولكنه اعطى صورة جميلة للمكان الذي انتقلت اليه انه في بيت من قصب كعابه من ذهب، فالطفل يتصور الصورة الجديدة ومن المؤكد انها اجمل كثيرا عما كانت عليه حينها كانت في الدنيا فيقل الالم.

ص: 413

يطالع الاولاد صورة الموت في ما يشهدونه من احداث مثل موت طائر او موت الجد الكبير في السن او موت احد المعارف.. لكنهم لا يفهمون المعنى الاصلي اله خاصة اذا كانوا في عمر قبل السادسة ولهذا يكون اليتم اشد قسوة على الايتام الصغار لضعف الادراك عندهم.

وكما ذكرنا سابقا أن الطفل الصغير لا يفهم معنی (رحل إلى الابد) فكلمة الابد لم يستوعبها عقله الصغير بعد بل انه مازال قاصرا عن فهم ابعاد الزمان والمكان.

وتلعب شخصية الأم دورا كبيرا في ايصال المفهوم الصحيح للموت وآلية التعامل السليم معه وهذا هو العامل الرئيسي المؤثر على حالة التاقلم عندهم.

ولأن الموت حدث مفاجيء في اغلب الاحايين فان كثيرا من الامهات ينشغلن بامور الحداد والعزاء ولا يجدن الوقت الكافي للحديث مع الابناء عن رحيل الاب وهذا مايضاعف من حدة الازمة.. ولا ننسى ان الام هي ايضا بحاجة إلى رعاية نفسية واجتماعية ولكن للاسف يهمل هذا الجانب في مجتمعاتنا خاصة عند الامهات الصغيرات، وربما يساهم وجود طرف اخر کالجد والعم والخال والاخ الكبير في تخفيف الشعور بالازمة بالنسبة للاطفال.. كما ان ظروف الموت هي ايضا مؤثرة على الأولاد الان شهداء الحشد الشعبي ترعاهم المرجعية والمجتمع وظروف التشييع مما يجعل الابناء في وضع متوازن احسن بكثير من ابناء شهداء النظام المباد الذين لم يحظوا با جساد تدفن في قبور وعاشوا في اجواء ظاغطة كاتمة تمنع حتى من تفريغ الحزن بالبكاء.

يفسر الاطفال الفقدان بما يخسروه يقول الاطفال حينما يرحل الاباء من يشتري لي الشي الفلاني.. من يعلمني الدرس.. من ياخذني إلى مدينة الالعاب.. ثم انهم يربطون السبب بالنتيجة فاذا استشهد في الموصل فكل من يذهب إلى

ص: 414

الموصل يستشهد واذا مات في الجامعة فكل من في الجامعة يموت.. تختفي كل هذه التصورات حينما يدخل الابناء المدرسة ويرتقوا في العلم والتعلم، وهو بهذا التفكر بحاجة إلى مراعاة لمشاعرهم وتعزيز الشعور بالامان عندهم، ولهذا كانت رعاية اليتيم مؤثرة بشكل كبير قبل وصوله إلى سن البلوغ لانها تنتشله من مشکلات الطفولة وتساهم في تخليصه من العقد النفسية.

على هذا فالمطلوب أن نبين لهم الحقيقة ان الاب مات ولن يعود ابدا واذا كان شهيدا فالاولى ان يفتخر الابناء بانه بطل شجاع عظیم قاتل من اجل الوطن والدين فهذه تخفف من حدة الحزن والاسى.. وربما يكثر الأطفال الصغار من طرح الأسئلة فلنحذر من الخوض في تفاصيل متعبة لعقولهم الصغيرة كما انه ليس من الصحيح ان نتركهم بلا اجوبة ولو مختصرة.

ولعل من اقسى العقد التي تمر باليتامى قبل سن المدرسة خاصة واحيانا تمتد لما بعدها هو الشعور بالذنب خاصة اذا كان الطفل في لقائه الأخير قد سبب مشاكسات او توتر معين کان قام بضرب اخته الصغيرة فصاح الاب في وجهه وخرج ولم يعد!!.. يبقى الصغير يشعر انه هو سبب الوفاة وان الاب هجره لسلوكه الخاطيء واحيانا تذكَر الام الطفل بما قام به في اللقاءات الاخيرة فيصبح الطفل اکثر اكتئابا واكثر شعورا بالوحدة والانعزال وكل ذلك يترك اثره على الاداء الدراسي فيصاب بالخلل وعدم القدرة على التركيز.. ولا ننسى انه قد تظهر اثار جسدية لليتم المفاجيء مثل التبول اللاارادي والاستيقاظ فزعا من النوم والاصرار على رؤية الاب کما في ما يذكره التاريخ لنا من اصرار السيدة رقية بنت الحسين عليهما السلام على رؤية اباها ولو كان راسه في الطشت!! .. ان الاثر النفسي لليتم يبدا اولا من الصدمة في تلقي الحدث ثم محاولة تفسيره ثم التكيف مع الحدث

ص: 415

والذي يتماشى طرديا مع الاجواء المحيطة ومقدار الرعاية وتوفر البديل المناسب اللاب إلى غير ذلك. فالمطلوب اذا اخراج اليتامى من الصدمة الاولية لموت الاب والاثار والتبعات المتعلقة بها.

ويلعب الاشباع العاطفي دورا كبيرا في توفير الحاجات النفسية للاطفال واهمها الحاجة إلى الحب والحاجة إلى الأمان والحاجة إلى الشعور بتقدير الذات والتفاؤل بالمستقبل إلى غير ذلك.

وفي كثير من الاحيان يتم التعامل مع اليتيم باسلوب الحماية الزائدة والذي هو احد الاساليب الخاطئة في التربية والذي يؤدي إلى انتاج نماذج غير متوازنة للشخصية وفي أحايين كثيرة لا تتبنى المؤسسات المعنية بالیتامی اعدادهم مستقبليا ومنحهم التاهيل المهني فكيف سيكون حال اليتيم اذا انقطع عنه فجأة الطعام والغذاء والماوی؟ انه يصبح فريسة سهلة لاعداء البشر من الذين يستهدفون هذه الشرائح الضعيفة لابتزازهم ودفعهم نحو الانحراف.. وقد ادركت العتبات المقدسة هذا الخلل التربوي فقامت بتاهيل اليتامى للعمل وتوفير الأجواء المناسبة هم حتى بعد سن الرشد.

اليتامى وقت الحروب

تعتبر الحروب واحدة من أقسى الكوارث التي تمر بها الأمم والشعوب وتترك اثارها على الانسان والارض والحيوان والكون كله، كما انما من عوامل تدمير النسيج الاجتماعي من خلال التشرد والنزوح و فقدان بعض افراد الاسرة بالموت او الاسر. وبما ان الاسرة هي الكيان الاجتماعي الأول في المجتمع فان عوامل التفكك والتهديم تطال الأسرة في الحروب مما يؤدي إلى اضرار نفسية واجتماعية اضافة إلى الاضرار المادية وغالبا ما تكون التداعيات اخطر على الشرائح الهشة في

ص: 416

المجتمع والتي من ضمنها الاطفال والنساء وكبار السن وتكون الاضرار على الطفولة قاسية إلى أمد بعيد باعتبار ان مرحلة الطفولة هي مرحلة بناء الشخصية واكتساب الطفل للقيم الاجتماعية السليمة والصحيحة.. فالحرب تعني تدمير المدارس والمستشفيات مما يعني غياب التعليم والرعاية الصحية والحرب تعني زيادة عدد الاطفال اليتامى والمشردون والمعاقون، وفي إحصاءات اليونيسيف إن حروب العالم قتلت مليون طفل ويتمت مثلهم، وأصابت 5، 4 مليون بالإعاقة، وشردت 12 مليون وعرَّضت 10 ملايين للاكتئاب والصدمات النفسية، الجزء الأكبر من هذه الأرقام يقع في بلدان العرب والمسلمين مع الأسف!!.

وبشكل عام تؤدي الحروب إلى اصابة الاطفال بالصدمات النفسية والخوف والشعور بالإحباط والياس اضافة إلى ان الاحداث المؤلمة تبقى في ذاكرتهم على مر الزمن، وان اثار الحروب على الاطفال قد لا تظهر كلها وقت الحرب لانشغال الناس بها لكنها تطفو على المشهد الساخن حينما تضع الحرب اوزارها كما هو في الرواية التي سنذكرها عن أمير المؤمنين (عليه السلام) والمراة التي فقدت زوجها في معركة صفين اي بعد انتهاء المعركة.

ولا ننسى ان الحرب ومعارك التحرير قد تطال بعض اضرارها المدنيين من غير المقاتلين کما حصل في تحرير الموصل حيث احتجزت عصابات داعش المدنيين وجعلتهم دروعا بشرية ومنعتهم من الذهاب نحو القوات الامنية وقوات الحشد الشعبي بل انها قامت بقتل الكثير من الذين فكروا بالنزوح او اللجوء إلى الطرف العراقي مما أدى إلى زيادة اعداد اليتامی.

وفي حالة وقوع الحرب او حصول التداعيات الأمنية كالانفجارات التي حصلت لزوار الامام الحسين (عليه السلام) في كربلاء والكاظمية المقدسة

ص: 417

يبحث الاطفال عن الاب الذي يكون مصدر الحماية والرعاية والدعم النفسي والذي يقدم لهم التفسير السليم لما يحدث، فغيابه يشكل الما جديدا ربا يفوق الالم الذي احدثته الحرب نفسها اذ يغيب عمود الامن الاسري الذي يمكنه من انتشال الاطفال من تداعيات الحرب القاسية وفي أحايين كثيرة فان امتدادات الحرب تحول دون الوصول إلى عملية توافق نفسي واجتماعي مع الحدث مما يعني استمرار الازمة وتداعياتها.

ولا يخفى على احد ان اعداد الیتامی تتزايد وقت الحروب وفي النموذج العراقي من خلال الحرب ضد داعش ارتفعت نسبة الايتام وذلك لان اغلب المقاتلين في الحشد الشعبي كانوا شبابا في ربيع العمر وتركوا اطفالا صغارا، اضافة إلى الاطفال الذين اصبحوا يتامى بسبب ظروف الحرب من المدنيين او المحاصرين في المدن، وقد نقل التلفزيون العراقي مشاهد مروعة لما جرى في حرب تحرير الموصل اذ وجدوا اطفالا يتامی بقوا بمفردهم يبكون في البيوت بعد أن قتل الاباء، وفي الحرب العراقية الايرانية عثر الحرس الثوري على اطفال صغار تحت الأنقاض وكانوا يجهلون حتی اسماء ابائهم وقد سلموا كثيرا من هؤلاء الأطفال اليتامی إلى اسر تقوم برعايتهم مقابل مخصصات من الدولة ولكن باسماء جديدة!!.. ولا ننسى ان الحرب وكذلك الحوادث والانفجارات قد تؤدي إلى يتامى فاقدين لكلا الابوين وهنا تكون المصيبة اقسى واكثر الما اذ تزداد معاناة الاطفال وقد تؤدي إلى شعورهم بالاكتئاب الدائم او الاغتراب.. ولا ننسى أن الرسول (صلى الله عليه وآله) عاش يتيما من طرف ابيه فقط وكانت امه معه إلى ست سنوات اضافة إلى كفالة جده وعمه.. ومما يزيد من مرارة حال اليتيم هو الامية التربوية التي تعيشها مجتمعاتنا تجاه المفاهيم التربوية بشكل عام وتجاه الأسس التربوية في التعامل مع

ص: 418

اليتيم مما يزيد الطين بلة، فاليتيم في مجتمعاتنا يتكفله الاعمام والاخوال لیکون خادما لاولادهم وينعت بنعوت غير مناسبة ويستولي على امواله إلى غير ذلك من الاخطاء التربوية التي تجد لها رواجا في مجتمعات لا تهتم باصول التربية السليمة.

وفي وقت الحروب تزداد الحاجة إلى رعاية الأيتام وذلك لاسباب منها:

1. بما ان الكثير من الأولادهم من ایتام المقاتلين وخاصة مقاتلي الحشد الشعبي والجيش فان الحق الأول للشهداء المقاتلين هو رعاية اسرهم وابناؤهم.

2. ان الاهتمام بالايتام يجعل المقاتلين يندفعون للقتال وهم على اطمئنان کامل علي مصير ابناؤهم واسرهم وان هناك يد ترعاهم.

3. وهذا يعزز لدى المقاتل نفسه الشعور بقدسية الاهداف التي يقاتل من اجلها.

ولا ننسى أن الاهتمام باليتامى يساهم في التاثير على الراي العام وتهذیب ميولهم وتعديل اتجاهاتهم، ولهذا نرى انه يساء استغلال شريحة اليتامى من اجل الحصول على مكاسب سياسية أو غيره، وهو ايضا استغلال هذه الارواح البريئة في تحصیل منافع ذاتية ولعله اقذر استثمار.

ومن شروط الصلح مع معاوية الذي عقده الامام الحسن (عليه السلام) بنداً جاء فيه «وان يفرق في أولاد من قتل مع امير المؤمنين يوم الجمل واولاد من قتل معه بصفين الف الف درهم(14)

اليتيم في السيرة العلوية المباركة

- ومن عهده عليه السلام لمالك الأشتر لمّا ولّاه مصر قال: «و تعهّد أهل اليتم وذوي الرقّة في السن ممن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه(25).

ص: 419

- و من وصية له (عليه السلام) للحسن و الحسين (عليه السلام) لما ضربه ابن ملجم لعنه الله: اَلله اَلله فِی اَلْأَیْتَامِ فَلَا تُغِبُّوا أَفْوَاهَهُمْ وَ لاَ یَضِیعُوا بِحَضْرَتِکُمْ(26).((27))

- ويقول ايضا (عليه السلام): انا ابو اليتامى والمساكين(28).

- ويقول ايضا: بروا ایتامكم وواسوا فقرائكم(29).

- عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال: «من ظلم يتيماً عقّ أولاده(30).

- ويقول (عليه السلام): «من اوى اليتيم ورحم الضعيف وادی امانته جعله الله في نوره الاعظم يوم القيامة(31)

- ويوصي (عليه السلام) الحسنين (عليه السلام) بقوله: اوصيكما بتقوى الله... وارحما اليتيم واغيثا الملهوف(32)

- ويقول (عليه السلام) لاحد الولاة «فلما أمكنتك الشدة في خيانة الأمة، اسرعت الكرة وعاجلت الوثبة واختطفت ما قدرت عليه من أموالهم المصونة لاراملهم و ایتامهم(33)

- ويقول (عليه السلام) ایضا: بئس القوت اكل مال اليتيم(34)

- يروي الكاتب المسيحي جورج جرداق القصة التالية عن مناقب أمير المؤمنين علي عليه السلام ويقول معلقاً: وأنا أكتب هذه القصة عن محبة علي عليه السلام وحنوه على الأطفال والأيتام انهمرت عيناي بالدموع، فابتلت الأوراق التي بين يدي وتبلل ما کنت كتبته... والقصة كما يلي:

ذات ليلة جاء علي عليه السلام بالطعام إلى أسرة فقدت معيلها وفيها أيتام، فوجد بين الأيتام طفلاً لا يهدأ، فسأله الإمام عليه السلام عن سبب ذلك. فقال الطفل: إن الأطفال يقولون لي أن لا أب لك.

ص: 420

فقال له الإمام عليه السلام: قل لهم إن علياً هو أبي.

وهذه شهادة واضحة

- وينسب للإمام علي قوله:

ما إن تأوهت من شيء رزئت به *** كما تأوهت للأيتام في الصغر

- عن زيد بن اسلم: كنت مع على عليه السلام امشي فانتهينا الا امرأة توقد تحت قدر لها فيه ماء وأولادها يبكون، فقال علي عليه السلام: ما شانهم يبكون؟ فقالت: هم ايتام وليس عندهم ما اطعمهم فافعل هذا وهم يظنون انه طبيخ حتى يناموا.

قال: فقال لي: مر بنا إلى دار الدقيق فانتهينا اليه، فقال: اشلل علي، قلت: احمل عنك، فقال من يحمل ذنوبي يوم القيامة؟ فحملها علي عليه السلام وقال: شانك والشحم، قال: فو الله لقد رايته ينفخ تحت القدر وان لحيته لفي الرماد حتى طبخ، ثم قال للمرأة: شانك والصبية.

فقلت: نخرج؟ قال علي عليه السلام: لا ابرح حتى اسمع ضحكهم كما سمعت بكاءهم.

قال: فشبع الصبية فلهوا وضحكوا، ثم انصرف علي عليه السلام.

- عن حبيب بن أبي ثابت أنّه قال: «جيء بمقدار من العسل إلى بيت المال، فأمر الإمام عليّ عليه السلام بإحضار الأيتام، وفي الحين الذي كان يقسم العسل على المستحقين كان بنفسه يطعم الأيتام من العسل، فقيل له يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال: إنّ الإمام أبو اليتامى وإنّما ألعقتهم هذا برعاية الآباء(35).

ص: 421

لماذا اهتم امير المؤمنين (عليه السلام) برعاية الايتام

احدى المعالم الواضحة في مدرسة اهل البيت (عليه السلام) هي رعاية اليتيم والاهتمام به وقد لقب امير المؤمنين (عليه السلام) بانه ابو الايتام لاهتمامه بهذه الشريحة ورعايته لهم بشكل واضح وصريح ولهذه الرعاية الخاصة عوامل عدة منها:

1. انه في زمن الجاهلية لم تكن هناك أي رعاية للايتام بل كانت حقوقهم ضائعة فكان سلوك الامام (عليه السلام) مع الايتام حتى قبل توليه السلطة هو للتعريف بموقع ومكانة واهمية رعاية اليتيم في الاسلام وبذلك كان للامام (علیه السلام) دور كبير في ازاحة الاساليب الخاطئة والظالمة في التعامل مع اليتيم.

2. لا ننسى ان رعاية الايتام هي صورة حاضرة في كل سيرة اهل البيت (عليه السلام) وهي في نفس الوقت صورة غائبة عن كل الخلفاء الذين حكموا سواء ماقبل الدولة الاموية اوما بعدها. وقد كان لرعايتهم (عليه السلام) لهؤلاء الايتام اثر كبير في نشر الفكر القويم لمدرسة اهل البيت (عليه السلام) وتاييد لواقعيتها واهتمامها باحوال المجتمع.

3. ان رعاية اليتامى تساهم في التعريف بمسؤولية الافراد والمجتمع والدولة تجاه اليتيم ليس كفرد بل كشريحة موجودة في المجتمع تحتاج إلى حماية ورعاية.

4. وتساهم رعاية الايتام في التعريف بحقوق الطبقة الهشة في المجتمع وذلك له اثر كبير في حماية حقوقهم ومصالحهم واصلاح الظروف المحيطة بهم واصلاح حالهم وتنمية مواهبهم.

5. ولتوجيه الاهتمام بتربية الاجيال الصالحة ضمن الافراد الذين يعيشون في اسر غير كاملة حيث يغيب احد الابوين او كلاهما مما يستوجب وجود البدلاء.

ص: 422

6. کما ان رعاية المسلمين للايتام يسد ابواب الانحراف عنهم وذلك لانه يقطع الطريق امام الانتهازيين والطامعين والمنحرفين والضالين الذين يستغلون الطبقات الضعيفة لمصالحهم الخاصة.

7. واخيرا فان الامام (عليه السلام) هو الصورة العليا للانسان الكامل العابد المجاهد وكأنه (عليه السلام) من خلال رعايته للايتام اراد ان يفعَل النموذج الاسلامي بان الاسلام ليس دين عبادة وصلاة فقط بل ان المسلم الحقيقي هو الذي يتفاعل مع قضايا المجتمع والامه ويعيش همومه.

ولا ننسى أنه حين يقوم أصحاب أعلى منصب حكومي برعاية اليتامى فإن الآثار الاجتماعية تکون أوسع من حيث تفعيل صورة القدوة الحسنة وأهمية التجرد عن الذات والنرجسية والانانية والاهتمام بالمجتمع وتفعيل مبدأ التكافل الاجتماعي.

الخطوط العشرة في رعاية الايتام عند أمير المؤمنين (عليه السلام)

1 - تحديد العمر

عن امير المؤمنين علي عليه السلام عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) أنه قال: «لا يُتْم بعد الحلم(36). أي أنه (عليه السلام) حصر اليتم بمرحلة الطفولة الاولى إلى الطفولة الثانية وقبل الوصول إلى سن البلوغ حيث تعتبر هذه اهم مرحلة من عمر الانسان لما لها من دور تاسيسي في بناء شخصية الطفل وتنمية الضمير والتوجيه نحو القيم السليمة وهي ايضا مرحلة العجز اذ لا يقدر الطفل على المطالبة بحقوقه ويتعرض لاستغلال الآخرين لانه ضعيف ولا يمتلك القدرة البدنية والعقلية والقانونية. وتحرص الدول على توفير كافة مستلزمات النمو

ص: 423

للاطفال في هذه المرحلة لما تتركه من اثار على حياتهم المستقبلية وعلى مدى احساسهم بالسعادة والهدفية. وفي الحديث عن امير المؤمنين (عليه السلام): يُرخي الصبي سبعا ويؤدب سبعا(37).

ويقول الامام الصادق (عليه السلام): احمل صبيك حتى ياتي على ست سنين، ثم ادبه في الكتاب ست سنين، ثم ضمه اليك سبع سنين فادبه بادبك، فان قبل وصلح والا فخل عنه(38).

فالمطلوب تكثيف العناية باليتامى في هذه المرحلة وبعدها اي في مرحلة المراهقة الاولى والتي تبدا تقريبا من سن عش سنوات يصبح الطفل اكثر وعيا وادراكا لمفاهيم الحياة واكثر قدرة على الدفاع الاولي عن نفسه والاستعانة بالاخرين، وفي بعض الدول تستمر رعاية الايتام إلى سن ال 18 وهو سن الرشد العالمي، وفي ایران تستمر رعاية ايتام الشهداء إلى حين موتهم اذ تقوم الدولة بتوفير الخدمات الصحية والعلاجية والتعليمية لهؤلاء واذا ماتوفي احد منهم لسبب ما فانه بالاضافة إلى منحه دفتر التامين الصحي الذي يساعد في تخفيض الاجور الصحية وتوفير المكان الصحي في مستشفيات جيدة فانه يعطى له قبرا خاصا في مقبرة الشهداء وهذا تكريم جميل له، وتشمل مؤسسة العين التابعة للمرجعية الطلبة المتفوقين بعناية خاصة حيث تتبنى تقديم الاعانة المالية لهم حتى حصولهم على شهادة الدكتوراه، ومن المشاريع التي تقوم بها بعض المراكز على سبيل المثال هو تزويج اليتامى فيما بينهم خاصة الذين لا يجدون سكنا بعد مغادرتهم دور الرعاية فعلى هذا يجب ان نفرق بين تحديد سن اليتم وبين الرعاية لهم وبين الاهتمام بهم کاحدى شرائح المجتمع ولعل المراد من تحديد عمر اليتيم ان متطلبات رعاية اليتيم كاسباغ الحب والحنان وتوفير الحاجات الاساسية لمعيشته تكون مطلوبة تحت

ص: 424

عنوان رعاية اليتيم ولكن بعدها يصبح الاولاد ضمن شرائح المجتمع المستضعفة التي تحتاج إلى رعاية مستمرة إلى حين النضج ضمن مبدأ التكافل الاجتماعي.

2 - بيان حالهم والتعريف بانكسارهم:

(ومن عهده عليه السلام لمالك الأشتر لمّا ولّاه مصر قال: «وتعهّد أهل اليتم وذوي الرقّة في السن ممّن لا حيلة له ولا ينصب للمسألة نفسه

وهذا تعريف بوضعهم العام انهم لاحيلة لهم في شيء بل انهم لا يقدرون على شيء لانهم صغار وهذه مأساة اليتيم انه طفل صغير غير قادر على المطالبة بحقوقه او تحصيلها وهو بحاجة إلى المحامي والمدافع عنه وليس هناك افضل من القائمين على شؤون الدولة في ان يقوموا بمراعاتهم وانصافهم وتوفير فرص الحياة الطيبة لهم فالاهتمام بالطفولة هو اهتمام بتنمية الموارد البشرية المستقبلية للبلد وهنا يكون ما جاء في عهده لمالك الاشتر بمثابة امر رئاسي إلى احد ولاته بضرورة الاهتمام بهذه الشريحة وهو ايضا توجيه النظر إلى ضرورة رعاية الايتام.

لقد كان الإمام علي (عليه السلام) يحمل قلقاً وهمًّا بالنسبة للايتام في المناطق البعيدة عن مركز خلافته ولهذا كان يعزز في وصاياه لولاته اهمية الاهتمام بالشرائح الفقيرة، يقول (ولَوْ شِئْتُ لاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَی مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ، ولُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ، ونَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ، ولَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ، ويَقُودَنِ جَشَعِي إِلَ تَخَیُّرِ الأطْعِمَةِ ولَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَمَةِ مَنْ لا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ، ولا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ)(39).

فهذه التوصيات هي دعوة خالدة إلى الاعتناء باليتامى ومدارا تهم والرفق بهم.

3 - اكرامهم

ص: 425

كرم الله تعالى الجنس البشري بقوله عز وجل: «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(40).

و قال (صلى الله عليه وآله): اكرموا اولادكم وأحسنو ادبهم، يُغفر لكم.(41)

وقال علي موصياً كميل بن زیاد «ره»: يا كميل مُر أهلك أن يروحوا في كسب المكارم(42)

وقال (عليه السلام): فمن أخذ بالتقوى غربت عنه الشدائد بعد دنوها، وهطلت عليه الكرامة بعد قحوطها»(43)

بل ان امير المؤمنين ليدافع عن النصراني حينما سلبت كرامته والقي في قارعة الطريق ففي الرواية: كان الإمام (عليه السلام) في شوارع الكوفة.. فمر بشخص يتكفف وهو شيخ كبير السن، فوقف (عليه السلام) متعجباً وقال (عليه الصلاة والسلام): ما هذا؟ ولم يقل من هذا، و(ما) لما لا يعقل، و(من) لمن يعقل، أي انه (عليه السلام) رأى شيئاً عجيباً يستحق أن يتعجب منه، فقال أي شيء هذا؟

قالوا: يا أمير المؤمنين إنه نصراني قد كبر وعجز ويتكفّف.

فقال الإمام (عليه السلام): ما أنصفتموه.. استعملتموه حتى إذا كبر وعجز تركتموه، اجروا له من بيت المال راتباً(44).

وكل انسان بحاجة إلى تعزيز الشعور بالكرامة عنده فكيف اذا كان طفلا محروما من كان يكسبه هذه الكرامة بشكلها الواسع لو كان حيا!!.. فالاب لانه يمثل الامن والقوة والحماية يعتبر احد مصادر الشعور بالكرامة لدى الابناء ولهذا يتفاخر الابناء بابائهم بل يتسابقون في اسباغ كل الصفات الكمالية عليهم

ص: 426

خلال سعة الخيال التي يملكوها. ان الطفل اذا ماشعر انه انسان مكرم محترم فانه يعتز بنفسه واسرته ودينه ويكون ذلك سبباً لخلاصه من عقد كثيرة اهمها عقدة الحقارة والشعور بالنقص.

ومن صور اكرام اليتيم في القرآن هو تاكيد القرآن الكريم على اهمية رعاية الايتام وخاطب في ذلك عموم البشر ولم يطلب من اليتيم شيئا!! وفي سيرة الامير (عليه السلام) مايؤكد هذا التكريم فهو (عليه السلام) يرسل إلى مالك الاشتر امرا رئاسيا باهمية متابعة شؤون اليتامى كما انه رغم ماهو عليه من المكانة العظمى يلاعبهم ويلاطفهم ويقوم باطعامهم، كما انه يوصي بهم في اللحظات الاخيرة من عمره كما يوصي بالصلاة والقرآن !!.

عن حبيب بن أبي ثابت أنه قال: جيئ بمقدار من العسل إلى بيت المال، فأمر الامام علي عليه السلام بإحضار الأيتام، وفي الحين الذي كان يقسم العسل على المستحقين كان بنفسه يطعم الأيتام من العسل، فقيل له يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال: إن الامام أبو اليتامى وإنها ألعقتهم هذا برعاية الآباء(45).

وقد اشرنا في النقطة الاولى حول تحديد عمر اليتيم إلى جوانب من التكريم ولا ننسى ان ايتام الشهداء يكونوا بحاجة إلى تعزيز الشعور بالكرامة عندهم من خلال بيان منزلة ابائهم وبأنهم شهداء وبأنهم ضحوا من اجل المباديء السامية، وفي الرواية: نظر علي عليه السلام إلى امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها، وسألها عن حالها، فقالت: بعث عليّ بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل، وترك عليّ صبياناً يتامى، وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس.

فانصرف وبات ليلته قلقاً، فلا أصبح، حمل زنبيلاً فيه طعام، فقال بعضهم:

ص: 427

أعطني أحمله عنك.

فقال: من يحمل وزري عنيّ يوم القيامة؟.

ونرى اهتمام الامام (عليه السلام) بحال المراة وايتامها بعد ما علم ان ابوهم استشهد في مامورية بعثه بها.

4 - العدالة مع الاطفال الآخرين

العدل مطلوب في كل جوانب الحياة وهو واحد من اهم اصول ومباني التربية الناجحة وفي الحديث: نظر رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى رجل له ابنان فقبل احدهما وترك الآخر فقال له النبي (صلى الله عليه وآله): فهّلا ساويت بينهما(46).

وعن (صلى الله عليه وآله): اعدلوا بين ابنائكم كما تحبون ان يعدلوا بينكم في البر واللطف(47).

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: «أدّب اليتيم ممّا تؤدّب منه ولدك واضربه مما تضرب منه ولدك(48)

ما اروعها من كلمةّ!!.. فرعاية اليتيم تحتاج إلى شعور ابوي سليم نحوه ولابد من مراعاة العدالة خاصة اذا كان هناك اطفال اخرون في البيت، فالجميع بانتظار التعامل السليم من المربي مع الجميع. فهذه البراعم الغضة تواقة إلى العدالة كي تنشا التنشئة الاجتماعية السليمة ويكسر قلوبها غياب العدل وتبقى اثار ذلك مدى الحياة!!.

ينقل احدهم كان عمي هو كفيلنا وكان يشتري في العيد ملابس لاولاده ولا يشتري لنا!! قالها وعمره ستون عاما ولنا ان نقدر الالم النفسي الذي عاشه طوال عقود من الزمن.

ص: 428

واخر يقول: كان عمي هو كفيلنا وكان يجبرنا على الذهاب إلى الدكان عند الصباح الباكر واولاده نيام!!.

وتقول يتيمة: كان جدي كفيلنا فلما مات امرنا عمنا بمغادرة البيت لاننا لا نستحق ارثا ولم ندري اين نذهب!!

ان غياب العدالة في التعامل يؤدي إلى الشعور بالغبن وبقتامة الحياة وغياب روح التفاؤل، اذ يشعر اليتيم بان الحياة كلها ظلم حينما مات ابوه وحينما تعاملوا معه بتلك الصور المؤلمة ولعل اهم شيء نحتاجه في التعامل مع اليتيم هو زرع روح الامل وبيان ان الدنيا فيها ابتلاءلات وفيها اشراقات كي يتخلص من الصورة السوداوية التي عشعشت في مخيلته.

وهناك اساليب خاطئة في التعامل مع الايتام (وغيرهم) منها الحاية الزائدة له وتدليله بشكل تذوب فيه شخصيته الانسانية حيث يصبح معتمدا اعتمادا كليا على الآخرين كما تضعف عنده القدرة على تحمل المسؤولية وانخفاض ثقته بنفسه ومن الاساليب الخاطئة الاخرى هو تحميله مالا طاقة له بها والقاء المهام عليه مع اعفاء ابناء الكفيل من هذه المهام مما يولد عنده الشعور بالظلم والتعاسة او التفريق في التعامل بينه وبين اطفال الشخص الراعي

کما ان التذبذب في المعاملة يربك الاطفال، وهناك اسلوب خاطيء اخر هو المن على الطفل اليتيم فالكفيل يكرر دائما بانه يرعاه ناسيا وان هذا العمل مرهق له وبانه لو لم يكفله لكان خيرا له!!.. ولا ادري هل الايتام بحاجة إلى رعايتنا كي يكبروا بصحة ام انا نحن الذين بحاجة إلى زيادة روافد البر كي ناخذ اجورنا في الحياة الاخروية وهو اشد مانحن بحاجة اليه كما قال عليّ عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من عمال يتيماً حتّى

ص: 429

يستغني، أوجب الله عزّ وجلّ له بذلك الجنّة كما أوجب لأكل مال اليتيم النار»((49)).

ان الطفل الصغير يخزن الكلمات التي يسمعها بل انها تعيش معه طوال حياته، و قد رايت طفلا يتيما ذي خمس سنوات يقبل قدمي المربي لتهديده المستمر له بانه يطرده من البيت!!. نحتاج إلى تعلم اللطف والرحمة في التعامل مع الصغار كي يكون هناك خط واضح في التربية دون محاباة ودون انحراف ومن خلال تطبيق العدالة يتضح لنا صدق الكفيل لليتامى بانه یروم الخير لهم ويحرص عليهم.

5 - توفير الحاجات النفسية والعاطفية والفسيولوجية

الحاجة هي حالة من النقص والعوز والافتقار واختلال التوازن تقترن بنوع من التوتر والضيق لا يلبث ان يزول متى قضيت الحاجة وزال النقص سواء اكان النقص ماديا او معنويا، فالفرد يكون في حاجة إلى الطعام متى اعوز جسمه الطعام وفي حاجة إلى الامن متى احتواه الخوف وافتقر إلى الامن(50).

وکما هو معلوم فان الحاجات الفسيولوجية ترتبط بتوفير الطعام والملبس وغيره في حين ان الحاجات النفسية والعاطفية تتمثل في الحاجة إلى الامن والحب والتقدير والشعور بالانتماء واللعب والحاجة إلى المعرفة والحاجة إلى اكتساب مهارات الحياة اليومية والحاجة إلى اكتساب القيم الدينية والأخلاقية للجماعة وغير ذلك.

ص: 430

والطفل اليتيم يعاني من تخلخل في اشباع هذه الحاجات بسبب غياب الاب وهذا يعني الحاجة إلى توفيرها عند المهتمين برعايتهم، وتاتي الحاجات الفسيولولجية في اسفل هرم ماسلو وهي تشمل الطعام والملبس والمسكن وغيره وغالبا ما يكون الاب هو المسؤول عن توفيرها ثم تاتي مسئلة الحاجة إلى الامان وهي ايضا موكلة إلى الاب وبعدها تاتي الحاجات النفسية ومنها الحاجة إلى الحب

يقول جاري تشابمان في كتابه لغات الحب الخمس: (لكل طفل احتياجات عاطفيه اساسية لابد ان تلبى اذا كنا نرغب في طفل مستقر من الناحية العاطفية واهم شيء هو احتياجات الحب والمودة فالاحساس بالرغبة والانتماء هو ما يحتاج اليه الطفل وبدون الحب سيكون شخصا متخلفا من الناحية العاطفية والاجتماعية.. ويضيف.. في داخل كل طفل خزان للعاطفة في انتظار ان يملاء بالحب فعندما يشعر الطفل انه محبوب فانه سينمو بشكل طبيعي ولكن عندما يكون خزان الحب فارغا سيتصرف الطفل بشكل غير سوي فاكثر السلوكيات السيئة التي تصدر عن الاطفال تكون بسبب الرغبة الملحة في ملء هذا الخزان(51).

وفي الرواية: قال له: يا بنيّ، اجعل عليّ بن أبي طالب فهو يناديهم يابني وهي أجمل كلمة غابت عن اليتامى!!. وهم يحبون سماعها لانها تشعر هم بانه مازال

ص: 431

هناك من يحبهم.

وفي أحايين كثيرة تستغرق الأرملة (أي أم الأيتام) في مشكلاتها الاجتماعية والاقتصادية واذا كانت الأم صغيرة السن (كما هي الحال في الكثير من شهداء الحشد الشعبي) تكون الصعوبات عليها أكثر وتكون هي بحاجة إلى الاشباع العاطفي ولهذا لا تستطيع تلبية حاجة الطفل نفسه إلى الحب والحنان مما يجعل الطفل عاجزا عن ملئ الخزان بالحب!!.

وفي دائرة اهتمام الامام علي (عليه السلام) بالايتام نرى أنه أعطى أهمية للحاجات الفسيولوجية والنفسية ففي الرواية:

عن حبيب بن أبي ثابت أنّه قال: «جيء بمقدار من العسل إلى بيت المال، فأمر الإمام عليّ عليه السلام باحضار الأيتام، وفي الحين الذي كان يقسم العسل على المستحقّين کان بنفسه يطعم الأيتام من العسل، فقيل له يا أمير المؤمنين ما لهم يلعقونها؟ فقال: إنّ الإمام أبو اليتامى وإنّما ألعقتهم هذا برعاية الآباء(52).

انه يطعمهم العسل کاشباع غذائي وهو يطعمهم بنفسه ليسد حاجة هؤلاء اليتامى إلى الشعور بالحب اي اشباع عاطفي.

وفي الرواية: ذات ليلة جاء علي عليه السلام بالطعام إلى أسرة فقدت معيلها وفيها أيتام، فوجد بين الأيتام طفلاً لا يهدأ، فسأله الإمام عليه السلام عن سبب ذلك. فقال الطفل: إن الأطفال يقولون لي أن لا أب لك.

فقال له الإمام عليه السلام: قل لهم إن علياً هو أبي.

وقد التقيت باحد المسؤولين في الحشد الشعبي كان يصطحب الأولاد إلى المتنزهات والمسابح ويضحكمهم ويلاعبهم كي يخفف عنهم وطء اليتم.

ص: 432

6 - توجيه الراي العام نحو الايتام

وذلك يتجلى من خلال الوصية الأخيرة بهم حيث قال أمير المؤمنين عليه السلام: «اللهَ اللهَ في الأيتام فلا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم(53).

ومن البديهي أن الوصية هي الكلام الاخير والامر الاخير الذي يجب تنفيذه وعلى هذا فقد خصهم بالذكر خاصة وانه كان راعيا للكثير منهم وكان يقدم لهم المؤنة اللازمة على هذا كانت وصيته (عليه السلام) دعوة خالدة إلى رعاية اليتامى والاهتمام بهم، وهي دعوة إلى عدم تضييعهم والتضييع قد یکون ماديا من خلال رميهم إلى ازقة التسول الأسنة وقد يكون التضييع معنويا من خلال عدم توجيههم الوجهة الصحيحة والسليمة ولهذا راينا ابناء علماء شهداء ضاعوا في احابيل الضلال لعدم تعهدهم ومنذ طفولتهم بالتوجيه الديني الصحيح.. فالرعاية مادية ومعنوية.. نفسية وبدنية.. دنيوية واخروية.

7 - الاستمرارية (فلا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم).

وذلك من خلال تقديم المعونة اليهم باستمرار وعدم قطعها لانهم يعتمدون على هذه المعونة كليا فليس من الصحيح ان يعيش اليتامى على مساعدات وقتية او متقطعة، والافضل ان يكون هناك برنامج خاص لرعايتهم كمثل الذي تقوم به مؤسسة العين الاجتماعية حيث تخصص لهم مرتبا شهريا وهذا له اثر في تعزيز الشعور بالكرامة عندهم من ناحية وفي انقاذهم من مخاطر التسول والانحراف کما تساهم في دعم الصحة النفسية لهم من خلال زيادة الشعور بالامن المستقبلي.

وقد اشرت في النقطة الأولى إلى رعاية الدول لهم وخاصة لايتام الشهداء إلى حين مماتهم.

ص: 433

8 - محاسبة النفس عند رؤية ايتام بلا معيل

وفي الرواية.. فعمدت إلى الدقيق فعجنته، وعمد عليّ عليه السلام إلى اللحم فطبخه، وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلّما ناول احد الصبيان من ذلك شياً قال له يا بنيّ، اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ مّما أمر في أمرك. فلمّا اختمر العجين، قالت: ياعبدالله، اسجر التّنور. فبادر لسجره، فلّما أشعله لفح في وجهه، جعل يقول: ذق ياعليّ، هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى.

كلنا مسؤولون عن رعاية الايتام وخاصة ايتام الشهداء باعتبار انهم قدموا التضحيات من اجل ان تنتصر الامة ويحيا الاخرون بكرامة ولهذا فكل قصور في رعاية هؤلاء يحمل وزره الجميع، والمطلوب ان يتحرك الجميع كل قدر استطاعته وضمن الاماكن القريبة منه ليكون عونا لهؤلاء اليتامى، وقد لا يقدر بعضنا على تقديم المال او غيره لكنه حتما قادر على اسباغ الحب والحنان ومداراة اليتیم نفسيا، كما يمكن للجميع ارشاد الارامل إلى المؤسسات الراعية لليتامى وتعريف هؤلاء اليتامى لدى هذه المؤسسات ولله الحمد فان هذه المؤسسات موجودة في كل مكان وفي كل المحافظات، وحتى اذا لم نستطع كل هذا فابواب الدعاء مفتوحة فلندعو لهم ان يعوضهم الرحمن عن فقدانهم لابائهم وان يرزقهم خير الدنيا والاخرة.

9 - الحث والتشجيع

قال عليه السلام: من رعى الأيتام، رُعي في بنيه(54)

لماذا يوجه الامام (عليه السلام) الانظار إلى الابناء؟ انها التفاتة تربوية مهمة فليس هناك شيء اغلى للفرد من ابنائه، فجل تفكير الانسان في بنيه وفي ما يوفره

ص: 434

ویترکه لهم وقديسوقه الحب الاعمى إلى ارتكاب الحرام لاجلهم قال تعالى (انما اولادکم واموالكم فتنة)(55) وهو بكلامه (عليه السلام) يدعو إلى التفكير المستقبلي في الاولاد من خلال مايقوم به الاباء، فمن رعى الايتام رعي في بنيه والكلام عام يشمل الكل حتى اولئك الذين لا يفكرون بالاخرة، فربما یکون حرصهم على اولادهم سببا لرعاية الايتام.

الانماط التربوية

نظر علي عليه السلام إلى امرأة على كتفها قربة ماء، فأخذ منها القربة فحملها إلى موضعها، وسألها عن حالها، فقالت: بعث عليّ بن أبي طالب صاحبي إلى بعض الثغور فقتل، وترك عليّ صبياناً يتامی، وليس عندي شيء، فقد ألجأتني الضرورة إلى خدمة الناس. فانصرف وبات ليلته قلقاً، فلما أصبح، حمل زنبیلاً فيه طعام، فقال بعضهم: أعطني أحمله عنك.

فقال: من يحمل وزري عنيّ يوم القيامة؟ فأتی وقرع الباب، فقالت: من هذا؟ قال: أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة، فافتحي، فإن معي شيئاً للصبيان. فقالت: رضي الله عنك، وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب. فدخل وقال: أنيّ أحببت اكتساب الثواب، فاختاري بين أن تعجني وتخبزي، وبين أن تعلّلي الصبيان لأخبز أنا. فقالت: أنا بالخبز أبصر، وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان، فعلّلهم حتی أفرغ من الخبز. فعمدت إلى الدقيق فعجنته، وعمد عليّ عليه السلام إلى اللحم فطبخه، وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلّما ناول احد الصبيان من ذلك شيئاً قال له: يا بني، اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ مّما أمر في أمرك. فلّما اختمر العجين، قالت: ياعبدالله، اسجر التّنور.

ص: 435

فبادر لسجره، فلّما أشعله لفح في وجهه، جعل يقول: ذق ياعليّ، هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامی. فرأته امرأة تعرفه، فقالت: ويحك، هذا أمير المؤمنين. فبادرت المرأة وهي تقول: واحيائي منك يا امير المؤمنين. فقال: بل واحيائي منك يا أمة الله، فيما قصرت في أمرك...(56)

حينما نتأمل هذه الرواية فاننا نجد أن الانماط التربوية التي استفاد منها امیر المؤمنين (عليه السلام) متعددة منها:

1 - التربية بالتغافل:

فهو لم يعاتب المرأة التي كانت تدعو عليه ولم يهاجمها او يثأر لكرامته بل تغافل عنها وكأنه ليس هو المعني بالكلام!!، وهذا الامر مهم فكثير من الأسر التي فيها ایتام قد تظهر فيها مشاكل او نزاعات او يعيش أفرادها تحت وطأة الضغوطات مما يؤدي بهم وبغيرهم وربما حتى اليتامى إلى اقوال وسلوكيات مؤلمة فالمطلوب عدم التوقف عند كل كلمة وكل صغيرة وكبيرة أي لابد من التغافل الذي هو ميزة من تكون لهم سعة الصدر والقدرة على التحمل فهو تدريب للمعاصرين بأن يكونوا ذوو صدر رحب في التعامل مع الاخرين وان لا يقفوا عند نقاط التانيب ويمكن أن يتداركوا الأمر فيما بعد باللين والرغبة في مساعدة الآخرين.

2 - التربية بالتسامح

وهو يلحق بالقسم السابق غير ان التغافل ظهر حينما سمع الامام كلامها في اول لقاء واما التسامح فهو بعد ان عرفت المراة أن من كان في بيتها ويطعم صغارها هو امير المؤمنين الذي طالما نالته بلسانها فحينما عرفته المرأة لم يؤاخذها بكلامها السابق ولم يذكرها بما کانت تدعو عليه!! وهذه غاية النبل، يقول القران الكريم: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ*

ص: 436

وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ»(57).

نعم لا يلقاها الاذو حظ عظيم، وهذا الاسلوب القراني هو من اهتمامات التنمية البشرية المعاصرة التي تسعى لترويج مفاهيم التسامح بعد ان طغت ثقافة العنف في عموم المشهد الانساني.

أنه (عليه السلام) لم يؤاخذها بكلامها ولم يعاتبها مما جعلها تشعر بالخجل لموقفها وهكذا يجب ان يكون التعامل مع هذه الطبقة المرهقة المتوجعة.

3 - التربية باللعب:

فامير المؤمنين ويعسوب الدين عليه السلام انشغل بالصبيان واخذ يلعب معهم ويلاطفهم وهو تأكيد على حاجة الطفولة إلى هذا الاسلوب التربوي، واذكر اني كنت مرة في حفل تكريم لايتام فانشغلت الامهات بجمع الثياب للبنات الصغيرات وهؤلاء كانوا يطالبونني بالدمى!!.. وهذا النمط من التربية يساهم في فتح المنافذ الحسية وتنمية الاحاسيس الايجابية وزرع روح التفاؤل اضافة إلى افاضة اجواء البهجة على البؤساء.

4 - التربية بالقدوة

نقلت الرواية إلى الناس والينا على مر قرون من الزمن وتعلم الجميع درسا رائدا في كيفية التعامل السليم مع الشرائح الهشة والضعيفة في المجتمع دون ان يحول الزهو والغرور والمنصب الرفيع عن ذلك وهو تربية و توجيه لمن هم في مراكز الدولة على كيفية التعامل مع هذه الشريحة الصغيرة في العمر وللاسف يلجا صناع القرار إلى استغلال ضحكات الايتام وحاجاتهم المادية من اجل الدعاية الانتخابية اي ان هذا العمل له بعد دنيوي فحسب وليس لمرضاة الله وهذا من

ص: 437

اكثر الصور ظلما للطفولة ولقد رایت ذوي المناصب يجمعون اليتامی ویدعون وسائل الاعلام لتصور الحدث وتنقله لقاء نزر يسير من القوت لا يعادل عشر الاجرة التي دفعها ذوي اليتامی لسائق السيارة كي يوصلهم إلى هذا المكان!!.

فالمطلوب الاقتداء بسيرة امير المؤمنين (عليه السلام) في التعامل مع الأيتام، فلو کنت معلما اهتم بالطلبة الايتام ولو كنت مديرا اهتم بایتام الموظفين وتذكرهم ولو كنت مسؤولا فحسبك ماكتبه للاشتر وهكذا وافعل ذلك من اجل اخرة باقية وليس من اجل مناصب في دنيا فانية.. نعم لم يطلب منهم امير المؤمنين (عليه السلام) صوتا انتخابيا ولا درجة دنيوية بل طلب ابراء ذمته فهو المسؤول عنهم باعتباره خليفة المسلمين.

6 - التربية بالحب:

وهو احوج مایکون له اليتامى وفي الرواية (وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، فكلّما ناول احد الصبيان من ذلك شيئاً قال له: يا بنيّ)

وهي كلمة يتمنى سماعها الأولاد العاديون فكيف بفاقدي ابائهم!!. وقد اشرنا إلى هذه النقطة سابقا.

4. التربية بالترهيب:

وهي رسالة موجهة لكل من يهمل يتيما او يؤذيه او يأكل ماله ظلما او يغض الطرف عن رعاية اليتامى وفي الرواية (فلّما أشعله لفح في وجهه، جعل يقول: ذق ياعليّ، هذا جزاء من ضيّع الأرامل واليتامى (انه انذار ابدي. وهو القائل: ظلم اليتامى والأيامي ينزل النقم(58).

5. التربية بالتواضع:

ص: 438

وهو امير المؤمنين وهو اخو الرسول (صلى الله عليه وآله) وصهره يبين النا اهمية التواضع في التعامل مع الفقراء والايتام في الرواية (فقالت: من هذا؟ قال: أنا ذلك العبد الذي حمل معك القربة) وايضا (فلّما اختمر العجين، قالت: یا عبدالله، اسجر التنور. فبادر لسجره) نعم قام بكل ذلك بكل تواضع فالناس يتأثرون بالخلق والادب اكثر مما يتاثرون بالكلام في أحايين كثيرة.

6. التربية بالدعاء

وفي الرواية:... شيئاً قال له: يا بنيّ، اجعل عليّ بن أبي طالب في حلّ مّما أمر في أمرك.

وهو تعبير عن خلجات نفسه (عليه السلام) وعن المه وهذا درس بلیغ اللاجيال كلها.

7. التربية بالاحداث:

وفي الرواية:.. فرأته امرأة تعرفه، فقالت: ويحك، هذا أمير المؤمنين. فبادرت المرأة وهي تقول: واحيائي منك يا أمير المؤمنين. فقال: بل وأحيائي منك يا أمة الله، فيما قصرت في أمرك.

كل ماحدث كان له تأثيره الكبير على المرأة نفسها وقد كانت تشتكي منه وتدعو عليه فاصبحت في خجل شديد حينما عرفته وهو توجيه للاخرين في كيفية تدوير الاحداث التي تحصل إلى السار الفاعل في التغيير الايجابي الذييساهم في انتشال الاخرين من الشكوك والاوهام والتصورات السلبية.

والدلالات كثيرة لا يطيقها هذا البحث المتواضع

ص: 439

تجليات رعاية اليتيم على اليتيم نفسه والمجتمع

العقد ان رعاية الايتام والاهتمام بشانهم يساهم كثيرا في تخليصهم من والاضطرابات النفسية كما ان العناية باليتامى يساعد على تنمية الادراك الصحيح للمفاهيم الايجابية في الحياة كالايثار والرفق والمداراة مما يترك اثره في التوجيه السليم نحو هذه القيم، اضافة إلى ان هذه الرعاية تكون سببا لتنشئتهم التنشئة السليمة بعيدا عن استغلال الطامعين والانتهازيين مما يعني تنمية الانسان الصالح في المجتمع القادر على تحمل مسؤولياته المستقبلية.

ومن ناحية اخرى ان رعاية الايتام تترك اثرا على القائمين بها اذ انها تترك اثرا ايجابيا من خلال المسح على رؤوس اليتامى والابتسام في وجوه حيث يتخلص الفرد من الطاقة السلبية التي عنده ويستبدلها باخرى ايجابية وذلك لان الاطفال الصغار يمثلون واحدا من محطات الطاقة الايجابية مما يساهم في تقلیل التوتر والاكتئاب والقلق وواحدة من برمجيات التنمية المعاصرة هو اللعب مع الاطفال كي يتخلص الفرد من الاضطرابات النفسية بل ان هذه الوسيلة تعتبر من وسائل ايجاد الحلول المناسبة للمشكلات التي يعاني منها الفرد. وفي الحديث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): من أنکر منكم قساوة قلبه، فليدن يتيماً فيلاطفه وليمسح رأسه، يلين قلبه بإذن الله، فإن لليتيم حقاً(59) هذا بالاضافة إلى الاجر الكبير والمكانة القريبة من الرسول (صلى الله عليه وآله).. عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «من مسح يده على رأس يتيم ترحّماً له، كتب الله له بكلّ شعرة مرّت عليه يده حسنة»(60)

كما ان هذه الرعاية ستساهم في بناء المجتمع من خلال ضخ النماذج الانسانية السليمة القادرة على خدمة المجتمع اضافة إلى تخليص الافراد من نزعة الانانية

ص: 440

والدوران على الذات وتعزيز مبادء التكافل الاجتماعي.

توصيات

1. آن رعاية الأيتام مسؤولية الكل ابتداء من القيادات العليا والمرجعيات والمؤسسة الدينية والاجتماعية إلى عموم الأفراد كل حسب قدرته ولابد من الاقتداء بسيرة امير المؤمنين (عليه السلام) من خلال تعامله مع الايتام.

2. لابد ان يأخذ الاعلام دوره الاساس في رعاية الأيتام عن طريق الحث والتشجيع وعرض النماذج الايجابية للمتطوعين بالرعاية واذكر انه انتشرت على اجهزة التواصل الاجتماعي صورة لأحد المتطوعين لرعاية اليتامى فكان يحلق لهم رؤوسهم بالمجان ويداعبهم، والغريب أن القنوات الاعلامية الخارجية استضافته وسلطت الضوء على تعامله في حين قال هذا العرض في القنوات المحلية!!.

3. السعي لتخصيص رواتب مستمرة للايتام حتى يصلوا إلى الوقت الذي يكونون فيه قادرين على اعالة أنفسهم.

4 - هناك كثير من المؤسسات تدعي رعاية الأيتام ولها اغراض سيئة اتمنى ان تكون هناك متابعة من قبل الجهات المعنية لكشفها وحماية الاطفال منها.

4. يفترض ان تكون هناك فرق متابعة لدور الأيتام ونصب كاميرا خفية فللاسف الكثير منها هي دور ایذاء الايتام وليس دور رعاية.

5. السعي لاكساب الايتام التعليم المهني الذي يمكنهم من الاستمرار في الدراسة حتى بعد قطع المعونات حين الوصول للسن القانونية.

6. الاهتمام بأسر شهداء الحشد الشعبي والجيش واقامة ندوات ودورات اللامهات للتعريف بالاليات السليمة في التعامل مع ابنائهم اليتامی.

ص: 441

7. رعاية الموهوبين والمتفوقين وتوفير فرص للدراسة الأكاديمية حتى المراتب العليا.

والحمد لله رب العالمين

هوامش البحث:

(1) إبراهيم الزيات وآخرون، المعجم الوسيط، ط (2)، دار إحياء التراث، مادة يتم، 2 / 1062

(2) ابن منظور، لسان العرب، الجزء 15

(3) الطوسي، المبسوط، ج 2، ص 281

(4) البقرة الاية 220

(5) سورة الفجر الاية 17

(6) البلد الاية 15

(7) الاسراء الاية 34

(8) سورة الماعون الاية 1 - 2

(9) سورة الضحى الاية 6 - 8

(10) سورة الانسان الاية 88

(11) علي بن بابویه، فقه الرضا (عليه السلام)، ص 172.

(12) محمد الريشهري، میزان الحکمة، ج 4، ص 3708.

(13) المجلسي - بحار الانوار، ج 79 - ص 92.

(14) الكليني، الكافي، ج 1، ص 406

(15) الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 13، ص 192.

(16) سورة النساء الاية 9

(17) الشيخ الصدوق، ثواب الاعمال، ص 239.

(18) الكليني، الكافي، ج 1 ص 406.

(19) نهج البلاغة، قصار الحكم حكمة رقم 163

ص: 442

(20) نفس المصدر حكمة 316

(21) المجلسي بحار الانوار، ج 7، ص 72.

(22) سورة الضحى الاية 6

(23) المجلسي، البحار، ج 43، ص 27، وكذلك في الخرائج والجرائح، ج 2، ص 129، ح 4.

(24) راضي آل یاسین، صلح الحسن، ط 2، بغداد، دار الارشاد، ص 260

(25) نهج البلاغة، رسالة رقم 53، ص 426

(26) نهج البلاغة، ضبط صبحي صالح، رسالة رقم 47، ص 421.

(27) غب القوم: جاءهم يوم وترك يوما، أي صلوا أفواههم بالاطعام ولا تقطعوه عنها

(28) الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء، ج 4، ص 206.

(29) عبد الواحد الآمدي، غرر الحکم، ص 344.

(30) الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 13، ص 193.

(31) نفس المصدر، ج 1، ص 5

(32) محمد باقر محمودی، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغه، ج 7، ص 149.

(33) نهج البلاغة، ضبط صبحي صالح، رسالة 41

(34) کاظم مدير، الحكم من كلام امير المؤمنين (عليه السلام)، ج 1، ص 333

(35) الكليني، الكافي، ج 1، ص 406

(36) الطوسي، المبسوط، ج 2، ص 281.

(37) الطبرسی، مکارم الاخلاق، ص 239

(38) المجلسي، بحار الانوار، جزء 47، ص 7.

(39) نهج البلاغة، رسالة 45

(40) سورة الاسراء الاية 70

(41) الطبرسي، مکارم الاخلاق، ج 1، ص 478، ح 1651

(42) نهج البلاغة، الحكم القصار، حكمة 207

(43) نفس المصدر، خطبة 198

(44) العاملی، وسائل الشيعة، ج 11، ص 49، باب 19، ح 1.

ص: 443

(45) المجلسي، بحار الانوار، ج 9، ص 539

(46) الطبرسي، مکارم الاخلاق، ص 321.

(47) الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء، ج 2، ص 46.

(48) العاملی، وسائل الشيعة، ج 21، ص 479

(49) المجلسي، بحار الانوار، ج 79 ص 271

(50) احمد عزت راجح، اصول علم النفس، ص80

(51) جاري تشابان، لغات الحب الخمس، ط 3، مكتبة جرير، السعودية.

(52) الكليني، الكافي، ج 1، ص 406.

(53) نهج البلاغة، ص 421.

(54) الميرزا النوري، مستدرك الوسائل، ج 15، ص 167.

(55) سورة الأنفال، الاية 28

(56) المجلسي، بحار الانوار، ج 1، ص 52.

(57) سورة فصلت، الاية 34 - 35

(58) کاظم مدير، الحكم من كلام امير المؤمنين (عليه السلام) ج 1، ص 587

(59) الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج 3، ص 287

(60) علي بن بابویه، فقه الرضا، ص 172

ص: 444

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم

- أمير المؤمنين (عليه السلام)، نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي، ضبط د صبحي صالح؛ انتشارات هجرت، ایران

- ابراهیم انیس وروفقاؤه، المعجم الوسيط، مكتبة الشروق الدولية، ط 4، 2004.

- ابن شهرآشوب، محمّد بن علي المازندراني، مناقب آل أبي طالب، دار الأضواء، بیروت، لبنان، ط 2، عام 1991.

- ابن فارس، معجم مقاییس اللغة، تحقیق شهاب الدين ابو عمرو، دار الفكر ط 2، 1998.

- ابن منظور، جمال الدين محمد بن مکرم، لسان العرب، القاهرة، دار الحديث، 2003

- ابو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، المبسوط في فقه الامامية، دار الكتاب الاسلامي، لبنان

- احمد عزت راجح، اصول علم النفس، الناشر المصري الحديث.

- احمد محمد مبارك الكندري، علم النفس الاسري، ط 2، مكتبة الفلاح، الكويت 1992.

- الحاكم النيسابوري، أبي عبد الله محمد بن البيع، المستدرك على الصحيحين، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان 2008.

- الحر العاملي، وسائل الشيعة، دار إحياء التراث العربي، بیروت، لبنان، ط. 1404.

- الصدوق، محمد بن علي بن بابويه القمي، ثواب الاعمال، (قم، منشورات الرضی، د. - الطبرسي، رضي الدين أبي نصر الحسن بن فضل، مکارم الاخلاق، ط 6، (د. م، منشورات الشريف الرضي، 1972).

- العاملي، محمد بن الحسن الحر، وسائل الشيعة إلى تحصیل مسائل الشريعة، تحقیق عبد

ص: 445

الرحیم رباني، (بیروت، دار احیاء التراث.

- الكليني، ثقة الإسلام محمد بن یعقوب، الكافي، دار صعب ودار التعارف، بیروت، لبنان.

- المجلسي، محمد باقر، بحار الانوار الجامعة لدرر اخبار الائمة الاطهار، دار احیاء التراث، 1412، بیروت، ط 1، لبنان.

- المحمودي، محمد باقر، نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، (بیروت، مؤسسة المحمودي، د.

- النوري، میرزا حسين، مستدرك الوسائل و مستنبط المسائل، تحقيق مؤسسة ال بيت، (بیروت، مؤسسة آل البيت، 1987).

- - جاري تشابمان، لغات الحب الخمس، ط 3، مكتبة جرير، السعودية.

- عبد الواحد الآمدي، غرر الحکم و درر الكلم، ط 3، طهران، 1360 ه.

- عز الدين علي بحر العلوم، مع اليتيم في القران والسنة، دار الزهراء، لبنان.

علي بن بابویه. فقه الرضا (عليه السلام) تحقیق: مؤسسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، ایران، 1406

- الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء في احياء الأحياء، ط 2، دار إحياء التراث العربي، بیروت، لبنان، 1404 ه.

- كاظم مدير، الحكم من كلام الإمام أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، ط 1، ایران، 1417 ه

- مجلة العلوم الانسانية عدد 27 سنة 2016، مقال الحرمان العاطفي عند الطفل اليتيم، فاطمة الزهراء خموين

- محمد الريشهري، میزان الحکمة، الدار الاسلامية للطباعة، بيروت، لبنان، 1985. 1403 ه.

ص: 446

المحتويات

إنسانية الخطاب العلوي قراءة معرفية في الأبعاد القيمية

م. د. آمال خلف علي آل حيدر - كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) الجامعة

توطئة...11

المطلب الأول: القيم الأخلاقية وأبعادها في أنسنة الخطاب العلوي...12

أولاً:- التقوى...12

ثانياً: - حُسن الخُلُق...15

ثالثا: - الصبر والتصبر...16

رابعاً: - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر...17

المطلب الثاني: القيم العبادية وأثرها في التكامل الإنساني...19

المطلب الثالث: المجتمع الإنساني في الخطاب العلوي قراءة قيمية...23

الخاتمة...26

المصادر والمراجع...28

أوصاف خَلْق الانسان في نهج البلاغة الخطبة الغرَّاء العجيبة إنموذجادراسة أسلوبية

م. د. سحر ناجي المشهدي

المقدمة...33

أولاً: الخطبة الغراء (النَّص):...33

ثانياً: الدراسة:...53

ص: 447

ثالثا: الألفاظ التي تدلُّ على مراحل خلق الانسان:...37

رابعاً: أنواع السجع في الخطبة الغرّاء:...41

خامساً: الخاتمة...56

المصادر و المراجع...60

الخطاب العلوي والولاة دراسة في استراتيجية الخطاب ودلالتها السياسية د. طالب حسين - كلية الإمام الكاظم (عليه السلام)

مقدمة...65

المبحث الأول: الخطاب بين اللغوي واللالغوي...68

اولا: البنية اللغوية:...68

ثانيا: الخطاب استراتيجية بلاغية...71

المبحث الثاني: الولاة والخطاب التوجيهي...74

اولاً: الخطاب الفعلي...74

ثانيا: الخطاب الذهني...79

المبحث الثالث: الاستراتيجية والدلالة السياسية...81

اولا - الولاة القريبون...82

ثانيا - الولاة غير المقربين...84

ثالثا: وحدة الاستراتيجية والدلالة السياسية...85

خاتمة واستنتاج...88

المصادر والمراجع...39

تجليات الحجاج في الخطبة الغراء للإمام علي (عليه السلام) دراسة في وسائل الاقناع

أ.م.د. مسلم مالك الاسدي - جامعة كربلاء / كلية العلوم الاسلامية

المقدمة...97

1. الاستفهام:...89

ص: 448

2. الامر:...102

3. النفي:...104

4. الشرط:...106

5. الاستعارة:...108

6.الكناية...110

الخاتمة...113

المصادر والمراجع...115

جدلية الذوات في الخطاب العلوي قراءة إنسانية

أ. م. د. حازم طارش حاتم - كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) الجامعة

توطئة:...119

المطلب الأول: قيم الذوات المتجادلة وأبعادها الإنسانية...120

المطلب الثاني: جدلية التقابل الإنساني في الخطاب العلوي...127

الخاتمة:...133

المصادر والمراجع...136

جزالة أسلوب الامام علي (عليه السلام) في مقام الحرب

السبك المعجمي والحذف أنموذجين

أ. د. حسن منديل حسن العكيلي - جامعة بغداد / كلية التربية للبنات

مقدمة...141

التمهيد:...241

علم النص:...241

النّصيّة Textuality...143

المبحث الأول: الحرب وأخلاقها لدى الامام علي (عليه السلام...145

ص: 449

المبحث الثاني: السبك المعجمي...152

اولاً - التكرار Reitcration ...152

الإحالة التكرارية...153

أشكال التكرار...153

ثانياً - التضام أو المطابقة او المصاحبة المعجمية (Collacation)...159

المبحث الثالث: الحذف...162

1 - حذف الاسم...162

2 - حذف الفعل...164

3 - حذف العبارة...167

4 - حذف الجملة:...167

الخاتمة:...169

المصادر والمراجع...174

صفاتُ القضاة في نهج البلاغة قراءة تأويليّة الأستاذ المتمرسالدكتور حاکم حبيب الكريطي

أسس اختيار القضاة:...180

القدرة على تصريف الأُمور:...181

لا تُمحكه الخصوم:...182

لا يتمادى في الزلّة:...184

لا يُحجم من الرجوع إلى الحقّ:...185

لا تُشرف نفسه على طمع:...186

التأنّي في الحكم:...188

عدم التبرّم بمراجعة الخصم:...189

الصبر على تكشّف الأمور:...190

ص: 450

الصرامة عند اتّضاح الحكم:...190

عدم التأثّر بالإطراءٌ أو الإغراء:...192

وصايا الإمام (عليه السلام) للقضاة:...194

ترك الطمع:...195

مخالفة الهوى:...196

تزيين العلم بالسّمتِ الصالح:...197

عدم المشاورة في الحكم:...199

الاهتمام بأحوال القضاة والنظر في عملهم:...200

اختلاف القضاة في الأحكامِ:...205

كلمة في ختام البحث...211

المصادر والمراجع...216

نظام الترابط الحجاجي في خطاب الإمام علي (عليه السلام)

د. حامد بدر عبد الحسين م. م. حسن رحیم حنون - كلية الدراسات القرآنية / جامعة بابل

المقدمة (مدخل نظري لروابط الحجاج)...223

اولًا: روابط التعارض الحجاجً:...224

الرابط الحجاجي (لكن)...224

الرابط الحجاجي (بل)...227

ثانيا: روابط التساوق الحجاجي:...231

الرابط الحجاجي (حتى)...231

ثالثا: روابط التعليل الحجاجي:...234

الرابط الحجاجي (لأنَّ)...234

الرابط الحجاجي (لام)...234

الرابط الحجاجي (كي)...236

ص: 451

رابعا: روابط الوصل الحجاجي...237

الرابط الحجاجي (الواو)...238

الرابط الحجاجي (ثم)...239

الخاتمة...241

المصادر والمراجع...243

وصف ضلالة العلماء في نهج البلاغة قراءة تأويلية فكرية لفهم التناقض في وصف الشخصية

أ.م.د. تومان غازي الخفاجي أ. م. د. خالد كاظم حميدي

الكلية الإسلامية الجامعة كلية الشيخ الطوسي الجامعة

مقدمة:...247

المبحث الأول: نحو نظرية تأويل عربية:...249

المبحث الثاني: تأويل نصوص نهج البلاغة التي تصف ضلالة العلماء:...268

المطلب الأول: ضلالة العلماء بسبب عمل العقل المجرد وحده:...268

المطلب الثاني: ضلالة العلماء بسبب عمل القلب وحده كملكة أهواء:...274

المطلب الثالث: ضلالة العلماء بسبب انفصام نظام الإدراك الداخلي عن الواقع:...279

خاتمة:...282

المصادر والمراجع:...286

عتبة البداية في خطب نهج البلاغة (مقاربة سيميولوجية)

م. د. صباح حسن عبيد التميمي

المقدمة:...291

المبحث الأوّل: البعد التنظيري...293

1 - البداية المصطلح والمفهوم والاشتراطات في المنظور التراثي:...293

المبحث الثاني: البعد الإجرائي...305

ص: 452

خطبة (الفتنة) أنموذجا...305

1 - المستوى المعجمي:...308

2 - المستوى التركيبي:...312

3 - المستوى الدلالي (التصويري):...317

نتائج البحث وخاتمته...326

المصادر والمراجع...332

المحور الاجتماعي والنفسي

الوعي الفكري للفرد ومسؤولية الدولة الإنسانية أساس التغيیر الاجتماعي في حتمية المشروع الحضاري في فكر الإمام علي (عليه السلام) الأستاذ الدكتور سعد خض ر عباس الرهيمي - كلية القانون - جامعة بابل

المقدمة...341

توطئة منهجية: عصرنة المشروع الحضاري في الفكر العلوي...342

أسئلة البحث...344

المنهجية العلمية للبحث...344

مشكلة البحث...344

أسباب أختيار البحث...345

أهمية البحث...346

هدف البحث...346

منهجية البحث...347

فرضية البحث...347

خطة البحث...347

ص: 453

أولاً: التأصيل العلمي والتاريخي لمفهوم المشروع الحضاري في فكر الامام علي (عليه السلام):...349

1 - التدرج والترتيب في تطبيق المنهج الاقتصادي:...351

2 - حث التركيبة الاجتماعية نحو الانفتاح على التطور والتعايش السلمي وتكريس المتقاربات ونبذ الاختلافات...353

3 - إعتماد سیاسة مالية عادلة ومتوازنة...355

4 - صياغة تدابير نوعية ذات استشراف مستقبلي لسياسة الدولة...356

ثانياً: تحديد كيفية حدوث الاعتماد المتبادل للعناصر الأساسية في التطور الاجتماعي...359

1 - ماهية الوعي الفكري للفرد عنصر أساسي في المثلث السياسي...359

2. مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد وإحداث تغيير مؤسساتي لإرساء التفاعل الاجتماعي الايجابي...362

2 - 1 مسؤولية الدولة في تطوير الوعي الفكري للفرد وبيئته الحيوية...364

2 - 2 مسؤولية الدولة في إحداث تغيير مؤسساتي يتلائم مع تطوير الفرد والمجتمع...365

2 - 3 مسؤولية الدولة في إحداث التأثير المباشر على البيئة العامة للفرد...368

2 - 3 - 1 صياغة مفهوم مستديم للامن الإنساني...368

2 - 3 - 2 بناء الإطار الصحيح للمنظومة التعليمية...371

2 - 3 - 2 تكييف المنظومة الصحية للمتطلبات الإنسانية...373

2 - 3 - 4 إعتماد الأسس العلمية في التخطيط العمراني ووفقاً للمعايير الدولية...373

ثالثاً: حدوث التغيير في المنظومة الاجتماعية نتيجة للتغير في البيئة العامة للفرد...376

رابعاً: أثر التغيير الاجتماعي في التمهيد للبيئة الملائمة للتطور إستناداً للهدي...377

الإستنتاجات:...382

التوصیات...383

الخلاصة...386

المصادر والمراجع...398

ص: 454

رعاية الأيتام وبناء أسرهم أثناء الحرب وتجلياتهم الإنسانية في نهج البلاغة الباحثة كفاح الحداد

مدخل...405

من هو اليتيم...405

اليتيم بالمعنى الاصطلاحي الفقهي...406

اليتيم في القرآن الكريم...407

اليتيم في السنة النبوية الشريفة...408

لماذا الكلام عن اليتامى؟...409

دور الاب في الاسرة...411

الموت في عيون الصغار...413

اليتامى وقت الحروب...416

اليتيم في السيرة العلوية المباركة...419

لماذا اهتم امير المؤمنين (عليه السلام) برعاية الايتام...422

الخطوط العشرة في رعاية الايتام عند أمير المؤمنين (عليه السلام)...423

1 - تحديد العمر...423

2 - بيان حالهم والتعريف بانكسارهم:...425

3 - اکرامهم...426

4 - العدالة مع الاطفال الآخرين...428

5 - توفير الحاجات النفسية والعاطفية والفسيولوجية...430

6 - توجيه الراي العام نحو الايتام...433

7 - الاستمرارية (فلا تغبّوا أفواههم ولا يضيعوا بحضرتكم)...433

8 - محاسبة النفس عند رؤية ايتام بلا معيل...434

9 - الحث والتشجيع...434

ص: 455

الانماط التربوية...435

1 - التربية بالتغافل:...436

2 - التربية بالتسامح...436

3 - التربية باللعب:...437

4 - التربية بالقدوة...437

6 - التربية بالحب:...438

4. التربية بالترهيب:...438

5. التربية بالتواضع:...438

6. التربية بالدعاء...439

7. التربية بالاحداث:...439

تجلیات رعاية اليتيم على اليتيم نفسه والمجتمع...440

توصيات...441

المصادر والمراجع...445

ص: 456

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.