منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة المجلد 3

هوية الکتاب

نهج الإمام علي علیه السلام في بناء الإنسان وانسانیة الدولة اعمال المؤتمر العلم الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3664 لسنة 2019

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.02.M8 A4 2019 :LC

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2: 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: أعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع الطبعة الأولى.

بيانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية، (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الأخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

ص: 1

اشارة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد 3664 لسنة 2019

مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف BP38.02.M8 A4 2019 :LC

المؤلف المؤتمر: المؤتمر العلمي السنوي لمنهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان (2: 2017: كربلاء، العراق).

العنوان: منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة: أعمال المؤتمر العلمي السنوي الثاني

بيان المسؤولية: [اعداد مؤسسة علوم نهج البلاغة. العتبة الحسينية المقدسة].

بيانات الطبع الطبعة الأولى.

بيانات النشر: کربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2019 / 1440 للهجرة.

الوصف المادي: 5 مجلد؛ 24 سم.

سلسلة النشر: العتبة الحسينية المقدسة؛ (678).

سلسلة النشر: مؤسسة علوم نهج البلاغة؛ (177)

سلسلة النشر: سلسلة المؤتمرات العلمية، (2).

تبصرة ببليوجرافية: يتضمن ارجاعات ببليوجرافية.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة. عهد مالك الأشتر.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - احاديث.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - سياسة وحكومة - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الاقتصاد - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - معجزات - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في بناء الانسان - مؤتمرات.

موضوع شخصي: علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الاول، 23 قبل الهجرة - 40 للهجرة - نظرية في الأخلاق - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: نظام الحكم في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: النظام الاداري في الاسلام - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الاسلام والمجتمع - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الإسلام وحقوق الانسان - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: احادیث خاصة (رد الشمس).

مصطلح موضوعي: الأخلاق الإسلامية - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: الفقر - العراق تاریخ - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية - مؤتمرات.

مصطلح موضوعي: اللغة العربية - نحو - مؤتمرات.

مؤلف اضافي: شرح ل (عمل): الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة - نهج البلاغة.

اسم هيئة اضافي: العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة - جهة مصدرة.

عنوان اضافي: نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 2

سلسلة المؤتمرات العلمية (2) المؤتمر العلمي الثاني منهج الامام علي (عليه السلام) في بناء الانسان وانسانية الدولة أعمال المؤتمر العلمي الوطني الثاني لمؤسسة علوم نهج البلاغة الجزء الثالث للمدة 13 - 14 / ربيع الأول / 1439 ه الموافق 2 - 2017/12/3 م اصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة في العتبة الحسينية المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة العتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1440 ه - 2019 م العراق - كربلاء المقدسة - مجاور مقام علي الأكبر عليه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع الألكتروني:

www.inahj.org الإيميل:

Info@lnahj.org

ص: 4

«بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا» صَدَقَ اللهُ العَلِي العَظِيم مریم: 55

ص: 5

ص: 6

المحور التربوي والأخلاقي

ص: 7

ص: 8

أثر القيم الأخلاقية في بناء النفس البشرية وانعكاساتها السلوكية في المجتمع في ضوء سيرة الإمام علي (علیه السلام) الباحث احمد محمد جواد الحكيم

اشارة

ص: 9

ص: 10

مقدمة

إن البحث في طبيعة النفس البشرية ومن ثم الوصول إلى فهم أفضل لمسلك الإنسان وتصرفاته في المجتمع، من خلال مؤثرات القيم الأخلاقية، هي من أعقد ما واجهته مجموعة العلماء والمفكرين والمصلحين والقادة على مر العصور، الذين كانت غاياتهم، هي الضبط الأخلاقي لميول هذا الإنسان والسيطرة على أهوائه وأنانيته من جشع وعدوانية وقساوة، وظلم وتهالك نحو السلطة والزعامة، وجمع الثروة، والجري وراء المناصب والرغبات، التي يحاول تحقيقها بوسائل منافية لمبادئ الدين والأخلاق والقواعد الاجتماعية الحميدة. وقد حاول قسم من هذه المجموعة إصلاح ذلك بإجراءات نظرية فحسب، من خلال الوعظ والإرشاد المجرد، دون أن يكون له أي موقع عملي مؤثر في المجتمع. بينما في المقابل هناك من انطلق في جهده بالجمع بين الناحيتين النظرية والعملية.

ومن هؤلاء الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي كان عالماً، حکیماً، فقيهاً، من ناحية. ومن ناحية أخرى هو الحاكم والخليفة للمسلمين. لذلك جاءت سيرته وخطبه ووصاياه ورسائله، في خضم معاركه وكفاحه الصلب في سبيل تثبیت قیم الحق والعدل والمساواة. أضف إلى ذلك نضاله الشديد ضد مختلف أنواع الشر الأخلاقي وضد السلوك المنحرف عن مستلزمات الأخلاق الإسلامية. لهذا نجده، من خلال سيرته، يقوم بتحليل دقيق ووصف عميق لطبيعة النفس البشرية وسبر أغوارها وخفاياها. غير أن الذي أكسب مضامین سيرة الإمام، أهمية بالغة، كونها نابعة من معاناته ومن خبرته عند تعامله مع أصناف متعددة من الناس، بخاصة مناوئيه، فضلا عن تعقيدات المشكلات التي واجهته.

وعلى أساس هذه السيرة، سنتناول في هذا البحث أثر القيم الأخلاقية في

ص: 11

بناء النفس البشرية وانعكاساتها السلوكية في المجتمع، من خلال أربعة محاور هي: المراد من القيم الأخلاقية، وسلوك الإنسان وتصرفاته، ثم وسائل بناء النفس البشرية وانعكاسات القيم الأخلاقية على الإنسان في المجتمع، ومفارقات في الأخلاق والسلوك.

يتضمن المحور الأول، معنى القيم الأخلاقية، وما المقصود بسلوك الإنسان وتصرفاته، ومن ثم بيان العلاقة بينهما. فالقيم الأخلاقية هي باختصار صفات إنسانية مجردة، تقوم بدور أدلة لسلوك الناس في كافة ميادين الحياة المختلفة. كما أن القيم الأخلاقية الإيجابية، التي سنركز عليها، تشمل العديد من الأسس، مثل العدل، والحق، والصدق، والفضيلة، والنزاهة، والأمانة للواجب، والمساواة والرحمة، والتعاون، والتواضع، والتقوى، والعفو، والإحسان، والخير، والنصيحة، والوفاء، والتعاطف.

وبدور هذه القيم ومقاصدها، تتشكل ثوابت ومبادئ ترتكز عليها الأخلاق الاجتماعية، التي تتحقق من خلال تصرفات الناس وأفعالهم، أي سلوكهم الاجتماعي. هذا السلوك يخرج في أحيان كثيرة ، بصورة بارزة عن الخط السوي، عن الإستقامة، عند ذاك يكون ذا طبيعة سلبية وآفة من آفات المجتمع المؤلمة. أما المحور الثاني، فيتضمن وسائل عملية لبناء النفس البشرية، اعتماداً على الفضائل الأخلاقية. من هذه الوسائل: تأثير قوة المثال، ووحدة القول والفعل، والقدرة على تشخيص مواطن الضعف وعلى تصنيف النفس البشرية، والإستقامة وما تتضمنه من نبذ المحاباة والمداهنة والمصانعة والنفاق، والمحاسبة الذاتية الصارمة، والموازين الدقيقة في التعامل مع الآخرين، وأهمية اتباع قادة الحق، والعمل الجماعي والابتعاد عن الإنعزالية، ووحدة المصالح الاجتماعية والشخصية. أما

ص: 12

المحور الثالث، فيبحث انعكاسات القيم الأخلاقية على المجتمع، ويتضمن: اعتماد نهج سياسي قائم على الفضيلة وليس على المكر والغدر والخداع، وتطبيق الأحكام الإلهية دون استثناء، والمساواة في المعاملات، والتشديد على مبدأ الحوار والنصيحة أولا مع المناوئين قبل الانتقال إلى القتال، ومتابعة الولاة في تطبيق القيم الأخلاقية، والتعاطف والرحمة مع الفئات الضعيفة والمظلومة، ونقد للمواقف الحيادية بين الحق والباطل، ومعايير دقيقة للحق والباطل. أما المحور الأخير، فهو عن المفارقات والتناقضات في السلوك والأخلاق، وازدواجية السلوك والتصرفات، وتغير المقاييس والأحكام.

أولاً: المراد من القيم والأخلاق والسلوك الإنساني

إن القيم والأخلاق والسلوك، هي مفاهيم مترابطة، متداخلة، من ناحية المعنى والممارسة العملية، التي تؤثر فيها تأثيراً كبيراً الحاجات والمصالح السائدة في المجتمع. والقيم، قد ذكرنا معناها في المقدمة، تعتبر مبادئ أولية، معناها في الفلسفة: ظاهرة مادية أو روحية، تلبي متطلبات معينة للإنسان أو المجتمع، وتخدم مصالحه وأهدافه (1). وتشمل صنفين أحدهما إيجابي وآخر سلبي. فالإيجابي مثل الخير والحق والعدل. والسلبي كالغدر والمكر ونقض العهد. وتتيح هذه القيم للإنسان أن يتصرف ويتعامل مع غيره في الحياة اليومية بالنحو الذي يراه ويعتقده، وتتمثل في طبيعة نفسه البشرية.

أما الأخلاق، فهي جمع كلمة الخُلُق، وهي السجية والطبع وصورة الإنسان الباطنية، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة به، حسنة كانت أو قبيحة (2). وفي علم الفلسفة، فإن الأخلاق أو الآداب، هي مجموعة أصول وأحکام و قواعد سلوك الناس في المجتمع. وهي تعكس تصورات الناس عن العدل والظلم والخير

ص: 13

والشر والكرامة والخيانة إلخ (3). وللأخلاق تأثير مباشر على مختلف ميادين الحياة، من السياسة والاقتصاد وغيرها. ويترافق مع مفهوم «الأخلاق» كلمتان مشتقتان منه و تشیعان في الإستعمال اليومي هما «الأخلاقي»، و «غير الأخلاقي» أو أحيانا «اللاأخلاقي». فالأخلاقي هو: ما يتفق وقواعد الأخلاق أو قواعد السلوك المقررة في المجتمع. وعكسه اللاأخلاقي (4). إن المعضلة الأساسية في مفهوم الأخلاق، ترتبط بفرز التناقض بين المتطلبات الأخلاقية العامة للمجتمع، وبين سلوك الإنسان الفعلي.

والسلوك الإنساني، یعني سيرة الإنسان، اتجاهه، تفكيره، ومجمل تصرفاته وأفعاله الذي يتجه بها إلى وجهة معينة، معبرة عن شتی جوانب طبعه الأخلاقي. ومن المعروف أن صفات الإنسان وتصرفاته الأخلافية، ليست جميعها بالقضايا التي تولد معه، إنما هي أشياء يكتسبها من محيطه بمرور الزمن، بخاصة في المراحل الأولى من حياته. وينحصر سلوك الإنسان من جانبين أساسين. أحدهما جانب الخير والفضيلة. والآخر جانب الشر والرذيلة. الذي يهمنا هنا، هو البحث عن محركات السلوك، بمعنی ما الذي يدفع الإنسان أو الجماعة إلى تبنّي سلوك معين، والإلتزام بقيم أخلاقية معينة ومتطلباتها. فقد أشار بعض علماء النفس، أن القيمة الهادفة هي المهمة في توجيه السلوك، أي ما يتوقعه الإنسان من نتيجة هو الذي يقرر نوعية سلوكه، وهناك من اعتقد أن أن «إزالة التوتر» و «إشباع الحاجة» المحرك الأهم في تثبيت السلوك وتعزيزه (5).

ومهما يكن من أمر فإننا نجد في نهج البلاغة، من كلام أمير المؤمنين علي عليه السلام، دلالات سبقت علماء النفس تشير إلى أن الرغبة والشهوة، والتعلق الشديد بنعم الحياة، واتباع هوى النفس المذموم، والطمع، جميعها تعد من المحركات

ص: 14

الأساسية للإنسان، وهي طاقات نفسية حيوية عامة، تجعل الإنسان يميل إلى ما يحب ويشتهي ويحرص عليه ويطمع فيه، سواء كان محموداً أو مذموماً. وقد شبه عليه السلام، الإنسان، عندما تتملكه الرغبة في الدنيا، كأنه الأسير المقيد بالسلاسل، فيقول: «یَا أَسْرَی اَلرَّغْبَهِ أَقْصِرُوا فَإِنَّ اَلْمُعَرِّجَ عَلَی اَلدُّنْیَا لاَ یَرُوعُهُ مِنْهَا إِلاَّ صَرِیفُ أَنْیَابِ اَلْحِدْثَانِ». المعرج: المائل إليها أو المعول عليها أو المقيم بها. ويروعه: يفزعه. والصريف: صوت الأسنان عند الإصطكاك. والحِدثان - بالكسر- النوائب (6). اقصروا: قللوا.

ويتداخل مع معنى «الرغبة»، مفهوم آخر هو «الشهوة»، وهي الرغبة الشديدة، التي تتمناها النفس وتنزع إليها. إذ يقول الإمام: «وَ مَا مِنْ مَعْصِیَةِ اللَّهِ شَیْءٌ إِلاَّ یَأْتِی فِی شَهْوَةٍ». لهذا فهو يدعو بالخير والنعمة لمن ينزع من نفسه الشهوة والهوى فيقول: «فَرَحِمَ اللَّهُ امْرَأً نَزَعَ عَنْ شَهْوَتِهِ وَ قَمَعَ هَوَی نَفْسِهِ» (8).

وهناك مصطلح آخر، يأتي بذات معنى الرغبة الشديدة، والشهوة، وهو «اللذة»، أي نقيض الألم، وملاءمة الشيء للشهوة والرغبة (9). وفي علم النفس إنها لاتعني المتعة الحسية - المادية فقط، بل الشعور الذاتي بالرضا والإسترخاء والسعادة (10). لهذا يحذر أمير المؤمنين أن تكون اللذة هي أفضل شيء في دنيا المرء، فيقول: «فَلا يَكُنْ أَفْضَلُ مَا نِلْتَ فِى نَفْسِكَ مِنْ دُنْيَاكَ بُلُوغَ لَذَّةٍ أَوْ شِفَاءَ غَيْظٍ وَ لَكِنْ إِطْفَاءَ بَاطِلٍ أَوْ إِحْيَاءَ حَقٍّ» (11). ويقول أيضا: «إِنَّ لِلْقُلُوبِ شَهْوَةً وَ إِقْبَالاً وَ إِدْبَاراً، فَأْتُوهَا مِنْ قِبَلِ شَهْوَتِهَا وَ إِقْبَالِهَا، فَإِنَّ اَلْقَلْبَ إِذَا أُکْرِهَ عَمِیَ» (12).

كذلك يتداخل مفهوم «الطمع» مع ما ذكرناه من مصطلحات، ويعني أيضاً الرغبة في الشيء واشتهاؤه (13). لذلك يحذر عليه السلام من التمسك الشديد بالطمع، وما يؤدي من نتائج مهلكة، فيقول: «وَ إِيّاكَ أَن تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطّمَعِ

ص: 15

فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الهَلَكَةِ». توجف: تسرع، والمناهل: من ترده الإبل ونحوها (14). کما يؤكد الإمام ذلك بقوله: «أَکْثَرُ مَصَارِعِ اَلْعُقُولِ تَحْتَ بُرُوقِ اَلْأَطْمَاعِ» (15).

والنفس البشرية إنما تتجه نحو هذا السلوك المنحرف الذي يتمثل بالطمع، واللذة والرغبة والشهوة، للحصول على المكاسب الدنيوية، نتيجة عوامل عديدة منها، أن الإنسان لا يمكنه الصمود أمام المغريات، من مال وسلطة وزعامة، لذلك فهو يستسلم أمامها، نتيجة ضعف إيمانه، وضعف إلتزامه بالقيم النبيلة، فهو إذن يبحث عن «الإستمتاع»، مكافحاً من أجل هذه المغريات، جاعلا من مصالحه الخاصة فوق كل اعتبار، غير مبالي بمصير الناس من حوله، وبهذه الحالة يصبح عبدا لشهواته ويعيش من أجل الاقتناء، الأمر الذي يجعله لا يلتزم بقيمه ومبادئه الروحية والأخلاقية.

ويبين لنا عليه السلام، أن الإنسان عندما تصبح الدنيا وملذاتها هي الهدف، والغاية الأساسية الأولى عنده، فإنه سيفضلها على اتباع أوامر الله وأحكام الدين الحنيف، ويصبح بهذه الحالة عبدا لهذه الحياة، فيقول: «مَنْ عَظُمَتِ اَلدُّنْیَا فِی عَیْنِهِ وَ کَبُرَ مَوْقِعُهَا فِی قَلْبِهِ وَ آثَرَهَا عَلَی اَللَّهِ وَ اِنْقَطَعَ إِلَیْهَا صَارَ عَبْداً لَهَا» (16). وبهذه الحالة يصبح عقل الإنسان، عبدا لعواطفه ومشاعره. وقد أشار أمير المؤمنين بشكل رائع إلى ثلاث قضايا رئيسية من نعم الحياة، يسعى كثير من الناس نحوها ويهلكون أنفسهم ودينهم في سبيل الحصول عليها وهي: الثروة والسلطة والزعامة، فيقول عن أحد الناس: «قَد أَشرَطَ نَفسَهُ وَ أَوبَقَ دِينَهُ لِحُطَامٍ يَنتَهِزُهُ أَو مِقنَبٍ يَقُودُهُ أَو مِنبَرٍ يَفرَعُهُ» (17). و أشرط نفسه: أي هيأها وأعدها للشر والفساد في الأرض أو للعقوبة وسوء العاقبة. أوبق دینه: أهلكه. والحطام: المال. ينتهزه: يغتنمه أو يختلسه. والمقنب: جماعة من الناس أو غيرهم. ومقنب يقوده، إشارة

ص: 16

للسلطة التي يتكالب عليها الكثير من الناس، بسبب أهميتها ومتعتها. وفرع المنبر: طاله وعلاه. وقد استخدم عليه السلام، جملة «منبر يفرعه»، أي يصعد المنبر ويخطب في الناس، كناية على الرفعة وزعامة الناس وأمرتهم.

ويبين الإمام کیف تتغير أخلاق الإنسان إلى الشر والرذيلة، عندما يختار هذا الإنسان الدنيا على الآخرة، فيقول: «کَأَنِّی أَنْظُرُ إِلَی فَاسِقِهِمْ وَقَدْ صَحِبَ الْمُنْکَرَ فَأَلِفَهُ وَبَسِئَ بِهِ وَوَافَقَهُ حَتَّی شَابَتْ عَلَیْهِ مَفَارِقُهُ وَصُبِغَتْ بِهِ خَلَائِقُهُ ثُمَّ أَقْبَلَ مُزْبِداً کَالتَّیَّارِ لَایُبَالِی مَا غَرَّقَ أَوْ کَوَقْعِ النَّارِ فِی الْهَشِیمِ لَایَحْفِلُ مَاحَرَّقَ».

بسيء به: استأنس به. المفرق: من الرأس حيث يفرق الشعر. وصبغت به أخلاقه: صار عادة له وسجية. مزبدا كالتيار: هو كالماء عنفوان جریانه وفيضانه. والهشيم: اليابس من كل شيء.

يبين عليه السلام هنا، كيف أن المنكر أصبح ملازما للفاسق، معتادا عليه، ومستأنسا به، طوال حياته، وقد أصبح هذا المنكر جزءا لا يتجزأ من أخلاقه، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أصبح هذا الفاسق لا يكترث ولا يهتم بما يحصل للأخرين نتيجة فجوره ومعاصيه وتركه أوامر الله، وتجاوزه على حدود الشرع.

ثم يتسائل بألم عن مكان أولئك الذين يسيرون على طريق الهدى والتقوى وطاعة الله، فيجيب أنهم يتدافعون على متاع الدنيا ويتنازعون على الأشياء المحرمة، فيقول: «أَیْنَ الْعُقُولُ الْمُسْتَصْبِحَةُ بِمَصَابِیحِ الْهُدَی وَالْأَبْصَارُ الْلَّامِحَةُ إِلَی مَنَارِ التَّقْوَی أَیْنَ الْقُلُوبُ الَّتِی وُهِبَتْ لِلّهِ وَعُوقِدَتْ عَلَی طَاعَهِ اللّهِ ازْدَحَمُوا عَلَی الْحُطَامِ وَتَشَاحُّوا عَلَی الْحَرَامِ» (19). ازدحموا: تدافعوا. الحطام: متاع الدنيا. تشاحوا:تنازعوا.

ص: 17

ثانيا: وسائل عملية لبناء النفس البشرية

إن وسائل بناء النفس البشرية تدخل في ميدان التربية الأخلاقية، التي تتمثل في مستويين. أولهما ذاتي، وهو فهم واستيعاب القيم الأخلاقية من جانب الفرد، من حيث امكانية ممارستها بصورة واعية. والمستوى الثاني، هو متطلبات المجتمع الخارجية من سلوك الفرد، وتفاعله مع محيطه. سنبين قسا من هذه الوسائل العملية.

1. قوة المثال الشخصي

يتسم المثال الذي يضربه الشخص في المجتمع، بخاصة إذا كان في موقع المسؤولية، ببالغ الأهمية في التربية الأخلاقية، ذلك من خلال أفعاله وتصرفاته وسيرة حياته. ومعنى المثال، هو شيء يقاس عليه ويتخذ نموذجا (20). ويسمى هذا الشيء أيضا المثل الأعلى، وهو الشخص الذي يهتدي به الأخرين. ونحن نقصد هنا المثل الأعلى الأخلاقي الإيجابي، الذي ينشأ نتيجة تعميم كل ما هو خير وفضيلة وحق وعدل. لذلك نجد الإمام علي عليه السلام قد ضرب لنا مثلا صارخا في الالتزام بمبادئ الدين الحنيف، حين طبقها على نفسه أولا، ثم على الآخرين. ومن هنا تبرز، وحدة القول والفعل عند الإمام، وليس الوعظ النظري فحسب، وهناك أمثلة عديدة عملية على ذلك. إذ يقول الإمام في هذا المجال: «إِنِّي وَاللهِ مَا أَحُثُّكُمْ عَلَى طَاعَةٍ إِلاَّ وَأَسْبِقُكُمْ إِلَيْهَا وَلاَ أَنْهَاكُمْ عَنْ مَعْصِيَةٍ إِلاَّ وَأَتَنَاهَى قَبْلَكُمْ عَنْهَا» (21).

وتعد عملية الإهتداء والإقتداء بالمثل الأعلى الأخلاقي أحد الأساليب التي تدفع الإنسان إلى الإلتزام بالقيم النبيلة وإصلاح نفسه كي يقترب من سمات المثل الأعلى. ولكن لماذا المثال يمتلك قوة للتأثير في سلوك الآخرين؟ يُرجع علماء

ص: 18

الاجتماع ذلك إلى أربعة عوامل:

1- لأن المثال مرئي. فهو لا يؤثر في الذهن وحسب، بل يؤثر كذلك قبل كل شيء، في الميدان الانفعالي الحسي.

2- المثال مُعِد، فهو يشكل علامة الهدف، ويجتذب، ويوقظ الهمة ويستحثها.

3- في المثال ترد القيم الأخلاقية في وحدة تمازج مع الفعل المادي الملموس.

4- ينطوي المثل ويقدم البرهان على وحدة القول والفعل، ويخلق جو الثقة والصدق اللذين لا يمكن بدونهما عموما أن يقوم التأثير الأخلاقي، وبالتالي التربية الأخلاقية (22).

لابد من التأكيد هنا، أن فعل أي شخص يكون أكثر أثرا في نفوس الآخرين من أقواله، وهو ما نلاحظه عند اللذين يتاجرون بالمجردات، مثل العدالة والحق، دون أن يطبقوها في الواقع العملي، أو يعملوا بعكسها تماما، فهم لا أثر فعلي لديهم لذلك نجد الإمام قد حذر من هذه الحالة بقوله: «لاَ تَکُنْ مِمَّنْ یَرْجُو اَلْآخِرَةَ بِغَیْرِ عَمَلٍ وَ یُسَوِّفُ اَلتَّوْبَةَ بِطُولِ اَلْأَمَلِ یَقُولُ فِی اَلدُّنْیَا بِقَوْلِ اَلزَّاهِدِینَ وَ یَعْمَلُ فِیهَا بِعَمَلِ اَلرَّاغِبِینَ» (23).

كما أن هذه الصفة كانت عند المتخاذلين من أنصاره، لذلك فقد ذمهم بقوله: «کَلامُکُمْ یُوهِی الصُّمُّ الصِّلاَبَ وَ فِعْلُکُمْ یُطْمِعُ فِیکُمُ الاْءعْداءَ». ثم يتعجب بقوله: أقولاً بِغَيرٍ عَمَلٍ» (25).

2. تحليل وتصنيف مواطن الضعف الأخلاقي

قدّم أمير المؤمنين علي عليه السلام، وصفاً دقيقا، وتحليلا عميقا، لمواطن الضعف الأخلاقي وانحطاطه، ولرغبات الإنسان المنحرفة التي تقوده لتحقيق

ص: 19

أمانيه وغاياته، سواء عند مناوئيه أو أنصاره. فضلا عن ذلك، فقد صنّف هؤلاء المنحرفين إلى مجموعات حسب سلوكها وتصرفاته.

(أ) وصف للخصائص السلبية للنفس البشرية

لقد وصف الإمام النفس البشرية، وصفاً، رائعا، حيث قام بترتيب خصائص النفس بصيغة ثنائيات، كل ثنائية تتكون من حدين. الأول يمثل صفة معينة للنفس البشرية، والحد الثاني يبين طريقة تصرف الإنسان حين يتمتع بهذه الصفة، التي تكون سلبية، عادة، عند كثير من البشر. سنذكر قسما مما أشار له الإمام وهو يبين ما يحصل للإنسان في هذه الحالات:

«فَإِنْ سَنَحَ لَهُ الرَّجَاءُ أَذَلَّهُ الطَّمَعُ»، أي إذا حصل على ما يريد، أهانه الطمع في المزيد. «وَ إِنْ هَاجَ بِهِ الطَّمَعُ أَهْلَكَهُ الْحِرْصُ»، وإن تحرك وفار به الطمع أماته الجشع، وهو شدة إرادة الشيء بشدة. «وَ إِنْ أَسْعَدَهُ الرِّضَا نَسِيَ التَّحَفُّظَ»، وإن سارت أحواله على نهج ما يحب ويرغب، غفل عن التحرز والتوقي والتيقظ من المضرات. «وَ إِنِ اتَّسَعَ لَهُ الْأَمْرُ اسْتَلَبَتْهُ الْغِرَّةُ»، وإن حصل على ما يريد وذهب عنه الخوف والوجل وصار آمنا على نفسه وماله، استهوته الغفلة واستولت عليه وذهبت به عن رشده (25).

(ب) تصنيف النفس البشرية

هناك تصنیفات عديدة للنفس البشرية المنحرفة، ذكرها عليه السلام، في مناسبات عديدة، نستطيع استخلاصها، لكنها قد تكون متداخلة فيما بينها وهي:

- المجموعة التي لايمكن الثقة بها في حمل مبادىء الدين.

بين الإمام أن هناك أربعة أصناف من الناس الذين لا يلتزمون بمبادئ

ص: 20

الدين وليسوا من رعاته، ولا يمكن الثقة بهم، بقوله: «مُستَعمِلًا آلَةَ الدّينِ لِلدّنيَا وَ مُستَظهِراً بِنِعَمِ اللّهِ عَلَي عِبَادِهِ وَ بِحُجَجِهِ عَلَي أَولِيَائِهِ أَو مُنقَاداً لِحَمَلَةِ الحَقّ لَا بَصِيرَةَ لَهُ فِي أَحنَائِهِ يَنقَدِحُ الشّكّ فِي قَلبِهِ لِأَوّلِ عَارِضٍ مِن شُبهَةٍ أَلَا لَا ذَا وَ لَا ذَاكَ أَو مَنهُوماً بِاللّذّةِ سَلِسَ القِيَادِ لِلشّهوَةِ أَو مُغرَماً بِالجَمعِ وَ الِادّخَارِ لَيسَا مِن رُعَاةِ الدّينِ فِي شَيءٍ» (26). أحنائه:جمع حنو، أطراف الشيء ونواحيه. ينقدح: يخرج بقوة. أما الأصناف الأربعة فهي: الأول، يستعمل وسائل الدين لطلب الدنيا، ويستعين بنعم الله تعالى على إيذاء عباده. والثاني، يتبع أهل الحق لكن لا بصيرة له بمعرفة الحق وخفاياه. الثالث، مولع بطلب ملذات الدنيا، وسهل الانقياد للشهوة. والرابع، مغرم بجمع المال وادخاره.

- مجموعة الساعين لطلب السلطة

يعد تصنيف الإمام، للساعين نحو السلطة والحكم بأي وسيلة، من أهم القضايا التي تشغل الناس، فقد حددهم في أربعة أصناف بقوله: «والنَّاسُ عَلى أَربَعَة أصنَافٍ مِنهُم مَن لا یَمنَعُة الفَسادَ في الأَرضِ إلا مَهانَةُ نَفسَه وَكَلالَةُ حَدَه ونَضَيضُ وَفِرِه وَمِنهُم المُصلِتُ لِسَيفه وَالمُعلِنُ بشَره وَالمُجلِبُ بخیلَه ورَجِله ومِنهُم مَن يَطلُبُ الدُّنيَا بِعَمَل الاخِرَة وَأتَّخَذ سَّر الله ذَريعَةً إلَى المَعصِيَة ومِنهُم مَن أَبعَدَه عَن طَلَب المُلكَ ضُئُولَة نَفسِه وانقِطاعُ سَببَه».

کلالة حده: أي ضعف سلاحه عن القطع في أعدائه. ونضيض وفرة: قلة ماله. الضؤولة: الضعف (27). بمعنى أن الأول، لا يستطيع الوصول إلى السلطة بسبب قلة أنصاره وماله وضعف سلاحه. والثاني يستعمل القوة لتحقيق غاياته. والثالث يستخدم الدين ستارا له لطلب الحكم، أي يستخدم المكر والخداع والحيلة. والرابع ضعف حاله وانقطاع مؤيديه.

ص: 21

- مجموعة الشر والضلالة

لقد بين لنا أمير المؤمنين، أن مجموعة الشر والضلالة، تتألف من ثلاثة أصناف: أبغض الخلائق، وشر الناس، والتي ينبغي محاربتها ومقاتلتها. أما مجموعة أبغض الخلائق إلى الله، فهي مجموعة الضلالة والفتنة والتغرير، وتضم فئتين، كما يقول الإمام: «إنَّ أَبْغَضَ اَلْخَلاَئِقِ إِلَی اَللَّهِ رَجُلاَنِ رَجُلٌ وَکَلَهُ اَللَّهُ إِلَی نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ اَلسَّبِیلِ مَشْغُوفٌ بِکَلاَمِ بِدْعَةٍ وَ دُعَاءِ ضَلاَلَةٍ... وَرَجُلٌ قَمَشَ جَهْلًا مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ الْأُمَّةِ عَادٍ فِي أَغْبَاشِ الْفِتْنَةِ عَمٍ بِمَا فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ النَّاسِ عَالمِاً وَلَيْسَ بِهِ». وكله الله إلى نفسه: كناية عن ذهابه خلف هواه فيما يعتقد، لا يرجع إلى حقيقة من الدين ولا يهتدي بدليل من الكتاب. قمش جهلا: جمعه. موضع في جهال الأمة: مسرع فيهم بالغش والتغرير. عاد: مسرع. أغباش الليل: بقایا ظلمته، أي أنه ينتهز افتتان الناس بجهلهم وعماهم في فتنتهم فيعدو إلى غايته من التصور فيهم والسيادة عليهم مما يظنه الجهلة علا وليس به (28).

باختصار إن أحد الفئتين، هي التي تسير خلف هواها فيما تعتقد، وعن قصد، والأخرى تدعي العلم والمعرفة، غرضها التحكم بالناس والسيادة عليهم. وأما مجموعة شر الناس، وتضم هذه المجموعة، شر الناس عند الله، وهم الظلمة كالحاكم الظالم أو الإمام الجائر، الذي يخلط الحق بالباطل، ويغيّر الأحكام حسب هواه، لذا وصفه أمير المؤمنين بقوله: «وَإِنَّ شَرَّ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وَضُلَّ بِهِ فَأَمَاتَ سُنَّةً مَأْخُوذَةً وَأَحْيَا بِدْعَةً مَتْرُوكَةً» (29). كما أن المجموعة التي ينبغي مقاتلتها، تضم فئتين أيضاً، كما يقول الإمام: «وَإِنَّی أُقَاتِلُ رَجُلَیْنِ رَجُلاً ادَّعَی مَا لَیْسَ لَهُ وَآخَرَ مَنَعَ الَّذِی عَلَیْهِ» (30). أي أن هناك فئة تدعي ما ليس لها وتحاول الحصول عليه بشتى الطرق والوسائل . وفئة تمنع الذي عليها من واجبات.

ص: 22

3. الإستقامة في المعاملات

يرشدنا أمير المؤمنين علي عليه السلام، في مبدئيته الصارمة والتزامه التام بالأحكام الإلهية، إلى أحد وسائل بناء النفس البشرية، وهي الإستقامة في المعاملات التي تتصل اتصالا مباشرا مع عامة الناس. إذ تتجلى هذه السياسة برفض جميع أنواع المساومات غير الأخلاقية، وما تتضمنه من مداراة ومحاباة ومداهنة ومصانعة، التي تؤدي إلى التساهل أو الإبتعاد عن تطبيق حدود الله في العدل والمساواة. لأن جميع هذه المسالك تستلزم بطريقة أو أخرى الكذب والغش والخداع والغدر ونقض العهد.

وقد برزت هذه المسالك أكثر في موضعين رئيسيين هما طريقة توزيع الأموال على المسلمين، وعملية اختيار ولاة الأقاليم وعمالها. ففي الموضع الأول، سار الإمام في سياسته العامة على مبدأ تقسيم الأموال بين المسلمين جميعا بالتساوي، بما فيه هو، وأهله وذوي القربی، رافضا المحاباة والمداراة لكبار القوم وغيرهم، اللذين ألفوا حياة التساهل في تطبيق حدود الله، لذلك لم يسهل عليهم مساواتهم بمن هم دونهم، فناصبوا العداء للإمام وحاربوه. على هذا الأساس فإن الإمام يقسم بالله أنه لن يصيب أي من متاع الدنيا بغير حق، بقوله: «وَاللهِ لاَنْ أَبِيتَ عَلَى حَسَكِ السَّعْدَانِ مُسَهَّداً أَوْ أُجَرَّ فِي الاَغْلاَلِ مُصَفَّداً أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَلقَى اللهَ وَرَسُولَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظَالِماً لِبَعْضِ الْعِبَادِ وَغَاصِباً لِشَيْء مِنَ الْحُطَامِ» (31) .الحسك: الشوك. السعدان: نبات بري له شوك. سهد: أرق ولم ينم بالليل. مصفدا: مقيدا. الحطام: متاع الدنيا.

أما الموضع الثاني الذي تدخل فيه المحاباة والمساومة وغيرها، هو عملية اختیار ولاة الأقاليم وعمالها. لذلك نجد أن الإمام يؤكد ويوصي أن يكون

ص: 23

الاختيار سليما معتمدا على الأخلاص والكفاءة والخبرة، كما يوصي واليه مالك الأشتر فیقول: «ثُمَّ انْظُرْ فِی أُمُورِ عُمَّالِكَ فَاسْتَعْمِلْهُمُ اخْتِبَاراً وَلَا تُوَلِّهِمْ مُحَابَاةً وَأَثَرَةً فَإِنَّهُمَا جِمَاعٌ مِنْ شُعَبِ الْجَوْرِ وَالْخِیَانَةِ وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَةِ وَالْحَیَاءِ» (32). أثرة:

أي فضله على غيره.

وتدخل في المعاملات، أيضا وسائل المصانعة والمداهنة، التي تعني سلوك الإنسان المتلون، المنافق، ظاهره خلاف باطنه. لذلك ينهى الإمام، عن المداهنة فيقول: «وَلَا تُدَاهِنُوا فیَهجُمَ بکُمُ الإدهَانُ عَلَی المَعصِیَةِ» (33). يهجم بكم: يدخل بکم بسرعة. كذلك ينهى الإمام، أنصاره، عن مخالطتة بالمصانعة، فيقول: «وَلَا تُخَالِطُونِيِ بِالمُصَانَعَةِ» (34).

4. محاسبة دقيقة من النفس ومن الآخرين

من الوسائل المؤثرة في بناء النفوس وتهذيبها، التي أشار لها أمير المؤمنين، هي محاسبة الإنسان لنفسه، وتقبّل محاسبة الآخرين له، من أجل كشف أخطاء النفس وانحرافاتها وتذليلها، كي يسير الإنسان على طريق الخير والفضيلة، مبتعدا عن الرذيلة والخطأ. وقد بين لنا الإمام منافع المحاسبة الذاتية، كما أرسى لها أسسا تقوم عليها، نذكر منها: أولا، أن منافع المحاسبة الذاتية، هي بالتأكيد للإنسان نفسه، ومن ثم تنعكس على المجتمع بأسره. إذ سيكون هو الرابح، لأنه سيسلك طريق الإستقامة، وبعكسها سيكون هو الخاسر، كما يقول أمير المؤمنين: «مَن حَاسَبَ نَفسَهُ رَبِحَ، وَمَن غَفَلَ عَنهَا خَسِرَ» (35).

ثانيا، يحذر الإمام تحذيرا شديدا اللذين لا يقومون بمحاسبة أنفسهم، أنه سيأتي اليوم الذي سيحاسبه الآخرون على ما اقترفه من موبقات وانحرافات، عند ذلك لا يبقى أي مجال للتغيير أو التصحيح، فيقول: «عِبادَ اللّهِ زِنُوا أَنْفُسَکُمْ

ص: 24

مِنْ قَبْلِ أَنْ تُوزَنُوا وحَاسِبُوها مِنْ قَبْلِ أَنْ تُحَاسَبُوا» (36). ثالثا، يؤكد الإمام أن الذي لا يستطيع أن يزجر نفسه ويبعدها عن الأخطاء والإنحرافات، لا يمكنه قبول مواعظ الآخرين ونهيهم له، فيقول: «وَ اعلَمُوا أَنّهُ مَن لَم يُعَن عَلَي نَفسِهِ حَتّي يَكُونَ لَهُ مِنهَا وَاعِظٌ وَ زَاجِرٌ لَم يَكُن لَهُ مِن غَيرِهَا لَا زَاجِرٌ وَ لَا وَاعِظٌ» (37).

كانت هذه المحاسبة الذاتية للإنسان من نفسه، لكن هناك محاسبة أخرى، تأتي من الآخرين، مهما كان هذا الإنسان، لذلك فإن الإمام وهو الحاكم للمسلمين يطلب من أنصاره، أن لا يترددوا في قولهم الحق والعدل، کما جاء من کلام له: «وَلاتَظُنُّوا بى اسْتِثْقالاً فى حَقٍّ قيلَ لى... فَلاتَكُفُّوا عَنْ مَقالَة بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَة بِعَدْل» (38). يرشدنا عليه السلام هنا إلى أمر هام في توجيه النقد أو المشورة بين الحاكم والرعية، وهو أنه ليس لديه حرج في الإستماع إلى ما يقوله أنصاره، من حق أو عدل أو مشورة، من ناحية. ومن ناحية أخرى أوصاهم أن لا يتركوا قول الحق والعدل والمشورة.

كما أن المحاسبة وهي الرقابة الواعية للسلوك تهدف إلى التمكن من رؤية الإنحراف عند الفرد، وتسمى أيضا التقييم، بمعنى إثبات تطابق أو تباین التصرف أو الفعل مع معايير الأخلاق الاجتماعية. لكن هذه العملية لا تجري بيسر وسهولة دائماً، إنما تواجه صعوبات وتناقضات. فالإنسان قد يحاسب أفعال الآخرين بموجب مقياس مبالغ فيه، مثلا بمقياس المثل الأعلى، بينما يحاسب أفعاله بمقياس منخفض، ناظرا بتساهل و تسامح إلى نواقصه وعيوبه وجوانب ضعفه الأخلاقي. وفي هذه الحال تنشأ محاسبة غير صحيحة، فقد تنشأ لدى الفرد صفات الغرور وعدم تحمل المحاسبة، الأمر الذي يؤدي إلى الصراعات والتوتر بين الفرد والمجموعات الأخرى.

ص: 25

5. موازين دقيقة في تعامل الإنسان مع الآخرين

القدسار الإمام، وفقاً لقواعد أساسية، تنظم علاقة الإنسان مع الآخرين، نابعة من السيرة المحمدية، التي تحدد واجب هذا الإنسان تجاه الآخرين، وتوازن کفتي الحقوق والواجبات، القائمة على أساس أن كل ما يرغب به الإنسان لنفسه، ينبغي أن يكون للآخرين مثله، وكل ما لا يرغب به، ينبغي أن يبعده عن الآخرين، ويعامل الناس كما يجب أن يعاملونه به. فضلا عن ذلك، يبين لنا الإمام کیف يتصرف الإنسان عند قوته، وعند ضعفه، وكيف ينظر لعيوبه وعيوب الآخرين.

أولاً، توازن كفتي الواجب تجاه النفس واتجاه الآخرين.

إن المبادئ التي كان ينادي بها عليه السلام، هي إنسانية في جوهرها تنطلق من فكرة المساواة بين جميع الناس. وكما أن لكل إنسان الحق في السعادة، فإن الآخرين لهم الحق ذاته، وما لا يريده لنفسه ينبغي أن لا يفعله للغير. ففي وصيتة لولده الحسن يقول: «يَا بنُيَ ّ اجعَل نَفسَكَ مِيزَاناً فِيمَا بَينَكَ وَ بَينَ غَيرِكَ فَأَحبِب لِغَيرِكَ مَا تُحِبّ لِنَفسِكَ وَ اكرَه لَهُ مَا تَكرَهُ لَهَا وَ لَا تَظلِم كَمَا لَا تُحِبّ أَن تُظلَمَ وَ أَحسِن كَمَا تُحِبّ أَن يُحسَنَ إِلَيكَ وَ استَقبِح مِن نَفسِكَ مَا تَستَقبِحُهُ مِن غَيرِكَ وَ ارضَ مِنَ النّاسِ بِمَا تَرضَاهُ لَهُم مِن نَفسِكَ» (39). وفي القصار من كلماته يقول، بالمعنى ذاته: «كَفَاكَ أَدَباً لِنَفسِكَ اجتِنَابُ مَا تَكرَهُهُ مِن غَيرِكَ» (40). كما يحذر الإمام أيضا، الإنسان من الأعمال التي يحبها لنفسه ولكنها غير مرغوبة عند الآخرين کما جاء في كتابه إلى الحارث الهمداني بقوله: «واحْذَرْ کلّ عَمَل یَرْضَاهُ صَاحِبُهُ لِنَفْسِهِ، ویُکرِهُهُ لِعَامَّهِ الْمُسْلِمِینَ» (41). إن هذه العلاقات الإنسانية بين الفرد والآخرين التي ذكرها الإمام تعتبر «قواعد ذهبية» في الأخلاق حسب علماء الاجتماع، ولها صيغ متماثلة، في مختلف أنحاء العالم، منذ قبل الميلاد. فمثلا الحكيم الصيني القديم كونفوشيوس

ص: 26

يقول: «ما لا تريده لنفسك لا تفعله للغير». والحكيم الإغريقي طاليس يقول: «لنمتنع عن فعل ما نعيبه في الآخرين» (42). كذلك الحديث المروي عن النبي الكريم محمد صلى الله عليه وعلى آله، هو: «لاَ یَؤُمِنُ أَحَدُکُمْ حَتَّی یُحِبَّ لِأَخِیهِ مَا یُحِبُّ لِنَفْسِهِ»، عن أنس بن مالك (43). المشكلة هنا في تطبيق هذه المبادئ، لأن العلاقات أصبحت في كثير من الأحيان، لا إنسانية، وكل يفكر بمصلحته، دون أن ينظر إلى مصالح الآخرين، أو لايهتم بهم.

ثانيا: تصرف الإنسان عند قوته وعند ضعفه.

يضع لنا أمير المؤمنين منهجاً رائعاً، عن تصرفات الإنسان وسلوكه عندما يصبح قوياً، سواء من ناحية ثروته أو مكانته أو منزلته، ومدى التزامه بالقيم والأخلاق وطاعته للأوامر الإلهية. وبمقابل ذلك يبين ما هو المطلوب من الإنسان أمام الله عندما يكون ضعيفاً، فيقول: «وَإِذَا قَوِيتَ فَاقْوَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَإِذَا ضَعُفْتَ فاضْعُفْ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ» (44). لكن ما نلاحظه، في زمننا الحالي، هو العكس تماما فالكثير من الناس، حينما يكون واسع القدرة، ينسى الواجبات الإلهية، وآخرون تهبط نفوسهم، في حالة ضعفهم وحاجتهم للمال والناس، فيرتكبون المعاصي والإنحرافات. والأمر المؤسف حقا، أن نجد من أنعم الله عليه بالكثير، يستغل هذه النعم في ارتكاب المعاصي، لذا يحذر الإمام من هذه التصرفات بقوله: «أَقَلُّ مَا یَلْزَمُکُمْ لِلَّهِ أَلاَّ تَسْتَعِینُوا بِنِعَمِهِ عَلَی مَعَاصِیهِ» (45). لأن أكثر ما يكون الإنسان في غفلة عن نعم الله، حين يكون مغمورا بتلك النعم، والمحزن أنه لا يعرف فضل النعم إلا بعد زوالها.

ثالثاً: نظرة متساوية لعيوب الإنسان وعيوب الآخرين.

من أسوأ الطبائع والأخلاق هي أن يوجه الإنسان الاتهامات إلى الآخرين

ص: 27

بعيوب،هو يشكو مثلها. لذلك يقول أمير المؤمنين: «أَکْبَرُ اَلْعَیْبِ أَنْ تَعِیبَ مَا فِیكَ مِثْلُهُ» (46). أي أن يرى الإنسان سيئات غيره وينتقدها، لكنه يفعل ما يأباه على الآخرين، ويبيح لنفسه ما يحرمه عليهم. كما يصف الإنسان الذي يقوم بذلك بالأحمق أي قليل العقل، بقوله: «وَمَنْ نَظَرَ فِی عُیُوبِ النَّاسِ فَأَنْکَرَهَا ثُمَّ رَضِیَهَا لِنَفْسِهِ فَذلِكَ آلْأَحْمَقُ بِعَیْنِهِ» (47). لهذا يمدح عليه السلام، الإنسان الذي يفتش عن عيوبه، عوضاً عن الإنشغال في التفتيش عن عيوب الآخرين فحسب، فيقول: «طُوبَی لِمَنْ شَغَلَهُ عَیْبُهُ عَنْ عُیُوبِ اَلنَّاسِ» (48).

6. اتباع قادة الحق

من القضايا التي تساعد في بناء النفس البشرية، هي اتباع قادة الحق والصالحين من المؤمنين، بخاصة إذا كانوا في مواقع قيادية ذات مسؤولية كبيرة. غير أن هذا الاتباع والطاعة، ينبغي أن يكون على درجة من الوعي والمعرفة. فمخالفة هؤلاء القادة هو الذي يؤدي إلى نتائج وخيمة وتعطيل تطبيق أحكام الشريعة والدين في المجتمع. وهذا ما حدث زمن أمير المؤمنين عليه السلام، الذي يمكن أن نرجعه إلى ثلاثة عوامل متداخلة:

أولاً: نقص الوعي والمعرفة بأحكام الدين.

يعد الجهل بأحكام الدين الحنيف، هو العامل الأساسي في نشوء الإنحرافات ومخالفة قادة الحق والعدل. وقد قسم الإمام الناس في زمانه إلى ثلاثة أقسام، منهم هؤلاء الذين ذكرناهم فيقول: «النّاسُ ثَلاثَةٌ: فَعالِمٌ رَبّانِیٌّ، ومُتَعَلِّمٌ عَلی سَبیلِ نَجاةٍ، وهَمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ کُلِّ ناعِقٍ، یَمیلونَ مَعَ کُلِّ ریحٍ، لَم یَستَضیئوا بِنورِ العِلمِ، ولَم یَلجَؤوا إلی رُکنٍ وَثیقٍ» (49).

ص: 28

ثانياً: طاعة كبار القوم بغير حق.

لا يتبع كثير من عامة الناس، قادة الحق والعدل، إنما تذهب طاعتهم إلى غيرهم من كبار القوم وشخصيات يحترمونها ويرتبطون بها بعلاقات مختلفة، فهم بهذه الحالة ينقادون بها دون وعي ودون تفحص وبصيرة، لذلك نجد الإمام يحذر الناس من طاعة ساداتهم وكبراءهم، غير الملتزمين بالحق ومبادئ الدين الحنيف، فيقول: «أَلاَ فَالْحَذَرَ اَلْحَذَرَ مِنْ طَاعَهِ سَادَاتِکُمْ وَ کُبَرَائِکُمْ! اَلَّذِینَ تَکَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ، وَ تَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ، وَ أَلْقَوُا اَلْهَجِینَةَ عَلَی رَبِّهِمْ، وَ جَاحَدُوا اَللَّهَ عَلَی مَا صَنَعَ بِهِمْ، مُکَابَرَةً لِقَضَائِهِ، وَ مُغَالَبَةً لِآلاَئِهِ، فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ اَلْعَصَبِیَّةِ، وَ دَعَائِمُ أَرْکَانِ اَلْفِتْنَةِ، وَ سُیُوفُ اِعْتِزَاءِ اَلْجَاهِلِیَّةِ». الهجينة: الفعلة القبيحة (50)، لآلائه: لنعمه.

ثالثاً: اختلاف الغايات والمقاصد.

كانت أهداف الإمام هي في إصلاح المجتمع وتطبيق حدود الله بالعدل والحق، بينما كانت غايات قسم من أنصاره، هي مصالح شخصية، لهذا يقول: «وَلَیْسَ أَمْرِی وَأَمْرُکُمْ وَاحِداً، إِنِّی أُرِیدُکُمْ للهِ وَأَنْتُمْ تُرِیدُونَنِی لاِنْفُسِکُمْ» (51). كذلك يقول: «أَتَأْمُرُونِّی أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالْجَوْرِ فِیمَنْ وُلِّیتُ عَلَیْهِ» (52).

7. العمل الجماعي والابتعاد عن الانعزالية

من القضايا التي تؤثر في سلوك النفس البشرية، هي تلك القائمة على وحدة المصالح العامة والشخصية، بمعنى أن يكون الفرد للجميع، والجميع للفرد (53). وهذا يحتم الابتعاد عن الانعزالية والفردية، التي تجعل كل فرد، ذاتاً، منعزلة لا يفكر إلا في مصلحة نفسه، دون أن يعير الآخرين أي اهتمام، الأمر الذي يؤدي إلى تفكك الروابط بين النسيج الاجتماعي. وقد وصف الإمام هذه الحالة الأنانية، الانعزالية، خير وصف حين شبه الناس الغافلين بالإبل أو الغنم المعدة للذبح

ص: 29

لا تعرف ما يراد بها، بقوله: «کَأَنَّکُمْ نَعَمٌ أَرَاحَ بِهَا سَائِمٌ إِلَی مَرْعیً وَبِیٍّ، وَمَشْرَبٍ دَوِیٍّ، وَإِنَّمَا هِیَ کَالْمَعْلُوفَهِ لِلْمُدَی لَاتَعْرِفُ مَاَذا یُرَادُ بِهَا! إِذَا أُحْسِنُ إِلَیْهَا تَحْسَبُ یَوْمَهَا دَهْرَهَا، وَشِبَعَهَا أَمْرَهَا». النعم: الإبل أو هي الغنم. أراح بها: ذهب بها، السائم: الراعي. الوبي: الردي يجلب الوباء. الدوي: الوبيل يفسد الصحة، أصله من الدوا بالقصر، أي المرض. المدى. جمع مدية - السكين، أي معلوفة للذبح. تحسب يومها دهرها: أي لا تنظر إلى عواقب أمورها فلا تعد شيئاً لما بعد يومها، ومتی شبعت ظنت أنه لا شأن لها بعد هذا الشبع (54).

فضلا عما سبق فأن مفاهيم الروابط الاجتماعية تتبدل لتصبح معاكسة لمبادئ القيم الأخلاقية كما وصفها عليه السلام بقوله: «وَتَوَاخَى النَّاسُ عَلَى الْفُجُورِ، وَتَهَاجَرُوا عَلَى الدَّينِ، وَتَحَابُّوا عَلَى الْكَذِبِ، وَتَبَاغَضُوا عَلَى الصَّدْقِ» (55).

ثالثا، انعكاسات القيم الأخلاقية على المجتمع

إن الأخلاق، بصفة عامة، تعتبر حلقة وصل بين الفرد والمجتمع، بمعنى أن المعايير والفضائل الأخلاقية هي التي تدفع الفردي في الاجتماعي، وتضفي معنی ذا دلالة على تعدد الأفعال و جوانب السلوك في المجتمع، حيث تشكل الجوهر الأساسي للتربية الأخلاقية التي تتكون من الوعظ والإرشاد المجرد، والتطبيق الفعلي والممارسة في نواحي الحياة المتعددة، التي سنبين قسما منها.

1. اعتماد نهج سياسي قائم على الفضيلة

لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام ملتزما التزاما شديدا في نهجه السياسي، بمبادئ الشريعة الإسلامية، لا يدع مجالا لمخالفتها من أجل رغبة معينة. لهذا فهو لا يجيز استعمال الوسائل غير النبيلة على الإطلاق في سبيل تحقيق غاية معينة، الأمر

ص: 30

الذي جلب له تبعات خطيرة وألحقت ضررا به، بعكس ما كان يفعل مناوئيه، فعندهم كل شيء جائز، طالما يؤدي إلى الغاية المنشودة. فالكذب والغش والخداع والخيانة والسرقة، جميعها من الوسائل الممكنة، غير الأخلاقية، التي قد توصل إلى الغاية النهائية. أي أن الغاية تبرر الوسيلة، حسب ميكافيللي. لهذا فهو يوصي ولده الحسن بقوله: «وَ لاتَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ» (56). وتصل درجة التمسّك بالقيم عند الإمام، إلى الحالة التي يحصل ضرراً من وراء هذا الإلتزام، فيقول: «نَّ أَفْضَلَ النَّاسِ عِنْدَ اللهِ مَنْ كَانَ الْعَمَلُ بِالْحَقِّ أَحَبَّ إِلَيْهِ وَإِنْ نَقَصَهُ وَكَرَثَهُ مِنَ الْبَاطِلِ وَإِنْ جَرَّ إِلَيْهِ فَائِدَةً وَزَادَهُ» کرثه: اشتد علیه الغم بحکم الحق»(57). والحقيقة أن العلاقة بين الغاية والوسيلة، هي علاقة فيها إشكاليات عند تطبيقها في الواقع العملي. فعند الإمام «الغاية لا تبرر الوسيلة»، بمعنى أنه يرفض رفضا قاطعا استخدام أي وسيلة غير نبيلة، غير أخلاقية. فعنده الغايات نبيلة والوسائل نبيلة. لكن هناك من يرى أنه لا يمكن تطبيق «الغاية لا تبرر الوسيلة»، دائما، فعندهم يمكن تبرير الوسائل بالغاية، بمعنى أن هناك مساومة، تتطلب من الفرد تضحية ببعض القيم الأخلاقية لأجل الحفاظ أو الوصول إلى قيم أخرى من مستوى أعلى. هذا يعني استخدام وسائل اضطرارية لتحقيق هدف معين، وتطبيق مبدأ «الضرورات تبيح المحظورات».

والأمثلة كثيرة في الواقع العملي على استعمال هذا التجاوز. لكن هذا يتعارض مع فلسفة الإمام والمبادئ والقيم التي سار عليها. ومهما يكن، كان من الأفضل أن يقرن استعمال الوسائل الاضطرارية للتنازل عن قيمة ما في صالح قيمة أعلى، شرطاً وهو استئصال ضرورة اللجوء إليه في المستقبل والعمل على معرفة أسبابه ومنعه نهائيا. فضلا عن ذلك ينبغي منع ظاه-رة تبادل القيم، أي عندما تنقلب

ص: 31

الغاية إلى وسيلة، أو العكس. على سبيل المثال قيمة «الوظيفة» التي هي غاية يستثمرها بعض الناس حتى يحققوا بها بعض المصالح، فتتحول إلى وسيلة.

2. التشديد على مبدأ الحوار أولاً

جميع الحروب الداخلية التي حدثت زمن الإمام علي عليه السلام، جاءت بعد حوارات ورسائل متبادلة بينه وبين مناوئيه، فضلا عن ذلك كان يوصي أنصاره وولاته أن لا يكونوا هم البادئين في الحرب (58). على سبيل المثال، کلّم طلحة والزبير بعد بیعته بالخلافة وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما والاستعانة في الأمور بهما، وكذلك حين غضبا من التسوية بين المسلمين في قسمة الاموال (59)، لقد كان ذلك قبل حرب الجمل. كذلك كلامه مع الخوارج، حين اعتزلوا الحكم (60). أيضاً بعث كتاباً إلى عمرو بن العاص، يحاول أن يهديه إلى الصواب (61). أما معاوية بن أبي سفيان، فكانت للإمام رسائل كثيرة عددها ستة عشر کتاباً (62).

وتأكيدا على ما ذكرناه، نجد أن أمير المؤمنين يحاول دفع الحرب وتأخيرها على أمل أن يهدي مناوئيه، كما في كلامه إلى أنصاره بقوله: «فَوَاللَّهِ مَا دَفَعْتُ اَلْحَرْبَ یَوْماً إِلاَّ وَ أَنَا أَطْمَعُ أَنْ تَلْحَقَ بِی طَائِفَةٌ فَتَهْتَدِیَ بِی وَ تَعْشُوَ إِلَی ضَوْئِی، وَ ذَلِكَ أَحَبُّ إِلَیَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَهَا عَلَی ضَلاَلِهَا وَ إِنْ کَانَتْ تَبُوءُ بِآثَامِهَا». تبوء بآثامها: ترجع بها. تعشو إلى ضوئه: تستدل عليه وإن كان ببصر ضعيف في ظلام الفتن فتهتدي إليه (63).

3. متابعة دقيقة للولاة والأنصار

لقد رسم أمير المؤمنين علي عليه السلام، خطة في إدارة الحكم، تتضمن متابعة إدارية دقيقة لولاته، التي تشمل الموعظة والتوجيهات والإرشادات، والتنبيه عن الأخطاء والتحذير والإنذار والتعنيف والنهي، والمحاسبة المالية. سنذكر قسما من

ص: 32

رسائله إلى ولاته بهذا الشأن.فمن أكثر كتبه عليه السلام شهرة في الإرشاد والتوجيه، هو كتابه إلى الأشتر النخعي عندما ولاه مصر (64)، التي تعد بحق خطة متكاملة للحكم، التي ينبغي أن يقرأها ويستنير بها كل من يتصدى إلى المسؤولية، لكن مما يؤسف له نجد الكثير من أنصاره ومحبيه في زماننا الحالي لن يطبقوا ما جاء فيها. وفي كتابه إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني عامله على أردشير خُرّه، يحذره تحذيرا شديدا من المحاباة في تقسيم مال المسلمين (65). وللتأكد من حسابات عماله، بعث كتاباً إلى بعض عماله يأمره برفع حسابه إليه (66). وقد كتب إلى عامله على أذربيجان، الأشعث بن قيس، يأمره بالأمانة (67). ومن المحاسبات الدقيقة التي قام بها الإمام، كتابه إلى قاضيه، شريح بن الحارث، عندما اشترى دارا بثمانين ديناراً (68)، حيث أراد الإمام التأكد من أن ثمن هذه الدار، كان من مال قاضيه وحلاله، وليس من أموال المسلمين. ومن المتابعات التي تعد في غاية الأهمية من وجهة نظرنا، التي قام بها عليه السلام، جاءت في موقفين. الأول توبيخه واليه على البصرة، عثمان بن حنيف، عندما حضر إلى وليمة دعي إليها (69). والتوبيخ كان بسبب حضور الأغنياء فقط إلى الوليمة دون حضور المحتاجين من الفقراء وغيرهم. أما الموقف الثاني، هو انتقاده لأحد أنصاره في البصرة وهو العلاء بن زياد الحارثي، عندما دخل عليه، ووجد سعة داره. لكن الإمام لم يمنعه من امتلاك هذه الدار الواسعة، إنما وضع شروطا لها وهي: «تَقْرِي فِيهَا الضَّيْفَ، وَتَصِلُ فِيهَا الرَّحِمَ وَتُطْلِعُ مِنْهَا الُحُقُوقَ مَطَالِعَهَا» (70). تقري فيها الضيف: تستقبل فيها الضيوف. تطلع منها الحقوق مطالعها: تؤدي ما افترض عليك من حقوق إلى مستحقيها. فأين نحن ما يحدث اليوم من امتلاك القصور وحضور الولائم لكبار القوم فحسب؟

ص: 33

4. التعاطف والتراحم مع الفئات الضعيفة

لقد أكد الإمام في وصاياه على أهمية الإقتراب من الناس والإتصال المباشر معهم، بخاصة الفئات الضعيفة والمظلومين والفقراء والمحتاجين. كما بين سلبيات الإبتعاد عنهم، وحذر من الصفة السيئة التي تصيب الذين يحصلون فضل أو نعمة أو زعامة أو منصب، إذ تتغير نفوسهم، ويزدادون تباعدا عن عامة الناس، بوجه خاص من ذوي الحاجات أو الطبقة السفلى من المجتمع. لهذا يقول في كتاب له إلى أمرائه على الجيوش: «فَإِنَّ حَقّاً عَلَی الْوَالِی أَلاَّ یُغَیِّرَهُ عَلَی رَعِیَّتِهِ فَضْلٌ نَالَهُ وَ لاَ طَوْلٌ خُصَّ بِهِ وَ أَنْ یَزِیدَهُ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ مِنْ نِعَمِهِ دُنُوّاً مِنْ عِبَادِهِ وَ عَطْفاً عَلَی إِخْوَانِهِ» (71). كما يوصي عليه السلام، بصورة تأكيد، في الإهتمام بالطبقة السفلى في المجتمع، فيقول في عهده للأشتر النخعي: «ثُمَّ اللهَ اللهَ فِي الطَّبَقَةِ السُّفْلَى مِنَ الَّذِينَ لاَ حِيلَةَ لَهُمْ مِنَ الْمَسَاکِينِ وَالْمُحْتَاجِينَ وَأَهْلِ الْبُؤْسَى وَ الزَّمْنَى». البؤسى: شدة الفقر والزمني: وهو المصاب بالزمانة، أي العاهة (72). كما يقول أيضاً في العهدة نفسها: «وَاجْعَلْ لِذَوِی الْحَاجَاتِ مِنْكَ قِسْماً تُفَرِّغُ لَهُمْ فِیهِ شَخْصَكَ وَتَجْلِسُ لَهُمْ مَجْلِساً عَامّاً فَتَتَوَاضَعُ فِیهِ لِلَّهِ الَّذِی خَلَقَكَ» (73). وهنا يشير الإمام إلى قضيتين أساسيتين. الأولى أن يفرغ الوالي جزءاً من وقته لمقابلة ذوي الحاجات والاستماع إلى مطالبهم. والثانية، هي في طريقة جلوس الوالي، إذ ينبغي أن يكون متواضعا وليس مترفعاً، متكبراً عليهم. ثم يبين عليه السلام أن لا تطول فترة احتجاب الوالي عن الرعية، لأن في ذلك سلبيات عديدة، كما يقول: «وَأَمَّا بَعْدُ فَلَا تُطَوِّلَنَّ احْتِجَابَكَ عَنْ رَعِیَّتِكَ فَإِنَّ احْتِجَابَ الْوُلَاَةِ عَنِ الرَّعِیَّةِ شُعْبَةٌ مِنَ الضِّیقِ وَقِلَّةُ عِلْمٍ بِالْأُمُورِ وَالْإِحْتِجَابُ مِنْهُمْ یَقْطَعُ عَنْهُمْ عِلْمَ مَا احْتَجَبُوا دُونَهُ فَیَصْغُرُ عِنْدَهُمُ الْکَبِیرُ وَیَعْظُمُ الصَّغِیرُ وَیَقْبُحُ الْحَسَنَ وَیَحْسُنُ الْقَبِیحُ وَیُشَابُ الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ» (74).

ص: 34

والشيء المؤسف، في زماننا، أن الالتزام بتوجيهات الإمام، قليلة جداً، والإبتعاد عن شريحة المستضعفين هي السائدة في المجتمع. لكننا نلاحظ العكس تماما، إذ أن المترفين والأقوياء ونحوهم، هم الذين لهم وصول مباشر إلى المسؤولين الكبار. والمفارقة هنا أن المواطن العادي لا يمكنه الاتصال هاتفيا مثلاً، بأي مسؤول، لكن في المقابل نجد أن هؤلاء المترفين والأقوياء يحتفظون بأرقام الهواتف المباشرة لمعظم المسؤولين الكبار.

5. نقد للمواقف الحيادية

هناك فئة من الناس تتخذ موقفا غريباً نحو الصراع بين الحق والباطل، بخاصة أثناء الأزمات والمنعطفات السياسية وغيرها. إذ أنهم يستطيعوا التعرف على الحق من الباطل، لكنهم لا يرغبوا في التزام أي من هذه المسارين، لذلك يتبعوا ما يسمى بالموقف الحيادي، أو النأي بالنفس. السبب في ذلك، يعود، غالباً، لرغبتهم في المحافظة على مصالحهم ووجودهم. غير أن هذا الموقف، هو موقف غير أخلاقي، لأنه عملياً سيكون ضد الحق، وتعود فوائده في النهاية لصالح الباطل. لأن التهرب من مقاومة الباطل وفضحه، إنما يعني الوقوف عملياً إلى جانب الباطل. حدث هذا الموقف زمن الإمام علي عليه السلام، حين انتقد ضمنياً موقف كل من سعيد بن مالك وعبد الله بن عمر، لأنهما لم یبایعاه، فيقول: «إنَّ سَعیداً وعَبدَاللهِ بنَ عُمَرَ لَم یَنصُرُوا الحَقَّ، وَلَم یَخذُلَا البَاطِلَ» (75). هذا الموقف السلبي قد أضعف الحق وأضعف موقف الإمام عند مناوئيه. تكرر هذا الموقف أثناء قتاله لهولاء المناوئين، حين اعتزل قسم منهم القتال، فيقول عليه السلام: «خَذَلُوا الحَقَّ وَلَمْ یَنْصُرُوا البَاطِلَ» (76). على هذا الأساس، يؤكد أمير المؤمنين، ما ذهبنا إليه، وهو من لم یکن الهدى واتباع الحق دلیله، جره الضلال إلى الهلاك،

ص: 35

فيقول: «وَ مَنْ لاَ یَسْتَقِیمُ بِهِ اَلْهُدَی یَجُرُّ بِهِ اَلضَّلاَلُ إِلَی اَلرَّدَی» (77). ومن المؤسف، أن الأحداث تتكرر في وقتنا الراهن، إذ تشهد على ذلك مواقف معينة لقسم من الجماعات أو الأفراد، هو ذاته الموقف السلبي الحيادي، في الصراع بين الحق والباطل. ومن خطورة هذا الموقف، هو مساواته بين الحق والباطل. لذا يتطلب الأمر جرأة في قول الحق، والاتجاه نحو مصلحة المجتمع. ولا بد من التأكيد هنا أن هذا الموقف الحيادي الخاطئ، هو بين الحق والباطل فحسب. أما إذا كان الصراع بين الباطل والباطل، أي بين الظالمين، فالموقف هنا هو الإبتعاد عنهم وتجنبهم، وعدم نصرة أي منهما، كما يقول الإمام في القصار من كلماته: «كُنْ فِي الْفِتْنَةِ كَابْنِ اللَّبُونِ، لا ظَهْرُ فَيُرْكَبَ، وَلا ضَرْعٌ فَيُحْلَبَ» (78). أما إذا كان النزاع بين أصحاب الحق أنفسهم، فالصلح والحوار، هو الحالة الطبيعة لها كل هذه المواقف التي ذكرناها تتطلب وعيا ومعرفة عالية لتمييز الحق من الباطل، ووضع مقاييس دقيقة للتعرف على منهج العدل والاستقامة.

رابعاً: مفارقات في الأخلاق والسلوك

تشمل مفارقات الأخلاق والسلوك، تناقضات في التصرفات وازدواجيتها، وتحوّل القيم الأصلية إلى أضدادها أو تحريفها، إذ تتبدل مقاييس مفاهيم الحياة والمبادىء، إلى صيغ أخرى منافية لها، فضلاً عن استغلال الحق لتمويه الآخرين وخداعهم وغشهم. ولابد من القول هنا أن هذه المفارقات قد تتداخل مع معضلة الوسائل والغايات التي ذكرناها سابقاً.

ص: 36

1. تناقضات في السلوك والأخلاق.

المقصود بالتناقضات، هو أن الرذائل والموبقات والشر معنية.

بالدوافع، مثلما هي معنية بالنتائج. لذلك نجد كثير من الناس يعتقدون أنهم يدافعون عن الحق والعدل، لكنهم في الواقع إنما يدافعون عن قضايا اجتذبتهم أو مصالح فردية خاصة بهم. أضف إلى ذلك هناك الأدعياء الذين يتظاهرون بمعرفة طرائق علاج وحل مشكلات المجتمع وأزَماته، لكنهم يسعون إلى تحقيق منافعهم الذاتية. وقد انتقد أمير المؤمنين، هذا التناقض بقوله: «وَمَا خَیْرُ خَیْرٍ لَایُنَالُ إِلَّا بِشَرٍّ، وَیُسْرٍ لَایُنَالُ إِلَّا بِعُسْرٍ» (79)، بمعنى أنه لا فائدة بالخير الذي يناله الإنسان بالشر، ولا فائدة باليسر الذي يناله الإنسان بالرذيلة. كذلك يبين عليه السلام النتائج غير المرغوبة لهذه الأفعال بقوله: «مَا ظَفِرَ مَنْ ظَفِرَ الاْءِثْمُ بِهِ، وَالْغالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوبٌ». أي إذا كانت الوسيلة لظفرك بخصمك ركوب إثم، واقتراف معصية، فإنك لم تظفر، حيث ظفرت بك المعصية فألقت بك إلى النار، وعلى هذا قوله: «وَالْغالِبُ بِالشَّرِّ مَغْلُوبٌ» (80).

2. ازدواجية السلوك

إن ازدواجية السلوك هي إحدى خصال النفس البشرية المنحرفة، التي تظهر فيها الفجوة والاختلاف بين الإيمان النظري، والعمل والممارسة. لذلك نجد أن الإنسان يدعو بأقواله إلى سلوك معين، لكنه يمارس عكسه. فمثلاً يدعو ويتظاهر بالصدق ويصطنع الأمانة، لكن ليس لديه ما يمنعه أن يتخذهما ذريعة لتحقيق منافعه الذاتية فقط. تتجلى هذه الازدواجية عند كثير من الناس في كل زمان ومكان. فمثلاً يعترف أحد هؤلاء الناس، عندما سأله الإمام علي عليه السلام، عن سبب تفضيله معاوية فأجاب أننا لم نفضل معاوية لكننا فضلنا متاع الدنيا، هذا ما ذكره

ص: 37

أبو حيان التوحيدي في كتابه «الامتاع والمؤانسة»، بقوله: «وقال علي بن أبي طالب - کرم الله وجهه - لرجل من بني تغلب يوم صفين: أآثرتم معاوية؟ فقال: ما آثرناه، ولكنا آثرنا القسب الأصفر، والبر الأحمر، والزيت الأخضر». القسب: التمر اليابس (81). إن هذا الاعتراف يمثل حالة غريبة في السلوك البشري، وهو الإصرار على ترك الحق والعدل والتوجه نحو متاع الدنيا. كما أن هذه الأفعال المتناقضة تتواجد في نفس الإنسان، في حالة نزاع دائم، بين ما يضطر هذا الإنسان إلى فعله، وما يريده ويرغبه داخل سريرة نفسه. لذا فإن هذا الازدواج الداخلي، وهذه القطيعة بين النوايا الطيبة والأفعال السيئة، هي التي تؤدي إلى النفاق والرياء.

3. تغير المقاييس والأحكام

في زمن الانحلال الفكري والأخلاقي، زمن اختلاط الحق بالباطل تتبدل مفاهيم الحياة، إذ تتحول إلى أضدادها، أو إلى تحريفها عن مسارها الصحيح، فيصبح، مثلاً، الحق باطلاً، والباطل حقاً، والغدر حُسن تدبير، وهكذا. وقد ذكر الإمام عليه السلام، ما قال له رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بما سيحدث من بعده في تحريف الأحكام: «یَا عَلِیُّ إِنَّ الْقَوْمَ سَیُفْتَنُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَیَمُنُّونَ بِدِینِهِمْ عَلَی رَبِّهِمْ وَیَتَمَنَّوْنَ رَحْمَتَهُ وَیَأْمَنُونَ سَطْوَتَهُ وَیَسْتَحِلُّونَ حَرَامَهُ بِالشُّبُهَاتِ الْکَاذِبَهِ» (82). كما وصف عليه السلام هذه الحالة بقوله: «وَ لَقَدْ أَصْبَحْنَا فِی زَمَانٍ قَدِ اِتَّخَذَ أَکْثَرُ أَهْلِهِ اَلْغَدْرَ کَیْساً وَ نَسَبَهُمْ أَهْلُ اَلْجَهْلِ فِیهِ إِلَی حُسْنِ اَلْحِیلَةِ». الكيس: العقل، وأهل ذلك الزمان يعدون الغدر من العقل وحسن الحيلة» (83).

ص: 38

خاتمة

بعد رحلة طويلة، مع سيرة أمير المؤمنين عليه السلام، التي تخص أثر القيم الأخلاقية في السلوك الإنساني، حيث كان فيها عالماً عارفاً بسريرة الإنسان وتصرفاته وسلوكه، كما نجده في الوقت ذاته ثابتا على مواقفه المبدئية الأخلاقية النابعة من الأحكام الإلهية والسيرة المحمدية. لذلك كانت غايته إصلاح المجتمع، وتهذيب النفوس وتربيتها تربية صالحة وفقا لهذه الأحكام. غير أن جميع محاولاته في هذا المجال واجهت مقاومة شديدة من تلك النفوس المريضة الضالة، التي أصرت على تفضيل مصالحها الأنانية ومنافعها الشخصية، مستخدمين في ذلك جميع الأساليب التي لا تنسجم مع المبادئ والقيم الأخلاقية للدين الحنيف. يمكننا إذن أن نستخلص من السيرة العلوية، بعض القضايا التي تهم السلوك الأخلاقي من أهمها: أولا، إن درجة وعي الإنسان ومعرفته بأحكام الدين الحنيف، والمبادىء الإنسانية، هي ضرورة من أجل التوجه الصحيح في المجتمع وإصلاحه. ثانيا، الاعتماد على الدليل العادل والمرشد الأخلاقي الذي يعين الناس في خياراتهم ويرشدهم إلى المبادئ السليمة في السلوك والأخلاق، وتشخيص الانحرافات في المجتمع، ثم معرفة الحق من الباطل، والفضيلة من الرذيلة، والصواب من الخطأ. ثالثا، يوجد مبدأين أساسيين متصارعين يحكمان السلوك الإنساني: الرغبات الأنانية، والقيم الأخلاقية الإيجابية. رابعا، إن القيادة الجيدة الحكيمة، يبدو في كثير من الأحيان أنها لا تنجح في بيئة سيئة فاسدة، إذ يظهر ذلك بوضوح الفرق الشاسع بين القيادة الأخلاقية والجمهور المنحرف. خامسا، التأكيد على الإحساس في معاناة الضعفاء والمحتاجين، والتعاطف معهم ودعمهم ،فضلاً عن التواضع لهم. سادسا، نتيجة للتعلق الشديد بنعم الحياة، بخاصة تلك الناجمة عن استخدام

ص: 39

وسائل غير أخلاقية، فإنها تشكل طبع فرید عند كثير من الناس، إذ نجد هناك من يستسلم أمام أحوال الطمع ويصبح عبداً لرغباته، وهناك من يعيش ليأكل، وهناك من يجيز في سلوكه التذبذب والانحراف عن معايير الأخلاق الحميدة. سابعا، لا يمكن التضحية بالقيم الأخلاقية الإيجابية من أجل مصلحة أنانية شخصية.

هوامش البحث:

(1) لاوبنكبرا وبانتاه، المعجم الفلسفي المختصر، ترجمة توفيق سلوم، دار التقدم، موسكو، 1986، ص 382.

(2) إقبال زكي وآخرون، المعجم الكبير، ج 6، حرف الخاء، مجمع اللغة العربية، القاهرة، 2004، ص 738.

(3) أفاناسييف، أسس المعارف الفلسفية، دار التقدم، موسكو، 1985، ص 397.

(4) محمد خير أبو حرب، المعجم المدرسي، وزارة التربية، دمشق، 1985، ص 326.

(5) فخري الدباغ، السلوك الإنساني، كتاب العربي، 12، الكويت، 1986، ص 31.

(6) محمد عبده، نهج البلاغة، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1993، ص 706.

(7) نفسه، ص 352.

(8) نفسه، ص 352.

(9) المعجم المدرسي، مصدر سابق، ص 942.

(10) السلوك الإنساني، مصدر سابق، ص 31. (11) نهج البلاغة / عبده، مصدر سابق، ص 613.

(12) نفسه، ص 669.

(13) المعجم المدرسي، ص 656.

(14) نهج البلاغة / عبده، ص 538.

(15) نفسه، ص 674.

(16) نفسه، ص 320.

(17) نفسه، ص 100.

ص: 40

(18) نفسه، ص 292.

(19) نفسه، ص 293.

(20) المعجم المدرسي، ص 971.

(21) نهج البلاغة / عبده، ص 352.

(22) ألكسندر تيتارينكو، علم الأخلاق، ترجمة دار التقدم، دار التقدم، موسكو، 1990، ص 345.

(23) نهج البلاغة / عبده، ص 662.

(24) نفسه، ص 96.

(25) نفسه، ص 649.

(26) نفسه، 660.

(27) نفسه، ص 100.

(28) نفسه، ص 72.

(29) نفسه، ص 331.

(30) نفسه، ص 348.

(31) نفسه، ص 467.

(32) نفسه، ص 583.

(33) نفسه، ص 178.

(34) نفسه، ص 452.

(35) نفسه، ص 671.

(36) نفسه، ص 187.

(37) نفسه، ص 188.

(38) حسين الأعلمي، شرح نهج البلاغة لأبن أبي الحديد، مج 3، بيروت، 1995، ص 304.

(39) نهج البلاغة / عبده، ص 533

(40) نفسه، ص 718.

(41) نفسه، ص 615.

(42) علم الأخلاق، ص 293.

(43) ابن رجب الحنبلي، جامع العلوم والحكم، ج 1، تحقيق شعيب الأرنؤوط وابراهيم باجاس،

ص: 41

مؤسسة الرسالة، بيروت، 2001، ص 302.

(44) نهج البلاغة / عبده، ص 714.

(45) نفسه، ص 701.

(46) نفسه، ص 705.

(47) نفسه، ص 704.

(48) نفسه، ص 357.

(49) نفسه، ص 659.

(50) نفسه، ص 398.

(51) نفسه، ص 284.

(52) نفسه، ص 271.

(53) علم الأخلاق، ص 288.

(54) نهج البلاغة / عبده، ص 351.

(55) نفسه، ص 236.

(56) نفسه، ص 528.

(57) نفسه، ص 270.

(58) نفسه، ص 501 ، 503.

(59) نفسه، ص 436.

(60) نفسه، ص 131.

(61) نفسه، ص 551.

(62) نفسه، ص 746 - 749.

(63) نفسه، ص 128.

(64) نفسه، ص 571.

(65) نفسه، 556.

(66) نفسه، ص 552.

(67) نفسه، ص 494.

(68) نفسه، ص 491.

ص: 42

(69) نفسه، ص 558.

(70) نفسه، ص 439.

(71) نفسه، ص 568.

(72) نفسه، ص 587.

(73) نفسه، ص 588.

(74) نفسه، ص 590.

(75) نفسه ، ص 687.

(76) نفسه، ص 627.

(77) نفسه، ص 94.

(78) نفسه، ص 627.

(79) نفسه، ص 538.

(80) نفسه، ص 700.

(81) إبراهيم الكيلاني، من كتاب الامتاع والمؤانسة لأبي حيان التوحيدي، القسم الأول، وزارة الثقافة والارشاد القومي، دمشق، 1978، ص 312.

(82) نهج البلاغة / عبده، ص 314.

(83) نفسه، ص 115.

ص: 43

ص: 44

الإنسان في فكر الإمام علي (علیه السلام) أ. م. د. فلاح حسن عباس كلية الآداب - جامعة ذي قار

اشارة

ص: 45

المقدمة

يتكون هذا البحث من عدّة مباحث ناقش الباحث من خلالها عدّة مواضيع حول القيم الإنسانية المتجسدة في فكر الإمام علي عليه السلام الذي يُعد امتداداً لفكر النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذي جاء بالرسالة الإنسانية الأخلاقية لنشر قيم العدالة والمساواة والتسامح والحوار والتعايش السلمي مع الآخر، والابتعاد عن العنف والاعتداء على حقوق الإنسان، وناقش الباحث أيضاً قضايا أخرى مرتبطة بالموضوع.

ناقش الباحث في المبحث الأول موضوعاً عن التحرر الفكري والإنساني الذي تميز به الإمام عليه السلام، وتكلّم عن إنسانية الإنسان، وأهميتها في بناء المجتمع الصالح المستند على عماد العدالة والمساواة بين أفراده، وبيّن وقوف الإمام مع المظلومين والمحرومين في قضاياهم المختلفة، وسعيه عليه السلام لتحرير الإنسان من جميع القيود التي تحدد تحرره، وتكبّله وتحول دون عيشه بكرامة.

أمّا المبحث الثاني فجاء ليتكلم عن الآخر والتعايش السلمي الذي له الأثر الكبير في تكامل الحياة الإنسانية وتفاعل المجتمعات إيجابيًا بسبب التعدد والتنوع، وأنّ التنوع الإنساني المستند على أساس الشعوب والقبائل هو حقيقة خلقية غير مصطنعة، وليس لمجموعة بشرية أفضلية على أخرى بسبب اللون والعرق واللغة...

بينما ناقش المبحث الثالث التواضع وسعة الصدر، وهما من السجايا الإنسانية والأخلاقية التي يتصف بها الإمام عليه السلام.

كما تكلّم الباحث في المبحث الرابع عن عدالة الإمام عليه السلام، وتأكيده

ص: 46

عليها؛ لأهميتها في شيوع الثقة والاطمئنان، فمع العدالة والمساواة لا يشعر الإنسان بإهدار حقة ولا تفضيل عند الإمام عليه السلام بسبب القرابة أو العلاقات الاجتماعية الأخرى.

وتناول المبحث الخامس القضايا الاقتصادية والاجتماعية وأهمية التكافل الاجتماعي بين افراد المجتمع، وبه تزدهر الحياة فالإنسان أخ الإنسان والعدالة الاجتماعية أساس مهم لتحقيق مجتمع متوازن، وهي من المسائل التي أكد عليها الإمام عليه السلام.

ثم الخاتمة التي لخصّ الباحث فيها أهم النتائج التي توصل اليها، كما ذكر بعض المقترحات.

ص: 47

المبحث الأول التحرر الفكري والإنساني

إنسانية الإنسان عند الإمام علي عليه السلام من القضايا الأساسية التي لها دور كبير في بناء المجتمع الإنساني الصالح القائم على أسس الحياة العادلة والمساواة بين أفراده، فعند اطلاعنا على أقواله نرى بشكل جلي وقوف الإمام لنصرة المظلومين والمستضعفين ومما يدل على ذلك قوله: «الذليل عندي عزيز حتى آخذ له الحق، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه» (1) وهو تجسيد لجميع المعاني التي دعت اليها مبادئ حقوق الإنسان ونصرة الفقراء والضعفاء في هذا العالم، وما هو حجم السعادة التي تعتري الضعيف عندما يجد من ينصره ويقف معه في جميع قضاياه، ويعيد اليه حقه المغتصب من قبل القوى الظالمة، وكيف تنعكس تلك السعادة على المجتمع لتعيد اليه الثقة بنفسه ومحيطه الاجتماعي، فالذليل عند علي عليه السلام عزيز، والقوي الظالم ضعيف؛ لاغتصابه حق الآخر الضعيف، وحالة الضعف التي تعتري القوي الظالم عند استرجاع الحق منه؛ تؤدي إلى شعوره بالضعف والخنوع، وعدم تعاليه على الآخر الضعيف. (2)

سعى الإمام عليه السلام وبشكل واقعي إلى تحرير الإنسان، وحرية الإنسان عنده هي ليست الحرية الإباحية الرعناء، بل هي حرية مقترنة بالشعور بالمسؤولية على كافة الأصعدة، كما وسّع معنى الشعور بالمسؤولية في مدارك الناس. (3)

وفي الوقت الذي يشير الإعلام فيه بواسطة وسائلة المتطورة والكثيرة إلى أنّ دول العالم المتقدم وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية تحث الخطى نحو نشر حقوق الإنسان، وتحرير الإنسان من جميع القيود التي تحول دون عيشه بكرامة،

ص: 48

نشاهدها وبصورة واضحة تسعى لفرض سيطرتها وهيمنتها على العالم ولاسيّما دول العالم الثالث. فالمصالح الاقتصادية والسيطرة على منابع الربح الوفير أصبح هدفاً إستراتيجياً للكثير من دول العالم المتقدم، والسيطرة على الدول الضعيفة وعلى إمكانياتها الاقتصادية تعد من الاستراتيجيات المهمة لدى الدول القوية، فدول العالم اليوم في تسابق مستمر نحو التسلح بشتّى أنواعه؛ مؤدياً إلى نشر القلق والهلع وزعزعة الثقة بين المجتمعات الإنسانية. وإذا تأملنا بشكل واقعي لأنظمة الدول المتقدمة وبالأخص الولايات المتحدة نجد أنّ لديها وجهان: الوجه الإيجابي المشرق الذي يعكس صورة التقدم العلمي والحضاري والتكنولوجي مع قوانينها التي تؤكد على حماية حقوق الإنسان وحريته وتمتعه بالديمقراطية الليبرالية - وما للإعلام من دور في بيان ذلك وإظهار امريكا بالوجه الحسن - والوجه الآخر هو الوجه السلبي.

يقول السناتور الأمريكي الاسبق وليم فولبرايت: «لقد دأبنا في سنوات قوتنا العظيمة، على أن نحيّر العالم، إذ نقدم له في وقت ما الوجه المشرق من وجهي أمريكا، ثم ندير له الوجه الآخر، وقد نقدم له الوجهين في وقت واحد. وتنظر شعوب كثيرة في مختلف أنحاء العالم إلى امريكا على أنها قادرة على التسامح وبعد النظر، ولكنها قادرة أيضاً على أن تضمر سوء النية، وأن تكون وضيعة، وينجم عن ذلك عجز عن توقع أفعال أمريكا لدى الناس» (4).

ويبدو جليّاً تفكك النسيج الاجتماعي في الولايات المتحدة، وتراجع بمستويات الجماعة لصالح الأنانية والفردية واللامبالاة، والجسم الاقتصادي تعرّض للتفكك أيضاً؛ بسبب عدم التكافؤ بين طبقات المجتمع. كما أنّ اهتمام الأفراد بمصالحهم الفردية والذاتية على حساب الآخرين، والاهتمام بالوسائل الاستهلاكية على

ص: 49

حساب الغايات الإنسانية نتج عنه تراجع الضمير الإنساني. ويبدو أنّ الولايات المتحدة تهتم بتأمين مصالحها في العالم بالدرجة الأولى، وكل ما تدّعيه حول إيمانها بمبادئ حقوق الإنسان والديمقراطية ومبادئ الحرية إنما هو لتأمين مصالحها بغية نشر هيمنتها ونفوذها على العالم. (5)

إنّ الهدف الواضح للولايات المتحدة هو الهيمنة على العالم؛ لذلك نراها غير مترددة في فرض الاستبداد في أي مكان منه؛ لتحقيق غاياتها ومصالحها في الوقت الذي تدّعي فيه سعيها لتحقيق الحرية للشعوب، كما أنّها لا تبالي بحقوق الإنسان بغية تحقيق مصالح شركاتها العملاقة متعددة الجنسية، فهي ليست مع مبادئ أخلاقية أو إنسانية أو دينية وإنّما تسعى لتحقيق الأرباح لها، وتسعى لربط الآخرين بها لمصالحها الاستراتيجية؛ لذلك وقفت إلى جانب الحكومات الشمولية المستبدة والظالمة لشعوبها، والمصادرة لحقوقهم سواء في منطقة الشرق الأوسط، أو أمريكا اللاتينية أو في آسيا؛ لأنّ تلك الأنظمة - المستبدّة - تؤمّن مصالحها، وتنفّذ استراتيجياتها طويلة الأمد (6)

ص: 50

المبحث الثاني الآخر والتعايش السلمي

يبدو أنّ الإنسان في الزمن المعاصر وفي جميع دول العالم يعاني من أفكار وآيديولوجيات مختلفة زعزعت ثقته بأخيه الإنسان المختلف باللون أو العرق أو الدين أو الطائفة أو اللغة وغيرها. وأزمة الثقة في زمننا هذا أخذت تعصف بالمجتمعات البشرية وتهدد استقرارها، ففي الحقيقة أنّ ظاهرة تعايش الإنسان مع أخيه الإنسان المختلف؛ تؤدّي إلى التكامل في الحياة الإنسانية والوجود الكوني، فالتنافس أو الصراع بين المختلفين لا يهدف إلى إفناء الآخر أو إبادته، بل يهدف إلى إغنائه. وهذه حكمة الله سبحانه، فالتعدد والتنوع في المجتمعات يؤدي إلى نتائج إيجابية. قال تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» (7). وهنا تجسيداً واضحاً لاتحاد الإنسانية من حيث المصدر ووحدة منشأها، ويلغي كل ترتیب زائف من القيم والمفاهيم والممارسات التي يشوبها النقص نتيجة الفهم الخاطئ في التعامل مع الآخر المختلف بعد تقييم الإنسان وتصنيفه حسب العرق أو اللون أو الدم... فالخطاب هنا موجّه لكل الناس دون استثناء: «يا أيّها الناس» والخالق واحد يؤكّد وحدة الإنسانية من النوع والهوية والجوهر: «إنّا خلقناكم». وهنا لا توجد قيمة لكل الاعتبارات الزائفة التي وضعها الإنسان التي تصادر هذه الوحدة التعددية للإنسانية من خلال مصادرة استحقاق هذا الانتماء الإنساني المشترك في التكافؤ والمساواة إستناداً إلى التنوع والتعدد في اللون والشكل والعرق... فالخالق جعل خلقه «شعوباً وقبائل».

إنّ التنوع الإنساني القائم على أساس الشعوب والقبائل هو حقيقة خلقية

ص: 51

غير زائفة وهو إرادة إلخالق عز وجل ولم يحدث صدفة أو بسبب طفرة وراثية، وهذا التنوع الإنساني القائم على أساس النسب أو الشكل لم يأت للوجود بسبب الاعتبارات الإنسانية المتغيرة عبر المراحل الزمنية والتطور، بل يستمد وجوده من الخالق الموجد لهذا الجعل التكويني، ووفق ذلك لا تمتلك أيّ جهة حق إلغاء هذا التنوع والتعدد في الخلق، وهذا يهدينا إلى عدم الاعتراف بخصوصية أي جماعة تختلف في العرق أو اللون أو اللغة فضلاً عن الخصائص التي يشترك بها بني البشر لأنّ هذه الاختلافات طبيعية بذاتها فهي تجسّد إرادة الخالق الجاعل لهذا التنوّع. (8)

قال تعالى: «وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ» (9).

إنّ الفاعلية الإنسانية كعلّة لهذا التنوّع والتعدد ذلك إنّ الكون لا يمكنه الحركة والتفاعل والإبداع إلاّ وفق آليات الاختلاف الذي يُنتج التنوع والتعدد بعكس التشابه والتماثل الذي يقضي على إمكانية الحركة والتدافع الكوني والوجودي المطلوب لنشوء الحياة. قال تعالى: «وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ». (10)

وبناءً على ذلك فإن الاعتراف بالتعدد والتنوع يقودنا إلى احترام نتائجه، ومنها احترام الخصوصيات الذاتية للأفراد والجماعات البشرية الناتج عنها أشكالاً متعددة في التعبير عن ذاتها ثقافياً وحضارياً ومعرفياً... وهو يعبّر عن خصوصية الإبداع وتميّزه، ولا يعني الصراع والخلاف لإثبات من هو الأجدر والأفضل في الوجود الإنساني. إنّ التعارف أمراً إيجابياً في بناء الإنسانية الصالحة، وله دور كبير لحل إشكالية الخلاف، ووقف الصراع بين الناس «لتعارفوا» فالتعارف مبدأ صالح يجمع الناس على الود والتسامح، وبالإمكان توظيفه لجعل الخلاف إيجابياً،

ص: 52

وجعل التعدد والتنوع نعمة وليس نقمة من خلال الاعتراف بالآخر، واحترام خصوصیاته ليتحقق بذلك تعایشاً سلمياً حضارياً وثقافياً، ومن هنا يتبيّن ما للتعارف من أهمية كبيرة في نشر بذور المحبة والود والتعايش السلمي بين بني البشر، والتعارف ناتج عن التنوع والتعدد، ولولا التنوع لما كان التعارف، ولا قيمة له ولا وجود إلّا مع هذا الجعل التكويني، ومن ثماره تعايش الإنسان مع أخيه الإنسان بسلام ومحبة وتبادل الطاقات والخبرات وتلبية جميع احتياجات الإنسان. (11)

ومما جاء في الوثيقة الإنسانية الجامعة لكل المعاني الأخلاقية في عهد الإمام علي عليه السلام لمالك الأشتر النخعي عندما أرسله لولاية مصر: «وأشعر قلبك الرّحمة للرّعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننَّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنّهم صنفان: امّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق...» (13).

وهنا الرسالة الحقيقية للإنسان الرسالي والمصلح الحقيقي والقائد الذي يشعر لشعور الرعية دون تمييز بينهم، وهو تأسيس لمبادئ حقوق الإنسان التي أصبحت شعارات وأبواق للكثير من حكام العالم ولكن دون تطبيق.

فالرحمة والمحبة للرعية واللطف بهم من أسباب النجاح في إدارة الدولة ورقيها على كافة الأصعدة، ولو وجدت هذه الأسباب بصورة واقعية في العالم اليوم؛ لما شهدت دول العالم نزاعات لأسباب كثيرة ومنها، الظلم والتمييز في التعامل مع الشعوب والأقليات العرقية أو الدينية أو المذهبية... الخ

وقوله عليه السلام: «ولا تكونن عليهم كالوحش الضاري تغتنم الفرص للإيقاع بهم، والاستيلاء على ما بين أيديهم، حيث الناس تجمعهم وإياك إمّا العقيدة، وإمّا صلة النوع والمشاعر والمظاهر» (13)

ص: 53

وهنا تتجلى الإنسانية فالمحكوم نظير الحاكم في الإنسانية. والاختلاف بالعرق واللغة والدين والفكر ليس مسوّغاً للحاكم ظلمه للرعية.

لقد أكّدها الإمام عليه السلام منذ ذلك الوقت؛ لتكون منهجاً في دولته العادلة بعمقها الحضاري والإنساني والفكري. وهو عكس ما نلاحظ اليوم في الكثير من الدول لاسيّما بلدان العالم المتقدم التي تعاني تمزّقاً في نسيجها الاجتماعي، وتجسد ذلك من خلال ظهور الكثير من الأفكار التي روّجت لفكرة الصِدام بين الحضارات الإنسانية المختلفة وأبرزها اطروحة صِدام الحضارات للكاتب صموئيل هنتنجتون الذي اعتبر الحضارات قبائل إنسانية كبيرة وصدام الحضارات هو صراع قبلي على نطاق عالمي والفروق الثقافية هي الاساس في التصنيف والتمييز بين بني البشر في الزمن المعاصر، فالهوية الثقافية عنده تتحدد بالتضاد مع الآخرين وفي الحروب تترسخ... (14).

وفي الحقيقة أصبح الإنسان المعاصر يشعر بالمشكلة الاجتماعية أكثر من شعوره بها في المراحل التاريخية السابقة، كما أصبح أكثر وعيًا، ويتحسس المشكلة بشكل أشد من السابق کما فهم تعقيداتها بشكل كبير، فالمشكلة الاجتماعية هي من صنع الإنسان كما أثبت التاريخ من خلال إسقرائه بأنّ الحياة كلما أخذت بالتطور تزداد مشاكلها وتعقيداتها - وهذا ما نلاحظه في زمننا المعاصر حيث تزايد وتصاعد نسبة المشاكل بشتّى أنواعها بسبب التقدم التكنولوجي والأنترنت والإعلام - فالإنسان المعاصر سيطر بشكل كبير على الطبيعة، (15) وهذه السيطرة أدت إلى تغيّرات كثيرة في النظام الاجتماعي، وهذا ما تعانيه الكثير من المجتمعات لاسيّما مجتمعات العالم المتقدم، فضلاً عن وقوع مجتمعات العالم الثالث، أو المجتمعات الفقيرة تحت موجات من الغزو الثقافي والفكري والحضاري المفروض بشكل مباشر أو غير مباشر وبطرق مختلفة.

ص: 54

المبحث الثالث التواضع وسعة الصدر

التواضع سمة بارزة في حياة الإمام عليه السلام، وهو فیض من أخلاقه العالية وقيادته الصالحة للمجتمع فهو القائد والمصلح، كان يرتدي الملابس البسيطة، ويأكل خبز الشعير واللبن، ويرقع ثوبه البالي (16) وهو وهو القائد العادل للمجتمع، المتمكّن من أسباب الدولة الاقتصادية وغيرها، وتواضعه نابع من جوهر شخصيته وسجاياها، لا يبتغ بذلك إتباع اسلوب متصنِّع كما يفعله الكثير من قادة العالم على اختلاف المراحل الزمنية.

فإحساسه بالرعية ومعاناتها وعدالته الواقعية؛ جعله يعيش واقع الحياة الاجتماعية وما يترتب عليها من إجراءات تستوجب من القيادة العادلة اتخاذها؛ كونها جزء من ذلك المجتمع تتأثّر بما يتأثّر به.

وهنا يستحسن الإمام تواضع الأغنياء تجاه الفقراء بقوله:» ما أحسن تواضعَ الأغنياء للفقراء طلباً لما عند الله! وأحسنُ منه تِيه الفقراء على الأغنياء اتكالاً على الله» (17) وتيه الفقراء أحسن: «لأنّ تيه الفقير وأنفته على الغني أدل على كمال اليقين بالله، فإنّه بذلك قد أمات طمعاً ومحا خوفاً؛ وصابر في بأسٍ شديد، ولا شيء من هذا في تواضع الغني» (18)

وقوله عليه السلام: «آلة الرياسة سعة الصدر» (19) فيه بيان واضح للذين يتصدّون لإدارة الدول والمؤسسات والموظفين كل حسب مسؤولياته فهنا يؤكد الإمام عليه السلام على التحلّي بمكارم الأخلاق، والسماح للرعية بالتعبير عن آرائهم، واحترام وجهات النظر، وتقبّل النقد واحتواء الآخرين، واستيعابهم

ص: 55

ومعالجة الأمور بتقديم المقترحات والحلول، وهو اسلوب حضاري ناجح ومهم للقائد ويعكس عمقه الحضاري والثقافي والإنساني والاجتماعي، وبعده المعنوي، وهو دعوة إلى التحلّي بالصّدق والتسامح والعفو والرحمة والابتعاد عن الغضب والسيطرة على النفس، وعدم إصدار الاحكام على الأشياء في حالة الغضب، وعدم مقابلة الرعيّة بالمِثل فلا يقابل الإساءة بالإساءة بل ينطلق بتعامله مع المسي من موقع أبوي شامل وكان يمتلك بعد نظر ويحلل الأمور والمواقف تحليلاً واقعياً سليماً بعيداً عن الأهواء الشخصية والاستبداد بالرأي، فذلك من الأمور المهمة بالنسبة للقائد والمربي الناجح. (20)

وقوله عليه السلام: «ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتِكم وكبرائِكم الذين تکبّروا عن حسبِهِم وترفعوا فوق نسبهم» (21) وهنا يحذر الإمام عليه السلام المجتمع بشكل صريح بعدم طاعة المتكبرين والمترفعين على المجتمع. وهو بیان لسادة وقادة المجتمع أن يكونوا قريبين من تطلعات مجتمعاتهم، وأن يتحسسوا معاناتهم وآلامهم وهمومهم ولا يضعون أنفسهم في أبراج عاجيّة ولا ينظرون إلى الناس من قمم عالية ليستصغروا حجمهم ويقللوا شأنهم.

ص: 56

المبحث الرابع العدل

سعی أمير المؤمنين عليه السلام بشكل واقعي إلى إشاعة العدل والمساواة بين الناس دون تفريق وتمييز بينهم لأسباب مختلفة. ووقف بمسافة واحدة من الرعيّة، وكان معارضاً لسياسة عمر في التفضيل؛ لأنّ العباد عباد الله، والمال مال الله، وهم شركاء فيه على قدر الجهد.

إنّ الناس سواسية عنده وكان يرفض سياسة التمييز القومي، والاستعلاء القبلي (القرشي)؛ كونها تريد تحويل تراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مکاسب خاصّة، لانّ الإسلام دين جاء للناس جميعاً، وهو لا يفرّق بين الناس على أساس عرقي أو قومي، وكان الإمام عليه السلام في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أساس متين من الأسس التي بني عليها الإسلام وقاعدة (العدل أساس الحكم) من القواعد الأساسية التي سعى لتطبيقها، وتثبيتها؛ ليحقق بذلك العدالة بين الناس في جميع مجالات الحياة لاسيّما المجال الاقتصادي. (22)

يقول عليه السلام: «ألا وأيّما رجل استجاب لله ورسوله فصدّق ملتنا، ودخل دیننا واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده، فأنتم عباد الله، والمال مال الله؛ يُقسّم بینکم بالسويّة ولا فضل فيه لأحد على أحد وللمتقين عند الله أحسن الجزاء». (23)

يُعد المنهج العادل في الحكم وتوزیع ثروات بیت المال على الناس بلا فروق وتمييز بين الناس على أساس القرابة أو غيرها من الأمور، هو - المنهج - المطبّق في عهده؛ لذلك نرى أنّ الإمام عليه السلام صادر ما وهبه عثمان من الأموال

ص: 57

الكثيرة لطبقة الأرستقراطيين، وأبلغهم في سياسته في توزيع الثروات:

«أيها الناس! إنّما أنا رجل منكم، لي ما لكم وعلّي ما عليكم، ألا وإنّ كل قطيعة أقطعها عثمان وكلّ مال أعطاه من مال الله، فهو مردود في بيت المال، فإنّ الحق القديم لا يُبطله شيء، ولو وجدته وقد تُزُوّج به النساء، وملك الإماء، وفرق بين البلدان لرددته. فإنّ في العدل سعة، ومن ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق» (24)

«أيها الناس.. ألا يقولنّ رجال منكم غداً؛ قد غمرتهم الدنيا فامتلكوا العقار وفجّروا الأنهار وركبوا الخيل واتّخذوا الوصائف المرقَّقة، اذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه وأصونهم إلى حقوقهم التي يعلمون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا! ألا وأيّما رجلٍ من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله يرى أنّ الفضل له على سواه بصحبته، فإنّ الفضل غداً عند الله، فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يُقسم بينكم بالسويّة ولا فضل فيه لأحد على أحد» (25).

وهذا الأمر زعزع المتنفذين من المجتمع الذين أساؤوا لصورة المسلم الحقيقي المتمثلة بالنبي (صلى الله عليه وآله) وأصحابه الأبرار، ويبدو أنّ ردة فعل المتنفذين جعلتهم يساومون الإمام عليه السلام على أن يطيعوه مقابل غض النظر عن ما سلف منهم، فبعثوا اليه الوليد بن عقبة بن أبي معيط، (26) فقال للإمام (عليه السلام): «يا أبا الحسن! إنّك قد وترتنا جميعاً، ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنّا ما أصبناه من المال أيّام عثمان، وأن تقتل قتلته، وإنّا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام» (27).

فردّ عليهم الإمام (عليه السلام) قائلاً: «فأما هذا الفيء فليس لأحد فيه أثرة، وقد فرغ الله من قسمته فهو مال الله وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به

ص: 58

أقررنا وله أسلمنا و عهد نبینا بين أظهرنا فمن لم يرض به فيتول كيف شاء» (28).

وهذا دلالة حقيقة للقائد العادل الذي لا يميّز بين الرعية والمتمسّك بالنهج الذي خطّه وسار عليه لإحقاق الحق الذي يؤدّي بدوره إلى ترسيخ الأسس الحقيقة للثقة التي يحتاج إليها الإنسان في عالمنا المعاصر بشكل كبير وبصورة مستمرة، كما أكّد إتّباعه مبدأ العدل في توزيع الثروات على الرعية، وبينّ لهم بأنّ التقوى والسبق بالإسلام لا تمنح من يتمتع بها امتیازات دنيوية، فالناس سواسية في هذه الدنيا، والله سيجازي من له فضل السبق بالإسلام. وبذلك جسّد الإمام أروع الصور لروح المواطنة الحقيقية بين الرعيّة. أنتم أ

وذكر ابن الأثير أنّ الشعبي قال: «وجد علي درعاً له عند نصراني فأقبل إلى شُرَیح و جلس إلى جانبه وقال: لو كان خصمي مسلماً لساويته، وقال: هذه درعي. فقال النصراني: ماهي إلّا درعي ولم يكذِب أمير المؤمنين.

فقال شريح لعلي: ألك بيّنة؟ قال: لا. وهو يضحك فأخذ النصراني الدرع ومشى يسيراً ثم عاد وقال: أشهد أنّ هذه أحكام الأنبياء أمير المؤمنين قدَّمني إلى قاضيه وقاضيه يقضي عليه. ثم أسلم واعترف أنّ الدرعَ سقطت مِن عليّ عند مسيره إلى صفين» (29) هذه القصة تؤكد أيضاً قيادة الإمام عليه السلام العادلة والإنسانية. وهذا نموذج رائع للإنسانية في اسلوب التعامل مع الآخر وعند مقارنة ذلك بما يفعله حكّام الكثير من البلدان لوجدنا فارق كبير وهوّة واسعة.

کما ذکر التأريخ أروع الأمثلة والعبر التي تجسد وتعكس عدالة الإمام علي (عليه السلام) مع كافة طبقات المجتمع، ومنها: روي أنّ عقيل أخ الإمام عليه السلام، كان ضريراً أتي إلى الإمام يوماً يطلب صاعاً من القمح من بيت المسلمين زيادة على حقّه، وكرر طلبه على علي عليه السلام، فأحمي الإمام حديدة على النار،

ص: 59

وأدناها منه، ففزع منها عقيل، فوعظه الإمام عليه السلام: (30) «یا عقيل أتئنّ من حديدة أحماها إنسانها للعبه، وتجرّني إلى نار سجّرها جبّارها لغضبه! أتئنّ من الأذى ولا أثن من لظى» (31). ومن المواقف الفريدة التي جسّدتها إنسانيته وعدالته ما روي عنه عليه السلام، بلغه أنّ واليه على البصرة عثمان بن حنيف دُعي إلى وليمة قوم من أهلها، فذهب اليها، فأرسل اليه الإمام علي عليه السلام کتاباً تأديبياً (32) يجسّد فضائل الإنسانية السامية التي تنادي بها قوانین حقوق الإنسان والعدالة في إدارة الدولة والمؤسسات التابعة لها، ووقوف الحاكم تجاه الرعية من موضع واحد: «أما بعد، یا ابن حنيف: فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان. وما ظننت أنك تستجيب إلى طعام قوم، عائلهم مجفوّ، وغنيّهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه. ألا وإنّ لكل مأموم إماماً، يقتدي به ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد» (33).

وقوله عليه السلام: «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومَن لكَ فيه هوی من رعیتك؛ فانَّك إلّا تفعل تَظلِم! ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عِبادِه، ومن خاصمه اللهُ أدحضَ حُجَّتَه.. وليكن أحبُّ الأمورِ إليك أوسطها في الحقِّ، وأعمها في العدل وأجمعها لرضا الرعيّة» (34)

اتصف الإمام عليه السلام بأنبل الصفات وأروعها، كان يوصي بإقامة الحق وكان لا يؤمن بنسبية الحق وفقاً للبيئة والمحيط، والحدود الجغرافية المصطنعة بل كان يؤمن به منهجاً شاملاً لا تحده حدود، والحق عنده لا يخضع للإرادة

ص: 60

والهوى (35) فهو يحث على الحق في كل زمان ومكان، وفي كل الاحوال عند الرضا، وفي حالة الغضب وعلى الصديق والعدو، فهو يتعامل معهم على أساس العدل والحق:

«عليكم بكلمة الحقِّ في الرِّضا والغضب، وبالعدل على الصّديق والعدو». (36)

وهنا دعوة لإشاعة الحق بين الناس، والتعاون به، والأخذ على يد الظالم السفيه، بسبب إستهانته بحقوق الآخرين فبالحق يقف المظلوم بوجه الظالم، ولإحقاق الحق دور كبير في تغير حالة الفرد والمجتمع من السلب إلى الإيجاب، وبالحق تهاوت حكومات ظالمة كثيرة على المراحل الزمنية المختلفة والتأريخ الإنساني شهد الكثير من الثورات التي غيرت من أحوال المجتمعات:

«تعاطوا الحق بینکم وتعاونوا به وخذوا على يد الظالم السفيه» (37)

وقوله (عليه السلام): «ولا تضيّعنَّ حقَّ أخيك اتكالاً على ما بينك وبينه؛ فإنّه ليس لك بأخ من أضعت حقَّه» (38) فيه حث لعدم تضييع حقوق الاخوان والأقرباء مستغلاً بذلك المعرفة والقرابة أو صلة الرحم.

ص: 61

المبحث الخامس القضايا الاقتصادية والاجتماعية

يؤكد الإمام علي (عليه السلام) على التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع البشري، وعلى أن يشعر أفراده ببعضهم البعض، فلا يصح أن يعيش الغني متنعماً بالنعم الوفيرة تاركاً أخاه الإنسان الفقير يكابد قساوة الحياة وآلام الحاجة والحرمان. فقوله عليه السلام: «فما جاع فقير إلّا بما متِّع به غني والله تعالى سائلهم عن ذلك» (39)، وقال: «ما رأيت نعمة موفورة إلا وإلى جانبها حق مضيَّع» (40) فالعدالة الاجتماعية من القضايا المهمة التي أكد عليها الإمام علي عليه السلام، والتكافل الاجتماعي أحد أسبابها، فإذا أخذت الدول بإنشاء مؤسسات عادلة تعنى بأمور الفقراء والنظر في قضاياهم الاجتماعية وإيجاد الحلول لهم، لعاشت المجتمعات البشرية بأمن اقتصادي ونفسي مستقر. وكذلك تقل الفوارق الطبقية بين بني البشر. لكن الذي يحصل - في زمن الحداثة وما بعدها - أنّ الكثير من المجتمعات الفقيرة يعاني أبناءها من الفقر والبؤس وتفشّي الأمراض المختلفة، بينما تعيش مجتمعات العالم المتقدم برخاء اقتصادي. إلّا أنّها تعاني من أزمة الثقة ومن ثم عدم الاطمئنان فالإنسان في تلك المجمعات كأنّه تحول إلى آلة.

والأنباء عن الممارسات عن حرق ملايين الأطنان من الحنطة وبعض المواد الغذائية حفاظاً على الأسعار، وجعل الدول الفقيرة في تبعية مستمرة للدول الغنية في الوقت الذي يتعرض فيه الكثير من البشر وفي مناطق مختلفة من العالم إلى الموت بسبب الفقر والمرض والجوع، دليل على الممارسات اللا إنسانية للدول الإمبريالية کما عانت - ولا تزال - الكثير من المجتمعات ويلات الحروب المدمرة بسبب التعصب القومي والعرقي مثال ذلك نظرية صفاء العرق الجرمني الآري التي كان

ص: 62

شعارها: (المانيا فوق الجميع)، وكذلك الدعاوى الفاشية التي دمّرت الكثير من البشر باسم التعصب القومي والعنصري. (41)

وفي قوله عليه السلام: «خالطوا الناسَ مُخالطةً إن متّم مَعَها بكوا عليكم، وإن عشتم حَنّوا اليكم» (42) دعوة واضحة وصريحة إلى إقامة علاقات إنسانية واجتماعية محمودة بين الناس، بالشكل الذي يكون فيه الإنسان مؤثراً بشكل إيجابي بالآخر أيا كان، فبموته وفراقه يشعر الآخر بفراغ مكانه، ويحزن لذلك بسبب الإحساس الإيجابي للعلاقات الإنسانية الصالحة وتأثيرها في النفس البشرية على الرغم من اختلاف الرؤى والأفكار، والتأثير الإيجابي في الآخر لا يتم بصورة عفوية أو عن طريق الصدفة، إنما هو بسبب عوامل اجتماعية وإنسانية نبيلة تضفي للحياة روحها الحقيقية وجمالها الروحي، وبآداب العشرة الصالحة يحين الإنسان لأخيه الإنسان، وبالتفاعل الإنساني تكتمل الحياة بسلام وود بين بني الإنسان (43).

وقوله عليه السلام: «الصدقة دواء منجح، وأعمال العباد في عاجلهم نصب أعينهم في آجلهم» (44) دعوة صادقة إلى التصدّق وبذل الأشياء المادية والمعنوية لمن يستحقها؛ مما تساعد على رفد الإنسان بفرص الحياة الكريمة وتؤدّي إلى تواصل وتقارب أفراد المجتمع، وتعمل على التقليل من الجرائم والمشاكل التي تحدث بسبب الفقر والعوز وبهذا يكون لها دور كبير في إشاعة الأمن والاطمئنان والثقة بين أفراد المجتمع (45).

إنّ تطبيق العدالة والمساواة يحتاج إلى أجهزة وأدوات وعناصر مؤمنة بالعدل والمساواة في الحقوق والواجبات، والمساواة تعني بناء علاقات عادلة ومستقرة بين الثروة الاجتماعية والمجتمع ومنع تركز الاموال عند طرف صغير وحرمان الطرف الآخر منه، فمحدودية الثروة الاجتماعية، والأزمات التي يتعرض لها

ص: 63

الإنسان كالحروب، والمجاعات، والامراض والأوبئة والكوارث الأخرى جعلت من العدالة الاجتماعية أن تكون حقاً لجميع أفراد المجتمع؛ كون الثروات تنفذ بمرور الزمن ويهلك الاثرياء، ويبقى المجتمع، ويستمر بفقره وبؤسه إذا لم يكن هناك عدل و مساواة لذا فالعدل يحفظ المجتمع من الأضرار بأنواعها وفي كل الأوقات لاسيّما العصيبة. (46)

کما يبيّن الإمام عليه السلام بأنّ على الحاكم تطبيق القانون بعدالة بين الرعية أي أنّ الأغنياء وأصحاب الجاه ممن لهم مكانة اجتماعية مرموقة أو مناصب معينة، والفقراء والطبقات الكادحة من الشعب يكونون بموضع واحد قبال القانون: «ولا يدعونَّك شرف امريٍ إلى أن تعظِّم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امريٍ إلى أن تستصغر من بلائه ما كان عظیماً» (47) وهنا يحث الحاكم على الاهتمام بالطبقات الفقيرة والكادحة من المجتمع: «ثم الله الله في الطبقة السُّفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين والمحتاجين وأهل البؤسي والزمني...» (48) ويؤكد الإمام على السلم المجتمعي، وعدم سفك الدماء وهنا دعوة إلى نبذ العنف والاقتتال بين الناس، على عكس ما نراه اليوم من ممارسات العنف في مناطق كثيرة من العالم وتحت عنوانات مختلفة، والتعامل المزدوج من قبل بعض قادة الدول المتقدمة تجاه الجماعات الإرهابية المتطرفة وحسب مصالحها: «إيَّاك والدِّماء وسفكها بغير حلِّها فإنَّه ليس شيء أدني لنقمة، ولا أعظم لتبعه، ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدة، من سفك الدماء بغير حقِّها» (49).

کما یدعو الإمام عليه السلام إلى الابتعاد عن الاحتكار لكي لا يتزعزع الاقتصاد ومن ثم يجوع الناس، وتتردي حالة المجتمع فيؤثر على تماسك نسيجه الاجتماعي، ويتفشّى بذلك الاستغلال من قبل التجار والأغنياء بأبشع صوره

ص: 64

وهو ما يتنافى مع المبادئ الإنسانية في دولته العادلة: «فامنع من الاحتكار فانَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم، منع منه. ولیكن البيع بيعاً سمحاً: بموازين عدلٍ، وأسعارٍ لا تُجحفُ بالفريقينِ منَ البائعِ والمبتاع» (50)

وقوله عليه السلام: «لا تستح من إعطاء القليل فإنّ الحرمان أقل منه» (51) يمثّل دعوة إلى أن يساهم الإنسان ضمن حدود قدرته وإمكانياته المادية والمعنوية، وأن لا يستحي عند عدم قدرته على إنفاق المزيد في الوقت الذي يرى فيه آخرين أكثر إنفاقاً، وإن بعض الأغنياء ممن يسعون لتحقيق شهرة وظهور ووجاهة اجتماعية قد لا يشارك ببذل القليل؛ كونه ينقص من مكانته الاجتماعية فيتهرب من الإنفاق بطريقة أو بأخرى لكي لا يُنتقد من قبل الآخرين، ولا يعيّرونه بالقلة أو الإفلاس.

وفي قوله عليه السلام: «القناعةُ مالٌ لا ينفد» (52) قاعدة اقتصادية واجتماعية ترتقي بالإنسان إلى درجات عالية في سلّم السعادة النفسية والروحية والاطمئنان والثقة بالنفس، وفيها فيض من الطاقة الإيجابية تتحلى بها النفوس السائرة عليها، وهي حث إلى الناس للرضا في ما يتيسر لهم من الأشياء والاكتفاء بما موجود، وعدم اللهفة وراء المفقود، فالتعوّد على القناعة تحصن الإنسان، وتجعله متمكناً مما سيتعرض له من محن وأزمات في الحياة: كالفقر والمرض ... والأمور المعنوية، كالقيمة الاجتماعية... إنّ القناعة والرضا عاملان مهمان وفاعلان في جعل الإنسان في حالة ثقة دائمة بنفسه وراحة ووضع نفسي مستقر، حيث يبرمج الإنسان حياته وفق إمكانياته ومؤهلاته الاقتصادية والاجتماعية المتوفرة مع سعيه المشروع لتحسين أحواله المعيشية، بعكس الإرباك والتخبط الذي يسببه القلق والسعي وراء الأشياء المفقودة التي تكون خارج حدود إمكانياته ومؤهلاته لتحصيلها. (53)

ص: 65

کما حث الإمام الآباء بعدم فرض عاداتهم وتقاليدهم على الجيل الذي يأتي بعدهم؛ كونهم سيعيشون في زمن يختلف عن زمنهم: «علّموا أولادكم على غير عاداتكم فإنَّهم خلقوا لزمان غير زمانكم» (54) فأفكار الناس وأنماطهم الاجتماعية وطرق عيشهم تتعرض إلى تغيّرات فهنالك الكثير من العادات والأمور التي تتعلق بأنماط الحياة وثقافة المجتمع تكون لائقة في زمنٍ ما و مستهجنة في زمن آخر، فمواكبة التقدم الحضاري والفكري المقترن بالحفاظ على القيم الإنسانية النبيلة التي دعا لها جميع الأنبياء ضروري لتقوية البنية الفكرية والحضارية للمجتمع، كما أنّ الكثير من العادات والتقاليد بحاجة إلى غربلة لتحديد المفيد من الضار. (55)

وفي الجانب الإداري نرى أنّ الإمام عليه السلام قام بإصلاحات مهمة وعادلة، وقد حدد لذلك مواصفات خاصة لبعض أصحاب المناصب والذين يتصدون لإدارة وقيادة المجتمع، ومن جملة ما قاله عليه السلام: «إنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته ولا الجاهل فيضلّهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول فيتّخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع ولا المعطل للسنّة فيهلك الأمّة» (56)

وعلى هذا الأساس المتين والوصف الرصين للمواصفات التي ينبغي أن يتحلّى بها القائد فقد استغني عن خدمات بعض الولاة من الذين لا يتحلّون بهذه المواصفات کما بيّن الأسباب: «ولكنّي آسي أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها وفجّارها فيتخذوا مال الله دولاً، وعباده خَوَلاً، والصالحين حرباً، والفاسقين حزباً، فإنّ منهم الذي قد شرب فیکم الحرام...» (57) وعلى خلاف ذلك: «لقد سبق للخليفة عثمان أن قرّب ممّن طردهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو

ص: 66

أقصاهم، لقد ردّ عمه الحكم بن أُميّة إلى المدينة بعد أن طرده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأصبح يسمّى طريد رسول الله، وآوی عبد الله بن سعد بن أبي سرح وان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أهدر دمه، وولّاه عثمان مصر کما ولّی عبد الله بن عامر البصرة، فأحدث فيها من الأحداث ما جعل المؤمنين ينقمون عليه وعلى عثمان» (58)

ص: 67

الخاتمة

توصّل الباحث من خلال البحث إلى النتائج والمقترحات الآتية:

جسّد الإمام علي عليه السلام جميع القيم الإنسانية النبيلة، وإن فكره وسيرته امتداد لفكر وسيرة النبي محمد (صلى الله عليه وآله).

سعى الإمام عليه السلام إلى تحرير المجتمع فكريا وحضاريا وعمل على نشر وتطبيق مبادئ حقوق الإنسان والتسامح واحترام الرأي الآخر، کما عمل على إرساء أسس العدالة والمساواة بين الناس، وحث على التعايش السلمي والمجتمعي؛ لأثره الكبير في تكامل الحياة الإنسانية.

وقوف الإمام (عليه السلام) في جميع مراحل حياته مع قضايا الفقراء والمظلومين والمحرومين.

إنّ التنوّع والتعدد ليس مدعاة إلى الخلاف والصراع، وإنّما يثري الحياة الاجتماعية بالإبداع والتفاعل، وليس لفئة اجتماعية أفضلية على أخرى بسبب اللون أو العرق أو اللغة..

إنّ للتكافل الاجتماعي والعدالة الاجتماعية والتسامح دور كبير ومهم في ترسيخ الاواصر الاجتماعية وحفظ النسيج المجتمعي.

الحاجة الماسّة لإنشاء مؤسسات ثقافية وفكرية وبحثية تأخذ على عاتقهانشر مبادئ حقوق الإنسان والتسامح والتعايش السلمي والمجتمعي واحترام الرأي الآخر والعدالة والمساواة التي دعا اليها الإمام عليه السلام وجسّدها في حياته، ونبذ العنف والتطرف والإرهاب بشتى أنواعه.

ص: 68

هوامش البحث:

1. نهج البلاغة: صبحي الصالح: 81.

2. ينظر: ملامح من عبقرية الإمام: 192

3. للإطلاع بشكل أكثر، ينظر: الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية: 157.

4. ينظر: التحديات الكونية ومتطلبات ترميم الحضارة: 138

5. ينظر: التحديات الكونية ومتطلبات ترميم الحضارة: 139 - 140

6. ينظر: التحديات الكونية ومتطلبات ترميم الحضارة: 140

7. الحجرات: 13.

8. ينظر: التعدية الدينية في الفكر الإسلامي: 34 - 36.

9. الروم: 22.

10. الحج: 40.

11. ينظر: التعددية الدينية في الفكر الإسلامي: 36 - 38.

12. نهج البلاغة: ج 3: 93.

13. ملامح من عبقرية الإمام: 111.

14. ينظر: صدام الحضارات: 10.

15. ينظر: الإسلام يقود الحياة: 16 - 17.

16. ينظر: الإمام علي بن أبي طالب علي السلام أدوار محورية وقيادة متميزة في الإسلام: 173

17. نهج البلاغة: ج 3: 250.

18. نهج البلاغة: ج 3: 250.

19. نهج البلاغة: ج 3: 194.

20. ينظر: أخلاق الإمام علي عليه السلام: ج 2: 7 - 8.

21. نهج البلاغة: ج 2: 166.

22. ينظر: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أدوار محورية وقيادة متميزة في الإسلام: 228

23. المصدر نفسه.

ص: 69

24. روائع نهج البلاغة: 95.

25. روائع نهج البلاغة: 95.

26. يُنظر: الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أدوار محورية وقيادة متميزة في الإسلام: 229

27. المصدر نفسه: 229.

28. المصدر نفسه: 230.

29. الكامل في التاريخ: المجلد الثالث: 265.

30. ينظر: أهل البيت ع ومصلحة الإسلام العليا: 112.

31. نهج البلاغة: تح صبحي الصالح: 347.

32. ينظر: أهل البيت ع ومصلحة الإسلام العليا: 112

33. نهج البلاغة: ج 3: 78 - 79.

34. نهج البلاغة: ج 3: 95 - 96.

35. ينظر: ملامح من عبقرية الإمام: 45

36. روائع نهج البلاغة: 214.

37. روائع نهج البلاغة: 226.

38. نهج البلاغة: ج 3: 60 - 61.

39. نهج البلاغة: ج 3: 231.

40. ملامح من عبقرية الإمام: 99.

41. ينظر: الحرية بين الدين والدولة: 11 - 12

42. نهج البلاغة: ج 3: 153.

43. ينظر: أخلاق الإمام علي عليه السلام: 166.

44. نهج البلاغة:ج 3: 153.

45. ينظر: أخلاق الإمام علي عليه السلام: 207 - 208.

46. ينظر الامام علي بن أبي طالب عليه السلام أدوار محورية وقيادة متميزة في الإسلام: 226.

47. نهج البلاغة: ج 3: 103.

48. نهج البلاغة: ج 3: 111.

ص: 70

49. نهج البلاغة: ج 3: 119.

50. نهج البلاغة: ج 3: 110 - 111.

51. نهج البلاغة: ج 3: 165.

52. نهج البلاغة: ج 3: 266.

53. ينظر: أخلاق الإمام علي عليه السلام: ج 1: 254.

54. ملامح من عبقرية الإمام: 158.

55. ينظر: المصدر نفسه

56. نهج البلاغة: تح :صبحي الصالح: 189.

57. نهج البلاغة: ج 3: 131 - 132.

58. الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام أدوار محورية وقيادة متميزة في الإسلام: 232.

ص: 71

المصادر والمراجع

1. ابن الأثیر، الکامل في التاريخ، تحقيق أبي الفداء عبد الله القاضي، المجلد الثالث، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.

2. جورج جرداق، الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية، اختصره وحققه حسن حميد السنيد، مطبوعات دار الأندلس - النجف الأشرف، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 2010.

3. جورج جرداق، روائع نهج البلاغة، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، الطبعة الثالثة، 1426 ه - 2005 م.

4. حسن السيد عز الدين بحر العلوم، التعدية الدينية في الفكر الإسلامي، العارف للمطبوعات، الطبعة الأولى، 2011 م.

5. صامويل هنتنجتون، صدام الحضارات، إعادة صنع النظام العالمي، ترجمة: طلعت الشايب، الطبعة الثانية، 1999.

6. صبحي الصالح، نهج البلاغة، دار الكتب المصرية - القاهرة، دار الكتاب اللبناني- بيروت، الطبعة الرابعة، 1425 ه - 2004 م.

7. عادل الأديب، الإمام علي بن أبي طالب علي السلام أدوار محورية وقيادة متميزة في الإسلام، مطبعة المغرب، الطبعة الأولى، 1434 ه - 2013 م.

8. فاضل الصفار، الحرية بين الدين والدولة، دار سحر للطباعة والنشر والتوزيع، کربلاء المقدسة، العراق، الطبعة الثانية، 1424 ه - 2003 م.

9. فؤاد كاظم المقدادي، أهل البيت عليهم السلام ومصلحة الإسلام العليا،

ص: 72

المؤسسة الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت عليهم السلام، الطبعة الأولى، مطبعة الهدى، 1419 ه - 1998 م

10. محمد باقر الصدر، الإسلام يقود الحياة، المؤتمر العالمي للإمام الشهيد الصدر (قدس سره).

11. محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان، أخلاق الإمام علي عليه السلام، ج 1 - ج 2، دار المرتضى، الطبعة الثامنة، 1436 ه - 2015 م.

12. محمد عبدة، نهج البلاغة، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، ج 1، ج 2، ج 3، مطبعة الإستقامة، مصر.

13. مهدي محبوبة، ملامح من عبقرية الإمام، دار الكتاب العربي، بيروت - لبنان، الطبعة الثانية، 1399 ه - 1979 م.

41. هادي المدرسي، التحديات الكونية ومتطلبات ترميم الحضارة، دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1432 ه - 2011 م.

ص: 73

ص: 74

الخطاب الوعظي وهدفه الإصلاحي في سيرة الإمام عليه (عليه السلام) (جوانب من خطبة الوسيلة أنموذجا) إعداد الباحثان أ.م.د أنسام غضبان عبود الباهلي كلية الآداب / جامعة البصرة م. قاسم عبد سعدون الحسيني كلية التربية / جامعة ميسان

اشارة

ص: 75

ص: 76

المقدمة

تُعد خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، منهلاً ثراً لكثير من المعارف والحكم التي تناقلتها الألسن وتعلقت بها القلوب مشغوفة بظاهرها الأنيق وباطنها العميق و أسرارها التي تدفقت من علم الإمام علي عليه السلام، بحراً متلاطماً يغدق فيضهُ على الأزمنة، يحدث كل زمان بلسانه حتى يوم الناس هذا، يُسلط البحث الذي بين أيدينا الضوء على واحدة من تلك الخطب، وهي خطبة الوسيلة التي اجتمعت فيها جواهر من الكنوز البلاغية لأمير المؤمنين عليه السلام، وحكمهِ البليغة، وقد تناول الباحثان جوانب مهمة من هذهِ الخطبة، واقتضت طبيعة الموضوع تقسيمه إلى مقدمة وثلاث مباحث و خاتمة، تناول المبحث الأول مفهوم الخطاب الوعظي وأدواتهِ، أما المبحث الثاني فقد جاء بعنوان النهج الوعظي في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، کما تناول المبحث الثالث، خطبة الوسيلة في محاور عدة وهي:-

1. سندها وأهم مصادرها.

2. عنوانها وتاريخها.

3. محورية قضية الإمامة في خطبة الوسيلة.

4. جوانب من الخطاب الوعظي في خطبة الوسيلة.

ونحن نأمل في عملنا هذا ذكر شيئاً بسيطاً من فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ودوره الكبير في تهذيب النفس وبناء شخصية الإنسان، تربية إسلامية تتوافق مع تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف.

ص: 77

المبحث الأول مفهوم الخطاب الوعظي وأدواتِه

الإطار اللغوي والاصطلاحي

الخطاب لغة: الخطب سبب الأمر، والخطاب مراجعة الكلام والخطبة مصدر الخطب (1)، وفي خطبِ الخاء والطاء والباء أصلان أحدهما الكلام من اثنين، يُقال خاطبهُ يخاطبهُ خطاباً والخطبة من ذلك (2)، والخطب الأمر يقع وإنما سُمي ذلك لما يقع من التخاطب والمراجعة وخطب الخاطب على المنبر، يخطب خطبة ورجل خطیب حِسن الخطبة والجمع خُطباء (3).

المعنى الاصطلاحي: الخطاب في معناه الاصطلاحي يقترب كثيراً من المعنى اللغوي، فالخطاب هو اللفظ المتواضع عليهِ المقصود به إفهام من هو مُتهيئ لفهمهِ، أحترز باللفظ على الحركات والإشارات المفهمة بالمواضعة عن الألفاظ المهملة، وبالمقصود به الإفهام عن كلام يُقصد به إفهام المستمع فإنهُ لا يسمى خطاباً، وبقوله لمن هو مُتهيئ لفهمهِ عن الكلام لا من لا يفهم كالنائم، والكلام يطلق على العبارة الدالة بالوضع وعلى مدلولها القائم بالنفس، فالخطاب أما الكلام اللفظي، أو الكلام النفسي الموجه نحو الغير للإفهام (4).

والخطابة قياس مرکب من مقدمات مقبولة، أو مظنونة من شخص معتقد فيه، والغرض من ترغيب الناس فيما ينفعهم معاشاً ومعاداً کما يفعلهُ الخطباء الوعاظ (5).

من خلال ما ورد من تعريفات نستطيع أن نقول بأن الخطاب عملية تفاعلية تتم بين طرفي الخطاب ، وهي المتكلم والمخاطب (المرسل والمتلقي) وهذهِ هي

ص: 78

عناصر الخطاب (6). وتخضع عملية التواصل بالخطاب لشروط عدة هي:

1. الإفهام باللفظ.

2. أن يكون المتلقي (المُخاطب) متهيئ لفهم المرسل (المتكلم).

3. أن يكون المرسل (المتكلم) معتقداً فيهِ.

4. أن تكون الرسالة (الخطاب) يحمل مضامین مقبولة لدى المتلقي (المُخاطب).

5. أن للخطاب أهداف يتوخاها الخطيب من خطابهِ بحسب نوع ذلك الخطاب (7).

والملاحظ هنا تعدد الآراء والمواقف النقدية المعاصرة في تعريف الخطاب، فالخطاب هو الصيغة التي نختارها لتوصيل أفكارنا إلى الآخرين، والصيغة التي نتلقى بها أفكارهم، فينبثق من المفهوم الضيق إلى الرحب ليدل على ما يصدر عن المرسل من كلام أو إشارة أو أبداع فني، والخطاب يتجاوز حدود اللغة المنطوقة ليضم تحت جوانحهِ كل ما نعبر بهِ عن أنفسنا للآخرين، وعلى مايعبرون لنا بهِ عن أنفسهم، فيولد عندنا لُغتين: منطوقة وغير منطوقة، ونوعين مباشر وغير مباشر أيضاً، فيتنوع الخطاب (8) وتختلف أشكاله ومضامينه وحالاتهِ الدلالية وهو في كل حالة يخضع لقواعد وقوانين مما يستلزمهُ التبليغ من تقنيات ظاهرة أو خفية عمدية أو عفوية، مما يلجأ إليهِ المرسل لتأمين بلوغ مقصود إلى المتلقي بأكبر قدر ممكن من الوضوح والمفهومية والمقبولية، أي أنه يعمل على ضمان أفضل حد ممكن من المقروئية لخطابهِ (9). وقد تعددت أنواع الخطاب بحسب مضامینه إلى عدة أنواع وتقترن بعدة أوصاف مثل: الخطاب السياسي، الديني، الصوفي، التاريخي، الاجتماعي والثقافي وغير ذلك (10).

ص: 79

الوعظ. الأصل اللغوي: الواو والعين والظاء كلمة واحدة، فالوعظ التخويف والعظة، والاسم منه قال الخليل هو التذكير بالخير وما يرق له القلب (11)، والوعظ هو النصح والتذكير بالعواقب، نقول وعظتهُ وعظاً وعظتهُ فأتعظ أي قِبل الموعظة (12).

المعنى الاصطلاحي: الوعظ هو اهتزاز النفس بموعود الجزء ووعيدهُ، وقيل التذكير بالخير فيما يرق له القلب، والوعظ زجر مقترن بتخويف ودعوة الأشياء بما فيها من العبرة للانقياد للإله الحق بما يخوفها، فالوعظ تذكير بالعقاب والثواب مقترن بالترغيب والترهيب للوصول إلى الطاعة والانقياد لإله الحق بما يخوفها (13). فها هو موضوع الوعظ وهدفه ولا يكون الوعظ إلا بواسطة الخطاب، فالخطاب وسيلة لنقل الموعظة وهو بهذا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالخطاب. ويُدرس الخطاب بأنواعهِ في ميدان الدراسات اللسانية في إطار نظرية تُعرف بالنظرية التواصلية أو التداولية، وفق منهجية تتناول الجانب الوظيفي والتداولي والسياقي في النص أو الخطاب، وتدرس مجمل العلاقات الموجودة بين المتكلم والخاطب مع التركيز على البُعد الحجاجي والإقناعي وأفعال الكلام داخل النص (14)، فهي تهتم بالمتكلم ومقاصدهِ بعدَّهِ محركة لعملية التواصل، وتراعي حال السامع أثناء الخطاب، كما تهتم بالظروف والأحوال الخارجية المحيطة بالعملية التواصلية ضماناً لتحقيق التواصل ولتستغلها في الوصول إلى غرض المتكلم وقصدهِ من كلامهِ (15).

أثر الخطاب وأهميته في بناء الأمة:

تؤدي الخُطب غاية مهمة في حياة الأمة فهي وسيلة لإيصال رسالة تختلف مضامينها ومعطياتها بحسب أهدافها أو غاياتها، وهي بالتأكيد تلامس الواقع الاجتماعي والسياسي والفكري لعامة الناس على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم

ص: 80

وتوجهاتهم، وهي بهذا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالواقع المُعاش للفرد والجماعة فلا تخرج في مسارها في هذه الأطر، وأن تنوعت موضوعاتها الدينية، التربوية، السياسية والثقافية.

لابد ان يكون للخطاب أثرهُ وانعكاسهُ في المجتمع سلباً وإيجاباً فقد يُعباً الخطيب جمهوره للثورة على ظاهرة اجتماعية منبوذة، أو سلوك منحرف هدام، أو عادات اجتماعية ممقوتة عفا عليها الزمن وعرتها يد الإصلاح والتهذيب، او دعوة للثورة على الظلم والدفاع عن المظلومين، والجهاد لنصرة الدين والذود عن الوطن، أو تحفز النفوس للتخلص من أمراضها وتطهيرها من أدرانها للوصول (17) بها إلى أعلى مراتب الكمال الذي خلقت لأجلهِ، فالخطاب في هذا الإطار يسیر في مسار إيجابي يتوخى الإصلاح والتركيز على البعد الروحي والإنساني في حياة الفرد والمجتمع، وقد يسير الخطاب في مسار سلبي غير مُعلن بل متلبس بلباس الفضيلة، ونصرة الحق والدفاع عن الإنسان ومساندة القيم النبيلة وتوحيد الأمة وحقن دماء أبنائها ووئد الفتن ومتخفياً دون إظهار أهدافهِ الحقيقية، وإنما يحاول التمويه (16)، عن المقاصد والغايات التي وجد لأجلها وعادة ما يكون أصحاب هذا الاتجاه أصحاب السلطة وحاشيتهم وأنصارهم، أو من هم في ركابهم (17)، من وعاظ السلاطين وصنائعهم واللاهثين وراء مصالحهم وغاياتهم المشبوهة، وقد يستغل هؤلاء عواطف الجماهير فيوجهون خطابهم لصالح قضية باطلة (18).

إمكانيات الخطيب وأدواتهه:

لابد للخطيب من امتلاك الأدوات التي تمكنهُ من التأثير في الجمهور وشدهم نحو خطابهِ واقتناعهم بما يدعو إليهِ (19)، ومن أهم هذهِ الأدوات وأكثرها تأثيراً على المخاطب هي اللغة، فالخطاب بحاجة إلى بلاغة وخطيب ضليع في فهم القضايا

ص: 81

والتعبير عنها، ولا بد ان يكون خطابهِ أكثر انسياباً، وتدفقاً دون تكلف في الخطاب، وأن يتصف بعمق انتمائه إلى القضية التي يتحدث عنها، وإلى من يمثلهم أو ينوب عنهم، فالخطيب هو الذات المحورية في أنتاج الخطاب لأنهُ هو الذي يتلفظ به ويجسد ذاتِه من خلال بناء خطابهُ، وهو الذي يوظف اللغة في مستوياتها المتمايزة بتفعيلها في نسيج خطابه ذلك التفعيل الذي ينوع طاقاتها الكامنة (20).

أن طبيعة الخطاب الوعظي أنه خطاب مؤثر يعمل على مخاطبة القلوب وتليينها وخشوعها، وإحداث التأثير على جمهور المتلقين في عملية التواصل اللغوية وهو أهم أهداف اللغة التي يشير إليها فلاسفة اللغة المعاصرين، ولكن التأثير الوجداني الذي يمكن أن يُقاس حصولهُ وتحقيقة من خلال المشاهدة (البكاء أو فيضات الدموع، أو الإقبال الشديد على الواعظ)، او من خلال شعور المتلقي الداخلي (حضور القلب وخشوعه أو فرحهِ أو سرورهِ)، أو من خلال التأثير بعيد المدى والذي يكون بتعديل السلوك من السلب للإيجاب أو التدرج الحسن إلى الأحسن (21).

أن مفهوم التأثير لا يمكن تحديدهُ بمقادير محددة تظهر جملة وتختفي جملة، بل لكل متلق ما يخصهُ من تأثير، وما يترتب على التأثير من نواتج سلوكية واستجابات شرطية، وإذا حاولنا أن نبحث عن سر التأثير في الخطاب الوعظي يمكننا أن نضع أيدينا على سبيين الأول: سحر الخطاب، والثاني: سحر الأداء، وقد شبه الخطاب بالسحر وامام السحر يصبح المتلقي مكتوف اليدين تستمليه رقى الكلام وجماليات اللغة وصرف الأمور في ظواهرها ولا يمتلك المتلقي إلا أن يلين قلبهُ وتذرف عيناه (22). والوعظ المتمكن من أدواتهِ اللغوية يسير في هذا الفلك ألتأثيري على المخاطبين، بما يحويهِ من أدبية تكمن في: المجاز والذي من

ص: 82

شأنِه ان يقرب البعيد القريب ويصور الحسي ويكون قاموساً جديداً للمتلقي يرى من خلاله الأشياء والتشبيهات بطرائقها المختلفة، وما یلحق بها من ضرب الأمثال، كذلك النظم على مقتضى المعاني النحوية ويقصد بها سياق الجمل على هيأة مخصوصة من تقديم وتأخير وذكر وحذف وغير ذلك والاعتماد على الجمل القصيرة غالباً ذات القرع والإيقاع المؤثر على السمع، وكذلك استخدام الجمل الإنشائية بنوعيها، إذ أن هذه الجمل درٌ على مخاطبة الوجدان واستثارة العواطف والاستشهاد والتضمينات من القرآن والسنة النبوية، وبليغ الكلام شعراً ونثراً (23).

أن للايجابية أو التلميحية في اللغة دورها القوي والمؤثر في الخطاب، وهي تختصر معانٍ جمة، وأفكاراً عميقة في كلمة أو كلمات قصيرة (24)، حيث أنها أحد أهم استراتيجيات الخطاب التي يعبر بها المرسل عن القصد بما يُغاير معنى الخطاب الحر في لينجز بها أكثر مما يقوله، إذ يتجاوز قصدهُ مجرد المعنى الحرفي لخطابهِ فيعبر عنه بغير ما يقف عنده اللفظ مستثمراً بذلك عناصر السياق (25)، وبهذا يكون مصدر قوة اللغة الذاتية كونها تحتوي طبقات من المعنى في كل عنصر من عناصرها، فالطبقة الأولى ما تشير إليهِ الكلمات مباشرة أو ما يسمى الدلالة الذاتية، والطبقة الثانية ما تتضمنهُ أو توحي بهِ أو ما يسمى الإيحاء (26).

أما الأداة الثانية التي يجب أن يمتلكها الخطيب فهي مهارة الأداء أو ما أشير إليهِ سلفاً (بسحر الأداء) وهذه الأداة لها ارتباط وثيق بشخصية الخطيب ومدى قوتها وتأثيرها ومكانتها في نفوس المخاطبين فهي بناء مختلط من الذكاء والإبداع والثقة، فالطريقة التي يعبر بها المتحدث عن نفسه لها تأثير في صورتهِ وبخاصة على المدى الطويل (27).

أن مهارات الأداء الخطابي كثيرة جداً، وأهمها استخدام الصوت خفضاً ورفعاً

ص: 83

بطريقة مؤثرة يتفاعل الخطيب بها مع إيقاع كلماته ووقعها في النفوس، ويضاف إلى الصوت وحسنِه تعبيرات الجسد وحركاته وإيماءاتِه وما يظهر عليهِ من ملامح التأثير حماساً وحزناً، وكذلك حسن الوقف على الجمل تامة غير منقوصة مع الابتعاد عن أللحن والخطأ كل ذلك وغيرهِ من مهارات إذا أحاط بها الواعظ علماً وتطبيقاً مع لغة راقية كان التأثير في أوجه وقوتهِ (28).

لابد للخطيب الواعظ أن يكون عالماً حكيماً، ذلك أن الجاهل لا يعرف ما يعظ بهِ وغير الناصح ربما يتخير من الكلام ويستخدم من البيان ما له فيه غرض وغاية ومنفعة صُلح به الناس أم فسدوا كما أن غير الحكيم ربما كان ضرره اكبر من نفعه لو وضع وعظه في غير محله وإيرادهُ في غير موقعهِ. أن الواعظ حكمة والحكمة إذا أعطيتها لغير أهلها فقد ضيعتها وظلمتها والواجب أن يعطى لكل ما يناسبهُ وما ينتفع به ويفهمهُ (29).

ص: 84

المبحث الثاني النهج الوعظي في سيرة الإمام علي (عليه السلام)

كان البعد الوعظي حاضراً في شخصية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهِ السلام، ولم يقتصر على الجانب النظري الذي طغى على خطبهِ وكلماتهِ بل شمِل أيضاً الجانب العملي في كل جزيئية من تفاصيل حياتهِ الشريفة (30)، وهو بهذا يقدم درساً تطبيقياً للأمة إذ لا يكفي أن يكون الواعظ واعظاً بلسانهِ دون عملهِ، كما أنه عليه السلام يتمثل بالنهج القرآني دستوراً للحياة ورائداً للسير في طريق الإصلاح «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ» (31)، فالقول والعمل في منظور أمير المؤمنين صنوان يعضد احدهما الآخر لا يفترقان إلا أن يكون النفاق والرياء قريباً لهما، وقد آثر عنه دعائهِ عليه السلام ((اللهم إني أعوذ بك من أن تُحسن في لامعة العيون علانيتين، وتقبح في أبطن لك سريرتي، محافظاً على رئاء والناس من نفسي بجميع ما انت مطلع عليه مني فابدي للناس حُسن ظاهري وأفضي إليك بسوء عملي...)) (32).

حرص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام على أن لا يترك مناسبة أو يضيع فرصة إلا واغتنمها موعظة الناس وتذكيرهم بما ينتظرهم من الثواب والعقاب على حِسن عملهم أو قبيحهُ لإدراكهِ عميق اثر الموعظة وأهميتها ولهذا فقد جاء في وصيتهُ لأبنهِ الإمام الحسن عليه السلام قوله: ((أحيي قلبك بالموعظة...)) (33)، كما روي أنه قلما أعتدل به المنبر إلا قال أمام خطبتهِ ((أيها الناس اتقوا الله فما خلق امرؤ عبثاً فيلهو ولا ترك شدى فيلغو وما دُنياه التي تحسنت له بخلفٍ من الآخرة التي قبحها سوء النظر عنده...)) (34)، فهو لايبدأ حديثه إلا بالموعظة والتذكير، وهذه هي الرسالة التي بُعث بها الأنبياء وسار بها

ص: 85

المصلحون بين الناس ليحيوا في ضمائرهم ما أماتتهُ الغفلة ودفنهُ ركام الذنوب والآثام، وهو قولهُ عليهِ السلام: ((فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ليستادوهم ميثاق فطرتهِ ويذكروهم من نسي نعمته ويحتجوا عليهم بالتبيلغ ويثيروا لهم دفائن العقول ...)) (35).

خاطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام الناس على قدر عقولهم، لأنهُ كان يدرك أن قدرات البشر الاستيعابية، وتركيبهم النفسي يختلف فيما بينهم، وقد أثر عنه قولهُ: ((حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون ان يكذب الله رسولهُ...)) (36)، ولو ان الإمام أراد أن يفيض عليهم بغزير ما كان يحمل صدرهُ من علم لأضر بهم ذلك ولكنه علم بما يصلحهم وهو القائل: ((بل اندمجت على مكنون علم لو بحت بهِ لاضطربتم اضطراب الأرشية (37) في الطوي البعيدة...)) (38)، ولكنهُ عليهِ السلام بالرغم من ذلك ترك باب السؤال مفتوحاً لكل باحث عن الحقيقة وكان يقول وهو يضرب على صدرهِ: ((سلوني قبل أن تفقدوني فأن بين جنبي علماً ...)) (39)، ولهذا نرى أن الإمام لم يبخل بالإجابة عن ما كان يُسأل عنهُ فكانت إجاباتهِ بمثابة بحر متلاطم من العلم والحكمة (40)، لم يكن سلام الله عليهِ ناصحاً أميناً لأصحابه، ومن تبعهُ فحسب بل انه بذل النصح لأعدائهِ أكثر مما بذلهُ لغيرهم ليلقي عليهم الحجة ويؤدي ما عليهِ من حق الرعية على الإمام الرفيق بهم الحريص على استنقاذهم من الضلالة وحيرة الجهالة والمآلِ إلى النار، ففي حرب الجمل لم يترك منفذاً للدخول في السلم وحقن دماء المسلمين إلا ولجه وقد بعث إلى الزبير بن العوام (41)، وهو من هو فيمن ألب عليهِ، يدعوه بلين القول ويذكرهُ بالرحم التي بينهما وبمكانه عليهِ السلام من رسول الله صلى الله عليه وآلهِ وسلم، وأنه لم يحد عن نهجه، ولم يغير بعده فعلى ما يقاتله الناس

ص: 86

ونلمس في خطابه إليهِ على لسان عبد الله بن عباس (42)، أسلوباً يفيض محبة ورحمة ويمتزج فيه العتاب بالألم على غير ما توقع من زعماء الحرب وإبطالها من أسلوب التهديد والوعيد والترهيب والغلظة في العقول وهو يخاطب الزبير: ((يقول لك ابن خالك عرفتني بالحجاز وأنكرتني بالعراق، فما عدا على ما بدا...)) (43)، ولكن الزبير لم يرتدع ولم يرجع عن غيه، ولم يترك الإمام محاولة أخرى لردهِ، وكان ذلك في ميدان القتال حين خرج أمير المؤمنين عليه السلام حاسراً منوهاً انه لايُريد قتالهُ فناداه: يا زبیر اخرج إليَ فخرج إليهِ شاكاً سلاحه ظناً منه أن الإمام يُريد قتالهِ ولكنه عليه السلام عانقهُ وذكرهُ بحديث رسول الله صلى الله عليه وآلهِ وسلم بأنه - أي الزبير - سيُقاتل علياً وهو له ظالم فاستغفر الزبير وقال: والله لو ذكرتها ما خرجت، فقال الإمام: يازبير أرجع ولكن الزبير أبى وقال: هذا والله العار الذي لا يغسل وكان أنه لو رجع سُيرمى بالجبن والتخاذل، فقال له الإمام: أرجع بالعار قبل أن تجمع العار والنار فرجع الزبير، ثم كان ما كان من اتهام ولدهِ عبد الله (44) له بالجبن وأنه خاف على نفسهِ سيوف آل أبي طالب، ثم قتل عمر بن جرموز (45) له (46).

أما طلحة بن عبيد الله (47) فقد حاول الإمام رده وهو الآخر حين رجع الزبير فنادى: يا أبا محمد مالذي أخرجك؟ قال الطلب بدم عثمان قال الإمام عليهِ السلام قاتل الله أولانا بدم عثمان أما سمعت رسول الله يقول: اللهم والِ من ولاه وعادِ من عاده وأنت أول من بايعت ثم نكثت، وقد قال الله عز وجل ((ومن ينكث فإنما ينكث على نفسهِ ...)) (48)، فقال استغفر الله ثم رجع فلما رآه مروان بن الحكم (49) قال: رجع الزبير ويرجع طلحة فرماه في أكمله فقتله (50).

وفيما كتب الإمام (عليه السلام) إلى معاوية بن أبي سفيان ما ينبا عن تلك

ص: 87

السيرة في بذل النصح والموعظة للموالي والمخالف على حد سواء، إذ كتب إليهِ يقول: ((وكيف أنت صانع إذ تكشفت عنك جلابيب ما أنت فيهِ من دُنيا قد تبهجت بزينتها وخدعت بلذتها، دعتك فأجبتها وقادتك واتبعتها، وأمرتك فأطعتها، وانه يوشك أن يقفك واقف على ملا ينجيك منه منج فأقعس عن هذا الأمر...، ولا تمكن الغواة من سمعك، والا تفعل أعلمك ما أغفلت من نفسك...)) (51).

في حربه عليه السلام لم يكن أقل رغبة ولا حرصا على هدايتهم بالتذكير والموعظة، وكانوا بعد منصرفه من صفين (52)، قد اجتمعوا بحروراء (53) فأرسل إليهم أبن عباس يناظر هم فلم يرجعوا، ثم ذهب إليهم بنفسهِ فناظرهم ووعظهم وكانوا ثمانية آلاف وقيل أثنا عشر ألفاً (54)، فرجع منهم ألفان (55)، كما أنه خطب فيهم يوم النهروان وقبل أن يبتدئهم بقتال (56) قائلا: ((فأنا نذير لكم أن تصبحوا صرعى هذا النهر، وباهضام هذا الغائط على غير بينة من ربكم، ولا سلطان مبين معكم، قد طوحت بكم الدار واحتبتكم المقدار، وقد كنت نهيتكم عن هذهِ الحكومة فأبيتم على إباء المخالفين المنابذين ...)) (57).

واجه الإمام مجتمعاً عاني من كثير من السلبيات والأمراض الاجتماعية الخطيرة، والتي كانت موجودة قبل بعثة النبي محمد (صلى الله عليه وآله) (58)، وقد استطاع رسول الله أن يُغير كثيراً من القيم والعادات والأعراف التي ابتدعتها جفوة الصحراء وطبائعها القاسية، وأن يُسير بهذا المجتمع قُدماً في طريق الإصلاح والانفتاح على القيم الإسلامية التي تجعل من الإنسان قيمة عليا وكرامة لاتُمس، إلا أن ذلك المشروع الإلهي العظيم قد أنحرف عن مسارهِ بوفاته، فقد أبت الزعامات القرشية وأنصارها من القبائل الأخرى التي سكنت على مضض

ص: 88

حتى حين أن يسير المجتمع سيرته التي بدأت مع البعثة النبوية الشريفة، وما أن أغمض النبي عيناه راحلاً حتى تكشفت مكامن الصدور وكان ما كان من أمر السقيفة (59)، وسلبت الإمام علي عليه السلام حقهُ بالخلافة واستقبال عهد جديد، تُعد فيهِ العصبية القبلية والطبقية الاجتماعية أساساً ومرتكزاً يتبناه المجتمع شكلاً ومضموناً في نظمه السياسية والإدارية والاجتماعية (60).

كان عهد الخليفة الأول أبو بكر والثاني عمر بن الخطاب ممهداً لما أثمر في عهد الخليفة الثالث عثمان بن عفان (61)، الذي بلغت فيهِ الأوضاع غايتها في الابتعاد عن النهج النبوي والإسلام المحمدي الأصيل الذي تمثلهُ النبي محمد طيلة فترة حياتهِ المباركة وقد بدا واضحاً كيف أن تلك السياسة تمخضت عن إثراء طبقة دون أخرى فمن أنثالت عليهم غنائم الفتوح وأموال الخراج والجزية وغيرها (62)، على حساب فقر الأكثرية وتردي أحوالهم وتفاقم مشكلات التفاوت الطبقي وتداعياته، وعادت الأيدلوجية القبلية المتعصبة المقيتة تنتج قيمها ومتبنياتها الفكرية في ظل نظام يحتضنها ويروج لها، ولعل مقولة سعيد بن العاص (63) ((إنما السواد بستان لقريش...)) (64)، تكشف عن معالم الذهنية القرشية المتطرفة وابعاد منظورها الاستعلائي الذي بقي مغموراً برواسب الماضي وجاهليتهُ الجهلاء وان توشح بثوب الإسلام. وتحدثنا كتب التاريخ عن حجم الثروات التي جمعها ارستقراطيون قرشيون من امثال الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله ومروان بن الحكم وأبو سفيان وابناؤه (65)، وعمر بن العاص (66) فمن شغلوا مناصب في دولة الإسلام محاولين تكريس تلك السياسة التي خُطط لها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من أجل الرجوع بالأمة إلى ما كانت عليهِ قبل الإسلام (يعطى رقم) (67).

ص: 89

حفلت خطب الإمام علي عليه السلام بالكثير من الإشارات تصريحاً وتلميحاً عن الأوضاع السياسية والاجتماعية، وما تركتهُ من أثار سيئة على المجتمع حتى بعد توليهِ الخلافة سلام الله عليهِ، إذ لم يستطع المجتمع أن يتخلص من تلك الآثار سيما وأن قادة الحزب القرشي المتنفذون ما فتئوا يعارضون السياسة الإصلاحية التي تبناها الإمام وأعلنها حين أختارهُ الناس للبيعة بعد مقتل الخليفة عثمان قائلا: ((أعلموا أني أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغِ إلى قول القائل، وعتب العاتب...)) (68) فكان اول ما بدأ به برنامجهُ الإصلاحي تغيير ضوابط توزيع العطاء وأعادتهِ إلى ما كان عليهِ أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولقد أفرز هذا الأجراء معارضة شديدة من الزعامات القرشية الذين كبرُ عليهم أن يساوى بهم غيرهم بدعوى سبقهم في الجهاد ونصرة الإسلام وهذا ما صرح به طلحة والزبير عندما سألهم الإمام عن أسباب خلافهما له بقولهم ((أنك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا ورماحنا وأوجفنا عليه بخيلنا أو رجلنا وظهرت عليهِ دعوتنا ...)) (69)، فكان رد الإمام حاسماً بقوله: ((قد وجدت أنا وأنتما رسول الله يحكم بذلك وأما قولكما جعلت فيئنا وما افاءته سيوفنا ورماحنا سواء بيننا وبين غيرنا، فقديما سبق قوم إلى الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم فلم يفضلهم رسول الله... والله موفٍ السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم)) (70).

يمكننا أن نلمح في خطب الإمام أشارات واضحة لأسباب الفساد ومكامن الداء التي أنهكت المجتمع الإسلامي وأضعفت وازعهِ الديني وأفسدت منظومتهِ القيمية فتسربت إليهِ الأسقام وعصفت بهِ ريح الهمجية الجاهلية، وفي مواعظهِ عليه السلام تفصيلات وافية وإيضاحات كافية لرسم صورة واضحة تغني عن

ص: 90

الشرح الطويل ومن اصدق منه عليهِ السلام في كشف الحقائق وتوضيح ما طمس وما غُيب ففي خطبة له عليهِ السلام بعد مقتل محمد بن ابي بكر يُبين ما كان من أحداث وقعت له مع من سبق من الخلفاء وما جرى على الأمة بعد مصيبة فقد رسول الله، غذ يقول بعد أن يُبين منزلتهُ صلى الله عليهِ وسلم وفضلهُ على الأمة وما كان بعد وفاتهِ من أحداث السقيفة: ((فلبثت بذاك ما شاء الله حتى رأيت راجعة من الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى صحف دين الله وملة محمد صلى الله عليهِ وسلم فخشيتُ أن لم انصر الإسلام وأهله أن رأى فيهِ ثلماً وهدماً يكون المصاب بهما عليّ أعظم من فوات ولاية أموركم... فمشيت عند ذلك إلى أبي بكر فبايعتهُ ونهضت فيتلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق...)) (71)، ثم يتحدث بعد ذلك عن مسيرتِه مع الخليفة الثاني عمر وكيف صرف الأمر عنه إلى عثمان تمهيداً لأن تكون الخلافة في بني أمية بقولهِ عليهِ السلام: ((وأخرجوني منها رجاء أن ينالوها إذ يئسوا أن ينالوا بها من قبلي...)) (72)، ثم يعرض إلى ما جرى من قتل عثمان وبيعة الناس له ونكث الناكثين والقاسطين والمارقين (73)، وتُعد هذه الخطبة وثيقة تاريخية لأحداث تلك الفترة العصيبة من تاريخ الإسلام، کما عرض في خطبتهِ المعروفة بالقاصعة لطرف من التاريخ السياسي والاجتماعي عن المسلمين في تلك الفترة في أطار وعظي بليغ أختص بذم الكبر والعصبية والحمية وتمكنها من الكثير من المسلمين حتى ذهبت بدينهم فربط بين الغنى والعصبية. يقول (عليهِ السلام): ((وأما الأغنياء من مترفة الأمم فتعصبوا لإثارة مواقع النعم فقالوا: نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين...)) (74)، في أشارة إلى الزعامات التي أتخمتها الأموال التي جُمعت بغير حق فباع أصحابها دينهم بدنياهم دون النظر إلى مصلحة الأمة، ومثل هذه المضامين أيضاً جاءت في الخطبة المعروفة بالشقشقية (75).

ص: 91

المبحث الثالث خطبة الوسيلة

1- خطبة الوسيلة . سندها وأهم مصادرها

أقدم المصادر التي وردت فيها الخطبة هو كتاب الكافي للكليني (76)، المتوفي سنة 329 ه، كما وردت بعض مقاطع الخطبة في كتاب التوحيد والامالي للشيخ الصدوق (77) المتوفي سنة 381 ه، كذلك فقد وردت في كتاب تحف العقول عن آل الرسول لأبي محمد الحسن بن علي بن شعبة الحراني (78) وهو من اعلام القرن الرابع الهجري، أما الشريف الرضي (79) المتوفي سنة 404 ه فلم يذكر الخطبة في كتابهِ نهج البلاغة بعنوان مستقل، لكن معظم عباراتها ورد في باب المختار من حكم أمير المؤمنين عليهِ السلام ومواعظه، ويوجد هناك بعض الاختلافات في عبارات الخطبة بين الزيادة والنقصان في هذهِ المصادر ولكن هذه الاختلافات لاتغير في جوهر معانيها، وقد نقلت معظم المصادر المتأخرة الخطبة عن كتاب الكافي (80)، وأشار العلامة المجلسي الثاني (81) المتوفي سنة 111 ه في كتابهِ مرآة العقول عن شرحهِ لها بأن سندها ضعيف لكن قوة مبانيها ورفعة معانيها تشهد بصحتها ولا تحتاج الى سند، أما سند الخطبة كما ورد عند الشيخ الكليني محمد بن علي بن معمر (83) عن محمد بن علي بن عكابة التميمي (84) عن الحسين بن النضير الفهري (85) عن أبي عمر أبي عمر الاوزاعي (86) عن عمر بن شمر (87) عن عمر بن شمر ( عن جبر بن يزيد (88) عن الإمام أبي جعفر الباقر عليهِ السلام ، بالرغم من ضعف سند هذهِ الخطبة إلا أن المتمعن في مضامين متنها يُدرك أنه لأمير المؤمنين عليه السلام لما عُرف عن بلاغتهِ وعمق معاني كلامه عليه السلام وهو ما أشار إليهِ العلامة

ص: 92

المجلسي فيما سلف (89)، كما أن المنهج الذي يتبعهُ الإمام في هذهِ الخطبة هو ذاتهُ الذي نراه في خطبة الأخرى (90)، وسنعتمد في دراستنا للخطبة على كتاب الكافي للشيخ الكليني لأنه أقدم المصادر التي نقلت الخطبة وأوثقها بالنسبة لغيرها (91).

2- خطبة الوسيلة عنوانها وتاريخها

يبدو أن عنوان الخطبة قد استوحى مما جاء في أحدى فقراتها التي اشتملت ذكر الوسيلة ومقامها وكيفيتها ومن عليها (92)، وهي الدرجة التي وعد الله نبيهُ في الجنة وقد وصفها الإمام عليهِ السلام بقوله: ((إلا وان الوسيلة على درج الجنة وذروة ذوائب الزلفة ونهاية غاية الأمنية لها ألف مرقاة ما بين المرقاة إلى المرقاة حضر الفرس الجواد مائة عام...)) (93).

3- محورية قضية الأمامية في خطبة الوسيلة

تُعد خطبة الوسيلة من خطب أمير المؤمنين التي تزخر بكنوز من المعارف والحكم العلوية الفريدة التي شملت كل أركان المنظومة الدينية التي تضم العقائد، العبادات، الأخلاق. وتشير المصادر إلى أن الإمام خطبها في الناس بعد سبعة أيام (94) من وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) (95)، ولهذا التاريخ أهميتهُ فهو قريب عهد بمصاب فقد رسول الله ذلك الحادث الجلل الذي كان فاتحة لأحداث جسيمة وقعت كان لها أثارها في حياة الإمام عليه السلام والأمة الإسلامية جمعاء، ولهذا نراه عليهِ السلام يسهب في الحديث عن ظلامتهِ وما أفضت إليهِ كارثة السقيفة من حوادث ورزايا، لكن الإمام عليهِ السلام قبل أن يتحدث عن نفسهِ يتحدث عن مقام رسول الله صلى الله عليهِ وسلم وانه كان أمل الأمم ومخلصها الذي إليهِ يتطلعون ((فما من رسول سلف ولا نبي مضى إلا وقد كان مخبراً

ص: 93

أمتهِ بالمرسل الوارد من بعده مبشراً برسول الله صلى الله عليهِ وسلم، وموصياً قومه باتباعهِ فكانت الأمم في رجاء من الرسل وورود من الأنبياء...)) (96)، ثم يصف عليهِ السلام مصاب فقده فيقول: ((ولا مصيبة عظمت ولا رزية جلت كالمصيبة برسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الله ختم بد الإنذار والأعذار وقطع به الاحتجاج...)) (97)، وبعد أن تحدث الإمام عن طاعة النبي وإنها قرنت بطاعة الله فكان ذلك دليلاً على ما فوض إليهِ وشاهداً له على من اتبعهُ وعصاهُ عرج بعد ذلك للحديث عن نفسهِ وأفاض في بيان حالهِ ومكانهِ من الله ورسولهِ صلى الله عليهِ وسلم وما خصهُ بهِ من مقامات الخلافة الإلهية التي فُضل بها على غيرهِ إذ يقول: ((فأن الله تبارك اسمهُ امتحن بي عباده، وقتل بيدي أضداده وأفنى بسيفي جحادهِ، وجعلني زلفة للمؤمنين وحياض موت على الجبارين وسيفه على المجرمين ... واصطفاني بخلافتهِ في أمتهِ...)) (98)، ثم يتحدث عليهِ السلام عن بيعة القيروان وأن الله أكمل الدين بولايته فكانت ولايتهِ ولاية الله وعداوتهِ عداوة لله وكمال الدين ورضا الرب وكان هذا من فضل الله عليهِ دون غيرهِ من سائر الناس ((في مناقب لو ذكرتها لعظم بها الارتفاع فطال لها الاستماع...)) (99).

يتبين من خلال ما تقدم الصلة الوثيقة بين موضوع الخطبة والظرف الذي قيلت فيهِ، وكيف أن الإمام عليهِ السلام قد أوضح محورية قضية الإمامة وإنها منصب الهي لا دنيوي، وأن ما وقع من اغتصاب لحقهِ عليهِ السلام هو اعتداء على حق من حقوق الله وتضييع لاصل من اصول الدين التي لا يصح الإسلام إلا باجتماعها، ولهذا فقد أكد الإمام عليهِ السلام على هذا الأمر في أكثر من مناسبة (100)، حاول أن يربط دائماً في خطابه الوعظي بين قضية الإمامة ومواعظه الدينية معتبراً أن معرفة الإمام ومنزلة الإمامة هي التي توصل إلى معرفة الله الحقة،

ص: 94

وأنها السبيل الوحيد للوصول إلى حقيقة التوحيد فإذا أجهل المسلمون معرفة إمامهم جهلوا سبل الوصول إلى تلك الحقيقة التي لا يمكن الولوج إلى بيان معارفها إلا من خلال رسول الله صلى الله عليهِ وسلم، ولهذا فقد كان من أهم نتائج تنحية الإمام وأهل بيتهِ عن مراتبهم ومناصبهم أن تعددت النظريات والفرق والتيارات الفكرية في تحديد أطر المعارف العقائدية التي تُعد أهم مرتكزات المنظومة الدينية تى انتهى المسلمون إلى تجسيد الذات الإلهية وتشبيهها والتخبط في الوصول إلى معرفتها (101)، فإذا كان الأساس الذي قامت عليهِ العقيدة باطلاً فأن البناء الديني بأكملهِ سيكون باطلاً لقول أمير المؤمنين عليه السلام أو الدين معرفتهِ (102).

4- جوانب من الخطاب الوعظي في خطبة الوسيلة

يبدأ الإمام خطبتهِ بالحمد والثناء على الله وذلك بالقول: ((الحمد لله الذي منع الأوهام أن تنال إلا وجودهِ، وحجب العقول أن تتخيل ذاتهِ لامتناعها من الشبه والتشاكل، بل هو الذي لم يتفاوت في ذاتهِ ولا يتبعض بتجزئة العدد في کمالهِ...)) (103).

استفتح الإمام علي عليه السلام كلامهُ كما هو في أغلب خطبه الوعظية بالحديث عن أصول الدين وأول هذه الأصول وأهمها التوحيد، فالتوحيد في علم أمير المؤمنين يمثل منهجاً مستقلاً لم يُسبق إليهِ في معارف التوحيد ففي نهج البلاغة وحده خمسون خطبة عن التوحيد عدا ما هو مثبوت في الكتب من النصوص الأخرى (104)، إذ أجتهد أمير المؤمنين عليه السلام في إيضاح التوحيد الحقيقي حتى في أحرج الظروف وأشدها صعوبة والرواية التي ينقلها الشيخ الصدوق، أصدق دليل على ذلك إذ يروي: أن أعرابياً قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين عليهِ السلام فقال يا أمير المؤمنين أتقول أن الله واحد؟ فحمل الناس عليهِ وقالوا يا أعرابي أما

ص: 95

ترى ما فيهِ أمير المؤمنين من تقسم القلب، فقال أمير المؤمنين عليهِ السلام: دعوة فان الذي يريده الأعرابي هو الذي تريده من القوم ثم أنبرى أمير المؤمنين في بيان معاني التوحيد وأدلته، وهو في ذلك الظرف الحرج من احتدام صراع الحرب (105).

ولقد تعددت مذاهب المعرفة الدينية والإنسانية، واختلفت في معنى الوحدة الإلهية، وفي العصر الإسلامي تبلورت عدة اتجاهات توزعت على المناهج المشهورة في المعرفة وهي: الكلامي، الفلسفي والعرفاني بيد أن الرؤية ظلت مشوبة بالنقص والسذاجة حتى مع جهود عقول فلسفية جبارة برزت على هذا الصعيد (106).

يُشير الإمام عليهِ السلام إلى أن أقوى الأدلة على وجود الله سبحانهُ وتعالى هو عجز الإنسان أن يتوهم كنه هذا الوجود الإلهي او يتخيل جوهرهِ، لأن الأوهام لاتدرك إلا المعاني الجزئية المعلقة بالمحسوسات والمواد الجسمانية كالوضع والتحيز والمقدار ونحوها والله سبحانه ليس شيئاً من هذهِ الأمور، فلا يمكن للأوهام أن تدركه وتطلع على حقيقته نعم لها أن تنال وجودهِ لظهورهِ في صورة وجودها ووجود سائر مدركاتها وعوارض وجوداتها والتغيرات اللاحقة بها من جهة ما هو صانعها وموجودها إذ الوهم عن مشاهدة هذهِ المدركات الشخصية يحكم بذاتهِ أو بمعونة العقل بوجودهِ تعالى لحاجتها إلى موجد ومقيم ومغير (107)، فلا سبيل للمحدود المتناهي أن يعلم كنه اللامحدود واللامتناهي ثم يعرج الإمام بعد ذلك ليُبين خصائص تلك الوحدة فهو الذي ليس بذي أجزاء متفاوتة مختلفة (108)، کما انه سبحانه لا يمكن أن تكون وحدته كوحدة العدد فالوحدة العددية (109) يمكن تجزئتها وتبعيضها، ولكن وحدته سبحانه وتعالى وحدة لا تتجزأ ولا تتبعض وهذا من خصائص الوحدة اللا عددية الحقيقية الحقة، وهو من كمالاتهِ سبحانه فالعدد هو الذي يتجزأ ويتبعض (110).

ص: 96

ويسترسل الإمام في بيانه لبعض خصائص الذات الإلهية فالله سبحانه وتعالى لا يكون في مكان والخلق في مكان مباين لاستحالة أن يكون له مكان فيكون البعد بينه وبينها مكانياً كما هو بين الأشياء المتباعدة بل المراد بمفارقتهِ للأشياء مباينة ذاتهِ وصفاتهِ عن مشابهة شيء منها، وهو تمكن منها ومحيط بها بالعلم والقدرة لا بالمداخلة والمازجة الظرفية (المكانية) (111)، وقد اشار أمير المؤمنين عليه السلام إلى هذه الحقيقة أيضاً في خطبة التوحيد بقوله: ((موجود لا عن عدم مع كل شيء لا بمفارقته وغير كل شيء لا بمزايلة...)) (112).

يتناول الإمام في الفقرة الأولى من كلامه أيضاً صفة من صفات الله وهي العلم فالله عالم إلا أن صفة العلم غير زائدة عنه - أي أن العلم شيء والذات الإلهية شيء آخر - بل أن صفة العلم وباقي صفاتهِ الأخرى هي عين ذاتهِ فالله هو العالم (113)، وأن علمه لا يكون بأداة أو بواسطة كما أن علمه بالمحسوسات ليس منه جهة الحواس والآلات الجسمية والقوى البدنية كعلم الإنسان بها فهو منزه عن الصفات الجسمانية والأدوات البدنية (114)، ثم يتحدث عليهِ السلام عن أزلية الله سبحانه وتعالى وأبديتهُ وهو في هذا البيان الرائع والبليغ لخصائص الذات الإلهية إنما يبني على القاعدة التي أسس لها في بداية خطبتهِ في إيضاحاتهِ للوحدة غير العددية اللا متناهية واللا محدودة الله سبحانه وتعالى، فكانت الخصائص التي أشار إليها بمجملها إنما هي النتيجة الحتمية لتلك الوحدة الحقيقية والحقة (115).

ثم يجعل الإمام عليهِ السلام الإقرار اللساني بالوحدانية والشهادة بنبوة النبي محمد صلى الله عليهِ وسلم تالية للمعرفة، ونتيجة لها وان ذلك الإقرار هو المحصلة التي ترفع القول وتضاعف العمل عند الله، فلا تصح الثانية دون الأولى أي لا يصح الإقرار ما لم تترسخ المعرفة وتبنى على أساس سليم، فالإقرار بالشهادتين

ص: 97

هو الإذعان والتسليم ((خف ميزان ترفعان منه، وثقل ميزان توضعان فيه وبهما الفوز بالجنة والنجاة من النار والجواز على الصراط، وبالشهادة تدخلون الجنة وبالصلاة تنالون الرحمة، فأكثروا من الصلاة على نبيكم أن الله وملائكتهِ يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما...)) (116).

ينتقل الإمام بعد ذلك إلى الفقرة الثانية للحديث عن الجانب الأخلاقي في حياة الإنسان، وتشكل ثنائية الفضيلة والرذيلة الركيزة الأساسية في خطابهِ الوعظي، وهو يبدأ كلامه في هذهِ الجزئية المهمة بالنداء (أيها الناس)، وحرف ياء يفيد النداء والتنبيه (117)، وكأن الإمام يُريد أن ينبه إلى عظيم ما سيقوله كما انهُ لم يحدد كلامه للمسلمين أو المؤمنين أو أي فئة دون أخرى، أنه يوجه خطابه للناس من أي دین أو ملة أو طائفة أو جنس، وفي كل مكان وزمان وهو يتمثل في هذا الأسلوب المنهج القرآني في جانب من جوانبهِ فهذا النداء ورد في القرآن الكريم أحدى وعشرون مرة (118)، مما يوحي أن هناك خطاباً عاماً في القرآن يشمل المسلمين وغير المسلمين، والإمام في هذهِ الفقرة من خطبتِه يضع دستوراً للحياة يمكن أن يتمثل خطاه المسلمون وغير المسلمين، وإذا كانت الأديان السماوية تنبع من منهل واحد فلا بد أن تتوافق فيها الروى وتتلاقى فيها الأفكار، ولم يأتِ الإسلام إلا ليكمل ذلك المسار ويصحح ما حرفه البشر من مبانيها الفكرية وتشريعاتها السمحاء.

((أيها الناس أنه لا شرف له أعلى من الإسلام)) (119)، وقد جعل أمير المؤمنين الإسلام منبعاً لكل فضيلة وخلق رفيع وهو أساس لبناء فردي واجتماعي سليم ومتكامل يكون الإسلام الحقيقي محركه الفاعل في المعاملة بين الناس فلا يتعاملون فيما بينهم إلا على أساسه، وقد اتجه كثير من المسلمين بالإسلام اتجاه عبادة

ص: 98

وحسبوه صلاة وصوماً وتسبيحاً وتناسوا جانب المعاملة فيهِ في حين أن الإسلام يهتم اهتماما كبيراً بالمعاملة، ومن القواعد التي وضعها الأصوليون أن صفوف الله مبنية على المسامحة، وحقوق الناس مبنية على المشاححة، فإذا قصر المسلم في حق من حقوق الله فأن التوبة تغفر وعفو الله قد يشملهُ، ولكن إيذاء الناس لا يغفر إلا إذا عفا الناس. الإسلام ينظم علاقات الناس بالناس على أساس من الحب والعدالة مع إتباع النظم الإسلامية في البيع والشراء والميراث والزواج والطلاق وغيرها. ومع أتباع آداب الإسلام في معاملة الناس والإخلاص للعمل ولتضامن في أداء الواجب والبعد عن إيذاء الناس، كل هذا وما يماثله أجزاء مهمة من الدين الإسلامي ولا يكمل الدين بسواها (120)، ولهذا فان البعد الأخلاقي أهم مصداق من مصاديق الإسلام وعظمتهِ.

يجمع الإمام عليه السلام في هذهِ الفقرة من خطبتهِ بين جملة من الصفات والمزايا الروحية المحمودة التي هي في حقيقتها جزء من رصيد المؤمن في رحلتهِ نحو الكمال الإنساني وهي: التقوى، الورع، التوبة السلامة - عن إيذاء الناس - (121). لعل ترتيب هذهِ الألفاظ في خطبة الإمام عليهِ السلام له دلالتهُ فهو يبدأ بالتقوى ويصدر كلامه بالقول ((لا كرم أعز من التقوى...)) (122)، فيجعل التقوى كرم فيها غاية وعزة ليس في غيرها، والعزة أما العظمة أو القدرة أو الغلبة والتقوى مستلزم لجميع ذلك لأنها تحمي أولياء الله، وألزمت قلوبهم مخافتهِ حتى أسهرت لياليهم وأظمأت هواجرهم وتربط الأبدان بالعبادات فصاروا بذلك من أهل العظمة والقدرة والغلبة لأنهم حزب الله الغالبون (123).

وقد وردت لفظة التقوى في القرآن الكريم في أكثر من معنى فقد جاءت بمعنى الخشية في أكثر من موضع لكن حقيقة التقوى، وأن كانت هي التي

ص: 99

ذكرت بمعنى الخشية إلا أنها جاءت والغرض الأصلي منها الإيمان تارة والتوبة تارة أخرى والطاعة ثالثاً، وترك المعصية رابعاً والإخلاص خامساً، والتقوى مقام شريف بقوله تعالى: ((أن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون...)) (124)، وقال: ((أن أكرمكم عند الله أتقاكم)) (125) (126)، ولهذا فأن الإمام يبدأ بها فهي كلمة تتسع لمعانٍ كثيرة أختصرها الإمام عليه السلام في كلام له آخر بقولهِ: ((التُقى رئيس الأخلاق...)) (127)، أي أفضلها وبذلك سادها ورئسها (128)، ويعني بها الأخلاق الدينية (129).

وهي كل صفة من الصفات التي ذكرها الإمام مرتبطة بما قبلها وبعدها، تؤدي إليها ولا تنفك عنها، وقد استخدم الإمام عليه السلام صيغ المبالغة في الألفاظ ((أعلى، أحرز، أنجح، أجمل، أمنع، أذهب، أغنى...)) تدل على أن لكل صفة من صفات الكمال مراتب في هذا الوجود متقدمة على ماقبلها، (فعالٍ وأعلى، وحرز وأحرز، وناجح وأنجح، وجميل وأجمل...))، وهذا يترتب عليهِ أن يتفاوت المؤمنون في مراتبهم كلما ساروا في طريق تحصيل الكامل فالأكمل، يحاول الإمام في خطابهِ الوعظي أن يربط بين هذهِ الصفات وآثارها في تهذيب النفس، فان ثمرة تحصيلها ينعكس بالدرجة الأولى والأساس على الإنسان من الداخل فتظهر آثارها على أفعاله من الخارج، الجوانح، الجوارح وبهذا ينوه سلام الله عليه بأهميتها في بناء الإنسان لبناء مجتمع صالح وسوي.

ينتقل الإمام في المقطع اللاحق من الخطبة للحديث عن الصفات المذمومة في الإنسان والتي هي نقيض ما تحدث عنه في المقطع الذي سبقهُ فهي صفات سوء تهوي بصاحبها في دركات التسافل والانحطاط فتمثل به عن طريق السلامة وهو رضا الله إلى ما هو دونه من حسرات وندامة (الرغبة، الحسد، البغي، الطمع،

ص: 100

...)، فالإنسان الذي تتسرب إليهِ هذهِ الآفات الروحية، إنسان مهدوم من الداخل، وكل آفة من هذهِ الآفات لها آثارها وانعكاساتها على الذات الإنسانية.

الرغبة مفتاح للمتاعب في حياة الإنسان، لأن في تحصيل ما يرغب فيه وحفظه تعب شديد مع عدم الحاجة إليها (الاحتكار مطية النصب)، شبه الإمام الاحتکار - وهو جمع المال وحبسهِ - بالمطية وهي ما يركبه الإنسان للوصول إلى غاية هي في حقيقتها جالبة للمتاعب، أما الحسد فهو المرض المفسد للدين لأن الحاسد يضاد الله في إرادتهِ في التقسيم والتدبير والأفضال والأنعام ويحتقر نصيبه ويكفر بهِ ويتمنى زوال نعمة الغير، لما يعمهم من خير، وهذا يصرفه عما يعود نفعه عليهِ من تحصيل الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة، وكل هذا موجب لفساد دين الحاسد (130)، وقد نبه الإمام علي عليهِ السلام إلى أثر الحسد في هدم الدين في خطبتهِ المعروفة بالقاصعة في حديثه عن قصة سيدنا آدم عليهِ السلام وإبليس فأن حسد إبليس لآدم أحبط دينه وجهده الجهيد في العبادة التي طالت (ستة آلاف سنة لا يُدري أمن سني الدنيا أم سني الآخرة) (131)، ولهذا قال عليهِ السلام في خطبة أخرى له ((لا تحاسدوا فان الحسد يأكل الإيمان كما تأكل النار الحطب...)) (132).

ثم يتحدث الإمام عليه السلام عن الحرص فأنه يقول: ((دع للتقحم في الذنوب)) لان الحريص لا يبالي الدخول في المحرم من المكاسب أو المباح المذموم منها (133)، والتقحم في الذنب الدخول فيهِ من غير روية (134)، وأن كل ذلك داعي للحرمان، ولعل الإمام يقصد بالحرمان هذا الحرمان في الدنيا والآخرة فالحريص على الدُنيا يُحرم سكينة النفس لأنه في تعب دائم لحرصهِ على ما يجمع وخوفهِ من ذهاب ما بيدهِ فهو محروم، وأن ملك ماملك وأما حرمانه في الآخرة فهو

ص: 101

الحرمان من رضوان الله ورحمتهِ للذنوب التي جناها حرصاً على الدنيا غير مبالٍ بسخط الله.

والبغي سائق إلى الحين فبالغي الى الظلم والاستطالة ومجاوزة الحدود كلها أمور تقود الإنسان إلى حينهِ أي هلاکهِ (135)، ولهذا روى الإمام زین العابدین علیهِ السلام بالقول: ((الذنوب التي تُغير النعم البغي على الناس، الزوال عن العادة في الخير واصطناع المعروف وکفران النعم...)) (136)، فجعل عليهِ السلام البغي أول الذنوب التي تِغير النعم، وقد يسلب الإنسان نعمة الحياة حين يهلکه الله بذنوبهِ، أما الشدة والطمع فصفتان ترتبط أحدهما بالأخرى ولذلك والى بينهما الإمام في حديثه، فالطمع أبن الشره ولا يطمع الإنسان إلا حين يكون حريصاً على أن ينال فوق ما عنده فلا ينتهي به الطمع عند حد من الحدود، كما لا ينتهي بهِ الأمل وان كان أملاً خائباً ورجاه يؤدي إلى الحرمان وتجارة تؤول إلى الخسران، وهي تجارة الدنيا التي هي غير تجارة الآخرة الرابحة دائماً، فكل حال من هذهِ الأحوال هي نتيجة لما قبلها وسبب لما بعدها وهي بالتالي الثمرة التي يجنيها الإنسان حين يتسافل بهِ عمله القبيح وتسقطهُ أخلاقه وصفاته الذميمة التي ذكرها الإمام عليهِ السلام وجعل الرغبة مفتاح كل ذنب يرتكبه، وهي سبب تعبه وشقاؤه (137)، حتى إذا ما انغمس بكثرة الذنوب أحاطت به کما تحيط القلادة بالعنق، ولذلك قال الإمام ((بئست القلادة الذنب للمؤمن...)) (138)، وهو تشبيه لا مزید علی بلاغتهِ وعمقه.

ص: 102

الخاتمة

يمكننا أن نلمس من خلال دراسة خطبة الوسيلة أكثر من بُعد معرفي و أنساني فهي غيظ من فيض في معارف أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهِ السلام، التي تنهل من معين النبوة الثر، ولهذا فان استنطاق نصوص الخطبة يكون بقدر متلقيها لا بقدر ملقيها أو صاحبها، من هنا تختلف مستويات القراءة بحسب الإمكانيات والأدوات التي يمتلكها القارئ ولهذا لا ندعي أبداً أننا أحطنا بما تتبعناه من فقرات الخطبة واستقصينا أسرارهِ، فهذا إدعاء لا يمكن الإتيان بهِ، کیف ونحن نتعامل مع نص هو فوق کلام المخلوقين ودون کلام الخالق، إنما هي محاولة للقراءة قد تصف فكرة أو تنبه لجانب من الجوانب المعرفية من ذلك الكنز الذي ينتمي إلى كنوز أمير المؤمنين المعرفية والفكرية. ومن خلال ذلك اتضح لنا:-

1- استخدم الإمام منهجاً واضحاً في تناول موضوعات خطبهِ الوعظية ومنها خطبة الوسيلة فهو يبدأ كلامهُ بالحديث عن أصول الدين الذي هي أصول المعرفة الدينية (أول الدين معرفته)، ولكم حرص أمير المؤمنين على تعميق مفهوم التوحيد عند المسلمين فهو سارٍ في كل خطبه.

2- التأكيد على قضية الإمامة والتذكير بما لحق بالإمام من ظلم وإقصاء فالإمامة التي ضيعها المسلمون في خضم الأطماع والمصالح الشخصية لا يكتمل الإسلام إلا بها ومعها، من هذا وزخرف ما طمع بهِ غيرهِ، لم يترك التنويه بظلامتهِ وحقهِ المغتصب وتراثهِ الضائع.

3- حاول الإمام في خطابهِ الوعظي أن يكون الجانب الروحي هدفهُ فالإصلاح يبدأ من الداخل، ولكنهُ وفي هذا الإطار أيضاً وازن بين العقل والوجدان، ولذلك

ص: 103

زخرت خطبه بتنوع المعرف الإنسانية والعقلية فهي تؤدي غرضاً دینياً وعلمياً في آنٍ واحد.

4- حرص الإمام أن يكون خطابهِ مفهوماً لكل سامعيهِ على اختلاف مستوياتهم الاستيعابية على الرغم من عمق معانيهِ وكثرة أسرارهِ وذلك من خلال تقریب المعاني بأبسط صورة وأبلغ لغة فخطابه يفهمهُ العامة والخاصة كل على قدرهِ و معرفتهِ وأدواتهُ المعرفية وتمثلهِ الحقائق والمضامين والمعطيات كما أن خطابهُ كان عاماً لكل الناس - في بعض جوانبهِ - وليس للمسلمين فحسب ولقد صدر نداءه في عدد منم الخطب بلفظة (أيها الناس).

هوامش البحث:

1. الفراهيدي، العين، 4/ 222.

2. ابن فارس، معجم، 198/2.

3. ابن السكيت، ترتيب أصلاح المنطق، ص 19؛ الزمخشري، اساس البلاغة، ص 239؛ ابن سيدة، المخصص، 1/ ق 2، 144.

4. الكفوي، الكليات، ص 419.

5. المناوي، التوقيف، ص 156.

6. السفياني، الخطاب الوعظي، ص 21؛ حمدان، أشكال التواصل، ص 49 وما بعدها.

7. المناوي، التوقيف، ص 156؛ الكفوي، الكليات، ص 419؛ المظفر، المنطق، ص 434.

8. برهومة، تمثلات اللغة، ص 122.

9. بو معزة، تحليل الخطاب، ص 5.

10. برهومة، تمثلات اللغة، ص 123.

11. ابن فارس، معجم، 6/ 126.

12. الجوهري، الصحاح، 3/ 1181؛ أبن منضور، لسان العرب، 466/7؛ الزبيدي، تاج العروس، 10/ 498.

ص: 104

13. المناوي، التوفيق، ص 339.

14. حمداوي، التداوليات، ص 7.

15. بوحشة، محاضرات في اللسانيات، ص 11.

16. العيني، عمدة القاري، 20/ 135، العجمي، اللغة والسحر، ص 23.

17. ابن عساکر، تاریخ، 12/ 1132؛ القلقشندي، صبح الأعشى، 261/1؛ القرشي، حياة الامام الحسين، 2/ 160.

18. السفياني، الخطاب الوعظ،؛ البياتي، الأخلاق الحسينية، ص 165.

19. حمدان، أشكال التواصل، ص 90 وما بعدها.

20. برهومة، تمثلات اللغة، ص 123 - 124.

21. السفياني، الخطاب الوعظي، ص 76 - 78.

22. السفياني، الخطاب الوعظي، ص 76 - 78.

23. السفياني، الخطاب الوعظي، ص 78 - 79؛ حمدان، أشكال التواصل، ص 56 وما بعدها.

24. العسكري، الصناعتين، ص 205 وما بعدها.

25. الشهري، استراتيجيات الخطاب، ص 370.

26. العجمي، اللغة والسحر، ص 70.

27. العجمي، اللغة والسحر، ص 70.

28. السفياني، الخطاب الوعظي، ص 84 - 85.

29. القبانجي، شرح وصية أمير المؤمنين، ص 30 - 31.

30. الشيرازي، السياسة، ص 76 وما بعدها.

31. سورة الصحف، الآية، 30.

32. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 4/ 67.

33. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 3/ 38.

34. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 19/ 300.

35. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 1/ 113.

36. البخاري، صحيح البخاري، 1/ 41.

37. ومقصوده عليه السلام أنه أنطوى على علم ممتنع لموجبهِ من المنازعة، وأن ذلك العلم لا يباح

ص: 105

بهِ، ولو باح بهِ لاضطرب سامعوه كاضطراب الأرشية، وهي الحبال في البئر البعيدة القعر، وهذهِ إشارة إلى الوصية التي خص بها عليهِ السلام أنه قد كان من جملتها الأمر يترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه. ينظر: الراوندي، منهاج البراعة، 1/ 146؛ أبن أبي الحديد، شرح النهج، 1/ 215.

38. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 41/1.

39. الشريف المرتضی، رسائل، 394/1.

40. عاشور، من غير علي يجيب، ص 44 وما بعدها.

41. الزبير بن العوام بن خویلد بن أسد بن عبد العزیکنی أبا عبد الله أمه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، قتل بسفوان في البصرة سنة 36 ه ينظر: أبن سعد، طبقات ابن سعد، 3/ 100وما بعدها؛ أبن خیاط، طبقات، ص 43.

43. عبد الله بن عباس:

43. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 2/ 162.

44. عبد الله بن الزبير بن العوام بن خویلد بن أسد بن عبد العزی بن قصي القرشي الأسدي یکنی أبا بكر، وقال بعضهم فيه أبو بكير، قُتل بمكة سنة 73 ه. ينظر: أبن خیاط، طبقات، ص 9.

45. عمرو بن جرموز التميمي بم مجاشع قاتل الزبير بالاشتراك مع الشعر وفضاله بن حابس التميميان ينظر: أبن عساکر، تاریخ، 18/ 434.

46. اليعقوبي، تاریخ، 2/ 182 - 183؛ ابن عقدة الكوفي، فضائل أمير المؤمنين، ص 167؛ المسعودي، مروج الذهب، 2/ 363.

47. طلحة بن الزبير بن عبيد الله بن عمرو بن کعب بن سعد بن تیم بن مرة، ويكنى أبا محمد قُتل يوم الجمل وهو أبن 64 سنة، سنة 36 ه، ينظر: أبن سعد، الطبقات، 3/ 24.

48. سورة الفتح، الآية (10).

49. مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف القرشي الأموي يُکنی أبا عبد الملك ولد على عهد رسول الله سنة 2 ه وقيل عام الخندق، وقيل يوم أحُد، توفي سنة 65 ه وهو أبن 63 سنة. ينظر: أبن عبد البر، الأستيعاب، 2/ 365.

50. اليعقوبي، تاریخ، 2/ 182؛ المسعودي، مروج الذهب، 2/ 365؛ وتختلف رواية الطبري عما

ص: 106

جاء عند اليعقوبي والمسعودي بعض الاختلافات ينظر: الطبري، تاریخ 3/ 520 و ما بعدها.

51. أبن ابی الحدید، شرح النهج، 79/15.

52. صفين: موضع بقرب الرقة على شاطئ الفرات من الجانب الغربي بين الرقة وبالس، وكانت وقعة صفين عندها سنة 37 ه ينظر: ياقوت الحموي، معجم البلدان، 3/ 414.

53. حروراء: هي قرية بظاهر الكوفة وقيل موضع على ميلين منها، وهي كورة نزل بها الخوارج الذين خالفوا أمير المؤمنين فنسبوا إليها. ينظر: الحموي، معجم البلدان، 2/ 245.

54. اختلفت المصادر في عدد الخوارج وفي عدد من رجعوا منهم إلى معسكر أمير المؤمنين. ينظر: أبن خیاط، تاریخ، ص 144؛ النعمان المغربي، شرح الأخبار، 2/ 38؛ أبن أبي الحديد، شرح النهج، 275/2.

55. اليعقوبي، تاریخ، 191/2.

56. المسعودي، مروج الذهب، 403/2؛ أبن کثیر، البداية والنهاية، 319/7.

57. أبن ابي الحديد، شرح النهج، 2/ 265.

58. علي، المفصل، 541/4؛ خطبة الزهراء، 5/ 526.

59. اليعقوبي، تاریخ، 2/ 123؛ ابن الجوزي، المنتظم، 4/ 64.

60. شمس الدين، دراسات، ص 21 وما بعدها.

61. القرشي، حياة الإمام الحسين، 1/ 276 وما بعدها.

62. اليعقوبي، تاریخ، 2/ 178؛ البلاذري، أنساب الأشراف، 9/ 426.

63. سعید بن العاص بن سعید بن اصبحه بن العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي كان والياً للخليفة عثمان على الكوفة وقد أضر كثيراً بأهلها حتى ثاروا عليهِ وأخرجوه عنها. ينظر: أبن سعد، الطبقات، 5/ 30؛ ابن عساکر، تاریخ، 21/ 105.

64. البلاذري، أنساب الأشراف، 5/ 433؛ الطبري، تاریخ، 3/ 3650؛ الأصفهاني، الأغاني، 12/ 366.

65. أبو سفيان بن حرب بن امية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي واسم ابو سفیان صخر أسلم يوم الفتح وتوفي في المدينة سنة 31 هو كان له من العمر 88 سنة ينظر: أبن عبد البر، الأستيعاب، 2/ 714؛ ابن حجر، الإصابة، 3/ 332.

66. عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم بن سعيد بن سهم ويكنى أبا عبد الله أسلم بأرض

ص: 107

الحبشة قم قدم المدينة على رسول الله ولاه عثمان بن عفان مصر ثم عزلهُ ثم صار إلى معاوية بعد مقتل عثمان وشهد معهُ صفين ثم ولاه معاوية مصر وتوفي بها سنة 43 ه. ينظر: أبن سعد، الطبقات، 7/ 493.

67. أبن سعد، الطبقات، 3/ 222؛ الدنيوري، الأخبار الطوال، ص 158؛ محمد الثقفي، الغارات، 2/ 748؛ المسعودي، مروج الذهب، 2/ 322؛ الطائي، نظريات الخليفتين، 2/ 48.

68. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7/ 33.

69. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 7/ 41.

70. أبن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، 4/ 41 - 42.

71. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 6/ 94 وما بعدها.

72. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 6/ 96.

73. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 6/ 101.

74. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 2/ 150.

75. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 1/ 151.

76. 8/ 18 ومابعدها.،

77. ص 72، ص 398 - 399.

78. ص 92 وما بعدها.

79. 4/ 3 وما بعدها.

80. الكليني، 8/ 18.

81. 25/ 35.

82. 8/ 18.

83. محمد بن علي بن معمر الكوفي يكنى أبا الحسن صاحب الصبيحي سمع منه التلعکبري، روی عنه الكليني في الروضة، وروي عن محمد بن علي بن عكابة التميمي. ينظر: التفرشي، نقد الرجال، 4/ 280؛ الخوئي، معجم، 18/ 31؛ 17/ 358.

84. محمد بن علي بن عكابة التميمي روى عن الحسين بن علي بن النضر الفهري وروى عنه محمد بن علي بن معمر، مجهول روی رواية في الروضة الحديث الرابع. ينظر: الخوئي، معجم، 17/ 358؛ الجواهري، المفيد، ص 555؛ الشاهرودي، مستدرکات، 7/ 238.

ص: 108

85. الحسين بن النضير الفهري: لا يُعلم من أحوالهِ شيء سوى أن أبن شراشوب أورد عنه في المناقب بيتين من الشعر يمدح بهما النبي والإمام علي. ينظر: الأمين، أعيان الشيعة، 6/ 188: الشاهرودي، مستدرکات، 3/ 209.

86. أبن عمرو الأوزاعي: روى عن عمرو بن شمر وروى عنه عبد الله بن أيوب الأشعري. ينظر: الخوئي، معجم، 14/ 76.

87. عمرو بن شمر: أبو عبد الله الجعفي عربي روي عن أبي عبد الله عليهِ السلام ضعيف جداً زیدَ أحاديث في كتب جابر الجعفي ينسب بعضها إليهِ والأمر ملبس. ينظر النجاشي، الفهرست، ص 87؛ أبن الفضائري، رجال أبن الفضائري، ص 74.

88. جابر بن یزید الجعفي من أصحاب الإمام أبي جعفر الباقر لقي أبا جعفر وأبا عبد الله عليهِ السلام، ثقة في نفسهِ، ولكن جل من يروي عنهم ضعيف روى عنه جماعة غُمز وضعفوا منهم عمرو بن شمر. توفي سنة 12 ه. البرقي، الرجال، ص 9؛ النجاشي ، فهرست، ص 128؛ الطوسي، الفهرست، ص 95؛ أبن الغضائري، رجال الغضائري، ص 110.

89. مرآة العقول، 25/ 35؛ على الرغم مما يشير إليهِ العلامة المجلسي من ضعف سند الخطبة إلا انه من ناحية أخرى يعتقد بصحة كل ما جاء في كتاب الكافي وهو لا يذكر هذا الضعف في السند إلا من باب ترجيح بعضها على بعض عند التعارض. ينظر: المجلسي، مرآة العقول، 1/ 22.

90. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 1/ 14، 1/ 31، 2/ 137.

91. العاملي الكركي، هداية الأبرار، ص 34 وما بعدها؛ العقيلي، سبيل المؤمنين، ص 408 وما بعدها.

92. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11/ 229.

93. الكليني، الكافي، 8/ 18.

94. يذكر الشيخ الصدوق في كتابه الأمالي أن الخطبة كانت بعد تسعة أيام من وفاة رسول الله في حين أنه يذكر أنها بعد سبعة أيام في كتابه التوحيد ويبدو أن تصحيفاً وقع في ذكر تاريخها. ينظر: الصدوق، الأمالي، ص 398، التوحید، ص 72.

95. الكليني، الكافي، 8/ 18؛ المجلسي، مرآة العقول، 25/ 35.

96. الكليني، الكافي، 8/ 25؛ المجلسي، مرآة العقول، 25/ 58.

ص: 109

97. الكليني، الكافي، 8/ 25؛ المجلسي، مرآة العقول، 25/ 58.

98. الكليني، الكافي، 8/ 26؛ المجلسي، مرآة العقول، 25 / 61.

99. الكليني، الكافي ، 27/8 ؛ المجلسي ، مرآة العقول ، 91/25 .

100. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 1/ 202، 6/ 95.

101. عبد الحميد، تاريخ الإسلام، ص 35؛ المغربي، الفرق الكلامية، ص 135 وما بعدها.

102. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 1/ 15.

103. الكليني، الكافي،

104. الحيدري، التوحید، 1/ 91.

105. الصدوق، التوحید، ص 83.

106. الحيدري، التوحید، 1/ 40.

107. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11/ 232.

108. المجلسي، مرآة العقول، 25/ 37.

109. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 1/ 72.

110. المازندراني، شرح أصول الكافي، 237، 11؛ الحيدري، التوحید، 1/ 63.

111. المجلسي، مرآة العقول، 25/ 37؛ المازندراني، شرح أصول الكافي، 11/ 237.

112. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 1/ 72.

113. الحيدري، التوحید، 1/ 144 وما بعدها.

114. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11/ 238.

115. المجلسي الأول، روضة المتقين، ص 167؛ الحيدري، التوحید، 1/ 75.

116. الكليني، الكافي، 8/ 18 - 19.

117. أبن عقیل، شرح أبن عقیل، 2/ 210.

118. سورة البقرة، الآية، 168، 21؛ سورة النساء، الآية، 1/ 170، 133، 174؛ سورة الأعراف، الآية، 158؛ یونس، 108، 104، 57، 23؛ الحج، الاية، 1/ 5، 49، 73؛ سورة النمل، الآية، 16، لقمان، الآية، 33، فاطر، الآية، 3، 5، 15؛ الحجرات، الآية، 13.

119. الكليني، الكافي، 8/ 19.

120. شلبي، مقارنة الأديان، ص 175.

ص: 110

121. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11/ 241.

122. الكليني، الكافي، 8/ 19.

123. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11، 235.

124. سورة النحل، الآية، 128.

125. سورة الحجرات، الآية، 13.

126. الفخر الرازي، تفسير الرازي، 2/ 20.

127. أبن أبي الحديد، شرح النهج، 20، 47.

128. الزبيدي، تاج العروس، 8، 300.

129. أبن ابی الحدید، شرح النهج، 20، 47. 130. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11، 232.

131. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 2، 139.

132. الشريف الرضي، نهج البلاغة، 1/ 151.

133. المازندراني، شرح أصول الكافي، 11، 232.

134. المجلسي، مرآة العقول، 25، 40.

135. المجلسي، مرآة العقول، 25، 40.

136. الصدوق، معاني الأخيار، ص 270.

137. فالإنسان الذي لا يعصم نفسه من الذنوب فأنها تجره إلى التورط في أفضع العواقب سوءاً فالورطة: هي الغامض والهلكة وكل ما یعسر النجاة منه وأصله الهوة العميقة والوهدة من الأرض ثم استعيرت للأمر المذكور. ينظر: المازندراني، شرح اصول الكافي، 11/ 243.

138. الكليني، الكافي، 8/ 19.

ص: 111

المصادر والمراجع

قائمة المصادر

القرآن الكريم

البخاري، أبو عبد الله محمد بن اسماعيل، (ت 256 ه/ 869 م)

1- صحيح البخاري، دار الفكر، 1981.

البلاذري، أحمد بن يحيى بن جابر، (279 ه/ 892 م)

2- أنساب الأشراف، تحقيق إحسان عباس، بيروت، 1979.

التفريشي، مصطفی بن الحسين الحسيني، (ت القرن الحادي عشر الهجري/ السابع عشر الميلادي)

3- نقد الرجال، تحقیق مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، الطبعة الأولى، قم 1418 ه.

أبن الجوزي، أبي الفرج عبد الرحمن بن علي، (ت 597 ه/ 1200 م)

4- المنتظم في تاريخ الملوك والأمم، تحقیق عبد القادر عطا، الطبعة الأولى، بيروت 1992.

الجوهري، اسماعیل بن حماد، (ت 393 ه/ 1002 م)

5- الصحاح، تحقيق أحمد عبد الغفور عطار، الطبعة الرابعة، دار العلم للملايين، القاهرة، 1987

أبن حجر، أحمد بن علي، (ت 852 ه/ 1448 م)

6- الإصابة في تمييز الصحابة، تحقیق، عادل احمد عبد الموجود و علي محمد معوض، الطبعة الأولى، دار الكتب العلمية، بيروت، 1995.

أبن ابي الحديد، عز الدين أبو حامد، (ت 256 ه/ 1257 م)

7- شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد ابو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى دار أحياء

ص: 112

الكتب العربية، 1959

أبن خیاط، خليفة، (ت 240 ه/ 854 م)

8- تاریخ ابن خیاط، تحقیق سهیل زکار، دار الفكر، بيروت، د. ت.

الرازي، فخر الدين، (ت 606 ه/ 1209 م)

9- تفسير الرازي، الطبعة الثالثة، د. م، د. ت.

الراوندي، قطب الدين أبي الحسن، (ت 573 ه/ 1177 م)

10- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، تحقیق عبد اللطيف الكوكهمري، مكتبة آية الله المرعشي، قم 1406 ه.

الزبيدي، محي الدين أبي فيض محمد مرتضى الحسيني، (ت 1205 ه/ 1790 م)

11- تاج العروس من جواهر القاموس، تحقیق علي شيري، دار الفکر، بیروت، 1994.

الزمخشري، أبو القاسم محمود بن عمر، (ت 538 ه/ 1143 م)

12- تفسير الكشاف، دار ومطابع الشعب، القاهرة، 1960.

ابن سعد، محمد، (ت 330 ه/ 941 م)

13- الطبقات الکبری، دار صادر، بيروت، د. ت.

أبن سيدة، أبي الحسن علي بن اسماعيل، (ت 458 ه، 1065 م)

14- المخصص، تحقيق لجنة أحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.

أبن السكيت، أبو يوسف يعقوب، (ت 244 ه/ 858 م)

15- ترتيب أصلاح المنطق، رتبه وقدم له محمد حسن البكائي، الطبعة الأولى، مجمع البحوث الإسلامية، إيران، 1412 ه.

الشريف الرضي، أبو الحسن محمد، (ت 404 ه/ 1013 م)

16- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، الطبعة الأولى، دار الذخائر، قم، 1412 ه.

الصدوق، أبي جعفر محمد بن الحسين بن بابویه، (ت 381 ه/ 991 م)

ص: 113

17- التوحید، تصحیح و تعليق السيد هاشم الحسين الطهراني، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، د. ت.

18- الأمالي، تحقیق قسم الدراسات الإسلامية، مؤسسة البعثة، الطبعة الأولى، مؤسسة البعثة، طهران، 1417.

الأصفهاني، أبي الفرج، (ت 356 ه/ 966 م)

19- الأغاني، دار إحياء التراث العربي، د. ت

الطبري، أبي جعفر محمد بن جریر، (ت 310 ه/ 922 م)

20- تاریخ الرسل والملوك، صححه وضبطه نخبة من العلماء، الطبعة الرابعة، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1983.

الطوسي، أبي جعفر محمد بن الحسن، (460 ه/ 1067 م)

12- الفهرست، تحقیق جواد القيومي، الطبعة الأولى، مؤسسة نشر الفقهاهة، 1617 ه.

أبن عبد البر، أبي عمر يوسف بن عبد الله بن محمد

13- الاستیعاب، تحقیق علي محمد البجاوي، الطبعة الأولى، دار الجبل، بيروت، 1992.

أبن عساكر، أبي القاسم علي بن الحسن، (ت 571 ه/ 1175 م)

14- تاريخ مدينة دمش، تحقیق علي شيري، دار الفكر، بيروت، 1995.

العسكري، أبي هلال الحسن بن عبد الله، (ت 395 ه/ 1004 م)

15- الصناعتين في الكتابة والشعر، الطبعة الأولى، الأستانة، 1319 ه.

أبن عقدة الكوفي، (ت 333 ه/ 944 م)

16- فضائل أمير المؤمنين، د. م، د. ت.

أبن عقيل، بهاء الدين عبد الله بن عقيل العقيلي، (ت 799 ه/ 1367 م)

17- شرح أبن عقيل، الطبعة الرابعة عشر، المكتبة التجارية الكبرى، مصر،

ص: 114

1964 م.

العيني، أبا محمد محمود بن أحمد، (ت 855 ه/ 1451 م)

18- عمدة القارئ، دار إحياء التراث العربي، بيروت، د. ت.

أبن الغضائري، أحمد بن الحسين، (ت القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي)

19- رجال الغضائري، تحقيق محمد رضا الحسيني الجلالي، الطبعة الأولى، قم، 1422 ه.

أبن فارس، أبي الحسن أحمد، (ت 395 ه/ 1004 م)

20- معجم مقاییس اللغة، تحقیق عبد السلام محمد هارون، مکتب الأعلام الإسلامي، قم، 1404 ه.

أبي الحسن أحمد، (ت 395 ه/ 791 م)

21- معجم مقاییس اللغة، تحقیق عبد السلام محمد هارون، مكتب الإعلام الإسلامي، قم، 1408 ه.

الفراهيدي، أبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد، (ت 395 ه/ 1004 م)

22- العين، تحقيق مهدي المخزومي وابراهيم السامرائي، الطبعة الثانية، مؤسسة دار الهجرة، 1409 ه.

القلقشندي، أحمد بن علي، (ت 821 ه/ 1418 م)

23- صبح الأعشى في صناعة الأنشا، شرحه وعلق عليه محمد حسین شمس الدین، دار الكتب العلمية، بيروت، د. ت.

أبن كثير، إسماعيل بن كثير، (774 ه/ 1372 م)

24- البداية والنهاية، تحقیق علي شيري، الطبعة الأولى، دار إحياء التراث العربي. 1988.

الكفوي، أبي البقاء أيوب بن موسى الحسيني، (ت 1094 ه/ 1682 م)

ص: 115

25- الكليات، قابله ووضع حواشيه عدنان درويش ومحمد المصري، الطبعة الثانية، مؤسسة الرسالة بيروت، 1998.

الكليني، الرازي، (ت 329 ه/ 940 م)

26- الروضة في الكافي، صححه وعلق عليه علي اکبر العقاري، الطبعة الثانية، طهران، 1389.

المازندراني، محمد صالح، (ت 1081 ه/ 1670 م)

27- شرح أصول الكافي، تحقيق الميرزا أبو الحسن الشعراني، الطبعة الأولى دار إحياء التراث العربي، 2000 م

المجلسي، محمد باقر، (ت 111 ه/ 729 م)

28- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، الطبعة الأولى، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1410 م.

المجلسي الأول، محمد باقر، (ت 1070 ه/ 1659 م)

29- المسعودي، أبي الحسن علي بن الحسن، (ت 346 ه/ 957 م)

مروج الذهب و معادن الجوهر، الطبعة الثانية، تدقیق وضبط یوسف اسعد داغر، دار الهجرة، قم، 1984.

المناوي، عبد الرؤف، (ت 952 ه/ 1031 م)

30- التوقيف على مهمات التعاريف، تحقیق عبد الحميد صالح حمدان، الطبعة الأولى، عالم الكتب، القاهرة، 1990.

أبن منظور، أبي الفضل جمال الدين، (ت 711 ه / 1311 م)

31- أدب الحوزة، قم، 1405 ه.

النجاشي، أبو العباس أحمد بن علي بن أحمد، (ت 450 ه / 1058 م)

32- أسماء مصنفي الشيعة، تحقيق موسى البيري الزنجاني، مؤسسة النشر الإسلامي، قم 1416 ه.

ص: 116

النعمان المغربي، أبي حنيفة بن محمد التميمي، (ت 363 ه/ 973 م)

33- شرح الأخبار، تحقيق محمد الحسيني الجلالي، مؤسسة النشر الإسلامي، قم، د. ت.

یاقوت الحموي، شهاب الدين أبي عبد الله، (626 ه/ 1228 م)

34- معجم البلدان، دار التراث العربي، بيروت، 1979.

اليعقوبي، أحمد بن ابي يعقوب، (284 ه/ 897 م)

35- تاريخ اليعقوبي، دار صادر، بيروت، د. ت.

قائمة المراجع

برهومة، عیسی عودة

36- تمثلات اللغة، مجلة عالم الفكر، العدد الأول، المجلد 56، لسنة 2007.

بوحشة، خديجة

37- رمحاضرات في اللسانيات التداولية، د. م، د. ت.

بومعزة، نوال

38- تحليل الخطاب، محاضرات مقدمة لطلبة السنة الثانية جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية، قسنطينة، 2012 - 2013.

البياتي، جعفر

39- الأخلاق الحسينية، الطبعة الأولى، مطبعة مهر، أنوار الهدى، قم، 1418 ه.

الجواهري، محمد

40- المفيد من معجم رجال الحديث، الطبعة الثانية، منشورات مكتبة المحلاتي، قم، 1424 ه.

حمدان، سلیم

41- أشكال التواصل، رسالة ماجستير غير منشورة، الجزائر، جامعة الحج الخضر، 2008 - 2009

ص: 117

حمداوي، د. م، 2015.

42- التداوليات وتحليل الخطاب، الطبعة الأولى، د

الحیدری، کمال

43- التوحید، تقریر جواد علي كسار، الطبعة الخامسة، دار فرقد، إيران، 2006 م

الخوئي، أبو القاسم

44- معجم رجال الحديث، الطبعة الخامسة، د. م، 1992.

السفياني، عبد الله بن رقود

45- الخطاب الوعظي (مراجعة نقدية وأساليب الخطاب ومضامينه)، مرکز نماء للبحوث والدراسات، د. ت.

الشاهرودي، علي النمازي

46- مستدرکات علم رجال الحديث، الطبعة الأولى، طهران، 1412 ه.

شلبي، أحمد

47- مقارنة الأديان، الطبعة الرابعة، مكتبة النهظة المصرية، القاهرة، 1973.

شمس الدين، محمد مهدي

48- دراسات في نهج البلاغة، الطبعة الثانية، بيروت، 1972.

الشهري، عبد الهادي بن ظافر

49- استراتيجيات الخطاب، الطبعة الأولى، دار الكتاب الجديد المتحدة، طرابلس،

الشيرازي، صادق الحسيني

50- السياسة من واقع الإسلام، الطبعة الخامسة، دار صادق، کربلاء، 2005.

عاشور، علي

51- من غير علي يجيب، الطبعة الأولى، مؤسسة التاريخ العربي، بيروت، 2008.

ص: 118

عبد الحميد، صائب

52- تاريخ الإسلام الثقافي والسياسي، الطبعة الثانية، مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي، قم، 2005 العجمي ، فالح شبيب

53- اللغة والسحر، الطبعة الأولى، الرياض، 2003.

العقيلي، عبد الرحمن

54- سبيل المؤمنين إلى طريقة المعصومين، الطبعة الأولى، دار الحسين، 1437 ه.

علي، جواد

55- تاريخ العرب قبل الإسلام، الطبعة الثانية، بغداد، 1993.

القبانجي، حسن

56- شرح وصية أمير المؤمنين، دار الضياء، النجف الأشرف، 2012.

القرشي، باقر شریف

57- حياة الإمام الحسين، الطبعة الأولى، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، 1974.

محسن، الأمين

58- أعيان الشيعة، تحقیق و تخریج حسن الأمين، دار التعارف، بيروت، د. ت

المظفر، محمدرضا

59- المنطق، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، د. ت.

ص: 119

ص: 120

النسق القيمي التكاملي أثره الاصلاحي في مستوى تشكيل الذات السلوكية للمجتمع بحث في ضوء عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الاشتر (رضی الله عنه) أ. م. د. مكي فرحان كريم جامعة القادسية / كلية التربية أ. م. د. ضياء عزيز الموسوي جامعة كربلاء / كلية العوم الإسلامية

اشارة

ص: 121

ص: 122

مقدمة

ليس من السهل أن يتكامل البحث في الدين نفسه وقد تجسدت تكاملية هذا الدين في فكر الإمام علي «عليه السلام» وشخصيته، وتعددت الأبعاد المعرفية في هذه الشخصية، حتى باتت مادة خصبة للتنقيب في فكرها، والبحث في رؤيتها، وهي مؤسسة على أسس المدرسة الإلهية، منهجها القرآن الكريم، ومعلمها الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله وسلم»، شخصية ربطت العلم بالعمل، عنایتها المطلقة الدين القيم، والإنسانية، والحياة الحرة الكريمة، والعدالة في الحكم... تفاعلت والواقع الاجتماعي بمجالاته المختلفة، فاقترنت شخصيته باسمه عالية - الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» - حتى أصبح رائد العدالة والإنسانية، وثبّت أسسها بعهده الدولي (لمالك الأشتر) وعدّه دستوراً لبناء المجتمع العادل، ينظم إدارة شؤون دولته، ويسهم في بناء منظومته القيمية السلوكية، وتشکیل ذاته، ليشعر حراً بعبوديته المطلقة لله تعالى وحده...

في ضوء هذه الإشارة المعرفية لشخصية الإمام علي «عليه السلام»، وأهمية ما تضمنه نصّ عهده المبارك، تولدت الفكرة الرئيسة لأهداف البحث، وهي معرفة النسق القيمي التكاملي في مضمون العهد، ومعرفة أثره الإيحائي الإصلاحي في مستوى تشكيل الذات السلوكية للمجتمع...

وعليه قسم البحث على مبحثين، تناول المبحث الأول دراسة المداخل النظرية لمحددات البحث، وتناول المبحث الآخر دراسة العينة التطبيقية للبحث، وختم البحث بخاتمة تضمنت أهم نتائجه واستنتاجاته.

ص: 123

المبحث الأول دراسة المداخل النظرية لمحددات البحث

تمثل المنظومة القيمية للإنسان مرجعيته المعيارية التي تنظم حياته وتحكم سلوكياته، وهي بالنتيجة تسهم في حفظ هوية المجتمع وتجانسه وتماسكه وترابطه، ولعل الاهتمام بالنسق القيمي ودراسته هولما يحصل من تسارع في التغيير الثقافي وتأثيره في البناء المجتمعي، وكذلك انحلال التربية القيمية للفرد بصورة عامة.

إنّ القيم السائدة في هذه الأيام هي ليست نفسها القيم التي كانت سائدة في المجتمع منذ سنين أو عقود مضت، إذ إنّ تبدلاً كبيراً أصاب منظومات القيم اليوم، لاسيما مع تنامي موجات العولمة وما ارفقها من تطورات هائلة في مجال المعلوماتية وما أحدثه ذلك من تأثير في النسيج الاجتماعي والثقافي للمجتمع بشكل عام، والنسق القيمي على وجه الخصوص؛ لأنّ القيم انعکاس لثقافة المجتمع من جهة، واحتكاك هذه الثقافة مع الثقافات الأخر من جهة أخرى؛ ولأنّ ثقافة مجتمعاتنا تتعرض أكثر فأكثر إلى تغيرات كبرى وهي عرضة للتآكل والانطمار؛ لأنّ ما يشهده العالم المعاصر هو محاولة سيطرة نمط واحد من الثقافة الطاغية وهو النمط السائد عند الدول المتقدمة، وهذا ما كانت حصيلته تعرُّض الفرد للصراع بين القيم الموروثة والتقاليد المستوردة ما جعله يصاب بالحيرة والقلق (1).

إذ إنّ التغير الذي يطرأ على النسق القيمي المجتمعي اليوم هو التراجع الروحي في مقابل الإحباط والنفور والسخط المتولد عند الأفراد من مجموعة الظروف المحيطة بهم، وإنّ هذا التراجع من شأنه أن يجعل منهم أشخاصاً حاملين لقيم

ص: 124

متشددة متعصبة في ظل غياب مفهوم القيمة الروحية الحقيقية، أو قيماً مادية متدنية مثل: الرغبة في الثراء السريع، والرشوة، والوساطة... ورغم أنّها قيماً سلبية إلّا أنّها تلبي الحاجة الملحة لهم والتي فرضها عليهم الواقع الاجتماعي الاقتصادي الذي يسيطر عليه النمط الاستهلاكي الناتج عن استيراد أنماط الحياة الغربية بمظاهرها السلبية، وغياب قيمة العمل والنمط الإنتاجي الحقيقي وأكثر من ذلك فقد لحظ عزوفاً عن كثيرٍ من القيم الإيجابية عند البعض منهم، مثل قيم التعاون والتسامح، وحلّ بدلاً عنها تمسكهم بقشور القيم تاركين لجوهرها، إذ باتت مثل هذه القيم عبئاً عليهم في ظل سيطرة قيم سلبيةٍ، غالباً ما تكون مادية، وهذا بمجمله يعني فکراًمضطرباً، ولأنّ القيم التي يتبناها الفرد لا تنشأ من فراغ، ولا هي مجردة مطلقة، ولا ثابتة ولا أبدية، بل هي جزء من الخبرة الإنسانية الواقعية، وجزء من حاجات الفرد، كما أنّ لها دوراً كبيراً في توجيه سلوكه، وتحديد العلاقة بينه وبين مجتمعه، وبالنتيجة فهي تؤثر على نوعية حياته، وإنّ مدى هذا التأثير يحدده عمق تبني الشخص لهذه القيم، فمدى عمق هذا التبني قد يكون تأثيره سلبي أو إيجابي على نمط حياته، وهذا يعود إلى نوع القيمة التي يتبناها الشخص، والمفهوم المرتبط بها عنده، فهل هي قيم يغلب عليها الطابع المادي أو الطابع الروحي مثلاً، وقد أصبحت القيم ذات الطابع المادي هي الغالبة على قيم الأفراد (2).

ولعل ذلك يشكل أحد الأسباب الرئيسة من أسباب اشكالية البحث، مما تتطلب بحث معالجاتها في ضوء عهد الإمام علي «عليه السلام» لمالك الاشتر «رضوان الله عليه»، وهو اختيار تحددت فيه أكثر من سمة، منها: الذات الشخصية للإمام «عليه السلام»، والبعد الاستراتيجي للمعرفة بشكل عام في نصّ عهده المبارك ، وشخصية مالك الاشتر «رض» التي تنماز بالنمط المطيع،

ص: 125

وكذلك منها طبيعة الفرد وتأثره بالتطورات الثقافية المتسارعة المغرية التي تسير سلوکه ضمن إدارة غير صحيحة في تشكيل ذاته وتنظيمها، وتجعله مرتبكاً في إدارتها... إذ إنّ الطريقة المناسبة في إحداث تغيير في السلوك الإنساني هي أن يحدث التغيير في مفهوم الذات (3)؛ لأنّ هذا المفهوم هو فكرة الفرد وعلاقته ببيئته، وإنّ الكيفية التي يدرك الفرد بها ذاته تؤثر في الطريقة التي يسلك بها، كما أنّ سلوکه يؤثر في الكيفية التي يدرك فيها ذاته (4).

وبما أنّ الذات هي جزء من تشكل شخصية الفرد وبعد من أبعادها المهمة فإنّها العامل الأساسي المتفرد في التأثير على السلوك (5).

فالذات هي الاتجاهات والأحكام والقيم التي يحملها الفرد بالنسبة لسلوكه وقدراته وقيمته بوصفه إنساناً (6)... وهاهنا مصداق يتجسد في نمط ذات شخصية الإمام علي «عليه السلام» وهو نمط الشخصية العبقرية؛ «أنّه فتق أكثر من ثلاثين علماً، لم يعرفها المسلمون من قبل...» (7).

و ثابت هذا في قول رسول الله (صلى الله عليه وآله) «أنا مدينة العلم وعلي بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها» (8)، ومفصح عنه بقوله «علیه السلام» «علمني رسول الله ألفَ بابٍ من العلم ينفتح لي منها ألفُ باب...» (9). ومن بين العلوم التي انفرد بها الإمام (عليه السلام) وضعه لأنظمة الحكم والإدارة في عهده الدولي للزعيم مالك الأشتر (رضوان الله عليه)، فقد وضع فيه أدق أنظمة الحكم وأعمّها إصلاحاً لحياة الإنسان السياسية (والعامة)، في مجتمع لم يقفه أي بند من أنظمة الحكم والإدارة، وقد شرّع الإمام (عليه السلام) أروع صور الحضارة، وأبهي ألوان التطور والتقدم الفكري. (10)

وقد تجسد هذا الإصلاح الاجتماعي في نصّ عهده (عليه السلام) بالقيم

ص: 126

التي ضمنها فيه - النص - وبالتحديد القيم السياسية؛ إذ يعبر عنها باهتمام الفرد بالنشاط السياسي، وتعني تحقيق أهداف الفرد السيطرة والحكم والقوة كما يتميز الأشخاص الذين تسود عندهم هذه القيم بالقيادة في نواحي الحياة المختلفة، ويتصفون بقدرتهم على توجيه غيرهم ويكون عادة من المشتغلين بالسياسة (11).

إذ تتشكل في بنية النص المبارك دائرة من القيم التي بضمنها القيم السياسية وما تنتجه هذه القيم من دلالات ووظائف مختلفة ومتنوعة في ذهن الفرد يشكل بدوره سلوك ذاته، وينظم في ضوئها حياته الشخصية، متخذاً من تكاملها نسقاً قيمياً لضبط مركزه المحيطي والذاتي.

وهو - النسق القيمي - الذي عدّ (نظاماً في) إطار مرجعي للسلوك بين أولويات القيم، ينظم سلوك الفرد، ويأتي على قمة الإطار المرجعي العام لسلوك الفرد (12).

ص: 127

المبحث الثاني عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الاشتر (علیه السلام) أمثلة تطبيقية

يوثق الخطاب التوجيهي للإمام علي (عليه السلام)، في نصه المبارك الأطر المنهجية للنصوص القرآنية، ويرسمها على شكل نسق قيمي تکاملي يوضح عن طريقه صورة الذات الإلهية وانطباعها في ذهن الفرد، ليتمثل قيم هذه الصورة بأبعادها وصفاتها، واسمائها الخالصة، لتصبح سلوكاً، وفكراً، وكينونة، وهدفاً، ومنهجاً، يحدد مسالك طرق حياته العامة والخاصة، وبالنتيجة تتشكل عند تمثلها الذات السلوكية للمجتمع، إذ إنّ ذات الخطاب يعُظِّم هذه القيم بنسق ترابطي يبين أهميتها وفاعليتها الاجتماعية، فقد افتتح عهده (عليه السلام)، بالأمر والتذكير بتقوى الله تعالى واتباع أوامره، والالتزام بنواهيه، وهذا واضح في قوله (عليه السلام): «أَمَرَهُ بِتَقْوَى اللهِ، وَإِيثَارِ طَاعَتِهِ، وَاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ فِي كِتَابِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ، الَّتِي لاَ يَسْعَدُ أَحَدٌ إِلاَّ بِاتِّبَاعِهَا، وَلاَ يَشْقَى إِلاَّ مَعَ جُحُودِهَا وَإِضَاعَتِهَا، وَأَنْ يَنْصُرَ اللهَ سُبْحَانَهُ بَيَدِهِ وَقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ، فَإِنَّهُ، جَلَّ اسْمُهُ، قَدْ تَكَفَّلَ بِنَصْرِ مَنْ نَصَرَهُ، وَإِعْزَازِ مَنْ أَعَزَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكْسِرَ نَفْسَهُ عِنْدَ الشَّهَوَاتِ، وَيَزَعَهَا عِنْدَ الْجَمَحَاتِ، فَإِنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ، إِلاَّ مَا رَحِمَ اللهُ. ثُمَّ اعْلَمْ يَا مَالكُ، أَنِّي قدْ وَجَّهْتُكَ إِلَى بِلاَد قَدْ جَرَتْ عَلَيْهَا دُوَلٌ قَبْلَكَ، مِنْ عَدْل وَجَوْر، وَأَنَّ النَّاسَ يَنْظُرُونَ مِنْ أُمُورِكَ فِى مِثْلِ مَا كُنْتَ تَنْظُرُ فِيهِ مِنْ أُمُورِ الْوُلاَةِ قَبْلَكَ، وَيَقُولُونَ فِيكَ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِيهِمْ، إِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَى الصَّالِحِينَ بِمَا يُجْرِي اللهُ لَهُمْ عَلَى أَلْسُنِ عِبَادِهِ. فَلْيَكُنْ أَحَبَّ الذَّخَائِرِ إِلَيْكَ ذَخِيرَةُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، فَامْلِكْ هَوَاكَ، وَشُحَّ بِنَفْسِكَ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَكَ، فَإِنَّ الشُّحَّ بِالنَّفْسِ الاْنْصَافُ مِنْهَا فَيَما أَحْبَبْتَ وَكَرِهْتَ» (13).

حينما نقب في متن هذ المقطوعة من نص عهد الإمام (عليه السلام)، نلحظ أنّ

ص: 128

مفهوم (التقوى) أخذ الموقع الأصل في متن الحديث؛ وهو يشكل القيمة الأساس التي تستند (عليها) وترتبط (بها) وتتكامل (معها) القيم الأخرى مشكلة نسقاً قيمياً في بنية نص العهد المبارك، قدمها بصيغة الأمر (لمالك الأشتر- رض -)، فقد أمره بأوامر خمسة أولها إصلاح نفسه، العامل الأهم في تقوى الله تعالى - أحد هذه الأوامر - فهو القائل (عليه السلام) «فَمَن أَشعَرَ التَّقوَي قَلبَهُ بَرَّزَ مَهَلُهُ - وَقَازَ عَمَلُه» (14)؛ أي من اتّقی تقوى حقيقة برزت تؤدته؛ أي ظهرت عليه آثار الرحمة الإلهيّة في السكينة والوقار والحلم والأناة عن التسرّع إلى مطالب الدنيا، وعلمت راحته في الآخرة، وفاز عمله فيها بالجزاء الأوفي. ثمّ أمرهم بإحكام التقوى؛ أي أن تتّقوا الله تقوى حقيقيّة فإنّها الّتي يستحقّ بها الثواب الدائم، وأن يعملوا للجنّة عملها الّتي تستحقّ به (15).

فهذا هو سياق القرآن الكريم الذي أوصى عباده بالتقوى فقال تعالى «وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا» (16)؛ والمعنى «جُعل الأمر بالتقوى وصيةً؛ لأنّ الوصية قول فيه أمرٌ بشيء نافع جامع لخير كثير، فلذلك كان الشأن في الوصية إيجاز القول؛ لأنّها يقصد منها وعي السامع، واستحضاره كلمة الوصية في سائر أحواله، والتقوى تجمع الخيرات؛ لأنّها امتثال الأوامر واجتناب المناهي... والتقوى المأمور بها هنا منظور فيها إلى أساسها وهو الإيمان بالله ورسله... وبيَّن بها عدم حاجته تعالى إلى تقوى الناس، ولكنّها لصلاح أنفسهم...» (17).

فالتقوى قيمة ضابطة لقيمة العمل، كما أنّها قيمة موجبة تقع على رأس منظومة القيم، على اعتبار أنّ سيادة التقوى في أعمال المسلمين يؤدي إلى صلاح

ص: 129

أحوال المجتمع... (18)

والثاني: اتّباع أوامره في كتابه من فرائضه و سننه، ورغّب في ذلك بقوله: لا يسعد... إلى قوله: إضاعتها. وتكرّر بيان ذلك (19).

فالطاعة هي القيمة المشار إليها باتباع الأوامر؛ إذ إنّ عبادة الله تعالى تتکامل بها، في اتباع لأوامره، واجتناب لنواهيه، عملاً خالصاً نابعاً من الذات، كما أنها حق من حقوق الله تعالى على البشر، فمن يطع الله تعالى ورسوله يغدق عليه بنعمه ففي قوله تعالى: «وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا» (20)؛ بمعنى إنّ الطاعة لازمة من لوازم «صلاح النفس والذات» (21)، ومقام المطيعين عند الله تعالی مقام النبين والصديقين والشهداء والصالحين، فهم «... منزلون منزلتهم عند الله أي بحكم منه لهم أجرهم ونورهم» (22).

وقد ساق الإمام علي (عليه السلام) في موقع آخر من خطبه جاعلاً من الطاعة بأنّها حق من حقوق الله تعالى، بقوله: «... وَ لَکِنَّهُ سُبْحَانَهُ جَعَلَ حَقَّهُ عَلَی الْعِبَادِ أَنْ یُطِیعُوهُ - وَ جَعَلَ جَزَاءَهُمْ عَلَیْهِ مُضَاعَفَةَ الثَّوَابِ - تَفَضُّلاً مِنْهُ وَ تَوَسُّعاً بِمَا هُوَ مِنَ الْمَزِیدِ أَهْلُهُ... فَلَیْسَتْ تَصْلُحُ الرَّعِیَّةُ إِلاَّ بِصَلاَحِ الْوُلاَةِ - وَ لاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ إِلاَّ بِاسْتِقَامَةِ الرَّعِیَّةِ..» (23)

«... بيّن فيها أنّ حقوق الخلق بعضهم على بعض من حقّ الله تعالى من حيث إنّ حقّه على عباده هو الطاعة، و أداء تلك الحقوق طاعات لله كحقّ الوالد على ولده وبالعكس، وحقّ الزوج على الزوجة، وحقّ الوالي على الرعيّة وبالعكس ... (ف) صلاح حال الولاة منوط بصلاح الرعيّة واستقامتهم في طاعتهم، وفساد أحوالهم بعصيانهم ومخالفتهم. فإذا أدّى كلّ من الوالي والرعيّة الحقّ إلى صاحبه عزّ

ص: 130

الحقّ بينهم ولم يكن له مخالف (24).

والثالث: أن ينصر الله سبحانه بيده وقلبه ولسانه في جهاد العدوّ. وإنكار المنكرات. رغّب في ذلك بقوله: قد تكفّل. إلى قوله: أعزّه (25). كقوله تعالى «إِن تَنصُرُوا الله يَنصُركُم ويُثَبِّت أَقدامَكُم».

فقد قرن الإمام (عليه السلام) قيمة النصر بقيمة الجهاد، ووظيفة الخاصة وهي (مجاهدة العدو - الخروج عن دين الله وطاعته)، وقد استشهد بقوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ» (26)؛ وهو «تحضيض لهم على الجهاد ووعد لهم بالنصر إن نصروا الله تعالى فالمراد بنصرهم لله أن يجاهدوا في سبيل الله على أن يقاتلوا لوجه الله تأييداً لدينه وإعلاء لكلمة الحق لا ليستعلوا في الأرض أو ليصيبوا غنيمة أو ليظهروا نجده وشجاعة (27)».

ووظيفته العامة وهي (مجاهدة النفس)؛ بدليل قوله (عليه السلام) (یَکسِرَ نَفسَهُ مِنَ الشَّهَوَاتِ .. فَإِنَّ النَّفسَ أَمَارَةٌ بِالسُّوءِ).

وقد ذكر الجهاد بتعدد وظائفه في موقع مهم في خطبه (عليه السلام) وأسنده إلى التقوى، وجعله باباً من أبواب الجنة، إذ قال: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ اَلْجَنَّةِ - فَتَحَهُ اَللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِیَائِهِ وَ هُوَ لِبَاسُ اَلتَّقْوَی - وَ دِرْعُ اَللَّهِ اَلْحَصِینَةُ وَ جُنَّتُهُ اَلْوَثِیقَةُ» (28)

«وبيانه أنّ الجهاد تارة يراد به جهاد العدوّ الظاهر كما هو الظاهر هاهنا، وتارة يعنی به جهاد العدوّ الخفي وهو النفس الأمارة بالسوء.

وكلاهما بابان من أبواب الجنّة، والثاني منهما مراد بواسطة الأوّل إذ هو لازمة له؛ وذلك أنّك علمت أنّ لقاء الله سبحانه و مشاهدة حضرة الربوبيّة هي ثمرة

ص: 131

الخلقة وغاية سعى عباد الله الأبرار، ثمّ. قد ثبت بالضرورة من دين محمّد صلی الله عليه وآله وسلم أنّ الجهاد أحد العبادات الخمس، وثبت أيضا في علم السلوك إلى الله أنّ العبادات الشرعيّة هي المتمّة والمعينة على تطويع النفس الأمّارة بالسوء للنفس المطمئنّة، وأنّ التطويع كيف يكون وسيلة إلى الجنّة الّتي وعد المتّقون» (29).

وفي مجاهدة النفس فقد انطلق الإمام (عليه السلام) من المصدر الأصل وهو القرآن الكريم، لتبيان والوظيفة الذاتية في قيمة الجهاد مستشهداً بقوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» (30)؛ أي إنّ النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها ووفورها فمن الجهل أن تبرأ من الميل إلى السوء، وإنّما تكف عن أمرها بالسوء ودعوتها إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء وتوفقها لصالح العمل» (31).

وتتكامل الوظيفة الجهادية ضمن النسق القيمي في الأمر الرابع، أن يكسر من نفسه عند الشهوات. وهو أمر بفضيلة العفّة (32).

فالعفة؛ قيمة تطلق على معنيين عام و خاص، فالعام هو ضبط النفس في مقابل الرغبات والميول النفسانية والإفراط في اتباعها، وأمّا الخاص هو ضبط النفس في مقابل متطلبات الغريزة الجنسية والتحلل الأخلاقي (33).

وفي حديث للإمام علي بن الحسين (عليهما السلام) «ما من شيءٍ أحب إلى الله بعد معرفته من عفة بطن وفرج، وما من شيء أحب إلى الله من أن يُسأل (34).

بمعنى إنّ العفة مانعة من وجود السبب المزاحم، والسبب المزاحم أشدُّ تأثيراً من السبب المعد دائماً، وفي الأمور المعنوية كذلك، فإنَّ الإنسان الذي يأتي بالعبادات كثيراً ولكنه في نفس الوقت يُدخل على قلبِهِ وروحِهِ الذنب والمعصية فهنا لن يكون لعباداته أية أثرا، بخلاف ما إذا لم يدنس القلب شيءٌ من الذنوب؛

ص: 132

فإنَّ فطرته الإلهية سوف تهديه إلى الرشد والكمال (35). فالعفة هي السمو والترفع عن ملذات الدنيا وترك شهواتها، وهذا هو دفها الأصل.

والأمر الخامس: أن يكفّها ويقاومها عند الجمحات. وهو أمر بفضيلة الصبر عن اتّباع الهوى وهو فضيلة تحت العفّة، وحذر من النفس.. (36) (بدليل الآية المباركة).

قال الله تعالى: «وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ» (37). فالصبر قيمة تعبر عن؛ قسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل أوامر ونواهي، وهو دليل رجاحة العقل، وسعة الأفق، وسمو الخلق، وعظمة البطولة والجَلَد، كما هو معراج طاعة الله تعالى ورضوانه، وسبب الظفر والنجاح، والدرع الواقي من شماتة الأعداء والحسّاد (38).

والصبر ضربان: إما أن يكون بدنياً، وإما نفسياً، فأما البدني کتحمل المشاق بالبدن والثبات عليها، وكتعاطي الأعمال الشاقة، وأما النفسي فيكون عن مشتهيات الطبع ومقتضيات الهوى، ثم إن هذا الضرب إن كان صبراً على شهوة البطن والفرج سمي عفة، وإن كان على احتمال مکروه، اختلفت تسمياته عند الناس باختلاف المكروه الذي غلب عليه الصبر، فإن كان في مصيبة اقتصر على اسم الصبر، وتضاده حالة تسمى الجزع والهلع، وهو إطلاق داعي الهوى ليسترسل في رفع الصوت و ضرب الحدود وشق الجيوب وغيرهما.

وإن كان في احتمال الغني سمي ضبط النفس، و تضاده حالة تسمى البطر، وإن كان في حرب ومقاتلة سمي شجاعة ويضاده الجبن، وإن كان في كظم الغيظ والغضب سمي حلماً ويضاده التذمر... وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً ويضاده الحرص، وإن كان صبراً عن قدر يسير من الحظوظ سمي قناعة ويضاده

ص: 133

الشر (39).

وقد ذكر الإمام (عليه السلام) الصبر بقوله: «رَحِمَ اللهُ عَبداً سَمِعَ حُكماً فَوَعَی،... جَعَلَ الصَّبرَ مَطِيَّةَ نَجَاتِهِ، والتَّقوَى عُدَّةَ وَفَاتِهِ...» (40).

ف (الصبر) قيمة خلقية ومظهر من مظاهر الشخصية الإنسانية المؤمنة، تُعرف به حقيقة الإيمان وحسن اليقين بالله، والصبر والتقوى في الإسلام صنوان لا يفترقان، أحدهما منوط بالآخر لا يتم كلُّ واحد منهما إلا بصاحبه، فمن كانت التقوى مقامه كان الصبر حاله، ومن هنا يكون الصبر أفضل الأحوال من حيث كانت التقوى أعلى المقامات، إذ الأتقي هو الأكرم عند الله تعالى، والأكرم على الله تعالى هو الأفضل، وإن كان كل شيء به وكل عمل صالح له ولا يصف الله تعالى عبداً ولا يثني عليه حتى يبتليه، فإن صبر وخرج من البلاء سليماً مدحه ووصفه وإلّا بين له كذبه ودعواه (41).

فقد تجسدت وصية الإمام علي (عليه السلام) في عهده المبارك لمالك الأشتر (رضوان الله عليه) بدعوته إلى الشجاعة والجرأة والعمل بما خير وتحمل الداء وعدم الاستنامة إليه، والصبر بمراتبه، وإخفاء الزهد، أي الزهد في سبيل التظاهر والزهد في القلب مع مواصلة العمل والجهاد، و نهيه عن الإعجاب بالنفس وحب الثناء، ولا تعرض نفسك للهلاك إلّا أن تقضي غاية سامية وضرورة لازمة، فأنه أدخل في نطاق المعاملة النفسية، كل هذه العهود يتناولها الإنسان بينه وبين نفسه، وبين نفسه وبين الآخر (42).

فقد تجسدت تكاملية القيم بشكلها النسقي والترابطي بحسب أهميتها في هذه المقطوعة من نص العهد المبارك للإمام علي (عليه السلام) بصورة خطاب رسم عن طريقه لوحة الإدارة والحاكمية (لمالك الأشتر - رضوان الله عليه -) وتطبيقها

ص: 134

بمعية رعيته فيما إذا حصل الاستعداد الذاتي من الرعية، وإظهار هذه القيمة لهم في سلوك حكمه تمثلاً ذاتياً لمنهج القرآن، ولا مصطنعاً بحسب الرغبة واللذة والشهوة... وجعل هذه القيم مرکزاً مهماً للتنشئة الاجتماعية حصيلتها أن يتمثلها الفرد لتصبح منهجه في تشكيل ذاته السلوكية في المجتمع.

لأنّ القيم تعد من أهم موجهات السلوك الإنساني وهی ضوابط اجتماعية تضبط السلوك المرغوب والسلوك غير المرغوب (43)، إذ إنّ الوعي بقيمة الأشياء هو بمثابة رد فعل إنساني أو حركة تبادلية بين عالم الأشياء ووجودها الواقعي من جهة، وبين عالم الذات وظروفها الاجتماعية من جهة أخرى (44). وهذا ما خاطب به الإمام (عليه السلام) العام من الناس بالخاص منهم متمثلاً بشخص مالك الأشتر (رضوان الله عليه) بتقبل القيم وتمثلها والعمل بمضمونها في الحياة العامة والخاصة.

ص: 135

الخاتمة

(أهم النتائج والاستنتاجات)

1. جسد الإمام علي (عليه السلام) منظومة القيم الإلهية بنسق منتظم مترابط الوظيفة والأهمية، في منهج سياسته وإدارته في توعية المجتمع وإصلاحه، عن طريق ما تضمنه عهده إلى مالك الأشتر (رضوان الله عليه).

2. اتسمت القيم المتضمنة في وثيقة العهد المبارك بشمولية النسق من جهة زمکانیتها، وأهدافها، ووظائفها، وتحفيز الدافع نحوها؛ لما يحمله النص من بلاغة عالية وأسلوب يحاكي الوجدان، وينشط الذاكرة الإدراكية للفرد بإعادة بناء شخصيته و تشکلها ذاتياً.

3. تتضح أهمية النسق القيمي في نص العهد المبارك للفرد في استعداده على تهيئة التقنية المناسبة في تقبل القيمة وتمثلها، وجعلها أداة مساعدة في إدارة حياته العامة والخاصة.

4. (التقوى، والطاعة، والجهاد، والعفة، والصبر، صفات عليا وهي من صفات الله الحسنى، وقد جعلها من عزم الأمور، وأضاف إليها في القرآن أكثر الدرجات وأكبرها، وأعلى المراتب وأسماها، وجعلها صفات منتجة دائماً.

5. تعد شخصية الإمام علي (عليه السلام) هي المصدر الحقيقي الصادق لقيم القرآن؛ وهذا ما تضمنه نص عهده المبارك، من منهج فكري، وعلمي، ودستوري، وعلمي، وتربوي، يتمثله (العام / الخاص)، (المسلم / غير المسلم) في كل مكان وزمان.

ص: 136

هوامش البحث:

1. ينظر: الزيود، ماجد، الشباب والقيم في عالم متغير، ط 1، الأردن، عمان، دار الشروق، 2006 ص 46.

2. عبود، ضحی، و بشری نبيل خليل، النسق القيمي وعلاقته بالقلق لدى عينة من طلبة جامعة دمشق، مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية - سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية (المجلد 63) (العدد 3)، 2014. ص 135 - 136.

3. حامد زهران، 1990، ص 291.

4. صالح ابو جادو، 1998، ص 151

5. نعيمة الشماع، 1977، ص 185.

6. من رسالة مفهوم الذات ص 7

7. العقاد، عبقرية الامام علي ع

8. مناقب علي بن أبي طالب، أبن المغازلي الشافعي: 101،

9. الاختصاص، الشيخ المفيد: 283

10. - القريشي، باقر شریف، شرح العهد الدولي للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، تحقيق: مهدي باقر القريشي، ط 1، ستارة للطباعة، النجف الأشرف، د. ت.

11. زهران ص 125.

p ،1976 Kitwood .12 227

13. شرح نهج البلاغة، ج 5، ص 135.

14. نفسه، ج 3، ص 151.

15. شرح نهج البلاغة. مصدر سابق. ج 3، ص 153.

16. النساء / 131.

17. تفسير ابن عاشور، ص 99.

18. في فلسفة التربية، نظريا وتطبيقيا، أحمد على محمد، المنهل، 2014. ص 130.

19. شرح نهج البلاغة. مصدر سابق. ج 5، ص 135.

20. النساء / 69.

21. تفسير الميزان، الطباطبائي، ج 1، ص 176.

ص: 137

22. تفسير الميزان. مصدر سابق. ج 19، ص 88.

23. شرح نهج البلاغة (ابن میثم)، ج 4، ص 39

24. نفسه، ج 4، ص 43 - 44

25. نفسه، ج 5، ص 136.

26. محمد / 7.

27. تفسير الميزان. مصدر سابق. ج 18، ص 120.

28. شرح نهج البلاغة (ابن میثم) ، ج 2، ص 30.

29. نفسه، ج 2، ص 33.

30. يوسف / 35.

31. تفسير الميزان. مصدر سابق. ج 11، ص 106.

32. شرح نهج البلاغة (ابن میثم)، ج 5، ص 36.

33. الأخلاق في القرآن ج 2: 259.

34. تحف العقول: 282.

35. العفة القرآنية.. سورة يوسف مثالاً، جعفر علي المالكي، مجلة رسالة القلم - العدد 27 - 7 رجب 1432 ه ( https://www.olamaa.cc /).

36. شرح نهج البلاغة (ابن میثم)، ج 5، ص 36.

37. الكهف: 28.

38. ينظر: مفردات غريب القرآن: 273.

39. الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، دار الحديث، القاهرة، 1994. ج 4، ص 104.

40. شرح نهج البلاغة، ابن ابی الحدید، ج 6، ص 173.

41. قوت القلوب في معاملة المحبوب: أبو طالب المكي: 1/ 331.

42. الاغراض الاجتماعية في نهج البلاغة، محسن الأمين، ط 2، مؤسسة البلاغ، 1987.

43. سيف الإسلام على مطر، التغير الاجتماعي، ط 2 (المنصورة دار الوفاء للطباعة، 1988) ص 79

44. قاری محمد إسماعيل، قضايا علم الأخلاق، مرجع سابق، ص 77

ص: 138

المصادر والمراجع

* القرآن الكريم

1. ابن عاشور، محمد الطاهر، تفسير التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، تونس، 2008.

2. أبو جادو، صالح محمد، سيكولوجية التنشئة الاجتماعية، ط 1، دار المسيرة، عمان، 1889.

3. الأمين، محسن، الاغراض الاجتماعية في نهج البلاغة، ط 2، مؤسسة البلاغ، 1987.

4. البحراني، العلامة كمال الدين میثم بن علي بن میثم، شرح نهج البلاغة، ط 1، منشورات دار الثقلين للطباعة والنشر والتوزيع، 1999.

5. تفسير الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائی، صححه وأشرف على طباعته: الشيخ حسين الأعلمي، منشورات مؤسسة الأعلمی للمطبوعات، طبعة 1 محققة، 1997.

6. الحراني، ابن شعبة، تحف العقول عن آل الرسول، انتشارات الإسلامية، 1384 ه. ق.

7. الراغب الأصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف (ت: 502 ه)، المفردات في غريب القرآن: تحقيق: صفوان عدنان الداودي، دار القلم، دمشق، ط 1412، 1 ه.

8. زهران، حامد عبدالسلام، علم نفس النمو، «الطفولة والمراهقة»، ط 5، علم الكتب، القاهرة، 1990.

9. الزيود، ماجد، الشباب والقيم في عالم متغير، ط 1، الأردن، عمان، دار الشروق، 2006.

10. سيف الإسلام، على مطر، التغير الاجتماعي، ط 2، دار الوفاء للطباعة، المنصورة 1988.

11. الشماع، نعيمة، الشخصية النظرية والتقييم مناهج البحث، المنظمة العربية للتربية

ص: 139

والثقافة والعلوم، معهد البحوث والدراسات العربية، 1977.

12. الشيرازي، الشيخ ناصر مکارم (دام طلّه العالي) بالتعاون مع مجموعة من الفضلاء، الأخلاق في القرآن، مدرسة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام. د. ت.

13. عبد الله، نبوية لطفي، مفهوم الذات لدى الاطفال المحرومين من الام دراسة مقارنة، جامعة عين شمس، مصر، 2000.

14. عبود، ضحی، وبشری نبیل خليل، النسق القيمي وعلاقته بالقلق لدى عينة من طلبة جامعة دمشق، مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية - سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية (المجلد 63) (العدد 3)، 2014.

15. العقاد، عباس محمود، عبقرية الامام علي ع المكتبة العصرية للطباعة والنشر، مصر، 1949

16. الغزالي، أبو حامد محمد بن محمد، إحياء علوم الدين، دار الحديث، القاهرة، 1994.

17. القريشي، باقر شریف، شرح العهد الدولي للإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لمالك الأشتر، تحقيق: مهدي باقر القريشي، ط 1، ستارة للطباعة، النجف الأشرف، د. ت.

18. المالكي، جعفر علي، العفة القرآنية.. سورة يوسف مثالاً، مجلة رسالة القلم - العدد 27 - 7 رجب 1432 ه ( https://www.olamaa.cc /).

19. محمد، أحمد علي، في فلسفة التربية، نظريا وتطبيقيا، المنهل، 2014.

20. المعتزلي، ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ط 2، تحقيق: محمد ابراهیم، دار الأميرة للطباعة والنشر والتوزيع ،بیروت، 2007.

21. المغازلي (المتوفي: 483 ه)، علي بن محمد بن محمد بن الطيب، مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، المحقق: أبو عبد الرحمن تركي بن عبد الله الوادعي، ط 1، دار الآثار ، صنعاء، 2003.

ص: 140

22. المفيد، الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان البغدادي،، ط 1، نشر وتحقيق: مؤسسة ال البيت لإحياء التراث، د. ت.

23. المكي، أبو طالب (ت 386 ه)، قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، ط 1، دار العلوم، القاهرة، 2001.

ص: 141

ص: 142

دور القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الإنسان في ضوء سيرة أمير المؤمنين (علیه السلام) وانعكاسها في خدمة المجتمع الاسلامي وتوظيفها في المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا أ. د. صباح حسن عبد الزبيدي جامعه بابل / كلية التربية للعلوم الإنسانية

اشارة

ص: 143

ص: 144

الفصل الاول مدخل عام

مشكلة البحث

من المعلوم ان الانسان كائن اجتماعي عظيم ومفضل عند الله سبحانه وتعالى. فقد اکرمه تبارك وتعالى بجملة من الخصائص المميزة، وقد فاق بها على جميع الخلائق والكائنات. وبذلك اعتلى في سلم المراتب والدرجات الى القمه الرفيعة من التكريم والتفضيل. استنادا الى قوله تعالى «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» سورة الاسراء / 70 (عبد العزيز: 1984)

وفي ضوء ما تقدم اهتم الاسلام بالإنسان والعناية به والحرص عليه. فقد احاط الاسلام بالإنسان بان جعله سيد الخلائق وبلا منازع حيث انه منذ وجوده في بطن امه جنینا، ومروا بفتره الطفولة والفتوه والشباب ثم انتهائنا بالشيخوخة. فقد اهتم الاسلام بالإنسان كون (الاب. الام. الزوج. الزوجة. الشباب. الفتاه. العامل، الطبيب. المحامي. المعلم. القاضي. المجاهد في سبيل الله. يقدم خدمته للمجتمع الذي يعيش فيه. اي ان الذي يؤمن بالعقيدة الإسلامية دون تفريق وهي الايمان (بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الاخر. والقدر، وكذلك يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ويصوم شهر رمضان وحج البيت ان استطاع اليه سبيلا. وكذلك يريد الانسان الوالد الذي يفرض على الابوين واجب العناية والرعاية والتكريم والتقدير والاحترام. فقد حدد مكانه الاب والام او الزوج والزوجة، وكذلك بر الوالدين.

ص: 145

وكذلك اكد الاسلام على الانسان الجار الذي وجب عليه العناية بالجار. في تقديم المعونة له في اوقات الضيق والحاجه. والاهتمام بالإنسان اليتيم والضعيف والمسكنين الذي فقد ابه وامه، وكذلك اكد على الانسان العالم الذي يمثل مرکز الصدارة من حيث التقدير والعناية. وذلك بما يحمل من علم ثاقب ونظرة وتفكير وتعظيم اهل العلم وطالبيه. والأنسان العامل الذي يعمل بالعقيدة الإسلامية في الخير النافع، فيعمل بمصلحة العامة وليس بمصلحته الخاصة وكذلك الانسان المجاهد الذي يجاهد بالعلم واللسان من خلال الكلمة الطيبة واصلاح المجتمع وفي تايد الواجبات المقدسة ضد العدو.

ومن هنا جاءت سيرة المير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان خلقا وعلما وروحا یما يقدمه من خدمات للمجتمع الاسلامي، فالأمام (عليه السلام) يريد من الانسان قيم فاضله تتمثل بالإنسان العابد الذي يمتثل للطاعه والخضوع إلى الله سبحانه وتعالى بمشاعره وعاطفته. وان یکون واعيا ترسخت به العقيدة الإسلامية وحب اخيه المسلم بغض النظر عن لغته التي ينطق بها او جنسه الذي ينتمي اليه او او قومه الذي يحيا بينهم.

وبذلك يريد الأنسان المؤمن الذي يكون بناءه وفق ایمانه الصادق. وان الله سبحانه وتعالى معه في ايمانه الصادق في كل مكان وزمان وعند ذلك تتحقق المضامين. الاستقرار النفسي ومهما تعرض هذا الانسان إلى مشاكل او متاعب او وساوس او اوهام ويبدل ذلك حياته من الخوف والقلق الى حالة الامن والسلام. ويشعر الإنسان بالتالي بالسعادة والهاء استنادا الى قوله تعالى «الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ» 28 سورة الرعد / 28 (الحيالي. صبر واخرون: 2014)

ص: 146

أهمية البحث:

1. بناء شخصيه قوية العقيدة، قوي في الفكر الاسلامي، متمسكة بتطبيق القيم الأخلاقية الفاضلة في مؤسساتنا المختلفة مقتديه بهذه القيم في عملها مستقبلا مستمدة من منابع القيم الإسلامية واهل البيت (عليهم السلام) جعل هذه القيم خطوط عريضة في بناء الامه الإسلامية التي تستنير بقادتها ورموزها الدينية فب بناء الفرد والمجتمع

2. التأكيد على القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة التي جاء بها الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام (القناعة، الكرم، العفة، الأمانة، التأخي، اليقين، الكلم الطيب، محاسبه النفس، التوبة،. طاعه الله وتقواه، الثبات على المبدأ، الشكر... الخ

3. لقد اكدت الأهداف التربوية في العراق على ضروه بناء شخصيه الانسان المتكاملة. وان بناء شخصيه الانسان تتأثر بالعناصر التأليه (الروح. والنفس. والعقل) سلبا او ايجابا. فأي خلل في هذه العناصر أو المكونات يؤدي الى ضعف في جوانب شخصيه الانسان وذلك تبعا للمرحلة العمرية ومستوى الادراك والاستيعاب والبيئة المحيطة به والاسس العقائدية والفكرية. كما اكدت عليها عدة دراسات وبحوث في مجال التربية وعلم النفس التي تحدثت عن جوانب بناء الشخصية وانماطها واشكالها وخصائصها وقوتها وضعفها ومن الخصائص هذه الشخصية ومنها:

• الشخصية المتوازنة: فهي الشخصية الإيجابية المقبولة عند الله والرسول والناس ولابد للمسلم ان يتحلى بها ويلتزم بثوابتها

ص: 147

• الشخصية المتفاعلة:- فهي الشخصية التي تتفاعل مع الاحداث والمواقف بالإيجاب او السلب مما يصبها في بعض الاحيان (التهور والاستعجال) او تكون بعيده عن ذلك وتوصف هذه الشخصية بانها غامضه

• الشخصية الإنتاجية: فهي الشخصية التي تتحرك حسب قوانين وسنن الحياه وتستخدم كافه عوامل الخير في ذاتها لأجل الوصول إلى أهداف إنتاجيه حسب الطلب والغاية

• الشخصية المرنة: فهي الشخصية التي تتصف بالمرونة والجذابة وتمتلك اساليب التعامل والتفاعل والتكييف ولها القدرة على التخطيط الواعي والناجح والتعامل مع كافة الظروف ولها القدرة على التغير الايجابي في مواجهه الصدمات والمفاجئات. (الخاقاني: 2011)

1. استنباط القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة من منابعها الأساسية (القران الكريم والسيرة النبوية المطهرة والعترة الطاهرة ويقف في مقدمة ذلك سيدنا و مولنا الإمام أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

2. ان القيم الأخلاقية الفاضلة تشكل رکینا اساسيا في بناء الشخصية السوية الإسلامية لأنها تتمثل في تنظيم المجتمع وهي مصدر سعادة الانسان واستقامته، استنادا الى قوله تعالى «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» سورة القلم / 4

3. ان القيم الأخلاقية الفاضلة لها دور كبيرا في نظم الاسلام. استنادا الى قول الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) (انما بعثت لا تتم مکارم الاخلاق) فهي ترض بکمال الدين والسعادة النفسية في عالم الدنيا والاخر

4. تمكن المجتمع ومؤسساته الاخرى ان تغرس هذه القيم قولا وسلوكا وهي

ص: 148

(الصدق. الرحمة. العدل. الأمانة. المحبة. الايثار. الثقة بالنفس. الجد في العمل كلها تساهم في بناء الانسان المؤمن المجاهد المتعلم الذي يواجه مشکلاته بسلوك العادل القائم على الاستقامة والتفاعل والانسجام

أهداف البحث:

يهدف البحث الإجابة على الأسئلة الأتية:

1. التعرف على القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان وخدمة المجتمع الاسلامي الموحد في الفلسفة الإسلامية

2. التعرف على القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

3. توظيف القيم الأخلاقية الفاضلة في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في خدمة المجتمع الاسلامي

4. توظيف القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا

حدود البحث:

يقتصر حدود البحث على الأدبيات الآتية:

أ- الأدبيات التي تناولت موضوع القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة والمنشورة في الأدبيات حتى عام 2017

ب- الأدبيات التي تناولت سيرة أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان والمجتمع الاسلامي الموحد المنشورة حتى عام 2017

ص: 149

تحديد المصطلحات:

سيتم تحديد المصطلحات الآتية وهي:

أولا: الدور: ويعرف بعدة تعاريف منها:

أ- وهو توقعات لأنماط معينة من السلوك تشكلها الخصائص الرسمية والتي يحددها الفرد او الجماعة (قمر: 2005)

ب- يعرفه مذكور، هو وضع اجتماعي ترتبط به مجموعة من الخصائص الشخصية ومجموعة من ضروب النشاط التي يعزو اليها القائم بها والمجتمع معا

ج- مجموعة من الافعال المكتسبة التي يؤمن بها شخص في موقف تفاعلي اجتماعي (مذکور: 1975)

د- ويعرف اجرائيا (هو سلوك متوقع تقوم به السيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في ضوء القيم الأخلاقية الفاضلة لبناء الانسان وخدمة المجتمع الاسلامي وتضمينها في المناهج الدراسية الجامعية

ثانيا:- القيم الأخلاقية الفاضلة:

1- القيم:- وتعرف القيم بعدة تعاريف بجانبها النظري والعملي

أ- القيم المادية هي كالمعادن النفيسة.

ب- القيم المعنوية وهي الاستقامة وحسن السمعة.

ج- القيم في نظر علماء الاجتماع- هي حقائق تعبر عن التركيب الاجتماعي يعتمد الافراد والجماعات على تطبيقها بغية الوصول اهداف ما. (النروه

ص: 150

جي: 1990).

د- عرفها الخوري: هي القواعد والسلوك التي يستطيع الناس من خلالها وبواسطتها ان يستمد امالهم ويجربوا تصرفاتهم (خوري: 1983).

ه- هو كل مفهوم او موضوع او هدف مرغوب فيه وتسعى المدرسة الى ترسيخه وجعله سلوكا ممارسا مطلوبة تحقيق، وهذه القيم، على انواها (وطنيه، قوميه، انسانيه) (وزارة التربية العراقية: 1992)

و- عرفها کنعان:- هي معيار للحكم على كل ما يؤمن به مجتمع ما ويؤثر في سلوك أفراده حيث يمكن خلالها الحكم على شخصية الفرد، من حيث صدق الانتماء نحو المجتمع لكل افكاره ومعتقداته واهدافه وطموحاته. وقد تكون هذه القيم ايجابيه او سلبيه (کنعان: 1999)

ز- ويعرفها الباحث اجرائیا:- مجموعه المبادئ والقواعد والمثل العليا والسلوك والمستمدة من القران الكريم والسنة النبوية المطهرة والتي اكد عليها الامام الحسن المجتبى (عليه السلام) التي يستطيع الناس من خلالها ان يستمدوا امالهم ويزنوا تصرفاتهم وسلوكهم في الحياه العامة ولاسيما التربوية منها

2-: الاخلاق:-. وتعرف بعدة تعاريف: بجانبها النظري والعملي:

أ- عرفها مهدي واخرون:- هي الفعل السلوكي الذي يتضمن العادات والتقاليد والآداب والمثل المرعية في مجتمع ما. (مهدي واخرون: 2002).

ب- عرفها عبد العزيز: هي السلوك الذي يسلكه الانسان في الحياة (عبد العزيز: 1981)

ص: 151

ج- يعرفها الباحث اجرائیا:-

هي الفعل السلوكي الذي يتضمن العادات والتقاليد والآداب والمثل المرعية في مجتمع ما. والذي يسلكه الانسان من خلال حياته العامة والتي تساير المعايير الاجتماعية في المجتمع الذي يعيش فيه الانسان والتي يمكن ان تظهر من خلال التنشئة الاجتماعية والتربية وتهذيب بالدين والقانون الطبيعي للحياة

3-: القيم الأخلاقية:- وتعرف بعدة تعاريف: بجانبها النظري والعملي:

أ. عرفها احمد (بانها مجموعه من العادات والتقاليد والمعاير والاهداف العليا التي يؤمن بها المجتمع وتعمل على تنظيم الحياه الاجتماعية وتوجيه السلوك الاخلاقي نحو وجهه الخير والفضيلة ودرء الاخطار والمشكلات التي تواجه المجتمع (بركات: 1982)

ب. عرفها الطهطاوي: - بانها (مجموعه المبادئ والقواعد والمثل العليا التي يؤمن بها الناس ويتفقون عليها فيما بينهم ويتخذون منها میزانايزنون به اعمالهم ويحكمون تصرفاتهم المادية والمعنوية: (الطهطاوي: 1996)

ج- وعرفها الباحث: بانها مجموعه المبادي والقواعد والمثل العليا التي يؤمن بها المجتمع والمستمدة من القران الكريم واحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) والتي اكد عليها امير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي وتوظيفها في المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا.

ص: 152

ثالثا:- امیر المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

وهو الامام علي بن ابي طالب امير المؤمنين (عليه السلام) شخصيه عظيمه لا تنحصر على المسلمين فحسب بل هي شخصيه عالميه للناس كافه نستمد منها دروس وعبر في الحياه

ولد الامام في (13) من شهر رجب عام 23 قبل الهجرة النبوية الشريفة، وقد قدر له ان يولد في بيت الله الحرام واحتضنه ابن عمه الرسول الاعظم محمد (صلی الله عليه وآله) منذ صغره فقد غداه من علمه عندما بعثه الله سبحانه وتعالى، فكانت حياته مشتركه مع حياة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) فكان الشخصية الوحيدة التي يليق هذه المكانة والمنزلة، وقد عاشر حياه مجاهد في سبيل نشر الاسلام والحفاظ عليه حتى قتل مظلوما شهيدا المحراب على يد اشق الاشقياء عبد الرحمن ابن ملجم في (19) من شهر رمضان سنه (40 ه) (سوادي: 2010)

من المعلوم ان الدين الاسلامي، هو دين الاخلاق الكريمة، والمثل العليا وفي هذا الصدد يقول الامام امير المؤمنين (عليه السلام) ((لو كنا لا نرجو جنة ولا نخشی نارا ولا ثوابا ولا عقابا لكان ينبغي لنا أن نطلب مکارم الاخلاق، فأنها تدل على سبيل الناجح)

رابعا:- البناء - (Structure) وتعرف نظريا

أ- هو الكل المؤلف من الظواهر المتضامنة بحيث تكون كل ظاهرة فيها تابعه للظواهر الاخرى ومتعلقة بها، بعبارة أخرة وهو (تنظيم دائم نسبيا تسير اجزاؤه في طرق مرسومه ويتخذ نمطه بنوع النشاط الذي يتخذ، فيقال (

ص: 153

(البناء الطبقي، البناء الاجتماعي) (بدوي: 1977)

ب- ويعرف اجرائیا:- هو مجموعه اجراءات وخطوات تتضمن الاطلاع على الادبيات السابقة ثم استنباط مفاهیم مفهوم بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي الموحد في ضوء القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في ضوء سيرة امير المؤمنين الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وتوظيفها في المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا

خامسا: بناء الشخصية:

وتعرف بعدة تعاریف بجانبها النظري والعملي:

أ- عرفها البورت (Allport) في كتابه 1937 بعدة تعاريف المختلفة وهي (هي تنظیم دینامیکی يمكن داخل الفرد من تنظيم كل الاجهزة، النفسية والجسمية التي تملىء على الفرد طابعه الخاص في التكييف مع بيئته.

ب- عرفتها وهي مجموعة الاستعدادات والقدرات (العقلية + الجسمية + الوجدانية + المهارية + الاجتماعية) التي تميزه عن بقيه الاخرين (هناء: 1985)

ج- يعرف الباحث اجرائيا:- وهي مجموعه من القدرات والاستعدادات والميول والاتجاهات والمعلومات والافكار وقيم أخلاقية التي اكد عليها امير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الشخصية الإسلامية لخدمة المجتمع الاسلامي وتوظيفها في المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا التربوي

سادسا:- المجتمع:

بصورة عامه:- (بانه مجموعه من الافراد يعشون فوق بقعه معينه من الارض

ص: 154

ويتسمون بالتعاون والتضامن ويربطهم تراث ثقافي معين ولديهم احساس بالانتهاء والولاء لمجتمعهم ويكونوا مجموعه من مؤسسات تقدم لهم خدمات تحقيق اشباع حاجاتهم ولهم تنظيم من العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية مكونين حضارة انسانية (ناصر: 1983)

سابعا:- المجتمع الاسلامي الموحد

ويمكن تعرفه اجرائيا:- الذي يحمل رساله انسانية وعلميه هادفه تحارب الأميه والجهل والمرض والتخلف والفساد بكل اشكاله، ويؤمن أفراده بالتطورات والمستجدات الحديثة في بناء المجتمع الانساني، کما یؤمن بالقيم الأخلاقية الفاضلة العدل، المساواة، الحرية، التسامح، والتعايش السلمي، الحوار وقبول الاخر، قولا وفعلا، وكذلك يؤمن افراده بالوحدة الوطنية للأرض والشعب واللغة والهوية والانتماء والولاء الحقيقي للامه في تمسك المجتمع. اي المجتمع الذي يطبق مبادى الاسلام والشريعة الإسلامية القائم على الايمان بالله الواحد وكتبه ورسله واليوم الآخر والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيله الایمان بالقضاء والقدر، والجنة حق والنار حق، والبعث حق، واداء الصلاة والصوم والحج والزكاة وحمايه الجار والفقراء والمساكين اي العامل بكتاب الله وسنة رسوله الكريم واهل بيته الاطهار وتسمو فيه كل القيم الأخلاقية الفاضلة، بعيدا عن السرقة والقتل وشرب الخمير والميسر، الفساد بكل اشكاله، اي المجتمع

وفي ضوء ما تقدم، ان المجتمع الاسلامي الموحد يستمد اصوله من (القران الكريم والسنة النبوية المطهرة واهل البيت (عليهم السلام) وهذا يطلب من المجتمع الاسلامي تطبيق مبادى الاسلام النظرية والعملية التي تبدا من الأسرة والمدرسة وبقيه المؤسسات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وبذلك

ص: 155

تنعكس على سلوكيات افراده في التعامل مع الاخرين سواء في الاسواق، الشارع، الجامعة، الإدارة، اي كيف يحب البعض البعض، وكيف يقدم مصلحته الوطن والعامة على مصلحته بعيدا عن التمييز والتفرقة العنصرية والفئوية والعشائرية والقومية والتعصب لكل اشكاله، اي دون تمييز بين اللون والجنس والدين والقومية والمذهب

ثامنا:- المنهج الدراسي:

ويعرف بعدة تعاریف

• وهو وثيقه تربوية مكتوبة تصف اهداف التعلم التي ستعمل المدرسة على تحقیقیها لدى التلاميذ مع ما يناسبها من معارف والخبرات والأنشطة التربوية والتعليمية (الزبيدي: 2010)

• ويعرفه الباحث اجرائیا:- وهو جميع الخبرات التي تخططها المدرسة سواء داخل المدرسة او خارجها بقصد تعديل سلوكهم لأبناء شخصية متكاملة في جوانبها العقلية والجسمية والوجدانية والمهارية والاجتماعية طبقا للفلسفة التربوية للبلد لتعزيز مفهوم القيم الأخلاقية الفاضلة في بناء الانسان والمجتمع في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

منهجية البحث:

اعتمد الباحث على المنهج البحث الوصفي التحليلي للأدبيات المرتبطة بالقيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان لخدمة المجتمع في ضوء سيرة أمير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وتوظيفيها في المناهج الدراسية الجامعية

ص: 156

الفصل الثاني التعرف على القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان والمجتمع الاسلامي الموحد

إن التعرف على القيم الأخلاقية الإسلامية في بناء الإنسان والمجتمع الإسلامي الموحد يشمل

طبيعة القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة:

من المعلوم ان مصدر القيم الأخلاقية الفاضلة مستمده نمت القران الكريم واحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) واهل البيت (عليهم السلام) لذا على كل مسلم مؤمن ان يتمسك بهذه القيم الأخلاقية الفاضلة ويجسدها في عمله وسلوكه اليومي استنادا الى قوله تعالى «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» سورة الحشر / 7

وبذلك يعد القران الكريم المصدر الاساسي للإسلام في استنباط القيم الأخلاقية وهي التي وردت في القران الكريم والتي يطلب من المسلمين التطبيق الفعلي والسلوكي لما ورده، ويمكن نقلها وتطبيقها في التربية ولاسيما المناهج التربوية الإسلامية لأجل الحفاظ على وحده الأمة الإسلامية ووحدتها الفكرية والثقافية

اهمية القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة:

وعليه فان اهمية القيم الأخلاقية الإسلامية تكمن ب

أ- انها تستهدف الى اقامة علاقات طيبيه بين (الانسان وربه) وبتأدية حق الله سبحانه وتعالى والالتزام بأوامره ونواهيه في اداء العبادات الواجبة

ص: 157

ب- انها تستهدف اقامة علاقات طيبه بين (الانسان والناس) لذا يجب ان يلتزم كل واحد بواجباته اتجاه الاخر. يهدف البحث الإجابة على الأسئلة الأتية:-

ج- التعرف على القيم الأخلاقية الفاضلة في بناء الانسان في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

د- توظيف القيم الأخلاقية الفاضلة في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في خدمة المجتمع الاسلامي

ه- توظيف القيم الأخلاقية الفاضلة في ضوء سير امير المؤمنين علي ابي اب طالب (عليه السلام) في بناء المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا

و- انها تستهدف في اقامة علاقاه طیبیه [ین الانسان ونفسه) وما مطلوب ان ينهض به من عمل وواجب وضمير يشعره بالرضاعن ذاته ويبعده عن التوترات النفسية والعقد وحل محلها الايمان بالدين و ممارسه الشعائر وبذلك يحقق الخير

خصائص القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة:

من المعلوم ان القيم الأخلاقية الإسلامية في الدين الاسلامي هي حقائق مطلقه لأنها مستمده من القران الكريم وسيرة الرسول محمد (ص) واهل البيت (عليهم السلام) فهي تستهدف في بناء الانسان المسلم السوي وكذلك المجتمع الاسلامي معا

وان خصائص القيم الأخلاقية الإسلامية هي:

ص: 158

• انها مطلقه وثابته وليست نسبيه: وهي بذلك لا تتغير ولا تتبدل فهي تدور في اطار حياة الفرد والمجتمع بالثبات

• مصادرها الوحي الإلهي:- فهي مستمده من القران الكريم وأحاديث الرسول محمد (ص) و اهل البيت (عليهم السلام). فهي لا تخضع للتجريب وتبي ان تختبر علميا للتأكد من صدقها. اي فهي صادقه لا تحتاج إلى التصديق او تصویب

• موضوعيه وليست ذاتیه: أي لا تخضع للتأويل الفردي ولا لمزجه والاهواء. وهي لا تتأثر بالظروف والاحوال، ولا تكون مطيه لتحقيق مارب و منافع اخرى

• لها سلم ثابت ومتوازن بين (القيم الروحية التي يقف الايمان على راسها) وبين القيم المادية التي ينم تفسيرها بعده تفسيرات في التطبيق وتنسجم مع علاقه الفرد مع ربه وعلاقته مع نفسه وعلاقته مع الناس الاسدي ويحيی 2012)

القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة ودورها في بناء (الانسان والمجتمع):

لقد اهتم الاسلام بالجانب القيم والأخلاقي للإنسان والمجتمع معا. حيث ورد في القران الكريم (1504) مفهوم اخلاقي وما يتصل بالأخلاق والقيم سواء بالجانب النظري او العملي ويمثل القيم الأخلاقية في القران الكريم (ربع القران الكريم) وبذلك اثنى الله سبحانه وتعالى على نبيه الكريم محمد (صلى الله عليه وآله) بقوله «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» سورة القلم / 4 وكذلك اكد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) على الأخلاق بقوله (صلى الله عليه وآله) (إنما بعثت

ص: 159

لأتتم مکارم الاخلاق)

وفي ضوء ما تقدم أن الاسلام نظر الى الاخلاق بجانبين عما (القول والفعل) استنادا الى قوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا» سورة الكهف / 107

وبناء على ما تقدم ان نظرة الاسلام الى القيم الأخلاقية نظرة شمولية (للإنسان والمجتمع) وكذلك للكون وهي مستمده من القران واحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) واهل بيته الاطهار بنظرة تقديس والعمل والعبادة والترابط بين (الفرد والمجتمع والمعرفة) وهي مصدر التشريع القرآني ضمن الشريعة الإسلامية (الزبيدي: 2018)

لقد اكد الدين الاسلامي على مجموعه من القيم الأخلاقية الفاضلة والتي لها دور كبير في بناء (الانسان والمجتمع) انظر الى الجدول رقم (1) يمثل مجموعه من القيم الأخلاقية الإسلامية وهي

القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة

الاخلاص لله تعالى القوة والايمان الاستقامة النصح والموعظة الصفح والتجاوز عن السيئات التواضع العدل والمساواة قضاء حوائج الناس ترك الضن والسوء التعاون والتكافل الوفاء بالعهد الإصلاح بين الناس احترام الاديان والشائر الرحمة بين المؤمنين الصبر حسن الكلام الأمانة تحمل المسؤولية المشاورة في الامور الحياء

ص: 160

العطف على اليتامى والمساكين الاعتزاز باللغة

1. الاخلاص لله تعالى: -: - قال سبحانه وتعالى «وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ» سورة الزمر / 65))

2. القوة والايمان:- قال الله سبحانه وتعالى: «إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ» سورة القصص / 26))

3. الاستقامة: - قال الله سبحانه وتعالى «إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ» سورة فصلت / 30

4. النصح والموعظة: - قال الله سبحانه وتعالى «أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ» سورة الاعراف

5. الصفح والتجاوز عن السيئات: - (قال الله سبحانه وتعالى «وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ» سورة الشورى / 40

6. التواضع: - قال الله سبحانه وتعالى «وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا * كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا» سور الاسراء / 37 - 38

7. العدل والمساواة: - قال الله سبحانه وتعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ

ص: 161

وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» سورة النحل / 90

8. قضاء حوائج الناس: - قال الله سبحانه وتعالى «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» فبما رحمه من ربك) سورة ال عمران / 159

9. احترام الاخرين -: قال الله سبحانه وتعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ» سورة الحجرات / 11

10. ترك الضن والسوء:- قال الله سبحانه وتعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ» سورة الحجرات / 12

11. التعاون والتكافل:- ((قال الله سبحانه وتعالى «وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ» سورة المائدة / 2

12. الوفاء بالعهد: - قال الله سبحانه وتعالى «وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا» سورة الاسراء / 34

ص: 162

13. الاصلاح بين الناس:- قال الله سبحانه وتعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» سورة الحجرات / 10

14. احترام الاديان والشعائر: - قال الله سبحانه وتعالى: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» سورة البقرة / 136

10. مصاحبه الاخبار:- قال الله سبحانه وتعالى «لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» سورة المجادلة / 22

16. الرحمة بين المؤمنين:- قال الله سبحانه وتعالى «أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» سورة المائدة / 54

17. الصبر:- قال الله سبحانه وتعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» سورة البقرة 153

18. حسن الكلام:- قال الله سبحانه وتعالى «وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا» سورة الاسراء / 53

ص: 163

19. الأمانة:- قال الله سبحانه وتعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» سورة الانفال / 27

20. تحمل المسؤولية:- قال الله سبحانه وتعالى «وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ» البقرة / 63

21. المشاورة في الامور قال الله سبحانه وتعالى «وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ال عمران / 159

22. الحياء:- قال الله سبحانه وتعالى: «فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ» سورة القصص / 25

23. الايثار:- قال الله سبحانه وتعالى «وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» سوره الحشر / 9

24. العطف على اليتامى والفقراء:- قال الله سبحانه وتعالى «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا» الانسان 8 - 9 وقوله تعالى ايضا «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الحشر 9،

25. الاعتزاز بالعروبة والاسلام: - قال تعالى «إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» يوسف / 2 (الاسدي ويحى 2012)

ص: 164

دور القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في البناء العقائدي أو الفكري للإنسان من خلال:

اولا:- دور القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان

1. من المعلوم ان الفلسفة الإسلامية تنظر الى الإنسان بانه افضل ما في الكون الذي يشمل العناصر والموجودات والمخلوقات. وقد يجمله من الخصائص على بقيه المخلوقات. فقد خلقه الله سبحانه وتعالى وزوده بالاستعدادات والقدرات لكسب المعارف والمهارات لأجل القيام بالعمليات العقلية المتعددة، وبذلك وضع الأسماء والمصطلحات لبكل ما موجود في الطبيعة وقد استخلف في الأرض لأجل ان يعمرها، وكذلك حمله المسؤولية المحافظة. استنادا الى قوله تعالى «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا» سورة الاسراء / 70)

لذلك نقول ان الفلسفة الإسلامية نظرة الى الانسان نظرة متكاملة للأبعاد الثلاث (الجسم + العقل + الروح) اذا جعل فیمها الانسجام في تكوين الشخصية المتكاملة واي انحراف في هذه الجواني لني ينشا الضرر بعلى الفرد نفسه بل على المجتمع (الزبيدي : 2018)

وبذلك تساهم في بناء الانسان العابد. المجاهد. العامل بكتاب الله سبحانه وتعالى ما يريده و ماینهاه الله تبارك وتعالى:

2. الانسان العابد:- من المعلوم ان هذا الكون والعالم شهد لله سبحانه وتعالى بالعبادة والوحدانية والربوبية. ويقرر القران هذا المبدأ في العبادة والتسبيح والصلاة. استنادا إلى قوله تعالى «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ»

ص: 165

سورة الذاريات / 56. لذلك ان الانسان فطر على التوحيد وكون على الاتجاه الرباني استناد إلى إلى قوله تعالى «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ» سورة الروم / 30

وكذلك روي عن الامام جعفر الصادق (عليه السلام) ما معنى هذه الآية. فقال (عليه السلام) (فطرهم على التوحيد) اي (كل مولود يولد على الفطرة) أي ((يعني على المعرفة بان الله الله خلقه)

وبذلك ان تتحدث المناهج الإسلامية عن ((تنشئه الانسان / الطفل)) على الفطرة وعلى معرفه الله من خلال النظر والتفكير والاستغراب لما يشاهد في الكون من علامات. السماء. التفكير. الاشجار. البحار. الحيوانات.... الخ وان التقرب إلى الله سبحانه وتعالى من خلال (غرس القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليها القران الكريم واهل بيته الأطهار (عليهم السلام)

3. الإنسان العامل والواعي:- من المعلوم ان الانسان هو كائن حي عاقل ومفكر يدرك الاشياء بوعي ويكتسب العلوم والمعارف من خلال ادراكه للعالم الذي يحيط به ويأمله في الكون والوجود. وفي ضوء ما تقدم يكتسب الانسان هذه المعلومات من خلال العلم والمعرفة باستخدام العقل واكتشاف القوانين العلمية والاسلام. فقد اكد الاسلام على طلب العلم واعتبره فريضه من الفرائض الإسلامية الواجبة. استنادا الى قول الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) (طلب العلم فریضه على كل مسلم) (الخاقاني: 2011)

وبذلك تكسب هذه المعلومات من خلال غرس قيم حب العلم والطلب

ص: 166

والعمل بموجبها....

وتأسيسا على ما تقدم اكد الاهداف التربوية في العراق على بناء الشخصية الانسان وتطويرها بجوانبها الشاملة (الجسمية + العقلية + الروحية + الاجتماعية) لينشا مواطن صالح يؤمن بالله والمثل الإنسانية ويدرك رسالته الوطنية فضلا اكسابه ادوات المعرفة الأساسية الثقافية العربية الإسلامية مؤكد نحو جوانب الشخصية وهي:

بناء الانسان بشكل متكامل في نظر الاسلام:

انظر الى المخطط رقم (2) يمثل بناء شخصية الانسان المتكاملة.

بناء شخصية الانسان المتكامله في نظر الاسلام

بناء الجسم (1) بناء العقل (2) بناء الروح (3) البناء الاجتماعي (4)

1. بناء الجسم: ومن المعلوم ان بناء الانساء في ضوء نظرة الاسلام يبنى بشكل وحدة متكاملة. فقد دعا الاسلام الى اعطاء الجسم حقه في الطعام. الشراب. العلاج. اللباس. السكن. الجنس. واعتبرها ضرورة للحياة. وبذلك وجب على المناهج الإسلامية التركيز على غرس مفاهيم • العناية بالجسد والجسم. وفي تناول الأطعمة والأشربة وممارسه الرياضة ونظافة الجسد. ونظافة اللباس. والبيت والمحلة. والإفاضة في الملابس والزينة استنادا الى قوله تعالى

ص: 167

«قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» سورة الأعراف / 32

وبذلك اكد الاسلام على التوزان في السلوك واحترام الحقوق المادية للجسد والاهتمام بشؤون الحياه والعمل. وكذلك حرم الضرر بالجسم. استنادا الى قوله تعالى «قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ» وفي تناول المحرمات وممارسات العادات السيئة للجسم خوفا من سقوط الجسم في الامراض ومنها (التدخين. وشرب المسكرات)

2. بناء العقل:- من المعلوم أن الاسلام ينظر الى بناء العقل وتنميته من خلال تنميه قدره التأمل والنظر والتفكير. فهو يدعوه الى النظر الى الطبيعة والكون والنفس وتأملها واستبطانها. فهو يؤكد لدور المناهج الإسلامية بتنمية قدرات التخيل والتصور بما ابدعه القران الكريم في مشاهده الصور الغيبية عن (الغيب والقيامة) وكذلك تقوية الذاكرة والتذكر من خلال حفظ القران الكريم واستيعاب معانيه ومفاهيمه استنادا الى قوله تعالى «وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ» سورة الذاريات 22/21/20)

3. بناء الروح: ومن المعلوم ان الاسلام ينظر الى الروح والقيم الروحية بمنظر التقديس فهي تساهم في بناء الانسان بشكل متكامل واستنادا إلى قوله تعالى: «يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ»

ص: 168

سورة الحشر / 9 وكذلك قوله تعالى «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا» سورة الانسان / 8/ 9 ان هذه القيم الروحية هي الت تجعل الانسان يشعر بالراحة النفسية من خلال تقديم الخدمة للإنسان الاخر، وبذلك فهي تساهم في بناء المجتمع الاسلامي وتماسكه

4. البناء الاجتماعي:- من المعلوم ان الاسم ينظر ان بناء الانسان اجتماعي وفق القيم الاجتماعية المرتبطة بإقامة العلاقات الاجتماعية السوية بين البشر وبذلك اكد الاسلام على المناهج الإسلامية على ترسيخ مفهوم (التعاون. الانسجام. التكامل في الأنظمة الإسلامية في اطار سياسي، اجتماعي، اقتصادي. اخلاقي مثل تعزيز القيم الأخلاقية الفاضلة (العدالة الاجتماعية. الحرية. المساواة. ومبادی شوری... الخ

وبناء على ما تقدم ان بناء الانسان او النفس البشرية في ضوء الشريعة الإسلامية السوية كلها تساهم في تهذيب النفس الإنسانية من الرذائل والافعال القبيحة مما تساهم في بناء انسان مستقيما في عمله وفعله وبذلك تتكامل الحياة الدنيوية وعليه يصبح سلوك الانسان مساير لما يريده الله سبحانه وتعالى للنفس البشرية وهي (الاستقامة) وكذلك اهل البيت (عليهم السلام) في بناء النفس البشرية ومن هنا يأتي دور المناهج في ترسيخ القيم الأخلاقية الفاضلة في بناء الانسان مستقبلا (الخاقانی: 2011)

ثانيا:- دور القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء المجتمع الاسلامي الموحد:-

من الواضح ان الاسلام ينظر الى المجتمع بانه صاحب رسالة ودعوة الى الداخل

ص: 169

والخارج، فهو مجتمع متميز له خصائص ومميزات تميزيه عن بقية المجتمعات الانسانية، فهو مجتمع القدوة او المجتمع الوسط وقوله تعالى «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» سورة البقرة آية 143)

وفي ضوء ما تقدم، ان المجتمع الاسلامي يتميز بعدة خصائص:-

أ- مجتمع يوحد الله وطاعة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) وقوله تعالى «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» سورة النساء اية / 59

ب- يقدس الدين والقيم الاخلاقية، اي الايمان بالله وملائكته وكتبة ورسله واليوم الآخر والقضاء والقدر

ج- يحترم العلم ويقوم على طلب العلم ويعد طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، حيث ان العلم هو الطريق الموصل الى الله والى الهداية ليكون اهلا لخلافة الله في ارضه

د- يواكب التغيير والتطور والمستمرين في الحياة

ه- يقدر العمل والمال ويجعل المال وظيفية اجتماعية، وان المال مال الله، وان البشر يستخلفون فيه، لذا يجب مراعاة مصادر الكسب ومصادر الانفاق واخراج الزكاة وتأدية حقوق الفقراء والتكافل بين افراد المجتمع واستغلال كل مصادر الثروات في صالح الاسلام والمسلمين

و- نظام اجتماعي يقوم على العدل والمساواة بين الافراد بدون تفرقة اي بعيد

ص: 170

عن الجنس واللون والمراكز الاجتماعي

ز- يحترم العلاقات الدولية التي اساسها احترام حقوق الانسان وعدم العدوان والتأكيد على التعاون في كل خير، مع رفض الذلة في النفس او التفريط في الحقوق (الزبيدي: - 2018)

وفي ضوء ما تقدم تساهم القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في ناء المجتمع الاسلامي الموحد ومن المعلوم ان رساله الاسلام لبناء المجتمع الاسلامي. تكمن بالقضاء على الظلم والطغيان وعباده الاصنام والاوثان. والاخلاص في عباده الله وحده. والايمان برساله محمد (صلى الله عليه وآله) لانقاض البشرية. والصلاة بخشوع تقربا لله جل ثنائه. واعطاء الزكاة للفقراء والمحرومين والمحتاجين برغبه قلبيه ونفس راضيه وحجج بيت الله الحرام للقادر. واصلاح شؤون الناس والنهوض بالبلاد الإسلامية من خلال القضاء على الجهل والفقر والمرض والظلم الاجتماعي والقضاء على التنازع والصراع والخلافات الطائفية وجعل المصلحة العامة فوق المصلحة الشخصية.

وبناء على ما تقدم تلعب القيم الأخلاقية الفاضلة في بناء المجتمع الموحد من خلال ترسيخ القيم الأخلاقية الفاضلة و العمل بموجبها وهي (العدالة الاجتماعية. الحرية. الاخاء والمساواة. التعاون. الاتحاد. تحسين احوال الفقراء والعطف على الضعفاء من الرجال والنساء ومعالجه المرضى. وحسن ومعاملتهم. وكذلك بر الوالدين، وصله الرحم. والعطف على اليتامى، ومراعاه حقوق الجار. والاحسان الى المحرومين. والايثار والصدق في القول واداء الأمانة والاخلاص في القول والعمل والدفاع عن المظلوم والعفو والصفح والتسامح عند المقدرة والوقوف بجانب الحق والوفاء بالعهد والوعد. وكذلك حرم الاسلام (القتر.

ص: 171

الزنى، وشرب الخمر ولعب الميسر والقمار. والتعامل بالربا. السرقة. واكل مال اليتامى والاعتداء على الضعفاء... الخ (الابراشي: 1974)

وفي ضوء ما تقدم ان رساله الاسلام في بناء المجتمع الاسلامي الموحد كلها تساهم في تنظيم المجتمع اجتماعيا مصبوغ بصبغه الإسلامية وهي «صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ» سورة. البقر/ 138) بحيث يصبح النظام الاسلامي نظام متكامل شامل (سياسي و اقتصادي. اجتماعي. قانوني. عسكري. عسكري . ترفيهي، تربوي. قائم على القيم الأخلاقية الفاضلة. انظر الى بناء المجتمع الاسلامي الموحد.

ص: 172

المحور الثاني سيرة امير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

من المعلوم ان سيرة امير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) كانت سيرة الانسان الكامل والمثال الحقيقي لم يغنيه يوما كثره مناصريه ولم يفقره قلتهم. وهو يقول ذلك (لا تزيدني كثره الناس حولي عزة ولا تفرقهم عني وحشه)

وفي ضوء ما تقدم كان الامام (عليه السلام) مثالا للشجاعة في كل باب من أبواب الحياه. فقد كانت له معاني انسانيه. فهو العطوف مع الفقراء والمساكين. وقويا صلبا قاهرا مع المتجبرين الظالمين وبناء على ما تقدم نقتبس من سيرته العظيمة القيم الأخلاقية الفاضلة في يناء الأنسان والمجتمع وهي:

اولا:- ايمانه: - من المعلوم ان الامام (عليه السلام) هو اول المؤمنين. اي اول من امن برسول الله بعد خديجه الكبرى (عليها السلام) ولم يسجد لصنم ولم يأت بمجرم ولم يدنس اذا امن وصلى قبل البلوغ. لذا يقال له (وحده - كرم الله وجهه). لذا نقول ان حقيقيه الايمان يمكن قياسها بالباطن وحقيقيه الامام (عليه السلام) انه نور من نور محمد (صلى الله عليه وآله) ومحمد خلق من نوره. کما روي عن جابر بن عبد الله الانصاري: قال (سالت رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن ميلاد علي ابن ابي طالب فقال: سألتني عن خير مولود ولد في شبيه المسيح. ان الله تبارك وتعالى خلق عليا من نوري وخلقني من نوره. وكلانا من نور واحد. ثم ان الله (عز وجل نقل صلبنا آدم في اصلاب طاهره الى ارحام زكيه. فما نقلت من صلب الا ونقل علي معي. فلم

ص: 173

نزل كذلك حتى استرد عني خير رحم وهي (امنه واستوع عليا خير رحم وهي (فاطمة بنت اسد)

ثانيا: - زهده: - من المعلوم ان الامام (عليه السلام) كان زاهدا في الحياة فهو الصادق المؤمن بفناء هذه الدنيا وزوالها. المؤمن بالله تعالى. فقد يأخذ من الدنيا ما يقيم به اوده حتى لا يطول وقوته بين يدي الله (عز وجل) يوم يعرض الناس للحساب. انه الزاهد المواسية لأخيه الانسان.

وفي ضوء ما تقدم كانت حياته بمثابه الزاهد اذا كان يعيش مع اولاده (عليهم السلام) في بيت متواضع. وكان يأكل الشعير ويطحنه لنفسه. ويأكل الخبر اليابس الذي يكسره على ركبته. وكان اذا ارعده البرد واشتد عليه الصقيع لا يتخذ له عدة من دثار بقيه اذى البرد. بل يكتفي بمار رق من لباس الصيف

وفي بناءا على ما تقدم زهد امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وترفع عن الدينا وشهواتها وهو القائل: (تزوجت فاطمة (عليها السلام) وما كان لي فراش. وصدقتني اليوم لو قسمت على بني هاشم لوسعتهم) وبذلك نقول ان الزهد عند الامام (عليه السلام) مفروضة بالأخلاق الفاضلة. وهو يقول (عليه السلام) (ان من اعوان الاخلاق على الدين الزاهد في الدنيا)

ثالثا: - شجاعته: - من المعلوم ان شجاعته ادهشت الباحثين على وصفها فقد احتاروا امام عظمة هذا الامام. فأي جانب يتحدثون عنه، فهو المقدم على الاقران. وفي ضوء ما تقدم ان شجاعة الامام (عليه السلام) نابعه من ایمانه بالله (عزوجل) وبرساله اخيه محمد (صلى الله عليه وآله فكان طيلة حياته الشريفة درعا حاميا للإسلام والمسلمين ولم يرفع سيفه الا من اجل احقاق الحق ورفع الاذى عن المسلمين لأجل تثبيت الرسالة الإسلامية واعلاء كلمه الحق والتضحية

ص: 174

من اجل الرسول (صلى الله عليه وآله) فهو الذي يقدم نفسه فداء للرسالة الإسلامية حينما بات ليلا في مكان الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) في فراشه حرصا على سلامته من الاغتيال من قبل الاعداء اعداء الاسلام

رابعا: - عدله: - من المعلوم ان الانبياء والاوصياء هم ميزان العدالة الإلهية. وهم نسمه العدل في هذا الكون. والمثال لكل طالب يسعى التحلي بالكماليات الإنسانية. وفي ضوء ما تقدم كان الامام (عليه السلام) وهو وصيه رسول الله وخاتم الاوصياء وصي الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) في العدل واقامته في الرعية وابعاد الظلم والجور. فقد كان الامام (عليه السلام) اعدل الناس بعد الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) فقد كان الناس امه سواسيه لا ميزه لقوي على ضعيف او الغني على الفقير ويعامل القريب منه بنفس معامله البعيد ولا فرق بين عربي او اعجمي الا بالتقوى. وبذلك ينظر الامام (عليه السلام) على انه دواء شاف لأخطر الافاق الاجتماعية التي تؤدي بالمجتمع الى التفكك والانحلال ثم سياده الظلم والجور. وبذلك عندما الت اليه الخلافة اليه (عليه السلام) اقام العدل وهو ميزان الحكم بين الناس. وكان دائرة العدل لديه واسعه تشمل الناس جميعا بغض النظر عن المعتقد. اللون. الجنس. لذلك اصبح عدله يشمل جوانب الحياه، وهو القائل: (ان الله فرض على ائمه العدل ان يقدروا انفسهم بضعفه الناس كيلا يبتغ بالفقير فقره)

خامسا: - مؤاساته للفقراء: - من المعلوم ان الامام (عليه السلام) فقد كان اسوة للفقراء يعيش عيشهم ويأكل اكلهم ويلبس ملبسهم ويتواضع لهم حتى اصبح (عليه السلام) سند من لأسند له. وفي ضوء ما تقدم انه سند اصيل يستند الى معرفته بخلق الله تبارك وتعالى وهو يعلم ان الله سبحانه وتعالى خلق الناس

ص: 175

جميعا وهم متساوون امامه لأغني ولا فقير ولا ضعيف ولا قوي ولأسيد ولا عبد. وذلك استنادا الى خطبته (عليه السلام) (ايها الناس ان ادم لم يلد عبدا ولا امه. وان الناس كلهم احرار ولكن الله خول بعضكم بعضا. فمن كان له بلا فصبر في الخير فلا يمن على الله تعالى. الا وقد حضر شيء. ونحن مسؤولون فيه بين الاسود والاحمر). وبناءا على ما تقدم كان الامام (عليه السلام) طيلة حياته الشريفة متبعا سنه الانبياء والصالحين في مواساتهم للفقراء

سادسا:- علمه: - من المعلوم ان الامام (عليه السلام) كان على علم كبير. ومنبع علمه يفيض بما اصفه واعذبه منه. فهو علم الكتاب. وعلمه علم رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) وكيف لا؟ وهو باب علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) اذا قال الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) (انا مدينه العلم وعلي بابها فمن اراد العلم فليات الباب) وهو معدن علمه واصله وهو خازن العلم وحاويه. وفي ضوء ما تقدم ان الامام (عليه السلام) كان مثال العالم العامل الذي لأتأخذ في الله لومه لائم. وكانت حياته تجسيدا حقيقيا ومثالا ماديا على سعه علمه فلم يصدر منه قولا او عملا الا وارتكز علمه على علم ثاقب ونبع صافي. وبناء على ما تقدم فقد تعجب الكثير من الباحثين من علمه وحكمته وكذلك اكد الامام (عليه السلام) على اهميه العالم في المجتمع الاسلامي. وقال الامام (عليه السلام) (اذا مات المؤمن العالم ثلم في الاسلام ثلمه لا سدها شيء الى يوم القيامة) ومن هنا يؤكد الامام (عليه السلام) على مكانه العالم المؤمن مثل مشعل النور الذي ينير الطريق للأخرين ضد القوى الظلام والشر. فالعالم هو الذي يهتم بأحوال الناس والامم وهو يفيض بجوارحه وقلبه مقرنه بالعلم والعمل

سابعا: - صدقه: ومن المعلوم ان الامام (عليه السلام) في جوهر جميع

ص: 176

الانبياء والصالحين في صفاتهم وانه الوارث الحقيقي لصفاتهم وأخلاقهم في الخصال والمكارم. فقد جسد الامام (عليه السلام) معاني الخير واهم ما امتاز به (عليه السلام) الصدق. فقد كانت نفسه المرآه التي تعكس كمال الصدق في مجالات الحياه. وقد وصفه الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) (انت احسنهم خلقا واصدقهم لسانا)، ويقول الامام (عليه السلام) عن الصدق (الصدق امانه اللسان وحليه الايمان)) (الخيال: 2014)

وصايا امير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان والمجتمع الاسلامي الموحد:

لقد اخص النبي محمد (صلى الله عليه وآله) الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وهو وصي رسول الله (صلى الله عليه وآله) والامام الذي فرض الله طاعته على المسلمين جميعا، فقد ادبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) فكان بكل ما يملك من الصفات المعنوية والنفسية والجسدية قادرا على ايصال الانسان وقيادته الى كماله وسعادته، اي لقد احاط الامام امير المؤمنين علي بني ابي طالب (عليه السلام) بعلم رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلم رسول الله من الله تعالى، وليس عن طريق الوحي والاكتساب والتحصيل، بل من عند الله وهو لامجال للباطل ان يدخل بل هو الحق والصحيح والمطابق للواقع، وقال تعالى «رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا»

وبناءا على ما تقدم، ان الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) هو تلميذ الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله) الذي فرع علومه في صدره وعلمه ابواب العلم، حتى قال الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) (لانا اعلم بالتوراة من اهل التوراة، واعلم بالإنجيل من اهل الانجيل) وبذلك فهو عالم بالشريعة

ص: 177

وتعاليم الاسلام والقضاء والفتوى ودرجات الايمان بالله ومعرفته نابعه من القرآن الكريم ومصاحبه رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله)

وفي ضوء ما تقدم امرنا الله ورسوله التسمك بولايته، فهو المثال الالهي الذي كان مقدر له ان يقيم حكم الله في الارض لتغير شكل الحياه على الاض وقادر على ايجاد الحلول السليمة بكل المشاكل التي تعاني منها البشرية، وبذلك تبقى اقواله واقعا نموذجا حيا للإنسانية نستضئ به في لليها الطويل، وتبقى اقواله وحكمته ومواقفه مصباح هدي ينير الدرب للذين تهفو نفوسهم نحو الكمال (الفتلاوي: 2012)

وفي ضوء ما تقدم اهم الوصايا ا الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام):

من نصب نفسه للناس. اماما فعليه ان يبدا بتعليم نفسه قبل تعليم غيره وليكن تأديبيه بسيرته قبل تأديبيه بلسانه. ومعلم نفسه ومؤدبها احق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم)

من لم يصلح خلائقه لم ينفع الناس تأديبيه

سوء الخلق بعدي. وذاك انه يدعو صاحبك الى ان يقابلك غيله

جالس العلماء يكمل عقلك وتشرق نفسك وينتف عنك جهلك

اعلموا ان کمال الدین طلب العلم والعمل به

عليكم بحسن الخلق فانه في الجنة واياكم وسوء الخلق فانه في النار

ص: 178

المحور الثالث:- ((توظيف القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة التي يريدها الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي:

من المعلوم، ان الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) كان حريصا على تثقيف الناس وتعليميهم علوم محمد واله محمد (ص) ليكون لهم حصنا من الزيغ والضلال و كل العقائد الزائفة وترسبات الجاهلية التي كانت تعصف بالنفوس ويعلم الناس عباده الله سبحانه وتعالى وتوحيده ويدعوهم الى (معرفه الله وعبادته) لأنه يعلم ان العبادة مع معرفه تكون حصنا من وساس الشيطان، ومن اهواء النفس، لذا فهو يعرف الدين بمعرفه الله تعالى فيقول عليه السلام (اول الدين معرفته) والعبادة لغة هي غايه التذلل والخضوع لذلك لا يستحقها الا المتعلم الاعظم الذي غايته الافضال والانعام وهو الله سبحانه وتعلى وذلك استناد الى قوله تعالى «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ» الذاريات 56 - 58.

القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي في نظر امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)

الصدق التواضع الايثار العدل الصبر

التوكل الاخلاص الخوف من الله تعالى الرجاء في الله تعالى البصيرة

ص: 179

وقد اكد الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) على القيم الأخلاقية الفاضلة في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي: انظر الى الجدول رقم (3) الذي يمثل القيم الأخلاقية الاسلاميه الفاضلة في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي وهي

ملاحظة:- هناك مجموع من القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في ضوء سيرة امير المؤمنين (عليه السلام) وهذا يحتاج التوسع في البحث. لذا قررنا الانتباه لطفا:- وسنكتفي بقدر ما يسمح.

1. الصدق:- (وقال امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) في (الصدق) (الزموا الصدق فانه منجاه)، ومن المعلوم ان الصدق:- هي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (مطابقه القول للواقع،) وهو اشرف الفضائل النفسية والمزايا الخلقية لخصائص الشخصية ولها اثر في حياه الفرد والمجتمع، وبذلك يعد رمز الاستقامة الصلاح وسبب النجاح والنجاة، وقد وصف الله سبحانه وتعالى بقوله تعالى «قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ» سورة المائدة 119، وقال الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) في الصدق (زينه الحديث الصدق الحلم وكظم الغيظ: - وهما من القيم الأخلاقية الفاضلة في ضبط النفس ازاء مثيرات الغضب، ودليلا على سمو النفس وكرم الاخلاق وسبب للمودة والاعتزاز، وقدم مدح الله سبحانه وتعالى الحلماء والكاظمين الغيض في محكم كتابه العزيز «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» سورة ال عمران 134) وكذلك قوله تعالى «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى

ص: 180

الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا» سورة الفرقان 63، وقال امير المؤمنين علي ابن ابي طالي (عليه السلام) في الحلم (اول عرض الحليم من حلمه، وان النفس انصاره على الجاهل)

2. التواضع:- قال امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام) عن التواضع (ما احسن تواضع الاغنياء للفقراء طلبا لما عند الله واحسن منه فيه الفقراء على الأغنياء انکالا على الله). ومن المعلوم. وهي من القيم الفاضلة وتعني (احترام الناس حسب اقدارهم، وعدم الترفع عليهم (وقد وصف الله سبحانه وتعالى النبي محمد (صلى الله عليه وآله) «وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» الشعراء 215، وقال الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) (ان احبكم الي واقربكم مني يوم القيامة مجلسا، احسنکم خلقا واشد کم تواضعا، وان ابعد كم مني يوم القيامة، الثرثارون وهم المستكبرون)

3. الايثار:- وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (الاجاد بالعطاء وهم بأمس الحاجه اليه) وقد وصف الله سبحانه وتعالى اهل البيت عليسهم السلام «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا» الانسان 8 - 9 وقوله تعالى ايضا «وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» الحشر 9، وقال الامام الصادق (عليه السلام) بحق امير المؤمنین علی ابن ابي طالب (عليه السلام) (كان علي اشبه برسول الله. كان يأكل الخبز والزيت ويطعم الخبر واللحم)

4. العدل:- قال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه

ص: 181

السلام) (يابني اجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فاحب لغيرك ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها، ولا تظلم کما لا تحب ان تظلم، واحسن کما تحب ان يحسن اليك واستقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك، وارض من الناس بما ترضاه لهم من نفسك، ولا تقل ما لا تعلم، وان قل ما تعلم، ولا تقل ما لا تحب أن يقال لك) ومن المعلوم ان (العدل) وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة ويعني (مناعة نفسيه تردع صاحبها عن الظلم، وتحفزه على اداء الحقوق والواجبات بشكل عادل) وقد امرنا الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» النحل 90 وقال الله تعالى «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» الانعام 152 وقال تعالى «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا» النساء 58، وقال الامام الرضا (عليه السلام) (استعمال العدل والإحسان مؤذن بدوام النعمة،:

5. الصبر:- وقال الإمام أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) (من لم پنجه الصبر، اهلکه الجزع) ومن المعلوم ان الصبر وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة ويعني (احتمال المكره او المكاره من غير جزع، وهي قسر النفس على مقتضيات الشرع والعقل في اوامرها ونواهيها، وبذلك فهو من السمات البطولة في الظفر والنجاح، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى التحلي بالصبر وقال تعال في محكم كتابه العزيز «وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ» ال عمران 146 وكذلك قوله تعالى «وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا

ص: 182

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ» الانفال 46 وقوله تعالى «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» الزمر 10 وقال الامام الصادق (عليه السلام) (الصبر من الايمان بمنزله الراس من الجسد فاذا ذهب الراس ذهب الجسد، و كذلك اذا ذهب الصبر ذهب الایمان)

1. التوكل:- وقال الامام امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في وصيه لابنه الحسن (عليه السلام) (والجىء نفسك في اللمور كلها للى الهك، فانك تلجئا الى كهف حريز ومانع عزيز) ومن المعلوم ان التوكل. وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (الاعتماد على الله في جميع الامور وتفويضها اليه، والاعراض عما سواه، فهي قوة القلب واليقين) وقد امرنا الله سبحانه وتعالى بالتوكل عليه وقال سبحانه تعالى «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا» الطلاق 3 وقوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» ال عمران 159 وقوله تعالى «وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» التوبة 51

7. الاخلاص:- وقال أمير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) (الدنيا كلها جهل الا مواضع العلم، والعلم كله جهل الا ما عمل به، والعمل كله رياء الا من كان مخلصا والاخلاص على خطر، حتى ينظر العبد بما يختم له) ومن المعلوم ان الاخلاص. وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة، وتعني (صفاء الاعمال من الشوائب والرياء وجعلها خالصه لوجه الله تعالى) وقد صف الله سبحانه وتعالى (الخلص) بقوله تعالى «فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» الكهف 110 وقوله تعالى «فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ» الزمر 2 - 3 وقال الرسول

ص: 183

محمد (صلى الله عليه وآله) (من اخلص لله اربعين يوما، فجر الله ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه)

8. الخوف من الله تعالى: - وقال الإمام أمير المؤمنين علي ابن طالب (عليه السلام) (لا يكون المؤمن موقنا حتى يكون خائفا راجيا، ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجوا) ومن المعلوم ان الخوف من الله تعالى. وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (تألم النفس خشيه من عقاب الله من جزاء عصیانه و مخالفته) فهي من القيم الأخلاقية الدينية التي تعني الابتعاد عن الشرور والآثام ما يغضب الله في القول والفعل، وبذلك وصف الله سبحانه وتعالى الخائفين من الله بقوله تعالى «إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ» الملك 12، وقوله تعالى «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» النازعات 40 - 41،،

9. الرجاء في الله تعالى: - وقال الإمام أمير المؤمنين علي ابن ابي طالي (عليه السلام) (لرجل اخرجه الخوف الى القنوط لكثره ذنوبه، ايا هذا باسك من رحمه الله اعظم من ذنوبك) وقال الامام الصادق (عليه السلام) (لا يكون المؤمن حتى خائفا راجيا ولا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف ويرجو) ومن المعلوم. ان الرجاء في الله تعالى. وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة وتعني (هو انتظار محبوب تمهدت له اسباب الحصول عليه، کمن زرع بذره في ارض طيبه ورعاها بالسقي والمدارات، فرجاء منها الناتج والنفع) لذلك فالرجاء في الله تعالى هو الجناح الثاني من الخوف، اللذان يطير بهما المؤمن الى افاق طاعة الله والفوز بشرف الرضا، وفي ضوء ما تقدم، يعني الرجاء في الله تعالى (النهي عن الياس والقنوط) وقد وصف الله سبحانه وتعالى الذي يرجو الله

ص: 184

تعالى «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ» الزمر 53 وقوله تعالى «وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ» يوسف 87 (السيد مهدي الصدر 2011)

10. البصيرة:- قال امير المؤمنين علي ابن ابي الطالب (عليه السلام) (انما الدنيا دار مجاز والاخر دار قرارا، فخذوا من محرم لمقركم) ومن المعلوم. ان البصيرة: وهي الوعي والتعقل، فالإنسان الواعي والعاقل هو الذي يفكر بالعواقب ويتجنب سخط الله وغضبه، لان الدنيا كما يقول لذلك نقول ان الانسان العاقل هو الذي يميز عن المعاصي يبتعد عن الذنوب لان عقله يصونه من هذه المأثم والخطايا، وقد سئل الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) ما العاقل يا رسول الله، قال (العمل بطاعة الله وان العامل بطاعة الله هم العقلاء) (القزويني، بلا) (انموذج بناء المجتمع الاسلامي الموحد المستند الى العلم والتعليم

ص: 185

الفصل الثالث توظيف القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في المناهج الدراسية الجامعية الإسلامية

من المعلوم ان مناهج الدراسية الجامعية الإسلامية تستهدف بناء الانسان والمجتمع الإسلامي سواء بالتربية الخلقية. او التربية النفسية والتربية العقلية او التربية الجسمية او التربية الروحية وتستمد هذه التربية من (القران الكريم واحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) وأهل البيت (عليهم السلام)

وفي ضوء ما تقدم ان مناهج التربوية الإسلامية الجامعية ليست مناهج جامده او منفصله. بل تعمل وفق اطر ومفاهیم شامله لأمور الحياة الدنيا وحياة الاخرين. وبذلك فهي مناهج يمكن ان تحتوي على القيم الأخلاقية الفاضلة في ضوء سيرة امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) فهي يمكن ان تدفع الانسان المسلم الى النقاش والاستفهام والاجتهاد والتفكير في أمروا الدنيا. فهي تلائم فطرة الانسان وتنسجم مع حركة الكون.

لذا يمكن توظيف القيم الأخلاقية الفاضلة في المناهج الدراسة الجامعية من خلال غرس هذه القيم التي توصل اليها البحث وهي: -

1- قيم المساواة:- وهي من القيم التي اكد عليها الاسلام وسيرة امير المؤمنين (عليه السلام) فهي تؤكد على تكافؤ الفرص اما جميع الناس في الدنيا وعاره الارض وكذلك التكافؤ بين (الفقراء والاغنياء) وبين (اهل الكتاب والمسلمين وبين الرجال والنساء بعيدا عن اللون. او القوميه او الجنس او القومية

ص: 186

2- التسامح:- وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليها الاسلام وامير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وتعني بذل بعض ما لا يجب وتعرف اي الاستعداد لتقبل وجهات النظر المختلفة والمرتبطة بالسلوك والراي دون الموافقة عليها. وهي ايضا تقبل تنوع الفكري والعقائدي

3- العفو:- وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليها الاسلام وامير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وهي تعني (العطف على الانسان المذنب فيعفوا كليا أو جزئيا

4- الصبر:- وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليها الاسلام وامير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وهي تعني (حسب النفس من الجزع عن المكروه او عن الشكوى. او هي الامتناع عن اظهار الجزع الباطني ولها ثلاث مراتب وهي:

- الصبر على البلايا والمصائب / اي لا يشكو ولا يجزع

- الصبر على الطاعة / اي ان يتحلى الانسان بالتحمل في العمر والاوامر الإلهية ولأيسمح للنفس الأمارة بالسوء ان تصدی عن ذلك

- الصبر عن المعصية. اي الصبر على الصعاب. مجاهدة النفس وجنود الشيطان

5- الأمانة:- وهي من القيم الأخلاقية التي اكد عليها الاسلام وامير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وهي تعني اذا ما ائتمن عليه الانسان من الحقوق واجب اداء تلك الأمانة

6- الشجاعة:- وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليها الاسلام

ص: 187

وامير المؤمنين علي ابن الطالب (عليه السلام) وهي تعني (القدرة على مواجهه المواقف الخطيرة بحزم واراده قويه. وبما يتطلبه الموقف من اتخاذ ضرويه في الوقت المناسب

7- العفة:- وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليه الاسلام وامير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وهي تعني (ضبط النفس عن الشهوات والامتناع عن اي اتصال جنسي قبل الزواج وبعد الزواج بغير الزوج

8- الوفاء بالعهد: وهي من القيم الأخلاقية الفاضلة التي اكد عليها الاسلام وامير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام) وتعني (الخروج عن عهد ما قبل عند الاقرار بالربوبيه. أي عدم العودة الى ما تب منه. وعدم التقصير في اداء ما عاهد نفسه على القيام، وتعني الوفاء بالعهد. الثبات على الحب ولوازمه وادامته حتى الموت) (الزبيدي: 2017)

ملاحظة: هناك مجموعه من القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة التي اكد عليها الاسلام وسيرة أمير المؤمنين الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي الموحد وتوظيفيها في المناهج الدراسية الجامعية. وهذا يحتاج إلى الشرح.

وسائل واساليب تنمية القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي الموحد:- من المعلوم ان هناك عدة اسالب ووسائل في تنمية القيم الأخلاقية الإسلامية لخدمة المجتمع الاسلامي الموحد في المناهج الدراسية الجامعية الإسلامية. وهي كثيرة وسنكتفي بالقدر الممكن وهي

اولا: التمسك بالعبادات: وهو الاسلوب العلمي في تربيه الانسان (روحیا.

ص: 188

بدنیا. واجتماعيا وعقليا. وهذه العبادات جانب مهم عند الله سبحانه وتعالى من حيث أمر فيها الامر والنهي عن العمل. وفق (فطرة الإنسان) حيث زوده تبارك وتعالى بالاستعدادات الفطرية للتعلم. وبذلك يمكن اكتساب القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان ولخدمة المجتمع الانساني وهذه القيم مرغوبه في المجتمع الاسلاميه وبذلك فهي معيار للضبط والتنشئة الاجتماعية.

وفي ضوء ما تقدم. اكد الاسلام على تنمية القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء شخصية الانسان المتكاملة ولجوانب شخصيته المعروفة (الروحية والعقلية وحواسه) فهي تساهم في بناء الإنسان وتصبح العلاقات الاجتماعية القائمة على الود والمحبة.

ثانيا: التمسك القدوة الإسلامية:- من المعلوم ان قدوتنا في القيم الأخلاقية الإسلامية وهي شخصية الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) وكذلك اهل البيت (عليهم السلام) وذلك استنادا الى قوله تعالى: «قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ» سورة الممتحنة / 4 وكذلك يمكن تطبيقها في بناء الانسان لخدمة المجتمع الاسلامي مستقبلا.

ثالثا: الموعظة والنصح، وهما من الوسائل المهمة في غرس القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة. فالموعظة مؤثرة في النفوس ومؤثرة في سلوك الفرد فهي تحقق مرضاه الله تبارك وتعالى ورسوله الكريم واهل البيت (عليهم السلام)

رابعا: ضرب الأمثال: وهي من الوسائل المهمة والمؤثرة في السلوك. لذا فهي تساهم في غرس القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة حيث تضرب من الحكمة خصوصًا وإن كانت مستمدة من القرآن الكريم. وبذلك اشاره الله تبارك وتعالى في مواضيع كثيرة (الاسدي ويحيي 2012)

ص: 189

أولا: الاستنتاجات:

1. إن القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في الاسلام كثيرة ومتنوعة. حيث ذكرها القرآن الكريم بما يقارب (1504) ذكرت في موضع

2. ان القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في سيرة امير المؤمنين الإمام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) ارتبطه بالإنسان ومست جوانب شخصيه بناء الانسان المسلم في الجوانب (العقلية + الجسمية + الوجدانية + الروحية + الاجتماعية) التي يمكن تساهم في بناء الإنسان المسلم وخدمة المجتمع الاسلامي الموحد اضافه إلى ذلك أن هذه القيم مستمده من القران الكريم وأحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله)

3. ان القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة لها دور مهم في بناء المجتمع الاسلامي الموحد الذي يؤمن برساله الاسلام. وهو صاحب رساله انسانيه. اي تؤمن بان مجتمع يقدس كل القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة لأنها مستمده من القران الكريم واحاديث الرسول محمد (صلى الله عليه وآله) وكذلك اهل البيت (عليهم السلام)

4. يمكن توظيف القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان المسلم ولخدمة المجتمع الاسلامي الموحد في المناهج الدراسية الجامعية وهناك عدة وسائل واساليب يمكن تضمينها من خلال:

1- التمسك بالعبادات.

2- التمسك بالقدوة الإسلامية.

3- الموعظة والنصح

4- ضرب الامثال)

ص: 190

ثانيا: التوصيات والمقترحات:

1. على وزارة التربية والتعليم العالي والجامعات الأهلية تضمين هذه القيم الإسلامية الفاضلة في سيرة الإمام أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب (عليه السلام) في مناهجها وبرامجها وانشطتها لتعزيز القيم الأخلاقية الإسلامية في نفوس الطلبة مستقبلا.

2. حث الهيئات التدريسية في المدارس والجامعات وأماكن العبادة الأخذ بتضمين القيم الأخلاقية الإسلامية عند الشرح والتفصيل والموعظة والشرح العبادات لأنها تساهم في بناء الانسان المسلم الذي يخدم وطنه وامته الإسلامية

3. ضروه استنباط القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة وتوظيفيها في مجالات الحياة العامة (الاقتصادية، السياسية، الثقافي، العسكرية، القانون، القضاء... الخ

ص: 191

المصادر والمراجع

1. الابراشي، محمد عطية، الاسلام منقذ للإنسانية، مكتبه مصر، مصر، 1974 م

2. الاسدي. سعد جاسم. ويحيى عثمان محمد. اخلاقيات مهنة العمل الاداري. قراءة فكرية تربوية اسلاميه. المركز الوطني للدراسات الاجتماعية والتاريخه سلسله (28) لبنان 2014

3. بدوي، احمد زكي، قاموس مصطلحات العلوم الاجتماعية، مكتبة لبنان، 1977

4. برکات احمد لطفي بركات في الفكر التربوي الاسلامي ط - الرياض دار المريخ 1982.

5. الحيالي. صبلاي بردان وآخرون. أخلاقيات و آداب مهنة التدريس الجامعي. مرکز ديبونو لتعليم التفكير. الاردن 2012.

6. الخيال. احمد جاسم ال مسلم. المثالي الالهي علي ابن ابي طالب (عليه السلام) مؤسسة البلاغ للطباعة والنشر والتوزيع. لبنان 2014

7. الخاقاني. فاطمه محمد محمد طاهره. الامن التربوي للطفل في الاسلام. دار المحجه البيضاء لبنان 2011.

8. خوري توما المناهج التربوية ومرتكزات تطويرها وتطبيقاتها ط - بیروت 1983

9. الزبيدي. صباح حسن عبد. مناهج المواد الاجتماعيه وطرائق تدريسها - دار المناهج. الاردن 2010.

10. الزبيدي. صباح حسن عبد المنهج المدرسي المعاصر والكتاب المدرسي. مكتبه الايام. الاردن 2018.

11. الزبيدي. صباح حسن عبد البحث الموسوم (نظرة جديدة... لدور المناهج التربوية الإسلامية في تعزيز قيم التعايش الإنساني في ضوء التعدد لديني) بحث

ص: 192

مقدم إلى المؤتمر العلمي السنوي السابع لكلية الدراسات القرآنية الموسوم (التعايش الإنساني في ضوء التعدد الديني) يوم الخميس 29/ 4 / 2017 بابل - المحور الثالث.

12. سوادي، فليح، عهد الامام علي ابن أبي طالب (عليه السلام) الى واليه على مصر، مالك الاشتر (رض)، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية 1 / 1، 2010.

13. الشيخ علي الفتلاوي، رسالة في فن الإلقاء والحوار والمناظرة، العتبة الحسينية المقدسة، سلسله (16).

14. الصدر، محمد مهدي، اخلاق اهل البيت مؤسسه دار الكتب الاسلامي قم 2008

15. الطهطاوي، سيد احمد، القيم التربوية في القصص - القرآن الكريم، دار الفكر، القاهرة 1996

16. عبد العزيز صالح التربية وطرق التدريس دار المعارف بمصر 1981.

17. عبد العزيز. امير. الانسان في الاسلام دار الفرقان. الاردن 1984

18. قمر. عصام توفيق. الأنشطة المدرسية والوعي البيئي. الاطر النظرية. الادوار الوظيفية. التجارب الدولية. دار السحاب للنشر والتوزيع. القاهرة 2005

19. كنعان احمد على ادأب الاطفال والقيم التربوية دار الفكر دمشق 1999

20. مهدي عباس علي واخرون اسس التربية وزارة التعليم العالي والبحث العلمي جامعة الموصل 2002

21. معجم المصطلحات الأخلاقية. مركز باء للدراسات بيروت 2006

22. مذكور، إبراهيم واخرون، معجم العلوم الاجتماعية، الهيئة المصرية العامة للكتب، القاهرة 1975

ص: 193

23. ناصر، ابراهيم، اصول التربية، الوعي الانساني، مكتبه الرائد العلمية، الاردن 2004

24. النورة جي، احمد خورشيد مفاهيم في الفلسفة والاجتماع، دار الشؤون الثقافية العامة بغدادا 1990

25. هناء. عطيه محمود وعبد ميخائيل رزق. الشخصية والصحة النفسية. القاهرة 1985

26. وزاره التربية العراقية. المديرية العامة للمناهج والوسائل التعليمية. بناء مصفوفه القيم الوطنية والقومية والإنسانية. بغداد 1992

27. الكتب والبحوث والمراجع المعتمدة في هذا البحث وهي:

28. العلامة السيد مهدي الصدر، أخلاق أهل البيت، دار الكتاب الإسلامي، إيران 2008

29. الشيخ الجليل رضي الدين الطبرسي،. مكارم الاخلاق،، مرکز نشر کتاب

30. قمي، عباس، خمسون دراسا في الاخلاق، دار الجوادين، كربلاء المقدسة 2012

31. الزبيدي، صباح حسن عبد، بناء منظومه قيم المواطنة الصالحة واثرها في المناهج الدراسية لتساهم في بناء شخصيه الطالب العراقي، بحث مقدم الى المؤتمر العلمي الرابع لأبحاث الموهبة والتفوق، الجامعة الأردنية وبالتعاون مع المؤسسة الدولية للشباب والبيئة والتنمي-ة للفترة من 11-12/ اب/ 2015 الاردن

32. بحار الانوار ج/ 100 ص 362.

33. اعلام الهدايه. المجمع العالمي لأهل البيت (3).

34. الوافي. الكاشاني ج/ 3/ ص 20.

35. نهج البلاغه / ص 177.

ص: 194

قيمة التواضع في كلام الإمام علي (علیه السلام) في نهج البلاغة بوصفها مرتكزًا أساسيًا لبناء الهوية الإنسانية د. وسام حسين جاسم العبيدي كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) الجامعة / بابل

اشارة

ص: 195

ص: 196

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

والصلاة على محمد المصطفى وآله الطيبين الطاهرين..

أما بعد

فقد دعا العقلُ السليمُ، قبل الشرائع والأديان السماوية، إلى أن يفكّر بجِدّيةٍ حول الغاية التي خُلِق من أجلِها، ألا وهي التواصل المثمر لبناء حضارة تمثّل الوجود الإنساني على ظهر هذا الكوكب، وهذا ما أشارت له الآية الكريمة: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ» الحجرات: 13، ومن الطبيعي أنه لا يتمّ التعارف الذي يؤسّس إلى قاعدة أخلاقية صلبة بين الآخرين، ما لم يكن مبنيًّا على قيم أخلاقية رفيعة، ولعلّ أساس كلّ تلك القيم يرتكز على قيمة التواضع، بوصفها منطلقًا إنسانيًا شاملاً يُحقّق أعلى نِسَب المقبولية عند جميع الأمم والحضارات، على اختلاف توجّهاتها الفكرية والعقديّة، وعبر تلك القيمة الأخلاقية الرفيعة تُجسّر المصالح البشرية الأخرى سواء أكانت مقتصرة على تغطية حاجات الجسد، أم كانت معنويّة تُشبع نهم العقل الباحث عن أجوبةٍ لأسئلته النافرة من صميم مُشكلاته حول الهم الاجتماعي الذي يعيشه، أو ما يعبّر عن طموحه لسبر أغوار الآخر بوصفه مشاركًا له في كثير من القضايا التي تجمعهما في بودقةٍ واحدة متمثّلة بالوجود الإنساني.

ومن منطلق الأهمية القُصوى لقيمة التواضع، كان للباحث أن يسلّط الضوء

ص: 197

على هذه القيمة بين ثنيّات الخِطاب الإمام البيان العربي، وإمام الإنسان الحقيقي الذي يبتغي احترام انسانيّته قبلَ كل شيء.

وكان للباحث بعد رصده ما يندرج تحت موضوع هذه الدراسة، أن يتوقّف عند محاور أساسية، تمثّل منطلقات البحث ومساربه التي تُمهّد الوصول إلى الغاية الأخلاقية التي سعى إليها الخطاب العلوي الأقدس، فكان على النحو الآتي:

المحور الأول: التواضع في المشغل الاصطلاحي للمفهوم.

المطلب الأول: المفهوم اللغوي للتواضع. المطلب الثاني: ثنائية (التواضع / والتكبّر) وموقعيّتهما الدلالية في الخطاب القرآني.

المحور الثاني: قيمة التواضع في الخطاب العلوي الشريف.

المطلب الأول: ضياع القيم الأخلاقية في أمة الغرب.

المطلب الثاني: مفهوم التواضع في الخطاب العلوي.

المطلب الثالث: مخاطر الاستكبار في تشويه الهوية الإنسانية - قراءة في الخطبة القاصعة.

وبعد ختام رحلتنا المعرفية، كان لنا أن نقف عند محطة قطف الثمار، من النتائج التي اجتهدنا في استنباطها من خلال تقليبنا مضامين الخطاب العلوي، ولعلّ بعضها كان مبثوثًا في ثنيّات البحث، ولكن كما هي العادة، أن يكون الختام لملمةً لتلك الثمار المُجتناة، قد لا تكون حصرًا للباحث بقدر ما تكون فاتحةً لباحثين أُخر بإمكانهم أن يتوغّلوا في مشاربها ومن ثمّ يخرجوا لنا ثمار أفكار لم تطأها خيول طموحنا بعد، وهذه سُنّة الحياة، إذ لا يقتصر العلم على واحدٍ من الناس، بل كلٌّ يُدلي بما عنده ويترك الشوط الآخرين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين.

ص: 198

المحور الأول التواضع في المشغل الاصطلاحي للمفهوم.

ينبغي لنا حين التوجه لكشف دلالة مفهوم أن نعود به إلى جذره اللغوي الأساس الذي عبره تتبرعم مختلف الدلالات المبثوثة في لغتنا العربية، ومن ذلك المصدر (التواضع) الذي اشتُقّ من الفعل وضُعَ، يَوضُعُ وَضَاعَةً وضَعةً وضِعةً: صَارَ وَضِيعاً، فَهُوَ وَضِيعٌ، وَهُوَ ضِدُّ الشَّرِيفِ، أو الدَّنِيءُ مِنَ النَّاسِ (1).

ومنه اشتُقّت الضَّعةُ والضِّعةُ: وهي خِلاف الرِّفعةِ فِي القَدرِ، يُقَالُ: فِي حسبَه ضَعةٌ وضِعةٌ، أما التَّواضُعُ فهو بمعنى: التَّذَلُّلُ. وتَواضَعَ الرجلُ: ذَلَّ، وَيُقَالُ: دَخَلَ فُلَانٌ أَمراً فَوَضَعَه دُخُولُه فِيهِ فاتَّضَعَ. وتَواضَعَتِ الأَرضُ: انخَفَضَت عَمَّا يَلِيهَا (2).

وعند النظر صرفيًا إلى صيغة المصدر: التواضع نجده مشتقًا من الفعل الثلاثي المزيد بحرفين، على وزن (تفاعل) التي تدلُّ غالبًا على المشاركة، مثل: تحاور، وتناقش، وتعايش،.. الخ، مشتقٌّ من الفعل (وضع) الشيء أي: حطّه وأنزله من مقامٍ إلى مقامٍ أدنى منه.. مثل قول العرب: وضعت الحربُ أوزارها، أي سكنت وهدأت بعد أن ارتفع السيف بين المحتربين، ومن هذه الدلالة بالإمكان أن نجد في الفعل (تواضع)

ومن معاني (تفاعل) هو التحلّي بصفةٍ قد لا تكون أصيلةٍ في المُتّصفِ بها، بقدر ما تكون ظاهرةً عليه لِمُدّة ومن ثمّ تزول بزوال الظرف الداعي إليها، مثل: تباكى، وتغابى،.. الخ وهُنا يُمكن أن يُقصد بالفعل (تواضعَ) أي تحلّ بخُلُق التواضع وأظهر ذلك الخُلُق على سلوكك مع الآخرين، فيُراد به أيضًا في هذا المعنى إفادة

ص: 199

تواصليّة مع الآخر.. ولا يُمكن أن يُطلب التواضع من شخصٍ لا يرغب في التواصل مع الآخرين، أو يتعذّر عليه ذلك التواصل كأن يكون في جزيرة لوحده أو محبوس في سجن انفرادي، فلمن يتواضع إذا لم يفترض وجود أحدٍ معه..؟

وبهذا تصبّ المادة اللغوية بكلا الدلالتين اللتين ذكرناهما، المعنى التواصلي مع الآخر..

المطلب الثاني: ثنائية (التواضع / والتكبر) وموقعيّتهما الدلالية في الخطاب القرآني.

اتضح لنا ما سبق، أنّ دلالة (التواضع) في أصلها، لم يكن معنى محبّذًا يستحسنه العقل، حتى يكون قيمةً عليا يدعو إليها عُقلاء القوم، فهي تمثّل ص رذيلة لا يتّصف بها إلا من لا خرجوا عن إطار إنسانيتهم التي وُهِبَت لهم من دون المخلوقات، فالإنسان كما نعلم حُرّ غيرُ مضطرٍّ على سلوكٍ معيّن، وكما هو معلوم أنّ «الحرية الشرط الأول في المسؤولية. وسواء تعلق الأمر بالمسؤولية أمام القانون أو أمام الله أو بالمسؤولية أما الضمير [...] فإن الحرية هي الشرط المسبق، شرط في قيام الأخلاق نفسها» (3).

وهذا التخيير إنما يمثّل تكريمًا إلهيًّا له، حيث يجعل كل ما حوله من مخلوقاتٍ مسخّرةً له؛ لكونها لا تتمتّع بالشرط الإنساني المُميّز له، وهو (الحُرّية). وما ورد في قوله تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ» البقرة: 30، إيذانٌ بأهميّة تلك الحُرّية التي يتمتّع بها ذلك الخليفة، على الرغم من إفرازاتها التي يُفرِط في استعمالها بعضُ من لم يرعوا حقّها، بدليل أنّ الملائكة - وهي عقولٌ محض مسيّرة وليست مخيّرة - استلزمت خطابيًّا أنّ من نواتج تلك الخلافة - بمعنى

ص: 200

أن يكون الإنسان مخوّلًا في إدارة شؤون نفسه - أن يصدر عنها الجور والظلم بما يُؤدّي إلى سفك الدماء، إلا أنّها على أي حال تُشكّل فارقًا مفصليًّا يميّز الإنسان عن سائر الموجودات، وفي الوقت نفسه تعرّض الإنسان إلى اختبارٍ وجوديٍّ تكشف من خلاله عن مقدار تحقّق كينونته، فينجح بعضهم في ذلك الاختبار ويقع آخرون، فالإنسان مهما أُوتِي من مؤهّلات تميّزه عن المخلوقات الأخرى، ولكنه «لا يخلق قيمه بحريته المطلقة ولكنه يختارها من بين القيم التي تعرض نفسها عليه، وتدعوه كل واحدة منها لاختيارها والانخراط تحت لوائها»(4).

وكان الكفرُ نتيجةً حتميّةً لمن يُعلن استكباره على الخالق، مهما أُوتِيَ من مؤهّلات ترفع من شأنه، إلا أنّ صفة الاستكبار توقعه وتُرديه إلى المهالك، وهذا ما كان في قصّة إبليس اللعين الذي أبى أن يمتثل أمر الله سبحانه بالسجود لآدم، فقال في كتابه: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ» البقرة: 34، وهذا السجود لم يكن إلا من باب التواضع لله ولمن خلقَه الله، ولكنّ الشيطان أخذته العزّة بعنصره وتناسى أنّ من خلق عنصره هو الذي أمره بهذا السجود لمن هو يراه أدنى منه في أصل الخِلقة، فكانَ كافرًا بالله، أي عالمًا الا بحقيقة جحوده الله كالزارع الذي يُغطّي البذار بالتُراب، فكان إبليس كذلك يُغطّي إيمانه باستكباره على الخالق العظيم، الذي تجلّى عبر سلوكه المتمرّد بعدم امتثاله أمر السجود، «وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ» النمل: 14، ولعلّ الوضاعة من أبرز صفات مسخ الهويّة الإنسانية وفشلها في عالم الإنسان الذي أُريد له أن يكون متميّزًا عن عالم سائر الموجودات؛ ذلك لأنّها تمسخ الشرط الأساس الذي أراده الله سبحانه وتعالى للإنسان، وهو الحريّة الكفيلة بخلق كينونة الإنسان الخليفة، ولأنها صفة تتناقض مع صفة (العزّة) التي هي من

ص: 201

صفات الله وفي الوقت نفسه أحبّها أن تكون في أوليائه المؤمنين، فقال: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ» المنافقون: 8. ويقتضي الخطاب القرآني - بوصفه خطابًا لذوي الألباب - أن يكون المنافقون من فاقدي تلك الصفة الربّانية الجليلة التي منحها لخاصة عباده المؤمنين، ممّن اتّصفوا بالعِزّة، بما يُظهر مكانتها وموقعيّتها الرفيعة.

بل وأكثر من ذلك حين يُخاطب الله سُبحانه أصحاب العقول، في أكثر من آية بما لا حاجة بنا إلى استعراضها بالتفصيل، ولكن لأجل أن نُربُط فيما يتّصل بموضوعنا، وهو أنَّ القرآن الكريم بما فيه من مضامين جليلة إنّما وُجّهت بوصفها رسائل يعيها العُقلاء من البشر، فحين يدعو الله سبحانه إلى التفكّر، إنّما يدعو إلى الاتّضاع والركون إلى الآخرين في تقليدهم واتّباع ما يرونه، إنّما أراد لهم أن يكونوا أحرارًا في خياراتهم ومستقلّين عن المجموعات التي يعيشون معها في اتّخاذ قراراتهم، وهذا ما صرّحت به الآية الكريمة: «قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» سبأ: 46، أما اتّباع الآخرين فلا يعني إلا إقرارٌ بالذلّ والضِعة، وبمعنى آخر إنما يمثّل انسلاخًا عن الهويّة الإنسانية الممتزجة ببعض الصفات التي منحها الله سبحانه حُبًّا بمن خلقهم.

أمّا صفة التواضع، فهي مما دفع إليها الذوق العُقلائي ويتبعه الشارع الأقدس في من يستحقّ التحلّي له بهذه الصفة؛ ذلك أنّها تمثّل «تحقير النفس وإهانتها بالنسبة إلى عظمة الله وقبول الحق بحسن الخلق» (5). وبهذا تكون من الصفات الخاصّة الاستعمال - إذا صحّ الوصف - لما فيها من سعةٍ دلاليّة قد تأخُذُها إلى ما يسحبها عن تلك الدلالة الإيجابية؛ ولذلك كان التحديد سياقيًّا بوضعها في

ص: 202

ما يدلُّ على رضا الله وطاعته، لتكون بعدها قيمة محمودة تعزّز الهويّة الإنسانية للمؤمن، وتحرّكه للتواصل المثمر مع الآخرين فيما تُفضي به العلاقات الإنسانية من شتى نشاطات اجتماعية لا يمكن لها أن تكون إلا بتوفّر هذه القيمة الأخلاقية، وما تستدعيه من صفات أخلاقية أخرى تتحرّك في ظلال قيمة التواضع وتعمل على تهيئة الجوّ الإنساني الملائم لتنشئة أجيال سعيدة قادرة على النهوض بواقعها ومجابهة الأخطار بخُطًى واثقة ممّا تقوم به.

وبالنظر إلى مجمل الخطاب القرآني، نجد أنّ التواضع هو المِلاك في تعامل الإنسان مع خالقه في العبادة مثلاً، وكان الخشوع إحدى أبرز مظاهر التواضع لله، التي تُبرز مكانة المؤمن الحقيقي عن سواه، فقوله سبحانه: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ» البقرة: 45 دليلٌ على أنّ الخشوع وهو التواضع، هويّة المؤمن الذي يتحرّر من قيود المادّة، حين يُعلن انتماءه إلى الله غير تابعٍ لأحدٍ، وهذا الاتّباع إنما جاء عن طريق تفكيره بأنّ كل ما حوله يستحيل أن يكون بلا خالقٍ أو جده، فخضوعه لله يترجم عمق إيمانه بذلك الخالق، فالصلاة التي يُؤدّيها إليها ما هي إلا أقلّ الواجب من حقوق المُنعم عليه، وهذا هو خُلُق الملائكة الذين أذعنوا لله الواحد الأحد، فكانوا له متواضعين في الانقياد إليه، يقول سبحانه: «إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ» الأعراف: 206.

ويقف الماتريدي (ت: 333 ه) عند قوله تعالى: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا» الإنسان: 2 متأمّلاً إلى ما فيه من إشارةٍ جليّةٍ إلى ضرورة أن يكون التواضع سلوكًا يتمثّله الإنسان في عبادته لله سبحانه؛ لأنّ ((إنشاءه كان من نطفة تستقذرها الخلائق، ومن علقة ومضغة يستخبثها كل أحد،

ص: 203

وبعد الممات يصير جيفة قذرة، ومن كان هذا شأنه، لم يحسن التكبر في مثله؛ فكان في تذكير أوائل الأحوال وأواخرها موعظة لهم؛ ليتعظوا، ويتبصروا، وتعريفٌ لهم أن التكبر لا يحسن من أمثالهم؛ فيحملهم ذلك على التواضع وترك الافتخار والتجبر)) (6).

ولذا كان التواضع سمة الأنبياء والأولياء الصالحين الذين يمثّلون القمّة في السلوك الإنساني، ومن ذلك قوله تعالى حكاية على لسان نبيه عيسى (علیه السلام): «وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا» [مريم: 32] يَقُولُ: وَلَم يَجعَلنِي مُستَكبِرًا عَلَى الله فِيمَا أَمَرَنِي بِهِ، وَنَهَانِي عَنهُ شَقِيًّا وَلَكِن ذَلَّلَنِي لِطَاعَتِهِ، وَجَعَلَنِي مُتَوَاضِعًا (7). وكانت إحدى وصايا لقمان الحكيم أنه أوصى ابنه بحسب ما ورد في قوله: «وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ» لقمان: 19 أي أَمَرَهُ بِالتَّوَاضُعِ فِي مَشيِهِ (8).

أما فيما يخصُّ رسولَنا الخاتم لرسالات السماء محمد (صلی الله علیه و آله وسلم) فقد كانت التوصيات الإلهية دومًا ما تُشير إلى ضرورة أن يكون النبيُّ متواضعًا للآخرين، ففي قوله تعالى: «قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا» [الكهف: 110] قال ابن عباس (رض) ((عَلَّمَ الله تعالى رسولَه التواضع لئلا يزهى على خلقه، فأمره بأن يقر على نفسه بأنه آدمي كغيره إلا أنه أكرم بالوحي، وهو قوله: «يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ» (9).

وفي السياق الاجتماعي أمر الله سبحانه وتعالى الإنسان بالتواضع لوالديه، فقال سبحانه: «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا» الإسراء: 24. وَيُطلَقُ الذُّلُّ عَلَى لِينِ الجَانِبِ وَالتَّوَاضُعِ، وَهُوَ مَجَازٌ، وَمِنهُ مَا فِي هَذِهِ الآيَةِ، فَالمُرَادُ هُنَا الذُّلُّ بِمَعنَى لِينِ الجَانِبِ وَتَوطِئَةِ الكَنَفِ، وَهُوَ شِدَّةُ الرَّحمَةِ

ص: 204

وَالسَّعيُ لِلنَّفعِ (10).

لا عبر ما استعرضناه آنفًا نوجز القول: إنّ التواضع بوصفه قيمة أخلاقية تُعلي من شأن الإنسان بأثره التواصلي مع الآخرين على العكس من مفهومها اللفظي الظاهر، وهذا ما يُشكّل نقطة الافتراق بين مفهومها الظاهر ومفهومها العمَلي - إن صحّ الوصف - حيثُ تنكشف مساحة الحريّة الكامنة في ذات الإنسان بهذه القيمة، فيرتقي أخلاقيًّا إن راعى التعامل وفقها، وبالعكس من ذلك يسقط في حبائل الانغلاق على الذات قبل الآخرين، هذا لأنّ التواصل ينبني على قناعة كلّ طرفٍ بالاستفادة المتحققة من الآخر، وهذه الاستفادة لم تكن حكرًا لأحد من دون الآخر، بل هي خصيصة جوهرية قام عليها التنوّع الإنساني منذ النشأة الأولى له وإلى يوم الناس هذا، فإذا اضمحلّت عُرى التواصل الإنساني التي يترتّب على ثمارها تزايد الألفة بين المجتمعات وانفتاحها ثقافيًّا بما يكسر تلك الصور النمطية الراكزة في مخيال كل مجتمع عن الآخر، لم تكن إلا أشباح مجتمعات هجينة بثقافاتها، ومن ثمّ لا يسود غير الكراهيات التي لا تودي إلا بالمزيد من الانتهاكات بحقّ الآخرين بوصفهم عبيدًا لا يستحقون سوى الإخضاع والسيطرة على مقدّراتهم. وهذا ما لا يقبله منطقٌ إنسانيُّ سليم يروم العيش على هذا الكوكب بسلام وأمان.

ص: 205

المحور الثاني قيمة التواضع في الخطاب العلوي الشريف.

المطلب الأول: ضياع القيم الأخلاقية في أمة الغرب.

مُخطئٌ من يظنُّ أنّ القيم الإنسانية هي مجرّد أوهام لا تقدّم للمجتمعات البشرية شيئًا من الفائدة، محتجًّا بما يجده عند المجتمعات الغربية من تقدّم تكنولوجي على مختلف الأصعدة على الرغم من هدرهم تلك القيم، أو استعمالهم إياها بطريقة كيفية تتبع حسابات الربح والخسارة في عالم سوق المال، فتفوّق الغرب قام على مبدأ (فائض القيمة التاريخي) الذي تحقّق عبر استعمارهم بقية دول العالم، على الرغم من عدم نُكراننا ما قدّمته الثورة العلمية التي أدّت إلى طفرة اقتصادية تشيّدت على أركانها الدولة الوطنية الحديثة، ومن ثمّ جعلها دولة قانون ومؤسسات ديمقراطية، إلا أنّ وراء ذلك الازدهار كان هنالك نهبُ لخيرات المستعمرات وتسخير سُكّانها، وبالنتيجة تراكمت لديهم الثروة الاقتصادية التي أنعشت الجانب السياسي والتكنولوجي (11)، بمعنى أنّ التطور التقني صاحبه انسلاخ المضمون الإنساني لدى تلك المجتمعات، فكانت الأسلحة الفتّاكة التي تقتل الملايين من الشعوب إذا ما تحرّكت منتفضةً لأجل استرداد كرامتها، فكانت تلك التقنية لأجل الحفاظ على تلك المركزية الغربية القائمة على الاستكبار على الآخرين، بما يُقصيها عن التواصل الإنساني المنشود.

وعليه نستطيع القول: إنّ الحضارة الغربية الحديثة لم تُسهم كثيرًا في إثراء المنظومة الأخلاقية، وهذا ما شهد به علماء الغرب، ومن أولئك الكاتب الانجليزي (جود) بقوله: «إنّ الحضارة الحديثة ليس فيها توازن بين القوّة

ص: 206

والأخلاق، فالأخلاق متأخّرة جدًّا عن العلم، فقد منحتنا العلوم الطبيعية قوّةً هائلة، ولكننا نستخدمها بعقل الأطفال والوحوش... فالانحطاط فالانحطاط هو خطأ الإنسان في فهم حقيقة مكانته في الكون، وفي إنكاره عالم القيم، الذي يشمل قيم الخير والحق والجمال» (12)، وتقول الكسيس كارليل: «في المدينة العصرية قلّما نشاهد أفرادًا يتّبعون مثلاً أخلاقيًّا، مع أنّ جمال الأخلاق يفوق العلم والفن من حيث إنه أساس الحضارة» (13)، وبهذا يمكن أن نفاضل الحضارة الإسلامية التي قامت على القيم والأخلاق، فكان أساس بعثة الرسول الكريم (صلى الله عليه و آله وسلم) ليتمم مكارم الأخلاق ويكملها، وذلك بعد أن تشرذمت وتفرّقت وأهمِلَت بين الأمم والحضارات؛ هذا لأنها كانت وحيًا من الله سبحانه وتعالى، فكان مصدرها التشريع الإسلامي منذ خمسة عشر قرنًا من الزمان (14). ومن ثمّ كانت النتيجة في مثل هذا المجتمع أن تكون الوسائل بديلاً للغايات، وتتصاعد نزعة الاستهلاك المادي التي تعمل على تدمير الذات والقيم القديمة، من دون أن تتمكن من بناء ذات جديدة، مما يجعل الإنسان في حياته الفردية موزعًا بين قيمٍ فقدت زمنها وحاضرٍ لا يستطيع بلورة قيم تناسبه، الأمر الذي يُؤدي إلى ضياع القيم واندحارها فیما بعد (15).

المطلب الثاني: مفهوم التواضع في الخطاب العلوي.

إذا أردنا أن نسلّط الضوء على أهميّة التواضع بمنظور الإمام علي (علیه السلام) كان لنا أن نقرأ قوله: ((ولا حسبَ كالتواضع)) (16)، بعدّهِ أعلى قمّة يبتغيها الإنسان، ومعلومٌ أنّ الحسب «هُوَ مَا تعده من مفاخر آبَائِك، أَو المَال، أَو الدّين، أَو الكَرم، أَو الشّرف فِي العقل، أَو الفِعل الصَّالح، أَو الشّرف الثَّابت فِي الآبَاء» (17). أي كلُّ تلك المفاخر لا ترقى إلى ما يتمتّع به الإنسان من تواضعٍ لله أو مع عباده الصالحين.

ص: 207

وفي وصف المتّقين، كانت واحدة من أبرز علاماتهم التي شخّصها أميرُ المؤمنين (علیه السلام) هي التواضع، بقوله: ((فالمتقون فيها هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع)) (18)، بمعنى أنّهم لا يُظهرونَ زهوًا على الآخرين يُوجب اجتناب الناس عنهم، بل هُم يتّخذون التواضع شعارًا يعبّرون من خلاله عن انتمائهم للآخرين على الرغم من عُلُوّ شأنهم عند الله سبحانه؛ لعلمهم أنّ الله وحده ممّن له الحق في الكبرياء على جميع مخلوقاته. وفي نصٍّ آخر يبيّن الإمام (علیه السلام) أنَّ تواضعه لغايةٍ مُسبقة، بمعنى إنّ تواضعه يعبّر عن وعيٍ عميق بمضمون هذه القيمة الأخلاقية، فيقول عنهم: ((بُعدُهُ عمن تباعد عنه زهد ونزاهة. ودنوه ممن دنا منه لين ورحمة. ليس تباعده بكبر وعظمة، ولا دنوه بمكر وخديعة)) (19) فكلُّ حركةٍ يقوم بها إنّما تُترجم بُعد نظره وعميق إيمانه، فحين يربأ بنفسه - بوصف هذا السلوك تكبُّرا - فهو لأجل أن يحافظ على تقواه ولا يمكن بحال أن يكون مثل هذا التصرّف ينمّ عن تعجرفٍ منه، وحين يتواضع للآخرين ويدنو منهم في مجمل سلوكه مثل أن يبدأ السلام أو يبشّ في وجوه الآخرين أو يخفض صوته حين يتحدث معهم أو غيرها من سلوكيّات يوميّة، فلأجل تمتين أواصر العلاقة مع من يستحقها من أفراد المجتمع، ومن ثمّ تصبّ النتيجة في إضفاء تلك القيمة لُبوسًا معرفيًّا يوجّه صاحبها إلى الصحيح من السلوك في المقام المناسب وإلى ما عداه فيما إذا تغيّرت شروط المقام الذي يكون فيه.

وفي قوله (علیه السلام): ((وبالتواضع تتم النعمة)) (20) يظهر جليًّا ما توفّره هذه القيمة من فوائد تعود على صاحبها بالخير، إذ من الطبيعي أن يكون محطّ ثقة الناس ومحلّ احترامهم - بصفةٍ عامّة - ومن ثمّ يُؤهل إلى ما هو أعلى مقامًا بين

ص: 208

الناس.

ويُلحظ المقام السياقي الذي يُحدّد دلالة هذه القيمة الأخلاقية، فيجعلها في موضع ما مقبولاً، وفي موضع ما مذمومًا، وذلك في مثل قوله (علیه السلام): ((وَمَن أَتَى غَنِيّاً فَتَوَاضَعَ لَهُ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ)) (21) فهنا يعمل الفكر التداولي في تحديد هذه الدلالة، إذ كما هو معروف أنّ معنى الخطاب يتحدد في ضوء الظروف التي يرد فيها، وهذا ما عبّرت عنه البلاغة العربية القديمة ب (مقتضى الحال ولكل مقامٍ مقال) فلم يكن التواضع بوصفه سمة أخلاقية تعمل على التواصل الخلّاق بين الآخرين، سوى وسيلةٍ ذاتيّةٍ تنطلق لتحقيق مآرب آنية من قبل الفرد، وهو بهذا لم يُراعِ أظهر سمات شخصيّته المتحقّقة بإنسانيته ومعرفة قدر نفسه، بل كان مثل ذلك التواضع يمارسُ تشويهًا لتلك الهويّة التي أراد الله تعزيزها في الإنسان، ومن ثمّ تكون النتيجة ما أشار إليه حديث الإمام (علیه السلام) بضياع ثلثا دين الإنسان، والدين لغةً بمعنى الالتزام، فلا يبقى والحالة هذه إلا شعائر ذلك الدين من دون أثرٍ لتجلّياته عليه، كذلك إنَّ في التواضع للأغنياءِ إعلامٌ لهم بوجوب احترامهم من قِبَل الآخرين ومن ثمّ الإذعان لهم، في حين أنهم لم يكن بينهم وبين الآخرين سوى فرق العامل الاقتصادي الذي أتاح لهم أن يكونوا مرفّهين بهذه الأموال، وخضوع الآخرين لهم لا يُشعِرهم بالتقصير لتقاعسهم عن أداء حقوق ما عندهم إلى الآخرين، بل يمدّهم في طغيان الغطرسة والتبختر اللامسؤول تجاه المجتمع، الأمر الذي يُراكم من تفاقم المشكلة الاجتماعية ويُعمّق الهوّة بين أفراده.

وفي المقابل يُحدّد الإمام (علیه السلام) أنّ أفضلَ التواضع وأعلاه أثرًا في المجتمع، حين ينطلق من علية القوم الأغنياء الذين أُوتوا فضلًا من المال، لَمِن حُرِموا منه، وذلك في قوله: ((مَا أَحسَنَ تَوَاضُعُ اَلأَغنِيَاءِ لِلفُقَرَاءِ طَلَباً لِمَا عِندَ الله وَأَحسَنُ مِنهُ

ص: 209

تِيهُ الفُقَرَاءِ عَلَى اَلأَغنِيَاءِ إِتِّكَالاً عَلَى الله)) (22) إذ ينفرد هذا الحديد بتحديد قيمة التواضع وما يُعاكسها في الاتّجاه إلا أنّهما بحسب السياق النصّي تمثّلان قيمتين فاضلتين يُحبّذهما العقل قبل الشرع؛ لما فيهما من آثار اجتماعية تنعكس فيما بعد على المجتمع، وتبعث على تذويب الفوارق التي صنعتها الوفرة الاقتصادية بين الجميع، فالتواضع الذي يدعونا إليه الإمام (علیه السلام) ليس لأجل منفعة شخصية، بل لأجل منفعة اجتماعية عامة، فالغني حين يتواضع، إنّما يُكرم نفسه، بإكرامه الآخرين بما يجود به عليهم من مالٍ اختبره الله فكان عليه مسؤولاً يوم القيامة، أما إذا كان خطابه معبّرًا عن اعتزازه بقدراته من دون الاستعانة برازقٍ يهب لمن يشاء ويقدر على من يشاء، فهو ساقطٌ في هذا الاختبار الذي عبّر القرآن الكريم: «فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ» الزمر: 49، وهنا يکون الوعي الوجودي لهذا الغنيّ سببًا في اجتيازه عقبات هذا الاختبار، ما يُمكن أن نصفه بالوعي العميق لدى الإنسان - بالمعنى الإفلاطوني - الذي يمثّل شعوره بالمصير التاريخي لمجتمعه، وعلاقته بالمقدّرات الراهنة بالنسبة إليه وإلى مجتمعه، وإلى الشعور بانضمامه وارتباطه بالمجتمع وشعوره بالمسؤولية تجاهه، ولفلسفة الحياة وما تنطوي عليها من شبكة العلاقات، سيما في الرباعية المحورية التي خطّطها علي شريعتي: (الإنسان - ذاته)، (الإنسان - المجتمع)، (الإنسان - الطبيعة)، (الإنسان - الله) وبهذا تكون نباهة الإنسان الفردية والاجتماعية مندرجةً تحت ما سمّاه ب (الوعي الوجودي)، إذ (الذات، المجتمع، الطبيعة، الله) مجتمعةً تُشكل الوجود بالنسبة للإنسان (23).

أما الأفضلُ من ذلك مقامًا عند الله، حين يحفظ الفقيرُ من عباده ماء وجهه، ولا يريقه لأجل استحصال الزهيد من أموال أولئك المستكبرين، وفي ذلك تحقيق

ص: 210

لمبدأ العزّة التي من شأنها أن تحمي الإنسان من الوقوع في شراك التبعيّة للآخرين ممّن لاخلاق لهم، فالتيه الذي يُذمّ عليه الإنسان بصفةٍ عامةً غدى أحسن وأفضل من تواضع الأغنياء للفقراء؛ وذلك لأنّ الشخص المتّصف به لم يكن إلا منطلقًا من صميم إيمانه بالرازق القادر على كل شيء أنّه لا سواه قادرٌ على أن يبدّل حاله إلى أفضل، وإن لم يُبدّل حاله، فذلك لا يُخرجه إلى حدّ الاعتراض، بل يرى أنّه اختبارٌ عليه أن يتخطّى صعابه متوكّلاً في كل ذلك الله.

ويُلاحظُ عبر هذا الحديث أنّه بالإمكان جمع كلا القيمتين الأخلاقيّتين في سلوكِ شخصٍ واحد، فيكون المؤمنُ متواضعًا لله من حيث أداؤه عبادته إليه، ومع الناس المؤمنين خافضًا جناحه لهم، وكذلك بإمكانه أن يتكبّر أو يتّصف بصفات تُحيل إلى هذه القيمة الأخلاقية من زهوٍ وعُجبٍ وتِيه وعزّة بالنفس لمن يستحقُّ مثل هذا السلوك من الأغنياء الذين دائمًا ما يرون الناس بمنظور استعلائي؛ لكون تلك القيمتين (التكبّر / التواضع) بينهما نسبة تضاد - کما في علم المنطق - لا نسبة تناقض، أي «أنّ التكبّر منا أنه صفة وجودية فكذلك التواضع صفة وجودية نفسانية أيضًا ويقعان على الضدّ من الآخر في واقع الإنسان ونفسه، وليسا من قبيل الوجود والعدم الذي يستلزم بالضرورة وجود أحدهما عدم الآخر بالتبع» (24).

المطلب الثالث: مخاطر الاستكبار في تشويه الهوية الإنسانية - قراءة في الخطبة القاصعة.

ولما كان تحذير الناس من إغواء الشيطان من جملة المهام الكبرى للأنبياء. فقد كان الإمام يهدف من كل ذلك إلى تأكيد عداوة الشيطان في النفوس لتنصرف إليه غريزة العدوان. وأعظم خطبة تضمنت ذلك، وتجلى فيها غرض الامام الاجتماعي هي خطبته المسماة (القاصعة). ففيها صرح الأمام بأن الاجتماع الانساني الحق لا

ص: 211

يمكن أن يجتمع مع النزعة القبلية. وفيها يصرح بأن النزعة القبلية ان هي إلا ارث شيطاني يزينه الشيطان لأوليائه (25). وفيها يبين أن الشيطان احق بالمحاربة من هؤلاء الضعفاء الذين يقع عليهم الظلم ويلحقهم الحيف بسبب النزعة القبلية. وذلك في قوله (علیه السلام): ((... واتَخِذوا التواضعَ مسلحةً بينكم وبين عدوكم إبليس وجنوده، فإن له من كل أمة جنودا وأعوانا، ورجلا وفرسانا. ولا تكونوا كالمتكبر على ابن أمه من غير ما فضلٍ جعله الله فيه سوى ما ألحقت العظمة بنفسه من عداوة الحسد، وقدحت الحمية في قلبه من نار الغضب، ونفخ الشيطان في أنفه من ریح الکِبر الذي أعقبه الله به الندامة، وألزمه آثام القاتلين إلى يوم القيامة والحرص والكبر والحسد دوا إلى التقحم في الذنوب، واستعيذوا بالله من الواقع الكبر كما تستعيذونه من طوارق الدهر))

في هذا النص من خطبة الإمام، عدّة أوامر ونواهٍ ذكرها الإمام، بمعنى أنّ مضمونها احتوى على مضامين أخلاقية مهمّة دعت الإمام أن يجعلها طلبات يأمر بها أتباعه؛ لأجل تهذيب أخلاقهم من فساد أخلاقيٍّ مستشرٍ في عصره، ألا وهو داء الكِبر، الذي أوقع إبليس - وهو المقرّب من بين جنسه من الجنّ حتى نال مراتب جعلته في صفوفِ الملائكة - بشراك الذنوب المُهلكة، فالتواضع يمثّل مفتاح نجاح الإنسان وارتقائه اجتماعيًّا في الدنيا باتّباعه الصالح من الأحكام؛ لأنّ امتثاله لدستور الصلاح الموجود في القرآن وتر جمانه المتمثّل بأئمة أهل البيت (علیهم السلام) ماهو إلا ارتقاءٌ وصعود إلى العالم المثال الذي يريدُهُ الله للإنسان الخليفة، ولا يكون ذلك إلا بالتواضع، فهو سلاح، بل أكثر من ذلك، حين يصوّره الإمام علي (علیه السلام) بالمسلحة، أي الموضع الذي يُدّخر فيه السلاح، أو ما يُسمّى بالمشجب، وهو تشبیه بلیغ رائع، اختصر لنا الكثير من الكلام، حين يكون التواضع مصدر قوّة

ص: 212

للإنسان المسلم الذي لا ينفد سلاحه بوجه إبليس الذي رفع شعار الاستكبار وما يحمله من مفردات الرذائل الأخلاقية الأخرى: التكبّر، العُجب، العصبيّة، التيه، الاختيار، التفاخر،.. فمثل هذه الأدواء لا يُقضى عليها إلا بالتواضع فهو يقمعها، ويستأصلها من شأفتها، وذلك حين يتمثّله الإنسان ويجعله شعارًا ومنهجًا يطبّقه في سبيل الارتقاء بإنسانيته فيما يُرضي الله سبحانه وتعالى.

ثم يعرّج الإمام (علیه السلام) إلى مرجّحات عُقلائيّة، يستمدُّها من الواقع التاريخي الذي لا يختلف عليه اثنان، وهي مرجّحات يستلزم منها تعضّد الأمر الذي يلتمس استجابة تحقيقه لدى الجماعة المخاطَبة، وفي الوقت نفسه تعمل على إضعاف المرتكزات التي يتمسّك بها من يتّصف بذلك الوصف، ومن ثمّ تُشارك في إزالة رُکام القناعات التي ملأت ذهن تلك الجماعة، فيقول (علیه السلام): ((فلو رخص الله في الكبر لأحدٍ من عبادِهِ لرخَّص فيه لخاصة أنبيائه وأوليائه. ولكنه سبحانه کرَّهَ إليهم التكابر، ورضي لهم التواضع. فألصقوا بالأرض خدودهم، وعفروا في التراب وجوههم. وخفضوا أجنحتهم للمؤمنين، و كانوا أقواما مستضعفين. وقد اختبرهم الله بالمخمصة، وابتلاهم بالمجهدة. وامتحنهم بالمخاوف، ومخضهم بالمكاره. فلا تعتبروا الرضا والسخط بالمال والولد جهلا بمواقع الفتنة والاختبار في مواضع الغنى والاقتدار، وقد قال سبحانه وتعالى: «أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ» (26) فإن الله سبحانه يختبر عباده المستكبرين في أنفسهم بأوليائه المستضعفين في أعينهم ولقد دخل موسی بن عمران ومعه أخوه هارون عليهما السلام على فرعون و عليهما مدارع الصوف وبأيديهما العصيُّ، فشرطا له إن أسلم بقاء ملكه ودوام عزه فقال: «ألا تعجبون من هذين يشرطان لي دوام العز وبقاء الملك وهما بما ترون من حال الفقر والذل» «فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ

ص: 213

ذَهَبٍ» إعظاما للذهب وجمعه، واحتقارا للصوف ولبسه. ولو أراد الله سبحانه بأنبيائه حيث بعثهم أن يفتح لهم كنوز الذهبان، ومعادن العقيان، ومغارس الجنان، وأن يحشر معهم طيور السماء ووحوش الارض لفعل، ولو فعل لسقط البلاء، وبطل الجزاء، واضمحلت الأنباء، ولما وجب للقابلين أجور المبتلين، ولا استحق المؤمنون ثواب المحسنين، ولا لزمت الاسماء معانيها. ولكن الله سبحانه جعل رسله أولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الاعين من حالاتهم، مع قناعة تملأ القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملا الابصار والاسماع أذى ولو كانت الانبياء أهل قوة لا ترام وعزة لا تضام، وملك تمتد نحوه أعناق الرجال، وتشد إليه عقد الرحال لكان ذلك أهون على الخلق)) (27).

من المناسب أن نسلّط الضوء على السياق الحافّ بإنتاج خطابٍ مُكرّس من بداية أول وحدة خطابيّةٍ فيه إلى آخره عن شجب العصبيّة والاستكبار وفي المقابل تحبيذ مسلك التواضع، وهذا ما يُساعد في فتح مغاليق النص بوصفه مرآةً تعكس ما يعتمل في الوسط الاجتماعي والثقافي الذي صدر منه، ولعل ما ذكره ابن میثم البحراني ينفعنا في هذا المقام إذ نقل في سبب هذه الخطبة ((أنّ أهل الكوفة كانوا في آخر خلافته عليه السّلام قد فسدوا، وكانوا قبائل متعدّدة، فكان الرجل يخرج من منازل قبيلته، فيمرّ بمنازل قبيلة أخرى فيقع به أدني مكروه، فيستعدي قبيلته، وينادي باسمها، مثلاً يا للنّخع أو يا لكندة نداء عالياً يقصد به الفتنة وإثارة الشرّ، فيتألّب عليه فتيان القبيلة التي قد مرّ بها، وينادون يا لتميم و يالربيعة، فيضربونه فيمرّ إلى قبيلته، ويستصرخ بها وتسلّ بينهم السيوف، وتثور الفتنة، ولا يكون لها أصل في الحقيقة، ولا سبب يعرف إلاّ تعرّض الفتيان بعضهم ببعض، وكثر ذلك منهم، فخرج عليه السّلام إليهم على ناقة فخطبهم هذه الخطبة)) (28).

ص: 214

إنّ وضع ما استعرضناه آنفًا من أسبابٍ موضوعية، يُرشِدنا إلى الغايات التي دفعت الإمام علي (علیه السلام) في قوله هذه الخطبة، ولعلّ أسبابًا أخرى تضافرت معها، متمثّلةً بتهيّج الحراك العصبي لدى الجبهة المناوئة لحكومة الإمام علي (علیه السلام)، فالدولة الأموية في الشام بزعامة معاوية بن أبي سفيان، قامت على مبدأ الاستكبار في الأرض، فلم یکن واليها مُذعنًا للحق حين دُعِي إليه، بل أكثر من ذلك كان ملتفتًّا عن مطلب خلعه من كرسيّ السلطة لكونه والیًا انتهت صلاحية حكمه بموت الخليفة الثالث، فلا بُدّ إذن من تنازله عن منصب الحكم، إبّان استلام الإمام علي (علیه السلام) الحكم، ولكنه أبی مُستکبِرًا إلا أن يبقى بمنصبه مستلهمًا التجربة الإبليسيّة في الاعتزاز بالذات، فكان أول من حول الخلافة ملكاً في الإسلام (29)، من دون الالتفات إلى أنَّ الحق لا يعلو عليه أحد، ولا يسوّغ الظلم الصادر منها بأي حال، إن كان مدفوعًا بأسبابٍ تنطلق من تصوُّرٍ واهٍ لا يعتمد الحقائق، بل يقوم على الأكاذيب والأوهام، كما قال المتنبي (30):

إذا ساء فعلُ المرءِ ساءت ظنونُهُ *** وصدّقَ ما يعتادُهُ من توهُّمِ

فكان للإمام علي (علیه السلام) أن يستعرِض سيرة الأنبياء الصالحين الذين اجتباهم الله من دون خلقه ليكونوا أدِلّاء إلى طاعة الله، فكان التواضعُ أبرزَ سمةٍ عُرِفوا بها بين خلقه، بل أستطيع القول: إنهم ضربوا الأمثلة العُظمى في التواضع للآخرين، هذا لأنّهم علِموا أنّ ما يقومون به من سلوكٍ في عين الله، فضلاً عن أنّهم مكلّفون بهداية الآخرين وتنويرهم بها، وعندما يُؤمر الأنبياء أن يكونوا متواضعين للآخرين وما يُصاحب ذلك التواضع من إظهار المحبّة للمؤمنين مهما كان مقامهم، فإنّ وظيفة المؤمنين وتكليفهم الأخلاقي تجاه بعضهم البعض واضح؛ لأن الأنبياء يمثّلون القدوة والأسوة لجميع البشر (31).

ص: 215

ومن المستحيل عقلاً أن تنقاد لهم الناس في حالِ أظهروا التكبُّر والعُجب بأنفُسِهم، وهذا الأمر إنّما لا يُخالف السيرة العُقلائية في من يُريد انجذاب الآخرين لخطابه فحسب، بل يُخالف القيم الإنسانية التي يدعو الأنبياء إلى تذكير الناسِ بالتحلّي بها، والمبادئ الأخلاقية التي تنسجم والفطرة النقيّة للإنسان، ومن تلك القيم التواضع، فكيف يدعون الناس إليه - أي التواضع - وهم يتّصفون بخلافه..؟

إنّ أهمية شدّ المجتمع عبر خطابٍ یُجسّد القيم الأخلاقية التي سار عليها الأنبياء (علیه السلام) ممّا يعمل على تفعيل الهوية الإنسانية؛ هذا لكون من استعرضهم الإمام (علیه السلام) في خطابه كانوا قد أُرسِلوا إلى أمم مختلفة وحملوا کتب سماوية اختلفت في عنواناتها إلا أنّها توحّدت في مضمونها، بما يدفع الحواجز النفسية بين الشعوب، وتعمل على ردم مثل تلك التصوّرات الراكزة في مخيالها عن تفوّق أمّة عن سواها؛ هذا لأنّ الهوية السلبية دومًا ما تعتمد على ثنائية (نحن / هم) التي لا تعرف الذات إلا عبر إقصاء الآخر، وبهذا يجعل النسق الثقافي لكل أمة في حالة تربص دائمة ينقضّ متی ما حانت له الفرصة وهذا ما يحرّف الجميل الثقافي إلى قبحٍ ثقافي (32).

وينفتح خطاب الإمام علي (علیه السلام) في هذه الخطبة إلى احتمالاتٍ أخرى يفترضها على مُتلقّيه، لأجل أن تكون منفذًا يعضّد بها وجهة رأيه، ويُؤصّل بها مبدأه و جوهر سلوكه المستمدّ من سيرة من سبقه من الصالحين، بوصفهم خير مصداق لصياغة الهوية الإنسانية للجماعة المسلمة؛ لأنّ الهوية تمثّل الرمز أو العامل المشترك الذي يُجمع عليه كل أفراد الأمة، من حيث الانتساب والتعلّق والولاء والاعتزاز، وهذا الانتساب يكتسب قداسته؛ لأنه ليس موضع شك من طرف أي فرد، فهي بهذا

ص: 216

تمثّل قاسمًا مشتركًا بين الجميع، استنادًا إلى الخلفية الثقافية والتاريخية الواحدة، ومما يجعل هذا الاعتزاز بالهوية أمرًا مشروعًا، وحدة المصالح والمصير الواحد، وبهذا تكون الهوية مصداقًا للذات الجماعية لأفراد الأمة كلّهم (33).

فيبيّن لهم الإمام (علیه السلام) أنَّ الله سبحانه قادرٌ على أن تكون مشيئتهُ في رُسله أن يجعلهم أفضل الناس من حيث الرفاهية الاقتصادية بأن يهيّئ لهم كنوز الأرض، فتكون تحت تصرّف أيديهم، ويكون أمر الدعوة إليه سهلاً لا مشقّة فيه؛ لما في هذه الثروات من إغراء للناس الذين ينصرفون إلى مصالحهم الدنيوية وتحقيقها بأسهل الطرق، ومن ثم يلتفّوا حول من يعرُضَ عليهم تلك الأموال والكنوز مقابل أن يتّبعوا دعوته، ولكانوا أوّل المدافعين عنهم، ولكن شاءت الإرادة الإلهية أن يختُبَرَ الناس من دون أيّ مغرياتٍ؛ لكون تلك المغريات منافيةً للحكمة عقلاً ومنطقًا؛ لأنها لا تكشف معدن إيمان الناس بالله على حقيقته، لكونها تنسجم ومصالحهم، فيكون بالنتيجة اتّباعهم لله عن طريق تلك المغريات، لا لأنه يستحقّ الاتّباع كونه الإله الواحد الأحد الذي يحق له الإذعان بالعبودية، ولا يحقّ لسواه الاتصاف بالربوبية، بل لأجل تلك الثروات التي يتهافت الناس على استحصالها، فإذا كان سبيل استحصالها متوقّفًا على العبادة، فما أسهلَ ذلك المطلب الذي لا يقف في طريق نیل مصالحهم من دون نصبٍ يبذلونه سوى العبادة.. وفي حينها يسقط الابتلاء - بمعنى الاختبار- لأنّ الناسَ لم يجدوا ثمة أي اصطدام بمصالحهم الدنيويّة التي حصلوا عليها، بل أكثر من ذلك حينَ يُبتلى الناس بأنبياءٍ هم دونَهم في المستوى المعاشي، فيكونوا أفقر حالاً من أيّ فقير، وبهذا تعظمُ البليّةُ حينَ يُؤمر الملك والسَوَقة من الناس بفعلٍ واحد، ويُعامل الجميع بشريعةٍ واحدة، وهنا يحضر التواضع بوصفه قيمةً إنسانيةً عليا ينبغي للإنسان أن لا يفرّط فيها، فيتواضع

ص: 217

للحق مهما كان عنوانه؛ لأجل ارتقاء مقامه في الدنيا والآخرة، ولا ينبغي التكبّر على الحق، فيردي ويهلك من سوء فعله مع الحق؛ ولذا كان السلوك الفرعوني مُنطلقًا من دائرة الأنانية الضيّقة التي تحجب كل محاولة للرقيّ بالمجتمع، ومن ثمّ فمن الطبيعي أن يكون منطق السُخريّة خطابًا تتبنّاه السُلطة الطاغوتية ممثّلةً بالحاكم الأعلى (فرعون) لتسفيه خطاب الأنبياء الداعي إلى وحدة الله وعبادته من دون شريك، بما عبّرت عنه الآية التي استشهد بها الإمام (علیه السلام) «فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ» باعتبار أنّ ((السِّوَارُ مِن شِعَارِ المُلُوكِ بِفَارِسَ وَمِصرَ یَلبَسُ المَلِكُ سِوَارَينِ. وَقَد كَانَ مِن شِعَارِ الفَرَاعِنَةِ لُبسُ سِوَارَينِ أَو أَسوِرَةٍ مِن ذَهَبٍ وَرُبَّمَا جَعَلُوا سِوَارَينِ عَلَى الرُّسغَينِ وَآخَرَينِ عَلَى العَضُدَينِ. فَلَمَّا تَخَيَّلَ فِرعَونُ أَنَّ رُتبَةَ الرِّسَالَةِ مِثلُ الُلكِ حَسَبَ افتِقَادَهَا هُوَ مِن شِعَارِ المُلُوكِ عِندَهُم أَمَارَةٌ عَلَى انتِفَاءِ الرِّسَالَةِ)) (34)، الأمر الذي جعله يستخفّ قومه بهذا الادّعاء الذي يُضلّل فيه على الحقائق، ولم يعلم أنّ الاستجابة الحقيقية للإنسان، حين يتجرّد من مصالحه الآنية الفانية، ويتّبع عقله الذي يُثوّره نداء الأنبياء، فهم أنبياءٌ ظاهرون والعقل نبيٌّ باطن - كما يُقال - وهذا لا يتحقّق إلا إذا كان التواضعُ مسبارًا يوجّه الإنسان ويُملي عليه طبيعة الاستجابة التي تتناسب و مستوى الخطاب وأهميّته.

أمّا إذا كانت المصلحة الآنية تمثّل القيمة العُليا للإنسان، فلا يمكن له أن يرتقي إلى ما يُحييه بوصفه فاعلاً في حركة التاريخ؛ ولذلك كان الصدام المستمرُّ - بحسب ما يوضح القرآن في مجمل خطابه - بين الأنبياء والمترفين؛ لأنّ هذا المُترف هو المستفيد من هذا المثال المنخفض، فدين التوحيد يستأصل مصالح هؤلاء المترفين بالقضاء على آلهتهم، وفي الوقت نفسه يقطع صلة البشرية بهذه (المُثُل العليا المنخفضة) لأجلِ شدّهم بالمثل الأعلى المتمثّل بعبادة التوحيد (35) التي

ص: 218

بوساطتها يتمّ نزع الأغلال الفكرية البالية التي تعمل على إيقاعه في شراك الرؤية القاصرة للآخرين، وتورّطه باتّباع هواه.

ویُحذّر الإمام (علیه السلام) من التداعي لقيمة الکِبر وما تُفرِزهُ من أخلاقيّات تنأى بالإنسان - فضلاً عن كونه مسلمًا - عن هويّته التي أُريد لها أن تكون مُؤشّرًا مائزًا لإنسانيّته، ومعلومٌ أنّ الهويّة لا يمكن أن تكون صفة طارئة للإنسان يخلعها متی شاء؛ فلذا كان التحذير من انطماسها بتظهير أخلاقيات منافية لذلك المخلوق الذي شرّفه الله على سائر مخلوقاته، بقوله (علیه السلام): ((فَاللهَ اللهَ في كِبْرِ الْحَمِيَّةِ وَفَخْرِ الْجَاهلِيَّةِ فَإِنَّهُ مَلاَقِحُ الشَّنَآنِ وَمَنَافِخُ الشَّيْطانِ اللاِتي خَدَعَ بِهَا الاْمَمَ الْمَاضِيَةَ والْقُرُونَ الْخَالِيَةَ حَتّى أَعْنَقُوا فِي حَنَادِسِ جَهَالَتِهِ وَمهَاوِي ضَلاَلَتِهِ ذُلُلاً عَنْ سِيَاقِهِ سُلُساً فِي قِيَادِهِ أَمْراً تَشَابَهَتِ الْقُلُوبُ فِيهِ وَتَتَابَعَتِ الْقُرونُ عَلَيْهِ وَكِبْراً تَضَايَقَتِ الصُّدُورُ بِهِ ألاَ فَالْحَذَرَ الْحَذَرَ مِنْ طَاعَةِ سَادَاتِكُمْ وَكُبَرَائِكُمْ الَّذِينَ تَكَبَّرُوا عَنْ حَسَبِهِمْ وَتَرَفَّعُوا فَوْقَ نَسَبِهِمْ وَأَلْقَوُا الْهَجِينَةَ عَلَى رَبِّهِمْ وَجَاحَدُوا اللهَ مَا صَنَعَ بِهمْ مُكَابَرَةً لِقَضَائِهِ وَمُغَالَبَةً لاِلائِهِ فَإِنَّهُمْ قَوَاعِدُ أَسَاسِ الْعَصَبِيَّةِ وَدَعَائِمُ أَرْكَانِ الْفِتْنَةِ وَسُيُوفُ إعْتِزَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ فَاتَّقُوا اللهَ وَلاَ تَكُونُوا لِنِعَمِهِ عَليْكُمْ أَضْدَاداً وَلاَ لِفَضْلِهِ عِنْدَكُمْ حُسَّاداً وَلاَ تُطِيعُوا الاْدْعِيَاءَ الَّذِينَ شَرِبْتُمْ بِصَفْوِكُمْ كَدَرَهُمْ وَخَلَطْتُمْ بِصِحَّتِكُمْ مَرَضَهُمْ وَأَدْخَلْتُمْ فِي حَقِّكُمْ بَاطِلَهُمْ وَهُمْ أَسَاسُ الْفُسُوقِ وَأَحْلاَسُ الْعُقُوقِ اتَّخَذَهُمْ؟ إِبْلِيسُ؟ مَطَايَا ضَلاَلٍ وَجُنْداً بِهمْ يَصُولُ عَلَى النَّاسِ وَتَرَاجِمَةً يَنْطِقُ عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ اسْتِرَاقاً لِعُقُولِكُمْ وَدُخُولاً فِي عُيُونِكُمْ وَنَفْثاً فِي أَسْمَاعِكُمْ فَجَعَلَكُمْ مَرْمَى نَبْلِهِ وَمَوْطِىءَ قَدَمِهِ، وَمأْخَذَ يَدِهِ فَاعْتَبِرُوا بَمَا أَصَابَ الاْمَمَ المُسْتَكْبِرِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ بَأْسِ اللهِ وَصَوْلاَتِهِ وَوَقَائِعِهِ وَمَثُلاَتِهِ وَاتَّعِظُوا بِمَثَاوِي خُدُودِهِمْ وَمَصَارعِ جُنُوبِهِمْ)) (36).

بملاحظة هذه الفقرة من الخطبة أنّ الإمام جعل يُفزع النتائج التي يصل

ص: 219

بها المتكبّر منها «باطنة كتحقير الغير وازدرائه، واعتقاد أنه ليس أهلاً للمجالسة والمواكلة والأَنفة عن ذلك. واعتقاد أنه يصلح أن يكون ماثلاً بين يديه وكحسده والحقد عليه، وكنظر العالم المتكبّر إلى الجاهل العامّي بعين الاستخفاف والاستجهال. وأما الظاهرة فكالتقدم عليه في الطرق والارتفاع عليه في المجالس، وكإبعاده عن مجالسته ومؤاكلته، والعنف به في النصح، والغضب عند ردّ قوله، والغِلظة على المتعلّمين وإذلالهم واستخدامهم، والغيبة والتطاول بالقول» (37).

وتحذير الإمام (علیه السلام) لم يكن إلا لأجل إدامة التواصل الإنساني فيما بين أفراد المجتمع الذي يقوده، هذا لأنّ مثل هذه الأدواء التي حذّرهم منها، إنّما تبعث على التصدّع والفُرقة واتّباع الهوى وصولاً إلى التفسخ الأخلاقي الذي يُنذر بدمار البنية المجتمعيّة التي يُفترض أن تتّصف بأجلى قيم الإسلام ممثّلةً بالتواضع، فهو الضمان الوحيد الذي يرکّز مفهوم الهويّة الإنسانية التي بموجبها يصحُّ وصف (الإسلام) على من يتّصف بها؛ لأنّ الإسلام تسليمٌ بأوامر الشرع، والتسليم ليس إلا أبرز مصاديق التواضع، فإذا صحّ انطباقه على الجماعة، يتحقّق مفهوم (دوائر الانتماء) الذي يُوصف به «مجموعة من البشر، يشملهم وضعٌ اجتماعيٌّ لوصفٍ يتّصفون به بالتشابه فيما بينهم، ويكون هذا الوصف ذا فاعلية اجتماعية، أي يُشكّل لمن يتّصف به مرکزًا اجتماعيًّا يتعامل به ويُؤثر في حقوقه وواجباته الفردية أو الجماعية، مما يُوجد صالحًا مشترکًا بين من يشملهم، ويُنتج وعيًا ثقافيًّا والانتساب إليه، ويُحرّك بواعث الدفاع عن وجوده» (38).

وفي الجزء الثاني من كلامه (علیه السلام) الذي استشهدنا به قبل قليل، نجد التحذير ينصبّ على طاعة الکُبراء الذين اتّصفوا بالتكبّر، إذ لا يجوز الانصياع لمثل هؤلاء من باب التعصّب لكونهم ينتمون إلى القبيلةِ نفسها، أو لكونهم يشاطرون أتباعهم

ص: 220

بالفكر، ولكنهم انحرفوا بسلوكهم الأخلاقي المُشين، الذي ينبني عليه انفصالهم عن الجماعة، والشعور بالمسؤولية إزاء الآخرين، فمن ينشغل بملأ فراغ ذاته الجوفاء، لا يجد شيئًا يُشغله سواها، أما الذي ينطلق من معاناة الآخرين ويتواضع هم من حيث البحث عن مشاكلهم والتفكير بجدّ لوضع حلولٍ تنسجم والواقع الاجتماعي المعيش، مثل هذا الشخص يستحق الاتّباع، لما قدّمه من جهود ترفع من شأن العام قبل الخاص.

ويتوفّر البديل الأخلاقي في خطاب الإمام علي (علیه السلام) حين يجد أن نزعة التعصّب دخيلة في سرائر المجتمع الذي يعيش فيه، فيحاول أن يُحيّدها إلى اتّجاه يلتقي بالمنبع الأخلاقي الرئيس المتمثّل بالتواضع، فمن خلاله تتفرّع الخصال الحميدة التي لا يمكن أن تجسّد في سلوك الإنسان ما لم يكن هنالك ثمة إرادة حقيقة معضّدة بالتواضع الذي يقهر النفس لأداء مثل تلك السلوكيات الحميدة، فيقول: ((فَإِنْ کَانَ لاَ بُدَّ مِنَ الْعَصَبِیَّةِ فَلْیَکُنْ تَعَصُّبُکُمْ لِمَکَارِمِ الْخِصَالِ وَ مَحَامِدِ الْأَفْعَالِ وَ مَحَاسِنِ الْأُمُورِ الَّتِی تَفَاضَلَتْ فِیهَا الْمُجَدَاءُ وَ النُّجَدَاءُ مِنْ بُیُوتَاتِ اَلْعَرَبِ وَ یَعَاسِیبِ القَبَائِلِ بِالْأَخْلاَقِ الرَّغِیبَةِ وَ الْأَحْلاَمِ الْعَظِیمَةِ وَ الْأَخْطَارِ الْجَلِیلَةِ وَ الآْثَارِ الْمَحْمُودَةِ فَتَعَصَّبُوا لِخِلاَلِ الْحَمْدِ مِنَ الْحِفْظِ لِلْجِوَارِ وَ الْوَفَاءِ بِالذِّمَامِ وَ الطَّاعَةِ لِلْبِرِّ وَ الْمَعْصِیَةِ لِلْکِبْرِ وَ الْأَخْذِ بِالْفَضْلِ وَ الْکَفِّ عَنِ الْبَغْیِ وَ الْإِعْظَامِ لِلْقَتْلِ وَ الْإِنْصَافِ لِلْخَلْقِ وَ الْکَظْمِ لِلْغَیْظِ وَ اجْتِنَابِ الْفَسَادِ فِی الْأَرْضِ)) (39).

لا يخفى أن النص تمثّل فيه ما يُصطلح عليه ب (المفهوم الثقافي) الذي يُركّز على ما تعارف عليه المجتمع سابقًا من الفضائل والشيم لإشاعتها بين الأفراد بوصفها تتواءم مع ما ترمي إليه الشريعة الإسلامي من إشاعة الأخلاق الحميدة، وبهذا تمثل مهمة تصحيح الإمام (عليه السلام) لمفهوم العصبية وغيرها من المفاهيم الخاطئة

ص: 221

التي درج الناس عليها، شعورًا بالمسؤولية الأخلاقية والشرعية تجاه المجتمع (40).

وفي الختام نُلخّص القول: إنّ خطاب الإمام علي (علیه السلام) فيما يخصّ ترکیز قيمة التواضع بوصفها مائزًا تُصاغ عبرها الهوية الإنسانية لجماعة المخاطبين، لم يخلُ من حُججٍ تُعضّد خطابهُ في نفوس السامعين، التي هي أبرز وجوع التفاعل الحي مع الآخرين، ولأنّ الحجّة تعمل على جانبين أحدهما: جانب الفعل والآخر: جانب الخُلُق، فالأوّل يتلخّص فيما يتوفّر في الباث من سلوكيّات تنطبق على سمات خطابه، ومن ثمّ تدعو الآخرين إلى التفاعل بما يبثّه من وصايا لهم، أما جانب الخُلُق فيقوم في فعل الاعتبار الذي يدخل فيه المتكلّم الذي يوجّه به سیر الجانب التغييري من المخاطبة (41).

ولمّا كان الإمام علي (علیه السلام) يمثّل المثال الذي يستطيع - كما يقول هيجل- أن يعبّر عن إرادة عصره في كلمات ويُخبر عصره ما هي إرادته ویُنیرها أو أنّ ما يفعله هو روح عصره (42)، الأمر الذي يعمل على خلق قوی اجتماعية تغيّر شكل العالم وتجذّر الوعي عند قطّاعات كبيرة من المجتمع. حيث يذوب الفرد في طموح الجماعة؛ لأنّ الفرد لا يوجد حضاريًّا إلا في المجتمع، الذي يتكون من أفراد، وبذا يكون التفاعل بين الاثنين دائمًا، فلا إبداع ينجزه الفرد ما لم يكن هناك مجتمعٌ یهیئ له الظروف المساعدة على ذلك الإبداع (43)، فالفرد العبقري إنما ينطلق من رحم تفاعله مع مجتمعه، فهو المصدر الأساسي للفعل والإبداع بحيث كان المجتمع مجالا حيویًّا تم ذلك الفعل الإبداعي داخل إطاره التواصلي.

ص: 222

الخاتمة

آن لنا أن نلقي عصا البحث، بعد أن استقرّ بنا الترحال على عتبة الخاتمة، وبإمكاننا أن نلخّص أهم تلك النتائج التي جهدنا قدر المستطاع أن يقف عندها، بحسب الآتي:

- لفت البحث أنّ مفهوم البحث من حيث الاشتقاق اللغوي، يدلّ على التواصل والاشتراك، وهذا ما ينسجم ومؤدّاه العملي الواقعي، فالتواضع إنّما ينظر إلى أثره الإيجابي أو السلبي بحسب الجهة التي يصدر بحقها، فتارةً يكون التواضع محمودًا، وتارةً يعد مذمومًا حين يكون ضربًا من ضروب الذل والضراعة لمن لا يستحق أن يُقابل بمثل هذه القيمة.

- کشف البحث النقاب عن أهمية هذه القيمة من حيث عرضها على الخطاب القرآني الكريم، وعلى الرغم من أنّ البحث لم يستعرض كل ما يتّصل بهذه القيمة أو يُعاكسها في النص القرآني، إلا أنّه كشف الأثر الكبير لها بما يتصل بسلوك الفرد مع ربه أو مع أهله أو مع الآخرين.

- ألقي البحثُ الضوء على انهيار القيم الأخلاقية في المجتمع الغربي وآثار ذلك الانهيار القيمي في التفكك المجتمعي الذي يعيشه المجتمع، فضلاً عمّا يُرافق ذلك من انسلاخ عن الهوية الإنسانية بقمع الآخر وتهميشه وصولاً إلى انسداد الذات بصنع الأسلحة التدميرية، كلّ تلك الآثار كانت نتيجة تراكم الصورة النرجسية في متخيّل تلك الشعوب بما يجعلها ترى نفسها دون الآخرين.

- يرى الباحث أهمّية الانطلاق من قيمة التواضع لا بوصفها قيمة أخلاقية دعا الإسلام إلى التحلّي بها فحسب، بل بوصفها قيمة إنسانية كبرى تجسّر العلاقة

ص: 223

بين الأمم ومن ثمّ ترصّن الجانب التفاعلي الاجتماعي الخّلاق فيما يرقى بالبشرية إلى دلالة الإنسان الخليفة.

- عمد الإمام علي (علیه السلام) إلى تأكيد سمة التواضع وبثّها في شتی خطاباته مع الآخرين، منسجمًا وسلوكه المستمدّ من الفطرة الإنسانية السامية، فضلاً عن كونه إمامًا مفترض الطاعة يمثّل خُلُق الإسلام الحقيقي.

- رصد البحث السياق الثقافي الذي يمثّل المحضن لكل خطاب، فلقد كشف أنّ ثمة أسبابًا كانت وراء تأكيد الإمام (عليه السلام) على هذه القيمة، بالنظر إلى العصر الذي نشر فيه كل ما يتمّ بالقيم الإنسانية النبيلة، واستُبدلت بقيم غريبة بعيدة عن الروح الإسلامية فضلاً عن الجوهر الإنساني الذي ينسجم و الخطاب القرآني الرفيع.

- وظّف الإمام علي (علیه السلام) عدّة وسائل لترصين هذه القيمة الأخلاقية في مجمل كلامه، تمثّل بالأدلّة العقليّة، ومن ثمّ استشهاده بالأدلة النقلية التي كان القرآن أشهرَها وأكثرها حجّةً على الآخرين.

- لم يفُت الإمام أن يحذّر من عواقب الاستكبار على الفرد وعلى المجتمع، بما تعود عليه من آثار سلبية تتمثّل بسقوطه الأخلاقي في وحل العبودية لذاته، وامتهانه الآخرين من دون وجه حق، وفي ذلك انسلاخ من هويّته الإنسانية التي أريد لها أن تعمل على تقوية علاقته ببني جنسه من حيث احترامهم وقبولهم آخرَ مساوین له في الحقوق والواجبات.

هوامش البحث:

1. ينظر: لسان العرب: 8/ 793.

2. ينظر: لسان العرب: 8/ 793.

3. العقل الأخلاقي العربي - دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، محمد عابد الجابري:

ص: 224

97.

4. نظرية القيم في الفكر المعاصر بين المطلقية والنسبية، د. الربيع ميمون: 233.

5. ينظر: التوقيف على مهات التعاريف، عبد الرؤوف المناوي: 111.

6. تأويلات أهل السنة، الماتريدي: 10/ 953.

7. جامع البيان عن تأویل آي القرآن، الطبري: 51/ 335.

8. المصدر نفسه: 81/ 365.

9. الوسيط في تفسير القرآن المجيد، الواحدي: 3/ 271.

10. التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور: 6/ 732.

11. التحرير والتنوير: 2/ 732.

21. مقدمات العلوم والمناهج، أنور الجندي: 4/ 77.

31. الانسان ذلك المجهول: 153.

41. ينظر: الأخلاق والقيم في الحضارة الإسلامية، د. راغب السرجاني: 1.

51. ينظر: النظرية النقدية التواصلية - يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، حسن مصدق: 26.

61. نهج البلاغة، الشريف الرضي: 3/ 081 (ح/ 311).

71. ينظر: أسئلة الثقافة في عالم متحول، د. علي أومليل: 74 - 84.

81. نهج البلاغة: 2/ 381 (ح/ 881).

91. نهج البلاغة: 2/ 681 (ح/ 881).

02. نهج البلاغة: 3/ 402 (ح/ 422).

12. المصدر نفسه: 3/ 402 (ح/ 822).

22. المصدر نفسه: 3/ 452 (ح/ 604).

32. ينظر: النباهة والاستحمار، د. علي شريعتي: 45.

42. ينظر: النباهة والاستحمار: 45.

52. الأخلاق في القرآن - فروع المسائل الأخلاقية، ناصر مکارم الشيرازي: 2/ 75.

62. سورة المؤمنون: 55 - 65.

72. نهج البلاغة: 2/ 821 (ح/ 781) والآية من سورة الزخرف: 35

82. نهج البلاغة، ابن میثم البحراني: 4/ 412.

92. ينظر: البداية والنهاية، ابن كثير: 8/ 441.

ص: 225

03. ينظر: ديوان المتنبي: 4/ 591.

13. ينظر: الأخلاق في القرآن: 16.

23. ينظر: القبيلة أو القبائلية - هويات ما بعد الحداثة، د. عبد الله الغذامی: 01.

33. ينظر: الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، مجموعة باحثين: 52.

43. التحرير والتنوير: 52/ 232.

53. ينظر: المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر: 051 - 151.

63. نهج البلاغة: 2/ 561.

73. نهج البلاغة، میثم البحراني: 4/ 612.

83. دوائر الانتهاء وتأصيل الهوية، نادية مصطفى وآخران: 12.

93. نهج البلاغة: 2/ 271 (ح/ 781).

04. ينظر: الخطاب في نهج البلاغة - بنيته وأنماطه ومستوياته دراسة تحليلية، د. حسين العمري: 722.

14. ينظر: التواصل والحجاج، د. عبد الرحمن طه: 91 - 02.

24. ينظر: فلسفة الحق، هيجل: 592 نقلا عن الإنسان و التاريخ: 121).

34. الإنسان و التاريخ - أثر التاريخ وتأثره بسيكولوجية الفرد، د. کريستين نصار: 221 - 321.

ص: 226

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم.

1. الأخلاق في القرآن - فروع المسائل الأخلاقية، ناصر مکارم الشيرازي، المؤسسة الإسلامية، قم، 1426 ه.

2. الأخلاق والقيم في الحضارة الإسلامية، د. راغب السرجاني، موقع نصرة رسول الله، د. ط، د. ت.

3. أسئلة الثقافة في عالم متحول، د. علي أومليل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، بیروت - لبنان، ط 2، 2011 م.

4. الانسان ذلك المجهول، الکسیس کاریل، ترجمة: عادل شفيق، الدار القومية للطباعة والنشر، د. ط، د. ت.

5. الإنسان والتاريخ - أثر التاريخ وتأثره بسيكولوجية الفرد، د. کریستین نصار، جروس برس، طرابلس - لبنان، ط 1، 1991 م.

6. البداية والنهاية، أبو الفداء إسماعيل بن كثير (ت: 774 ه)، تحقيق: علي شيري، دار إحياء التراث العربي، ط 1، 1988 م.

7. تأويلات أهل السنة، محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي (ت: 333 ه)، تحقيق: د. مجدي باسلوم، دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان، ط 1، 2005 م.

8. التحرير والتنوير، محمد بن عاشور، الدار التونسية للنشر - تونس، 1984 م.

9. تفسير الطبري = جامع البيان عن تأویل آي القرآن، محمد بن جرير الطبري (ت: 310 ه)، تحقيق: د. عبد الله بن عبد المحسن التركي، دار هجر للطباعة

ص: 227

والنشر والتوزيع والإعلان، ط 1، 2001 م.

10. التواصل والحجاج، د. عبد الرحمن طه، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط - المغرب، د. ت.

11. التوقيف على مهمات التعاريف، عبد الرؤوف بن تاج العارفين المناوي (ت: 1031 ه)، تحقيق: عبد الخالق ثروت - القاهرة، ط 1، 1410 ه - 1990 م.

12. الخطاب في نهج البلاغة - بنيته وأنماطه ومستوياته دراسة تحليلية، د. حسين العمري، دار الكتب العلمية، لبنان، ط 1، 2010 م.

13. دوائر الانتماء وتأصيل الهوية، نادية مصطفى، أسامة مجاهد، ماجدة ابراهيم، دار البشير للثقافة والعلوم، القاهرة - مصر، ط 1، 2013 م.

14. ديوان المتنبي، وضعه: عبد الرحمن البرقوقي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 3، 2011 م.

15. العقل الأخلاقي العربي - دراسة تحليلية نقدية لنظم القيم في الثقافة العربية، محمد عابد الجابري. مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت - لبنان، ط 2، 2006 م.

16. القبيلة أو القبائلية - هويات ما بعد الحداثة، د. عبد الله الغذامي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، ط 2، 2009 م.

17. لسان العرب، محمد بن مکرم بن على، أبو الفضل، جمال الدين ابن منظور (ت: 711 ه)، دار صادر - بيروت، ط 3، 1414 ه

18. المدرسة القرآنية، محمد باقر الصدر، مطبعة شریعت، قم، 1424 ه.

19. مقدمات العلوم والمناهج محاولة لبناء منهج اسلامي متكامل، أنور الجندي، دار الأنصار، ط 1، 1979 م.

ص: 228

20. النباهة والاستحمار، د. علي شريعتي، تقديم: د. إبراهيم دسوقي شتا، دراسة وتعليق: عبد الرزاق الجبران، مراجعة: حسين علي شعیب، دار الأمير، بیروت، ط 1، 2004 م.

21. نظرية القيم في الفكر المعاصر بين المطلقية والنسبية، د. الربيع میمون، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، 1980 م.

22. النظرية النقدية التواصلية - يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت، حسن مصدق، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - المغرب، ط 1، 2005 م.

23. نهج البلاغة، تصنيف الشريف الرضي، شرح: محمد عبده، تصحیح: إبراهيم الزين، منشورات دار الفکر، بیروت، 1965 م.

24. نهج البلاغة، کمال الدین میثم بن علي بن میثم البحراني، منشورات دار الثقلين، بيروت - لبنان، ط 1، 1999 م.

25. الهوية وقضاياها في الوعي العربي المعاصر، مجموعة باحثين، مرکز دراسات الوحدة العربية، تحرير وتقديم: رياض زكي قاسم، بیروت - لبنان، ط 1، 2013 م.

26. الوسيط في تفسير القرآن المجيد، أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي، النيسابوري (ت: 468 ه)، تحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود، الشيخ علي محمد معوض، الدكتور أحمد محمد صيرة، الدكتور أحمد عبد الغني الجمل، الدكتور عبد الرحمن عويس، قدمه وقرظه: الأستاذ الدكتور عبد الحي الفرماوي، دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان، ط 1، 1994 م.

ص: 229

ص: 230

نعم لدولة الإنسان من خلال القيم الأخلاقية لأمير المؤمنين علي (عليه السلام)

الدكتور فاضل عبد العباس محمد اللامي باحث في الشؤون الإدارية والاجتماعية

ص: 231

ص: 232

إن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بخلقه الرحيم كان قد مثل الإسلام ومبادئه السمحاء، وقد قال فيه الباري سبحانه: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ..» (القلم: 4)، وخَلَفَهُ الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فلم تعرف الدنيا رجلاً جمع الفضائل ومكارم الأخلاق بعد الرسول الأعظم كالإمام أمير المؤمنين، فقد سبق الأولين، وأعجز الآخرين، ففضائله أكثر من أن تحصى، ومناقبه أبعد من أن تتناهي، وكيف تعد مناقب رجل قال فيه الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) یوم برز لعمرو بن عبدود العامري: (برز الإيمان كله إلى الشرك كله).

تميزت سيرة أمير المؤمنين بخصال عديدة كان من أوضحها تعامله الإنساني مع الآخرين المبني على احترام الإنسان كإنسان، بغض النظر عن أي شيء آخر، والمحافظة على حقوقه وشخصيته المادية والمعنوية في أي موقع ومكان، ومهما كان حجمه ومستواه، وإن حضور هذا البعد في حياته هو الذي جعل من شخصيته شخصية إنسانية خالدة على مستوى البشرية كلها، وليس في تاريخ المسلمين وحدهم، وقد تمثلت في وصيته لولديه الإمامان الحسن والحسين (عليهما السلام) لما ضربه أبن ملجم لعنه الله، بقوله: (أنه أسير فأحسنوا نزله، وأكرموا مثواه، فإن بقيت قَتَلّتَ أو عفوت، وإن مُّتُ، فاقتلوا قاتلي، ولا تعتدوا، إن الله لا يحب المعتدين).

فما أحوجنا ونحن نعيش في مجتمعنا العراقي مآسي فقدان المساواة، وفتن الخلافات القومية والطائفية أن نقرأ سيرة الإمام علي (عليه السلام) المليئة بالقيم الأخلاقية الإنسانية وغرسها في النفوس.. لأن الناس لا ينظرون إلى معتقدك ولا إلى عبادتك، وإنما ينظرون إلى خلقك أولاً، فإذا أعجَبهم أخذوا عنك العقيدة والأخلاق والعبادة والعلم، وإذا لم تعجبهم تركوك وما أنت عليه من العلم.

ص: 233

هدف البحث

أنّ الهدف من البحث هو بيان دور أمير المؤمنين (عليه السلام) الرسالي عملياً في تكوين الأسرة الصالحة والمجتمع، فهو الإمام الجامع لصفات الجمال والكمال، والوارث للخصال التي تميز بها الأنبياء والأوصياء بما يتحلى به من قيم أخلاقية إنسانية، للوصول إلى مجتمع إسلامي مثالي ينسجم مع كل الأديان والأطياف من حوله، کما يسعى إلى بناء نظام اقتصادي وسياسي يضمن للجميع الحرية والعدل والمساواة.

فرضية البحث

إن غياب القيم الأخلاقية ستفقدنا الهوية الإنسانية، والعودة إلى ما قبل الرسالة السماوية لخير البشرية خُلُقاً وخَلقاً محمد (صلى الله عليه وآله) من همجية وجاهلية وعصبية قبلية والحاد.

أهمية البحث

تنبع أهمية البحث من خلال النقاط التالية:

1. إطفاء نار روح العنصرية والطائفية والإقليمية بين المسلمين، من خلال روح الأخوة الإسلامية التي كان يعيشها أتباع أهل البيت، وخصوصاً عند أمير المؤمنين (عليه السلام).

2. إطفاء حب الذات - الأنا - وإشاعة روح الجماعة بين الأفراد لتحقيق المساواة والعدالة والديمقراطية.

3. أشاعة روح الأخوة والتعاون من خلال غرس القيم الأخلاقية الفاضلة بين كافة المكونات.

4. غرس القيم الخلقية الفاضلة، والابتعاد عن رذائلها بين الحاكم والمحكوم، وذلك بأن لا يستأثر بشي لنفسه، وأن يساوي بينه وبين الناس.

ص: 234

المبحث الأول الإطار المفاهيمي للأخلاق

المقدمة:

نجد أن علماء الأخلاق وعلماء النفس الحديث عنونوا أبحاثاً عميقة ومفصلة، اعتمدوا فيها على النواحي العلمية في كيفية الوقاية ومكافحة المفاسد الأخلاقية، وكيفية تحصيل الصفات والروحيات الإنسانية العالية، وعلى رأس هؤلاء العلماء وفي مقدمتهم تقدم أئمتنا (عليهم السلام) الذين كانوا هم اعلم المعلمين وأزکی المربين بأوامر أخلاقية عميقة لتربية الملكات الفاضلة في الإنسان، أضف إلى أقوالهم في هذا المجال أنهم كانوا يدرسون البشرية بأعمالهم وسيرة حياتهم دروساً نستطيع أن نعيش في ظلها أناسا سعداء ذوي قيم (1).

وليس غريب أن تكون فكرة او موضوعة الأخلاق موضوعة عالمية تتسارع إليها أعناق وأفئدة الأفذاذ في كل زمان ومكان مع اختلاف جنسياتهم، وقومياتهم، ومذاهبهم، ومشاربهم، والسر في ذلك واضح لان حب وعشق الأخلاق أمر فطري يقتضيه الطبع الإنساني السوي بشكل طبيعي.. إذن فطرة الإنسان السليم لا تقبل إلا الأخلاق، ولا ترضى عنها بدلاً او حولاً (2)، ينبغي معرفة ماذا نعني بالأخلاق:

أولاً: تعريف الأخلاق:

ومما لا شك فيه أنّ الأبحاث الأخلاقية ولدت مع أوّل قَدَم وضعها الإنسان على الأرض، لأن النّبي آدم (عليه السلام) لم يُعلّم أبناءه الأخلاق فقط.. بل إنّ البّاري تعالى عندما خلقه وأسكنه الجنّة، أفهمه المسائل الأخلاقيّة، والأوامر

ص: 235

والنّواهي في دائرة السّلوك الأخلاقي مع الآخرين، وأتخذ سائر الأنبياء (عليهم السلام) طريق تهذيب النّفوس والأخلاق، والتي تكمَن فيها سعادة الإنسان، حتى وصل الأمر إلى السيّد المسيح (عليه السلام)، حيث كان القسم الأعظم من تعاليمه هو أبحاثٌ أخلاقيّةٌ، فَنَعَته حواریّوه و أصحابه بالمعلِّم الأكبر للأخلاق (3) وقال عنه الباري تعالى: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ...» القلم: 4، والخُلُق العظيم: هو الخُلُق الأكرم في نوع الأخلاق، وهو البالغ أشدّ الكمال المحمود في طبع الإنسان.. فهو أرفع من مطلق الخُلُق الحسن، وفي ذلك ينقل العلامة المجلسي قولاً في تفسير الآية حيث يقول: (سُمّي خُلُقُه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه) (4).

وبعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) فإنّ الأئمّة (عليهم السلام) هم أكبر معلّمي الأخلاق، وذلك بشهادة الأحاديث التي نُقلت عنهم حيث ربّوا أشخاصاً بارزين يمكن أن يعتبر كلّ واحد منهم مُعلِّماً لعصرهِ، فحياة المعصومين (عليهم السلام) وأتباعهم هي خيرُ دليل على سُمّو نفوسهم ورفعة أخلاقهم في حركة الواقع.

إن المنظومة الأخلاقية في الإسلام تشتمل على جملة أخلاق يصح أن نسميها (أخلاق التعايش)، ونعني بها تلك الأخلاق المنظمة لشئون المجتمع الإسلامي وعلاقات أبنائه فيما بينهم، سواء العلاقات بين المسلمين أنفسهم، أو العلاقات بينهم وبين غيرهم من أصحاب الأديان الأخرى، وتلك الأخلاق تزيد من مساحة التعاون والتضامن والتكافل بين المواطنين الذين يعيشون في دولة واحدة أو في وطن واحد، وإن حسن الخلق يقوم على أربعة أركان أو رؤوس الأخلاق أربعة هي: (الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل)، وأن الأخلاق السافلة مبناها على أربعة أخلاق هي: (الجهل، والظلم، والشهوة، والغضب)، قال أمير

ص: 236

المؤمنين (صلوات الله عليه): أربع خصال سود بها المرء: العفّة، والأدب، والجود، والعقل (5).

وفي حديث للإمام الصادق (صلى الله عليه وآله): (أربعة من كن فيه كمل أيمانه، وأن كان من قرنه إلى قدمه ذنوب لم ينقصهُ ذلك وهي الصدق، وأداء الأمانة والحياء، وحسن الخلق).

إن الغاية لكل أحكام الشريعة الغّراء هي التزام المؤمن بالأخلاق الفاضلة اعتقادا وفكراً وسلوكاً وتطبيقاً، لأن الشريعة هي المنبع الصافي الذي ينبغي على المؤمن أن ينهل منه فلسفته الروحيّة والأخلاقية، وهي الحقيقة الموجهة له في الحياة، والمعاملات وشتى المظاهر الاجتماعية (6).

تعريف الأخلاق: لغة:

قال أبن منظور في لسان العرب الخُلُق: الخليقة، أعني: الطبيعة، والجمع: أخلاق، وقال أيضاً: والخُلُق - بضم اللام وسكونها - وهو: الدِّين والطبع والسجية، ويفسر أبن منظور ذلك بقوله: (وحقيقته أي الخُلُق، أنه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه، وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولهما أوصاف حسنة وقبيحة)، وقد میّزوا بين الخَلق بالفتح والخُلق بالضمّ - وإن كانا في الأصل واحد کالشَرب والشُرب - لكن خص الخَلق بالعينات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلُق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة (7).

ويشير المعنى اللغوي إلى أن الأخلاق هي جمع خُلُق، والخُلُق هو الدين والطبع والسجية، وحقيقته أنه صورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها، فهي بمنزلة الصورة الظاهرة وأوصافها ومعانيها، ولها أوصاف حسنة وقبيحة،

ص: 237

والثواب والعقاب يتعلقان بأوصاف الصورة الباطنة أكثر مما يتعلقان بأوصاف الصورة الظاهرة (8).

ومن خلال هذا العرض اللغوي لمفهوم الأخلاق يمكن استخلاص ثلاثة مفاهیم بارزة هي:

1. أن الخُلُق يدل على الصفات الطبيعية في خِلقة الإنسان الفطرية على هيئة مستقيمة متناسقة.

2. أن الأخلاق ينضوي فيها أيضاً الصفات المَكتَسَبَة التي صارت كأنها خُلِقَت مع طبيعة الفرد، وانعکاس تلك الصفات على سلوكه وعاداته واتجاهاته، كالاستقامة في السلوك أو الانحراف عن الصواب.

3. أن للأخلاق جانبين: الأول نفسي داخلي باطن، والآخر سلوكي ظاهر، وهو انعكاس للباطن على هيئة سلوكيات و معاملات، وهذان الجانبان هما وجهان لعملة واحدة.

• اصطلاحا:

قال (أبن مِسکَوَیه) في كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق: (إنّ الخُلق هو تلك الحالة النفسانيّة التي تدعو الإنسان لأفعال لا تحتاج إلى تفكّر وتدبّر) (9).

والخُلُق بالضم عبارة عن: هيأة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كان الصادر عن تلك الهيأة أفعالاً جميلة محمودة عقلاً وممدوحة شرعا سمیت تلك الهيأة (خلقاً حسناً)، وإن كان الصادر منها أفعالاً قبيحة سميت (خلقاً سيئاً)، وإنما أشترط فيها الرسوخ لأن من يصدر عنه بذل المال مثلا على الندرة لحاجة عارضة لا يقال (خلقه السخاء) ما لم يثبت

ص: 238

ذلك في نفسه ثبوت رسوخ (10).

وفي قوله: (الخُلُق عبارة عن هيأة للنفس راسخة) إشارة إلى وجود هيئات للنفس غیر راسخة أيضاً.. إذ الهيئات في الإنسان على قسمين (11)::

الأول: هيئات غير راسخة: وهي الهيئات التي تزول بسرعة کاحمرار وجه الإنسان عند الخجل أو اصفراره عند الخوف.

الثاني: هيئات راسخة: وهي الهيئات التي لا تزول، إما لا تزول أصلاً كلون الإنسان - مثلاً - لأنها غير اختيارية، أو لاتزول بسهولة، وإذا زالت لسبب ما فإنها سرعان ما ترجع مرّة أخرى، وهذه مورد بحوثنا وتسمّى (بالملكات الاختيارية کالعدالة والشجاعة)، فالعادل قد يرتكب ما ينافي العدالة ولكنه سرعان ما يندم على فعلته ويعود إلى عدالته، وهذا معنی قولنا: إن العدالة هيأة راسخة في وجود مثل هذا الإنسان (12)، إِذاً الأخلاق هي قوة أو ملكة تدفعك للقيام بالأعمال الحسنة، وتنهاك عن فعل الأعمال السيئة (13).

ثانياً: مفهوم الأخلاق:

إن حدود الشخصية العظيمة ترسمها الأخلاق.. فسمو الذات إنما هو بسمو المعنى، وعلو المكانة هي في تلك الأصول الأخلاقية التي يلتزم بها الرجال، وهي المقياس في تقييم أعمالهم وأفعالهم، فقيمة الإنسان بإنسانيته، و قيمة العمل بمحتواه، وقيمة الدين بالترفع عن الدنايا، و میزان البطولة هو الأخلاق.

فالخُلق وعاء الدين، وهو عنوان صحيفة المؤمن، وما يوضع في ميزان امرئ يوم القيامة أفضل من حسن الخلق.. من هنا فإنه(لا قرين كحسن الخلق) و (لا عيش أهنأ من حسن الخلق) لأن من (حسنت خليقته طابت عشيرته)، وعلى

ص: 239

كل حال فإن) أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا (فالأخلاق من ثمار العقل، وصحيح أن قلنا في داخل كل إنسان كوامن خيرة، تدعوه إلى الالتزام بالأخلاق والعمل الصالح، وكوامن شريرة تدعوه إلى الفساد والشر ومناوأة الصالحين، ويقول الإمام علي (صلى الله عليه وآله): (رأس العلم التمييز بين الأخلاق، وإظهار محمودها وقمع مذمومها)، وبمقدار ما تكون الأخلاق الحسنة مطلوبة، فإن سوء الخلق مذموم (14).

إن علم الأخلاق من أشرف العلوم إن لم يكن أشرفها، إذ أن قيمة المرء في الحقيقة تقدر بأخلاقه و أعماله لا بجسمه ولا بعلمه ولا بماله، وتعد الحجر الأساس البناء المجتمع المتكامل، وهي الدعامة القوية لحفظ کیان المجتمع، حيث ترتفع بها النفوس إلى مراتب الكمال (15).

فالأخلاق علم فلسفي تُعرف به الفضائل السامية التي يجب أن يتحلى الإنسان بها وكيفية اقتنائها لتتمثُّلها النفس، وتُعرف به الرذائل وكيفية تَوقِّيها والتخلي عنها، وهو علم فلسفي يعالج سلوكيات الإنسان المترتبة على إدراكه لمفاهيم الخير والشر، وهي مقياس الأمم وثمرات حضارتها وتدنيه (16).

أما مفهوم الأخلاق في نظر الإسلام هو مجموعة المبادئ والقواعد للسلوك الإنساني، والتي يحددها الوحي لتنظيم حياة الإنسان، وتحديد علاقته بغيره على نحو يحقق الغاية من وجوده في هذا العالم على أكمل وجه (17).

ويعرف (يعقوب فام) في كتابه (التربية الأخلاقية) الخُلُق هو نشاط الفرد في المجتمع البشري وميوله الملآزمة له نحو نظم الجماعة ومنشأها واتجاهاته الفكرية نحو من يحيط به من الناس بما يفيد، ولا يضر بالجماعة البشرية (18).

أما الشهرستاني فيقول (19): (إن الناس يولدون خیرین سواسية بطبيعتهم،

ص: 240

وكأنهم كلما شبوا أختلف الواحد منهم عن الآخر تدريجياً على وفق ما يكتسب من عادات.

إن أفضل طريقة لبيان ومعرفة أهمية علم الأخلاق الرجوع إلى القرآن الكريم، والروايات الصادرة عن المعصومين (عليهم السلام):

الآيات القرآنية:

كلنا يعلم بأنه كان من اكبر عوامل تقدم الإسلام (حسن أخلاق) الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وكما أن الله تعالى ينسب توسع الإسلام إلى الأخلاق الحسنة للرسول فيقول: «وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...» (آل عمران: 159) (20).

لقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) مضرب المثل والقدوة الحسنة في حسن الخُلق، فلقد أثنى عليه ربه عز وجل في كتابه: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» (...القلم: 4)، ووصفه سبحانه بالرأفة والرحمة على المؤمنين، وهذا من حسن الخلق فقال: «لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ...» (التوبة: 128).

الأحاديث والروايات الشريفة:

إنَّ الهدف الأساس من البعثة النبوية هو بمكارم الأخلاق، وهذا معناه أنّ الشريعة الخاتمة التي جاء بها سيّد الأنبياء والمرسلين (صلى الله عليه وآله) ذات أسس أخلاقية عليها تقوم وبها تنفذ في كل جوانبها الإيمانية والتعبدية والتعاملية، فلا يزكو إيمان ولا عبادة ولا عمل ما لم يكن مصبوغاً بالصبغة الأخلاقية الفاضلة، إذ ليس من خلق كريم ولا فعل جميل إلا وقد وصله الله بالدين.

ص: 241

يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (إنّما بعثتُ لأُتمّم مكارم الأخلاق)، وفي رواية: (إنّما بعثت لأُتمّم صالح الأخلاق) وفي ثالثة: (إنّ بعثتي بتمام مکارم الأخلاق وكمال محاسن الأفعال) (21).

وقال أبو الدرداء سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (أفضل ما يوضع في الميزان حسن الخُلق والسخاء، ولما خلق الله تعالى الإيمان قال: اللهمّ قوّني، فقواه بحسن الخُلق والسخاء، ولما خلق الكفر قال: اللهمّ قوّني، فقواه بالبخل وسوء الخُلق) (22).

قال (صلى الله عليه وآله): (جعل الله سبحانهُ مکارمَ الأخلاق صِلةً بينه وبين عبادِهِ، فحّسبُ أَحدِكُم أن يتمسّك بخُلقٍ مُتَّصلٍ باللهِ) (23).

يقول الشيخ حسن زاده آملي: (والتخلّق هو التحقّق والاتصاف بحقيقة ذلك الخلق لا العلم بالمفهوم بمعناه كما يحصل بالرجوع إلى المعاجم بأن الراحم كذا والعطوف کذا (24).

وقال أمير المؤمنين عليُّ (عليه السلام): (لو كنّا لا نرجو جَنةً، ولا تخشی ناراً، ولا ثواباً ولا عقاباً، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق، فإنها ممّا يدلّ على سبيل النجاح) (25).

فالإنسان الفرد لا يعيش وحده في هذه الحياة، فهو بطبيعته اجتماعي يعيش ضمن مجتمع يحتك فيه بالآخرين، والقيم الأخلاقية إضافة لكونها کمالاً على المستوى الشخصي، لابد منها أيضاً لكمال المجتمع وتحسين العلاقة بين الأفراد، ومن هنا فلا بد من تحديد هذه القيم على ضوء العقل والشرع ثم الالتزام بها وتطبيقها على المستوى العملي.. وإذا ما التزمنا بالقيم كانت السعادة الفردية والاجتماعية، في الدنيا والآخرة (26).

ص: 242

ولا بُّدع فالأخلاق الفاضلة هي التي تحقق في الإنسان معاني الإنسانية الرفيعة، وتحيطه بهالة وضّاءة من الجمال والكمال و شرف النفس والضمير، وسمو العزة والكرامة، كما تمسخه الأخلاق الذميمة، وتحطّه إلى سويّ الهمج والوحوش، وإن أثر الأخلاق ليس مقصوراً على الأفراد فحسب.. بل يسري إلى الأمم والشعوب، حيث تعكس الأخلاق حياتها وخصائصها، ومبلغ رقيّها أو تخلفها في مضمار الأمم، وكما قال الشاعر:

وإذا أصيب القوم في أخلافهم *** فأقم عليهم مأتماً وعويلا (27)

لقد خلق الله الإنسان مزودا بمجموعة من الغرائز والقابليات التي امتاز بها على سائر المخلوقات الأخرى، ومن هذه الغرائز المميزة غريزة حب الذات (الأنا)، وطفق الإنسان يتحرك بدافع من هذه الجاذبية الباطنية لإدراك بعض الأمور المعنوية، ولكن الإنسان قلما يواصل سلوك الطريق الذي ينتهي به إلى کماله، إذ يستغرقه السعي لسد حاجاته المادية اليومية المتجددة بدافع من غرائزه الأخرى، وقد تباينت الطرق والمناهج أمام السالكين للحصول على کمال الذات الإنسانية عبر الأجيال المتعاقبة، وشمل جميع المذاهب والديانات السماوية والوثنية، فالكل له شريعة ومنهاج في السلوك، وهكذا كان اختلاف السبل عقبة جدية أمام الإنسان الذي انتشل نفسه من بحر الماديات ليسقط من جديد في متاهات الضلال والضياع (28).

أن الأخلاق عند الإنسان الملتزم تفتح آفاقاً واسعة، فلا يحصرها فقط عند حدود (الأنا) ومنافعها الزمنية، نتيجة حبه الدنيوي لذاته، بل يغدو منفتحاً على كل الناس ينظر لهم كما ينظر لذاته، ويخلص لهم كما يخلص لها، ويتحول حبه لذاته من حب مادي إلى حب أعمق يشمل المادة والروح، لهذا جاءت الأديان

ص: 243

لتصقل العلاقة الروحية بين الإنسان وظروفه الحياتية، وما من نبي جاء لينقض رسالات من كان قبله من الأنبياء.. إنما جاء ليؤكد على جوهر الرسالات السماوية التي سبقته (29).

إن علم الأخلاق هو العلم الباحث في محاسن الأخلاق ومساوئها، والحث على التحلي بالأولى والتخلي عن الثانية، ويحتل هذا العلم مكانة مرموقة، ومحلا رفيعا بين العلوم، لشرف موضوعه وسمو غايته، فهو نظامها وواسطة عقدها، ورمز فضائلها، ومظهر جمالها.. إذ العلوم بأسرها منوطة بالخُلق الكريم تزداد بجماله وتحلو بآدابه، فان خلت منه غدت هزيلة شوهاء تثير السخط والتقزز (30).

ثالثاً: الأخلاق هل هي فطرية أم مكتسبة؟

هل الأخلاق فطرية أم مكتسبة؟ سؤال تُحَّدد إجابتهُ مصدر الأخلاق عند الناس، فهنالك من ذهب إلى أن مصدر الأخلاق هو الفطرة التي فطر الناس عليها، وهنالك من ذهب إلى أن المجتمع والأحداث وأنماط الحياة هي من تصنع أخلاق الفرد، أي أن الأخلاق كلها مكتسبة.. كلا القولين أُخِذَ بطرف وأُهمِلَ الطرف الآخر، إذ من الأخلاق ما هو فطري، ومنها ما هو مكتسب، وإيضاح ذلك بذكر أدلة تثبت فطرية الأخلاق، ثم ذكر أدلة تثبت كونها مكتسبة، ثم بيان (31):

أولاً: أدلة أن بعض الأخلاق فطري:

هنالك أدلة تدل على أن بعض الأخلاق فطري خلقه الله في نفس الإنسان، ومن هذه الأدلة:

1. مما أستدل به بعضهم على فطرية الأخلاق الأحاديث الواردة في الفطرة

ص: 244

وبعض الآيات كقوله تعالى: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)... الشمس: 7 - 8)، ونحو ذلك من النصوص التي تدل على المعنى دلالة اقتضاء أو لزوم.

2. قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأشج عبد القيس: (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة).

3. ومن هذه النصوص نستنتج أن الفطرة من مصادر الأخلاق، بمعنى أن الله أوجد في النفس الإنسانية أخلاقاً في أصل خلقتها، وهي توجد مع الإنسان منذ ولادته وتَرسَخ وتقوی بما يناسبها من أعمال کسبية، وتضعف وتتلاشى بالإهمال أو باکتساب ما يضادها من أخلاق، كقوله تعالى:

«وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا» (.. الشمس: 7 - 8).

4. من أدلة النظر أن المتأمل في طباع الناس وأخلاقهم وخاصة الأطفال، يرى أن هنالك جملة من الأخلاق الحسنة أو الرديئة موجودة فيهم خلقةً، ولا يوجد دليل على أنهم تعلموها من غيرهم، ويمكن إدراك هذا المعنى بجلاء عندما تتأمل حال طفلين شقيقين أو توأمين نشئا في بيئة واحدة وفي ظروف متطابقة، وتجد أحدهما حاد الطبع سريع الغضب، والآخر هادئ الطبع فيه أناة، أو أحدهما کریماً سخياً والآخر شحيحاً ممسكاً (32).

والأخلاق الفطرية نابعة من النفس، وموروثة في جملة العادات والأعراف، أو ذاتية خاصة متاصلة في بعض جينات الإنسان، وهذه الأخلاق ثابتة في نفس المرء، ولا يمكن تغييرها وتدعى (الطَّبع) (33).

ص: 245

ثانياً: أدلة أن بعض الأخلاق مكتسبة:

1. الدعاء النبوي في استفتاح الصلاة، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (اللهم أهدني لأحسن الأعمال وأحسن الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وقني سيء العمال وسيء الأخلاق ولا يقي سيئها إلا أنت)، ولو كانت كل الأخلاق فطرية موجودة في النفس لما دعا النبي صلى الله عليه وآله وسلم ربه أن يهديه لتحصيل الأخلاق الحسنة وأن يقيه الأخلاق السيئة.

2. دعاؤه (صلى الله عليه وآله): (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء)، فهذه استعاذة من أخلاق يمكن أن تحصل بالاكتساب، کما تحصل الأعمال، وكما تحصل الأهواء.

3. ومن أدلة النظر: أن بعض الناس ينشأ على أخلاق فطرية معينة كالكرم، والشجاعة، ولكنه بسبب ظروف أو تنشئة اجتماعية معينة تضمر فيه هذه الأخلاق، وينمو بالاكتساب المضاد أخلاقاً عكس ما فطر عليه، فيصبح بخيلاً أو جباناً، فأبواه يبخلانه ويجبنانه، وليس الأبوين فقط، بل المجتمع والبيئة العامة التي يعيش فيها، وطبقاً لهذه النظرية (فإن النفس البشرية لوح خال من كل شيء، وكل ما يسيطر عليه تكتبه التجربة)، لذا فإن الإنسان على هذا الأساس لا يأتي إلى هذه الدنيا بأخلاق حسنة أو سيئة، ولكنه سيكتسب هذه الأخلاق من خلال تجاره الحياتية، ومن البيئة المحيطة به، وفي فترة من التربية والتعليم التي يجتازها (34).

والأخلاق المكتسبة يقتبسها المرء من محيطه وبيئته، ويتلقَّنها في مدرسته وجامعته، وفي حياته اليومية من معلمه أو مؤسسته، وقد تكون الأخلاق المكتسبة

ص: 246

مؤقًتة في زمان أو مكان كظاهرة الكرم والبخل، والشجاعة والجبن، والحلم والغضب، وقد تطغى أخلاق على أخلاق كما قد تسود الأخلاق المكتسبة على الأخلاق الفطرية في حين من الزمان، أو تبعاً لظروف خاصة، فإذا زالت هذه الظروف عادت الأخلاق الفطرية والطبعية إلى الظهور، وما دام العقل مستعداً للتغيير فهو قابل للتطور، فقد تنقلب رأساً على عقب.. من ذي أخلاق إيجابية إلى ذي أخلاق سلبية عن طريق فقه السوء، أو خَوَرٍ في النفس (35).

والحقيقة أن الأخلاق المكتسبة قد تطغى على الأخلاق الفطرية لاسيما إذا كان توجيهها إلى الخير أو إلى الدين، والمرءُ يعلم أن الأخلاق المكتسبة تربطه بالدين أولاً وبالمجتمع ثانياً، لأن صاحب الأخلاق الإيجابية أشد تمسكاً بأخلاقياته وأكثر ارتباطاً بالمجتمع، بينما ذو الأخلاق السلبية أبعد عن الروح الاجتماعية لرفضه الأعراف الموروثة، ونخلص من هذه الدراسة إلى أن كلَّ خُلق قابل للتغيير شراً أو خيراً، وسلباً أو إيجاباً، ويرى فيها أنطوان رحمة أن الأخلاق مجموعة القواعد السلوكية التي تستند إلى قيم مختارة سندُها خيرُ المجتمع أو القيم العليا الخَيرة (36).

ويتفق الباحث مع النظرية الاكتسابية بأن الأخلاق قابلة للتغيير، وذلك بالتربية المقترنة بالإرادة والقيم، وهو المقصود بثبات الأخلاق، وأن الفضائل والقيم الأخلاقية الأساسية للمجتمع من (صدق، ووفاء، وبَّر، وأمانة، وعفة، وصبر، وحلم، ورفق، وإيثار..) ثابتة في معناها الديني والفلسفي، وتعد حواجز متينة ضد الفوضى والظلم والشر، بينما سلوك وأخلاق الإنسان هي القابلة للتغيير (37).

ص: 247

ثالثاً: الجمع بين كون الأخلاق فطرية ومكتسبة:

1. اعتبار بعض الأخلاق جبلياً، وبعضها مكتسباً يتوافق مع الواقع والمشاهد من أحوال الناس، وبه يحصل أعمال جميع الأدلة الشرعية، قال ابن القيم بعد أن أورد حديث أشج عبد القيس السابق: (فأخبرني النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله جبله على الحلم والأناة وهما من الأفعال الاختيارية، وإن كانا خلقين قائمين بالعبد فإن من الأخلاق ما هو کسبي ومنهما ما لا يدخل تحت الكسب، والنوعان قد جبل الله العبد عليهما وهو سبحانه يحب ما جبل عبده عليه من محاسن الأخلاق، ويكره ما جبله عليه من مساوئها فكلاهما بجبله، وهذا محبوب له وهذا مکروه) (38).

ومن الخلق ما هو طبيعة وجبلة وما هو مكتسب، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) يقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم أهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، وأصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت)، فذكر الكسب والقدر والله أعلم (39).

2. في حديث أشج عبد القيس السابق دلیل ظاهر على أن الأخلاق منها فطري، ومنها مكتسب، وذلك فيما قاله أشج: (یا رسول الله أنا أتخلق بهما، أم الله جبلني عليهما؟) وفي رواية (أنا تخلقت بهما، أم الله جبلني عليهما؟)، ولو كان في الأمر خطأ لبينه (صلى الله عليه وآله)، قال ابن القيم: (وفيه دليل على أن الخلق قد بالتخلق والتكلف، لقوله في هذا الحديث خلقين تخلقت بهما، أو جبلني الله عليهما: فقال جبلت عليهما) (40).

3. إن الأخلاق الفطرية كالحلم والأناة والكرم والشجاعة تنمو بتأكيدها وتثبيتها بما يناسبها من الاكتساب، وتذوي بالإهمال أو بالاكتساب

ص: 248

المضاد، فالفطرة - مثلاً - على الأناة تزداد هذه الخصلة الأخلاقية لديه بالاكتساب، وقد تضعف إذا أهملتها، أو أكتسب ما ينافيها كالعجلة والطيش والتسرع.

4. أن الأخلاق الإنسانية لها تعلق بمكونات الإنسان الأساسية، فمنها ما له علاقة باللسان كالصدق والكذب، ومنها ما هو متعلق بالعقل والإدراك (كالفهم والحكمة والسفه و الحماقة)، ومنها ما هو متعلق بالجوارح (کالخيلاء والرشوة والعنف والإيثار والرفق)، وكل ذلك يندرج تحت الفطري أو المكتسب من الأخلاق.

ص: 249

المبحث الثاني مفهوم القيم الأخلاقية

1)) تعريف ومفهوم القيم

وردت كلمة (قيمة) في القرآن الكريم في آيات متعددة منها قوله تعالى: «وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ..» (البينة: 5) وقوله تعالى: «فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ...» (البينة: 3)، وقوله تعالى: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)»... (الكهف: 1 - 2)، نجد أن الآيات جميعها جاءت بمعنى الاستقامة والاستواء والعدل والإحسان والحق، وقد ارتبطت جميع الآيات بالدين.

أهتم علماء المسلمين بموضوع القيم وبحثوها على أنها أحكام شرعية تحت مصطلح الفضائل والأخلاق والآداب، والقيمة يختلف مدلولها عند الناس، وهذا الاختلاف يرجع إلى استعمالاتها في المواقف والمناسبات والحديث الذي جاءت فيه، فالقيمة هي كل ما يُعدُّ جديراً باهتمام الأفراد وعنايتهم لاعتبارات اجتماعية نابعة من المجتمع، أو اعتبارات اقتصادية تهم حياة الأفراد وعيشهم، أو اعتبارات نفسية ترضي نوازع الأفراد وتسد حاجاتهم، أو اعتبارات أخلاقية تربوية تهيئ لهم العيش ألهني بأسلوب مرضٍ عنه بين جماعاتهم (41).

وهنالك من يرى أن القيم تتكون أساساً من مجموعة من الاتجاهات أو المعايير، أو أنها تشكيلة من المعتقدات، وآخرون يرون أن القيم تتمثل في الأنشطة السلوكية التي يمكن أن يمتلكها الأفراد، في حين يتخذ فريق ثالث مواقف وسطية تحاول

ص: 250

أن تجمع بين هذه المفاهيم، فالقيم - في نظر الفريق الأول - ما هي إلا اتجاهات أو اهتمامات حيال أشياء أو مواقف أو أشخاص، والفرد بحكم وجهة النظر هذه إنما يعایش قیمة من القيم من خلال علاقته بشيء أو أشياء تثير اهتمامه أو رغبته (42).

پری مورفي (Murphy) إلى أنه إذا أريد فهم شخصية الفرد وسلوكه ينبغي دراسة نظام القيم لديه، والذي تترتب فيه القيم بشكل هرمي يظهر تفضيلات الشخص، وهذا يساعد في التبؤ بسلوكه، ويتأثر الأفراد بعدة عوامل منها داخلية (تتعلق بالفرد نفسه من حيث قدراته واتجاهاته وميوله والقيم التي يؤمن بها)، و عوامل خارجية (تتعلق بالبيئة المحيطة به کالمجتمع المحلي، والأصدقاء المقربون، والمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسة والثقافة وغيرها)، وتعد القيم من أهم العوامل التي تؤثر في سلوك الفرد واتخاذهم للقرارات.

لقد حاول العديد من الفلاسفة تحديد مفهوم القيمة فذهب ریبوت (Ribot) إلى القول بأن قيمة الشيء هي قدرته على إثارة الرغبة، وإنَّ القيمة تتناسب مع قوة الرغبة جاعلاً هذا التعريف شاملاً لكلَّ من القيمة الاقتصادية والاجتماعية والمعنوية، ويذهب بعض المفكرين إلى القول بتعريفات أخرى للقيمة مثل:

القيمة صفة الشيء المعتبر أو ما يسمى بالأكسيولوجيا (Axiology) وهي الدراسة المنهجية التي تتناول طبيعة القيم وأنواعها ومعاييرها، ومن هذه الزاوية تعرف القيمة بمعنيين هما (43):

الأول: وجهة النظر الذاتية (Subjective) وتعني: القيمة هنا تلك الصفة التي يتصف بها موجود ما - سواء أكان شخصاً أم شيئاً - إذا ما كان هذا الموجود بالفعل مراداً أو مرغوباً من إنسان أو جماعة من الناس، فالقيمة تعني درجة التقدير أو الرغبة لموجود ما.

ص: 251

الثاني: وجهة النظر الموضوعية (Objective): والقيمة هنا تعني ما في الموجود نفسه - سواء أكان شخصاً أم شيئاً - من سبب لتقديره تقديراً له ما يسوغَّه، فالقيمة هي إذن هذا الذي من الممكن أن يصبح الموجود هدفاً لإرادة صحيحة وليس فقط لرغبة فعل.

وهنالك من يرى بأن القيمة هي: عبارة عن مجموعة من المعايير التي يحكم عليها الناس بأنها حسنة ويردونها لأنفسهم، ويبحثون عنها ويكافحون في سبيل تقديمها للأجيال القادمة والإبقاء عليها جزءاً حیاً مقبولاً من التراث الذي تعامل به الناس جيلاً بعد جيلٍ.

أما (خليفة، 1992) فيرى أن القيمة لها مفاهيم وتعريفات متعددة، وهذا الاختلاف يرجع إلى كون القيمة عملية نسبية تختلف تبعاً برؤية الأفراد في كل مجتمع، وهنالك بعض الدراسات التي ربطت القيمة بمفاهيم محددة مثل الحاجة، والدافع، والاهتمام، السمة، المعتقد، والاتجاه، ومن المهم توضيح الفروق والعلاقات المتبادلة بين القيمة وتلك المفاهيم.

أما القيم من المنظور الإسلامي هي: (مجموعة المبادئ والقواعد والمثل العليا التي نزل بها الوحي والتي يؤمن بها الإنسان، ويتحدد سلوكه في ضوئها، وتكون مرجع حكمه في كل ما يصدر عنه من أفعالٍ وأقوالٍ وتصرفاتٍ تربطه بالله والكون)، ونظراً للانفتاح على العالم صار هناك خليط من القيم التي لا تمت بأي صلة للدين الإسلامي، وإنما هذه القيم مأخوذة من الغرب.

ثانياً: مصادر القيم

تختلف المصادر التي تستقي منها القيم باختلاف ثقافات المجتمعات والأفراد الذين يعيشون فيها، وعندما نتساءل بقولنا: مَّن يضع القيم الأخلاقية؟ نرى أن

ص: 252

هنالك فئة تقول: أن الفرد هو نفسه الذي يحدد القيم، في حين أن هنالك قولاً آخر يرى أن المجتمع هو الذي يضع القيم، وهنالك مَّن يقول: أن واضع القيم سلطة إلهية، وأما الذين يقولون بأن الإنسان هو واضع القيم فهم الأغلبية من الفلاسفة، ويتجهون عدة اتجاهات، ومنها (44):

1. ما يرونهُ من إنَّ الذي يحدد القيم الإنسان، وهو مقياس كلَّ شيء، وهو الذي يحدد الخير والشر، والصواب والخطأ، والقبيح والجميل، والإنسان هو الذي جعل لأي قيمة معنی بقبوله لها والتزامه بها، ومن ذلك يتبين أن خالق القيمة هو مصدر التقويم وهذا المصدر هو الإنسان الفاعل.

2. أما الفريق الذي يرى أن واضع القيمة سلطة إلهية وهم الأغلب من رجال الدين، فيذكرون أن المصدر الوحيد للقيم والتقويم هو (الله)، فهو الذي يقرر ما هو حلال وما هو حرام، وما هو خير وما هو شر، وليس في الأفعال ولا في الأشياء في ذاتها صفة تقويمية، وإنما الذي يعطيها هذه الصفة هو الشرع الإلهي، فالتحسين والتقبيح هما من (الله) وليس من العقليين، ومن المذاهب الإسلامية من قال بهذا الرأي من أهل السنة (الأشاعرة) بنحو عامٍ، في حين أن من علماء المسلمين الذين يستبدلون بالألوهية القيم المطلقة، وهم العقليون من المتكلمين المسلمين، وهم المعتزلة (45).

3. وأما الذين يقولون إن واضع القيم ومبدها هو المجتمع، وعلى رأسهم (دور کایم)، فهو يرى أن الأمور الأخلاقية لها قيمة لا تقاس بسائر القيم الإنسانية، وآية ذلك أننا نضحي بأنفسنا من أجلها فلا نظير لها، والعواطف الجماعية هي التي يتوافر فيها هذا الشرط لأنها الصدى في

ص: 253

نفوسنا لصوت الجماعة العظيم، فإنها تخاطب ضمائرنا بلهجة مختلف تمامًا عن العواطف الفردية، وذكر ابن حزم إن أصول الفضائل كلها أربعة عنها تتركب كل فضيلة وهي: (العدل والفهم والنجدة والجود) (46).

ثالثاً: تصنيف القيم:

إن ترتيب القيم داخل السلم القيميّ يتباين من فلسفة لأخرى، ومن وقت الآخر، لأنها في حقيقة الأمر تُظهر الواقع الاجتماعي السائد، وعليه فإن فئات القيم الإنسانية تتنوع في البناء الواحد، ويُعزى سبب ذلك إلى تباين الاهتمامات الروحية والمصالح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وكذلك إلى اختلاف تفضيلات الأفراد أنفسهم، وتتباين أحكامهم التقديرية والواقعية لمظاهر النشاط الاجتماعي (47).

ويرى كثير من العلماء والباحثين الذين تعرضوا لدراسة القيم أنه من العسير تصنيفها تصنيفاً شاملاً يتم الاتفاق عليه من قبل الجميع، إلا أن ذلك لم يمنع من المحاولات لتصنيف القيم في أبعاد مختلفة كلُّ حسب المنظور الذي ينظر به والفلسفة التي يؤمن بها، والآيدولوجية التي يدعو إليها.. لذا ظهرت تصنيفات متعددة للقيم منها (48):

1) على أساس بعد المحتوى

أ- تصنيف سبرانجر:

هنالك محاولات مختلفة لتقسيم القيم من حيث محتواها، إلا أنَّ أبرزها كان التصنيف الذي قدمه (سبرانجر) في كتابه (أنماط الرجال) الذي قسم فيه القيم على ستة أنماط هي:

ص: 254

1. النمط النظري (Theoretical Type): ويعبّر عنها باهتمام الفرد ومیله إلى اكتشاف الحقيقة، فيتخذ اتجاهاً معرفياً من العالم المحيط به، ويسعی وراء القوانين التي تحكم هذه الأشياء بقصد معرفتها، ويتميز الأشخاص الذين تسودهم هذه القيمة بنظرة موضوعية نقدية معرفية تنظيمية.

2. النمط الاقتصادي (Economic Type): ويقصد بها اهتمام الفرد ومیوله إلى ما هو نافع، وهو في سبيل هذا الهدف يتخذ من العلم المحيط به وسيلة للحصول على الثروة وزيادتها في ضوء الإنتاج والتسويق واستهلاك البضائع واستثمار الأموال، لذلك نجد أن الأشخاص الذين تلتصق فيهم هذه القيم يمتازون بنظرة عملية تُقوَّم الأشياء والأشخاص تبعاً لمنفعتها، لذا فهم يكونون غالباً من رجال العمال والمال.

3. النمط الجمالي (Aesthetic Type): ويعبر عنها من اهتمام الفرد و میله إلى كل ما هو جميل من ناحية الشكل، لذا فهو ينظر إلى العالم المحيط به على أساس التكوين والتنسيق والتوافق الشكلي، وهذا لا يعني أن الذين يمتازون بهذه القيم فنانون بالضرورة، بل أن بعضهم لا يستطيع الإبداع الفني وإنما يقتصر على تذوق الإنتاجان الفنية فحسب.

4. النمط الاجتماعي (Social Type): ويقصد بها اهتمام الفرد بالآخرين ويسعى إلى مساعدتهم وإبداء المعونة متى ما تطلب الأمر ذلك، لأنَّهُ يجد في ذلك متعةً لإشباع رغباته، وهو ينظر إلى غيره من الناس على أنهم غايات وليسوا وسائل لغايات أخرى، لذا فالذين يحملون هذه القيم يتصفون بالعطف والحنان والإيثار والتضحية.

5. النمط السياسي (Political type): ويقصد بها اهتمام الفرد و میله

ص: 255

للحصول على القوة، لذا فالأشخاص الذين يحملون هذه القيم يتصفون بحبَّ السيطرة والتحكم بالأشياء والأشخاص عن طريق قيادتهم لنواحي الحياة المختلفة وتوجيههم والتحكم في مصائرهم، حتى وإن لم يكونوا من رجال الحرب أو السياسة.

6. النمط الديني (Religious Type): يهتم حامل هذه القيم في معرفة ما وراء هذا العالم الظاهري، واصل الإنسان ومصيره والطبيعة الإنسانية، ويرى أن هنالك قوة تسيطر على العالم الذي يعيش فيه، وهو يحاول أن يربط نفسه بهذه القوة بصورة ما، إلا أن هذا لا يعني أن الذين يمتازون بهذه القيم هم من الناس الزاهدين.

2) على أساس بُعد المقصد:

وتنقسم القيم من حيث المقصد على قسمين هما:

1. قيم وسائلية: وهي تلك القيم التي ينظر إليها الأفراد والجماعات على أنها وسائل لغايات أبعد.

2. قيم غائية أو هدفية: ويقصد بها الأهداف والفضائل التي يضعها الأفراد والجماعات لنفسهم، ويسعون إلى تحقيقها من طريق وسائل معينة، مثل الصحة التي تعدُّ غاية في حدَّ ذاتها، وكذلك حبّ البقاء، وقد تستعمل بعض القيم الوسائلية لتحقيق قيم غائية كالعملية الجراحية، فإنها القيمة الوسائلية للمريض من أجل حفظ حياته أو إطالة بقائه.

3) القيم على أساس بعد الشدَّه:

تختلف القيم من حيث شدّتها، وتقدير شدة القيم بدرجة الإلزام التي

ص: 256

تفرضها، وبنوع الجزاء الذي تقرَّه وتوقعه على من يخالفها، لذا القيم تتناسب طردياً مع درجة الالتزام.

4) القيم على أساس العمومية:

يمكن تقسيم القيم من حيث شیوعها وانتشارها على قسمين هما:

1. قيم عامة: وهي القيم التي تنتشر في المجتمع كلَّه بغض النظر عن ريفه وحضره وطبقاته وفئاته المختلفة، لذا فإنَّ هذه القيم تكثر في المجتمعات التي دأبت على إذابة الفوارق بين الطبقات.

2. قيم خاصة: وهي التي تتعلق بمناطق محدودة أو بطبقة أو جماعة خاصة أو بمواقف أو مناسبات اجتماعية معينة مثل: إخراج الزكاة في أواخر شهر رمضان.

5) القيم على أساس بعد الوضوح:

تنقسم القيم من حيث وضوحها على قسمين هما (49):

1. القيم الظاهرة (الصريحة): وهي القيم التي يُصرَّح ويعبر عنها بالكلام، وقد تكون هذه القيم غير حقيقية لأن العبرة في القيم ليست بالكلام المنطوق.. بل بالعمل والسلوك الفعلي، إذ لا يكفي أن يقول شخص بلسانه أنَّهُ وطني مثلاً من غير أن يبادر إلى حمل السلاح والنزول إلى ساحة المعركة لإثبات ذلك دفاعاً عن وطنه، ولو أنَّ مجاهداً قذف بنفسه إلى المعركة مضحياً بحياته في سبيل الذود عن وطنه من غير أن يُعلن بأنهُ وطني الحكم عليه بغير شك بأنَّ القيمة الوطنية مفضلة عنده على كلَّ شيءٍ آخر.

ص: 257

2. القيم الضمنية: وهي تلك القيم التي تستخلص ويُستدل على وجودها من ملاحظة الاختبارات والاتجاهات التي تتكرر في سلوك الأفراد بصفة منمطة لا بصفة عشوائية، ويرى (لابيير) إن القيم الضمنية هي في الغالب القيم الحقيقية لأنها هي القيم على أساس مُنّدَمَجَة في سلوكهِ.. أما الصريحة تكون زائفة ولا تعبر عن الحقيقة.

6) القيم على أساس بُعد الدوام:

وتصنف القيم من حيث دوامها على قسمين هما (50):

1. القيم العابرة: وهي القيم الوقتية العارضة القصيرة الدوام، السريعة الزوال مثل: القيم المرتبطة بالموضة، وهي قيم تتعلق بالحاضر ولا بالماضي، وأكثر من يحمل هذه القيم هم المراهقون والناس السطحيون.

2. القيم الدائمة: وهي القيم التي تتصف بالديمومة والبقاء لمدةٍ طويلة، والديمومة هنا نسبية، ومن هذه القيم، القيم المتعلقة بالعرف والتقاليد، وهذه القيم على خلاف القيم العابرة من حيث ارتباطها بالماضي واتصافها بالقداسة والإلزام لأنها تمسُّ الدين والأخلاق کما تمس الحاجات الضرورية للناس.

7) القيم على أساس الشيوع والانتشار:

1. قيم عامة: وهي التي تنتشر في المجتمع عامةً، في الريف والحضر وبين جميع الطبقات والفئات المختلفة مثل: (الاعتقاد بأهمية الدين والزواج والعفة... الخ).

2. قيم خاصة: (وهي التي تتعلق بمواقف أو سلبيات خاصة أو لطبقة

ص: 258

أو جماعة خاصة أو دور اجتماعي خاص، مثل القيم المتعلقة بالزواج والأعياد... الخ).

8) القيم على أساس البناء الاجتماعي:

1. قيم إلزامية: وهي التي تحدد أنماط التفاعل الايجابي، وقواعد السلوك المقررة، تلك القيم التي تتعلق بالأوضاع الاجتماعية وهي التي تحدد الأدوار والمراتب الاجتماعية.

2. قيم تقليدية: وهي التي تهتم بالمحافظة على الممارسات الاجتماعية المعتادة.

3. القيم المثالية: وهي التي تحدد الصورة المثلى لأهداف المجتمع وتطلعاته للمستقبل.

4. القيم الروحية: وهي التي تتصل بأشياء غير مادية أو بمواضيع اجتماعية مثل القيم المتصلة بالشرف والمحبة والطاعة والصبر والوفاء والصداقة.

ص: 259

المبحث الثالث القيم الأخلاقية والإنسانية عند أمير المؤمنين (عليه السلام)

أولا: نفحات من سيرة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)

والحديث عن الإمام علي (عليه السلام) له صلة بالنفس الإنسانية في كل مناحيها، وفي سيرته ملتقى بالعواطف الجياشة، والأحاسيس المتطلعة إلى الرحمة والإكبار، لأنه الشهيد أبو الشهداء، وملتقى بالخيال.. حيث دار حول شجاعته منزع الحقيقة، ومنزع التخيل، وملتقى بالفكر، فهو صاحب آراء لم تسبق في التصوف والشريعة الأخلاق، ويعتبر صاحب مذهب حكيم بين حكماء العصور، وأوتي من الذكاء ما هو أشبه بذكاء الباحثين المنقبين منه بذكاء الساسة المتغلبين، وملتقى مع الذوق الأدبي والفني، تراه في نهج البلاغي والأدبي، وملتقى مع خلاف الطبائع والأذهان، أو الخصومة الناشئة أبداً على رأي أو حق أو وطن، فتنازع الناس حوله، وتناقضت آراؤهم فيه، حتى عبر عن ذلك بقوله: (ليحبني أقوام حتی یدخلوا النار في حبي، ويبغضني أقوام حتی یدخلوا النار في بغضي).. وملتقى مع الشكوى والتمرد، أو الرغبة في التجديد والإصلاح، فصار اسمه علماً يلتف به كل مغصوب، وصيحة ينادي بها كل طالب إنصاف، وصارت الدعوة (العلوية) كأنها الدعوة المرادفة لكلمة (إصلاح)، فالتقت النفوس مع علي في وجه من وجوهه، وعلى حالة من حالاته، وتلك مزية تفرد بها الإمام (51).

نحن لا نستطيع أن نعرف علم الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ومدی إيمانه بالله تعالى، لأن الرسول (صلى الله عليه وآله) قال: (يا علي لا يعرف الله إلا أنا وأنت، ولا يعرفني إلا الله وأنت، ولا يعرفك إلا الله وأنا)، ولا نستطيع أن

ص: 260

نحدد علم الإمام ونحيط به، لأنه من علم رسول الله (صلى الله عليه وآله) و علم رسول الله من الله تعالى، وليس عن طريق الاكتساب والتحصيل بل بالإفاضة من عند الله تعالى، ونجد في القرآن الكريم طائفة كبيرة من الآيات البينات التي تصرح بأن علوم الأنبياء من عند الله تعالى عن طريق الإفاضة والإلقاء في القلب، ومعلوم أن هذا النوع من العلم لا يشوبه شيء، ولا مجال للباطل إليه، بل هو الحق الصحيح الصدق المطابق للواقع، لقد خصه الله تعالى بفضائل و کرامات فاقت الأوَّلين والآخرين - ما عدا خاتم النبيِّين محمد (صلى الله عليه وآله) - فهو الإمام الجامع لصفات الجمال والكمال، والوارث للخصال التي تميَّز بها الأنبياء والأولياء (عليهم السلام).

وما يدري هل آسف على الإمام الذي ضاع قدره في ذلك العهد فلم يفسح له المجال ليبث للمسلمين شيئاً من علومه الإلهية ومعارفه الربانية؟ أم آسف على المسلمين الذين حرموا من ذلك المنهل العذب وهم بأمس الحاجة إلى العلم؟ فقد مضى خمس وعشرون سنة وعلي (عليه السلام) جلیس بیته مسلوب الإمكانيات، مكبوتة عليه لا يستطيع تنوير العقول بعلومه وتزويد النفوس بمواهبه؟.

إن الفضائل النفسية التي امتاز بها الإمام (عليه السلام) وإنما وصفنا الفضائل بالنفسية، لأن هناك فضائل لا ترتبط بالنفس كالنسب الشريف، والجمال والقوة فإنها أمور لا اختيارية، والفضائل النفسية تظهر إلى الوجود بالطوع والاختيار (کالجود والعفو والزهد والعبادة وما شاكل ذلك)، فإنها منبعثة من نفس طاهرة شريفة فاضلة، وقال الشاعر:

ملكنا فكان العفو منا سجية *** فلما ملكتم سال بالدم أبطح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا *** فكل إناء بالذي فيه ينضح

ص: 261

قال ابن أبي الحديد في مقدمته على شرح نهج البلاغة: وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل؟ ولم يمكنهم جحد مناقبه ولا كتمان فضائله؟ فقد علمت أنه استولى بني أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره، والتحريف عليه، ووضع المعایب والمثالب له، ولعنوه على جميع المنابر وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم ومنعوا من راوية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكراً، حتی حضروا (منعوا) أن يسمى أحد باسمه، فما زاده ذلك إلا رفعة وسمواً، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه وكلما كتم تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة، وما أقول في رجل تعزي (تنسب) إليه كل فضيلة؟ وتنتمي إليه كل فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها وأبو عذرها وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، وكل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله اقتفى، وعلى مثاله احتذی (52).

عن الأصبغ بن نباته، قال: لما بويع أمير المؤمنين (عليه السلام) بالخلافة خرج إلى المسجد معتماً بعمامة رسول الله (صلى الله عليه وآله) لابساً برديه، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وأنذر، ثم جلس متمكناً وشبك بين أصابعه ووضعها أسفل سرته، ثم قال: يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني، سلوني فإن عندي علم الأولين والآخرين، أما والله لو ثني لي الوسادة لحكمت بين أهل التوراة بتوراتهم، وبين أهل الإنجيل بإنجيلهم وبين أهل الزبور بزبورهم، وبين أهل الفرقان بفرقانهم، حتی ینهی کل کتاب من هذه الكتب ويقول: يا رب إن علياً قضى بقضائك، والله إني لأعلم بالقرآن وتأوليه من كل مدّعٍ علمه، ولولا آية في كتاب الله تعالى لأخبرتكم بما یکون إلى يوم القيامة (53).

ص: 262

إن سمو الأخلاق والتسامح والعدل والشجاعة والصدق لدى أمير المؤمنين (عليه السلام) دفعت بالكثير من الكتاب غير المسلمين للكتابة عنه بصورة وجدانية، أمثال (جورج جرداق) ذو الإطلاع الواسع في ثقافات العالم في كتابه (الأمام علي صوت العدالة الإنسانية)، فقد قال: وجدت في شخصية علي بن أبي طالب علما شاملا، ونبوغاً ساحراً، وبلاغة آسرة، وخلقا نقيا، ومثالا رائعا في قيادة الأمة، انه كان قويا في إيمانه ووداعته وعدله وزهده وتقواه، هذه هي الصفات الأخلاقية التي يتطلبها الحاكم العادل الكفوء في قيادة مجتمعه لذي يطمح إلى الرقي والازدهار، وبولس سلامه في (عيد الغدير)، وعبد المسيح الأنطاكي في (ملحمة الأمام علي)، وسلیمان کتاني في (أخلاق و فضائل أهل البيت)، ورکس العزيزي في الأمام علي أسد الإسلام وقديسه).. لقد أقام هؤلاء المفكرين البارزين جسور التواصل الفكري بعد أن اكتشفوا في هذا الأدب القيم الأخلاقية والمثل الروحية العليا التي فرضت نفسها عن طريق الحديث من القلب إلى القلب لا عن طريق السيف والنار (54).

إن أسلوب التشدد في فرض معايير اجتماعية أو سياسية متصفة بالعنف والإجبار أسلوب بغيض لا يؤدي إلى نتائج مرضية في حين يكون الأسلوب المعتدل الذي يتوافق مع الثوابت السلوكية الحسنة هو الذي يستقطب النفوس ويغرس فيها القيم الخلقية السامية فعندما يقول الإمام علي (لا تخلقوا أبنائكم بأخلاقكم فأنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم)، يقصد بهذا التصريح التحولات الاجتماعية التي تظهر في المجتمع وليست الآداب العامة والأخلاق الاجتماعية، فهي الركن الرصين السلوك الفرد وعليه أن يلتزم به حيثما وأينما وجد.

هذا هو علي بن أبي طالب (عليه السلام) أمير المؤمنين، وإمام المتقين،

ص: 263

وسيد القيم الأخلاقية والإنسانية، وأب اليتامى والمساكين، ومعين المظلومين والمحكومين.. شخصية لا غنى عنها، فالجميع بحاجة إليه ولحكمته، وما العجب فهو ولد في بيت الله (الكعبة المشرفة)، وتربى بين يدي خير البشر الرسول الأعظم محمد (صلى الله عليه وآله)، بل هو نفس رسول الله (صلى الله عليه وآله) وزوج ابنته فاطمة الزهراء البتول، ووالد سبطي النبي الكريم الحسن والحسين، وصاحب التاريخ المشرف في الفداء والبطولة والإباء والعطاء والأعمار والعدالة الإنسانية، حتى استشهد بين يدي الله أثناء الصلاة في المحراب، وأن آل الرسول (عليهم السلام) لا يقاس بهم أحد من هذه الأمة، ولا يسوّي بهم من جرت نعمتهم عليه أبداً، فهم أساس الدين، وعماد اليقين، إليهم يفيي الغالي، وبهم يلحق التالي، ولهم خصائص الولاية، وفيهم الوصية والوراث.

يجدر بالأمّة التي تنتسب لمثل هذا القائد والقدوة الذي يعتبر تجسيداً لتعاليم الإسلام وثمرة جهود الرسول (صلى الله عليه وآله) أن تقدي بسيرته وتستنير بإرشاداته في خضّم الفتن والتحديات التي تواجه کیانها وتراثها وأبناءها.

ثانياً: بعض القيم الأخلاقية لأمير المؤمنين

عندما بدأ أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بناء الجماعة الصالحة وضعوا مجموعة من القواعد والأسس القوية والمحكمة لإرساء هذا البناء عليها، وقد تم استنباط هذه القواعد والأسس من الرسالة الإسلامية الخاتمة بحيث تمثل الفهم الصحيح للرسالة من ناحية، وتحقق الأهداف والخصائص من ناحية أخرى.

ولذلك نجد أن هذه القواعد والأسس اتصفت بالشمولية والأصالة والإحكام والانسجام، فكانت مزيجاً من الأبعاد والجوانب تتوافر فيه جميع مستلزمات البناء المرصوص المحكم الذي يؤهّله للقيام بهذا الدور التاريخي

ص: 264

وهو حفظ الإسلام والأمة الإسلامية والدفاع عنهما من ناحية، وتحقيق المثل الصالح للجماعة الإنسانية في مسيرة البشرية من ناحية أخرى، وتمثل هذه القواعد والأسس الجانب العقائدي والأخلاقي والثقافي والمعنوي والروح المعنوية العالية والخطوط السياسية العامة (55)، وسنشير فيما يلي إلى بعض القيم الأخلاقية لأمير القيم والأخلاق علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وهي (56):

1. النية:

هي القصد والإرادة المحركة للإنسان نحو الفعل، وليس الغرض من البحث عنه في المقام مجرد إثبات صدور الفعل عنها، فإنه لا إشكال في ذلك في الأفعال الاختيارية، بل يرجع البحث هنا إلى ملاحظتها من جهة عللها ومعالیلها اعني مناشئ صدورها من اقتضاء العقل والإيمان والغرائز وآثارها وكيفية تأثيرها في أعمال العباد وأنفسهم في الدنيا ويوم القيامة، وإلى أنواعها من خالصها ومشوبها، و مراتب خلوصها وشوبها، والى ترتب الثواب والعقاب عليها وعدمه وغير ذلك.

2. الورع:

فقد يطلق على التقوى، وقد يطلق على خصوص ترك المحرمات، وقد يطلق على ترك الشبهات أيضاً، ورد في النصوص: أن الله لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة، أي: (كان النبي المبعوث متلبساً بالصدق في كلامه، أو أن وجوب الصدق في الحديث كان من أحكام شریعته).

3. الصبر:

الأولى تعريفه بأنه: ملكة قوة وصلابة في النفس تفيد عدم تأثرها عند المكاره، وعدم تسليمها للأهواء، ويسهل عليها القيام بما يقتضيه العقل ويطلبه الشرع، فيسهل للصابر حبس النفس عند المصائب عن اضطراب القلب وشكاية اللسان

ص: 265

وحركات الأعضاء على خلاف ما ينبغي، وعند المحرمات والشهوات عن الوقوع في العصيان، وعند الفرائض حملها على الطاعة والانقياد، ويدخل تحتها عدة من الصفات وتكون من مصاديقها: كالشجاعة في الحروب ويضادها الجبن، وقوة الكتمان ويضادها الإذاعة، والتقوى عن المحارم ويضادها الفسق، والجود عن النفس والمال ويضادها البخل.

وقال مولانا الصادق عليه السلام: إنا صبّر وشيعتنا أصبر منا، لأنا نصبر على ما نعلم، وشيعتنا يصبرون على ما لا يعلمون أي: (نحن نعلم بالمصائب قبل حدوثها، ونعلم الحكمة في حدوثها والثواب المترتب عليها، ونعلم عواقبها ووقت زوالها، وكل ذلك له دخل في سهولة التحمل).

4. العدل:

هذه الكلمة التي تتلهف إليها النفوس، وعليها أساس الملك، وبها نظام الاجتماع واعتداله، وإنني أعتقد أن أصعب قانون يمكن تطبيقه وتنفيذه في المجتمع هو قانون العدالة!! لاصطدام هذا القانون بنزعات الأقوياء الذين لو كانت العدالة موجودة لما كانوا أقوياء، وهؤلاء في طليعة المكافحين لهذه الفضيلة، والتاريخ والحس والوجدان شواهد على هذا، ولا أراني بحاجة إلى دليل.

ومن لوازم تطبيق العدالة وتنفيذها قوة الإيمان بالله تعالى والتقوى أولاً، وحزم وعزم فوق كل عاطفة واتجاه ومصانعة ثانياً، وعدم الخوف من المشاكل المتوقعة المحتمل وقوعها ثالثاً.

5. في التربية

إن تحمل الإنسان لمسؤولية أبنائه وعائلته، يجب أن يكون دافعاً له نحو الالتزام بمبادئ الدين وأحكامه، وبمكارم الأخلاق والصفات، فذلك هو الذي يؤهله

ص: 266

للقيام بوظيفته التربوية، ودوره التوجيهي، إن بعض الآباء يضعفون أمام دواعي الأهواء والشهوات، ويسمحون لأنفسهم بارتكاب بعض المحرمات والمحظورات، لكن بعيداً عن أنظار عوائلهم وأبنائهم، في الوقت الذي يوجهون فيه أبناءهم ليكونوا صالحين ملتزمين، فهل يتوقعون لكلامهم المجرد أن يترك أثرا في نفوس أبنائهم؟ إن التوجيه الصادق، الذي يتطابق مع سلوك الاستقامة والصلاح، هو التوجيه المؤثر.

6. الحسنات بعد السيئات:

إن إتيان الإنسان بحسنة بعد كل سيئة لأجل تكفيرها وتطهير النفس عن الرجز الحاصل منها كاشف عن حالة يقظة للنفس وصلاحها، وهو يمنعها عن حدوث حالة الغفلة والقسوة فيها، والمواظبة على هذا النحو من النظافة والنزاهة تورث ملكة المراقبة وتزكية النفس، وهي من أفضل الملكات، وأنه إذا هم المؤمن بحسنة كتبت له حسنة، فإذا عملها كتبت له عشر حسنات، وإذا هم بسيئة لم تكتب عليه، فإذا عملها أجل تسع ساعات، فإن ندم واستغفر لم تكتب، وإلا كتبت عليه سيئة واحدة.

7. عفة البطن والفرج:

تخصيص العضوين بلزوم العفة من بين سائر الأعضاء التي يجب حفظها عن المعاصي التي تصدر منها: (كاللسان عن الكلام المحرم، والعين عن النظر الحرام، والسمع عن استماع اللغو واللهو، والبدن عن اللبس المحرم لابتلاء الإنسان بمعاصيهما أكثر من غيرها) لاسيما في أوائل شبابه وأزمنة ثوران شهوته.

8. السخاء والجود:

السخاء، لغة واضح، وشرعاً: بذل المال أو النفس فيما يجب أو ينبغي، عن ملكة

ص: 267

حاصلة بالممارسة عليه، أو هو نفس تلك الملكة، ونظيره الجود فيشمل اللفظان جميع موارد الإنفاقات الواجبة: كالزكوات والأخماس، والإنفاقات المندوبة، وهي كثيرة في الشرع، وهذه الصفة من أفضل الصفات والملكات الإنسانية قد حكم بحسنها العقل ومدحها الشرع، وحث على الأعمال الموجبة لحصولها في النفس، ويقابلها البخل والشح کما سيأتي بيانهما، قيل: وأن الشاب السخي المعترف للذنوب أحب إلى الله تعالى من الشيخ العابد البخيل.

9. حسن الخلق:

الخُلق بالضم وبضمتين: الطبع والسجية، وهو صورة نفس الإنسان وباطنه، في مقابل الخَلق بالفتح الذي هو صورة جسمه وظاهره، وهي تتصف بالحسن والقبح کاتصاف الجسم بهما، إلا أن ذاك الاتصاف یكون تحت اختيار الإنسان وإرادته.

أن إصلاح صورة النفس في الدنيا وتحصيل الفضائل لها وإزالة الرذائل عنها بيد الإنسان، قال تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...» (آل عمران: 159)، وقال الرسول الأكرم: (وأن العجب من يشتري العبيد بماله كيف لا يشتري الأحرار بحسن خلقه)، وقال: (وأن أحسن الحسن الخلق الحسن).

10. الحلم وكظم الغيظ والعفو والصفح:

الحلم: ضبط النفس عن هيجان الغضب.

والكظم: الحبس والسد، فكظم الغيظ يرادف الحلم.

والعفو: ترك عقوبة الذنب.

ص: 268

والصفح: ترك التثريب واللوم عليه.

فالمراد من العبر والعناوين المذكورة أن يحلم الإنسان عند غضبه للغير ولا يرتب الآثار التي يقتضيها الغضب من العقوبة بالقول أو الفعل، والممارسة على ذلك والعمل بما يحكم به الشرع والعقل سبب لحصول ملكة في النفس تمنعها من سرعة الانفعال عن الواردات المكروهة، وجزعها عن الأمور الهائلة، وطيشها في المؤاخذة، وصدور الحركات غير المنظمة منها، وإظهار المزية على الغير، والتهاون في حفظ ما يجب عليه شرعاً وعقلاً، وهذه الملكة عن أفضل الأخلاق وأشرف الملكات، والحليم هو صاحب هذه الملكة، وكذا الكاظم، قيل: وأن من كف غضبه عن الناس كف الله عنه عذاب يوم القيامة.

11. الكذب ونقله وسماعه:

الكذب لغة هو: اللآ مطابقة، ويتصف به الاعتقاد والفعل کما يتصف به الكلام فالظن أو الاعتقاد المخالف للواقع (کذب)، كما أن العمل المخالف للقول والوعد. مثلاً. كذب، والكذب في القول هو: (الكلام المخالف للواقع، خالف الاعتقاد أيضاً أم لا)، أو هو: (الكلام المخالف للاعتقاد، خالف الواقع أم طابق).

ثم إنه لا ريب في أن الكذب من أعظم المعاصي وأشنعها، وهو ما يحكم العقل والنقل بقبحه، وله مراتب شتى في القبح والشناعة: (كالكذب على الله، وعلى رسوله، وعلى الأئمة عليهم السلام، وعلى المؤمنين وهكذا).

وأن الله قد جعل للشر أقفالاً، وجعل مفاتيح تلك الأقفال الشراب، والكذب شر من الشراب، وأن الكذب مذموم إلا في الحرب، ودفع شر الظلمة، وإصلاح ذات البين.

ص: 269

12. الرّياء:

الرّياء لغةً: مصدر باب المفاعلة من رأي، فهو والمراءاة بمعنى: إراءة الشيء للغير على خلاف واقعه: کاراءة أنّ صلاته وصيامه لله، وليس كذلك، ويقع غالباً في الأفعال الحسنة لطلب المنزلة عند الناس، فالمرائي اسم فاعل، هو العامل كذلك، والمرائي له اسم مفعول من يطلب جلب قلبه، والمرائی به هو: العمل والرياء قصد إظهار ذلك، والمرائی به تارة يكون من حالات البدن: كإظهار الحزن والضعف والتحوّل و نحوها، وأخرى من قبيل الزّي: کالهيئة وكيفية الشّعر واللباس، وثالثة من قبيل القول والكتابة ونحوهما، ورابعةً من قبيل العمل، وخامسة من قبيل الرفقة والأصحاب والزائرين والمزورين وغيرهم فجميع ذلك ممّا يمكن للإنسان الرياء فيها.

وقد ورد في نصوص أهل البيت عليهم السلام: أنه للمرائي ثلاث علامات: ينشط إذا رأى الناس، ويكسل إذا كان وحده، ويجب أن يحمد في جميع أموره.. وأنه: سيأتي على الناس زمان تخبث فيه سرائرهم وتحسن فيه علانيتهم طمعاً في الدنيا، يكون دينهم ریاء لا يخالطهم خوف، يعمهم الله بعقاب فيدعونه دعاء الغريق فلا يستجيب لهم.

13. في الدنيا وحبها وذمها (57):

هنا أمور: الأول: الدنيا في اللغة: اسم تفضيل مؤنث أدنى، تستعمل تارة بمعنى: الأقرب زماناً أو مكاناً، ويقابله الأبعد، وأخرى بمعنى: الأرذل ولأخس، ويقابله الخير، وثالثة بمعنى الأقل ويقابله: الأكثر، والكلمة تطلق بمعانيها على هذه الدنيا في مقابل الآخرة، فإنها الأقرب وجوداً والأرذل جوهراً قيمةً، والأقل کماً وكيفاً.. والدنيا المصطلح عليها عند الشرع وأهله لها أطلاقات ثلاثة:

ص: 270

أحدها: الدنيا المستعملة مطلقة في مقابل الآخرة، وهي: عبارة عن كل ما يرتبط بالإنسان وله مساس به قبل موته في هذا العالم مما هو في داخل وجوده كتصوراته وتصديقاته وأقواله وأفعاله، ومما هو خارج عنه متأصلاً كان، كمآكله وملابسه ومسكانه، أو غير متأصل، كمناصبه وولاياته ونحوها، وتقابله الآخر على نحو الإطلاق، وهي: العالم المحيط به بعد موته.

وثانيها: الدنيا المذمومة، وهي أخص من الأولى، فإنها عبارة عنها، أو عن بعض مصاديقها مع انطباق بعض العناوين عليها وعروض بعض الحالات والإضافات لها كما ستعرف.

وثالثها: الدنيا الممدوحة، وسيأتي ذكرها في ضمن الروايات، والكلام هنا في القسم الثاني، وهو: الدنیا التي نطق الكتاب الكريم بذمها وتحقيرها، وحثت النصوص المتواترة على تركها والإعراض عنها، وهذا القسم يشمل جميع ما يتعلق بالإنسان من تنعّماته وانتفاعاته، وما يسعى في تحصيله من علومه وفنونه ومناصبه، وما يحصله ويعده لنفسه من أمواله وأولاده وكل ما يملكه ويدخره لينتفع به، كل ذلك إذا حصلت من الوجه المحرم، أو كانت مقدمة للحرام، أو لوحظت بنحو الأصالة في الحياة، وكانت مبلغ علم الإنسان ومنتهى همته، فتطلق على الحياة المقرونة بجميع ذلك والمشتملة عليها حياة الدنيا، وعلى نفس تلك الأمور عرض الحياة وزينتها ومتاعها وحطامها وما أشبهها من التعابير القرآنية.

وأن الله قال: (جعلت الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ما كان فيها لي، وأن عبادي زهدوا في الدنيا بقدر علمهم، وسائر الناس رغبوا فيها بقدر جهلهم، وما من أحد عظمها فقرت عينه فيها ولا يحقرها أحد إلا انتفع بها).

وأن الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له،

ص: 271

وشهواتها يطلب من لا فهم له، وعليها يعادي من لا علم له، وعليها يحسد من لا فقه له، ولها يسعى من لا يقين له (58)، أنه: لا خير في الدنيا إلا لأحد رجلين: رجل يزداد كل يوم إحساناً ورجل يتدراك سيّئته بتوبةٍ.

14. في حب الرئاسة

الرئاسة من مصادیق الدنيا، وحبها من حب الدنيا، وقد عرفت تفصيل الأمرين، إلا أن لها أهمية وخطراً وشأناً ومحلاً يقتضي تخصيصها بالذكر كتاباً، وبتوجيه النفس إلى حالاتها وآثارها باطناً، وبالمراقبة عن موجباتها احتياطاً.

وليعلم أن الرئاسة والجاه منها ممدوحة ومنها مذمومة، والأولى هي التي جعلها الله وأنشأها لبعض عباده: كأنبيائه وأوصيائه ومن يتولى الأمور والرئاسة من قبلهم على اختلاف شؤونهم ودرجاتهم، وهذا القسم الذي في مقدمه منصب الإمامة مقام محمود، وجاه ممدوح، خص الله به أولياءه وحفظهم بنحو العصمة التكوينية والتوفيقات الغيبية الإلهية والأوامر والقوانيين التشريعية عن خطراته وزلاته.

والدفاع عنها والقتال مع من يزاحمهم فيها أو يريد غصبها، إذ هي كما أنها حق للمعصوم المتصدي لها والمتلبس بها فهي حق الله تعالى عهده إليهم، وأمانته التي أودعها عندهم، وحق للناس فإنها مجعولة لأجلهم ولهدايتهم وإصلاح حالهم وفوزهم، ونجاتهم في دنياهم وسعادتهم ونجاحهم في أخراهم، فالمتصدي الغاصب لها قد ظلم ربه وإمامه وعباد الله تعالى، قال النبي يوسف عليه السلام: «اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ»، وكان المقام الذي سأل فرعاً من فروع حقه وشعبة من أصوله تمكن من أخذه فطلبه.

ويجب على غير المعصوم أيضاً فيما ولاه من المناصب الشرعية وترتیب آثارها

ص: 272

والعمل بوظائفها ما دامت باقية مع رعاية عدم الوقوع في العصيان لأجلها، وقد بين حدودها في الفقه، وذلك كمنصب الإفتاء والولاية، والحكومة على الناس، والحكم والقضاء بينهم والمناصب الجندية والإدارية، وغيرها مما كانت مجعولة من ناحية الإمام الوالي على الناس، أو من نصبه الإمام والياً لإدارة أمور المجتمع، فمن قصد بقبولها طاعة الإمام والشفقة على عباد الله وإحقاق حقوقهم وحفظ أموالهم وأعراضهم ودمائهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وحفظ الحدود ومرابطة الثغور، فهو من أفضل المجاهدات والعبادات.

15. في الغفلة واللهو:

الغفلة عن الشيء معروف، والمراد هنا: غفلة القلب عن الله تعالى وعن أحكامه وأوامره ونواهيه، وبعبارة أخرى: عما ينبغي أن يكون متوجهاً إليه ويكون حاضراً عنده ولها مراتب مختلفة: يلازم بعضها الكفر والطغيان، وبعضها الفسق والعصيان، وبعضها النقص والحرمان، فالغفلة عن أصول الإيمان بمعنی عدم التوجه إلى لزومها وإلى قبولها كفر، سواء كان الغافل قاصراً أو مقصراً، وإن لم يعاقب على الأول، والغفلة عن أداء الواجب وترك الحرام مع التقصير فسق، والغفلة عن الإقبال والتوجه إلى آيات الله تعالى الآفاقية والأنفسية، وعن الاهتداء بذلك إلى وجوده تعالى وصفات جلاله وجماله وعن التقرب بذلك لحظة بعد لحظة، وآناً بعد آن إلى قربه ورحمته، وعن كونه حاضراً عنده بجميع شؤون وجوده وخواطر قلبه، ولحظات عينه، ولفظات لسانه، وحركات أركانه، نقص وبعد وحرمان عن مقام السعداء والأولياء، وقد قال تعالى في كتابه: «اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ إلی قوله: لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ..» (الانبياء: 1 - 3).

ص: 273

16. في الكبر:

الكبر: رذيلة من رذائل الإنسان، وخلق سيئ من سجايا باطنه وهو: أن يرى نفسه كبيراً عظيماً بالقياس إلى غيره، وعلى هذا فالكبر صفة ذات إضافة تستدعي مستكبراً به ومستكبراً عليه فهو يفترق عن العجب المتعلق بالفعل بتغاير المتعلق وعن العجب المتعلق بالنفس، بعدم القياس فيه على الغير.

وهذه الصفة من أقبح خصال النفس وأشنعها، ولعل أصل وجودها كالحسد وحب الرئاسة والمال من السجايا المودعة في فطرة الإنسان وزيادتها وتكاملها وتحريكها صاحبها نحو العمل بمقتضاها، تكون باختياره وتحت قوته العاقلة، كما أن معارضتها والسعي في إزالتها أيضاً كذلك، وهي من الصفات التي تورث اغتراراً في صاحبها وفرحاً وركوناً إلى نفسه، ومحل هذه الصفة ومركزها القلب كما يقول الله تعالى: «إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ..» (غافر: 56)، لكنه إذا ظهرت على الأعضاء والأركان سميت تكبراً واستكباراً، لاقتضاء زيادة المباني ذلك، لكن أطلقت الكلمتان في الكتاب الكريم على نفس الصفة أيضاً.. ثم إن الكبر من حيث المتكبر عليه ينقسم إلى أقسام ثلاثة مع اختلاف مراتبها في القبح:

الأول: التكر على الله تعالى: إما بإنكار وجوده جل وعلا، أو وحدانيته، أو شيئاً من صفات جلاله وجماله، ومنه أيضاً عدم قبول إبليس أمره، وهذا أفحش أنواع الكبر، ولا صفة في النفس أخبث وأقذر منه، وقد أتفق فيما يظهر من التأريخ صدوره من عدة من ادعى الإلوهية وغيرهم.

الثاني: التكبر على أنبياء الله ورسله وأوصيائه بإنكار رسالتهم ورد ما جاؤوا به من الكتاب والشريعة.

الثالث: التكبر على عباد الله بتعظيم نفسه وتحقيرهم والامتناع عن الانقياد لمن

ص: 274

هو فوقه منهم بحكم العقل أو الشرع، وعن العشرة بالمعروف مع من هو مثله فيترفع عن مجالستهم ومؤاكلتهم، ويتقدم عليهم في موارد التقدم ويتوقع منهم الخضوع له، ويمتنع عن استفادة العلم وقبول الحق منهم، ويأنف إذا وعظوه، ويعنف إذا وعظهم، ويغضب إذا ردوا عليه، وينظر إليهم نظر البهائم استجهالاً واستحقاراً وهكذا.

17. في الحسد:

الحسد: تمني زوال نعمة الغير، وله صور: فإن الحاسد: إما أن يتمنى زوالها عن الغير فقط، أو يتمنی مع ذلك انتقالها إليه، وعلى التقديرين: إما أن يصدر منه حركة من قول أو فعل على طبق تمنيه، أو لا يصدر، وعلى أي فحقيقة الحسد عبارة عن تلك الصفة النفسية، ولها مراتب في الشدة والضعف وصدور الحركات الخارجية من آثارها ومقتضياتها.

والحسد من أخبث الصفات وأقبح الطبائع، وهو من القبائح العقلية والشرعية، فإنه في الحقيقة سخط لقضاء الله واعتراض لنظام أمره وكراهة لإحسانه، وتفضيل بعض عباده على بعض، ويفترق عن الغبطة الممدوحة، بأن الحاسد يُحبّ زوال نعمة الغير والغابط يجب بقاءها، لكنه يتمنى مثلها أو ما فوقها لنفسه.

وللحسد أسباب كثيرة: عداوة المحسود مخافة أن يتعزز ويتفاخر عليه، وتكبره على المحسود وتعجبه من نيل المحسود بتلك النعمة، وحب الرئاسة على المحسود، فيخاف عدم إمكانها حينئذ وغير ذلك، ومن آثاره تألم الحاسد باطناً، ووقوعه في ذلك العذاب دائماً، ولذا قال علي عليه السلام: (لله در الحسد حيث بدأ بصاحبه فقتله).

ص: 275

18. الغضب (59):

الغضب: ثوران النفس واشتعالها لإرادة الانتقام، ويستخرجه الكبر والحسد والحقد الدفينات في باطن النفس، فالغضب من حالات النفس وصفاتها ومن آثاره صدور الأفعال والحركات غير العادية من صاحبه.

والغضب منه تعالى: هو الانتقام دون غيره فهو في الإنسان في صفات الذات، وفي الله تعالى من صفات الفعل، ولذا يتصف تعالی بوجوده وعدمه، وتتوجه هذه القوة عند ثورانها تارة إلى دفع المؤذي قبل وقوعه، وأخرى إلى الانتقام لأجل التّشفّي بعد وقوعها والانتقام قوت هذه القوة، وفيه شهوتها ولذّتها ولا تسكن إلا به، ولهذه القوة درجات ثلاث:

حالة التفريط المذمومة: كضعفها في النفس بحيث لا يغضب فيما هو محمود فيه عقلا و شرعاً: موارد دفع الضرر عن نفسه، والجهاد مع أعداء الدين، وموارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونحوها.

وحالة الإفراط المذمومة أيضاً: كإظهارها بالشتم والضرب والإتلاف والقتل ونحوها فيما نهى العقل والشرع عنه.

وحالة الاعتدال: کاستعمالها فيما تقتضيه قوة العقل وحكم الشرع، وهذه حد اعتدالها واستقامتها.. وقد ورد في نصوص هذا الباب: أن الغضب مفتاح كل شر، وأن الرجل البدوي سأل رسول الله ثلاث مرات أن يعلّمه جوامع الكلم، فقال (صلى الله عليه وآله) في كل مرة: آمرك أن لا تغضب.

وأنه أي شيء اشد من الغضب؟ إن الرجل يغضب فيقتل النفس التي حرم الله، ويقذف المحصنة، وأن هذا الغضب جمرة من الشيطان توقد في قلب ابن آدم،

ص: 276

وأن أحدكم إذا غضب احمرت عيناه وانتفخت أوداجه، ودخل الشيطان فيه (60).

وأما الغضب الحاصل بحق: كغضب أولياء الله على أعدائه وعلى العصاة المرتكبين للمعاصي من عباده لكفرهم وعنادهم ولفسقهم وعصيانهم، فهو أمر آخر، وهو ممدوح مطلوب، وإعماله في الخارج بالقيام على أمر الجهاد وبإقامة مراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قبل أن تقع المعاصي وتصدر الكبائر من أهلها، وبإجراء حدود الله تعالى وتعزيزاته بعد وقوعها وصدورها، فهو واجب في الشريعة، والغضب الحاصل لهم من أفضل السجايا، والعمل الصادر منهم على طبقه من أفضل العبادات، وليس للمتصدي لتلك الأمور، المجري لها بأمر الله العفو والإغماض إلا في موارد رخص فيه الشرع ذلك، وتفصيله في باب الحدود والتعزيزات من الفقه.

19. البخل:

البخل: إمساك المال وحفظه في مورد لا ينبغي إمساكه، ويقابله الجود، والبخيل من يصدر منه ذلك، والمراد به في المقام هو: الحالة الباطنية والصفة العارضة على النفس، الباعثة على الإمساك والمانعة عن الإنفاق، والشح: أيضاً هو البخل، وقيل: هو البخل مع الحرص، فيحفظ الموجود ويطلب غير الموجود.

وأن الشحيح أشد من البخيل، إن البخيل يبخل با في يديه، والشحيح بما في أيدي الناس، فلا يرى في أيديهم إلا تمنى أن يكون له بالحل والحرام ولا يشبع، ولا يقنع بما رزقه الله، وأنه: إياكم والشح، فإنما هلك من كان قبلكم بالشح، أمرهم بالكذب فكذبوا، وأمرهم بالظلم فظلموا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، ودعاهم حتى سفكوا دماءهم، ودعاهم حتى انتهكوا واستحلوا محارمهم (61).

ص: 277

20. زهده:

يقول الإمام (عليه السلام): (على أئمة الحق أن يتأسوا بأضعف رعيتهم في الأكل واللباس، ولا يتميزون عليهم بشيء لا يقدرون عليه ليراهم الفقير فيرضى عن الله تعالى بما هو فيه ويراهم الغني فيزداد شكراً وتواضعاً) (62).

21. قسوة القلب:

القسوة: غلظ القلب، وصلابته وعدم تأثّره بالمواعظ والعبر، في مقابل رقة القلب، ورحمته وتأثره بالعظات واتعاظه بالعبر، وهي من حالات القلب وصفاته المذمومة السيئة، وهي قد تكون ذاتيةً مودعةً في القلب بالفطرة، وقد تكون كسبيّةً حاصلة من الممارسة على المعاصي والمآثم، وعلى التقديرين: فهي قابلة للزوال بالكلية، أو للتخفيف والتضعيف.

قال تعالى: «أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ..» (الزمرد:22)، فذكر الله قسوة القلب هنا في مقابل انشراح الصدر للإسلام وانفتاحه وسعته، فصار لذلك على نور من العلم والعمل، والقسوة في قباله انسداد القلب وضيقه وعدم تأثير العظات فيه، وقد أوعد الله تعالى جزاءها بالويل، وهي بمعنى: القبح والشّر والهلاك، فالمراد: إنشاء دعاء من الله على قاسي القلب، أو إخبار باستحقاقه.

ورد في النصوص: أن القلب له لمتان: لمة من الشيطان ولمة من الملك، فلمّة الملك: الرقة والفهم، ولمة الشيطان: السهو والقسوة، (واللمة بالفتح: الإلقاء والخطور، فخطرات الخير فيه من الملك، و خطرات الشر من الشيطان، ويتولد من الأول فهم المعارف الإلهية ولين القلب لفعلها، ومن الثاني غفلته عن الحق وقسوته، فقوله: لمة الملك الرقة: أي نتيجتها الرقة أو علامتها ذلك.

ص: 278

هوامش البحث:

1. اللاري، مجتبی/ دراسة في المشاكل النفسية والأخلاقية، ط 1 / دار الصفوة - بيروت / 1992، ص: 13.

2. الناصري، عباس / الأخلاق الإسلامية / بلا دار نشر - النجف الاشرف / بلا. ت، ص: 7.

3. ألأسدي و محمد، أ. د. سعيد جاسم، ود. فاضل عبد العباس / قراءة فلسفية في أخلاقيات مهنة الإدارة واتخاذ القرارات الإستراتيجية / مؤسسة البصرة للطباعة والنشر - العراق - بصرة / 2016، ص: 8.

4. المجلسي، محمد باقر المجلسي / بحار الأنوار، ط 2/ مؤسسة الوفاء - بيروت / 1403، ص: 382.

5. الطبرسی، میرزا حسين النوري الطبرسي / مستدرك الوسائل / مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ط 1،/ بلا دار نشر - قم المقدسة / 1408، 89 ح: 38.

6. مغنية، محمد جواد / فلسفة الأخلاق في الإسلام، ط 1/ دار اليتيم، ودار الجواد / 1992، ص: 15.

7. الإصفهاني، بلا. ت / أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني / مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، ط 2 / دار القلم - دمشق، ودار الشامية - بيروت / 1418 - 1977، ص: 158.

8. المصري، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مکرم ابن منظور الإفريقي / لسان العرب، المجلد: 10 / دار بيروت للطباعة والنشر - بيروت / 1968، ص: 68.

9. أبن مسکویه، أحمد بن محمد / تهذيب الأخلاق وتطهير العراق، تحقيق: قسطنطين زريق / الجامعة الأمريكية - بيروت / 1966، ص: 51.

10. شبر، السيد عبد الله / الأخلاق، ط 1 / مؤسسة ذو القربی / 1427 = 2006.

11. الغزالي، أبو حامد محمد / کتاب الأربعين في أصول الدين / القاهرة / بلات، ص: 53.

12. الحيدري، السيد كمال / بحوث في جهاد النفس، ط: 20 / مؤسسة الإمام الجواد (عليه السلام) للفكر والثقافة - قم المقدسة / 2012، ص: 63.

13. شريعتي، د. علي / الأخلاق للشباب والطلاب والناشئة، ط: 2 / دار الأمير للثقافة والعلوم -

ص: 279

بيروت / 2007، ص: 12.

14. متوفر على الموقع : www.alzahrah.net 16.

15. الأسدي، أ. د. سعيد جاسم / الإلتزام الخُلقي لدى عينة من الطالبات العراقيات - بحث ميداني / مجلة ص والقرآن ذي الذكر - مجلة علمية بحثية تصدر عن قسم الدراسات والبحوث في مؤسسة وارث الثقافية / الغدير للطباعة - بصرة/ 2008، ص: 61 .

16. التونجي، د. محمد / أخلاقيات المهنة والسلوك الإجتماعي، ط 1/ دار وائل للنشر والتوزيع - عمان / 2011، ص: 95.

17. العلواني، طه جابر / الأزمة الفكرية المعاصرة تشخيص ومقترحات وعلاج / القاهرة - إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي / 1992، ص: 167.

18. فام، يعقوب فام / أطفالنا وكيف نؤسسهم، ط 1 / مؤسسة دار الهلال - القاهرة / 1930، ص: 7 - 13.

19. الشهرستاني، أبو الفتح / الملل والنحل، تحقيق: محمد الكيلاني / مطبعة البابي - القاهرة / 1317، ص: 12.

20. اللاري، مجتبى / الأخلاق الإسلامية / مصدر سابق، ص: 24.

21. الطبرسي، أبو علي بن الحسن (القرن السادس الهجري) / مجمع البيان في تفسير القرآن / دار مكتبة الحياة - بيروت / بلات، ص: 187

22. الغزالي، أبو حامد محمد / إحياء علوم الدين / مكتبة محمد علي صبيح - القاهرة / 1375، - ص: 46

23. الحلواني، الشيخ الحسين بن محمد بن الحسن بن نصر / نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، الطبعة الأولى المحققة / مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام) - قم المقدسة / 1408، ص: 52.

24. الصدوق، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار / بلا. ت، ص: 593.

25. الطبرسي، ميرزا حسين النوري الطبرسي/ مستدرك الوسائل / مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ط 1 - قم المقدسة / 1408، ص: 193.

ص: 280

26. متوفر على الموقع: www.almaaref.org

27. الصدر، السيد مهدي الصدر / أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، تقديم السيد محمد هادي الموسوي الخراساني / نشر: وانك - قم المقدسة / 2011، ص: 13- 14.

28. الحلي، جمال الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن فهد / المهذب البارع في شرح المختصر النافع، تحقيق: الحجة الشيخ مجتبى العراقي، ج 1 / مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة / 1407، ص: 6).

29. الحسني، السيد محمد نجيب / مجلة نور الإسلام، دور الأخلاق في بناء الفرد والمجتمع، العدد: 1 2008 - 2009.

30. محمد، فاضل عبد العباس / رسالة ماجستير (غير منشورة) بعنوان: أخلاقيات مهنة الإدارة وأثرها في اتخاذ القرارات للعمليات الإنتاجية الإستراتيجية في العراق / جامعة سانت كليمنتس، تخصص: أدارة صناعية، العراق - البصرة / 2013، ص: 7 - 14.

31. الغامدي، 2010 م / سعيد بن ناصر / سلسلة دعوة الحق: أخلاقيات العمل (ضرورة تنموية ومصلحة شرعية) / دعوة الحق كتاب شهري محكم يصدر عن الإدارة العامة للإعلام والثقافة برابطة العالم الإسلامي، العدد: 25، مكة المكرمة / 2010، ص: 21.

32. الغامدي، د. خالد بن مسفر / مصدر سابق، ص: 23.

33. التونجي، د. محمد / أخلاقيات المهنة والسلوك الإجتماعي، ط 1/ دار وائل للنشر والتوزيع - عمان / 2011، ص: 98.

34. الكبيسي وآخرون، أ. د. عبد الواحد حميد، وأ. د. صبري بردان الحياني، ود. إسماعيل علي حسين، وآخرون / أخلاقيات وآداب مهنة التدريس الجامعي / مركز ديبونو لتعليم التفكير - عمان / 2012، ص: 24 - 27.

35. (التونجي، د. خالد بن مسفر، 2011/ مصدر سابق، ص: 98 - 99).

36. رحمة، أنطوان / التربية الخلقية / جامعة دمشق، بلا دار نشر / 1984.

37. حسن، إيناس عبد / تطوير أهداف التعليم الجامعي المصري في ضوء بعض المتغيرات العالمية والمحلية والاتجاهات المستقبلية وتحديات معوقات تحقيقها (دراسة ميدانية على جامعة الزقاقيق)

ص: 281

المؤتمر القومي السنوي الثاني لمركز تطوير التعليم الجامعي (الأداء الجامعي الكفاءة والفاعلية والمستقبل) / جامعة عين شمس - مركز تطوير التعليم الجامعي / 1995.

38. شفاء العليل، محمد بن أبي بكر أبن القيم الجوزية / شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، تحقيق: محمد بدر الدين الحلبي / دار الفكر - بيروت / 1398، ص: 129.

39. ابن قيم، محمد بن أبي بكر / مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقيق: محمد حامد الفقي/ دار الكتب العلمية - بيروت / 1393، ص:2/ 215.

40. زاد الميعاد، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية / زاد المعاد في هدى خير العباد، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط، ط 14 / مؤسسة الرسالة - بيروت / 1407، ص: 3/ 608.

41. ناصر، د. نعيم عقلة / الإدارة العامة العربية الإسلامية - موسوعة الإدارة العامة العربية الإسلامية - / المنظمة العربية الإدارية - عمان / 2004، ص: 36

42. زاهر، ضياء / القيم والمستقبل: دعوة للتأمل / مستقبل التربية العربية، مجلد: 1، العدد: 1/ 1995، ص: 18.

43. بدوي، عبد الرحمن / الأخلاق عند كانت / وكالة المطبوعات - الكويت / 1979، ص: 439.

44. ألأسدي، أ. د. سعيد جاسم، 2013/ مصدر سابق، ص: 80.

45. بدوي، عبد الرحمن ، 1979/ مصدر سابق، ص: 98.

46. الأندلسي، ابن حزام / المحلي، تحقيق: أحمد محمد شاكر / بلا دار نشر - القاهرة / 1980، ص: 379.

47. فرج، محمد سعيد / البناء الاجتماعي والشخصي / دار المعرفة - الإسكندرية / 1989، ص: 349.

48. محمد، فاضل عبد العباس،2016/ مصدر سابق، ص: 25 - 28.

49. ذياب، فوزية / القيم والعادات الإجتماعية / دار الكتاب العربي للطباعة والنشر - القاهرة / 1980، ص: 87 - 89.

50. مرعي، توفيق، وأحمد بلقيس / الميسر في علم النفس الاجتماعي / دار الفرقان للنشر والتوزيع - عمان / 1984، ص: 233.

ص: 282

51. العقاد، عباس محمود / مجموعة العبقريات الاسلامية كاملة / المكتبة العصرية للطباعة والنشر - بيروت/ بلا. ت، ص: 3.

52. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد المعتزلي / دار الجيل - بيروت ط 1/ 1393، ص: 655.

53. المفيد النيسابوري، أبي سعيد محمد بن احمد الحسين الخزاعي / الأربعين عن الأربعين في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام / العتبة الحسينية المقدسة، فقسم الشؤون الفكرية والثقافية - كربلاء/ 2016، ص: 57 - 68.

54. العطار، رضا / متوفر على الموقع: ridhaalattar@yahoo.com

55. الحكيم، محمد باقر / دور اهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، ج 1/ المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت (عليه السلام) قم المقدسة / بلات، ص: 56.

56. القزويني، السيد محمد كاظم علي من المهد إلى اللحد / مطبعة الآداب - النجف الشرف/ 1967، ص: 54 - 273.

57. القزويني، السيد محمد کاظم، 1967/ مصدر سابق، ص: 207 - 211.

58. بحار الأنوار، العلامة المجلسي / دار الكتب الإسلامية - طهران/ بلا .ت، ج: 73، ص: 122.

59. القزويني، السيد محمد کاظم، 1967/ مصدر سابق، ص: 243 - 254.

60. الكافي، ثقة الإسلام الكليني / دار الكتب الاسلامية - طهران ط 3، ج 2، ص: 304.

61. الخصال الشيخ الصدوق / جماعة المدرسين - قم ، ط 4/ بلا .ت، ص: 176.

62. محمديان، محمد / حياة أمير المؤمنين عن لسانه، ط 1/ مؤسسة النشر الاسلامي - قم المشرفة 1417، ص: 65.

ص: 283

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

1) والاحاديث النبوية الشريفة.

2) القواميس العربية:

1- المصري، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي / لسان العرب، المجلد: 10 / دار بيروت للطباعة والنشر - بيروت / 1968.

3) كتب الاحاديث الدينية.

1- أبن مسكويه، أحمد بن محمد / تهذيب الأخلاق وتطهير العراق، تحقيق: قسطنطين زريق / الجامعة الأمريكية - بيروت / 1966.

2- ابن سينا، الحسين بن عبد الله / تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات (الرسالة التاسعة في الأخلاق)، ط 1 / دار الجوانب / 1298 هجرية.

3- ابن قيم، محمد بن أبي بكر مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين، تحقیق: محمد حامد الفقي / دار الكتب العلمية - بيروت / 1393 هجرية.

4- بحار الأنوار، العلامة المجلسي / دار الكتب الإسلامية - طهران/ بلا .ت.

5- زاد الميعاد، محمد بن أبي بكر ابن قيم الجوزية / زاد المعاد في هدى خير العباد، تحقيق: شعيب الأرناؤوط، وعبد القادر الأرناؤوط، ط 14 / مؤسسة الرسالة - بيروت / 1407 هجرية.

6- الحكيم، محمد باقر / دور اهل البيت في بناء الجماعة الصالحة، ج 1/ المعاونية الثقافية للمجمع العالمي لأهل البيت (ع) - قم المقدسة/ بلا. ت.

7- الحلواني، الشيخ الحسين بن محمد بن الحسن بن نصر / نزهة الناظر وتنبيه الخاطر، الطبعة الأولى المحققة / مؤسسة الإمام المهدي (عليه السلام) - قم المقدسة / 1408 هجرية.

8- الأندلسي، 1980 / ابن حزام / المحلي، تحقيق: أحمد محمد شاكر / بلا دار نشر - القاهرة / 1980.

9- الغزالي، أبو حامد محمد / إحياء علوم الدين / مكتبة محمد علي صبيح - القاهرة / 1375 هجرية.

ص: 284

10- الغزالي، بلا. ت / کتای الأربعین في أصول الدين / القاهرة / بلا. ت.

11- شفاء العليل، محمد بن أبي بكر أبن القيم الجوزية / شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل، تحقيق: محمد بدر الدين الحلبي / دار الفكر - بيروت / 1398 هجرية.

12- المجلسي، محمد باقر المجلسي/ بحار الأنوار، ط 2/ مؤسسة الوفاء - بيروت / 1403 هجرية.

13- الحلي، جمال الدين أبي العباس أحمد بن محمد بن فهد / المهذب البارع في شرح المختصر النافع، تحقيق: الحجة الشيخ مجتبى العراقي، ج 1 / مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرفة / 1407، ص: 6.

14- الشهرستاني، أبو الفتح / الملل والنحل، تحقيق: محمد الكيلاني / مطبعة البابي - القاهرة / 1317 هجرية.

15- الطبرسي، بلا. ت / أبو علي بن الحسن (القرن السادس الهجري) / مجمع البيان في تفسير القرآن / دار مكتبة الحياة - بيروت/ د. ت.

16- الطبرسي، ميرزا حسين النوري الطبرسي / مستدرك الوسائل / مؤسسة آل البيت (عليهم السلام) لإحياء التراث، ط 1 - قم المقدسة / 1408.

17- الصدوق، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار / بلا. ت.

18- الكليني، محمد بن يعقوب الكليني / الأصول من الكافي (ت 328 ه)، تحقيق: علي أكبر الغفاري، ط 1، ج 2 / دار صعب - بيروت / 1401 هجرية.

19- الإصفهاني، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني / مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، ط 2 / دار القلم - دمشق، ودار الشامية - بيروت / 1418 = 1977.

20- الأندلسي، ابن حزام / المحلي، تحقيق: أحمد محمد شاكر / بلا دار نشر - القاهرة / 1980.

21- المفيد النيسابوري، أبي سعيد محمد بن احمد الحسين الخزاعي / الأربعين عن الأربعين في فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام / العتبة الحسينية المقدسة، فقسم

ص: 285

الشؤون الفكرية والثقافية - كربلاء/ 2016، ص: 57 - 68.

4) الرسائل والاطاريح والمجلات والدوريات:

1- حسن، إيناس عبد / تطوير أهداف التعليم الجامعي المصري في ضوء بعض المتغيرات العالمية والمحلية والاتجاهات المستقبلية وتحديات معوقات تحقيقها (دراسة ميدانية على جامعة الزقاقيق) المؤتمر القومي السنوي الثاني لمركز تطوير التعليم الجامعي ( الأداء الجامعي الكفاءة والفاعلية والمستقبل) / جامعة عين شمس - مركز تطوير التعليم الجامعي / 1995.

2- الحسني، السيد محمد نجيب / مجلة نور الإسلام، دور الأخلاق في بناء الفرد والمجتمع، العدد: 1 / 2008 - 2009.

3- زاهر، 1995 م / ضياء / القيم والمستقبل: دعوة للتأمل / مستقبل التربية العربية، مجلد: 1، العدد: 1 / 1995.

4- محمد، فاضل عبد العباس / رسالة ماجستير (غير منشورة) بعنوان: أخلاقيات مهنة الإدارة وأثرها في إتخاذ القرارات للعمليات الإنتاجية الإستراتيجية في العراق / جامعة سانت كليمنتس، تخصص: أدارة صناعية، العراق - البصرة / 2013.

5- الأسدي، أ. د. سعيد جاسم / الإلتزام الخلقي لدى عينة من الطالبات العراقيات - بحث ميداني / مجلة ص والقرآن ذي الذكر - مجلة علمية بحثية تصدر عن قسم الدراسات والبحوث في مؤسسة وارث الثقافية / الغدير للطباعة - بصرة / 2008.

6- الحساني، علي حسين / المؤتمر الفكري الرابع بعنوان: (محمد الصدر شموخُ عطاء وشهادةُ كبرياء)، مداخلة بعنوان: (مهدوية النشأة لدى السيد محمد الصدر) / منشورات مؤسسة وارث الأنبياء الثقافية، العراق - بصرة / 2010.

7- العلواني، 1992 / طه جابر / الأزمة الفكرية المعاصرة تشخيص ومقترحات وعلاج / القاهرة - إصدارات المعهد العالمي للفكر الإسلامي / 1992.

5)الكتب العربية:

1- رحمة، أنطوان / التربية الخلقية / جامعة دمشق / 1984.

2- بدوي، عبد الرحمن / الأخلاق عند كانت / وكالة المطبوعات - الكويت / 1979.

3- بكر، عبد الجواد السيد / فلسفة التربية الإسلامية في الحديث الشريف، ط 1 / دار الفكر

ص: 286

العربي - مصر/ 1983.

4- ذياب، فوزية / القيم والعادات الإجتماعية / دار الكتاب العربي للطباعة والنشر - القاهرة / 1980.

5- شبر، السيد عبد الله / الأخلاق، ط 1 / مؤسسة ذو القربي / 1427 = 2006.

6- شريعتي، د. علي / الأخلاق للشباب والطلاب والناشئة، ط: 2 / دار الأمير للثقافة والعلوم - بيروت / 1428 هجرية - 2007.

7- فام، یعقوب فام / أطفالنا وكيف نؤسسهم، ط 1/ مؤسسة دار الهلال - القاهرة / 1930.

8- فرج، محمد سعيد / البناء الإجتماعي والشخصي / دار المعرفة - الأسكندرية / 1989.

9- مرعي، توفيق، وأحمد بلقيس / الميسر في علم النفس الإجتماعي / دار الفرقان للنشر والتوزيع - عمان / 1984.

10- مغنية، محمد جواد / فلسفة الأخلاق في الإسلام، ط 1/ دار اليتيم، ودار الجواد / 1992.

11- ناصر، د. نعيم عقلة / الإدارة العامة العربية الإسلامية - موسوعة الإدارة العامة العربية الإسلامية / المنظمة العربية الإدارية - عمان / 2004.

12- الحيدري، السيد كمال / مقدمة في علم الأخلاق / دار فراقد للطباعة والنشر - قم المقدسة / 1425 هجرية - 2004.

13- الحيدري، السيد كمال / بحوث في جهاد النفس، ط: 20 / مؤسسة الإمام الجواد (عليه السلام) للفكر والثقافة – قم المقدسة / 2012.

14- التونجي، د. محمد / أخلاقيات المهنة والسلوك الإجتماعي، ط 1/ دار وائل للنشر والتوزيع - عمان / 2011.

15- الصدر، السيد مهدي الصدر / أخلاق أهل البيت (عليهم السلام)، تقديم السيد محمد هادي الموسوي الخراساني / نشر: وانك - قم المقدسة / 2011.

16- العقاد، عباس محمود مجموعة العبقريات الاسلامية كاملة / المكتبة العصرية للطباعة والنشر - بيروت / بلا. ت.

17- الكبيسي وآخرون، أ. د عبد الواحد حميد، وأ.د. صبري بردان الحياني، ود. إسماعيل علي حسين، وآخرون / أخلاقيات و آداب مهنة التدريس الجامعي / مركز ديبونو لتعليم التفكير - عمان / 2012.

ص: 287

18- النراقي، محمد مهدي / جامع السعادات، تحقيق وتعليق: السيد محمد كلانتر، تقديم الشيخ رضا المظفر/ منشورات مطبعة النعمان - النجف الأشرف / بلا ت.

19- الناصري، عباس / الأخلاق الإسلامية / بلا دار نشر - النجف الاشرف/ بلا. ت، ص: 7.

20- القزويني، السيد محمد كاظم علي من المهد إلى اللحد / مطبعة الآداب - النجف الشرف / 1967، ص: 2.

22- ألأسدي، أ. د. سعيد جاسم / معايير أخلاقية لتنمية التعليم الجامعي والعالي / مكتبة نور الحسن بغداد / 2013.

23- ألأسدي ومحمد، أ. د. سعيد جاسم، ود. فاضل عبد العباس / قراءة فلسفية في أخلاقيات مهنة الإدارة واتخاذ القرارات الإستراتيجية / مؤسسة البصرة للطباعة والنشر - العراق - بصرة / 2016.

24- الاسدي، ا. د. سعيد جاسم / السلوك الإنساني / مؤسسة البصرة للطباعة والنشر - البصرة / 2017، ص 62.

25- اللاري، مجحتبى / دراسة في المشاكل النفسية والأخلاقية، ط 1 / دار الصفوة - بيروت / 1992، ص: 13.

21- محمدیان، محمد / حياة أمير المؤمنين عن لسانه، ط 1/ مؤسسة النشر الاسلامي - قم المشرفة/ 1417، ص: 65.

26- الصفار، فاضل / إدارة المؤسسات من التأهيل إلى القيادة / دار العلوم للتحقيق والطباعة والنشر والتوزيع - بيروت / 2002.

6) المواقع الالكترونية:

1- العطار، رضا / متوفر على الموقع: ridhaalattar@yahoo.com

2-الاعرجي، زهير / النظام العائلي ودور الأسرة في البناء الاجتماعي الإسلامي / قم - إيران / 1413، ص: 1 - 17/ متوفر على الموقع: net.rafed.www

3- متوفر على الموقع: www.alzahrah.net

ص: 288

الأثر القرآني في فكر الإمام علي (علیه السلام) دراسة للمبادئ التربوية في نهج البلاغة أ. م. د. محمد كاظم حسين الفتلاوي كلية التربية / جامعة الكوفة

اشارة

ص: 289

ص: 290

مقدمة

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين

أما بعد.. لسمو المعاني التي يطرحها الإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة لا يجعل مجالاً للشك ان منهل نهج البلاغة نابع من سمو مبادئ التنزيل الحكيم، تکاد تستطيع أن تحصل على ما يقابل ويؤيد أي مقطع تربوي منه في نصوص القرآن الكريم، ومن ثم كان ذلك مشجعاً للباحث على ان يلج بين البحرين لبيان ذلك الأثر القرآني التربوي في فكر الإمام علي علیه السلام من خلال مقاطع من نهج البلاغة.

إن الإمام علیه السلام في ميزانه الخُلقي الذي يقدمه في منهجه، كإمام معصوم وكوصي لخاتم الأنبياء المصطفى محمد، إنما هو منهج رباني للإنسان الخليفة الذي جعله الله تعالى على سطح هذا الكوكب.

إن هذا الميزان الذي يرتكز على الرحمة، ويمتد لطرفين في تحصيل الفضائل هما الأول: الحرص على رضا الله تعالى وتقواه، والثاني: هو توعية الإنسان بإطلاع المولى على سريرته؛ كي تقترن السريرة بالسيرة على علة واحدة ويجتمعان في اتجاه واحد.

فكان من أسباب اختيار موضوع البحث أنّ التربية تُعد قوة مؤثرة في حركة التغيير الاجتماعي نحو الأفضل إذا أُحسن توجيهها، وإذا كانت الفجوة كبيرة بين حاضرها والواقع الذي عاشه أسلافنا الكرام فإن ذلك يدفعنا إلى تأكيد أهمية التأصيل بإرجاع القضايا التربوية إلى جذورها في تراثنا الإسلامي، لذا من الضروري أن ننطلق من الواقع ومتغيراته المختلفة، ورصد مشکلاته المتنوعة لتجاوز التخلف، والإمام علي بن ابي طالب علیه السلام يمثل ذلك النص المعصوم الناطق

ص: 291

بالدلالات البنائية المترجمة لآي النص القرآني الكريم، فهو علیه السلام في أقواله وأفعاله أنموذجاً رائداً في المجال التربوي، وان كل النظريات التربوية سواء منها المستوردة أو التي انتجها العقل المسلم بعيداً عن منهل القرآن الكريم وسُنة المعصوم لا تلبّي حاجات الفرد والمجتمع وقد بان فشلها ولم تثمر في الواقع العملي، ولعل ذلك نلتمسه في قوله علیه السلام: (غداً ترون أيامي ويكشف لكم عن سرائري، وتعرفونني بعد خلو مكاني وقيام غيري مقامي) (1).

ومنهج البحث فكان المنهج الوصفي التحليلي الذي يهدف إلى: (وصف الأشياء أو الظواهر أو الأحداث وبيان العلاقات التي تربط بينها وتفسيرها ووسائلها وتحليلها واخذ العبرة منها وتوقع تأثيراتها المستقبلية) (2).

اما خطة البحث فكانت من مطلبين الأول منهما كان بعنوان: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الفردية في نهج البلاغة، والمطلب الثاني بعنوان: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الاجتماعية في نهج البلاغة، مع خاتمة وقائمة بالمصادر.

ونظراً لسعة مفهوم التربية الإسلامية وفروعها، فقد قيد الباحث عنوان بحثه بالمبادئ التربوية في نهج البلاغة (3)، وان قد حدد بعض الباحثين المبادئ التربوية في نهج البلاغة بمجموعة مبادئ (4)، ولكن الباحث لا يرى بالإمكان بحال من الاحوال اختزال هذه المبادئ بعدد معين، وذلك لتداخل معانيها من جانب ومن جانب آخر تکاملها في الغاية، وإنما كان هذا البحث هو في معالم المبادئ التربوية في نهج البلاغة، حتى لا يُغلق باب البحث على الباحثين في نهج البلاغة في هذا الموضوع لما في كتاب نهج البلاغة من منهل لا ينضب.

أما مشكلة البحث: هناك اختلافٌ بين المهتمين بالقضايا التربوية حول مفهوم التربية حيث تتعدد الآراء ووجهات النظر في هذا الشأن؛ نظراً لتعدد الأطراف

ص: 292

المُشاركة في العملية التربوية، واختلاف الزوايا التي يُنظر من خلالها لهذه العملية؛ فضلاً عن اختلاف الاتجاهات، والآراء، والثقافات، والفلسفات، واختلاف ظروف الزمان، والمكان، والجوانب التي يتم معالجتها، ونحو ذلك من العوامل الأخرى.

ومع أن هذا الاختلاف في تحديد مفهوم مبادئ التربية يُعد أمراً مقبولاً - نسبيّاً - عند أصحاب الفلسفات والنظريات والأفكار التربوية البشرية؛ إلا أنه ينبغي ألاَّ يكون كذلك في ميدان التربية الإسلامية، إذا نظرنا إلى الدراسات التربوية المعاصرة وجدنا مفهوم التربية الإسلامية لم يكن موضع الاتفاق بين الدارسين بعد، ويمكن إجمال أغلب المفاهيم في النقاط الآتية (5):

1. انه منهج مقررات المواد الإسلامية في المدارس.

2. انه تاریخ التعليم، أو تاريخ المؤسسات التعليمية، أو تاريخ أعلام الفكر التربوي والتعليمي في العالم الإسلامي انه تعليم العلوم الإسلامية.

3. انه نظام تربوي مستقل؛ ومنبثق من التوجيهات والتعاليم الإسلامية الأصيلة، ويختلف عن النظم التربوية الأخرى شرقيةً كانت أو غربية.

ومن المؤكد أن معظم هذه المفاهيم قد حصرت «مبادئ التربية الإسلامية» في نطاقٍ ضيقٍ لا يتفق مع ما ينبغي أن يكون عليه هذا المفهوم من شموليةٍ واتساع لكل ما يهم الإنسان في حياته وبعد مماته؛ فهو مفهومٌ ينظر إلى الإنسان نظرةً شموليةً لكل جوانب شخصيته وأبعادها المختلفة، وهو مفهومٌ يُعني بجميع مراحل النمو عند الإنسان، وهو مفهومٌ يوازن بين مطالب الفرد و حاجات المجتمع، ويهتم بجميع الأفراد والفئات، ويوائم بين الماضي والحاضر، فضلاً عن أنه يُشير إلى نظامٍ تربوي مُستقلٍ و متکاملٍ، يمتاز بإصوله الثابتة، ومناهجه الأصيلة، وأهدافه

ص: 293

الواضحة، وغاياته السامية، ومؤسساته المختلفة، وأساليبه المتنوعة... التي تُميزه عن غيره، وتوسع دائرته ليُصبح منهجاً كاملاً وشاملاً لجميع مجالات الحياة.

وبكلمة أن مفهوم المبادئ التربية الإسلامية يتضح في كونها أحد فروع علم التربية الذي يتميز في مصادره الشرعية (المتمثلة في القرآن الكريم، وسُّنة المعصوم، وتُراث العلماء العاملين)؛ وغاياته (الدينية الدنيوية)، ويقوم على نظامٍ تربوي مُستقل و مُتكامل، ويعتمد اعتماداً كبيراً على فقه الواقع، ولابد له من متخصصین يجمعون بين علوم الشريعة وعلوم التربية؛ حتى تتم معالجة القضايا التربوية المختلفة من خلاله معالجةً إسلاميةً صحيحةً ومناسبةً لظروف الزمان والمكان.

وأما منهج البحث فقد اعتمد المنهج الوصفي التحليلي الذي يهدف إلى: (وصف الأشياء أو الظواهر أو الأحداث وبيان العلاقات التي تربط بينها وتفسيرها ووسائلها وتحليلها واخذ العبرة منها وتوقع تأثيراتها المستقبلية) (6).

وبما ان المبادئ التربوية بخصوص الفرد: تعني عملية إحداث تغيير في جسم المتعلم وقدراته وتفكيره وعاداته وميوله واتجاهاته وقيمه أي في شخصيته بجملتها حتى يصبح بعدها الإنسان في حال يختلف كثيراً عما كان عليه من قبل (7).

فضلاً عن أنها عملية اجتماعية؛ بمعنى أنها تعد صورة لحياة المجتمع الذي تعيش في إطاره، تعكس فكره الاجتماعي وتشير الى مدى نموه وتطوره وتحدد درجة تطلعه وطموحه وألوان النشاط المتعددة الأوجه التي يمارسها أفراده (8).

فهي وسيلة المجتمع لتغيير واقعه وترسيخ قواعد الأخلاق والمثل العليا بين مكوناته وافراده، وغايتها النهوض بالمجتمع عن طريق تهذيب الفرد وتنميه قواه ومواهبه من خلال خبرات ومعارف لها قيمتها الاجتماعية السامية.

ص: 294

ولهذا كانت خطة البحث في ضوء علاقة المبادئ التربوية بالفرد والمجتمع، من مطلبين الأول بعنوان: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الفردية في نهج البلاغة، والثاني بعنوان: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الاجتماعية في نهج البلاغة، مع خاتمة وقائمة بالمصادر، وعلى النحو الآتي:

المطلب الأول: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الفردية في نهج البلاغة

الإمام علي علیه السلام الشديد في محاسبة نفسه، حريص على ترويضها: (وَ إِنَّمَا هِیَ نَفْسِی أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَی لِتَأْتِیَ آمِنَهً یَوْمَ اَلْخَوْفِ اَلْأَکْبَرِ))، أو كما يقول علیه السلام في كتابه إلى عثمان بن حنيف الأنصاري: (لَأَرُوضَنَّ نَفْسِی رِیَاضَةً تَهِشُّ مَعَهَا إِلَی الْقُرْصِ إِذَا قَدَرْتُ عَلَیْهِ مَطْعُوماً، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأْدُوماً وَلَأَدَعَنَّ مُقْلَتِی کَعَیْنِ مَاءٍ نَضَبَ مَعِینُهَا مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا أَتَمْتَلِئُ السَّائِمَةُ مِنْ رِعْیِهَا فَتَبْرُكَ؟ وَتَشْبَعُ الرَّبِیضَةُ مِنْ عُشْبِهَا فَتَرْبِضَ؟ وَیَأْکُلُ عَلِیٌّ مِنْ زَادِهِ فَیَهْجَعَ؟ قَرَّتْ إِذاً عَیْنُهُ إِذَا اقْتَدَی بَعْدَ السِّنِینَ الْمُتَطَاوِلَةِ بِالْبَهِیمَةِ الْهَامِلَةِ وَالسَّائِمَةِ الْمَرْعِیَّةِ) (10).

فالأخلاق رياضة النفس لتزكو على الربيضة عند الإمام علیه السلام، مغموسة بتقوى الله ومراعاة حقوق المحرومين والمظلومين. فهي غاية الرحمة وكمالها.

لذا بلغ الإمام علیه السلام في ذلك الغاية القصوى، حتی نسب من غزارة حُسنِ خُلُقِه إلى الدعابة، وكان مع هذه الغاية في حُسنِ الخُلُق، ولِين الجانب، يخص ذلك بذوي الدين واللين. وأما من لم يكن كذلك، فكان يوليه غلظة وفظاظة؛ للتأديب، حتى روي عنه أنه قال في هذا المعنی شعراً (11):

أَلين لِمَن لأنَ لي جَنبه *** وأنزو على كلِ صَعبٍ شديدِ

كذا الماس يعمل فيه الرصاص *** على أنه عامل في الحديدِ

ص: 295

فإن بدا الإمام علیه السلام حاداً وشديدةاً في تربية نفسه وحسابها وأتباعه، فأنه إنما ينطلق من تلبُّسه الرحمة وسعيه إلى تحقيقها؛ اتقاءً من غضب الرحمن، فالتقويم الموضوعي للذات له اثره الفعّال في متابعة دخائل النفس وخوالج القلب والافادة من التوازن بين الطموح والواقع في توجيه الشخصية وارشادها لتسمو في جميع مقوماتها الفكرية والعاطفية والسلوكية بعد استحضار المفاهيم والقيم الصالحة وتعميقها في القلب ومن ثم تقريرها في واقع الحياة وقد أكدت التوجيهات والإرشادات القيام بتقییم موضوعي للذات معرفة النفس لأنه الحصن الواقعي من الأخطاء والممارسات غير السليمة، وأن معرفة النفس هي المصداق الامثل في التقييم الموضوعي للذات حيث يقول الإمام علي عليه السلام: (اعظم الحكمة معرفة الإنسان نفسه) (12)، وفي موضع آخر قال علیه السلام: (افضل الحكمة معرفة الإنسان نفسه ووقوفه عند قدره) (13).

لذا سوف يكون هذا المطلب عن الأثر القرآني في المبادئ التربوية الفردية في فكر الإمام علي عليه السلام، وعلى النحو الآتي:

أولاً: مبدأ التربية وفق الفطرة: لقد جاءت الفطرة الإنسانية على غير خلق الله تعالى جميعاً ولم يكن وجودها ب (کن فیکون)، وانما جاءت حاملة تشريف اختصها به المولى عزوجل وتكريماً لم يمنحه لباقي خلقه، وذلك في قوله تعالى للملائكة حين خلق آدم علیه السلام): «فَإِذَا سَوَّيتُهُ وَنَفَختُ فِيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ» (14).

فجاءت الفطرة الإنسانية على أجمل صورة وأكرم تشریف، إذ نفخ من روحه سبحانه وهذا مظهر جلي من مظاهر التكريم، وعنايته بخلق الإنسان وتسويته وأخذ العهد عليه في عالم الذر هي أمور كامنة في الفطرة.

من الآية المتقدمة وغيرها يترسخ لدينا ان الله سبحانه فاطر الوجود ومن ثم

ص: 296

هو أعلم بما يُصلح حال الإنسان النفسي ويبلغ به التكامل الروحي وسعادته، وهذا الأثر القرآني التربوي نجده عند الإمام علي علیه السلام، إذ قال: (الَّهُمَّ دَاحِيَ المَدحُوَّاتِ ودَاعِمَ المَسمُوکَاتِ - وجَابِلَ القُلُوبِ عَلَى فِطرَتِهَا شَقِيِّهَا وسَعِیدِهَا) (15)، فالرجوع الى تعاليم السماء والالتزام بها يضمن لنا تربية ننال بها السعادة في الدارين، وبخلافه فالشقاء هو المصير الابدي.

قال تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ» (16). وقد تباينت آراء المفسرين في فهم الآية واخذوا فيها مناحي متعددة، إلا أن ما ينسجم مع فرضية البحث هو (أن المراد من هذا العالم وهذا العهد هو عالم الاستعداد (والكفاءات)، و (عهد الفطرة) والتكوين والخلق، فعند خروج أبناء آدم من أصلاب آبائهم إلى أرحام الأمهات، وهم نطف لا تعدو الذرات الصغار، وهبهم الله الاستعداد لتقبل الحقيقة التوحيدية، وأودع ذلك السر الإلهي في ذاتهم وفطرتهم بصورة احساس داخلي (...) کما أودعه في عقولهم وأفكارهم بشكل حقيقة واعية بنفسها) (17).

فالفطرة التي انشأنا الله سبحانه علیها سليمة مؤمنة صالحة، وهي بهذا تربية الله لنا، وان الصلاح المقترن بها هو صلاح اصيل وان الانحراف هو الطارئ عليها، جراء غواش الدنيا والشيطان الذي يحول عن تذکر سالف نعم الله في تعريفه ایانا، وهذا المعنى نجد تجلياته في كلام الإمام علي علیه السلام إذ قال: (فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم میثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته) (18)، وكل ذاك اتماماً للحجة عليهم (لأن أخذ الميثاق لا يكون حجة على المأخوذ عليه، إلا أن يكون ذاكراً له، فيجب أن نذكر نحن الميثاق) (19).

ص: 297

ويؤكد هذا سيد قطب بقوله: (أما الرسالات فتذكير وتحذير لمن ينحرفون عن فطرتهم الأولى فيحتاجون إلى التذكير والتحذير، إن التوحید میثاق معقود بين فطرة البشر وخالق البشر منذ كينونتهم الأولى) (20).

والله سبحانه عالم بالأشياء (قَبلَ ابتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ انتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا (21) وَ أَحنَائِهَا (22))(23)، ومع هذا جعل سبحانه من هذا الاشهاد هو إتمام الحجة، وأن لا يقولوا بالاحتجاج بآبائهم، وأنهم اقتدوا بهم، وانهم كانوا أطفالاً لا يعقلون، وانهم معذبون بجريرة آبائهم المنحرفين عن الفطرة، فكان الإشهاد دافعاً لكل تلك الاحتجاجات والتعويلات، يقول الشيخ الطبرسي في تفسير الآية: (إني إنما قرَّرتكم بهذا لتواظبوا على طاعتي، وتشكروا نعمتي، ولا تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل، فنشأنا على شركهم احتجاجاً بالتقليد، وتعویلاً علیه أي فقد قطعت حجتكم هذه بما قررتکم به من معرفتي، وأشهدتكم على أنفسكم بإقراركم بمعرفتكم إياي) (24).

2- مبدأ التربية بالإيمان بالله تعالى: الإيمان بالله سبحانه مبدأ تربوي ان صلح في نفس الإنسان صلحُت به كل جوارحه، فهو إيمان بالغيب الحاضر في وجدان الإنسان والمنعكس في سلوكياته اليومية، فمعرفة الله تعالى تحتاج إلى إيمان بالبصيرة، يقول الإمام علي علیه السلام: (الحمد لله المعروف من غير رؤية) (25).

وهذا مصداق قوله سبحانه: «لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (26)، وقوله تعالى: «وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» (27)، وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ» (28)، وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ» (29)، وقوله تعالى: «عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ» (30)، فاستشعار الرقابة الغيبية في نفس الإنسان تجعله في حذر دائم سواء بحضوره في المجتمع أو في خلواته مع نفسه، لأن الرقيب هو الله

ص: 298

سبحانه المحيط بكل شئ والقادر المطلق على كل شئ، وهو عنده الغيب شهادة وهذا الأثر القرآني التربوي يتضح في فكر الإمام علي علیه السلام وهو يصف قدرة الله سبحانه المطلقة، إذ يقول: (كل شئ خاشع له، وكل شئ قائم به، غِنى كل فقير، وعز كل ذليل، وقوة كل ضعيف، ومفزع كل ملهوف، من تكلم سمع نطقه، ومن سکت علم سره، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه منقلبه،..، وكل غيب عندك شهادة، انت الأبد لا أمد لك) (31).

فكأنّه علیه السلام قال: (وكلّ غيب عندك شهادة هذان الاعتباران يستلزمان کمال علمه وإحاطته بجميع المعلومات، ولمّا كانت نسبة علمه تعالى إلى المعلومات على سواء لا جرم استوى بالنسبة إليه السرّ والعلانية، وأيضا فإنّ السرّ والغيب إنّما يطلقان بالقياس إلى مخفىّ عنه وغائب عنه وهي القلوب المحجوبة بحجب الطبيعة وأستار الهيئات البدنيّة والأرواح المستولي عليها نقصان الإمكان الحاكم عليها بجهل أحوال ما هو أكمل منها، وكلّ ذلك ممّا تنزّه قدس الصانع عنه) (32).

ومن ثم ان كل الأعمال التي نمارسها في الحياة الدنيا سوف تكون حاضرة أمامنا في الحياة الأخرى، وان الله تعالى سيجزي العبد بها، وهو الواضح في قوله تعالى: «وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (33)، فمَن آمن بغيب الله سبحانه ستكون أعماله على وفق ما اراد الله منه من تعاليم السماء ويمنع النفس من أن تنجر وراء هواها راكبة موج الخطايا والظلم، فالآية تندب (الناس الى مراقبة أعمالهم بتذكيرهم أن لأعمالهم من خير أو شر حقائق غير مستورة بستر، إن لها رقباء شهداء سيطلعون عليها ويرون حقائقها وهم رسول الله وشهداء الأعمال من المؤمنين والله من ورائهم محيط فهو تعالى يراها وهم يرونها، ثم إن الله سبحانه سيكشف عنها الغطاء يوم القيامة للعاملين أنفسهم) (34).

ص: 299

وبهذه المراقبة التي يستشعرها الإنسان تكون التربية الناجحة ومن ثم تسمو نفسه في تربيةٍ سليمة من آفات النفاق ویکون سره كعلانيته مع الله سبحانه الذي لم يخلقنا اعتباطاً ولا لهواً، فيكون الإنسان محاسباً لنفسه على الدوام خشية لذاك اليوم الذي تكون فيه الاسرار علانية، وهذا المعنى التربوي نلحظه عند قول الإمام علي علیه السلام: (عباد الله زنوا أنفسكم من قبل أن توزنوا، وحاسبوها من قبل أن تحاسبوا) (35)، وذلك ان الله سبحانه لم يخلقنا إلا لنكون به معتصمين وإليه لاجئين، فكان قريب مدبر للأمور، قال تعالى: «وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ» (36)، وقال تعالى: «إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ» (37).

وهذا القرب الإلهي الذي نصت عليه آیات الذكر الحكيم تشعرنا باللطف الإلهي والتودد من الله سبحانه لعباده، إذ القرب هنا (مستعار للرأفة والإكرام) (38)، الرأفة التي تملى كل جوانب الحياة، والإكرام الذي لا يقف عند حد وقدر معين، رأفة وإكراماً من الله سبحانه لعباده وانه معهم في كل مكان وزمان، قریب بإحسانه ولطفه قریب بدفع البلاء قريب في استجابة الدعاء، قریب حيث لا تشتبه عليه الأصوات والالوان، قريب من القلوب التي تخالجها إنسانيتها اتجاه الإنسان الآخر، وانه سبحانه لهذا خلقنا وبهذا امتحننا وفي هذا تكون تربيتنا وتزكية لنفوسنا، ولم يتركنا مهملاً ولكن كلشئ عنده بقدر معلوم.

وهذا المعنى التربوي نلحظه في فكر الإمام علي علیه السلام، إذ يقول: (واعلموا عباد الله أنه لم يخلقكم عبثاً، ولم يرسلكم هملاً، علم مبلغ نعمه علیکم، وأحصى إحسانه إليكم، فاستفتحوه واستنجحوه، واطلبوا إليه واستمنحوه، فما قطعكم عنه حجاب، ولا أغلق عنکم دونه باب، وإنه بكل مكان، وفي كل حين وأوان،

ص: 300

ومع كل إنس وجان، لا يثلمه العطاء، ولا ينقصه الحباء ولا يستنفده سائل، ولا يستقصيه نائل، ولا يلويه شخص عن شخص، ولا يلهيه صوت عن صوت، ولا تحجزه هبة عن سلب، ولا يشغله، غضب عن رحمة، ولا تولهه رحمة عن عقاب، ولا يجنه البطون عن الظهور، ولا يقطعه الظهور عن البطون، قرب فنأى، وعلا فدنا، وظهر فبطن، وبطن فعلن..) (39).

3- مبدأ التقوى: فإذا ايقن الإنسان ان أعماله وكل سلوكياته غير مخفية عن عالم الغيب سبحانه، یكون عندها الإيمان، الإيمان الذي يركن له الإنسان في تطوير ذاته، لأنه ارتبط بالمطلق، وأولى مظاهر هذا الإيمان هي التقوى.

ومفهوم التقوی ومعناها أن يجعل المرء بينه وبين ما يخافه ويحذره وقاية تحول دون مغبته، وتقوى الله تكون الطاعة واجتناب المعصية، ولا أدل على حب الله تقواه من ذكرها وتكرارها في غير آية من سور القرآن الكريم، قال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ» (40)، وقال تعالى: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ» (41)، وقال أيضاً: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ» (94)، فالقرآن الكريم لا يجعل من التقوى أداة لتجنب ما نهى الله عنه، أو وسيلة لعمل الواجبات في الدنيا، بل ان التربية القرآنية تجعل من الإنسان المتقي محبوب لمن أحبّه وتعلّقت ارادته بإرادة حبيبه، وان الذي لا يتقي فيما اراده منه الحبيب هو إنسان مخالف لمبدأ الحب والطاعة، وان الترجمة الحقيقة لهذا الحب هو لزوم تقوى الله سبحانه فيما أراد وفيها نهی ومن ثم الحراك الاجتماعي وعدم الانزواء والعزلة، وان العمل بالتقوى يجنبنا مزالق هوى النفس والفساد الذي تظهر آثاره في الدارين، فالإنسان المتقي له من السمات ما تقربه من الله سبحانه، وهو بهذا لا يستوي مع مَن لم يجعل للتقوى نصيباً في حراكه اليومي، وإن (طريقة

ص: 301

القرآن الكريم في الكشف عن الحقائق، وإستخلاص المواقف، تكون من خلال عملية مقارنة يعرضها الله سبحانه في الآيات الكريمة، وهذا الأُسلوب مؤثّر جدّاً من الناحية التربوية) (43).

فالتقوى بهذا المفهوم القرآني هي طاعة نابعة من قلب الإنسان مترجمة على جوارحه وفي سلوكياته اليومية مع نفسه ومع المجتمع، وهذا الأثر التربوي القرآني لحظه في نهج البلاغة إذ ان التقوى في نهج البلاغة ليست الخوف وتجنب الناس والانزواء عن المجتمع بل هي في فكر الإمام علي علیه السلام - حسب تعبير مرتضى مطهري - (قوَّة روحيِّة تتولد للإنسان من التمرين العملي الذي يحصل من الحذر المعقول والمنطقي من الذنوب) (44)، فنلحظ الإمام علي علیه السلام يقول: (فمن أشعر التقوى قلبه برز مهلهه (45) وفاز عمله، فاهتبلوا هبلها، واعملوا للجنة عملها) (46) وفي مكان آخر من النهج يقول علیه السلام: (ألا وإن التقوى مطايا ذلل حمل عليها أهلها وأعطوا أزمتها فأوردتهم الجنة) (47)، فنفهم من هذا القول ان التربية بمبدأ التقوى وترويض النفس هو سفينة نجاة في الدار الدنيا، وان عاقبتها دار النعيم المقيم.

وان الله سبحانه رفع أهل التقوى في الدارين، وجعل الحُسنى للمتقين، فقال سبحانه: «وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (48)، وقال تعالى: «هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ» (49)، وهذا مدح عظيم من الله سبحانه وبشارة للمتقين في الحياة الدنيا، فمبدأ التربية بالتقوى له دور كبير (في تحديد العاقبة الحسنة والمرجع الأفضل، إذ تحدّد عظمة النهاية من خلال استقامة البداية) (50)، ومن ثم كان علينا لزاماً ان نُكرم من أكرم نفسه بالتقوى ورباها على منهج قويم، وهذه تربية لنا في التعاطي مع المتقين، يقول الإمام علي علیه السلام: (ولا تضعوا من رفعته التقوى، ولا ترفعوا من رفعته الدنيا) (51)، فالميزان الوحيد في تقييم الناس وبيان فضلهم هو ميزان التقوى،

ص: 302

والتسابق والفخر منوط بلوائها الذي يجب ان يقف الجميع تحته، وهذا أثر آخر من آثار التربية القرآنية في فكر الإمام علي علیه السلام نلحظه في نهج البلاغة، ومصداقه في قوله تعالى: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ» (52)، فهذا اللواء هو (الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من عقابیل العصبية للجنس، والعصبية للأرض، والعصبية للقبيلة، والعصبية للبيت، وكلها من الجاهلية وإليها، تتزيا بشتى الأزياء، وتسمى بشتى الأسماء، وكلها جاهلية عارية من الإسلام!) (53)، ومن ثم لا راية للوطنية، ولا راية للقومية، ولا راية للبيت، ولا راية للجنس، فكلها رايات باطلة ومن صنع البشر والأهواء الضالة لا يعرفها الإسلام.

وكما وعد الله تعالى المتقين الزلفي والبشرى يوم القيامة، كذلك اوعدهم في الدنيا بالأمان من شرفتنها، قال تعالى: «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا» (54) فهذا الوعد الإلهي للمتقين بان يهديهم سبل الرشاد، وهذا الترغيب الرباني لعباده المتقين نلحظه في فكر الإمام علي علیه السلام إذ قال: (واعلموا أنه من يتق الله يجعل له مخرج من الفتن ونوراً من الظلم، ويخلده فيما اشتهت نفسه، وينزله منزل الكرامة عنده) (55)، ومعنی کلامه علیه السلام إن (من يتق الله يأمن في الدنيا من شر الفتن، وله في الآخرة ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين في صحبة الأنبياء والصالحين والملائكة المقربين) (56)، فالصلاح في الدارين رهين بمبدأ التربية بالتقوى، التقوى التي يكون الإنسان فيها بحراك دائم ورياضة مستمرة، تربية متجددة مع المواقف.

4- مبدأ التربية بالزُّهد: اتَفق العلماء والحكماء على علوِّ مكانة الزهد، وشرَف مقامه؛ بَيدَ أنهم اختلفوا في حقیقيه الشرعيَّة اختلافاً كثيراً، وتنوَّعت عباراتهم، وقد يصل هذا الاختلافُ إلى التغاير، ولا يعنينا في هذا المقام استعراض آراء أهل الاخلاق في مفهوم الزهد، ولكن الذي ننشده بيان هذا المبدأ التربوي في القرآن

ص: 303

الكريم وأثره في فكر الإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة، وكيف يسمو بنفس الإنسان، يقول الإمام علي علیه السلام: (الزهد كله بين كلمتين من القرآن، قال الله سبحانه: «لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ» (57)، ومن لم يأس على الماضي ولم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه) (58).

ودليل عدم الرغبة في الدنيا عدم الحزن على ما فات منها وعدم الفرح بما يأتي منها، فيساوي عند الزاهد وجدان الدنيا وفقدانها، وهذا تعريض على من تظاهر بالزهد بترك العمل ولبس الخشن، يقول الشيخ محمد جواد مغنیه: (لزهد هو الرضا بالميسور، ومعنى الكلمتين في الآية الكريمة واضح، تقول الأولى: لا تحزنوا المفقود، وتقول الثانية: لا تفرحوا بموجود، لأن الفائت لا يتلافي بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة على حد تعبیر حکیم قديم. وقال آخر: لا أقول لشيء کان: ليته لم يكن، أو لشيء لم يكن: ليته كان) (59).

والزهد انعکاس نفسي نابع من معرفة الإنسان حقيقة الدنيا، ومن ثم لا يكون الزهد شعاراً خاصاً باللباس والزي، بل هو تربية نفسية أكبر في تجلياتها من مظهر خارجي يرتديه مُدعي الزهد، هو تربية سلوكية، يقول الإمام علي علیه السلام: (أفضل الزهد إخفاء الزهد) (60)، إذ أنّ الزهد ليس مظهراً رخيصاً يتلبّس به الإنسان وابتعاداً عن المعطيات الطيّبة من أنعم الله عليه به، وإنّما هو مبدأ تربوي وانفصال نفسي عن عوامل الفتنة، وأسباب التعلّق بمغريات الدنيا والركون إليها على حساب الآخرة.

هذا ما يُفهم مِن نصوص القرآن الكريم إذا جُمع بعضها إلى بعض، كقول الحقِّ سبحانه: «فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ

ص: 304

النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ» (61)، فآيات القرآن الكريم تربي الإنسان على التعلق برضا الله، وتكون أعماله على نهج تعاليم الدين القويم، فهذا الزهد الحقيقي عن المعاصي، وان الدار الآخرة هي دار القرار، ومَن النقيض الآخر من الناس (یرید الدنيا فلا يذكر غيرها ولا نصيب له في الآخرة، ومنهم من يريد ما عند الله مما يرتضيه له وله نصيب من الآخرة والله سريع الحساب يسرع في حساب ما يريده عبده فيعطيه کما یرید) (62).

ولتتمة الموضوع هنا أن آية: «رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» مطلقة، ولها مصادیق ومن مصادیق هذه الآية نذكر ما ذكره جملة من المفسرين من قول الإمام علي علیه السلام، إذ قال: (الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة وفي الآخرة الحوراء، وعذاب النار امرأة السوء) (63)، ويمكن توجيه هذا الحديث بما يقتضيه المقام، هو ان الدنيا مزرعة الآخرة کما نصت العديد من الروايات، وان المرأة الصالحة في الدنيا عون للزوج على اجتناب المعاصي والزهد عن حرامها وتذكيره بالآخرة والنعيم المقيم فيها.

فلمبدأ الزهد أثر تربوي في فكر الإمام علي علیه السلام لا تخفي آثاره على المسلمين، وقد اشار الدكتور كامل مصطفى الشيبي (64) إلى ذلك حين ربط بين التشيع لعلي علیه السلام ورغبة الفئة المستضعفة بالحفاظ على مبادئ الإسلام بما يمثله الإمام علیه السلام من زهد وعفة وقوة وإیان ولهذا نلحظ الصحابي عمار بن ياسر يحتفي بالإمام علیه السلام لأنه كان زاهداً، ويجعل الزهد زينة الأبرار کما کان المال زينة الملأ المكي الذي حاربه الإسلام، فيروي عماراً حديثاً عن النبي = انه قال في الإمام علي علیه السلام: (یا علي، إن الله قد زينك بزينة لم يزين العباد بزينة أحب إليه منها، هي زينة الأبرار عند الله تعالى، الزهد في الدنيا، جعلك لا ترزأ من الدنيا شيئاً، ولا ترزأ الدنيا

ص: 305

منك شيئاً، ووهب لك حب المساكين، فجعلك ترضى بهم أتباعاً، ويرضون بك إماماً) (65).

کما نلحظ هذا المبدأ التربوي عند صحابي آخر من تلامذة الإمام علیه السلام وهو الصحابي الجليل ابو ذر الغفاري، إذ اعترض أبو ذر الغفاري في الشام على ثراء معاوية مبرزاً اتجاهه في الزهد، فقال عندما رأى قصر الخضراء بدمشق: (يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهذا الاسراف، فسكت معاوية) (66).

ومن هنا تأتي أهمية هذا المبدأ التربوي وهو يتسع في شعاع أثره من النفس إلى محيطها ومجتمعها، من دون ان يكون غايته ترويض النفس والميول الى السكون والانشغال بخلجات النفس وفي قوقعتها، فنراه يبرز في معارضة الظالمين ويُترجم الى عمل حركي في حياة الفرد والمجتمع.

وكذلك هي سائر المبادئ التربوية المتقدمة فالمنهج القرآني ونصوص المعصوم تتعاضد في ترسيخها في النفس وتتجذر فيها لتُنمي لنا شخصية مسلمة ثابتة في مبادئها حازمة في الشدائد مستبسلة في ذات الله تعالى، ولولا ذاك الإيمان واليقين فيها لما كان لهذه المبادئ التربوية ان نجد اثرها في حياة الفرد الخاصة ناهيك عن أثرها المرجو في الحياة الاجتماعية، کما سوف نلحظ أثر المبادئ في بُعدها الاجتماعي في حنايا المطلب الثاني.

المطلب الثاني: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الاجتماعية في نهج البلاغة

من أهم المجالات التي عُني ببنائها القرآن الكريم ونصوص المعصوم المجال

ص: 306

الاجتماعي، وهو مجال له أهميته البالغة في عملية التربية، ولذا أعطاه الإسلام حقه من العناية، وحظه من الاهتمام، والإسلام دين اجتماعي وليس ديناً فردياً، وهو يقوي روح التعايش الجماعي في حس الأفراد بشتى الصور والأساليب.

وقد لحظنا في المطلب الأول أهمية التربية الفردية للإنسان في ضوء فكر الإمام علي علیه السلام وأثرها القرآني، وان أول ما ينمي عند الإنسان ويهذب هو نفسه، ومن ثم الانتقال الى التربية في بُعدها الآخر وهو المجتمع، فلا بد من أن ترتبط التربية الفردية بالتربية الاجتماعية، فهي نتيجة لها، لما لها من الشأن في تقوية العلاقات الاجتماعية بين أفراد الأمة كالمحبة والإخاء والإيثار، وأمر بالتعاون على البر والتقوى، ودعا الى توحيد الكلمة وجمع الصف، کما دعا إلى التراحم والتسامح جاعلاً من الإنسان عنصراً فاعلاً لا منفعلاً، وذلك بإثارة تفكيره، والعناية بروحه، وتحقيق حاجاته العلميّة والنفسية التي تجعله عنصراً اجتماعياً ناجحاً، مؤتلفاً غير مستوحش أو مبغوضاً، فيكون حركياً سواء بشخصه أو بذكراه في المجتمع، وهذا ما عناه الإمام علي علیه السلام في فكره حين قال: (خالطوا الناس مخالطة ان متم معها بكوا عليكم، وان عشتم حنوا اليكم)، وهذا ما سوف نحاول بيانه في هذا المطلب، وفق المبادئ التربوية الآتية:

أولاً: التربية بمبدأ الاستخلاف (الحكومة):

وهذا المبدأ التربوي يقوم على أساس عظیم مفاده أن الإنسان لم يُخلق عبثاً، وان عليه رسالة كبيرة في وجوده على الأرض يجب أن يبلغها، منها عمارة الأرض وتطبيق تعاليم السماء، قال تعالى: «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» (67)، ونستطيع اجمال وظائف الإنسان الخليفة ومهماته بما يأتي (68):

1. عمارة الأرض: وتعني عمارة الأرض استصلاحها واعدادها للحرث،

ص: 307

ولا تعني بناءها بالقصور الشاهقة والعمارات الباسقة، وان كانت هذه ضمناً، لكن عمارة الأرض تشمل أيضاً اصلاح نفوس أهلها وهدايتهم الى مسالك الخير والهداية.

2. العدالة: من الوظائف الأساسية للإنسان، امضاء منهج العدل، فقد خاطب الله تعالى الإنسان بان يحكم بالعدل منصفاً بني جنسه من نفسه، امراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، وغيرها من أعمال البر والخير..

3. العبادة (المعرفة): ان عبادة الله تعالى أو معرفته هي الوظيفة الأساسية للإنسان، والمعرفة هي السبيل الوحيد للوصول إلى الحقائق المجهولة، والاسرار الخفية التي تسير هذا الكون..

نعم ظهرت آثار الإنسان الخليفة في هذه (الخلافة على الأرض ونحن نشاهد عجائب صنعه في المعدن والنبات، وفي البرّ والبحر والهواء، فهو يتفنّن ويبتدع، ويكتشف ويخترع ويجدّ ويعمل، حتى غيّر شكل الأرض فجعل الحزن سهلا، والماحل خصباً، والخراب عمراناً، والبراري بحاراً أو خلجاناً، وولد بالتلقيح أزواجاً من النبات لم تكن..) (69)، وهذه المعاني التربوية القرآنية التي أرادها الله سبحانه من الإنسان نلحظها في فكر الإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة، إذ يقول علیه السلام - بعد كلام عن آدم علیه السلام -: (فأهبطه بعد التوبة ليعمر أرضه بنسله وليقيم الحجة به على عباده..) (70)، وهنا الإمام علیه السلام يوضح المهام ذاتها التي كلّف الله سبحانه بها خليفته، من عمارة الأرض بكل ما تحمل كلمة عمارة من معنى وفي كل المجالات المادية منها أو المعنوية، وان هذا الاستخلاف تُبنی روابطه بين الإنسان وأخيه، ومن ثم تكون علاقة الإنسان بالمجتمع، وبهذا يكون الإعداد والتربية المسبقة والآنية للإنسان في سلوكياته وتفكيره لما فيه صلاح الأرض ومن ابرز مصاديق الصلاح

ص: 308

للأرض هو صلاح الإنسان مع مجتمعه فكل نفع وأعمار للأرض هو نفع وأعمار للفرد الآخر وهذا اسمى معاني الأعمار.

وهذا المعنى التربوي المجتمعي في الاستخلاف وإقامة الحكومة العادلة التي تسوس الناس بالحق بعيداً عن الهوى، يتضح أكثر في خطاب الله تعالى لنبيه داود علیه السلام، إذ قال تعالى: «يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى» (71)، ومن هنا يكون مبدأ الاستخلاف التربوي بما تقدم من معطيات غاية الوجود الإنساني الذي (يمكن إيجازه في كلمات قصيرة وعميقة، وهي (التكامل) و (التعليم) و (التربية) ومن هنا نستنتج أن الحكومات عليها أن تسير وفق هذا الخطّ، فعليها أن تثبت أُسس التربية والتعليم لتكون أساس التكامل المعنوي عند الإنسان، وبعبارة أُخرى: إن الحقّ والعدل هما أساس عالم الوجود، وعلى الحكومات أن تعمل وفق موازين الحقّ والعدالة) (72).

فنلحظ ان التربية القرآنية لم تهمل الإنسان في عالم الدنيا من غير مهام رسالية من أعمار للأرض بكل معانيه، وهذا الأثر ليس ببعيد في فكر الإمام علي علیه السلام إذ نجد الإمام يحث في تربية الناس على اغتنام فرصة وجودهم في الحياة الدنيا لإقامة الحق والعدل والاستخلاف الحقيقي، فيقول علیه السلام: (ايها الذام للدنيا.. إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غني لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد أحباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنة، فمن ذا يذمها وقد آذنت ببینها) (73)، ونلحظ أن الإمام علي علیه السلام يذكر ثمان موارد تجعل من الإنسان مستعمراً لهذه الدنيا، عاملاً فاعلاً منسجماً غير منزوٍ فيما أراده الله منه في استخلافه إياها، ذاكراً له علیه السلام منهج قويم في التعايش الناجع، وهذه الصفات هي (74):

ص: 309

1. أنّها دار صدق لمن صدقها: أي فيما أخبر به بلسان حالها من فنائها وزوالها، وتصديقه لها اعترافه بذلك منها والعمل به.

2. ودار عافية لمن فهم عنها ما أخبرت عنها من عظاتها حتّى احترز من آفاتها وعوفي من عذاب الله بها.

3. ودار غني لمن اتّخذ فيها التقوى زادا لسفره إلى الله، وظاهر أنّ التقوى وثمرتها في الآخرة أعظم غنى للمتّقين.

4. ودار موعظة لمن اعتبر بها فعلم وصفها وغايتها.

5. كونها مسجد أحبّاء الله من رسله وأوليائه.

6. كونها مصلَّی ملائكة الله الأرضيّة الَّذين سجدوا لآدم عليه السّلام.

7. كونها مهبط وحي الله.

8. كونها متجر أولياء الله الَّذين اكتسبوا بعبادتهم فيها رحمته وربحوا جنّته.

ثمّ استفهم علیه السلام بعد هذه المادح عمن يذمّها منكراً عليه ومبيّناً لأحوال أخرى لها ينافي ذمّها أي فمن ذا يذمّها ولها الصفات المذكور وهي على هذه الأحوال.

وفي اتمام الأثر القرآني المتقدم من استخلاف نبي الله داود علیه السلام وبيان أهمية الحكومة أيضاً ودورها في اعمار الأرض والحفاظ على الأمن واقامة العدل، يقول الإمام علي علیه السلام: (السلطان وزعة الله في أرضه) (75)، فالسلطان العادل وضعه الله (في أرضه ليمنع به ما یرید منعه) (76) من الباطل والجور وكل ما فيه فساد للعباد والبلاد، لأن الوظيفة التربوية أساس من أُسس بناء المجتمع المسلم وهي مسؤولية الدولة المسلمة ووظيفة من وظائفها بعدِّها مكلفة من هذا المجتمع بالقيام على مصالحه والحفاظ على مقوماته.

ص: 310

ثانياً: مبدأ الحرية والاختيار:

لعل من أولى أساسيات الحرية عند الإمام علي علیه السلام هو اعطاؤه الحرية الشخصية للإنسان، أي ان يكون الإنسان حر التصرف في اموره الشخصية من دون قید منع ایذاء الجماعة، كما ان منح الحرية الشخصية المنضبطة للإنسان لا بد ان تبدأ من اشاعة هذا المفهوم داخل المجتمع وفي أولى نواة وهي الاسرة كأسلوب لتربية الأبناء، وهذه اشارة مهمة ولاسيما في تلك الحقبة من التاريخ، إذ يقول الإمام علیه السلام: (لا تفسروا أولادكم على آدابكم، فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم) (77). ويعلق جورج جرادق على هذا المبدأ العلوي قائلاً: (ان الإمام ينادي بمبدأ (الولادة الحرة)، فان الابناء ان تخلصوا من القسر والإكراه والاستعباد من جانب السلطة والقوانين، فانهم لا يتخلصون عادة من اخلاق ابائهم وعاداتهم وميولهم وسائر ما يفرض عليهم بحكم نزوع الآباء الى ان ينشأ اولادهم على مانشأوا عليه ... وان الحرية لا تتقيد حتی بشروط يضعها الآباء قسراً أو فرضاً لأن الحرية في أقصى معانيها وأهدافها دافع الى التطور وباعث على التقدم) (78).

وهذا الجانب التربوي الذي يقرره الإمام علي علیه السلام من روائع حكمه التي فاقت عصره، بل وحتى عصرنا وبكل نظرياته ومدارسه الحديثة، فإرشاده التربوي هذا عن الهام رباني نابع من لدن إنسان هضم تعاليم السماء المنسجمة مع كل واقع وزمان ما بقیت الليالي والأيام، فهو علیه السلام المستنير بنور الهدى المحمدي والرشاد القرآني وهو علیه السلام بهذا أحق بالاتباع، قال تعالى: «أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» (79).

فالإمام علي علیه السلام حين يوصي الآباء بعدم فرض تقاليدهم وموروثاتهم على ابنائهم إذان لكل جيل خصائصه ومميزاته المنسجمة مع زمانه فهو علیه السلام يفسح

ص: 311

المجال لحرية الأبناء للأختيار من المنظومة الإسلامية المتكاملة، وفي الوقت ذاته نلحظ ضمناً ان الإمام علیه السلام يرشد الأبناء بعدم التقليد والاتباع الأعمى حتى لا تكون سُنة متبعة في التربية، ويحثهم على التحرر من ربقة تلك التقاليد التي لا تمت للعقيدة الإسلامية بصلة، وهذا المعنى عند الإمام علیه السلام واضح تأثره بكثير من النصوص القرآنية التي دعت الى نبذ هكذا تربية، بل وزجرت التقليد الاعمى للأبناء، وهذا ما نلحظه في قوله تعالى: «قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ» (80)، فاتباع التربية التي شرعها (العبيد، وتركوا ما شرعه رب العبيد، ورفضوا نداء التحرر من عبودية العباد للعباد، واختاروا عبودية العقل والضمير، للآباء والأجداد،..، فآباؤهم كذلك كانوا يتبعون ما شرعه لهم آباؤهم أو ما شرعوه هم لأنفسهم، ولا يركن أحد الى شرع نفسه أو شرع أبيه، وبين يديه شرع الله وسنة رسوله،..، وما يعدل عن شرع الله إلى شرع الناس إلا ضال جهول!) (81).

وفي جانب آخر من جوانب مبدأ الحرية ما نلحظه في القرآن الكريم، وفي قوله تعالى: «وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ» (82)، فمن مهام النبي صلی الله علیه و آله وسلم الرسالية هو تحرير الناس من نير العبودية، وبث روح التحرر في نفوسهم ونبذ الخنوع والذل والهوان، كل ذلك في تربية اجتماعية تنماز بها هذه الأمة عن غيرها من سالف الأمم إذا ما تمسکت بتعاليم السماء واتبعت ارشادات قادتها الملهمين، إذ (أنك إذا تأملت في حال الأمم كلهم قبل الإسلام لا تجد شرائعهم وقوانينهم وأحوالهم خالية من إصر عليهم، مثل تحريم بعض الطيبات في الجاهلية، ومثل تكاليف شاقة عند النصارى والمجوس لا تتلاقى مع الساحة الفطرية، وكذلك لا تجدها خالية من رهق الجبابرة، وإذلال الرؤساء، وشدة الأقوياء على الضعفاء، وما كان يحدث

ص: 312

بينهم من التقاتل والغارات، والتكايُل في الدماء، وأكلهم أموالهم بالباطل، فأرسل الله محمداً صلی الله علیه و آله وسلم بدین من شأنه أن يخلص البشر من تلك الشدائِد) (83).

ومن مبدأ التحرر التربوي وما أسسه القرآن الكريم من مهام الإنسان القيادي اتجاه أمته ومجتمعه، نلحظ هذا الأثر واضحاً جلياً في فكر الإمام علي علیه السلام وهو يمارس دوره القيادي اتجاه مجتمعه، وكيف يجعل من المجتمع أبّي للضيم وغير خانع، وهذا ما أراده القرآن الكريم في تحرير المجتمعات وتربيتها على الحرية المنضبطة، فيقول الإمام علیه السلام: (لقد أحسنت جواركم، وأحطت بجهدي من ورائكم، وأعتقتكم من ربق الذل، وحلق الضيم) (84)، فدفع علیه السلام عنهم ذلّ الأسر وظلم الأعداء، والمقصود حمايته علیه السلام لهم وتحريرهم من ذل عدوهم وضيق البؤس جراء ذلك الهوان الذي اصابهم من عدوهم، فأعزهم بان بصرهم بقيمة وجودهم وغاية التربية التي تنشدها السماء لهم بان يكونوا اعزة کرام، والإمام علیه السلام بهذا يكون أثراً متأثراً بشخصية رسول الله = القيادية في مهامها الرسالية كما مرّ بنا في مهام رسول الله، إذ يصنع مجتمع متربي على التحرر من كل انواع العبودية إذا ما التزم الأخير بمبدأ التربية بالحرية والاختيار ولم يكن مجتمع أمعه!

ومن ثم يتسامى المجتمع بهذا المبدأ التربوي، رافضاً كل اشكال العبودية، رافضاً إياها من ذاته التي تربت على أن الحرية جزء لا يتجزأ من كيانها، يقول الإمام علي علیه السلام: (ولا تكن عبد غيرك، وقد جعلك الله حرا) (85)، وهنا يحمّل الإمام علیه السلام (الإنسان مسؤولية نيل الحرية والمحافظة عليها، وكذلك نشر الوعي في ضمن الأمة، فحرية الإنسان لا توجد بقانون أو دستور ينظمان الحرية نظرياً وانما هي هبة إلهية لا يمتلك سلطان في الأرض أن نتزعها من الإنسان إلا خاطئاً يجب مواجهته ومقاومته) (86).

ص: 313

ثالثًا: مبدأ الرَفق التربوي:

معلوم ان الإمام علي علیه السلام كان شديداً في تربية نفسه، صارماً في تهذيبها، وهو القائل: (أفضل الأعمال ما أكرهت نفسك عليه) (87)، وقوله: (أفضل الأعمال أحمزها) أي اشتها واصعبها على النفس، وهو علیه السلام بهذا أراد (من الأعمال الصالحة، وأفضلها أنفعها وأكثرها استلزاما للثواب، وإنّما كان كذلك لأنّ فائدة الأعمال الصالحة تطويع النفس الأمّارة للنفس المطمئنّة ورياضتها بحيث تصير مؤتمرة للعقل وإكراه النفس على الأمر يكون لشدته فكلمَّا كان أشدّ كان أقوى في رياضتها وأنفع في تطويعها وكسرها وبحسب ذلك يكون أكثر منفعة فكان أفضل) (88).

إلا انه علیه السلام في مجال التعامل الاجتماعي تكون سلوكياته علیه السلام منطلقة من مبدأ تربوي آخر هو مبدأ الرفق، ومراعاة قدرات البشر ونفوسهم.

فنلحظه علیه السلام في وصيته لأبنه الإمام الحسن علیه السلام رفيقاً حنوناً في عباراته ووعظه، مشفقاً فياضاً بالرحمة، فيقول علیه السلام: (بني وجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني، وكأن الموت لو أتاك أتاني، فعناني من أمرك ما يعنيني من أمر نفسي فكتبت إليك...) (89)، کلمات نابعة من إنسانية جياشة بالودّ والعطف والرقة، والإمام علیه السلام لم يكتم هذا الحب الأبوي الفطري، وهكذا (كل والدیری و جود ولده امتداداً وتكراراً لوجوده، و قرة عين له ما كان ليحظى بها لو لم يوجد، هذه هي عاطفة الأبوين نحو الولد) (90)، لكن الإمام علیه السلام اظهره إلى ولده بهذه الكلمات ولم يبخل بها علیه کما لم يدخرها دونما نفع، وليس کما هو حال كثير من الآباء الذين ربما يخجلون من ابداء حبهم الفطري لبنيهم، فلا يعبرون بأي كلمات عن ذلك، فيكون الجفاف العاطفي في هكذا أسرة.

وبطبيعة الحال الإمام علي علیه السلام لم يكتف بالعبارات الحانية والرقيقة لولده حتى

ص: 314

جسدها بكلمات الوعظ والارشاد والنصح الحقيقي والحب الواقعي في اروع ما يكون من رفق، فنلحظه يقول علیه السلام: (فبادرتك بالأدب قبل أن يقسو قلبك ويشتغل لبك لتستقبل بجد رأيك من الأمر ما قد كفاك أهل التجارب بغيته وتجربته، فتكون قد کفیت مؤونة الطلب، وعوفيت من علاج التجربة) (91).

فالإمام علیه السلام يشفق على ولده من خطوب الدنيا وآفات الانحراف العقدي ولو على سبيل المستقبل، ومن باب الرفق لا يعاجل ولده بالعلوم حتى لا تنفر نفسه منها، ولا يتذمر من اسلوب الوعظ فيخالج نفسه الملل، وحين ذاك لا تنفع الموعظة ولا تثمر النصيحة، بل وان الإمام علي علیه السلام نبّه ولده من عاقبة عدم الالتزام بالوصية لما فيه من نتائج وخيمة وخسائر دنيوية وآخروية على شخصه، وواضح ان كلام المعصوم للمعصوم هو رسالة موجهة الى عامة الناس، وهي من الاساليب التربوي التي جاءت تحت عنوان: (إياك اعني واسمعي ياجاره).

فهذه الوصيّة عامّة تامّة أخرجها الإمام علي علیه السلام إلى ابنه الحسن علیه السلام وجمع فيها أنواع المواعظ والنصائح الكافية الشافية وصنوف الحكمة العملیّة الوافية، وكفى بها دستوراً إرشادياً لكلّ مسلم بل لكلّ إنسان، فكأنّه علیه السلام جرّد من نفسه الزكيّة والداً للكلّ أو نموذجاً لجميع الوالدين، وجرّد من ابنه الحسن علیه السلام ولداً لكلّ الأولاد أو نموذجاً لجميع الأبناء في أىّ بلاد، ثمّ سرد النّصائح ونظَّم المواعظ لتكون وصيّته هذا إنجيلاً لأمّة الإسلام.

يقول الشيخ ميثم البحراني في شرحه للمقطع المذكور من الوصية: (أي كنت رأيت أن اقتصر بك على ذلك ولا أتجاوز بك إلى غيره من العلوم العقليّة، ثمّ خفت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل ما التبس عليهم: أي التباساً مثل الالتباس عليهم فكان إحكام ذلك: أي ما اختلف الناس

ص: 315

فيه على ما كرهت من شبهك له أحبّ إلىّ من إسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة في الدين، وذلك الأمر هو ما اختلف الناس فيه من المسائل العقليّة الإلهيّة الَّتي يكثر التباس الحقّ فيها بالباطل، ويكتنفها الشبهات المغلَّطة الَّتي هي مظنّة الخطر والانحراف بها عن سبيل الحقّ إلى سبيل الهلاك، وإحكام ذلك الأمر ببیان وجه البرهان فيه وكيفيّة الخلاص من شبهة الباطل ومزاجه) (92).

وهكذا هو الأثر القرآني في فكر علي علیه السلام، انه منهج القرآن الحكيم في التربية مع الآخر المستحق للوعظ والارشاد، بان تنتقل التجربة من جيل إلى آخر، لتتحرك في وصایا بناءة للخير والاتزان والمسؤولية والصبر على مشاكل الحياة، أن يصوغ شخصية متوازنة من الداخل، وفي علاقته بالناس وبالحياة من حوله، وهكذا يكون الأب المسؤول في توجيه ولده نحو الاستقامة في الفكر والعمل، يقول تعالى: «وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ» (93)، ففي وصايا لقمان لأبنه تتجلى (الصورة الإنسانية الحميمة الرائعة، التي تمثل النموذج الأمثل للمسؤولية التي يتحملها الجيل القديم بالنسبة الى الجيل الجديد، في علاقة الآباء بالأبناء، فقد سبقوهم الى التجربة، في ما توحي به من المعرفة، والى التأمّل، في ما يوحي به من العلم، ولذلك فقد كان من الطبيعيّ للجوّ العاطفي الحميم أن يعمدوا الى اختصار المرحلة التي يحتاج الأبناء الى أن يقطعوها في وقت طويل، والى تقديم التجربة، وتحريك المعرفة في حياتهم، ليبدأوا بدايةً طيبةً من الموقع الثابت الصلب، القائم على بدايات الآخرين، لئلا يحتاجوا الى أن يرجعوا الى نقطة البداية) (94) في علاقاتهم الاجتماعية فيختزنون بمبدأ الرفق التربوي تجارب الآباء، ويختزلون أيام طوال ومحن لم يعيشوها بآلام واحزان نفوسهم، بل قدمت بطبق غيرهم، كل ذلك من أجل حياة اجتماعية هانئة مصونة بالحكمة والموعظة والتجربة.

ص: 316

وفي موضع آخر من التعامل مع الآخرين من غير أهل بيته علیهم السلام، نرى الرفق متجسداً أيضاً في فكر الإمام علي علیه السلام، وان الرفق مما تجني ثماره عاجلاً أو آجلاً وانه ينبه على ان الرفق أولى من العنف، إذ يقول موصياً أحد اصحابه: (وارفق ما كان الرفق أرفق، واعتزم بالشدة حين لا يغني عنك إلا الشدة) (95)، ومعنی کلامه علیه السلام أي (اعتدل في معاملتك مع الناس، لا شدة ولا لين، بل بين بين، على أن الرفق أسلم من العنف لدينك ودنياك، قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: (الرفق يمن ما وضع على شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه) (96)، ولا تستعمل العنف إلا للقضاء على العنف، وحيث لا يغني عنه شيء) (97).

ومعاني الرفق في القرآن الكريم وافرة، ووقع أثرها مما لا يخفى على فكر علي علیه السلام التلميذ القرآن وهو أولى الناس بالعمل بما جاء من تعاليم واساليب ومبادئ تربوية، ونختصر منها ما يفي بيانه في هذا المقام، يقول تعالى: «اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى» (98)، والعلّة في هذا الاسلوب في الأمر القرآني لنبييّن کريميّن بأن يُخاطبا فرعون بمبدأ الرفق واللين هو کما تقدم لأجل تثمير النصيحة وعدم نفوره من الوعظ، فمعنى الآية هنا: (أنّكما إذا واجهتماه بکلام لطيف، رقیق، ملائم، وتبيّنان في الوقت ذاته المطالب بصراحة وحزم، فيحصل أحد الإحتمالين: أن يقبل من صميم قلبه أدلتكما المنطقيّة ويؤمن، والإحتمال الآخر هو أن يخاف على الأقل من العقاب الإلهي في الدنيا أو الآخرة، ومن زوال ملکه وقدرته، فيذعن ويسلم ولا يخالفكما)) (99).

وفي موضع آخر من القرآن الكريم نلحظ هذا المبدأ التربوي - الرفق - حاضراً في وصيّة الله سبحانه لنبيه الكريم صلی الله علیه و آله وسلم في كيفية التعاطي مع الآخر المسيء، فيقول الله تعالى: «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ» (1..)، وفي ذلك ارشاداً تربوياً

ص: 317

في التعامل مع المجتمع بمقابلة الاساءة بالرفق واللين، وفي مبدأ الرفق (الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإحسان الى من يسئ إليه، ليستجلب خاطره، فتعود عداوته صداقة وبغضه محبة) (101).

ومن المعلوم ان التعامل الاجتماعي ليس مختصراً على القول اللفظي فقط، بل هذا من ضمنه وإلا فهو أوسع ويشمل كل ما فيه رفق کالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، معونة اليتامى والمساكين، إصلاح البيوت وذات البين، والنصيحة للكبير والصغير وغيرها من الجوانب العملية، وهذا ما نلحظه في تفسير قوله تعالى: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا» (102)، يقول محمد رشید رضا: (وليس معناه مجرد التلطّف بالقول والمجاملة في الخطاب؛ فالحسن هو النافع في الدين أو الدنيا، وهو لا يخرج عمّا ذكرنا فلما كان هذا النوع من الحقوق مستقلاً بذاته جاء بأسلوب آخر، ولا شك أن في القيام بهذه الفرائض إصلاح الأمّة كلّها) (103).

وهذه المعاني القرآنية الحاثة على مبدأ اللطف والرفق هي من أساسيات الهدي القرآني والارشاد للناس في التعامل اليومي، لما تنشده النصوص القرآنية من تعایش سلمي، ولا سيما لو كان مبدأ الرفق واللطف صادر من جهة حاكمة في الناس، إذ تكون اكثر قوة في ترسيخ هذا المبدأ فلا يكون مجرد شعارات لا مضمون لها ولا واقع عملي حقيقي في واقع الحياة، فنجد تجسد هذا المعنى في وصية الإمام علي علیه السلام الی وآليه على مصر الصحابي مالك الاشتر، فيقول له: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان إما أخ لك في الدين وإما نظير لك في الخلق يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه و صفحه) (104).

ص: 318

فهذه الكلمات النورانية المشعة بالحكمة والارشاد والتربية هي انعكاسات فعلية للأثر التربوي القرآني، في فكر الإمام علي علیه السلام، وهي في الوقت ذاته دعوة مفتوحة على مر الاجيال وتعاقب الازمان للحكام والولاة وكل من نصب نفسه للناس قائداً سواء كان تحت ولايته أهل بيته أو مؤسسة عامة، عليه ان يجعل هذا المبدأ أسٌ في تعاطيه مع مجريات الاحداث والوقائع.

رابعاً: مبدأ الاعتدال والوسطية:

الوسطية هي التوازن، والتوازن هو العدل، قال تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا» (105)، وسطاً في كل شئ، متوازنين في كل ما نقوم به من نشاط، فالوسطية التوفيق بين أشياء كثيرة، كالتوفيق بين مطالب الفرد الواحد، وبين مطالب الجموع، والتوفيق بين العمل للعاجلة والآجلة وهكذا، يقول محمد رشیدرضا: (إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك أن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تفریط وتقصير، وكلّ من الإفراط والتفريط ميل عن الجادّة القويمة، فهو شرّ ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي المتوسّط بينهما) (106).

وهذا الأثر القرآني في الوسطية نجده حاضراً في فكر الإمام علي علیه السلام، إذ يقول في نهج البلاغة: (اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادّة، عليها باقي الكتاب وآثار النبوة، ومنها منفذ السنة وإليها مصير العاقبة) (107)، فالوسطية هي الطريق الموصلة لسالكها إلى المطلوب وهي إرادة السماء، وذلك لأنّ طريق السّالكين إلى الله ينتهجون سبيل العلم والعمل، فالعلم طريق القوّة النّظرية، والعمل طريق القوّة العمليّة، وكلّ منهما محفوف برذيلتين هما طرفا التّفريط والافراط، والوسط منهما هو العدل والطريق الوسطى هي الجادّة الواضحة لمن اهتدى سبيل الرشاد، إذن (المنهج السوي الذي يجب شرعاً وعقلاً أن يسير عليه الأفراد والجماعة

ص: 319

هو القائم بين الإسراف والتقصير، فكل من هذين شر وفساد، وما بينهما خير وصلاح.. وقد رأينا الناس يحبون الرجل المعتدل في سلوكه وأعماله، ويثقون به ويصفونه بأوصاف الكمال والتقدير العاقل والمتزن، بل ويستشيرونه في المهمات من أمورهم، ولا وزن عندهم للمقصر أو المسرف، وان كان دماغه مخزناً للعلوم والآراء والأرقام) (108).

ولا يذهب الباحث بعيداً لو أراد ان يجد أثراً آخراً من آثار مقاصد الاعتدال القرآنية التربوية في فكر الإمام علي علیه السلام وفي قوله تعالى: «وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا» (109)، فهذه الآية الكريمة تعبير عن مجال تربوي فعلي، ولكنه يضم في طياته جانباً تربوياً حركياً في المجتمع معبراً عن كوامن النفس الإنسانية المستقرة، تعبير عن مشية معتدلة، فهم (يمشون على الأرض مشية سهلة هينة، ليس فيها تكلف ولا تصنع، وليس فيها خيلاء ولا تنفج، ولا تصعير خد ولا تخلع أو ترهل، فالمشية ككل حركة تعبير عن الشخصية، وعما يستكن فيها من مشاعر، والنفس السوية المطمئنة الجادة القاصدة، تخلع صفاتها هذه على مشية صاحبها، فيمشي مشية سوية مطمئنة جادة قاصدة، فيها وقار وسكينة، وفيها جد وقوة، وليس معنی: (يمشون على الأرض هوناً) أنهم يمشون متماوتين منکسي الرؤوس، متداعي الأركان، متهاوي البنيان؛ کما یفهم بعض الناس ممن يريدون إظهار التقوى والصلاح!) (110).

فهذه المشية المتزنة، ذات البُعد الفعلي والحركي في المجتمع، هي من دلالات الوسطية والاعتدال، لا بطئ مفرط ولا سرعة فيها تفريط، وكذلك هي علاقتنا في حياتنا الاجتماعية، يجب ان تكون بين السرعة الغلو والبطء التفريط، فأي علاقة اجتماعية يجب ان تكون وسطية معتدلة، وهذا المعنى القرآني واضح الأثر في

ص: 320

توصيات أمير المؤمنين علیه السلام، فيقول : (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) (111)، وذلك أن مفسدة إفراط المحبّة فلاستلزامه (اطَّلاع المحبّ لمحبوبه على أسراره وتوقيفه على أحواله فربّما ينقلب بعد ذلك عدوّا له فيكون أقدر على هلاكه من غيره من الأعداء، وكذلك مفسدة إفراط البغض وهو عدم الإبقاء على المبغوض وذلك يستلزم دوام المعاداة، فالاعتدال في ذلك أولى لأنّه ربّما عاد العدوّ إلى الصداقة فكان المبغض قد أبقى للصداقة موضعاً، وتقدير كبرى الأوّل: وكلّ حبیب جاز أن يكون عدوّا في وقت ما فينبغي أن لا يفرط في محبّته، وتقدير كبرى الثاني: وكلّ عدوّ جاز أن يكون صديقاً يوماً ما فينبغي أن لا يفرط في بغضه) (112).

واكمالاً للفائدة الاجتماعية في علاقتنا مع الآخرين، يوصينا الإمام علیه السلام على ضرورة مراعاة حق الصديق والحبيب وان لا تكون اهون علاقة يضيع فيها الالتزام والاحترام، فيقول الإمام علي علیه السلام: (ومن ظن بك خيراً فصدق ظنه، ولا تضيعن حق أخيك اتکالاً على ما بينك وبينه فإنه ليس لك بأخ من أضعت حقه) (113).

فالعلاقات الاجتماعية كثيراً ما تحدث القطيعة فيها، ولأسباب عديدة، ولكنها تستأنف مرة أخرى بحبل أقوى وأوثق إذا كان مع الهجر عقل (ومن ظن بك خیراً فصدق ظنه) من وثق بنُبلك فكن عند ثقته، فإنها قوة لك وثروة، والعكس صحيح أي من ظن بك شراً فكذّب ظنه بعمل الخير، (ولا تضيعن حق أخيك..)، فإن أراد مقاطعة أخيه أن يبقي له من نفسه بقيّة من صداقته ولا يفارقه مفارقة كلَّيّة (إذا هویت فلا تكن غالياً، وإذا تركت فلا تكن قالياً)، فللصداقة حرمتها، وللصديق حقوقه، ومبدأ الوسطية والاعتدال في العلاقة حُباً أو بُغضاً هو عون في حياة اجتماعية مستقرة وأساس يقيّني الخيبة والحسرة، ولا يجعل من الخسارة أبدية

ص: 321

ان كان مبدئاً تربوياً نتكأ عليه في كل علاقاتنا الاجتماعية.

ومن وسائل التنمية البشرية في المجتمع الإسلامي يثير الإمام علي علیه السلام جملة من التشخيصات التي تجعل للحياة بين الأفراد منسجمة في وئام، وينبه الى ان يستثمر الناس وجودهم بالدنيا بالنفع والبرّ وعمل الخير، يقول علیه السلام: (أيها الناس، أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام،..) (114)، فالدنيا في فكر الإمام علیه السلام (وسيلة، والهدف هو العمل لبناء مجتمع صالح، كما أراده الله ورسوله) (115).

کما وحذرت التعاليم والإرشادات الإسلامية من التفاعل الاجتماعي السلبي، ونهت عن جميع العوامل والمقدمات المؤدية إليه التي لا حصر لها، قال الإمام علي علیه السلام (لا تغضبوا ولا تغضبوا افشوا السلام واطيبوا الكلام) (116)، وما هو معلوم ما للغضب من نتائج وخيمة في العلاقات الاجتماعية، وما يترتب عليه من آثار سلبية لا تحمد عقباها، يقول الإمام علي علیه السلام في النصح بالابتعاد عن رذيلة الغضب: (واكظم الغيظ وتجاوز عند المقدرة، واحلم عند الغضب) (117)، وكذلك وجب الاجتناب عن سائر الأخلاق المذمومة التي نهت عنها تعاليم السماء واكدت على النهي عنها سنة المعصوم علیه السلام، من أجل بناء مجتمع محصن في داخله آمن في ظاهره، ومن حياة وتعايش آمن ومستقر.

إذن تتضمن المبادئ التربوية الإسلامية الى لم شعت الأفراد وربط قلوبهم وعواطفهم برباط متين ثابت لا يتغير ما دام الأفراد يتعهدونه بالالتزام وما ينتج عنه من سلوك عملي ومن وعي لظروف الحياة وتقديرها على وفق التصورات الإسلامية، فكل يعرف حقه فلا يتجاوز ويعرف واجبه فيؤديه على الوجه الاكمل (118).

ويتضح مما تقدم ان التفاعل الاجتماعي والتأثير المتبادل بين الأفراد أو

ص: 322

بين الجماعات هو عن طريق احتكاك الآراء وتبادل المشاعر والأذواق وتفاعل الممارسات، وفي الطباع والأمزجة، وفي الاستعدادات والاهتمامات، وفي الأخلاق والمشاعر ويتضح أيضاً ادراك المسؤولية الاجتماعية وتحديد السلوك في ضوء الموازين والمعايير الاجتماعية التي تحد لكل فرد دوره، ومن اشكال التفاعل الاجتماعي الايجابي والوانه: التعاون والتوافق لكي تتجذر العلاقات والوشائج فلا تنفصم لأول خاطر ولا تنفك لأول نزوة.

وأخيراً .. سيظل «نهج البلاغة» نبراساً مشعاً يهندي بنوره السائرون، وينهل منه المنتهلون، ولن يستطيع الضباب مهما تكاثف حجمه واتسع امتداده ان يحجب الشمس عن العيون.

ص: 323

خاتمة ونتائج:

1. ان اهداف النصوص القرآنية هو تربية الإنسان، وان هذا الهدف واضح جلي في فكر الإمام علي علیه السلام من خلال نهج البلاغة.

2. من اهداف التربية الإصلاح والتهذيب، حيث تُبذل جهودٌ كبيرة ومستمرة لرعاية الإنسان، وإصلاح أحواله، وعدم إهماله، بدءاً من الأسرة، مروراً بالمدرسة، ودور العلم، ووعظ العلماء، وقراءة الكتب، وسماع البرامج الهادفة... وهذا وغيره يساعد في إصلاحه، وإثراء نفسه بالعلم المفيد، والنهج السديد، إذ يرتبط طلب العلم بمناهج التربية، مما يعطي الإنسان مع مرور الوقت خبرات ومهارات وتوجيهات، تساعده على تحقيق أهدافه في الحياة، فللتربية دورها الرائد، وأثرها العميق في توجيه ميول الإنسان، وربطه بالأخلاق الحميدة، والعلاقات الإنسانية الراقية، وكبح جماح الشهوات، ورفع القوي نحو الخير والصواب.

3. ان المبدئ التربوية دين ملتزم به، بل هي أصل من أصول المنهاج الإلهي، وليست مجرد فضائل فردية، أو آداب اجتماعية، أو أذواق حضارية.. الخ.

4. ان الفكر الإنساني مهما تعمق وأحاط وشمل يظل غير قادر على التبصر الكامل بحقيقة الإنسان الذي هو موضوع التربية، بينما خالق هذا الإنسان هو الاعلم به، وهو الادري بهذه الحقيقة، وفقا لهذه القاعدة التي تؤكد لنا ان صانع الشي هو الأعلم بما يجب أن يكون عليه. وتأسياً عليها يتحتم علينا الأن أن نربي ونعلم وأن ننشئ أجيالنا وفقاً لهذا التصور الذي نجده في مصدري الإسلام الاساسيين وهما القرآن الكريم وسنة المعصوم.

ص: 324

5. التربية في فكر الإمام علي علیه السلام تربية مستندة على نصوص قرآنية، فهي بالتالي متأثرة بها، ونابعة منها، فهي تربية مثالية في عقيدتها وواقعية في معاملاتها لأنها تتعامل مع إنسان يعيش على ظهر الأرض، لامع إنسان خيالي، أي انها تبدأ بالإنسان من حيث هو إنسان، ثم تعمل على ايصاله الى كماله الإنساني، فالمبادئ التربوية لا تعمل في فراغ بل انها تتفاعل مع ما غرسه الله سبحانه وتعالى في طبيعة الإنسان، والتربية الإسلامية عملية لان الكون الذي يتفاعل معه الفرد حقيقة موضوعية لا فكرة مجردة.

6. تحقيق المبادئ التربوية أساس من أسس بناء المجتمع المسلم وهي مسؤولية الدولة المسلمة ووظيفة من وظائفها باعتبارها مكلفة من هذا المجتمع بالقيام على مصالحه والحفاظ على مقوماته.

هوامش البحث:

1. نهج البلاغة، شرح: محمد عبده، 2/ 34.

2. عبد الوهاب أبو سليمان، البحث العلمي، ص 25

3. وقد كانت لمشاورة الدكتور نعمه الاسدي سهم وافر في تحديد عنوان البحث، والتشجيع للمشاركة، فله مني الشكر والثناء.

4. ظ: أميرة برغل، المبادئ والأساليب التربوية في نهج البلاغة دراسة مقارنة -، ص 193.

5. ظ: د. مقداد يالجن، جوانب التربية الإسلامية الاساسية، ص 23.

6. عبد الوهاب أبو سليمان، البحث العلمي، ص 25.

7. ظ: سعيد اسماعيل علي، اصول التربية العامة، ص 15.

8. ظ: لطفي بركات احمد، التربية ومشكلات المجتمع، ص 1.

9. نهج البلاغة، شرح: محمد عبده، 3/ 312.

10. المصدر نفسه.

11. محمد الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب ع في الكتاب والسنة والتاريخ، 9/ 140.

ص: 325

12. محمد الريشهري، ميزان الحكمة، 3/ 1881.

13. المصدر نفسه، 3/ 1876.

14. سورة ص، 172.

15. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1/ 120.

16. سورة الاعراف، 172.

17. ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 5/ 196، وللتوسعة في هذه الآراء ظ: الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، 5/ 27، الرازي، مفاتيح الغيب، 15/ 39، الطبرسي، مجمع البيان، 281/4، محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 8/ 265، واما الشريف المرتضى فقد نفاه، ظ: أمالي المرتضى، 1/ 28.

18. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1/ 23.

19. الطبرسي، مجمع البيان، 4/ 281.

20. في ظلال القرآن، 3/ 1391.

21. قرائنها: جمع قرون وهي النفس.

22. أحنائها: جمع حنو وهو الجانب.

23. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1 / 40.

24. مجمع البيان، 281/4.

25. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1/ 158.

26. سورة الانعام، الآية 103.

27. سورة البقرة، الآية 29.

28. سورة البقرة، الآية 115.

29. سورة آل عمران، الآية 120.

30. سورة الانعام، الآية 73.

31. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 210/1.

32. ميثم البحراني (ت 679 ه)، شرح نهج البلاغة، 519/3.

33. سورة التوبة، الآية 105.

34. محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 9/ 334.

35. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1/ 159.

ص: 326

36. سورة البقرة، الآية 186.

37. سورة هود، الآية 61.

38. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، 288/11.

39. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 2/ 169.

40. سورة الحشر، الآية 18.

41. سورة القلم، الآية 34.

42. سورة البقرة، الآية 197.

43. ناصر مکارم الشيرازي، الامثل في تفسير كتاب الله المنزل، 401/18.

44. في رحاب نهج البلاغة، ص 152 - 155.

45. برز الرجل على أقرانه أي فاقهم. والمهل: التقدم في الخير، أي فاق تقدمه إلى الخير على تقدم غيره، اهتبل الصيد: طلبه، وكلمة الحكمة: اغتنمها، والضمير في هبلها للتقوى لا للدنيا، أي اغنموا خير التقوى.

46. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 2/ 15.

47. المصدر نفسه، 1/ 48.

48. سورة الأعراف، الآية 128، سورة هود، الآية 49، سورة القصص، الآية 83

49. سورة ص، الآية 49.

50. محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن، 19/ 278.

51. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 2/ 135.

52. سورة الحجرات، الآية 13.

53. سید قطب، في ظلال القرآن، 6/ 3348.

54. سورة الطلاق، الآية 2.

55. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 2/ 112.

56. محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، 3/ 30.

57. سورة الحديد، الآية 23.

58. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 102/4.

59. في ظلال نهج البلاغة، 4/ 282.

60. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 7/4.

ص: 327

61. سورة البقرة، الآية 200 - 202.

62. محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 2/ 68.

63. الزمخشري (ت 538 ه)، الكشاف، 1/ 276، البيضاوي (ت 791 ه)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، 1/ 182، محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، 2/ 71.

64. ظ: الصلة بين التصوف والتشيع، ص 44.

65. المتقي الهندي، كنز العمال، 626/11، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، 166/9.

66. البلاذري، انساب العرب، 6/ 167، ابن ابي الحديد، شرح نهج البلاغة، 3/ 55.

67. سورة البقرة، الآية 30.

68. ظ: د. عبد الرضا حسن جياد، بحوث في العقيدة والتصوف، ص 157.

69. محمد رشيد رضا، تفسير المنار، 1/ 230.

70. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1/ 177.

71. سورة ص، الآية 26.

72. ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 361/14.

73. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 32/4. آذنت: بمد الهمزة أي أعلمت أهلها ببينها أي ببعدها وزوالها عنهم، ونعاه إذا أخبر بفقده، والدنيا أخبرت بفنائها وفناء أهلها بما ظهر من أحوالها.

74. ظ: ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 5/ 433.

75. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 4 / 78.

76. ظ: ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 5/ 479. الوزعة: الوازع وهو الرادع المانع.

77. نهج البلاغة، شرح بن ابي الحديد، 20/ 267.

78. علي صوت العدالة الإنسانية، 1/ 344.

79. سورة يونس، الآية 35.

80. سورة المائدة، الآية 104.

81. سيد قطب، في ظلال القرآن، 2/ 991.

82. سورة الاعراف، الآية 157.

83. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، 8/ 319.

84. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 2/ 55.

85. المصدر نفسه، 3/ 51.

ص: 328

86. د. غسان السعد، حقوق الإنسان عند الإمام علي ع، ص 119.

87. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 4 / 54.

88. ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 5/ 460.

89. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 3/ 41.

90. محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، 3/ 302.

91. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 3/ 38.

92. شرح نهج البلاغة، 5/ 263.

93. سورة لقمان، الآية 13.

94. محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن، 18/ 189.

95. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 3/ 41.

96. الكليني، الكافي، 2/ 119.

97. محمد جواد مغنیه، شرح نهج البلاغة، 4/ 17.

98. سورة طه، الآية 44.

99. ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، 6/10.

100. سورة المؤمنون، الآية 96.

101. سعيد حوى، الأساس في التفسير، 7/ 3663.

102. سورة البقرة، الآية 83.

103. تفسير المنار، 1/ 321.

104. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 3/ 84.

105. سورة البقرة، الآية 143.

106. تفسير المنار، 2/ 6.

107. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 1/ 50.

108. محمد جواد مغنيه، في ظلال نهج البلاغة، 1/ 94.

109. سورة الفرقان، الآية 63.

110. سيد قطب، في ظلال القرآن، 5 / 2577.

111. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 4/ 64.

112. ميثم البحراني، شرح نهج البلاغة، 5/ 465.

ص: 329

113. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 3/ 54.

114. نهج البلاغة، شرح ابن ابی الحدید، 1/ 130.

115. محمد جواد مغنية، شرح نهج البلاغة، 3/ 68.

116. الكليني، الكافي، 2/ 645.

117. نهج البلاغة، شرح محمد عبده، 3/ 129.

118. ظ: عبد الرحمن النحلاوي، أصول التربية الإسلامية واساليبها، ص 122.

ص: 330

المصادر والمراجع

خير ما نبدأ به: القرآن الكريم

1. امل مهدي كاظم التميمي، الفكر التربوي العربي لدى ابن خلدون وعبد الله ابن الازرق، رسالة ماجستير، كلية التربية (ابن رشد)، جامعة بغداد، 2003 م.

2. أميرة برغل، المبادئ والأساليب التربوية في نهج البلاغة - دراسة مقارنة -، دار اله-ادي، بيروت، 2005 م.

3. البلاذري، انساب العرب، دار الفكر، بيروت، (د ت).

4. البيضاوي (ت 791 ه)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، مؤسسة الاعلمي، بيروت، 1990 م.

5. جورج جرداق، علي صوت العدالة الإنسانية، دار ذوي القربى، قم، ط 2، 1424 ه.

6. الرازي (ت 604 ه)، مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 3، 2009 م.

7. الزمخشري (ت 538 ه)، الكشاف، دار احياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 2001 م.

8. سعيد حوى، الأساس في التفسير، دار السلام، بيروت، 1989 م، ط 2.

9. سيد قطب، في ظلال القرآن، دار الشروق، بيروت، ط 34، 2004 م.

10. الشريف المرتضى (ت 436 ه)، أمالي المرتضى، تحقيق: محمد ابو الفضل إبراهيم، دار ذوي القربى، قم، 1435 ه.

11. الطبرسي (ت 548 ه)، مجمع البيان، دار الاميرة، بيروت، 2009 م.

ص: 331

12. الطوسي (ت 460 ه)، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق: أحمد حبيب العاملي، دار الأميرة، بيروت، 2010 م.

13. ابن عاشور، تفسير التحرير والتنوير، مؤسسة التاريخ، بيروت، (د ت).

14. عبد الرحمن النحلاوي، اصول التربية الإسلامية واساليبها، دار الفكر المعاصر، دمش-ق، 1999 م.

15. عبد الرضا حسن جياد (الدكتور)، بحوث في العقيدة والتصوف، شركة المارد العالمية، النجف الأشرف، 2008 م.

16. عبد الوهاب أبو سليمان، البحث العلمي، دار المعارف، 1987 م.

17. غسان السعد (الدكتور)، حقوق الإنسان عند الإمام علي ع، العتبة العلوية المقدسة، قسم الشؤون الفكرية والثقافية، 2010 م، ط 2.

18. كامل مصطفى الشيبي، الصلة بين التصوف والتشيع، طبع القاهرة، 1969 م.

19. الكليني (ت 329 ه)، الكافي، دار الكتب الإسلامية، ايران، ط 5، 1363 ه ش.

20. لطفي بركات احمد، التربية ومشكلات المجتمع، مطابع سجل العرب، القاهرة، 1978 م.

21. محمد الريشهري، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب ع في الكتاب والسنة والتاريخ، تحقيق: مركز بحوث دار الحديث، الناشر: دار الحديث للطباعة والنشر، ط 2، مط: دار الحديث، 1425 ه.

ص: 332

22. محمد جواد مغنية، في ظلال نهج البلاغة، دار التيار، بيروت، 2013 م.

23. محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن، دار الكتاب العربي، بغداد، 2009 م.

24. محمد حسين فضل الله، تفسير من وحي القرآن، دار الملاك، بيروت، ط 3، 2007 م.

25. محمد رشيد رضا، تفسير المنار، دار احياء التراث العربي، بيروت، 2010 م.

26. محمد عبده، شرح نهج البلاغة، دار الذخائر، قم، 1412 ه.

27. مرتضى المطهري، في رحاب نهج البلاغة، ترجمة: هادي اليوسفي، دار التبليغ الإسلامي، بيروت، 1978 م.

28. مقداد يالجن (الدكتور)، جوانب التربية الإسلامية الاساسية، 1406 ه، (د ط).

29. محمود البستاني (الدكتور)، دراسات في علم النفس الاسلامي، دار البلاغ، بيروت، 1988 م.

30. ميثم البحراني (ت 679 ه)، شرح نهج البلاغة، منشورات الفجر، بيروت، (د ت).

31. ناصر مكارم الشيرازي، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، دار احياء التراث العربي، بيروت، ط 2، 2005 م.

ص: 333

ص: 334

المرأة في نهج البلاغة الروايات الموافقة للقرآن الكريم دراسة تقابلية م. د. أنوار عزيز جليل جامعة البصرة كلية التربية للعلوم الإنسانية

اشارة

ص: 335

ص: 336

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير السادات أجمعين، أبي الزهراء محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وردت في نهج البلاغة روايات ذكرت المرأة على لسان الإمام علي (ع)، وعند قراءتها للوهلة الأولى نجدها تسيء للمرأة، هذا إذا أخذناها بمعناها الظاهر، ولكن بعد مقابلتها بالقرآن الكريم، اقتداءً بقول الإمام علي (عليه السلام) الذي ذكره في نهجه: «وَاعلَمُوا أَنَّ هذَا القُرآنَ هُوَ النَّاصِحُ الَّذِي لا يَغُشُّ، وَالهَادِي الَّذِي لا يُضِلُّ، وُالمُحَدِّثُ الَّذِي لا يَكذِبُ» (1). كان له الأثر الأكبر في إزالة الغموض وتوضيح المقصود.

ويذلك وجدنا أن هذه الروايات لم تقلل من قيمة المرأة بقدر ما رفعت من مكانتها، لأنها قد صانت المرأة وحفظت حقوقها وحقوق غيرها من خلال النظر إلى طبيعتها النفسية والفسلجية، كما في قضية الشهادة.

ونتيجة استغلال أعداء الإسلام هذه الروايات للنيل من الإسلام أولاً، على اعتبار أن الإمام علي (عليه السلام) يؤخذ على الإسلام، وللإيقاع بالمرأة ثانياً، كي تفقد ثقتها في دينها، بدعوى أن الإسلام ينتقص من المرأة، لذا كانت هذه الوقفة مع نهج البلاغة.

ولما كان البحث قد استقرئ ما يدل على المرأة في النهج كله، واتخذ الاستدلال الآيوي (القرآن الكريم حكماً فيصلاً في توضيح الرواية وبيانها، ومعيناً دائماً في

ص: 337

تأكيدها ودعمها، نتيجة لمقابلتها به جاء هذا البحث الخاص بالروايات الموافقة للقرآن الكريم.

الروايات الموافقة للقرآن الكريم

جاءت الروايات الموافقة للذكر الحكيم في سبعة مواضع وكما يأتي:

1- من خطبة له وقد قالها يستنهض بها الناس حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية فلم ينهضوا، وفيها يذكر فضل الجهاد، ويستنهض الناس، ويذكر علمه بالحرب، ويلقي عليهم التبعة لعدم طاعته ((... يَا أَشبَاهَ الرِّجَالِ وَلا رِجَالَ! حُلُومُ الأطفَالِ، وَعُقُولُ رَبّاتِ الحِجَال)) (2). نلاحظ هنا أنه ((شبّههم بالرجال شكلاً وهيئة، ثُمّ نفى عنهم الرجولة باعتبار أنهم فقدوا الغيرة والحمية، ووصف أحلامهم بأحلام الأطفال، يريدون الأمور بدون تعب، كما وصفهم بصفات النساء العاجزات، ربات الحجال: النساء، والحجال: جمع حجلة، بيت يزين بالستور والثياب والأسرة)) (3). والتشبيه من أساليب البيان البلاغية (4).

والكلام ليس من الذم في شيء، وإنما هو حقيقة في كليهما، أي في الأطفال النساء. ودليله قوله تعالى: «أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ» (5). وإنما نعتها المولى سبحانه بهاتين الصفتين: التربية في الزينة، وفي المخاصمة غير مبيّنة لحجتها، لأن المرأة أقوى عاطفة من الرجل، ومن أوضح مظاهر قوة عاطفتها تعلقها الشديد بالحلية والزينة (6). فمن كانت هكذا صفاتها كيف ستقود حروب وتحل نزاعات. وهذا يعني أن المقصود بربّات الحجال في خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) هو: من ينشأ في الحلية الذي ورد في الآية الكريمة.

وقولنا بعاطفتها الشديدة هذه ليست ذماً لها، بل على العكس من ذلك، فالله

ص: 338

عظُمت آلاؤه جعل لكل من الرجل والمرأة مؤهلات تستمر بها الحياة، فأعطى الرجل الحنكة والعقل لقيادة الأمور العصيبة، ووهب المرأة العاطفة والحنان لتحتضن بها أطفالها وأسرتها. إلا أنه في الوقت نفسه تبقى هذه الأمور نسبية عند كليهما، أي عند الرجل والمرأة.

2- جاء في خطبة له (عليه السلام) يعنونها الشريف الرضي بقوله: ومن كلام له (عليه السلام) بعد فراغه من حرب الجمل في ذم النساء: ((مَعَاشِرَ النَّاسِ، إِنَّ النِّسَاءَ نَوَاقِصُ الإيِمَانِ، نَوَاقِصُ الحُظُوظِ، نَوَاقِصُ العُقُولِ: فَأَمَّا نُقصَانُ إِيمَانِهِنَّ فَقُعُودُهُنَّ عَنِ الصَّلاةِ وَالصِّيَامِ فِي أَيَّامِ حَيضِهِنَّ، وَأَمَّا نُقصُانُ عُقُولِهنَّ فَشَهَادَةُ امرَأَتَينِ مِنهُنّ كَشَهَادَةِ الرَّجُلِ الوَاحِدِ، وَأَمَّا نُقصَانُ حُظُوظِهِنَّ فَمَوَارِيثُهُنَّ عَلَى الأنصَافِ مِن مَوارِيثِ الرِّجَالِ؛ فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ، وَكُونُوا مِن خِیَارِهِنَّ عَلَى حَذَر، وَلَا تُطِيعُوهُنَّ فِي المَعرُوفِ حَتَّى لَا يَطمَعنَ فِي المُنكَرِ)) (7).

ويرى البحث أن الشريف الرضي قد جانب الصواب في عنوانه هذا، وذلك لأنه سيتبين لنا أن الخطبة قد استندت على القرآن الكريم واعتمدت عليه، فهل من الطبيعي القول بأن القرآن الكريم ذم المرأة أو انتقص منها أم أنه دافع عنها وأنصفها. ثُمّ أن الإمام (عليه السلام) قد بيّن حقيقة كل نقص.

فقوله (عليه السلام) في توضيح معنى نواقص الإيمان فقد أيدته الآية المباركة: «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ» (8)، والصلاة والصيام لا يتحققان إلا بالطهارة، والحيض مناف للطهارة.

أما قوله: نواقص الحظوظ وتفسيره إياها بأن مواريثهن أنصاف مواريث الرجال، فقد دلّ عليه قوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» (9)، وليس في هذا التشريع حطاً من قيمة المرأة، ولا تهاوناً في كرامتها كما

ص: 339

يقول أعداء الإسلام الذين نادوا بالمساواة، ونظروا إلى هذا التشريع من منطلق جزئي وليس من منطلق كلي. فنظرية الاقتصاد الإسلامي لم تُكبد المرأة أي أعباء مالية مثلما تُكبد الرجل، فالمرأة قبل زواجها قد تكفل الأب برعايتها والإنفاق عليها. أما بعد زواجها فإن الزوج هو المسؤول عن الإنفاق عليها سكناً، وطعاماً وزينة (10). أي أن دخل الرجل يصرفه كله على المرأة، وبغير هذا التمايز في الميراث لا تتحقق العدالة. وعلى ذلك فإن موقف الإسلام من المرأة ليس موقف تفضيل وإنما موقف تفصيل وتقسيم الواجبات والحقوق. هذا في حين أن قانون الإسلام يضع الجنة تحت أقدامها ((الجنة تحت أقدام الأمهات))، فهل يوجد تفضيل أكثر من ذلك. ثم كيف نفسر تساوي الرجل مع المرأة في بعض حالات الشهادة؟ وزيادتها عليه في حالات أخرى إلى حدّ ثلاثة أضعاف؟ (11).

والحقيقة أن مسألة المساواة في كل شيء غير واردة وغير ممكنة في نواميس الطبيعة، كما في مسألة الزواج، فالرجل نعطيه حق الزواج بأربع في حالات معينة، ولكن هل يمكن أن نعطي هذا الحق للمرأة؟ طبعاً لا، بل هي لا ترضاه، لأن النسل حينئذ يضيع ويختلط، ولن يعرف الولد أباه، وتضيع العواطف، ويضيع الجو الأسري بضياعها (12).

أما نقصان عقولهن: فقد بيّنه بقوله: فشهادة امرأتين منهن كشهادة الرجل الواحد. وهذا ما أوضحته الآية القرآنية الآتية: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى» (13)، والاستشهاد الآيوي لم يعلل شهادة المرأتين مقابل شهادة الرجل الواحد لأنها نصف الرجل أو للانتقاص منها كما حاول البعض أن يصورها، وإنما علل ذلك بقوله: «أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى». فقد أثبت الطب

ص: 340

الحديث بأن الغدة الدرقية عند المرأة أضخم مما هي عند الرجل، والمرأة تتأثر بالحمل والولادة وحالات الطمث، فتؤثر على الجانب النفسي عندها، وأحياناً على ذاكرتها، مما يؤدي إلى ضياع حقوق الناس، والذي قد يؤدي إلى سلبيات أكبر كالقتل. فضمّ المرأة إلى المرأة لتذكر إحداهما الأخرى شيء طبيعي، كما هي الحال في ((ضم الرجل إلى الرجل في الشهادة في البيّنة التي لابدّ فيها من رجلين عادلين. وهذا لا يفيد النقصان في الرجل الواحد في مقام الشهادة من حيث طبيعة العقلية أو الإنسانية)) (14).

كما أن المشرع الإسلامي تعامل مع الشهادة من خلال خصوصیات تتعلق بموضوع الشهادة نفسه لا بالمرأة، وذلك في موضع الديون ومطلق الأموال (15)، کما هو مصرح به في الآية الكريمة أعلاه. وإلا ففي المواضع التي تتعلق بحالات النساء کالبكارة، والولادة، والرضاع، وعيوب النساء الباطنية، وكل ما لا يجوز للرجال النظر إليه يُعتمد على شهادتها وحدها منفردة دون الرجال (16). وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو: لماذا لا يقول المغرضون أن هذا انتقاصاً وانتهاكاً لحق الرجل؟!.

أما قوله: (فَاتَّقُوا شِرَارَ النِّسَاءِ) فهذا الأمر لا يحتاج إلى تعليق، فالشر بعينه مذموم، وفاعله مثله سواء أكان رجلاً أو امرأة.

أما كلامه الأخير: (وَکُونُوا مِن خِيَارِهِنَّ عَلَى حَذَر، وَلَا تُطِيعُوهُنَّ فِي المَعرُوفِ حَتَّى لَا يَطمَعنَ فِي المُنكَرِ) فإنه مطابق لقول الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله): ((عظوهنّ بالمعروف قبل أن يأمرنكم بالمنكر، وتعوذوا بالله من شرارهنّ، و کونوا من خيارهن على حذر)) (17)، والاختلاف واضح بين الحديثين، فربما كان قول الإمام (عليه السلام) هو حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) نفسه، لكنّه غُير أو بُدلّ أو حُرف أثناء نقل الرواة ونسخ الكُتاب. وهذا النص لا يخص النساء

ص: 341

بقدر ما يخص الرجال، فهو تهذیب لنفوسهم وترويض لطباعهم في تعاملهم مع المرأة، وهذ ما اتفقت عليه الشروح جميعاً، إذ ليس المراد من قوله (عليه السلام) النهي عن فعل المعروف لمجرد أمرهنَ به، لأن في ترکه مخالفةً للسنة الصالحة، ولاسيّما إن كان المعروف من الواجبات. وإنما هو نهي عن طاعتهن، أي لا تفعلوه لأجل أمرهن لكم به، بل افعلوه لأنه معروف (18).

3- ومن وصيّته لعسكره قبل لقاء العدو بصفين: ((لاَ تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّی یَبْدَءُوکُمْ فَإِنَّکُمْ بِحَمْدِ اَللَّهِ عَلَی حُجَّةٍ وَ تَرْکُکُمْ إِیَّاهُمْ حَتَّی یَبْدَأُوکُمْ حُجَّةٌ أُخْرَی لَکُمْ عَلَیْهِمْ فَإِذَا کَانَتِ اَلْهَزِیمَةُ بِإِذْنِ اَللَّهِ فَلاَ تَقْتُلُوا مُدْبِراً وَ لاَ تُصِیبُوا مُعْوِراً وَ لاَ تُجْهِزُوا عَلَی جَرِیحٍ وَ لاَ تَهِیجُوا اَلنِّسَاءَ بِأَذًی وَ إِنْ شَتَمْنَ أَعْرَاضَکُمْ وَ سَبَبْنَ أُمَرَاءَکُمْ فَإِنَّهُنَّ ضَعِیفَاتُ اَلْقُوَی وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلْعُقُولِ إِنْ کُنَّا لَنُؤْمَرُ بِالْکَفِّ عَنْهُنَّ وَ إِنَّهُنَّ لَمُشْرِکَاتٌ وَ إِنْ کَانَ اَلرَّجُلُ لَیَتَنَاوَلُ اَلْمَرْأَةَ فِی اَلْجَاهِلِیَّةِ بِالْفَهْرِ أَوِ اَلْهِرَاوَةِ فَیُعَیَّرُ بِهَا وَ عَقِبُهُ مِنْ بَعْدِهِ)) (19). والفهر: الحجر، والهراوة: العصا (20). ونعتقد أن الكلام السابق ينطبق عليها، فهو يبيّن ماهيّة ضعيفات القوى والأنفس والعقول. ((وهو يشير أيضاً من طرف آخر إلى ضعف المرأة واستعمالها السلاح الذي يدل على ذلك، أي الشتم والسب، وهو ما يتوائم مع طبيعتها التكوينية))(المجلة: 136)

وفي هذا النص بیان واضح لكيفية معاملة المرأة في الجاهلية، وبيان لمظلوميتها والواقع الفاسد الذي كانت تعيشه، استخدام لغة الشدة والضرب والأساليب العنيفة ضدها (21).

ولنا أن نضيف تعليقاً بسيطاً يناسب المقام ذكره، وذلك في الأمر بالكف عن التعرض للنساء حتى وإن کن مشركات، ف ((هذه هي تعاليم الإسلام، ولذا أسندها الإمام إلى نبي الرحمة بقوله: (إِن کُنَّا لَنُؤمَرُ - أي كان رسول الله يأمرنا -

ص: 342

بالكف عنهن وإنهن لمشركات))) (22). وهذا ما أكده الشيخ محمد عبده بقوله: ((هذا حكم الشريعة الإسلامية، لا ما يتوهمه جاهلوها، من إباحتها التعرض الأعراض الأعداء، نعوذبالله)) (23).

4- ومن خطبة له يذكر فيها نبي الله عیسی بن مریم (عليهما السلام): ((وَ إِنْ شِئْتَ قُلْتُ فِی عِیسَی بْنِ مَرْیَمَ فَلَقَدْ کَانَ یَتَوَسَّدُ اَلْحَجَرَ وَ یَلْبَسُ اَلْخَشِنَ وَ یَأْکُلُ اَلْجَشِبَ وَ کَانَ إِدَامُهُ اَلْجُوعَ وَ سِرَاجُهُ بِاللَّیْلِ اَلْقَمَرَ وَ ظِلاَلُهُ فِی اَلشِّتَاءِ مَشَارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغَارِبَهَا وَ فَاکِهَتُهُ وَ رَیْحَانُهُ مَا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ لِلْبَهَائِمِ وَ لَمْ تَکُنْ لَهُ زَوْجَةٌ تَفْتِنُهُ وَ لاَ وَلَدٌ یَحْزُنُهُ وَ لاَ مَالٌ یَلْفِتُهُ وَ لاَ طَمَعٌ یُذِلُّهُ دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ وَ خَادِمُهُ یَدَاهُ))(24). فهو (عليه السلام) في قوله هذا لا يذم المرأة، وإنما يذكر مفاتن الدنيا وملذاتها، فهو غير خارج عن القرآن الكريم بشيء، إذ يكفي أن نعرضه على قوله تعالى في محكم كتابه: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» (25)، وهذه الآية المباركة تغنينا عن الشرح والتحليل.

5- ومن خطبة له في توحيد الله تعالى: «لَمْ یَلِدْ فَیَکُونَ مَوْلُوداً، وَلَمْ یُولَدْ فَیَصِیرَ مَحْدُوداً، جَلَّ عَنِ اتِّخَاذِ الْأَبْنَاءِ، وَطَهُرَ عَنْ مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ» (26). المراد بالمولود المتولد عن غيره سواء أكان بطريق التناسل المعروف، أو كان بطريق النشوء کآدم (عليه السلام) الذي تولد من الأرض بقدرة الله تعالى، والنبات الذي تولد عن العناصر في الأرض أيضاً بقدرة الله تعالى. ومن ولد له كان متولداً بإحدى الطريقتين (27).

وبما أن المولى سبحانه منزه عن الولد فإنه كذلك منزه عن الصاحبة، لذا سنأخذ قوله (عليه السلام): (وَطَهُرَ عَن مُلاَمَسَةِ النِّسَاءِ) خارجاً عن سياقه

ص: 343

والمناسبة التي قيل فيها. فقوله (عليه السلام) ليس انتقاصاً أو إهانة للمرأة، وإنما هو كناية عن الجماع، وهذا يعني أن الجماع يحتاج إلى تطهير، وهو مطابق للقرآن الكريم، قال تعالى: «وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» (28). فقوله جلّ وعلا: ((أو لامستم النساء)... كناية عن الجماع أدباً صوناً للسان من التصريح بما تأبى الطباع عن التصريح به)) (29).

6- وفي حكمه ومواعظه قال (عليه السلام): ((غَیْرَةُ اَلْمَرْأَهِ کُفْرٌ وَ غَیْرَةُ اَلرَّجُلِ إِیمَانٌ)) (30). لهذا القول وجهان؛ الأول: أن المراد بالكفر هنا المعنى الحقيقي للكفر، لأن المرأة إذا غارت حرمت على زوجها ما أحله الله له من تعدد الزوجات، فقد تأخذها الغيرة إلى إنكار تشريع ذلك فيؤدي إلى الكفر (31)، ((وأيضاً فإن المرأة قد تؤدي بها الغيرة إلى ما یکون کفراً على الحقيقة كالسِّحر، فقد ورد في الحديث المرفوع أنه كفر)) (32).

وأما غيرة الرجل على المرأة فإنها حالة طبيعية، لأنها عنده من الإيمان، لأنها نهي عن المنكر، أي التهتك والفجور، شريطة أن لا تتعدى الغيرة حدها المعقول، وهذا ما نستوحيه من كلمة الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لابنه الإمام الحسن (عليه السلام): ((اِيّاكَ والتّغايُرَ فى غَيرِ مَوضِعِ غَيْرَةٍ، فَإنَّذلِكَ يَدْعُو الصَّحيحَةَ اِلَى السَّقَمِ، وَالْبَريئَةَ اِلَى الرِّيبِ)) (33)، أي أن الغيرة في غير موضعها تدفع الإنسانة البريئة إلى الريب والشك، وإلى عدم الثقة بنفسها، وقد يؤدي ذلك بها إلى عقدة نفسية (34).

والوجه الثاني: أن هذا الحديث لا يعني أن غيرة المرأة كغيرة طبيعية كفرٌ، لأن

ص: 344

السبب الذي يؤدي إلى غيرة الزوجة هو حب الزوج والخوف من فقده، والخشية من أن تأخذه منها امرأة أخرى، ولاسيّما أن الرجل يُجوّز له الشرع أن يتزوج بأربع نساء، فالغيرة هنا تعتبر حالة طبيعية إذا كانت تنطلق من محبة هذه المرأة لزوجها، وخشيتها من أن تفقده، وتعتبر حالة طبيعية إذا كانت بعيدة عن التطرف في الاتجاه الحاد، بحيث تتحرك غيرتها إلى تحريم ما أحله الله. فالإسلام لا يحاسبها في الحلات النفسية التي قد لا ترتاح لها المرأة كغيرتها عليه إذا تزوج بأخرى، ولكنه يحاسبها على تصرفاتها السلبية التي قد تؤدي إلى أن تمنع زوجها من حقه. ومن هنا جاء هذا الحديث المأثور عن أمير المؤمنين (عليه السلام): (غيرة المرأة كفر)، فليس معنى ذلك أنها كفر بمعنى الكفر، ولكنها تؤدي إلى بعض أجواء الكفر، وهو تحریم ما أحله الله (35).

7- ومن غریب کلامة المحتاج إلى تفسير حديثه (عليه السلام) عندما شيّع جيشاً يعزِيهِ فقال: (اِعْذِبُوا عَنِ اَلنِّسَاءِ مَا اِسْتَطَعْتُمْ)) (36). ويقول السيد الشريف الرضي في معناه: ((اصدِفوا عن ذكر النساء وشُغُلِ القلب بهنّ، وامتنُعوا من المقاربة لهنّ، لأنّ ذلك يَفُتُّ في عضُد الحميّة، ويقدح في معاقد العزيمة، ویکسِر عن العَدوِ، وَيلفِتُ عن الإبعاد في الغزو)) (37).

وهذا القول يخص حالة استثنائية، فهو ليس ذماً للمرأة لأنها تضعف الجيش، وإنما ليجرد الجيش من كل ما يعلقه بالحياة الدنيا من زوجة وأولاد. فمسؤوليته اتجاههم وحبه إياهم سيكون سبباً في إضعاف عزيمته، وهو ما أيدته الآية القرآنية الآتية: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ» (38).

ص: 345

وما يؤكد تحليلنا قول الرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله): ((احذر الدنيا وشهواتها، وزينتها، وأكل الحرام، والذهب والفضة، والمراكب والنساء، فإنه سبحانه يقول: «زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ»(39).

ص: 346

خاتمة البحث

بمعونة المولى القدير، وبشفاعة السيد النذير، وبعلي الأخ النصير، بلغنا الختام فيّما وقع في نهج البلاغة من ذكر للمرأة، ولابدّ لنا فيه من تقصير.

ولعل خاتمة البحث توضحت من مقدمته، فقد اعتمدنا متن الرواية لا سندها أساساً في قبولها بعد موافقتها للقرآن الكريم. وبعد الاستقراء والدراسة يتضح لنا أن هذه الروايات التي قالها الإمام علي (عليه السلام) في نهجه عند قراءتنا الأولى لها، وهي القراءة السطحية، أو الأخذ بالمعنى الظاهر نجدها قد انتقصت من المرأة، ولكن بالقراءة الثانية العميقة، وبالتحليل التقابلي، أي بعد مقابلتها بالقرآن الكريم، نجد أنها صانت المرأة وحفظت حقوقها وحقوق غيرها من خلال النظر إلى طبيعة المرأة النفسية والفسلجية، وبذلك أعفت المرأة من أن تصبح في موقف لا يناسبها أو لا تحمد عقباه، کما في قضية الشهادة.

وبحمد الله نكون قد بيّنا الصحيح من الكلام، وحفظنا راية الإسلام، ورفعنا مولانا علياً الإمام، وقدنا المرأة إلى الأمام، وقطعنا أصابع التشويه والاتهام، والصلاة والسلام على محمد المصطفى وأهل بيته خير الأنام.

هوامش البحث:

1. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 286، الخطبة: 176.

2. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 88، الخطبة: 27.

3. شرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي: 78، وينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 2/ 65، وشرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده: 66، وفي ظلال نهج البلاغة: 191/1 - 192.

4. ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة: 164.

5. الزخرف: 18.

ص: 347

6. ينظر: تفسير الطباطبائي: 213/17.

7. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 135 - 136، الخطبة: 79.

8. البقرة: 222.

9. النساء: 11.

10. ينظر: المرأة في رحاب الإسلام: 73.

11. ينظر: فقه المرأة المسلمة: 202 - 209.

12. ينظر: تأملات إسلامية حول المرأة: 189.

13. البقرة: 282.

14. تأملات إسلامية حول المرأة: 27.

15. ينظر: فقه المرأة المسلمة: 199، و فلسفة تشريعات المرأة: 197.

16. ينظر: المصدر نفسه: 199.

17. بحار الأنوار: 227/103، الحدیث: 23، کتاب العقود والإيقاعات، باب فضل حب النساء.

18. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 170/6، وشرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده: 118، وشرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي: 144.

19. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 400، الكتب والرسائل: 14.

20. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 15/ 79، وشرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده: 402، وشرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي: 585.

21. النظرة الواقعية إلى المرأة وعمق الطرح في فكر الإمام علي (عليه السلام)، (دراسة في نهج البلاغة)، مجلة آداب البصرة: 131.

22. في ظلال نهج البلاغة: 3/ 418.

23. شرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده: 401.

24. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 258، الخطبة: 160.

25. آل عمران: 14.

26. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 308 - 309، الخطبة: 186.

ص: 348

27. ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 13/ 62، وشرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده: 301، وفي ظلال نهج البلاغة: 3/ 70.

28. المائدة: 6.

29. تفسير الطباطبائي: 101/5.

30. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 508، الحكمة: 117.

31. شرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده: 527، وفي ظلال نهج البلاغة: 4/ 295، وشرح نهج البلاغة، السيد عباس الموسوي: 763.

32. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 18/ 250، وينظر: شرح حكم أمير المؤمنين (ع): 94.

33. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 931، الكتب والرسائل: 31.

34. ينظر: في ظلال نهج البلاغة: 4/ 295، وتأملات إسلامية حول المرأة: 122-123.

35. ينظر: تأملات إسلامية حول المرأة: 123 - 124.

36. نهج البلاغة، السيد هاشم الميلاني: 532، غریب کلامه: 7.

37. المصدر نفسه.

38. آل عمران: 14.

39. دلائل الخيرات في كلام سید السادات: 99.

ص: 349

المصادر والمراجع

• القرآن الكريم.

1. الإيضاح في علوم البلاغة (المعاني والبيان والبديع). الخطيب القزويني (قاضي القضاة جلال الدين محمد بن عبد الرحمن، ت: 739 ه). تحقيق: إبراهيم شمس الدين - دار الکتب العلمية - بيروت - لبنان - ط/1 - 1434 ه - 2003 م.

2. تأملات إسلامية حول المرأة - السيد محمد حسين فضل الله - دار الملاك - د. م - ط/1 - 1426 ه.

3. تفسير الطباطبائي - (السید محمد حسین) - تفسيره: الميزان في تفسير القرآن - مؤسسة السيدة معصومة. قم - إيران - ط/ 1 - 1426 ه.

4. دلائل الخيرات (في كلام سيد السادات، خطب الرسول، وصاياه، مواعظه، كتبه، قصار كلماته) - فاتن محمد خلیل اللبون - دار إحياء التراث العربي - بيروت - لبنان - ط 1 - 1425 ه - 2004 م.

5. شرح حكم أمير المؤمنين (عليه السلام) - الشيخ عباس القمي - العتبة العلوية المقدسة - النجف الأشرف - العراق - د. ط . د. ت.

6. شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (عز الدين أبي حامد عبد الحميد بن هبة الله مدائني، ت: 656 ه) . تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم - دار الكتاب العربي - بغداد - العراق - ط/ 1 - 1426 ه - 2005 م.

ص: 350

7. شرح نهج البلاغة، السيد عباس علي الموسوي - دار الهادي - بيروت - لبنان - ط/ 2 - 1424 ه - 2004 م.

8. شرح نهج البلاغة، الشيخ محمد عبده - خرج مصادره: فاتن محمد خليل اللبون - مؤسسة التاريخ العربي - بيروت - لبنان - ط/ 1 - 1428 ه - 2007 م.

9. فقه المرأة المسلمة - السيد أحمد الجيزاني - إشراف الشيخ محمد اليعقوبي - مؤسسة عاشوراء - د. م . ط / 1 - 1427 ه - 2006 م.

10. فلسفة تشريعات المرأة - الشيخ محمد اليعقوبي - مؤسسة بقية الله - النجف الأشرف - العراق - د. ط - د. ت.

11. في ظلال نهج البلاغة (محاولة لفهم جديد) - الشيخ محمد جواد مغنية - دار العلم للملايين - بيروت - لبنان - ط/ 1 - 1972 م.

12. المرأة في رحاب الإسلام - باقر شريف القرشي - دار الهدى - النجف الأشرف العراق - ط/ ذ. 1426 ه - 2005 م.

13. نهج البلاغة (المختار من كلام أمير المؤمنين، لجامعه الشريف الرضي محمد بن الحسين بن موسى، ت: 406 ه) - تحقيق: السيد هاشم الميلاني - العتبة العلوية المقدسة - النجف الأشرف - العراق - د. ط - 1431 ه.

ص: 351

ص: 352

بناء الإنسان في درء الهوى - دراسة تحليلية - محمد حاكم حبيب الكريطي ماجستير لغة عربية

ص: 353

ص: 354

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين الى قيام يوم الدين.

وبعد، فلولا وجود الإنسان لم تكن الدولة، فبناء الإنسان يعني بناء الأوطان، ومن أراد أن يبني وطناً، لا بد أن يبدأ بصناعة الذات المؤمنة بالانتماء الى الأرض ذلك الإيمان لا بد أن يكون إيماناً حقيقياً يشبه العقيدة المتجذرة في الذات، فبناء الذات الإنساني القويم، لابد أن يرتكز في صناعته على قواعد تربوية دينية، فالعقيدة الدينية هو النواة الأولى في إيجاد، ووجود شخص انغرست في ذاته تعاليم إسلامية حقة، سوف يثمر خدمة يانعة لمجتمعه، ومن خلال الأطر التي يعمل ضمن سياقها.

وجاء هذا البحث على ثلاثة مباحث الأول هو مبحث (تضعيف الأمل في الدنيا)، وفيه حث الإمام - عليه السلام - المسلمين على الابتعاد عن مغريات الدنيا والركون اليها، فلا يرتجيها أحدٌ الا قطعت رجاءه وأضاعت أمله. وهذا الوجه الذي رغّب الإمام المسلمين عنه، وفي الوقت نفسه رغبّهم بالدنيا لتكون مزرعة للآخرة. وبهذا أراد (عليه السلام) أن يهيء نفوسهم الى الآخرة سواء في الانتماء الى الدنيا، أو الانقطاع عنها ففي الحالتين الهدف والغاية هي الآخرة. وجاء المبحث الثاني وهو (مغالبة الهوى)، كان - عليه السلام - في هذا المبحث يحذّر من إتباع الهوى، حتى وإن كان ذلك الهوى لا يُعصى فيه الله تعالى، لكن يمكن أن يكون ذلك مفتاحا للمعصية وتأسيس لها، وحثّ - عليه السلام - في ذلك لنصرة

ص: 355

النفس على هواها ولابد من مجادلة الهوى والإعراض عنه وفي هذا إعراض عن الدنيا وغلبة الهوى هو كسب للآخرة. أما المبحث الثالث هو (معصية النفس)، والذي أكد فيه (عليه السلام) الى عدم الانقياد الى رغبات النفس، فمعصيتها هو رضا الله، وأراد للنفس أن تبني ذاتها في خروجها من كينونتها اللوامة الى حقيقتها المطمئنة، وبذلك تتحقق الذات المبنية عقديا المتماسكة إنسانيا، التي تتوق الى أجزاء الكمال.

وبهذا فإن تلك المباحث الثلاثة التي اختصت في الدنيا، والهوى والنفس، فهي متداخلة الى درجة كبيرة، فالدنيا هي المكان الذي يمكن للنفس أن ترتكب المعاصي والأخطاء فيها، والنفس ذاتها لولا الهوى ورفعه إياها لم تتجه الى الخطأ، بل يمكن لها أن تستجيب للعقل، وتذهب صوب الحقيقة، وهذا ما أراد البحث أن يظهره من خلال ما جاء في كلمات الإمام (عليه السلام) في نهج البلاغة.

ص: 356

المبحث الأول تضعيف الأمل في الدنيا

لقد نهى الإمام علي (عليه السلام) الناسَ من التمسك بالدنيا وحذر منها، ومن قصر مدتها، وانقطاع أملها، فحذّر منها بقدر تحذير القرآن الذي لم يتح الفرصة للناس في الاقبال على الدنيا وخاصم رغباتهم، وحذر من تلك الرغبات، فالإمام (عليه السلام) هنا نطق بالآيات والأحكام القرآنية التي حذرت من الغفلة في الدنيا، ومن أقواله (عليه السلام) محذراً أصحابه من الدنيا: ((فلتكن الدنيا أصغر في أعينكم من حثالة القرظ)) (1). نلاحظ أن الإمام - عليه السلام - يتخير الألفاظ ذات الأثر البالغ والتي يمكن لها أن تستميل الناس الى ما يريده لهم، حيث شبه لهم الدنيا بحثالة القرظ، والذي فُسر على انه رديء الحنطة يسمى حثالة (2)، وهذا الرديء الذي ليس له ثمن، أمر الإمام - عليه السلام - الناس بأن يجعلوا الدنيا شيء لا ثمن له، فمن باع الدنيا لا بد أن اشترى الآخرة. وتبدو هنا إشارة الإمام - عليه السلام - واضحة لكسب الآخرة بترك الدنيا أي في الاغراض عن زخرفها وغرورها.

وفي كلام آخر للإمام (عليه السلام) في التزهيد من الدنيا والترغيب في الآخرة، قال: ((واخرجوا من الدنيا قلوبكم من قبل أن تخرج منها أبدانكم)) (3).

أراد الإمام (عليه السلام) أن ينزع الدنيا من قلب المسلمين وحثهم على خروج قلوبهم قبل الأجساد، ولم يقل اخرجوا عقولكم بل ذكر القلوب، لأن الرغبات والغفلة تكون مع القلب، حيث صرّح بذلك القرآن الكريم «... وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا» (4).

ص: 357

ومثلما تكون الغفلة وعدم الإيمان بالقلب، فيمكن للقلب أن يكون وعاءً للإيمان، وهو بذلك يصبح سلاحاً ذو حدين، إما أن يكون هو الهادي، وإما أن يكو هو المضل، فالكفر والإيمان كلاهما في القلب حيث ذكر الله تبارك وتعالى في قصة أم موسى (عليه السلام) وكيف ثبت الإيمان في قلبها فقال جل وعلا: «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» (5).

هذه المرة نلاحظ دور القلب قد أصبح سبباً للإيمان، فالذي يوصي به الإمام (عليه السلام) كفاية في خروج القلب من الدنيا، هو للدخول في عمل الآخرة والتزود من دار الدنيا، فيمكن للدنيا أن تكون سببا للنجاة في الآخرة، أو أن تكون سبب الهلاك، مثلما القلب يمكن له أن يطمأن بالإيمان أو يشرح بالكفر.

مثلما كان الإمام (عليه السلام) يوصي أصحابه ويحذرهم من الدنیا، كان يفعل مثل ذلك مع خصومه، فقد كتب الى معاوية بن أبي سفيان كتاب جاء من ضمنه ((فاتق الله يا معاوية في نفسك وجاذب الشيطان قيادتك، فإن الدنيا منقطعةٌ عنك، والآخرة قريبةٌ منك)) (6).

إنّ سبب ارتباط الإنسان في الدنيا ووثوقه بها هو الشيطان، وإلّا فكل الأدلة العقلية بالنسبة للمؤمنين ان الآخرة هي دار القرار ذلك ما نص عليه القرآن الكريم، وبما أن العقل مؤمن بذلك فمن البديهي أن يكون قد أعد العدّة إليها، إلّا ان الملاحظ هو غير ذلك والانهماك على الدنيا مع شدة الوعيد، كل هذا هو سببه الشيطان، فنلاحظ الإمام - عليه السلام - ينهى معاوية من مجاذبة الشيطان، والمجاذبة هي المغالبة وجذبته أي غلبته (7)، فالإمام (عليه السلام) على الرغم من خصومة معاوية معه إلا انه كان ناصحاً له، يمكن أن تكون تلك

ص: 358

النصيحة لإصلاح معاوية لأن إصلاحه هو إصلاح لأمور المسلمين التي أفسدت بسبب تهافتهم على الدنيا.

والإمام (عليه السلام) بقدر ما كان ناصحاً محذراً الناس من الدنيا، كان مذكراً نفسه منها، فقال(عليه السلام) من بعد كلام وجهه الى عامله على البصرة عثمان بن حنيف حيث إنه قال: ((إليك عني يا دنيا فحَبلُك على غاربك)) (8).

جاء كلام الإمام (عليه السلام) هنا على ما جاء به النظم القرآني إياك أعني واسمعي يا جارة، فهو ليس بحاجةٍ إلى أن يحذر نفسه، بل كان يقصد عثمان وأصحابه، فاستعمل كلاماً مجازياً بأسلوب استعاري، حتى يمكن اللفظ في نفوس الآخرين، ويجعل من حال الدنيا كحال جسد حي يتحرك أمام الآخرين، فالاستعارة هي وحدها من تجعل الدنيا بتلك الصورة، فقيل في الاستعارة هي اللفظية تجعل الأشياء غير المتنفسة كأفعال ذوات النفس (9)، وهذه الحركة الرمزية يمكن لها أن ترسخ أجيالاً، كما هو الحال مع نهج البلاغة الذي يتداول بيننا منذ أكثر من أربعة عشر قرناً.

فوصف الإمام (عليه السلام) الدنيا وكأنها ناقة قد ألقى حبلها على غاربها (10)، وفي ذلك كناية عن حرية الدنيا واطلاق العنان لها، وهنا حال من التشبيه العظيم وكأن الإمام (عليه السلام) هو الثابت الذي لا يغتر من الدنيا، والدنيا هي المتحركة لذلك ترك لها الحبل على الغارب لتجول مع من تريد.

كل هذا النسيج الكلامي الذي طرزه (عليه السلام) من استعارة وكناية وتشبيه حسي هو درسٌ للحذر من الدنيا.

ومن كتاب له (عليه السلام) وصى به شريح بن هاني (11) لما جعله على مقدمته الى الشام فقال: ((اتق الله في كل صباح ومساء، وخَف على نفسك الدنيا

ص: 359

الغَرُور، ولا تأمنها على حال)) (12).

حذّر الإمام شُريحاً بوصفهِ الدنيا له ب (الغَرُور) بفتح الغين وضم الراء، أي الغَرُور صفة ملازمة للدنيا فلا يأمن حالها، فلا يستمر حالها على ما هو عليه فهي تنتقل بأهلها من حال الى حال من شدةٍ الى رخاء، أو من رخاء الى شدّة، فلا يأمن من يومها، فهي تداول الأيام بين الناس، ومداولة الأيام في عاجلها حساب في أجلها.

وقال ابن السكيت الغَرور هو الشيطان، ألم تلاحظ قوله تعالى محذراً منه: «...وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ...» (13) فالدنيا نفسها لولا الأسباب الشيطانية لم تكن غروراً بل لفعل الشيطان وتزينه إياها لهم أصبحت كذلك.

ومن كتاب كتبه (عليه السلام) الى الأسود بن قطبة صاحب جند حُلوان (14) قال فيه: ((واعلم أنّ الدنيا دار بلية لم يُفرغ صاحبها قط فيها ساعة إلا كانت فرغته عليه حسرة يوم القيامة)) (15).

في كل مرة يحذّر الإمام (عليه السلام) من الدنيا يأتي بصورة جديدةٍ مختلفةٍ عن سابقتها في حال الدنيا، وكل ذلك الهجين الصوري هو لرسوخ صورة ذهنية واحدة عن الدنيا مفادها الابتعاد عن الركون إليها.

فهنا يصفها بأنها دار بلية مقتبساً (عليه السلام) معنى قوله تعالى: ((...وَنَبْلُوکُم بِالشَّرِّ وَالْخَیْرِ فِتْنَةً وَإِلَیْنَا تُرْجَعُونَ)) (16).

ويصف الإمام (عليه السلام) فراغ الدنيا حسرة في الآخرة، ذلك لأن الإنسان يندم لإضاعته الوقت في غير عبادة الله لما يراه من أحوال يوم القيامة التي لا يأمن منها إلّا من أتى الله بقلبٍ سليم، ولو أن تزود من الدنيا في حال فراغه كما أشار

ص: 360

الإمام (عليه السلام)، إذ قال: «وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ» (17).

ومن كلام له (عليه السلام) الى سلمان الفارسي (رضوان الله عليه)، جاء فيه: ((أما بعدُ فإنما مَثلُ الدنيا مثل الحيّة، لينٌ مسُّها، قاتلٌ سُمّها، فارض عمّا يعجبك فيها، لقلة ما يصحبك منها، وضع عنك هُمومَهَا، يا أيقنت منها، فإن صاحبها كُلّا اطمأنّ فيها الى سرور أشخصتهُ عنه الى محذور، او إلى ايناسٍ أزالتهُ عنه إلى ايحاشٍ)) (18).

حذر الإمام سلمان الفارسي الذي كان من خيرة أصحابه، وهو بهذا يريد أن ينذر الناسَ واتخذ من سلمان (رضوان الله عليه) عنواناً لتحذيره. وقد بدأ (عليه السلام) كلامه عن الدنيا بمتتاليات استعارية أراد أن يستجلب عقول الناس ومشاعرهم، ذلك ليلفت به أذهانهم، فاستعار ما في الحيّة ن صفات في ظاهرها تغر الغافل الذي لا يعرف سوى ظاهرها، هذا إذا ما قيس بالحياة الدنيا من حيث الاستعارة، وقد وصف الله تبارك وتعالى الدنيا إذ قال: «يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ» (19).

فظاهر الدنيا مثل ظاهر الحية الذي وصفه الإمام - عليه السلام -، أما الغفلة فهي عن بواطن الدنيا وخفاياها التي يحذرنا منها - عليه السلام -، وقال قاتلٌ سمها، هو استعارة أخرى بمعنى إن الركون الى الحية، التي هي بمثابة الدنيا، هو في نهاية الغاية هلاك.

ويحذّر (عليه السلام) ناهيا من الإعجاب فيه لقلة زمنه إذا ما قيس بطول السفر في الآخرة وما يصحبك هناك من عملٍ قد كسبته في الدنيا، ويوصي (عليه السلام) بوضع همومها وكأن تلك الهموم كانت أحمالاً وضعت على أكتاف طالبيها،

ص: 361

وكأن هموم الدنيا هي في ذاتها أوزار إذا عرضناها على قوله تعالى: «وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» (20) ففي كل كلمة من كلمات الإمام (عليه السلام) لا بد أن تعرض على القرآن الكريم لأن كلامه (عليه السلام) إما أن يكون من لفظ القرآن أو من معناه. حيث أتم قوله (عليه السلام): فإن صاحبها كلما اطمأن فيها إلى سرور اشخصته الى محذور. وهذا ترجمة لقوله تعالى: «...إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» (21) لأن ذلك السرور الذي أشار إليه (عليه السلام)، أو الفرح الذي نهی عنه القرآن هو ليس السرور بحدوده أو الفرح ضمن إطاره، لأن هناك من يغتر بالدنيا ولا يلتفت إلى آخرته، ولا يحذرها فيأخذ نصيبه من الدنيا ليس متناسية الآخرة بل قد نسيها تماماً كما قال تعالى «قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى» (22).

ولولا الخضوع إلى ملذات الدنيا لما نسي الآخرة، وذلك كلا اندفع الإنسان مع عواطفه كلّما قل استعماله للعقل وهذه المسألة جدلية عكسية كلما ذهبت باتجاه واحدة ابتعدت عن الأخرى، فالآخرة هي اتباع العقل، والسرور هو من اتباع العاطفة فالزمن والتراكم في اتباع العاطفة يترك سروراً في نفوس الآخرين ذلك السرور سوف يكون حاجباً عن الآخرة وبالتالي يُزال الإنسان من ایجاش الى ایناس كما أشار الإمام (عليه السلام) الى ذلك (23).

ومن وصية له - عليه السلام - للحسن بن علي (عليه السلام): ((من الوالد الفان، المقر للزمان، المُدبر العُمُر، المستسلم للدهر، الذّام للدنيا، الساكن مساكن الموتی والظاعن عنها غداً)) (24).

قبل أن يذكر الدنيا في خطبته (عليه السلام) أشار إشارة واضحة إلى زوالها واليقظة منها، حيث قال من الوالد الفان، فإنه لا خلود ولا بقاء فكلنا الى رحيل،

ص: 362

المقر للزمان أي متنبّهُ للزمان الذي في كل لحظة يقترب بنا إلى الأجل المحتوم الذي لابُدّ من ملاقاته، المُدبر العمر وهنا إشارة أخرى إلى الحذر من الدنيا وهو (عليه السلام) يصف نفسه بالمُدبر العمر من الادبار ومعناه من جاء آخر القوم، وتدبر الأمر أي نظر في عواقبه وأواخره (25).

وهذه إشارة منه (عليه السلام) الى أن العمر قد أدبر أي ذهب باتجاه الآخرة، ولم يقل مقبل العمر أي هو في طول أملٍ في الحياة، (المستسلم للدهر، الذام للدنيا)، نلاحظه (عليه السلام) في كتابه هذا قد مهد للتنفير من الدنيا قبل ذكرها، والكتاب كما أشرنا في العنوان قد وجهه للإمام الحسن (عليه السلام) لكن القصد منه ليس تحذيراً للحسن (عليه السلام) من الدنيا بل لجميع من قرأ وسمع الكتاب الى يومنا هذا.

فكما أشرنا في صفحات البحث السابقة، إن أسلوب الإمام قد استدل من القرآن الكريم فجاء قوله على صيغة (إياك أعني واسمعي يا جارة).

في ختام هذا المبحث نقول: إن الإمام علي (عليه السلام) أراد أن ينبّه ويحذر الناس من الارتباط بالدنيا، والمقصود ذلك الارتباط الذي يأخذهم عن أمور دينهم وآخرتهم وتشغلهم الدنيا بمفاتنها، لا القصد من وراء كلامه (عليه السلام) هو ترك الدنيا بمجملها، لا بل كان يحث على العمل وطلب الرزق وغيرها من الأمور الدنيوية التي لا تأخذ الإنسان المسلم عن دينه بل توفر له العيش الكريم من جانب وتبني حياته الدينية على وفق ما أرادت الشريعة السمحاء من جهة أخرى.

ص: 363

المبحث الثاني مغالبة الهوى

مثلما حذّر الإمام (عليه السلام) من الدنيا حذّر من اتباع الهوى، ويمكن أن يعد اتباع الهوى هو جزء أساس من التمسك بالدنيا، فهي الوعاء الذي يمارس فيه أشكال الهوى، وعلى وفق المنهج القرآني الذي اتبعه الإمام علي - عليه السلام - حيث عمل بما ذكره القرآن الكريم من قوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» (26).

فقد جاء فيه نهيه عن اتباع الهوى، وطول الأمل قوله (عليه السلام): ((أيُها الناسُ إنّ أخوف ما أخاف عليكم اثنتان: اتباع الهوى، وطول الأمل، فأما اتباع الهوى فيصُدُّ عن الحق...)) (27).

ولشدة خطر اتباع الهوى من قبل المرء، نلاحظ الإمام (عليه السلام) يصف ذلك وهو أشد الخوف عليهم، والإمام (عليه السلام) لا يعرف للخوف معنى، إلّا إن للأثر العظيم الذي يُتركه اتباع الهوى على صاحبه جعله (عليه السلام) يستعمل بعض الألفاظ التي لم نعهده قد ضمنها في كلامهِ عن حروبهِ ومنازلته في سوح الحرب، لكن الأمر هنا يختلف عندما تكون المسألة مع الله تبارك وتعالى فهو يرى ويعلم غير ما يرى الناس فعلمه يقيني وذلك يحقق الكشف بالنسبة لأهل البيت (عليه السلام)، إذ أخبرنا القرآن الكريم بذلك بقوله: «كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ» (28).

ويكمل الإمام (عليه السلام) قوله ليخبر بنتيجة اتباع الهوى فيقول: (فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق)، فاتباع الهوى لايكون مع ما أراده الله تبارك وتعالى

ص: 364

، ويركن الإنسان في ذلك إلى نفسه ولا إلى عقله، ولا تحمد مغبة هذا فهو من عمل الشيطان، وذكروا في اتباع الهوى: (( إن من اتباع الهوى أن يحضر الخصمان بين يديك فتود أن يكون الحق للذي في قلبك محبة خاصة، وبهذا سلب سليمان بن داود ملکه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: كان الذي أصاب سلیمان بن داود عليها السلام أنا ناساً من أهل جرادة أمرأته، وكانت من أكرم نسائه عليه، تحاكموا إليه مع غيرهم، فأحب أن يكون الحق لأهل جرادة فيقضي لهم، فعوقب بسبب ذلك حيث لم يكن هواه واحد)) (29).

وقيل في اتباع الهوى: ((ضلال العقول في اتباع الهوى ولا حيلة في ضلال العقول)) (30).

فقد تأثرت الحياة العقلية العربية في النهي عن اتباع الهوى سواء أكان ذلك الأثر قد استمد من القرآن الكريم، أو من الإمام علي (عليه السلام)، لأن هذه الخطبة التي نحن في صددها الآن قد وردت في كثيرٍ من المصادر العربية في معرض الاستشهاد عن ذم الهوى.

ومن كتاب بعثه (عليه السلام) إلى عاملهِ على البصرة عثمان بن حُنیف (31) وقد بلغه إنه دعي إلى وليمة من أهلها فمضى إليهم. فبعد كلام يطول له (عليه السلام) قال: ((ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي الى تخيّر الأطعمة)) (33). بعد اعتراض الإمام (عليه السلام) على صاحبه عثمان بن حنیف، وأعطاءه درساً في تهذيب النفس ومنع جماحها، التفت الإمام (عليه السلام) الى نفسه الكريمة قائلاً: ((ولكن هيهات أن يغلبني هواي)) وهو (عليه السلام) بهذا يشير الى الجدلية التي تكون بين الهوى والذات، أما من كان على حال بسيط من الإيمان يمكن هواه أن يغلبه، واتباع الهوى بواسطة النفس والنفس قد أشار

ص: 365

إليها القرآن الكريم وقال: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» (33).

لكن الإمام (عليه السلام) ينفي غلبة هواه عليه، وفي هذا درسٌ للمسلمين في منازلة الهوى، وكيفية تحقيق الذات بتجردها منه أي من الهوى، وبناء النفس باتجاه الاطمئنان وخروجها من النفس الأمارة، فالإمام أراد أن يحث الناس باستدرار عقولهم وعواطفهم له فهو الأسوة لهم في أمور دينهم ودنياهم.

ومن عهد له (عليه السلام) كتبه للأشتر النخعي (رضوان الله عليه) لما ولّاه على مصر وأعمالها حين اضطرب أمر محمد بن أبي بكر (رضوان الله عليه) وهو من أطول العهود التي كتبها (عليه السلام). وبعد كلام له (عليه السلام) كان يوصي به الأشتر وكله جاء في بناء الإنسان والدولة، ويمكن أن يعد هذا العهد انموذجاً يحتذى، ويتقدی به في إدارة شؤون المسلمين وغيرهم.

ومن جملة ذلك الكلام قوله (عليه السلام): ((فاملك هواك، وَشُحَّ بنفسك عما لا يحل لك، فإن الشُّح بالنفس الإنصاف منها فيما أحبّت و کرهت)) (34).

وصّى الإمام - عليه السلام - الأشتر الإحاطة من هواه، قد اختار لذلك لفظ يستوعب المعنى الذي أراد إيصاله للأشتر ومن خلاله للناس فقال له (إملك) ولم يختر لفظاً آخر، فجاء في دلالة لفظة (مَلَك) هو قوام الشيء ونظامه (35).

وبهذا أراد (عليه السلام) أن ينهي الأشتر ومن غلبة هواه له، حيث يريد منه أن يكون أقوى من هواه، فهو من يتحكم في هواه هو الذي يمكن أن يملك رغبات نفسه، ولأن الملك كما أشارت اللغة هو قوام الشيء أو نظامه، أراد (عليه السلام) أن تكون نفس الأشتر مستقيمة أي لا تميل الى هذا أو إلى ذاك فهي على

ص: 366

الطريق الذي رسمه الله تبارك وتعالى لها من تدابير أمور الحياة.

وبهذا يريد (عليه السلام) أن يكون الأشتر خارجاً من سلطان هواه، حتى لا يقع في ذلك ضرر على ذاته أولاً، ولا على المسلمين ثانياً، فإنصاف الهوى هو إنصاف مع الأمة، فغلبة هوى الرئيس، ليس كغلبة هوى المرؤوس، لأن الأول يتحكم بأمور الجماعة، والضرر الذي يصدر منه ضرراً يعم الآخرين، أما الثاني فضررهُ مع نفسه، ولا يؤثر ذلك الإنسان بقدر ما تركه الحاكم من أثر.

ومن كتاب له (عليه السلام) الى أبي موسى الأشعري جواباً في أمر الحاكمين. فقال (عليه السلام): ((فإن الناس قد تغير كثيرٌ منهم عن كثيرٍ من حظهم، فمالُوا مع الدنيا، ونطقوا بالهوى)) (36).

ذكر الإمام - عليه السلام - ابتعاد الناس عن الحق ونطقهم بالهوى، وفي ذلك إشارة الى أنهم لم ينطقوا عن عقلٍ وحكمة، بل نطقوا بما تهوى الأنفس، و ذلك ذمٌّ وتقريع لهم، لأنهم وافقوا نفوسهم وسلّمت بهم الى الهوى، ولم يأخذوا بما يريده العقل لتکون الغلبة له، فالهوى مذموم بنص من الله تبارك وتعالى، بل بعدة نصوص من القرآن الكريم، حيث قال تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» (37).

وقد تحدث جلٌّ من الصحابة والتابعين في ما استورثوه من ذم الهوى، حتى أصبح ذلك سنة دينية قد شرعها القرآن، وألفها المجتمع فأصبحت ظاهرة لا يمكن أن تستساغ عند ذوي الألباب، لتناقضها مع الفطرة الإلهية السليمة. ونقل عن ابن عباس أنه قال: ((الهوى إله معبود، وقرأ افرأيت من اتخذ إلهه هواه)) (38).

ومن كلام له (عليه السلام) وصی به شريح بن هانئ، جاء من ضمنه قوله (عليه السلام): ((قَد سَمت بك الأهواء الى كثير من القرر)) (39).

ص: 367

لا بد من معرفة معنى كلمة (سَمَت) التي وردت في كلام الإمام (عليه السلام) فقد جاء معناها في بعض معجمات اللغة: ((سما الشيء يَسمُو سُمُوّاً، أي: ارتفع بَصَرُك إليه)) (40).

ويبدو أن السما هو الشيء الذي ارتفع باتجاه السماء، ومعنى هذه الكلمة ذو دلالة إيجابية في استعماله المتداول، إلا إن الإمام (عليه السلام)، هذه المرّة قد وظّف هذه اللفظة في غير سياقها ليعطي دلالة أخرى، يمكن أن يكون لها الأثر في ذهن المتلقي، سواء أكان المخاطب أو الآخر البعيد مكانيا أو زمانيا من متلقي نص الإمام (عليه السلام). وهذا السمو الذي يمكن أن يعد هو نزول ليس إلا، جاء سبب الأهواء وما كانت تمليه تلك الأهواء على شريح بن هانئ، حيث كانت زمام الأمور بجانب الأهواء لا بصوب شريح الذي قد خضع لأهوائه. وقد وصل ذلك السمو الى الضرر والذي قد أشارت إليه اللغة: ((الضَّررُ: ((النقصان يدخل في الشيء يقال دخل عليه ضرر في ماله)) (41).

وبهذا بدت إشارة الإمام (عليه السلام) واضحة، حيث إن الضرر الذي لحق بشريح في اتباعه الهوى هو نقصان في إيمانه، فارتفاع مناسيب الهوى هو شحة في منسوب الإيمان، لذلك انتقى الإمام (عليه السلام) تلك الألفاظ التي يطول رسوخها ويشتدُّ أثرها على السامع.

ومن كتاب له (عليه السلام) إلى معاوية بن أبي سفيان، جاء من جملة ذلك الكلام قوله (عليه السلام): ((ولعمري يا معاوية، لأن نظرتُ بعقلك دون هُواك لتجدني أبرأ من دَم عثمان)) (42).

قد قسم الإمام (عليه السلام) بعمره الشريف، ذلك لأنَّه على أتم ثقةٍ من ان معاوية بن أبي سفيان قد اتبع هواه ولم يستدل على الحق بعقلهِ لذلك أضّل

ص: 368

الطريق. وهنا كان الإمام (عليه السلام) ناصحاً لمعاوية أن يتخلى عن هواه لأن في ذلك ضلال وتيه وَحيد عن الحق، والسّبيل الوحيد الى النجاة هو العقل، لأنّ ذلك میزان على النفس فهو الآمر لها المتحكم بشأنها العاصي خلجاتها، وإذا أخلد إلى هواه ذلك ما يجعل رغباته هي من تفرض عليه الطريق الذي لا بدّ أن يختاره، وحتماً سوف يكون ذلك الطريق ضلال، لأنه نتيجة بديهية للهوى. فمعاوية الذي تخلّى عن عقله أمام هواه أسفر ذلك بغيه على الإمام (عليه السلام) واتهامهِ بدم عثمان، تلك الجريرة العظيمة التي افتراها، رغبة لثمن أهواءه لم تنتهِ بين معاوية والإمام (عليه السلام) في زمنیهما بل نسجت خيوطها لتطيح بآلاف المسلمين لعدة قرون متتالية، ذلك ما كان إلا في إطاعة معاوية لأهوائه.

ومن كتاب آخر له (عليه السلام) كتبه الى معاوية بن أبي سفيان أيضاً، جاء من جملته: ((أما بعد، فقد أتتني منكَ موعظةٌ موصلة، ورسالةٌ مجترةٌ نمقتها بضلالك، وأمضيتها بسوء رأيك، وكتابٌ امرئٍ ليس له بصر يهديه، ولا قائد یرشُدُه، قد دعاه الهوى فأجابتهُ، وقادةُ الضَلالُ فاتبعه)) (43).

وهنا يصف الإمام (عليه السلام) ضعف معاوية في عقيدته، وعدم الجدة، إلّا مع هواه، فوصف (عليه السلام) الهوى وكأنه قد نادي معاوية وما إن كان على معاوية إلا أن يجيب ذلك الهوى، فإجابته للهوى هي بداية سلوك طريق الغي فالهوى هو نقطة انطلاق باتجاه الضلال، وكانت نتيجة ذلك السبب أي سبب ركوب الهوى هو الهَجَر.

وقد أشارت کتب اللغة الى معنى الهجر فقيل: ((هجر يهجر هجراً إذا هذي)) (44). فركوب الهوى هو الزيغ عن الحق، وذلك ما يفضي للهذيان أي القول في غير صواب ولا معنى، أو مجانبة الحق كل هذا كان نتيجة محتومة لاتباع الهوى.

ص: 369

المبحث الثالث معصية النفس

إن النفس هي قوة خفية في ذات الإنسان ليس بالجسدية، لا تُدرك، بل ندرك اندفاعاتها واتجاهاتها، ويمكن أن تكون كل حركات الجسد، ورغبات الإنسان هي من دوافع نفسية، سواء أدخل ذلك في الشعور أو في اللاشعور، ولأن الغرابة تلف هذه القوة العظيمة فقد اهتم الفلاسفة بهذا الشأن، وتعددت واختلفت الآراء، وكان ذلك الاختلاف غالباً فمن تلك الآراء: ((قوى النفس: قوة الفنطازيا، والقوة المصورة، والقوة المخيلة والقوة الوهمية، والقوة الحافظة والذاكر)) (45). فتعددت قوى النفس ولكنها متخاصمة مع إرادة الإنسان في عادتها، وكأنها شيءٌ آخر يساجل ويجادل المرء في ذاته، إلا إن القرآن الكريم عندما جاء بين خطورة النفس وأشار في عدد من الآیات المباركات الى الابتعاد عما تريده النفس، قال تعالى في ذلك: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ...» (46)، وقوله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى» (47).

وبهذا إشارة كافية للحذر من النفس ومغباتها، والابتعاد عما تطلبه، وكأنها قوة أودعت في كيان الإنسان على توتر مع العقل والمنطق البديهي.

وهنا فقد حذّر الإمام علي (عليه السلام) من طاعة النفس في رَغَباتها، وضرب الأمثال من القرآن الكريم، فمن كلام كان يوصي به أصحابه: ((وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) نَصباً بالصلاة بعد التبشير لهُ بالجنةِ، لقول الله سبحانهُ: «وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا»، فكان يأمر أهله ويصبر عليها و نفسه)) (48).

ص: 370

وهنا يشير (عليه السلام) إلى أن الرسول كان في صلاته یُصبر نفسه. وبهذا يمكن أن يريد تبیان شیئ، وهو إن الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) بعظمته كان يصبر نفسه على طاعة الله تعالى، والصلاة هي ترويضاً للنفس، وتنزيهاً لها إلا إن الإمام (عليه السلام) جعل النبي (صلى الله عليه وآله) مثالاً للناس في هذا الأمر، وفي ذلك يريد أن يجعل النبي أسوة حسنة يُقتدى بها حتى في ترويض النفس، يريد أن يبين خطرها إذا ما روضت بالعمل الصالح، وفي مقدمتها الصلاة، وهذه دعوة قد دعا بها القرآن الكريم من خلال النص القرآني الذي مرّ ذكره، وبهذا أراد الإمام (عليه السلام) أن ينذر الناسَ من هذا الخطر والذي هو متلبسٌ في ذواتهم.

ومن كلام له (عليه السلام)، وفيه كان يشير الى السالك طريق الله تبارك وتعالى: ((قد أحيا عقلهُ، وأمات نَفسهُ، حتی دَقَّ جليلُهُ ولطف غليظه)) (49). وهذه الصفات التي نقلها الإمام (عليه السلام) عن السالك طريق الله، وكأنها أفعال قام بها في تغيير الأدوار فبدلاً من أن تكون الحياة للنفس، قد أماتها والموت للعقل إذا اشتدت رغبات النفس، فهو قد أحياه، وفي هذا إشارة أخرى في كلامهِ (عليه السلام) هي يمكن أن الفطرة الإنسانية هي مجبولة على الانقياد الى النفس، وفي ذلك يكون دور العقل قد انحسر وتراجع، فبدأت النفس بسطوتها، لكن هناك من سعى إلى الله، قد عمد الى إماتة نفسه ومحاربة أهواءها.

ومن كتاب له (عليه السلام) بعثه الى معاوية بن أبي سفيان، ومن جملة كلامه (عليه السلام): ((وإن نفسك قد أو حلتك شراً وأقحمتك غيّاً، وأوردتكَ المهالك، وأوعَرَت عليك المسالِكَ)) (50). يجدر الإمام (عليه السلام) معاوية من نفسه، فقد قادته نفسه، فأذعن وأطاع، وكانت من نتائج تلك الطاعة أو حلت

ص: 371

به شرّاً، والوحل هو الطين الرقيق (51)، وهنا يشير الإمام (عليه السلام) إن تلك النفس التي تحدث عنها قد أركست صاحبها في الطين، فهو لا يمكن له الرجوع إلى الطريق السوي إلّا بصعوبة وما للوحل من صفة ترفضها النفس ذاتها، أراد بذلك أن يستشعر معاوية ذلك الخطر الذي يحيط بهِ من نفسه، فلم يرَ - عليه السلام - أن الوعظ الديني ينفع مع الذين ساقتهم نفوسهم ليرضوا بالحياة الدنيا بدلا من الآخرة، فجاء (عليه السلام) بمتتالية استعارية إذ استعار بعض الصور اللفظية التي يمكن أن تؤثر بالسامع من خلال إبصاره لما أغفل عنه، وبعدها - عليه السلام - قال له: (وأقحمتك غيّاً)، والاقحام في المعنى اللغوي هو ايقاع النفس في الشدة (52). وهذا يعني إنه قد أوقعته نفسه في شدة وهذا إتمام المعنى الوحل، والوقوع به شدةٌ في عينها، وهناك قد تراكمت المعاني اللغوية التي تشير الى هدف واحد هو تكثيف المعنى، لعل الآخر المخاطب يشعر بعظیم ذلك الذنب، فيكون هذا الكلام حائلاً أمامه من أن يتعدى إلى أكثر مما وصل اليه، وهنا لا بد من معرفة معنى (الغي) الذي جاء تبعاً للفظة (أقحمتك)، فقيل عن الغي هو: ((سوء التصرف في الشيء واجراؤه على ما يسوء عاقبته)) (53).

ومن هذا المعنى اللغوي نستدل أن الإمام (عليه السلام) كان يعني أن معاوية لم يحسن التصرف في أحوال الناس وهو منقادٌ الى نفسه ونفسه تقوده مع الناس إلى طريق الهلاك، وأوردته المهالك كما وصفه (عليه السلام) في نهج البلاغة (54). فنلاحظ تلك النفس الأمارة إنها لم تهلك صاحبها فحسب، بل إن ضلال صاحبها يعني ضلال أصحابه، وبهذا فإن هدم الإنسان هو هدم للمجتمع فهو لبنة من لبناتةِ الأساسية.

لذلك نلاحظه (عليه السلام) مرة يركز على بناء الانسان الواحد ضمن

ص: 372

الجماعة، ومرة يريد بناء المجتمع سوية.

ومن كتاب له (عليه السلام) الى عثمان بن حنیف عامله على البصرة، وقد بلغه أنه دعي الى وليمة (55). وبعد كلام يشتد فيه عتاب الإمام (عليه السلام) لابن حنيف ضمن إطار الوعظ والتحذير وقد تعرض لأرض فدك بالذكر، فقال: ((وما أصنَعُ بفدك وغير فد والنفس مظانُّها في غدٍ جَدَث، تنقطع في ظلمته آثارها)) (56).

وهنا (عليه السلام) يشير هذه المرة الى نفسه الزكية، فهي ليست كغيرها من النفوس فهي النفس المطمئنة، وكيف لا تكون كذلك وقد ولدت ونشأت وتربت في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله)، والإمام (عليه السلام) هنا قد أشار في قوله (والنفس مظانها في غذٍ جَدَث)، ولم يقل العقل، لأنّ قضية الموت قد اختص بها العقل، لأنها تحتاج الى تفكر وتدبر ذهني، مثلما الإيمان يرسخ في القلب، فلا بد أن يكون ذلك الرسوخ قد تندّى من خلال العقل، فالنفس أينما يرد ذكرها في القرآن الكريم فهي تشير إلى الرغبات، وعادة تتضاد مع العقل وتتخاصم من خلال قوى النفس العقلية والعاطفية، إلا أن الإمام (عليه السلام) قد ذكر النفس وهو يشير إلى نفسه الطاهرة كما أسلفنا، وكأنها هي التي تتدبر في غدٍ وقد أيقنت بالموت الذي لا بد من ملاقاته، وقد قابل ذکر أرض فدك بالحدث وهو القبر کما أشرنا، ليبين أن لا قيمة لسعة الأرض أمام ضيق القبر، وفي كل هذا إشارة وعلامات للمتدبرين في أخذ الحذر، فمن هذا نستدل أن الإمام (عليه السلام) جعل من ذكر نفسه مختلفة عن نفوس الآخرين، ففي الوقت الذي نفوسهم تطلب الدنيا فنفسه تعرض عن الدنيا وترجو الآخرة، فالإمام (عليه السلام) قد بين أن بين عقلهِ ونفسه علاقة توازي، لا علاقة توتر کما في

ص: 373

بناء الإنسان الآخر، فقد اتحدت نفسه مع عقله، ولم يكن ذلك إلّا بسبب ترويض النفس وصد رغباتها، وهذا أعطى (عليه السلام) درساً في كيفية غَلَبة النفس إن أراد الإنسان أن يكون هو متولي عليها.

وقد أتمّ قوله (عليه السلام) في حديث المتواتر عن النفس ونصرة الذات عليها فقال: ((وإنما هي نفسي أروضها)) (57) هنا لا بدّ من معرفة معنى كلمة أروضها التي وردت في كلام الإمام (عليه السلام) للأثر الكبير الذي تتركه في السياق، فجاء في كتب اللغة: ((رُوضتُ الدّابة أرُوضُها رياضة أي علّمتُها السَّير)) (58). فنلاحظ استعمال الإمام (عليه السلام) للفظة أروضها أو التي هي الصبر على المعاصي والابتعاد عن ما يشين من خلال معصية النفس، ومسايرتها صوب النجاة، وجاء كلامه - عليه السلام - عن ترويض النفس، لعل سائل يسأل إن القرآن الكريم، قد وصف النفس هي التي تدفع إلى السوء، من خلال ما جاء في قوله تعالى: «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ» (59)، فترويض النفس الذي وصفه - عليه السلام -، هو ما يتوافق مع قوله تبارك وتعالى «إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي»، فترويض النفس هو رحمة من الله تعالى للخلاص نفحات الشيطان.

وقبل أن يختم كلامه (عليه السلام) في الخطبة ذاتها، يقول: ((ولكن هيهات أن يغلبني هواي)) (60)، فختم الإمام (عليه السلام) كلامه ب (هيهات) ومعناها اللغوي كما أشارت معجمات اللغة هي كلمة تبعید (61)، وهنا يريد أن يفارق ذهن السامع بكلمة ذات دلالة شديدة بالبعد والافتراق بينه وبين نفسه، ولابد أن يكون هو الغالب لها، والإمام (عليه السلام) قد تكررت عنده لفظة هيهات في مقارعة النفس، عندما قال: ((لأروضنَّ نفسي رياضةً تَهن معها إلى القرص)) (62)،

ص: 374

هذا حتى يزيد من زخم المعنى عن المتلقي من خلال تكرار اللفظ، وجاء ضمن كتابه الذي بعث به إلى عثمان بن حُنیف قوله: ((طُوبی لنفس أدّت الى ربها فرضها، و عُرکت بجنبها)) (63)، هنا لا بدّ من معرفة معنى طوبي التي ضمنها الإمام (عليه السلام) في كلامهِ لأنِها تثري الكلام بعمق معنوي، فطوبي في الأصل الديني هي من الألفاظ القرآنية التي تأثر بها (عليه السلام) حتى أصبحت سمة للغتهِ عامة، فقد جاء قوله تعالى: «...طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ» (64).

ولم يتفق علماء اللغة على معنى واحد لهذه اللفظة، فقد تعددت معانيها، لكنها جميعاً تشير الى الدلالة الحسنة، وهي لا تخلو من رائحة الثواب، فقيل طوبى لهم معناه خيرٌ لهم وقالوا طوبی اسم الجنة بالحبشية، وآخر قال هو اسم الجنة باللغة الهندية (65). وكل هذه الآراء هي تشير الى المعنى الحسن كما أسلفنا، فإذا كانت الجنة هي طوبی، فالإمام طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ يقول الجنة لمن استطاع أن يقود نفسه لتؤدي فرائض ربها وتأدية الفريضة يقابلها ترك المعصية، وإذا كان معنی طوبی هو الخير كما أشار آخرون من أهل اللغة، فالخير لمن كانت نفسه بيده، وهذا کلام منه (عليه السلام) هو دافع معنوي للاستقامة على طريق الحق والاعراض عن بُنيات الضلال. ثم بعد ذلك أتم قوله - عليه السلام - عطفاً على ما بدأ في حديثه عن النفس، وقال: ((وعركت بجنبها بؤسها)) (66)، وكلمة عركت التي استعملها الإمام (عليه السلام) جاء معناها في معجمات اللغة من الأصل عرك: ((عرکت الشيء أعرکه عرکا: دلكته)) (67). لقد استعار الإمام (عليه السلام) هذا الفعل من الدلك، وجعل منه لفظاً ذا معنىً للنفس، وكأنها تدلك البؤس الذي أصابها من معصيةٍ أو هلال وتضعه الى جانبها للخلاص منه، وهناك معنى نفسي کبیر بذره الإمام (عليه السلام) في نفس المتلقي، وهو إن عملية الدلك هي أشبه

ص: 375

بعملية تنظيف الجسد، وكأن ذلك البؤس الذي تلّبس بالنفس هو شبيه بالأوساخ التي غطت الجسد، وعملية الدلك هي أشبه بعملية الصراع مع النفس وتجريدها من الخطأ والعمل بالتقوى فهو من يدلك تلك الذنوب لقوله تعالى: «...إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ...» (68). فاقتراف الحسنة يعني درء للسيئة في وقت الحصول على الحسنة ومغفرة السيئة التي قد ارتكبها قبل هذا.

ص: 376

الخاتمة

لا يوجد بحث يخلو من الصعوبة أثناء كتابتهِ، فكل البحوث العلمية لابدّ أن تمرّ بمراحل معقدة تنتاب الباحث، سواء إن كانت تلك الصعوبات في أيام جمع المادة أم في المراحل التي تليها أثناء عملية الكتابة. وهذا البحث لا يختلف عن غيره فيما واجهه من صعوبات، كان سببها الأول هو لتشابه فصوله، وكما أشرنا الى ذلك التداخل بينها في مقدمة البحث، وهذا كان عائقاً في طريق البحث، وكيفية توزيع الأفكار على تلك المباحث المتداخلة إلى حد كبير في مضامينها.

أما النتائج التي توصل إليها البحث فقد جاءت على نقاط عدة، كان منها:

* حذّر الإمام علي (عليه السلام) من الدنيا ومن الهوى والنفس، باعتبار أن الدنيا هي الساحة، أو المكان الذي يعصى الله فيه، من خلال دفع النفس واذعان الهوى.

* أراد (عليه السلام) أن يجرد الإنسان من كل ما يشين المرء، وحثّ على بناء الإنسان من خلال الاتجاه به الى الكمال الانساني، والذي يمكن للمرء أن يدرکه إذا أراد أن يخاصم نفسه ويقتل جماحها.

* في كل مرة (عليه السلام) يحذر أو ينهى الناس من معصية الله، كان يجعل نفسه (عليه السلام) مثالاً لهم في تركهِ الهوى والاعراض عنه، والعزوف عن الدنيا حتى لا تكون الحجة في ذلك ويجادلون عن نفوسهم الأمارة، لأن النفس تأتي يوم القيامة وهي تجادل عن نفسها، كما جاء في قوله تعالى: «يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ» (69).

* حرص الإمام (عليه السلام) أن يصل كلامه إلى الغائب البعيد أكثر من

ص: 377

الحاضر، وذلك حتى تتعاقب عليه الأجيال، فهو يحمل الأثر الكبير ذاته، وهذا ما حصل بالفعل فكلامه ما زال طرياً وكأنه قد قاله (عليه السلام) ونحن نعاصره.

هوامش البحث:

1. نهج البلاغة: 90.

2. ينظر : لسان العرب: 11/ 142.

3. نهج البلاغة: 348.

4. سورة الكهف: 28.

5. سورة القصص: 10.

6. نهج البلاغة: 429 - 430.

7. ينظر: العين: 6/ 95.

8. نهج البلاغة: 442.

9. ينظر: الإيضاح في علوم البلاغة:

10. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: 3/ 350، الغارب هو مقدم السنام.

11. شریح بن هانئ بن يزيد بن الحارث بن کعب، وقيل شریح بن هانئ بن يزيد بن نهيك بن دريد بن سفيان الخباب: ينظر: أسد الغابة: 2/ 628.

12. نهج البلاغة: 468.

13. الصحاح: 2/ 768، والآية 5 من سورة فاطر.

14. قيل إنه شهد القادسية وله فيها أشعار كثيرة، وهو رسول سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب. ينظر: الإصابة في تمييز الصحابة: 340/1.

15. نهج البلاغة: 470.

16. سورة الأنبياء: 35.

17. سورة البقرة: 179.

18. نهج البلاغة: 478 - 479.

19. سورة الروم: 7.

20. سورة الانشراح: 1 - 2.

21. سورة القصص: 76.

ص: 378

22. سورة طه: 126.

23. نهج البلاغة: 479.

24. م، ن: 417.

25. ينظر: أساس البلاغة: 1/ 278.

26. سورة النازعات: 40 - 41.

27. نهج البلاغة: 101.

28. سورة التكاثر: 5 - 7.

29. المستطرف في طل فن مستظرف: 106.

30. صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم: 56.

31. عثمان بن حنیف بن واهب أبو عبد الله الأنصاري. من أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، وهو أخو سهل بن حنيف. ينظر: اختيار معرفة الرجال: 13/ 6.

32. نهج البلاغة: 441.

33. سورة يوسف: 53.

34. نهج البلاغة: 451.

35. ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: 4/ 358.

36. نهج البلاغة: 484 - 489.

37. سورة النازعات: 40 - 41.

38. التذكرة الحمدونية: 1/ 366، ، والآية 43 من سورة الفرقان.

39. نهج البلاغة: 468.

40. العين: 7/ 318، ينظر : الغريب المصنف: 313.

41. لسان العرب: 4/ 483.

42. نهج البلاغة: 393.

43. نهج البلاغة: 394.

44. الفائق في غريب الحديث: 4/ 93.

45. تاريخ النقد الأدبي عند العرب: 545.

46. سورة يوسف: 53.

47. سورة النازعات: 40 - 41.

ص: 379

48. نهج البلاغة: 345، والآية 132 من سورة طه.

49. نهج البلاغة: 364.

50. م ، ن: 417.

51. ينظر: تاج اللغة وصحاح العربية: 5/ 1840.

52. ينظر: الكليات: 160.

53. التوقيف على مهات التعاريف: 255.

54. ينظر: نهج البلاغة: 417.

55. لقد تكرر ذكر الوليمة التي دعي اليها عثمان بن حنيف، لتكرار الالفاظ التي جاءت متطابقة مع مادة البحث، فمرة ذكرنا الدنيا ومرة الهوى واخرى النفس.

56. نهج البلاغة: 441. و (جدث): الأجداث: القبور، واحدها جدث. ينظر: العين: 6/ 73.

57. نهج البلاغة: 441.

58. العين: 7/ 55، ينظر: تهذيب اللغة: 12/ 43.

59. سورة يوسف: 53.

60. نهج البلاغة: 441.

61. تاج اللغة وصحاح العربية: 6/ 2258.

62. نهج البلاغة: 443.

63. م ، ن: 444.

64. سورة الرع : 29.

65. ينظر: الزاهر في معاني كلمات الناس: 1/ 499.

66. نهج البلاغة: 444.

67. تاج اللغة وصحاح العربية: 4/ 1599.

68. سورة هود: 114.

69. سورة النحل: 111.

ص: 380

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

1- أخبار معرفة الرجال، تراجم ورجال الشيعة، نسخة الكترونية.

2- أساس البلاغة، الزمخشري أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد جار الله (ت 538 ه)، تحقيق: محمد باسل عيون السود، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت - لبنان.

3- أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير، أبو الحسن علي بن أبي الكرم محمد بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري (ت 630 ه)، تحقيق: علي محمد معوض - عادل أحمد عبد الموجود، الناشر: دار الکتب العلمية.

4- الأصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن أحمد (ت 852 ه)، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود، الناشر: دار الكتب العلمية، بیروت.

5- الإيضاح في علوم البلاغة، الخطيب القزويني، جلال الدين أبو عبد الله محمد بن سعد الدين بن عمر، الناشر: دار إحیاء العلوم، بيروت، ط 4، 1998 م.

6- تاريخ النقد الأدبي عند العرب، إحسان عباس، دار الثقافة، ط 4، 1983 م.

7- التذكرة الحمدونية، بهاء الدين بن حمدون أبو المعالي (ت 562 ه)، الناشر: دار صادر، بيروت، ط 1، 1417 ه.

8- تهذيب اللغة، الأزهري أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري، دار إحياء التراث العربي، بیروت، 2001 م.

9- التوقيف على مهمات التعاريف، زين الدين محمد المدعو بعبد الرؤوف بن تاج العارفين بن علي بن زین العابدين الحدادي المنادي القاهوي (ت 1031 ه)، الناشر: عالم الكتب، عبد الخالق ثروت، القاهرة، ط 1، 1410 ه - 1990 م.

10- جسد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال، القاضي حسين بن محمد المهدي، الناشر: وزارة الثقافة والإعلام، اليمنية سنة 2009 م.

ص: 381

11- الزاهر في معاني كلمات الناس، أبو بكر الأنباري محمد بن القاسم بن محمد بن بشار (ت 328 ه)، تحقيق: د. حاتم صالح الضامن، مؤسسة الرسالة، بيروت.

12- الصحاح تاج اللغة وصحاح العربية، اسماعيل بن حماد، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، الناشر: دار العلم للملايين، بيروت، ط 4، 1407 ه - 1987 م.

13- العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي

14- الغريب المصنف، أبو عبيد القاسم بن سلام بن عبد الله الهروي البغدادي (ت 224 ه)، تحقيق: صفوان عدنان داوودي، الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.

15- الفائق في غريب الحديث والأثر، الزمخشري أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد جار الله (ت 538 ه)، تحقيق: علي محمد البجاوي - محمد أبو الفضل إبراهيم، الناشر: دار المعرفة، لبنان.

16- الكليات، أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني القريمي الكفوي الحنفي (ت 1094 ه)، تحقيق: عدنان درويش - محمد المصري، الناشر: مؤسسة الرسالة، بيروت.

17- لسان العرب، محمد بن مكرم بن علي، أبو الفضل جمال الدين ابن منظور الأنصاري (ت 711 ه)، الناشر: دار صادر - بيروت، ط 3، 1414 ه.

18- المستطرف في كل فن مستظرف، الأبشيهي شهاب الدين محمد بن أحمد أبو الفتح الأبشيهي، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، ط 2، 1986 م.

19- النهاية في غريب الحديث والأثر، ابن الأثير مجد الدين أبو السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم الشيباني الجزري (ت 606 ه)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي - محمود محمد الطناحي،، الناشر: المكتبة العلمية، بيروت، 1399 ه - 1979 م.

ص: 382

المحتويات

المحور التربوي والأخلاقي

أثر القيم الأخلاقية في بناء النفس البشرية وانعكاساتها السلوكية في المجتمع في ضوء سيرة الإمام علي (علیه السلام) الباحث احمد محمد جواد الحكيم

مقدمة...11

أولاً: المراد من القيم والأخلاق والسلوك الإنساني...13

ثانيا: وسائل عملية لبناء النفس البشرية...18

1. قوة المثال الشخصي...18

2. تحليل وتصنيف مواطن الضعف الأخلاقي...19

(أ) وصف للخصائص السلبية للنفس البشرية...20

(ب) تصنيف النفس البشرية...20

ص: 383

3. الإستقامة في المعاملات...23

4. محاسبة دقيقة من النفس ومن الآخرين...24

5. موازين دقيقة في تعامل الإنسان مع الآخرين...26

6. اتباع قادة الحق...28

7. العمل الجماعي والابتعاد عن الانعزالية...29

ثالثا، انعكاسات القيم الأخلاقية على المجتمع...30

1. اعتماد نهج سياسي قائم على الفضيلة...30

2. التشديد على مبدأ الحوار أولاً...32

3. متابعة دقيقة للولاة والأنصار...32

4. التعاطف والتراحم مع الفئات الضعيفة...34

5. نقد للمواقف الحيادية...35

رابعاً: مفارقات في الأخلاق والسلوك...36

1. تناقضات في السلوك والأخلاق...37

2. ازدواجية السلوك...37

3.تغيّر المقاييس والأحكام...38

خاتمة...39

ص: 384

الإنسان في فكر الإمام علي (عليه السلام) أ. م. د. فلاح حسن عباس كلية الآداب - جامعة ذي قار

المقدمة...47

المبحث الأول: التحرر الفكري والإنساني...49

المبحث الثاني: الآخر والتعايش السلمي...52

المبحث الثالث: التواضع وسعة الصدر...56

المبحث الرابع: العدل...58

المبحث الخامس: القضايا الاقتصادية والاجتماعية...63

الخاتمة...69

المصادر والمراجع...73

الخطاب الوعظي وهدفهُ الإصلاحي في سيرة الإمام عليه (عليهِ السلام) (جوانب من خطبة الوسيلة أنموذجا)

إعداد الباحثان

أ. م .د أنسام غضبان عبود الباهلي كلية الآداب / جامعة البصرة

م. قاسم عبد سعدون الحسيني كلية التربية / جامعة ميسان

المقدمة...77

ص: 385

المبحث الأول: مفهوم الخطاب الوعظي وأدواتهِ...78

الإطار اللغوي والاصطلاحي...78

أثر الخطاب وأهميته في بناء الأمة:...80

إمكانيات الخطيب وأدواتهه:...81

المبحث الثاني: النهج الوعظي في سيرة الإمام علي (عليه السلام)...85

المبحث الثالث: خطبة الوسيلة...92

1- خطبة الوسيلة. سندها وأهم مصادرها...92

2- خطبة الوسيلة عنوانها وتاريخها...93

3- محورية قضية الأمامية في خطبة الوسيلة...93

4- جوانب من الخطاب الوعظي في خطبة الوسيلة...95

الخاتمة...103

المصادر والمراجع...112

قائمة المصادر...112

مقدمة...117

قائمة المراجع...117

النسق القيمي التكاملي أثره الاصلاحي في مستوى تشكيل الذات السلوكية للمجتمع بحث في ضوء عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الاشتر (رضی الله عنه(

أ. م. د. مكي فرحان كريم جامعة القادسية / كلية التربية

أ. م. د. ضياء عزيز الموسوي جامعة كربلاء / كلية العوم الإسلامية

مقدمة...123

ص: 386

المبحث الأول: دراسة المداخل النظرية لمحددات البحث...124

المبحث الثاني: عهد الإمام علي (علیه السلام) لمالك الأشتر (علیه السلام) أمثلة تطبيقية...128

الخاتمة...136

(أهم النتائج والاستنتاجات)...136

المصادر والمراجع...139

دور القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الإنسان في ضوء سيرة أمير المؤمنين (علیه السلام) وانعكاسها في خدمة المجتمع الاسلامي وتوظيفها في المناهج الدراسية الجامعية مستقبلا أ. د. صباح حسن عبد الزبيدي جامعه بابل / كلية التربية للعلوم الإنسانية

الفصل الاول: مدخل عام...145

مشكلة البحث...145

أهمية البحث:...147

أهداف البحث:...149

حدود البحث:...149

تحديد المصطلحات:...150

أولا:- الدور: ويعرف بعدة تعاریف منها:...150

ص: 387

ثانيا:- القيم الأخلاقية الفاضلة:...150

ثالثا:- امير المؤمنين علي ابن ابي طالب (عليه السلام)...152

رابعا:- البناء - (Structure) وتعرف نظريا...153

خامسا: بناء الشخصية:...154

سادسا:- المجتمع:...154

سابعا:- المجتمع الاسلامي الموحد...155

ثامنا:- المنهج الدراسي:...156

الفصل الثاني: التعرف على القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في بناء الانسان والمجتمع الاسلامي الموحد...157

طبيعة القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة:...157

اهميه القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة:...157

خصائص القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة:...158

القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة ودورها في بناء ( الانسان والمجتمع ):...159

دور القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في البناء العقائدي أو الفكري للإنسان من خلال:...165

بناء الانسان بشكل متكامل في نظر الاسلام:...167

المحور الثاني: سيرة امير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (علیه السلام)...173

وصايا امير المؤمنين الامام علي ابن ابي طالب (عليه السلام) في بناء الانسان

ص: 388

والمجتمع الاسلامي الموحد:...177

الفصل الثالث: توظيف القيم الأخلاقية الإسلامية الفاضلة في المناهج الدراسية الجامعية الإسلامية...186

أولا: الاستنتاجات:...190

ثانيا: التوصيات والمقترحات:...191

المصادر والمراجع...192

قيمة التواضع في كلام الإمام علي (علیه السلام) في نهج البلاغة بوصفها مرتكزاً أساسيًا لبناء الهوية الإنسانية د. وسام حسين جاسم العبيدي كلية الإمام الكاظم (عليه السلام) الجامعة / بابل

المقدمة...197

المحور الأول: التواضع في المشغل الاصطلاحي للمفهوم...199

المحور الثاني: قيمة التواضع في الخطاب العلوي الشريف...206

الخاتمة...223

المصادر والمراجع...225

ص: 389

الأثر القرآني في فكر الإمام علي (علیه السلام) دراسة للمبادئ التربوية في نهج البلاغة أ. م. د. محمد کاظم حسين الفتلاوي كلية التربية / جامعة الكوفة

مقدمة...289

المطلب الأول: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الفردية في نهج البلاغة...293

المطلب الثاني: الأثر القرآني في المبادئ التربوية الاجتماعية في نهج البلاغة...305

أولاً: التربية بمبدأ الاستخلاف (الحكومة)...305

ثانياً: مبدأ الحرية والاختيار:...309

ثالثاً: مبدأ الرّفق التربوي:...312

رابعاً: مبدأ الاعتدال والوسطية:...317

خاتمة ونتائج:...321

قائمة المصادر:...328

المرأة في نهج البلاغة الروايات الموافقة للقرآن الكريم دراسة تقابلية م. د. أنوار عزیز جلیل جامعة البصرة كلية التربية للعلوم الإنسانية

المقدمة...333

الروايات الموافقة للقرآن الكريم...334

ص: 390

خاتمة البحث...342

المصادر والمراجع...345

بناء الإنسان في درء الهوى - دراسة تحليلية - محمد حاكم حبيب الكريطي ماجستير لغة عربية

المبحث الأول: تضعيف الأمل في الدنيا...351

المبحث الثاني: مغالبة الهوى...358

المبحث الثالث: معصية النفس...364

الخاتمة...371

المصادر والمراجع...375

ص: 391

ص: 392

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.