النور المبین في شرح زیارة الأربعین

هویة الکتاب

النور المبین في شرح زیارة الأربعین

نويسنده: تاج الدین، مهدی

لسان: العربية

ناشر: مکتبة العلامة ابن فهد الحلي - کربلای معلی عراق

سال نشر: 1434 هجری قمری|2012 میلادی

کد کنگره: /ت2ن9 271/7 BP

ص: 1

اشارة

ص: 2

المدخل

الحمد للّٰه رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، حبيب قلوب الصادقين أبي القاسم محمد صلى الله عليه و آله، وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين المعصومين، ولعنة اللّٰه على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين.

وبعد: فهذا الكتاب الذي بين يديك - أيها القارئ الكريم - هو شرح مختصر لزيارة سيد شباب أهل الجنة: الإمام الحسين عليه السلام الخاصّة بيوم الأربعين(1).

وهذه الزيارة - كسائر الزيارات - تحتوي على مضامين عالية ونقاط سامية يجدر بكل المؤمنين الموالين معرفتها والانتباه إليها... لأن فيها دروساً وعِبَر نافعة لا يستغني عنها المؤمنون.

وفي هذا المجال أرى من المناسب أن اُشير إلى عدّة نقاط:

الأُولى: أن زيارة الأربعين هي من خصائص الإمام الحسين عليه السلام حيث لم يرد استحباب زيارة أحد من الأنبياء والأوصياء والأولياء في يوم الأربعين بعد وفاته أو شهادته... بينما ورد النّص في استحباب زيارة الإمام الحسين عليه السلام في يوم الأربعين - كما سنشير إليه - وهذا من خصائصه (صلوات اللّٰه عليه) وما أكثر خصائص الإمام الحسين عليه السلام ؟!!

ص: 3


1- المقصود من يوم الأربعين هو اليوم العشرون من شهر صفر حيث يصادف مرور أربعين يوماً على فاجعة عاشوراء الدامية، يوم استشهاد ريحانة رسول اللّٰه: الإمام الحسين عليه السلام والكوكبة الطاهرة من أهل بيته وأصحابه الأبرار على يد مرتزقة بني أُمية. كما يُصادف أيضاً وصول سبايا أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء في أول زيارة لهم للإمام الحسين عليه السلام بعد فاجعة كربلاء.

نعم.. ما أكثر خصائصه (صلوات اللّٰه عليه) من قبل ولادته ويوم ولادته وخلال حياته الكريمة ويوم شهادته وبعدها، وإلى يومنا هذا.

الثانية: ان بعض علمائنا (رضوان اللّٰه عليهم) قد وفّقهم اللّٰه تعالى لشرح بعض زيارات الإمام الحسين عليه السلام كزيارة عاشوراء... إلّاإنني لم أجد أحداً - حسب استقرائي الناقص - قد تعرّض لشرح زيارة الأربعين... مع العلم أن فيها معانٍ سامية ومعارف قيّمة.

وهذا ممّا شجّعني أكثر على القيام بشرح هذه الزيارة...

وعلى كل حال... فإنني اتقرّب إلى اللّٰه تعالى بهذا العمل المتواضع، وأسأله سبحانه أن يتفضّل عليّ بالقبول وأن يكون لي صدقة جارية وذخيرة باقية للدار الآخرة... إنه ذو الفضل العظيم.

هذا وقد احببتُ أن اُهدي كتابي هذا إلى سيدنا ومولانا صاحب العصر والزمان الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر (عجَّل اللّٰه تعالى فَرَجه الشريف).

فإليك يا بقية اللّٰه في أرضه وحُجَّته على خلقه،

يا خاتم الأوصياء،

أيها المنتقم لدم جدك الحسين عليه السلام.

إليك اُهدي هذه الصفحات المتعلقة بجدّك الإمام الحسين عليه السلام، فتقبَّل مني هذه البضاعة المزجاة، وتصدَّق علينا ان اللّٰه يجزي المتصدقين.

عجَّل اللّٰه تعالى فَرَجك وسهَّل اللّٰه مَخْرَجَك وجعلنا من أنصارك وأعوانك والمجاهدين بين يديك. آمين رب العالمين.

مهدي تاج الدين

30 / صفر / 1426 ه

ص: 4

معنى المعرفة في زيارة الإمام الحسين عليه السلام

روي عن الإمام الصادق عليه السلام أ نّه قال: «من زار الحسين عليه السلام عارفاً بحقه فكأ نّما زار اللّٰه في عرشه»(1)، وفي حديث آخر «... كتبه اللّٰه في أعلى علّيين»(2).

كما ورد أيضاً في زيارة الإمام الرضا عليه السلام - وغيره من الأئمة عليهم السلام - أن من زاره عارفاً بحقه وجبت له الجنة.

والسؤال الآن: ما معنى المعرفة هنا حيث تكون للزائر هذه الدرجة الرفيعة ؟

قبل الجواب لابد أن نعرف معنى المعرفة:

المعرفة من العرفان في مقابل العلم، والفرق بين العلم بالمعنى الأعم والمعرفة هو أن المعرفة عبارة عن إدراك الجزئيّات، والعلم عبارة عن إدراك الكليّات، وقيل أن المعرفة تصور، والعلم تصديق.

ولذا يقال: كلُّ عالم عارف وليس كلُّ عارف عالم، فالعلم يهتم بالكليّات، والمعرفة تهتم بالجزئيّات، فيُطلق على اللّٰه تعالى عالم ولا يطلق عليه عارف لأن المعرفة أخصّ من العلم، فالعلم احاطة بالكليّات والجزئيّات، واللّٰه تعالى محيط بالكليات والجزئيّات، فيطلق عليه عالم ولا يطلق عليه عارف، فالمعرفة كلي تشكيكي ذات مراتب طولية وعرضية أي مفهومه كلي ينطبق على مصاديق ذات

ص: 5


1- مستدرك الوسائل 115:10.
2- ثواب الأعمال للصدوق: 110.

مراتب متعدّدة، والكلي التشكيكي ما يتفاوت في التقدم والتأخر والضعف والأولوية، ويقابله الكلي المتواطي كالانسان، ولهذا قال مولى الموحّدين عليه السلام:

«تكلّموا تُعرفوا، فإنّ الإنسان مخبوء تحت طيّ لسانه»(1)، وجاء أيضاً:

«تكلّموا يرحمكم اللّٰه فبالكلام يُعرف قَدركم» فالمعرفة إذن هي أُسّ الكمال لكل قابل لها، لأن المعرفة مختصّة بمن له إدراك دون سواه.

والمعرفة على ثلاثة أنحاء: جلالية وجمالية وكمالية، ونذكر مثالاً لتقريب المعنى: فإنك لو رأيت جبلاً عن بُعدٍ فإنك ستعرفه بحدوده، وإنه ليس شجراً ولا حيواناً ولا إنساناً وإنما هو جبل، فهذه المعرفة يقال لها معرفة جلالية، ولكن لو اقتربت منه ورأيت جماله وصلابته وشموخه فهذه معرفة جمالية، وعندما تصعد عليه وترى كنهه وواقعه فهذه معرفة كمالية، وهكذا معرفتنا نحن للأئمة الأطهار عليهم السلام.

وقد ورد في الزيارة الجامعة: «ما من وضيع ولا شريف ولا عالم ولا جاهل إلّا عرف جلالة قدركم» أي حتى عدوّهم يشهد بفضلهم لأنه يعرفهم معرفة جلالية، وهناك من يعرف أمير المؤمنين والإمام الحسين عليه السلام بمعرفة جمالية، فلذلك استحق سلمان أن يكون من أهل البيت عليهم السلام فقالوا في حقه «سلمان منّا أهل البيت» فتراه ملازماً لأمير المؤمنين عليه السلام، فكلّما دخل الأصحاب المسجد وجدوا سلمان بجوار مولاه يشرب من معينه الصافي، فاتفقوا على أن يسبقوا سلمان إلى أمير المؤمنين عليه السلام، فبكروا بالمجيء وفعلاً لم يجدوا في الطريق إلّا آثار أقدام الإمام عليه السلام ففرحوا بذلك، ولكن عندما وصلوا المسجد وجدوا سلمان جالساً عند أمير المؤمنين عليه السلام فتفاجؤا فقالوا: يا سلمان من أين أتيت ؟ انزلت من السماء أم خرجت من الأرض ؟

ص: 6


1- نهج البلاغة، قصار الكلمات.

فقال سلمان: إنما جئت من حيث جئتم.

فقالوا: فأين آثار أقدامك ؟

فقال: إني لمّا رأيت أقدام أمير المؤمنين عليه السلام وضعت أقدامي عليها لأني أعلم انه لا يضع قدماً ولا يرفعها إلّابحكمة وعلم.

هكذا يعرف سلمان مولاه وهكذا يقتفي أثره، فمعرفة سلمان بالإمام معرفة جمالية.

وهناك معرفة أُخرى لأمير المؤمنين والإمام الحسين عليهما السلام وهي المعرفة الكمالية، وهذه منحصرة باللّٰه تعالى ورسوله حيث صرّح بذلك النبي صلى الله عليه و آله بقوله:

«يا عليّ ما عرفك إلّااللّٰه وأنا».

والسبب واضح وهو أنه لا يعرف حقيقة الولي والحجة وباطن أمير المؤمنين إلّا من كان محيطاً بذلك تمام الاحاطة.

فعلى هذا الكلام تكون معرفتنا نحن بالأئمة عليهم السلام معرفة جماليّة لا كماليّة، فكلّما ازدادت معرفتنا بهم زاد حبُّنا لهم، وإذا زدنا حباً زدنا أدباً، ومن خلال الأدب والحب نزداد علماً ونوراً في ساحتهم وروضتهم، لأن العلم ليس بكثرة التعلم وإنما هو نور يقذفه اللّٰه في قلب من يشاء.

وقال النبي عيسى عليه السلام: ليس العلم في السماء حتى ينزل إليكم ولا في الأرض فيخرج لكم وإنما هو في قلوبكم، فتخلّقوا باخلاق الرّوحانيين يظهر لكم».

وهو نظير قول النبي صلى الله عليه و آله: «من اخلص للّٰه أربعين يوماً تنفجر ينابيع الحكمة في قلبه».

فلابد للإنسان الذي يريد الترقّي في سُلَّم الكمال من المعرفة فإن الفضل بالمعرفة «افضلكم افضلكم معرفة» وهي التي تقود إلى العبادة الحقة الخالصة، ومن هنا صار نوم العالم أفضل من قيام الجاهل لأن قيمة الإنسان بالمعرفة.

ص: 7

ولهذا فالواجب على شيعة أهل البيت عليهم السلام أن يزدادوا معرفة بأهل البيت عليهم السلام ومعرفة كلامهم وأدعيتهم وزياراتهم، لأن الزيادة في معرفتهم عليهم السلام تمنح الإنسان الأدب والخضوع والخشوع والمودّة والاطاعة، ومن ثَمَّ ينال الإنسان القرب من اللّٰه ويفوز بسعادة الدارين.

ومن هذا المنطلق تعتبر زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام خطوةً في طريق معرفة ائمة أهل البيت عليهم السلام.

فبهذه المعرفة يزداد الإنسان عملاً فقد جاء في الحديث الشريف: «المعرفة تدل الإنسان على العمل والعمل على المعرفة» وعن الإمام الصادق عليه السلام قال:

لا يقبل اللّٰه عملاً إلّابمعرفة ولا معرفة إلّابعمل فمن عرف دلته المعرفة على العمل»(1).

فعلى هذا القول يتضح لنا أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين معرفة الإنسان وبين عمله فالمعرفة الجلالية هي المعرفة التي يعرفها الوضيع والشريف والجاهل والعالم، تجد الجميع عندما يدخل حرم الإمام الحسين عليه السلام يعظّمه ويحترمه حتى ولو كان إنساناً غير متأدب بالآداب الدينية، فتراه يُقبِّل الضريح والباب حبّاً وتعظيماً ولكن هذه الزيارة السطحيّة غير كافية في أن تمنع هذا الانسان من المعصية، لأنها بنيت على معرفة جلالية لا جمالية.

ولذلك تجد ذلك الرجل المسيحي(2) عندما يكتب عن أمير المؤمنين - وغيره الذين كتبوا عن الحسين عليه السلام - ويعرف أن علياً عليه السلام رجل عظيم شديد العدل، ولشدّة عدله قُتل في المحراب، لكنه لا يترك مسيحيّته ولم يتمسّك بنهج علي عليه السلام مع أنه

ص: 8


1- الكافي 94:1.
2- جورج جرداق كتابه صوت العدالة الإنسانية.

يعترف بعظمة الإمام علي وسموّه وجلاله، لأن معرفته بالإمام معرفة جلالية، فلا يوالي أمير المؤمنين عليه السلام في عقيدته ولا يقتدي في سلوكه وأفعاله، فهذا دليل على أنّ معرفته لم تصل إلى رتبة المعرفة الجمالية التي لها الأثر الكبير في علاقة العارف بأهل البيت عليه السلام.

فهكذا معرفة البعض بالإمام الحسين عليه السلام فإنه يعرفه حق المعرفة بأن له الدور الكبير في إحياء الدين، وأنه ابن رسول اللّٰه، وضحى بكل ما لديه لاجل الدين وهداية البشرية....

ولكن مع ذلك لا يتورّع عن النظر إلى المرأة الأجنبية وهو في حرم الإمام الحسين عليه السلام، فهذا دليل على أنه لا يرى للحرم حُرمةً ولا يراه شريفاً وإلّا كيف يجرء على المعصية، فهذا ينطبق على كل عارف بالإمام الحسين عليه السلام معرفة جلالية، فإنها غير كافية عن منعه عن ارتكاب المعصية.

أمّا الشيعي الحقيقي العارف بحقّه معرفة جمالية فإنّه يقدّس الحرم والمدفون في الحرم غاية التقديس والتعظيم، فتراه يدخل الحرم الشريف خاشعاً متأدّباً بآداب الزيارة والمكان.

فبالمعرفة يكتسب المؤمن أدباً وخضوعاً وحباً، لأن الإمام الحسين عليه السلام هو باب اللّٰه الذي منه يؤتى ووسيلته التي إليه ترجى ونوره في أرضه.

نحن نعلم أن الذي يقف أمام نورٍ حِسِّي سيتكوَّن خلفه ظلّ وظلمة، ويتصاغر هذا الظلّ وتندحر هذه الظلمة كلما اقترب من النور، فما يعيشه الإنسان من الجهل الذي خُلِقَ من الظُلمة وجُعل له وهي الصفات الذميمة وكلّها ظلمانية كما خُلق العقل من النور وجعل اللّٰه له جنوداً نورانية، كما في حديث العقل في كتاب الكافي.

ص: 9

فالظلمات التي يعيشها الإنسان هي السبب في هذا البعد عن الحقّ والحقيقة، فلابد من علاج ولا نرى علاجاً ناجعاً إلّابالتوجّه إلى أهل بيت الطهر والطهارة...

إلى الإمام الحسين عليه السلام والأئمة الأطهار من أهل البيت عليهم السلام ومعرفتهم حق المعرفة والتزوّد منهم، لأن القلب لو أُسود واظلَمَّ بشيء من قاذورات المعاصي فإنه يطهر بدخوله إلى حرم الإمام الحسين عليه السلام وزيارته عليه السلام بخشوع، ويخرج منها طاهراً، لأن الحسين عليه السلام يطهر القلب والروح كما يطهر الماء البدن، ولا قياس لأنهم هم أهل بيت الطهر والطهارة كما قال تعالى: - «إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» - وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله: «إن من وقف قرب بائع العطر يصيبه شيء من ذلك العطر» وهكذا الذي يدخل إلى العطر المعنوي وينغمس فيه فسيكون مصدراً للعطر أينما حل.

إذن: فلنعرف الحسين عليه السلام ولنزره بمعرفة حَقّه، وأن لا نُعدم الثواب في زيارته، فبزيارته تتغير جواهر القلوب وترتفع الحجب الظلمانية.

وقد ورد في الدعاء عن الإمام الصادق عليه السلام:

«اَللّهُمَّ عَرِّفْني نَفْسَكَ فَاِنَّكَ اِنْ لَمْ تُعَرِّفْني نَفْسَكَ لَمْ اَعْرِفْ رَسُولَكَ ، اَللّهُمَّ عَرِّفْني رَسُولَكَ فَاِنَّكَ اِنْ لَمْ تُعَرِّفْني رَسُولَكَ لَمْ اَعْرِفْ حُجَّتَكَ ، اَللّهُمَّ عَرِّفْني حُجَّتَكَ فَاِنَّكَ اِنْ لَمْ تُعَرِّفْني حُجَّتَكَ ضَلَلْتُ عَنْ ديني، اَللّهُمَّ لا تُمِتْني ميتَةً جاهِلِيَّةً ».

ص: 10

الحكمة من زيارة الإمام الحسين عليه السلام

اشارة

إذا شئت النجاة فزر حسينا *** لكي تلقى الإله قرير عين

فإن النار ليس تمس جسماً *** عليه غبار زوّار الحسين

***

وقال بعض الأُدباء:

بزوار الحسين خلطت نفسي *** لتحسب منهم يوم العداد

فإن عُدَّت فقد سعدتْ وإلّا *** فقد فازت بتكثير السواد

***

لا يخفى على من له إلمام واطلاع بالأحاديث الشريفة المرويّة حول زيارة الإمام الحسين (سلام اللّٰه عليه) ان هذا الأمر قد نال اهتمام أهل البيت عليهم السلام إلى درجة كبيرة جداً... بحيث أن زيارته عليه السلام حازت الصَّدارة في زيارة مراقد المعصومين أجمعين (عليهم الصلاة والسلام).

ولا غرابة في هذا الأمر... ذلك لأن الإمام الحسين عليه السلام هو رمز التشيّع وهو سرُّ بقاء الإسلام إلى هذا اليوم، وباسمه تقام أُلوف بل ملايين المجالس والمحافل والاجتماعات الدينية في شرق الأرض وغربها، وباسمه تؤسّس المؤسّسات والمراكز الثقافية والخيريّة والتوجيهيّة وغيرها.

والناس - على اختلاف مذاهبهم وأديانهم واتّجاهاتهم - يشعرون في أعماق نفوسهم وقلوبهم باندفاع قويّ نحو الإمام الحسين عليه السلام بالذات وشعائره المقدّسة، فتراهم يبذلون أموالهم وأملاكهم في سبيل الإمام الحسين عليه السلام وبكل جود وسخاء.

ص: 11

وتراهم يشدُّون الرحال ويقطعون أُلوف الأميال ويتحمّلون مشاقّ السفر وعناء الطريق قاصدين مدينة كربلاء المقدّسة - بالعراق - ليتشرّفوا بزيارة مرقد الإمام الحسين عليه السلام.

لماذا؟

ما هو الدافع الذي يدفعهم نحو ذلك ؟

وما هو هدفهم من ذلك ؟

الجواب: أولاً: رغبة منهم في الحصول على الثواب الجزيل الذي أعدّه اللّٰه تعالى لزائر قبر الإمام الحسين عليه السلام في الآخرة.

ذلك الثواب الذي صرّحت به عشرات الأحاديث الصحيحة المعتبرة التي لا شكّ فيها ولا ريب.

وبإمكانك - أيها القارئ الكريم - أن تقوم بمراجعة كتاب كامل الزيارات - للمحدّث الجليل الثقة: ابن قولويه - لتقف على جانب من تلك الأحاديث الشريفة المروية في هذا المجال.

ثانياً: رغبة منهم في نيل البركات والآثار الدنيويّة التي يتفضّل اللّٰه تعالى على زائر قبر الإمام الحسين عليه السلام من سعة الرزق وطول العمر ودعاء الملائكة له، وغيرها من البركات التي نطقت بها الأحاديث والروايات الصحيحة المعتبرة.

ثالثاً: لأن زيارة الإمام الحسين عليه السلام شأنها شأن العبادات الأُخرى التي يتقرّب الإنسان بها إلى اللّٰه تعالى، فزيارته «خير موضوع فمن شاء استقلّ ومن شاء استكثر» كما قال الإمام الصادق عليه السلام.

رابعاً: ان العقل يحكم برجحان زيارته عليه السلام.

توضيح ذلك: ان تقديس العظماء وتمجيد الأبطال بعد موتهم نزعة فطرية وسُنَّة عقلائية سائدة في كافّة أنحاء العالم وبين جميع الأُمم والشعوب العالمية، والحضارات الإنسانية منذ أقدم العصور وإلى يومنا هذا.

ص: 12

بل إن عصرنا هذا وجيلنا الحاضر هو أكثر تمسُّكاً وأشدّ محافظة على هذا التقليد من السابق، فترى بعض الدول - التي ليس لها زعيم سابق معروف وبطل عالمي شهير تمجّد فيه البطولة والفداء في سبيل الاُمة - يعمدون إلى بناء نصب تذكاري يسمونه (الجندي المجهول) يرمزون به على التضحية الفذّة والفداء المثالي في سبيل الوطن، ويمجّدون فيه البطولة والشهامة.

وها نحن نسمع ونقرأ ونرى إنه ما من رئيس دولة زار أو يزور دولة أُخرى في الشرق أو في الغرب إلّاوكان في برامج زيارته موعد خاص لزيارة ضريح عظيم تلك الدولة أو مؤسِّسها أو محرِّرها، أو زيارة النصب التذكاري فيها للجندي المجهول. فيضع على ذلك الضريح أو ذلك النصب اكليلاً من الزهور ويؤدّي التحيّة المرسومة.

ولذلك ترى الشعوب غير المسلمة تنحت الصور وتقيم التماثيل لرجالها المصلحين في الساحات العامة والمواقع الحساسة من مدنها... لماذا يصنعون ذلك ؟ لا شك أنك تعرف أنهم يفعلون ذلك تكريماً لذكراهم وشكراً لتضحياتهم وتلقيناً لسيرتهم وعملهم إلى الشباب الحاضر والأجيال القادمة.

غير أن الإسلام يحرم النحت وصنع التماثيل مطلقاً ولأي شخص كان، فلذا ليس أمامنا نحن المسلمين لأجل تكريم زعمائنا المخلصين وشهدائنا الأحرار لأجل الاعراب عن شكرنا لهم، ولأجل تلقين أجيالنا الطالعة سيرتهم ومبادءهم إلّا زيارة قبورهم والوقوف أمام مراقدهم خاشعين مستوحين منها ذكريات التضحية والفداء في سبيل المصلحة العامة.

هذا منطق الشيعة وفلسفتهم لهذه الظاهرة وهو كما تراه منطق العقل في كل زمان ومكان.

وعليه فإن زيارة قبور الأبطال ومراقد العظماء وأضرحة الشهداء سيرة عقلائية وسُنَّة إنسانية لا تخصّ قوماً أو أُمة أو طائفة، فلماذا يلام الشيعة على زيارة

ص: 13

مرقد الإمام الحسين عليه السلام بكربلاء، وهو سيد الشهداء الأحرار، وقدوة القادة الأبطال، والمثل الأعلى لرجال الاصلاح والفداء في العالم، الذي أنقذ أُمته من خطر المحو والزوال، ودفع بها نحو الأمام والسير على الطريق المستقيم بعد أن كلّفه ذلك جميع ما ملك في هذه الحياة ؟!

إن في زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام من المكاسب الروحية والفوائد الفكرية والأخلاقية ما ليس مثلها في زيارة أيّ مرقد وضريح آخر، وسوف نشير إلى ذلك من خلال الروايات التي وردت عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله وعن أئمة أهل البيت عليهم السلام في خصوص فضل زيارة قبر الحسين عليه السلام.

وفي الختام إليك نبذة من كتاب (أبو الشهداء) للعقاد حول هذا الموضوع قال في ص 129:

وشاءت المصادفات أن يساق ركب الحسين عليه السلام إلى كربلاء بعد أن حيل بينه وبين كل وجهة أُخرى، فاقترن تاريخها منذ ذلك اليوم بتاريخ الإسلام كلّه، ومن حقه أن يقترن بتاريخ بني الإنسان حيثما عرفت لهذا الإنسان فضيلة يستحق بها التنويه والتخليد. فهي - أي كربلاء - اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى ويزوره غير المسلمين للنظر والمشاهدة ولكنها - أي كربلاء - لو أعطيت حقها من التنويه والتخليد لحق لها أن تصبح مزاراً لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيباً من القداسة وحظاً من الفضيلة، لأننا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء بعد مصرع الحسين عليه السلام فيها.

فكل صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الإنسان إنسان وبغيرها لا يحسب إلّا ضرباً من الحيوان السائم فهي مقرونة في الذاكرة بأيام الحسين عليه السلام في تلك البقعة الجرداء. انتهى محل الشاهد من كلام العقاد.

ص: 14

نعم أيها القارئ الكريم: لقد التزم أهل البيت عليهم السلام وشيعتهم بالحفاظ على زيارة الحسين عليه السلام في ظروف صعبة وشاقة، وقد كلّفتهم تضحيات غالية. ففي عصر المتوكل العباسي مثلاً فرضت ضريبة مالية قدرها ألف دينار من ذهب على كلّ شخص يرد كربلاء لزيارة قبر الحسين عليه السلام، ولمّا رأت السلطات العباسية أن هذه الضريبة الباهظة لم تمنع الناس من زيارة الحسين عليه السلام أضافوا إليها ضريبة دموية، فكانوا يقطّعون الأيدي ويسملون الأعين وغير ذلك من الأذى.

وكان أئمة أهل البيت عليهم السلام يعلمون ذلك كلّه ولم يمنعوا الناس من زيارة الحسين عليه السلام لما فيها من مكاسب روحية واجتماعية وسياسية للمؤمنين. بل يحثّونهم على الاستمرار في زيارة قبر الإمام الحسين عليه السلام رغم كلّ الصعاب والعقبات. ويقولون لهم: إن لزائر قبر الحسين عليه السلام بكل خطوة يخطوها حسنة عند اللّٰه سبحانه.

مواسم زيارة الإمام الحسين عليه السلام:

سُبق وأن ذكرنا أن عشرات الأحاديث الصحيحة المعتبرة تصرّح باستحباب زيارة مرقد الإمام الحسين عليه السلام.

وهذه الأحاديث تنقسم إلى قسمين:

الأول: التي تذكر استحباب زيارة الإمام الحسين عليه السلام بصورة مطلقة، من دون ذكر وقت معيّن أو يوم معيّن... فهي عامّة لأيام السّنة كلها.

الثاني: التي تؤكّد على استحباب زيارته عليه السلام في أيام شريفة وأوقات خاصّة لها مزيّة عند اللّٰه سبحانه.

وفيما يلي نشير إلى بعض تلك المناسبات الخاصة - في استعراض خاطف، ومن أراد التفصيل فليراجع الكتب المفصّلة في هذا المجال كالمجلّد الخاص بزيارته عليه السلام في موسوعة بحار الأنوار للشيخ العلّامة المجلسي (طاب ثراه) وغيره -:

ص: 15

1 - كل ليلة جمعة.

2 - يوم عاشوراء.

3 - يوم الأربعين.

4 - الليلة الأُولى من شهر رجب واليوم الأول منه.

5 - النصف من شهر رجب.

6 - ليلة النصف من شهر شعبان.

7 - ليالي القدر من شهر رمضان المبارك.

8 - ليلة عيد الفطر ويوم العيد.

9 - ليلة عرفة ويوم عرفة.

10 - يوم عيد الأضحى.

11 - وفي كل يوم.

وغيرها من المواسم المستحبّة.

ولذلك تجد الشيعة الإماميّة أتباع أهل البيت عليهم السلام يتوافدون من مختلف بلاد العالم إلى كربلاء المقدّسة - وخاصّة في هذه المناسبات المذكورة - وتمتلأ بهم مدينة كربلاء بشوارعها وفنادقها وأسواقها وطرقاتها....

وقد قدِّر عدد الزوّار في إحدى المناسبات الخاصّة - بعد سقوط نظام الطاغية صدام - بثمان ملايين... وهو عدد كبير جداً.

والجدير بالذكر أن قدوم هذا العدد الهائل من الزوّار إلى مدينة كربلاء لا يؤدّي إلى حدوث أزمة في المأكل والمشرب والموادّ الغذائية وغيرها... أبداً بالرغم من عدم تعاون الحكومة على توفير وسائل الراحة للزوّار.

وفي الحقيقة... نحن لا نعرف تفسيراً لهذه الظاهرة سوى أنها من بركات الإمام الحسين عليه السلام الذي شاء اللّٰه تعالى الرفعة والسموّ والعظمة والتحدّي... على مرور الأعوام والقرون.

ص: 16

وظاهرة توافد الشيعة على كربلاء المقدّسة لزيارة مرقد الإمام الحسين عليه السلام ليست جديدة... بل إنها بدأت من تاريخ استشهاد الإمام الحسين عليه السلام - ومنذ سنة إحدى وستين هجرية - وحتى الآن.

وقد حافظ الشيعة على هذا الأمر العظيم وبذلوا مختلف امكانياتهم وجهودهم في سبيل ذلك، وواجهوا مختلف التحدّيات المناوئة بكل صمود ومقاومة، وقدّموا التضحيات الجسيمة من أموالهم وأنفسهم، وخاصة في العهدين المشؤمين:

الأموي والعباسي.

ص: 17

آثار وفضل زيارة الإمام الحسين عليه السلام

أيا زائراً قبراً على العرش قد علا *** تضمّن سبط المصطفى خيرة الملا

هل دمعك القاني وقل متمثا *** أيقتل عطشاناً حسين بكربلا

في كل عضو من أنامله بحر

***

مَن زاره عليه السلام ماشياً:

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إنّ الرجل ليخرج إلى قبر الحسين عليه السلام فله إذا خرج من أهله بأوّل خطوة مغفرة ذنوبه، ثم لم يزل يقدس بكل خطوة حتّى يأتيه، فإذا أتاه ناجاه اللّٰه تعالى فقال: عبدي سلني اعطك، ادعني اجبك، اطلب مني اعطك، سلني حاجةً اقضها لك، قال: وقال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: وحق على اللّٰه أن يعطي ما بذل(1).

وأيضاً عن عبد اللّٰه بن هلال، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: قلتُ له: جعلت فداك ما أدنى مالزائر قبر الحسين عليه السلام فقال لي:

يا عبد اللّٰه إنّ أدنى ما يكون له أن يحفظه في نفسه وأهله حتّى يردّه إلى أهله، فإذا كان يوم القيامة كان اللّٰه الحافظ له(2).

ص: 18


1- كامل الزيارات لابن قولويه القمي: 253، الحديث 379، الباب التاسع والأربعون.
2- بحار الأنوار 78:101.

كرامة اللّٰه لزوّار الحسين عليه السلام:

عن عبد اللّٰه الطحان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: سمعته وهو يقول: ما من أحد يوم القيامة إلّاوهو يتمنى أ نّه من زوّار الحسين لما يرى مما يصنع بزوّار الحسين عليه السلام من كرامتهم على اللّٰه تعالى(1).

وعنه عليه السلام أيضاً قال: مَن سرّه أن يكون على موائد النور يوم القيامة فليكن من زوّار الحسين بن علي عليه السلام(2).

أيام زائري الحسين عليه السلام لا تعد من أعمارهم:

عن الإمام الرضا عليه السلام عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّٰه جعفر الصادق عليه السلام: إنّ أيام زائري الحسين عليه السلام لا تُحسب من أعمارهم ولا تُعد من أجالهم(3).

إنّ زائر الحسين عليه السلام يكون في جوار رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله وعلي وفاطمة عليهما السلام:

عن أبي خالد ذي الشامة، قال: حدثني أبو اسامة قال: سمعتُ أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: مَن أراد أن يكون في جوار نبيه صلى الله عليه و آله وجوار علي وفاطمة فلا يدع زيارة الحسين بن علي عليه السلام(4).

إن زائر الحسين عليه السلام يدخل الجنّة قبل الناس

عن عبد اللّٰه بن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: إنّ لزوّار الحسين بن علي عليه السلام يوم القيامة فضلاً على الناس، قلتُ : وما فضلهم ؟ قال: يدخلون الجنّة قبل الناس بأربعين عاماً وسائر الناس في الحساب والموقف(5)

ص: 19


1- الوسائل للحر العاملي 424:14.
2- بحار الأنوار 72:101.
3- التهذيب للشيخ الطوسي 36:6.
4- كامل الزيارات لابن قولويه القمي: 260، الحديث 392.
5- بحار الأنوار 26:101.

مَن زار الحسين عليه السلام كَمن زار اللّٰه في عرشه:

عن زيد الشحام، قال: قلتُ لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: ما لمَن زار قبر الحسين عليه السلام قال: كان كمَن زار اللّٰه في عرشه(1).

مَن زار الحسين عليه السلام كُتب في أعلى عليّين:

عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: مَن أتى الحسين عليه السلام عارفاً بحقه كتبه اللّٰه في أعلى عليّين(2).

إنّ زيارة الحسين عليه السلام تزيد في العمر والرزق:

عن الإمام الباقر عليه السلام قال: مروا شيعتنا بزيارة قبر الحسين عليه السلام، فإنّ إتيانه يُزيد في الرزق ويمد في العمر ويدفع مدافع السوء، وإتيانه مفترض على كلّ مؤمن يقرّ للحسين بالإمامة من اللّٰه(3).

إنّ زيارة الحسين عليه السلام تحط الذنوب:

عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

مَن أراد أن يكون في كرامة اللّٰه يوم القيامة وفي شفاعة محمّد صلى الله عليه و آله فليكن للحسين زائراً ينال من اللّٰه الفضل والكرامة وحسن الثواب، ولا يسأله عن ذنب عمله في حياة الدنيا، ولو كانت ذنوبه عدد رمل عالج وجبال تهامة وزبد البحر، إنّ الحسين عليه السلام قُتل مظلوماً مضطهداً نفسه عطشاناً هو وأهل بيته وأصحابه(4).

إنّ زيارة الحسين عليه السلام تعدل عمرة وتعدل حجّة:

عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: سأل بعض أصحابنا أبا الحسن الرضا عليه السلام، عَمن أتى قبر الحسين عليه السلام، قال: تعدل عمرة(5).

ص: 20


1- المستدرك الوسائل 115:10.
2- ثواب الأعمال للشيخ الصدوق: 110.
3- بحار الأنوار 3:101.
4- بحار الأنوار 27:101.
5- ثواب الأعمال للصدوق: 112.

روى محمد بن سنان قال: سمعتُ أبا الحسن الرضا عليه السلام يقول: من أتى قبر الحسين عليه السلام كتب اللّٰه له حجة مبرورة(1).

إنّ زيارة الحسين عليه السلام تعدل عتق الرقاب:

عن أبي سعيد المدائني، قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام فقلت:

جعلت فداك أتي قبر ابن رسول اللّٰه عليه السلام قال: نعم يا أبا سعيد ائتِ قبر ابن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله اطيب الطيبين واطهر الأطهرين وأبر الأبرار، فإذا زرته كتب اللّٰه لك عتق خمسة وعشرين رقبة(2).

إنّ زوّار الحسين عليه السلام مشفّعون:

عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إنّ اللّٰه تبارك وتعالى يتجلّى لزوار قبر الحسين عليه السلام قبل أهل عرفات ويقضي حوائجهم ويغفر ذنوبهم ويشفّعهم في مسائلهم، ثم يثنّي بأهل عرفات فيفعل بهم ذلك(3).

إنّ زيارة الحسين عليه السلام يُنفّس بها الكرب وتُقضى بها الحوائج:

عن الإمام الصادق عليه السلام: قال: إنّ إلى جانبكم لقبراً ما أتاه مكروب إلّانفّس اللّٰه كربته وقضى حاجته(4).

في جامع الأخبار: أن اللّٰه (تعالى) يخلق من عرق زوار الحسين عليه السلام من كل عرقة سبعين ألف ملك يسبحون اللّٰه ويهللونه.

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال: من زار الحسين عليه السلام أول يوم من رجب غفر اللّٰه له البتة.

ص: 21


1- كامل الزيارات لابن قولويه القمي: 294، الحديث 482.
2- الوسائل للحر العاملي 448:14.
3- مصباح المتهجد للشيخ الطوسي: 497.
4- بحار الأنوار 45:101.

روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام قال: من زار قبر الحسين عليه السلام يوم عرفة كتب اللّٰه له ألف ألف حجة مع القائم (عجل اللّٰه تعالى فرجه الشريف)، وألف ألف عمرة مع رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله، وعتق ألف نسمة وحملان ألف فرس في سبيل اللّٰه، وسماه اللّٰه عزّ وجل عبدي الصدّيق آمن بوعدي، وقالت الملائكة فلان صديق زكّاه اللّٰه من فوق عرشه، وسمى في الأرض وينادي منادي هذا من زوار الحسين ابن علي عليهما السلام شوقاً إليه فلا يبقى أحد في القيامة إلّاتمنى يومئذ أنه كان من زوار الإمام الحسين عليه السلام(1).

إن اللّٰه تعالى يبدأ بالنظر إلى زوار قبر الحسين عليه السلام عشية عرفة قبل أن ينظر إلى أهل الموقف، وأن يوم عرفة له من الفضل، وقد وردت أخبار كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام منها ما رواه بشير الدهان عن الإمام الصادق عليه السلام وذلك حين سأله وقال له: سيدي ربما فاتني الوقوف بعرفات فأعرّف عند قبر الحسين عليه السلام فقال له الإمام أحسنت يا بشير أيما مؤمناً أتى قبر الحسين عليه السلام عارفاً بحقه في غير عيد يوم عرفة كتب له عشرون حجة وعشرون عمرة مبرورات متقبلات وعشرون غزوة مع نبي مرسل أو إمام عادل.

روي عن الإمام الباقر عليه السلام أنه قال: أربعة آلاف ملك شعث غبر يبكون الحسين عليه السلام إلى أن تقوم الساعة فلا يأتيه أحد إلّااستقبلوه ولا يرجع أحد إلّاشيّعوه ولا يمرض إلّاعادوه ولا يموت إلّاشيّعوه(1).

وفي كامل الزيارات روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: كان الحسين بن علي عليهما السلام ذات يوم في حجر النبي صلى الله عليه و آله يلاعبه ويضاحكه فقالت عائشة:

ص: 22


1- من مجالس عاشوراء للشيخ كاظم الاحسائي النجفي: 318.

يا رسول اللّٰه ما أشد إعجابك بهذا الصبي ؟! فقال لها: ويلك وكيف لا أحبه ولا أعجب به وهو ثمرة فؤادي وقرة عيني، أما إن أُمتي ستقتله فمن زاره بعد وفاته كتب اللّٰه له حجة من حججي، فقالت: يا رسول اللّٰه حجة من حججك، قال: نعم، وأربعة، قال: ولم تزل تزاده وهو صلى الله عليه و آله يزيد ويضعف حتى بلغ تسعين حجة من حجج رسول اللّٰه بأعمارها.

وأيضاً في الكامل عن يونس عن الرضا عليه السلام قال: من زار الحسين عليه السلام فقد حج واعتمر، قلت: يطرح عنه حجة الإسلام قال: لا هي حجة الضعيف حتى يقوى ويحج إلى بيت اللّٰه الحرام، أما علمت أن البيت يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك حتى إذا أدركهم الليل صعدوا ونزل غيرهم فطافوا بالبيت حتى الصباح، وإن الحسين عليه السلام لأكرم إلى اللّٰه من البيت، وإنه في وقت كل صلاة لينزل عليه سبعون ألف ملك شعث غبر لا يقع عليهم النوبة إلى يوم القيامة.

وروي أن امرأة يقال لها أُم سعيد الأحمسية وهذه المرأة من أهل العراق وقد ذهبت إلى زيارة الشهداء في المدينة في زمان الإمام الصادق عليه السلام قالت:

فجئت إلى الصادق عليه السلام فدخلت عليه فجاءت الجارية فقالت: قد جئتك بالدابة فقال عليه السلام: يا أُم سعيد أي شيء هذه الدابة أين تبغين تذهبين، قلت: أزور قبور الشهداء؛ فقال عليه السلام: ما أعجبكم يا أهل العراق تأتون الشهداء من سفر بعيد وتتركون سيد الشهداء ألا تأتونه، قالت: فقلت له: مَن سيد الشهداء؟ فقال عليه السلام: هو الإمام الحسين عليه السلام بن علي بن أبي طالب عليه السلام، تقول: فقلت له:

إني امرأة، فقال: لا بأس لمن مثلك أن تذهب إليه وتزوره، فقلت: أي شيء لنا في زيارته، قال: كعدل حجة وعمرة واعتكاف شهرين في المسجد الحرام

ص: 23

وصيامها وخير منها قالت: وبسط يده وضمها ثلاث مرات، ثم قال عليه السلام:

يا أُم سعيد تزورين قبر الحسين، قالت: قلت: نعم، قال: يا أُم سعيد زوريه فإنّ زيارته واجبة على الرجال والنساء(1).

وفي البحار عن حنان بن سدير عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: يا سدير تزور قبر الحسين في كل يوم، قلت: لا، فقال: ما أجفاكم فتزوره في كل شهر قلت: لا، قال: أفتزوره في كل سنة، قلت: قد يكون ذلك، قال: يا سدير ما أفجاكم بالحسين عليه السلام، أما علمت أن للّٰه ألف ألف ملك شعث غبر يبكون فيزورون لا يفترون، وعليك يا سدير أن تزور قبر الحسين في الجمعة خمس مرات وفي كل يوم مرة، قلت: جعلت فداك بيننا وبينه فراسخ كثيرة، قال لي: إصعد فوق سطحك ثم تلفت يمنة ويسرة ثم ترفع رأسك إلى السماء ثم تنحو نحو القبر وتقول: «السلام عليك يا أبا عبد اللّٰه، السلام عليك ورحمة اللّٰه وبركاته» يكتب لك بكل زيارة حجة وعمرة.

روي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السلام قال: لو يعلم الناس ما في زيارة الحسين عليه السلام من الفضل لماتوا شوقاً إليه وتقطعت أنفاسهم عليه حسرات. وقال عليه السلام: من أتاه متشوقاً كتب اللّٰه له ألف حجة متقبلة، وألف عمرة مبرورة، وأجر ألف شهيد من شهداء بدر، وأجر ألف صائم وثواب ألف صدقة مقبولة، وثواب ألف نسمة أُريد بها وجه اللّٰه، ولم يزل محفوظاً سنة من كل آفة، وإن مات في سنته حضرته الملائكة وهم ملائكة الرحمة، يحضرون غسله وإكفانه والاستغفار له، ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له، ويفسح له في قبره، ويؤمنه اللّٰه

ص: 24


1- نفس المصدر: 320.

من ضغطة القبر، ومن منكر ونكير أن يروعاه، ويفتح له باب إلى الجنة، ويعطى كتابه بيمينه ويعطى يوم القيامة نوراً ليضيء لنوره ما بين المشرق، والمغرب وينادىٰ هذا من زوار قبر الحسين بن علي عليه السلام، ثم يقول الإمام عليه السلام: إذا اغتسل الزائر من ماء الفرات تساقطت عنه ذنوبه كيوم ولدته أُمه(1).

ص: 25


1- نفس المصدر: 318.

في معنى الزيارة ووظائفها

قال في مجمع البحرين، زاره يزوره زيارة: قصده... إلى أن قال: والزيارة في العرف: قصد المزور اكراماً له وتعظيماً له واستيناساً به.

وقيل: الزيارة هي الحضور عند المزور وقيل: هي التشرف بمحضر الإمام عليه السلام ولا ريب في أن المعنى الأول يعمّ الزيارة من قريب أو بعيد فإن القصد عام وإن كان يتبادر منه قصد الزيارة من قريب.

وكيف كان فأكثر مصاديقها يلاحظ فيها المعنى العرفي، فهي إذا لوحظت بالنسبة إلى العرف فمصاديقها ظاهرة عندهم، وإذا لوحظت بالنسبة إلى الإمام عليه السلام حياً كان أو ميتاً فلها شرائط خاصّة زائدة على معناها اللغوي والعرفي سنشير إليها.

ثم على معنى أن حقيقة الزيارة هو الحضور عند المزور فتحقق هذا المعنى من الزائر لهم عليهم السلام مشكل جداً إلّاإذا عمل بوظائف الزيارة وهي على قسمين:

الأول: الوظائف التي تجب مراعاتها ظاهراً.

الثاني: التي تجب مراعاتها باطناً.

أمّا الأول: ففيه أُمور:

الأمر الأول: قال اللّٰه تعالى: «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوٰادِ اَلْمُقَدَّسِ طُوىً »(1) ،

ص: 26


1- سورة طه: 12.

وقال تعالى: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَرْفَعُوا أَصْوٰاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ اَلنَّبِيِّ وَ لاٰ تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمٰالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لاٰ تَشْعُرُونَ * إِنَّ اَلَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوٰاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اَللّٰهِ أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ اِمْتَحَنَ اَللّٰهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوىٰ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ »(1) .

دلّت هذه الآيات على لزوم إكرام الروضات المقدسة، وخلع النعلين بعيداً عنها ولا سيما في الطف والغري لما روي أن الشجرة كانت في كربلاء وأن الغري قطعة من الطور، فهما المحل الذي أمر موسى عليه السلام بتلك الآداب، كما دلّت هذه الآيات على لزوم خفض الصوت عند قبر النبي صلى الله عليه و آله وعدم جهر الصوت لا بالزيارة ولا بغيرها إلّابالنحو المتعارف الذي يكون مصداقاً للصوت.

ولما روي، كما عن المجلسي رحمه الله: إن حرمتهم بعد موتهم كحرمتهم في حياتهم.

وكذا عند قبور الأئمة عليهم السلام لما ورد: أن حرمتهم كحرمة النبي صلى الله عليه و آله.

فعلم أنه لابد من إزالة ما به هتك إحترامهم، ولابدّ من خفض الصوت عندهم.

الأمر الثاني: أن يكون متطهّراً من الحدث والخبث

قال الشهيد رحمه الله في الدروس: للزيارات آداب، أحدها: الغسل قبل دخول المسجد، والكون على طهارة، فلو أحدث أعاد الغسل، قاله المفيد رحمه الله، وإتيانه بخضوع وخشوع في ثياب طاهرة نظيفة جدد.

فعن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في قوله تعالى: «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ»(2) ، قال عليه السلام: الغسل عند لقاء كل إمام.

ص: 27


1- سورة الحجرات: 2 و 3.
2- سورة الأعراف: 31.

مضافاً إلى ما روي في البحار(1) عن قرب الأسناد عن أبي سعد، عن الأزدي قال: خرجنا من المدينة نريد منزل أبي عبد اللّٰه عليه السلام فلحقنا أبو بصير خارجاً من زقاق من أزقة المدينة وهو جنب، ونحن لا علم لنا حتى دخلنا على أبي عبد اللّٰه عليه السلام فسلمنا عليه فرفع رأسه إلى أبي بصير فقال له: يا أبا بصير أما تعلم إنه لا ينبغي للجنب أن يدخل بيوت الأنبياء. فرجع أبو بصير ودخلنا.

وعن كتاب فرحة الغري(2) عن أبي عبد اللّٰه الصادق عليه السلام قال: إذا أردت زيارة قبر أمير المؤمنين عليه السلام فتوضأ واغتسل وامش على هيئتك وقل، الخبر.

والأخبار الدالة عليه كثيرة في مطاوي أحاديث الزيارات، إلّاأنه وقع الكلام في وقت غسل الزيارة، وأنه لابد من اتصاله بالزيارة، أو يكفي غسل اليوم إلى الليل، وغسل الليل إلى طلوع الفجر وإن نام وأحدث.

ففي البحار عن التهذيب عن عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: من اغتسل بعد طلوع الفجر كفاه غسله إلى الليل في كل موضع يجب فيه الغسل، ومن اغتسل ليلاً كفاه غسله إلى طلوع الفجر.

قال المجلسي رحمه الله: الظاهر أن المراد بالوجوب هنا اللزوم والاستحباب المؤكّد.

وفيه عن السرائر: جميل عن حسين الخراساني عن أحدهما عليهما السلام أنه سمعه يقول: غسل يومك يجزيك لليلتك، وغسل ليلتك يجزيك ليومك. قال رحمه الله: هذا الخبر الذي أخرجه ابن إدريس من كتاب جميل، الذي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه، تدل على ما هو أوسع من الخبر المتقدم، وأنه إذا اغتسل في أول اليوم يجزيه إلى آخر الليل وبالعكس.

ص: 28


1- بحار الأنوار 126:100.
2- بحار الأنوار 271:100.

الامر الثالث: الطواف بمراقد النبي والأئمة عليهم السلام:

قد اشتهر في أنه هل يجوز الطواف بمراقد النبي والأئمة عليهم السلام أم لا؟ فقيل بالثاني استناداً إلى ما عن علل الشرائع كما في البحار(1) بإسناده عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لا تشرب وأنت قائم ولا تطف بقبر، ولا تبل في ماء نقيع فإنه من فعل ذلك فأصابه شيء فلا يلومنّ إلّانفسه، ومن فعل شيئاً من ذلك لم يكن يفارقه إلّاما شاء اللّٰه.

قال صاحب الأنوار الساطعة فيه(2): ما لا يخفى من المنع توضيحه: قال في المجمع: والطواف الغائط ومنه الخبر: لا يصل أحدكم وهو يدافع الطواف، ومنه الحديث: لا تبل في مستنقع ولا تطف بقبر.

فعلم أن المراد من قوله: ولا تطف بقبر، وهو النهي عن التغوط.

ويؤيده ما قاله في النهاية: الطوف، الحدث من الطعام، ومنه الحديث نهى عن متحدثين على طوفهما أي عند الغائط.

وهناك شواهد أُخر من الأحاديث على أن المراد منه هو التغوط، ففي حديثين وردا عن راو واحد بسياق واحد في بيان موجبات تسرّع الشيطان إلى الإنسان وهي أُمور: منها التخلي عند قبر وذكر في الآخر ولا تطف بقبر مكانه فيعطى الظن القوي بأن المراد من قوله لا تطف بقبر هو النهي عن التخلي عند قبر، وتوضيحه في محله على أنه يمكن النهي عنه بعنوان طواف البيت من حيث العدد المخصوص.

مضافاً إلى إنه ورد في الزيارة الجامعة لأئمة المسلمين عليهم السلام إلّاأن نطوف حول مشاهدكم. وفي بعض الروايات: قبّل جوانب القبر.

ص: 29


1- بحار الأنوار 126:100.
2- في شرح زيارة الجامعة للشيخ جواد الكربلائي 368:1.

وفي الكافي بإسناده عن محمد بن أبي العلاء قال: سمعت يحيى بن أكثم قاضي سامراء بعد ما جهدت به وناظرته وحاورته، وواصلته وسألته عن علوم آل محمد صلى الله عليه و آله قال: بينا أنا ذات يوم دخلت أطوف بقبر رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله فرأيت محمد ابن علي الرضا عليه السلام يطوف به فناظرته في مسائل عندي فأخرجها إليّ ، الخبر.

في فهذا الخبر صريح بأنه عليه السلام كان يطوف بالقبر الشريف.

نعم الأحوط أن لا يطوف إلّاللإتيان بالأدعية والأعمال المأثورة لما حول القبر.

والحاصل: أن المشي حول القبر مطلقاً بقصد تقبيل جوانب القبر، أو ذكر الأدعية الواردة ليس طوافاً كطواف البيت، وإن أطلق عليه لفظ الطواف، بل الظاهر أن المشي حول البيت بدون قصد المأمور به ليس الطواف الشرعي الذي هو من أعمال الحج والعمرة. نعم هو طواف لغوي كالطواف حول القبور.

فالظاهر أنه لا إشكال في الطواف بهذا المعنى حول قبور الأئمة عليهم السلام.

هذا مع أنه يمكن تخصيص المنع بقبر غير المعصوم جمعاً وبين ما دلّ على عمل المعصوم الطواف به كما تقدم.

الأمر الرابع: تقبيل القبور:

فالظاهر أنه مما لا خلاف فيه بين الإمامية في جوازه بل استحبابه.

ويدل عليه ما في مطاوي أحاديث الزيارات من قوله عليه السلام: قبّل جوانب القبر وغيره، وقد نقل الشهيد رحمه الله في الدروس بوجود نص على التقبيل.

نعم، هل يجوز تقبيل العتبة أم لا؟ قولان، أقواهما الأول، قال الشهيد في الدروس: ولا كراهة في تقبيل الضرائح بل هو سنة عندنا، ولو كان هناك تقيّة فتركه أولى.

وأما تقبيل الأعتاب فلم نقف فيه على نص يعتد به، ولكن عليه الإمامية، ولو سجد الزائر ونوى بالسجدة الشكر للّٰه تعالى على بلوغه تلك البقعة كان أولى.

ص: 30

قال صاحب الأنوار الساطعة: لم نعلم كون الهوي لتقبيل العتبة من السجدة حتى يقصد بها سجدة الشكر، وإلّا لكان مطلق الهوي لتقبيل زوجته النائمة سجدة، وهو كما ترى بل المتراءى من العوام أن القصد من الهوي هو التعظيم له عليه السلام بتقبيل العتبة، على أن الكلام في هذا الهوي المطلق، وإلّا فلا ريب في عدم جواز السجدة لغير اللّٰه تعالى حتى يقال في المقام بأولوية قصد سجدة الشكر فراراً عن السجدة لغيره تعالى بل هو واجب حينئذ. فتأمل(1).

وعلى أيّ حال تقبيل العتبة لا إشكال فيه، ولو لم يقصد السجدة تمسكاً بمطلقات تقبيل العتبة.

نعم قد يقال: إن المنصرف من العتبة هو الخشبة الرافعة في أطراف الباب لا الملتصقة بالأرض، وفيه ما لا يخفى من البعد ومنع الانصراف.

وفي المجمع: والعتبة أُسكفّة الباب والجمع عتب، وهو كما ترى مطلق يشمل الخشبة الملتصقة بالأرض.

الأمر الخامس: في وقت الزيارة ومحلّها:

قال صاحب الأنوار الساطعة في شرح زيارة الجامعة: أما أصلها فيقتصر على الإتيان بها في المأثور في الزيارات أو الإتيان بها رجاءً .

وأما وقتها: قال الشهيد رحمه الله في الدروس: ومن دخل المسجد والإمام يصلي بدأ بالصلاة قبل الزيارة، وكذلك لو كان حضر وقتها وإلّا فالبدءة بالزيارة أولى؛ لأنّها مقصده، إلى أن قال: وينبغي مع كثرة الزائرين أن يخفف السابقون إلى الضريح الزيارة وينصرفوا؛ ليحضر من بعدهم فيفوزوا من القرب إلى الضريح بما فاز أُولئك.

ص: 31


1- وجه التأمل أنه لعل المراد من قوله رحمه الله ولو سجد الزائر الخ انه يسجد للّٰه تعالى عوض الهوى للتقبيل لا ان الهوى للتقبيل يكون سجدة مطلقاً فيكون الأولى قصد سجدة الشكر فتدبّر.

وقال في مكان الزيارة: وثالثها من الآداب: الوقوف على الضريح ملاصقاً له أو غير ملاصق، وتوهم أن البعد أدب وهم فقد نصّ على الاتكاء على الضريح وتقبيله.

وأما محل صلاة الزيارة، قال فيه رحمه الله: سادسها: صلاة ركعتين للزيارة عند الفراغ، فإن كان زائراً للنبي صلى الله عليه و آله ففي الروضة، وإن كان لأحد الأئمة عليهم السلام فعند رأسه، ولو صلاهما بمسجد المكان جاز، ورويت رخصة في صلاتهما إلى القبر ولو استدبر القبلة وصلّى جاز، وإن كان غير مستحسن إلّامع البعد.

فعن الاحتجاج: كتب الحميري إلى الناحية المقدسة يسأل عن الرجل يزور قبور الأئمة عليهم السلام هل يجوز أن يسجد على القبر أم لا؟ وهل يجوز لمن صلّى عند بعض قبورهم عليهم السلام أن يقوم وراء القبر ويجعل القبر قبلة، أم يقوم عند رأسه أو رجليه ؟ وهل يجوز أن يتقدم القبر ويصلي ويجعل القبر خلفه أم لا؟

فأجاب (صلوات اللّٰه عليه): أما السجود على القبر فلا يجوز في نافلة ولا فريضة ولا زيارة، والذي عليه العمل أن يضع خدّه الأيمن على القبر، وأما الصلاة فإنها خلفه، ويجعل القبر أمامه، ولا يجوز أن يصلي بين يديه ولا عن يمينه ولا عن يساره، لأن الإمام عليه السلام لا يتقدم عليه ولا يساوى.

وفيه عن علل الشرائع بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت له:

الصلاة بين القبور؟ قال: صل بين خلالها ولا تتخذ شيئاً منها قبلة، فإن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله نهى عن ذلك، وقال: لا تتخذوا قبري قبلة ولا مسجداً، فإن اللّٰه عزّ وجل لعن الذين اتخذوا قبور أنبيائهم قبلة.

لا إشكال في جعل القبر أمامه في الصلاة، وأما السجود عليه فلا، وأما التقدم أو التساوي على القبر ففتاوى العلماء مختلفة والأغلب عدم الجواز، كلّ ذلك بلا فرق بين الصلاة الواجبة أو المستحبة بأقسامها.

ص: 32

وهناك أُمور أُخر لابد من ملاحظتها، فعن الشهيد رحمه الله إنه ذكر أُموراً في الدروس تقدم بعضها:

منها: استقبال وجه المزور واستدبار القبلة حال الزيارة هذا في زيارة الإمام عليه السلام وأما غيره فالأمر بالعكس كما ذكره المحدث القمي.

ومنها: الزيارات المأثورة للنهي عن الزيارات والأدعية المخترعة.

روى الكليني رحمه الله عن عبد الرحيم القصير قال: دخلت على الصادق عليه السلام فقلت:

جعلت فداك قد اخترعت دعاء من نفسي، فقال عليه السلام: دعني اختراعك، إذا عرضتك حاجة فلذ برسول اللّٰه صلى الله عليه و آله وصل ركعتين واهدهما إليه، الخبر.

ومنها: الدعاء خصوصاً بعد الصلاة.

ومنها: التصدق بشيء على السدنة والحفظة للمشهد الشريف.

ومنها: تعجيل الخروج عند قضاء الوطر من الزيارة لتعظم الحرمة، ويشتد الشوق كما علمت من قوله صلى الله عليه و آله: زرني غبّاً تزود حبّاً.

ومنها: إن الخارج يمشي القهقري حتى يتوارى كما روي.

ومنها: تلاوة القرآن عند المزور وإهدائه له فإن ذلك تعظيم للمزور.

ومنها: إذا دخل قدّم رجله اليمنى وإذا خرج فباليسرى كالمسجد.

ومنها: أن يلبس ثياباً طاهرة نظيفة ويحسن أن تكون بيضاء.

ومنها: أن يقصر خطاه إذا خرج إلى الروضة المقدسة لما له من ثواب حج وعمرة لكلّ خطوة كما روي وأن يسير وعليه السكينة والوقار بحال الخشوع والخضوع مطأطأ رأسه غير ملتفت إلى الجوانب، ومع هذا يكون لشأنه مشتغلاً بالتكبير والتسبيح والتهليل والتمجيد والصلاة على محمد وآله، وأن يزور الإمام قائماً على قدميه إلّاإذا استولى عليه الضعف ونحوه من الأعذار.

ومنها: التطيب بالطيب فيما عدا زيارة الحسين عليه السلام فإن زيارته له أدب خاص.

ص: 33

ففي كامل الزيارات بإسناده عن كرام بن عمرو قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام لكرام: إذا أردت أنت قبر الحسين عليه السلام فزره وأنت كئيب حزين شعث مغبّر فإن الحسين عليه السلام قتل وهو كئيب حزين شعث مغبّر جائع عطشان.

وأمّا الثاني: أعني الوظائف التي تجب مراعاتها باطناً

قال الشهيد رحمه الله، في الآداب: وثانيها: الوقوف على بابه والدعاء والاستيذان بالمأثور، فإن وجد خشوعاً ورقّة دخل وإلّا فالأفضل له تحري زمان الرقّة، لأن الغرض الأهم حضور القلب ليلقى الرحمة النازلة من الرب.

وقال: وتاسعها: إحضار القلب في جميع أحواله مهما استطاع، والتوبة من الذنب والاستغفار والإقلاع (أي البناء على ترك العود إلى الذنب بنية صادقة جازمة).

فإن المستفاد من الأحاديث هو لزوم تحصيل حضور القلب في الزيارة، خصوصاً عند الاستيذان وقبل الزيارة وهي بأُمور: منها التفكر في عظمة صاحب القبر، وأنه يرى مقامه ويسمع كلامه ويرد سلامه، والتدبر في لطفهم وحبهم لشيعتهم وزائريهم، والتأمل في فساد حاله وجفائه لهم عليهم السلام بالتقصير عن أداء حقوقهم وحقوق شيعتهم، والعمل بوظائفه بالنسبة إلى دينه وشرعه، وأن يتمثل نفسه بحالات توجب له البكاء والرقة والحنين.

ص: 34

السر في عدد الأربعين

لا يعرف أحد السرّ الدفين في عدد «الأربعين» وفلسفته الوجوديّة، وامتيازه على الأعداد الأُخرى والأرقام الثانية، حيث نواجه في الأحاديث المأثورة عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله وأهل بيته الكرام، تركيزاً كثيراً في شتّى المجالات والمواضيع على هذا العدد: «الأربعين» بالذات، ممّا يسترعي الانتباه والوقوف أمام هذه الظاهرة الفريدة بين الأعداد والأرقام. كما أن القرآن الكريم عند سرده لقصص بعض الأنبياء العظام يومىء إلى دور هذا العدد في حياة النبي صلى الله عليه و آله.

وإليك بعض التفصيل لما ألمحنا إليه من القرآن الكريم والسنة الشريفة. وهو:

تحدّث القرآن الكريم عن قوم موسى عليه السلام وتقهقرهم على ما كانوا من الكفر والضلال عندما تأخر عنهم موسى عليه السلام أربعين ليلة قائلاً: «وَ إِذْ وٰاعَدْنٰا مُوسىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظٰالِمُونَ »(1) .

كما وأن القرآن الكريم قد جاء على ذكر قوم موسى عليه السلام، وما تلقّوا من العذاب في الدنيا بعد أن رفضوا الانصياع له عليه الصلاة والسلام، متحدثاً:

«قٰالَ فَإِنَّهٰا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ فَلاٰ تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفٰاسِقِينَ »(2) بعد أن أمر موسى عليه السلام قومه بالدخول في الأرض المقدسة حسب

ص: 35


1- البقرة: 51.
2- المائدة: 26.

ما يحكي القرآن الكريم «يٰا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّٰهُ لَكُمْ وَ لاٰ تَرْتَدُّوا عَلىٰ أَدْبٰارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خٰاسِرِينَ » . ولكن قومه تعنتوا وتمرّدوا و «قٰالُوا يٰا مُوسىٰ إِنّٰا لَنْ نَدْخُلَهٰا أَبَداً مٰا دٰامُوا فِيهٰا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقٰاتِلاٰ إِنّٰا هٰاهُنٰا قٰاعِدُونَ » فتاهوا أربعين سنة في البيداء.

وفي مجال ثالث يربط القرآن الكريم بين بلوغ الأشدّ وكمال العقل لدى الإنسان من جهة وبين البلوغ للعام الأربعين من جهة أُخرى حيث يقول عزّ من قائل: «حَتّٰى إِذٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قٰالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ »(1) ففي هذه الموارد الثلاثة يؤكد القرآن الكريم على عدد «الأربعين».

وأما الأحاديث التي جاءت على ذكر عدد الأربعين في مجالات مختلفة فكثيرة:

منها: إستحباب شهادة أربعين مؤمناً بالخير والإيمان للمؤمن الذي رحل من الدنيا.

عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام إنه قال: «إذا مات المؤمن فحضر جنازته أربعون رجلاً من المؤمنين فقالوا اللهم إنا لا نعلم منه إلّاخيراً وأنت أعلم به منّا قال اللّٰه تبارك وتعالى قد أجزت شهادتكم وغفرت له ما علمت مما لا تعلمون»(2).

ومنها: إستحباب اجتماع أربعين شخصاً في الدعاء والمسألة من اللّٰه سبحانه.

عن أبي خالد قال: قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام «ما من رهط أربعين رجلاً اجتمعوافدعوا اللّٰه عزّ وجل في أمر إلّااستجاب لهم»(1).

ص: 36


1- الأحقاف: 15.
2- وسائل الشيعة 925:2، الباب 90 من أبواب الدفن، الحديث 1.

ومنها: إستحباب دعاء الإنسان لأربعين شخصاً من المؤمنين قبل دعائه لنفسه.

عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: «من قدّم في دعائه أربعين من المؤمنين ثم دعا لنفسه استجيب له»(1).

ومنها: تأكد إستحباب زيارة الحسين عليه السلام يوم الأربعين من مقتله وهو يوم العشرين من سفر.

عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام إنه قال: «علامات المؤمن خمس: صلاة الخمسين، وزيارة الأربعين، والتختم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم»(2).

ومنها: إستحباب رش القبر بالماء بعد الدفن وتكراره أربعين شهراً أو أربعين يوماً وفي كل يوم مرّة واحدة.

عن محمد بن الوليد إن صاحب المقبرة سأله عن قبر يونس بن يعقوب وقال:

«من صاحب هذا القبر فإنّ أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام أمرني أن أرش قبره أربعين شهراً أو أربعين يوماً في كل يوم مرة»(3).

ومنها: إن آثار الإخلاص للّٰه تتفجر لدى المؤمن إذا استمر عليه لمدة أربعين يوماً.

عن أبي جعفر عليه السلام قال: «ما أخلص عبد الإيمان باللّٰه أربعين يوماً أو قال ماأجمل عبد ذكر اللّٰه أربعين يوماً إلّازهده اللّٰه في الدنيا، وبصره دائها ودوائها، وأثبت الحكمة في قلبه وأنطق بها لسانه...»(4).

ص: 37


1- وسائل الشيعة 1143:4، الباب 38 من أبواب الدعاء، الحديث 1.
2- وسائل الشيعة ج 4، الباب 45 من أبواب الدعاء، الحديث 5.
3- وسائل الشيعة ج 10، الباب 56 من أبواب المزار وما يناسبه.
4- وسائل الشيعة 860:2، الباب 32 من أبواب الدفن، الحديث 6.

ومنها: احتباس الوحي عن النبي موسى عليه السلام أربعين صباحاً(1) وأن مدّة ملك داود عليه السلام كانت أربعين سنة(2) وأن الوحي قد احتبس عن النبي محمد صلى الله عليه و آله أربعين يوماً(3).

كما قيل إن اللّٰه سبحانه وتعالى قد جعل إنتقال الإنسان في أصل الخلقة من حال إلى حال في أربعين يوماً كالانتقال من النطفة إلى العلقة، ومن العلقة إلى المضغة ومن المضغة إلى العظام ومنها إلى اكتساء اللحم(4).

وأورد المحقق الخبير الشيخ آقا بزرگ الطهراني في «الذريعة»(5) إثنا عشر كتاباً لعلمائنا الكبار القدامى باسم «الأربعون» مثل «الأربعون مسألة» للشيخ جمال الدين حسن بن يوسف بن المطهر الحلي المتوفّى عام (606 ه) الموافق عام (1185 م). و «الأربعون مسألة» للشيخ شمس الدين محمد بن مكي الشهيد عام (786 ه) الموافق سنة (1366 م).

كما أن جمعاً من علمائنا العظام رضوان اللّٰه تعالى عليهم وضعوا كتباً اسموها ب «الأربعينيات» لاستقصاء ما ورد ذكر الأربعين فيها. مثل «الأربعونيّات» للشيخ حبيب اللّٰه بن شيخ الحكماء. و «الأربعونيات» للعلامة النوري قدس اللّٰه نفسه.

فنستظهر من الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة، واهتمام العلماء بعدد الأربعين في تصانيفهم القيّمة، أن لهذا العدد شأناً قد لا يتوفر في الأعدادوالأرقام الأُخرى.

ص: 38


1- بحار الأنوار 28:13، الحديث 9.
2- بحار الأنوار 15:14، الحديث 23.
3- بحار الأنوار 136:16.
4- بحار الأنوار 241:70.
5- الذريعة 434:1، دار الأضواء - بيروت.

ومن جملة تلك الروايات المأثورة عن أهل البيت عليهم السلام واهتمامات علمائنا الأبرار، الأحاديث المعروفة المشهورة ب «حفظ أربعين حديثاً».

عن أبي عبد اللّٰه الصادق عليه السلام قال: «من حفظ من شيعتنا أربعين حديثاً بعثه اللّٰه عزّ وجل يوم القيامة عالماً فقيهاً ولم يعذّبه»(1).

وعن أنس قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: «من حفظ عني من أُمتي أربعين حديثاً في أمر دينه يريد به وجه اللّٰه عزّ وجل والدار الآخرة بعثه اللّٰه يوم القيامة فقيهاً عالماً»(2).

وغير ذلك من الأخبار المنقولة عن المعصومين عليهم السلام التي تفوق حدّ الإحصاء.

قال المجلسي رحمه الله: «هذا المضمون مشهور مستفيض بين الخاصّة والعامّة بل قيل إنه متواتر»(3).

وذكر الباحث المدقق الطهراني في «الذريعة»(4) سبع وسبعين كتاباً باسم (الأربعون حديثاً) للعلماء والفقهاء والمحدثين ابتداءاً من القرن الرابع الهجري حسب إحصائه إلى القرن الرابع عشر الهجري. ونجد بأن هذه الكتب مختلفة فيما بينها من ناحية الموضوع والمضمون، رغم اتفاق جميع هذه الكتب في اسم واحد هو: «أربعون حديثاً» إذ أن قسماً منها في مناقب الفقراء خاصة وقسماً آخر في خصوص الإمامة، وقسماً ثالثاً في فضائل أمير المؤمنين وقسماً رابعاً في الأحكام والأخلاق وخامساً في فضيلة العلم وسادساً في الطب وسابعاً في الأخلاق.

ص: 39


1- بحار الأنوار 153:2، الحديث 1.
2- بحار الأنوار 154:2، الحديث 5.
3- بحار الأنوار 156:2، الحديث 5.
4- الذريعة 409:1.

متن زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام

رواها الشيخ في التهذيب(1) والمصباح عن صفوان الجمّال قال، قال لي مولاي الصادق عليه السلام في زيارة الأربعين، تزول عند ارتفاع النهار وتقول:

اَلسَّلامُ عَلىٰ وَلِيِّ اللّٰهِ وَحَبيبهِ ، اَلسَّلامُ عَلىٰ خَليلِ اللّٰهِ وَنَجيبِهِ ، اَلسَّلامُ عَلىٰ صَفِيِّ اللّٰهِ وَابْنِ صَفِيِّهِ ، اَلسَّلامُ عَلىَ الْحُسَيْنِ الْمَظْلُومِ الشَّهيدِ، اَلسَّلامُ علىٰ اَسيرِ الْكُرُباتِ ، وَقَتيلِ الْعَبَراتِ ، اَللّهُمَّ اِنّي اَشْهَدُ اَنَّهُ وَلِيُّكَ وَابْنُ وَلِيِّكَ ، وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ ، الْفآئِزُ بِكَرامَتِكَ ، اَكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَةِ ، وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَةِ ، وَاَجْتَبَيْتَهُ بِطيبِ الْوِلادَةِ ، وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السّادَةِ وَقآئِداً مِنَ الْقادَةِ ، وَذآئِداً مِنْ الْذادَةِ ، وَاَعْطَيْتَهُ مَواريثَ الْأَنْبِيآءِ ، وَجَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلىٰ خَلْقِكَ مِنَ الأَْوْصِيآءِ ، فَاَعْذَرَ فيِ الدُّعآءِ ، وَمَنَحَ النُّصْحَ ، وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ ، لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ ، وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا، وَباعَ حَظَّهُ بِالْأَرْذَلِ الأَْدْنىٰ ، وَشَرىٰ آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوْكَسِ ،

ص: 40


1- عن التهذيب قال: اخبرنا جماعة من أصحابنا عن أبي محمد هارون بن موسى بن أحمد التلعكبري، قال: حدثنا محمد بن علي بن معمر، قال: حدثني أبو الحسن علي بن محمد بن مسعدة والحسن بن علي بن فضال عن سعدان بن مسلم عن صفوان بن مهران الجمال، وعن وسائل الشيعة باب تأكّد استحباب زيارة الحسين عليه السلام في يوم الأربعين من مقتله وهو يوم العشرين من صفر. قال روي عن أبي محمد الحسن العسكري عليه السلام أنه قال: علامات المؤمن خمس: صلاة إحدى والخمسين وزيارة الأربعين والتختم في اليمين وتعفير الجبين والجهر ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم.

وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّىٰ في هَواهُ ، وَاَسْخَطَكَ وَاَسْخَطَ نَبِيَّكَ ، وَاَطاعَ مِنْ عِبادِكَ اَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ ، وَحَمَلَةَ الْأَوْزارِ الْمُسْتَوْجِبينَ النّارَ، فَجاهَدَهُمْ فيكَ صابِراً مُحْتَسِباً، حَتّىٰ سُفِكَ فىٖ طٰاعَتِكَ دَمُهُ ، وَاسْتُبيحَ حَريٖمُهُ ، اَللّٰهُمَّ فَالْعَنْهُمْ لَعْناً وَبيلاً، وَعَذِّبْهُمْ عَذٰاباً اَلٖيماً، اَلسَّلاٰمُ عَلَيْكَ يَا بْنَ رَسُولِ اللّٰهِ ، اَلسَّلاٰمُ عَلَيْكَ يَا بْنَ سَيِّدِ الْأَوْصِيٰآءِ اَشْهَدُ اَنَّكَ اَمينُ اللّٰهِ وَابْنُ اَمينِهِ ، عِشْتَ سَعيداً، وَمَضَيْتَ حَميداً وَمُتَّ فَقيداً مَظْلُوماً شَهيداً، وَاَشْهَدُ اَنَّ اللّٰهَ مُنْجِزٌ مٰا وَعَدَكَ ، وَمُهْلِكٌ مَنْ خَذَلَكَ وَمُعَذِّبٌ مَنْ قَتَلَكَ ، وَاَشْهَدُ اَنَّكَ وَفَيْتَ بِعَهْدِ اللّٰهِ ، وَجٰاهَدْتَ فىٖ سَبيلِهِ حَتّىٰ اَتيٰكَ الْيَقينُ ، فَلَعَنَ اللّٰهُ مَنْ قَتَلَكَ ، وَلَعَنَ اللّٰهُ مَنْ ظَلَمَكَ ، وَلَعَنَ اللّٰهُ اُمَّةً سَمِعَتْ بِذٰلِكَ فَرَضِيَتْ بِهِ ، اَللّٰهُمَّ اِنّىٖ اُشْهِدُكَ اَنّىٖ وَلِىٌّ لِمَنْ وٰالاٰهُ ، وَعَدُوٌّ لِمَنْ عٰادٰاهُ ، بِاَبىٖ اَنْتَ وَاُمّىٖ يَا بْنَ رَسُولِ اللّٰهِ ، اَشْهَدُ اَنَّكَ كُنْتَ نُوراً فىِ الْأَصْلاٰبِ الشّٰامِخَةِ وَالْأَرْحٰامِ الْمُطَهَّرَةِ ، لَمْ تُنَجِّسْكَ الْجٰاهِلِيَّةُ بِاَنْجٰاسِهٰا، وَلَمْ تُلْبِسْكَ الْمُدْلَهِمّٰاتُ مِنْ ثِيٰابِهٰا، وَاَشْهَدُ اَنَّكَ مِنْ دَعٰآئِمِ الدّيٖنِ وَاَرْكٰانِ الْمُسْلِمينَ ، وَمَعْقِلِ الْمُؤْمِنينَ ، وَاَشْهَدُ اَنَّكَ الْأِمٰامُ الْبَرُّ التَّقِيُّ ، الرَّضِىُّ الزَّكِىُّ الْهٰادِى الْمَهْدِىُّ ، وَاَشْهَدُ اَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ وُلْدِكَ كَلِمَةُ التَّقْوىٰ ، وَاَعْلاٰمُ الْهُدىٰ ، وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقىٰ ، وَالْحُجَّةُ علىٰ اَهْلِ الدُّنْيٰا، وَاَشْهَدُ اَنّىٖ بِكُمْ مُؤْمِنٌ ، وَبِاِيٰابِكُمْ مُوقِنٌ ، بِشَرٰايِعِ ديٖنىٖ وَخَوٰاتيمِ عَمَلىٖ ، وَقَلْبىٖ لِقَلْبِكُمْ سِلْمٌ وَاَمْري لِأَمْرِكُمْ مُتَّبِعٌ ، وَنُصْرَتىٖ لَكُمْ مُعَدَّةٌ ، حَتّىٰ يَاْذَنَ اللّٰهُ لَكُمْ ، فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لامَعَ عَدُوِّكُمْ ، صَلَوٰاتُ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ ، وَعلىٰ اَرْوٰاحِكُمْ وَاَجْسٰادِكُمْ ، وَشٰاهِدِكُمْ وَغٰآئِبِكُمْ ، وَظٰاهِرِكُمْ وَبٰاطِنِكُمْ ، آمينَ رَبَّ الْعٰالَمينَ

ص: 41

ص: 42

شرح متن زيارة الأربعين

اشارة

ص: 43

ص: 44

اَلسَّلامُ عَلىٰ

مرّ الكلام في بيان ما يلزم لزائر الإمام الحسين عليه السلام وفضل زيارته وأما الكلام في شرح متن الزيارة فنقول قول الإمام الصادق عليه السلام:

اَلسَّلاٰمُ : نوع من التحيّة وإنّها تحيّة الإسلام والمسلمين، وكان قبل الإسلام يحيّون بقولهم: «أهلاً ومرحباً» وغيرهما، وبعد الإسلام والشَّرع إختصَّ بقول:

«سلام عليكم» والمقصود منها: تعظيم المحيّي للمحيّى للتأليف بين القلوب.

ويدلّ على أنّ المراد به التحيّة قوله تعالى: «تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاٰمٌ »(1) وقوله تعالى: «دَعْوٰاهُمْ فِيهٰا سُبْحٰانَكَ اَللّٰهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيهٰا سَلاٰمٌ »(2) ، وقد ورد عن النبيّ صلى الله عليه و آله: ابدؤا بالسَّلام قبل الكلام، فمن بدأ بالكلام قبل السَّلام فلا تجيبوه(3). وعن الباقر عليه السلام: إنّ اللّٰه يحبّ إفشاء السَّلام(4). ولذا نرى الشريعة المقدّسة أكّدت على إفشاء السَّلام وجعلت ردّ السّلام واجباً كفائيّاً وأمّا البادي بها فله من الأجر كما ورد عن النبيّ صلى الله عليه و آله: من قال السَّلام عليكم كتب له عشر حسنات، ومن قال السَّلام عليكم ورحمة اللّٰه كُتب له عشرون حسنة، ومن قال:

السَّلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته كتب له ثلاثون حسنة(5).

وجاء في تفسير السَّلام: أ نّه مأخوذ من سلم الآفات سلامة أي سلمت من المكاره والآفات وإليه يرجع ما قيل من انّه دعاء بالسلامة لصاحبه من آفات الدُّنيا وعذاب الآخرة وضعه الشارع موضع التحيّة والبشرى بالسلامة(6).

ص: 45


1- سورة الأحزاب: 44.
2- سورة يونس: 10.
3- أُصول الكافي للكليني 638:2.
4- نفس المصدر.
5- مجمع البيان 108:3، ط. بيروت.
6- لسان العرب 343:6، ط. بيروت.

وقد ورد في تفسير وتأييد هذا المعنى ما روي عن داود بن كثير الرقي قال، قلت: ما معنى السَّلام على اللّٰه وعلى رسوله صلى الله عليه و آله ؟ فقال: إنّ اللّٰه لمّا خلق نبيّه ووصيّه وإبنيه وإبنته وجميع الأئمّة وخلق شيعتهم أخذ عليهم الميثاق، وأن يصبروا ويصابروا وأن يتّقوا اللّٰه، ووعدهم أن يسلم لهم الأرض المباركة والحرم الآمن، وأن ينزل لهم البيت المعمور ويظهر لهم السقف المرفوع وينجّيهم من عدوّهم والأرض الّتي يبدّلها من دار السلم ويسلّم ما فيها لهم ولا شبهة فيها ولا خصومة فيها لعدوّهم وأن يكون لهم فيها ما يحبّون، وأخذ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله على الأئمة وشيعتهم الميثاق بذلك، وإنّما عليه أن يذكره نفس الميثاق وتجديد له على اللّٰه لعلّه أن يعجله ويعجل المسلم لهم بجميع ما فيه(1).

انّه مأخوذ من السَّلام الّذي هو إسم من أسماء اللّٰه كما قال: «اَلسَّلاٰمُ اَلْمُؤْمِنُ »(2) ، وقال: «لَهُمْ دٰارُ اَلسَّلاٰمِ »(3) فمعنى السَّلام عليك يعني اللّٰه عليك، أي حافظ لأسرارك وعلومك من أن تنالها أيدي الجهلة وعاصم لك من الرجس والسهو والخطاء ومن كلّ مكروه.

أو مأخوذ من السلم وهو الصلح كما قال تعالى: «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ »(4) وقال: إنّي سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم، أي مسالم ومصالح لمن صالحتم، وقيل غير ذلك.

ص: 46


1- جنّة الحوادث في شرح زيارة وارث: 32 عن الكافي 451:1.
2- سورة الحشر: 23.
3- سورة الأنعام: 127.
4- سورة الأنفال: 61.

وإذا قيل: أليس في صحة السَّلام حياة وحضور المسلَّم عليه وعدم موته وقربه للمسلِّم والإمام عليه السلام قد فارق الحياة فكيف التوفيق في ذلك في هذه الزيارة.

الجواب: انّ ذلك متحقّق بالنّسبة إلى أهل البيت سلام اللّٰه عليهم أجمعين فإنّهم أحياء عند ربّهم في بساط القرب ويرزقون بموائد العلم والمعرفة، ويسقون من كأس المقرّبين يرون مقام شيعتهم ويسمعون كلامهم، ويردّون سلامهم، كما ورد في إحدى زيارات الإمام الرّضا عليه السلام:

«اَشْهَدُ باللّه أَ نَّكَ تَشْهَدُ مَقٰامي، وَتَسْمَعُ كَلاٰمي، وَتَرُدُّ سَلامِي، وَأَنْتَ حَيٌّ عِنْدَ رَبِّكَ مَرْزوق..»(1)، ويدلّ عليه من العقل براهين ساطعة ومن النقل اخبار كثيرة لائحة يطول الكلام بذكرها، نذكر منها ما ورد في خطبة أمير المؤمنين عليه السلام:

«يا سلمان انّ ميتنا إذا مات لم يمت، ومقتولنا إذا قتل لم يقتل، وغائبنا إذا غاب لم يغب، ولا نلد ولا نولد ولا في البطون ولا يقاس بنا أحد من النّاس»(2).

وعن أبي الحسن قال: سأل عن قول اللّٰه عزّ وجل: «اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّٰهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ » قال: إنّ أعمال العباد تعرض على رسول اللّٰه كلّ صباح وأبرارها وفجارها فاحذروا.

وعن أبي جعفر عليه السلام: تعرض كلّ خميس على رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله وعلى أمير المؤمنين عليه السلام ومن المعلوم والواضح لو لم يكونوا عليهم السلام أحياء ما تعرض عليهم أعمال العباد، وعرض الأعمال من شأن الأحياء لا الأموات.

ص: 47


1- ضياء الصّالحين: 267.
2- مشارق أنوار اليقين، لرجب البرسي: 257، ط. بيروت.

وعن الباقر عليه السلام قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله لأصحابه: حياتي خير لكم تحدّثون ونحدّث لكم، ومماتي خير لكم تعرض عليّ أعمالكم، فإن رأيتُ حسناً جميلاً حمدت اللّٰه على ذلك، وإن رأيتُ غير ذلك إستغفرت اللّٰه لكم(1).

قال السيد حسين الهمداني في كتابه الشموس الطالعة من مشارق زيارة الجامعة:

إنّما سمّى تبارك وتعالى نفسه السلام مبالغة لهذه الصّفة فيه تعالى؛ لأنّه ليس شيء في عالم من العوالم إلّاوهو بتسليم من اللّٰه تعالى إلى خلقه، فسمّى نفسه سلاماً مبالغة، فقوله عليه السلام: «السَّلام عليكم» إشارة إلى أنّ تسليمه الكلّي من دون تقييد بشيء مقصور عليكم أهل البيت؛ لأنّ جدّكم محمّداً صلى الله عليه و آله هو الصّادر الأوّل الذي ليس شيء في عالم الوجود من الخير والبركة والنّعمة إلّاوهو ذرّات ما أُوتي صلى الله عليه و آله، لأنّه في عالم الوجود قاب قوسين أو أدنى، فحيّاه اللّٰه تعالى بتسليم جميع ماله من العوالم، بعد تأديبه إيّاه أحسن التأديب، ثمّ فوّض اللّٰه أمر دينه، كما هو مفاد غير واحد من الروايات المرويّة في «الكافي»(2) وأخذ ميثاق نبوّته وولايته من تمام ذوي الأرواح بعد ميثاق ربوبيته، فنسبته صلى الله عليه و آله إليه تعالى كضيف سلطان حيّاه بإيكال اُمور مملكته وسياسة رعيّته إليه، مع الإشارة إليه في كلّ جزء من جزئيّات أُموره وتأييده فيها شيئاً، حيناً بعد حين، ساعة فساعة، بل آناً بعد آن، ورغب رعاياه على طاعته، وحذّرهم عن معصيته، تعظيماً وإجلالاً لذلك الضيف ثم ورّث ذلك أهل بيته، فجعل الإيمان بهم إيماناً به والكفر بهم كفراً به وطاعتهم طاعته وعصيانهم عصيانه ومعرفتهم معرفته وجهلهم جهله.

ص: 48


1- بصائر الدرجات 444:4، ط. المرعش.
2- أُصول الكافي 1-265.

هذا ان اُريد به السَّلام من اللّٰه تعالى وأمّا إذا أُريد به السَّلام من الزائر فمعناه:

أ نّه مسلّم نفسه وماله ومطلق ما يتعلّق به من بدأ وجوده إلى الأبد إلى الإمام بحيث لا يرغب بشيء ممّا يتعلّق بعالم وجوده عنه عليه السلام ووطّن نفسه بإفنائها في إرادته ووقّفها عليه عليه السلام.

وهذا هو المراد بما ورد في الزيارات من قوله:

«عَلَيْكُمْ مِنّي سَلامُ اللّٰهِ اَبَداً ما بَقيتُ وَبَقِيَ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ» لأن المراد باللّٰه هو اسم اللّٰه الذي أودعه اللّٰه تعالى في مبدأه بدء ايجاده وانشائه، لا اللّٰه المسمى تبارك وتعالى، فيكون ذلك إقراراً منه بالرقيّة لهم من اعلى مراتبه إلى ادناها، لا دعاءً ومسألةً لهم من اللّٰه تعالى، فمعنى السَّلام من العبد هو تسليم جميع ما له من تمام عوالم وجوده إلى الإمام عليه السلام وقصرها عليه؛ لأنّه هو الذي يستأهل لاسترقاقه وولايته عليه دون غيره(1).

ص: 49


1- ص: 39.

وَلِيِّ

-

الولي والمولى: لها معان متعدّدة(1) فالولاية لغة بكسر الواو بمعنى الامارة والتولية والسلطان، وبالفتح بمعنى المحبة.

وأمّا بحسب الاصطلاح فهي حقيقة كلية وصفة إلهية ومن شؤونه الذاتية التي تقتضي الظهور «وَ هُوَ اَلْوَلِيُّ اَلْحَمِيدُ» وحيث إنها كانت في خفاء عن الظهور فاحبت الذات المقدّسة ان تعرف فخلق الخلق أي الأشياء لكي تظهر تلك الصفات فتعرف بها.

والولاية تسري حكمها في جميع الأشياء فهي رفيقة الوجود تدور معه حيثما دار فكما ان الوجود بحسب الظهور له درجات متشتتة ومراتب متفاوتة بالكمال والنقص والشدّة والضعف ويحمل عليها بالتشكيك، فكذلك الولاية إذا أخذناها بمعنى القرب لها درجات متفاوتة ومراتب مختلفة بالكمال والنقص والشدّة والضعف تحمل عليها بالتشكيك.

ثم ان الولاية الثابتة للعبد التي بمعنى القرب تتحقق بالقرب الإيماني والمعنوي بالنسبة إليه تعالى على أقسام:

منها تنقسم إلى المطلقة والمقيدة:

لأنها من حيث هي هي صفة إلهيّة مطلقة ثابتة للذات الربوبية المقدسة بمقتضى ذاته المقدسة، كما علمت مما سبق ولكنها من حيث استنادها إلى الأنبياء والأولياء كل على حسب قربهم منه تعالى تكون مقيّدة، ومعلوم ان المقيد متقوم بالمطلق، والمطلق ظاهر في المقيّد، فالولاية الثابتة للأنبياء والأولياء جزئيات الولاية المطلقة الإلهيّة فالأنبياء والأولياء (أي الأئمة عليهم السلام) لهم القرب إلى الأشياء

ص: 50


1- وقد أنهاها بعضهم إلى سبعة وعشرين معنى فهو من الألفاظ المشتركة تعرف بحسب قرينة معينة حالية أو مقالية. الغدير 419:1.

بالولاية الإلهية حيث إن ولايتهم مظاهر الولاية الإلهية وجزئيات للولاية الإلهية فلها من الآثار من السلطنة والتولية ما للولاية الإلهية منها كما لا يخفى وإليه يشير ما في بصائر الدرجات من قوله عليه السلام: «ولايتنا ولاية اللّٰه تعالى وهذا نظير ما قيل من ان نبوة الأنبياء جزئيات النبوة المطلقة المحمّدية».

وتنقسم الولاية إلى الخاصة والعامة:

فالعامة: تعم المؤمنين باصنافهم وتشمل كل من آمن باللّٰه تعالى وعمل صالحاً بمراتبهم.

والخاصة: تختص بالسالكين عند فنائهم في اللّٰه تعالى وهي تحصل بالتوجه التام إلى حضرة الحق تعالى إذ بهذا التوجه يقوي الجهة الحقيّة والجنبة الإلهية وبهذا تشير الآيات والأحاديث الدلاة على لزوم الاخلاص في العبادة ولزوم التوجه إليه وان لا يغفل العبد من ربه وما ذكره علماء السير والسلوك من لزوم المراقبة والمواظبة وأمثالهما كلها ترجع إلى هذا التوجه التام وقد مثّلوا لكون التوجه إليه موجباً للفناء عن النفس والبقاء بالرب بالقطعة من الحديدة المجاورة للنار، فإنها بسبب المجاورة والاستعداد لقبول الصفات الناريّة والقابلية المختفية فيها، فإنها تتسخن قليلاً قليلاً إلى أن يحصل منها ما يحصل من النار من الإحراق والاضاءة وغيرها، وقبل ذلك كان ظلمة كدرة. ولا يخفى أن هذا التمثيل من باب ضيق مجال التعبير وفقد العبارة الوافية ببيان المراد.

ومنها تنقسم الولاية إلى ولاية تكوينية وتشريعية:

وتعني الاولى ولاية التصرف في التكوين ابداعاً وتبديلاً من حقية إلى اُخرى أو من صورة إلى غيرها، بغير أسباب طبيعية متعارفة وهي من شأنه تعالى حيث لا مؤثر في الوجوه إلى اللّٰه.

ص: 51

-

نعم قد يظهر على أيدي بعض أوليائه المقربين بعض التصرف في التكوين ويسمى بالاعجاز الخارق كالذي ظهر على أيدي الأنبياء دليلاً على نبوتهم وآية على صلتهم بعالم الغيب وهل يمكن ظهوره على يد غير الأنبياء من عباد اللّٰه الصالحين.

الجواب: نعم، مثل قضية آصف بن برخيا حجة قاطعة على امكان الوقوع «قٰالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتٰابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ »(1) .

وان هذا المقام أيضاً ثابتاً للأئمة المعصومين عليهم السلام خلفاء الرسول وقد تظافرة الروايات في ذلك، قال الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى: «قُلْ كَفىٰ بِاللّٰهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ اَلْكِتٰابِ » هو علي بن أبيطالب(2).

وروىٰ جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: «إنّ اسم اللّٰه الأعظم على ثلاث وسبعين حرفاً وإنما كان عند آصف منها حرف واحد - إلى أن قال - ونحن عندنا من الاسم اثنان وسبعون حرفاً وحرف استأثر اللّٰه به ولا حول ولا قوة إلّاباللّٰه العلي العظيم»(3).

ففي تفسير البرهان: السيد الرضي في الخصائص قال: روي أن أمير المؤمنين عليه السلام كان جالساً في المسجد، إذ دخل عليه رجلان فاختصما إليه، وكان أحدهما من الخوارج، فيوجه الحكم على الخارجي، فحكم عليه أمير المؤمنين عليه السلام، فقال له الخارجي: واللّٰه ما حكمت بالسويّة، ولا عدلت في القضية، وما قضيتك عند اللّٰه بمرضية، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: اخسأ عدو اللّٰه فاستحال كلباً.

ص: 52


1- سورة النحل: 40.
2- بصائر الدرجات: 214.
3- نفس المصدر: 208.

-

فقال من حضره: فو اللّٰه لقد رأينا ثيابه تطاير عنه في الهواء، فجعل يبصّص لأمير المؤمنين عليه السلام، ودمعت عيناه في وجهه، ورأينا أمير المؤمنين عليه السلام وقد رقّ له، فلحظ السّماء، وحرّك شفتيه بكلام لم نسمعه، فو اللّٰه لقد رأيناه وقد عاد إلى حال الإنسانية، وتراجعت ثيابه من الهواء حتى سقطت على كتفيه، فرأيناه وقد خرج من المسجد، وأن رجليه لتضطربان، فبهتنا ننظر إلى أمير المؤمنين عليه السلام فقال له: ما لكم تنظرون وتعجبون ؟ فقلنا: يا أمير المؤمنين كيف لا نتعجب وقد صنعت ما صنعت ؟

فقال: أما تعلمون أن آصف بن برخيا وصيّ سليمان بن داود عليه السلام قد صنع ما هو قريب من هذا الأمر، فقصّ اللّٰه جلّ إسمه قصته حيث يقول: «أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهٰا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ قٰالَ عِفْرِيتٌ مِنَ اَلْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقٰامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ قٰالَ اَلَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ اَلْكِتٰابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمّٰا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قٰالَ هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ» الآية، فأيّما أكرم على اللّٰه نبيكم أم سليمان عليه السلام ؟ فقالوا: بل نبينا أكرم يا أمير المؤمنين.

قال: فوصي نبيكم أكرم من وصي سليمان عليه السلام، وإنّما كان عند وصي سليمان من إسم اللّٰه الأعظم حرف واحد، سأل اللّٰه جلّ إسمه فخسف له الأرض، ما بينه وبين سرير بلقيس، فتناوله في أقلّ من طرف العين، وعندنا من إسم اللّٰه الأعظم إثنان وسبعون حرفاً، وحرف عند اللّٰه تعالى إستأثر به دون خلقه، فقالوا: يا أمير المؤمنين فإذا كان هذا عندك فما حاجتك إلى الأنصار في قتال معاوية وغيره واستنصارك الناس إلى حربه ثانية ؟

فقال: بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون إنما ادعو هؤلاء القوم إلى قتاله ليثبت الحجة وكمال المحنة، ولولا اذن في اهلاكه لما تأخر،

ص: 53

لكن اللّٰه تعالى يمتحن خلقه بما شاء، قالوا: فنهضنا من حوله ونحن نعظم ما أتى به علم السَّلام(1).

بل يبدو من تعابير وجمل الزيارة الجامعية الكبير، ان للأئمة المعصومين مقاماً شامخاً، ومنزلة رفيعة عند اللّٰه لا يماثلها أي منزلة اُخرى، تقول:

«بِكُمْ فَتَحَ اللّٰهُ وَبِكُمْ يَخْتِمُ ، وَبِكُمْ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ ، وَبِكُمْ يُمْسِكُ السَّمٰآءَ اَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ اِلاّٰ بِاِذْنِهِ وَبِكُمْ يُنَفِّسُ الْهَمَّ ، وَيَكْشِفُ الضُّرَّ، وَعِنْدَكُمْ مٰا نَزَلَتْ بِهِ رُسُلُهُ ، وَهَبَطَتْ بِهِ مَلاٰئِكَتُهُ - إلى أن تقول

وَاَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِكُمْ ، وَفٰازَ الْفٰآئِزُونَ بِوِلاٰيَتِكُمْ »

فالجملتان الأخيرتان، تشير الاُولى منهما إلى مقام ولايتهم التكوينية:

«هم أواصر ثبات هذا الكون ومصادر ازدهار هذه الحياة» «وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهٰا»(2) . والثانية تشير إلى ولايتهم التشريعية: «بموالاتكم علمنا اللّٰه معالم ديننا وأصلح ما كان فسد من دنيانا، وبموالاتكم تمت الكلمة وعظمت النعمة وائتلفت الفرقة وبموالاتكم تقبل الطاعة المتفرضة».

وفي الزيارة الأُولى من الزيارات السبع المطلقة لأبي عبد اللّٰه الحسين عليه السلام التي رواها ابن قولويه باسناد صحيح عن الإمام الصادق عليه السلام ما هو أعظم:

«وَبِكُمْ يُباعِدُ اللّٰهُ الزَّمانَ الْكَلِبَ (3)، وَبِكُمْ فَتَحَ اللّٰهُ ، وَبِكُمْ يَخْتِمُ اللّٰهُ ، وَبِكُمْ يَمْحُو اللّٰهُ ما يَشآءُ وَبِكُمْ يُثْبِتُ وَبِكُمْ يَفُكُّ الذُّلَّ مِنْ رِقابِنا، وَبِكُمْ يُدْرِكُ اللّٰهُ تِرَةَ (4) كُلِّ مُؤْمِنٍ يُطْلَبُ ، وَبِكُمْ تُنْبِتُ الْأَرْضُ اَشْجارَها، وَبِكُمْ تُخْرِجُ الْأَرْضُ أَثِمارَها، وَبِكُمْ تُنْزِلُ السَّمآءُ

ص: 54


1- تفسير البرهان 205:3.
2- سورة الزمر: 69.
3- أي الشديد - على وزان خشن.
4- على وزان عدة من الوتر بمعنى الانتقام.

قَطْرَها وَرِزْقَها، وَبِكُمْ يَكْشِفُ اللّٰهُ الْكَرْبَ ، وَبِكُمْ يُنَزِّلُ اللّٰهُ الْغَيْثَ ، وَبِكُمْ تُسَبِّحُ الْأَرْضُ الَّتي تَحْمِلُ اَبْدانَكُمْ ، وَتَسْتَقِرُّ جِبالُها عَنْ مَراسيها، اِرادَةُ الرَّبِّ في مَقاديرِ اُمُورِهِ تَهْبِطُ اِلَيْكُمْ ، وَتَصْدُرُ مِنْ بُيُوتِكُمْ »(1).

والجملة الأخيرة هي التي تستلفت النظر وهي جديرة بالعناية والتدقيق. وهي إشارة إلى أنهم عليهم السلام وسائط فيضه تعالى على الاطلاق(2).

أما الولاية التشريعية بمعنى أن لهم الآمرية والناهوية الشرعية فزمام أمر الشرع في الأمر والنهي والسياسة وتدبير اُمور المسلمين من بيان الحكم والقضاوة واجراء الحدود وسوقهم إلى الحرب وأمثال هذا من جهتهم وأما من جهة عباد اللّٰه فعبارة عن وجوب طاعتهم، وامتثال أوامرهم، ومتابعتهم في شؤون الحياة الدينية، الإدارية والسياسية والاجتماعية.

«قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي»(3) ، «لَقَدْ كٰانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ »(4) ، «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ »(5) .

هذه هي الولاية التشريعية العامة الثابتة للإمام المعصوم بنص القرآن الحكيم والسنة القطعيّة(6).

ص: 55


1- كامل الزيارات: 200، الباب 79.
2- وهو بحث مذيل يمس اساس المذهب عند الخواص.
3- سورة آل عمران: 31.
4- سورة الأحزاب: 21.
5- سورة النساء: 59.
6- الأنوار الساطعة للشيخ جواد الكربلائي، مع تصرف.

اللّٰه

-

لقد مرّ شرح كلمة «الولي» وأما كلمة «اللّٰه»:

فهو عَلَمٌ للذات الواجب الوجود المستجمع لجميع صفات الكمال (الجلالية والجمالية) والأسماء الحسنىٰ .

وفي الحديث: سأل عن معنى اللّٰه فقال: استولى على ما دق وجل. فاللّٰه معنى يدل عليها بهذه الأسماء وكلها غيره.

وهي أشمل أسماء رب العالمين من الراحمية والرازقية والمالكية و... الخ.

فكل اسم ورد للّٰه تعالى في القرآن الكريم أو غيره من الأدعية والأخبار يشير إلى جانب معين من صفات اللّٰه ولكن الاسم الوحيد الجامع لكل الصفات والكمالات الإلهية هو (اللّٰه) تعالى.

ولذلك اعتبرت بقية الأسماء صفات لكلمة (اللّٰه) مثل (الغفور) و (الرحيم) و (العليم) وغيرها.

فكلمة (اللّٰه) تعالى هي وحدها الجامعة، ومن هنا اتخذت هذه الكلمة صفات عديدة في آية كريمة واحدة، حيث يقول تعالى: «هُوَ اَللّٰهُ اَلَّذِي لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلاٰمُ اَلْمُؤْمِنُ اَلْمُهَيْمِنُ اَلْعَزِيزُ اَلْجَبّٰارُ اَلْمُتَكَبِّرُ»(1) وإن أحد شواهد جامعية هذا الاسم ان الايمان والتوحيد لا يمكن اعلانه إلّا بعبارة «لا إله إلّااللّٰه» دون غيرها مثل «لا إله إلّاالقادر» فإنها لا تفي بالغرض ولهذا السبب يشار في الأديان الاُخرى إلى معبود المسلمين باسم (اللّٰه) فإنهاخاصة بالمسلمين.

ص: 56


1- سورة الحشر: 23.

وفي الحديث: يا هشام اللّٰه مشتق من إله، والإله يقتضي مالوهاً (معبوداً) كان إلٰهاً إذ لا مألوه، أي لم تحصل العبادة بعد ولم يخرج وصف العبودية من القوة إلى الفعل فسمى نفسه بالإله قبل ان يعبده أحد من العباد.

وقوله انه مشتق لا ينافي الأعلمية (علماً) فإن المراد الاشتقاق المعنوي أي معنى اللّٰه يقتضي مالوهاً(1) وإلّا فهو عَلَمٌ .

ص: 57


1- الانوار الساطعة 127:3، شرح زيارة الجامعة للشيخ جواد الكربلائي.

وَحَبيبَه

-

الحُبُّ : نقيض البُغض. والحُبُّ : الوداد والمحبّة، وقال تعالى: «فَإِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يُحِبُّ اَلْكٰافِرِينَ » أي لا يغفر لهم وقوله تعالى: «يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ » قيل محبة اللّٰه للعباد إنعامه عليهم وأن يوفقهم لطاعته ويهديهم لدينه الذي ارتضاه، وحب العباد للّٰه أن يطيعوه ولا يعصوه.

وقيل: محبة اللّٰه صفة من صفات فعله، فهي إحسان مخصوص يليق بالعبد، وأما محبة العبد للّٰه تعالى فحالة يجدها في قلبه يحصل منها التعظيم له وايثار رضاه والاستئناس بذكره.

وعن بعض المحققين: محبة اللّٰه للعبد كشف الحجاب عن قلبه وتمكينه من أن يطأ على بساط قربه، فإن ما يوصف به سبحانه إنما يؤخذ باعتبار الغايات لا المبادئ، وعلامة حبه للعبد توفيقه للتجافي عن دار الغرور والترقي إلى عالم النور والانس باللّٰه والوحشة ممن سواه وصيرورة جميع هماً الهموم واحداً.

وفي الحديث:

«إذا أحببتُ عبدي كنت سمعه الذي يسمع به...» سيأتي ذكره.

قال في الكاشف: وعن الحسن زعم أقوام على عهد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله أنهم يحبون اللّٰه فأراد أن يجعل لقولهم تصديقاً من عمل، فمن ادعى محبته وخالف سنة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله فهو كذاب وكتاب اللّٰه يكذّبه(1).

قول الإمام الصادق عليه السلام في هذه الزيارة «السلام على ولي اللّٰه وحبيبه» يدل على أن الإمام الحسين عليه السلام قد وصل من القرب الالهي بحيث صار مظهر حب اللّٰه تعالى وهذا الكمال التام حاصل للإمام الحسين عليه السلام وكذلك لجميع الأئمة عليهم السلام، حيث انهم تامون في ذواتهم وصفاتهم، وفي أعمالهم وفي أفعالهم

ص: 58


1- مجمع البحرين 30:2.

وهذا الكمال الحاصل لهم إنما هو لاجل كونهم متصفين بكمال المحبة للّٰه تعالى وبالعكس فهم مظاهر محبته تعالى، وكيف لا والمؤمن هو محل لمحبته تعالى ؟!

فعن أُصول الكافي بإسناده عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث... إلى أن قال عليه السلام:

وذلك قول اللّٰه عزّ وجل: «إِنَّ اَللّٰهَ فٰالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوىٰ » فالحبّ طينة المؤمنين التي القى اللّٰه عليها محبته والنوى طينة الكافرين الذين نأوا عن كل خير، وإنما سمي النوى من أجل أنه ناىٰ عن كل خير وتباعد منه.

وفيه عن تفسير العياشي عن المفضل، قال: سألت أبا عبد اللّٰه عليه السلام عن قوله:

«فٰالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوىٰ » قال: «الحبّ المؤمن وذلك قوله: «وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي» والنوى الكافرين الذي ناى عن الحق فلم يقبله».

فالاستشهاد منه عليه السلام بهذه الآية لبيان المصداق من أن المؤمن مَن القيت عليه المحبة منه تعالى، فهم عليهم السلام محل لمحبته تعالى وهم تامون في تلك المحبة، كما ورد في زيارة الجامعة «وَالتَّامينَ في مَحبَّةِ اللّٰه» أي لا يكون منهم ما ليس في المحبة، بل أفعالهم وذواتهم وصفاتهم متصفة بالمحبة ومن آثارها وليس للمحبة شيء من الواقع إلّاوهو فيهم عليهم السلام كما لا يخفى.

ثم إنهم عليهم السلام - كما هو ثابت في محله - علة الإيجاد، علة فاعلية، ومادية، وصورية، وغائية.

بيانه: أنه تعالى إنما خلق الخلق، لكي يعرف كما دلّ عليه الحديث القدسي المشهور من قوله تعالى: «كنت كنزا مخفيا فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف»، فالمعرفة هي العلة للخلق وكما دلّ عليه قوله تعالى: «وَ مٰا خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّٰ لِيَعْبُدُونِ »(1) وعن الإمام الحسين عليه السلام كما تقدم: «أيها الناس إن الله

ص: 59


1- سورة الذاريات: 56.

ما خلق الخلق إلّاليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة غيره، قيل: يابن رسول اللّٰه ما معرفة اللّٰه ؟ قال: معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي تجب عليهم طاعته»، الحديث.

فعلم منه: أن الغاية للخلق هو المعرفة التي تترتب عليها العبادة، التي ينبغي أن يعبد اللّٰه تعالى بها، فالغاية هو المعرفة والعبادة عن معرفة، وهذه المعرفة بصريح قوله عليه السلام ليست إلّامعرفة الإمام عليه السلام وذلك كما تقدم ليس إلّالأجل أنهم عليهم السلام محال المعارف الإلهية، بل هم نفسها كما علمت، فيعلم من المجموع أنهم عليهم السلام متعلق الحب الإلهي ومظاهره، لما هم عين معارفه حيث إنهم عليهم السلام عين أسمائه الحسنى التي عرف اللّٰه تعالى بها، فهم عليهم السلام المحبوبون له تعالى ومظاهر الحب له تعالى ومعنى أنهم مظاهر حبّه أن المحبة التي هي العلة الذاتية للخلق، فإن المعرفة وإن كانت هي العلة إلّاأنها بما هي محبوبة له تعالى تكون علّة وإلّا فلا، كما لا يخفى.

وكيف كان إن المحبة بحقيقتها هي العلة للخلق ولا ريب في أن وجود أي موجود يقوم بالعلة الفاعلية والمادية والصورية والغائية كما حقق في محلّه، فمعنى كون المحبة علة للخلق بأقسامها أن العلة الفاعلية ليست إلّامظهراً للمحبة وهكذا البقية.

وحينئذٍ نقول: فهم عليهم السلام بما هم حقيقة المحبة له تعالى، ومظهرها العلة الفاعلية للخلق، بمعنى أن كل موجود وجدت بالمشية والمشية ظرفها قلوبهم عليهم السلام وهي شأن من شؤون المحبة، فالمحبة الإلهية اقتضت المشية القائمة بنفوسهم عليهم السلام.

فالمشية وإن كانت علة فاعلية بمظاهرها إلّاأنها بالدقة تكون شأناً للمحبة، فالمحبة هي العلة الفاعلية في الحقيقة، وهي ليست إلّاقلوبهم المطهّرة فهم عليهم السلام العلة الفاعلية للخلق، غاية الأمر بإذن اللّٰه تعالى حيث إنهم عليهم السلام بجميع شؤونهم

ص: 60

لا يفعلون إلّاما يشاء اللّٰه، وما أمرهم اللّٰه تعالى في الأفعال الجزئي والكلي كما لا يخفى، وأيضاً هم عليهم السلام العلة المادية، أما بالنسبة إلى أرواح الشيعة فقد علمت أنها خلقت من فاضل طينتهم النوارنية المتقدم شرحها، وأما بالنسبة إلى أبدانهم وكذلك بالنسبة إلى ساير المخلوقين بل وساير الموجودين في الكون، فلأجل أن جميع الموجودات خلقت من أنوار وجودهم حيث إنهم الأسماء الحسنى له تعالى.

ثم ان الحب عبارة عن الميل إلى الشيء الملذّ، وكلما كان الملذّ أقوى في اللذاذة كان الميل أقوى إلى أن يصل حدّ الافراط فيسمى عشقاً، ولذا قيل ان الافراط في كل شيء مذموم إلّافي الحب وهذا الميل إنما يحصل بعد المعرفة بذلك الشيء الملذ الجميل، وهذه المعرفة إما بالحواس الظاهرة أو بالعقل، وكلما كان الدرك والمعرفة أقوى كان الحب أقوى والبصيرة الباطنة أقوى من البصر الظاهري لأن القلب أشد إدراكاً من العين كما لا يخفى ولذا كانت المعاني الجميلة المدركة بالعقل أعظم من جمال الصور الظاهرة فلا محالة تكون لذة القلوب بما تدركه من الأُمور الشريفة الجميلة الإلهية التي تجل عن ان تدركها الحواس أتم وأبلغ ولذا نرى أن الطباع السليمة والعقول الصحيحة أكثر ميلاً إلى مدركات العقل.

وإذا علمت هذا فاعلم أن أجل اللذات وأعلاها معرفة اللّٰه تعالى والنظر إلى وجهه الكريم فمن شاهد جمال وجهه وجلال عظمته وادركها بعقله وشاهدهما ببصيرته القلبية لا تكاد تؤثر عليه لذة أُخرى إلّامن حرّم هذه اللذة ولذلك ورد في الأحاديث والآيات الحث على معرفة اللّٰه تعالى وحبّه.

ص: 61

أما الآيات فقوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّٰهِ » وقال تعالى: «قُلْ إِنْ كٰانَ آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ وَ إِخْوٰانُكُمْ » إلى قوله: «أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ »(1) ، وهكذا غيرها.

وأما الأحاديث: فكثيرة جدّاً نذكر بعضها فمنها: ما عنه صلى الله عليه و آله: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون اللّٰه ورسوله أحبّ إليه مما سواهما»، وقال صلى الله عليه و آله في دعائه:

«اللهم ارزقني حبّك وحبّ من يحبّك، وحبّ ما يقربني إلى حبّك، واجعل حبّك أحبّ إليّ من الماء البارد».

وفي الخبر المشهور: أن إبراهيم عليه السلام قال لملك الموت إذ جاء لقبض روحه:

«هل رأيت خليلاً يمييت خليله ؟ فأوحى اللّٰه إليه: هل رأيت محباً يكره لقاء حبيبه ؟ فقال: يا ملك الموت الآن فاقبض».

وفي مناجاة موسى: «يابن عمران كذب من زعم أنه يحبني، فإذا جنّه الليل نام عني، أليس كلّ محبّ يحب خلوة حبيبه ؟ أنا ذا يابن عمران مطّلع على أحبائي، إذا جنّهم الليل حولت أبصارهم إليّ من قلوبهم، ومثلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبونني عن المشاهدة، ويكلمونني عن الحضور، يابن عمران هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينك الدموع في ظلم الليل فإنك تجدني قريباً».

وروي: أن عيسى عليه السلام مرّ بثلاثة نفر قد نحلت أبدانهم، وتغيّرت ألوانهم، فقال لهم: «ما الذي بلغ بكم ما أرى ؟

فقالوا: الخوف من النار.

ص: 62


1- سورة التوبة: 24.

فقال: حقّ على اللّٰه أن يؤمن الخائف، ثم جاوزهم إلى ثلاثة أُخرى، فإذا هم أشدّ نحولاً وتغيّراً فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى ؟

قالوا: الشوق إلى الجنة.

قال: حقّ على اللّٰه أن يعطيكم ما ترجون، ثم جاوزهم إلى ثلاثة أُخرى، فإذا هم أشدّ نحولاً وتغيّراً، كأن على وجوههم المرايا من النور فقال: ما الذي بلغ بكم ما أرى ؟

قالوا: حبّ اللّٰه عزّ وجل.

فقال: أنتم المقربون أنتم المقربون».

وعن علل الشرايع، عن نبينا صلى الله عليه و آله: «إن شعيباً عليه السلام بكى من حبّ اللّٰه عزّ وجل حتى عمي، فردّ اللّٰه عليه بصره، ثم بكى حتى عمي، فردّ اللّٰه عليه بصره، ثم بكى حتى عمي، فردّ اللّٰه عليه بصره، فلما كانت الرابعة أوحى اللّٰه إليه: يا شعيب إلى متى يكون هذا أبداً منك ؟ إن يكن هذا خوفاً من النار فقد أجرتك، وإن يكن شوقاً إلى الجنة فقد أبحتك، فقال: إلهي وسيدي أنت تعلم أني ما بكيت خوفاً من نارك، ولا شوقاً إلى جنتك، ولكن عقد حبّك على قلبي فلست أصبر أو أراك، فأوحى اللّٰه جلّ جلاله: أما إذا كان هذا هكذا فمن أجل هذا سأخدمك كليمي موسى بن عمران عليه السلام».

وقال أمير المؤمنين عليه السلام في دعاء كميل: «فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربّي صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك».

وعن الحسين عليه السلام في دعاء عرفة: «أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبوا سواك ولم يلجأوا إلى غيرك، وقال: يا من أذاق أحباءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملقين».

ص: 63

-

وفي المناجاة الانجيلية المنسوبة إلى السجاد عليه السلام: «وعزّتك لقد أحببتك محبة استقرت في قلبي حلاوتها وآنست ببشارتها، ومحال في عدل أقضيتك أن يسدّ أسباب رحمتك عن معتقدي محبتك».

وفي المناجاة الثانية عشرة للسجاد عليه السلام: «إلهي فاجعلنا من الذين ترسخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم، وأخذت لوعة محبتك بمجامع قلوبهم»، الدعاء.

ص: 64

اَلسَّلامُ عَلىٰ خَليلِ اللّٰهِ وَنَجيبِهِ

-

قد مر شرح كلمة السَّلام سابقاً وأما معنى الخليل فهو من الخُلّة بالضم وهي المودّة المتناهية في الاخلاص والصداقة كما في المنجد مادة (خل) والدليل على كون الإمام الحسين عليه السلام خليل اللّٰه قوله تعالى: «وَ اِتَّخَذَ اَللّٰهُ إِبْرٰاهِيمَ خَلِيلاً»(1) ولا يخفى أن إبراهيم الخليل عليه السلام ما ألبسه اللّٰه تاج الخلّة إلّالكونه من شيعة أمير المؤمنين كما قال: «وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرٰاهِيمَ »(2) وكفاه ذلك فخراً وشرفاً، وروي عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله: «وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرٰاهِيمَ » أي إن إبراهيم عليه السلام من شيعة علي عليه السلام، ويؤيّد هذا ما رواه السيد شرف الدين الاسترآبادي من علماء القرن العاشر في كتابه تأويل الآيات الظاهرة ص 484 عن أبي بصير قال: سأل جابر بن يزيد الجعفي من الإمام الصادق عليه السلام عن تفسير هذه الآية فقال: إن اللّٰه سبحانه لما خلق إبراهيم كشف له عن بصره فنظر فرأى نوراً إلى جنب العرش فقال: إلهي ما هذا النور؟ فقيل له: هذا نور محمد صلى الله عليه و آله صفوتي من خلقي، ورأى نوراً إلى جنبيه، فقال: إلهي وما هذا النور؟ فقيل له: هذا نور علي بن أبي طالب ناصر ديني، ورأى إلى جنبهم ثلاثة أنوار فقال: إلهي وما هذه الأنوار؟ فقيل له: هذا نور فاطمة فطمت محبيها من النار، ونور ولديها الحسن والحسين عليهما السلام، فقال: إلهي وأرى تسعة أنوار قد احدقوا بهم، قيل: يا إبراهيم هؤلاء الأئمة من ولد عليّ وفاطمة فقال إبراهيم: بحق هؤلاء الخمسة إلّاعرفتني مَن التسعة ؟ قيل: يا إبراهيم أولهم علي بن الحسين وابنه محمد وابنه جعفر وابنه موسى وابنه علي وابنه محمد وابنه علي وابنه الحسن والحجة القائم (عجَّل) ابنه، فقال إبراهيم:

ص: 65


1- سورة النساء: 125 -.
2- سورة الصافات: 83.

إلهي وسيدي أرى أنواراً قد احدقوا بهم لا يحصى عددهم إلّاأنت قيل: يا إبراهيم هؤلاء شيعتهم شيعة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال إبراهيم: وبما تعرف شيعته ؟ قال: بصلاة إحدى وخمسين والجهر ببسم اللّٰه الرحمن الرحيم، والقنوت قبل الركوع والتختم في اليمين، فعند ذلك قال إبراهيم: اللهم اجعلني من شيعة أمير المؤمنين، قال: فاخبر اللّٰه تعالى في كتابه فقال: «وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرٰاهِيمَ » .

ثم إن الخُلّة مقام فوق مقام الرسالة فليس كُلّ رسول يصل إلى مستوى أن يكون خليلاً للّٰه تعالى وإبراهيم خرج من كل الامتحانات بنجاح ولم يصدر منه حتى ما يسمى بترك الأولى على ما يبدوا من قوله تعالى: «وَ إِذِ اِبْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ » وفي الأخبار ان اللّٰه اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً ونبيّاً قبل أن يتخذه رسولاً ورسولاً قبل أن يتخذه خليلاً وخليلاً قبل أن يتخذه إماماً فلما جمع له هذه الأشياء، قال «إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً» وهذا يدل على أن الخُلّة أرفع من مقام الرسالة وقد اتصف بها أبو عبد اللّٰه الحسين عليه السلام في هذه الزيارة حيث يقول الإمام الصادق عليه السلام: اَلسَّلاٰمُ عَلىٰ خَليلِ اللّٰهِ وَنَجيبِهِ .

وأما قوله عليه السلام وَنَجيبِهِ :

قال في مجمع البحرين: النجيب الفاضل من كل حيوان وقد نُجب ينجب نجابة إذا كان فاضلاً نقياً في نوعه والجمع: النجباء... إلى أن قال: وانتجبه اختاره واصطفاه والمنتجب: المختار.

أقول: ففي المقام يراد منه أن الإمام الحسين عليه السلام وصل إلى درجة من القرب الإلهي بحيث كشف اللّٰه تعالى عنه جميع الحجب بينه تعالى وبين الحسين عليه السلام

ص: 66

كما حصل لجدّه رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله حيث وصل صلى الله عليه و آله إلى قاب قوسين أو أدنى دنواً واقتراب من اللّٰه تعالى.

وقد ورد في زيارة الجامعة انتجبكم بنوره» أي اجتباكم وأوجدكم من نوره أو اجتباكم متلبسين بنوره كما روي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: إن اللّٰه خلقنا من نور عظمته ثم صوّر خلقنا من طينة مخزونة مكنونة من تحت العرش فأسكن ذلك النور فيه، فكنا نحن خلقاً وبشراً نورانيين لم يجعل لأحد في مثل الذي خلقهم منه نصيباً، وخلق أرواح شيعتنا من أبداننا وأبدانهم من طينة مخزونة مكنونة أسفل من ذلك الطينة، ولم يجعل اللّٰه لأحد في مثل ذلك الذي خلقهم منه نصيباً إلّاالأنبياء والمرسلين فلذلك صرنا نحن وهم الناس وسائر الناس همجا في النار وإلى النار(1).

ص: 67


1- بحار الأنوار: ج 25 باب بدء خلقهم وطينتهم وأرواحهم عليهم السلام، وبصائر الدرجات: ج 1، الباب 10 مع اختلاف يسير.

اَلسَّلامُ عَلىٰ صَفِيِّ اللّٰهِ وَابْنِ صَفِيِّهِ

-

الصفوة: هو خلوص الشيء من الشوائب. يقال: صفاء الماء إذا خلص من الكدر وان من ألقاب النبي آدم أنه صفوة اللّٰه لكونه أول الأصفياء بحسب الظاهر وإلّا فجميع الأنبياء أصفياء اللّٰه، حيث خلقهم من طينة صافية كرّمهم على سائر الخلق واصطفاهم من خلقه، وفي بعض الأخبار أن آدم صار صفي اللّٰه، لأنه تعالى جعل هيكله الشريف مظهراً لأنوار محمد وآله، ولذا أمر ملائكته بالسجود له تعظيماً واكراماً لهذه الأنوار.

وتأتي بمعنى الاصطفاء فإن اللّٰه تعالى اصطفى الحسين عليه السلام وآل محمد صلى الله عليه و آله واجتباهم واختارهم على العالمين فإن طينتهم كذلك من طينة لم يجعل اللّٰه لأحد من الخلق فيهن نصيباً فهم في جميع المراتب صفوة اللّٰه وصفوة المرسلين وصفوة جميع الخلق.

ثم إن الاصطفاء الإلهي لآل محمد صلى الله عليه و آله على أربعة مراحل:

أ - اصطفاء في مرحلة الروح: فأرواحهم عليهم السلام نورانية أو متلبسة بنور اللّٰه عزّ وجل كما في زيارة الجامعة «واجتباكم بنوره».

ب - اصفاء في مرحلة الأبدان: فأبدانهم فيها خصوصيات لا توجد في غيرها فمثلاً لا يغسل المعصوم إلّامعصوم وفي الزيارة: «اَشْهَدُ اَ نَّكَ طُهْرٌ طاهِرٌ، مِنْ طُهْرٍ طاهِرٍ، طَهُرْتَ وَطَهُرَتْ بِكَ الْبِلادُ» وكان المسلمون الأوائل يتبركون ويستشفون ببصاق النبي صلى الله عليه و آله.

ج - إصطفاء في مرحلة الافعال: فافعالهم وسلوكهم عبارة عن تحرك الصفات الحسنة فإن أعمالهم وأفعالهم على وفق إرادته تعالى لا إرادتهم، بل ليس لهم إرادة إلّاإرادته تعالى وإرادتهم إرادته تعالى وكما ورد في زيارة الجامعة

ص: 68

-

«العَاملونَ بإرادَته»(1).

ويكيفك في بيان اصطفاء نور الحسين عليه السلام وأنوار محمد وآله صلى الله عليه و آله ما رواه في «رياض الجنان» عن جابر بن عبد اللّٰه قال: قلت لرسول اللّٰه صلى الله عليه و آله أول شيء خلقه اللّٰه ما هو؟ فقال: «نور نبيك يا جابر خلقه اللّٰه، ثم خلق منه كل خير، ثم أقامه بين يديه في مقام القرب ما شاء اللّٰه تعالى، ثم جعله أقساماً: فخلق العرش من قسم، والكرسي من قسم، وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الحبّ ما شاء اللّٰه، ثم جعله أقساماً، فخلق القلم من قسم، واللوح من قسم، والجنة من قسم، وأقام القسم الرابع في مقام الخوف ما شاء اللّٰه، ثم جعله أجزاء: فخلق الملائكة من جزء والشمس من جزء والقمر من جزء والكواكب من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الرجاء ما شاء اللّٰه ثم جعله أجزاء: فجعل العقل من جزء والعلم والحلم والعصمة والتوفيق من جزء، وأقام القسم الرابع في مقام الحياء ما شاء اللّٰه، ثم نظر إليه بعين الهيبة، فرشح ذلك النور وقطر منه مائة ألف قطرة وأربعة وعشرين ألف قطرة، فخلق اللّٰه من كل قطرة روح نبي ورسول، ثم تنفست أرواح الأنبياء فخلق اللّٰه من أنفاسها أرواح الأولياء والشهداء والصالحين»(2).

ونظير هذا الحديث كثير كما في البحار، فإذا تأملنا في هذا الحديث الشريف يتضح لنا صفاء نور الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيت النبوة بالنسبة إلى سائر الأنوار لأن نورهم واحد، وإلى ذلك أشار الإمام الصادق عليه السلام في هذه الزيارة: «اَلسَّلامُ عَلىٰ صَفِيِّ اللّٰهِ وَابْنِ صَفِيِّهِ ».

ص: 69


1- الانوار اللامعة في شرح زيارة الجامعة للعلامة سيد عبد اللّٰه شبر رحمه الله.
2- بحار الأنوار: ج 54، ط. دار احياء التراث.

اَلسَّلامُ عَلىَ الْحُسَيْنِ الْمَظْلُومِ الشَّهيدِ

-

من هو الإمام الحسين عليه السلام ؟

الحسين عليه السلام هو أشرف إنسان في الدنيا من حيث النسب فهو الإمام ابن الإمام أخو الإمام أبو الأئمة صلوات اللّٰه عليهم أجمعين.

أبوه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبيطالب عليه السلام، أخوه الإمام الحسن الزكي عليه السلام سيد شباب أهل الجنة، وابنه الإمام علي السجاد زين العابدين عليه السلام ومن ذريته ثمانية أئمة معصومين عليهم السلام.

أما أُمه فهي فاطمة الزهراء عليها السلام بنت محمد المصطفى صلى الله عليه و آله سيدة نساء العالمين، وجده لأبيه هو شيخ البطحاء وكافل رسول اللّٰه وناصر الإسلام أبو طالب عليه السلام.

وأما جده لأُمه فهو خاتم الأنبياء والمرسلين وحبيب إله العالمين محمد بن عبد اللّٰه صلى الله عليه و آله. هذا نسب الإمام الحسين عليه السلام فأي إنسان في العالم جمع نسباً شريفاً كهذا النسب الشريف. أضف إلى هذا النسب الشريف مقامه الراقي عند اللّٰه تعالى ومنزلته العليا في الإسلام فهو عليه السلام:

أولاً: ثالث أئمة أهل البيت الاثني عشر الذين عناهم اللّٰه تعالى بقوله:

وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا وَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرٰاتِ وَ إِقٰامَ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءَ اَلزَّكٰاةِ وَ كٰانُوا لَنٰا عٰابِدِينَ (1) ، وثالث أُولي الأمر الذين أمرنا اللّٰه تعالى باطاعتهم فقال: «يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّٰهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ » وفي إمامته وإمامة أخيه الحسن نص نبوي متواتر وهو قوله صلى الله عليه و آله:

«الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا...».

ص: 70


1- سورة الأنبياء: 73.

ثانياً: فهو عليه السلام أحد أهل البيت الذين أذهب اللّٰه عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً كما هو صريح اية التطهير. أي أنه عليه السلام خامس المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام، محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة التسعة من ذرية الحسين صلوات اللّٰه عليهم أجمعين.

ثالثاً: هو عليه السلام أحد العترة الذين قرنهم رسول اللّٰه بكتاب اللّٰه العزيز وأحد الثقلين اللذين خلفهما في هذه الاُمة حيث قال إني مخلف فيكم الثقلين كتاب اللّٰه وعترتي أهل بيتي.

رابعاً: انه عليه السلام أحد الأربعة الذين باهل بهم النبي صلى الله عليه و آله نصارى نجران وهو أحد المعنيين بقوله تعالى وأبنائنا وأبنائكم....

وهكذا إلى غير ذلك مما لا يسع المقام إحصائه من فضائله ومناقبه عليه السلام.

يقول الاُستاذ عباس العقاد في كتابه «أبو الشهداء» ما نصه:

وقد عاش الحسين سبعاً وخمسين سنة وله من الأعداء من يصدقون ويكذبون فلم يعبه أحد منهم بمعابة ولم يملك أحد منهم أن ينكر ما ذاع من فضله... ويقول أيضاً في مقام آخر:

فكان الحسين عليه السلام ملء العين والقلب في خَلق وخُلق وفي أدب وسيرة وكانت فيه مشابه من جده وأبيه.

أولاد الحسين عليه السلام:

فالذكور منهم أربعة وهم علي الأكبر عليه السلام الشهيد. وعلي السجاد الإمام زين العابدين عليه السلام. وعلي الأصغر وهو طفل رضيع، وعبد اللّٰه وهو طفل رضيع أيضاً وهؤلاء الأربعة لأُمهات شتى لا لأُم واحدة. فعلي الأكبر عليه السلام أُمه ليلى بنت مرة بن مسعود الثقفي. وعلي السجاد الإمام اُمه شاه زنان بنت الملك يزدجرد بن أردشين

ص: 71

-

ابن كسرى ملك الفرس وعبد اللّٰه اُمه الرباب بنت امرء القيس الكلبي. وقد قتلوا جميعاً يوم عاشوراء ما عدا الإمام زين العابدين عليه السلام الذي نجا بسبب مرضه ودفاع عمته زينب عليها السلام.

وأما الاناث منهم فأربعة أيضاً وهن سكينة، وفاطمة الكبرى، وفاطمة الصغرى، ورقية. وكلهن كانوا مع الحسين عليه السلام في كربلاء ما عدا فاطمة الكبرى فإن الإمام الحسين عليه السلام تركها في المدينة لمرضها.

اخوة الإمام الحسين عليه السلام:

إن اخوة الإمام الحسين عليه السلام كثيرون غير أن الذين كانوا معه في كربلاء هم ستة فقط وهم العباس بن علي عليه السلام وأشقاؤه الثلاثة: جعفر وعبد اللّٰه وعثمان، أُمهم فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابية المكناة بأُم البنين عليها السلام، ثم محمد بن علي قيل اسمه عبد اللّٰه عليه السلام وكان يكنّى بأبي بكر، وأُمه ليلى بنت مسعود بن خالد التميمي.

ثم عمر بن علي عليه السلام وأُمه غير مشخصة في التاريخ. وقيل أنه كان أيضاً مع الحسين أخ له يسمى محمد الأصغر وأُمه أُم ولد.

فهؤلاء ستة أو سبعة من اخوة الإمام الحسين عليه السلام استشهدوا بين يديه يوم عاشوراء وكان أفضلهم وأجلّهم أبوالفضل العباس عليه السلام وهو أكبر الهاشميين سناً يوم كربلاء ما عدا الحسين عليه السلام حيث كان عمره أربعاً وثلاثين سنة، لذا اختاره الإمام الحسين عليه السلام حاملاً لرايته العظمى، وعبر عنه بكبش الكتيبة، وكان عليه السلام وسيماً جسيماً طويل القامة، وجهه كفلقة قمر ومن هنا كان يلقب بقمر الهاشميين وهو آخر من قتل قبل الحسين عليه السلام يوم عاشوراء، وكان لقتله صدمة عنيفة في نفس الإمام الحسين عليه السلام عبر عنها بقوله حين وقف على مصرعه: «الآن انكسر ظهري وقلت حيلتي وشمت بي عدوي» وبان الانكسار في وجهه عليه السلام وبكى عليه عليه السلام.

ص: 72

-

قوله عليه السلام في الزيارة المظلوم الشهيد:

للإمام الحسين عليه السلام ألقاب كثير منها: الرشيد، والطيب، والوفيّ ، والسيد، والزكي، والمبارك، والتابع لمرضاة اللّٰه، والدليل على ذات اللّٰه، والسبط(1) وبعد شهادته اشتهر بالمظلوم والشهيد وغيرها.

من هو المظلوم ومَن هو الظالم:

لابد أن نعلم أن الظلم لغة: هو وضع الشيء في غير موضعه، فالشرك ظلم عظيم، لجعله موضع التوحيد عند المشركين.

وعرفاً هو: بخس الحق، والاعتداء على الغير قولاً أو عملاً كالسباب والاغتياب، ومصادرة المال، واجترام الضرب أو القتل، ونحو ذلك من صور الظلامات المادية والمعنوية والظلم من السجايا الراسخة في أغلب النفوس، وقد عانت منه البشرية في تاريخها المديد ألوان المآسي والأهوال، مما جهّم الحياة، ووسمها بطابع كئيب رهيب.

وللظلم أنواع:

أ - ظلم الانسان نفسه: وذلك بتركها طاعة اللّٰه عزّ وجل وتوجهها إلى معصية اللّٰه تعالى وعدم تقويمها بالخلق الحسن والسلوك المرضي.

ب - ظلم الانسان عائلته وذوي قرباه: وذلك باهمال تربية عائلته تربية اسلامية وجفاء اقرابه وخذلانهم في الشدائد والأزمات.

ج - ظلم الحكام والمتسلطين: وذلك باستبدادهم وخنقهم حرية الشعوب وامتهان كرامتها، وابتزاز أموالها، ولذلك كان ظلم الحكام أسوأ أنواع الظلم وأشدها نكراً.

ص: 73


1- المجالس السنية 10:1 لمحسن الأمين.

قال الإمام الصادق عليه السلام:

«إن اللّٰه تعالى أوحى إلى نبي من الأنبياء، في مملكة جبار من الجبابرة: إن إئت هذا الجبار فقل له: إني لم استعملك على سفك الدماء، واتخاذ الأموال، وإنما استعملتك لتكفّ عني اصوات المظلومين، فإني لن أدع ظلامتهم وإن كانوا كفاراً»(1).

ولذلك كانت نصرة المظلوم، وحمايته من الجائرين من أفضل الطاعات وأعظم القربات إلى اللّٰه تعالى والآثار الوضعية في حياة الإنسان الماديّة والروحيّة.

أقول: إنه لم يحدث ظلم من يوم خلق اللّٰه الدنيا وإلى أن تقوم القيامة ظلم وجرم ببشاعة حادثة كربلاء وظلم آل بيت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله في الطف ولذلك ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه و آله:

«لا يوم كيومك يا أبا عبد اللّٰه» حيث اجتمعت طائفة من اُمة جدّه يريدون ان يتقربوا إلى اللّٰه تعالى بسفك دمه، وتيتم اولاده واسرهم، وكلّ يريد شفاعة جده رسول اللّٰه لا أنالهم اللّٰه شفاعته، ولذلك لم يبقى في السماوات ملك لم ينزل إلى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يعزيه في ولده الحسين عليه السلام ويخبره بثواب اللّٰه إياه، ويحمل إليه تربته مصروعاً عليها، مذبوحاً شهيداً، فلو تأمل المتأمل وذو البصيرة لما رأى مصيبة أعظم من مصيبة الإمام الحسين عليه السلام، ولم يجد اُمة قتلت ابن بنت نبيها وأصحابه وأهل بيته في يوم واحد بأفجع صورة، فإنّا للّٰه وإنا إليه راجعون من مصيبة ما أعظمها وللّٰه در مهيار حيث قال:

يعظّمون له أعواد منبره *** وتحت ارجلهم أولاده وضعوا

ص: 74


1- الوافي 162:3 عن الكافي.

وقوله عليه السلام في الزيارة الشهيد:

الشهادة: هي الموت في سبيل اللّٰه تعالى والشهيد: القتيل في سبيل اللّٰه.

قال تعالى: «وَ لاٰ تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتٌ بَلْ أَحْيٰاءٌ وَ لٰكِنْ لاٰ تَشْعُرُونَ »(1) .

قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: «أشرف الموت قتلُ الشهادة».

وعنه صلى الله عليه و آله: فوق كل ذي برٍّ بر حتى يقتل الرجل في سبيل اللّٰه فإذا قتل في سبيل اللّٰه فليس فوقه بر، وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: ما من قطرة أحب إلى اللّٰه عزّ وجل من قطرتين. قطرة دم في سبيل اللّٰه، وقطرة دمعة في سواد الليل لا يريد بها العبد إلّااللّٰه عزّ وجل.

وعن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله قال: والذي نفسي بيده لوددت إني اُقتل في سبيل اللّٰه ثم أحيا، ثم اقتل ثم أحيا ثم اُقتل.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: «انكم أن لا تقتلوا تموتوا، والذي نفس عليٍّ بيده لألف ضربة بالسيف على الراس (في سبيل اللّٰه) أيسرُ من موت على فراش».

قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: «الشهادة تكفّر كل شيء إلّاالدَّين».

قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: «ما من أحد يدخل الجنة يحبّ أن يرجع إلى الدنيا، وإن له ما على الأرض من شيء غير الشهيد، فإنّه يتمنى أن يرجع فيقتل عشر مرات، لما يرى من الكرامة وفضل الشهادة».

ولذلك الإمام لحسين عليه السلام في مسيره إلى كربلاء قال: إني لا أرى الموت إلّا سعادة ولا الحياة مع الظالمن إلّابرما.

ص: 75


1- سورة البقرة: 154.

ثم إن النية لها أثر في الشهادة حتى ولو لم يستشهد يرزق ثواب الشهادة.

فعن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله قال: «كم ممّن أصابه السلاح ليس بشهيد ولا حميد، وكم ممن قد مات على فراشه حتف أنفه عند اللّٰه صديق شهيد»(1).

والخلاصة أقول: إن الإمام الحسين عليه السلام هو أبرز مصداق لهذه الأحاديث الشريفة فهو سيد الشهداء قاطبة من الأولين والآخرين، حيث لم يعطي نفسه للّٰه تعالى فحسب بل اعطى جميع ما يملك وأهل بيته وأولاده واخوته وأصحابه واطفاله في سبيل اللّٰه تعالى.

قال الشاعر:

اعطى الذي ملكت يداه إلهه *** حتى الجنين فداه كل جنين

فالإمام الحسين عليه السلام هو سيد شهداء الأولين والآخرين وقد أخبر النبي صلى الله عليه و آله بشهادته وبكى عليه مراراً قبل استشهاده بل وبكى حتى في يوم ولادة الإمام الحسين عليه السلام، نذكر بعض ما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله عن شهادته عليه السلام، فعن أبي عبد اللّٰه الصادق عليه السلام قال: كان النبي صلى الله عليه و آله في بيت أُم سلمة، فقال لها: لا يدخل عليَّ أحد، فجاء الحسين عليه السلام وهو طفل فمنعته فوثب حتى دخل الدّار على النبي صلى الله عليه و آله، فدخلت أُم سلمة على أثره، فإذا الحسين عليه السلام على صدره، وإذا النبي صلى الله عليه و آله يبكي وبيده شيء يقبله، فقال النبي صلى الله عليه و آله: يا أُمّ سلمة إن هذا جبرائيل يخبرني أن هذا مقتول وهذه التربة التي يقتل عليها، فضعيه عندك فإذا صارت دماً فقد قتل حبيبي، فقالت أُم سلمة: يا رسول اللّٰه سل اللّٰه أن يدفع ذلك عنه، قال:

قد فعلت فأوحى اللّٰه تعالى إليّ أنّ له درجة لا ينالها أحد من المخلوقين،

ص: 76


1- ميزان الحكمة: ج 5، باب الشهادة.

-

وأن له شيعة يشفعون فيشفعون، وأن المهدي (عج) من ولده فطوبى لمن كان من الحسين عليه السلام وشيعته، هم واللّٰه الفائزون يوم القيامة(1).

ومنها: ما روي عن أبي جعفر عليه السلام قال: كان رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله إذا دخل الحسين عليه السلام اجتذبه إليه ثمّ يقول لأمير المؤمنين عليه السلام أمسكه فيمسكه فيقبله ويبكي فيقول: يا أبة لم تبكي ؟ فقال: يا بُني أقبل مواضع السيوف منك وأبكي، قال: يا أبة وأنا اُقتل ؟ قال: أي واللّٰه وأبوك وأخوك، قال: يا أبة فمصارعنا شتّى ؟ قال:

نعم يا بُني، قال: فمن يزورنا من أُمتك ؟ قال: لا يزورني ولا يزور أباك وأخاك وأنت إلّاالصدّيقون من اُمتي.

ومن أخباره بشهادته عن عبد اللّٰه بن عباس أنه لما اشتدّ برسول اللّٰه صلى الله عليه و آله مرضه الذي مات فيه، وقد ضم الحسين عليه السلام إلى صدره يسيل من عرقه عليه وهو يجود بنفسه، ويقول: مالي وليزيد لا بارك اللّٰه فيه. اللهمّ العن يزيد ثمّ غشي عليه طويلاً وأفاق وجعل يقبل الحسين عليه السلام وعيناه تذرفان ويقول: أما أن لي ولقاتلك مقاماً بين يدي اللّٰه عزّ وجل(2)!

ص: 77


1- معالي السبطين: 174.
2- نفس المصدر: 174.

اَلسَّلامُ علىٰ اَسيرِ الْكُرُباتِ

-

الأسير: من قبض عليه وأُخذ ومنها اسرى الحرب(1).

الكروب: جمع الكَرب: الحزن والمشقة. والكرابة والكريبة: الداهية الشديدة.

المكروب: المهموم(2).

ثم ان الكرب في الأصل بمعنى حفر الأرض وقلبها وكذلك تعني العقد المحكمة الشَد، في حبل الدلو، ثم اطلقت بعد ذلك على الغم والهم والحزن الشديد الذي يقلب قلب الإنسان ويثقل عليه كالعقد.

قال تعالى: «قُلِ اَللّٰهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهٰا وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ »(3) .

وقال تعالى: «فَاسْتَجَبْنٰا لَهُ فَنَجَّيْنٰاهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ اَلْكَرْبِ اَلْعَظِيمِ »(4) .

أي استجاب اللّٰه تعالى دعاء نوح عليه السلام بأن ينجّيه من أذى قومه وشرِّهم(5).

أيها القارئ الكريم: بعد أن علمت معنى الأسير، - وهو من قُبض عليه وأخذ برقبته، ومنها أسير الحرب وعلمت معنى الكرب وهو الحزن والمشقة والداهية العظيمة الشدية والهموم، تعلم معنى قوله عليه السلام: «اَلسَّلامُ علىٰ اَسيرِ الْكُرُباتِ »، فإن الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته عليهم السلام قد تعرّضوا للبلاء والمحن الشديدة وصاروا أسير الكربات أي الدواهي الشديدة في دار الدنيا.

ولذا قيل ان مصيبة الحسين عليه السلام أعظم المصائب ولا يوم كيومه - كما ورد ذلك عن الإمام علي أمير المؤمنين والإمام الحسن المجتبى والإمام

ص: 78


1- المنجد، مادة أَسَرَ وكَرَبَ .
2- المنجد، مادة أَسَرَ وكَرَبَ .
3- سورة الأنعام: 64.
4- سورة الأنبياء: 76.
5- الأمثل 321:4.

زين العابدين عليهم السلام - ولعظم المصيبة كان اللّٰه تعالى هو المتكفل بأخذ ثار الحسين عليه السلام من جميع الخلائق كما ورد في زيارته: أشهد أنك ثار اللّٰه في أرضه حتى يستثير لك من جميع خلقه.

والجدير بالذكر أن الأنبياء والأوصياء والمصلحين - طوال التاريخ - كانوا يتعرّضوان للشدائد والمحن والكُربات... ويقعون في أسر الظالمين والطغاة والفراعنة والجبابرة، ولكنهم كانوا يواجهون تلك الأَزمات والكربات بروح قويّة ومعنويات عالية ملؤها الصُّمود والصّبر والتحدّي... وكان النصر حليفهم في النهاية، والعاقبة للمتّقين.

فأين الفراعنة اليوم ؟

أين قبورهم ؟

أين تراثهم ؟

أين آثارهم ؟

ولكن تعال وانظر إلى الصرح المشيّد لسيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين عليه السلام الشهيد (صلوات اللّٰه عليه).

تعال وانظر إلى ملايين الناس الذين يتوافدون من مختلف انحاء العالم لزيارة مرقده الشريف والوقوف أمام ضريحه المقدس.

تعالى وانظر إلى تراث الإمام الحسين عليه السلام ورسالته الخالدة وكلماته المنيرة الحكيمة... فعندها تعرف معنى العظمة الإلهية التي منحها لهذا الإمام العظيم.

ص: 79

وَقَتيلِ الْعَبَراتِ -

القتيل: المبالغة في القتل وقد حدث ذلك له عليه السلام حيث لم يسمع في التاريخ ان أحداً قتل وارتكبت معه جريمة كما ارتكبت في حق أبي عبد اللّٰه الحسين عليه السلام وأهل بيته إلى درجة بكاه كل ما في الوجود، بل وحتى اللّٰه تعالى يذكر مصيبته لأنبياء من فوق عرشه منها ما خاطب كليمه موسى بن عمران عليه السلام قائلاً: «يا موسى لو تراهم صغيرهم يميته العطش وكبيرهم قلبه منكمش».

العبرة: الدمعة والحزن بلا بكاء. وعَبَر عَبراً: حزن وسالت عبرته ودموعه وفي الحديث عن الإمام الحسين عليه السلام: أنا قتيل العبرة وصريع الدمعة(1).

فكأن العبرة والدمعة أعُدت له عليه السلام، ولذا قال الإمام الصادق عليه السلام: كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين عليه السلام(2).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «قال الإمام الحسين بن علي عليه السلام: أنا قتيل العبرة قُتلتُ مكروباً وحقيق على اللّٰه ان لا يأتيني مكروب قطّ إلّاردّه اللّٰه وأقلبه إلى أهله مسرواً»(3).

وفي الحديث نظر أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحسين فقال: يا عبرة كل مؤمن، فقال: أنا يا أبتاه قال نعم يا بنيّ (4).

وفي الحديث أنا قتيل العبرة لا يذكرني مؤمن إلّااستعبر(5).

قال المرحوم الحاج شيخ جعفر الرشتي في الخصائص: 141: اعلم ان الرقة والجزع والبكاء على مصائب أهل البيت عليهم السلام مختلف ومنقسم على أقسام:

ص: 80


1- المنجد مادة عَبر.
2- معالي السبطين للشيخ محمد مهدي المازندراني.
3- كامل الزيارات: 109 وعقاب الأعمال: 19.
4- كامل الزيارات: 108.
5- كامل الزيارات: 108.

الأول: منها بكاء القلب وهي عباة عن الهم والغم على ما جرى عليهم من الأعداء وهو أول المراتب وثمرته له وثوابه من اللّٰه أن يعطي بكل نفس ثواب تسبيح للّٰه كما قال الصادق عليه السلام: نفس المهموم لظلمنا تسبيح، وهمه لنا عبادة، وكتمان سرنا جهاد في سبيل اللّٰه.

والقسم الثاني: منها وجع القلب وهو يحصل من تراكم الهموم والغموم، فإذا كثر همه وغمه لمصائب أهل البيت يتألم من ذلك حتى يوجع قلبه، فإذا عرض عليه ذلك كان له من الأجر ما قال الصادق عليه السلام لمسمع: وأن الموجع قلبه لنا ليفرح قلبه يوم يرانا عند موته... الحديث(1).

ص: 81


1- معالي السبطين: 142 عن بحار الأنوار 289:44 والحديث هو عن مسمع قال: قال لي أبو عبد اللّٰه الصادق عليه السلام: يا مسمع أنت من أهل العراق أما تأتي قبر الحسين عليه السلام، قلت: لا أنا رجل مشهور من أهل البصرة وعندنا من يتبع هوى هذا الخليفة وأعداؤنا كثيرة من أهل القبائل من النصاب وغيرهم ولست آمنهم أن يرفعوا حالي عند ولد سليمان فيميلون عليّ ، قال عليه السلام لي: أفما تذكر ما صنع به، قلت: بلى، قال: فتجزع، قلت: أي واللّٰه وأستعبر لذلك حتى يرى أهلي أثر ذلك عليّ فامتنع من الطعام حتى يستبين ذلك في وجهي، قال عليه السلام: رحم اللّٰه دمعتك أما أنك من الذين يعدون من أهل الجزع لنا والذين يفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا ويخافون لخوفنا ويأمنون إذا أمنا أما أنك سترى عند موتك حضور آبائي لك ووصيتهم ملك الموت بك وما يلقونك به من البشارة ما تقرّ به عينك قبل الموت فملك الموت أرق عليك وأشد رحمة لك من الأُم الشفيقة على ولدها، قال ثم استعبر واستعبرت معه فقال: الحمد للّٰه الذي فضلنا على خلقه بالرحمة وخصنا أهل البيت بالكرامة لنا يا مسمع: ان الأرض والسماء لتبكيان منذ قتل أمير المؤمنين عليه السلام رحمة لنا وما بكى لنا من الملائكة أكثر ومارقأت دموع الملائكة منذ قتلنا وما بكى أحد رحمة لنا ولما لقينا إلّارحمه اللّٰه قبل أن تخرج الدمعة من عينه فإذا سالت دموعه على خده فلو أن قطرة من دموعه سقطت في جهنم لأطفئت حرها حتى لا يوجد لها حر وأن الموجع قلبه لنا ليفرح يوم يرانا عند موته فرحة لا تزال تلك الفرحة في قلبه حتى يرد علينا الحوض وأن الكوثر ليفرح بمحبنا إذا ورد عليه حتى أنه ليذيقه من ضروب الطعام ما لا يشتهي أن يصدر عنه يا مسمع من شرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبداً ولم يشق بعدها أبداً وهو في برد الكافور وريح المسك وطعم الزنجبيل أحلى من العسل وألين من الزبد وأصفى من الدمع وأزكى من العنبر يخرج من تسنيم ويمر بأنهار الجنان يجري على رضراض الدر والياقوت فيه من القدحان أكثر من عدد نجوم السماء يوجد ريحه من مسيرة ألف عام قدحانه من الذهب والفضة وألوان الجواهر يفوح في وجه الشارب منه كل فاتحة حتى يقول الشارب منه ليتني تركت هاهنا لا أبغي بهذا بدلاً ولا عنه حولاً أما أنك يا مسمع ممن تروي منه وما من عين بكت لنا إلّانعمت بالنظر إلى الكوثر؟ قال: وان الشارب منه ليعطى من اللذة والطعم والشهوة له أكثر مما يعطاه من هو دونه في حبنا وإن على الكوثر أمير المؤمنين عليه السلام وفي يده عصى من عوسج يحطم بها أعدائنا.

والقسم الثالث: دوران الدمع في الحدقة بلا خروج منها وهذه مرتبة فوق مرتبة وجع القلب وله من الأجر أيضاً فوق ذلك، كما قال جعفر بن محمد عليه السلام:

لمسمع يا مسمع وما بكى أحد رحمة لنا....

والقسم الرابع: من البكاء خروج الدمع من العين ولو بقدر جناح بعوضة وهذا هو الذي قاله الصادق عليه السلام من ذكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه دمع مثل جناح البعوضة غفر اللّٰه له ذنوبه ولو كانت مثل زبد البحر، وفي خبر آخر قال عليه السلام: من ذكر الحسين عنده فخرج من عينيه من الدموع مقدار جناح ذباب كان ثوابه على اللّٰه (عزّ وجل) ولم يرض له دون الجنة.

والقسم الخامس: خروج الدمعة مع التقاطر ولها خواص ومنافع منها قال الصادق لمسمع فلوا أن قطرة من دموعه....

والسادس: سيلان الدمعة على الوجه والصدر واللحية وهذا هو بكاء الأئمة عليهم السلام ولها من الأجر فوق أن تحصى، منها ما قال الرضا عليه السلام لريان بن شبيب:

إن بكيت على الحسين حتى تسيل.

ص: 82

منها ما قال زين العابدين عليه السلام أيما مؤمن دمعت عيناه دمعاً حتى تسيل على خده لأذى مسنا من عدونا في الدنيا، بوأه اللّٰه مبوأ صدق في الجنة، وأيما مؤمن مسه أذى فينا فدمعت عيناه حتى يسيل دمعه على خديه من مضاضة ما أُوذي فينا، صرف اللّٰه عن وجهه الأذى وأمنه يوم القيامة من سخط النار، أيما مؤمن دمعت عيناه لقتل الحسين بن علي عليه السلام دمعة حتى تسيل على خده، بوأه اللّٰه بها في الجنة غرفاً يسكنها أحقاباً.

وبقيت مرتبة أُخرى وهي أعلى من تلك المراتب وأفضلها وهنيئاً لمن عمل بها وهي البكاء مع تقاطر الدمعة وسيلانها على الخد واللحية مع الصراخ والنحيب والشهقة، وكفى له من الأجر والثواب دعاء الإمام الصادق عليه السلام له بقوله: اللهم ارحم تلك الصرخة التي كانت لأجلنا، وهذا بكاء الزهراء عليها السلام في كل يوم كما ورد في الخبر: أنها تنظر إلى قميص ولدها الحسين عليه السلام وتشهق شهقة حتى يسكتها أبوها ولم يزل هذا القميص مع الزهراء ولا ينفك عنها إلى أن ترد المحشر، وهي آخذة بذلك القميص المتلطخ بالدم وقد تعلقت بقسائم العرش، وتقول: رب احكم بيني وبين قاتل ولدي الحسين عليه السلام.

نظم:

كأني ببنت المصطفى قد تعلقت *** يداها بساق العرش والدمع اذرت

وفي حجرها ثوب الحسين مضرجاً *** وعنها جميع العالمين بحسرة

تقول يا عدل اقض بيني وبين من *** تعدى على ابني بين قهر وقسوة

أجالوا عليه بالصوارم والقنا *** وكم جال فيهم من سنان وشفرة

***

ص: 83

وقال الآخر:

لابد أن ترد القيامة فاطم *** وقميصها بدم الحسين ملطخ

ويل لمن شفعاؤه خصماؤه *** والصور في يوم القيامة ينفخ

في البحار(1) قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: يمثل لفاطمة في يوم القيامة رأس الحسين عليه السلام متشحطاً بدمه فتصيح وا ولداه وا ثمرة فؤاداه، فتصعق الملائكة لصيحة فاطمة وينادي أهل القيامة: قتل اللّٰه قاتل ولدك يا فاطمة، فيقول اللّٰه تعالى ذلك أفعل به وبشيعته وأحبائه وأتباعه....

في الخصال عن أمير المؤمنين عليه السلام: إن اللّٰه اطلع على الأرض فاختارنا واختار لنا شيعة ينصروننا ويفرحون لفرحنا ويحزنون لحزننا، ويبذلون أموالهم وأنفسهم فينا أُولئك منا وإلينا، وقال الصادق عليه السلام: رحم اللّٰه شيعتنا إنهم أُوذوا فينا ولم نؤذ فيهم، شيعتنا منا قد خلقوا من فاضل طينتنا وعجنوا بنور ولايتنا رضوا بنا أئمة ورضينا بهم شيعة يصيبهم مصابنا ويبكيهم مصابنا ويحزنهم حزننا ويسرهم سرورنا، ونحن أيضاً نتألم لألمهم ونطلع على أحوالهم، فهم معنا لا يفارقونا ولا نفارقهم، لأن مرجع العبد إلى سيده ومعوله على مولاه فهم يهجرون من عادانا ويمدحون من والانا ويباعدون من آذانا، اللهم أحي شيعتنا في دولتنا وأبقهم في ملكنا وملكتنا، اللهم إن شيعتنا منا ومضافون إلينا فمن ذكر مصابنا وبكى لأجلنا استحى اللّٰه أن يعذبه، وقال الصادق عليه السلام رحم اللّٰه شيعتنا لقد شاركونا في المصيبة بطول الحزن والحسرة على مصاب الحسين عليه السلام.

ص: 84


1- بحار الأنوار 222:43.

قال المرحوم شيخنا التستري: اعلم أن مجرد الحضور والجلوس في هذه المجالس التي انعقدت لأجل التذكر والتذكار لمناقب أهل البيت والبكاء والتباكي

على مصائبهم له أجر عظيم وفوائد جليلة في الدنيا والآخرة.

منها: ما قال الرضا عليه السلام: من تذكر مصابنا وبكى لما ارتكب منا كان معنا في درجتنا يوم القيامة، ومن ذكر بمصابنا فبكى وأبكى لم تبك عينه يوم تبكي العيون، ومن جلس مجلساً يحى فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب.

منها: إنها محبوبة للّٰه ولرسوله ولأوصيائه كما يظهر من كلام الصادق عليه السلام لفضيل يا فضيل تجلسون وتحدثون (وتتحدثون خ ل) قال: نعم جعلت فداك، قال: إن تلك المجالس لأحبها فأحيوا أمرنا، يا فضيل فرحم اللّٰه من أحيى أمرنا، يا فضيل من ذكرنا أو ذُكرنا عنده فخرج من عينه مثل جناح بعضوة (الذباب خ ل) غفر اللّٰه له ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر، فإذا كانت هذه المجالس محبوبة للصادق عليه السلام فيقيناً محبوبة لباقي الأئمة ومحبوبة عند الرسول عند اللّٰه.

منها: إنها منظورة للحسين عليه السلام لأنه في يمين العرش وأنه ليرى من يبكيه، ويسأل آباءه أن يستغفروا له ويقول: لو يعلم الباكي على ما أعد اللّٰه له لكان فرحه أكثر من جزعه.

منها: إنه مادام جالساً في المجلس جليس مع الملائكة لأن المجلس محل شهود الملائكة ومحل هبوطهم فيه، ويوافقون الباكي في البكاء والنحيب، ويدعون اللّٰه له ويطلبون منه الرحمة له ولآبائه، كما قال الصادق عليه السلام لجعفر بن عفّان حين دخل عليه فقربه وأدناه ثم قال: يا جعفر، قال: لبيك جعلني اللّٰه فداك، قال: بلغني أنك تقول الشعر في الحسين عليه السلام وتجيد قال: نعم جعلني اللّٰه فداك،

ص: 85

قال: قل فأنشدته عليه السلام فبكى ومن حوله حتى صارت على وجهه ولحيته ثم قال:

يا جعفر واللّٰه لقد شهدت ملائكة اللّٰه المقربون هاهنا يسمعون قولك في الحسين عليه السلام ولقد بكوا كما بكينا وأكثر ولقد أوجب اللّٰه تعالى لك يا جعفر في ساعته الجنة بأسرها وغفر اللّٰه لك فقال: يا جعفر ألا أزيدك ؟ قال: نعم يا سيدي، قال عليه السلام: ما من أحد قال في الحسين عليه السلام شعراً فبكى وأبكى به إلّاأوجب اللّٰه له الجنة وغفر له، وللصادق عليه السلام مجلس لإقامة عزاء الحسين عليه السلام والبكاء عليه وذلك كلما دخل عليه أحد من الراثين على الحسين عليه السلام فيأمره بالرثاء فيرثي، قال:

أبوهارون المكفوف: دخلت على أبي عبد اللّٰه الصادق عليه السلام فقال لي أنشدني في الحسين عليه السلام فأنشدته:

أمرر على جدث الحسين *** فقل لأعظمه الزكية

قال فلما بكى أمسكت أنا قال: مر، فمررت:

يا أعظماً لا زلت من *** وطفاء ساكبة روية

وإذا مررت بقبره فأطل به *** وقف المطية

فابك المطهر للمطهر *** والمطهرة التقية

كبكاء معولة أتت يوماً *** لواحدها المنية

ثم قال، زدني، فأنشدته:

يا مريم قومي واندبي مولاك *** وعلى الحسين فاسعدي ببكاك

قال فبكى وتهايج النساء فلما أن سكتن قال: يا أبا هارون من أنشد في الحسين عليه السلام فأبكى عشرة فله الجنة، ثم جعل ينتقص واحداً واحداً حتى بلغ الواحد فقال: من أنشد في الحسين وأبكى واحداً فله الجنة، ثم قال: من ذكره فبكى فله الجنة.

ص: 86

-

وفي الخبر ما ذكر الحسين بن علي عليه السلام عند إمامنا الصادق عليه السلام في يوم قط فرئي أبو عبد اللّٰه عليه السلام متبسماً في ذلك اليوم إلى الليل، وكان يقول عليه السلام: الحسين عبرة كل مؤمن ومؤمنة كما أن علياً عليه السلام كلما رأى الحسين عليه السلام يبكي ويقول: يا عبرة كل مؤمن ومؤمنة، وقال الحسين أنا يا أبتاه يقول نعم يا بني وما قال الحسين عليه السلام هو أحرق لقلوب الشيعة قال: أنا قتيل العبرة ما ذكرت عند مؤمن ولا مؤمنة إلّابكيا واغتما لمصابي(1).

ص: 87


1- معالي السبطين: 147.

اَللّهُمَّ اِنّي اَشْهَدُ اَنَّهُ وَلِيُّكَ وَابْنُ وَلِيِّكَ ، وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ

-

اَللّهُمَّ : اصلها يا اللّٰه حذف ياء المنادى وابدلت مكانها الميم في آخرها فصارت اللهم، فهي في الأصل منادى، وقد مرّ الكلام في كلمه اللّٰه جل جلاله فراجع.

اني اشهد:

ان الشهادة قد يراد منها الاقرار في الظاهر بأن الإمام الحسين عليه السلام ولي اللّٰه تعالى وابن وليه وهذا ثابت بالأدلة النقلية والعقلية ودلت عليه الآثار والمعجزات ومن أحسنها دلالة القرآن الذي هو معجز مستقل في إثباته وشاهد حاضر في مرأى المسلمين وقد سبق البحث في مقام ولايتهم(1).

وقد يراد بالشهادة هي الشهادة المشهودة لأصحاب الكشف والشهود خاصة من أهل اللبّ والعلم والمعرفة.

والحاصل: ان من عرف اللّٰه، وعرف صفاته وافعاله وآثار افعاله وأوليائه بالأدلة العقلية والنقلية، ظهر له بالضرورة ان الإمام الحسين عليه السلام انه ولي اللّٰه وابن وليه، خصوصاً إذا كان ممن عرف أسرار هذا الدين والمذهب الحق الجعفري بظاهره وباطنه من المعارف التي عجزت عن مثلها الالبّاء وعقلاء العالم، وأيضاً عرف واحاط علماً بسيرة الإمام الحسين عليه السلام وأهل البيت سلام اللّٰه عليهم أجمعين وأخلاقهم وآدابهم حصل له القطع بان هذه السيرة قد صدرت عن حكمة رباينة لا يمكن مثلها من الخلق، وإن بلغ في الكمال ما بلغ، فنرى أن أقوالهم يصدق بعضها بعضاً وكذا أفعالهم تصدق أقوالهم من دون معارضه كما لا يخفى على البصير الناقدالساير في سيرهم وأفعالهم عليهم السلام فإن هذا النظام لا يكون إلّاعن مصلحة إلهية ووحي إلهي.

ص: 88


1- راجع بحث الولاية.

-

وبعبارة اُخرى: إن الشهادة بولايتهم وإمامتهم لابد من أن تكون بعد الشهادتين، أما عقيدة فهي واجبة وأما الاقرار اللساني فهو مستحب.

وكيف كان فالتصريح بالنبوة يستلزم التصريح بولايتهم وامامتهم فالإمام الحسين عليه السلام هو ركن من أركان الولاية الربانية فلذلك لابد التصريح في زيارته إلى هذه الولاية الحقة والاقرار بها قلباً ولساناً له وللأئمة المعصومين عليهم السلام.

ووجوب الاطاعة لهم في جميع الاُمور والاقرار بفضلهم لأن مقامهم مقام النبي صلى الله عليه و آله في وجوب الطاعة ولانهم كالنبي في كونهم حملوا حمولة الرب وهذا هو السر في كونهم كالنبي صلى الله عليه و آله في تلك الشؤون.

قال أبو جعفر عليه السلام: ولا يستكمل عبد الإيمان حتى يعرف انه يجري لآخرهم ما يجري لأولهم في الحجة والطاعة والحلال والحرام سواء ولمحمد وأمير المؤمنين فصلهما(1).

وعن اكمال الدين باسناده عن الثمالي عن أبي جعفر عن أبيه عن جده الحسين عليه السلام قال: دخلت أنا وأخي على جدي رسول اللّٰه فاجلسني على فخذه وأجلس اخي الحسن على فخذه الآخر ثم قبّلنا وقال: «بابي انتما من إمامين سبطين اختاركما اللّٰه مني ومن أبيكما ومن اُمكما واختار من صلبك يا حسين تسعة أئمة تاسعهم قائمهم وكلهم في الفضل والمنزلة سواء عند اللّٰه تعالى»(2).

وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ :

وقد مر شرح الصفي في عبارة السَّلام على صفي اللّٰه وابن صفيه، فراجع.

ص: 89


1- بحار الأنوار 353:25.
2- بحار الأنوار 356:25.

الْفآئِزُ بِكَرامَتِكَ ، اَكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَةِ

-

الفائز: من الفوز: الظفر، أي نال ما أراد من النعيم المقيم.

والكريم: من كل شيء هو جيّده في صنفه أو نوعه أو جنسه. والكَرم قيل:

هو سخاء النفس بما تحب، وهو ليس صفة خاصّة بل هو صفة لكل حسن مرضىٍّ فاضل في جنسه، كما يقال كتاب كريم، مقام كريم، زوج كريم، رسول كريم، وإنه لقرآن كريم.

وعليه فإن الإمام الحسين عليه السلام فاز بكرامة اللّٰه تعالى وهي الشهادة غاية الفوز، بحيث لم يدانه أحد فإن اللّٰه تعالى أكرمه وجميع الأئمة عليهم السلام بما لم يكرم به أحد من خلقه، حتى الأنبياء ما عدا جدّه صلى الله عليه و آله وذلك لحقيقة ما همّ عليه من القرب والمعرفة والعبادة، ومن كونهم مظاهر جماله وجلاله وغير ذلك، فلا محالة فازوا بما لم يفز به أحد من الخلق، وظفروا بما طلبوا من الكرامة لديه، ووصلوا إلى المقام الأعلى والمكان الرفيع وكما ورد في الزيارة «أتاكم اللّٰه ما لم يأت أحد من العالمين» فهم «عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ * لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ »(1) .

ثم إن التكريمات التي كرّم اللّٰه بها - بحسب الظاهر لمطلق الإنسان - إلّاأنها في الحقيقة لمحمد صلى الله عليه و آله وآله الطاهرين المنتجبين بمحل من الامكان بحيث لا يحوم حول حماها انسان، بل كل ما سواهم من سائر الخلق والموجودات والملائكة والأنبياء والبشر، فالكرامة والتكرمه التي تكون لسائر الخلق تكون بالتبعية والمعلولية لها كل واحد منها بنسبته، وإلّا المصداق لتلك التكرمات بالنحو الأتم الأكمل هو لمحمد وأهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام.

وفي الحديث أنزلوهم أحسن منازل القرآن.

ص: 90


1- سورة الأنبياء: 26-27.

-

وقيل المراد بالكرامة هو: الكريم من الأعمال، يعني أن ما أُمر به الإمام الحسين عليه السلام من الأعمال وبالأخص الشهادة في سبيل اللّٰه فإنها كرامة من اللّٰه تعالى وهي أجودها، لأن المأمور بالأعمال إنما يؤمر بقدر قابليته وارتفاع مرتبته، أو عدم ارتفاعها.

ولما كانت مبادئ الإمام الحسين عليه السلام ومبادئ أهل البيت عليهم السلام أكرم المبادئ فلابد من أن يكون ما أُمروا به شيئاً يليق بذلك المبدأ إلى منتهى غاياته.

فهذه الفقرة ناظرة إلى عمل وفعل الإمام الحسين عليه السلام وبالأخص منزلة الشهادة التي نالها في سبيل احياء دين اللّٰه تعالى بحيث أكرمه اللّٰه تعالى بها وجعل سفينته اسرع سفن الهداية(1).

بالشهادة: وقد مر البحث سابقاً عنها في مقام الشهيد في فقرة (المظلوم الشهيد) من الزيارة فراجع.

ص: 91


1- الشموس الطالعة في مشارق زيارة الجامعة للسيّد حسين الهمداني مع تصرف.

وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَةِ

-

الحبوة: يقال حبوت الرجل حِباءً : اعطيته الشيء بغير عوض، وفي الحديث أن أول حبائك الجنة أي عطاؤك.

وفي الحديث صلاة الحبوة وهي صلاة جعفر بن أبي طالب المعروفة بصلاة جعفر الطيارة المشهورة بين الفريقين، سُميت بذلك لأنها حباء من الرسول صلى الله عليه و آله ومنحة منه وعطية من اللّٰه تفضل بها على جعفر الطيار رضى الله عنه(1).

وعن لسان العرب الحباء: العطاء بلا مَنٍّ ولا جزاء.

السعادة: خلاف الشقاء.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: السعادة سبب خير تمسّك به السعيد فيجرّه إلى النجاة والشقاوة سبب خذلان تمسّك به الشقي فجرّه إلى الهلكة وكل بعلم اللّٰه تعالى(2).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: السعادة ما أفضت إلى الفوز، وقال السعيد من اخلص الطاعة.

وعنه عليه السلام: من أجهد نفسه في اصلاحها سعد، ومن أهمل نفسه في لذاتها شقي وبُعد، وعنه عليه السلام ثلاث من حافظ عليها سعد: إذا ظهرت عليك نعمة فاحمد اللّٰه وإذا ابطأ عنك الرزق فاستغفر اللّٰه، وإذا اصابئك شدّة فاكثر من قول: لا حول ولا قوة إلّاباللّٰه.

وعنه عليه السلام: اسعد الناس من عرف فضلنا وتقرب إلى اللّٰه بنا وأخلص حُبنا وعمل بما اللّٰه ندبنا، وانتهى عما عنه نهينا فذاك منا وهو في دار المُقامة معنا(3).

ص: 92


1- مجمع البحرين 294:1.
2- بحار الأنوار 184:10.
3- ميزان الحكمة 4: حرف السين.

-

أقول: فكيف كان فإن اللّٰه تعالى أعطى الإمام الحسين عليه السلام السعادة في الدنيا حيث رفع اسمه ونصبت له المأتم في كل مكان وإلى قيام القيامة، رغم الجهد الذي صدر من اعدائه في طمس ذكره، ولكن اللّٰه تعالى رفع ذكره هذا في هذه النشأة، وناهيك ما أعدّ له تعالى في النشأة الآخرة ويكفيك في ذلك أن حساب الخلائق قبل يوم القيامة بيده عليه السلام كما في الخبر.

بل أكثر من ذلك فإن السعادة التي حباها اللّٰه تعالى إياه لم تختص به بل تشمل كل من والاه ووالا أهل البيت عليهم السلام وعاد أعدائه وأعداء أهل البيت عليهم السلام، لأنه بولائهم للحسين عليه السلام تكفّر عنهم عظائم الذنوب لأن المحب والموالي لهم يُوفّق للصواب في اعتقاداته، وعلومه، وأفعاله، وأقواله، وأعماله، وهذا بخلاف غيرهم كما نرى ذلك منهم.

وثانياً: يبصره اللّٰه عيوب نفسه، فيشتغل باصلاحها وينصرف عن عيوب غيره لما يرى من عيوبه ماقتاً لنفسه، ويرى نفسه مقصراً في طاعة ربه، وهذه أحوال العباد والمؤمنين العارفين وقد رزقها اللّٰه تعالى لمحب الحسين وأهل البيت عليهم السلام.

وثالثاً: أن اللّٰه تعالى يرزقه الحياة الطيبة المشار إليها بقوله: «فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيٰاةً طَيِّبَةً »(1) المفسرة بالقنوع والقناعة.

ففي «الفقيه» عن أمير المؤمنين عليه السلام في حديث: «ولقد سمعت حبيبي رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يقول: لو أن المؤمن خرج من الدنيا وعليه مثل ذنوب أهل الأرض، لكان الموت كفارة لتلك الذنوب، ثم قال: من قال لا إله إلّااللّٰه باخلاص فهو بريءمن الشرك، ومن خرج من الدنيا لا يشرك باللّٰه شيئاً دخل الجنة ثم تلا هذه الآية

ص: 93


1- سورة النحل: 97.

«إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ مٰا دُونَ ذٰلِكَ لِمَنْ يَشٰاءُ »(1) من شيعتك ومحبيك يا علي، قال أمير المؤمنين عليه السلام فقلت يا رسول اللّٰه هذا لشيعتي ؟ قال: أي وربي إنه لشيعتك»(2).

وقد ورد في الحديث أن الموالي للحسين عليه السلام ولأهل البيت هو يختار الموت باختياره ورضاه ليكون محباً للقاء اللّٰه تعالى والأحاديث في ذلك كثيرة منها(3).

عن ابن فضال عن علي بن عقبة عن عقبة بن خالد قال: دخلنا على أبي عبد اللّٰه عليه السلام أنا ومعلّى بن خنيس فقال: «يا عقبة لا يقبل اللّٰه عن العباد يوم القيامة إلّا هذا الّذي أنتم عليه وما بين أحدكم وبين أن يرى ما تقرّ به عينه إلّاأن تبلغ نفسه هذه، وأومأ بيده إلى الوريد، قال: ثمّ اتّكأ وغمز إلى المعلّى أن سله فقلت: يابن رسول اللّٰه إذا بلغت نفسه هذه فأيّ شيء يرى ؟ فردد عليه بضع عشرة مرّة «أي شيء يرى» فقال في كلها: يرى، لا يزيد عليها، ثمّ جلس في آخرها فقال: يا عقبة، قلت: لبيك وسعديك.

فقال: أبيت إلّاأن تعلم ؟ فقلت: نعم يابن رسول اللّٰه إنّما ديني مع دمي، فإذا ذهب دمي كان ذلك، وكيف بك يابن رسول اللّٰه كلّ ساعة وبكيت، فرقّ لي فقال:

يراهما واللّٰه، قلت: بأبي أنت وأُمي من هما؟ فقال: ذاك رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله وعلي عليه السلام، يا عقبة لن تموت نفس مؤمنة أبداً حتّى تراهما، قلت: فإذا نظر إليهما المؤمن أيرجع إلى الدّنيا؟ قال: لا، بل يمضي أمامه، فقلت له: يقولان شيئاً جعلت

ص: 94


1- سورة النساء: 48.
2- الفقيه 294:4.
3- محاسن البرقي: 175، رقم 108.

فداك ؟ فقال: نعم، يدخلان جميعاً على المؤمن، فيجلس رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله عند رأسه وعلي عليه السلام عند رجليه فيكبّ عليه رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله فيقول: يا وليّ اللّٰه أبشر أنا رسول اللّٰه، إني خير لك ممّا تترك من الدُّنيا.

ثمّ ينهض رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله فيقدم عليه علي (صلوات اللّٰه عليه) حتى يكبّ عليه فيقول: يا وليّ اللّٰه أبشر أنا علي بن أبي طالب الذي كنت تحبّني أما لأنفعنّك، ثمّ قال أبو عبد اللّٰه عليه السلام: أما إن هذا في كتاب اللّٰه عزّ وجل، قلت: أين هذا جعلت فداك من كتاب اللّٰه ؟ قال: في سورة يونس، قول اللّٰه تبارك وتعالى هاهنا:

«اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كٰانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ اَلْبُشْرىٰ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ فِي اَلْآخِرَةِ لاٰ تَبْدِيلَ لِكَلِمٰاتِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ »(1) ».

ونظير هذه الأحاديث كثيرة جدّاً، فيظهر منها أ نّه تعالى قد خصّ شيعة الإمام الحسين عليه السلام والإمام علي وعباده الصّالحين بالسّعادة الدنيوية والأُخروية، بما ذكروا بأ نّه تعالى لا يقبض روحه إلّابرضاه، لتكون باختياره محبّاً للقاء اللّٰه تعالى، لأنّ من كره لقاء اللّٰه، كره اللّٰه لقاءه وإنّما يفعل اللّٰه تعالى به ذلك (أي يقبض روحه) برضاه مع حبّه للقاء اللّٰه تعالى، لما ثبت في محلّه: أن الروح في حال النزع إن كانت مع حبّها له تعالى كانت في نعيم مقيم وسرور وبهجة إلى أن يدخل الجنّة، وإن كانت مع كراهتها له تعالى كانت في عذاب وشدة وضيق، كما علمته من بيان موت عدوّ اللّٰه تعالى.

ولعمري إن هذه السعادة هي السعادة المنجية، التي لا يعدلها شيء، حيث يحضر عنده رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله والإمام الحسين عليه السلام والأئمة عليهم السلام وأمير المؤمنين عليه السلام

ص: 95


1- سورة يونس: 63-64.

ويبشرونه بما سمعت، وهذه السعادة إنما هي لمن والاهم وآمن بسرّهم وعلانيتهم وأحبّهم، وأقرّ بفضلهم ومقامهم الذي رتبهم اللّٰه فيه، وجحد أعداءهم وما يدعون لهم من المقام، وأبغضهم كما لا يخفى، فالمقرون بولايتهم التشريعية والتكوينية التي مرّ بيانهما لهم هي السّعادة الأبديّة(1).

فالحمد للّٰه ربنا على هدايته لولاية ولاة أمره ونعوذ به من موالاة أعدائهم، ونسأله البراءة منهم آمن ثم آمين برحمتك يا أرحم الراحمين.

ص: 96


1- الأنوار الساطعة في شرح زيارة الجامعة 211:4.

وَاَجْتَبَيْتَهُ بِطيبِ الْوِلادَةِ

-

اجتبيته: لا ريب ان الاجتباء هو الاختيار والاصطفاء كما في اللغة، وهذا الاجتباء له مصاديق من حيث الشدّة والضعف في الاختيار.

وفي هذه الزيارة نسب الاجتباء إلى طيب ولادة الإمام الحسين عليه السلام مبالغة في تعظيم الاجتباء له عليه السلام، وكونه عليه السلام من صفوة الموجودات يكون مصطفيً على أحسن وجه وأكمل وأتم وجه ممكن يكون مجتباً؛ لأن الاجتباء عنوان الفعل في الخارج أي يكون مصداقه ما هو موجود خارجاً، ولذا جعل الاجتباء بالولادة التي هي السبب للفعل والعمل بخلاف سائر بعض الجمل في الزيارة فإنها عللت بالصفات المعنوية الثابتة قبل الفعل.

وقد ورد في زيارة الجامعة «واجتباكم بقدرته» بمعنى أنهم لما كانوا مظهر قدرته كما دلت عليه الأخبار فلا أحد في القدرة وآثارها مثلهم، فيكون الباء في «بقدرته» بمعنى اللام الغائية، أي اجتباكم لغاية اظهار قدرته تعالى النافذة التي ليست فوقها قدرة في الوجود(1).

بطيب الولادة:

من النعم الكبرى التي أنعم اللّٰه بها على بعض العباد، هي نعمة طيب الولادة بل هي اوّل النعم على المؤمنين وبها احراز النعيم والسعادة في الدنيا والآخرة.

ولذا ورد في الأخبار مَن حارب الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء والأُلوف الذين حضروا واقعة الطف كانوا ما بين ولد زنا أو حيضة، وأما مَن حضر وكثر السواد ولم يقاتل فهو ممن حمل به في الحيض(2).

ص: 97


1- الانوار الساطعة في شرح زيارة الجامعة للشيخ جواد الكربلائي مع تصرف.
2- علل الشرائع 141:1، باب علة محبة أهل البيت.

-

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: كان قاتل يحيى بن زكريا ولد زنا، وكان قاتل الحسين عليه السلام ولد زنا ولم تبكي السماء إلّاعليهما(1).

وأيضاً ورد في الروايات انه لا يبغض أهل البيت عليهم السلام إلّاولد زنا أو حيض.

عن اُم سلمة قالت: سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يقول لعلي عليه السلام لا يبغضكم إلّاثلاثة:

ولد زنا ومنافق ومَن حملت به اُمه وهي حائض(2).

فكيف كان فإن طيب الولادة لها الأثر الكبير في سعادة الإنسان فقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: مَن وجد بَرد حُبنا في كبده فليحمد اللّٰه على أول النعم.

قال الراوي قلت: جعلت فداك ما أوّل النعم، قال: طيب الولادة(3).

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: احمدوا اللّٰه على ما اختصكم به من بادئ النعم أعني طيب الولادة(4).

وعن النبي صلى الله عليه و آله: يا أبا ذر من احبنا أهل البيت فليحمد اللّٰه على أول النعم، قال: يا رسول اللّٰه وما أول النعم، قال: طيب الولادة، إنه لا يحبنا أهل البيت إلّا من طاب مولده.

ولادة الإمام الحسين عليه السلام:

لقد ظهرت في ولادة الإمام الحسين عليه السلام كرامات ومعجزات نشير إليها تبركاً وتيمناً بما منح اللّٰه تعالى الحسين عليه السلام لطيب ولادته، ولكن قبل ذلك لابد أن نعلم

ص: 98


1- بحار الأنوار 302:44.
2- بحار الأنوار 104:78.
3- وسائل الشيعة 547:9.
4- بحار الأنوار 148:27.

أن الإمام الحسين عليه السلام ولد في الثالث من شهر شعبان المبارك السَّنة الرابعة للهجرة - وولد لستّة أشهر ولم يولد مولود لستة أشهر وعاش إلّاالحسين ويحيى بن زكريا وقيل عيسى بن مريم - في المدينة المنورة وسماه رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله حسيناً كما سمّى أخاه من قبل حسناً، ولم يسمَّ بهذين الإسمين أحد من العرب قبلهما، وكان رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يحبّهما حبّاً شديداً ويقول: هما ريحانتاي من الدنيا، اللّهمّ إنّي أحبّهما وأحبّ من يحبّهما.

ولمّا ولد الحسين عليه السلام قال النبي صلى الله عليه و آله لصفيّة بنت عبد المطلب: يا عمّة هلمي إلى إبني، فقالت: يا رسول اللّٰه أنا لم ننظفّه بعد، فقال صلى الله عليه و آله: يا عمّة أنت تنظفّينه، إن اللّٰه تعالى قد نظّفه وطهّره، فَدَفَعته وهو في خرقة بيضاء فأذّن في أُذنه اليمنى وأقام في اليسرى، ووضع لسانه في فيه والحسين يمصّه يغذيه اللّبن والعسل، ثمّ دفعه إليّ وهو يبكي ويقول: لعن اللّٰه قوماً هم قاتلوك يا بني، قالها ثلاثاً، فقلت: من يقتله ؟ قال: تقتله الفئة الباغية من بني أُميّة.

ولمّا ولد عليه السلام أوحى اللّٰه إلى مالك خازن النيران: أخمد النّيران على أهلها كرامة لمولود ولد لمحمّد في دار الدُنيا، وأوحى اللّٰه إلى الحور العين أن تتزيّن كرامة للحسين عليه السلام، ثمّ أوحى اللّٰه إلى جبرئيل أن يهبط إلى النبي في ألف قبيل وكلّ قبيل ألف ألف ملك على خيول مسرجة ملجّمة من الدر والياقوت... أن يهنّئوا النبي صلى الله عليه و آله بالمولد (وبها قضيّة فطرس عتيق الحسين عليه السلام)(1).

لشهر شعبان فضل ليس نحصيه *** إذ كان مولد سبط المصطفى فيه

سبط النبي ونجل الطّهر حيدرة *** من فاق جاهاً ونال السؤل راجيه

صلّى عليه إله العرش ما سجعت *** ورق ومال غصن في تثنيه

ص: 99


1- نور الأبصار: 165.

وقد قام بنفسه بتربيتهما حتّى تركهما نموذجين مثالييّن ومثلين كاملين للمسلم القرآني الذي يريده الإسلام، فكانا بذلك القدوة العليا لكلّ إنسان في الدنيا وفي كلّ صفات الإنسانيّة وشرائطها، ومن ثَمَّ منحهما النبي صلى الله عليه و آله مقام السيادة على كافّة شباب أهل الجنّة كما هو نصّ الحديث الشريف المتواتر: الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة، ومعلوم أن السيّادة في عرف الإسلام تعني الأفضليّة والأكمليّة والتفوق في العلم والعمل الصّالح.

ولا شك أنّ المراد بشباب الجنّة هو كل أهل الجنّة قاطبة ما عدا جدّهما المصطفى وأبيهما علي المرتضى اللّذين خرجا من تحت هذا العموم بأدلّة خاصة أُخرى.

فهما سيّدا أهل الجنّة جميعاً لأنّ كل من في الجنّة شباب ليس فيهم شيخ ولا كهل ولا عجوز حسب ما ورد في النصوص.

وبناءاً على ما سبق يكون الحسين عليه السلام قد عاش مع جدّه رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله ستّ سنوات وعاش بعده إحدى وخمسين سنة، فكان عمره الشريف يوم شهادته نحواً من سبع وخمسين سنة، وقيل: ثمانية وخمسين سنة بناء على أن ولادته كانت سنة ثلاث من الهجرة، قضاها في عبادة اللّٰه وطاعة رسوله وخدمة الناس وختمها بأعظم تضحية عرفها التاريخ حتى الآن، من حيث القدسيّة والشرف.

كان عليه السلام أكثر الناس علماً وأفضلهم عملاً، وأسخاهم كفاً وأحسنهم خلقاً، وأوسعهم حلماً، وأكرمهم نفساً، وأرقهم قلباً، وأشدّهم بأساً وشجاعة.

هذه كلها حقائق ثابتة بالإجماع، ومتواترة بين المؤرخين وأهل السّير يعترف له بها حتّى الأعداء.

ص: 100

-

في المنتخب، قال: لما أراد اللّٰه أن يهب لفاطمة الزهراء الحسين عليه السلام فلما وقعت في طلقها أوحى اللّٰه (عزّ وجل) إلى لعيا وهي حوراء من الجنة، وأهل الجنان إذا أرادوا أن ينظروا إلى شيء حسن نظروا إلى لعيا ولها سبعون ألف وصيفة وسبعون ألف قصر وسبعون ألف مقصورة وسبعون ألف غرفة مكللة بأنواع الجواهر والمرجان، وقصر لعيا أعلى من تلك القصور ومن كل قصر في الجنة إذا أشرفت على الجنة نظرت جميع ما فيها وأضاءت الجنة من ضوء خديها وجبينها.

فأوحى اللّٰه إليها أن اهبطي إلى دار الدنيا إلى بنت حبيبي محمد صلى الله عليه و آله فأنسي لها فهبطت لعيا على فاطمة عليها السلام وقالت لها: مرحباً بك يا بنت محمد، كيف حالك ؟

قالت لها: بخير وَلَحِقَ فاطمة الحياء من لعيا لم تدر ما تفرش لها فبينما هي متفكرة إذ هبطت حوراء من الجنة ومعها درنوك من درانيك الجنة، فبسطته في منزل فاطمة فجلست عليه عيا.

ثم إن فاطمة ولدت الحسين عليه السلام في وقت الفجر فقبلته لعيا وقطعت سرته ونشفته بمنديل الجنة وقبلت بين عينيه وتفلت في فيه، وقالت له: بارك اللّٰه فيك من مولود وبارك في والديك، وهنأت الملائكة جبرائيل وهنأ جبرائيل محمداً صلى الله عليه و آله سبعة أيام بلياليها.

فلما كان في اليوم السابع قال جبرائيل: يا محمد، إتينا بابنك هذا حتى نراه، قال: فدخل النبي صلى الله عليه و آله على فاطمة فأخذ الحسين عليه السلام وهو ملفوف بقطعة صوف فأتى به إلى جبرائيل فحله وقبّل بين عينيه وتفل في فيه، وقال: بارك اللّٰه فيك من مولود وبارك اللّٰه في والديك يا صريع كربلاء، ونظر إلى الحسين عليه السلام وبكى وبكى النبي صلى الله عليه و آله وبكت الملائكة، وقال له جبرائيل: اقرأ فاطمة ابنتك السلام

ص: 101

وقل لها تسميه الحسين فقد سماه اللّٰه جل اسمه، وإنما سمي الحسين لأنه لم يكن في زمانه أحسن منه وجهاً فقال رسول اللّٰه: يا جبرائيل تهنيني وتبكي ؟ قال: نعم يا محمد صلى الله عليه و آله آجرك اللّٰه في مولودك هذا فإنه يقتل فقال: يا حبيبي جبرائيل ومن يقتله ؟ قال: شر أُمة من أُمتك يرجون شفاعتك لا أنالهم اللّٰه ذلك.

فقال النبي صلى الله عليه و آله: خابت أُمة قتلت ابن بنت نبيها، قال جبرائيل: خابت ثم خابت من رحمة اللّٰه ثم خاضت في عذاب اللّٰه، ودخل النبي صلى الله عليه و آله على فاطمة فأقرأها من اللّٰه السلام وقال لها بنية سميه الحسين فقد سمّاه اللّٰه الحسين فقالت:

من مولاي السلام وإليه يعود السلام والسلام على جبرائيل وهنأها النبي صلى الله عليه و آله وبكى.

فقالت: يا أباه تهنئني وتبكي ؟ قال: نعم يا بنية آجرك اللّٰه في مولودك هذا فإنه يقتل، فشهقت شهقة وأخذت في البكاء وساعدتها لعيا ووصائفها، وقالت: يا أبتاه من يقتل ولدي وقرة عيني وثمرة فؤادي ؟

قال: شر أُمة من أُمتي يرجون شفاعتي لا أنالهم اللّٰه ذلك، قالت فاطمة عليها السلام:

خابت أُمة قتلت ابن بنت نبيها، قالت لعيا: خابت ثم خابت من رحمة اللّٰه وخاضت في عذابه، يا أبتاه اقرأ جبرائيل عني السلام وقل له في أي موضع يقتل ؟

قال: في موضع يقال له كربلاء فإذا نادى الحسين عليه السلام لم يجبه أحد منهم فعلى القاعد من نصرته لعنة اللّٰه والملائكة والناس أجمعين إلّاأنه لن يقتل حتى يخرج من صلبه تسعة من الأئمة، ثم سماهم بأسمائهم إلى آخرهم وهو الذي يخرج في آخر الزمان مع عيسى بن مريم، فهؤلاء مصابيح الرحمن وعروة الإسلام محبهم يدخل الجنة ومبغضهم يدخل النار.

ص: 102

قال: وعرج جبرائيل وعرجت الملائكة وعرجت لعيا فلقيهم الملك صلصائيل في السماء الرابعة وله سبعون ألف جناح قد نشرها من المشرق إلى المغرب وهو شاخص نحو العرش لأنه ذكر في نفسه فقال: ترى اللّٰه يعلم ما في قرار هذا البحر وما يسير في ظلمة الليل وضوء النهار، فعلم اللّٰه تعالى ما في نفسه فأوحى اللّٰه إليه أن أقم مكانك لا تركع ولا تسجد عقوبة لك لما فكرت، فقال صلصائيل: يا حبيبي جبرائيل أقامت القيامة على أهل الأرض ؟ قال: لا ولكن هبطنا إلى الأرض فهنينا محمداً بولده الحسين.

قال: يا حبيبي جبرائيل فاهبط إلى الأرض فقل له: يا محمد صلى الله عليه و آله اشفع إلى ربك في الرضا عني فإنك صاحب الشفاعة، قال: فقام النبي ودعا بالحسين عليه السلام فرفعه بكلتا يديه إلى السماء وقال: «اللهم بحق مولودي هذا عليك إلّارضيت على الملك، فإذا النداء من قبل العرش: يا محمد فعلت وقدرك كبير عظيم».

قال ابن عباس: والذي بعث محمداً بالحق نبياً أن صلصائيل يفتخر على الملائكة أنه عتيق الحسين عليه السلام(1).

ص: 103


1- نور الأبصار: 66.

وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السّادَةِ

-

السيّد: الذي يفوق في الخير(1) وفي مجمع البحرين السيّد: المالك ويطلق على الرب والفاضل والكريم والحليم والمتحمل إذى قومه والمقدم والزوج.

وقال أمير المؤمنين عليه السلام: السيّد من تحمل المؤونة وجاد بالمعونة(2).

وقال البعض: ان حقيقة السيادة هو المجد والشرف، وساير المعاني من لوازمها والمجد عبارة عن العلو الذي لا يدرك كنهه، والفرق بينه وبين الشرف انه بحسب الذات والشرف بحسب الملكات والصفات.

ولذا جمع رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله مجد ذاته وشرف صفاته وملكاته في لفظ السيادة وقال:

«أنا سيد ولد آدم ولا فخر».

وعن الأصبغ بن نباتة قال، قال أمير المؤمنين عليه السلام: سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يقول أنا سيد ولد آدم وأنت يا علي والأئمة من بعدك سادة اُمتي، من أحبنا فقد أحب اللّٰه ومن أبغضنا فقد أبغض اللّٰه ومن والانا فقد وال اللّٰه ومن عادانا فقد عاد اللّٰه ومن اطاعنا فقد أطاع اللّٰه ومن عصانا فقد عصى اللّٰه(3).

والحاصل: ان الإمام الحسين عليه السلام وكذلك جميع الأئمة عليهم السلام ذواتهم المقدسة في مقام القرب من اللّٰه تعالى والتلقي منه تعالى حق التجليات الإلهية بحيث لا يكون لأحد غيرهم، كما ورد في زيارة الجامعة «أتاكم اللّٰه ما لم يؤت أحداً من العالمين» فهم السادة بحقيقة السيادة فهم السادة بمعنى الرئيس والكبير، ولا ريب في أنهم عليهم السلام لمكان ولايتهم الكلية وسيادتهم ظهرت آثارهم منهم عليهم السلام في الخلق

ص: 104


1- كتاب العين 284:7.
2- ميزان الحكمة: ج 4، حرف السين.
3- أمالي الصدوق: 476، المجلس الثاني والسبعون.

-

وذلك من التمكن في قلوبهم، وكذلك المعجزات التي صدرت عنهم عليهم السلام حيث دلت على عظمتهم وسيادتهم.

نذكر هذه الرواية للإمام الحسين عليه السلام والتي تدل على سيادته وتصرفه في الكون وإن كل شيء مأمور بطاعته عليه السلام:

فعن حمران بن أعين قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يحدث عن أبيه وعن آبائه عليهم السلام: «إنّ اجلا من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام كان مريضاً شديد الحمى فعاده الحسين بن علي عليه السلام فلما دخل من باب الدار طارت الحمى عن الرجل، فقال: قد رضيت بما أُوتيتم به حقاً حقاً والحمى لتهرب منكم.

فقال له الإمام الحسين عليه السلام: واللّٰه ما خلق اللّٰه شيئاً إلّاوقد أمره بالطاعة لنا، يا كبّاسة قال: فإذا نحن نسمع الصوت ولا نرى الشخص يقول: لبيك، قال: أليس أمرك أمير المؤمنين إلّاتقربي إلّاعدواً أو مذنباً، لكي يكون كفارة لذنوبه فما بال هذا؟ وكان الرجل المريض عبد اللّٰه بن شداد الهادي الليثي»(1).

ص: 105


1- الأنوار الساطعة 260:2.

وَقآئِداً مِنَ الْقادَةِ

-

القائد: هو من الجند رئيسهم.

وقوله عليه السلام: «وَقٰآئِداً مِنَ الْقٰادَةِ » أي ان الإمام الحسين عليه السلام قائد للأُمة إلى معرفة اللّٰه تعالى وطاعته في الدنيا بالهداية - حيث أن سفينته أسرع سفن النجاة - وإلى درجات لاجنان في الآخرة بالشفاعة الكبرى والوسيلة العظمى، بل أكثر من ذلك فإن الإمام الحسين عليه السلام وأهل البيت عموماً عليهم السلام - حيث أنهم نور واحد - هم قادة وهداة للأنبياء والأوصياء وأُممهم أيضاً.

فإن اللّٰه تعالى جعل الإمام الحسين عليه السلام قائداً حيث يقود شيعته إلى طريق النجاة وأعلى الدرجات بل وحتى وغير شيعته من أعدائه لأنه هو أحد مصاديق الآية «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا...».

وقد اشتهر منهم عليهم السلام بطرق عديدة: «بعبادتنا عُبد اللّٰه، ولولا نحن ما عُبد اللّٰه تعالى» يدل على ان الإمام الحسين عليه السلام والأئمة الأطهار كانوا قادتهم بأنوارهم إلى المعارف، فمن أجاب أهل البيت عليهم السلام فيما أمروه عليه السلام وأجابهم في قبول ولايتهم قادوه إلى المعرفة به تعالى وإلى الدرجات العُلىٰ .

فمن استجاب وعمل بما أمروه، ويقابل هذا أنهم رادّون لمن لم يجبهم وأنكر ولم يقبل، فإنهم عليهم السلام حينئذ يسوقونه بسبب انكاره وعدم قبوله إلى الخذلان، ولعدم الاستجابة، والطبع والرين القلبي دعّوه إلى جنهم دعّا.

ففي الحقيقة هم المعلمون للخلق في عالم من عوالم الوجود فهم الداعون والهادون النجدين طريق الخير وطريق الشر، فلا يهتدي أحد إلّابهداهم ولا يظل ضال بخروجه عن الهدى إلّابترك ولايتهم.

وهذا بالنسبة إلى جميع الخلق في جميع العوالم في عالم الذر والأرواح وفي الدنيا وفي الآخرة، وإلى هذا أشارت بعض الأحاديث نشير إليها ليتضح الحال.

ص: 106

-

في أمالي الطوسي(1) بإسناده عن أبان بن عثمان عن أبي عبد اللّٰه الصادق عليه السلام قال: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد من بطنان العرش: أين خليفة اللّٰه في أرضه ؟ فيقوم داود النبي عليه السلام فيأتي النداء من عند اللّٰه عزّ وجل: لسنا إياك أردنا وإن كنت للّٰه تعالى خليفة.

ثم ينادي ثانية: أين خليفة اللّٰه في أرضه ؟ فيقوم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فيأتي النداء من قبل اللّٰه عزّ وجل: يا معشر الخلائق هذا علي بن أبي طالب خليفة اللّٰه في أرضه وحجته على عباده.

فمن تعلق بحبله في دار الدنيا فليتعلق بحبله في هذا اليوم، يستضيء بنوره، وليتبعه إلى الدرجات العلى من الجنات، فيقوم الناس الذين قد تعلقوا بحبله في الدنيا فيتبعونه إلى الجنة.

ثم يأتي النداء من عند اللّٰه جل جلاله: ألا مَن ائتمَّ بإمام في دار الدنيا فليتبعه إلى حيث يذهب به.

فحينئذ «تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذٰابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبٰابُ * وَ قٰالَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنٰا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمٰا تَبَرَّؤُا مِنّٰا كَذٰلِكَ يُرِيهِمُ اَللّٰهُ أَعْمٰالَهُمْ حَسَرٰاتٍ عَلَيْهِمْ وَ مٰا هُمْ بِخٰارِجِينَ مِنَ اَلنّٰارِ»(2) ».

وفي أُصول الكافي باسناده عن عبد اللّٰه بن سنان قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام:

«يوم ندعوا كل اُناس بامامهم» قال: إمامهم الذي بين أظهرهم وهو قائم أهل زمانه.

ص: 107


1- أمالي الطوسي: 39.
2- سورة البقرة: 166-167.

-

فظهر من هذه الأحاديث انهم قادة الأُمم المقتدى بهم إلى درجات العُلى، وإلى المعارف في الدنيا والآخرة، ولا نجاة لأحد إلّاباتباعهم والاقتداء بهم.

وعن حماد بن عيسى قال: سأل رجل أبا عبد اللّٰه عليه السلام فقال: «الملائكة أكثر أو بنو آدم ؟ فقال: والذي نفسي بيده لملائكة اللّٰه في السماوات أكثر من عدد التراب وما في السماء موضع قدم إلّاوفيه ملك يقدس له ويسبح، ولا في الأرض شجر ولا مثل غرزة عود إلّاوفيها ملك موكل كل يوم بعملها، اللّٰه اعلم بها، وما منهم أحد إلّاويتقرب إلى اللّٰه في كل يوم بولايتنا أهل البيت ويستغفر لمحبينا ويلعن أعداءنا، ويسأل اللّٰه أن يرسل عليهم من العذاب ارسالاً».

وهناك أحاديث تشير إلى أنه تعالى ما بعث اللّٰه نبياً إلّابولاية علي عليه السلام وانه تعالى أخذ ولايته عليه السلام على الكل في الميثاق وعالم الذر كما لا يخفى.

هذه جملة من الروايات التي تحصّل منها، أن معنى كون الإمام الحسين عليه السلام «قائداً من القادة» وكذلك أهل البيت عليهم السلام انهم قادة بمعنى أنه لا يهدي هاد إلّا بهديهم وهذا يعمّ الأنبياء والمرسلين والأولياء والصالحين والملائكة المقربين لا يهدي أحد منهم إلّابهداهم عليهم السلام.

ص: 108

وَذآئِداً مِنْ الْذادَةِ

الذود: في اللغة بمعنى الطرد، يقال: لا تذودوه عنا، أي لا تطردوه، ويقال:

رجل ذائد أي حامي الحقيقة دفاعاً.

فقول الإمام الصادق عليه السلام في الإمام الحسين عليه السلام أنه «ذائداً من الذادة» أي أنه يذود ويطرد عن أولياءه وشيعته ما لا يحب اللّٰه تعالى من العقائد الباطلة وخطرات المفاسد والأعمال القبيحة وهذه الصفة اتصف بها أبو عبد اللّٰه الحسين عليه السلام وجميع الأئمة الأطهار سلام اللّٰه عليهم أجمعين، فهم يطردون عن مواليهم وشيعتهم الأعمال القبيحة والأقوال الردية بل حتى المآكل والمشارب والملابس المحرمة المضّرين بالبدن أو العقل، أو الداعين إلى الشهوات المحرمة، والحاصل يذودونهم عن كل ما يكرهه اللّٰه تعالى.

وإذا قيل كيف إنهم عليهم السلام يذودون أعداءهم أي إنهم يذودون ويطردون الأعداء من كل ما يحب اللّٰه تعالى وعن كلّ خير الذي أحد مصاديقه حوض الكوثر، وعن الاعتقادات الحقة والأعمال الصالحة سوف نذكر ذلك.

وكيف كان فهم عليه السلام الذادة لاوليائهم عن كلّ شرّ في الدنيا والآخر، كما أنهم يذودون أعداءهم عن كلّ خير فيهما.

وأما كيفية ذودهم الأولياء والشيعة عمّا لا يحب اللّٰه تعالى، فهو إما بالدعاء لهم أو بالطلب منه تعالى لقبول دعاءهم كما في الحديث: إنهم عليهم السلام قالوا لشيعتهم:

إنّا من ورائكم بالدعاء، الذي لا يحجب عن بارئ السماء، وإمّا بالتعليم والإرشاد والهداية بل والأخذ باليد، وإمّا يبذلون فاضل حسناتهم عليهم السلام لهم كما ورد أن المعصومين الخمسة عليهم السلام جعلوا ثواب نصف أعمالهم في ديوان شيعة أمير المؤمنين عليه السلام فيما رواه في معالم الزلفى(1)، عن كتاب تحفة الاخوان وغيره

ص: 109


1- ص 292.

قال: دخل رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام فرحاً مسروراً مستبشراً فسلّم عليه فرد عليه السلام، فقال علي عليه السلام: يا رسول اللّٰه ما رأيتك أقبلت مثل هذا اليوم.

فقال: حبيبي وقرة عيني أتيتك ابشّرك، إعلم أن في هذه الساعة نزل عليّ جبرئيل الأمين وقال: الحق جلّ جلاله يقرئك السلام ويقول لك: بشّر علياً أن شيعته الطايع منهم والعاصي من أهل الجنة، فلما سمع مقالته خرّ للّٰه ساجداً، فلمّا رفع رأسه رفع يديه إلى السماء، ثم قال: اشهدوا عليَّ أني قد وهبت لشيعتي نصف حسناتي.

فقالت فاطمة الزهراء عليها السلام: يا رب اشهد عليّ فإني وهبت لشيعة علي بن أبي طالب عليه السلام نصف حسناتي.

فقال الحسن عليه السلام: يا رب اشهد عليّ أني قد وهبت لشيعة علي بن أبي طالب عليه السلام نصف حسناتي.

فقال الحسين عليه السلام: يا رب اشهد عليّ أني قد وهبت لشيعة علي بن أبي طالب عليه السلام نصف حسناتي.

فقال النبي صلى الله عليه و آله: ما أنتم بأكرم منّي اشهد عليّ يا رب أني قد وهبت لشيعة علي ابن أبي طالب عليه السلام نصف حسناتي.

فهبط الأمين جبرائيل عليه السلام وقال: يا محمد إن اللّٰه تعالى يقول: ما أنتم بأكرم مني إني قد غفرت لشيعة علي بن أبي طالب عليه السلام ومحبيه ذنوبهم جميعاً، ولو كانت مثل زبد البحر ورمل البر وورق الشجر.

وإما بتحمل الذنوب ثم المغفرة منه تعالى كما ورد في قوله تعالى: «لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مٰا تَأَخَّرَ» .

ص: 110

ففي تفسير نور الثقلين بإسناده عن عمر بن يزيد بياع السابري قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام، قول اللّٰه في كتابه: «لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّٰهُ مٰا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ مٰا تَأَخَّرَ» قال: ما كان له ذنب ولا همّ بذنب، ولكن اللّٰه حمّله ذنوب شيعته ثم غفرها له، الحديث.

وفيه في حديث آخر عن المجمع، عن الصادق عليه السلام قال: سأله رجل عن هذه الآية، فقال: واللّٰه ما كان له ذنب، ولكن اللّٰه سبحانه ضمن أن يغفر ذنوب شيعة علي عليه السلام ما تقدم من ذنبهم وما تأخر.

وفي الكافي عن موسى بن جعفر عليه السلام ما حاصله: أن اللّٰه تعالى غضب على الشيعة فتحمل عليه السلام تلك المصائب؛ ليدفع اللّٰه تعالى غضبه عنهم، فراجع، الحديث.

وإمّا باستيهابهم عليهم السلام ذنوب شيعتهم منه تعالى إما في الدنيا وإما في الآخرة كما لا يخفى على من راجع أحاديث الشفاعة فإنها أكثر من أن تحصى.

وإما بتسبيب الأسباب الموصلة إلى السعادة الأبدية لهم، كما يظهر ذلك من معاملاتهم عليهم السلام مع شيعتهم.

وإمّا بتحبيب الإيمان في قلوبهم ببيان آثار ألطافه تعالى للمؤمنين، كما هو ظاهر كثير من أحاديثهم.

وإمّا... يكون طينتهم من فاضل طينتهم عليهم السلام، كما في كثير من أحاديث الطينة، فإن هذا أحسن وجه؛ لأن يذودوا عن شيعتهم المفاسد.

فإن المستفاد من هذه الأحاديث أن الشيعة متصلة بهم عليهم السلام روحاً، كما هو صريح بعضها من قوله عليه السلام: شيعتنا جزء منا. وفي بعضها: أنه لا فرق بيننا وبينهم بعد تزكيتهم، راجع تلك الأحاديث فهم عليه السلام يحنون إلى شيعتهم كما أن شيعتهم يحنون إليهم، فما ظنّك حينئذ بهم عليهم السلام بالنسبة إلى شيعتهم ؟

ص: 111

وإمّا بتنويرهم قلوب شيعتهم كما في الكافي بإسناده عن أبي خالد الكابلي قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّٰه تعالى: «فَآمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلنُّورِ اَلَّذِي أَنْزَلْنٰا» فقال: يا أبا خالد النور واللّٰه الأئمة عليهم السلام يا أبا خالد لنور الإمام في قلوب المؤمنين أنور من الشمس المضيئة بالنهار، وهم الذين ينورون قلوب المؤمنين، ويحجب اللّٰه نورهم عمّن يشاء فيظلم قلوبهم ويغشاهم، الحديث.

فعلم أنهم الذادة عن شيعتهم كل ما يكرهه اللّٰه، كل ذلك مما منحهم تعالى تفضلاً لهم ولشيعتهم كما يومئ إليه أيضاً قوله تعالى: «وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ » فوجوده عليه السلام سبب لرفع العذاب عن أُمته صلى الله عليه و آله، بل ربما يسري هذا الأمر إلى شعتهم فيدفع اللّٰه تعالى بواسطة أحد من الشيعة العذاب عن غيره من سائر الشيعة بل وعن غيرهم من أهل البلد.

ففي الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن اللّٰه ليدفع بالمؤمن الواحد عن القرية الفناء.

وفيه بإسناده عن يونس بن ظبيان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: إن اللّٰه تعالى يدفع بمن يصلي من شيعتنا عمّن لا يصلي من شيعتنا، فلو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، وإن اللّٰه ليدفع بمن يحج من شيعتنا عمّن لا يحج، ولو اجتمعوا على ترك الحج لهلكوا، وإن اللّٰه ليدفع بمن يزكى من شيعتنا عمّن لا يزكى، ولو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، وهو قول اللّٰه تعالى: «وَ لَوْ لاٰ دَفْعُ اَللّٰهِ اَلنّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ »(1) فو اللّٰه ما نزلت إلّا فيكم ولا عني بها غيركم، الحديث.

ص: 112


1- سورة البقرة: 251.

فإذا كان اللّٰه تعالى يدفع ببعض الشيعة عن الآخر منهم بأعماله الصالحة، فما ظنك بهم عليهم السلام وما لهم من العبادات والأعمال المقبولة كلّها، فاللّٰه تعالى بهم وبأعمالهم الصالحة يدفع المكاره عن الناس خصوصاً عن الشيعة في الدنيا والآخرة.

هذا كله بالنسبة إلى شيعتهم، وأمّا كيفية ذودهم الأعداء عما يحبه اللّٰه تعالى فذلك لعلة وبأُمور:

أمّا العلة: فهي أن المنافق والكافر إذا مال بطبع ماهيته وسوء اختياره إلى العقيدة الباطلة والعمل الباطل، فلا محالة تصادم هذه الطبيعة الثانية ميل وجوده الأولي الذاتي الذي فطر على التوحيد إلى العمل الصالح، فكان حينئذ يحبّ الشر للفطرة المغيّرة لسوء اختياره عن أصلها، وهو حسب الفطرة الثانية المغيّرة يميل إلى الشرّ، وإن كان بحسب الفطرة الايجادية، التي هي فطرة اللّٰه قبل أن يغيّر يميل إلى الخير، ولكن لا يمكنه العمل به لمانع أوجده في نفسه وهو الفطرة الثانية المغيّرة.

وإلى هذه الحالة اُشير في قوله تعالى: «كُلَّمٰا أَرٰادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهٰا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهٰا» أي (واللّٰه العالم) كلما أرادوا أن يخرجوا بفطرتهم الايجادية التوحيدية منها أُعيدوا فيها لوجود الفطرة الثانية المغيّرة، وهذه هي المانعة عنهم لأن يخرجوا منها.

وكيف كان فالعلة لذودهم عليهم السلام الأعداء عن كلّ الخير، هو تركهم الإيمان وقبول الولاية فلسوء اختيارهم يذادون عن كل خير.

ففي الكافي(1) باسناده عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام في حديث كان رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله قد دعا قريشاً إلى ولايتنا فنفروا وأنكروا إلى أن قال: قلت قوله تعالى:

ص: 113


1- الكافي 125:5.

... مَنْ كٰانَ فِي اَلضَّلاٰلَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ اَلرَّحْمٰنُ مَدًّا»(1) ، قال: كلّهم كانوا في الضلالة لا يؤمنون بولاية أمير المؤمنين عليه السلام ولا بولايتنا فكانوا ضالين مضلّين فيمدّ لهم في ضلالتهم وطغيانهم حتّى يموتوا فيصيّرهم اللّٰه شرّ مكاناً وأضعف جنداً، الحديث.

فعلم منه أنّ إمداده تعالى لهم في ضلالتهم إنّما هو لإنكارهم ولاية الأئمّة المعصومين عليهم السلام.

وأمّا الأُمور التي بها يذودون أعداءهم عن الخير، فهي إمّا بالخذلان، فإنّه لمّا مال المنافق بمحبّته إلى الشرّ خذلوه عن الورع والهداية جزاء لسوء اختياره فخُلِّي وطبعه، فحسن الشرّ لديه وزان بنظره بسبب الخذلان العارض له، فحبّه للشرّ وترجيحه على الخير لأمرين:

سوء اختياره وتركه للولاية والايمان.

خذلانهم عليهم السلام إيّاهم، فهم في ظرف الخذلان يميلون إلى الشرّ بميلهم الذاتي لسوء اختيارهم النفساني، وفي هذا الظرف يتأكّد عزمهم على الشرور.

فباعتبار سوء اختيارهم يصحّ استناد الشرّ والكفر إليهم - أي إلى الأعداء - وباعتبار خذلان اللّٰه تعالى والأئمة عليهم السلام لهم يصحّ أن يقال: إن اللّٰه تعالى أضلّهم أي خذلهم، وأمدّ لهم في طغيانهم لسوء اختيارهم.

وكيف كان فبهذا الخذلان ذادوهم عن الخير، الذي هو الحوض والجنّة والسعادات الدنيوية والأُخروية، أعاذنا اللّٰه تبارك وتعالى من الخذلان بمحمّد وآله الطيّبين الطاهرين عليهم السلام.

ص: 114


1-

وَاَعْطَيْتَهُ مَواريثَ الْأَنْبِيآءِ

الوارث: هي صفة من صفات اللّٰه عزّ وجل حيث هو الباقي الدائم الذي يرث الخلائق ويبقى بعد فنائهم، واللّٰه عزّ وجل يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين، أي يبقى بعد فناء الكل ويفنى مَن سواه، فيرجع ما كان ملك العباد إليه وحده لا شريك له(1).

والوارث فيما سواه تعالى: هو الذي يبقى بعد موت آخر مع استحقاقه لتركته بقيامه مقامه ونزوله منزلته فكأنه هو.

والمواريث: جمع ميراث من الارث وياؤه مقلوبة من الواو من الورث، وهو على الأول على ما قيل: استحقاق انسان بنسب أو سبب شيئاً بالأصالة، وعلى الثاني: ما يستحقه بحذف الشيء(2).

فإن اللّٰه تعالى أعطى الإمام الحسين عليه السلام مواريث الأنبياء والأوصياء كما أشارت الزيارة إلى ذلك فهي من الكرامات التي منحها اللّٰه تعالى لأبي عبد اللّٰه الحسين عليه السلام حيث تدل على مقامه ومنزلته عند اللّٰه تعالى أي أن جميع خواص الأنبياء وآثارهم ومتروكاتهم المختصة بهم لأحد عناوين النسب من الاخوة والابوة مثلاً، أو المختصة للابلاغ والتعريف واقامة الدين وغيرها مما اعدوه لطاعة اللّٰه نحو عصا موسى وعمامة هارون والتابوت والسكينة وخاتم سليمان وغيرها مما يأتي ذكره، فجميعها للإمام الحسين عليه السلام بالوراثة حيث هو القائم مقامهم والنازل منزلتهم.

ص: 115


1- لسان العرب 199:3.
2- مجمع البحرين 268:2.

وكذلك وراثته عليه السلام لهم في العلم، أي ورث جميع ما عندهم من العلوم مما أدركوه من الوحي بواسطة الملك أو الالهام أو الفهم، وما فيهم من القوة التي بها كانوا يخاطبون الحيوانات ويعرفون بها نطق الجمادات والنباتات وهفيف الرياح وجريان المياه....

والخلاصة: أن جميع ما فرّقه اللّٰه تعالى في جميع أنبيائه وأوليائه وخلقه مما هو مزية إلهية وكمال معنوي قد جمعها وأعطاها للإمام الحسين عليه السلام.

ويدل على ذلك ما ورد في زيارته عليه السلام في النصف من رجب: «اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ عِلْمِ الْأَنْبِياءِ ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ صَِفْوَةِ اللّٰهِ ، اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نُوحٍ نَبِيِّ اللّٰهِ .»، وقد اشترك بهذه الوراثة جميع الأئمة عليهم السلام كما تشير إلى ذلك كثير من الروايات التي وردت عنهم عليهم السلام في هذا المقام، نشير إلى بعض منها.

ففي البحار عن بصائر الدرجات عن عبد اللّٰه بن عامر عن ابن أبي نجران قال:

كتب أبو الحسن الرضا عليه السلام رسالة وأقرأنيها قال: قال علي بن الحسين عليه السلام:

«إن محمداً صلى الله عليه و آله كان أمين اللّٰه في أرضه، فلما قبض محمد صلى الله عليه و آله كنا أهل البيت ورثته، فنحن أُمناء اللّٰه في أرضه، عندنا علم البلايا والمنايا وأنساب العرب ومولد الإسلام، وإنا لنعرف الرجل إذا رأيناه بحقيقة الإيمان وحقيقة النفاق.

وإن شيعتنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم، أخذ اللّٰه علينا وعليهم الميثاق، يردون موردنا ويدخلون مدخلنا، نحن النجباء، وأفراطنا إفراط الأنبياء، ونحن أبناء الأوصياء ونحن المخصوصون في كتاب اللّٰه، ونحن أولى الناس باللّٰه، ونحن أولى الناس بكتاب اللّٰه، ونحن أولى الناس بدين اللّٰه، ونحن الذين شرع لنا دينه،

ص: 116

فقال في كتابه(1): «شَرَعَ لَكُمْ (يا آل محمد) مِنَ اَلدِّينِ مٰا وَصّٰى بِهِ نُوحاً (فقد وصّانا بما وصّى به نوحاً) وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ (يا محمد) وَ مٰا وَصَّيْنٰا بِهِ إِبْرٰاهِيمَ (وإسماعيل) وَ مُوسىٰ وَ عِيسَى (وإسحاق ويعقوب فقد علّمنا وبلغنا ما علمنا واستودعنا علمهم).

(نحن ورثة الأنبياء ونحن ورثة أُولي العزم من الرسل) أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ (يا آل محمد) وَ لاٰ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ (وكونوا على جماعة) كَبُرَ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ (من أشرك بولاية علي عليه السلام) مٰا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ (من ولاية علي) اَللّٰهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشٰاءُ (يا محمد) وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ » (من يجيبك إلى ولاية علي عليه السلام)».

وعن الكافي باسناده عن ابان، عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: لما حضرت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين عليه السلام فقال للعباس: «يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته ؟ فردّ عليه فقال: يا رسول اللّٰه شيخ كثير العيال قليل المال من يطيقك وأنت تباري الريح(2)؟! قال:

فأطرق رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله هنيئة ثم قال: يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه ؟ فقال: بأبي أنت وأُمي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تباري الريح!!

قال: أما إني سأعطيها من يأخذها بحقّها ثم قال: يا علي يا أخا محمد أتنجزعداة محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه ؟ فقال: نعم، بأبي أنت وأُمي، ذلك علي ولي، قال: فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من إصبعه فقال: تختم بها في حياتي.

ص: 117


1- سورة الشورى: 13.
2- تباري الريح أي تسابقه كنّى به عن علوّ همته وتكراره صلى الله عليه و آله القول عليه لاتمام الحجة.

قال: فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في إصبعي، فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم. ثم صاح يا بلال عليّ بالمغفر والدرع والراية والقميص وذي الفقار والسحاب والبرد والأبرقة والقصيب.

قال: فواللّٰه ما رأيتها قبل ساعتي تلك يعني الأبرقة، فجيء بشقة كادت تخطف الأبصار فإذا هي من أبرق الجنة.

فقال: يا علي إن جبرئيل آتاني بها وقال: يا محمد اجعلها في حلقة الدرع، واستزفر بها مكان المنطقة، ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعاً، إحداهما مخصوف والآخر غير مخصوف، والقميصين القميص الذي أسرى به فيه ليلة المعراج والقميص الذي خرج به يوم أُحد، والقلانس الثلاث قلنسوة السفر وقلنسوة العيدين وقلنسوة كانت يلبسها ويقعد مع أصحابه.

ثم قال: يا بلال عليّ بالبغلتين الشهباء والدلدل، والناقتين الغضباء والقصواء، والفرسين الجناح كانت تتوقف بباب المسجد لحوائج رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله، وحيزوم وهو الذي كان يقول: أقدم يا حيزوم، والحمار عفير، فقال: أقبضها في حياتي.

فذكرأمير المؤمنين عليه السلام: أن أول شيء من الدواب توفي عفير، ساعة قبض رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله فقطع خطامه، ثم مرّ يركض حتى أتى بئر بني حطمة بقبا فرمى بنفسه فيها فكانت قبره».

قال الفيض رحمه الله في الوافي في تقديم ذكر أخذ التراث على قضاء الدين، وإنجاز العدات في مخاطبة العباس وبالعكس في مخاطبة أمير المؤمنين عليه السلام لطف لا يخفى.

ص: 118

قوله: فنظرت الضمير لعلي عليه السلام بنحو الالتفات في الحكاية، والسحاب اسم عمامته صلى الله عليه و آله، الاستزفار شدّ الوسط بالمنطقة، الشهباء والدلدل اسمان للبغلتين، الغضباء بالعين المهملة والضاد المعجمة الناقة المشقوقة الأُذن، والقصواء بالقاف والصاد المهملة المقطوع طرف أُذنها وليس ناقتاه صلى الله عليه و آله كذلك، ولكنهما لقبا بذلك، وعفير كزبير اسم لحماره صلى الله عليه و آله، والخطام بالحاء المعجمة والطاء المهملة الرفام، وحيزوم اسم فرس جبرئيل، فخاطب صلى الله عليه و آله فرسه بما كان خاطب جبرئيل فرسه بذلك يوم بدر(1).

وفي البحار(2) عن السرائر باسناده عن حمران بن أعين، قال، قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: عندكم التوراة والانجيل والزبور وما في الصحف الأُولى صحف إبراهيم وموسى ؟ قال: نعم، قلت: إن هذا لهو العلم الأكبر!! قال: «يا حمران لو لم يكن غير ما كان، ولكن ما يحدث بالليل والنهار علمه عندنا أعظم».

وفيه، عنه(3) باسناده عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول:

«إن عندنا لصحيفة طولها سبعون ذراعاً إملاء رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله وخطّ علي بيده، ما من حلال ولا حرام إلّاوهو فيها حتى إرش الخدش».

ص: 119


1- الانوار الساطعة في شرح زيارة الجامعة 218:2.
2- بحار الأنوار 20:26.
3- بحار الأنوار 22:26.

وَجَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلىٰ خَلْقِكَ

الحجة هي البرهان وقيل: الحجة الكلام المستقيم على الاطلاق، ويراد بها الدليل والبرهان، ثم إن البرهان قد يكون باللفظ، وقد يكون بالعمل، والبرهان العملي ابلغ في إثبات الدعوى لأنه لا يحتمل الخطاء.

ومن المعلوم أن أول الدلائل في مقام الحجة هو الوجدان، وهذا بخلاف البرهان اللفظي فإنه لا يتجاوز إلّاالادعاء على المدعى، ومن المعلوم أيضاً أن الأذواق والافهام مختلفة لجودة الدرك وعدمها في الأشخاص، فحينئذ لازمة طرّو الاشتباه في الدلالة اللفظية، ولذا يحتاج في قطعية الدلالة اللفظية إلى احتفافه بالقرائن اللفظية الأُخرى والحالية ونحوها وهذا بخلاف البرهان العملي.

وقد علم مما سبق أن الامام الحسين عليه السلام كما في هذه الزيارة والأئمة الأطهار عليهم السلام براهين وحجج تامة للّٰه تعالى في السرّ والعلانية على خلقه في عالم الوجود مطلقاً من عالم الدنيا والآخرة والاُولى وهي عالم الأرواح والذر، كما ورد في زيارة الجامعة «وحجج اللّٰه على أهل الدنيا والآخرة والأُولى» فمعنى الأُولى أي في عالم الذر وسوف نشير إلى بعض الروايات الواردة في هذا المقام.

وأما قوله عليه السلام «عَلىٰ خَلْقِكَ »:

فإن معنى الخلق: هو جميع ما سوى اللّٰه تعالى من المجردات والماديات والعقول والنفوس والحيوانات والنباتات... الخ، فجميع اصناف الخلق معنون بعنوان انه مخلق للّٰه تعالى فهو خالق كل شيء، وعليه فالخليقة كالجنس يشمل جميع أنواع الموجودات، وإن شئت فقل ان الخلق مساوق للايجاد والوجود.

قال بعض الأعلام: قد يظن ان الخالق والباري والمصوّر الفاظ مترادفة بمعنى الخلق والاختراع كما قال تعالى: «هُوَ اَللّٰهُ اَلْخٰالِقُ اَلْبٰارِئُ اَلْمُصَوِّرُ»

ص: 120

ولكن الأمر ليس كذلك فإن اللّٰه تعالى خالق من حيث هو مقدر وبارئ من حيث هو مخترع وموجد ومصور من حيث إنه رتب صور المخترعات على أحسن ترتيب.

وبعبارة اُخرى، فإن كل ما يخرج من العدم إلى الوجود مفتقر إلى تقدير اوّلاً وإيجاده على وفق التقدير ثانياً وإلى التصوير بعد الإيجاد ثالثاً.

وقد يقال: ان الخالق هو الموجد للكون والبارىء هو الموجد للعين والمصور هو الموجد للتقدير.

وعلى أي حال فإن اللّٰه تعالى جعل الإمام الحسين عليه السلام وأهل البيت عليهم السلام حججاً على خلقه والسر في ذلك لأنه تعالى خلقهم كاملين في العلم والمعارف، وحمّلهم علمه وأعطاهم حكمته وأتاهم ما لم يؤت أحداً من العالمين، وقد دلت على ذلك جملة من الروايات منها:

عن بصائر الدرجات عن الإمام الحسن بن علي المجتبى عليه السلام قال: «إن للّٰه مدينتين أحداهما بالمشرق والاُخرى بالمغرب عليهما سوران من حديد، وعلى كل مدينة ألف ألف مصراع من ذهب، وفيها سبعون ألف ألف لغة يتكلم كل لغة بخلاف لغة صاحبه وأنا أعرف جميع اللغات، وما فيها وما بينهما حجة غيري والحسين أخي»، وعن ابن أبي يعفور قال، قال لي الإمام الصادق عليه السلام: يابن يعفور، إن اللّٰه تعالى واحد متوحد بالوحدانية متفرد بأمره فخلق خلقاً ففردهم لذلك الأمر فنحن هم، يابن أبي يعفور فنحن حجج اللّٰه على عباده وشهداؤه على خلقه واُمناؤه وخزانه على علمه والداعون إلى سبيله والقائمون بذلك فمن اطاعنا فقد اطاع اللّٰه.

ففي الكافي عن الإمام الكاظم والرضا عليهما السلام قالا: «إن الحجة لا تقوم للّٰه على خلقه إلّابإمام حتى يعرف».

ص: 121

وعن الصادق عليه السلام قال: «ما زالت الأرض إلّاوللّٰه فيها الحجّة يعرف الحلال والحرام ويدعو الناس إلى سبيل اللّٰه».

وعن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «إن اللّٰه طهّرنا وعصمنا وجعلنا شهداء على خلقه، وحجته في أرضه، وجعلنا مع القرآن، وجعل القرآن معنا لا نفارقه ولا يفارقنا».

فظهر ممّا ذكر أنّ الإمام الحسين عليه السلام كما أشارت إلى ذلك الزّيارة وكذلك الأئمة عليهم السلام لأنّهم نور واحد، وأ نّهم حجج اللّٰه تعالى على جميع العوالم، أي انّهم الحجج على جميع من في الوجود مما دون العرش إلى ما تحت الثرى ثم إنهم حجج اللّٰه تعالى على الكل بجميع أقسام الحجية من القول المتضمّن للبرهان العقلي، والعمل الدال على صدق المدعى، فهم عليهم السلام حجج اللّٰه تعالى قولاً وفعلاً وصفة، وأثبتوا كونهم حجة اللّٰه تعالى بالأُمور القطعية الدالة عليها وأهمها كون قولهم مطابقاً للعقل والبرهان والمعجزات الصادرة عنهم دالة على صدق دعواهم، والكتب مشحونة بمعجزاتهم بنحو تبهر منه العقول كما لا يخفى على المتتبع للآثار، واللّٰه الموفق إلى طاعته والعمل له.

ص: 122

مِنَ الأَْوْصِيآءِ

الوصي: ففي المجمع: الوصية من وصي يصي إذا وصل الشيء بغيره، لأن الموصي يوصي تصرفه بعد الموت بما قبله وعن القاموس: اوصاه ووصّاه توصية عهد إليه.

أقول: ان اللّٰه عزّ وجل أعطى الإمام للحسين عليه السلام منزلة ومقام بحيث جعله حجّة على جميع الخلق من الأوصياء وأوصله اللّٰه إلى نفسه تعالى وعهد إليه في ماله من التصرف الثابت للّٰه تعالى من الولاية التشريعية والتكوينية وعهد إلى الإمام الحسين عليه السلام بذلك الاتصال والاستنابة.

ثم ان ثبوت الوصاية للإمام الحسين عليه السلام بل لجميع الأئمة عليهم السلام أمر ثابت بالتواتر من طرق العامة والخاصّة بل هو ثابت بالآيات القرآنية الدالة على ثبوت الوصاية والولاية لأمير المؤمنين وللأئمة عليهم السلام كآية التبليغ وآية إنما وليكم اللّٰه واطيعوا اللّٰه واطيعو الرسول واُولى الأمر منكم وغيرها فإنها تعطي مقام الخلافة والوصاية لهم كما لا يخفى.

ثم ان الوصية تطلق على معنيين:

أحدهما: على الوصي الذي ينوب عن المنوب عنه فيما هو شأنه وعمله ومنصبه.

وثانيهما: على الوصية بالنسبة إلى مواريث لأنبياء من الكتب وساير ما به ثبوت نبوتهم بنقل هذه إلى من بعدهم وإن كان الموصي إليه نبياً أو وصياً.

وعن الصادق عليه السلام قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: إنّا سيّد النبيين ووصي سيد الوصيين وأوصيائي سادة الأوصياء، إن آدم سأل اللّٰه عزّ وجل أن يجعل له وصيّاً صالحاً، فأوحى اللّٰه عزّ وجله إليه: «إني اكرمت الأنبياء بالنبوة ثم اخترت خلقي وجعلت خيارهم الأوصياء...»(1) الخ.

ص: 123


1- اكمال الدين 1/211:1.

-

وفي صحيح البخاري بطريقين أولهما إلى جابر بن سمرة قال: سمعت رسول اللّٰه يقول يكون من بعدي اثنا عشر أميراً ثم قال كلمة لم أسمعها قال أبي قال:

كلهم من قريش(1). ورووا عن ابن عباس قال: سألت النبي صلى الله عليه و آله حين حضرته الوفاة وقلت إذا كان ما نعوذ باللّٰه فإلى مَن ؟ فأشار بيده إلى علي وقال هذا مع الحق والحق معه ثم يكون من بعده إحدى عشر إماماً(2). ورووا عن عائشة أنها سُألت كم خليفة لرسول اللّٰه فقالت: أخبرني انه يكون من بعده إثنى عشر خليفة(3) ومن المعلوم أنه لا يمكن حمل هذه الأخبار على خلفاء الجور لزيادة عددهم من قريش على ذلك أضعافاً مضاعفة مع أن جملة منها صريحة في اتصال الاثنى عشر بآخر الزمان وفي بعضها آخرهم المهدي. ورووا عنه صلى الله عليه و آله أنه قال: أوصيائي من بعدي عدد أوصياء موسى أو حواري عيسى وكانوا إثنى عشر(4). وعن ابن مسعود عنه صلى الله عليه و آله انه قال: ان أوصيائي من بعدي عدد نقباء بني إسرائيل وكانوا إثناى عشر. وروى(5) علامة زمخشرهم عنه صلى الله عليه و آله انه قال: فاطمة ثمرة فؤادي وبعلها نور بصري والأئمة من ولدها أُمناء وحي وحبل ممدود بينه وبين خلقه من اعتصم بهم نجى ومن تخلف عنهم هوى(6) ومن مستطرفات الآثار

ص: 124


1- البخاري 729:4، الباب 1148، الحديث 2034، ط. بيروت.
2- راجع إحقاق الحق: ج 13.
3- مسند أحمد 398:1.
4- الحاكم 501:4.
5- سنن أبي داود 106:4 وقريب منه في كنز العمال 33:12، الحديث 33859.
6- ويدل عليه ما في المناقب للزمخشري منقولاً عن احقاق الحق: ج 13 في نبذة مما ورد في فضائل أئمة أهل البيت.

ما يحكى عن بعض الاُمراء انه لما عثر على هذه الأخبار من طرقهم سئل علمائهم عنها مورداً عليهم انه ان عنى مطلق قريش فعدد سلاطينهم فوق ذلك أضعافاً مضاعفة وان أراد غير ذلك فبينوه فاستمهلوه عشرة أيام فامهلهم فلما حل الوعد تقاضاهم الجواب فحاروا وافتقد منهم رجلاً مبرزاً فطلب الأمان فاعطاه الأمان فقال هذه الأخبار لا تنطبق إلّاعلى مذهب الشيعة الاثنى عشرية ولكنها أخبار آحاد لا توجب العمل فرضى بقوله وأنعم عليه فانطقه اللّٰه بالحق «فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحٰابِ اَلسَّعِيرِ»(1) ولعمري أنها أخبار متواترة قد إتفق عليها الفريقان وحفظها في كتبهم وصحاحهم مع إقتضاء الحال إخفائها وإعدامها أدل دليل وأصدق شاهد على صدقها وصحتها وليتهم أتوا بخبر واحد يدل على حقيقة خلافة أئمتهم وأن شهد الوجدان وقام البرهان على خلافه مع انهم رووا بأسانيد عديدة عنه أنه قال: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية» وفيه أبين دلالة على بقاء الأئمة إلى انقضاء التكليف وأن الإمامة من أُصول الدين وهو لا ينطبق إلّاعلى مذهبنا، وروي أن هذا الحديث صار سبباً لتشيع بعض المخالفين.

ص: 125


1- سورة الملك: 11.

فَاَعْذَرَ فيِ الدُّعآءِ

-

أعذر في الأمر: أي بالغ وأعذر فلان أي أبلى عذراً فلا يُلام، وفي المثل أعذر من أنذر يقال ذلك لمن يُحذّر أمراً يُخاف وقد ورد في الدعاء عند دخول شهر رمضان: «يا من أعذر وأنذر ثم عدت بعد الاعذار والانذار في معصيته...».

وقوله تعالى: «عذراً أو نذراً» أي حجة وتخويفاً.

وفي حديث علي عليه السلام وهو ينظر إلى ابن ملجم: عذيرك من خليلك من مرادي، أي هات من يعذرك فيه(1).

وعليه فالإمام الحسين عليه السلام بالغ في هداية الخلق ودعاهم إلى اللّٰه تعالى بحيث أعذر في الدعاء وأتم الحجة عليهم، ثم أن قول الإمام الصادق عليه السلام في الزيارة:

«فاعذر في الدعاء»، لما كان الأئمة عليهم السلام خزّان علمه وحملة كتابه وعلمه ومستودع سرّه واُمناء أمره ونهيه فبلَّغوا عن أمر اللّٰه تعالى ما أمرهم بتبليغه حتى اعلنوا دعوته، واوضحوه بتمام الوضوح بحيث لا يبقى لاحد جهل أو شك في الحقائق الإلهية التي منها كونهم عليهم السلام حجج اللّٰه على الخلق بأمر اللّٰه تعالى فيجب على الخلق متابعتهم والتسليم لهم عليهم السلام وحاصل قوله صلى الله عليه و آله «فاعذر في الدعاء» ان الحسين عليه السلام بين وأوضح إنه حجة اللّٰه على خلقه، وأتم الحجة عليهم وبين أن أعداءه هم أعداء اللّٰه تعالى وأعداء رسوله وهدفهم ابادة الدين والاسلام كما أشار إلى ذلك في كثير من خطبه وعلى أي حال فالإمام الحسين عليه السلام بيّن عذره عليه السلام بخطبة في يوم عاشوراء وكذلك في قيامه بالحرب مع أعدائه التابعين ليزيد لعنهم اللّٰه وأوضح إنه حجة اللّٰه تعالى. فله عليه السلام العذر والحجة في قيامه عليه السلام

ص: 126


1- مجمع البحرين.

-

الحرب معهم ولا عذر ولا حجة لهم بما قاموا على قتله، فلذا قال الإمام الحسين عليه السلام بعد اتمام الحجة عليهم - فبم تستحلون دمي - فقالوا لعنهم اللّٰه نقتلك بغضاً منّا لأبيك. ويدل على أنهم عليهم السلام حجج اللّٰه على خلقه وانهم المعلنون والمبيّنون للدعوات الإلهية بحيث لا يبقى لأحد من مخالفيهم العذر والحجّة لما اعتقدوا وعملوا من ظلم أهل البيت عليهم السلام.

عن الكافي في صحيح محمد بن مسلم قال سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول: ليس عند أحد من الناس حق ولا صواب ولا أحد من الناس يقضي بقضاء حق إلّاما خرج منّا أهل البيت وإذا تشعبت بهم الأُمور كان الخطاء منهم والصواب من علي عليه السلام.

ص: 127

وَمَنَحَ النُّصْحَ

-

المنح: العطاء يقال منحته منحاً: أي أعطيته.

النّصح: الخلوص، وفي الحديث: إن الدين النّصيحة للّٰه ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين عامتهم، قال ابن الأثير: النّصيحة كله يعبّر بها عن جملة هي إرادة الخير للمنصوح له.

والنّصيحة لكتاب اللّٰه: هو التصديق به والعمل بما فيه.

ونصيحة الرّسول: التّصديق بنبوّته ورسالته والإنقياد لما أمر به ونهى عنه(1).

وعن النبي صلى الله عليه و آله قال: الدين النّصيحة، قلنا: لمن ؟ قال: للّٰه ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

وعنه صلى الله عليه و آله: إنّ أعظم الناس منزلة عند اللّٰه يوم القيامة أمشاهم في أرضه بالنّصيحة لخلقه.

قال أمير المؤمنين عليه السلام: ما أخلص المودّة من لم ينصح، وعنه عليه السلام: المؤمن غريزته النّصح.

وعنه عليه السلام: لا خير في قوم ليسوا بناصحين ولا يحبّون النّاصحين(2).

فإنّ الإمام الحسين عليه السلام منح النصح للناس وللمؤمنين سواء في السّر أو العلانية كما ورد في زيارة الجامعة «ونصحتم له في السرّ والعلانية».

والمراد بالسرّ يعني فيما بين اللّٰه وبين نفسه عليه السلام في معاملته مع اللّٰه تعالى، وفي العلانية: يعني معاملته مع الناس باعترافهم بالعبوديّة له تعالى، وتعليمهم سبيل عبوديّته.

ص: 128


1- لسان العرب، مادة (نصح).
2- ميزان الحكمة، حرف النون.

-

وقال عليه السلام في يوم الطف مخاطباً جيش عمر بن سعد: ويحكم يا شيعة آل أبي سفيان إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في ديناكم، وارجعوا إلى أحسابكم إن كنتم عرباً كما تزعمون.

فالإمام الحسين عليه السلام أرشدهم ونصحهم إلى عبوديّة اللّٰه تعالى وشرائع دينه والحث على نفي الأنداد والشرك في مواقف وخطب كثيرة، راجياً هدايتهم وتحريضهم على طاعة اللّٰه عزّ وجل وطاعة رسوله صلى الله عليه و آله حتى اللّحظات الأخيرة من حياته عليه السلام كان ناصحاً للأُمة بخطبه المباركة، ففي الخبر لمّا نظم الحسين عليه السلام جيشه الباسل ركب راحلته وعليه آثار رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله من سيفه ونعله وعمامته وجواده وتقدّم ازاء القوم، فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنّها السّيل، ونظر إلى ابن سعد واقفاً بإزاء القوم ومعه صناديد العرب، وصاح بأعلى صوته:

يا أيها الناس، إسمعوا قولي ولا تعجلوا حتّى أعظكم بما يحقّ لكم عليّ ، وحتّى أعذر إليكم فإن أعطيتموني النصف من أنفسكم كنتم بذلك أسعد، وإن لم تعطوني النصف من أنفسكم فاجمعوا أمركم وشركائكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمّة ثم إقضوا إليّ ولا تنظرون، إنّ وليّ اللّٰه الذي نزّل الكتاب وهو يتولّى الصالحين.

ثمّ حمد اللّٰه وأثنى عليه وذكر بما هو أهله وصلّى على نبيه صلى الله عليه و آله، فلم يسمع متكلّم قط قبله ولا بعده أبلغ في منطق منه ثمّ قال:

أمّا بعد، فانسبوني وانظروا من أنا ثمّ ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا هل يحلّ لكم قتلي وانتهاك حرمتي، ألست أنا إبن بنت نبيكم وابن وصيّه وابن عمّه وأوّل المؤمنين باللّٰه والمصدّق برسول اللّٰه وبما جاء به من عنده، أو ليس حمزة سيّد الشهداء عمّ أبي، أو ليس جعفر الطيّار عمّي، أو لم يبلغكم قول رسول اللّٰه لي ولأخي: هذان سيّدا شباب أهل الجنة، فإن صدقتموني بما أقول وهو الحقّ

ص: 129

واللّٰه ما تعمّدت الكذب منذ علمت أنّ اللّٰه يمقت عليه أهله. وإن كذّبتموني فإنّ فيكم من أن سألتموه عن ذلك أخبركم، سلوا جابر بن عبد اللّٰه الأنصاري وأبا سعيد الخدري، وسهل بن سعد الساعدي، وزيد بن أرقم، وأنس بن مالك يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول اللّٰه لي ولأخي، أما من هذا حاجز لكم عن سفك دمي.

ثم قال عليه السلام

أين عمر بن سعد، فجاء إليه، فقال يا عمر: أنت تقتلني وتزعم انّه يوليك الدّعي بن الدّعي بلاد الري وجرجان ؟ واللّٰه لا تتهنّأ بذلك أبداً عهد معهود، فاصنع ما أنت صانع، فأنت لا تفرح بعدي بدنيا ولا آخرة، وكأ نّي برأسك على قصبة قد نصبت بالكوفة يتراماه الصبيان ويتخذونه غرضاً بينهم، فغضب اللعين وقال:

ما تنتظرون إحملوا عليه، إنما هي أكلة واحدة، ثم أخذ سهماً ورمى مخيّم الحسين عليه السلام وقال: إشهدوا عند الأمير فإني أوّل من رمى الحسين(1).

قال الراوي: فما بقى من أصحاب الحسين عليه السلام أحد إلّاأصابه سهم أو سهمين من تلك السّهام فقال الحسين لإصحابه: قوموا رحمكم اللّٰه إلى الموت الذي لابدّ منه، فإنّ هذه السهام رسل القوم إليكم(2).

ص: 130


1- ثمرات الأعواد: 266.
2- نفس المهموم: 250.

وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ

البذل ضد المنع وبذل بذلاً: سمح وأعطاه وجاد به، وفي الحديث: شيعتنا المتباذلون في ولايتنا، وقول أمير المؤمنين عليه السلام عليكم بالتّواصل والتباذل. وبذل:

اباحة عن طيب نفس.

المهجة دم القلب ولا بقاء للنّفس بعد ما تراق مهجتها.

وفي المجمع: دم القلب والروح، ومنه يقال: خرجت مهجته، أي: روحه.

وفي الحديث: لو يعلم النّاس ما في طلب العلم لطلبوه ولو بسفك المهج، وخوض اللّجج(1)، إنّ أرقى درجة يصل الإنسان بها إلى اللّٰه تعالى ويكون فانياً في اللّٰه تعالى هو أن يقدم ويبذل جميع ما عنده من وجوده وحياته ومهجته في سبيل اللّٰه تعالى عن شوق وطيب نفس.

كما حصل ذلك لأبي عبد اللّٰه الحسين عليه السلام.

أعطى الّذي ملكت يداه إلهه *** حتّى الجنين فداه كلّ جنين

حيث مع كثرة المصائب التي مرّت عليه من قتل أولاده واخوته وأهل بيته وأعز أصحابه ولكن كان رابط الجأش مسلّم أمره للّٰه تعالى، كما قال بعض الروات: ما رأيت مكثوراً قط، قد قتل منه ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً ولا أمضى جناناً، ولا أجرأ مقدماً من الحسين عليه السلام، واللّٰه ما رأيت قبله ولا بعده مثله.

قال الشاعر(2):

فتلقّى الجموع فرداً ولكن *** كلّ عضو في الروع منه جموع

زوج السيف بالنفوس ولكن *** مهرها الموت والخضاب النجيع

ص: 131


1- مجمع البحرين، مادة (مهج).
2- السيد حيدر الحلّي.

بل أكثر من هذا أنّ النّصر رفرف على رأسه مع بقاء منزلته من الشهادة، ولكن رجح لقاء ربّه، كما ورد في أسرار الشهادة(1): لمّا رأى الحسين عليه السلام وحدته وقتل أنصاره، ودّع عياله وأطفاله، وخرج إلى الميدان، وبقي واقفاً متحيراً، ينظر مرّة إلى إخوته وأولاده وبني أخيه وبني عمّه، صرعى مقتولين مجدّلين ومرّة ينظر إلى غربته ووحدته وإنفراده، ومرّة ينظر إلى النّساء وغربتهنّ ووحدتهنّ وعطشهنّ ، وما يرجعن إليه من الأسر والذّل، ومرّة ينظر إلى شماتة الأعداء وتصميمهم لقتله، فنادى بصوت عال حزين:

أما من ناصر ينصرنا، أما من مغيث يغيثنا، هل من موحّد يخاف اللّٰه فينا، أما من ذاب يذب عن حرم رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله، فلمّا نادى هذا النّدا تزلزلت أركان العرش وقوائمه، وبكت السماوات وضجّت الملائكة، واضطربت الأرض فقالوا بأجمعهم: يا ربّنا هذا حبيبك وقرّة عين حبيبك، فأذن لنا بالنّصرة، وهو في هذه الحالة إذ وقعت صحيفة قد نزلت من السّماء في يده الشريفة، فلمّا فتحها ونظر فيها إذا هي العهد المأخوذ عليه بالشهادة قبل خلق الخلق في هذه الدنيا، فلمّا نظر عليه السلام إلى ظهر تلك الصّحيفة، فإذا هو مكتوب فيه بخطّ واضح جلي، «يا حسين نحن ما حتمنا عليك الموت، وما الزمنا عليك الشهادة، فلك الخيار ولا ينقص حظك عندنا، فإن شئت أن نصرف عنك هذه البلية، فاعلم إنا قد جعلنا السماوات والأرضيين والملائكة والجن كلهم في حكمك فأمر فيهم بما تريد من إهلاك هؤلاء الكفرة الفجرة لعنهم اللّٰه»، فإذا بالملائكة قد ملؤوا ما بين السّماوات والأرض بأيديهم حراب من النّار، ينتظرون لحكم الحسين عليه السلام

ص: 132


1- أسرار الشهادة للدربندي 11:3.

وأمره فيما يأمرهم به من إعدام هؤلاء الفسقة، فلمّا عرف عليه السلام مضمون الكتاب، وما في تلك الصّحيفة رفعها إلى السّماء ورمى بها إليها وقال: إلهي وسيّدي وددت أن أُقتل وأحيى سبعين ألف مرّة في طاعتك ومحبتك سيما إذا كان في قتلي نصرة دينك وإحياء أمرك وحفظ ناموس شرعك، ثمّ إنّي قد سئمت الحياة بعد قتل الأحبّة، وقتل هؤلاء الفتية من آل محمد صلى الله عليه و آله، فلم يأذن للملائكة بشيء وباشر الحرب بنفسه الشريفة، وزلف نحو القوم وكما قال في اللحظات الأخيرة من حياته:

تركت الخلق طرّاً في هواكا *** وأيتمت العيال لكي أراكا

ولو قطّعتني في الحبّ إرباً *** لما حنّ الفؤاد إلى سواكا

فالإمام الحسين عليه السلام فدا نفسه وتحملّ المشاق والأذى في سبيل مرضاة اللّٰه تعالى.

بذلاً: أي بدون بدل وعوض وبدون طلب جزاء منه تعالى، وكما ورد في زيارة الجامعة: «وبذلتم أنفسكم في مرضاته، وصبرتم على ما أصابكم في جنبه».

فإنهم لم يبذلوا أنفسهم في سبيل اللّٰه من جهة الشهادة فقط، بل بذلوا أنفسهم حتى في الاجتهاد في العبادة والمداومة عليها وبإظهار الطاعات وإعلاء كلمة اللّٰه وتشيد الدّين مع تحمّل المشاق والأذى للّٰه تعالى لكونه أهلاً لذلك، كما في الحديث: «وأمّا نحن فنعبده حبّاً له»، وكما قال أمير المؤمنين عليه السلام: «ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنّتك بل وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك».

ص: 133

-

وكيف كان فقد بذلوا أنفسهم في مرضاة اللّٰه تعالى حتّى أضرّوا بأنفسهم في المأكل والمشرب والمطعم والملبس، كما ورد في أحوال ولده علي بن الحسين عليه السلام وسائر الأئمة من مجاهداتهم مع أنفسهم ومن عباداتهم وبكائهم وخشوعهم وزهدهم وورعهم والقيام بالجهاد في سبيل اللّٰه والجهاد مع النفس وضدّ الكفّار حيث ما اقتضى التكليف الإلهي.

فإنّهم بلغوا في هذه المجاهدات بحيث ضربت بهم وبعبادتهم ومجاهدتهم عليهم السلام الأمثال، بين المؤالف والمخالف بحيث يعجز العقل من دركها، ومن الجوع من الصّيام، حتى ربّما بقوا ثلاثة أيام صائمين لم يفطروا إلّابالماء، وربما كانوا يربطون حجر المجاعة على بطونهم، وتحمّلوا من مخالفيهم في هذا المقام من معاداة الباغين الكافرين والمنافقين حتّى جرى عليهم القتل والشهادة والسجن وسائر أنواع الظّلم.

ص: 134

لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ

-

ان الإمام الحسين عليه السلام ثار من أجل الحق ومن أجل انقاذ البشرية من الجهل والعبودية للطغاة والظلمة، وترك خطاً ساخناً للاُمة أن تعيش حرّة، فقد ثار تلك الثورة الجبارة ضد الجبابرة والطغاة ولم تكن له أي حاجة في السلطنة أو الرئاسة وإنما الدنيا وما فيها من السلطنة عنده كعفطة عنز إلّالاحقاق حق كما قالها أبوه أمير المؤمنين عليه السلام وإنما أراد بنهضته انقاذ البشرية واحياء الشرع الإسلامي المقدس من مخالب بني اُمية، لأن يزيد قد ارتكب جميع المحرمات ولم يكن أحد من المسلمين ان ينكر عليه أفعاله.

فيا ذلة الاسلام من بعد عزّه *** إذا كان والي المسلمين يزيد

قال المسعودي في مروج الذهب المجلد الثاني: كان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود ومداومة على الشرب فقد مارس الرذيلة بكل أشكالها حتى بنو اُمية فقد كانوا معلنين الفسق والفجور في جميع البلاد الإسلامية ولذا ورد عن النبي صلى الله عليه و آله كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي ص 208: لا يزال أمر اُمتي قائماً بالقسط حتى يكون أول من يثلمه رجل من بني اُمية يقال له يزيد.

ولذلك قام الإمام الحسين عليه السلام لانقاذ العباد من يزيد وأمثاله، وخطب تلك الخطبة البليغة حيث قال عليه السلام: «ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء اللّٰه محقاً فإني لا أرى الموت إلّاسعادة والحياة مع الضالين إلّا برماً، أيها الناس أن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله قال: من رأى سلطان جائراً مستحلاً لحرام اللّٰه ناكثاً لعهد اللّٰه مخالفاً لسنة رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يعمل في عباد اللّٰه بالاثم والعدوان فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقاً على اللّٰه ان يدخله مدخله إلّاوإن هؤلاء لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن واظهروا الفساد وعطلوا الحدود واستأثروا بالفيء واحلّوا حرام اللّٰه وحرّموا حلاله. هذا هو صوت الحسين عليه السلام هذا هو صوت الحق من سمع واعيتنا أهل البيت ولم يعنّا أكبّه اللّٰه على منخريه في النار».

ص: 135

وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ

-

الحير: من حار يحار حيرة أي تحيّر في أمره ولم يكن له مخرج فمضى وعاد إلى حاله والحَيَر: الكثير من كل الشيء(1).

الضلالة: ضد الهدى والرشاد، والضلال: الضياع، منه قوله تعالى: «ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا» .

عن أمير المؤمنين عليه السلام: ادنى ما يكون به العبد ضالاً أن لا يعرف حجة اللّٰه تبارك وتعالى، وشاهده على عباده الذي امر اللّٰه عزّ وجل بطاعته وفرض ولايته.

فالإمام الحسين عليه السلام بشهادته أراد أن يبين للأُمة والأجيال القادمة إ أن الطاعة لولي الأمر التي فرض اللّٰه تعالى ولايته على الأُمة لابد أن يكون منصوصاً من قبل اللّٰه تعالى، وأن يكون هو الحجة على العباد لا كل من أخذ دسه الحكم ولو بالقمع والحديد أمثال يزيد وأشباهه والذي عبّر عنه الإمام الحسين عليه السلام:

ويزيد فاسق فاجر شارب الخمر قاتل النفس المحترمة، فإن طاعته طاعة ضلال كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: ادنى ما يكون به العبد ضالاً ان لا يعرف حجة اللّٰه تعالى.

فالإمام الحسين عليه السلام بيّن للأُمة من هم أئمة الجور والضلالة ومن أئمة الحق والهداية الذي فرض اللّٰه تعالى متابعتهم، ورفض بل محاربه أئمة الجور والضلال الذين كفروا باللّٰه وبرسوله وضلوا ضلاً بعيداً، قال تعالى: «وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّٰهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّٰ يَخْرُصُونَ »(2).

ص: 136


1- مجمع البحرين ولسان العرب، مادة (حير).
2- سورة الأنعام: 116.

وعن أمير المؤمنين عليه السلام: إن أبغض الخلائق إلى اللّٰه رجلان: رجل وكلّه اللّٰه إلى نفسه فهو جائر عن قصد السبيل مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به ضال عن هدي من كاقبله مضلٌّ لمن اقتدى به في حياته بعد وفاته، حمّال خطايا غيره رهين بخطيئته(1).

ص: 137


1- ميزان الحكمة، ج 5، حرف الضاد.

وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا

-

توازر: الوزر: الحمل الثقيل من الإثم، واتّزر الرّجل: ركب الوزر وحمل الإثم الثّقيل، وقوله تعالى: «حتّى تضع الحرب أوزارها» أي حتّى يضع أهل الحرب السّلاح، وسمّي السلاح وزراً لأنه يحمل.

والموازرة على العمل: المعاونة عليه، يقال: وازرته، أي أعنته وقويته، ومنه سمي الوزير.

غرّته: غرّته الدّنيا: خدعته بزينتها.

والغرور: ما إغترّ به من متاع الدنيا، والغرور بالضمّ : الأباطيل، وبالفتح الشيطان والدّنيا، ومنه قوله تعالى: «مٰا غَرَّكَ بِرَبِّكَ اَلْكَرِيمِ » أي: أي شيء غرّك بخالقك وخدعك وسوّل لك الباطل حتّى عصيته وخالفته، قال ابن السّكيت:

والغرور ما رأيت له ظاهراً تحبّه وفيه باطن مكروه ومجهول(1).

الدُّنيا: نقيض الآخرة، وهي إسم لهذه الحياة لبعد الآخرة عنها، قال أمير المؤمنين عليه السلام إنّما سميت الدُّنيا دنيا لأنها أدنى من كلّ شيء، وسميت الآخرة آخرة لأنّ فيها الجزاء والثّواب(2).

سئل رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: لمَ سمّيت الدنيا دنيا؟ قال صلى الله عليه و آله: لأنّ الدُنيا دنيّة خلقت من دون الآخرة، ولو خلقت مع الآخرة لم يفن أهلها كما لا يفنى أهل الآخرة، قال السّائل: فاخبرني لم سمّيت الآخرة آخرة ؟ قال(3): لأنها متأخّرة جيء بعد الدنيا، لا توصف سنينها ولا تحصى أيّامها، ولا يموت سكّانها (2).

ص: 138


1- مجمع البحرين، مادة (غرر).
2- ميزان الحكمة، حرف النون.
3- ميزان الحكمة، حرف النون.

إنّ من أهمّ الأسباب في إنزلاق الإنسان وانحرافه في هذا الدنيا هو ضعف النفس في قبال شهوات الدنيا، وكما قال تعالى: «بَلْ تُؤْثِرُونَ اَلْحَيٰاةَ اَلدُّنْيٰا»(1) ، وقال تعالى: «فَلاٰ تَغُرَّنَّكُمُ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا وَ لاٰ يَغُرَّنَّكُمْ بِاللّٰهِ اَلْغَرُورُ»(2) .

ولذلك وردت جمهرة من الروايات عن أئمة أهل البيت عليهم السلام تحذّر الإنسان من أن يغتر بالدّنيا.

ورد في حديث المعراج: أهل الدنيا من كثر أكله وضحكه ونومه وغضبه، قليل الرّضا لا يعتذر إلى من أساء إليه، ولا يقبل معذرة من إعتذر إليه، كسلان عند الطّاعة، شجاع عند المعصية، أمله بعيد، وأجله قريب، لا يحاسب نفسه، قليل المنفعة، كثير الكلام، قليل الخوف، كثير الفرح عند الطّعام، وإن أهل الدنيا لا يشكرون عند الرّخاء، ولا يصبرون عند البلاء، كثير النّاس عندهم قليل، يحمدون أنفسهم بما لا يفعلون، ويدّعون بما ليس لهم ويتكلّمون بما يتمنّون، ويذكرون مساوي الناس ويخفون حسناتهم، قال: يا رب، هل يكون سوى هذا العيب في أهل الدنيا؟ قال: يا أحمد إن عيب أهل الدنيا كثير، فيهم الجهل والحمق، لا يتواضعون لمن يتعلّمون منه وهم عند أنفسهم عقلاء وعند العارفين حمقاء(3).

وقال عليه السلام: أحذرّكم هذه الدنيا الخدّاعة الغدّارة التي قد تزيّنت بحليّها وفتنت بغرورها، فأصبحت كالعروس المجلوّة والعيون إليها ناظرة.

وقال عليه السلام: إحذروا الدنيا فإنّها عدوّة أولياء اللّٰه، وعدوّة أعدائه، أمّا أولياؤه فغمتهم، وأمّا أعداؤه فغرّتهم.

ص: 139


1- سورة الأعلى: 16.
2- سورة لقمان: 33.
3- ميزان الحكمة، حرف الدال.

وعنه عليه السلام في صفة الدنيا: تغرّ وتضرّ وتمرّ... إن أقبلت غرّت وان أدبرت فرّت.

قال تعالى: «وَ ذَرِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا»(1) فإنّ الآية تأمر النبي صلى الله عليه و آله أن يدع أُولئك الذين يستهينون بأمر دينهم ويتّخذون ممّا يلهون ويلعبون به مذهباً لهم ويغترّون بالدنيا وبمتاعها المادّي، فإنّ اللّٰه تعالى يأمره أن يذرهم ويبتعد عنهم لأنّهم عبيد الدنيا والمادة واغترّوا بها، وكما قال الإمام الحسين عليه السلام:

«إنّ الناس عبيد الدنيا والدّين لعقاً على أسنتهم يحوطونه ما درّت معائشهم، فإذا محصّوا بالبلاء قلّ الدّيانون»(2).

وقال عليه السلام: وجد لوح تحت حائط مدينة من المدائن فيه مكتوب: أَنا اللّٰه لا إله إلّا أنا ومحمّد نبيّ ... عجبت لمن اختبر الدنيا كيف يطمئن(3).

وعن كنز العمال عن إبن عباس: في حديث قال عمر: فقلت: ادع اللّٰه يا رسول اللّٰه أن يوسّع على اُمتك، فقد وسّع على فارس والرّوم وهم لا يعبدون اللّٰه، فاستوى صلى الله عليه و آله جالساً، ثمّ قال: أفي شكّ أنت يابن الخطاب ؟ أُولئك قوم عجّلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا.

ص: 140


1- سورة الأنعام: 70.
2- تحف العقول: 245.
3- عيون أخبار الرضا 158/44/2.

وَباعَ حَظَّهُ بِالْأَرْذَلِ الأَْدْنىٰ

الحظ: النّصيب من الفضل والخير، قال تعالى: «إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ » أي:

نصيب واف، وفي الحديث: من أراد بالعلم الدنيا فهو حظّه، أي نصيبه وليس له حظ في الآخرة.

والأرذل: الأخس والأحقر والناقص، قال تعالى: «أَرْذَلِ اَلْعُمُرِ» ، فعن عليّ عليه السلام: هو خمس وسبعون سنة، وفي بعض الأخبار، المائة من العمر، والرذيلة ضدّ الفضيلة.

الأدنى: نفس الأرذل، أي: الأخس وأقل قيمة، ويقال: وأدنى، إذا عاش عيشاً ضيقاً بعد سعة، وقال تعالى:

«أتستبدلون الذي هو أدنى» أي الذّي هو أخس.

فبقتلهم سيّد شباب الجنّة الحسين بن علي عليه السلام حجّة اللّٰه على الخلق، فقد باعوا آخرتهم الّتي هي دار الخلود، والبقاء مقابل دنيا زائلة فانية والتي عبر عنها الإمام الصادق عليه السلام في الزيارة «بالأرذل الأدنى» فإنهم لم يخسروا الآخرة فحسب بل خسروا حتى الدنيا بقتلهم أبي عبد اللّٰه الحسين عليه السلام وأهل بيته «أَلاٰ ذٰلِكَ هُوَ اَلْخُسْرٰانُ اَلْمُبِينُ » .

فأمّا الخسران في الدنيا فإنهم لم يصلوا إلى أهدافهم الدنيوية من قتلهم سيد الشهداء عليه السلام، فذاك عمر بن سعد عليه اللعنة الذي كان هدفه من قتل الإمام عليه السلام أن يصل إلى ملك الرّي وجرجان كما قال في أبيات له لمّا أمره إبن زياد أن يخرج لقتال الحسين عليه السلام قال:

فواللّٰه ما أدري وإنّي لحائر *** أُفكّر في أمري على خطرين

أأترك ملك الرّي والرّي منيتي *** أم أصبح مأثوماً بقتل حسين

ص: 141

حسين بن عمّي والحوادث جمّة *** لعمري ولي في الرّي قرّة عين

وإنّ إله العرش يغفر زلّتي *** ولو كنت فيها أظلم الثّقلين

ألا إنّما الدنيا لخير معجّل *** وما عاقل باع الوجود بدين

يقولون إنّ اللّٰه خالق جنّة *** ونار وتعذيب وغلّ يدين

فإن صدقوا فيما يقولون *** إنّني أتوب إلى الرّحمن من سَنتين

وإن كذبوا فُزنا بدنيا عظمة *** وملك عقيم دائم الحجلين

وإذا بنداء من السّماء قد أجابه بحيث يسمع الصّوت ولا يُرى:

ألا أيها النّغل الذي خاب سعيه *** وراح من الدنيا ببخسة عين

ستصلى جحيماً ليس يطفى لهيبها *** وسعيك من دون الرّجال بشين

إذا كنت قاتلت الحسين ابن فاطم *** وأنت تراه أفضل الثقلين

فلا تحسبنّ الرّي يا أخسر الورى *** تفوز به من بعد قتل حسين(1)

مع ما أنّ الإمام الحسين عليه السلام نصحه وبيّن له أنّه لا يصل إلى مراده وهدفه بل وبيّن له مصرعه على فراشه، وإنّه لا يتهنّأ بدنيا ولا آخرة، كما مرّ الإشارة إليه في فقرة «ومنح النّصح» من الزيارة، راجع الصفحة.

هذا نموذج واحد ممّن قاتل الإمام الحسين عليه السلام، وخسارته في الدّنيا قبل الآخرة، فإنّ جميع من حضر قتال الإمام الحسين عليه السلام لم يتهنّأ في الدُّنيا ولا في الآخرة، راجع ما صنع المختار ابن أبي عبيدة الثقفي بهم، وراجع جزاء قتلة الإمام الحسين عليه السلام، هذا في الدنيا، وأمّا في الآخرة والبرزخ فهم في جنهمّ وبئس المصير.

ص: 142


1- ناسخ التواريخ، في حياة الإمام الحسين عليه السلام، 179:2.

ففي الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام قال: «يبعث اللّٰه يوم القيامة قوماً بين أيديهم نور كالقباطي ثمّ يقال له: كن هباءً منثوراً، ثم قال: اما واللّٰه إنّهم كانوا يصومون ويصلّون ولكنّما كانوا إذا عرض لهم شيء من الحرام أخذوه، وإذا ذكر لهم شيء من فضل أمير المؤمنين عليه السلام أنكروه»(1).

وعن ثواب الأعمال(2) باسناده عن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: «إنّ الجنّة تشتاق لأحباء علي عليه السلام يشتد ضوؤها لأحبّاء علي وهم في الدنيا قبل أن يدخلوها، وإنّ النّار لتغيظ ويشتدّ زفيرها على أعداء علي عليه السلام وهم في الدنيا قبل أن يدخلوها».

ص: 143


1- الأنوار الساطة 212:4.
2- ثواب الأعمال: 247.

وَشَرىٰ آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوْكَسِ

-

شَرَىٰ : أي باع ومنه قوله تعالى: «وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرٰاهِمَ » أي باعوه.

وقال تعالى: «وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اَللّٰهِ » أي يبيعها وتأتي بمعنى بدّل، كما قال تعالى: «اِشْتَرَوُا اَلضَّلاٰلَةَ بِالْهُدىٰ »(1) أي بدلوا.

الآخرة: خلاف الدنيا، دار البقاء، منها قوله تعالى: «فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ اَلْآخِرَةِ » أي قيام الساعة.

وفي الحديث عن أمير المؤمنين عليه السلام: من حرص على الآخرة ملك ومَن حرص على الدنيا هلك.

بالثمن: ما تستحق به الشيء، وثمن كل شيء قيمته.

الأوكس: النقص واتضاع الثمن في البيع ويقال وُكس فلان (على ما لم يسمى فاعله) في تجارته أي خسر، وفي الحديث بيع الربا وشراؤه وكس أي نقص.

فالإمام الصادق عليه السلام يريد أن يقول في هذه الزيارة ان الذين حضروا كربلاء وتوازروا على قتل الإمام الحسين عليه السلام بما غرتهم هذه الدنيا وباعوا حظهم ونصيبهم من الخير مقابل دنيا زائلة وبثمن اوكس قليل، وباعوا آخرتهم وسعادتهم بلا مقابل، كل ذلك لانهم عبيد الدنيا وعبيد شهواتهم واهوائهم كما قال الإمام الحسين عليه السلام في حقهم: «الناس عبيد الدنيا والدين لعق على ألسنتهم...»، نعم باعوا آخرتهم بثمن قليل، قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: من ابتاع آخرته بدنياه ربحهما، ومن باع آخرته بدنياه خسرهما، وقال: مَن عمّر دنياه خرّب ماله من عمّر آخرته بلغ آماله.

ص: 144


1- مجمع البحرين، مادة (شري).

قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: يا عجباً كل العجب للمصدق بدار الحيوان وهو يسعى لدار الغرور، فكل الذين حضروا في يوم الطف لقتال الإمام الحسين عليه السلام قد خسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين، ألا لعنة اللّٰه على قتلة الإمام الحسين عليه السلام وعلى القوم الظالمين وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون والعاقبة للمتقين.

ص: 145

وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّىٰ في هَواهُ

-

غطرس: الاعجاب بالنفس والتطاول على الاقران وقيل هو الظلم والتكبر. تردى: الهلاك، يقال: سقط على رأسه في قولهم: تردىٰ من رأس الجبل إذا سقط، ويقال: تردى إذا مات فسقط في قبره، وقيل: تردى سقط في جنهم، قال تعالى: «وَ مٰا يُغْنِي عَنْهُ مٰالُهُ إِذٰا تَرَدّٰى» ، إذا مات وقيل إذا تردى في النار.

وقوله تعالى: «وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ » وهي التي تقع من جبل أو تطيح في بئر أو تسقط من موضع مشرف فتموت ومنه الآية: «وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ فَتَرْدىٰ » .

الهوى: هوى النفس ارادتها وما تحبه وتميل إليه ومنه قوله تعالى: «وَ اِتَّبَعَ هَوٰاهُ فَتَرْدىٰ » .

ان من اخطر الأمراض الخلقيّة وأشدها فتكاً بالانسان، وادعاها إلى مقت الناس له وازدرائهم به ونفرتهم منه، هو التغطرس والاعجاب بالنفس والتطاول على الاقران والتكبر بالقول أو بالفعل، وهذه الصفة تجسدت في الذين حاربوا الإمام الحسين عليه السلام والذين حضروا كربلاء لقتال الإمام الحسين عليه السلام، فكانت نتيجة هذه الأمراض الخلقية وانعكاساتها وطغيانها ان يقتلوا ولي اللّٰه وحجته على أرضه من دون أن يتحرك لهم ساكن، بل أكثر من ذلك أن يأخذوا بنات الوحي أسرى من بلد إلى بلد يتصفح وجوههن القريب والبعيد والدني والشريف ليس معهن من حماتهنّ حمى ولا من رجالهن ولي، ولذلك نجد أئمة أهل البيت عليهم السلام أكّدوا على مذمة هذه الأمراض النفسية والاخلاقية واتباع هوى النفس في كثير من الروايات منها:

عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: «إنما أخاف عليكم اثنتين اتباع الهوى وطول الأمل، إما اتباع الهوى فإنه يصدّ عن الحق وإمّا طول الأمل فينسي الآخرة»(1).

ص: 146


1- اُصول الكافي 252:2، باب اتباع الهوى.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: «احذروا اهوائكم كما تحذرون اعدائكم فليس شيء أعدى للرجال من اتباع أهوائهم وحصائد السنتهم»(1).

وقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: يقول اللّٰه عزّ وجل: «وعزّتي وجلالي وعظمتي وكبريائي ونوري وعلوي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواه على هواي إلّاشتت عليه أمره ولبست عليه دنياه وشغلت قلبه بها ولم أُوته منها إلّاما قدّرت له، وعزّتي وجلالي وعظمتي ونوري وعلوّي وارتفاع مكاني لا يؤثر عبد هواي على هواه إلّا استحفظته ملائكتي وكفّلت السماوات والأرضين رزقه وكنت له من وراء تجارة كل تاجر واتته الدنيا وهي راغمه»(2).

ص: 147


1- نفس المصدر.
2- نفس المصدر.

وَاَسْخَطَكَ وَاَسْخَطَ نَبِيَّكَ

-

اسخط: اغضب خلاف الرضا، وإذا أسند إلى اللّٰه تعالى يراد منه ما يوجب السخط من العقوبة.

النبي صلى الله عليه و آله: سمي به لأنه انبأ من اللّٰه تعالى أي أخبر. فالنبي: هو الإنسان المخبر عن اللّٰه تعالى بغير واسطة بشر أعم من أن يكون له شريعة كمحمد صلى الله عليه و آله أو ليس له شريعة كيحيى عليه السلام ثمّ الفرق بينه وبين الرسول، أن الرسول هو المخبر عن اللّٰه بغير واسطة أحد من البشر وله شريعة مبتدئة كآدم عليه السلام أو ناسخة كمحمد صلى الله عليه و آله، ثمّ ان النبي هو الذي يرى في منامه ويسمع الصوت ولا يعان الملك. والرسول هو الذي يسمع الصوت ويرى في المنام ويعاين، وأن الرسول قد يكون من الملائكة بخلاف النبي، وعددهم مئة وعشرون ألفاً والمرسلون ثلاثمائة وثلاثة عشر(1).

وعن الصادق عليه السلام: «الأنبياء والمرسلون على أربع طبقات: فنبي منبأ في نفسه ولا يعدوا غيرها، ونبي يرى في النوم ويسمع الصوت ولا يعاين في اليقظة ولم يبعث إلى أحد، وعليه إمام مثل ما كان إبراهيم عليه السلام على لوط، ونبي يرى في منامه ويسمع الصوت ويعاني الملك، وقد أرسل إلى طائفه قلوا أو كثروا كيونس عليه السلام، قال اللّٰه تعالى ليونس عليه السلام: «وَ أَرْسَلْنٰاهُ إِلىٰ مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ » قال يزيدون ثلاثين ألفاً وعليه إمام، والذي يرى في نومه ويسمع الصوت ويعاين في اليقظة وهو إمام مثل أُولي العزم».

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «إن اللّٰه اتخذ إبراهيم عبداً قبل أن يتخذه نبياً، وان اللّٰه اتخذه نبياً قبل أن يتخذه رسولاً، وإن اللّٰه اتخذه رسولاً قبل أن يتخذه خليلاً، وإن اللّٰه اتخذه خليلاً قبل أن يجعله إماماً، فلما جمع له الأشياء قال:

ص: 148


1- مجمع البحرين، مادة (نبأ).

-

«إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً» فمن عظمها في عين إبراهيم: «قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ » قال لا يكون السفيه إمام التقي.

وفي حديث آخر من عبد صنماً أو وثناً لا يكون إماماً».

وعلى أي حال فالذي حضروا كربلاء قد اسخطوا اللّٰه تعالى واسخطوا نبيه، ومن يسخط اللّٰه فجزاءه جنهم وساءت مصيرا، ومن يسخط النبي بقتل فلذة كبده الحسين عليه السلام لا ينالون شفاعته يوم القيامة، كما قال صلى الله عليه و آله: «لا أنالهم اللّٰه شفاعتي».

ففي تفسير البرهان في ذيل قوله تعالى: «وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهٰا سَبْعَةُ أَبْوٰابٍ لِكُلِّ بٰابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ » باسناده عن أبي عبد اللّٰه عن أبيه عن جده عليه السلام قال: «للنار سبع أبواب باب يدخل منه فرعون وهامان وقارون، وباب يدخل منه المشركون والكفار ممن لم يؤمن باللّٰه طرفة عين، وباب يدخل منه بنو اُمية هو لهم خاصة لا يزاحمهم فيه أحد وهو باب لظى وهو باب سقر وهو باب الهاوية تهوي بهم سبعين خريفاً فكلما فارت بهم فورة قذف بهم في أعلاها سبعين خريفاً فلا يزالون هكذا أبداً مخلدين، وباب يدخل منه مبغضونا ومحاربونا وخاذلونا وإنه لأعظم الأبواب وأشدها حرّا».

ص: 149

وَاَطاعَ مِنْ عِبادِكَ

-

أطاع: في التهذيب: وقد طاع له يطوع إذا انقاد له، بغير ألف، فإذا مضى لامره فقد اطاعه، فإذا وافقه فقد طاوعه، ولكن قال ابن السكيت لا فرق بين أطاع وطاع أي انقاد له، فالطاعة الانقياد. وعن أمير المؤمنين عليه السلام: خلق الخلق حين خلقهم غنياً عن طاعتهم آمناً من معصيتهم لأنه لا تضرّه معصية من عصاه ولا تنفعه طاعة من أطاعه. وقال عليه السلام: الطاعة تطفي غضب الرب، وقال صلى الله عليه و آله: إنه لا يدرك ما عند اللّٰه إلّابطاعته، قال علي عليه السلام: أفضل الطاعات العزوف عن اللذات، وفي حديث آخر: هجر اللذات، وقال عليه السلام: أطع من فوقك يطيعك من دونك، وقال عليه السلام: من احتاج إليك كانت طاعته لك بقدر حاجته إليك.

قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: من ارضى سلطاناً بما يسخط اللّٰه خرج عن دين اللّٰه عزّ وجل، وقال علي عليه السلام: لا دين لمن دان بطاعة المخلوق ومعصية الخالق.

عبادك: العبادة لغة هي غاية الخضوع والتذلل، ولذلك لا تحسن إلّاللّٰه تعالى الذي هو مولى أعظم النعم فهو حقيق بغاية الشكر، قوله تعالى: «إِيّٰاكَ نَعْبُدُ» أي نخصك بالعبادة وهي ضرب من الشكر وغاية فيه، وهي أقصى غاية الخضوع.

والعبادة بحسب الاصطلاح: هي المواظبة على فعل المأمور به والفاعل عابد ثم استعمل العابد فيمن اتخذ الهاً غير اللّٰه، فقيل عابد الوثني وعابد الشمس والتعبد التنسك(1).

قال المحقق الطوسي في الأخلاق الناصرية: قال الحكماء عبادة اللّٰه ثلاثة أنواع:

الأول: ما يجب على الأبدان كالصلاة والصيام والسعي في المواقف الشريفة لمناجاته.

ص: 150


1- ميزان الحكمة: ج 6، باب الطاعة.

الثاني: ما يجب على النفوس كالاعتقادات الصحيحة من العلم بتوحيد اللّٰه وما يستحقه من الثناء والتمجيد والفكر فيما افاضه اللّٰه تعالى على العالم من وجوده وحكمته ثم الاتساع في هذه المعارف.

الثالث: ما يجب عند مشاركات الناس في المدن، وهي في المعاملات والمزارعات والمناكح وتأدية الامانات ونصح البعض للبعض بضروب المعاونات وجهاد الأعداء والذب عن الحريم وحماية الحوزة.

وحقيقة العبودية كما في حديثٍ عنوان لثلاث أشياء: ان لا يرى العبد لنفسه فيما خوله اللّٰه ملكاً، لأن العبيد لا يكون لهم ملك بل يرون المال مال اللّٰه يضعونه حيث أمرهم اللّٰه، ولا يدبر العبد لنفسه تدبيراً، وجملة اشتغاله فيما أمره اللّٰه تعالى ونهاه عنه، فإذا لم يرى العبد فيما خوله اللّٰه ملكاً هان على الانفاق، وإذا فوض العبد تدبير نفسه إلى مدبرها هانت عليه مصائب الدنيا، وإذا اشتغل العبد فيما أمره اللّٰه تعالى ونهاه لا يتفرغ منها إلى المراء أو المباهات مع الناس، فإذا كرم اللّٰه العبد بهذه الثلاثة هانت عليه الدنيا والمسيس والخلق، ولا يطلب الدنيا تفاخراً وتكاثراً ولا يطلب عند الناس عزاً وعلوّاً ولا يدع أيامه باطلة(1).

ص: 151


1- مجمع البحرين مادة (عبد).

اَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ

-

أهل: أهل الرجل: آله. وهم أشياعه وأتباعه وأهل ملّته، وأهل الإسلام من يدين به.

الشّقاق: العداوة بين فريقين والخلاف بين اثنين، سمي ذلك شقاقاً لأن كل فريق من فرقتي العدو قصد شقاً أي ناحية غير شقّ صاحبه.

النفاق: الخلاف والكفر والمنافق: هو الذي يخفي الكفر ويظهر غيره، مأخوذة من النفق وهو السرب في الأرض أي يستتر بالاسلام كما يستتر في السرب(1).

وفي الحديث المنافق الذي يظهر الإيمان ويتصنع بالإسلام.

وقد اهتم القرآن بأمر المنافقين اهتماماً بالغاً ويكرّ عليهم كرّة عنيفة بذكر مساوي أخلاقهم.

فالذين حضروا كربلاء وحاربوا الإمام الحسين عليه السلام قد حملوا هذه الصفات الرذيلة من الشقاق والنفاق والتي ورثوها من آبائهم وأجدادهم ضد أهل البيت عليهم السلام، وكما قالوا للإمام الحسين عليه السلام نقاتلك بغضاً منّا لأبيك وما صنع بأشياخنا يوم بدر وحنين، وهذا الكلام يدل على عدم إيمانهم باللّٰه وبالرسول وبالآخرة لأنهم قدموا لأخذ ثارات بدر وحنين أي ثارات أهل الكفر والشرك.

وقد أشار إلى هذا النفاق والكفر - بما جاء به النبي صلى الله عليه و آله - يزيد بن معاوية حيث قال ابياته المعروفة في قصره:

ليت أشياخي ببدر شهد *** جزع الخزرج من وقع الأسل

لا هلوا واستهلوا فرحا *** ثم قالوا يا يزيد لا تشل

ص: 152


1- لسان العرب، مادة (شقق).

إلى أن قال البيت الذي أعلى بها عن كفره:

لعبت هاشم بالملك فلا *** خبرٌ جاء ولا وحي نزل

ولذلك اهتم القرآن من الابتعاد عن هذه الصفات الرذيلة وبالأخص صفة النفاق.

كلمة حول النفاق والمنافقين:

اهتم القرآن بأمر المنافقين اهتماماً بالغاً، ويكرّ عليهم كرّة عنيفة بذكر مساوي أخلاقهم وأكاذيبهم وخدائعهم ودسائسهم والفتن التي أقاموها على النبيّ صلى الله عليه و آله وعلى المسلمين، وقد تكرّر ذكرهم في السور القرآنية كسورة البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنفال والتوبة والعنكبوت والأحزاب والفتح والحديد والحشر والمنافقون والتحريم.

وقد أوعدهم اللّٰه في كلامه أشدّ الوعيد؛ ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم، وجعل الغشاوة على سمعهم وعلى أبصارهم، وإذهاب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، وفي الآخرة بجعلهم في الدرك الأسفل من النار.

وليس ذلك إلّالشدّة المصائب التي أصابت الإسلام والمسلمين من كيدهم ومكرهم أنواع دسائسهم، فلم ينل المشركون واليهود والنصارى من دين اللّٰه ما نالوه، وناهيك فيهم قوله تعالى لنبيّه صلى الله عليه و آله يشير إليهم: «هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ »(1) .

وقد ظهر آثار دسائسهم ومكائدهم أوائل ما هاجر النبيّ صلى الله عليه و آله إلى المدينة، فورد ذكرهم في سورة البقرة وقد نزلت - على ما قيل - على رأس ستّة أشهر من الهجرة، ثمّ في السور الأُخرى النازلة بعد بالإشارة إلى أُمور من دسائسهم

ص: 153


1- سورة المنافقون: 4.

وفنون من مكائدهم، كانسلالهم من الجند الإسلاميّ يوم اُحد وهم ثلثهم تقريباً، وعقدهم الحلف مع اليهود، واستنهاضهم على المسلمين، وبنائهم مسجد الضّرار، وإشاعتهم حديث الإفك، وإثارتهم الفتنة في قصّة السّقاية وقصّة العقبة، إلى غير ذلك ممّا تشير إليه الآيات؛ حتّى بلغ أمرهم في الإفساد وتقليب الاُمور على النبيّ صلى الله عليه و آله إلى حيث هدّدهم اللّٰه بمثل قوله: «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ اَلْمُرْجِفُونَ فِي اَلْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لاٰ يُجٰاوِرُونَكَ فِيهٰا إِلاّٰ قَلِيلاً * مَلْعُونِينَ أَيْنَمٰا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً»(1) .

وقد استفاضت الأخبار وتكاثرت في أنّ عبد اللّٰه بن اُبيّ بن سلول وأصحابه من المنافقين، وهم الذين كانوا يقلّبون الاُمور على النبيّ صلى الله عليه و آله ويتربّصون به الدوائر، وكانوا معروفين عند المؤمنين يقربون من ثلث القوم، وهم الذين خذلوا المؤمنين يوم اُحد فانمازوا منهم ورجعوا إلى المدينة قائلين: لو نعلم قتالاً لاتّبعناكم! وهم عبد اللّٰه بن اُبيّ وأصحابه. وهم الذين انقلبوا على أعقابهم بعد شهادة النبي صلى الله عليه و آله وغصبوا حق أمير المؤمنين عليه السلام من الخلافة وقتلوا الزهراء عليها السلام وتألبوا على الإمام الحسن عليه السلام وأخيراً اجتمعوا على فلذة كبد النبي صلى الله عليه و آله وسيد شباب الجنة وارتكبوا تلك الجريمة النكراء التي ليس لها مثيل في العالم الإسلامي، ثم استمروا بقتل ذرية رسول اللّٰه وأئمة الهدى واحداً تلو الآخر إلى أن غيب اللّٰه الإمام الحجة عليه السلام حتى يظهر ويأخذ بثارهم إنشاء اللّٰه تعالى.

ص: 154


1- سورة الأحزاب: 60-61.

وَحَمَلَةَ الْأَوْزارِ

-

الوزر: الحمل الثقيل ويطلق على الذنب لثقله والجمع أوزار.

فبقتلهم سيد شباب الجنة حملوا الذنب الثقيل في الدنيا والآخرة، فإما في الآخرة فقد استوجبوا النار كما في الزيارة «و حملة الأوزار المستوجبين النار» وأما في الدنيا فكما ورد في كتاب كامل الزيارات: ان كل من شارك في قتل الإمام الحسين عليه السلام ابتلي باحد الأمراض الثلاثة: الجنون والجذام والبرص.

وتقول الرواية أيضاً بأن هذه الأمراض قد انتقلت إلى ذراريهم من بعدهم رغم أنهم لا علاقة لهم بجريرة آبائهم، إلّاأن هذا هو الذي حصل بالفعل وكان ذلك من عواقب قتل الإمام الحسين عليه السلام فكما السكّير تمتد آثار عمله إلى نسله فكذلك الحال مع الظالم وهذه مسألة تكوينية.

وقد ورد أيضاً في كامل الزيارات: أن قتلة الإمام الحسين عليه السلام قد قُتلوا جميعاً ولم يمت أي منهم ميتة طبيعية. في هذا السياق يقول الإمام محمد الباقر عليه السلام: واللّٰه لقد قُتل قتلة الحسين عليه السلام ولم يطلب بدمه بعد واللّٰه لم يرضى بعد، لأن للإمام الحسين عليه السلام مكانة في أعالي الذرى والانتقام الذي حل بهم - وهو القتل - ليس كافياً ألبته.

وقد ورد عن الإمام الصادق عليه السلام مخاطباً جده الإمام الحسين عليه السلام: أشهد أنك ثار اللّٰه في أرضه حتى يستثير لك من جميع خلقه، فإن اللّٰه تعالى استغاث واستنهض بجميع الخلائق والكائنات للقيام بثأر الحسين عليه السلام ثم ضمّن جميع بقاع الأرض وجميع بني البشر ضمنهم دم الحسين أي جعل دم الحسين ضماناً في ذمتهم.

ص: 155

فالمستغيث لثأر الحسين هو اللّٰه تعالى بنفسه، فاللّٰه تعالى بذاته يطلب العون للأخذ بثأر الحسين، والمستغاث فيها جميع الخلق أي جميع المخلوقات ابتداءاً من اللوح والقلم والعرش والكرسي والسماوات والأرضين والاجرام وكل ما يرى وما لا يرى، وتستمر الاستغاثة إلى آخر مخلوق وحتى آخر لحظة من حياة العالم أشهد أنك ثار اللّٰه... حتى يستثير لك من جميع خلقه.

ص: 156

الْمُسْتَوْجِبينَ النّارَ

استوجب: استحق: اوجب الرجل إذا عمل عملاً يستحق الجنة أو النار.

والموجبة: الكبير من الذنوب ومنه الحديث: ولا تكتب عليه السيئات إلّاأن يأتي بموجبه.

النار: السّمَةُ .

فإن كل من خرج لحرب الإمام الحسين عليه السلام استوجب النار بل استوجب نار الدنيا قبل نار الآخرة، والأكثر من ذلك هو أن كل من حضر كربلاء حتى ولم يقاتل عاقبه اللّٰه تعالى في الدنيا قبل يوم الآخرة.

قال الزهري: ما بقي منهم أحد إلّاوعوقب في الدنيا إما بالقتل أو العمى أو سواد الوجه، أو زوال الملك في مدّة يسيرة(1).

فقد روى الصدوق في عقاب الأعمال بإسناده إلى يعقوب بن سليمان قال:

سهرت أنا ونفر ذات ليلة، فتذاكرنا قتل الحسين عليه السلام فقال رجل من القوم: ما تلبّس أحد بقتله إلّاأصابه بلاء في أهله وماله ونفسه.

فقال شيخ من القوم - فهو واللّٰه ممَن شهد قتله وأعان عليه فما أصابه إلى الآن أمر يكرهه فمقته القوم - أنا ممن حضر كربلاء وما أصابني شيء، قال: فتغير السراج، وكان دهنه نفطاً فقام إليه ليصلحه فأخذت النار باصبعه فنفخها، فأخذت بلحيته، فخرج يبادر إلى الماء فالقى نفسه في النهر وجعلت النار ترفرف على رأسه فإذا أخرجه احرقته حتى مات لعنه اللّٰه(2).

ص: 157


1- كشف الغمة.
2- عقاب الأعمال.

وقال ابن شهر آشوب ان المختار حرق بالنار كل من سلب الحسين وغيرهم، فالذي سلب عمامة الحسين عليه السلام جابر بن يزيد الأزدي، وقميصه اسحاق بن حويه، وثوبه جعونه بن حويه، وقطيفته من خزّ قيس بن الأشعث الكندي.

والقوس والحلل الرحيل بن خيثمة الجعفي، وغيره ونعليه الأسود الأوسي، وسيفه رجل من بني نهشل من بني دارم، فاحرقهم المختار بنار الدنيا قبل نار الآخرة(1).

وروى كان الإمام الحسين عليه السلام جالساً في مسجد النبي صلى الله عليه و آله فسمع رجلاً يحدث أصحابه ويرفع صوته ليسمع الحسين عليه السلام وهو يقول: إنا شاركنا آل أبي طالب في النبوّة حتى نلنا منها مثل ما نالوا منها من السبب والنسب، ونلنا من الخلافة ما لم ينالوا فبم يفتخرون علينا؟ وكرّر هذا القول ثلاثاً.

فأقبل عليه الحسين عليه السلام فقال له: «إني كففت عن جوابك في قولك الأول حلماً وفي الثاني عفواً، وإما في الثالث فإني مجيبك، إني سمعت أبي يقول: إن الوحي الذي أنزله اللّٰه على محمد صلى الله عليه و آله إذا قامت القيامة الكبرى حشر اللّٰه بني اُمية في صور الذّر يطاهم الناس حتى يفرغ من الحساب، ثم يوتى بهم فيحاسبوا ويصار بهم إلى النار» فلم يطق الأموي جواباً وانصرف وهو يتميّز من الغيظ(2).

ص: 158


1- كما تدين تدان: 60 عن مناقب آل أبي طالب.
2- حياة الحسين 235:2.

فَجاهَدَهُمْ فيكَ

جاهد العدوّ: قاتله في سبيل اللّٰه، قال في المجمع: قوله تعالى: «وَ جٰاهِدُوا فِي اَللّٰهِ حَقَّ جِهٰادِهِ » أي في عبادة اللّٰه، قيل: الجهاد بمعنى رتبة الإحسان، ومعنى رتبة الإحسان هوانك تعبد ربك كأنك تراه فإن لم تكن تراه، فإنه يراك، ولذلك قال: حق جهاده، أي جهاداً حقاً كما ينبغي بجذب النفس، وخلوصها عن شوائب الرياء والسمعة مع الخشوع والخضوع، والجهاد مع النفس الأمارة واللوامة في نصرة النفس العاقلة المطمئنة وهو الجهاد الأكبر، ولذلك ورد عن النبي صلى الله عليه و آله أنه رجع من بعض غزواته فقال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».

فالإمام الحسين عليه السلام جاهد في اللّٰه تعالى وبذل النفس والمال لاعلاء كلمة التوحيد وإحياء دين جده رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله، لا الجهاد مع النفس لاصلاحها فإنهم عليهم السلام منزهون عن دناسة النفس، فأنفسهم طاهرة مطهرة كما أخبر اللّٰه تعالى بذلك في آية التطهير، وإن أبيت إلّاأن يراد من الجهاد الأعم منه ومن الجهاد مع النفس فحينئذ معنى جهادهم مع أنفسهم هو عدم اقدامهم على المكاره أو المعاصي مع تمكنهم منها.

ضرورة أن عصمتم عليه السلام وان اوجبت عدم صدور المعاصي عنهم إلّاأنه لا بنحو الجبر بل بنحو الاختيار، فعصمتهم لم تنف امكان اقدامهم على المعاصي، قال علي عليه السلام: «لولا التقى لكنت ادهى العرب» أي إني يمكنني الدهاء إلّاأن التقوى المعبر بها هنا بالعصمة تمنعني عنه كما لا يخفى.

فجهادهم مع النفس عبارة عن عدم اقدامهم على المعاصي بعد ما كانت لهم المكنة عليها كما لا يخفى، إلّاأن جهادهم معها لا لأجل تطهيرها عن الرذائل قال الإمام الحسن عليه السلام لمعاوية ما حاصله: «إن اللّٰه تعالى قد طهرني من الرذائل كما قد برّاك من الفضائل».

ص: 159

وكيف كان فالإمام الحسين عليه السلام جاهد في سبيل اللّٰه تعالى وفي سبيل طاعته ومحبته وتوحيده حق جهاد، بل جاهد في اللّٰه بتمام انحاء الجهاد سواء بالسيف وبذل المال والزهد في حطام الدنيا والعبادات الشاقة من القيام في الليل والصيام في النهار... الخ ومع ذلك كله كان جهاده جهاد صابر محتسب.

ص: 160

صابِراً مُحْتَسِباً

الصبر: حبس النفس عن الجزع عند المكروه، وهو يمنع الباطن عن الاضطراب واللسان عن الشكاية والأعضاء عن الحركات غير المعتادة(1).

قال المجلسي: إن الصبر على البلاء وعلى فعل الطاعة وعلى ترك المعصية وعلى سوء اخلاق الخلق بالفتح.

وفي الحديث الصبر صبران: صبر على ما تكره وصبر على ما تحب، وقد ورد في القرآن ثمانون آية في الصبر.

نشير إلى بعض الروايات التي وردت عن الإمام الحسين عليه السلام التي تحرض المؤمنين على الصبر وأجر الصبر عند المصيبة.

عن فاطمة بنت الحسين عن الإمام الحسين عليه السلام قالت، قال عليه السلام: «من أصابته مصيبة، فقال إذا ذكرها «إنا للّٰه وإنا إليه راجعون» جدّد اللّٰه له من أجرها مثل ما كان له يوم أصابته»(2).

قال عليه السلام: «اصبر على ما تكره فيما يلزمك الحق واصبر عما تحب فيما يدعوك إليه الهوى»(3).

ومن كتاب له إلى عبد اللّٰه بن عباس حين سيّره عبد اللّٰه بن الزبير إلى اليمن(4):

«أما بعد، بلغني أن ابن الزبير سيّرك إلى الطائف فرفع اللّٰه لك بذلك ذكراً وحطّ به عنك وزراً، وإنما يُبتلى الصالحون، ولو لم توجر إلّافيما تحب لَقلَّ الأجر، عزّم اللّٰه لنا ولك بالصّبر عند البلوى والشكر عند النُّعمى ولا اشمت بنا ولا بك عدوّاً حاسداً أبداً والسلام» (4).

ص: 161


1- مرآة العقول 120:8.
2- موسوعة كلمات الإمام الحسين: 770.
3- نفس المصدر.
4- نفس المصدر.

الحسيب: الذي يفعل الأفعال الحسنة بماله وغير ماله، وقيل لمن ينوي بعمله وجه اللّٰه، في الحديث: مَن مات له ولد فاحتسبه أي احتسب الأجر بصبره على مصيبته به، معناه: اعتد مصيبته به في جملة بلايا اللّٰه التي يثاب على الصبر عليها، واحتسب بكذا اجراً عند اللّٰه تعالى.

وسوف نذكر كيفية جهاده عليه السلام في اللّٰه صابراً محتسباً في قول الإمام الصادق عليه السلام من هذه الزيارة في فقرة «و جاهدت في سبيله».

ص: 162

حَتّىٰ سُفِكَ في طاعَتِكَ دَمُهُ

سَفَكَ الدم: صبَّه وأهرقه، ومنه قوله تعالى: «لاٰ تَسْفِكُونَ دِمٰاءَكُمْ » أي تصبون، والسفك الاراقة والاجراء لكل مائع. وفي الدعاء «وأمطرت بقدومك السوافك» أي التي تصب صبا وتهرق اهراقاً، ورجل سفاك للدماء وسفاك للكلام: القادر على الكلام وبليغ.

الطاعة: اسم لما يكون مصدره الاطاعة وهو الانقياد.

فالإمام الحسين عليه السلام سُفِكَ دمه لاجل طاعة العباد للّٰه تعالى وعبادته وحده، كما مر في الفقرة الماضية «ليستنقذ عبادك من الجهالة و حيرة الضلالة» فالإمام الصادق عليه السلام استخدم كلمة «عبادك» وهي لاتخص الشيعة وحدهم بل جميع العباد.

ان الإمام الحسين عليه السلام بسفك دمه واستشهاده قد فتح مدرسة للجميع مدرسة الفكر والضمير للجميع، ليقارعوا الظلم ويتحمّلوا الشدائد والمصاعب حتى يذوقوا طعم السعادة.

فالإمام عليه السلام أراد أن ينجي العباد من الجهالة والضلالة والتيه، فمن أراد أن يتقرب إليه أكثر فعليه أن يبذل ما عنده وما يملك في خدمة هذه القضية حتى يركب في سفينة أبي عبد اللّٰه الحسين عليه السلام سفينة الهداية والسعادة، كما هو مكتوب في ساق العرش: «الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة».

فالإمام الحسين عليه السلام سُفِكَ دمه من أجل ثلاثة أهداف: أُصول الدين والأحكام الشرعية والأخلاق الإسلامية، فمن أراد أن يثبت ولائه لسيد الشهداء عليه السلام عليه أن يسعى لتحقيق هذه الأهداف الثلاثة التي استشهد من أجلها الإمام عليه السلام، وأن يضعها على رأس أُولوياته لتقرّ عين الإمام الحسين عليه السلام والإمام المهدي عجل اللّٰه تعالى فرجه.

ص: 163

وَاسْتُبيحَ حَريمُهُ

-

استباحه: أي انتهبه واستأصله واستباحوهم: استأصلوهم، ومنه حديث الدعاء للمسلمين: لا تسلط عليهم عدواً من غيرهم فيستبيح بيضتهم ويستبيح ذراريهم أي: يسبيهم وينهبهم(1).

الحرمه: ما لا يحل لك انتهاكه، وجميع ما كلف اللّٰه به بهذه الصفة فمن خالف فقد انتهك الحرمة، وحرم الرجل نساؤه وما يحمي. المحارم: ما لا يحل استحلاله.

فإن بني اُمية قد استباحوا كل شيء من الحسين عليه السلام بعد قتله حتى قال السيد بن طاووس: وتسابق القوم - بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام - على نهب بيوت آل الرسول وقرة عين الزهراء البتول حتى جعلوا ينزعون ملحفة المرأة عن ظهرها، وخرجن بنات آل الرسول وحريمه يتساعدن على البكاء ويندبن لفراق الحماة والأحبة، وللّٰه در القائل:

ولم ير حتى عينها ظل شخصها *** إلى أن بدت في الغاضرية حسرا

قال حميد بن مسلم: رأيت امرأة من بكر بن وائل كانت مع زوجها في عسكر عمر بن سعد، فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين عليه السلام وفسطاطهن، وهم يسلبونهن اخذت سيفاً واقبلت نحو الفسطاط وقالت: يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول اللّٰه، لا حكم إلّاللّٰه، يالثارات رسول اللّٰه، فأخذها زوجها وردّها إلى رحله(2).

وحائرات أطار القوم أعينها *** رعباً غداة عليها خدرها هجموا

ص: 164


1- مجمع البحرين.
2- معالي السبطين: 502.

اَللّهُمَّ فَالْعَنْهُمْ لَعْناً وَبيلاً

اللهم: أصلها يا اللّٰه فحذف «يا» المنادى وعوضت عنها الميم المشدّد، لأنهما لا يجتمعان وذلك لأن النحوي لم يجدوا ياء مع هذه الميم في كلمة واحدة، ووجدوا اسم اللّٰه مستعملاً بياء إذا لم يذكروا الميم في آخر الكلمة فعلموا أن الميم في آخر الكلمة بمنزلة الياء في أولها، والضمة التي هي في الهاء هي ضمة الاسم المنادىٰ المفرد، وفتح الميم المشدّد لسكونها وسكون الميم قبلها والقاعدة تقول:

إذا اجتمع الساكنان حرّك بالفتح وقال الفراء معنى اللهم: يا اللّٰه اُمَّ بخير.

اللعن: الطرد من الرحمة، وقوله تعالى: «لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ بِكُفْرِهِمْ » أي أبعدهم وطردهم من الرحمة.

وبيلا: قال تعالى: «فَأَخَذْنٰاهُ أَخْذاً وَبِيلاً» أي شديداً في العقوبة.

ان العقل السليم يحكم ويدرك بأن كل من نصب العداء والحرب والقتل لمحمد وآله عليهم السلام يستعق اللعنة والعداء والبراءة منهم، وإذا العقل لم يحكم بهذا الحكم فهو مشكوك به مختل أو ناقص، وأما ما ورد من النقل فهو كثير منها ما عهد أمير المؤمنين عليه السلام لميثم التمار في حديث مفصل قال ميثم: وجبت لعنة اللّٰه على قتلة الحسين عليه السلام كما وجبت على اليهود والنصارى والمجوس(1).

وأما ما ذكر بعض علماء العامة عن عدم جواز اللعن على قتلة الإمام الحسين وبالأخص يزيد بن معاوية فما هو إلّاعناد بحت وتسويل شيطاني لايصغى إليه بل إن كثير من علمائهم المنصفون لم يتوقفوا في كفر يزيد وزندقته ولعنه واجمعوا على لعنه، منهم سعد الدين التفتازاني في شرح العقائد النسفية: ص 181، قال: «ونحن لانتوقف في شأنه بل في إيمانه فلعنة اللّٰه عليه وعلى أنصاره وعلى أعوانه».

ص: 165


1- علل الشرائع 267:1.

وقال صاحب كتاب شفاء الصدور: قد ردّ على الذين لم يجيزوا لعن يزيد كأبي حامد الغزالي صاحب كتاب إحياء علوم الدين فانشاء يقول:

قل لمن لا يجيز لعن يزيد *** أنت ان فاتنا يزيد يزيد

زادك اللّٰه لعنة وعذابا *** وله اللّٰه ضعف ذاك يزيد

وأما ورد عن النبي صلى الله عليه و آله في لعن قاتل الإمام الحسين عليه السلام: ما ورد في البحار عن جعفر بن محمد الفزاري معنعناً عن الإمام الصادق عليه السلام قال عليه السلام: كان الحسين عليه السلام مع اُمه تحمله فأخذه النبي صلى الله عليه و آله وقال لعن اللّٰه قاتلك ولعن اللّٰه سالبك، وأهلك اللّٰه المتوازرين عليك، وحكم اللّٰه بيني وبين من أعان عليك، قالت فاطمة الزهراء عليها السلام: يا أبت أي شيء تقول، قال: يا بنتاه ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم، الغدر والبغي، وهو يومئذ في عصبة كأنهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل، وكأني انظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم، قالت: يا أبه وأين هذا الموضع الذي تصف ؟ قال: موضع يقال له كربلاء وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الاُمّة، يخرج عليهم شرار اُمتي لو أن أحدهم شفع له من في السماوات والأرض ما شفّعوا فيه، وهم المخلدون في النار، قالت: يا أبه فيقتل قال نعم يا بنتاه وما قُتل قتلته أحد كان قبله، ويبكيه السماوات والأرضون والملائكة والوحش والنباتات والبحار ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض متنفس، ويأتيه قوم من محبينا ليس في الأرض أعلم باللّٰه ولا أقوم بحقّنا منهم... الحديث(1).

ص: 166


1- بحار الأنوار 264:44.

-

وعن كامل الزيارات عن داود الرّقي قال: كنت عند أبي عبد اللّٰه عليه السلام إذا استسقى الماء فلما شربه رأيته قد استعبر واغرورقت عيناه بدموعه ثم قال لي:

يا داود لعن اللّٰه قاتل الحسين فما من عبد شرب الماء فذكر الحسين عليه السلام وقاتله إلّا كتب اللّٰه له مائة ألف حسنة، وحط عنه مئة ألف سيئة، ورفع له مائة ألف درجة، وكأنما اعتق مائة ألف نسمة، وحشره اللّٰه يوم القيامة ثلج الفؤاد(1).

ص: 167


1- بحار الأنوار 464:63.

وَعَذِّبْهُمْ عَذاباً اَليماً

-

العذاب: النّكال والعقوبة وعذبته تعذيباً عاقبته، وأصله في كلام العرب الضرب ثم استعمل في كل عقوبة مؤلمة واستعير للأُمور الشاقة فقيل السفر قطعه من العذاب.

أليم: ومنه قوله تعالى: «وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ » أي مؤلم موجع، إذ لا ألم فوق ألم عذاب لا رجاء معه للخلاص إذ الرجاء يهون العذاب، والعذاب الأليم: الذي يبلغ ايجاعه غاية البلوغ فالأليم هنا معنى مؤلم، والتألم، التوجع.

فقد ورد في زيارة عاشوراء «اللهم فضاعف عليهم اللعن منك والعذاب الأليم»، فإن الإمام الصادق عليه السلام دعا عليهم بمضاعفة اللعن والعذاب ليكون عذابهم مثل عذاب جميع أهل النار، كما روي عن النبي صلى الله عليه و آله أنه قال: «ان قاتل الحسين بن علي عليه السلام في تابوت من نار عليه نصف عذاب أهل الدنيا، وقد شدّ يداه ورجلاه بسلاسل من نار منكس في النار، حتى يقع في قعر جنهم، وله ريح يتعوّذ أهل النار إلى ربهم من شدّه نتنه وهو فيها خالد ذائق العذاب الأليم مع جميع من شايع على قتله، كلّما نضجت جلودهم بدل اللّٰه عليهم الجلود حتى يذوقوا العذاب الأليم، لا يفتر عنهم ساعة ويسقون من حميم جنهم فالويل لهم من عذاب النار»(1). وفي رواية عنه صلى الله عليه و آله قال: «ان في النار منزلة لم يكن يستحقها أحد من الناس إلّا بقتل الحسين بن علي ويحيى بن زكريا»(2).

ص: 168


1- بحار الأنوار 314:45.
2- بحار الأنوار 301:44.

اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَابْنَ رَسُولِ اللّٰهِ

ان كون الإمام الحسين عليه السلام ابن رسول اللّٰه فهو من المسلمات عند الإمامية الاثني عشر، وقد دل على ذلك جملة من الآيات والأخبار الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فمن الآيات التي يستدل بها على بنوّة الحسن والحسين عليهما السلام هي آية المباهلة في قوله تعالى: «أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ » وأيضاً استدل بها من العامة كالسيوطي في تفسيره الدر المنثور والطبري في تفسيره والقرطبي في تفسير الجامع لأحكام القرآن وكذلك من الآيات التي استدل بها آية 84 من سورة الأنعام سوف نشير إليها في الحديث.

وأما ما ورد عن الأخبار على بنوتهما فعن جابر عن النبي صلى الله عليه و آله قال: إن كل بني اُم ينتمون إلى أبيهم إلّاأولاد فاطمة فإني أنا أبوهم(1).

واحتجاج يحيى بن يعمر العامري وفي رواية سعيد بن جبير على الحجاج بن يوسف الثقفي وذلك ما رواه العلامة المجلسي(2) قال: ذات يوم دخل الشعبي على الحجاج - وكان يوم عيد - فقال: بما يتقربون الناس بمثل هذا اليوم ؟ فقال الشعبي: بالاضحية، فقال الحجاج: ما تقول لو نتقرب برجل يقول: ان الحسن والحسين ولدا رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله. يقول الشعبي: اطرقتُ وإذا برجل كبير مقيد بالحديد والأغلال وضعوه بين يديه، فقال الحجاج للشيخ يحيى بن يعمر العامري من علماء الشيعة - وفي رواية كان سعيد بن جبير -: تقول: ان الحسن والحسين كانا ولدي رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله لتأتيني بحجة من القرآن وإلّا لضربت عنقك، يقول الشعبي: نظرت إلى الشيخ وإذا هو يحيى بن يعمر فحزنت له وقلت: كيف يجدحجة على ذلك من القرآن ؟

ص: 169


1- السيوطي في احياء الميت: 29 وغيره.
2- بحار الأنوار 229:43 والفخر الرازي في تفسيره 194:2.

فقال الشيخ: «وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنٰا وَ نُوحاً هَدَيْنٰا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ * وَ زَكَرِيّٰا وَ يَحْيىٰ وَ عِيسىٰ وَ إِلْيٰاسَ كُلٌّ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ »(1) .

فقال الشيخ: كيف يليق هنا عيسى عليه السلام إنه من ذرية إبراهيم ولم يكن له أب فقال: إنه ابن ابنته مريم عليه السلام فقال الشيخ: إذا كان عيسى بن إبراهيم عن طريق مريم فالحسن والحسين أُولى أن ينسبا إلى رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله لأنهم أقرب من عيسى إلى إبراهيم، فطرق الحجاج ثم أمر له بعشرة آلاف دينار فدفعه إليه.

وفي رواية اُخرى عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السلام قال، قال لي أبو جعفر عليه السلام: يا أبا الجارود ما يقولون لكم في الحسن والحسين عليهما السلام، قلت ينكرون علينا انهما ابناء رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله، قال: فأي شيء احتججتم عليهم، قلت: احتججنا عليهم بقول اللّٰه عزّ وجل في عيسى بن مريم: «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ * وَ زَكَرِيّٰا وَ يَحْيىٰ وَ عِيسىٰ » فجعل عيسى بن مريم من ذرية نوح عليه السلام، فقال فأي شيء قالوا لكم ؟ قلت: قالوا قد يكون ولد الابنة من الولد ولا يكون من الصُّلب قال:

فأي شيء احججتم عليهم، قلت احججنا عليهم بقول اللّٰه تعالى لرسوله صلى الله عليه و آله: «فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ » ، قال: فأي شيء قالوا، قلت: قالوا قد يكون في كلام العرب أبناء رجل وآخر يقول ابناؤنا، قال فقال أبو جعفر عليه السلام: يا أبا جارود لاعطينكها من كتاب اللّٰه إنهما من صلب

ص: 170


1- سورة الأنعام: 84-85.

رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله لا يردها إلّاكافر، قلت وأين ذلك جعلت فداك، قال من حيث قال اللّٰه تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهٰاتُكُمْ وَ بَنٰاتُكُمْ وَ أَخَوٰاتُكُمْ » الآية، إلى أن انتهى إلى قوله تعالى: «وَ حَلاٰئِلُ أَبْنٰائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلاٰبِكُمْ » فسلهم يا أبا جارود هل كان يحل لرسول اللّٰه صلى الله عليه و آله نكاح حليلتيهما فإن قالوا نعم: كذبوا وفجروا وإن قالوا لا، فهما ابناه لصلبه(1).

ص: 171


1- الكافي 317:8.

اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَابْنَ سَيِّدِ الْأَوْصِيآءِ

-

الأوصياء: جمع وصي والوصية من وصى يصي إذا وصل الشيء بغيره، لأن الموصي يوصل تصرفه بعد الموت بما قبله. فكون الأئمة عليهم السلام أوصياء نبي اللّٰه أنه صلى الله عليه و آله أوصلهم إلى نفسه صلى الله عليه و آله في ماله التصرف الثابت من اللّٰه تعالى من الولاية الشرعية والتكوينية ومعلوم أن النبي صلى الله عليه و آله كسائر الأنبياء إنما كان معظم وصيته صلى الله عليه و آله إلى من بعده من الأئمة هو أمر الولاية المعهودة والتمسك بها وأما وصيته صلى الله عليه و آله أُمته فترجع إلى التمسك بولاية الأئمة عليهم السلام ومتابعتهم.

وعلى أي حال فإن الإمام الحسين عليه السلام هو أحد أوصياء اللّٰه ورسوله - وقد مرّ البحث عنه في فقرة «وجعلته حجة على خلفاؤك من الأوصياء» - فراجع.

وابن سيد الأوصياء وهو الإمام أمير المؤمنين علي بن أبيطالب عليه السلام، فإن الوصاية لهم عليهم السلام أمر ثابت بالتواتر من طرق العامة والخاصة بل هو ثابت بالآيات القرآنية الدالة على ثبوت الولاية والوصاية لأمير المؤمنين والأئمة من بعده، كآية التبليغ وآية الاطاعة ونحوهما فإنها تعطي مقام الخلافة والوصاية لهم عليهم السلام.

وأما ما ورد من الأخبار عن من لا يحضره الفقيه عن ابن عباس قال سمعت النبي يقول لعلي: يا علي أنت وصيي اوصيت إليك بأمر ربي وأنت خليفتي استخلفتك بأمر ربي.

وعن الإمام الكاظم عليه السلام عن أبيه قال: قال علي بن أبيطالب عليه السلام: إنه كان في وصية رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله في أوّلها:

«بسم اللّٰه الرحمن الرحيم هذا ما عهد محمد بن عبد اللّٰه وأوصى به وأسنده بأمر اللّٰه إلى وصيّه علي بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام».

ص: 172

وكان في آخر الوصيّة:

«شهد جبرئيل وميكائل واسرافيل على ما أوصى به محمد صلى الله عليه و آله إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام وقَبَضَه وصيّه، وضمانه على ما فيها على ما ضَمِن يوشع بن نون لموسى بن عمران عليه السلام وعلى ما ضمن وادّى وصي عيسى بن مريم، وعلى ما ضمن الأوصياء قبلهم على أن محمد أفضل النبيين، وعلياً أفضل الوصيين، وأوصى محمد وسلّم إلى علي واقرّ علي وقبض الوصيّة على ما اوصى به الأنبياء وسلم محمد الأمر إلى علي بن أبي طالب وهذا أمر اللّٰه وطاعته وولّاه الأمر على أن لا نبوّة لعلي ولا لغيره بعد محمد وكفى باللّٰه شهيدا»(1).

ص: 173


1- بحار الأنوار 481:22 عن كتاب الطرف: 21.

اَشْهَدُ اَنَّكَ اَمينُ اللّٰهِ وَابْنُ اَمينِهِ

-

الأمين: المؤتمن على الشيء ومنه محمد صلى الله عليه و آله أمين اللّٰه على رسالته، ورجل أمين أي له دين(1).

ان اللّٰه تعالى جعل الإمام الحسين عليه السلام أميناً على دينه أي إنه تعالى ائتمنه على دينه في حفظه من التغيير والتبديل والتحريف عن مواضعه، كما أراد يزيد ومعاوية لعنهم اللّٰه وأعوانهم تغيره وتحريفه، فالإمام الحسين عليه السلام بسفك دمه وبذل مهجته، احيىٰ دين جده رسول اللّٰه وحفظه عن التغيير، ولذلك أدى الأمانة بأحسن صورها إلى من بعده من الاُمناء والأوصياء.

إذن معنى كون الإمام الحسين عليه السلام وأمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام اُمناء على الخلق: أي مطهرون عما ينافي الأمانة من الخيانة ومبرّاون عنها لأن اللّٰه عصمهم من الزلل كما في زيارة الجامعة «عصمكم اللّٰه من الزلل» وفي حديث عن الإمام الباقر عليه السلام: «... اختصهم لدينه وآتاهم ما لم يؤت احداً من العالمين وجعلهم عماداً لدينه ومستودعاً لمكنون سرّه واُمناء على وحيه»(2).

فإن اللّٰه تعالى علم منهم الوفاء بما اشترط عليهم فهم عليهم السلام مؤتمنون على أنفسهم فحبسوها على طاعته وحفظوها عن معصيته، ثم إن اللّٰه تعالى جعل قلوبهم محل مشيّة اللّٰه تعالى وارادته، وإنما جعلها محلاً لهما لما ائتمنهم عليها، وعلم تعالى انهم لا يشاءون ولا يريدون إلّاما شاء اللّٰه وأراد، قال تعالى في حقهم «عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ * لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ » .

ص: 174


1- مجمع البحرين، مادة (أمن).
2- كشف اليقين.

فهم أول مصداق لأداء الأمانة حتى بالنسبة إلى الفاجر، فهم اُمناء اللّٰه أي مؤتمنوه في ايصال الفيض إلى الفجار أيضاً بلا صدور شائبة خلاف أبداً.

ففي الحديث: ان علي بن الحسين عليه السلام قال: «لو أن قاتل أبي جعل عندي السيف الذي قتل به أبي آمانه لا ديته له إذا طلبه».

فهم ينظرون إلى الخلق بنظر اللّٰه إليهم حيث شملتهم الرحمة الواسعة منه تعالى فهم عليه السلام بهذه الجهة والنظرة يتعاملون مع الخلق وهم اُمناؤه تعالى في ذلك، ولذلك أمير المؤمنين يرفق بقاتله كما في الحديث: «... ثم التفت إلى ولده الحسن عليه السلام وقال له: ارفق يا ولدي باسيرك وارحمه واحسن إليه واشفق عليه ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في اُم راسه، وقلبه يرجف خوفاً ورعباً وفزعاً، فقال الحسن عليه السلام:

يا أباه قد قتلك هذا اللعين الفاجر وافجعنا فيك... قال: نعم يا بني نحن أهل بيت لا نزداد على الذنب الينا إلّاكرماً وعفواً، والرحمة والشفقة من شيمتنا لا من شيمته، بحقي عليك فاطعمه يا بُني مما تأكله».

فالخلاصة ان اللّٰه تعالى لم يعرض ولايتهم على الخلق إلّابعد ما ائتمنهم على جميع ما استوى به من رحمانيته على عرشه فهم عليهم السلام مؤتمنون عليها وأمرهم اللّٰه تعالى أن يؤدوا الأمانات إلى أهلها فادوا الأمانة إلى انحاء الخلق بانحاء الأداء، فادّوا إلى كل ذي حق حقه.

ص: 175

عِشْتَ سَعيداً وَمَضَيْتَ حَميداً

-

السعادة: ضد الشقاوة معناه الرخاء واليسر في شؤونه في الدارين الدنيا والآخرة، وبعبارة اُخرى: هي الحياة الطيبة فيهما.

ولذلك الإمام الحسين عليه السلام عاش سعيداً لأنه ادىٰ ما فرض اللّٰه تعالى عليه من الطاعة للّٰه تعالى وهدى الاُمة المرحومة إلى الصراط المستقيم، والأكثر من ذلك ان الذي سار على نهج الحسين عليه السلام وسار اثر مسيرته أيضاً يعيش سعيداً في الدنيا والآخرة ولذلك ورد في زيارة الجامعة «... سعد من والاكم، وهلك من عاداكم...

وفاز من تمسك بكم، وأمن من لجأ إليكم».

فالإمام الحسين عليه السلام عاش سعيداً واسعد من تولاه لأن السعادة في الدنيا هو أن يكون الإنسان على السمحة السهلة، وإذا مرّ بقليل من البلايا من النقص في الأموال والأنفس والأمراض، فمن كان على نهج الحسين وأهل البيت تكون كفارّة لذنوبه واعلاء لدرجته ومقامه في الآخرة.

ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام: إنه ليكون للعبد منزله عند اللّٰه تعالى فما ينالها إلّاباحدى خصلتين: إما بذهاب ماله أو بيلية في جسده(1).

وعنه عليه السلام عن عبد اللّٰه بن أبي يعفور قال: شكوت إلى أبي عبد اللّٰه عليه السلام مما القى من الأوجاع وكان مسقاماً: فقال لي: «يا عبد اللّٰه لو يعلم المؤمن ما له من الأجر في المصائب لتمنى أنه قرضى بالمقارين»(2).

والخلاصة فإن الانسان المؤمن الذي يوالي أهل البيت عليهم السلام يعيش سعيداً لأنه على الصراط القويم، وإما ما يمر عليه من البلايا فما هي إلّاليصلح بها حاله ويدفع بها ما هو أعظم منها من عذاب الآخرة أو الدنيا مع ما فيها من الأجر

ص: 176


1- الشافي عن الكافي.
2- الشافي عن الكافي.

-

العظيم، حيث إنها تكون من أعظم نعم اللّٰه تعالى عليه، فيجب شكرها لأنه بها المنزلة والمقام عند اللّٰه تعالى.

ومضيت حميدا: الحميد من صفات اللّٰه تعالى بمعنى المحمود على كل حال وقد وردت هذه العبارة في زيارة سلمان الفارسي: اشهد انك عشت حميداً ومضيت سعيداً لم تنكث عهداً ولا حللت من الشرع عقدا(1).

واحمد الرجل قال في كتاب العين أي فعل فعلاً يُحمد عليه فالإمام الحسين عليه السلام بشهادته فعل فعلاً حُمد عليه ومضى عليه حميداً في الدنيا والآخرة.

ص: 177


1- بحار الأنوار 289:99.

وَمُتَّ فَقيداً مَظْلُوماً شَهيداً

-

الموت: ضد الحياة وهو خلق من خلق اللّٰه تعالى، والموت يقع على أنواع بحسب أنواع الحياة فمنها ما هو بازاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات، كقوله تعالى: «يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهٰا» ، ومنها زوال القوة الحسيّة، كقوله تعالى: «يٰا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هٰذٰا» ، ومنها زوال القوّة العاقلة، وهي الجهالة، كقوله تعالى: «أَ وَ مَنْ كٰانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنٰاهُ » ومنها الحزن والخوف المكدّر للحياة، كقوله تعالى: «يَأْتِيهِ اَلْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكٰانٍ وَ مٰا هُوَ بِمَيِّتٍ » ومنها المنام كقوله تعالى: «وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنٰامِهٰا» وقد قيل المنام هو الموت الخفيف، والموت النوم الثقيل، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة: كالفقر والذل والسؤال والهرم والمعصية، وغير ذلك ومنه الحديث: اول من مات ابليس لانه اول من عصى(1).

وقيل للإمام الصادق عليه السلام صف لنا الموت ؟ فقال: هو للمؤمن كأطيب ريح يشمه فينعس لطيبه، فينقطع التعب والألم كله عنه، وللكافر كلسع الأفاعي ولدغ العقارب وأشد(2).

والموت والحياة خلقان من اللّٰه تعالى فإذا جاء الموت فدخل الإنسان لم يدخل في شيء إلّاوخرجت منه الحياة.

الفقد: فقدان الشيء يقال امرءة فاقدة أي مات ولدها أو حميمها والفقيد هوالذي يُكترث لفقده(3).

ص: 178


1- لسان العرب، مادة (موت).
2- مجمع البحرين.
3- كتاب العين، مادة (فقد).

مظلوماً: الظّلم وضع الشيء في غير موضعه، وقد مر بحثه في فقرة «المظلوم الشهيد»، فراجع.

الشهيد: من قتل مجاهداً في سبيل اللّٰه ثم اتسع فاطلق على غيره. وقال الأنباري: سمي الشهيد شهيداً لأن اللّٰه وملائكته شهود له بالجنة، وهو أيضاً من أسماء اللّٰه تعالى الأمين في شهادته الذي لا يغيب عن علمه شيء، والشهيد:

الحاضر، وقد مرّ البحث عنه مفصلاً في فقرة «المظلوم الشهيد» فراجع.

ص: 179

وَاَشْهَدُ اَنَّ اللّٰهَ مُنْجِزٌ ما وَعَدَكَ

-

أشهد: أي أقرُّ بلساني مذعنا بصميم جناني بأن اللّٰه تعالى منجز ما وعدك.

منجز: يقال: نجز الوعد وأنجزته أي: عجلت ووفيت به وقضيته.

الوعد: قال الجوهري يستعمل في الخير والشر، وفي الخير الوعد والعدة، وفي الشرّ الإيعاد والوعيد.

وفي الحديث: يا من إذا وعد وفى وإذا توعد عفا.

روي عن الصادق عليه السلام في قوله: «وَ قَضَيْنٰا إِلىٰ بَنِي إِسْرٰائِيلَ فِي اَلْكِتٰابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي اَلْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ » ، وقال عليه السلام: قَتْلُ علي بن أبي طالب عليه السلام وطَعنُ الحسن عليه السلام «وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً» ، وقال: قتل الحسين عليه السلام «فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ أُولاٰهُمٰا» إذا جاء نصر دم الحسين عليه السلام «بَعَثْنٰا عَلَيْكُمْ عِبٰاداً لَنٰا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجٰاسُوا خِلاٰلَ اَلدِّيٰارِ» قوم يبعثهم اللّٰه قبل خروج القائم عليه السلام «ثُمَّ رَدَدْنٰا لَكُمُ اَلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ » خروج الحسين عليه السلام في سبعين من أصحابه عليهم البيض المذهّب لكلّ بيضة وجهان المؤدّون إلى الناس، إن هذا الحسين قد خرج حتّى لا يشك المؤمنون فيه، وإنه ليس بدجال ولا شيطان والحجة القائم بين أظهرهم، فإذا استقرّت المعرفة في قلوب المؤمنين انّه الحسين عليه السلام جاء الحجّة الموتَ فيكون - الإمام الحسين عليه السلام - الذي يغسله ويكفنه ويحنطه ويلحده في حفرته الحسين بن علي ولا يلي الوصي إلّا الوصي(1).

وفي هذه الزيارة إشارة إلى كمال الإمام الحسين عليه السلام ووصوله إلى مقام مرضاة ربّه عزّ وجل وذلك بإنجاز ما وعده اللّٰه تعالى بالنّصر في الدنيا والآخرة، امّا في الدنيا فقد نصره بالحجج والبينات والبراهين التي ظهرت على يده عليه السلام،

ص: 180


1- الكافي 206:8.

وبرفع ذكره وزيارته ومحبّته، وجعل الشفاء في تربته، واستجابة الدّعاء تحت قبّته، والإمامة من ذريته وغير ذلك.

وامّا بالآخرة فهو الإنتقام له من الأعداء وحلول عقابه تعالى بمن خالفهم من الخصماء بل هو عليه السلام يلي حساب الناس، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: إنّ الذي يلي حساب النّاس قبل يوم القيامة الحسين بن علي، فأمّا يوم القيامة فإنّه هو بعث إلى الجنّة وبعث إلى النار(1).

فيكون الإمام عليه السلام حميد العاقبة بحلول دار الثواب، وقال البعض: إنّ النصر له عليه السلام في الدنيا عند قيام القائم والكرّه التي وعد بها المؤمنين كما ذكرنا ذلك في الحديث الذي مرّ عن الإمام الصادق عليه السلام.

ص: 181


1- معجم أحاديث الإمام مهدي 90:4 للكوراني.

وَمُهْلِكٌ مَنْ خَذَلَكَ وَمُعَذِّبٌ مَنْ قَتَلَكَ

-

ان اللّٰه تعالى مهلك من خذل الإمام الحسين عليه السلام لأن الإمام عليه السلام هو حجة اللّٰه على الخلق فمن خذله فقد خذل اللّٰه ورسوله والدين والحق، ومن نصره فقد نصر اللّٰه والحق، وقد ورد في زيارة الجامعة: «من اتبعكم فالجنة مأواه ومن خالفكم فالنار مثواه» فكون متابعتهم سبباً لدخول الجنة ومخالفتهم سبباً لدخول النار مما قد اجمعت عليه الأخبار من الطرفين نشير إلى بعضها:

فعن النبي صلى الله عليه و آله: من سره ان يحيى حياتي ويموت ميتتي ويدخل الجنة التي وعدنيها ربي ويتمسك بقضيب غَرَسه ربي بيده، فليتول علي بن أبي طالب واوصيائه من بعده فإنهم لا يدخلونكم في باب ظلال ولا يخرجونكم من باب هدى، فلا تعلموهم فإنهم اعلم منكم، وإني سألت ربي ان لا يفرق بينهم وبين الكتاب حتى يردا عليّ الحوض... الحديث(1).

وعن الإمام الصادق عليه السلام في ثواب الأعمال: ص 250: كل ناصب وان تعبّد واجتهد يصير إلى هذه الآية «عٰامِلَةٌ نٰاصِبَةٌ * تَصْلىٰ نٰاراً حٰامِيَةً »(2) .

وفي كتاب طوالع الأنوار عن أبي سعيد الخدري قال: سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يقول: «إذا كان يوم القيامة أمر اللّٰه ملكين يقعدان على الصراط فلا يجوز أحد إلّا ببراءة علي بن أبي طالب عليه السلام ومن لم يكن له برائة علي أمير المؤمنين عليه السلام كبّه على منخريه في النار، وذلك قوله تعالى: «وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ » فقلت:

فداك أبي واُمي يا رسول اللّٰه ما معنى براءة أمير المؤمنين قال: مكتوب لا إله إلّا اللّٰه محمداً رسول اللّٰه، وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصي رسول اللّٰه».

ص: 182


1- الشافي عن الكافي.
2- سورة الغاشية: 3-4.

وفيه أيضاً عن ابن عباس قال: قال رسول اللّٰه إلى أن قال عن اللّٰه تعالى:

«وإني آليت بعزتي أن لا أدخل النار أحداً تولّاه (يعني علياً عليه السلام) وسلم له للأوصياء من بعده ولا ادخل الجنة من ترك ولايته والتسليم له وللأوصياء من بعده، وحق القول منّي لأملأن جنهم واطباقها من اعدائه ولاملأن الجنة من اوليائه ومن شيعته»(1).

ص: 183


1- الانوار الساطعة في شرح زيارة الجامعة 219:4.

وَاَشْهَدُ اَنَّكَ وَفَيْتَ بِعَهْدِ اللّٰهِ

-

الوفاء: ضد الغدر، وفى بعهده إذا لم يغدر، والوفي الذي يعطي الحق ويأخذ الحق، قال تعالى: «و إبراهيم الذي و فى» أي بلّغ قال، الزجاج: وفّىٰ إبراهيم ما اُمر به وما اُمتحن به من ذبح ولده وكل شيء بلغ تمام الكمال فقد وفى وتم(1).

العهد: الأمان: والوصية والأمر يقال عهد إليه إذا أوصاه ومنه قوله تعالى:

«وَ عَهِدْنٰا إِلىٰ إِبْرٰاهِيمَ » أي أوصيناه وأمرناه ومثله قوله تعالى: «وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِلىٰ آدَمَ » أي أوصيناه بان لا يقرب الشجرة فنسي العهد ولم يتذكر الوصية، وقوله: «لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ » قال الزمخشري وقريء الظالمون أي من كان ظالماً من ذريتك (إبراهيم عليه السلام) لا يناله استخلافي وعهدي إليه بالامامة، وإنما ينال من كان عادلاً بريئاً من الظلم.

وقالوا في هذا دليل على ان الفاسق لا يصلح للإمامة، وكيف صلح لها من لا يجوز حكمه وشهادته ولا تجب طاعته ولا يقبل خبره ولا يقدم للصلاة، وقوله تعالى: «وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذٰا عٰاهَدُوا» وقيل يدخل فيه النذور وكلما التزمه المكلف من الاعمال مع اللّٰه تعالى وغيره، وتأتي بمعنى النبوة كقوله تعالى: «اُدْعُ لَنٰا رَبَّكَ بِمٰا عَهِدَ عِنْدَكَ » وهو النبوة أي ادع متوسلاً إليه بعهده وفي الدعاء: انا على عهدك ووعدك ما استطعت.(2)

أي انا متمسك بما عهدته إليّ من الأمر والنهي موقن بما وعدتني من الوعد والثواب والعقاب ما استطعت، وأنا مقيم على ما عاهدتك عليه من الإيمان بك والاقرار بوحدانيتك، وانا منجز وعدك في المثوبة بالأجر عليه، وهو اعتراف بالعجز عن القيام بكنه ما وجب وحرم (2).

ص: 184


1- لسان العرب، مادة (وفى). (
2- مجمع البحرين، مادة (عهد).

أقول: وكيف كان فإن الإمام الحسين عليه السلام قد وفى بعهد اللّٰه تعالى وتمسك به لأنه عليه السلام موقن بما وعده اللّٰه تعالى من الأجر والثواب الجزيل بل اكّد ذلك على نفسه الشريفة بالمشي على طبق ما عاهد اللّٰه تعالى عليه إلى درجة لم تُحدّث نفسه الشريفة على احتمال مخالفة العهد والميثاق والعياذ باللّٰه فيما بينه وبين ربّهم، هذا سواء فسرنا وفائه بالعهد الذي أخذه تعالى على روحه الشريفة في عالم الذر بقوله «ألست بربكم» أو العهد الذي أخذه منه في تبليغ واعلاء حكم التوحيد وتبليغ الرسالة سواء عن طريق شهادته عليه السلام أو غيرها.

وقد ورد في تفسير نور الثقلين 92:2 عن أبي عبد اللّٰه الصادق عليه السلام أنه قال: لما أراد اللّٰه أن يخلق الخلق نثرهم بين يديه فقال لهم: «من ربكم»؟ فأول من نطق رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله وأمير المؤمنين والأئمة عليهم السلام فقالوا أنت ربنا فحمّلهم العلم والدين، ثم قال للملائكة: هؤلاء حملة ديني وعلمي وأُمنائي في خلقي وهم المسؤولون ثم قال لبني آدم: اقرّوا للّٰه بالربوبية ولهؤلاء النفر بالولاية والطاعة، فقالوا: ربنا اقررنا فقال اللّٰه للملائكة: اشهدوا، فقال الملائكة: شهدنا، قال علي عليه السلام: إن لا تقولوا غداً «إِنّٰا كُنّٰا عَنْ هٰذٰا غٰافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمٰا أَشْرَكَ آبٰاؤُنٰا مِنْ قَبْلُ وَ كُنّٰا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلْمُبْطِلُونَ » يا داود ولايتنا مؤكّدة عليهم في الميثاق.

وعن أبي جعفر(1) وساق الحديث... إلى أن قال: ثم أمر اللّٰه تعالى ناراً فأحجّت فقال لاصحاب الشمال، ادخلوها فهابوها، وقال لأصحاب اليمين ادخلوها فدخلوها، فكانت عليهم برداً وسلاماً، فقال أصحاب الشمال: يا رب اقلنا فقال: قد اقلتكم اذهبوا فادخلوها فهابوها، فثمّ ثبتت الطاعة والولاية والمعصية.

ص: 185


1- الكافي 8:2.

والخلاصة: فإن الإمام الحسين عليه السلام وفى بعهد اللّٰه تعالى من تبليغ الرسالة والدعاء إلى التوحيد بما يناسب مقام قربه إلى اللّٰه تعالى وهو ما أُشير إليه في الحديث الذي مرّ من قول الإمام الصادق عليه السلام: فحملهم العلم والدين وهي كناية عن المعارف الإلهيّة والاشتمال بها وجداناً، فالإمام الحسين عليه السلام اكّد الوفاء بالعهد بالثبات عليها عقيدة وصفة وعملاً في جميع أحواله وتحمل الأذى والشهادة بما لا مزيد عليه، وكما ورد في دعاء الندبة «فشرطوا لك ذلك وعلمت منهم الوفاء».

ص: 186

وَجاهَدْتَ في سَبيلِهِ

الجهاد: لقد مرّ معنى كلمة الجهاد في فقرة «فجاهدهم فيك صابرا محتسبا» ولكن نشير هنا إلى بحث مهم وهو الجهاد على ثلاث أنواع: الجهاد الأكبر، والجهاد الأصغر، والجهاد في طاعة اللّٰه تعالى بمعنى الاجتهاد في طاعته.

فامّا الجهاد الأكبر هو الجهاد مع النفس، قال الإمام الحسين عليه السلام: الجهاد على أربعة أوجه: فجهادان فرض وجهاد سنة لا يقام إلّامع فرض، وجهاد سنة، فاما أحد الفرضين فجهاد الرجل نفسه(1). وقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: المجاهد من جاهد نفسه في اللّٰه تعالى(2). وقال أمير المؤمنين عليه السلام: حاربوا هذه القلوب فإنها سريع العثار وعنه عليه السلام: لا فضيلة كالجهاد ولا جهاد كمجاهدة الهوى.

وفي حديث المعراج في صفة أهل الخير وأهل الآخرة: يموت الناس مرة ويموت أحدهم في كل يوم سبعين مرّة من مجاهدة أنفسهم ومخالفة هواهم، والشيطان الذي يجري في عروقهم، وعن النبي صلى الله عليه و آله: جاهدوا أنفسكم بقلة الطعام والشراب تظلّكم الملائكة ويفرّ عنكم الشيطان.

وأما الجهاد الأصغر قال أمير المؤمنين عليه السلام: ان الجهاد باب من أبواب الجنة فتحه اللّٰه تعالى لخاصة أوليائه وهو لباس التقوى ودرع اللّٰه الحصينة وجنته الوثيقة(3).

وعنه عليه السلام: جاهدوا في سبيل اللّٰه بايديكم فإن لم تقدروا فجاهدوا بالسنتكم فإن لم تقدروا فجاهدوا بقلوبكم، وعن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: إنما المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه.

ص: 187


1- تحف العقول: 243.
2- ميزان الحكمة 595:2.
3- نهج البلاغة، خطبة الجهاد.

وأما الاجتهاد في طاعة اللّٰه قال تعالى: «وَ مَنْ جٰاهَدَ فَإِنَّمٰا يُجٰاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اَللّٰهَ لَغَنِيٌّ عَنِ اَلْعٰالَمِينَ » .

قال الإمام الصادق عليه السلام: اعطوا اللّٰه من أنفسكم الاجتهاد في طاعته، فإن اللّٰه لا يدرك شيء من الخير عنده إلّابطاعته واجتناب محارمه، وقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: يا معشر المسلمين، شمّروا فإن الأمر جدّه، وتأهبّوا فإن الرحيل قريب، وتزودوا فإن السفر بعيد، وخففوا أثقالكم فإنّ وراءكم عقبةً كؤوداً لا يقطعها إلّاالمخفّون.

وقال الإمام الرضا عليه السلام: سبعة أشياء بغير سبعة أشياء من الاستهزاء: من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل اللّٰه التوفيق ولم يجتهد فقد استهزأ بنفسه، ومن استحزم ولم يحذر فقد استهزأ بنفسه، ومن سأل اللّٰه الجنة ولم يصبر على الشدائد فقد استهزأ بنفسه، ومن تعوّذ باللّٰه من النار ولم يترك شهوات الدنيا فقد استهزأ بنفسه، ومن ذكر اللّٰه ولم يستبق إلى لقائه فقد استهزأ بنفسه.

السبيل: الطريق، وما وضح منه، وسبيل اللّٰه، طريق الهدى الذي دعا إليه وقوله تعالى: «وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ » أي في الجهاد، وكل ما أمر اللّٰه به من الخير فهو من سبيل اللّٰه أي من الطرق إلى اللّٰه، واستعمل السبيل في الجهاد أكثر لانه السبيل الذي يقاتل فيه، وكل سبيل اريد به اللّٰه عزّ وجل وهو برٌّ فهو داخل في سبيل اللّٰه(1). قال ابن الأثير: وسبيل اللّٰه عام يقع على كل عمل خالص سلك به طريق التقرب إلى اللّٰه تعالى باداء الفرائض والنوافل وأنواع التطوعات وإذا أطلق فهو في الغالب واقع على الجهاد حتى صار لكثرة الاستعمال كأنه مقصور عليه.

ص: 188


1- لسان العرب، مادة (سبل).

حَتّىٰ اَتاكَ الْيَقينُ

اليقين: هو إزاحة الشك وتحقيق الأمر(1)، وعن المجمع: هو نقيض الشك، والعلم نقيض الجهل، تقول علمته يقيناً. وقوله تعالى: «وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتّٰى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ » أي حتى يأتيك الموت.

وأما المراد منها في هذه الزيارة هو الموت «حتى أتاك اليقين»، أي الموت اُقيم السبب مقام المسبب فإنّ بالموت يزول الشك ويحصل العلم بما اخبر به النبي صلى الله عليه و آله من أحوال النشأة الأُخرى، وهذا بالنسبة إلى عامّة الناس وأما الخصيصون من العباد فهم على يقين وعلم في جميع أحوالهم كأبي عبد اللّٰه الحسين عليه السلام فكأنهم يعاينون الجنة والنار والصراط والميزان وسائر ما اخبر به النبي صلى الله عليه و آله، ومن هنا قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: «لو كشف لي الغطاء لما ازددت يقينا».

وحمل الصوفية هذه الآية على ظاهرها فزعموا أن لا تكليف على أولياء اللّٰه لانهم بلغوا معارج اليقين، وفساد ما ذهبوا إليه ظاهر مسبّبين.

وقال تعالى: «إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ حَقُّ اَلْيَقِينِ »(2) جاء في التفسير: الحق هو العلم من حيث ان الخارج الواقع يطابقه، واليقين هو العلم الذي لا شك فيه ولا ريب فإضافة الحق إلى اليقين نحو من الاضافة البيانية حبي بها للتأكيد(3).

قال المجلسي رحمه الله: ولليقين ثلاث مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين، قال تعالى: «كَلاّٰ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهٰا عَيْنَ اَلْيَقِينِ » ، «إِنَّ هٰذٰا لَهُوَ حَقُّ اَلْيَقِينِ » والفرق بينهما إنما ينكشف بمثال

ص: 189


1- كتاب العين، مادة (يقين).
2- سورة الواقعة: 95.
3- تفسير الميزان 140:19.

فعلم اليقين بالنار مثلاً، هو مشاهدة المرئيات بتوسط نورها، وعين اليقين بها هو معاينة جرمها، وحق اليقين بها الاحتراق فيها وانمحاء الهوية بها والصيرورة ناراً صرفاً، وليس وراء هذا غاية ولا هو قابل للزيادة، لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.

قال النبي صلى الله عليه و آله: إلّاأن الناس لم يؤتوا في الدنيا شيئاً خيراً من اليقين والعافية فاسألوهما اللّٰه، وقال صلى الله عليه و آله: كفى باليقين غنى، وقال أمير المؤمنين عليه السلام: اليقين رأس الدين، وقال الصادق عليه السلام: ان العمل الدائم القليل على يقين أفضل عند اللّٰه من العمل الكثير على غير يقين(1).

قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: اما علامة الموقن فستّة: ايقن باللّٰه حقاً فآمن به، وايقن بان الموت حق محذره، وايقن بان البعث حق فخاف الفضيحة، وايقن بان الجنة حق فاشتاق اليها، وايقن بان النار حق فظهر سعيه للنجاة منها وايقن بان الحساب حق فحاسب نفسه.

وروي في الكافي عن اسحاق بن عمال قال: سمعت أبا عبد اللّٰه عليه السلام يقول: ان رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله صلّى بالناس الصبح فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفراً لونه قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه فقال له رسول اللّٰه:

كيف اصبحت يا فلان ؟ قال: اصبحت يا رسول موقناً، فعجب رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله من قوله وقال: ان لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك ؟ فقال: ان يقيني يا رسول اللّٰه هو الذي احزنني واسهر ليلي واظمأ هواجري فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأني انظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك

ص: 190


1- ميزان الحكمة (اليقين).

وأنا فيهم وكأني انظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون وعلى الأرائك متكئون، وكأني انظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون، وكأني الآن اسمع زفير النار يدور في مسامعي، فقال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله لاصحابه هذا عبد نور اللّٰه قلبه بالإيمان ثم قال له الزم ما انت عليه فقال الشاب: ادع اللّٰه لي يا رسول اللّٰه ان اُرزق الشهادة معك، فدعا له رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله فلم يلبث ان خرج في بعض غزوات النبي صلى الله عليه و آله فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر(1).

ص: 191


1- اُصول الكافي 53:2.

فَلَعَنَ اللّٰهُ مَنْ قَتَلَكَ ، وَلَعَنَ اللّٰهُ مَنْ ظَلَمَكَ

-

لعن: لقد مر شرح معنى اللعن في فقرة «فَالْعَنْهُمْ لَعْناً وَبيلاً» من هذه الزيارة فراجع.

ولكن نقول ان هذا الكلام تفريع على جميع ما تقدم من مقام أبي عبد اللّٰه الحسين عليه السلام من قول الإمام عليه السلام في الزيارة من أنه ولي اللّٰه وابن وليه وصفيه وابن صفيه الفائز بالكرامة... الخ الزيارة.

وجاهد في سبيل اللّٰه تعالى لاجل نصرة الدين والحق فمضى حميداً مظلوماً شهيداً ففي ذلك إشارة إلى أن الإنسان الذي يجمع هذه الصفات الحسنة من الكمالات الداخلية والخارجية، جدير أن يعظم وأن يطاع لا أن يقتل ويهان وتسبى حريمه، فإن القاتل والظالم له مستحق للّعن من اللّٰه تعالى وهو الطرد من رحمته والابعاد عنها، لانهم ذئاب كما عبر عنهم الإمام الحسين عليه السلام في خطبته «كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات...» فاجراهم مجرى السباع الضارية التي لا تفرق من آذاها بين العالم والجاهل والصالح والطالح والمؤمن والكافر، بل هم أظل وأقسى منها حيث ان السباع لا تجترىء على الأنبياء وذريّاتهم لما حرّم اللّٰه تعالى لحومهم عليها، وأكبر شاهد على ذلك قصة المرأة التي ادعت أنها زينب بنت فاطمة عليها السلام، واحضر المتوكل الإمام الهادي عليه السلام وأمرها الإمام أن تدخل في بركة السباع، وقال عليه السلام: ان لحوم ولد فاطمة عليها السلام محرمة على السباع فانزلها، فأبت وقالت يريد قتلي، ونزل هو عليه السلام بأمر المتوكل فرمت بنفسها بين يديه تتبرك به(1).

ص: 192


1- راجع مدينة المعاجز للبحراني وأمثالها بالعشرات.

-

فعلى أي حال فإن قتلة الإمام الحسين عليه السلام قد هتكوا حرمة نبيهم بقتله وسبي ذراريه، واساؤوا الصنع فيهم بما لم يسبق له مثيل في التاريخ مع ما اكد النبي صلى الله عليه و آله في حقهم من الوصيّة بحبهم وودهم حتى جعل ذلك اجراً على خدماته لهم كما قال تعالى: «قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ »(1) وفي الحديث عن ابن عباس قالوا: يا رسول اللّٰه من قرابتك الذين وجبت مودتهم ؟ قال صلى الله عليه و آله:

علي وفاطمة وولداها(2).

فليت شعري ماذا كانوا يصنعون لو أمرهم ببغض العترة ونصب العداوة لهم ولنعم ما قيل:

قد أبدلوا الودّ في القربى ببغضهم *** كأنما ودّهم في الذكر بغضاء

ثم ان جواز اللعن عندنا مما لا شك فيه بل وجوب لعن قتلة الحسين عليه السلام والعترة الطاهرة، وقد دل عليه الكتاب والسنة المتواترة والاجماع من الامامية ودل عليه العقل السليم، والعجب ممن أنكر هذا الحكم مع وضوحه وهم شرذمة من المخالفين فزعموا أن المسلم لا يجوز لعنه مطلقاً وان يزيد واضرابه من ظالمي آل محمد صلى الله عليه و آله كانوا مسلمين.

فقد حكى ابن الجوزي عن جده عن القاضي ابي يعلى باسناده إلى صالح بن أحمد بن حنبل قال: قلت لأبي: ان قوماً ينسبوننا إلى توالي يزيد؟ فقال: يا بني وهل يتولى يزيد أحد يؤمن باللّٰه ؟

فقلت: فلمَ لا نلعنه ؟ فقال: وما رأيتني لعنتُ شيئاً، يا بني لم لا تلعن من لعنه اللّٰه في كتابه ؟ فقلت: وأين لعن اللّٰه يزيد في كتابه ؟ فقال

ص: 193


1- سورة الشورى: 23.
2- السيوطي في الدر المنثور 7:6.

قوله تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ * أُولٰئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمىٰ أَبْصٰارَهُمْ »(1) .

وحكى أيضاً عن أبي يعلى ان الممتنع من جواز لعن يزيد إما أن يكون غير عالم بذلك أو منافق يريد أن يوهم بذلك وربما استفز الجهال يقول النبي صلى الله عليه و آله:

«المؤمن لا يكون لعّانا» وهذا محمول على من لا يستحق اللعن، واما قاتل حبيب رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله وسبطه فإن لعنه من الواجبات.

قال ابن خلدون في مقدّمته: ص 254 عند ذكر ولاية العهد «الاجماع على فسق يزيد ومعه لا يكون صالحاً للامامة، ومن أجله كان الحسين عليه السلام ليرى من المتعيّن الخروج عليه وقعود الصحابة والتابعين عن نصرة الحسين عليه السلام لا لعدم تصويب فعله (يزيد) بل لانهم يرون عدم جواز اراقة الدماء فلا يجوز نصره يزيد بقتال الحسين بل قتله من فعلات يزيد المؤاكدة لفسقه والحسين فيها شهيد».

وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء: «كان يزيد بن معاوية ناصبياً فضاً غليظاً جلفاً يتناول المسكر ويفعل المنكر، افتتح دولته بقتل الشهيد الحسين وختمها بوقعة الحرّة، فمفته الناس ولم يبارك في عمره».

روي عن الإمام الصادق عليه السلام انه جاء رجل وقال: يابن رسول اللّٰه اني عاجز ببدني عن نصرتكم ولست املك إلّاالبرائة من أعدائكم واللعن عليهم، فكيف حالي ؟ فقال عليه السلام: حدثني أبي عن أبيه عن جده عن رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله قال:

من ضعف عن نصرتنا أهل البيت، ولعن في خلواته أعدائنا بلغ اللّٰه صوته

ص: 194


1- سورة محمد: 22-23.

-

جميع الأملاك من الثرى إلى العرش، فكلما لعن هذا الرجل اعدائنا لعناً ساعدوه فلعنوا من يلعنه، ثم ثنوه فقالوا اللهم صلي على عبدك هذا الذي قد بذل ما في وسعه، ولو قدر على أكثر منه لفعل، فإذا بالنداء من قبل اللّٰه قد اجبت دعائكم وسمعت ندائكم وصليت على روحه في الأرواح وجعلته عندي من المصطفين الأخيار(1).

ص: 195


1- تفسير الإمام العسكري: 47، وبحار الأنوار 223:27.

وَلَعَنَ اللّٰهُ اُمَّةً سَمِعَتْ بِذلِكَ فَرَضِيَتْ بِهِ

-

اللعن: الطرد من الرحمة وقوله تعالى: «لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ بِكُفْرِهِمْ » أي أبعدهم وطردهم من الرحمة.

الاُمة: الجماعة، وقيل كل جماعة يجمعهم امر، إما دين واحد أو دعوة واحدة أو طريقة واحدة أو زمان واحد أو مكان واحد، ومنه الحديث: يبعث عبد المطلب اُمة واحدة عليه بهاء الملوك وسيماء الأنبياء(1).

وإنما استحق الراضي اللعن مع عدم صدور الظلم منه لان رضاه كاشف عن سوء سريرته وشقاوة باطنه بالنسبة إلى أهل البيت فيكون عدوّاً لهم بحيث لو قدر على الظلم لكان ظالماً لهم فلا يكون مسلماً كيف!!(2)

وشرط الإسلام محبة الأئمة الاعلام كما دل كثير من الاخبار وشهد به سليم الذوق والعقل، وهذا السرّ في قتل الإمام المهدي (عج) من ذراري الأعداء ما لا تحصى لكونهم راضين بما فعل آباؤهم، ففي الحديث عن عبد اللّٰه بن صالح الهروي قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: يابن رسول اللّٰه ما تقول في حديث روي عن الصادق عليه السلام انه قال: إذا خرج القائم قتل ذراري قتلة الحسين عليه السلام بفعال آبائها فقال عليه السلام: هو كذلك فقلت: فقول اللّٰه عزّ وجل: «وَ لاٰ تَزِرُ وٰازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرىٰ » ما معناه ؟ فقال: صدق اللّٰه في جميع أقواله لكن ذراري قتلة الحسين عليه السلام يرضون أفعال آبائهم ويفتخرون بها ومَن رضي شيئاً كان كمن أتاه ولو أن رجلاً قتل في المشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند اللّٰه شريك القاتل، وإنما يقتلهم القائم عجّل اللّٰه فرجه إذا خرج لرضاهم بفعل آبائهم قال:

فقلت له: بأي شيء يبدأ القائم فيهم إذا قام قال: يبدأ ببني شيبة ويقطع أيديهم لأنهم سرّاق بيت اللّٰه عزّ وجل.

ص: 196


1- المجمع، مادة (اُمة)
2- علل الشرائع 268:1.

وهذا صريح في ان الراضي بفعل الظالم ظالم مثله، فكم من داخل مع قوم وهو خارج منهم كالمؤمن من آل فرعون، وكم من خارج من قوم وهو معهم لرضاه بفعلهم كابن عمر واحزابه، وحكايته مع يزيد معروفة ككلامه بعد أن راى العهد الذي كتبه ابوه إلى أبيه كما في البحار(1)، وكذلك روى البلاذري قال: لما قتل الحسين عليه السلام: كتب عبد اللّٰه بن عمر إلى يزيد بن معاوية، إما بعد: فقد عظمت الرزية وجلت المصيبة وحدث في الإسلام حدث عظيم ولا يوم كيوم قتل الحسين عليه السلام.

فكتب إليه يزيد: إما بعد يا احمق، فإنا جئنا إلى بيوت مجددة وفرش ممهدة ووسادة منضّدة، فقاتلنا عنها فإن يكن الحق لنا فعن حقنا قاتلنا، وإن كان الحق لغيرنا فأبوك أوّل من سنّ هذا واستأثر بالحق على أهله، وفي بعض الأخبار من رضي بفعل فقد لزمه وإن لم يفعل.

ص: 197


1- بحار الأنوار 288:30 وعوالم للسيدة النساء: 599.

اَللّهُمَّ اِنّي اُشْهِدُكَ اَنّي وَلِيٌّ لِمَنْ والاهُ ، وَعَدُوٌّ لِمَنْ عاداهُ

-

اشْهِد: يعني إني اشهد اللّٰه تعالى على انني خاشع وخاضع لمن والاه وقيل أي محب وصديق وناصر ومتابع بالقلب واللسان.

وبالجملة: إني مظهر محبتي وولايتي لمن تولاه الحسين عليه السلام، وعدوّ لمن عاداه بالقلب واللسان واليد انكرهم واتبرء منه.

والسر في ذلك لأن اللّٰه تعالى هو الآمر بموالاتهم ومحبتهم والاعتصام بهم وبمن والاه الحسين عليه السلام وعدوّ لمن عاداه فالموالي لهم موال له تعالى.

فعن البحار عن أمالي الصدوق قال أمير المؤمنين عليه السلام سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يقول: «انا سيد ولد آدم وأنت يا علي والأئمة من بعدك سادات أُمتي من أحبنا فقد أحب اللّٰه ومن ابغضنا فقد ابغض اللّٰه ومن والانا فقد وال اللّٰه ومن عادانا فقد عاد اللّٰه ومن اطاعتنا فقد اطاع اللّٰه ومن عصانا فقد عصى اللّٰه».

وفيه عن ابي جعفر عليه السلام في تفسير «وَ آتَيْنٰاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً» ان جعل فيهم ائمة من اطاعهم اطاع اللّٰه ومن عصاهم عصى اللّٰه فهذا ملك عظيم.

وفي الحديث عن الكافي: «اما لو ان رجلاً قام ليله وصام نهاره وتصدق بجميع ماله، وحج جميع دهره ولم يعرف ولاية ولي للّٰه فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته إليه ما كان له على اللّٰه حق في ثوابه ولا كان من أهل الإيمان».

وقد ورد في زيارة الجامعة: «من و الاكم فقد و الى الله، و من عاداكم فقد عاد الله و من احبكم فقد احب الله، و من ابغضكم فقد ابغض الله»

ص: 198

بِاَبي اَنْتَ وَاُمّي يَابْنَ رَسُولِ اللّٰهِ

بابي: أصله مفعول ثان لافدي المقدّر، انت: مفعول اول، والمعنى افديكم بأبي وأُمي والباء فيها تسمى باء التفدية.

وهذه العبارة تستعمل لبذل الحبيب والعزيز وقاية للأحبّ والأعز، بحيث يفنى العزيز والحبيب عن رعاية نفسه والمحافظة عليها في قبال الاحبة والأعزة.

وهذا كله إذا وجدتَ من ظهر بصفة حسنة جليلة كصفات محمد وآله الطاهرين عليهم السلام، بحيث قد هان عند ظهورها لك كل جليل وعزيز عندك، فحينئذ نقول: بأبي أنت واُمي وهم أحب الأشياء عندي وأعزّها عليّ ، وهي أبي واُمي وأهلي أي أفديهم وقاية لكم من كل مكروه ومحذور.

وكيف كان فهذه الجمل تستعملها العرب عند الخطاب لمن يحترمون مقامه ويعظمون اكرامه، ثم الوجه في ابراز هذه الجمل ان الزائر لما أراد خطاب الإمام الحسين عليه السلام بان يشهد عليه السلام على ما انطوى عليه قلب الزائر من الاعتقاد بولايتهم، وان الامام عليه السلام هو المحبوب له بحيث ليس محبوب أشد حبّاً منهم، وأراد أن يشهد الإمام عليه السلام عليه بما يذكره الزائر من الاقرار بالجمل السابقة للزيارة من جهة المعاهدة والميثاق المؤكد مع الإمام عليه السلام بما اعتقد من علوّ مقامهم. إلّاأنه حيث كان في نفسه بعض الصفات الرذيلة فكأنه استحيى ان يطلب من الإمام عليه السلام النظر إلى قلبه، فيرى مع هذه العقائد الحقة تلك الصفات الرذيلة، هذا مع أنه يعلم (الزائر) ان الامام مطلع على ما في القلوب من العقائد الحقة فهو (الزائر) لأجل هذه الأُمور قال: «بأبي أنت واُمي» ليقبل عليه السلام منه هذه الشهادة ولا يرده عن بابه بل يجعله مشمولاً لالطافه الخاصة رزقنا اللّٰه ذلك بمحمد وآله الطاهرين(1).

ص: 199


1- الانوار الساطعة مع تصرف.

اَشْهَدُ اَنَّكَ كُنْتَ نُوراً في الْأَصْلابِ الشّامِخَةِ وَالْأَرْحامِ الْمُطَهَّرَةِ

-

النور: هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، وحقيقة انوار أهل البيت غير معلومة لنا لكونها فوق ادراكاتنا فلا يعرفهم غيرهم، كما قال النبي صلى الله عليه و آله: يا علي ما عرفني إلّا اللّٰه وأنت وما عرفك إلّااللّٰه وأنا(1)، فلا ندرك مقامهم هذا سوى الاجمال كما لا ندرك في مقام الحق سوى ذلك وبيانه ان العالي محيط بالسافل دون العكس.

ورد في البحار(2) عن قبيصة بن يزيد الجعفي قال: دخلت على الصادق عليه السلام وعنده ابي ظبيان والقاسم الصيمري فسلمت وجلست وقلت: يابن رسول اللّٰه أين كنتم قبل أن يخلق اللّٰه سماء مبنية وأرضاً مدحية أو ظلمة أو نوراً؟ قال: «كنا أشباح نور حول العرش نسبح اللّٰه قبل أن يخلق آدم عليه السلام بخمسة عشر ألف عام، فلما خلق اللّٰه آدم عليه السلام فرغنا في صلبه فلم يزل ينقلنا من صلب طاهر إلى رحم مطهّر حتى بعث اللّٰه محمداً صلى الله عليه و آله».

فقوله أين كنتم يستفاد منه إنهم كانوا مخلوقين قبل خلق السماء والأرض وغيرهما وكان هذا أمراً مسلماً عند الشيعة آنذاك وإنما سؤاله عنه عليه السلام من حيث إنهم أين كنوا فقوله عليه السلام: «كنا أشباح نور حول العرش» يشير إلى الخلق الأول وقوله: «فلما خلق آدم فرغنا في صلبه» يشير إلى الخلق الثاني.

فالإمام الصادق عليه السلام في هذه الزيارة الأربعينية يشير إلى مقام نورانيته الذي يجب على كل مؤمن الاقرار به كما قال أمير المؤمنين عليه السلام لسلمان: «يا سلمان لا يكمل المؤمن إيمانه حتى يعرفني بالنوارنيّة فإذا عرفني بذلك فهو مؤمن امتحن اللّٰه قلبه للإيمان، وشرح صورة للإسلام وصار عارفاً بدينه،

ص: 200


1- مشارق انوار اليقين: 201.
2- بحار الأنوار 7:15.

ومن قصّر عن ذلك فهو شاكّ مرتاب، يا سلمان ويا جندب: إن معرفتي بالنورانية معرفة اللّٰه ومعرفة اللّٰه معرفتي وهو الدين الخالص» إلى أن قال: «كنت ومحمد صلى الله عليه و آله نوراً نسبح قبل المسبحات ونشرق قبل المخلوقات، فقسّم اللّٰه ذلك النور نصفين: نبي مصطفى وعلياً مرتضى، فقال اللّٰه لذلك النصف، كن محمداً وللآخر كن علياً، ولذلك قال النبي صلى الله عليه و آله: أنا من علي وعلي مني»(1).

فلا ريب في كونهم أنوار مخلوقة من نور اللّٰه تعالى وكما ورد في زيارة الجامعة «خلقكم اللّٰه أنواراً، فجعلكم بعرشه محدقين».

والأخبار في هذا المجال فوق حد الاحصاء وبكونها متواترة، ففي البحار ورد: «يا محمد إني خلقتك وخلقت علياً عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ولده من سنخ نور من نوري، وفرضت ولايتكم على أهل السماوات والأرض، فمن قبلها كان عندي من المؤمنين، ومن جحدها كان عندي من الكافرين»(2).

في الأصلاب: أي مودعاً مستقراً في أصلاب الآباء الموحّدين الشرفاء النجباء وأرحام الاُمهات الموحّدات المطهّرات عن الخنا والسفاح العفيفات عن الزنا والفساد.

الشامخة: أي العالية يقال: شمخ بأنفه إذا ارتفع وتكبّر، وفي الفقرة اشاره إلى ما برهن عليه في محلّه من ان الأئمة عليهم السلام لا يكون آباؤهم واُمهاتم مشركين من آدم عليه السلام، ولا يخالط نسبهم فساد وعهر وذمّ ، وكيف وهم ذرية النبي صلى الله عليه و آله وعترته

ص: 201


1- من خطبة الإمام علي عليه السلام المعروفة بالنورانية.
2- بحار الأنوار 199:27.

ولا شك في طهارة عنصر النبي وطيب مولده من لدن آدم إلى أبيه، لأن آباء النبي صلى الله عليه و آله كانوا موحدين ففي البحار(1): «اعتقادنا في آباء النبي أنهم مسلمون من آدم إلى أبيه عبد اللّٰه وإن أبا طالب كان مسلماً وآمنة بنت وهب كانت مسلمة واتفقت الامامية على أن والدي الرسول صلى الله عليه و آله وكل أجداده إلى آدم عليه السلام كانوا مسلمين بل كانوا من الصدّقين» وقال فخر الدين الرازي: ان قوله تعالى: «إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ » وجب أن لا يكون أحد من أجداده صلى الله عليه و آله مشركاً. وقال صلى الله عليه و آله:

ما افترق الناس فرقتين إلّاجعلني اللّٰه من خيرهما، فاخرجت من بين أبَوي فلم يصبني شيء من عهد الجاهلية، وخرجت من نكاح ولم اخرج من سفاح من لدن آدم حتى انتهيت إلى أبي واُمي فأنا خيركم نسباً وخيركم أباً.

والأرحام المطهرة: فعن النبي صلى الله عليه و آله قال: «خلقني اللّٰه وأهل بيتي من نور واحد قبل أن يخلق آدم بسبعة آلاف عام ثم نقلنا إلى صلب آدم ثم نقلنا من صلبه في الأصلاب الطاهرين إلى ارحام الطاهرات».

ص: 202


1- بحار الأنوار 117:5.

لَمْ تُنَجِّسْكَ الْجاهِلِيَّةُ بِاَنْجاسِها وَلَمْ تُلْبِسْكَ الْمُدْلَهِمّاتُ مِنْ ثِيابِها

الانجاس: جمع النَجَس بفتحتين وهو القذر، والمراد انه لم تتلوّث أذيال عصمته عليه السلام بأرجاس الكفر وأنجاس المعاصي.

والجاهلية: على ما في المجمع، الحالة التي كانت عليها العرب قبل الإسلام من الجهل باللّٰه ورسوله وشرائع الدين والمفاخرة بالآباء والأنساب والكبرة، والتجبر وغير ذلك، ومنه الحديث إذا رأيتم الشيخ يُحدّث يوم الجمعة بأحاديث الجاهلية فارموا رأسه بالحصى، وقولهم: الجاهلية الجهلاء هو توكيد للأول يشتق له من اسمه ما يؤكّده به، وأنجاس الجاهلية عبارة عن تلك الأحوال المخالفة للشرع المذمومة عند الشارع فالاضافة بيانيّة.

وإلى ذلك أشار تعالى في منزلتهم عليهم السلام «إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً» .

لم تلبسك من المدلهمّات من ثيابها:

أي ثياب الجاهلية وهي عبارة عن الاخلاق والحالات الناشئة من الكفر والضلالة فهي في مقابل لباس التقوى المشار إليه بقوله تعالى: «وَ لِبٰاسُ اَلتَّقْوىٰ ذٰلِكَ خَيْرٌ» .

والمدلهمات: الظلمات يقال ادلهم الليل: أظلم وليلة مدلهمة أي مظلمة.

والمراد ان اللّٰه تعالى ألبس الحسين عليه السلام حلل العلم والمعرفة والسخاوة وسائر الأخلاق الحميدة والصفات الربانية، وان الجاهلية لم تلبسه لباس الجهل والضلالة، فإن الجهالات والضلالات بعضها فوق بعض، والحسين عليه السلام هو نور على نور ونور فوق كل نور وهو نور الأنوار والهادي للأخيار وحجة الجبار وكهف الابرار.

ص: 203

قال الإمام الرضا عليه السلام: الإمام كالشمس الطالعة للعالم وهي في الاُفق بحيث لا تناله الأيدي والابصار، والإمام البدر المنير والسراج الظاهر والنور الساطع والنجم الهادي في غياهب الدجى والبلد القفار ولجج البحار، الإمام الماء العذب على الضماء والدال على الهدى والمنجي من الردى... إلى أن قال: الإمام المطهّر من الذنوب المبرء من العيوب مخصوص بالعلم مرسوم بالحلم(1)، وقال النبي صلى الله عليه و آله: أنا وعلي والحسن والحسين وتسعة من ولد الحسين مطهّرون معصومون(2).

ص: 204


1- عيون أخبار الرضا 190:1.
2- عيون أخبار الرضا 65:1.

وَاَشْهَدُ اَنَّكَ مِنْ دَعآئِمِ الدّينِ وَاَرْكانِ الْمُسْلِمينَ

الدعائم: جمع الدعامة بكسر الدال، وهي عماد البيت الذي يقوم عليه(1)، ودعامة القوم سيدهم وكل ما يستند عليه الحائط إذا مال يمنع السقوط، وكثيراً ما يستعار لكلّ ما لا يتم شيء إلّابه، وكلّ ما يتوقّف عليه شيء بعلاقة المشابهة، فإنّ البيت لا يستحكم بناءه إلّابالدعامة والأساس، ومنه قوله عليه السلام: «لكلّ شيء دعامة، ودعامة الإسلام الشيعة»(2)، وقوله عليه السلام: «دعامة الإنسان العقل»(3) لتوقّف تحقّق الإنسانية على العقل.

والمراد بالدين: هو الإسلام لقوله تعالى: «إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّٰهِ اَلْإِسْلاٰمُ »(4) ، وقوله: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلاٰمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ »(5) . و (مِن) تبعيضية أي من جملة الأئمة الذين هم دعائم الدين هو الحسين عليه السلام.

والأركان: جمع ركن، وهو لغة جانب البيت، وكثيراً يستعمل في معنى الاسطوانة والدعامة فيستعار أيضاً فيما أشرنا إليه.

وفي الكلام إشارة إلى أنّ الدين لا يكمل إلّابولاية الإمام، والإيمان لا يتحقّق إلّابمحبّة ذرّية سيّد الأنام، وقد تواتر بذلك الأخبار من النبي صلى الله عليه و آله وعترته المعصومين الكرام، ففي بعضها عن الرضا عليه السلام: «أنّ الإمامة زمام الدّين ونظام المسلمين، وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين، أنّ الإمامة اُسّ الإسلام النامي

ص: 205


1- راجع المنجد في اللغة: 216، مادة (دعا).
2- الكافي 212:8.
3- الكافي 25:1.
4- سورة آل عمران: 19.
5- سورة آل عمران: 85.

وضرعه السامي، بالإمام تمام الصلاة والزكاة والصيام والحجّ والجهاد وتوفير الفيء والصدقات وإمضاء الحدود والأحكام»(1).

وفي بعضها يا محمد: «لو أنّ عبداً عبدني حتى ينقطع ويصير كالشن البالي ثمّ أتاني جاحداً لولايتهم لم أدخله جنّتي ولا أظلّه تحت عرشي»(2).

وفي بعضها: عن أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السلام قال: قلت: أصلحك اللّٰه أي شيء إذا عملته استكملت حقيقة الإيمان ؟

قال: «توالي أولياء اللّٰه محمد صلى الله عليه و آله وعليّ وفاطمة والحسن والحسين وعليّ بن الحسين عليهم السلام ثمّ انتهى الأمر إلينا ثمّ ابني جعفر وأومأ إلى جعفر وهو جالس فمن والى هؤلاء فقد والى أولياء اللّٰه، وكان مع الصادقين كما أمره اللّٰه»(3).

وفي بعضها: «هل الدّين إلّاالحبّ »(4).

وفي بعضها عن النبي صلى الله عليه و آله في كلامه لعليّ : «لو أنّ عبداً عبد اللّٰه ألف عام ما قبل اللّٰه ذلك منه إلّابولايتك وولاية الأئمة من ولدك، وأنّ ولايتك لا يقبلها اللّٰه إلّا بالبراءة من أعدائك وأعداء الأئمة من ولدك». وفي الزيارة الجامعة: «... سعد من والاكم، وهلك من عاداكم، وخاب من جحدكم، وضلّ من فارقكم، وفاز من تمسّك بكم، وأمن من لجأ إليكم، وسلم من صدّقكم، وهدي من اعتصم بكم، من اتّبعكم فالجنة مأواه، ومن خالفكم فالنار مثواه».

ص: 206


1- هذا مقطع من الرواية التي أخرجها الصدوق قدس سره في العيون 195:1 في وصف الإمام عليه السلام فراجع.
2- بحار الأنوار 357:8، الباب 27.
3- بحار الأنوار 57:27.
4- الكافي 79:8.

وَمَعْقِلِ الْمُؤْمِنينَ

المعقل: الملجأ والحصن، وفلان معقل قومه: أي يلجئون إليه إذا أضربهم أمر، والعقيلة: المرءة المخدرة المحبوسة في بيتها.

عن بصائر الدرجات عن أبي جعفر عليه السلام قال: إن رسول اللّٰه أنال في الناس وأنال وأنال، وإنّا أهل البيت معاقل العلم وأبواب الحكم وضياء الأمر.

ومعنى الحديث إنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله أنال أي أعطى، وأفاد في النّاس العلوم الكثيرة، لكن عند أهل البيت معيار ذلك، والفصل بين ما هو حق أو مفترى وعندهم تفسير ما قاله الرّسول صلى الله عليه و آله فلا ينتفع بما في أيدي الناس إلّابالرّجوع إليهم عليهم السلام، والمعاقل جمع معقل وهو: الحصن والملجأ أي: نحن حصون العلم وبنا يلجأ النّاس فيه وبنا يوصل إليه وبنا يضيء الأمر للنّاس.

وعن الإمام الرضا عليه السلام: «لا شرف أعلى من الإسلام، ولا عزّاً أعز من التقوى ولا معقل أحسن من الورع...»(1).

فالإمام الحسين عليه السلام هو حصن ومعقل وملجأ لجميع المؤمنين الذين يريدون الهداية والنّجاة في الدنيا والآخرة، فهو سفينة النّجاة من ركبها نجا، ومن تخلّف عنها غرق، فعلينا أن نركب سفينة الحسين عليه السلام كي نحرز السّعادة في الدنيا والآخرة كما أحرزها أبو عبد اللّٰه الحسين عليه السلام وأن نسير أثر مسيرته وعلى نهجه وخطاه.

المؤمنين: المؤمن: هو من آمن باللّٰه ورسوله وكتبه واليوم الآخر، وجاء بجميع الواجبات وانتهى عن جميع المحرّمات.

قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: ألا أُنبئكم لم سُمّي المؤمن مؤمناً؟ لإيمانه النّاس على أنفسهم وأموالهم، وفي الحديث: إنّ أدنى ما يكون العبد به مؤمناً، قال عليه السلام:

ص: 207


1- بحار الأنوار 411:66.

يشهد أن لا إله إلّااللّٰه وأنّ محمداً عبده ورسوله ويقرّ بالطّاعة ويعرف إمام زمانه فإذا فعل ذلك فهو مؤمن.

قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في تعريف المؤمن: بشره في وجهه، وحزنه في قلبه، أوسع بشيء صدراً وأذلّ شيء نفساً، يكره الرفعة ويشنأ السّمعة، طويل غمّه بعيد همّه، كثر صمته، مشغول وقته، شكور صبور، مغمور بفكرته، ظنين بخلّته، سهل الخليقة، ليّن العريكة، نفسه أصلد من الصّلد، وهو أذلّ من العبد(1).

وعن الإمام الصادق عليه السلام: «إنّ الإيمان عشر درجات بمنزلة السلم يصعد منه مرقاة بعد مرقاة، وكان المقداد في الثامنة، وأبوذر في التاسعة وسلمان الفارسي في العاشرة»(2).

وقال الصّادق عليه السلام: «لا يستكمل عبد حقيقة الإيمان حتّى تكون فيه خصال ثلاث: الفقه في الدّين، وحسن التّقدير على المعيشة والصّبر على الرّزايا».

وعن الإمام علي عليه السلام: «المؤمن دائم الذّكر، كثير الفكر على النّعماء شاكر، وفي البلاء صابر».

وعن الإمام زين العابدين عليه السلام: «علامات المؤمن خمس: الورع في الخلوة، والصدقةُ في القلّة، والصَّبر عند المصيبة والحلم عند الغضب والصّدق عند الخوف».

وعن النَّبي صلى الله عليه و آله: «المؤمن الّذي نفسه منه في عناءٍ والنّاس في راحة». وقال صلى الله عليه و آله: «المؤمن يألف ويؤلف ولا خير فيمن لا يألَف ولا يؤلف، وخير النّاس أنفعهم للنّاس»(3).

ص: 208


1- بحار الأنوار 411:69.
2- أُصول الكافي 37:1.
3- كل الأحاديث من كتاب ميزان الحكمة، باب الإيمان.

وَاَشْهَدُ اَنَّكَ الْأِمامُ الْبَرُّ التَّقِيُّ الرَّضِيُّ الزَّكِيُّ الْهادِي الْمَهْدِيُّ

اشهد: اقسم واحلف.

فهذه شهادة له بالإمامة التي هي عهد اللّٰه الذي لا يناله الظالمين، كما قال:

«وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ »(1) ، فهي الرياسة العامة من اللّٰه على عباده، والخلافة والنيابة من النبي صلى الله عليه و آله على اُمته.

قال الرضا عليه السلام: «إنّ الإمامة خصّ اللّٰه بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوّة، والخلّة مرتبة ثالثة، وفضيلة شرّفه بها، وأشاد بها ذكره فقال: «إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً) ، فقال الخليل سروراً بها: «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ »(2) فأبطلت هذه الآية إمامة كلّ ظالم إلى يوم القيامة، وصارت في الصفوة، ثمّ أكرمه اللّٰه عزّ وجلّ بأن جعلها في ذريّته أهل الصفوة والطهارة، فقال عزّ وجل: «وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ نٰافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنٰا صٰالِحِينَ وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا وَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرٰاتِ وَ إِقٰامَ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءَ اَلزَّكٰاةِ وَ كٰانُوا لَنٰا عٰابِدِينَ »(3) فلم تزل في ذرّيته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً حتى ورثها النبي صلى الله عليه و آله فقال اللّٰه عزّ وجل: «إِنَّ أَوْلَى اَلنّٰاسِ بِإِبْرٰاهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هٰذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللّٰهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ »(4) فكانت له خاصّة فقلّدها صلى الله عليه و آله عليّاً بأمر اللّٰه عزّ وجل على رسم ما فرضها اللّٰه عزّ وجل: «وَ قٰالَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ وَ اَلْإِيمٰانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ إِلىٰ يَوْمِ اَلْبَعْثِ »(5) فهي في ولد عليّ عليه السلام خاصّة إلى يوم القيامة إذ لا نبيّ بعد محمّد صلى الله عليه و آله

ص: 209


1- سورة البقرة: 124.
2- سورة البقرة: 124.
3- سورة الأنبياء: 72-73.
4- سورة آل عمران: 68.
5- سورة الروم: 56.

فمن أين يختار هؤلاء الجهّال ؟ إنّ الإمامة هي منزلة الأنبياء، وإرث الأوصياء، إنّ الإمامة خلافة اللّٰه عزّ وجل وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين عليهما السلام»(1).

البِّرُ: ووصف الإمام بالبرّ بالفتح وهو البار العطوف المحسن، لأنّه كما يطق على القدوة للناس المنصوب من قبل اللّٰه المفترض الطاعة على العباد، كذلك قد يطلق على الداعي إلى الباطل الذي يقتدي به الجاهل، كما في قول الصادق عليه السلام لمّا سئل عن الشيخين - أبي بكر وعمر - فقال: كانا إمامين قاسطين كانا على الحقّ وماتا عليه فرحمة اللّٰه عليهما يوم القيامة، فلمّا خلى المجلس قال له بعض أصحابنا: كيف قلت يابن رسول اللّٰه ؟ فقال: نعم، أمّا قولي كانا إمامين فهو مأخوذ من قوله تعالى: «وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى اَلنّٰارِ» ، وأمّا قولي عادلين فهو مأخوذ من قوله تعالى: «ثُمَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ » . وأمّا قولي:

كانا على الحقّ فالحقّ عليّ عليهما السلام، وقولي ماتا عليه فالمراد به أنّهما لم يتوبا عن تظاهرهما عليه بل ماتا على ظلمهما إيّاه، وأمّا قولي: فرحمة اللّٰه عليهما يوم القيامة، فالمراد به أنّ رسول اللّٰه ينتصف له منهما خذاً من قوله تعالى: «وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ » .

وربما يطلق على الأعمّ كما قال تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ »(2) .

التقي: التقي والمتّقي هو الذي يخاف اللّٰه ويخشاه بالغيب، ويجتنب المعاصي ويتوقى المحرمات من التقوى، والاتقاء هو الامتناع من الردى باجتناب

ص: 210


1- راجع عيون أخبار الرضا 196:1، الباب 20، ط. الشريف الرضي - قم.
2- سورة الإسراء: 71.

ما يدعو إليه الهوى، ويقال: وقاه يقيه إذا حفظه وعصمه وهو أيضاً لقب للإمام محمد الجواد عليه السلام لأنه اتقى اللّٰه فوقاه شر المأمون لما دخل عليه بالليل وهو سكران فضربه بسيفه حتى ظن أنه قتله فوقاه اللّٰه شره(1).

والرضي: هو المرضي الذي ارتضاه اللّٰه من خلقه لإرشاد عباده، أو الذي رضى اللّٰه في سماءه، والرسول في أرضه، أو بمعنى الراضي وهو الذي لا يسخط بما قدر عليه وبمعنى المطيع.

والزكي: الطاهر من الأخلاق الذميمية، والصفات الرذيلة من قولهم زكى عمله إذا طهُر، ومنه قوله: «أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً »(2) أي طاهرة لم تجن ما يوجب قتلها، وهذا اللقب إذا أُطلق فالمراد به هو الحسن بن علي عليهما السلام.

والهادي: هو الدليل على الحقّ ، والمرشد إلى سبيل الرشد، قال اللّٰه: «إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هٰادٍ»(3) عن أبي بُرزة الأسلمي: سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله يقول: «إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرٌ» ووضع يده على صدر نفسه، ثمّ وضعها على صدر عليّ ويقول: «وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هٰادٍ» .

وروى القمي في تفسيره 260:1، ط. بيروت عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

المنذر رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله، والهادي أمير المؤمنين عليه السلام وبعده الأئمة عليهم السلام وهو قوله:

«وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هٰادٍ» أي في كلّ زمان إمام هاد مبين. وهذا اللقب (الهادي) عند الإطلاق ينصرف إلى عليّ بن محمد الجواد عليه السلام.

ص: 211


1- مجمع البحرين.
2- سورة الكهف: 74.
3- سورة الرعد: 7.

والمهدي: هو الذي هداه اللّٰه إلى معارج القرب، وأرشده إلى بساط الجذب، وعرّفه المعارف اللاهوتية، وعلّمه الأسرار الجبروتية ولا يكون الشخص هادياً حتّى يكون مهدياً مهتدياً، ففي الكلام تقديم وتأخير كما في قوله: واجعله هادياً مهدياً، فتأمّل. وهذا اللقب إذا أُطلق فالمراد به القائم من آل محمد صلى الله عليه و آله المبشّر بمجيئه في آخر الزمان - اللهم عجّل فرجه - ولا ريب أنّ كلّ إمام من آل محمد صلى الله عليه و آله هاد يهدي العباد إلى طريق الرشاد.

وعن أبي بصير عنه عليه السلام قال: قلت له: «إِنَّمٰا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هٰادٍ»(1) فقال: رسول اللّٰه المنذر، وعليّ عليه السلام الهادي. يا أبا محمد فهل منّا هاد اليوم ؟ قلت:

بلى جعلت فداك ما زال فيكم هاد من بعد هاد حتّى رفعت إليك.

فقال عليه السلام: رحمك اللّٰه يا أبا محمّد لو كانت إذا نزلت آية على رجل مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب، ولكنّه حيّ جرى فيمن بقى كما جرى فيمن مضى(2).

ص: 212


1- سورة الرعد: 7.
2- الكافي 192:1.

وَاَشْهَدُ اَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ وُلْدِكَ كَلِمَةُ التَّقْوىٰ ، وَاَعْلامُ الْهُدىٰ ، وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقىٰ ، وَالْحُجَّةُ علىٰ اَهْلِ الدُّنْيا

الأئمة من ولدك: إشارة إلى ما ورد في جملة من الأخبار من ان اللّٰه عزّ وجل عوّض الحسين عليه السلام من شهادته أنّ جعل الأئمّة من ولده، والشفاء في تربته، وإجابة الدّعاء تحت قبّته(1).

قال الباقر عليه السلام: «نحن اثنا عشر إماماً منهم الحسن والحسين، ثمّ الأئمة من ولد الحسين عليه السلام»(2).

وعن سلمان الفارسي: «دخلتُ على النبي صلى الله عليه و آله فإذا الحسين على فخذيه وهو يقبّل عينه، ويلثم فاه، ويقول: أنت سيّد ابن سيّد، أنت إمام ابن إمام، أنت حجّة ابن حجّة أبو حجج تسعة من صلبك تاسعهم قائمهم»(3).

عن المفضّل بن عمر(4) قال: قلت لأبي عبد اللّٰه عليه السلام: يابن رسول اللّٰه أخبرني عن قول اللّٰه: «وَ جَعَلَهٰا كَلِمَةً بٰاقِيَةً فِي عَقِبِهِ » قال: يعني بذلك الإمامة، وجعلها اللّٰه في عقب الحسين إلى يوم القيامة، فقلت: يابن رسول اللّٰه أخبرني كيف صارت الإمامة في ولد الحسين دون الحسن وهما ولدا رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله وسبطاه وسيّدا شباب أهل الجنة ؟ فقال: يا مفضل إنّ موسى وهارون نبيّان مرسلان اخوان فجعل اللّٰه النبوّة في صلب هارون دون صلب موسى ولم يكن لأحد أن يقول:

ص: 213


1- عدة الداعي لابن فهد الحلي: 57 القسم الثاني.
2- الكافي 533:1 باب ما جاء في الأئمة الاثني عشر والنص عليهم.
3- مقتل الحسين للخوارزمي 146:1.
4- معاني الأخبار للشيخ الصدوق: 131، الحديث 1، طبعة بيروت الأعلمي، 1410 ه، وكتاب تأويل الآيات: 541.

لمَ فعل اللّٰه ذلك، وكذلك الإمامة وهي خلافة اللّٰه عزّ وجل وليس لأحد أن يقول:

لمَ جعلها في صلب الحسين دون صلب الحسن، لأنّ اللّٰه عزّ وجل حكيم في أفعاله: «لاٰ يُسْئَلُ عَمّٰا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ »(1) .

كلمةُ التقوى: والمراد بكلمة التقوى يحتمل وجوهاً:

منها: إنّها الإيمان فكونهم كلمة التقوى، لكون ولايتهم مشروطة في تحقّقه، كما في زيارة الجامعة: «وبموالاتكم تمّت الكلمة وعظمت النعمة».

ومنها: إنّه كلمة لا إله إلّااللّٰه محمد رسول اللّٰه، ولا شكّ أنّ ترتّب الآثار على هذه الكلمة موقوف على الإقرار بإمامتهم، والإذعان بولايتهم فهذا جار مجرى قول أمير المؤمنين عليه السلام من خطبة له: «أنا صلاة المؤمنين، وصيامهم، وزكاتهم، وحجّهم»(2)، يعني أنّ هذه الأعمال لا تقبل ولا تصحّ إلّابولايتي، وحديث الرضا عليه السلام في نيسابور معروف وفي آخره «لا إله اللّٰه حصني ومن دخله أمن من عذابي فقالوا: حسبنا يابن رسول اللّٰه، فلمّا رجعوا قال لهم: لكن بشروطها وأنا من شروطها»(3).

ومنها: إنه العهد الذي عهده اللّٰه في عليّ عليه السلام وذريّته، وفي الحديث في معنى كلمة التقوى عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «إنّ عليّاً عليه السلام راية الهدى وإمام أوليائي ونور من أطاعني وهو الكلمة التي ألزمتها المتّقين، من أحبّه أحبّني، ومن أطاعه أطاعني»(4).

ص: 214


1- سورة الأنبياء: 23.
2- مشارق أنوار اليقين.
3- راجع التوحيد للشيخ الصدوق باب ثواب الموحّدين: 25، الحديث 23.
4- أخرجها الصدوق في معاني الأخبار: 126، الحديث 1، ط. بيروت الأعلمي.

ومنها: أ نّها الدعوة إلى الإسلام كما قال: «وَ كَلِمَةُ اَللّٰهِ هِيَ اَلْعُلْيٰا»(1) فهم كلمة التقوى لكونهم الدّعاة إلى شرائع الإسلام وجوامع الأحكام.

ومنها: أ نّها الحجّة كما في قوله تعالى: «وَ يُحِقُّ اَلْحَقَّ بِكَلِمٰاتِهِ »(2) أي بحججه، فإنّهم حجج اللّٰه على الخلق وللمتّقين من عباده، قال عليّ عليه السلام: «إنّ اللّٰه واحد تفرّد في وحدانيته، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت نوراً ثم خلق من ذلك النور محمّداً وخلقني وذريتي، ثمّ تكلّم بكلمة فصارت روحاً فأسكن اللّٰه في ذلك النور وأسكنه في أبداننا فنحن روح اللّٰه وكلمته، فبنا احتجّ على خلقه فما زلنا في ظلّة خضراء»(3).

ومنها: إنّها الخلق البديع ما يقال لعيسى عليه السلام أنه كلمة اللّٰه، لأنّه وجد بأمره من دون أب فشابه البدعيات، فهم عليهم السلام لما عليهم من الصفات الإلهية، وفيهم من العجائب الربّانية مشابهون للبدعيات، فهم كلمات اللّٰه التامات خلقهم اللّٰه لإرشاد المتّقين إلى طرق التقوى والصلاح وهدايتهم إلى سبيل الفلاح والنجاح، وكيف كان فلعلّ الوجه في توحيد الكلمة أ نّهم عليهم السلام نور واحد، ونفس واحدة كما يرشد إليه حديث النورانيّة وغيره.

والأعلام: جمع العلم(4)، وهو لغة الجبل الذي يُعلم به الطريق وقريب منه المنار، وهو المرتفع الذي يوقد في أعلاه النار لهداية الضلال، والأئمة عليهم السلام أعلام للهدى، لأنّه يهتدى بهم كما قال: «لولانا ما عُرف اللّٰه، ولولانا ما عُبد اللّٰه»(5).

وفي الجامعة: «وأعلاماً لعباده، ومناراً في بلاده، وأدلّاء على صراطه»(6) -

ص: 215


1- سورة التوبة: 40.
2- سورة الشورى: 24.
3- راجع بحار الأنوار 291:26، الحديث 51، باب تفضيلهم عليهم السلام على الأنبياء.
4- المصباح المنير: 427.
5- راجع الكافي: ج 1، كتاب الحجة، باب: إنّ الأئمة ولاة أمر اللّٰه. وقال الصادق عليه السلام: وبعبادتنا عُبداللّٰه.
6- راجع شرح هذه الفقرة في الأنوار اللامعة: 115.

وروي في قوله: «وَ عَلاٰمٰاتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ »(1) أ نّه قال: «نحن العلامات، والنجم رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله»(2).

وقال الصادق عليه السلام: «نحن ولاة أمر اللّٰه وخزنة علم اللّٰه وعيبة وحي اللّٰه وأهل دين اللّٰه وعلينا نزل كتاب اللّٰه، وبنا عُبد اللّٰه، ولولانا ما عرف اللّٰه، ونحن ورثة نبيّ اللّٰه وعترته»(3).

وقال الباقر عليه السلام: «نحن جنب اللّٰه ونحن صفوته، ونحن خيرته، ونحن أركان الإيمان، ونحن دعائم الإسلام ونحن من رحمة اللّٰه على خلقه، ونحن الذين بنا يفتخ، وبنا يختم، ونحن أئمة الهدى، ونحن مصابيح الدجى، ونحن منار الهدى، ونحن السابقون، ونحن الآخرون، ونحن العلم المرفوع للخلق، من تمسّك بنا لحق، ومن تخلّف عنّا غرق، ونحن قادة الغرّ المحجلين، ونحن خيرة اللّٰه، ونحن الطريق، وصراط اللّٰه المستقيم إلى اللّٰه، ونحن من نعمه على خلقه، ونحن المنهاج، ونحن معدن النبوّة، ونحن موضع الرسالة، ونحن الذين تختلف الملائكة، ونحن السراج لمن استضاء بنا، ونحن السبيل لمن اهتدىٰ بنا، ونحن الهداة إلى الجنة»(4).

«... ونحن عزّ الإسلام، ونحن الجسور والقناطر من مضى عليها سبق، ومن تخلّف عنها محق، ونحن السنام الأعظم ونحن الذين بنا تنزل الرحمة، وبنا تسقون الغيث،

ص: 216


1- سورة النحل: 16.
2- الكافي: ج 1، كتاب الحجّة، باب: إنّ الأئمة هم العلامات التي ذكرها اللّٰه في كتابه، الحديث 1 عن الرضا عليه السلام وأيضاً روي عن الإمام الصادق عليه السلام في المصدر نفسه، الحديث 2 قال: (إنّ النبي النجم، والعلامات الأئمة عليهم السلام).
3- راجع بصائر الدرجات 61:2، الباب الثالث، الحديث 3.
4- المصدر نفسه، الحديث 10.

ونحن الذين بنا يصرف عنكم العذاب فمن عرفنا ونصرنا وعرف حقّنا وأخذ بأمرنا فهو منّا وإلينا».

والحاصل: إنّهم أدلّة الهدى، والهادون بأمر اللّٰه المرشدون إلى مرضاة اللّٰه.

والعروة لغة: عروة الكوز(1) معروفة، والوثقى تأنيث الأوثق، والعروة الوثيقة: هي العروة المستحكمة التي يستمسك بها، شبّهوا عليهم السلام بها، لأنّ المتمسّك بطريقتهم لا يضلُّ ، ولا ينفصم عن رحمة اللّٰه، وربما تفسّر العروة الوثقى بالإيمان كما قال تعالى: «فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّٰاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّٰهِ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقىٰ »(2) .

وفي بعض الأخبار أ نّها التسليم لأهل البيت عليهم السلام، وفي بعضها أنّ أوثق عرى الإيمان الحبّ في اللّٰه.

وروي عن عبد اللّٰه بن عباس، قال: قال رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله: «من أحب أن يتمسّك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فليتمسّك بولاية أخي ووصيي عليّ بن أبي طالب، فإنّه لا يهلك من أحبّه وتولّاه ولا ينجو من أبغضه وعاداه»(3). وعن الزمخشري في قوله: «فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقىٰ » وهذا تمثيل للمعلوم بالنظر والاستدلال بالمشاهد المحسوس حتى يتصوّره السامع كأ نّه ينظر إليه بعينه فيحكم اعتقاده والتيقّن به(4).

ص: 217


1- المصباح المنير: 406، دار الهجرة.
2- سورة البقرة: 256.
3- الشيخ الصدوق قدس سره في معاني الأخبار: 368، الحديث 1، طبعة بيروت.
4- راجع الكشّاف للزمخشري 304:1 عند تفسيره لآية الكرسي.

والحجّة: في اللغة البرهان وقد مرّ شرحها سابقاً، وكثيراً ما يستعمل فيمن يجب العمل بقوله، والاقتداء بفعله، وكونهم عليهم السلام حجج اللّٰه على خلقه ممّا لا ريب فيه لوجوب العمل بأوامرهم ونواهيهم.

وعن المجلسي الأول قدس سره في شرحه على زيارة الجامعة في قوله: «وحجج اللّٰه على أهل الدنيا والآخرة والاُولى... أي يحتجّ اللّٰه بهم ويتمّ حجّته (على أهل الدنيا والآخرة) بالمعجزات الباهرات والدلائل الظاهرات، والعلامات الواضحات، والأخلاق النفسانية، والفضائل الملكوتية، والعلوم الربانيّة، والأسرار الإلهية، ويحتجّ على أهل الآخرة في عالم البرزخ عند السؤال أو في القيامة أو الأعمّ منهما».

والأخبار بكونهم عليهم السلام حجج اللّٰه متواترة وقد تقدّم بعضها، وفي بعضها عن أبي خالد عن الصادق عليه السلام قال: قلت له: «يابن رسول اللّٰه ما منزلتكم من ربّكم ؟ قال:

حجّته على خلقه، وبابه الذي يؤتى منه وأُمناؤه على سرّه وتراجمة وحيه»(1).

وروى الصفّار في المصدر نفسه، الحديث 11 عن بريد العجلي قال: سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن قول اللّٰه تبارك وتعالى: «وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً» قال: نحن اُمة الوسط، ونحن شهداء اللّٰه على خلقه، وحجّته في أرضه.

ص: 218


1- راجع بصائر الدرجات 62:2، الحديث 9.

وَاَشْهَدُ اَنّي بِكُمْ مُؤْمِنٌ ، وَبِاِيابِكُمْ مُوقِنٌ

اشهد: أي احلف والقسم، وتأتي بمعنى أعلم، كما تقول: اشهد ان لا إله إلّااللّٰه وقوله تعالى: «شَهِدَ اَللّٰهُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ» أي بيّن واعلم، وقد ورد في زيارة وارث: «واشهدوا اللّٰه وملائكته وأنبياء ورسله إني بكم مؤمن» أي: أجعلهم شهوداً على إيماني بكم فإنّهم أشهاد عدول لا ترد شهادتهم، ولا تخفى عليهم السرائر، ولا تغيب عنهم مطويات القلوب والضمائر، وقد وصف اللّٰه تعالى نفسه بكونه شهيداً وشاهداً في مواضع من كتابه، وكذا الملائكة والأنبياء بقوله:

«وَ يَقُولُ اَلْأَشْهٰادُ»(1) ، وروي في قوله: «لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ »(2) إنّ الاُمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء ويطلب الأنبياء بالبيّنة على أ نّهم قد بلّغوا فيؤتى باُمّة محمد صلى الله عليه و آله فيشهدون لهم(3).

وروي عن عليّ عليه السلام أ نّه قال: «إيّانا عنى فرسول اللّٰه شاهد علينا، ونحن شهداء اللّٰه على خلقه وحجّته في أرضه»(4).

قوله: «بكم مؤمن» أي بحقيقة نورانيّتكم، ومراتب علومكم وأسراركم الخاصّة بكم، والإيمان التصديق والإذعان.

وفي الجامعة: «أشهد اللّٰه وأُشهدكم أ نّي مؤمن بكم وبما آمنتم به، كافر بعدوّكم وبما كفرتم به».

ص: 219


1- سورة هود: 18.
2- سورة البقرة: 143.
3- راجع مجمع البيان للطبرسي قدس سره 288:1، ط. بيروت - مؤسسة التاريخ العربي.
4- شواهد التنزيل للحسكاني من أعلام القرن الخامس الهجري 92:1، ط. بيروت - الأعلمي، ومجمع البيان 288:1.

قوله: «و بايابكم موقن» يحتمل أن يتعلّق بمؤمن أي مؤمن بكم وبإيابكم إلى الدُّنيا في زمن الرجعة. روى عن الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ اَللّٰهُ مِيثٰاقَ اَلنَّبِيِّينَ » قال: ليؤمنن برسول اللّٰه صلى الله عليه و آله ولينصرن عليّاً أمير المؤمنين عليه السلام، قال: نعم واللّٰه من لدن آدم وهلّم جرّا فلم يبعث اللّٰه نبيّاً ولا رسولاً إلّا رُدَّ جميعهم إلى الدُّنيا حتّى يقاتلوا بين يدي عليّ بن أبي طالب عليه السلام(1).

وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: «ما بعث للّٰه نبيّاً من لدن آدم فهلم جرا إلّاويرجع إلى الدُّنيا وينصر أمير المؤمنين عليه السلام وهو قوله: «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ » يعني رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله، «وَ لَتَنْصُرُنَّهُ » يعني أمير المؤمنين عليه السلام»(2).

ويؤيّده ما في زيارة العباس عليه السلام: «إني بكم وبإيابكم من المؤمنين»(3).

ويحتمل أن يتعلّق بقوله موقن أي مؤمن بكم وموقن بإيابكم، وهذا أظهر، وفي الكلام تصريح بثبوت رجعتهم عليهم السلام إلى الدنيا لمّا وعدهم اللّٰه من الدولة والنصرة، كيف وقد روي: «إنّ عمر الدُّنيا مئة ألف عام لهم عليهم السلام منها ثمانون ألفاً يتمحض لهم الدولة والسلطة»(4).

وهذه أي الرجعة من ضروريّات مذهبنا معاشر الإمامية(5) وقد دلّت عليها

ص: 220


1- السيّد هاشم البحراني قدس سره في تفسير البرهان 211:3، الحديث 15.
2- روى القمي في تفسيره 114:1.
3- راجع زيارة أبي الفضل العباس عليه السلام المطلقة في كتب الزيارات.
4- أخرجه حسن بن سليمان الحلّي في مختصر بصائر الدرجات بتفاوت يسير: 212، ط. النجف، 1950 م.
5- انفردت الإمامية بالاعتقاد في الرجعة، واعتمدتها كضرورة من ضروريّات المذهب، ونظرية مسلّمة يجب الإقرار بها واعتقادها، وتجديد الاعتراف بها في الأدعية والزيارات، وفي كلّ وقت كالإقرار في

آيات كثيرة وأخبار متواترة تزيد على مئتين بل عن بعضهم وقف على ستمائة وعشرين حديثاً.

وفي الجامعة: «معترف بكم، مؤمن بإيابكم، مصدّق برجعتكم، منتظر لأمركم، مرتقب لدولتكم».

وفي الدعوات والزيارات المأثورة عن المعصومين ما لا يحصى ممّا يدلّ على هذا المدعى صريحاً.

وفي بعض الأخبار عن الصادق عليه السلام: «أيام اللّٰه ثلاثة: يوم يقوم القائم، ويوم الكرّة، ويوم القيامة»(1).

وفي بعضها عنه عليه السلام: «إن أول من يكرّ في الرجعة الحسين بن علي عليه السلام فيمكث في الأرض أربعين سنة حتىّ يسقط حاجباه على عينيه»(2).

وفي بعضها: عن جميل عنه عليه السلام قال: قلت له: قول اللّٰه «إِنّٰا لَنَنْصُرُ رُسُلَنٰا وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَيٰاةِ اَلدُّنْيٰا وَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْأَشْهٰادُ»(3) قال: ذلك واللّٰه في الرجعة، أما علمت أنّ أنبياء اللّٰه كثيرة لم ينصروا في الدُّنيا وقتلوا، وأئمة قتلوا ولم ينصروا، فذلك في الرجعة قلت: «وَ لَوْ تَرىٰ إِذْ فَزِعُوا فَلاٰ فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكٰانٍ قَرِيبٍ يَوْمَ يَسْمَعُونَ اَلصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذٰلِكَ يَوْمُ اَلْخُرُوجِ »(4) .

ص: 221


1- أخرجه الصدوق في الخصال: 108، الحديث 75، وفي معاني الأخبار: 365، الحديث 1.
2- أخرجه الحلّي في مختصر البصائر: 18.
3- سورة غافر: 51.
4- سورة ق: 41-42.

قال: هي الرجعة(1).

وفي بعضها عنه عليه السلام أيضاً قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام في قول اللّٰه: «رُبَمٰا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كٰانُوا مُسْلِمِينَ »(2) قال: هو إذا خرجت أنا وشيعتي وخرج عثمان بن عفان وشيعته ونقتل بني اُميّة فعندها يودّ الذين كفروا لو كانوا مسلمين(3).

وفي بعضها عنه عليه السلام قال: «إنّ إبليس قال: «أَنْظِرْنِي إِلىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ »(4) فأبى اللّٰه ذلك عليه فقال: «فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ * إِلىٰ يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ »(5) فإذا كان يوم المعلوم ظهر إبليس في جميع أشياعه منذ خلق اللّٰه آدم إلى يوم الوقت المعلوم، وهي آخر كرّة يكرّها أمير المؤمنين عليه السلام قلت: وأ نّها لكرّات ؟ قال: نعم لكرّات وكرّات ما من إمام في قرن إلّاويكرُّ معه البرّ والفاجر في دهره حتّى يديل اللّٰه المؤمن على الكافر... فإذا كان يوم الوقت المعلوم كرّ أمير المؤمنين (صلوات اللّٰه عليه) في أصحابه، وجاء إبليس في أصحابه، ويكون ميقاتهم في أرض من أراضي الفرات يقال لها: الروحاء، قريب من كوفتكم، فيقتتلون قتالاً لم يقتتل مثله منذ خلق اللّٰه - عزّ وجل - العالمين، فكأ نّي أنظر إلى أصحاب عليّ أمير المؤمنين - صلوات اللّٰه عليه - قد رجعوا إلى خلفهم القهقري مئة قدم، وكأ نّي أنظر إليهم وقد وقعت بعض أرجلهم في الفرات.

ص: 222


1- مختصر بصائر الدرجات: 18، وبحار الأنوار 65:53، الحديث 57، والرجعة للاسترآبادي: 41، الحديث 10، والبرهان 100:4، الحديث 2.
2- سورة الحجر: 2.
3- مختصر بصائر الدرجات: 17، والرجعة: 38، الحديث 6.
4- سورة الأعراف: 14.
5- سورة الحجر: 37-38.

فعند ذلك يهبط الجبّار - عزّ وجل - في ظلل من الغمام، والملائكة، وقضي الأمر، رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله أمامه بيده حربة من نور، فإذا نظر إليه إبليس رجع القهقري ناكصاً على عقبيه، فيقول له أصحابه: أين تريد وقد ظفرت ؟ فيقول: (إني أرى ما لا ترون) (إني أخاف اللّٰه رب العالمين)، فليحقه النبي صلى الله عليه و آله فيطعنه طعنة بين كتفيه، فيكون هلاكه وهلاك جميع أشياعه. فعند ذلك يعبد اللّٰه - عزّ وجل - ولا يشرك به شيئاً، ويملك أمير المؤمنين عليه السلام أربعاً وأربعين ألف سنة حتى يلد للرجل من شيعة علي عليه السلام ألف ولد من صلبه ذكراً، وعند ذلك تظهر الجنّتان المدهامّتان عند مسجد الكوفة وما حوله بما شاء اللّٰه»(1).

وفي بعضها عن الصادق عليه السلام: «ليس أحد من المؤمنين قتل إلّاسيرجع حتّى يموت، ولا أحد من المؤمنين يموت إلّاسيرجع حتّى يقتل»(2).

وفي بعضها عن أبي إبراهيم عليه السلام قال: «لترجعنّ نفوس ذهبت، وليقتصّن يوم يقوم، ومن عذّب يقتصّ بعذابه، ومن أُغيظ (يقتصّ )(3) بغيظه(4) ويرد لهم أعداءهم حتّى يأخذوا بثأرهم، ثمّ يعمرون بعدهم ثلاثين شهراً، ثمّ يموتون في ليلة واحدة قد أدركوا ثأرهم، وشفوا أنفسهم ويصير عدوّهم إلى أشدّ النار عذاباً، ثمّ يوقفون بين يدي الجبّار فيؤخذ لهم بحقوقهم»(5).

ص: 223


1- مختصر بصائر الدرجات: 26، وبحار الأنوار 42:53، الحديث 12.
2- مختصر بصائر الدرجات: 25، والبحار 40:53، الحديث 5، والرجعة: 55، الحديث 29، والبرهان 211:3، الحديث 15.
3- في المصدر (أغاظ) بدل (يقتصّ ).
4- في المصدر هكذا (ومن قُتل أُقتص بقتله) والظاهر سقط هذا الذي أثبتناه.
5- مختصر البصائر: 28، وعنه البحار 44:53، الحديث 16، والرجعة: 59، الحديث 37.

وفي بعضها عن الصادق عليه السلام في قول اللّٰه تعالى: «كَلاّٰ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاّٰ سَوْفَ تَعْلَمُونَ »(1) قال: مرّة بالكرّة، وأُخرى يوم القيامة(2).

وفي بعضها عن الباقر عليه السلام: «واللّٰه ليملكنّ منّا أهل البيت رجل بعد موته ثلاثمئة سنين وتزداد تسعاً، قلت: متى يكون ذلك ؟ قال: بعد القائم عليه السلام، قلت:

وكم يقوم القائم عليه السلام في عالمه ؟ قال: تسع عشرة سنة، ثمّ يخرج المنتصر إلى الدُنيا وهو الحسين عليه السلام فيطلب بدمه ودماء أصحابه فيقتل ويسبى حتّى يخرج السفّاح وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام»(3).

وفي بعضها عن الصادق عليه السلام: «أوّل من تنشقّ الأرض عنه ويرجع إلى الدنيا الحسين بن علي عليه السلام. وإنّ الرجعة ليست بعامّة، وهي خاصّة لا يرجع إلّامَن مُحض الإيمان محضاً، أو محض الشرك محضا»(4).

وفي بعضها: «إنّ الصادق عليه السلام سئل عن اليوم الذي ذكر اللّٰه مقداره في القرآن «فِي يَوْمٍ كٰانَ مِقْدٰارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ »(5) وهي كرّة رسول اللّٰه صلى كرّته خمسين ألف سنة، ويملك عليّ (6) في كرته أربعة وأربعين سنة»(7).

الله عليه و آله فيكون ملكه في

ص: 224


1- سورة التكاثر 3-4.
2- مختصر البصائر: 204، والبحار 107:53، الحديث 135، والإيقاظ من الهجعة: 282، الحديث 99، ورواه الاسترآبادي في تأويل الآيات: 815.
3- أخرجه العياشي في تفسيره 326:2، الحديث 24، والنعماني في الغيبة: 331، الحديث 3، ومختصر البصائر: 213-214، والبحار 298:52، الحديث 61.
4- راجع مختصر البصائر: 24، البحار 39:53، الحديث 1، والرجعة: 53، الحديث 26.
5- سورة المعارج: 4.
6- في المصدر (أمير المؤمنين) بدل (علي).
7- الرجعة: 33، الحديث 2، والبرهان 383:4، الحديث 6.

وأنت خبير بأنّ الناظر فيما ذكرناه من الأخبار وغيره ممّا لا يسعه هذا المضمار لا يرتاب في حقيّة الرجعة وثبوتها في الجملة، وفي بعض الأخبار نسبة إنكارها إلى القدرية، وقدأجاد من قال: إنّه إذا لم يكن مثل هذا متواتراً ففي أيّ شء يمكن دعوى التواتر، مع ما روته كافّة الشيعة خلفاً عن سلف، وظنّي أنّ من يشكّ في أمثالها فهو شاكّ في أئمّة الدّين(1)، ولا يمكنه إظهار ذلك من بين المؤمنين فيحتال في تخريب الملّة القويمة بإلقاء ما يتسارع إليه عقول المستضعفين من استبعاد المتفلسفين، وتشكيكات الملحدين: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللّٰهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ يَأْبَى اَللّٰهُ إِلاّٰ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكٰافِرُونَ »(2) .

والحاصل: إنّ هذا أمر ممكن يمكن تعلّق القدرة الإلهية به، وقد أخبر به الصادقون المعصومون قطعاً فيجب الاعتقاد به(3)، ولو من باب التسليم المأمور به بقوله تعالى: «فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّٰهِ وَ اَلرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً»(4) .

وبجملة من الأخبار المعتبرة فلا تستمع إلى الملاحدة الذين يلقون الشبهات إلى الضعفاء باستبعاد هذا الأمر وإنكاره، وما هذا إلّاكاستبعاد المعاد ونحوه من الضروريات، وظاهر الأخبار بل صريح كثير منها أ نّهم عليهم السلام يرجعون إلى الدُّنيا بأشخاصهم وأجسادهم التي كانوا عليها، فلا تلتفت إلى الجهلة الذين يؤولون

ص: 225


1- روى الصدوق في من لا يحضره الفقيه 458:3، الحديث 4583، عن الإمام الصادق عليه السلام أ نّه قال: «ليس منّا من لم يقل بمتعتنا، ويؤمن برجعتنا».
2- سورة التوبة: 32.
3- راجع الاعتقادات لشيخنا الصدوق باب (18) الاعتقاد في الرجعة: 39، ط. قم.
4- سورة النساء: 59.

هذه الأخبار إلى خلاف ظاهرها من غير برهان قاطع، متابعة لهوى أنفسهم وسوء آرائهم فيقولون: إنّ المراد رجعة حقائقهم وصفاتهم، في هياكل متجدّدة وأجساد غير ما كانوا عليه في الأزمنة السابقة.

نعم، اختلفت الأخبار ظاهراً في كيفيّة الرجعة، وترتيب من يرجع من الأئمة عليهم السلام ولا حاجة بنا مهمّة إلى الجمع بينهما بعد تسليم أصل الرجعة، وليعلم أنّ الرجعة لا تصدق على ظهور القائم عليه السلام فإنه عليه السلام: حيّ موجود الآن لا شك في حياته يظهر بعد ذلك متى شاء اللّٰه فيملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما ملئت ظلماً وجوراً(1).

فإذا مضى من أوّل ظهوره تسع وخمسون سنة خرج الحسين عليه السلام وهو صامت إلى أن تمضي إحدى عشرة سنة فتقتله امرأة من بني تميم لها لحية كلحية الرجل تسمّى (سعيدة) وهي شقيّة، فيتولّى الحسين عليه السلام تجهيزه فيقوم بالأمر بعده(2)، فالرجعة من زمن خروج الحسين عليه السلام إلى أن يرفع مع رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله وسائر الأئمة عليهم السلام إلى السماء، وذلك بعد كمال دينهم وسلطنتهم كما وعدهم اللّٰه.

ص: 226


1- روضة الواعظين 261:2، ط. شريف الرضي.
2- حلية الأبرار 643:2.

بِشَرايِعِ ديني وَخَواتيمِ عَمَلي، وَقَلْبي لِقَلْبِكُمْ سِلْمٌ وَاَمْري لِأَمْرِكُمْ مُتَّبِعٌ

وقوله عليه السلام: (بشرايع ديني): أي متلبّساً وموقناً بشرائع ديني أي طرائقه وسُبله، وفيه إشارة إلى مجرّد الإيمان بهم لا يكفي بل لابدّ في ذلك من الائتمار بأوامرهم، والانتهاء بنواهيهم، وإطاعتهم فيما شرعوه من الأحكام، والحدود، والانقياد لهم فيما يأمرون به، وينهون عنه فمن لم يكن كذلك فهم عليهم السلام منه براء كما يدلّ عليه أخبار كثيرة.

قال الصادق عليه السلام: «إنّما أصحابي من اشتدّ ورعه، وعمل لخالقه ورجا ثوابه فهؤلاء أصحابي»(1).

وقال عليه السلام: «ليس منّا ولا كرامة من كان في مصر فيه مئة ألف أو يزيدون، وكان في ذلك المصر أحد أورع منه»(2).

وقال الباقر عليه السلام: «أيكفي من انتحل التشيّع أن يقول بحبّنا أهل البيت فواللّٰه ما شيعتنا إلّامن اتّقى اللّٰه وأطاعه، إلى أن قال: فاتّقوا اللّٰه واعملوا لما عند اللّٰه، ليس بين اللّٰه وبين أحد قرابة، أحبُّ العباد إلى اللّٰه وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته، يا جابر واللّٰه ما يتقرّب إلى اللّٰه إلّابالطاعة أمعنا براءة من النار ولا على اللّٰه لأحد من حجّة، من كان للّٰه مطيعاً فهو لنا وليّ ، ومن كان للّٰه عاصياً فهو لناعدوّ، وما تنال ولايتنا إلّابالعمل والورع، فلا تستمع إلى قوم سوّل الشيطان لهم

ص: 227


1- أُصول الكافي 62:2، باب الورع، الحديث 6.
2- روى الشيخ الكليني في الكافي 64:2 - باب الورع - عن أبي الحسن الأول عليه السلام قال: «كثيراً ما كنت أسمع أبي يقول: ليس من شيعتنا من لا تتحدث المخدّرات بورعه في خدورهن وليس من أوليائنا من هو في قرية فيها عشرة آلاف رجل فيهم من خلق اللّٰه أورع منه».

أعمالهم فزعموا أنّ الدّين هو مجرّد دعوى حبّ آل محمد صلى الله عليه و آله فارتكبوا الكبائر ونبذوا أحكام اللّٰه وراء ظهورهم وهم لا يشعرون»(1).

والخواتيم جمع الخاتمة، وخاتمة العمل آخره وعاقبته ممّا يختم به من خير أو شرّ أو ما يترتّب عليه من ثواب وعقاب، فإنّ ذلك نتائج الأعمال.

قال عليه السلام: «من خُتم له بقيام ليلة ثمّ مات فله الجنّة»(2).

ويحتمل أن يراد بالعمل هنا خصوص الزيارة، أو خصوص الولاية فخاتمته يكون خيراً وثواباً كما أ نّه يراد بالعمل هنا خصوص الولاية فخاتمته يكون خيراً وثواباً كما أ نّه يراد به في قوله: «اللهم إنّي استودعك خاتمة عملي»(3).

خصوص الإيمان والتوحيد المشار إليه بقوله: «من كان آخر كلامه لا إله إلّا اللّٰه وجبت له الجنّة»(4) فإنّه لا معنى لاستيداع اللّٰه الشرّ من الأعمال.

وكيف كان لو علّقنا الجار والمجرور بموقن فلا إشكال إذ المعنى أ نّي على يقين بشرائع ديني وبنتائج عملي، لأن اللّٰه ورسوله، والأئمة أخبروني بذلك، ولم أشك في صدقهم، وأمّا على غير ذلك فلابدّ من تقدير إذ المعنى متلبّساً بشرائع ديني وبالإذعان بخواتيم عملي.

قوله: (وقلبي لقلبكم سلم) سلم: أي صلح لا حرب. قال الطريحي: والسلم: المسالم يقال: أنا سلم لمن سالمني وحرب لمن حاربني(5).

ص: 228


1- أخرجه الكليني في الكافي 60:2، الحديث 3، باب الطاعة والتقوى.
2- الفقيه 47:1، ووسائل الشيعة 154:8.
3- الكافي 283:4، والفقيه 271:2.
4- راجع الكافي 375:2، باب من قال لا إله إلّااللّٰه.
5- مجمع البحرين 38:2.

وفي حديث وصف الأئمة: «يطهر اللّٰه قلب عبد حتّى يسلّم لنا ويكون سلماً لنا أي يرضى بحكمنا ولا يكون حرباً علينا»(1).

(وقلبي لكم مسلّم ورأيي لكم متّبع)(2) والمعنيان متقاربان إذ المراد أ نّه لا اعتراض لقلبي على أفعالكم ولا عداوة فيه لكم، لأنّي أعلم أ نّكم أولياء اللّٰه وعباده المكرمون الذين لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون وفيه إشارة إلى ما أشرنا إليه من وجوب التسليم لهم عليهم السلام كما قال تعالى:

وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً»(3) وإلى أنّ التسليم لا يكون إلّابالقلب فلا يجدي مجرّد الدعوى باللسان.

كيف وقد روي عن الصادق عليه السلام أ نّه قال: «بينا أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة إذ أتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين؛ إني أحبّك، قال: ما تفعل ؟ قال:

واللّٰه إني لأحبّك، قال: ما تفعل. قال: بلى والذي لا إله إلّاهو قال: واللّٰه الذي لا إله إلّاهو ما تحبّني. فقال: يا أمير المؤمنين إني أحلف باللّٰه إنّي أحبّك وأنت تحلف باللّٰه ما أحبّك واللّٰه كأ نّك تخبرني إنّك أعلم بما في نفسي، فغضب أمير المؤمنين فرفع يده إلى السماء وقال: كيف يكون ذلك وهو ربنا خلق الأرواح قبل الأبدان بألفي عام ثمّ عرض علينا المحبّ من المبغض فواللّٰه ما رأيتك فيمن أحبّنافأين كنت»(4).

ص: 229


1- الكافي 694:1 باب أن الأئمة نور اللّٰه عزّ وجل.
2- هذا مقطع من الزيارة الجامعة.
3- سورة النساء: 56.
4- أخرجه الصفّار في بصائر الدرجات 87:2، الحديث 4، باب 15.

والمراد بالقلب هو اللمعة النورانية الملكوتية التي بها يدرك حقائق الأشياء، ويعرف لطائف الأسرار لا نفس الجسم الصنوبري المودع فيه هذه القوّة الملكوتية كالبصر المودع فيه القوّة الباصرة، وإن شئت قلت: إنّه العقل الذي يعبد به الرحمان ويكتسب به الجنان ولذا قال: (لقلبكم)، فإنّ قلوبهم عليهم السلام أوعية العلوم الإلهية وخزائن المعارف الربّانية فقلب الشيعة يسلّم كلّ ما يصدر من قلوبهم عليهم السلام لإذعانه بأ نّه من اللّٰه واعتقاده بأ نّه من منبع الحقّ ، فلا ينكره ولا يعترض عليه بلم ولا كيف، وقلوب الشيعة مخلوقة من قلوبهم كما أنّ أجسادهم مخلوقة من فاضل طينتهم.

وفي بعض الأخبار: «إنّا خلقنا من نور اللّٰه وخلق شيعتنا من دون ذلك النور فإذا كان يوم القيامة ألحقت السفلى بالعليا، وفيه يا مفضّل أتدري لمَ سمّيت الشيعة شيعة ؟ يا مفضّل شيعتنا منّا، ونحن من شيعتنا، أما ترى هذه الشمس أين تبدو؟ قلت: من مشرق، قال: وإلى أين تعود؟ قلت: إلى مغرب، قال عليه السلام: هكذا شيعتنا، منّا بدؤوا وإلينا يعودون»(1)، وإنّما أفرد القلب مع إضافته إليهم عليهم السلام للإشارة إلى اتّحادهم في الحقيقة النورية القدسية. قوله (وأمري لأمركم): يريد أ نّه تابع لهم في جميع أحواله وأموره، فإنّ المفرد المضاف مفيد للعموم على ما صرّح به جماعة، فالمراد أ نّه شيعة لهم يفتخر بمتابعته لهم في الأوامر والنواهي، ويحذو حذوهم ويطابق فعله فعلهم حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة كما هو شرط صدق هذا الاسم على ما يقتضيه كثير من الأخبار.

ص: 230


1- بحار الأنوار 21:25.

وَنُصْرَتي لَكُمْ مُعَدَّةٌ

النصرة حسن المعونة، والنصر: عون المظلوم، والاعانة والناصر هو الذاب (أي المدافع)(1).

يظهر من كثير الأحاديث والأدعية والزيارات: ان نصرة الدين تكون على يد بعض المؤمنين من الشيعة ففي الدعاء: «واجعلني ممن تنتصر به لدينك ولا تستبدل بي غيري» وفي الزيارة للشهداء: «السلام عليكم يا أنصار دين اللّٰه».

وانه لولاهم لا ندرس الدين وقد امر الأئمة عليهم السلام بمتابعتهم أي متابعة المؤمنين من الشيعة الكاملين الموصوفين بأوصاف خاصة من الايمان والتقوى وكما في الحديث عن الإمام الرضا عليه السلام: «... ولكن الرجل كل الرجل نعم الرجل هو الذي جعل هواه تبعاً لأمر اللّٰه وقواه مبذولة في رضا اللّٰه يرى الذل مع الحق أقرب إلى عز الأبد من العزّ في الباطل، ويعلم ان قليل ما يحتمله من ضرّائها يؤدّيه إلى دوام النعيم في ذر لا تبيد ولا تنفذ وإن كثير ما يلحقه من سرّائها أن اتبع هواه يؤديه إلى عذاب لا انقطاع له ولا يزول، فذلكم الرجل نعم الرجل فيه فتمسكوا وبسنته فاقتدوا وإلى ربكم به فتوسّلوا فإنه لا ترد له دعوة ولا تخيب له طلبته»(2).

فيعلم من هذا الحديث وأمثاله ان الشيعة هم الذين نصروا دين اللّٰه تعالى بتسديد أئمتهم وتعليمهم آباءهم وامدادهم لهم بأحاديثهم.

ص: 231


1- مجمع البحرين.
2- بحار الأنوار 84:2.

في كمال الدين وتمام النعمة(1) عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام قال: ان اللّٰه تبارك وتعالى لم يدع الأرض إلّاوفيها عالم يعلم الزيادة والنقصان، فإذا زاد المؤمنون شيئاً ردهم وإذا نقصوا شيئاً أكمله لهم، ولولا ذلك لالتبست على المؤمنين اُمورهم، فكذلك فقهاء الشيعة فإنهم أيضاً هم الأنصار للدين بالتعليم والاشاعة والارشاد كما لا يخفى وكيف لا وقد اخذوا علمهم من الأئمة عليهم السلام لا غيرهم حيث علموا أن الحق عندهم لا عند غيرهم ؟

وكيف كان فالنصرة لأهل البيت عليهم السلام من الشيعة حيث اخذوا منهم دينهم كانوا مأمورين بنصرة الدين بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة الأئمة عليهم السلام بتبليغ الأحكام وارشاد الناس والجهّال كل واحد منهم بحسب ما عنده من العلم والايمان يكون معداً نفسه لنصرة أهل البيت عليهم السلام.

بقي شيء وهو: إنه لا ريب في ان النصرة للدين من الأئمة عليهم السلام تكون بالأصالة وبالجعل الإلهي الذي منحهم به، وأما بالنسبة إلى غيرهم فهو نصرة بالتبع حيث إنهم تابعون في العلم والأحكام والمعارف لأئمتهم عليهم السلام، ففي الحقيقة ان النصرة العلمية بل والعملية تكون منهم عليهم السلام وما صدر من شيعتهم تكون بلحاظ متابعتهم للأئمة عليهم السلام، وذلك لأن قبول العمل وقبول النصرة لهم من أي أحد كان إنما يصح إذا كان مقرّاً بفضلهم عليهم السلام ولولايتهم وتابع لامرهم في الدين فلا محالة تكون النصرة تبعية كذا قيل.

ص: 232


1- 203:1.

حَتّىٰ يَاْذَنَ اللّٰهُ لَكُمْ ، فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لا مَعَ عَدُوِّكُمْ

حتّى ياذن اللّٰه لكم أي يأذن بظهور دينه وغلبته على جميع الأديان كما قال تعالى: «لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ » ففي المجمع البيان عن الباقر عليه السلام في هذه الآية: ان ذلك يكون عند خروج المهدي من آل محمد فلا يبقى أحد إلّاأقرّ بمحمد صلى الله عليه و آله، وفيه أيضاً قال المقداد بن الأسود: سمعت رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله قال: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلّاأدخله اللّٰه الإسلام، إمّا بعزّ عزيز أو بذل ذليل فيجعلهم اللّٰه من أهله فيعزّوا به وإمّا يذلهم فيدينون له».

وعن أمير المؤمنين عليه السلام إنه قال: «... فو الذي نفسي بيده حتى لا تبقى قرية إلّا وينادي بشهادة ان لا إله إلّااللّٰه محمد رسول اللّٰه بكرة وعشيا»(1).

فمعكم معكم: الفاء للتفريع على الجمل السابقة يعني بعد إيماني بكم قلباً ولساناً وسراً، وبايابكم موقن وانتظاري لفرجكم وقلبي لقلبكم سلم واعدادي واستعدادي لنصرتكم فمعكم في حال حياتي باتباع أوامركم ونواهيكم ومعكم في الرجعة لنصرتكم والانتقام من أعدائكم.

لا مع عدوكم: لان أعداءهم غير معتقدين بهذه الاُمور من فقرات الزيارة ومن الرجعة فلا محالة يستلزم الكون معهم أن لا يكون مع عدوهم على أن المعيّة معهم ملازم لمحبتهم وهو يلازم أن لا يكون مع عدوّهم، فمع عداوتي لهم لا يمكن أن أكون معهم.(2)

ثم انه ليس المراد من المعيّة الزمانية أو المكانية، بل المراد منها المعنوية، وهي الحاصل من الاقرار بتلك الجمل والفقرات السابقة والاعتقاد بها مضافاً إلى أن المعية معهم هو المأمور بها من اللّٰه تعالى. ففي البحار (2) عن جابر عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام عن أبي جعفر عليه السلام في قوله: «كونوا مع الصادقين» قال: «مع آل محمد صلى الله عليه و آله».

ص: 233


1- بحار الأنوار 60:51.
2- بحار الأنوار 31:34.

صَلَواتُ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ ، وَعلىٰ اَرْواحِكُمْ وَاَجْسادِكُمْ ، وَشاهِدِكُمْ وَغآئِبِكُمْ ، وَظاهِرِكُمْ وَباطِنِكُمْ ، آمينَ رَبَّ الْعٰالَمينَ

-

أشار إلى أ نّهم عليهم السلام في جميع أحوالهم وأطوارهم ومراتبهم ومقاماتهم وشؤونهم وكيفيّاتهم وظهوراتهم وتجليّاتهم وتنقّلاتهم مستحقّون للصلوات والتحيّات من خالقهم وبرائهم فإنّهم في جميع هذه الحالات لا يزالون عارجين معارج القرب، سالكين مسالك الجذب، متقرّبين إلى بساط الديموميّة، بوسائل العبودية الكاملة كما قال عليه السلام: في دعائه يوم عرفه: «وأنا أشهدُ يا إلهي بحقيقيّة إيماني وعقد عزمات يقيني، وخالص صريح توحيدي، وباطن مكنون ضميري وعلائق مجاري نور بصري...»(1).

فأشار بقوله: (عليكم) إلى مقام حقيقتهم المقدّسة ومرتبة نورانيّتهم العالية التي لم تلد ولم تولد، ولم يعرفها غير اللّٰه أحد، لكونها أوّل ما خلق اللّٰه في عالم الإبداع كما قال: (نحن صنائع اللّٰه)(2)، وهذا هو المقام المشار هليه بقوله:

«لولاك لما خلقت الأفلاك».

وإلى هذا المقام أشار أمير المؤمنين عليه السلام بقوله: «أنا ذات الذوات»(3) وبقوله:

«أنا المعنى الذي لا يقع عليه اسم ولا شبه»(4).

ص: 234


1- راجع مفاتيح الجنان للقمي: 245، دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة.
2- أخرجه البرسي في مشارق أنوار اليقين: 77، فصل 42، ط. الشريف الرضي - قم، عن النبي صلى الله عليه و آله قال: «أول ما خلق اللّٰه تعالى نوري، ثمّ فتق منه نور عليّ ، فلم نزل نتردّد في النور حتى وصلنا إلى حجاب العظمة في ثمانين ألف سنة، ثمّ خلق الخلائق من نورنا فنحن صنايع اللّٰه والخلق من بعد صنايع لنا».
3- راجع مشارق أنوار اليقين للبرسي: 64، فصل 28.
4- أخرجه البرسي في المشارق: 318، فصل 150 وهي خطبة طويلة يعرف الإمام عليه السلام نفسه.

قوله: (وعلى أرواحكم) يمكن أن يراد بها نفوسهم القدسية، وأن يراد بها عقولهم الشريفة وهم وإن اتّحدوا في هذا المقام أيضاً ولكن الجمع باعتبار تعدّد الهياكل البشرية واختلاف المظاهر الجسمانية، وذلك لا يوجب التعدّد في أصل الروح كالصورة المرئية في مرايا متعدّدة.

وما الوجه إلّاواحد غير أ نّه *** إذا أنت عدّدت المرايا تعدّدا

ويحتمل أن يراد بالأرواح الأرواح الخمسة المشار إليها في جملة من الأخبار(1)، مثل ما رواه جابر عن الباقر عليه السلام قال: «إنّ اللّٰه خلق الأنبياء والأئمة على خمسة أرواح: روح القوّة، وروح الإيمان، وروح الحياة، وروح الشهوة، وروح القدس، فروح القدس(2) لا يلهو ولا يتغيّر ولا يلعب، وبروح القدس علموا يا جابر ما دون العرش إلى ما تحت الثرى»(3).

وسئل الصادق عليه السلام عن قول اللّٰه: «وَ كَذٰلِكَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنٰا»(4) فقال: «ذلك فينا منذ أهبطه اللّٰه إلى الأرض وما يخرج إلى السماء».

وفي جملة من الأخبار أنّ الروح خلق أعظم من جبرئيل وميكائيل كان مع محمد صلى الله عليه و آله يوفّقه ويسدّده وهو مع الأئمة من بعده وهو من الملكوت.

ص: 235


1- راجع بصائر الدرجات للصفار 445:9، حيث ذكر روايات كثيرة تدلّ على هذا المطلب وبعضها قدتقدّم.
2- في المصدر (وروح القدس من اللّٰه وسائر هذه الأرواح يصيبها الحدثان...).
3- بصائر الدرجات 454:9، الحديث 12.
4- سورة الشورى: 52.

وفي بعضها: أ نّه لم يكن مع أحد ممّن مضى غير محمّد وهو مع الأئمة.

وفي بعضها: إنّه خلق من خلقه له بصر وقوّة وتأييد يجعله اللّٰه في قلوب الرسل والمؤمنين(1).

وفي بعضها: «مثل المؤمن وبدنه كجوهرة في صندوق إذا خرجت الجوهرة منه طرح الصندوق ولم تتعب به، قال: إنّ الأرواح لا تمازج البدن ولا تداخله إنّما هو كالكلل للبدن محيط به»(2).

وفي بعضها: عن أبي بصير عن الباقر عليه السلام قال: سألته عن قول اللّٰه: «يُنَزِّلُ اَلْمَلاٰئِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ »(3) فقال: جبرئيل الذي نزل على الأنبياء، والروح تكون معهم ومع الأوصياء لا تفارقهم تفقّههم(4)وتسدّدهم من عند اللّٰه وأ نّه لا إله إلّااللّٰه محمّد رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله وبهما عُبد اللّٰه واستعبد الخلق.

وعلى أجسادكم: جسم الإنسان وجسده وجثمانه هو مجموع أعضائه المؤلّفة من العناصر، وربما يفرّق بين الجسم والجسد باختصاص الأوّل بما فيه روح أو تعميمه لذي الروح وغيره، واختصاص الثاني بما خلا عن الروح، ويحتمل أن يراد بأجسامهم أشباحهم النورانيّة، لأنّ من مراتبهم ومنازلهم مقام الأشباح، كما يدلّ عليه جملة من الأخبار، ففي بعضها:

ص: 236


1- أخرجها الصفّار في بصائر الدرجات 458:9، الحديث 14، الباب السادس عشر.
2- أخرجه الصفار في البصائر 463:9، الحديث 13، عن المفضل بن عمر عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام.
3- سورة النحل: 2.
4- في بعض النسخ «توفّقهم» بدل «تفقّههم».

-

«إنّ آدم رأى على العرش أشباحاً يلمع نورها»(1)، روى الصفّار في بصائر الدرجات 80:2، الحديث 1 الباب الثاني عشر، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «إنّ اللّٰه خلق الخلق فخلق من أحبّ ممّا أحبّ وكان أحبّ أن يخلقه من طينة الجنّة وخلق من أبغض ممّا أبغض أن يخلقه من طينة النار ثمّ بعثهم في الظلال قال:

قلت: أي شيء الظلال ؟ قال: ألم تر إذا ظلّل في الشمس شيء وليس بشيء ثمّ بعث فيهم النبيّين يدعونهم إلى الإقرار باللّٰه وهو قوله: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولنّ اللّٰه، ثمّ دعاهم إلى الإقرار بالنبيّين فأقرّ بعضهم وأنكر بعضهم ثمّ دعاهم إلى ولايتنا فأقرّ واللّٰه بها من أحبب وأنكرها من أبغض وهو قوله: «فَمٰا كٰانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمٰا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ » ثمّ قال أبو جعفر عليه السلام: كان التكذيب ثمّة».

ويحتمل أن يراد بالأجسام الأجساد الأصلية اللطيفة التي لا تتغيّر بمضيّ الدهور، وورود آلافات، وبالأجساد الأجساد العنصرية الزمانية التي تنقص وتزيد، ويحتمل أن يراد بأحدهما الأجساد المثالية البرزخية وبالآخر هذا الهيكل المحسوس في هذا العالم، وربما يفرّق بين الجسد والبدن، بأنّ الأوّل لا يقال إلّا على الحيوان العاقل بخلاف الثاني، وقد يقال البدن هو الجسد ما سوى الرأس.

قوله: (وعلى شاهدكم...) فيه أيضاً إقرار بشاهدهم وغائبهم كما في الزيارة الجامعة: (مؤمن بسرّكم وعلانيّتكم وشاهدكم وغائبكم، أوّلكم وآخركم)، قال السيد عبد اللّٰه شبر قدس سره في شرحه على هذه الفقرة في الأنوار اللامعة: 164: « (وشاهدكم) من الأئمة الأحد عشر، (وغائبكم) المهدي، (وأوّلكم) عليّ بن أبي طالب، (وآخركم) القائم لا كما تقول العامّة بإمامة أوّلكم دون الأخير أو الواقفة الذين وقفوا دون آخركم».

ص: 237


1- بحار الأنوار 327:26.

-

والمراد بشاهدهم يحتمل أن يكون الأئمة الأحد عشر الذين ظهروا على الناس في أزمنتهم وعرفوهم ولو في الجملة، فالمراد بالغائب هو الإمام الثاني عشر (عجل اللّٰه فرجه) وقد اختلف الناس في وجوده وعدمه على أقوال متشتّتة ومذهب الإمامية إنّه حيٌّ موجود غاب عن أنظارنا لمصالح كثيرة.

ويحتمل أن يكون المراد بالشاهد هو الإمام الحيّ في كلّ زمان فينعكس الفرض في هذا الزمان فإنّ القائم مشاهد، وهم الغيب، لأنّهم مضوا وقضوا نحبهم فالقائم عليه السلام قطب هذا الزمان، ونقطة دائرة الإمكان، وهو المدبّر في أمر الخلق المتصرّف في العالم بإذن اللّٰه تعالى، وقد يقال: إنّ المراد حال حضورهم مع الخالق حال غيبتهم عمّا سوى اللّٰه، ويسمّى بحال الفناء والمراقبة، فإنّ لهم مع اللّٰه حالات كما في الحديث المعروف.

قوله: (وعلى ظاهركم...) أي وعلى سرّكم وعلانيتكم، فالمراد بظاهرهم أعمالهم الظاهرة، وببطانهم عقائدهم ونيّاتهم الباطنية على ما يظهر من بعضهم في تفسير قوله: «مؤمن بسرّكم وعلانيتكم»، والظاهر أنّ المراد بالظاهر مقام بشريتهم المشار إليه بقوله: «إِنَّمٰا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ »(1) ، وبالباطن هو مقام قربهم إلى الحقّ واختصاصهم بمزايا الإمامة التي لا يدركها إلّاالخصيصون والعارفون، ويحتمل أن يزاد بظاهرهم ظهورهم في زمن محمد صلى الله عليه و آله في هذه الهياكل الشريفة، وبباطنهم كونهم في الأعصار السالفة مع الأنبياء السالفين كما يدلّ عليه حكاية أمير المؤمنين عليه السلام مع الجنّي الذي كان في زمن نوح، ذكر السيّد هاشم البحراني في حلية الأبرار 223:1، الباب الثاني، ط. الأعلمي - بيروت: «إنّ رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله

ص: 238


1- سورة فصّلت: 6.

-

كان جالساً وعنده جنّي يسأله عن قضايا مشكلة فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام فتصاغر الجنّي حتى صار كالعصفور ثمّ قال: أجرني يا رسول اللّٰه، فقال: ممّن ؟ قال: من هذا الشاب المقبل. فقال: وما ذاك ؟ فقال الجنّي: أتيتُ سفينة نوح لأغرقها يوم الطوفان فلمّا تناولتها ضربني هذا فقطع يدي، ثمّ أخرج يده مقطوعة فقال له النبي صلى الله عليه و آله: هو ذاك».

والجنّي الذي كان في زمن سليمان وفي المصدر نفسه: «إنّ جنياً كان جالساً عند رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام فاستغاث الجنّي وقال: أجرني يا رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله من هذا الشاب المقبل قال: وما فعل بك ؟ قال: تمرّدتُ على سليمان فأرسل إليّ نفراً من الجنّ وطلت عليهم فجاءني هذا الفارس فأسرني وجرحني وهذا مكان الضربة إلى الآن لم يندمل».

وما ورد من أ نّه عليه السلام كان مع الأنبياء باطناً ومع محمّد صلى الله عليه و آله ظاهراً وباطناً ويرشد إليه أيضاً قوله: «أنا حملت نوحاً في السفينة، أنا صاحب يونس في بطن الحوت، أنا الذي جاوزت موسى البحر، وأهلكت القرون الأُولى، أعطيتُ علم الأنبياء والأوصياء وفصل الخطاب، وبي تمّت نبوّة محمّد صلى الله عليه و آله».

وقوله عليه السلام: «أنا الذي جحد ولايتي ألف أُمة فمسخوا، أنا المذكور في سالف الزمان والخارج في آخر الزمان»(1).

ويدلّ عليه أيضاً حكايته مع اُمّه فاطمة بنت أسد ومع سلمان الفارسي حيث نجّاهما من الأسد. روى السيّد هاشم البحراني في مدينة المعاجز 260:1، الحديث 234 عن البرسي قال: «رويت حكاية سلمان وأ نّه لمّا خرج عليه الأسد

ص: 239


1- أخرجه البرسي في مشارق الأنوار: 320، فصل 150، ط. الشريف الرضي.

-

قال: يا فارس الحجاز أدركني فظهر إليه فارس وخلّصه منه وقال للأسد: أنت دابته من الآن فعاد يحمل له الحطب إلى باب المدينة امتثالاً لأمر علي عليه السلام».

وظهوره على فرعون لمّا همّ بقتل موسى بصورة شاب لابس لباس الذهب، روى السيّد هاشم البحراني في حلية الأبرار 224:1: «إنّ فرعون لعنه اللّٰه لمّا ألحق هارون بأخيه موسى عليه السلام دخلا عليه يوماً وأوجسا خيفة منه فإذا فارس يقدمهما، ولباسه من ذهب وبيده سيف من ذهب وكان فرعون يحبّ الذهب فقال لفرعون: أجب هذين الرجلين وإلّا قتلتك فانزعج فرعون لذلك وقال:

عد عليّ غداً.

فلمّا خرجا دعا البوّابين وعاقبهم وقال: كيف دخل عليّ هذا الفارس بغير إذن فحلفوا بعزّة فرعون أ نّه ما دخل إلّاهذان الرجلان وكان الفارس عليّ عليه السلام هذا الذي أيّد اللّٰه تعالى به النبيّين سرّاً وأيّد به محمّداً صلى الله عليه و آله جهراً إلّاأنه كلمة اللّٰه الكبرى التي أظهرها لأوليائه فيما شاء من الصور فينصرهم بها وبتلك الكلمة يدعون فيجيبهم اللّٰه وينجيهم وإليه الإشارة بقوله: «وَ نَجْعَلُ لَكُمٰا سُلْطٰاناً فَلاٰ يَصِلُونَ إِلَيْكُمٰا بِآيٰاتِنٰا» ، قال ابن عباس: كانت الآية الكبرى لهما هذا الفارس»، وغير ذلك من الغرائب المعروفة، وقال: «أنا والهداة من أهل بيتي سرّ اللّٰه المكنون، وأولياؤه المقرّبون كلّنا واحد، وأمرنا واحد، وسرّنا واحد فلا تفرّقوا بيننا فتهلكوا، فإنّا نظهر في كلّ زمان بما شاء اللّٰه فالويل كلّ الويل لمن أنكر ما قلت، ولا ينكره إلّا أهل الغباوة ومن خُتم على قلبه وسمعه وجعل على قلبه غشاوة»(1).

ص: 240


1- أخرجه البرسي في مشارق أنوار اليقين: 306، وتقدّمت هذه الخطبة.

ويحتمل أن يراد بظاهرهم علومهم الظاهرة من علوم الشريعة المتعلّقة بالحلال والحرام والحدود والأحكام، وبباطنهم الأسرار المكنونة التي لا يطّلع على بعضها سوى أهل سرّهم كسلمان وكميل وغيرهما، وفي هذا المقام قال: «لو علم أبو ذرّ ما في قلب سلمان لكفّره أو لقتله»(1).

وقال عليه السلام:

(إنّي لأكتم من علمي جواهره *** كيلا يرى الحقّ ذو جهل فيفتننا)(2)

إلى آخر الأبيات.

وقال عليه السلام: «إنّ أمرنا صعب مستصعب، لا يحتمله إلّاملك مقرب، أو نبيّ مرسل، أو مؤمن امتحن اللّٰه قلبه للإيمان»(3).

وأمثال هذه الكلمات منهم كثيرة لا تحصى، ويحتمل أن يراد بظاهرهم الإمامة والخلافة، وبباطنهم حقيقتهم النورانية المجرّدة التي لا ينال إلى إدراكها أيدي العقول كما قال: «ظاهري إمامة وباطني غيب لا يدرك»(4)، وقال:

ص: 241


1- ذكره السيّد المرحوم عبد اللّٰه شبّر في مصابيح الأنوار في حلّ مشكلات الأخبار 348:1، الحديث الثالث والخمسون نقلاً عن الكافي، واحتمل فيه ستّة احتمالات منها وهو الخامس: «أن يكون المعنى لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان من العلم لقتله، لأنّ أبا ذر يعلم أنّ في قلب سلمان علماً ويعلم أ نّه لا يجوز له إظهاره تقيّة فمع ذلك إذا أظهر سلمان ما في قلبه لأبي ذر ولم يتّق منه لقتله لعدم جواز إظهاره لذلك العلم ولا يخفى بعده».
2- هذه الأبيات منسوبة للإمام زين العابدين عليه السلام.
3- أخرجه الصفّار في بصائر الدرجات 26:1، باب 12، الحديث 2.
4- راجع بحار الأنوار 171:25، الحديث 38، الباب الرابع.

«نحن في الحقيقة نور اللّٰه الذي لا يزول ولا يتغيّر»(1)، ويحتمل أن يراد بظاهرهم الناطق منهم وبباطنهم الصامت، فإنّ الحسن والحسين عليهما السلام كانا صامتين في زمن عليّ عليه السلام، كما أنّ الحسين كان صامتاً في زمن الحسن عليه السلام، وهكذا سائر الأئمة وهذا لا ينافي إمامة الصامت كما لا يخفى، وإليه الإشارة بقوله: «إمامان قاما أو قعدا»(2). وسأل يعقوب السرّاج أبا عبد اللّٰه عليه السلام فقال: «متى يمضي الإمام حتّى يؤدّي علمه إلى من يقوم مقامه من بعده ؟ قال: لا يمضي الإمام حتّى يفضي علمه إلى من انتجبه اللّٰه، ولكن يكون صامتاً معه فإذا مضى ولي العلم نطق به من بعده»(3). وفسّر في الأخبار (البئر المعطّلة والقصر المشيد) في قوله: «وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ»(4) بالإمام الصامت والناطق.

ويحتمل أن يراد بظاهرهم شاهدهم وبباطنهم غائبهم فيكون العطف للتفسير والتأكيد فيجري فيهما ما تقدّم فيهما.

ولذا قال في الخطبة النورانية: «إنّ غائبنا إذا غاب لم يغب». ومن هنا ينكشف سرّ حديث «الضيافة، وغزوة الأحزاب والبصرة»، وعن ابن شهر آشوب: «ان القوم لما انهزموا يوم الأحزاب انقسموا سبعين فرقة في كل فرقة ترى وراءها معهاعلي بن أبي طالب»(1) وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: جاء الناس إلى الحسن بن علي

ص: 242


1- مشارق أنوار اليقين: 306، ط. الشريف الرضي - قم.
2- بحار الأنوار 306:16.
3- بحار الأنوار 95:26.
4- سورة الحج: 45.

فقالوا: أرنا عجائب أبيك التي كان يريناها؟ فقال: أتؤمنون بذلك ؟ قالوا:

نعم نؤمن بذلك. قال: أليس تعرفون أبي ؟ قالوا جميعاً: بلى نعرفه، فرفع لهم جانب الستره فإذا أمير المؤمنين عليه السلام قاعد. فقال: تعرفونه ؟ قالوا بأجمعهم:

هذا أمير المؤمنين عليه السلام ونشهد أ نّك وليّ اللّٰه حقاً، والإمام من بعده، ولقد أريتنا أمير المؤمنين بعد موته، كما أرى أبوك أبا بكر رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله جدّك في مسجد قبا بعد موته»(1).

(وقد أرى أمير المؤمنين أبا بكر رسول اللّٰه بعد وفاته في مسجد قبا)، كما روى الصفّار ذلك عن أبان بن تغلب عن أبي عبد اللّٰه عليه السلام: «إنّ أمير المؤمنين عليه السلام لقي أبا بكر فاحتجّ عليه ثمّ قال له: أما ترضى برسول اللّٰه صلى الله عليه و آله بيني وبينك ؟ قال:

فكيف لي به ؟ فأخذ بيده وأتى مسجد قبا فإذا رسول اللّٰه صلى الله عليه و آله فيه فقضى على أبي بكر فرجع أبو بكر مذعوراً فلقي عمر فأخبره فقال: مالكَ أما علمتَ سحر بني هاشم»(2).

وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أ نّه قال: «يموت من مات منّا وليس بميّت ويبقى من بقى منّا حجّة عليكم»(3).

ويصدقه قول اللّٰه: «وَ لاٰ تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ أَمْوٰاتاً بَلْ أَحْيٰاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ »(4) .

ص: 243


1- بصائر الدرجات 6:275
2- نفس المصدر.
3- نفس المصدر.
4- سورة آل عمران: 169.

والحمد للّٰه ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد صلى الله عليه و آله وآله الطاهرين عليهم السلام.

ونستغفر اللّٰه تعالى من الزيادة والنقصان، والسهو والغلط والنسيان، إنه غفور منان واللّٰه عالم بعواقب الأُمور ومصالح العباد والسلام عليكم ورحمة اللّٰه وبركاته.

تم بعون اللّٰه

30 / صفر / 1426 ه

قم المقدسة

ص: 244

الفهرست

معنى المعرفة في زيارة الإمام الحسين عليه السلام 5

الحكمة من زيارة الإمام الحسين عليه السلام 11

مواسم زيارة الإمام الحسين عليه السلام 15

آثار وفضل زيارة الإمام الحسين عليه السلام 18

في معنى الزيارة ووظائفها 26

السر في عدد الأربعين 35

متن زيارة أربعين الإمام الحسين عليه السلام 40

شرح متن زيارة الأربعين 43

اَلسَّلامُ عَلىٰ 45

وَلِيِّ 50

اللّٰه 56

وَحَبيبِهِ 58

اَلسَّلامُ عَلىٰ خَليلِ اللّٰهِ وَنَجيبِهِ 65

اَلسَّلامُ عَلىٰ صَفِيِّ اللّٰهِ وَابْنِ صَفِيِّهِ 68

اَلسَّلامُ عَلىَ الْحُسَيْنِ الْمَظْلُومِ الشَّهيدِ 70

اَلسَّلامُ علىٰ اَسيرِ الْكُرُباتِ 78

اَللّهُمَّ اِنّي اَشْهَدُ اَنَّهُ وَلِيُّكَ وَابْنُ وَلِيِّكَ ، وَصَفِيُّكَ وَابْنُ صَفِيِّكَ 88

ص: 245

الْفآئِزُ بِكَرامَتِكَ ، اَكْرَمْتَهُ بِالشَّهادَةِ 90

وَحَبَوْتَهُ بِالسَّعادَةِ 92

وَاَجْتَبَيْتَهُ بِطيبِ الْوِلادَةِ 97

وَجَعَلْتَهُ سَيِّداً مِنَ السّادَةِ 104

وَقآئِداً مِنَ الْقادَةِ 106

وَذآئِداً مِنْ الْذادَةِ 109

وَاَعْطَيْتَهُ مَواريثَ الْأَنْبِيآءِ 115

وَجَعَلْتَهُ حُجَّةً عَلىٰ خَلْقِكَ 120

مِنَ الأَْوْصِيآءِ 123

فَاَعْذَرَ فيِ الدُّعآءِ 126

وَمَنَحَ النُّصْحَ 128

وَبَذَلَ مُهْجَتَهُ فيكَ 131

لِيَسْتَنْقِذَ عِبادَكَ مِنَ الْجَهالَةِ 135

وَحَيْرَةِ الضَّلالَةِ 136

وَقَدْ تَوازَرَ عَلَيْهِ مَنْ غَرَّتْهُ الدُّنْيا 138

وَباعَ حَظَّهُ بِالْأَرْذَلِ الأَْدْنىٰ 141

وَشَرىٰ آخِرَتَهُ بِالثَّمَنِ الْأَوْكَسِ 144

وَتَغَطْرَسَ وَتَرَدّىٰ في هَواهُ 146

وَاَسْخَطَكَ وَاَسْخَطَ نَبِيَّكَ 148

وَاَطاعَ مِنْ عِبادِكَ 150

اَهْلَ الشِّقاقِ وَالنِّفاقِ 152

وَحَمَلَةَ الْأَوْزارِ 155

الْمُسْتَوْجِبينَ النّارَ 157

ص: 246

فَجاهَدَهُمْ فيكَ 159

صابِراً مُحْتَسِباً 161

حَتّىٰ سُفِكَ في طاعَتِكَ دَمُهُ 163

وَاسْتُبيحَ حَريمُهُ 164

اَللّهُمَّ فَالْعَنْهُمْ لَعْناً وَبيلاً 165

وَعَذِّبْهُمْ عَذاباً اَليماً 168

اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَابْنَ رَسُولِ اللّٰهِ 169

اَلسَّلامُ عَلَيْكَ يَابْنَ سَيِّدِ الْأَوْصِيآءِ 172

اَشْهَدُ اَنَّكَ اَمينُ اللّٰهِ وَابْنُ اَمينِهِ 174

عِشْتَ سَعيداً وَمَضَيْتَ حَميداً 176

وَمُتَّ فَقيداً مَظْلُوماً شَهيداً 178

وَاَشْهَدُ اَنَّ اللّٰهَ مُنْجِزٌ ما وَعَدَكَ 180

وَمُهْلِكٌ مَنْ خَذَلَكَ وَمُعَذِّبٌ مَنْ قَتَلَكَ 182

وَاَشْهَدُ اَنَّكَ وَفَيْتَ بِعَهْدِ اللّٰهِ 184

وَجاهَدْتَ في سَبيلِهِ 187

حَتّىٰ اَتاكَ الْيَقينُ 189

فَلَعَنَ اللّٰهُ مَنْ قَتَلَكَ ، وَلَعَنَ اللّٰهُ مَنْ ظَلَمَكَ 192

وَلَعَنَ اللّٰهُ اُمَّةً سَمِعَتْ بِذلِكَ فَرَضِيَتْ بِهِ 196

اَللّهُمَّ اِنّي اُشْهِدُكَ اَنّي وَلِيٌّ لِمَنْ والاهُ ، وَعَدُوٌّ لِمَنْ عاداهُ 198

بِاَبي اَنْتَ وَاُمّي يَابْنَ رَسُولِ اللّٰهِ 199

اَشْهَدُ اَنَّكَ كُنْتَ نُوراً في الْأَصْلابِ الشّامِخَةِ وَالْأَرْحامِ الْمُطَهَّرَةِ 200

لَمْ تُنَجِّسْكَ الْجاهِلِيَّةُ بِاَنْجاسِها وَلَمْ تُلْبِسْكَ الْمُدْلَهِمّاتُ مِنْ ثِيابِها 203

وَاَشْهَدُ اَنَّكَ مِنْ دَعآئِمِ الدّينِ وَاَرْكانِ الْمُسْلِمينَ 205

ص: 247

وَمَعْقِلِ الْمُؤْمِنينَ 207

وَاَشْهَدُ اَنَّكَ الْأِمامُ الْبَرُّ التَّقِيُّ الرَّضِيُّ الزَّكِيُّ الْهادِي الْمَهْدِيُّ 209

وَاَشْهَدُ اَنَّ الْأَئِمَّةَ مِنْ وُلْدِكَ كَلِمَةُ التَّقْوىٰ ، وَاَعْلامُ الْهُدىٰ ، وَالْعُرْوَةُ الْوُثْقىٰ ، وَالْحُجَّةُ علىٰ اَهْلِ الدُّنْيا 213

وَاَشْهَدُ اَنّي بِكُمْ مُؤْمِنٌ ، وَبِاِيابِكُمْ مُوقِنٌ 219

بِشَرايِعِ ديني وَخَواتيمِ عَمَلي، وَقَلْبي لِقَلْبِكُمْ سِلْمٌ وَاَمْري لِأَمْرِكُمْ مُتَّبِعٌ 227

وَنُصْرَتي لَكُمْ مُعَدَّةٌ 231

حَتّىٰ يَاْذَنَ اللّٰهُ لَكُمْ ، فَمَعَكُمْ مَعَكُمْ لا مَعَ عَدُوِّكُمْ 233

صَلَواتُ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ ، وَعلىٰ اَرْواحِكُمْ وَاَجْسادِكُمْ ، وَشاهِدِكُمْ وَغآئِبِكُمْ ، وَظاهِرِكُمْ وَباطِنِكُمْ ، آمينَ رَبَّ الْعٰالَمينَ 234

الفهرست 245

ص: 248

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.