منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة المجلد 4

هوية الکتاب

منهج الامام علي علیه السلام في بناء الانسان وانسانیة الدولة اعمال المؤتمر العلمي الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3665

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.02.M8 A4 2019 :LC

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2: 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: اعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية، (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الأمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3665

مصدر الفهرسة:

IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.02.M8 A4 2019 :LC

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2: 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: اعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية، (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الاشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الأمام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي:

علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الأخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: احادیث خاصة (رد الشمس).

مصطلح موضوعي: الأخلاق الاسلامية - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الفقر - العراق - تاریخ - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - نحو - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

عنوان اضافي: نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية

المؤتمر العلمي الثاني

منهج الامام علي علیه السلام في بناء الانسان وانسانیة الدولة اعمال المؤتمر العلمي الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة

الجزء الرّابع

للمدة

14 - 13 / ربيع الأول / 1439 ه الموافق 2 - 3 / 12 / 2017 م

اصدار

مؤسسة علوم نهج البلاغة

في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى

1440 ه - 2019 م

العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الألكتروني:

www.inahj.org

الإيميل:

Info@lnahj.org

تنويه:

إن الأفكار والآراء المذكورة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

تخلي العتبة الحسينية المقدسة مسؤوليتها عن أي انتهاك لحقوق الملكية الفكرية

ص: 4

بسم الله الرحمن الرحیم

«وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا»

صدق الله العلي العظيم

مریم: 55

ص: 5

ص: 6

المحور اللغوي والأدبي

ص: 7

ص: 8

أثر الحذف في تماسك النص في عهد الإمام علي علیه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه

اشارة

أ. م. د. كاظم عبد الله عبد النبي

كلية الإمام الكاظم علیه السلام

ص: 9

ص: 10

مقدمة

يتناول البحثُ الحذفَ بوصفه أسلوباً نصيا بلاغيا مهمّاً من أساليب الكلام الذي يسهم بشكل واضح في تماسك النص وتعلّق أجزائه بعضها مع بعض، وقد استثمره الإمام علي - عليه السلام - استثماراً عجيباً في رسالة العهد الذي كتبها إلى عامله مالك الأشتر، فوجدنا قدرته الفنية العالية في توظيفه لصالح النص، وقد استعمل فيه أنواعاً مختلفة: كحذف العبارة، أو الجملة، أو الكلمة، أو الحرف.. وكل ذلك يعود على مرجع يرتبط معه في النص من دون خلل أو ضعف في التركيب، على أن الحذف عنده يكون متأخراً عن المرجع؛ وذلك لتثبيت المعنى وترسيخه في ذهن عامله، ثم يأتي الحذف - بعد ذلك - لجزء من الكلام؛ لجعل المتلقي يقوم بمهمة ربط النص، وقد كثرُ عنده حذف العبارة بصورة كبيرة، وفيه تظهرُ قدرته العالية في نظم بنية الكلام؛ لأنّ حذف جزء كبير من النص يتطلب مهارة ودقة؛ لئلا يحدث خللاً في بناء النص وبهذا أبعد كلامه عن السأم أو التطويل أو التكرار غير المسوغ.

التمهيد:

تتعدد الطرق والأساليب التي يتخذها المرسل في عملية إيصال المعنى؛ وذلك من خلال استعماله عدة وسائل لغوية وحالية، وهي عند «فيرث J.R. Firth» أنّ المعنى ((كل مركّب من مجموعة من الوظائف اللغوية، وأهم عناصر هذا الكل هو الوظيفة الصوتية، ثم المورفولوجية والنحوية والقاموسية والوظيفة الدلالية لسياق الحال، ولكل وظيفة من هذه الوظائف منهجها))(1)، والنص يحمل فضاءً واسعاً من المعاني التي يلونها الباث بإيحاءاته النفسية ومن ذاته المبدعة، والحذف أحد هذه الفضاءات التي يستثمرها المنشئ في بناء هيكله النصي ورسم ملامح

ص: 11

دلالية مترابطة.

والحذف قطع جزء من الشيء وهو عند الخليل (170 ه) ((قطف الشيء من الطرف))(2) أو هو إسقاط شيء، فحذف رأسه بالسيف قطعه.. ويقال حذف شَعْرِه، ومن ذنب الدابة إذا قصّر منه(3).

أما في مفهومه الأسلوبي: إسقاط بعض من مكونات النص حرفاً كان أو كلمة أو جملة أو فضلة أو عبارة مع وجود دليل على ذلك الحذف الذي ((يتمثل في قرينة أو قرائن مصاحبة حالية أو عقلية أو لفظية. فالقرينة الدالة تعد أهم شروط الحذف، يليها في الأهمية ألا يؤدي الحذف إلى لبس في المعنى))(4) فيشكل عدم وجود الدليل خللاً في فهم النص؛ لأنّه يجعل المعنى عائماً يحتمل عدة تأويلات ربّما تكون بعيدة عن قصد المخاطب، وهذا ما أكده علماء اللغة العرب(5).

والتفتَ النحاة والبلاغيون العرب إلى هذا النوع من الإيجاز، إذ إنّ الحذف أسلوب أصيل في لغة العرب حددوا له ضوابط وقوانين بحسب أساليب العرب وثقافتهم واستعمالهم اللغوي، وميلهم الكبير إلى الإيجاز بالنص وكانوا في دراساتهم يقدرون المحذوف في تحليلهم للنصوص، فقد ورد عن سيبويه قوله: ((وسألت الخليل عن قوله جلَّ ذكره: «حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا» [الزمر 73] أين جوابها؟ وعن قوله جل وعلا: «وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ..» [البقرة 165]، «وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ» [الأنعام 27 ] فقال: إنّ العرب قد تترك في مثل هذا الخبر الجواب في كلامهم، لعلم المخبَر لأيِّ شيءٍ وضع هذا الكلام))(6) وهذا النص يأخذ بالنظر مقام المتلقي وسياقه الثقافي وموروثه الجمعي. ومن إشارات سيبويه (180 ه) للحذف الذي يمكن الاستغناء عنه لعلم المخاطب ما جاء في قول الشاعر:

ص: 12

نَحْنُ بِما عِنْدنا وأنتَ بِما ٭٭٭ عِنْدَكَ راضٍ والرأي مختلف

فحذف الشاعر (راضون) من قوله: «نحن بما عندنا»؛ لدلالة ما بعده عليه في عجز البيت «عندك راضٍ» وهذا وعي مبكر من الشاعر لفاعلية الحذف؛ لأنّه جعلَ صدر البيت متعلقاً بعجزه، ووعي مبكر لنحاة العرب ممن عملوا بمبدأ تقدير المحذوف، وهذا ما آمن به التحويليون في دراساتهم للبنية العميقة، الذي يمثل الحذف فيها أحد عناصر التحويل من البنية العميقة إلى البنية السطحية(7) الظاهرة لمتلقي النص الذي يقوم بدوره في استكشاف المحذوف وتركيب دلالة النص المحذوفة.

وللحذف أنواع كثيرة، لا يعتني تماسك النص بها إلاّ ما يسهم في ربط النص ويشترك في استمراره ومن أنواع التماسك بالحذف في رسالة الإمام علي - عليه السلام-:

أولًا: التماسك في حذف العبارة

وهذا النوع من الحذف يحتاج إلى قدرة عالية يمتلكها المتكلم؛ لأنّ هناك بتر كبير في النص يتجاوز الكلمة والكلمتين ويحتاج إلى حذق من صاحب النص حتى لا يصيب النص خلل أو ابتعاد عن سمة الإبانة، وهو استثمار للدلالة على القصد وتمكين النص من الاستمرارية فيحذف عبارة، يقول - عليه السلام -: ((يَفْرُطُ مِنْهُمُ الزَّلَلُ(8)، وَتَعْرِضُ لَهُمُ الْعِلَلُ، يُؤْتَى عَلىَ أَيْدِيِهمْ فِي الَعَمْدِ وَالْخَطَإِ، فَأَعْطِهِمْ مِنْ

عَفْوِكَ وَصَفْحِكَ مِثْلَ الَّذِي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ مِنْ عَفْوِهِ وَصَفْحِهِ، فَإِنَّكَ فَوْقَهُمْ، وَوَالِي الأمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ، وَاللهُ فَوْقَ مَنْ وَلاَّكَ! وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ(9) أَمْرَهُمْ، وَابْتَلَاكَ

بِهِمْ))(10) ، فالحذف في هذا النص جاء مصحوباً بالعطف بحرف الواو وهي سمة غالبة في أسلوب الإمام علي - عليه السلام - وهذا يجعل النص أكثر ترابطاً من

ص: 13

الناحية التواصلية بحيثُ بقيت سلسلة العلاقات متصلة ومركّزة تدور حول فكرة العناية بشؤون الرعية، على أنّ الدوران حول الفكرة لا يصنع نصاً إبداعيا من دون الترتيب المنطقي لأجزاء الجمل في مساحة النص، وانتقاء الأسلوب المناسب في رصف الألفاظ، وهذا ما تتمتع به الذائقة العلوية؛ لأنَّ ((حسن الرّصف أن توضع الألفاظ في مواضعها، وتمكّن في أماكنها، ولا يستعمل فيها التقديم والتأخير، والحذف والزيادة إلا حذفا لا يفسد الكلام، ولا يعمّى المعنى؛ وتضمّ كل لفظة منها إلى شكلها، وتضاف إلى لفقها))(11)، ويبدو أنّ الإمام - عليه السلام - وسّع من مساحة الحذف حتى يرسّخ هذه السعة في صدر عامله (مالك الاشتر) ويحثّه على الصبر في أثناء تعامله مع الناس وردم تلك الفجوات التي كانت بين الحاكم والناس في ولاية من سبقوه، ويأمره أن يحنو عليهم ويأخذ على أيديهم ويعدَّهم إعداداً سليما كأنّه يقول له: ((فنسبتهم إليك كنسبتك إلى الله تعالى، وكما تحب أن يصفح الله عنك ينبغي أن تصفح أنت عنهم))(12)، فجاء الحذفُ على النحو الآتي:

يُؤْتَى عَلَى أَيْديهِمْ فِي الَعَمْدِ وَ.....الخطأِ

فأَعْطهِمْ منْ عَفْوِكَ وَ..... صَفْحِكَ

مِثْلَ الَّذي تُحِبُّ أَنْ يُعْطِيَكَ اللهُ منْ عَفْوِهِ وَ..... صَفْحِهِ

ويقول - عليه السلام: ((وَلاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللهِ(13)، فَإِنَّهْ لَا يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ(14)، وَلَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلَا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْو، وَلَا

ص: 14

تَبْجَحَنّ (15) بِعُقُوبَة، وَلَا تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَة وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً، وَلَا تَقُولَنَّ: إِنِّي

مُؤَمَّرٌ..))(16) ويستمر حذف العبارة المقرون بالعطف في هذا التعبير؛ لتقوية أواصر التماسك وشدّ الألفاظ برباط المعاني؛ لأنَّ الكلام الملقى يمر بمرحلتين ((مرحلة الصياغة، ومرحلة الكشف عن الصياغة والباسها المعنى المطلوب))(17) ، ويبدأ النص ب (لا) الناهية الدالة على الكف المتعلق بالطاعة للناهي على جهة الاستعلاء، فالمتكلم الخليفة (رئيس الدولة) والمخاطب: عامل الخليفة (الموظف) وثمة نواهِ كثيرة في النص جاء من خلالها الحذف وهي: (لا تنصبنَّ نفسك.. وَلاَ تَنْدَمَنَّ عَلَی عَفْو، وَلاَ تَبْجَحَنّ..، وَلاَ تُسْرِعَنَّ.. ، وَلاَ تَقُولَنَّ..) وفي سياق ذلك النهي قام ع بحذف العبارة (وَلاَ غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَ...رَحْمَتِهِ) أي:

من ولا غنى بك عن عفوه = و لا غنى بك عن رَحْمَتِهِ

الحذف آلية الربط

وهذا الحذف مقصود حافظ على قوة النص وأبعده عن ترهل الكلام، فضلاً عن التماسك الحاصل بين التعبيرين؛ لأنَّ الحذف يعود على مرجعه في التعبير الأول حتى يجمع المعاني التي يريدها ومنها: (العفو والرحمة)، وأكّد العفو بوصفه ((مرغوبا فيه مدفوعا إليه من الشارع فلا يندمنّ مسلم عن عفو قد صدر منه وكيف يندم على فعل أراده الله ورغب فيه..))(18) والدعوة مستمرة في عهد الإمام - عليه السلام - إلى خشية الله - سبحانه - والعدل بين الرعية.

ومن حذف العبارة الذي يسهمُ في تماسك النص قوله: ((..وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً (19)، فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ..))(20)، في النص إحالة على سلطة

ص: 15

الحاكم المطلقة، وهي سلطة أعلى من الحاكم الأرضي وأوسع وهي سلطة الله - سبحانه وتعالى - وعليه أن يتذكّرها، ويأتي الحذف ليقوي هذا المعنى في ذهن عامله (مالك الأشتر) وكذلك في ذهن المتلقي المفترض، وهي حركة نصية تحفز الحاكم ليعود إلى الله -تعالى -؛ لكي لا يغتر الإنسان بما أنعم عليه من جاه زائل وسلطة مؤقتة تتنقل بين الناس؛ فجاء الحذف بأسلوب الشرط بعد أنْ فسّر ذلك بفعل شرط سابق في التركيب النصي (وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ..):

وَ إِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِیهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً

أوْ مَخِلَةً

وجواب الشرط (فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ..) يفسر ما يريده الإمام - عليه السلام - من عامله أنْ يفعله، وهو منهجه الذي يؤكدُ خوف الله - سبحانه وتعالى - وحضور قدرته على البشر جميعا ولا سيّما المتسلِّطين منهم، ويغلب هذا اللون من الخطاب في سياسة دولة الإمام - عليه السلام - وقد ضمّه في أساليبٍ لغوية عمّقت هذا المعنى ورسخته، فالخطاب الإداري ((مدونة لغوية تستمد روحها وفلسفتها ومبادئها من سياسة الدولة))(21) وهذا المفهوم من أهم ما أراده الإمام أن يسود إبّان حكمه، فإذا أدرك الأنسان أنَّ هناك من يحاسبه ويعلم بأفعاله سار في الاتجاه الصحيح.

ويعود مرة أخرى ليحذف عبارة ثانية من النص في قوله: (فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدِر) ويأتي حذف العبارة المشفوع

ص: 16

بالعطف (و... وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدِر) والتقدير: وانْظُرْ إِلَی عِظَمِ قُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدِر.. والخطاب الإداري يكون عادةً بلفظ واضح مفهوم، غير أنّ الإمام - عليه السلام - يلوّن هذا النص بتأثيرات أسلوبية جعلت كلامه أكثر حيوية وقدرة على القبول والتفاعل، وهذا الحذف النصي أبعد هذا العهد عن الترهل والضجر والتطويل في مضمون الكلام.

ومن حذف العبارة الذي يسهم في ربط النص قوله - عليه السلام: ((أنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ، وَمِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ، وَمَنْ لَكَ فِيهِ هَوىً (22) مِنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّكَ إِلاَّ تَفْعَلْ تَظْلِمْ، وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ)) (23) لاشكَّ في أنّ تعابير الإمام تحفلُ بالأساليب والمعاني التي تمثل اتجاهاته الفكرية والدينية والإنسانية التي يرغب أن تؤدي دورها في نشر الفضائل التي يؤمن بها، ويطلب من عامله أنْ يتصف بها، ويأتي الحذف بوصفه وسيلة من وسائل التأثير في النص لاسيّما إذا كان في النص أكثر من حذف للعبارة وقد حذف (أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ) مرتين من التعبير فجاء كالاتي:

أَنْصِفِ اللهَ وَأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ

= و... مِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ

= و... مِنْ لَكَ فِيهِ هَویً

وجاء لترسيخ مفاهيم ثلاثة تتكون منها منابع الظلم والتي تصدر: (1 - من الوالي نفسه. 2 - من خاصة أهله. 3 - من له فيه هوى من اتباعه)، وكذلك للتركيز على معاني المحذوف؛ لأنّ الفراغ الذي يقطن في النص يولِّد فسحة من تأمّل المعاني، وبهذا يريد من عامله أنْ لا يميل عن الحقِّ ويفضّل نفسه أو أهله أو من له قربي من نفسه على سائر الناس، وحذف العبارة مرتين ينبئ بأهمية

ص: 17

المحذوف الذي جاء مع المذكور ثلاث مرات.

ومن حذف العبارة قول الإمام - عليه السلام -: ((وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَی تَغْيِیرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَى ظُلْم، فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِینَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِنَ بِالْمِرْصَادِ))(24) في النص تأكيد على زرع بذرة الخير من خلال نفي الظلم ونبذ الظالمين، الذي تمثّل بفعل النفي (ليس):

وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَی تَغْيِيرِ نِعْمَةِ اللهِ

وَ.....تَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَة عَلَی ظُلْم

فجاء الحذف ليحذر من مغبَّة الظلم وتفاقمه ويربط الأفكار بوحدة دلالية متصلة؛ لأنَّ ((كل ربط يستلزم وحدة إلى حدٍّ ما، وحدة في المعنى بين الأجزاء التي يربط بينها.. ففي مقابل التناسق الشكلي الذي يفرضه النحو، يأتي تناسق معنوي يفرضه المنطق))(25) ليتم بناء المقصود.

وفي مقابل نبذ الظلم يأتي بأشياء أخرى يحببها إلى عامله، فيقول: ((وَلْيَكُن أَحَبَّ الاْمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ، وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ، وَأَجْمَعُهَا لِرِضَی الرَّعِيَّةِ،

فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَی الْخَاصَّةِ (26) وَإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ)) (27).

وَلْيَكُنْ أحَبَّ الاْمُور إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ

وَ...أَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ

وَ...أَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ

فثمة أمران محببان هما: (العدل + رضا الرعية) وبذلك يكون المعنى موزعاً بين الخطاب الرسمي والتوجيه التربوي المتمثل بالعدل المجتمعي.

ص: 18

ويبقى في السياق ذاته ليستوفي أبعاد المعنى ويعمّق حضوره، فيقوم بتكثيف الحذف لئلّا تأخذ الألفاظ أكثر من وضعها المقرر فيقل تأثيرها في النص، فالإمام - دائماً - ميّالٌ إلى الإيجاز الواعي المصاغ بروح فنية عالية لا يشوبها قصر أو خلل في فهم المراد، يقول: ((ووَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ، أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ، وَأَقَلَّ مَعُونَةً لَهُ فِي الْبَلاَءِ، وَأَكْرَهَ لِلإِنْصَافِ، وَأَسْأَلَ بِالِإلْحَافِ(28)، وَأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ، وَأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ، وَأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ

مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ(29) الْمُسْلِمِيَن، وَالْعُدَّةُ للأعداءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ، فَلْيَكُنْ صِغْوُكَ(30) لَهُمْ، وَمَيْلُكَ مَعَهُمْ))(31) والألفاظ تحمل معانٍ مكثفة ضمن جدلية العامة والخاصة من الرعية وكيف يمكن التعامل مع هذين الصنفين من الناس؛ لذا احتاج إلى تفعيل عنصر الحذف الذي جنّبَ الكلام كثيراً من التطويل، فجاء الحذف مكثفاً على النحو الآتي:

وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ - أَثْقَلَ عَلَ الْوَالِ مَؤُونَةً فِي الرَّخَاءِ

وَ... - أَقَلَّ مَعُونَةً لَه(32) فِي الْبَلَاءِ

وَ... - أَكْرَهَ لِلإِنْصَافِ

وَ... - أَسْأَلَ بِالِإلْحَافِ

وَ... - أَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ

وَ... - أَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ

وَ... - أَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ

فهناك شبكة من علاقات الاتصال بين المعاني التي ألقاها الإمام في هذا النص معتمداً على أسلوب الحذف الرابط ع-لى امتداد النص على المستويين (العمودي و

ص: 19

الأفقي) وهي علاقة بين المذكور والمحذوف، فالحذف يربط ((الصلة بين ما يسمى بالبني السطحية، والبني العميقة والانتقال من إحداها إلى الأخرى))(33) فهذه العبارات بإيجازها تمثل دستور الإمام علي - عليه السلام- فضلا عن كونها أصبحت حكماً يتداولها الناس على مرّ العصور.

ومن حذف العبارة يقول: ((وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلاَ جَبَاناً يُضعِّفُكَ عَنِ الأمُورِ، وَلاَ حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ، فَإِنَّ الْبُخْلَ وَالْجُبْنَ وَالْحِرْصَ غَرَائِزُ شَتَّى يَجْمَعُهَا سُوءُ الظَّنِّ بِاللهِ)) (34) جسّدَ النص فعل المشورة والابتعاد عمنْ لا تصلح مشورته في الحكم عن طريق أسلوب النهي (لا تدخلنَّ) وهم ثلاثة: البخيل والحريص والجبان، فاستدعى الحذف بوصفه تركيب تلتف حوله المعاني للخروج من سلطة الذات إلى آفاق واسعة من المعرفة والانفتاح على التعاون المثمر في أخذ القرار، ويتم ذلك عبر تحديد النوع (اللذين يُعتَمد عليهم في أخذ الرأي) فصاغ الكلام في جملٍ مترابطة سهَّلت عملية الاتصال للحثِّ في السعي نحو الكمال وهذا يحتّم وجود تركيب لغوي عالٍ يضمُّ تلك الأفكار؛ لأنَّ ((التعبير عن الفكرة الذي يتم بالكلمة المنطوقة أو المكتوبة هو نوع من الاتصال، وهذا التعبير يعتمد أساساً على وجود نشاط لغوي مرسل من المتكلم ونشاط مماثل من المتلقي، وغالباً ما يكون هذا الاتصال موضوعاً خالصاً أو فكرياً محضاً))(35) والتعبير يؤكد فعل المشورة في تداخل نصي محكم نسج خيوطه حذف العبارات المصحوب بالنهي:

لاَ تُدخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِیلاً

وَلاَ... جَبَاناً

وَلاَ... حَرِیصاً

ص: 20

فالحذف حرّكَ معاني ما بعدَ النص إلى ما قبلها ليتمركز المعنى على أسلوب النهي المرجع الأول (لاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً) وفي ذلك أغراض:

نهي الفعل - الأشخاص المنهي عنهم - السبب

لاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ - البخیل - يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ

لاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ - الجبان - يُضعِّفُكَ عَنِ الأمُورِ

لاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ - الحریص - يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ

ومن حذف العبارة قوله: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصْلُحُ بَعْضُهَا إلاَّ بِبَعْض، وَلاَ غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْض)) (36) فقد حذف عبارة من النص ما أراد تکرارها تعود إلى مرجع قبلها طلباً للإيجاز:

- وَاعلَم أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ يَصلُحُ بَعضُهَا إلاَّ بِبَعض

وَ... لاَ غِنَى بِبَعضِهَا عَن بَغض

وَاعلَم أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لاَ غِنَى بِبَعضِهَا عَن بَغض

وعندما يريدُ تكثيف المعاني والإشارة إلى أمر ما وتثبيته في الذهن يكثر من الحذف خشية التطويل وضعف التأثير يقول عليه السلام -: ((فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لله وَلِرَسُولِهِ وَلإِمَامِكَ، وَأَنْقَاهُمْ جَيْباً، وَأَفْضَلَهُمْ

حِلْماً مِمَّنْ يُبْطِىءُ عَنِ الْغَضَبِ، وَيَسْتَرِيحُ إِلَی الْعُذْرِ، وَيَرْأَفُ بِالضُّعَفَاءِ، وَيَنْبُو عَلَى

الأَقْوِيَاءِ))(37) فقد ثبت عبارة (فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ) وأحال عليها بالحذف جمل كثيرة:

ص: 21

فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ فِي نَفْسِكَ لله

وَ... لِرَسُولِهِ

وَ... لإِمَامِكَ

ويقلل من الحذف في النص:

فَوَلِّ مِنْ جُنُودِكَ أَنْصَحَهُمْ

وَ... أَنْقَاهُمْ جَيْباً

وَ... أَفْضَلَهُمْ حِلْماً

ومن حذف العبارة: ((وَمن طَلبَ الْخَرَاجَ بِغَیْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ، وَأَهْلَكَ الْعِبَادَ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً))(38) فجاء الحذف على وفق الآتي:

ومَن طَلَب الْخَرَاجَ بِغَيْرِ عِمَارَة أَخْرَبَ الْبِلاَدَ

وَ... أَهْلَكَ الْعِبَادَ

وَ... لَمْ يَسْتَقِمْ أَمْرُهُ إِلاَّ قَلِيلاً

ومن حذف العبارة قوله: ((ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلاَ

تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً، فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِيَانَةِ وَتوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَيَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الإِسْلاَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ)) (39).

ص: 22

ثانياً: التماسك في حذف الجملة

يقول - عليه السلام -: ((وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ، وَالْمَحَبَّةَ لَهُمْ، وَاللُّطْفَ بِهِمْ، وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ))(40)، وهناك حذف جملتين في هذا النص تعود على مرجع في جملة سابقة:

(وَأَشْعِرْ قَلْبَكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِيَّةِ) و... المحبة لهم = وأشعر قلبك المحبة لهم

و... اللُّطفُ بهم = وأشعر قلبك اللطف بهم

وهذا الحذف أسهم بشكل فاعل في زيادة حيوية النص، فإن التكرار - غالباً - يبعثُ السأم إذا كان في غير محله، وقد أوكلَ ملئ مكان المحذوف للمتلقي الذي يقوم بحركة ذهنية تنشط مهمة التفاعل والإصغاء الذي يبحث عنها المنشئ، والحذف هنا يعطي فرصة للمشاركة في إنتاج الدلالة وإكمال الصورة بوقعها الداخلي، ويتضح من خلال السياق قصدية الحذف في (أشعر قلبك) إذ ينبه المتلقي بوقع ذلك المعنى والإحساس به، فيراه مرة شكلاً مكتوباً في النص ويدركه أخرى بقلبه محذوفاً في سياق يحمل كلّ معاني التعايش والرقي الإنساني من (رحمة ومحبة ولطف).

ومن حذف الجملة يقول - عليه السلام -: ((وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ

وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يُبَجِّحُوكَ بِبَاطِل لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الاْطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ))(41)، وحذف الجملة (الْصَقْ بِأَهْلِ) من الجملة الثانية: (وَ... الصِّدْقِ) أسهم في قوة الربط؛ وذلك ليجعل عامله قريباً من أهل الورع، وأهل الصدق بل ملتزقاً بهم، والحذف ساعد في جذب الجملتين

ص: 23

وشدَّ من ارتباطهما المعنوي. ومن حذف الجملة عند الإمام (عليه السلام) حذف فعل الأمر (املك المتضمن الفاعل المستتر) في قوله: ((امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ، وَسَوْرَةَ حَدِّكَ، وَسَطْوَةَ يَدِكَ، وَغَرْبَ لِسَانِكَ..))(42) فثمّة جمل محذوفة تعود على جملة مرجع قبلها وهذا الحذف جعل الكلام متصلاً منسجماً له أصل مرتبط به يوضح بعمق غرض الحذف الذي يريده الأمام - عليه السلام - وهو الالتزام بهذه الصفاة التي أمرها به وهي وصايا إنسانية بحتة.

امْلِكْ - حَمِيَّةَ أَنْفِكَ، وَ.... سَوْرَةَ حَدِّكَ، وَ.... سَطْوَةَ يَدِكَ، وَ.... غَرْبَ لِسَ

الجملة المرجع

ثالثاً: التماسك في حذف الكلمة:

يقول الإمام علي - عليه السلام - في أرقی کلام إنساني هزّ النفس البشرية في تقسيم الناس تقسیماً يفضي إلى احترام الآخر وإن كانَ على غير دين: ((وَلاَ تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ، فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ: إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ، وَإمّا نَظِیرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ))(43)، فإذن ثمَّة صنفان من الناس حذف الإمام اسمي هذين الصنفين:

(.... إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ) والتقدير: الأول إمّا أخٌ...

(.... إمّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ) والتقدير: الثاني إمّا نظيرٌ...

وحذف ذلك لوعي المخاطب بالمحذوف، وكذلك فأنّ ((الصمتَ عن الإفادةِ، أَزْيَدَ للإِفادة، وتَجدُكَ أَنْطَقَ ما تكونُ إِذا لم تَنْطِقْ، وأَتمَّ ما تكونُ بياناً إذا لم تبن))(44)، فاصبح الكلام يرفلُ بالإيجازین (القصر والحذف)، ولو تأملنا هذا النص جيداً لوجدنا

ص: 24

مسوغ تقديم الصنف الأول: الأَخُ فِي الدِّينِ على الصنف الثاني: النَظِیرٌ فِي الْخَلْقِ؛ لأنَّ الصنف الأول يحمل مزیتین: (1 - الأخ في الدين 2 - النظير في الخلق)، أمّا الصنف الثاني: فله مزية واحدة (نظير الخلق) ويشترك الاثنان كلاهما في النوع البشري.

أصناف الناس - الصفات - العامل المشترك

1 - أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ - مسلم + بشر (نوع الجنس) - النوع واحد بشر

2 - نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ - النوع (بشر)

وبهذا يشرق النص بمعانٍ تنبئ عن تلك الروح الإنسانية التي لا تفرِّق بين ابناء النوع البشري الواحد وتدعو إلى التعايش السلمي بين الطوائف المختلفة، وهي معانٍ راسخة في نهج الإمام - عليه السلام - يفيضها على تابعيه وعماله ومن حوله.

ويأتي حذف الكلمة عند الإمام - عليه السلام - في قوله: ((إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ (45) اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيُهِینُ كُلَّ مُخْتَال))(46) للدلالة على معنى التحذير الذي جاء عن طريق ضمير النصب المنفصل (إياكَ) مع الواو العاطفة، وهو تنويع في الكلام غلب عليه الطابع التهذيبي الذي عرف به الإمام -عليه السلام - وهو سلوك خلقي وديني يريد أن يسبغه على رعيته، وكأنّه يريد أن يطبع سجاياه في نفس عامله (مالك الأشتر) وينقلها بصدق لينفعل معها الناس، إذ ((لايعدّ صادقاً أيُّ نصٍّ أدبيّ لا يعبّر عن المشاعر التي ینفعل لها المجموع برغم أنَّ التعبير فيها أساساً ذاتيٌّ محض))(47)، فجاء التعبير بجملتين

الجملة 1: إِیَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ

الجملة 2: .... وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ

ص: 25

فحذف الضمير في الجملة الثانية ساعد في ربط المعنى وأبان عن ماهية التحذير، ولم يترك ذلك سدى وإنّما علله بقوله: (فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّار، وَيُهِینُ كُلَّ

مُخْتَال)، ويأتي حذف كلمة التحذير (إياك) في قوله: ((إِيَّاكَ وَالدَّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَیْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَة)(48).

= إِیَّاكَ وَالدَّمَاءَ وَ... سَفْکَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا

ويحذف الكلمة نفسها في قوله: ((وَإِيَّاكَ وَالاِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا، وَحُبَّ الِاطْرَاءِ))(49).

= وِإِیَّاكَ والاِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَ... الثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا

ويحذف الكلمة نفسها في قوله: ((وَإيَّاكَ وَالاْسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ))(50)

= وَإِيَّاكَ والاْسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ، وَ... التَّغَابِيَ

فهناك تحذير يسير في تضاعيف الكلام ومنتشر في عموم الرسالة الهدف منه أخذ الحيطة والانتباه من الوقوع في مزالق الحكم، وهذا حرصٌ من الخليفة الحاكم (الإمام علي عليه السلام) في إقامة العدل مع الرعية.

ويأتي حذف اسم الإشارة ( أولئك) ليدخل في مجموعة لا تنفصل عن دلالات سابقة، يقول الإمام - عليه السلام -: ((إنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِأَشْرَارِ قَبْلَكَ

ص: 26

وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَیْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ

مِثْلُ آصَارِهِمْ وَأَوْزَارِهِمْ وَآثَامِهِمْ، مِمَّنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِهِ، وَلاَ آثِماً عَلَى إِثْمِهِ، أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، وَأَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَأَقَلُّ لِغَيْرِكَ

إِلْفاً، فَاتَّخِذْ أُولئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِكَ وَحَفَلاَتِكَ)(51)، ففي النص لفتٌ لذهن عامله في تأمل النص من دون تشويش أو ضبابية، وخذف اسم الإشارة (أولئك) يحمل مخزوناً لغوياً يعود على صفات الصالحين الذي ينصح الإمام (عليه السلام) بالاستعانة بهم، فصار اسم الإشارة (أولئك) المتحرك الذي يربط الجمل ومكوناً خصباً في الربط النصي بيَّن فائد

أُولئِكَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً، وَ... أَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً، و... أَحْنَى عَلَيْكَ عَطْفاً، وَ... أَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً

المرجع المذکور المحذوف المحذوف المحذوف

ومن حذف الكلمة التي تحدث التماسك، يقول الإمام: ((وَأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الَعُلَمَاءِ، وَمُنَافَثَةَ الْحَكَمَاءِ، فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْهِ أَمْرُ بِلاَدِكَ، وَإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِهِ النَّاسُ قَبْلَكَ)(52) وجاء الحذف - هنا - ليؤدي دوراً في رسم صورة للحياة الراقية التي يريدها الإمام، فالإكثار من مجالسة العلماء والحكماء توجيه غاية في الوعي والحرص على تثقيف عامله لينهل من المنابع الصافية (الدراية والحكمة) التي - عادةً - ما تقبع عند هذين الصنفين (العلماء والحكماء) فحذف فعل الإكثار (أكثر) من الجملة الثانية:

أَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الَعُلَمَاءِ

وَ... مُنَافَثَةَ الْحُکَمَاءِ

ص: 27

وهذا من حذف الكلمة المثمر الذي أسهم في توصيل فكرة مفادها: الاستعانة بذوي الخبرة من الناس.

رابعاً: التماسك في حذف (إنّ) واسمها

وهو حذف الحرف الناسخ (إنَّ) ونصف الجملة الاسمية (المبتدأ) ومن هذا الحذف النصي الذي يحيل على مرجع في عهد الإمام - عليه السلام - قوله: ((وَلاَ

تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْو، وَلاَ تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَة، وَلاَ تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَة، وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً، وَلاَ تَقُولَنَّ: إِنِّي مُؤَمَّرٌ، آمُرُ فَأُطَاعُ؛ فَإِنَّ ذلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ، وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ،

وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِیَرِ)(53) فقد حذف من النص إنّ التوكيدية الناصبة واسمها من جملتين متصلتين بالأولى شكلياً ومعنوياً:

إِنَّ ذلكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ

وَ... مَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ

وَ... تَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ

فالحذف يؤسس لبناء رابط ينطلق تأثيره من المبدع الذي يترك بصماته في النص ليتحمل إعادة صياغته خيال المتلقي الذي يكمل الصورة، وغزارة الحذف في نص الأمام - عليه السلام - يوحي بقصديةٍ فاعلةٍ في تهيأت بناء يضمن انسجام النص وانتظام مكوناته، ذلك أنّه ((یترك على أطراف المعاني ظلالاً خفيفة يشتغل بها الذهن ويعملُ فيها الخيال حتى تبرزَ وتتلون وتتبع ثمَّ تتشعب إلى معانٍ أخر يتحملها اللفظ بالتفسير والتأويل)) (54) وهذا الحذف يجعل عامله (مالك الأشتر) يتأمل هذه الكلمات فلا يقوم بفعل إلا بعد التوكّل على الله، وهو بذلك يقوّي

ص: 28

الدين ويتقرب إلى الله - تعالى - وينآى بنفسه عن ضعف مقاومة الدنيا والاغترار بالسلطة.

ويكرر الإمام - عليه السلام - حذف (إنّ واسمها) بعد أن ذكرها سابقاً في العبارة ((وَإِذَا أَحْدَثَ لَكَ مَا أَنْتَ فِيهِ مِنْ سُلْطَانِكَ أُبَّهَةً أَوْ مَخِيلَةً، فَانْظُرْ إِلَی عِظَمِ

مُلْكِ اللهِ فَوْقَكَ، وَقُدْرَتِهِ مَنْكَ عَلَى مَا لاَ تَقْدرُ عَلَيْهِ مِنْ نَفْسِكَ، فَإِنَّ ذلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِ ، وَيَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ، ويَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ))(55) إنّ واسمها وخبرها تفيد توكيد المعنى وذكرها في هذا النص بوصفها مرجعا (فَإِنَّ

ذلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِ) ثمَّ حذفها هي واسمها وابقاء خبرها (وَ.... يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ) و (و.... يَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ) يقوي المعنى؛ لأنّ توكيدها الأول حاضرٌ في اللفظ مدرك بالحواس وتوكيدها الثاني (بالحذف) وهو مدرك بالذهن، وهذا النمط من التعاون (بين الذكر والحذف) في إدراك المفهوم يربط العلاقات وينظّم حلقات الاتصال ويقوّي المعنى المراد تأكيده.

فَإِنَّ ذلِكَ يُطَامِنُ إِلَيْكَ مِنْ طِمَاحِ

و... يَكُفُّ عَنْكَ مِنْ غَرْبِكَ

و... یَفِيءُ إِلَيْكَ بِمَا عَزَبَ عَنْكَ مِنْ عَقْلِكَ

ويعود ليقوّي سلسلة النص ويطرق على المعنى الذي يريد تأكيده فيقوم بربط الجملتين برباط الحذف فيحذف (إنّ) التوكيدية واسمها من الجملة الثانية في قوله: ((إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ (56) اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ

جَبَّار، وَيُهِینُ كُلَّ مُخْتَال)) (57) ففي الكلام تحرك لغوي ب (اللفظ) على مستوى النص مقصود، يثير فعل نفسي داخلي يحرّك ذهن المتلقي في صياغة الدلالة الكاملة بالعودة بالحذف على مرجع سابق في الجملة الخبرية الطلبية ((فكما أنّ قصد

ص: 29

المتكلم هو الذي أنتج النص اللغوي؛ فإنّ النص اللغوي هو السبيل الوحيد للكشف عن قصد المتكلم))(58)، فثمة جملتان: الأولى تامة والثانية أكملها المتلقي وملأ الفراغ المحذوف:

فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ کُلَّ جَبَّار، وَ...... یُهِينُ کُلَّ مُخْتَال

وهذا الحذف التوكيدي يقوّي دعوى الإمام - عليه السلام - بضرورة الورع والبعد عن ما يغضب الله - تعالى - وهي الصفات التي لا يريدها في الحاكم الأرضي ومنها (جبار، مختال) وبذلك وضع الألفاظ في مكانها المناسب لتعطي ثمارها في التأثير والقوة؛ لأنَّ ((الوضع المؤثر وضع الشيء الوضع اللائق به، وذلك يكون بالتوافق بين الألفاظ والمعاني والأغراض من جهة ما يكون بعضها في موضعه من الكلام متعلقا ومقترنا بما يجانسه ويناسبه ويلائمه من ذلك)) (59) وهذا التجانس والتلاؤم سار في نص الإمام - عليه السلام -.

ويستمر بحذف (إنّ واسمها) وبسياق متصل بما قبله، فيقول: ((إنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً، وَمَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ، فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَیْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ

لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ))(60)، يفتح الإمام - عليه السلام - نوافذَ كثيرة على نجاح شؤون الحكم ومنها الإيماء إلى اللذينَ لا يستعان بهم وهم الوزراء اللذين عملوا مع الأشرار ويظهر هذا التوكيد مهمًا في وعي الإمام من خلال تأكيده للمعنی بحرف التوكيد (إنّ) وهذا تعبير يبين خطورة هؤلاء وعمق ضررهم على الحاكم، وحذف إنّ واسمها وإحالتها بالحذف إلى المذكور سابقاً يلوّن النص بصبغة الحكمة

ص: 30

ويفسح مجالاً واسعاً أمام عاملهِ لاختيار الأصلح من الوزراء والمستشارين والإفادة من الأثر الماضي الذي جسّده بصيغ الماضي (كان، قبلك، شركهم) لإصلاح الزمن الحاضر:

= إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلأَشْرَارِ قَبْلَكَ وَزِيراً

= و... مَنْ شَرِكَهُمْ فِي الآثَامِ، فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً

ويمضي النص بالتناسق المترع بالدلالة التوكيدية المنسكبة في تعليل المشورة، بغية لصق المعنى في ذهن عامله: (فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأثَمَةِ، وَإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ، وَأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَیْرَ الْخَلَفِ مِمَّنْ لَهُ مِثْلُ آرَائِهِمْ وَنَفَاذِهِمْ)، ويأتي هذا التهاطل التوكيدي مع أسلوب الحذف: [فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأثَمَةِ، وَ...... إِخْوَانُ الظَّلَمَةِ] لتنشيط ذاكرة عامله وتحذيره من الاتكاء على من لا فائدة منه والبحث عن بدائل نافعة يُستعان بها غير هؤلاء. وفي هذا النوع من التماسك قوة وفاعلية كبيرة بسبب حذف (إنّ) التوكيدية ووصل المحذوف بحرف العطف (الواو) التي تفيد التشريك. ومما ورد من حذف (إنَّ) واسمها وهو كثير في عهد الإمام، قوله:

((وَالْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَعِ وَالصِّدْقِ، ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلاَّ يُطْرُوكَ وَلاَ يُبَجِّحُوكَ بِبَاطِل لَمْ تَفْعَلْهُ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الاْطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ، وَتُدْنِي مِنَ الْعِزَّةِ))(61)

((وَلاَ يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيِءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَة سَوَاء، فَإِنَّ فِي ذلِكَ تَزْهِيداً لأهْلِ الإحْسَانِ فِي الإحْسَانِ، وتَدْرِيباً لأهْلِ الإسَاءَةِ عَلَى الإسَاءَةِ)) (62)

((وَإِنَّ أَفْضَلَ قُرَّةِ عَیْنِ الْوُلاَةِ اسْتِقَامَةُ الْعَدْلِ فِي الْبِاَدِ، وَظُهُورُ مَوَدَّةِ الرَّعِيَّةِ، وَإِنَّهُ لاَ تَظْهَرُ مَوَدَّتُهُمْ إِلاَّ بَسَلاَمَةِ صُدُورِهِمْ، وَلاَ تَصِحُّ نَصِيحَتُهُمْ إِلاّ بِحِيطَتِهِمْ عَلَى

ص: 31

وُلاَةِ أُمُورِهِمْ، وَقِلَّةِ اسْتِثْقَالِ دُوَلِهِمْ، وَتَرْكِ اسْتِبْطَاءِ انْقِطَاعِ مُدَّتِهِمْ)) (63).

((فَافْسَحْ فِي آمَالِهِمْ، وَوَاصِلْ فِي حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ، وَتَعْدِيدِ مَا أَبْى ذَوُو الْبَلاَءِ مِنْهُمْ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الذِّكْرِ لِحُسْنِ أَفْعَالِهِمْ تَهُزُّ الشُّجَاعَ، وَتُحَرِّضُ النَّاكِلَ، إِنْ شَاءَ

اللهُ)) (64)

((فَإِنَّ ذلِكَ دَلِيلٌ عَلَی نَصِيحَتِكَ لله وَلِمَنْ وَلِيتَ أَمْرَهُ)) (65)

((فَإِنَّهُمْ سِلْمٌ لاَ تُخَافُ بَائِقَتُهُ، وَصُلْحٌ لاَ تُخْشَى غَائِلَتُهُ)) (66).. وغيرها الكثير.

وقد يخالف هذا الحذف وبأسلوبٍ جميل تتضح فيه سمة البليغ فيحذف (إنَّ وخبرها المقدم) كما في قوله: ((وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولله فِيهِ رِضىً،

فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وأَمْناً لِبِلاَدِكَ)) (67) وهذا التنويع في الأساليب يمنح النص الحركة ويبث فيه الحياة:

فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَ.... رَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، و....أَمْناً لِبِلاَدِكَ

خامساً: التماسك بحذف كان واسمها

وقد يحذف كانَ واسمها ويبقي خبرها، فيقول: ((ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ، وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيَما يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لأَوْلِيَائِهِ، وَاقِعاً ذلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ))(68) ساعد الحذف مع فعل الكون الدال على المستقبل في بيان الصورة التي يُريد ايصالها إلى عامله، وقرنَ الفعل ب (لام الأمر) للدلالة على الأمر الصادر منه لخاصته، وهو يتلاءم والذوق الخلقي لمنهج الحكم في تقريب صاحب قول الحق ولو كانَ مراً على الحاكم، وجاء الحذف ليفعِّل

ص: 32

ذلك المنهج:

لْیَکُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُم بِمُرّ الْحَقِّ لَكَ

و... أَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَكُونُ مِنْكَ مِمَّا كَرِهَ اللهُ لأَوْلِيَائِهِ

وعلى هذا فالصورة النحوية تسهم في تفاعل الخطاب؛ لأنّها ((كالصورة الصوتية أو المعجمية تبرز - في لغة الشعر - تدافعا في عناصر التركيب البنائي التي يجمعها النثر))(69)، وهذا التماسك في عناصر التركيب ولّد نصاً عامراً بالبيان والتأثير في مفاصل الرسالة.

سادساً: التماسك في حذف الحرف

وقد يحذف حرفًا ليقوم بمهمة ربط جملتين في النص كما في قوله عليه السلام -: ((وَمَنْ ظَلَمَ عِبَادَ اللهِ كَانَ اللهُ خَصْمَهُ دُونَ عِبَادِهِ، وَمَنْ خَاصَمَهُ اللهُ أَدْحَضَ

حُجَّتَهُ، وَكَانَ لله حَرْباً حَتَّى يَنْزعَ وَيَتُوبَ.)) (70)، فقد حذف (حتى) الناصبة المقرونة بحرف العطف (الواو) في جملتين فعليتين متصلتين في المعنى، فربط الحذف الجملتين: (حَتَّى يَنْزعَ) + (وَ.... يَتُوبَ) والنص يتحدث عن نبذ الظلم وإقامة العدل؛ لأنَّ الظالم يقيم حرباً مع الله - تعالى - ولابُدَّ له من أمرين أمّا ينزع (يقلع عن ظلمه) أو يتوب، وعلى هذا فإنّ ما يصدر في هذه الوثيقة ليست تعليمات وقتية وإنّما بناء لفكر قائم على العدالة وإنصاف الرعية وهو عطاء إسلامي أصيل.

ومن حذف الحرف عنده ((وَلاَ تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطيِفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلَى جَسِيمِهَا، فَإِنَّ لِلْيَسِیرِ مِنْ لُطْفِكَ مَوْضِعاً يَنْتَفِعُونَ بِهِ، وَلِلْجَسِيمِ مَوْقِعاً لاَ يَسْتَغْنُونَ عَنْهُ))(71) فقد ذكر - في الجملة الأولى - الحرف الناسخ (إنّ) عنصر التوكيد وحذفه في الجملة

ص: 33

الثانية؛ ليجعل عامله يؤكد الكلام بنفسه من خلال ردّ المحذوف فحصل توکیدان (=مذكور + مضمر) فردّ المحذوف في الذهن أصبح بمثابة تقوية للمعاني الملقاة على عاتق المتلقي (مالك الأشتر) فحقق بالحذف هدف التأثير الإبداعي.

خاتمة البحث: من بعض مقومات البلاغة الإيجاز في الكلام بغية الاقتصاد والتأثير والنأي عن ترهل النص، ولم يقتصر الحذف الذي جاء به الإمام علي - عليه السلام - على ذلك؛ وإنما أسهم في تماسك النص إذ جاءت معظم المحذوفات وهي تعود على مراجع سابقة توضحها، وقد غلب حذف العبارة في هذه الرسالة على غيره من المحذوفات، وهذا النمط يقوّي الترابط الحاصل في النص ويكثّف المعنى المراد، ويتضح - من خلال البحث - الدقة في التعاطي مع المحذوفات ومهارة استعمالها بوصفها من المكونات النصية التي يتجانس بها الكلام ولا سيّما في الخطاب الإداري.

هوامش البحث:

1. علم اللغة مقدمة للقارئ العربي: 312.

2. كتاب العين: (حذف) 3 / 201.

3. ظ: مختار الصحاح: 69. المصباح المنير: 1 / 126.

4. علم لغة النص، عزة شبل: 116.

5. ينظر في ذلك: أثر التماسك النصي في تكوين الصورة البيانية: 254 - 255.

6. کتاب سیبویه: 3 / 103.

7. کتاب كتاب سيبويه: 1 / 76. ظ: ديوان قيس بن الخطيم، تحقيق: ناصر الدين الأسد: 239. ظ: الدلالة السياقية عند اللغويين: 105.

8. ظ: النحو العربي والدرس الحديث: 149 - 150. علاقة الظواهر النحوية بالمعنى في القرآن الكريم: 107.

9. يفرط: يسبق. والزلل: الخطأ.

10. استكفاك: طلب منك كفاية أمرهم والقيام بتدبير مصالحهم.

ص: 34

11. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 84.

12. کتاب الصناعتين: 47.

13. شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد: 19 / 4.

14. حرب الله: مخالفة شريعته بالظلم والجور

15. لا يدي لك بنقمته: أي ليس لك يد أن تدفع نقمته، أي لا طاقة لك بها.

16. بجح به: كفرح لفظاً ومعنى.

17. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 84.

18. العلاقة بين اللغة والفكر: 56.

19. مالك الأشتر وعهد الإمام له: 78.

20. الأُبهة - بضم الهمزة وتشديد الباء المفتوحة -:العظمة والكبرياء. والمخيلة - بفتح فكسر -: الخيلاء والعجب.

21. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 84 - 85.

22. لغة الخطاب الإداري دراسة لسانية تداولية: 22.

23. من لك فيه هوى: أي لك إليه ميل خاص.

24. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 85.

25. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 85.

26. بناء لغة الشعر، جون كوين: 167.

27. يجحِف برضى الخاصة: يذهب برضاهم.

28. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 86.

29. الالحاف: الالحاح والشدة في السؤال.

30. جِماع الشيء - بالكسر: جمعه، أي جماعة الإسلام.

31. الصِغْو بالكسر والفتح: الميل.

32. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 86.

33. أصول تحليل الخطاب، محمد الشاوش: 2 / 1032.

34. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 87.

35. البلاغة والأسلوبية، محمد عبد المطلب: 218.

36. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 89.

37. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 91. جيب القميص: طوقه، ويقال: تقي الجيب، أي: طاهر

ص: 35

الصدر والقلب. الحِلم: العقل. ينبو عليه: يتجافى عنهم ويبعد.

38. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 96.

39. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 95.

40. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 84

41. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 88. رُضْهُم: أي عوّدهم على ألا يطروك، أي يزيدوا في مدحك. لا يُبجّحُوك: أي يفرحوك بنسبة عمل عظيم اليك ولم تكن فعلته. الزَهْو، بالفتح: العُجْب. تدني: أي تقرب. والعزة هنا: الكِبْر.

42. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 109 - 110. يقال: فلان حمّي الانف: إذا كان أبياً يأنف الضيم، والسَوْرة: بفتح السين وسكون الواو: الحِدة، والحَدّة - بالفتح: البأس، والغَرْب بفتح فسكون: الحدّ تشبيهاً له بحد السيف ونحوه.

43. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 84.

44. کتاب دلائل الاعجاز: 146.

45. المساماة: المباراة في السمو، أي العلو.

46. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 84

47. النقد الأدبي الحديث أصوله واتجاهاته، د. أحمد كمال زكي: 258.

48. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 107.

49. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 108.

50. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 109.

51. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 87. وبِطانة الرجل بالكسر: خاصته، وهو من بِطانة الثوب خلاف ظهارته. الأئمة: جمع آثم، وهو فاعل الإثم أي الذنب. الظّلَمَة: جمع ظالم. الاصار: جمع إصر بالكسر، وهو الذنب والاثم. الاوزار: جمع وِزْر، وهو الذنب والإثم أيضاً. الإلف - بالكسر:

الألفة والمحبة.

52. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 89. والمنافثة: المجالسة.

53. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 84. البادرة: ما يبدر من الحدة عند الغضب في قول أو فعل. والمندوحة: المتسع أي المخلص. والإدغال: إدخال الفساد. منهكة: مضعفة، نهكه: اضعفه. والغِير: حادثات الدهر بتبدل الدول والاغترار بالسلطة.

54. دفاع عن البلاغة:99.

55. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 85. الابّهة - بضم الهمزة وتشديد الباء مفتوحة: العظمة

ص: 36

والكبرياء. المَخِيلة بفتح فكسر: الخيلاء والعجب. يُطامن الشيء: يخفض منه. الطِماح - ككتاب: النشوز والجماح الغَرْب - بفتح فسكون: الحدة. يفيء: يرجع. عَزَب: غاب.

56. المساماة: المباراة في السمو، أي العلو.

57. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 84

58. دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة: 201.

59. منهاج البلغاء وسراج الأدباء: 153.

60. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 87. وبِطانة الرجل - بالكسر: خاصته، وهو من بِطانة الثوب خلاف ظهارته. الأثمة: جمع آثم، وهو فاعل الإثم أي الذنب. الظّلَمَة: جمع ظالم.

61. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 88. رُضْهُم: أي عوّدهم على ألا يطروك، أي يزيدوا في مدحك. لا يُبجّحُوك: أي يفرحوك بنسبة عمل عظيم اليك ولم تكن فعلته. الزَهْو، بالفتح: العُجْب. تدني:

أي تقرب. والعزة هنا: الكِبْر.

62. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 88.

63. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 92.

64. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 93. ذوو البلاء: أهل الاعمال العظيمة. يحرض الناكل: يحث المتأخر القاعد.

65. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 99.

66. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 100.

67. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 105 - 106. الدعة: الراحة.

68. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 88.

69. بناء لغة الشعر، جون کوین: 191.

70. نهج البلاغة، محمد عبده: 3 / 85. وينزع - كيضرب - أي: يقلع عن ظلمه.

71. نهج البلاغة، محمد عبدُه: 3 / 92.

ص: 37

المصادر والمراجع

أولاً: القرآن الكريم

ثانيا: الكتب

1. أثر التماسك النصي في تكوين الصورة البيانية، شعر خالد الكاتب أنموذجاً، د. كاظم عنوز، 4D للطباعة والتصميم، النجف - العراق، ط 1، 1437 - 2016.

2. أصول تحليل الخطاب في النظرية النحوية العربية تأسيس (نحو النص)، محمد الشاوش، جامعة منوبة - تونس، ط 1، 1421 - 2001.

3. البلاغة والأسلوبية، د. محمد عبد المطلب، الهيأة المصرية العامة للكتاب - القاهرة، 1984.

4. بناء لغة الشعر، جون كوين، ترجمة وتقديم وتعليق: د. أحمد درویش، كتابات نقدية سلسلة تصدرها الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة.

5. دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة، د. سعيد حسن بحيري الآداب - القاهرة، ط 1، 1426 - 2005.

6. دفاع عن البلاغة، احمد حسن الزيات، مطبعة الرسالة، 1945.

7. الدلالة السياقية عند اللغويين د. عواطف كنوش المصطفى، دار السياب للطباعة - لندن، ط 1، 2007.

8. ديوان قيس بن الخطيم، تحقيق: د. ناصر الدين الأسد، دار صادر - بيروت.

9. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (ت 656 ه)، تحقيق محمد أبي الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه، ط 1، 1378 - 1959.

10. علاقة الظواهر النحوية بالمعنى في القرآن الكريم، د. محمد أحمد خضير، مكتبة الأنجلو المصرية، مصر - 2001.

11. العلاقة بين اللغة والفكر، دراسة للعلاقة اللزومية بين الفكر واللغة، د. أحمد عبد الرحمن حماد، دار المعرفة الجامعية، الاسكندرية - 1985.

12. علم اللغة - مقدمة للقارئ العربي، د. محمود السعران، دار النهضة العربية - بيروت (د - ت).

ص: 38

13. علم لغة النص - النظرية والتطبيق، د. عزة شبل محمد، مكتبة الآداب - القاهرة، ط 1، 1428 - 2007.

14. كتاب دلائل الإعجاز، للجرجاني (أبي بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن: ت - 471 ه)، تحقيق: محمود محمد شاكر: مكتبة الخانجي - القاهرة (د - ت).

15. كتاب سيبويه، لسيبويه (أبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر: ت - 180 ه)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، الخانجي - مصر، ط 3، 1408 - 1988.

16. كتاب الصناعتين الكتابة والشعر، للعسكري (أبي هلال الحسن بن عبد الله بن سهل: ت - 395 ه)، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبو الفضل إبراهيم، المكتبة العصرية ؇ بيروت، 1427 - 2006.

17. کتاب العين، للفراهيدي (الخليل بن أحمد: ت - 175 ه)، تحقيق: د. مهدي المخزومي، د. إبراهيم السامرائي، دار ومكتبة الهلال - بيروت (د - ت).

18. لغة الخطاب الإداري دراسة لسانية تداولية، فريدة لعبيدي، دار الوسام العربي، الجزائر، ط 1، 1432 - 2010.

19. مالك الأشتر وعهد الإمام له، عباس علي الموسوي، دار الأضواء، بيروت، 1407 - 1987.

20. مختار الصحاح، للرازي (محمد بن أبي بكر بن عبد القادر: ت - 666 ه)، دار الرسالة - الكويت، 1403 - 1983.

21. المصباح المنير المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للفيومي (أبي العباس أحمد بن محمد بن علي، ت: نحو 770 ه-)، تحقيق: مصطفى السقا، مكتبة البابي الحلبي، القاهرة 1950.

22. منهاج البلغاء وسراج الأدباء، للقرطاجني (حازم بن محمد حسن: ت - 684 ه)، تحقيق، محمد الحبيب بن خوجة، المطبعة الرسمية - تونس، 1966.

23. النحو العربي والدرس الحديث بحث في المنهج، د. عبده الراجحي دار النهضة العربية - بيروت، 1406 - 1986.

24. النقد الأدبي الحديث أصوله واتجاهاته، د. أحمد زكي أبو شادي، مكتبة لبنان ناشرون - الشركة المصرية العالمية للنشر - لوجمان، ط 1، 1977.

ص: 39

25. نهج البلاغة (مجموع ما اختاره الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، شرح: محمد عبدة، دار المعرفة - بيروت (د - ت).

ص: 40

أثر نهج البلاغة في إثراء المعجم الشعري للمتنبي (ت 354 ه) أ.م.د. أنوار سعيد جواد

اشارة

م.د. بشری حنون محسن

جامعة كربلاء كلية العلوم الاسلامية

ص: 41

ص: 42

مقدمة:

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلقه اجمعين محمد واله الطيبين الطاهرين وبعد:

حظي المتنبي وشعره بالعديد من المؤلفات والدراسات والبحوث منذ ظهوره شاعرا سطع نجمه في سماء الشعر العربي في العصر العباسي؛ وعلى وجه التحديد في القرن الرابع الهجري وإلى يومنا هذا؛ فما زال شعره محط أنظار الباحثين والدارسين لما يمتلك نصه الشعري من رؤی ابداعية؛ وخصائص فنية؛ وسمات جمالية مازالت معينا لا ينضب للدارسين والباحثين عنها.

ولعل مرجع ذلك إلى ان نص المتنبي الشعري نص عميق الغور؛ وبعيد المرمی؛ ويحمل الكثير من التجليات والأسرار التي تدفع بالقارئ أو المتلقي إلى سبر هذا الغور والوقوف عند ابعاده ومراميه.

وقارئ حياة المتنبي وشعره يدرك مدى العلاقة التي تربط الشاعر ونصه الشعري بتراثه الانساني وما يحمله من قيم ومبادئ ومُثل؛ وكذلك اطلاعه الواسع على المعارف السائدة في عصره وقبل عصره. كل ذلك أسهم في خلق نص ثري من العلاقات والتراكمات المعرفية لهذا المبدع؛ فكانت بمثابة الروافد التي تمد بحر عطائه الشعري.

ومن هنا كان المبدع؛ ومن ثم نصه الابداعي أو الشعري بناء متعدد القيم والأصوات، يتوارى خلف كل نص أصوات متعددة اخرى غير صوت الشاعر، ومن هذه الأصوات صوت الإمام علي (عليه السلام) الذي يعد رافدا ابداعيا

ص: 43

من روافد شعر المتنبي والتي اسهمت في اثراء موهبته الشعرية؛ واثراء معجمه الشعري سواء على مستوى اللفظ او المعنى، وهذا ما يتضح من العلاقات القائمة بين نصوص شعر المتنبي ونصوص من نهج البلاغة الذي يعد مصدرا خصبا وثريا بالألفاظ الجزلة والمعاني العميقة والرؤية الابداعية في سبر اغوار الحياة بكل اشكالها ومعانيها، وهنا يكمن ابداع المتنبي في توظيفه لهذه النصوص ومحاولته طبعها بطابعه الخاص وذلك من خلال اضفاء شحنات دلالية خاصة يعبر من خلالها الشاعر عن رؤاه الشعرية؛ فضلا عما يكشف من خلالها عن غنی هذه التجربة الثقافية التي يمتلكها إلى جانب انفتاحه الرحب على مختلف الثقافات ومحاولته الافادة منها في اثراء نصه الشعري؛ إلى جانب ما يكشفه هذا التعامل مع نصوص من نهج البلاغة من براعة في التناول والأخذ والتأثر. وهذا ما سيحاول البحث تناوله من خلال الوقوف عند استيحاء المتنبي لنصوص للإمام علي (عليه السلام) وردت فيما بعد في نهج البلاغة وتوظيفها في شعره؛ سواء ما يتعلق بألفاظه أم بمعانيه راسمة بذلك صوره الشعرية المتميزة.

ص: 44

أثر نهج البلاغة في اثراء المعجم الشعري للمتنبي

لعل من الامور التي باتت من المسلمات أو البديهيات في دراسة المتنبي وشعره؛ انه رجل يتمتع بثقافة عالية وسعة اطلاع كبيرة؛ يشهد له بذلك الكثير من النقاد والدارسين لشعره قديما وحديثا، ولا أدَّل على ذلك من كتب السرقات التي ظهرت منذ ظهوره شاعرا متميزا سطع نجمه في سماء الشعراء المبدعين في عصره وإلى يومنا هذا. فمازالت الدراسات والبحوث تنهل من فيض عطائه الشعري من خلال سبر غور نصوصه الابداعية والوقوف عند عبقريته الشعرية ومدی ابداعه؛ فضلا عن اصالته الشعرية ((بشرط أن لا نفهم الأصالة ؇ بالضرورة ؇ على انها تجديدات شكلية أو مضمونية فقط، بل مفاهیم جديدة، أو تكوينات جديدة أيضا، تعتمد فيها تعتمد من الناحية المضمونية والتشكيلية على نماذج سالفة))(1).

ومن هذه النماذج السالفة نصوص الامام علي (عليه السلام) التي حملها التاريخ بين دفتيه حتى عصر الشريف الرضي (ت 406 ه) ليجمعها في (نهج البلاغة) وهذا ما يؤكده المسعودي (ت 346 ه) عند ذكره للإمام علي (عليه السلام): ((لم يلبس عليه السلام في ايامه ثوبا جديدا، ولا اقتنى ضيعة ولا ربعة..... والذي حفظ الناس عنه من خطبه في سائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة، وتداول الناس ذلك عنه قولا وعملا.))(2).

وهذا النص انما يؤكد حقيقة مفادها ان كلامه (عليه السلام) كان معروفا ومتداولا بين الناس قبل الشريف الرضي؛ هذا من جانب ومن جانب آخر ان ما

ص: 45

وصلنا من كلامه (عليه السلام) أقل بكثير مما ورد ذكره وجُمِعَ في (نهج البلاغة).

غير ان ما يعنينا من بحثنا هذا هو كيف أفاد المتنبي من كلام الإمام (عليه السلام)؟ وكيف وظف ذلك في بحر عطائه الشعري؟

ومعلوم ان كلامه (عليه السلام) فتح بابا مشرعة وواسعة أمام العلماء والأدباء والشعراء بما حملته نصوصه وخطبه وأقواله من جوانب معرفية وآفاق رحبة في مجال العلم والمعرفة إلى جانب الصياغة الفنية البارعة والمتميزة؛ فكان أن أخذ الشعراء منها ونهلوا من نبعها العذب الصافي؛ ومنهم المتنبي، حيث شكلت نصوصه ومعانيه وأقواله رافدا من روافد ابداعه الشعري.

في مجال إفادة المتنبي من ألفاظ الإمام علي (عليه السلام):

ليس بخافٍ على قارئ حياة المتنبي شغفه بالمطالعة وحبه للقراءة واطلاعه على آثار مَنْ سبقه منذ طفولته حتی سطوع نجمه شاعرا له بصماته المميزة في عالم الشعر والابداع فيه؛ فقد ((تعلم الكتابة والقراءة فلزم أهل العلم والأدب، وأكثر من ملازمة الوراقين فكان علمه من دفاترهم))(3). ويتضح هذا العلم بشكل أو بآخر في نتاجه الشعري؛ وفي قدرته على توظيف هذا الثراء المعرفي فيه؛ ولعل نصوص الامام علي (عليه السلام) واحدة من تلك العلوم والمعارف التي ترسبت في ذهن المتنبي واختزنتها ذاكرته الشعرية، فاذا ما أراد أن ينظم ((دفعت حافظة المرء على لسانه بعض ما ترسب منها مما وعاه لغيره، واختزنه لسواه))(4)، وهذا ما نستطيع أن نلحظه في قول المتنبي:

((وَلَذِيْذُ الْحَيَاةِ أَنْفَسُ فِي النَّفْسِ وَأَشْهَى من أَنْ يُمَلَّ وَأَحْلَی))(5)

حيث يذكر شارح دیوانه في معنى هذا البيت: ((الحياة لا تمل؛ وهي أعز

ص: 46

وأحلى من أن يملها صاحبها))(6) والمتتبع لكلام الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة يلحظ كيف أفاد الشاعر من الفاظ الإمام (عليه السلام) ووظفها في المعنى نفسه الذي جاءت به ووردت فيه؛ حيث يقول (عليه السلام): ((وَاٌعْلَمُوا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ إلاَّ وَيَكَادُ صَاحِبُهُ يَشْبَعُ مِنْهُ وَيَمَلَّهُ إلاَّ اٌلْحَيَاةَ))(7)

فقد أخذ المتنبي لفظة الملل والحياة ووظفها في الإطار ذاته الذي وردت في نص الامام (عليه السلام) السابق؛ حيث تشربه المتنبي واعاد صياغته من خلال استخدام اسلوب التقديم والتأخير في بعض الألفاظ مما يكشف عن قدرته في تطويع النصوص وإعادة تشكيلها بما يتلاءم وموهبته الشعرية ولعمق الاثر الذي تركته کلمات الامام في نفس الشاعر.

وفي موقف آخر عندما يتحدث عن طول الأمل في مقابل قصر الأجل؛ وان الذي يذهب من عمر المرء لا يعود؛ يقول:

((وَمَا مَاضِي الشَّبَابِ بِمُسْتَّردّ ٭٭٭ وَ لا يَوْمٌ يَمُرُّ بِمُسْتَعَادِ))(8)

فاننا نلحظ أثر قول الامام علي (عليه السلام) والفاظه وذلك في احدى خطبه التي فيها مواعظ للناس؛ حيث جاء فيها: ((لاَجَاءٍ يُرَدُّ، وَلاَ مَاضٍ يَرْتَدُّ))(9).

فقد أفاد المتنبي من لفظتي (الردّ، والماضي) واعاد توظيفهما بما يخدم تجربته الشعرية وابداعه الفني، بمعنى آخر انه أعاد صياغة النص القديم وفق معطيات الحدث التاريخي والنسق الابداعي ليتحول إلى نص جديد. ذلك ان المتنبي إنما ((يحاول أن يجد طريقه في خضم الزخم التقليدي الاحيائي ويجعل توظيفه للموروث القديم..... من أجل الخروج برؤية جديدة تواكب روح عصره وتعكس قضایا جوهرية لدى الانسانية المعاصرة له))(10). وهذا ما سبق أن ادرکه

ص: 47

العكبري شارح دیوانه عندما وقف عند قوله في مدح سيف الدولة الحمداني:

((كُلٌّ يُريْدُ رِجَالَهُ لِحَيَاتِهِ ٭٭٭ يَا مَنْ يُرِيْدُ حَيَاتَهُ لِرِجَالِهِ))(11)

اذ يقول شارحا: ((يريد ان الملوك سواك يطلبون عسکرهم وجنودهم، ليدافعوا عنهم ويجمعونهم على اعدائهم ليسلموا، وأنت تريد رجالك أن يبقوا ويسلموا، وتدافع عنهم، وهذا غاية الكرم والشجاعة. وقد بني البيت على حكاية تذکر عن سيف الدولة مع الاخشید...... يقول له: قد جمعت هذا الجيش، وجئت إلى بلادي، ابرز إليَّ ولا تقتل الناس بيني وبينك، فأينا غلب أخذ البلاد وملك أهلها...... وقد رُويَ مثل هذا عن عليّ عليه السلام: أنه بعث إلى معاوية، وهما بصفين: قد فني الناس بيني وبينك، فابرز إليَّ، فأينا قتل صاحبه ملك الناس.....))(12). يتضح مما تقدم كيف أفاد المتنبي من تشابه الحدث التاريخي الموروث وقدرته على توظيفه في نسق شعري يبرز من خلاله قدرته واصالته في ((أن يطوع هذا التراث في خدمة فنه دون أن يفني فيه، فالاتكاء على التراث لا ينفي عظمة الشاعر ولا يعني أن يتحول الشاعر إلى نسخة مكررة عن الآخرين، إذ لابد من فنه وشخصيته على ما هو بصدد الأخذ منه))(13).

وفي موضع آخر نلحظ كيف أفاد المتنبي من ألفاظ ونصوص الامام علي (عليه السلام) ووظفها في خدمة غرضه الشعري وفنه مستفيدا من وحدة الموضوع والغاية التي من أجلها بُنيَّ النص، فاذا كان الامام علي (عليه السلام) قد قال بعد تلاوته قوله تعالى: «أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ۝ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ»(14) في كلام له في حال الدنيا والآخرة وما ستؤول إليه الأشياء من الفناء؛ حيث يقول واصفا حال الدنيا: ((.... تَطَأُونَ فِي هَامِهِم، وَتَسْتَثْبِتُونَ فِي أَجْسَادِهِمْ، وَتَرْتَعُونَ فِيْمَا لَفِظُوْا....)) (15). نجد ان المتنبي يقوم باستيعاب هذا التراث من خلال جمعه بين ((تجاربه

ص: 48

وتجارب القدماء، ويستغل قدراته في معالجة كل ما هو موروث؛ واخراجه بشكل جديد يناسب عصره ))(16) والحدث الذي ينظم فيه؛ ففي معرض رئائه لوالدة سيف الدولة الحمداني يفيد المتنبي من هذا الرافد المتدفق المعطاء في رسم صورته الشعرية؛ حيث يقول:

((يُدَفِّنُ بَعْضَنَا بَعْضَاً وَيَمْشِي ٭٭٭ أَوَاخِرُنَا عَلَی هَاْمِ الأَوَالِي))(17)

فإذا كان الامام علي (عليه السلام) قد قال (تطأون في هامهم) فان المتنبي قال (تمشي أواخرنا على هام الأوالي) ويتضح كيف افاد المتنبي من الفاظ الإمام علي (عليه السلام) ووظفها في نصه وذلك من خلال التضمين. لقد كان المتنبي على وعي وادراك تام بظاهرة التأثر والافادة من تراث الآخرين ولاسيما وهو يدرك تمام الادراك ان الألفاظ مشتركة بين بني البشر هذا ما سبق ان أشار إليه في معرض اتهامه بالسرقة؛ حيث قال: ((أما ما نعيته عليَّ من السَّرق فما يدريك أني اعتمدته وكلام العرب آخذ بعضه برقاب بعض، وآخذ بعضه من بعض، والمعاني تعتلج في الصدور وتخطر للمتقدم تارة وللمتأخر اخرى؛ والألفاظ مشتركة مباحة))(18). وهذا ما نستطيع أن نتلمسه أيضا من قوله:

((وَكُلُّ أُنَاسٍ يَتْبَعُونَ إمامَهُم ٭٭٭ وَأَنْتَ لأهْلِ المَكْرُمَاتِ إِمَامُ))(19)

الذي استقاه من قول الإمام (عليه السلام): (أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَأْمُوْمٍ إمَامَاً، يَقْتَدِي بِهِ وَيَسْتَضِيءُ بِعِلْمِهِ))(20) ففيه تظهر براعة المتنبي وقدرته على ((تمثيل كل ما لقيه ووقع عليه ما دام مسايرا لوجهته؛ مصورا لفكرته))(21) ويظهر هذا التمثل في استعمال لفظة (الامام)؛ وإذا كان الإمام علي (عليه السلام) قد قال: (لكل مأموم) فان المتنبي قال: (كل أُناس) وما ذلك إلاّ لقدرته على انتقاء الالفاظ التي تتلاءم وغرضه الشعري، وهو مَنْ تعلم بتبحره في اللغة وتبصره بدقائقها ومفرداتها حتى

ص: 49

وصف بانه ((ضليع في اللغة بصير بالفلسفة خبير بالآداب))(22). فلم يقتصر نهل المتنبي من معين الإمام علي (عليه السلام) في جانب الحكمة والمعاني الانسانية والخلقية وحسب وإنما أشرك فيها الألفاظ؛ وان حاول ان يصوغها بشكل يتلاءم ومنهجه الشعري. الا ان الرافد الذي استقى منه يكاد يكون واضحا وجليا لدى القارئ والمتلقي. على ان هذا لا يعد عيبا ولا ثلبا في شعر المتنبي ولا قدحا في شاعريته بقدر ما يشير إلى اختلاط هذه المعارف في نفسيته وامتزاجها ((بکیانه؛ فغدت کما لو كانت عصارة فكره وخلاصة تجربته)) (33). وهذا ما يكشف لنا عن عبقريته واصالته وتفرده بين شعراء عصره وابناء زمانه. ذلك انه رجل عُرِفَ عنه حبه للقراءة وشغفه بالبحث عن الحكمة يسعى لها حيثما وجدها؛ فهي ضالته الأثيرة التي ما انفكت اشعاره تصدح بها؛ غير ان ما يميزها انها لم تأتِ بشكل مباشر وتقريري ملحوظ وإنما اصالة هذا الشاعر تكمن في أنه وظفها في خدمة الغرض الذي يتناوله فجاءت متلائمة ومتناسقة مع النسق الشعري الذي تميز به. ومن هنا نجد كيف انه أفاد من ألفاظ الإمام علي (عليه السلام) ونصوصه الخصبة بكل الالفاظ والمعاني الانسانية والتي كانت موضع اهتمامه - وإن لم يصرح بذلك - فكان أن وظفها خير توظيف في شعره لما وجد فيها من تشابه وتقارب بين حياته وحياة الامام سلام الله عليه وما شهده عصره من نزاعات وصراعات أدت به للحديث عن كوامن النفس البشرية وخباياها؛ فكانت الافكار التي طرحها أقرب إلى الواقعية منها إلى أي عنوانات اخرى جاءت مكسوة بألفاظ معبرة تشع منها الحياة في كل جانب من جوانبها وكل دال من مدلولاتها. وهذا ما تميزت به الفاظ الامام علي (عليه السلام) ونصوصه وخطبه.

ص: 50

إفادة المتنبي وتأثره بمعاني الإمام علي (عليه السلام):

مما لا يخفى عن قارئ ترجمة المتنبي وحياته ان مولده كان ((بالكوفة؛ في محلة تعرف بكندة..... واختلف إلى كتَّاب فيه أولاد أشراف الكوفة؛ فكان يتعلّم دروس العلوية لغة وشعرا وإعرابا فنشأ في خير حاضرة))(24) وهذا النص انما سيسلط الضوء على التراث المعرفي والثقافي لهذا الشاعر منذ أيام طفولته وصباه، وانه اغترف من معين الكوفة الثقافي ومن (دروس العلوية) المعرفي، فكان أن تمثلها في ذهنه وتشربها في مخزونه الفكري فكان أن تسربت بشكل أو بآخر في نتاجه الشعري وعمله الابداعي، فمنها ما جاء بشكل مباشر وعن وعي من الشاعر بالمنهل الذي استقى منه والمعين الذي اغترف منه؛ وهذا ما سبق أن وقفنا عنده في تأثر المتنبي بألفاظ الإمام الواردة في نصوصه المجموعة في كتاب (نهج البلاغة) التي لا يشك باحث أو مطلع على حياة المتنبي وولعه بالعلم والمعرفة من الاطلاع عليها والتأثر بها ولاسيما ونحن نقرأ النص المتقد الذي يلوح بشكل واضح فيها اطلاع المتنبي على أقوال الامام علي (عليه السلام) وتشربه ایاها منذ طفولته وصباه؛ وانه نشأ عليها.

وقد يكون هذا التأثر يأخذ منحىً جديدا عندما يريد أن ينظم الشاعر في غرض معين أو موقف محدد نرى ان هذا المعين الذي سبق أن نهل منه حاضرا في ذاكرته الشعرية فيستحضره بشكل غير مباشر أو عن طريق اللاوعي - ان جاز لنا التعبير فنراه يعبر عن تلك المعاني بأسلوبه وطريقته المميزة من غيره؛ تشفعه في ذلك قدرته على الحفظ وهذا ما تؤكده المصادر؛ حيث يشير الدكتور محمد عبد الرحمن إلى ذلك في قوله: (( وقد منح المتنبي حافظة قوية أثارت فضول الناس واعجابهم فقد ذكر الرواة عنه أنهم لم يروا أحفظ منه. وأنه حفظ كتابا نحو

ص: 51

ثلاثين ورقة من نظرته الاولى إليه))(25) وهذا انما يكشف لنا عن اصالة الأعمال الفنية والشعرية التي قدمها المتنبي في زمانه وبعد زمانه وإلى يومنا هذا. وهو في كل ذلك إنما يستعين بنماذج سالفيه ومنها نصوص الامام علي (عليه السلام) وأقواله التي فتحت له ولغيره من الادباء والشعراء والكّتاب أفاقا علمية وأدبية واسعة أفاد منها الجميع وتأثروا بها فكانت لهم بمثابة النبع العذب الصافي الذي استقوا من معانيه وارتشفوا من الفاظه فظهرت في نتاجاتهم الابداعية موارده العذبة؛ ومنهم المتنبي على ان هذا لا يعني تقليده لنصوص الامام علي (عليه السلام) ومعانيه بقدر ما يعني تأثره بها وهذا التأثير نعني به: ((شيء يوجد في عمل مؤلف ما؛ ما كان ليوجد فيه لو لم يقرأ المؤلف عمل مؤلف سابق))(26) كما يقول أولدريج. وهذا ما تكشفه نصوص المتنبي الشعرية التي حملت بين طياتها الكثير من المعاني التي تشف عن تأثره بنصوص الامام علي (عليه السلام) ومعانيه ونهله من ينبوعه العذب الصافي؛ فكانت بحق رافدا ابداعيا يضاف إلى روافد ابداعه الأخرى الناجمة عن كثرة اطلاعه وتأثره بالعلوم والمعارف المختلفة التي سادت عصره وقبل عصره؛ ذلك ان من الامور المسلم بها ان ((طبيعة العلم تأبى الاّ التسرب والانتشار))(27) ونستطيع أن نتلمس ذلك من خلال الوقوف عند المعاني الشعرية لنصوصه الابداعية؛ منها قوله:

((الرَّأيُّ قَبْلَ شَجَاعَةِ الشّجْعَانِ ٭٭٭ هَوَ أَوَّل وَهْيَ المَحَلُ الثَّاْنِي))(28)

حيث ندرك عبقرية المتنبي وبراعته في توظيف نص الامام علي (عليه السلام) الذي يقول فيه : ((رَأْيُ الشَّيْخِ أحَبُّ إِليَّ مِنْ جَلَدِ اٌلْغُلاَمِ))(29)، کما نلحظ قدرته على تطويع النص وجعله يحمل سمات الشاعر الخاصة التي تعبر عن رؤاه الشعرية وذلك من خلال جمالية الصياغة وروعة الاسلوب مما اسهم في شهرة

ص: 52

البيت وذيوعه.

ومن تجليات التداخلات النصية بين نصوص المتنبي ونصوص الامام علي (عليه السلام) أيضا قوله:

((إذا أَنْتَ أكْرَمْتَ الكَرِيْمَ مَلَكْتَهُ ٭٭٭ وَإِنْ أَنْتَ أكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدَا))(30)

حیث یکشف هذا النص خصائص ومميزات النفس التي يتمتع بها كل من الكريم واللئيم في حالة الاحسان والإكرام إليها؛ ذلك ان الكريم ((يصير كالمملوك لك إذا اكرمته؛ واللئيم إذا اكرمته يزيد عتوا وجراءة عليك)(31) وهذا المعنى سبق أن ذكره الإمام علي (عليه السلام) عندما قال: ((اٌحْذَرُوْا صَوْلَةَ اٌلْكَرِيْمِ إذَا جَاعَ،

واٌلْلَّئِيْمِ إِذَا شَبِعَ))(32).

وهذا التداخل في النصوص إنما يكشف لنا عن غنی تجربة المتنبي الابداعية وعن براعته في التعامل مع النصوص، ومحاولة تذويبها في نسقه الشعري المميز والتي يكشف من خلالها عن عبقريته وابداعه في فهم اسرار النفس البشرية.

ولا يبعد عن ذلك أيضا بيته المشهور:

((بِذَا قَضَتِ الأَيَّامُ مَا بينَ أهْلِها ٭٭٭ مَصَائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوَائِدُ)) (33)

وهو من الابيات الشائعة والمتداولة في عصره وإلى يومنا هذا لما يحمله من حكمة ومعنی انساني متحقق على مر الايام ومدى الزمان فمن ((عادة الأيام سرور قوم بإساءة آخرين))(34) والبيت من قصيدة قالها في مدح سيف الدولة ورثاء ابن عمه تغلب؛ وإذا ما رجعنا إلى التراث الانساني نقرأ ونبحث في اثنائه عن مضمون هذه الحكمة ونتتبع مجريات الظروف التاريخية للنص الابداعي للمتنبي نلمس التشابه الكبير بينه وبين نص الإمام (عليه السلام) الذي قاله بعدما قٌتِلَ

ص: 53

محمد بن أبي بكر: (إِنَ حُزْنَنَا عَلَيْهِ عَلَىْ قَدَر سرورِهْم بِهِ؛ إلاَّ أَنَّهُم نَقَصُوْا بَغيْضا وَنَقْصنَا حَبيْبَا))(35) والذي جاء مخاطبا فيه أهل الشام. لقد وظف المتنبي نص الامام علي (عليه السلام) وافاد من معناه في صياغة نموذجه الشعري؛ فكان نصه يسير بمحاذاة نص الامام جمالا وابداعا؛ ذلك ان ما يميز حكم المتنبي هو اعتمادها الموروث الانساني والاصل التاريخي إلى جانب انها ((تدور على حقائق ثابتة مشتركة بين الناس كلهم))(36)، وهذا ما سبق أن أشار إليه محمود محمد شاکر عندما قال عن حكمه: ((لم يكن قلبه ينسى شيئا أو يفلته؛ وكأني به - وهو يقول البيت السائر والمثل الشرود - كانت تتراءى تحت عينيه، ويدوي في مسمعه، كل ما مر به مما أثر فيه، فيقول البيت وفي كل لفظة منه سبب ممدود إلى ذكرى يذكرها أو فكرة يتخيلها)) (37).

استثمر المتنبي ظرف الحدث التاريخي والابداعي في التعبير عن شعوره وافكاره وتقديم ذلك على وفق نسق شعري يظهر من خلاله قدرته في تعامله مع النصوص، وذلك من خلال هدم النص ومن ثم إعادة تشكيله وبنائه بما يخدم موهبته الشعرية وقدراته الابداعية؛ وهذا ما يمكن تلمسه في قوله (مصائب قوم) التي تقابلها في نص الامام (حزننا عليه) و(فوائد) تقابل (وسرورهم به) إلى جانب استخدامه اسلوب الايجاز في التعبير؛ ولا يخفى ما للفظة (مصائب) من وقع نفسي يشير إلى الإحساس بالفقد والحرمان ولاسيما اذا كان المفقود عزیزا وما يخلفه في نفوس محبيه من ألم المصاب ولوعته، في مقابل ما يحصده الأعداء من فائدة وما يستشعروه من سرور لتخلصهم منه وابتعاده عنهم. وكأن المتنبي يتمثل معنى الامام علي (عليه السلام) في نصه ويستحضره في مخيلته وهو ينظم شعره وهذا يتضح من خلال ما حمَّل النص من شحنات دلالية كبيرة كانت كفيلة

ص: 54

بجعل القارئ أو المتلقي يبعد في الغوص في أعماق النص وسبر أغواره للوقوف عند حقيقة النص المتأثر من النص المؤثر.

ولا نعدو بعيدا ونحن نقرأ قول الامام علي (عليه السلام): ((المَعْرُوفُ كَنْزٌ فاٌنْظرْ عِنْدَ مَنْ تُودِعَهُ))(38) الذي يشير فيه إلى ضرورة الحكمة في معالجة الأمور والقضايا، وان الخير والمعروف لابد أن يوضعان في محلهما ليتبين فضلهما؛ فكان ان شبههما بالكنز الذي يعرفه اصحابه ويقدروا قيمته؛ فكذلك المعروف لايعرفه الا اصحابه ولا يعرف فضله إلا اهله؛ أما إذا وِضِع في غير محله وعند غير اهله فقد أضرَّ به؛ وهذا إنما يشير إلى ضرورة وضع الأمور في نصابها الصحيح؛ فلا يجوز استخدام المعروف إلاَّ مع اهله ومستحقيه والعكس أيضا. وهذا معنى قرآني سبق أن أشارت إليه الآية الكريمة ((هَلْ جَزَاءُ اٌلإحْسَانِ إلاَّ الإحْسَانُ))(39). فما كان من المتنبي إلاَّ أن تشرب المعنى وأعاد توظيفه في نصه بما يخدم الغرض الذي يلائمه فكان أن وسع من ألفاظه؛ وكأنه يشرح المعنى وفق منظوره المعرفي، وهذا ما نقرأه في نصه الذي مدح به سيف الدولة الحمداني:

((وَمَا قَتل الأَحْرار كالعَفْوِ عَنْهُمُ ٭٭٭ وَ مَنْ لَكَ بِالحُرِّ الذِي يَحْفَظُ اليَدَا

إِذَا أَنْتَ أكْرَمْتَ اٌلْكَرِيْمَ مَلَكْتَهُ ٭٭٭ وَإِنْ أَنْتَ أَكْرَمْتَ اٌللَّئِيْمَ تَمَرَّدَا

وَوَضْعُ النَّدَى فِي مَوْضِع السَّيْفِ بِالعُلا ٭٭٭ مُضِرٍّ كَوَضْعِ السَّيْفِفِي مَوْضِعِ النَّدَى))(40)

يتضح من الأبيات السابقة كيف أفاد المتنبي من التراث وكيف استوعبه فما كان منه إلا أن ((جمع بين تجاربه وتجارب القدماء))(41) وتوظيفها بما يلائم قدراته الشعرية وموهبته الفنية في اعادة تشكيل معاني النصوص القديمة واخراجها في شكل جديد.

ص: 55

وفي نص آخر للإمام علي (عليه السلام) يقول فيه: ((قَدْرُ الرَّجُلِ عَلَى قَدْرِ هِمَّتِهِ، وَصِدْقُهُ عَلَى قَدْرِ مُرُوءَتِهِ، وَشَجاعَتُهُ عَلَى قَدْرِ أَنَفَتِهِ، وَعِفَّتُهُ عَلَى قَدْرِ

غَيْرَتِه))(42) ففيه يشير إلى ان كل انسان إنما ينال حظه على حسب طاقته وهمته، وعمله يكون على وفق قدراته. وقد أفاد المتنبي من معنى هذا النص ووظفه في أكثر من موضع من شعره ذلك انه ((لم يكن بالشاعر الذي يقف أمام تراث اسلافه وقفة العابد الطائع؛ يكرر معانيهم ويردد أفكارهم في جمود وثبات، ولكنه سار في طريق التجديد والابتكار إلى الأمد الذي اعيا غيره واحفظ سواه وخلَّد ذكراه)) (43) ذلك انه عرف كيف يفيد من المعاني والأفكار التي طرحها من سبقوه وأعاد بناءها بشكل يكاد يكون جدیدا؛ حتی انها باتت تحسب له؛ فاذا ما قرأنا نص الامام السابق يتبادر إلى الذهن قول المتنبي:

((عَلَى قَدْرِ أهْلِ العَزْمِ تأتِي العَزَائِمُ ٭٭٭ وَتَأتِي عَلَى قَدْرِ الكِرَامِ المَكَارِمُ

وَتَعْظُمُ فِي عَیْنِ الصَّغِیْ۫رِ صِغَارُها ٭٭٭ وَتَصْغُرُ فِي عَیْنِ العَظيْمِ العَظَائِمُ))(44)

فكان نصه مطابقا لنص الامام علي (عليه السلام) في الاشارة إلى معنى النص ومضمونه؛ وهو ((على قدر همة الطالب يكون سعيه))(45). هذا ولم تقف إفادة المتنبي من معني نص الإمام (عليه السلام) السابق في هذا الموضع فحسب؛ وإنما نجده يستلهمه في موضع آخر عارضا إياه في صورة جديدة مختزلة نص الامام من خلال توظيف الاساليب البلاغية في رسم صورته الجديدة؛ فكان ان استخدم التشبيه في رسم المعنى وعرضه بشكل مغاير عمَّا عرضه في النص السابق؛ وهذا ما نقرأه في قوله:

((وَكُلُّ طَرِيْقٍ أَتَاهُ الفَتَى ٭٭٭ عَلَی قَدْرِ الرِّجْلِ فِيْهِ الخُطَا))(46)

لقد كشف لنا المتنبي في ذلك عن واحدة من نقاط قوته وعظمة شعره؛ وهو

ص: 56

أنه نهل من مورد عذب؛ فكان أن تدفق على لسانه حاملا معه هذه العذوبة وهذا النقاء؛ وهذا ما يميز حكم المتنبي. ولنا - إذا جاز التعبير - وقفة أخرى مع نص آخر من نصوص المتنبي تشربت معانيه نصوص الامام علي (عليه السلام) ومعانيه؛ وهو قوله:

((يَسْتَصْغِرَ الخَطَرَ الكَبِيْرَ لِوفْدِهِ ٭٭٭ وَيَظُنُّ دَجْلَةَ لَيْسَ تَكْفِي شَارِبا)) (47)

حيث نلحظ مرجعية هذا النص تعود إلى قول الإمام (عليه السلام) في وصف المتقين حين لا يرضون من اعمالهم بالقليل حتى انهم يستصغرونها وينسبونها إلى القلة والتقصير في مقابل عظمة الخالق وکرم عطاياه؛ حيث يصفهم بقوله: ((لا يَرْضَوْنَ مِنْ أَعْمَلُهِمِ اٌلْقَلِيْلَ، وَلَاَ يَسْتَكْثِرونَ اٌلْكَثِیْرَ))(48). فقد نقل المتنبي وصف الامام علي (عليه السلام) للمتقين إلى وصف ممدوحه وكرمه؛ وذلك بان أعاد بناء النص من خلال تحوير بعض المفردات واضافة ابعاد جديدة للمضمون؛ في محاولة منه لإخفاء النص ومعالمه عن أعين القارئ والمتلقي.

وهذا الكلام يصدق أيضا على قوله:

((وَكَيْفَ يَتُمُّ بَأسُكَ فِي أُنَاسٍ ٭٭٭ تُصِيْبُهُم فَيُؤلِمُكَ المُصَابُ))(49)

الذي يماثل نص الامام علي (عليه السلام) ((لمّا مرَّ على طلحة وعبد الرحمن بن عتاب وهما قتيلان يوم معركة الجمل: (أمَا وَاللهِ لَقَدْ كُنْتُ أَكْرَهُ أَنْ تَكُونَ

قُرَيْشٍ قَتْلَى تَحْتَ بُطُوْنِ اٌلْكَوَاكِبِ) ))(50).

نلحظ في هذا النص كيف أفاد المتنبي من معناه مستخدما اسلوب التعجب إلى جانب استخدام بعض الألفاظ في مقابل ألفاظ الامام علي (عليه السلام)؛ کما في (يؤلمك المصاب) في مقابل (أكره أن تكون...).

ص: 57

ولم تقف حدود أصالة المتنبي وابداعه في توظيف الاساليب البلاغية واللغوية في اخفاء معاني الامام علي (عليه السلام) ونصوصه؛ وانما نلحظ أيضا محاولته شرح هذه المعاني من خلال تمطيطها - إذا جاز لنا التعبير - وذلك باکسائها ألفاظا جديدة؛ وبذلك تخرج بحلة جديدة تتلاءم وطبيعة العصر والموضوع الذي يتناوله الشاعر؛ كما في قوله:

((وَكُلُّ اٌمْرِئٍ يُوْلِي الجَمِيْلَ مُحَبَبٌ ٭٭٭ وَكُلُّ مَكَانٍ يُنْبِتُ اٌلْعِزَّ طَيِّبُ))(51)

والذي استقى معناه من قول الإمام (عليه السلام): ((خَیْرُ اٌلْبِلادِ مَا حَمَلَكَ))(52) والقارئ لهذين النصين الشعريين يدرك ان صورة المعنى تكاد تكون واحدة -ان لم تكن - وان اختلفت في شكل العرض وطريقة الاظهار؛ وبذلك ندرك المرجعية التراثية والفكرية التي اعتمدها المتنبي في التعبير عن معانيه ورسم صوره تلك الصور التي استمد عناصرها من بيئته التي عاشها سواء الفكرية والثقافية وحتى الحضارية والاجتماعية. فكانت نصوص الامام علي (عليه السلام) بمثابة التراث العام المشترك الذي بمقدور الشعراء والادباء والكتّاب الافادة منه والاستسقاء من نبعه. وهنا تكمن عبقرية المبدع واصالته في قدرته على النهل والأرتشاف من هذا النبع وتوظيفه بشكل يتلاءم مع منجزه الفكري والابداعي. وهذا ما لمسناه عند المتنبي؛ حيث يقول:

((تَمَلَّكَها الآتِي تَمَلّكَ سَالِبٍ ٭٭٭ وَفَارَقَها المَاضِي فِرَاقَ سَلِيْب))(53)

نلحظ ان العكبري شارح دیوانه يشير إلى المصدر الذي استقى منه معناه؛ حيث يقول في شرحه لهذا البيت: ((يريد أن الوارث الذي يملك الأرض كأنه سالب سلب الموروث ماله والموروث كأنه سلیب سُلِبَ مَاله. وهو مأخوذ من قولهم في الموعظة: (إن ما في أيديكم من أسلاب الهالكين، وسيتركها الباقون كما

ص: 58

ترکها الأولون). وهذا من نهج البلاغة)) (54)؛ وهناك نص آخر للإمام (عليه السلام) يحمل المعنى ذاته؛ وهو قوله: ((على أثر الماضي ما يمضي الباقي))(55) ومما لا يخفى ان شاعرنا قد اطلع على هذين النصين فكان أن نسج على منوالهما نصا ثالثا يحمل المعنى ذاته، ولكن بأسلوبه الشعري المميز.

ولنا وقفة اخرى مع الشاعر وهو ينهل من معين الامام ويغذي معجمه الشعري، فاذا كان الامام (عليه السلام) قد قال: ((اٌلْقَلْبُ مُصْحَفُ اٌلْبَصَرِ))(56) أي ان ((ما يتناوله البصر يحفظ في القلب كأنه يكتب فيه))(57) نجد ان المتنبي يعكس المعنى بأن يجعل العيون تشير إلى ما تخفي الصدور والقلوب؛ وذلك في قوله:

يُخْفِي العَدَاوَةَ وَهْيَ غَيْرُ خَفِيّةٍ ٭٭٭ نَظَرُ العَدُوِّ بِمَا أسَرَّ يَبوحُ))(58)

وكأنه بذلك ينطلق من رؤية مفادها ان ((النص الجيد هو النص المحرّك والباعث على التأمل والنظر))(59). وهذا ما عمله المتنبي عندما قام بعملية تشرب وامتصاص لنص الامام (عليه السلام) السابق ثم اعادة انتاجه بشكل معاكس بما يخدم الغرض الشعري والحدث التاريخي الذي ينظم من أجله؛ فإذا كانت الصورة الاولى تشير إلى ان العين أو حاسة البصر هي المصدر الرئيس لاكتساب المعرفة والاحساس بالأشياء من ناحية الجمال والقبح؛ والعاطفة الايجابية أو السلبية؛ فان النص الثاني جاء ليرسم لنا صورة عكسية للأولى عندما جعل من النظر أو العين مرآة تعكس ما تخفي القلوب من العواطف والمشاعر والاحاسيس، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه ((التأثر العكسي))(60) أي ان الشاعر يقوم بعملية امتصاص للنص الابداعي ثم إعادة تشكيله في إطار بنية جديدة مغايرة لصورته الأولى أو معكوسة عنها؛ بمعنى أن يكون النص الثاني مضاد للنص الأول. وهذا ما لمسناه

ص: 59

في نص المتنبي الذي لم يكن وحيدا ولا مفردا؛ وإنما هناك نص آخر تناقض فيه الشاعر مع معنی نص الامام (عليه السلام)؛ فاذا كان الامام قد قال في معرض نصحه وارشاده: ((إِنْ لَمْ تَكُنْ حَلِيْمَاً فَتَحلَّمْ، فَإِنُّه قَلَّ مَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ، إلاّ أَوْشَكَ أَنْ يَكُوْنَ مِنْهُم))(61) نلحظ أن المتنبي - الذي لا ننكر اطلاعه وتأثره بهذا النص - يرفض هذه الفكرة أو هذا المعنى ويخالفه بقوله:

((وَإِذا الحِلْمُ لَمْ يَكُنْ فِيْ طِبَاعٍ ٭٭ لَمْ يُحلِّمْ تَقَدُّمُ المِيْلادِ)(62)

وكأنه يرد على معنى نص الإمام (عليه السلام) الذي يشير فيه إلى ان الحلم إذا لم يكن طبيعة أو غريزة يمكن أن يكون تطبعا واكتسابا من خلال المعاشرة والتشبه بمن يمتلك هذه الصفة. على حين أنکر المتنبي هذا المعنى وناقضه بان ذکر ان الحلم لا يكون الاّ عن الطبع والغريزة وانه لا تنفعه المعاشرة ولا تقدم العمر، فقد يكون الانسان صغير السن ويوصف بالحلم في حين أن هناك من تقدم به العمر أو (الميلاد) ويفتقر إلى هذه الصفة. ونحن إذا ادركنا أن ((الابداع انطلاقا من العدم محال))(63) ادركنا اصالة فن المتنبي الشعرية وموهبته الابداعية التي كان أحد روافدها نصوص الامام علي (عليه السلام) الخصبة والثرية بالمعاني إلى جانب الالفاظ، وهذا ما نجده في نص ثالث حيث نقرأ:

((واُسْتَكْبِرُ الأَخْبَارَ قَبْلَ لِقائِهِ ٭٭٭

فَلَّما اٌلْتَقَيْنَا صَغَّرَ الخَبرَ الخُبْرُ))(64)

ندرك التقارب المعنوي بينه وبين قول الإمام (عليه السلام): ((وَكلُّ شَيْءٍ مِنَ اٌلْدُّنْيَا سَمَاعُهُ أَعْظَمُ مِنْ عِيَانِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنَ الآخِرَةِ عِيَانُهُ أَعْظَمُ مِنْ سَمَاعِهِ،

فَلْيَكْفِكُمْ مِنَ اُلْعِيَانِ اٌلْسُّمَاَعُ، وَمِنَ الغَيْبِ اٌلْخَبَرُ))(65) ذلك ان كلا النصين المؤثر والمتأثر حملا من التقارب المعنوي ما لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر؛ بمعنی لا يمكن انكار المؤثر وجعله بعيدا عن دائرة الأثر الذي يكاد يكون واضحا في

ص: 60

نص المتنبي.

وإذا ما قرأنا قول المتنبي:

((ذكِيُّ تَظَنَيِّهِ طَلِيْعَةُ عَيْنِهِ ٭٭٭ يَرَى قَلْبُهُ فِي يَوْمِهِ مَا تَرَى غَدَا))(66)

فإننا نلحظ افادته من قول الامام علي (عليه السلام) وتأثره به؛ حيث يقول: ((اٌتَّقُوْا ظُنُونَ اٌلْمُؤْمِنِیْنَ، فَإِنَّ الله تَعَالَی جَعَلَ اٌلْحَقَّ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ)(67) فالذي يتمعن في قراءة النصين السابقين يجد ان الامام قد أشار إلى بعض صفات المؤمنين وهو إعمال الظن، وقدرتهم على استباق الاحداث والتنبؤ بها قبل وقوعها لما أكرمهم الباري عز وجل من اجراء الحق على السنتهم. من هذا المنطلق ندرك كيف ان المتنبي قد أفاد من هذا المعنى ووظفه في مدح ممدوحه من خلال حصر هذه الصفة فيه وقصرها عليه. في حين ان نص الامام (عليه السلام) کان شاملا عاما جميع المؤمنين؛ وهذا ما توضحه اضافة (ال) إلى (مؤمنين) لتشمل عموم الجنس على حين جاء نص المتنبي قاصرا صدق الحدس أو صحة الظن على ممدوحه الذي وصفه بالذكاء فقال: ((هو لصحة ذكائه ولصحة ظنه إذا ظنَّ شيئا رآه بعينه لامحالة))(68) وهذا إنما يكشف لنا عن أصالة المتنبي وقدرته على تضمين نصوصه معاني سابقيه والتأثر بها ومحاولة اخراجها بشكل جديد مخفيا المنبع الذي استقى منه معناه ووظفه في عمله؛ أو نصه الشعري؛ وهذا ما نتلمسه في معنى النص الذي جاءت فيه لفظة (تظنيه) لتفتح الافق إلى الرافد الابداعي لنصه ولتتوافق مع لفظة الإمام (عليه السلام) (ظنون). وهذا يكشف لنا ان النص ((الجديد هو إعادة لنصوص سابقة لا تعرف إلا بالخبرة والتدقيق، فالعودة إلى الماضي واستحضاره من أكثر الامور فعالية في عملية الابداع))(69) وهذا ما يمكن ان ندركه ونحن نقرأ قول المتنبي:

ص: 61

((وَجَائِزَةٌ دَعْوَى المَحَبَةِ وَاٌلْهَوَى ٭٭٭ وَإِنْ كَانَ لاَ يَخْفَى كَلامُ المُنَافِقِ))(70)

حيث لا يمكن انكار المرجعية الفكرية فيه واثرها من نص الامام علي (عليه السلام) الذي يقول: ((مَا أَضْمَرَ أَحَدٌّ شَيْئَاً إِلاَّ ظَهَرَ فِي فَلَتَاتِ لِسَانِهِ وَصَفَحَاتِ

وجْهِهِ))(71). فقد تطابق قول المتنبي مع نص الإمام (عليه السلام) الذي يشير فيه إلى ان الانسان مهما حاول أن يخفي مشاعره أو عواطفه أو أحاسيسه وحتى علمه - إن جاز لنا - فان لسانه يفضحه بما يجري عليه من فلتات تشير إلى ما يحاول کتمانه؛ وبما يرتسم في وجهه من ملامح تشير إلى ما يحاول اخفاءه. وبهذا المعنى أيضا نطق المتنبي الا انه قصره على المنافق الذي يحاول ان يظهر للآخرين خلاف ما يبطن الا انه سرعان ما يفضحه کلامه. وإذا كان كلام الامام (عليه السلام) عاما يشمل الايجابي والسلبي من الامور المخفية فان نص المتنبي وقف عند الجانب السلبي من المشاعر والعواطف؛ ويبدو ان طبيعة الغرض الذي نظم من اجله والموضوع الذي كان يقصده كان السبب في هذا الاقتصار وهذا التأثر. وعلى هذا يبدو ان الشاعر لم يكن غافلا عن مصدره الذي استقى منه المعنى ووظفه بما يلائم موضوعه؛ فهو إعادة انتاج لنص قديم وفق رؤية جديدة تناسب الحدث التاريخي الذي قيل من اجله النص؛ فالمسألة إذن هي مسألة عموم وخصوص. فنص الإمام (عليه السلام) السابق يتحدث بشكل عام ويرسم صورة مشتركة للجميع، في حين خصت صورة المتنبي جانبا عاطفيا فقط هو (النفاق). وبذلك يكون قد أثبت جزئية من جزئيات النص المرجعي. وفي نص آخر نقرأ قوله:

((ذِكْرُ الَفَتى عُمْرُهُ الثَّانِي وَحَاجَتُهُ ٭٭٭ مَا قَاتَهُ وَفُضُوْلُ العَيْشِ إِشْغَالُ))(72)

حيث ينقل في هذا النص معنی خلقي وانساني ربما عرفه الناس وادرکوه غير ان ما يميزه هو الصياغة اللفظية التي اعتمدها الشاعر في الوقوف عند هذا

ص: 62

المعنى؛ فهو يشير فيه إلى ان للمرء حياة مادية تنتهي بانتهاء اجله؛ واخرى روحية مخلدة تمثل عمره الثاني؛ وهذه الاخيرة إنما تبقى من خلال اعماله الطيبة ((وجميل مساعيه، وما يخلده من كرمه ومعاليه))(73). وقد تنبه شارح دیوانه إلى ان هذا النص (مأخوذ من كلام حكيم) (74)؛ ولو رجعنا إلى نصوص الامام علي (عليه السلام) وأقواله الحكمية في وصفه للعلم والعلماء ونقرأ قوله: ((بِه - أي العلم - يَكْسِبُ اٌلإنْسَانُ الطَّاعَةَ فِي حَيَاتِهِ وَجَمِيْلَ اٌلأُحْدُوثَةِ بَعْدَ وَفَاتِهِ..... هَلَكَ خُزَّانُ الأَمْوَالِ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَاٌلْعُلَمَاءُ بَاقُونَ مَا بَقِيَ الدَّهْرُ: أَعْيَانُهُم مَفْقُودَةٌ، وَأَمْثَالُهُم فِي

اٌلْقُلُوْبِ مَوْجُودَةٌ)) (75)، نلحظ ان المتنبي وهو يبني نصوصه الابداعية لا يخرج عن اطار تكوينه المعرفي ومرجعياته الثقافية ((فنصوصه الأدبية عبارة عن تراكمات ثقافية تنمو في محيط التلاحم المعرفي المتشابك، مما يجعل النص الأدبي بناءً متعدد القيم والأصوات، تتوارى خلف كل نص ذوات اخرى غير ذات المبدع من دون حدود أو فواصل. ومن ثم فالنص الجديد هو إعادة لنصوص سابقة لا تعرف إلاّ بالخبرة والتدقيق))(76) وهذا ما ادرکه شارح دیوانه من قبل.

ومن أبيات الحكم والامثال التي صاغها المتنبي نقرأ قوله:

((إِذا قِيْلَ رِفْقَاً قَاْلَ لِلْحِلْمِ مَوْضِعٌ ٭٭٭ وَحِلْمُ الفَتَى فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ جَهْلُ))(77)

وفيها يتحدث عن ضرورة مراعاة وضع الاشياء في موضعها الصحيح والا ستعود على الانسان بالضرر؛ ذلك ان (للحلم) مواضع يجمل فيها ويحمد فاعلها؛ في حين ان في مواضع اخري یکون (جهلا) عندما يوضع في غير محله وعند غير مستحقه. ففي الحرب مثلا لا يجوز استعمال الرفق فيها وانما لابد من القوة والبطش والفتك بالأعداء؛ في خلاف حالة السلم. وعلى الانسان العاقل ان يعرف الأوقات المناسبة لاستخدام الحلم کما یعرف اوقات استعمال الشدة؛ لان استعمال

ص: 63

الحلم في موضع الشدة أو العكس يُعد جهلا أو ضعفا أو خرقا؛ كما ذكر ذلك الامام علي (عليه السلام): ((إذا كَانَ الرِّفْقُ خَرْقَاً كَانَ الخرْقُ رِفْقاً)) (78) أي ((إذا كان المقام يلزمه العنف یکون ابداله بالرفق عنفا، ويكون العنف من الرفق، وذلك كمقام التأديب واجراء الحدود)) (79). وقارئ نص المتنبي يلحظ انه حاول أن يحافظ على معنی نص الأمام إلا انه رسمه بصورة جديدة من خلال اعطائه أبعادا جمالية أكثر وضوحا من خلال تمكنه من الأساليب اللغوية جاءت ((مصاغة في مظهر القدوة أو العبرة التي لا تلقى على الناس القاء وعظ يرغّب ويرهّب ويعد ويزجر؛ وإنما يبرزها الشاعر لهم على انها من مكتسبات تجربته في الحياة ومن نتائج تجارب أخرى مماثلة لتجربته)) (80) وبذلك عرض المعنى في صورة جديدة حاول من خلالها اخفاء الرافد الذي استقى منه معناه. وهنا يكمن ابداع المتنبي في قدرته على خلق الأعمال الفنية المتميزة من خلال تشربه لكل ما هو موروث وإعادة اخراجه بشكل جديد مناسب للمرحلة التاريخية التي يعيشها.

هذا ولم يقف عطاء الامام علي (عليه السلام) الفكري والثقافي عند هذا الحد وإنما نجده متدفقا معطاءً في نصوص اخرى؛ فاذا كان الامام قد قال: ((لَاْ يَقِلُّ

عَمَلٌ مَعَ التَقْوَى، وَكَيْفَ يَقِلُ مَا يُتَّقَبَلُ))(81) نجد ان المتنبي قد وظف النص في المدح؛ فاذا كان الامام قد تحدث عن العمل مع التقوى وانه اكثر نفعا وبقاء وان كان قليلا، نلحظ ان المتنبي قد نقل المعنى إلى موضع آخر، فقد أبدل العمل بالجود والعطاء؛ وان كان العمل يدخل أيضا في باب العطاء إلا انه يكون بشكل غير مباشر؛ وكأنه بذلك ينفي جزئية من جزئيات النص المرجعي الموروث ويحاول أن يعوضها بجزئية أخرى تتلاءم والسياق الذي يتحدث فيه؛ فيقول في معرض مدحه لسيف الدولة:

ص: 64

((وَجُوْدَكَ بِالمُقامِ وَلَوْ قَلِيلا ٭٭٭ فَمَ فِيْمَا تَجودُ بِهِ قَلِيْلُ»(82)

والمتمعن في النصين يدرك العامل المشترك بينهما؛ وهو إن ما يتقبل من الأعمال الجيدة لا توصف بالقلة مهما كانت؛ فالتقوى مع الأعمال والإخلاص فيها تجعلها مقبولة وان قلَّت، غير ان المتنبي قصر هذه الصورة على ممدوحه؛ فمهما كان عطاؤه وجوده فانه مقبول حتى وان كان قليلا يكفي انه منه. لقد افاد المتنبي في معنی نصه من موضوعة المواد التي بنى الامام عليها نصه؛ فكانت بمثابة النبع الذي استقى منه شاعرنا مادته الأولية واعاد بناءها وفق رؤية شاعرية وموهبة متميزة وبذلك عرف كيف يوظف المعنى في شعره ویکسیه حلة جديدة وهذا ما يميز حكم المتنبي وشعره ولاسيما إذا ادركنا ان عملية الابداع ماهي الا العودة (إلى الماضي واستحضاره))(83) بشكل مؤثر وفعال بما تمتلكه من ((القدرة على الاسهام في خلق القيم الناجعة أو الفاضلة للسلوك الاجتماعي لا من باب حمل الناس عليها قسريا يعتمد الزجر أو الإثابة، وإنما من باب اظهارها في مظهر المثال والقدوة التي إذا فازت بالهوى والقبول واعتنقها الناس واصبحت قواعد اختاروها اختيارا وأجمعوا عليها أجماعا وتعاقدوا على تبجيلها اعتقادا لا وجه للإلزام فيه))(84) وإنما يكون بشكل مؤثر وفعال في نفس القارئ أو المتلقي مما يشكل عنصر جذب وتشويق إليه. وبذلك يستطيع الشاعر المبدع أن يخترق حدود التراث ويستوعبها ومن ثم يقوم بعملية صهر وامتزاج بين هذا الموروث وبين تجاربه الحياتية وموهبته الشعرية مستغلا في ذلك قدراته الابداعية ومهاراته الشعرية وملكته اللغوية في اخراج هذا الموروث بشكل جديد وعصري. ومن هنا فقد استطاع المتنبي أن يظهر ((براعة في توظيف التراث.... حيث طبعها بطابعه الخاص وحمَّلها شحنات دلالية خاصة تعبر عن رؤاه الشعرية، وصاغها في أجمل صياغة، مما اسهم

ص: 65

في ذيوع هذه الأبيات وانتشارها)) (85) إلى جانب ذلك فقد كانت النصوص التي استقى من معينها نصوصا ثرية معطاءة خصبة تحمل بين طياتها العديد من المعاني الرؤى الانسانية التي لا تقيد بمكان ولا تحد بزمان؛ فهي نصوص خالدة على مر الدهور والأعوام لما تحمله من شحنات عاطفية ودلالات عقلية ورؤی منطقية إلى جانب تمتعها بألفاظ جزلة تحمل مقومات الفصاحة العربية؛ فكانت بذلك منبعا للعلم والأدب استقى منها الشعراء ونهلوا من مختلف مشاربها؛ فكانت خير منهل واعذب مورد الا وهي نصوص الامام علي (عليه السلام) التي كانت معروفة وشائعة ومتداولة في اوساط العلماء والشعراء والأدباء والكّتاب حتى جاء الشريف الرضي وجمعها في كتاب تحت عنوان (نهج البلاغة).

الخاتمة:

لقد كشفت لنا نصوص المتنبي عن موهبة مبدعة في خلق الأعمال والنصوص الفنية والأدبية المتميزة التي تعبر عن أصالة مبدعها، وذلك من خلال توظيفها للتراث الانساني المتمثل بنصوص الامام علي (عليه السلام) التي كانت بمثابة الرافد الابداعي لنصوصه الادبية لما تحمله من خصب في الألفاظ وعمق في المعاني ومتانة في الصياغة؛ كل ذلك مما جعلها تبعا صافيا يستقي منه الشعراء ومنهم المتنبي الذي تأثر بها وأفاد منها في خلق تجربته الشعرية وبما يتلاءم وموهبته الابداعية، واثراء لمعجمه الشعري.

کما یحسن بنا هنا ان نفرق بين النبع الذي هو أصل التيار المؤثر، والأثر الذي هو الغاية التي ينتهي عندها التيار عند المصب؛ أي ان ندرك ان النبع هو الذي يزود الروافد أو هو الجزء الاساسي للإبداع وهذا ما وجدناه في أقوال الامام علي (عليه السلام) ونصوصه.

ص: 66

فقد اتخذ هذا الاثر اشكالا متعددة منها ما كان من جانب اللفظ ومنها ما كان من جانب المعنى، وفي جانب المعنی نلحظ تنوعا في هذا المؤثر مما اخرج اثرا یکاد يكون مختلفا عن المؤثر فمرة كان الاتباع؛ واخرى السير بمحاذاة المؤثر وثالثة بنقضه واخرى بقلبه وعكسه؛ في حين نلحظ في مرة اخرى الوقوف عند جزئية من جزئيات المعنى، وبذلك تعددت الافادة من النبع المؤثر الا انها جميعا شكلت رافدا ابداعيا في شعر المتنبي مدته بكثير من الألفاظ والمعاني والصور الابداعية.

وبذلك كان اثر نهج البلاغة لا يقل عن اثر الروافد الابداعية الأخرى في شعر المتنبي؛ هذا من جانب، وكان لنهج البلاغة نصيب وافر في اثراء المعجم الشعري للمتنبي سواء على مستوى اللفظ أو المعنى.

ومن جانب آخر تكشف لنا هذه الروافد ان نصوص الامام علي (عليه السلام) كانت معروفة ومتداولة قبل القرن الخامس الهجري حيث الشريف الرضي وجهوده في جمع هذه النصوص وتدوينها.

هوامش البحث:

(1) التأثير والتقليد / أولیریش فایستنتاین. فصول مجلة النقد الأدبي: الأدب المقارن / الجزء الأول المجلد الثالث، العدد الثالث: ابريل / مايو / يونيه 1983 م. ص: 19.

(2) مروج الذهب ومعادن الجوهر / الإمام أبي الحسن بن علي المسعودي المتوفي 346 ه - 975 م؛ اعتنی به وراجعه کمال حسن مرعي. بيروت: المكتبة العصرية. الطبعة الأولى: 1425 ه - 2005 م. ج 2: 326.

(3) الأصالة في شعر أبي الطيب المتنبي أصولها الدماغية وجذورها الاجتماعية في ضوء فسلجة بافلوف / الدكتور نوري جعفر، بغداد: مطبعة الزهراء 1976 م. ص: 150.

(4) المتنبي بين ناقديه في القديم والحديث / د. محمد عبد الرحمن شعیب. مصر: دار المعارف 1964 م. ص: 194.

(5) ديوان أبي الطيب المتنبي؛ بشرح أبي البقاء العكبري المسمى بالتبيان في شرح الديوان، ضبطه وصححه ووضع فهارسه: مصطفى السقا وابراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي. بیروت: دار

ص: 67

الفكر: 1432 ه - 2010 م. ج 3 / 129.

(6) م. ن

(7) نهج البلاغة للإمام علي: شرح الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده؛ اشرف على تحقيقه وطبعه عبد العزيز سيد الأهل. بيروت: دار الاندلس الطبعة الثانية: 1382 ه - 1963 م. ص: 245.

(8) دیوانه: ج 1 / 356.

(9) نهج البلاغة: ج 2 / 221.

(10) التناص والموشحات الأدبية / غنية بوقرة؛ سمية بابا. المدية 2009 م. ص: 23.

(11) دیوانه: ج 3 / 64.

(12) دیوانه شرح البيت: ج 3 / 64.

(13) حركة التراث في شعر أبي تمام والمتنبي / نداء محمد عز الدين محمود الحرباوي. جامعة الخليل: 1436 ه - 2009 م. (رسالة ماجستير). ص: 25 - 26.

(14) التكاثر: 1 - 2.

(15) نهج البلاغة: ج 3 / 416. هام: جمع هامة: أعلى الرأس. تستثبتون: أي تحاولون اثبات ما تثبتون من الأعمدة والأوتاد والجدران في أجسادهم لذهابها ترابا وامتزاجها بالأرض التي تقيمون فيها. ورويت ((تستنبتون)). ترتعون: تأكلون وتتلذذون بما لفظوه أي طرحوه وتركوه.

(16) حركة التراث في شعر أبي تمام والمتنبي: 26.

(17) دیوانه: ج 3 / 18.

(18) الرسالة الموضحة في ذکر سرقات أبي الطيب وساقط شعره / من كلام أبي علي محمد بن الحسن الحاتمي الكاتب؛ تحقيق الدكتور محمد یوسف نجم. بیروت: دار صادر 1385 ه - 1965 م. ص: 143.

(19) دیوانه: ج 3 / 396.

(20) نهج البلاغة: ج 4 / 505.

(21) المتنبي بين ناقديه في القديم والحديث / 197.

(22) م. ن: 297.

(23) م. ن: 194.

(24) خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب / تأليف عبد القادر بن عمر البغدادي 1030 - 1093 م؛ تحقیق وشرح عبد السلام محمد هارون، القاهرة: مكتبة الخانجي. ج 2 / 137.

(25) المتنبي بين ناقديه: 12.

ص: 68

(26) التأثير والتقليد: 19.

(27) المتنبي بين ناقديه في القديم والحديث: 235.

(28) دیوانه: ج 4 / 174.

(29) نهج البلاغة: ج 4 / 579

(30) دیوانه: ج 1 / 288.

(31) شرح البيت م. ن.

(32) نهج البلاغة: ج 4 / 575.

(33) دیوانه: ج 1 / 276.

(34) م. ن: هامش شرح البيت.

(35) نهج البلاغة: ج 4 / 631.

(36) المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب (تلقي القدماء لِشعره) / الدكتور حسين الواد بيروت: دار الغرب الاسلامي. الطبعة الثانية: 2004 م. ص: 324.

(37) المثال والتحول آراء ودراسات في شعر المتنبي وحياته / د. جلال الخياط. بغداد: دار الحرية للطباعة 1396 ه -1976 م. ص: 51 نقلا من مجلة المقتطف / المجلد 88؛ القاهرة 1936. ص: 76.

(38) شرح نهج البلاغة / تأليف ابن أبي الحديد المعتزلي؛ تحقيق محمد ابراهيم. بغداد: دار الكتاب العربي. الطبعة الأولى 2007 م. ج 20 / 286.

(39) الرحمن: 60.

(40) دیوانه: ج 1 / 288.

(41) حركة التراث في شعر أبي تمام والمتنبي: 25.

(42) نهج البلاغة: ج 4 / 574.

(43) المتنبي بين ناقديه: 125.

(44) دیوانه: ج 3 / 378 - 379.

(45) م. ن هامش: ج 1 / 42.

(46) م. ن: ج 1 / 42.

(47) م. ن: ج 1 / 125.

(48) نهج البلاغة: ج 3 / 738.

(49) دیوانه: ج 1 / 79.

ص: 69

(50) نهج البلاغة: ج 3 / 414.

(51) دیوانه: ج 1 / 183.

(52) نهج البلاغة: ج 4 / 655.

(53) دیوانه: ج 1 / 50.

(54) م. ن: لم أعثر على هذا النص في نهج البلاغة. وهذا يؤكد ان نصوص الامام علي (عليه السلام) كانت معروفة ومشهورة قبل عصر الشريف الرضي. وان نهج البلاغة لم يضم كل أقوال الامام وخطبه وكتبه ورسائله. وهذا ما اعترف به الشريف الرضي في مقدمة كتابه واكد عليه بقوله: ((ولا أدعي - مع ذلك - أني احيط بأقطار جميع كلامه عليه السلام حتى لا يشذ عني منه شاذ، ولا یَنِدَّ نادّ. بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي....)) نهج البلاغة: ج 1 / 22.

(55) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 7 / 83.

(56) نهج البلاغة: ج 4 / 649.

(57) م. ن (هامش)

(58) دیوانه: ج 1 / 253.

(59) استقبال النص عند العرب / د. محمد رضا مبارك. بیروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة العربية الأولى 1996 م. ص: 183.

(60) الأدب المقارن / محمد غنيمي هلال. ص: 21.

(61) نهج البلاغة: ج 4 / 406.

(62) دیوانه: ج 3 / 33.

(63) التأثير والتقليد: 23.

(64) دیوانه: ج 2 / 155.

(65) نهج البلاغة: ج 2 / 221.

(66) دیوانه: ج 1 / 282.

(67) نهج البلاغة: ج 4 / 628.

(68) دیوانه: ج 1 / 283 ( هامش)

(69) التناص في شعر المتنبي أ ابراهیم عقلة جوخان؛ (اطروحة دكتوراه) جامعة اليرموك: 1427 ه - 2006 م. ص: 10.

(70) دیوانه: ج 2 / 321.

ص: 70

(71) نهج البلاغة: ج 4 / 569.

(72) دیوانه: ج 3 / 288.

(73) م. ن (هامش)

(74) م. ن

(75) نهج البلاغة: ج 4 / 594.

(76) التناص في شعر المتنبي: 10.

(77) دیوانه: ج 3 / 187.

(78) نهج البلاغة: ج 3 / 486.

(79) م. ن. (هامش).

(80) المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب: 333.

(81) نهج البلاغة: ج 4 / 581.

(82) دیوانه: ج 3 / 3.

(83) التناص في شعر المتنبي: 10.

(84) المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب: 333.

(85) حركة التراث في شعر أبي تمام والمتنبي: 285.

ص: 71

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

1. الأدب المقارن / محمد غنيمي هلال.

2. استقبال النص عند العرب / د. محمد رضا مبارك. بیروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة العربية الأولى 1996 م.

3. الأصالة في شعر أبي الطيب المتنبي اصولها الدماغية وجذورها الاجتماعية في ضوء فسلجة بافلوف / الدكتور نوري جعفر، بغداد: مطبعة الزهراء 1976 م.

4. التناص في شعر المتنبي / ابراهيم عقلة جوخان؛ جامعة اليرموك: 1427 ه - 2006 م. (اطروحة دكتوراه)

5. التناص والموشحات الادبية / غنية بوقرة؛ سمية بابا. المدية 2009 م

6. حركة التراث في شعر أبي تمام والمتنبي / نداء محمد عز الدين محمود الحرباوي. جامعة الخليل: 1436 ه - 2009 م. ( رسالة ماجستير).

7. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب / تأليف عبد القادر بن عمر البغدادي 1030 - 1093 م؛ تحقيق وشرح عبد السلام محمدهارون؛ القاهرة: مکتبة الخانجي.

8. ديوان أبي الطيب المتنبي؛ بشرح أبي البقاء العكبري المسمى بالتبيان في شرح الديوان، ضبطه وصححه ووضع فهارسه: مصطفى السقا وابراهيم الأبياري وعبد الحفيظ شلبي. بیروت: دار الفكر: 1432 ه - 2010 م.

9. الرسالة الموضحة في ذکر سرقات أبي الطيب وساقط شعره / من كلام أبي علي

ص: 72

محمد بن الحسن الحاتمي الكاتب؛ تحقيق الدكتور محمد یوسف نجم. بیروت: دار صادر 1385 ه - 1965 م.

10. شرح نهج البلاغة / تأليف ابن أبي الحديد المعتزلي؛ تحقيق محمد ابراهيم. بغداد: دار الكتاب العربي. الطبعة الأولى 2007 م.

11. فصول مجلة النقد الأدبي: الأدب المقارن / الجزء الأول، المجلد الثالث، العدد الثالث: ابريل / مايو / يونيه 1983 م. التأثير والتقليد / أولیریش فاستنتاین.

12. المتنبي بين ناقديه في القديم والحديث / د. محمد عبد الرحمن شعيب. مصر: دار المعارف 1964 م.

13. المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب (تلقي القدماء لِشعره) / الدكتور حسين الواد بيروت: دار الغرب الاسلامي. الطبعة الثانية: 2004 م.

14. المثال والتحول آراء ودراسات في شعر المتنبي وحياته / د. جلال الخياط. بغداد: دار الحرية للطباعة 1396 ه - 1976 م. نقلا من مجلة المقتطف / المجلد 88؛ القاهرة 1936.

15. مروج الذهب ومعادن الجوهر / الإمام أبي الحسن بن علي المسعودي المتوفي 346 ه - 975 م؛ اعتنی به وراجعه کمال حسن مرعي. بيروت: المكتبة العصرية. الطبعة الأولى: 1425 ه - 2005 م.

16. نهج البلاغة للإمام علي: شرح الاستاذ الامام الشيخ محمد عبده؛ اشرف على تحقيقه وطبعه عبد العزيز سيد الأهل. بيروت: دار الاندلس الطبعة الثانية: 1382 ه - 1963 م.

ص: 73

ص: 74

أساليب التوكيد في عهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر النخعيِّ (رحمه الله) في ضوء التماسك النحوي

اشارة

أ. م. د. وفاء عبّاس فيّاض جامعة كربلاء - كليّة العلوم الإسلاميّة

ص: 75

ص: 76

المقدمة:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد إليك أفر، ومنك أخاف وبك أستغيث وإياك أرجو، ولك أدعو وإليك ألجأ، وبك أثق، وإياك أستعين وبك أو من وعليك أتوكل وعلى جودك وكرمك أتكل. اللهم صل على محمد أمينك على وحيك، ونجيبك من خلقك، وصفيك من عبادك، إمام الرحمة، وقائد الخير، ومفتاح البركة، وعلى آله الطيين الأخيار.

أما بعد: فإن من دواعي سروري وفخري أن أخوض بين مدة وأخرى في موضوع يتعلق بتراث أهل البيت (عليهم السلام)، والوقوف عند هذا المنهل العذب أرتوي منه وما ارتويت بعدُ؛ لأن ((کتاب نهج البلاغة هو بعد کتاب الله، وكلام نبيه (صلى الله عليه وآله) مصباح نستضي ءُ به في الظلمات، وسلّم نعرّجُ به إلى طباق السماوات))(1) ومن هنا اخترت بتوفيق من الله تعالى أن أدرس موضوع يتعلق بعهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر النخعي (رحمه الله تعالى)(2) للمرة الثانية وهو ((أساليب التوكيد في عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) للأشتر النخعيِّ (رحمه الله) في ضوء التماسك النحوي))؛ وذلك لأهمية هذا العهد من جهة، ولما يمتاز به هذا العهد كونه أطول العهود من مضامین سیاسية واقتصادية واجتماعية وتربوية وغيرها من متطلبات الحياة.

والتوكيد أو التأكيد تقوية المعنى وتثبيته في النفس لدى المتكلم والمتلقي، وهو ظاهرة من الظواهر اللغوية (النحوية) والبلاغية المهمة في العربية، ووقع في القرآن الكريم بمختلف أساليبه بصورة ملفتة للنظر بحسب منظور فني کامل متكامل في كل القرآن. ولذلك جاء التوكيد في القرآن الكريم كله كأنه لوحة فنية واحدة فيها

ص: 77

من عجائب الفن - وليس فيها إلا العجيب - ما يجعل أمهر الفنانين يقف مبهورا دهشا مقراً بعجز الخلق أجمعين عن استخلاص عجائبه فضلا عن الإتيان بمثله.

ومما لا شك فيه أن التوكيد وهو تقوية المعنى وتثبيته لدى المتكلم والمتلقي هو ضرب من ضروب التماسك النحوي داخل النص الذي يحقق استقرارية المعني وتثبيته وتقويته في النفس. وعليه سيتم توزيع المادة المدروسة على وفق مباحث ثلاثة يكون الأول في التوكيد اللفظي والمعنوي في العهد، ويكون الثاني في التوكيد بالأدوات ويكون الثالث في التوكيد بنون التوكيد بعد عرض مقدمة وتمهيد يتناول التوكيد في اللغة والاصطلاح والعلاقة بينهما من جهة الدلالة، وينتهي البحث بخاتمة نعرض فيها أهم النتائج ثم قائمة بأسماء المصادر والمراجع.

التمهيد:

1 - التوكيد في اللغة والاصطلاح:

التوكيد في اللغة:

أكدت المصادر المعجمية أن التوكيد في اللغة بمعنى التوثيق والتشديد، قال ابن منظور (ت 711 ه): ((وَكَّدَ العَقْدَ والعَهْدَ أَوثَقَه والهمز فيه لغة يقال أَوْ كَدْتُه

وأَكَّدْتُه وآكَدْتُه إِيكاداً وبالواو أَفصح أَي شَدَدْتُه وتَوَكَّدَ الأْمر وتأَكَّدَ بمعنًى))(3) وجاء في مادة (أكد): ((أَكَّد العهدَ والعقدَ لغة في وكَّده وقيل هو بدل والتأْكيد لغة

في التوكيد وقد أَكَّدْت اليء ووكَدْته...))(4) والذي يظهر من النصوص الواردة في هذا السياق أن التوكيد والتأكيد بمعنى واحد؛ يقال: توكيد وتأكيد؛ فالأول مصدر وَکَّد والثاني مصدر أكَّد، وذكرت بالواو في القرآن، قال تعالى: «وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا» (النحل 91).

ص: 78

واستعمل الإمام علي (عليه السلام) لفظة التأكيد بالألف في عهده لمالك الأشتر بقوله: ((وَلا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ قَوْلٍ بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ))(5) وهي تحمل الدلالة المعجمية إذ إنها ((كناية عن أمره بإحكام ما يعقد من الأمور))(6)

ويتضح من كلام المعجمات ومن الاستعمال العربي لكلمة (التوكيد)، أو (التأكيد) أنها تأتي للدلالة على معنى الإحكام والتحقق والتوثق والعناية بالمقصود، فكلمة التوكيد: ((لا تخرج عن تقوية وتثبيت الحكم وتقريره في نفس المتلقي))(7) وغايته أنه ((دخل في الكلام لإِخراج الشَّكَ))(8).

والعرب تؤكد كل شيء تراه في حاجة إلى التوكيد، فهي تؤكد الحكم كله أو تؤكد جزءاّ منه، وقد تؤكد لفظة بعينها، أو تؤكد مضمون الحكم، أو مضمون اللفظة أو غير ذلك.(9)

التوكيد في الاصطلاح:

لم نعثر على تعريف للتوكيد عند سيبويه (ت 180 ه) سوی ما جاء من استعمال المصطلح بالواو في أكثر من موضع وهو يعرض لبعض أساليبه(10) ولم يفرّق العلماء بين مصطلحي التوكيد والتأكيد إذ عرّفه ابن جنّي (ت 392 ه) بقوله: ((إعلم أنَّ التوكيد لفظٌ يتبع الاسم المؤكد في إعرابه؛ لرفع اللبس، وإزالة الاتساع) (11) وأشار ابن عصفور (ت 669 ه) بقوله: ((التوكيد لفظٌ يراد به تمكين المعنى في النفس، أو إزالة الشك عن الحديث، أو المُحدَّث عنه))(12) وعرّفه ابن طباطبا العلوي (ت 749): (( التأكيد تمكين الشيء في النفس وتقوية أمره. وفائدته إزالة الشكوك واماطة الشبهات عما أنت بصدده))(13) وهذا يعني أن وظائف التوكيد مختلفة فالذي يراد به تمكين المعنى في النفس، التأكيد اللفظي، والذي يُراد به إزالة الشك عن الحديث، التأكيد بالمصدر، والذي يراد به إزالة الشك عن المحدَّث

ص: 79

عنه، التأكيد المعنوي (14).

وفرّق الجرجاني (ت 816 ه) بين التوكيد اللفظي والتوكيد المعنوي بأن جعل الأخير: ((تابع يقرر أمر المتبوع في النسبة أو الشمول، وقيل: عبارة عن إعادة المعنى الحاصل قبله.))(15)، أما ((التأكيد اللفظي هو أن يكرر اللفظ الأول.))(16). وقال السيوطي (ت 911 ه): ((إنه تابع يقصد به کون المتبوع على ظاهره)) (17) أي: حال المتبوع وشأنه عند السامع.(18)

اما المحدثون فقد كرروا ما قاله النحويون المتقدمون؛ فهذا الدكتور مهدي المخزومي، يقول: ((التوكيد تثبيت الشيء في النفس، وتقوية أمره))(19)، وقال الدكتور فاضل السامرائي (( التوكيد يفيد تقوية المؤكد، وتمكينه في ذهن السامع وقلبه))(20).

وعلى العموم فإننا نرى أن هنالك تساوقا بين المعنى اللغوي والمعنی الاصطلاحي لكلمة التوكيد، التي لا تخرج عن تقوية الحكم وتثبيته وتقريره في نفس المتلقي وفائدته ((تحقيق وإزالة التجوّز في الكلام))(21).

2 - آليات التماسك النحوي:

ارتبط نحو النّصّ منذ نشأته ارتباطاً وثيقاً بتحليل الخطاب، والنظر إلى النّصّ على أنّه بنية كلّيبة على أنّه جمل فرعيّة، وقد تطوّر النحو بظهوره من نحو يحتل الجملة إلى نحو يحلّل النّصّ، فيتعامل معه بوصفه جملاً وسياقات، وظروفاً وفضاءات تتعالق فيها المعاني وتترابط بما قبلها وما بعدها، فهو الأكثر اتصالاً بمجال تحليل النّص (22). ويعد التماسك النصي رافدا من روافد دراسة النص، ويقصد به تلك الوسائل التي تتحقّق بها خاصيّة الاستقراريّة في ظاهر النّصّ (23)،

ص: 80

وكما قال دي بو جراند: ((هو يترتب على إجراءات تبدو بها العناصر السطحيّة على صورة وقائع يؤدّي السابق منها إلى اللاحق بحيث يتحقّق بها الترابط.)) (24)

لقد وُجد (25) أن الجملة الأولى في نصوص النهج تسيطر على المتتاليات الجملية في الوحدة الكبرى التابعة لتلك الجملة، بل إنّ الوحدة النصية إنّما هي امتداد للجملة الأولى، ذلك أنّ ما يلي الجملة الأولى من جمل إنما هو من متعلقاتها، ومتی انتهت تلك المتعلقات فإن الوحدة النصيّة تنتهي كذلك، لتبدأ وحدة نصيّة جديدة وهكذا.

ويذهب هاليدي ورقية حسن (26) إلى أن كل متتالية من الجمل تمثل نصا شريطة أن تكون بين هذه الجمل علاقات، أو على الأصح بين بعض عناصر هذه الجمل علاقات، وتتم هذه العلاقات بين عنصر وآخر وارد في جملة سابقة أو جملة لاحقة، أو بين عنصر وبين متتالية برمتها سابقة أو لاحقة.

ولذلك يحتاج النص - حتى تتحقق نصيّته - إلى مجموعة من الآليات اللغوية ليتكامل ذلك النص وتسهم في بنائه ووحدته الشاملة، وهذا ما أوضحه بقوله: ((ولكي تكونُ لأيِّ نصٍّ نصيّةٌ ينبغي أَنْ يعتمدَ على مجموعةٍ من الوسائلِ اللغويةِ التي تَخْلقُ النصَّ، بحيثُ تُسهمُ هذهِ الوسائل في وحدتهِ الشاملة))(27).

وهنالك نوعان من أنواع التماسك هما التماسك المعجمي الخاص بالألفاظ والتماسك النحوي الخاص بالتراكيب أو الجمل، والتماسك النحوي هو عبارة عن الترابط وتعالق الجمل بعضها مع البعض الآخر، ويعرض لكثير من الوسائل والإجراءات النحوية المتمثلة بالحذف والتكرار والربط وغيرها، أما الذي سندرسه في هذه المباحث هو التوكيد وأساليبه المتعددة التي ظهرت لدينا في عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لواليه على مصر مالك الأشتر النخعي (رضي الله

ص: 81

عنه)، ومن المعروف فإن هذا العهد يمثل نصا من النصوص المعتبرة والتي قيلت في زمن الاستشهاد وضمن الحقبة الزمنية المتقدمة لعصر الاحتجاج النحوي ولكن هذا الأمر قد غيب لأسباب سياسية معروفة.

والعهد نص ابداعي كتبه الإمام علي (عليه السلام) وهو رجل لا يختلف اثنان في فصاحته وبلاغته، والعهد نص من نصوص کتاب (نهج البلاغة) ذلك الكتاب العالي في بلاغته والسامي في فصاحته، فالمتكلم بليغ وفصيح ونصه بليغ وفصيح إذ تضمن مبادئ سياسية واجتماعية وأمنية واقتصادية لرسم السياسة العامة للدولة الإسلامية ((وهو أطول عهد كتبه وأجمعه للمحاسن)) (28) کما وصفه الشريف الرضي (29). ((وهذا ما جعل هذه الوثيقة من أهمّ المصادر التي تُستسقى منها المبادئ التي تُنير طريق الولاة في إدارة ما تَولَّوه، في كلِّ زمان، وفي كلّ مكان) (30).

ويعد أسلوب التوكيد من الأدوات التي تؤدي إلى التماسك النحوي داخل النص، وهذا ما ستسعى إليه الدراسة التطبيقية، إذ سنعتمد في تحليلنا على إحصاء أنواع التوكيد وأدواته في عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لواليه الأشتر النخعي رضوان الله تعالى عليه، وسنلمح كيف تؤدي آلياته إلى اتساق النص وانسجامه، ويوضح لنا ما تؤديه من ترابط وتماسك النص. وسيكون وفق المباحث الثلاثة القادمة إن شاء الله تعالى.

ص: 82

المبحث الأول: التوكيد اللفظي والمعنوي في العهد

التوكيد اللفظي في العهد:

أكد النحويون أن التوكيد اللفظي يكون بإعادة اللفظ الأول أو تقويته بمرادفه معنی (31)، وقد يؤتى بموازنة مع اتفاقهما في الحرف الأخير ويسمى أتباعا (32).

فمن إعادة اللفظ الأول قوله تعالى: «هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ» (المؤمنون 36)، وقوله تعالى: «وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا» (الفجر 22). ومن تقويته بمرادفه معنى قوله تعالى: «وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا» (الأنبياء 31)؛ لأن الفجاج عي السبل، وقوله تعالى: «وَغَرَابِيبُ سُودٌ» (فاطر 27)؛ لأن معنی (غرابيب) سود، ومفردها غربيب، أي أسود فكأنه قال سُود سود.

وهذا التوكيد أوسع استعمالا من التوكيد المعنوي؛ لأنه يكون في الأسماء النكرات والمعارف، ویکون في الأفعال، والحروف، والجمل بخلاف التوكيد المعنوي، فإنه يكون في الأسماء المعارف فقط.

ويتطلب التوكيد اللفظي إعادة عنصر معجمي - وهذا ما يقود إلى الحديث عن التكرار عند النحويين والتكرير عند البلاغيين -، أو هو ورود مرادف له أو شبه مرادف أو عنصراً مطلقاً أو اسما عاما. (33) والتوكيد اللفظي هو وسيلة من وسائل التماسك النصي وأداة من أدوات التوكيد. ومما نلمحه في العهد من إعادة بعض العناصر المعجمية التي تؤدي إلى التوكيد ورود تکرار لفظ الجلالة الواقع مفعولا على التحذير والتحذير هو ((تنبيه المخاطب على أمر مكروه ليجتنبه)) (34)، وهو ((أسلوب يعتمد على القرائن والدلالات التي تكتنف الخطاب ويكتفى فيه

ص: 83

بذكر ما یرد الى التحذير منه فلا يذكر معه فعل) (35)، وهو أقوى من الفعل الذي بمعناه في أداء المعنى، وأقدر على إبرازه کاملا مع المبالغة فيه، فيؤدي المعنى مع إيجاز اللفظ واختصاره، لذلك كان استعماله هو الأنسب حين يقتضي المقام إيجاز اللفظ واختصاره، مع وفاء المعنى، والمبالغة فيه (36).

ومما جاء في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) لواليه مالك الأشتر قوله: ((ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ، وَالْمَسَاكِين وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَة قَانِعاً وَمُعْترّاً،))(37) فتوكيد الإمام (عليه السلام) لفظ الجلالة بإعادته وتكراره جاء من باب دلالة توكيد التحذير الذي وقع مفعولا به، فأمره أن يتعهد هذه الطبقة من الناس، لضعف حالهم، وفصّل القول فيهم؛ لمزيد العناية بهم، محذّرا إياه من الباري سبحانه في التغافل عنهم، ((وجاء تكرار التحذير له تأكيدا لتحذيره من الله تعالى في التغافل عنهم، فلا بد للوالي من أن يجتهد في تأدية حقوقهم والاعذار لله سبحانه وتعالى في تأدية فرائضه وحقوقه بشأنهم إذ إنهم أول من غيرهم بتوفير حاجاتهم وإشباعها لهم.))(38)

ومن الجدير بالذكر فإن الإمام (عليه السلام) يصب عنايته في أكثر المواضع للتحذير (39) على تكرار لفظ الجلالة مستجلباً أذهان المخاطبين بذكر اسمه تعالی محذراً و مخوفاً من سطوته وغضبه في ما يريده ويفرضه من تكاليف على المخاطبين في المحذَّر منه، وهذا ينسجم مع طبيعة عمله خليفة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومُعلماً وواعظا، وقائد أمة ومحارباً، فكل هذه الصفات تفرض عليه التحذير في المواضع التي ينبغي فيها التحذير، ولأهمية الموضوعات المتحدَّثِ عنها وعظم شأن المعصية عنده تعالى وفي نظر الإمام (عليه السلام) أكدها بالتكرار. (40)

ومن ألفاظ التوكيد الأخرى التي خرجت للتحذير هي ضمير النصب

ص: 84

المنفصل للمخاطب (إياكَ) وقد ذكرها سيبويه (ت 180 ه) في ((هذا باب ما جرى منه على الأمر والتحذير وذلك قولك إذا كنت تحذر: إياك. كأنك قلت: إياك بح، وإياك باعد، وإياك اتق، وما أشبه ذا.))(41)، ووضح أيضاً العلة في حذف فعلها بقوله: ((وحذفوا الفعل من إياك لكثرة استعمالهم إياه في الكلام، فصار بدلاً من الفعل، وحذفوا كحذفهم: حينئذٍ الآن، فكأنه قال: احذر الأسد، ولكن لا بد من الواو لأنه اسم مضموم إلى آخر.))(42).

وإذا نُظر إلى الضمائر - ولا سيّما ما نحن بصدد الحديث عنه - من زاويه اتساق النص وتماسكه أمكن التمييز فيها بين أدوار الكلام التي تندرج تحتها جميع الضمائر الدالة على المتكلم، والمخاطب، وهي إحالة لتخرج النص بشكل (صورة) نمطي، ولا تصبح إحالة داخل النص، أي اتساقية، إلا في الكلام المستشهد به، أو في خطابات مكتوبة مدونة من ضمنها الخطاب السردي. وذلك لأن سياق المقام في الخطاب السردي يتضمن سياقا للإحالة، وهو تحيل ينبغي أن تكون انطلاقا من النص نفسه بحيث أن الإحالة داخله يجب أن تكون نصية ومع ذلك لا يخلو النص من إحالة سياقية إلى خارج النص تستعمل فيها الضمائر المشيرة إلى الكاتب أو إلى القارئ (43) وقد تكرر الضمير (إياكَ) في العهد (7) سبع مرات جاءت بجمل مختلفة سأوضحها على الجدول الآتي:

الكلمة - الجملة

إِيَّاكَ - إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ،

إِيَّاكَ - إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَيْرِ حِلِّهَا،

وَإِيَّاكَ - وَإِيَّاكَ وَالإِعْجَابَ بِنَفْسِكَ، وَالثِّقَةَ بِمَا يُعْجِبُكَ مِنْهَا،

وَإِيَّاكَ - وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَی رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ،

ص: 85

وإيَّاكَ - وإيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا، أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا،

وَإيَّاكَ - وَإيَّاكَ وَالاسْتِئْثَارَ بِمَا النَّاسُ فِيهِ أُسْوَةٌ،

وَإيَّاكَ - أَنْ يُوَفِّقَنِي وَإِيَّاكَ لِمَا فيهِ رِضَاهُ مِنَ الإِقَامَةِ عَلَی الْعُذْرِ الْوَاضِحِ إِلَيْهِ وَإِلَی خَلْقِهِ،

نلاحظ عبر الجدول أن الإمام علي (عليه السلام) استعمل هذا العنصر بصورة متكررة في العهد في مواطن التحذير من ارتكاب بعض الأمور التي تؤدي بصاحبها إلى نتائج وخيمة عليه، فعلى سبيل المثال يحذر الإمام (عليه السلام) مالكا بقوله: ((إِيَّاكَ وَمُسَامَاةَ اللهِ فِي عَظَمَتِهِ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِ فِي جَبَرُوتِهِ، فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ، وَيُهِینُ كُلَّ مُخْتَالٍ.))(44) أي المباراة والمفاخرة في السمو وهو العلو (45) فإن نتيجة هذا العمل هو الذل والإهانة من الله لمن يسلك هذا السلوك المشين لأن الكبرياء والعظمة له وحده، وورد في الأثر: ((الفخر ردائي والكبرياء إزاري، من نازعني في شيء منهما عذبته بناري))(46).

ومن المحذّرات التي أكد عليها الإمام علي (عليه السلام) في عهده قوله: ((إِيَّاكَ وَالدِّمَاءَ وَسَفْكَهَا بِغَیْرِ حِلِّهَا، فَإِنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى لِنِقْمَةٍ، وَلا أَعْظَمَ

لِتَبِعَةٍ، وَلا أَحْرَى بِزَوَالِ نِعْمَةٍ، وَانْقِطَاعِ مُدَّةٍ، مِنْ سَفْكِ الدِّمَاءِ بِغَیْرِ حَقِّهَا، وَاللهُ سُبْحَانَهُ مبتدئٌ بِالْحُكْمِ بَیْنَ الْعِبَادِ، فِيَما تَسَافَكُوا مِنَ الدِّمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامةِ، فَلاَ تُقَوِّيَنَّ

سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ، فَإِنَّ ذلِكَ مِمَّا يُضْعِفُهُ وَيُوهِنُهُ، بَلْ يُزيِلُهُ وَيَنْقُلُهُ، وَلا عُذْرَ لَكَ عِنْدَ اللهِ وَلا عِنْدِي فِي قَتْلِ الْعَمدِ، لِأنَّ فِيهِ قَوَدَ الْبَدَنِ، وَإِنِ ابْتُلِيتَ بخطأ وَأَفْرَطَ

عَلَيْكَ سَوْطُكَ [أَوْ سَيْفُكَ] أَوْ يَدُكَ بِعُقُوبَةٍ، فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَمَا فَوْقَهَا مَقْتَلَةً، فَلاَ تَطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطَانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إِلَی أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُول حَقَّهُمْ.))(47) وقد أعطى الإمام (عليه السلام) هذا النص من عهده مساحة واسعة لعظم ما حذر

ص: 86

منه وهي مسألة سفك الدماء إذ نهی ((أمير المؤمنين [عليه السلام] مبنية على الشريعة الإسلامية والنهي عن القتل والعدوان الذي لا يسيغه الدين وقد ورد في الخبر المرفوع أن أول ما يقضي الله به يوم القيامة بين العباد أمر الدماء قال: إنه ليس شيء أدعى إلى حلول النقم وزوال النعم وانتقال الدول من سفك الدم الحرام وإنك إن ظننت أنك تقوي سلطانك بذلك فليس الأمر كما ظننت بل تضعفه بل تعدمه بالكلية. ثم عرفه أن قتل العمد يوجب القود وقال له قود البدن أي يجب عليك هدم صورتك كما هدمت صورة المقتول والمراد إرهابه بهذه اللفظة أنها أبلغ من أن يقول له فإن فيه القود. ثم قال: إن قتلت خطأ أو شبه عمد كالضرب بالسوط فعليك الدية))(48).

وجاء التحذير ب(إياكّ) في سياق آخر من العهد وهو قوله (عليه السلام): ((وإيَّاكَ وَالْعَجَلَةَ بِالأُمُورِ قَبْلَ أَوَانِهَا، أَوِ التَّسَاقُطَ فِيهَا عِنْدَ إِمْكَانِهَا، أَوِ الَّلجَاجَةَ فِيهَا إِذا تَنَكَّرَتْ، أَوِ الْوَهْنَ عَنْهَا إذَا اسْتَوْضَحَتْ، فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ، وَأَوْقِعْ كُلَّ عَمَلٍ مَوْقِعَهُ))(49)

ومن العناصر (الألفاظ) المكررة الأخرى التي لمحناها في العهد هي (أَمَرَ، تَفَقَّدْ) وجاءتا في جمل متعددة وسياقات مختلفة، وسأجعلهما في جدولين منفصلين حتي نكون على بيّنة من الجمل التي وردت فيها في العهد، ومن ثم يسهل علينا تحليلهما، وهما على النحو الآتي:

الكلمة - الجملة

أَمَرَ - هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَميِرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْترَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ،

ص: 87

أَمَرَهُ، مَا أَمَرَ - أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ: مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ،

وَأَمَرَهُ - وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ،

من الجدول يتبين لنا أن (الجملة الأولى) في النصّ هي التي ((تحكم سائر الجمل اللاحقة لها - إن وجدت - بحكم ورودها في البداية في نقطة الانطلاق، وهي المَعْلَمُ الأول المُؤسس لكل المعالم في النص))(50)

وإنما امتازت الجملة الأولى بذلك؛ لأنها تمثل المحور المركزي في الوحدة النصية، ومعلوم أنّ ((معیار تحديد المركزية هو كمية المعلومات التي يفرزها الخطاب في تسلسله بالنسبة لمحور ما. على هذا الأساس يصبح التفاوت بين محاور الخطاب الواحد من حيث المركزية تفاوتا في كم المعلومات التي تشكل هذه المحاور موضوعات لها، ويصبح بذلك المحور الرئيسي في خطابٍ ما المحور الذي يستقطب الكم الأكبر من المعلومات في ذلك الخطاب))(51).

ويلاحظ عبر هذه السياقات النصية أن لفظة (أَمَرَ) جاءت في العهد (4) أربع مرات بصيغة الماضي وردت مرتان منهما بلفظ (أَمَرَهُ) بالإسناد إلى الضمير، وهذا يجعل النص في تماسك واضح في ألفاظه ففي أول العهد أشار الإمام (عليه السلام) إلى الأمر الذي أمر به واليه على مصر مالك بن الحارث ونص عليه، وعليه فإن اسم الاشارة (هذا) تعد الركيزة الأولى، والمعلم المؤسس بل هي المحور المركزي الذي انطلقت منه جميع الأوامر والنواهي التي صدّرها الإمام (عليه السلام) بقوله: ((هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَلِيٌ أَمیرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْترَ فِي

عَهْدِهِ إِلَيْهِ، حِینَ وَلاَّهُ مِصْرَ: جِبْايةَ خَرَاجِهَا، وَجِهَادَ عَدُوِّهَا، وَاسْتِصْلاَحَ أَهْلِهَا، وَعِمَاَرَةَ بِلاَدِهَا))(52) للوقوف على جملة أمور هي بمثابة أوامر ينبغي تنفيذها،

ص: 88

والوالي المسؤول الأول والمباشر في ذلك إذ إن هدف الحكم الإسلامي يتلخص في البرنامج المالي للدولة (جباية خراجها) والدفاع والأمن (جهاد عدوها) والإصلاح الاجتماعي (استصلاح أهلها) والتنمية الاقتصادية (عمارة بلادها). ثم يردف کلامه بقوله: ((أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ:

مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، الَّتِي لا يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلَّا بِاتِّبَاعِهَا، وَلا يَشْقَى إِلَّا مَعَ جُحُودِهَا

وَإِضَاعَتِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ - جَلَّ اسْمُهُ - قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ.)) (53) فنرى أن الإمام (عليه السلام) انطلق عبر تکراره هذه اللفظة وهي (أمره) بإسنادها إلى ضمير المخاطب العائد على مالك الأشتر إلى مجموعة من الدلالات المختلفة وتكثيفها في المعاني لتقويتها وتمكينها في ذهن المخاطب وقلبه مما أسهم اتساقا واضحا بين جملها المتعددة وسياقاتها المختلفة، ولم يقف عند هذا الحد بل تجاوز إلى إطار آخر من الأمر وهو قوله: ((وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ، وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ

بِالسُّوءِ، إِلَّا مَا رَحِمَ اللهُ.))(54)، ولعل السبب في تكرار هذه اللفظة هو التأكيد على الهدف الذي من أجله أنشئ العهد وهو جمع من الأوامر والنواهي في اتباع إدارة الدولة وهي تصلح لكل زمان ومكان، وعليه ((فقد يكرر اللفظ لتقوية الحكم وذلك لتمكينه في ذهن السامع وقلبة. وقد يكون الغرض منه التهويل والتعظيم والتهدید)) (55)

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن أحكام التوكيد اللفظي تختلف باختلاف المؤكد ف ((إذا كان المؤكد فعلا ماضيا أو مضارعا، فإن توکيده اللفظي يكون بتكراره وحده دون تکرار فاعله، أما فعل الأمر فلا يمكن توكيده وحده بغير فاعله))(56) وهو ما جاء في النصيين الأوليين إذ ذكر الفاعل في النص الأول

ص: 89

دون الثاني، قال الإمام (عليه السلام): ((هذَا مَا أَمَرَ بِهِ عَبْدُ اللهِ عَليٌ أَمیرُ الْمُؤْمِنِينَ، مَالِكَ بْنَ الْحَارِثِ الأَشْترَ فِي عَهْدِهِ إِلَيْهِ،))(57).

ومما ورد من الألفاظ المكررة في العهد، وتستحق الوقوف عندها لفظة (تَفَقَّدْ) أيضا جاءت بصيغة الأمر أيضاً وهي مبيّنة في الجدول الآتي:

الكلمة - الجملة

تَفَقَّدْ، يَتَفَقَّدُهُ - ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا،

تَفَقَّدَ - وَلا تَدَعْ تَفَقُّدَ لَطيِفِ أُمُورِهِمُ اتِّكَالاً عَلَی جَسِيمِهَا،

تَفَقَّدْ - ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ

عَلَيْهِمْ،

وتَفَقَّدْ - وَتفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ،

وتَفَقَّدْ - وَتَفَقَّدْ أُمُورَهُمْ بِحَضْرَتِكَ وَفِي حَوَاشِي بِلَادِكَ.

وتَفَقَّدْ - وَتَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لا يَصِلُ إِلَيْكَ مِنْهُمْ مِمَّنْ تَقْتَحِمُهُ الْعُيُونُ،

إن استعمال الإمام علي (عليه السلام) لهذه اللفظة (تفَقَّدْ) (5) خمس مرات بصيغة الأمر وبصيغة المضارع مرة واحدة (يَتَفَقَّدُهُ)، ومرة واحدة بصيغة (تَفَقُّدَ) يؤكد أهمية هذا الأمر الذي يحاول الإمام تکراره وتأكيده خشية نسيانه لما فيه ثقل كبير ومسؤولية كبرى ولهذا ((يلجأ المتكلم إلى تكرار اللفظ لطول الكلام وأنه يخشى نسيان المتلقي أوائل الكلام.)) (58) فعلى سبيل المثال قوله (عليه السلام): ((ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا،)) (59) إذ أمره (عليه السلام) ((أن یکون آثر رءوس جنوده عنده وأحظاهم عنده وأقربهم إليه من واساهم في معونته هذا هو الضمير الدال على أن الضمير المذكور أولا للجند لا لأمراء الجند

ص: 90

لولا ذلك لما انتظم الکلام))(60).

وقوله ((مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا)) إذ يتطلب من الإمام العدل أن یکون ((كالأم الشفيقة البرّة الرفيقة بولدها، حملته کرها ووضعته کرها وربّته طفلا، تسهر بسهره وتسكن بسكونه، ترضعه تارة وتفطمه اخرى، وتفرح بعافيته وتغتمّ بشكاته.)) (61) ومما يلتفت إليه أنه جاء بصيغة المضارع (يتفقده) کونها دالة على الحدوث والتجدد. ثم يكرر اللفظة في سياقات أخرى منها قوله (عليه السلام): ((ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ،))(62) وقوله أيضاً: ((وَتفَقَّدْ أَمْرَ الْخَرَاجِ بِمَا يُصْلِحُ أَهْلَهُ))(63)

ونلحظ أن هنالك تلازم واضح بين دلالة هذين اللفظين (أَمَرَ) و(تفَقَّدْ) في العهد إذ إن التفقد نتيجة حتمية يأمر بها الإمام واليه؛ فالتفقد في كل الأمور صغيرها وكبيرها قليلها وجسيمها لأن الغفلة عن الصغيرة منها يؤدي إلى عظيم ما يحمد عقباه، ولذلك يأمر الإمام التفقد في أمور الرعية وأعمالهم وأمور خراجهم، فورود هذه اللفظة بصيغة الأمر (تفقد) منح النص قوة وتماسكا للوصول إلى الغاية التي وضع الإمام (عليه السلام) من أجلها خطواته في بناء الدولة إذ تبدأ من اختيار الراعي ليسير بالرعية إلى بر الأمان.

التوكيد المعنوي في العهد:

التوكيد المعنوي عند النحويين يعرّف بأنه التابع الرافع احتمال غیر أرادة الظاهر (64). أو هو التابع الرافع احتمال تقدير أضافة إلى المتبوع، أو أرادة الخصوص بما ظاهره العموم(65).

ومن ألفاظ هذا التوكيد الألفاظ الدالة على العموم وأشهرها (كل) وهو اسم يفيد الاستغراق والإحاطة بالأفراد والأجزاء، مثاله قوله تعالى: «كُلُّ امْرِئٍ بِمَا

ص: 91

كَسَبَ رَهِينٌ» (الطور 21) فهذا استغراق وأحاطة بجميع الأفراد. وإذا قلنا (كل ظالم مبغوض) فإنه يفيد استغراق أفراد الظالمين.(66) والفائدة من التوكيد ب (كل) وما في معناها: رفع ما كان يحتمله اللفظ من إرادة البعضيّة به (67)، أي أنها ترفع احتمال إرادة الخصوص بلفظ العموم(68).

ویری ابن هشام (ت 761 ه) أنها ((اسم موضوع لاستغراق أفراد المُنكّر، نحو «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ» والمعرّف المجموع نحو «وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا» (مريم 95) وأجزاء المفرد المعرف نحو (كُلُّ زيد حسن) فإذا قلت (أكلتُ كلَّ رغيفٍ لزيدٍ) كانت لعموم الأفراد، فإن أضفتَ الرغيف الى زيد صارت لعموم أجزاء فردٍ واحد.)) (69)

وقد وردت لفظة (كل) مؤكدة توكيدا معنويا في عدة مواضع من عهد الإمام (عليه السلام) حتى بلغت (19) تسع عشرة مرة سنذكرها بحسب ما وردت في العهد وفق الجدول الآتي ليسهل علينا تحليلها.

لفظة (كل) - الجملة التي وردت في العهد

کُلَّ - فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ،

کُلَّ - وَيُهِينُ كُلَّ مُخْتَالٍ.

کُلَّ - أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ،

کُلَّ - وَاقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ،

کُلَّ - وَتَغَابَ عَنْ كلِّ مَا لا يَضِحُ،

لِکُلٍّ - وَفِي اللهِ لِكُلّ سَعَةٌ،

لِکُلٍّ - وَلِكُلٍّ عَلَی الْوَالِي حَقٌّ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ.

ص: 92

لِكُلِّ - ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ مَا أَبْلى

كُلِّ - وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ،

كُلِّ - وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الإِسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَدٍ

كُلِّ - وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ،

كُلِّ - وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی الله تَعَالَ فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيهِ.

كُلُّهُ - وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ،

لِكُلِّ - وَأَمْضِ لِكُلِّ يَوْمٍ عَمَلَهُ،

لِكُلِّ - فإِنَّ لِكُلِّ يَوْمٍ مَا فِيهِ،

كُلِّ - وَلَكِنَّ الْحَذَرَ كُلَّ الْحَذَرِ مِنْ عَدُوِّكِ بَعْدَ صُلْحِهِ،

كُلِّ - فَضَعْ كُلَّ أَمْرٍ مَوْضِعَهُ،

كُلِّ - وَأَوْقِعْ كُلَّ عَمَلٍ مَوْقِعَهُ.

كُلِّ - وَاحْترِسْ مِنْ كُلِّ ذلِكَ بِكَفِّ الْبَادِرَةِ، وَتَأْخِيرِ السَّطْوَةِ،

کُلِّ - وَأَنَا أَسْأَلُ اللهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَی إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ،

يتبين لنا عبر هذا الجدول أن الإمام استعمل لفظة (كل) الدالة على العموم واستغراق جميع الأفراد والأجزاء واختلفت صورتها فجاءت مرفوعة منونة (2) مرتان، وجاءت منصوبة (5) خمس مرات، وجاءت مجرورة (11) إحدى عشرة مرة، وجاءت مرة واحدة مضافة إلى الضمير.

وإذا دققنا النظر في النصوص التي وردت فيها (كل) سنجدها كلها متقدمة على ما أضيفت إليه وهذا يعني أنها دالة على العموم ابتداءً، فقوله (عليه السلام): ((

ص: 93

فَإِنَّ اللهَ يُذِلُّ كُلَّ جَبَّارٍ، وَيُهِینُ كُلَّ مُخْتَالٍ)) (70). وقوله: ((أَطْلِقْ عَنِ النَّاسِ عُقْدَةَ كُلِّ حِقْدٍ، واقْطَعْ عَنْكَ سَبَبَ كُلِّ وِتْرٍ، وَتَغَابَ عَنْ كلِّ مَا لا يَضِحُ،))(71). وقوله: ((وَأَنَا أَسْأَلُ اللهَ بِسَعَةِ رَحْمَتِهِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ عَلَى إِعْطَاءِ كُلِّ رَغْبَةٍ،))(72) دالة على العموم في جميعها.

وهنالك فرق واضح بين مجيء (کل) متقدمة، وبين مجيئها مؤكدة وذلك لأنّها ((إذا تقدمت أفادت العموم ابتداءً، ولم تدع احتمالاً لغير الإحاطة، وإذا تأخرت وكانت مؤكدة أحتمل الكلام العموم وغيره، ثم جئت بما يرفع احتمال عدم العموم))(73). هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ((أنها مع التقدم يمكن التعبير بها للدلالة على الإحاطة والشمول بصورة أوسع مما تقع مؤكدة، فإنها إذا وقعت مؤكدة أفادت العموم في المعارف فقط، أما إذا تقدمت، فإنها تفيد العموم في النكرات والمعارف، مفرداً أو غيره مما لا يصح أن يقع مؤكداً، وذلك نحو قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ» ( المدثر 38)، ولا يقال (نفس كلها بما کسبت رهينة). وقال: «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا» (الأحقاف 25) ولا يقال (تدمر شيئاً كله)، وقال: «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا» (النحل 111).))(74) وهذا ما أكده بعضهم بقوله: ((إنّ كلا إذا تقدمت تقتضي الإحاطة بالجنس، وإذا تأخرت وكانت توكيدا اقتضت الإحاطة بالمؤكد خاصة جنسا شائعا كان أو معهودا معروفا)) (75)

(( وفي حال كون (کل) تقع مؤكدة تضاف لفظا إلى ضمير المؤكد، فإذا كان المؤكد جنسا عاما، كان التوكيد يشمل كل أفراد الجنس، نحو (الخلق كلهم عيال الله) و (الناس كلهم میتون)، (76) ومن ذلك قول الإمام علي (عليه السلام) في عهده: ((وَذلِكَ عَلَى الْوُلاَةِ ثَقِيلٌ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ ثَقِيلٌ، وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَى أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ

ص: 94

فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ، وَوَثِقُوا بِصِدْقِ مَوْعُودِ اللهِ لَهُمْ.))(77) فقد اشار إلى ثقل التكليف فيما أمره به بقوله (وذلك على الولاة ثقيل)، ثم أردف ذلك بقوله: (والحق كله ثقيل) فخصّ توكيد كلمة (الحق) بلفظة (كُله)، وذلك ليشمل التوكيد معاني الحق كلها، ولم قيل: (والحق ثقيل كله)؛ تشجيعا له علی فعله، ثم نسب تخفيفه إلى الباري سبحانه، في قوله: (وقد يخففه الله...) ترغيبا له فيه.(78)

وقد تقطع (كل) عن الإضافة لفظا فتأتي منونة، وفي هذه الحالة يجوز مراعاة اللفظ والمعنى فيهما، فيأتي إفراد الخبر مع (كل) وهي غير مضافة إلى شيء بعدها كما بيّنها السهيلي (ته) (79)، قال تعالى: «كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ» ( البقرة 285)، وقوله تعالى: «كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ» (ق 14)، وقال تعالى: «كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ» ( البقرة 116)، وقال تعالى: «وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ» ( يس 40)، فأفرد مراعاة للفظ (كل)، وجمع مراعاة لمعناها. فعلى سبيل المثال في الآية الأولى ورد ذكر الرسول والمؤمنون فلو قال: (كلٌّ آمنوا) وجمعهم في الإخبار عنهم لبطل معنى الاختلاف، فكان لفظ الإفراد أدل على المراد، كأنه يقول: كل واحد منهم آمن بالله وملائكته.

وفي الآية الثانية فلأنه ذكر قُروناً وأُمماً، وختم ذكرهم بذكر قوم تَبع، فلو قال: (كلٌّ كذبوا) و(كل) إذا أُفردت إنما تعتمد على أقرب المذكورين إليها - فكان يذهب الوهم إلى أن الإخبار عن قوم تُبع خاصةً؛ أنهم كذبوا الرسل، فلما قال (كلٌّ كذب) عُلم أنه يريد كل قرن منهم كذب، لأن إفراد الخبر عن (كل) حيث وقع إنما يدلُّ على هذا المعنى، وعليه فإن في كل من هذه الآيات قرينة تقتضي تخصيص المعنى بهذا اللفظ دون غيره انطلاقا من كون النص وحدة متماسكة (80).

واستعمل الإمام (عليه السلام) (كل) في العهد منقطعة عن الإضافة بقوله (عليه السلام): ((وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ،))(81)، فأفرد فيها مراعاة للفظ (كل)؛

ص: 95

ولأن في معرفة السياق والمعنى الذي وضعت فيه يتبين لنا لماذا أفرد الخبر وجمع المعنى، فقد ورد في القول الأول ذكر مجموعة من الطبقات منها ((ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ، وَالْمَسَاكِين وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَالزَّمْنَى، فإِنَّ فِي هذِهِ الطَّبَقَة قَانِعاً وَمُعْترّاً، وَاحْفَظْ لِلّهِ مَا اسْتَحْفَظَكَ مِنْ وإنّ فِيهِمْ، وَاجْعَلْ لَهُمْ قِسمْاً مِنْ بَيْتِ مَالِكَ، وَقِسماً مِنْ غَلاَّتِ صَوَافِي الإِسْلاَمِ فِي كُلِّ بَلَدٍ، فإِنَّ لِلأَقْصَى مِنْهُمْ مِثْلَ الَّذِي لِلأَدْنَى، وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ،)(82)

وأما قوله (عليه السلام): ((وَكُلٌّ فَأَعْذِرْ إِلَی اللهِ تَعَالَی فِي تَأْدِيَةِ حَقِّهِ إِلَيه.))(83) فلأن ((الإعذار إلى الله الاجتهاد والمبالغة في تأدية حقه والقيام بفرائضه))(84). فأفرد مراعاة للفظ (کل)، وجمع مراعاة لمعناها؛ لأنها جاءت في سياق الحديث عن حقوق أصحاب الدخول المحدودة من الطبقات السفلى والمساكين والمحتاجين وأصحاب الاحتياجات الخاصة والأمراض المزمنة وهم كثر.

ومما تقدم يتضح أن الغاية التي قصدها الإمام عليٍّ (عليه السلام) من توكيد كلامه بلفظة (کُلّ) على اختلاف صورها، هو إفادة العموم والشمول فيه، وهو مما يستلزم الإحاطة والعموم منه.

ص: 96

المبحث الثاني: التوكيد بالأدوات

ظهرت لدينا عند قراءتنا العهد أنه يضم مجموعة من الأدوات النحوية التي تحمل في مضمونها التوكيد، ومن أبرز ما لمحناه سنسرده على النحو الآتي:

التوكيد ب(إنَّ) وملحقاتها:

التوكيد بالقصر ب (إنّما):

التوكيد ب(قد):

التوكيد ب(ثُمّ):

التوكيد ب(إنَّ) وملحقاتها:

احتل التوكيد في العهد ب (إنَّ) وملحقاتها المختلفة (85) مساحة واسعة تكاد تكون أبرز أداة وأكثفها استعمالا من أي أداة أخرى لما تمتلكه هذه الأداة من خصوصية تعبيرية واضحة في الأداء الكلامي وتعطي ترابطا ملموسا واقعيا في النص؛ لأن الأثر المعنوي ل (إنَّ) کما ذکره العكبري (ت 616 ه) هو ((إنما دخلت (إنَّ) على الكلام للتوكيد عوضا عن تكرير الجملة))(86)

وعهد الإمام علي (عليه السلام) كما أسلفنا يعد نصا ابداعيا يمتلك وحدة موضوعية متكاملة ووجود هذه الأداة بين فقرات جمله ضروري جدا لعدم تكرار الجملة من جهة، ولتكثيف جمل أخرى بدلالات أخرى وهذا ما نتلمسه في جمل العهد، وعليه تنوعت واختلفت صور التأكيد بهذه الأداة فمرة نجد الإمام يستعملها مقرونة بالفاء مرة وبالواو مرة أخرى ومرة تكون بكسر الهمزة ومرة

ص: 97

بفتحها.

وبما أن تأكيد الكلام بهذه الأداة واسع جدا سوف أذكر نماذج قليلة لذلك على اختلاف صورها منها قوله (عليه السلام): ((ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ

إِلَی بِلاَدٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ،)) (87)

وقوله: ((وَلا تَقُولَنَّ: إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ، فَإِنَّ ذلِكَ إِدْغَالٌ فِي الْقَلْبِ، وَمَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ، وَتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِیَرِ.))(88)

وقوله: ((وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ بِأَدْعَى إِلَی حُسْنِ ظَنِّ رَاعٍ بِرَعِيَّتِهِ مِنْ إحْسَانِهِ

إِلَيْهِمْ،)) (89)

وقوله: ((فَإِنَّ حُسْنَ الظَّنِّ يَقْطَعُ عَنْكَ نَصَباً طَوِيلاً، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ حَسُنَ ظنُّكَ بِهِ لَمَنْ حَسُنَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ، وَإِنَّ أَحَقَّ مَنْ سَاءَ ظَنُّكَ بِهِ لَمَنْ سَاءَ بَلاَؤُكَ عِنْدَهُ.))(90)

وقوله: ((وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّعِيَّةَ طَبَقَاتٌ لا يَصْلُحُ بَعْضُهَا إِلَّا بِبَعْضٍ، وَلا غِنَى بِبَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ:))(91)

وقوله: ((مَعَ أَنَّ أَكْثَرَ حَاجَاتِ النَّاسِ إِلَيْكَ ما لا مَؤُونَةَ فِيهِ عَلَيْكَ، مِنْ شَكَاةِ مَظْلِمَةٍ، أَوْ طَلَبِ إِنْصافٍ فِي مُعَامَلَةٍ.))(92) وأخیرا قوله: ((وَأَنْ يَخْتِمَ لِي وَلَكَ

بِالسَّعَادَةِ وَالشَّهَادَةِ، إِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ،)) (93)

فالمتأمل في الجمل الواردة في أعلاه وفي غيرها مما لم نذكره نرى أنه قد اتخذت من (إن) وظائف لتوكيد النسبة، ونفي الشك عنها، (94) أو لتوكيد مضمون الجملة،(95) أو يؤتى بها لربط الكلام بعضه ببعض، فلا يحسن سقوطها.(96) وقيل عنها أنها: ((قريبة الشبه بنون التوكيد الثقيلة التي تؤكد الفعل، غير أنّها مسبوقة بالهمزة. ومن أوجه الشبه بينهما أن كلتيهما للتوكيد، وأن نون التوكيد يفتح معها

ص: 98

الفعل، وهذه ينصب معها الاسم، وأنّها تخفف کما تخفف تلك))(97)، أو قد تأتي للتعليل وهي كثيرة كقول الإمام علي (عليه السلام): ((وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لا يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الإِنْصَافُ مِنْهَا فِيَما أَحَبَّتْ وَكَرِهَتْ.))(98) وقوله (عليه السلام): ((وَلَيْسَ شَيْءٌ أَدْعَى إِلَی تَغْيِیرِ نِعْمَةِ اللهِ وَتَعْجِيلِ نِقْمَتِهِ مِنْ إِقَامَةٍ عَلَى ظُلْمٍ، فَإِنَّ اللهَ سَميِعٌ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِينَ، وَهُوَ لِلظَّالِمِنَ بِالْمِرْصَادِ.))(99). ولا تكاد تخرج جمل العهد عن تلك الوظائف وهي بذلك تحقق ترابطا وانسجاما بين أجزاء الجمل للوصول به إلى تماسك واضح في النصّ.

التوكيد بالقصر ب (إنّما):

(إنّما) مركبة من (إنَّ) - بكسر الهمزة وتشديد النون - حرف توكيد، ينصب الاسم ويرفع الخبر مع (ما) الكافة (100). و(ما) هذه تسمى (المهيئة)؛ لأنها تهيء (إنَّ) للدخول على الأفعال بعد أن كانت مختصة بالأسماء (101) نحو قوله تعالى: «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ» (فاطر 28) ((وقد نتج من هذه الملازمة تغيير في الوظيفة التي كانت (إنَّ)، تؤديها منفردة؛ لأن الكلمتين إذا ركبتا، وكان لكلٍ منهما معنى على حده أصبح لها بعد التركيب معنی جدید، وحكم جديد، وقد نفیت دلالتها من كونه توکیدا عاديا إلى كونه قاصرا أو حاصرا، وبعبارة أوضح من كونه توکیداً مخّفاً إلى كونه توکیداً مشدّا))(102)

وهنالك طرائق يتم فيها قصر الكلام، وتعد (إنما) إحدى تلك الطرق. ودلالة (إنما) هي القصر، ويراد به کما قال القزويني (ت 739 ه): ((القصر ليس إلا تأكيد على تأكيد))(103) وقد وردت في العهد (إنّما) في (7) سبعة مواضع، سأرتبها بحسب ورودها في الجدول الآتي:

ص: 99

الأداة - الجملة

وَإِنَّمَا - وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَی الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَی أَلْسُنِ عِبَادِهِ.

وَإِنَّمَا - وَإِنَّمَا عَمُودُ الدِّينِ، وَجِمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، وَالْعُدَّةُ لِلأَعْدَاءِ، الْعَامَّةُ مِنَ الأُمَّةِ،

فَإنَّمَا - فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ،

وَإِنَّمَا - وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الأَرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا،

وَإِنَّمَا - وَإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ، وَسُوءِ

ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ.

وَإِنَّمَا - وَإِنَّمَا الْوَالِي بَشَرٌ لا يَعْرِفُ مَا تَوَارَى عَنْهُ النَّاسُ بِهِ مِنَ الأُمُورِ،

وَإِنَّمَا - وَإِنَّمَا أَنْتَ أَحَدُ رَجُلَيْنِ: إِمَّا امْرُؤٌ سَخَتْ نَفْسُكَ بِالْبَذْلِ فِي الْحَقِّ،...

إن الناظر في الجمل التي جاءت في الجدول تبين لنا حقيقةً مفادها أن دخول هذه الأداة (إنّما) عليها منح الجمل وظيفة تأكيدية مشددة وذلك بجعلها قاصرة وحاصرة للمعنى الذي يريد استعماله الإمام (عليه السلام) مما أكسب النص قوة وترابطا وتماسكا بين أجزائه الكثيرة، من ذلك قوله: ((وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِینَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ.)) (104) فأراد الإمام علي (عليه السلام) حصر هذه اللفظة (الصالحين) (بکا یُجري الله) لأن ((ما يتّفق من ثناء الناس لبعض أمراء الباطل والعلماء المرائين المتصنّعين فإنّما هو على لسان العوام ومن في قلبه مرض، وأمّا العارفون المستقيمون فحاشا وکلاّ))(105) ولذلك أكمل الإمام (عليه السلام) قوله: ((فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِیرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ،))(106) قال تعالى: «الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا» (الكهف 46).

ص: 100

التوكيد ب(قد):

من المعلوم أن (قد) إذا دخلت على الفعل الماضي تعين أنه للمضي، ولا يصح صرفه إلى الاستقبال، بخلاف (لم) فإنه يصح صرف ما بعدها إلى الاستقبال. (107) وقد حرف تحقيق وهو معنى التأكيد (108)، مختصة بالفعل المتصرف الخبري المُثبت المجرد مِنْ جازم وناصب وحرف تنفيس، وهي معه كالجزء، فلا تنفصل منه بشيء اللّهُمَّ إلاّ بالقسم (109).

لقد تعددت الآراء في (قد) وما تدخل عليه من الفعل الماضي (110) فهناك من يرى أنه لا بُدَّ أن يكون فيه معنى التوقع، ومنه قول المؤذن (قَدْ قَامَتِ الصَّلاة)؛ وإنَّما قيل ذلك لقوم ينتظرون الخبر ويتوقعون الفعل وهو قيام الصّلاة، والرأي الثاني: أنَّها لا تكون للتوقع مع الماضي؛ لأنَّ التوقع انتظار الوقوع في المستقبل، والماضي قد وقع فكيف يتوقع وقوع ما وقع. والرأي الثالث: أنَّها لا تفيد التوقع أصلا.

والص-واب أنها تفيد التوقع والتوكيد إذا كان الفعل الماضي فيه دلالة الاستقبال، كما في قوله تعالى على لسان هود (عليه السلام): «قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ» (الأعراف 71)، أيْ: انتظروا الوقوع فإنَّه سيقع عليكم عذاب لا محالة. إذ دخلت (قد) على الفعل الماضي لتوكيد وقوع الفعل في المستقبل كونهم تجاوزوا على نبيهم وطلبوا منه العذاب فأكَّد الرسولُ وقوعَهُ جوابًا لطلبهم (111).

وورد في العهد دخول (قد) على الفعل الماضي (13) ثلاث عشرة مرة، ومرة واحدة على الفعل المضارع كما هو مثبت في الجدول الآتي:

ص: 101

الكلمة - الجملة

قَدْ - قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ.

قدْ، قدْ - ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلاَدٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ،

وَقَدِ - وَقَدِ اسْتَكْفَاكَ أَمْرَهُمْ، وَابْتَلاَكَ بِهِمْ.

قَدْ - وَكُلّاً قَدْ سَمَّى اللهُ سَهْمَهُ،

فَقَدْ - فَقَدْ قَالَ اللهُ سبحانه لِقَوْم أَحَبَّ إِرْشَادَهُمْ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ»،...

قَدْ - فَانْظُرْ فِي ذلِكَ نَظَراً بِلِيغاً، فَإِنَّ هذَا الدِّينَ قَدْ كَانَ أَسِراً فِي أَيْدِي الأَشْرَارِ،

قَدِ - وَكُلٌّ قَدِ اسْتُرْعِيتَ حَقَّهُ،

وَقَدْ - وَقَدْ يُخَفِّفُهُ اللهُ عَلَی أَقْوَامٍ طَلَبُوا الْعَاقِبَةَ فَصَبَرُوا أَنْفُسَهُمْ،

وَقَدْ - وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) حِینَ وَجَّهَنِي إِلى الْيَمَنِ: كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: «صَلِّ بِهِمْ كَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ، وَكُنْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً».

وَقَدْ - وَقَدْ لَزِمَ ذلِكَ الْمُشْرِكُونَ فِيَما بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِمَا اسْتَوْبَلُوا مِنْ عَوَاقِبِ الْغَدْرِ،

وَقَدْ - وَقَدْ جَعَلَ اللهُ عَهْدَهُ وَذِمَّتَهُ أَمْناً أَفْضَاهُ بَيْنَ الْعِبَادِ بِرَحْمَتِهِ،

قَدْ - وَالتَّغَابِيَ عَمَّا تُعْنَى بِهِ مِمَّا قَدْ وَضَحَ لِلْعُيُونِ،

وَقَدْ - وَقَدْ كَانَ فِيَما عَهدَ إليَّ رَسُولُهُ فِي وَصَايَاهُ: «تَحضيضاً عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَما مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»،

ص: 102

إن ما ورد من نصوص في العهد من دخول (قد) على الفعل الماضي يفيد التأكيد والتوقع في الكلام، فعلى سبيل المثال قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلامه عن الصلاة: ((وَإِذَا قُمْتَ فِي صلاَتِكَ لِلنَّاسِ، فَلاَ تَكُونَنَّ مُنَفّرِاً وَلا مُضَيِّعاً، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَلَهُ الْحَاجَةُ. وَقَدْ سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ (صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ) حِینَ وَجَّهَنِي إِلى الْيَمَنِ: كَيْفَ أُصَلِّي بِهِمْ؟ فَقَالَ: ((صَلِّ بِهِمْ كَصَلاَةِ أَضْعَفِهِمْ، وَكُنْ

بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً)).)) (112) وإقامة الصلاة أمر حاصل ومتوقع، ولكنه أراد أن يؤكد كيف تتم هذه الصلاة ولذا أكد كلامه ب(قد) في الماضي لتعطي بعدا وتماسكا يربط بين أجزاء الجملة، ولذا ختم كلامه مؤكدا استعماله (قد) أيضاً بقوله: ((وَقَدْ كَانَ فِيَما عَهدَ إليَّ رَسُولُهُ فِي وَصَايَاهُ: (تَضيضاً عَلَى الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَمَا مَلَكَتْ

أَيْمَانُكُمْ)، فَبِذَلِكَ أَخْتِمُ لَكَ مَا عَهِدْتُ، وَلا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَظِيمِ. ))(113)

التوكيد ب (ثمّ)

مما لا شك فيه: ((أن النص عبارة عن جمل أو متتاليات متعاقبة خطيا، ولكي تدرك كوحدة متماسكة تحتاج إلى عناصر رابطة متنوعة تصل بين أجزاء النص))(114) ولما كانت وسائل الربط في إطار الوصل متنوعة تفرع هذا المظهر إلى الإضافي ومنها (ثم) فإذا كانت وظيفة هذه الأنواع من الوصل متماثلة (ونقصد بالوظيفة هنا الربط بين المتواليات المشكلة للنص) فإن معانيها داخل النص مختلفة، فقد يعني الوصل تارة معلومات مضافة إلى معلومات سابقة أو معلومات مغايرة للسابقة أو معلومات (نتيجة) مترتبة عن السابقة (السبب)، إلى غير ذلك من المعاني. ولأن وظيفة الوصل هي تقوية الأسباب بين الجمل وجعل المتواليات مترابطة متماسكة فإنه لا محالة يعتبر علاقة اتساق أساسية في النص))(115)

ص: 103

الأداة - الجملة

ثُمَّ - ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلاَدٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ،

ثُمَّ - ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَهُمْ بِمُرِّ الْحَقِّ لَكَ،

ثُمَّ - ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَی أَلَّا يُطْرُوكَ وَلا يُبَجِّحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْهُ،

ثُمَّ - ثُمَّ لا قِوَامَ لِلْجُنُودِ إِلَّا بِمَا يُخْرِجُ اللهُ لَهُمْ مِنَ الْخَرَاجِ الَّذِي يَقْوَوْنَ بِهِ فِي جِهَادِ عَدُوِّهِمْ،

ثُمَّ - ثُمَّ لا قِوَامَ لِهذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ إِلَّا بِالصِّنْفِ الثَّالِثِ مِنَ الْقُضَاةِ وَالْعُمَّالِ وَالْكُتَّابِ،

ثُمَّ - ثُمَّ الطَّبَقَةُ السُّفْلَی مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ وَالْمَسْكَنَةِ الَّذِينَ يَحِقُّ رِفْدُهُمْ وَمَعُونَتُهُمْ.

ثُمَّ - ثُمَّ الْصَقْ بِذَوِي الْمُرُوءَاتِ وَالأَحْسَابِ؛ وَأَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالسَّوَابِقِ الْحَسَنَةِ،

ثُمَّ - ثُمَّ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَالسَّخَاءِ وَالسَّماحَةِ، فَإِنَّهُمْ جِمَاعٌ مِنَ الْكَرَمِ، وَشُعَبٌ مِنَ الْعُرْفِ.

ثُمَّ - ثُمَّ تَفَقَّدْ مِنْ أُمُورِهِمْ مَا يَتَفَقَّدُهُ الْوَالِدَانِ مِنْ وَلَدِهِمَا،

ثُمَّ - ثُمَّ اعْرِفْ لِكُلِّ أمرئ مِنْهُمْ مَا أَبْلى، وَلا تَضُمَّنَّ بَلاَءَ أمرئ إِلَی غَيْرِهِ،

ثُمَّ - ثُمَّ اخْتَرْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ أَفْضَلَ رَعِيَّتِكَ فِي نَفْسِكَ، مِمَّنْ لا تَضِيقُ بِهِ الأُمُورُ،

ثُمَّ - ثُمَّ أَكْثِرْ تَعَاهُدَ قَضَائِهِ، وافْسَحْ لَهُ فِي الْبَذْلِ مَا يُزيِلُ عِلَّتَهُ،

ثُمَّ - ثُمَّ انْظُرْ فِي أُمُورِ عُمَّالِكَ، فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً، وَلا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وأَثَرَةً،

ثُمَّ - ثُمَّ أَسْبِغْ عَلَيْهِمُ الأَرْزَاقَ، فَإِنَّ ذلِكَ قُوَّةٌ لَهُمْ عَلَی اسْتِصْلاَحِ أَنْفُسِهِمْ،

ثُمَّ - ثُمَّ تَفَقَّدْ أَعْمَالَهُمْ، وَابْعَثِ الْعُيُونَ مِنْ أَهْلِ الصِّدْقِ وَالوَفَاءِ عَلَيْهِمْ،

ثُمَّ - ثُمَّ نَصَبْتَهُ بِمَقَامِ الْمَذَلَّةِ، وَوَسَمْتَهُ بِالْخِيانَةِ، وَقَلَّدْتَهُ عَارَ التُّهَمَةِ.

ص: 104

ثُمَّ - ثُمَّ انْظُرْ فِي حَالِ كُتَّابِكَ، فَوَلِّ عَلَی أُمُورِكَ خَيْرَهُمْ،

ثُمَّ - ثُمَّ لا يَكُنِ اخْتِيَارُكَ إِيَّاهُمْ عَلَی فِرَاسَتِكَ وَاسْتِنَامَتِكَ وَحُسْنِ الظَّنِّ مِنْكَ،

ثُمَّ - ثُمَّ اسْتَوْصِ بِالتُّجَّارِ وَذَوِي الصِّنَاعَاتِ، وَأَوْصِ بِهِمْ خَيْراً

ثُمَّ - ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَی مِنَ الَّذِينَ لا حِيلَةَ لَهُمْ،

ثُمَّ - ثُمَّ اعْمَلْ فِيهِم بِالإِعْذَارِ إِلَی اللهِ تَعَالَی يَوْمَ تَلْقَاهُ،

ثُمَّ - ثُمَّ احْتَمِلِ الْخُرْقَ مِنْهُمْ وَالْعيَّ، وَنَحِّ عَنْكَ الضِّيقَ وَالأَنَفَ،

ثُمَّ - ثُمَّ أُمُورٌ مِنْ أُمُورِكَ لا بُدَّ لَكَ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا:

ثُمَّ - ثُمَّ إِنَّ لِلْوَالِي خَاصَّةً وبِطَانَةً، فِيهِمُ اسْتِئْثَارٌ وَتَطَاوُلٌ، وَقِلَّةُ إِنْصَافٍ [فِي مُعَامَلَة]،

استعمل الإمام (عليه السلام) أداة العطف (ثم) في العهد قرابة (24) أربع وعشرون مرة كما هي مثبتة في الجدول، وهو عدد كبير إذا ما قورن مع غيره من أدوات الربط الأخرى، لتكون رابطا بين الوحدات النصية، وعبر ملاحظة هذه الأداة يتبين لنا مدى انسجام الجمل بعضها ببعض عن طريق استعمالها، و (ثم) تمثل علامة للربط بين الجمل لتحقيق ترابط وتماسك في النص؛ فإذا ما نظرنا إلى الجملة الأولى التي وردت فيه؛ ((ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ إِلَی بِلاَدٍ قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ،))(116) فإننا سنجد أن الإمام (عليه السلام) استعمل الأداة (ثم) وهي تفيد التراخي بعد أمر مالك بجملة من الأوامر التي افتتح كتابه بها وكنا قد تطرقنا إليها (117) مما أسهمت (ثم) في إعطاء تتابعا وترتيبا واضحا لكسبه تماسكا وترابطا.

ص: 105

المبحث الثالث: التوكيد بنوني التوكيد

قال سيبويه (ت 180 ه) في باب النون الثقيلة والخفيفة: ((اعلم أنَّ كل شيء دخلته الخفيفة فقد تدخله الثقيلة. كما أن كلَّ شيء تدخله الثقيلة تدخله الخفيفة.

وزعم الخليل أنَّهما توكيد كما التي تكون فضلاً. فإذا جئت بالخفيفة فأنت مؤكّد، وإذا جئت بالثقيلة فأنت أشدُّ توكيدا.)) (118)

ووردت نون التوكيد في نصوص كثيرة من العهد وأراد الإمام عبر استعمالها تأكيد كثير من الحقائق التي يجب أن يتحلى بها المسؤول عن الرعية، ومن جملة ما وقفنا عليه في العهد من استعمالات الإمام (عليه السلام) لنون التوكيد الثقيلة قوله:

((وَلاَ تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لِحَرْبِ اللهِ، فَإِنَّهْ لاَ يَدَيْ لَكَ بِنِقْمَتِهِ، وَلا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ. وَلا تَنْدَمَنَّ عَلَى عَفْوٍ، وَلا تَبْجَحَنَّ بِعُقُوبَةٍ، وَلا تُسْرِعَنَّ إِلَی بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً، وَلا تَقُولَنَّ: إِنِّي مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ،))(119)

((فَلاَ تَكْشِفَنَّ عَمَّا غَابَ عَنْكَ مِنْهَا، فَإنَّمَا عَلَيْكَ تَطْهِيرُ مَا ظَهَرَ لَكَ،))(120)

((وَلا تَعْجَلَنَّ إِلَی تَصْدِيقِ سَاع،))(121)

((وَلاَ تُدْخِلَنَّ فِي مَشُورَتِكَ بَخِيلاً يَعْدِلُ بِكَ عَنِ الْفَضْلِ، وَيَعِدُكَ الْفَقْرَ، وَلا جَبَاناً يُضعِّفُكَ عَنِ الأُمُورِ، وَلا حَرِيصاً يُزَيِّنُ لَكَ الشَّرَهَ بِالْجَوْرِ،))(122)

((فَلاَ يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً، فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأَثَمَةِ،))(123) ((وَلا يَكُونَنَّ الْمُحْسِنُ وَالْمُسِيءُ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةٍ سَوَاءٍ؛))(124)

ص: 106

((وَلا تُحْدِثَنَّ سُنَّةً تَضُرُّ بِشَيءٍ مِنْ مَاضِي تِلْكَ السُّنَنِ، فَيَكُونَ الأَجْرُ لِمَنْ سَنَّهَا، وَالْوِزْرُ عَلَيْكَ بِمَا نَقَضْتَ مِنْهَا.))(125)

((وَلا تَحْقِرَنَّ لُطْفاً تَعَاهَدْتَهُمْ بِهِ وَإِنْ قَلَّ، فَإِنَّهُ دَاعِيَةٌ لَهُمْ إِلَی بَذْلِ النَّصِيحَةِ لَكَ، وَحُسْنِ الظَّنِّ بِكَ.))(126)

((وَلا تَضُمَّنَّ بَلاَءَ أمرئ إِلَی غَیْرِهِ، وَلا تُقَصِّرَنَّ بِهِ دُونَ غَايَةِ بَلاَئِهِ، وَلا يَدْعُوَنَّكَ شَرَفُ أمرئ إِلَی أَنْ تُعَظِّمَ مِنْ بَلَائِهِ مَا كَانَ صَغِیراً، وَلا ضَعَةُ أمرئ إِلَی أَنْ تَسْتَصْغِرَ

مِنْ بَلائِهِ مَا كَانَ عَظيِماً.))(127)

((وَلا يَثْقُلَنَّ عَلَيْكَ شَيْءٌ خَفَّفْتَ بِهِ الْمَؤُونَةَ عَنْهُمْ، فَإِنَّهُ ذُخْرٌ يَعُودُونَ بِهِ عَلَيْكَ فِي عِمَارَةِ بِلادِكَ،))(128)

((وَإِذَا قُمْتَ فِي صلاَتِكَ لِلنَّاسِ، فَلاَ تَكُونَنَّ مُنَفّرِاً وَلا مُضَيِّعاً، فَإِنَّ فِي النَّاسِ مَنْ بِهِ الْعِلَّةُ وَلَهُ الْحَاجَةُ.))(129)

((وَأَمَّا بَعْدَ هذا، فَلاَ تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِيَّتِكَ، فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلاَةِ عَنِ الرَّعِيَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّيقِ،))(130)

((وَلاَ تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ لِلّهِ فِيهِ رِضاً، فإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، وَرَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وأَمْناً لِبِلاَدِكَ،))(131)

((فَلاَ تَغْدِرَنَّ بِذِمَّتِكَ، وَلا تَخِيسَنَّ بِعَهْدِكَ، وَلا تَخْتِلَنَّ عَدُوَّكَ، فَإِنَّهُ لا يجترئ عَلَى اللهِ إِلَّا جَاهِلٌ شَقِيٌّ.))(132)

((وَلا تُعَوِّلَنَّ عَلَى لَحْنِ القَوْل بَعْدَ التَّأْكِيدِ وَالتَّوْثِقَةِ، وَلا يَدْعُوَنَّكَ ضِيقُ أَمْرٍ لَزِمَكَ فِيهِ عَهْدُ اللهِ إِلَی طَلَبِ انْفِسَاخِهِ بِغَیْرِ الْحَقِّ،))(133) وأخيرا قوله: ((فَلَا تُقَوِّيَنَّ سُلْطَانَكَ بِسَفْكِ دَمٍ حَرَامٍ،))(134)

ص: 107

الخاتمة:

1. بعد هذه الجولة في بحر من بحار العطاء وكتاب لا ينضب بالعلوم والمعرفة في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر اتضحت لنا مجموعة من النتائج كان أبرزها علی النحو الآتي: التأكيد والتوكيد بمعنى واحد لا يخرج عن دلالته في تقوية الكلام وتثبيته في نفس المتلقي.

2. يعد العهد نصا ابداعيا لا يختلف أثنان في أن كاتبه في قمة الفصاحة والبلاغة.

3. رصد البحث مجموعة من أساليب التوكيد النحوية التي أدت إلى خلق ترابط وانسجام مما أدى إلى تماسك نحوي داخل النص (العهد العلوي).

4. استعمل الإمام علي (عليه السلام) ألفاظا كثيرة مكررة من باب التوكيد اللفظي متوزعة على مساحة العهد أدت إلى خلق تماسك وانسجام فيه.

5. استعمل الإمام علي (عليه السلام) في عهده مجموعة من الأدوات التي خرجت للتأكيد، واختلفت وظائف كل واحدة منها بحسب دلالتها النحوية.

6. بيّن البحث أن استعمال الإمام للأداة (إنّ) وملحقاتها كانت لها وظائف مختلفة منها لتوكيد النسبة، ونفي الشك عنها، أو لتوكيد مضمون الجملة، أو يؤتى بها لربط الكلام بعضه ببعض، فلا يحسن سقوطها، أو للتعليل وغيرها.

7. أحتل التوكيد بنون التوكيد الثقيلة مساحة واسعة من العهد حتى إنك لا تكاد تقع عينك على ورقة منه إلا وتجد فيها هذا الأسلوب واضحا بيّنا؛ وذلك لعظم ما أكدّ عليه الإمام (عليه السلام) في جملة كبيرة من نواهيه التي عرضها، مما أفاض على النص تماسكا بين أجزائه المختلفة.

ص: 108

هوامش البحث:

1. شرح نهج البلاغة الإمام كمال الدين البحراني/ المقدمة 1 / 14.

2. كتبت بحثا بعنوان ((الألفاظ الغريبة في نهج البلاغة عهد الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمالك الأشتر أنموذجا)).

3. لسان العرب: 3 / 466. وينظر: محيط المحيط 2 / 2281. الصحاح في اللغة والعلوم 2 / 711. ومختار الصحاح 759.

4. لسان العرب 3 / 74.

5. نهج البلاغة 443.

6. مصباح السالكين 4 / 182. وينظر: التوابع في نهج البلاغة 149. (رسالة ماجستير).

7. أساليب التأكيد في نهج البلاغة - دراسة دلالية - 1. (رسالة ماجستير). وينظر: التوابع في نهج البلاغة 149.

8. لسان العرب 3 / 466.

9. ينظر معاني النحو 4 / 131.

10. ينظر عل سبيل المثال: الكتاب 1 / 198و199و222و296.

11. اللمع في العربية 169.

12. المقرب 1 / 228.

13. الطراز المتضمن لأسرار البلاغة 2 / 176.

14. المقرب 1 / 238 - 239. وينظر: أساليب التأكيد في نهج البلاغة 2.

15. التعريفات ويرى الشريف الجرجاني: ((أنَّ تسميته ب(التأسيس) خير من التأكيد؛ لأن حمل الكلام على الإفادة خيرٌ من حمله على الإعادة)) التعريفات 34.

16. التعريفات 34.

17. همع الهوامع 2 / 122.

18. الفوائد الضيائية 2 / 56. وينظر: أساليب التأكيد في نهج البلاغة 2.

19. في النحو العربي نقد وتوجيه 234.

20. معاني النحو 4 / 509.

21. أسرار العربية 283.

22. نحو النّصّ والتحليل اللغوي 10، وينظر: ظاهرة الحذف ودورها في التماسك النصي دراسة

ص: 109

تطبيقية في سورة البقرة 81.

23. نحو أجرومية للنّصّ الشعري 154.

24. النّصّ والخطاب والإجراء 103.

25. ينظر: التماسك النصي في نهج البلاغة 50. (أطروحة الدكتوراه).

26. لسانيّات النص 13.

27. لسانيات النص: 13.

28. نهج البلاغة 426.

29. ينظر: شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد 17 / 30، بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة 8 / 474.

30. عهد الإمام عليّ إلى مالك الأشتر: علي الأنصاري.

31. شرح الألفية لابن الناظم 210، همع الهوامع 2 / 125، شرح الإشموني 3 / 80. وينظر: معاني النحو 151.

.32. شرح الرضي على الكافية 1 / 365.

33. ينظر: لسانيّات النص 24.

34. النحو الوافي 4 / 136.

35. المعنى والإعراب عند النحويين ونظرية العامل 320.

36. النحو الوافي 4 / 142 - 143. وينظر: التوابع في نهج البلاغة 155.

37. نهج البلاغة 438.

38. التوابع في نهج البلاغة 156.

39. قد ورد لفظ الجلالة مكررا في ستة عشر موضعا، فتكون هي الأكثر ورودا في النهج في باب التوكيد. ينظر: التوابع في نهج البلاغة 158.

40. التوابع في نهج البلاغة 158.

41. كتاب سيبويه 1 / 56.

42. كتاب سيبويه 1 / 56.

43. ينظر: لسانيات النصّ 18.

44. نهج البلاغة 428.

45. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد 17 / 34. وينظر: كتابنا: الألفاظ الغريبة في نهج البلاغة 93 - 94 (تحت الطبع).

ص: 110

46. بحار الأنوار 89 / 249.

47. نهج البلاغة 443.

48. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد 17 / 111.

49. نهج البلاغة 444.

50. دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة 81.

51. بنية الخطاب 112.

52. نهج البلاغة 426 - 427.

53. نهج البلاغة 427.

54. نهج البلاغة 427.

55. أسلوب التوكيد ودوره في التماسك النحوي 4. (رسالة ماجستير).

56. النحو الوافي 3 / 395. وينظر: أسلوب التوكيد ودوره في التاسك النحوي 5.

57. نهج البلاغة 426 - 427.

58. أسلوب التوكيد ودوره في التماسك النحوي 4.

59. نهج البلاغة 433.

60. شرح نهج البلاغة 17/ 54.

61. بهج الصباغة 8 / 535.

62. نهج البلاغة 435.

63. نهج البلاغة 436.

64. شرح الأشموني 3 / 73.

65. شرح ابن الناظم 206.

66. ينظر: معاني النحو 4 / 138.

67. ينظر: شرح جمل الزجاجي: ابن عصفور 1 / 266.

68. ينظر: شرح قطر الندى 326. التوابع في نهج البلاغة 176.

69. مغني اللبيب 1 / 193.

70. نهج البلاغة 428.

71. نهج البلاغة 429.

72. نهج البلاغة 445.

ص: 111

73. معاني النحو 4 / 142.

74. معاني النحو 4 / 143.

75. بدائع الفوائد 1 / 218.

76. ينظر: معاني النحو 142.

77. نهج البلاغة 439.

78. ينظر: أساليب التأكيد في نهج البلاغة 120.

79. نتائج الفكر 280.

80. ينظر: التماسك النصي في نهج البلاغة 21.

81. نهج البلاغة 438 - 439.

82. نهج البلاغة 438 - 439.

83. نهج البلاغة 439.

84. شرح نهج البلاغة 17 / 87.

85. وردت في العهد قرابة (40) أربعين مرة (فإنَّ) بالفاء، ووردت (وإنَّ) بالواو (5) خمس مرات، و(وأنَّ) مرة واحدة، و(إنَّ) مكسورة الهمزة، و(أن) (3) ثلاث مرات، و(إني) مرة واحدة، و(أنيِّ)، مرة واحدة، و(إنَّا) مرة واحدة.

86. اللباب في علل البناء والإعراب

87. نهج البلاغة 427.

88. نهج البلاغة 428.

89. نهج البلاغة 431.

90. نهج البلاغة 431.

91. نهج البلاغة 431.

92. نهج البلاغة 441.

93. نهج البلاغة 445.

94. شرح قطر الندى 204، وينظر: أساليب التأكيد في نهج البلاغة 31.

95. مغني اللبيب 1 / 37 - 39.

96. معاني النحو 1 / 312.

97. معاني النحو 1 / 312.

ص: 112

98. نهج البلاغة 427.

99. نهج البلاغة 429.

100. مغني اللبيب 1 / 37، الجنى الداني 38.

101. ينظر: مغني اللبيب 1 / 308.

102. في النحو العربي نقد وتوجيه 238 - 239. وهناك من يرى أن (إنما) غير مركبة من (ما+إنَّ) بل هي ((اسم مبهم بمنزلة ضمير الشأن في التضخيم والإبهام، وإن الجملة بعده مفسرة له، ومخبر بها عنه)) منهم ابن درستويه وبعض الكوفيين وتابعهم من المحدثين الدكتور عبد الستار الجواري بقوله: ((والحق إنّ (ما) هذه شبيهة في معناها بما يعرف عند أهل العربية بضمير (الشأن)، أو ضمير (القصة) الذي يقف مستترا أحيانا، ويبرز أحيان أخرى، كما في قوله تعالى: «إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى» (طه 74)، وقوله تعالى: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» (الإخلاص 1)، هذا الأسلوب يراد به تهيئة من يتلقى الكلام فيهذي بال ومعنى ذي خطر فيكون ضمير الشأن،... هو الممهد والمهيء لإلقاء الحكم بحيث يتلقاه من يتلق الكلام بما يستحق من انتباه ومن عناية واهتمام)) نحو المعاني 134. وينظر: أساليب التأكيد في نهج البلاغة 152.

103. الإيضاح 1 / 122.

104. نهج البلاغة 427.

105. بهج الصباغة 8 / 480.

106. نهج البلاغة 427.

107. ينظر: معاني النحو 4 / 11.

108. البرهان 2 / 417.

109. مغني اللبيب 1 / 227.

110. ينظر: سورة الأعراف دراسة لغوية 200.

111. ينظر: سورة الأعراف دراسة لغوية 200.

112. نهج البلاغة 440.

113. لم أجد هذا النص في نهج البلاغة في النسخة التي وثقت النصوص منها وهي للدكتور صبحي الصالح، ولكن هذا النص موجود في كتاب بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة.

114. لسانيات النص 23.

ص: 113

115. لسانیّات النص 24.

116. نهج البلاغة 427.

117. تنظر الصفحات السابقة 11 - 13 من هذا البحث.

118. الكتاب 1 / 296.

119. نهج البلاغة 428.

120. نهج البلاغة 429.

121. نهج البلاغة 430.

122. نهج البلاغة 430.

123. نهج البلاغة 430.

124. نهج البلاغة 430.

125. نهج البلاغة 431.

126. نهج البلاغة 433.

127. نهج البلاغة 434.

128. نهج البلاغة 436.

129. نهج البلاغة 440.

130. نهج البلاغة 441.

131. نهج البلاغة 442.

132. نهج البلاغة 442.

133. نهج البلاغة 443.

134. نهج البلاغة 443.

ص: 114

المصادر والمراجع

الكتب المطبوعة:

1. أسرار العربية: لأبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري (ت 577 ه)، تحقيق: محمد بهجة البيطار، مطبعة الترقي، بدمشق 1377 ه - 1957 م.

2. الإيضاح لمختصر تلخيص المفتاح جلال الدين أبو عبد الله محمد بن سعد الدين أبي محمد عبد الرحمن القزويني (ت 739 ه)، مطبعة محمد علي صبيح وأولاده، مصر، (د.ت).

3. بحار الأنوار: العلامة المجلسي، مؤسسة الوفاء، بيروت - لبنان، 1404 ه.

4. بدائع الفوائد: محمد بن أبي بكر أيوب الزرعي أبو عبد الله، تحقيق: هشام عبد العزيز عطا - عادل عبد الحميد العدوي - أشرف أحمد الج، الطبعة الأولى، مكتبة نزار مصطفى الباز - مكة المكرمة 1416 - 1996.

5. البرهان في علوم القرآن: تأليف: الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت 794 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، 1391 ه - 1972 م.

6. بنية الخطاب: أحمد المتوكل.

7. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: الشيخ محمد التقي الشوشتري، الطبعة الأولى، دار أمير كبير / طهران، 1376 ه.

8. التعريفات: علي بن محمد الشريف الجرجاني (ت 816 ه)، دار الشؤون الثقافية العامة، طبع في مطابع دار الشؤون الثقافية العامة - بغداد.

ص: 115

9. الجنى الداني في حروف المعاني: تأليف: الحسن بن قاسم المرادي (ت 749 ه)، تحقيق: فخر الدين قباوة، ومحمد نديم فاضل، تحقيق: طه محسن، الطبعة الثانية، مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر، العراق، 1976 م.

10. دراسات لغوية تطبيقية في العلاقة بين البنية والدلالة: سعيد حسن بحيري، مكتبة زهراء الشرق / القاهرة، د.ت

11. شرح الأشموني على ألفية ابن مالك: الأشموني (ت 929 ه)، دار إحياء الكتب العربية - مصر.

12. شرح ألفية ابن مالك: لابن الناظم (ت 686 ه)، المطبعة العلوية في النجف سنة 1342 ه.

13. شرح الرضي على الكافية: عثمان بن عمر ابن الحاجب (ت 646 ه)،(د، ت).

14. شرح قطر الندي وبل الصدى: ابن هشام الأنصاري (ت 761 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، الطبعة التاسعة، 1377 ه - 1957 م.

15. شرح نهج البلاغة: للإمام كمال الدين بن ميثم البحراني (ت679 ه)، الطبعة الأولى، منشورات مؤسسة التاريخ العربي، مطبعة دار إحياء التراث العربي، لبنان، 1992 م.

16. شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد، عبد الحميد بن محمد المعتزلي (ت 656 ه)، بیروت، د.ت.

17. الصحاح في اللغة والعلوم: العلامة الجوهري والمصطلحات العلمية والفنية للجامعات العربية تقديم: العلامة الشيخ عبد الله العلايلي إعداد وتصنيف ندیم مرعشلي، دار الحضارة العربية - بيروت. و

ص: 116

18. الطراز المتضمن لأسرار البلاغة: يحيى بن حمزة العلوي، مطبعة المقتطف / مصر 1332 ه - 1914 م.

19. ظاهرة الحذف ودورها في التماسك النّصّي «دراسة تطبيقية على سورة البقرة»: أ. د. إسلام محمد عبد السلام أستاذ النحو والصرف، المعهد العالي للدراسات النوعية / قسم اللغات والترجمة.

20. عهد الإمام عليّ إلى مالك الأشتر: علي الأنصاري.

21. الفوائد الضيائية شرح کافية ابن الحاجب)، نور الدين عبد الرحمن الجامي (ت 798 ه): تحقيق: أسامة طه الرفاعي، مطبعة وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، بغداد، 1403 ه - 1983 م.

22. في النحو العربي نقد وتوجيه: د. مهدي المخزومي، منشورات المكتبة العصرية - بيروت، 1964 م.

23. الكتاب: سیبویه (ت 180 ه)، مصور على طبعة بولاق - نشر مكتبة المثنی - بغداد.

24. اللباب في علل البناء والإعراب: أبي البقاء العكبري (ت 616 ه)، تحقيق: غازي فکر مختار طليمات، الطبعة الأولى، دار الفكر / دمشق 1995.

25. لسان العرب: محمد بن مکرم بن منظور الأفريقي المصري (ت 711 ه)، الطبعة الأولى، دار صادر - بيروت.

26. لسانیات النصّ مدخل إلى انسجام الخطاب: محمد خطابي، الطبعة الأولى، المركز الثقافي العربي، 1991 م.

27. اللمع في العربية: أبي الفتح ابن جني (ت 392 ه)، تحقيق: حسين محمد محمد

ص: 117

شرف، 1979.

28. محيط المحيط: بطرس البستاني، بيروت، 1867 م.

29. مختار الصحاح الشيخ الإمام محمد أبي بكر بن عبد القادر الرازي (ت 666 ه)، طبعة حديثة منقحة 1369 ه - 1950 م.

30. مصباح السالكين «شرح نهج البلاغة: كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (ت 769 ه)، عنى بتصحيحه عدة من الأفاضل وقوبل بعدة نسخ موثوق بها من منشورات النصر (د.ت).

31. معاني النحو: الدكتور فاضل صالح السامرائي، الطبعة الأولى، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع / عمان، 1420 ه - 2000 م.

32. المعنى والإعراب عند النحويين ونظرية العامل:

33. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب: لابن هشام الأنصاري (ت 761 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد.

34. المقرّب: لابن عصفور (ت 669 ه)، تحقيق: أحمد عبد الستار الجواري وعبد الله الجبوري، مطبعة العاني - بغداد.

35. نتائج الفكر في النحو: أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي (ت 581 ه)، حققه وعلق عليه الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت / لبنان، 1412 ه - 1992 م.

36. نحو أجرومية للنّصّ الشعري «دراسة في قصيدة جاهلية»: د. سعد مصلوح، مجلة فصول، العدد 2، 1، يوليو 1991 م، أغسطس 1991 م.

ص: 118

37. نحو المعاني: د. أحمد عبد الستار الجواري، مطبعة المجمع العلمي العراقي، بغداد 1407 ه - 1987 م.

38. نحو النّصّ والتحليل اللغوي: د. أحمد عفيفي، مكتبة زهراء الشرق، القاهرة، 1999 م.

39. النحو الوافي: عباس حسن، الطبعة الثانية، دار المعارف - مصر.

40. النّصّ والخطاب والإجراء: روبرت دي بوجراند، ترجمة د. تمّام حسّان، الطبعة الأولى، عالم الكتب، 1418 ه - 1998 م.

41. نهج البلاغة: تعليق الدكتور صبحي الصالح، الطبعة الثانية، مطبعة برستش، مؤسسة انتشارات أنوار الهدى، 1424ه.ق.

42. همع الهوامع شرح جمع الجوامع: لجلال الدين السيوطي (ت 911 ه)، الطبعة الأولى، مطبعة السعادة - مصر، 1327 ه.

الرسائل الجامعية:

1. أساليب التأكيد في نهج البلاغة - دراسة دلالية -: أصيل محمد، بإشراف الأستاذ الدكتور جواد كاظم عناد / رسالة ماجستير - جامعة القادسية.

2. أسلوب التوكيد ودوره في التماسك النصي سورة المؤمنون أنموذجا: سهام أولاد سالم، بإشراف الأستاذ عبد القادر بقادر، / رسالة ماستر في تخصص لسانيات النص، جامعة قاصدي مرباح ورقلة / الجزائر 2014 - 2015.

3. التماسك النصي (دراسة تطبيقية في نهج البلاغة): عيسى جواد فضل محمد الوداعي، بإشراف الأستاذ الدكتور نهاد الموسى / أطروحة دكتوراه كلية

ص: 119

الدراسات العليا / الجامعة الاردنية، 2005 م.

4. التوابع في نهج البلاغة دراسة نحوية دلالية: وداد حامد عطشان السلامي، بإشراف الأستاذ الدكتور عبد الكاظم محسن الياسري / رسالة ماجستير - كلية الآداب / جامعة الكوفة، 1428 ه - 2007 م.

5. سورة الأعراف دراسة لغوية: محمد نوري جواد السوداني، بإشراف الأستاذ المساعد الدكتور محمد صنكور جبارة / رسالة ماجستير - كلية التربية / الجامعة المستنصرية، 1427 ه - 2006 م.

ص: 120

استراتيجية الخطاب الحجاجي في كتاب الإمام علي (عليه السلام) لمعاوية

اشارة

أ. م. د. لمى عبد القادر خنياب كلية الآداب / جامعة القادسية

ص: 121

ص: 122

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة:

ينطلق البحث من فرضية يتبناها الباحث ومفادها أنَّ لكل خطاب حجاجي استراتيجية تحكمه وتهيمن على مفاصله فتحدد مسارات الخطاب، وتتجلى عبر آليات الحجاج المنطقية، واللغوية فتجد أنَّ أدوات الحجاج في مجملها وظفت بعناية لخدمة هذه الاستراتيجية بوصفها مهيمنة على الخطاب بعامة.

وجرى تطبيق هذه الفرضية على كتاب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لمعاوية بن أبي سفيان، وينقسم كتابه (عليه السلام) على ثلاث وحدات موضوعية فكانت بمثابة عتبات للنص عند تحليله، اصطنع لها البحث عنوانات:

العتبة الأولى / (قطع صلة الخصم بالحجة)

العتبة الثانية / (مقام المتكلم وفضله)، (فضل آل محمد)

العتبة الثالثة / (قلب الحجج)

النص بعتباته الثلاثة المفترضة تهيمن عليه استراتيجية التهميش والتقليل من شأن المخاطب (معاوية بن أبي سفيان) وحطه عن مقام الند والنظير للمتكلم (أمير المؤمنين) (عليه السلام).

وقد عمد البحث لتوظيف آليات الحجاج للتحقق من فرضية البحث.

ص: 123

توطئة:

يتأسس الحجاج على فكرة الإقناع واستمالة أذهان السامعين فموضوع الحجاج «هو درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من طروحات أو أن تزيد من درجة ذلك التسليم»(1).

و ((الحجاج عملية اتصالية تعتمد الحجة المنطقية بالأساس وسيلة لإقناع الآخرين والتأثير فيهم))(2). إنَّ طبيعة المتلقي هي التي تحدد شكل الخطاب إن كان خطاباً حجاجياً أم إقناعياً فمتى ما سلَّم المتلقي بالمقدمات ((التي قدَّمها المتكلم فهو مقتنع من طرفه، ومتى ما ردَّها أو رفضها فهو محاجج، ويتمثل ردّ ورفض المتلقي في استخدمه [كذا] لحجج قد تعيق حجج المتكلم من بلوغ هدفه))(3).

ويتأسس النص الحجاجي على ستة مكونات: النتيجة (الدعوى)، والمقدمات، والتبرير، والدعامة، ومؤشر الحال، والتحفظات (4).

وبناء على متقدم يطرح البحث أسئلته:

• إذا كانت الغاية من الحجاج هي الإقناع فهل كان الإمام (عليه السلام) قاصداً إقناع معاوية حين ردَّ عليه؟

• هل تحققت القناعة عند معاوية بعد قراءته لكتاب أمير المؤمنين (عليه السلام)؟

والجواب عن السؤال الثاني: (لا) بدلیل استمرار معاوية في قتال أمير المؤمنين بل وقتال ابنه الحسن (عليه السلام) من بعده.

• إذن ما الذي دفع أمير المؤمنين إلى المحاججة؟

للإجابة على هذه الأسئلة أقول: لابدَّ من الإدراك أنَّ للنص طبقات من

ص: 124

المتلقين، ولكتاب أمير المؤمنين جملة متلقين: المتلقي الأول هو معاوية بن أبي سفيان وهو المخاطب المباشر لهذا الكتاب، إذ كان الباعث على كتابة أمير المؤمنين لهذا الكتاب هو الرد على كتاب سابق أرسله معاوية لأمير المؤمنين.

والمتلقي الثاني هم الناس بعامة سواء أكانوا من أنصار معاوية أم من أنصار أمير المؤمنين إذ كانت الكتب تقرأ في الأمصار على هيأة خطب(5)، وبناء عليه فإنَّ لكل طبقة منهم مرتبة من مراتب الحجاج تمارس عليه من قبل المتكلم، فمن كان منهم يسمع فيقنع فحجاجه إقناعي أما من يسمع ويحاجج وينكر فينتقل الحجاج معه إلى مرتبة الإفحام.

وهذا ما يدفعنا إلى القول بأن الإمام (عليه السلام) لم يستهدف معاوية بالإقناع لأنَّه (عليه السلام) ذكر غير مرة بأنَّه لا يوجه خطابه لمعاوية، ومن قبيل ذلك قوله (عليه السلام): «ألا ترى - غير مخبر لكَ - ولكن بنعمة الله أحدث»(6). وقال أيضاً: «وهذه حُجتي إلى غيرك قصدها»(7).

إنَّ تعاليه (عليه السلام) عن محاججة معاوية يستهدف إسقاط معاوية من مرتبة الكفء والنظير في الحجاج؛ لذا يعلن الإمام أنَّه يوجه خطابه لغيره وليس له فهو ليس أهل للمناظرة والحجاج.

وعليه يكون الهدف من الحجاج إقناع الناس بزيف حجج معاوية وردِّها عليه، وهو إلى جانب الإقناع للمتلقين يحقق الكشف عن الحقيقة وإبطال زيف معاوية وإفحامه وإسكاته، وبهذا يكون الحجاج في كتاب أمير المؤمنين استهدف إقناع المتلقين الثواني (معسكر أمير المؤمنين ومعسكر معاوية) وإفحام المتلقي الأول (معاوية).

ص: 125

إستراتيجية الخطاب الحجاجي:

أزعم بأنَّ لكل خطاب حجاجي إستراتيجية تحكمه تتجلى عبر آليات الحجاج المنطقية، واللغوية فتجد أنَّ أدوات الحجاج في مجملها وظفت بعناية لخدمة هذه الإستراتيجية بوصفها مهيمنة على الخطاب بعامة.

وقد وضع أمير المؤمنين تهميش معاوية والاستخفاف بمقامه إستراتيجية لخطابه الحجاجي في هذا الكتاب، وقد تأتى له (عليه السلام) ذلك عبر جملة أمور:

أولاً / إشعار معاوية بأنَّ الخطاب غير موجه له، وهو غير مستهدف بهذه الحجج، في إشارة واضحة للاستخفاف بشخصه وزحزحته عن مرتبة النظير المحاجج. وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في التوطئة.

ثانياً / إزاحة معاوية من مركزيته في كتابه الذي وجهه إلى أمير المؤمنين إلى الهامش في كتاب أمير المؤمنين عبر قطع علاقته وبت صلته - أعني معاوية - بالتهم التي كالها لأمير المؤمنين في كتابه، وسيأتي تفصيل هذا.

ثالثاً / قلب الحجج: استعمل الإمام (عليه السلام) حجج معاوية ذاتها في الرد عليه، فتحولت حجج معاوية الداعمة لموقفه حجج داعمة لموقف أمير المؤمنين، مما جعل معاوية موضع سخرية بالحط من فطنته، مما يعزز فكرة الضآله والهزال له في مقابل مقامه (عليه السلام).

العتبة الأولى: (قطع صلة الخصم بحجته):

يشتمل هذا الجزء من الخطاب على حجتين مختومتين بحكم، وهما:

ص: 126

الحجة الأولى:

افتتح معاوية كتابه بذکر رسول الله (صلى الله عليه وآله) وفضله فقال: ((أما بعد فإنَّ الله تعالى جدُّه اصطفى محمداً (عليه السلام) لرسالته، واختصّه بوحيه وتأدية شريعته، فأنقذ من العماية، وهدی به من الغَواية، ثم قَبَضه إليه رشيداً حميداً، قد بلَّغ الشَّرع، ومَحَقَ الشِّرك، وأخمدَ نار الإفْك، فأحسن الله جزاءَه، وضاعفَ عليه نعَمَه وآلاءه))(8).

فرد عليه (عليه السلام) بقوله: ((أما بعد فقد أتاني كِتابُكَ تذكُرُ فيه اصطفاءَ الله محمداً صلى الله عليه وآله لدينِهِ، وتأييدَهُ(9) إيَّاه بمن أيَّدَهُ من أصحابِهِ؛ فلقد خبَّأ(10) لنَا الدَّهرُ منكَ عَجَباً؛ إذ طفقتَ تُخبِرُنا ببلاءِ الله عندنا، ونعمه علينا في نبينا، فكنتَ في ذلك كناقل التمر إلى هَجَرَ، أو داعي مُسَدِّدِهِ إلى النضال))(11).

يبعث ردُّ الإمام (عليه السلام) لا شعورياً على الابتسام، إذ وضع معاوية موضع السخرية باستعماله حجة لا حجة له فيها بتركيزه (عليه السلام) على المفارقة في كلام معاوية، فاستعمل (عليه السلام) القياس المضمر في الرد عليه ويمكن تمثله على النحو الآتي:

• المقدمة الصغرى: (نحن آل محمد)

• المقدمة الكبرى: (نعمة الله على محمد واصطفائه إياه)

• النتيجة: إذن محمد (صلى الله عليه وآله) وآله أصحاب هذا الفضل.

النتيجة الضمنية: (سذاجة طرح معاوية بتعريف آل محمد بنعم الله على محمد وآله (صلى الله عليه وآله)).

ص: 127

التمثيل:

المثل هو: ((قول في شيء يشبه قولاً في شيء آخر بينهما مشابهة ليبين أحدهما للآخر ويصوره))(12) ولم يغب عن ذهن خطباء العربية ما للمثل من أثر إقناعي في نفس المتلقي إذ يقوم المثل مقام الدليل فيؤثر في نفس متلقيه مثل تأثير الدليل والحجة(13). ولم يفت أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يوظف التمثيل كوسيلة للإقناع والافحام في آن واحد، إذ دعم (عليه السلام) حجته بحجة غير مصنوعة(14) وهي المثل العربي المتداول: (فكنتَ في ذلك كناقل التمر إلى هَجَرَ)، دعماً للنتيجة المبتغاة، بل دعمها بحجة أخرى مبتكرة (مصنوعة)(15) من قبله ارتكز فيها على التشبيه الذي حذفت منه أداة التشبيه للعلم بها فقال (عليه السلام): (داعي مُسَدِّدِهِ إلى النضال) والتقدير (كداعي) بدلالة العطف ب (أو).

وكان معاوية قد ساق كلامه هذا في فضل الرسول (صلى الله عليه وآله) ليكون قاعدة مشتركة متفق عليها مع متلقي الخطاب جميعاً ومنهم أمير المؤمنين (عليه السلام)، في محاولة منه لاستدراج متلقي خطابه إلى الإذعان والتسليم، وقد وسمت هذه الاستراتيجية في الأدبيات الحجاجية الغربية ب(لعبة الولاء الكاذب)، إذ يقصد المجادل أن يقود خصمه إلى قبول الدليل المطروح فيأخذ فكرة الدليل من الخصم نفسه لتكون أعظم تأثيراً فيه(16)، قال ابن وهب: ((وحق الجدل أن تنبئ مقدماته بما يوافق الخصم عليه، وإن لم يكن نهاية الظهور للعقل، وليس هذا سبيل البحث؛ لأنَّ حق الباحث أن يبني مقدماته بما هو أظهر الأشياء في نفسه))(17) لكن ما يبعث على الدهشة أنَّه حتى المسلمات من الأمور لم تسلم لمعاوية في كتابه هذا، وإن لم تكن هي غايته وما يتلوها من الكلام هو جوهر حجته - الله درك يا سيدي يا أبا الحسن - فقد قطع عليه السبيل الموصل إلى الحجة.

ص: 128

الحجة الثانية:

قال معاوية: ((إنَّ الله سبحانه اختصَّ محمداً (عليه السلام) بأصحابٍ أيّدوه و آزروه ونصروه وكانوا كما قال الله سبحانه -: أشداء على الكفار رحماء بينهم - (18)، فكان أفضلهم مرتبة، وأعلاهم عند الله والمسلمين منزلة، الخليفة الأول الذي جمع الكلمة، ولمَّ الدعوة ، وقاتل أهلَ الرِّدّة، ثم الخليفة الثاني الذي فتح الفتوح، ومصَّر الأمصار، وأذلَّ رقاب المشركين، ثم الخليفة الثالث المظلوم الذي نشر الملَّة وطبّق الآفاق بالكلمة الحنيفية))(19).

يستمر أمير المؤمنين (عليه السلام) باستراتيجيته القائمة على تسفيه مزاعم معاوية، فيرد على كلامه المتقدم بقوله (عليه السلام): ((وزعمت أن أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان، فذكرت أمراً إنْ تمَّ اعتزلكَ كُلُّهُ، وإنْ نَقَص لم يلحقكَ ثَلْمُهُ. وما أنتَ والفاضلَ والمفضولَ والسائسَ والمسوسَ! وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم! هيهات لقد حنَّ قِدْحٌ ليس منها، وطفق يحكم فيها مَن عليهِ الحكم لها!))(20).

تراه (عليه السلام) لم يناقش مدى صحة كلام معاوية وصواب حجته - وهذا ما كان معاوية ينوي استدراج الإمام إليه - إذ ظنَّ معاوية أنَّ الإمام (عليه السلام) سيفاضل بينه (عليه السلام) وبين الصحابة ويُظهر سبقه عليهم، ولمَّا كان لهذه المفاضلة مَن هو مؤيد أو معارض، فإن معاوية يحاول ضم المعارضين لهذه المفاضلة إلى صفه وإن كانوا هم أنفسهم غير راضين عن معاوية وأفعاله وسيرته، فيتخذ معاوية من تقديم الإمام نفسه على الشيخين حجة ضده (عليه السلام)، لكنَّه سرعان ما أدرك فخاخ معاوية وفوَّت عليه ذلك، فصوَّب حجته لمعاوية نفسه فجرَّده من برهانه وأخرجه خارج دائرة حجنه (فذكرت أمراً إنْ تمَّ اعتزلكَ

ص: 129

كُلُّهُ، وإنْ نَقَص لم يلحقكَ ثَلْمُهُ) بلحاظ التشكيل الأسلوبي للحجة المرتكزة على التوازي التركيبي بين (إنْ تمَّ اعتزلكَ كُلُّهُ، وإنْ نَقَص لم يلحقكَ ثَلْمُهُ) وما ينطوي عليه من مفارقة ضمنها التقابل الدلالي بين (تم - نقص، وكله - ثلمه) الذي أفضى إلى تناغم إيقاعي يؤثر في استمالة متلقيه للجمالية التي أكسبها هذا الايقاع للنص.

ثم أردف (عليه السلام) مستفهماً باستفهام حجاجي(21)، خارج مخرج التعجب المشوب بالسخرية: (وما أنتَ والفاضلَ والمفضولَ والسائسَ والمسوسَ!) وأعقبه باستفهام آخر يحمل الغرض نفسه: (وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين... !).

ثم عزز حجته بشاهد من كلام العرب؛ وذلك لأن الشواهد المأثورة بمثابة برهان جاهز قد ألفه الناس وتسلموا على صوابه: (لقد حنَّ قِدْحٌ ليس منها).

أفضت هذه الحجة إلى تجريد معاوية من استدلالاته جمعاء بل غدا صغير الشأن ضئيل المقام؛ وليُحكم (عليه السلام) طوق التحجيم حوَّل خطابه من التعجب المشوب بسخرية إلى التوبيخ والتقريع، إذ قال (عليه السلام):

((ألا تربع أيَّها الإنسان على ظَلَعِكَ (22)، وتعرف قصور ذرْعِكَ، وتتأخر حيث أخَّرَك القَدرُ؟ فما عليك غلبةُ المغلوب ولا ظفرُ الظافرِ! وإنَّكَ لذهَّاب في التيه، روَّاغٌ في القصد))(23).

في هذا المقطع من كلام أمير المؤمنين تحددت المواقع (وتتأخر حيث أخَّرَك القَدرُ) وكشفت هوية معاوية بجلاء (وإنَّكَ لذهَّاب في التيه، روَّاغٌ في القصد) وكأنَّ هذه العبارة لب القول، إذ تخير لها (عليه السلام) عناصر لغوية تخدم دلالتها فانتخب لوصف معاوية صيغة المبالغة (فعَّال) في (ذهَّاب، وروَّاغ) لیسبغ

ص: 130

دلالة التكثير والمبالغة على الوصف، فضلاً عن تأکید العبارة بمؤكدين: (إنَّ، واللام)، فتختتم هذه الحجة بهذا الحكم.

العتبة الثاني / وعنوانها (فضل آل محمد):

بعد أن أصدر الإمام حكمه بمعاوية التفت إلى بيان فضل آل محمد على سائر المسلمين بقوله: ((ألا ترى - غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أُحدث - أنَّ قوماً استُشْهدوا في سبيل الله تعالى مِن المهاجرين والأنْصارِ، ولكلٍّ فضلٌ، حتى إذا استُشهد شهیدُنا قيل: سيّد الشهداء، وخصَّه رسول الله - صلى الله عليه وآله - بسبعين تكبيرةً عند صلاتِهِ عليه! أولا ترى أنَّ قوماً قُطعتْ أيدِيهِم في سبيل الله - ولكلٍّ فضلٌ - حتى إذا فُعل بواحدنا ما فُعِل بواحدهم، قيل: الطيار في الجنة وذو الجناحين... لم يمنعنا قدیم عزِّنا، ولا عادي طولِنا على قومكَ أن خالطناکم بأنفسِنا؛ فنکحنا وأنكحنا فِعلَ الأكفاء، ولستم هناك! وأنَّی يكون ذلك ومِنَّا النبي ومنكم المكذب، ومنا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف، ومنا سيدا شباب أهل الجنة، ومنكم صبية النار، ومنَّا خير نساء العالمين ومنكم حمّالة الحطب، في كثيرٍ مما لنا وعلیکم! فإسلامنا قد سُمع، وجاهليتُنا لا تُدفع، وكتاب الله يجمع لنا ما شذَّ عنَّا، وهو قوله سبحانه: «وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ» (24) وقوله تعالى: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» (25) فنحن مرة أولى بالقرابة وتارة أولى بالطاعة))(26).

يفتتح (عليه السلام) هذا المقطع بقوله: (ألا ترى غير مخبر لك ولكن بنعمة الله أُحدث) مؤكداً هامشية معاوية، إذ يأنف (عليه السلام) من توجيه الخطاب له، وكأنَّ الخطاب تحول إلى إقناع المتلقي الثاني وهم الناس جميعاً سواء كانوا من أنصار أمير المؤمنين أم من أنصار معاوية نفسه، يأخذ (عليه السلام) بالكشف عن

ص: 131

فضائل آل محمد بعد أن أحكم تهميش معاوية، ولمّا كان (عليه السلام) رأس بني عبد المطلب في زمانه مما يضمن له (عليه السلام) المركزية في الخطاب فهو بؤرة الفضل، في مقابل موقعية معاوية الهامشية.

وتكسب المفارقة في الموازنة التي عقدها أمير المؤمنين بين آل محمد وبني أمية النص جمالاً وعمقاً لتكون أُساً للاقناع بتوظيف المتوازيات التركيبية:

• مِنَّا النبي، ومنكم المكذب

• منا أسد الله، ومنكم أسد الأحلاف

• منا سيدا شباب أهل الجنة، ومنكم صبية النار

• منَّا خير نساء العالمين، ومنكم حمّالة الحطب.

ولا يفوته (عليه السلام) تعزيز كلامه بشواهد قرآنية بوصفها أدلة قاطعة لتدعيم صحة ما ذهب إليه، فيكون بذلك ألقى الحجة على خصمه وألزمه الصمت إزاء ما ذكر. ثم ختم (عليه السلام) حججه بأسلوب التوازي التركيبي (فنحن مرة أولى بالقرابة / وتارة أولى بالطاعة) القائم على بنية المماثلة بين (مرة / تارة، القرابة / الطاعة) فضلاً عن تكرار (أولى)، مما يكسب النص نغمة مستحبة يستسيغها المتلقي.

العتبة الثالثة / (قلب الحجج):

يستمر أمير المؤمنين بسياسة بت الصلة بين معاوية وما يرصده من مآخذ على أمير المؤمنين فيتعالى (عليه السلام) على مناقشة فحوى الحجة ومن قبيل ذلك ردّه (عليه السلام) على قول معاوية:

((لقد حسدتَ أبا بكر والتَويتَ عليه، ورُمتَ إفسادَ أمره، وقعدت في

ص: 132

بيتك، واستغويتَ عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته، ثم كرهتَ خلافة عمر وحَسَدته واستطلت مدته، وسررتَ بقتله، وأظهرت الشماتة بمصابه، حتى حاولت قتلَ ولدِه لأنه قتل قاتل أبيه، ثم لم تكن أشدَّ منك حسداً على ابن عمك عثمان، نشرت مقابحه، وطويت محاسنه...))(27).

ويجمل الإمام (عليه السلام) الرد على تهمة الحسد هذه بقوله:

((وزعمت أني لكلّ الخلفاء حسدت وعلى كلّهم بغيت: فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك فيكون العذر إليك.

٭ وتلك شكاة ظاهر عنك عارها(28) ٭))(29).

إنَّ قطع صله معاوية بالتهمة التي ألصقها بأمير المؤمنين حجة تمعن في تسفيه موقفه أمام أصحابه ومريديه. وقد استعمل الإمام لسبك حجته بناء أسلوبياً قائماً على المفارقة الناتجة من التوازي في قوله: (فليس الجناية عليك / فيكون العذر إليك) باستثمار المتقابلات: (الجناية - العذر، وإليك - عليك) وما فيهما من أثر في جمالية الإيقاع المؤثر، ولا يعزب عن بالنا أثر المفارقة في تعزيز إستراتيجية الاستخفاف والسخرية من موقعية معاوية في الخطاب.

ثم يتحول الإمام (عليه السلام) في هذا الجزء من الكتاب إلى ردِّ التهم التي كالها عليه معاوية، لكنَّه (عليه السلام) لا ينكرها أو يبررها بل يعتمد إستراتيجية قلب الحجة على صاحبها، إذ يتحول برهان الخصم إلى حجة عليه، وهذا الأسلوب في الحجاج لا يفارق الإستراتيجية العامة التي اتبعها الإمام في التحاجج مع معاوية وأعني سياسة التهميش وتسفيه الرؤى والأقوال، كرده على قول معاوية:

((وما من هؤلاء إلا مَنْ بغيت عليه، وتلكأت في بَيعته، حتى حُملت إليه قهراً، تساق بخزائم الأقسار كما يُساق الفحل المخشوش))(30).

ص: 133

بقوله (عليه السلام):

((وقلت: إني كنت أقاد کما يقاد الجمل المخشوش (31) حتى أبايع، ولعمر الله، لقد أردت أن تذمّ فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في أن يكون مظلوما ما لم يكن شاكاً في دينه، ولا مرتاباً بيقينه، وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها، ولكني أطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها))(32).

فتراه (عليه السلام) يقلب حجة معاوية لصالحه (عليه السلام) فتكون له وليست عليه، فضلاً عن الاستخفاف بفکر معاوية بقوله (عليه السلام): (ولعمر الله، لقد أردت أن تذمّ فمدحت، وأن تفضح فافتضحت) فأثبت (عليه السلام) أنَّ معاوية لا يحسن التفكير والقول فعادت سهامه إلى نحره، يتناغم هذا مع البناء الفني لهذه الحجة بتوظيف التقابل الدلالي المفضي إلى مفارقة مدهشة في قالب متوازٍ إيقاعياً وترکیبیاً:

(أردت أن تذمّ فمدحت / وأن تفضح فافتضحت)، ومثله جاء بناء قوله: (لم یکن شاكاً في دينه / ولا مرتاباً بيقينه) غير أنَّه تأسس على بنية المماثلة؛ وقد تكرر غير مرة أنَّ بنية التوازي التركيبي الإيقاعي حين يكون مقتضاها متعلق بمعاوية تجدها مؤسسة على التقابل الدلالي المفضي إلى المفارقة، على حين يتمحور التوازي على بنية الماثلة حين يكون فحوى الكلام متعلق بأمير المؤمنين أو آل بيت النبي (صلى الله عيه وآله وسلم)، وهذا يدعم مذهبنا في تطويع المفارقة لخدمة خطاب الاستخفاف والتهميش الذي انتهجه أمير المؤمنين تجاه معاوية في هذا الكتاب.

ولا يغادر (عليه السلام) هذه الحجة حتى يؤكد تعالیه (عليه السلام) على خطاب معاوية: (وهذه حجّتي إلى غيرك قصدها) استجابة للإستراتيجية المهيمنة على الخطاب.

ص: 134

والحجة الوحيدة التي صرّح (عليه السلام) بأنّها موجهة لمعاوية: (ثم ذكرت ما كان من أمري وأمر عثمان: ولك أن تجاب عن هذه لرحمه منك).

أعتمد فيها (عليه السلام) سياسة قلب الحجة بقوله:

((فأينا كان أعدى له وأهدى إلى مقالته؟ أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه؟ أم مَن استنصره فتراخي عنه وبثّ المنون إليه، حتی أتی قدره عليه؟

كلّا والله ل «قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا» (33)، وما كنت أعتذر من أنّي كنت أنقم عليه أحداثا، فإن كان الذنب إليه إرشادي وهدايتي له، فرُبَّ ملوم لا ذنب له.

٭ وقد يستفيد الظنّة المتنصّحُ (34) ٭

«وما أردت إِلَّا الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ ٭ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ» (35)) (36).

وهنا وظَّف (عليه السلام) في كلامه المفارقة التركيبية منتخباً لها الاستفهام الحجاجي الخارج مخرج التعجب قالباً ترکيبياً، التي يمكن ترسيمها على النحو الآتي:

فأينا كان أعدي له...؟

أمن بذل له نصرته فأستقعده واستكفّه

أم من استنصره فتراخی عنه وبثّ المنون إليه.

ص: 135

داعماً حجته بالدليل القرآني الذي ينطبق على حال معاوية مع عثمان، فيقلب (عليه السلام) السحر على الساحر، ثم يكشف (عليه السلام) عن حقيقة موقفه مع عثمان مسلطاً الضوء على الثنائية الضدية:

• (الملوم لا يساوي المذنب) في قوله: (فربّ ملوم لا ذنب له)

• (الناصح لا يساوي المتهم) في قول الشاعر: (وقد يستفيد الظنّة المتنصّح).

ويختتم معاوية كتابه بتهديد يوجهه للإمام وأصحابه:

((وليس لك ولأصحابك عندي إلا السيف. والذي لا إله إلا هو لأطلُبنّ قتلة عثمان أين كانوا... ))(37).

وقد ردَّ (عليه السلام) على هذا التهديد باستخفافه المعهود بكلام معاوية:

((وذكرت أنه ليس لي عندك ولأصحابي إلا السيف: فلقد أضحكت بعد استعبار: متى ألفيت بنو عبد المطلب عن الأعداء ناكلين، وبالسيوف مخوّفين!))(38).

مرتكزاً فيه على أمرين: الأول هو التصريح بالسخرية من تهديد معاوية: (فلقد أضحكت بعد استعبار)، والثاني انتخاب الاستفهام الخارج لمعنى التعجب: (متى ألفيت بنو عبد المطلب...) وتحديداً الاستفهام ب(متى) الدالة على الزمان التي تتواشج مع قوله لاحقاً: (وسيوف هاشمية، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدّك وأهلك) في إحالة واضحة على أيام بني عبد المطلب على بني أمية ولاسيما ببدر، ولا يفوتنا الثنائية التركيبية: (عن الأعداء ناكلين / وبالسيوف مخوّفين) فتجد بنية التوازي ترتكز على التماثل الدلالي بين (ناكلين(39) / مخوفين)، وقد تقدم القول: إنَّ التوازي ينعقد في الغالب على المماثلة حين يتعلق الأمر به (عليه السلام) أو بآل البيت، فتكون العبارة الثانية بمثابة التوكيد للعبارة الأولى.

ص: 136

قطاف البحث:

للبحث قطاف أضعها بين يدي القارئ منها:

• ينتمي كتاب أمير المؤمنين عليه السلام بوصفه خطاباً إلى حقل الخطابات السياسية، والخطاب السياسي أیَّما کان فضاؤه فلا بدَّ له من متلقٍ مؤيد وآخر معارض، لكن الجديد في هذا الخطاب هو وجود متلقٍ أول (معاوية) ومتلقٍ ثانٍ (أنصار أمير المؤمنين وأنصار معاوية والناس جميعاً)، ولما كان المتلقي الأول معاند لم يقتنع من قبل ولن يقنع فقد كان أمام خطاب أمير المؤمنين مهمتين: الأولى ردّ حجج المتلقي الأول وافحامه، وتحقيق الإقناع للمتلقي الثاني.

• ينطلق البحث من فرضية مفادها أنَّ لكل خطاب حجاجي استراتيجية تحكم النص وتوجه آلياته الحجاجية: لغوية كانت أم منطقية، وهكذا كان هذا الخطاب، إذ كانت استراتيجية الاستخفاف والتهميش هي الاستراتيجية المهيمنة على مفاصله فاستجابت لها عناصر النص بوضوح.

• يغلب على الحجاج في هذا الخطاب الابتداء بالمقدمات ثم الدعوى (النتيجة) سواء كانت النتيجة ضمنية أم صريحة ثم يدعم حجته بالأدلة، وهذا هو الشكل الذي يتسم بالمنطقية وهو أس الحركة الحجاجية المتنامية في الخطاب ، وهو الشكل الذي يغلب على الخطابة العربية عموماً.

• یهیمن على خطابه عليه السلام تبني دعوى مركزية واحدة تمثلت بافتضاح أكاذيب خصمه، وإن كانت هناك دعاوی ثانوية إلا أنها في جوهرها جزء من الدعوى الأم.

• أزعم أنَّ الإمام في خطابه هذا ركز على رصد النكت في كلام خصمه فبنی

ص: 137

مقدماته عليها، ولا يُعني كثيراً بكلامه كله، ومن قبيل ذلك:

1 - ذکر معاوية فضل الله على الرسول الكريم (صلى الله علیه وآله وسلم).

2 - المفاضلة بين الصحابة السابقين في الإسلام.

3 - مظلومية الصحابي عثمان بن عفان.

• بعد انتخاب الحجج التي اطلقها الخصم عمد أمير المؤمنين إلى ردِّها على وفق استراتيجيته (الاستخفاف) لکنَّه نوَّع بطريقة توظيفها فكانت على النحو الآتي:

1 - قطع صلة الخصم بحجته: وقد وظفها (عليه السلام) في ردِّ الحجتين (1، 2) من النقطة السابقة.

2 - قلب الحجة: عمد (عليه السلام) إلى توظيف حجج خصمه عليه کحجج داعمة لموقفه من خلال قلب هذه الحجة على منتجها (معاوية) کما جرى مع الحجة (3) في النقطة السابقة.

• يحرص عليه السلام على تدعيم حججه بآيات من القرآن الكريم أو الشعر العربي والحكم والأمثال المأثورة، لما لها من أثر في إقناع وإفحام متلقيه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

هوامش البحث:

1. أهم نظريات الحجاج: 300

2. النص والخطاب والاتصال: 149

3. مصطلح الحجاج بواعثه وتقنياته: 275، عباس حشاني (مجلة المخبر، ع 9، لسنة 2013)

4. ينظر النص والخطاب والاتصال: 148

5. ينظر شرح نهج البلاغة (ابن أبي الحديد): 15 / 113

ص: 138

6. نهج البلاغة: 468

7. نفسه: 470

8. شرح نهج البلاغة: 15 / 116

9. ورد بشرح محمد عبده (تأييدَهِ) والصواب ما أُثبت في المتن.

10. ورد عند ابن أبي الحديد (خَبَأ) بتخفيف الباء والصواب ما أثبت من شرح محمد عبده.

11. نهج البلاغة: 467

12. مفردات في غريب القرآن: 700

13. ينظر الجدل في القرآن، (الرازي): 232 - 233

14. الحجة غير المصنوعة: والمقصود بها تلك الحجة التي لم نبتكرها نن بل هي موجودة قبلاً كالشهود والصكوك والحوادث، ومنها ما شاع في الخطبة العربية من تضمين الخطب آيات قرآنية أو حكم وأمثال مأثورة عن السلف، فضلاً عن الشعر العربي، وتكتسب هذه الحجج قوتها التأثيرية من مصدرها ومصادقة الناس عليها. (ينظر بلاغة الخطاب الإقناعي: 24، 90).

15. الحجة المصنوعة: ويراد بها كل ما يمكن إيجاده من لدن المتكلم من أدلة ينسجها بفطنته وذكائه واجتهاده. (ينظر في بلاغة الخطاب الإقناعي، محمد العمري: 24)

16. ينظر النص والخطاب والاتصال: 154

17. البرهان في وجوه البيان: 179

18. الفتح: 29

19. شرح نهج البلاغة: 15 / 116

20. نهج البلاغة: 467 - 468

21. الاستفهام الحقيقي هو أن يوافق لفظه معناه، وهو طلب الفهم وانتظار الإجابة من المخاطب، على حين في الاستفهام الحجاجي يسأل المتكلم عمَّا يعرفه ويفهمه وقد أطلق عليه البلاغيون العرب مصطلح (الاستفهام المجازي) ويريدون به خروج الاستفهام عن معناه الحقيقي (طلب الفهم) إلى معان مجازية كالتعجب والإنكار وغيرها. (لمزيد من التفصيلات ينظر في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: 38، وآفاق جديدة في البحث النحوي المعاصر: 79).

22. وردت عند ابن أبي الحديد (ظَلْعك) بسكون اللام، ينظر شرح نهج البلاغة: 15 / 113

23. نهج البلاغة: 468

24. الأنفال: 75

ص: 139

20. آل عمران: 68

26. نهج البلاغة: 468 - 469

27. شرح نهج البلاغة: 15 / 117

28. البيت لأبي ذؤيب الهذلي وتمامه:

وعَيَّرها الواشونَ أنّي أُحبُّها ٭ وتلكَ شكاةٌ ظاهرٌ عنكَ عَارُهَا

ديوان أبي ذويب: 64

29. نهج البلاغة: 470

30. شرح نهج البلاغة: 10 / 117

31. والخِشاش هو ادخال خشبة في عظم أنف البعير لينقاد وخششت البعير فهو مخشوش. ينظر لسان العرب: (خشش): 6 / 296

32. نهج البلاغة: 470

33. الأحزاب: 18

34. البيت في جمهرة الأمثال منسوب لعمارة بن عقیل: 2 / 161، وفي التذكرة الحمدونية منسوب للأقرع الآبي: 7 / 101، وتمامه:

وكم سُقتُ في آثاركُم من نصيحةٍ ٭ وقد يستفيدُ الظِّنَّةَ المتنصحُ

35. هود: 88

36. نهج البلاغة: 471

37. شرح نهج البلاغة: 15 / 117

38. نهج البلاغة: 471

39. الناكل: الجبان الضعيف، ينظر لسان العرب: (نکل) 11 / 678.

ص: 140

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، د. محمود أحمد نحلة، دار المعرفة الجامعية، 2002 م.

2. أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم، فريق البحث في البلاغة والحجاج، اشراف حمادي صمود، من مطبوعات كلية الآداب بمنوبة / جامعة الآداب والفنون والعلوم الانسانية، تونس (1).

3. البرهان في وجوه البيان، تأليف أبي الحسن اسحق بن ابراهيم بن سلیمان بن وهب الكاتب، تحقیق وتقديم الدكتور محمد حفني شرف، مكتبة الشباب، مطبعة الرسالة، مصر.

4. التذكرة الحمدونية، تأليف محمد بن الحسن بن محمد بن علي الشهير بابن حمدون، تحقيق إحسان عباس، وبکر عباس، دار صادر للطباعة والنشر، بیروت، لبنان ، ط 1 / 1996 م.

5. جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري (400 ه) حققه وعلَّق عليه محمد أبو الفضل إبراهيم، وعبد المجيد قطامش، دار الجيل، ودار الفکر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، ط 2/ 1988 م.

6. ديوان أبي ذؤيب الهذلي، تحقیق وتخريج الدكتور أحمد خليل الشال، مرکز الدراسات والبحوث الإسلامية، بور سعيد، مصر، ط 1، 2014 م.

7. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، تحقیق: محمد إبراهيم، دار الكتاب العربي، بغداد، ط 1، 2007 م.

8. في بلاغة الخطاب الإقناعي، مدخل نظري وتطبيقي لدراسة الخطابة العربية

ص: 141

، الخطابة في القرن الأول انموذجاً، تأليف الدكتور محمد العمري، افريقيا الشرق، بیروت، لبنان، ط 2 / 2002 م.

9. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات، الدكتور عبد الله صولة، مسکیلیاني للنشر والتوزيع، تونس، ط 1 / 2011 م.

10. لسان العرب، لأبي الفضل جمال الدين بن منظور (711 ه)، دار صادر، لبنان.

11. مصطلح الحجاج بواعثه وتقنياته، الاستاذ عباس حشاني، مجلة المخبر، أبحاث في اللغة والأدب الجزائري، جامعة بسكرة، الجزائر، العدد (9) السنة 2013 م.

12. المفردات غريب القرآن، لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الاصفهاني (502 ه) مكتبة نزار مصطفى الباز، د. ت.

13. النص والخطاب والاتصال، الاستاذ الدكتور محمد العبد، الاكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، القاهرة، 2014 م.

14. نهج البلاغة الجامع لخطب ورسائل وحكم أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام شرح محمد عبده، أشرف على تحقيقه وطبعه عبد العزيز سيد الأهل، منشورات مكتبة التحرير، د. ت.

15. نهج البلاغة، وهو مجموع ما اختاره الشريف أبو الحسن محمد الرضي بن الحسن الموسوي من كلام أمير المؤمنين أبي الحسن علي بن أبي طالب عليه السلام، تحقيق الشيخ فارس حسون.

ص: 142

اعتماد كلام الامام علي (عليه السلام)

في المناهج التعليمية

وأثره في بناء الشخصية الإسلامية

الدكتور نجم الفحّام

مستشار المحكمة الدولية لتسوية المنازعات

قاض في المحكمة

ص: 143

ص: 144

المقدمة:

إنّ الحديث عن عليّ عليه السلام وكلامه إنما هو حديث عن أهمّيّة معرفة دين الله عزّ وجلّ، ومن ثمّ معرفة الإسلام الحقيقي الذي يريده الله تعالى من هذه الأمّة. وقبل الحديث؛ لنا أنْ نتساءل: لماذا الإمام عليّ؟.

نحاول أنْ نتّخذ من الآية المباركة «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» أنموذجا لعرض هاتين الحقيقتين اللتين نحن بصددهما.

فالقرآن الكريم هو معجزة الإسلام الخالدة وهو کتاب کریم لا يمسّه إلا المطّهرون، والقرآن هو الذي يحتم علينا أنْ نعتمد كلام عليّ ع ليس في المناهج التعليمية وبناء الشخصية الإسلامية في هذا المحور (اللغوي والأدبي) من هذا المؤتمر المبارك حسب، وإنّما في كلّ محور عقديّ أو فقهيّ أو قانونيّ أو سياسيّ أو إداريّ أو اقتصاديّ أو اجتماعيّ أو نفسيّ أو تربويّ أو أخلاقيّ، أيّ محور يُراد له أنْ يسهم في بناء الإنسان وتجلّي الإنسانيّة فيه، وتحفيزه على ممارسة دوره في عمارة الدنيا وما فيها وجني ثمار عمارتها في الآخرة وعدم الوقوع في الزيغ هذا أولا.

ويحتمه علينا ثانيا: الذي لا ينطق عن الهوى إنْ هو إلّا وحي يوحی رسول الإنسانية الصّادق الأمين صلى الله عليه وآله وسلّم الذي جعله وصيّه وواعي علمه وخليفته على أمّته وعلى تفسير كتاب الله عزّ وجلّ والداعي إليه والعامل بما يرضاه. کما سيتّضح لنا ذلك في أثناء البحث.

ص: 145

وثالثا: يحتمه علينا الواقع العملي والسّلوكي لأئمّة آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ إذ لم يسجّل لنا هذا الواقع يوماً أنّهم سُألوا عن شيءٍ ولم يُجيبوا، ولم يُسجّل عليهم خطأ في إجابةٍ قالوها؛ لأنّهم الرّاسخون في العلم، وعليٌّ أوّلهم وأفضلهم وخيرهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم کما سيتضح لنا ذلك من خلال خطبه وكلماته. فنحن اليوم کمن كان قبلنا في مسيس الحاجة إلى كلام عليّ وحتّى من لم يزل في أصلاب الرّجال، وليس هذا بكثير علي عليّ عليه السلام وهو وارث علم النّبيين صلوات الله وسلامه عليهم، وإذا كان عيسى (عليه السلام) كلمة الله التي ألقاها إلى مريم عليها السلام فعليّ عليه السلام أصدق مصداقٍ لكلمات الله عزّ وجلّ، ولو كان البحر مداداً لكلمات ربّ العزّة لنفد البحر وما نفدت كلماته، فسلام عليك أبا الحسن يوم ولدت ويوم استشهدت ويوم تبعث حيّا.

ص: 146

المبحث الأوّل: ما يحتمه القرآن العظيم في الإمام عليّ (عليه السلام)

يقول الله تعالى في كتابه العزيز: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» (1).

يكاد يجمع العلماء والمفسّرون على أنّ الآية المباركة تتحدّث عن بيان المحكم والمتشابه وكيّفية إيضاح وتفسير المتشابه وذلك بإرجاع المتشابه إلى المحكم وأنّ هذا المحكم هو الأصل الذي يعتمد عليه(2).

والباحث لا يريد أنْ يتحدّث هنا عن الأقوال والآراء التي أوردها العلماء والمفسّرون حول المحكم والمتشابه - فقد تناولنا ذلك في كتابنا المرسوم التفسير ومنهج التفاسير الحديثة للقرآن الكريم(3) - بقدر ما نُريد أنْ تنتهي إلى أنّ ما توصّل إليه العلماء من اختلاف شديدٍ حول إمكانيّة الاطلاع على المتشابه؛ لاختلافهم في إدراك المراد من قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» إذ لم يختلفوا في المتشابه حسب وإنّما اختلفوا في المحكم كذلك إذ وصل الأمر ببعضهم إلى القول بالشّيء ونقيضه، ويستفاد هنا أنّ هذه الآية لم تبيّن المحكم والمتشابه وإنّما أشارت في بعض ما أشارت إليه كون الكتاب المنزل على نبيّنا المرسل صلّى الله عليه وآله وسلّم فيه

ص: 147

آیات محکمات وأُخرُ متشابهات، ولكنّها بیّنت من هم الذين يستطيعون أنْ يعرفوا المحكم والمتشابه، وذلك من خلال تأويل كل من المحكم والمتشابه، لا تأويل المتشابه حسب وردّه إلى المحكم، فقد أثبت الواقع بالدليل القاطع أنّ ما سلکه العلماء في ردّ المتشابه إلى المحكم ثبت أنّ هذه الطريقة أو هذا الأسلوب في تناول كثير من آيات الكتاب العزيز لم يثمر إلاّ خلافاً واختلافاً وغموضاً في فهم النّصّ القرآني أكثر من المتشابهات نفسها.

وهذا يؤكّد كون العلماء يختلفون في مدى الفهم ودقّته عند تناولهم للمحكم نفسه، ويؤكّد عدم معرفة العلماء لكل المتشابه. مثلما هي الحال عند من يرى أنّ المحكمات فواتح السّور المستخرج منها السور، وقيل المتشابه فواتح السّور، بعكس الأوّل(4).

وإذا اختلف العلماء في المحكم فإلى ماذا يُرجع بالمتشابه، وهنا يأتي دور الراسخين في العلم، إذ لابُدّ من معرفة مراد الله عزّ وجلّ على نحو القطع واليقين، ولابُدّ أنْ يكون هؤلاء الراسخون في العلم الذين ذكرتهم هذه الآية عارفين بالمحكم والمتشابه، خصوصاً بعد ما ذُكر من الأقوال والآراء الكثيرة التي وصلت في معرفة المحكم والمتشابه حدَّ التناقض.

وهنا يحقُّ لنا أنْ نسأل: لماذا الإمام علي عليه السلام؟. أو نقول لماذا الامام عليّ عليه السلام، ولا نقول لماذا عليٌّ من غير اقترانه بكلمة الإمام التي لم تأخذ حقّها وهيبتها وكرامتها إلاّ عند عليّ صلواتُ ربّي وسلامه عليه. وهذا هو بيت القصيد. فقد عرفنا آنفاً من خلال البحث أنّ العلماء إنّما رجعوا إلى المحكم لأنّه يُعدُّ أصلاً عندهم، والأصل يُرجع إليه، ولهذا المعنى عينه سُمّي الامام أمير المؤمنين بالإمام، ولم تكن هذه التسمية قد لازمته اعتباطاً، وقد تسالم عليها

ص: 148

المسلمون على اختلاف مشاربهم وتعدّد نحلهم ولم يحضَ بها غيره. وإذا كان لفظ الإمام من بعض دلالاته في اللغة: ((... خشبة البناء التي يسوّى عليها البناء... والإمام: الذي يقتدى به، وجمعه أيمّة وأصله آممة على فاعلة...))(5)، ((... الإمام الذي يُقتدى به وجمعه أيمّة، وأصله أأمة، على... والإمام : بمعنى القدّام. وفلان يؤمّ القوم: يقدمهم...))(6).

وهذه المعاني والدلالات التي ذكرتها معاجم اللغة وقواميسها تؤكّد ما قاله الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب الكتاب المعجمي الأوّل عند العرب في عليّ أمير المؤمنين في الدّلالة على إمامته صلوات الله عليه وسلامه من احتياج الناس إليه كلّ الناس واستغناؤه عنهم.

وبعد هذا كلّه، بل وفوق هذا كلّه نعود إلى أجواء الآية محلّ البحث لنقف على جوهر الدلالة وكيفيّة أدائها بالمعنى الأرقى الدقيق من خلال فصاحة الوحي التي هي لا شكّ ولا ريب أعلى الفصاحات في فنّ القول لدى العرب.

يقول الجاحظ: ((ينبغي للمتكلّم أنْ يعرف أقدار المعاني، ويوازن بينها وبين أقدار المستمعين، وبين أقدار الحالات، فيجعل لكل طبقة من ذلك مقاماً حتّى یُقسّم أقدار الكلام على أقدار المعاني، ويقسّم المعاني على أقدار المقامات، وأقدار المستمعين على أقدار تلك الحالات))(7).

وهذا النّصّ من الجاحظ الذي يتحدّث فيه عن مناسبة الكلام لمقتضى الحال يدعونا إلى أنْ نعرف ما هي تلك الحال التي ينبغي أنْ نقرأ من خلالها الوحي الأمين الذي نزل من الله تعالى أحسن المتكلّمين بعيداً عن تلك الآراء التي تشعّبت وشرّقت وغرّبت بالنّصّ السماوي الأرقی، والتي أرادت أنْ تعرف كل ما في جنباته من محکمٍ ومتشابهٍ، وزيغٍ ورسوخٍ، وتفسیرٍ وتأويلٍ، كلُّ ذلك من خلال علم

ص: 149

النحو، واعتماد بعض الروايات التي لا تنهض دليلاً على ما يذهبون إليه (8).

إنّ الحال التي نزل في أثنائها قوله تعالى: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ»، إلى نيّفٍ وثمانين آية هي حال وفد نصاری نجران التي مثّلت منعطفاً خطيراّ في تاريخ الأمّة؛ ولا بُدّ للأمّة في منعطفاتها الخطيرة والفتن التي تمسُّ وجودها من رجالٍ تفقأُ عين الفتنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو من هو من سنخه. ومما لا ريب فيه أنّ فتنة التشكيك بالعقيدة من أشدّ الفتن التي حاول أعداء الإسلام بثّها بين المسلمين، لا سيّما إذا كان ذلك في بداية بناء كيان الأمّة أي أمّةٍ كانت.

فقد جادل وخاصم النصاری - من وفد نجران - رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في عیسی ابن مريم على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصّلاة والسلام، إذ قالوا للنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: ألست تزعم أنه كلمة الله وروح منه؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم: بلى. قالوا: فحسبنا! فأنزل سبحانه وتعالى: (فأمّا الذين في قلوبهم زيغ... الآية)...(9).

وقد كان يوحنّا الدمشقي يُلقّن بعض المسيحييّن ويعلّمهم كيفيّة الجدل والنقاش مع المسلمين، حول بعض المعاني التي تناولها القرآن الكريم عن المسيح عليه السّلام من حيث تسميته المسيح في القرآن. يقول: ((إذا سألك المسلم: ما تقول في المسيح؟ فقال: إنّه كلمة الله. ثُمّ ليسأل النّصراني المسلم: بِمَ سُمّيَ المسيح في القرآن؟ وليرفض أنْ يتكلّم بشيء حتى يُجيب المسلم. فإنّه سيضطر إلى أنْ يقول: «إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ

ص: 150

مِّنْهُ» (10)، فليسأله عن كلمة الله وروحه أمخلوقة هي أم غير مخلوقة؟ فإنْ قال مخلوقة، فليردّ عليه بأنّه كان ولم تكن كلمة ولا روح، فإنْ قلت ذلك فسيفحم المسلم؛ لأنّ من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين. وكذلك هي الحال بالنسبة ل (ثيودور أبو قُرّة) الذي حاول توضيح حرّيّة الإرادة ومشكلة الطبيعتين في المسيح عليه السلام، وكذلك (نكبتاس) إذ أمره القيصر ( باسيلوس) بتأليف كتاب في الرّد على المسلمين، إذ تناول فيه عقيدة التّثليث وإثبات صحّتها(11). فالقضيّة قضيّة صراع بين العقيدتين، عقيدة التوحيد الذي هو أهمّ أصلٍ من أصول الدين الإسلامي، وسائر الأديان الإبراهيميّة، وعقيدة التثليث وما سواها.

فالآية ليست بصدد تقسيم القرآن الكريم إلى محكم ومتشابه من حيث اللفظ أو المعنى كما يذهب إلى ذلك بعض العلماء والمفسّرين؛ فإنّ من المتشابه على سبيل المثال لا الحصر ما يحمل على وجوه اللغة، وعدم معرفة هذا لا يوجب أو لا يكون مدعاةً للوقوع في الزّيغ الذي تُريده الآية المباركة. ((وقد فسّر الرسوخ في العلم بما لا تدلّ عليه اللغة وإنّما هي أشياء نشأت عن الرّسوخ في العلم، كقول نافع: الراسخ المتواضع إلى الله، وكقول مالك: الراسخ في العلم، المتّبع))(12).

فالرّسوخ والزّيغ لا يُراد منهما المعنى المتبادر إلى الذّهن؛ وكذا الراسخون في العلم، والذين في قلوبهم زيغ، يقول الله تعالى: (إنّ الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً)(13)، ((قيل: المراد وفد نجران؛ لأنّه روي أنّ أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه: إنّي أعلم أأنّه رسول الله، ولكنّي إذا أظهرت ذلك أخذ ملك الرّوم منّي ما أعطوني من المال. وقيل: الإشارة إلى معاصري رسول الله قال ابن عباس: قريضة، والنضير، وكانوا يفتخرون بأموالهم وأولادهم...))(14).

فهؤلاء هم الذين يتزعّمون هذا التيّار لأنّهم أهل مالٍ وأولادٍ وقابليّاتٍ في

ص: 151

المجتمع . وهذا يؤيّدُ ما نذهب إليه من أنّ الميل الذي عبّر عنه النّصّ القرآني بالزّيغ، إنّما هو ميل الذين على علمٍ ودراية بحال الأنبياء صلواتُ الله وسلامه عليهم وما أُنزل عليهم من ربّهم، ولكنّهم انحرفوا؛ لأنّ الاعتراف والإيمان بما جاء به رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سيسلبهم مصالحهم وتسلّطهم على خلق الله تعالى؛ فعمدوا إلى التلبيس على الناس، وتأول آيات الله عزَّ وجلّ بما يوقع الناس في الفتنة والضلال.

والذي يبدو للباحث أنّ الزّيغ وإنْ كان معناه الميل، ولكنْ هو ليس كل ميل ومن أيّ أحد، وإنّما هو الميل عن حقّ معلوم، من أُناسٍ بلغوا من العلم ما بلغوا، فحادوا عن جادة الصّواب، فهم ليسوا من سواد العامّة، وإنّما هم من أهل العلم وأهل الحلّ والعقد. وبالتالي فالميل من العامّة وممّن لا علم له لا يمكن أنْ يكون زيغاً عن الحقّ؛ لأنّهم لم يدركوا هذا الحقّ وليس لديهم القابليّة على معرفته، لكنّ الزيغ هو الميل عن علمٍ ويقين، عن علمٍ ودراية، ونفوذٍ في المجتمع؛ وذلك للتلبيس على ضعفاء الخلق؛ ليبقى هؤلاء هم أصحاب النفوذ هم أصحاب الشّرف والتسلّط على رقاب الخلق.

يؤيّد هذا المعنى جو الآية والسبب الذي نزلت لأجله مثلما هي حال وفد نصاری نجران الذين جاؤوا لمحاججة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهم يعلمون أنّه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنّ ما جاء به هو الحقّ. وهكذا محاججة لا يجرأ عليها ضعفاء الخلق. فالذين جاؤوا في وفد نصاری نجران إنّما هم علّيّة القوم وأشرافهم وعلماؤهم ومجتهد وهم.

يؤكّدوا ذلك ما قاله محمد بن اسحاق والرّبيع بن أنس: ((نزلت أوائل السّورة إلى نيّفٍ وثمانين آية في وفد نجران، وكانوا ستّين راكباً قدموا على رسول

ص: 152

الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ومنهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم، وفي الأربعة عشر ثلاثة نفرٍ يؤولُ إليهم أمرهم، وهم: العاقب أمير القوم، وصاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلاّ عن رأيه، واسمه عبد المسيح، والسّيّد ثمالهم، وصاحب رحلهم، واسمه: الأيهم، وأبو حارثة بن علقمة أسقفهم وحبْرهم وإمامهم، وصاحب مَدْرَسِهم، وكان قد شَرُفَ فيهم، ودرس كتبهم، وكانت ملوك الرّوم قد شرَّفوه وموّلوه، وبنو له الكنائس، لعلمه واجتهاده))(15).

فهؤلاء لم يكونوا قد طلبوا ما طلبوا عن شكّ أو جهل يحتجّون به على باطلهم وإفسادهم دين النّاس وإضلالهم، وإنّما طلبوا وأرادوا ما رادوا، وكفروا عن علمٍ ودراية. وقد قال أصدق القائلين: «وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ» (16)، «وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ»(17)، «فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ» (18).

وهذا يؤكّد - مسألة زيغ من أوّل القرآن التأويل غير المراد أو التأويل المذموم - ما نذهب إليه من علم واستطاعة ونفوذ من يحاول التأويل للتلبيس على النّاس.

فهذه الآيات الكريمات تُبيّن أنّ الاختلاف والتفرّق في الدين واختلاط الحقّ بالباطل: ((لم يكن عن جهلٍ منهم بحقيقة الأمر وكون الدّين واحداً بل كانوا عالمين بذلك، وإنّما حملهم على ذلك بغيهم وظلمهم من غير عذر وذلك كفرٌ منهم بآيات الله المبيّنة لهم حقّ الأمر وحقيقته... من بعد ما جاءهم العلم بما هو حقّ، ظلماً أو حَسَدَاً تداولوه بينهم... لم يكن عن شبهة أو جهل وإنّما أوجدها علماؤهم بغياً وكان البغي دائراً بينهم))(19).

فالانحراف والاختلاف إنّما سببه العلماء - لا النّاس الاعتياديين - وما يقومون به من تأويل وإخفاء حقائق النّصّ القرآني، مثلما هي الحال في ما جرى من وفد

ص: 153

نصارى نجران إذ ثبت أنّ الزّيغ وإنْ كان له معنىً من معاني الانحراف؛ إلاّ أنّه انحرافٌ من طبقة خاصّة تتميّز بالعلم والمعرفة، والادراك التّام، وليس من أُناسٍ أمّيّين أو أُناسٍ يجهلون ما وردَ في الكتاب أو ما أنزل من الوحي من الله عزّ وجلّ يقول عزّ من قائل: «إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ» (20)

((... فكتمان العالم علمه هذا، كتمان العلم عن الناس بعد البيان لهم، وهو السبب الوحيد الذي عدّه الله سبحانه سبباً لاختلاف الناس في الدِّين وتفرّقهم في سبل الهداية والضلال، وإلاّ فالدّين فطريٌّ تقبله الفطرة وتخضع له القوّة المميّزة بعد ما بُيِّن لها، قال تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» (21)، فالدّين فطري على الخلقة لا تدفعه الفطرة أبداً لو ظهر لها ظهوراً ما بالصفاء من القلب، كما في الأنبياء، أو ببيان قولي، ولا محالة ينتهي هذا الثّاني إلى ذلك الأوّل.. ولذلك جمع في الآية بين كون الدّين فطريّاً على الخلقة وبين عدم العلم به فقال: «فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا»، وقال: «وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ»، وقال تعالى: «وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ» (22)، فأفاد أنّ الاختلاف فيما يشتمل عليه الكتاب إنّما هو ناشىء عن بغي العلماء الحاملين له، فالاختلافات الدّينية والانحراف عن جادّة الصّواب معلول بغي العلماء بالإخفاء والتأويل والتّحريف، وظلمهم...))(23)

فهذا جوّ الآية وهذا ما كان يخطّط له من إيقاع الفتنة في الأمّة الفتيّة على أيدي أناس يمتلكون كلّ ما يساعدهم على ذلك داخليّاً وخارجيّاً، أُناس جعلتهم

ص: 154

العداوة والحقد وصورّ لهم بغيهم أنّهم قادرون حتى على خداع النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وقد ألْمَحَ أصدقٌ الصّادقين إلى ذلك بقوله عزَّ من قائلٍ: «وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» (24).

فأيُّ محکمٍ أو متشابهٍ! تتحدّثُ عنه الآية الكريمة المباركة، وأيُّ عطفٍ أو استئناف، إنّها تتحدّثُ عن الذين في قلوبهم زيغٌ، الذين ستنالُ ما تنالُ على أيديهم أمّة محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم، تتحدّثُ عن الراسخين في العلم الذين لا يستطيع أحدٌ غيرهم الوقوفَ بوجه هؤلاء الزائغين في هكذا منعطفٍ خطيرٍ من تاريخ الأمّة في ذلك اليوم، وغيره من قابل الأيّام، كمحمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم أو مَنْ هم مِنْ سنخه. وقد أعطى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم المصداق الواقعي والحقيقي لذلك إذ جاء بأهلِ بيتهِ عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين صلواتُ الله تعالى عليهم أجمعين لمباهلة وفد نصاری نجران بهم؛ ليقول للأمّة هؤلاء هم الرّاسخون في العلم القوّامون على الأمّة وعلى تفسير كتاب الله، وقد أثبت التاريخ والواقع العملي ذلك إذ وقف أهل هذا البيت لكل الانحرافات التي واجهت الأمّة ولم يستطع أحدٌ من المسلمين التّصدّي لها، أو تصدّى لها ولم يُفلح وكادت الأمّة أنْ تقع في ضلالٍ لا هداية بعده. فكان أهله بيته مصداقاً مصَدِّقاً لقوله وهو الصّادق الأمين: ((إنّي مخلّفٌ فیکم الثّقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي))(25)، ((... إنّي قد ترکتُ فیکم أمرين لن تضلّوا بعدي ما إنْ تمسّكتم بهما: کتاب الله، وعترتي أهل بيتي؛ فإنّ اللّطيف الخبير قد عهد إلىّ أنّهما لن یفترقا حتّى يردی عليّ الحوض کھاتين - وجمع بين مسبحتيه - ولا أقول: کهاتين - وجمع بين المسبحة والوسطى - فتسبق إحداهما الأخرى، فتمسّكوا بهما لا تَزِلُّوا ولا تضلّوا

ص: 155

، ولا تقدموهم فتضلّوا))(26). وعلٌّي أوّلهم وأفضلهم وخيرهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم کما سيتضح لنا ذلك من خلال خطبه وكلماته. فنحن اليوم کمن كان قبلنا في مسيس الحاجة إلى كلام عليّ، وكذلك من لم يزل في أصلاب الرّجال، وليس هذا بكثير علي عليّ عليه السلام وهو وارث علم النّبيين صلوات الله وسلامه عليهم، وإذا كان عیسی ع كلمة الله التي ألقاها إلى مريم ع فعليّ ع أصدق مصداقٍ لكلمات الله عزّ وجلّ، ولو كان البحر مداداً لكلمات ربّ العزّة لنفد البحر وما نفدت کلماته.

ص: 156

المبحث الثّاني: ما يحتمه الصّادق الأمين ص في الإمام عليٍّ ع

لا شكَّ في أنَّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم عندما جاء بأهل بيته عليه وعليهم أفضل الصّلاة والسّلام؛ لباهل بهم وفد نصاری نجران، لم يأتِ بهم لأنّهم أهل بيته وأرحامه حسب وإلاّ فهناك الكثير من ذوي قرباه، وإنّما جاء بهم؛ لأنّهم الراسخون في العلم الذين سيعود إليهم إرثُ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهم القطب الذي ستدور حوله عجلة التفسير والتأويل لكتاب الله عزّ وجلّ؛ لأنّهم عِدْلُ الكتاب وهم القادرون على استنطاق آياته وكشف معانيه. وهم الذين لا يتظننّون تأويله بل يتيقّنون حقائقه. (27)

وأوّل أهل البيت هو أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه الذي أخذ علمه عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مباشرة، وهو أوّل المحدّثين من أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم حتّى قال فيهم ابن خلدون المعروف بتعصّبه: ((وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّ فيهم محدّثين، فهم أولى النّاس بهذه الرّتب الشّريفة، والكرامات الموهوبة))(28).

وليس هذا بكثير على عليٍّ عليه السّلام ن فقد ذكر الحاكم النّيسابوري في كتابه المستدرك على الصّحيحين: روى عبد الله بن عباس عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال: ((أنّا مدينة العلم وعليٌّ بابها فمن أراد المدينة فلْيأتِ من الباب))(29).

وهذا الحديث المبارك لو عرضناه على كتاب الله القرآن العظيم لمَا كان فيه من المبالغةِ شيءٌ في بيان شأنِ عليٍّ عليه السّلام وأهمّيّة كلامه ودوره في بناء كيان الأمّة

ص: 157

وإظهار شخصيّتها؛ إذ أعطاه الله عزَّ وجلَّ بياناً فوق هذا البيان؛ إذ جعله نفس النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلَّم بما يؤكّد ما أراده النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من إتيانه بأهل بيته عليهم السّلام، يقول عزَّ منْ قائل: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ» (30). وهذا النّصّ هو آية من الآيات التّي تبنّت شرح الموقف وما أفرزه من دلالات ذلك الحوار أو المباهلة التي دارت بين النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وذلك الوفد من نصاری نجران. «الم. اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ. نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ. مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ. إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ. هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ. قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ. قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ. زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ

ص: 158

وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ. قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ. شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ. إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ. أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ. أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ. ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ. فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ. قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ. قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ

ص: 159

مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ. قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ. ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ. إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ. هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ. فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ. وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ. يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ. ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ. إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ. وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ. قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ

ص: 160

وَالْإِنْجِيلَ. وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ. «إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ. وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ. ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ. إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ. فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»(31).

والبحث إنّما ذكر هذا النصَّ بقضّهِ وقضيضه ليؤكّد ما ذكره آنفاً من أنّ الآية المباركة لم تكن تتحدّث عن تقسيم الكتاب العظيم القرآن الكريم إلى محكم ومتشابه، وإنْ كان بالإمكان أنْ يفهم ذلك المعنى كحكمةٍ من حِكَم النّصّ ولكنّه ليس بعلّة؛ بدليل أنّ الآية تقول «منه آيات محكمات وأخر متشابهات» ولم تقل:

ص: 161

هو الذي أنزل عليك الكتاب آيات محكمات ومتشابهات.

فهذه الآيات التي نزلت من أوائل السورة إلى نيِّفٍ وثمانين آية في وفد نجران اليمن إنّما نزلت لتبيّن من هم الرّاسخون في العلم الذين يعلمون تأويل المحكم والمتشابه على حدٍّ سواء؛ لأنّ الوفد الذي جاء إنّما جاء للمحاججة والمجادلة بالباطل وقد أضمر في نفسه الزيغ والكذب على الله ورسوله والمؤمنين؛ ليلبسوا على المسلمين دينهم ويزعزعوا عقيدتهم عن علمٍ ودرايةٍ.

وقد أوضح ما تبقّى من النصّ القرآني أنّ هؤلاء الذين كانوا على علمٍ ودراية بالحقّ وما جاء به النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما أثبته لهم بالدّليل القاطع، وهم أعرف النّاس بذلك لم يذعنوا للحقّ ولم يستجيبوا؛ بل راحوا كما هي حالهم في القابليّة والاستعداد على قلب الحقائق وتحريف الكلم عن مواضعه ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله كذباً وافتراء على الله عزَّ وجلّ. فمن هكذا حالهم من علم وجاهٍ ومالٍ وسطوة اجتماعيّة وسلطان وسرائر خبيثة لم ولن يستطيع أنْ يقف بوجههم إلاّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو من هم من سنخه من الرّاسخين في العلم وأوّلهم أمكير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام، وسنرى في المبحث القابل كيف أنّ هذا الخطّ المنحرف وهؤلاء الذين في قلوبهم زيغ كيف حاولوا مرّةً أخرى أنْ يصلوا إلى ما أعجزهم الله تعالى ونبيّه صلّى الله عليه وآله وسلّم من الوصول إليه، وقد كان أمير المؤمنين عليه السلام لهم بالمرصاد.

يقول الله تعالى في إيضاح ذلك وفضح سرائرهم وما انطوت عليه من خبثٍ وتولِ عن الحقّ في تمام الآيات النازلة في تلك المباهلة: «إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ. قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ

ص: 162

بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ. وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ. يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ. يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ. إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ. وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ. مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ. وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ. وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ

ص: 163

النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ. فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ» (32).

فالقرآن العظيم عندما يقول على لسان النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: «فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ

وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِین« إنّما يريد أنْ يبيّنَ أنّ هؤلاء هم الكاذبون فيما يدّعونه من دعوى؛ لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم هو الصّادق الأمين، وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليهم هم الصادقون، وقد أوضح القرآن الكريم أنّ هؤلاء قوم مفسدون قد اتّخذوا بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله تعالى وقد ألبسوا الحقّ بالباطل وكتموه عن عمدٍ وعن قصدٍ ودراية مُدَّعين الإيمان بالله وعسى على نبيّنا وآله وعليه السلام، وهم لا عهد لهم ولا أمانة، وخانوا ما أتُمنوا عليه واشتروا به ثمناً قليلا.

وقد كشف النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم خبث سريرتهم وانحرافهم رغم ما هم عليه من علم بحقائق الأشياء، وأنّهم جاؤوا يطلبون ما يطلبون عن قصدٍ ومعرفةٍ تامّة لا عن جهل أو استفهامٍ عمّا لا يعلمونه إذ قال لهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم: ((ألستم تعلمون أنّه لا يكون ولدٌ إلاّ ويشبه أباه؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيٌّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّمٌ على كلّ شيء ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى. قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيء؟ قالوا: لا. قال: ألستم تعلمون أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السّماء؟ قالوا: بلى. قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلاّ ما عُلِّم؟ قالوا: لا. قال: فإنّ ربّنا صورّ عيسى في الرّحم كيف

ص: 164

يشاء، وربّنا لا يأكل ولا يشرب، ولا يُحدث. قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أُمّه كما تحمل المرأة، ثُمّ وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثُمّ غُذِّيَ كما يغذى الصّبيّ، ثُمّ كان يطعم ويشرب ويحدث؟ قالوا: بلى. قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا. فأنزل الله فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضعٍ وثمانين آية))(33).

وقد أكد البحث أنّ صدر السّورة المباركة والآية الكريمة موضع البحث لم تأتِ لبيان أنّ القرآن ينقسم إلى محكم ومتشابه أو أنْ نحصرها بالمحكم والمتشابه كما يريد أنْ يذهب إلى ذلك بعض العلماء والمفسّرين فيسمّيها بآية المتشابه وإذا كان لا بُدَّ من تسميتها إذا كان في ذلك من ثمرةٍ فلنسمّها بآية الرّاسخين في العلم(34) الذين ذكرهم القرآن الكريم وأشار إليهم الرّسول الأعظم صلّى الله عليه وآله.

فهذه الآية المباركة من الآيات التي بيّنت أنّه عليه السّلام سيؤديّ ما أدّاه النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لأمَّته. فالنبي كان حريصاً على بيان عليٍّ عليه السلام للأمّة؛ لأنّهُ هو الذي سيبيّن الكتاب لها، فهذا القرب من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم جعل عليّاً أعلم النّاس بما بين اللوحين من كتاب الله العزيز كما يقول عامر بن شراحيل الشعبي (35). وروي عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: ((عليٌّ أعلم النّاس بما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم (36).

وهذه الأعلميّة والأفضليّة والأسبقيّة إلى تفسير القرآن وتأويله سيبيّنها لنا أمير المؤمنين عليه السلام في المبحث الآتي عمليّاً ونظريّاً من خلال استنطاقه للنّصّ القرآني وتجلية معانيه وإيضاح مفاهيمه وكشف أسراره، وشدّ الأمّة إلى كتابها العزيز القرآن العظيم في مواجهة التيارات المنحرفة التي أرادت عن قصد إبعاد الأمّة عن كتابها الذي هم تبيانٌ لكل شيء تحتاجه، وإيهامها بعدم قدرتها

ص: 165

واستحالة التفريع وانتزاع الجزئيّات.

فالنبيّ (صلّى الله عليه وآله) عندما يوصي بجعل القرآن معياراً ومقياساً وهدىً من الضلال وتبياناً من العمى وعصمةً من الهلكة ورشداً من الغواية ن وأنّه ما عَدَلَ عنه أحدٌ إلاّ إلى النّار؛ إنّما يُريد أنْ يُبعد الأمّة عن كلِّ ((التّوهمات والخيالات الحاصلة في النفس من المعارف فليس لأحدٍ أنْ يتّبعها، بل لابُدّ من الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه وإيكال علم ذلك إلى الله تبارك وتعالى وإلاّ فيدخل ذلك في اتباع الشّيطان وإغوائه والتَّعمّق المنهيُّ عنه))(37).

ولن تجد الأمّة نجاتها من هذه التوهمات إلاّ بالرجوع إلى عِدْلِ القرآن الذين مَنْ عَدَلَ عنهم سيكون من سنخ من عدل عن القرآن؛ وهذا يحتم على الأمّة إذا ما أرادت فهم قرآنها اللّجوء إلى القرآن النّاطق أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله تعالى عليه أوّل الرّاسخين في العلم بعد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.

ولا يعني هذا القول أنّ الأمّة لا تستطيع أنْ تعيَ شيئاً من كتابها على نحو الإطلاق، لكنّها في الفتن والمحن وتتابع الشّبهات؛ لا بُدّ لها من قرآنها النّاطق، وهذا ما أثبته الواقع والأحداث الخطيرة التي مرّت بها الأمّة إذ لم يكن لها إلاّ عدل القرآن بعيداً عن أولئك الذين نصّبوا أنفسهم أعلاماً مُدَّعين رسوخهم في العلم وقادةً للأمّة؛ فوقعوا في ظلمات الجهل عندما تقحّموا الشُّبُهات، وخاضوا في متشابهات الكتاب فضلُّوا وأضلُّوا.

وهذا أمرٌ واضحٌ جليٌّ أثبته الشرع والعقل والعلمص، فليس للأمّة بعد ذلك من مندوحةٍ غير اعتماد كلام مَنْ هم سنخ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وأوّلهم الإمام عليّ سلام الله عليه.

يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في عليٍّ عليه السلام: ((هذا

ص: 166

عليٌّ إخي ووصيّ، وواعي علمي، وخليفتي على أُمّتي، وعلى تفسير كتاب الله عزَّ وجلّ والدّاعي إليه، والعامل بما يرضاه... معاشر الناس تدبّروا القرآن، وافهموا آياته، وانظروا إلى محكماته، ولا تتّبعوا متشابهاته، فوالله لن يبين لكم زواجره، ولا يوضّح لكم تفسيره إلاّ الذي أخذٌ بيده ومصعدهُ))(38) ، وقال (صلّى الله عليه وآله): ((ابن عمّي، وأخي، وصاحبي، ومبرىء ذمّتي، والمؤدِّي عني ديني وعداتي، والمبلّغ عني رسالتي، ومعلّم الناس من بعدي، ومبيّنهم من تأويل القرآن ما لم يعلموا)(39).

لا شكّ في أنّ عليّاً عليه السلام كان أعلم أمّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم فقد اتّفق المسلمون على اختلاف مشاربهم وتعدّد نحلهم ن اتّفقوا على أنّه صلوات الله علي كان في أسمى وأعلى مراتب الذّكاء وقوّة الفكر وصدق الحدس إذ أفاد كثيراً من الفترة التي قضّاها في كنف النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يشمُّ عرف النّبوّة في أحضانه، وينهل من نمير علومه، يسمع مل يسمعه النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ويرى ما يراه منذ نعومة أظفاره. وهي فترة امتدت لعشرة أعوامٍ من طفولته، وهكذا فترة لها تأثيرها وخطورتها في حياة الإنسان ن فكان ملازماً له صلّى الله عليه وآله وسلّم، متتلْمذاً على يدي معلّمٍ هو أكمل ما خلق الله تعالى إذ: ((ما برأ الله نسمةً خيراً من محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم))(40). وقد علّمه رسول الله (صلّى الله عليه وآله) ألف بابٍ من العلم كما يقول هو عليه السلام: ((علّمني رسول الله ألف باب من العلم فانفتح لي من كلِّ باب ألف باب))(41).

فكان بذلك أسَدَّ الناس رأياً بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وأشرفهم خلقاً وأعرفهم بالأمور وأدراهم، ولولاه لهلك كثيرٌ منهم، وكان أشدّ الصّحابة والمسلمين حرصاً على إقامة حدود الله عزَّ وجلّ فلم يجامل ولم يُداهن

ص: 167

ولم يطمع به قريب ولا ذو رحمٍ، ولم ييأس من عدله مُبغضّ أو عدوٌّ له، وكان أتقنهم وأتلاهم لكتاب الله عزّ وجلّ وأقرأهم له، وكان القرّاء يسندون قراءتهم إليه، بل كانوا تلاميذ تلامذته أمثال أبي عمرو بن العلاء وعاصم بن أبي النُّجود إذ كانوا يسندون قراءتهم إلى أبي عبد الرّحمن السّلمي وهو تلميذ عليٍّ عليه السلام. فقد تشرّف العلماء بالانتساب إليه بأسرهم مَنْ كان منهم أشعريّاً أو معتزليّاً، وليس غريباً أنْ ينتسب إليه حتّى من كان من أعدائه من أمثال الخوارج الذين ينتسبون إلى أكابرهم وهم تلامذة عليٍّ عليه السلام وقد أخذوا عنه العلم. أمّا أهل التفسير ومدارسهم - مدرسة مكّة، مدرسة المدينة، مدرسة العراق - فكلّها تنتهي إلى علىٍّ صلوات الله وسلامه عليه(42).

فعليٌّ عليه السلام والقرآن العظيم صنوان لا يفترقان؛ لأنّه كما قال هو صلوات ربّي وسلامه عليه: ((أنا القرآن النّاطق))(43).

ص: 168

المبحث الثّالث: ما يحتمه الواقع العملي والسّلوكي في الإمام علي عليه السّلام

إنّ اعتماد كلام الإمام عليّ عليه السلام يحتمه علينا الواقع العملي والسّلوكي لأئمّة آل محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ إذ لم يسجّل لنا هذا الواقع يوماً أنّهم سُألوا عن شيءٍ ولم يُجيبوا، ولم يُسجّل عليهم خطأ في إجابةٍ قالوها؛ لأنّهم الرّاسخون في العلم، وعليٌّ أوّلهم وأفضلهم وخيرهم بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلّم کما سيتضح لنا ذلك من خلال خطبه وكلماته. فنحن اليوم كمن كان قبلنا في مسیس الحاجة الى كلام على وحتّى من لم يزل في أصلاب الرّجال، وليس هذا بكثير على عليّ عليه السلام؛ فهو وارث علم النّبيين صلوات الله وسلامه عليهم، وإذا كان عيسى عليه السلام كلمة الله التي ألقاها إلى مريم عليها السلام فعليّ عليه السلام أصدق مصداقٍ لكلمات الله عزّ وجلّ، ولو كان البحر مداداً لكلمات ربّ العزّة لنفد البحر وما نفدت كلماته.

عوداً على بدء وانطلاقاً من الآية المباركة محلّ البحث: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ. رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ».

نقول لقد ذكرنا في المبحث السّابق أنّ عليّاً عليه السلام أفاد كثيراً من الفترة التي قضّاها في كنف النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يشمُّ عرف النّبوّة في أحضانه،

ص: 169

وينهل من نمير علومه منذ نعومة أظفاره إلى أن التحق النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم بربّه راضياً مرضيّا؛ فما الفارق بين عليٍّ عليه السلام وبين الصّحابة في هذا؟ أَلَم يكن الصّحابة يتلقّون الحقائق الدّينيّة والمعارف الأخر من النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فكانوا يجالسونه ويسمعون هذه المعارف والحقائق منه صلّى اله عليه وآله وسلّم، وقد كانوا يُسجّلونها ويدوّنونها ويبيّنونها للنّاس؟ وبالتّالي فهم من الراسخين في العلم ويمكن اعتماد كلامهم في المناهج التعليميّة وبناء الشّخصيّة الإسلاميّة.

وانطلاقاً من عنوان المبحث «ما يحتمه الواقع العملي والسّلوكي» نقول: أ - لقد أنار النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم درب الأمّة ببيان وإيضاح الرّاسخين في العلم الذين لهم الاستطاعة والمقدرة على معرفة تأويل الكتاب - الكتاب كلّه - ولم يدّعِ أحدٌ من الصّحابة أو غيرهم معرفته ذلك؛ نعم تلقّى الصّحابي ما تلقّى من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من البيان وتفسير القرآن، وأنّ جميع الحقائق الدينيّة موجودة في القرآن العظيم، ولكن هل فسّر النّبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم الكتاب العزيز جميعه أو غالبه لأصحابه كما يذهب إلى ذلك ابن تيمية إذ يدّعي: ((أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بيَّنَ لأصحابه تفسير جميع القرآن، أو غالبه))(44).

كلّا لم يقم النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بذلك، وهذا الكلام لا يستقيم لابن تيمية؛ وذلك لسببين أو لأمرين هما:

أوّلاً: إنّ التفسير ليس على وجه واحد بل هو كما يقول ابن عبّاس: ((على أربعة أوجه، وجهٌ تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحدٌ بجهالته، وتفسير تعرفه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلاّ الله))(45). وهذا الصّنف أو الوجه

ص: 170

الأخير لا يمكن أنْ يعلمه غير الله تعالى؛ لأنّ الله عزّ وجلّ استأثر بعلمه، فمن تعرّض له أو ادّعى معرفته فهو مُفْتَرٍ على الله تعالى.

ثانياً: لو كان النّبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم قد فسّر كلّ القرآن؛ لوجب على الصّحابة والتّابعين ومن جاء بعدهم من المؤمنين: إتباع قول النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وتفسيره؛ لقوله تعالى: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» (46)، وقوله: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ» (47). ولكن كلّ ما ورد عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم هو بيانه لمجمل القرآن، وتوضيحه لمشكله، وتخصيصه لعامِّیهِ، وتقييده لمطلقه. فقد ورد عنه صلّى الله عليه وآله وسلّم: ((تفسير الظلم بالشّرك في قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ» (48)، وتفسيره الحساب اليسير بالعرض، وتفسيره القوّة في: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» (49) بالرّمي، ... وكتفسيره العبادة بالدعاء في قوله تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ» (50)، ...))(51). ومن توضيح المشكل: تفسيره صلّى الله عليه وآله وسلّم للخيط الأبيض والخيط الأسود في قوله تعالى: «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ» (52)، بأنّه بياض النهار وسواد الليل (53). ومن تفسيره المطلق: تقييده اليد باليمنى في قوله تعالى: «فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا» (54).

ويؤيد هذا المعنى أو هذا القول ما ورد عن الصحابة والتابعين من تفسير لبعض الآيات مما يدلّ على أنَّ النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يفسّر كلّ القرآن إذ لو كان الأمر كذلك لوقف هؤلاء الصحابة وغيرهم عند تفسيره صلّى الله عليه وآله وسلّم ولما اختلفوا في تفسيره.

ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر اختلافهم في تفسير قوله تعالى: «مَنْ

ص: 171

يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ» (55). قال بعضهم عني بالسوء كلّ معصية، وقال آخرون إنَّ معنى ذلك من يعطي سوءاً من أهل الكفر يجز به وبعضهم يرى أنّ معنى السوء في هذا الموضع الشرك.

فالقول الأول ينتهي سنده إلى كلّ من زیاد بن الربيع وأُبي بن كعب وعائشة ومجاهد، والثاني ينتهي إسناده إلى الحسن وابن زيد والضحاك والأخير ينتهي إسناده إلى ابن عباس وسعيد بن جبير(56).

فلو كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قد بيّن كلّ القرآن وفسّره لما وجدت هذه الأقوال الكثيرة في هاتين الآيتين على سبيل المثال لا الحصر.

بل لسنا نبالغ في شيء إذا قلنا إنَّ القرآن الكريم لم يُفسَّر جميعه حتى في عصر الصحابة بعد رحيل الرسول الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى الرفيق الأعلى عزَّ اسمه.

ولعلّ هذه الآراء أو الأقوال تشير ضمناً إلى أنَّ صحابة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا متفاوتين في القدرة على فهم آیات الكتاب العزيز وتفسيرها خلافاً لما يذهب إليه ابن خلدون من أنَّ صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كانوا على حدٍ سواء في فهمهم للقرآن العزيز (57).

وبإنعام النّظر فيما ورد عن الصّحابة من تفسيرٍ للقرآن الكريم تتبلور حقيقة ما وصلنا إليه من معنىً للراسخين في العلم إذ أنّ تفسير الصّحابة لا يتجاوز کونه: ((بمنزلة المرفوع إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم کما قاله الحاكم في تفسيره))(58).

وهذا المعنى - أي كون تفسير الصّحابة بمنزلة المرفوع إلى النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم - عند الحاكم: ((فيما فيه سبب النّزول))(59).

ص: 172

ينتهي بنا إلى أنّ الصحابي وإنْ كان قد تلقّى الحقائق الدينية من النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم سماعاً إلاّ أنّه لا يمكن أنْ يكون قد سمع كلّ الحقائق وبالتّالي فالصّحابي لا يمكن نفيُ وقوع الخطأ منه، ولم يثبت عند أحدٍ من الأمّة عصمة أحدٍ من الصّحابة، بل العكس هو الصّحيح إذ وقع الخطأ منهم في تفسير كثير من الآيات القرآنيّة، وبعضهم لم يفهم معناها، کما اختلفوا كثيراً فيما يعلمونه من النّصّ القرآني. وفي المحصِّلة نقول: لا يمكن أنْ نصل إلى الحقائق كلّها من طريق غير المعصوم؛ لأنّ حقائق الكتاب - الكتاب كلّه - لا يعرفها إلاّ من خوطب بالكتاب وهو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومَنْ هم مِنْ سنخه وهم الرّاسخون في العلم الذين بيّنهم النّبيُّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وأوّلهم الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام الذي قال فيه: ((أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبوّة من بعدي)(60)، ((أنت منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيَّ من بعدي))(61).

ب - بعد هذه المحصِّلة لم يبقَ أمام الأمّة إلاّ الضّلال أو أنْ تتمسّك بمن لا يختلف في علمه وهم الراسخون في العلم الذين هم عدل القرآن؛ لتنجو مما حذّرها منه رسولها الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم بقوله: ((إنّي تركتُ فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا، کتاب الله وعترتي أهل بيتي))(62).

ومثله ما روي عن زيد بن أرقم: ((قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اني تارك فيكم ما انْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر وهو کتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي لن يفترقا حتى يردا علىَّ الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما))(63).

فالرّاسخون في العلم لم يكن علمهم السماع أو الدراسة بمعناها المتبادر إلى

ص: 173

الذّهن، وإنّما كان علمهم علم النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكلام عليٍّ كلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وعلمه علم النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم غاية ما في الأمر أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يأخذ علمه من الوحي مباشرةً والإمام كان يأخذ علمه من النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ولكن ليس بالطرق والأسباب الاعتياديّة التّي يكتسب بها النّاس علومهم التي يتسنّى لكلّ أحدٍ أنْ يحصل عليها وإنّما هو العلم الذي عبّر عنه الإمام أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: ((علّمني رسول الله ألف باب من العلم كلّ باب منها يفتح ألف باب))(64)

وقد كان لكلام عليٍّ عليه السلام أثره في حفظ شخصيّة الأمّة وكيانها؛ لأنّه علم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد روى الحافظ أبو نعيم احمد بن عبد الله صاحب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء أنَّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: ((يا علي إنَّ الله أمرني أن أُدنيك وأعلمك لتعي، وأُنزلت هذه الآية وتعيها أذنٌ واعية فأنت أذنٌ واعية لعلمي))(65)

ولذلك يقول الإمام أمير المؤمنين (عليه السّلام): ((... ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطِق ولكن أُخبركم عنه، ألا إنَّ فيه عِلَمَ ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائِكم، ونَظمَ ما بينكم)) (66).

وهذا يؤكّد ما ذهب إليه البحث من أنّ السماع أو الدراسة بمعناها المتبادر إلى الذّهن لا يمكن أنْ تكون الوسيلة الناجعة لإدراك كل تنزيل القرآن وتأويله بجميع مراتبه؛ لأنّ هذا العلم مخصوصٌ برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وبالعترة الطّاهرة عليهم السلام وأوّلهم أمير المؤمنين عليه السلام وقد أطلعه ربّه عزّ وجلّ على ما يشاء من العلم الذي يقضيه ويمضيه مما غاب عن غيرهم.

ص: 174

يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في خطبةٍ له: (( ... وما كلّ ذي قلبٍ بلبيب، ولا كلّ ذي سمعٍ بسميع. فيا عجباً وماليَ لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها! لا يقتصّون أثر نبيّ، ولا يقتدون بعمل وصيّ، ولا يؤمنون بغيب، ولا يعفّون عن عيب، يعملون في الشُّبُهات، ويسيرون في الشّهوات، المعروف فيه ما عرفوا، والمنكر عندهم ما أنكروا، ففزعهم في المعضلات إلى أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، كأنّ كلّ امرىءٍ منهم إمام نفسه، قد أخذ منها فيما یری بعُریً ثقاتٍ، وأسباب محکمات))(67).

بيّن الإمام عليه السلام داء الأمم السّالفة وجباریها، وما جرى عليها من بلاءٍ وإحَنٍ ثُمّ انتهى إلى أنْ ليس كل صاحب عقلٍ أو سمع أو بصرٍ بمأمنٍ من الشّبهات والأهواء؛ فتزلّ بذلك قدمه؛ لأنّه: ((ليس من علم الله، ولا من أمره أنْ يأخذ أحدٌ من خلق الله في دينه بهوىً ولا رأي ولا مقاییس، قد أنزل الله القرآن وجعل فيه تبيان كلّ شيء، وجعل للقرآن وتعلّم القرآن أهلاً، لا يسع أهل علم القرآن الذين آتاهم الله علمه أنْ يأخذوا في دينهم بهوىً ولا رأي ولا مقاییس، وهم أهل الذكر الذين أمر الله الأمّة بسؤالهم))(68). وأهل الذكر هؤلاء هم الرّاسخون في العلم قطعاً. فإنْ قيل: ((من الرّاسخون في العلم؟ فقل: مَنْ لا يختلف في علمه، فإنْ قالوا: من ذلك؟ فقل: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صاحب ذلك إلى أنْ قال: وإنْ كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لم يستخلف أحداً فقد ضيّع مَنْ في أصلاب الرّجال ممن يكون بعده، قال: وما يكفيهم القرآن؟ قال: بلى، لو وجدوا له مفسّراً، قال: وما فسّره رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ قال: بلى، قد فسّره لرجلٍ واحد، وفسّر للأمّة شأن ذلك الرّجل، وهو علي بن أبي طالب عليه السّلام...))(69).

ص: 175

إنّ وجود كلّ هذه الفرق المختلفة وقراءاتها الخاطئة للإسلام خير دليلٍ على ضرورة وجود مصدرٍ معرفيٍّ بعد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم يمتلك البيان التّفصيلي والتّكميلي للشريعة ليكون القيّم الأمين على صيانة النّصّ السّماويّ الأرقى القرآن العظيم ونصوص السُّنّة النّبويّة المطهّرة. يقول الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام: (( ... أين الذين زعموا أنّهم الرّاسخون في العلم دوننا، كذباً وبغياً علينا أنْ رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا الله وحرمهم، وأدخلنا وأخرجهم، بنا یُستعطى الهدى، ويُستجلى العمی، غنّ الأئمّة من قريش غرس في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم))(70)

وبعد هذا كلّه ليس لأحدٍ من الصحابة أو غيرهم من الناس أنْ يقول: ((سلوني قبل أنْ تفقدوني والذي فلق الحبّة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آيةٍ، في ليلٍ نزلت أو في نهارٍ نزلت، مكّيّها ومدنيّها، سفریّها وحضریّها، ناسخها ومنسوخها، محکمها ومتشابهها، وتأويلها وتنزيلها، لأخبرتكم به))(71). ليس لأحدٍ أنْ يقول ذلك إلاّ أمير المؤمنين عليه السّلام. بل لم يجرأ أحد على قول ذلك؛ لأنّه الهادي الذي يهتدي به المهتدون بعد رسول الله صلّى الله عليه وآله (72).

فكلام عليٍّ عليه السّلام، کلام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكلامه صلّى الله عليه وآله وسلّم کلام الوحي، غاية ما في الأمر أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يتلقّى علمه من الحي مباشرةً، وعلم عليٍّ عليه السّلام من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ولذلك كان جديراً وأهلاً لقوله: سلوني قبل أنْ تفقدوني. يقول عليه السلام: (( ... أيُّها الناس فإنّي فقأتُ عين الفتنة، ولم يكن ليجترىء عليها أحدٌ غيري بعد أنْ ماج غيهبها، واشتدّ كلبها. فاسألوني قبل أنْ تفقدوني، فوالذي نفسي بيده لا تسألوني عن شيءٍ فيما بينكم وبين السّاعة

ص: 176

، ولا فئة تهدي مائة وتُضلُّ مائة إلاّ أنبأتكم بناعقها وقائدها وسائقها، ومُناخ ركابها، ومحطِّ رحالها، ومن يقتل من أهلها قتلاً، ومن يموت منهم موتاً...))(73).

يقول ابن أبي الحديد المعتزلي: ((... وإنّما قال: «ولم يكن ليجترىء عليها أحدٌ غيري»؛ لأنّ النّاس كلهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة، ولا يعلمون كيف يقاتلونهم، هل يتّبعون مولّيهم أم لا؟ وهل يجهزون على جريحهم أم لا؟ وهل يُقسّمون فيئهم أم لا؟ وكانوا يستعظمون قتال مَنْ يؤذِّن كأذاننا، ويصلِّي كصلاتنا، واستعظموا حرب عائشة وحرب طلحة والزّبير، لمكانتهم في الإسلام، وتوقَّف جماعتهم عن الدّخول في تلك الحرب، كالأخنف ابن قيس وغيره، فلولا أنّ عليّاً اجترأ على سلِّ السّيف فيها ما أقدم أحدٌ عليها... ثُمَّ يقول: «سألوني قبل أنْ تفقدوني «روی صاحب كتاب (الاستيعاب) وهو أبو عمر بن محمّد بن عبد البُر عن جماعةٍ من الرُّواة والمحدِّثين، قالوا: لم يقل أحدٌ من الصّحابة رضي الله عنهم: (سلوني) إلاّ عليُّ ابن أبي طالب. وروى شيخنا أبو جعفر الاسكافي في كتاب (نقض العثمانيّة) عن علي بن الجعد عن ابن شُبْرَمَة، قال: ليس لأحدٍ من الناس أنْ يقول على المنبر: (سلوني) إلاّ علي بن أبي طالب عليه السلام..))(74).

ولم يكن ابن أبي الحديد موفّقاً فيما يذهب إليه من شرحٍ لقوله عليه السّلام: «ولم يكن ليجترىء عليها أحدٌ غيري»؛ لأنّ النّاس كلهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة». إذ الصّحيح: أنّ عليّاً عليه السلام كان مسدّداً من السّماء، وهو وارث علم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان يعلم الكتاب كلّه بعلم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو المؤهّل لتأويل القرآن العظيم؛ لأنّ النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أخبر أنّهُ سيقاتلهم على التأويل كما قاتلهم النبي صلّى الله

ص: 177

عليه وآله وسلّم ومعه عليٌّ عليه السلام على التّنزيل، ولا قِبَلَ لأحدٍ بمعرفة كلِ ما في القرآن العظيم. وخير شاهدٍ على ما يذهب إليه الباحث قوله عليه السلام لابن عباس وهو حبر الأمّة أنْ لا يحاجج الخوارج بالقرآن وأنْ يحاججهم بالسّنن، رغم أنّ ابن عباس كان يقول عن نفسه: أنّهُ يعلم تأويل القرآن، وأنّهُ من الرّاسخين بالعلم. فعليٌّ إمام البررة (75) وإمام المتّقين وقائد الغرِّ المحجَّلين(76) وخاتم الوصيين(77) وراية الهدى(78) والصّدّيق الأكبر وفاروق الأمّة الذي

يفرّق بين الحقّ والباطل(79) والمبين لأمّة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم ما اختلفوا فيه من بعده (80) والمؤدّي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم (81) والسّابق إلى محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم (82) وعلٌّي عليه السلام أفضل الصّدّيقين (83) وهو أوّل الناس إيماناً بالله، وأوفاهم بعهد الله، وأقومهم بأمر الله، وأقسمهم بالسويّة، وأعدلهم وأرأفهم في الرّعيّة، وأبصرهم وأعلمهم في القضيّة، وأعظمهم عند الله مزيّة(84).

إنّ الناس إنّما كانوا لا يستطيعون ذلك؛ لأنّهم لا يملكون ما عند عليٍّ عليه السلام من أمثال هذه الأحاديث والسّنن التي قالها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وغيرها في مصادر المسلمين على اختلاف مذاهبهم وتعدّد نحلهم من إخواننا أهل السُّنّة التي لولا الإطالة لأتينا عليها فضلاً عمّا في مصادر الشيعة، فلعليّ عليه السلام من القيادة بعد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ما كان لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم. لا كما يذهب إليه ابن أبي الحديد من رأي في ذلك.

ونذكر في هذا المقام ما يؤيّد هذا المعنى مما ذكره ابن أبي الحديد نفسه عنه عليه السلام في إخباره بالأمور الغيبيّة التي جاءت كما قال فيها وأخبر عنها عليه السلام، مما لا يستطيع غيره القيام به، لا كما يقول ابن أبي الحديد: «من أنّ النّاس

ص: 178

كلهم كانوا يهابون قتال أهل القبلة». يقول ابن أبي الحديد: ((... ولقد امتحنّا إخباره فوجدناه موافقاً، فاستدللنا بذلك على صدق الدعوة المذكورة، كإخباره عن الضّربة يُضرب بها في رأسه فتخضب لحيته، وإخباره عن قتل الحسين ابنه، وما قاله في كربلاء حيث مرَّ بها، وإخباره بملك معاوية الأمر من بعده، وإخباره عن الحجّاج، وعن يوسف بن عمر، وما أخبر به من أمر الخوارج بالنّهروان، وما قدّمه إلى أصحابه منْ إخباره بقتل مَنْ يقتل منهم، وصلب من یُصلب، وإخباره بقتل النّاكثين والقاسطين والمارقين، وإخباره بعدّة الجيش الوارد إليه من الكوفة لمّا شخص عليه السلام إلى البصرة لحرب أهلها، وإخباره عن عبدالله بن الزّبير، وقوله فيه: «خبٌّ ضبٌّ، يروم أمراً ولا يُدركهُ، ينصب حبالة الدّين لاصطياد الدُّنيا، وهو بعد مصلوب قریش «وكإخباره عن هلاك البصرة بالغرق، وهلاكها تارةً أُخرى بالزّنج وهو الذي صحّفه قومٌ، فقالوا: بالرّيح، وكإخباره عن ظهور الرّايات السّود من خراسان، وتنصيصه على أُناس من أهلها يعرفون ببني رزيق - بتقديم المهملة - وهم آل مصعب منهم طاهر بن الحسين وولده وإسحاق بن إبراهيم، وكانوا هم وسلفهم من دعاة الدولة العباسيّة، وكإخباره عن الأئمّة الذين ظهروا من ولده بطبرستان، ، کالناصر والدّاعي وغيرهما، في قوله عليه السلام: «وإنّ لآل محمد بالطالقان لكنزاً سيظهره الله، إذا شاء، دعاؤه حقّ يقوم بإذن الله، فيدعو إلى دين الله»، وكإخباره عن مقتل النفس الزكيّة في المدينة، وقوله: «إنّه يقتل عند أحجار الزّيت» ...))(85).

ومثله إخباره: ((لعبد الله بن العباس عن انتقال الأمر إلى أولاده، فإنّ علي بن عبد الله لمّا ولد أخرجه أبوه عبد الله إلى عليٍّ عليه السلام، فأخذه وتفل في فيه وحنّكه بتمرة قد لاكها، ودفعه إليه، وقال له: خذ إليك أبا الأملاك... وكم

ص: 179

له من الأخبار عن الغيوب الجارية هذا المجرى...))(86).

وليس هذا بكثير على عليٍّ عليه السلام في اعتماد كلامه في الناهج التّعليميّة وأثره في بناء الشّخصيّة الإسلاميّة؛ لأنّه حوى علم آدم عليه السلام، وتقوى نوحٍ وعزمه، وحلم إبراهيم، وفطنة موسى وهيبته، وعبادة عيسى وزهده(87).

فالآية محلّ البحث: «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ» (88)، جاءت لتبيّن للأمّة علم هؤلاء الرّاسخين في العلم وأوّلهم أمير المؤمنين عليه السلام؛ لأنّهم وحدهم هم القادرون على صيانة الأمّة ودينها، وحفظ شخصيّتها الإسلاميّة وبنائها، عند تعرّضها لما يمكن أنْ يزلزل عقيدتها كما هي الحال مع وفد نصارى نجران، وقد أثبت الواقع ذلك في أكثر من تحدٍّ مرّت به هذه الأمّة. وقد كان لعليٍّ عليه السلام - مع هؤلاء الذين حاولوا إضلال أهل الإسلام، وإيقاع الشّبهات في قلوبهم - ما كان لرسول الله (صلّى الله عليه وآله) معهم.

ولبيان ما يذهب إليه البحث؛ نقف عند قول ابن أبي الحديد فيمن عاصروا أمير المؤمنين عليه السلام: ((... وقد قيل: إنّ جماعة من هؤلاء كانوا من نسل النّصارى واليهود، وقد كانوا سمعوا من آبائهم وسلفهم القول بالحلول في أنبيائهم ورؤسائهم، فاعتقدوا فيه عليه السلام مثل ذلك. ويجوز أنْ يكون أصل هذه المقالة من قومٍ ملحدين أرادوا الإلحاد في دين الإسلام، فذهبوا إلى ذلك، ولو كانوا في أيّام رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لقالوا فيه مثل هذه المقالة، إضلالاً لأهل الإسلام، وقصداً لإيقاع الشُّبهة في قلوبهم ...))(89).

ص: 180

فلا شكَّ في أنّ هؤلاء هم الامتداد الطّبيعي لذلك الخطّ الذي تجسّداً واضحاً جليّاً في وفد نصاری نجران، والشُّبُهات هي الشُّبهات التي حاولوا فيها إشراك غير الله عزَّ وجلَّ في الألوهيّة، كما هي الحال في ادّعاء ذلك في عيسى على نبيّنا وآله وعليه أفضل الصّلاة والسلام. فتبارك الله تعالى علّام الغيوب الذي أخبر نبيّه الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وصدق رسوله الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم بما قاله في عليٍّ عليه السلام من أنّهُ سيقاتل على التأويل؛ لأنّ الشُّبُهات التي ردّها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين ادّعاها نصاری نجران، لم يكن ليردّها إلّا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أو من هو كرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم من سنخه وهو عليٌّ عليه السلام.

والبحث لا يتّفق مع ابن أبي الحديد في وصفه لمن عاصر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من أهل الحجاز أو أهل مكّة، إذ يصفهم مرّة بأنّهم أشدّ آراء، وأعظم أحلاماً، وأوفر عقولاً (90)، ثُمّ يصفهم مرّة أُخرى بأنّ الغالب عليهم إنّما هو الجفاء والعجرَفيّة وخشونة الطّبع، وحتّى من سكن المدن منهم كأهل مكّة والمدينة والطّائف فطباعهم قريبة من طباع أهل البادية بالمجاورة (91).

ولكن هذا الأمر يؤكّد ما يذهب إليه البحث من أنّ أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام، وهو ابن تلك البيئة التي نشأ فيها جلّ الصّحابة، ولم يكن للبيئة فيه من أثر؛ لأنّه كان ألصق الناس برسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان يسمع ما يسمعه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ويرى ما يراه، وأنّه الأذن الواعية لعلم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وما جاء به القرآن العظيم، وهو وارث علم النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.

مما يؤكّد كون بعض ما في القرآن لا يدركه غير علىٍّ من الصّحابة أو غيرهم

ص: 181

کونه الوارث الحقيقي لهذا العلم؛ ليضطر كلّ من يدّعي وراثة علم النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى سؤاله، وأنّ قوله: سلوني. لا يستطيع أنْ يقوله غير عليًّ عليه السلام.

إنّ ما في كتاب الله تعالى من زادٍ وعطاء فيه حياة الأمة ونجاتها من مضلَّات الفتن، يحْتِمُ عليها أنْ تطلب الحقيقة من خلال كتابها ودستورها القرآن الكريم من دون أنْ تدَّخِر جهداً في سبيل ذلك في كلِّ مرحلة من مراحل حياتها؛ لأنَّ النص القرآني خطاب - وإنْ نزل على وفق فنِّ القول لدى العرب لم يقتصر على العرب وإنَّما هو خطاب عالميٌّ للإنسانية جمعاء، مستمرٌّ بعطائه معجزٌ بآياته إلى أنْ يرثَ الله تعالى الأرض ومن عليها فهو وإنْ كان محدوداً ثابتاً بألفاظه ومبانيه إلاَّ أنَّه مطلقٌ في مضامینه ومعانيه غير محدودٍ بزمانٍ أو مکان؛ لأنَّه من المطلق جبار السموات والأرض، فآياته الكريمات ليست مقصورة على جماعة أو أمة من الأمم، وإنَّما جاءت هذه الآيات ليستفيد منها الجميع مهما بلغوا من التحضُّر ومهما وصلوا من التقنيَّات والمكتشفات العلميَّة، إذ سيبقى هذا النص السماوي العظيم خطاباً للناس كل الناس وليس لطائفةٍ خاصَّة من العلماء أو الفقهاء، وعلى الأمة أنْ تتولَّاه لتنال عزَّ ها به وسلامتها وهداها ونجاتها من ضلالها.

وفي هذا السّياق لا يحيط بكلام الله عزّ وجلّ إلّا الراسخون في العلم ومنهم عليٌّ عليه السلام الذي احتاج الكلُّ إلى علمه وما احتاج إلى أحدٍ. فاعتماد کلام عليٍّ عليه السّلام في المناهج التّعليميّة، وبناء الشّخصيّة الإسلاميّة ليس بواجبٍ حسب، وإنّما هو ضرورة.

وختاماً یرجو الباحث أنْ يكون قد وفّق لإلقاء بارقةٍ من الضوء على التفسير ومنهج التفاسير الحديثة للقرآن الكريم، ولا يدَّعي الكمال والاستيعاب الشامل

ص: 182

لهذا البحث لأنَّ الكمال للكامل المطلق وحده جبار السموات والأرض، وكل ما يرجو أنْ يكون قد قدَّم بهذا البحث خدمةً متواضعةً للكتاب العزيز - القرآن الكريم - ليكون ظِلاًّ يوم يلقاهُ تعالى، يوم لا ظلَّ ألاَّ ظلُّه.

فإنْ وفق لما هدف إليه فبفضلٍ منَ الله تعالى وحده وله الحمدُ والمنَّة وإنْ كانت الأُخرى فمن ذا الذي ما أساء قط؟!. ربَّنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا.

وما توفيقي إلاَّ بالله العلي العظيم عليه توكَّلت وإليه أُنيب وهو حسبي ونعم الوكيل

هوامش البحث:

1. آل عمران: 7.

2. جامع البيان عن تأویل آي القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، المتوفَّى: 310 ه، قدَّم له: الشيخ خليل الميس، ضبط وتوثيق وتخریج: صدقي جميل العطَّار، دار الفکر، بیروت، 1425 - 1426، 2005 م، 7 / 207؛ تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن محمد ابن ادریس الرازي (ت: 327 ه)، تح: أسعد محمد الطيب، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1424 ه - 2003 م، ج 6، ص 1995؛ 5) بحر العلوم، لأبي الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي (ت: 375 ه)، تحقيق: الشيخ علي محمد معوض، الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الدكتور زكريا عبد الحميد النوتي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، 1413 ه - 1993 م، ج 2، ص 115؛ النكت والعيون، للماوردي، أبو الحسن محمد بن حبيب الماوردي البصري، (ت: 450 ه)، راجعه وعلّق عليه: عبد المقصود بن عبد الرحيم، مؤسّسة الكتب الثّقافيّة، ط 2، 1428 ه - 2007 م، بيروت - لبنان، ج 2، ص 455 الكشاف عن حقائق التأويل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، تحقيق: خليل مأمون شيحا، ط 2، دار المعرفة، بيروت، لبنان، 1426 ه - 2005 م، ج 1، ص 476؛ مفاتيح الغيب، الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن ابن علي التميمي البكري الرازي الشافعي، ط 3، دار الكتب العلميَّة، بيروت، لبنان، 2009 م، ج 7، ص 142؛ الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن احمد، الأنصاري، القرطبي، تحقیق:

ص: 183

الشيخ محمد بيومي ، أ / عبد الله المنشاوي، ط 2 ، مكتبة الإيمان، مصر، 2006 م، ج 5، ص 338؛ البحر المحيط، ابو حيان الاندلسي (ت: 745 ه)، مطبعة السعادة، القاهرة، 1328 ه، ج 6، ص 119؛ أنوار التّنزيل وأسرار التأويل، أبو سعيد عبدالله بن عمر البيضاوي (ت: 685 ه)، تحقيق: محمد صبحي حسن حلاق ومحمد أحمد الأطرش، دار الرّشيد، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 ه، 2000 م. الدر المنثور في التفسير بالمأثور، الإمام عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، ط 1، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1403 ه - 1983 م، ج 4، ص 399؛ روح البيان، اسماعيل حقّي، البروسوي، (ت: 1137 ه) ، دار الفكر، 1429 ه - 2008 م)، بيروت - لبنان، ج 4، ص 114؛ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لأبي الفضل شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي، ط، 1 دار إحياء التراث العربي، بيروت ، 1420 ه - 1999 م، ج 11، ص 270؛ التحرير والتنوير، المعروف بتفسير ابن عاشور، محمد الطاهر بن عاشور، مؤسّسة التاريخ، بيروت - لبنان، ط 1، ج 11، ص 199؛ مجمع البيان في تفسير القرآن، أمين الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، تحقيق: لجنة من العلماء، قدَّم له: الإمام الأكبر السيد محسن الأمين العاملي، ط 2، مؤسَّسة الأعلمي، بيروت، لبنان، 1425 ه - 2005 م ،ج 5، ص 241؛ تفيسر القرآن الحكيم، الشّهير بتفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار الفكر، ط 2، ج 12، ص 4.

3. التفسير ومنهج التفاسير الحديثة للقرآن الكريم، الدكتور نجم الفحام، دار المدينة الفاضلة، ط 1، ص 49 وما بعدها.

4. ينظر: كتابنا المحكم والمتشابه بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الصّحابة، لا يزال مخطوطاً في مكتبة المؤلّف.

5. تاج اللغة وصحاح العربية، اسماعيل بن حمّاد، الجوهري، (ت: 393 - 398 ه)، تح: احمد عبد الغفور عطارد، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، ط 4، 1407 ه، ج 5، ص 186.

6. لسان العرب، ابو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الأفريقي المصري، (ت: 711 ه)، دار صادر، بيروت، (د.ت). ج 12، ص 25.

7. الجاحظ، أبو عثمان، عمرو بن بحر، (ت: 255 ه)، البيان والتبيين، تح: حسن السّندوبي،

المطبعة الرحمانيّة، القاهرة، 1932 م، ج 1، ص 139.

8. ينظر: المؤلف، منهج التفاسير الحديثة للقرآن الكريم، ص 119 وما بعدها.

9. جامع البيان: 6 / 186 - 187؛ الطوسي، أبو جعفر محمد بن الحسن (ت: 460 ه)، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي، مطبعة النعمان، النجف، 1358

ص: 184

ه - 1965 م، ج 2، ص 399.

10. النساء: 171.

11. ينظر: الدكتور جواد علي، تاريخ العرب في الإسلام، مطبعة المجمع العلمي العراقي، ط 1، بغداد، ص 26 - 27.

12. أبو حيّن الأندلسي، (ت: 745 ه)، البحر المحيط، مطبعة السّعادة، القاهرة، 1328 ه، ج 3، ص 30.

13. آل عمران: 116.

14. البحر المحيط: 3 / 34.

15. الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، تحقيق لجنة من العلماء، قدّم له: الإمام الأكبر: السيّد محسن الأمين العاملي، مؤسّسة الأعلمي، ط 2، بيروت - لبنان، 1425 ه - 2005 م، ج 2، ص 234.

16. آل عمران: 19.

17. الشّوری: 14.

18. الجاثية: 17.

19. محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1427 ه - 2006 م، ج 3 ص 106؛ ج 18 ص 26، 137.

20. البقرة: 159.

21. الرّوم: 30.

22. البقرة: 213.

23. الميزان. 1 / 323 - 324.

24. المنافقون: 4.

25. أحمد بن حنبل، مسند أحمد، طبع ونشر: دار الفكر العربي، ج 3، ص 14، 17، 26، 59، ج 4، ص 366، 371، ج 5، ص 182، 189.

29. الكليني، محمد بن يعقوب، النّاشر: دار الكتب الإسلاميّة - طهران، ط 5، 1363 ش، ج 2، ص 415.

27. ينظر: الطوسي، الأمالي، مطبعة النعمان، النجف، 1384 ه - 1964 م، ج 1، ص 121.

28. ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون، مطبعة: مصطفى محمد، ، مصر، (د.ت)، ج 1، ص 495، الفصل: 53.

ص: 185

29. الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصّحيحين، مكتبة ومطبعة النصر الحديثة، الرّياض، ج 3، ص 126.

30. آل عمران: 61.

31. آل عمران: 1 - 61.

32. آل عمران: 62 - 82.

33. الطبرسی، مجمع البيان: 2 / 235.

34. وقد بيّنا هذا المعنى بشيء من التفصيل في كتابنا الموسوم (المحكم والمتشابه بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الصّحابة)، مخطوط في مكتبة المؤلِّف.

35. ينظر: الحاكم الحسكاني، شواهد التّنزيل: 1 / 36.

36. ينظر: المصدر نفسه: 1 / 30.

37. السبزواري، السيّد عبد الأعلى، مواهب الرّحمن في تفسير القرآن، مطبعة الآداب، النّجف الأشرف، 1406 ه، 1986 م، ج 5، ص 59.

38. الاحتجاج: 1 / 76.

39. المصدر نفسه: 1 / 250.

40. الكافي: 1 / 440 ح 2.

41. الفخر الرّازي، الأربعين في أصول الدين: 475؛ القندوزي، ينابيع المودّة: 72؛ المتّقي الهندي، کنز العمال: 6 / 392.

42. ينظر: المؤلف، المحكم والمتشابه بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الصّحابة.

43. القندوزي، ينابيع المودة: 1 / 214.

44. مقدّمة في أصول التفسير، إبن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور، مؤسّسة الرسالة، ط 2، 1392 ه - 1972 م، ص 5؛ ينظر: الاتقان في علوم القرآن، ج 2، ص 189.

45. جامع البيان: 1 / 30؛ ينظر: البرهان: 2 / 164.

46. الحشر: 7.

47. النساء: 80.

48. الأنعام: 82.

49. الأنفال: 60.

50. المؤمن: 60.

ص: 186

51. البرهان: 2 / 156 - 157.

52. البقرة: 187.

53. ينظر: البرهان: 1 / 15.

54 . المائدة: 38.

55 . النساء: 123.

56. ينظر: جامع البيان: 5 / 187 - 188.

57. المقدّمة: 489.

58. البرهان: 2 / 157.

59. الاتقان: 2 / 179.

60. صحيح مسلم، ج 2 ص 360، ك: الفضائل، باب: من فضائل علي بن أبي طالب؛ النّسائي، خصائص مير المؤمنين، ص 48، 81، ط الحيدريّة، ص 45، 46، 48، 61، ط بيروت، تحقيق:

المحمودي؛ ابن عساکر، تاریخ دمشق، ج 1، ص 206، ح 271، 272، ج 1 ص 339 ح 410، 411 ط 1، ص 369 ح 410، 411، ط بيروت؛ الزرندي الحنفي، نظم درر السّمطين، ص 107؛ الكنجي الشّافعي ص 84 - 86، ط الحيدريّة، ص 28، ط الغري؛ الخوارزمي، الحنفي، ص 59؛ التّرمذي، صحيح التّرمذي، ج 5، ص 301 ح 3808؛ أسد الغابة، ج 4 ص 25 - 26؛ ابن حجر، الاصابة، ج 2 ص 509؛ ابن الأثير، جامع الأصول، ج 9 ص 469؛ الرّياض النّضرة، ج 2 ص 247؛ فرائد السّمطين، ج 1 ص 371 ح 302، ص 378 ح 307؛ شواهد التّنزيل: 2 / 21؛ ابن المغازلي، الشّافعي، ط 1، طهران، ص 34 ح 52؛ ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، مصر، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ج 18 ص 24؛ ابن حجر، الصّواعق المحرقة: ط المحمّديّة، ص 177.

61. الصّدوق، عيون أخبار الرّضا، ج 2 ص 10.

62. جامع الأصول من أحاديث الرسول، أبو السعادات، مبارك بن محمد بن الأثير الجزري (ت: 606 ه)، اشراف وتصحيح: عبدالمجيد سليم، ومحمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1949 م، ج 1 ص 187.

63. جامع الأصول من أحاديث الرسول، أبو السعادات، مبارك بن محمد بن الأثير الجزري: 1 / 187.

64. النعمان، ابو حنيفة، شرح الأخبار، تحقيق: محمد الحسيني الجلالي، مؤسّسة النّشر الإسلامي، قم، ط 2، 1414 ه، ج 2، ص 308.

65. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم احمد بن عبدالله الأصفهاني (ت: 430 ه)،

ص: 187

ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت:، 1409 ه. 1988 م، ج 1 ص 67.

66. شرح نهج البلاغة، الخطبة: 159.

67. شرح نهج البلاغة: / خ 87.

68. الوسائل: 27 / 37.

69. المصدر نفسه: 27 / 177.

70. شرح نهج البلاغة: 9 / 86.

71. ابن سعد، الطّبقات الكبرى: 2 / 338؛ الصّدوق، التّوحید: 305؛ المفيد، الاختصاص: 236؛ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن: 1 / 35.

72. ينظر: ابن عساکر، تاریخ دمشق: 2 / 17؛ ابن الصّبّاغ المالكي، الفصول المهمّة: 107؛ نظم درر السّمطين: 90؛ ينابيع المودّة: 99؛ نور الأبصار: 71؛ شواهد التّنزيل: 1 / 296؛ كفاية الطالب: 233؛ إحقاق الحقّ: 4 / 301؛ منتخب کنز العمّال بهامش مسند أحمد بن حنبل: 5 / 34؛ فرائد السّمطين: 1 / 148.

73. شرح نهج البلاغة: 7 / 30. خ 92.

74. شرح نهج البلاغة: 7 / 30 - 31.

75. ينظر: المستدرك على الصّحيحين: 3 / 129؛ كنز العمّال: 6 / 153؛ إبن المغازلي، مناقب علي بن أبي طالب: 80 - 84، ح 120، 125؛ المناقب للخوارزمي الحنفي: 111؛ تاریخ دمشق: 2 / 476؛ كفاية الطالب: 221؛ ينابيع المودة: 72، 185، 234، 250، 284،؛ الفصول المهمّة: 108؛ فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم علي: 57 طبعة الحيدريّة، ص 25 طبعة المطبعة الاسلاميّة بالأزهر؛ إسعاف الرّاغبين بهامش نور الأبصار: 158 الطبعة السّعيديّة، ص 143 الطبعة العثمانيّة، الصواعق المحرقة: 123، الطبعة الحيدريّة، ص 75 الطبعة الميمنيّة بمص؛ مطالب السّؤول لابن طلحة الشّافعي: 31 طبعة طهران، ج 1، ص 86 طبعة النجف؛ میزان الاعتدال: 1 / 110؛ الجامع الصّغير للسيوطي الشّافعي ج 2، ص 140، طبعة مصطفی محمد، ج 2، ص 56، الطبعة الميمنيّة بمصر؛ منتخب کنز العمال بهامش مسند أحمد، ج 5، ص 29 - 30؛ إحقاق الحق: 4 / 234، طبعة طهران؛ فرائد السّمطين: 1 / 157، 192.

76. المستدرك على الصّحيحين: 3 / 138؛ کنز العمال: 6 / 157؛ المعجم الصّغير للطبراني: 2 / 88؛ مناقب علي بن أبي لابن المغازلي الشّافعي: 165، 104؛ المناقب للخوارزمي الحنفي: 235؛ نظم درر السّمطين للزرندي الحنفي: 114؛ الفصول المهمّة لأبن الصّباغ المالكي: 107؛ مجمع الزّوائد:

ص: 188

9 / 121؛ أُسد الغابة: 1 / 69، ج 3 ص 116؛ تاریخ دمشق: 2 / 257؛ فضائل الخمسة: 2 / 100؛ ينابيع المودّة: 81؛ إحقاق الحق: 4 / 11؛ فرائد السّمطين: 1 / 143، الرّیاض النّضرة: 2 / 234، ط 2؛ ذخائر العقبی: 70؛ منتخب کنز العمال بهامش مسند أحمد: 5 / 34.

77. حلية الأولياء: 1 / 63؛ المناقب للخوارزمي: 42؛ تاریخ دمشق: 2 / 487؛ مطالب السّؤول: 1 / 60؛ الميزان للذهبي: 1 / 64؛ كفاية الطالب: 212؛ ينابيع المودة: 313؛ فضائل الخمسة: 2/ 253؛ فرائد السمطين: 1 / 145.

78. حلية الأولياء: 1 / 67؛ شرح نهج البلاغة: 9 / 167؛ المناقب للخوارزمي: 219، 225؛ نظم درر السّمطين: 114؛ تاریخ دمشق: 2 / 189؛ مناقب علي بن أبي طالب: 46؛ كفاية الطالب: 73؛ مطالب السّؤول: 1 / 46؛ إحقاق الحق: 4 / 168؛ فرائد السّمطين: 1 / 144، 151.

79. تاریخ دمشق: 1 / 76؛ مجمع الزوائد: 9 / 102؛ كفاية الطالب: 187؛ الإصابة:4 / 171؛ الاستيعاب هامش الاصابة: 4 / 170؛ اسد الغابة: 5 / 287؛ میزان الاعتدال: 2 / 417؛ إحقاق الحقّ: 4 / 29؛ فرائد السمطين: 1 / 39، 140؛ السيرة الحلبيّة لبرهان الدّين الحلبي الشّافعي: 1 / 380؛ منتخب کنز العمال بهامش مسند أحمد: 5 / 33؛ الرياض النّضرة لمحب الدين الطّبري الشّافعي: 2 / 204؛ لسان الميزان لابن حجر العسقلاني الشّفعي: 2 / 414؛ البيان والتّعريف لابن حمزة الحنفي: 2 / 110؛ رسالة النّقض على العثمانيّة للإسكافي: 290؛ أرجح المطالب للشيخ عبيد الله الحنفي: 447؛ انتهاء الأفهام: 74

80. المستدرك على الصّحيحين: 3: 122؛ منز العمال: 6 / 156؛ تاریخ دمشق: 2 / 488؛ مقتل الحسين للخوارزمي الحنفي: 1 / 46؛ المناقب للخوارزمي: 236؛ كنوز الحقائق للمناوي: 203؛ ينابيع المودّة: 183؛ منتخب کنز العمال بهامش مس أحمد: 5 / 33.

81. ينظر: سنن ابن ماجة: ج 1، ص 44، طبعة دار الكتب؛ صحيح التّرمذي: 5 / 300؛ خصائص أمير المؤمنين للنّسائي: 20؛ تاریخ دمشق: 2 / 378؛ المناقب للخوارزمي: 79؛ مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي: 221 وما بعدها؛ ينابيع المودّة: 55، 180، 371، طبعة اسلامبول، ص 60، 61، 212، 219، 446، الطبعة الحيدريّة؛ الصّواعق المحرقة: 1200 طبعة المحمدية، ص 73، الطبعة الميمنيّة بمصر؛ إسعاف الرّاغبين بهامش نور الأبصار: 140؛ تذکرة الخواص لسبط بن الجوزي الحنفي: 36؛ نور الأبصار: 72 ، الطبعة العثمانيّة ، ص 71، الطبعة السّعيديّة؛ مصابيح السُّنّة للبغوي: 2 / 275؛ جامع الأصول: 9 / 471؛ الجامع الصّغير للسيوطي: 2 / 56، الرّيا النّضرة: 2 / 229 / مطالب السّؤول: 18؛ المشكاة للعمري: 3 / 243؛ منتخب کنز

ص: 189

العمال بهامش مسند حمد: 5 / 30؛ فرائد السّمطين: 1 / 58 - 59.

82. ينظر: شواهد التنزيل: 2 / 213؛ المناقب للخوارزمي: 20؛ الصواعق المحرقة: 74؛ مجمع الزوائد: 9 / 102؛ ذخائر العقبي: 58؛ ينابيع المودّة: 284؛ منتخب کنز العمال بهامش مسند أحمد: 5 / 30؛ فضائل الخمسة من الصّحاح السّتّة: 1 / 184؛ إحقاق الحق: 5: 588.

83. ينظر: الصّواعق المحرق: 74؛ شواهد التّنزيل: 2 / 223؛ تاریخ دمشق: 1 / 79، ج 2 ص 282؛ ذخائر العقبی: 56؛ كفاية الطالب: 124، ط: الحيدريّة، ص 47، ط: الغري؛ المناقب للخوارزمي: 215؛ مناقب علي بن أبي طالب لابن المغازلي الشّافعي: 245. الرّياض النّضرة: 2 / 202؛ ينابيع المودّة: 185، 202، 233، 284، 315، ط : اسلامبول، ص 142، 219، 236، 238، 340، ط: الحيدريّة؛ شرح نهج البلاغة: 9 / 172؛ الجامع الصّغير للسيوطي: 2 / 42؛ منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد: 5 / 30؛

84. ينظر: حلية الأولياء: 1 / 65 - 66؛ تاريخ دمشق: 1 / 117؛ الرّياض النضرة: 2 / 262؛ مطالب السّؤول: 1 / 95 ط: النجف؛ شرح نهج البلاغة: 9: 173؛ المناقب للخوارزمي الحنفي: 61، الميزان للذهبي: 1 / 313؛ كفاية الطالب: 270، ط: الحيدريّة، ص 139، ط: الغري؛ منتخب كنز العمال بهامش مسند حمد: 5 / 34؛ فرائد السّمطين: 1 / 223.

85. شرح نهج البلاغة: 7 / 32.

86. المصدر نفسه: 7 / 33.

87. ينظر: شرح نهج البلاغة: 2 / 449، ج 9 ص 168، ط: مصر؛ فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم عليّ، لأحمد بن محمد بن الصديق الحسني المغربي، نزيل القاهرة، ص 34؛ اليواقيت والجواهر، للعارف الشّعراني: 172؛ ينابيع المودّة: 214، 312؛ تاریخ دمشق: 2 / 280؛ شواهد التنزيل: 1 / 78 - 79؛ المناقب للخوارزمي: 220 ؛ الفصول المهمّة لابن الصّباغ المالكي: 107؛ مفاتيح الغيب، للفخر الرّازي: 2 / 288، 700؛ مناقب علي بن أبي طالب، لابن المغازلي الشّافعي 2: 212؛ ذخائر العقبي: 93 - 94؛ الرّياض النّضرة: 2 / 290 ؛ فرائد السّمطين: 1 / 170.

88. آل عمران: 7.

89. شرح نهج البلاغة: 7 / 34.

90. ينظر: المصدر نفسه: 7 / 33.

91. ينظر: المصدر نفسه: 7 / 34.

ص: 190

المصادر والمراجع

خير ما نبدأ به القرآن الكريم.

1. - الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة المشهد الحسيني، القاهرة، 1967 م.

2. - الاحتجاج، أبو علي الفضل بن الحسن، الطبرسی (548 ه / 1153)، تعليق: محمد باقر الخرسان، دار النّعمان للطّباعة والنّشر، النجف الأشرف - العراق، 1386 ه / 1966 م

3. - إحقاق الحق وإزهاق الباطل، القاضی نور الله الحسيني المرعشي التّستري، (ت: 1019 ه)، انّاشر: مكتبة المرعشي النجفي، الطبعة الأولى.

4. - الاختصاص، محمد بن محمد بن النّعمان، الشيخ المفيد (ت: 413 ه)، المطبعة الحيدريّة، النّجف الأشرف، 1390 ه، 1971 م.

5. - الأربعين في أصول الدّين، فخر الدّين محمد بن عمر، المعروف بالفخر الرّازي (ت: 606 ه)، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانيّة، حیدر آباد الدّكن، الطبعة الأولى، 1303 ه.

6. - أرجح المطالب فضائل ومناقب امير المؤمنين علي بن أبي طالب الشيخ عبيد الله الحنفي، دار الدّاعي، الطبعة الأولى، 1422 ه.

7. - أسد الغابة في معرفة الصّحابة، أبو الحسن علي بن أبي المكارم بمحمد بن عبد الكريم الجزري المعروف بابن الأثير (ت: 630 ه)، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان.

8. - إسعاف الرّاغبين بهامش نور الأبصار: 158 الطبعة السّعيدية، ص 143 الطبعة العثمانيّة.

9. - الاستيعاب في أسماء الأصحاب، للإمام الحافظ أبي عمر يوسف بن بد الله بن محمد بن عبد البر (ت: 463 ه)، تحقيق: عادل مُرشد، دار الاعلام، الطبعة الأولى، 1423 ه - 2002 م.

10. - الإصابة في تمييز الصحابة، شهاب الدين، أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي، المعروف بابن حجر، ط 1، دار العلوم الحديثة، مصر، 1328 ه.

11. - الأمالي، أبو جعفر محمد بن الحسن الطّوسي (ت: 460ه)، مطبعة النّعمان، النّجف

ص: 191

الأشرف، 1384 ه، 1964 م.

12. - جلاء الأفهام في فضل الصّلاة والسلام على خير الأنام لإبن قيّم الجوزيّة (ت: 751 ه)، تحقیق: زائد بن أحمد النّشيري، دار عالم الفوائد.

13. - أنوار التّنزيل وأسرار التّأويل، أبو سعيد عبدالله بن عمر البيضاوي (ت: 685 ه)، تحقيق: محمد صبحي حسن حلاق ومحمد أحمد الأطرش، دار الرّشيد، بيروت، الطبعة الأولى، 1421 ه، 2000 م.

14. - بحر العلوم، لأبي الليث نصر بن محمد بن أحمد بن إبراهيم السمرقندي (ت: 375 ه)، تحقيق: الشيخ علي محمد معوض، الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الدكتور زکریا عبد الحميد النوتي، الطبعة الأولى، دار الكتب العلميّة، بيروت، لبنان، 1413 ه - 1993 م.

15. - البحر المحيط، ابو حيان الأندلسي (ت: 745 ه)، مطبعة السعادة، القاهرة، 1328 ه.

16. - البرهان في علوم القرآن، الإمام بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (ت: 794 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، مكتبة دار التراث، القاهرة.

17. - البيان والتبيين، تح: عبد السلام محمد هارون، الطبعة الثانية، مكتبة الخانجي بمصر - مكتبة المتنبي ببغداد، 1380 ه - 1990 م.

18. - البيان والتّعريف في أسباب ورود الحديث، ابراهيم بن محمد کمال الدّين الحسيني الدمشقي، المعروف باسم ابن حمزة الحسيني، مطبعة البهاء، الطّبعة الأولى، حلب، 1911 م.

19. - تاج اللغة وصحاح العربية، اسماعیل بن حمّاد، الجوهري، (ت: 393 - 398 ه)، تح: احمد عبد الغفور عطارد، دار العلم للملايين، بيروت - لبنان، ط 4، 1407 ه.

20. - ابن خلدون، تاریخ ابن خلدون، مطبعة: مصطفى محمد، ، مصر، (د.ت).

21. - تاريخ العرب في الإسلام، الدكتور جواد علي، مطبعة المجمع العلمي العراقي، الطبعة الأولى، بغداد.

22. - تاريخ العرب في الإسلام، الدكتور جواد علي، مطبعة المجمع العلمي العراقي، الطبعة الأولى، بغداد.

ص: 192

23. - تاريخ مدينة دمشق، الحافظ أبو القاسم علي بن الحسن ابن هبة الله بن عبد الله الشّافعي، المعروف بابن عساکر (ت: 571 ه)، تحقيق: محب الدّين أبي سعيد عمر بن غرامة العمروي، دار الفكر.

24. - التبيان، أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي، تحقیق وتصحيح: أحمد حبيب قصير العاملي، مطبعة النعمان، النجف، 1358 ه. 1965 م.

25. - التحرير والتنوير، المعروف بتفسير ابن عاشور، محمد الطاهر بن عاشور، مؤسّسة التاريخ، بيروت - لبنان، ط 1.

26. تذکرة الخواص، لسبط بن الجوزي الحنفي (ت: 654 ه)، تحقيق: الدكتور عامر النّجّار، الناشر: مكتبة الثّقافة الدّينيّة، الطّبعة الأولى ، 1429 ه - 2008 م.

27. - تفسير القرآن الحكيم المعروف بالمنار، محمد رشید رضا، ط 2، دار الفكر.

28. - تفسير القرآن العظيم لابن أبي حاتم، عبد الرحمن بن محمد ابن ادریس الرازي (ت: 327 ه)، تح: أسعد محمد الطيب، دار الفكر، بيروت - لبنان، 1424 ه - 2003 م.

29. - التفسير ومنهج التفاسير الحديثة للقرآن الكريم، الدكتور نجم الفحام، دار المدينة الفاضلة، ط 1.

30. - التوحيد، الصدوق (ت: 381 ه)، دار المعرفة، بيروت، 1387 ه.

31. - الجامع لأحكام القرآن، لأبي عبد الله محمد بن احمد، الأنصاري، القرطبي، تحقيق: الشيخ محمد بيومي ، أ / عبد الله المنشاوي، ط 2، مكتبة الإيمان، مصر، 2006 م.

32. - جامع الأصول من أحاديث الرسول، أبو السعادات، مبارك بن محمد بن الأثير الجزري (ت: 606 ه)، اشراف وتصحيح: عبد المجيد سليم، ومحمد حامد الفقي، مطبعة السنة المحمدية، القاهرة، 1949 م.

33. - جامع البيان عن تأویل آي القرآن، أبو جعفر محمد بن جرير الطبري، (ت: 310 ه)، قدَّم له: الشيخ خليل الميس، ضبط وتوثيق وتخریج: صدقي جميل العطَّار، دار الفكر، بیروت، 1425 ه - 1426 ه، 2005 م.

34. - الجامع الصّغير في أحاديث البشير النّذير، جلال الدّين عبد الرّحمن بن أبي بكر (ت:

ص: 193

911 ه)، دار الفکر، بیروت، لبنان، 1401 ه / 1981 م.

35. - حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، للحافظ أبي نعيم احمد بن عبد الله الأصفهاني، (ت: 430 ه)، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1409 ه - 1988 م.

36. - خصائص أمير المؤمنين، أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب، النّسائي (ت: 303 ه)، تحقيق: محمد هادي الأميني، مكتبة نينوى الحديثة، طهران، ایران.

37. - الدر المنثور في التفسير بالمأثور، الإمام عبد الرحمن جلال الدين السيوطي، ط 1، دار الفكر، بيروت، لبنان، 1403 ه - 1983 م.

38. - ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربی، محبّ الدّين أحمد بن عبد الله (ت: 694 ه)، مكتبة القدسی، دار الكتب المصريّة، 1356 ه.

39. - روح البیان، اسماعيل حقّي، البروسوي، (ت: 1137 ه)، دار الفكر، 1429 ه - 2008 م)، بيروت - لبنان.

40. - روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، لأبي الفضل شهاب الدين محمود الآلوسي البغدادي، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1420 ه - 1999 م.

41. - الرّياض النضرة في مناقب العشرة، ابو العباس، حمد بن عبد الله، محبّ الدّين الطّبري (ت: 694 ه)، دار الكتب العلميّة، الطبعة الثّانية، 2010 م.

42. - سنن ابن ماجة، الحافظ أبو عبد الله محمد بن یزید القزويني، ابن ماجة، (ت: 207 ۔ 275 ه)، حقَّق نصوصه، ورقَّم كتبه، وأبوابه، وأحاديثه وعلَّق عليه: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة.

43. - السيرة الحلبيِّة المسمّى إنسان العيون في سيرة الأمين المأمون، بهامشه السيرة النّبويّة والآثار المحمّديّة، أحمد زيني دحلان، المطبعة الأزهريّة، دار المعرفة، الطّبعة الثّالثة، 1351 ه - 1932 م.

44. - شرح الأخبار، تحقيق: محمد الحسيني الجلالي، مؤسّسة النّشر الإسلامي، قم، ط 2، 1414 ه.

45. - شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید، ابو حامد، عز الدين عبد الحميد بن هبة الله المدائني

ص: 194

(ت: 656 ه)، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، مطبعة البابي الحلبي، الطبعة الثانية، 1385 ه - 1965م.

46. - شواهد التّنزيل لقواعد التّفضيل، الحاكم الحسكاني، عبيد الله بن أحمد الحذاء الحنفي الّيسابوري (من أعلام القرن الخامس الهجري)، تحقيق وتعليق: محمد باقر المحمودي، مؤسّسة الطّبع والنّشر التابعة لوزارة الثّقافة والإرشاد الإسلامي الإيراني، مجمع إحياء الثّقافة الإسلاميّة، الطبعة الأولى، طهران، إيران، 1411 ه، 1990 م.

47. - صحيح التّرمذي، أبو عيسى محمد بن عيسى (ت: 279 ه)، بشرح: أبي بكر بن العربي، القاهرة، 1353 ه.

48. - صحیح مسلم، مسلم بن حجّاج النّيسابوري (ت: 261 ه)، دار الكتب، بيروت، 1977 م.

49. - الصّواعق المحرقة في الرّد على أهل البدع والزندقة، أبو العباس أحمد بن محمد بن علي، المعروف بابن حجر الهيتمي، تحقیق: مصطفى بن العدوي، الشّحات أحمد الطّحان، عادل شوشة، مكتبة فيّاض، المنصورة، مصر، الطبعة الأولى، 1429 ه / 2008 م.

50. - طبقات ابن سعد، الطبقات الکبری، تحقیق: ادورد سخاو لیدن، الطّبقات الکبری، دار صادر ، دار بیروت، بیروت، 1380 ه، 1960 م.

51. - عيون أخبار الرّضا، محمد بن علي بن بابویه، الصّدوق (ت: 381 ه)، المطبعة الحيدريّة، النّجف الأشرف، 1390 ه، 1970 م.

52. - فتح الملك العلي بصحّة حديث باب مدينة العلم علي، أحمد بن محمد بن الصديق الحسني المغربي، نزيل القاهرة (ت: 1380 ه)، تحقيق: الدكتور عماد سرور، طبعة الحيدريّة، طبعة المطبعة الاسلاميّة بالأزهر، الطبعة الأولى، 354 ه.

53. - فرائد السّمطين في فضائل المرتضى والبتول والسبطين، ابراهيم بن محمد بن المؤيد بن عبد الله بن علي الجويني الخرساني (ت: 722 ه)، تحقيق: محمد باقر المحمودي، مؤسّسة المحمودي للطباعة والنّشر، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، 1398 ه / 1978 م، 1400 ه / 1980 م.

ص: 195

54. - الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة، علي بن محمد بن أحمد، المعروف بابن الصّبّاغ المالكي المكّي (ت: 855 ه)، تحقيق: سامي الغريري، دار الحديث، الطبعة الأولى، قم، إيران، 1422 ه.

55. - فضائل الخمسة من الصّحاح السّتّة، مرتضى الحسيني الفيروزآبادي (ت: 1410 ه)، النّاشر: منشورات فيروز آبادي، قم، إيران.

56. - الكشاف عن حقائق التأويل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري الخوارزمي، تحقیق: خليل مأمون شيحا، ط 2، دار المعرفة، بیروت، لبنان، 1426 ه - 2005 م.

57. - كفاية الطالب في مناقب علي بن ابي طالب عليه السلام، محمد بن يوسف بن محمد الكنجي الشّافعي ( المقتول سنة 658 ه)، تحقيق: محمد هادي الأمين، النّاشر: دار إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام، الطبعة الثّالثة، 1404 ه.

58. - الكافي (الأصول)، ابو جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق، الكليني (ت: 329 ه)، دار الكتب الاسلاميّة، طهران، 1383 ه.

59. - كنوز الحقائق في حديث خير الخلائق، محمد بن عبد الؤوف بن تاج الدّين بن علي بن زین العابدین، المعروف بالمناوي الشّافعي، تحقیق: صلاح محمد عويضة، دار الكتب العلميّة، الطبعة الأولى، 1996 م.

60. - لسان العرب، ابو الفضل جمال الدين محمد بن مکرم ابن منظور الأفريقي المصري، (ت: 711 ه)، دار صادر، بيروت، (د.ت).

61. - لسان الميزان، ابو الفضل احمد بن علي بن محمد بن احمد بن حجر العسقلاني (ت: 852 ه)، مؤسّسة الأعلمي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، 1390 ه / 1971 م.

62. - مجمع البيان في تفسير القرآن، أمين الإسلام أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، تحقیق: لجنة من العلماء، قدَّم له: الإمام الأكبر السيد محسن الأمين العاملي، ط 2، مؤسَّسة الأعلمي، بيروت، لبنان، 1425 ه - 2005 م.

63. - مجمع الزّوائد، ابو الحسن نور الدين علي بن ابي بكر بن سليمان الهيثمي (ت: 807 ه

ص: 196

)، تحقیق: حسام الدين المقدسي، مكتبة القدسي، القاهرة، 1414 ه، 1994 م.

64. - المحكم والمتشابه بين مدرسة أهل البيت ومدرسة الصّحابة، الدكتور نجم الفحّام، لا يزال مخطوطاً في مكتبة المؤلّف.

65. - المستدرك على الصّحيحين، ابو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد، الحاكم النيسابوري (ت: 405 ه)، تحقيق: يوسف عبد الرحمن المرعشلي، در المعرفة، بيروت، لبنان، (د. ت) وطبعة: مكتبة ومطبعة النصر الحديثة، الرّياض.

66. - مسند أحمد، أحمد بن حنبل، وبهامشه منتخب کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال، طبع ونشر: دار الفكر العربي.

67. - مشكاة المصابیح، محمد بن عبدالله، الخطيب التّبريزي، تحقیق: محمد ناصر الدّين الألباني، الناشر: المكتب الاسلامي، الطبعة الثانية، 1399 ه، 1979 م.

68. - مصابيح السّنّة، ابو محمد الحسين بن مسعود البغوي الشّافعي (ت: 516 ه)، تحقيق:

ضحى الخطيب، دار الكتب العلميّة، 1998 م.

69. - مطالب السّؤول في مناقب آل الرّسول، کمال الدّين محمد بن طلحة نصيبي الشّافعي (ت: 652 ه)، تحقيق: ماجد بن العطيّة، مؤسسة البلاغ، الطبعة الأولى، بيروت، 1419 ه.

70 - المعجم الصّغير، ابو القاسم سلیمان بن احمد الطّبراني (ت: 360 ه)، دار الكتب العلميّة، الطبعة الأولى، بيروت، لبنان، (د.ت).

71. مفاتيح الغيب، الإمام فخر الدين محمد بن عمر بن الحسين بن الحسن ابن علي التميمي البكري الرازي الشافعي، ط 3، دار الكتب العلميَّة، بيروت، لبنان، 2009 م.

72. - مقتل الحسين، ابو المؤيد الموفّق بن احمد الخوارزمي (ت: 568 ه)، تحقیق ۔ محمد السّماوي، دار نور الهدى.

73. - مقدمة في أصول التفسير، ابن تيمية، تحقيق: عدنان زرزور، ط 2، مؤسَّسة الرسالة، 1393 ه - 1972 م.

74. - المناقب، الموفق بن احمد بن محمد المكّي الخوارزمي (ت: 568 ه)، تحقيق: الشّيخ مالك المحمودي، مؤسّسة النّشر الاسلامي، قم.

ص: 197

75. - مناقب امير المؤمنين علي بن ابي طالب، ابو الحسن علي بن محمد الواسطي، المعروف بابن المغازلي (ت: 483 ه)، دار مكتبة الحياة، الطّبعة الأولى، بيروت، لبنان، 1400 ه، 1980 م.

76. - منتخب کنز العمال، علاء الدّين علي بن حسام الدّين، الشّهير بالمتّقي الهندي (ت: 957 ه)، طُبع بهامش مسند الامام احمد، دار الفکر بیروت.

77. - مواهب الرحمن، عبد الأعلى السبزواري، ط 1، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 1424 ه - 2003 م.

78. - میزان الاعتدال في نقد الرّجال، شمس الدين محمد بن احمد بن عثمان بن قایماز الذهبي، (ت: 748 ه)، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار المعرفة، بيروت.

79. - الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بیروت، 1427 ه - 2006 م.

80 - نظم درر السّمطين في فضائل المصطفى والمرتضى والبتول والسّبطين، جمال الدّين محمد بن يوسف بن الحسن بن محمد الزرندي الحنفي المدني، تحقيق: السيد علي عاشور، دار إحياء التّراث العربي، الطبعة الأولى، 2004 م.

81. - النكت والعيون، للماوردي، أبو الحسن محمد بن حبيب الماوردي البصري، (ت: 450 ه)، راجعه وعلّق عليه: عبد المقصود بن عبد الرحيم، مؤسّسة الكتب الثّقافيّة، ط 2، 1428 ه - 2007 م، بيروت - لبنان.

82 - نور الابصار في مناقب آل بيت النّبي المختار، مؤمن بن حسن مؤمن الشّبلنجي، تحقیق: الدكتور محمد سید سلطان والاستاذ عبد المنعم علي سليمان، دار جوامع الكلم، القاهرة.

83. - ينابيع المودّة لذوي القربی، سلیمان بن ابراهيم الحنفي القندوزي (ت: 1294 ه / 1877 م)، تحقیق: سيّد علي جمال أشرف الحسيني، دار الأسوة، إيران، 1416 ه - 1996 م.

84. - الیواقیت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، لعبد الوهاب الشّعراني، دار إحياء التّراث العربي.

ص: 198

الاستعارة أداة للمسكوت عنه في نهج البلاغة فن صناعة الخطاب

اشارة

أ. د. نجاح فاهم العبيدي

م.م. فراس تركي عبد العزيز

جامعة كربلاء - كلية التربية للعلوم الإنسانية

ص: 199

ص: 200

المقدمة

توجّت الاستعارة الدراسات الدّلالية؛ لأنها الصورة التي تتصدر بنية الكلام الانساني بشكل كبير؛ كونها ألمع الصور البيانية نظراٌ لقيمتها التعبيرية المكثفة وباعتبارها موضوع تفكير فلسفي ولغوي وجمالي ونفسي.

استطاع المسكوت عنه الولوج من خلالها في بنية الخطاب، جاعلاً إياها أداة من أدواته الفاعلة والمؤثر، لما تمتلك من ميزات، تجعل القارئ أو المستمع يحسُّ بالمعنى أكمل إحساس، وهذا العمق الدلالي يختلط مع مظاهر أخرى منها ((أنها أسحر سحراً وأملأ بكل ما يملأ صدراً، ويمتع عقلاً، ويؤنس نفساً ويؤقر أنساً، وأهدى إلى أن يهدي إليك عذارى، قد تخير لها الجمال، وعني به الكمال))(1).

واذا كان المسكوت عنه محورَ ارتکازٍ تقوم عليه علاقة النص بالقارىء من خلال حث المتلقي على استشكاف الدلالة المخبؤة داخل النص(2). فانه والوصف هذا يعد بؤرةً وبوتقةً تنصهر فيها كل حيثيات النص؛ لكنه والوصف هذا - المسكوت عنه - قابل ايضاً لأن يكون هو الآخر محور ارتکاز؛ للكشف عنه في عملية بحث عن صيَغِهِ التي جاء بها، فهي الأخرى نشاط دلالي تسهم في تقليص شقة البحث عن الهدف المقصود من خلال ما تعارف عليه من عملها، والاستعارة هي احدى صيغ المسكوت عنه.

سنحاول في هذا البحث بیان أداة المسكوت عنه الاستعارة في نهج البلاغة، من خلال التنظير لها، ومن ثم التطبيق على خطاب نهج البلاغة لاستكشاف المسكوت عنه وبیان دلالته.

وقبل الحديث عن أهمية الاستعارة وميزاتها، لابدّ لنا من أن نتفيّأ قليلاً بظلال تعريفها اللغوي والاصطلاحيّ.

ص: 201

أولاً: الاستعارة لغةً

الاستعارة في اللغة من العارية أي نقل الشيء من شخص إلى آخر، حتى تصبح تلك العارية من خصائص المعار إليه، والعارية منسوبة إلى العارة، وهو اسم من الإعارة. تقول أعرته الشيءَ أعيره إعارة. ويقال استعرت منه عارية فأعارنيها.(3)

جاء في مختار الصحاح مادة (ع و ر): واستعار ثوباً فأعاره إياه. واعتوروا الشيء تداولوه فيما بينهم، وكذا تعوّروه تعوّراً وتعاوراً(4).

واشتقاقها من عارَ الفرسُ اذا ذهب؛ لأن العاريةَ تذهب من جهة المعير الى المستعيرِ لها من الأعيان، وهكذا حالُها اذا كانت مستعملة في الأمور المجازية.

ثانياً: الاستعارة اصطلاحاً

تناول القدامى مفهوم الاستعارة وكان لهم الفضل في تأصيلها وتأسيسها. ولعل نظرة أرسطو للاستعارة شكّلت في مراحل تاريخية متعاقبة قاعدة لعديد من الدراسات القديمة والحديثة، على حد سواء، فقد عرفها على أنها: ((إعطاء الشيء اسماً يعود على شيء آخر بالانتقال من النوع إلى الجنس ومن الجنس إلى النوع ومن النوع إلى النوع والنقل بالتناسب)).(5) ولا يخفى على أي دارس بأن الجاحظ من أوائل من صرف وجهه إليها إذ عرفها ب (تسمية الشيء باسم غيره إذا قام مقامه)(6) وعرفها المبرّد بأنها: ((نقل اللفظ من معنى إلى معنى)).(7)

ونشير هنا إلى أن ابن قتيبة زاد على تعريفهما ذكر العلاقة بين المعنيين بالإشارة إلى علاقتي السببية أو المشابهة. وقد حذا الرّماني حذو سابقيه فعرفها بقوله: الاستعارة تعليق العبارة على غير ما وضعت له في أصل اللغة على جهة النقل للإبانة. (8) كما أنه رأى في الاستعارة بنية متكاملة، فإظهار الدلالة وإبانتها وحسن

ص: 202

إفهام المعاني هي الهمّ الأساسي بين هموم الرماني.(9)

وعرفت الاستعارة بالدراسات الحديثة بأنها ((الاستعارة الملكة التي نحيا بها)). (10) فالمتكلم غالباً لا يستطيع أن يصوغ جملًا موثرةً دون اللجوء إلى الاستعارة. فقد تكون الاستعارة الجمرة التي تضيء وتؤلم أحياناً لتوقظ فينا ما كان غافياً.

ومن خلال تحديد مفهوم النص بوصفه إنتاجية للخطاب. طرحت جوليا کریستیفا مسألة الاستعارة، إذ رأته ((لا يكتفي بتصوير الواقع أو الدلالة عليه وإنما يشارك في تحريکه وتحويله)).(11)

وما نميلُ إليه تعريف أبي الحسن محمد بن أحمد بن طباطبا المشهور بالعلويّ (250 ه.) فيما ذهب إليه في تعريفه المختار من أن الاستعارة ((تصيرك الشيء الشيء وليس به، وجعلك للشيء وليس له بحيث لا يلحظ فيه معنى التشبيه صورة ولاحكماً)). (12)

ثالثاً: أهمية الاستعارة

تشكل الاستعارة أساساً في المقاربات الدلالية والجمالية، التي تعنى بالإبداع، وهدفها صياغة قوانين عامة تمثل ما يطرد من أساليب وصور تتضامن لتمنح النص جمالية وخصوصية، كما لو أنها صورة مستجدة لها استقلاليتها وحريتها عند المبدع فتعطينا باليسير من اللفظ الكثير من المعاني وهي ((التي تعطي قبل كل شيء الجلاء والمتعة جواً غريباً)).(13) وفي طياتها تتضمن المسكوت عنه، الذي يجعل الخطاب حيوياً.

أما فائدة الاستعارة عند عبد القاهر الجرجاني فتتلخص في إبراز ((الفكرة واضحة جلية، وإظهار الصورة في مظهر حسن تعشقهُ النفوس، وتميل إليه

ص: 203

القلوب، وتهتزُّ له العواطف، وتتغذى به الأسماع))(14) وقد عدّها أهم أركان الإعجاز القرآني.

وفي ظل هذا المفهوم يغدو النص مجالاً لمارسات دالة، وهو ((ما يجعل الاستعارة عنصراً رمزياً، يشتغل داخل النص، وينبثقُ ضمن مجموعة من الأطر والمفاهيم الاجتماعية واللسانية)) (15).

واكتفى جونسون بالتعرض لكثير من جوانب النظرية الغربية للأخلاق وأبرز دور الاستعارة في تشكيل المفاهيم الأخلاقية: ((حيث تسقط قوانين الطبيعة على قوانين الأخلاق)).(16)

ويمكن القول إنّ إضاءة الاستعارة وإشعاع دلالتها، لا ينكشفان إلا لمن يعرف ويحسّ بأنها ليست من هذا المحيط الذي حلّت به وعند إدراك هذه الحالة الدلالية يتحقق عنصر المفاجأة والمباغتة، مما یکسرُ الألفة والتتابع العادي لسلسلة الدلالات في السياق. (17)

وهذا الأمر يحتاج إلى ذائقة لغوية وفهم واسع لقيمة الاستعارة في الخطاب. وامكانية جعلها أداة للمسكوت عنه.

ويعتمد التحليل الذي يقترحه سبربر وولسن للاستعارة على فكرة مفادها، أن المخَاطَبَ المؤَوِّلَ لقول استعاري سيحصل على عدد من الاستلزامات الصادقة. (18) ولابد من الإشارة إلى أن هناك فرقاً شاسعاً فاصلًا بين مقاربة (سيرل) لوقائع اللغة ومقاربة (سبربر وولسن) فسيرل يدافع عن فكرة مبدأ قابلية الإبانة الذي يقرّ بإمكان تمثيل أية فكرة بقول حرفي. وعلى عكس ذلك تدافع نظرية المناسبة عن توجه يقرّ بوجود بعض الأفكار لا يمكن التعبير عنها إلا بأقوال غير حرفية. وهنا يكمنُ كل الفرق بين النظرية التواضعية مثل نظرية (سيرل) والنظرية

ص: 204

(الاستدلالية) مثل نظرية سبربر وولسن. (19)

لقد اجمع المشتغلون على الاستعارة من القدماء على أنها تشبیه حذف احد طرفيه، ويحضر الطرف الآخر. يغيب كلياً في الاستعارة التي أطلقوا عليها اسم التصريحية، التي عرفوها بأنها استعارة يصرح فيها بالمستعار منه، بينما يحذف المستعار له، كما تبين البنيات المشهورة لديهم.

أ. رأيتُ أسداً

ب. رنت لنا ظبية

ج. كلمتُ بحراً

فالمستعار منه حاضر في هذه البنيات، وهو على التوالي، الأسد والظبية والبحر. أما المستعار له فمتوارٍ محجوب، نهتدي إليه بواسطة بعض القرائن المقامية. وعلى التوالي الرجل الشجاع والمرأة الجميلة والعالم.

ويغيب المستعار منه في الاستعارة التي أطلقوا عليها اسم المكنية، ويبقى على أحد لوازمه التي تعيّنه. اما المستعار له فيصرح به كلياً، كما في الآية القرآنية ((واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)) (20) التي صرح فيها بالمستعار له الذي هو الابن، بينما حذف المستعار منه الذي هو الطائر المستكين، وأبقى على أحد لوازمه الذي هو الجناح المخفوض.(21)

مما تقدم يمكن القول إنّ الاستعارة هي عبارة عن عملية ذهنية، تقوم على التقريب بين موضوعين أو وضعين، وذلك بالنظر إلى أحدهما من خلال الآخر. ومن خلالها يمكن النظر إلى المسكوت عنه والوصول إليه من خلال النظر بالمصرح به والبنية الظاهرة للخطاب، لمعرفة مقاصد المتكلم من كلامه.

ص: 205

بعد العرض النظري للإستعارة، نحاول الإجابة عن التساؤل: كيف طبق الإمام علي (عليه السلام) المسكوت عنه بوساطة الاستعارة؟ وكيف قدّمها للمتلقي؟

ونجيب عن هذا التساؤل بالنماذج التطبيقية من نهج البلاغة.

النموذج الاول

تحدّث الامام علي (عليه السلام) عمّن أطاعوا الشيطان وسلكوا مسالکه قائلاً:

«في فتن داستهم بأخفافها، ووطئتهم بأظلافها، وقامت على سنابکها»(22)

المستعار له في هذا النص هو (الفتنة)، والمستعار منه (الجمل والثور)، ونوع الاستعارة (مكنية) لأنه لم يصرح بالمستعار منه في هذا الخطاب، وأنما ذكر لازم من لوازمه، حين أسند الفعلين: (داست) و(وطئت) إلى الفتن، وعدّى الأوّل منهما إلى الأخفاف بوساطة حرف الجر، والثاني إلى الأظلاف، غیّب الهويّة الموضوعيّة المجرّدة لتلك الفتن، وأكسبها هويتين فنيتين هما: هويّة الجمل التي تبدّت من خلال الأخفاف، وهويّة الثور التي ظهرت من خلال الأظلاف.

وهاتان الهويّتان البهيميّتان تقدّمان الفتنة من خلال المسكوت عنه قوّة هائلة متمكنةً من السحق، غير مدركة مَن تسحق، ولا ما ينجم عن هذا السحق. وهذا أمر شديد البشاعة بالنسبة إلى عربيٍّ تلك المرحلة الحضارية. وحين يتصوّر الخائضون غمار الفتنة أنهم بعض وقودها لابد من أن يأخذ الرجل قلوبهم فيرعووا.

والاستعارة هي أكثر فائدة من التشبيه؛ لقدرتها على الإيحاء وإثارة أكبر قدر ممكن من التداعيات في ذهن المتلقي (23).

يعني ذلك أن أداة المسكوت عنه (الاستعارة العلويّة) لم تقم بالوظيفة

ص: 206

التعويضية وحدها، وظيفة الكشف عن خصوصيّة رؤية الإمام (عليه السلام) إلى الفتنة، ولكنّها قامت بوظيفة ثانية، هي الوظيفة الإقناعيّة.

ولم ترتكز العملية الإقناعية، عبر أداة المسكوت عنه، على المنطق السببي، ولكن على إخراج المتلقي من واقعة الموضوعي والدخول به إلى عالم فني تتبدّی الفتنة فيه جملاً وثوراً. ويصبح المتلقي معه جزءاً من آليات اشتغال هذا العالم المخيف الذي يدخل الخوف من الفتنة قلبه فيبتعد عنها.

كان دفع الفتنة همّاً محورياً عند الامام عليّ (عليه السلام)، خصوصاً في زمن خلافته، فالفتنة التي شهدت ولادتها باكراً في الحياة الإسلامية وكانت على شكل جنين باتت المعضلة التي رافقت عليّاً (عيه السلام) منذ اليوم الأوّل لتوليه الخلافة وحتى استشهاده (عليه السلام). والدنيا كانت الفاعل الأساسيّ الذي أمدّ الفتنة بكل ما تحتاج إليه من وقود، كيف لا، وقد قُيّض لها رجال أجادوا استثمار الضعف البشري حيالها، واستخدموها مطيّة لمآربهم. ما دعا الامام علي (عليه السلام) استعمال المسكوت عنه في خطابه هذا من خلال أداة (الاستعارة) لبيان هول الفتنة وأثارها السلبية العظيمة.

النموذج الثاني

قال الامام علي عليه السلام: «أَلاَ وَإِنَّ اَلدُّنْيَا قَدْ وَلَّتْ حَذَّاءَ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلاَّ صُبَابَةٌ كَصُبَابَةِ اَلْإِنَاءِ اِصْطَبَّهَا صَابُّهَا أَلاَ وَإِنَّ اَلْآخِرَةَ قَدْ أَقْبَلَتْ وَلِكُلٍّ مِنْهُمَا بَنُونَ فَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ اَلْآخِرَةِ وَلاَ تَكُونُوا مِنْ أَبْنَاءِ اَلدُّنْيَا فإنّ كلّ ولد سيلحق بأبيه (بأمّه) يوم القيمة»(24).

اطلاق الصبابة استعارة لبقيّتها القليلة، والقلّة هي الجامع بين المستعار منه

ص: 207

(الصُبَابَةٌ) والمستعار له (الدنيا)، والصبابة بقية الماء في الإناء واصطبها صابها مثل قولنا أبقاها مبقيها أو ترکها تارکها(25). فلو ارتشف الظمآن البقية الباقية من الماء لم يرتو، وكذلك عمر الانسان وان طال وانتهب فيه جميع الملذات فما هو بشيء إلا اذا كان وسيلة للنجاة في يوم تشخص فيه الأبصار، وتكشف فيه الأسرار.

قال الرضي (رحمه الله): أقول: الحذاء، السريعة (26). للدلالة على سرعة زوال الدّنيا وفنائها كي يتنبّه الغافل عن نوم الغفلة ويعرف عدم قابليتها لأن يطال الأمل فيها.

لقد كان الواقع الاجتماعي في زمن الامام يبعد بين الانسان وبين هذه الواقعية وينأى به عنها. وهذا النحو من العمل للدنيا يسبب التفسخ الاجتماعي، فهو لا يقتصر بآثاره الضارة على الفرد وحده، وإنما يمتد بهذه الآثار إلى المجتمع.

تعامل الامام (عليه السلام) مع الدنيا بمثل ما تعامل به مع الفتنة. وإذا ما قُدِّمت الفتنة بشاعة تدفع للتخلّص منها، فإنّ جهداً أشدّ قد بُذل لتخليص الناس من شرور الدنيا. وهو (عليه السلام) عندما يتحدّث عن الدنيا، فإنّه غالباً ما يبدأ حديثه بحرف الاستفتاح (ألا)؛ لما فيه من طاقة تنبيهيّة لافتة تهيّئ المتلقي لنقله من عالم إلى عالم.

ولا يكتمل خروج المتلقي من عالمه الواقعي، مع هذه الاستقلالية اللافتة، إلاّ مع الهويّة الجديدة التي صارت إليها الدنيا بفعل الاستعارة، إذ باتت الدنيا، في أصلها، مع هذه الهويّة ماءً في إناء. والإناء مهما كان كبيراً يظلّ في نظر المتلقي محدود السعة، فكيف إذا لم يكن قد بقي فيه إلا صبابة، بقيّة عافها صاحبها؛ لأنها لا تبلّ ظمأ.

إن هويّة كهذه لا تمكن المتلقي من امتلاك هذه الدنيا وفاق خصوصيّة

ص: 208

رؤيته إليها فحسب، ولكنها تدخل في قناعاته هزال قيمة الدنيا الغائبة ولاسيما أنّ انحسارها مترافق مع إقبال ما يضادّها، نعني به الآخرة. «ألا وإنّ الآخرة قد أقبلت»(27) إقبالًا يجعلها تشكل مع الدنيا ثنائية تتعالى فيه الآخرة بشكل حاسم، وذلك وسط دعوة للانتماء إليها، إذ يوجد «لكلّ منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا»، وأهميّة الانتماء في الاستعارة العلويّة عائدة إلى أنه انتماء اختياري غير مفروض. وإذا كان الانتماء إلى هذه الاسرة أو تلك انتماء قدرياً لا قبل للإنسان بتغييره، فإننا مع علي (عليه السلام) أمام انتماء إسلامي يحدّد المرء موقعه فيه.

لقد أدخلت أداة المسكوت عنه (الاستعارة) المتلقي عالماً رؤيوياً تسود الأسريّةَ فيه قيمٌ جديدة يذهب معها خيال كلّ متلقّ بالقدر و بالاتجاه الذي تتيحه له رؤيته الخاصة. إنه شريك بقوّة الاستعارة في إنتاج ذلك العالم، وفي الانتماء إليه. لذلك هي مُنتج ثقافي واجتماعي في تمتين النص لتحويله الى خطاب.

وفي موضع ثانٍ من النهج يقول الامام (عليه السلام) (ازهدوا في هذه الدنيا التي لم يتمتع بها أحد كان قبلكم ولا تبقى لاحد من بعدكم، سبيلكم فيها سبيل الماضين، قد تصرمت وآذنت بانقضاء، وتنكر معروفها فهي تخبر أهلها بالفناء، وسكانها بالموت، وقد أمر منها ما كان حلوا، وکدر منها ماكان صفوا، فلم تبق منها الاسملة كسملة الادواة، وجرعة كجرعة الاناء لو تمززها العطشان) (28)

يرسل الإمام (عليه السلام) في هذا الخطاب سلسلة من الاستعارات التي تهيّء المتلقي إلى الانقطاع الكليّ عن عالمه السببي من مثل: «إنّ الدنيا قد تصرّمت، وأذنت بانقضاء، وتنكر معروفها، وأدبرت حذّاء». تأتي بعدها هويّة السملة التي أُسبغت على الدنيا، في توازٍ مع هويّة الصبابة، لتصل بالمتلقي إلى ذلك الانقطاع

ص: 209

الكليّ، إذ «لم يبق فيها إلا سملة كسملة الأدارة، أو جرعة كجرعة المَقلة، لو تمزّزها الصديان لم ينقع». وإذا كانت السَّمَلة، الماء القليل يبقى في أَسفل الإِناء (29)، وهي هويّة فنية للدنيا تبرز مدى ضآلتها، فإن علياً (عليه السلام) قد عضدها بأداتين تسهمان في إظهار شحّ تلك الضآلة.

الأولى هي الأداوة، بما هي إناء ماء التطهّر، تمثل السملة فيه، ما علق في قعره من رطوبة، علامةً على ما لا يمكن الإفادة منه. والثانية فيه هي المَقلة، تلك الحصاة التي تقاس بها الجرعة المحدّدة للفرد حين تقلّ المياه.

وإذا كانت الجرعة في ظروف شح الماء هي الدنيا، فإنّ قوله (عليه السلام): «لو تمزّزها الصديان لم ينقع» علامة شديدة الإيحاء بخروج الدنيا من دائرة المفيد. والعربيّ الذي تشكّلت ذاكرته التاريخية على قاعدة الماء تبدو الدنيا أمام ناظريه هوانا فوق هوان، کريهة الوجه يذهب كلّ متلقّ في تصوّر بشاعتها مذهباً تمكّنه منه خصوصيّة رؤيته إلى العالم. وإذا كانت الاستعارة العلويّة الخاصّة بالدنيا استعارة وظيفيّة تهوّن أمر الدنيا، فإن هذا التهوين تهوین وظیفيّ أيضاً، يحاول تسفيه الفتنة من خلال تسفيه الأساس الذي قامت عليه وهو الدنيا بكل ما فيها من دنو واضمحلال وزوال.

النموذج الثالث

أشار عليه السلام بكلامه إلى المنافقين الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اللهّ، وغلب على حواسهم، وتصرّف في مشاعرهم فقال: (اِتَّخَذُوا اَلشَّيْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلاَكاً وَاِتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً فَبَاضَ وَفَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ وَدَبَّ وَدَرَجَ فِي

حُجُورِهِمْ فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ وَنَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَكِبَ بِهِمُ اَلزَّلَلَ وَزَيَّنَ لَهُمُ اَلْخَطَلَ)(30).

ص: 210

الجملة الأولى فيها كناية، حيث تحدد طبيعة العلاقة بين (أهل النفاق والفتن) و(الشيطان)، تلك العلاقة التي كان الشيطان قوام امورهم ونظام حالهم فجعلوه وليا لهم وسلطانا عليهم متصرّفا فيهم بالأمر والنّهي کما قال سبحانه: «إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ» (31) وقال تعالى: «إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ» (32). وهذه الكناية تمهد للاستعارة في الجملة التي بعدها - وهو ما نسميه تضافر أدوات المسكوت عنه - وكأن هناك تدرج لنقل المتلقي الى عالم أخر، من عالمه الى عالم رؤيويّ يصنعه الامام (عليه السلام)، مستهدفا الابلاغ والتأثير بالمتلقي في آن واحد.

وأمّا الجملة الثانية، فقد استعمل فيها الاستعارة، في كلمة (أَشْرَاكاً) جمعا لشَرَك، تخلع فيه الاستعارة عن الشيطان، من جهة أولى، هويته الحقيقية مسبغة عليه هويّة الصياد وما تقتضيه مهنة الصيد من مراوغة واحتيال، وتجرّد أهل النفاق والفتن، من جهة ثانية، من هويتهم الآدميّة، منحدرة بهم نحو التشييء عبر هويّة الأشراك.

فإنّه لمّا كان فائدة الشّرك اصطياد مایراد صيده وكان هؤلاء القوم بحسب ملك الشّيطان لآرائهم وتصرّفه فيهم على حسب حكمه أسباباً لدعوة الخلق إلى مخالفة الحقّ، ومنابذة إمام زمانهم وخليفة اللهّ في أرضه، اشبهوا الأشراك لاصطيادهم الخلق بألسنتهم وأموالهم وجذبهم إلى الباطل بالأسباب الباطلة التي ألقاها إليهم الشّيطان ونطق بها على ألسنتهم فاستعار لهم لفظ الاشراك.

وحين تلين عريكة أهل الفتنة للشيطان (الصیّاد)، تدخل الاستعارة طوراً جديداً، فيحدث تحوّل في هويّتي كلّ من الشيطان وأهل الفتنة. يصير الشيطان أنثي الطير المشؤومة المتئمة، ويصير صدر أهل النفاق والفتن خربة تأوي إليها

ص: 211

البوم والغربان. وهذه صورة من أبشع صور حضور الشيطان. هذا الحضور الذي يمثّل المكوّن المحوري بين مكوّنات بنية النفاق الفتن. وحين يصير الشيطان جزءاً من تلك البنية تتبدى خطورتها أمام ناظري المتلقي فتكون الحجة عليهم دامغة.

والشيطان قوام الباطل ومخالفة الحق، فقد اتخذهم الشيطان لنفسه شرکاء في إضلال الخلق وإغوائهم، وحبائل صيد الغافلين الجاهلين. (فیاض وفرّخ في صدورهم، ودب ودرج في حجورهم)(33). ذکر عليه السلام مقدار تصرف الشيطان في نفوسهم وقلوبهم وعقولهم، فصّور الشيطان بالطائر فان الطيور إذا باضت في مكان أقامت في ذلك المكان، ومكثت اياما حتى يخرج إفراخها، فاذا خرجت أفراخها لم تزل تجول في تلك النواحي مع أفراخها، فكذلك الشيطان باض في صدورهم أي لازم قلوبهم بالقاء الوساوس، فبقيت تلك الوساوس في قلوبهم حتى قويت، ثم أمرهم بتربية تلك الأفراخ، فكما أنّ الأم تضع طفلها في حجرها وتربّیه كذلك المنافقون كانوا لا يفارقون الشيطان ولا يفارقهم.

(فنظر بأعينهم ونطق بألسنتهم )(34) القلب هو الملك المتصرف في البدن، وله الرئاسة التامة على جميع الأعضاء والجوارح والمشاعر الظاهرة والباطنة، ولما صارت تلك القلوب من مستعمرات الشيطان صارت الأعضاء والجوارح تحت تصرفه وعند إرادته، ولهذا كانوا ينظرون إلى ما يريد الشيطان، ويتكلمون بما يحب الشيطان ولما صار الأمر هكذا (ركب بهم الزلل، وزين لهم الخطل) أرشدهم إلى الخطأ وزين لهم المعاصي والذنوب والعقائد الباطلة والمذاهب الفاسدة.

ص: 212

النموذج الرابع

قال عليه السلام: ((اِعْلَمُوا عِبَادَ اَللِّهَ أَنَّ اَلْمُؤْمِنَ لاَ يُمْسِيِ وَلاَ يُصْبِحُ إِلاَّ وَنَفْسُهُ ظَنُونٌ عِنْدَهُ فَلاَ يَزَالُ زَارِياً عَلَيْهَا وَمُسْتَزِيداً لَهَا فَكُونُوا كَالسَّابِقِينَ قَبْلَكُمْ وَاَلْمَاضِینَ أَمَامَكُمْ قَوَّضُوا مِنَ اَلدُّنْيَا تَقْوِيضَ اَلرَّاحِلِ وَطَوَوْهَا طَيَّ اَلْمَنَازِلِ))(35)

يشير (عليه السلام) الى أن نفس المؤمن ظنون عنده، والظنون البئر التي لا يدري أ فيها ماء أم لا فالمؤمن لا يصبح ولا يمسي إلا وهو على حذر من نفسه معتقدا فيها التقصير والتضجيع في الطاعة غير قاطع على صلاحها وسلامة عاقبتها. وزاريا عليها عائبا زريت عليه عبت. ثم أمرهم بالتأسي بمن كان قبلهم وهم الذين قوضوا من الدنيا خيامهم أي نقضوها وطووا أيام العمر کما یطوي المسافر منازل طريقه(36).

وكلامه عليه السلام «کونوا كالسابقين قبلكم، والماضين أمامكم». فيه إشارة واضحة إلى جيل صالح تقضّى زمانه. ورجال هذا الجيل «قوّضوا من الدنيا تقويض الراحل، وطوَوْها طيّ المنازل» والاستعارة في هذا الخطاب بليغة، فاستحضار الخيام منزلاً استحضارٌ لفكرة الرحيل بقوّة. فبيوت الطين والحجارة بيوت استقرار يصحّ أن تطلق عليها اللغة العربية كلمة (مساکن)، أما الخيام فبيوت قلق مستمرّ ورحيل حاضر باستمرار، يصحّ أن تطلق عليها اللغة كلمة (منازل) الكلمة عينها التي استخدمها الامام علي (عليه السلام) في استعارته. ويوحي هذا إيحاء شديداً بقلق رجال الآخرة في دنياهم. والتقويض منها داراً، وطيّها طيّ المنازل إشارة إلى تفاهتها في نظرهم، وضألتها في أنفسهم، وإلى استعدادهم للقيام بكلّ ما يؤمّن لهم آخرة مُطَمْئنة. ويعني كلّ ذلك أنهم أصحاب قيم إنسانيّة سامية محصّنون من الانزلاق في مهاوي الدنيا وفتنتها.

ص: 213

ومن خلال الاستعارة العلويّة تتضح صورتهم بأنهم المؤمنون الزاهدون في الدّنيا والرّاغبون في الآخرة، أنهم قطعوا علائق الدّنيا وارتحلوا إلى الآخرة كما أنّ الرّاحل إذا أراد الارتحال يقوّض متاعه، وينقض خيمته، ويهدم بناءه، طووا أيام الدّنيا ومدّة عمرهم كما يطوى المسافر منازل طريقه.

تكمن الاستعارة في التعبير عن شعور یرید المرسِل أن يفرض فيه المشاركة على المتلقي لضمان استجابته الكاملة(37). وفي هذا الخطاب مسكوت عنه نفذ من خلال الاستعارة، وهو عتابه (للمخاطَبين) ما لكم تلهثون وراء الدنيا، متخذيها مساكن دائمة، وحقيقتها زائلة (كالمنازل) التي تطوى بعد مدة وجيزة، وتارکین الآخرة وهي المسكن الدائم للإنسان الذي فيه سعادته، كما أن في هذا الخطاب مسكوت عنه آخر يمكن الوصول اليه بعد التمعن فيه، وهو ان مَنْ حول الامام (عليه السلام)، هم من أولاد الدنيا (بمصطلح الامام) الذين انغروا بها، وان أولاد الآخرة قليلون، مما تقدم يتضح أن وظيفة الحجاج بإلقاء الحجة على الآخرين ظاهرة، وتبرئة النفس أمام التاريخ واضحة. لذا فأن المسكوت عنه في هذا الخطاب هو أبلغ من التصريح.

النموذج الخامس

قال (علية السلام): ((أفضل (أَمنن) (38) على من شئت تكن أميره واستغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره))(39)

ثنائية (الأمير - الأسير) مفاهیم حربیه استعيرت الى المجال الاخلاقي. فالأمير يشير الى حاكم البلاد، ويشير أيضاً الى مفهوم عسکري هو قائد الجند، والأسير هو الخاسر في الحرب وألقي عليه القبض، ومن خلال السياق اللغوي فأن كلمة (الأمير) تدل على الامير العسكري، لان مقابلها هو الأسير.

ص: 214

واستعمال الاستعارة العلوية لثنائية (الأمير / الاسیر) تشير الى مجتمع طبقي بين قمة الهرم، وهو (الأمير) وأدناه هو (الأسير).

ان مدلول الامير هو العطاء: لأنه الاعلى في الطبقات الاجتماعية، ومدلول الاسير هو الحاجة لأنه مقيد بالأغلال. والاستعارة العلوية لثنائية (الأمير / الاسير) من المجال العسكري الى المجال المدني يكشف عن مسكوت عنه يشير لصفة المجتمع المدني الذي عاصره الامام (علية السلام)، فهو مجتمع صراعي يعيش الحرب حتى في أوقات السلم، كما انها محاولة للتخفيف من قسوة وغلظة المصطلحات الزائدة. فبدلاً ان یکون الأسير مقيداً في السجون سيكون مقيداً بشكل رمزي بالحاجة إلى غيره وبدلاً من قسوة الأمير على رعاياه، سيكون أميراً سلوكياً بكثرة عطائه وسخائه.

ولعل المراد من هذا الخطاب موضوع اخلاقي، من خلال الاستغناء عما يشين بشخصية الانسان، أو يعرضه لهدر الكرامة (بيع ماء الوجه) کالاقتراض من لئيم أو انتظار المساعدة لغرض المساومة.

ص: 215

الخاتمة

الحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وبرحمته تنزل البركات والصلاة على نبيه وآله وصحبه، ومن سار على طريقهم إلى يوم الدين.

أمَّا بعدُ...

إننا نعتقدُ بأن الكلام هو جزءُ من ذات الانسان، استنادا لقول الامام علي (عليه السلام): (تَكَلَّمُوا تُعْرَفُوا فَإِنَّ اَلْمَرْءَ مَحْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ)(40). لذا نعتقد أن نهج البلاغة هو جزء من ذات أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، وأن تقدیس واحترام نهج البلاغة هو تقدیس واحترام لذات الإمام (عليه السلام).

لقد عشنا في البحث، نرفلُ من عبق كلمات أَمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، محاولين في ذلك تفحص خطاباته من خلال الاستعارة كأداة للمسكوت عنه، لنقفَ على أبرز میزاتها، ومن تفحصنا خرجنا بثمراتٍ طیّباتٍ، يمكنُ إجمال أبرزها في نقاطٍ عدة هي:

1. إن للمسكوت عنه وظائف مهمة يؤديها منها وظيفة التحريض، أو الوظيفة الأمنية، أو مهاجمة فكرة سائدة، أو تغيير صورة المخاطب في الاذهان، أو المبالغة والإيجاز، او غيرها من الامور.

2. للمسكوت عنه فوائد جمة، منها وظيفة إغناء النصوص، وتصيرها الى نصوص ديناميكية لها القدرة على التواصل في جميع الاوقات وتحت تصورات شتى، ومن وجهة نظر البحث، ان بقاء نصوص نهج البلاغة نضرة الى اليوم كونها تمتلك خاصية التقلب في الفهم من خلال تعدد مستويات القراءة ولقدرتها على الصمود وهي تقرأ في مستوى افقی وعمودي في الوقت نفسه.

ص: 216

3. يمكن وصف المسكوت عنه بأنه ممارسة نصية دلالية جمالية، دلالية لأسباب دينية وسياسية وعسكرية وأمنية وأخلاقية وحضارية، بهدف تشکیل خطاب يتناسب ومقتضيات المرحلة وما بعده ويلغي عبر فعالية التجاوز والترك نقاط الخلاف، فيكون الاضمار في بعده الموضوعي، وجمالية لأنها تهب النص رشاقته ونشاطه في التخطي السريع الى المتلقين واشراكهم عند ذاك في عملية التلقي.

4. يتيح المسكوت عنه انفتاح النص للاتساع في المعنى مما يجعل نصوص نهج البلاغة متجددة، تتسع لكل الأزمنة والامكنة؛ لأن هناك أكثر من صورة ودلالة حاضرة ساعة التلقي، وهو ما يسهم في دفع المتلقي الى معاودة القراءة في النص لأكثر من مرة. علاوة على البلاغة والفصاحة والتأثير في المتلقي.

5. استطاع المسكوت عنه من خلال الاستعارة الكشف عن العالم المأزوم الذي عاصره الإمام علي عليه السلام، حيث يكثر فيه النفاق والفتن وحب الدنيا. الذي قال عنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) محذراً: ((حبّ الدنيا رأس كل خطيئة))(41).

6. إن الانهيار الذي أصاب الأمة آنذاك من خلال أهل النفاق والفتن وأولاد الدنيا (كما يعبر عنهم الإمام عليه السلام) استلزم من الخطبة العلويّة الدفاع عن قيم الإسلام، ويعني ذلك أن يصير (المسكوت عنه) بوصفه أداة للإبلاغ والتأثير (رسالياً)، أي المسكوت عنه الرسالي الذي يأخذ على عاتقه حفظ القيم الإسلامية الحقة، ومحاربة القيم الفاسدة الباطلة.

7. للمسكوت عنه وظيفة حجاجية في نهج البلاغة، حيث استعمله الإمام عليه السلام لإلقاء الحجة على الأمة. قصد اثبات أنه فعل ما بوسعه، ولا حجة لأحد عليه. فثقافة الأمة في تلك المرحلة، لا تسمح لمثله أن يقود المرحلة بعد ما حلّ بها ما حلّ. واستعماله للمسكوت عنه في خطبه كوسيلة دفاعية

ص: 217

حجاجية، قد تجاوزت زمانها لتعبّر بعمق عن مرحلة الفتن وحب الدنيا عبر التاريخ البشري الممتد إلى زماننا، وإن الأمة التي تلهث وراء الدنيا وتخذلُ قائدها هي أمة خاسرة، لذا ينبغي الإفادة من تلك التجربة المريرة لإطاعة القائد كي يتحقق النصر على كل المستويات.

يوصي البحث بالإفادة من خطاب نهج البلاغة لصناعة خطاب ديني وسياسي ووطني، يكثر فيه المسكوت عنه للمّ شتات العراقيين، وبناء وحدة قوية، لمواجهة مشروع تقسيم العراق وتشظيه، وبالتالي استضعافه، ليكون خانعاً، ومواجهة الحرب الطائفية والمذهبية والعرقية؛ وذلك من خلال المسكوت عنه لصناعة خطاب وحدوي رؤيوي.

هوامش البحث:

1. أسرار البلاغة، الجرجاني، تحقيق سعيد محمد اللحام، دار الفكر العربي، بيروت، ط 1، 1999، ص 30.

2. ينظر: جماليات التلقي: 184

3. لسان العرب، ابن منظور، دار بيروت للطباعة والنشر، 1968، مج 4، ص 619.

4. مختار الصحاح، الرازي، تح وشرح محمود عقيل، دار الجيل، بیروت، 2002، ص 274.

5. الابداع الاستعاري في الشعر، هدى الصخاوي، دار بترا، دمشق، ط 1، 1997، ص 20.

6. البيان والتبيين، الجاحظ، تح: عبدالسلام هارون، مكتبة الخانجي، ط 2، ج 1، ص 129.

7. الاستعارة نشأتها وتطورها، محمود السيد، دار الهداية، ط 2، 1994، ص 7.

8. النكت في إعجاز القرآن، الرماني، تحقيق محمود خلف الله ومحمود زعلول، دار المعارف، القاهرة، 1967، ص 18.

9. الاعجاز القرآني وآلية التفكير النقدي عند العرب، علي مهدي زيتون، دار الفارابي، بیروت، ط 1، 2011، ص 171.

10. فلسفة البلاغة، ريتشاردز، تر: سعيد الغانمي وناصر حلاوي، إفريقيا الشرق، المغرب، 2002، ص 91.

11. علم النص، جولیا کریستیفا، ترجمة فريد الزاهي، دار تويقال للنشر، المغرب، 1997، ص 9.

ص: 218

12. الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، العلوي، مطبعة المقتطف، مصر، 1994، ج 1، ص 202.

13. النقد الأدبي، ويليام ويمزات، تر حسام الخطيب ومحي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون، دمشق، 1972، ص 206.

14. عبد القاهر الجرجاني، اسرار البلاغة، ص.

15. جولیا کریستیفا، علم النص، ص 28.

16. أحمد الصّاوي، فن الاستعارة، ص 37.

17. جماليات الأسلوب المصورة الفنية في الأدب العربي، فايز الداية، دار الفكر، ط 2، 1996، ص 12.

18. التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن روبول وجال موشلار، تر: سيف الدين دغفوس ومحمد الشيباني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط 10، 2002، ص 192.

19. المصدر نفسه، ص 194.

20. سورة الإسراء: آية 24

21. بنيات المشابهة في اللغة العربية (مقاربة معرفية)، عبدالإله سلیم، دار تويقال، المغرب، ط 10، 2001، ص 80 - 81.

22. - نهج البلاغة، ص 47.

23. ينظر: الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، جابر عصفور، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط 2، 1992، ص 248.

24. نهج البلاغة، ص 84.

25. ينظر: لسان العرب، ابن منظور، ج 1، ص 515.

26. شرح ابن ابی الحدید، ج 16، ص 11.

27. نهج البلاغة، ص 84.

28. نهج البلاغة، ص 89.

29. لسان العرب، ابن منظور، ج 11، ص 345.

30. نهج البلاغة: ص 53.

31. سورة الأعراف: آية 30.

32. سورة الأعراف: آية 27.

ص: 219

33. نهج البلاغة: ص 53.

34. نهج البلاغة: ص 53.

35. نهج البلاغة، ص 251.

36. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید، ج 16، 3.

37. ينظر: علم الإسلوب والنظرية البنائية، صلاح فضل، دار الكتاب المصري، القاهرة، ط 1، 2007 م، ص 280.

38. نهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، محمّد تقي الشيخ التّستري، ج 8، ص 16.

39. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید، ج 6، ص 144.

40. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، ج 8، ص 29.

41. التحصين، ابن فهد الحلي، ج 1، ص 22.

ص: 220

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم

1. أسرار البلاغة، الجرجاني، تحقيق سعيد محمد اللحام، دار الفكر العربي، بیروت، ط 1، 1999.

2. الاستعارة نشأتها وتطورها، محمود السيد، دار الهداية، ط 2، 1994.

3. الابداع الاستعاري في الشعر، هدى الصخاوي، دار بترا، دمشق، ط 1، 1997.

4. الاعجاز القرآني وآلية التفكير النقدي عند العرب، علي مهدي زیتون، دار الفارابي، بیروت، ط 1، 2011.

5. بنیات المشابهة في اللغة العربية (مقاربة معرفية)، عبدالإله سلیم، دار تويقال، المغرب، ط 10، 2001.

6. البيان والتبين، الجاحظ، تح: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي، ط 2، د.ت.

7. التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن روبول وجال موشلار، تر: سيف الدين دغفوس ومحمد الشيباني، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط 10، 2002.

8. جماليات الأسلوب المصورة الفنية في الأدب العربي، فايز الداية، دار الفكر، ط 2، 1996.

9. جماليات التلقي، یادکار لطيف الشهر زوري، دار الزمان للطباعة والنشر، دمشق - سوريا ، ط 1، 2010 م.

10. شرح نهج البلاغة، ابن ابي حديد، تحقیق، محمد ابو الفضل ابراهيم، ط 1، دار احياء الكتب العربية، بيروت - لبنان، 1955.

11. الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، جابر عصفور، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ط 2، 1992.

ص: 221

12. الطراز المتضمن الأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز، العلوي، مطبعة المقتطف، مصر، 1994.

13. علم النص، جولیا کریستیفا، ترجمة فريد الزاهي، دار تويقال للنشر، المغرب، 1997.

14. فلسفة البلاغة، ريتشاردز، تر: سعيد الغانمي وناصر حلاوي، إفريقيا الشرق، المغرب، 2002.

15. لسان العرب، ابن منظور، دار بيروت للطباعة والنشر، 1968.

16. مختار الصحاح، الرازي، تح وشرح محمود عقيل، دار الجيل، بیروت، 2002.

17. النقد الأدبي، ويليام ويمزات، تر حسام الخطيب ومحي الدين صبحي، المجلس الأعلى لرعاية الفنون، دمشق، 1972.

18. النكت في إعجاز القرآن، الرماني، تحقيق محمود خلف الله ومحمود زعلول، دار المعارف، القاهرة، 1967.

19. نهج البلاغة، علي بن أبي طالب (عليه السلام)، شرح صبحي الصالح، قم، إيران، دار الهجرة، 1412 هجرية.

20. نهج البلاغة، المعجم المفهرس لألفاظه، دار التعارف للمطبوعات، 1990.

ص: 222

الإنجاز بالقول في عهد الإمام علي (عليه السلام) - الأمر والنهي - دراسة تطبيقية على وفق نظرية أفعال الكلام العامة

اشارة

أ.م.د أحمد جعفر داوود

كلية التربية - جامعة واسط

م.د حسين صالح ظاهر

مديرية تربية كربلاء

ص: 223

ص: 224

المدخل

اتسم البحث اللغويّ المعاصر بالعدد الكثير من الطرائق النظريّة، ولكنه لم يخرج عن إطار ثلاث اتجاهات أساسيّة هي: ((البنيويّة بوصفها نظرية للنظام اللغويّ، وعلم اللغة التوليديّ بوصفه نظرية الكفاءة اللغويّة، ونظرية الفعل الكلاميّ بوصفها نظرية الاستعمال اللغويّ))(1) ونظرية الفعل الكلاميّ التي ظهرت عن طريق أبحاث (جون أوستن وجون سیرل) تعدّ من أحدث نظریات البحث اللغوي إذ حاولت تغطية جوانب اللغة كلّها عبر الإفادة من الأبحاث السابقة لها وقد أدخلت هذه النظرية نفسها في ما أصطلح عليه ب(التداولية اللسانيّة) والتي اتسمت بالاتجاه الشمولي في أبحاثها مما جعلها تعالج مواضيع اللغة من كلّ جوانبها، ومنها البحث في المجالات الآتية:

((1 - علم التركيب: النحو الذي يقتصر على دراسة العلاقة بين الكلمات

2 - علم الدلالة: يدور على الدلالة التي تتحدد بعلاقة تعيين المعنى الحقيقيّ القائم بين العلامات وما تدل عليه

3 - التداولية: التي تعنى بالعلاقات بين العلامات ومستعمليها))(2)

وظفت نظرية أفعال الكلام كلّ ما يتعلق بالمسألة التداولية وغيره لتقوم بوصف وظائف اللغة، ((فالتداوليّة تختصّ بتقصي كيفية تفاعل البني والمكونات اللغويّة مع عوامل لغرض تفسير اللفظ ومساعدة السامع على ردم الهوة التي تحصل أحيانا بين المعنى الحرفي والمعنى الذي قصده المتكلم)) (3) وهذه العوامل من مثل الجانب الاجتماعي، وجانب القدرة والإنجاز، والجانب النفسيّ، والجانب الثقافي، وسياق الحال، والعلاقات بين المفردات في التركيب وخارجه أي: العلاقات

ص: 225

الداخلية والعلاقات الخارجية لتصل إلى الهدف من استعمال المتكلم لهذا التركيب أو ذاك؛ لأنّ التداولية اللسانية ((قامت على تحليل مقامات الخطاب ومقاصده، إذ عنيت بدراسة معاني المنطوقات في علاقتها بالمتكلم، ودراسة الاستلزام الحواري، ودراسة كيفية كون الاتصال أوسع من القول))(4).

وترى نظرية أفعال الكلام أنّنا حينما ننطق بجملة ما أو نسق ما فإنّنا نفعل ذلك لسد حاجة اتصالية محددة تماما، فنحن نريد أن نقدم تحذيرا أو طلبا، أو أي معنی آخر يتطلبه مقام التواصل، وهذه المنطوقات تمثل المعاني المرادة داخل التفاعل الاتصاليّ، وعلى أساس الموقف وسياق الحال المصاحب وحاجاتنا، أي: القضيّة نقوم بإنجاز الأفعال المناسبة، ويكون هذا الفعل خاضع لشروط معينة من أهمها مراعاة نظام اللغة، وقصد التأثير، ومبدأ المناسبة أو مبدأ التعاون؛ ليكون المنجز الكلامي حقيقيا ومؤثرا في المتلقي ((فالفعل الكلامي: يتعلق بمنطوقات لا يمكن أن تُحدد أساسا إلاّ بالنظر إلى مواقف استعمالها))(5)، وهذا الاستعمال لايوصف بالنجاح إلاّ بمراعاة نظام اللغة وأحكامها ((فالاهتمام بالصياغة التركيبيّة يرجع أصلا إلى المعنى))(6)؛ فالتركيب أو المنطوق يمثل الأساس الذي ينطلق منه الباحث ليتعامل ((مع اللغة بوصفها نسقا به تترتب الكلمات لتقول ممكنها الدلالي، وفق تركيبها الخاص))(7) وكلّ ترکیب يؤدي غرضه التواصلي ويظهر معناه يعدّ إنجازا لغويا؛ لأنّ ((الفعل الإنجازي: المقصود به أنّ المتكلم حين ينطق بقول ما، فهو ينجز معنی قصديا.... وهو ما سماه أوستن بقوة الفعل وقد اشترط أوستن لتحقيق هذا المعنى الإنجازي ضرورة توافر السياق))(8).

وقد حددت النظرية خمسة أنواع لما يصح أن تطلق عليه ب(الفعل الإنجازي أو الإنجاز بالقول) وهذه الأنواع هي:

ص: 226

((1 - الإخباريات: نقل خبر ما، التقرير، والزعم، والتنبؤ

2 - التوجيهيات: توجيه المخاطب إلى فعل شيء ما

3 - الإلتزاميات: التزام المتكلم بفعل شيء ما

4 - التعبيريات: تعبير عن شيء ما

5 - الإعلانيات: الإعلان عن شيء ما))(9).

وسنبحث قسم التوجيهات وكل ما يتعلق به؛ لأنّ الطلب يقع في مباحث هذا القسم، ثم نحلل الأمر والنهي وإثبات أنها أفعال إنجازية على وجه الحقيقة.

ص: 227

الإطار النظري

الطلب (الأمر والنهي) ترکیب یراد به من المتلقي القيام بفعل إيجابا في الأمر وسلبا في النهي؛ لأنّ ((معنى الأمر في اللغة: نقيض النهي، وفعله أمر يأمر أمرا))(10)، ومعنی نفیض النهي ((أنّ الأمر طلب إيقاع الفعل، والنهي طلب ترك الفعل))(11)، وقال السيوطي: ((أمّا الأمر في الاصطلاح فهو: قول القائل لمن هو دونه افعل.... وصیغته «افعل، ولتفعل»، وهي حقيقة في الإيجاب)) (12)، وذكر ابن الشجري صيغة الأمر فقال: ((التفعل» صيغة يؤدي بها الأمر وهي مكونة من لام الأمر أو لام الطلب؛ لأنّ الفعل يطلب بها))(13) وقال العلوي عن الأمر: ((صيغة تستدعي الفعل، أو قول ينبئ عن استدعاء الفعل من الغير على جهة الاستعلاء))(14) فالأمر والنهي عند المتكلم والمتلقي يقعان في حيز الفكرة الذهنية نفسها يقول الزجاجي: ((أنّ لفظ الأمر والنهي واحد، كقولك: اضرب ولا تضرب))(15)، ويرى الاستراباذي أنّ النهي ((راجع إلى الأمر؛ لأنّه طلب ترك الفعل كما أنّ الأمر طلب الفعل))(16)، أمّا السكاكي فقال: ((للنهي حرف واحد هو «لا» الجازم في قولك: لا تفعل، والنهي محذو به حذو الأمر في أصل الاستعمال))(17)؛ وبحث المحدثون الأمر والنهي بتجريد تام دون الاهتمام كثيرا بسياق الحال المصاحب، وعلى أساس هذا التجريد صار المفهوم عندهم أنّه ((يطلب من جهة آمرة أعلى من الجهة المأمورة))(18) وافترضوا أنّ هناك عناصر محددة تساهم في إنتاج دلالة الأمر والنهي هي: ((عنصر العلو، وعنصر الاستعلاء، وعنصر الإمكان، وعنصر الزمان، وعنصر المصلحة))(19)، وقد وضع بعض الباحثين قوانين مفترضة لعمل الأمر والنهي في الذهن وهي:

((1 - شرط الوسم مقوليا: هو وسم الإيجاب في الأمر القيام في الفعل، ووسم

ص: 228

السلب في النهي الامتناع

2 - شرط الحالة الذهنية: هي إرادة تحقيق المحتوى القضوي «إنجاز القضية»

3 - شرط الدلالة الذهنية: على المخاطب إنجاز المطلوب فورا أو مستقبلا

4 - شرط علاقة التخاطب: المتكلم يكون في مرتبة حقيقية آمرة، المخاطب يكون في مرتبة متقبلة للأمر

5 - شروط التأثير ذهنيا وسلوكيا: المتلقي مقتنعا ومنفذا

6 - القاعدة التكوينية: ترك المتلقي التحقيق العمل المطلوب)) (20)

فهذه الآراء وغيرها سواء في ذلك القدماء والمحدثون تحاول إظهار مقصد المتكلم بشكل لا لبس فيه، كون اللغة في الأساس هي للتعبير عن أغراض ومقاصد إذ يعدّ البحث المعاصر القصدية ((أداة وظيفية موجهة نحو إفهام المخاطب، واعتماد المتلقي أساسا في تحقيق الإفهام، واستنتاجه عبر ما يحمله النصّ من رموز وإيحاءات ودلالات لتحقيق الاستجابة في الفهم)) (21) وقد وظّف جون أوستن فكرة المقصدية في وصفه للأفعال الإنجازية ومنها التوجيهيات فقال: ((إذا أنجز متکلم فعلا کلاميا من قسم التوجيهيات فإنّ الغرض الإنجازي لمنطوقه يكمن في أنْ يحرك سامعه لينفذ فعلا معينا، وهكذا تكون الحال النفسية المعبرَ عنها في فعل توجيهي هي رغبة المتكلم أنْ يستطيع المتلقي التنفيذ))(22)، وصُنفَ الفعل التوجيهي في نظرية أفعال الكلام ب(الإنجاز المباشر) ووضع (أوستن) شروطا محددة لتحقق هذا الإنجاز منها:

((1 - يجب أنْ يحصل تواضع واتفاق على نهج مطرد متعارف عليه

2 - في كلّ حالة مفترضة يجب أنْ يكون الأشخاص المعنيون، والملابسات

ص: 229

المخصوصة على وفق المناسبة

3 - أنْ يكون للمشاركين القصد والنية في أن يتبعوا هم أنفسهم ذلك السلوك..... وبما ينتج عنه))(23).

وعدّل (جون سيرل) هذه الشروط التي ذكرها أوستن وقسمها إلى أقسام منها:

((1 ۔ الغرض الإنجازي للفعل الكلامي، ويمكن أنْ توصف المقاصد الاتصالية، والعملية بالغرض الإنجازي التي يتوخاها متکلم ما بمنطوقه

2 - الموقف النفسي الذي يعبر عنه المتكلم بالفعل الكلامي.... مثلا: الرغبة، والقصد، والاعتقاد

3 - اتجاه المطابقة بين الكلمات والوقائع.... فإذا نطق المتكلم فعلا توجیهیا، أو التزاميا فإنّ الوقائع يجب أنْ تتغير على نحو ما يشير إليه الفعل اللغويّ في الكلمات بحيث يطابق المحتوى القضويّ))(24).

وليكتسب كلّ كلام صفة الإنجاز اللغويّ، والنجاح عبر التأثير بالمتلقي يجب أنْ يتم على وفق منظومة ثقافية يتشارك فيها طرفا الاتصال فيكون استعمال النسق اللغويّ في التركيب على ما يسمح به نظام اللغة المستعملة وأحكامه النحوية؛ لأنّ ((التواصل هو التعبير عن رسالة تجريدية عبر الإشارة المادية، والرسائل المعنية مقيدة بإشارة معينة على وفق القوانين التي تشترك فيها الفرق المشاركة في الحدث التواصليّ ))(25) وفكرة احترام طرفي الاتصال المنظومة الثقافة العامة المشتركة بينهما، أطلق عليها في التداولية اللسانية مصطلح (مبدأ التعاون) وهذا المبدأ ينتج ((عن واقع أنهم أشخاص يتمتعون بالإدراك، وينبغي تصوره على أنّه تطبيقا

ص: 230

لعقلانية السلوكيات البشرية، وصوابيتها))(26) ومبدأ التعاون في المحادثة الذي وضعه (غرايس) وذكر له بعض الأصول التي يجب مراعاتها في التواصل، ومن هذه الأصول ((مبدأ المناسبة: ليكن كلامك مناسبا لسياق الحال، وتكلم على قدر الحاجة، ولا تقل ما تعتقد كذبه، وتجنب الابهام في التعبير))(27)، أمّا الجانب الاجتماعيّ فله أهمية وارتباط مباشر في عملية التواصل وتوضیح مقاصد المتكلم من التركيب المنطوق الذي يظهر ارتباط ((الدلالة المقامية بالجانب الاجتماعيّ للخطاب، وبالحيثيات الخارجية التي يتم في إطارها إنشاء الكلام))(28) فالجانب الاجتماعيّ يسهم في تحديد القصد إذ ((تعدّ الإحالة فعلا تداوليا بالأساس يربط بين عناصر هي: الخطاب وما يحيل عليه حضورا أو ذكرا، والمتخاطبين، والمخزون الذهني الذي يعتقد المتكلم توافره لدى المخاطَب))(29).

فالأفعال الكلاميّة أو (الإنجاز بالقول) هي تواصل يقوم على شروط وسلوك يجب أن تراعي من المتكلم ليستطيع أنْ يوصل ما يريد من أفكار تؤثر في المتلقي بنحو ما وبذلك تكون ((الإنجازية سلوك التعريف للمستمع على ما ينوي المتكلم إيصاله مضَمّنا في التلفظية، فهي شرط لازم للفعل التأثيري ليحقق الإنجاز، وإذا لم يتعرف المتلقي فيها على هذه القيمة كانت مهددة بالفشل))(30).

وعلى هذا الأساس سيكون بحثنا وتحليلنا لعهد الإمام (8) لعامله (مالك الأشتر) وإظهار الإنجاز اللغويّ المتحقق في منطوقات الإمام (8) التي أصبحت منهاج وطريق لكل مَنْ يريد العمل بالعدل والإنسانية، ونشر الخير في أي مجتمع.

ص: 231

الإطار التطبيقيّ

حددت نظرية أفعال الكلام شروطا في قسم (التوجيهيات) لوصف أي قول بالمنجز اللغوي أو الفعل الكلامي، فذكرت شرط الإخلاص وهو: أنْ يكون المتكلم معتقدا اعتقادا تاما بصدق أقواله واستعداده لتطبيقه دون أدنى تردد.

وشرط المحتوى القضويّ: أي أنْ يحمل قضية ما تهم طرفي الاتصال وهذا الشرط هو من أهم شروط النظرية.

وشرط النسق النحوي للمنطوق: أي أنْ يراعي المتكلم الأحكام الخاصة بنظام اللغة المستعملة بالتواصل وسياق الحال.

وشرط المناسبة (مبدأ التعاون) الذي يراعيه عندما أطلق ملفوظه ليطلب من المتلقي شيء ما مع مراعاة سياق الحال والموقف.

استعمل الإمام علي (8) ترکیب (الأمر والنهي) في عهده لعامله (مالك الأشتر) للتوجيه والتحذير وقد تعددت المنطوقات (التراكيب) لتشمل كلّ ما يسمح به نظام اللغة العربيّة من أمر مباشر عن طريق (صيغة فعل الأمر) أو ( الفعل المضارع المقترن بلام الأمر) أو (اسم الفعل إياك) أو (الفعل المضارع المقترن بلا الناهية) وتعدد هذه الصيغة سببه متطلبات القصد وسياق المعنى المصاحب للحالة وقد سُمِيت هذه التراكيب في الفعل الكلامي ب(الفعل المباشر) وهو: ((الفعل الذي يتلفظ به المتكلم في خطابه، وهو يعني حرفيا ما يقول، وفي هذه الحالة يكون المتكلم قاصدا أنْ ينتج أثرا إنجازيا على المتلقي عبر جعله يدرك تماما المراد منه في الإنجاز))(31) وسنورد كلّ النصوص التي أحصيناها في عهد الإمام (8) مع تحليل لبعض المنطوقات هربا من الإطالة والتكرار؛ لأنّ كلّ

ص: 232

نصّ يحمل صفة الإنجاز اللغويّ.

استعمل الإمام (8) صيغة فعل الأمر المباشر مع الضمير (الهاء) بقوله:

((1 - أمره في عهده إليه حين ولاّه مصر، جباية خراجها، وجهاد عدوها، واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها

2 - أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، وإتباع ما أمر به كتابه من فرائضه وسننه

3 - أمره أنْ يكسر من نفسه عند الشهوات، وينزعها عند الجمحات؛ فإنّ النفس أمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربيّ))(32).

فإذا نظرنا إلى هذه المنطوقات على وفق شروط: الإخلاص والقصد، والمحتوى القضوي، والنسق النحوي، والمناسبة، وسنذكر شرطي الإخلاص والمحتوى القضويّ أولا لأنّهما يحملان الدلالة نفسها في تركيب الأمر والنهي:

(الإخلاص والقصد): الإمام علي (8) عندما عهد إلى مالك الأشتر بصفته الوالي الجديد إلى مصر، أي: أنّه يمثل الإمام نفسه في تلك البلاد؛ لذلك حينما يطلب منه أنْ يتبع سياسة ما في قيادة الدولة فمن المنطقي تكون هي السياسة عينها التي يتبعها الخليفة نفسه، وذلك ما يجعل شرط الإخلاص ظاهر في قصد الإمام (8) فهو يريد بناء دولة تحمل فكر الإسلام الحقيقي كما أراد الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه الكريم (صلى الله عليه وآله) وهذه الدولة لابدّ لها من مقومات وأسس إنسانية، واجتماعية، واقتصادية وعسكرية وغيرها من متطلبات العيش الكريم وهي في صميم فكر الإمام (8) الذي يمثل رأس الهرم في السلطة الشرعية، والسياسية في الدولة الإسلاميّة فهو يمتلك الوجاهة الدينية؛ لأنّ الرسول (صلی الله عليه وآله) قد نصّ على خلافته حينما قال في حديث طويل منه: ((هذا مولى

ص: 233

مَن أنا مولاه اللهم والي من والاه، وعاد مَن عاداه)) (33)، ومن مثل قوله (صلى الله عليه وآله): ((مَن سرّه أنْ يحيي حياتي ويموت مماتي، ويسكن جنّة عدن غرسها ربي فليوال عليا من بعدي وليوال وليه)) (34) فالإمام (8) قد أظهر قصده ونيته واعتقاده التام في إلزام عامله بوصاياه التي استعمل صيغة الطلب ليبلغها، وهي عبارة عن منهج واضح وصريح في كيفية إدارة الدولة على وفق رؤية المنظومة الإسلامية في العيش الكريم للإنسان أيا كان معتقده وجنسه هذه المنظومة المتمثلة بالقرآن الكريم، والسنّة النبويّة فالإمام (8) وكتاب الله لا يفترقان؛ لقول الرسول (صلى الله عليه وآله): ((علي مع القرآن والقرآن مع علي لا يفترقان حتی یردا عليّ الحوض)) (35)، وقضية العيش الكريم للإنسان، وبنائه البناء الصحيح هي القضية الجوهرية التي جاء بها الإسلام وهذا ينقلنا إلى (المحتوى القضويّ):

أو القضية التي يتضمنها منطوق الإمام وهي أساس كل فعل كلامي مباشر أو غير مباشر فلاشكّ في أنّ الإسلام جاء بفكر جديد غير ما هو سائد؛ كونه يدعو ((إلى تنظيم اجتماعي يختلف اختلافا جذريا عن التنظيم الذي كان قائما في الجزيرة العربية، فهو يدعو إلى الصدق والاستقامة، ويضع للتفاضل الاجتماعيّ مقاييس جديدة تقوم على أساس الأخلاق الفاضلة والصالحة))(36) فالإسلام أراد تأسیس قواعد اجتماعية تدعو إلى العدالة الاجتماعية، ومساواة الناس أمام الله لا يفرقهم سوی مقدار الإيمان ودرجة التقوى فيه، وهذه القضية مما ثبت في قول الإمام (8) وعمله من مثل قوله في الثبات على سنّة الرسول (صلى الله عليه وآله): ((والله لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا الله تعالى، والله لئنْ مات لأقاتلنّ على ما قاتل عليه حتى أموت)) (37)، فالقضية أو (المحتوى القضوي) في كلّ الملفوظات المنجزة من الإمام (8) هي الإنسان وما يتعلق به، فهو قطب الرحى في الفكر

ص: 234

الإسلاميّ فالأمر والنهي الواردان في العهد هما لتنظيم علاقة الحاكم بالمحكوم أي: دستور ومنهاج حياة يجب إتباعه بكلّ إخلاص للوصول إلى أقصى درجات السعادة والرفاهية الإنسانية ضمن ما يسمح به الشرع؛ لأنّه جعل ((خلق مجتمع عادل متراحم جوهرا في دين الله)) (38)، فالمحتوى لمنطوقات الإمام (8) يحمل قضية إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى وهذا الإنسان يعيش وفق منظومة إسلامية تشرع له ليعيش حياة كريمة سواء في ذالك المسلم وغير المسلم.

أمّا شرط النسق اللغوي، ومبدأ التعاون التداوليّ فسيظهران مع تحليل منطوقات الإمام (8)؛ فقد استعمل (8) صيغة الفعل المقترنة بالهاء في أول ثلاثة منطوقات (تراکیب) وهي صيغة الفعل (أمره)، ولعل استعمال الهاء الذي هو للغائب المذكر ما يبرره؛ لأنّه (8) یرید لكلامه أنْ يصلَ أولا إلى المتلقي المباشر وهو عامله (مالك الأشتر)، ثمّ يتعداه إلى كلّ متلقي يقرأ هذا العهد أو يسمعه وهو ما يظهر تمكنه من نظام اللغة وأحكامه، وفصاحته لیست موضع الدراسة فهو ينتمي إلى ((ما يطلق عليه الغربيون مركز الهيبة اللغويّة))(39)، فلو استعمل الإمام الإمام (8) كاف الخطاب لكان هذا الأمر يحمل تحديدا أو قيدا دلاليا وزمنيا يخص عامله فقط، فيؤل المعنى على هذا التحديد ولا يحمل الإنجاز المستمر في التأثير، فضلا عن الدلالة التداولية التي يحملها الضمير (الهاء) في الإحالة على سابق وفي هذا السياق تحيل على تكليف شرعيّ؛ كون الإمام (8) يمثل السلطة الشرعية التي يعرفها كلّ مسلم آمن بالله ورسوله (صلى الله عليه وآله)؛ لقوله تعالى: «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ» (40) فقد اتفق المفسرون والمؤرخون على انّها نزلت في الإمام علي (8)، أورد الحسكانيّ في شواهد التنزيل أنّ آية الولاية ((نزلت في عليّ والحسن

ص: 235

والحسين)) (41) وقال البلاذريّ: ((نزلت في عليّ «إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»)) (43) فالاستعمال الإحالي له ما يبرره؛ لأنّ الإمام (8) أراد التأسيس لنظام دولة تحفظ حقوق الإنسانية فبدأ بالمسائل العامة التي تهم الحاكم في البلاد، ثمّ حدد له الغطاء الشرعي الذي يجب أنْ يحتمي به، وبعد ذلك عرج على الصفات الخاصة التي يجب أنْ يتحلى بها لينجح في إدارة الدولة، وهي في الحقيقة أشبه بالعنوانات العامة التي يدخل تحتها المسائل الخاصة التي أوردها فيما بعد فذكر (8) الخطة العامة لكل حاکم برید العدل والرفاه لرعيته فقدّم المسألة الاقتصادية لأهميتها (جباية خراجها) والقوة التي تحمي الناس وأمنهم (جهاد عدوها)، وبناء المجتمع وصلاحه (استصلاح أهلها) والتخطيط الحضاري لهذا البناء (عمارة بلادها)؛ وقد اتبع الإمام (8) نسقا لغويا لا لبس فيه ظهر في الألفاظ المتناسقة في منطوقاته، وهي ذات دلالات موحية بقصد المتكلم عبر علاقاتها الداخلية والخارجية ف(جهاد عدوها) توحي بعدم وجود نية الاعتداء بأي شكل بل الدفاع عن النفس وهو حقّ إنساني مكفول من الشرع، واختياره (8) ل(استصلاح أهلها) له دلالاته؛ لأنّ صيغة استصلح على وزن (استفعل) وهي صيغة من معانيها المستعملة الطلب بمهلة بعد مهلة على سبيل المجاز قال سيبويه في معنی استفعل: ((استخرجته، أي: لم أزل أطلب إليه حتى خرج)) (43) فاستعمال (استصلح) ليتبع اللين والرفق في مهلة لطلب الإصلاح في الناس كونهم الهدف الأول لأي عملية بناء في المجتمع؛ لأنّ هناك فرق بين (أصلح) التي تظهر العلو في الأمر، والاستعلاء من الآمر وهي صفة بعيدة كلّ البعد عن الإمام (8) وبين (استصلح)؛ لأنّه ((لا يكون إلاّ بحيلة وعلاج))(44) فهذه المعاني المتضمنة في الألفاظ يعرفها المتلقي؛ لأنّ (مبدأ التعاون) قد تمّ مراعاته من قبل المتكلم، وهو الإمام (8) لأنّه بصدد التأثير بمنطوق

ص: 236

مباشر على المتلقي، أي: فعلا إنجازيا مباشرا وهو عند (سیرل) يعني ((الفعل الذي تطابق قوته الإنجازية مراد المتكلم، أي يكون القول مطابقا للقصد بصورة تامة، ويتمثل في معاني الكلمات التي تتكون منها الجملة، وقواعد التأليف التي تنتظم بها الكلمات التي تكون الجملة ويستطيع المتلقي أن يصل إلى مراد المتكلم بإدراكه لهذه الشروط))(45)؛ ثمّ يزيد الإمام (8) قدرته التأثيرية على المتلقي المسلم عبر الطلب بأنْ يتقي الله، ويعمل على طاعته بإتباع أحكام القرآن الكريم، وسنة النبيّ (صلى الله عليه وآله) سواء أكان ذلك في أمر شرعيّ أو ماديّ، ولا يميل بهوی ويتبع ما تسول له نفسه (یکسر نفسه عند الشهوات فإنّ النفس أمارة بالسوء إلاّ ما رحم ربي) ومثل هذه المنطوقات تظهر استحضار الإمام للمنظومة الفكرية التي يستمد منها أفكاره وهي القرآن والسنّة، ويظهر ذلك في التناص مع کتاب الله في قوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» (46) والتناص في منطوقات الإمام (8) هي سمة ظاهرة فهي من أهم المؤثرات التي تدفع المتلقي للتفاعل مع المتكلم والتأثر مما يجعله ينفذ المطلوب لأنّ المتكلم ((أنْ يفصل وإنّما يحيل بتكثيف إلى قصة أو حدث مشهور، أو قولة مأثورة ممّا يجعل التوجيه ممكنا خاضعا لشرط التأويل))(47)، ولعل استعمال ألفاظ القرآن الكريم والسنّة النبويّة هو ممّا يدخل في (مبدأ التعاون) ((وذلك لخاصية جوهرية في هذه النصوص؛ وهي أنّها ممّا ینزع الذهن البشري لحفظه ومداومة تذكره))(48)، وتراكيب الإمام (8) تظهر الكفاية التواصلية غبر ما تؤديه من وظائف تواصلية ناجحة عبر الدلالات التي لا لبس فيها عند المتلقي ((فالوصف اللغويّ الكافي هو الذي يسعى إلى تحقيق الكفاية التداولية فضلا عن الكفايتين النفسية والنمطية))(49).

ص: 237

وبعد أنْ أوصل الإمام قصده بالإنجاز العام انتقل إلى التفصيلات وذلك زيادة في ترسيخ فكرة المنجز اللغوي وتأثيره على المتلقي وظهر ذلك في صيغة فعل الأمر المباشر فقال (8):

((1 - املك هواك.

2 - شُح بنفسك عمّا لا يُحلُ لك.

3 - أشعِرْ قلبك الرحمة.

4 - أعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحبّ وترضى أنْ يعطيك الله.

5 - انظر إلى عِظم ملك الله فوقك وقدره منك.

6 - الصق بأهل الورع والصدق، ثمّ رُضْهُم على أنْ لا يطروك ولا يبجحوك بباطل لم تفعله.

7 - أكثر مدارسة العلماء، ومناقشة الحكماء في تثبيت ما صَلُحَ عليه أمر بلادك، وإقامة ما استقام به الناس قبلك.

8 - الصق بذي المروءات والأحساب، وأهل البيوتات الصالحة والسوابق الحسنة.

9 - اختر للحكم بين الناس أفضل رعيتك في نفسك، ممن لا تضيق به الأمور ولا تُمحكه الخصوم، ولا يتمادى في الزلة، ولا يُحصرُ من الفيء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تُشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنی فهم دون أقصاه.

10 ۔ تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله فإنّ في إصلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم ولا صلاحَ لمن سواهم إلاّ بهم؛ لأنّ الناس كلهم عيال على الخراج وأهله.

ص: 238

11 - استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوصِ بهم خیرا وتفقد أمورهم بحضرتك، وفي حواشي بلادك.

12 - حُطْ عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جُنَة دون ما أعطيت.

13 - املك حمية أنفك، وسورة حدّك، وسطوة يدك، وغرب لسانك، واحترس من كلّ ذلك بكف البادرة، وتأخير السطوة، حتى يسكن غضبك)) (50)

واستعمال هذه الصيغة تعدّ من سمات الإنجاز المباشر؛ كونها تعطي فكرة واضحة عمّا يريده المتكلم، فهي تعدّ منجزا لغويا لتجاوز تأثيرها المتلقي الأول (مالك الأشتر) إلى يومنا هذا، فكل من أراد سياسة الناس وقيادتهم يحاول أنْ يتبع هذه المعاني التي أنجزها الإمام (8)، سواء في ذلك أكان من أتباعه المسلمين أولم یکن؛ لأنّها تهم الإنسانية في مضمونها وتجعل الخير عامّا إذا ما التزم بها من يحكم فالأوامر ما هي إلاّ خطة عمل مفصلة لمن يريد أنْ ينجح في مهمته، والبقاء في حدود الدائرة الشرعية المتمثلة في القرآن والسنّة، فبعد أنْ ذكر المسائل العامة بصيغة (أمره)، فصّل كيفية النجاح والوصول إلى الهدف العام عن طريق التأثر بهذه الأوامر وإتباعها التي تصب في مصلحة المتلقي، أي: حصول الفائدة، وتحقق هذا؛ لأنّ المتكلم مارس فعلا مباشرا على المتلقي؛ لأنّ ((الأفعال الإنجازية المباشرة هي: التي تطابق قوتها الإنجازية مراد المتكلم))(51) فالمتكلم يمتلك مفاتيح نظام اللغة المستعملة، واستعماله لألفاظ تحمل إحالات تداولية على نصوص مقدسة ( القرآن والسنّة) فضلا عن مراعات المناسبة، وسياق الحال، وهذا ممّا أسهم في تحقيق الإنجاز، من مثل قوله (8): (وشح بنفسك) فهي تحيل على قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ

ص: 239

نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» (52) و (حُطْ عهدك بالوفاء) تحيل على قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ» (53) ومن مثل ( املك حمية أنفك) تحيل على قوله تعالى: «وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ» (54)، فمثل هذه الإحالات تزيد من فعل التأثير في القول ن فضلا عن استعمال الإمام (8) لم أصطلح عليه ب( واسم القوة) في نظرية أفعال الكلام ((فهناك تمييز داخل الجملة بين ما يتصل بالعمل المتضمن بالقول في حدّ ذاته، وهو ما يسمى «واسم القوة» المتضمنة في القول، وبين ما يتصل بمضمون العمل وهو «واسم المحتوى القضوي»))(55) ، ويظهر هذا الواسم في القول باستعمال صيغة الأمر المباشر، أمّا واسم المحتوى القضوي فيظهر في باقي الجملة، وذلك؛ لأنّ الفاعل في فعل الأمر المباشر مستتر وجوبا فيكون الخطاب موجها لكلّ مَنْ يسمع أو يقرأ؛ لأنّ الزمن في فعل الأمر مفتوح ((فزمنه تأویلي، حيث أنّ تأويله في الحاضر أو الاستقبال، يقوم على قواعد الاستلزام التخاطبيّ))(56)، فالإنجاز اللغويّ من سمات نجاحه أنّ رسالة المتكلم ((تقوم على إعطاء القدر الضروري من المعلومات لكن دون زيادة، إنّ الشريك في التلفظ بالخطاب ينشئ دلالة بتصرفه في الاستدلالات السياقيّة المنطقيّة والاجتماعيّة.... وإنّ احترام مبدأ التعاون يعدّ ضروريا لهذه العملية))(57)، فصيغ الأمر كلّها تؤدي إلى فائدة المتلقي فهي تعدّ منجزا متحققا؛ لأنّ الناس على مختلف الحقب الزمنيّة تحاول السير على هذا المنهاج في الحكم الذي أنجزه الإمام (8) في عهده لعامله (مالك).

وقد استعمل (8) (واسم القوة) الإنجازية في صيغة اسم الفعل (إياك) في منطوقات النهي والتحذير بقوله:

((1 - إياك ومساماة الله في عظمته، والتشبه به في جبروته

ص: 240

2 - إياك والدماء وسفكها بغير حِلّها، فإنَّهُ ليس شيءٌ أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة.... من سفك الدماء بغير حقّها

3 - إياك والإعجاب بنفسك، والثقة بما يعجبك منها وحبّ الإطراء

4 - إياك والمنّ على رعيتك بإحسانك، أو التزيد فيما كان من فعلك، أو تعدّهم فتتبع موعدك بخلفك

5 - إياك والاستئثار بما الناس فيه أسوة والتغابي عمّا تعنی به ممّا قد وضح للعيون))(58)

في هذه المنطوقات تقديم واسم القوة (إياك) الذي يعطي القوة في اللفظ له أسبابه فهو مستعمل في اللغة للدلالة على التحذير قال سيبويه: ((هذا باب ما جرى منه على الأمر والتحذير، وذلك قولك إذا كنت تحذر إياك، كأنّك قلت: إياك نَحِن وإياك باعد ..... وحذفوا الفعل من إياك لكثرة استعمالهم إياك في الكلام فصار بدلا من الفعل))(59)، ويحدد المبرد اختصاص إياك بالأمر فقال: ((فلما كانت إياك لاتقع إلاّ اسما لمنصوب کانت بدلا من الفعل، دالة عليه، ولم تقع هذه الهيئة إلاّ في الأمر؛ لأنّ الأمر لا يكون إلاّ بفعل))(60)، وقد استعمل العرب (إياك) في سياق التحذير، ومعنى التحذير هو: ((تنبيه المخاطب على أمر مكروه ليتجنبه))(61)، وقد استعمل الإمام إياك ليدلل على قوة اللفظ التي تحفز المتلقي وتجعله منتظرا القضية التي من أجلها تمّ تحذيره، ومحتوى القضايا في مثل قوله (8): (الدماء وسفكها بغير حلها) و(المنّ على الرعية) و (الإعجاب بالنفس) و ( الاستئثار بحقوق الناس) فمثل هذه الأمور تعجل بسخط الناس وهو ممّا يوجب العقوبة في الآخرة، فتكون النفس حذرة منه مما يوجب عمل الصحيح مع الرعية، فالنهي بصيغة التحذير أقوى دلالة في العقل وأسرع تأثيرا في النفس وهو ما

ص: 241

أراده الإمام (8)، ويظهر ذلك امتلاكه ل((ثنائية القدرة والإنجاز وهي ثنائية تبرز خاصية الإبداع ))(62)، والمعنى المصاحب لسياق الحال عند المتكلم يتطلب في بعض المواقف استدعاء أدوات تكون ذات دلالات قوية تجعل المتلقي يستوعب القصد الذي أراده المتكلم ويكون أشد انتباها للمطلوب منه من مثل التوكيد؛ وهو ما استعمله الإمام (8) في صيغة النهي ب(لا) الناهية مع الفعل المضارع المؤكد بنون التوكيد الثقيلة وهذه النون في نظام اللغة العربية مختصة للتوكيد، في كتاب رصف المباني قال المالقي: ((هي مؤكدة للفعل خفيفة أو مثقلة.... ومدخلها أبدا في فعل الطلب))(63)، ونصّ الاستراباذي على اختصاصها بالتوكيد فقال: ((النون المؤكدة خفيفة كانت أو ثقيلة تختصّ بالفعل المستقبل الذي فيه معنى الطلب وذلك ما كان أمرا أو نهيا))(64)، ولعل السياقات التي استعمل فيه الإمام (8) التوكيد هي التي فرضت عليه ذلك؛ لأنّ المتكلم يلجأ إلى التوكيد ((لتمكين الشيء في النفس وتقوية أمره)) (65)، فقد وردت في مواضع تعدّ من الأهمية بمكان في فكر الإسلام لحماية الإنسان وحقّه في العيش الكريم فكان لابدّ من النهي المؤكد للوصول إلى أقصى درجات قوة اللفظ والتأثير لترك الفعل من مثل قوله (8):

((1 - لا تكوننّ عليهم سبُعا ضاريا تغتنم أكلهم

2 - لا تنصبنّ نفسك لحزب الله

3 - لا تندمنّ على عفوٍ، ولا تبجّحنّ بعقوبة

4 - ولا تعْجلنّ على تصديق ساعٍ

5 - ولا تدخلنّ في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل، ويعدك الفقر

ص: 242

6 - ولا يكوننّ المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء

7 - الله الله في المساكين لا يشغلنّك عنهم بطرا، فإن لا تُعذر بتضييع التافه لأحكامك

8 - لا تقطعنّ لأحد من حاشيتك وخاصتك قطيعة

9 - لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوك الله فيه رضا

10 - لا تغدرنّ بذمتك، ولا تخيسنّ بعهدك، ولا تختلنّ عدوك

11 - لا تعولنّ على لحن القول بعد التأكيد والتوثيق

12 - لا تقوینّ سلطانك بسفك دمٍ حرامٍ، فإنّ ذلك ممّا يضعفه ويوهنه بل يزيله وينقله))(66)

استعمال التوكيد بالنون (واسم القوة) الإضافي في المنجز اللغويّ في منطوقات النهي له ما يبرره فالإمام (8) أراد أقصى تأثير في المتلقي المباشر (عامله)، والمتلقي المستقبليّ وهم عامة الناس ليتجنبوا الأمور التي نهی عنها وأكد تهیه بالنون وهي مسائل قد ذكرها بشيء من العموم في عهده فأراد أنْ يخصصها في النهي المؤكد؛ لأنّ مثل هذه المسائل قد أمرنا الشرع المقدس المتمثل بالقرآن والسنة تجنبها والابتعاد عنها، فالإسلام قد أقر المساواة في الحقوق لكلّ المسلمين وغير المسلمين، فقوله (8) (لا تكونن عليهم سبعا) کي يمنعه من استغلال سلطته في أكل أموال الناس دون وجه حقّ، وهي من أهم صفات الحاكم العادل، والحقيقة أنّ منطوقات النهي المؤكد كلها تكوّن جزءا مهما من المنظومة الشرعية التي أكدها الإسلام في الحقوق العامّة ف(العفو والصفح) من أهم الأسس التي بُنيت عليها دعوة الرسول (صلى الله عليه وآله) ففضلا عن الآيات التي تحثنا على العفو والتسامح فهناك

ص: 243

مواقف كثير للرسول تظهر تسامحه وعفوه من مثل تعامله (صلى الله عليه وآله) مع أهل مكة يوم الفتح فقد ظهر ((خلق النبي على حقيقته سماحا ونبلا وغفرانا؛ لقد عفی عن الجميع، وغفر لجميع الذين أساءوا إليه وناصبوه العداء وحاولوا قتله))(67)؛ فالنهي يعدّ منجزا لغويا مباشرا لأنّه يعالج قضايا تهمّ الناس مع ميزة علاقة مباشرة بالمنظومة الثقافية الإسلامية عن طريق الإحالة ((فالخطاب يكون متسقا حقا إذا وجدت علاقات قضوية بين الأقوال التي تكونه))(68) وهذه العلاقات هي: الزمانية والغرضية، والإحالية، فالمنظومة الفكرية حاضرة في منطوقات الإمام (8)؛ وعليه فشرط الإخلاص متوفر بالتأكيد، وشرط المحتوى القضويّ ظاهر، فضلا عن شرط النسق اللغويّ وشرط المناسبة.

ص: 244

الخاتمة

وجد البحث أنّ توافر هذه الشروط يحقق فكرة الإنجاز اللغويّ بكل شروطه سواء في ذلك الشروط التي طبقها البحث أو تلك التي ناقشتها النظرية في تحليلها للمنوطقات التي عدّتها من أقسام الإنجاز اللغويّ المباشر، ويثبت هذا أنّ الإمام (8) قد سبق النظرية بأشواط في مراعاته، وتطبيقه كلّ ما يتعلق بمسألة الإنجاز اللغويّ، ويظهر ذلك في امتداد التأثير على المتلقي منذ أنْ قال (8) منطوقاته إلى يومنا هذا، وهذا التأثر لم يقتصر على المسلمين، بل تعداه إلى عموم الإنسانية فعهده لمالك يعدّ وثيقة للإنسانية بكل مشاربها وتعدد أجناسها، وميولها الفكريّة أو العقائديّة وتداول العهد بين أروقة المنظمات الإنسانيّة خير دليل على استمرارية هذا الإنجاز.

وهذا يدفعنا إلى المزيد من الدراسة لما ورد من كلام عن الرسول (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته (8) على وفق التوجهات المعاصرة في دراسة اللغة؛ لأنّ كلامه يعدّ صورة عالية من الفصاحة، والبلاغة التي تؤثر في النفس الإنسانية، أي: إنجازا لغويا على وفق مقاييس نظرية أفعال الكلام، فهو صورة راقية للاستعمال اللغويّ، وكلامهم صورة متقدمة في تطبيق النظام اللغويّ الذي نال عناية النظرية البنيوية، وصورته الإبداعية التي أظهرت الكفاية اللغوية في كلامهم تعدّ مجالا مثاليا لتطبيق توجهات النظرية التوليديّة.

هوامش البحث:

1 - مدخل إلى نظرية الفعل الكلامي، جوتس هنده، ترجمة سعيد البحيري، القاهرة، زهراء الشرق، 2012، 15.

2 - التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن ریبول وجاك موشلار، ترجمة سيف الدين دغفوس وآخرون، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2003، 29

ص: 245

3 - التداولية، جورج يول، ترجمة قصي العتابي، الرباط، دار الأمان، 2010، 13

4 - علاقة اللغة بالجنوسة، عبد النور الخراقي، الرياض، اصدار المجلة العربية (141)، 2012، 18

5 - اللغة والفعل الكلامي والاتصال، زیبلیه کریمر، ترجمة سعيد البحيري، القاهرة، زهراء الشرق، 2011، 82

6 - جدلية الإفراد والتركيب في النقد العربي القديم، محمد عبد المطلب، القاهرة، الشركة المصرية، 1995، 154

7 - التفكير الدلالي في الدرس اللساني العربي الحديث، خالد هويدي، بغداد، مكتبة عدنان، 2012، 65

8 - الأفعال الانجازية في العربية المعاصرة، علي محمود الصراف، القاهرة، مكتبة الآداب، 2010، 40

9 - آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، محمود أحمد نحلة، القاهرة، مكتبة الآداب، 2011، 81 ومابعدها

10 - لسان العرب، ابن منظور، بیروت، دار صادر، 4 / 26 (أمر)

11 - أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين، قیس الأوسي، بغداد، بيت الحكمة، 1988، 83

12 - الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1987، 2 / 176

13 - الأمالي الشجرية، ابن الشجري، بيروت، دار المعرفة، 1 / 98

14 - الطراز المتضمن لأسرار البلاغة، العلوي، مصر، مطبعة المقتطف، 3 / 281

15 - کتاب الخط، الزجاجي، تحقیق تركي العتيبي، بيروت، دارصادر، 2009، 89

16 - البسيط في شرح الكافية، الاستراباذي، تحقیق حازم الحلي، قم، المكتبة الأدبية، 2 / 385

17 - مفتاح العلوم، السكاكي، تحقیق عبد الحميد الهنداوي، بيروت، دار الكتب، 2000، 429

18 - المعاني في ضوء أساليب القرآن، عبد الفتاح لاشين، دمشق، المطبعة الأموية، 1983 166

19 - تحويلات الطلب ومحددات الدلالة، حسام أحمد قاسم، القاهرة، الآفاق العربية، 2007 47 وما بعدها

20 - ينظر دائرة الأعمال اللغوية، شكري المبخوت، بیروت، دار الكتاب الجديد، 2010، 193

21 - النحو القرآني في ضوء لسانیات النصّ، هناء محمود، بیروت، دار الكتب ، 2012، 171

22 - ينظر مدخل إلى نظرية الفعل الكلامي، 88

23 - نظرية أفعال الكلام، جون أستن، ترجمة عبد القادر قيني، الرباط، أفريقيا الشرق، 2006، 27، 28

24 - ينظر، مدخل إلى نظرية الفعل الكلامی، 86 وما بعدها

ص: 246

25 - أعلام الفكر اللغويّ، تأليف مشترك، ترجمة أحمد الكلابيّ، بيروت، دار الكتاب الجديد 2006، 2 / 103

26 - المضمر، تأليف مشترك، ترجمة ريتا خاطر، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008، 347

27 - مدخل إلى اللسانيات، محمد محمد یونس، بیروت، دار الكتاب الجديد، 2004، 99

28 - مفهوم الحرفية ومفهوم الفضاء في التراث النحويّ مقاربة لسانية، عثمان صادق شريجة، اربد، عالم الكتب الحديث، 2011، 25

29 ۔ الخطاب وخصائص اللغة العربية، أحمد المتوكل، الجزائر، منشورات الاختلاف، 2010، 78

30 - المقاييس الاسلوبية في الدراسات القرآنية، جمال حضريّ، بيروت، دار مجد، 2010، 235

31 - آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، 98

32 - شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، بيروت، دار الفكر، 1954 ، مج 4 / 166، 167

33 - تأريخ الإسلام، الحافظ الذهبي، تحقيق مصطفى عبد القادر، بیروت، دار الكتب العلمية 2005، مج 2 / 224

34 - خصائص الوحي المبين، الحافظ ابن بطريق، تحقيق مالك المحمودي، قم، دار القرآن الكريم، 1417 ه، 30، 31

35 - ينابيع المودة، القندوزيّ، تحقیق علي جمال الحسيني، قم دار الأسوة، 398

36 - تأريخ العرب القديم والبعثة النبوية، صالح احمد العلي، بيروت، مركز المطبوعات، 2000، 372

37 - قراءة جديدة في حروب الردة، علي الكوراني، قم، نشر باقیات، 2011، 10

38 - الله والإنسان، کارین آر مستونغ، ترجمة محمد الجورا، دمشق، دار الحصاد، 1996 389

39 - الأطلس اللغويّ في التراث العربيّ، خالد نعیم، لندن، دار السياب، 2010، 28

40 - سورة المائدة، الآية: 55

41 - شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، الحاكم الحسكاني، تحقیق محمد باقر المحمودي، بيروت، مؤسسة الأعلمي، 1 / 149

42 - أنساب الأشراف، البلاذري، تحقیق فیلفرد مادیلونغ، بيروت، مؤسسة الريان، 2009 ق 2 / 162

43 - الكتاب، سيبويه، تحقیق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، 2004، 4 / 70

44 - شرح المفصل في صنعة الإعراب، الخوارزمي، تحقیق عبد الرحمن العثيمين، بیروت، دار الغرب الإسلامي، 3 / 353

45 - الأفعال الإنجازية في العربية المعاصرة، 98

ص: 247

46 - سورة يوسف، الآية: 53

47 - دينامية النصّ، محمد مفتاح، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2010، 90

48 - التعالق النصي، نانسي إبراهيم، القاهرة، دار رؤية، 2014، 256

49 - من البنية الحملية إلى البنية المكونية، أحمد المتوكل، الدار البيضاء، دار الثقافة، 257

50 - شرح نهج البلاغة، مج 4 / من 167 إلى 211

51 - آفاق جديدة في البحث اللغويّ المعاصر، 84

52 - سورة التغابن، الآية: 16

53 - سورة الحج، الآية: 38

54 - سورة الشورى، الآية: 37

55 - التداولية اليوم علم جديد في التواصل، 33

56 - الزمن في اللغة العربية، امحمد الملاخ، الرباط، دار الأمان، 2009، 312

57 - التداولية من أوستن إلى غوفمان، فيليب بلانشيه، ترجمة صابر حباشة، إربد، عالم الكتب الحديث، 2012، 117

58 - شرح نهج البلاغة، مج 4 / 128 و 209 و 211

59 - الكتاب، 1 / 273

60 - المقتضب، المبرد، تحقیق حسن محمد حسن، بیروت، دار الكتب، 1999، 2 / 172

61 - معاني النحو، فاضل السامرائي، الموصل، بيت الحكمة، 2 / 525

62 - الوصفية مفهومها ونظامها في النظريات اللسانية، رفيق بن حمودة، تونس، دار محمد علي، 2008، 347

63 - رصف المباني في شرح حروف المعاني، المالقي، تحقيق أحمد الخراط، دمشق، مجمع اللغة العربية، 334

64 - البسيط في شرح الكافية، 2 / 666

65 - معجم مصطلحات البلاغة، أحمد مطلوب، بغداد، المجمع العلمي العراقي، 1986، 6

66 - شرح نهج البلاغة، مج 4 / من 167 إلى 210

67 - في خطى محمد، نصري سلهب، بیروت، دار الميزان، 2010، 138

68 - القاموس الموسوعي للتداولية، جاك موشلار وآن ریبول، ترجمة مشتركة، تونس، المركز الوطني للترجمة، 2010، 501

ص: 248

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم

1. الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، بيروت، دار الكتب العلمية، 1987

2. أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين، قیس الأوسي، بغداد، بیت الحکمة، 1988

3. الأطلس اللغويّ في التراث العربيّ، خالد نعیم، لندن، دار السياب، 2010

4. أعلام الفكر اللغويّ، تأليف مشترك، ترجمة أحمد الكلابيّ، بيروت، دار الكتاب الجديد 2006

5. آفاق جديدة في البحث اللغوي المعاصر، محمود أحمد نحلة، القاهرة، مكتبة الآداب، 2011

6. الأفعال الانجازية في العربية المعاصرة، علي محمود الصراف، القاهرة، مكتبة الآداب، 2010

7. الأمالي الشجرية، ابن الشجري، بيروت، دار المعرفة،

8. أنساب الأشراف، البلاذري، تحقيق فيلفرد مادیلونغ، بیروت، مؤسسة الريان، 2009

9. البسيط في شرح الكافية، الاستراباذي، تحقیق حازم الحلي، قم، المكتبة الأدبية

10. تأريخ الإسلام، الحافظ الذهبي، تحقيق مصطفى عبد القادر، بيروت، دار الكتب العلمية 2005

11. تأريخ العرب القديم والبعثة النبوية، صالح احمد العلي، بيروت، مركز المطبوعات، 2000

12. تحويلات الطلب ومحددات الدلالة، حسام أحمد قاسم، القاهرة، الآفاق العربية،

ص: 249

2007

13. التداولية، جورج يول، ترجمة قصي العتابي، الرباط، دار الأمان، 2010

14. التداولية اليوم علم جديد في التواصل، آن ریبول وجاك موشلار، ترجمة سيف الدين دغفوس وآخرون، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2003

15. التداولية من أوستن إلى غوفمان، فيليب بلانشيه، ترجمة صابر حباشة، إربد، عالم الكتب الحديث، 2012

16. التعالق النصي، نانسي إبراهيم، القاهرة، دار رؤية، 2014

17. التفكير الدلالي في الدرس اللساني العربي الحديث، خالد هويدي، بغداد، مکتبة عدنان، 2012

18. جدلية الإفراد والتركيب في النقد العربي القديم، محمد عبد المطلب، القاهرة، الشركة المصرية، 1995

19. خصائص الوحي المبين، الحافظ ابن بطريق، تحقيق مالك المحمودي، قم، دار القرآن الكريم، 1417 ه

20. الخطاب وخصائص اللغة العربية، أحمد المتوكل، الجزائر، منشورات الاختلاف، 2010

21. دائرة الأعمال اللغوية، شكري المبخوت، بيروت، دار الكتاب الجديد، 2010

22. دينامية النصّ، محمد مفتاح، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 2010

23. رصف المباني في شرح حروف المعاني، المالقي، تحقيق أحمد الخراط، دمشق، مجمع اللغة العربية.

24. الزمن في اللغة العربية، امحمد الملاخ، الرباط، دار الأمان، 2009

25. شرح المفصل في صنعة الإعراب، الخوارزمي، تحقیق عبد الرحمن العثيمين، بيروت، دار الغرب الإسلامي.

ص: 250

26. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، بيروت، دار الفكر، 1954

27. شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، الحاكم الحسكاني، تحقیق محمد باقر المحمودي، بیروت، مؤسسة الأعلمي

28. الطراز المتضمن الأسرار البلاغة، العلوي، مصر، مطبعة المقتطف

29. علاقة اللغة بالجنوسة، عبد النور الخراقي، الرياض، اصدار المجلة العربية (141)، 2012

30. في خطى محمد، نصري سلهب، بیروت، دار الميزان، 2010

31. القاموس الموسوعي للتداولية، جاك موشلار وآن ریبول، ترجمة مشتركة، تونس، المركز الوطني للترجمة، 2010

32. قراءة جديدة في حروب الردة، علي الكوراني، قم، نشر باقیات، 2011

33. الكتاب، سيبويه، تحقيق عبد السلام محمد هارون، القاهرة، مكتبة الخانجي، 2004

34. كتاب الخط، الزجاجي، تحقیق تركي العتيبي، بيروت، دارصادر، 2009

35. لسان العرب، ابن منظور، بیروت، دار صادر

36. اللغة والفعل الكلامي والاتصال، زیبلیه کریمر، ترجمة سعيد البحيري، القاهرة، زهراء الشرق، 2011

37. الله والإنسان، کارین آرمستونغ، ترجمة محمد الجورا، دمشق، دار الحصاد، 1996

38. مدخل إلى اللسانیات، محمد محمد یونس، بيروت، دار الكتاب الجديد، 2004

39. مدخل إلى نظرية الفعل الكلامي، جوتس هنده، ترجمة سعيد البحيري، القاهرة، زهراء الشرق، 2012

40. المضمر، تأليف مشترك، ترجمة ريتا خاطر، بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2008

41. معاني النحو، فاضل السامرائي، الموصل، بيت الحكمة

42. المعاني في ضوء أساليب القرآن، عبد الفتاح لاشين، دمشق، المطبعة الأموية، 1983

ص: 251

43. معجم مصطلحات البلاغة، أحمد مطلوب، بغداد، المجمع العلمي العراقي، 1986

44. مفتاح العلوم، السكاكي، تحقیق عبد الحميد الهنداوي، بيروت، دار الكتب، 2000

45. مفهوم الحرفية ومفهوم الفضاء في التراث النحويّ مقاربة لسانية، عثمان صادق شريجة، اربد، عالم الكتب الحديث، 2011

46. المقاييس الاسلوبية في الدراسات القرآنية، جمال حضريّ، بیروت، دار مجد، 2010

47. المقتضب، المبرد، تحقیق حسن محمد حسن، بیروت، دار الكتب، 1999

48. من البنية الحملية إلى البنية المكونية، أحمد المتوكل، الدار البيضاء، دار الثقافة

49. النحو القرآني في ضوء لسانیات النصّ، هناء محمود، بيروت، دار الكتب، 2012

50. نظرية أفعال الكلام، جون أستن، ترجمة عبد القادر قيني، الرباط، أفريقيا الشرق، 2006

51. الوصفية مفهومها ونظامها في النظريات اللسانية، رفيق بن حمودة، تونس، دار محمد علي، 2008

52. ينابيع المودة، القندوزيّ، تحقیق علي جمال الحسيني، قم دار الأسوة

ص: 252

التعليل في عهد الإمام علي (عليه السلام)لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)

اشارة

م. د. حميد يوسف إبراهيم

كلية العلوم الإسلامية / جامعة ذي قار

ص: 253

ص: 254

مقدمة

يعد التعليل واحداً من الأساليب اللغوية التي يلجأ إليها المتكلم، عندما يكون قاصداً بیان صحة ما ذهب إليه، وهو بیان علة الشيء أو علة الحكم، ويأتي بمثابة إجابة عن سؤال مفترض، قد يسأله السامع أو لا، تبعاً لمدى إحاطته بالنص، وهو كذلك من جهة المنشئ، فالمتكلم المدرك لحيثيات ما يتكلم عنه يلجأ إلى بيان علل أحكامه وفروضه ومقولاته ونحوها؛ ليساعد على الفهم؛ ولغلق الطريق أمام التأويل غير المقصود عند المتكلم، أو لإقناع المخاطب فيما يتضمنه الخطاب من فروض وأحكام، فيقوم المتكلم بتنزيل السامع منزلة السائل، ومثل هذا الأسلوب تجده عند من له إحاطة بموضوعه، وأكثر ما يتجلى ذلك في النصوص المعصومة، وهي النص القرآني ونصوص أهل البيت علیه السلام، وجاء هذا البحث بعنوان (التعليل في عهد الإمام عليه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه)؛ ليسلط الضوء على التعليلات التي ذكرها الإمام علي علیه السلام في ثنايا عهده لمالك الأشتر رضي الله عنه، وهو يبين فلسفة ما يذكره من أحكام وفروض ومقولات ونحوها، ومما ينشده البحث هنا بيان أثر تلك التعليلات في إيضاح أسس إنسانية الدولة؛ لتكون دولة الإنسان، وتضمن البحث تمهيداً عن بيان معنى التعليل وفائدته، ومبحثين، الأول لبيان الأدوات اللغوية التي استعملها الإمام عليه السلام في تعليلاته، أما الثاني فلبيان التعليل الناتج من مضمون الجملة، ثم خاتمة، فقائمة بالمصادر، وهذه الخطة قابلة للتبديل أو التعديل، ومن الله التوفيق.

ص: 255

تمهيد

معنى التعليل وفائدته:

العلة بكسر العين تأتي بمعنى المرض(1). وتأتي بمعنى الحدث يشغل صاحبه حاجته، كأن تلك العلّة صارت شغلاً ثابتاً منعه من شغله الأوّل(2)، وتأتي بمعنى السّبب، يقال: هذا علّةٌ لهذا، أي سببٌ(3). وكلمة (التعليل) من الفعل المضعَّف (علَّل) على وزن (تفعيل) التي تدل في أحد معانيها على الجعل، والتعليل يعني جعل علة أو إيجادها؛ ليعطي معنى (التبيين).

أما اصطلاحاً فهي ما يتوقف عليه الشيء(4). وعرَّفها الشريف الجّرجاني (816 ه) بأنها: ((ما يتوقف عليه وجود الشّيء ويكون خارجاً مؤثراً فيه))(5). وقيل إنَّ التعليل: ((هو أن يريد المتكلم ذكر حكم واقع أو متوقع، فيقدم قبل ذكره علة وقوعه))(6). فالتعليل هو تبيين الغرض من إيقاع الفعل أو بيان سبب وقوعه. وهو على قسمين: تعليل بالغرض وتعليل بالسبب، ففي الأول يعلل الفعل بذكر المراد من إيقاعه والباعث عليه، وفي الثاني يعلل بذكر المؤثر والمسبب له (7).

يتداخل معنى العلة بمعنى السبب عند كثير من العلماء(8)، فالمصطلحان يلتقيان في شيء ويفترقان في آخر، ومما يفرق به بينهما أنَّ ((السببية عامل مؤثر ومسبب، وأما العلة فهي الغاية المرادة والنتيجة المبتغاة))(9) من الفعل أو الحكم أو القول، وعندئذٍ تكون العلة غائية، ولكنها لا تكون كذلك في كل الأحوال، قال الزمخشري (538 ه): ((وما كل علة بغرض، ألا تراك تقول: قعدت عن الغزو للعجز والفاقة، وخرجت من البلد لمخافة الشر، وليس شيء منها بغرض لك، وإنَّما هي علل وأسباب))(10). وبناء على ما تقدم يمكن القول إنَّ العلة

ص: 256

مقصودة في أصل إيجاد الشيء، أما السبب فقد لا يكون مقصوداً، وإنَّما هو أثر من آثار وجود الشيء أو نتيجة له أو تداعي من تداعياته.

قال الرضي الاسترابادي (688ه): ((فالمفعول له هو الحامل على الفعل سواء تقدم وجوده على وجود الفعل، كما في قعدت جبنا، أو تأخر عنه، کما في جئتك إصلاحاً لحالك؛ وذلك لأنَّ الغرض المتأخر وجوده یکون علة غائية حاملة على الفعل، وهي إحدى العلل الأربع كما هو مذكور في مظانه، فهي متقدمة من حيث التصور وإن كانت متأخرة من حيث الوجود))(11).

واختلفت وجهات الأصوليين في تعريف العلة تبعاً لاختلاف وجهات نظرهم في التعليل (12)، فقيل: إنها الوصف المؤثر بذاته في الحكم، والموجب له بناء على جلب مصلحة أو دفع مفسدة قصدها الشارع (13). أو هي الوصف المؤثر في الأحكام بجعل الشارع لا بذاته. أو هي الباعث أو الداعي للشارع على تشريع الحكم(14).

فائدة التعليل:

البحث عن علل الأشياء أمر فطري في الإنسان، ومبدأ العلية مبدأ عقلي يجعل الانسان دائماً يواجه سؤال: لماذا؟ (15)، حتى إذا خفي عنه سبب الحدث أو جهله أثار ذلك في نفسه العجب، ولذلك قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب (16).

إن وجود علة للشيء أو الحكم يعطيه من القوة في التأثير، وإيجاد القناعة ما لا يعطيه وهو غير معلل؛ فإنَّ ((إثبات الشيء معللاً آكد من إثباته مجرداً من التعليل))(17). ففي قوله تبارك وتعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» [سورة الحج الآية 1]. أمر بالتقوى، وذكر الأمر وحده قد لا يحمل على التقوى، فجاء ذكر هول الساعة تعليلاً لوجوبها وحملاً على الامتثال للأمر

ص: 257

؛ ولهذا فالتعليل يفيد التقرير والأبلغية(18)، فهو ((نوع من أنواع التأكيد والتثبت والاطمئنان بصحة الخبر أو الحكم، وذكر الشيء معللا مما يقوي تأثيره في النفس وثقتها به)) (19). وبناءً على ذلك يؤتى بالتعليل لبيان الأغراض المقصودة من وراء الفعل أو القول أو الحكم، أو الأسباب المؤدية إلى وجوده؛ لتتم القناعة به، ويصبح مقبولاً ومستساغاً عند السامع، ويأخذ طريقه في الواقع.

وينشد هذا البحث تفحص ذلك الأسلوب في عهد الإمام علي علیه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه، وفيما يأتي بيان ذلك:

ص: 258

المبحث الأول

التعليل بالأدوات

كان التعليل واحدة من دلالات بعض الأحرف والأدوات المستعملة في اللغة، فوردت في اللغة أدوات عديدة دالة على التعليل، وكانت هذه الأحرف أدوات ربط بين الحكم وعلته، وأهم هذه الأدوات التي وردت في عهد الإمام علي علیه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه:

1 - التعليل باللام:

وهي أحد أحرف الجر، ولها معان كثيرة منها التعليل، وهي اللام ((التي يصلح في موضعها «من أجل»))(20). وتختص اللام من بين الحروف المفيدة للتعليل بأنها تستعمل فيه بكلا قسميه؛ ف((العلة المقترنة باللام قد تكون حاصلة قبل الفعل، وقد تكون مراداً تحصيلها))(21). قال ابن يعيش (643 ه): ((اللام قد تدخل على المصادر التي هي أغراض الفاعلين في أفعالهم... فكأنها دخلت... لإفادة أنَّ ذلك الغرض من إيقاع الفعل المتقدم))(22). وقد وردت اللام للإفادة التعليل في مواضع من العهد المبارك، ومنه قوله علیه السلام: ((ثمّ لا قوام لهذين الصّنفين إلاّ بالصّنف الثّالث من القضاة والعمّال والكتّاب؛ لما يحكمون من المعاقد ويجمعون من المنافع، ويؤتمنون عليه من خواصّ الأمور وعوامّها))(23). حكم علیه السلام بكون الرعية طبقات يكمل بعضها الآخر، فيصلح بصلاحه ويتعثر بتعثره، والمراد بالصنفين الجنود وعمال الخراج، وهمالا يمكن أن يؤديا وظيفتيهما بشكل صحيح إلا بصنف آخر، وهم القضاة والعمال والكتاب، وقد بَيَّنَ علیه السلام علة الحكم الذي ذكره بأن هؤلاء هم من يتولى إدارة هذا الأمر وإحكامه بما

ص: 259

يتناسب مع المصلحة.

ومنه قوله علیه السلام ((وأعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصتك؛ ليأمن بذلك اغتيال الرّجال له عندك)) (24). أمر علیه السلام بل حكم بإعطاء القاضي ما يستحقه ويسد حاجته؛ ليبعده عن الطمع والاستغلال للمنصب أو أن يستغله أصحاب المطامع أو أن يُحَطَّ من قدره أو يُنتقصَ منه، وهنا يؤسس الإمام علیه السلام لقاعدة في الحكم، فوظَّفَ علیه السلام ما توفره اللغة من أدوات التعليل التي تسهم في بیان مشروعية الأحكام؛ لغرض الإقناع، ولتذعن العقول لذلك قبل النفوس.

وأشار علیه السلام إلى أسباب دمار البلاد وخراجها بقوله علیه السلام: ((وإنّما یؤتی خراب الأرض من إعواز أهلها، وإنّما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنّهم بالبقاء، وقلّة انتفاعهم بالعبر))(25) . فإشراف أنفس الولاة على الجمع، مضافاً إليها سوء الظن وعدم الاعتبار كانت سبباً في خراب البلاد وضياع حقوق العباد، فتشخيص الإمام علیه السلام للعلة يستبطن تحذيراً لأولياء الأمر أنْ لا يكونوا كذلك. ويبدو أن جملة (وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر) هي علة إشراف أنفس الولاة على الجمع، لكنه علیه السلام ربط الأولى باللام وربط الأخريين بالواو، وبهذا فقد ذكر علیه السلام العلة وعلة العلة، وأن هذه العلل قد تجتمع لتكون علة للمعلول الأول في الجملة.

والواقع أنَّ التعليل واقع بجملة تامة المعنى في الأغلب وما هذه الأحرف التي جعلت للعليل إلا أدوات ربط بين أجزاء النص؛ لتسهم في تماسكه وقوته، فلو نظرنا إلى التعليل في قوله علیه السلام: ((وتفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإنَّ في صلاحه وصلاحهم صلاحا لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم إلاّ بهم؛ لأنّ النّاس كلهم عيال على الخراج وأهله، ولیکن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من

ص: 260

نظرك في استجلاب الخراج؛ لأنّ ذلك لا يدرك إلاّ بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد، وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلاّ قليلا))(26). لوجدنا أنَّ التعليل حاصل بالجملة التي بعد حرف اللام وهي جمل: (لأنَّ الناس... لأنَّ ذلك...).

2 - التعليل بالباء:

ذكر النحاة للباء معاني عديدة، أحدها التعليل، ف((يكون ما بعدها سبباً وعلة فيها قبلها))(27)، ومنه قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ» [سورة البقرة، من الآية 54]. فالباء هنا داخله على السبب؛ إذ أنَّ ظلمهم أنفسهم مسبب عن مسبب عن اتخاذهم العجل، أي: فقد حكم النبي موسى علیه السلام على قومه بأنَّهم ظالمون بسبب اتخاذهم العجل إلهاً من دون الله تبارك وتعالى(28).

ومنه قوله علیه السلام: ((ولا تحدثنّ سنّة تضرّ بشيء من ماضي تلك السّنن، فيكون الأجر لمن سنّها، والوزر عليك بما نقضت منها))(29). جعل علیه السلام نقض السنن الصالحة علة لتحمل الوزر، فأفادت الباء تعليلاً، والمعنى: أنك تتحمل الوزر بسبب نقضك سنن الصالحين من قبلك.

ومنه قوله علیه السلام: ((وإنّ أفضل قرّة عين الولاة استقامة العدل في البلاد، وظهور مودّة الرّعيّة، وأنّه لا تظهر مودّتهم إلاّ بسلامة صدورهم، ولا تصحّ نصيحتهم إلاّ بحيطتهم على ولاة الأمور))(30). أفادت الباء في الموضعين التعليل، فسلامة الصدور علة لظهور المودة، والحيطة علة لصحة النية.

ص: 261

3 - التعليل ب(من):

يأتي حرف الجر (مِنْ) لدلالات أهمها ابتداء الغاية (31). وقد يدل على التعليل؛ وذلك عند دخولها على ما يكون سبباً وعلة في وجود متعلقها، ويحسن مكانها لفظة (بسبب)(32)، نحو قوله تعالى: «يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ» [سورة البقرة، من الآية 19]. أي: بسبب الصواعق، فهي ما حملهم على أن يجعلوا أصابعهم في آذانهم، فأفادت (من) التعليل(33). ومنه قول الإمام علیه السلام: ((وإنّما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها))(34). أي: إنَّ البلاد تتعرض للخراب بسبب فقر أهلها واحتياجهم إلى أبسط مقومات العيش، وما يتعرضون له من حاجة ونقص في الأموال والثمرات ناتج عن تصرفات غير صحيحة من الحكام.

4 - التعليل بالحرف (على):

يأتي حرف الجر (على) لمعان أشهرها وأكثرها استعمالا الاستعلاء(35). وقد تأتي لإفادة التعليل إذا كانت داخلة على ما هو سبب في وجود متعلقها كقولنا: (شكرت المحسن على إحسانه)، و(جازيته على صنيعه)، فالإحسان سبب لشكر المحسن، والصنيع سبب المجازاة، فذكر شبه الجملة (على إحسانه، على صنعيه) إنما كان ليعلل بهما وقوع الشكر والمجازاة(36). ومنه قوله تعالى: «وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ» [سورة البقرة: الآية 185]. أي: لهدايته إياكم (37)، فأمرهم بتكبيره وتعظيمه؛ بسبب هدايته إياهم. ومنه قوله علیه السلام: ((ثمّ لا يكن اختيارك إيّاهم على فراستك واستنامتك وحسن الظنّ منك))(38). نهى علیه السلام محذراً من أن يتم اختيار الكتاب وعموم موظفي الدولة بالاعتماد على الفراسة وما يبدونه من سمات مطلوبة وصفات حسنة، والتعليل هنا يبين سبب النهي عن مثل هذا النوع من الاختيار.

ص: 262

ومنه قوله علیه السلام: ((ولا تندمنّ على عفو))(39). فقد نهى علیه السلام عن الندم بسبب العفو عن الرعية. وهذا القول يتضمن الحث على العفو والتسامح مع الرعية فيما يقصرون به من دون قصد، ويتضمن أن يكون الندم عن الظلم لا عن العفو.

5 - التعليل ب (حتى):

تسبق الأداة (حتى) الفعل المضارع؛ لتفيد معاني، منها التعليل، أي تأتي (بمعنى كي)، قال ابن يعيش: ((يكون الفعل الأول سبباً للثاني، فتكون (حتى) بمنزلة (كي)، وذلك قولك: أطع الله حتى يدخلك الجنة، وكلمته حتى يأمر لي بشيء، فالصلاة والكلام سببان لدخول الجنة والأمر بالشيء))(40). ومنه قوله تعالى: «وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا» [سورة البقرة من الآية 217]. والمعنى: كي يردوكم، وهذا غرض دوامهم على القتال وتعليل له (41). ومنه قول الإمام علیه السلام: ((وليكن آثر رؤوس جندك عندك من واساهم في معونته، وأفضل عليهم من جدته، بما يسعهم ويسع من ورائهم من خلوف أهليهم، حتّى يكون همّهم همّا واحداً في جهاد العدوّ))(42). يمثل ما قبل الأداة (حتى) سبباً لما بعدها ومقدمة له، والتقدير: (لكي يكون همهم...) ، وبهذا يبين علیه السلام علة الأمر بذلك.

ومنه قوله علیه السلام: ((واجعل لذوي الحاجات منك قسماً تفرّغ لهم فيه شخصك، وتجلس لهم مجلساً عامّاً، فتتواضع فيه للهّ الّذي خلقك، وتقعد عنهم جندك وأعوانك من أحراسك وشرطك، حتى يكلمك متكلمهم غير متعتع...))(43). تضمن الطلب في بداية الجملة وما تلاه من عبارات مقدمات ليتحقق ما بعد الأداة من إمكانية التكلم مع الحاكم من دون خوف أو قهر، بما يجعل كلامهم سلساً، فمعلوم أنَّ الخوف والتردد يجعل المتكلم مضطرب الكلام، فيكون تقدير الكلام: (لكي يكلمك مكلمهم...).

ص: 263

المبحث الثاني

التعليل المتحقق بالجمل أو بمضمونها:

لا يقتصر بيان علة الشيء على استعمال الأحرف الدالة على التعليل، وإنما قد يتحقق التعليل بالجملة كلها أو بمضمون الجملة، لكن هذه الجملة لا تخلو من رابط يربط العلة بمعلولها، فقد يكون الفاء وقد يكون غيره من أحرف الربط، وقد يكون الضمير أو اسم الإشارة ونحو ذلك، وهذا النمط من التعليل هو الأكثر استعمالاً في العهد المبارك، وفيما يأتي بيان ذلك:

1 - التعليل بالجملة الاسمية:

ابتدأت بعض الجمل التعليلية في العهد المبارك بأدوات ربط، ومنها اسم الإشارة الذي يمثل نوعاً من أنواع الإحالة، ومنه قوله علیه السلام: ((إنّ شرَّ وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً، ومن شركهم في الآثام فلا يكوننّ لك بطانة، فإنّهم أعوان الأثمة، وإخوان الظّلمة، وأنت واجد منهم خير الخلف ممّن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم ممّن لم يعاون ظالما على ظلمه، ولا آثما على إثمه، أولئك أخفّ عليك مؤونة، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفا، وأقلّ لغيرك إلفاً))(44). فجملة (أؤلئك أخف عليك مؤونة...) تعليل لما تقدمها من الترغيب بالفئة التي ارتضى علیه السلام أن تكون منها البطانة والأعوان؛ لما يتصفون به من الصفات، وبما تكون عليه النتائج التي تضمنها كلامه علیه السلام من خفة المؤونة وحسن المعونة والحنان والعطف، وعدم ارتباطهم بغير من ولَّاهم ولا موالفتهم له والحنين إليه. وما تجدر الإشارة إليه أنَّ هذا الترغيب جاء بعد تحذير ونهي عن اتخاذ أعوان الظلمة بطانة، وهذا النهي يتضمن كونهم كثيري

ص: 264

المؤونة والإضرار بالمصالح العامة، وأنهم يشكلون عبئاً مادياً ونفسياً على الحاكم، وأنهم لا يرتجى منهم حسن المعونة والعطف.

وقد يكون التعليل بين ركني الجملة، فقد يكون المبتدأ معلولاً للخبر، ومنه قوله علیه السلام: ((فاتّخذ أولئك خاصّة لخلواتك وحفلاتك، ثمّ لیكن آثرهم عندك أقولهم بمرّ الحقّ لك، وأقلّهم مساعدة فيما يكون منك ممّا كره اللهّ لأوليائه))(45). فالخبر (أقولهم)، ومعطوفه (أقلهم) علتان للإيثار المذكور في الجملة وهو في موقع الابتداء. والظاهر أنَّ الخبر في النص لم يكن وحده علة الإيثار، وإنما تضافر معه كونه (الخبر) جاء بصيغة اسم التفضيل (أفعل).

ولا ينحصر هذا النمط من التعليل بالجملة آنفة الذكر، وإنما يمكن تأويل كثير من الجمل بها، ويبدو أن ذلك عائد إلى تلك العلاقة الإسنادية الرابطة بين المسند والمسند إليه، فهذه عملية الربط تمثل الجامع المشترك بين أنماط التعليل الممكنة في كلام العرب، فالمبتدأ يرتبط بخبره بعلاقة إسنادية، والشرط مرتبط بجوابه، والعلة مرتبطة بمعلولها وهكذا، فضلاً عن كون أدوات التعليل في النتيجة هي أدوات ربط، وأنَّ التعليل متحقق بالأداة وما دخلت عليه.

2 - التعليل بالجملة الاسمية المؤكدة:

تأتي الجملة الاسمية المتضمنة تعليلاً لما سبقها مؤكدة ب(إنَّ)؛ ويرى بعض العلماء أنَّ الأداة (إنَّ) تفيد التعليل (46)، فتعلل ما قبلها بما بعدها، ومثلوا لذلك بنحو: قوله تعالى: «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» [سورة التوبة، من الآية 103]. فجملة (إنَّ صلاتك ...) تعليل لما قبلها من الأمر بالصلاة، وكأنها إجابة عن سؤال مفاده: (لماذا أصلي عليهم؟)؛ ليأتي الجواب بجملة (إنَّ) وما دخلت عليه. وبناءً على ذلك فالتعليل ((مستفاد من الجملة بتمامها بقرينه

ص: 265

السياق))(47). وأمثلته كثيرة في العهد المبارك، ومنها قوله علیه السلام في بداية العهد: ((أمره بتقوى الله... وأنْ ينصر الله سبحانه بقلبه ويده ولسانه؛ فَإِنَّهُ جَلَّ اِسْمُهُ قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهِ مِنَ اَلشَّهَوَاتِ

وَيَزَعَهَا عِنْدَ اَلْجَمَحَاتِ فَإِنَّ اَلنَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ اَللَّهُ)) (48)، يتضمن النص ترغيباً بالطاعة، وتحذيراً من المعصية، وقد مثَّل فيه التعليل سلوكاً تربوياً تعليمياً عند الإمام علیه السلام، ابتدأ التعليل هنا بأداة التوكيد (إنَّ)؛ ليكون التعليل بجملة هذه الأداة، وفي هذين التعليلين استدعى علیه السلام النص القرآني داعماً لأمره، ففي الأولى كان قوله علیه السلام راجع إلى مضمون قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» [سورة محمد، الآية 7]. وفي الثانية استدعى قوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي» [سورة يوسف الآية 53]. وهو هنا يذهب بالتعليل إلى كونه حكمة ومقولة تذعن لها العقول، وتستجيب لها النفوس، وهو ما يولد قوة في الاقناع وتقبل الحكم، وهو سلوك تربوي تعليمي يبث المعلومة بالطريقة التي تصل إلى القلب والعقل معاً؛ لأنَّ ما يشير إليه أو ما مطلوب فعله مدعوم بالحجج والبراهين المقنعة، وما ذلك إلا لتأخذ هذه الأوامر طريقها إلى القبول في النفس والقلب، ثم التنفيذ في الواقع.

ومنه قوله علیه السلام: (( فليكن أحبّ الذّخائر إليك ذخيرة العمل الصّالح، فاملك هواك، وشحّ بنفسك عمّا لا يحلّ لك؛ فإنّ الشحّ بالنفس الإنصاف منها فيما أحبّت أو كرهت))(49). في النص حكمة وحقيقة تضمنها التعليل جاءت لبيان أهمية الإنصاف ولو على حساب الميول والرغبات؛ إذ يمثل الشح بالنفس علة لما تقدمه من الأوامر التي تضمنها النص.

ومنه قوله علیه السلام: ((فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الّذي تحبّ أن يعطيك

ص: 266

اللهّ من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، واللهّ فوق من ولاّك، وقد استكفاك أمرهم وابتلاك بهم... فإنّه لا يدى لك بنقمته))(50). أشار علیه السلام إلى أنَّ ما يترتب على الحكام وما مطلوب منهم أن يعملوه ناتج من كونهم يملكون أمور الناس وهنا بيان المسؤولية؛ ليلحقها بالتحذير من أنك أيها الحاكم يوجد فوقك من مكنك من ذلك، وأنَّ الله فوق كل فوق، وأنك لا تستطيع رد نقمته إن نصبت نفسك لحرب الله بمحاربة عباده أو لم تؤد الواجب أو تضيع حق من توليت أمرهم.

وفضلاً عن المنهج التربوي تؤسس تعليلات الإمام علیه السلام لنسق لغوي هو أنَّ التعليل يأتي بياناً لأمر قد طلب سواء كان أمراً أم نهياً أم تحذيراً أم غيره من أساليب الطلب المعروفة عند العرب.

قال علیه السلام: ((إياك ومماساة الله في عظمته والتشبه في جبروته؛ فإنَّ الله يذل كل جبار ويهين كل مختال))(51). جاءت جملة (فإنَّ ...)؛ لتبين علة ما تقدمها من تحذير ونهي عن الشبه بالصفات الجلالية الله تبارك وتعالى؛ لأنَّ الحاكم قد يصيبه الزهو العجب وداء العظمة التي يؤدي به إلى ظلم العباد والبغي عليهم؛ ليأتي التحذير من الإمام علیه السلام عن تجنب هذا السلوك وأمثاله الذي تكون نتيجته سخط الله الذي يتمثل بالإذلال تارة وبالإهانة تارة أخرى.

وهذا النمط من التعليل هو الأكثر استعمالاً في العهد المبارك، ويبدو أنَّ ذلك عائد إلى أنَّ الإمام علیه السلام كان بصدد بيان العلة بصورة أكثر وضوحاً وتفصيلاً ليتحقق الإقناع بها، وأنَّ ذلك يتحقق بجملة تامة المعنى ابتدائية مؤكدة ب(أن)، وهذا التوكيد يشير إلى تنزيل السامع منزلة المنكر، فيحتاج الكلام إلى توكيد، وأنَّ هذه الجملة تحمل مضموناً ناتجاً من العلاقة بين أجزاء الكلام.

ص: 267

وقد يكون التعليل مركبا فتجده مكوناً من جملة (إنَّ) واسمها الضمير وخبرها المؤلف من قضية شرطية مركبة، ومنه قوله علیه السلام: ((أنصف الناس... فإنَّك إلَّا تفعل تظلم... ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه ومن خاصمه الله ادحض حجته وكان الله حربا... بالمرصاد))(52). فالتعليل المتضمن في جملة الشرط وجوابه جعله الإمام علیه السلام معللاً بجملة شرطية أخرى، فقد تدرج علیه السلام في بيان علة حكمه الأول عندما جعله معلقاً على حكم ثانٍ والثاني معلق على ثالث وهكذا؛ لتتسلسل الحجج والبراهين التي يفرضا التعليل بوصفها مسلمات للإسهام في الإقناع وتنضيج السلوك الذي به تتبين إنسانية الحاكم في تعامله مع الرعية؛ ليشعر الإنسان بإنسانيته. وهذا البيان يمثل تحذيراً، فضلاً عن كونه علة لمثل هذه التصورات التي بيَّنها علیه السلام.

3 - التعليل بالمفعول لأجله:

ذكره سيبويه في ((باب ما ينتصب من المصادر لأنه عذر لوقوع الأمر فانتصب؛ لأنه موقوع له ولأنه تفسير لما قبله لم كان؟))(53). وأوجزه الزمخشري بقوله: إنه ((علة الإقدام على الفعل))(54). وقال الرضي الاسترابادي (688 ه): إنه ((الحامل على الفعل سواء تقدم وجوده على وجود الفعل، كما في قعدت جبنا، أو تأخر عنه، كما في جئتك إصلاحا لحالك))(55). ومنه قوله علیه السلام: ((ثمّ انظر في أمور عمّالك فاستعملهم اختبارا، ولا تولّهم محاباة وأثرة، فإنّهما جماع من شعب الجور والخيانة))(56). أي لا يكون اختيارك ناتجاً عن المحاباة والمجاملة، وإنما عن اختبار، فالاختبار يجب أن يكون علة الاستعمال، وليس المحاباة، ثم علل الأمر والنهي وسبب ذلك.

ص: 268

4 - التعليل في التركيب الشرطي:

یدل الشرط على أنَّ وقوع الأمر مرتبط بوقوع غيره أو ناتج عنه (57)، أي: أنْ يتوقف وجود الثاني على وجود الأول أو يمتنع لامتناعه أو يمتنع لوجوده؛ إذ أنَّ مضمون جملة الشرط إنَّما يستحق مضمون جوابه بوقوعه هو في نفسه أو بامتناعه، فيكون الأول سبباً وعلة في الثاني وجوداً وعدماً(58)، نحو قوله تعالى: «فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ» [سورة البقرة، من الآية 119]. قال ابن جني: ((إنَّ حقيقة الشرط وجوابه أنْ يكون الثاني مسبباً عن الأول، نحو: قولك: (إن زرتني أكرمتك). فالكرامة مسببة عن الزيارة))(59). وجعله بعضهم قسمين: ((أحدهما أن يكون مضمونه مسبباً عن مضمون الشرط، نحو: إنْ جئتني أكرمتك. والثاني: أنْ لا يكون مضمون الجواب مسبباً عن مضمون الشرط، وإنما يكون الإخبار به مسبباً، نحو: إن تكر مني فقد أكرمتك أمس، والمعنى: إنْ اعتددت عليَّ بإكرامك إياي فأنا أيضاً اعتدد عليك بإكرامي إياك))(60). نعم قد لا يكون الشرط سبباً في جوابه كما مفروض فيما تقدم، لكن جواب الشرط يعلل ما قبله من شرط . ومن أمثلة التعليل بالمتحصلة بالتركيب الشرطي في العهد المبارك قوله علیه السلام: ((فمن قارف حكرة بعد نهيك إيّاه فنكّل به، وعاقبه في غير إسراف))(61). فجملة جواب الشرط تَبَيُنِّ سبب الاقتراف وجزاءه وجملة الشرط وجوابه علة لما قبلها من كلام، والتنكيل والعقاب نتيجتان للقيام بالاحتكار بعد تقديم النصح بعدم ارتكابه والنهي عنه. ومما تجدر الإشارة إليه هنا أنه علیه السلام بالرغم من حكمه بمعاقبة من يمارس الاحتكار إلا أنه كان مراعياً لمقتضيات العدالة؛ إذ فرض اجتناب الإسراف في إيقاع تلك العقوبة في قوله علیه السلام: (وعاقبه في غير إسراف).

ص: 269

ومن التراكيب الشرطية التي أفادت التعليل في العهد المبارك قوله علیه السلام: ((ومن ظلم عباد اللهّ كان اللهّ خصمه دون عباده، ومن خاصمه اللهّ أدحض حجّته))(62). فظلم العبادة علة خصومة الله تبارك وتعالى للظالم، والخصومة علة إدحاض الحجة، وما بالك بمن كان حاله كذلك؟ وهنا تتبين فاعلية ذكر العلة وتأثيرها في النفوس، وما يتضمنه النص من تحذير من هذا السلوك.

ومنه قوله علیه السلام: ((وإن ظنّت الرّعيّة بك حيفاً فأصحر لهم بعذرك، واعدل عنك ظنونهم بإصحارك))(63). يشكل ظن الرعية بحاكمها علة لبيان العذر أمامهم؛ وفي هذا السلوك إبعاد للحاكم عن سوء ظن رعيته به، وتحفيز له على القيام بواجبه، فهو أمام خيارين، إما أداء واجباته بما يتلاءم ومصالح العباد والبلاد، وإما بيان العذر في ذلك، فربما ساعدته رعيته على تنفيذ واجباته إن كان عذره مقبولاً أو عزلته إن كان عذره غير مقبول.

5 - التعليل بجملة الطلب وجوابه:

قد تتألف الجملة العربية من طلب وجوابه، نحو: قولك: (ادرسْ تنجحْ)، ورأى النحاة مثل هذا الكلام على تقدير جملة شرط وأداة، يدل عليهما الطلب المذكور، وعندهم أن جواب الطلب هو في الحقيقة جواب للشرط المحذوف(64)، فتقدير الجملة السابقة: (ادرسْ، فإن تدرسْ تنجحْ). ويتضمن الطلب وجوابه تعليلاً ما، فجواب الطلب نتيجة للطلب والطلب علة للحكم المتحقق في جوابه، ومنه قوله علیه السلام: ((فاستر العورة ما استطعت، يسترْ اللهّ منك ما تحبّ ستره من رعيّتك))(65). يتبين من النص أنَّ ستر الحاكم على رعيته علة لستر الله تبارك وتعالى ما يخشى أنْ يعرفه الناس من أسرار الحاكم جزاءً له على حسن تحننه على رعيته.

ص: 270

6 - التعليل بالمشتقات:

اختلف عدد المشتقات باختلاف الحدود التي وضعت له، فهي عند النحويين أربعة: (اسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة المشبهة، واسم التفضيل)، وهي عند اللغويين أوسع لأنّهم يرون أنّ بعض الجوامد مشتقة(66)، ولم يخرج الأصوليون عن مضمون ما قاله النحويون (67)، وهي عند الصرفيين ثمانية: اسم الفاعل، وصيغ المبالغة، والصفة المشبهة، واسم المفعول واسما الزمان والمكان، واسم التفضيل، واسم الآلة(68). وتحديد النحاة لها بهذه الأنواع ملاحظ فيه دلالتها على حدث وذات باختلاف العلاقة بين الحدث والذات، فإنْ كان ملحوظاً فيه القيام بالفعل فهو اسم الفاعل وإن كان ملحوظاً فيه وقوع الفعل فهو اسم المفعول، وإن كان ملحوظاً فيه تفضيل هذه الذات على غيرها فهو اسم التفضيل، وهكذا.

وقد تقع هذه المشتقات في سياق يفهم تضمنها بیان علة الحكم، وهذه العلة هي المعنى أو الحدث في الاسم المشتق، فجملة: (عاقب المسيء) فيها اسم الفاعل (المسيء) يدل على القيام بالإساءة وهو ما يعد علة للحكم (المعاقبة) الذي تتضمنه الجملة(69)، ومنه قوله تعالى: «وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ» [سورة الأحزاب من الآية 24] . فالآية تتضمن أنَّ فعل النفاق علة للعذاب. وقد أشار إلى تضمن المشتق معنی التعليل أبو حيان (745 ه) بقوله: ((والحال والصفة قد يجيئان، وفيهما معنى التعليل، تقول: أهن زیداً سيئاً، وأكرم زیداً العالم، تريد لإساءته ولعلمه))(70). وقد ورد مثل ذلك في العهد المبارك، ومنه قول الإمام علي علیه السلام: ((ثمّ انظر في حال كتّابك فولّ على أمورك خيرهم، واخصص رسائلك الّتي تدخل فيها مكائدك وأسرارك بأجمعهم لوجوه صالح الأخلاق))(71). فاسما التفضيل (خیر) و (أجمع) تضمنا بیان علتي التولية والتخصيص المشار إليهما في النص، فتوليته الأمر معلولة لكونه

ص: 271

خيرهم، وتخصيصه بالرسائل معلولة بكونه أجمعهم لوجوه الصلاح والأخلاق.

ومنه قوله علیه السلام: ((ولیکن أحبّ الأمور إليك أوسطها في الحقّ، وأعمّها في العدل، وأجمعها لرضى الرّعية))(72). يشير النص إلى أنَّ الأوسطية في الحق، والأعمية في العدل والأجمعية لرضى الرعية علل لكونها أحب الأمور، وأن هذا الأمر يكون أحب كلما اتصف بهذه الصفات.

ومنه قوله علیه السلام: ((وليكن أبعد رعيّتك منك، وأشنؤهم عندك أطلبهم لمعایب النّاس))(73). تضمن الأمر هنا توجيهاً بكون طلب عيوب الناس والبحث عنها علة للإبعاد والشناءة، وأنك أيها الحاكم عليك إبعاد من یکون همه وغايته البحث عن عيوب الناس.

ومنه قوله الله علیه السلام: ((فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للهّ ولرسوله ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً))(74). تضمن النص نصيحة الحاكم بأن تكون الأفضلية في النصيحة والنقاء والحلم عللاً لتولية الأمور لمن يتصف بهذه الصفات بلحاظ الأفضلية.

7 - التعليل المستفاد في سياق الاستثناء المفرغ:

وهو في الواقع راجع إلى التعليل المتحقق بالعلاقة الاسنادية بين المبتدأ وخبره وبين الفعل وفاعله، لكنه يتميز عنها بما يدل عليه الاستثناء المفرغ من التوكيد والقصر، ومنه قوله علیه السلام: ((أمره بتقوى اللهّ، وإيثار طاعته واتّباع ما أمر به في کتابه، من فرائضه وسننه، الّتي لا يسعد أحد إلاّ باتّباعها، ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها)) (75)، يشير النص إلى أنَّ السعادة علة لاتباع الفرائض والسنن وأنَّ الشقاء علة جحود الفرائض والسنن وإنكارها وإضاعتها.

ص: 272

الخاتمة:

وبعد هذه الرحلة في عهد الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه، توصل البحث إلى ما يأتي :

1 - إن الإمام علیه السلام قد أسس في عهده المبارك إطاراً عاماً وتفصيلياً عن إدارة شؤون الناس، وقد ضمن ذلك تأسيسه لمنهج تربوي في بيان الأمور؛ ولذا فقد ساق العلل المقنعة التي تساعد على تبني منهجه الرسالي في الحكم وإدارة الدولة. وأنه قد خاطب فطرة الإنسان في ذلك، وكانت تعليلاته متناغمة مع ما تتطلبه نفس الإنسان وعقله بما يساعده على تحويل تلك الفروض إلى واقع عملي تنطلق منه الأمة في تأسيس نفسها وإيجاد کيانها.

2 - إنَّ الإمام علیه السلام قد بَيَّن العلل والقصود التي وراء ذكره مثل هذه الأمور سواء كانت طلبا أو غيره؟ فهذه العلل التي ساقها علیه السلام مقولات تحمل مضامین عالية ومكتنزة الدلالة تسهم في الإقناع لتقبل الطلب أو الحكم، وهي في مجملها تبين النزعة الانسانية التي يريد الإمام علیه السلام غرسها في الحاكم لتتبين إنسانية الدولة وتتحقق دولة الإنسان لا دولة الحاكم.

3 - إنَّ الإمام علیه السلام قد نزل السامع (المتلقي) منزلة السائل في بيانه علل ما أورده؛ ولذا تجد العلل المذكورة تمثل إجابة عن تساؤل مفترض من المتلقي أو هي لدفع إشكال أو شبهة فيما يكون من قصد المتكلم، لكنه بهذا قطع الطريق أمام تلك الاحتمالات الدلالية التي قد تكون مشحونة بالحمولات الثقافية للمتلقي سلباً أو إيجاباً.

4 - إنَّ التعليل متحقق إجمالاً ومتحصل بمضمون الجملة، وما هذه الأدوات

ص: 273

التي يذكرها النحاة للتعليل إلا روابط بين المعلول وعلته، وقد تبين أن التعليل بالجمل هو الأكثر استعمالاً، ويبدو أنَّ ذلك عائد إلى اشتمال الجملة على ما يحسن السكوت عليه أو أنها فكرة تامة المعنى، وهو ما يكون أبلغ في القول وأوقع في النفس.

5 - إن التعليل في العهد المبارك يعد أسلوباً تربوياً وظف فيه الإمام علیه السلام إمكانيات اللغة لبيان الدواعي والأغراض وراء كل حكم أو فرض أو نصيحة عرضها الإمام علیه السلام، وقد تبين أن ذكر الشيء معللا أوقع في النفوس من ذكره مجرداً.

أعتذر إلى الله وإلى سيدي أمير المؤمنين عن كل سوء فهم لا شك أنه من غير قصد.

هوامش البحث:

1. لسان العرب 11 / 471، وينظر: معجم مقاییس اللّغة 4 / 14، القاموس المحيط 4 / 21.

2. لسان العرب 11 / 471، وينظر: معجم مقاییس اللّغة 4 / 13.

3. لسان العرب 11 / 472 مادة (علل).

4. ينظر: الكليات 1 / 250.

5. التعريفات: 88.

6. تحرير التحبير: 309، وينظر الكليات: 2 / 71.

7. ينظر الشرط في القران: 155.

8. لسان العرب: 11 / 471، والصحاح: 5 / 1773، وتاج العروس: 8 / 32، والقاموس المحيط: 4 / 21.

9. السبية والتعليل في التركيب الشرطي - د. مصطفى جطل ونادیا حسکور، بحث، مجلة بحوث جامعة حلب، ع: 17، 1990: 10 - 11.

10. الكشاف: 1 / 82 - 83، والفروق في اللغة: 64.

11. شرح الرضي على الكافية: 2 / 192.

ص: 274

12. ينظر تعليل الاحكام: 112.

13. مباحث العلة: 77. وينظر المستصفی: 1 / 55 - 60، تعليل الاحكام: 119، القياس: 183.

14. ينظر: تعليل الاحکام: 117، القياس: 188 - 189، ومباحث العلة: 73، مباحث التعليل: 80.

15. ينظر الفلسفة نشأة وتطور: 278 - 279.

16. ينظر: حاشية الصبان: 3 / 16.

17. الطراز: 3 / 138 - 139.

18. ينظر: الاتقان: 3 / 250، ومعترك الاقران: 1 / 372.

19. التراكيب اللغوية: 47.

20. البرهان: 4 / 340، وينظر رصف المباني: 223.

21. معاني النحو: 3 / 87.

22. شرح المفصل: 7 / 20.

23. العهد: 27 - 28.

24. العهد: 35.

25. العهد: 39.

26. العهد: 37.

27. - النحو الوافي: 2 / 490.

28. بلاغة القرآن: 1 / 105.

29. العهد 26.

30. العهد: 31.

31. ينظر: ارتشاف الضرب: 2 / 422، مغني اللبيب: 1 / 353، النحو الوافي: 2 / 459 - 460.

32. ينظر: النحو الوافي: 2 / 463.

33. بلاغة القرآن: 1 / 38.

34. العهد 39.

35. ينظر: الجنى الداني: 444، ومغني اللبيب: 1 / 152 - 153، النحو الوافي: 3 / 509.

36. أسلوب التعليل في اللغة العربية: 109.

37. بلاغة القرآن الكريم (الشيخلي): 1 / 397.

38. العهد 41.

ص: 275

39. العهد: 17.

40. شرح المفصل: 7 / 30.

41. بلاغة القرآن: 1 / 466.

42. العهد: 31.

43. العهد: 41.

44. العهد: 23 - 24.

45. العهد 24.

46. ينظر البرهان: 3 / 96، 4 / 229، الاتقان: 2 / 174، وينظر: الحروف العاملة: 43 - 44.

47. تقرير الشربيني: 2 / 308.

48. العهد: 14

49. العهد: 16.

50. العهد: 16.

51. العهد: 18.

52. العهد: 19.

53. الكتاب: 1 / 184، و1 / 185 - 186، وينظر: شرح المفصل: 2 / 53، همع الهوامع: 3 / 133.

54. شرح المفصل: 2 / 52.

55. شرح الرضي على الكافية: 2 / 192.

56. العهد 35

57. ينظر المقتضب: 2 / 46.

58. ينظر: شرح المفصل: 8 / 156، البرهان: 2 / 354.

59. الخصائص: 3 / 175.

60. حاشية الصبان: 4 / 22.

61. العهد: 41.

62. العهد: 19.

63. العهد: 53.

64. ينظر: المقتصد: 1 / 1123 / 1124، شرح المفصل: 7 / 48.

65. العهد: 21.

ص: 276

66. ينظر: المصدر نفسه 171 - 172.

67. ينظر: البحث النحوي عند الأصوليين: 85.

68. ينظر: تصريف الأسماء: 83، وأبنية الصرف في كتاب سيبويه: 171.

69. أسلوب التعليل في اللغة العربية: 190.

70. البحر المحيط: 7 / 178.

71. العهد: 40.

72. العهد: 20.

73. العهد: 21.

74. العهد: 29.

75. العهد: 14.

ص: 277

المصادر والمراجع

القران الكريم.

1. أبنية الصرف في كتاب سيبويه: د. خديجة الحديثي، مكتبة لبنان، ناشرون، بيروت، ط 1، 2003.

2. الاتقان في علوم القرآن: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (911 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم، مکتبة ومطبعة المشهد الحسيني، مصر، ط 1، 1387 ه - 1967 م.

3. ارتشاف الضرب من لسان العرب: ابو حيان الاندلسي (745 ه)، تحقيق وتعلیق: د. مصطفی احمد الناس، مطبعة المدني، مصر،، ط 1، 1408 ه - 1987 م.

4. أسلوب التعليل في اللغة العربية: أحمد خضير عباس، دار الكتب العلمية، بيروت ط 1، 1428 ه - 2007 م.

5. البحث النحوي عند الأصوليين: د. مصطفى جمال الدين، منشورات وزارة الثقافة والإعلام، الجمهورية العراقية، دار الرشید، بغداد، ط 1، 1980.

6. البحر المحيط: أبو حيان الاندلسي، مكتبة النصر الحديثة، الرياض، د.ت.

7. البرهان في علوم القرآن: بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي (794 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار احیاء الكتب العربية، ط 1، د.ت.

8. بلاغة القرآن الكريم في الإعجاز إعراباً وتفسيراً بإيجاز: بهجت عبد الواحد الشيخلي، مكتبة دنديس، عمان، الأردن، ط 1، 1422 ه - 2001 م.

9. تاج العروس من جواهر القاموس: محب الدين ابو الفيض الحسيني الزبيدي (1205 ه)، المطبعة الخيرية، مصر، ط 1، 1306 ه.

10. تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن: ابن أبي الاصبع المصري (654 ه)، تقدیم وتحقیق: د. حفني محمد شرف، القاهرة، 1383 ه - 1963 م.

ص: 278

11. التراكيب اللغوية في العربية دراسة وصفية تطبيقية: د. هادي نهر، مطبعة الارشاد، بغداد، 1987 م.

12. تصريف الأسماء: محمد الطنطاوي، مطبعة وادي الملوك، القاهرة، ط 5، 1955.

13. التعريفات: السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني (816ه)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 1، 1424 ه ۔ 2003 م.

14. تعليل الاحكام: محمد مصطفى شلبي، دار النهضة العربية، بيروت، 1981 م.

15. تقرير الشربيني بهامش حاشية العطار العطار على جمع الجوامع: الشيخ عبد الرحمن الشربيني، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، د.ت.

16. الجنى الداني في حروف المعاني: حسن بن قاسم المرادي، تحقیق: د. طه محسن، مؤسسة دار الكتب للطباعة والنشر، مطابع جامعة الموصل، 1396 ه - 1976 م.

17. حاشية الصبان على شرح الاشموني على الفية ابن مالك (ومعه شرح الشواهد للعيني):

محمد بن علي الصبان (1206 ه)، دار احیاء الكتب العربية، مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركائه، مصر، د.ت.

18. الحروف العاملة في القران الكريم بين النحويين والبلاغيين: د. هادي عطية مطر، مكتبة النهضة العربية، بيروت، 1986.

19. الخصائص: أبو الفتح عثمان بن جني (392 ه)، تحقیق: محمد علي النجار، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، د.ت.

20. رصف المباني في شرح حروف المباني: أحمد بن عبد النور المالقي (702 ه)، تحقيق: أحمد محمد الخراط، مطبعة زيد بن ثابت، دمشق، 1395 ه - 1975 م.

21. السببية والتعليل في التركيب الشرطي: د. مصطفی جطل ونادیا حسکور، بحث، مجلة بحوث جامعة حلب، ع: 17، 1990.

22. شرح الرضي على الكافية: رضي الدين محمد بن الحسن الاسترابادي (688 ه)، دار الكتب

ص: 279

العلمية، بيروت، لبنان، 1405 ه - 1985 م.

23. شرح المفصل: الشيخ موفق الدين بن يعيش النحوي (643 ه)، عالم الكتب، بيروت، د.ت.

24. الشرط في القرآن على نهج اللسانيات الوصفية: د. عبد السلام المسدي، ود. محمد الهادي الطرابلسي، الدار العربية للكتاب، ليبيا، تونس، 1985 م.

25. الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية: إسماعيل بن حماد الجوهري (400 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت، د.ت.

26. الطراز: يحيى بن حمزة بن علي بن ابراهيم العلوي اليمني (729 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت د.ت.

27. العهد: عهد الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه، مؤسسة الرياضي للطباعة العامة.

28. الفروق في اللغة: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري (400 ه)، علق عليه ووضع حواشيه: محمد باسل عيون اسود، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 4، 1427 ه - 2006.

29. الفلسفة نشأة وتطور: محمد بدر الدين الصاوي، دار الفكر، بيروت، ط 4، 1393 ه -1973 م.

30. القاموس المحيط : مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروز آبادي (817 ه)، إعداد وتقديم محمد عبد الرحمن المرعشلي ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 1424 ه - 2003 م.

31. القياس حقیقته وحجيته: د. مصطفى جمال الدين، النجف، 1972 م.

32. الكتاب: سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (180 ه)، تحقيق وشرح: عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط 1، 1402 ه - 1982 م.

ص: 280

33. الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الاقاويل في وجوه التاويل: الامام جاد المولى محمود بن عمر الزمخشري (538 ه)، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، د.ت.

34. الكليات: أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي (1301 ه)، تحقيق: عدنان درویش، ومحمد المصري، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط 1، 1419 ه - 1998 م.

35. لسان العرب: محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري (711 ه)، دار صادر، ط 1، بيروت، د.ت.

36. مباحث التعليل عند الاصوليين والامام الغزالي: (أطروحة دكتوراه) حمد عبير الكبيسي، جامعة الازهر 1969 م.

37. مباحث العلة في القياس عند الاصوليين: عبد الحكيم عبد الرحمن اسعد السعدي، بيروت، ط 1 1986 م.

38. المستصفى من علم الاصول: ابو حامد محمد بن محمد الغزالي (ومعه: كتاب فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت للعلامة عبد العلي محمد الانصاري الهندي)، المطبعة الاميرية ببولاق، مصر، ط 1، 1322 ه.

39. معاني النحو: الدكتور فاضل صالح السامرائي، مطبعة التعليم العالي ومطبعة دار الحكمة في الموصل، 1991.

40. معترك الاقران في اعجاز القرآن: جلال الدين السيوطي، تحقيق: علي محمد البجاوي، دار الفكر العربي، د.ت.

41. معجم مقاييس اللّغة: أبو الحسن أحمد بن فارس بن زكريا (395 ه) تحقيق وضبط: عبد السلام محمد هارون، دار الجيل، بيروت، ط 2، 1420 ه - 1999 م.

42. مغني اللبيب عن كتب الاعاريب: جمال الدين بن هشام الانصاري، حققه وخرج شواهده: د. مازن المبارك ومحمد علي حمد الله، مراجعة سعيد الافغاني، دار الفكر، دمشق، ط 2، 1969 م.

ص: 281

43. المقتصد في شرح الايضاح: عبد القاهر الجرجاني، تحقيق: د. كاظم بحر المرجان، بغداد، 1982 م.

44. المقتضب: أبو العباس محمد بن يزيد المبرد (285 ه) تحقيق الاستاذ محمد عبد الخالق عضيمة، عالم الكتب، بيروت، د.ت.

45. النحو الوافي: عباس حسن، انتشارات ناصر خسرو، طهران، ط 8، 1426 ه.

46. همع الهوامع في شرح جمع الجوامع: جلال الدين السيوطي، تحقيق وشرح: د. عبد العال سالم مكرم، دار البحوث العلمية، الكويت، 1397 ه - 1977 م.

ص: 282

الحجاج وأثره في بناء العقيدة التوحيد في نهج البلاغة أنموذجا

اشاره

م. د. موفق مجيد ليلو

جامعة الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) - ميسان

ص: 283

ص: 284

مقدمة

تسعى هذه القراءة الحجاجية إلى التعريف بالحجاج وارتباطه بالبلاغة والمنطق وكونه وسيلة ناجعة لمقارعة الأباطيل ودفع الشبهات بنور العقل ووضوح الحجة من خلال تتبع السمات الأسلوبية لحجاجية النص الع-ل-وي وتحليلها للوقوف أسرار كلام الأئمة الأطهار (عليه السلام).

ولكن كيف يمكن للحجاج - وهو منهج لساني متداخل مع البلاغة والمنطق والجدل - ان يسهم في بلورة المفاهيم الإنسانية؟

فهل يمكن للحوار اليوم ان يكون طريقا للإقناع في عصر تبددت فيه مفاهيم الحوار والتعايش السلمي مع ما تمر به البشرية من ثورة معلوماتية وتواصلية، إلا ان كل ذلك لم يخفف من حدة العنف والتكفير وإقصاء الآخر. فأصبحت ثقافة العنف ومنطق القوة هما السائدان.

من هنا تنطلق إشكالية البحث وأهميته، إذ نحن أحوج في هذا العصر إلى سيادة منطق الحوار والإقناع في كل خطاباتنا دون ان نقصي الآخر أو نكفره، وأدوات المحاججة والإقناع إنما تتحقق بسلوك هذا المنهج، بل الأحرى ان تسعى المؤسسات التعليمية والتطويرية إلى انتهاج هذه الآليات أو تنشئة الأجيال عليها وزرع ثقافة الإقناع والتعايش والتسامح في مؤسساتها، إي يمكن ان تضاف مادة دراسية ضمن المقررات لهذا الغرض.

وثمة أمر آخر يتعلق بالحجاج، إذ ليس النصوص كلها تعتمده في خطاباتها، ومن هنا نجد ان مواطن المناظرة والجدل والخطابة، وسيدها علي ع تفيض بهذه المعاني، فقد كانت المدة التي قضاها عليه السلام عصر تصارع لإرادات شتى بين

ص: 285

الخوارج من جهة ومعاوية وابن العاص من جهة أخرى وطلحة والزبير من جهة ثالثة كل يصدح بآرائه وعقائده وإعلامه المضلل.

اقتضت منهجية الدراسة ان تكون في مبحثين: أحمدهما اختص بالتعريف بالحجاج لغة واصطلاحا ومفهوم الحجاج في القرآن الكريم واهم تقنياته والابعاد الحجاجية، فيما كان المبحث الثاني عن اثر الحجاج في بناء العقيدة وترسيخها ومظهر ذلك في نصوص النهج من خلال الآليات الاقناعية. ثم ختمت الدراسة بخاتمة تضمنت أهم ما أسفرت عنه.

وسيكون النص موضع الدراسة هو الخطبة الاولى وخطبة (186) في نهج البلاغة بتحقيق د. صبحي الصالح، لأهمية هاتين الخطبتين في موضوع التوحيد وايجازا لما يتسع له المقام.

ص: 286

المبحث الأول: مفهوم الحجاج

الحجاج لغة:

يرتبط لفظ الحجاج بالحجة وهي كما يحددها بعض اللغويون في مادة (حجج) بقولهم: «والحُجَّةُ: وَجْهُ الظَّفَر عند الخُصومة. والفِعل حاجَجْتُه فَحَجَجْتُه. واحتَجَجْتُ عليه بكذا. وجمع الحُجَّة: حُجَجٌ. والحِجاج المصدر. والحَجاجُ: العظمُ المستدير حولَ العَين ويقال: بل هو الأَعْلى الذي تحت الحاجب»(1)، ويشير ابن فارس الى ان هذا الأصل يأتي لأربعة معان هي:

«الأول: القصد، وكل قَصْدٍ حجٌّ، ثم اختُصَّ بهذا الاسمِ القصدُ إلى البيت الحرام للنُّسْك. والحَجِيج: الحاجّ... وممكن أن يكون الحُجَّة مشتقّةً من هذا؛ لأنها تُقْصَد، أو بها يُقْصَد الحقُّ المطلوب. يقال حاججت فلاناً فحجَجْته أي غلبتُه

بالحجّة، وذلك الظّفرُ يكون عند الخصومة، والجمع حُجَج. والمصدر الحِجَاج...

والأصل الآخر: الِحجَّة وهي السّنَة. وقد يمكن أن يُجمع هذا إلى الأصل الأوّل؛ لأن الحجّ في السنة لا يكون إلا مرَّةً واحدة، فكأنَّ العام سُمِّي بما فيه من الحَجّ حِجّة...

والأصل الثالث: الحِجَاجُ، وهو العظْم المستدير حَولَ العَين. يقال للعظيمِ الحِجَاجِ أَحَجُّ، جمع الحِجَاج أحِجَّة...

والأصل الرابع: الحَجْحَجة النُّكوص. يقال: حَمَلوا علينا ثمَّ حَجْحَجُوا. والمُحَجْحِج: العاجز»(2).

ص: 287

ولا شك أن المعنى الاول هو الاقرب الى معنى الحجاج؛ لأنه تضمن معنى الظفر على الخصم والغلبة بالحجة.

الحجاج اصطلاحا

من المعنى اللغوي يمكن ان نرى الربط بين معنى الحجة والحجاج، فالحجة - كما يعرفها الجرجاني - «ما دل به على صحة الدعوى، وقيل: الحجة والدليل واحد»(3)، وأما الدليل فهو «الذي يلزم من العلم به العلم بشيء آخر، وحقيقة الدليل، هو ثبوت الأوسط للأصغر، واندراج الأصغر تحت الأوسط»(4).

أما الجدل فهو: «القياس المؤلف من المشهورات والمسلمات، والغرض منه إلزام الخصم وإفحام من هو قاصر عن إدراك مقدمات البرهان. دفع المرء خصمه عن إفساده قوله: بحجة، أو شبهة. أو يقصد به تصحيح كلامه، وهو الخصومة في الحقيقة»(5).

وفي كتاب (مصنف في الحجاج - الخطابة الجديدة 1958) ل(بيرلمان وتيتكاه) وهو من الدراسات الحجاجية الرائدة التي سلطت الضوء على المنظومة المفاهيمية للحجاج وأطره ومنطلقاته وتقنياته، وقد حدد المؤلفان مفهوم الحجاج من خلال موضوعه وغايته ف «موضوع نظرية الحجاج هو درس تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تؤدي بالأذهان إلى التسليم بما يعرض عليها من أطروحات، او ان تزيد في درجة ذلك التسليم»(6).

فالحجاج بشكل عام: «هو العملية التي من خلالها يسعى المتكلم الى تغيير نظام المعتقدات والتصورات لدى مخاطبه بواسطة الوسائل اللغوية»(7).

فغاية الحجاج تكون بإذعان المتلقي، وهو ما يتحقق عن طريق الاقتناع،

ص: 288

وليس الإقناع، وثمة فرق بينهما، اذ «ان المرء في حالة الاقتناع يكون قد اقنع نفسه، بواسطة أفكاره الخاصة، أما في حالة الإقناع فان الغير هم الذين يقنعونه دائما»(8).

ومن هنا فان الفكرة التي يتحرك الحجاج في مجالها ليست البديهيات وإنما القضايا المشككة، التي يحتاج فيها إلى تدقيق أو تشديد عليها.

والحجاج كما يرد في المعجم الفلسفي: «جملة من الحجج التي يؤتى بها للبرهان على رأي أو إبطاله، أو طريقة تقديم الحجج والاستفادة منها»(9)

وتعرف موسوعة البلاغة الحجاج بأنه: «تقديم براهين بواسطة البشر لتبرير معتقداتهم وقيمهم وللتأثير في أفكار الآخرين وأفعاله»(10)، ويعرفه الدكتور الولي بأنه: «توجيه خطاب إلى متلق ما لأجل تعديل رأيه أو سلوكه أو هما معا، وهو لا يقوم إلا بالكلام المتألف من معجم اللغة الطبيعية»(11)، وهذا يعني ان الحجاج هدفه التأثير والإقناع بالدرجة الأولى عن طريق توظيف اللغة بأساليبها وجمالياتها للإقناع، مع التركيز على إقناع المخاطب وإذعانه لواضح الحجج وقوة البرهان.

إلا ان هذا لا يعني ان الأسلوب لا ينتمي إلى الجهاز المفاهيمي للحجاج، بل له الأهمية الكبرى في البيان والتبيين، ولذا نرى الدكتور صولة يطبق منهج الجمع بين الإقناع والإمتاع أو التأثير والإثارة التي تحققها الخصائص الأسلوبية للنص مستمدا ذلك من نوعي الحجاج البرهاني لبيرلمان وتيتكاه، واللساني لديكرو وانسكمبر.

فانتماء الحجاج إلى البلاغة الجديدة إنما يكون بالجمع بين ما سبق ذكره دون الانسلاخ من الملامح الأسلوبية إلى العقليات فقط والبرهنة، نعم يتداخل الحجاج مع كثير من الاختصاصات المعرفية كالتواصل والجدل والتداولية والبلاغة والمنطق.

ص: 289

مفهوم الحجاج في القرآن الكريم

ترد مادة (حجج) في القرآن الكريم ومشتقاتها في ثلاثة وثلاثين موضعا(12)، والحجة في القرآن الكريم كما يعرفها الراغب: «الدلالة المبينة للمحاجة أي المقصد المستقيم والذي يقتضى صحة أحد النقيضين، قال تعالى: «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ» (13)، وقال: «لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا» (14)، فجعل ما يحتج بها الذين ظلموا مستثنى من الحجة وإن لم يكن حجة،... ويجوز أنه سمی ما يحتجون به حجة كقوله: «وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ» (15)، فسمى الداحضة حجة.

وقوله تعالى: «لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ » (16) أي لا احتجاج لظهور البيان، والمحاجة: أن يطلب كل واحد أن يد الآخر عن حجته ومحجته، قال تعالى: «وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ» (17) «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ» (18).

وقال تعالى: «لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ» (19)

وقال تعالى: «هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» (20)

وقال تعالى: «وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ» (21)(22)

ومن هنا يتبين ان الحجاج في القران الكريم دلالة على اقتران هذه اللفظة بوجود طرفين ووتأتي في مواضع المخاصمة والجدال، مع الالتفات الى ان النص القراني استعمل المحاجَّة، ولعل استقراء الآيات الكريمة يشي بمعنى الذم للمحاجة، في حين يستعمل القرآن لفظ الحجة مقترنا ب (بالغة، او داحضة) ففيه وجهان ممدوح واخر مذموم وهو اقرب الى مفهوم الحجاج الحديث (23).

ص: 290

تقنيات الحجاج

تقسم تقنيات الحجاج عن الدارسين الى:

1. الادوات اللغوية الصرفة: مثل الفاظ التعليل، بما فيها الوصل النسبي والتركيب الشرطي وكذلك الافعال اللغوية والحجاج بالتبادل والوصف وتحصيل الحاصل.

2. الآليات البلاغية مثل تقسيم الكل الى اجزائه، والاستعارة والبديع والتمثيل.

3. الآليات شبه المنطقية: ويجسدها السلم الحجاجي بأدواته والياته اللغوية، ويندرج ضمنه كثير منها، مثل الروابط الحجاجية: لكن، حتى، فضلا عن ليس كذا، فحسب، ادوات التوكيد، درجات التوحيد، والاحصاءات، وبعض الاليات التي منها الصيغ الصرفية مثل التعدية بأفعال التفضيل والقياس وصيغ المبالغة (24).

سمات النص الحجاجي

جمع بعض الدارسين أهم سمات النص الحجاجي في اربعة نقاط:

«القصد المعلن اي البحث عن الاثر الذي يحدثه النص في المتلقي اي إقناعه بفكرة معينة، والتناغم: أي قيام النص على منطق دقيق التسلسل، والاستدلال اي السياق العقلي او التطور المنطقي للنص، والبرهنة: واليها ترد الأمثلة والحجج والتقنيات(25).

الأبعاد الحجاجية

إذا كانت البلاغة قد تمحورت حول الإقناع والجدل في بداياتها، فإنها انعطفت بعد ذلك نحو الاهتمام بالألفاظ ومدى فاعليتها في تحقيق جماليات النص، ولكن بيرلمان

ص: 291

وتیتکاه في كتاباتهم أعادوا إليها روح الجدل والإقناع، فأصبحت البلاغة الجديدة - كما يحب ان يسميها بعضهم - هي السائدة والمهيمنة على الدرس البلاغي الحديث.

ويركز البحث الحجاجي القديم والمعاصر على ثلاثة أبعاد رئيسة، وهي الابعاد التي تحقق الاقناع وهي:

«أولا: أخلاق القائل (المحددات السياقية).

ثانيا: تصيير السامع في حالة نفسية ما (التأثير)

ثالثا: القول نفسه من حيث هو يثبت او يبدو انه يثبت» (26).

وهي المحددات والابعاد التي ذكرها ارسطو في بيان الحجة تحت مسميات «الايتوس والباتوس واللوغوس» (27).

ص: 292

المبحث الثاني: حجاجية التوحيد في نهج البلاغة

يمثل التوحيد أصل العلوم والمعارف الكونية، وقد جاءت رسالات الأنبياء للدعوة إليه ونبذ كل ما سوى الحق سبحانه، فلا غرابة ان تخصص له في القرآن الكريم ما يقرب الثلث أو أكثر من آيات العقيدة وتسمى سورة باسم التوحيد وتعدل ثلث القران، وفي نهج البلاغة ما يقاربها، إلا إننا أشرنا فيما سبق إلى أن الحجاج يتركز على المشككات لا البديهيات، وربما يرى أكثرنا أن التوحيد أو قل وجود الخالق أو الصانع لهذا الكون العظيم من بديهيات العقل، فلماذا إذن نستدل أو نوظف الحجاج في ترسيخ أو إقناع الآخر بذلك؟

ويمكن الاجابة على ذلك بالقول بأن هناك الكثير - وخاصة في موجة الإلحاد والعلمنة - ممن يتناسون وجود الحق سبحانه، بل ويسلطون العقل حتی علی الغيب، فلا إيران إلا بما تخلقه التجربة ويعضده البرهان، ولا بدء للخليقة إلا بنظريات وفرضيات يؤيدها العلم وتقدرها الحسابات، وفي هذه الظروف يبقى الحوار الإقناعي والحجاجي هو المهيمن على منطق هؤلاء، فنحن نحتاج إلى أدلة عقليه وبراهين تجعل الحجة تنطق على لسان المتلقي فتتشكل لديه ملكة الاقتناع الذاتي بما يمكن ان يضمن ما نسميه (بالأمن العقائدي أو الفكري)، وهو ما نحتاج إلى ترسيخه لدى الآخر ممن لا يؤمن الا بالمادة فضلا عن تحصين المجتمع لا سيما الشباب ضد موجات الالحاد، وهو ما يمكن ان يقدمه نهج البلاغة من منهج (احترام العقل) وترسيخ القناعات بلغة الحوار، بعيدا عن فرض القوة أو السلطة وجعلها قناة للتواصل.

ص: 293

ونهج البلاغة بسمته الخطابية يمثل معينا لا ينضب، كل وارد عليه ينهل منه بقدره (أي بقدر الوارد لا المورد)، فهو يخاطب الخاص والعام مراعيا خصوصيات الزمان والمكان مع قدرته على مواكبة الزمن، بل والسبق فيه، فتأتي النصوص سابقة لعصرها ( وربما أثارت هذه الإشكالية بعض المشككين ف نسبته ومثلت إحدى شبهاتهم المدعاة)(28). وفي أحلك الظروف وأشدها يجيب الإمام علي ع عن إشكالات توحيدية تحتاج إلى مجالس وتوضيحات كثيرة لكنه يقدمها بلغة مكثفة إقناعية يذعن لها المتلقي.

خصوصية النص العلوي

لماذا نهج البلاغة؟ ولماذا الحجاج؟

فلنتفق أولا على ان عصر علي (عليه السلام) كان مليئا بالإحداث، حيث واجه (عليه السلام) أعتى الانقسامات التي شهدتها الأمة، وهو الوحيد من بين الأربعة الذي جمع بين الإمامة والمبايعة من قبل الجماهير، فكانت حرب صفين والجمل والنهروان، وكان يجادلهم بمنطق العقل والنص، التي تستبطن حضورا قويا للحجة والبرهان.

ولما كان نهج البلاغة في أكثره خطابا بكل ما للكلمة من محمولات حديثة، وخاصة باب الخطب، فهو بهذا يتميز بجملة من المميزات الأسلوبية التي تلقي بظلالها على النصوص، ومن أهم تلك الملامح الأسلوبية لحجاج النهج:

1. استعمال الروابط الحجاجية ووسائل التعليل مثل (لام التعليل، فاء السببية، لأن، ...) وخاصة في مواضع الحجاج العقائدي.

2. استعمال السؤال الإنكاري.

ص: 294

3. استعمال البرهان والحجة.

4. الاستشهاد بالنص القرآني والشعر العربي والأمثال العربية.

5. استخدام التصوير (التشبيه والمجاز والكناية) في خلق القناعات وتبديد الشبهات.

6. التكرار في مناسبات كثيرة والتركيز على المقدمات العقدية.

7. البناء الهرمي للنصوص (أو القضايا) بالتعبير المنطقي في تسلسل فريد يعجز المرء عن محاكاته. وتقديم فقرة على اخرى في تدرج نصي يوظف كل معاییر النصية.

8. فرادة الانتقاء للكلمة.

9. قوة الإيقاع وتساوي الفقرات، بل تماثلها أحيانا، وتوظيف البديع كوسيط إقناعي تطرب له النفس ويذعن له العقل والخيال.

البناء المنطقي للنص

يتميز النص العلوي ببنائه المسبوك الذي يرتب النتائج على المقدمات في سلسلة متتابعة من الهرميات والقياسات العقلية مع مراعاة الدقة في الانتقاء وجرس الكلمة والتوازن الايقاعي الذي تخلقه الجمل المترابطة بالروابط الحجاجية التي تشير الى ربط الاسباب بمسبباتها، كيف لنا ان حلل نصا کسبيكة الذهب تذوب فيه كل عناصر الابداع وتتماهى فيه كل عظمة المرسل، فتتشابك الصور مع دقة الكلمة ورقة العبارة والايقاع وقوة الكلمة ففي بيان خلق الخلائق يشير الى العلة من ذلك وهي علة تستدعي في المتلقي روح النظر والتفكر وتوقظ في نفسه التأمل فيما حوله في جمل مترابطة ومتوازية احيانا، سأكتب الفقرات بشكل

ص: 295

عمودي ليتبين مقدار التجانس والتوازي بين الجمل والذي يسهم بشكل كبير في التأسيس للقناعات والاعتقادات لقرب الايقاع من النفس وهيمنته ولا سيما ان كان المعنى ساميا والسبك قويا فلا يترك للمتلقي محلا للتشكيك بعد ان تتوالى الحجج والادلة بخطاب عقلي تأملي يخلق في نفس متلقيه الاقناع والتأثير.

إذن ثمة حجة سببية تتصل بكل ما سبق تأتي في ختام الفقرة.

فمن وصف اللهّ سبحانه فقد قرنه

ومن قرنه فقد ثنّاه

ومن ثنّاه فقد جزّاه

ومن جزّأه فقد جهله.

ومن جهله فقد أشار إليه

ومن أشار إليه فقد حدّه

ومن حدّه فقد عدّه

ومن قال فيم فقد ضمّنه

ومن قال علام فقد أخلى منه

ومن ذلك ايضا قوله:

«خَلَقَ الْخَلاَئِقَ عَلَی غَيْرِ مِثَال خَلاَ مِنْ غَيْرِهِ،

وَلَمْ يَسْتَعِنْ عَلَی خَلْقِهَا بِأَحَد مِنْ خَلْقِهِ.

وَأَنْشَأَ الأرض

فَأَمْسَكَهَا مِنْ غَيْرِ اشْتِغَال،

وَأَرْسَاهَا عَلَی غَيْرِ قَرَار،.

ص: 296

وَأَقَامَهَا بِغَيْرِ قَوَائِمَ،

وَرَفَعَهَا بِغَيْرِ دَعائِمَ،

يلحظ التوازن بين الجمل مع تكرار الغيرية بشكل لافت للانتباه والتي تشير الى اللاسببية والابداع في خلة الكون، فاطر السموات والارض.

الخلق مثال

الامساك اشتغال

الارساء (غير) قرار

الاقامة قوائم

الرفع دعائم

المظاهر اللغوية للحجاج في النص العلوي

أ. حجاجية التكرار في النص العلوي

تبدو اهمية التكرير «في الحجاج من حيث التقرير والكشف والتوكيد والاثبات والاقناع وهو ما يسمى الاقناع بالتكرير (Repeating)(29).

ويعد التكرار من الأساليب المهمة في النصوص الحجاجية ذلك انه «يوفر لها طاقة مضافة تحدث أثرا جليلا في المتلقي وتساعد على نحو فعال في إقناعه أو حمله على الإذعان ذلك ان التكرار يساعد أولا على التبليغ والإفهام ويعين المتكلم ثانيا على ترسيخ الرأي او الفكرة في الأذهان»(30).

ففي فاتحة الخطبة الاولى وهو قوله:

«أوّل الدّين معرفته وكمال معرفته التّصديق به. وكمال التّصديق به توحيده. وكمال توحيده الإخلاص له. وكمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه لشهادة كلّ

ص: 297

صفة أنّها غير الموصوف وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة. فمن وصف اللهّ سبحانه فقد قرنه. ومن قرنه فقد ثنّاه. ومن ثنّاه فقد جزّاه. ومن جزّأه فقد جهله. ومن جهله فقد أشار إليه. ومن أشار إليه فقد حدّه. ومن حدّه فقد عدّه. ومن قال فيم فقد ضمّنه. ومن قال علام فقد أخلى منه. كائن لا عن حدث. موجود لا عن عدم. مع كلّ شيء لا بمقارنة. وغير كلّ شيء لا بمزايلة. فاعل لا بمعنى الحركات والآلة. بصير إذ لا منظور إليه من خلقه. متوحّد إذ لا سکن يستأنس به ولا يستوحش لفقده» (31).

تنبني هذه الفقرات بناء هرميا يرتفع شيئا فشيئا من خلال لبنات تشكل القاعدة والأساس في بناء عقيدة صحيحة من خلال وسيلة السبية وبروابط حجاجية توضح العلة من ذلك بأدلة عقلية خالصة تستميل المتلقي بدقة العبارة واختيارها وتخلق أثرا في إيقاعها كما يلي:

أوّل الدّين معرفته

وکمال معرفته التّصديق به

وكمال التّصديق به توحيده

وکمال توحيده الإخلاص له

وکمال الإخلاص له نفي الصّفات عنه... ل... شهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف

وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة

ويقدم التكرار ربطا لفظيا ومعنويا لسياق يكثر فيه الترديد، وهذا ما يتضح في مقدمة الخطبة الأولى في نهج البلاغة، وهي مخصصة في مطلعها للتوحيد ونفي الشريك وبين صفات الخالق سبحانه، في بناء تسلسلي يتركب اللاحق على السابق،

ص: 298

إذ ليس بالإمكان التقديم او التأخير لجملة واحدة فضلا عن الكلمة، فأول الدين معرفة الله (والضمير يعود على الله سبحانه وتعالى لما ورد من إشارة في أول الخطبة: الحمد لله الذي...)، وكمال المعرفة ترتكز على التّصديق به... وهذا حتى تنتهي إلى بیان العلة «لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصّفة.

ويمكن النظر إلى النص السابق من زاويتين فالبناء الحجاجي الذي يستعين بالجملة الخبرية لتثبيت الفكرة وترسيخها ومن خلال تسلسل هرمي واضح، تتأسس فيه كل فقرة على ما بعدها حتى تنتهي الفقرة بجملة السببية أو العلة.

ويعمل التكرار کرابط إيقاعي بين الجمل القصيرة والتي تتركب من الشرط والجزاء، اذ يترتب كل نتيجة على شرطها، وكل هذه الجمل مرتبطة بأداة واحدة هي (من) التي تفيد العاقل، دون ان تحدده أو تقيده، لذا فهو يمكن ان ينطبق على كل من (وصفه، ثناه، جزأه، جهله...، فهو خطاب على مستوى عام ودائم لا يقيد بزمان أو مكان، بل يبقى قائما ومناسبا لكل زمان، وهذا من أسرار ديمومته، ويلحظ عليه الاختزال والإيجاز، فضلا عن قيامه بالضرورة - كشأن الخطابة - على «الانتقاء والاختيار، انتقاء ما يراه مناسبا للمقام واختيار الحجج الأقدر على الفعل والتأثير»(32)، واسلوب الشرط يتضمن العلة والمعلول او السبب والنتيجة فلا يخلو من عرض للاسباب التي تؤدي إلى تسلسل النتائج من خلال مقولات عقلية واضحة لا تقبل التشكيك ولا الجدل، فمن ذلك مثلا «فمن وصف اللهّ سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّاه فالوصف يقتضي القرن، والقرن يؤدي إلى التثنية، والتثنية تستدعي التجزئة وهكذا... والملاحظ على البنية الحجاجية للنص أنها اتكأت على التكرار وجملة الشرط بالدرجة الأولى.

ص: 299

ويتضح التكرار في النص في بعض الفقرات:

كائن لا عن حدث

موجود لا عن عدم

مع كلّ شيء لا بمقارنة

وغير كلّ شيء لا بمزايلة

فاعل لا بمعنى الحركات والآلة

بصير إذ لا منظور إليه من خلقه

متوحّد إذ لا سكن يستأنس به ولا يستوحش لفقده.

ولعل التكرار يتضح جليا في نص الخطبة الاولى على مستوى اللفظ فقد تكررت (لا) ثماني مرات في النص السابق، وعلى مستوى التركيب وان اختلفت الجمل الا ان النسق واحد في كثير من الجمل وثمة تقارب واضح في عدد مفردات كل جملة من الخطبة السابقة. وكما معلوم فانه اي التكرار «شكل من اشكال الاتساق المعجمي الذي يتطلب اعادة عنصر معجمي او ورود مرادف له او شبه مرادف او عنصر ا مطلقا او اسما عاما»(33).

ب. حجاجية النفي

يمثل النفي أو (السلب) آلية مهمة لنقض الافكار والاشتغال على اثبات اضدادها، وتتجلى أهميته في كونه «الية للنقض، تفتت أسس الرأي المضاد أو تنزع عنه المصداقية وتثبت بدلة الرأي المتبنى»(34).

ففي خطبة واحدة تكررت لا النافية فقط بأشكالها المختلفة ما يزيد عن السبعين مرة، فضلا عن الادوات الاخرى مثل (ما، لم، ليس، غير...) فهي

ص: 300

الاخرى تكررت لتعبر عن سلب كل ما (عجز وضعف وجارحة عن الذات المقدسة) لتثبت في الطرف الاخر الكمال والاطلاق لذاته سبحانه وتعالى. وكل تلك الجمل المنفية / المثبِتة (بكسر الباء) ترتبط بروابط الوصل ضمن بناء متسلسل، اذ الوصل هو ««تحديد الطريقة التي يترابط بها اللاحق السابق بشكل منظم» (35).

وضمن هذا البناء يأتي النفي ليقوض التصورات والاوهام كما في قوله:

«مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ

وَلاَ حَقِيقَتَهُ أَصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ،

وَلاَ إِيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ،

وَلاَ صَمَدَهُ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَتَوَهَّمَهُ.

يلحظ المتأمل في هذه الجمل الترابط النصي الذي تخلقه الواو بمعية النفي او (لا) الزائدة لتوكيد النفي، فكأنها نتائج مقدمة على اسبابها، مع ملاحظة السلب في القضية الذي يكون اقوى من الصورة لو كان (من كيفه ما وحده)، فمجابهة المتلقي بالسلب أشد وقعا على النفس وأكثر تأثيرا، اذ به تنتفي صفات (التوحيد، اصابة الحقيقة، القصد، الصمدية).

ثم ترتبط الجملة التي بعدها بالفصل للإجابة عن سؤال افتراضي وهو ان من تجري عليه الكيفية والتمثيل والتشبيه والاشارة والتوهم يكون خالقا ام مخلوقا؟ صانعا ام مصنوعا؟ وهو قوله:

كُلُّ مَعْرُوف بِنَفْسِهِ مَصْنُوعٌ

وَكُلُّ قَائِم فِ سِوَاهُ مَعْلُولٌ

وقد ترك الوصل هنا لبيان العلة اذ تشعر الجملتان أعلاه بعلة ما ذكر فترك

ص: 301

الوصل فيها، وعطف الثانية على الاولى. وهي قضايا عقلية كلية تبدأ بلفظ العموم (کل)، او يمكن القول انها من البديهيات اتي لا تحتاج الى عظيم جهد لإدراكها.

وفي موضع آخر يشير الى علة الخلق بجمل تكثر فيها ادوات النفي (لم، ولا) وهو آكد في تقرير من الاخبار المثبت، ويلحظ الصعود في بيان العلل في السلم الحجاجي في الملفوظات بشكل تصاعدي ويتضح ذلك في قوله (عليه السلام):

لَمْ يَتَكَأدْهُ صُنْعُ شَيْء مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ،

وَلَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا بَرَأَهُ وَخَلَقَهُ، وَلَمْ يُكَوِّنْهَا:

وَلاَ لِوَحْشَة كَانَتْ مِنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا م 7

ولاَ لِمُكَاثَرَةِ شَرِيك فِي شِرْكِهِ م 6

وَلاَ لِلاْزْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ م 5

وَلاَ لِلاْحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِر م 4

وَلاَ لِلاْسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَی نِدٍّ مُكَاثِر م 3

وَلاَ لِخَوْف مِنْ زَوَال وَنُقْصَان م 2

لِتَشْدِيدِ سُلْطَان م 1

ولم يذكر النتيجة هنا بل يشير الى اليها بعد الاشارة الى الفناء والبعث، مع مراعاة تسلسل الحجج السلبية واستيفاء كل الممكنات التي تجري على المخلوق والمصنوع دون الخالق، والنتيجة هي «لكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ، وَأمسَكَهَا بِأَمْرِهِ،

وَأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ».، فليس ثمة احتياج او فقر في ساحة المطلق، وكل العلل المذكورة علل افتقار للممكن دون واجب الوجود، وهو ما يثبته حرف الاستدراك (لكن) وهو رابط حجاجي يأتي مسبوقا بالنفي فيسلب ما قبله، مهما قل او كثر،

ص: 302

ليثبت ما بعده.

ومنه قوله:

وَلاَ يَتَغَيَّرُ بِحَال،

وَلاَ يَتَبَدَّلُ فِي الاْحْوَالِ،

وَلاَ تُبْلِيهِ اللَّيَالي وَالاَيَّامُ،

وَلاَ يُغَيِّرُهُ الضِّيَاءُ وَالظَّلاَمُ،

وَلاَ يُوصَفُ بِشَيء مِنَ الاْجْزَاءِ

وَلاَ بِالجَوَارِحِ وَالاْعْضَاءِ،

وَلاَ بِعَرَض مِنَ الاْعْرَاضِ،

وَلاَ بِالْغَيْرِيَّةِ وَالاْبْعَاضِ.

وَلاَ يُقَالُ: لَهُ حَدٌّ وَلاَ نِهَايَةٌ،

وَلاَ انقِطَاعٌ وَلاَ غَايَةٌ،

وقوله:

لاَ يُشْمَلُ بِحَدّ،

وَلاَ يُحْسَبُ بِعَدٍّ،

وقوله:

لاَ تَصْحَبُهُ الاْوْقَاتُ،

وَلاَ تَرْفِدُهُ الاْدَوَاتُ،

في الجمل المنفية المترابطة بالواو وكأنها جملة واحدة مع زيادة التوكيد بالنفي

ص: 303

اشعار بسلب النقص بوجوهه المختلفة من التغير والتبدل والوصف بالجزئية والجسمية والعرضية والغيرية والحدية والمنتهى فضلا عن الانقطاع والغاية وكلها صفات المحدود لا المطلق وهي ادلة على النقص، ودفع النقص وتنزيه الخالق اسبق من وصفه بصفات الكمال، لأن نفي الجسمية والحسية عن ذات الحق سبحانه لا تستبطن اثباتا لصفات الكمال له سبحانه، وهذا الاسلوب أي النفي اكثر وقعا واقناعا للمتلقي.

ومثله قوله:

لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً، وَلَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً.

وقوله:

لاَ تَنَالُهُ الاْوْهَامُ فَتُقَدِّرَهُ،

وَلاَ تَتَوَهَّمُهُ الْفِطَنُ فَتُصَوِّرَهُ،

وَلاَ تُدْرِكُهُ الْحَوَاسُّ فَتُحِسَّهُ،

وَلاَ تَلْمِسُهُ الاْيْدِي فَتَمَسَّهُ.

لَيْسَ فِي الاْشْيَاءِ بِوَالِج، وَلاَ عَنْهَا بِخَارِج.

تقدم هذه الجمل اسبابا وعللاً للنتائج التي ترتبط بفاء السببية، فالخالق لم يلد ولذلك فهو لا يكون مولودا، ولم يولد لأنه ان كان كذلك فسيكون محدودا لأنه سيكون ممكنا ومعدوما ثم وجد، وهكذا في بقية الاسباب التي تؤدي بدليل العقل واثارة الفكر الى النتائج المذكورة لتنزيه الخالق سبحانه مثلا اذا لم يكن مدركا بالحواس فلاشك انه لا يحس، واذا كان الفطن لا تتوهمه فلا يمكن ان يصوّر.

ص: 304

ج - حجاج التعليل بالأداة

تقوم حجة السببية في هذه الخطبة بشكل واضح يتجلى في الاكثار من الروابط السببية كاللام والفاء السببية والباء الجارة (التي تفيد التعليل)، فمن امثلتها في اللام:

لَمْ يَتَكَأدْهُ صُنْعُ شَيْء مِنْهَا إِذْ صَنَعَهُ،

وَلَمْ يَؤُدْهُ مِنْهَا خَلْقُ مَا بَرَأَهُ وَخَلَقَهُ، وَلَمْ يُكَوِّنْهَا... لِتَشْدِيدِ سُلْطَان،

وَلاَ لِخَوْف مِنْ زَوَال وَنُقْصَان،

وَلاَ لِلاْسْتِعَانَةِ بِهَا عَلَی نِدٍّ مُكَاثِر

وَلاَ لِلاْحْتِرَازِ بِهَا مِنْ ضِدٍّ مُثَاوِر

وَلاَ لِلاْزْدِيَادِ بِهَا فِي مُلْكِهِ،

ولاَ لِمُكَاثَرَةِ شَرِيك فِي شِرْكِهِ،

وَلاَ لِوَحْشَة كَانَتْ مِنْهُ، فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَأْنِسَ إِلَيْهَا.

تنبني هذه الفقرة على تنوع الاسباب لام التعليل مع اختلاف العلة واستيفاء الوجوه في علة الخلق، وفي الفناء ايضا يشير الى العلة من ذلك بروابط الواو ولكن

ثُمَّ هُوَ يُفْنِيهَا بَعْدَ تَكْوِينِهَا،

لاَ لِسَأَم دَخَلَ عَلَيْهِ فِي تَصْرِيفِهَا وَتَدْبِيرِهَا،

وَلاَ لِرَاحَة وَاصِلَة إِلَيْهِ، وَلاَ لِثِقَلِ شَيْء مِنْهَا عَلَيْهِ.

لاَ يُمِلُّهُ طُولُ بَقَائِهَا فَيَدْعُوَهُ إِلَی سُرْعَةِ إِفْنَائِهَا، لكِنَّهُ سُبْحَانَهُ دَبَّرَهَا بِلُطْفِهِ، وَأمسَكَهَا

بِأَمْرِهِ، وَأَتْقَنَهَا بِقُدْرَتِهِ.

ص: 305

وفي مرحلة البعث والنشور ايضا دون حاجة اليها.

ثُمَّ يُعِيدُهَا بَعْدَ الْفَنَاءِ مِنْ غَيْرِ حَاجَة مِنْهُ إِلَيْهَا،

وَلاَ اسْتِعَانَة بَشَيْء مِنْهَا عَلَيْهَا،

وَلاَ لِانصِرَاف مِنْ حَال وَحْشَة إلَی حَالِ اسْتِئْنَاس،

وَلاَ مِنْ حَالِ جَهْل وَعَمىً إِلَی [حَالِ] عِلْم وَالْتِمَاس،

وَلاَ مِنْ فَقْر وَحَاجَة إِلَی غِنىً وَكَثْرَة،

وَلَا مِنْ ذُلٍّ وَضَعَة إِلَی عِزٍّ وَقُدْرَة (36).

وتظهر فاعلية التعليل بالباء في الخطبة نفسها في موضع آخر في قوله:

بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ عُرِفَ أَنْ لاَ مَشْعَرَ لَهُ

وَبِمُضَادَّتِهِ بَيْنَ الأمور عُرِفَ أَنْ لاَ ضِدَّ لَهُ،

وَبِمُقَارَنَتِهِ بَيْنَ الأشياء عُرِفَ أَنْ لاَ قَرِينَ لَهُ.

فالباء في النص السابق تعليلية تقدمت تقدم السبب على النتيجة والعلة على المعلول، مع التنغيم الذي يخلقه الجناس والاشتقاقات في كل جملة على حدة وكما يتضح:

بِتَشْعِيرِهِ الْمَشَاعِرَ...مَشْعَرَ

وَبِمُضَادَّتِهِ...ضِدَّ

وَبِمُقَارَنَتِهِ...قَرِينَ

ومعلوم ما للأثر الصوتي والايقاع من هيمنة على الخطابة بشكل عام وهذا النص خاصة، فهو يصطنع جوا مؤثرا ويستميل المتلقي وتزيد عوامل الانشداد في نفسه.

ص: 306

والرابط الثالث هو فاء السببية التي تتكرر في النص بشكل واضح مشيرة الى العلة

لاَ يُقَالُ: كَانَ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ، فَتَجْرِيَ عَلَيْهِ الصِّفَاتُ الْمُحْدَثَاتُ،

وَلاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَصْلٌ، وَلاَ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ، فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ والْمَصْنُوعُ، وَيَتَكَافَأَ المُبْتَدَعُ وَالْبَدِيعُ.

ومنه قوله:

خَضَعَتِ الاْشْيَاءُ لَهُ،

وَذَلَّتْ مُسْتَكِينَةً لِعَظَمَتِهِ،

لاَ تَسْتَطِيعُ الْهَرَبَ مِنْ سُلْطَانِهِ إِلَی غَيْرِهِ فَتَمْتَنِعَ مِنْ نَفْعِهِ وَضَرِّهِ،

وَلاَ كُفؤَ لَهُ فَيُكَافِئَهُ، وَلاَ نَظِيرَ لَهُ فَيُسَاوِيَهُ.

هُوَ الْمُفْنِي لَهَا بَعْدَ وُجُودِهَا، حَتَّى يَصِيرَ مَوْجُودُهَا

ومنه قوله

وَلاَ أَنَّ الاْشْيَاءَ تَحْوِيهِ فَتُقِلَّهُ أَوْ تُهْوِيَهُ،

أَوْ أَنَّ شَيْئاً يَحْمِلُهُ، فَيُمِيلَهُ أَوْ يُعَدِّلَهُ.

وكثرا ما تأتي الاسباب بعد مقدمات كثرة، تعتمد في اغلبها عى النفي والربط بالواو، وهو ما يتضح في قوله:

يُخْبِرُ لاَ بِلِسَان وَلَهوَات، وَيَسْمَعُ لاَ بِخُروُق وَأَدَوَات،

يَقُولُ وَلاَ يَلْفِظُ،

وَيَحْفَظُ وَلاَ يَتَحَفَّظُ،

ص: 307

وَيُرِيدُ وَلاَ يُضْمِرُ.

يُحِبُّ وَيَرْضَی مِنْ غَيْرِ رِقَّة،

وَيُبْغِضُ وَيَغْضَبُ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّة.

يَقُولُ لِمَا أَرَادَ كَوْنَهُ: كُنْ فَيَكُونُ، لاَ بِصَوْت يَقْرَعُ،

وَلاَ بِنِدَاء يُسْمَعُ، وَإِنَّمَا كَلاَمُهُ سُبْحَانَهُ فِعْلٌ مِنْهُ أَنْشَأَهُ وَمَثَّلَهُ،

وكقوله:

لَمْ يَكُنْ مِنْ قَبْلِ ذلِكَ كَائِناً

وَلَوْ كَانَ قَدِيماً لَكَانَ إِلهاً ثَانِياً.

د - حجاجية البنية الصرفية

من اشكال التكرار التي وردت في النص تكرار البنية الصرفية كاسم الفاعل واسم المفعول، والافعال المضارعة، فمن تكرار اسم الفاعل قوله:

فَاعِلٌ لاَ بِاضْطِرَابِ آلَة،

مُقَدِّرٌ لاَ بِجَوْلِ فِكْرَة،

وقوله

لَيْسَ فِي الاْشْيَاءِ بِوَالِج، وَلاَ عَنْهَا بِخَارِج.

وقوله

مُؤَلِّفٌ بَيْنَ مُتَعَادِيَاتِهَا،

مُقَارِنٌ بَيْنَ مُتَبَايِنَاتِهَا،

مُقَرِّبٌ بَيْنَ مُتَبَاعِداتِهَا،

ص: 308

مُفَرِّقٌ بَيْنَ مُتَدَانِيَاتِهَا

وعند التأمل في هذه الجمل نرى ان كل صيغ اسم الفاعل جاءت نكرة للتعبير عن العموم والاطلاق في الصفة، ففي الجملتين الاوالى والثانية نلحظ نفي الواسطة زيادة في التوكيد اذ القيد المذكور لنفي صفات الممكن عنه سبحانه.

ولا يخفى ان دلالة اسم الفاعل تختزن في داخلها مفهوم الفعل (فالفاعل الصانع والخالق)، في حين تكرارا اخر ولكن لصفة لمخلوق (اسم المفعول) وهي تستبطن حمولة لغوية لما وقع عليه الفعل. في قوله:

لَمْ يَلِدْ فَيَكُونَ مَوْلُوداً، وَلَمْ يُولَدْ فَيَصِيرَ مَحْدُوداً.

وقوله:

وَلاَ يَكُونُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ فَصْلٌ، وَلاَ لَهُ عَلَيْهَا فَضْلٌ، فَيَسْتَوِيَ الصَّانِعُ والْمَصْنُوعُ، وَيَتَكَافَأَ المُبْتَدَعُ وَالْبَدِيعُ.

ومن حجاجية الصيغة الصرفية كثرة تردد الفعل المضارع المنفي ب(لا) او (لم) ايضا:

(تصحبه، ترفده، يشمل، يحسب، يجري، يحول، يزول، يجوز، يلد، يولد، تناله، يتغير، يتبدل، تبيله، يغيره، يوصف، يقال، يلفظ، يتحفظ، يضمر، يكن، يقال، يكون، يستغن، يعجزه، يمتنع، يحتاج، يتكأده، يؤده، يكونها).

هذه اهم الافعال المضارعة المنفية في النص، وهي كما يتضح افعال مضارعة تشير الى نفي هذه الصفات واللوازم حالا واستقبالا بما لا يدع مجالا لإثبات صفة المخلوق له سبحانه عما يصفون، وفي اكثر الاحوال نجد ان افعال السلب (المنفية) تأتي مضارعة لما لها من امتداد زمني طولي غير منقطع الاب القرينة، في حين تأتي

ص: 309

افعال الوصف او الايجاب للذات الالهية او ما يسمى بالصفات الثبوتية بصيغة الفعل الماضي الدال على التحقق في الماضي والوقوع، وهو ملم اسلوبي يضفي بعدا حجاجيا اعمق في نفس المتلقي، وهذا لاعني ان الفعل الماضي لم يأت منفيا (سلبيا) في ال نص قط - بل جاء ولكن في مواضع قليلة وكذلك بالنسبة للفعل المضارع ( الثبوتي).

من ذلك مثلا قوله (عليه السلام): «وَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ، يَعُودُ بَعْدَ فَنَاءِ الدُّنْيَا وَحْدَهُ لاَ شَيْءَ مَعَهُ، كَمَا كَانَ قَبْلَ ابْتِدَائِهَا، كَذلِكَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَائِهَا، بِلاَ وَقْت وَلاَ

مَكَان، وَلاَ حِین وَلاَ زَمَان».

ومن صور ورود الفعل الماضي لأثبات الفعل قوله:

وَحَصَّنَهَا مِنَ الاْوَدَ وَالاْعْوِجَاجِ،

وَمَنَعَهَا مِنَ التَّهَافُتِ وَالانْفِرَاجِ،

أَرْسَى أَوْتَادَهَا،

وَضَرَبَ أَسْدَادَهَا،

وَاسْتَفَاضَ عُيُونَهَا

وَخَدَّ أَوْدِيَتَهَا،

فَلَمْ يَهِنْ مَا بَنَاهُ، وَلاَ ضَعُفَ مَا قَوَّاهُ.

ويظهر من النص اعلاه الفعل الماضي وهو يدل على الوقوع فلم يسبق بنفي الا في (ضعف) وقد جاء ماضيا مراعاة للنفي الذي وقع في الفعل المضارع المنفي ب(لم) اذ العطف يقتضي التشريك، المضارع المنفي ب (لم) بحكم الماضي، بل هو ماض، لذا عطف عليه ب(لا) زيادة في توكيد النفي ودلالة على امتداد الفعل في الازل.

ص: 310

ومن ورود الماضي ايضا قوله:

1. جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الاْبْنَاءِ

2. وَطَهُرَ عَنْ مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ..

3. سَبَقَ الاْوْقَاتَ كَوْنُهُ

4. ضَادَّ النُّورَ بِالظُّلْمَةِ

5. بِهَا تَجَلَّی صَانِعُهَا لِلْعُقُولِ

6. وَبِهَا امْتَنَعَ عَنْ نَظَرِ الْعُيُونِ 312

ص: 311

الخاتمة

بعد تلك القراءة السريعة لخطبتي النهج (الاولى و186) يمكن للباحث ان يشير الى اهم الملامح الحجاجية للنص بعد التأمل والتحليل ومنها:

1. مع ان الدين - كما يرى بعض الدارسين - من الموضوعات البديهية التي لا تخضع للحجاج بل تدخل ضمن دائرة الايمان، فان مباحث العقيدة كما يشير العلماء والفقهاء لابد ان تكون عن قناعة ودليل، بل لابد من استحصالها والوصول فيها الى يقين قطعي في اثبات العقائد، ويمثل الحجاج خير وسيلة اقناعية في هذا المورد، اذ يحقق الإقناع والاطمئنان بدليل العقل وساطع البرهان.

2. تزداد الحاجة اليوم الى بناء القناعات ولا سيما في الوقت الذي ترتفع فيه اصوات الدعوات الضالة ومن يروج لها، فلا حاجة الى التصعيد او التكفير، بل يكفي ان نصنع القناعات في مجتمعنا في شتى الميادين من خلال المنهج الحجاجي والادلة العقلية فيما يتعلق بالعقيدة، فالأمر يحتاج الى ثورة فكرية ومواجهة لكل تيارات الانحراف وهي مسؤولية كل مؤمن رسالي فضلا عن المثقف ورجل الدين.

3. في النص العلوي تهيمن الروابط الحجاجية لا سيما حروف العليل والسببية بشكل لافت للنظر مثل (الفاء واللام والباء...) وهي تشعر بقوة الخطاب المتوجه من الباث الى المتلقي معززة كل نتيجة بجملة اسباب لا بسبب واحد من خلا توظيف الروابط وسبكها للنص.

4. يسهم التكرار في بناء النص بناء حجاجيا كونه عاملا مهما من عوامل خلق الاقناع والتوكيد والتركيز على الافكار المركزية والبؤر الاساسية للنص.

5. روابط العطف هي الأخرى تكثر في النص وتزيد من قوة سبكه وعطف

ص: 312

الحجج بعضها على البعض وربط الاسباب بمسباتها واحيانا يتطلب الامر عشرات الجمل، فلابد من وجود الروابط التي تسبك النص وتخلق بين فقراته التماسك.

6. مثل النفي وهو آلية النقض ودحض الفكرة وابطال الحجة في النص العلوي وقد تنوعت اساليبه بين نفي الجملة والمفردة، ومع اقتران النفي بالتكرار تزداد الطاقة الاقناعية للنص، اذ يشكل النفي نقضا لفكرة وهدمها، ومن ثم بناء منظومة عقيدية اخرى، وتجدر الاشارة الى كثرة تردد النفي في الخطاب التوحيدي، لأن سلب صفات الممكن عن واجب الوجود تقتضي وفرة الادوات التي تنزه الخالق عن صفات المخلوق.

7. البناء التسلسلي او السمي للحجج والتأسيس على بعضها البعض يضفي على النص تماسكا وحجاجية اكثر لاسيما مع توالي المقدمات - مع كثرتها - وارتباطها بالنتائج.

هوامش البحث:

1. كتاب العين: ج 3 / 10.

2. مقاییس اللغة: ج 2 / 23 - 24

3. التعريفات: 67.

4. التعريفات: 86

5. التعريفات: 60

6. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: 13، نقلا عن مصنف في الحجاج: 5

7. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: 68، نقلا عن مصنف في الحجاج: 146

8. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: 15، نقلا عن مصنف في الحجاج: 54

9. المعجم الفلسفي: ج 1 / 446.

10. موسوعة البلاغة:ج 1 / 143.

11. مدخل إلى الحجاج - أفلاطون وأرسطو وشاییم بیرلمان: محمد الولي: 11. مجلة عالم الفكر، مج 40

ص: 313

ع 2، 2011 م.

12. ينظر: المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم: 194

13. سورة الأنعام: 149

14. سورة البقرة: 150

15. سورة الشوری: 16

16. سورة الشوری: 15.

17. سورة الأنعام: 80

18. سورة آل عمران: 61.

19. سورة ال عمران: 65

20. سورة ال عمران: 66

21. سورة غافر: 47

22. المفردات في غريب القرآن: 108.

23. ينظر: مفهوم الحجاج في القران الكريم - دراسة مصطلحية: د. لمهابة محفوظ میارة، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مجلد 81، ج 3،

24. استراتيجيات الخطاب: 477

25. ينظر: الحجاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: 26 - 27

26. بلاغة الحجاج في الشعر القديم: 17.

27. معجم تحليل الخطاب باتريك شارودو ودومينيك مانغولو: 23.

28. ينظر: مصادر نهج البلاغة.

29. بلاغة الحجاج في الشعر القديم: 61

30. الحجاج في الشعر العربي: 168

31. نهج البلاغة: 17 - 18

32. دراسات في الحجاج: 122.

33. لسانیات النص: 19 - 17

34. بلاغة الاقناع في المناظرة: 223

35. لسانیات النص: 22

36. نهج البلاغة: 342

ص: 314

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. استراتيجيات الخطاب - مقاربة لغوية تداولية: د. عبد الهادي ظافر الشهري، دار الكتاب الجديد، بنغازي ليبيا، ط 1، 2004 م

2. بلاغة الاقناع في المناظرة: د. عبد اللطيف عادل، منشورات دار ضفاف، والاختلاف - بيروت، ط 1، 2013 م.

3. بلاغة الحجاج في الشعر القديم: د. محمد سيد علي عبد العال، مكتبة الآداب - القاهرة، ط 1، 2014 م.

4. التعريفات: السيد الشريف علي بن محمد الجرجاني (816 ه)، دار أحياء التراث العربي - بيروت ط 1، 2003 م.

5. الحجاج في الشعر العربي بنيته وأساليبه: د. سامية الدريدي، عالم الكتب الحديث، اربد - الاردن، ط 2، 2011 م.

6. دراسات في الحجاج: د. سامية الدريدي، عالم الكتب الحديث، عمان ط 1، 2009 م.

7. في نظرية الحجاج دراسات وتطبيقات: د. عبد الله صولة، دار الجنوب، تونس ،ط 1، 2011 م.

8. كتاب العين: الخليل بن أحمد الفراهيدي، تحقيق: د. مهدي المخزومي ود. إبراهيم السامرائی، دار ومكتبة الهلال.

9. لسانيات النص - مدخل الى انسجام الخطاب: محمد خطابي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، ط 2، 2006 م.

10. مدخل إلى الحجاج - أفلاطون وأرسطو وشاييم بيرلمان: د. محمد الولي، مجلة عالم الفكر، مجلة دورية محكمة تصدر عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب،

ص: 315

مج 40 ع 2، 2011 م.

11. مدخل إلى الحجاج: أفلاطون وأرسطو وشاییم بیرلمان، د. محمد الولي، 11، مجلة عالم الفكر، مج 40 - ع 2، 2011 م.

12. المعجم الفلسفي: د. جميل صليبا، منشورات ذوي القربی، مط: سلیمانزادة، إيران، ط 1، 1385 ه.

13. المعجم المفهرس لألفاظ القران الكريم: محمد فؤاد عبد الباقي، دار الحديث، القاهرة، 1364 ه.

14. معجم تحليل الخطاب باتریك شارودو ودومینیك مانغونو، ترجمة: عبد القادر المهيري حمادي صمود، المركز الوطني للترجمة - تونس 2008 م.

15. المفردات في غريب القران: الراغب الأصفهاني (502 ه)، تحقيق: محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت.

16. مفهوم الحجاج في القران الكريم - دراسة مصطلحية: د. لمهابة محفوظ میارة، مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، مجلد 81، ج 3،

17. مقاییس اللغة: لأبي الحسين أحمد بن فارس بن زکَرِیّا (395 ه)، تحقيق: عبد السَّلام محمد هَارُون، اتحاد الكتاب العرب، 1423 ه - 2002 م.

18. موسوعة البلاغة: تحریر: توماس أ.سلون، ترجمة: نخبة، إشراف: عماد عبد اللطيف، مصطفي لبيب، المركز القومي للترجمة، مصر، 2016 م.

ص: 316

الضرورة الشعرية بين أحكام النحويين وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام)

اشارة

«دراسة في نقص الاستقراء النحوي»

م. م. حيدر هادي خلخال الشيباني

كلية التربية للعلوم الإنسانية - جامعة بابل

ص: 317

ص: 318

بسم الله الرحمن الرحيم

المقدمة

الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصّلاةُ والسّلامُ على النبيِّ العربيِّ الأمينِ، سَیدِنا محمدٍ (صلی الله علیه وآله) خاتمِ المرسَلين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصَحبِهِ الغُرِّ الميامين.

أمّا بعدُ

فغير خافٍ على أُولي الدراية والنُّهي، وعلى أرباب الفكر والمعرفة، أنَّ كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) عامة والمجموع في (نهج البلاغة) خاصة بحرٌ لا يُدرك قرارُه، ولا تُسبرُ أغوارُه، فهو ذروةُ الكلامِ العربي الفصيح بعد كلام الباري عز وجل، وکلام نبيِّه المصطفی (صلی الله علیه وآله)، وقد ضمَّ نفحاتٍ من كلامِ العزيز الجبار، وقبسات من بدائع النبيِّ المختار، وحوى من الأساليب النحوية أرقاها، وتضمن من جواهر المعاني أعلاها، ولا شك في ذلك فهو ((كلام دون کلام الخالق وفوق کلام المخلوقين)).

وتسعى دراستنا هذه إلى نقد القواعد النحوية التي بُنيت على استقراء ناقص، وتصحيح بعض ما تقرر من أحكام نحوية قصرها النحويون على لغة الشعر وحده، اتضح خلاف ذلك، فهي واردة في النظم والنثر على حد سواء، مستندين بذلك إلى كلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة، فهو نص عربي فصيح فريد في لغته وتراکیبه، قد جاء على وفق معايير علماء العربية فيما يصح الاستشهاد به، لكنه لم ينلْ استحقاقه في الدرس النحوي.

وفي الختام أَرجو أن أكون قد وفِقتُ في عملي هذا فإنْ أكنْ أصبتُ فذلك من کرمِ الله تعالى وحُسنِ توفيقه، وإنْ كانت الاخرى فمن قصور یدیَّ وخطئها وجل

ص: 319

من لا يُخطئ، والكمال لله وحده، وآخرُ دعوانا أَنِ الحَمْدُ للهِ ربِّ العالمين وصلواتُه وسلامُهُ على نبيِّنا مُحمّدٍ الأمين (صلی الله علیه وآله) و آلهِ الطيبين الطاهرين (علیهم السلام)، وصحبه المنتجبين (رضي الله عنهم).

التمهيد: الضرورة الشعرية وأهم مذاهب النحويين فيها:

درجَ أعلام الدرس النحوي على الاستشهاد بالشعر بوصفه مصدرًا مهمًا من مصادر التقعيد النحوي، ومن المسلَّم به أنَّ لغة الشعر تتسم برکیزتين أساسيتين هما الوزن والقافية فضلا عن اتسامه بطابع الانفعال بخلاف النثر، ومن هنا كانت للغة الشعر خصوصية في طريقة استعمال المفردة جرْسًا وبنيةً، وفي صوغ التركيب؛ لإيصال الانفعال من جهة، والتأثير في المتلقي من جهة أخرى(1)، ومن هنا قد يضطر الشاعر إلى الخروج عن قواعد النحو من أجل إيصال أفكاره، قال ابن جني: ((الشعر موضع اضطرار، وموقف اعتذار. وكثيرا ما يُحرفُ فيه الکَلِم عن أبنيته وتُحال فيه المُثُل عن أوضاع صِيَغها لأجله))(2)، وسُمي هذا الخروج بالضرورة الشعرية في التراث اللغوي العربي.

الضرورة كما تناولتها معجمات اللغة مشتقة من مادة (ضرر)، وهي اسم لمصدر (الاضطرار) وهو الحاجة إلى الشيء أو الإلجاء إليه، ورجلٌ ذو ضرورة، أي: ذو حاجة، وقد اضطر إلى الشيء أي أُلجِئ إليه(3)، ومنه قوله تعالى: «فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ» (سورة البقرة من الآية: 173).

أما في الاصطلاح فإنّ الذي يظهر أنَّها من مصطلحات الفقهاء والمفسرين، إذ تعني عندهم (الحالة المُلجِئة إلى ما لا بدَّ منه، والضرورة أشدُّ درجات الحاجة))(4) وعلى هذا تشمل ((كلَّ ما أدّى إلى الاضطرار، کالمشقة التي لا مدفع لها، وما به حفظ النفس وغيرها، كالحاجة الشديدة إلى الماء أو الأكل. ومنها «الضرورات

ص: 320

تُبيح المحظورات»))(5).

وأما مفهوم الضرورة الشعرية في الاصطلاح اللغوي إجمالًا فتعني ((الخروج على القواعد والأُصول بسبب الوزن والقافية، وقد جوَّز القدماء للشاعر ما لم يجوّزوا للناثر))(6)؛ لأنّ احتفال العرب بالشعر جعلت اللغويين يقولون: ((الشعراء أُمَراء الكلام، يقصرون الممدود، ولا يمدُّون المقصور، ويقدّمون ويؤخرون، ويؤمنون ويشيرون، ويختلسون ويُعيرون ويستعيرون))(7).

وقد اختلفت كلمة النحويين في معنى الضرورة الشعرية على مذهبين، فمذهب الجمهور يرى أن الضرورة ما تقع في الشعر دون النثر سواء أكان عنه مندوحة (سعة أو فسحة) أم لا(8)، فلم يشترطوا فيها اضطرارَ الشاعر إلى الخروج عن بعض الأقيسة النحوية، بل جوّزوا له في الشعر ما لم يجُز في الكلام(9)، ويمثل هذا الرأيَ ابنُ جني الذي يقول: ((ألَا تراهم كيف يدخلون تحت قبح الضرورة مع قدرتهم على تركها، ليعدوها لوقت الحاجة إليها))(10)، وابنُ عصفور الذي يقول: ((اعلمْ أنَّ الشعر لما كان موزونًا يخرجه الزيادة والنقص منه عن صحة الوزن ويحيله عن طريق الشعر أجازت العرب فيه ما لا يجوز في الكلام اضطروا إلى ذلك أو لم يضطروا)) (11) وأخذ بهذا المذهب الرضي (12) وابن هشام (13)، والبغدادي (14)، والالوسي (15).

ومذهب آخر يرى في الضرورة أنّها تقع فيما ليس للشاعر عنه مندوحة (16)، أي تقع بشرط الاضطرار، وهو المذهب الذي نسبه بعض النحويين إلى سيبويه (17)، وعليه يكون إمامَ ابنِ مالك الذي هو رائد هذا المذهب والمشتهر به كثيرًا، فقد صرَّح معقِبًا على بعض الأبيات الشعرية قائلًا: ((فإذ لم يفعلا ذلك مع استطاعته ففي ذلك إشعار بالاختيار وعدم الاضطرار))(18)، وأشار آخرون إلى أنَّ سيبويه

ص: 321

يرى رأيَ الجمهور في الضرورة (19)، والسر في هذا الاختلاف والاضطراب يرجع إلى تحليل كلِّ فريق لكلام سيبويه.

وأغلب الظنِّ أن ما ذكره سيبويه أقرب إلى فهم الجمهور في هذه المسألة؛ ((لأن كثيرا من الشواهد التي أوردها في أقسام الضرورة المختلفة من تلك الشواهد التي وردت فيها روايات أُخرى، تُخرجها من مجال الضرورة، ومع ذلك لم يذكر سيبويه شيئًا من تلك الروايات في كتابه)) (20)، على أَنَّ ختام الباب الذي عرض فيه (ما يحتمل في الشعر) ولا يجوز في الكلام جاء فيه: ((وليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها)) (21)، وعلى وفق هذا فإنَّ الضرورة عنده - وإن كانت تقتصر على الشعر ولا تجوز في سعة الكلام - إلا أنَّ الشاعر لا بد من أنْ يسعی من وراء ارتكابها إلى معنى تجيزه أقيسة العربية المستنبَطة من النثر، وإلا يُعدُّ ما جاء به مخالِفًا للقواعد، إذ يقول في باب الممنوع من الصرف: ((اعلم أنَّه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام من صرف ما لا ينصرف، يشبهونه بما قد حُذف واستُعمل محذوفًا)) (22)، كما جرى حمل المسائل بعضها على بعض على نحو التشابه بينها في الأحكام في مواضع أُخر (23). ومن أجل هذا ذهب السيد إبراهيم محمد إلى أن ((المعنى الذي تتوجه عليه الضرورة الشعرية عند سيبويه أنها بلوغ مستوى من التعبير مبلغ مستوى آخر)) (24)، ولهذا قيل: ((علة الضرائر التشبيه لشيء بشيء أو الرد إلى الأصل)) (25)، فالفرق بين ما يقع في الشعر والنثر من خروج عن القواعد واحد ((فكلاهما خروج عن القياس، وإنما الفرق بينهما أنَّ الشعر وقع فيه من ذلك ما لم تَثبت الرواية بوقوعه في الكلام، وهذا هو محل الضرورة)) (26)، وهذا هو وجه الكلام في هذا الباب الذي وسمناه (ما حمله النحويون على الضرورة الشعرية وورد في كلام الامام (علیه السلام)، إذ ليس مهمًا لديَ سواء أكان الشاعر مُختارًا

ص: 322

في ارتكابه الضرورات أم مضطرًا إلى ذلك، فغايتنا الرئيسة تنصب حول التماس شيءٍ من النظائر النثرية الواردة في كلامه ( علیه السلام) لجملة من القواعد النحوية التي حُكم عليها بأنها من الضرائر الشعرية، لنُثبت بذلك أنها ليست مقتصرة على لغة الشعر فقط، بل هي واردة في النثر أيضًا، وبهذا يظهر مدى نقص استقراء النحويين، وإغفالهم لنصوص نهج البلاغة في التقعيد النحوي.

ولمّا كانت الضرورات مرتبطة بالشعر، والشعر ما لا يحيط به أحد تعذّرَ حصرُها وإحصاؤها، على أن هذا لم يمنع علماء العربية من وضع تقسیمات عامة تنطوي تحت كل قسم مباحث فرعية، ولعل لابن السراج قصب السبق في تثبیت مبادئ التصنيف في الضرورة، إذ قال: ((ضرورة الشاعر أنْ يضطر الوزن إلى حذف أو زيادة أو تقديم أو تأخير في غير موضعه وأبدال حرف أو تغيير إعراب عن وجهه على التأويل أو تأنیث مذكر على التأويل وليس للشاعر أن يحذف ما اتفق له ولا أن یزید ماشاء بل لذلك أصول يعمل عليها))(27)، وقد راعى تلك الأصول أغلب من جاء بعده مثل السيرافي (28)، وابن عصفور(29) وأبو حيان (30) .

وقد تناول البحث نماذج من مسائل الضرورة الشعرية منقسمًا على المباحث الآتية:

ص: 323

المبحث الأول: توكيد جواب الشرط بنون التوكيد:

للتوكيد في العربية أنماط مختلفة وأساليب متعددة من ذلك التوكيد بنونَي التوكيد الثقيلة أو الخفيفة، وهما حرفان من حروف المعاني، قد اتفق النحويون على دلالتهما على التوكيد، وإنْ كان التوكيد بالثقيلة أشدَّ دلالةً كما نُقل عن الخليل(31).

وقد دار خلافٌ بين النحويين في أصلهما، فذهب البصريون إلى أنهما أصلان، على حين يرى الكوفيون أنَّ المشددة هي الأصل (32)، وهما حرفان يختصان بالدخول على الأفعال، فيؤكد فيهما الفعل المضارع جوازًا أو وجوبًا(33).

ومن المواضع التي اختلف فيها النحويون هي دخول نون التوكيد في جواب الشرط، فقد ذهب فريق منهم إلى أنّ هذا التوكيد إنّما يجوز في الشعر لا في النثر، قال سيبويه: ((وقد تدخل النون بغير «ما» في الجزاء، وذلك قليلٌ في الشعر، شبهوه بالنهي حين كان مجزوماً غير واجب)) (34) نحو قول الشاعر کمیل بن معروف (35): (من الطويل)

فمهما تَشَأ مِنْهُ فَزازَةُ تُعْطِكُمْ ٭٭٭ ومهما تَشَأ مِنْه فزارَةُ تَمْنَعَا

وقد انتهج مذهبَ سيبويه هذا جمعٌ من علماء العربية منهم الفرّاء وهو يعرض لقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ» (سورة النمل من الآية: 18)(36)، وقد أكد هذا المذهبَ المبّردُ (37)، وابنُ السراج (38)، والسيرافي (39)، وأبو علي الفارسي (40)، والقيرواني (41)، وأبو البركات الأنباري (42)، والزمخشري (43)، وابن الحاجب (44)، وآخرون (45).

إنَّ حمل الشاهد الشعري على الضرورة الشعرية لا يمنع من تعليله وبيان وجهه

ص: 324

في العربية، إذ ((ليس شيء يضطرون إليه إلا وهم يحاولون به وجها))(46)، ومن هنا ذهب علماء العربية إلى أنَّ علة توكيد جواب الشرط - وهو مما لا يجوز في سعة الكلام - هي مشابهته للنهي، وقد فسر هذا أبو علي الفارسي بقوله: ((شبهوا الجزاء لمّا أدخل النون عليه بالنهي؛ لأن الجزاء فعل مجزوم کما أنَّ النهي فعل مجزوم وهو غير واجب کما أنَّ النهي غير واجب))(47)، أي إنَّ العلة علة مشابهة، فالعرب ((يشبهون الشيء بالشيء وإن لم يكن مثله في جميع الأشياء))(48)، وبحسب هذا الفهم فالمفترض أن يكون هذا داعيًا إلى قبول هذا التوكيد في غير الشعر لا قصره عليه، ولعل الذي دعاهم إلى هذا هو نقص استقرائهم وعدم التقصّي بدقة عن شواهد في غير الشعر؛ لأنَّ الشواهد على تلك المسالة كثيرة من القرآن الكريم (49) وغيره.

كان على النحويين أن يستندوا إلى هذه النصوص القرآنية وسواها في تعديل القاعدة النحوية؛ فالضوابط النحوية يجب أن تخضع للنصوص الفصيحة المسموعة وتستند اليها وليس العكس، لكننا رأيناهم يتمسكون بما تقرر لديهم محاولین تأويل هذه النصوص على الحذف والتقدير، بل جزم ابن السراج بعدم جوازه فقال: ((لا يجوز: إن تأتني لأفعلن))(50).

إنَّ النحويين - من أجل الخروج من تضارب السماع والقياس - قد ذهبوا إلى أنَّ الفعل المؤكَّد بالنون ههنا لم يقع في جواب الشرط، بل وقع في جواب قسَمٍ دلَّتْ عليه (اللام) الموطئة للقسم المحذوفة في (إنْ)، وعلى هذا يكون التركيب قائمًا على الشرط، إلا أنَّ جوابه قد حُذِفَ لدلالة جواب القسم المقدَّر عليه، لحذف (اللام) الموطئة للقسم قبل (إنْ)(51)، وتأكيدهم على حذف (اللام) الموطئة للقسم إنما أصله الخلاف في جواز وقوع الجواب للشرط مع تقدم القسم عليه، فإنَّ الثابت لدى أكثر النحويين أنه إذا اجتمع الشرط والقسم فإنَّ الجواب للسابق

ص: 325

منهما؛ قال سيبويه : ((فلو قلت: إن أتيتني لأُكرمنَّك، وإن لم تأتني لأغمنَّك، جاز؛ ولأنه في معنی: لئن أتيتني لأكرمنك ولئن لم تأتني لأغمنك، ولا بد من هذه اللام مضمرة أو مظهرة؛ لأنها لليمين، كأنك قلت: والله لئن أتيتني لأكرمنك))(52).

وهذا الرأي لم يصمد أمام كثرة الشواهد النحوية المخالفة لما قرروه (53)، هذا من وجه، ومن وجه آخر فإنهم في الوقت الذي يُصرُّون على تقدير (اللام) الموطئة للقسم کي يسوّغوا دخول (اللام) في فعل الجواب نجدهم حين يُجاب القسم بالشرط يحملون (اللام) الموطئة على الزيادة أو على الضرورة الشعرية (54)، وفي هذا خلط واضح وجلِّي أساسه تقديم القاعدة والقياس على أدلة السماع الموثوق بها، لهذا نراهم يذهبون في توجيه الأفعال التي اقترنت بنون التوكيد في جواب الشرط إلى تقدير القسم (55).

لما تقدم كلِّه كان ينبغي الوقوف عند تلك الشواهد والنظر في سياقاتها والقرائن المحيطة بها للوصول إلى ضوابط نحوية تؤسس لقاعدة عامة على ألاّ تغفل ما يتفرع عنها من مسائل استنادًا إلى الموروث اللغوي المحتج به، وإذا كان استقراء النحويين قد أوصلهم إلى قاعدة ترى إجابة المتقدم من الشرط والقسم واجبة عند اجتماعهما فإننا لسنا ملزمين بهذا استنادا لما استقريناه من شواهد تخالف هذا.

واذا تقرر هذا فإنَّ السياق والقرائن الدلالية المحيطة في النص لها أثر في فهمه وبيان المراد منه؛ لذا إنَّ حمل تلك النصوص على حذف (اللام) الموطئة للقسم فيه بُعد وتكلف، إذ التركيب لم يكن بحاجة إلى توكيد الشرط والقسم عليه، فمدار الكلام في آية سورة الأعراف هو الحديث عن قصة نبيِّنا آدم وحواء (علیهما السلام) وبیان خشيتهما من الخسران المهدِّد لهم؛ لذا عمدَ النص إلى توكيد الفعل بالنون؛ لأنهما يخافان تحققه ووقوعه، لكنهما يطمعان بغفران ذنوبهما والعفو عنهما؛ لذا لم

ص: 326

يُقسما على هذا، وهذا ما دعاهما إلى التذلل والمسكنة للتعبير عمّا صدر عنهما من المخالفة؛ لذا قالا: «وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» والمعنى أنَّ ((خسران الحياة يهددنا وقد أطل بنا وما له من دافع إلا مغفرتك للذنب الصادر عنا وغشيانك إيانا بعد ذلك برحمتك وهي السعادة لما أن الانسان بل كل موجود مصنوع يشعر بفطرته المغروزة أن من شأن الأشياء الواقعة في منزل الوجود ومسیر البقاء أن تستتم ما يعرضها من النقص والعيب، وإن السبب الجابر لهذا الكسر هو الله سبحانه وحده فهو من عادة الربوبية))(56)، وبهذا يكون فعل الشرط قد أُجيب بالقسم (57) بفعل مؤکَّد بنون التوكيد، وما يعضُد هذا أن القرآن الكريم أشار إلى قصة النبي نوح (علیه السلام) فقال الله تعالى: «قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ» ( سورة هود: 47)، فلم يعمد النص إلى استعمال (اللام) الموطئة للقسم، بل جاء على الشرط فقال: ((وإلا تغفر...))؛ لأن النبي (علیه السلام) - كغيره من البشر - يطمع في مغفرة الله تعالى؛ لذا لم يؤکِّد الشرط المنفي.

وكذا الحال في آية سورة المائدة فإنَّ الذي دعا إلى أن يُعتنی بتوكيد جواب الشرط بنون التوكيد دون توكيد الشرط هو مراعاة السياق وظروف المقال أيضًا، فإنَّ توكيد الفعل (لَيَمَسَّنّ) فيها إنما جاء لبيان أنَّ مستحِق العقوبة هو من عاند وأصرَّ على فعلته، وتنبيهًا على أنَّ العذاب هو جزاء مَن دام على الكفر ولم ينقلع عنه (58). فمدارُ القول وأهميته تشديد العقوبة على هذا الصنف من الناس، أمّا الذين لم ينتهوا فلهم فرصة في التوبة والعودة إلى الصواب لهذا لم يكن ثمة ما يدعو إلى التوكيد والتشديد باستعمال (اللام) الموطئة للقسم، ودليل هذا أن الله تعالى قال في عَقب الآية: «أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ».

ص: 327

ومن الشواهد العلوية على هذه المسألة قوله (علیه السلام) في خطبة له في قسمة الأرزاق بين الناس: ((فإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِیرَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ؛ فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً)) (59).

كلامه (علیه السلام) في النهي عن الحسد بأنّ من يرى عند أخيه زيادة أو نماء في اد تلك الأمور فلا يحمله ذلك على الافتنان المفضي إلى الحسد والغيرة (60)، ((لأن من نظر في أحوال الدنيا الى من فوقه يستحقر ما عنده من نعم اللهّ، فيكون ذلك فتنة عليه)) (61)، فالتعليق الشرطي قائم في التركيب بدليل أن الإمام قرن النهي ب(الفاء) وهي جملة جواب الشرط، وقد جاء فعلها مؤكدًّا بنون التوكيد.

ومثله قوله (علیه السلام) في مقطع من كتاب إلى مالك الأشتر: ((وإِنِ ابْتُلِيتَ بِخَطأ،

وأفْرَط عَلَيْكَ سَوْطُكَ أوْ سَيْفُكَ أوْ يَدُكَ بِالْعُقُوبَةِ، فَإِنَّ فِي الْوَكْزَةِ فَما فَوْقَها مَقْتَلَةً، فلا تطْمَحَنَّ بِكَ نَخْوَةُ سُلْطانِكَ عَنْ أَنْ تُؤَدِّيَ إلى أَوْلِياءِ المَقْتُولِ حَقّهُمْ))(62).

فالفعل (تطمحن) الواقع في جواب شرط (إن ابتليت) جاء مؤكَّدًا بنون التوكيد.

ومثله قوله (علیه السلام) في إحدى حِكَمه: ((مَنْ وَضَعَ نَفْسَهُ مَوَاضِعَ التُّهَمَةِ فَلاَ يَلُومَنَّ مَنْ أَسَاءَ بِهِ الظَّنَّ))(63).

والنحويون يقدِّرون في مثل هذه الشواهد (لام) مضمرة موطئة للقسم قبل (إن) والتقدير (لئن)(64)، وهذا لا يصح مع وجود (الفاء) في الأفعال (تكونن) و( تطمحن)، فهي مما تربط فعل الشرط بجوابه.

ولعل ما يدحض تلك التقديرات كثرة الشواهد النثرية من القرآن الكريم وكلام الإمام (علیه السلام) فهما کافيان لإبطال القول القاضي بحمل التركيب على

ص: 328

الضرورة الشعرية، ولهذا ذهب ابن مالك إلى جوازه في سعة الكلام (65)، وتابعه الرضي فقال: ((وقد تدخل نون التأكيد اختيارًا في جواب الشرط))(66)، وهو ما رآه الشاطبي (67)، وناظر الجيش (68)، وأكده الاشموني (69)، وتبنّي هذه المسألة من المحدثين الدكتور خليل بنيان الحسون(70).

وصفوة ما ورد أنَّ القسم يصح أن يقع جوابًا للشرط، ولا داعي إلى تكلف التقدير والتأويل؛ لأنه ليس من الصواب أن يُعمد إلى تأويل تلك النصوص النحوية الكثيرة، ومما ينتج عن وقوع هذا القسم في الجواب توكيد الفعل المضارع بنون التوكيد، فأصل المسألة هو جواز وقوع القسم جوابا للشرط، وهو ما تحقق بورود الفعل مسبوقًا ب (لا) الناهية، فأوكد جوازا (71) ؛ لأن مدار الكلام معتمِد على الجواب.

واستنادًا إلى ما تقدم ذكره يمكن إعادة صوغ القاعدة النحوية بالآتي: جواز إجابة الشرط بالقسم، بفعل مؤكد بنون التوكيد في السعة والاختيار لا في الضرورة الشعرية فقط، استنادًا إلى ما ورد في البلاغة فضلاً عن القرآن الكريم وكلام العرب.

ص: 329

المبحث الثاني: إبقاء ألف (ما) الاستفهامية عند جرها بحرف الجر:

قرر النحويون أن ألف (ما) الاستفهامية تُحذف إذا سُبِقت بحرف جر، على أنْ تبقى الفتحة دليلًا عليها، وتعليل هذا الحذف إما للفرق بين الاستفهامية والموصولة(72)، أو للتخفيف لكثرة الاستعمال (73)، أو للدلالة على التركيب؛ إذ إنَّ ترکیب حرف الجر مع (ما) الاستفهامية يصيِّر هما ككلمة واحدة موضوعة للاستفهام للحفاظ على صدارة الاستفهام (74)، على أنَّ وجوب حذف الف (ما) الاستفهامية مقصور على المجرورة بحرف الجر، أما المجرورة بالإضافة في نحو: مجيء ما جئت فالحذف فيها ليس لازمًا(75).

وقد اختلفت آراء العلماء في حكم هذا الحذف، فذهب قسم من النحويين إلى أنّه واجب (76)، ومقيس(77)، ومن سنن العربية (78)، وذهب ابن جني إلى أنَّ حذف الألف لغة ضعيفة (79)، وعدَّه الهروي لغة(80)، وللزمخشري رأيان في توجيه هذا الحذف، فرأى في أحدهما أنَّ إثبات الألف جائز (81)، وأشار في الآخر إلى أنّ اثباتها قليلٌ شاذ(82).

ولما كان الوجوب النحوي في تلك المسالة منتقضًا بعدد من الشواهد الشعرية التي جاءت فيها الف (ما) الاستفهامية مثبتة بالرغم من جرها بحرف الجر في مثل قول حسان بن ثابت (83): (من الوافر)

على مَا قَامَ يَشْتمنِي لئيم ٭٭٭ كخنزيرٍ تَمرّغ فِي رَمادِ

ذهب جملة من النحويين إلى حمل هذا الإثبات على الضرورة الشعرية وقصروه عليها، ومن بينهم القزاز (84)، والعكبري (85)، وأبو حيان الذي يقول: ((والمشهور أن إثبات الألف في «ما» الاستفهامية، إذا دخل عليها حرف جر، مختص بالضرورة))(86).

ص: 330

وتابعهم على ذلك ابن هشام (78)، والأشموني(88)، والأزهري (89)، ومن المحدَثين محمود شكري الآلوسي(90)، وأحمد الحملاوي(91)، وعبد السلام هارون(92).

إنَّ اثبات الف (ما) الاستفهامية عند جرها بحرف الجر لم يكن مقتصرًا على الشعر فقط، بل هو وارد في الموروث اللغوي الفصيح، فقد جاء في مواطن متعددة من الحديث النبوي الشريف، هذا فضلا عن مجيئه في قراءة عيسی وعکرمة التي مرّ ذكرها، من ذلك قول النبي محمد (صلی الله علیه وآله) للإمام علي (علیه السلام): ((بِمَا أَهْلَلْتَ

يَا عَلِيُّ؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النبي (صلی الله علیه وآله) قَالَ: فَاهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ)) (93)، وقوله (صلی الله علیه وآله): ((لَيَأْتِیَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ مِنَ الْمَالِ، أمِنْ

حلالٍ أم مِن حَرامٍ)) (94).

وربما وقع نظر عدد من النحويين على بعض هذه الشواهد فاستند اليها في تجویز هذا الاثبات مطلقًا، ولعلّ الفراء يقف في مقدمتهم، اذ قال: ((وإذا كانت «مَا» في موضع «أي» ثم وصلت بحرفٍ خافضٍ نُقصت الألف من «مَا» ليعرف الاستفهام من الخبر. ومن ذلك قوله: «فِيمَ كُنْتم» «عَمَّ يتساءَلُونَ» وإن أتممتها فصواب)) (95)، وأخذ به الزمخشري في أحد قوليه(96) وقد مر ذكره، وصرح بمثل هذا الرازي في توجيه (ما) في قوله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ» (سورة آل عمران من الآية: 159) (97).

وممن أيد ذلك أيضّا ابن مالك بعد أن احتج بالشواهد الحديثية التي ذكرناها، ورأى جواز إثبات الألف إلا أنه حكم عليها بالشذوذ، إذ قال: ((وشذ ثبوت الألف في «بما اهللت»، و«لا يبالي المرء بما اخذ المال» (...)؛ لأنّ (ما) في المواضع الثلاثة استفهامية مجرورة فحقها أنْ تحذف فرقًا بينها وبين الموصولة)) (98)، ثم حمل بيت حسّان على الاختيار لا الاضطرار لإمكانه ان يقول (علام قام...)(99)، وابن

ص: 331

مالك في حكمه على تلك الشواهد بالشذوذ يخالف المنهج الذي سار عليه في كتابه (شواهد التوضيح) الذي عمد فيه إلى تعديل الكثير من القواعد النحوية احتكامًا إلى نصوص الحديث النبوي الشريف، وهذا ما نبّه عليه محقق الكتاب الدكتور طه محسن (100)، على أن وصف الشاهد الحديثي في هذه المسالة بالشذوذ لم يقتصر على ابن مالك بل سبقه في ذلك ايضا العكبري(101).

يبدو لي مما تقدم أن القصد بشذوذ الشواهد الحديثية معناه خروجها عن الباب وقياس النحويين، إلا أنها لم تشذ في استعمال العرب لاسيما عند فصحائهم وبلغائهم، وهذا ما نص عليه ابن السراج قائلا: ((والشاذ على ثلاثة أضرب: منه ما شذ عن بابه وقياسه ولم يشذ في استعمال العرب له)(102)؛ لذا يجب أن يستند إليه في تعديل القاعدة النحوية، لأنها بنيت على استقراء ناقص؛ لأن من أنماط الشاذ ((الشاذ المقبول؛ فهو الذي يجيء على خلاف القياس، ويقبل عند الفصحاء، والبلغاء)) (103)، ولا شك في أنَّ النبيَّ محمدًا (صلی الله علیه وآله) أفصح من نطق بالضاد، ويحدِّث الناس بما يعرفون وبما هو شائع عندهم؛ لذا قيل: إنَّ الشاذ هو ما ((يكون في كلام العرب كثيرًا لكن بخلاف القياس)) (104)، ولهذا فالاحتكام إلى ما سُمع في تعديل أقيسة النحويين أصل يعتد به (105)، ومن أجل هذا ذهب الفراء إلى تجويز هذا الاثبات مطلقًا من دون قصره على الشعر، وهو منطق صائب وسليم يفرضه الواقع اللغوي المؤيد لهذا الإثباث، الذي ورد في النثر الفصيح من كلام العرب (106)، الأمر الذي جعل الرضي يحكم على هذا الحذف الالف بالجواز لا الوجوب (107)، ولهذا فإن الأولى تصحيح القاعدة بالاستناد إلى ما سمع وإن كانت قياسًا، وهذا ما عليه الازهري الذي وصف المسالة بالضرورة في موضع، وصرح في موضع آخر إلى جواز ورودها في الشعر والنثر مستندًا في ذلك إلى قراءة عكرمة وعیسی(108).

وخلاصة ما تقدم يظهر لنا أنَّ اثبات الف (ما) الاستفهامية عند سبقها

ص: 332

بحرف الجر في غير التركيب ليس وقفًا على لغة الشعر، بل هو وارد في النثر في أفصح النصوص وأبلغها أيضا، من ذلك قول الإمام علي (علیه السلام) في دعاء کمیل: ((يا اِلهي وَرَبّي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ لِاَيِّ الاُمُورِ اِلَيْكَ اَشْكُو وَلما مِنْها اَضِجُّ وَاَبْكي

لِاَليمِ الْعَذابِ وَشِدَّتِهِ، اَمْ لِطُولِ الْبَلاءِ وَمُدَّتِهِ)) (109).

واذا كان النحويون قد امتنعوا من توجيه إثبات الف (ما) الاستفهامية دلاليًا، لأنهم يعدونه اضطرارا يلجأ اليها الشاعر للهروب عيوب الوزن على رأي من حمل الضرورة على هذا (110)، فإننا بوسعنا الاستدلال بالسياق لبيان ذلك، إذ إنَّ الناظر في الشواهد التي ذكرناه يجد أنَّ ثمة جامعا مشترکًا بينها وهو وجود القرينة الدالة على استفهامية (ما)، وهذا أحد الأسباب التي يذكرها النحويون على وجوب حذف الف (ما)، فهم يسعون إلى ايجاد دليل للفرق بين الاستفهامية والموصولة، والدليل واضح وموجود فيما استشهدنا به، وهو (أم) المعادلة والسياق، فهي کافية لبيان استفهامية (ما) من دون الحاجة إلى حذف ألفها؛ لذا يمكننا القول: إن (أم) المعادلة كما كانت شرطا يدل على همزة الاستفهام المحذوفة يمكننا الاستدلال بها على تحديد (ما) الاستفهامية من الخبرية، فالشيء يردُ مع نظيره کما یردُ مع نقيضه كما يقول ابن جني (111).

وقد يقال: ما الدليل على الإثبات في قراءة عكرمة وعیسی، قلت: الدليل موجود وواضح، وهو السياق، فإنّ الإجابة التي وردت في الآية اللاحقة دليلٌ على الاستفهام، فقال تعالى: «عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ» ( سورة النبأ: 1 - 2).

وبهذا نصل إلى تعديل القاعدة النحوية في ضوء تلك النصوص الفصيحة بالقول: يجوز إثبات (ما) الاستفهامية في السَّعة والاختيار بشرط أمن اللبس وإيضاح المُراد لورود ذلك في نهج البلاغة.

ص: 333

المبحث الثالث: اقتران خبر (كاد) ب(أنْ):

(كاد) فعل من الافعال الناسخة يدخل على الجملة الاسمية، فيرفع المبتدأ اسمًا له، ويكون الخبر خبرًا له في موضع نصب، وهو من أفعال المقاربة، فقولنا: (كاد زيد يقوم) معناه: (قارب القيام ولم يقم)(112).

وقد منع النحويون وقوع خبره اسمًا حملًا على ما يناظره في المعنى، من مثل (عسی) (113)؛ لذا فالغالب في خبره أن يكون فعلًا مضارعًا متجردًا من (أن)؛ لأن (أن) تخلص الفعل للاستقبال و(كاد) موضوع للقرب فيتدافع المعنيان(114).

على أن أقيسة علماء العربية لم تمنع الشعراء من استعمال (أن) في خبر (كاد)، إذ وردت بعض الشواهد الشعرية مخالفة لما قرروه من ذلك قول رؤبة (115): (الرجز)

رسمٌ عفا من بعد ما قد امَّحي ٭٭٭ قد كاد من طول البلى أن يمصحا

لهذا قرر سيبويه أنه محمول على الضرورة الشعرية، فقال: ((وكدت أن أفعل لا يجوز إلا في شعر؛ لأنه مثل كان في قولك: كان فاعلا ويكون فاعلا))(116)، وأكد ذلك في موضع آخر محتجًا ببيت رؤبة المذكور آنفًا (117).

يظهر من تعليل سيبويه أنه حمل (كاد) على (كان) في أنَّ خبر هما لا يأتي مقترنًا ب(أنْ) فهما متشابهان من هذه الناحية، إلا أن ابن بابشاذ عدَّ ذلك نوعًا من المخالفة بینهما، ذكر ذلك وهو يوازن بين (عسی) و (كاد) من حيث اقتران خبرهما ب(أن)، إذ قال: ((فإن رأيت «أن» في أخبار هذه فإنما هي مشبهة ب(عسی)، وإذا رايتها محذوفة «عسى» فإنَّ (عسی) مشبهة ب(کاد) واخواتها للتقارب الذي بينهما، فمثال مجيء (أن) في خبر (كاد) قول الشاعر: قد كاد من طول البلى أن يمصحا (...) فهذه

ص: 334

وجه مخالفة هذه الافعال لكان واخواتها لأن (كان وأخواتها) لا تدخل (أن) في اخبارها لا يجوز: کان زيد أن يقوم))(118).

فسيبويه على وفق هذا التعليل قد حمل (کاد) على (كان) في عدم مجيء خبر هما مقترنًا ب(أن) على الضرورة الشعرية، أما ابنُ بابَشاذ فرأيه يتجه إلى تجويز اقتران خبر (كاد) ب (أن)، إذ قرنه بما يخالفه وهو عدم جواز اقتران خبر کان ب(أن). ويبدو لي أن كلا التعليلين - فيما يخص مشابهة (كان) - يفتقر إلى الدقة والاستقراء التام، فلیس سیبویه دقيقًا، ولا ابن بابَشاذ مصيبًا؛ لأنَّ اقتران خبر( کان) ب(أن) ليس ضرورةً شعرية كما ذهب الأول، ولا ممنوعًا کما رأى الثاني، فهو وارد في فصيح الكلام(119)، في قوله تعالى: «وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ» (سورة يونس من الآية: 37)، وفي قول الإمام علي (علیه السلام): ((فَإِذَا كَانَ ذلِكَ كَانَ أَكْبَرُ مَكيدَتِهِ أَنْ يَمْنَحَ الْقَوْمَ سُبَّتَهُ)) (120).

أما وجه التعليل الآخر وهو حمل (كاد) على (عسی) فإن الذي دعا إليه هو المشابهة بينهما في معنى المقاربة، ف(عسی) لمقاربة حصول الفعل في المستقبل؛ لأنه يدل على طمع وترج (121)، لهذا اقترن خبرها ب(أن) الدالة على المستقبل، أما (كاد) فهي لمقاربة الفعل في الحال لذلك لا يقترن خبرها ب(أن) (122)، وهذا سبيل في العربية واسع ذكره ابن جني قائلاً: ((العرب إذا شبهت شيئا بشيء مکنت ذلك الشبه لهما، وعمرت به الحال بينهما)) (123).

وقد سلك مذهبَ سيبويه في حمل تلك المسالة على الضرورة الشعرية عددٌ من العلماء منهم المبرّد (124)، وابن السراج (125)، والزجّاجي (126)، والفارسي (127)، والجرجاني (128)، وأبو البرکات الأنباري (129)، وغيرهم (130).

والحق أنَّ هذا النمط التركيبي واردٌ في عدد من الشواهد التثرية - ولم يكن بابه

ص: 335

الشعرَ كما صرح بذلك سيبويه ومتابعوه - فقد ورد في الحديث النبوي الشريف في أكثر من موضع منها قوله (صلی الله علیه وآله): ((كاد الفقر أنْ يكون كفرًا، وكاد الحسد أن يسبقَ القدر)) (131)، كما ورد مثل هذا الاقتران في مواضع أُخر من السنة المطهَّرة(132)، ونقل الازهري عن العرب قولهم: ((كاد زيد أن يموت و» أنْ» لاتدخل مع «کاد»)) (133)، ومن شواهد هذا الاقتران في الكلام العلوي المبارك قوله (علیه السلام) في فضل الشهيد وأجره: ((مَا اَلْمُجَاهِدُ اَلشَّهِيدُ فِي سَبِيلِ اَللَّهِ بِأَعْظَمَ أَجْراً مِمَّنْ قَدَرَ

فَعَفَّ لَكَادَ اَلْعَفِيفُ أَنْ يَكُونَ مَلَكاً مِنَ اَلْمَلاَئِكَةِ))(134).

يريد الامام (علیه السلام) بهذا القول بيان أهمية العفاف وترك القبيح والمنكر في تقويم سلوك الفرد وأخلاقه، فأوضحَ أنَّ من يمتنع عن فعل القبيح مع قدرته عليه له أجر مجاهد استشهد في سبيل الله تعالى، ولعل وجه الشبه بين الشهادة والعفاف هو طهارة النفس ونقاؤها ((وذلك لشدة أخذ الانسان زمام نفسه، حتى إنَّ الفاعل لذلك كأنه ملائكة في طهارة النفس)) (135)، إذ إنَّ صفة العفة تلك ترتقي بصاحبها إلى منزلة الملائكة الذين لا يفعلون القبيح أبدًا، وتقترب بسلوكه من صفاتهم، وقد دلَّ الامام على ذلك باستعمال ما يدل على المقاربة وهو الفعل (كاد)، غير أن ترك القبيح هي صفة واحدة من بين صفات كثيرة قد تحلى الملائكة بها؛ لذا فمن شاء الاقتراب من درجة الملائكة عليه امتلاك صفات أُخر، ومن هنا كان استعمال (أنْ) في خبر (كاد)، في إيحاء منه (علیه السلام) إلى أن درجة القرب تحتاج إلى أن تكون أشدَّ حين التخلق بصفات أُخر، هذا فضلًا عن أن هذا الاقتران قد يشير إلى تحقق هذه الصفة في المستقبل؛ لأنَّ (أن) المصدرية تدل على المستقبل، ولعل ما يعضُد هذا إيراد صفة (الشهيد)، ومعلوم أن أجر الشهادة إنما يتم في يوم القيامة وهو مستقبل، وهذا يناسب ذكر (أن) التي تُحيل المعنى إلى المستقبل،

ص: 336

فالعفيف إنما يكون من الملائكة وبدرجتهم في يوم الحساب، على أنه لا يكون من جنسهم؛ لأن (ال) في الملائكة عهدية، وهذا من بديع التقابل الدلالي.

ومن الشواهد العلوية أيضًا قوله (علیه السلام) لعقيل بن أبي طالب (رضي الله عنه): ((فَأَحْمَيْتُ لَهُ حَدِيدَةً ثُمَّ أَدْنَيْتُهَا مِنْ جِسْمِهِ لِيَعْتَبِرَ بِهَا فَضَجَّ ضَجِيجَ ذِي دَنَفٍ مِنْ أَلِمَهَا وَكَادَ أَنْ

يَحْتَرِقَ مِنْ مِيسَمِهَا فَقُلْتُ لَهُ ثَكِلَتْكَ اَلثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ أَ تَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِهِ وَتَجُرُّنِي إلى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِهِ أَ تَئِنُّ مِنَ اَلْأَذَى وَلاَ أَئِنُّ مِنْ لَظَى؟))(136).

يشير كلام الأمام (علیه السلام) إلى الحادثة التي جرت بينه وبين أخيه عقیل (رضي الله عنه)، وهي حادثة من حوادث كثيرة يذكرها أرباب السِّيرة والتاريخ في الإشارة إلى عدل الإمام علي (علیه السلام)، وقوله (كاد أن يحترق) يدل على أنه قد احمي الجديدة ليعتبر عقيل من حرارة نارها لا لإيذائه بها، إذ ((الحديدة لم تتصل بجسم عقيل، وانّما اقتربت منه فحس بلفحها)) (137)، ففعل الإحراق لم يحصل؛ لذا كان مناسبًا إيراد (أن)؛ لأنها تدل على تراخي حصول الفعل وتحقيقه في المستقبل، ولا يمكن أن يكون مراد الإمام من ذلك إحراق عقيل والدليل على ذلك قول الإمام (علیه السلام) نفسه إذ قال: (ثم أدنيتها من جسمه..)، ولا شك في ذلك لأنه لم يُذنب، وحتى وإن افترضناه ذنبًا فليس جزاؤه الإحراق، ولذا لم يتدافع المعنيان، فاستعمال (كاد) دلَّ على أنَّ الحديدة إنما اقتربت من جسد عقیل قربًا شديدًا مما جعله يشعر بحرارتها وهذا يتفق مع دلالة (كاد) التي تدل على ((شدة قرب الفعل من الوقوع)) (138)، لكن مجيء (أن) الدالة على الاستقبال أعطي دلالة التراخي وعدم الإحراق، وبهذا لم يتدافع المعنيان.

لذا تبين لنا أن ذکر (أن) وعدم ذكرها في خبر (كاد) لم يكن الداعي اليه اضطرارَ الشاعر کما قيل، بل لبيان دلالة القرب وشدته، وفي هذ يقول عبد القاهر الجرجاني: ((وقد علمنا أن «کاد» موضوع لأن يدل على شدة قرب الفعل

ص: 337

من الوقوع، وعلى أنه قد شارف الوجود))(139)، وأكد هذا المعنى آخرون(140) ، وقد يكون من أجل هذا اشترط النحويون في خبرها أن يكون فعلا لا اسمًا؛ لأنَّ الاسم لا دلالة فيها على الزمن كما هو معلوم، لهذا اشترطوا وقوع الفعل في خبرها، وما هذا إلا إرادة للزمن بصيغة الفعل، أو مداناته وقرب الالتباس به ومواقعته(141).

اتضح مما تقدم أنَّه نمَط شائع في كلام العرب نظمًا ونثرًا، وليس کما نُقل عن أحدهم بأنه ترکیب لا يقوله عربي!(142)؛ لذا فإنَّ نقص الاستقراء فيما يخص هذا النمط واضحٌ وجلي ولا يمكن ردُّه أو نقضه، وهذا ما جعل نحويين آخرين يحتكمون إلى تلك النصوص مقررین جوازه في السَّعة والاختيار، منهم ابن يعيش (143)، وابن مالك الذي يقول: ((وهو مما خفي على أكثر النحويين أعني وقوعه في كلام لا ضرورة فيه والصحيح جواز وقوعه إلا أن وقوعه غير مقرون ب«أن» أكثر وأشهر من وقوعه مقرونا ب«أن» ولذلك لم يقع في القرآن إلا غير مقرون ب«أن»)) (144)، وكذلك في نهج البلاغة فقد ورد الخبر مقترنا ب (أن) أكثر (145)، وأكد القول برفض القول الضرورة في هذه المسألة أيضًا الرضي، وابن عقيل والاشموني والازهري والسيوطي (146)، وأكد ذلك الدكتور محمود فجال من المحدثين (147).

نخلص مما تقدم إلى أنَّ هذا الاقتران مما يجوز في السعة والاختيار وليس وقفًا على الشعر كما ذهب فريق من النحويين، وكان الباعث على هذا الاقتران بیان شدة القرب من عدمه، فشدة القرب من عدمه أو التراخي في حصول الفعل هما الفيصل في توجيه هذا الاقتران کما اتضح هذا في الشواهد العلوية، واستنادًا إلى كلِّ هذا نصل إلى تعديل القاعدة النحوية على النحو الآتي: يجوز في السعة والاختيار اقتران خبر (كاد) ب(أن) لبيان الفارق الزمني بين الاقتران وعدمه، استنادا إلى ورود الشواهد النثرية الفصيحة المؤيدة لذلك من نهج البلاغة فضلا عن الحديث النبوي الشريف وكلام العرب، وليست المسالة مقتصرةً على الضرورة الشعرية.

ص: 338

المبحث الرابع: اقتران خبر (لعل) ب(أن) أو وقوعه فعلا ماضيًا(148)

(لعلَّ) من النواسخ الحرفية المشبَّهة بالفعل يعمل عمل (إنَّ)، اختلف اللغويون والنحويون فيه من حيث البساطةُ والتركيبُ، فيرى البصريون أنَّه حرف مرکَّب و(اللام) فيه زائدة(149)، على حين ذهب الكوفيون إلى بساطته (150)، وهو ما نُسب إلى أكثر النحويين (151).

ويرد (لعلَّ) لمعان متعددة منها: الترجي، والخوف، والتوقع، والتعليل، والتمني والطمع والاشفاق، والشك، والتحقيق (152)، والبصريون يُرجعون هذه المعاني كلَّها إلى لترجي والإشفاق (153)، وهو في تلك المعاني إنما يدخل على المُمْكِن القابل للتحقّق (154).

وهو حرف ينصب الاسم ويرفع الخبر، ويشترط النحويون في خبره أن يكون فعلا مضارعا مجردًا من (أن)، هذا في سعة الكلام، أما في الضرورة الشعرية فيجوز هذا الاقتران قال سيبويه: ((وقد يجوز في الشعر أيضا لَعلِّي أن أفعل، بمنزلة عسيت أن أفعل)) (155). وسار على هذا جمع من العلماء منهم المبرد(156)، وابن السراج (157)، والزمخشري (158)، وابن الصائغ (159).

وقد علل النحويون هذا الاقتران بالحمل على (عسی) اذا هما للترجي والاشفاق، فحُملت (لعل) على (عسی) في جواز اقتران خبرها ب(أن)؛ لأن الأصل في خبرها إما أن يكون اسمًا صريحًا أو فعلًا مضارعًا غير مقترن ب (أن)، کما حُملت (عسی) على (لعل) في العمل، فخروج (عسی) عن عمل الرفع والنصب على الترتيب إلى عمل النصب والرفع، فيقال: عسايَ وعساك وعساه، مقترضة

ص: 339

عمل النصب والرفع على الترتيب من (لعلّ) (160)، وهذا من قبيل التقارض في اللغة (161).

ومما ينقض توجيه هذا الاقتران على الضرورة الشعرية وروده في مواطن كثيرة من السنة النبوية الشريفة، من ذلك قول النبي محمد (صلی الله علیه وآله): ((لعلك أنْ تخلفَ حتى ينتفعَ بك أقوام، ويضر بك آخرون))(162)، وقوله (صلی الله علیه وآله): ((إنما أنا بشٌر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أنْ يكونَ ألحن بِحجتِه مِن بعض))(163)، کما جاء في مواضع متعددة من مرويات أئمة أهل البيت (علیه السلام) (164)، فضلًا عن وروده كثيرًا في كلام العرب (165).

ومن شواهد هذا الاقتران في الكلام العلوي المبارَك قوله (علیه السلام) في الخوارج حين أنكروا تحكيمَ الرجال: ((وَلَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ فِي هذِهِ الْهُدْنَةِ أَمْرَ هذِهِ الاُمَّةِ، وَلاَ تُؤْخَدُ بِأَكْظَامِهَ)) (166).

يُشير كلامه (علیه السلام) إلى قضية التحكيم والمدة التي اشترطها أجلًا لها، وهو جواب للخوارج الذين سألوا عن الهدف من وراء تعيين هذه المدة، فالإمام إنما أراد بيان ذلك بانَّه يرجو الله سبحانه وتعالى أنْ تصلحَ هذه الأمة في هذه الهدنة التي يتوقف فيها القتال فيُترك لها الخيار في النظر فيما يُصلحها، ولا يُؤخذ عليها الطريق إلى الهدى والرجوع إلى الحق، إذا لم تقبل تلك المدة أو الأجل نكون قد منعنا بعض الناس من العودة إلى الحق (167)، فاستعمال (أن) في خبر (لعل) إنما جاء متساوقًا مع تعليل النحويين، بأن ذلك محمول على (عسی)؛ لأن الامام في معرض رجاء الله عز وجل، على اننا ممكن ان نستند إلى هذا الشاهد في الاستدلال على مجيء (لعل) للتعليل وهو ما ذهب إليه الأخفش والكسائي (168)، فسياق النص كفيل بتأكيد ذلك المعنى، فهو (علیه السلام) في بيان سرد الاسباب من وراء

ص: 340

اشتراط تلك الهدنة، إذ قال: ((فإنما فعلت ذلك ليتبين الجاهل ويتثبت العالم ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة))، وبهذا يكون الإمام (علیه السلام) قد جمع بين معنَي الرجاء والتعليل في سياق واحد.

وقد جاء هذا الاقتران في موضع آخر من نهج البلاغة أيضًا في كتاب له (علیه السلام) إلى عامله على أذربيجان، قال فيه: ((وَلَعَلِّي أَلاَّ أَكُونَ شَرَّ وُلاَتِكَ لَكَ،

وَالسَّلاَمُ))(169).

إنَّ اقتران خبر (لعل) ب(ان) في مواضع كثيرة من الشعر والنثر يبعد القول بحمل المسالة على الضرورة الشعرية؛ لهذا قرر عدد من النحويين إلى تجويز هذا الاقتران في الشعر والنثر، فقد وجعله الرضي كثيرا في الشعر قليلا في النثر (170)، وذهب ابن هشام إلى وروده كثيرا ولم يخصه في الشعر فقال: ((ويقترن خبرها ب«أن» كثيرًا حملا لها على «عسی»)) (171)، على حين جوزه آخرون مطلقًا من غير بيان حكم الكثرة أو القلة (172)، وهذا منهج سليم؛ لأن الوجه النحوي ((إذا فشا الشيء في الاستعمال وقوي في القياس فذلك ما لا غاية وراءه))(173)، ولا شك في أنه استعمال شائع كما اتضح في عدد من الشواهد، فضلا عن أنه لم يخرج عن أقيسة النحويين وضوابطهم؛ لذا فالقياس عليه جائز.

ومما يجدر ذكره أن للنحويين آراءً مختلفة في التوجيه الإعرابي للمصدر المؤول الواقع خبرًا ل(لعل)، فقيل هو على التشبيه ب (عسى) ف(أن) في موضع نصب، كأنك قلت: قاربت أن تفعل (174)، وقيل نُصب بإسقاط الجار (175)، وقيل: في الكلام محذوف فتقدير قولنا مثلا: لعل الله أن يحفظ العراق، لعل الله صاحب حفظ العراق(176)، وقيل: على الاخبار بالمصدر للمبالغة.

ولم يرتض قسم من العلماء تلك التقديرات لكثرة الشواهد الواردة في هذا

ص: 341

الاقتران(177)، وعدَّ الدكتور فاضل السامرائي هذا الاقتران من قبيل التعبيرات الفصيحة على غير القياس، فلم يقبل عدها على اسقاط حرف الجر، لأنه لو كان كذلك لجاز اظهاره، كما أن تأويلها على معنى (قارب) لا يصح فيما لا مقاربة فيه (178)، على أنه ليس كل ما يصح تقديره في الاعراب تصح دلالته ومعناه، إذ ثمة فرق بين تقدير الاعراب وتفسير المعنى (179).

ومما يتصل بخبر (لعل) أن النحويين نسبوا لمبرمان (ت 326 ه) منعه وقوع الفعل الماضي خبرا له (180)، لأنها تدل على الرجاء وهو مستقبل، ونُقل عن الرماني القول بهذا أيضاً (181)، وأكد ذلك الحريري قائلا: ((ويقولون: لعله ندم ولعله قدم، فيلفظون بما يشتمل على المناقضة وينبئ عن المعارضة، ووجه الكلام أن يقال: لعله يفعل))(182)، وقد اعترض على ذلك ابو حيان، ورأى جوازه على حكاية الحال الماضية (183)، وقد اعترض ابن هشام على رأي الحريري مستدلا على مجيء خبر (لعل) فعلًا ماضيا بشاهد من السنة النبوية وبشواهد شعرية أيضًا(184).

وما ذهب اليه ابن مبرمان ومن تابعه منتقض بما ورد على لسان أمير المؤمنين، إذ قال (علیه السلام): لسائل سأله: أَكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدره: ((ويحك، لعلّكَ ظَنَنْتَ قضاءً لازماً، وقَدَراً حاتِماً، ولو كان كذلك لبَطَلَ الثوابُ والعقابُ، وسَقَط الوعدُ والوعيد))(185).

يذكرُ العلماء أن الإمام (علیه السلام) بعد عودته من صفّين سأله رجل شامي: يا أمير هل كان مسيرنا إلى حرب أهل الشام بقضاء اله تعالى وقدره؟، يريد السائل من هذا أنه اذا كان مسيرنا بقضاء الله تعالى وقدره لم يكن لنا في تعبنا ثواب، فلا اختيار لنا فيه ولا ثواب لنا على فعله؛ لذا جاء قوله (ويحك لعلك...) رفعًا

ص: 342

للوهم الذي يتصوره السائل، بأن ما يحصل من قضاء الله وقدره ينبغي ألا يدفع إلى الظن بسلب حرية اختيار العبد؛ لأن ذلك سيؤدي إلى بطلان مبدأ الثواب والعقاب (186).

فاستعمال الفعل الماضي خبرًا ل(لعل) إنما جاء لبيان ما استفهم عنه السائل عن حالة حدثت في الماضي، فهو يريد أن يستوضح من الإمام ما حدث في صفين بعد مدة من عودتهم منها؛ لذا دل الخبر (ظننت) على حكاية الحال الماضية، وبهذا يكون النص ناقضًا لما ذهب اليه مبرمان، ومتفقًا مع مارآه ابو حيان، على أنَّ ذلك لا يمنع من ورود الفعل الماضي في الدلالة على الاستقبال في خبر (لعل)، لورود شواهد تؤيد هذا (187)، زيادةً على ((ثبوت ذلك في خبر (ليت) وهي بمنزلة (لعل)))(188).

وبهذا نصل إلى تعديل القاعدة النحوية في ضوء ما تقدم ونقول: يجوز اقتران خبر (لعل) ب(أن) في السعة والاختيار، حملا على (عسى)، كما يجوز أيضا وقوعه فعلا ماضيا خلافا لمبرمان ومن تابعه.

ص: 343

الخاتمة والنتائج

1. تُوصف أمة العرب بأنها أمة شعرية، وقد انعكس اهتمامها في الشعر على جوانب من حياتها وتفكيرها من ذلك الاعتداد به كمصدر رئيس من مصادر الاحتجاج النحوي، مما أسهم بكثرة خروج الشعراء عن بعض الأقيسة النحوية، وسمي هذا الخروج بالضرورات الشعرية، فقد قصر النحويون بعض الأساليب على لغة الشعر وحده من دون النثر استطاع البحث نقض ذلك بإيراد شواهد نثرية من كلام الإمام في نهج البلاغة فضلًا عن القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وكلام العرب النثري لِما عُدّ مقتصرا على الشعر، وكانت المسائل التي عالجها البحث على النحو الآتي:

2. أظهر البحث جواز توكيد جواب الشرط بنون التوكيد في السعة والاختيار.

3. تبيَّن في البحث جواز إبقاء ألف (ما) الاستفهامية عند جرها بحرف الجر نظمًا ونثرًا.

4. قرر النحويون أن خبر (كاد) لا يقترن ب(أن) لتدافع المعنيين، فإن ورد فهو مقتصر على لغة الشعر فقط، لكن البحث نقض ذلك وذهب إلى جواز اقتران خبر (كاد) ب(أنْ) لبيان دلالة تحقق الخبر في المستقبل.

5. جواز اقتران خبر (لعل) ب(أن) حملًا على (عسى)، لاشتراكهما في معنى الترجي والإشفاق.

6. جواز ورود خبر (لعل) فعلًا ماضيًا خلافا لابن مبرمان.

7. والحمد لله رب العالمين وصلواته وسلامه على نبينا محمد وآله الطاهرين.

هوامش البحث:

1. ينظر: تاريخ النقد الادبي والبلاغة حتى نهاية القرن الرابع الهجري، د. محمد زغلول سلام، 59

ص: 344

، والأصول: 79 - 80.

2. الخصائص: 3 / 191.

3. ينظر: كتاب العين: 7 / 7 (ضر)، وتهذيب اللغة: 11 / 315(ضر)، ولسان العرب: 4 / 483 (ضرر).

4. القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، د. محمد مصطفى الزحيلي: 1 / 288

5. معجم مصطلحات الفقه الجعفري، د. أحمد فتح الله: 263.

6. معجم النقد العربي القديم، د. أحمد مطلوب: 2 / 100،

7. الصاحبي: 468، وينظر: المزهر في علوم اللغة وأنواعها: 2 / 399.

8. ينظر: شرح جمل الزجاجي: 2 / 549، وخزانة الأدب: 1 / 23، لغة الشعر دراسة في الضرورة الشعرية: 98، والضرورة الشعرية دراسة اسلوبية، إبراهيم محمد: 61.

9. ينظر: الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين، ابراهيم بن صالح الحندود: 404.

10. ينظر: الخصائص: 3 / 191، 3 / 62 - 63، وشرح جمل الزجاجي: 2 / 594، ولغة الشعر دراسة في الضرورة: 100 - 103.

11. ضرائر الشعر: 13، وينظر: شرح جمل الزجاجي: 2 / 594، وارتشاف الضرب: 5 / 2377، وهمع الهوامع: 3 / 273.

12. ينظر: شرح الرضي على الكافية: 1 / 44، وخزانة الادب: 1 / 33.

13. ينظر: مغني اللبيب: 72، وخزانة الادب: 1 / 31، وهمع الهوامع: 3 / 273، ولغة الشعر دراسة في الضرورة: 98.

14. ينظر: خزانة الادب: 1 / 31.

15. ينظر: الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر: 6.

16. ينظر: خزانة الادب: 1 / 31، والضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر: 6.

17. ينظر: شرح جمل الزجاجي: 2 / 549، وارتشاف الضرب: 5 / 2377، ولغة الشعر دراسة في الضرورة الشعرية: 92، والضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحوين: 397.

18. شرح التسهيل: 1 / 202، وينظر: شرح الكافية الشافية: 1 / 300، والضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين: 399.

19. ينظر: الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر: 6، وسيبويه والضرورة الشعرية، إبراهيم حسن: 35، وشواهد الشعر في كتاب سيبويه، د. خالد عبد الكريم جمعة: 438.

20. شواهد الشعر في كتاب سيبويه: 437.

ص: 345

21. الكتاب: 1 / 32، وينظر: الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر: 18.

22. الكتاب: 1 / 26، وينظر: الأشباه والنظائر: 2 / 201 - 202.

23. ينظر: المصدر نفسه: 1 / 29، 32، 48، 99.

24. الضرورة الشعرية، دراسة أسلوبية: 12 - 13.

25. الاشباه والنظائر: 2 / 201.

26. الضرورة الشعرية، دراسة اسلوبية: 15

27. الأصول في النحو: 3 / 435

28. يُنظر: ما يحتمل الشعر من الضرورة، تح: د. عوض بن حمد القوزي: 34 - 35.

29. يُنظر: ضرائر الشعر: 16.

30. يُنظر: ارتشاف الضرب: 5 / 2378.

31. يُنظر: الكتاب: 3 / 509، وشرح المفصل: 9 / 37، والنحو الوافي: 4 / 167.

322. يُنظر: الإنصاف في مسائل الخلاف: 2 / 650، ومغني اللبيب: 443.

33. يُنظر: تمهيد القواعد: 2 / 3917 - 3933، والتراكيب اللغوية في العربية، د. هادي نهر: 135 - 138.

34. الكتاب: 3 / 515، ويُنظر: المقاصد الشافية: 5 / 550.

35. يُنظر: الكتاب: 3 / 515، والمقاصد الشافية: 5 / 550، وخزانة الادب: 11 / 388، تمهید القواعد: 2 / 3934. والبيت في الحماسة، البحتري، تح: د. محمد إبراهيم حور، وأحمد محمد عبيد: 57

36. ينظر: معاني القرآن: 1 / 162، وخزانة الادب: 11 / 389..

37. يُنظر: المقتضب: 3 / 14.

38. يُنظر: الأصول في النحو: 2 / 200.

39. يُنظر: ما يحتمل الشعر من الضرورة: 81.

40. يُنظر: التعليقة: 4 / 18.

41. يُنظر: ما يجوز للشاعر في الضرورة: 326

42. يُنظر: البيان في غريب اعراب القرآن: 1 / 386، والنحويون والقرآن: 133

43. يُنظر: المفصل: 331

44. يُنظر: الإيضاح في شرح المفصل: 2 / 275، وشرح التصريح: 2 / 307

45. يُنظر: الضرائر: 20، وارتشاف الضرب: 1 / 656.

ص: 346

46. الكتاب: 1 / 32، ويُنظر: الضرائر: 18.

47. التعليقة: 4 / 18 - 19.

48. الكتاب: 3 / 278.

49. يُنظر: النحويون والقرآن: 133.

50. الأصول في النحو: 2 / 161.

51. يُنظر: البحر المحيط: 3 / 544، والدر المصون: 5 / 285 ، واللباب في علوم الكتاب: 9 / 65، 10 / 287، وإعراب القرآن وبيانه: 2 / 535 - 536.

52. الكتاب: 3 / 65 - 66.، وينظر: الأصول في النحو: 2 / 161، والبيان في غريب إعراب القرآن: 2 / 161، وشرح الكافية الشافية: 3 / 1615، والنحويون والقرآن: 241.

53. يُنظر: الصفحة من هذا البحث.

54. يُنظر: شرح الرضي على الكافية: 4 / 457، وتوضيح المقاصد: 3 / 1290، وحاشية الخضري: 2 / 126.

55. يُنظر: المحرر الوجيز: 1 / 465، واللباب في علوم الكتاب: 7 / 461، واعراب القرآن وبيانه: 2 / 535 - 536.

56. الميزان: 6 / 265.

57. يُنظر: إعراب القرآن وبيانه: 2 / 536 .

58. يُنظر: مفاتيح الغيب: 12 / 60، وأنوار التنزيل: 2 / 138.

59. شرح (المعتزلي): 1 / 312. ((الغفيرة: الكثرة والزيادة)). لسان العرب: 5 / 27 (غفر).

60. ينظر: شرح (البحراني): 2 / 5، وفي ظلال نهج البلاغة: 1 / 168.

61. منهاج البراعة (الراوندي): 1 / 192.

62. شرح (المعتزلي): 17 / 111، الوكزة: الطعنة، ووكزه: طعنه: يُنظر: كتاب العين 5 / 394: (وكز).

63. شرح (المعتزلي): 18 / 380.

64. يُنظر: الكتاب: 3 / 65 - 66، والاصول في النحو: 2 / 161، وشرح الرضي على الكافية: 4 / 110.

65. يُنظر: شرح الكافية الشافية: 3 / 1403 - 1405، وخزانة الادب: 11 / 388.

66. شرح الرضي على الكافية: 4 / 485، وينظر: خزانة الادب: 11 / 388.

ص: 347

67. ينظر: المقاصد الشافية: 5 / 550، وخزانة الادب: 11 / 388.

68. يُنظر: تمهيد القواعد: 2 / 3934.

69. يُنظر: شرح الاشموني: 3 / 122.

70. يُنظر: النحويون والقرآن: 133.

71. يُنظر: المصدر نفسه: 3 / 509، وأساليب التوكيد في القرآن الكريم، عبد الرحمن المطردي: 43

72. يُنظر: معاني القرآن للفراء: 2 / 292، وأمالي ابن الشجري: 1 / 330، وشرح المفصل: 4 / 9، ومغني اللبيب: 394، والاتقان في علوم القرآن: 2 / 288.

73. يُنظر: الانصاف في مسائل الخلاف: 2 / 572.

74. يُنظر: الانصاف في مسائل الخلاف: 2 / 572، وشرح الرضي على الكافية: 3 / 50، والبرهان في علوم القرآن: 4 / 403، وأساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين، د. قيس اسماعيل الأوسي: 381.

75. يُنظر: الكتاب: 4 / 164، والمقاصد الشافية: 8 / 96 - 97.

76. يُنظر: كتاب الأزهية في علم الحروف، الهروي، تح: عبد المعين ملوحي: 85، ومغني اللبيب: 394، والاتقان في علوم القرآن: 2 / 288، والأساليب الإنشائية في النحو العربي، عبد السلام هارون: 195.

77. يُنظر: همع الهوامع: 3 / 461.

78. يُنظر: فقه اللغة وسر العربية، تح: السقا واخرون: 348.

79. يُنظر: المحتسب: 2 / 347، والبحر المحيط: 10 / 383، والقرآن الكريم واثره في الدراسات النحوية،د. عبد العال سالم مكرم: 327

80. يُنظر: كتاب الأزهية: 86.

81. يُنظر: الكشاف: 4 / 11 - 12، ويُنظر: البحر المحيط: 9 / 58.

82. يُنظر: الكشاف: 2 / 92.

83. يُنظر: المحتسب: 2 / 347، ومغني اللبيب: 394، وهمع الهوامع: 3 / 461، وخزانة الادب: 6 / 99، والبيت في ديوانه: 1 / 258، وهو فيه على خلاف ما يرويه النحويون فروايته فيه: ففيم تقول يشتمني لئيم كخنزير تمرغ في رماد، وعلى هذا فلا شاهد فيه،

84. يُنظر: ما يجوز للشاعر في الضرورة: 317.

85. يُنظر: اعراب ما يشكل من الفاظ الحديث النبوي، تح: د. عبد الحميد هنداوي: 66.

ص: 348

86. يُنظر: البحر المحيط: 9 / 58.

87. يُنظر: مغني اللبيب: 394.

88. يُنظر: شرح الأشموني: 4 / 16.

89. يُنظر: شرح التصريح: 3 / 1487.

90. يُنظر: الضرائر وما يسوغ للشاعر دون الناثر: 327.

91. يُنظر: شذا العرف في فن الصرف، تح: نصر الله عبد الرحمن نصر الله: 160.

92. يُنظر: الاساليب الانشائية في النحو: 195.

93. صحيح البخاري: 2 / 140 (1557)، السنن الكبرى، النسائي، تح: حسن عبد المنعم شلبي: 4 / 51 (3710)، وبحار الأنوار: 30 / 627.

94. صحيح البخاري: 3 / 59 (2083).

95. معاني القرآن: 2 / 292.

96. ينظر: الكشاف: 4 / 11 - 12.

97. يُنظر: مفاتيح الغيب: 9 / 406 - 407.

98. شواهد التوضيح: 217.

99. يُنظر المصدر نفسه: 218.

100. يُنظر: شواهد التوضيح: 31.

101. يُنظر: إعراب ما يشكل من ألفاظ الحديث: 66.

102. الأصول في النحو: 1 / 57.

103. کتاب التعريفات: 124.

104. المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

105. يُنظر: الخصائص: 1 / 126.

106. يُنظر: شرح شافية ابن الحاجب ؉ تح: محمد نور الحسن وآخرينِ: 1 / 297.

107. يُنظر: شرح الرضي على الكافية: 3 / 50 وخزانة الادب: 6 / 99.

108. يُنظر: موصل الطلاب الى قواعد الاعراب، تح: عبد الكريم مجاهد: 149.

109. إقبال الأعمال: 3 / 335، وينظر: المصباح، الكفعمي: 558.

110. يُنظر: المقاصد الشافية: 8 / 97.

111. يُنظر: الخصائص: 2 / 203

ص: 349

112. ينظر: شرح المفصل: 7 / 119.

113. يُنظر: الكتاب: 3 / 12، والمقتضب: 3 / 75، وتوضيح المقاصد: 1/ 515 - 517، والنواسخ في كتاب سيبويه، د. حسام النعيمي: 78.

114. يُنظر: الأصول في النحو: 2 / 207، واللباب في علل البناء والإعراب: 1 / 194 وشرح المفصل: 7 / 119، والإيضاح في شرح المفصل: 2 / 91، وتوضيح المقاصد: 1 / 515، وشرح ابن عقيل: 1 / 330.

115. ينظر: الكتاب: 3 / 160، والمقتضب: 3 / 75، والبيت في ديوانه: 172، وقوله (يمصحا) من:

((مصح الشيء مصوحا: ذهب وانقطع)) الصحاح: 1 / 405 (مصح).

116. الكتاب: 2 / 12.

117. يُنظر: المصدر نفسه: 3 / 160، وإعراب القرآن (النحاس): 1 / 237.

118. شرح المقدمة المُحسِبة، تح: د. خالد عبد الكريم: 1 / 352 - 353.

119. يُنظر: النحويون والقرآن: 274.

120. شرح (المعتزلي): 6 / 280.

121. يُنظر: لسان العرب: 15 / 54 (عسا).

122. ينظر: شرح المفصل: 9 / 124، والتوطئة، أبو علي الشلوبيني، دراسة وتحقيق: د. يوسف أحمد المطوع: 299.

123. الخصائص: 1 / 305.

124. يُنظر: المقتضب: 3 / 75.

125. يُنظر: الأصول في النحو: 2 / 207.

126. يُنظر: حروف المعاني والصفات، تح: علي توفيق الحمد: 67.

127. يُنظر: الإيضاح العضدي: 78

128. يُنظر: كتاب المقتصد: 1 / 361.

129. يُنظر: أسرار العربية: 129.

130. يُنظر: التوطئة: 299، والمقرب: 1 / 98، وضرائر الشعر: 47 - 48.

131. الكافي: 2 / 307، والدعاء للطبراني، تح: مصطفى عبد القادر عطا: 1 / 319 (1048).

132. يُنظر: الكتاب المصنف في الاحاديث والآثار لابي شيبة، تح: كمال يوسف الحوت: 7 / 478، 7 / 555، والسنة: ابن حنبل، تح: د. محمد سعيد سالم القحطاني: 1 / 133، صحيح البخاري

ص: 350

: 2 / 29 (1015)، سنن أبي داوود، تح: محمد محيي الدين عبد الحميد: 4 / 272 (4888)، وسنن النسائي: 3 / 84 (1366)، والكافي: 8 / 217، المحلى بالآثار، ابن حزم: 7 / 487.

133. تهذيب اللغة: 10 / 179 (كود)، وينظر: لسان العرب: 3 / 382 (كود)، وتاج العروس: 9 / 121 (كود).

134. شرح (المعتزلي): 20 / 233.

135. توضيح نهج البلاغة: 4 / 483.

136. شرح (المعتزلي): 11 / 245، الميسم: المكواة أو الحديدة التي يوسم بها، والجمع مواسم ومیاسم. ينظر: لسان العرب: 12 / 636 (وسم).

137. توضيح نهج البلاغة: 2 / 382.

138. دلائل الإعجاز، الجرجاني، قرأه وعلق عليه: أبو فهر محمود محمد شاكر: 275، ويُنظر: الزمن النحوي في اللغة العربية، د. کامل رشيد: 185.

139. دلائل الإعجاز: 275.

140. یُنظر شرح المفصل: 7 / 119، والمقرب: 1 / 99، وشرح التصريح: 1 / 284 - 285.

141. يُنظر: الكتاب: 3 / 11، وشرح کتاب سيبويه (السيرافي): 3 / 202، والمقرب: 1 / 99، والزمن النحوي: 185

142. يُنظر: خزانة الادب: 9 / 349 وهو راي علي بن حمزة البصري.

143. يُنظر: شرح المفصل: 7 / 121.

144. شواهد التوضيح: 159.

145. يُنظر: شرح (المعتزلي): 8 / 287، 9 / 269، 19 / 257.

146. يُنظر: شرح الرضي على الكافية: 4 / 220، والمساعد: 1 / 295، وشرح الأشموني: 1 / 276 - 278، وشرح التصريح: 1 / 284، وهمع الهوامع: 1 / 474 - 476

147. يُنظر: الحديث النبوي في النحو العربي، دراسة مستفيضة لظاهرة الاستشهاد بالحديث في النحو العربي، ودراسة نحوية للاحاديث الواردة في أكثر شروح ألفية ابن مالك: 189.

148. مجيء خبر (لعل) فعلا ماضيا ليس ضرورة، لكننا ذكرنا هنا لاتفاق الموضع وهو الخبر.

149. يُنظر: كتاب العين: 1 / 89، والكتاب: 3 / 332، واللامات: 135، والإنصاف في مسائل الخلاف: 1 / 281، والجنى الداني: 579.

150. يُنظر: الإنصاف في مسائل الخلاف: 1 / 218 / 219، وشرح المفصل: 8 / 88، والجنی

ص: 351

الداني: 579.

151. يُنظر: الجنى الداني: 579.

152. یُنظر: مغني اللبيب: 379، وتمهيد القواعد: 3 / 1291 - 1294.

153. يُنظر: همع الهوامع: 1 / 488.

154. يُنظر: شرح ابن عقیل: 1 / 308، وارتشاف الضرب: 1240، وتمهيد القواعد: 3 / 1293.

155. الكتاب: 3 / 160.

156. يُنظر: المقتضب: 3 / 74.

157. الأصول في النحو: 2 / 207.

158. يُنظر: شرح المفصل: 8 / 86، وخزانة الادب: 5 / 345.

159. يُنظر: اللمحة في شرح الملحة، تح: إبراهيم بن سالم الصاعدي: 2 / 539.

160. يُنظر: الكتاب: 2 / 375، وشرح الكافية الشافية: 1 / 77، ومغني اللبيب: 203، والنحو الوافي: 1 / 242.

161. ينظر: ظاهرة التقارض في النحو العربي، أحمد محمد عبد الله: 234.

162. صحيح البخاري: 2 / 81 (1295)، وسنن أبي داوود: 3 / 112 (2864)، وکنز العمال: 6 / 6 (14592).

163. صحيح البخاري: 9 / 25 (6967)، وسنن أبي داوود: 3 / 301 (3583).

164. يُنظر: الوافي، الفيض الكاشاني: 21 / 33، 6 / 29.

165. يُنظر: دراسات لأسلوب القرآن: 1 / 2 / 604 - 605.

166. شرح (المعتزلي): 8 / 103، والاكظام جمع كظم وهو مخرج النفس من الخلق يقال: اخذت بكظمه أي بمخرج نفَسه، يُنظر: الصحاح: 5 / 2022 - 2023 (كظم).

167. يُنظر: شرح (الموسوي): 2 / 351، وتوضيح نهج البلاغة: 2 / 263.

168. يُنظر: الجنى الداني: 580، ومغني اللبيب: 379.

169. شرح (المعتزلي): 14 / 103.

170. یُنظر: شرح الرضي على الكافية: 4 / 446، وحاشية الصبان 3 / 332.

171. مغني اللبيب: 379، وينظر: خزانة الادب: 5 / 345.

172. يُنظر: شرح التصريح: 1 / 297، وشرح الاشموني: 1 / 290، وهمع الهوامع: 1 / 492، وتمهيد القواعد: 3 / 1383، والنحو الوافي: 1 / 622.

ص: 352

173. الخصائص: 1 / 127.

174. يُنظر: الكتاب: 3 / 160، وكتاب اسفار الفصيح، الهروي، دراسة وتحقيق: د. أحمد بن سعيد بن محمد قشاش: 1 / 327.

175. يُنظر: مغني اللبيب: 43.

176. يُنظر: التذييل والتكمیل: 5 / 157.

177. يُنظر: مغني اللبيب: 201 - 202.

178. يُنظر: الجملة العربية تأليفها واقسامها: 122.

179. يُنظر: الخصائص: 1 / 281.

180. يُنظر: التذييل والتكميل: 5 / 23، وهمع الهوامع: 1 / 492، ودراسات لأسلوب القرآن: 1 / 2 / 600.

181. يُنظر: البرهان في علوم القرآن: 4 / 395.

182. درة الغواص في أوهام الخواص، تح: عرفات مطرجي: 36، وينظر: مغني اللبيب: 280.

183. یُنظر: التذييل والتكميل: 5 / 23.

184. يُنظر: مغني اللبيب: 377

185. شرح (المعتزلي): 18 / 227.

186. يُنظر: شرح (البحراني): 5 / 297، وتوضيح نهج البلاغة: 4 / 292.

187. يُنظر: مغني اللبيب: 377.

188. المصدر نفسه: 377، ويُنظر: البرهان في علوم القرآن: 4 / 395، ودراسات لأسلوب القرآن: 1 / 2 / 600.

ص: 353

المصادر والمراجع

۞ القرآن الكريم.

1. ارتشاف الضرب من لسان العرب، أبو حيان الأندلسي (ت: 745 ه)، تحقیق وشرح ودراسة: د. رجب عثمان محمد، مراجعة: د. رمضان عبد التواب، مكتبة الخانجي - القاهرة، ط 1، 1998 م

2. أساليب الإنشاء في كلام السيدة الزهراء (علیها السلام) دراسة نحوية بلاغية، عامر سعید نجم، العتبة العلويَّة المقدسة - النجف الأشرف، 2011 م.

3. الأساليب الإنشائية في النحو العربي، عبد السلام محمد هارون، مكتبة الخانجي - القاهرة، ط 5، 2001 م.

4. أساليب التوكيد في القرآن الكريم، عبد الرحمن المطردي، الدار الجماهرية - ليبيا، ط 1، 1989 م.

5. أساليب الطلب عند النحويين والبلاغيين، د. قيس إسماعيل الأوسي، بیت الحكمة - بغداد، 1988 م

6. الاستقراء الناقص وأثره في النحو العربي، د. محمد بن عبد العزيز العميريني، دار المعرفة الجامعية - الأزاريطة - مصر، 2007 م.

7. الأشباه والنظائر في النحو، السيوطي، تح: د. عبد العال سالم مکرم، مؤسسة الرسالة - بيروت، ط 1، 1985 م

8. الأصول في النحو، ابن السَّرَّاج (ت: 316 ه)، تح د. عبد الحسين الفتلي، مؤسسة الرسالة - بيروت، ط 3، 1996 م.

9. الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين البصريين والكوفيين، أبو البركات

ص: 354

الأنباري، تح: محمد محيي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة - القاهرة، ط 4، 1961م.

10. الإيضاح في شرح المفصل، ابن الحاجب، تح: د. إبراهيم محمد عبد الله، دار سعد الدين - دمشق، ط 2 ، 2013 م.

11. بناء الجملة العربية، د. محمد حماسة عبد اللطيف، دار غريب - القاهرة، 2003 م.

12. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، محمد تقي التستري (ت 1415 ه)، دار أمير - طهران، ط 1، 1418 ه

13. البيان في غريب إعراب القرآن، ابو البرکات الأنباري، تح: د. طه عبد الحميد طه، مراجعة: مصطفى السقا، الهيأة المصرية العامة للكتاب، 1980 م.

14. تاريخ النقد الأدبي والبلاغة حتى نهاية القرن الرابع الهجري، د. محمد زغلول سلام، المعارف - الإسكندرية (د.ت).

15. التراكيب اللغوية في العربية دراسة وصفية تطبيقية، د. هادي نهر، الجامعة المستنصرية - كلية الآداب، 1987 م

16. تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد، الدماميني (ت: 827 ه)، تح: د. محمد بن عبد الرحمن بن محمد المفدى، ط 1، 1983 م.

17. التعليقة على كتاب سيبويه، أبو علي الفارسيّ، تح: د. عوض بن حمد القوزي، ط 1، 1990 م

18. توضیح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، المرادي (ت: 749 ه)، شرح وتحقيق: عبد الرحمن علي سليمان، دار الفكر العربي - بيروت، ط 1، 2008 م

19. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر البغدادي (ت: 1093 ه)

ص: 355

، شرح وتحقیق: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي - القاهرة، ط 4، 1997 م

20. الخصائص، ابن جنّي (ت: 392 ه)، تح: محمد علي النجّار، المكتبة العلمية - مصر، (د.ت).

21. ديوان أبي دواد الإيادي، حققه وجمعه: أنوار أحمد الصالحي، ود. أحمد هاشم السامرائي، دار العصاء - دمشق، ط 1، 2010 م.

22. ديوان الأخطل، شرحه وصنَّف قوافيه وقدم له: مهدي محمد ناصر الدين، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 2، 1994 م.

23. ديوان الأعشى الكبير، میمون بن قيس، تح: د. محمد حسين (د.ت).

24. دیوان امرئ القيس، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار المعارف - القاهرة، ط 5، (د.ت).

25. دیوان جرير بشرح محمد بن الحبيب، تح: د. نعمان محمد أمين طه، دار المعارف - القاهرة، ط 3، (د.ت).

26. دیوان حسان بن ثابت، حققه وعلّق عليه: د. وليد عرفات، دار صادر - بيروت

27. سیبویه والضرورة الشعرية، د. إبراهيم حسن إبراهيم، ط 1، 1983 م.

28. شرح التسهيل، ابن مالك (ت: 672 ه)، تح: د. عبد الرحمن السيد، ود. محمد بدوي المختون، دار هجر - القاهرة، ط 1، 1990 م

29. شرح التسهيل المسمى (تمهيد القواعد بشرح تسهيل الفوائد)، ناظر الجيش (ت: 778 ه)، دراسة وتحقيق: د. علي محمد فاخر وآخرين، دار السلام - القاهرة، ط 1، 1428 ه

ص: 356

30. شرح التسهيل (القسم النحوي)، المرادي، تحقيق ودراسة: محمد عبد النبي أحمد، مكتبة الإيمان - المنصورة ،ط 1، 2006 م.

31. شرح الدمامني على مغني اللبيب، الدماميني، صححه وعلق عليه: أحمد عزو عناية، مؤسسة التاريخ العربي - بيروت، ط 1، 2007 م.

32. شرح الرضي على الكافية، الرضي الأسترابادي (ت 686 ه)، تصحیح وتعليق: يوسف حسن عمر، منشورات جامعة بنغازي، ط 2، 1996 م.

33. شرح المفصَّل، ابن يعيش (ت: 643 ه)، إدارة الطباعة المنيرية - مصر، (د.ت).

34. شرح جمل الزجاجي (الشرح الكبير)، ابن عصفور (ت: 669 ه)، تح: د. صاحب أبو جناح، وزارة الأوقاف العراقية، 1980 م.

35. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (ت: 656 ه)، تح: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار الجيل - بيروت، ط 1، 1987 م.

36. شرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي، دار الرسول الأكرم، دار المحجة البيضاء - بيروت، ط 1، 1418 ه.

37. شرح نهج البلاغة، میثم البحراني (ت 689 ه)، ط 2، 1404 ه.

38. شرح نهج البلاغة المقتطف من بحار الأنوار للمجلسي، علي أنصاريان، مؤسسة النشر الإسلامي - طهران، ط 1، 1408 ه.

39. شواهد الشعر في كتاب سیبویه، د. خالد عبد الكريم جمعة، مطبعة الدار الشرقية - مصر، ط 4، 1989 م.

40. الصاحبي في فقه اللغة العربية وسنن العرب في كلامها، ابن فارس (ت: 395 ه)، شرح وتحقیق: السيد أحمد صقر، السعودية - مكة المكرمة، (د.ت).

ص: 357

41. ضرار الشعر، ابن عصفور، تح: السيد إبراهيم محمد، دار الأندلس - بیروت، ط 1، 1980 م.

42. الضرائر ومايسوغ للشاعر دون الناثر، محمود شكري الآلوسي، شرحه: محمد بهجة الأثري، المكتبة العربية - بغداد، (د.ت).

43. الضرورة الشعرية دراسة أسلوبية، السيد إبراهيم محمد، دار الأندلس - بیروت ، ط 3، 1983 م.

44. الضرورة الشعرية ومفهومها لدى النحويين دراسة على ألفية بن مالك، إبراهيم بن صالح الحندود، الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، السنة الثالثة والثلاثون، العدد الحادي عشر بعد المائة، 2001 م.

45. القرآن الكريم وأثره في الدراسات النحوية، د. عبد العال سالم مكرم، مؤسسة علي جراح الصباح - الكويت ، ط 2، 1978 م.

46. القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، د. محمد مصطفى الزحيلي، دار الفكر - دمشق ، ط 1، 2006 م.

47. الكتاب، کتاب سيبويه، سیبویه (ت: 180 ه) تح: عبد السلام هارون، مكتبة الخانجي - القاهرة، ط 3، 1988 م.

48. كتاب العين، الخليل الفراهيدي (ت: 175 ه)، تح: د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي، وزارة الثقافة والإعلام - دار الرشید بغداد، 1980 م.

49. کشف المشكل في النحو، الحيدرة اليمني (ت: 592 ه)، تح: د. هادي عطية مطر، مطبعة الإرشاد - بغداد، 1984 م.

50. الكشف والبيان عن تفسير القرآن، الثعلبي (ت: 427 ه)، تح: الإمام أبي محمد بن عاشور، مراجعة وتدقيق: الأستاذ نصير الساعدي، دار إحياء

ص: 358

التراث العربي - بيروت ، ط 1، 2002 م.

51. اللامات، الزجاجي، تح: مازن المبارك، دار الفكر - دمشق ط 2، 1985 م.

52. اللباب في علل البناء والإعراب، العكبري، تح: د. عبد الإله النبهان، دار الفكر - دمشق، ط 1، 1995 م

53. لغة الشعر دراسة في الضرورة الشعرية، د. محمد حماسة عبد اللطيف، دار الشروق - القاهرة، ط 1، 1996م.

54. ما يحتمل الشعر من الضرورة، السيرافي، تحقیق وتعلیق: د. عوض بن حمد القوزي، جامعة الملك سعود - الرياض، ط 2، 1991 م

55. المزهر في علوم اللغة وأنواعها، السيوطي، تح: فؤاد علي منصور، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1، 1998 م

56. معاني القرآن وإعرابه، الزجّاج (ت: 311 ه)، شرح وتحقيق: د. عبد الجليل شلبي، عالم الكتب - بيروت، ط 1، 1988 م.

57. معاني القرآن، الأخفش الأوسط (ت: 215 ه)، تحقيق: الدكتورة هدى محمود قراعة، مكتبة الخانجي - القاهرة، ط 1، 1990 م.

58. معاني القرآن، الفرّاء (ت: 207 ه)، تح: أحمد يوسف النجاتي، ومحمد علي النجار، وعبد الفتاح إسماعيل، دار المصرية - القاهرة (د.ت).

59. معاني النحو، د. فاضل السامرائي، دار الفكر - عمّان، ط 2، 2003 م.

60. معجم ألفاظ الفقه الجعفري، د. أحمد فتح الله، مطابع المدوخل - الدمام، ط 1، 1995 م.

61. معجم النقد العربي القديم، د. أحمد مطلوب، دار الشؤون الثقافية - بغداد

ص: 359

، 1989 م.

62. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، ابن هشام، تح: د. مازن المبارك، ومحمد علي حمد الله، دار الفكر - دمشق، ط 6، 1985 م.

63. المقتضب، المبرّد، تح: محمد عبد الخالق عضيمة، القاهرة، ط 3، 1994 م

64. النحو الوافي مع ربطه بالأساليب الرفيعة والحياة اللغوية المتجددة، عباس حسن (ت 1978 م)، دار المعارف - القاهرة، ط 3 (د.ت)

65. النحويون والقرآن، د. خليل بنيان الحسون، مكتبة الرسالة الحديثة - الأردن، ط 1، 2002 م.

66. همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، السيوطي، تح: عبد الحميد هنداوي، المكتبة التوفيقية - مصر، (د.ت).

ص: 360

العدول في الظواهر التركيبية في خطاب نهج البلاغة

اشارة

م. د. أحلام عبد المحسن صكر

جامعة ذي قار كلية التربية للعلوم الإنسانية

ص: 361

ص: 362

المقدمة:

يعد العدول هو كسراً لشبكة العلاقات التي يقيمها الاستعمال العادي بين الكلمات ووضعها ضمن شبكة علاقات جديدة خاصة بالخطاب الأدبي (1)، إذ إن مستوى الخطاب المألوف يتميز بشفافية عالية تسمح للمتلقي باختراقها إلى مردودها الخارجي مباشرة لأنه جاهز بصفة دائمة، وحاضر في المخزون الذهني، أما لغة الخطاب الأدبي فأنها تتميز بكثافة شديدة، لا تسمح للمتلقي بهذا الاختراق السريع، وإنما تتطلب منه أن يتوقف إزاءها لينشغل بعناصرها البسيطة أو المركبة المجاوزة أو غير المجاوزة التي تربط في مرجعيتها الدلالية بعدّة احتمالات علقت بها من طول الاستعمال أحياناً ومن طبيعة السياق أحياناً أخرى وهي خصيصة شعرية في الصياغة الأدبية (2).

والعدول إجراء تفرضه طبيعة الموقف ومقاصد الخطاب، وله وظيفة رئيسة (ماثلة فيما تحدثه من مفاجأة تؤدي بالمتلقي إلى الغبطة والإمتاع والإحساس بالأشياء إحساساً متجدداً)(3).

وذلك ان المتلقي الذي وصل إلى مرحلة التشبع جراء ما هو مكرر وتقليدي لا ينتبه على الكلمات والصياغة وما ترمز إليه إلا إذا وضعت على نحو مدهش ومبتكر (4).

ومن مظاهره في خطاب النهج:

1 - التقديم والتأخير

وهو باب تتبارى فيه الأساليب، فأنهم أتوا به دلالة على تمكنهم من الكلام وانقياده لهم، وله في القلوب أحسن موقع وأعذب مذاق (5).

ص: 363

والجملة العربية لا تنماز بحتمية في ترتيب عناصرها ألا في بعض الرتب التي يمثل العدول عنها خروجاً عن اللغة النفعية إلى اللغة الإبداعية (6).

ولعل ظاهرة التقديم والتأخير من أبرز الظواهر اللغوية التي منحت قواعد اللغة هذه الطاقة الحركية، فهو (باب كثير الفوائد، جمّ المحاسن، واسع التصرف، بعيد الغاية لا يزال يفتر لك عن بديعة ويفضي لك إلى لطيفة ولا تزال تری شعراً يروقك مسمعه ويلطف لديك موقعه ثم تنظر فتجد سبب إن راقك ولطف عندك إن قدّم في شيء وحوّل اللفظ عن مكان إلى مكان)(7)، ومنحت هذه الظاهرة المتكلم حرية صياغة الجملة وتشكيل عناصرها التشكيل الذي يجعل الجملة أدق إعراباً عن نفسه وأكثر استجابة لتصوير ما هو موضع اهتمامه من عناصر التركيب (8).

وتكسب هذه الظاهرة الكلام جمالاً وتأثيراً لأنه سبيل إلى نقل المعاني في ألفاظها إلى المخاطبين كما هي مرتبة في ذهن المتكلم فيكون الأسلوب صورة صادقة لإحساسه ومشاعره (9).

وهو تقنية لسانية، وظاهرة أدائية تعتري الخط الأفقي للتراكيب يتمثل في تحريك العناصر المؤسسة لكيانات التركيب، أي احد طرفي الإسناد وما يتصل بهما من متعلقات وأركان تكميلية من أماكنها الأصلية إلى أماكن جديدة، أثر العمل بمبدأ تحاور المواقع والمراتب وتبادلها لتخرج بذلك اللغة من الطابع النفعي المجرد من الإيحاء إلى طابع فني ولغة إبداعية نابضة ذات قدرة على إفراز المعنى العميق والدلالة البعيدة(10).

ويأتي ترتيب الكلمات في الكلام ترجمة لترتيب ما في النفس من معان وينظر إلى مواقع الكلمات وجريانها طبق خواطر النفس وألوان الحس، ويمثل بذلك

ص: 364

العنصر المتقدم بؤرة

التركيز والمحطة التي تستقطب العناية والاهتمام (11).

ويتضمن أسلوب التقديم والتأخير أبعاداً نفسية ونكتاً ولطائف بلاغية كثيرة (12)، وقد أشار إلى جملتها عدد من النحويين والبلاغيين (13).

وإذ يعمد خطاب النهج إلى هذا الفن القولي فإنما يستهدف التركيز على جملة من المعاني الإضافية ومن بينها المعاني النفسية.

- تقديم المسند إليه:

إن مرتبة المسند إليه التقديم لان مدلوله هو الذي يخطر في الذهن أولاً لأنه المحكوم عليه، والمحكوم عليه سابق للحكم (14)، فالمسند وصف والمسند إليه موصوف، والعادة أن يتقدم الموصوف ثم تتلوه صفته(15).

ففي قوله (علیه السلام): (فمَا أعظمَ منَّةَ اللهِ عندنَا حن أنعمَ علينا بِهِ) (16)، یوحي تقديم المبتدأ (ما) على الخبر (أعظم منة الله) بدلالة التعظيم والمدح لشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).

وجاء تق-دي-م المسند إليه واجباً لأن المبتدأ إذا كان اسماً مستحقاً للصدارة في جملته أما بنفسه مباشرة كأسماء الاستفهام وأسماء الشرط وما التعجبية وكم الخبرية وأما بغيره كالمضاف إلى واحد مما سبق وجب تأخر الخبر (17).

كما في قوله (علیه السلام): (وما للطُّلقاءِ وأبناءِ الطُّلقاءِ والتمييزَ بین المهاجِرينَ

الأولینَ)(18)، يصور تقديم المبتدأ (ما) على الخبر شبه الجملة ((للطلقاء) دلالة التوبيخ والذم للمخاطب فضلاً عن استفهامه ب (ما) التي هي لغير العاقل ليؤكد فكرة الخطاب ومعناه.

ص: 365

كما يتقدم المسند إليه وجوباً الواقع بعد (أما) لأن الفاء لا تقع بعدها مباشرة، ولان الخبر الذي تدخل عليه لا يتقدم على المبتدأ (19)، نحو قوله (علیه السلام): (فأنا لله وأنا إليه راجعونَ، فلقَد استُرجعتِ الوديعةُ، وأخذتِ الرهينةُ، أمَّا حُزنِي فسرمدُ

وأمَّا ليِلِي فمسَّهدٌ) (20)، إذ يشير الخطاب إلى مدى الحزن والألم في نفسه (علیه السلام) لمصابه في فقده الزهراء (علیه السلام)، وقد جاء المبتدأ (حزني، وليلي) متقدماً وجوباً على الخبر (سرمد، ومسهد) الذي يصور حزنه الأبدي وسهره الليالي لفراقها (علیه السلام).

وقد يؤتى بالمسند إليه مقدماً لأغراض (21)، منها لتعجيل المساءة (22)، کما في قوله (علیه السلام): (فالويلُ لمنْ أنكرَ المقدرَ، وجحدَ المدبرَ)(23)، يتجلى من تقديم المسند إليه ((الويل) دلالة الوعيد والتهديد، فضلاً عن ما في تقديمه من إثارة للرعب والخوف في نفس المخاطب، والويل كلمة تقال لكل من وقع في عذاب أو هلكة (24). كما يتقدم المسند إليه على المسند الفعلي لإفادة معنى تخصيص المسند إليه بالخبر الفعلي (25)، نحو قوله (علیه السلام): (إنَّما أجتمعَ رأيُ ملئكُمْ عى اختيارِ رجلینِ أخذْنَا عليهِمَا ألاَّ يتعدَّيَا القرآنَ فتاهَا عنهُ وتركَا الحقَّ وهما يبصرَانِهِ) (26).

يشیر تقديم المسند إليه (هما) على الخبر الفعلي (يبصرَانِهِ) إلى دلالة توكيد تحايل ومكر المخاطبين لتركهم طريق الحق مع معرفتهم به، فقصر الفعل على الفاعل من دون أن يكون له شريك إذ أفاد تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي معنى التخصيص (27)، اي (هو ان يكون الفعل فعلاً قد أردت أن تنص فيه على واحد فتجعله له وتزعم انه فاعله دون آخر أو

دون كل أحد)(28). ويشير تخصص المسند إليه بالخبر الفعلي إلى دلالة التقريع والتأديب في قوله (علیه السلام): (كيفَ تُسيغُ شَراباً وطعَاماً وأنتَ تعلمُ أنَّكَ تأكُلُ حرَاماً وتشربُ حرَاماً) (29).

ص: 366

إذ تقدم المسند إليه (أنت) على الخبر الفعلي (تعلم) لأن المعنى إرادة تقريره بأنه الفاعل، وكان أمر الفعل في وجوده ظاهراً وبحيث لا يحتاج إلى الإقرار بأنه كائن، أي تنحو بالإنكار إلى نفس المذكور - الفاعل -، وأبيت أن تكون بموضع أن یجيء منه الفعل وممن يجيء منه وان يكون بتلك المثابة (30).

ويتناسب تقديم المسند إليه مع مقام الوعيد والتحذير في قوله (علیه السلام): (فإنْ أنتُم لم تستقيُموا لي على ذلك لم يكُنْ أحدٌ أهونَ عليَّ ممن أعوجَّ منكُمْ)(31).

فقدم المسند إليه (أنتم) على الخبر الفعلي المنفي (لم تستقيموا) لتقوية الحكم وتقريره (32)

کما يتقدم المسند إليه لإفادة التعميم بالنص على عموم السلب، أي شمول النفي لكل فرد من أفراد المسند إليه، وبيان ذلك إن الوسيلة الغالبة في تحقيق عموم السلب هي تقديم أداة من أدوات العموم على أداة نفي إذ لا تقع الأولى في حيز الثانية وحينئذ تكون أداة العموم المسند إليه المقدم لإفادة التعميم بالنص على عموم السلب (33)، كما في قوله (علیه السلام): (وما كلُّ ذي قلبٍ بلبيبٍ ولا كلُّ ذي سمعٍ بسميعٍ ولا كل ذي ناظرٍ ببصیرٍ)(34).

يصور تقدم المسند إليه (كل) على الخبر شبه الجملة دلالة التحذير والوعظ للسامعين.

وقد يمثل العنصر المتقدم بؤرة التركيز التي تستقطب العناية والاهتمام، نحو قوله (علیه السلام):

(إنَّ حزنَنَا عليهِ على قدرِ سرورِهِم بهِ إلاَّ أنَّهُم نقصُوا بغيضاً ونقصنَا حبيباً) (35)، فالخطاب رسم صورتين الأولى: الحزن عليه وعبر عنها بالمسند إليه (حزننا عليه)

ص: 367

، والأخرى السرور لأعدائه وعبر عنها بالمسند (على قدر سرورهم به)، والح-زن والسرور نقيضان وهما من الحالات التي تصيب الإنسان وتعبر عما في داخله، ولأهمية المخاطب جاء الخطاب مؤكداً ب (أن) للدلالة على مبلغ ذلك الحزن لفقده، لان المنشيء إذ (يغير العناصر التي يشتمل عليها سياق الجملة، فانه يغير في الوقت نفسه القوة الترابطية بين الكلمات)(36).

- تقديم المسند:

المسند هو المخبر به أو المحكوم به (37)، ويتقدم المسند على المسند إليه في السياق الاسمي وجوباً (38)، إذ كان الخبر له الصدارة في الكلام، فلا يصح تأخيره(39)، نحو قوله (علیه السلام): (عجباً لأبن النابغةِ يزعمُ لأهلِ الشامِ أنَّ فيَّ دعابةً وانّي أمرؤٌ تلعابةٌ...

فإذا كان عند الحربِ فأيُّ زاجرٍ وآمرٍ هو؟ ما لم تأخُذ السيوفُ مآخذَهَا)(40).

يتجلى من التقديم الواجب للمسند (أي) على المسند إليه (هو) دلالة التعجب والإنكار من المخاطب، فضلاً عن السخرية منه لذله وجبنه عند الحرب وعدم المواجهة.

ويقدم المسند على المسند إليه للتعظيم وكثرة الاهتمام فضلاً عن الاختصاص والحصر (41)، كما في قوله (علیه السلام): (من كفاراتِ الذنوبِ العظامِ، إغاثةُ الملهوفِ

والتنفيسُ عن المكروبِ) (42).

يشير تقديم المسند شبه الجملة (من كفارات) على المسند إليه (إغاثة الملهوف، والتنفيس عن المكروب) إلى دلالة الاطمئنان للمتلقي لوجود كفارة لذنوبه، واللهفة والكرب من الحالات التي تصيب نفسية الإنسان لأمر ما مما يدخل الهم والكرب إليه.

ص: 368

وقد يحفز تقديم المسند المتلقي ويمده بالقدرة على استكناه ما وراء التراكيب من ظلال وقيم دلالية، وحتى تأخذ بذلك العبارة موقعها المناسب في نفسه نحو قوله (علیه السلام): (فاتَّقِ اللهَ يا بنَ حنيفٍ ولتكففْ أقراصُكَ، ليكونَ من النارِ خلاصُكَ)(43).

تكمن القيمة التعبيرية في تقديم المسند خبر كان (من النار) على المسند إليه اسمها (خلاصك) في التعبير عن دلالة التخويف والتحذير، وقد حقق التقديم والتأخير فائدتين احداهما صوتية والأخرى نفسية، إذ نرى تقديم (من النار) على (خلاصك) حافظ على التوازن الصوتي العام وعلى الانسجام الموسيقي الخاص برعاية الفاصلة، والى جوار هذه الفائدة الصوتية ثمة فائدة نفسية دلالية هدفها الإشارة إلى حالة الخوف من ذكر النار ولا يكاد قلب يخلو من هذا الهاجس.

وقد يفيد تقديم المسند التشويق إلى ذكر المسند إليه (44)، كما في قوله (علیه السلام): (إنَّ من أحبِّ عبادِ اللهِ إليهِ عبداً أعانهُ اللهُ على نفسِه فاستشعْرَ الحُزنَ وتجلببَ الخوفَ)(45).

يصور تقديم المسند خبر إن (من أحب) على المسند إليه اسمها (عبداً) دلالة النصح والوعظ، وقد أفاد التقديم في إثراء المعنى المطلوب وإحداث الغموض الفني المقصود في ذهن المتلقي في أول سماعه الخطاب.

وقد يقترن تقديم المسند الفعلي بعنصر المفاجأة، لان كل تقديم وتأخير في العبارة الواحدة يولّد معنى(46)، ومن ذلك قوله (علیه السلام): (فقد بلغنِي عنكَ قولٌ هو لكَ وعليكَ فإذا قَدِمَ عليك رسُولي فارفعْ ذَيلكَ واشدُدْ مئزرَكَ واخرجْ من جحرِكَ واندبْ من معَكَ) (47).

إذ يصور تقديم الفعل (بلغني) على المسند إليه الفاعل (قول) دلالة الغضب من المخاطب، وقدم المسند مراعاة لعلم المخاطب بالمسند إليه وجهله بالمسند، لان المخاطب كان يثبط القوم من الخروج مع الامام (علیه السلام). ويتقدم المفعول به

ص: 369

على الفعل لإفادة دلالة الاهتمام والتخصيص أو الحصر (48)، إذ الأصل في الفعل أن يتقدم على معموله ولا يتعداه إلى غيره (49)، ففي قوله (علیه السلام): (وقد دعوتُنا إلى

حكمِ القرآنِ ولستَ من أهلِهِ، ولسَنا إياكَ أجْبنَا ولكنَّا أجبنَا القرآنَ في حكمِهِ)(50).

تقدم المفعول به (إياك) على فعله (اجبنا)، ويشير سبق المفعول به بالنفي إلى نفي تخصيص الإجابة للمخاطب لأنه ليس أهل لذلك، ويتجلى من ذلك معنى السخرية والاستهزاء بالمخاطب، وقد استدرك في الخطاب الإجابة للقرآن وحكمه.

ونجد في تقديم المفعول به على الفاعل في قوله (علیه السلام): (الحمدُ للهِ الذي لا

يبلغُ مدحتهُ القائلونَ ولا يحصِيِ نعماءهُ العادُّونَ ولا يؤدِّي حقهُ المجتهدونَ)(51).

دلالة التعظيم والاهتمام بالمتقدم، فقدم المفعول به (مدحته، نعماءه، حقه) على الفاعل (القائلون، العادون، المجتهدون) إذ إن مدار الخطاب منصب عليها وهي المبحوث عنها، فكان الأولى بها أن تتقدم على الفاعل لأنها الأهم في الذكر، لتكون أمام الحاضرين في اللفظ كما هي في الواقع.

وإذ تتبادل المعمولات مواقعها الوظيفية في التركيب، فأن ذلك يشير إلى إنتاج مدلول نفسي لا يتأتى في الترتيب الطبيعي، من ذلك في قوله (علیه السلام): (اللَّهُمَّ إليكَ أفضت القلوبُ، ومدَّت الأعناقُ، وشخصَت الأبصارُ، ونُقلت الأقدامُ وأنضَيت

الأبدانُ)(52).

فقد تقدم شبه الجملة من الجار والمجرور (إليك) على الفعل (أفضت) للدلالة على التخصيص، وهذا التقديم يشعر المتلقي بجو من الطمأنينة والسكينة في الدعاء، إذ يتناسب مع المقام الذي يحتم هذا الإجراء ويفرضه ويشير إلى ما في النفس من التوجه في الدعاء، وتلك سمة إيمانية نفسية نحس بها.

ص: 370

ويبدو مما تقدم ان ظاهرة التقديم والتأخير - بوصفها عدولاً يقتضيه السياق ومقاصد الخطاب - لها أثر في بيان المعاني النفسية في خطاب النهج لان ( النفس إنما تعني بتقديم من تهتم بشأنه وذلك لأنه ماثل نصب العينين وان التفات الخاطر إليه في ازدياد)(53).

- الحذف:

ويعد من الظواهر الأسلوبية التي احتضنتها اللغة العربية لميلها إلى الإيجاز والاختصار، فهو عدول عن التركيب الأصلي إلى تركيب آخر بحذف جزء منه لدلالة يقتضيها السياق ولتوظيف طاقاته الإيحائية.

وقد حذفت العرب الجملة والمفرد والحرف والحركة (54)، ويتصل الحذف بالمعنى اتصالاً وثيقاً، فهو (يحسن مع ترك الإخلال باللفظ والمعنى فيأتي باللفظ القليل الشامل لأمور كثيرة)(55).

وقد وصفه الجرجاني (ت 471 ه) بقوله: (هو باب دقيق المسلك لطيف المأخذ عجيب الأمر شبيه بالسحر فأنك ترى فيه ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة وتجدك انطق إذا لم تنطق وأتم ما تكون بياناً إذا لم تبن، وهذه جملة قد تنكرها حتى تخبر وتدفعها حتى تنظر)(56).

إذ يعتمد الحذف على تغييب بعض الدوال والتعويض عنها بوساطة شحن الدوال الأخرى بالمدلولات التي تجسد الثراء والتوازن والتوازي وتوفر جانب الأدبية في النص (57).

وهذا يعني أن الحذف عارض ترکیبي لا يلغي المحذوف تماماً بل يغيبه في البناء الظاهري ويتستر عليه في ذهن المتلقي مؤقتاً لغايات جمالية وفنية يعمد إليها

ص: 371

المبدع، إذ أن

بعض العناصر اللغوية يبرز أثرها الأسلوبي بغيابها أكثر من حضورها (58).

فعندما يحذف الخطاب ماهو واضح ومكشوف من الدلالات أنما يترك المجال لكل قاريء بأن يستوحي الدلالة بحسب خبرته وتجربته التي تتناسب مع المحذوف في الخطاب (59)

إذ يدخل البنية دائرة الكثافة بحيث لا يخترقها المتلقي الا بعد معاناة فيكون اكتساب المعنى شبيهاً باكتساب التصور، فيزداد الكلام حسناً وتزداد النفس لذة (60).

يشغل الحذف حيزاً في خطاب النهج إذ انه يعتري الجملة والمفرد والحرف، وقد يكون وراء استعمال هذا الأسلوب لمحات نفسية يلحظها المتلقي من السياق العام اعتماداً على القرائن المقامية.

ومن مظاهر ذلك في خطاب النهج:

- حذف الجملة:

تحذف الجمل في اللغة من الكلام تجنباً للإطالة وجنوحاً إلى الاختصار، ولذلك نلحظ أن حذفها يقع في الأساليب المركبة من أكثر من جملة كالشرط والقسم والعطف والاستفهام (61)، لذا يقوم الحذف بوصفه سلوكاً لغوياً بتحويل الجزء المحذوف من إطار الخطاب إلى إطار الدلالة

ومن ذلك حذف جملة جواب الشرط، كما في قوله (علیه السلام): (متى أشفِي غيظِي إذا غضبتُ أحینَ أعجزُ عن الانتقامِ فيقال لي: لو صبرتَ، أم حن أقدرُ عليهِ فيقالُ لي لو عفوتَ)(62). تحقق ایجاز هذا الخطاب عن طريق الحذف وتضييق

ص: 372

بنيته السطحية اثراءً لبنيته الدلالية، وفيه إشارة الى الترغيب، إذ يجب التأني عند الغضب في شفاء الغيظ وحذف جملة جواب الشرط وتقديرها (لو صبرت لكان أولى، ولو عفوت وان العفو بك أولى) (63) وأكثر الحذف في جواب (لو) من دون أن تتقدم أو تكتنف جملة تدل على المحذوف، وإنما يعلم المحذوف بالقرينة العقلية وبما یلي من سياق اللفظ (64)، فالخطاب يحمل في طياته قيماً تربوية للسلوك الإنساني. وتحذف جملة القسم ويستغني عنها باللام وهو حذف جائز (65)، فإذا قيل (لأفعلن، أو لقد فعل، أو لئن فعل، ولم يتقدم جملة قسم فثم جملة قسم مقدرة)(66)، نحو قوله (علیه السلام): (ولوددتُ أنْ اللهَ فرَّقَ بيني وبينكم وألحقنِي بمن هو أحقُّ بي منكُمْ)(67). الخطاب يدل في سياقه على التحسر والألم عنده (علیه السلام) حتى تمنى فراقهم واللحوق بمن هم أحق به منهم، وقد حذف جملة القسم، والتقدير: أقسم والله (68)، وقد أضفى القسم على سياق الخطاب دلالة التوكيد، لان القسم جملة تؤكد بها جملة أخرى، والغرض منه توکيد المقسم عليه سواء أكان نفياً أم أثباتاً(69)، أي توكيد شعوره بالألم والحسرة لما لا يرتضيه من أفعالهم ويأتي حذف جملة القسم ليكون مناسباً لمقام تحقير المخاطب، كما في قوله (علیه السلام): (ولئن كان ما

بلغنِي عنكَ حقاً لجملُ أهلكَ وشسعُ نعلِك خَيرٌ منكَ)(70). فحذف جملة القسم من الخطاب والتقدير: أقسم بالله، ثم أخذ في توبيخه والحكم بنقصانه وحقارته إن حق ما نسب إليه ذلك بتفضيل جمل أهله وشسع نعله عليه (71). وفي حذف الجواب باعث إلى تصوره فيكون له أثره في نفس المتلقي (72)، وإنما (صار الحذف في مثل هذا أبلغ من الذكر لان النفس تذهب فيه كل مذهب ولو ذكر الجواب لقصر على الوجه الذي تضمنه البيان) (73). كما في حذف جواب الاستفهام في قوله (علیه السلام): (ولكنْ بمنْ وإلى مَن؟ أريدُ أنْ أداويَ بكُم وأنتم دَائي)(74)

ص: 373

يصور حذف جواب الاستفهام الذي تقديره بمن كنت أستعين عليكم، والى من أرجع في ذلك (75)، دلالة الندم والغضب من المخاطبين لتحايلهم وشقاقهم وقلة طاعتهم له.

وان عملية استدراج المتلقي وتحفيز طاقته الفكرية والانفعالية في تلقي الخطاب من أساسيات الوظيفة الفنية التي يضمنها المنشيء أسلوبياً بنية لا يذكرها، التي تشير باللمح إلى دلالات مخبأة (76)، نحو حذف جواب الاستفهام في سياق الدعاء في قوله (علیه السلام): (قلت يا رسولَ اللهِ ماذا لقيتُ من أمتكَ من الأودِ واللدَدِ؟ فقال: أدعُ عليهِم) (77). يصور الحذف دلالة الظلم الذي لاقاه الإمام (علیه السلام) منهم حتی شکاه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله)، فحذف جملة جواب الاستفهام والتقدير: لقيت من الأود واللدد ما لاقيت، إذ كان في غاية الكرب من تقصيرهم في إجابة ندائه ودعوته إلى الجهاد (78)، وأفاد الحذف في إثراء الدلالة حتى تجسد ذلك في دعائه عليهم. وترتبط أسلوبية الحذف لغوياً بطلب الخفة والإيجاز إذ (إن العرب تحذف لسعة الكلام)(79)، ومن السعة لمح الدلالة، كما في قوله (علیه السلام): (صف لنا العاقل فقال: هو الذي يضعُ الشيءَ مواضعَهُ، فقيل: فصف لنا الجاهل، قال: قد قلتُ)(80)

والحذف هنا أبلغ من الذكر لما فيه من دلالة على تحقير الجاهل، يعني ان الجاهل هو الذي لا يضع الشيء مواضعه فكأن ترك صفته صفة له، إذ كان بخلاف وصف العاقل (81).

- حذف الكلمة:

هو نوع يعتري التراكيب الاسنادية، إذ يكون العنصر المحذوف يستغني عنه بالقرينة الدالة عليه (82)، كحذف المبتدأ في قوله (علیه السلام): (جفاةٌ طغامٌ، وعبيدٌ أقزامٌ، جُمّعُوا من كلِّ أوبٍ، وتلقطُوا من كُلِّ شوبٍ)(83).

ص: 374

يوحي الحذف بدلالة التحقير من شانهم، ووصفهم بكونهم عبيداً إما لأنهم عبید الدنيا وأهلها أو لان منهم عبيداً، والمرفوعات الأربعة أخبار لمبتدأ محذوف، أي هم جفاة (84).

ويكثر بعد القول ومشتقاته من أفعال وأسماء ذكر الخبر وحذف المبتدأ اعتماداً على الدليل من السياق اللفظي السابق (85)، نحو قوله (علیه السلام): (الم تقولوا عند رفعهِمُ المصاحفَ حيلةً وغيلةً ومكراً وخديعةً: أخوانُنَا وأهلُ دعوتَنا) (86)، في الخطاب حذف المبتدأ بعد القول والتقدير (هم إخواننا)، وفي الحذف إشارة إلى غضبه (علیه السلام) من هذا الرأي ، لان رفع أولئك للمصاحف ظاهره الاجتهاد في الدين وباطنه عدوان أي حيلة للظلم والغلبة، وأوله رحمة لهم منكم وآخره ندامة لكم عند تمام الحيلة عليكم(87).

ويؤدي الحذف إلى تقصير المسافة بين الوحدات وتسريع النطق مما يضفي على الخطاب سمة التهديد والوعيد، كما في قوله (علیه السلام): (وأيمُ اللهِ لتؤتنَّ حيثُ أنتَ، ولا تتركُ حتى يخلطُ زبدُكَ بخاثرِكَ وذائبكَ بجامدِكَ)(88)، فحذف الخبر من السياق والتقدير (موجود) إذ توعده على تقدير قعوده وأقسم ليأتينه بالمكان الذي هو به من لا يتركه، وهو كناية عن غاية الخوف (89).

واستغنى عن ذكر الفاعل، في قوله (علیه السلام): (فإنَّ الجهادَ بابٌ من أبوابِ الجنةِ فمن تركهُ رغبةً عنهُ ألبسهُ اللهُ ثوبَ الذلِّ وشملهُ البلاءُ وديثَ بالصغارِ والقماءةِ وضربَ على قلبهِ بالإسهابِ)(90).

ولا تقف فائدة الحذف في الخطاب عند الاقتصاد في التعبير وتوخي الإيجاز في الأداء لكون الفاعل مفهوماً من السياق، وإنما تتعداه لإشاعة جو الرهبة والخوف عند المخاطب التارك للجهاد

ص: 375

وإذ يريد الخطاب التركيز على صورة مؤثرة في الدعاء يعمد إلى حذف الفعل لتبرز الدلالة ويتمحور الذهن حولها من أجل تأكيد إشارات نفسية، كما في قوله (علیه السلام) (اللَّهُمَّ سُقْياً منكَ مُحييةً، مرويةً، تامةً) (91).

وقد جاء الفعل (أسقنا) محذوف وجوباً، لان (سقياً) من المصادر التي يجب حذف عاملها، ولا يجوز استعمال فعلها ولا إظهاره فانتصب بفعل مضمر، وجعلوا المصدر بدلاً من اللفظ بذلك الفعل (92)، فلو أظهر الفعل صار کتکراره من دون فائدة وبعض النحاة يظهر الفعل تأكيداً وليس بالكثير (93).

وهذه المصادر تستعمل للدعاء - له أو عليه - منصوبة بفعل مضمر متروك إظهاره (94)، فمن الدعاء عليهم نحو قوله (علیه السلام) (وعلمُوا أنَّ الناسَ عندنا في الحقِّ أسوة فهربوا إلى الأثرةِ فبُعداً لهم وسُحقاً)(95).

أي لما كان شأنهم ذلك وعرفوا العدل عندنا في الحق هربوا إلى الاستئثار والاستبداد عند معاوية، ولذلك دعا عليهم بالبعد والسحق، وهما مصدران وضعا للدعاء والتقدير: بعدوا بعداً، وسحقوا سحقاً(96).

وقد يقصد التعبير من حذف الفعل وإطلاق المدلول الاسمي ليشمل مساحات نفسية معبرة عن معنى التحذير، كما في قوله (علیه السلام): (فنفسَكَ نفسَكَ فقد بیَّنَ اللهُ لكَ سبيَلكَ) (97)، إذ أمر المخاطب أن يحفظ نفسه بسلوك تلك السبل عما يلزم مخالفتها والعدول عنها وان الله تعالى بين له سبيل طاعته المأمور بسلوكها (98)، والتحذير أسلوب عرفته العرب ويقصد به التحذير من شيء، ويحذف فيه الفعل مع فاعله المخاطب، والتقدير أحذرك (99).

وارتبطت قيمة حذف المفعول به بالغرض من حذفه الذي يغني دلالة الفعل في التركيب (100)، وإذ كان غرض المتكلم أن يثبت معنى الفعل للفاعل من دون أن

ص: 376

يتعرض لذكر المفعول(101) نحو قوله (علیه السلام): (فصاحبُهَا كراكبِ الصعبة إنْ أشنقَ

لها خرمَ وإنْ أسلسَ لها تقحَّمَ) (102)، والمراد أن الصاحب بتلك الأخلاق في حاجة إلى المداراة في صعوبة حاله کراکب الصعبة، وحذف المفعول به والتقدير (خرم أنفها، وتقحم المهالك) كذلك صاحب أخلاق المخاطب والمبتلى بها إن أكثر عليه إنكار ما يتسرع إليه أدى ذلك إلى مشاقته، وان سکت عنه أدى ذلك إلى الإخلال بالواجب وذلك من موارد الهلكة (103).

وإذ يريد التعبير التركيز على صورة مؤثرة يعمد إلى حذف المضاف ليبرز المضاف إليه ويتمحور الذهن حوله من أجل توضيح نفسية المخاطب، نحو قوله (علیه السلام): (إنّي أريدك للهِ وأنتم تريدونَنِي لأنفسِكُم)(104).

ولا يخفى ما في الخطاب من دلالة مكثفة للمعنى، إذ يشير إلى صورتين الأولى مراد الإمام (علیه السلام) ونسب إرادته لهم إلى الله تعالى، والأخرى مرادهم للدنيا، وقد حذف المضاف والتقدير (لحظوظ أنفسكم) وفيه إشارة إلى الاختلاف بين حركاته ومقاصدهم، ثم بين الفرق أي إنما أريد طاعتكم لإقامة دين الله وإقامة حدوده وانتم تريدونني لحظوظ أنفسكم من العطاء والتقريب وسائر منافع الدنيا(105).

قد يوحي حذف حرف الجر في الخطاب بدلالة الحزن والألم من منطلق إن الحذف يؤدي إلى (إحداث نوع من التخفيف على الجهاز النطقي والاقتصاد في بذل المجهود العضلي عند المتكلم)(106)، بما يناسب حالة الحزن في قوله (علیه السلام): (فأحفِهَا السؤالَ واستخبرْهَا الحالَ) (107).

فالخطاب من كلام له (علیه السلام) عند دفن الزهراء (عليها السلام) کالمناجي به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد حذف حرف الجر (عن) لتحقيق ملحظ دلالي إذ أراد أن يرمز به للتشكي إلى الرسول (صلى الله عليه وآله) من أمته

ص: 377

بعده والغلظة عليه في القول على قرب عهدهم منه (صلى الله عليه وآله) (108).

يتضح مما تقدم، أن الحذف قد صّور عدداً من المعاني النفسية في الخطاب، فهو يعد عاملاً مهماً في الإیجاز والاختصار، فضلاً عن ما فيه من إثراء الدلالة بما يوحيه من معان تضاعف من إدراك المتلقي وإحساسه بالفكرة التي تدل عليها العبارة (109).

3 - الالتفات:

عني القدماء بالالتفات بوصفه ظاهرة تعبيرية، لها أهميتها فيما تحدثه من أثر في المتلقي، وذلك (إن الكلام أذا نقل من أسلوب إلى أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع، وإيقاظاً للإصغاء إليه، من إجرائه على أسلوب واحد)(110).

ويعد من شجاعة العربية، لان الشجاعة هي الأقدام لان الرجل الشجاع یرکب ما لا يستطيعه غيره ویتورد ما لا يتورده سواه، وكذلك هذا الالتفات في الكلام فأن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات (111).

وإذا كان الاهتمام بالالتفات على انه نقل للقول من المخاطب إلى الغائب ومن الواحد إلى الجماعة، فأن مفهومه الأوسع والأبلغ يشمل كل تحول أو انكسار أو عدول للأسلوب ونقل الكلام من حالة إلى أخرى مطلقاً، داخل النسق التعبيري الواحد (112).

ولعل الوقوف عند هذه الظاهرة يعد من الأهمية، لما تضفيه من قيمة دلالية تسهم في تحديد الأبعاد النفسية لخطاب النهج.

ويحدث الالتفات على مستوى الضمائر، إذ إن (العدول في استخدام الضمائر برنامج أسلوبي يخطط له المرسل وليس مصادفة لغوية، لذلك ينبغي رصد كل

ص: 378

التبدلات الطارئة على مسيرة الضمائر ومعرفة قدرتها على التوصيل والتعبير)(113)، لان الضمير اللغوي ينطوي على ازدواجية صريحة فهو كلي في اللغة جزئي في الكلام: (أنا أو أنت أو هو) ضمائر يمكن أن يقولها أي شخص فتعنيه بذاته، وهذه الازدواجية التي يحملها الضمير تسمح أن نميز بين الضمير والشخص، فالضمير هو الملفوظ اللغوي في صيغه المعروفة والشخص هو المعنى الخارجي، فالعلاقات اللغوية الداخلية هي التي تحدد الضمير والعلاقات اللغوية الخارجية هي التي تحدد الشخص(114).

ألا إن هذه الضمائر شأنها شأن أية ظاهرة لغوية أخرى يمكن أن تخرج من نطاقها المحدود داخل الجملة النحوية التقليدية لترتبط بأعلى نماذجها بالمعنی الداخلي للخطاب، لان الالتفات من الفنون ذات الأثر الفعال في تنويع أنماط الكلام تلبية لبواعث نفسية شتی (115).

ففي قوله (علیه السلام): (وأشهدُ أنَّ محمداً (صلى الله عليه وآله وسلم) عبدهُ ورسولهُ،

أرسلهُ لإنفاذِ أمرهِ وإنهاء عذرهِ وتقديم نذرهِ، أوصيكُمْ عبادَ اللهِ بتقوى اللهِ الذي ضربَ لكم الأمثالَ) (116).

فقد عدل الخطاب من ضمير التكلم في (أشهد) إلى ضمير المخاطب في (أوصيكم)، فالسياق آثر هذه البنية للالتفات ليحقق إيقاظاً ولفتا مناسباً لمقتضى المعنى في التحذير والوعظ للمتلقي وتذكيره بنعم الله تعالى عليه.

وقد يكون الالتفات من التكلم إلى الغيبة، نحو قوله (علیه السلام): (وإنَّ معي لبصرَتي، ما لبَّستُ على نفسي، ولا لبِّسَ عليَّ وايمُ اللهِ لأفرطنَّ لهم حوضاً أنا ماتحُهُ لا يصدرونَ عنهُ ولا يعودونَ إليهِ) (117).

يصور الالتفات بالانتقال من ضمير التكلم (معي) إلى ضمير الغيبة (لهم)

ص: 379

دلالة التحذير والوعيد، إذ يشير ذلك إلى قوة المواجهة المؤكدة بالقسم لتهويل الخطب عند المتلقي، فالصور الالتفاتية هي أن يجمع بين حاشيتي کلامين متباعدي المآخذ والأغراض وان ينعطف من إحداهما إلى الأخرى انعطافاً لطيفاً من غير واسطة، تكون توطئة للصيرورة من أحدهما إلى الآخر على جهة من التحول (118).

وقد يحقق الالتفات تجسيداً للموضوع الذي تؤخذ منه العبرة وتدنو به الحقيقة الدالة من القلوب المعتبرة، نحو قوله ( علیه السلام): (بكُم أضربُ المدبرَ،

وأرجو طاعةَ المقبلِ، فأعينُوني بمناصحةٍ خليةٍ من الغشِّ، سليمةٍ من الريبِ)(119).

إذ جاء الالتفات من ضمير الخطاب (بکم) إلى ضمير التكلم في (أرجو)، إذ يصورلنا هذا الانتقال بتوجيه الخطاب إلى المخاطب والاهتمام به، والعطف عليه بضمير التكلم في طلب العون والنصح الخالي من الغش والريب لما في ذلك من أثر في نفس المرسل والمخاطب، فالعدول عن ضمير الخطاب إلى ضمير التكلم يشير إلى واقع التأثير في نفس المتلقي.

فالالتفات هو استئناف نظام جديد في صياغة التراكيب يخالف النسق الأول ويتصل بتوزيع النسق النحوي وتنويعه على نحو ينتج شکلاً بلاغياً جديداً(120).

يكون الالتفات أحياناً من الخطاب إلى الغيبة إيذاناً بالإشارة النفسية من حيث التغير النفسي الناتج عن التغير الأسلوبي، كما في قوله (علیه السلام): (فاعلمُوا - وأنتم

تعلمونَ - بأنَّكُمْ تاركُوَها وظاعنونَ عنها واتعظُوا بالذين قالوا: (من أشد منا قوة)، حُمِلُوا إلى قبورِهِم فلا يدعَوْنَ رُكباناً) (121).

فالالتفات يشير إلى تهويل ما هم قادمون عليه وظاعنون إليه، بتركهم الدنيا، فخاطبهم بضمير المخاطب (أنتم) ثم انتقل إلى ضمير الغيبة في (قالوا) للدلالة على النصح والوعظ بمن سبقهم، فضلاً عن إن أسلوب الخطاب أخص من

ص: 380

أسلوب الغيبة (122)، فاستعمل الأسلوب الأخص في ذكر المتلقي الأخص لتقوية المعنی و تصویر ماهو مقبل عليه.

وقد يحصل الالتفات في صيغ الأفعال (الماضي والمضارع، والأمر) أو ما يسمى بالالتفات الزمني لان الزمن والحدث يمتدان ليشملا بعداً إنسانياً يستوعب جانباً هاماً من حركاتنا وأفعالنا ومشاعرنا (133).

ففي قوله (علیه السلام): (أضاءتْ به البلادُ بعد الضلالةِ المظلمَةِ، والجهالةِ الغالبةِ،

والجفوَةِ الجافيةِ والناسُ يستحلُّونَ الحريمَ ويستذلُّونَ الحكيمَ)(124).

يصور الالتفات بالانتقال من الماضي إلى المضارع دلالة المدح لشخص الرسول (صلى الله عليه وآله)، إذ نجد ان الفعل الماضي (أضاءت) هو الذي يؤسس النسق الطبيعي للتركيب، كونه يؤسس بداية الخطاب ويتحدث عن أحداث انتهى زمانها، ثم ينقطع هذا النسق بالفعل المضارع (يستحلون، ويستذلون) لتوضيح حالتهم المتجددة في هتك المحرمات والإذلال للحكیم كما إن الفعل المضارع يوضح الحال، ويستحضر تلك الصورة حتى كأن الإنسان يشاهدها وليس كذلك الفعل الماضي (125).

ومن الانتقال من المضارع إلى الماضي، في قوله (علیه السلام): (الحمدُ للهِ الفاشِي في الخلقِ حمدُهُ والغالبِ جندُهُ والمتعالِي جدُّهُ، أحمدُهُ على نعمِهِ التوأمِ وآلائِهِ العظامِ

الذي عظمَ حلمُهُ فعفَا وعدلَ في كلِّ ما قضَى)(126).

تتجلى من الالتفات دلالة التعظيم والتمجيد للذات الإلهية المقدسة، فالعدول من الفعل المضارع (أحمده) إلى الفعل الماضي (عظم، وعدل) لتجدد الحمد على النعم وثبوت العظمة والعدل والعطاء الإلهي، ولان إيثار الماضي والعدول إليه دال على مبالغة في الثبوت والاستقرار (127). فاستعمل الأسلوب الأخص في ذكر الفعل الأخص.

ص: 381

ويحصل الالتفات بالانتقال من الماضي إلى الأمر، نحو قوله (علیه السلام): (وألقَى إليكُمُ المعذرةَ، واتخذَ عليكُمُ الحُجةَ وقدَّمَ إليكُمْ بالوعيِد، وأنذركُمْ بن يديْ عذابٍ شديدٍ فاستدرِكُوا بقيةَ أيامِكُمْ) (128).

تكمن القيمة التعبيرية للالتفات في الدلالة على تحذير السامعين من الوقوع في العذاب الشديد بعد إلقاء الحجة عليهم فالعدول من الماضي (القی، واتخذ، وقدم، وأنذركم) إلى الأمر (استدركوا) إنما يفعل ذلك توكيداً لما أجرى عليه فعل الأمر لمكان العناية بتحقيقه، فعدل عن ذلك إليه للعناية بتوكيده في نفوسهم (129).

فالانتقال من صيغة إلى أخرى أنما یکون من أجل الالتفات ليكمل أمر الخطاب وتتفاوت درجته في البلاغة (130).

کما يحصل الالتفات من المضارع إلى الأمر، وانه ليس الانتقال فيه من صيغة إلى أخرى طلباً للتوسع في أساليب الكلام فقط، وإنما يقصد إليه تعظيماً لحال من أجرى عليه الفعل المستقبل وتفخيماً لأمره، وبالضد من ذلك فيمن أجرى عليه فعل الأمر (131)، نحو قوله (علیه السلام): (إنَّما مَثلي بينكُمْ كمثلِ السراجِ في الظلمةِ يستضِيءُ بِهِ من ولجَهَا فأسمعَوا أيُّها الناسُ وعُوا وأحضِرِوا آذانَ قلوبِكُمْ)(132).

فالالتفات يشير إلى ما في نفسه (علیه السلام) من الحرص الشديد على مصلحة قومه، فهو لا يريد لهم إلا ما يريده لنفسه لان مثل هذا الأسلوب أدلّ على التلطف بهم وادعى إلى قبول النصح، فانتقل بالتعبير من المضارع (يستضيء) إلى الأمر (أسمعوا، وعوا، وأحضروا)، فضلاً عن النداء الذي يقوي البعد الدلالي للخطاب.

فالانتقال من أسلوب إلى آخر أدخل في القبول عند السامع وأكثر لنشاطه وأعظم في إصغائه (133)، فهو ليس حيلة من حيل جذب المتلقي وتشويقه، لان ما

ص: 382

يحدث فيه من انحراف عن النسق، أو انتقال في الإيراد الكلامي من صيغة إلى أخرى ليس انتقالاً استطرادياً، وليس تعليقاً على ما قيل أو ما حدث أو ما شابه ذلك من وسائل تطرية نفس المتلقي والترويح عنه، وإنما ينحصر الأمر في بيان معنى على قدر كبير من الرهافة والخفاء لا يلفت المتلقي إليه أو إلى البحث عنه إلا إدراكه للتغير الحادث في النسق اللغوي للخطاب (134).

الخاتمة

• يشير العدول في الظواهر التركيبية إلى طبيعة الموقف ومقاصد الخطاب، ولعل ظاهرة التقديم والتأخير من أبرز تلك الظواهر، إذ يمثل العنصر المتقدم بؤرة التركيز التي تستقطب العناية والاهتمام، وإذ يعمد خطاب النهج إلى هذا الفن فانما يستهدف التركيز على جملة من المعاني الإضافية ومن بينها المعاني النفسية.

• صور الحذف عدد من المعاني النفسية في خطاب النهج، فضلاً عن كونه عاملاً مهماً في الإيجاز والاختصار، لما فيه من إثراء للدلالة بما يوحيه من معان تضاعف من إدراك المتلقي وإحساسه بالفكرة التي يدل عليه الخطاب.

• لعل الوقوف عند ظاهرة الالتفات يعد من الأهمية لما تضيفه من قيمة دلالية تسهم في تحديد الأبعاد النفسية لخطاب النهج، لانه من الفنون ذات الأثر الفعال في تنويع أنماط الكلام تلبية لبواعث نفسية.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

هوامش البحث:

(1) ينظر: بنية اللغة الشعرية: 15.

(2) ينظر: البلاغة العربية، قراءة أخرى: 204.

(3) الانزياح من منظور الدراسات الأسلوبية: 166.

(4) ينظر: المصدر نفسه: 162.

ص: 383

(5) ينظر: البرهان: 3 / 303.

(6) ينظر: البلاغة والأسلوبية: 248.

(7) دلائل الإعجاز: 106.

(8) ينظر: الجملة العربية في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة (بحث): 167.

(9) ينظر: المعاني في ضوء أساليب القرآن: 196.

(10) ينظر: في نحو اللغة وتراكيبها: 92.

(11) ينظر: دلالات التراكيب: 175.

(12) ينظر: الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية: 112.

(13) ينظر: دلائل الإعجاز: 106 وما بعدها، والتقديم والتأخير في القرآن الكريم: 11 - 56.

(14) ينظر: أساليب المعاني في القرآن: 308.

(15) ينظر: نحو المعاني: 86.

(16) نهج البلاغة:خ 160 / 285.

(17) ينظر: النحو الوافي: 1 / 447.

(18) نهج البلاغة: ك 28 / 488.

(19) ينظر: النحو الوافي: 1 / 449.

(20) نهج البلاغة: خ 202 / 403.

(21) ينظر: التقديم والتأخير في القرآن الكريم: 59 - 76.

(22) ينظر: الإيضاح: 135.

(23) نهج البلاغة: خ 185 / 340.

(24) ينظر: لسان العرب: 9 / 428.

(25) ينظر: أساليب المعاني في القرآن: 312.

(29) نهج البلاغة: خ 127 / 233.

(27) ينظر: التقديم والتأخير في القرآن الكريم: 63.

(28) دلائل الإعجاز: 128.

(29) نهج البلاغة: ك 41 / 525.

(30) ينظر: دلائل الإعجاز: 116 - 117.

(31) نهج البلاغة: ك 50 541.

(32) ينظر: أساليب المعاني في القرآن: 319.

ص: 384

(33) ينظر: التقديم والتأخير في القرآن الكريم: 88 - 89.

(34) نهج البلاغة: خ 88 / 144.

(35) نهج البلاغة:ح 325 / 677.

(36) محاضرات في علم النفس اللغوي: 215.

(37) ينظر: التقديم والتأخير في القرآن الكريم: 92.

(38) ينظر: شرح الكافية: 1 / 260 - 263.

(39) ينظر: النحو الوافي: 1 / 452.

(40) نهج البلاغة: خ 89 / 136

(41) ينظر: معاني النحو: 1 / 140.

(42) نهج البلاغة: ح 24 / 602.

(43) نهج البلاغة: ك 45 / 536.

(44) ينظر: مفتاح العلوم: 422.

(45) نهج البلاغة:خ 87 / 140.

(46) ينظر: الجملة العربية والمعنى: 230.

(47) نهج البلاغة: ك 63 / 579 - 580.

(48) ينظر: معاني النحو: 2 / 76، وأسرار التقديم والتأخير في لغة القرآن الكريم: 72.

(49) ينظر: أساليب المعاني في القرآن: 335.

(50) نهج البلاغة: ك 48 / 540.

(51) المصدر نفسه: خ 1 / 17.

(52) المصدر نفسه: ك 15 / 473.

(53) دلائل الإعجاز: 100 - 101.

(54) ينظر: الخصائص: 2 / 360.

(55) إعجاز القرآن (الباقلاني): 2 / 190.

(56) دلائل الإعجاز: 146.

(57) ينظر: علم اللسانيات الحديثة: 363.

(58) ينظر: جدلية الإفراد والتركيب: 181 - 182.

(59) ينظر: القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي: 100.

(60) ينظر: البلاغة العربية، قراءة أخرى: 222.

ص: 385

(61) ينظر: ظاهرة الحذف في الدرس النحوي: 203.

(62) نهج البلاغة: ح 194 / 638.

(63) ينظر: شرح نهج البلاغة: 5 / 450.

(64) ينظر: ظاهرة الحذف في الدرس النحوي: 255.

(65) ينظر: المصدر نفسه: 256، والحذف والتقدير في النحو العربي: 215.

(66) مغني اللبيب: 2 / 174.

(67) نهج البلاغة: خ 116 / 219.

(68) ينظر: شرح نهج البلاغة: 3 / 549.

(69) ينظر: الحذف والتقدير في النحو العربي: 214.

(70) نهج البلاغة: ك 71 / 591.

(71) ينظر: شرح نهج البلاغة: 5 / 385.

(72) ينظر: اللغة في الدرس البلاغي: 189.

(73) النكت: 70 - 71.

(74) نهج البلاغة: خ 121 / 223.

(75) ينظر: شرح نهج البلاغة: 3 / 554.

(76) ينظر: الأسلوبية مدخل نظري ودراسة تطبيقية: 137.

(77) نهج البلاغة: خ 70 / 108.

(78) ينظر: شرح نهج البلاغة: 2 / 348.

(79) التحليل اللغوي في كتاب سيبويه: 276.

(80) نهج البلاغة: ح 235 / 645.

(81) ينظر: شرح نهج البلاغة: 5 / 458.

(82) ينظر: ظاهرة الحذف في الدرس النحوي: 177 - 178.

(83) نهج البلاغة: خ 238 / 453.

(84) ينظر: شرح نهج البلاغة: 4 / 193.

(85) ينظر: الحذف والتقدير في النحو العربي: 250.

(86) نهج البلاغة: خ 122 / 225.

(87) ينظر: شرح نهج البلاغة: 3 / 556.

(88) نهج البلاغة: ك 63 / 580.

ص: 386

(89) ينظر: شرح نهج البلاغة: 5 / 372.

(90) نهج البلاغة: خ 27 / 60 - 61.

(91) المصدر نفسه: خ 115 / 216.

(92) ينظر: الحذف والتقدير في النحو العربي: 233.

(93) ينظر: شرح المفصل: 1 / 114.

(94) ينظر: الطراز: 250 - 251.

(95) نهج البلاغة: ك 70 / 590.

(96) ينظر: شرح نهج البلاغة: 5 / 384، والحذف والتقدير في النحو العربي: 233.

(97) نهج البلاغة: ك 30 / 495.

(98) ينظر: شرح نهج البلاغة: 4 / 250.

(99) ينظر: ظاهرة الحذف في الدرس النحوي: 227.

(100) ينظر: اللغة في الدرس البلاغي: 186.

(101) ينظر: ظاهرة الحذف في الدرس النحوي: 200.

(102) نهج البلاغة: خ 3 / 29.

(103) ينظر: شرح نهج البلاغة: 1 / 178.

(104) نهج البلاغة: خ 136 / 244.

(105) ينظر: شرح نهج البلاغة: 3 / 583.

(106) قراءة يحيى بن وثاب في ضوء علم التشكيل الصوتي: 130 - 131.

(107) نهج البلاغة: خ 202 / 403.

(108) ينظر: شرح نهج البلاغة: 4 / 8.

(109) ينظر: في البنية والدلالة: 131.

(110) الكشاف: 1 / 12.

(111) ينظر: المثل السائر: 2 / 135.

(112) ينظر: أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية: 55.

(113) تبادل الضمائر وطاقته التعبيرية، ( بحث ): 20.

(114) ينظر: أقنعة النص: 50 -51.

(115) ينظر: فن الالتفات في مباحث البلاغيين (بحث): 65.

(116) نهج البلاغة: خ 83 / 120 - 121

ص: 387

(117) المصدر نفسه: خ 10 / 39.

(118) ينظر: منهاج البلغاء: 315.

(119) نهج البلاغة: خ 118 / 220.

(120) ينظر: بلاغة الخطاب وعلم النص: 214.

(121) نهج البلاغة: خ 111 / 209.

(122) ينظر: من أساليب التعبير القرآني: 98.

(123) ينظر: البنيات الأسلوبية: 196.

(124) نهج البلاغة: خ 151 / 263.

(125) ینظر: الطراز: 267.

(126) نهج البلاغة: خ 191 / 355.

(127) ينظر: الطراز: 268.

(128) نهج البلاغة: خ 89 / 139.

(129) ينظر: المثل السائر: 2 / 145.

(130) ينظر: الطراز: 267.

(131) ينظر: المثل السائر: 2 / 144.

(132) نهج البلاغة: خ 187 / 349.

(133) ينظر: الطراز: 269.

(134) ينظر: قراءة جديدة لتراثنا النقدي: 879.

ص: 388

المصادر والمراجع

1. أساليب المعاني في القرآن: السيد جعفر السيد باقر الحسيني، الطبعة الأولى، مؤسسة بوستان کتاب، 1428 ه.

2. الأسس النفسية لأساليب البلاغة العربية: د. مجيد عبد الحميد ناجي، الطبعة الأولى، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1984 م.

3. أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية: حسن طبل، دار الفكر العربي، القاهرة، 1998 م

4. الأسلوبية مدخل نظري ودراسة تطبيقية: فتح الله احمد سلمان، مطبعة الدار الفنية للنشر والتوزيع، د. ت.

5. إعجاز القرآن: أبو بكر الباقلاني (ت 403 ه)، تحقيق: أحمد صقر، الطبعة الخامسة دار المعارف، القاهرة، 1995 م.

6. أقنعة النص في قراءات نقدية في الأدب: سعيد الغانمي، الطبعة الأولى، مطبعة دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1991 م.

7. الانزياح من منظور الدراسات الاسلوبية: د. أحمد محمد ويس الطبعة الأولى، مجد المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بیروت، 2005 م.

8. الإيضاح في علوم البلاغة: الخطيب القزويني (ت 739 ه) تحقيق: محمد عبد المنعم خفاجي، الطبعة الخامسة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1980 م.

9. البرهان في علوم القرآن: بدر الدين بن عبد الله الزركشي (ت 794 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهيم، دار عالم الكتب للطباعة والنشر، المملكة العربية السعودية، 2003 م.

10. بلاغة الخطاب وعلم النص: صلاح فضل، عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة

ص: 389

والفنون والآداب، الكويت، 1992 م.

11. البلاغة العربية، قراءة أخرى: محمد عبد المطلب، الطبعة الأولى، الشركة المصرية العالمية للنشر، مصر، 1997 م.

12. البلاغة والأسلوبية: محمد عبد المطلب، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1984 م.

13. البنيات الأسلوبية: في لغة الشعر الحديث: مصطفى السعدني، مطابع رواء، الاسكندرية، 1987 م

14. بنية اللغة الشعرية: جان کوهن، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال، المغرب، 1986 م.

15. التحليل اللغوي في كتاب سيبويه: شعبان عوض جمعة العبيدي، الطبعة الأولى، ليبيا، 1991 م.

16. التقديم والتأخير في القرآن الكريم: محمد أحمد عيسى العامري، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1996 م.

17. الجملة العربية والمعنى: فاضل صالح السامرائي، الطبعة الأولى، دار ابن حزم، لبنان، 2000 م.

18. الحذف والتقدير في النحو العربي: علي أبو المكارم، دار غريب للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2008 م.

19. الخصائص: أبو الفتح عثمان بن جني (ت 392 ه)، تحقيق: محمد علي النجار، الطبعة الرابعة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ادارة التراث، 1999 م.

20. دلائل الاعجاز: عبد القاهر الجرجاني (ت 471 ه)، تحقيق محمود محمد شاکر، الطبعة الخامسة، مكتبة الخانجي، القاهرة، 2004 م.

21. دلالات التراكيب، دراسة بلاغية: د. محمد محمد أبو موسى، الطبعة الثالثة،

ص: 390

الناشر مکتبة وهبة، القاهرة، 2004 م.

22. شرح الكافية في النحو: رضي الدين الاستراباذي (ت 686 ه)، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت.

23. شرح المفصل: ابن يعيش موفق الدين يعيش بن علي (ت 643 ه)، عالم الكتب، بیروت د. ت

24. شرح نهج البلاغة: ابن میثم البحراني (ت 679 ه)، الطبعة الأولى، دار الرافدين، العراق، 2009 م.

25. الطراز المتضمن لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الاعجاز: یحیی بن حمزة العلوي (ت 749ه)، مراجعة: محمد عبد السلام شاهين، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1995 م.

26. ظاهرة الحذف في الدرس النحوي: طاهر سليمان حمودة، الدار الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع، الاسكندرية، د. ت.

27. علم اللسانيات الحديث: عبد القادر عبد الجليل، الطبعة الأولى، دار صفاء للنشر والتوزيع، عمان، 2002 م.

28. في البنية والدلالة، رؤية لنظام العلاقات في البلاغة العربية: سعد ابو الرضا، منشأة المعارف، مصر، د. ت.

29. في نحو اللغة وتراکیبها ( منهج وتطبيق): خليل أحمد عمايرة، الطبعة الأولى، عالم المعرفة، المملكة العربية السعودية، 1984 م.

30. قراءة جديدة لتراثنا النقدي: عز الدين إسماعيل، النادي الثقافي، جدة - السعودية، 1990 م.

31. قراءة يحيى بن وثاب في ضوء علم التشكيل الصوتي: أحمد طه حسنين، الطبعة الأولى، مكتبة وهبة، القاهرة، 2004 م.

ص: 391

32. القواعد البلاغية في ضوء المنهج الإسلامي: محمود البستاني، الطبعة الأولى، مجمع البحوث الإسلامية، ایران، 1414 ه.

33. الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الاقاويل في وجوه التأويل: ابي القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت 538 ه)، راجعه: يوسف الحمادي، الناشر مكتبة مصر، د. ت.

34. اللغة في الدرس البلاغي: عدنان عبد الكريم جمعة، الطبعة الأولى، دار السياب للطباعة والنشر، لندن، 2008 م.

35. المثل السائر في ادب الكاتب والشاعر: ضياء الدين بن الاثير (ت 637 ه)، تحقيق: أحمد الحوفي، وبدوي طبانة، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، د. ت.

36. محاضرات في علم النفس اللغوي: حنفي بن عيسى، الطبعة الثانية، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980 م.

37. المعاني في ضوء أساليب القرآن: عبد الفتاح لاشين، الطبعة الثالثة، دار المعارف، 1978 م.

38. معاني النحو: فاضل صالح السامرائي، الطبعة الثانية، دار الفكر للطباعة والنشر، عمان، 2003 م

39. مغني اللبيب عن كتب الاعاريب: ابن هشام الانصاري (ت 761 ه)، قدم له: حسن حمد، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، 1998 م.

40. مفتاح العلوم: ابو يعقوب يوسف بن ابي بكر محمد بن علي السكاكي (ت 626 ه)، الطبعة الأولى البابي الحلبي، مصر، 1973 م

41. من أساليب التعبير القرآني، دراسة لغوية وأسلوبية في ضوء النص القرآني: د. طالب محمد إسماعيل الزوبعي، الطبعة الأولى دار النهضة العربية، بيروت،

ص: 392

1996 م.

42. منهاج البلغاء وسراج الادباء: ابي الحسن حازم القرطاجني (ت 684 ه)، تحقيق محمد الحبيب ابن الخوجة، الطبعة الثالثة، دار الغرب الاسلامی، بیروت، 1986 م

43. نحو المعاني: أحمد عبد الستار الجواري، مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1987 م

44. النحو الوافي: عباس حسن، الطبعة الأولى، آوند دانش للطباعة والنشر، 2004 م

45. النكت في إعجاز القرآن: أبو الحسين بن عيسى الرماني (ت 384 ه)، ضمن ثلاث رسائل في إعجاز القرآن، تحقیق محمد خلف الله ومحمود زغلول سلام، دار المعارف، مصر، د. ت.

46. نهج البلاغة: صبحي الصالح، الطبعة الرابعة، ایران، 1431 ه.

البحوث والدوريات

1. تبادل الضمائر وطاقته التعبيرية، محمد ندیم خشفة، مجلة البيان الكويتية، العدد 290، آیار، 1990 م

2. الجملة العربية في ضوء الدراسات اللغوية الحديثة، نعمه رحيم العزاوي، کتاب المورد، دراسات في اللغة، بغداد، 1986 م.

3. فن الالتفات في مباحث البلاغيين، جلیل رشيد فالح، بحث في مجلة آداب المستنصرية، بغداد، العدد التاسع، 1984 م.

ص: 393

ص: 394

الفرائد العلوية

في إثراء القواعد النحوية

(دراسة في نصوص نهج البلاغة)

م. د. ظافر عبيس الجياشي

المديرية العامة للتربية في المثنى

ص: 395

ص: 396

توطئة:

من المجمع عليه أنَّ كلام الإمام عليّ (عليه السلام) قد شغف قلوب العلماء، والأدباء ملازمة ومطالعةً، وملأ أسماعهم وأبصارهم، واستهوتهم روائعه وسحرتهم أساليبه وألوانه، فوصفوه بما يدلّ على بعد أثره فيهم، وإعجابهم به حتى قال الجاحظ (ت: 255 ه) في البيان والتبيين: ((قال عليّ بن أبي طالب کرم الله وجهه: «قيمة كلّ امرئ ما يحسن»! فلو لم نقف من هذا الكتاب إلاّ على هذه الكلمة، لوجدناها کافية شافية، ومجزية مغنية؛ بل لوجدناها فاضلة على الكفاية، وغير مقصّرة عن الغاية، وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره))(1). ورأى فيها الشريف الرضي (ت: 406 ه): ((الكلمة التي لاتصاب لها قيمة، ولاتوزن بها كلمة، ولاتقرن إليها كلمة))(2).

إذ تتأتي أهمية هذا البحث النحوي في نهج البلاغة، أنَّه ضمَّ فرائد نحوية وقعت في مباحثَ حول كلام أمير المؤمنين (عليه السلام)، فكلامه من النصوص التي يستشهد بها في الدرس النحوي، وقد حاولت فيه أن أُلمع إلى ما وجدته من إشارات وفرائد نحوية في نهج البلاغة، يمكن أن تضاف إلى الدرس النحوي وتثريه؛ لأنّها من ابتکارات الإمام (عليه السلام) التي لم يصرح بها النحويون في مصنفاتهم. واقتضت طبيعة البحث أن يقسم على: توطئة ومبحثين، جاء المبحث الأول بعنوان القيمة العلمية لنهج البلاغة، وجاء المبحث الثاني موسماً بالفرائد العلوية في نهج البلاغة، تلاهما الخاتمة بأهم نتائج البحث.

397

ص: 397

المبحث الأول: القيمة العلمية لنهج البلاغة

كان الإمام عليّ (عليه السلام) الطالب الأول في مدرسة القرآن، وتحت رعاية معلمها النبي المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله)؛ لذا أجاد الإمام في محاكاة تلك المدرسة وذلك المعلم، وكتاب نهج البلاغة صورة صادقة للسان العربي المبين الذي اعزّه الله بالقرآن الكريم وحفظه، فهو المعنى الجامع المانع للعربية وعلومها.

لقد أفنى العلماء والأدباء حيزاً كبيراً من حياتهم في توضيح هذا السفر الخالد، وجلاء معالمه وروائعه، وإبراز قيمته، ولا نراهم وقفوا على الاحاطة بكل طاقات العطاء فيه. فكلامه حظي بما لم يحظ به کلام غيره من والعلماء والادباء من العناية التامة والاهتمام البالغ، فيراهم المتابع على امتداد القرون والاعصار بين جامع لحكمه، وراوٍ محدث لخطبه، وحافظ لقواله، ومتأثر باسلوبه، وناظم لحكمه؛ لأنّه (عليه السلام) فتح أمامهم جوانب فكرية واسعة، وآفاق علمية غير متناهية فصالوا على كلامه وأخذوا معاني أقواله، ومباني ألفاظه.

فكلام الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة بكلّ صوره وأشكاله وجوانبه دعامة قوية لتراث الحضارة الإنسانية، وركيزة قويمة للشخصية الانسانية، لا تستأثر به مجموعة دون أخرى، ولا يختص به أهل ملة ونحلة دون غيرها، ولا ينحصر في أهل مذهب دون غيرهم من أهل المذاهب، وإنمّا كان مرجعاً حياً ونبعاً فكرياً متدفقاً لكل البشرية والاجيال والقرون والاحقاب، واصبح ينبوعاً صافياض وثروة فكرية، ومناعة علمية لكتاب اللغة العربية والمتطلعين إليها قديماً وحديثاً ينتهلون من لغته ويقتبسون من معانيه الوهاجة، ومبانيه المستقيمة ما يقوم لهم

ص: 398

فنهم وينمي من حصيلتهم في اللغة والأدب والفكر والمعرفة(3).

وقديماً استعان به کبراء العربية لأدبهم وتفكيرهم كعبد الحميد الكاتب (ت: 132 ه) الذي كان يضرب به المثل في الكتابة والخطابة في أوائل القرن الثاني الهجري، وابن نباتة (ت: 374 ه)، واضرابهم من الكتاب والادباء والبلغاء، فاكسبهم هذا الخصب المخضوضر في بيانهم وأسلوبهم وأدبهم ممّا لم يعهد من ذي قبل. فهذا عبد الحميد الكاتب يشهد له حين قيل له: ((ما الذي خرجك في البلاغة؟ فقال حفظ کلام الأصلع يعني عليّ بن أبي طالب))(4)، وفي موضع آخر قوله: ((حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع (يعني به علي بن أبي طالب) ففاضت ثم فاضت))(5).

وابن نباته يعترف بأنه إنما أخذ ماله من ذوق وفكر وأدب عن الإمام، وهو الذي كان يضرب به المثل في خطباء العرب في العهد الإسلامي: ((حفظت من الخطابة كنزاً، لا يزيده الإنفاق إلاّ سعة حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب))(6).

ويقول ابن أبي الحديد المعتزلي في شرح النهج: ((فهو (عليه السلام) إمام الفصحاء وسيد البلغاء وفي كلامه قبل دون کلام الخالق وفوق كلام المخلوقين ومنه تعلم الناس الخطابة والكتابة))(7). ويعقد مقارنة بين أسلوب الإمام واسلوب ابن نباتة بقوله: ((نحن نذكر في هذا الموضع فصولا من خطب الخطيب الفاضل عبد الرحيم بن نباتة (رحمه الله) وهو الفائز بقصبات السبق من الخطباء وللناس غرام عظیم بخطبه وكلامه ليتأمل الناظر کلام أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبه ومواعظه وكلام هذا الخطيب المتأخر الذي قد وقع الإجماع على خطابته وحسنها وأن مواعظه هي الغاية التي ليس بعدها غاية))(8)، ويخرج بنتيجة مفادها:

ص: 399

((فليتأمل أهل المعرفة بعلم الفصاحة والبيان هذا الكلام - نهج البلاغة - بعين الإنصاف يعلموا أن سطراً واحداً من کلام نهج البلاغة يساوي ألف سطر منه بل يزيد ويربي على ذلك))(9).

وأما حديثاً فقد قيل فيه الكثير، من ذلك قول الأستاذ محمد حسن نائل المرصفي: ((نهج البلاغة ذلك الكتاب الذي أقامه الله حجة واضحة على أن علياً كان أحسن مثال حيّ لنور القرآن وحكمته، وعلمه وهدايته، وإعجازه وفصاحته. إجتمع لعليّ في هذا الكتاب مالم يجتمع لكبار الحكماء، وأفذاذ الفلاسفة، ونوابغ الربّانيّين، من آيات الحكمة السابغة، وقواعد السياسة المستقيمة، ومن كل موعظة باهرة، وحجة بالغة تشهد له بالفضل وحسن الأثر. خاض عليّ في هذا الكتاب لجّة العلم، والسياسة والدين، فكان في كل هذه المسائل نابغة مبرّزا، ولئن سألت عن مكان كتابه من الأدب بعد أن عرفت مكانه من العلم، فليس في وسع الكاتب المترسّل، والخطيب المصقع، والشاعر المفلق، أن يبلغ الغاية من وصفه، أو النهاية من تقریظه. وحسبنا أن نقول: أنه الملتقى الفذّ الذي التقى فيه جمال الحضارة، وجزالة البداوة، والمنزل المفرد الذي اختارته الحقيقة لنفسها منزلا تطمئن فيه، وتأوي إليه بعد أن زلّت بها المنازل في كل لغة.)) (10).

ويقول الشيخ محمود شكري الآلوسي: ((نهج البلاغة قد استودع من خطب الإمام علي بن أبي طالب (سلام الله عليه) ما هو قبس من نور الكلام الإلهيّ، وشمس تضيء بفصاحة المنطق النبويّ))(11).

وقال ميخائيل نعيمة: ((إن علياً لمَن عمالقة الفكر، والروح، والبيان في كل زمان ومکان))(12).

ما تقدم ذكره عن مكانة نهج البلاغة في الأدب واللغة أنه المنبع الفذّ الذي

ص: 400

التقى فيه جمال الحضارة، وجزالة البداوة، اختارته الحقيقة لنفسها منزلا تطمئن فيه، وتأوي إليه بعد أن زلّت بها المنازل في كل لغة، هذا يحدونا ويدفعنا الى تقحم الصعاب وركوب المصاعب والاسباب للغوص في هذا البحر الندي واكتشاف اسراره اللغوية ومبانيه النحوية، إذ وقفنا على بعض القواعد والمباني النحوية التي لم يتطرق إليها أو يدرسها أهل صناعة النحو، لتضاف الى ماذكره النحويون، من دون الخوض في المجالات الأخرى، فاحببنا أن تكون باكورة أمل وبداية جادة في إعادة القراءة في هذا السفر الخالد والافادة منه في الدرس النحوي.

ص: 401

المبحث الثاني: الفرائد العلوية في نهج البلاغة

النصوص الخالدة تنماز بقوة متنها الناشئ من تمكن منشئها من تكوينها؛ لما يمتلكه من أدوات لغوية وبراعة فنية في بناء العبارة وتمكن راسخ في التأثير في الآخرين واستيعابه كل الأحداث مع مرونة نصيّة لجميع الأزمان وإمكان انطباقه على أكثر من مصداق.

ففي نهج البلاغة من ((غرائب الفصاحة، وجواهر البلاغة العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية ما لا يوجد مجتمعاً في كلام، ولا مجموع الأطراف في کتاب))(13). فكلامه (عليه السلام) ((دون كلام الخالق وفوق کلام المخلوقين))(14)، وهو على ما ذكر يقع ضمن دائرة الاستشهاد النحوي.

وإذا كانت لغة الشعر في لسان لغة ما تختلف عن لغة النثر؛ لأنَّ الأولى تخضع لقيود لا تخضع لها الأخرى كالضرورة الشعرية وغيرها؛ فإن لغة الشعر كانت موضع اهتمام النحويين العرب وهم على وعي بهذا ((فقد فرقوا بين الشعر والنثر وتحدثوا عن الضرورة الشعرية حديثا ينم عن فهمهم لما يقع أحياناً في اللغة من خروج على الشائع واعتمادٍ لأقيسة يُركن إليها على ضعفها))(15). وقد صرّح العلماء بذلك، فالفراء (ت: 207 ه) يرى أنَّ لغة القرآن الكريم ((أعرب وأقوى في الحجة من الشعر)) (16). وكذا أبو الحسن الرماني (ت 386 ه) الذي يعتد بلغة القران ويراها أصح من الشعر في الاحتجاج (17). وإذا كان الكلام النثري بهذه المنزلة وتلك الصفات في نهج البلاغة، فحري بالنحويين أن ينهلوا من معين نهج البلاغة، ويجعلوه مصدراً من مصادر استشهادهم، ويقعدوا قواعدهم ويؤسسوا

ص: 402

أقيستهم على كلامه.

ونحاول أنْ نلمع إلى ما وجدناه و تتبعناه من إشارات وفرائد في نهج البلاغة يمكن أنْ تضاف إلى الدرس النحوي وتثريه، من ذلك:

أولاً / الفرائد الظرفية:

1) مجيءُ ظرف المكان (أينَ) معرباً لا مبنياً:

تحدث سیبویه (ت 180 ه) عن الظروف المبهمة وذكر منها ظرف المكان (أين) إذ قال: ((هذا باب الظروف المبهمة غير المتمكنة وذلك لأنها تضاف ولاتصرّف تصرّف غيرها ولاتكون نكرة وذاك: أين، ومتى، وكيف، وحيث.....))(18)، فالأداة أين كما قال عنها ابن فارس (ت 395 ه) تكون ((استفهاماً عن مكان نحو: أين زيدٌ؟ وتكون شرطاً لمكان نحو: أين لقيتَ زيداً فكلمهُ بمعنى في أي مکان))(19).

ولم يشر أحد من النحويين إلى أنّها تكون معربة صراحة، الّلهمّ إلاّ إذا قيست على ما ذكره الرضي الاسترابادي (ت 688 ه) عند شرحه الأسماء المبنية ((وإذا نقلت الكلمة المبنية وجعلتها علماً لغير ذلك اللفظ فالواجب الإعراب))(20).

وقد صرح بإعرابها بعض شراح نهج البلاغة عند ذكرهم قول أمير المؤمنين علي (عليه السلام): ((وَلاَ يَنْظُرُ بِعَیْنٍ ولاَيُحَدُّ بِأَيْنٍ وَلاَيُوصَفُ بِالْأَزْوَاجِ وَلاَيُخْلَقُ

بِعِلاَجٍ)(21).

منهم الشارح المعتزلي (ت: 656 ه) إذ یرى في قوله: (ولا يحد بأينٍ) أنّ ((لفظة أينٍ مبنية على الفتح، فإذا نكرتها صارت اسماً متمكناً كما قال الشاعر (22):

ليت شعري وأين مني ليتٌ ٭٭٭ إنّ ليتاً وإنّ لواً عناء)(23).

ص: 403

فعلى ما ذكره الشارح تكون (أين) اسماً معرباً لأنّها نكرت قياساً على ليت، ولو.

بيد أنَّ الشارح التُستَري (ت: 1157 ه) لم يوافق الشارح المعتزلي بكونها نُكرت فأعربت؛ بل هي اسم متمکن أصلاً، قال بعد ذكر قول المعتزلي آنفا: ((قلتُ في ما قالَ أولا: إنَّ (أين) في قوله (عليه السلام)) ولا يحدُ بأينٍ) أريد به لفظه فهو اسم متمكن لا أنّه نكرة، وإنما يقال في مثل: (صه) أنّه قد ينكر فيدخله التنكير لا هنا، وثانياُ إنّ البيت الذي استشهد به كان (أين) فيه على أصله مبنياً على الفتح وإنّما (ليت) و (لو) أريد بهما فيه اللفظ فصارا اسمين وأعربا، لا (أين) كما هو مدّعاه)) (24).

في حين أبدى الشيخ محمد جواد مغنية (ت: 1400 ه) رأياً بدا أكثر وضوحاً، إذ قال: ((لفظ (أين) يسأل به عن المكان، فإن أردت مكاناً خاصاً بنيتهُ على الفتح، وإنْ أردت أي مكان أعربت))(25).

ولا يخلو ما ذكره الشيخ على وضوح عباراته من بعد فلسفي للسؤال عن نوع المسؤول المعني، وفيه الماء مما ذكره الشارح المعتزلي.

والذي نراه بعد الرجوع إلى نصّ الإمام (عليه السلام) وإنعام النظر فيه وتأملهِ، أنَّ باستطاعة الإمام أن يعبر ب(ولايحدُ بأينَ)، غير أنّه أراد النفي العمومي للمكان الإلهي؛ لأنّ الأين عبارة عن نسبة الجسم إلى المكان وهو سبحانه منزّه عن ذلك لبراءته عن التحيز. قال (عليه السلام): ((مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لاَ بِمُقَارَنَةٍ وَغَیْرُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ بِمُزَايَلَةٍ))(26) فلا يحده شيء فتكون (أين) اخسمًا معرباً وتنوینه تنوين تنكير، وقد وقع نكرة في سياق نفي فأفاد نفي عموم الأمكنة عن الله تعالى، وهذه الغاية من إعراب (أين) وتنوينها.

ص: 404

2) تعلق الظرف بالفعل التام المتصرف:

معنى التعلق هو: ((الارتباط المعنوي لشبه الجملة بالحدث، وتمسكها به، كأنَّها جزء منه، لا يظهر معناها إلا به، ولا يكتمل معناه إلا بها)) (27).

وهذا يعني أنَّ التعلق هو ارتباط، وهذا الارتباط يضم طرفين: الأول شبه الجملة، والآخر اللفظ الدال على الحدث، وهذا الارتباط لا تكون الحاجة له بقوة واحدة في الطرفين ((إذ حاجة شبه الجملة إلى الحدث أقوى من حاجة الحدث إلى شبه الجملة، وذلك يتضح من عبارات (كأنها جزءٌ منه)، (ولا يظهر معناها إلا به). أما عبارة (ولا يكتمل معناه -الحدث - إلا بها) فإنَّ اكتمال المعنى هنا نسبي. أي: إنَّ المعنى يمكن أن يكون كاملاً في الجملة من دون الحاجة إلى شبه الجملة، لكن بذکرها سيكون المعنى أتم، وأكمل)(28).

والمراد ب(شبه الجملة) هو الظرف (الزماني والمكاني)، وحرف الجر الأصلي مع المجرور (29)، ف(التعلق) من شروط الظرف والجار والمجرور ليكونا شبه جملة، إذ إنَّ حرف الجر غير الأصلي لا يتعلق.

وتعلق الظرف بالفعل التام المتصرف في نهج البلاغة، له فوائد جمة تترتب عليه منها: تحديد زمان الفعل، ومكانه، ومصاحبته، وتوكيده، وشرطيته (30)، ومثال ذلك: تحديد زمان الفعل، وهي الدلالة الرئيسة لظرف الزمان؛ لأنَّ الدلالة الزمانية من مقتضيات الأفعال، لكن هذه الدلالة لا تكون دقيقة كدقتها بالتقييد بظرف الزمان، من ذلك قوله (عليه السلام): ((لَقَدْ سَمِعْتُ رَنَّةَ الشَّيْطَانِ حِینَ

نَزَلَ الْوَحْيُ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله)...))(31).

الشاهد فيه تعلق الظرف الزماني (حين نزل) بالفعل التام (سمع) ليفيد

ص: 405

التحديد الدقيق لزمن الفعل، إذ عُلِمَ من صيغة الفعل (سمع) أنَّه قد وقع في الزمن الماضي، لكن ليس على وجه الدقة، ولهذا تعلق الظرف (حين) بالفعل ليدل على زمان وقوعه بصورة دقيقة، فسماعه (عليه السلام) لرنَّة الشيطان وقع حين نزل الوحي على الرسول (صلى الله عليه وآله)(32).

غير أن للظرف فوائد لم يشر إليها النحويون وهي: المقابلة، وأكمال دلالة الفعل، ففي المقابلة استعمل الإمام علي (عليه السلام) الظرف متعلقاً بالفعل لينبِّه المتلقي على اختلاف الحال في زمنٍ واحدٍ أو في زمنين مختلفين؛ ليُلفت نظر المتلقي إلى إجراء مقابلة ومقارنة ما بين حالةٍ في زمنٍ معين وأخرى تقابلها أو تضادها في الزمن نفسه أو في زمنٍ آخر، وهذه فائدة جديدة لتوظيف الظرف في اللغة العربية وجدت في نهج البلاغة لم يلتفت إليها علماء النحو، من ذلك قوله (عليه السلام): ((فَقُمْتُ بِالْأَمْرِ حِینَ فَشِلُوا وَتَطَلَّعْتُ حِینَ تَقَبَّعُوا وَنَطَقْتُ حِینَ تَعْتَعُوا، وَمَضَيْتُ بِنُورِ اللَّهِ حِینَ وَقَفُوا))(33).

الشاهد فيه تعلق الظرف الزماني (حين) في الجملة الأولى بالفعل (قام)، وفي الجملة الثانية بالفعل (تطلع)، وفي الجملة الثالثة بالفعل (نطق)، وفي الجملة الرابعة بالفعل (مضی)؛ ليفيد إظهار المقابلة بين أمرين في الزمن نفسه فقيامه (عليه السلام) بالأمر يقابل (فشلهم)، و(تطلعه) یُقابل (تقبعهم)، و (نطقه) يُقابل (تعتعتهم) و(مضيه بنور الله) یُقابل (وقوفهم)، وهذا التعلق للظرف مع الفائدة التي أعطاها (المقابلة) يتناسب مع السياق الذي ذُكِرت فيه هذه الجمل، إذ جاءت في خطبةٍ له (عليه السلام) يذكر فيها فضائلَه، وهذه الأفعال تكون الفضيلة فيها ظاهرةً إذا قُوبلت بمواقفَ غيره من الناس، ولو حُذف الظرف في هذه الجمل لذهبت هذه الفائدة(34).

ص: 406

ومن ذلك أيضاً قوله (عليه السلام): ((فَمَنْ أَخَذَ بِالتَّقْوَى عَزَبَتْ عَنْهُ الشَّدَائِدُ بَعْدَ دُنُوِّهَا وَاحْلَوْلَتْ لَهُ الْأُمُورُ بَعْدَ مَرَارَتِهَا وَانْفَرَجَتْ عَنْهُ الْأَمْوَاجُ بَعْدَ تَرَاكُمِهَا

وَأَسْهَلَتْ لَهُ الصِّعَابُ بَعْدَ إِنْصَابِهَا وَهَطَلَتْ عَلَيْهِ الْكَرَامَةُ بَعْدَ قُحُوطِهَا. وَتَحَدَّبَتْ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ بَعْدَ نُفُورِهَا وَتَفَجَّرَتْ عَلَيْهِ النِّعَمُ بَعْدَ نُضُوبِهَا وَوَبَلَتْ عَلَيْهِ الْبَرَكَةُ بَعْدَ إِرْذَاذِهَا)) (35).

الشاهد فيه تعلق الظرف (بعد) في الجملة الأولى بالفعل (عزبت)، وفي الثانية بالفعل (احلولت)، وفي الثالثة بالفعل ( انفرجت)، وفي الرابعة بالفعل (سهلت) وفي الخامسة بالفعل (هطلت)، وفي السادسة بالفعل ( تحدَّبت)، وفي السابعة بالفعل (تفجرت)، وفي الثامنة بالفعل (وبلت). ودلّ هذا التعلق في هذه الجمل السابقة أفاد إظهار المقابلة، والتضاد ما بين صفتين في زمنين مختلفين، ف (عزوب الشدائد) - أي ابتعادها - يقابله (دنوها)، و(حلاوة الأمور) تقابل (مرارتها) ، و (انفراج الأمواج) يُقابل (تراكمها)، و(إسهال الصعاب) يُقابل (انضابها) ۔ أي تعبها -، و(هطول الكرامة) يُقابل (قحوطها)، و(تحدب الرحمة) - أي عطفها عليه - يُقابل (نفورها)، و(تفجر النعم) يُقابل (زوالها)، و (وبول البركة) - أي کثرتها - يُقابل (ارذاذها) - أي قلتها.

وقد وظف الإمام (عليه السلام) هذا التقابل، لإظهار نعمة الأخذ بالتقوى، فالشيء يكون أوضح وأظهر إذا وُضِعَ مع ما يضاده ويقابله، وهذا الإيضاح أراد (عليه السلام) منه الاتباع من المخاطبين، ولاسيما أنَّ هذه الجمل ذُكِرَت في سياق التوصية بالتقوى، ومَن يُوصي بشيء فإنَّه لايُوصي إلا لاتباع هذه الوصايا. لذا استعمل الإمام (عليه السلام) الظرف (بعد) لأداء هذه الفائدة ولو حُذف الظرف لذهبت هذه الفائدة (36). وقد جاء توظيف هذا التعلق والفائدة التي أفادها متلائمًا

ص: 407

مع السياق الذي جاء فيه.

أمّا فائدة وفرادة إكمال دلالة الفعل، ففي اللغة العربية وبحسب قوالبها القواعدية توجد مجموعة من الأفعال لا تستغني عن ظرف المكان، ومن ثم تكون فائدة تعلق ظرف المكان بهذا النوع من الأفعال هي إكمال دلالة الفعل، وكان الإمام علي (عليه السلام) قد استعمل ذلك في نهج البلاغة بذكر مجموعة من ظروف المكان المتعلقة بأفعالٍ لا تتم الفائدة منها إلا بهذا التعلق من ذلك قوله (عليه السلام): ((أَحَالَ الْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَلَأَمَ بَیْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا))(37).

الشاهد فيه تعلق الظرف المكاني (بين) بالفعل (لأم) - أي قرن - ليفيد هذا التعلق إكمال معنى الفعل، والفعل (لأم) لا يمكن أن يستغني عن الظرف فلا يمكن أن تقع المقارنة إلا بين شيئين؛ لذا ذکر (عليه السلام) الظرف (بينَ مختلفاتها) ليتمم معنى الفعل.

ومنه قوله (عليه السلام): ((يُؤَلِّفُ اللَّهُ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَجْمَعُهُمْ رُكَاماً كَرُكَامِ السَّحَابِ))(38).

الشاهد فيه تعلق الظرف (بين) بالفعل (يؤلف) ليكمل معنى هذا الفعل، إذ لا يتم معنى (التأليف) إلا بذکر مکان وقوعه؛ لذا استعمل (عليه السلام) الظرف (بينهم) لإكمال هذا المعنى ولا يمكن أن يحذف الظرف إذ إنّ هذا يؤدي إلى أن يبقى الفعل من دون محل وهذا لا يمكن أن يكون(39).

وظهر ممّا ذكر تعلق الظرف بالفعل التام المتصرف في كلامه (عليه السلام) في نهج البلاغة الذي أعطى دلالات وفوائد مختلفة منها ما يوافق الدلالة العامة لهذا التعلق في العربية وهي تحديد زمان الفعل ومكانه ومصاحبته وتوكيده، وشرطيته، ومنها ما هو جديد لم يتنبَّه إليه علماء النحو مثل المقابلة وإكمال دلالة الفعل.

ص: 408

ثانياً / الفرائد الشرطية:

1) تصدُّرُ الاستفهام جواب (لو):

ذكر النحويون: إنَّ جواب (لو) لا يأتي إلاّ جملةً فعليَّةً، فعلها إمَّا أن يكون ماضیاً مثبتاً، أو منفيّاً ب(ما)، أو مضارعًا مجزومًا ب(لم) (40)، فالاستفهام لا مكان له في جواب (لو) - في الأغلب -؛ لأنَّ (اللام) وهي الرابط اللفظي الوحيد لجواب (لو) لا يصلح اقترانها بالاستفهام، لذا قال النحويون: إنَّ جوابها لا يأتي إلاّ جملةً فعليَّةً(41)، فضلًا عن ذلك فإنَّ الطلب يدلُّ على إحداث الفعل فوراً - من حيث الزمن - في الغالب، وسياق (لو) مفروض الصدق في الماضي.

وقد يأتي الاستفهام في جواب أدوات الشرط الجازمة، وحينئذٍ يجب أن يقترن بالفاء، لكن لم يرد في القرآن الكريم، ولا في كتب النحويين - بحسب الاطلاع - أنَّ جواب (لو) - وهي من أدوات الشرط غير الجازمة - قد جاء جملةً استفهاميَّةً.

وقد ورد في نهج البلاغة وقوع الاستفهام في جواب (لو) في موضعٍ واحد، وهو قول الإمام علي (عليه السلام): ((أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ الَّذِينَ وَرَاءَكَ بَعَثُوكَ رَائِدًا

تَبْتَغِي لَهُمْ مَسَاقِطَ الْغَيْثِ فَرَجَعْتَ إِلَيْهِمْ وَأَخْبَرْتَهُمْ عَنِ الْكَلَإِ وَالْمَاءِ فَخَالَفُوا إِلَی الْمَعَاطِشِ وَالْمَجَادِبِ، مَا كُنْتَ صَانِعًا؟))(42).

الشاهد فيه مجيء جواب الشرط: (مَا كُنْتَ صَانِعاً؟) جملة استفهامية استفهامها حقيقي (43)، ومجيء الاستفهام في جواب (لو) أمرٌ غيُر وارد کما مرَّ، فكيف إذا كان هذا الاستفهام من غير رابط؟!، فلا يحسن أن يكون الجواب من غير رابط إذا كان جملةً استفهاميَّة، إلاّ إذا كان الاستفهام بالهمزة، قال الرَّضي الاسترابادي في الكافية: ((وإذا كان جواب الشرط مُصدَّرًا بهمزة الاستفهام، سواء كانت الجملة فعليَّة أو اسميَّة لم تدخل الفاء)) (44)، غير أنَّ أداة الاستفهام في النص المتقدِّم هي (ما)، وقد

ص: 409

أُجيز حمل أدوات الاستفهام الأُخَر على الهمزة، بعدم اقترانها بالفاء، وقد تدخل الفاء فيها، لعدم عراقتها في الاستفهام(45)، فعدم ارتباط (ما) في النص المتقدم له ما يسوّغه، وإنْ كان الرضي يتحدث على الفاء في جواب الشرط الجازم.

زد على ذلك إنَّ الجواب (مَا كُنْتَ صَانِعاً؟) لا يستحسن أن يقرن باللام، إذ إنَّ (ما) حينئذٍ تكون نافية لا استفهاميَّة، وعليه يمكن القول: إنَّ اقتران الجواب بالشرط - هنا - هو اقترانٌ معنوي، وهو أفضل من الاقتران اللفظي؛ لأنَّه يعطي دلالات إضافية زيادةً على دلالة التعليق (الارتباط)، ومن هذه الدلالات أنّ هذا الشرط مجازي غرضه إثارة المخاطب الذي يكلِّمه الإمام (عليه السلام)، ومعرفة مدى استجابته لقول الحق الذي بَانَ له بعد أنْ سأل الإمام (عليه السلام) - عمَّا أرسله أصحابه أن يعلمهم به - وسمع منه، واقتنع بأنَّه على حق، وخصومه على باطل، فضرب له الإمام مثلاً بأسلوبٍ شرطي، ختمه بأسلوب الاستفهام، والكلامُ ((إذا نُقِلَ من أسلوبٍ إلى أسلوب، كان ذلك أحسن تطريةً لنشاط السامع، وإيقاظًا للإصغاء إليه من إجرائِهِ على أسلوبٍ واحد))(46)، لذا أجاب هذا الرجل عن سؤال الإمام بالإيجاب وبايعه فيما بعد(47).

ومن الأمور التي ساعدت على الانتقال من أسلوب الشرط إلى أسلوب الاستفهام في تركيبٍ واحد، ومن غير رابطٍ لفظي، هو طول جملة الشرط، لذا قال البلاغيون: ((إنَّ الكلام إذا جاء على أسلوبٍ واحد وطال، حَسُنَ تغییر الطريقة))(48)، وهو ما جاء في النص المتقدِّم(49).

2) جواب (لمّا) مضارع منفي ب(لم):

اختلف النحويون في تحديد دلالة (لمّا) فمنهم من يرى أنّها ظرفية بمعنی (حين) ومنهم من يرى أنّها حرف فيه معنى الشرط؛ لأنّها تؤدي معنى الربط

ص: 410

والتعليق، ذهب سيبويه أنّها حرف وجود لوجود(50)، وعدّها بمنزلة (لو) قال: ((هي للأمر الذي قد وقع لوقوع غيره وإنّما تجيء بمنزلة «لو» لما ذكرنا، فإنّما هما لابتداء وجواب))(51). ويدل کلام سیبویه أنّها تختص بالفعل الماضي، وتقتضي جملتين وجدت ثانيتهما عند وجود أولاهما (52).

أمّا ابن السراج (ت 316 ه) ومن تابعه الفارسي (ت 377 ه)، وابن جني (ت 392 ه) فقد ذهبوا إلى أنّها ظرفية بمعنى (حين) (53)، وجمع ابن مالك (ت 672 ه) بين المذهبين إذ عدّها ظرفاً بمعنى (إذا) فيه معنى الشرط (54)، واستحسن ابن هشام (ت 761 ه) هذا الرأي معللاً ذلك؛ أنّها مختصة بالماضي وبالإضافة إلى الجملة (55)، ((وإذا قُدّرت ظرفاً كان عاملها الجواب))(56).

والظاهر أنّ (لمّا) تدل على الربط والتعليق والظرف، فالربط فيها أنّها تدخل على جملتين وتقوم بعملية الربط بينهما، ومعنى التعليق، أنّها تعلّق الجواب بفعل الشرط، أمّا معنى الظرف فإنّها لا تخلو من معناه فكما أنّ الأدوات (متی وحیثما وأينما) ظروف ثم أصبحت کنایات تدل على الشرط، فكذلك الأداة (لمّا) فإذا عُدّت ظرفاً بمعنى (حين) تكون الجملة الواقعة بعدها في محل جر بالإضافة فيكون الترابط ترابط تتمیم ویکون الظرف نفسه متعلقاً بفعل الجواب ویکون الترابط (ترابط تقیید) (57).

جاء فعل الشرط ماضياً في نصوص نهج البلاغة التي وردت فيها الأداة (لمّا)، وهذه هي ميزتها فأنّها تختص بالفعل الماضي، كذلك الحال في جوابها(58)، ولم يأتِ جملة اسمية، أو فعلاً مضارعاً، كما ورد ذلك في القرآن الكريم، من ذلك قوله (علیه السلام): «فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ، نَكَثَتْ طائِفَةٌ، وَمَرَقَتْ أُخْرَى، وَقسطَ آخَرُونَ» (59).

الشاهد فيه مجيء كل من فعل الشرط وجوابه بصيغة الماضي (نهضتُ)

ص: 411

(نكثتْ)، و(لمّا) ربطت الجواب بالشرط وجعلته معلّقاً به، فنكوث الطائفة ومروق الأخرى وقسط الآخرون متعلق بالنهوض بالأمر، وهي بمعنى (حين) والتقدير: حينَ نهضتُ بالأمر، نكثتْ طائفة، ومرقت أخرى، وقسط آخرون.

وقد جاء في نهج البلاغة نص واحد ورد فيه جواب (لمّا) مضارعاً منفياً ب (لم) وهذه الصيغة التركيبية لم ترد في القرآن الكريم، ولم نألفها عند النحويين في مصنفاتهم. وهي قول الإمام علىّ (عليه السلام) في الخوارج لمّا أنكروا تحكيم الرجال ويذم فيه أصحابه في التحكيم: «وَلَمَّا دَعَانَا الْقَوْمُ إِلَی أَنْ نُحَكِّمَ بَيْنَنَا الْقُرْآنَ،

لَمْ نَكُنِ الْفَرِيقَ المُتَوَلّی عَنْ كِتَابِ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَی» (60).

الشاهد فيه جاء فعل الشرط (دعانا) ماضياً، والجواب (لم نكنْ) مضارعاً منفياً ب(لم)(61).

ثالثاً / الفرائد القسمية:

لقد تفرد (عليه السلام) في استعمال التركيب القسمي (برأ النسمة). فإذا كان القسم الصريح يُعلم بمجرد لفظه كون الناطق به مقسماً، نحو: أحلف بالله، فغير الصريح ((ما ليس كذلك نحو: علم الله وعاهدت وواثقت، وعليّ عهد الله وفي ذمتي ميثاق، فليس بمجرد النطق بشيء من هذا يُعلم كونه مقسماً؛ بل بقرينة كذكر جواب بعده نحو: عليَّ عهد الله لأنصرن دينه))(62)، ولا يأتي القسم اعتباطاً؛ بل لغرض مقصود ((والغرض منه توكيد الكلام الذي بعده من إثبات أو نفي)) (63).

وقد استعمل الإمام تركيباً قسمياً أشار الشراح إلى سبق الإمام إليه، وتفرده، وإبداعه فيه، حتى عدّوه من مبتكرات الإمام ومختصاته ،هو (برأ النسمة). وردَ في نهج البلاغة في أربعة مواضع (64)، في قوله (عليه السلام) حين أوصى بعدم

ص: 412

عصيانه ويصف مثيري الفتنة: ؉فَو الَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَبَرَأَ اَلنَّسَمَةَ إِنَّ اَلَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ عَنِ اَلنَّبِيِّ اَلْأُمِّيِّ (صلى الله عليه واله وسلم) مَا كَذَبَ اَلْمُبَلِّغُ وَلاَ جَهِلَ اَلسَّامِعُ ؉(65). إذ يرى الشارح الراوندي في قول الإمام: ((وبرأ النسمة أي خلق النفس وهذا قسم الإمام علي (عليه السلام) خاصة)) (66).

وتبعه فيما قال الشارح المعتزلي بقوله: ((وبرأ النسمة أي خلق الإنسان، وهذا القسم لايزال أمير المؤمنين يقسم به، وهو من مبتكراته، ومبتدعاته))(67). ولم يجد الباحث حسب تتبعه واستقرائه من أشار إليه من النحويين؛ فغرض الإمام (عليه السلام) من القسم هو أنْ يقول: إنَّ ما أخبركم به ليس من عندي؛ بل هو من عند رسول الله، وفيه أشار إلى أنَّ ما يخبرهم به مأخوذ عن الله سبحانه.

رابعاً / الفرائد التعجبية:

ومن ذلك:

1) التعجب السماعي (لله بلاء فلان):

للتعجب في العربية صيغ متنوعة، منها القياسية، والمبوب لها في النحو صيغتان أحداهما: صيغة (ما أفعله) نحو: ما أحسن زيداً، وصيغة (أفعل به)، نحو: أحسن بزيد (68)، والأخرى السماعية وعبارتها كثيرة لم يبوب لها في النحو ((لكونها لم تدل عليه بالوضع؛ بل بقرينة نحو: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ» (البقرة / 28)، والله دره فارساً، وسبحان الله))(69). ووردت الصيغة المذكورة في أعلاه في قول الإمام علي (عليه السلام): ((للهِ بِلاَءُ فُلاَنٍ فَقَدْ قَوَّمَ اَلْأَوَدَ وَدَاوَى اَلْعَمَدَ))(70). يقول الشارح المعتزلي: ((الله بلاء فلان، أي الله ما صنع))(71). بمعنى التعجب من عمله الحسن في سبيل الله، ويروى (لله بلاد فلان) إي لله البلاد

ص: 413

أنشأته وابتنته (72).

2) الاستفهام التعجبي باستعمال التركيب (فما عدا ممّا بدا):

الاستفهام طلب يراد به معرفة شيء مجهول، أي استعلام ما في ضمير المخاطب (73) وهو الغرض الأساس منه، غير أنَّه قد يضاف إليه معنىً آخر، حينما يكون صادراً من متعجب، ویسمی استفهاماً تعجبياً؛ فيكون الغرض من إيراده إثارة العجب عند من يخاطب به، أو يتلقاه نحو قوله تعالى: «مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ» (النمل / 20)(74).

ووقع هذا النوع من الاستفهام في قول أمير المؤمنين (عليه السلام) لابن عباس لمّا أرسله إلى الزبير يستفيئه إلى طاعته قبل حرب الجمل: «فَقُلْ لَهُ يَقُولُ

لَكَ اِبْنُ خَالِكَ عَرَفْتَنِي بِالْحِجَازِ وَأَنْكَرْتَنِي بِالْعِرَاقِ فَمَا عَدَا مِمَّا بَدَا » (75). ويذهب الشريف الرضي إلى أن الإمام علياً (عليه السلام) ((أول من سمعت منه هذه الكلمة، اعني: فما عدا مما بدا))(76)، وتابعه في هذا القول شراح نهج البلاغة منهم الشيخ المحمودي في نهج السعادة، قال: ((هذه كلمة فصيحة ما سبق علياً (عليه السلام) احد إليها))(77)، وعدّها الشيخ ناصر مکارم الشيرازي من الروعة بمكان حتى أصبحت مثلاً يحتذى به ((وهي عبارة بعيدة المدى تشير إلى مسالة وهي: ما الذي صرفك عن الحق إنْ اتضح لديك، إلى الباطل، والعبارة من الروعة، واللطافة بحيث أصبحت مثلاً في الأدب العربي)) (78).

رابعاً / الفرائد الإنابية:

من ذلك إنابة (إلى) مناب (الباء)، إذ انفرد بعض الشراح ببعض المسائل النحوية التي لم ينص عليها النحويون، أو يشيروا إليها(79) وهي:

ص: 414

ذكرها الشارح المعتزلي عند شرحه قول الإمام علي (عليه السلام): «مَا أَنْتُمْ بِوَثِيقَةٍ يُعْلَقُ بِهَا وَلاَزَوَافِرَ عِزٍّ يُعْتَصَمُ إِلَيْهَا». (80) إذ يرى الشارح المعتزلي في قوله (عليه السلام): (يعتصم إليها): ((أي بها فأناب إلى مناب الباء كقول طرفة(81):

وإنْ يلتقي الحي الجميع تُلاقِني ٭٭٭ إلى ذروة البيت الرفيع المصمد))(82).

ورأى بعض النحويين في البيت الذي استشهد به المعتزلي أنّ (إلى) بمعنى (في)(83)، وذهب آخرون أنَّها باقية على أصلها (84). ويمكن أن يضاف هذا المعنى إلى معاني الحروف حسب رأي القائلين بالنيابة الحرفية.

هذا بعض ما وجدته من أقوال أمير المؤمنين عليّ (عليه السلام) فيها آراء نحوية أشار إليها شراح نهج البلاغة، وذكر الباحث بعضها؛ لضيق المجال، ويمكن لمن ينعم النظر ويستقصي الشروح أن يجد أمثال ذلك (85).

ص: 415

الخاتمة

1 - كان الإمام عليّ (عليه السلام) الطالب الأول في مدرسة القرآن، وتحت رعاية معلمها النبي المصطفى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)؛ لذا أجاد الإمام في محاكاة تلك المدرسة وذلك المعلم، وكتاب نهج البلاغة صورة صادقة للسان العربي المبين الذي اعزّه الله بالقرآن الكريم وحفظه، فهو المعنى الجامع المانع للعربية وعلومها.

2 - كلام الامام علي (عليه السلام) في نهج البلاغة بكلّ صوره وأشكاله وجوانبه دعامة قوية لتراث الحضارة الإنسانية، وركيزة قويمة للشخصية الانسانية، إذ كان مرجعاً حياً ونبعاً فكرياً متدفقاً لكل البشرية والاجیال والقرون والاحقاب، واصبح ينبوعاً صافياً وثروة فكرية، ومناعة علمية لكتاب اللغة العربية والمتطلعين إليها قديماً وحديثاً ينتهلون من لغته ويقتبسون من معانيه الوهاجة، ومبانيه المستقيمة ما يقوم لهم فنهم وينمي من حصيلتهم في اللغة والادب والفكر والمعرفة.

3 - ظهر للباحث عند مطالعته نهج البلاغة وشروحه بعض الإشارات والفرائد النحوية التي يمكن أن تزاد على الدرس النحوي وتثريه؛ لأنها لم تستعمل من قبل النحويين لذا فهي تعد من مبتكرات الإمام (عليه السلام) ومختصاته، إذ سمعت منه أول مرة وهي:

أولاً / مجيء (أينٍ) ظرف المكان معرباً لا مبنياً، ولم يشر أحد من النحويين إلى أنّها تكون معربة صراحة، ولإعرابها بعدٌ دلالي، وعند إنعام النظر فيه وتأملهِ، ظهر أنَّ باستطاعة الإمام أن يعبر بالمبني، غير أنّه أراد بحسب السياق النفي العمومي

ص: 416

للمكان الإلهي؛ لأنّ الأين عبارة عن نسبة الجسم إلى المكان وهو سبحانه منزّه عن ذلك لبراءته عن التحيز. فلا يحده شيء فتكون (أينٍ) اسماً معرباً وتنوينه تنوین تنكير، وقد وقع نكرة في سياق نفي فأفاد نفي عموم الأمكنة عن الله تعالى، وهذه الغاية من إعراب (أينٍ) وتنوينها.

ثانياً / تعلق الظرف بالفعل التام المتصرف. وتعلق الظرف بالفعل التام المتصرف في نهج البلاغة، له فوائد جمة تترتب عليه منها: تحديد زمان الفعل، ومكانه، ومصاحبته، وتوكيده، وشرطيته، غير أن للظرف فوائد لم يشر إليها النحويون وهي: المقابلة، وأكمال دلالة الفعل، ففي المقابلة استعمل الإمام علي (عليه السلام) الظرف متعلقاً بالفعل لينبِّه المتلقي على اختلاف الحال في زمنٍ واحدٍ أو في زمنين مختلفين؛ ليُلفت نظر المتلقي إلى إجراء مقابلة ومقارنة ما بين حالةٍ في زمنٍ معين وأخرى تقابلها أو تضادها في الزمن نفسه أو في زمنٍ آخر، وهذه فائدة جديدة لتوظيف الظرف في اللغة العربية وجدت في نهج البلاغة لم يلتفت إليها من قبل.

ثالثاً / أمّا فائدة وفرادة إكمال دلالة الفعل، ففي اللغة العربية وبحسب قوالبها القواعدية توجد مجموعة من الأفعال لا تستغني عن ظرف المكان، ومن ثم تكون فائدة تعلق ظرف المكان بهذا النوع من الأفعال هي إكمال دلالة الفعل، وكان الإمام علي (عليه السلام) قد استعمل ذلك في نهج البلاغة بذكر مجموعة من ظروف المكان المتعلقة بأفعالٍ لا تتم الفائدة منها إلا بهذا التعلق.

رابعاً / تصدُّرُ الاستفهام جواب (لو). لم يرد في القرآن الكريم، ولا في كتب النحويين - بحسب الاطلاع - أنَّ جواب (لو) - وهي من أدوات الشرط غير الجازمة - قد جاء جملةً استفهاميَّةً، إلا أنه ورد في نهج البلاغة وقوع الاستفهام في

ص: 417

جواب (لو).

خامساً / جواب (لمّا) مضارع منفي ب(لم). وقد جاء في نهج البلاغة نص واحد ورد فيه جواب (لمّا) مضارعاً منفياً ب (لم) وهذه الصيغة التركيبية لم ترد في القرآن الكريم، ولم نألفها عند النحويين في مصنفاتهم.

سادساً / الفرائد القسمية. لقد استعمل الإمام تركيباً قسمياً أشار الشراح إلى سبق الإمام إليه، وتفرده، وإبداعه فيه، حتى عدّوه من مبتكرات الإمام ومختصاته، هو (برأ النسمة). ولم يجد الباحث حسب تتبعه واستقرائه من أشار إليه من النحويين.

سابعاً / الفرائد التعجبية. ومن ذلك: التعجب السماعي (لله بلاء فلان) ووردت الصيغة المذكورة في نهج البلاغة بمعنى التعجب من عمله.

ثامناً / ومنه الاستفهام التعجبي باستعمال التركيب (فما عدا ممّا بدا). يذهب الشريف الرضي إلى أن الإمام علياً (عليه السلام) أول من سمعت منه هذه الكلمة، وتابعه في هذا القول شراح نهج البلاغة.

تاسعاً / الفرائد الإنابية. من ذلك إنابة (إلى) مناب (الباء)، إذ انفرد بهذه المسألة النحوية بعض شراح النهج، والتي لم ينص عليها النحويون، أو يشيروا إليها.

وختاماً فهذه محاولة جادة وبنية خالصة، حرصت أن تكون صحيحة في مضامينها سليمة في مؤداها، فإن أصبت فلله الحمد والمنة، وإن كانت الأخرى فحسبي أني دَرِبٌّ مغرمٌ بنهج البلاغة، ولغته العربية أتلمس الصواب، وانشد الحقيقة فالكمال لله وحده.

ص: 418

هوامش البحث:

1. البيان والتبيين، الجاحظ: 1 / 58 - 59.

2. نهج البلاغة ، الشريف الرضي، ضبط نصه الدكتور صبحي الصالح: 482. والموجود في نسخ نهج البلاغة وشروحه: (قيمة كل امرئ ما يحسنه)، ينظر: شرح نهج البلاغ، ابن أبي الحديد المعتزلي: 18 / 230، ونهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ المحمودي: 8 / 285، والمعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، محمد الدشتي: 157.

3. نهج الحياة (مجموعة بحوث ومقالات حول نهج البلاغة)، موسسة نهج البلاغة: 131 - 132.

4. ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، الثعالبي: 197.

5 . مصادر نهج البلاغة، عبد الله نعمة: 26.

6. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، التستري / 1 / 62.

7. شرح نهج البلاغة، (المعتزلي): 1 / 24.

8. المصدر نفسه: 7 / 211.

9. المصدر نفسه: 7 / 214.

10. تمام نهج البلاغة، السيد صادق الموسوي: 1 / 87 - 88.

11. المصدر نفسه: 87.

12. من بلاغة الإمام علي في نهج البلاغة، عادل الاسدي: 67.

13. من خطبة الشريف الرضي، نهج البلاغة: 11.

14. (شرح نهج البلاغة (المعتزلي) 1 / 8.

15. أصول النحو العربي، د. محمد خير الحلواني: 76.

16. معاني القرآن، الفراء: 1 / 14.

17. الرماني النحوي، مازن المبارك: 275.

18. الكتاب، سيبويه: 3 / 285، وينظر: اللمع في العربية، ابن جني: 11.

19. الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، احمد بن فارس: 146.

20. شرح الكافية في النحو، رضي الدين الاسترابادي: 3 / 268.

ص: 419

21. نهج البلاغة: 262.

22. أبو زيد الطائي، والبيت من شواهد سیبویه، ينظر: الكتاب: 3 / 267. والمقتضب، المبرد: 1 / 235، وخزانة الأدب، البغدادي: 7 / 299.

23. شرح نهج البلاغة (المعتزلي) 10 / 89.

24. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 1 / 365.

25. في ظلال نهج البلاغة، الشيخ مغنية: 4 / 22.

26. نهج البلاغة: 40.

27. إعراب الجمل وأشباه الجمل، فخر الدين قباوة: 273.

28. تعلق شبه الجملة في نهج البلاغة، محمود عبد اللامي (أطروحة دكتوراه): 4.

29. ينظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك: 1 / 134؛ ومغني اللبيب: 2 / 99،

30. ينظر: تعلق شبه الجملة في نهج البلاغة: 85 - 94.

31. نهج البلاغة: 301.

32. ينظر: المصدر نفسه: 85 -86.

33. نهج البلاغة: 80 - 81.

34. ينظر: تعلق شبه الجملة في نهج البلاغة: 95 - 96.

35. نهج البلاغة: 313.

36. ينظر: تعلق شبه الجملة في نهج البلاغة: 96 - 97.

37. نهج البلاغة: 40.

38. المصدر نفسه: 241.

39. ينظر: تعلق شبه الجملة في نهج البلاغة: 98 - 99.

40. ينظر: شرح التسهيل، ابن مالك 4 / 100، والجنى الداني، المرادي: 283.

41. ينظر: شرح الكافية الشافية، ابن مالك: 3 / 1639، وشرح التصريح 4 / 225، وهمع الهوامع 4 / 348 - 349.

42. نهج البلاغة: 244 - 245.

43. ينظر: منهاج البراعة: 10 / 113.

48. شرح الكافية: 4 / 113.

45. ينظر: المصدر نفسه والصحيفة نفسها.

ص: 420

46. الكشَّاف: 1 / 120.

47. شرح نهج البلاغة (المعتزلي): 9 / 299.

48. البرهان في علوم القرآن: 3 / 325 - 326.

49. ينظر: تراكيب الأسلوب الشرطي في نهج البلاغة دراسةٌ نحويَّةٌ، کریم حمزة حميدي (رسالة ماجستير): 180 - 182.

50. ينظر: شرح قطر الندى، ابن هشام: 92.

51. الكتاب: 4 / 234.

52. ينظر: مغني اللبيب: 280.

53. ينظر: المصدر نفسه: 280.

54. ينظر: شرح التسهيل: 3 / 417.

55. مغني اللبيب: 280.

56. المطالع السعيدة، السيوطي: 471.

57. ينظر: في بناء الجملة العربية، د. محمد حماسة: 287.

58. ينظر: البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي: 3 / 85، والبرهان في علوم القرآن: 4 / 384.

59. نهج البلاغة: 49.

60. نهج البلاغة: 182.

61. ينظر: أسلوب الشرط في نهج البلاغة - دراسة نحوية تطبيقية، يُسري خلف سمير (رسالة ماجستير): 100 - 103.

62. شرح التسهيل: 3 / 63.

63. اللباب في علل البناء والإعراب، أبو البقاء العكيري: 1 / 144.

64. ينظر: نهج البلاغة: 50، 147، 374، 415.

65. نهج البلاغة: 147.

66. منهاج البراعة، الراوندي: 1 / 441.

67. شرح نهج البلاغة (المعتزلي) 7 / 99.

68. ينظر: کتاب شرح اللمع في النحو ، أبو الحسن الباقولي: 309، وأوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، ابن هشام الأنصاري: 3 / 250 - 257.

69. توضیح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، ابن أم قاسم المرادي: 1 / 885.

ص: 421

70. نهج البلاغة: 350

71. شرح نهج البلاغة: (لمعتزلي) 12 / 4، وينظر: شرح نهج البلاغة (علي محمد علي دخيل) مج: 1 / ح 4 / 3.

72. ينظر: حدائق الحقائق، قطب الدين الكيدري: 2 / 215، وإرشاد المؤمنين إلى معرفة نهج البلاغة المبين، السيد يحيى الجحاف: 2 / 647، ومنهاج البراعة في شرح نهج البلاغة (الخوئي) 14 / 333.

73. ينظر: كتاب الحدود في النحو، الرماني: 42، وشرح المفصل، ابن یعیش: 8 / 150.

74. ينظر: البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها، عبد الرحمن الميداني: 278 - 279.

75. نهج البلاغة: 74.

76. المصدر نفسه: 1 / 77. 77.

77. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: 1 / 193.

78. نفحات الولاية في شرح نهج البلاغة، الشيخ الشيرازي: 2 / 160.

79. ينظر: رصف المباني في شرح حروف المعاني، المالقي: 80 - 83، والجنى الداني: 385 - 390.

80. نهج البلاغة: 183.

81. ينظر: دیوان طرفة بن العبد: 30.

82. شرح نهج البلاغة: 8 / 107.

83. ينظر: کتاب معاني الحروف، أبو الحسن الرماني: 115، وأدب الكاتب، ابن قتيبة: 395.

84. ينظر: الأصول في النحو، ابن السراج: 1 / 415، وشرح الكافية: 4 / 272.

85. ينظر: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 8 / 250.

ص: 422

المصادر والمراجع

القرآن الكريم

1. إتمام نهج البلاغة، السيد صادق الموسوي، توثيق الكتاب، الشيخ محمد عساف، مراجعة الدكتور فريد السيد، ط / 1، الناشر: مؤسسة الاعلمی للمطبوعات، بيروت - لبنان، 1426 ه.

2. أدب الكاتب، أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري، (ت: 276 ه)، تحقيق: محمد محيي الدين عبد الحميد، ط 4، الناشر: المكتبة التجارية الكبری ۔ مصر، 1382 ه - 1963 م.

3. إرشاد المؤمنين الى نهج البلاغة المبين، السيد يحیی بن إبراهيم الجحاف الزيدي، (ت: 1102 ه)، تحقيق: محمد جواد الحسيني الجلالي، تقديم محمد حسين الجلالي، ط 1، الناشر: منشورات دلیل ما، قم - إيران، 1422 ه - 1380 ش.

4. أسلوب الشرط في نهج البلاغة - دراسة نحوية تطبيقية، يُسري خلف سمير (رسالة ماجستير) قدمتها إلى مجلس كليّة الآداب في الجامعة المستنصريّة، 1430 ه - 2009 م.

5. الأصول في النحو، أبو بكر محمد بن سهل السراج النحوي، (ت 316 ه)، تحقيق، الدكتور عبد الحسين الفتلي ط 3، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت - لبنان، 1408 ه - 1988 م.

6. أصول النحو العربي، الدكتور محمد خير الحلواني، (د.ط)، 1979 م.

7. إعراب الجمل وأشباه الجمل، تأليف الدكتور فخر الدين قباوة، ط 5، الناشر دار القلم العربي حلب - سورية، 1409 ه - 1989م.

ص: 423

8. أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك، جمال الدين بن هشام الأنصاري، (ت: 761 ه)، تحقیق: محمد محي الدين عبد الحميد، ط 6، الناشر: دار الندوة الجديدة، بيروت - لبنان، 1980 م.

9. البحر المحيط، أبو حيان محمد بن يوسف الاندلسي، (ت: 745 ه)، تحقيق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، والشيخ علي محمد معوض، وشارك في التحقيق د. زکریا عبد المجيد النوقي، ود. أحمد النجولي الجمل، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1422 ه - 2001 م.

10. البرهان في علوم القرآن، بدر الدين أبو عبد الله محمد بن عبد الله الزركشي (ت 794 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط / 3، الناشر: مكتبة دار التراث - القاهرة، 1984 م.

11. البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها، عبد الرحمن بن حسن حَبَنَّکَة الميداني، ط / 1، الناشر: دار القلم - دمشق، 1416 ه - 1996 م.

12. بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، العلامة المحقق الشيخ محمد تقي التستري، تحقیق: مؤسسة نهج البلاغة، ط 1، الناشر: دار امیر کبیر - طهران، 1418 ه - 1376 ش.

13. البيان والتبيين، أبو عثمان عمرو بن بحر، (ت: 255 ه)، تحقيق: فوزي عطوي، ط / 1، الناشر: دار صعب - بیروت، 1968 م.

14. تراكيب الأسلوب الشرطي في نهج البلاغة دراسةٌ نحويَّةٌ، كریم حمزة حمیدی (رسالة ماجستير) قدمها الطالب الى مجلس كلية التربية (صفي الدين الحلِّي) في جامعة بابل، 1432 ه - 2011 م.

ص: 424

15. تعلق شبه الجملة في نهج البلاغة، محمود عبد اللامي (أطروحة دكتوراه)، قدمها الطالب إلى مجلس كلية التربية في جامعة بابل، 11429 ه - 2008 م.

16. توضیح المقاصد والمسالك بشرح ألفية ابن مالك، الحسن بن أم قاسم المرادي، (ت: 749 ه)، تحقيق: عبد الرحمن علي سلمان، ط 1، الناشر: دار الفكر العربي القاهرة، 1422 ه - 2001 م.

71. ثمار القلوب في المضاف والمنسوب، أبو منصور عبدالملك بن محمد بن إسماعيل الثعالبي (ت: 429 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط / 1، الناشر: دار المعارف - القاهرة، 1965 م.

18. الجنى الداني في حروف المعاني، الحسن بن أم قاسم المرادي، (ت: 749 ه)، تحقيق: فخر الدين قباوة، ومحمد ندیم فاضل، ط / 1، الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، 1413 ه - 1992 م.

19. حدائق الحقائق في شرح نهج البلاغة، العلامة قطب الدين الكيدري البيهقي، من اعلام القرن السادس الهجري، تحقيق: عزالدين العطاردي، ط 1، الناشر: مؤسسة نهج البلاغة، نشر عطارد، قم - ایران، 1426 ه.

20. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب، عبد القادر بن عمر البغدادي (ت: 1093 ه)، تحقيق: محمد نبيل طريفي، والدكتور اميل بديع يعقوب، ط 1، الناشر: دار الکتب العلمية، بيروت، 1998 م.

21. دیوان طرفة بن العبد، شرحه وقدّم له: مهدي محمد ناصر. ط 1 دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان 1407 ه - 1978 م.

22. رصف المباني في شرح حروف المعاني، أحمد عبد نور المالقي، (ت: 702 ه)

ص: 425

، تحقيق: أحمد محمد الخراط، (د.ط)، الناشر: مجمع اللغة العربية بدمشق، (د.ت).

23. الرماني النحوي في ضوء شرحه لكتاب سيبويه، مازن المبارك، ط / 3، الناشر: دار الفكر - دمشق، 1995 م.

24. شرح ابن عقیل، قاضي القضاة بهاء الدين عبدالله بن عقيل العقيلي الهمداني المصري، (ت: 769 ه) تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، الناشر: المكتبة العصرية، صيدا - بیروت 1423 ه - 2002 م.

25. شرح التسهيل (تسهيل الفوائد وتكميل المقاصد)، جمال الدين محمد بن عبدالله بن مالك، (ت: 672 ه)، تحقيق: د. عبد الرحمن السیَّد، د. محمَّد بدوي المختون، ط / 1، الناشر: دار هجر - القاهرة، 1990 م.

26. شرح التصريح على التوضيح على ألفية ابن مالك في النحو، لابن هشام الأنصاري، الشيخ خالد الأزهري (ت 905 ه)، ومعه حاشية الشيخ ياسين بن زيد العليمي، حقَّقه وشرح شواهده: أحمد السيد سيد أحمد، راجعه: إسماعيل عبد الجواد عبد الغني، الناشر: المكتبة التوفيقية، القاهرة، (د.ت).

27. شرح الكافية الشافية، جمال الدين محمد بن عبدالله بن مالك، (ت: 672 ه)، تحقيق: د. عبد المنعم أحمد هريدي، ط / 1، الناشر: دار المأمون للتراث، المملكة العربية السعودية، جامعة أم القرى، 1982 م.

28. شرح قطر الندى وبلّ الصدى، جمال الدين ابن هشام النصاري، (ت: 761 ه)، ومعه کتاب سبيل الهدى بتحقيق شرح قطر الندى، محمد محيي الدين عبد الحميد، ط / 4، الناشر: منشورات ذوي القربی، 1427 ه.

ص: 426

29. شرح الكافية في النحو، رضي الدين محمد بن الحسن الاسترابادي، (ت: 688 ه)، تحقیق: يوسف حسن عمر، ط 1، الناشر: مؤسسة الصادق (ع) - طهران، 1395 ه - 1975 م.

30. شرح المفصَّل، ابن يعيش النحوي (ت: 643 ه)، صحَّحه وعلَّق عليه: مشيخة الأزهر، عنيت بطبعه ونشره: إدارة الطباعة المنيرية - مصر، (د.ت).

31. شرح نهج البلاغة، عز الدين بن هبة الله بن محمد بن محمد بن أبي الحديد المدائني المعتزلي (ت: 656 ه)، تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهیم، ط / 1، الناشر: مكتبة آية الله المرعشي النجفي - قم، 1378 ه.

32. شرح نهج البلاغة، علي محمد علي دخیل، ط / 1، الناشر: دار المرتضى، بيروت - لبنان، 1406 ه - 1986 م.

33. الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، أبو الحسن أحمد بن فارس (ت: 395 ه)، تحقيق: الدكتور عمر فاروق الطباع، ط / 1، الناشر: مكتبة المعارف ، بيروت - لبنان، 1414 ه - 1993 م.

34. في بناء الجملة العربية، د. محمد حماسة عبد اللطيف، ط / 1، الناشر: دار القلم، الكويت، 1402 ه - 1982 م.

35. في ظلال نهج البلاغة، الشيخ محمد جواد مغنية، ت: 1981 م، تحقیق: سامي الغريري، ط 1، الناشر: دار الكتاب الإسلامي، قم - ایران، 1425 ه - 2005 م.

36. الكتاب، سيبويه أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر (ت: 180 ه)، تحقيق وشرح: د. عبد السلام محمد هارون، ط / 2، الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة

ص: 427

- مصر، دار الرفاعي - الرياض، 1402 ه - 1982 م.

37. کتاب الحدود في النحو، أبو الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي، (ت: 384 ه)، تحقيق: الدكتور مصطفى جواد، ويوسف يعقوب، ط 1، الناشر: المؤسسة العامة للصحافة والطباعة - العراق، 1388 ه - 1999 م.

38. کتاب شرح اللمع في النحو، أبو الحسن علي بن الحسين الباقولي، ت: 543 ه، ط 1، الناشر: دار الکتب العلمية، بيروت - لبنان، 1428 ه - 2007 م.

39. کتاب معاني الحروف، أبو الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي، (ت: 384 ه)، تحقيق: الدكتور عبد الفتاح إسماعيل شلبي، ط / 3، الناشر: دار الشروق، جدة - السعودية، 1404 ه - 1984 م.

40. الكشَّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعُيون الأقاويل في وجُوه التأويل، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري (ت: 538 ه)، تحقیق وتعلیق ودراسة: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمّد معوّض، شارك في تحقيقه: د. فتحي عبد الرحمن حجازي، ط / 1، الناشر: مكتبة العبيكان - الرياض، 1998 م.

41. اللباب في علل البناء والأعراب، أبو البقاء عبد الله بن الحسن العكبري، (ت: 616 ه) تحقیق: الدكتور غازي مختار طلیمات، ط 1، الناشر: دار الفكر - دمشق، 1416 ه - 1995 م.

42. اللمع في العربية، أبو الفتح عثمان بن جني، (ت: 392 ه). تحقیق: فائز حسون، (د.ط)، ط / 1، الناشر: دار الكتب الثقافية - الكويت، 1972 م.

43. مصادر نهج البلاغة، عبد الله نعمة، ط 1، الناشر: دار الهدی ۔

ص: 428

بيروت، 1972 م.

44. المطالع السعيدة شرح السيوطي على ألفية المسماة بالفريدة في النحو والتصريف والخط، جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي (ت 911ه)، تحقيق وشرح د. طاهر سليمان حمودة، الناشر: الدار الجامعية للطباعة والنشر والتوزيع، الإسكندرية، 1401 ه - 1981 م.

45. معاني القرآن، أبو زکریا یحی بن زیاد الفراء (ت: 207 ه)، تحقیق: أحمد يوسف نجاتي، ومحمد علي النجار، وعبد الفتاح اسماعیل شلبي، وعلي النجدي ناصف، (د.ط)، الناشر: دار السرور (د.ت).

46. مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، جمال الدين ابن هشام الأنصاري (ت 761 ه) تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، الناشر: مكتبة اية الله العظمی المرعشي النجفي، قم - ایران، 1404 ه.

47. المقتضب، أبو العباس محمد بن یزید المبرد، ت: 285 م تحقيق: محمد عبد الخالق عطية، (د.ط)، الناشر: عالم الكتب، بيروت، (د.ت)

48. من بلاغة الإمام علي في نهج البلاغة، عادل حسن الاسدي، ط / 1، الناشر: مؤسسة المحبين، قم - ایران، 1427 ه - 2006 م.

49. منهاج البراعة، العلامة الميرزا حبیب الله الهاشمي الخوئي، ت: 1324 ه، ضبط وتحقيق: علي عاشور، ط 1، الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت - لبنان، ومؤسسة المظفر الثقافية - النجف الاشرف، 1429 ه - 2008 م.

50. منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة الله الراوندي (ت 573 ه)، ط / 1، الناشر: مكتبة المرعشي - طهران، 1406 ه.

ص: 429

51. نفحات الولاية (شرح عصري جامع لنهج البلاغة)، الشيخ ناصر مکارم الشيرازي، ط / 1، الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام) ، قم - إيران 1426 ه.

52. نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) جمع أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي، (ت: 406 ه) ضبط نصّه وابتكر فهارسه، د. صبحي الصالح، ط / 4، الناشر: دار الكتاب المصري - القاهرة، ودار الكتاب اللبناني - بيروت،، 1425 ه - 2004 م.

53. نهج البلاغة للإمام علي (عليه السلام) جمع أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي، ت: 406 ه، نسخة المعجم المفرس، اعداد الشيخ محمد الدشتي، ط: 6، الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي - قم، 1422 ه.

54. نهج الحياة (مجموعة بحوث ومقالات حول نهج البلاغة)، موسسة نهج البلاغة، ط / 1، الناشر: مؤسسة نهج البلاغة، طهران / ایران، (د.ت).

55. نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة، الشيخ محمد باقر المحمودي، ط / 1، الناشر: مؤسسة الطباعة والنشر الإسلامي، طهران إيران، 1418 ه.

56. همع الهوامع في شرح جمع الجوامع، جلال الدين عبد الرحمن السيوطي، (ت: 911 ه)، شرح وتحقيق: عبد السلام هارون، د. عبد العال سالم مكرم، الناشر: عالم الكتب - القاهرة 1200 م.

ص: 430

المحتويات

أثر الحذف في تماسك النص في عهد الإمام علي علیه السلام لمالك الأشتر رضي الله عنه

أ.م. د. كاظم عبد الله عبد النبي

كلية الإمام الكاظم علیه السلام

مقدمة...11

التمهيد:...11

أولًا: التماسك في حذف العبارة...13

ثانياً: التماسك في حذف الجملة ...23

رابعاً: التماسك في حذف (إنّ) واسمها...28

خامساً: التماسك بحذف كان واسمها...32

سادساً: التماسك في حذف الحرف...33

المصادر والمراجع...38

ص: 431

أثر نهج البلاغة في إثراء المعجم الشعري للمتنبي (ت 354 ه) أ.م.د. أنوار سعيد جواد م.د. بشری حنون محسن

جامعة كربلاء كلية العلوم الاسلامية

مقدمة:...43

أثر نهج البلاغة في اثراء المعجم الشعري للمتنبي...45

في مجال إفادة المتنبي من ألفاظ الإمام علي (عليه السلام):...46

إفادة المتنبي وتأثره بمعاني الإمام علي (عليه السلام):...51

الخاتمة:...66

المصادر والمراجع...72

أساليب التوكيد في عهد الإمام علي (عليه السلام) للأشتر النخعيِّ (رحمه الله)

ضوء التماسك النحوي

أ.م. د. وفاء عبّاس فيّاض

جامعة كربلاء - كليّة العلوم الإسلامیّة

المقدمة:...77

التمهيد:...78

1- التوكيد في اللغة والاصطلاح:...78

التوكيد في اللغة:...78

التوكيد في الاصطلاح:...79

2 - آليات التماسك النحوي:...80

المبحث الأول: التوكيد اللفظي والمعنوي في العهد...83

التوكيد اللفظي في العهد:...83

التوكيد المعنوي في العهد:...91

ص: 432

المبحث الثاني: التوكيد بالأدوات...97

التوكيد بالقصر ب(إنّما):...99

التوكيد ب(قد):...101

التوكيد ب (ثمّ)...103

المبحث الثالث: التوكيد بنوني التوكيد...106

الخاتمة:...108

المصادر والمراجع...115

استراتيجية الخطاب الحجاجي في كتاب الإمام علي (عليه السلام) لمعاوية

أ. م. د. لمى عبد القادر خنیاب

كلية الآداب / جامعة القادسية

المقدمة:...123

توطئة:...124

إستراتيجية الخطاب الحجاجي:... 126

العتبة الأولى: (قطع صلة الخصم بحجته):...126

الحجة الأولى:...127

التمثيل:...127

الحجة الثانية:...129

العتبة الثاني / وعنوانها (فضل آل محمد):...131

العتبة الثالثة / (قلب الحجج):...132

قطاف البحث:...137

المصادر والمراجع...141

اعتماد كلام الامام علي (عليه السلام)...143

ص: 433

في المناهج التعليمية...143

وأثره في بناء الشخصية الإسلامية...143

الدكتور نجم الفحّام...143

مستشار المحكمة الدولية لتسوية المنازعات...143

قاض في المحكمة...143

المقدمة:...145

المبحث الأوّل: ما يحتمه القرآن العظيم في الإمام عليّ (عليه السلام)...146

المبحث الثّاني: ما يحتمه الصّادق الأمين ص في الإمام عليٍّ ع...156

المبحث الثّالث: ما يحتمه الواقع العملي والسّلوكي في الإمام علي عليه السّلام...168

المصادر والمراجع...190

الاستعارة أداة للمسكوت عنه في نهج البلاغة فن صناعة الخطاب

أ. د. نجاح فاهم العبيدي م. م. فراس تركي عبد العزيز جامعة كربلاء - كلية التربية للعلوم الإنسانية

المقدمة...201

أولاً: الاستعارة لغةً...202

ثانياً: الاستعارة اصطلاحاً...202

ثالثاً: أهمية الاستعارة...203

النموذج الاول...206

النموذج الثاني...207

النموذج الثالث...210

النموذج الرابع...213

النموذج الخامس...214

ص: 434

الخاتمة...216

المصادر والمراجع...221

الإنجاز بالقول في عهد الإمام علي (عليه السلام) - الأمر والنهي - دراسة تطبيقية على وفق نظرية أفعال الكلام العامة

أ. م. د أحمد جعفر داوود م. د حسين صالح ظاهر

كلية التربية - جامعة واسط مديرية تربية كربلاء

المدخل...225

الإطار النظري...228

الإطار التطبيقيّ...232

الخاتمة...245

المصادر والمراجع...249

التعليل في عهد الإمام علي (عليه السلام) لمالك الأشتر (رضوان الله عليه)

م. د. د. حميد يوسف إبراهيم كلية العلوم الإسلامية / جامعة ذي قار

مقدمة...255

تمهید...256

معنى التعليل وفائدته:..256

فائدة التعليل:...257

المبحث الأول...259

التعليل بالأدوات...259

1 - التعليل باللام:...259

2 - التعليل بالباء:...261

ص: 435

3 - التعليل ب(من):...262

4 - التعليل بالحرف (على):...262

5 - التعليل ب (حتى):...263

المبحث الثاني...264

التعليل المتحقق بالجمل أو بمضمونها:...264

1 - التعليل بالجملة الاسمية:...264

2 - التعليل بالجملة الاسمية المؤكدة:...265

3 - التعليل بالمفعول لأجله:...268

4 - التعليل في التركيب الشرطي:...269

5 - التعليل بجملة الطلب وجوابه:...270

6 - التعليل بالمشتقات:...271

7 - التعليل المستفاد في سياق الاستثناء المفرغ:...272

الخاتمة:...273

المصادر والمراجع...278

الحجاج وأثره في بناء العقيدة التوحيد في نهج البلاغة أنموذجا

م. د. موفق مجيد ليلو

جامعة الإمام جعفر الصادق (علیه السلام) - ميسان

مقدمة...285

المبحث الأول: مفهوم الحجاج...287

الحجاج لغة:...287

الحجاج اصطلاحا...288

مفهوم الحِجاج في القرآن الكريم...290

ص: 436

تقنيات الحجاج...291

سمات النص الحجاجي...291

الأبعاد الحجاجية...291

المبحث الثاني: حجاجية التوحيد في نهج البلاغة...293

خصوصية النص العلوي...294

البناء المنطقي للنص...295

المظاهر اللغوية للحجاج في النص العلوي...297

أ. حجاجية التكرار في النص العلوي...297

ب. حجاجية النفي...304

ج - حجاج التعليل بالأداة...305

د - حجاجية البنية الصرفية...308

الخاتمة...312

المصادر والمراجع...315

الضرورة الشعرية بين أحكام النحويين وكلام أمير المؤمنين (عليه السلام)

«دراسة في نقص الاستقراء النحوي»

م.م. حيدر هادي خلخال الشيباني

كلية التربية للعلوم الإنسانية - جامعة بابل

المقدمة...319

التمهید: الضرورة الشعرية وأهم مذاهب النحويين فيها:...320

المبحث الأول: توكيد جواب الشرط بنون التوكيد:...324

المبحث الثاني: إبقاء ألف (ما) الاستفهامية عند جرها بحرف الجر:...330

المبحث الثالث: اقتران خبر (كاد) ب(أنْ):...334

ص: 437

المبحث الرابع: اقتران خبر (لعل) ب(أن) أو وقوعه فعلا ماضيًا:...339

الخاتمة والنتائج...344

المصادر والمراجع...354

العدول في الظواهر التركيبية في خطاب نهج البلاغة

م. د. أحلام عبد المحسن صكر جامعة ذي قار كلية التربية للعلوم الإنسانية

المقدمة:...363

- التقديم والتأخير...363

- تقديم المسند إليه:...365

- تقديم المسند:...368

- الحذف:...371

ومن مظاهر ذلك في خطاب النهج:...372

- حذف الجملة:...372

- حذف الكلمة:...374

3 - الالتفات:...378

الخاتمة...383

المصادر والمراجع...389

الفرائد العلوية في إثراء القواعد النحوية (دراسة في نصوص نهج البلاغة)

م. د. ظافر عبيس الجياشي

المديرية العامة للتربية في المثنى

توطئة:...397

المبحث الأول: القيمة العلمية لنهج البلاغة...398

ص: 438

المبحث الثاني: الفرائد العلوية في نهج البلاغة...402

أولاً / الفرائد الظرفية:...403

1) مجیءُ ظرف المكان (أينَ) معرباً لا مبنياً:...403

2) تعلق الظرف بالفعل التام المتصرف:...405

ثانياً / الفرائد الشرطية:...409

1) تصدُّرُ الاستفهام جواب (لو):...409

2) جواب (لمّا) مضارع منفي ب (لم):...410

ثالثاً / الفرائد القسمية:...412

رابعاً / الفرائد التعجبية:...413

1) التعجب السماعي (لله بلاء فلان):...413

2) الاستفهام التعجبي باستعمال التركيب (فما عدا ممّا بدا):...414

رابعاً / الفرائد الإنابية:...414

الخاتمة...416

المصادر والمراجع...423

ص: 439

ص: 440

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.