نحن و تراثنا الأخلاقي المجلد 3

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

نحن وتراثنا الاخلاقي

الجزء الثالث

تحریر

أ.د.عامر عبدزيد الوائلي

2018م

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

هوية الكتاب

الوائلي، عامر عبد زيد

نحن وتراثنا الأخلاقي / تحرير أ.د. عامر عبد زيد الوائلي

الطبعة الأولى، كربلاء، العراق، العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1439ه، 2018م.

ISBN: 9789922604107 (set)

3 مجلد، 24 سم.

يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

1- الأخلاق الإسلامية، 2- الأخلاق - فلسفة . ألف . العنوان

BJ1291 .W35 2018

مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

الفهرس

المحور الخامس

الاخلاق في الفكر الاسلامي الحديث والمعاصر

الفلسفة الأخلاقية عند محمد اقبال ... 8

د. رائد جبار كاظم

الأخلاق عند مرتضى المطهري ونقده للنظريات الأخلاقية الغربية ... 36

انتصار سلمان سعد الزهيري

الفكر الأخلاقي عند محمد باقر الصدر... 85

رائد جبار كاظم

الأخلاق الوضعية ( الاجتماعية ) عند علي الوردي ... 126

قيس ناصر راهي

أخلاق المثاليّة المُعدَّلة عند توفيق الطويل ... 148

غيضان السيد علي

الدرس الأخلاقي في مشروع طه عبد الرحمن المقاصدي ...171

محمد شهيد

نقد قيم الحوار مقاربة للمنهج النقدي عند طه عبد الرحمن ...981

طارق الفاطمى

اخلاقية الحب دراسة في النظرية الاخلاقية عند العلامة الطباطبائي ... 206

محمد عبد المهدي سلمان الحلو

النسبة بين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية ... 722

علي شيراوني

ص: 4

المحور السادس

المشاريع الغربية

نسيان التخلق.. القيم الغربية وإشكالية الدلالة ... 246

شريف الدين بن دوبه

علم الأخلاق الوسطى عند أرسطو ... 274

مصطفى النشار

الأخلاق في تاسوعات أفلوطين «تحليل لمفاهيم الاخلاقية» ... 297

جملى حليل نعمة المعله

المذاهب الأخلاقية للحداثة ... 329

عبد الحميد يوسف

في المتاهة الكانطية : محاولة في نقد القانون الأخلاقي الكانطي ... 341

إدريس هاني

اشكالية الحرية في فلسفة كانط ... 873

زيد عباس الكبيسي

الأخلاق الذاتية الكانطية والخدمة الإلهية ... 423

هادي قبيسي

الالتزام الأخلاقي مباحثة برغسون مع كانط ... 434

مونيك كاستيلو

المشروع الأخلاقي الغربي مقاربة نقدية ... 451

عامر عبد زيد الوائلي

ص: 5

مناقشة لأطروحات ( جيمس ستيريا ) الأخلاقية ... 471

مازن المطوري

أخلاقيات ما بعد الحداثة ... 194

محمود حيدر

جدلية السعادة والقلق في ظل التقنية بين مارتن هيدجر واولريش بيك ... 529

علاء كاظم الربيعي

ص: 6

المحور الخامس

الاخلاق في الفكر الاسلامي الحديث والمعاصر

ص: 7

الفلسفة الأخلاقية عند محمد اقبال

اشارة

د. رائد جبار کاظم(1)

المقدمة

كثيرة هي الكتابات والدراسات العربية والاسلامية والأجنبية التي تناولت فكر وفلسفة وأدب المفكر الاسلامي محمد اقبال من، زاوية الاصلاح والسياسة والتجديد وفلسفة الدين وعلم الكلام، ولكن ليست هنالك دراسة مستقلة وموسعة تتناول الفكر الأخلاقي أو فلسفة الأخلاق في فكر محمد اقبال، رغم أن فكره أخلاقي بامتياز، ويتضح ذلك جلياً فيما كتب من كتابات ودوواين شعرية كثيرة تحمل الطابع الاصلاحي والتربوي والأخلاقي والنهضوي بالمجتمع الاسلامي، وصدح اقبال و صدع في مواضع كثيرة داعياً الإنسان المسلم لأن يصلح فكره وواقعه وأخلاقه وبناء ذاته بناءاً سليماً وفق ما جاء به الاسلام ونبيه الكريم(صلی الله علیه و آله و سلم)و ودستوره القويم (القرآن الكريم)، ففيه الصلاح والنجاح والفلاح في الدارين، وقد قدم اقبال فلسفة ومشروعاً كاملاً في هذا المجال (اصلاح الأخلاق)، على مستوى الفرد والمجتمع، من خلال فلسفة الذات (خودي) ، التي كانت جوهر فكره وأساس فلسفته والشغل الشاغل لأدبه

ص: 8


1- الجامعة المستنصرية - كلية الآداب - قسم الفلسفة : يؤكد الباحث ان الأفكار الاصلاحية عند محمد اقبال، كانت تهدف الى التغيير والاصلاح وتحقيق النهضة على مستوى الفرد والمجتمع ، واصلاح الأخلاق من خلال فلسفته الأرتقاء بالإنسان والمجتمع المسلم، ومحاولة التركيز على المحتوى الداخلي للانسان وأصلاح جوهره وتنقية النفس من كثير من الأمراض التي تفتك بالإنسان أخلاقياً، في مواجهة الجهل والمرض والتخلف، الجهل بالعلوم العملية فان الإسلام الحي الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور. إن أمتياز فلسفة اقبال بأنها فلسفة أخلاقية مميزة، منسجمة تماماً مع الفكر الاسلامي، وهذا يتضح جلياً في فلسفته وكتاباته ومحاضراته وأشعاره الفلسفية والاجتماعية والاصلاحية. المحرر

وشعره، وقد صاغها من مصادر فكرية ومعرفية وثقافية عدة، هندية واسلامية وغربية، ولكن هدفها الأساس يحمل طابع الأصلاح والبناء والتصحيح والتجديد والنهضة بالأمة الاسلامية والأخذ بيدها نحو الكمال والنجاح والتقدم بين الشعوب والأمم، والهم الاسلامي كان الشغل الشاغل لفكر محمد اقبال

لقد سعى اقبال الى اقامة فلسفته الأخلاقية على دعامة الدين والعقل، والايمان القلبي والمعرفة العقلية، وهذا ما يذكرنا بفلاسفة الاسلام وبالمتصوفة والعرفاء ممن وفقوا بين الفلسفة والدين، لأقامة فلسفة أخلاقية تمزج بين الجانبين، مع التأكيد على الجانب المهم للروح والبعد المعنوي لبناء شخصية الانسان، وتحقيق التوازن المادي والروحي، الجسدي والنفسي، الفردي والاجتماعي، الأيماني القلبي والعقلي، وقد توسع اقبال في شرح فلسفته وتوضيحها في كتاباته ودواوينه الشعرية ومحاضراته الفكرية والثقافية.

أدرك اقبال أن الاسلام يمثل ثورة روحية وفكرية على كل الأفكار والعقائد الزائفة التي كانت منتشرة في مجتمع الجزيرة العربية والمنطقة آنذاك، وقد حمل النبي محمد(ص) مشعل التغيير والتنوير والاصلاح والتجديد في بنية وواقع ذلك المجتمع الجاهلي المتهرى والمتخلف، الذي فيه من العادات والتقاليد البالية ما يشمئز منها وجدان الانسان، من خلال التجاوز على كرامة الإنسان وحقوقه، واستغلال قوة الرجل في عشيرته وكثرة أمواله وتجارته وولده ليستغل الناس ويستعبدهم في تحقيق مصلحته وزيادة ثرواته وجاهه، ليكون شريفاً قوياً مهاباً في مجتمعه، وهذا الحال شاهده اقبال بعينه في المجتمع الهندي، حيث وجود طبقة الأشراف والأغنياء وطبقة الفقراء والكادحين وما يقع من ظلم وحيف من قبل الطبقة الأولى على الطبقة الثانية، ولذلك لابد من الثورة على الظلم والظالمين وتحقيق العدل والمساواة والرحمة بين الناس.

في بحثنا هذا نسعى لمحاولة الكشف وبيان فلسفة اقبال الاخلاقية التي صاغها من خلال مشروعه الفكري والفلسفي الاسلامي، من خلال كتاباته وقصائده

ص: 9

الشعرية ومحاضراته وخطبه التي كان لها الدور الكبير في تحقيق الثورة والاصلاح على الواقع الفاسد وارشاد الناس نحو الطريق القويم، ومحاولة كشف الزائف من السليم من الأفكار والعادات والتقاليد والاخلاق داخل المجتمع الاسلامي، ومحاربة الدعوات الصوفية الفاسدة التي تدعو الناس للكسل والانحلال والخضوع والذل والزهد في الحياة، وهذه دعوات كاذبة تقف ورائها أجندات خارجية وداخلية هدفها انحلال المجتمع وسباته ليغط بنوم عميق من أجل نهبه واستغلاله وإماتة طاقاته، والبديل لذلك الحال في نظر اقبال هو تحقيق أخلاق السمو والرفعة والقوة والجهاد والمواجهة، لمحاربة الخصم ودحض فلسفته الزائفة، من خلال التربية والعمل والحركة والأخذ برسالة الاسلام الحركية وما جاء به القرآن الكريم من أخلاق الفضيلة والعمل ومحاربة الجمود والتقليد الأعمى.

فلسفة الذات عند اقبال فلسفة لاصلاح الأخلاق

الفلسفات والأفكار الاصلاحية التي انتشرت في العالمين العربي والاسلامي كانت تهدف الى التغيير والاصلاح وتحقيق النهضة على مستوى الفرد والمجتمع، واصلاح الأخلاق كان أحد الأمور المهمة التي سعى لها جمع من المصلحين والمفكرين، ومن أجل ذلك قدموا مشاريع فكرية وثقافية اصلاحية، تهدف الى انتشال الإنسان العربي والمسلم من حاله المأساوي ومحاولة استعادة دوره وبناء ذاته وحثه على فلسفة العمل ومقاومة الضعف والكسل والانحلال، وكانت لكتابات محمد اقبال الشعرية والنثرية، وخطبه السياسية صدى قوي في أرجاء الهند، وملأت حكمه الآفاق، وقد عُرف بحركته الإصلاحية التجديدية النهضوية التي تدعو إلى مواكبة حركة التقدم والازدهار في الميادين كافة، مع الالتزام بالشريعة الإسلامية السمحاء. فالإسلام في

نظر مفکريه، دين حركي يدعو إلى التطور والاجتهاد وليس ديناً سكونياً منغلقاً(1).

ولعل سائلا يسأل: ماهي دوافع اقبال لاختيار فلسفته (فلسفة الذات)؟ وهل كانت من واقعه ومحيطه أم كانت منطلقة فلسفة مثالية لا تمت الى واقع بصلة؟ وما هو

ص: 10


1- ينظر: محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. نقله للعربية عباس محمود. دار آسیا. 1985. ص 168 وما بعدها.

السائد من الافكار والافعال والسلوك في محيطه آنذاك؟ لقد رأى اقبال الكثير من يثير علامات التعجب والاستفهام في واقعه، فقد رأى اقبال(1):

1- الجهل والمرض والتخلف الجهل بالعلوم العملية وبأساليب المدنية والتنظيم الاجتماعي. والإسلام الحي الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور صار عنواناً للذلة والفقر والضياع في نظر المسلمين المتزمتين، والفهم الخاطئ للإسلام من قبل المسلمين.

2- فساد العقيدة وتحول التوحيد الإسلامي إلى وثنية مستترة وراء عبادة الأهواء والحكام والأصنام البشرية، ولهذا يقول إقبال: إن الأصنام ما زال المسلمون يعبدونها حتى اليوم، وإن ادعوا الإيمان بالله، وإن لهذه الأصنام صوراً عدة وألواناً شتى.

3- الزهد في الحياة وانتشار الرهبنة بانتشار الروح الجبرية والتواكلية، وهناك التصوف العجمي السلبي. كما يقول إقبال الذي أبعد الناس عن العمل، فاستسلموا للأقدار، وقالوا ماذا نعمل أمام قضاء الله وقدره. أنثور ونتمرد على سُنن الله وإرادته؟ فكل شيء آت منه ولا مرد لقضائه، ولكن إقبال رأى أن هذا التواكل أنسى المسلمين إن لهم إرادة مضمونها الحرية والاختيار لا الجبر والقهر ، وأن الإنسان مخير وليس مسيراً.

4- إقبال الشباب المسلم على الحضارة الغربية، مبهورين بمفاتنها ومباهجها البراقة الزائفة إذ لم يجدوا في واقعهم سوى المرض والتخلف والرجعية، فأقبلوا على حضارة الغرب من دون نقد أو تمحيص، واعتقدوا أن كل ما يأتي به الغرب هو الدواء الشافي المعافي لأمراضهم ، مما جعلهم يفقدون الثقة بأنفسهم، وأصبحوا مقلدين ومتبعين لا يعرفون أي معنى للإبداع والإنشاء بعد ما كانوا هم المبدعين المنسيين. فالإسلام ليس مجرد غذاء روحي للإنسان فحسب كما يظن بعضهم، بل يمثل أيضاً حاجة يومية وعملية للحياة أجمع..

ص: 11


1- ينظر : محمد الكتاني. الإسلام والتطور في ضوء فلسفة محمد إقبال. مجلة الثقافة (السورية) كانون الثاني. دمشق. 1979. ص 4.

5- أن المسلمين ليسوا كما كانوا سابقاً يتحملون المصاعب والمشاق من أجل الوصول إلى الأهداف والغايات السامية، فهم اليوم ينشدون السكون والدعة ولو عاشوا في أكناف العبودية وخمول الذكر، وإقبال يرى أن السعادة والنجاح لا تأتي إلا بعد شقاء وعناء وألم، ومن طلب العُلا سهر الليالي.

لقد رأى إقبال كل ذلك أمام عينيه، مما دعاه إلى وضع العلاج الناجع والدواء الشافي وتحسين واقعه السيئ كي ينهض بالأمة الإسلامية نحو الجد والاجتهاد والعمل المتواصل، لأنه من دون عمل وسعي جاد لا تكون هناك ثمرات، والعمل أساس فلسفة الذات عند إقبال(1).

ولا بد للناس من أن يعودوا لرشدهم ووعيهم عن طريق ذواتهم لأنها مصدر الحركة والعمل ومصدر النور والحياة ومركز الإنسانية ومدار الخلود. يجب أن يرجع الإنسان إلى ذاته، فيعرف ما يضعفها فيتركه، وما يقويها فيعمله وينفي عنها الخوف والجبن، وعليه أن يتخطى العقبات في سبيل الحياة، وهي المادة، ولكن المادة فی نظر إقبال ليست شراً كما يقول حكماء الإشراق بل هي تعين الذات على الرقي، فإن قوى الذات الخفية تتجلى فى مصادمة هذه العقبات(2).

وهكذا آمن إقبال بالإنسان ووجوده أشد الإيمان فذات الإنسان في نظر إقبال هی أصل الكون، وإهمال الذات وعدم الشعور بها وعدم وعيها الوعي التام هو الجهل والبلاء المؤدي إلى خراب العالم. وكان إقبال يرى إن ذلك لا يكون ألا من خلال فهم الإسلام فهماً صحيحاً وتدبر آياته ومعرفة أوامره ونواهيه، فيقول: إن (العالم اليوم أصبح مفتقراً إلى تجديد بسيولوجي والدين الذي هو في أسمى مظاهره ليس عقيدة فحسب أو كهنوتاً أو شعيرة من الشعائر، هو وحده القادر على إعداد الإنسان العصري إعداداً خُلقياً يؤهّله لتحمل التبعة العظمى التي لابد من أن يتمخص عنها تقدم العلم الحديث، وأن يرد إليه تلك النزعة من الأيمان، التي تجعله قادراً على

ص: 12


1- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز. تر: د. عبد الوهاب عزام. دار المعارف. مصر . 1956. ص 13-14 ود. طه عبد الرحمن. سؤال الأخلاق، ط1، المركز الثقافي العربي. الدار البيضاء المغرب. 2000 م. ص 198-199.
2- محمد إقبال . ديوان الأسرار والرموز . ص 17.

الفوز بشخصيته في الحياة الدنيا، والاحتفاظ بها في دار البقاء)(1). ويقول إقبال إن الإنسانية تحتاج اليوم إلى ثلاثة أمور(2).

1- تأويل الكون تأويلاً روحياً.

2- تحرير روح الفرد.

3- وضع مبادئ أساسية ذات أهمية عالمية توجه تطور المجتمع الإنساني على أساس روحي.

لقد توهم بعض الفلاسفة والمتصوفه بأن المثل الأعلى للإنسان هو في سلب الذات وأماتتها وإذلالها حتى تؤهل للفناء في ذات الله ، وأصحاب وحدة الوجود - فی نظر إقبال - يرون أن مقصد حياة الإنسان أن يفني نفسه في الحياة المطلقة أو (أنا) المطلق، كما تفنى القطرة في البحر(3).

ويرى إقبال أن أصل هذه الأفكار ومصدرها هو التصوف العجمي (التصوف السلبي) كما يسميه، الذي يدعو إلى إماتة الذات وليس إحياءها، وعكس هذا التصوف، التصوف الإسلامي (التصوف الايجابي) الذي يُحي (خودي) الذات، ويبلغ بها إلى أعلى المقامات(4).

يقول إقبال: (إن التصوف العجمي الذي شاع بين المسلمين أخذ من رهبانية كل أمة، وجهد أن يجذب إليه: كل نحلة، حتى القرمطية التي قصدت إلى التحلل من الأحكام الشرعية)(5).

ويقول أيضاً: (كما أن أمم الشرق المتفلسفة تميل إلى أن تعدّ (أنا) أي الذات، في

ص: 13


1- محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. ص 217.
2- محمد اقبال . المصدر نفسه، ص 207.
3- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص 16 . ومحمد إقبال. ديوان جاويد نامة- رسالة الخلود تر: د. محمد السعيد جمال الدين. مطابع سجل العرب. القاهرة. 1974، ص17.
4- د. عبد الوهاب عزام. محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره. ب - ت . ص 62.
5- محمد إقبال . ديوان الأسرار والرموز . ص 11.

الإنسان من خداع الخيال. وتعد الخلاص من هذا الغُل نجاة... واختلطت في عقول الهنادك وقلوبهم، النظريات والعمليات اختلاطاً عجيباً ودقق حكمائهم في حقيقة العمل، وانتبهوا إلى نتيجة مفادها: أن حياة (أنا) الذات أصل المصائب والآلام)(1).

كُل هذه السلبيات دعت إقبال إلى توخي الحذر من هذه الفلسفات، والعمل على إيجاد فلسفة جديدة نابعة من الدين الإسلامي، تؤدي إلى كمال الإنسان والإنسانية و خلودهما، وهذا لا ينال إلا بالعمل، وفلسفة الذات هي الفلسفة الجديدة التي جاء بها إقبال، معارضاً ورافضاً بها كل الفلسفات السلبية، السكونية الجامدة(2).

وتعني هذه الفلسفة أن الحياة كلها فردية، وليس للحياة الكلية وجود خارجي، وحيثما تجلت الحياة تجلت في شخص أو فرد أو شيء، والخالق كذلك فرد، ولكنه فرد لا مثيل له(3).

ويرى إقبال أن هدف الإنسان الديني والأخلاقي هو في إثبات ذاته وليس نفيها، وعلى قدر تحقيق انفراده أو وحدته يقرب من هذا الهدف.

قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)(تخلقوا بأخلاق الله) فبقدر اتصالنا بالله تعالى، وبقدر تخلقنا بأخلاقه وتشبهنا به سبحانه، ننال السمو والكمال ويصير الواحد منا فرداً بغير مثيل، كما أن الخالق فردُ لا مثيل له، وليس هذا القرب - كما يقول إقبال - هو أن يُفني الإنسان وجوده في وجود الله، كما تقول فلسفة الإشراق، بل هو على عكس هذا يمثل الخالق في نفسه.

ويرى إقبال أن الحياة رقي مستمر ونشاط متجدد، تُسخر كل الصعاب التي تعترض طريقها، وحقيقتها أن تخلق مطالب ومثلاً جديدة. وقد خُلق من أجل اتساعها وترقيها وقهر العقبات والمشقات، الحواس الخمس والعقل(4).

ص: 14


1- المصدر نفسه، ص: 13.
2- عصام الدين حواس. ثورة الأخلاق. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر. دار الكتاب العربي. القاهرة. ب . ت . ص 168 .
3- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص 16.
4- عبد الوهاب عزام. محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره. ص 56.

وليست المادة والطبيعة شراً، بل هي تعين الذات (خودي) على الكفاح والجهاد، وتتجلى قوى الذات الخفية في مصادمة هذه العقبات(1).

وتبلغ الذات منزلة الاختيار بهذا الجهاد والعمل المتواصل الذي فيه ديمومة الذات وخلودها لا في الاسترخاء فالذات - كما يقول إقبال - فيها اختيار وجبر، وتنال الحرية الكاملة إذا قاربت الذات الآلهية المطلقة، والحياة جهاد لتحصيل الاختيار، ومقصد الذات أن تبلغ الاختيار بجهادها(2).

والإنسان هو المخلوق الوحيد الذي يتمتع بالحرية والمسؤولية تجاه ما يفعل، قال تعالى : إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها، وحملها الإنسان إنهُ كان ظلوماً جهولاً(3)*. ويفسر إقبال هذه المسؤولية والأمانة بأنها تشكيل الإنسان لمصيره بمحض إرادته(4).

وفي ذات الإنسان قوة خلاقه وحيوية تدفع بالإنسان نحو الكمال وهي قوة العشق التي تحول القطرة إلى درة، يقول إقبال للإنسان (أخرج النغمة التي في قرار فطرتك. يا غافلاً عن نفسك. أخلها من نغمات غيرك(5).

فلسفة الذات (خودي) فلسفة الشخصانية الاسلامية

لعل سألا يسأل ماذا يقصد إقبال بكلمة (خودي )؟ ولماذا استخدم هذا المصطلح الفارسي من دون غيره من المصطلحات؟ وما هو معنى هذا اللفظ في اللغة الفارسية ؟(6).

ص: 15


1- أحمد حيدر . إعادة أنتاج الهوية. ط1، دار الحصاد. دمشق.1997. ص166.
2- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص 16-17.
3- سورة الأحزاب الآية 72.
4- محمد الكتاني. محمد إقبال مفكراً إسلامياً. ط1، دار الثقافة. الدار البيضاء. المغرب. 1978، ص80.
5- د. عبد الوهاب عزام. محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره. ص7.
6- رجعنا إلى معاجم وقواميس اللغة الفارسية لنتعرف على معنى كلمة (خودي) فوجدنا أن مصدرها هو (خود) وهو ضمير بعنوان الضمير المشترك للمتكلم والمخاطب والشخص الغائب. ويعني به النفس والذات للشخص. حسن عميد. فرهنك عميد . قاموس فارسي فارسي مطبعة سبهر1342شمسي - 1963م. ص 548. وكلمة (خودي) تدل بالعربية على معنى ( معرفة . أنانية. وجود). محمد التونجي. المعجم الذهبي (قاموس فرهنك طلائي) فارسي - عربي. ط1، دار العلم للملايين بيروت. 1969م. ص 246.

لم يكن من السهل على إقبال أن يتخذ لفظاً أو مصطلحاً لفلسفته في الذات بصورة بسيطة، وكان اختياره للفظة (خودي) اختياراً شاقاً ، وقد تعرض للنقد الشديد من قبل المثقفين لاختياره هذه الكلمة التي تعني لدى عامة الناس الأنانية والفردية ولكن إقبال لم يقصد بها هذا المعنى الشائع.

ويرى إقبال في سبب اختياره لكلمة (خودي) في بناء فلسفته كان بالغ الصعوبة ولم يصل اليها الا بعد جهد شديد. فمن وجهة النظر الأدبية فيها عدد من المثالب ونواحي النقص، ومن الناحية الأخلاقية تُستعمل عادة في كل من الفارسية والأردو الكلمات الأخرى للحقيقة الغيبية لكلمة (أنا) فكلها بمعنى سيء. كذلك الحال مع على نفس الدرجة من السوء، ومثل أنا، شخص، نفس . وكلمة (مين) على نفس القدر ذلك وحرصاً على متطلبات الشعر، فقد الفيت أن من السوء. ومع كلمة (خودي) أكثرها مناسبة(1).

ولم يقصد إقبال بكلمة (خودي) المعنى العام المعروف لدى الجميع (الفردية والأنانية والأثرة) وإنما يعني بها الإحساس بالنفس أو تعيين الذات،(2)ومن الناحية الأخلاقية يقصد بها الاعتماد على الذات، واحترام الذات، والثقة بالذات، والحفاظ عليها وتأكيد وجودها.

وإقبال يعني ب- (خودي) أيضاً (الشخص والشخصانية) وهذا ما ارتآه محمد عزيز الحبابي في كتابه (الشخصانية الإسلامية) ونحن نتفق معه في هذا الرأي(3).

ونرى أن السبب الرئيسي في اختلاف الباحثين والدارسين بشأن أهی فلسفة إقبال، فلسفة الذات أم فلسفة الأنا أم الفلسفة الشخصانية، يرجع إلى صعوبات النقل

ص: 16


1- ينظر: محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص 14-15 و د. أحمد معوض. العلاقة محمد إقبال. حياته وآثاره. الهيئة المصرية العامة للكتاب. 1980، ص330.
2- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص 15.
3- يقول الحبابي (أن كلمة شخص في نظرنا أقرب إلى الصواب من الذاتية. ألسنا نرى أن لفظ «شخص» ينحصر في الدلالة على الإنسان، في حين أن كلمة (ذات) يشترك فيها الإنسان والحيوان بل حتى الأشياء، نقول الرجل «ذاته» والحصان «ذاته» والورقة «ذاتها»)الشخصانية الإسلامية. ط2، دار المعارف. القاهرة. ب.ت. ص 21-22.

والترجمة من لغة إلى أخرى(1). وهذا ما أكده مجموعة من الباحثين أيضاً(2). كما أن مصطلح الذات بحد ذاته يعد من المشكلات الفلسفية(3). إذ إن أصحاب المعاجم والقواميس الفلسفية اختلفوا في تعريفها.

إن هدف إقبال في بناء فلسفته هو في إثبات الذات وتحقيق وجودها وتحصينها، لكي تبلغ أعلى المنازل وتصل إلى درجة الكمال متمثلة بمرتبة (الإنسان الكامل)، وليس بإماتتها وأفناها في الذات الآلهية. فقد رفض إقبال هذا الرأي الذي جاء به أصحاب وحدة الوجود من اتباع محي الدين بن عربي (ت 638 ه) وسبينوزا (ت 1677م) وهيجل (ت 1831م )(4).

ويرى إقبال بأن على أمم الشرق والأمة الإسلامية أن تنهض إلى العمل، لأن الإسلام يرى أن خلود (أنا) الذات في العمل(5). وعلى أمم الشرق أن تفهم أسرار الحياة، وأن تنظر إلى أمم الغرب التي امتازت بين الأمم بالعمل.

وتأكيد إقبال على العمل نابع من تأكيد الدين الإسلامي له. قال تعالى «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون»(6).

وقال تعالى «وأبتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك»(7).

ص: 17


1- يقول الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون (1859-1941م) لو أن قصيدة من الشعر تُرجمت إلى جميع اللغات الممكنة، فجميع تلك الترجمات مهما نبذل فيها من محاولات لحسن السبك والصياغة، ومهما نزد عليها من محسنات وتنقيحات لكي تعطي صورة تزداد أقتراباً من القصيدة فما هي بمعطية أبداً المعنى الباطن للأصل الذي نُقلت عنه. هنري برجسون. الفكر والواقع المتحرك. فصل المدخل إلى الميتافيزيقا. ت: سامي الدروبي. طبعة الأوابد. ب.ت. ص 177-178.
2- ينظر : د. عبد العزيز المقالح. إقبال ومعركة التحديث والتواصل. مجلة دراسات يمنية. العدد. 54. صنعاء. 1418- 1997. ص.9. والمقالح أيضاً. نماذج من شعر إقبال. مجلة دراسات يمنية. العدد 58. صنعاء. 1419ه- - 1998 م. ص12.
3- ينظر: أحمد حيدر. نحو حضارة جديدة. ط 1 ، مطبعة الإنشاء 1969. ص214.
4- الموسوعة العربية الميسرة. المجلد الأول. أشراف محمد شفيق غربال. دار نهضة لبنان. بيروت. 1980م.ص 183-184.
5- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص 13-14.
6- سورة التوبة. الآية 105.
7- سورة القصص. الآية 77.

ولا بد من أن يقوم هذا العمل على تقوية الذات التي هي مركز الكون، فيقول إقبال في ديوانه (أسرار الذات) عن الذات(1):

هيكل الأكوان من آثارها كل ما تُبصر من أسرارها

نفسها قد أيقظت حتى انجلى - عالم الأفكار ما بين الملا

ألف كون مختف في ذاتها -غيرها يُثبت من اثباتها

ونظرة إقبال هذه في تأكيد الذات وجعلها أصل الكون، وبوجودها توجد الأشياء، قريبة من نظرة الفلسفة المثالية الذاتية، التي تؤكد أولوية الذات وأنها مصدر الوجود والمعرفة، ولولاها لما عرفت الأشياء.

ويقول إقبال مؤكداً ما قلناه (ولما كانت حياة العالم من قوة الذات. فإنما تكون الحياة بقدر استحكام هذه الذات وصلابتها )(2).

فدعوة إقبال هذه ترشدنا وتحثنا الى معرفة النفس معرفة دقيقة وصحيحة، فألف باء السلوك الحسن والأخلاق العملية هو أن تعرف نفسك بنفسك، فتعرف مواضع النقص لتكملها، وأن تعرف حسناتها فتنميها، وسيئاتها فتقلع عنها، فمعرفة النفس مبدأ كل علم وفضيلة، ومعرفة النفس مفتاح معرفة الله الحق المبين(3).

ويدعونا الدين والعلم والفلسفة إلى معرفة النفس، قال تعالى «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنهُ الحق »(4).

وكانت حكمة سقراط التي يرددها على الدوام تلك الحكمة الخالدة «اعرف نفسك بنفسك».

ص: 18


1- محمد إقبال. المصدر السابق. ص 13.
2- محمد إقبال. ديوان أسرار الذات. ص 13-14.
3- منصور رجب علي. تأملات في فلسفة الأخلاق . ط3، مكتبة الأنجلو المصرية. القاهرة. 1961، ص 9-8.
4- سورة فصلت. الآية 83 .

وأن تلك الدعوة لمعرفة النفس التي أهتم بها إقبال في فلسفة الذات إنما هي بالأصل دعوة لسمو الأخلاق، وبناء الشخصية الإسلامية الصحيحة كي نصل إلى مرحلة الإنسان الكامل الذي يرتفع من الحيوانية الدنيا إلى الإنسانية العليا)(1). ولا يستطيع الإنسان بلوغ درجة الكمال واستحكام الذات عند إقبال - إلا بتوليد وخلق المقاصد، فإن حياة الذات عنده إنما تكون بهذه المقاصد، إذ يقول : إن بقاء الحياة أنما يكون بالأهداف، وجرس قافلتها إنما هو من المقاصد. فالحياة كامنة في البحث. وأصلها خاف في الأمل فاحفظ الأمل في قلبك حياً نابضاً، حتى لا تستحيل حفنة ترابك مزاراً، وتكون حياتك موتاً)(2).

ويدعو إقبال، الإنسان إلى أن يكون قوياً، لأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، ويقول عن القوة (عندما أقول (كن قوياً كالماس) فلا أعني ما يعنيه نيتشه في الصلابة أو قسوة الفؤاد أو انعدام الرحمة، وإنما أعني تكامل عناصر قوة الذات بحيث يمكنها أن تسد الطريق على قوى التدمير بوسائلها تجاه الخلود الذاتي)(3).

والذات تضعف وتقوى وكل ما يقويها هو خير وكل ما يضعفها هو شر، وليست هناك أعمال تورث اللذة وأعمال تورث الألم . بل هناك أعمال تكتب للنفس البقاء أو تكتب لها الفناء، ومبدأ العمل الذي يكتب للنفس البقاء - كما يقول إقبال - هو احترامي للنفس في وفي غيري من الناس(4).

- مراحل تربية الذات عند اقبال

لعل سائلا يسأل ما الغاية التي كان ينشدها إقبال من فلسفته في إثبات الذات؟ لقد أراد إقبال أن يصل إلى حقيقة عالية وغاية عظمى من إثبات الذات ألا وهي الوصول إلى درجة الإنسان الكامل، هذا الإنسان ذو الشخصية القوية، والطاقات الخلاقة المبدعة.

ص: 19


1- د. ماهر كامل. وعبد المجيد عبد الرحيم . مبادئ الأخلاق. ط1، مكتبة الأنجلو المصرية. القاهرة. 1958، ص4.
2- أحمد معوض. العلامة أحمد إقبال. ص 343.
3- المصدر نفسه، ص.332.
4- محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. 137.

ولعل سائلا آخر يسأل كيف يتسنى لنا الوصول إلى هذا المقام السامي وبأي وسيلة نبلغه ؟

يكون ذلك بنظر اقبال بالتربية الإسلامية الصحيحة، وبالمراحل التي حددها في فلسفته، إذ يقول اقبال في مقاله الذي بعثه إلى الأستاذ المستشرق الأنكليزي نیکلسون : أشرت في فصول هذا المثنوي لأسرار خودي، إلى أصول فلسفة الأخلاق الإسلامية، وبينت أن لكمال الذات ثلاث مراحل(1):

1- إطاعة القانون الإلهي.

2- ضبط النفس.

3- النيابة الإلهية.

1- إطاعة القانون الإلهي:

يوجه إقبال حديثه للإنسان ويدعوه إلى طاعة الله تعالى التي هي أول مراحل تربية الذات. وإنما تكون الطاعة بالانقياد للأوامر الإلهية ونواهيها. وعلى المؤمن أن يعلم أن كل ما أتى به الله تبارك وتعالى، إنما هو لمصلحة البشر والإنسانية أجمع.

ومن واجب العبد، المملوك، المخلوق، إطاعة السيد، المالك، الخالق الذي يُريد صلاحه في الدنيا والآخرة. ومهما كانت شدة هذه الواجبات فأنها لصلاح الإنسان، ولا يحمّل الله، الإنسان ما لا طاقة له به ، قال تعالى «من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها»(2).

ويضرب إقبال مثلاً عن الإنسان المطيع، ويشبهه بالجمل الذي يسير بأثقاله صابراً محتملاً، ولا يحسب ذلك ألماً بل هو لذة، ويقول إن الطاعة تجعل في الجبر الاختبار، ويكون الإنسان حراً عندما يُقيد نفسه بالشريعة، يقول إقبال(3):

ص: 20


1- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز ص 19.
2- سورة فصلت. الآية 46.
3- محمد إقبال. ديوان أسرار الذات. ص 38-37.

ألفة الكد شعار الجمل *** شيمة الصبر وقار الجمل

صامت الاخفاق يمشي ماضياً *** زورقاً في البيد يسري هادياً

فاحمل الفرض قوياً لا تهب *** وأرجون من عنده حسن المآب

أجهدن في طاعة يا ذا الخسار *** فمن الجبر سيبدو الاختيار

ولاشك في أن طاعة الله تبعث في النفس النور والقوة وتغمرها حيوية وطاقة لا توصف.

وأن المجتمع الذي يتمسك أفراده بطاعة الله تعالى والعمل في حدود شرائعه وأحكامه سيكون مجتمعاً عادلاً متفاهماً يعيش في ظل المودة والسلام، ويدعو الإسلام إلى بناء المجتمع الفاضل الذي تسود فيه القيم الأخلاقية التي تضبط سلوك الإنسان وتبقيه في إطار إنسانيته(1).

2- ضبط النفس:

المرحلة الثانية بعد طاعة الله تعالى، هي ضبط النفس الإنسانية، وردعها عن كل ما حرمه الله، فالنفس لها نوازع وأغراض وتحتدم فيها مشاعر ومطالب وتعتمل فيها شهوات ورغبات، فلو سارت وراء هواها لألقيت في التهلكة، لهذا فمن الضروري ضبط النفس وكبح جماح شهواتها ونوازعها الشريرة، بالرياضة الروحية وممارسة السلوك الحسن وتهذيب الأخلاق(2). يقول إقبال بخصوص ضبط النفس مشبهاً إياها بالجمل(3):

جمل نفسک تربو بالعلف *** فی اباء وعناد وصلف

فکن الحر وقدها بزمام *** تبلغن من ضبطها أعلی مقام

ص: 21


1- د. محسن عبد الحميد. منهج التغيير الاجتماعي في الإسلام. مطبعة الزمان. بغداد. 1986. ص107.
2- د. نجيب الكيلاني. إقبال الشاعر الثائر. الدار العلمية. ط2. 1391-1971. ص 63.
3- محمد إقبال. ديوان أسرار الذات. ص39.

من تمسك بعصا من «لا اله» *** فلتحطم طلسم الخوف يداه

كل من بالحق أحيا نفسه *** لا ترى الباطل يحني رأسه

وخير سبيل لضبط النفس عند اقبال هو في الحفاظ على الفرائض الدينية، فالصلاة درة التوحيد، والحج الأصغر لقلب المسلم وهي تعبر عن مكنون شوق الإنسان إلى من يستجيب لدعائه في سكون العالم المخيف(1). والصوم وأن كان فيه جوع وعطش إلا أنه خير ضابط للجسد. والحج على أنه هجرة عن الأهل والوطن، فهو نور لقلب المؤمن والزكاة وأن كان فيها أنفاق المال، إلا أنها درس في التعاون والمساواة ومحبة الآخرين(2). قال الله تعالى «لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون»(3).

ويُعد ميدان ضبط النفس وتربيتها من أصعب الميادين، وليس لكل إنسان القدرة على ذلك، إلا بالطاعة والصبر ولأيمان بقيمة الأهداف والمقاصد ، وما تتركه العقيدة الإسلامية من دور تنموي وبناءي على الذات الإنسانية.

3- النيابة الألهية (الخلافة):

إذا تمكن الإنسان بطاقاته التي وهبها له الله تعالى من طاعة المولى وضبط النفس، فقد صار إنساناً بمعنى الكلمة، بحيث أنه أصبح سيد نفسه وليس عبداً لها، فهو الذي يقودها وليس هي . فعندئذ يبلغ الإنسان المرحلة الثالثة وهيالنيابة الآلهية (الخلافة) ويصير الإنسان مدلول الآية القرآنية الكريمة «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة»(4).

وهذه المنزلة أسمى منازل العارفين الذين يتخلقون بأخلاق الله والذين «يحبهم ويحبونه»(5). والذين «لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون»(6). ويصف إقبال هذا

ص: 22


1- محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. ص 107.
2- د. أحمد معوض . العلامة محمد إقبال. ص 352 353.
3- سورة آل عمران. الآية 92.
4- سورة البقرة. الآية 30.
5- سورة المائدة. الآية 54.
6- سورة الأنبياء. الآية 27.

الإنسان الكامل المتعالي على هواه وشهواته بقوله :(1)

نائب الحق على الأرض سعيد *** حكمه في الكون خلد لا يبيد

هو بالجزء وبالكل خبير *** وبأمر الله في الأرض أمير

هو في الناس بشير ونذير ***وهو جندي وراع وأمير

ويصف إقبال (الإنسان الكامل) أيضاً في ديوانه (جاويد نامة) رسالة الخلود ويقول فيه : بأنه (هو كليم وهو مسيح وهو خليل، وهو محمد، هو الكتاب، هو جبريل، ففيه تنعكس صفات الأنبياء جميعاً، ولكنه ليس بنبي. (هو شمس كائنات أهل القلوب، من شعاعه حياة أهل القلوب) فأولياء الله يتلقون منه الفيوضات الروحانية)(2).

ورأى بعض الباحثين أن إقبالا تأثر بفلاسفة الإسلام (بفكرة الإنسان الكامل) ومنهم الحلاج وجلال الدين الرومي وعبد الكريم الجيلي والشيخ أحمد السرهندي وغيرهم(3). وبفلاسفة الغرب أيضاً ومثلهم جوته وفخته ونيتشه و برجسون(4).

قوة الذات في مقاومتها، وضعفها في تكاسلها

فيما سبق ذكرنا أن إقبال يهدف إلى تقوية الذات وتحصينها، وقال إن كل ما يقوي الذات هو خير، وكل ما يضعفها فهو شر، في الدين والفن والأخلاق. فما يقوي الذات عند اقبال مجموعة أمور التي منها :

1- الحب والعشق: تُستحكم الذات بالمحبة والعشق، ويحذر إقبال من أن يُفهم من هذين المفهومين بأنهما يعنيان جلب السرور الفردي، وإنما يمثلان قوة روحية حيوية خلاقة تدفع الفرد لأن يُحيي الحياة.

ص: 23


1- محمد إقبال. ديوان أسرار الذات. ص 41.
2- محمد إقبال. ديوان جاويد نامة (رسالة الخلود) ترجمه عن الفارسية نثراً د. محمد السعيد جمال الدين. مطابع سجل العرب. القاهرة. 1974.. ص 335.
3- د. أحمد معوض . العلامة محمد إقبال. ص 400.
4- ينظر : ميلود خلف الله. النزعة التجديدية عند محمد إقبال . رسالة ماجستير . جامعة بغداد - كلية العلوم الإسلامية. قسم أصول الدين. 1420-2000. ص 121-122 .

وكثيراً ما كتب إقبال عن دور الحب والعشق شعراً ونثراً، والعشق كما يصفه أبو النحر الهندي (هو الشيء الذي يقوي الذات وينميها، ويدفعها إلى الكمال الخالد. والعشق ومعناه جذبك الشيء أو طلبك إياه لتجعله جزءاً من نفسك، وأسمى صور هذا العشق وأعلاها وأفخمها هو توليد المقاصد والآمال(1).

فالعشق والمحبة يمثلان شحنة وطاقة روحية للذات، تدفعها نحو الأمام، ونحو العلو والارتقاء، ولولا العشق لما بقيت الحياة.

2- الفقر : لقد أكثر إقبال من ذكر كلمة الفقر في كتاباته، وعدَّها صفة من صفات الإنسان المؤمن، ولا يقصد بها المعنى الدارج المعروف وهو عدم امتلاك المال وقلته (الفقر المادي) وإنما يقصد بها الترفع عن مكافت هذا الع-الم، وخلاص النفس من قيد التملك والطمع.

وهذا المعنى شبيه بتعريف المتصوفة للفقر، في قصيدة له عنوانها (فقر الصالحين) يقول إقبال :(2)

يا عبيد الماء والطين اسمعوا *** ما هو الفقر الغني الأرفع

هو عرفان طريق العارفين *** وارتواء القلب من عين اليقين

ذلك الفقر عزيز في غناه *** هامة الجوزاء من أدنى خطاه

3- الشجاعة : ليست البطولة الجسدية تجاه الأشياء هي الشجاعة فحسب، وإنما تكون الشجاعة روحية ومعنوية أيضا، فقد يكون الإنسان شجاعاً بقوته الجسدية ولكنه ضعيف معنوياً. فلا بد للمؤمن الحقيقي من أن يقوي ذاته بالشجاعتين لأن المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف، كما قال رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)في المجالات كافة.

ص: 24


1- د. حميد مجيد هدو. إقبال الشاعر والفيلسوف والإنسان. ط 1 مطبعة الغري الحديثة. النجف الأشرف. 1383 ه- 1963. ص 159. ود. نجيب الكيلاني. إقبال الشاعر الثائر . ص 56.
2- محمد إقبال . ديوان والآن ماذا نصنع يا أمم الشرق. ترجمه نشراً محمود أحمد غازي. وشعراً الصاوي على شعلان. ط ، 1 دار الفكر . دمشق . 1408 ه- . 1988م. ص 72.

والشجاع عند إقبال هو الذي يناضل من أجل الحياة ويسعى إلى مرتبة الكمال، إذ يقول :(1)

أقو يا مؤمن بالله القوي تحكمن في ذلك البكر الأبي فبالصبر والقوة وخوض الصعاب يعلو من سفل، وبالضعف والجبن يدنو من علا وإن كان الجبل(2).

4- النشاط الخلاق: كان إقبال يبث في الناس روح القوة والعشق والسعي الجاد من أجل بناء الذات والحياة، فالدنيا وإن هي ليست بدار القرار ولكنها مزرعة الآخرة والجسر الموصل إليها . فحدَّر إقبال الناس من تواكلهم وعدم سعيهم الجاد لكسب الرزق الحلال، فيقول للإنسان: (لا تبغ رزقك من نعمة غيرك، ولا تستجد ماءً ولو من عين الشمس، واستعن الله وجاهد الأيام، ولا تُرق ماء وجه الملة البيضاء. طوبى لمن يحتمل الضُّر من الحرور والظمأ ، ولا يسأل الخضر كأساً من ماء الحياة)(3). يقول إقبال في ديوانه (بيام مشرق)(4):

ونفسك فاشحذن في كل آن *** وعش أمضى من السيف اليماني

ففي الأخطار للهمم أختبار *** لأرواح وأجساد عيار

هذا فيما يقوي الذات وينميها ويربيها من عوامل فاعلة تحقق له النجاح والتفوق في حياته وتجاوز الازمات والمصاعب والمحن. أما فيما يخص العوامل والامور التي تضعف الذات فيرى اقبال انها تتمثل في:

1- الخوف: يُعد عامل الخوف من العوامل القوية المضعفة للنفس (الذات) التي تذهب بهيبتها وكرامتها، فأكد علماء النفس أن معظم حالات الاختلال العقلي التي تصيب البشر أصلها الخوف، وهو بعكس عامل الشجاعة والقوة الخلاقة، ويصف

ص: 25


1- محمد إقبال . ديوان أسرار الذات . ص 40.
2- ينظر : المصدر نفسه، ص38.
3- د. عبد الوهاب عزام. محمد إقبال سيرته وفلسفته وشعره. ص 78.
4- محمد إقبال . ديوان بیام مشرق . ص 60.

إقبال الخوف قائلاً :(1)

إن الخوف من أي شيء سوى الله أمر يدعو للسخرية.

فهو لص في قافلة الحياة.

ومن أدرك سر المصطفى.

يرى الكفر مختفياً في الخوف.

2- التسول: لا يفهم من هذه الكلمة المعنى المعروف لدى العامة، وإنما يقصد به إقبال كل ما ينال بغير جهد شخصي، فالذي يرث مال غيره يُعد في نظر إقبال سائلاً، والذي يتبع أفكار غيره أو يدعيها لنفسه سائل أيضاً.(2)ويحذر إقبال المسلم المؤمن من هذه الرذيلة فيقول(3):

أيها الجابي من الأسد الخراج *** صرت كالثعلب خباً باحتياج

ذلك الأعواز أصل العلل *** كل آلامك من ذا المعضل

وعن الرحل ترجل كعمر *** أحذرن من منة الناس الحذر

3- العبودية : الاستسلام للآخرين، وإخضاع النفس لهم، وطلب الحوائج من غير أهلها، هي العبودية، ولا عبودية إلا لله الواحد الأحد. ولإقبال في العبودية منظومة بعنوان (بندكي نامة) رسالة العبودية، يقول فيها(4).

إن القلب يموت في الجسد بالعبودية، وتستحيل الروح عبئاً على الجسد بالعبودية. وبالعبودية يحل ضعف الشيخوخة في الشباب، وبالعبودية تسقط الأنياب من أسد الغاب.

وبالعبودية يتفرق محفل الأمة فرداً فرداً، ويكون هذا وذاك في صراع مع هذا وذاك .

ص: 26


1- مهدي حمود الفلوجي. إقبال شاعراً ومفكراً. مجموعة من الكلمات والخطب والمحاضرات التي ألقيت بمناسبة الذكرى المئوية لميلاد محمد إقبال. بغداد. 1977. ص 81.
2- محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . ص.19.
3- المصدر نفسه، ص 23.
4- محمد إقبال. رسالة العبودية . تر: د. أحمد معوض. ضمن كتاب العلامة محمد إقبال. ص404.

4- إنكار الذات: سعى بعض الأشخاص إلى ممارسة الطرائق الصوفية العتيقة ووسائلها البالية، كالتقشف المفرط، وحرمان النفس من أبسط متطلباتها، وإذلالها، وفقدها عزتها كي تصل إلى مرحلة الفناء في ذات الله كما يدعون، فرفض إقبال هذا اللون من هذه الممارسات والطقوس، لأنها في نظره من اختراع الأمم المغلوبة التي خدعت الأمم الغالبة عن نفسها وزينت لها نفي الذات.

ويضرب إقبال مثلاً لنا على ذلك، أن هناك قطيعاً من الغنم هاجمته الأسود وتسلطت عليه، ففكر كبش في أمر جماعته، فأتته فكرة هي في أن يضعف قوة الأسود وسلطانها، فادعى أنه نبي مرسل للأسود، ويصوّر إقبال هذا الحدث في قوله(1):

قد سمعنا أن في عصر قديم *** جمع ضأن كان في مرعى يُقيم

وفرت نسلاً بذا المرعى الخصيب *** فارغات البال من ليث وذيب

دهمتها الأسد من آجامها *** ناشرات الذعر في أيامها

آية القوة حكم قاهر *** سرها الظاهر فتح ظافر

وانبری کبش ذكي ذو عمر *** جرب الأحداث من حلو ومُرّ

فادعى في القوم دعوى ملهم *** مرسل للأسد شراب الدم

إنما القوة خسران مبين *** خصت الجنة بالمستضعفين

ويصل اقبال الى غاية فلسفته وهدفها الأساس فيقول عن نفي الذات: (وعندما لم أشجب نفي الذات، فلا أعني نفي الذات بالمعنى الأخلاقي، لأن نفي الذات بالمعنى الأخلاقي مصدر لقوة الذات، لكني بنفي الذات أدين تلك الأنماط السلوكية التي تؤدي إلى القضاء على الأنا كقوة غيبية، لأن ذلك يعني تحلل الأنا وعدم قدرتها على الاستمرار الأبدي الذاتي)(2).

ص: 27


1- محمد إقبال. ديوان أسرار الذات. ص 28-27.
2- أحمد معوض . العلامة محمد إقبال. ص 332.

إذن فدعوة إقبال هي دعوة أخلاقية، تربوية، عملية، تدعو الإنسان إلى بناء شخصيته (ذاته) وتنظيم سلوكه، فنظريته هي نظرية في بناء السلوك الفردي السليم المؤدي إلى سلامة المجتمع والجماعة معاً.

المجتمع بيخودي بوصفه مكملاً للذات وأخلاق الجماعة

بعد أن سعى إقبال في فلسفة الذات، إلى بناء الإنسان بناءً عالياً، وأقام له شخصية صلبة، ومنزلة، متمثلة بالإنسان الكامل، ينتقل إلى القسم الثاني من فلسفته، وهو اللاذات (بيخودي) المجتمع، ليتمم بناء فلسفته بناءً تاماً. فهذا القسم يُعد ضرورة مكملة للقسم الأول، فالفرد لا يستطيع العيش بمفرده بمعزل عن الآخرين.

فإقبال وإن آمن أشد وأعمق الإيمان بذات الإنسان. إلا أنه لم يهمل دور المجتمع وأثره في هذا البناء. فالمحيط له دور كبير في تربية الإنسان وبنائه - وهذا ما أكده في ديوانه (رموز بيخودي) رموز نفي الذات الذي يُعد الجزء المتمم للديوان الأول (أسرار خودي) أسرار إثبات الذات.

تُعد مسألة العلاقة بين الفرد والمجتمع من المسائل التي اهتم بدراستها علما النفس والاجتماع. ولا سيما علم الاجتماع الذي يدرس السلوك الجمعي (الاجتماعي)، الإنساني للأفراد، وتأكيد أهمية التفاعل الإنساني الذي يُعبر عن سلوك الإنسان في علاقته بإنسان آخر(1).

يقسم الباحثون بشأن مسألة العلاقة بين الفرد والمجتمع إلى فريقين: فريق يدعو أو يناصر الفردية، ويرى أن لا علاقة للفرد بالمجتمع. وفريق آخر يعطي الأولوية للمجتمع ويعد الفرد نتاجاً للمجتمع(2).

ولكن لدى كلا الفريقين نصف الحقيقة، لأن الحياة لا تقوم إلا بالتوفيق بين الفرد

ص: 28


1- د. محمد عاطف غيث. علم الاجتماع . ج 1 دار المعرفة الجامعية. 1990. ص 113.
2- ينظر: د. محمد عاطف غيث. المصدر نفسه، ص 200-201. ود. سيد أبراهيم الجيار. التوجيه الفلسفي والاجتماعي للتربية. مكتبة غريب. القاهرة. 1977. ص 79.

والمجتمع، لأن حاجة الفرد إلى المجتمع ليعيش، وحاجة المجتمع إلى الفرد ليستمر في الوجود.

وهذا ما ذهب إليه إقبال في القسم الثاني من فلسفته (نفي الذات)، فإنه وإن جعل الفرد مركز الحياة إلا أنه لم يهمل دور المجتمع في تربية وترقية وبناء الذات (الفرد) لأن الإنسان كائن اجتماعي ثقافي يعيش في مجتمع، وهو لذلك يجد نفسه مرتبطاً بعلاقات متعددة مع الآخرين أو كما يقول محمد عزيز الحبابي. (الشخص واقع يتمتع باستقلال ذاتي وباستقلال ترابطي، لأن (الأنا) في الإسلام - معشري)(1).

إن الذوات (الأفراد) وإن تباينت فيما بينها، إلا أن الترابط بينهم يكون عن طريق الألفة والمحبة التي تقوم بين (الأنا) و (الغير) كما يقول الفلاسفة المعاصرون أو بين (المؤمنين). كما عبر الرسول الكريم(صلی الله علیه و آله و سلم)في قوله (والذي نفسي بيده، لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا، حتى تحابوا)(2).

ويؤكد إقبال في كتاباته أهمية الجماعة (الأمة) للفرد ولا سيما في ديوانه رموز نفي الذات الذي عرض فيه هذه المسألة فيقول :(3)

رحمة للفرد حجر الأمة *** کامل جوهره في الملة

فالزمن الجمع جهد المستطاع *** في ذرا الأحرار كن مثل الشعاع

وأحفظن ما قاله خير البشر *** كل شيطان من الجمع نفر

فردنا مرآته أُمته *** وكذا مرآتها صورته

ويرى إقبال أن المسلم الملتزم بالشريعة هو الوحدة التي يقوم عليها رقي الجماعة الإسلامية. وأن ارتقاء الجماعة لا يكون إلا بارتقاء الأفراد، ويقول في ديوانه (بانك

ص: 29


1- محمد عزيز الحبابي. الشخصانية الأسلامية. ط2،دار المعارف. القاهرة. ب. ت. ص 28.
2- د. عثمان أمين. الجوانية أصول عقيدة وفلسفة ثورة. دار القلم. 1964. ص 114-115. وينظر : د. عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطىء) الشخصية الأسلامية. ط3، دار العلم للملايين. بيروت. 1980، ص 185.
3- محمد إقبال. ديوان رموز نفي الذات: ترد. عبد الوهاب عزا.م ص 81.

درا) أي صلصلة الجرس : (إن وجود الفرد قائم بارتباطه بالملة أما وهو منفرد فليس هو بشيء. فمثله كمثل الموج، يكون في البحر، أما في خارج البحر فلا وجود له)(1).

فالفرد عند إقبال وإن كان مستقلاً بشخصيته وذاته، إلا أنه غير منفصل عن المجتمع . فأنا وأنت - في نظر إقبال - لبنه مميزة في بناء الوجود الكبير، وكل لبنه تتعاون مع أختها من أجل بناء الفرد والمجتمع، وبقوة وكمال تربية الفرد لذاته واستحكامها تقوى الأمة وبعدل ونظام الأمة يقوى الفرد ويسمو بذاته فوق السماء، وجوهر فلسفة إقبال أن غاية الجماعة سعادة الفرد وأن الفرد. لا يفنى من أجل الجماعة(2).

ويقول إقبال عن أهمية الجماعة : (وإنها لحقيقة سيكولوجية أن الاجتماع ينمي قوى الإدراك عند الرجل العادي، ويعمق شعوره، ويحرك إرادته إلى درجة لا يعرفها في عزلته ووحدته)(3).

وغايته هي إنشاء الفرد الفاضل في ظل المجتمع الفاضل الذي لا يتكون إلا بجهود الصالحين والخيرين، الذين يسعون إلى نشر الخير والفضيلة، ويحاربون الشر والفساد والرذيلة.

ويصف إقبال هذه الأمة المثالية بقوله : (إنها تعلو فوق الأمم لأنها أمة نيطت بها الإمامة في الدنيا والآخرة، فهي لا تني عن مواصلة أمور الخلق، لأن النوم والتعب محرمان عليها)(4).

وعلى الأمة الإسلامية أن تسعى إلى الطاعة والتربية، ولا بد لها من أن تعرف هدفها والمقصد الذي تبغيه، فالأمة الغافلة عن المقاصد، جاهلة، حتى يبعث الله تعالى إليها هادياً يخرجها من الظلمات إلى النور.

ص: 30


1- محمد إقبال. ديوان بانك درا. صلصلة الجرس. ص.190. نقلاً عن د. أحمد معوض. العلامة محمد إقبال. ص 360 .
2- محمد إقبال. ديوان رموز نفي الذات. هامش ص 84.
3- محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. ص 107.
4- نجيب الكيلاني. إقبال الشاعر الثائر. ص 67.

يجذب الإنسان شطر المقصد *** جاعل الشرع زماماً في اليدِ

نكتة التوحيد يوحيها إليه *** أدب الطاعة يمليه عليه

وتنتعش الأمة بمجيء الهادي، فيمدها بالعدل والإحسان والطاعة والانضباط، ويوقظها من سباتها العميق ويحرر الناس من عبادة الأوثان والبشر، ويعيدهم للقانون والسنن:

ويفكّ العبد من أغلاله *** ويجير القن من أقياله

قائلاً أن لست عبداً فاعلم *** أترى قدرك دون الصنم

ویرى اقبال أن هناك مجموعة من الأركان المهمة التي على الأمة الإسلامية أن تلتزم بها وتمثل جوهر عقيدتها وحيوتها وهذه الأركان الاساسية تتمثل في:

1- التوحيد:

هو جوهر العقيدة، ليس إلا رفضاً لعبودية البشر في مختلف ضروبها وأشكالها، وهذا تحرير للإنسانية من مهانة الرق والاستعباد(1).

والتوحيد هو روح الدين الإسلامي والديانات السماوية الأخرى. وهو الإكسير الذي يُحيل التراب ذهباً والسر الذي يتجلى منه الدين والشرع والحكمة والقوة والسلطان. وهو الدواء الذي يميت الخوف والشك ويُحيي العمل والأمل(2). ويرى إقبال أن سر نجاح المسلمين يكمن في إيمانهم العميق بمبدأ وركن التوحيد الذي هو أساس وحدة الدين والمسلمين(3). وأنه السبيل الوحيد لاستئصال العلل الخبيثة التي تعوق تقدمنا وتسد علينا مسالك الحياة وتعطلها. ويُعين إقبال هذه العلل وهي اليأس والحزن والخوف. ويعدّها من أمهات الخبائث(4)، وعلاج هذه الخبائث هو التوحيد:

ص: 31


1- د. بنت الشاطئ. الشخصية الإسلامية. ص184.
2- د. عبد الوهاب عزام. محمد إقبال سيرته وفلسفته و شعره. ص 96.
3- ينظر: محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. ص169.
4- ينظر : محمد إقبال. ديوان رموز نفي الذات. ص 89.

ويخاطب إقبال المسلم مذكراً إياه بحقيقة التوحيد وتأثيره في صياغة روحه وكيانه الذي هو أساس الفرد والدين، يقول في قصيدة (جواب شكوى):(1)

أعد من مشرق التوحيد نوراً *** يتم به اتحاد العالمينا

وأنتَ العطر في روض المعالي *** فكيف تعيش محتبساً دفينا

وأنتَ نسيمه فاحمل شذاه *** ولا تحمل غبار الخاملينا

2- الرسالة:

هي الركن الثاني للأمة الإسلامية، ورسالة الإسلام قائمة منذ بعث الرحمن، خليله إبراهيم(علیه السّلام)أبو الأنبياء ودليلهم إلى الطريق، ومنذ أوحى الله تعالى لإبراهيم وإسماعيل (عليهما السلام) أن يطهرا بيته للطائفين والعاكفين والقائمين والركع السجود، توالت الرسالات الآلهية، حتى خُتمت برسالة الإسلام، الرسالة المحمدية، وأعلن الرسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم)أن (لا نبي بعد)(2). ودور الرسالة عظيم، فيها تجمع أشتات الأفراد، وتنتظم الأمة، فيوحد كثرتها، وتحكم ألفتها، ولولا الرسالة لما كان هناك مجتمع صالح، لأن الرسالة للأفراد وللأمة كالروح للجسد، فيقول إقبال(3):

بالرسالات بدا تكويننا *** شرعنا منها، ومنها ديننا

وإن مقصد الرسالة المحمدية، المساواة والأخوة والحرية، فقد كان الإنسان قبل ذلك عبداً للملوك والقسيسين من النصارى والمجوس والبراهمة حتى بعث الرسول(صلی الله علیه و آله و سلم)فأعطى كل ذي حقٍ حقه، وحرر الناس من أغلال الذل والعبودية، وأخرجهم من ذل معصية الله إلى عز طاعته. وفي ذلك يقول اقبال:(4)

ص: 32


1- محمد حسن الأعظمي والصاوي علي شعلان. فلسفة إقبال والثقافة الإسلامية في الهند وباكستان. ط2، دار الفكر. دمشق. 1935-1975. ص 103.
2- د. أحمد معوض. العلامة محمد إقبال. ص 367.
3- محمد إقبال. ديوان رموز نفي الذات. ص95.
4- المصدر نفسه، ص 98.

عزمه هد قديمات الصور *** وبني حصناً جديداً للبشر

بثّ روحاً أحيت الموتى بها *** وافتدى الأعبد من أربابها

مولد مات به العصر القديم *** وبيوت النار والوثن حطيم

ورسالة الأمة الإسلامية ليس لها نهاية زمانية ومكانية إذ إنها رسالة لكل زمان ومكان، إنها خالدة، يقول إقبال(1):

قلبنا الخفاق يابى موطنا *** ريحُه العاصف تأبى مسكنا

ليس من روم و هند قلبنا *** ما سوى الإسلام فيه أرضنا

والإنسان على وفق هذا النظام وهذه العقيدة سيبلغ أعلى مستويات الرقي والإبداع والسمو الروحي والأخلاقي والفكري.

ويوصي إقبال المسلمين بالتوجه نحو مركزهم الكعبة المشرفة، لأن في ذلك قوة للفرد والمجتمع، فيقول: (فلو أنكم - أيها المسلمون - ركزتم جهودكم وأنظاركم ووليتم وجوهكم شطر كعبة الإسلام وجعلتموه رائدكم وقائدكم واقتبستم مشاعركم واتجاهاتكم من عناصره التي تصب القوة والحياة لتجمعت قواكم المتفرقة وتوحدت مواهبكم المنتشرة من جديد ولوضعتم لوجودكم التأمين والضمان الوثيق ضد عوامل الدمار والهلاك)(2).

ويكون توسيع حياة الأمة بتسخير قوى العالم، فكلما سخّر المؤمن العالم المحسوس لنفسه أدى به ذلك إلى معرفة أكبر لعالم الغيب .

ويرى إقبال أن اختيار قبلة واحدة للمسلمين أريد به أن يكفل وحدة الشعور للجماعة(3).

ص: 33


1- المصدر نفسه. ص 102.
2- محمد حسن الأعظمي والصاوي علي شعلان. فلسفة إقبال. ص 41.وكلام إقبال هذا مأخوذ من خطبته التي ألقاها في الرابطة الإسلامية بمدينة الله آباد بالهند. في 29/ كانون الأول .1930م.
3- محمد إقبال. تجديد التفكير الديني. ص 108 .

وذهب بعض الباحثين إلى القول أن إقبال أراد بذلك أن يضمن تحقيق التضامن والوحدة الإسلامية، التي لا تكون إلا بالانطلاق من الذات نحو الآخرين، وهذا لا يكون إلا بالتغير الايجابي(1).

الخاتمة

محمد اقبال مفکر مسلم سعى من خلال فلسفته الأرتقاء بالإنسان والمجتمع المسلم، ومحاولة التركيز على المحتوى الداخلي للانسان وأصلاح جوهره وتنقية النفس من كثير من الأمراض التي تفتك بالإنسان أخلاقياً، ومن خلال بحثنا هذا الذي سعى الى متابعة الفكر الاخلاقي وفلسفة الاخلاق عند محمد اقبال خلصنا بالنتائج الآتية:

1- امتياز فلسفة اقبال بأنها فلسفة أخلاقية مميزة، منسجمة تماماً مع الفكر الاسلامي، وهذا يتضح جلياً في فلسفته وكتاباته ومحاضراته وأشعاره الفلسفية والاجتماعية والاصلاحية.

2- كانت فلسفة اقبال (فلسفة (الذات) فلسفة أخلاقية تربوية، تهدف الى تطهير المجتمع الاسلامي من الأخلاقيات الزائفة، أخلاق الخرفات والدجل والشعوذة، وقيام أخلاقيات هادفة، أخلاق العمل والتواصل والحركة والتطور.

3- قيام فلسفة الأخلاق عند اقبال على أسس دينية وفلسفية، فهو في هذا الشأن توفيقي يذكرنا بفلاسفة الاسلام التوفيقين الذين وفقوا بين الفلسفة والدين والحكمة والشريعة.

4- للمجتمع الدور الكبير في صياغة أخلاق الفرد والجماعة، والعلاقة بين الإنسان والمجتمع علاقة جدلية، علاقة تأثر وتأثير، وأحدهما يترك أثره على الآخر.

5- من أجل تحقيق سمو ورفعة وتكامل الإنسان لابد من سيره على أسس أخلاقية

ص: 34


1- د. فهمي جدعان أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث، ط3، دار الشرق. عمانالأردن. 1988 - ص 423 .

وتربوية دينية مهمة، وأن يتخذ من أصول عقيدته الاسلامية طاقة روحية جوهرية ترفعه نحو مقامات علوية سامية.

6- محاولة اقبال محاربة ومواجهة التصوف السلبي، التصوف الطرقي، الذي يدعو الى فناء النفس وإماتتها وأذلالها، وبيان قيمة التصوف الأيجابي، الذي يزرع في النفس الطاقة والأمل والغنى والتكامل، من خلال المحبة والعشق والعمل، وهذا بدوره ما يعزز من قيمة الأخلاق في نفس الإنسان المسلم.

ص: 35

الأخلاق عند مرتضى المطهري ونقده للنظريات الأخلاقية الغربية

اشارة

د انتصار سلمان سعد الزهيري(1)

المقدمة:

إن للأخلاق موقعا محوريا في أسس التفكير الفلسفي، وقد شكلت ركنا مهما من أركان الفلسفة إلى جانب المباحث الأخرى، كنظرية الوجود والمعرفة فضلاً عن مبحث القيم الذي يدخل ضمنها فلسفة الأخلاق، وتكمن أهميتها لما تعرضه من مفاهيم أخلاقية تحتفظ بحيويتها على مر الزمان، ولقرب هذه المفاهيم واتصالها بالإنسان، فالفضيلة والسعادة والخير والشر والضمير والإلزام الأخلاقي كل هذه المفاهيم الأخلاقية كثيرا ما شغلت اهتمام الإنسان وأرهقت تفكيره، ولهذا كان جديرا بالإنسان العاقل الذي جبل على حب الخير الذي يستدعيه تفكيره وبمثالية عالية أن يسعى في الاقتراب من المنظومات الأخلاقية التي من خلالها يتم تحقيق سعادة الإنسان، ولهذا سعى المفكرون إلى الاقتراب من هذه المنظومات الأخلاقية لما

ص: 36


1- مدرسة فلسفة الأخلاق جامعة الكوفة كلية الاداب: تؤكد الباحثة إن رأي المطهري يتفق مع الفلاسفة الإسلاميين : في إعطاء العقل الأهمية الكبرى في الفعل الأخلاقي وقدرته الكبيرة في التميز بين الخير والشر، اذ ان غاية المطهري واضحة وهي ما للعبادة من تأثير على الجانب الروحي والأخلاقي والاجتماعي والتربوي عند الإنسان وخاصة ونحن على يقين ما تعنيه العبادة في الإسلام، فلها دور مهم في تربية وإصلاح الفرد وإصلاح المجتمع الإسلامي، فهي تحمل في طياتها أهدافا أخلاقية سامية منها تنظيم حياة المجتمع وقيادة أفراده نحو التربية الصالحة لأنها تعد المحور المنظم لتكوين حياة المجتمع على وفق أسس إسلامية وتقوية أواصر إفراده وإشاعة روح التلاحم فالإنسان يفعل الخير و يدعو له وينهى عن الشر ويتجنبه من هنا نعطي للعبادة الدور المهم للإنسان. المحرر

فيها من خير وإصلاح في إعلاء شأن الإنسان نحو الخلق السامي وتحقيق سعادته خاصة وقد عصف الفكر الإنساني بفلسفات أخلاقية غربية كالفلسفة المادية الماركسية ، والوجودية، والوضعية المنطقية، هذه الفلسفات منها ما جاء بمفاهيم أخلاقية خاوية لا تحقق سعادة الإنسان ومنها من رأى أن القيم الأخلاقية ما هي إلا أفكار فارغة ليس لها من المبادئ والقيم أي اعتبار وهذا أدى إلى ضياع الإنسان وانهيار أخلاقه، وفي مقابل هذه الاتجاهات الغربية انبرت فلسفة أخلاقية إسلامية معاصرة عرضت موضوعات ومفاهيم أخلاقية بروح الإسلام وأصالته وان تقف بوجه هذه الفلسفات الغربية، ومن هذه الفلسفات الأخلاقية الإسلامية ظهرت منظومة المطهري الأخلاقية الإسلامية، والمطهري من الشخصيات الإسلامية المعاصرة التي أسهمت في إثراء المعرفة الفكرية في الساحة الإسلامية المعاصرة وكان صاحب منظومة فكرية متكاملة شملت مختلف العلوم الفكرية الفلسفية والاجتماعية والسياسية والفقهية فضلا عن المنظومة الأخلاقية.

المبحث الأول، الفعل الأخلاقي عند المطهري ومميزاته

أولاً - الفعل وأنواعه.

يقصد بالفعل هو ((العمل ، والهيئة العارضة المؤثرة في غيره بسبب التأثير، ويطلق الفعل في علم الأخلاق على التأثير الصادر عن الموجود العاقل من جهة كونه متعلقاً بغرض، مثل فعل الشجاع فهو فعل إرادي ولا يشترط في هذا الفعل أن يكون مصحوباً بحركة محسوسة دائماً، لأنه يمكن أن يكون وقوفاً على الحركة أو كفاً عنها))(1). ومهما اختلف الفلاسفة في آرائهم في الفعل، إلا أنهم يتفقون على القول في تعريف الفعل الأخلاقي، فهو النشاط الإرادي الذي يترتب عليه أثر حسن أو سيء، أما بالنسبة إلى صاحبه أو إلى الآخرين أو كلاهما معاً(2). والمطهري يحدد نوعين من الأفعال التي يقوم بها الإنسان، وهما(3):

ص: 37


1- صليبا، د. جميل: المعجم الفلسفي، ج2، منشورات ذوي القربي، قم، 1385ه، ص 152.
2- يُنظر : إبراهيم، د. زكريا ، المشكلة الخلقية، ط1، دار مصر للطباعة والتأليف، 1969م، ص 18
3- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ترجمة: جعفر صادق الخليلي، مطبعة شريعت قم، 2005، ص 20.

أ - الفعل الاعتيادي أو الطبيعي.

يُعرف المطهري الفعل العادي بأنه: ((سلسلة الأفعال التي نقوم بها وهي تكون طبيعية، ولا يعتقد بأنها خلقية))(1)وهي تشمل جميع الأفعال الطبيعية التي يقوم بها الإنسان في حياته الاعتيادية، ومن ثم لا يمكن أن نعدها من الأفعال الأخلاقية(2).

إنّ الأفعال الطبيعية لا تستحق أن يثنى الإنسان عليها، ويمكن أن تقدر قيمتها بالقيمة المادية، و فعل أي إنسان سواء أكان عاملاً أو مهندساً يمكن أن تقابله قيمة مادية، وبناءً على هذا تكون قيمة الأفعال أو الأعمال الاعتيادية هي القيمة المادية(3). ويوضح المطهري أن الفعل الاعتيادي أو الطبيعي يكون سلوكاً مشتركاً بين الإنسان والحيوان، وهو واضح جداً، ومعياره أنه يكون مقتضى للغريزة المشتركة بين الإنسان والحيوان، ويكون ناشئاً من غريزة الإنسان الطبيعية(4).

ويتضح أن المطهري قد أضفى على الفعل الطبيعي القيمة المادية، وهذا يدل على أن غايته واضحة في غرض الفعل الطبيعي عند الإنسان والحيوان إنما يكون دائماً موجهاً نحو الوصول إلى غاية وتحقيق المنفعة، والمصلحة الخاصة.

ب - الفعل الأخلاقي.

يُعرف المطهري الفعل الأخلاقي بأنه: ((الفعل الجدير بالثناء والشكر والذي ينظر إليه البشر بنظرة الإعجاب والرضا والذي تكون له قيمة عالية لا يمكن أن تكون القيم المادية ، فهو أعلى من أن يُقيم بالمال أو الأشياء المادية، فالفعل الخلقي له قيمة أعلى وله أهمية أكبر من أي قيمة أي إن له قيمة معنوية عالية))(5). ويرى المطهري أن الإنسان يقوم بعدة أفعال له قدرة واستطاعة أن يفعلها، وهذه الأفعال تكون أسمى من مستوى

ص: 38


1- مطهري، التربية والتعليم في الإسلام ،ط4،ترجمة علي الهاشمي، دار الهادي، بيروت، 2005م، ص57.
2- يُنظر: مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 57.
3- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص21.
4- يُنظر : مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 66.
5- المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص 20-21.

الفعل الطبيعي أو الحيواني، الذي يصدر من الحيوان على وفق طبيعته وغريزته، وهذه الأفعال تسمى بالأفعال الإنسانية أو الأخلاقية، والمقصود من هذه الأفعال هو أن تكون على مستوى الإنسانية، ولا تكون على المستوى الحيواني، أي إن هذه الأفعال تعد سلسلة من الأعمال التي يؤديها الإنسان فقط وعلى المستوى الإنساني(1).

لقد أعطى المطهري للفعل الأخلاقي القيمة المعنوية التي لا يمكن أن تقاس بأي ثمن، ولهذا فهو فعل يسمو فوق كل المعايير المادية، فهو فعل يتسم بالثناء والتكريم وهو خاص بالإنسان فقط لأنه يخضع إلى معايير وضوابط السلوك الإنساني التي بها يمكن أن نميز خيره من شره حسنه من قبحه، ضاره من نافعه، وتشخيصه للفعل الخلقي كان واضحاً من أنه فعل ليس الغاية منه تحقيق المنافع الفردية والمصلحة الشخصية، بل تجريده من هذه المعاير.

ثانياً: نماذج من الفعل الأخلاقي.

اختار المطهري بعض من النماذج للفعل الخلقي نعرضها لما فيها من المواعظ والأحكام الأخلاقية.

النموذج الأول: العفو .

يُعرف العفو بأنه : (أن تستحق حقاً فتسقطه وتبرأ عنه من قصاص أو غرامة)(2). وهو . محو الشيء وإزالته، ويقال عفا عن الذنب أي لم يعاقب عليه(3). في نموذج العفو يذكر المطهري أن الخطأ أو الجنحة(4)أو الجناية التي يرتكبها شخص ما يكون خطأه على نوعين: أحدهما مرتبط بذلك الشخص فقط، مثل الغيبة والتهمة، إذ تصدران

ص: 39


1- يُنظر: مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص65.
2- الفيض الكاشاني، محمد بن مرتضى (ت 1091ه) : المحجة البيضاء في تهذيب الأحياء ، ج5، ط2، صححه وعلق عليه: على أكبر الغفاري، مؤسسة الإعلمي، بيروت، 1983م، ص 318.
3- يُنظر : الهاشمي، عبد الله الأخلاق والآداب الإسلامية، ط1، دار الأمين، بيروت، 2006م، ص 321.
4- الجنحة هي الجريمة المعاقب عليها بإحدى العقوبتين الحبس الشديد أو البسيط أي أكثر من ثلاثة أشهر إلى خمس سنوات أو الغرامة، ينظر: نذير عبد الرحمن حياوي، قانون العقوبات، ط3، منشورات المكتبة القانونية، بغداد، 1969م، ص13.

من المغتاب والمتهم، فليس لذلك ارتباط بحق المجتمع العام، أما الآخر فيكون فيه الخطأ مرتبطاً بذلك الشخص من جهة وبالمجتمع من جهة أخرى، فله جنبتان فردية واجتماعية، ويعطي المطهري لذلك مثالاً واضحاً جداً وهو كالقاتل الذي يقتل إنساناً فعمله هذا له جنبتان، واحدة مرتبطة بالفرد، والأخرى بالمجتمع، وفي الحالتين يستطيع صاحب الحق المجني عليه التجاوز عن حقه والإعراض عنه، أي إذا طلب القاتل العفو ومنحه أصحاب الحق (أب ، أم ، ابن المقتول) عفوهم وتجاوزوا وعفوا عن الجاني، فهذا عمل أخلاقي(1).

إن تحديد المطهري للعفو وعده إياه من الأفعال الأخلاقية، هو متوافق مع القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ومنهج أهل البيت، إذ أكد القرآن على فضيلة العفو عند الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: *فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةٌ * يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ * وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ * وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَة مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ * فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ*(2).وقال الله تعالى * وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ * وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا * أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لكُمْ * وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ*(3).

ومن الواضح أن القرآن الكريم قد قرن بالعفو الصفح، والصفح هو الأعراض عن الذنب، صفح عنه أي اعرض عن ذنبه وتركه(4).

وقال النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم): ((يا علي ثلاث من مكارم الأخلاق، تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك))(5). وقال : الإمام علي(علیه السّلام): ((شيئان لا يوزن ثوابهما ، العفو والعدل))(6). وقال(علیه السّلام)أيضاً ((اجعل جزاء النعمة عليك العفو عمن

ص: 40


1- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص 22
2- سورة المائدة، الآية 13.
3- سورة النور، الآية 22
4- يُنظر : محمد بن ابي بكر، الرازي (ت 666ه) ، مختار الصحاح، دار الرسالة، الكويت، 1983م، ص364.
5- الصدوق، الخصال، ص 125.
6- الواسطي، علي بن محمد كافي الدين ألليثي الوسطي، (ت - ق6 ه)، عيون الحكم والمواعظ، ط1 تحقيق: حسين الحسيني، البير جندي، مؤسسة دار الحديث، (من دون تاریخ)، ص 297.

أساء إليك))(1).

النموذج الثاني : عرفان الإحسان والوفاء.

يذكر المطهري أن النموذج الثاني من الفعل الخلقي هو عرفان الإحسان والوفاء، والعرفان تجاه المحسن، فالبعض يعرفون حق من أحسن إليهم، ومد يد المعروف نحوهم، ويعملون بمقتضاه إلى آخر العمر ، ولا ينسون هذا الإحسان أبداً حتى وإن انقضت سنوات عدة، فإذا إحتاج إليه من سبق منه الإحسان له، فإنه يبادر فوراً إلى رد الإحسان إليه وهذا عمل أخلاقي))(2).ويستشهد المطهري بالآية القرآنية الكريمة، قال تعالى* هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ*(3)، وقال: الأمام علي(علیه السّلام):((من أحسن الإحسان الإيثار))(4).

إن لهذا الفعل الأخلاقي أثراً كبيراً في أخلاقيات الإنسان، فكم من إنسان قد قدم إحساناً لأخيه الإنسان ولم يقدر فعله فعلينا أن لا ننكر من مد لنا يد العون والمساعدة وإن انقضت السنين، وأخلاقنا تلزمنا بعدم نكران الإحسان ونسيانه، وعدم نسيان من كان له الفضل علينا ومقابلة إحسانهم بالإحسان مثله.

النموذج الثالث : الرحمة والرأفة بالحيوانات.

الرحمة هي مبعث الخيرات ومعدن الفضائل، والشفقة هي الرحمة بخلق الله تعالى والرأفة بهم(5)، والرأفة كمال الرحمة، فإنها ارق من الرحمة وهي اشد

ص: 41


1- المصدر نفسه، ص 80.
2- يُنظر : المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص23.
3- سورة الرحمن، الآية 60 .
4- الريشهري، محمد، میزان الحکمة، ج1، ط1، دار الحديث، قم، 1416ه، ص 16.
5- يُنظر : الهاشمي، عبد الله، الأخلاق والآداب الإسلامية، ص321.

الرحمة، والرؤوف شديد الرحمة، إن الرأفة والرحمة متقاربان، وضدهما القسوة والغضب، والرأفة والرحمة فسرتا برقة القلب(1).

ويرى المطهري أنَ الرأفة بالحيوانات وإن كانت هذه الحيوانات قبيحة أو نجسة، إلا أن الرأفة والشفقة عليها عمل أخلاقي، وفي هذا النموذج من الفعل الأخلاقي يستشهد المطهري بقصة فيها عبرة أخلاقية تحكي أن رجلاً في الصحراء رأى كلباً قد أجهده العطش، فقد رق قلب الرجل على الكلب، فأخرج له مقداراً من الماء وسقاه، فأنقذه من العطش الهلاك، بعد هذا نزل الوحي السماوي على النبي محمد(صلی الله علیه و آله و سلم)بأن شكر الله له وكتبه من أهل الجنة(2). إن الله سبحانه و تعالى حينما أوجب على الإنسان أن یرحم أخاه الإنسان أوجب عليه أن يرأف بالحيوان، فالدين الإسلامي هو الذي ضرب المثل الأعلى في الرفق بالحيوان، فقد ورد في القرآن الكريم، قوله تعالى: كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى(3)*.وذكر في السنة النبوية أحاديث تدل على الرأفة بالحيوان، إذ قال:رسول الله(صلی الله علیه و آله و سلم): ((اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة))(4).

إن الرحمة والرأفة من الأفعال الأخلاقية التي يجب أن يتحلى بها الإنسان، وهذا ما أكد عليه الدين الإسلامي، فالدين الإسلامي دين رحمة يأمرنا بأن يكون فينا جانب كبير من الرحمة والرأفة، كيف لا وهذا الدين صادر من رب الرحمة وهو المتصف بالرحمة وهو الرحمن الرحيم، قال الله تعالى في محكم كتابه الكريم قَالَ: رَبِّ اغْفِرْ لي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ * وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(5)*. وقال تعالى: ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىَ آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةٌ

ص: 42


1- الخميني، روح الله جنود العقل والجهل ، ط1، ترجمة: أحمد الفهري منشورات مؤسسة الأعلمي، بيروت، 2001م ، ص 219.
2- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص23-24.
3- سورة طه، الآية 54.
4- السجستاني، سليمان بن الأشعث (ت 275ه)، سنن أبي داود، ج1، ط1، تحقیق سعید محمد ألحام، دار الفكر، بيروت، 1410 ه، ص574.
5- سورة الأعراف، الآية 151.

وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رضْوَانَ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رعَايَتِهَا * فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ * وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ*(1).وقال رسول الله (ص) ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))(2).

إنّ الرحمة والشفقة هما بالفعل من الأعمال الأخلاقية التي تجعل من الإنسان لين القلب رحيم مع الآخرين في تعامله، وهذا ما يجعل الإنسان يطمع في رحمة الله تعالى، والرحمة عند الإنسان تعد فضيلة من الفضائل الأخلاقية التي تدفع إليها العواطف النبيلة وإحساس الإنسان الفاضل، لتكن الرحمة والرأفة سمتين أخلاقيتين كل إنسان، وليرحم الإنسان أخاه الإنسان، فالرحمة فعل أخلاقي عظيم، ولم لا تكون فينا ولنا خالق رحيم ؟!

ثالثاً: مميزات الفعل الأخلاقي.

أ- اختصاص الأخلاق بالإنسان.

الإنسان هو مفتاح المشكلة الأخلاقية وعمادها، وهو غايتها وعنوانها، فالأخلاق أمر خاص بالإنسان، ففي الأخلاق الخيرة سعادة الإنسان، وفي الأخلاق السيئة شقاؤه(3). توجد ضرورة تحكم تلازم القيم الأخلاقية مع الإنسان، وحاجة الإنسان إلى هذه القيم حاجة دائمة فبواسطتها تتحقق إنسانيته، وبالأخلاق ينتقل إلى حيز التأثير الواسع،فالقيم الأخلاقية تعود إلى الشخص بوصفه حاملاً للفعل الأخلاقي(4)، والفعل الأخلاقي فعل خاص بالإنسان، وهو وحده الكائن الأخلاقي الذي يبغي بطبيعته إلى تحقيق شخصيته العاقلة بسلوكه العاقل(5).

ص: 43


1- سورة الحديد، الآية 27.
2- الترمذي، محمد بن عيسى،(ت 279ه) ، سنن الترمذي ، ج3، ط1، تحقيق: عبد الوهاب عبد اللطيف، دار الفكر، بيروت، 1983م، ص 217.
3- ينظر: السحمراني، د. أسعد الأخلاق في الإسلام والفلسفة القديمة، دار النفائس، بيروت، 2005م، ص22.
4- المصدر نفسه، ص 28-29.
5- يُنظر: التلوع، د. أبو بكر إبراهيم، الأسس النظرية للسلوك الأخلاقي، منشورات جامعة قان يونس، بنغازي، ليبيا، 1995م، ص22.

ويرى المطهري أنّ الإنسان هو المسؤول عن فعله الأخلاقي، وهو بهذا يتفق مع النظرة القرآنية القائلة بمسؤولية الإنسان عن أفعاله(1). إذ ورد قوله تعالى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا*(2)، فالإنسان خلق وهو جدير بتحمل المسؤولية، فوضع محلا للابتلاء والتمحيص، فهو خليفة الله، وله رسالة، وعليه واجبات، وطلب منه أن يعمر الأرض(3). إذ ورد قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَة إِني جَاعِلٌ في الْأَرْضِ خَلِيفَةً*قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ * قَالَ إِني أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ*(4).

ويقسم المطهري أفعال الإنسان على ثلاثة أقسام(5):

أفعال أخلاقية حين يكون الإنسان فيها أرفع من الحيوان.

أفعال منافية للأخلاق حين يكون الإنسان فيها أدنى من الحيوان.

إنّ أفعال الإنسان هي عنوان مصيره الذي سيؤول إليه في الدنيا والآخرة، أي إنّ الإنسان سيلاقي نتيجة أعماله سواء كانت خيراً أو شراً، فالإنسان هو المسؤول عن أعماله على وفق العدالة الإلهية التي جعلت أعمال الإنسان مناطة به(6).

ب- صدور الفعل الأخلاقي عن ذات عاقلة تميز الخير من الشر.

يعرف العقل بأنه ((جوهر روحاني خلقه الله متعلقاً ببدن الإنسان، وقيل العقل نور في القلب يعرف الحق والباطل))(7). والعقل ((قوة يجوز بها التميز بين الأمور القبيحة والحسنة))(8). إنّ الحكم على الأعمال الأخلاقية، أي تحديد خيرها من شرها، يتم

ص: 44


1- يُنظر : مطهري، الإنسان في القرآن، ط1، ترجمة ونشر دار الإرشاد ،لبنان، 2009 م، ص252-253 .
2- سورة الإنسان، الآية 3.
3- يُنظر : مطهري، الإنسان الكامل، ص 23.
4- سورة البقرة، الآية 30.
5- يُنظر : مطهري، الإنسان الكامل، ص 164.
6- يُنظر : مشكور، سامي شهيد، الأخلاق عند فلاسفة المغرب العربي. إشراف د. علي حسين الجابري، أطروحة دكتوراه (غير منشورة) مقدمة إلى مجلس كلية الآداب، جامعة الكوفة، 2005 م، ص 11-12.
7- الجرجاني، علي بن محمد(ت 816ه)، التعريفات، مطبعة مصطفى الباب الحلبي، القاهرة 1938 م، ص 132.
8- الحفني، د. عبد المنعم ، المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة، ط3، مكتبة مدبولي، القاهرة 2000م ، ص536.

بالعقل، فليس هناك قوة طبيعية في الإنسان يحكم بها على الأعمال الأخلاقية إلاّ العقل، وليس في الإنسان حاسة بها يمكن أن يدرك الخير والشر، فالناس إذا عملوا عملاً ولاحظوا أن نتائجه حسنة، حكموا بخيرته، في حين إذا لاحظوا أن نتائجه سيئة حكموا بالشر، فالقوة التي بها يمكن أن يعرفوا ويميّز الخير من الشر هي العقل(1).

وللعقل أثر كبير في بناء كيان الإنسان وسلوكه العملي، فبه يكتسب نوراً يحقق به إنسانيته في وجوده ومجتمعه، وللعقل تأثير كبير في تحول الحياة بعيداً عن الجمود، وله قدرة على أن يرتفع بالإنسان من مستوى الحياة الحيوانية إلى ما فوق سلطة الأهواء وسيطرة الغرائز(2).للعقل وظيفة مهمة في الحياة الأخلاقية لدى الإنسان، إذ يعد دافعاً مهاً من دوافع الفعل الأخلاقي(3)،ويشير القرآن الكريم إلى مقام العقل السامي، في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةٌ مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُه*قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ*إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ(4)*.

ويصرح القرآن الكريم بأن الأساس في تعاسة الإنسان ودخوله في عالم الخسران والضياع والعاقبة التعيسة، وسقوطه في وحل الذنوب هو عدم الإفادة من العقل هذه القوة الإلهية العظيمة، وهذه القدرة الجبارة، و الجوهرة الثمينة والنعمة الربانية، إن أساس معرفة الله تعالى ومعرفة سلوك طريق السعادة والنجاة إنما يقع في ضمن مسؤولية العقل الإنساني(5). ورد عن الإمام الباقر(علیه السّلام)قال : ((لما خلق الله العقل، استنطقه، ثم قال له اقبل فاقبل، ثم قال له أدبر ، فأدبر ، ثم قال: وعزتي وجلالي، ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك، ولا اكملتك إلا فيمن أحب، إما إني إياك أأمر، وإياك انهى وإياك

ص: 45


1- يُنظر: أمين، د. احمد الأخلاق، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1931م، ص 29.
2- يُنظر: اللاري، مجتبى الموسوي، رسالة الأخلاق، ط1، ترجمة محمد عبد المنعم الخاقاني، الدار الإسلامية، بيروت، 1989 م، ص 90-91.
3- يُنظر: ليلي، وليالم، مقدمة في علم الأخلاق، ترجمة وتقديم: د. علي عبد المعطي محمد، دار المعارف، مصر، 2000 م ، ص 200.
4- سورة آل عمران، الآية 118.
5- يُنظر : الشيرازي، ناصر مكارم، الكشكول الأخلاقي، ط1، أعداد و تنظیم حسین الحسینی، دار جواد الأئمة، بيروت، 2010م، ص 19.

أعاقب، وإياك أثيب))(1). وقال أيضا ((إنما يداق الله العباد في الحساب يوم القيامة على قدر ما أتاهم من العقول في الدنيا))(2). وورد عن الإمام الصادق(علیه السّلام)أنه سئل : ما العقل ؟ قال (ما) عبد به الرحمن واكتسب به الجنان))(3)وفي تفضيل حجية العقل يورد الإمام موسى بن جعفر الكاظم(علیه السّلام)قال : ((حجة الله على العباد النبي، والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل))(4).

يتضح مما تقدم الأهمية الكبيرة التي يضعها القرآن الكريم للدور الرئيس الذي يتخذه العقل في بناء الإنسان، وكذلك الأهمية الكبيرة التي تؤسسها السنة النبوية ومنهج الأئمة عليهم السلام في توسيع أهمية أفاق العقل ودوره الفعال في الاستدلال عند الإنسان.

وعرف الفلاسفة ما للعقل من مقام رفيع وفضل عظيم، فأولوه جل اهتمامهم ورجعوا إليه في كل أمورهم، وتأسيساً لذلك كان للعقل دور هام في الفعل الأخلاقي وهذا ما سار عليه معظم الفلاسفة المسلمين، فقد عرف الكندي: ((العقل هو جوهر بسيط مدرك للأشياء بحقائقها))(5). لقد استند الكندي على أساس أن قيام الفعل الإنساني يبنى على العقل، والإنسان هو المسؤول الأول عن فعله والمتحمل مسؤولية فعله بمفرده، وأن العقل هو الذي يميز بين الخير والشر والجميل والقبيح(6).

أما المعلم الثاني الفيلسوف الفارابي ، فهو يرى أن الإنسان خص من بين الكائنات الحية بالعقل، وهذه الخاصية هي التي جعلته إنسانا متميزاً عن غيره من المخلوقات، وبالعقل يدرك الإنسان مطلوبة(7)، وبالعقل يستطيع الإنسان أن يحصل على العلوم

ص: 46


1- الكليني، محمد بن يعقوب (ت 329ه)، الأصول من الكافي، ج1، ط5، تحقيق علي اكبر الغفاري، دار الكتب الإسلامية، طهران، من دون تاريخ ص 10.
2- البرقي، احمد بن محمد (ت 274ه)، المحاسن، ج 1، تحقيق جلال الدين الحسيني، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1370ه- ، ص 195.
3- الكليني : الأصول من الكافي، ج 1، ص 11.
4- المصدر نفسه، ج 1، ص 16.
5- الكندي، رسائل الكندي الفلسفية، ج1، ط2، تحقيق: د. محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1978م، ص 113.
6- يُنظر: زيعور، د. علي، الحكمة العملية أو الأخلاق والسياسة والتعاملية، ط1، دار الطليعة، بيروت، 1988م، ص245.
7- يُنظر : الفارابي، التنبيه على سبيل السعادة، ط1، حقق وقدم وعلق عليه : د. جعفر إل ياسين، دار المناهل، بيروت، 1985م ، ص 78-79.

والصناعات، وبه يميز بين الجميل والقبيح من الأفعال والأخلاق، وبه يدرك ما يجب أن نعمل، أولا نعمل، وبه ندرك النافع والضار والملذ والمؤذي(1)، والعقل هو أسمى وأعلى قوة في جسم الإنسان وهو أفضل من القوى الأخرى(2).

والفارابي يجعل الإنسان مسؤولاً عن أفعاله ومختارا لها لكونه يمتلك العقل، فالعمل عند الفارابي تابعا للعقل وليس العكس والحاكم على فعل ما بأنه خير أو شر هو العقل، ولذلك لا يصدر السلوك الخلقي إلا عن التعقل(3). والتعقل عنده هو ((القدرة على جودة الروية واستنباط الأشياء التي هي أجود وأصلح فيما يعمل ليحصل بها الإنسان خير عظيم في الحقيقة وغاية شريفة فاضلة فالإنسان العاقل هو القادر على جودة استنباط ما هو أفضل وأصلح في بلوغ خيرات ما يسره))(4).

ويعرف الشيخ الرئيس ابن سينا العقل (انه قوة يوجد التميز بين الأمور القبيحة والحسنة)(5). إن الإنسان بعقله يتمكن من أن يدرك السعادة وذلك لأنه بالعقل يميز بين الخير والشر ويسعى إلى عمل الفضيلة ويبتعد عن الرذيلة، لذلك يميل إلى الخير ويتجنب الشرا(6).

فيحدد ابن سينا ان (الأفعال التي تصدر من الإنسان إنما تصدر بلغة التعقل والروية)(7).

يتفق رأي المطهري مع الفلاسفة الإسلاميين في إعطاء العقل الأهمية الكبرى في

ص: 47


1- يُنظر : الفارابي، السياسة المدنية، ط1، تحقيق: د. فوزي متري نجار، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، 1959م،ص32-33. وكذلك أيضا، الفارابي، فصول منتزعة، فصل 38،تحقيق وتقديم وتعليق د. فوزي متري نجار، دار المشرق، بيروت، 1986م، ص 55.
2- مطلك، فضيلة عباس، نظرية السعادة في الفلسفة الإسلامية من الكندي إلى الغزالي، رسالة ماجستير (غير منشورة)، مقدمة إلى مجلس كلية الآداب جامعة بغداد، 1976 م ص 62.
3- مشکور، سامي شهيد، الأخلاق عند فلاسفة المغرب العربي، ص 31.
4- الفارابي : فصول منتزعة، فصل 39،تحقيق وتقديم وتعليق .د. فوزي متري نجار ، دار المشرق، بيروت، 1986م، ص 55.
5- ابن سينا، تسع رسائل في الحكمة والطبيعيات، ط 1 ، مطبعة هندية، مصر، 1908م، ص 79.
6- يُنظر : التكريتي، د. ناجي، الفلسفة الأخلاقية الأفلاطونية عند مفكري الإسلام، ط1، دار الأندلس، بغداد، 1979م، ص 208 .
7- ابن سينا، عيون الحكمة، ط2، حققه وقدم له د. عبد الرحمن بدوي، دار القلم، بيروت، 1981 م، ص41.

الفعل الأخلاقي وقدرته الكبيرة في التميز بين الخير والشر، وهو يعطي للعقل المنزلة الرفيعة، وقام بجهود علمية وعملية كبيرة لتعين منزلة العقل الحقيقية في التفكير الإنساني ليحافظ على شعلته الثمينة وليعطيه منزلته الرفيعة المقدسة(1). وحول أهمية واعتبار العقل يرى المطهري أنه يثبت بالعقل نفسه، أي إن العقل بذاته يدل على حجيته كما الشمس نفسها دليل على وجود الشمس(2).

ويؤكد المطهري الدور الأساس للعقل في تحديد الفعل الإنساني إذ يرى: ((أنَ العقل دليل حاذق للإنسان، هذا العقل منحه الله تعالى للإنسان ليميز بين النور والظلمات، بين طريق الكمال وطريق الانحراف وان الطبيعة البشرية للإنسان تدل على انه قد يسلك الطريق الصحيح بحكم عقله، وقد لا يسلك هذا الطريق بحكم خطئه وجهله واتخاذه هواه إلها فيسير نحو الانحراف والتردي))(3).

يشبه المطهري سلطة العقل عند الإنسان بالسلطة التشريعية(4)، وهو يعدّه أحد موجهي الإنسان ومحدداً لمسار حياته، فبفضل هداية وتوجيه العقل يقلع الإنسان عن اللذات على الرغم من ميولاته الغريزية، ولأجل الحياة الآخرة الدائمة النفع يضحي بالمنفعة الآنية في سبيل الفضيلة الأخلاقية، فهو يتحمل الألم كي يتخلص بشكل تام من قيد الخضوع للغرائز الدنيئة، ويتحرر منها إلى عالم أعلى وارفع، إنّ الحرية في سلطة العقل متاحة للإنسان كي يتأمل ويقارن بين الحسن والقبيح من الأخلاق، فيقدم على عملية الترجيح بين الفعل والترك، ففي سلطة العقل لا تستبد الدوافع الغريزية في حكمها، فالحكم يكون للعمل الحسن الذي يحدده العقل بالمقارنة، فتكون للإنسان الحرية الكاملة في ظل نعمة العقل، فالعقل يمنح الإنسان المقدرة

ص: 48


1- يُنظر : دجاكام .د. علي نسبية المعرفة في الفكر الإصلاحي الديني المطهري أنموذجاً، مجلة المنهاج، ترجمة دلال عباس، مركز الغدير للدراسات الإسلامية، لبنان، العدد 33 ، 2004م، ص80.
2- يُنظر: عباس نیکزاد، التوفيق بين الدين والعقل في مدرسة الحكمة المتعالية، ترجمة علي إل دهر الجزائري، مركز الحضارة، لتنمية الفكر الإسلامي، بيروت، 2010 م، ص199.
3- مطهري، مرتضى، الإسلام ومتطلبات العصر، ط1، ترجمة علي هاشم، مراجعة الدكتور محمود البستاني، دار الأمير ، لبنان، 1992م، ص 36.
4- يُنظر : الطباطبائي، محمد حسين، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي ، ج2 ، ط2، تقديم وشرح: مرتضى مطهري، ترجمة عمار أبو رغيف، المؤسسة العراقية للنشر والتوزيع، بغداد، 2010م، ص 196 (الهامش).

على تشريع الواجب والقانون و الأخلاق، وهو الذي هيأ الإنسان ليتحمل مسؤولية الأمانة ليكون إنسانا ذا شخصية أخلاقية(1).

إذن يتبين لنا أن المطهري يجعل حاكمية العقل على الغرائز على أساس أن سلطة العقل على الإنسان أوسع من سلطة الغرائز، وبناءً على هذا يكون المخالف لسلطة العقل مفارقاً للسلوك الأخلاقي العقلي.

ج صدور الفعل الأخلاقي عن إرادة حرة.

تُعد مسألة حرية الإرادة من المسائل التي أخذت جزءاً كبيراً ومجالاً واسعاً في الدراسات الفلسفية والكلامية، وكان لها شأن خاص في الفكر الإسلامي. وتعرف الإرادة بأنها ((صفة توجب الحي حالاً يقع منه الفعل على وجه دون وجه، وفي الحقيقة هي ما لا يتعلق دائماً بالمعدوم فإنها صفة تخصص أمراً ما لحصوله ووجوده))(2).وتعرف أيضاً بأنها: ((طلب الشئ أو شوق الفاعل إلى الفعل))(3). والإرادة في علم الأخلاق الاستعداد الأخلاقي عند الإنسان وباتجاه محدد وحالة معينة(4). وبذلك تكون الإرادة عند الإنسان على نوعين، الأول هو الإرادة الصالحة التي يقدم الإنسان بها على الفعل الحسن، وتكون هذه الإرادة موجهة عنده نحو الخير، والنوع الثاني هو الإرادة السيئة التي يقدم الإنسان بها على العمل القبيح، فتكون إرادة موجهة نحو الشر(5).والإرادة هي فعل صادر عن تصميم عقلي واع لأداء فعل معين الغرض منه تحقيق غاية محددة، وبناء على هذا يكون الفعل الإرادي وليد قرار ذهني سابق(6). و الإرادة لا تقوم على الرغبة والنزوع فحسب، بل تقوم أيضا على التفكير والوعي المستقل(7).

ص: 49


1- يُنظر : الطباطبائي، محمد حسين، أصول الفلسفة والمنهج الواقعي ، ج2 ، تقديم وشرح: مرتضى مطهري ص195- 196 (الهامش).
2- الجرجاني، التعريفات، ص 10-11.
3- صليبا، د. جميل، المعجم الفلسفي، ج 1، ط 1 ، ذوي القربى، قم، 1385ه، ص 57.
4- يُنظر : بدوي، د. عبد الرحمن، موسوعة الفلسفة، ج3، منشورات ذوي القربى، قم، 2008م، ص 16.
5- يُنظر : صليبا، د جميل ، المعجم الفلسفي، ج 1، ص 58-59.
6- يُنظر : مدكور ، د. إبراهيم، المعجم الفلسفي، المطابع الأميرية، القاهرة، 1983م، ص7.
7- يُنظر : العاتي،د. إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية (نموذج الفارابي) الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1993م، ص216.

وتعد الإرادة العنصر الذي يعتمد عليه الإنسان عند كل سلوك حر(1)، وهي قرار جازم يتخذه الإنسان للقيام بعمل أو مجموعة من الأعمال أو للتصرف تصرفاً معيناً في موقف معين(2). والإرادة قوة محركة للإنسان عنها تصدر كل الأعمال الإرادية، وجميع ملكات الإنسان وقواه تكون في سبات حتى توقظها الإرادة فمهارة الصانع ، وقوة عقل المفكر ، وذكاء العامل، والشعور بالواجب، ومعرفة ما ينبغي وما لا ينبغي، كل هذه لا أثر لها في الحياة ما لم تدفعها قوة الإرادة، وكلها لا قيمة لها ما لم تحولها الإرادة إلى عمل، وللإرادة نوعان من العمل، فقد تكون دافعة وقد تكون مانعة، أي إنها تارة تدفع الإنسان إلى عمل فتحمله على القراءة والتأليف، وتارة تمنعه عن المسير فتحرم عليه القول أو الفعل، وهي بنوعيها منبع لكل الخيرات والشرور فجميع الفضائل والرذائل ناشئة عن الإرادة(3). فهي التي تقوم ماهيتنا هي نحن وهي شخصنا وحدنا بوضعنا وقدرتنا المزدوجة على الطاعة والعصيان، وعليها يترتب على قدر ما يحسن أو يسي في استعمالها سعادة الإنسان أو شقاءه علوه أو سقوطه(4).

وعرف الفارابي، الإرادة بأنها ((نزوع إلى ما أدرك وعن ما أدرك، إما بالحس، وإما بالتخيل، وإما بالقوة الناطقة ، وحكمه فيه أن يؤخذ أو يترك))(5). ويرى أن الإرادة هي من مميزات الفعل الإنساني، وتتصف بأنها إرادة خلقية تقوم على اختيار الإنسان فهو الذي يختار الجميل والنافع(6).

أما ابن سينا، فالإرادة عنده ((قوة من القوة المحركة، تتلقى أوامرها من القوة النظرية))(7). ويرى الغزالي (ت 505ه) أنّ الإرادة هي نشاط الذات المتحركة العاملة

ص: 50


1- يُنظر: مهدي، علي صاحب، التربية والأخلاق عند المؤمن، مطبعة الحوادث، بغداد، 1978م، ص33.
2- يُنظر : المصدر نفسه، ص 75.
3- يُنظر أمين .د. أحمد الأخلاق، دار الكتاب العربي، بيروت، 1969م، ص 53.
4- أرسطو طاليس، علم الأخلاق إلى نيقوماخوس ، ج 1 ، ترجمه من اليونانية إلى الفرنسية بار تملي سانتهلير، نقله إلى العربية احمد لطفي السيد، دار الكتب المصرية، القاهرة 1924م، مقدمة المترجم، ص 13.
5- الفارابي، أراء أهل المدينة الفاضلة، ط2، تقديم وتعليق د: ألبير نصري ،نادر دار المشرق، المطبعة الكاثوليكية، بیروت، 1968م، ص89.
6- يُنظر : الفارابي، فصول منتزعة، فصل 73، ص 80.
7- ابن سينا، رسالة في معرفة النفس الناطقة وأحوالها (ضمن كتاب أحوال النفس)، تحقيق: د، احمد فؤاد الإهواني،القاهرة، 1952م، ص89.

وعنوان حياتها ، وأنها تجمع بهذا المعنى الوظائف النفسية إذ تعمل متآخية متآزرة للرد على البواعث والأفكار المختلفة وبهذا تصطبغ الشخصية الإنسانية بصبغة الإرادة التي تمثل حاضر الشخص بكل قواه الذهنية والجسمية والعملية(1).

أما مفهوم الحرية، فهي: ((الملكة الخاصة التي تميز الكائن الحي الناطق، من حيث هو موجود عاقل يصدر في أفعاله عن إرادته هو، لا عن أية إرادة أخرى غريبة عنه))(2)، ولما كان يميز بين نوعين من الأفعال هما الأفعال الاضطرارية والأفعال الاختيارية التي تعد كبقية الأفعال الخلقية التي تصدر عن روية وتدبر، وعليه فقد عرف الفعل الحر بأنه الفعل المختار الصادر عن روية وتعقل وتدبر، وفي الاصطلاح الفلسفي هو اختيار الفعل عن روية مع استطاعة عدم اختياره أو استطاعة اختيار ضده(3).

ويتصف الفعل الخلقي بصفة أساسية وهي الإرادة، فلا يمكن أن نسمي فعلاً ما بأنه فعل أخلاقي إلا إذا كان صادراً عن إرادة حرة حكيمة(4). ولو لم تكن إرادة الإنسان حرة في اختيار الخير والشر، لكانت التكاليف الأخلاقية والأمر والنهي نوعاً من العبث، ولما كان هناك أي معنى للثواب والعقاب والمدح والذم(5).

والحرية شرط رئيس لكل الأفعال الخلقية وما يرتبط بها من مقاصد ونوايا ومواقف إرادية خلقية، فلا يمكن أن نتحدث عن الأخلاقيات إلا إذا كان الإنسان يمتلك الحرية التي تمكنه من عمل الخير وترك الشر، ولو لم نكن نمتلك حرية في الاختيار بين الخير والشر، فلا يمكن أن نحاسب على جميع تصرفاتنا فلا يمكن أن ندم عليها(6).

ص: 51


1- يُنظر: الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين ، ج 3 ، مكتبة عبد الوكي ألدروبي، دمشق، 1978م ص 45.
2- إبراهيم، د. زكريا مشكلة الحرية ، ط3، مكتبة مصر، 1971م، ص 18.
3- ينظر: إبراهيم د. زكريا، مبادئ الفلسفة والأخلاق، ط1، مكتبة مصر، القاهرة، 1969م، ص 66. وأيضاً ينظر: د. زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، ص6.
4- ينظر: العزام د. محفوظ علي، الأخلاق في الإسلام بين النظرية والتطبيق، ط1، دار الهداية، مصر، 1986م، ص 13.
5- ينظر: زقزوق، د. محمود حمدي، مقدمة في علم الأخلاق، ط3، دار القلم ، الكويت، 1983م، ص34.
6- المصدر نفسه، ص 35.

ويعد الإنسان موجوداً أخلاقياً لأنه كائن عاقل يمتلك من الفكر والإرادة ما يستطيع به تجاوز مستوى الغريزة والسمو إلى مستوى السلوك الأخلاقي الحر(1).

تعد حرية الإرادة والاختيار من الموضوعات ذات الأثر الكبير في حقل أخلاقية الفعل ، إذ لو لم يكن الإنسان مختارا في أفعاله لصار البحث في موضوع الأخلاق ضربا من العبث ولبطلت التشريعات والتكاليف الإلهية لأن الإنسان في هذه الحالة سوف يكون مكلفا بما لا يطاق ولهذا صار الاختيار عند الإنسان مدار التكاليف الشرعية(2).

فالأمامية اعتقدت في حرية الإرادة للفعل الإنساني وأرجعته إلى الأمر بين الأمرين، عن الإمام الصادق(علیه السّلام)قال : ((لاجبر ولا تفويض ولكن أمر بين أمرين))(3)وخلاصة اعتقادهم أن أفعالنا من جهة هي أفعال حقيقية ونحن أسبابها الطبيعية وهي تحت قدرتنا واختيارنا ومن جهة أخرى هي مقدوره لله تعالى وداخلة في سلطانه لأنه تعالى هو مفيض الوجود ومعطيه فلم يجبرنا على أفعالنا حتى يكون قد ظلمنا في عقابنا على المعاصي لان لنا القدرة والاختيار فيما نفعل، ولم يفوض إلينا خلق أفعالنا حتى يكون قد أخرجها عن سلطانه، بل له الخلق والحكم والأمر وهو قادر على كل شيء(4).

أما المعتزلة فارتبطت عندهم الإرادة الإنسانية بحرية الفعل الإنساني، فالفعل الإنساني لا يمكن أن يكون فعلاً حقيقياً ما لم يكن فعلاً حراً ومرتبطاً بالوعي الذاتي الإرادي للفاعل، وحين بحث المعتزلة مسألة الإرادة عدوها الأداة التي يحقق بها الإنسان اختياره(5). وأكد المعتزلة أن الله تعالى خلق العبد وترك له خلق أفعاله، فالفعل الصادر من العبد تابع لإرادته واختياره، والله تعالى ليس له سلطان في هذا،

ص: 52


1- إبراهيم، د. زكريا ، المشكلة الخلقية، دار مصر للطباعة، القاهرة، 1966م، ص 31
2- ينظر: النراقي، جامع السعادات، ج1، ص132
3- الصدوق، الهداية، ط1، مؤسسة الهادي، قم، 1418ه، ص18.
4- يُنظر : المظفر، محمد رضا المظفر ، عقائد الأمامية، ط2، مركز الأبحاث العقائدية، 1424ه،39-38 .
5- يُنظر : داود، عبد الباري محمد، الإرادة عند المعتزلة والأشاعرة، دار المعرفة الجامعية، ص 61-62.

وعليه يكون العبد خالقا لفعله(1)، فقد عدت حرية الإرادة الإنسانية هي أساس أصول المعتزلة ويتعذر قيام الأخلاق من دونها، فاتفقت المعتزلة على أن العبد قادر فاعل لأفعاله خيرها وشرها، وعليها استحق الإنسان على ما يفعله الثواب أو العقاب في الدار الآخرة(2).

أما الأشاعرة ، فقد استند موقفهم من أفعال الإنسان إلى قضية رئيسة وهي ما شاء الله أن يكون كان وما لا يشاء لا يكون(3)، وعدوا فعل العبد واقعاً بقدرة الله وحدها(4)، وهذا يعني أن الفعل تابع لقدرة الله واختياره، وليس للإنسان قدرة لاختيار الفعل أو التأثير فيه، لأنه محل الفعل ليس إلا، وهذا ما بعرف بالكسب، ويرى أبو الحسن الأشعري (ت 324) ، أنَ ((معنى الاكتساب هو أن يقع الشيء بقدرة محدثة، فيكون كسبا لمن وقع بقدرته))(5). فالأفعال مخلوقة لله وأن الله هو الفاعل الحقيقي لها، وما الإنسان إلا مكتسبها من انه لو كان الإنسان هو الفاعل حقاً لأفعاله لأتت على نحو ما يشتهيه وبقصد، فالفعل لا يحدث حقيقته إلا من محدث أحدث قاصداً إليه فقد وجب أن يكون محدث الفعل هو الله(6).

وبناءً على هذا فقد رأى الأشعرية أن الله هو الموجد لأفعال العبد بأجمعها، الاختيارية والاضطرارية، وليس لقدرة الإنسان أي تأثير لوجودها سوى أنه محل لها، ومع هذا فهو مكتسب لأفعاله، وبسبب هذا الكسب يستحق الثواب والعقاب(7).

أما أهم من قال بحرية الإرادة في الفلسفة الإسلامية، فهو الفارابي، إذ جعل الاختيار أساساً للفعل الأخلاقي، لأنه مقتصر على الإنسان، وبالاختيار يستطيع الإنسان أن يفعل المحمود والمذموم ، والجميل والقبيح، وعليه يكون الثواب

ص: 53


1- ينظر: الشهرستاني، الملل والنحل، ج1، تحقيق: عبد العزيز الوكيل، طبعة الحلبي، 1968م، ص 39.
2- ينظر : عبد الباري محمد داود، الإرادة عند المعتزلة والأشاعرة، ص 66.
3- ينظر: صبحي، د. احمد محمود، في علم الكلام ، ج2 ، ط5 ، دار النهضة العربية، بيروت، 1985م، ص77.
4-
5- الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين ،ج2، ط2، تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد، مكتبة النهضة المصرية 1955 م، ص542..
6- المصدر نفسه، 547.
7- ينظر : مغنية، محمد جواد، معالم الفلسفة الإسلامية، ط3، دار ومكتبة الهلال، بيروت، 1982م، ص 121-120

والعقاب(1). وتابعه ابن سينا في هذا الرأي في حرية الإرادة للفعل الأخلاقي، فالإنسان مخير في أن يفعل الفعل أولا(2).

أما المطهري، فهو من القائلين بحرية الإرادة في الفعل الأخلاقي عند الإنسان، إذ يرى : ((أن الإنسان خلق مختاراً حراً بمعنى أنه أعطي فكراً وإرادة وهو في أعماله ليس كالحجارة تدحرجه فيتدحرج ويسقط متأثراً بجاذبية الأرض دون أن تكون له أية إرادة، أو كالنبات ليس له إلا طريق واحد يوجد بتوفر شروط معينة وينمو بالشكل المعتاد، أو كالحيوان الذي يؤدي أعماله بتأثير غريزي، إن الإنسان يجد نفسه دائماً على مفترق طرق ليختار منها ما شاء وبإرادة حريته ووفق مشيئته ونوعية تفكيره وهو ليس مجبراً على أي سلوك، وإنما يتبع السلوك حسب فكره واختياره وهنا تبرز مقوماته الشخصية وصفاته الروحية والأخلاقية))(3).

إنَّ وقوف الإنسان بين مفترق الطرق، واختياره لأحدهما ، دليل على أنّ الإنسان حرٌّ في إرادته بدلالة إدراكه لهذا المفترق، ولو لم يكن حراً في إرادته لتصور طريقاً واحداً فحسب، وغاب عنه ما في الواقع من تعدد الطرق، وتفهم الباحثة أن مفترق الطرق هو الدليل العقلائي الذي اعتمده المطهري في إثبات حرية الإرادة.

يوضح المطهري أن الإرادة هي قوة باطنة فهي ترتبط بعقل الإنسان خلافاً للميل الذي يرتبط بطبيعة الإنسان فالميل هو من جنس الجاذبية أي إن الأشياء المراءة تجذب الإنسان نحوها، وكلما يكون الميل شديدا يسلب اختيار الإنسان بمقدار معين، أي إن الإنسان يخضع لسيطرة قوى خارجة عن إرادته، بعكس الإرادة فإن الإنسان يخرج نفسه عن تأثير القوى الخارجة بواسطة الإرادة، فكلما كانت الإرادة أقوى يكون اختيار الإنسان أكثر ويمتلك نفسه وعمله ومصيره(4). وأراد المطهري من موضوع حرية الإرادة التأكيد على مسؤولية الإنسان عن أفعاله، وبهذا ينفي أن يكون

ص: 54


1- العاتي، د. إبراهيم، الإنسان في الفلسفة الإسلامية، ص216.
2- ينظر: ابن سينا، عيون الحكمة، ص 41.
3- ينظر: المطهري، الإنسان والفضاء والقدر، ط1، ترجمة محمد علي التسخيري، دار المشرق للطباعة والنشر، طهران، 1385ه- . ش ص 62-63 .
4- ينظر : مرتضى مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 191.

للقضاء والقدر أثر في نشوء الفعل الإنساني، ويشبه المطهري الإرادة بالقوة التنفيذية عند الإنسان(1).

ويرى المطهري أنّ حرية الفعل الإنساني ناتجة من تفكير الإنسان وقواه الإدراكية، فالإرادة الحرة ترفض الخضوع لأي مؤثر خارجي يجبر الإنسان على عمل ما(2).

وتأسيساً لهذا نجد أن جوهر السلوك الأخلاقي عند الإنسان في رأي المطهري يكون نابعاً من إرادة حرة، والإرادة الحرة تعني الإرادة المسبوقة بالتعقل والتفكير، والتعقل هو الذي يجعل الإنسان حراً في اختياره طريقاً من طريقين إما طريق السعادة والنجاة أو طريق التعاسة والشقاء ورؤية المطهري هذه تنجم مع الرؤية القرآنية في حرية الإرادة،قال تعالى في محكم كتابه الكريم: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا(3)*.

المبحث الثاني، نقد المطهري للنظريات الاخلاقية الغربية

عرض المطهري أهم النظريات الأخلاقية في الفعل الأخلاقي، وتميّز أسلوبه في العرض أسلوباً واضحاً، ثم عمد إلى نقد هذه النظريات، فالنزعة النقدية عنده كانت واضحة الملامح ، فهي أحد أسس شخصيته الفكرية، فقد سلك أسلوباً نقدياً اتجاه بعض النظريات الغربية، ولم يقع في فخ التماهي أو الذوبان معها منطلقاً من اعتزازه بالهوية الأصيلة للدين الإسلامي وفهمه ووعيه لأسسها. وتوجد نظريات في الفعل الأخلاقي قد نقدها المطهري، وهي كالآتي:

أولاً: نظرية العاطفة.

تعد نظرية العاطفة من النظريات الأخلاقية القديمة، والمطلع على مصادر

ص: 55


1- ينظر: المصدر نفسه، ص 73.
2- ينظر: مطهري، كلمات في الطريق، ص 58.
3- سورة الإنسان، الآية 3.

تأريخ الأخلاق يمكن أن يحدد معالم هذه النظرية في تاريخ الفكر الفلسفي الهندي والمسيحي ،القديم، فتأريخ الأخلاق في الفكر الهندي القديم حدد مذهبين أخلاقيين أحدهما يتلو الآخر، فنجد البراهمة(1)وبعدها البوذية(2). فالبوذية قد جاءت تجديداً للبراهمة وإصلاحاً لها(3). لقد جاءت البراهمة بمبادئ أخلاقية تبلغ حد الإعجاب، وتمثلت هذه المبادئ بحب الناس بعضهم لبعض ، واحترام الناس جميعاً، بل وحب كل ماخلق الله من الكائنات الحية، والعفو عن المسيء، وأنّ الذي يعفو عن المسيء يكون مكرماً لدى السماء، والذي يحمل الحقد يذهب إلى الجحيم(4). جاءت البوذية لتتبع أثر البراهمة في تعاليمها، إلا أنها اختلفت عنها في إلغاء نظام الطبقات الذي كان موجوداً عند البراهمة، وبهذا عدت البوذية ثورة اجتماعية أكدت على مبادئ أهمها المساواة والأخوة(5).

وأهم ما جاء في المذهب البوذي ((أخفوا ما عشتم طيبات أعمالكم واظهروا مساوأكم، أحبوا جميع الناس وكل الكائنات ليست الولادة ولا الأم البرهمية هي التي توجد البرهمي الحقيقي، أنا لا أعرف برهمياً إلا الفقير الذي يشتهي في حياته شيئاً، والمسامح الذي بكل براءة و طهارة ووداعة يتحمل السب واللعن والضرب وعذاب السلاسل والأغلال الحديدة بكل صبر و لطافة، والرحيم الذي لا يصرع حيواناً ضعيفاً وقوياً، والمستكين الذي هوجم يظهر لمهاجمه كل لطف ولا يقابله

ص: 56


1- البراهمة: هي اسم لنظام ديني إجتماعي سياسي، وهي الاسم الذي أطلق على الهندوسية ابتداءً من القرن الثامن قبل الميلاد، وذلك نسبة إلى أبراهما، وهو القوة السحرية العظيمة التي تتطلب من أتباعها كثيراً من العبادات، وهذا المذهب على ما توصلت إليه البحوث الآن أقدم ديانة هندية يرجع بعض أناشيدها إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد. ينظر : د. مرحبا، محمد عبد الرحمن المرجح في تاريخ الأخلاق، ط1، مطبعة جروس برس، لبنان، 1988م، ص 186.
2- البوذية : هي تحديث للمذهب البراهمي وإصلاح له، و مؤسس البوذية هو بوذا، ومعناه الحكيم، والبوذية ديانة عالمية تبشر بالخلاص من الألم عن طريق ترك الرغبة، وتحقيق التنوير الأعلى الذي يعرف باسم النيرفانا التي تعني الإشراقة التي أو مضت للمعلم تحت الشجرة المقدسة، فتجلت له عقدة الكون، وقد نشأت البوذية في الهند في القرن السادس قبل الميلاد ينظر: روزنتال، الموسوعة الفلسفية، ترجمة: سمير كرم، مراجعة د. صادق جلال العظم، جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، 1967م، ص 91.
3- يُنظر: موسى، د. محمد يوسف، تاريخ الأخلاق، ط3، دار الكتاب العربي، مصر، 1953م، ص 21.
4- المصدر نفسه، ص 23.
5- يُنظر : ذكرى، د. أبو بكر، تاريخ النظريات الأخلاقية، ط4، دار الفكر العربي، القاهرة، 1965م، ص9-10.

بالمثل والذي لا يحسد حاسديه يوما على شيء))(1). ومن تعاليم بوذا الأخلاقية العملية لا تقتل كائناً واحترام الحياة يجب أن يمتد إلى أي مخلوق مهما كان تافهاً أو ناقصاً حتى لو كان دودة أو نملة(2).و الاحترام للحياة إنسانية كانت أو حيوانية، فليس البوذي أن يقتل حيوانا في لهو كالصيد أو في الجد كذبحه لأكله، بل الرفق بالحيوان، ولا يراه الخلق بأنه ادنى منه، إن المحبة الشاملة هي من أفضل الإعمال الحسنة،

وهي تحرر القلب القلب من شوائب الشر، لأنها تشرق نورا وبهاء في نفس كل إنسان، ولهذا يجب على كل إنسان أن يغرس في نفسه الحب العميق الصادق السائر الخلق(3). إنّ الحكمة لدى الإنسان الهندي القديم هي نسيج محبوك من العقل والعاطفة وإنّ الأفكار الهندية تبني الإنسان من وجهة قيم القلب وتصر على مثل متعددة هي التسامح والشفقة والمحبة واللاعنف وعدم الخضوع للشهوات وللجسد(4).

هذا موجز لأهم ما جاء به أهم مذهبي مثلا الفكر الأخلاقي الهندي القديم النظريتهم في الأخلاق، والذي أتضح أن معالم فلسفة الأخلاق الهندية هي أخلاق عاطفة أي تجد في حب الغير أساساً لها.

ونجد كذلك معالم نظرية العاطفة واضحة جداً في الفكر الأخلاقي المسيحي، إذ جاءت الفلسفة الأخلاقية للفكر المسيحي بمبادئ أساسية تمثلت في الحب الإلهي والأخوة والتضحية، إن غاية الخالق في هذه الحياة شيء يجسده كل كائن في هذا الكون، فكل شيء في الكون يشير إلى محبة الله لخلقه من ناحية وحب الناس لله من ناحية أخرى، إن محبة الإنسان لله وللآخرين من البشر هو أساس القانون والشريعة الإلهية وأساس الحياة الكريمة، فالغاية الرئيسة للإنسان وواجبه في هذه الحياة أن

ص: 57


1- يُنظر : المصدر نفسه، ص 10.
2- يُنظر : بدوي، د. السيد محمد، الأخلاق بن الفلسفة وعلم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية، القاهرة، 2000م،ص 29. وايضاً : البيرثويتزر ، الفكر الهندي (كبار مفكري الهند ومذاهبهم على مر العصور)، ترجمة: يوسف شلب الشام، دار طلاس ،دمشق 1994م ص95
3- يُنظر: شلبي، د. احمد، مقارنة الأديان، ط3، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة، 1973م، ص173.
4- يُنظر : زيعور، د. علي الفلسفة الهندية، ط1، دار الأندلس، بيروت، 1980م، ص 163.

يتصرف على وفق إرادة الله هذه المعاني العميقة للمحبة ما أشارت إليه الفلسفة المسيحية§ُنظر: التلوع، د. أبو البكر إبراهيم، الأسس النظرية للسلوك الأخلاقي، منشورات قان يونس، بن غازي، 1995 م، ص108-107.(1)کرم، د. يوسف، تاريخ الفلسفة الأوربية في العصر الوسيط، دار القلم ،لبنان، (من دون تاریخ)، ص 39.(2)يُنظر : التلوع، د، أبو بكر إبراهيم، الأسس النظرية للسلوك الأخلاقي، ص109.(3)المطهري، فلسفة الأخلاق، ص 40.


1- . لذلك يرى القديس أوغسطين ((أن الفضيلة الكبرى محبة الله واضع النظام والمعين نفسه غاية لنا، نفسه غاية لنا، وهي تتضمن سائر الفضائل، فهي تتضمن سائر الفضائل، فهي الحكمة من حيث أنها الوصول إلى قيم الخير، وهي الفطنة من حيث أنها تجعلنا نحذر كل ماخلا الله ،وهی الشجاعة بفضل قوة اتحادنا بالله،وهي العدالة من حيث أنها فوز فالسعادة والفضيلة متطابقتان، وما الفضائل الأرضية إلا وسائل لغاية أبعد منها ))
2- . إن الفلسفة المسيحية أوجدت في فضيلة المحبة، والتضحية ومساعدة الآخرين غاية أساسية، لذلك أولتها اهتماماً فائقاً، وبذلك أصبحت محبة الآخرين من القيم الأخلاقية السامية التي تميزت بها أخلاق المسيحية
3- . لقد عرض المطهري نظرية العاطفة ومن ثم وجه إليها بعض الانتقادات في نقاط محددة فهو يرى ((أن نظرية العاطفة هي من النظريات القديمة في مجال بيان المعيار في كون الأفعال الأخلاقية، والحاصل أن القائلين بهذه النظرية ويؤكدون أن مبدأ كل فعل أنساني هو الإحساس والعاطفة وهما المحركان نحو الفعل، ولولا المبدأ لاستحال صدور فعل من الإنسان والفعل الأخلاقي هو ما ينشأ من مبدأ وميل لا ربط له بشخص الفاعل بل هو مرتبط بالآخرين، وهذا الميل أو المبدأ هو ما يصطلح عليه بالعاطفة وأن الهدف منه ليس وصول الخير للذات بل وصوله للآخرين، وعلى هذا يكون الفعل الأخلاقي مبدأ وهدفاً خارج من دائرة الأنا لأن الميل للفعل سببه الآخرون، كما أن الهدف هو تجاوز الذات والخروج من دائرة الأنا والإنسان الأخلاقي هو الذي يخترق دائرة الأنا ليصل إلى الآخرين))

كل دين قد أوصى بالمحبة ومعظم المدارس الفلسفية تتثبت بمبدأ المحبة، وبعض الأديان أفضل ما فيها هو أنّ المحبة تشكل محور الأخلاق فيها، وهناك أديان أخرى تعد المحبة أحد عناصر الأخلاق الدخيلة في تركيبها(1).

لقد أوضح المطهري أنّ محور الأخلاق الهندية هي العاطفة، وقد بقيت هذه النظرية وامتدادها إلى الفلسفة الهندية المعاصرة، فهو يستشهد بمذهب غاندي(2).حيث تعمل نظرية العاطفة في فلسفة غاندي الأخلاقية على مبدأ (أهمسا) وهي تعني عدم العنف والصدق والأمانة وضبط النفس عن الشهوات، (أهمسا) هي يجب أن نمتنع عن الإيذاء وعن الكذب وعن السرقة وعن الطمع والكف عن الحقد لجميع المخلوقات الحية وفي جميع الأوقات والأحوال وعدم الكراهية واختيار المودة والعطف والابتهاج و الاتجاه نحو الأشياء المفيدة والمعزة والحسنة وتجنب عن السيئة، لأنّ هذه الأعمال هي ما ينتج عنها الهدوء والصفاء في الفكر لذلك يجب أن نكون مجردين عن الحسد وشاعرين بآلام الغير وفي حين آخر نكره الإثم إلا أننا يجب أن نحب الآثمين(3).

يبين المطهري أن غاندي قد توصل في كتابه (هذا هو مذهبي) إلى ثلاثة أسس رئيسية وهي(4):

توجد في هذا العالم معرفة واحدة وهي معرفة النفس وتعد هذه المعرفة أساس في الفلسفة الهندية.

إن كل من عرف نفسه عرف ربه وعرف حقيقة العالم.

ص: 59


1- ينظر: المصدر نفسه، ص 41.
2- غاندي : هو موهان داس کارا ماتشاند الشهير بغاندي (1869-1948م) زعيم حركة التحرير الوطني الهندية ومؤسس الأيديولوجية والخطط المعروفة بالغاندية، كان غاندي من الناحية الفلسفية مثالياً موضوعياً يوحد في مذهبه بين الله والحقيقة وكان يعتقد أنّ أدراك الحقيقة ينشأ من تهذيب الذات الأخلاقي. ينظر : روزنتال، الموسوعة الفلسفية، ص 318، وأيضاً ينظر: عباس محمود العقاد، روح عظيم ألمهاتما غاندي، منشورات فن للطباعة، القاهرة، 1999م، ص 23
3- ينظر: الحسيني، السيد أبي النصر أحمد، الفلسفة الهندية، ط1، مطبعة مصر، القاهرة، 1960م، ص99-100.
4- المطهري، فلسفة الأخلاق، ص41-42.

في العالم هناك قدرة واحدة وهي قدرة السيطرة على النفس والتمكن من تطويقها، وبتعبير غاندي إن من يسيطر على نفسه وذاته يمكن أن يسيطر على العالم ويوجد في هذا العالم شئ جميل وهو حب الآخرين وحب الذات.

وهنا يؤكد المطهري على النقطة الثالثة خاصة الغاية الأساسية التي جعلته يستشهد بكلام غاندي، لأنه أثبت فيها أن الأخلاق الهندية هي أخلاق عاطفة وتعتمد هذه الأخلاق على حب الآخرين.

أما بالنسبة لمطهري لنقده نظرية العاطفة الخاصة بالفعل الخلقي، فهو لا يريد أن ينقدها نقداً تاماً لأنه من جهة يرى أن بعض أرائها ما يقبل ومن جهة أخرى ما ينقد، ولذلك فقد حدد نقده لها بالنقاط الآتية:

1- يذكر المطهري ((أنه لا يمكن عد كل محبة أخلاقاً وإن كانت تلك المحبة قابلة للمدح والثناء وليس كل فعل ممدوح أو مذموم يعد أخلاقياً أو غير أخلاقي، فالفارس القوي يمدح على قوته وشجاعته ولا يعد ذلك أمراً أخلاقياً، لأن الأخلاقية تتضمن عنصر الاختيار والاكتساب لملكات غير غريزية فإذا كان الشيء الجميل الحسن فطرياً غريزياً في الإنسان بحيث لن يكتسبه اختيارا فهو وان كان رائعاً ومحموداً إلاّ انه لا يدخل تحت عنوان الأخلاق))(1).

ولتوضيح هذا يعطي المطهري مثالاً واضحاً وهو حب الأم لولدها فإنها بطبيعة حبها له تقدم على سلسلة من التضحيات والأعمال وهي ناتجة من العواطف السامية والعظيمة التي تشعر بها اتجاه ولدها وهذه الأفعال لا يمكن عدها أفعالاً خلقية، لأنها خاضعة لإجبار وإلزام طبيعي من حيثية الأمومة الغريزية التي تمتلكها الأم، فشعورها وحبها اتجاه ولدها لا يمكن أن تشعر به اتجاه الأطفال الآخرين لذلك لا يمكن أن نعد هذا الحب فعلاً خلقياً إذ لابد من أن تكون للأخلاق من دائرة أوسع(2).

ص: 60


1- المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص 43.
2- يُنظر: مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 66.

2- يرى المطهري أن نطاق الأخلاق غير محصور في حب الغير، بل إنه نطاق أوسع من حدود ذلك، إذ إن هنالك كثيرا من الأفعال والسلوكيات النبيلة والعظيمة التي يمارسها كثير من الناس، وهي بحد ذاتها أفعال قابلة للمدح والتقدير والثناء، وهذه الأفعال تكون لا علاقة لها بحب الغير ويرد المطهري أمثلة على هذه الأفعال مثل الإيثار الذي يعد أعلى درجات الكرم والإحسان، وكذلك الأفعال التي يقدم عليها رجال وهم يقدمون أرواحهم ويبذلون مهجهم في ما إذا خيروا بين عزتهم وكرامتهم أو بين أن يستسلموا أو يخضعوا للذلة والمهانة، هذه الأفعال التي تتمثل في التضحية والإباء والشموخ هي قمة الأخلاق ولا ربط لها بمحبة الآخرين(1).

وفي هذه النقطة من النقد يشكل المطهري على قول غاندي (في العالم خيرُ واحد وهو حب الآخرين)) في حين يرى المطهري أن في العالم أنواعا كثيرة من الخير وتكون غير حب الآخرين(2).

3- النقطة الأخرى التي تورد على هذه النظرية هي عن معنى حب الإنسان وفهم معنى الإنسانية، وهذه بحد ذاتها تحتاج إلى تفسير، ويتساءل المطهري في ذلك هل إن حب الإنسان مقصور على الإنسان فقط أو قابل لأن يحب الأحياء الأخرى؟ مثلاً على القصة السابقة الذكر وهي عطف الإنسان على الحيوان، هل هذا العمل لا يعد من الأخلاق لأن الحيوان ليس إنساناً؟ وهل يتعين على الإنسان أن يقصر حبه على أبناء نوعه فحسب ولا ينبغي له أن يحب بقية الأحياء ؟ يوضح المطهري أنه لا ينبغي أن نقول حب الإنسان، وإنما نقول حب الأحياء، أو حب كل الأشياء لأنها مخلوقات الله(3).

فالإنسانية على حد تعبيره ((هي شعار يردده كثيرون وهو بحاجة إلى فهم وتفسير دقيقين كي لا يختلط مفهوم بمفهوم آخر لتحل اللاإنسانية محل الإنسانية، فالمراد بالإنسانية الأصيلة هي محبة البشر والشفقة عليهم والرأفة بهم لأنها تعني تقديس

ص: 61


1- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص 44.
2- المصدر نفسه، ص 44.
3- يُنظر : المصدر نفسه، ص 44-45.

المثل والقيم الإنسانية النبيلة، فالإنسان إنسان جدير بالحب بقدر ما يحمل من المثل الإنسانية، وساقط عن الاعتبار بقدر تخليه عن الإنسانية وخلعه ثوبها))(1).

ولتوضيح محتوى هذه النقطة أكثر يقدم المطهري مقارنة واضحة لشخصيات إنسانية كان لها دور مهم في المجتمع البشري، كشخصية الرسول محمد(ص) وهی شخصية عظيمة وكاملة وكانت هذه الشخصية مصدر خير للإنسان ونجاته من الهلاك فقد كان يعطف ويشفق حتى على الإنسان الذي لا يمتلك قيماً أخلاقية، لأنه يريد الأخذ بيده والبلوغ إلى مستوى الإنسانية ولذلك فقد كان الرسول الأكرم رحمة للعالمين مؤمنهم وكافرهم، في مقابل هذه الشخصية هناك شخصية (الحجاج بن يوسف الثقفي)(2)، (جنكيز خان)(3)، هؤلاء قد افتقدوا وتجردوا من شيء كبير جداً وهو المثل الإنسانية، إنهم في الحقيقة والواقع أشخاص ضد الإنسانية وضد الإنسان(4).

لقد ناقش المطهري نظرية العاطفة ووجه إليها بعض نقاط النقد السابقة الذكر أعلاه وبناءاً على ذلك نجد أن نقده كان موجه لهذه النظرية على أساس أن العاطفة نحو الغير هي ليست من الأفعال الأخلاقية هذا من جانب، ومن جانب آخر هو يرى أن نظرية العاطفة جديرة بالقبول من أن المحبة هي مبدأ تؤكد عليه كل الأديان السماوية، وديننا الإسلامي هو دين خير ومحبة.

ثانياً : نظرية الواجب.

الواجب هو: ((مقولة أخلاقية تشير إلى الضرورة الأخلاقية لأداء التزامات

ص: 62


1- المصدر نفسه، ص 45.
2- الحجاج بن يوسف الثقفي (40-95ه) ولد في الطائف ثم انتقل إلى الشام حيث ولاه عبد الملك بن مروان العراق وحكم عشرين سنة أراق فيها دماء المسلمين فهو داهية وسفاك ينظر: الزركلي، خير الدين، الإعلام لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين ، ج 2، ط3، دار العلم، بيروت، 1969م، ص175.
3- جنكيز خان (1155-1227م) قائد مغولي مؤسس أكبر إمبراطورية في العالم، وهو واحد من أطغى طغاة البشرية سفك دماء الملايين اغلبهم من المسلمين، من اجل بناء إمبراطورية يهدف من خلالها إلى أن يكون سيد العالم والزعيم الأوحد للمعمورة كلها، فأصبح اسمه مرادفا لكل معاني الوحشية والبربرية والهمجية الدموية والدمار. ينظر : جون، مان، جنكيز خان حياته - انتصاراته، ط1، ترجمة: ادوار أبو حمرة، دار الحكايات ،لبنان، 2013م، ص 20.
4- ينظر: المطهري، فلسفة الأخلاق، ص46.

معينة))(1). والواجب بوجه عام هو الإلزام الأخلاقي الذي يؤدي تركه إلى مفسدة، ولهذا فهو يسمى في فلسفة كانت الأمر المطلق، وهو الأمر الجازم الذي يتقيد به المرء لذاته، من دون أن تتعلق به لذة أو منفعة(2)و يعد الفيلسوف الألماني كانت (1724-1804م) من أشهر وأقوى المدافعين عن المذهب الأخلاقي الذي يركز مفهومه عن الواجب ، وكثيراً ما قد يوصف هذا الفيلسوف، أنه فيلسوف الواجب، وقد عد فكره الأخلاقي ثورة على المذاهب الأخلاقية التي كانت سائدة في عصره مثل مذهب السعادة(3).

إن موقف كانت من المسائل الأخلاقية موقف واضح وصريح، وقد توصل في كتابه (نقد العقل النظري) إلى نتيجة رئيسة أن أي ميتافيزيقا لا يمكن أن توضع في موضع علمي قط، وأن أي منها لن تستطيع أبداً أن تظهر قضاياها الجدلية كمبادئ مسلمة، ولا أن تسوغها كقاعدة تجريبية، وأن الفلاسفة الذين يدعون بناء تعاليمهم الأخلاقية على الميتافيزيقا الإلهية كانت أو الحادية قد حكموا على أنفسهم بالفشل، لذلك قد رفض كانت أن يؤسس الأخلاق على أسس نفعية(4).

أوضح كانت أن الدين لا يمكن أن يقوم على أساس من العلم والعقل ولذلك يجب أن يرتكز على دعامة من الأخلاق لأنه إذا بني على عمد من اللاهوت العقلي فإننا قد عرضناه إلى أخطر الأخطار لنترك العقل ولنشيد الإيمان على ما هو فوق العقل وهي الأخلاق، ولكن يجب أن تكون قاعدة الدين الأخلاقية مطلقة مستقلة بذاتها غير مستمدة من التجربة الحسية المعرضة للشك وإلا يفسدها العقل ببحوثه وقضاياه، أي أن یجب تستمد القاعدة الأخلاقية من باطن النفس مباشرة، وبذلك تكون لدينا مبادئ أخلاقية فطرية تنشأ في الإنسان بطبيعته فيستلهمها ويستوحيها من دون أن يلجأ في تحديد سلوكه إلى علم أو تجربة، ولذلك يعد قانون الأخلاق ناشئاً فينا قبل التجربة

ص: 63


1- روزنتال، الموسوعة الفلسفية، ص572.
2- يُنظر : صليبا، د. جميل، المعجم الفلسفي، ج2، ص 542.
3- يُنظر : رشوان، د. محمد مهران، تطور الفكر الأخلاقي في الفلسفة الغربية، دار قباء، القاهرة، 1998، ص154.
4- يُنظر : كرسون، أندريه، الأخلاق في الفلسفة الحديثة، ترجمة د. عبد الحليم محمود، د. أبو بكر ذكرى، دار أحياء الكتب العربية، القاهرة، 1948م ، ص 59.

وإن الأوامر الأخلاقية التي تكون قاعدة للدين عامة مطلقة مستمدة من فطرة الإنسان، وان تجارب الحياة تنهض دليلا قوياً على وجود هذا الباعث الفطري على الأخلاق(1).

إن الباعث الفطري الذي كان يقصده كانت في الأخلاق هو الضمير، ويحدده بأنه ذلك الصوت الذي يصيح فينا صيحة التأنيب ثم يدعونا إلى الالتزام بالسلوك باتجاه الصواب، وهو الذي لا ينفك عنا ويأمرنا أن نعمل على نحو يصح أن يكون قانوناً عاماً للبشر ، وهو يرى أن هذا القانون الأخلاقي المفطور في نفوسنا يعمل على وفق ما يأمر به الواجب بغض النظر عن نتائجه وأحكامه، لأنه لم يستمد من التجربة وهو فطري طبيعي فينا(2).

ويعرف كانت الواجب بأنه ((ضرورة القيام بفعل عن احترام للقانون))(3). وهذا يوضح بأن كل أفعالنا هي ما تتفق مع الواجب(4). ويصرح كانت ((أن الأفعال الإنسانية لا تكون خيراً لأنها صدرت عن ميل مباشر أو دفعت إليها رغبة في تحقيق مصلحة شخصية، بل تكون خيراً لأنها صدرت من أجل الواجب، أي لا يكفي أن يكون الفعل الخلقي مطابقاً في نتائجه لمبدأ الواجب، بل يتحتم أن يجئ طبقاً للواجب أي أن يصدر عن احترام لمبدأ الواجب، فكم من أفعال تدفع إليها الرغبة في تحقيق منفعة شخصية، ومع هذا تتفق نتائجها مع مقتضيات الواجب)) (5). حتى الإرادة الخيرة التي يعدها كانت شرط ضروري لصبغ أي فعل بصبغة الأخلاقية فهي أرادة الفعل بمقتضى الواجب من دون أي اعتبار أخر وهذا يعني أن الإرادة الخيرة لا تخضع لأي قانون آخر سوی قانون الواجب فكل فعل أخلاقي ينبغي أن يؤدي احتراماً للواجب وتقديراً له وحده(6). لهذا فالواجب عند كانت لا يطلب من أجل منفعة أو بلوغ سعادة بل يطلب

ص: 64


1- أمين، د. أحمد، د. زكي نجيب محمود، قصة الفلسفة الحديثة، ج1، ط4 ، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1959م، ص296 297.
2- يُنظر : المصدر نفسه، ص 298-299.
3- كانت، إيمانويل، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة وتقديم د. عبد الغفار مكاوي، مراجعة د. عبد الرحمن بدوي، الدار القومي للطباعة والنشر، القاهرة، 1965م، ص27.
4- المصدر نفسه، ص44.
5- الطويل، د. توفيق الفلسفة الخلقية، ط1، دار المعارف،، الإسكندرية، 1960م، ص231.
6- يُنظر : رشوان، د. محمد مهران، تطور الفكر الأخلاقي في الفلسفة الغربية، ص 157-160.

لذاته فليس الأخلاق هي اللذة الذي يعلمنا كيف نكون سعداء بل هي المذهب الذي يعلمنا كيف نكون جديرين بالسعادة(1).

يحدد كانت أوامر القانون على الفعل الخلقي بأنها أوامر مطلقة ومثاله لا تكذب لا تسرق لا تشهد الزور وبناءا على ذلك يتضح أن الفعل الأخلاقي هو فعل إنسان يطيع أمراً مطلقاً لا شرط فيه أي أطيع القانون ولا أعصيه(2).

لقد استطاع كانت ومن فكرة الواجب أن يستنبط ما يسميه مصادرات العقل العملي، إنها مصادرات أو فروض لأنها لا تقبل البرهنة العقلية وهي موضوعات للاعتقاد أي للإيمان غير العقلي، وهذه المصادرات هي ثلاث:

أ- الحرية ، وتنبع من ضرورة إطاعة الواجب ذلك أن الالتزام يفترض أن يكون المرء حراً، ولا معنى للالتزام من دون افتراض الحرية في الإنسان.

ب - يعد كانت خلود النفس من الموضوعات التي يتم البرهنة عليها من خلال العقل العملي بعد أن عجز العقل النظري عن ذلك، ويبرهن كانت على هذا الأمر من خلال تصوره للأمر الواجب فالإخلاص التام للواجب لا يمكن تحقيقه في هذه الدنيا، ولهذا نميل إلى الاعتقاد في أمكان تزايد الكمال إلى غير نهاية، وهو أمر لا يتصور إلا بافتراض أن النفس خالدة وذلك لا يمكن بلوغ الكمال في هذا الوجود المكاني و الزماني، لأن الإرادة موزعة بين الحساسية الذاتية الخاصة وبين العقل الكلي، وتبعاً لذلك الكمال الأخلاقي لا يتيسر تحقيقه في هذا العالم بل يتم بواسطة التقدم إلى غير نهاية، وهو كمال وتقدم يقتضيان شخصية توجد باستمرار ومن ثم النفس خالدة وخلودها أمر يقتضيه العقل العملي وان لم يستطيع العقل النظري إثباته(3).

ج - وجود الله، يوضح كانت أن أثبات وجود الله، قائم على أساس الشعور بالواجب يتضمن العقيدة في الجزاء في المستقبل أي في الخلود، فإن الخلود لا بد

ص: 65


1- المصدر نفسه، ص 163.
2- يُنظر : جعفر، د. عبد الوهاب، مذكرة في فلسفة الأخلاق، دار المعارف، الإسكندرية، 1991م، ص 250-251.
3- يُنظر : بدوي، د. عبد الرحمن، الأخلاق النظرية، وكالة المطبوعات، الكويت، 1975م، ص 266-267.

من أن يتبعه فرض وجود علة متكافئة مع معلولها أي لابد من أن يكون قد أنشأ هذا الخلود من هو خالد، فإذا لا بد من التسليم بوجود الله وهذا ليس برهانا بالعقل بل هو مستمد من شعورنا الفطري بقانون الأخلاق(1).

بعد التوضيح الموجز لنظرية الواجب عند كانت نبين توضيح بسيط نفهم من خلاله كيف تصور كانت الخير الأعظم واجتماع الفضيلة والسعادة، يوضح كيف نتصور اجتماع الفضيلة والسعادة هذه صعوبة، وقد لاحظ أن الرواقية والأبيقورية قديماً كانا على اتفاق في التوحيد بين الفضيلة والسعادة، وأن كان الرواقيون قد رأوا أن طلب السعادة فضيلة في حين ذهب الأبيقوريون على عكسهم إلا أن طلب الفضيلة سعادة ویری كانت أن رأي الرواقيين باطل لأن الفضيلة معنى عقلي والسعادة معنى حسي، ومرد الأولى إلى قانون الفضيلة ومرد الثانية إلى قانون الطبيعة، وبطلان الرأي الأبيقوري أوضح من ذلك فإن طلب السعادة غاية قصوى كفيل بإفساد الأخلاقية بل إن طلبها يفسد الفعل الخلقي(2).

يعد المطهري نظرية الواجب من النظريات التي تحتوي على ملاحظات هامة ورفيعة، ويعرف المطهري واجب كانت بالوجدان ، وهو يرى أنه لا ينبغي أن ننفي هذا الوجدان لأن النظرة الإسلامية قد عرفت هذا الوجدان بأنه وجدان خلقي بالإنسان، وورد ذكره في القرآن الكريم (بالنفس اللوامة) قال تعالى : فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(3)*.

وهذه إشارة واضحة إلى وجود ضمير في الإنسان يرشده إلى عمل الخير وترك عمل الشر، فإذا أقدم على عمل الشر تلومه نفسه فيتضح أن هناك شيئا يدفعه إلى فعل الخير وترك الشر، ويلوم الإنسان بسبب فعله الشر وعلى العكس فإذا أقدم على عمل الخير فإنها ترضى عنه ويشعر بمدحها له(4).

ص: 66


1- يُنظر: أمين، د. أحمد، د. زكي نجيب محمود، قصة الفلسفة الحديثة، ج 1، ص 301-302 .
2- يُنظر: الطويل، د. توفيق، الفلسفة الخلقية، ص245 ، وكذلك د. يوسف كرم، تاريخ الفلسفة الحديثة، ط5، دار المعارف، الإسكندرية، 1986م . ص 255.
3- سورة الشمس، الآية 8.
4- يُنظر : مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 68-69.

وبناءاً على ذلك وما تحتويه هذه النظرية من أراء قيمة فقد وجه المطهري لها بعض نقاط النقد وهي كالأتي:

1- تحقير الفلسفة.

يرى المطهري أن هذه النظرية قد احتقرت الفلسفة والعقل المحض، فقد قلل كانت من شأن العقل النظري أو ما يسميه بالعقل الخالص ودوره في استكشاف ما وراء الطبيعة الميتافيزيقا فقد أكد كانت أنه لا نستطيع أثبات شيء من هذه المسائل عن طريق العقل النظري، ويرى المطهري هذا اشتباه واضح منه ومن دون تجاهل لدور الوجدان أو إنكاره، ويؤكد المطهري انه من الممكن أن نثبت وعن طريق العقل النظري حرية الإنسان واختياره وبقاء النفس وخلودها ووجود الله ، وان الأوامر الأخلاقية المستلهمة من الوجدان يستطيع العقل النظري إدراكها وإصدارها ولو من باب التأييد للوجدان(1). واعتراض المطهري على كانت في هذه النقطة اعتراض مقبول ، لان المطهري في هذا الاعتراض كان متابعا لآراء الفلاسفة المسلمين.

لقد استند الفلاسفة المسلمون على الدليل العقلي في إثبات وجود الله والمتمثل بدليل واجب الوجود وممكن الوجود(2). إن دراسات الفلاسفة المسلمين في إثبات وجود الله كانت دراسات قيمة وعظيمة ووافية جدا تمثلت في دراسات فلسفة الإلهيات عند الفارابي وابن سينا والرازي وابن رشد وغيرهم من الفلاسفة حيث اعتمدوا الأدلة الفلسفية الخالصة التي تعتمد على مقدمات عقلية ليس للتجربة شيء في إثباتها، ولذلك فقد كان الدليل العقلي دليلاً برهانياً ذا قيمة منطقية عالية استند عليه الفلاسفة في إثبات وجود الله تعالى، ومن هنا فالعقل النظري قادر أن يثبت وجود الله والنفس.

2- فصل الكمال عن السعادة.

النقد الآخر الذي يوجهه المطهري لنظرية كانت يتصل بتفكيك كانت الكمال

ص: 67


1- يُنظر : المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص 69.
2- يُنظر : إبراهيم، د.نعمة محمد، الفلسفة الإسلامية، ج1، ط1، دار الضياء، النجف الأشراف،،2007م، ص127.

وفصله عن السعادة ويرى المطهري أن هذا خطأ كبيرا لأن الكمال لا ينفك عن السعادة وان كل كمال هو في ذاته نوع من أنواع السعادة، وان غاية الأمر أن السعادة غیر محصورة في اللذات الحسية، وأن كانت قد حصر السعادة في نطاق ضيق للغاية، في هذه النقطة يرى المطهري أن كانت في نظريته أكد أن الإنسان يشعر بمرارة شديدة في داخله عندما يخالف ضميره، هذا مقبول إلا أننا نتساءل إذا كان الإنسان يشعر بالمرارة والألم عندما يخالف ضميره، فكيف لا يشعر باللذة والسعادة عندما يطيعه هنا يشعر الإنسان باللذة والسعادة وتكون هذه اللذة ذات مستوى رفيع وعالِ لأنها لذة من نوع خاص(1).

ويذكر المطهري مثالا لأجل التوضيح الأكثر لذلك يشير: ((إنّ الإنسان الذي يقدم على عمل الإيثار تصحبه حالة من النشوة الروحية ويفيض قلبه سروراً لأنه يعتبر ما أصابه من مشقة وكدح في سبيل إسعاد الآخرين وراحتهم نوعاً من اللذة والمسرة التي لا يشعر بها في اللذات الحسية))(2).

إنَّ اللذة الحسية في رأي المطهري هي لذة عضوية ومتعلقة بحركة خارجية، مثل لذة الغذاء أو لذة عضو الشم أو اللمس، وهنالك لذات أخرى لا ترتبط بالجسم مثل لذة البطولة عند الإنسان الشجاع ، ولذة العالم الذي يكتشف حقيقة علمية هذه لذات يراها المطهري أنها خارجة عن الجسم وهي لذات غير حسية بل هي لذات معنوية، ويؤكد أن الإنسان الذي يصل إلى درجة كبيرة أي انتقاله إلى مرحلة عالية مرحلة الملكوت واتصاله بالله تعالى وتجاوزه المرحلة الحيوانية هو إنسان سعيد أم شقي ؟ والجواب واضح جداً هو إنسان سعيد وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أنَ السعادة لا يمكن فصلها عن الكمال، والسعادة المنفكة عن الكمال هي سعادة اللذة الحسية أما السعادة الحقيقية المطلقة لا يمكن فصلها عن الكمال(3).

ص: 68


1- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص69.
2- يُنظر : المصدر نفسه، ص 70.
3- المطهري، فلسفة الأخلاق، ص 70.

إن نقد المطهري لكانت في هذه المسألة نقد واضح، وقد جاء متفقاً مع بعض لمذاهب الأخلاقية الأخرى والأفكار التي حددت في مذهبها الأخلاقي في عدم الفصل بين الكمال أو الخير الأعلى والسعادة. إن الأخلاق في فلسفة أرسطو الأخلاقية هي أخلاق سعادة ، ولذا كان البحث عن السعادة هو المطلب الأسمى للإنسان وخيره الأعلى وغايته القصوى، فالفضيلة والنجاح والسعادة كلها ألفاظ مترادفة ولها معنى واحد ، لذا كانت غاية أخلاق أرسطو تهدف إلى تحقيق السعادة وهي الغاية القصوى للحياة، وهذه السعادة إنما تطلب لذاتها لا لأجل شيء آخر(1).

يرى أرسطو : ((أن السعادة تعمل على تحقيق شيء نهائي كامل مكتف بنفسه مادام انه غاية جميع الأعمال الممكنة للإنسان وهي بلا معارضة اكبر الخيرات أی الخير الأعلى))(2).

لقد تابع الفلاسفة المسلمون هذا الرأي ولم يفصلوا الكمال عن السعادة وكان لهم في هذا الموضوع في الدراسات الأخلاقية دراسات وافية تمثلت بأكبر فلاسفة الفكر الإسلامي.

حيث أشار الفيلسوف الفارابي إلى عدم الفصل بينهما، وفي رأي له يذكر: ((إما أن السعادة غاية ما يتشوقها كل إنسان، وان كل من ينحو بسعيه نحوها فإنما ينحوها على أنها كمال ما ، فذلك ما لا يحتاج في بيانه إلى قول، إذا كان من غاية الشهرة، وكل كمال غاية يتشوقها الإنسان فإنما يتشوقها على أنها خير ما ، فهو لا محالة مؤثر ولما كانت الغايات التي تشوق على أنها خيرات مؤثرة كثيرة ، كانت السعادة أجدى الغايات المؤثرة))(3).

أما الفيلسوف ابن سينا فقد كانت له دراسة وافية عن السعادة وهي(رسالة في السعادة) وهي رسالة ضمن مجموعة رسائل ابن سينا، فقد كان رأيه موافقا لأرسطو

ص: 69


1- ينظر : مرحبا، د. محمد عبد الرحمن، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية ، ج 1 ، منشورات عويدات، بیروت، 2007م، ص204-205.
2- أرسطو طاليس، علم الأخلاق إلى نيقو ما خوس، ج 1، ص.192.
3- الفارابي، التنبيه على سبيل السعادة، ص47.

والفارابي في عدم الفصل بين السعادة والكمال ، وقد عد ابن سينا أن الخير الأعلى هو السعادة ، وفي ذلك يرد)) : غاية الخير هو بلوغ السعادة، والسعادة الحقيقية هی المطلوبة بذاتها والمستأثرة بعينها ، ومن الظاهر أن ما يستأثر لذاته وسائر الأشياء يستأثر لأجله أفضل حقيقة في ذاته مما يستأثر لغيره، أي ليس لذاته إذن فالسعادة هی أفضل سعي لتحصيله))(1). إن ابن سينا يؤكد هنا أن كل إنسان يبحث عنا الخير والذي هو السعادة في ذاتها.

من هنا يتضح أن المطهري في نقده لكانت في هذه النقطة جاء مدعوماً بآراء الفلاسفة الكبار الذي كان لنظرياتهم الأخلاقية في الفكر الفلسفي شأنا كبيرا وقيمة عالية في الدراسات الفلسفية.

2 - مطلقية أحكام الوجدان.

إنّ المطهري ينتقد كانت في هذه المسألة لأنه يرى أن كل أحكام الوجدان أو ما يسميه كانت بالواجب هي أحكام ليست مطلقة، وأن موضوع الإطلاق الذي ينسبه كانت لأحكام الوجدان قد أشكل عليه بعض الفلاسفة الغربيين أنفسهم وزعموا أن الوجدان ليست له أحكام مطلقة بالمقدار الذي يعطيه كانت لنظريته هذه، حيث توجد أحكام مطلقة وأخرى مقيدة ومن الأحكام المطلقة العدل والظلم، فإن الإنسان العاقل يحكم بحسن العدل وقبح الظلم بنحو مطلق إلا أن هناك أحكام مقيدة مثل الصدق، والصدق مقيد بالمبدأ التي تعتمد عليه فلسفة الصدق وقد يحدث أن ينقلب الصدق من مبدأ إلى أخر فينقلب من حسن إلى قبيح ومن ممدوح إلى مذموم، إلا أن المطهري يرى أن ما ذكره كانت في نظريته من أن الوجدان يأمر بالصدق مطلقاً بلا رعاية للمصلحة وهذا رأي تنقصه الدقة(2).

ويعطي المطهري مثالاً لهذه المسألة : ((لو إن ظالماً يلاحق رجلا ما ليقتله ظلماً وعدوانا، وقد استخبر احد عنه وعن مكانه فماذا نجيبه ؟)) إن قال لا اعلم عنه شيئا

ص: 70


1- (ابن سینا، رسالة في السعادة، حيدر أباد، دائرة المعارف العثمانية، 1353ه، ص 222.
2- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص 71-72.

فهو كذب لا يرتضيه وجدان ،كانت وان اخبره بمكانه سيقتله بغير وجه حق،هل الوجدان يأمرنا بالصدق مطلقا ايا كانت النتيجة؟ يرى المطهري أن هذا لا يمكن لأن الوجدان لا يرتضي ذلك ابدا فهو لا يرتضي الظلم وإهدار حق الآخرين وهذا حكم غير مقيد بعدم الكذب أن للمطهري هدفاً واضحاً من ذكر المثال أعلاه وهو لتحديد أن ليس كل الأحكام الأخلاقية هي إحكام مطلقة، وان جوز الفقه الإسلامي الكذب في موارد معينة وهي متى ما ترتب عليه مصلحة للفرد وإنقاذه وليس هدف الإسلام أن يجوز الكذب ليستغله الفرد ويتعود عليه ويستعمله في مواضع آخرى، وهذا ما جوزه الفقه الإسلامي يسمى هنا (بالتورية) والمقصود فيها لمن اضطر أن يكذب لمصلحة فهل يخطر في ذهنه شيء ويطلق في لسانه شيء، ويحث المطهري بعدم ممارسة الفرد الكذب المذموم المحرم باسم التورية كما يفعل بعض الأفراد(1).

ثالثاً: نظرية برتراند رسل.

لقد اشتهر الفيلسوف برتراند رسل(2)بآرائه ونظرياته الفلسفية التي تناولت مواضيع عدة ولا سيما في مجال الأخلاق، فهو يعد من الفلاسفة المعاصرين التي اتسعت كتابته وتنوعت مواضيعها فقد كتب في الفلسفة والرياضيات والمنطق واللغة فضلا عن ذلك كتب في الموضوعات الاجتماعية والتربوية والأخلاق والسياسة، ولم يترك مجالاً من مجالات العلوم المختلفة إلا ونجد له رأياً وتعليقاً عليه وهو من الفلاسفة الذي ترك مؤلفات فلسفية كثيرة وفي موضوعات مختلفة. وله دراسات في مجال الأخلاق وجدت في معظم كتبه(3)التي تناولت مواضيع متعددة في هذا الجانب، وقبل أن نعرض نقد المطهري لنظرية رسل في الأخلاق لابد من إطلالة واضحة لنظريته ومن ثم نورد نقد المطهري لهذه النظرية ..

ص: 71


1- المصدر نفسه، ص 73-75.
2- برتراند رسل (1872-1970م) فيلسوف وعالم منطق انكليزي ساهم مساهمة كبيرة في تطوير المنطق الرياضي الحديث وهو من طور المنطق الحديث وحسن لغة الرموز المنطقية. ينظر : فؤاد كامل وآخرون، الموسوعة الفلسفية المختصرة، ص 220
3- أهم كتبه في الأخلاق هي: المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، التربية والنظام الاجتماعي، الزواج والأخلاق، في التربية، الفوز بالسعادة، السلطة والفرد.

ينظر رسل إلى الأخلاق على أنها : ((تختلف عن العلوم وذلك في أنّ مادتها الأساسية المشاعر والانفعالات وليست المدركات الحسية، وينبغي أن نفهم ذلك بمعناه الدقيق ،أي إن المادة هي المشاعر والانفعالات نفسها وليست واقعة، فالواقعة هي بمعنى أن لدينا حقيقة علمية مثل أية حقيقة علمية أخرى، ونحن نعرف وجودها بواسطة الإدراك الحسي بالطريقة المعتادة، ولكن الحكم الأخلاقي لا يقرر حقيقة واقعة، بل يقرر أملاً في شيء ما أو خوفاً منه، أو رغبة في شيء ما أو عزوفا عنه، أو حباً لشيء ما أو كراهية له، وان كان ذلك كله كثيراً ما يحدث في صورة مقنعة، وينبغي أن يوضع مثل هذا الحكم في صيغة التمني أو الأمر لا في صورة عرض لحقائق معينة، و أن العبارات الأخلاقية لا يمكن إثبات صحتها أو عدم صحتها عن طريق جمع الوقائع))(1).

إنّ الحكم الأخلاقي عند رسل هو ليس تقريراً لواقعة أو وصفاً لحقيقة ما، وإنما هو انفعال معبر عن حالة نفسية أشبه بانفعال الغضب أو الفرح فكل اختلاف بين الناس على تقدير الأفعال هو تقدير خلقي وهو من قبيل اختلافهم في الذوق، ولذلك فإن العبارات الدالة على الأحكام الأخلاقية تتميز بان قائلها يعبر بها عن رغبة يتمنى أن يطبقها جميع الناس في سلوكهم، ويتضح هنا أنّ رسل قد جعل من العبارات الأخلاقية عبارات ليس ذات صدق موضوعي إنما هی عبارات نفسية اجتماعية لأنها تدور حول ما يرغب فيه الناس وكيف يصلون إليه(2).

إنّ المبدأ الأخلاقي الأسمى الذي اعتمد عليه رسل هو: ((اعمل العمل الذي ينشأ عنه التنسيق بين رغبات أفراد المجتمع، وذلك أفضل من العمل الذي يؤدي إلى التنافر بين هؤلاء الأفراد، وهذا المبدأ ينطبق على كل مجتمع صغير أو كبير، وينطبق على رغبات الفرد الواحد وعلى أفراد الأسرة، والمدينة، والوطن، وكما ينطبق على العالم كله إذا كان العمل الفردي ذا أثر في العالم كله))(3).

ص: 72


1- برتراند راسل، المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ط1، ترجمة عبد الكريم أحمد، مراجعة حسن محمود، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة 1960م، ص 15.
2- يُنظر: محمود،: د. زکی نجیب، برتراند رسل، ط2، دار المعارف، مصر، 1965م، ص125. وأيضاً. فؤاد كامل وآخرون، الموسوعة الفلسفية المختصرة، ص 215.
3- د. محمود زكي نجیب، براتراند راسل، ص 123-124.

ويتضح مما تقدم أن رسل قد جعل الرغبات الإنسانية هي أساس الفعل الأخلاقي، لأنه كان يعتقد بأن صواب الفعل الإنساني مرهون بالتوجيه السليم لرغباته فنشاط الإنسان إنما هو نشاط يستلزم الضبط والتوجيه الأهداف وبلورة الغايات(1). لهذا عد المبدأ الأخلاقي الذي وضعه رسل في الأخلاق هو ((مبدأ الأخذ والعطاء أو التراضي الاجتماعي، ولا يعتمد هذا المبدأ على الدين ولا على الخرافة، وإنما ينبعث بصفة عامة عن الرغبة في حياة هادئة، فعندما أريد شيئا من البطاطس مثلا فإني قد أتسلل ليلاً واستولي على بعض منه من حقل جاري وجاري قد ينتقم بأن يسرق الفاكهة من شجرة تفاحي، وهكذا فإن كلاً منا سيجد نفسه في حاجة إلى حارس يبقى يقظاً طوال الليل ضد مثل هذه الاعتداءات ويكون هذا غير مريح ويسبب إزعاجاً في النهاية سنرى أن الأمر يكون أقل إزعاجاً أو كثر راحةً لو أنّ كل منا احترم مال الآخر))(2)، لكي يعيش الإنسان أكثر استقراراً واقل إزعاجاً أن هنالك طريقاً واحداً يوصل الإنسان إلى هذا الاستقرار ويبين في ذلك ((إنّ ذكاء الإنسان قد دله على أن الانفعالات كثيراً ما تكون من عوامل إخفاقه، وأن رغباته يمكن إشباعها بصورة أتم، وأن سعادته تكون أكمل وأنه لو لم يكن هناك سوى الذكاء وحده، لما كان هناك مكان للأخلاق))(3).

يتبين أنّ غاية الأخلاق أو الفعل الأخلاقي عند رسل هو تحقيق غاية وتنفيذ الرغبة الفردية وبذلك فقد حدد الفعل الأخلاقي بأنه الفعل الذي يصدر عن قصدنا وكامل إرادتنا وينظر إليه على أنه فعل صائب بغض النظر عن نتائجه ما دام يمكن أن يحقق غايات الفرد وينفذ رغباته(4). لذلك نظر إلى القواعد والأفعال الخلقية على أنها قواعد عملية ضرورية للحياة إلا أنّ معظم هذه القواعد وفي قسمها الأعظم يعتمد على أفكاراً خرافية، وما غاية الحياة التي يسعى إليها كل إنسان إلا تحقيق السعادة ويمكن للإنسان أن يصل إلى هذه السعادة بمكافحة الخوف والتأكيد على الشجاعة عن

ص: 73


1- يُنظر : عويصة، كامل محمد، برتراند راسل فيلسوف الأخلاق والسياسة، ط1، دار الكتب العالمية، بيروت، 1993م، ص 23.
2- برتراند راسل، المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة، ص26.
3- المصدر نفسه، ص 9.
4- ينظر: العزاوي، هبة عادل، فلسفة الأخلاق عند براتراند راسل، رسالة ماجستير، أشراف ا.د. ناجي التكريتي، مقدمة إلى مجلس كلية الآداب، جامعة بغداد، قسم الفلسفة، 2001 م، ص 30.

طريق التربية(1). بعد الدراسة الموجزة لنظرية رسل في الأخلاق نورد أهم نقاط النقد التي وجهها المطهري لهذه النظرية.

1- يرى المطهري أنّ الأخلاق التي ينشدها رسل هي أخلاق نفعية مادية تفتقر إلى ثوب القداسة والقيمة الرفيعة فهي لا تهدف إلى شيء سوى المنفعة، فما يقوله راسل عن الأخلاق لا يرتفع عن المصلحة، بل هو المصلحة بعينها، وهذا خلاف للشعارات التي يبغي إليها، وهو من الأشخاص الذين تتناقض شعاراتهم لفلسفتهم فهو معروف بإنسانيته والدفاع عن حقوق المحرومين في حين نجد فلسفته قائمة على أساس حب الفرد لمصلحته الخاصة وطلبه للسعادة والكسب والسعي للمنفعة وبهذا فقد انخدع كثيرون بشعاراته الأخلاقية(2).

ترى الباحثة أن نقد المطهري وارد في هذه النقطة وذلك لأن الأخلاق الفردية التي ينشدها رسل تتضح هنا هو تمسك الإنسان بالأنا الذاتية وعدم الاتجاه نحو الأخلاق التي تتجه نحو الفعل الأخلاقي المنطلق من أحساس الإنسان لنوع وقيمة هذا الفعل الأخلاقي لذلك فالأخلاق الفردية أخلاقاً خالية من القيم الرفيعة ولا يمكن عدها إلا أخلاقاً جعلت الإنسان ينظر إلى نفسه من خلال جوانبه المادية والسعي إلى إشباع رغباته، لذلك من الضروري أن ننقد هذه الأخلاق خاصة وان الإنسان يعيش ويتعايش مع مجتمع تربطه معه علاقات أخلاقية وكذلك علاقات اجتماعية وحضارية، فالإنسان يستمد من المجتمع إنسانيته وقيمه الأخلاقية فيكون على صلة وثيقة بمجتمعه وأفراده، فلا يمكن للإنسان أن يتجه نحو الأخلاق التي تكون الغاية منها تحقيق المنفعة الشخصية والرغبات الفردية.

2- إنّ ما ذكره رسل في المثال سابقا في التسلل ليلا وسرقة بطاطس الجار وقيام الجار بسرقة الفاكهة من شجرة تفاحي وحاجة كل من الجار إلى أن يبقى يقظا طوال الليل وهذا أمر غير مريح ويسبب إزعاجاً ولكي يكون الأمر اقل إزعاجا وأكثر راحةً

ص: 74


1- ينظر: بوشنسكي، أ. م ، الفلسفة المعاصرة في أوربا، ترجمة: د. عزت ،قرني عالم المعرفة، الكويت، 1992م، ص 80.
2- يُنظر : المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص212.

لو أن كل من الجيران احترم حق الآخر ، يرى المطهري أن مسألة الاحترام وعدم التجاوز على الآخر رأي مقبول في حالة توازن القوى، لكن كيف سيكون الأمر إذا كانت إحدى القوتين أقوى وأشد بأساً من القوى المقابلة لها فما ذكره رسل لا يكون له أثر أصلاً لان الطرف الأقوى يدرك أنّ الطرف الآخر الضعيف لا يمكنه المساس بمصالحه والاعتداء عليه حتى ولو بعد مائة عام(1). يرى المطهري أنّ هذه النظرية تزلزل قاعدة الأخلاق من الأساس لأن الأخلاق تكون حاكمة في الموضع الذي تتساوى فيه القدرات بحيث يخشى الطرف المقابل بقدر ما يخشاه الطرف الآخر ويكون في مأمن بنفس المقدار الذي يكون فيه مأمن الطرف الآخر ولهذا فان أفكار راسل تنعدم فيها الأخلاق لأنها تعطي للقوي الحق في استخدام قوته ضد الآخرين لأنه ما من احد يستطيع أن يأمر القوي بالكف والوقوف عن إيذاء الآخرين وصده عن القيام بالأعمال المؤذية ضد الغير، لأنه إن لم يكن ضعيفاً فليس هناك من سبب يدعوه للكف عن ذلك العمل ومن هنا فان هذه النظرية تجيز للقوي أن يفعل ما يشاء(2)وهنا يحدد المطهري أنّ الأخلاق الفكرية أو أخلاق الذكاء عند رسل هي أخلاق تكون حاكمة على أساس المنافع الفردية(3). وأن شعارات المحبة والسلام للإنسان التي نادت بها فلسفة رسل تختلف عن واقعيتها، لأنّ فلسفته تقتلع جذور المحبة الإنسانية خاصة وانه يعتقد أن المصلحة الفردية هي أساس الأخلاق الاجتماعية، وهذه الأخلاق الفردية هي التي تحكم سلوك الفرد وتصرفاته وان مصلحته الشخصية هي التي تجعله يكون مرتبطا بالتعاون مع الآخرين(4).

3- الإشكال الآخر الذي يورده المطهري هو في الغاية من الأخلاق وهو منع تجاوز القوى وهو في ذروة قوته، ورأي المطهري الوارد هنا استناداً على ما جاءت به الشريعة الإسلامية والأخلاق القرآنية وهو منع التجاوز على الغير وإن كان الإنسان

ص: 75


1- يُنظر : المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص213
2- يُنظر : مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص71.
3- يُنظر : المطهري، التكامل الاجتماعي للإنسان، ص31.
4- يُنظر : المصدر نفسه، ص 31.

أعلى درجة من القوة(1)ويستشهد المطهري في ذلك بقول الإمام علي عليه السلام ((أولى الناس بالعفو أقدرهم على العقوبة))(2).

ولهذا يرى المطهري أن ما جاءت به نظرية رسل في أن ((الأخلاق القائمة على المنافع لا تنفع إلا في حالة تعادل القوى وتكافئها هذا فيما لو تساوت القوتان أما لو تفاوتتا فلا مكان للأخلاق وعلى هذا فأخلاق رسل ليست أخلاقاً بل مضادة للأخلاق لأن الأخلاق تساوي القيمة والقداسة وشيئاً أعلى من المنافع المادية))(3).

وإشكال المطهري في هذه النقطة وارد بناءً على أنّ الشريعة الإسلامية تمنع وتحد من تجاوز الإنسان على أخيه الإنسان، وإن امتلك أكبر قوة والإنسان لا يقاس بمدى قوته باتجاه الغير، وإنما بأخلاقيات أفعاله فهو مهما بلغ من القوة والقدرة يجب أن تبقى في طباعه ونفسه الأخلاقية العفو والتسامح وعدم التجاوز على الغير.

المبحث الثالث ، نظرية المطهري الأخلاقية (نظرية العبادة)

العبادة تعني الطاعة والتعبد والتنسك، وأصل العبودية الخُضُوع والذل(4). والعبادة ((هو فعل المكلف على خلاف هوى نفسه تعظيما لربه))(5). والعبودية تعني الانقياد والطاعة والالتزام بعبادة الله تعالى دون سواه والامتثال لأوامره ونواهيه بلا إضافة وبدعة وتقصير ونقصان ولا إشراك احد معه بل الإخلاص له وحده سبحانه وتعالى(6). لقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان ليعبده وحده ويمتثل لأوامره، فعبادة الله وطاعته واجب وتكليف، وما على الإنسان إلا الاستجابة والامتثال لأوامر الله تعالى وطاعته(7). قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ*(8)

ص: 76


1- يُنظر : مطهري، التربية والتعليم في الإسلام.
2- يُنظر : الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص 120.
3- المطهري : فلسفة الأخلاق، ص 212-213.
4- يُنظر : الرازي، مختار الصحاح ، ص408.
5- الجرجاني، التعريفات، ص 27.
6- يُنظر : الميلاني، محمد، معجم الكلام، مطبعة تابان، غيران، 1417ه، ص 249 .
7- يُنظر : المطهري، طهارة الروح، ط1، ترجمة: خليل زامل العصامي، مطبعة ظهور، قم، 1386ش، ص 19.
8- سورة الذاريات، الآية 56 .

وتعد نظرية العبادة من النظريات المطروحة التي في ضوئها يحدد الفعل الخلقي للإنسان، وهذه النظرية تفسر جميع الأفعال الأخلاقية التي يقوم بها الإنسان ويشهدها جميع بني البشر، بأنها أفعال تمتاز بالشرف والسمو والثناء والمدح والرفعة، وهذه الأفعال تختلف عن سائر الأفعال الطبيعية عند الإنسان، لذلك فجميع ما يصدر من هذه الأفعال الأخلاقية إنما هي من سنخ العبادة(1).

ويعد المطهري من القائلين لهذه النظرية، فبعد العرض المسبق الذي عرض بنقده للنظريات الفعل الأخلاقي، يعرض المطهري نظريته في الفعل الأخلاقي بعرضه أن الأخلاق تدخل في ضمن موضوع العبادة، فهذه النظرية مرجع أساسي للأفعال الجميلة والأخلاق الحميدة، أي بمعنى أن السلوكيات الأخلاقية تُعد من مقولة العبادة(2).

ويشير المطهري أنه قد اثبت أن للإنسان نوعين من الشعور أحدهما الشعور الظاهري الذي يكون الإنسان على اطلاع مباشر عليه، أما الآخر فهو الشعور الباطني ويكون خارج عن سلطة الشعور الظاهري ولا اطلاع للإنسان عليه ، ولدعم رأيه هذا بتمسك المطهري بآراء علماء النفس الذين يعتقدون أن القسم الأكبر من الشعور الإنساني مغفول عنه و ما هو منظور عند الإنسان الجزء الصغير منه، ولهذا يرى المطهري أن في داخل ضمائرنا وفي باطننا سلسة من الأفكار والإحساسات والمعلومات والميول وقد نتصور انه لاشيء من وراء ذلك إلا أنه في الواقع توجد معلومات ومدركات ومشاعر ورغبات كثيرة مترسبة في أعماقنا ونحن عنها غافلون وقسم منها خاف عن ظاهر شعورنا(3). ويتضح هنا أن المطهري من الشعور الأخلاقي هو نفس الشعور الباطني وهو بحد ذاته شعور بمعرفة الله تعالى.

إِنَّ نظرية العبادة التي يعرضها المطهري هي: ((الخروج من دائرة الذات المحدودة والضيقة، والخروج من محدودية الآمال والتمنيات والانطلاق و العروج إلى الكمال

ص: 77


1- ينظر: المطهري، طهارة الروح، ص 31-32.
2- يُنظر : المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص 94-95
3- يُنظر : المصدر نفسه، ص 95.

المطلق، لأن في العبادة التجاءً وانقطاعاً واستنجاداً بالمعبود وتحرراً من الأنا وعبادة الذات والأفعال))(1).

يتضح من تعريف المطهري للعبادة هنا تأكيد الاتصال بين الإنسان والله أي توثيق الصلة بينهما اتصال الإنسان بالله أي اتصاله بالكمال المطلق والعروج إليه، فالإنسان لا يمكن أن يتصل بالمطلق العالي إلا بواسطة نظريه العبادة، فالعبادة هنا هي تجرد الإنسان من الأنا والذات المحدودة هذه الأنا النازعة نحو الشهوات والملذات ، فبالعبادة يخرج الإنسان عن شهواته الدنيوية والاتجاه نحو الحق تعالى لأنه اتجاه نحو الكمال والعدل والخير والتخلق بذاته تعالى، فالعبادة هي من تتوق بالإنسان وتشد به نحو الخير ليتحلى ويمتثل بالصفات الأخلاقية الحميدة والتخلص من عبودية الأنا المحددة.

ولهذا يقر المطهري بأن الحس الخلقي يوصل إلى الله، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن معنى الأخلاق من مقولة العبادة، فالإنسان يمارس سلسلة من السلوكيات الأخلاقية في حياته، إذ يقبل عليها برغبة وشوق، فإن خالف هواه فيها ومنافعه الشخصية ارتقى إلى كمالاته المنشودة، لأن الأخلاق توصل إلى المطلق، فالمطهري يرى أن الحس الأخلاقي غير منفصل عن معرفة الله سبحانه، فالحس الأخلاقي هو حس معرفة الله (تعالى) وإدراك وجوده(2).

ويرى المطهري إنّ لله نوعين من القوانين قوانين، مثبتة في فطرة الإنسان وأخرى ليست موجودة في فطرته بل هي متفرعة عنها حيث يتم بيانها وتقريرها من قبل الأنبياء عليهم السلام فقط، ومع تأييد الأنبياء القوانين الفطرية فأنهم يأتون بقوانين أضافية أخرى للبشرية تتلاءم وتنسجم مع عمق روح الإنسان وقلبه وفطرته، لكن بنكهة جديدة ومن خلال معرفة الإنسان لله تعالى يستطيع تمييز تلك القوانين والحصول لرضا الله سبحانه(3)، ويدرك الإنسان وجود الله تعالى بفطرته وعن طريق

ص: 78


1- المصدر نفسه، ص 97-98.
2- يُنظر : المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص 101.
3- نراقي، د، احمد، مطهرى ونظرية فطرت، مجلة كيان، العدد 12، أنشارات صدرا، طهران، 1372ش، ص 29.

حاسة باطنية لاشعورية يدرك وجود الله تعالى كذلك يدرك قانون الله ويعرف ما فيه رضاه فهو بالفطرة يتجه نحو رضاه تعالى وان كان لا يعلم بأنه يسير في هذا الاتجاه وهنا يستشهد المطهري بعابد الوثن (حاتم الطائي) بالرغم من شركه إلا أن الأفعال الأخلاقية التي كانت تصدر منه وهي الكرم هي أفعال فطرية لاشعورية(1).

وبناءاً على ما تقدم يتوصل المطهري إلى حقيقة كاملة وهي اعتبار الأخلاق من العبادة على اعتبار إن الإنسان يقدم على إتباع مجموعة من التعاليم الإلهية بقدر عبادته لله تعالى وبطريق اللاشعور ووقت ما تتحول عبادته اللاشعورية إلى عبادة شعورية واعية تصبح كل أعماله وسلوكياته ذات صبغة أخلاقية بلا فرق بين عمل وآخر حتى أكله ونومه(2).

يتبين مما عرضه المطهري في نظرية العبادة وتأييده لهذه النظرية وعدها أساس الأفعال الأخلاقية إنما كان يهدف إلى غايات محددة وهي توثيق صلة الإنسان بالله تعالى وهذه الصلة لا يمكن أن تتم إلا من خلال نظرية العبادة وبذلك يضع المطهري هذه النظرية ويجعلها الأساس في الأخلاق ليجعل الإنسان على معرفة تامة بالله تعالى أي الوصول إلى العالم الآخر عالم الكمال المطلق، كذلك أراد المطهري من عرضه هذه النظرية لأجل تأسيس الأخلاق على الدين، فالأخلاق البشرية لا تنهض من دون الدين ولا تستقيم بلا دين مؤيد وداعم لها، ويرى المطهري أن التجارب قد أوضحت انه انه في الموضع الذي يفرق فيه بين الدين والأخلاق تكون الأخلاق متأخرة جدا فالدين دعامة الأخلاق الإنسانية وعمادها والضامن والمتكفل الوحيد التطبقها واستمرارها(3).

ورأي المطهرى هنا جاء رأياً متفقاً مع رأي أستاذه الفيلسوف محمد حسين الطباطبائي الذي ربط الأخلاق بالدين، فهو يرى أن الأخلاق ترتبط ارتباطاً شديداً بالعقيدة من ناحية وبالفعل والعمل من ناحية أخرى، إن الإيمان يمثل الخلفية التي يستند إليها النظام الأخلاقي خاصة أن الإيمان بشيء ما يستوجب حتما وجود أخلاق

ص: 79


1- يُنظر : المطهري، فلسفة الأخلاق، ص102.
2- المطهري ، فلسفة الأخلاق، ص103.
3- يُنظر: مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص74.

تتناسب مع ذلك الإيمان أو الاعتقاد، وعلى هذا الأساس يوجد نوع من التناسب بين الإيمان والأخلاق ، فالإيمان يؤدي وظيفة مهمة في نشوء أخلاقيات الإنسان، بل حتى في بقائها فضلاً عن أن الأخلاق مكفولة بشكل أو بآخر بالإيمان، أو إن علاقة الإيمان بالأخلاق تتمثل في كون الإيمان يكفل الأخلاق ويدعمها(1).

ولذلك يقول الطباطبائي : ((إذا أريد للأخلاق الفاضلة أن تبقى وتستمر فلا بد من وجود ما يضمن ذلك ويحافظ على استمراره ، وما ذلك إلا التوحيد ومن الواضح انه في حال عدم إيمان الناس بالمعاد لن يكون هناك ما يمنع البشر من الجري وراء الأهواء والشهوات أو الوقوف بوجه الملذات، فالتوحيد هو القاعدة الصلبة التي يقف عليها صرح السعادة الإنسانية والأخلاق الكريمة))(2).

وتأسيسا على ما تقدم يمكن أن نوضح أن المطهري في عرضه نظرية العبادة و إرجاع الفعل الأخلاقي إليها، يتبن لنا أن المطهري كان يتوخى جوانب مهمة لعرضه هذه النظرية، ذلك لأنه لم تقتصر نظرية العبادة عنده على المعنى الديني وارتباط الإنسان بالله تعالى، بل يجعل لها معنى أخلاقيا له تأثير على الإنسان، ولهذا يرى المطهري ما للعبادة من أثر روحي وأخلاقي كبير مؤثر على الإنسان في العودة إلى الذات، يقول المطهري في ذلك: ((إن العلاقة بالماديات والغرق فيها تفصل الإنسان عن شخصيته الواقعية وتجعله بعيدا عن نفسه، كذلك وبنفس النسبة ترجع العبادة بالإنسان إلى نفسه وذاته وشخصيته الواقعية فهي توقظ الإنسان وتبث فيه الوعي ، فبالعبادة يقظة الإنسان وهي تنقذ الإنسان الغريق والفاني في الأشياء من أعماق بحار الغفلات، فالإنسان في ظل العبادة وذكر الله یری نفسه كما هي عليه وينتبه إلى نقصانها وانكسارها وينظر من خلال أضواء العبادة إلى الحياة والزمان والمكان، وبالعبادة يدرك دناءة آماله وحقارة مناه المادية المحدودة، فيحاول أن يفر منها ويتحفز للسير وبلوغ مركز الوجود))(3).

ص: 80


1- يُنظر : الطباطبائي، محمد حسين، بحوث إسلامية، مؤسسة دين ودانش، قم، 1984م، ص88.
2- الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج 11، دار الكتب الإسلامية، طهران، 1362ه، ص155.
3- مطهري، في رحاب نهج البلاغة، ص 201 وأيضاً : المطهري، طهارة الروح ، ص 155.

إن غاية المطهري واضحة وهي ما للعبادة من تأثير على الجانب الروحي والأخلاقي والاجتماعي والتربوي عند الإنسان وخاصة ونحن على يقين ما تعنيه العبادة في الإسلام ، فلها دور مهم في تربية وإصلاح الفرد وإصلاح المجتمع الإسلامي، فهي تحمل في طياتها أهدافا أخلاقية سامية منها تنظيم حياة المجتمع وقيادة إفراده نحو التربية الصالحة لأنها تعد المحور المنظم لتكوين حياة المجتمع وفق أسس إسلامية وتقوية أواصر إفراده وإشاعة روح التلاحم فالإنسان يفعل الخير و يدعو له وينهي عن الشر ويتجنبه من هنا نعطي للعبادة الدور المهم للإنسان.

لذلك يحدد المطهري الفعل الأخلاقي ((هو الفعل الذي لا يكون هدفه تحصيل المنافع المادية أو الدنيوية سواء كان الأثر الذي ينشأ منه في هذه الدنيا هو إيصال النفع إلى الغير أو أي شيء آخر وبناءً على هذا فالجذر الرئيس الذي يجب سقيه هو الاعتقاد بالله))(1).

يرى المطهري ان النظرية العبادة توظيفاتاً أخلاقية، أي إن في العبادات شعائر تؤدي بالإنسان إلى تكامله، يقول الإمام علي(علیه السّلام):((دوام العبادة برهان الظفر بالسعادة))(2)،إن في العبادة شعائر عظيمة هي من تجعل الإنسان يسير في طريق الله، ومن ثم توجه الإنسان إلى طريق التكامل نحو الله تعالى، كذلك إن في العبادة شعائر من تضع الإنسان في تكامل روحي ونفسي، وان هذه الشعائر هي الصلاة والصوم والزكاة والتقوى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها من الشعائر العبادية الأخرى التي تجعل الإنسان يسير إلى الله والى الخير الأخلاقي، ونجد هنا في هذه المسألة أثر صدر الدين الشيرازي واضحاً على نظرية المطهري في تأثير العبادة على المنظومة الأخلاقية عند الإنسان وخروجها من إطارها الديني الاعتقادي إلى الإطار الأخلاقي كي تصل بالإنسان إلى غاية الكمال، لقد أكد صدر الدين الشيرازي ما للعبادة من تأثير على الأخلاق، فهو يرى أن العبادة لها أهداف سلوكية وقيما أخلاقية تحث الإنسان على ممارستها، فيرى أن الشعائر العبادية التي يقوم بها الإنسان من صوم

ص: 81


1- مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 87.
2- الآمدي ، غرر الحكم في درر الكلم، ص5147.

وزكاة وحج تأثير في أخلاقية الإنسان ووصوله إلى الكمال، يقول الشيرازي: ((الصلاة والصيام والحج والزكاة والجهاد وغيرها فله تأثير في تنوير النفس وتخليصها من أسر الشهوات وتطهيرها عن غواسق الهيوليات والأعراض من الدنيا إلى الأخرى ومن المنزل الأدنى إلى المحل الأعلى، فلكل عمل منها مقدار معين من التأثير في التنوير والتهذيب....))(1)، ويقول الخميني(قدس سره): ((إن لكل عبادة من العبادات لها أثر خاص يحصل في النفس، مما يقوي الإرادة شيئا فشيئا ويصل بقدرتها إلى حد الكمال))(2). فالعبادة هي من يصل بالإنسان إلى الكمال الإنساني، وتحقق سعادة الإنسان في الدنيا والراحة والاطمئنان واظفر والرضوان في الآخرة، ويرى المطهري أن العبادة تمثل حاجة روحية ثابتة من حاجات الإنسان، وهو لا يستطيع أن ينفك عنها، ولهذا تعد العبادة مصدراً أساساً من مصادر تكامله وبناء شخصيته الإنسانية الكاملة، وكسب للأخلاق الفاضلة(3)، ولهذا يقول المطهري: ((العبادة مركب يتخذ للتقرب إلى الله وأداة لتكامل الإنسان))(4)، وهو يرى أن الإنسان لا يمكن أن يكون كاملاً إلا بالعبادة(5).

ولهذا تدرج الكثير من الشعائر العبادية التي تمثلها نظرية العبادة، وما هذه الشعائر إلا طرق يمكن أن تصل بالإنسان إلى الكمال الأخلاقي.

واهم هذه الشعائر هي:

1- الصلاة، ويستشهد المطهري بالآية القرآنية الكريمة، قال تعالى: تُلُ مَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ*إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ * وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ(6)*.يرى المطهري، في هذه الآية يتجسد ما للصلاة من الأثر الروحي في نفس الإنسان، وهو أن الصلاة ترفع الإنسان إلى الكمال، وهذا

ص: 82


1- الشيرازي، صدر الدين، أسرار الآيات، ص 203.
2- الخميني، الأربعون حديثا، ص.162.
3- يُنظر : المطهري، طهارة الروح، ص30 ، وأيضاً، مطهري التربية والتعليم في الإسلام،ص120.
4- المصدر نفسه: ص151.
5- يُنظر : مطهري، الإسلام ومتطلبات العصر، ص 243.
6- سورة العنكبوت، الآية 45.

الاعتلاء يُنهي الإنسان ويصرفه عن عمل الفواحش والمنكرات والآثام، ولهذا فان في الصلاة استقامة الإنسان وصلاح أخلاقه، وسلامة عقله وروحه، وقلبه(1). يقول النبي الأكرم(صلی الله علیه و آله و سلم): ((من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعداً))(2)، وقال الإمام الصادق(علیه السّلام)((نزل جبرائيل على النبي فقال يا محمد : ما تقرب إلي عبدي المؤمن بمثل أداء الفرائض، وإنه ليتنفل لي حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها))(3).

إن الصلاة نموذج للعلاقة بين المخلوق والخالق، وهي وسيلة تحسن خلق الإنسان وتصل به إلى الكمال الخلقي أي الطهارة والنقاء، وتحصنه من رذائل الأخلاق.

2- الصوم، ويرد المطهري من الشعائر الأخرى في فلسفة العبادات هي الصوم، وله تأثير كبير في نفس الإنسان من الناحيتين الفردية والاجتماعية، ففي الصوم تهذيب للنفس وتجفيف لمنابع السوء والشر، فالإنسان يعيش في أيام الصوم مع نفسه أيام خشوع وتخلية لتهذيب هذه النفس من كل المعاصي والمنكرات(4).

3- الزكاة ، يرى المطهري أن فيها نموذجا لحسن علاقات المسلمين بعضهم مع بعض، فتؤدي بهم الزكاة إلى الألفة والمحبة والتعاطف والتراحم الإسلامي فيما بينهم، ويحمي بعضهم بعضاً(5). ويتضح غرض المطهري في توظيف الزكاة توظيفا أخلاقيا بجعلها سببا في إزالة التفاوت الطبقي بين أبناء المجتمع أي الغني والفقير، فبها يرفع هذا التفاوت ويزال الحقد والحسد وذلك لمساعدة الأغنياء الفقراء(6).

4- الجهاد، ويرى المطهري أن فيه عامل تربية وإصلاح للنفس الإنسانية، ويبرز

ص: 83


1- يُنظر : المطهري، طهارة الروح، ص 41.
2- المجلسي، بحار الأنوار، ج 79 ، ص 189.
3- المصدر نفسه، ج72، ص155.
4- يُنظر : مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص235.
5- يُنظر : مطهري، الولاء والولاية، ص 21.
6- يُنظر: مطهري، التربية والتعليم في الإسلام، ص 235.

هذا العامل في نفس الإنسان لما له من دور في تقوية روح الإيمان في نفس الإنسان ومواجهة الموت بكل ثبات وإيمان، فالمسلم في جهاده يواجه الموت بكل عزيمة وشجاعة من اجل دينه وإيمانه، وهو غير مرتاب منه، لهذا رأى المطهري أن في الجهاد عاملا من عوامل تربية أخلاق الإنسان وإصلاحه(1).

5- التقوى، يرى المطهري أن التقوى من الشعائر العبادية التي لها تأثير في كمال روح الإنسان، فالتقوى هي خصيصة روحية أخلاقية، لها من تأثير في نفس الإنسان، فلها في التبصر والرؤية الواضحة، والنجاة من المهالك والشدائد، فالإنسان يقع في ظلمة غبار المعاصي والآثام والأهواء، ولكن ما أن يسطع نور التقوى على الإنسان حتى يتبين له الطريق السليم الذي ينجيه من المهالك ويقيه من الآثام ليصل الإنسان إلى طريق النجاة، فالتقوى هي من تصل بالإنسان إلى أوج الكمال والعزة(2)، ويستشهد المطهري بقوله تعالى: فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بمَعْرُوفِ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفِ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ * ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ

وَالْيَوْمِ الآخر*وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(3)*.إن العبادة وما تتضمنه من كثير من الشعائر هي من تصل بالإنسان إلى الكمال الإنساني.

ص: 84


1- يُنظر : المصدر نفسه، ص 236.
2- يُنظر : مطهري، التقوى، ط1، ترجمة جعفر صادق الخليلي، دار الإرشاد، بيروت، 2009م، ص192-193.
3- سورة الطلاق، الآية 2.

الفكر الأخلاقي عند محمد باقر الصدر

اشارة

أ.م.د. رائد جبار كاظم(1)

المقدمة

مبحث الأخلاق أحد المباحث المهمة والأساسية في ميدان الدين والفلسفة وعلم الكلام والتصوف، وقد كان للفكر الاسلامي النصيب والحظ الأوفر في حجم الدراسات والكتابات الأخلاقية، في المجال الفقهي والفلسفي والنفسي والاجتماعي، لما للاخلاق من أهمية في تاريخ الشعوب والمجتمعات البشرية، ولذلك أولى الفلاسفة والعلماء والفقهاء الأهمية الكبري لهذا المبحث في كتاباتهم، لتحقيق تقدم ونهضة ونجاح الفرد والمجتمع الاسلامي بين شعوب العالم، فإن كانت المجتمعات البشرية تتسابق وتفتخر في تحقيق نجاحها العلمي والتكنلوجي

ص: 85


1- الجامعة المستنصرية - كلية الآداب - قسم الفلسفة : يؤكد الباحث ان المطلع على فكر الصدر وكتبه وكتاباته ومحاضراته يعي جيداً ويدرك حجم الفكر الاخلاقي في مشروع وخطاب الصدر الفكري، وكأن الصدر قد أدرك خطورة المسألة الأخلاقية وقيم الأخلاق والانقلاب الاخلاقي داخل المجتمعات عامة والمجتمع الاسلامي على وجه التحديد، ولذلك سعى لتقديم مشروع فكري اسلامي متكامل يتسم بالاخلاق والتربية والاصلاح والتغيير من جميع جهاته، فهو قد شخص المشكلة الخلقية في المجتمع الاسلامي وأخذ على عاتقه تقديم نظريته الفكرية في هذا المجال رغم انه لم يترك لنا مؤلفاً محدداً بعينه يتناول قضايا وفلسفة وفقه الأخلاق، ولكن مشروعه الفكري برمته مشروع أخلاقي باختلاف مجالاته الفكرية التي درسها الفقه والاقتصاد والاجتماع والسياسة والفكر والفلسفة والتاريخ، يتضح من خلالها الفكر والنزعة الأخلاقية بأبهى صورها لانه ينتمي الى المدرسة الاسلامية في الأخلاق والى منهج أئمة أهل البيت (ع) في التربية والسلوك والعرفان. يتلخص لنا أن فكر الشهيد الصدر الأخلاقي ينتمي الى أسس دينية بحتة، وأنه يعطي للغيب الدور الكبير في رسم أخلاق الانسان، ويجعل الأخلاق هي الأساس التي تجعل من الإنسان انساناً حقيقياً على وجه الأرض، بل هي التي تحدد خارطة علاقته مع الله تعالى ومع الطبيعة ومع المج- الطبيعة ومع المجتمع، ان خيراً فخير، وان شراً فشر. المحرر

والاقتصادي، فعليها أيضاً أن تتسابق من أجل رقي وتقدم ونجاح أخلاقها وسلوك أفرادها داخل مجتمعاتهم، فهو الضامن المهم والأساس لضبط حركة ومسار ومسيرة المجتمعات، فلا وجود لتقدم مادي وحضاري حقيقي لدى الشعوب مالم يسير الى جنبه التقدم والرقي الأخلاقي، بل للجانب الثاني الأثر الكبير والمهم على الجانب الأول. ولذلك كانت حصة دراسة الاخلاق والفكر الاخلاقي والفلسفة الاخلاقية في الفكر الاسلامي كبيرة جداً قديماً وحديثاً.

فيما يخص المفكر العربي والاسلامي الشهيد محمد باقر الصدر، فإن فكره يعد فكراً أخلاقياً بأمتياز، رغم أنه لم يقدم كتاباً مستقلاً عن الفكر الأخلاقي أو فلسفة الأخلاق أو فقه الأخلاق، ولكن مشروعه الفكري يضج بالفكر الأخلاقي، بل يكاد أن يكون مبدأ الأخلاق هو المحرك الأساس لكل كتابات ومحاضرات ومشروع الصدر، على المستوى الاجتماعي والديني والسياسي والاقتصادي والفقهي والاصولي والفلسفي، فالتجاور بين التربية والأخلاق والسلوك هو الذي جعل مشروع الصدر برمته يكون مشروعاً أخلاقياً عاماً للانسان المسلم، ومنهج الاسلمة هو الطريق الذي اختطه الصدر للسير في رسم مسيرته الحياتية ومساره الفكري، بل كان بشخصه وشخصيته يعد رمزاً أخلاقياً سامياً ومصداقاً حقيقياً للانسان الكامل الذي قدم نفسه قرباناً خالصاً للدين والاخلاق والاسلام.

لقد كانت مؤلفات الصدر برامج نظرية وعملية قدمت للفكر الاسلامي وللواقع والفرد والمجتمع الاسلامي، مقابل المشاريع الفكرية والفلسفية الغربية والأجنبية التي أعطت الأولوية للعقل وليس للدين، من أجل إعطاء الحرية المطلقة للانسان في ممارسة حياته وسلوكه، ولكن بالنسبة للمدرسة الدينية التي منها السيد الصدر، فإنه يولي الدين أهمية كبيرة في صياغة وبناء أخلاق الإنسان المسلم، وأراد الصدر تقديم نظرية اسلامية متكاملة في الدين والدنيا، تحاول أن تناقش قضايا ومشكلات الإنسان وتفرعاتها، الإنسان مع نفسه، ومع خالقه، ومع ومع أخية الانسان، ومع الطبيعة، لتحقيق صورة متكاملة عن الإنسان المسلم ، ذلك الإنسان الذي يستنير بالدين والقرآن والسنة

ص: 86

النبوية، لتحقيق تكامله ووعيه وصياغة قيمه وأخلاقه وبناء حياته ومجتمعه، والسمو نحو مدارج النجاح والتقدم والكمال في حياته.

لقد كان الباحث الجزائري محمد عبد اللاوي على حق حين قال عن الفكر الاخلاقي عند الشهيد الصدر: (فقد طرح الشهيد السيد محمد باقر الصدر المشكلة الأخلاقية بصورة فلسفية مباشرة، من موقع منهجيّة خاصة لا تُحدث قطيعةً بین القضايا. فالمشكلة الأخلاقية طُرحت في كتابات الشهيد بالموازاة مع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعقائدية والفقهية؛ فالشهيد طرح أصول الفقه وعلم الكلام والفلسفة طرحاً جديداً، وانتهى إلى الانفتاح على إشكالية جديدة في مجال القيم الأخلاقية، فهو كان واعياً وعي مجتهد، بأن تعقد أحوال العصر تقتضي تجاوز حجز الفكر الإسلامي، في دائرة الوعظ والإرشاد في دائرة الرؤية المبسطة لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فأحوال العصر تقتضي - في نظر الشهيد - تجاوز النظرة التجزيئية للمبادئ والقيم الإسلامية، للوصول إلى مقاربة فلسفية للمشكلة الأخلاقية)(1).

فالمطلع على فكر الصدر وكتبه وكتاباته ومحاضراته يعي جيداً ويدرك حجم الفكر الاخلاقي في مشروع وخطاب الصدر الفكري، وكأن الصدر قد أدرك خطورة المسألة الأخلاقية وقيم الأخلاق والانقلاب الاخلاقي داخل المجتمعات عامة والمجتمع الاسلامي على وجه التحديد، ولذلك سعى لتقديم مشروع فكري اسلامي متكامل يتسم بالاخلاق والتربية والاصلاح والتغيير من جميع جهاته، فهو قد شخص المشكلة الخلقية في المجتمع الاسلامي وأخذ على عاتقه تقديم نظريته الفكرية في هذا المجال، ولذلك فقد انطلق الصدر من الإنسان ليرسم له خطاه الاخلاقية والتربوية والاصلاحية في الحياة والسياسة والمجتمع والاقتصاد والفكر والثقافة، مقارناً بين الواقع العربي والاسلامي والواقع الاجنبي والغربي على وجه التحديد، فلكل واقع ومجتمع خصوصيته وقضاياه ومشكلاته وحلوله، وليس الإنسان العربي والمسلم ببدع

ص: 87


1- محمد عبد اللاوي. فلسفة الصدر. ط1. مؤسسة دار الاسلام. لندن. 1999. ص 152-151.

عن تلك المجتمعات، فخصوصيته الفكرية والدينية والثقافية والتاريخية جعلت له حدود وجغرافية تربوية وأخلاقية يتحرك وفقها الإنسان العربي والمسلم، غير متجاوزاً أو تاركاً خصوصيه الدينية والروحية التي تميزه عن غيره من الشعوب والمجتمعات، فالإنسان المسلم يتحرك وفق منظومة قيمية وفكرية وثقافية خاصة به شكلت هويته

وطريقة تفكيره وسلوكه وتعامله التي تميزه عن غيره من المجتمعات البشرية

اذن فالفكر الاخلاقي عند الصدر مشروع متكامل مبثوث في جميع كتاباته، بل اننا نرى أن هدف الصدر الاساس في فكره هو ترقية الاخلاق، وهذا الهدف السامي لن يكون الا بتقديم سلسلة من المقدمات لتحقيق ذلك، من خلال النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتربوية وغيرها، فهي مقدمات أساسية لنجاح وانجاح الفكر والمستوى الاخلاقي لأي انسان، والإنسان المسلم تحديداً.

في هذا البحث سنسلط الضوء على جزء يسير من فلسفة الصدر في مجال الفكر الاخلاقي، على وفق متطلبات مساحة البحث المسموح بها، وحقيقة الأمر أن الموضوع يحتمل الكثير ولا يمكن تغطيته بصفحات بسيطة، بل يحتاج الى دراسة مستقلة ومستفيضة تناقش الاخلاق عند الصدر من جوانب متعددة، ونجزم أن مشروع الصدر الفكري برمته أقيم على أسس أخلاقية، وهذا ما تدل عليه كتابات الصدر وكيفية تناوله للموضوعات على وفق منهج ديني اسلامي معر معرفي، فالاسلمة هی المنهج الصدري المتبع في بناء أفكاره ومشروعه الفكري والديني والفلسفي برمته، والأخلاق هي الموضوع الرئيس التي يهدف اليها الصدر من وراء بناء ذلك المشروع، وهذا ما سيكشفه البحث ويتناوله الباحث في هذه الصفحات استناداً لمصادر وكتابات الصدر ونصوصه في هذا المجال. والله ولي التوفيق.

الإنسان كائن أخلاقي

الإنسان هو الكائن الوحيد الذي خصه الله تعالى بكرامة وامانة العقل بين جميع الموجودات في هذا العالم، ولذلك وصفه الفلاسفة بأنه (حيوان عاقل) فالعقل هو

ص: 88

ميزة ذلك الإنسان ولولاه لا فرق بينه وبين الحيوان الأعجم، وهناك ميزة أخرى تفرق الإنسان أيضاً عن الحيوان وهي ميزة الأخلاق ، ف(الحيوان يخضع للدوافع والانفعالات العمياء، ولا يتصف بالحرية أو القدرة على الاختيار، في حين أن الإنسان يتحكم في أهوائه وانفعالاته، ويشعر بأنه قوة فاعلة وارادة حرة)(1).

وهذا ما يشكل الفارق الكبير بين الإنسان والحيوان أيضاً، ولهذا علماء وفلاسفة الاخلاق حين يدرسون الجانب الاخلاقي بين الإنسان والحيوان ينفون أي قيمة خلقية في سلوك الحيوان، عكس الإنسان الذي يكون سلوكه مقترن بالشرط الاخلاقي، لأن الإنسان يستطيع التحكم بسلوكه وتوجيهه الوجهة التي يريد على وفق عقله وارادته وتفكيره الحر، (فإن الإنسان بين كائنات الطبيعة جميعاً - أقدرها على مراقبة دوافعه، والعمل على قمعها ، وهو أحرصها على تنظيم بواعثه، والاهتمام بابدالها أو اعلائها. وهذا هو السبب في أننا نقول عن الإنسان انه الكائن الوحيد الذي يستطيع أن يستبدل بالنظام الحيوي للحاجات نظاماً خُلقياً للقيم. ومهما كانت درجة الانحطاط الخُلقي التي قد يبلغها الإنسان في بعض الاحيان، فانه لا بد من أن يبقى حيواناً أخلاقياً يمزج الواقع بامثل العليا، ويجمع بين مستوى الغريزة ومستوى الضمير)(2).

ومن هنا عُد الإنسان بأنه (حيوان أخلاقي)، فالأخلاق هي ما تميزه عن الحيوان سلوكه وحياته وانفعالاته، والإنسان هو الكائن الاخلاقي الوحيد الذي يسلك حياته سلوكاً أخلاقياً الى جوار عقله الذي خصه الله به. ومن جميل القول ما قاله المفكر العربي زكريا أبراهيم: (ولسنا في حاجة الى القول بأية نزعة تشبيهية - من أجل العمل على تأكيد «قيمة الانسان» - وانما حسبنا أن نقول ان هذا «الكائن الأخلاقي» الذي نسميه بالإنسان هو - وحده - الذي يحمل «أمانة القيم»(3).

ومن اجل ذلك كان للأخلاق دور كبير في حياة الإنسان والتأكيد عليها ودراستها

ص: 89


1- زكريا أبراهيم. المشكلة الخلقة. مكتبة مصر ودار المرتضى. ب. ت . ص 33.
2- المصدر نفسه. ص 26.
3- المصدر نفسه. ص28.

والاشارة لها في الاديان والفلسفات وتاريخ المجتمعات البشرية، وتوسع الفلاسفة في دراستها في مبحث مستقل في مبحث (فلسفة الأخلاق) في ضمن مجال (فلسفة القيم)، وقد جعلها الفيلسوف اليوناني أرسطو في ضمن القسم العملي من أقسام الفلسفة، الى جانب السياسة وتدبير المنزل، لما لها من أهمية عملية وسلوكية في حياة الانسان، وقد كان أرسطو الواضع الأول لأسس فلسفة الأخلاق في كتابه (الأخلاق النيقوماخية) الذي يعد أكبر وأهم وأقدم كتاب فلسفي في فلسفة الأخلاق.

وليس الفلسفة وحدها فقط من تميزت وتفردت بدراسة مبحث الأخلاق، بل كان الدور الكبير للاديان في توجيه الإنسان توجيهاً أخلاقياً وروحياً وتربوياً، من أجل تحقيق تكامله ودعوته للحد من رغباته وكبح جماح شهواته وتنظيمها على وفق عقله وارداته ومجتمعه، والدين الاسلامي أحد هذه الأديان التي أهتمت بالجانب اللاخلاقي والروحي والجواني للانسان، والعمل على اعلاء قيمته وبيان كرامته، وقد ميزه الله بحمل (الأمانة) وشرفه ب- (الخلافة)، وبهما تميز الإنسان عن باقي الكائنات، وهذه النظر الاسلامية القرآنية هي صميم ما جاء به محمد باقر الصدر في صياغة مشروعه الفكري عامة، وفكره الأخلاقي على وجه التحديد. ولذلك فالصدر آمن في فكره وفلسفته بالقيمة الوجودية للانسان، وبالنزعة الانسانية المشتركة بين البشر ، رغم التعدد والتنوع في ألوان وأشكال البشر واللغات والثقافات، فالإنسان قد خصه الله تعالى بالخلافة وشرفه بحمل الأمانة العظمى، وكرمه وفضله على كثير من مخلوقاته وموجوداته.

ومن خلال قراءتنا لفكر الصدر نجد ان للإنسان في فكره يتصف بفرادة وميزة عن الكائنات والمخلوقات التي خلقها الله في هذا الكون، فهو الكائن الوحيد الذي يتصف بالقيمة الأخلاقية والتربوية والروحية، وهذا يتضح لنا بأبرز صورة حين يعرف الصدر الإنسان تعاريف عدة، لكنها يوحدها الجانب الاخلاقي والقيمي والروحي في السلوك والحياة والعمل، فالإنسان على وفق فكر الصدر هو :

1- ذلك الكائن المتكون من الجانب المادي والجانب الروحي (فليس الإنسان مجرد مادة معقدة، وإنما هو مزدوج الشخصية من عنصر مادي وآخر لا مادي)

ص: 90

(1).ويرفض الصدر الفلسفات والأفكار التي تنظر للإنسان على انه ذو بعد واحد، فينقد كلا من المادية التي آمنت بجسد الإنسان وحاجاته المادية وأهملت جانبه الروحي، والمثالية التي آمنت بروح الإنسان وأهملت جانبه المادي. والإسلام وحده من بين جميع الأديان والفلسفات جمع ما بين جانبي الإنسان المادي والروحي.(2)

2- ذلك الكائن الحر(3)، الكائن الأرضي المتميز بالإحساس والشعور بالمسؤولية.(4)

3- ذلك الكائن المكلف، والتكليف تشريف من الله سبحانه وتعالى للإنسان وتكريم له، لأنه يرمز إلى ما ميز الله به الإنسان من عقل وقدرة على بناء نفسه والتحكم في غرائزه وقابليته لتحمل المسؤولية خلافاً لغيره من الموجودات(5).

4- ذلك الكائن المتدين، الذي يمثل الدين له عقيدة وشريعة ونظاماً، ولا يستطيع أن يعيش من دون ذلك، فالدين فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها ولا غنى للناس عنه (كما انك لا يمكنك أن تنزع من الإنسان دينه .. هذا الدين لا يمكن إن ينفك عن خلق الله ما دام الإنسان إنسانا، فالدين يعتبر سنة لهذا الإنسان)(6).

5- ذلك الكائن الاجتماعي الذي يميل بطبعه إلى الاستئناس بالآخرين، واجتماعه و الذي أدى إلى نموه وتطوره، وعلى هذا الأساس نشأت المؤسسات عموماً والدولة خصوصاً، فالدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان. وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء، واتخذت صيغتها السوية ومارست دورها السليم في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه(7).

6- ذلك الموجود الوحيد القادر على التشبه بالله تعالى والتخلق بأخلاقه، وهو

ص: 91


1- محمد باقر الصدر. فلسفتنا. ط2 . دار التعارف. بيروت - لبنان 1419ه- 1998- . ص 334.
2- المصدر نفسه، ص 335.
3- محمد باقر الصدر. الإسلام يقود الحياة، ط2 . مطبعة الديواني. العراق. 1424ه- 2003-م. ص166.
4- المصدر نفسه.
5- محمد باقر الصدر. الفتاوى الواضحة. دار التعارف. بيروتلبنان. 1410ه- -1990-مص125.
6- محمد باقر الصدر. المدرسة القرآنية. دار التعارف. بيروت، 1409ه- 1989- م. ص 90-91.
7- الصدر . الإسلام يقود الحياة. ص 23-24.

بذلك كائن قيمي مؤمن بتحقيق أسمى وأفضل الأخلاق والأهداف من اجل الوصول إلى درجة الكمال (فصفات الله تعالى وأخلاقه من العدل والعلم والقدرة والرحمة بالمستضعفين والانتقام من الجبارين والجود الذي لا حد له، هي مؤشرات للسلوك في مجتمع الخلافة وأهداف للإنسان الخليفة)(1).

7- ذلك الكائن الفريد في خلافته، والوحيد في أمانته، والكبير في تعدد وتنوع أبعاده وعلاقاته، فهو من بين جميع المخلوقات له داخل وخارج وفوق، ومن ثم تتعدد علاقاته بتنوع أبعاده(2).

وهكذا فالإنسان عند الصدر كل لا يتجزأ، إذا اقتطعتنا منه جزءا وفصلناه عن أجزائه الأخرى فانه سيصاب بخلل وستعاق عملية نموه وتكامله لأنه كل متكامل. والإنسان المسلم يعبر عن وجوده الخاص بالتعامل مع الله تعالى بما يملك من قدرة روحية، وبالتفاعل مع الكون بما يملك من قدرة عقلية وفكرية، وبالتفاعل مع المجتمع بما يملك من أخلاق. وهذه العناصر الثلاثة (الروح والعقل والخلق) عند الصدر تعد عناصر أساسية في بناء الإنسان وتكامله(3).

وقد تميزت نظرة الصدر للإنسان بأنها نظرة تكاملية توفق بين أبعاد الإنسان وعلاقاته، وتوفق بين ما هو مادي وما هو روحي.

وذهب الصدر إلى القول بفشل الفلسفات والمذاهب النفسية والاجتماعية التي نظرت للإنسان نظرة مادية وأحادية، متناسية ما للإنسان من جانب روحي يتميز به عن غيره من المخلوقات، وانه ذو أبعاد متعددة وليس ذو بعد واحد(4).

النزعة الانسانية وتأسيس الأخلاق

ص: 92


1- المصدر نفسه.ص169.
2- ينظر: الصدر. المدرسة القرآنية . ص 97 وما بعدها.
3- ينظر: الصدر. رسالتنا. ص 138 .
4- ينظر: الصدر. فلسفتنا . ص 334 وما بعدها. والمدرسة القرآنية. ص 100 والمدرسة الإسلامية . ص 50 وما بعدها واقتصادنا . ج 1 . تحقيق مكتب الإعلام الإسلامي. ط1. مؤسسة بقية الله. النجف الاشرف.العراق. 1423ه- 2003-م. ص 35 وما بعدها.

النزعة الانسانية شعور ووعي بالحياة الانسانية وبقيمة الإنسان أياً كان وفي أي مكان وزمان، ولا قيمة للانسان ولوجوده في هذه الحياة من دون هذه النزعة الانسانية والايمان المطلق بها هو الذي يجعل للحياة وللوجود وللانسان قيمته العليا فى هذا العالم، ومن دون سيادة هذه النزعة بين الناس لا قيمة ولا طعم لحياة الإنسان وشأنه شأن الحيوان الذي يعيش على وفق نظام غريزي مطلق من دون عقل أو نظام أو تحكم بأنفعالاته وشهوته وأفعاله.

والدين الاسلامي أكد كثيراً في أسسه العقائدية والأصولية والفقهية على النزعة الانسانية لما لها من تأثير على الجانب الاخلاقي والتربوي التكاملي في بناء شخصية الانسان، وهذا لن يكون الا باشاعة هذه النزعة بين الناس، التي تتحذ من الإنسان أينما كان موضوعاً ومنطلقاً لها، انسجاماً مع حقائق الإسلام والقرآن الكريم.

ولم يخرج محمد باقر الصدر عن هذه الدائرة الإسلامية القرآنية ذات النزعة الإنسانية، بل كان احد دعاتها وروادها، وهو ما نجده متجسدا بصورة جلية في فکره وسلوكه، وفي حياته العلمية والعملية والعبادية والجهادية، فهو يعمل على تجسيد كل تلك المثل والقيم الدينية والاسلامية خير تمثيل في مشروعه الفكري والحياتي.

ولمعتقد الإنسان أياً كان، تأثير كبير على سير حياته ويضع الصدر لأي عقيدة يتبناها الانسان، شروطا وسماتا تتميز بها بعضها عن البعض الآخر من العقائد، ف(لا تكون العقيدة إنسانية إلا حين يجد الإنسان في رحابها المجالات التي تهيئ جميع لکافة طاقاته فرص النمو والازدهار، وتوازن بين كافة جوانبه فلا تمكن لجانب بالتنكر لجانب آخر. ومن الواضح إن العقيدة لن تكون كذلك إلا إذا عالجت الواقع الإنساني على أساس الاعتراف بالإنسان كما هو وكما خلقه الله تعالى من غير تحوير، الاعتراف بكل طاقاته وكل حاجاته وكل كيانه اذ المتطور وغير المتطور. وعلى هذا فالإسلام هو الدين الإنساني الوحيد بين العقائد والأديان التي عاصرته أو حدثت بعده

ص: 93

لأنه الدين الوحيد الذي يتجاوب مع الواقع الإنساني بكل حاجاته ومطامحه)(1).

ولعل سائلا يسأل كيف نستطيع أن نقيم عقيدة أو اتجاهاً ما بأنه إنساني وآخر لا إنساني؟ يجيب الصدر بان ذلك يكون بحسب الموقف الذي تتخذه العقيدة من مسائل الإنسان الكبرى كموقف الإنسان إزاء العالم الخارجي، والعقل الإنساني، والحرية الإنسانية، وفكرة التقدم الإنساني المستمر(2). ويقدم الصدر الرؤية الإسلامية وإجابتها عن هذه الأسئلة قبال أراء ووجهات نظر غير إسلامية وضعية كانت ام دينية.

ولابد من أن نعرض للإجابة الإسلامية والصدرية عن هذه الأسئلة لأنها تمثل مدخلاً ضرورياً لبحثنا ذي الجوانب الإنسانية المتعددة.

ففيما يتعلق بعلاقة الإنسان بالعالم الخارجي (الطبيعة) بين الإسلام مدى العلاقة القوية بين الإنسان والطبيعة فان هذه العلاقة تتسم بالود والثقة والاحترام. ولم يعد الإسلام العالم الخارجي عدواً للإنسان وشراً يجب الفرار منه بل مد جسور والاطمئنان والتقدير بينهما وعد العالم الخارجي مجال كفاح الإنسان ونموه وتمدد قواه وازدهار طاقاته، بعكس بعض النظرات والشعارات الفلسفية والمذهبية والدينية ذات الأفق المحدود والمجال الضيق التي تجعل من العالم الخارجي عدواً لدوداً للإنسان وتصفه بأنه عالم مليء بالشر والخطايا، وانه عامل خطير من عوامل هلاك ودمار الإنسان. وانه يولد واللعنة والخطيئة تلاحقه وتلوث وجوده ودوره في هذه الحياة الدنيا، ولابد له من أن يتطهر من ذنوبه وان يكفر عن خطيئة أبيه الأولى(3).

قال تعالى: ﴿أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون﴾(4)﴿أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وما لها من فروج﴾(5)﴿أو لم يروا إلى الأرض كم أنبتنا فيها من كل زوج كريم ﴾(6)

وغيرها من الآيات البينات التي تبين علاقة الإنسان بعالمه الخارجي (فعالم

ص: 94


1- محمد باقر الصدر. رسالتنا . ط3.مطبوعات مكتبة النجاح. طهران. 1402 ه- 1982- م. ص 77-78.
2- المصدر نفسه. ص79-78.
3- ينظر المصدر نفسه. ص 78-79
4- سورة يونس/ الآية 101.
5- سورة ق/الآية 6.
6- سورة الشعراء/الآية 7.

الطبيعة عند المسلم هو مظهر قدرة الله عز وجل وعظمته وهو مجال كفاح الإنسان واستفادته، لان عالم الطبيعة قد سخر للإنسان)(1).

ویری الصدر أن رسالتنا وديننا وفلسفتنا إنسانية عالمية ف- (الإسلام دعوة عالمية،وهی عالمية لأنها إنسانية، فدين الفطرة هذا لا يختص بطائفة من الناس دون غيرهم ولا تحجزه حدود وطن عن سائر الأوطان)(2).

ونجد الجانب الانساني بأسمى صوره في المشاعر والعواطف التي يكنها الصدر في نفسه وذلك في موقفه مما تعانيه البشرية من عذاب وقتل وإرهاب في كل مكان من الكرة الأرضية، ونادى كثيرا من اجل رفع الحصار المادي والفكري والاجتماعي المفروض على الإنسان في كل بقاع الأرض. يقول الصدر : (إن إنسانا يعتصر الآخرون طاقاته، ولا يطمئن إلى حياة طيبة واجر عادل وتامين في أوقات الحاجة، لهو إنسان قد حرم من التمتع بالحياة وحيل بينه وبين الحياة الهادئة المستقرة. كما أن إنسانا يعيش مهددا في كل لحظة، محاسبا على كل حركة، معرضاً للاعتقال من دون محاكمة وللسجن والنفي والقتل لادنى بادرة، لهو إنسان مروع مرعوب يسلبه الخوف حلاوة العيش وينغص الرعب ملاذ الحياة. والإنسان الثالث المطمئن إلى معيشته، الواثق بكرامته وسلامته هو حلم الإنسانية العذب، فكيف يتحقق هذا الحلم؟ ومتى يصبح حقيقة واقعه؟)(3).

ويدعونا الصدر إلى محاسبة أنفسنا قبل محاسبة الآخرين وان ننظر في أعمالنا ونختبرها هل هي خالصة لوجه الله تعالى أم لا ؟ إذا لم تكن كذلك فلا نرجو من الله تعالى الأجر والثواب لأن أعمالنا ليست له بل لأشياء أخرى. أما إذا كانت في سبيل الله وبالله ولله تعالى فإنها تعبر بذلك عن صلة التفاعل ما بين الإنسان وربه من جهة، والإنسان وأخيه الإنسان من جهة أخرى والإنسان

ص: 95


1- الصدر. رسالتنا. ص 59.
2- المصدر نفسه. ص 93.
3- محمد باقر الصدر فلسفتنا. ص 30-31 والصدر أيضا. المدرسة الإسلامية. (الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية). بيروت - لبنان 1393ه- 1973-م. ص 71-72.

وعالمه الخارجي من جهة ثالثة. ولدى الصدر نظرة وتفسير جميل حول معنى سبيل الله تعالى كما جاء في القرآن الكريم، فهو يمزج ما بين سبيل الله وسبيل الناس ف- ( سبيل الله هو التعبير التجريدي عن السبيل لخدمة الإنسان، لأن كل عمل من اجل الله فإنما هو من اجل عباد الله، لأن الله هو الغني عن عباده، ولما كان الإله الحق المطلق فوق أي حد وتخصيص، لا قرابة له لفئة ولا تحيز له إلى جهة، كان سبيله دائماً يعادل من الوجهة العملية سبيل الإنسانية جمعاء. فالعمل في سبيل الله ومن اجل الله هو العمل من اجل الناس ولخير الناس جميعاً وتدريب نفسي وروحي مستمر على ذلك)(1).

- المحتوى الداخلي للانسان أو الفلسفة الجوانية وقيمتها الأخلاقية

يعد الجانب الباطني، الجواني (المحتوى الداخلي) أهم ما يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، كما تعد هذه المسالة من أهم المسائل التي تميز بها الفكر الإسلامي عن غيره من الأفكار. وهذا واضح من خلال الآيات القرآنية وسنة النبي الاكرم (ص) وآله وأصحابه ونظريات الفلاسفة والمفكرين، ودعواتهم إلى إحياء النفس الإنسانية وبناء الذات بناء سليما بعيدا عن كل انحراف أو مرض، مادي أو فكري أو معنوي. والاهتمام ببناء الذات الذي يعد الأساس البنيوي لكل بناء وتوجه في الاسلام، والاسلام دين جاء من اجل الاصلاح والتغيير والبناء، ولهذا جاءت آيات القرآن صادحة من اجل التغيير الداخلي لمحتوى الإنسان واصلاح سريرته اولاً وقبل كل شيء، قال تعالى: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم*(2). قال تعالى: وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا*قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا*وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا(3)*.

ص: 96


1- محمد باقر الصدر. نظرة عامة في العبادات. ضمن كتاب موجز في أصول الدين. تحقيق ودراسة عبد الجبار الرفاعي. ط2 . دار الشؤون الثقافية بغداد. 2005. ص 266.
2- سورة الرعد/ الآية 11.
3- سورة الشمس / الآية 7-10.

وقال رسول الله (ص) (من أصلح سريرته أصلح الله علانيته).(1)وقال أيضا (إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم)(2).

وانطلق اغلب الفلاسفة والمفكرين العرب والمسلمين من هذه الحقيقة. فباطن الإنسان هو الذي ننطلق منه نحو البناء الخارجي، وهو القاعدة التي يستند عليها أي عمل تغييري، فالإنسان عالم مترامي الأطراف، يكمن سره وعظمته في جوهره الذي يبين اصل معدنه، لا في ظاهره وماديته، فهو في هذا الجانب شبيه وشريك غيره من المخلوقات، لكن ما يميزه عنها هو تلك النفخة الإلهية التي أسجدت له الملائكة أجمعين،*فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(3)*.

وما أجمل ما قاله محمد إقبال (ت 1938) عن قيمة الذات وجوهرها، مبيناً عظمتها وسر خلودها ووجودها :

هيكل الأكوان من آثارها *** كل ما تبصر من أسرارها

نفسها قد أيقظت حتى انجلى *** عالم الأفكار ما بين الملا

ألف كون مختف في ذاتها *** غيرها يثبت من إثباتها

والجوانية - كما يعرفها عثمان أمين (ت 1978م) هي (فلسفة تستند على تزكية الوعي الإنساني وممارسة الحرية النفسية، وتسعى إلى تعميق فهمنا للمقاصد والمعاني والقيم. وان الحياة الإنسانية يجب أن تكون حياةً واعيةً للمقصد الاسنى من خلق الإنسان، وهو إقامة خلافة الله تعالى على الأرض)(4).

وهذا عين ما قال به الصدر في فكره وفلسفته، ويتمثل المحتوى الداخلي للإنسان - عند الصدر - بركنين أساسين لهما دور كبير في توجيه الإنسان وهما: الفكر والإرادة.

ص: 97


1- الكليني. الكافي، ج 8. ط4. دار الكتب الإسلامية. طهران. ص 307.
2- محمد مهدي النراقي. جامع السعادات. ج 3. تحقيق محمد كلانتر. ط4 مؤسسة الاعلمي. بيروت - لبنان.ص 112.
3- سورة الحجر/ الآية 29.
4- د. عثمان أمين. الجوانية. أصول عقيدة وفلسفة ثورة. دار القلم.1964، ص 123.

ولهذين الركنين الدور المهم والأساس في تغيير حركة الفرد والمجتمع، و(المحتوى الداخلي للإنسان هو القاعدة لحركة التاريخ، فالبناء الاجتماعي العلوي بكل ما يضم من علاقات وأنظمة وأفكار وتفاصيل مرتبط بهذه القاعدة، ويكون تغييره وتطوره تابعاً لتغير هذه القاعدة وتطورها، فإذا تغير الأساس تغير البناء العلوي، وإذا بقي الأساس ثابتاً بقى البناء العلوي ثابتا)(1).

وقد أدرك الصدر ضرورة وأهمية الدور الكبير الذي يقوم به المحتوى الداخلي للإنسان في تربيته وتكامله وتحقيق وجوده في حركة وصناعة التاريخ. وتعد هذه المسألة من أمهات المسائل التي اهتم بها الصدر في بناء فلسفته، وذلك لأنه كان يرى أن المحتوى الداخلي يعد الأساس والقاعدة والمنطلق في عملية البناء والإصلاح والتغيير الخارجي(2).

ويرى الصدر أن أساس المشكلة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإنسانية تكمن في المحتوى الداخلي للإنسان، وان أساس الصراعات والنزاعات تكمن في ذلك التناقض القائم ما بين تلك النفخة الإلهية، وبين ذلك الطين المادي.

ويتمثل المحتوى الداخلي للإنسان عند الصدر في الفكر والإرادة. ويعني بالفكر (الوجود الذهني) الذي يضم تصورات الهدف والرؤية للمستقبل لدى الإنسان.

أما الإرادة، فهي الطاقة التي تحرك الإنسان نحو الأشياء من اجل إيجادها وتحقيقها في الخارج، سواء كانت هذه الأشياء أفعالا وممارسات وسلوكاً للإنسان نفسه، أو أشياء مادية خارجية منفصلة عنه(3).

ومن الواضح أن الإرادة الإنسانية كالفكر، ليست وجوداً مادياً خارجياً، بل هي أمر موجود خلقه الله تعالى في داخل الإنسان وبها كرمه وميزه عن كثير من المخلوقات.

ولكن الفكر والإرادة وان كانا أمرين داخليين في الإنسان، فانهما يتأثران بالمؤثرات والعوامل الخارجية سلباً وإيجابا.

ص: 98


1- الصدر. المدرسة القرآنية. ص 105-106.
2- ينظر: الصدر. المدرسة القرآنية. ص.105 وبحوث إسلامية ص 32.
3- الصدر: المدرسة القرآنية. ص 105..

وهذه سنة إلهية من سنن التاريخ (فالعلاقة بين المحتوى الداخلي للإنسان والبناء الفوقي للمجتمع علاقة تبعية، ومسبب بسبب، وهي تمثل سنة تاريخية)(1).

ومن خلال قوله تعالى : إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم(2)*نستنتج أن أساس عملية التغيير والإصلاح مرتبطة بالإنسان نفسه، وبمحتواه الداخلي، وأثبتت الآية الكريمة أن هذه القضية قضية شرطية، فالتغير على مستوى القوم (الجماعة) لا يتم إلا بتغيير المحتوى الداخلي لهؤلاء القوم.

فالتلازم قائم بين الاثنين، والثاني شرط تحقق الأول ، ولو كانت العملية خلاف ذلك فان النتائج تكون عكسية، ومن لم يجعل محتواه الداخلي موجهاً ودافعاً له كمن قال فيه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا نا في قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ *(3).

ولذلك اشترط الصدر في عملية التغيير والإصلاح أن تسير عملية الجهاد الأكبر جنباً إلى جنب مع الجهاد الأصغر ، لأن احدهما يكمل الآخر في عملية البناء الذاتي والاجتماعي(4).

ومن الضروري عند الصدر لإصلاح الحياة الإنسانية وتهذيبها، أن يتناول الإصلاح الإنسان نفسه قبل أي شيء آخر ، وان يعاد تكوينه من الداخل على نحو يجعله متجاوباً ومنسجماً مع فطرته ومع أهدافه العليا ومع واقعه(5).

وهذا لن يكون إلا بنفاذ عملية التغيير إلى قلب وأعماق روح الإنسان. ولا يمكن للإنسان أن يمارس عملية التغيير والبناء والاعمار والإصلاح من خلال طرح وإطلاق

ص: 99


1- الصدر. المصدر نفسه، ص 106.
2- سورة الرعد/ الآية 11.
3- سورة البقرة/الآية 204-205.
4- ينظر: الصدر. المدرسة القرآنية. ص 106. والإسلام يقود الحياة ص 190-191.
5- الصدر. رسالتنا. ص99.

الكلمات الصالحة والشعارات الهادفة فحسب (لان الكلمات الصالحة إنما يمكن أن تتحول إلى بناء صالح في المجتمع إذا انبعثت من قلب يعمر بتلك القيم التي تدل عليها تلك الكلمات، وألا فستبقى الكلمات مجرد ألفاظ جوفاء دون أن يكون لها مضمون ومحتوى، فمسالة القلب هي التي تعطي الكلمات معناها ولعملية البناء الخارجي أهدافها ومسارها)(1).

ولعل سائلاً يسأل ما الذي يدفع الإنسان إلى هكذا عمل، ومن الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للإنسان؟ وهل لحركة الإنسان غاية؟

ويجيبنا الصدر عن ذلك بان المثل الأعلى هو المحور الذي يستقطب عملية بناء المحتوى الداخلي للإنسانية، ولهذا المثل الدور الفعال في دفع وتحريك الإنسان نحو الأفعال (إن المحتوى الداخلي للإنسان، يجسد الغايات التي تحرك التاريخ من خلال وجودات ذهنية تمتزج فيها الإرادة بالتفكير، وهذه الغايات جميعا تنبثق عن وجهة نظر رئيسية، إلى مثل أعلى للإنسان في حياته هو الذي يحدد الغايات التفصيلية... فالغايات نفسها محركات للتاريخ، وهي بدورها نتاج لقاعدة أعمق منها في المحتوى الداخلي للإنسان، وهو المثل الأعلى الذي تتمحور فيه كل الغايات وتعود إليه كل الأهداف)(2).

وحركة الإنسان في الوجود، وحركة التاريخ نفسه في نظر الصدر، تتميز عن أي حركة أخرى في الكون، بأنها حركة غائية هادفة وليست عشوائية(3). وان الإنسان في حركته سائر نحو غاية وهدف عظيمين وهو الإمساك باللحظة الزمانية، من اجل تحقيق وجوده التكاملي، وتغيير واقعه نحو الأفضل، وإنشاء حضارة إنسانية تشع نوراً على عموم البشرية. ويتم كل هذا عن طريق إرادة واختيار وفعل الإنسان نفسه. لان الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يشعر بالمسؤولية التاريخية، وبكينونته وحريته.

والإنسان هو الكائن الوحيد الذي استطاع أن يدخل التاريخ وان يحركه ويصنعه

ص: 100


1- الصدر. المدرسة القرآنية. ص 107.
2- الصدر . المدرسة القرآنية . ص 107-108.
3- المصدر نفسه. ص67.

ويدفعه نحو ما يريد، لا عن طريق جسمه المادي فحسب، وإنما عن طريق محتواه الداخلي وقوة فكره وإرادته وتمسكه بمثله الأعلى الحقيقي، الذي تنبثق منه كل الغايات والأهداف النبيلة.

الأمانة والشعور بالمسؤولية في تحقيق اخلاق الإنسان العامل

أكد الصدر في فكره على مسألة الأمانة وفلسفتها وعظيم أمرها، والذي يلفت انظارنا أن الصدر لم يضع خطا مستقلا للأمانة كما فعل مع الخلافة والشهادة. لأنه رأى أن خط الأمانة مشترك مع خط الخلافة، وهما وجهان لعملة واحدة. وهذا واضح من خلال قوله: (إن الخلافة استئمان، ولهذا عبر القرآن الكريم عنها بالأمانة. والأمانة تفترض المسؤولية والإحساس بالواجب، إذ من دون إدراك الكائن انه مسؤول لا يمكن أن ينهض بأعباء الأمانة أو يختار لممارسة دور الخلافة)(1).

وعن هذا التداخل بين الاثنين يقول الصدر: (فالأمانة هي الوجه التقبلي للخلافة، والخلافة هی الوجه الفاعلي والعطائي للأمانة)(2).

وهذا التداخل يعني أن الصدر يرى أن الإنسان مستأمن على الخلافة، ومستخلف على الأمانة. ونرى أن هناك مسائل وملاحظات عدة مهمة تخص موضوع الخلافة والأمانة وهي:

إن الخلافة لم تعرض على الإنسان كالأمانة ولم يخير في تحملها، بل فرض عليه ذلك.

إن الخلافة لم تعرض إلا على الإنسان وحده دون سائر المخلوقات، أما الأمانة فإنها عرضت على السماوات والأرض والجبال.

كل أمين خليفة، وكل خليفة أمين، ولا يحقق الإنسان إنسانيته ووجوده الحقيقي إلا بالتلازم بين الاثنين.

ص: 101


1- الصدر . الإسلام يقود الحياة. ص 165.
2- الصدر . المدرسة القرآنية. ص 101.

إن الأمانة عرضت على الإنسان بعد خلافته، فسبقت خلافته أمانته، وبذلك تكون الخلافة قبلية، والأمانة بعدية.

انه ربما كانت الخلافة والأمانة قد طرحت على الإنسان في وقت واحد. ولكن هذا القول يبطله المفسرون بقولهم إن الأمانة عرضت على آدم وهو إنسان تام وخيره الله تعالى في حملها فعرف ثوابها واجزائها وعقابها(1).

وخُص الإنسان في نظر الصدر بالأمانة من بين جميع الموجودات، مثلما خص بالخلافة ف- (الإنسان هو الكائن الوحيد الذي كان بحكم تركيبه وبنيته وبحكم فطرة الله المركوزة فيه منسجماً دون غيره من الكائنات مع هذه العلاقة الاجتماعية ذات الأطراف الأربعة التي بها تصبح أمانة وخلافة، ومن هنا كان تقبله لها تقبلاً تكوينياً بحكم دخولها في تكوينه الإنساني وفي تركيب مساره التاريخي)(2).

أما فيما يخص تفسير الصدر لقوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَات وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَينَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسانِ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جهولاً﴾(3)فإنه يرى أن الأمانة هي التكليف الذي به شرف الله تعالى الإنسان وكرمه على مخلوقاته (لأنه يرمز إلى ما ميز الله به الإنسان من عقل وقدرة على بناء نفسه والتحكم في غرائزه وقابلية لتحمل المسؤولية خلافاً لغيره من أصناف الحيوانات ومختلف كائنات الأرض، فإن أدى الإنسان واجب هذا التشريف وأطاع وامتثل، شرفه الله تعالى بعد ذلك بعظيم ثوابه وبملك لا يبلى ونعيم لا يفنى، وان قصر في ذلك وعصى كان جديراً بعقاب الله سبحانه وسخطه، لأنه ظلم نفسه وجهل حق ربه ولم يقم بواجب الأمانة التي شرفه الله بها وميزه عن سائر مخلوقات الأرض)(4).

وعرض الأمانة على السموات والأرض والجبال عند الصدر، لم يكن عرضاً

ص: 102


1- ينظر: القرطبي. الجامع لأحكام القرآن. مج 1، ج1. تحقيق سالم مصطفى البدري. ط1. دار الكتب العلمية. بيروت. 1420ه- - 2000. ص 16.
2- الصدر . المدرسة القرآنية. ص 101.
3- سورة الأحزاب/الآية 72.
4- الصدر. الفتاوى الواضحة. ص 125.

حقيقياً بل عرضاً مجازياً، إذ لا معنى لعرض الأمانة على هذه الموجودات ولا عبرة في تكليفها، وانه عرضا تكوينيا وليس عرضاً تشريعياً.(1)وقد وضع الله تعالى أمانه في المكان الطبيعي الذي خصص له وفي الموضع المعد له من قبله سبحانه. فليس من المنطقي والطبيعي أن تتولى حمل الأمانة والتكليف والمسؤولية مخلوقات طبيعية لا عقل لها ولا إرادة ولا اختيار، فهذه كلها خاضعة لله ومطيعة له قال تعالى : ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ انْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهَا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾(2)وهناك فرق كبير بين التكليف بالطاعة، والإرغام والإكراه على الطاعة.

والشعور بالمسؤولية هي التي تميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، وكذلك هي التي تميز بين إنسان وإنسان آخر، وأكثر الناس شعوراً بالمسؤولية أكثرهم معرفة ودراية بثقل الأمانة وقيمتها وأجدر الناس بالشعور بالمسؤولية وبحمل الأمانة هو الإنسان المؤمن، المؤمن بالله وبالإنسان والإنسانية، كما جاء في الحديث النبوي الشريف (لا إيمان لمن لا أمانة له)(3)وفي حديث آخر للرسول الاكرم(صلی الله علیه و آله و سلم)قال فيه : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)(4).

فالمسؤولية أمر مهم في حياة الفرد والمجتمع، وعن طريق الشعور بها تتوثق العلاقة ما بين عناصر المجتمع الإنساني، لأنه يمثل مبدءا قيماً وأساسيا في حياة الإنسان ومجتمعه. ومن لا يشعر بالمسؤولية فليس بإنسان، والإنسان هو ذلك الكائن المسؤول، ومسؤوليته تتجسد في أمانته، وأمانته تترجم إلى أقوال وأعمال وأفعال وسلوك. وإذا لم تتجسد الأمانة في كل ذلك فبئس الإنسان وبئس الإنسانية.

ويذهب الصدر إلى إن الشعور الداخلي بالمسؤولية هو الذي يحدد مصير ومستقبل وتاريخ المسيرة الإنسانية، ولهذا الشعور الدور الكبير في تحريك ونهضة وبناء المسيرة الحضارية للإنسان في المجالات كافة.(5)

ص: 103


1- الصدر . المدرسة القرآنية . ص 101.
2- سورة فصلت/ الآية 11.
3- المحدث النوري . مستدرك الوسائل. ج 14، ط1 . مؤسسة آل البيت. قم. 1408ه- ص 6.
4- تاج الدين الشعيري. جامع الأخبار. ط2. دار الرضي. قم 1405ه. ص 119.
5- ينظر: الصدر. نظرة عامة في العبادات. ضمن كتاب موجز في أصول الدين. تحقيق الرفاعي. ص 268-269.

والشعور الداخلي بالمسؤولية في نظر الصدر ناتج من الدور الذي تلعبه العقيدة في حياة الإنسان، فتعد العقيدة جوهر الإنسان ومصدرا أساسيا لحركته. ف(الإنسان الذي ينشيء الحضارات ويعمر الكون ويغني الحياة ويجددها، هو كائن ذو عقيدة يسير عليها في حياته الدنيا. ولم يحدث في الماضي ولن يحدث في المستقبل أيضا أن يوجد مجتمعاً يمارس حياته بغير عقيدة تنظم هذه الحياة)(1).

فللعقيدة الدور الكبير في تحديد سلوك ومصير وحياة وواقع ومستقبل وتاريخ الإنسان والإنسانية في كل زمان ومكان. فقد يسموا الإنسان ويعلوا بعقيدته الصحيحة، وقد ينحدر ويسفل ويفسد بسوء عقيدته التي تحركه.

ويؤكد الصدر على أن الشعور بالمسؤولية يجب أن يكون شعوراً فردياً شخصياً داخلياً من قبل الإنسان نفسه، وبعيدا عن أي رادع أو وازع خارجي. فرقابة الإنسان الداخلية على نفسه هي التي تحدد مسيره في أي مسار من مساراته المتعددة يتجه فمع (أن الضمانات الموضوعية لها دور كبير في السيطرة على سلوك الأفراد وضبطه، فأنها لا تكفي في أحايين كثيرة بمفردها ما لم يكن إلى جانبها ضمان ذاتي ينبثق عن الشعور الداخلي للإنسان بالمسؤولية، لان الرقابة الموضوعية للفرد مهما كانت دقيقة وشاملة لا يمكن عادة أن تضمن الإحاطة بكل شيء واستيعاب كل واقعه)(2).

ومن وجهة نظر الصدر إن الشعور الداخلي بالمسؤولية يحتاج لكي يكون واقعاً عملياً حياً فى حياة الإنسان إلى إيمان برقابة دائمة ومستمرة لا يعزب عن علمها مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، والى مران عملي ينمو من خلاله هذا الشعور ويترسخ بموجبه الإحساس بتلك الرقابة الشاملة والدائمة(3).

وان هذا المران الذي ينمو من خلاله الشعور بالمسؤولية لا يتحقق إلا عن طريق الممارسات العبادية، لان العبادة واجب غيبي. ومعنى ذلك إن ضبطها يكون من

ص: 104


1- الصدر. رسالتنا ص 103.
2- الصدر . نظرة عامة في العبادات ص269.
3- المصدر نفسه. ص269.

داخل الإنسان وليس من قبل رقابة خارجية. ومن خلال هذه الممارسات العبادية ينمو شعور الإنسان بالمسؤولية ويعتاد بذلك على التصرف في حياته بموجب هذا الشعور (ومن هنا كان الإسلام الذي كافح من اجله الأنبياء ثورةً اجتماعيةً على الظلم والطغيان، وعلى ألوان الاستغلال والاستعباد. ومن هنا أيضا كان الأنبياء(علیهم السّلام)وهم يحملون هذا المشعل يستقطبون دائما المعذبين في الأرض من الجماهير البائسة التي مزقتها أساطير الآلهة المزيفة روحيا وشتتها الجاهلية فكرياً، ووقعت فريسة أشكال مختلفة من الاستغلال والظلم الاجتماعي)(1).

وان ثورة الأنبياء(علیهم السّلام)تميزت عن الثورات الاجتماعية الأخرى تميزا نوعيا لأنها:

حررت الإنسان من الداخل، وقد أطلق على هذا التحرير اسم (الجهاد الأكبر).

حررت الإنسان من الخارج، تحرير على مستوى القوم والأمة والمجتمع، وقد أطلق عليه اسم (الجهاد الأصغر).

وهذا الجهادان يجب أن يسيرا جنباً إلى جنب في عملية التحرير والتغيير. وكما ذكرنا سابقاً أن عملية التغيير الفردي تكون أساس عملية التغيير الاجتماعي.

كذلك فان الجهاد الأكبر يكون أساس عملية التحرير والتغيير وعليه يستند الجهاد الأصغر. لأن الجهاد الأكبر يقوم به الإنسان تجاه نفسه ونوازعه وشهواته، أما الجهاد الأصغر فهو جهاد جماعي يقوم به أفراد المجتمع عموماً تجاه العدو الخارجي.

(الإنسان إذا لم ينفذ بعملية التغيير إلى قلبه وأعماق روحه ولم يبني نفسه بناءً صالحاً لا يمكنه أبدا أن يطرح الكلمات الصالحة، لان الكلمات الصالحة إنما يمكن أن تتحول إلى بناءً صالح في المجتمع إذا انبعثت عن قلب يعمر بتلك القيم التي تدل عليها تلك الكلمات، وإلا فستبقى الكلمات مجرد ألفاظ جوفاء دون أن يكون لها مضمون ومحتوى)(2).

ص: 105


1- الصدر . الإسلام يقود الحياة. ص50.
2- الصدر . المدرسة القرآنية. ص 107.

ومن الأمور المهمة التي يكشفها لنا الصدر ويسلط الضوء عليها هي بيان سبب حدوث الأزمة الروحية والأخلاقية والاجتماعية للإنسان، وعدم الشعور بالعبودية المطلقة لله تعالى، التي يرجع سببها إلى أمرين هما(1):

عدم الشعور التفصيلي بالارتباط بالله تعالى.

عدم وجود أخلاقية الإنسان العامل.

ان علاج وإصلاح ذلك الخلل وتلك الأزمة يكون بعلاج هذين الأمرين من قبل الإنسان نفسه.

فارتباطنا بالله تعالى يعد وقود الحركة وطاقة المسيرة الإنسانية، ومن يفقد ذلك فقد ظل وهوى. وأخلاقية الإنسان العامل لا يمكن أن تتحقق للإنسان إلا إذا عاش حالة كاملة من الاتصال الدائم بالله تعالى واشعر نفسه انه مرتبط بذات مطلقة لا يغيب عن علمها مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض.

ويشخص الصدر حالة الإنسان المسلم والأمة الإسلامية، الفاقدة لبريقها والمضيعة لدينها وحضارتها، التي انبهرت بحضارة الغرب وعلومه، وتركت دينها الذي فيه حياتها ورقيها ومصيرها وخيرها كله. ولذلك ضاعت أخلاقنا وقيمنا ومبادئنا وانفصلنا عن ذات الله وشريعته السمحاء، ولأجل بناء شخصيتنا وعلاج حالنا وإحياء امتنا وتحقيق وجودنا لابد من اتباع ما يأتي(2):

شيوع وانتشار أخلاقية التضحية بدلا من أخلاقية المصلحة الشخصية.

الاتجاه إلى التجديد في أساليب العمل.

التمسك بالمثل الأعلى الحق المطلق الذي يعد هدف المسيرة الإنسانية الناجحة .

الربط في التعامل بين ما هو روحي وما هو فكري وما هو أخلاقي، لان الروح والعقل والأخلاق عناصر أساسية في بناء الشخصية الإسلامية.

ص: 106


1- الصدر. محاضرات المحنة وحب الدنيا . المحاضرة الثانية . ص 45.
2- ينظر. الصدر . محاضرات المحنة وحب الدنيا . ص 56 وما بعدها ورسالتنا. ص 138. والمدرسة القرآنية. ص 122 .

الأسس الفكرية لتأسيس أخلاق الإنسان المسلم

تستند مسيرة الإنسان (الخليفة) عند الصدر، على مجموعة من الأسس والمرتكزات التي تلعب دوراً كبيراً في عملية الاستخلاف الرباني، وتعد هذه الأسس التربة والأرضية الصالحة لبناء الفرد والمجتمع الإسلامي، ومن دون هذه الأرضية لا يمكن الوصول إلى القمة وحصول عملية النمو والتكامل في مسيرة الإنسان عموماً، فهي مرتكزات أساسية وجوهرية في عملية صنع وبناء الشخصية الإسلامية وهي(1):

العقيدة: وهي القاعدة المركزية في التفكير الإسلامي، التي تحدد نظرة المسلم الرئيسة إلى الكون بصورة عامة.

المفاهيم : وهى التي تعكس وجهة نظر الإسلام في تفسير الأشياء على ضوء النظرة العامة التي تبلورها العقيدة.

العواطف والأحاسيس التي يتبنى الإسلام بثها وتنميتها إلى صف تلك المفاهيم، لان المفهوم بصفته فكرة إسلامية عن واقع معين يفجر في نفس المسلم شعوراً خاصاً تجاه ذلك الواقع ويحدد نحوه اتجاهه العاطفي.

وهذه الأسس تستند بعضها على بعض، ولا يمكن فصل واحدة عن الأخرى، فالعواطف الإسلامية وليدة المفاهيم الإسلامية، وهذه بدورها موضوعة في ضوء العقيدة الإسلامية الأساسية.

وتعد هذه الأسس برنامجاً دقيقاً ومتيناً لسير عملية الاستخلاف، فالسير عليها يعني نجاح العملية، والانحراف عنها يعني إخفاقها وفشلها ومن ثم موت عملية الاستخلاف ونفادها.

وكل تجربة اجتماعية وكل فكر وفلسفة يحتوي على هذه الأسس الثلاثة، ولكن هناك فرقا بين الأسس الإسلامية القائمة على أساس الشريعة الإلهية السماوية،

ص: 107


1- الصدر. اقتصادنا. ج1 ص 294.والصدر. بحوث إسلامية. ط1. دار الكتاب الإسلامي. 1424ه-2004-م.ص94-93.

والأسس التي تقام على أساس نظام وضعي بشري. فالأسس الأولى معدة إعدادا ربانيا خالصاً لسلامة البشرية واستمرار حياتها. أما الثانية فهي أسس بشرية ذات جوانب شخصية ومصلحية ضيقة لا تخلو من الانحراف والزيغ، لأنها خالية من الشرط الأساسي والجوهري في عملية الاستخلاف وهو وجود المطلق (المستخلف) الذي هو هدف ومنطلق وغاية عملية الاستخلاف.

ويرى الصدر أن نجاح العملية الإنسانية وتمامها مقرون بالسير على هذه الأسس والاستناد اليها، وان عزل كل جزء من المنهج الإسلامي عن بيئته وعن سائر الأجزاء معناه عزله عن شروطه التي يتاح له في ظلها تحقيق هدفه الأسمى.(1)

ويرى الصدر إن هناك مجموعة من الحاجات الثابتة التي تعالجها العبادة في حياة الإنسان هي(2):

الحاجة إلى الارتباط بالمطلق.

الحاجة إلى الموضوعية في القصد وتجاوز الذات.

الحاجة إلى الشعور الداخلي بالمسؤولية.

1- الحاجة إلى الارتباط بالمطلق:

علاقة الإنسان بربه، بمثله الأعلى علاقة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، لأنها علاقة جوهرية، علاقة وثيقة بين طرفين احدهما أصيل والآخر تابع، الواجب والممكن، وحاجة ممكن الوجود إلى واجب الوجود حاجة أساسية لا تغنيها جميع العلاقات وجميع المثل العليا غير المطلقة، لأن الإنسان جاء إلى هذه الأرض ليجسد دور الإله على الأرض في عدله ورحمته وحبه وجماله. عن طريق التخلق بأخلاق الله والتشبه به بقدر طاقته. وإلا سوف تتحقق رؤية ونبوءة الملائكة في الإنسان عندما خاطبت الله تعالى بقولها ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسدُ فِيهَا وَيَسْفكُ الدِّمَاءَ﴾(3).

ص: 108


1- ينظر: الصدر. اقتصادنا . ج 1 . ص 296 . والصدر. أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية. ط1. مركز . الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر. قم . 1425ه- - ص 171 وما بعدها.
2- الصدر . نظرة عامة في العبادات. ص 252.
3- سورة البقرة/الآية 30.

فينبغي علينا أن لا نسير على وفق أهوائنا وشهواتنا، بل نسير على وفق شريعتنا وديننا وعقلنا. وبهداية المطلق سبحانه وتعالى، الذي يعد هدف وغاية ومحرك المسيرة الإنسانية برمتها، لان التحرك الضائع من دون مطلق، تحرك عشوائي كريشة في مهب الريح تنفعل بالعوامل من حولها ولا تؤثر فيها(1).

ويطرح الصدر سؤالين بخصوص الارتباط بالمطلق وهما(2):

ما هي القيمة التي تحققها علاقة الإنسان بربه لهذا الإنسان في مسيرته الحضارية؟ وهل هي قيمة ثابتة تعالج حاجة ثابتة في هذه المسيرة، أم قيمة مرحلية ترتبط بحاجات مؤقتة ومشاكل محدودة، وتفقد أهميتها بانتهاء المرحلة التي تحدد تلك الحاجات والمشاكل؟

ما هو الدور الذي تمارسه العبادة بالنسبة إلى تلك العلاقة ومدى أهميتها، بوصفها تكريساً عملياً لعلاقة الإنسان بالله تعالى؟

يجيب الصدر عن السؤال الأول، بأن القيمة التي تحققها علاقة الإنسان بربه تجعله يتكامل ويسمو ويعلو في عوالم الملكوت، من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، فلابد للمسيرة الإنسانية من مطلق، ولابد من أن يكون مطلقاً حقيقياً يستطيع أن يستوعب المسيرة الإنسانية ويهديها سواء السبيل، مهما تقدمت وامتدت على خطها الطويل ويمحو من طريقها كل الآلهة الذين يطوقون المسيرة ويعيقونها(3).

فقد صنع ووضع الإنسان عبر مسيرته التاريخية آلهة متعددة أحلها محل المطلق وعاملها معاملته، ويرى الصدر أن تحول النسبي إلى مطلق، إلى اله، يصبح سبباً في تطويق حركة الإنسان وتجميد قدراته على التطور والإبداع. قال تعالى: ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ الله إلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً﴾(4).

ص: 109


1- ينظر: الصدر . نظرة عامة في العبادات. ص 254.
2- المصدر نفسه.ص252.
3- المصدر نفسه.ص256.
4- سورة الإسراء/الآية 22.

فالله تعالى (المطلق) ليس من صنع ووضع الإنسان كما وضع وصنع الآلهة الأخرى، ولا إفرازا ذهنياً له، بل هو مثلاً أعلى له واقع عيني وهو موجود مطلق في الخارج له قدرته المطلقة وعلمه المطلق وعدله المطلق.

فالسير نحو المطلق كله علم وقدرة وعدل وغنى، وهذا السير يعني أن تكون المسيرة الإنسانية كفاحاً متواصلاً باستمرار ضد كل جهل وعجز وظلم وفقر، والسير نحو المطلق ليس سيراً عادياً، بل هو سير مليء بالكدح والتعب والسهر والمعاناة، وهو سير ارتقائي متصاعد سائر نحو الكمال قال تعالى: ﴿يا أيها الإنسان انك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه﴾(1).

وما دامت أهداف المسيرة المرتبطة بالمطلق تتصف بتلك الصفات فهي إذن ليست تكريساً للإله، وإنما هي جهاد مستمر من اجل الإنسان وكرامته وتحقيق المثل والقيم العليا. قال تعالى: ﴿وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنما يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمينَ ﴾(2)و ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾(3)

وهذا ما جعل الصدر يفسر الآيات القرآنية التي تحتوي على عبارة (سبيل الله) على أنها تعني تعبير تجريدي عن السبيل لخدمة الإنسان، لان كل عمل من اجل الله فإنما هو من اجل عباد الله(4).

أما فيما يتعلق بجواب السؤال الثاني فيرى الصدر أن العبادة تلعب دوراً تربوياً كبيراً في ترسيخ وتوثيق العلاقة ما بين الإنسان المحدود وربه المطلق. والإنسان ولد بطبيعته وفطرته مشدوداً إلى المطلق، لان علاقته بالمطلق تمثل احد مقومات نجاحه وتغلبه على مشاكله في مسيرته الحضارية. وهو بحاجة إلى سلوك عملي يعمق هذه العلاقة ويوثقها بدلا من أن تضيع أدراج الرياح ف(من دون سلوك معمق قد يضمر هذا

ص: 110


1- سورة الانشقاق / الآية 6.
2- سورة العنكبوت/الآية 6.
3- سورة العنكبوت/الآية 69.
4- ينظر: الصدر. نظرة عامة في العبادات. ص 258 و ص 266 والصدر. المدرسة القرآنية. ص 122-123.

الشعور ولا يعود الارتباط بالمطلق حقيقة فاعلة في حياة الإنسان، وقادرة على تفجير طاقاته الروحية)(1).

فالعبادة في نظر الصدر هي التي تعمق الشعور وترسخه ما بين العبد وربه، فصلاة وصيام وحج وزكاة وجهاد الإنسان المسلم ليست مجرد حرکات ظاهرية يؤديها فحسب، بل يجب أن تكون نابعة من أعماق قلبه ووجدانه وباطنه، لتؤثر على سلوكه الفردي والاجتماعي، وإلا كانت مجرد عبادة سطحية لا تمس الروح والمشاعر والوجدان بشيء.

والارتباط بالمطلق يعد حاجة ثابتة في حياة الإنسان ومسيرته الحضارية والإنسانية، إذ لا مسيرة من دون مطلق تنشد إليه وتستمد منه مثلها، ولا ارتباط حقيقي بالمطلق من دون تعبير عملي عن هذا الارتباط يؤكده ويرسخه باستمرار وهذا التعبير العملي يتجسد في العبادة، والعبادة تعد حاجة إنسانية ثابتة لا تنفك عنها حياة ونشاط ومسيرة الإنسان الحضارية والتاريخية والجهادية والاجتماعية والتربوية(2).

2 - الموضوعية في القصد وتجاوز الذات

أكد الإسلام على موضوع النية والقصد، وناقش علماء الإسلام ومفكروه ومتكلموه هذا الموضوع بصورة موسعة .(3)لأن النية مفتاح كل عمل. ولا تصح عبادة من دون نية والنية هي الهدف الذي من اجله يجري العمل ويأتي به، وهي على معان عدة:(4)

النية اللفظية، وهي التي يأتي بها الإنسان عند الوضوء أو الصلاة أو أي عمل آخر لفظا باللسان.

الإحضار الذهني، بمعنى تذكر واستحضار النية اللفظية من دون نطقها.

القصد، وهو انك ماذا تفعل .

الهدف، وهو ما يقصده الفرد في عمله كنتيجة نهائية .

ص: 111


1- الصدر. نظرة عامة فى العبادات، ص 262.
2- المصدر نفسه . ص 264.
3- ينظر : د. عبد الستار نوير. رسالة الإنسان في الحياة ومقتضياتها . ط منقحة دار الثقافة الدوحة. قطر. 1490ه- 1989م. ص 127 و د. محمد الصادق عفيفي الفكر الإسلامي. مكتبة الخانجي. القاهرة. 1977 ص 94 وما بعدها.
4- ينظر : محمد محمد صادق الصدر. فقه الأخلاق. ج1. 138. تحقيق كاظم العبادي. ب.ت. ص 15.

وللنية الدور الكبير والأثر الفعال على العمل ولهذا جاء في الحديث الشريف (نية المرء خير من عمله) و (إنما الأعمال بالنيات ولكل أمري ما نوى)(1)وقد أكد الدين الإسلامي على ضرورة إخلاص النية لله وحده لا شريك له.

ويعرف الصدر النية بأنها : (الإتيان بالفعل من اجل الله سبحانه وتعالى فهي الباعث نحو الفعل، سواء كان سبب هذه النية الخوف من عقاب الله أو رغبة في ثوابه أو حباً له وأيمانا بأنه أهل لأن يطاع)(2).

وتأكيد الإسلام على النية دليل على أهمية دورها وإثرها الكبير على العمل وعلى العبادات والمعاملات، وتعد روح العمل وقلبه. ولذلك قدمت النية وفضلت على العمل نفسه، لان العمل يمثل الجسد والنية تمثل الروح، وصلاح الأول بصلاح الثاني وفساده بفسادها.

وجزاء وثواب الأعمال يكون بحسب النية، إن خيرا فخير وان شرا فشر .

والعبادة في نظر الصدر تقوم بدور كبير في تربية الإنسان على الإخلاص في نيته وأن يكون عمله قربة لله تعالى، لأنه وحده الذي يجازي على الأعمال والأفعال، فيجب أن نجعل راحتنا وتعبنا، وحبنا وكرهنا، وألمنا ولذتنا، وفرحنا وترحنا لله وفي الله وبالله. ومن كان عمله لغير الله فلا يرجو من الله ثوابا ولا جزاءا. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَاب بقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ﴾(3) وقال تعالى: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشِرْقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ﴾(4).

فالعبادة والعبودية لله تعالى تربي في الإنسان الجانب الروحي والقلبي من اجل تحقيق مصلحة كبرى وليس من اجل مصلحة ذاتية أو شخصية فردية.

فلا تصح عبادة الإنسان إذا جاءت من اجل مصلحة شخصية خاصة، ولا تقبل إذا

ص: 112


1- محمد مهدي النراقي. جامع السعادات . ج 3 ص 109 وما بعدها.
2- الصدر. الفتاوى الواضحة . ص 138.
3- سورة النور/الآية 39.
4- سورة البقرة/الآية 177.

استهدف من ورائها مجداً شخصياً أو ثناءاً اجتماعياً أو تكريساً لذاته، بل تصبح عملاً محرما. والهدف الأساس من العبادة هو أن يحقق الإنسان القصد الموضوعي بكل تفصيلاته، من نزاهة وإخلاص وإحساس بالمسؤولية، فيأتي العابد بعبادته خالصة لله جلا وعلا وفي سبيله بإخلاص وصدق(1).

فيجب أن نربي أنفسنا على الشعور والإحساس بالمسؤولية، كي نصل إلى مرحلة الكمال. ويجب أن نسموا من مادية الجسد وطينيته إلى روحانية الروح وعالم الملكوت. ويجب أن يكون عملنا خالصاً لوجه الله تعالى وان نضحي بمصالحنا وطموحاتنا الشخصية الضيقة من أجل الأهداف الكبيرة والمصلحة الاجتماعية الإنسانية. ويجب أن نتحلى بأخلاق التضحية والإيثار بدلاً من أخلاقية المصلحة الشخصية(2)فإننا قد ضيعنا كثيرا من طاقاتنا وعمرنا في سبيل العمل للمصلحة الشخصية. وهذا ما جعلنا نخسر كثيرا من الطاقات والثروات والزمن، لأنها لم تكن في سبيل الله والإنسانية وإنما كانت في سبيل الذات والمصلحة الشخصية.

ونحن اليوم بأمس الحاجة إلى تربية أنفسنا على الموضوعية في القصد وتجاوز حدود الذات في الدوافع، وان نعمل من اجل الجماعة التي نعيش معها وكما قال تعالى : ﴿إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم﴾(3)فالعمل تكون له ثماره ونتائجه الطيبة إذا تجاوز الذات والمنافع الشخصية ويكون في سبيل الله والإنسانية.

والعبادة تقوم بدور كبير في تربية الإنسان على الموضوعية في القصد وتجاوز الذات، وتعدّهذه الحاجة ثابتة في حياة الإنسان، يحتاج إليها في كل زمان ومكان وباختلاف الظروف والأحداث، لأنها تربيه على تزكية ذاته

وطهارتها وصفائها.

ص: 113


1- الصدر. نظرة عامة في العبادات. ص 260-261.
2- ينظر: الصدر . المحنة وحب الدنياص56.
3- سورة الرعد/ الآية 11.

والإسلام بصورة عامة يهتم بدوافع العمل أكثر من منافعه، لأنه يعتقد إن قيمته نابعة من الدوافع لا من المنافع، والنية الصالحة أساس العمل الصالح، والعكس بالعكس.(1)

3- الحاجة إلى الشعور الداخلي بالمسؤولية :

تعرضنا فيما سبق لموضوع الشعور بالمسؤولية، كخصيصة من خصائص الإنسان الجوهرية وتعد أس عملية الأمانة التي حملها الإنسان.

ويعد الصدر هذه الحاجة ثابتة في حياة الإنسان أيضا، لأنها تمثل ضرورة من ضرورات تربية الإنسان على الكمال والأخلاق الإسلامية الفاضلة.

يحتاج الإنسان في حياته الاجتماعية من اجل استقراره وتحقيق توازنه إلى ضمانات، تؤدى إلى تحقيق سلامة مسيرته الإنسانية والحضارية. والضمانات عند الصدر على نوعين:

ضمانات موضوعية (خارجية) كالعقوبات التي تضعها الجماعة وتفرضها على الفرد الذي يتجاوز حدوده ويخل بسلوكه في المجتمع.

ضمانات ذاتية (داخلية) وهذه الضمانات يضعها الإنسان بنفسه لنفسه، بإرادته واختياره، وهو شعور داخلي بالمسؤولية(2).

والضمانات الذاتية الداخلية في نظر الصدر أكثر ضرورة وحاجة وأهمية في حياة الإنسان من الضمانات الخارجية الموضوعية، لأنها تربي الإنسان على الشعور بأنه مسؤول أمام سائل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ويعلم ما نسر وما نعلن .

صحيح أن الضمانات الموضوعية لها الدور الكبير في ردع الإنسان وإيقافه عند

ص: 114


1- ينظر: الصدر. بحوث إسلامية ص 32 وما بعدها. والإسلام يقود الحياة ص 118 واقتصادنا. ج 1 ص 333 وما بعدها .
2- الصدر . نظرة عامة في العبادات ص 269.

حدوده وتلزمه باحترام القانون، إلا أن الضمانات الذاتية هي التي تسمو بالإنسان وتربيه على احترام قانون الداخل الذي يفرضه عليه ضميره ورقابة الله تعالى عليه. وبذلك يتعمق واقع وحياة الإنسان بالغيب ويشعره دائما انه في رقابة غيبية لا تغيب عنه أبدا، وانه ستعرض عليه أعماله وترد إليه يوم القيامة ﴿ثم تردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون﴾(1).

وهكذا يترسخ الشعور الداخلي بالمسؤولية من قبل الإنسان يوماً فيوم من خلال الممارسات العبادية التي تشكل ضماناً قوياً لالتزام الفرد الصالح بما عليه من حقوق وواجبات.

العبادة وأثرها في تحقيق التوازن التربوي والاخلاقي للانسان

يتميز الدين الإسلامي عن الأديان الأخرى، سماوية كانت أم وضعية، بأنه قام على أسس إنسانية فطرية وعالمية، لا على أسس شخصية أو قومية أو حزبية أو محلية أو عنصرية ضيقة. وان دل هذا على شيء فانه يدل على عمق النظرة الإلهية التي تتسم بالسعة والشمول والكلية. فالله تعالى حين يسن قانونا فانه لا يضعه لفئة دون فئة ولا لشعب دون آخر، ولا لبلد دون بلد، بل يضعه إلى الناس كافة. فقوله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يا أيها الناس﴾ لا يعني أناسا معينين، وإنما يعني جميع الناس في كل زمان ومكان. لان الناس كلهم عيال الله، البر منهم والفاجر، المؤمن والكافر، الخير والشرير، فكل الناس من طينة واحدة وطبيعة بشرية واحدة، كما جاء في الحديث الشريف (كلكم لأدم وادم من تراب)(2).

وللعبادة آثار وفوائد متعددة على حياة الإنسان بكافة جوانبه وميادينه المتعددة، ولا يقتصر معنى العبادة عند الصدر على أداء أركان الأسلام الخمسة المتعارف عليها بين الناس، بل ان كل عمل إنساني يقصد منه وجه الله تعالى وسبيله فهو عبادة، من قول أو فعل أو حركة.

ص: 115


1- سورة الجمعة/الآية 8.
2- علاء الدين المتقي الهندي. كنز العمال. ج 6. مؤسسة الرسالة. بيروت 1399ه- 1979م. ص 130.

بل انه حتى الأركان الاسلامية الخمسة في نظر الصدر لها أبعاد أخرى غير البعد التعبدي الفردي ، لان هذه الفروض لم تمارس لذاتها، بل لأغراض وأهداف أخرى. (فالجهاد عبادة وهو نشاط اجتماعي، والزكاة عبادة وهي نشاط مالي، والخمس عبادة وهو نشاط اجتماعي مالي أيضا، والصيام عبادة وهو نظام غذائي، والوضوء والغسل عبادتان وهما لونان من تنظيف الجسد)(1).

إذن فالصدر يؤكد على أن مفهوم العبادة يجب أن يخرج من إطاره الضيق المعروف عرفا إلى إطاره الواسع ذي الآفاق السامية. ولهذا فان للعبادة الأثر الكبير والدور المهم في حياة الإنسان ومسيرته الحضارية والإنسانية، في التربية والأخلاق والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها من الجوانب الإنسانية المتعددة.وفيما يأتي سنعرض لأهم الآثار المترتبة التي تتركها العبادة في حياة الإنسان.

1-الأثر التربوي للعبادة:

الإنسان كائن غريزي مثله مثل باقي المخلوقات، إلا أن غريزته هذه تنبع عن طريق العقل والإرادة والوجدان، ولو فقد ذلك لكان كالحيوان بل أضل سبيلاً. وغريزة حب الذات من أهم الغرائز التي تسيطر على الإنسان، بل هي كما يذهب الصدر، أم الغرائز، وكل الغرائز فروع لهذه الغريزة، وإنها اعم وأقدم غريزة في حياة الإنسان. وتعني هذه الغريزة حب اللذة وبغض الألم، والإنسان بطبيعته يحب اللذة ويكره الألم(2).

وتتحكم هذه الغريزة في الإنسان منذ بداية حياته وهي اتجاه أصيل في النفس البشرية، وتدفع الإنسان دائماً إلى تحقيق الخير لذاته وتوفير مصالحه وإشباع رغباته، ولهذا اتجه الإنسان لإقامة العلاقات مع كل أجزاء الكون ومخلوقاته إشباعاً لهذه الغريزة الأصيلة المتأصلة في نفسه، بل إن نشوء المجتمعات قائم على أساس هذه الغريزة لأنها تدفع الإنسان نحو إقامة العلاقات المتعددة، والتجمع مع الآخرين، من اجل إشباع حاجاته وتحقيق مصالحه، ولهذا قيل عنه بأنه حيوان اجتماعي وكائن مدني بالطبع.

ص: 116


1- المصدر نفسه.ص278.
2- الصدر فلسفتنا . ص 32-33 والصدر. المدرسة الإسلامية. ص 78.

وغريزة حب الذات تدفع الإنسان لإشباع حاجاته بشتى الطرق والأساليب، من اجل تحقيق توازنه واستقراره النفسي والشخصي ومصلحته الخاصة وفقاً لميله الفطري على حساب الآخرين. وبذلك ينشأ التصادم والتناقض بين مصلحة الفرد ومصلحة الآخرين من أبناء المجتمع. وهذا السلوك الفردي من قبل الإنسان لو ترك من دون ضبط وإلزام وضمانات وروادع ورقابة ذاتية وموضوعية، توفر له تحقيق التوازن والاستقرار على المستوى الذاتي والموضوعي، تؤدي إلى هلاكه وهلاك المجتمع. ولن يتحقق الاستقرار على المستويين الفردي والاجتماعي في نظر الصدر إلا من خلال (الدين)، الذي يعد طاقة روحية تستطيع أن تعوض الإنسان عن لذائذه المؤقتة التي يتركها في حياته الأرضية املا في النعيم الدائم(1).

فعن طريق الدين وحده يستطيع الإنسان أن يكبح شهواته ويوازن ويوفق بين حاجاته المادية والروحية، ويعرف أن حاجاته الروحية والمعنوية هي أسمى بكثير من الحاجات المادية. لأن تكامله وسموه وقربه من المطلق يتحقق من خلال تربية هذا الجانب من الإنسان.

فيربي الدين الإنسان على كيفية احترام القيم والمباديء الروحية والاجتماعية و هي التي تحقق وجوده وجوهره واستقراره، لا المنافع والحاجات الشخصية الذاتية والمادية. وللعبادة الأثر الكبير في بناء وتربية الإنسان على السلوك الحسن والعمل الصالح.

ولا يقتصر اثر العبادة التربوي على الجانب النفسي والفردي فحسب، بل يجب أن يتعداه إلى جوانب متعددة من الحياة، ومنها الجانب الاجتماعي. فهناك أثر اجتماعي كبير وخطير تقوم به العبادة في حياة الإنسان. فعلاقة الإنسان بربه لا تقتصر على الأثر الفردي الشخصي الضيق، بل تمتد إلى أفق ومجالات أوسع وأرحب. والصدر يؤكد على مسألة مسألة في غاية الأهمية، وهي انه يجب على الفقه أن ينتقل من مستوى الأفراد إلى مستوى المجتمع والمؤسسات وبذلك فتح الصدر الباب على ما يسمى ب(فقه

ص: 117


1- الصدر. بحوث إسلامية ص 142.

النظرية). فيجب أن يكون هناك فقه للاجتماع والاقتصاد والسياسة والقضاء والطب والعلوم كما هو موجود للإفراد على مستوى العبادات والمعاملات(1).

ويحدد الصدر الهدف الذي من اجله يجب أن تتحرك عملية الاجتهاد لتطبيق النظرية الإسلامية للحياة وهو(2):

تطبيق النظرية في المجال الفردي بالقدر الذي يتصل بسلوك الفرد وتصرفاته.

تطبيق النظرية في المجال الاجتماعي وإقامة حياة الجماعة البشرية على أساسها بما يتطلبه ذلك من علاقات اجتماعية واقتصادية وسياسية.

ويعيب الصدر على المجتهدين اشتغالهم بالفقه الفردي فقط، وترك الخوض في الفقه الاجتماعي. وقد أدى انحسار هذا النوع من الفقه - أي الاجتماعي - إلى الانكماش الهدف، واتجاه ذهنية الفقيه حين الاستنباط غالباً إلى الفرد المسلم وحاجته إلى التوجيه بدلاً من الجماعة المسلمة وحاجتها إلى تنظيم حياتها الاجتماعية(3).

فيجب أن تسود النزعة الاجتماعية والأثر الاجتماعي للفقه والعبادات والدين بدلاً من النزعة الفردية الشخصية في المجتمع وفي حياة الإنسان عموماً. فالعلاقة العبادية ما بين العبد وربه يجب أن تنعكس على العلاقات المتعددة لإطراف العملية الإنسانية.

فجميع الفرائض والعبادات الإسلامية من صلاة وصيام وحج وزكاة وخمس، كلها تحمل آثاراً اجتماعية بقدر ما تحمل من آثار فردية نفعية ذاتية، بل إن الثمرة والأثر الاجتماعي للعبادة أهم بكثير من الأثر الفردي الشخصي. إذ تربي العبادة الفرد على المحبة والتضحية والإيثار من اجل الجماعة. فالحس والأثر الاجتماعي للعبادة أسمى أنواع الآثار. وإذا لم تؤت العبادة ثمارها بهذا المجال فلا قيمة لها ولا أهمية، بل تشكل عبئا ثقيلا على كاهل من يقوم بها.

ص: 118


1- ينظر: الرفاعي. موجز أصول الدين. ص 49 وما بعدها. وباقر بري. فقه النظرية. بحث في مجلة قضايا إسلامية معاصرة. العدد .11-12 165 وما بعدها وخالد الغفوري. فقه النظرية لدى الشهيد الصدر. مجلة فقه أهل البيت.ص العدد .20 . السنة 5 . 1421ه- - 2001. و مابعدها.
2- الصدر . بحوث إسلامية . ص 66-67.
3- ينظر: المصدر نفسه. ص70و مابعدها.

ويرى الصدر (إن العلاقة الاجتماعية تتواجد غالبا بصورة وأخرى إلى جانب العلاقة العبادية بين الإنسان العابد وربه في ممارسة عبادية واحدة، وليس ذلك إلا من اجل التأكيد على العلاقة العبادية ذات الدور الاجتماعي في حياة الإنسان، ولا تعدّ ناجحة إلا حين تكون قوة فاعلة في توجيه ما يواكبها من علاقات اجتماعية توجيهاً صالحاً)(1). وقد رفض الإسلام العبادة المزيفة الفارغة من محتواها التي تقتصر على الجانب الشكلي والفردي دون الاجتماعي.

2- الأثر الأخلاقي للعبادة:

مما لاشك فيه أن للمباديء والقيم والمثل الروحية تأثيراً كبيراً على حياة الإنسان ومسيرته، وتترك مسحتها الطاهرة عليه وتعاليمها السامية على سلوكه، بل إنها تربيه وتبني شخصيته بناء شامخاً لا اعوجاج فيه.

ومما لاشك فيه أيضا أن الأخلاق أهم مميز يميز سلوك الإنسان عن غيره من المخلوقات، فهو الكائن الوحيد الذي يتصف سلوكه بالصفة الأخلاقية وغير الأخلاقية. أما سلوك الحيوان فلا علاقة له بالأخلاق، لأن سلوكه غير مرتبط بدوافع أخلاقية بل بدوافع غريزية. أما سلوك الإنسان فانه فضلا عن غريزيته فهو سلوك مرتبط

بعقله وإرادته واختياره ومسؤوليته.

والدين الإسلامي دين الأخلاق والتربية والكمال الإنساني، فهو دين يدعو إلى سعادة الإنسانية وهنائها وخيرها وصلاحها، وينبذ ويرفض كل سوء ومكروه يصيب العملية الإنسانية على وجه الأرض. ويدعو الإنسان لأن يعيش فاضلاً وخيراً ونبيلاً، وان يتحلى بكل ما يؤدي إلى سموه وكماله وترك ما يؤدي إلى طلاحه وفساده من قول أو عمل.

وقد جاء الأنبياء والرسل(علیهم السّلام)برسالتهم وكتبهم السماوية المقدسة لبناء شخصية الإنسان، ودعوته لان يتخلق بأخلاق الله تعالى، والاهتمام بجانبه الروحي أكثر من الجوانب المادية والدنيوية الأخرى.

ص: 119


1- الصدر. نظرة عامة في العبادات. ص 285-286.

والأخلاق في الإسلام تمثل قاعدة أساسية للانطلاق نحو الأشياء الأخرى، فعمل الإنسان من دون أساس وقاعدة أخلاقية لا قيمة له ولا مقياس(1). وقيمة العمل في تقدير الإسلام يقاس بما يحمل من جانب إنساني وأخلاقي وتربوي، لا بما يحمل من جانب نفعي ومصلحي وشخصي ، وبما يحمل من قيمة اقتصادية أو مالية ومقياس العمل في الإسلام قائم أيضا على أساس تحقيق النفع الاجتماعي، وان يكون خالصاً لوجه الله وفي سبيله.

ويربي الإسلام الإنسان على حسن الخلق، والعمل الصالح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعامل بالعدل والإحسان مع الآخرين، وتحصيل السعادة واللذة الحقيقية التي لا تزول ابداً.

ويؤكد الصدر في فلسفته وفكره على الدور الأخلاقي الكبير الذي تفرزه العبادة والعبودية المطلقة والدائمة لله تعالى، فكل عمل يصدر من الإنسان يجب أن يكون له أسس أخلاقية وتربوية يستند عليها، وإلا فالعمل من دون وجود هذه الأسس لا قيمة له ولا نفع (فالإسلام إذن لا يقتصر في مذهبه وتعاليمه على تنظيم الوجه الخارجي للمجتمع، وإنما ينفذ إلى أعماقه الروحية والفكرية، ليوفق بين المحتوى الداخلي وما يرسمه من مخطط اقتصادي واجتماعي)(2).

فيجب أن تنفذ العبادة إلى باطن الإنسان كي تؤدي دورها التربوي والأخلاقي الكبير في بناء وصنع شخصية الإنسان الإسلامية القرآنية، هذه الشخصية التي يقع عليها العبء الكبير والمسؤولية الخطيرة في توجيه المجتمع الإنساني نحو الهداية والصلاح (والإنسان المسلم يعبر عن وجوده الخاص بالتعامل مع الله جل جلاله بما يملك من قدرة روحية، وبالتفاعل مع الكون بما يملك من قدرة عقلية وفكرية، وبالتفاعل مع المجتمع بما يملك من أخلاق)(3).

ص: 120


1- ينظر: محمد تقي المدرسي. الأخلاق عنوان الأيمان ومنطلق التقدم. مطبعة الرفاه. بغداد. ب.ت. ص 21 وما بعدها و د. محمد الصادق عفيفي. الفكر الإسلامي ص 233 وما بعدها.
2- الصدر. اقتصادنا . ج 1 ص 292.
3- الصدر. رسالتنا. ص 138.

وهذا ما يميز أخلاق الإنسان والمجتمع الاسلامى عن أخلاق غيره من الأفراد والمجتمعات، وما يميز الدين الإسلامي عن غيره من الأديان. فالإنسان المسلم دائماً يلبس الأرض إطار السماء، وينظر إلى عالم الغيب والملكوت نظرة تقديس وإجلال، وينظر إلى مالك الملك بعين القلب، وينتظر ذلك اليوم الذي تشخص فيه الأبصار، والذي توضع فيه الموازين القسط بالحق، ليفصل بين الناس بالعدل ويعطى كل ذي حق حقه.

ويعيب الصدر على الإنسان المسلم العابد موقفه السلبي تجاه الأرض وما فيها من ثروات وخيرات وكنوز. تمثل ذلك في زهده وقناعته وكسله، وفصله بين الأرض والسماء. مما جعل الإنسان المسلم يعيش حالة من الضياع والفقر والجمود. وهذا ما جعل الإنسان غير المسلم ينظر إليه على انه إنسان أخروي لا علاقة له بالدنيا. ويرى الصدر أن موقف الإنسان المسلم هذا من الأرض موقفاً سلبياً يجب أن يزول وان يحل محله موقفاً ايجابياً نابعا من الإسلام والشريعة المحمدية، التي تؤكد على ضرورة التوفيق ما بين الأرض والسماء، وإلباس الأرض إطار السماء، لا أن يكون الإنسان عبدا للأرض، وبذلك تتحقق خلافة الإنسان لربه وأدائه لأمانته. يقول الصدر: (لا أعرف مفهوماً أغنى من مفهوم الخلافة لله في التأكيد على قدرة الإنسان وطاقاته التي تجعل منه خليفة السيد المطلق في الكون، كما لا أعرف مفهوماً ابعد من مفهوم الخلافة لله عن الاستسلام للقدر والظروف لأن الخلافة تستبطن معنى المسؤولية تجاه ما يستخلف عليه)(1).

وقد يستغرب بعضهم من قولنا إن للعبادة أثرا اقتصاديا. ولكن لا استغراب من هذا الأمر، لان علة ذلك أن الإنسان العابد، والعبودية المطلقة لله تعالى، تخلق إنسانا كاملاً يعمل بمقتضى خلافته وأمانته، ومن ثم سوف يحقق عملية التوازن والاستقرار والضمان والتكافل الاجتماعي، والعدالة الاجتماعية، والعدالة في عمليتي الإنتاج والتوزيع، أي إن الإنسان الذي يمارس عبادته بصورة تامة ما بينه وبين ربه سوف يعكس هذه العبادة على علاقاته الأخرى.

ص: 121


1- الصدر. اقتصادنا . ج1 . ص 40-41.

بل أن الصدر يعزو سبب المشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان إلى سوء العلاقة بين الإنسان وربه، وبذلك تنعكس على العلاقات الأخرى. ويتجسد ظلم الإنسان على الصعيد الاقتصادي في سوء التوزيع، ويتجسد كفرانه للنعمة في إهماله لاستثمار الطبيعة وموقفه السلبي منها .

ولكن ما الحل الذي يمكن أن نقوم به من اجل درء الإخطار وحل المشكلة الاقتصادية ؟ إن علاج المشكلة الاقتصادية في حياة الإنسان عند الصدر يتمثل في(1):

محو الظلم من العلاقات الاجتماعية في التوزيع.

تجنيد كل طاقات الإنسان للاستفادة من الطبيعة واستثمارها.

كما أن تحقيق التوازن بين أطراف عملية الاستخلاف هو الذي يؤدي إلى زوال المشكلة الاقتصادية والاجتماعية، وان ربط العملية العبادية بكل جوانب الحياة هو الذي يؤدي إلى سمو ونمو وتكامل المسيرة الإنسانية. ومثلما تحقق العبادة أثرها النفسي والتربوي والأخلاقي والاجتماعي للإنسان وللإنسانية، كذلك تحقق أثرها الاقتصادي الكبير الذي لا يقل أهمية عن تلك الآثار والجوانب الأخرى.

الخاتمة

بعد هذه الجولة الفكرية والسياحة في الفكر الأخلاقي عند الشهيد محمد باقر الصدر، من خلال محاولتنا الكشف عن أهم الافكار والآراء الأخلاقية التي سجلها الصدر في مشروعه الفكري وفي عموم طروحاته الفكرية والدينية والفلسفية والكلامية، توصلنا الى النتائج الآتية:

1- لم يترك لنا الشهيد الصدر مؤلفاً محدداً بعينه يتناول قضايا وفلسفة وفقه الأخلاق، ولكن مشروعه الفكري برمته مشروع أخلاقي بأختلاف مجالاته الفكرية التي درسها، الفقه والاقتصاد والاجتماع والسياسة والفكر والفلسفة والتاريخ، يتضح من خلالها الفكر والنزعة الأخلاقية بأبهى صورها.

ص: 122


1- المصدر نفسه. ج 1.ص 332.

2- ينتمي الشهيد الصدر الى المدرسة الاسلامية في الأخلاق والى منهج أئمة أهل البيت(علیهم السّلام)في التربية والسلوك والعرفان .

3- محاولة الشهيد الصدر التوفيق بين الأخلاق والفلسفة الاسلامية الدينية التي سار عليها مجموعة من فلاسفة الاسلام، أو يشبه كثيراً ما تناوله كثير من علماء الكلام المسلمين في هذا المجال، من أصحاب الفلسفة الدينية الميتافيزيقية المثالية.

4- الأخلاق في الفكر الصدري تسبق جميع الميادين الأخرى، فكل علم أو فلسفة أو معرفة أو أي فن من الفنون يسبقه فعل أخلاقي يبنى على أسس انسانية، وما لم تكن الأخلاق مقدمته سيكون الأخفاق والفشل مصيره، ونجاح المجتمعات والأمم مرهون بأخلاقها ونقاء النفس وطهارتها.

5- تبين لنا أن الإنسان كائن أخلاقي، وأن الصدر كغيره من المفكرين والفلاسفة والفقهاء والمتكلمين يميز الإنسان بجانبه الأخلاقي والروحي عن غيره من الكائنات في هذا العالم، وبالأخلاق وحدها يتحقق جوهر وجوده وتحقيق أمانته وخلافته على هذه الأرض، على وفق رسالة الدين الاسلامي التي رسمها له الله تعالى لتحقيق نجاحه وجوهر كينونته

6- للعبادة أثر كبير على حياة الإنسان في فكر الصدر ، ويتضح أثرها الكبير على أخلاق وتربية وحياة الإنسان وينعكس ذلك بصورة جلية على المجتمع وعلى الواقع وعلى علاقات الإنسان مع ربه ومع أخيه الإنسان ومع الطبيعة. فعندما يتحقق ذلك التوازن الروحي للانسان تتحقق سلامة المسيرة الانسانية، وتدر الطبيعة على الإنسان الخير الوفير ويتحقق المجتمع التوحيدي الصالح المتسلح بالفضيلة وهو خلاف المجتمع الفرعوني، الذي تسود فيه اخلاق الطغيان والرذيلة .

7- للمثل الأعلى (المطلق) الدور الكبير في حياة الإنسان الفرد والمجتمع ، ويؤثر تأثيراً كبيراً على عملية تكامل الإنسان روحياً ومادياً، بعكس المثل العليا (النسبية) التي تُشكل عاملاً سلبياً في مسيرة الإنسان ومجتمعه وحركة التاريخ والمستقبل.

ص: 123

8- الإنسان أناني بالطبع والطبيعة، وينشد دائماً مصلحته الشخصية على وفق غريزته كالحيوان، ولكنه مميز عنه بالعقل والتمييز وكذلك بالأخلاق، ويستطيع ضبط غريزته وفق عقله وأخلاقه واختياره بين طريق الحق وطريق الباطل، وعلى الإنسان أن يكون مراقباً لنفسه ومجاهداً لها وشاعراً بثقل المسؤولية والامانة، ليصل الى مرحلة الكمال وتحقيق خلافته على أتم وجه.

9- يعد الدين عاملاً مهماً في فكر الصدر ، لضبط ايقاع حركة الإنسان وتوجهه لتحقيق توازنه الروحي والمادي، وجذبه نحو مناطق السمو والرفعة ومحبة الغير واحترامهم والايمان بالآخر كايمانه بذاته، كي لا يكون الإنسان فريسة أنانيته وشهواته الذاتيه. وهو ضامن أكيد لتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.

10- يتلخص لنا أن فكر الشهيد الصدر الأخلاقي ينتمي الى أسس دينية بحتة، وأنه يعطي للغيب أثراً كبيرا في رسم أخلاق الانسان، ويجعل الأخلاق هي الأساس التي تجعل من الإنسان انساناً حقيقياً على وجه الأرض، بل هي التي تحدد خارطة علاقته مع الله تعالى ومع الطبيعة ومع المجتمع، ان خيراً فخير، وان شراً فشر.

قائمة المصادر

القرآن الكريم

2 باقر بري. فقه النظرية. بحث في مجلة قضايا إسلامية معاصرة. العدد 11-12 1421ه- - · 2000

3 تاج الدين ألشعيري. جامع الأخبار. ط2 . دار الرضي. قم 1405ه.

4 خالد الغفوري. فقه النظرية لدى الشهيد الصدر. مجلة فقه أهل البيت. العدد 20. السنة 5 .1421ه- .

5 زكريا أبراهيم. المشكلة الخلقة. مكتبة مصر ودار المرتضى. ب.ت

6 عبد الستار نوير. رسالة الإنسان في الحياة ومقتضياتها . ط منقحة دار الثقافة.الدوحة. قطر. 1490ه- - 1989م.

7 عثمان أمين. الجوانية. أصول عقيدة وفلسفة ثورة. دار القلم. 1964 .

8 علاء الدين المتقي الهندي. كنز العمال. ج 6 . مؤسسة الرسالة. بيروت . 1399ه- - 1979م.

ص: 124

9 القرطبي. الجامع لأحكام القرآن. مج 13 . - القرطبي . الجامع لأحكام القرآن. مج 1، ج1. تحقيق سالم مصطفى البدري . ط 1 . دار الكتب العلمية. بيروت. 1420ه- - 2000.

10 الكليني. الكافي. ج 8. ط4. دار الكتب الإسلامية . طهران.

11 المتقي الهندي . كنز العمال ج 6 . مؤسسة الرسالة. بيروت. 1399ه- - 1979م.

2 المحدث النوري. مستدرك الوسائل. ج 14. ط 1 مؤسسة آل البيت. قم 1408ه.

13 محمد إقبال. ديوان الأسرار والرموز . تر د. عبد الوهاب عزام. دار المعارف. مصر .1956م.

4 محمد باقر الصدر أئمة أهل البيت ودورهم في تحصين الرسالة الإسلامية. ط1. مركز الأبحاث والدراسات التخصصية للشهيد الصدر. قم . 1425ه.

5 محمد باقر الصدر. الإسلام يقود الحياة. ط2. مطبعة الديواني. العراق. 1424ه- 2003 م

6.محمد باقر الصدر. اقتصادنا . ج1. تحقيق مكتب الإعلام الإسلامي. ط1. مؤسسة بقية الله. النجف الاشرف. العراق. 1423ه- 2003 م.

7 محمد باقر الصدر. بحوث إسلامية . ط1 . دار الكتاب الإسلامي. 1424ه-2004-م.

8 محمد باقر الصدر . رسالتنا . ط3 مطبوعات مكتبة النجاح. طهران. 1402ه- 1982.

9 محمد باقر الصدر. الفتاوى الواضحة دار التعارف. بيروت لبنان 1410ه- 1990-م.

20 محمد باقر الصدر. فلسفتنا . ط2 . دار التعارف. بيروت - لبنان. 1419ه-1998-.

2 محمد باقر الصدر. المدرسة الإسلامية. (الإنسان المعاصر والمشكلة الاجتماعية). بيروت .لبنان. 1393ه-1973-م.

22 محمد باقر الصدر. المدرسة القرآنية. دار التعارف. بيروت. 1409ه- 1989-م.

23 محمد باقر الصدر. محاضرات المحنة وحب الدنيا. المحاضرة الثانية.

24 محمد باقر الصدر. نظرة عامة في العبادات. ضمن كتاب موجز في أصول الدين. تحقيق ودراسة عبد الجبار الرفاعي. ط2 . دار الشؤون الثقافية بغداد 2005.

25 محمد تقي المدرسي. الأخلاق عنوان الأيمان ومنطلق التقدم. مطبعة الرفاه. بغداد. ب.ت

26 محمد الصادق عفيفي. الفكر الإسلامي. مكتبة الخانجي. القاهرة. 1977.

27 محمد عبد اللاوي. فلسفة الصدر. ط1 . مؤسسة دار الاسلام. لندن. 1420ه - 1999.

28 محمد محمد صادق الصدر. فقه الأخلاق. ج1. 138. تحقيق كاظم العبادي. ب.ت.

29 محمد مهدي النراقي. جامع السعادات . ج 3. تحقیق محمد کلانتر. ط4. مؤسسة الاعلمي. بيروت - لبنان

ص: 125

الأخلاق الوضعية (الاجتماعية) عند علي الوردي

(دراسة تحليلية نقدية)

د. قيس ناصر راهي(1)

المقدمة:

إن تاريخ الفلسفة هو تاريخ اختلاف الرؤى الفلسفية التي هي من أساسيات حيويته. والبحث الفلسفي الأخلاقي شأنه شأن مجالات الفلسفة الأخرى حضر فيه اختلاف الرؤى لاختلاف منطلقات المهتمين به من الفلاسفة، فبعضهم اهتم بالجانب العقلاني من الطبيعة البشرية، وبعضهم الآخر اهتم بدراسة انفعالات الطبيعة البشرية من دون الاهتمام بعقلانيتها، فالاختلاف الحقيقي يكمن في طبيعة البحث. فرؤى الفلاسفة العقلانيين حول ما ينبغي أن يكون، بدت للمهتمين بانفعالات الطبيعة البشرية أنها تقع خارج دائرة المنطق، ولذلك هي بحاجة الى منطق جديد يوجهها، ويبدو أيضاً أن ذلك ما دفع بعض الفلاسفة الى التشكيك بالقيم المطلقة ولاسيما مع

ص: 126


1- مركز دراسات البصرة والخليج العربي - جامعة البصرة - : يرى الباحث: «أن القيم الأخلاقية على وفق هذه المدرسة تعد واحدة من الأبعاد التي تشكل الهوية الاجتماعية للفرد، وهنا تُغيَّب هوية الفرد من خلال اندماجها بهوية المجتمع الذي ينتمي اليه» ، ويمثل هذا البحث مناقشة هذه الرؤية للمدرسة ممثلة بالوردي وخصوصا تاكيد الباحث على: الوضعية الاجتماعية وكأن الصورة المتشكلة للقيم الأخلاقية من خلالها توحي بأن الفرد مجبر بسلوكه الأخلاقي على وفق المجتمع الذي ينتمي إليه ولا أثر له فيها، إنما المجتمع هو الذي يحدد طبيعة السلوك الأخلاقي للفرد، سواءً أكان مجتمع بدوي أم ريفي أم حضري اذ يخلص الى القول: " فإن الوردي يعد أحد رموز الأخلاق الوضعية الاجتماعية في الفكر العربي المعاصر "، المحرر

تأسیسات البحث الأخلاقي في العصر الحديث - هيوم على سبيل المثال، وربما رواد الأخلاق الوضعية (الاجتماعية) بشكل عام أبرز من مثل هذه الرؤية من خلال نفي القول بالمطلق والتأكيد على دور الأعراف الاجتماعية في انتاج قيم الفرد الأخلاقية.

إن القيم الأخلاقية على وفق هذه المدرسة تعد واحدة من الأبعاد التي تشكل الهوية الاجتماعية للفرد، وهنا تُغيَّب هوية الفرد من خلال اندماجها بهوية المجتمع الذي ينتمي اليه، وقد تمثلت بمظاهر مختلفة بالامكان ملاحظتها من خلال قراءة علي الوردي (للعقل والفرد والمجتمع)، إذ اندمجت أخلاق الفرد بأخلاق البداوة (الشخصية البدوية) وأخلاق الريف (الشخصية الريفية)، فضلاً عن أخلاق الحضر أو المدينة ولم يعد لهوية الفرد من حضور إلا من خلال مجتمعه.

ورغم الجهود الكبيرة التي قدمها الوردي في دراسته للمجتمع العراقي التي حملت بين ثناياها القيم الأخلاقية للمجتمع العراقي فإن تلك القيم تمثل رؤية على وفق مدرسة أخلاقية ألا وهي الوضعية الاجتماعية وكأن الصورة المتشكلة للقيم الأخلاقية من خلالها توحي بأن الفرد مجبر بسلوكه الأخلاقي على وفق المجتمع الذي ينتمي إليه ولا دور له فيها، إنما المجتمع هو الذي يحدد طبيعة السلوك الأخلاقي للفرد، سواءً أكان مجتمعا بدويّاً أم ريفياً أم حضرياً.

هناك مدارس فلسفية أخلاقية عدة، قد قدمت رؤية مغايرة لرؤية الوضعية الاجتماعية في الأخلاق، وأكدت من خلالها على دور الفرد في بناء أخلاقه، إذ إن الفلسفة الأخلاقية عبر تاريخها قد اهتمت بتعريف الخير الأسمى وتحديد القيم الأخلاقية وبيان علاقة هذه القيم بالنشاط الانساني ووضع معايير العدالة والحق والواجب والفضيلة(1). وفي سياق الحديث عن القيم الأخلاقية، إن فلاسفة عدة قد استعملوا الكلمات المرادفة لمفهوم القيمة ، التي منها الخير والمثل الأعلى والكمال، وقد قيل مثلما يتكلم البشر في جميع لغاتهم بالنثر أسلوباً، فإنهم يمارسون كافة القيم سلوكا(2)، وإن لفظ القيمة في علم الأخلاق يطلق على ما يدل عليه لفظ الخير بحيث

ص: 127


1- ينظر: بدوي، محمد، الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، دار المعرفة الجامعية ، 2000 ، ص7.
2- ينظر: بسيوني، صلاح، القيم في الاسلام بين الذاتية والموضوعية، دار الثقافة، القاهرة، 1990، ص11.

تكون قيمة الفعل تابعة لما يتضمنه من خير(1)، ولذلك نجد أن القيمة الأخلاقية فكرة عملية لا معنى لها إلا قياساً بالعمل(2).

ومما تجدر الاشاره إليه إن اغلب الفلاسفة وإن اتفقوا على أن القيم الأخلاقية تعنى بمعنى الفضيلة، إلا أن بعضهم درس السلوك الأخلاقي بوصفه موضوعاً أخلاقياً، سواءً أكان يتسق مع الفضيلة أم لا يتسق معها ، وهو ما دعاهم الى تصنيف القيم الى صنفين: صنف مطلق يلتمس لذاته، وصنف نسبي ينشده الناس كوسيلة لتحقيق غاية، وتأتي مهمة العقل لفحص القيمة الصحيحة للخبرات كلها التي يبدو اكتسابها متوقفاً على سلوكنا الى حد ما(3)، والصنف الأول من القيم الأخلاقية لا تتوقف على المنفعة بل هي مستقلة عن كل اعتبار، إنها قيمة في ذاتها(4). وفي بعض الاحيان يخلق المجتمع نسقاً من المفاهيم الأخلاقية لكي يوجه سلوك الناس كالمثل العليا والمبادئ السامية(5).

وما يهدف إليه البحث هنا هو دراسة تمثيل أخلاق الوضعية الاجتماعية عند علي الوردي، إذ إن فرضية البحث ترتكز على القول بأن علي الوردي في دراسته قد وظف الرؤى الفلسفية للوضعية الاجتماعية، لذا توزعت موضوعات البحث الى دراسة: الأخلاق الوضعية الاجتماعية في الفلسفة الغربية، وعلي الوردي ضمن سياق الأخلاق الوضعية الاجتماعية في الفكر العربي، وأخلاق المجتمع العراقي عند علي الوردي تمثيلا لأخلاق الوضعية الاجتماعية، فضلاً عن أخلاق الوضعية الاجتماعية من خلال الافادة من النقد الذي وجهه اليها المهتمون بالشأن الفلسفي الأخلاقي.

ص: 128


1- ينظر: صليبا، جميل، المعجم الفلسفي، ج الثاني، دار الكتاب اللبناني، بيروت، ط أولى، 1973، ص 213.
2- ينظر: ديديه، جوليا، قاموس الفلسفة، ترجمة فرانسوا ايوب، مكتبة انطوان ،بيروت، ط أولى، 1992، ص418.
3- ينظر: لالاند ،اندریه، موسوعة لالاند الفلسفية، ج الثالث، ترجمة خليل احمد خليل، عويدات، بيروت، ط ثانية 2001، ص 1523.
4- ينظر: بدوي، عبد الرحمن، موسو عة الفلسفة، ج الثالث، ذوي القربى، قم، ط ثانية، 1420 ه، ص 206-217.
5- ينظر: بودین، روزنتال، الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير كرم، مراجعة صادق جلال العظم، جورج طرابيشي، دار الطليعة، بيروت، ط خامسة، 1985، ص381.

أولاً - الأخلاق الوضعية (الاجتماعية) في الفلسفة الغربية:

إن الأخلاق على وفق الرؤية التقليدية تطمح أن تكون كلية مطلقة، وليدة الضمير الانساني العام أو العقل البشري الكلي، وإن أوامرها لابد أن تكون واحدة بالنسبة الى البشر قاطبة في كل زمان ومكان، وبالمقابل من ذلك هناك من يشتغل وفق الأخلاق الاجتماعية أو الأخلاق الوضعية القائلة بالنسبية التي تقول بأن الظواهر الخُلقية لا تخرج عن كونها ظواهر اجتماعية(1)، إذ حاولت المذاهب الأخلاقية التي ظهرت في نهاية القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وضع أخلاق عملية تحاكي في طابعها الموضوعي شتى العلوم الوضعية الحديثة(2)، وأرادوا أن يجعلوا للأخلاق مثلاً اعلى مستمد من الجماعة التي يعيش فيها الفرد وليس مستمداً من الدين أو من افكار بعض الفلاسفة(3)، وربما ابرز من مثل هذا الاتجاه في بداية أمره هم الوضعيون - الذين هم علماء اجتماع - رأوا أن لعلم الاجتماع وصاية على علم الأخلاق وتبعية ثانيهما لأولهما موضوعاً ومنهجاً، وقيام الأخلاق على هذا النحو يعني أن مجال البحث العلمي ينتهي باستبعاد المطلق من مجال الأخلاق، والتسليم بالنسبية وهذا القول لا يمنع من التمييز بين الخير والشر(4)، وينتمون الى المدرسة الوضعية في الأخلاق التي وصفها زكريا ابراهيم بالصور المقنَّعة للجبرية الميتافيزيقية التي تجعل الفرد خاضعاً لمصير محتوم بعيد عن الحرية والاختيار وتقرير المصير(5)، دعاة الأخلاق الاجتماعية ، ومن فلاسفة وضعيين اعتبروا الظواهر الأخلاقية مجرد وقائع اجتماعية تقبل الوصف والتحليل والتصنيف وذهبوا الى أن لكل شعب من الشعوب أخلاقه الخاصه التي عملت على تحديدها ظروف اجتماعية متعددة(6)، وقد كان أول من وجه الدراسات الأخلاقية الى هذه الناحية هو اوجست كونت (Auguste Comte) (1857-1798

ص: 129


1- ينظر: ابراهيم، زكريا، مشكلة الفلسفة، مكتبة مصر، ص 156.
2- ينظر : المصدر نفسه، ص 161.
3- ينظر : زقزوق، محمد حمدي، مقدمة في علم الأخلاق، دار القلم ،الكويت، ط ثالثة، 1983، ص59.
4- ينظر: الطويل، توفيق، فلسفة الأخلاق نشاتها وتطورها، دار وهدان القاهرة، ط ،ثالثة 1976 ، ص.
5- ينظر: ابراهيم، زكريا، مشكلة الفلسفة، ص161-162.
6- ينظر: ابراهيم، زكريا، المشكلة الخلقية، مكتبة مصر، ص 78.

ومن ثم حذا حذوه دوركهايم (David Emile Durkheim) (1917-1858م) وليفي بریل (Levy Bruhl) (1939-1857م)(1).

إن الأخلاق الاجتماعية على وفق كونت تعتمد على الملاحظة وتنظر الى ما هو كائن بالفعل، لا كما نتصور أن يكون(2)، وإنها «ليست أفكاراً نظرية يضعها فرد معين لا يرتبط بزمان معين ولا بمكان معين، أي فرد ميتافيزيقي لا وجود له في الواقع، ويسعى وراء مثل اعلى من خلق خيال الفيلسوف قلما يتحقق لبعده عن الحياة الواقعية واعتماده في اصوله على قوى داخلية نفسية، ولكن الأخلاق الاجتماعية هی أخلاق وضعية علمية تقوم فعلاً في المجتمعات البشرية، وهي محدودة بزمان معين ومكان معين، وتمثل قوى خارجه من صنع المجتمع نفسه هي الظواهر الأخلاقية التي يخضع لها طواعية لأنها تفوقهم وترفعهم الى مستواها الحضاري»(3). وهذا القول يشير الى تحول البحث الأخلاقي من البحث بما ينبغي أن يكون الى دراسة ما هو كائن، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل إن الفرد اضحى من نتاج الضمير الجماعي.

يعتقد دوركهايم أن منبع القيم الأخلاقية هو الضمير الجماعي الذي هو فرد من نوع جديد منبثق عن تركيب الارواح الفردية، ويشكل تلك الروح الجماعية بالنسبة للفرد، التي هي اكثر استنارة منه ومن ثمَّ اكثر أخلاقية، فهو يحس بها بشكل الزامي کشعور داخلي عميق بالواجب(4). وهذا الرأي يؤكد على حضور الفرد ضمن الجماعة التي تعمل على تشكل قيمه الأخلاقية، ومن ثمّ تكوّن الظواهر الأخلاقية.

ويوضح ليفي بريل مفهوم الأخلاق بالاعتقاد بأنه مجموعة الأفكار والاحكام والعواطف والعادات التي تتصل بحقوق الناس وواجباتهم بعضهم تجاه بعض، التي يعترف بها ويقبلها الافراد بصفة عامة، في عصر معين وفي حضارة معينة، وتطلق هذه

ص: 130


1- ينظر: زقزوق، محمد حمدي، مقدمة في علم الأخلاق، ص 59.
2- ينظر: بدوي، محمد، الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، ص 159.
3- عبد الحليم عطية، احمد، الأخلاق في الفكر العربي المعاصر، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1990، ص 52.
4- ينظر: غريغوار ، فرنسوا، المذاهب الأخلاقية الكبرى، ترجمة قتيبة المعروفي، منشورات عويدات، بيروتباريس، ط ثالثة، 1984 ، ص 110.

الكلمة على العلم الذي يدرس هذه الظواهر، وعلى تطبيقات هذا العلم(1). وليس بعيداً عن السياق الاجتماعي للأخلاق يشير ليفي بريل إلى إن الظواهر الأخلاقية ظواهر اجتماعية، فإذا ما فحصنا الظواهر الخلقية من الخارج ودرسناها بطريقة موضوعية من جهة علاقتها بالظواهر الاجتماعية، تبين أنها موضوع للمعرفة مثلها، وهذه هي نظرة علماء الاجتماع، ولكن العامة تنظر الى هذه الظواهر، فتجد أنها تتمثل لدينا في شعورنا الذاتي على هيئة الواجبات وصنوف الندم والشعور بالجدارة، أو عدم الجدارة واللوم والمدح وهلم جرا ، فإن خواصها تظهر في مظهر مختلف، وحينئذ يخيل الينا أن لا علاقة لها إلا بالسلوك وحده وإنها لا تخضع إلا للمبادئ العملية(2).

ويقول ليفي بريل: «لقد كان من العسير أن تجد هذه الفكرة قبولاً حسناً لدى النقاد اللذين لا يفرقون .. بين الوجهه النظرية وبين الوجهه العملية، بل يتصورون، على خلاف ذلك، أن علم الأخلاق نظري ومعياري في آن واحد، وأنه معياري اكثر منه نظريا. ويذهب بعضهم الى حد أن يقصر الأخلاق على تنظيم القواعد التي تصدر عن الضمير العام، أما كل البحوث التي تتجاوز ذلك الحد فهي على كل حال من الكماليات التي لا فائدة فيها، إن لم تكن ضارة»(3). وفي الوقت نفسه، يؤكد بريل بإن علم العادات الأخلاقية لا يمكنه أن يحل محل الأخلاق(4).

وبناءً على ما تقدم، يمكن القول إن علم الاجتماع الأخلاقي هو ذلك الفرع السوسيولوجي الذي ينهض بدراسة الظاهرة الأخلاقية، أي إنه يدرس الأخلاق دراسة علمية، ويقترح علماً موضوعياً لتفسير العادات الأخلاقية، كما يتضمن دراسة النظرية الأخلاقية كما يعالجها الفلاسفة، ويجمع في تراثه ما جادت به قرائح الفلاسفة بصدد

تفسير السلوك الخلقي(5).

ص: 131


1- ينظر: بريل، ليفي، الأخلاق وعلم العادات الأخلاقية، ترجمة محمود قاسم، مراجعة السيد محمد البدوي، وزارة المعارف، مصر، ص .170-169
2- ينظر: المصدر نفسه، ص58.
3- المصدر نفسه، ص 6.
4- ينظر : المصدر نفسه، ص 7.
5- ينظر: محمد اسماعیل، قباري، قضايا علم الأخلاق دراسة نقدية من زاوية علم الاجتماع، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط أولى، 1975 ، ص 17.

ولعل السبب الذي من أجله يحتفظ علم الاجتماع الأخلاقي بمحصلة ما نجم عن تراث الفكر الأخلاقي، هو أن هذه النماذج الفلسفية لم تصدر في الواقع عن العدم، إنما صدرت عن روح العصر، بمعنى ان معايير الفلسفة الخُلقية مشتقة من طبيعة الحياة الاجتماعية التي مرت بها الفلسفة طوال ماضيها الطويل، ففلسفات اللذة والألم والمنفعة والواجب ماهي إلا صور اجتماعية للواقع التاريخي التي مرت به(1).

ويمكن تلخيص سمات هذا الاتجاه على وفق النقاط الآتية(2):

1- إن اصحاب المدرسة الاجتماعية يرفضون توحيد الخلقي والعقلاني، كما يفعل الفلاسفة التقليديون، ومعنى هذا إن الحقيقة الأخلاقية ليست مجرد واقعة ذهنية بل هی ظاهرة موضوعية يمكن ملاحظتها وتصيفها وتحليلها وتفسيرها .

2- نقد الأخلاق المعيارية، نقد ما ينبغي والاشتغال على ما هو كائن.

3- القول بفشل الفلاسفة الذي اشتغلوا على تأسيس أخلاق عامة كلية، لأن المفاهيم الأخلاقية بعيدة عن أن تكون على هذا النحو من البساطة، فضلاً عن أن ما يؤسس له فيلسوف الأخلاق في ضميره لا يعدو كونه مجرد اكتساب من المحيط الذي ينتمي إليه.

4- نقد القول القائل بأن الطبيعة البشرية واحدة في كل مكان وزمان.

وهذا الحديث ينسحب الى المجتمعات المعاصرة التي نتجت فيها فلسفات أخلاقية مرتبطة بواقعها المعيش. وخلاصة القول، إن الأخلاق الاجتماعية تُعنى ببحث ماهو كائن وليس بما ينبغي أن يكون ، وإن القيم مرتبطة بالضمير الذي هو نتاج جماعي، فضلاً عن أن اعتبار الظواهر الأخلاقية ظواهراً اجتماعية، لكن على الرغم من التأكيد على دراسة ماهو كائن، إلا إن ماهو كائن يوصل الى ما ينبغي أن يكون من خلال نقد الأول والتأسيس للثاني البديل .

ص: 132


1- ينظر: المصدر نفسه، ص 19-20.
2- ينظر: ابراهيم، زكريا، مشكلة الفلسفة، مكتبة مصر، ص 157-159.

ثانياً - علي الوردي ضمن سياق (الأخلاق الوضعية الاجتماعية) في الفكر العربي المعاصر

يمكن القول إن الأخلاق الوضعية الاجتماعية في الفكر العربي المعاصر قد اتفقت مع المرتكزات الرئيسة التي قامت عليها الفلسفة الأخلاقية الاجتماعية الغرب، إذ هناك ركيزتان متفق عليهما، وهما، إن الفرد تمثيل لمجتمعه، والثانية إن الضمير مُقيد بما يسود المجتمع.

وفي الفكر العربي المعاصر، تبلورت الدعوة للأخلاق الاجتماعية لدى الرعيل الأول من المفكرين العرب، سواءً أكان مع منصور فهمي وعبد العزيز عزت أم مع محمد بدوي ومحمود قاسم(1). وهذا الأمر في مصر على وفق رأي احمد عبد الحليم عطية، إلا أن الباحث يرى أن الوردي ينتمي الى سياق هؤلاء المفكرين وهذا ما سيتبين لاحقا في ثنايا البحث.

يُعدّ منصور فهمي أول من تأثر بالمدرسة الأخلاقية الاجتماعية من خلال استاذه ليفي بريل الذي يعد واحد من ابرز رواد تلك المدرسة(2)، أما عبد العزيز عزت فيتميز عن منصور فهمي، بأنه استاذاً للفلسفة أما الثاني فهو استاذاً لعلم الاجتماع(3)، فيما جدد محمد بدوي رأي موقف المدرسة الاجتماعية التي ترى أن الإنسان الذي يحيا في مجتمع معين يعكس المبادئ الأخلاقية السائدة في مجتمعه وإن الضمير الأخلاقي يتقيد بما يسود في المجتمع من عادات وتقاليد، ومن هنا فالإنسان يحكم على الافعال والتصرفات لا من خلال ضميره فحسب، بل من خلال ضمير المجتمع(4).وهذه الآراء متماهية مع مواقف رواد الأخلاق الاجتماعية في الفلسفة الغربية، سواءً أكانوا مع كونت ودوكهايم أم مع بريل.

ص: 133


1- ينظر : احمد عبد الحليم عطية، الأخلاق في الفكر العربي المعاصر، ص45.
2- ينظر: المصدر نفسه،ص47.
3- ينظر: المصدر نفسه، ص49.
4- ينظر: المصدر نفسه، ص58.

وربما يقترب حسام الدين الالوسي من الوضعية الاجتماعية حينما يقول: «إن الأخلاق مسألة تاريخية اجتماعية، وإن تجاهل هذين الأمرين أحد أكبر العوامل التي اوقعت بعض المدارس الفلسفية الأخلاقية بالقول بفطرية الضمير ومطلقية القيم الأخلاقية»(1)، وإن التصور الاجتماعي التاريخي للأخلاق يمنح نتائجاً يتمثل بالقول بأن الأخلاق نشأت في طور معين من مراحل اجتماعية البشر، وإنها تطورت من التقاليد والاعراف، وأنها ترتبط بأسس المجتمع المادية ومجمل الظروف الأخرى(2). ولكن هذا القول لا يتماهى مع المدرسة الوضعية فحسب، إنما مع المدرسة البرجماتية أيضا، إذ يقول ديوي: «إن الأخلاق من الناحية العملية هي التقاليد، وهي الأساليب الشعبية، وهي العادات الجماعية المقررة»(3).وإن المجتمع هو الذي يرسم للفرد برنامج حياته اليومية(4).

وإذا عدنا الى الوردي فمن الممكن وضع دراساته وفهمه للفرد والجماعة في ضمن سياق الأخلاق الاجتماعية. فوفق رؤيته، أن الإنسان الفقير لا يفهم الحقيقة إلا على شكل رغيف، أما الغني فنجده يساهم بالمثل العليا، كالجمال الكامل أو الحق المطلق وما الى ذلك من مفاهيم(5)، لذلك على وفق ما اعتقد به أن الفلاسفة قد جانبوا الصواب ولاسيما الذين استنبطوا المثل العليا من عقولهم المجردة ثم يفوضونها الى الناس لأن ما يجري في سلوك الناس هو على نمط ما يحترمه المجتمع، فلو احترم الناس قرداً لصار جميع الناس يحاولون أن يكونوا قرودا(6)؟ وهذا الرأي يعبر عن أن الفقير ينظر للقيم على وفق بيئته الاجتماعية، وكذلك الأمر ينطبق على الغني أيضاً. وفي النتيجة حضور البيئة الاجتماعية وليس المثل العليا كما يتصورها بعض

ص: 134


1- الالوسي، حسام محيي الدين، التطور والنسبية في الأخلاق، دار الطليعة، بيروت، ط أولى، 1989، ص 6.
2- ينظر: المصدر نفسه، ص 13.
3- ينظر: ديوي، جون، الطبيعة البشرية والسلوك الانساني، ترجمة وتقديم الدكتور محمد لبيب النجيحي، مؤسسة الخانجي، القاهرة، 1963، ص 97.
4- ينظر: بدوي، محمد، الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، ص 113.
5- ينظر: الوردي، على، خوارق اللاشعور أو (اسرار الشخصية الناجحة)، منشورات سعيد بن جبير، ايران، ط أولى، 2005، ص 54.
6- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق (الضائع من الموارد الخلقية) دار الوراق، ط أولى، 2007، ص17.

المهتمين، وإن كان قول الوردي لا يُفهم بالمطلق، إنما على وفق النسبية، لأن البيئة الفقيرة قد انتجت عدداً من الادباء والفنانين.

أما الركيزة الثانية في أخلاق الوضعية الاجتماعية، فترتبط بالذات المثالية التي يطلق عليها اسم الوجدان أو الضمير، فإن جذور هذه الذات مستمدة من قيم المجتمع، فالضمير نسبي يكون بلون المجتمع وهو قد يدفع الإنسان الى القسوة والظلم، إذا كانت القيم الاجتماعية مؤيدة لها، فالضمير صوت المجتمع لا صوت الله حيث كان القدماء يصفون الضمير بأنه (الصوت الالهي في الانسان)، وهناك فرق بين الاثنين فالله رب الناس جميعاً، أما المجتمع فيفضل ابناءه على غيرهم وهو لا يبالي بسفك الدماء ونهب الاموال(1)، وبناءً على ما تقدم، يقرر الوردي أن الإنسان لا يفكر بعقله بل بعقل مجتمعه فهو يميز بين الحسن والقبح حسب ما يوحي المجتمع إليه، إذ إن تفكيره يجري في نطاق القوالب التي وضعها المجتمع له، فهناك افراد خرجوا على القيم المتعارف عليها وهذا أمر يحصل في المجتمعات المفتوحة التي تتصارع فيها الأفكار، أما في المجتمعات المغلقة التي تعيش في عزله فمن الصعب أن يفكر الإنسان بخلاف ما اعتاد عليه ونشأ فيه(2). ويقول الوردي في هذا المقام «إن العقل متحيز في طبيعته لأن هناك عوامل تؤثر في تفكيره من حيث هو لا يدري منها القيم والمعتقدات والعادات والمصلحة والأنوية والعاطفة والثقافة الشخصية»(3).

ثالثاً- أخلاق المجتمع العراقي عند علي الوردي تمثيلاً لأخلاق الوضعية الاجتماعية:

من خلال ما ذكر سابقاً، يتبين تماهي الوردي مع آراء الأخلاق الاجتماعية، إذ أكد على أن الفرد ابن بيئته الاجتماعية وأن الضمير نتاج للضمير الجماعي، لكنه لم يقف عند حد الفلسفة الغربية المتمثلة هنا في الأخلاق الاجتماعية، بل عمل على تبيئتها

ص: 135


1- ينظر: الوردي، علي، الاحلام بين العلم والعقيدة، داركوفان، لندن، ط ثانية، 1994، ص85.
2- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، سعيد بن جبير، قم، ط أولى، 2005، ص 139
3- الوردي، على، خوارق اللاشعور او (اسرار الشخصية الناجحة) ، ص 47.

من خلال دراسة الواقع الذي ينتمي اليه، فوجد أن هذا الواقع فيه أمور يختص بها عن أخلاق البداوة والحضارة، وهنا ذهب أبعد من رواد المجتمعات الأخرى، ألا وهي الأخلاق الاجتماعية الى ابن خلدون ليوظف رؤيته في دراساته. كما لا يفوت على المتتبع لكتابات الوردي أن أخلاق البداوة قد أخذت حيزاً أكبر من الأخلاق الأخرى، بل يمكن عدها مرتكزاً لأخلاق الريف والحضر.

أ- التغالب بوصفه محركاً لقيم البداوة:

قبل الدخول في الحديث عن التغالب لابد من الاشارة الى الاهتمام الذي أولاه الوردي في وصفه لأخلاق البدوي وهذه الأوصاف تتمثل بسمات عدة، منها: الصدق، الأخلاص، الشجاعة، وغيرها من القيم الأخرى. وعلى الرغم مما عُرف به البدوي ، من عصبية تجاه جماعته، حتى أن هذه العصبية تقوم عليها الغلبة، إلا أن الرئاسة التي يسعى إليها، لا تكون إلا بالتغالب على رأي ابن خلدون(1).

إن المتتبع لقيم البداوة يجد أن أولها الصدق، فالبدوي لا يحب الرياء والمراوغة لأنهما يعدّان نوعاً من أنواع الضعف لا تتواءم طبيعة الشجعان، فهو لا يقسم بالله كذباً، وإذا أقسم فهو في الاغلب صادق(2)، وهذا يعني أنهم أي البدو- ميالون الى الصراحة والمجابهة، ومعنى هذا أن خلق النفاق فيهم ضعيف، أما عن وصف القرآن لهم بأنهم أشد كفراً ونفاقاً، فالاعراب هم البدو، وهذا النفاق ليس معناه النفاق الاجتماعي الحديث، لأن مفهوم النفاق الذي جاء به الإسلام ليصف فئة من الناس اظهروا الاسلام واظهروا الكفر ، وقد فرق الاسلام بين المسلم والمؤمن(3).

أما الصفة الأخرى التي يتسم بها البدوي فهي الاخلاص بل هو من أكثر الناس اخلاصاً، لكن بحسب معايير البداوة وطابع ثقافتها الاجتماعية فهي تكون نحو قبيلته،

ص: 136


1- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 19.
2- ينظر: ابن خلدون، عبد الرحمن محمد، مقدمة ابن خلدون، اعتناء ودراسة احمد الزغبي، دار الأرقم، بيروت، ص 161.
3- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 77.

إذ إنه لا يكون ذا اخلاص تجاه قوة غريبة، وإذا انضم الى هذه القوة فإنه لا يحمل نحوها من الولاء مثلما يحمل نحو قبيلته(1). إن هذا الاخلاص بين الفرد وقبيلته عباره عن مصلحة متبادلة فالقبيلة تتقوى بالفرد والعكس صحيح، فبمقدار ما يتوقع الفرد من قبيلته أن تشمله بحمايتها تتوقع القبيلة منه أن يمنحها الولاء والفداء، وهو يسرع الى نجدتها، والنجدة المطلقة هي من خصال البداوة التي لا يمكن الاستغناء عنها(2).

ويعتقد البدو بتوارث القيم أي إن مصدر القيم الوراثة، ولذلك نجدهم يهتمون بالإنسان لكونه يعين صفات الفرد منهم، فهم يعتقدون أن الإنسان يرث صفاته من ابويه، فإذا نشأ الولد بينهم وهو غير متصف بصفاتهم ارتابوا بنسبه، وهم بذلك يجهلون اثر المجتمع في تكوين صفات الفرد(3).

وعلى الرغم من أن الأخلاق التي يؤمن الوردي بدراستها ذات طابع اجتماعي، إلا أن المجتمع الذي يدرسه يجهل الجانب الاجتماعي، ومن الواجب القول أن من أهم الاساسيات التي تقوم عليها الشخصية البدوية هي الاستحواذ(4). ومن هنا فربما للثقافة البدوية ثلاثة أسس (العصبية، الغزو، والمروءة)، ومن الملاحظ أن طابع التغالب موجود في جميع هذه المركبات، فالفرد البدوي يغلب بقبيلته أولاً وبقوة شخصيته ثانياً، وبمرؤته أي فضيلته ثالثاً(5)، والبدو لهم قيم ومثل يؤمنون بها وهذه القيم تتغلغل في اللاشعور، إذ ينشأ عليها الفرد ويعتاد عليها حتى تصبح جزءاً من اسلوب تفكيره(6).

يتبين مما ذكر تماهي الوردي مع قيم البداوة على العكس من القيم الأخرى الموجودة في الريف أو المدينة، فضلاً عن دفاعه عن قيم البداوة، مثلما تبين من

ص: 137


1- ينظر: المصدر السابق، ص 81.
2- ينظر: المصدر السابق، ص49.
3- ينظر : المصدر السابق، ص 50.
4- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 13.
5- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 34.
6- ينظر: الوردي، علي، خوارق اللاشعور ، ص 60 .

خلال حديثه عن الاعراب، ولكنه جعل من التغالب مرتكزاً لفهم قيمهم، وبالنتيجة ستكون انقلاب للقيم المتعارف عليها عند الناس، إذ جعل من التغالب المرتكز الذي تنطلق منه قيم البداوة على الرغم من قوله بالعصبية التي هي المحور الأساس الذي تدور حوله البداوة على وفق رؤية ابن خلدون، التي لم ينكرها الوردي، إلا أنه فهمها من خلال التغال الذي نال أهمية أيضاً عند ابن خلدون.

1- الشجاعة تمثيلاً للتغالب:

إن الشجاعة بوصفها فضيلة تكمن قيمتها «في المجتمع البدوي بقياس الغلبة والاستحواذ»(1)، فالرجل البدوي لا يجد في الحرب برهنة على شجاعته، بل يبرهن بأنه قوي وغلاب في الحرب والسلم معاً، لذلك يحب أن يكون وهاباً بقدر ما يكون نهاباً، فالبخل دليل على الجبن، والقوي لا يبخل لأنه واثق بشجاعته وبها سينال غنائم اخرى(2). وهكذا تكون نزعة التغالب هي المحرك لقيمة الشجاعة ومن الصعب على البدوي أن يكون موضع عطف أو رعاية أو تفضل من الغير، لأن ذلك يدل على الضعف في نظره، فهو يرغب أن يكون غالباً لا مغلوباً، ناهباً لا منهوباً، طالباً لا مطلوباً، قادراً لا مقدوراً عليه، ومشكوراً لا شاكراً(3).

2- الكرم تمثيلاً للتغالب:

إذا كان البخل دليلاً على الجبن، فقيمة الكرم التي هي وسط بين البخل والتبذير لها معنى لدى البدوي يتمثل بوصفها نوعاً من أنواع التعاون بين الشيخ وافراد قبيلته(4)، وللكرم معنى آخر يتمثل بكونه رمزاً للقوة، فالسخاء بالمال علامة من علامات التغالب والبدوي لا يبالي أن يسخو في المال الذي يصل الى يديه، فهو اسخى الناس حين يستغاث به، وقد يبذل في سبيل ذلك حياته ، فضلاً عن المال(5)

ص: 138


1- الوردي، علي، الأخلاق، ص 15
2- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص34.
3- ينظر: المصدر السابق، ص 37.
4- ينظر: الوردي، علي، في الطبيعة البشرية الاهلية، الاردن، ط أولى، 1996، ص 148.
5- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 18.

3- الوفاء تمثيلاً للتغالب:

يحترم البدو الوفاء، فهم يعدون الكلمة ديناً واجب الوفاء، وهذه القيمة أيضا تقوم على اساس التغالب، فالبدوي لا يفي بوعده إلا حين يجد في ذلك اشعاراً أو تمثيلاً لقوته، أما إذا شعر أن الوفاء قد يدل على ضعفه فإنه مضطر أن يكون خائناً وهو يفتخر بذلك(1).

ب- القيم الريفية تمثيلاً سلبياً لقيم البداوة:

على وفق منظور الوردي إن القيم الريفية صورة مشوهة لقيم البداوة، إذ إن المجتمع العراقي في الريف من اكثر المجتمعات انغماساً بالقيم البدوية في محاسنها ومساوئها، ولعل المساوئ اكثر وضوحا من المحاسن(2)، وذلك يعود الى طبيعة الصراع الذي يعانيه الرجل الريفي في العراق من جراء وقوعه بين دافعين هما دافع الربح ودافع المحافظة على القيم البدوية، وهو صراع قلما يعانيه الرجل البدوي فهو بشجاعته يستطيع كسب المال والاعتبار الاجتماعي في ان واحد(3)، فالشجاعة والسيف لا يجديان نفعاً فلابد للرجل الريفي أن يتخذ طريق الكذب والمراوغة إذا أراد العيش(4).

ويعتقد الوردي إذا نظرت الى أخلاق شيوخ الريف تجد أنهم يسعون الى التشبه بالشيخ البدوي في جميع قيمهم من شجاعة وكرم وصدق وامانة ولكن إلى أي مدى يستطيعون ذلك؟(5)لم يستطع الشيخ الريفي تمثيل قيم البدو لأنه أخذ يجنح نحو أخلاق الترف والتملق تجاه الحكومة وأخذ يهمل بالتدريج أخلاق العزة والصراحة التي اتسم اسلافه البدو بها(6)، وعندما تتغير أخلاق وقيم الشيوخ في الريف فلابد

ص: 139


1- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 80.
2- ينظر: الوردي، علي، منطق ابن خلدون، دار کوفان ،لندن، ط ثانية، 1994، ص 258.
3- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص174.
4- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص34.
5- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 164.
6- ينظر: المصدر نفسه، ص 169

من أن تتغير قيم وأخلاق اتباعهم، بل أن قيم الفلاح تفككت أكثر من تفكك قيم الشيوخ بسبب الفقر(1)، فظهر واقع حب الربح والمال لدى بعض الريفيين، ولاسيما المتصلين منهم بالاسواق والمدن، إذ تراه يطالب بالدين الذي له، ويمتنع عن اداء الدين الذي عليه(2)، لأن ذلك تمثيل للقوة والشجاعة، وهذا ما دعاهم الى احتقار بعض المهن (كالبقالة)، لأن الرجل هنا يحمل الميزان بدلاً من أن يحمل السلاح وهذا مخالف لخصال الرجولة والشجاعة(3).

وعلى وفق هذا المنظور أن قيم الريف لا تمتلك مثل تنطوي تحتها بل هي تحاول تقليد قيم البدو، إلا أنهم يعملون على تغييرها على وفق المتغيرات الاجتماعية والسياسية التي تحيط بهم ، وهي بالنتيجة قيم نسبية، وهذا ما ينطلق الوردي منه، سوا أكان مع البدوي أو مع الريفي أو مع الحضري.

ج- حضور قيم البداوة في القيم الحضرية (المدنية):

يمكن القول إن الوردي في حديثه عن القيم الحضرية لا يمثل قيم المدينة المعاصرة، وإن كان يوحي حديثه بأنه عن المدينة، بل إن حديثه اقرب الى سكنة الحضر (المحلة) بأزقتها، ولا يمكن فهم أخلاق المحلة على وفق أخلاق المدن الجديدة التي تشكلت، إذ إن الأخيرة تختلف في بنيتها الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك، وهذا يجعل من المدينة مختلفة عن المحلة وما تمتاز به من عصبية اجتماعية، أما عن المدن التي تشكلت فيما بعد فإنها تؤكد على الفردية نوعاً ما، إلا أن الوردي قد فهم المدينة من خلال المحلة وهو ما كان سائداً في عصره.

لقد ورث اهل المدن العراقية قيماً من العهد العثماني، فالنخوة العشائرية تحولت الى نخوة محلية في المدينة حيث تتمثل بدفاعه عن أهل محلته، سواء أكان ظالماً أم مظلوماً حتى أن التربية في المدن تؤكد ذلك، فالأطفال يمارسون هذه العصبية

ص: 140


1- ينظر: المصدر نفسه،ص170.
2- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 37.
3- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 133.

المحلية وقد يؤلفون فيما بينهم عصابة ويحتقرون الطفل الذي لا يسرق وعندما يكبر هؤلاء سينظرون الى الحياة بمنظار القوة والضعف وسيحترمون الرجل الشجاع السفاك بالنسبة لاعدائه واعداء محلته، وهو شهم تجاه اصحابه ولايكاد يستنجد به احد حتى يسرع الى نجدته(1).

وإذا نظرنا الى القيم التي سادت في المجتمع العراقي في المدن في العهد العثماني (كالنخوة والشهامة والوفاء والنجدة .... الخ ) بين ابناء المحلة الواحدة، فقد كان لها جانب حسن لكن لا يمكن لهذه القيم أن تلائم الحضارة الحديثة، لأن الحضارة الحديثة هي الميدان الذي يحصل فيه النزاع من أجل البقاء(2)، وقيمها فيها الشيء الكثير من القيم البدوية، لكنهم لم يحافظوا على نقاوتها كما جاءت من البادية بل شوهوها حتى صارت اكثر بعداً عن تعاليم الدين(3)، وهنا نشأت لديهم مشكلة وهي وقوعهم تحت نظامين متعاكسين من القيم، فهم يحترمون المواعظ البليغة لكنهم لا يستطيعون اتباع ما فيها من مثل عُليا، فهم نشأوا منذ طفولتهم على أخلاق حسبما توحي به قيمهم المحلية، وهي قيم مناقضة لتلك التي تدعو إليها المواعظ الدينية، فالدين يدعو الى العفو والحلم أما القيم المحلية فعلى الضد من ذلك(4). ويمكن القول إن الأخلاق الوعظية قد نالت النقد من الوردي، إذ إن رواد الأخلاق الاجتماعية يرفضون هذا المنحى في الأخلاق.

وللرجل الحضري موقف سلبي من القيم البدوية على الرغم من أنه تأثر بها، فالحضري لايستسيغ القيم البدوية لأنه نشأ على قيم اخرى هي قيم الانتاج والمنفعة، فهو يقدر الناس على اساس براعتهم(5)، ولذلك نجد أن الحضر أخذوا الان على عاتقهم أن يساعدوا البدو على التحضر وعلى تبديل قيمهم التي غدت لا تلائم حياة

ص: 141


1- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 46.
2- ينظر: الوردي، علي، اسطورة الادب الرفيع، دار كوفان للنشر، لندن، ص138
3- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص261
4- ينظر: المصدر نفسه، ص 248.
5- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 15.

الحضارة الجديدة(1)، والقيم في المدن من وفاء وشجاعة...الخ تمثل المنفعة ولاسيما المنفعة في المهنة (2).

هذه الأخلاق في تلك الايام تذكر بشهامتهم وتنسي أنهم لصوص، ولعل اللصوصية من مفاخرهم، إذ هي تدل على الشجاعة، والجبان هو الذي لا يسرق(3). ولعل اشارة الوردي الى اعتبار السرقة شجاعة هي أبرز تمثيل لانقلاب القيم عما هو متعارف عند من يدرس الأخلاق، مع التأكيد على أن السرقة بوصفها شجاعة لا تُعد من سمات الحضر فحسب، بل إن القرى الريفية فيها هذا الأمر كذلك.

وخلاصة القول إن القيم الأخلاقية في العراق ماتزال تحمل في ثناياها بعض قيم البداوة في احترام الغالب واحتقار المغلوب، لكنها قيم ممسوخة خرجت من محيطها الأول وفقدت وظيفتها الأخلاقية فبقيت توجه السلوك كالعقدة النفسية من غير أن يكون لها هدف ملائم في محيطها الجديد(4).

رابعاً - نقد الأخلاق الوضعية (الاجتماعية):

في الواقع لا يمكن تقديم نقد لرؤية ما ، إلا من خلال الكشف عن أخطائها المنهجية وتحديد مفاهيمها بوصفها وسائل لتبليغ آرائها، وفي رؤية الوضعية الاجتماعية فيما يتعلق بالأخلاق، ثمة مواطن ضعف كانت بدورها دعوة لفتح الباب على مصراعيه لنقود شتى قد وجهت لها، سواءً أكانت من النظريات المعيارية التي لم تتورع عن القيام بذلك، إذ لم يرق لها منطلقات تلك الرؤية التي تنكر أهم مبدأ من مبادئ الأخلاق الذي يشتغل على القول على وفق ما ينبغي أم من خلال الأخلاق الوجودية التي وإن قدمت رؤية حول دور الفرد، إلا أن رؤيتها لا تقل تطرفاً عن رؤية الوضعية.

إن علم الأخلاق نظري ومعياري بل إنه معياري أكثر منه نظري، لهذا يلاحظ أن

ص: 142


1- ينظر: الوردي، علي، منطق ابن خلدون، ص 255.
2- ينظر: الوردي، علي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، ص 80.
3- ينظر: الوردي، علي، الأخلاق، ص 48.
4- ينظر: المصدر نفسه، ص 51.

قوة البحث الأخلاقي تعتمد على الموازنة بين القسمين وكذلك الموازنة بين دور الفرد ودور المجتمع في تشكيل سلوك الفرد، وليس القول بدور المجتمع فقط أو دور الفرد من دون الاهتمام بدور المجتمع وتأثيره على سلوك الفرد.

ومن الواجب القول، إنه قلما يوافق الفلاسفة على النظرة الوصفية للأخلاق، لأنهم يؤمنون بأن موضوعها يتمثل بفرض القواعد التي ينبغي أن يحتذيها الإنسان بسلوكه، ومن هنا فقد أبى الفلاسفة أن يجعلوا من الأخلاق مجرد دراسة وصفية للعادات والطبائع والسنن والمواضعات بين الناس، انما ذهبوا الى تأكيد القول بأن الدراسة الفلسفية للأخلاق هي دراسة معيارية، وبتعبير آخر هي معيار للخير والشر(1).

يقدم توفيق الطويل وصفا لأخلاق الوضعية الاجتماعية لا يخلو من النقد، إذ يقول: «إن الوضعية ترى أن الأخلاقية تقوم في طاعة الفرد لمواضعات المجتمع، ولكن ما الحال اذا كانت مثل المجتمع العليا هزيلة مريضة؟ كيف يمكن تقوم الأخلاقية في اقرار فساد البيئة وتوكيد مثلها المريضة؟ إن الأخلاقية للتمثل عندئذ في الثورة على الاوضاع البالية والتمرد على القيم التافهة، ابتغاء اصلاحها او وضع قيم سليمة جديدة تأخذ مكانها، وعنئذ يتبين الناقد المحايد أن القيم الجديدة قد صدرت عن الفرد رجعا لفساد المجتمع، وإن كان هذا الفرد نفسه لم يبرأ من تأثير المجتمع الذي يعيش فيه، وبهذا التمرد يتم التطور الروحي وبغيره يقف المجتمع وتجمد الأخلاق ويتعذر التقدم»(2). وإن رؤية الوضعية الاجتماعية فيما يتعلق بالأخلاق تصطدم مع مهمة الأخلاق، إذ ليس مهمة الأخلاق وصف نظام معين من الوقائع ، انما وضع مجموعة من المفاهيم، التي تحدد ما ينبغي أن يكون، و على وفق ذلك فإنه ليس من ، شأن الأخلاق أن تعمل على اكتشاف القوانين - على وفق المعنى العلمي، انما تنحصر مهمتها في تحديد القواعد، ومعنى هذا أن الأخلاق في جوهرها تشريع، تعمل وفق مهمة التكليف والالزام(3).

إن اصحاب النزعات الاجتماعية يحاولون أن يوفروا على إنسان العصر الحديث

ص: 143


1- ينظر: ابراهيم، زكريا، مشكلة الفلسفة، دار مصر للطباعة، ص.152.
2- الطويل، توفيق، فلسفة الأخلاق نشأتها وتطورها، دار النهضة العربية، ط ثالثة، 1976 ، ص 267.
3- ينظر: ابراهيم، زكريا، مشكلة الفلسفة، ص154-155.

مشقة الاختيار، وكأن ليس في السلوك لحظة فردية تتوقف على قرار الذات، إلا أنهم يتناسون القول بأن اصل المشكلة الخُلقية هي في اصلها مشكلة شخصية تقوم على ضرورة الاختيار التي لا مندوحة عنها، ويحاول القائلون بالأخلاق الاجتماعية التأكيد على مسايرة الفرد للجماعة ولقيم المجتمع(1). وفي ذلك يقول زكريا ابراهيم: «وهكذا ينأى اصحاب الأخلاق الوضعية (الاجتماعية) بالشخص الانساني عن مملكة الحرية والاختيار وتقرير المصير ، لكي يهيبوا به - فيما يقوله دعاة الوجودية - أن يسمو بنفسه نحو مستوى الكلية المجردة، حيث في وسعه أن يتخلص من كل مسئولية»(2).

ويمكن القول تماهيا مع رأي أحد الباحثين: «لم تكن دعوة الوضعيين جديدة من كل وجه، فقد سبق الى القول بمقوماته اقرانهم من الحسيين منذ أقدم العصور، فأنكروا كل ما وراء الواقع من حقائق ابستيمولوجية وقيم أخلاقية، وبالنتيجة استخفوا بكل مفكر يضيع جهوده في مثل هذه الأوهام»(3).

ولو رجعنا الى تأسيسات هذا الاتجاه لوجدنا أن آراء مؤسسيه من مثل كونت و دوركهايم وبريل فإننا نجد، إنه لم تبرأ قوانين كونت مؤسس الوضعية من الذاتية ولم تخل من الطابع الميتافيزيقي، واتضح بعده بطلان ما قامت عليه فلسفته، وقد اكد تاريخ الفكر أن العقل لم يبدأ لاهوتيا ويتدرج ميتافيزيقيا وينتهي وضعيا علميا، كما توهم كونت(4). من ناحية أخرى رأى دوركهايم أن منبع القيم الأخلاقية هو الضمير الجماعي، وهذا هو المثل الأعلى أي تلك الروح الجماعية بالنسبة للفرد التي هي اكثر وعيا منه، على أن هذا المفهوم يقودنا ثانية الى فكرة النظام الاعلى، أو بتعبير آخر الى دين الانسانية وعبادة الكائن العظيم على غرار كونت(5). ويتجلى نقص الفهم عند الأخلاق الاجتماعية ولاسيما مع ليفي بريل في عدم اشارته الى شعور الالزام

ص: 144


1- ينظر: ابراهيم، زكريا، المشكلة الخلقية، دار مصر للطباعة، ص79-80
2- المصدر نفسه، ص 80.
3- الطويل، توفيق، فلسفة الأخلاق نشأتها وتطورها، ص 264.
4- ينظر: المصدر والصفحة نفسهما .
5- ينظر: غريغوار، فرنسوا، المذاهب الأخلاقية الكبرى، ترجمة قتيبة المعروفي، منشورات عويدات، بيروتباريس، ط ثالثة، 1984 ، ص 110.

الذي يبدو داخليا في الشعور الأخلاقي، كما يتمثل في تبرير الانسياق الاتباعي في الأخلاق. اذ لم يحدد المعيار الذي سيدلنا على السلوك الذي يجب أن نرغبه ؟(1)وهنا يمكن القول: «بهذا يتداعى اساس النظرية الوضعية في فصل الفرد من المجتمع، وجعله كائنا سلبيا يتلقى نظاما لم يشترك قط في وضعه ولا يملك الا طاعته راضيا او کارها، بل قد يساعدنا فهم العلاقة المتبادلة بين الفرد والمجتمع على أن ننتهي الى القول بأن الضمير الأخلاقي لا ينبع من ذات الإنسان وحده ولا من خارجه وحده»(2)إلا أنه رغم المآخذ على الوضعية غير أن فضائلها المتمثلة بالكشف عن العلاقات التي تربط بين الحياة الخلقية والحياة الاجتماعية تعد مهمة في البحث الأخلاقي(3).

ومن الواجب القول إن من بديهيات البحث الأخلاقي القول بأن الإنسان حيوان مقوم، ويتجلى نشاطه التقويمي العفوي أو الواعي في أنماط سلوك يألفها ويكررها وإن تكرارها يكسبها العادة، وهذه العادة فردية اجتماعية معاً مادامت سلوكاً(4). وهنا اشارة الى أن أخلاق الفرد تتشكل بسعيه أولاً وبتعبير آخر بوعيه الذي انتج رغبته في السعي لتغيير واقعه الأخلاقي مع عدم انكار دور البيئة الاجتماعية التي ينتمي اليها، إلا أن هذا الدور وإن كان مؤثراً لكنه لا ينكر حضور دور الفرد في تشكيل وتقييم نشاطه الأخلاقي.

إن لدراسة القيم الأخلاقية أهمية كبيرة، فالإنسان يهتم بما أودع فيه من عقل بمعرفة الحقيقة (ما هو كائن) ، ولكنه بما أودع فيه من شعور يهتم بممارسة الخير (ما ينبغي أن يكون)، فالأخلاق تتصل بالناحية الروحية عند الانسان، بحيث ينتظر من الإنسان أن يدرك واجباته وأن يهدف في اعماله الى تحقيق المبادئ الأخلاقية، فكل انسان ملزم لأن يبني تصرفاته ويبررها على وفق مبدأ أخلاقي يسير عليه وإذا لم يتخذ الإنسان لنفسه موقفاً من المشكلات التي يتعرض لها وآثر أن يكون سلبياً، فإن هذه

ص: 145


1- ينظر : المصدر نفسه، ص 109.
2- الطويل، توفيق، فلسفة الأخلاق نشأتها وتطورها، ص 266.
3- ينظر: المصدر نفسه، ص 267.
4- ينظر: العوا، عادل، العمدة في فلسفة القيم، دار طلاس ،دمشق، ط أولى، 1986، ص 9 وما بعدها.

السلبیة هي بالمقابل من الأخلاق(1)، ومع الوضعية الاجتماعية يبدو الأمر وكأن الفرد لا دور له فيما هو كائن لأن سلوكه نتيجة للبيئة التي ينتمي اليها، في حين البحث الأخلاقي يقوم على الموقف مما هو كائن لتشكيل ما ينبغي أن يكون.

الخاتمة:

أولاً وقبل كل شيء، ليس من شك في أن الفلسفة تمتلك خطاباً كونياً - على وفق الفهم السائد ، والفلسفة الأخلاقية المعيارية جزء من ذلك الخطاب، وقد عبرت عن نفسها تعبيراً موحداً رغم تعدد أنماطها، وكانت تسعى الى رفع مستوى وعي الإنسان لما أهله لادراك مثله العليا، وهو ما يتمظهر بجهد الفيلسوف بوصفه انساناً للرقي بنوعه، ونظرة الآخر الإنسان الاعتيادي إليه، فالخطاب الأخلاقي المعياري موجه الى مجموعة واسعة من البشرية، بل إنه خطاب الإنسانية، وهذه النظرة تمثل نظرة أخلاقية كونية متفائلة.

وإذا كان أحد المرتكزات الفلسفية للوردي (الاتجاه السفسطائي)، الذي عُرف بميله نحو النسبية، فإن النسبية هي أيضاً صفة لنتائج بحثه، لأنها صادرة عن عقل نسبي اعترف بهزيمته للوصول الى المطلق. لم يكن الوردي الوحيد الذي درس المجتمع العراقي لكنه انفرد بميزة مهمة وهي نقده اللاذع للمجتمع، وإذا أخذنا جانب القيم الأخلاقية نجد أنه طرح هذا الموضوع بصورة مختلفة قد تعود هذه الصورة في أسسها لرواد الأخلاق الوضعية الاجتماعية. ومن الواجب القول أنه على وفق ماتم دراسته في البحث، فإن الوردي يعد أحد رموز الأخلاق الوضعية الاجتماعية في الفكر العربي المعاصر.

وإن كان الوردي محقاً في جانب إلا أنه قد جانب الصواب في جانب آخر، لأن كلمة ينبغي تعني من بين ماتعني (المثال)، فبعد المثال أو قربه من الإنسان قد لا يحبطه عن الفعل، لكن اختيار المثل المناسب هو الحل، وإلا كيف يقول

ص: 146


1- ينظر: بدوي، محمد الأخلاق بين الفلسفة وعلم الاجتماع، ص 8.

تعالى في كتابه الكريم ((ولله المثل الأعلى)). إلا أن هذا المثل محدد بقدر الطاقة الانسانية، والطاقة تفهم هنا الطبيعة التي قال بها الوردي، ولكن الله جل جلاله هو المثل الأعلى، ولو لم يعلم الله طاقة الإنسان ما حثه على ذلك. وهذا من منظور ديني، وكذلك من منظور الأخلاق الوضعية الاجتماعية كانت دراسات الوردي غارقة في الوصف للجوانب السلبية أو القيم المقلوبة وهذا من ناحية، وإن كشف ماهو كائن، إلا أن هذا لا يؤدي للعمل بما هو ممكن.

إن الإرث الاجتماعي العراقي يمتلك إرثاً من الأفكار والحوادث لا تعد ولا تحصى، أثارت ومازالت تُثير التساؤل والجدل حول مضامينها، بل أثارت الجدل حتى عن طبيعة المجتمع ، ولكن أي مجتمع ؟ هل هو المجتمع البدوي أو المجتمع الريفي أو المجتمع الحضري ؟ وهل مازالت ظواهر هذه المجتمعات موضع الدراسة والاهتمام؟ وهل بقيت هذه التصنيفات إلى اليوم؟ وهذه الأسئلة بحاجة الى اجابات من دراسات أخرى.

ص: 147

أخلاق المثاليّة المُعدَّلة عند توفيق الطويل

(نقد ذاتي للمشاريع الأخلاقية الغربية)

د. غيضان السيد علي(1)

مقدمة

يعد الدكتور توفيق الطويل صاحب نظرة أنطولوجية، إبستمولوجية، أخلاقية تؤمن بأن مشكلة الوجود لا تحل برده إلى المادة وحدها أو الروح وحده، ولكنها تحل بنظرة أوسع وأكثر رحابه، أي برده إلى المادة والروح معا، فهو صاحب مذهب ثنائي في الوجود ومن ثم كان رأيه في المعرفة امتدادا لرأيه في الوجود، تلك المعرفة التي ردها إلى التجربة الحسية والنظر العقلي مجتمعين، وبطبيعة الحال انعكست تلك الآراء على المجال الأخلاقي. وبدا ذلك واضحا في إنكاره لوجهه نظر الطبيعيين من التجريبيين والحسيين التي ترى أن علم الأخلاق علم عملي يهدف إلى تحقيق غاية في حياتنا يقصد الإنسان إلى تحقيقها باعتبارها الخير الأقصى، كما أنكر آراء

ص: 148


1- مدرس الفلسفة الحديثة بكلية الآداب جامعة بني سويف جمهورية مصر العربية: يرى الباحث:» أن الدكتور توفيق الطويل صاحب نظرة أنطولوجية، إبستمولوجية، أخلاقية، تؤمن بأن مشكلة الوجود لا تحل برده إلى المادة وحدها أو الروح وحده، ولكنها تحل بنظرة أوسع وأكثر رحابه ، أي برده إلى المادة والروح معا «اذ اعتبر الطويل أن الفضيلة لا تكون بالاسترسال مع الشهوة ولا تكون أيضًا بإمانتها، وإنما تكون في التوسط والاعتدال وإخضاعها لحكم العقل. وبهذا يرى الباحث وقد كان بإمكانه أن يستخلص هذا الموقف الوسطي ويهتدي إليه من القرآن الكريم وآياته الكثيرة التي ورد فيها لفظ «الوسط» ليفيد المدح والتقدير والاعتدال، فحديث القرآن عن هذه المادة يفهم منه أن التوسط فضيلة من فضائل الإسلام وخلق من أخلاقه . المحرر

المثاليين من الحدسيين في الأخلاق من حيث اعتبارها علما نظريًا يهتم بفهم طبيعة المثل العليا في السلوك الإنساني، ولا يهتم بالكشف عن الطريق التي تؤدي إلى تحقيقها، ولذلك رأى أنه من الأدنى إلى الصواب أن نجمع بين هذين الاتجاهين المتطرفين؛ فتصبح الأخلاق علماً نظريًا وعمليا معًا، فهي دراسة عقلية تهدف إلى فهم طبيعة المثل العليا التي تستغل في حياتنا الدنيا، وهي علم وفن، ومن الضلال أن تقتصر على جانب واحد منها.

ولذلك فإن توفيق الطويل مع تقديره البالغ لمذاهب التجريبيين والوضعيين والمثاليين في الأخلاق، إلا أنه لم يقف منها موقف المؤيد، وإنما ابتكر لنفسه موقفًا يعبر عن وجهه نظره في تحقيق الكمال الأخلاقى من خلال نظرته إلى الإنسان ككائن أخلاقي، وظهر من كتاباته أنه يدين بالولاء لنوع من المثالية الأخلاقية المعدلة التي برئت من التزمت المقيت، وتحررت من قيود النزعة الصورية التي شابت المثالية النقدية الكانطية. فما هي طبيعة هذه المثالية الجديدة، وإلى أي مدى عبرت عن الذات والهوية الإسلامية؟ وما هي المؤثرات التي تأثرت بها وساعدت على ظهورها ونشأتها؟ وما هي مكانتها من المثاليات التقليدية؟ وهل تخلصت من تلك الشوائب التي لحقت بالمثالية النقدية الكانطية المتزمتة ؟ ثم نختتم بوضع المثالية المعدلة في الميزان لنعرف ما لها وما عليها. وهذا ما سنقف عليه من خلال المحاور الآتية:

أولاً : المثالية المعدلة تعبيرًا عن الهوية الإسلامية

انطلق تصور توفيق الطويل الأخلاقي من أن الفضيلة لا تكون بالاسترسال مع الشهوة ولا تكون أيضًا بإماتتها، وإنما تكون في التوسط والاعتدال وإخضاعها الحكم العقل، ويبدو ذلك تشابها واضحًا وتأثراً لا يمكن إنكاره من جانب صاحب «المثالية المعدلة» بأرسطو - رغم المآخذ الكثيرة التي أخذها الطويل على مذهب أرسطو الأخلاقي - فكلاهما رأى أن الفضيلة تعني الاعتدال Moderation، ومن أجل ذلك قامت نظرية الأوساط عند أرسطو التي جعلت الفضيلة وسطاً بين إفراط وتفريط أو بحسب تعبير أرسطو نفسه «وسط بين رذيلتين، إحداهما بالإفراط

ص: 149

والأخرى بالتفريط »(1). وفكرة الوسط هذه وإن نسبت إلى أرسطو واشتهر بها، إلا أنها من الأفكار البديهية التي تهتدي إليها الفطرة وتدل عليها السجيّة، فليس ضروريًا أن يكون أرسطو أول من قال بها في مجال الأخلاق، ولكنه قطعا أول من أصلها وشرحها وجعلها قاعدة أخلاقية فلسفية.

وظهرت هذه القاعدة الأخلاقية عند الطويل؛ إذا يرى أن الإنسان ليس حسًا خالصا ولا عقلاً محضًا، ولكنه يجمع بينهما ولا تستقيم حياته الصحيحة من دونهما معًا، وتكامل النفس يقتضي الإبقاء على قوى الإنسان حسية كانت أو عقلية مع تمكين هذه القوى من أن تؤدي وظيفتها الطبيعية بتوجيه العقل، والموقف الخلقي يقوم على أنَّ الطبيعة البشرية تجمع فعلاً بين نزعات الأثرة والإيثار، ومن الخطأ أن تقوم الأخلاق على الأنانية الموغلة وحدها أو الغيرية الطاغية وحدها، وهو من المؤمنين بقول ليكي Lecky إن الفضل الأكبر في نهضة الأمم وتقدم الحضارات مرجعه إلى مسعی قوم كانوا وهم في غمرة سعيهم الحثيث من أجل مصالحهم الشخصية يعملون عن وعي الترقية مصالح المجموع، ولم يكن قول ليكي هذا ببعيد عن جوهر الدين الإسلامي الذي يدين به توفيق الطويل وتعبر مثاليته المعدلة في أصلها عن تعبير لجوهره الأخلاقي، ذلك الدين الذي أقام شريعته جملة وتفصيلاً على تحقيق مصالح الناس أفرادا وجماعات ومنع المفاسد من حياتهم الخاصة والعامة، وأوضح معالم الطريق أمام العقل البشري حتى لا تضلله الأهواء والشهوات(2).

إذن فقد أثرت دعوة الإسلام إلى الوسطية تأثيراً جما في فكر توفيق الطويل الأخلاقي، تلك الدعوة التي تتفق تمامًا مع مبدأ الوسط الأخلاقي، فتدعو دائماً إلى الاعتدال والتوسط والتوازن في كل شيء لقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (البقرة : 143). وجاءت مادة «الوسط» في اللغة العربية لتدل على العدل والإنصاف

ص: 150


1- أرسطو: الأخلاق إلى نيقو ماخوس، ترجمة من اليونانية إلى الفرنسية وقدم له بارتلمي سانتهلير، نقله إلى العربية أحمد لطفي السيد [ ك 2 - 65 (ف15)] القاهرة، مطبعة دار الكتب المصرية، 1924، ص 248.
2- زينب عفيفي شاكر : المثالية المعدلة في فلسفة الدكتور توفيق الطويل الخلفية، (مقالة في نقد الفكر الأخلاقي) مقاله بالكتاب التذكاري «الدكتور توفيق الطويل مفكرًا عربيا ورائدا للفلسفة الخلقية - بحوث ودراسات مهداه» المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1995، ص 86.

وعلى البعد بين الإفراط والتفريط، وهي تفيد معنى الخيرية كما تفيدها كلمة السواء والنصفة والعدل، فإذا كان وسط شيء ما له طرفان متساويان في القدر، فإن وسط الشيء أعدله وأفضله، أيضًا يقال من أوسط قومه أي من خيارهم، والرجال الوسيط هوالحسيب بين جماعته. ووردت الكلمة في القرآن الكريم في مواضع عدة تفيد المدح والتقدير، وحديث القرآن عن هذه المادة يفهم منه أن التوسط فضيلة من فضائل الإسلام وخلق من أخلاقه، فالصفة الأساسية الجليلة التي أرادها الله تعالى للأمة الإسلامية هي الوسط، وورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم فسر كلمة (وسطا) في الآية بكلمة (عدلاً)، وقال المفسرون: «أمة وسطاً» أي: أخيارًا وعدولاً. وقد وردت مادة (الوسط) أيضًا كصفة مدح للعبادة في الإسلام، قال تعالى: } حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَات وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ } (البقرة: 238). وفسر البعض المقصود بالصلاة الوسطى هي الصلاة المتوسطة المعتدلة التي لا نقصان فيها ولا إفراط وتأتي كلمة الوسط في «سورة القلم» بصدد الحديث عن أصحاب الجنة الذين منعوا الزكاة، قال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} (القلم: (28)، وأوسطهم خيرهم وأعدلهم رأيًا وأمثلهم طريقة وأسرعهم رجعة إلى الله عز وجل. إلى غير ذلك من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة وأقوال الحكماء والعلماء والشعراء التي تشير إلى الوسط وتحمده باعتباره فضيلة خلقية(1). ومن ثم يصرّح الطويل قائلاً ومؤكدًا على موقفه الوسطى الذي يتماشي مع وسطية الدين الإسلامي: «ليس في الإسلام - كما يبدو في القرآن الكريم وسنة الرسول (صلى الله عليه وسلم) هذا الغلو الذي يوجب على الإنسان قتل ميوله وشهواته، ووأد مطالبه وحاجاته، وكراهية اللذة في كل صورها، بل صرّح القرآن بضرورة الجمع بين الدين والدنيا، فأباح للمؤمنين كثيرا من ملذات الحياة {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا* إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ*قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً وْمَ الْقِيَامَةِ * كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (الأعراف: 31-32). وصرّح القرآن

ص: 151


1- ابن منظور: لسان العرب، الجزء السادس، دار المعارف، د. ت، (مادة وسط) ص 4834 4831-.

بأن الآخرة تنال مع التمتع بنعم الله في الحياة الدنيا إذا قال: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ * وَلَا تَنسَ نَصيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} (القصص: 77). وفي هذا التيار جرت الصحيح من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم. فزينة الدنيا وبهجتها، والتمتع باللذاذات والمشتهيات مباح في الإسلام بشرط القصد والاعتدال وحسن النية فيما يقول أئمة الدين نفسه(1). ومن ثم صور الروائي الكبير نجيب محفوظ توفيق الطويل في روايته «القاهرة الجديدة» في شخصية «مأمون رضوان» المتدين المثالي الذي يري في الإسلام عزة المسلمين وحلا لمشاكل المجتمع المعاصر(2).

وإذا ما واصلنا تأصيل المثاليّة المعدلة في الفكر الإسلامي الذي انطلق في جزء كبير منه من الدين الإسلامي، لتبين لنا أنه وضع قواعد المثالية المعدلة من خلال الدعوة إلى الوسطية، تلك الدعوة التي وجدنا صداها يتردد في الفكر الفلسفي الأخلاقي الإسلامي عند الفارابي ومسكويه، وغيرهم ممن قالوا بمبدأ الوسط في الأخلاق، والذي لا يتسع المقام لذكرهم. وهو أمرٌ يجعلنا نؤكد أن المثاليّة المعدلة عند توفيق الطويل تعبر عن الهوية الإسلامية

خير تعبير .

ثانيًا: المثالية المعدلة ونقد المذاهب الأخلاقية الغربية

بعد أن حدد الطويل موضوع علم الأخلاق والمجال الذي ينبغي أن يهتم به فيلسوف الأخلاق راح يوضح مصادر الإلزام الخلقي؛ أي المعايير والضوابط التي في ضوئها نحكم على السلوك البشري بأنه فاضل أو شرير، فبين لنا أن ثمة مدارس واتجاهات غربية كبرى متعددة ومتباينة سعت إلى تفسير مصادر الإلزام، قام بحصرها في اتجاهين رئيسيين هما: التجريبيون والعقليون؛ التجريبيون أو أتباع الاستقراء في مقابل العقليين أو دعاة الفطرة، وعن أولهما صدرت مذاهب المنفعة العامة، ونظرية التطور والنشوء والارتقاء، والمذهب العملي والمذهب الوضعي كما يبدو عند

ص: 152


1- توفيق الطويل : المثل الأعلى بين وأد الشهوة وإشباعها، مجلة علم النفس يوليو، 1952 ص 43.
2- أنظر : نجيب محفوظ : القاهرة الجديدة، مكتبة مصر، القاهرة، د.ت.

المدرسة الاجتماعية الفرنسية ومذهب الوضعية المنطقية المعاصرة، وعن الثاني صدرت مذاهب الحدسيين والمثاليين في مختلف صورهما(1).

وينكر أصحاب المذهب التجريبي - في شتى صوره - ما وراء العالم المحسوس من حقائق وقيم، ونادوا بالوقوف عند الواقع، واصطنعوا مناهج البحث التجريبي في دراسته. وانتهى بهم هذا الموقف إلى رد القانون الخلقي إلى الذات (التجريبية) التي تصدر أحكامها الخلقية، وليس إلى الموضوع الذي تصدر عنه، مع اتفاقهم على إقامة الأخلاقية على وجدان اللذة والألم أو المنفعة والضرر ، فتوقفت على جزاءاتها ونتائجها، وأصبح الخير ما يحقق نفعًا أو يدفع ضرراً ، والشر ما يجلب مضرة أو يعوق منفعة، مع التسوية بين مدلولات اللذة والمنفعة والسعادة، وأصبح الإنسان في تصور هؤلاء الطبيعيين عامة كائن حاس عاطل من القوى الروحية والعقلية، وأضحى هدف الأخلاقية إشباع الأنانية وتوكيد الذات ولو جاء على حساب القيم الروحية العليا، فإذا بهم يسقطون من حسابهم الجانب المشرق الوضاء في طبيعة الإنسان ويقفون عند جانبها البهيمي للبحث في أو حال ذكرياته النابية وأصوله العدوانية ورغباته الجنسية ونحوها، من دون أن يتجاوزوا هذا الواقع الأليم إلى تصوير ما ينبغي أن يكون وهو هدف الفلسفة الأخلاقية الأصيلة .

أما أصحاب المذهب العقلي (على اختلافهم) فقد ضاقوا بتفسير التجريبيين لأخلاقية أفعالنا الإنسانية، فنفروا من القول بذاتية الأحكام الخلقية، ونسبية القيم وتغيرها بتغير الظروف والأحوال، وأنكروا إرجاع الضمير إلى التجربة، ورفضوا ربط الأخلاقية بجزاءاتها ونتائجها .. فرد العقليون الأخلاقية إلى الحدس أو العقل دون الوجدان، وفصلوا بينها وبين إغراء الميول والرغبات والمنافع واللذات، واعتبروا الخيرية Goodness صفة ذاتية عينية تقوم في طبيعة الفعل الخير ولا تتوقف على شعور الفرد أو الجماعة بالاستحسان، وتصوروا الضمير قوة فطرية كامنة في طبائع

ص: 153


1- توفيق الطويل: العقليون والتجريبيون في فلسفة الأخلاق، مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة الجزء الأول، المجلد 14، 1952، ص 39.

البشر تدرك الخير وتميز بينه وبين الشر حدسيًا تلقائيًا من دون اعتبار لنتائج الأفعال وآثارها، وجاهروا بأن الأخلاقية تحمل جزاءها في باطنها وتتضمن في ذاتها مبرراتها(1).

وتطرف أصحاب هذا الاتجاه وغلوا في تطرفهم حتى أنهم اعتبروا أن الجسم مبدأ كل شر والعقل مبدأ كل خير ، ومن هنا جاء نفورهم من الجسم، وطالبوا بالعمل على استئصال شهواته وإماتة رغباته ونزواته - على طريقة الصوفية والنساك - فحاربوا الجانب الحيواني في طبيعة الإنسان، وطالبوا بطاعة الواجب لذاته، اعتقادًا منهم بأن الأخلاقية غاية في ذاتها، وليست أداة لغاية تقوم خارجها، وانتهى هذا الموقف بالتضحية بالذات وقمع رغباتها ووأد أهوائها، وتوجيه الأخلاق إلى الإيثار ونكران الذات. وكان من أظهر دلالات التطرف في ذلك الاتجاه هو تصور المتطرفين منهم لفكرة السعادة؛ إذ طلبوا السعادة ابتغاء الفضيلة فضحوا بسعادتهم من أجل غاية غامضة في عقولهم(2).

ولذلك لم يقف الطويل في هذا الصدد لا مع التجريبيين على طول الخط ولا مع العقليين إلى آخر شوطهم؛ لأنه يرى أن كلا الفريقين مخطئ، وأن كلا منهما قد تطرف في اتجاهه فبعد عن الصواب، فكل منهما قد سعى إلى الفصل بين العقل والبدن، فاخضع التجريبيون العقل كلية للتجربة، أما العقليون فقد جعلوا العقل وحده مالكًا للحقيقة المطلقة؛ ولذلك رأي الطويل خطأ وتطرف الفريقين؛ إذ رأى أن فلسفة الأخلاق ينبغي أن تتعامل مع الإنسان كما هو من حيث إنه مؤلف من جسم وعقل، جانب مادي وآخر روحي، إنّه مكون من مادة وصورة، ولا يصح أن نعامله بكونه مادة فقط أو صورة فقط، فالقول بأن حياة الإنسان حياة حيوانية خالصة بعيد عن الصواب بعد القول بأن حياته روحية خالصة، كما ثبت أن تصور حياة الفرد منعزلاً عن غيره بعيد عن الأخلاق بعد القول بفناء الفرد في المجموع، ولذلك نادي بضرورة تكامل الجانبين معًا في مثاليته المعدلة البعيدة عن كل تطرف.

ص: 154


1- توفيق الطويل : فلسفة الأخلاق - نشأتها وتطورها، القاهرة، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الطبعة الرابعة، 1985، ص 486 .
2- المصدر السابق: ص 494 .

ثالثًا - موقف المثالية المعدلة من المثالية النقدية:

كانت الأخلاق المثالية النقدية عند كانط من أهم الاتجاهات الأخلاقية الغربية التي قدمت لها المثالية المعدلة سهام النقد؛ حيث جاءت المثالية المعدلة في الأساس لتعديل وتفادى أوجه النقص والقصور التي وقعت فيها تلك المثالية النقدية، فيقول الطويل: «إنا مع تقديرنا البالغ لمذاهب التجريبيين والوضعيين وأمثالهم ندين بالولاء لنوع جديد من المثالية الأخلاقية المعدلة التي برئت من التزمت المقيت، وتحررت من قيود النزعة الصورية التي شابت المثالية الكانطية المتطرفة»(1)ويصف الطويل مثالية كانط بعدة صفات؛ كأن يصفها بالتطرف، والتشدد، والتزمت المقيت. أو كأن يصفها ب- «المثالية بمعناها الضيق»، فيقول: «والمثالية في معناها الضيق، الاتجاه الذي يجعل الأخلاقية غاية في ذاتها، فيرفض القول بأنها تهدف إلى إسعاد الفرد - كما ذهب قدماء اليونان ومن أخذ برأيهم - أو منفعة المجموع كما قال أتباع المذهب النفعي أو تحقيق الكمال كما قال دعاة التطور وغيرهم من مفكري الأخلاق، أو غير هذا هذا من غايات تقوم خارج الأخلاقية، فالأخلاقية تهدف إلى غاية موضعية يتوخاها الإنسان بما هو إنسان، ومن ثم كانت قيمتها مطلقة، ليست نسبية وإلا استحال قيام مبدأ أسمي للأخلاقية، وبهذا تصبح الإنسانية غاية قصوى للواجب بالذات»(2). مادام الواجب الأخلاقي هو ضرورة أداء الفعل احترامًا للقانون العقلي في ذاته.

ولذلك يستطرد الطويل في نقده لهذه المثالية، ويقرر أنها قد بلغت ذروتها بمعناها الضيق في فلسفة كانط ؛ حيث أوجب صاحبها على الإنسان أن يؤدي الواجب، لذاته بباعث من تقديره العقلي لمبدأ الواجب، ومن غير اعتبار لما يترتب على تأديته من نتائج وآثار ، ومن غير أن تتدخل عواطفه أو ميوله(3). أي إن الأخلاق عنده كما عند غيره من المثاليين علمًا معياريًا وليس وضعيًا، فعالم الأخلاق يدرس ما ينبغي أن

ص: 155


1- توفيق الطويل : فلسفة الأخلاق، ص 40.
2- المصدر السابق، ص 400
3- المصدر السابق، ص 401

يكون عليه سلوك الإنسان، ولا يقف عند وصف هذا السلوك وتقريره كما يفعل عالم النفس وعالم الاجتماع كل منهما في نطاق دراساته ومناهجها.

وقد كان كانط من أنصار المذاهب الديونطولوجية، حيث أنكر ربط الأخلاقية بنتائج الأفعال، من لذات وآلام ومنافع ومضار وجعل قيمة الأفعال قائمة في باطنها وليس في الغايات التي تقوم خارجها، ومن أجل هذا كان مذهبه نظرية في الواجب لا نظرية في الخير (الذي يصيب صاحبه أو غيره من الناس) وقد توصل إلى فكرته بالقول بأن الخيرية صفة الإرادة وحدها، فلا شيء غير الإرادة يمكن أن يكون خيرًا بالذات، والإرادة الخيرة لا تحركها رغبات أو غايات، ولا عواطف ولا شهوات؛ لأن الأفعال التي تصدر عن هذه البواعث تكون قيمتها مشروطة مرهونة بتحقيق هذه الغايات وإشباع تلك الشهوات، وإذا اختفت الميول انعدمت قيمة الأفعال. ومن ثم أراد كانط أن يحرر السلوك الأخلاقي من قيود هذه الميول والأهواء حتى تكون قيمته باطنية مطلقة، وبهذا تستبعد اللذة والمنفعة والسعادة غاية قصوى لأفعال الإنسان الإرادية، فالباعث على فعل الواجب لا يقوم قط في الرغبة في تحقيق غاية، إن الباعث يقوم في الإرادة نفسها، ويجب أن يكون صوريًا لا يستفتي الواقع ولا يستمد من التجربة، ومن ثم كان عاما مطلقًا، وتيسر للإنسان أن يجعل قاعدة تصرفه قانونًا في كل زمان ومكان(1).

ويرى الطويل أن فلسفة كانط الأخلاقية تنطوي على غيره للفضيلة لا تداني، ولكن فيها تطرفًا وغلوا يكاد يتلف بعض جوانبها؛ ولذلك انطلقت المثالية المعدلة تدعم الفضيلة وتتفادى هذا التطرف وذاك الغلو محاولة أن تبقى لها الصفاء الذي يلائم طبيعتها. فما هي تلك المآخذ التي يجب تصحيحها أو تعديلها في هذه المثالية المتزمتة؟

يرى الطويل أن مظاهر الغلو والتطرف والضعف والنقص بادية في نظرية كانط الأخلاقية، وتجلي هذا في صوريتها المتطرفة وتزمتها المقيت. وهو وهو أمر سنوضحه فيما يأتي:

ص: 156


1- المصدر السابق، ص 407.

1- الصورية المتطرفة

كانت أولى المآخذ التي أخذها الطويل على مثالية كانط النقدية أنها صورية متطرفة، فهي عامة ومطلقة ولا تقبل أية استثناءات. فمن المعروف أن المبدأ الصوري في المنطق هو مبدأ التناسق أو توافق التفكير مع نفسه، وهو يساعد الإنسان على عدم الوقوع في الخطأ صوريًا، بمعنى أن تكون نتائج التفكير فيه على اتساق مع مقدماتها من دون اهتمام بمدى مطابقة النتائج للواقع. ومن ثم يجعل كانط القانون الأخلاقي بمثل هذه الصورية فيجعله مطلقًا لابد من أن تخضع له الأفعال الإنسانية في كل زمان ومكان. ومن ثم رأى الطويل أن مثل هذا الأمر المطلق لا يساعدنا على استخلاص واجباتنا في الحياة العملية، حقيقة أن الوعد الكاذب إذا عُمم قانونًا انعدم الوعد وافتقد مدلوله وبذلك يتناقض مع نفسه، ولكن أي تناقض هناك في أن تريد أن يكف كل إنسان عن إعطاء وعد لأحد؟ هذا من غير تناقض؟ وحقيقة أن تعمیم الامتناع عن مساعدة المصاب ينتهي بصاحبه إلى فقدان الأمل في مساعدة الغير له عند الحاجة، فتناقض الإرادة نفسها بذلك، ولكن أي تناقض في أن تريد أن يكف كل إنسان عن مساعدة غيره(1).

كما أن مبدأ كانط الصوري - من وجهة نظر الطويل - يزودنا بقاعدة سلبية مأمونة للسلوك، بمعنى إننا إذا لم نستطع أن نريد لكل إنسان في ظروفنا أن يتصرف كما نتصرف، كنا على يقين بخطأ سلوكنا أخلاقيًا، ولكننا لا نستطيع أن نستخلص من مبدئه قاعدة إيجابية فنهتدي بها - لا فيما يجب الإمساك عن فعله - بل فيما ينبغي

فعله(2).

إذن يعيب توفيق الطويل على كانط تلك الصورية التي وقع فيها ظنًا منه في أنه بوسعه أن يؤسس الأخلاق على أسس صورية أولية سابقة على التجربة، معتقدًا بأن ومن هنا عمل القانون الأخلاقي لا ينصب على مادة الأفعال، بل على صورتها فقط.

ص: 157


1- توفيق الطويل : فلسفة الأخلاق، ص443.
2- المصدر السابق، ص 443.

الطويل على تفادي هذه النزعة الصورية في مثاليته المعدلة. التي رأي فيها أن مجال علم الأخلاق هو المجال الخاص «بالشعور الخلقي» ذلك الشعور الذي يجتمع فيه الهوى مع المثل الأعلى وتتصارع فيها الرغبة والغريزة مع العقل وينشب صراع بين ما أرغب فيه وبين ما ينبغي على أن افعله.

2- التزمت المقيت

وكانت هذه هي أهم المآخذ التي أخذها توفيق الطويل وغيره من نقاد المثالية الأخلاقية الكانطية هو ذاك التزمت والتشدد؛ حيث إن مبدأ كانط يصور قانونًا أخلاقيًا أشد وأعلى مما يتطلب الحس الخلقي عند رجل فاضل، مما يجعله متزمتا متشددًا، وهذا التزمت يبدو في صور شتى: أولها، استبعاد العواطف والميول والدين والقانون الوضعي؛ إذ إن السلوك لكي يكون متمشيا مع القانون الأخلاقي. لا يكفي فيه أن يكون مشروعًا في تعاليم الدين أو مقبولاً عند الرأي العام أو معفيًا من عقوبة القانون الوضعي، فإن الامتناع عن اقتراف الآثام مع وجود ما يغري بها، يتنافي مع الأخلاقية متى كان بوازع من خشية الله واتقاء لعذاب الجحيم أو خوفًا من عقاب ينزله القانون الوضعي أو ينذر به العرف الاجتماعي أو حتى متى جاء تفاديًا لوخزات الضمير ! إنه لا يكون أخلاقيًا إلا متى صدر عن تقدير عقلي لمبدأ الواجب، أي نابعا من العقل الخلقي وحده، مع أن السلوك - كما يرى الطويل - الذي ينبع من الوجدان كثيرا ما يكون أنبل وأسمى عن ذلك الذي يصدر عن العقل، وقد تهكم الشاعر شيللر على ذلك كما سبق أن بينا، إذ يجب أن لا يصدر الفعل الأخلاقي عن باعث من الميل أو العاطفة، وهذا نفسه تشدد لا مبرر له؛ إذ كثيرًا ما يصدر فعل الخير عن عاطفة نبيلة كمحبة البشر، بل تضيف إلى هذا أن الخير كثيرًا ما يؤدي بوازع من طاعة الله ومرضاته، وهنا تظهر شخصية الطويل الذي يقدر دور الإيمان كباعث في السلوك الأخلاقي. وثانيها، منع الاستثناء من القاعدة، جعل كانط المبادئ الأخلاقية مطلقة غير قابلة للاستثناء، وهنا يعترض الطويل على منع الاستثناء فيقول: «إننا نعرف بالحس الخلقي أن ليس ثمة قاعدة أخلاقية بلغت من القداسة حدًا يمنع من أن

ص: 158

نستثنى منها بعض الحالات»(1)، بل ويستشهد بتأكيد جاكوبي Jacobi في حملته على كانط، التي جاهر فيه بأن القانون قد وضع من أجل الإنسان، وليس الإنسان هو الذي خلق من أجل القانون، ومن أجل هذا كان من الضلال أن يطيع الإنسان القانون طاعة عمياء، وعليه أن يستفتى قلبه ، وألا يأذن لهذه الفلسفة الترنسند نتالية الصورية أن تنتزعه من صدره. فيمكن إباحة الكذب في الحروب وعلى المريض وفي الصلح بين المتخاصمين وفي تدليل الزوجة والمبالغة في وصف جمالها من دون أن يكون ذلك خروجًا على الأخلاقية وتعديًا على مبادئها. ولذلك يرى توفيق الطويل أنه يجوز عند الطويل كسر القاعدة الخلقية وعصيانها من أجل قاعدة أسمى بشرط ألا يكون الوازع على كسرها وعصيانها مصلحة شخصية أو نزوة أو هوى طارئ(2). وثالثها، الفصل بين العقل والحساسية؛ إذ ناهض الطويل في مذهبه الأخلاقي الغلو والتطرف في كل مظاهره وألوانه، ولما كان استبعاد الميل أو الوجدان في كل صورة كباعث على الواجب تطرف من قبل كانط، وأن إلحاحه في رد الأخلاقية إلى العقل وحده يظهره مناهضا للحساسية ومطالبًا بمجاهدة نوازعها والعمل على إماتة شهواتها، ومن ثم تم وضعه من قبل بعض النقاد في زمرة الكلبية والرواقية ونساك المسيحية وزهادها، ومن هنا نتبين أن كانط قد فصل بين العقل والحساسية، وتحيز للأول وتطرف في إعلاء شأنه، ومن هنا استحق نقد الطويل الذي عمل على تعديل مثاليته المتزمتة المتطرفة فرأي أن المثالية الأخلاقية الصحيحة لا تستقيم ما لم تظل شخصية الإنسان سليمة متكاملة Integrated وهذا يتعارض مع الفصل الكامل بين شطريها من عقل وحساسية، فالقانون الأخلاقي يتمشى مع منطق العقل لا محالة، ولكن هذا لا يعني قط أنه لا يستمد إلا من العقل، إنه مساير للعقل بالقياس إلى الغاية التي نتوخاها من وراء سلوكنا، وهو إن طالبنا بالحد من جموح الحس وتنظيم مطالبه، لا يقتضينا محاربته ولا إغفال نوازعه(3). ومن أجل هذا قام الطويل بالتعديل والتقويم لهذه المثالية المتزمتة والصورية المتطرفة. وخاصة إذا أضفنا إلى ما تقدم أن كانط كان قد

ص: 159


1- توفيق الطويل : فلسفة الأخلاق، ص 444.
2- المصدر السابق، ص 447.
3- المصدر السابق، ص 448

حرص على استقلال الإنسان واستقلال إرادته عن كل سلطة، وأقام الأخلاق بعيدة عن وحي الدين، ورفض رد الواجب إلى الله، وهو أمر جعل من الطبيعي أن يضيق به رجال اللاهوت، بل أصبح كثيرون ممن يتناولون فكره الديني يشككون في حقيقة إيمانه، وخاصة أنه نقد الأدلة العقلية الممكنة على وجود الله، وأنكر الطقوس والشعائر المصاحبة لكل لدين جميع معتبراً أن الله تعالى غني عن العالمين، وليس هو كسائر المخلوقات البشرية التي تحب التملق والثناء والحمد.

رابعًا: مكانة المثالية المعدلة من المثالية التقليدية

سعت المثالية التقليدية بشكل عام إلى رد كل وجود إلى الفكر بأوسع معاني هذا اللفظ، ومن ثم جاءت رؤيتها للأخلاق مسايرة لتلك الرؤية، لتشير إلى مثل أعلى أو مبدأ أسمى ينبغي أن يسير بمقتضاه السلوك الإنساني بما هو كذلك، أو إقامة مبادئ عامة تستخدم أساسًا للقواعد العملية التي يتطلبها سلوكنا الشخصي وتقتضيها مسيرتنا العملية، والمثالية تعدّ الأخلاقية غاية في ذاتها، أي غاية موضوعية يتوخاها الإنسان بما هو إنسان، وليست وسيلة إلى تحقيق لذة أو سعادة أو كمال أو غير هذا مما يقوم خارج الأخلاقية(1).

ویری توفيق الطويل أن المثالية - بمعناها التقليدي - تقتضي وضع مثل إنساني رفیع يسير بمقتضاه السلوك الإنساني، ولا تقنع بالمثل التي نبتت في حياة المجتمعات البشرية تلقائيا متى اجتمع الناس بعضهم إلى بعض، تلك المثل التي يقنع بدراستها التجريبيون والوضعيون من مفكري الأخلاق من دون أن يبيحوا تجاوزها إلى وضع مثل أعلى، يعبر عما ينبغي أن يكون، إيمانا منهم ينبغي أن يكون، إيمانا منهم بأن الأخلاق متى أريد لها أن تكون علما، أن وجب تتقيد بدراسة الواقع بمناهج استقرائية خالصة، ولا تنصرف عن البحث في الظواهر الخلقية الواقعية إلى البحث في طبيعة الخير وماهية الواجب وغائية السلوك، ووضع مثل أعلى يحمل في باطنه قيمته ويتضمن في ذاته غايته»(2).

ص: 160


1- المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، إصدار مجمع اللغة العربية بإشراف ابراهيم مدكور، القاهرة، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1983، ص 169 170 (مادة مثالية).
2- توفيق الطويل : فلسفة الأخلاق، ص 484.

وهنا يقرر الطويل أن المثالية - بهذا الشكل - قد ابتعدت عن دنيا الواقع واستخفت بعالم الشهادة واهتمت بالذات العارفة حتى أغرقت فيها الوجود الواقعي، وحصرت نفسها في كيفية المعرفة حتى نسيت الإنسان والعالم الذي يعيش فيه، واهتمت بالرابطة التي تقوم بين موضوع و محمول..... وفي غمرة الاهتمام بالذات العارفة وصيغها وإطاراتها العامة لم تفرق بين إنسان وإنسان، وإنما حصرت اهتمامها في الإنسان بما هو إنسان أي في الإنسان الذي يمثل البشرية مجردة من قيود الزمان والمكان ومقتضيات الظروف والأحوال، ومن هنا كانت ثورة الكثيرين من الفلاسفة ومدارسهم، وتجلت هذه الثورة في فلسفة الواقعيين الوجوديين والعمليين والبراجماتبين وغيرها

من فلسفات المعاصرين(1)

كما أنه إذا كانت الواقعية تبدو أقرب إلى الصواب من مذاهب المثاليين، فإنها - بدورها - لا تخلو من مآخذ، فالواقعية المادية قد ردت العالم إلى المادة، وجعلت العقل مجرد مظهر لها، وبهذا طمست الجانب الروحي المعقول لهذا الوجود، وفي تصور بقية فروع الواقعية للإدراك الحسي غلو غير مستساغ(2).

ومن ثم رأي الطويل أن المثالية والواقعية تعتبران حتى اليوم مذهبين متعارضين، ولكن الخلاف بينهما قد تغير عما كان عليه حاله في مطلع العصر الحديث، فالمثالية كانت ترى أن مصدر المعرفة قائم في الذات، في حين كانت تراه الواقعية قائماً في الموضوع؛ أي في الشيء المدرك، ولكن الأمر قد تغير اليوم فصارت الواقعية تسلم بأن في المعرفة عنصرًا ذاتيًا، كما أصبحت المثالية أيضًا تسلم بأن في المعرفة عنصرًا موضوعيًا. ووجه الخلاف بينهما يقوم الآن في نوع العلاقة التي تقوم بين الذات والموضوع(3).

ويبدو أن الطويل قد اهتم كثيراً بالتوفيق بين المثالية والواقعية، ولعل اهتمامه هذا

ص: 161


1- توفيق الطويل : أسس الفلسفة، القاهرة، دار النهضة العربية، الطبعة الرابعة، 1964، ص 344-345 .
2- المصدر السابق ص 345.
3- المصدر السابق، ص 345.

كان أحد الروافد المهمة التي ساهمت في تشكيل وتكوين مثاليته المعدلة في مجال الأخلاق؛ حيث إن المثالية التقليدية ترفض - على طول الخط - الموقف التجريبي الذي يتخذ الأخلاقية أداة لتحقيق لذة أو منفعة أو كمال، أو غير هذا من غايات تقوم خارج الأخلاقية نفسها؛ لأن الأخلاقية عند المثاليين - كما سبق القول مرارًا - غاية في ذاتها، أي إنها تهدف إلى تحقيق غاية موضوعية يتوخاها الإنسان بما هو إنسان، ومن أجل هذا كانت قيمتها عامة مطلقة وليست جزئية نسبية، بهذا يطاع الواجب لذاته، وتكون الإنسانية كلها غاية قصوى لمبدأ الواجب ويترتب على هذا انقطاع الصلة بين الأخلاقية وجزاءاتها، ويتأكد القول بأنها تحمل جزاءاتها وتتضمن في ذاتها مبرراتها، وهو رأي فطن إليه أفلاطون قديما ، واحتضنته المثالية التقليدية بعده.

ولكن هذه المثالية التقليدية التي دارت حول مبدأ الواجب بدت متزمتة وجمدت وافتقدت القدرة على الحركة والحياة، واتصفت في تصورهم بالموضوعية الكاملة والمطلقية التي لا تقبل تعديلاً ولا تحتمل تغييراً، مع أن مفهوم القيم - في الحقيقة - مرتبط بالغاية التي يتوخاها الإنسان، وفي ظل هذا اكتفى المعتدلون من المثاليين إن أباحوا الاستثناء من القانون الأخلاقي، وأجازوا كسر القاعدة الخلقية من أجل قاعدة أسمى وأنبل(1).

وجاءت المثالية المعدلة منددة بالتزمت التي اتسمت به المثالية التقليدية ورأت أنه إذا كان من الحكمة ألا تستغني عن قيم أثبتت التجربة الطويلة صوابها، فإن علينا أن نعرف أن معاني القيم وغايات الإنسان ترتبط بروح العصر ومن هنا مست الحاجة إلى تغيير مضمونها أو تعديل محتواها حتى تلائم روح العصر المتطور دوما، وحيث أن الفيلسوف المثالي أصبح يستكين إلى مقعد مريح يطمئن إليه، ثم يأخذ في إصدار أحكام قاطعة في كبرياء عن الواجب، ذاك المبدأ الإنساني الذي يلتقي على طريقة كل الناس في كل زمان ومكان، مع أن كل إنسان لا يشغل باله قط إلا إشباع مطالبة الشخصية ورعاية مصالحه الذاتية، ومن هنا بدت معالم المثالية المعدلة

ص: 162


1- توفيق الطويل: القيم العليا في فلسفة الأخلاق، بحث منشور بكتاب «قضايا من رحاب الفلسفة والعلم» دار النهضة العربية، القاهرة، د.ت ص 96.

كتعديل وتطوير للمثالية التقليدية المتزمتة، فتمثلت في تحقيق الذات بإشباع جميع قواها الحيوية في غير جور على قيم المجتمع أو استخفاف بمعايره، فالإنسان يبدو- في المثالية المعدلة - كلاً متكاملاً يجمع بين الحس والعقل في غير تصارع ينتهي بالقضاء على أحدهما، ويتمثل الإنسان فردًا في أسرة ، ومواطنا في أمة، وعضوًا في مجتمع إنساني، وبهذا يتصل كمال الفرد بكمال المجموع الذي ينتمي إليه، فيختفي النزاع التقليدي بين الأثرة ،والإيثار، ويذوب توكيد الذات ونكرانها، ويظل الإنسان خلال هذا محتفظًا بفرديته واستقلال شخصيته، برغم ولائه للمجموع الذي ينتمي إليه، ومثل هذه المثالية تتيسر في النظام الديمقراطي الصحيح، وهي تتكفل بتكامل الطبيعة البشرية وبها تصبح الأخلاقية مطلبًا ميسور المنال، وليست عبئًا ثقيلاً لا يقوى على حمله إلا الأبطال(1).

وبهذا نكون قد وقفنا على مكانه المثالية المعدلة من المثالية التقليدية التي شابها التزمت المقيت والصورية الخالصة، وكيف بدت الأولى أكثر تناسباً مع روح العلم الحديث والنظريات النفسية الحديثة، وبقدرة الإنسان الذي هو ليس ملاكًا أو حيوانًا، وإنما هو في مكانة وسطى تمثل الاعتدال بكل معانيه .

خامسًا: خصائص المثالية المعدلة

انضم الطويل إلى معسكر المثاليين بالرغم من عدم مسايرته لهم على طول الخط، فاختار اسم المثالية المعدلة «لاتجاهه الخاص بدلاً من أسماء أخرى كالتجريبية المعدلة مثلاً، ولم يكن ذلك من قبيل الصدفة، ولكن كان بناء على اعتبارات علمية منهجية بحته؛ حيث إنه حسب على المثاليين لأنه كان ينظر إلى علم الأخلاق بمنظوره التقليدي الذي يرى أن هذا المبحث يتضمن دراسة السلوك الإنساني لوضع معايير يقاس بها هذا السلوك من جهة كونه خيراً أو شرًا، أي إن مهمة علم الأخلاق هي تقويم السلوك الإنساني طبقًا لمعايير معينة؛ ولأنه أيضًا يرفض النظر إلى هذا العلم بحسبانه علمًا وضعيًا أو علما تجريبيًا .. كما ذهب التجريبيون والاجتماعيون ومن هم

ص: 163


1- توفيق الطويل: فلسفة الأخلاق، ص 40.

على شاكلتهم، فعلم الأخلاق عنده علم معياري كما كان عند اليونانيين وإنه كذلك وينبغي أن يظل كذلك أيضًا.

أي إن جهود الإنسان عنده تتجه من الناحية الخلقية إلى جعل البيئة ملائمة للمثل الأعلى ومتمشية معه. وهذا المثل لا يقوم في البيئة وإنما يقوم في نفوس الذين يعيشون فيها، وفلسفة الأخلاق لا يعنيها الوصف والتقرير بقدر ما يعنيها تقييم الأفعال وتحديد غاياتها، إنها تريد الوقوف على معرفة السبب الذي أدى إلى إيثار نوع من السلوك على غيره. وهو إلى جانب ذلك يحسب على المثاليين؛ إذ إنه يرفض الغلو بين التيارين التجريبي والمثالي وهو يضرب أحدهما بالآخر ولكنه يبدو إلى المثاليين أقرب منهم إلى الواقعيين وإلى بيان «ما ينبغي أن يكون» أكثر منه إلى «تقرير ما هو كائن»، فكل وسط أقرب إلى أحد الطرفين.

والحقيقة أن الطويل قد انطلق من الثنائية التاريخية في الأخلاق؛ فالفلسفة عموما نوعان مثالية وواقعية، عقلية وحسية، كذلك الأخلاق نوعان معيارية ووصفية، صورية ومادية، ما ينبغي أن يكون، وما هو كائن. ويرى أحد الباحثين أن هذا الوصف من قبل الطويل ليس فقط حكما واقعا بل أيضًا حكم قيمة. فالأخلاق المثالية الصورية المعيارية هی الأخلاق الحقة، والأخلاق الواقعية الحسية الوضعية المادية هي الأخلاق السيئة أو المزيفة مما يدل على عدم الخلط عند الطويل بين علم الأخلاق والسلوك الخلقي؛ علم الأخلاق يصف ويحلل ويعلل ولا يقنن أو يشرع أو يقيم، يرصد ويبين ويوضح ظواهر السلوك ولا يقوم أو يصلح أو يهدي إلى الطريق المستقيم(1).

وتجلت الثنائية في جُل مؤلفاته، التي يسعى فيها إلى فصل النزاع بين الواقعيين والمثاليين، يعرض الواقعي أولاً ؛ فيعرض لمذاهب المنفعة الفردية، والمنفعة العامة، والتطور والمدرسة الاجتماعية والبرجماتية والاشتراكية، ثم المثال ثانيًا مشتملاً مذاهب الحدس والحاسة الخلقية والضمير والواجب والمثالية المحدثة،ویری أن الثنائية الأخلاقية مردها إلى ثنائية المعرفة، والصراع يبين المدرستين المثالية والواقعية

ص: 164


1- حسن حنفي: من المثالية المعتدلة إلى الواقعية الجذرية، مقالة بالكتاب التذكاري عن توفيق الطويل، القاهرة، كلية الآداب، جامعة القاهرة، 1995، ص39.

في الأخلاق، هو في الأساس صراع بين الاستنباط والاستقراء، ويميل عرض المذهبين - على ما به من نزاهة وحيادية - إلى الإيماء بصدق المثالية والاقتراب منها على حساب الواقعية؛ فأحكام الضمير مطلقة والمثل العليا أفكار فطرية والأفعال الخلقية مرهونة ببواعثها ومقاصدها لا بنتائجها، ولكنه بالرغم من ذلك - كما سبق أن أشرنا- كان نزيها موضوعيًا، فلم يؤلف في المثاليين الملائكة فقط، بل ألف في النفعيين الشياطين(1)ولكل اتجاه محاسنه وعيوبه عند الطويل؛ استعمل التعقيبات والمناقشات عقب مذاهب التيارين المتصارعين من أجل التقريب بينهما، ونقد المثالية كما نقد الواقعية من أجل شق طريق ثالث يمثل الوحدة ويزعم القضاء على الثنائية، أطلق عليه المثالية المعدلة لأنه أقرب إلى المثالية منه إلى الواقعية، أقرب إلى بيان ما ينبغي أن يكون أكثر منه إلى تقرير ما هو كائن.

إذن فالطويل قد عمد أولاً - في اتجاهه هذا - إلى القضاء على الثنائية التاريخية في المعرفة من أجل الوصول إلى نظرية متكاملة في المعرفة تجمع بين الحس والعقل بين الاستقراء والاستنباط، لذلك لا تحل مشكلة الوجود بردها إلى المادة وحدها أو إلى الروح وحده؛ بل إلى كليهما معا(2).

وهو هنا يفسر النقيض بالنقيض؛ إذ ترى المثالية أن مصدر المعرفة قائم في الذات، والواقعية تراه في الموضوع، ومع ذلك تسلم المثالية بأن في المعرفة عنصرًا واقعيًا، كما تسلم الواقعية بأن في المعرفة عنصرًا ذاتيًا ووجه الخلاف بينهما فقط في نوع العلاقة بين الذات والموضوع، ويبدو التقابل بين المذهبين في معركة الأفكار الفطرية التي ينكرها المذهب التجريبي ويثبتها المذهب العقلي أو المذهب النقدي، وهنا يأخذ طريق التوسط بين الطريقين فهو أقرب إلى العقل، وإذا كانت الواقعية الساذجة قد ساهمت في قيام المثالية، فإن المثالية الصورية قد ساهمت كذلك في قيام الواقعية الفلسفية بمختلف صورها؛ فقد ابتعدت المثالية عن دنيا الواقع واستخفت بعالم الشهادة واهتمت بالذات العارفة حتى أغرقت فيها الوجود الواقعي وحصرت نفسها في

ص: 165


1- المرجع السابق، ص 40.
2- توفيق الطويل : أسس الفلسفة، ص 257.

كيفية المعرفة حتى نسيت الإنسان والعالم الذي يعيش فيه واهتمت بالرابطة التي تقوم بين الموضوع والمحمول، ولم تفرق بين إنسان وإنسان؛ فأخذت الواقعية ترد العالم إلى الحس، والإنسان إلى الطبيعة، والذات إلى الموضوع(1). وقرر ثانيًا أن يرفض الغلو بین التيارين ويحولهما من ثنائية تاريخية إلى مذهبية بنيوية؛ يضرب أحدهما بالآخر، وإن كان إلى المثاليين أقرب ، يبين عيوب المثالية بمزايا الواقعية، وينقد سيئات الواقعية بحسنات المثالية ويسمى ذلك فضيلة السماحة والاعتدال، ويحكم على التعارض بین المذهبين طبقًا لسماحة العقل من دون تعصب، وتظهر هذه السماحة العقلية في التعقيبات على المذهبين وتجري كلها في اتجاه واحد، يمضى مع الفلسفة العقلية من دون الاستهانة بأهمية الفلسفة التجريبية الوضعية. فالمذهب الطبيعي مع غلوه وتطرفه ينطوي أيضًا على حق لا ريب فيه، والنظرة إلى المشكلة من زاوية واحدة إخلال بين، وأقرب إلى الصواب النظرة المتكاملة، وهذا هو معنى المثالية المعتدلة غير المتطرفة، أو المثالية المعدلة بعد نقد غلو الصورية والتزمت فيها، فهي إذن تلك الفلسفة التي تجمع بين الواقعية والمثالية في إطار المثالية(2).

ومن ثم يمكن القول بأن توفيق الطويل ينظر إلى الإنسان من خلال مثاليته المعدلة على أنه ليس حسًا خالصًا ولا عقلاً محضًا، ولكنه يجمع بينهما ولا تستقيم حياته الصحيحة من دونهما معًا، وتكامل النفس يقتضى الإبقاء على قوى الإنسان حسية كانت أو عقلية مع تمكين هذه القوى من أن تؤدي وظيفتها الطبيعية بتوجيه العقل، والموقف الخلقي يقوم على أن الطبيعة البشرية تجمع فعلاً بين نزعات الأثرة والإيثار، ومن الخطأ أن تقوم الأخلاق على الأنانية الموغلة وحدها أو الغيرية الطاغية وحدها، فإن نهضة الأمم وتقدم الحضارات مرجعه إلى مسعى قوم كانوا وهم في غمرة سعيهم الحثيث من أجل مصالحهم الشخصية يعملون عن وعي لترقية مصالح المجموع، ومن ثم كان الأقرب إلى الصواب أن نجمع بين هذين الاتجاهين المتطرفين، وبذلك تصبح الأخلاق علماً نظريًا عمليًا معًا، أي تصبح دراسة عقلية تهدف إلى فهم طبيعة المثل العليا التي

ص: 166


1- حسن حنفي: من المثالية المعتدلة إلى الواقعية الجذرية، ص49.
2- المرجع السابق، ص 51.

تستغل في حياتنا الدنيا، كما تصبح علم وفن، إذ إن مبادئ الأخلاق لا تحقق غايتها على الوجه الأكمل في مجال الحياة العملية ما لم تسبقها دارسة نظرية تقوم على التعليل والبرهان حتى يتسنى للإنسان أن يعرف الغاية القصوى من وجوده فيتيسر له أن يتصرف في ضوء معرفته ولا تكون حياته مجرد تقليد ومحاكاة تهبط به إلى مرتبة القردة(1).

فتتضح بذلك معالم مثاليته المعدلة؛ حيث يقر بأنه مع تقديره البالغ لمذاهب التجريبيين والوضعيين وأمثالهم يدين بالولاء لنوع جديد من المثالية الأخلاقية المعدلة التي برئت من التزمت المقيت، وتحررت من قيود النزعة الصورية التي شابت المثالية الكانطية المتطرفة، فتمثلت في تحقيق الذات بإشباع جميع قواها الحيوية في غير جور على قيم المجتمع أو استخفاف بمعايره، فالإنسان في هذه المثالية يبدو كلاً متكاملاً يجمع بين العقل والحس في غير تصارع ينتهي بالقضاء على أحدهما(2).

إذن فهي مثالية تساير الطبيعة بخلاف المثالية الكانطية المتطرفة التي تتطلب ملاكًا أو كائنا غير بشريًا، فلا هی تتطلب الحيوانية الخالصة ولا الروحية الخالصة ولكنها وسطاً بينهما. فهي في مسايرتها للطبيعة البشرية تجمع بين رعاية الذات بكل ما تقتضيه من أنانية، وبين الاهتمام بمصالح الغير بكل ما تستلزمه من غيرية وإيثار،من هنا كان من الضلال أن ننجرف بالطبيعة البشرية عن جبلتها، فتقتصر أهدافنا على ما يحقق مصالحنا ويشبع رغباتنا وأهواءنا أو ننزع إلى وقف جهودنا وحياتنا على خدمة الآخرين إلى حد التضحية بمصالحنا الشخصية، فالأخلاقية التي تساير الطبيعة البشرية تقتضي التوفيق بين هاتين النزعتين المتضادتين(3).

ومن هنا كان التزام الطويل بموقف الوسط في الأخلاق والتماسه للسعادة في الفضيلة، والمتعة في الواجب، فكان للحواس دورها وللعقل دوره، تلك تشتهي وهذا ينظم لها طريقة الإشباع، فلا تطغي سعادة الفرد على سعادة المجموع(4).

ص: 167


1- زينب عفيفي: المثالية المعدلة في فلسفة الدكتور توفيق الطويل الخلقية، ص 87.
2- توفيق الطويل : فلسفة الأخلاق، ص 40.
3- فيصل بدير عون: أخلاق البصيرة العقلية عند الطويل، مقالة بالكتاب التذكاري - كلية الآداب - جامعة القاهرة، 1995 ،ص115.
4- زكي نجيب محمود: من زاوية فلسفية، دار الشروق، الطبعة الرابعة، القاهرة، 1993، ص 27.

فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي لا يقنع بالواقع، ويتطلع إلى ما ينبغي أن يكون، يضيق بالسلوك الذي تسوق إليه الشهوات والعواطف، ويكبر الذي يجري بمقتضى الواجب، وبذلك كان من الحق أن يقال إن الإنسان لا يكون إنسانًا مميزا من سائر الكائنات بغير مثل أعلى يدين له بالولاء وتتحقق السعادة في حياة راضية مطمئنة تتحقق فيها مطالب الروح وتجاب فيها مطالب الحياة المادية في غير تهور ولا إسراف، ويقوم فيها العقل بتوجيه الإنسان في تصرفاته والعمل على تحقيق مطامحه في نفس الوقت الذي يحد فيه من شهواته ويضبط جموح أهوائه ونزواته، ويقترن هذا كله بتصفية النفس من عبودية الرغبات الجامحة وتخليصها من الأحقاد والضغائن وصنوف الجشع والطمع ونحوه، مما يثير القلق ويورث الهم والشقاء وبهذا تتحقق طمأنينة النفس من دون جور على مطامع الإنسان في هذه الحياة الصاخبة، فإن من يتخلي عن مطامحه يتنازل عن إنسانيته، وبهذا لا يقال في هذه السعادة ما قاله برتراند رسل B. Russel في قصور المذهب الرواقي: إن فيه عزاء للذين عجزوا عن يكونوا سعداء فقنعوا أن يكونوا فضلاء(1).

وهكذا عملت المثالية المعدلة على التوفيق بين الأثرة والإيثار، والجمع بين توكيد الذات ونكرانها وصورت كمال الفرد مقرونا بكمال المجموع الذي ينتمي إليه، وأزالت الصورية الكانطية التي باعدت بين الأخلاقية المعقولة ومبدأ الواجب، وخففت كثيراً من تزمتها وبهذا تكون قد حلت الإشكال الذي حير الأخلاقيين من قديم الزمان وأزالت العداء التقليدي بين دعاة الأنانية وطلاب الغيرية، وسايرت أيضًا منطق الدراسات السيكولوجية الحديثة وأرضت النزعات الاجتماعية، وإذا كانت النفعية التجريبية تزودنا بمادة من غير صورة، ومبدأ الواجب الكانطي يمدنا بصورة من غير مادة، فإن المثالية المعدلة قد جمعت بين ميزاتهما وتحررت من مآخذهما معًا.

ص: 168


1- توفيق الطويل : قصة السعادة في الفكر الفلسفي، ضمن كتاب العرب والعلم في عصر الإسلام الذهبي، ودراسات علمية أخرى، دار النهضة العربية، القاهرة د.ت ص 386.

تعقيب - المثالية المعدلة في الميزان:

إذا كان صاحب المثالية المعدلة قد تأثر كثيراً بصاحب المثالية التقليدية، بل إنه عمل على تعديل ما بمثاليته من تطرف وغلو وصورية وتزمت فالجدير بالذكر أن كليهما قد تأثر بالتيارين عينهما؛ فكانط الذي شطر الفلسفة الحديثة شطرين قد تأثر بالنزعتين العقلية والتجريبية، الأولى وصلته عن طريق أستاذه مارتن كنوتزن Martin Knutzen بالصورة التي صاغها بها ليبنتس وفولف وبومجارتن، وكان كانط لا يبنتسيًا على طريقته، ولم يمنعه من أن يكون لا يبنتسيًا على طريقة، ليبنتس إلا قراءته لنيوتن عن طريق أستاذه أيضًا، أما الثانية فقد وصلته عن طريق ديفيد هيوم الذي تأثر به كثيرا، والذي ساعد على إيقاظه من سباته الدوجماطيقي العميق - حسب مقولة كانط نفسه - فقد حرر هيوم کانط من العقلانية الدوجماطيقية، وانتزعه من بين أيديها،

لا نحو التجريبية المعقلنة عند هيوم، وإنما نحو التجريبية المحضة(1).

وهكذا حسب قوانين الجدل يسير الفكر الكانطي من النقيض إلى النقيض لينتهي إلى مثاليته الكلاسيكية التي بينا ما شابها من نقص وقصور والآن قد حان دور المثالية المعدلة نضعها أيضًا في الميزان لنتعرف على ما قد يشوبها من أوجه نقص وقصور؛ إذ إن شأنها شأن أي عمل بشري يبتعد عن الكمال بقدر ما. فإذا كان الطويل يؤكد في غير موضع من أعماله أن الخلاف بين المثاليين والطبيعيين لا يعدو تفسير المبدأ الأخلاقي وتحليله، وأن هذا الخلاف - كما يرى - لم يمنع من اتفاق المعسكرين على تقديس القيم التقليدية في الأخلاق، ولم يحاول أحد منهم أن يحدث تغييراً أساسيًا في فحوى الأخلاق.

وهذا فيما نرى رأي يبسط المشكلة، إن لم يكن يسطحها؛ لأن تصور المثاليين للأخلاق والقيم (ماهيتها) يختلف كلية عن تصور التجريبيين والوضعيين، ويكفي القول إن الرجل المثالي عند التجريبيين رجل لا وجود له إلا في الخيال والوهم. إن معايير الخير والشر عند كلا الفريقين مختلفة تمامًا؛ وهنا يقول زكي نجيب محمود

ص: 169


1- محمد عثمان الخشت: العقل وما بعد الطبيعة، العقل وما بعد الطبيعة، القاهرة، مكتبة ابن سينا، د.ت ص 181.

عن توفيق الطويل: «إنه قد جمع بين طرفين لم يكونا ليتلاقيا لولا قدرته على التوفيق بين الضدين»(1). في حين يميل الاتجاه الحدسي المثالي إلى الحكم على أخلاقية الفاعل حكمًا قبليًا نجد أن التجريبيين يجعلون نتيجة الفعل هي مقياس خيرية الفاعل، في حين يهتم المثاليون بالباعث، نجد أنظار الطبيعيين متجهة صوب الدافع والنتيجة، في حين تلعب النية دورًا رئيسيًا عند المثاليين نجد أن هذا أمر لا يعتد به التجريبيون كثيراً ولا يقفون عنده، وهذا معناه أن الاختلاف ليس شكليًا، ولكنه أمر يتعلق بفهم ماهية الخير والشر ومن ثم معايير السلوك ذاتها. إن أخلاق العبيد في عرف نيتشه ليست من الأخلاق في شيء.... وإن الإرادة الخيرة عند كانط هی الكل في الكل ولا يضيف العقل جديدًا إلى خيرية الفاعل(2).

كما إنه من الممكن أن يؤخذ على الطويل أنه كان بإمكانه أن يستخلص من القرآن الكريم مذهبًا أصيلاً ومتكاملاً في الأخلاق النظرية والعملية لكنه اكتفى ببعض الجوانب البسيطة من الإسلام، وترك كثير من الجوانب الأخلاقية الغزيرة، فأخذ يبحث عن موقفه الوسطي المعتدل داخل الفلسفة الغربية بين العقليين والتجريبيين، وقد كان بإمكانه أن يستخلص هذا الموقف الوسطي ويهتدي إليه من القرآن الكريم وآياته الكثيرة التي ورد فيها لفظ «الوسط» ليفيد المدح والتقدير والاعتدال، فحديث القرآن عن هذه المادة يفهم منه أن التوسط فضيلة من فضائل الإسلام وخلق من أخلاقه.

ص: 170


1- زكي نجيب محمود، من زاوية فلسفية،ص26.
2- فيصل بدير عون: أخلاق البصيرة العقلية عند الطويل، ص-116 117.

الدرس الأخلاقي في مشروع طه عبد الرحمن المقاصدي

اشارة

د. محمد شهید(1)

مقدمة:

دائما كان تقسيم مقاصد الشريعة يخضع لتقسيم يكاد يكون عليه الإجماع وذلك منذ ان اكتمل نضج هذا التخصص خاصة مع أبي إسحاق الشاطبي وسفره المتميز «الموافقات». وهو التصنيف الذي ورثه من سابقيه فقعده وأصله حتى صار هو لب المقاصد وأسسها .

هذا التقسيم يعتمد أساسا ثلاث مراتب : ضرورية وحاجية وتحسينية.

المرتبة الأولى: الضرورية «... فمعناها أنها لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، بحيث إذا فقدت لم تجر مصالح الدنيا على استقامة، بل على فساد وتهارج وفوت حياة، وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين.. ومجموع

ص: 171


1- استاذ فلسفة من المغرب: يرى الباحث أنه دائما كان تقسيم مقاصد الشريعة يخضع لتقسيم يكاد يكون عليه - الإجماع وذلك منذ ان اكتمل نضج هذا التخصص خاصة مع أبي إسحاق الشاطبي وسفره المتميز «الموافقات». هذا التقسيم يعتمد أساسا ثلاث مراتب ضرورية وحاجية وتحسينية. يمكن اعتبار نظر طه عبد الرحمن يعتمد على أصول ثلاث حددها في الآتي: «- ان الاخلاق صفات ضرورية يختل بفقدها نظام الحياة لدى الإنسان، وليست مجرد صفات عرضية أو كمالية لا يقدح تركها إلا في مروءته . وان القيمة الأخلاقية أسبق على غيرها من القيم، بحيث لا فعل يأتيه الإنسان إلا ويقع ابتداء تحت التقويم الأخلاقي . وان ماهية الإنسان تحددها الاخلاق وليس العقل، بحيث يكون العقل تابعا للخلاق، فيكون محمودا متى أفاد ومذموما متى أساء، وليس العكس. ويرى الباحث أن هذه المحاولة من طه عبد الرحمن تعدّ محاولة فريدة ومهمة جدا خاصة. المحرر

الضروريات خمسة، وهي: حفظ الدين ،والنفس ،والنسل، والمال، والعقل، وقد قالوا: إنها مراعاة في كل ملة .. »(1)ويقصد بها الأساسات التي لا تستقيم حياة الإنسان أينما كان إلا بها.

والمرتبة الثانية : الحاجيات «.. فمعناها أنها مفتقر إليها من حيث التوسعة ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تراع دخل على المكلفين - على الجملة - الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد العادي المتوقع في المصالح العامة..»(2)، وهي التشريعات والأحكام التي تعمل على رفع الحرج والضرر عن الإنسان.

وفي المرتبة الثالثة : التحسينيات ... «فمعناها الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب المدنسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق(3).»، وفي مرتبة أخيرة ما يرتبط بالمكارم والقيم والأخلاق.

لقد كان بموجب هذا التقسيم للمقاصد الشرعية أن تحتل الأخلاق مرتبة متدنية في آخر المراتب، بل في مرتبة لا تشكل مكانة متميزة داخل مصالح الناس، وقد يمكن إغفالها أو عدم ايلائها مكانة في الحياة وفي مراعاة المصالح وفي تغيير واقع الإنسان نحو الأحسن. فقط هي في مرتبة دونية وقد لا يحدث أي خلل بفقدانها وإلا يطرأ أي اضطراب في حياة الناس أصلا.

وهذا التقسيم وان كان تقسيما فنيا وليس اليا بمعنى ان المراتب ليس من اللازم ان تخضع لنفس الترتيب، فإنه قد انتشر وشاع، رغم بعض المراجعات الخجولة التي تعتمد الفكرة الدائرية عوض الفكرة العمودية التي جاء بها الشاطبي، لذلك يقول احد رواد الدرس المقاصدي : ان فكرة المنظومة الدائرية بديلا عن الترتيب التقليدي

ص: 172


1- أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي (790ه) : الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز، دار إحياء التراث العربي - لبنان - ط1، 2001 ، 17/2.
2- الشاطبي : الموافقات في أصول الشريعة، 21/2.
3- الشاطبي : الموافقات في أول الشريعة، 22/2.

جديرة بالاهتمام(1)». بذلك ترتيب المصالح والمقاصد لا يكون ترتيبا جامدا وثابتا بل يمكن ان يتغير على وفق الأحوال وعلى وفق الظروف. وقد ناقش الفقهاء والعلماء ترتيب الكليات الخمس مثلا هل هو ترتيب نهائي توقيفي ؟ أم هو ترتيب توافقي توافق عليه العلماء والمتخصصون فقط ؟ وقد يكون من الأحسن الرجوع الى الموضوع في مصادره لمعرفة تفاصيله وتطوراته.

لكن أحد رواد الدرس الفلسفي المعاصر وأحد كبار المهتمين بالتراث الإسلامي فلسفة ونقدا ومراجعة للمفاهيم والمصطلحات، يطرح إشكالا قد يعيد النظر كليا في ترتيب المقاصد وراجعتها أصلا. إنه طه عبد الرحمن. ورغم ان طه عبد الرحمن لم يخصص كتابا مستقلا في المقاصد إلا أن سعة اطلاعه على العلوم الشرعية وشساعة معرفته بالفلسفة وإدراكه كذلك لاشكلات الإنسان المعاصر .. فقد جعلت منه صاحب نظر ثاقب وفكر متميز في هذا الفن.

يمكن اعتبار نظر طه عبد الرحمن يعتمد على أصول ثلاث حددها في الآتي:

- «ان الاخلاق صفات ضرورية يختل بفقدها نظام الحياة لدى الإنسان، وليست مجرد صفات عرضية أو كمالية لا يقدح تركها إلا في مروءته.

-انالقيمة الأخلاقية أسبق على غيرها من القيم، بحيث لا فعل يأتيه الإنسان إلا ويقع ابتداء تحت التقويم الأخلاقي.

-ان ماهية الإنسان تحددها الاخلاق وليس العقل، بحيث يكون العقل تابعا للخلاق، فيكون محمودا متى أفاد ومذموما متى أساء، وليس العكس(2)».

وإذا كان في الأصلين الأخيرين قد دخل طه عبد الرحمن في نقاش عميق مع الفلاسفة وأهل الاختصاص حول -أولوية الاخلاق عن غيرها من القيم وحول ماهية

ص: 173


1- جمال الدين عطية: نحو تفعيل مقاصد الشريعة، دار الفكر - دمشق - ط:1، 2001، ص: 48.
2- طه عبد الرحمن: روح الحداثة : المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- ط :4 ، 2015 ، ص: 15.

الإنسان، فإنه في الأصل الأول يكون قد احدث ثورة معرفية ومقاصدية حول ضرورية الاخلاق وليس تحسينيتها كما دأب على ذلك المقاصديون وعلى رأسهم الشاطبي. وهو ما يشكل رؤية جديدة تجديدية للمقاصد الشرعية وللتنظير المقاصدي.

ما هي معالم هذه النظرية التجديدية للمقاصد ؟

هل للأخلاق والقيم مكانة فيها ؟

ما هي المكانة التي تحتلها في هذه الرؤية التجديدية التي جاء به طه عبد الرحمن؟

هذا ما سنحاول بسطه في الصفحات الآتية من هذا البحث.

في العدد الثاني بعد المائة لمجلة «المسلم المعاصر» نشر طه عبد الرحمن مقالا عنونه ب- «مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة»(1)علقت عليه هيأة التحرير بما يلي : «هذه المقالة ننشرها بما فيها من أفكار جديدة في مجال المقاصد فتحا لباب الحوار، وعملا لمناقشات جادة، ولا سيما أنها تقدم مشروعا جديدا ومتكاملا في مجال المقاصد الشرعية».

والحقيقة أن هذا المقال خلف ردود فعل متباينة بين مؤيد ومعارض، خصوصا وأن صاحبه قد امتاز بأفكار واجتهادات فيها من الجدة ومن الجرأة ما يدفع المهتم والباحث في هذا المجال إلى الاطلاع على الموضوع وقراءته بكل جدية وتأن.

يبدأ طه عبد الرحمن بملاحظته على الأصوليين، حيث أغفلوا أو بالأحرى لم يولوا عناية كبيرة «لمبحث المقاصد» مقابل الذي أعطوه «لمبحث الأحكام»، وذلك «مع أن القاعدة المقررة أن لكل حكم شرعي مقصدا مخصوصا ، فكان ينبغي ألا تقل عنايتهم بالمقاصد عن عنايتهم بالأحكام»(2).

ثم يحدد الدعاوي التي يسعى إلى إثباتها في هذا المقال ويحددها في ما يأتي:

«أولاها ، أن علم المقاصد هو علم الأخلاق الإسلامي.

ص: 174


1- طه عبد الرحمن: مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة، ص:41.
2- طه عبد الرحمن: مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة، ص:41.

والثانية، أن علم الأخلاق الإسلامي يتكون من نظريات مقصدية ثلاث متمايزة ومتكاملة فيما بينها .

والثالثة، أن بعض هذه النظريات المقصدية يحتاج إلى وجوه من التصحيح والتقويم.

والرابعة، أن الأحكام الشرعية تجعل جانبها الأخلاقي يؤسس الجانب الفقهي، كما تجعل جانبها الفقهي يوجه الجانب الأخلاقي»(1).

وقبل تناول الموضوع، يحرر طه عبد الرحمن موضع النزاع بتوضيح مهم، حين

يبين أن العقل ليس هو الحد الفاصل بين البهيمة والإنسان، بل الذي يحدد ذلك هو قوة الخلق «فلا إنسان بغير خلق، وقد يكون العقل ولا خلق معه، لا حسنا ولا قبيحا، وهو حال البهيمة ولو قل نصيبها من العقل عن نصيب الإنسان منه»(2). ثم بعد عرض نقدي سريع لتعريف المقاصد الشرعية، يرى أن المراد بالقول بأن «علم المقاصد ينظر في مصالح الإنسان»، وأنه ينظر في المسالك التي بها يصلح الإنسان، تحقيقا لصفة العبودية لله»(3)، ليستنتج أن «علم الصلاح» هو التعريف الذي يوفي بحقيقة المقاصد الشرعية. وذلك لأنه «يجيب على السؤال الآتي، وهو: كيف يكون الإنسان صالحا؟ أو كيف يأتي الإنسان عملا صالحا ؟ ومعلوم أن الصلاح قيمة خلقية، بل هو القيمة التي تندرج تحتها جميع القيم الخلقية الأخرى، فيكون هو عين الموضوع الذي اختص علم الأخلاق بالبحث فيه ..»(4). ومن ثم فإن «علم المقاصد علم أخلاقي موضوعه الصلاح الإنساني»(5).

أعطى طه عبد الرحمن لفظ «المقصد» تفصيلا قال عنه أنه لم يسبق إليه، وقسمه إلى ثلاث نظريات متكاملة بينها، ليتخذ معنى «المقصد» المعاني الآتية:

ص: 175


1- طه عبد الرحمن: مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة، ص: 41.
2- نفس المصدر، ص: 42.
3- نفس المصدر، ص : 43.
4- نفس المصدر، ص: 43.
5- نفس المصدر، ص:43.

-المقصود: فيكون معنى «مقاصد الشريعة» هو «مقصودات الشريعة» وهی المضامين الدلالية المرادة للشارع بأقواله التي يخاطب بها المكلفين.

-القصد: فيكون معنى :مقاصد الشريعة« هو :قصود الشارع وقصود المكلف«، ويتعلق الأمر هنا بالمضمون الشعوري .

-الغاية: فيكون مقصد الشريعة» هو «قيم الشريعة»، ويتعلق الأمر هنا بالمضمون القيمي. وهو المعبر عنه عند الأصوليين ب«المصلحة».

وبما أن طه عبد الرحمن يبني هذا المشروع على أساس أخلاقي، فإن «المقصود» يقوم على ركن أساس وهو نظرية الأفعال وهي التي تختص بالبحث في الجوانب الأخلاقية للأفعال البشرية المتأسسة على مفهومين أساسين هما «القدرة» و«العمل».

أما «القصد» فيلزم أن يتأسس على ركن أساس هو نظرية في النيات، تدور على مفهومين أساسين هما «الإرادة» و«الإخلاص».

في حين إن «الغاية» لزم أن تتأسس على ركن أساس ثالث وهو نظرية في القيم، وتدور على مفهومين أساسين هما «الفطرة» و«الإصلاح».

«وعلى الجملة، فإن علم المقاصد يتكون من ثلاث نظريات أخلاقية تحدد بنية الخُلُق الإسلامي، وهذه النظريات هي: «نظرية الأفعال» و«نظرية النيات» و«نظرية القيم»، بحيث تتكون بنية الخلق الإسلامي من عناصر ثلاثة هي: «الفعل» و«النية» و«القيمة» تدخل فيما بينها في علاقات تتفرع على اثنتين أصليتين : إحداهما : «علاقة الفعل بالنية»، فلا فعل بغير نية . والثانية ، «علاقة النية بالقيمة» ، فلا نية بغير قيمة؛ مما يسمح بأن نضع ترتيبا لهذه العناصر الخلقية باعتبار درجتها من الضرورة، فترجع الرتبة الأولى للقيمة والرتبة الثانية للنية والرتبة الثالثة للفعل، فتكون «نظرية القيم»هي الأصل الذي تنبني عليه النظريتان الأخريان: «نظرية النيات» و«نظرية الأفعال»(1).

وبذلك فإن التقسيم الثلاثي الذي اعتاد الأصوليون بناء نظرية المقاصد عليه،

ص: 176


1- نفس المصدر، ص: 46.

والذي بمقتضاه يكون الضروري في المرتبة العليا ثم يليه الحاجي ثم التحسيني في المرتبة الدنيا، هو محل اعتراض عام و خاص عند طه عبد الرحمن.

أما العام فالخلل فيه بكون القيم التي يتكون منها الضروري لا يستقل بها هذا القسم وحده، بل يشاركه فيها كل من الحاجي والتحسيني. ويمثل لذلك بتحريم الزنا الذي يعد حكما يحقق قيمة ضرورية، وتحريم النظر إلى عورة المرأة الذي يحقق قيمة تحسينية، وتحريم تبرج المرأة الذي يحقق قيمة تحسينية. فهي كلها تشترك في حفظ النسل، ولا سبيل إلى استيفاء شرط التباين هنا إلا بإنزال هذه القيم الخمس رتبة تعلو على هذه الأقسام الثلاثة. «وتتفرع عليها هذه الأقسام بتخصيصات ثلاثة مختلفة، ويجوز أن تكون هذه التخصيصات عبارة عن مراتب ثلاث للحفظ، ولنجعلها هي: «الاعتبار» و«الاحتياط والتكريم»، فيشتمل القسم الضروري على ما يعتبر هذه القيم العليا، فيكون أعلى هذه الأقسام درجة، ويشتمل القسم الحاجي على ما يحتاط لهذه القيم، فيكون أوسطها درجة، ويشتمل القسم التحسيني على ما يكرمها، فيكون أدناها درجة »(1).

هذا فيما يخص الاعتراض الخاص.

أما فيما يخص الاعتراض العام فقد قسمها إلى اعتراضات على الشكل الآتي :

-اعتراضات خاصة بالقيم الضرورية :

أولها إخلال بشرط تمام ،الحصر ، ذلك أن الأطوار الإنسانية يمكن أن تفرز كليات أخرى، فيقترح فضلا عن الدين والنفس والعقل والنسل والمال، «حفظ الذكر» و«حفظ العدل» و «حفظ الحرية»و «حفظ التكافل».

ثانيها إخلال بشرط التباين، حيث لا تباين بين هذه القيم، حيث «فلا حفظ للمال بغير حفظ العقل، فيكون العقل جزءا من المال، ولا حفظ للعقل بغير حفظ النسل،

ص: 177


1- نفس المصدر، ص : 50.

فيكون النسل جزءا من العقل، ولا حفظ للنسل بغير حفظ النفس، فتكون النفس جزءا من النسل، ولا حفظ للنفس بغير حفظ الدين، فيكون الدين جزءا من النفس»(1).

ثالثها إخلال بشرط التخصيص ، ف «ليست كل قيمة من القيم أخص من الأصل المحصور الذي هو الشريعة؛ فحفظ الدين الذي اعتبر قيمة من قيم الشريعة، هو كذلك مساو للشريعة، فتدخل تحته القيم الأخرى؛ ولا ينفع أن يقال بأن المراد بالدين في هذا التقسيم هو الاعتقادات والعبادات، فهذا تخصيص بغير دليل؛ لأن الأحكام التي تراعي حفظ القيم الأخرى هي أيضا أحكام تراعي حفظ الدين»(2).

-اعتراضات خاصة بالقيم التحسينية ويتمثل ذلك في كونها تخل بشروط الترتيب، وقد حددها فيما يلي:

* تأخير ما ينبغي تقديمه: يدرج العلماء القيم التحسينية على «مكارم الأخلاق»، ومن ثم إنزال الأخلاق إلى هذه المرتبة - الثالثة - من القيم فيه إيحاء بأنها مجرد صفات، المرء مخير في التحلي بها، بل وكأنها مجرد ترف سلوكي، «وهذا في غاية الفساد، فقد تقدم أن علم المقاصد يبحث في المصالح، وان المصالح ليست إلا علما آخر للقيم الأخلاقية؛ لأنها هي وحدها التي يصلح بها حال الإنسان؛ وإذا كان الأمر كذلك ، لزم أن تكون الأخلاق أولى بالرتبة الأولى من غيرها(3)».

*إهمال رتب الأحكام: في الأمثلة التي يأتي بها الأصوليون في أثناء الحديث عن القيم التحسينية، تندرج ضمن جميع الأحكام الشرعية «بحيث نجد من التحسيني ما هو واجب كالطهارة ، ومنه ما هو محرم كبيع الخبائث وأكلها؛ وإذا كان الأمر كذلك، بطل ما يدعيه الأصوليون من أن القيم التحسينية لا يترتب عليها إخلال بنظام ، ولا حصول إعنات؛ فهل يعقل أن يفرض الشارع شيئا أو يمنع آخر من غير أن يكون في ترك ما فرض أو فعل ما منع مضرة لا يختل

ص: 178


1- نفس المصدر، ص: 51.
2- نفس المصدر، ص: 51.
3- نفس المصدر، ص: 51.

بها نظام الحياة، فردية كانت أو جماعية، وإلا فلا أقل من أن يفسد بها حال الإنسان، إن قليلا أو كثيرا !(1)».

*إهمال الحصر المفيد لعلو الرتبة: انطلاقا من الحديث الشريف: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(2)، فإنه حيثما وجد حكم جاءت به البعثة النبوية، إلا وتضمن خلقا صالحا من اللازم التخلق به، «كما يستفاد من هذه الأداة أن هذه البعثة لا تأتي إلا بمثل هذه الأحكام ذات الآثار الخلقية؛ والبعثة التي تكون بهذا الوصف لا يمكن أن تنزل الأخلاق التي تدعو إليها إلا أعلى الرتب من مراتب الضرورة(3)».

بعد ذلك انتقل طه عبد الرحمن إلى وضع تقسيم جديد للقيم الشرعية، ليحدد معالمه على الشكل التالي:

* القيم الحيوية أو قيم النفع والضرر: بهذه المعاني الخلقية يتقوم ما يلحق البنى الحسية والمادية والبدنية ، «ويكون الشعور الموافق لهذه المعاني الخلقية هو اللذة عند حصول النفع والألم عند حصول الضرر؛ ويندرج في هذه القيم على سبيل المثال، حفظ النفس وحفظ الصحة وحفظ النسل وحفظ المال(4)».

*القيم العقلية أو قيم الحسن و القبح: وهي ما تتقوم بها المحاسن والمقابح التي تعرض للبنى النفسية والعقلية ؛ «ويكون الشعور الموافق لهذه المعاني هو الفرح عند حصول الخير والشر، والقيم التي تندرج تحت هذه المعاني أكثر من أن تحصى؛ ومن الأمثلة عليها: الأمن والحرية والعمل والسلام والثقافة والحوار(5)».

*القيم الروحية أو قيم الخير والشر: وهي ما تتقوم به كل الخيرات والشرور التي «تطرأ على عموم القدرات الروحية والمعنوية، ويكون الشعور الموافق لهذه

ص: 179


1- نفس المصدر، ص: 52.
2- أخرجه البيهقي: «السنن الكبرى» كتاب الشهادات، باب: بيان مكارم الأخلاق ومعاليها، 3213/10.
3- طه عبد الرحمن: مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة ، ص : 52.
4- نفس المصدر، ص : 52.
5- نفس المصدر، ص: 53.

المعاني هو السعادة عند حصول الصلاح، والشقاء عند حصول الفساد، ويدخل في هذا الصنف الإحسان والرحمة والمحبة والتواضع والخشوع»(1).

هذا فيما يخص معالم التقسيم الجديد الذي يقترحه طه عبد الرحمن، أما فيما يتعلق بخصائصه فقد ذكر بأن الضروريات التي كانت تصنف في المرتبة الأولى في الترتيب القديم للقيم، سوف تصبح بمقتضى الترتيب الجديد - الذي ينبني على ما سبق - يحتل معظمها المرتبة الثالثة مثل حفظ النفس وحفظ النسل وحفظ المال. في المقابل لذلك فإن التحسينيات التي كانت تنزل في المرتبة الثالثة، فقد أصبحت في المقام الأول للترتيب الجديد. ويعلل ذلك بكون الترتيب القديم يقدم اعتبار الجانب المادي من الحياة على الجانب المعنوي. ولأن القيم الخلقية هي الأساس في مقاصد الشريعة وبها يحقق الإنسان إنسانيته، فإن رتبة هذه القيم تحددها قدرتها على تحقيق هذه الغاية .. «وعلى هذا، تكون القيم الروحية - أو قيم الخير والشر - أدل القيم على كمال الإنسانية وتمام العبودية لله، تليها القيم العقلية - أو قيم الحسن والقبح - لأن درجتها من المادية، على توسطها، تنأى بها عن هذا الكمال الإنساني، فتكون لها الرتبة الثانية، ثم تأتي في الرتبة الثالثة القيم الحياتية - أو قيم النفع والضرر - لأن تغلغلها البالغ في الماديات يقطعها عن هذا الكمال الانسانی»(2).

هذه هی أهم الخطوط التي تناولها طه عبد الرحمن في هذا المشروع للتجديد لعلم المقاصد الشرعية. وجدير بالذكر أن طه عبد الرحمن قد كتب مؤلفه «تجديد المنهج في تقويم التراث» الصادر سنة 1994، مع العلم أن هذه الدراسة قد تم نشرها سنة 2002، خصص فيه صفحات عدة تناول فيها «التداخل الداخلي في أصول الفقه: الشاطبي نموذجًا»، يمكن اعتباره باكورة البحث الذي انطلق منه هذا المطلب.

وإذا جاز أن يلاحظ على هذا المشروع الجنيني - باعتباره لم يطوره بعد في كتاب أكثر وضوحا ودقة - فإنه يمكن تسجيل بعض الملاحظات السريعة:

ص: 180


1- نفس المصدر، ص : 53.
2- طه عبد الرحمن: مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة، ص: 53-54.

عند التوقف عند قضية أساس في المقاصد تتعلق بالمصالح الضرورية، يعترض طه عبد الرحمن على الحصر الذي قام به الأصوليون والقاضي بحصرها في خمس (الدين والنفس والعقل والنسل والمال)، ويرى أنه «لا يمكن التسليم بانحصار الضروريات في خمسة أجناس، لأن ذلك يخل بالشروط المنطقية والمنهجية المطلوبة في التقسيم، فلا يستوفي شرط تمام الحصر ، إذ لا يمنع من دخول عناصر أخرى فيه، فقد أدخل بعضهم العرض والعدل»(1).

ويعدّ هذا الادعاء مغامرة كبيرة، إذ حاول عدد من الأصوليين كسر حاجز الخمس لكنهم لم يأتوا بما يقنع بأنه كلية وعده ضمن الضروريات، وذلك لكونه يندرج تحت كلية سبق أن حددها العلماء وضمن الخمس المعهودة كالذي جاء به محمد الغزالي وابن عاشور وعلال الفاسي أيضا. أو في بعض الأحيان الأخرى تكون هذه الإضافة فضفاضة وواسعة كما سبق مع ابن تيمية أو بعض ما جاء به كذلك ابن عاشور وعلال الفاسي .. وقد سبق الحديث عن هذا في أثناء نقاش عدد الكليات في مبحث الاجتهادات الجزئية.

والحقيقة أن كل الإضافات التي اجتهد العلماء في إضافتها لم تسلم من النقد والمعارضة في أكثر الحالات إن لم يكن في جلها. في الوقت الذي بقيت الكليات، التي جاء بها العلماء قديما منذ الجويني والغزالي وكذلك الشاطبي ومن جاء بعدهم جميعا، صامدة وثابتة أمام كل الزيادات رغم تغير الظروف والملابسات التي عرفتها الأمة. وقد يكون هذا دليلا على قوتها وقوة الأدلة التي تستند عليها.

يرى طه عبد الرحمن أنه لا تباين بين القيم الخمس، وبذلك فلا يكون حفظ للمال من دون حفظ للعقل، وبذلك فالعقل جزء من المال؛ كما أنه لا حفظ للعقل بغير حفظ النسل، وعليه فالنسل جزء من العقل؛ كما أنه لا حفظ للنسل بغير حفظ للنفس، فتكون النفس جزءا من النسل، ولا حفظ للنفس بغير حفظ الدين، فيكون الدين جزءا من النفس.

ص: 181


1- طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط:1، 1994، ص: 111.

والظاهر انه هنا لا وجود للاعتراض إذ يقرر الشاطبي أن مصالح الدارين مبنية على الأمور الخمسة المعروفة، حتى إذا انخرمت لم يبق للدنيا وجود. وكذلك الحال بالنسبة للأمور الأخروية». فلو عدم الدين عدم ترتب الجزاء المرتجى. ولو عدم المكلف لعدم من يتدين. ولو عدم العقل لارتفع التدين. ولو عدم النسل لم يكن في العادة بقاء. ولو عدم المال لم يبق عيش.. وهذا كله معلوم لا يرتاب فيه من عرف ترتيب أحوال الدنيا وإنها زاد للآخرة»(1)فتوقف كل قيمة على أخرى من الأمور المعلومة.

يخلص طه عبد الرحمن إلى تحديد معالم مشروعه الجديد الذي يقسمه إلى:

-القيم الحيوية أو قيم النفع والضرر ، كحفظ النفس وحفظ الصحة وحفظ النسل وحفظ المال.

- القيم العقلية أو قيم الحسن والقبح، كالأمن والحرية والعمل والسلام والثقافة والحوار.

-القيم الروحية أو قيم الخير والشر، كالإحسان والرحمة والمحبة والتواضع والخشوع.

من جانب آخر وجد من الفلاسفة الغربيين الذين لهم اهتمام كبير بالأخلاق والدين والقيم، على رأسهم الفيلسوف الألماني «ماكس شيلر» (1874-1928)، وقد برز في فلسفة الأخلاق وفلسفة الدين وعلم الاجتماع. وقد أصدر شيلر مجموعة كتب في هذا المجال أهمها : «النزعة الصورية في الأخلاق ونظرية الأخلاق المادية في القيم»و«انقلاب القيم» و«عن الخالد في الإنسان» و«أشكال المعرفة والمجتمع»و«مكان الإنسان في الكون»..

يميز شيلر في أوجه السلوك البشري بين :

-القصد.

ص: 182


1- الشاطبي : الموافقات في أصول الشريعة،15/2.

الغايات.

-الأهداف.

- القيم .

كل القيم عنده تنقسم إلى قيم إيجابية وقيم سلبية، كما تشكل عالما من العلاقات فيما بينها. وكذلك يصنف القيم في مجموعات عليا وسفلى

وعنده - دائماتقسيم للقيم على الشكل الآتي:

- قيم حسية : الممتع وغير الممتع.

- قيم حيوية: النبيل والسوقي.

- قيم روحية : الجميل والقبيح، العدل والظلم، المعرفة الخاصة بالحقيقة.

-قيمتا المقدس والدنيوي(1).

هل يمكن المقارنة بين ما جاء به ماكس شيلر والدعوة التجديدية التي جاء بها طه عبد الرحمن ؟ هل يمكن اعتبار ما جاء به طه عبد الرحمن قراءة إسلامية لهذه الرؤية المؤسسة على القيم التي طورها الفيلسوف الألماني؟

أم هل يمكن اعتبار الطرح الذي جاء به طه عبد الرحمن صادف وناسب ما جاء به ماکس شیلر؟؟!!

لكن الذي لا اختلاف فيه عند الباحثين هو أنه يمكن اعتبار هذه الرؤية التي أوردها طه عبد الرحمن قراءة نقدية للتراث الأصولي الإسلامي والمقصدي، مع الانفتاح على بعض المناهج والأدوات والآليات الفلسفية الغربية، إذ يعتبر نفسه متشددا فی هذا المجال إذ يقول «إن أهم سمة يتميز بها مشروعي (تجديد المنهج في تقويم

ص: 183


1- إ.م. بوشنسكي : الفلسفة المعاصرة في أوروبا، ترجمة: عزت قرني، سلسلة «عالم المعرفة» -الكويت- ع: 165، سبتمبر 1992 ، ص : 191-197.

التراث).. هو الخروج عن الطريق الذي اتبعه مفكرو الغرب والعرب على السواء في تقويم التراث الإسلامي العربي، والذي لا ينبني على التوسل في هذا التقويم بأدوات منهجية مستمدة من خارج هذا التراث، وذلك بأن فتحت طريقا جديدا في التقويم يستمد أدواته من داخل التراث نفسه.. »(1).

إن مشروع طه عبد الرحمن رغم ما يمكن أن يلاحظ عليه من نقص في التفصيل والتطوير، إذ هو في الحقيقة لا يتجاوز بضع ورقات نشرت كما سبق في إحدى المجلات، حيث ينتظر منه أن ينشر أكثر توضيحا وتدقيقا في كتاب أو أكثر لتتبين معالمه الحقيقة ويمكن الحكم عليه واتخاذ موقف علمي دقيق، فهو ذلك مع يستشف منه الجدية في الطرح والعمق في التأصيل، ويفرض احترام الباحث والمتابع المتخصص. ومع كل ذلك فالمشروع يمتاز بالدقة والنضج من حيث البناء النظري والتأسيس لمشروع علمي فيه قراءة نقدية للتراث الأصولي بشكل عام والمقصدي بشكل خاص، فيها جرعات مهمة من الجرأة والشجاعة التي يمتاز بها باحث مدقق من طينة طه عبد الرحمن. لكن هذه الميزات ونقط القوة التي في المشروع يفتقد أغلبها عند تنزيل المشروع ومحاولة تحقيق هذا الطرح على أرض الواقع، خصوصا عند إعطاء نماذج وأمثلة فيما يخص القيم والمصالح التي مثل بها لكل قسم من الأقسام التي عرضها. فالذكر والأمن والحرية والعمل والسلام والثقافة والحوار.. الأمثلة وغيرها من يصعب عدها عدها ضمن الكليات التي تؤسس لمشروع مقاصدي كما يرى طه عبد الرحمن وإن كان الباحث والقارئ يسلم بلا تردد بعدها من المصالح المهمة في حياة الأفراد والجماعات والأمم..

ص: 184


1- طه عبد الرحمن: القول الفلسفي العربي الواقع وشروط الإمكان، في حوار أجراه معه منتصر حمادة، مجلة «المنطلق الجديد» - بيروت - ع: 1 ، خريف 2000 ، ص : 131.

خاتمة:

تعدّ هذه المحاولة من طه عبد الرحمن محاولة فريدة ومهمة جدا خاصة إذا نظرنا إليه من زاويتين :

الزاوية الأولى: أهمية الأخلاق :

ومكانتها الطبيعية في المعرفة الإسلامية، فالإنسان يتميز عن غيره من المخلوقات ليس بكونه يعقل أو ينطق فقط، بل سر وجوهر اختلافه وتميزه هو تخلقه وتحليه بالخلاق التي تزينه، فيكون بذلك على أحسن تقويم كما تروم الشريعة وتهدف الى تحقيقه ..

وغير خفي أهمية الخلاق في حياة الإنسان في الدنيا والآخرة، وذلك لارتباطها الوثيق بين ما هو نظري وما هو عملي، أو بين القولي والفعلي وهو ما يؤكد عليه عادل العوا حين يؤكد: «الأخلاق .. تفكير حي متطور لأنه دائب الاتصال بنشاطي النظر والعمل، القول والفعل. وكلا النظر والعمل يجري في زمان هو حياة الفرد بوصفه عقلا مبدعا، وحياة الناس بوصفهم أعضاء في مجتمع ذي حياة وتطور، أي تاريخ»(1).

لقد أصبح للأخلاق دور هام في الفترة الحالية، وقد يكون وراء ذلك الانهيار الأخلاقي والتدمير المنهجي الذي طال القيم. لقد صار كل شيء اليوم وكأنه«.. يعلن العودة الى الفلسفة الأخلاقية النظرية: نمو تيارات فكرية جديدة، اعتراف بالجدل الأخلاقي وتعدد المناقشات. وعلى هذا النحو يفيد التفكير القيمي والأخلاقي من عناية طريفة. أخلاق نظرية حيايتية، أخلاق نظرية تجارية، إرادة إضفاء الصبغة الأخلاقية النظرية على الشؤون العامة، أو الشؤون السياسية، الأخلاق النظرية والمال .. الخ: كل شيء يجري كما لو ان السنوات الراهنة كانت سني تجدد أخلاقي نظري، سنوات «سني الأخلاق» إذ يبدو لواء الأغراض القيمية بمثابة أقصى صورة

ص: 185


1- عادل العوا: من تقديمه ل: الفكر الأخلاقي المعاصر، جاكلين روس، ترجمة وتقديم عادل العوا، عويدات للنشر والطباعة - بيروتط:1، 2001، ص:6.

المجتمعاتنا الديمقراطية المتقدمة. أجل، إن الأخلاق النظرية تحتل «المنزلة الأولى وغن الطلب الأخلاقي يبدو أنه ينمو مجددًا»(1).

فضلا عن ما سبق فإن طه عبد الرحمن يثير إشكالات قد تأتي على نظرية المقاصد بشكلها القديم بالانخرام والهدم، ومن ثم إعادة بنائها بناء جديدا يتأسس على الاخلاق. ذلك ان الأصوليين قصروا «القيم التحسينية على «مكارم الاخلاق»؛ لكن إنزال مكارم الاخلاق الرتبة الثالثة من القيم يشعر بأنها مجرد صفات كمالية يخير المرء في التحلي بها، بل قد يتخلى عن بعضها، وهذا في غاية الفساد؛ (و).. علم المقاصد يبحث في المصالح، والمصالح ليست إلا علما آخر للقيم الأخلاقية؛ لأنها هي وحدها التي يصلح بها حال الإنسان ..»(2)وإذا كان الحال كذلك يخلص طه عبد الرحمن- فإن مرتبة المقاصد تكون في الرتبة الأولى بلا شك. ويزداد هذا الاضطراب الذي لاحظه طه عبد الرحمن على الأصوليين حين يسجل عليهم سوء تدبيرهم للأمثلة التي جاءوا بها وهم يفصلون القول في القيم التحسينية فيؤكد: «لقد ضرب الأصوليون على القيم التحسينية أمثلة تدخل في جميع أنواع الأحكام الشرعية، اقتضاء وتخييرا، بحيث نجد من التحسيني ما هو واجب كالطهارات، ومنه ما هو محرم كبيع الخبائث واكلها؛ وإذا كان المر كذلك، بطل ما يدعيه الأصوليون من ان القيم التحسينية لا يترتب عليها إخلال بنظام، ولا حصول إعنات.. »(3)وهذا محال الشريعة وحكمتها الربانية.

الزاوية الثانية: التكامل المعرفي :

إن التنظير المقاصدي إذا بقي حبيس الرؤية الأصولية الضيقة، على أهمية أصول الفقه وما تمتاز به من منهج في النظر، ستفقد الكثير من تميزها وقدرتها على مواكبة التطورات التي يعرفها الإنسان. وإذا كان العلماء قديما في العالم الإسلامي يمتازون

ص: 186


1- جاكلين روس: الفكر الأخلاقي المعاصر، ص: 9.
2- طه عبد الرحمن: سؤال المنهج : في أفق التأسيس لنموذج فكري جديد المؤسسة العربية للفكر والإبداع بیروت - ط : 2 ، 2015 ، ص: 83.
3- طه عبد الرحمن: سؤال المنهج : في أفق التأسيس لنموذج فكري جديد، ص: 83.

بتداخل في التخصصات واطلاع واسع على علوم عدة، فليس فقط لأن التخصصات كانت قليلة وأن العلوم لم تتطور بشكل دقيق كما هو الحال في العصور المتأخرة؛ ولكن ذلك في نظرنا عائد لطبيعة المعرفة فقي الحقل الإسلامي وتميزها بالتداخل المعرفي والتكامل بين العلوم. وغير خفي ان علم أصول الفقه بذاته ظلت علوم متعددة تؤثث حقله ومجاله المعرفي، حيث تداخل وتكامل كل من علوم العربية وعلم الكلام وعلم المنطق والتفسير فضلا عن الحديث وغيره من التخصصات.. وقد يضاف إليها في الوقت الحالي العلوم الإنسانية والفلسفة.. هكذا يكون بين يدي مقاصد الشريعة التي هي مكون مهم من مكونات أصول الفقه جملة أدوات تعينه تجديد إمكاناته وتطوير زوايا نظره خاصة مع التحولات الرهيبة التي يعرفها الإنسان المعاصر في المعرفة والاجتماع والسياسة والاقتصاد..»وانطلاقا من هذه الرؤية فإن كل قراءة تجديدية واجتهادية يكون مالها الفشل الذريع، لذلك لا بد من مراجعات نقدية دقيقة للتراث الإسلامي تراجع التصنيف الذي اعتمده علماء الإسلام للعلوم، ذلك ان المراجعة والمدارسة الدقيقة الصارمة من قبل أهل الاختصاص هي الكفيلة بتنمية القدرات العلمية والمنهجية للأمة»(1).

لذلك فالرؤية الفلسفية والزاد الهائل من التراث الذي يتمتع به رجل من قيمة طه عبد الرحمن أضاف للتجديد في المقاصدي نفسا وروحا يفتقد المنظرون للمقاصد مما يفتح آفاق كبرى للاجتهاد في المقاصد، وذلك لكونه ينطلق من نظرة أخرى غير النظرة التقليدية عند المعروفة عند الأصوليين.

إن القراءة الأخلاقية للمقاصد التي قام بها طه عبد الرحمن تعدّخطوة مهمة في إعادة قراءة تراثنا من زوايا مختلفة. وستكون هذه التجربة الفريدة أكثر نضجا ان خصص لها طه عبد الرحمن دراسة مستقلة في كتاب منفصل، يبين معالمها ويشرح مراميها بالنفس الفلسفي والعلمي الذي يمتاز به.

ص: 187


1- محمد شهيد: في المشترك الإنساني: تأسيس مقاصدي ، طوب بريس - الرباط- ط : 1 ، 2017 ، ص: 67.

مصادر ومراجع الدراسة:

إ.م. بوشنسكي : الفلسفة المعاصرة في أوروبا، ترجمة: عزت قرني، سلسلة «عالم المعرفة»- الكويت - ع: 165 سبتمبر 1992،

أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي(790ه): الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق عبد الله دراز، دار إحياء التراث العربي - لبنان - ط 1 ، 2001

جاكلين روس: الفكر الأخلاقي المعاصر، ترجمة وتقديم عادل العوا، عويدات للنشر والطباعة بيروتط:1، 2001 .

جمال الدين عطية: نحو تفعيل مقاصد الشريعة، دار الفكر - دمشق - ط 1 ، 2001.

طه عبد الرحمن: مشروع تجديد علمي لمبحث مقاصد الشريعة ، ع : 102، س: 62، يناير - فبراير- مارس 2002.

طه عبد الرحمن: القول الفلسفي العربي الواقع وشروط الإمكان، في حوار أجراه معه منتصر حمادة ، مجلة «المنطلق الجديد» - بيروت - ع: 1، خريف 2000.

طه عبد الرحمن: تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي ، ط 1 ، 1994.

طه عبد الرحمن: روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء- ط :4 ، 2015.

طه عبد الرحمن : سؤال المنهج: في أفق التأسيس لنموذج فكري جديد، المؤسسة العربية للفكر والإبداعبيروتط:2، 2015 .

محمد شهيد: في المشترك الإنساني : تأسيس مقاصدي، طوب بريسالرباط- ط :1، 2017.

ص: 188

نقد قيم الحوار مقاربة للمنهج النقدي

عند طه عبد الرحمن

طارق الفاطمي(1)

أخذ السجال في جدلية الأخلاق والدين حيزاً كبيراً من الفكر الإنساني.. من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الحديثة مروراً بالفلسفة الإسلامية، غير أن مثل هذه الجدلية لم تخرج عن فرضيات ثلاث؛ «تبعية الأخلاق للدين» و«تبعية الدين للأخلاق» و «استقلال الأخلاق عن الدين».

تبعية الأخلاق للدين

لقد تقرر في الفلسفة اليونانية أن الأخلاق تابعة للدين ولا تنفك عنه. وهو ما ذهبإليه كبار فلاسفة ولاهوتيي الغرب في ما بعد، وفي مقدمتهم القديس «أوغسطين» والقديس «توماس الأكويني»، وذلك لأنها تتأسس عندهم على أصلين وهما: «الإيمان بالإله» و «إرادة الإله». فتقرر بمبدأ «الإيمان بالإله» أن لا أخلاق إلا بإيمان

ص: 189


1- باحث، وأستاذ فى الدراسات الإسلامية، المملكة المغربية: ما هي أهم الانتقادات التي وجهها الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن للمرجعيات النظرية لقيم الحداثة الغربية.. وما قواعد الحوار الحضاري التي نظر لها ودعا إلى تطبيقها التجاوز الأزمة الحضارية الراهنة؟ هذا البحث يهدف إلى تظهير مواقف عبد الرحمن، وتأصيل المفاهيم التي أسس عليها نظريته في القيم وفي ثقافة الحوار الحضاري، كما يعرض إلى في أبرز انتقاداته لقواعد الحوار وأسسه وخلفياته الفلسفية التي أنتجتها العلمانية على امتداد قرون من اختباراتها وحفرياتها الفكرية العميقة في المجتمعات الغربية . المحرر

وأنه مصدرها وموجهها فكانت الخصال الثلاث التي اعتبرت أمهات الفضائل: الإيمان، والرجاء والمحبة التي تفرعت عنها الفضائل الأخلاقية العقلية الأربعة: العفة والشجاعة والرَّويَّة(1)(أو الحكمة)، والعدل التي تأسست عليها فلسفة الأخلاق الغربية. وأهم الانتقادات التي وجهها طه عبد الرحمن لهذا المبدأ ليس في أصله لأن الأخلاق في نظره لا يكون مصدرها إلا الدين، ولكن الأخلاق في العقيدة المسيحية وقعت في الاضطراب والتذبذب الذي سببه تعدد الآلهة في الفكر العقدي الكنسي، والتجسيم وأنسنة الإله التي حصلت في العقيدة المسيحية. وهو يقارنها بالأخلاق التي مصدرها مصدر واحد وإله متفرد بالجلال والجمال والكمال ما يسميه طه عبد الرحمن العقلانية التوحيدية(2).

أما أصل «إرادة الإله» فقد أنتج ضرورة الالتزام بالأوامر والنواهي، أو ما عرف بنظرية «الأمر الإلهي»، مع كل الاعتراضات التي قدمت عليها وأشهرها السؤال في الخير والشر، وهل إدراكهما عقلي أم غيبي مرتبط بإرادة الإله(3)؟

وهو أحد أوجه الجدل الذي ورثته الفلسفة الإسلامية، وانقسمت حياله الفرق الكلامية في المسألة التي عرفت في كتب الكلام والأصول بالتحسين والتقبيح العقليين. ومن الانتقادات التي يوجهها د. طه للفلسفة الإسلامية والفقهاء والأصوليين خاصة ، وقوعها في إسقاطين أحدهما ترجمة الخصال الأربعة في الفلسفة اليونانية إلى لفظ «الفضائل» مع ما يحمله هذا اللفظ في اللغة العربية من الإيحاء بالكماليات التي تبقى اختياراً لا يصل إلى حد الضرورة والهوية، وقوة الارتباط بالوجود والكينونة الإنسانية(4). وفهم الفقهاء والأصوليون «مكارم

ص: 190


1- اعتبر د. طه عبد الرحمن أن ترجمة الثقافة العربية الإسلامية مصطلح «phronesis» التي تدل على العقل في معناه التدبيري والعملي، بكلمة «حكمة» غير موفق لأن كلمة pكمة في التداول العربي أخص وأشرف بيحتار لها مرادف لفظ «الروية» لما يدل عليه من التوفيق في التدبير العملي.
2- سؤال الأخلاق (ص 33 - 34).
3- تفاصيل المواقف والآراء في شأن هذه النظرية في كتاب «Divine Commands and Morality»
4- سؤال الأخلاق (ص -5453).

الأخلاق» التي ذكرت في الحديث(1)على أنّها لا تكون إلا في المرتبة الأخيرة من المقاصد التي تسمى تحسينية أو كمالية في حين أن ارتباط الأخلاق بالدين وتبعيتها له تقتضي أن تكون في المقام الأول من المقاصد الضرورية التي تتعلق بحفظ الدين لأنها أساسه ومدار أحكامه وشعائره عليها، كما تنص عليه الأدلة الشرعية(2)

تبعية الدين للأخلاق

تفرعت دعوى تبعية الدين للأخلاق في الفلسفة الحديثة على القول ب«مبدأ الإرادة الخيرة للإنسان» أو الإرادة الحسنة أو تسمى أيضاً الإرادة الطيبة، الذي أقام عليه «إيمانويل كانط» صرح نظريته الأخلاقية المتميزة(3).

تتلخص دعوى «كانط» في كون الإرادة الخيرة متسامية في ذاتها لأنها مصدر الواجب الذي يجب أن يلتزمه كل فرد دون طمع في ثواب أو خوف من عقاب لأن الذي يمليه ويفرضه هو «العقل الخالص» الذي يمكن من الجمع بين الفضيلة والسعادة في تصور كانط الموصل إلى «الخير الأسمى»، فيكون بذلك الإنسان هو نفسه مصدر الأخلاق لا قوة أو إرداة أخرى فوقية أو خارجة عنه تتصف بالكمال المطلق. وحسب قول «كانط»: «تبدو الأخلاق غير محتاجة إلى فكرة كائن مختلف وأعلى من الإنسان لكي يعرف هذا الإنسان واجبه، ولا إلى سبب غير القانون نفسه لكي يتبعه (...) ، فإذن بالنسبة للأخلاق، فليست تحتاج مطلقاً إلى الدين، بل تكتفي بذاتها بفضل العقل الخالص العملي»(4).

هكذا فبفضل مبدإ الإرادة الخيرة، يجد «كانط» أن صرح الأخلاق في غنى عن

ص: 191


1- «إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق»، أخرجه الإمام مالك في الموطأ بلفظ «حسن الأخلاق» (2/ 904) في حسن الخلق، باب ما جاء في حسن الخلق، أحمد في المسند (513/14)، وفي لفظ آخر «مكارم الأخلاق». وسنده قوي
2- سؤال الأخلاق (ص -5150).
3- أسس ميتافيزيقا الأخلاق، كانط دار النهضة العربية 1970م، بيروت لبنان.
4- KANT. E; LA RELIGION DANS LES LIMITES DE LA SIMPLE RESON. P. 23

أن يقام على قاعدة «الإيمان بالإله» أو «إرادته المطلقة» كما هو الحال في الفلسفة اليونانية، ولكن تستتبع الأخلاق الدين كما يستتبع الأصل الفرع ، ذلك ان العقل الذي تنضبط به هذه الإرادة والذي يأمر بطاعة الواجب، يتطلع إلى تحقيق الجمع بين الفضيلة التي تصحب أداء الواجب، وبين السعادة التي لا تصحب بالصرورة الفضيلة.

ويعترض د. طه عبد الرحمن على هذا الطرح بأنه إنما أعاد صياغة الأخلاق الدينية بسلوكه طريقتين : طريق المبادلة وطريق المقايسة.

فتجد أنه استبدال مفاهيم معهودة في النظرية الأخلاقية الدينية بمفاهيم ومقولات أخرى غير معهودة؛ فعوض مفهوم الإيمان بمفهوم العقل، ومفهوم الإرادة الإلهية بمفهوم الإرادة الإنسانية، ومفهوم الإحسان المطلق للإله بمفهوم الحسن المطلق للإرادة، ومفهوم التنزيه بمفهوم التجريد، ومفهوم محبة الإله بمفهوم احترام القانون، ومفهوم التشريع الإلهي للغير بمفهوم التشريع الإنساني للذات، ومفهوم النعيم بمفهوم الخير الأسمى(1).

وتجد أنّه يقدر أحكام نظريته الأخلاق على مثال أحكام الأخلاق الدينية، فيقيس أحكام الدين المنزل على أخلاق الدين المجرد ، فإذا كان في الأولى اللإله هو مصدر التشريع فإنّ العقل في الثانية هو مصدر القوانين، وكما أن الإله في الأولى منزه عن العلل والمصالح الذاتية في وضع تشريعاته للبشر، كذلك العقل الخالص متجرد عن كل البواعث والأغراض في وضع شريعته الإنسانية(2)...

فيتحول بذلك في نظر طه عبد الرحمن الأصل إلى فرع، فبدلان من أن يكون الدين تابعاً للأخلاق في نظر كانط تجده يتحول إلى الأصل الذي تأسست عليه نظرية الأخلاق التي عرف بها.

ص: 192


1- سؤال الأخلاق (ص 39).
2- المصدر نفسه.

استقلال الأخلاق عن الدين

ذهب «دافيد هيوم» رائد دعوة فصل الأخلاق عن الدين واستقلالها عنه، إلى تأسيس نظريته في الأخلاق على مبدأ «لا وجوب من الوجود» التي فصلها في كتابه «رسالة في الطبيعة البشرية»(1). إنّ الأحكام الدينية أحكام خبرية لا تعد أن تكون إخباراً عن المغيّبات، والأخلاق من طبيعة أخرى غير الخبر، فلا يصح استنتاج الأخلاق من أحكام الدين.

ويعدّ «هيوم» أن الأحكام الدينية غير صالحة لأن تؤسس الأحكام الأخلاقية سعيا منه إلى هدم كل الأنساق الأخلاقية في عصره (القرن 18م)، مدعياً أن الأخلاق مصدرها الوجدان الإنساني أو ما سماه الحدس الخلقي في الإنسان، أما الإرادة الإلهية والعقل فلا يمكن أن يكونا مصدراً لمعرفة الخير والشر.

ويعترض د. طه عبد الرحمن على هذا الطرح بأنّ حقيقة الدين أشبه بالمؤسسة منه بالنظرية، فهو مجموع أحكام ومعايير تحدد كيفيات العمل من أجل تلبية حاجات معينة، وإذا كان الأمر كذلك لزم أن يتضمن الدين إلى جانب الأقوال التي تخبر عن الموجودات، حسية كانت أو غيبية، أقوالاً وجوبية تحدد العلاقات بین هذه الموجودات جلبا للمنفعة ودفعا للمضرة، والأقوال الوجوبية التي تجلب النفع وتدفع الضرر لا تعدو أن تكون أقوالاً أخلاقية فيلزم أن يكون الدين أخلاقياً بقدر ما هو إخباري(2).

والاعتراض الثاني أنّ ما يسميه «هيوم» الحدس الخلقي لا يعد أن يكون الفطرة السليمة التي خلقها الله في الإنسان التي تنطبق عليها صفات التلقائية والجمالية والعملية، التي جاء الدين لصيانتها وإحيائها وإبرازها(3).

ص: 193


1- HUME. D: A treatise of human nature. Oxford. Clarendon Press.
2- سؤال الأخلاق (ص 44).
3- نفسه (ص 46).

نقد الخطاب الفلسفي المعاصر المؤسس للحوار الحضاري

قبل طرح البدائل الفكرية والفلسفية انكب الفيلسوف المفكر طه عبد الرحمن على قراءة ناقدة للمنظومة الأخلاقية التي تعد الخلفية النظرية والبراديغم الموجه للحوار العالمي المعاصر، التي رسمها «بالأخلاق الكلية» وأنتجت على المستوى النظري أخلاق الواجب مع «إيمانويل كانط»، وأخلاق المنفعة مع «جيريمي بنتهام» و«جون مل»(1). وأجمل قصور هذه الأخلاق عن توجيه الإنسانية وبناء مستقبلها وعدم تأهلها لتوصف بالعالمية إلى ثلاثة أسباب: أولا لأنها أخلاق عقلية نظرية مجردة تتنافى مع الفطرة الإنسانية وتناقضها في كثير من الأحيان وتتحول إلى مثالية غير مجربة. وثانيا، لأنّها أخلاق أحادية فردية ليست محل إجماع وتوافق، إذ لم يتبنّها غير الفيلسوف الذي نظر لها وأنتجها. وثالثًا: لأنها أخلاق علمانية تنبذ الدين وتتعالى عنه في زعم أصحابها، ما يجعل المجتمعات المتدينة ترفضها لأنها تناقض منظوماتها الأخلاقية الدينية.

لهذه الأسباب تكون الأخلاق المؤطرة للحوار العالمي غير ناجعة، ولا ينتظر منها أن تكون الأرضية التي تجمع الإنسانية، بل لهذه المواصفات تكون أخلاقاً تعسفية تلغي مكونات كبيرة في العالم ما يفسر اتجاهها إلى العنف والهيمنة والسيطرة والقوة.

أمّا الأخلاق العالمية التي يؤهلها د. طه لأن تقود الإنسانية وتوجهها فهي أخلاق عملية مجربة، ومصادرها متعددة تستوعب وتؤلّف، ذات توجه ديني يجمع ولا يفرق.

ما يؤهل المنظومة الأخلاقية للأمة الإسلامية لأن تكوّن أخلاقاً عالمية، لما ينطبق عليها من تلك المواصفات والخصائص لأن تقود العالم وتوجه أخلاقه، ويكون الحوار المتمثل لهذه الأخلاق والمتشرب لها والمعبر عنها الأداة التي تُبلّغ لتبلغ مداها وتصل الآفاق المقدّرة لها.

ص: 194


1- سؤال العمل (ص 111).

الحاجة إلى الحوار الأخلاقي العالمي

لقد انتهت المنظومة العالمية إلى أهمية الحوار ومركزيته في تحقيق التواصل والسلام بين الشعوب والأمم حول العالم، ما جعلها تنتهي إلى تنظيم مؤتمرات حوار الأديان، والحرص على الإعلانات العالمية لهذه المؤتمرات لتكون الإطار النظري والتطبيقي للمنظومة الأخلاقية العالمية، وتطرح نفسها بديلاً عن الأخلاق العلمانية التي تؤطر هذه المنظومة العالمية الأخلاقية المعاصرة. في أفق اقتراح حلول لأزمات أربع يعيشها العالم في عصرنا، أزمة اقتصادية تتفاقم وما فتئت تداعياتها تهدد العالم بانهيار للأخلاق والقيم، وأزمة بيئة لا مخرج منها إلا بتبني قيم وأخلاق موحدة، وأزمة سياسية تهدد العالم بمزيد من الدمار والاستغلال والاستبداد، وأزمة اجتماعية تهدد بانهيار البنيات الاجتماعية وفي مقدمها الأسرة ومكانة المرأة.

ويكتسي «الإعلان من أجل أخلاق عالمية» في منظور د. طه عبد الرحمن أهميته من جهتين؛ أولها زيادة وعي الديانات بأهمية الحوار والحاجة إليه. وثانيها أن الديانات ما تزال قادرة على قيادة العالم والتنظير لمستقبله في ضوء الأخلاق الدينية، واقتراح حلول ناجعة وفعالة للأزمات التي يعيشها(1).

يتأسس نقد الدكتور طه عبد الرحمن للإعلان العالمي الأخلاقي، وتوصيات مؤتمرات حوار الأديان على تساؤلين أساسيين، وهما يشكلان في نفس الوقت الهدفين اللذين يجب أن تحققهما هذه التجمعات التي يعد انعاقدها انتصاراً وشهوداً للأخلاقية الدينية، كما أن احترام شروطه ومعاييره تعد مؤشرات نجاحها أو فشلها، ومحدد فاصل في قدرتها على الدفاع عن منظومتها الأخلاقية وجعلها عالمية.

أما التساؤل الأول فمفاده هل هذا الإعلان يجعل الدين يتمكن في العالم؟،والثاني هل يحقق الإعلان للخُلقية التقدم في العالم؟

ص: 195


1- سؤال العمل ( ص 119،120).

ويخلص د. طه أن الإعلان العالمي أخل بالشرط الأول في التمكن للدين في مظاهر أربع: حذف التأسيس على الدين ومبادئه ومقاصده ومصادر معرفته. وحذف اسم «الإله»، وحذف الإيمان من سلم القيم الأخلاقية، وحذف العمل الديني الذي هو طريق اكتساب هذه القيم الأخلاقية، ومرقاة لتثبيتها وترسيخها في النفوس.

أما الإخلال بشرط التقدم الخُلقي فيتلخص في ثلاثة مظاهر: الأول يتجلى في أن الإعلان لا يقدر على تحقيق السلام العالمي، باعتباره قيمة إنسانية كبرى، إذ قصر الإعلان الحوار والسلام على أتباع الديانات وأقصى عدد من المكنونات وتناسى أن الدين أداة في أغلب الأحيان ينفعل ولا يفعل في الحياة العامة وتدبير المؤسسات، ولا سلام إلا باستيعاب كل الأطراف التي يشكل أتباع الديانات في العالم جزء منها.

أما المظهر الثاني من مظاهر الإخلال بالتقدم الخلقي اقتصار الإعلان على الحد الأدنى من الأخلاق، بتركيزه على الأخلاق والقيم المشتركة بين الأديان، فوقع في تناقض الحد الأدنى من الأخلاق الذي لا يصل إلى مستوى الحد الأنى في أقل دين من الديانات، مع أن المفترض الأخذ بأفضل الأخلاق من كل دين ومراعاة التفاضل والتفاوت الواقع بين الأديان، لتحقيق التقدم الخلقي حتى ترقى إلى مستوى الأخلاق العالمية.

أما المظهر الثالث فهو افتقاره إلى الركن الأساس في جميع الأديان وهو «الإيمان»، فغياب هذا الركن، وغلبة الطابع الحسي الذي يروم إرضاء غير المؤمنين، جعل الإعلان بعيداً عن التقدم الخلقي المنشود للحوار. فإنكار «ثقافة الإيمان»(1)بتعبير د. طه عبد الرحمن، تعطيل للروح التي تسمو بأخلاق الإنسان إلى أخلاق منزلة من عالم أخر فوقه، يجعل الإعلان لا يعدو أن يكون حساب مصالح.

ص: 196


1- سؤال العمل (ص 132)

التقدم الخُلقي أساساً للحوار الحضاري

التقدم الخُلقي المفقود في «الإعلان من أجل أخلاق عالمية»، جعله وغيره من الإعلانات، لا يرقى لأن يكون مرجعاً للأخلاق العالمية التي ينبني عليها الحوار الحضاري، ما جعل د. طه عبد الرحمن يضع أربعة معايير أساس فضلا عن القيم الإنسانية الكونية المأخوذة من الدين التي نص عليها الميثاق العالمي والمتمثلة في «التضامن» و «التسامح»، و «المسالمة»، و«المساواة». ذلك لأنّه افتقد إلى التنصيص على مصدرين للقيم الأخلاقية العالمية وهما «الإيمان» و«العمل».

والمعايير الأربعة(1)يجب أن تتوفر في دين واحد حتى يستوفي مقومات التقدم الخلقي العالمي، وفي مقدمتها: معيار الوعي بالصلة بين الدين والتخلق، ذلك بالربط بين العمل الديني والسلوك الخلقي، ما يعني أن زيادة العمل الديني والإقبال على أدائه بشروطه ينعكس أثره الإيجابي على الخلق والسلوك.

والمعيار الثاني المتمثل في الأخذ بالتوجيهات الأخلاقية الضرورية على الأقل الخمسة ولم ينص الإعلان إلا على أربعة منها. والمعيار الثالث الذي يمثله التوسع الأخلاقي حيث تشمل المعاملة الإنسانية جوانب مهمة من الممارسة الأخلاقية وتستوعب أكبر قدر من المعاملات الإنسانية وتدخلها في منظومتها الأخلاقية.

والمعيار الرابع المتمثل في التفاضل الأخلاقي، حيث تكون المنظومة الأخلاقية العالمية يمثلها الطور المتقدم من الأخلاق الإنسانية إذ هي تراكم كما تتراكم التجارب والمعارف الأنسانية، فإنّ طور الاكتمال لن يكون إلا مع الدين الخاتم. ما عبر عنه قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» وفي رواية «صالح الأخلاق»(2).

وقد أصل الدكتور طه عبد الرحمن لهذه المعايير في كتابه روح الدين، في

ص: 197


1- سؤال العمل ( ص 135)
2- أخرجه الأمام أحمد في المسند (513/14) وغيره وهو صحيح.

فصل العمل الديني وممارسة التشهيد، وميّز ودقق وأصل عدداً من القيم والأخلاق المشتركة في مقدمتها التسامح والتفاضل الديني وحرية الاعتقاد، التي تأسس للحوار ومنطلقاته النظرية.

وبتطبيق هذه المعايير على الدين الإسلامي يجد المتأمل أنّه الأكثر تمثيلا وشمولاً واستيعاباً لهذه المعايير، والدين الأتم والأكمل لقيادة وتوجيه الأخلاق العالمية، وذلك مصداق قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بمَا کنتم فيه تَخْتَلِفُونَ [المائدة: 48] . إذ الدين الخاتم يوافق طور الاكتمال البشري على المستوى الخلقي والإيماني والعملي، ما يؤهله لأن يكون المرجعية والدعوة التي يقبلها العالم وتلبي حاجاته في المجالات المختلفة. ما يجعل الهيمنة بمفهومها الأخلاقي القرآني أساس ومرجعية الحوار الحضاري.

جدلية الحوار والاختلاف

خلق الله تعالى الكون على أسس وقوانين وسنن ثابتة بثها في ثنايا آيات الذكر الحكيم، وأصل هذه القواعد ترجع إلى حقيقة مفادها «وحدانية الخالق واختلاف المخلوق»، وينتج عن هذه الحقيقة المطردة أصلان جعلهما الدكتور طه عبد الرحمن مدار فكره والمرجعية النظرية في تصوره لقواعد الحوار وسننه.

أما الأصل الأول فهو التعدد لا الانفراد، إذ لا حوار إلا بين اثنين فأكثر، وهو ما يحيل على التنوع البشري، والتعدد الإنساني، ويجعل الحوار ضرورة وحاجة للحياة، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ(1)، ما يرقى بالحوار إلى مستوى الرسالة والأمانة وأساس الاستخلاف الذي جعله الله تعالى مهمة الإنسان في الأرض.

وأما الأصل الثاني فهو الاختلاف لا الاتفاق، وهو أحد القوانين السننية الكبرى

ص: 198


1- سورة الحجرات 13.

التي شيد الله تعالى عليها أساس هذا الكون، وعلّق عليها استمرار الإنسانية وتشييد حضاراتها، وجعلها شرط الاستقرار والأمن العالمي، قال تعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ أَولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ(1)، وقد ذهب جلّ المفسرين للقول بأنّ الله تعالى إنما خلق الناس للاختلاف في مصائرهم وتوجهاتهم واختياراتهم وعقائدهم(2)، وأن الاختلاف أصل وسنة فطرت البشرية عليها.

وقد جمع الدكتور طه عبد الرحمن هذه الحقائق المؤسسة للمرجعية النظرية للحوار الحضاري في قاعدتين: «الأصل في الكلام الحوار»(3)، و«الأصل في الحوار الاختلاف(4)». وجعلها الأساس الفكري والفلسفي الذي يجب أن تقوم عليه ثقافة الحوار الحضاري بين الأفراد والجماعات.

أثبت الدكتور طه عبد الرحمن أن الحوار يقضي تعدد الذوات المتحاورة، وأن تعدد الذوات يعني اختلافها، والاختلاف مع التعدد أمر سنني مستمر في البشرية. ويعترض على هذه النتيجة بما يمكن أن يكون تمثلا وصورة ذهنية نمطية تذهب إلى أن التعدد لا يكون داخل الجماعة لأنها تعني الاتفاق واللُّحمة، والاختلاف يحيل إلى المنازعة والفرقة وهي تناقضات وتقابلات يصعب الجمع العقلي والواقعي بينها ؟

العلاقات الحضارية تنطبق عليها كل المواصفات السابقة، فالاعتراضات على الحوار التي قدمها د. طه عبد الرحمن هي التي أنتجت تصورات ونظريات الخلاف

ص: 199


1- سورة هود 118،119.
2- يرجع إلى اختلاف الأقوال وترجيح شيخ المفسرين الإمام الطبري في تفسيره جامع البيان (15/ 537).
3- الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (ص 27).
4- المرجع نفسه (ص 28).

والتدافع في العلاقات الحضارية في تفسير ماضيها وواقعها، وتوقع واستشراف مستقبلها، كنظرية صراع الحضارات. ما أحال العالم إلى حلبة لاستعراض القوة والتسارع نحو السيطرة والهيمنة، ما أجج العنف في أنحاء العالم وزعزع الاستقرار والسلام.

والعالم المعاصر يتشوف إلى تنظير تنتج عنه ممارسة وقيم كونية تنقذه من دوامة العنف والعنف المضاد، والصراع للبقاء، وهاجس التنافس للسيطرة، وتعصمه من الكدر والضنك، وتضمن له الراحة والطمأنينة النفسية والاستقرار الاجتماعي، وفوق كل ذلك تملأ الفراغ الروحي الذي خلفه الفكر المادي.

الحوار النقدي

يقترح الدكتور طه عبد الرحمن ليتقبل العقل هذه الإشكالات والتعارضات الظاهرية السابقة، ما اصطلح عليه بالحوار النقدي، أو الحوار العقلي، أو الحوار الإقناعي، أو الحوار الاعتراضي. وهو حوار أصيل في الحضارة والفكر الإسلامي، لأن أصل قواعده مستمد من القرآن الكريم، فوسمه المسلمون ب- «المناظرة». وعرفه بالقول: «هو الحوار الاختلافي الذي يكون الغرض منه دفع الانتقادات أو - قل الاعتراضات - التي يوردها أحد الجانبين المتحاورين على الرأي - أو قل دعوى - الآخر بأدلة معقولة ومقبولة عندهما معًا »(1). ويكون بذلك الإطار النظري المستوعب للاختلاف في جميع أبعاده وتجلياته، سواء كان بين الجماعة الواحدة أو المجتمعات المختلفة، سواء كان دافعه مذهبيًا طائفيًا أو حضاريًا فكرانيًا.

الحوار النقدي في فكر الدكتور طه عبد الرحمن حوار حضاري، باعثه الأخلاق والقيم التي تجمع الإنسانية وتوحد وجهتها، وتقلص هوة الخلاف بينها، لأنّه ينبني على إيمان عميق بالاختلاف وقبول الآخر، لذا فقد جعله ينافي مزالق ثلاثة : العنف(2)والخلاف(3)والفرقة(4).

ص: 200


1- الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (ص33).
2- نفسه (ص 33).
3- نفسه (ص 36).
4- نفسه (ص 35).

يهدف تأسيس قواعد الحوار على أرضية الحوار النقدي الإقناعي إلى ترسيخ القبول بالآخر المخالف، وتشجيع حرية الرأي المبني على أسس استدلالية مقنعة لا مجرد التشهي أو التقليد، وذلك باعتماد الإقناع بالحجة وصحة الاستدلال، والنظر في مناسبته للمجال والحقل المعرفي والموقف الحواري، وطبيعة المحاور، واعتماد الإذعان للصواب في حال ظهور الحق تفاديا لآفتي العنف المادي الجسدي واللفظي، والعنف الرمزي باللجوء إلى الحسم . وبذلك يكون الحوار الإقناعي أسمى مراتب الفكر والتواصل الحضاري.

ينطلق الحوار الحضاري من أرضية مشتركة ليجعل من مقاصده الحفاظ على المشترك الإنساني من المعارف التي تمثلها الوقائع المشتركة في التاريخ الإنساني، والقيم المشتركة التي توحد قناعات الأقوام، وتحفظ مصالحهم وتضبط أحوالهم، والأدلة المشتركة التي تسمح بتبادل الأفكار والتعبير عن القناعات واستمرار جسور الحوار وتفعيل قنواته.

الحوار الاختلافي بين الأمم والحضارات والأقوام، يدعو إلى الاجتهاد وتطوير الملكات والبحث عن حلول وإبداع طرق جديدة وملائمة للاستدلال، وأدوات الإقناع، ما يدفع إلى توليد الأفكار، ولأن الاختلاف بين الأقوام والحضارات المختلفة يكون أشد فإنّه ينشط الحركة الفكرية، فيكون أدعى إلى التفلسف بتعبير الدكتور طه عبد الرحمن(1).

عندما يصير الاختلاف قناعة ترسخ معها احترام الحرية والحفاظ على المشترك، وبنبذ آفات الحوار السابقة (العنف والخلاف والفرقة)، يعوض الحوار والتكامل منطق الهيمنة والسيطرة والقهر والسلطة، حيث يكون الحوار الإقناعي أداة للتكامل الإنساني بحيث يحرص كل قوم على حفظ المشترك القيمي والمعرفي والمصلحي، وتسعى كل أمة إلى الإسهام في هذا التكامل من منظورها الفلسفي في أفق ما وصفه د. طه عبد الرحمن «بالميثاق الفلسفي»(2)على غرار «الميثاق الاجتماعي» الذي

ص: 201


1- الحق العربي في الاختلاف الفلسفي (ص 47).
2- نفسه ص (47) .

يتنازل فيه كل طرف عن وعي وطواعية عن بعض حقوقه واحترام واجباته في سبيل حفظ مصالح الجماعة وتحقيقاً لتكاملها.

المفاهيم الإسلامية الموجهة للحوار الحضاري

إن تأثيل المفاهيم أحد مرتكزات القوة في الخطاب الفكري والفلسفي للدكتور طه عبد الرحمن فنقده للخطاب الفلسفي المعاصر ، والمفاهيم التي أنتجها التي لها حمولة فكرية، وأبعاد تطبيقية تتنافى في أغلب الأحيان مع مقاصد الدين الإسلامي الذي استدل على أنّه المؤهل لأن يمثل الأخلاق العالمية من بين الأديان العالمية، والتوجهات الفكرية المعاصرة، كما بينت في المبحث السابق.

فإنّ نظريته في الحوار تتأسس على مفاهيم أهمها مفهوم المؤاخاة الذي يعوض مفهوم المواطنة الذي أنشأته النظرية الليبرالية والنظرية الجماعانية، ويرتقي بها لتواجه تحديات عالم اليوم(1). والمؤاخاة في منظوره امتداد لمبدأين مبدأ الإخلاص الذي يهبها الإتصال، ومبدأ الأمة الذي يهبها الانفتاح.

مفهوم الإخلاص

الإخلاص يعطي المواطنة الاتصال بين الممارسة الواقعية والأصل الذي يستمد منه، فيرى أن حقوق الغير واجبات إلهية، ولهذا المفهوم بعدين يعدّهما د. طه ركنين أساسيين لتوسيع مفهوم المواطنة، أما الركن الأول فهو «دوام التجرد من أسباب الظلم» ، وأما الركن الثاني فهو «دوام التوجه إلى المتجلي بالحق»(2). فيجد أن تواصله وحواره وصلته بالآخر عبادة وله بها أجر أو وزر، فيحرص على حسن الصلة ومراعاة أمر الله فيها، وقد يتنازل عن بعض حقوقه ارتفاعاً بنفسه عن شرورها وأنانيتها. فهو دائم المراقبة لتصرفاته ما يمنح الغير الشعور بالطمأنينة والعدل.

ص: 202


1- روح الحداثة ( ص 230).
2- نفسه (ص -224 223).

مفهوم الأمة

إن مفهوم الأمة الذي يزيد على مفهوم المواطنة القدرة على الانفتاح والاستيعاب لأنها تتحقق بركنين آخرين هما: «التحقق بالماهية الأخلاقية»، و«تحصيل القدرة على إبداع الأخلاق»(1)، بحيث يصير ميزان التفاضل بين الناس التفاوت في تحصيل الأخلاق والتحقق بها وتمثلها، فتنقل الأمة من مرتبة الامتثال والخضوع للأوامر والنواهي، إلى مرتبة المعاني الجمالية في الامتثال الطوعي بالأخلاق، فتتحول القيم السلوكية إلى مقاصد معرفية في خدمة الإنسانية، ومنها إلى مرتبة إبداع الأخلاق والتفنن في تطبيقها على مجالات الحياة المختلفة. وتصير الموجهة للتصرفات الفردية والجماعية المتنوعة.

مفهوم المؤاخاة

مفهوم الإخلاص المتصل، ومفهوم الأمة المنفتحة، والأركان الأربعة التي تتأسس عليها هذه المفاهيم، التي بمجموعها تشكل مفهوم «المؤاخاة»، الذي يمنح الأمة الإسلامية القدرة على الانفتاح والقدرة على استيعاب التحولات ومواجهة التحديات العالمية، والمهيمنة التي غايتها نشر «أخلاق عالمية»، تستوعب الإنسانية وتحقق

سعادتها .

بهذه الأبعاد الإنسانية الكونية تتأسس ثقافة الحوار، فشتان بين الحوار الذي يحمل الخير للإنسانية، ويحرص على سعادتها الممتدة في الدنيا والآخرة، وبين حوار غايته رعاية مصالح مادية، وتوازنات إقليمية ودولية، وإرضاء الفئات المنتازعة والمفترقة. فهو لا يضمن أن تنحرف إلى المزالق الثلاث التي تنسف الحوار؛ العنف والخلاف والفرقة.

يؤصل د. طه عبد الرحمن ثقافة الحوار بين الشعوب والأمم والأقوام والطوائف والديانات المختلفة، على ثلاثة أسس وهي التي عدّها الأحداث الكبرى الفاصلة

ص: 203


1- نفسه (ص 227).

تاريخ الاكتمال الإنساني والتقدم الخُلقي البشري، أولها الميثاق الأول الذي قال فيه الله تعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف: 172]، حيث يخوّل تمثل أخلاق هذا الميثاق والالتزام بعهده ربط العقل بالشرع فيتحول من طور «التجريد» إلى طور «التسديد» . وثانيهما حدث شق الصدر الشريف للنبي الخاتم محمد صلى الله عليه وسلم فيرتبط العقل بالقلب، وثالثها حدث تحويل القبلة الذي يخوّل العقل الارتباط بالحس(1).

التطبيقات الأربع للحوار الحضاري

التطبيق الأول:

اتخاذ الميثاق الأول والأخلاق الإنسانية المشتركة والخطاب الالهي الموحد للأمم والأقوام أرضية لجمع الإنسانية على خطاب وقيم وأخلاق مشتركة موحدة، ووجهة واحدة.

التطبيق الثاني:

الإنسان النموذج المتمثل في شخص النبي (ص) الذي اصطفاه ربه بین خلقه وطهر قلبه في مرحلة اكتمال البشرية ليكون القدوة والأسوة التي تصلح لمخاطبة العالم. ما يستوجب التعريف بأخلاقه وسيرته لتكون محور المشروع الأخلاقي العالمي.

التطبيق الثالث:

الإنسان المؤهل للحوار مع العالم ومخاطبته، هو الذي تمكن من الجمع بين العقل والشرع في فكره، وعقله مسدد بمقاصد الشريعة، والمتحقق بالأخلاق المطهرة من العوائق والعوالق. ولا يكون له ذلك إلا بأخلاق متجذرة صارت له سجية وطبعاً، مع صلاح الباطن وسلامة القلب .

ص: 204


1- سؤال الأخلاق (ص- 164 157).

التطبيق الرابع:

أخلاق القبلة عند فقدان الوجهة بتوحيد العالم وانتهاء الحدود، حيث تحتاج الإنسانية إلى توجه مادي يحولها إلى توجه معنوي أخلاقي، لأن التوجه إلى القبلة المادية يورث بالتبع تحصيل وتمثل الأخلاق المعنوية الموحدة للإنسانية، والملبية لحاجاتها الحسية فينقاد بذلك العقل ويصير تبعاً للحس.

المراجع والمصادر العربية

القرآن الكريم.

أسس ميتافيزيقا الأخلاق، إيمانويل كانط، دار النهضة العربية 1970م، بيروت لبنان.

جامع البيان في تأويل القرآن، لأبي جعفر محمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الأملي، الطبري (ت 310ه)، تحقيق أحمد محمد شاكر نشر مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى سنة (1420 ه- / 2000م) .

الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، مركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الثانية 2006م.

روح الحداثة، المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، مركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى 2006م.

سؤال الأخلاق، مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية. مركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى 2000م.

سؤال العمل، بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، مركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، الطبعة الأولى 2012م.

مسند أحمد، لأبي عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني (ت 241 ه)، حققه: شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد، وآخرون تحت إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، نشرته مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى سنة (1421 ه- / 2001 م).

المراجع الأجنبية:

HUMANE .D: A treatise of human nature Oxford Clarendon Press.

KANT .E ; LA RELIGION DANS LES LIMITES DE LA SIMPLE RESON.

Librairie philosophique J. vrin Paris. 1968

HELM. P: Divine Commands and Morality Oxford University Press. Oxford

1981.

ص: 205

اخلاقية الحب دراسة في النظرية الاخلاقية

عند العلامة محمد حسين الطباطبائي

م.م. محمد عبد المهدي سلمان الحلو(1)

تعددت كتب ومؤلفات العلامة الطباطبائي في مختلف المجالات الفكرية والفلسفية والتفسيرية، ومع هذا التعدّد نجد انه خص نظريته الاخلاقية توزيعا بين ربوع سفره التفسيري (الميزان) والذي يبحر فيه الباحث طويلا لاكتناه نظريته الاخلاقية واستخلاصها من بقية النظريات الأخرى المرتبطة معها لتكوين (نسقا) ببنية عريضة الملامح، موحدة الهدف.

وهذا التعدد والغزارة في التاليف والتدوين النظرياتي جعلت كلمة اهل العلم تتفق على ان العلامة مغلق الفهم والتدبر من قبل الاخرين، بما يشكل صعوبة الولوج الى مبانيه المختلفة، وهي مزية وان مازالت موجودة لغزارة الإنتاج المعرفي وعمقه الفكري، لكن الدراسات الفكرية والبحوث المتعددة التي صدرت عن فكره وتراثه

اخذت تقلل هذا الرأي المتحفظ على صعوبة الولوج في فكره المنظم....(2)

ص: 206


1- طالب دكتوراة في قسم الفلسفة جامعة الكوفة ، يؤكد الباحث ان هذا العالم قد خص نظريته الاخلاقية توزيعا بين ربوع سفره التفسيري (الميزان) اذ يناقش طويلا مفردة الاخلاق بين نسبية الاخلاق او ثبوتيتها، اذ ينقد نسبية الاخلاق ويرفضها فالاخلاق لدية بمثابة الفن الباحث عن الملكات الانسانية، وتميز الفضائل منها من الرذائل، ليستكمل الإنسان بها سعادته العلمية، فيصدر منه من الافعال ما يجلب الحمد العام والثناء الجميل من المجتمع الانساني، المحرر.
2- محمد حسين الطباطبائي، رسالة التشيع في العالم المعاصر ، ترجمة وتقديم : علي جواد كسار، ج 2، ص 296. (من مقدمة المترجم).

ومن ضمن المشاريع الفكرية التي قدم لها العلامة رؤى واضحة، وافرغ لها مساحة كبيرة من بحثه التفسيري والفلسفي، مفردة الاخلاق، فالعلامة يناقش طويلا مفهومينسبية الاخلاق او ثبوتيتها، ووفق المنهج الذي يتبعه فهو يميل الى ثبوتية الاخلاق، بل ويتبناها، وينقد نسبية الاخلاق ويرفضها، مع بيانه لأهمية الاخلاق في البناء الاجتماعي، فهو يرى ان البناء الاجتماعي يمكن ان يُحدد من خلال الاخلاق المستعملة والكفيلة بصناعته.

تعريف الاخلاق:

الاخلاق: ((هي الفن الباحث عن الملكات الانسانية، المتعلقة بقواه النباتية والحيوانية والانسانية، وتميز الفضائل منها من الرذائل، ليستكمل الإنسان بها سعادته العلمية، فيصدر منه من الافعال ما يجلب الحمد العام والثناء الجميل من المجتمع الانساني))(1).

وعند استعراض النظرية الاخلاقية بمسالكها المختلفة، وفقا لمنهج تحليلي نجد انطباق التعريف الذي قدمه العلامة على المسلكين الاول والثاني كونهما ذوي بعد اجتماعي، ويفترق فيه عن المسلك الثالث لكونه ذا بعد فردي يتعلق بمفهوم الحب الالهي.

ومن هنا يعرض العلامة الى ثلاثة رؤى، يجمعها كنظريات متفارقة في الاخلاق، لكل رؤية منها مسلك محدد وبناء مختلف، يعتمد العلامة على الثالث منها، ويجعل منه محورا نقديا للأول والثاني على حد سواء، فكيف فصل العلامة النظريات الاخلاقية ؟

النظريات الاخلاقية:

اشارة

يحدد العلامة النظريات الاخلاقية بثلاث نظريات يميز فيها بين اخلاق الدفع، واخلاق الرفع (اخلاق الحب).

ص: 207


1- محمد حسين الطباطبائي، تفسير الميزان، ج 1، ص 371.
النظرية الاولى: المسلك الاول:

الغاية من هذا المسلك غاية دنيوية، تقوم على الافعال التي يقوم بها الإنسان لجلب الحمد المجتمعي، ينال بها المواظب عليها، والفاعل لها، صفات المدح مثل العادل، والعلم، والعفة بحالتها الوسطية، وهي ما عبرت عنه بتعبير واضح كل الفلسفات الفكرية وخاصة اليونانية منها، فالإنسان في هذا المسلك يحارص على كسب الفضائل - الوسط - لغايات معينة، ولتقريب الصورة يستخدم العلامة مثال الجبن وكيفية التخلي عنه وذلك من خلال ركوب المصاعب بما يزيل رذيلة قائمة تعويضا لفضيلة مرتقبة، ويقوم المسلك على عدة من اقوال المدح المستخدم التي تقوي هذا الاتجاه مثل الجهل عمى، والعلم بصر، او ان العدالة راحة للنفس عن ما يؤذيها من الهم وهي راحة بعد الموت.......

وان هذا المنهج السائد في الثقافات الفلسفية، خاصة اليونانية منها، رغم شيوعه، لكن القرآن لم يؤكد عليه ولم يقويه، كما يوضح العلامة ذلك، فلم يقم المنهج القرآني على غايات مدحية ولغرض مجتمعي دنيوي، وإنما قام القرآن وقوم اخلاقا تقوم على غايات اخروية بديلا عنها(1).

فهنا اصول اخلاقية اربعة عفة شجاعة، حكمة، وعدالة، لكل منها وسط معلوم، توزع بين القوى النفسية الثلاثة، شهوية وغضبية وعاقلة، ومراعاة الوسط بصفة مجتمعة بين هذه القوى الثلاث، يكون الوسط الرابع (العدالة).

فالعفة وسط رفيع بين تفريط وافراط ، يمثل وسط عدلي في القوة الشهوية، وبين التفريط والافراط ، وقوة العفة - الوسط - مزيدا من القوى صعودا نحو الوسط ونزولا منه، بين الخمود والشره، تظهر في افعال النفس من حيث اللبس والاكل والشرب.

والشجاعة، وسط قائم بين افراط وتفريط ايضا في قوة النفس الغضبية، التي بين طرفيها ومركزها مجموعة قوى تحدد حسب قربها او بعدها من المركز، بين تهور

ص: 208


1- الميزان، مصدر سابق، ج1، ص 356.

وجبن، وتبقى وسط الحكمة وسطا للقوة العاقلة تتوسط الافراط (الجربزة) والتفريط (البلادة)، فيكون الباعث لهذه الاخلاق هو قوى النفس، واجتماع الوسط بتمامه يعطي صفة العدالة(1).

ويؤكد العلامة ان حالة الوسط المتقدمة او صفة العدالة لا تحصل في نفس الإنسان الا من خلال تربية الإنسان نفسه على هذه الفضائل قولا وعملا، وهنا ربط واضح ان النظرية الاخلاقية المتقدمة لا الا من خلال معرفتها قولا، ومن ثم تطبيقها عملا حتى تصبح ملكة، يحصل عليها الإنسان من خلال التأمل والتدبر ثم المران عليها ومزاولتها كيما ترسخ في النفس، والغاية هنا اصلاح النفس بتعديل الملكات لكسب الحمد والثناء الجميل(2).

النظرية الثانية (المسلك الثاني):

وان كانت الاخلاق في هذا المسلك لا تقود الا لما يستحسنه الفرد ويدفع به ما يجلب له الذم، على ان يكون المدح والذم له مقبولية مجتمعية حاكمة عليه بالرضا والقبول او بالرفض والصد، وهو ما لم يرتضه العلامة كما يتضح لأنه بهذا الرأي يجعل الرؤية الاخلاقية لا تقوم على اسس واصول ثابته، وانما تقوم على رؤى فكرية نسبية تختلف باختلاف المجتمعات وقبولها او رفضها لهذه السلوكيات مع اهمية قيام البناء الاجتماعي على اصول اخلاقية تحدد هويته، وهي الاخلاق التي تقوم على اصول غائية اخروية وليس اجتماعية دنيوية، ومن هنا يستخدم العلامة مفاهيم قرآنية لبيان هذه الاخلاق تتعلق بالشراء، وايفاء الصابر، والنور والظلمات، اخراج من ظلمات وادخال في نور، واخراج من نور وادخال في الظلمات على وفق الاستجابة لمصدر الهدي القرآن الكريم والرغبة في او الرغبة عن الثواب الاخروي الموعود، وهذه المسلك او النظرية يرجعها العلامة الى ما ورد في القرآن الكريم والاديان السماوية الأخرى، دون ان يرد في الفلسفات الانسانية والبشرية وان حصل

ص: 209


1- الميزان، مصدر سابق، ج 1، ص 371.
2- الميزان، مصدر سابق، ج1، ص354.

اشتراك بينهما كونهما يدعوان الى غاية معينة ويهديان الى سلوكيات محبذة تعتمد على المران والقبول والممارسة.

والعلامة يقسم هذا المسلك من الاخلاق الى صنفين، الصنف الاول ما يتضح فيه الجزاء الاخروي، وصنف ثاني يتعلق بنفس الجزاء الاخروي وارتباط هذا الجزاء بالقضاء والقدر المبرم، وبما يوجب الانصياع والتسليم لهذا القضاء المبرم وفق وجهة واضحة، كون القضاء والقدر انما يمثل امر الله تعالى وان ما كتبه تعالى على الإنسان سيصيبه، ولا يفهم من مقالة العلامة هذه قوله بالجبر وعدم الاختيار بالنسبة الى اعمال الإنسان، بقدر ما يفهم منه الغاية الاخروية في التخلق بأخلاق ضامنها، التخلق بكمالات حقيقية غير ظنية، تعتمد في اصلاحها على الحقائق المرتكزة على القضاء والقدر والتخلق بأخلاق الله تعالى واسماءه وصفاته(1).

وكيما يبعد مسألة الجبر ، يستعرض العلامة هذه الوجهة، فيبين ان القول بالقضاء والقدر انما يبطل الخيارات والاختيارية الدنيوية ومن ثم لا تبقى قيمة واضحة للقول بالثوابت الاخلاقية، او الفضيلة الاخلاقية ! وهذا يقود الى الابتعاد عن السعي في الحصول على الامور الدنيوية، ومن ضمنها المكاسب الاخلاقية، ما زالت هذه الامور تنسب في تحقيقها الى قدر مبرم وقضاء محتوم .

فالعلامة لا يسند فعل الإنسان الى نفسه - الى ذات الإنسان - باختياره المحض من دون ان يكون (الفعل) واقعا كسبب من الاسباب المختلفة، التي تعد بأعداد كبيرة وحافلة (بالآلاف) لصدور الفعل، كفعل الشبع مثلا، فهو لا يتحقق بإرادة محضة من دون ان يكون سببه وباعثه هو الجوع ، ثم تحقيق فعل الاكل، وتوفر المادة الغذائية، وعدم اعتلال الجسم من نوع الطعام المرغوب، وعدم اعتلال الجسم ذاته، وقدرة الإنسان على المضغ، وتوفر الوقت الكافي واللازم لاتمام الطعام، ووجود الطاهي، ولوازم الطبخ، وتوفر ما يلزم للشراء..... وهكذا كثير من الاسباب المترتبة، التي من ضمنها شعور الإنسان بالجوع ، ورغبته في تناول هذه الاطعمة لتحقيق فريضة الاشباع

ص: 210


1- الميزان، مصدر سابق، ج1. ص 361.

من خلال فعل الاكل، فإن الله تعالى قضى على الإنسان كي يشبع، وبقدر سابق، لابد له من أن يأكل، وبذلك يحقق أما سعادته وأما شقاؤه، فلا يمكن ان ينسب له الاختيار كسبب محض وعلة تامة، وان حدث فهذا تصور الجاهل الذي ينسب فعله إليه بعيدا عن الاسباب الظاهرة والخفية: ((على ان نفس اختيار الإنسان يستند الى علل كثيرة خارجة عن اختيار الإنسان، فالاختيار لا يكون بالاختيار))(1).

وهذا المسلك يختلف كثيرا عن السابق كونه مسلك وارد في القرآن الكريم وشكل محورا لتعاليم الانبياء عليهم السلام، فغايته ليس الحمد والثناء وانما الحصول على السعادة الحقيقية التي دعت لها الشرائع السماوية والكتب المنزلة والرسل الالهية، وان اشترك المسلكان بينهما في غاية قصوى وهي الفضيلة الانسانية الحاصلة عن نفسة طريق العمل، يعبر عنهما العلامة بانهما (اخلاق دفع)، يدفع بهما الإنسان عن اللوم والمضار، ليجلب المحامد والثناء، لكنهما يفترقان ايضا، من ناحية ايصال الإنسان الى الكمال والسعادة الحقيقة، باختلاف المنهج والغاية، ففرق واضح بين: ((قول يدعو الى حق نازل وكمال متوسط ، وقول يدعو الى محض الحق واقصى الكمال))(2).

وينشأ الاختلاف من نوع المعارف المكتسبة التي يحملها المتعلم والمتربي، فقرق بين نهج انساني، يقوم تعليمه على ارث حضاري انساني، وبين نهج يكون ارثه تعاليم الانبياء وما تنزل من كتب سماوية.....

النظرية الثالثة (المسلك الثالث):

وبنفس الفارق الذي يضمنه العلامة للتفرقة بين المسلك الاولى والثاني، من حيث اصابة الكمال ،والحقيقة يمكن استخدامه في الاختلاف بين اخلاق الدفع كما تقدم وبين اخلاق الرفع التي يثريها المسلك الثالث، وهي اخلاق لم ترد في فلسفة ورأي الحكماء، فلم ترد في الكتب السماوية السابقة على القرآن الكريم، انها انما

ص: 211


1- المصدر السابق، ج1، ص 358.
2- الميزان، مصدر سابق، ج 1، ص 361.

وردت في القرآن الكريم حقا، ومثلت بحالة الحب بين الخالق والمخلوق، تجسدت من خلالها العبودية بأوجها، ايمانا ان القوة والعزة لله تعالى، وان كل ما في الكون انما يعود إليه، ويلتمس العزم منه.

وتربية الإنسان هنا تعتمد على رفع الرذيلة لا دفعها كما في المسلك الاول والثاني، على وفق علوم ومعارف تخلصه من هذه الرذائل وصفا وعلما، والمطلوب في هذه الاخلاق هو وجهه تعالى وليس الرضا والقبول المجتمعي، وليس ايضا استحصال القبول في الاخرة، والمدار هو ان العزة لله والقوة لله تعالى بحيث لا يبقى وراء هذه القوة والعزة ما يخشى الإنسان منه او يرتجيه، وهو المالك التي لا تجري كل الاشياء باستقلالية عنه ، له كل ما في السموات، وكل ما في الارض، وكلها تحت قبضته، لا اله الا هو، والاسماء الحسنى له سبحانه، وهو مسلك مبني على التوحيد الخالص، لا شيء غيره : (( وقد اهدى هذا المسلك الى الاجتماع الانساني جما غفيرا من العباد الصالحين والعلماء الربانيين والاولياء المقربين رجالا ونساء، وكفى بذلك شرفا للدين))(1).

ومن النص المتقدم يتضح ان التعريف المتقدم الذي قدمه العلامة للأخلاق لا يشمل المسك الثالث (اخلاق الرفع) ، وانما يشمل المسلكان الأول الثاني (اخلاق الدفع)، لاعتبار ان الدفع الغاية منه غاية واضحة، اما قبول مجتمعي، او جزاء اخروي،وهو هدف وغاية المجموع ، في حين ان اخلاق الرفع ليس غايتها بناء المجتمع بقدر ما كانت غايتها تحقيق غاية فردية، العبودية لله تعالى العلاقة القائمة بين العبد والرب بما يحقق العبودية التي هي غاية يصبو اليها الإنسان : ((فإن بناءه على الحب العبودي، وايثار جانب الرب على جانب العبد، ومن المعلوم ان الحب والوله التيم ربما يدل الإنسان المحب على امور لا يستصوبه العقل الاجتماعي او الفهم العام العادي، الذي هو اساس التكاليف العامة الدينية، فللعقل احكام و للحب احكام))(2).

ص: 212


1- الميزان، مصدر سابق، ج 1.ص 360.
2- الميزان، مصدر سابق، ج1، ص 361.

ماهية هذا الحب تزيد العلاقة به تعالى قربا وانجذابا وتزيد تفكر العبد بربه، وبأسمائه الحسنى، وصفاته المنزه له عن النقص والعيب، ويزداد انجذاب الإنسان الى الله تعالى، وتزداد مراقبته له تعالى، كأنه يراه، والله تعالى يراه، فتصر العبادة حبا لله تعالى ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لَلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴿165﴾)) [البقرة 165] ، والمحب يتبع حبيبه، ويحب آثاره، والرسول صلى الله عليه واله، من تلك الآثار، فيطيع الرسول صلى الله عليه واله، طاعة لله تعالى وحبا له، ويتبع آثاره.

ويصف العلامة هذا الحب بانه خالص لوجه الله تعالى، لا يقف عند شيء كله جمال وحسن، يرجعه الى حسن وجمال وبهاء الله تعالى، فكل آيات الوجود، والآيات الانفسية، تعبر عن جماله وتحكي عنه، حتى يستولي هذا الحب سلطانا على قلب صاحبه، ويؤثر هذا الحب على ايمان الإنسان وادراكه، فلا يرى شيئا الا ويرى

الله تعالى قبله وبعده، ويختلف ادراكه عن ادراك الناس، فتسقط عنه الحواجز وتبقى قائمة بين الله تعالى وبين الناس دونه، ويكون غاية الحبيب هو الله سبحانه، ولا يزال يستولي، فينقطع عن النظر الى آيات الله، وينقطع عن حب كل شيء غيره، فلا يحب: ((شيئا الا الله سبحانه، وفي الله سبحانه))(1).

ولا يفعل العبد المحب من فعل، ولا يترك من ترك، بينه وبين الناس الا وكان بينه وبين الله ما يحدد هذا الفعل، فيترك كل رذيلة انسانية، ويترك الحمد والالتفات الى الدنيا او الاخرة، والتفكير بجنة او نار:((ويكون همه ربه، وزاده عبودیته ودليله حبه))(2).

ص: 213


1- الميزان، مصدر سابق، ج 1، ص 374.
2- الميزان، مصدر سابق، ج1، ص 374.

الاخلاق والتوحيد:

للتوحيد بوصفه فكرةً قائمة اهمية كبيرة في قيام الاخلاق وتقويمها، فان الغاية الاساسية من الاخلاق هو وصول الإنسان الى السعادة، وقيادة المجتمع الى هذه الغاية المنشودة، وهذا التوحيد يعتمد على فكرة اساسية، الايمان بان للعالم خالقا وهو الله

تعالى، الها واحدا ، سرمديا لا يعزب عن علمه مثقال ذرة، ولا يغلب في القدرة، خالق الاشياء بأحسن نظام، يؤمن به الإنسان، وينصاع إليه، ويعلم انه راجع إليه تعالى، اما محاسب، واما مثاب، ويتجلى عنصر الحب واضحا هنا، اذ يرى العلامة ان الاخلاق المعتمدة على هذه العقيدة، والمتوج بمراقبة الإنسان لله، على وفق الحب المفروض بالجذب، يكون الحب رادعا للإنسان عن ارتكاب محارم المحبوب واجتناب نواهيه، فلا يبق غاية للإنسان الا رضاه، بعيدا عن التمتع بالدنيا والتلذذ بلذائذها، بل لا يفكر حتى في نفسه، وينعكس هذا الايمان التزاما بقوانين دائرة في المجتمع تحفظ نظامه، وتبقي وجوده، وبذلك يستوجب الحمد ويدخل اسما لامعا في صفحات التاريخ(1).

فالعلاقة بين التوحيد والاخلاق، من اهم ما يشاهد في الدين الاسلامي، ارتباط جميع اجزائه، ارتباطا يؤدي الى الوحدة التامة بينهما، بمعنى ان روح التوحيد سارية في الاخلاق الكريمة التي يندب اليها هذا الدين، وروح الاخلاق منتشرة في الاعمال التي يكلف بها افراد المجتمع، فالجميع من اجزاء الدين الاسلامي ترجع بالتحليل الى التوحيد، والتوحيد بالتركيب يصير هو الاخلاق والاعمال، فلو نزل لكان هي، ولو صعدت لكانت هو، إليه يصعد الكلم الطيب، والعمل يرفعه....

- والمحافظة على الاخلاق تحفظ للامة قوتها وهيبتها، ومن هنا تظهر الاخلاق ليس على المستوى الفردي، وانما تتعلق بالمستوى الاجتماعي، فالأخلاق صور محفوظة في اذهان الافراد والجماعات، تتعلق بالإرادة حين تنفيذها، فان ابتعدت الارادة عن التنفيذ لم يكن لهذا القانون اهمية تذكر، وبقي مجرد صورة سواء على مستوى الفرد او مستوى المجتمع، فالأمة تفقد قدرتها وسيطرتها ان تخلت عن

ص: 214


1- الميزان، مصدر سابق، ج8، ص 157..

الاخلاق العالية، وان القانون الذي يكون بحسب الوضع لا يمكن ان يحفظ للامة قوتها، كونه مجرد صورة تتلاشى عند الحدود الخارجية ع سيطرته وقدرته، وبذلك لا بد من ان يكون القانون قائما على اساس قويم من الاخلاق العالية وليس على اساس المصلحة التابعة للأكثرية، فالإسلام لم يُبنَ الا على اساس نظام اخلاقي قويم، بتداخل القانون الاخلاقي مع التربية، ويعود هذا التداخل الى تداخل الدين ذاته مع الإنسان في سره وجهره، وعلى الإنسان ان يؤدي الوظائف المناطة به بأفضل سبيل التقاء من ذاته نفسه، ومن دون ان يكون هناك رقيبا يعتمد عليه(1).

نقد نسبية الاخلاق:

وينقد العلامة ما تقوم به الدول الاخرى من حصّ على القوانين ذات الجوانب الاخلاقية، وان هذا الحصّ لا طائل منه كما يرى العلامة، وذلك يعود الى سببين رئیسین:

أولاً: لان السياسة الاجتماعية المتبعة في هذه الدول، انما تقوم على اساس التناقض والتضاد، وذلك من خلال شعارها: الحرية التامة، فجعلت امتلاك السلطة والنفوذ والمال بيد بعض وحرمت بعضا آخر، مما جعلت تناقضا وتضادا لشعار الحرية المرفوع، انعكس على العلاقات الدولية والمجتمعية بين المجتمعات، فأخذت المجتمعات الكبيرة القوية تسترق وتستبعد لمجتمعات الصغيرة والضعيفة، وتتوسع في حكمها ما استطاعت، والسيطرة والتوسع ما هي الا تناقضات لشعار الحرية والاصلاح والتقوى المرفوع من قبل الامم المستعمرة.

وان كانت هذه الامم تحاول جاهدة ان تجعل من الاخلاق رابطا قانونيا، فتفرضه بضمانة القانون من خلال ما تحوطه من مضامين ذات مفاهيم قانونية اخلاقية، ترتب عليها احكام جزاء، ومهما كات شدة الاحكام فالعلامة يرى انها لا تسد بابا للخلاف القائم في المجتمع، ولا تغني عن طريق تخلف، ولا تقطع دابر الظلم والفساد،

ص: 215


1- الميزان، مصدر سابق، ج4، ص 110.

احكام لا تسري جادة في المجتمع الغربي، فطريق التخلص من الرذائل لا يكون الا باتباع الحق والاخلاق الفاضلة التي تحترم قيم الانسانية من العدل والكرامة والرحمة ونشرها والعمل عليها، وهي بحد ذاتها انعكاس واضح لاخلاق الحب بمفهومها المطلق، وليس بمفهومها وبعدها الاخروي.

ويستعرض العلامة الاخلاق المتبعة بالغرب، ويكشف زيف نظريات العدل والنظام البادي في مفاصل حياتها، بتعريتها من فكرة ضامنة لها، وان كانت فكرة القانون، فالقانون عند الغرب لا يقوم على فكرة اخلاقية، وانما على اساس الفائدة الاجتماعية، التي تقوم على ان فائدة الامم هي المرجوة والمقبولة من دون فائدة الفرد، وان هذه العلاقة انعكست بكل جذورها ليس على علاقة الدولة مع الفرد حصرا، وانما شملت و بتوسع لعلاقة الامم الكبيرة المستعمرة القوية من سيطرة واسترقاق للامم المستضعفة، فتحولت عملية القانون والدعوة الى الحريات والديمقراطية الى حملة جبارة تستهدف السيطرة على الامم فهجرت الالفاظ معانيها وتحولت الى اضداد، واستبدلت الحرية والعدالة والفضيلة الى الرق والظلم والرذيلة، فالسنن والقوانين لا تغادر الضياع والاستهلاك والقيمة الا اذا كان لها عماد توحيدي(1).

-والاخلاق لا يمكن ان تحفظ الا من خلال اعمال صالحة ومعارف حقة تساندها وتحفظها، ويكون شرطها التقوى في القول والعمل وفي التفكر والتذكر والتعقل، والمقارنة بين العلم والعلم هي ما يزيل الرذائل الاخلاقية ويستبدلها بالفضائل الاخلاقية(2).

ثانيا : فكرة الضامن والرادع التي يحصرها العلامة بين (التوحيد - المعاد - العدل)، فلا بد من أن يكون هذا ضامنا لهذه الفكرة الاخلاقية وهو الله تعالى، الذي يمثل كل اسم من اسماءه منبعا خلقيا للعديد من الفضائل، ومن زاوية أخرى ما يمثل هذه الاسماء من جانب العدل والمجازاة، فيجزي المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه،

ص: 216


1- الميزان، ج 11 ص 156.
2- الميزان، ج 5، ص 269-270.

وتكون بذلك رادعا للنفس الانسانية التي لا تحب ولا ترغب الا فيما يحقق رغباتها ومشتهياتها، من دون النظر الى مصلحة ومنفعة الخير ، فلو لم يكن للإنسان رادع او مكافئ لا يستمر في اقتراف الخطايا مهما عظمت، ولهذا يرفض العلامة ان تكون بعض المقولات المنتشرة في اوساط المعمورة بحد ذاتها رادعا للعمل المسيء، وان كات تبذل جهودا كبيرة من التربية والتعليم في سبيل تنميتها مثل (التعلق وحب الوطن)، وما هي الا عواطف قلبية ونزعات باطنية على حد ما يؤكده العلامة.

وتعتمد على فكرة ضامنة (التربية والتعليم) وهي فكرة بحد ذاتها يمكن ان تزول وتتقهقر للأسباب نفسية ذاتية تتبع اللذة الفردية او الجماعية من دون ان يكون لها رادعا اخلاقيا معينا، فالإنسان كما يرى العلامة، لا يقدم على حرمان الا اذا كان هناك رادع يردعه عنه، أو يجزيه على فعل معين من دون ان يكافئ على ذلك بإحسان ظاهر وعاجل، وهنا تظهر فكرة التوحيد جلية عند العلامة في الحفاظ على الاخلاق العالية التي هي جزء من النظام الاسلامي عن طريق طاعة الله سبحانه، والرضوخ إليه، وفقا لاخلاق التي جاء بها الدين الاسلامي، التي سيكافئ الإنسان على العمل بها يوم المعاد بغض النظر عن المدح الفوري الذي يمكن ان يحصله الإنسان جراء عمله للخير او تركه للشر، فالضامن عند العلامة هو (فكرة التوحيد - العدل) فكرة لا تقبل التغيير والابطال وان تركها الإنسان عمدا، فهي باقية وليس على اساس فكرة (حب الوطن) القائمة على تعاليم تربوية سرعان ما تزول....(1).

فهنا منطقان، يشير لهما العلامة، الاول منطق الاحساس الذي يدعو الى النفع الدنيوي، فكلما احس الإنسان نفع احسن وارقى التجأ إليه، وتودد إليه، اما اذا لم يحس بالنفع الافضل، فهو خامد وهامد وهذا ما يرجعه إلى سبب اول.

اما المنطق الآخر فهو منطق التعقل الذي لا يدفع الا الى اتباع الحق ((قُل هَل تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحدَى الحُسنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُم أَن يُصيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِن عنده أو بأيدينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُتَرَبَّصُونَ ﴿52﴾))[التوبة / 52] التي تبين ان الغاية من

(1) - .

ص: 217


1- الميزان، ج 4، ص 112-110 .

الجهاد كمثل هو ليس لنيل الحسنيين، نصر او شهادة، بقدر ما ان الغاية هو ما يريده الله سبحانه لنا، فهم لا يريدون او يبحثون عن خير او شر وانما غايتهم وجه الله (غاية الحب)، الطاعة المفترضة له سبحانه بغير مقابل(1)، ومن الجدير بالذكر ان منطق التعقل الذي اكده العلامة يعود الى المسلك الثالث من الاخلاق وينطبق عليه.

ويتابع العلامة لبيان ان التوحيد هو المصدر الاساسي الذي يجب ان يكون الفكرة الضامنة للأخلاق، استنادا الى ما اودعه الله تعالى من فطرة في قلب الإنسان ((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّين حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴿30﴾ [الروم / 30]، وكما أن الإنسان يسلك وعلى وفق الارادة اتباع الاسباب الواقعية التكوينية ، وهي اسباب تسوقها له الحاجة، فيبني الإنسان ما يبتغيه ويسوقه إليه على وفق هذه الاسباب الطبيعية، وان هذا السعي الفطري نحو نظام الاسباب هو ما يريده الإنسان، وما يؤيده الاسلام ايضا، إذ إن مسبب هذه الاسباب هو المسبب الاول، الموجد لهذه الاسباب، فهو تعالى السبب التام فوق كل سبب، وغاية السببية الاعتقاد به سبحانه وبتوحيده، فكان الواجب على الإنسان اتباعه والخضوع له، وبهذا يكون التوحيد الاساس الوحيد الضامن للأخلاق في النظام الاسلامي(2).

فالتوحيد عبارة عن مجموعة من المعارف الالهية التي تخص السبيل القيم الدنيا والاخرة، وهو ما يساعد على طهارة القلب وابتعادها عن كل رذيلة، ويجعل من اسباب تمامية الاخلاق الحياة الاجتماعية الخاضعة لما تقتضيه الربوبية الالهية(3)،وتمامية الاخلاق محورا لسعادة الإنسان روحا وبدنا، التي لا تتحصل الا بالرفض المادي والالتزام بالقيم الاخلاقية الالهية، وتنطوي على سعادة خالصة تتحقق الدراين، الدنيا والاخرة، والسعادة في نظر الاسلام تختلف عن السعادة في نظر الغرب، فسعادة الغرب القائمة على الامور المادية لا يعدها الاسلام سعادة، وهنا

ص: 218


1- الميزان، ج 4، ص 113.
2- الميزان، ج4، ص 115.
3- الميزان، ج 4، ص 109.

يعترف العلامة بواقع الامة المرير والمريض بغياب معنى السعادة مفهوما ومصداقا عن ما جاء به القرآن الكريم، وسبب ذلك اختلال النظم التربوية والفهم للمعايير والضوابط الاسلامية بشكلها الأصيل في عالم اليوم(1).

فالدعامة الأخلاقية التي وضعها العلامة تقوم على ثلاث دعامات اساسية ومنعطفات مهمة، واساسية تشير الى ما يعبر عنها العلامة بالوظيفة، فوظيفة يقوم بها الإنسان ازاء ربه (الحب) ويعبر عنها بالعبودية، ووظيفة يقوم بها اتجاه نفسه وتليبة حاجياته الواقعية وكيفية تلبية هذه الحاجات، ووظيفة تجاه المجتمع وما تمليه مواقفه الايمانية والتزاماته الدينية تجاه ابناء جلدته، وبعطاء كل وظيفة حقها المعهود تحت مفهوم الحب، يصل الإنسان الى السعادة المبتغاة، والسعادة الهدف.

وعندما يجعل العلامة من النظام الاخلاقي ثاني ثلاثة في بوتقة الدين، فليس الاخلاق فرع مستقل بحد ذاته، بل لا بد من ان يكون له كمالا وتواشجا مع فرعيه الاخرين العقائد والفقه (الاحكام العملية)، الايمان بالعقائد والاتباع للمنهج الاخلاقي وتنفيذ احكام الفقه، هو ما يقود الإنسان الى السعادة، وبذلك تكون الاخلاق واقعة من ضمن ثالوث تظهر به قوة الربط بين الدين والاخلاق من خلال ما يدعو إليه الدين باتباع الاحسن، واتخاذ الصفات الانبل المكونة للأخلاق الجميلة والصفات المحمودة، ومن هذه الصفات طلب العم وتحصيل الادب(2).

فما جاء به الاسلام والدين من الاهتمام بالاجتماع لأهميته في تربية اخلاق الفرد والمجتمع ، وان هذا الاهتمام الذي اكد عليه القرآن والدراسة التي قدمها له، لا يجد لها العلامة مثيلا في كل التواريخ والاديان السابقة، لأهميتها الاخلاق ودورها كما مر في بناء النسيج الاجتماعي المنعكس على اخلاق الفرد وتركيبه الاجتماعي(3)، فاتباع اخلاق القرآن وطاعته في احكامه والعلم بها تشكل الايمان الكامل، الذي يكسب

ص: 219


1- الميزان، ج4، ص 108.
2- محمد حسين الطباطبائي، الاسلام الميسر، ص 20-22.
3- الميزان، مصدر سابق، ج4، ص 97.

الإنسان (لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) وهي من تمامية الحب(1)، واختلافها الواضح عن الاخلاق التي تدعي اليها الامم والاخلاق المصلحية النفعية الفردية التي تقوم وفقا للطبيعة الانسانية الغريزية غير المهذبة الا على اساس البقاء للأقوى: والانتخاب الطبيعي(2).

وبذلك الفعل الاخلاقي القائم على الحب فعلا اختياريا، فهو يفرق بين الفعل الاخلاقي الاختياري من الناحية العقلية، والذي يقوم من الناحية الوصف له بالحسن او القبح، وما يستتبع ذلك من مدح او ذم، او ثواب او عقاب، ويجعل العلامة من هذه القضية قضية عقلية محضة لا يمكن انكارها من قبل عاقل، وهذا الرأي جاء ردا على حتمية الشقاء والسعادة الواردة في بعض الاحاديث المنسوبة الى اهل البيت عليهم السلام، من ان الشقي او السعيد من شقي او سعد في بطن امه !! وهي تربط بين بين السعادة والشقاوة ربطا بين النشأة والممات لا يمكن ان تتجزأ، وجاء الرفض من ناحية مناقشة العلامة لسند الرواية اولا، ومن ثم الضابطة التي وضحها جلية لنا من ارتباط السعادة والشقاء بافعال الإنسان الاختيارية وهو مما لا شك ولا ريب فيه(3)، فالسعادة كغاية والشقاء كنتيجة، هو الارتباط بين ما يناسب الروح من الاعمال والصفات التي يصل اليها خلال عمله وتفكيره ومجاهدته، معتمدا بذلك على العقل، وبين ما يحصل عليه من لذائذ مادية واسترسال في الشهوات الحيوانية التي يصل اليها من خلال الاوهام والخرافات(4).

الأخلاق والآداب:

يعرف العلامة الآداب بأنها: هيئة حسنة ينبغي ان تقع عليها الفعل المشروع،ترد في الدين وعند العقلاء كآداب الصلاة، او آداب ملاقاة الاخوان، وان اختلفت هذه الآداب بين مجتمع ومجتمع آخر، بل وبين جماعة، وجماعة أخرى، فما هو

ص: 220


1- الميزان، مصدر سابق، ج4، ص 62.
2- الميزان، مصدر سابق، ج2، ص، ص305.
3- الميزان، مصدر سابق، ج8، ص 97.
4- الميزان، مصدر سابق، ج8، ص 100.

حسن وجميل عند جماعة قد يكون سيئا وقبيحا عند جماعة أخرى، كما هو فی بعض الاخلاق الغربية المستحسنة، التي تكون قبيحة ومذمومة بالنسبة الى الاخلاق الاسلامية، وان الاختلاف بين المصداق والمفهوم لا يعني الاساءة الى المفهوم، فالمفهوم قائم بذاته كمفهوم واحد، وان اختلفت المصاديق الحاكية عنه في الثقافتين الغربية والاسلامية على سبيل المثال، ويؤكد العلامة، ان الآداب تختلف عن الاخلاق كونها ملكات راسخة روحية تتلبس بها النفوس، والآداب هيئات حسن تتلبس بها الاعمال الصادرة عن الإنسان نتيجة لما يتمتع بها من صفات نفسية مختلفة، فالآداب من منشآت الاخلاق، والأخلاق من مقتضيات الاجتماع(1).

وان ادب الإنسان الذي اشار إليه القرآن الكريم الغاية منه هو توحيد الله تعالى في القول والعمل الذي منه يبدا كل شيء، وإليه يعود كل شيء، فيجري الإنسان في حياته ويعيش بأعمال تحاكي بها عبوديته الخاضعة بكل شيء الى الله تعالى، والتوحيد بهذه السلوكية يسري في باطن الإنسان وظاهره التي تبدو بأقوال الإنسان، وافعاله الحاكية عن العبودية المحضة، وهذه الاعمال مع كونها شرا او خيرا لكنها قائمة على العادة، وهنا يوضح العلامة لنا جانبا مهما من فهل الايمان وهو الالتزام بالقول والعمل اذا اردنا ان يكون العمل ذا تأثير(2).

الحب:

وكي يوضح العلامة الحب، كظاهرة ،اخلاقية ويبين دورها في المجال الحياتي، يستعرض نبذة من اخلاق الانبياء عليهم السلام التي وردت قصصهم في القرآن الكريم،وكانت كل تصرفاهم وجل تحركات طاعة مفروضة لله تعالى، تعبر تعبيرا صادقا عن اندماج صادق بين العبودية (العبد) من جهة الإنسان، وبين الربوبين (الرب) من جهة الله تعالى، فكل سلوك حادث، قائم لوجهه الكريم، غايته السعادة المتحققة برضا الله تعالى، ومن النماذج التي نختارها لبيان مصدر الحب الذي يعرضه العلامة فی

ص: 221


1- الميزان، مصدر سابق، ج6، ص 257.
2- الميزان، مصدر سابق، ج6، ص 258-259.

تفسيره، ما مثله النبي نوح عليه السلام من دعوة صادقة لقومه الى الشريعة الالهية وبدأ خطابه الالهي بكلمة ربي، ربي ان دعوت قومي، وهو ادب استخدمه نبي الله تعالى ابراهيم عليه السلام، في الخطاب: ربي اني اسكنت من ذريتي... والحوار الذي دار بينه عليه السلام وبين النبي اسماعيل يوم الذبح والاجابة بتمام الاستعداد افعل ما تؤمر ...، او ربي ارني انظر اليك...، وما استخدمه يوسف عليه السلام من خيار بين السجن الذي (احب) إليه مما يدعوهن إليه...، فهو عليه السلام لم يترك لشيء في قلبه محلا غير الحب لحبيبه وعندما استعدت امرأة العزيز ب- (هيت لك) ترك النبي يوسف عليه السلام أي سبب من الاسباب الخارجية وتمسك بالله تعالى، (معاذ الله) وهنا يكمن الحب والتوكل بأعلى درجاته(1).

ومعنى الحب ليس معنى غريبا لا يمكن تصوره او لا يجد له مثيلا في الاخلاقيات الاخرى، فيرسم لنا العلامة صورة لأخلاقيات الكبر والعظمة والخيلاء الموجودة في الإنسان المتكبر، فهي صورة ترتسم بصورة كاملة على كافة حركاته وكلماته مع الغير، بحيث ينطبق عليه مفهوم المتكبر الصادرة عن اخلاقياته، وليس ذلك في حالة الكبر والتخيل فقط، وانما تحصل ايضا في حالة المسكنة، فالإنسان المسكين تظهر على تصرفاته وحركاته وكلماته افعال التمسكن، بحيث يصدق عليه مفهوم المسكين(2). وهنا تتجسد حالة يحبهم ويحبونه، الحب المطلق، المتعلق بالذات، والذي يوصف بغير تقييد، او وصف، والذي يكوم من زاويتين او جهتين، من جهة الفوق، الحب من جانب الله تعالى فيبرئهم الله تعالى، من ظلم ومن كل رذيلة، ويطهرهم من كل قذارة معنوية ويحصلون على عصمة ومغفرة الهية لا المعاصي والاثام غير محبوبة له تعالى فما في هذا الآيات من الصفات السالبة الحاكية عن الرذائل الى ان تزول وترتفع عن الإنسان كونها جماع الرذائل الاخلاقية يتصف الإنسان ب- (رفعها - الرفع) اتصافا بما يقابلها من الفضائل، ومن جانب العبد فانهم لا يؤثرون شيئا على عبادة الله تعالى وحبه وطاعته فيؤثرون هذه العبادة على كل شيء ولا يقف امامها حب

ص: 222


1- الميزان، ج 6، ص 123 ، وكذلك: ج11، ص 273.
2- الميزان، مصدر سابق، ج6، ص 261.

المال او الجاه او الميل الى النفس او الاهل او العشيرة، وان حصل مثل هذا الميل فهو في طول الحب الالهي وجزء منه، لأن الإنسان إذا أحبّ شيئاً أحب آثاره(1).

الاخلاق والبعد الاخروي:

تعتمد النظرية الاخلاقية للعلامة الطباطبائي على نقد شامل لنظرية الدفع بمسلكيها، فالله سبحانه يعبد بطرق مختلفة، يختار الإنسان واحدة منها، اما الخوف او الرجاء او الحب، بعد ان يعرف الإنسان بما لا يقبل الشك، ان الحياة الدنيا بما فيها من زبرجد وبهجة ما هي الا محض خيال وهمي، وهي الا محض خيال وهمي وهي ليس بباقية ولا بد من ان تزول، وانه لا بد من أن يؤول امره اما الى جنة أو نار في الاخرة، ((اعْلَمُوا أَنمَّ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرُ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿20﴾))/الحديد، وهنا يتجسد الخوف والرجاء، لكن الحب وكما اتضح الفعل الذي لا يرجى فيه الا طاعة الله ورضاه، من دون تعلق باجر اخروي، او مدح دنيوي، وتختلف حاجات الناس وطباعهم في الاستجابة الى هذه الطرق الثلاثة، التي تكون غايتها الأولى بما تنطبع فيهم نفوسهم على الخوف منه تعالى فيترك الذنب خوفا، ويتمسك بالفعل المرجو رجاء طلبه للنعيم بالعمل الصالح، وهاتان الطريقتان: الخوف والرجاء من الطرق والمسالك المنتقدة عند اصحاب الحب الالهي لانهم يعبدون الله تعالى من دون ان يكون لهم طمعا لا في جنة ولا في نار ، فليس للعبد الا ان يعبد ربه، وكل عمل يقومون به لا يرجون الا وجهه، فهو الاول والآخر، وبهذا الخلوص تظهر المحبة الالهية على وجوههم وفي قلوبهم، ومن خواص النفس الانسانية ان تنجذب الى الجميل، فكيف بالجميل على الاطلاق ((ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وكيل ﴿102﴾/ الانعام)) وتتجلى العبادة واضحة بالآيات الافاقية والانفسية التي بينها الله تعالى لهم، ومن كانت هذه نظرته فهو لا

ص: 223


1- الميزان، ج5، ص383.

يرى الطريقين الأولين الا شركا في عبادة الله تعالى فالطاعة له، لان الدين ليس الا الحب عندهم، وليس ابتغاء جنة او نار أو سلوك بخوفا او رجاء: ((فهؤلاء يسلكون في معرفة الاشياء عن طريق هداهم إليه ربهم وعرفها لهم، وهو انها آيات له وعلامات لصفات جماله وجلاله، وليس لها من النفسية والاصالة والاستقلال الا انها كرائ تجلى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي، وبفقرها وحاجتها ما احاطته به من الغنى المطلق، وبذلتها واستكانتها ما فوقها من العزة والكبرياء، ولا يلبث الناظر الى الكون بهذه النظرة دون ان تنجذب نفسه الى ساحة العزة والعظمة، ويغشى قلبه من المحبة الالهية ما ينسيه نفسه وكل شيء))(1).

الحب والتوكل:

ومن موارد الحب التوكل، التي يظهرها العلامة انموذجا حيا عن الحب، ومن هنا يحاول العلامة ان يطلعنا على الربط الجمعي بين الحب والتوكل، كونهما السبيل القويم، المسلك للعبادة المعتمد على التوحيد الخالص، ويبقى نظرة الحب هي النظرة الاعلى بين الخوف والرجاء، ولا سيما ان هذه النظرة (الحب) تنظر الى ما دونها من نظرتي الخوف والرجاء، بانها نظرة شرك، مهما بدا فيها من اخلاص، فاخلاصها ليس الا للدين، وليس لرب الدين، فالخوف يدعو الإنسان الى ترك المعاصي والزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة، والرجاء يقوده الطمع للعبادة، ويكون دافعا وحافزا لها، فيلتزم الواجبات ويترك الدنيا طلبا للآخرة ، لكن للحب دورا فهو لا يطلب الآخرة، وانما يطهر القلب للتعلق به تعالى ويترك ما دون ذلك، ولكل ما كان في الدنيا من مال او ولد او جاه ليست ذات علقة بالقلب، وحبها انما كان في طول الحب الالهي لان (((حب الشيء حب لأثاره))(2).

واذا كان ينظر لكل شيء اثرا له تعالى، فلا يرى في الكون الا خيرا محضا صادرا عن الجمال المطلق، فكل ما موجود خير وجميل، وكل ما يجري انما يجري على

ص: 224


1- الميزان، مصدر سابق، ج11، ص 160.
2- الميزان، ج 11، ص 160.

وفق ما تقتضيه ارادة الخير والجميل، وبذلك يتبدل الالم الى لذة، والغضب الى سرور وابتهاج، وهذا ما لا تدركه الا النفوس العالية التي احرزت مرتبة الاولياء، الذين وصفهم القرآن الكريم بانهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ((أَلا إِنَّ أَولِياءَ اللَّهِ لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ ﴿62﴾/ يونس)) وبذلك يحصل الولي على درجة القرب والخلوص، بعد ان ترك الوهم وهوى النفس وتلبس الشيطان، فكل ما يظهر او يتراءى لهم ليس الا آية: ((كاشفة عن الحق المتعال، لا حجابا ساترا، فيفيض عليهم ربهم علم اليقين))(1).

وهؤلاء المخلصون - المتوكلون - حقا علي الله تعالى، والمفوضون إليه أمرهم والراضون بقضائه : ((اذ لا يرون الا خيرا ، ولا يشاهدون الا جميلا ، فيستقر في نفوسهم من الملكات الشريفة والاخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد، فهم مخلصون للله في اخلاقهم كما كانوا مخلصين له في اعمالهم وهذا معنى الاخلاص))(2).

ومن هنا يظهر الربط الواضح بين الاخلاق الكريمة، المعتمدة على التوحيد، والاخلاق الكريمة الرابطة بين التوحيد والسعادة الانسانية، فالجوهر المعتمد الذي تقوم عليه كل الاصول المختلفة، او ما تقوم عليه شجرة الاخلاق هو التوحيد، وهذه الايمان، واصلها التوحيد، وما تأتيه من الاكل العمل الصالح، اما فروع

الشجرة هي هذه الشجرة فهي التقوى والعفة والمعرفة والشجاعة والعدالة والرحمة، وهي الكلم الطيب والعمل الصالح الذين يشكلان محور الاتصال والقرب من ساحة الفضل والقرب الالهي، والعلامة يشير الى ان السعادة وبثها في نفوس الآخرين هي ما يتم به الكمال النوعي للإنسان في داخل بنائه الاجتماعي، فالسعادة لا تتحقق الا من خلال التعاون على اعمال الحياة بين البشر على الرغم من كثرتها وتنوعها، فالسعادة لا تتحقق الا من خلال التعاون على اعمال الحياة بين البشر على رغم كثرتها وتنوعها، وهذه الكثرة والتنوع لا يحكمه الا القانون العام القائم على الاخلاق الكريمة القائمة على التوحيد.

ص: 225


1- الميزان، مصدر سابق، ج11، ص 161.
2- الميزان، مصدر سابق، ج 11، ص 161.

المصادر والمراجع:

محمد حسين الطباطبائي، الاسلام الميسر ، ترجمة: جواد علي كسار، مؤسسة ام القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى، 1419.

محمد حسين الطباطبائي، الميزان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم - ايران من دون طبعة، من دون تاريخ، الجزء الاول .

محمد حسين الطباطبائي، الميزان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم- ايران، من دون طبعة، من دون تاريخ، الجزء الثاني .

محمد حسين الطباطبائي، الميزان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم- ايران، من دون طبعة، من دون تاريخ، الجزء الرابع .

محمد حسين الطباطبائي الميزان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم- ايران، من دون طبعة من دون تاريخ، الجزء السادس.

محمد حسين الطباطبائي، الميزان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم- ايران من دون طبعة، من دون تاريخ، الجزء الثامن

محمد حسين الطباطبائي، الميزان، منشورات جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، قم ايران من دون طبعة، من دون تاريخ، الجزء الحادي عشر.

محمد حسين الطباطبائي، رسالة التشيع في العالم المعاصر، ترجمة: جواد علي كسار، مؤسسة ام القرى للتحقيق والنشر، الطبعة الأولى، 1418ه.

ص: 226

النسبة بين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية

من وجهة نظر الشهيد مطهري

تأليف: علي شيرواني

ترجمة: د. علي الحاج حسن

ملخص

صحيح

ان مسألة النسبة بين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية (الوحدة، الاتحاد، التمايز، التباين، التعاند و .....) ترتبط بمسألة النسبة بين الدين والاخلاق إلا انها لیست عينها. من هنا يمكن اعتبار الاخلاق مستقلة ومنفصلة عن الدين ومع ذلك يمكن التأكيد على وحدة او اتحاد التجربة الدينية والاخلاقية.

حاولنا في هذا المقال دراسة وتحليل آراء الشهيد مطهري حول بعض المواضيع من قبيل الدين، الايمان، العبادة، القيم الاخلاقية بالاخص نظريته الاخلاقية المختارة (الاخلاق كعبادة) ومن ثم البحث عن الاجابات التي قدمها التي يظهر منه انه يعتقد بان «كل تجربة اخلاقية خالصة هي بحد ذاتها تجربة دينية متحدة معها، وهي لا تنفك ولا تتمايز عنها».

الكلمات المفتاحية: التجربة الدينية، التجربة الاخلاقية، فلسفة الدين، فلسفة الاخلاق، مطهري.

ص: 227

عرض المسألة

تعدّ مسألة النسبة بين الدين والاخلاق مسألة قديمة ترتبط بإطارين هامين واساسيين في الحياة البشرية حيث كانت محل اهتمام كثير من الباحثين. عرضت عددا من النظريات في هذا الخصوص، من جملتها ذاك الطيف الواسع الذي يؤكد على الاتحاد والعينية بين الدين والاخلاق ويقابله طيف آخر يؤكد على التعاند والتنافر الكامل بينهما . اما منشأ الاختلاف بين الجهتين، فهو عدم الاتفاق في تعريف الدين والاخلاق، وقد بقي الخلاف على حاله رغم رفع الموانع.

ان موضوع هذا المقال ليس العلاقة بين الدين والاخلاق، بل النسبة بين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية، والسؤال الذي يجب ان يُطرح: ما هي النسبة التي تحكم هاتين التجربتين ؟ هل هما نوعان مختلفان من التجارب البشرية؟. اذا كانا نوعين متمايزين فهل يمكن ان يجتمعان ؟ واذا امكن اجتماعهما، فهل يستلزم احدهما الآخر؟ واذا استلزم احدهما الآخر، فهل تستلزم التجربة الدينية، التجربة الاخلاقية (وعلى هذا النحو تكون كل تجربة دينية، اخلاقية ايضا). او ان التجربة الاخلاقية تستلزم التجربة الدينية (وعليه ان تكون كل تجربة اخلاقية دينية ايضاً)؟

واذا لم يكونا نوعين متمايزين ومختلفين من التجارب، فهل يكون اختلافهما لفظي ومن ثم تكون التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية، مصطلحين مختلفين لمعنى واحد؟ واذا لم يكن الأمر على هذا النحو ، هل يكون احدهما اصل، والآخر فرع على سبيل النور والظل ؟ ومع ذلك فأيهما هو الاصل وايهما الفرع(1)؟

صحيح ان السؤال عن النسبة بين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية ليس بعينه

ص: 228


1- من المفيد لوضوح المسألة الالتفات إلى النسبة بين الادراك الملائم (الكمال) واللذة. في هذا المجال يعتقد عدد من الحكماء المسلمين انهما تجربة. فتجربة اللذة هي بعينها تجربة الادراك الملائم وفي الحقيقة فإن حقيقة اللذة ليست شيئاً آخر سوى ادراك الكمال (الشيرازي، 1981م ، ص 120-124) بينما يعتقد بعضهم انهما تجربتان مختلفتان ولكنهما ملازمان لبعضهما. وعلى هذا النحو تكون اللذة كيفية نفسانية تظهر عند ادراك الأمر الملائم في النفس (مصباح، 1405ق، ص 180).

السؤال عن النسبة بين الدين والاخلاق، إلا انه مرتبط به وعلى الاقل يتضح احدهما من خلال اتخاذ موقف في بعض الموارد عند الآخر(1).

يمكن فهم النسبة بين الدين والاخلاق عند عموم متكلمي الشيعة من خلال نظرية الحسن والقبح الذاتيين والعقليين (الحلي، 1417ق، ص417-420): ان الاخلاق بمثابة مجموعة من القضايا التي توضح الحسن والقبيح، الوجوب وعدم الوجوب في الخصال واما السلوكيات الانسانية الاختيارية فهي اطار عقلي مستقل عن تعاليم الدين الوحيانية، لذلك يعتمد عليها في مقدمات اثبات النبوة الخاصة والعامة واذا كان الدين مستقلاً عنها ثبوتا فهو مرتبط بها في مقام الاثبات.

ان العلاقة بين تعاليم الدين الوحيانية والقضايا الاخلاقية شبيهة من بعض الجهات العلاقة بين تعاليم الدين الوحيانية والفلسفة (التي تعني معرفة الوجود بالاسلوب البرهاني). يشكل الدين والفلسفة مجالين مستقلين، ومع ذلك فهما مرتبطان ببعضهما. يتم اثبات اصل وجود الله تعالى وعدد من اسمائه وصفاته - ان لم نقل جميعها - في الفلسفة باللجوء إلى بديهيات العقل النظري ومن ثم يمكن ايجاد رابطة بين الإنسان وحاملي دين الله. صحيح ان العلاقة بين العقل والوحي ذو وجهين بعد اثبات الو الالهي بواسطة العقل ووضع يد الإنسان في يد الرسول (صلى الله عليه واله وسلم) - التي هي يد الله - فالتعاليم الوحيانية بمثابة الزيت الذي يوضع في مصباح العقل فيجعله اکثر اشعاعاً ويضيء النص الديني بواسطة نور العقل. وهكذا حال الدين والاخلاق. تصبح العلاقة ذات الاتجاه الواحد بين الدين والاخلاق ذات وجهين بعد اثبات الوحي الالهي وتبدأ العلاقة الديالكتيكية بينهما مما يؤدي إلى نبوغ المعرفتين(2).

ص: 229


1- هذه المسألة هي على اساس الرؤية الصحيحة في مسألة الدين والاخلاق حيث يكون كلاهما عينيان ومن ثمَّ يمتازان عن التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية وهما امران نفسيان الواضح من خلال عقيدة الذين يعتبرون الدين والاخلاق هما عين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية - الذين يبحثون عن جذورهما في وجود الإنسان حيث لا وجود مستقل لهما عن وجود الانسان ان السؤال عن النسبة بين الدين والاخلاق هو بعينه السؤال عن التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية.
2- طبعاً هذا النبوغ اثباتي في الدين فقط؛ وإلا فالدين الالهي يمتلك كافة مراتب الكمال منذ البداية وفي مراحل العلم الالهي على مستوى مقام الثبوت ومن ثمَّ لا مجال للنقص فيه، طبعاً يصح الحديث عن النقصان على مستوى وصول البشر اليه. ويصدق هذا الكلام على الاخلاق ايضاً بالاخص على مبدأ الحسن والقبح الذاتيين.

صحيح ان الحكماء الشيعة ايّدوا اصل الحسن و القبح العقليين، إلا انهم قدموا قراءة وتفسيراً مختلفاً لما قدمه المتكلمون الشيعة فافترقت جهة المتكلم عن الفيلسوف(1). من جملة ذلك انهم يعتقدون ان «العدل الالهي حقيقة واقعية من دون ان يستلزم ان يحكم الذات الالهية المقدسة ومن دون ان يستلزم الاشكال على قاهرية ذات الباري المطلقة. ] من وجهة نظر الفلاسفة [وفسروا الحسن والقبح العقليان بانهما: خارجان [ عن دائرة المعقولات الذاتية التي تمتلك قيمة الكشف واظهار الحقيقة وهما من جملة الافكار العملية الضرورية لذلك، لا تقبل بكونها معياراً ومقياساً لافعال الباري تعالى. اما الحكماء وعلى عكس المتكلمين لم يستفيدوا من هذه المفاهيم على مستوى المعارف الربوبية» (مطهري، 1374، ص 45).

ان دراسة الرؤية النقدية للشهيد مطهري تتطلب مجالاً آخر، إلا اننا نذكر ان المسألة المذكورة في باب التمايز بين رؤية المتكلمين والحكماء الشيعة، لا تؤدي إلى الاختلاف في اصل الاستقلال الثبوتي للدين والاخلاق والعلاقة الثنائية لهما بعد اثبات الدين والوحي الالهي؛ على الرغم التأثير على مستوى ارتباط اثبات الوحي الالهي - وبعبارة اخرى اثبات النبوة الخاصة - بالاخلاق . يعتقد الحكماء ان التمسك بالقضايا الاخلاقية لاثبات النبوة الخاصة غير تام، فيخرج الاستدلال على شكل البرهان ليتشكل على صورة الجدل.

نظرية الشهيد مطهري في باب النسبة بين التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية

لم يستعمل الشهيد مطهري مصطلحي التجربة الدينية والتجربة الاخلاقية ولم يتحدث بصراحة عن النسبة بينهما؛ إلا انه قدم نظرية في باب الفعل الاخلاقي، حيث يمكن من خلالها فهم النسبة بين التجربتين:» ان كل تجربة اخلاقية خالصة هي

ص: 230


1- يجب الالتفات إلى ان الافتراق بين الكلام والفلسفة عند السنة غير موجود عند الشيعة. طبعاً يجب الاشارة إلى انهما اقتربا إلى بعضهما منذ زمان الخواجة نصير الدين الطوسي حتى اذا ما وصلنا إلى الميرداماد وصدر المتألهين شاهدنا القول باتحادهما وفي هذا الزمان فإن ابرز المتكلمين هم ابرز الفلاسفة ايضاً ابرز الفلاسفة ايضاً ومن جملة النماذج الشهيد مطهري.

تجربة دينية وهي متحدة معها وليست غير منفكة عنها فقط، بل هي غير متمايزة عنها ايضاً، وحول الاجتماع يمكن القول انهما مفهومان يصدقان على تجربة واحدة من جهتين وقد يصح القول من جهة واحدة(1).

لتوضيح الشواهد على صحة نسبة هذه الرؤية للشهيد مطهري نعالج المسألة في ضمن قسمين : يتعلق القسم الأول بما ذكره في بحث العدل الالهي اثناء الاجابة على سؤال كلامي حول استحقاق الكافرين الثواب على الاعمال المتصفة بحسن الفعل وحسن الفاعل : ويتعلق القسم الثاني بما ذكره بعد دراسة ونقد النظريات الاخلاقية

المتعددة من امثال» النظرية العاطفية»، «نظرية الارادة»، «النظرية الوجدانية» و«النظرية الجمالية» وقد بَين فيه نظريته المختارة. سيتضح ان هذين القسمين من البحث يتصلان بنقطة مشتركة واحدة.

أ- الميل نحو العدل والاحسان وعلاقتهما بمحبة الله

طرح الشهيد مطهري سؤالاً في بحث العدل الالهي وهو: هل للعمل الحسن الذي يصدر من الكافرين (عمل الخير من غير المسلم) ثواب أم لا (مطهري، 1474، ص 269). وفي الجواب، شرح ونقد رؤيتين احداها افراطية والاخرى تفريطية× الاولى هي التقديسية التي تقول باصالة الاعتقاد وهي شبيهة بمنطق المرجئة التي تنتهي بنفي قيمة العمل والثانية رؤية تنويرية تعتقد باصالة العمل وتنفي قيمة الايمان (م. ن، ص 278-289). ثم بحث حول قيمة الايمان وأوضح ان الكفر الموجب للخروج من الايمان والذي يستحق العذاب هو الكفر الذي ينطلق من العناد واللجاجة (كفر الجحود) وليس الذي ينطلق من الجهل وعدم المعرفة (م. ن، ص 829) ثم درس مراتب التسليم ليشير بعد التمسك بالآيات القرآنية ان «حقيقة الايمان،هي تسلیم القلب» حسب المنطق القرآني (م. ن، ص291). وتسليم القلب - المقابل لتسليم البدن أو تسليم العقل - هو تسليم كافة انحاء الوجود الانساني ونفي اي شكل من الجحود والانكار.

ص: 231


1- لن نتحدث حول اعتقاده بان كل تجربة دينية هي دائماً تجربة اخلاقية ولن ننسب إليه اي نظرية .

وقد شرع الشهيد مطهري الحديث حول الاسلام الحقيقي والاسلام الجغرافي(1)(م. ن، ص 293) يقول: «ان صاحب القيمة من حيث الواقع هو الاسلام الحقيقي.....] وهو الذي يسلم فيه الشخص قلباً امام الحقيقة ..... ] وعلى هذا الاساس [ اذا امتلك الشخص صفة التسليم، وكانت حقيقة الاسلام مخفية عنه الاسباب ما وكان غير مقصر، فالله لن يعذبه على الاطلاق وسيكون من اصحاب النجاة والجنة «(م. ن) . وقد اطلق على هؤلاء الاشخاص «المسلم الفطري» واذا كان لا يمكن اطلاق عنوان المسلمين عليهم إلا انهم ليسوا كفاراً (م. ن، ص 294).

ثم شرع الشهيد مطهري الحديث حول الحسن الفعلي والحسن الفاعلي فاعتبر ان الحسن الفعلي في الاسلام غير كاف للثواب الاخروي على العمل، بل يلزم وجود

الحسن الفاعلي، فالحسن الفعلي بمنزلة البدن والحسن الفاعلي بمنزلة الروح (م. ن، 307) ثم يطرح مسألة لزوم او عدم لزوم الايمان بالله لتحقق الحسن الفاعلي وهل ان قصد التقرب إلى الله مقوم للحسن الفاعلي أم لا. قد يقال اذا أتى الشخص بعمل بقصد التقرب إلى الله او بدافع «الوجدان والعطف والرحمة المستولية على قلبه فهل يكفي ذلك ليتحقق للفعل الحسن الفاعلي»(م . ن) ، وبعبارة اخرى، اذا لم يكن الدافع في الفعل «الانا» ، فهل يتحقق الحسن الفاعلي؛ سواء كان الدافع «الهياً» أو «انسانياً».

صحيح ان الشهيد مطهري يرفض وحدة هذين الدافعين (الله والانسانية)، بل يعتقد باستقلالهما باعتبار «ان كل عمل ينطلق من الاحسان وخدمة خلق الله وبسبب الانسانية، فهو ليس في رديف العمل الذي يكون دافعه للذات فقط. طبعاً الله تعالى لا يترك هكذا اشخاص من دون ثواب»(م . ن ، ص 307) .

ولكن كيف يمكن الجمع بين الرؤيتين: الرؤية التي تعتقد ان الايمان شرط في قبول الاعمال واستحقاق الثواب وهذه الرؤية الوجدانية الشهودية التي تدل عليها

ص: 232


1- قارنوا بين هذا البحث وما ذكره جيمز في كتاب « تنوع التجربة الدينية حول الدين الوضعي والدين الفردي (جیمز 1391، ص 47).

عدد من الروايات التي تبين ان العمل الذي ينطلق من دوافع انسانية هو عمل ذو قيمة وان الله لا يترك هذا العمل من دون ثواب.

ان ضرورة الجمع بين هذين الرؤيتين وازاحة التعارض الظاهري، يقرب الشهيد مطهري بعد كثير من الاحتياط والحفاظ على القيود من الوحدة بين التجربة الاخلاقية الخالصة والتجربة الدينية حيث يقول في اكمال البحث:

«وفي نظري اذا وجد افراد يحسنون إلى الناس الآخرين وحتى إلى الاحياء عموماً لأن «لكل كبد حراء أجراً» من دون انتظار لأي نفع، وحتى أنهم لا يقدمون خدماتهم للبائسين خوفاً من يوم يأتي يصبحون فيه من جملتهم، بل دافع الإحسان والخدمة يقوى في أعماق وجدانهم حتى أنهم ينجزون الخير ولو أنهم يعلمون بأنه لا عائد منه ولا أحد يعلم به ولا أحد يبارك له، وبشرط ان لا يكونوا واقعين تحت تأثير العادة، فلا بد من أن نقول إن هؤلاء يقيناً في أعماق ضمائرهم يوجد نور من معرفة الله. وعلى فرض أنهم ينكرون بألسنتهم فهم قطعاً مقرون في ضمائرهم. أما انكارهم فهو منصب على أشياء موهومة تصوروها مكان الله أو منصب على أمور متخلية تصوروها مكان العودة إلى الله ومكان القيامة. وليس الإنكار في الواقع منصباً على ذات الله تعالى ولا على المعاد الحقيقي.

والتعلق بالخير والعدل والإحسان من جهة كونها خيراً وعدلاً وإحساناً من دون أية شائبة أخرى يكشف عن الحب لذات الجميل على الإطلاق وعليه فنحن نستبعد أن يحشر هؤلاء الناس مع أهل الكفر ولو أنهم كانوا منكرين بألسنتهم. والله أعلم»(م. ن ، ص 309).

الواضح ان محبة «الخير والعدل والاحسان من جهة كونها خير وعدل وإحسان»،هي المصداق التام للتجربة الاخلاقية الخالصة. ان هذه التجربة والميل الداخلي نحو الخير والعدل والاحسان هي قضية نفسانية وقضية واعية قضية نفسانية وقضية واعية عند الانسان، ومن ثمَّ يصدق عليها مفهوم التجربة (244 .swin burne 1991 ، p) وتكون هذه الجذبة وهذا

ص: 233

الميل ذات صبغة اخلاقية بلحاظ المتعلق ؛ لذلك هي تجربة اخلاقية بل مصداقها الخالص، ويعتبر ان هذه الجذبة وهذا الميل هو المؤشر على محبة الله تعالى الذي هو الجمال المطلق، ونحن نعلم ان شلاير ماخر كان يعتبر احساس الشوق والمحبة هذا ليس سوى محبة الذات الالهية اللامتناهية. (شيرواني، 1381، ص

93).

بناءً على ما تقدم من مقدمات، نستنتج ان هذه الحالة - اي الميل نحو الخير والعدل والاحساس بما ان الميل هذا هو خير وعدل و احسان - من وجهة نظر الشهيد مطهري، هي تجربة اخلاقية وفي الوقت عينه مؤشر لحالة يطلق عليها التجربة الدينية.

ب - نظرية الشهيد مطهري الاخلاقية

ان السؤال الاول في بحث الاخلاق هو تعريفه. يعتقد الشهيد مطهري ان «تعريف

الاخلاق ليس بالأمر السهل» (مطهري، 1387ج، ص 162)، ومن هذه الجهة يكون للاخلاق عين مصير الدين)(1)، ولم يتفق الفلاسفة حول ذلك، فقدم كل واحد منهم تعريفاً كانت تتعارض مع بعضها تارة. رجّح عدد من الفلاسفة في هكذا حالات عرض المصاديق البارزة والواضحة والمتفق عليها بدل بذل الجهود القليلة الفائدة لتقديم تعريف جامع ومانع للموضوع ومن ثمَّ العمل على دراسة وتحليل العناصر المقومة. يعتقد الشهيد مطهري «الافضل في هكذا حالات الشروع من الموارد المسلم بها في البحث» (م. ن) .

يعتقد ان الفعل الاخلاقي يقع في مقابل الفعل الطبيعي والعادي (مطهري، 1387الف، ص 470).من جملة خصائص الفعل الطبيعي والاعتيادي من امثال الاكل والشرب انها لا تقبل التحسين والمدح. وفي المقابل فإن اولى خصائص الفعل الاخلاقي انه «يتطلب المدح والثناء والتعظيم والتبجيل» (م . ن ، ص 292) والخاصية الاخرى ان الفعل الاخلاقي يتطلب القداسة وهي العنصر الاساس في الاخلاق (م. ن، ص 47).

ص: 234


1- للاطلاع على منشأ اختلاف المفكرين حول تعريف الدين، راجع مقال المؤلف بعنوان «دراسة تعاريف الدين من وجهة نظر اخرى (فصلية الفكر الديني الحديث، السنة السابعة، شتاء 90،العدد 27). يعتقد الشهيد مطهري ان من جملة اسباب الاختلاف في تعريف الاخلاق، الاختلاف في الرؤى الكونية. (مطهري، 1387 ،الف، ص 289). وتصدق هذه المسألة فيما يتعلق بتعريف الدين ايضاً .

اوضح الشهيد مطهري نماذج من العمل الاخلاقي والروحية الاخلاقية على امتداد التاريخ - امثال «ما عمله بطرس الكبير عندما كان في السن الثالثة والخمسين وكان في أوج سلطته، وقد شاهد زورقاً في شهر كانون الثاني يشرف على الغرق، فالقى نفسه في الماء لمساعدة ركابه في النجاة وقد كانت وفاته على اثر ذلك» (م. ن، 1387ج، ص 162 و 163) وكذلك ايضاً الجرحى المسلمون في ارض المعركة الذين كانوا بحاجة إلى الماء وعندما جاء به شخص رفض الاول الشرب طالباً اعطاءه للثاني والثاني طلب اعطاءه للثالث، حتى استشهدوا جميعاً وكانوا مصداق قوله تعالى:» ويؤثرون على انفسهم ولو كان بهم خصاصة» (الحشر /9؛ م.ن، 1387 الف، ص 294) - وبعد تحليل خصائصها في تقابل الافعال، أوضح القيم الخاصة فيها واستنتج ان الفعل الاخلاقي ذو قيمة عند الوجدان البشري؟ وهي قيمة ارفع من القيم المادية التي «يتم تقييمها على اساس المال والبضاعة المادية القابلة للتقييم ( = التسعير....) (م. ن، 305).

وقد اختص الإنسان بالاتيان بهكذا افعال لذلك يمكن القول في تعريف الإنسان انه «حيوان اخلاقي».

بعد اتضاح العمل الاخلاقي وخصوصياته، نصل إلى مرحلة التنظير له. فما هو معيار العمل الاخلاقي؟ ما هو الشيء الذي يضفي على العمل الاخلاقي القداسة والقيمة المعنوية والذي يكون الإنسان خاضعاً امامه فيلهج لسانه بالمدح والثناء؟ قدم الشهيد مطهري في عدد من كتاباته ومحاضراته بالاخص في السنوات العشر الاخيرة من عمره، نظريات متعددة للاجابة على هذا السؤال مراعياً كمال الانصاف والنقد والتقييم.... يعتقد ان الآراء وان اختلفت في هذا الخصوص «فهي في الغالب لیست متضادة ولا متناقضة؛ اي ان كل رأي في الغالب اهتم بزواية مما يجب أن يعمل الإنسان (= العمل الاخلاقي)» . (م. ن، ص 42).

ص: 235

يمكن تصنيف النظريات المتنوعة طبق التقسيم الآتي:

النظرية العاطفية ؛ يمكن توضيح هذه النظرية على شكلين. الشكل الاول عبارة عن العواطف والميول الغيرية والانسانية التي تكون مبدأ الفعل الاخلاقي، وأما فصلها المميز عن غيرها من الافعال فهو «العمل الاخلاقي الاعلى من الميول الفردية، أي عاطفة محبة الغير «(م. ن، 321)؛ وقد يجري الحديث عنها تارة اخرى باعتبارها المبدأ الغائي والهدف للفعل الاخلاقي : «العمل الاخلاقي هو العمل الذي يكون هدف الإنسان فيه هو ايصال الخير إلى الآخرين، وليس إلى الذات» (م.ن، ص 322). طبعاً يمكن جمع التوضيحين. ويكون اساس الاخلاق في هذه النظرية، محبة الآخرين. ومن جملة هذه الاخلاق «الاخلاق الهندية» أو «الاخلاق المسيحية». (م.ن، 323) .

يعتقد الشهيد مطهري ان نصف هذه النظرية صحيح ونصفها الآخر غير صحيح. ان الاعمال الناشئة من عاطفة محبة الناس اخلاقية في كثير من الحالات؛ ولكن اولاً ليست كل محبة عمل اخلاقي، امثال محبة الام لابنها التي هي عمل غريزي وليست اكتسابية، ومن ثم فإن هذه المحبة فاقدة للقيمة الاخلاقية (م. ن، ص 324)؛ثانياً لا يمكن ان تكون الاخلاق محدودة بمحبة الغير. ان بعض الاعمال من قبيل عدم الرضوخ للذل الذي يُعدّ عملاً اخلاقياً، إلا ان مبدأ هذا العمل ليس عاطفة محبة الإنسان وليس هدفه ايصال الخير إلى الآخرين (م. ن ، ص 325)؛ ثالثاً، لا يجب اعتبار متعلق المحبة والعاطفة منحصراً في الانسان، «بل يجب محبة كل شيء». (م. ن، ص 326).طبعاً يبنى هذا النوع من المحبة على الرؤية العرفانية التي تؤدي إلى وجود حالة في الإنسان يعتبر كل الوجود مظاهر للمحبة رابعاً(1)، لا يجب الافراط في تفسير محبة الإنسان حيث تكون النتيجة العداء للانسان؛ يقول سعدي:

ترحم بربلنك تيزدندان ستکماری بود برکوسفندان (م. ن، 330)

[ان الرحمة بالنمر المتوحش هو ظلم بالخراف]

ص: 236


1- لم يميز الشهيد مطهري في آثاره بين هذا الاشكال والاشكال المتقدم فذكرهما تحت عنوان واحد، والظاهر ان المناسب التفكيك بينهما .

«ان المقصود من محبة الانسان ان يكون كل انسان لائقاً بالمحبة بمقدار القيم الانسانية، والإنسان الذي لا حظ له من القيم الانسانية، تليق به المحبة ايضاً بهدف ايصاله إلى القيم الانسانية» (م. ن ، ص 327) .

نظرية الارادة: تقابل الارادة، الميل والشوق المشتركان بين الإنسان والحيوان والارادة مختصة بالإنسان وملازمة للعقل . الارادة هي قوة السيطرة على الميول والعواطف على اساس المصلحة العقلية. والعمل الاخلاقي بناءً على نظرية الارادة التي ايدها الفلاسفة المسلمون، هو العمل الذي يكون مبدأه الارادة والعقل، وليس الميول والعواطف، حتى لو كانت العاطفة تتعلق بالغير. «ان الاخلاق الكاملة،هی الاخلاق التي تخضع لقوة العقل والارادة وتكون الميول الفردية والنوعية والاشواق جمعيها تحت رقابة العقل والارادة»(م. ن، ص 331).

يعتمد على العقل في مكان آخر ليبين رؤية الحكماء. وقد اعتبر الحكماء ان «العقل معيار الاخلاق، إلا انه العقل الحر او الحرية العقلية «(م. ن ، ص 480).

ان جوهر الإنسان على اساس مباني الحكماء المسلمين وبالاخص صدر المتألهين هو القوة العاقلة، ومن ثم فإن الكمال والسعادة النهائيين والواقعيين، هي السعادة العقلية. للعقل بعدان: «بعد نظري يتجه نحو الاعلى ويريد كشف الحقائق (العقل النظري)، وبعد آخر يتجه نحو الاسفل، يريد تدبير البدن على اساس العدل». (م . ن ص 481). الاخلاق هي ان يحكم الإنسان العقل، لتستفيد كل قوة من قوى ، الإنسان على اساس العدل ومن دون افراط وتفريط وهنا يصل العقل إلى الحرية. اذا وصلت قوى الإنسان إلى حد الوسط ونقطة الاعتدال، تتحطم صولة القوى في مواجهة بعضها البعض فيحصل مزاج للانسان لا يزاحم العقل على اثر الميول المتعددة، وفي هذا الحال تكتسب الروح كمالاتها من دون اي مزاحمة من ناحية البدن . (م. ن، ص 482-481)

يتحقق الكمال الحقيقي للانسان من وجهة نظر الحكماء على اثر فعلية العقل

ص: 237

النظري، اي قوة ادراك الحقائق، فيصبح العقل العملي في الحاشية ويتخذ بعداً تمهيداً.

اما الاشكال الجوهري الوارد على هذه الرؤية(1)، فهو ان يصبح العقل هو جوهر الإنسان فقط وتصبح ابعاده الوجودية الاخرى كالوسائل والادوات بينما يعتبر الاسلام ان العقل فرع واحد من وجود الإنسان وليس كافة وجوده (م. ن، 1387ب، ص 187)، الضعف الآخرين في هذه النظرية(2)، سلب «العنصر الاساسي في الاخلاق اي القداسة. وتحصل الاخلاق على القداسة من خلال نفي الذات والانانية...» (م. ن 1387 الف، ص 47) مع العلم ان هذه النظرية التي تهدف إلى اقرار السعادة، تدور حول محور الانا(3).

النظرية الوجدانية: ان العمل الاخلاقي بناءً على هذه النظرية هو العمل الذي يُستلهم من الوجدان (م.ن، ص 332). وقد بنى كانط رؤيته الاخلاقية على هذا الاساس (م. ن، ص 334-449). ان أصل وجود الوجدان الاخلاقي وان يكون طبع الإنسان بحيث يرغب ويبتعد عن الحس والقبيح، فهو صحيح وهناك عدد من الشواهد القرآنية والروائية التي تؤيد ذلك (م. ن ، ص 323) . إلا ان نظرية كانط في هذا الخصوص يعتريها عدد من الاشكالات بسبب الخصائص التي تحيط بها.

صحيح ان نظرية كانط دقيقة، إلا انها لا توضح الحقيقة باكملها. والنظرية صحيحة إلى مستوى الذي يتم الاعتراف فيه بوجود سلسلة الاوامر «يجب» اللامشروطة وكذلك وجود مراكز للالهام، ولكن، اولاً يعتقد كانط ان الشرط اللازم لأخلاقية العمل ان لا يكون ناشئاً من ميل، والحقيقة ان امكان صدور هكذا فعل، محل تأمل. «هل من

ص: 238


1- يشار إلى ان الشهيد مطهري لم يتعرض بالنقد لموقف الحكماء والمسلمين في مكانين بل اكد على ضرورة التفكيك بين عقيدة الفلاسفة المسلمين ورؤية الاسلام ليس من الضرورة ان يتمكن الفلاسفة المسلمون دائماً وفيما كانوا يصرحون به، من توضيح المسائل الاسلامية بشكل كامل (م . ن، ص 332). وقد ذكر الاشكال المتقدم في ابحاث الإنسان الكامل بعد توضيح نظرية الحكماء حول الإنسان الكامل وقد ذكرها تحت عنوان: مدرسة العقليين.
2- أخذ هذا الاشكال من نقده لنظرية الاعتدال الارسطية ومن ثمَّ ليس من القطعي نسبته اليه.
3- اعتبر الشهيد مطهري في عدد من الحالات ان الخروج من محورية الانا شرط لازم للقيمة الاخلاقية وتحدث في مكان آخر امثال بحث «الانا والغير»(م. ن، 1387 الف، ص 409-428) بما يفهم منه انه اراد من نفي محورية الانا في الاخلاق الذات الدانية والحيوانية في الوجود الانساني وليس مطلق الانا.

الممكن ان يطيع الإنسان أمراً لا يميل بطاعته ولا يخاف مخالفته؟ (م.ن، ص62) ثانياً، حذف كانط مفهوم الحسن والخير من الفعل الاخلاقي ووضعه في ارادة الفعل. واما معيار الاخلاق الاساسي طبق رؤيته مكنون في الدافع منه وليس في خصائص الفعل عينه. ومن ثم فالوجدان الذي يتحدث عنه كانط شبيه بالقائد المستبد الذي يصدر اوامره من دون دليل (م. ن، ص 63). ثالثاً، لا يمكن قبول الحكم بعدم اخلاقية الفعل الذي يتضمن خير العموم والذي يميل إليه الشخص بحكم العاطفة الانسانية والميل نحو الخدمة ؛ ويخالف هذا الحكم الوجدان الاخلاقي الذي يؤيده كانط (م. ن)؛رابعاً اذا حصل عمل كالايثار والتضحية انطلاقاً من الحسن الذاتي، فهو في الغالب ذو ماهية اخلاقية، اكثر من كونه عملاً يحصل تحت الضغط والالزام؛ لان الالزام يقلل من حرية الانسان، وكل ما يؤدي إلى التقليل من الحرية، تكون صبغته الاخلاقية ضعيفة (م.ن)؛ خامساً ان كافة احكام الوجدان ليست مطلقة؛ فلزوم الصدق على سبيل المثال ليس حكماً مطلقاً، بل تابع «الفلسفة وقد يفقد الصدق فلسفته» (م . ن، ص 352) مثال ذلك عندما يؤدي الصدق إلى قتل انسان بريء؛ سادساً، فرّق بين الكمال والسعادة. يعتقد ان العقل الاخلاقي يحمل معه كمال الإنسان إلا انه لا يستلزم في نفسه السعادة، مع العلم ان الكمال والسعادة وجها عملة واحدة فلا ينفصلان عن بعضهما البعض (م. ن، ص 349-351).

النظرية الجمالية :

يعتقد افلاطون وبعض الحكماء المسلمين القائلين بالحسن والقبح العقليين ان منشأ القيم الاخلاقية، الجمال العقلي - المقابل للجمال الحسي والخيالي - ويفترق هؤلاء عن بعضهم البعض ان افلاطون يعتبر مركز الجمال هو الروح الفردي التي تتضمن في قواها النفسانية العدالة وقد جعل منها كلاً متناسقاً ومتوازناً ومتعادلاً - الجمال هو التوازن في النسبة بين الاجزاء والكل - بينما اعتبر المتكلمون المسلمون ان مركز الجمال، بعض الاعمال من قبيل الايثار، الاحسان والصدق التي يظهر جميلاً فيها ؛ وبما ان الجمال ذو جاذبية ويؤدي إلى ايجاد الحركة والعشق ويرفع

ص: 239

الإنسان نحو المدح والثناء والتقدير، يكون الشخص المزين بالفضائل والافعال الناشئة من هذه الفضائل حاملاً للقيم الاخلاقية. (راجع: م. ن ، ص 42-45 و 358-374؛ م. ن، 1387 ج، ص 105- 114) . صحيح ان الشهيد مطهري ذكر اشكالات على هذه النظرية بالاخص على آراء افلاطون في توضيح الجمال، وفي تخصيصه بالكل بالمركب من اجزاء ونفي اي نسبية منه وكذلك استقلاله الكامل عن الذهن - (م. ن، 1387 الف، ص 45)، إلا انه ايّد اصل الارتباط بين القيم الاخلاقية ومقولة الجمال ولكن وبما ان هذه المنشأ الاساس لادراك الجمال المعنوي - اي المعرفة الفطرية بالجمال النظرية هي المطلق والجميل على الاطلاق - فلم يبينها واعتبرها ناقصة (م. ن ، ص 386) .

نظرية العبادة: يعتقد الشهيد مطهري ان «اعمق النظريات هي كون الاخلاق نوعا من العبادة(1)؛اي ان طبيعة وماهية الفعل الاخلاقي - في مقابل الفعل الطبيعي - هي طبيعة عبادة ] الله(2)[، إلا انها عبادة غير مقصودة«م. ن ص 106). اما تعريف العبادة، [ فهو كالجمال صعب ولعلها لا تقبل التعريف (م. ن ، ص 119) إلا انها تتضمن اموراً من قبيل الثناء، التقديس، الخضوع، الخروج من الانا المحدودة والخروج من دائرة الآمال المحدودة، تحطيم سجن الذات، التحليق (التقرب)، الانقطاع، الالتجاء والاستعانة. ان العبادة في الحقيقة هي من التجليات الروحية للانسان، والاعمال البدنية امثال الصلاة هي لايجاد هذه الحالة الروحية (م.ن).

بناءً على هذه النظرية، فالذي يأتي بالعمل الاخلاقي، فإن عمله الاخلاقي هو نوع من عبادة الله والعبادة غير الواعية حتى لو لم يدرك الله في شعوره ولم يعتقد به او اعتقد به ولم يأتِ بالعمل لاجل رضا الله (م . ن، ص 376). العبادة هي اكبر واشرف واعظم حالات الانسان. (م.ن، ص 379).

يبدو ان القضية الهامة التي دفعت الشهيد مطهري لتأييد هذه النظرية، هي حلّ هذا الامر المبهم والاجابة على هذا السؤال: كيف يمكن للانسان في بعض الحالات

ص: 240


1- ايد الشهيد مطهري هذه النظرية ولكن لم ينسبها لنفسه فتحدث عنها بعبارة «يقولون» (م. ن، ص 375) ومع ذلك فلم ينسبها لشخص او لمجموعة اخرى.
2- صرح في اماكن اخرى ان متعلق هذه العبادة هو الله (م. ن)

ان يأتي ببعض الاعمال من قبيل الايثار والتضحية فيتجاوز مصالحه الخاصة ويضحي فيجد في التضحية نوعاً من الشرف والعظمة ويشعر ان اتيانه بهذه الاعمال يدفعه نحو التعالي والعظمة والكبرياء مع العلم ان هذه الاعمال لا تفهم ولا تتناسب مع اي منطق حتى منطق العقل الذي يقضي بدفع الضرر عن الذات واستجلاب المصلحة لها . اما الجواب الذي قدمه الشهيد مطهري ان السّر في وجود هكذا حالة عند الإنسان ان «الإنسان مفطور على معرفة الله وان هناك سلسلة من المسائل (= القوانين الاخلاقية) الموجودة بالفطرة في قانون الله ..... وفي اعماق روح الانسان، فهو يعرف هذه القوانين كما يعرف الله، ويعرف رضا الله ويأتي بالعمل في سبيل رضا الله انطلاقاً من فطرته، إلا انه لا يعلم ذلك» (م. ن ، ص 383) .

هنا من يرفض الشهيد مطهري عقيدة الذين يعتبرون الحس الاخلاقي وحس معرفة الله أمرين منفصلين في الوجود الانساني، ويعتقد ان الحس الاخلاقي مرتبط بالكامل بحس معرفة الله حيث يمكن ان يطلق عليه «حس تكليف الله» (م.ن، ص 384) وبذلك يعرف الإنسان الاسلام الفطري ويدرك على سبيل المثال ان العفو، والعطاء والتضحية والفضائل الاخرى هي محل رضا الله تعالى(1).

ص: 241


1- يشار إلى وجود رؤى مشابهة على مستوى الالهيات المسيحيية حيث يمكن مشاهدة نموذج عن ذلك في كتاب «التجربة الاخلاقية العرفانية» من تأليف غري هيرد. ان التجربة العرفانية عند هيرد هي تجربة يتم فيها «معرفة الله بشكل مباشر فيحصل اللقاء المباشر مع الذات الالهية من دون واسطة والتجربة الاخلاقية هي «لقاء الله بواسطة العلاقات والمناسبات الموجودة في عالم الوجود». الواضح ان الذي اطلق عليه التجربة العرفانية هو من مصاديق التجربة الدينية البارزة. يعتقد ان الشخص بامكانه ادراك الذات الالهية عن طريق الأمر العرفاني وعن طريق الامر الاخلاقي. ويبين ان شهودنا الاخلاقي يحدد الوظائف في علاقاتنا مع الآخرين اعم من الموجودات الحية والموجودات غير الحية حتى انه يحدد علاقاتنا بانفسنا. يمكن للامر العرفاني ان يؤثر على بُعدين في الامر الاخلاقي (قبول محبة الله واظهاره). إلا امكان التأثير فهو اقوى في بعد عرض واظهار المحبة. وتؤثر التجربة العرفانية على الفرد وبشكل مبنائي لابراز المحبة الالهية. ويحصل الفرد على ادراك للمحبة الالهية عن طريق المواجهة العرفانية للذات الالهية ومن هنا يبدأ الميل للتضحية والايثار امام موجودات العالم المادي وامام الفرد الآخر ؛ ويتحقق هذا الامر إذا ادرك الشخص المحبة بماهيتها الحقيقية (راجع: هيرد، 1382 ص 126-11).

خلاصة واستنتاج

بناءً على ما تقدم يمكن نسبة نظرية الاتحاد بين التجربة الاخلاقية والتجربة الدينية إلى الشهيد مطهري . اما الاصول التي تتبنى عليها هذه النظرية فهي عبارة:

الايمان بالله هو جوهر الديانة؛

ان حقيقة الايمان بالله هي تسليم امام الارادة الالهية؛

الاسلام الحقيق يختلف عن الاسلام الجغرافي؛

ان ما هو ذو قيمة هو الاسلام الحقيقي؛

الاسلام الحقيقي هو تسليم قلب الإنسان للحقيقة؛

ان الذي استسلم قلبه امام الحقيقة، هو مسلم فطري، حتى لو لم يُسمّ مسلماً ؛

ان العمل الذي يحصل بدافع محبة الإنسان - ليس للذات وليس لله- يمتلك مراتب من الحسن الفاعلي وفاعله مأجور؛

ان الوجدان الاخلاقي عند الانسان، هو مبدأ معرفة الإنسان الفطرية بالله وارادته؛

ان للفضائل والاعمال الاخلاقية، جمالاً عقلياً واما منشأ ادراك الجمال العقلي والفضائل والاعمال الاخلاقية، هو المعرفة الفطرية بجمال الله تعالى؛

ان حب الخير والعدل والاحسان هو علامة وتجلي الحب والعلاقة الفطرية بالله الذي هو الجميل على الاطلاق

العناصر الاساسية للفعل الاخلاقي عبارة عن : الثناء، العظمة، الجلال، القداسة، القيمة المعنوية، احساس الخضوع في مقابله؛

العبادة هي من تجليات روح الانسان، وتتحقق تارة بشكل واع وتارة اخرى

ص: 242

بشكل غير واع وتتضمن المديح التقديس الخضوع، الارتقاء فوق الانا المحدودة، الانقطاع، الالتجاء والاستعانة؛

ان الفعل الاخلاقي الخالص الذي لا شائبة فيه نوع من عبادة الله، حتى لو كان غير واع؛

وقد ذكرت ارجاعات هذه الاصول من خلال كلمات الشهيد مطهري في النص ونضيف :

تتضمن التجربة الواسع، الانفعالات الروحية والنفسانية وافعال الإنسان الاختيارية الواعية(1)؛

ان محبة الله من دون شك هي تجربة دينية من سنخ الانفعال؛

عبادة الله من دون شك تجربة دينية من نوع الفعل او الانفعال.

نستنتج من خلال جمع هذه الاصول الثلاثة الى الاصلين 10 و 13 الآتي؛

ان الذي ترعرع فيه الحس الاخلاقي والذي يميل ويحب الفضائل بشكل عميق ومن دون اي شائبة (صاحب التجربة الاخلاقية بمعناها الاحساسي والانفعالي) يمتلك محبة الله (= صاحب تجربة واحاسيس وعواطف دينية)؛

ان الفاعل الاخلاقي في فعله الاخلاقي الخالص الذي لا يشوبه شائبة (= صاحب التجربة الاخلاقية بمعناها الفعلي) هو يأتي في الحقيقة بعمل عبادي وهو صاحب تجربة دينية بمعناها الفعلي.

ص: 243


1- قد تُخص التجربة في مصطلح التجربة الدينية بما لديه بعداً انفعالياً.

المصادر:

القرآن الكريم

جيمز، ويليام: (1391)، تنوع التجربة الدينية، ترجمة حسين كياني، طهران، انتشار حکمت.

الحلي، الحسن بن يوسف: (1417ق)، كشف المراد، تحقيق حسن حسن زاده، ط ،7، قم، مؤسسة النشر الاسلامي.

الشيرازي، صدر الدين: (1981) ، الحكمة المتعالية في الاسفار الاربعة العقلية، ج4، بيروت، دار احياء التراث العربي.

شيرواني، علي (1390)، «دراسة تعاريف الدين من وجهة نظر اخرى» ، الفكر الديني الحديث، العدد 27 ، ص 29-51 ، قم، جامعة المعارف الاسلامية.

شيرواني، علي (1381)، المباني النظرية للتجربة الدينية، قم، بوستان كتاب.

مصباح، محمد تقي (1405ق)، تعليقة على نهاية الحكمة، قم، دار راه حق.

مطهري، مرتضى (1387الف)، مجموعة ،الآثار، ج 22، ط4 ، طهران، انتشارات صدرا.

مطهري، مرتضى (1387ب)، مجموعة الآثار، ج 23 ، ط4، طهران، انتشارات صدرا.

مطهري، مرتضى (1387ج) ، تعليقات الاستاذ مطهري ج 11، طهران، انتشارات صدرا.

مطهري، مرتضى (1387)، مجموعة الآثار، ج 1، ط6، طهران، انتشارات صدرا.

،هیرد غری کلود: (1382)، التجربة العرفانية والاخلاقية، ترجمة لطف الله جلالي، محمد سوري، قم، مؤسسة الإمام الخميني التعليمية والبحثية.

13-Swimburne، Richard، (1991)، The existence of God، New York، oxford

university press.

ص: 244

المحور السادس

المشاريع الغربية

ص: 245

نسيان التخلق .. القيم الغربية وإشكالية الدلالة

اشارة

شريف الدين بن دوبه(1)

الإنسان كائن مثلث الأبعاد، عقل يستقرئ الحق، وحسّ يستقطر الجمال، وإرادة تستقطب الخير . ثلاثية تنصهر فيها كينونة الإنسان، فتكوّن وحدة متعدّدة، وتعدُّد موحد، فالنزوع نحو القيمة تلازم الفعل البشري في جميع أشكاله معرفياً كان أو عملياً، فالحق كمطلوب إنساني، يتصدّر سلّم القيم المعرفية في عالم البشر، ويقع الخير في صلب الفعل الإنساني السوي، أما الجمال فيعمل على إقامة جسر التواصل بين عالم الحق، وعالم الخير مؤسساً عالم الأنموذج في مخيال البشر.

والفصل بين العوالم الثلاثة: الحق، الخير ، والجمال مخاض الشعور بالمحدودية لدى الباحث، لأنّ الإحاطة بحقائق عدّة حقول معرفية، سواء طبيعية كانت، أو إنسانية أمر مسيج بأشواك الشبهات، فالحقائق كما يقول الحسن ابن الهيثم: «منغمسة في الشبهات»(2)، فكان التخصص في مجال بحثي معينا كفيلا ببلوغ بعض الحقائق، وهو التقليد الذي توارثه الفكر البشري، مع العلوم التجريبية، فالتخصُّص ليس وليد

ص: 246


1- شريف الدين بن دوبه، يدخل الباحث في هذه المقالة مدخل الاقتراب المعمّق من أنطولوجيا الأخلاق. أمّا خاصيّة هذه المدخل، ففي مقاربته للمفهوم الأخلاقي الغربي من الناحيتين النظرية والتطبيقية وما تثير كل ناحية منهما من إشكاليات معرفية في دلالتها ومقاصدها لعلّ التحديد الذي يقيمه الكاتب حول دلالات المفهوم إنما يستهدف بيان الإطار النظري للمشكلة الأخلاقية، إذ إن التغير الذي رافق الدلالة في مجال القيم يشكل التعبير الأكثر بياناً عن التصدّعات الأخلاقية الحاصلة في الاجتماع البشري، المحرر.
2- الحسن ابن الهيثم، الشكوك على بطلميوس، تحقيق عبد الحميد صبره، ص: 4.

النزعة التجريبية، بل عائد إلى قصور الطبيعة البشرية عن إدراك الحقيقة الموضوعية، والمطلقة.

ولكن الحنين إلى الأخلاق يبقى يراود البحث عن الحقيقة، فالتمكن من المعارف الدقيقة، والحقائق التجريبية لا يمكن الإنسان من حيازة السعادة، لأنّها متعالية على الدقة، والصرامة العلمية، والمنطقية، فالحضور الأخلاقي في مجالات عدة من الحياة الإنسانية، بشكل قوي يظهر في المرونة الدلالية التي تتسم بها المفاهيم الأخلاقية، ولذا نجد لزاما علينا تحديد الشبكة المفاهيمية التي تؤلّف النسق الأخلاقي.

بداية ينبغي تحديد الغاية من التحديد الدلالي للمفاهيم التي تؤلّف النسق الأخلاقي، فموقع المفاهيم، والتعريفات في النسق يكون بمثابة السفينة التي يقتضي من الباحث أن يستقلها حتى يتمكن من بلوغ ظلال الحقيقة، وهي أيضاً الأدوات المفاهيمية المساعدة على تفكيك الإشكالات الرئيسة في البحث، والمؤسف أن الملمح العام الذي ميز البحث كان نظرياً، حيث سقط المفهوم في صقيع المجرّد، والسؤال الذي تطرحه المفهمة في السياق الأخلاقي، هو كيفية التوفيق بين الطبيعة العملية للأخلاق، والبعد التجريدي للمفاهيم، وكيف كانت الزئبقية التي حايثت الدلالة وراء كل خلاف واختلاف قيميّ وأخلاقي في الفكر الغربي.

وسيكون القصد من التحديد الذي نقيمه للمفاهيم الأخلاقية ليس من قبيل الحذلقة الفكرية، بل بغرض التعليق عليها نظرياً، أو لبيان البعد النظري للمشكلة الأخلاقية، فالتعريف أو المفهمة لا تقدر على تجاوز الشروط المنطقية للتعريف، التي منها مراعاة الوضوح، والدقة في إضافة المصاديق تبعاً للمواصفات الواردة في التعريف، والملاحظ على المفاهيم الأخلاقية مرونة الدلالة فيها، وسنلاحظ عبر القراءة، التناقضات الدلالية التي عرفتها الأخلاق عبر هذه مسارها النظري، فالتغير الذي رافق الدلالة في الأخلاق يعكس الأزمات الأخلاقية، والقيمية عند البشر.

ص: 247

السياق العربي

قال ابن فارس: «الخاء واللام والقاف أصلان: أحدهما تقدير الشيء، والآخر ملامسة الشيء، فأما الأول فقولهم : خلقت الأديم للسقاء، إذا قدرته.. ومن ذلك الخلق وهي السجية لأنّ صاحبها قد قدر عليه، وفلان خليق بكذا، واخلق به، وما أخلقه، أي هو ممن يقدّر في ذلك، والخلاق النصيب، لأنّه قد قدر لكل أحد نصيبه، وأما الأصل الثاني، فصخرة خلقاء، أي ملساء»(1).و في لسان العرب: «اشتقاق خليق وما أخلقه من الخلاقة، وهي التمرين، من ذلك تقول للذي ألف شيئا: صار ذلك له خلقا، أي نمرن عليه، ومن ذلك الخلق الحسن.»(2)، ثم يفسر ابن منظور ذلك بقوله «وحقيقته، أي الخلق، أنّه لصورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه، وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلق لصورته الظاهرة، وأوصافها ومعانيها ولهما أوصاف حسنة وقبيحة»(3).

وفي هذا المعنى يقول الراغب الأصفهاني «الخلقُ في الأصل شيء واحد كالشرب والشرب والصَّرْم والصَّرْم لكن خصّ الخَلْقُ بالهيئات والأشكال، والصور المدركة بالبصر، وخُص الخُلْقُ بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة، قال تعالى: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُق عَظيم )(4). والخلاق ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخُلُقه قال تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُم منَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا * فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فی الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلَاق)(5). وفلان خليق بكذا: «أي كأنه مخلوق فيه ذلك كقولك مجبول على كذا، أو مدعو إليه من جهة الخَلْق .. »(6).

والأخلاق جمع خلق بضمّ الخاء وبضم اللام وسكونها، ويطلق الخلق في اللغة العربية على معان:

ص: 248


1- أحمد بن فارس بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، ج 2 ص 213.
2- ابن منظور، لسان العرب، دار صادر بیروت.
3- المرجع نفسه.
4- سورة القلم، الآية: 4.
5- البقرة الآية 200.
6- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن تحقيق وضبط محمد خليل عيتاني، دار المعرفة، بيروت لبنان ط 1- 1998، ص 164.

جاء في تاج العروس: والخلق بالضمّ السجيّة، وهو ما خلق عليه من الطبع، وقال ابن الأعرابي ، الخلق: المروءة، والخلق: الدين.. والجمع أخلاق»(1).

ويرفض بعض الباحثين التمييز الذي يقيمه بعض اللغويين بين الخلق بالفتح، والخُلق بالضمّ، من مثل المعنى الآتي: «خصّ الخَلق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلق بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة»(2)لأن استعمال كلمة الخلق والخلق، يكون دوماً متلازمان، فالقول بأنّ فلانا حسن الخلق، والخلق، يعنى بها حسن الظاهر، وحسن الباطن، فيراد بالخلق الصورة الظاهرة، ويراد بالخلق الصورة الباطنة.(3)وخلاصة القول إنّ الناظر في كتب اللغة بجد أن كلمة أخلاق تطلق ويراد بها الطبع والسجية، والمروءة، والدين، وحول هذه المعاني يقول الفيروزابادي «الخُلْقُ بالضم وضمتين السجية، والطبع والمروءة والدين(4)»ويقول ابن منظور: «الخُلُقُ والخُلْقُ السجية .. فهو بضم الخاء وسكونها الدين والطبع والسجية«(5).

ومن خلال هذا العرض نلاحظ ثلاثة أمور هي: الخُلُق يدل على الصفات الطبيعية في خلقة الإنسان الفطرية على هيئة مستقيمة متناسقة، وتدلّ الأخلاق على الصفات المكتسبة حتى أصبحت كأنها خلقت فيه فهي جزء من طبعه، وعليه يكون للأخلاق جانبین: جانب نفسي باطني، وجانب سلوكي ظاهري.

في الاصطلاح:

يعرف «مسكويه»(6)الخلق في قوله : «الخلق حال للنفس داعية إلى أفعالها من غير

ص: 249


1- محمد مرتضى الزبيدي، تاج العروس من جواهر القاموس، تحقيق مصطفى حجازي، ج 25 دار الهداية للطباعة والنشر والتوزيع، ج25، ص: 275 .
2- الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن مرجع سابق، ص 158.
3- کمال الحيدري، مقدمة في علم الأخلاق، دار فراقد ایران. الطبعة الثانية 2004 ص:30.
4- الفيروز ابادي، القاموس المحيط، فصل الخاء : باب القاف، ص 236.
5- لسان العرب مادة: خلق، ج 2 ص1244-1245.
6- أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب الرازي توفي 421 ه- من مؤلفاته : ترتيب السعادات ومنازل العلوم، كتاب الفوز الأصغر، كتاب الهوامل، والشوامل، كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ، كتاب تجارب الأمم وتعاقب الهمم، رسالة في ماهية العدل، رسالة في النفس والعقل، وصية مسكويه لطالب الحكمة، وصية مسكويه.

فكر، ولا روية»(1). وينحو يحي بن عدي نفس النحو الذي حدّ به الخلق مسكويه، والنص التالي يكشف عن مستوى التناص بين التعريفين، يقول يحي بن عدي(2): «إن الخلق هو حال للنفس به يفعل الإنسان أفعاله بلا روية واختيار والخلق قد يكون في بعض الناس غريزة وطبعا، وفي بعض الناس لا يكون إلا بالرياضة والاجتهاد وقد يوجد في كثير من الناس من غير رياضة ولا تعمد.. ومنهم من يصير إليه بالرياضة»(3).

والخلق عند أبي حامد الغزالي(4):«عن هيئة في النفس راسخة، عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ورويّة، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلاً وشرعاً، سُميت تلك الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة، سميت الهيئة التي هي المصدر خلقاً سيئاً، وإنما قلنا أنّها هيئة راسخة، لأنّ من يصدر عنه بذل المال على الندور لحاجة عارضة، لا يقال خلقه السخاء، ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ..»(5).

الخلق عند الغزالي ليس فعلاً، بل هيئة للنفس وصورتها الباطنة، حيث تكون القابلية والاستعداد لأداء الفعل هي الدلالة الحقيقية لمعنى الخلق، والدلالة التي تأخذها الأخلاق في اللغة العربية تفتقر إلى الدقة، حيث تعتمد الدلالة التي نجدها اللغة على حد تعبير الأستاذة نورة بوحناش(6)«على تحويل الأخلاق إلى حالة تمتزج مع بعض عناصر الشخصية الإنسانية مثل الطبع والعادة والسجيّة»(7).

والدليل الذي تعتمده الأستاذة في تبرير ذلك التعريف الذي يقيمه الجرجاني

ص: 250


1- مسكويه ، تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق، ص 51.
2- يحيى بن عدي بن حميد ابن زكريا التكريتي، فيلسوف، ومترجم للفلسفة. صرف جلَّ عنايته للمنطق فلقب بالمنطقي. انتهت إليه الرئاسة في المنطق ومعرفة علوم الحكمة، أي الفلسفة، من مؤلفاته: تهذيب الأخلاق، مقال في حالة ترك طلب النسل...
3- يحي بن عدي، تهذيب الأخلاق، دار الشروق، بيروت، 1985 ص: 47 (د.ط).
4- أبو حامد الغزالي عالم إسلامي، غني عن التعريف ، ترك مكتبة ضخمة في الفلسفة والتصوف والفقه.. من أهم مؤلفاته : إحياء علوم الدين، القسطاس المستقيم، المنقذ من الضلال، مقاصد الفلاسفة، تهافت ..الفلاسفة ...
5- الغزالي، أبي حامد، إحياء علوم الدين، ج 3 .
6- أستاذة فلسفة الأخلاق، بجامعة منتوري قسنطينة الجزائر.
7- نورة بوحناش، الأخلاق والرهانات الإنسانية، إفريقيا الشرق، المغرب 2013 ص: 36.

للأخلاق، حيث تصبح الأخلاق سلوكا آليا، يفتقد إلى سمة الإرادة الحرة، التي تتحدّد بها الأخلاق، والتعريف هو: «الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإذا كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلاً وشرعاً سميت الهيئة خلقاً حسناً، وإن كان الصادر من الأفعال القبيحة سميت الهيئة خلقاً سيئاً ..(1).

وتورد الأستاذة اعتراضات على التعريف التراثي للخلق، أهمها المطابقة الدلالية بين دلالة الغريزة، والطبيعة الثابتة، المتحكّمة، والمحدّدة للسلوك بطريقة قبليّة، التي يترتب عنها فقدان الحكم الخلقي للمشروعية على قاعدة انتفاء حرية الإرادة عند الفاعل الخلقي، وينتج عن ذلك أيضا تجاهل الضمير المحرك الرئيس للأفعال الخلقية الأصيلة ، تقول : «يكون الخلق في هذا التعريف مجرد وحدة من الوحدات اللاواعية في الشخصية الإنسانية، فهو يرادف الطباع والعادات السلوكية التي لها أبعاد الضرورة النفسية في حين يمتاز الخلق بخاصية الإرادة.. ويظهر أن تعريف الجرجاني وقبله الفكر اليوناني قد أخلط بين مستويين من مستويات الأفعال الأخلاقية: مستوى نفسي أولي، وهو مستوى الغريزة، ومستوى عاقل وواع هو مستوى الضمير»(2).

وما يلاحظ على الحقل التداولي لكلمة أخلاق في اللغات الأخرى وجود بعض الفوارق الدلالية في الاصطلاح اللغوي، فهناك Morale و Ethique.

ويلاحظ المفكر طه عبد الرحمن على الدلالة الفلسفية للأخلاق في الممارسة التراثية الإسلامية «غلبة» صيغة التعريف التي جاءت عند جالينوس في كتابه الأخلاق، وهي: «الخلق حال للنفس داعية للإنسان أن يفعل أفعال النفس بلا روية ولا اختيار ... فالأخلاق في مجال الممارسة الفلسفية الإسلامية المنقولة عن اليونان، إذن عبارة عن أحوال راسخة في النفس رسوخ طبع أو رسوخ تعود، تصدر عنها أفعال توصف بالخير أو بالشر»(3).

ص: 251


1- الشريف الجرجاني، التعريفات، مكتبة لبنان، بيروت، طبعة جديدة 1985 ص: 106.
2- نورة بوحناش، الأخلاق والرهانات الإنسانية، المرجع نفسه ص:37.
3- طه عبد الرحمن ، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي المغربي، الرباط، الطبعة الثانية، ص: 381.

في التراث الغربي

تتقاطع كلمة Morale في اللغات الغربیة فی البناء الصوتی، والدلالی للكلمة، إذ نجدها متقاربة بين الفرنسية والانجليزية، وهي مشتقة من الكلمة اللاتينية Mores ومعناها العادة، وتناظرها في اليونانية Ethics وفي اللاتينية Ethica. وتصبح الأخلاق بذلك تعبيراً عن الآداب العامة، أو أخلاقيات الحياة الاجتماعية، ولكن الأخلاق الاجتماعية لا تعكس فقط الآداب العامة، فالأخلاقيات الفردية مرجع ثابت في الخيرية الأخلاقية، و عادة ما يميز في الفكر الأخلاقي بين زاويتين: عملية، ونظرية، تكون الأولى مادة بحثية للأخلاق النظرية، ومجالا معياريا تقاس به صحة، ونجاعة القيم الخلقية، وتظهر ضرورة الإشارة إلى النموذجين في الاختلاف الجلي بين المدارس الخلقية في التعاطي مع المفاهيم، ومع مفهوم الأخلاق ذاته، فالأخلاق العملية تمثل الممارسة الفردية، والجماعية للقيم الأخلاقية، فالفرق بين عالم النظر، وعالم الواقع مسألة بارزة في تاريخ الفكر، فعالم النظر متميز بكماله، وتعاليه، أمّا الممارساتي فسيكون نسبياً، ومتغيراً، ويطلق على الممارسة الجماعية للأخلاق بالعادات الخلقية، وقد أطلقت العادات الأخلاقية على الممارسات الجماعية للقيم الأخلاقية تمييزاً لها عن الممارسة الفردية للأخلاق، التي تترجم عند البعض بالأخلاقية Moralité فهي ممارسة خاصة بجماعة معينة، ونسبية، وقد اهتم بهذا اللون من الممارسات الأخلاقية العالم الاجتماعي الفرنسي لوسيان ليفي بريل(1) Lucien LévyBruhl.

أما الأخلاقية : moralité فهي سمة فردية، قيمة ايجابية أو سلبية من زاوية الخير والشر، تقال إما على الأشخاص، وإما على الأحكام، أو على الأعمال، وهي ممارسة فردية، وشخصية للقيم الخلقية، وفي اعتقادنا أن الأخلاقية محلّ، ومعيار نجاعة القيمة الخلقية، فالواقع أغنى من كل نظرية ، فالعادات الخلقية Moeurs موضوعية،

ص: 252


1- ليفي بريل (1939/1857) فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي.

ومستقلة عن الأفراد، وصاحبة سلطة، فقوة السلطة التي تمتلكها العادات الخلقية، تتضح بشكل جلي في التابوهات Tabout(1)التي تعيشها الجماعات البشرية.

وأهم سمة تميز الأخلاقية النسبية، التغير، فالممارسة الأخلاقية لدى الأفراد تختلف من فرد لآخر، على قاعدة التغاير القائم في الرؤية إلى الكون، فنظرة الشاب، وتطلعه إلى جماليات الحياة تؤسس لاختلاف بينه، وبين الشيوخ، وإذا اعتمدنا التجارب النفسية لوجدنا أن الطفل يعايش لحظة ينعدم فيها الشعور الأخلاقي، ثم يتدرّج الضمير عنده من مرحلة الخطأ إلى مرحلة الندم ، إلى أن يصل إلى قمة الشعور بالقيم الأخلاقية، والذي يصطلح عليه البعض من علماء الأخلاق بسيادة الحب، أي أن تصبح القيمة محل شوق واستقطاب من طرف الإنسان، فالأخلاقية تعبير عن الملمح النسبي في القيم.

أمّا الأخلاق النظرية، أو فلسفة الأخلاق، فهي دراسات تأصيلية، أو تربوية للقيم الأخلاقية، وقد تباينت الرؤى الفلسفية حول المسائل الأخلاقية، ومن بينها الاختلاف حول مفهوم الأخلاق كعلم، حيث تعدّدت وجهات النظر في تعريف هذا العلم تبعاً لاختلاف الغاية منه .. فأصحاب الإتجاه الاجتماعي مالوا إلى المرجعية اللغوية، فعرفوه «بعلم العادات». ومال وإتجاه آخر إلى معيارية العلم، ويعنون بذلك أن علم الأخلاق لا يبحث في أعمال الإنسان الإرادية، التي صارت عادات وتقاليد، من حيث هي أمور حاصلة في الواقع، وإنما يبحث في كيفية توجيهها صوب الطريق السوي، على نهج من قواعده وقوانينه، ثم يحكم عليها حسب المقاييس التي يضعها، وقد وردت لهذا العلم تعريفات عدة أخرى، منها أنّه «علم الخير والشر»، «علم الواجبات».. إلا أن هذه التعاريف وغيرها لا تمس إلا الجانب النظري لهذا العلم، لأن تحصيل قواعده لا يجعل الإنسان بالضرورة ذا أخلاق حسنة.

ص: 253


1- كلمة تابو من لغات سكان جزر المحيط الهادئ، وتعني المحرم أو الممنوع وقد تعني المقدس أحيانا، وهي تشير إلى الأشياء الممنوع على الفرد القيام بها من فعل أو قول لأن هذا يطلق الأرواح الشريرة الموجودة داخلها(والفكرة موجودة تقريبا لدى كل الشعوب البدائية)، وكان الكابتن جيمس كوك أول من ذكرها ونقلها للغرب، والكلمة نفسها موجودة في النصوص التشريعية في تونغا .

وتاريخ الفلسفة الخلقية يكشف عن محاولات تأسيسية، تجريدية، سعى من خلالها الفلاسفة إلى منح القيم الأخلاقية صوراً، وقوالب منطقية مجردة، متعالية، حيث كان القصد في ذلك البحث عن رؤية واحدة للمسار البشري، التي تستند في الأصل إلى وحدة الفطرة البشرية، في الأمل بالسعادة، والحلم بعالم خال من الألم، والهموم ، فالرؤية الكونية التوحيدية للجنس البشري، وللوجود ككل هي الحل لأزمة التنظير، فالنظريات الأخلاقية تؤرّخ بشكل عفوي لأزمات الحياة الأخلاقية في عصرها، فالبحث في.. أو عن الأسس النظرية العامة للفعل الأخلاقي يرتبط بالأزمة، فهي التي تولَّد الهمّة، والحقيقة تكون مرافقة للبحث.

واستقراء الفلسفة في مسارها الأفقي يكشف عن واقع الأزمة الأخلاقية التي حايثت الأخلاق، وقد أخذت هذه الحالة من المحايثة أوجها عدة، وفي مستويات عدة، أهمها الأصول المرجعية للقيم الأخلاقية، حيث يضعنا البحث عن جذور الأخلاق دور فلسفي يصعب علينا الخروج منه ، وما نود التنبيه عليه في هذه المحطة أنّ بعضاً من المفاهيم الأخلاقية، والقيم نتاج فئوي لا يمت بصلة إلى الأخلاق، إذ إن التمرُّد الواقع من الشريحة الواقعة تحت ضغط الطبيعة الماكرة التي تدفع بالكائن إلى الاستمرار في إرضاء نزواته الطبيعيّة، فالرضوخ للنفس يدفع الكائن إلى البحث عن مبررات سلطوية لطمس منظومة القيم، ومنها إضفاء القداسة الوهمية على كل سلوك أو قيمة مصطنعة، والذي جعل من المنظومة الأخلاقية تأليفا بين متناقضات يفترض تجديداً، أو تأويلاً أو تثويراً داخل هذه المنظومة.

والبحث في ثنايا الأنساق الفلسفية يكشف عن الخلاف الذي حايث الإجابة عن سؤال المصدر الذي تعود إليه الأخلاق، فالمدارس الذاتية في جميع العصور تقرّر، وتحاجج في إثبات فردية، وذاتية القيم الأخلاقية، وفي المقابل نجد المدارس المتعالية تدافع عن وجهة نظرها في موضوعية القيم، وكتب التخصص تزخر بذلك، كما ساهمت المدارس الدينية باعتقاداتها المتعددة، وبتوجهاتها المتباينة في تجريد الأخلاق، وسلبها البعد الذاتي الذي تحايث فيه الأخلاق الإرادة الإنسانية، فلا أخلاق

ص: 254

من دون حرية إرادة ووعي فالتجربة الأخلاقية تأصيل لحقيقة الأخلاق، وليس التنظير الذي تصبح الأفكار الأخلاقية في رفوف المكتبات، ويموت المؤلف فيه، بمجرد الكتابة.

وطرحت أيضاً نسبية القيم الأخلاقية بين المجتمعات البشرية، سؤالاً مركزياً عند النخبة الفكرية للجماعات، والفلاسفة بحث فيه هؤلاء عن دواعي الاختلاف بين المعتقدات القيميّة، وقد كانت الرحلات التجارية عاملا من العوامل الذي كشف للفلاسفة، والنخبة العلمية ملامح الأزمة القيمية، والأخلاقية داخل المؤسسات المدنيّة المحليّة، حيث يذكر التاريخ رحلات سقراط، وكثير من فلاسفة الإغريق إلى مصر، فالنهل من علوم الشعوب وحكمتهم مسألة ضرورية عند عاشقي الحقيقة، ولذا نجد أنّ الفلسفة السقراطية نتاج للفلسفات السابقة إغريقية كانت، أو شرقية، أو بتعبير أدق نجد أدق نجد في ثنايا الفلسفة الخلقية السقراطية شذرات، وأصول، وحكم أخلاقية

سابقة.

من مظاهر الأشكلة اختلاف الفلاسفة حول مصدر، وطبيعة القيمة الخلقية التي يتعلّق بها الفاعل الخلقي بالطلب، وكانت صيغة المسألة في الشكل التالي هل القيمة الخلقية كصفة مطلبية متضمنة في الفعل الخلقي، أم خارج جوهر الفعل؟ وهل هي نتاج تجربة أخلاقية فردية؟ أم نتاج تراكمات قيمية تكوّنت بالعادة، والمألوف عبر التاريخ للمجتمع، فكانت الوجهات متعددة، ومتباينة في المدارس الخلقية، ففي البدء كان الإعلان عن ذاتية القيم مع جورجياس، وبروتاغوراس، ثم كانت الفضيلة، والمعرفة عنواناً لتجريد القيم، و قد أقصى سقراط حسب فريدريك نيتشه Nietzsche حق الجسد في بناء القيم الأخلاقية، بتمثله، لروح أبولو(1)، وحمله سيف سلطته فی حربه على حقوق الإنسان الذاتية، التي تبدأ مع الجسد، ثم كانت المذاهب الخلقية المتباينة في اعتقاداتها، وفي القول بذاتية القيم، أو موضوعيتها.

كانت مذاهب السعادة بأنواعها تعبيراً عن ارتباط القيمة بتجربة الفرد الأخلاقية

ص: 255


1- الاله أبولو إله الحكمة، والمعرفة في مقابل الاله ديونيسيوس اله المرح، والخمرة والشهوة.

الذاتية، بداية مع أفلاطون الذي جعل السعادة أو الخير الأمثل في التوازن، والانسجام بين الدوافع، والرغبات المتضاربة، وفكرته في العدل تؤكد ذلك، فالتوازن داخل الموجود ينتج النموذج، والرجل الفاضل، وكذلك الدولة النموذجية.

وبدأت مع أرسطو الرغبة في ضبط الدلالة الموضوعية للسعادة، بالتمييز بين طلب اللذة وطلب السعادة، فكانت السعادة عنده هي الخير الأعظم، الذي يتوخاه الكل، فأسس بذلك أرسطو لمبدأ الغائية في الحياة الأخلاقية، فكانت بذلك الأخلاق الأرسطية أخلاقاً تداعياتية Consequentialisme فالفعل الخلقي عند أرسطو - كما يقول توفيق الطويل -: «هو فعل يقترن في العادة بوجدان من المتعة الذاتية، ولكنّه يجاهر بأنّ الفعل الخلقي لا يكون خيراً لأنه يحقق متعة، بل يقول أنه يحقق متعة لأنه خیر..»(1)ومع مذاهب المنفعة بدأت الطبيعة البشرية في اعتلاء مملكة الإنسان، بعيداً عن سلطة العقل المتحجر في قوالب منطقية مجردة، فكانت المدرسة القورينائية،

والأبيقورية، وأخيراً مذاهب المنفعة العامة.

الإيتيقا: Lethique

«يتساءل المفكر التونسي عبد العزيز العيادي عن دواعي الاستعمال الجديد، فهل هی «شعار نرفعه عالياً لنستعيض به عن لفظ الأخلاق الذي كثيراً ما يرتبط في لغة التداول اليومي كما في الكتابات العالمة إمّا بدلالة التأزّم، وإما بدلالة تحقيرية حيث تصبح الأخلاق مرادفة للمواعظ والأوامر التي يأتيها الغافلون عن كثرة التحولات؟ هل الإتيقا تعبير عن حالة الاستنفار والمسائلة والضيق ومن ثم هي استئناف لتعبئة الوعي الأخلاقي المنهك ؟»(2).

في الاشتقاق

الأصل التداولي لكلمة إيتيقا éthique في اللغات اللاتينية والأنجلوسكسونية،

ص: 256


1- توفيق الطويل، الفلسفة الخلقية، دار النهضة العربية، مصر الطبعة الثانية 1967 ص: 66.
2- عبد العزيز العيادي، ايتيقا الموت والسعادة، دار صامد للنشر تونس، الطبعة الأولى 2005 ص: 24.

هو الكلمة اليونانية éthicos التي تشتق من كلمة éthos وهي كلمة مرادفة لكلمة moralisاللاتينية، المشتقة من Mores وكل من Ethos و Mores يؤدّيان مفهوماً moralis مشتركاً هو العادة.

ولكن جاکلین روس [Jacqueline Russ] تقيم فرقاً جزئياً بين الإيتيقا éthique والأخلاق morales فكلمة éthé la باللغة الإغريقية تعني العادات الأخلاقية، وMores تعني الأعراف(1).

ترجم العرب éthos بلفظة الأخلاق وأشار أرسطو إلى الفرق بين الإيتيقا والأخلاق بقوله : «فإما الفضيلة الإيتقية فهي ربيبة العوائد الحسنة..» أي الأخلاق كما فكر بها العرب مثل مسكويه أو الفارابي نفسه. وعليه، فالإيتيقا ليس خلواً من كل أخلاق Moeurs لكنّها ضد الجهاز الخلقي moral الذي تفرضه ذاتية الإكراه سواء بالدين أو بالدولة.

يتضح ... أن ثمة فرقاً شاسعاً بين ما يصطلح عليه بالأخلاق la morale من جهة أولى وما يصطلح عليه بالإتيقا éthique من جهة ثانية. فالإيتيقا عند «سبينوزا» مثلا، لا تفيد الأخلاق بقدر ما تفيد الفن التجريبي لأنماط الوجود، إنّها مجرد مشكل اختيار شخصي لنمط من أنماط الحياة، بقصدية جمالية الوجود، على اعتبار أنّ الإنسان هو من يأتي بالأخلاق إلى العالم لا العكس. وبخلاف الإتيقا فالأخلاق بما هي كذلك، «غريزة» تعم الكل ولا تقبل بالاستثناء ما دامت تعرض نفسها في صيغة قانون قبلي على الدوام.

من هنا وجب الفصل ما بين الإتيقا التي هي الإتيقا التي هي قانونية بالضرورة، لأنّها تحدّد الخير الحق (...) وتقوم على الاستقلالية الذاتية للكائن الإنساني الحر الذي يمارس مواطنته الكاملة، ولا يشعر بأي فرق سواء تجاه باقي المواطنين في وطنه، أو تجاه باقي

ص: 257


1- جاكلين روس، الفكر الأخلاقي المعاصر، ترجمة عادل العوا، عويدات للنشر والطباعة بيروت، ط/1. 2001 ص: 11.

ومواطني الدول الأخرى، (ونحن هنا نقترب أكثر من مفهوم المواطن الكوني الذي غدا يتحقق في ظل وسائل الاتصال التكنولوجية الأنترنت مثلا..)، وبين الأخلاق کلزوم وكأوامر تقتضي الطاعة، أي ما ينبغي أن يكونه الكائن لا وفق طبيعته وحريته الإنسانية، وإنما على وفق غايات ومبادئ تستند إلى معيار تيولوجي أو متعالي.

ويبدو أن المرجعية الاشتقاقية للمصطلح طرحت أمام الباحثين إشكالات عدة، أهمُّها الأصل الجماعي للأخلاق، فالأخلاق في صورتها الرهطية لا تمثل إلا جانباً من الجوانب، حيث تكون في صورتها الخارجية مظهراً من مظاهر النفاق الاجتماعي، على قاعدة التطابق الأنطولوجي بين الحقيقة الأخلاقية عند الذات، وفيها، وبين التمظهر الخارجي للقيمة في صورة الفعل، وباستقراء التاريخ نجد أن القيم الأخلاقية المجتمعية كانت دوماً عائقاً أمام التطوّر الحقيقي للقيمة الأخلاقية في الغرب على مستوى التجسيد الفعلي.

كما نلمس تحولاً ، وزحزحة دلالية عند الدهماء حيث تحولت الأخلاق الاجتماعية ذات الطبيعة النسبية، إلى منظومة متعالية، مجردة، التي طرحت أمام الفاعل الأخلاقي إشكالات عملية على مستوى ممارسة القيمة، فكانت لحظة انتقال للإيتيقا من مرحلة أخلاق العادة إلى أخلاق القيمة.

واستطاع المفكّر طه عبد الرحمن أن يفك بعضاً من خيوط الأشكلة التي تحايث اصطلاح الايتيقا، فالايتيقا: «كلمة إغريقية الأصل»[ايتوس] بمد الهمزة المكسورة، يقصد بها «الطبع»، أو الخلق الراسخ في النفس في صيغة القابلية، أو الهيئة التي نجدها في المعنى الآتي: «الصفة السلوكية، محمودة كانت أو مذمومة»، وهو لفظ قريب في النطق من لفظ اتوس بالهمزة المكسورة غير الممدودة ومعناه «العادة»(1).

فهي إذن تحمل دلالتين متقابلتين الطبيعة الراسخة، والعادة المتغيرة، أي القابلة للتشكل.. ومنه أخذت الدراسات التراثية العربية والإسلامية إشكالاتها الأخلاقية

ص: 258


1- طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، مرجع سابق، ص: 381.

فكانت المواقف الثلاثة في أصل القيم وتصنيفها، فكان: «القول بالطبع»، و«القول بالتعود»، «القول من ثمف بين الطبع والتعود» ويرجع هذا الموقف إلى القول بأنّ القابلية للخلق تكون بالطبع، في حين يكون الرسوخ في الخلق بالتعود(1).

ويفتح المفكّر طه عبد الرحمن باباً للسؤال في الأخلاق النظرية أو الإيتيقا، من حيث التأثيل، أي بالبحث في المرجعية الدلالية التي تؤسس عليها العبارات، أو الاصطلاحات، فالأخلاق النظرية تقوم على النظر، والذي يتضمن في جذره اللغوي على معنى الإبصار، وفي الاصطلاح على الفكر الذي يطلب الظفر بالمعرفة، وتكون المعرفة النظرية مقابلة للمعرفة الضرورية التي يراد بها المعرفة التي تقوم بالفطرة في نفس الإنسان.. وعليه تكون المعرفة النظرية ، أو النظر كخاصية دال على المعرفة الحاصلة بالاستدلال، وفي السياق الأخلاقي تكون الأخلاق النظرية أخلاقاً استدلالية قائمة على الحجة والبرهان، وباللغة المعاصرة تكون هذه الأخلاق مسلماتية، وليست أخلاقاً قابلة للمعايشة والتطبيق.

كما يلتفت الأستاذ طه عبد الرحمن إلى خاصية التجريد التي تضفى على الأخلاق، حيث تضع المتلقي أمام استقبال دلالة البعد عن العمل، والممارسة، فالمعنى الثابت الذي ينشئه المستمع للفظ التجريد هو المقابل لمعنى الممارسة، وعليه تصنف الأفكار، والنظريات التجريدية في خانة الأنساق الميتافيزيقية.

نلمس من خلال القراءة الأولية للدلالات المتضمنة في التعريفات المتعدّدة لكلمة إيتيقا Ethique صعوبة الوقوف على دلالة عامة، وقطعية للكلمة، وتكمن الصعوبة في التفرقة المقامة بين عالم النظر، وعالم الممارسة .

تطلق الإيتيقا على القواعد الأخلاقية اللامشروطة التي تحيل إلى توجه كانطي بين، أو إلى نظريات فلسفية مثل الأخلاق الأرسطية أو الأخلاق السبينوزية، فهي الدراسة الفلسفية ل- Morale للممارسات الأخلاقية، فهي من ثم النظرية النقدية ل-

ص: 259


1- الغزالي، إحياء علوم الدين، ج: 3 - ص 1440

Morale باعتبار هي المضمون العملي ل- Ethique. وتظهر الصعوبة بشكل جلي في تعريفات أندريه لالاند ل- الإيتيقا حيث نجدها تعبر عن البعد النظري للأخلاق تارة، وعن المنحى العملي تارة أخرى، «العلم الذي يتخذ من أحكام القيمة بما أنّها تفرق بين الخير والشر موضوعاً له وهي أيضاً : «مجموع القواعد المعمول بها في مجتمع معين وفترة معينة»(1). وأيضا : العلم الذي يتخذ السلوك البشري في علاقته بالأحكام التقديرية النظرية موضوعاً له، و هي العلم الذي يدرس أحكام القيمة»(2).

والأخلاق Morale عند زريفان طابع مصطنع، وبناء اجتماعي في سياق مجتمع محدد، وهي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد وبين هذا الأخير الخارج... تنظم السلوك البشري داخل المجتمع وتبلغ مداها حينما یتم استبطانها داخلياً من طرف الأفراد، وهي خطوة في اتجاه الإيتيقا ..(3)أما الإيتيقا Ethique: فهي التزام فردي عميق يتجاوزم مجرد الالتزام بما تعاقد عليه المجتمع (الأخلاق).

ومع المدرسة الوضعية المنطقية بدأت الإيتيقا مع لحظة المراجعة، فأصل الخلاف يكمن في الدلالات، والمدخل الأساس لضبط الدلالة هو اللغة، ولم يقف فلاسفة المدرسة عند حدود مراجعة المبادئ المنطقية، والأحكام فيها بل اكتسح التيار الوضعي مجالات أوسع، وكانت الأخلاق حقل مراجعة ونقد، فكانت أسئلة ما بعد الأخلاق، أو الميتا أخلاق، التي اهتمت بدلالة كلمة خير بدلا من الاهتمام بالخير، وهي ما عرفت مع الفيلسوف الإنجليزي جورج ادوادرد مور، الذي «رفض فكرة وجود علاقة تطابق مفهومي بين الخير ومختلف تحديداته»..(4)فالدلالة التي تحملها الأخلاق لا تخرج عن صنفين : نسبيّة ودلالة مطلقة.

الدلالة النسبية : ويقصد بها المفهوم الذي لا يطرح أي خلاف، ويمكن الاقتناع به

ص: 260


1- اندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية، ترجمة وتحقيق: خليل أحمد خليل، منشورات عويدات، بيروت، 2001.
2- جاكلين روس، الفكر الأخلاقي المعاصر ، ترجمة عادل العوا، عويدات للنشر و الطباعة بيروت، ط/1. 2001.
3- عامر عبد زيد الوائلي وآخرون، النظرية الأخلاقية، ابن النديم للنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2015، ص: 280.
4- مونيك كانتو، الفلسفة الأخلاقية، ترجمة جورج زيناتي، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت ط:1 2008، ص66.

بكل سهولة، وهو معنى بسيط، وساذج على حد توصيف الفيلسوف، والذي يظهر في التعريفات التالية: «الإيتيقا هي البحث عما هو خير»، و«البحث في ماله قيمة، ما له أهمية حقيقية»، و«البحث عن معنى الحياة»، أو « ما يجعل الحياة جديرة بأنّ تعاش»، أو «الطريقة السليمة للحياة»(1).

الدلالة المطلقة: وتظهر في الينبغية، والمطلوبية التي تستبطن الأحكام الأخلاقية: «كان عليك أن ترغب في التصرُّف على نحو أفضل» فهو حكم قيمة مطلق، متجاوز النسبيّة الثقافة، والمنحى الشخصي.

لا تخرج نظرة فتجشتاين عن الرؤية العامة للمدرسة الوضعية، فهي تنظر إلى الأحكام الأخلاقية من زاوية مغايرة لنظرتها في نظرية المعرفة، «.. فالأحكام الخلقية - عند المدرسة الوضعية - لا توصف بالصدق أو الكذب، لأنها تعبر عن رغبات وأحاسيس ومشاعر إنسانية فقط، ويترتب على ذلك... أن لا يمكن الحكم بالصدق أو الكذب على الحكم الأخلاقي، فإنّ كل وجهات النظر الأخلاقية في رأي الوضعية المنطقية مشروعة تماماً، وربما انحدرت إليهم هذه النظرة من جورج مور»(2).

أخذت الإيتيقا مع الوضعية المنطقية إذن سياقات جديدة تقاطعت فيها مع التجريبية المعرفية، والأخلاقية في اعتبار الواقع مقياساً، ومعياراً للصدق في الأحكام، ومع التعالي الإيتيقي، في القول بندية الأحكام الأخلاقية، وتجاوزها لمعايير التقييم، وهو ما يعبر عنه بما وراء الأخلاق أو ميتا إيتكس Ethics - Meta حيث اعتبر رواد مدرسة علم الأخلاق «علم الواجب ، وهذا ما دفعهم إلى هذا العلم الخال من الدلالة المعرفية، والسبب في هذا عدم حديثه حديثه عما هو قائم فعلاً، وإنما حول ما يجب أن يكون.. فهو لا يتصل بالواقع facts، ولا يتصف بالعلمية مطلقاً»(3).

ص: 261


1- ورد في دروس ومحادثات حول الاستيتيقا وعلم النفس والمعتقد الديني، منشورات غاليمار 1992،ص.146-143.
2- مابوت، مقدمة في الأخلاق، ترجمة ماهر عبد القادر محمد علي، دار النهضة العربية، بيروت، ص:16.
3- مابوت، مرجع سابق، ص: 17.

الفيلسوف بيري Ralph Barton Perry(1): أخذت الأخلاق منحى آخر، ومع وهذا يدل على خلفيات الأزمة في الثقافة الغربية، فالأخلاق مفهوم قائم مستمر على نحو موصول في العالم، أو على أية حال يوجد شيء مستمر من المناسب أن نخلع عليه اسم (الأخلاق)، ولا يوجد شيء أكثر تداولاً وشيوعاً، كما لا يوجد شيء أكثر غموضاً، من هذا اللفظ ..(2)ويبين الفيلسوف رالف بارتون بيري أسس الالتباس في مفاهيم الأخلاق، وإشكالاتها، من خلال مناقشة تحليلية، ونقدية لدلالات المفاهيم الأخلاقية المتعارف عليها، التي عدّها أخطاء ساهمت في انحراف الفهم، والتفسير الذي اجتهدت المذاهب الأخلاقية في إقامته، من خلال اللحاظ الآتية:

أولاً: يكمن في الربط بين الأخلاق والزهد، التي أزلّت بالباحثين، في دراساتهم الأخلاقية، حيث عدّ رجال الأخلاق الميول، والرغبات، والحاجات مسائل طبيعية، تعكس الأنانية، والتعلّق بالحياة، أي إنّها تجليات الجسد: أرضية النوازع، ومصدر المنازعات. لكن القول بلا أخلاقية الرغبة هو إنكار لجزء من الطبيعة البشرية، يقول بيري: «إنّ الأخلاق لا تتطابق مع أي ميل وقتي أو أي رغبة خاصة ولما كانت تحتاج إلى ميول تضبط وتنظم، فإنّ الواجب يحسب على أنّه يتطابق مع عدم الرغبة وإحلال السلبي مكان الايجابي، وكل مصلحة ترفع رأسها تعدعدواً أو على الأقل خطر، أو هذا ما يعرف بالزهدية أو النسكية»(3).

ثانياً: الزلة الثانية التي وقع فيها البحث الأخلاقي هي فكرة السلطانية، أو الولاء المطلق لسلطة القيم الأخلاقية، وهي ما تمثله أخلاق الطفولة، فالالتزام، والقبول بصدقية الأحكام، أو الأوامر، والنواهي، هو تنازل عن حق الفرد في الحرية، والاختيار، وحسب [ بيري] تحتاج السلطة التي نقدم لها الولاء مبررات لشرعيتها، وسلطتها، وعليه فالعلاقة بيننا، وبين هذه السلطة لا تخرج من جنس الانفعال العاطفي: الخوف،

ص: 262


1- فيلسوف أمريكي (1876-1957).
2- رالف بارتن بيري، آفاق القيمة، ترجمة عاطف سلام، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة 2012 ص: 123.
3- المرجع نفسه، ص: 125.

أو الرهبة، أو الحب.. وعليه تكون العلاقة بين القيمة والمريد، أو الفاعل الأخلاقي فاقدة للشرعية الأخلاقية التي تقوم على تعلّق الفاعل بالقيمة.

ثالثاً: يصطلح عليه بالناموسية والذي استشفه بيري من البحث الأخلاقي، يقول .. «الناموسية، وفيها تتطابق الأخلاق مع مجموعة من القواعد أو النواميس، فهي شبيهة بما يسمى في عالم القانون بإتباع حرفية القانون، وهي إحلال الحرف محل روح القانون أو قصده .. »(1).

فابتعاد القيم والقواعد الأخلاقية عن المرونة، التي تعود في الأصل إلى روح المعاني الأخلاقية، وغاياتها، المرونة التي تمنح القيم بعدها الإنساني، إذ يصبح التعامل مع القيم تعاملاً صورياً، شكلانياً، في حين أن القيم، أو القواعد الأخلاقية إذا أخضعت للبحث، والدراسة، تفقد القاعدة الأخلاقية صفة المطلقية التي أضفتها السلطة الاجتماعية عليها.

رابعاً: الأخلاق حقل فعل وممارسة قبل أن يكون نظرية مجردة، على قاعدة المطلبية، وليس في سياق التفسير، لأن الولوج في البحث عن العلّة المصدرية للآخر يوقعنا في دور فلسفي لا نخرج منه أبداً، فالفكرة سابقة للفعل، أو العكس مسألة نظرية لا تفيدنا بشيء، والأمر الواقع هو التسليم بوجود نمطين داخل الحقل الأخلاقي: الأخلاق العملية، والأخلاق النظرية.

الأصل في التباين الذي عرفته الدراسات الأخلاقية يكمن في التعددية المرجعية التي عرفتها الرؤية الأخلاقية، فقد ساهمت العقائد في بناء الجدل على مستوى المضمون الأخلاقي، وعلى مستوى المنهج، ونجد في تاريخ العقائد التوحيدية: اليهودية، والمسيحية، والإسلام اهتماما بالمسائل الأخلاقية، ولكن الملاحظ أنّها ترنّحت بين التعاطي الميتافيزيقي، والشرعي في الفكر الديني.

وأزمة الأخلاق الغربية عائدة إلى تمثلاتها الثقافية لمؤشرات مختلفة، حيث ورثت

ص: 263


1- المرجع نفسه، ص: 127.

المسيحية كثقافة الموروث اليهودي كشرائع، وكقيم أخلاقية، خصوصاً الأصيل منها، وأضافت إلى هذا التراث لمسات أخلاقية، وشرعية تجازوت فيها المسيحية المحرف من الموروث اليهودي، ولذا نجد أيضا هذا اللون من التباين في الرؤية للمسائل الأخلاقية، فالاعتقاد بالقانون الأخلاقي عند المسيحية يتعارض مع القول بحرية الإرادة الأخلاقية، يقول سيدجويك: «..أول ما ينبغي ملاحظته لطرافته هو فكرة الأخلاق باعتبارها قانوناً إيجابياً لجماعة ذات حكومة إلهية لديها قانون مكتوب قد فرضه إله بوحي إلهي، وأيّدته وعود وتهديدات إلهية قاطعة ..»(1). ونستشف من هذه العبارة اعتماد الأخلاق المسيحية فكرة القانون، أو القاعدة الملزمة، والذي قعد للموضوعية في القيم، المسألة التي شهدت خلافاً نظرياً بين الفلاسفة، والذي برز في مسألة ذاتية القيم والملفت في الدراسات الأخلاقية المسيحية اعتبار الله المصدر الأول، والخالق المطلق لكل شيء، التي كانت المسلمة المربكة للاستدلال العقلي عند المسيحيين، حيث وجد علماء اللاهوت أنفسهم في موقف محرج في تفسير ارتباط الشر بالخالق، والخير المطلق، وسنحاول الإشارة إلى بعض من هاته التصورات الأخلاقية في الفكر الأخلاقي المسيحي على قاعدة ارتباط القيم الأخلاقية في الغرب بهذا الموروث.

تبرز المسألة الأخلاقي في الفكر القروسطي من خلال التعاطي مع مسألة الشر، حيث ك اهتم فلاسفة العصر القديم، والوسيط، بالمسألة من حيث بعدها الأنطولوجي، ومصدرية الوجود، حيث سلمت المانوية بعنصرين : الخير، والشر، كحل لمعضلة أصل الشر، ولكن مع الفكر الديني بدأت تأخذ وجهة أخرى، وبما أنّ الله الخير المطلق أصل الوجود ككل، بدأت الإشكالية تزداد حدة، لأنّ التسليم بوجود الشر مسألة واقعية، واقتران الشر بالخير قديم وجوداً، الذي استدعى تفسيراً لأسبقيته لمبدأ الخير، أو اقترانه به، والذي يمنحه قدسية نابعة من أقديمته، لذا وجد القديس أوغسطين تفسيرات متضاربة في المسألة، لم تمنحه اطمئناناً معرفياً، يقول: «..

ومع

ص: 264


1- سيدجويك، المجمل في تاريخ علم الأخلاق، ج 1، ترجمة: توفيق الطويل، عبد الحميد حمدي، دار نشر الثقافة، الاسكندرية، الطبعة الأولى 1949 ص: 207.

ذلك لم أقتنع بالشر وبسببه كما هو مشروح وموضح. «مهما يكن، كنت أرى أنّه يتوجب عليّ أن ابحث عن سبب الشر، دون أن يقودني ذلك للاعتقاد بأنّ الله الثابت هو متغير، وهكذا فتشت عن السبب بكل أمانة، مع العلم بأنّ نوايا أو مقاصد الذين كنت لا أتفق معهم لم تكن حقيقية»(1).

فالانحراف الخلقي عند أوغسطين مرده إلى الإرادة الإنسانية، والنزوع نحو تحقيق السعادة البشرية، واصطدامها بحجاب الجهل.

أما القديس أنسلم فقد كان موقفه من الإرادة الإنسانية، تأسيساً لنظريته الأخلاقية، حيث يبرز تأثره بأوغسطين، وما يتميز به عنه قوله: «بأن آدم قد سقط تلقاء نفسه وبمحض اختياره الحر، وإن لم يكن بمحض حريته.. وبهذا يقيم تفرقة ضمنية بين الحرية التي تقابل الحتمية وحرية التحرر من عبودية الإنسان للخطيئة.. ويتميز أيضا بأطروحته القائلة بأنّ الحرية في إرادة ما هو حق لم تُفقد كليةً حتى عند الإنسان الذي يقترف الإثم، إنّها فطرية في الطبيعة العاقلة وإن كانت منذ خطيئة آدم لا توجد في الإنسان إلا بالقوة كالقدرة على النظر في مكان مظلم إلا إذا وجدت بالفعل بفضل من الله»(2).

وارتباط الفعل الخلقي بالإرادة الإنسانية مسألة بدهية في الحياة الخلقية، ولكن فی الاعتقاد الغربي المسيحي تصبح البرهنة على هذه المسلمة مسألة شائكة، وقد حاول رواد المنطق الغربي مقاربة المسألة في صورة منطقية، مثل ابيلارد(3)، إذ يؤسس الرؤية الأخلاقية على مبدأين: الخير في ذاته، ومبدأ النية والقصد.

الدلالات التي أخذها الخير في الاصطلاح الأخلاقي لا تخرج عن جنسين: خير في ذاته، وخير يُطلب لغيره، والذي يتبلور مع القديس توما الإكويني، حيث يظهر الأثر الأرسطي بارزاً في فكره الأخلاقي، ويعتقد ابيلارد أن التصور المتعالي للخير في ذاته في الفكر الأخلاقي الإغريقي يتقاطع مع التصور المسيحي للخير .. إنّ مفكري

ص: 265


1- القديس أوغسطين، الاعترافات : 3/7
2- هج سيدجويك، المرجع نفسه، ص 241.
3- بطرس ابیلارد 1142/1079.

الأخلاق من قدماء اليونان وهم يوصون بحب الخير لذاته مجرداً من الهوى أقرب في الحقيقة إلى المسيحية من التشريع اليهودي.. وقد كان هؤلاء الفلاسفة مثالاً في السيطرة على الرغبات الحيوانية وفي احتقار الأمور الدنيوية والولاء لمطلب النفس مما قد يشين أكثر رهبان عصره»(1).

أقامت العقيدة المسيحية فلسفتها الخلقية على مجموعة من المبادئ، يمكن إيجازها في مجموعة من الخصال الرئيسة، التي تتفرع عنها مجموعة من الأخلاقيات فی المعتقد المسيحي، التي حاول علماء اللاهوت التنظير لها، وهي:

الإيمان: تحيل دلالة الإيمان العقل إلى القبول، والتسليم بالقانون كحقائق متعالية، مما يفترض تعارضاً بينه، وبين العقل، وهذا ما يلاحظ على الإشكالات الفلسفية التي عرفت في المسيحية «آمن ثم تعقل» .. التي حاول فيها القديس أنسلم التوفيق بين الديالكتيكيين، واللاهوتيين في مسألة العلاقة بين العقل والنقل، فالإيمان المسيحية هو قوة الاستمساك بالأفكار الخلقية، والدينية، من دون النظر في قوة البرهان العقلي، والإيمان هو السبيل، والدليل إلى تمثل، وتجسيد الاعتقاد المسيح عليه السلام، فالإيمان في المسيحية هو نفسه الإيمان في العقائد الأخرى، يقول سيدجويك: «.. ليس ثمة فرق أخلاقي بين الإيمان المسيحي والإيمان اليهودي أو الإيمان الإسلامي..».

الحب: ارتباط الإيمان بالعمل لا يمر إلا عبر الحب، فالالتزام بالقيمة، والسعي نحو تجسيدها يفترض تعلقا بها، وعشقاً لها، وموضوع الحب في الأخلاق المسيحية هو الله،ثم يليه حب جميع الناس باعتبارهم تجليات الله، وموضوعاً للحب الإلهي، وسنرى مع فلاسفة المسيحية إسقاطات جمة لهذا الحب، على مستوى تقابلي، النفور من الشر، ومحاولة اجتناب الخطيئة، وهذه العاطفة الدينية، والأخلاقية بين المسيحيين هي المؤسسة لروح التكافل الاجتماعي، والإيمان به کواجب اجتماعي ملزم

ص: 266


1- ه . ج . سيدجويك ، المجمل في علم الأخلاق، مرجع سابق، ص: 214.

الطهارة: فكرة الدنس بصورتيه المادية، والمعنوية هاجس رافق المعتقد المسيحي، منذ البداية، وهي أوسع معنى من العفة، فالعفة تتناول طهارة الأعضاء، وسلوك الغريزة في مجراها الطبيعي من دون انحراف، أما الطهارة فهي الفضيلة التي تشمل قداسة الفكر، وطهارة المشاعر، وعفة السلوك، فالإنسان الطاهر طاهر في حواسه وفي خلجات قلبه، وفي أقواله، وفي نظرات عينيه وفي ملمسه وملبسه وأحاديثه وكل ما يتناول حياته الباطنية والخارجية معاً، الطهارة هي فضيلة مسيحية من عمل الروح القدس في المؤمن ولكنها تحتاج إلي جهاد وسهر ويقظة قلب.

وتستمد القيم، والخصال الأخلاقية من سيرة المسيح عليه السلام، التي تم بلورتها،وتأويلها حسب الطبيعة البشرية، التي تضفي على النصوص الشرعية، والتاريخية أخلاقيات ذاتية، ومن بين الصفات التي اتسمت بها الأخلاق المسيحية:

الطاعة والالتزام: شكل الالتزام، الامتثال لأوامر المسيح عليه السلام، أو القانون الشرعي، أو الأخلاقي، ولكن هذه الطاعة استثمرت من قبل السلطة في تمرير أطماعها، والذي نجده في التاريخ اليهودي من مرجعية تاريخية في إثبات سلبيات الطاعة العمياء، حيث اقتنع عامة المؤمنين في الديانة بخدمة الأحبار، والثقة المطلقة في أقوالهم، وأوامرهم، حيث أصبحت أقوالهم، وطلباتهم جزءاً من الأوامر الإلهية، وفي المسيحية برزت أيضا فكرة الصكوك، والتزكية من طرف القسيس، والرهبان لدخول عالم الملكوت، والذي لم يكن إلا مظهراً من مظاهر التخدير.

النفور من الدنيا: ارتبطت العقيدة المسيحية بالزهد، والنفور من ملذات الدنيا، وبهرجها، وهذا ما لوحظ على القسيسين، والرهبان، فاحتقار عالم الدنيا، انعكس على العلاقات المدنية في المجتمع المسيحي، فالأسرة ،قيد، وأسر للمؤمن، وربطه بعالم الأرض، وعائق على الارتقاء إلى عالم الملكوت، وهذا ما نجده عند المسيحيين الأوائل، مثل جوستین مارتیر justin martyr،وأوريجين origen وترتوليان، وسیبریان Cyprian ، وكان من النتائج المترتبة عن هذا الاعتقاد، أن نزعت : «الوطنية والإحساس بالواجب المدني تحت تأثير المسيحية إما إلى التوسع في حب إنساني

ص: 267

شامل للبشر جميعاً أو إلى التركيز في المجتمع الكنسي ، يقول ترتوليان: «إننا نعرف حكومة جمهورية واحدة هي العالم، ويقول أوريجين: إ«نّنا نعرف أنّ لنا وطناً أقامته كلمة الله»(1).

الصبر : من الفضائل العقلية والعاطفية، واقترن تاريخ القيم والأديان بالتأكيد على هاته القيمة، وقد أكد المسيح عليه السلام على اجتناب التعامل بالمثل، والرد على العنف بالعنف، إذ تؤكد الحكم المسيحية على ذلك، وقد جاء في هاته الصيغة: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ : عَيْنٌ بِعَينٍ وَسِنْ بِسِنٌ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لا تُقَاوِمُوا الشَّرَّ ، بَلْ مَنْ لَطَمَكَ عَلَى خَدِّكَ الأيمن فَحَوِّلْ لَهُ الآخر أَيْضاً . وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يُخَاصِمَكَ وَيَأْخُذَ ثَوْبَكَ فَاتْرُكُ لَهُ الرِّدَاءَ أَيْضاً. وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلاً وَاحِداً فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَين(2)«وقد أكد القديس أمبروز، وأغلب رجال الدين على وجوب احتمال الآلام لمنع إراقة الدم حتى في حالة الدفاع عن النفس.

الإحسان: قيمة عاطفية تقابل العدالة كقيمة عقلية، والمشهود به في تاريخ الإنسانية الحرص الحثيث للقديسين على ممارسة هذه الفضيلة، والأسماء تطول في المسيحية، ويتقاطع الإحسان مع الجود، والسخاء على الغير، وقد ساهمت هذه الممارسة الخلقية في إنماء ظاهرة التشارك الوجداني بين الأفراد، وهي قيمة رئيسة في بناء الوحدة، والتماسك داخل الأمة، أو داخل الدولة القومية، ولهذا نجد قيمة التعايش داخل المجتمع المسيحي بشكل قوي، وهذا يرتبط أيضا بنظرة المسيحية للثروة، فامتلاكها لا يمنح الشرعية للفرد على التمتع بها لوحده، بل من الواجب مواساة، ومساعدة الغير.

الخشوع: تسير فكرة الخشوع في المسيحية بطريقة عكسية مع الثقافة الإغريقية والرومانية التي تنطلق من تقديس الذات، وعزة النفس عند المواطن اليوناني، والروماني، فلا خنوع، ولا ركوع إلا للسلطة، والسلطة تؤسس مبادءها، وتشريعاتها وفقا لقيم المواطن، ففي الاعتقاد المسيحي الخشوع، وطلب الاستمداد من القوة العليا الغيبية أصل عقدي.

ص: 268


1- ه. ج . سيدجويك، المجمل في علم الأخلاق، مصدر سابق، ص: 219.
2- إنجيل متى الإصحاح 5: 39 العهد الجديد.

تشكّل هذه المسلمات المسيحية جزءاً من الشخصية الأخلاقية الغربية، فهي متعلقة بموروث روحي يمارس على الوعي الغربي مجموعة الزامات ضاغطة في الفعل الفردي، والجماعي، فلا يوجد فعل ثقافي خارج المحددات والأطر التكوينية العقل الجماعة، فالأخلاق الغربية حبلى بمتناقضات عدّة، حيث تظهر أثر العقيدة المسيحية في ظاهرة الحب، والتسامح، والإحسان عند الغرب، كما نجد أيضاً ظاهرة التقديس للمصلحة فردية كانت، أو جماعية، التي نعتبرها نتاجاً لرؤية ضيقة الأفق، تمخضت عن اعتقاد خاطئ في فهم العقل، والعقلانية.

يمكن القول إنّ الفكر الغربي في مجمله، قائم على رؤية للعقل، والعقلانية، إذ نجد أن العاقلية في تعريف الإنسان تحتل موقع الفصل النوعي لبني الإنسان، فهي الخاصية التي يسمو بها الإنسان عن باقي الموجودات، فالعقل هو جوهر، وبه تكتمل الإنسانية، وما يحسب للأستاذ إثارته لبعض التساؤلات حول العقل والعقلانية، فإذا كانت العقلانية سمة مطلوبة وليست وجودية أي وجوبية وكيف يمكن قراءة، وتوصيف الإنسان الطفل أو المبتدئ في اكتساب العقلانية، فهل ينبغي إقصاؤه وإخراجه من دائرة الماصدق الذي ينطبق عليه المفهوم، وعلى حد تعبير الأستاذ طه عبد الرحمن: «أضحى الجميع يتنافسون على نسبة العاقلية والمعقولية والعقلانية لما يقولون ويفعلون، لكي ينتزعزوا المشروعية لأقوالهم والتزكية لأفعالهم ..»(1)، وعملت الإيديولوجية على حذف العقلانية على الشخص الآخر، والذي يكون مخالفاً.

والعقلانية لا تعكس الإنسانية، فالفعل هو البديل لمصطلح العقل عند طه عبد الرحمن، ومعلوم أن الفعل لم يرتبط بشيء قدر ارتباطه بالأخلاق، فيتحدد تبعا لهذا أن التخلق مقابل للتعقل، كما يناقش فكرة أنّ الأصل في الأخلاق هو حفظ الأفعال الكمالية، حيث يستفاد من المعنى «..إنّ الأخلاق أفعال يتوصل بها إلى ترقية الإنسان إلى مراتب لا تدخل فيها هويته ولا بالأولى وجوده، أي أفعال تتعلق بما زاد على هذه الهوية وعلى هذا الوجود، وعلامة ذلك الاسم الذي اشتهر بالدلالة على الأخلاق

ص: 269


1- المرجع نفسه ص: 173

الحسنة، ألا وهو الفضائل فالفضيلة من الفضل، والفضل هو ما زاد على الحاجة أو ما بقي من الشيء بعد الوفاء بالحاجة . . »(1).

وإذا قرأنا الدلالة من خلال الغائيّة التي تملكها الأخلاق، أو من خلال الاصطلاح الذي تواضع عليها علماء اللغة، وفلاسفة الأخلاق، لوجدنا أنّ الأخلاق مجرّد خصوصيات عرضية لا تتعلّق إلا بالشكل، وبمرحلة في سُلّم الترقي للشخصية الإنسانية، ويُصبح الإنسان كائن مجرد من الأخلاقية في البدء، وفي التكوين، كما يضع الأخلاق في مستوى التخليق، أو بلغة فلاسفة الغرب: «الأخلاق المكتسبة، وطه عبد الرحمن في مشروعه، مشروع البحث عن آليات تراثية لتنظيم، وتحيين الهوية، الهوية المو هوية العربي، وهوية المسلم، هي المرمى الذي استقطبه الاستشراق، ومهدت له الأمة بمجموعها، فالأخلاقية كما يقول طه عبد الرحمن هي وحدها التي تجعل أفق الإنسان مستقلا عن أفق البهيمية، فلا مراء أن البهيمية لا تسعى إلى الصلاح في السلوك كما تسعى إلى رزقها مستعملة في ذلك عقلها، فالأخلاقية هي الأصل الذي تتفرّع عليه كل صفات الإنسان من حيث هو كذلك، والعقلانية التي تستحق أن تتفرع عليه كل صفات الإنسان من حيث هو كذلك، والعقلانية التي تستحق أن تنسب إليه ينبغي أن تكون تابعة لهذا الأصل الأخلاقي»(2).

والأخلاقية ليست في مستوى واحد، بل هي متغيرة، ومتفاوتة، فهي نتاج فعل إرادي، وتراكم ثقافي، يقول: «إنّ هذه الأخلاقية ليست رتبة واحدة، وإنما مراتب مختلفة، أدناها رتبة الإنسانية التي تكتفي بأخلاق مجردة لا يقين في دوام نفعها وحسنها، تليها رتبة الرجولة التي هي كمال الإنسانية، ثم رتبة المروءة التي هی كمال الرجولة، وأعلاها رتبة الفتوة التي هي كمال المروءة»(3).

فدلالة العقل لا تنفصل عن تاريخه وتتبع تاريخ العقل في الدراسات الفلسفية

ص: 270


1- طه عبد الرحمن، سؤال الأخلاق، ص: 53.
2- طه عبد الرحمن ، سؤال الأخلاق، ص: 14.
3- طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، ص: 189.

يسافر بنا إلى كثير من الدلالات، فهو تلك الملكة، التي نميز بها بين الصحيح والخاطئ، وتلك القدرة التي تؤهلنا لمعرفة الخير من الشر أيضًا، واعتباره - العقل - كقدرة وملكة سكونية طرحت عند طه عبد الرحمن كثيراً من التساؤلات، منها الاختلاف الحاصل في أنماط المعرفة، وهو «على الحقيقة - أي: العقل عقول شتى، لا فضلا عن الأفراد المختلفين أو الطوائف الكثيرة، وإنما فضلا عن الفرد الواحد.. فالعقل يتكثر من أجل جلب المنفعة لصاحبه، أما العقل الذي يجلب المضرّة لصاحبه فهو عقل متقلّل، وليس أبداً عقلا متكثرا »(1).

وإذا كان العقل متكثّرًا، أي إنّه متغير تبعا لنوع الموضوع، ولطبيعة الغاية، فإنّ أوجه العلم تكون أيضًا متكثرة، والعلم على نوعين: علم يطلب لذاته، وهو علم معرفة الله تعالى وصفاته، كالكمال، والجمال والوحدانية، كما جاء في قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ * وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ)(2)، وعلم يطلب تعلمه من أجل العمل به، وهذا النوع يسمّى العلم التطبيقي، وهو على نوعين: أولهما الأمور التي تؤدى بواسطة الجوارح، والأعضاء كالصلاة والصوم والحج، ويُدعى هذا العلم في علم الأخلاق بالفقه الأصغر ، ثانيهما: علم الأعمال الروحية والنفسية، كالأعمال التي تؤدى بواسطة القلب والجوانح ، وهو ما يسمى بالفقه الأكبر(3).

وعليه تكون العقلانية على قسمين: «..عقلانية مجردة من الأخلاقية، وهذه « يشترك فيها الإنسان مع البهيمة، وهناك العقلانية المسددة بالأخلاقية، وهي التي يختص بها دون سواه..... والصواب أنّ الأخلاقية هي مابها يكون الإنسان إنسانًا .. »(4)، فالهوية الإنسانية لا تتأسس على العقل بل على الأخلاق.

ولكن التقديس الذي منحه الغرب للعقل، من خلال أنطولوجيته أي إضفاء

ص: 271


1- طه عبد الرحمن، اللسان والميزان، المركز الثقافي العربي، المغرب الطبعة الأولى 1998 ص: 405.
2- سورة محمد الآية 19.
3- جوادي آملي، الحياة الخالدة في علم الأخلاق، دار الهادي بيروت، الطبعة الأولى 1996 ص ص : 10/9
4- طه عبد الرحمن ، سؤال الأخلاق، ص: 13.

البعد الجوهري المستقل له ساهم في انحراف التوجه الأخلاقي لديه، خصوصا ما تعلّق بازدواجية النظر إلى العقل، فالقول بعقل نظري، وعقل عملي أنتج تعارضًا بين المستوى النظري المجرد للقيمة، والفعلية الممارساتية للقيم، فالتغير، والنسبية عنوان مميز للفعل الخلقي، في مقابل التعالي والترانسدنتالية لمنظومة القيم، والرؤية البراغماتية (الذرائعية في الأخلاق) تعبر عن الأزمة، إذ تكون المصلحة، ومعيار التحقق وفقًا لمعايير ذاتية مقياسًا للحقيقة. الأخلاق الغربية بريادة الولايات المتحدة الأميركية تتعاطى مع القيم الأخلاقية داخل مجالها الاجتماعي بالمنظومة الإنسانية، أو بما تعرف بأخلاق المحبة، وتقديس الإنسان، ولكن أي إنسان؟! الغربي فقط، ولكنّها مع المجتمعات الشرقية تجعل من المصلحة القومية معيارًا رئيسًا لتعاملاتها القيمية.

ولتوضيح هذه الازدواجية نشير إلى زئبقيّة مفهوم الإنسان في الفلسفة الغربية، حيث تؤكّد القراءات أنّ ماصدق الإنسان في الحكم الغربية يصدق فقط على الرجل، وليس على المرأة، يقول إمام عبد الفتاح إمام متحدثًا عن روسو: «..«علينا أن نلاحظ بدقة أنّ كلمة الناس أو البشر التي يستخدمها بكثرة أو حتى كلمة الإنسان (وهي كلمة مضللة) التي كثيراً ما تخدعنا لا يقصد بها هنا سوى الرجل المساواة بين الرجال، والحرية للرجال، والعدالة من أجل الرجال وعبارة: ولد الإنسان حراً وهو الآن مكبل بالأغلال في كل مكان لم تكن تعني البشر جميعا رجالاً ونساءا، بل تقتصر على الرجال فحسب . ».(1)و في موقف جون لوك من المرأة أيضا تلاعبًا في الدلالة من خلال نظريته في الملكية، فالقواعد التي تؤسس حقوق التملك تبنى على قاعدة الاحتياج، وبما أنّ المرأة تابع للرجل انطلاقا من التراث الاجتماعي والديني، فهي مصداق الضعف، يقول: هناك مبدأين رئيسيين يحكمان نظرية «لوك» عن الملكية و المرأة هما ضعف بنية المرأة، فالرجل بما له من قوة بدنية «هو الأرقى والأقدر»، إنّ المرأة أقل من الرجل من حيث الفهم و الإدراك فإذا

ص: 272


1- إمام عبد الفتاح إمام ، روسو والمرأة، مرجع سابق ص 9.

كان أساس الملكية الخاص هو الجهد و الكد والتعب .. الخ.. وهو أمر لا تطيقه المرأة ولا تقدر عليه، وإذا كانت ملكية الأرض وفلاحتها هو الأساس في باقي أنواع الملكية، وهو ما يحتاج إلى جهد وتعب وقوة عضلية لا تملكها المرأة لهذه الأسباب كلها كانت الملكية أساسًا هي ملكية الرجل، ومن هنا فقد كان تركيز [لوك] على ضمان حق الرجل في الملكية ...(1). ويتبين لنا من خلال هذه النصوص مراوغة الفيلسوف في الخطاب، والذي يعكس ازدواجية الخطاب الغربي في كل المستويات الأخلاقية، والسياسية، فالتباين حول الحقيقة لا يبرر نفيها ، فعدم إيجاد الشيء لا ينفي وجوده، فالطرق إليها نسبية، ووجودها مطلق، واختلاف الفلاسفة راجع إلى طبيعة العلاقة بينهم وبين السلطة، وليس إلى آليات البحث، واعتبار الفيلسوف العقل المفكر للجماعة، فكرة تحتاج إلى إعادة نظر، لأنّ التنظير بكيدية لا يزيد المجتمع إلا بعداً عن الحقيقة.

ص: 273


1- إمام عبد الفتاح إمام، روسو والمرأة، مرجع سابق ص 128.

علم الأخلاق الوسطى عند أرسطو

اشارة

د. مصطفى النشار(1)

لاشك في أن أرسطو (384 - 322 ق.م.) هو المؤسس لعلم وفلسفة الأخلاق عموما، كما أنه صاحب أول مذهب وسطى في تاريخ الفكر الأخلاقي عبر التاريخ.

أولاً: موضوع علم الأخلاق ومنهجه:

حرص أرسطو كعادته وهو يؤسس أياً من العلوم التي أسسها أن يحدد موضوع الأخلاق كما حدد موضوعات العلوم الأخرى فكان بذلك هو المؤسس الفعلي لعلم الأخلاق رغم أن كتابات كثيرة سبقته في هذا المضمار شرقاً وغرباً؛ إذ كان المصريون القدماء رواد البحث الأخلاقي منذ فجر التاريخ الإنساني وربما كان حكيم مصر القديمة العظيم بتاح حوتب رائد الكتابة في الأخلاق في لوحاته التي فاقت الأربعين

ص: 274


1- أستاذ الفلسفة بكلية الآداب - جامعة القاهرة. اشار الدكتور الى كون ارسطو هو المؤسس الفعلي لعلم الأخلاق، وثم انه يؤكد ان كتابته عن ارسطو كانت تهدف الى الكشف عن النوع الأكمل والأفضل من أنواع السلوك الإنساني الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان في حياته فإن الخير هو ما يطلبه كل شيء في الوجود، لكن البحث عن طبيعة الخير فيقتضي التمييز دائماً بين الأفعال ونتائج الأفعال وكلاهما من الغايات التي يطلبها الإنسان في حياته. وبالطبع فإن الغاية أفضل من الوسيلة، والغاية تكون أفضل إذا ما كانت غاية في ذاتها وألا تتحول يوماً إلى وسيلة لغاية أبعد حتى ننتهي من سلسلة الغايات والوسائل إلى غاية الغايات التي يسعى الإنسان إلى تحقيقها في حياته التي تمثل الخير الأقصى له هي: السعادة! ونجد ان ارسطو كان حريص على مخاطبة العقل الواعي للإنسان وحرصه في الوقت ذاته على أن يكون الاقتناع والفعل هما جوهر الأخلاقية عند الإنسان.. المحرر

لوحة التي جمعت فيما سمي «بمخطوطة الحكمة»(1). كما كان للبابليين والهنود والفرس ولمفكري الصين السبق جميعاً في هذا المضمار. ولا شك في أن هذه الكتابات والآراء الأخلاقية جميعاً قد أثرت بشكل أو بآخر في إزكاء الوعي بأهمية القضايا الأخلاقية وإعمال التأمل فيما يجب أن تكون عليه الأخلاق الإنسانية في بناء مجتمع إنساني أفضل. وبالطبع فقد تلقف اليونانيون هذه الآراء وبلوروا من خلالها آراء ومذاهب أخلاقية بلغت قمتها فيما قبل أرسطو عند سقراط وأفلاطون. لكن الحق أن الكتابة في الأخلاق كعلم مستقل كان فضل السبق فيه موضوعاً ومنهجاً لأرسطو نفسه؛ فقد كتب أرسطو عدة مؤلفات كان أهمها وأكثرها دقة في التعبير عن الموقف الأرسطي الأصيل هو كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخوس»؛ ففي هذا الكتاب بالذات تبلور موضوع البحث الأخلاقي سواء اتخذ طابعاً علمياً أو اتخذ طابعاً فلسفياً نظرياً إنه البحث في السلوك الإنساني رصدا لما هو كائن وصعودا منه إلى بلورة صورة لما ينبغي أن يكون عليه هذا السلوك حتى تتحقق أسمى صورة للسعادة الإنسانية.

وفي ضوء ذلك يتحدد المنهج ؛ إذ إن الدراسة الوصفية التجريبية الراصدة لما هو كائن تلتزم حسب التعبير الأرسطي منهجاً استقرائياً وهذه هي نقطة البدء التي ينبغي أن يستند عليها فيلسوف الأخلاق الساعي إلى بلورة المبادئ الأولى والقواعد العامة التي ينبغي أن يلتزم بها الفرد حتى يكون سلوكه موافقاً للطبيعة الإنسانية الحقة.

إن الغرض الذي استهدفه أرسطو من كتابه هو الكشف عن النوع الأكمل والأفضل من أنواع السلوك الإنساني الذي ينبغي أن يسلكه الإنسان في حياته بحيث يحقق الخير الأقصى الذي وجد من أجله(2). ولما كان تحقيق هذا الغرض الذي يستهدفه الفيلسوف لا ينبغي أن يظل في إطار الكتب المؤلفة، بل ينبغي أن ينسرب في حياة الناس حتى يصبحوا فضلاء فيحققوا في حياتهم المثل الأعلى للإنسانية؛ فقد حرص أرسطو أن يبدأ من رصد ما هو كائن في سلوك الإنسان بمنهج استقرائي حتى يأخذ

ص: 275


1- انظر : بحثنا : بتاح حتب - رائد الفكر الأخلاقي في مصر القديمة، منشور بكتابنا: نحو تأريخ جديد للفلسفة القديمة -دراسات في الفلسفة المصرية واليونانية، مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة الطبعة الثانية.
2- انظر: أرسطو طاليس: علم الأخلاق إلى نيقوماخوس (ك - 1 ب 1 (ف1-8))، ترجمة أحمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة 1924، ص 167-170.

بید قارئه فينتقل معه وبه تلقائياً من معرفة ماهو شائع من صور السلوك الإنساني الذي يحقق السعادة من وجهة نظر الإنسان العادي، إلى معرفة نقائص السلوك وضرورة التحول من هذه السلوكيات الشائع أنها محققة للسعادة، إلى السلوك الأمثل الذي يحقق الخير الأقصى للإنسان بما هو إنسان.

ثانياً: التوحيد بين الفضيلة والسعادة:

إن الخير هو ما يطلبه كل شيء في الوجود ، فماذا يكون الخير بالنسبة للإنسان بما هو كذلك؟ إن الإجابة على سؤال كهذا يقتضي بداية البحث أولاً عن طبيعة الخير وثانيا عن المقصود بالخير وتفاوت البشر في ذلك.

أما البحث عن طبيعة الخير فيقتضي التمييز دائماً بین الأفعال ونتائج الأفعال وكلاهما من الغايات التي يطلبها الإنسان في حياته وعموماً فإن الغايات من النوع الثاني أفضل من النوع الأول إذ إن الفعل من النتيجة بمثابة الوسيلة من الغاية. وبالطبع فإن الغاية أفضل من الوسيلة، والغاية تكون أفضل إذا ما كانت غاية في ذاتها وألا تتحول يوماً إلى وسيلة لغاية أبعد فإذا سألت مريضاً مثلاً : لماذا تجمع المال! لقال لك إن غايته هي العلاج من المرض الذي ألم به. وإذا ما سألته وما غايتك من العلاج؟ لكانت الإجابة هي: الصحة، وإذا ما سألناه وما الغاية منالصحة، لكانت الإجابة ممارسة الحياة بشكل يحقق اللذة وإذا ما تساءلنا مرة أخرى. وما الغاية من هذه اللذة وممارستها لكانت غاية الغايات التي لا يمكن اعتبارها وسيلة لغاية أبعد هي : السعادة!

إن أي فعل إنساني إذن له غاية، وكل غاية تحقق تنقلب في لحظة ما إلى وسيلة لتحقيق غاية أبعد حتى ننتهى من سلسلة الغايات والوسائل إلى غاية الغايات التي يسعى الإنسان إلى تحقيقها في حياته التي تمثل الخير الأقصى له

هي: السعادة!

إذن الخير الأقصى هو السعادة، تلك إذن غاية غايات أي فعل إنساني كما

ص: 276

أجمعت على ذلك آراء الناس العامة والخاصة(1).وهنا يجدر التساؤل عن: ماهية السعادة.

وهنا يبدو الخلاف بين الناس واضحاً؛ فعامة الناس عادة ما يرون أن السعادة هی حياة اللذة أو حياة الجاه والسلطان أو حياة الثروة والمال. أما الخاصة وعلى رأسهم الفلاسفة كأفلاطون وأتباعه مثلاً فيرون العكس تماماً فهم يعتقدون أن كل هذه الأشياء ليست خيراً في ذاتها وإنما تستمد خيريتها من مبدأ أعلى وأن هذا المبدأ المثال عند أفلاطون هو الخير وهو علة كل خير آخر.

إن هذا الخلاف الشاسع بين آراء العامة والخاصة حول ماهية السعادة هي ما جعل أرسطو يقرر أن حل مثل هذا الأشكال إنما يبدأ من البحث عن الخير الأقصى مما هو بين لدينا وليس مما هو بين بذاته. فأرسطو إذن يبدأ من البحث في آراء عامة الناس لأنه هو الواقع الذي يعيشونه وهو واضح أمامنا، في حين يعدّ أن البين في ذاته أو

المثال أبعد عن مداركنا البشرية وهو أكثر تجريداً مما ينبغي(2).

إن نقطة البداية التي ينطلق منها أرسطو هو حياة الفضيلة كما تتجلى في سيرة الرجل العادي الفاضل نفسه أياً كانت رؤيته للسعادة فإن كان يرى أن الفضيلة المحققة للسعادة هي اللذة أو الجاه ناقشناه فيما يتصور، فإن اللذة إذا كان مقصودا بها كما هو شائع عند العامة اللذة الحسية لكشفنا له بداية أنها لذة وقتية ويعقبها الألم فضلا عن أنها لا تحقق ماهية الإنسان ووظيفته الأسمى. أما القائل بأنها في الجاه أوضحنا له أنه وضع سعادته في يد غيره، إذ إنها هنا لدى مانح الجاه أكثر مما هي لدى ممنوحه . ثم إن الجاه هو من الفضيلة يعد في منزله الجزاء أو المكافأة أي إنه الجزاء الذي يصيب من اختار حياة الفضيلة؛ ومن ثمّ فحياة الفضيلة متقدمة على هذا الجزاء أو تلك المكافأة!

ولما كانت صور البحث عن السعادة مختلفة ومعانيها مختلفة رغم أن الجميع

ص: 277


1- نفسه : (ك - 1 ب 1 (ف 7-8))،الترجمة العربية، ص 176-177.
2- أرسطو طاليس: نفس المصدر (ك - 1 ب 2 (ف2))، الترجمة العربية، ص175.

يرى أنها الأحرى باسم الفضيلة، فالأجدر بنا أن نتساءل بداية لا عن معنى السعادة، بل عن معنى الفضيلة فإذا ما أدركنا ماذا تعني الفضيلة بالنسبة لطبيعة الإنسان ككل، أدركنا من ثم ما هی الصورة الحقيقية للسعادة الموافقة للفضيلة والموافقتان معا للطبيعة الإنسانية.

إن مصطلح الفضيلة Arête - Virtue عند اليونانيين يعني الميزة أو الخاصية المثلى Excellence التي يتميز بها الشيء، فكونك فاضلاً يعني كونك ممتازاً في الفعل الذي يميزك عن غيرك، فأخيل عندهم كان رجلاً فاضلاً باعتباره كان المحارب الممتاز (البطل)(1).

وعلى ذلك فخير الإنسان ككل هو عبارة عن كمال نفسه الناطقة بأدائه وظيفته الخاصة على أكمل وجه فإذا كان ما يميز الإنسان وخاصته المميزة هي أنه ذلك الكائن الناطق - المفكر فإن معنى ذلك أن فضيلته تبدو حين يمارس هذه الوظيفة وكلما اقترب من الكمال أداء هذه الوظيفة كلما ارتقى في سلم الفضائل حتى يحقق أسماها وأعلاها طوال حياته وليس لفترة قصيرة منها(2). إن الفضيلة الإنسانية إذن بوجه عام التي تحقق سعادته هي فعل من أفعال النفس العاقلة وليست فعلاً من أفعال الشهوة أو اللذة. وهنا يبدو المقصود الأولى للفضيلة عند أرسطو.

ثالثاً: معنى الفضيلة وأنواع الفضائل:

(أ) معنى الفضيلة:

إن الفضيلة هي في المقام الأول فعل من أفعال النفس وليس البدن وبما أن جزئي النفس الإنسانية أحدهما ذو عقل والآخر محروم منه(3)، فوجب أن يتحكم القسم العاقل في القسم غير العاقل حتى تبدو أول صور الفضيلة عند الإنسان لأن «الجزء

ص: 278


1- Lear (Jonathan): Aristotle - The Desire To Understand. Cambridge University Press، 1988، P.153
2- أرسطو طاليس: نفس المصدر ( ك - 1 ب 4(14-16)، ص194-195. وانظر كذلك ماجد فخري، نفس المرجع ، ص 106
3- أرسطو طاليس : نفس المصدر ( ك - 1ب -11ف9) ، ص 221 .

غير الناطق في النفس لا يوصف بأنه (فاضل) أو محمود إلا من حيث صلاحيته للخضوع للجزء الناطق فيها، أو من حيث خضوعه بالفعل له»(1).

إن للقسم العاقل عند الإنسان مهمة مزدوجة حيث يميز فيه أرسطو بين الجزء ذي العقل على الخصوص وبذاته، وبين الجزء الذي يستمع للعقل كما يستمع لصوت الأب الرحيم(2)، وعلى أساس هذا التمييز يميز بين نوعين من الفضيلة، فضائل عقلية وفضائل أخلاقية(3)؛ العقلية تكاد تنتج دائماً من تعليم، إليه يسند أصلها ونموها والأخلاقية تتولد على الأخص من العادة والشيم»(4). وهنا يكشف أرسطو عن أن الفضيلة ليست بالطبع فقط، كما أنها ليست مكتسبة فقط؛ إن الفضيلة ليست فينا بفعل الطبع وحده - وليست فينا كذلك ضد إرادة الطبع»(5).وبهذا يرفض أرسطو آراء كل القائلين بأن الفضيلة فطرية في الإنسان كسقراط وأفلاطون، فنحن لا نولد فضلاء وإن كان لدينا بالطبع الاستعداد الطبيعي لنكون كذلك، وبداية الطريق هي أن نتعود منذ الصغر على سلوك طريق الفضيلة، وهذا التصور هو ما ينميها فينا ويتم وجودها.

وإذا كانت النفس الإنسانية مؤهلة بالطبيعة لممارسة انفعالات شتى وشهوات شتی تتراوح بين اللذة والألم فإن الفضائل تبدأ في النفس حينما نتجنب الإفراط في اللذة أو الألم ونتعود على ممارسة السلوك الوسط كعادة حتى تتكون لدينا ملكة الفضيلة(6).

إن كل ما سبق مجرد تمهيد لتعريف الفضيلة إذ إنه لا يكفي أن نعرف ماهية النفس العاقلة ومهامها كما أنه لا يكفي أن نعرف أن الفضيلة ليست طبعاً نخلق به، بل تتولد فينا عن طريق الاستعداد والتعود على السلوك الفاضل متجنبين الإفراط في انفعال اللذة أو انفعال الألم.

ص: 279


1- أرسطو طاليس: الأخلاق الكبرى (ص 1206 ب (19).نقلاً عن: جورج سارتون« تاريخ العلم، ص 3، ص 325 .
2- أرسطو : الأخلاق إلى نيقوما خوس (ك - 1 ب 11 (ف19))، ص 224.
3- نفسه (ك - 1ب - 11ف20))، ص 224 .
4- نفسه : (ك - 2ب - 1 (ف1))، ص 225.
5- نفسه : (ك - 2 ب 1 (ف3)) ، ص 226 .
6- نفسه: (ك2 - ب 5 (ف - 1 ف6))، ص 240-242 .

إن معنى الفضيلة يرتبط عند أرسطو بحسب المعنى الأصلي للفظ كما سبق أن أشرنا بفكرة الوظيفة، فكلما أحسن العضو أو الكائن أداء وظيفته كلما كان أكثر فضيلة؛ ففضيلة العين كون العين طيبة وأنها تؤدي وظيفتها كما ينبغي لأن لفضيلة العين الفضل في أن يحسن الإنسان النظر، كذلك الأمر إن شئت بالنسبة لفضيلة الحصان فإنها هي الفاعلة في أن الحصان جواد وفي أنه سريع العدو، أيضاً أن يحمل فارسه وأن يقاوم صدمة الأعداء»(1).

وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لجميع الأشياء؛ فالفضيلة في الإنسان تكون هي تلك الكيفية التي تصيره رجلاً صالحا، رجل خير والفضل لها في أنه يعرف أن يؤدي العمل الخاص به(2). إذا كان ذلك هو المعنى العام للفضيلة سواء بالنسبة للأعضاء أو الكائنات الحية وكذلك بالنسبة للإنسان فما هو طبيعتها الحقيقية لدى الإنسان بما أنه يتميز عن كل الكائنات بالعقل؟!

(ب) الفضائل الأخلاقية ونظرية الوسط:

هنا يلجأ أرسطو إلى تحليل الكيفية التي يمكن للإنسان العاقل بها أن يلتقط طبيعة الفضيلة عن طريق فكرة الوسط الحسابي ؛ ففي «كل كم متصل وقابل للقسمة يمكن أن تميز ثلاثة أشياء: الأكثر ثم الأقل وأخيراً المساوي وهذه التمييزات يمكن أجراؤها إما بالنسبة للشيء نفسه وإما بالنسبة إلينا فالمساوي هو نوع من الواسطة بين الإفراط بالأكثر والتفريط بالأقل. إن الوسط بالنسبة لشيء ما هو النقطة التي توجد على بعد سواء من كلا الطرفين التي هي واحدة وبعينها في كل الأحوال. أما فضلا عن الإنسان، بالإضافة إلينا فالوسط هو هذا الذي لا يعاب لا بالإفراط ولا بالتفريط »(3).

إن الوسط بالنسبة إلى الإنسان إذن هو الذي لا يعاب لا بالإفراط ولا بالتفريط وإذا كان هذا الوسط حسابياً يقاس بالعدد بالضبط، فإنه بالنسبة للإنسان يعد وسطا

ص: 280


1- نفسه : (ك2-65 (ف2))، ص 243-244.
2- نفسه: (ف3)، ص244.
3- نفسه: (ف5)، ص244.

تقديريا قد يختلف من إنسان لآخر ومن ثم فكل إنسان عالم وعاقل يجهد نفسه في اجتناب الإفراط من كل نوع سواء أكانت بالأكثر أو بالأقل ولا يطلب إلا الوسط القيم ويفضله على الطرفين»(1).

وإذا ما طبقنا هذا المفهوم للوسط على الفضائل ، لوجدنا أن الفضيلة الأخلاقية التي تختص بالتحكم في انفعالات الإنسان وأفعاله تعني أن يتحكم الإنسان عن طريق عقله الواعي في أفعاله وانفعالاته فيتجنب كلا من الإفراط والتفريط ويلتزم الوسط القيم باستمرار ومن دون انقطاع(2).

إن الفضيلة الأخلاقية على وجه الإجمال هي بحسب تعبير أرسطو «وسط بين رذيلتين إحداهما بالإفراط والأخرى بالتفريط»(3). فأي فضيلة تكمن في إدراك هذا الوسط القيم بین طرفین كلاهما يمثل رذيلة ينبغي تجنبها. وإن كان هذا هو التعريف العام الذي ينطبق على إجمالي الفضائل الأخلاقية كما سنفصل بعد قليل، فإن أرسطو قد أدرك عدة نقاط هامة ينبغي ألا تفوتنا كما فاتت على كثير من نقاده الذين لم يهتموا بها ومن ثم نقدوه على ذنب لم يقترفه وعلى استثناءات لم يفعلها وهاكم بعض هذه النقاط :

أن ذلك التعريف السابق للفضيلة على أنها في الوسط القيم ليس معناه التقليل من شأن الفضيلة فقد جاءت حسب التعريف هكذا، لكنها بالنسبة للكمال وللخير

فالفضيلة هي طرف وقمة»(4)في نفس الوقت.

أن ثمة أفعالا خبيثة هي شر على طول الخط ولا يمكن أن تكون أطرافاً لفضائل كالزنا والسرقة والقتل، فهي أفعال مقطوع أنها خبيثة وجنائية وقبيحة»(5)

أن ثمة فضائل لا يصح أن نتصورها أوساط الرذائل، فهي فضيلة في ذاتها وضدها

ص: 281


1- نفسه: (ف8)، ص 246 .
2- انظر :نفسه: (ف9-13)، ص 246-247.
3- نفسه، (ف (15)، ص 248.
4- نفسه: (ف16)، ص 248.
5- نفسه: (ف17)، ص 249.

الرذيلة على طول الخط. خذ مثلاً فضيلة الصدق فهي ضد الكذب؛ فالكذب قبيح لذاته ومدعاة للوم في حين الصدق على ضد ذلك جميل ومدعاة للمدح(1).

وعلى أية حال فقد نجح أرسطو بواسطة هذا التعريف العام للفضيلة على أنها وسط بين طرفين مزدولين في تحليل الكثير من الفضائل الأخلاقية استغرق عرضها معظم فصول الكتاب الثاني والثالث، وكل فصول الكتاب الرابع، وإليك قائمة بأهم هذه الفضائل :

الشجاعة وسط بين التهور والجبن.

الاعتدال وسط بين الفجور والخمود.

السخاء أو الكرم وسط بين الإسراف والبخل.

الأريحية وسط بين الوقاحة والصنعة.

البشاشة وسط بين السخرية والفظاظة.

الصداقة وسط بين التملق والشراسة.

المروءة وسط بين صغر النفس والتفاخر بالباطل.

الحلم وسط بين سرعة الغضب والبلادة.

وقد خص أرسطو فضيلتي العدل والصداقة بالتحليل الوافي في إطار تحليله للفضائل الأخلاقية لأهميتها الشديدة لصلاح الأحوال الإنسانية ككل ليس فقط على صعيد الإنسان الفرد وعلاقته بالآخرين، بل أيضاً لأهميتها الشديدة في المجتمع المدني؛ فصلاح المجتمع المدني مرهون بأن تسود الصداقة بين الأفراد على النحو السليم، وكذلك تسود العدالة بأنواعها بين الجميع ولنقف مع كل منهما وقفة قصيرة.

ص: 282


1- نفسه: (ك4 - ب 7 - (ف6))، الجزء الثاني من الترجمة العربية، ص 43.

فضيلة العدل:

لقد اهتم أرسطو اهتماماً شديداً بهذه الفضيلة وربما كان ذلك بتأثير أفلاطون أو بتأثير فلاسفة الشرق القديم وخاصة كونفشيوس الذي ربما تأثر أرسطو به على وجه الإجمال في نظريته عن الفضيلة كوسط قيم(1). فالعدل يعد في نظر فلاسفة الشرق كما عند أفلاطون هو واسطة العقد في فضيلة الفرد كما في المجتمع فلو أن الفرد كان عادلاً مع نفسه لعاش حياة الفضيلة الحقة، ولو كان المجتمع مكوناً من أفراد من هذا الطراز لكان بالضرورة مجتمعاً عادلاً قام كل فرد فيه حاكماً كان أو محكوماً - على حد تعبير أفلاطون - بوظيفته على الوجه الأكمل(2).

على هذا النحو عبر أرسطو كذلك عن أهمية فضيلة العدل فقال: «إن العدل هو الفضيلة التامة» فهو ليس فضيلة مطلقة شخصية محضة، بل هو يتعدى الفرد إلى الغير وهذا ما يجعله أهم الفضائل وعبر عن ذلك بقول الشاعر «فما شروق الشمس ولا غروبها أحق منه بالإعجاب» وبالمثل اليوناني القائل «كل فضيلة توجد في طي العدل»(3).

وقد عرف أرسطو العدل بداية بأنه ضد الظلم، وعرف الظلم بأنه السير عكس القانون «فالظالم هو غير القانوني والمضاد لقواعد العدالة أي الجائر»، أما العادل فهو القانوني والمنصف(4).

فالعدل هنا والظلم مرتبطان بنوع واحد يمكن أن نطلق عليه «العدل القانوني»؛ فالخاضع للقانون ومن يلتزم به هو العادل ومن يخرج على القانون هو الظالم.

وهذا العدل القانوني هو في عرف أرسطو عدل توزيعي مبني على أن ثمة مساواة

ص: 283


1- انظر: حسن شحاته سعفان: كونفشيوس، مكتبة نهضة مصر، من دون تاريخ، ص ص 40-43 وكذلك؛ كتابنا: المصادر الشرقية للفلسفة اليونانية، دار قباء للطباعة والنشر، القاهرة 1997، ص 83.
2- راجع ما كتبناه عن نظريات أفلاطون الأخلاقية والسياسية في الجزء الثاني (السوفسطائيون - سقراط - أفلاطون) من تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي فى طبعاته المختلفة بالقاهرة.
3- أرسطو طاليس: نفس المصدر (ك - 5 ب - 1ف 15) ، الترجمة العربية، ط2، ص 60 .
4- نفسه : (ك - 5 ب - 2 ف 8) ، الترجمة العربية، ص 65.

في توزيع الاستحقاقات على الأفراد بحسب ما ينبغي أن يحصلوا عليه وفقاً لما يستحقون حسب أعمالهم وطبقتهم ومكانتهم في المجتمع ؛ ومن ثم يصف المساواة المقصودة هنا بأنها ذات تناسب هندسي، ومن ثم فالعدالة تكون في الحفاظ على هذا التناسب الهندسي في التوزيع ومن ثم يكون الذي يرتكب الظلم هو من يأخذ لنفسه أكثر مما ينبغي أن يأخذ ، والذي يقع عليه الظلم يأخذ أقل مما يحق له»(1)أن يأخذ.

إن العدالة هنا بوجه ما عدالة هندسية تقوم على توزيع الأنصبة بالمساواة بحسب التراتب الهندسي للأفراد وللوظائف وللمكانة الاجتماعية.

وثمة عدالة حسابية هي أيضاً عدالة قانونية لكنها تقوم على المساواة الحسابية بين الأفراد ؛ إذ ليس مهماً هنا «أن يكون رجل نابه قد جرد رجلا خامل الذكر من أمواله أو أن يكون خامل الذكر هو الذي جرد الرجل النابه. كذلك لا يهم أن يكون الذي ارتكب الزنى هو رجلاً نابه الذكر أو رجلاً خاملاً»(2)، فالقانون هنا يعامل الجميع على حد سواء فيأخذ من الظالم ليعوض المظلوم من دون اعتبار لمكانة الفرد أو وظيفته. إن القانون هنا على حد تعبير أرسطو لا ينظر إلا إلى الفرق بين الجرائم ويعامل الأشخاص كأنهم على أتم ما يكون من المساواة. وهو إنما يبحث فيما إذا كان الواحد جانيا وما إذا كان الآخر مجنياً عليه، وفيما إذا كان الواحد قد ارتكب أضراراً وما إذا

كان الآخر قد لحقه الضرر(3). وعلى ذلك فإن القاضي ملزم بأن يسوي هذا الظلم(4)بین المتخاصمين بصرف النظر عن أشخاصهم.

ولنلاحظ هنا أن تحليل أرسطو للعدالة والعدل رغم أنه قد تم في ضوء نظريته العامة في الفضيلة الأخلاقية باعتبارها وسطاً بين طرفين مزدولين، إلا أنه لا يلتزم بنص هذه النظرية من البداية، إذ بدا مما سبق أن العدل ضد الظلم. وهذا ما أدركه أرسطو

ص: 284


1- نفسه: (ك - 5 - 3 ف 9-10) ، الترجمة العربية، ص72-73.
2- نفسه (ك - 5 ب 4 (ف - 1ف3))، الترجمة العربية، ص 72-73.
3- نفسه: (ك-5 ب 4 - ف3))، ص 73 .
4- نفسه (ف4) ، ص 73.

في نهاية الباب الخامس من الكتاب الخامس من «الأخلاق إلى نيقوما خوس»، حينما قال : إنه إذا كان العدل وسطا فليس شأنه كالفضائل المتقدمة ذلك لأن مركزه الوسط في حين أن الظلم مركزه في الطرفين ويوضح ذلك حينما يعرف العدل بوجه عام قائلاً. إنه الفضيلة التي تحمل على أن يسمى عادلاً الإنسان الذي يتعاطى العدل في سلوكه باختيار عقلي حر والذي يعرف كذلك أن يجريه على نفسه بالنسبة للغير وأن يجريه بين أشخاص آخرين. أما الظلم فهو بالضبط ضد لكل ذلك بالنسبة للظالم فالظالم هو الإفراط بالأكثر والتفريط بالأقل معاً في كل ما يمكن أن يكون نافعاً أو ضاراً ولا يقيم وزناً للتناسب أبدا وعلى ذلك فالظلم هو إفراط وتفريط معاً(1).

إن الظلم إذن ممكن أن يكون إفراطاً أو تفريطاً فهو إخلال بمبدأ المساواة التي يقتضيها تحقيق العدالة سواء العدالة ذات النسب الهندسية أو العدالة الحسابية التي يتساوى فيها الجميع أمام القانون فالعدل التزام بالمساواة دائماً، الظلم إخلال بذلك سواء بالإفراط أو بالتفريط.

فضيلة الصداقة:

الصداقة في رأي أرسطو ضرب من الفضيلة وهي إحدى الحاجات الضرورية، بل الأشد ضرورة للحياة لأنه لا أحد - في رأيه - يمكن أن يعيش بلا أصدقاء ولو كان له مع ذلك كل الخيرات؛ إذ فيما ينفع المرء رغد الحياة إن لم يكن ممدوحا من أناس يحبونه ويحبهم وكيف يمكن حماية تلك الخيرات إذا لم يكن هناك الأصدقاء من من يساعدون على ذلك. إن جميع البشر متفقون على أن الأصدقاء هم الملاذ الوحيد الذي يمكننا الاعتصام به واللجوء إليه في حالات البؤس وفي وقت الشدائد(2).

على هذا النحو عبر أرسطو بلغة واضحة بسيطة عن أهمية الصداقة وحاجة الجميع إلى الأصدقاء، وقد عبر عن وجهة نظر تحتاج إلى كثير تأمل حينما قال «إن الصداقة هي رابطة الممالك وأن المشرعين يشتغلون بها أكثر من اشتغالهم بالعدل

ص: 285


1- نفسه: (ك -5 ب 5 (ف15-17) ، ص 584.
2- انظر : نفسه (ك - 8 ب 1 (ف - 1 ف 3))، ص 219-220 .

نفسه»(1)وأن سيادة الصداقة بين البشر داخل المجتمع هو ما تطمح إليه كل القوانين حتى يمكن للمجتمع الاستقرار. وقد أنهى هذه الكلمات البليغة بقوله إنه «متى أحب الناس بعضهم بعضا لم تعد حاجة إلى العدل»(2).

وبالطبع فحينما تكون الصداقة بهذه الأهمية لديه، لا نعجب في أن يخصص لدراستها قسماً كبيراً من كتابه استغرق كتابين كاملين من الأخلاق إلى نيقوماخوس هي الكتاب الثامن والكتاب التاسع.

إن الصداقة تقتضي وجود طرفين تعارفا وتحابا، ولابد لهذا التعارف أو الصداقة من سبب وقد حصر أرسطو ثلاثة علل للصداقة؛ الخير واللذة والمنفعة(3)، وكل علة تحدث نوعاً من الصداقة ومن ثم فهناك ثلاث أنواع للصداقة أولها: صداقة الخير أو الفضيلة، صداقة اللذة، صداقة المنفعة.

وينتقد أرسطو النوعين الأخيرين من الصداقة؛ لأنه متى أحب الإنسان للفائدة والمنفعة فإنه لا يطلب في الحقيقة إلا خيره الشخصي، ومتى أحب الإنسان بسبب اللذة فهو لا يبغي في الواقع إلا هذه اللذة نفسها. وعلى الوجهين فإنه لا يحب من يحبه من أجل ما هو في الواقع بل هو يحبه لمجرد كونه نافعاً وملائماً»(4).

إن هذين النوعين من الصداقة ليس بصداقة حقيقية نظراً لأن كليهما لا يعامل فيه الصديق صديقه كغاية في ذاته، بل هو وسيلة لتحقيق غاية معينة في نفس هذا الصديق، فالأول صادق صديق بغرض الحصول على منفعة معينة، والثاني صادق صديقه بغرض الحصول على لذة معينة. وبمجرد أن يتحقق الغرض تنتهي الصداقة فهي إذن ليست صداقة محبة في الصديق لشخصه وإلا لدامت هذه الصداقة واستمرت. إن ارتباط الصداقة بتحقيق منفعة أو لاقتناص لذة إنما يعني تغير الصداقات وتبدلها

ص: 286


1- نفسه (ف4)، ص221.
2- نفسه
3- نفسه: (ك -8 ب2 (ف-1ف 3)) الترجمة العربية، ط2، ص 224-226.
4- نفسه : (ك - ب - 3 ف2)، ص 227-228 .

لاجتلاب أكبر قدر من المنافع وتحصيل أكبر قدر من اللذة. ومن ثم فهي في رأي أرسطو ليست صداقات حقيقية بل صداقات عرضية وبالواسطة لأن الصديق يحب صديقه لا لأن المحبوب موصوف بالصفات الفلانية التي يحبها أياً كانت مع ذلكذلکهذه الصفات، بل هو لا يحبه إلا لأجل الفائدة التي يصيبها منه؛ هنا لمنفعة يطمع فيها، وهناك للذة يبغي تذوقها(1).

أما الصداقة الحقيقية، صداقة الخير أو الصداقة الكاملة بتعبير أرسطو، فهي صداقة الفضلاء الذين يتشابهون بفضيلتهم ويريدون الخير لبعضهم البعض من جهة أنهم جميعاً أخيار وكل منهم خير بنفسه ويريد في ذات الوقت الخير لصديقه. وهذه الصداقة التي تدوم وأنها استوفت شروط الصداقة الحقيقية ولم تقم لسبب وقتي تزول الصداقة بزواله. والصداقات الحقيقية المتينة من هذا النوع «نادرة جداً، لأن الناس الذين هم على هذا الخلق قليل جداً»(2). وليس ممكناً أن يكون المرء محبوبا من أناس كثيرين بصداقة كاملة، كما أنه ليس ممكناً أن يحب المرء أناس كثيرين في نفس الوقت(3).

إن الصداقة الحقيقية هي الصداقة الفضلى، صداقة الناس الفضلاء وهي تمثل الخير المطلق واللذة المطلقة اللذان ينبغي أن نحبهما وأن نسعى في تحصيلها على حد تعبير فيلسوفنا(4).

ولعل سائل يسأل هنا: كيف يرى أرسطو في الصداقة الحقيقية «اللذة المطلقة»، بينما أنكر من قبل صداقة اللذة؟!

وعلى هذا السؤال يجيبنا أرسطو من واقع ما قلنا من قبل عن صداقة اللذة، أن تلك لذة وهذه أخرى؛ فصداقة اللذة هی الصداقة التي هيستهدف الواحد من الآخر فيها لذة

ص: 287


1- نفسه : الترجمة العربية، ص228.
2- نفسه : (ك - ب - 3 ف 8) ، الترجمة العربية، ص231.
3- نفسه : (ك 8 - ب 6 - ف 1)، ص 240 .
4- نفسه : (ك 8 - ب 5 - ف4)، ص 237 .

حسية معينة وهي باعتبارها لذة حسية - جسدية سرعان ما تزول وتزول معها الصداقة. أما الصداقة الحقيقية فلذتها لذة معنوية في الأساس. لقد قارن أرسطو نفسه في نهاية حديثه عن الصداقة بین الصداقة والعشق؛ فقال أنه كما أن العشاق يلذون كل اللذة برؤية المعشوق، فكذلك يكون الأصدقاء فهم يطلبون أكثر ما يطلبون أن يعيشوا معاً؛ فالصداقة شركة وما يكون المرء لنفسه يكونه لصديقه وما يحب المرء لنفسه يحبه لصديقه. إنهم يشاطرون بعضهم المشاعر ويتمنون العيش معهم ومصداق ذلك أن بعض الأصدقاء يأكلون ويشربون معاً، وآخرون يلعبون معاً، وآخرون يصطادون معاً، وآخرون ينكبون معاً على الرياضات البدنية وآخرون يروضون أنفسهم معاً على دروس الفلسفة(1).

خلاصة القول إن الأصدقاء يشعرون باللذة حينما يلتقون لممارسة الهواية نفسها فيتبادلون الخير ومن أن يتعدى منهم على الآخر، ومن دون أن ترتبط صداقتهم بمنفعة أو بلذة وقتية زائلة. وعلى أي حال فقد مهد أرسطو بهذا الربط بين الصداقة الحقيقية واللذة المطلقة لحديث أرسطي سنختتم به هذا الفصل عن أن ثمة لذة تعلو كل اللذات وليست بلذة حسية ولا علاقة لها بما تعارف عليه الناس من لذات حسية. إنها لذة التأمل وربما أشار إليها أرسطو في نهاية الفقرة السابقة حينما أشار إلى صداقة الفلاسفة.

(ج) الفضائل العقلية وفضيلة التأمل النظري:

1- فضائل العقل العملي:

قلنا من قبل إن الفضيلة هي فعل من أفعال النفس، ولكن ليس أي نفس إنما هو فعل الجزء العقلي من النفس فقط حيث إنها تبدأ لدى الإنسان بمجرد أن يستطيع الجزء العاقل التحكم في الجزء غير العاقل والحد من اتجاهه نحو ممارسة الشهوات والاتجاه نحو اللذات الحسية. وتلكم كانت الفضائل الأخلاقية التي عرفها أرسطو

ص: 288


1- نفسه: (ك6 - ب 1 - (ف5-6))، ص 323-324.

عموما بأنها إدراك الوسط القيم بين طرفين مرذولين وسلوك طريقة. وفي مطلع الكتاب السادس من الأخلاق إلى نيقوماخوس يعود أرسطو إلى الحديث عن العقل مقسماً إياه إلى جزئين؛ أحدهما يختص بإدراك المبادئ الأزلية غير المتحولة، والآخر يختص بحساب التعادل بین الأشياء والموازنة بينها(1). ولا يخفى علينا أن هذا التمييز ذاته قد ورد في كتاب النفس حينما قرر أن العقل العملي يختص بإدراك المؤلم واللذيذ والتمييز بين الحسن والقبيح وذلك بغرض التنبؤ بالسلوك المستقبلي حيث يساعد هذا العقل الإنساني في طلب ما هو لذيذ والابتعاد عما هو مؤلم، أما العقل النظري فهوي ما يتعلق بالإدراك لذات الإدراك، إدراك المجردات(2).

وفي ضوء هذا التمييز بين نوعي العقل، يميز أرسطو فيما يبدو بين نوعين من الفضائل العقلية؛ فضائل العقل العملي وهو العقل الذي ليس مأخوذاً في ذاته الذي لا يحرك شيئاً، ولكنه العقل المتصل بالواقع ذلك الذي يتصدى لغرض خاص وينقلب عملياً(3). وهذه الفضائل من قبيل الفن والتدبير والتصرف بحكمة.

- فضائل العقل النظري:

وهي تقتصر على فضيلة التأمل التي من شأن الإنسان فيها الوصول إلى الحقيقة المجردة وإدراك الحق والباطل، فأرسطو يرى أنه بالنسبة للعقل التأملي المحصن والنظري الذي ليس عملياً ولا محدثاً فالخير والشر هما الحق والباطل لأن الصواب والخطأ هما الموضوع الوحيد لكل عمل من أعمال العقل(4).

ولما كنا قد أشرنا في الفصل الخاص بنظرية العلم لبعض ما يسميه أرسطو هنا بالفضائل العقلية حينما ميزنا بين العلم والفن، فإننا نقتصر هنا على إبراز جانب الفضيلة من الفن Techne؛ فالفن عموماً كما سبق أن أوضحنا هو ملكة إنتاج يديرها

ص: 289


1- نفسه : ( ك 6 - ب 1 - (ف5-6)، ص 115.
2- أرسطو : كتاب النفس (ك - 3ف 7 - ص 431ظ (1-20))، الترجمة العربية، ص 118-119
3- أرسطو طاليس: الأخلاق إلى نيقوماخوس (ك - 6 ب - 1 ف 12))، ص 117-118.
4- نفسه : (ك - 6 ب - 1 (ف10))، ص 117.

ويدبرها العقل لكنها لا تتعلق بالأشياء واجبة الوجود أو ضرورية الوجود أو بمعنى آخر لا تتعلق بإنتاج الماهيات. وإنما بإنتاج الأشياء التي يمكن أن توجد أو ألا توجد! ومعذلك فثمة فن جيد وثمة فن رديء فالإنتاج الجيد ناتج فن جيد، والإنتاج الفاسد. ناتج فن فاسد والفن الجيد هو ملكة إنتاج يديرها العقل الحق في حين أن الفن الفاسد أو عدم المهارة على الضد من ذلك ملكة إنتاج لا يقودها إلى عقل فاسد مطبقة على الأشياء المادية التي يمكن أن تكون خلافاً لما هو عليه»(1).

ومن فضائل العقل أيضاً «التدبير» الذي هو فضيلة أولئك الرجال القادرون على الحكم على الأشياء حكماً صحيحاً إذ نقول على بعض الناس أنهم مدبرون في مسألة خاصة بعينها حتى أحسنوا التدبير لبلوغ غاية شريفة بالنسبة للأشياء التي لا ترتبط بالفن كما عرفناه»(2)من قبل أن التدبير الجيد هو ما يعين سلوكنا فيما يتعلق بالأشياء التي يمكن أن تكون صالحة للإنسان»(3). إن التدبير هو فضيلة الإنسان العاقل الذي ينجح في البعد عن الانفعالات الوقتية للذة والألم والحرص على الموازنة بين الأمور حتى يمكن اكتشاف الأشياء الحسنة والقبيحة من ثم الاتجاه نحو الأشياء الحسنة والابتعاد عن كل ما هو قبيح. إن التدبير إذن لا يقتصر على مجرد العلم بالصيغ العامة، بل يلزم أن يعلم (المدبر) بجميع تصريف الأمور الجزئية لأن التدبير عملي، إنه يعمل والعمل يرد بالضرورة على الأشياء التفصيلية »(4). إن المدبر إذن لا يقف عند حدود العلم النظري بما ينبغي أو مالا ينبغي عمله، بل يكون لديه المعرفة الكاملة بالجزئيات والتفاصيل التي تمكنه من العمل وتقوده إليه فالتدبير في رأي أرسطو عمل محض(5).

إن هذه الفضائل العقلية العملية لا تنفصل إجمالاً عن ما أسميناه من قبل الفضائل الأخلاقية فالفن والتدبير والتصرف بحكمة وحذق كلها مما يمكن ضمه إلى تلك الفضائل الأخلاقية لأنها تختص عموماً بالتصرف إزاء العالم الخارجي وتتعلق

ص: 290


1- نفسه : ( ك - 6 ب 3 - (ف 3-4-5))، ص 123 .
2- نفسه : ( ك - 6 ب 4 (ف1))، ص 124.
3- نفسه: (ف6) ص 126.
4- نفسه: (ك - 6 ب5 - (ف10))، ص 132.
5- نفسه.

بالسلوك العملي في الواقع، وإن كانت هذه الفضائل العقلية هي أفعال يختص بها العقل من حيث هو عقل يحسب ويعادل بين الأشياء ويوازن بينها بغرض إنتاج شيء ما أو اختيار سلوك معين من بين بدائل مطروحة أمام الإنسان.

ولكن هذه الفضائل العقلية رغم أنها أفعال تختص بالعقل، إلا أنها لا تمثل الفضيلة القصوى للعقل بما هو كذلك فالعقل بما هو كذلك ليست وظيفته فقط التحكم في السلوك سواء في السلوك المتعلق برغبات الجزء غير العاقل من النفس أو فى أعمال العقل المتصلة بالعمل الخارجي. وإنما وظيفته الحقيقية هي إدراك الحقيقة القصوى للوجود . وفي هذا تكون فضيلته الحقيقية.

2- فضيلة العقل النظري:

عود إلى بدء؛ فقد أكد أرسطو بأن الفضيلة بمقتضى الإصطلاح اليوناني المعبر عنها هو أداء الوظيفة بحسب الغاية من وجود الكائن. وإذا كان الكائن هنا الإنسان؛ فوظيفته الأهم والأكمل والأكثر تحقيقاً لغايته في الوجود ليست الأكل أو الشرب أو الجري وراء اللذات الحسية وإشباع شهواته المختلفة، وإنما هي التأمل وإذا كانت الحياة السعيدة هى الحياة المطابقة للفضيلة »(1). وإذا كانت السعادة ليست إلا الفعل المطابق للفضيلة فمن الطبيعي أن تكون الفعل المطابق للفضيلة العليا أعني فضيلة الجزء الأحسن من ذاتنا «إنه في الإنسان العقل الفاهم المتأمل المعد ليأمر ويقود وليكون له فهم الأشياء الجميلة والقدسية حقاً»(2). ومن ثم فإن فعل هذا العقل المتأمل هو المطابق للفضيلة وفيه تكون السعاة الكاملة(3).

على هذا وصف أرسطو من خلال استنتاجاته الفلسفية والمنطقية والنفسية السابقة، فضيلة التأمل النظري وإدراك حقيقة الوجود وفهم الأشياء الجميلة والقدسية بأنها المحققة حقاً لسعادة الإنسان، بل فيها تكون سعادته الكاملة.

ص: 291


1- نفسه : (10 - ب 6 - (ف6))، الترجمة العربية، ج2، ص352.
2- نفسه : (ك - 10 ب 7- (ف1))، ص 353 .
3- نفسه.

والطريف أن أرسطو هنا أيضاً يعود للحديث عن اللذة ومدى اقترانها بالسعادة، كن ليس على طريقة دعاة اللذة الحسية، بل على طريقته هو . إن اللذة ليست فقط اللذة الحسية بل منها أيضاً اللذات العقلية وإذا كان الجميع يعتقدون وهو منهم أن اللذة يجب أن تخالط السعادة، فإن اللذات التي تجلبها الفلسفة أي التأمل في حقيقة الوجود لذات طاهرة ومؤكده؛ ففي العلم سعادة أكثر ألف مرة من طلب العلم(1). إن السعي إلى إدراك الحقيقة كما نعلم له طرق شتى عند أرسطو منها الحسي ومنها العقلي، لكننا لا نصل إلى إدراك العلم بمبادئ الوجود الحقيقية إلا بالتأمل والحدس وحينما يصل الإنسان الفيلسوف إلى هذا العلم يكون قد أدرك السعادة القصوى.

وقد أبدع أرسطو في الدفاع عن هذا الرأي الذي يوحد توحيداً يكاد يكون مطلقاً بین السعادة والفضيلة واللذة في مركب واحد هو التأمل وقد جاء دفاعه من زوايا أخلاقية ومعرفية عدة نذكر منها:

1. أن التأمل هو الذي يحقق للإنسان حياة الاستقلال، ففي الفضائل الأخرى كالعدالة والشجاعة والاعتدال يحتاج الإنسان العادل إلى أناس يقيم بينهم عدله وكذلك الحال في الشجاعة والاعتدال وسائر الفضائل الأخرى، بينما الفيلسوف المتأمل يحقق فضيلة، فضيلة التأمل بانكبابه على الدرس والفهم(2).

2. إن حياة التأمل هي وحدها الحياة المحبوبة لذاتها، لأنه لا ينتج من هذه الحياة إلا العلم والتأمل في حين أنه في سائر الأشياء التي فيها يجب الفعل يطلب المرء دائماً نتيجة غريبة عن الفعل كثيراً أو قليلاً(3). ففي حياة التأمل إذن يتجه فعل التأمل إلى تحقيق غايته من ذات التأمل ولا يحتاج المرء فيها إلى تحقيق غاية أبعد؛ حيث يحقق الفعل غايته من ذاته باكتشاف حقيقة ما يتأمله أو فهم ما يريد فهمه.

ص: 292


1- نفسه: (ك- 10 ب 7 - ف2))، ص 354.
2- انظر: نفس المصدر : (ك- 10 ب 7 (ف4))، ص 354.
3- نفس المصدر : (ك-10 ب 7 - ف 5)، ص 355.

3. إن حياة التأمل هي ما يحقق للإنسان أقصى قدر من الراحة والطمأنينة ومن ثم السعادة؛ وإذا ما قورنت بحياة السياسي أو المحارب لوجدنا أن حياة هؤلاء ليس فيها فراغ كما أنها مليئة بأسباب الاضطراب والقلق ورغم أن حياة السياسي والمحارب تفوق - في نظر كثيرين - الحيوات الأخرى في البهاء وفي الأهمية إلا أنها ليست إلا أفعالاً لا تحقق الاستقلال عن الناس وعن المجتمع بل هي من أجلهما ومن ثم فأفعال الساسة ورجال الحرب ليست مطلوبة لذاتها وإنما مطلوبة لتحقيق نتائج نافعة للناس وللمجتمع وهي في طريقها إلى تحقيق ذلك تصطدم بعشرات العقبات التي ينتفي معها الراحة ويعز معها الطمأنينة(1).

4. إن حياة التأمل هي الحياة الشريفة التي تناسب الأصل القدسي للإنسان. وإذا كان بعضهم ينصحون الإنسان ألا يفكر إلا في أشياء إنسانية باعتباره كائناً فانيا لا ينبغي أن يفكر إلا فيما هو فاني فإنه يرفض ذلك ويطالب الإنسان ألا يصدق هذا الكلام، لأن الحق عن ذلك بعيد ويلزم الإنسان أن يخلد نفسه بقدر ما يمكن(2). فهو يرى أن حياة التأمل هي الحياة الأكثر قداسة نظراً لأنها تشبه حياة الإله الذي هو عقل وعاقل ومعقول . ولما كان الإنسان بإمكانه أن يحيا حياة التأمل فلما لا يحياها مقلداً حياة الإله فضلاً عن أن هذه الحياة حياة التأمل هي التي بموجبها يمكن للإنسان أن يصل إلى إدراك الإله فيكتسب في حياته خلوداً هو أليق به نظراً لأنه الكائن الوحيد الذي يمكنه إدراك وجود الإله بعقله المتأمل القادر على مفارقة هذا العالم ليدرك ما وراءه.

5. إن حياة التأمل هي إذن حياة السعادة الكاملة، نظراً لأنها تشبه حياة الآلهة؛ إننا نفترض دائماً بلا جدال أن الآلهة هى أسعد الكائنات وأوفاها حظاً ولما كان الفعل الأليق بالآلهة والذي يحقق السعادة الكاملة هو فعل تأملي محض(3)،

ص: 293


1- انظر: نفس المصدر : (ك - 10 ب - 6ف7)، ص 355-356 .
2- نفس المصدر : (ك - 10 ب - 7ف 8) ، ص 357.
3- نفسه : (ك - 10 ب 8 -ف 7) ، ص 360-361.

فإن الفعل الذي يقترب عند الناس من ذلك الفعل هو الفعل الذي يكون أكثر علة للسعادة من أي فعل آخر.

6. إن فعل التأمل هو أيضاً ما يجعل من الإنسان الحكيم محبوباً من قبل الآلهة، إذا كان للآلهة عناية ما بالمسائل الإنسانية، كان من الأمور البسيطة أن يرضيهم أن يروا على الخصوص في الإنسان ما هو أحسن ما يكون، وما هو أكثر قرباً من طبعهم الخاص.. أنهم في مقابل ذلك يغدقون النعم على أولئك الذين يغارون على التفوق في حب هذا المبدأ القدسي وتكريمه باعتبار أنهم أناس يعنون بما تحب الآلهة ويسلكون الصراط المستقيم»(1).

رابعاً: الفضيلة وحرية الإرادة:

إن تلك الحجج التي أوردها أرسطو جميعاً ليقنع قارئ الأخلاق إلى نيقوماخوس بأن سلوك طريق الفضيلة بأنواعها من الفضائل الأخلاقية إلى الفضائل العقلية وحتى فضيلة التأمل التي اعتبرها خير حياة يمكن للإنسان أن يحياها وتحقق له أقصى قدر من اللذة والسعادة. أقول إن تلك الحجج ربما تقودنا إلى تساؤل عادة ما يطرحه فلاسفة الأخلاق وقد طرحه أرسطو على نفسه، ألا وهو: إلى أي حد نحن أحرار في سلوك طريق الفضيلة؟!

إن أرسطو بداية قد فتح الطريق أمام هذا التساؤل حينما رفض كون الفضيلة فطرية في النفس الإنسانية وأكد أنها تكتسب بالتربية والتصور منذ الصغر. ومن ثم فهي لديه مسألة إرادية بحتة تتعلق بإرادة الفاعل واختياره خاصة إذا ما بلغ القدرة على الاختيار العاقل لسلوكه.

وقد أكد أرسطو على ذلك في مطلع الكتاب الثالث من الأخلاق إلى نيقوماخوس بعدما ميز بين الأفعال الاختيارية والأفعال اللااختيارية أو الإجبارية القسرية وبعد أن أوضح أن الفضيلة متعلقة في الأساس بانفعالات الإنسان وأفعاله القابلة للمدح

ص: 294


1- نفسه: (ك-10 ب 9 ف 5 ، ف 6)، ص 365 .

والذم. ولا يمكن المدح والذم إلا على أشياء إرادية ما دام أنه في الأشياء اللاإرادية لا محل إلا للرحمة أحياناً وللعفو أحياناً أخرى(1).

إن سالك طريق الفضيلة عند أرسطو إنما هو إنسان حر يمتلك إرادة الفعل الأخلاقي وإلا ما قابلنا أفعاله بالثناء والمدح(2). ولا يجوز أن نطلق على فعل إنسان أي فعل شرير أنه إنما فعله لا إراديا بحجة أنه فعله مثلا ضد مصلحته أو ضد منفعته إذ أن «جهل الفاعل بحسن الخيرة ليس علة في أن يكون فعله لا إراديا»(3). إن على الإنسان دائما أن يعي معنى الفضيلة وأن يربأ بنفسه عن الجهل بها وإذا ما أدرك معناها ينبغي ألا يتوقف عند حدود العلم النظري كما أشرنا آنفاً، بل ينبغي أن يسلك إرادياً واختيارياً وفقاً لما علم. ولا يخفى علينا أن تلك نظرة أرسطية لها أصولها سواء في الفكر الشرقي القديم وخاصة في مصر والصين، أو في الفكر اليوناني خاصة عند سقراط الذي وحد كما نعلم بين الفضيلة والمعرفة توحيداً تاماً. وأكد قبل أرسطو على أن الفضيلة وسلوك طريقها هو العلم، وأن الرذيلة هي الجهل. كل ما هنالك أن مفهوم العلم عند أرسطو جاء مختلفاً تماماً عن مفهومه عند سقراط(4).

ولما كان العلم إرادياً، ولما كنا نختاره اختيارا سواء فيما يتعلق بعلم الأخلاق أو في غيره من العلوم الأخرى فنحن أحرار في اختيار السلوك الفاضل والعمل وفقا له. وإذا كان رأي أرسطو أن الفضيلة لا تنطبق أصلاً إلا على الأفعال الاختيارية فإنه هو نفسه قد فتح أمامنا مجال الاختيار في السلوك الأخلاقي واسعاً حينما قال في عبارة ذات مغزى كبير بعد أن قارب على الانتهاء من تقديم آرائه الأخلاقية أنه «يحسن عند درس النظريات التي عرضتها أن يطابق بينها وبين الأفعال ذاتها وبين الحياة العملية فمتى اتفقت مع الواقع أمكن اعتناقها فإذا لم تتفق معه لزم اتهامها بأنها ليست إلا استدلالات فارغة»(5).

ص: 295


1- نفسه : (ك 3 - ب - 1 ف 1)، ص 265 .
2- انظر: نفسه (ف-6 ف 7) ، ص 267 .
3- نفسه: (ك 3 - ب 2 - ف3)، ص 271.
4- راجع ذلك في الجزء الثاني من كتابنا: تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، الباب الخامس.
5- أرسطو طاليس: نفس المصدر ( ك - 10 ب - 9ف4) ، ص 364.

إنها كلمات عبر فيها أرسطو عن مدى حرصه الشديد على مخاطبة العقل الواعي للإنسان وحرصه في الوقت ذاته على أن يكون الاقتناع والفعل هما جوهر الأخلاقية عند الإنسان. وهي كذلك عبارة ربما تحدي بها نقاد مذهبه الفلسفي بوجه عام، ومذهبه الأخلاقي بوجه خاص فهي ترفع عنه تهمة الروجماطيقية والإنغلاق كما ترد على كل ما اتهموه بالإغراق في التجريد النظري.

ص: 296

الأخلاق في تاسوعات أفلوطين

«تحليل لمفاهيم الاخلاقية»

أ.د. جميل حليل نعمة المعله(1)

تمهيد

تأصيل المفاهيم الأخلاقية عند فلوطين

تكمن مشكلة هذه الدراسة في محاولة تحليل النص الأخلاقي في التاسوعات بشكل علمي من خلال بيان ماذا يقصد أفلوطين بكل مفهوم أو مصطلح أخلاقي ذكره.خصوصا قد عرفت مقالات أفلوطين(2)بانها : (أسلوبه في الكتابة موجز بليغ قليل الألفاظ كثير المعاني)

ص: 297


1- أستاذ الفلسفة والفكر السياسي في جامعة الكوفة . وقد اكد الباحث في بحثه على اهتمام افلوطين اهتماما واضحا بالأخلاق القائمة على العقل وعلى الحدس، وعلى تربية النفس ومساعدتها للعلو والسلوك والرفعة في مدارج الكمال. وعلى أهمية النحن في عروجه إلى ما فوق النحن، وإن كان قد تأثره بالأخلاق الرواقية فإنه انتهى إلى عد التجربة الصوفية تجربة الوجد هي الغاية النهائية التي يجب أن تتحدد تبعاً لها وتترتب عليها كل المقدمات المؤدية لكل معرفة وصف افلوطين حالين حالة من شاهد وحالة من لم يصل بعد إلى المشاهدة، يتصف بانه اعظم عشقا وحنينا للخير، ونجدنا أفلوطين يؤكد على بعدين من الأبعاد الجمالية، بعد مادي كان له فيه راي خاص، وبعد روحي يحدد به اتصاله (بالخير والحسن الأعلى) إن الخير المطلق محور وجود الروح وأساس سعادتها، إن الطابع العام لفلسفته هو غلبة الناحية الذاتية فيها على الناحية الموضوعية. هي فلسفة تمتاز بعمق الشعور الصوفي والمثالية الأفلاطونية ووحدة الوجود الرواقية فالمعرفة عنده تبدأ من الذات وتنتهي إلى الله من غير أن تمر بالعالم المحسوس . المحرر
2- ولد افلوطين في ليقوبوليس من أمصار مصر الوسطى، (في سنة 202م وتوفي 270 ميلادية)، درس الفلسفة وصنف فيها ما جمعه اكبر تلاميذه فرفريوس، واطلق عليه التاسوعات، والكتاب عبارة عن مواضيع متفرقة باختلاف أزمنتها وأماكنها، وجمعت ب- (54) مقالة موزعة على ست مواضيع أساسية، اطلق على كل موضوع اسم التاسوعة بدل الفصل، وكل تاسوعة تحوي على تسع مقالات، درس الفلسفة على يد أمونيوس، وبحث فها ودفعه حبه لها محاولته في طلب الفلسفة فى الهند وبلاد الفرس، وشارك لأجلها فى الحرب مع الإمبراطور (غوردين) سنة 242م0 وبين فرفريوس في مقدمته للتاسوعات، أن افلوطين لم يكتب في الفلسفة الإ بعد الخمسين من عمره، لكنه يذكر أيضا انه كتب مقالة في الجن في أيام جالينوس، وكتب مقالة أخرى (في أن الملك وحده هو المبدع) وفي السنة العاشرة من حكم جالينوس كتب افلوطين واحدا وعشرين مقالة لم يبح بها الإ إلى القليل من الناس واطلع عليها نفر يسير وقد كان عمر افلوطین (59) سنة، وافلوطين لم يضع العناوين لهذه المقالات وأنما وضع لكل مقالة عنوانا يميزها.

وترجع أهمية هذه الدراسة في كونها تحاول تقديم قراءة تحليلية ونقدية معاصرة إلى نص أفلوطين الأخلاقي وإيضاح أثر أفلوطين على النظرية الأخلاقية.

وقد اعتمدت في هذه الدراسة على المنهج التاريخي التحليلي المقارن وكذلك على المنهج النقدي كون الباحث يحاول تقديم رؤية تاريخية تحليلية نقدية للمفاهيم الأخلاقية والإشكاليات المتعلقة بها، مما يجعل هذا المنهج مناسبا لطبيعة هذه الدراسة.

بدأ افلوطين عند البحث عن النفس بأثارة مجموعة من التساؤلات حول اللذة والألم والخوف والأقدام ، باحثا عن النفس ومصدر الأفعال، وهل أن النفس هي من يسخر الجسد أم هناك مصدر ثالث مركب من الاثنين (النفس والجسد)؟ ومن هنا ينشطر سؤال آخر هل هذا المركب ناتج عن الاثنين (النفس والجسد) أم شيء آخر ناتج عن مزيج معين ؟(1).

لم يكن البحث عن النفس هو من نتاج واهتمامات افلوطين فحسب، فمنذ أن دخل سقراط معبد دلفي ، وقرأ «الحكمة «اعرف نفسك بنفسك «تبنى سقراط هذه الحكمة معتبرا أن الحكمة الحقيقية هي معرفة الذات لذاتها (...) فمعرفة النفس غاية الفكر والسلوك والأساس لكل حق وخير وجمال وفضيلة»(2). لكنه في اختياره ان يشرب السم كان يؤكد «عدم اكتراث وتجرد عظيمين ليتحرر من الموت، أي تحرير النفس من الجسد ، فالموت بالنسبة إلى الجسد تحرير للنفس وشفاء لها من المرض، وبالموت حصل سقراط على الفضيلة»(3).

ص: 298


1- ينظر: افلوطين، التاسوعات، الطبعة الأولى، ترجمة فريد جبر، مكتبة لبنان ناشرون - بيروت، 1997م،ص51.
2- ينظر : محمد عبد الرحمن مرحبا، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات، بيروت - لبنان 2007 م، ج 1، ص 106.
3- نظر: برتراند رسل ،حكمة الغرب، ترجمة: فؤاد زكريا، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، الطبعة الثانية، 2009م، ص128.

ما هي النفس؟ وهل انها عند افلوطين شيء معين وان وجودها شيء معين آخر؟ وان كانت كذلك فهل انها مركبة ؟ وهل اذا كانت مركبة قابلة للصور: «فلا يستبعد أن تكون قابلة للصور وان تنسب اليها تلك الانفعالات«(1)، ولكن متى؟ بعد أن يحل لها العقل ذلك، فتكون قابلة للأحوال والاستعدادات صالحة كانت هذه الأحوال أو سيئة، محاولا افلوطين الإجابة على هذه الأسئلة، وان يعرف مصدر الانفعالات واصل المعارف ومصدرها، وكيفية رد الإحساسات من الانفعالات واللذة والألم وغيرها(2).

بحث افلوطين في التاسوعة الأولى النفس، على الرغم من انه بحثها - بجهود فرفريوس - بتاسوعه مستقلة ((التاسوعة الرابعة) وهذا لا يشكل خللا منهجيا عند افلوطین، مادام الخيار في تبويب هذه المقالات (الفصول) ليس خياره بالشكل النهائي، مستخدما مجموعة من المصطلحات (النحن، المالدى، الهو) التي سياتي بيانها في محلها.

يعتقد افلوطين أن البسيط يكتفي بذاته ويقوم بذاته، جاعلا من النفس ووجودها (أيسها) شيئا واحداً، وانها صورة في حد ذاتها، ولا محل فيها لتلك الأحداث التي تقوم على فعلها في غيرها، لان لها فعلا مخصوصا، يكشفه العقل لها، فيجعلها :خالدة: «لها ذي ذاتها فعلا هي مفطورة عليه، ومهما يكن ذلك الفعل، فان العقل يكشفه لنا، ويحق القول حينئذ انها خالدة»(3)

ويقدم افلوطين شروطا للخلود(4):

أن لا نتفعل.

أن لا تأخذ شيئا من غيرها .

ص: 299


1- افلوطين، التاسوعات، ص 51-52.
2- ينظر: افلوطين، التاسوعات، ص 51-52.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 51.
4- أفلوطين، التاسوعات، ص 51.

أن أخذت شيئا من غيرها يجب أن يكون ذلك الشيء سابقا لها، غير منفصل عنها، ثابت في عالم غير عالمها .

لا خوف عليها لان الخوف انفعال، وليس لزوما عليها أن تكون ثابتة الجنان، لان ثبات الجنان لا يصدر عمن دبت إليه المخاوف، خالية من الرغبات، لان الرغبة تلبي بواسطة الجسد بأنواع الأملاء وهما ما يحدثان بغير النفس.

أن لا تمتزج بشيء لان الامتزاج تنافي الجوهر، وبذلك تكون بعيدة عن الألم.

وأخيرا انه ليس فيها إحساس أو فكر أو ظن، لان الإحساس قبول صوره وأفعال في الجسد والتفكير والظن اصلهما إحساس، لكن اللذة الخالصة هي العرفان، والذي يتيح للنفس أن تبحث فيه عن ذلك.

ولكن ما يؤكده افلوطين «أن النفس من الجسد سواء أكانت قبله أم بعده وهي ما تسخره كالآلة من دون أن تتأثر فيه، كما أن أصحاب المهن لا يتأثرون بما يستخدمونه من أدوات»(1).

وهو بذلك يقترب من راي أرسطو الذي يجعل النفس مبدا الأفعال الحيوية، فالنفس عند أرسطو بمثابة الصورة للجسم الحي، والطبيعة لغير الحي، وعلم النفس عند أرسطو مركب من مادة وصورة(2)، وهو بعيد عن فهم أفلاطون للنفس إذ يبين أفلاطون أن للإنسان نفس موجودة قبل اتصالها بالبدن، لان المثل غير متحققة بالتجربة ولا مكتسبة بالحواس، وعليه فلا بد من قوة روحية تعقلها، يدل على وجودها تذكر المثل وحركة الجسم وتدبيره بما يوافق الحكمة(3).

ويستخدم افلوطين مصطلح التواشج، الذي يبين فيه العلاقة بين النفس والجسد، فاذا كان أرسطو اكد أن النفس تستخدم الجسم بواسطة الإحساس، افلوطين يؤكد أن

ص: 300


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 53.
2- ينظر: يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مراجعة هلا رشيد أمون. دار التقدم، ص 174.
3- يوسف كرم ، نفس المصدر. ص 105-106.

النفس لا تستخدم الجسم الإ بعد كونها عالمة بواسطة الإحساس، هذه الإحساسات هی انفعالات تأتيها من الخارج، فالنفس تسخر الجسد من حيث إن كلا منها معزولا عن الآخر وان النفس هي الأصل ولكنهما يمتزجان، وهذا التمازج هو نوع من أنواع التواشج، الذي هو عبارة عن صورة لا تفارق الجسد، انها تشبه التماس الذي يكون بين الرّبان و دفة السفينة، فتكون النفس في هذه الحالة في بعضها، وتكون في قسم آخر بالبعض الآخر، هذا الامتزاج بين النفس والجسد يؤدي إلى نتيجة مهمة عبر عنها افلوطين بانهما اذا امتزجا: «صلح شرهما ، وفسد خيرهما، فالصلاح يمد الجسد بالحياة، لكن النفس تموت بالغباء وذلك حينما تشترك مع الجسد فتفسد»(1).

فالجسد عن طريق التواشج يزود النفس بالانفعالات ويمدها بالحياة، فهو من يخاف ويرغب ويلتذ ... الخ ، وافلوطين يميز بين التمازج بمعنى الامتزاج الذي يكون مستحيلا، لأنه لا يمكن الامتزاج بين طبيعة وطبيعة أخرى مختلفة، كامتزاج الخط باللون الأبيض وما يحدث بين النفس والجسد هو تمازج بمعنى التواشج الذي لا يولد الانفعال بينهما، فالنفس اذا أشرقت في الجسد كله فهو لا يعني أن تتأثر بانفعالاته، فالانفعالات لا تنسب إلى الجسد وماله حال هيئة الفأس ، فالفأس المتكون من حديد لا تتعلق أفعاله بالحديد وإنما بالفأس المصنوع من الحديد، فكل الانفعالات المشتركة بين النفس والجسد انما تعود إلى الجسد، ويعرف افلوطين الجسد : «الجسد الطبيعي القائم بجهاز عضوي المهيأ لقبول الحياة»(2)، والرأي الذي تبناه افلوطين اسنده براي أرسطو نقله افلوطين نفسه، «من الحمق أن تنسب الحياكة وفعلها إلى النفس ، فكذلك الشوق والتألم من الحمق أن ننسبها إلى النفس»(3).

وهنا يترك افلوطين البحث في النفس، لان غايته من البحث هنا هو بيان مصدر الانفعالات واصلها، تاركا البحث فيها لمجال آخر كما تقدم، معلنا أن البحث عن (الحيوان) المتكون من نفس وجسد فقط انه متكون من هذا المركب ومع مركب

ص: 301


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 52.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 52.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 53.

ثالث باحثا عن الجسد كيفية انفعالاته، وعن كيفية آلامه ولذته، معتبرا أن عملية الانفعال هو ادراك الحواس لظواهرها وما ينتقل على هذا الأساس عن طريق الجسد إلى النفس، معتقدا أن هناك قوى متعددة في الجسد واصفا إياها بخير القول: «لعل خير القول في الأمر هو من توافرت فيه تلك القوى وعمل بموجبها فلا تتحرك هي بل تمد الذي جعلت فيه بالقوة اللازمة»(1)، فالحياة عند افلوطين هي ليست حياة النفس وحدها، ولا حياة الجسد وحده بل هي حياة المركب، فليس الإحساس هو ما يحس به، بل هو صاحب قوة الإحساس، هو حركة مثيرة في الجسد يجتازه هذا النور ليصل إلى النفس، ولهذا يقال أن النفس لا تحس، انما قوة الإحساس حاضرة وبفعل حضورها يتم الإحساس.

يستخدم افلوطين (الروح) التي يعتبرها نور مبعوث في الجسد وهو أمر ثالث ومصدر للانفعالات، وهذا النور المبعوث يجعل الجسد قابل للإحساسات التي ترد بفعلها على باقي الانفعالات التي تحس بها الروح، باعتبار أن الروح غير معزولة عن الجسد، فالإحساس الوارد من الخارج انعكاس لما يتم بالنفس، والذي يتم بالنفس اقرب إلى الحقيقة من الإحساس، وافلوطين يوصف الإحساس بانه مجرد مشاهدة خالية من كل انفعال وما تقوم به النفس من انفراد في تدبير أمور (الحيوان) متناه الأفكار والظنون والمعارف.

فالنحن هو الأشراف على الحيوان وتوجيهه فهو قوة عقلية تتكون من إشراقات نور الروح على المركب (النفس والجسد) و (المالدى) قوة لا تفكر ليست عقلانية وهي تتكون من قبل النحن تخص السباع والبهائم على اختلاف أصنافها، والفرق بينها وبين الإنسان، الثاني يفكر والأول لا يفكر أو خال من التفكير(2).

هذه الروح أو النحن على شكلين في فلسفة افلوطين، روح تكون ملكة للنفس، وروح تكون لذاتها، يطلق عليها : (روح فوق النحن) وهي أما أن تكون خاصة في

ص: 302


1- أفلوطين التاسوعات، ص54.
2- ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 57.

الفرد أو مشتركة بين الأفراد (الجميع) أو أن تكون خاصة ومشتركة، فان كانت مشتركة فكيف تكون واحدة، ولا يمكن أن تكون خاصة ومشتركة في آن واحد فهذا مما لا يمكن، فلم يبق الإ أن تكون خاصة،، لكن انتشار الروح في البدن يجعل وجود النحن وجودا ثالثا بعد وجود (...) فهو ذات لا مقسمة تأتي من العالم الأعلى تدخل في الذات المقسمة التي هي النفس التي بدورها تكون مقسمة على كل أجزاء الجسد، وحضور النفس بالأجساد بمعنى انها تنيرها مكونة من نورها عدة ارتسامات، إحساس يكون في المركب، ومن الإحساس يشتق كل ما سواه ويسمى هيئة النفس، فتشتق الهيئة عن الهيئة فتكون النفس المولدة والنفس النباتية ثم إلى قوى صنع وأحداث حتى تنتهي إلى النفس بذاتها(1).

والنفس عند افلوطين خالية من الذنوب التي يرتكبها الإنسان والشرور التي تصيبه، وهذه الذنوب والشرور هي من لوازم الحيوان المركب وليس من لوازم النفس، فالظن والتفكير ليستا من خواص النفس مع أن النفس معصومة عن الخطأ، لان الظن الكاذب هو اصل كل الشرور ، والشر هو نتيجة ل: ((انهزام خير ما فينا أمام شر ما فينا)) والشر ما فينا هو الهو والغضب والتوهمات القبيحة، والتفكير على شكلين: تفكير باطل يعتمد على الخيال ولم ينتظر حكم ملكة التفكير، لكن الروح معصوم من الخطأ على خلاف النفس، وهنا يأتي النوع الثاني من التفكير الذي هو من خواص النفس الحقيقية وهو الحاكم على الانطباعات الواردة من الإحساس والمشاهدة وهو ما يطلق عليه العرفان .

والنحن عند افلوطين تقال على وجهين: «نفس بهيمية ونفس فوق البهيمية، والأولى جسد مجهز بالحياة، والثانية هو الإنسان الحقيقي الذي يختلف عن البهائم كونه ذو فضائل من مقام الروح والروح لازمة للنفس، منفصلة عن الجسد مفارقة له، حتى أثناء أقامتها في هذا العالم وهي تنسحب من الجسد انسحابا تاما ويتبعها الإشراق الذي كان قد حصل منها على الجسد»(2).

ص: 303


1- ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 55.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 57.

ويؤكد افلوطين أن بحثه الأخلاقي بحث مركز على (النحن) أم على (الهو) فالنحن هو الروح، والهو هو النفس، وما يقوله افلوطين أن بحثه مركز على النحن ولكن بواسطة الهو، ومعنى بواسطة بمعنى أن الباحث هو النفس، معتقدا أن للنفس حركة كحركة الأجساد وهذه الحركة تمثل حياة النفس بالذات، وهو ما يقوم به العرفان، والعرفان هو الحياة الفضلى، وعندما تدرك النفس الروح ، وعندما تؤثر الروح فينا، فان الروح في آن واحد هي روحنا وهو امر علوي فوقنا نسموا إليه.

المبحث الأول: مفهوم الفضيلة الأخلاقية

يعتقد أن الفضائل كمصطلح كانت موجودة ومعروفة عند اليونان، وان الدور الأساسي الذي قام به أفلاطون هي محاولة لتحديد المفهوم الجوهري لكل فضيلة، وذلك كي يتوصل إلى: «تكوين تحديد عام وشامل لمفهوم الفضيلة ككل»(1).

إذن الهدف الأساسي لأفلاطون هو تحديد مفهوم الفضيلة كلا على حدة، ثم تحديد العلاقة القائمة بين جميع هذه الفضائل وتحديد مكانة ومنزلة وعمل كل فضيلة ليظهر اثرها الفاعل في حياة المجتمع الإنساني(2).

بالنص الأفلاطوني إذ يقول «مادام الشريجول جولته في هذه المنطقة من الكون، وما دامت النفس راغبة في الفرار من الشر فلابد من الهرب، ولكن كيف تهرب؟ قال أفلاطون بالتشبه ب- (...)»(3). يبدأ افلوطين ببحث مفهوم الفضيلة، جاعلا من معيار التشبه ب- (...) الأفلاطوني هروبا من الشر الحاصل في هذا العالم، معطيا تفسيرا للتشبيه، وتفسيرا للشر الذي سيتضح من خلال البحث.

ويبدأ افلوطين في التاسوعية الأولى / الفصل الثاني، وهي المقالة الثانية في

ص: 304


1- أنجلو شيكوني، أفلاطون والفضيلة، ترجمة: منير سغبيني، دار الجيل بيروت لبنان، الطبعة الأولى، 1986م،ص9.
2- ينظر: أنجلو شيكوني، أفلاطون والفضيلة، ص 9.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 59.

التاسوعية الأولى على وفق ترتيب فرفريوس، لكنها حسب ترتيب افلوطين انها المقالة التاسعة، حيث يقدم افلوطين سبيل الهروب من الشر الحاصل في العالم وهو طريق التشبه ب- (...) ، ولا يتم ذلك إلا من خلال اكتساب الفضائل بالعدل والورع المصحوب بالفطنة وهو طريق الاستقامة للحصول على الفضيلة بشكل عام، وهو يخير نفسه بین أن يتناول الفضيلة مجتمعة أو يتناولها كلا على حدة: «ولعل الكلام كان ارضى لو قصرنا كل فضيلة على حدة، فيسهل علينا حينئذ تبين الأمر المشترك الذي بمقتضاه تكون كلها فضائل»(1).

يشرح افلوطين المعنى الذي أراده بالتشبيه والفائدة منه، حتى نعرف أن ذلك وهو أمر يحصل في نفوسنا هو الفضيلة، ويعتقد افلوطين أن التشبه ب- (...) ممكن، لكنه يتساءل هل أن هذه الفضائل هي فعلا موجودة فيه، ؟ فما هي صفاته حتى نتشبه به ولكي يبين صفاته يعتقد افلوطين أن التشبه انما يكون على قسمين(2):

يفترض وجود معنى واحد بين الطرفين، فهما متشابهان لانهما يستخدمان تشابههما من اصل واحد، ويقال انه تشابه بالتبادل.

ليس هناك تشابه بالتبادل، بل أحد الطرفين يشبه الذي فيه الطرف الآخر فلا يفترض وجود معنى بين المتشابهين على أن يكون احدهما هو الأصل.

ولكي يبين افلوطين اصل التشابه وكيفيته فهو يقسم الفضائل إلى نوعين، وهو بهذه القسمة يختلف عن التقسيم الأفلاطوني والأرسطي للفضائل، فمن الواضح أن أفلاطون حين بحث عن الفضيلة جعلها مقرونة بالعلم فغاية الحياة هي الفضيلة أو الخير في مجال التقابل بين حياة التفلسف وحياة اللذة، فحياة اللذة تسعى لإشباع اللذات الدنيوية كافة، والسعادة لا تحصل بهذا الإشباع بل تحصل بالفضيلة(3).

ويجعل أفلاطون الفضائل ثلاثا تدير قوى النفس الحكمة فضيلة العقل، وتكمله

ص: 305


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 60-61.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 60
3- ينظر : محمد مهرا رشوان، تطور الفكر الأخلاقي في الفلسفة الغربية، دار قباء - القاهرة، 1998م، ص 69.

بالحق، والعفة فضيلة القوة الشهوانية تلطف الأهواء فتترك النفس هادئة، والعقل حرا، ويتوسط هذين الطرفين الشجاعة وهي فضيلة القوة الغضبية، تساعد العقل على الشهوانية فتقاوم أغراء اللذة ومخافة الألم.

ويعتقد أفلاطون أن الحكمة أول هذه الفضائل ومبدؤها فلولاها لترك الزمام أمام القوة الشهوانية، وانقادت الغضبية للشهوانية، ولم تكن العفة والشجاعة من شروط الحكمة وقيامها(1).

هذا التقسيم الأفلاطوني للفضائل يثير حفيظة افلوطين ويجعلها في مرمى نقده، إذ يعتقد افلوطين أن أفلاطون في جمهوريته اهتم بالنوع الأول من الفضائل ولم يهتم بالفضائل الذاتية، ولم يكن افلوطين ناقدا لأفلاطون فحسب، بل نجده ناقدا لأرسطو أيضا بقوله بالوسط الذهبي الذي قال به، إذ يعتقد أرسطو أن الفضيلة ليست طبيعية لدى الإنسان، وان الطبيعي فقط هو القوى والاستعدادات، والفضيلة لا تكتسب إلا بمعاونة الطبيعة، وهي تعلم كما يعلم أي فن من الفنون، فالإتيان بالأفعال المطابقة يؤدي إلى كمال الفن، وفقدان الأفعال المطابقة يؤدي إلى عدم كمال الفن، بل إلى نقصانه، مما يجعل الفضيلة قائمة بشكل كبير على التربية، فالفضيلة عند أرسطو استعدادات ما بإزاء انفعالات تنشا من نمو القوة بالمران، فهي استعداد أو حال مكتسب، ويحدد أرسطو موقف الفضيلة تجاه الشهوات بان تختار الوسط الاعتدال بين الأفراط والتفريط، باعتبار أن الأفراط والتفريط كلاهما رذيلة بنظر أرسطو، عليه فالفضيلة: «ملكة اختيار الوسط الشخصي الذي يعيه العقل بالحكمة»(2).

والفضيلة عند افلوطين في حقيقة أمرها وفي حد ذاتها: «انما هو ما كان منضبطا بالوحدة، ووظيفته بالنسبة إلى ذاته فلا معنى هنا لطرف أول وطرف آخر »(3).

وافلوطين يفرق بين نوعين من الفضائل، يطلق على الأولى الفضائل المدنية،

ص: 306


1- ينظر: يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، ص112.
2- يوسف كرم، مصدر سابق، ص 210.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 64.

ويطلق على الثانية الفضائل بالذات فالفضائل المدنية هي التي تحصل للإنسان ولكنها بحاجة إلى ما يكملها : «فالفطنة لازمة المعلل بالعقل، والشجاعة لازمة المتدافع بالعاطفة، والعفة وهي نوعا ما توافق الملكة الشهوانية، وتناسقها مع العقل»(1)، وهي ما يطلق عليها بالفضائل الحضرية أو السياسية، التي يصل اليها الإنسان عن طريق تحرير النفس من رغبات الجسد وانفعالاته وإحساساته.

والفضائل بالذات وهي فوق الفضائل المدنية علوا بالرتبة والمتحلين بها يطلق عليهم الربانيون والتشبه ب(...) لا يكون الإ عن طريق هذه الفضائل وهو في الحقيقة تشبه بالإله نوعا ما، ويعتقد أن التشبه بالإله سواء أكان بالفضائل المدنية أو بالفضائل بالذات، فان الفضائل الإلهية ليست من جنس فضائلنا، فاذا كان التشبه به ممكنا ولو مع الاختلاف فلا شيء يمنع أن نتشبه به تبعا لتلك الفضائل الخاصة، وهي ما يطلق عليها بالفضائل التطهيرية(2).

ويوضح افلوطين العلاقة بين هذه الفضائل وبين التشبه بالإله: «فاذا كان الشيء حارا لوجود الحرارة فجب أن يحمى منها ما تنبعث منه الحرارة، أما اذا صار الشيء حارا لوجود النار فهل يجب أن تحمى النار نفسها بوجود نار أخرى»(3)، فصحيح أن في النار حرارة وان النار مولدة للحرارة ولكن هذا الشيء فطري، بالرغم من الفضيلة مكتسبة لكنها تتصف بالفطرية فيما تحاكيه عن النفس وتأخذه منها، ولكنه أيضا يريد أن يميز بين الحرارة وبين مصدر الحراة (النار) فالفضيلة شيء والمصدر الذي تأخذ منه شيء آخر فالبيت في ذهن المهندس هو ليس البيت الذي يدرك بالحس من ناحية التناسق والترتيب والتناظر، لكن اذا كانت الفضيلة موجودة، فالتشبه بها يوصلنا إلى التناسق والترتيب والتساوي، واذا انعدم واستغنينا عن التناسق والترتيب عدمت الفضيلة: «ولا بد لنا مع ذلك، من حضور الفضيلة فينا حتى يمكننا التشابه»(4).

ص: 307


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 60.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 60.وللمزيد ينظر : حربي عباس عطيتو ، ملامح الفكر الفلسفي والديني في مدرسة الإسكندرية القديمة، دار العلوم العربية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1992، ص 199.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 60.
4- نفس المصدر، ص 60.

ويشير افلوطين أن الفضائل التي تكلم عنها أفلاطون في الجمهورية كانت فضائل من النوع الأول (أي فضائل مدنية فقط) ولكنه في الوقت نفسه يشير إلى ونوع آخر من الفضائل هو التطهيرات وهذا استدلال من افلوطين بان الفضائل عند أفلاطون على نوعين(1)، إذ يمكن أن نميز عند أفلاطون نوعين من الفضيلة الحقة القائمة على معرفة الخير بالاتكاء على المبادئ العقلية، التي تسمى (الفضيلة الفلسفية) وبين (الفضيلة الاعتيادية) وهي تلك الفضيلة الشائعة بين الناس، التي تنطلق عادة من العرف والتقاليد أو من الدوافع الخيرة والمشاعر الغريزية نحو الخير، والفضيلة الاعتيادية يمارسها الرجال المتزنين المعتدلين كالعادة والتدرب من دون الفلسفة أو تعقل، ويطلق أفلاطون على هؤلاء الذين يمارسون الفضيلة الاعتيادية بانهم يجدون انفسهم في الحياة الأخرى (كالدود أو النحل)، وهو يسمي من يمارس الفضيلة الفلسفية أصدقاء المعرفة ويجنبها كل الناس بمختلف طبقاتهم ومنهم الساسة ورجال الدولة، ويجعلها فضيلة اللذين استطاعوا أن يحرروا انفسهم من الأحزان والمخاوف والملذات والشهوات الذين يتمسكون دائما بما هو حقيقي والهي.

وينطلق افلوطين لبيان معنى التطهيرات، من خلال بيان العلاقة بين النفس والجسد، فالنفس ليست شريرة، لكنها توصف بالشر ما دامت ممتزجة بالجسد وهو انفعال النفس، وكذلك ظنه ظنها، لكن النفس الصالحة لا تشاركه في ظنه بل انها تنفرد بأعمالها وهذا ما يطلق عليه بالعرفان أو التفطن، من خلاله تكتسب النفس مجموعة من الفضائل فهي(2):

لا تنفعل بانفعال الجسد وهذا هو العفة.

لا ينالها الخوف عند انفصالها عن الجسد وهذه هي الشجاعة.

تنقاد للعقل والروح ولا تقاومهما وهذا هو العدل.

ص: 308


1- نفس المصدر، ص 61-62.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 61.

فالتطهيرات (عفة، شجاعة، عدل) الحصول عليها يمكن النفس من التشبه بالإله بحيث يكون موضوعها موضوعه، وتدرك النفس الروح ولا ينالها انفصال، لأن الأمر الإلهي: «طاهر وطاهر فعله، بحيث أن من يتمثل فيه يكون صاحب فطنة»(1)، والعلاقة الاله والنفس هي كالكلام في الصوت الذي فی يعبر عن محاكاة للمعنى الذي في بین النفس.

إذن ثمة علاقة بين الطهارة والفضيلة، ولكن هل الطهارة هي الفضيلة، أم انها سابقة عليها، أم متأخرة عنها؟ تساؤل يطرحه افلوطين ويحاول أن يجيب عليه، وقبل الإجابة نجده يعرف الطهارة «بانها طرح كل ما هو غريب»(2)، والخير هو عكس التطهير لان النفس بخلوها من الخير تبقى في حالة ريب، هذه الحالة هی ما تحتاج فيه إلى التطهير، فالفضيلة تكون اقل كمالا أثناء عملية التطهير، وبذلك تدرك نوعا ما غايتها وكمالها وبذلك يتم طرح كل غريب عنها، وتحصل على الخير، فالتطهير هو الخير بالذات، لكن هل إن الحقيقة التي ظهرت بعد عملية التطهير هي الخير بالذات؟ وما دعى افلوطين إلى طرح هذا التساؤل هو أن النفس لها ميلان، ميل نحو الخير اذا اتحدت بما يجانسها، وميل نحو الشر اذا اتحدت بأضدادها فلابد لها من التطهير لتحصل على الخير المحض(3).

وليست الفضيلة عند افلوطين هي الخير بالذات، بل إن الخير بالذات هو ما يتحقق بعد التطهير ، وافلوطين يميز بين (ما يحصل أثناء التطهير)، وبين ما (يحصل عند الفراغ من التطهير)، إذ إن أثناء التطهير لا يتاح للنفس الحصول على الفضيلة، لكن عند الفراغ من التطهير تتجه النفس إلى الاتحاد ويعرف هذا الاتجاه بانه مشاهدة وانطباع، يلامس النفس من الباطن ويعمل عمل المبصرات للبصر : «انه مشاهدة أطباع مرئي يلامسها من الباطن ويعمل فيها عمل المبصرات في البصر»(4)، هذا الانطباع

ص: 309


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 61.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 62.
3- ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 62.
4- أفلوطين، التاسوعات، ص 62 .

والمشاهدة كان كامنا في النفس، ولكي يتحقق ويصبح حاضرا مشرقا مدركا، لابد من أن تتوجه النفس إلى منبع الإشراق الذي كان لديها من العالم الروحاني، وبذلك توفق بين الانطباع والحقائق التي تولدت عن تلك الانطباعات، وبذلك تكون الروح ليست غريبة عن النفس كون النفس توجه نظرها نحو الروح ومن دون هذا التوجه تكون الروح غريبة عن النفس وان كانت حالة فيها، ومثالها مثال العلوم التي دأب عاملين ،بموجبها، ولكن ما أن ندركها فإنها تصبح غريبة عنا(1).

فالفضيلة عند افلوطين لا تكتمل إلا بعد فعل الطهارة، فالتطهير سابق عليها، يجعل الفضيلة عن طريق الاتحاد نظير الاله، وتوحد بين النفس والإله، والتطهير يجعل النفس تهمل الأوجاع واذا لم تستطع لذلك سبيلا فإنها تحمل هذه الأوجاع مطمئنة، ويجعلها تقابل العنف ما امكنها الأمر، وان استطاعت ردته ردا مطلقا، وتمسك عن الانقياد إليه فيصبح العنف من لوازم الجسد العضوية، وبالتطهير لا أثر للخوف عندها فإنها لا تخاف والشهوة لديها غير متجهة إلى شيء قبيح وليس بشكل جامح نحو الأكل والشرب أو الجماع، بل انها تتجه بقدر ما تقتضيه الطبيعة وليس بالاندفاع الغريزي الأعمى(2).

فالتطهير يساعد الإنسان على تصحيح ما في الإنسانية من خطا وتحريف وهذا التصحيح ليس بان يتبرأ من الإثم بقدر ما يريد أن يكون آلاءها، لان الإنسان ذو وجهین،فأما أن يكون الهيا وأما أن يكون جنيا، فان كان فيه شيء من الخطأ أو التحريف فهو جني، وان لم يكن فيه شيء من ذلك فهو رب فقط: «بذاته هو الذي هبط من العالم الأعلى»(3)، وبذلك يصبح الإنسان في مأمن من كل اضطراب وبمعزل عن كل عمل قبيح، فالفضيلة اذا هی الحكمة أو الفطنة في مشاهدة ما لدى الروح وان ما لدى الروح انما يكون بالإدراك المباشر ، والحكمة والفطنة لهما وضعان وضع في الروح ووضع في النفس، وبينا سابقا أن الروح لا تحوي على الفضائل فتصبح

ص: 310


1- ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 62.
2- ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 62.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 63.

الحكمة والفطنة كلتاهما فضيلة في النفس، لانهما في غيرهما وهما ناشئان من غيرها من الروح، فهما بالروح في العقل وبالذات أي انها قائمة بذاتها لا بغيرها، فالفضيلة هي: «في حد ذاتها قائمة بذاتها لا فيما هو غيرها »(1)، ويوضح ذلك بمثال العدل، فالعدل في النفس هو ما يحتاج إلى تعدد أجزائه لاكتمال وظيفته، وهذا التعدد يحتاج إلى كثرة، بمعنى أن الأجزاء تحتاج إلى كثرة، يكن هناك عدلا واحدا بالذات عدل بتمام المعنى لا كثرة فيه ولا أجزاء، إن العدل بمعناه الأفضل، هو أن تعمل النفس موجهة نحو الروح، هنا يكمن معنى الفضيلة الأفلاطوني وهو أن يكون الشيء في حد ذاته قائما بذاته لا فيما هو غيره.

ومن هنا يتضح تميز افلوطين بين فضائل الروح (التطهيرات) وبين فضائل النفس (المدنية)، ففضائل الروح أما هي في الملا الأعلى، فالعرفان لديها هو العلم والحكمة والعفة، هي انسحاب الروح إلى ذاتها، والعدل هو انصراف الروح إلى عملها الخاص وبقاؤه في ذاتها بريئتا من كل غريب وهو الشجاعة، أما فضائل النفس تتأتى في رتبة ادنى من فضائل الروح إذ تتجه الفضائل إلى فضائل الروح فهي ليست فضائلها كما في الروح بل من خلال توجيهها نحو الروح، وبواسطة التطهير تأتي النفس على الفضائل كلها : إذ انها كلها تطهيرات تقوم على حالة الطهارة التامة، وان من توفرت له الفضائل العليا توفرت له حتى الفضائل الدنيا مميزا افلوطين بين الأرباب أصحاب التطهير وبين أهل الإصلاح أصحاب المدنية، بين من يزهد في هذه الحياة رغبة في حياة أخرى هي حياة الأرباب ويحصل ذلك بالتشبه : «فان التشبه أما هو تشبه بهؤلاء الأرباب لا بذوي الإصلاح، فان هذا التشبه الأخير انما هو تشبه محاكاة بمحاكاة، ولكليهما اصل واحد و أما التشبه الأول فهو تشبه بالمثال نفسه»(2).

ص: 311


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 64.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 65.

المبحث الثاني: مفهوم السعادة:

شغلت السعادة المنظومات الفلسفية المختلفة، وتمتد مسالة السعادة امتدادها الجذري مع وجود الإنسان ومع الوجود البشري، وهي هدف دائم وديناميكي، يبدا الإنسان بالتفكير فيه مشكلا وعيا أخلاقيا، فضلا عن ما تحتله هذه المسالة من مکانه كبيرة في علم الأخلاق قدم لها المفكرون في مسيرة العطاء الإنساني كثيرا من الجهود قديما وحديثا، باعتبار أن السعادة تشكل بسعادة الفرد سعادة المجتمع والجيل بكامله حتى يكون مذهب السعادة الذي يعد من اهم التيارات الفلسفية الفكرية والعالمية وهو نظرية من نظريات علم الأخلاق.

يبحث افلوطين عن موضوع السعادة، يبين مجموعة من الموضوعات فيها من العلاقة بین الحياة الطيبة وبين السعادة، وهنا نتساءل هل إن لكل كائن من الكائنات الموجودة في الكون سعادة أو انها مختصة الإلهة والإنسان هل إن السعادة واحدة أو متعددة وما علاقة الألم والشقاء بالسعادة، وهل إن السعادة تكمن بملذات البدن؟ وهل انها تزداد مع ازدياد الزمن ؟ وما المنهج أو الطريق الذي يمكننا استخدامه للوصول إلى السعادة؟ هذه الأسئلة هي ما يجيب عنها افلوطين في بحثه لمفهوم السعادة.

يفترض افلوطين أن السعادة غاية، وهي بذلك الحد الأقصى للميل الكامن في الطبيعة وهو بهذا التعريف لا يفرق بين السعادة وبين الحياة الطيبة، وتتوحد له الرؤى في معنى الحياة الطيبة وهل هي في رفاهية العيش أم في القيام بوظيفة خاصة، ويؤكد أن الحياة الطيبة حاصلة بكلتا الحالتين للأحياء الأخرى، فرفاه العيش ممكن في كل عمل يلائم الطبيعة، فالحيوانات المفطورة على الغناء والإنشاد عندما تقوم بذلك وتغني وتنشد فهي قد حققت حياة طيبة بعمل يلائم الطبيعة، وهو بذلك يسلم أن أيضا عند انتهائه إلى الحد الأقصى الذي ببلوغه تسكن الطبيعة

السعادة: «لكل حي ذلك الحي، ذلك بانها حينذاك تكون قد نشرت ما قدر لذلك الحي من حياة، واستنفذت ذلك القدر من البداية إلى النهاية»(1).

ص: 312


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 70.

وهو يؤكد على امرين:

الأول: سحب السعادة حتى على النبات بما تقوم به من عملية نمو وتكامل مع بيان الاختلاف في وجود الإحساس عندها أم عدم وجوده، فقد تكون الحياة الطيبة للنبات أو لا تكون، وهذا ينحصر في إثمارها أو عدم إثمارها، ويمكن أن تكون غاية الحياة (اللذة) بالنسبة للنبات وبإدراكها - لذة الثمر - تطيب الحياة وها يؤكد: «فلا يليق أن يسلب طيب الحياة من غير الإنسان من الأحياء، والقول هوهو فيما اذا حددت الحياة الطيبة بالسكينة التامة أو بالعيش على مقتضى الطبيعة»(1)، مع اعتبار أن سلب السعادة عن النبات بحجة انها لا تملك الإحساس قد يسلب عنه السعادة عن غيره من الكائنات بحجة انهم لا يملكون الإحساس.

ويشرع افلوطين بنقد من جعل السعادة فقط في الحياة الطيبة، الذين يعتبرون أن العقل اشد قدرة في تسهيل اكتشاف ما في الطبيعة من الضروريات الأولى، فهل أن قدرة العقل على اكتشاف الضروريات مسوغ لسحب السعادة عن من لا عقل له، وان كان ينال الضروريات من الطبيعة وبدافع الطبيعة باعتبار انه يعيش بمقتضى الطبيعة. وبعد هذا العرض يقوم افلوطين ببيان موقفه من السعادة ومفهومها، وهو ينظر اليها من خلال مفهومي (الترادف والاتفاق) ، ويعني الترادف التسليم وهو: «كل حي قابل لان يكون سعيدا، فالحياة الطيبة فعلا ثابتا لكل من حصل عندهم امر هو ذاته واحد عند الجميع وعليه شمل الأحياء كلهم»(2).

وهنا يجعل افلوطين السعادة مشتركة بين كل الأحياء من دون أن يكون هناك تمييز بين الناطق وبين غير الناطق، ناقدا من يجعل السعادة للناطق فقط ويعلقونها على من يمتلك العقل، وهم بهذا لم يجعلوا السعادة لجميع الأحياء.

إما الاتفاق، فالسعادة لا تكون على درجة واحدة بين كل الموجودات، وإنما تتميز مراحل السعادة فيها، وهذا التمييز يكون خاضعا أو واقعا على وفق لدرجة (الإشراق

ص: 313


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 70.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 72.

والغموض)، وهي تعد ارتساما لمستوى آخر غير المستوى الذي نحن فيه، وتكون طيب الحياة في الأول ارتساما لطيب الحياة في مستوى آخر، انه التمتع بحياة فائقة، الحياة التي لا نقصان فيها : «فان السعادة فقط لذلك الذي يتمتع بالحياة الفائقة»(1)، والذي يحصل على الخير الاسمى فيكون صاحب حياة كاملة، ويؤكد أفلوطين أن هذا المذهب هو الذي تطمئن إليه ويقول فيه : «إن الحياة الكاملة الحقة الثابتة حقا انما هي الحياة القائمة في تلك الطبيعة الروحانية، وان الأنواع الأخرى من الحياة الناقصة، بل هي انعكاسات للحياة التامة، لا الحياة بكمالها وصفائها »(2).

ثانياً: تتحقق سعادة الإنسان بحصوله على تلك الحياة التامة الكاملة التي تقتصر بحصولها فقط على الإلهة لأنها لا تحصل الا لهم، فكيف تحصل للإنسان؟ يؤكد افلوطين أن الحياة انما تحصل للإنسان عن طريق الحس وعن طريق النطق والروح، وهذه الأشياء موجودة عند كل إنسان أما بالقوة وأما بالفعل، ولكن هذا ليس نوعا كاملا من أنواع الحياة، إن هذا جزء من حياة بالقوة، أما السعيد فله حياة أخرى، هو الذي اصبح بنفسه تلك الحياة وتوصل معها إلى أن يكون الا أن يكونا شيء واحد، وان حصل الإنسان على هذه الحياة فانه حصل على الخير، انه الخير لذاته الذي بحصوله له لا يسعى الإنسان وراءه إلى أي شيء آخر : «وليت شعري وراء أي شي تسعى، أما من الدنيويات فما يريد شيئا ، وأما الخير الأفضل فهو معه، إن من حصلت فيه الحياة على هذا الوجه هو في حالة المكتفي المستغني»(3)، فأي خير يرجوه يكون قبضته، وهو بمثابة شيء ضروري وليس لنفسه بل لأمر من الأمور التي تخصه، وان ما يطلبه فى هذه الدنيا انما يكون لقضاء حاجة هذا الجسد وتأمينه، ولا يصب سعادته بأذى لأنها الحياة الكاملة حتى عند الموت، لا يناله الاضطراب و فهو يعرف الموت ويعرفه أيضا الذين يكابدونه: «ولم يصبه الحزن على موتهم في ذلك»(4).

ص: 314


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 73.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 73.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 73.
4- أفلوطين، التاسوعات، ص 74.

لا يعتبر افلوطين أن الأمراض والإلام من معوقات السعادة، فيمكن للإنسان أن يصبر عليها لأنه لم يردها، والسعادة انما تتحقق فيما يريده الإنسان، لا يقصد افلوطين بذلك أن ألا نتألم ولا نمرض، لان هذه من معاكسات السعادة، ولان السعادة عنده: الحصول على الخير الحق فلماذا نتهاون في تركيز اعتبارنا على ما هو ذلك الحق وما إليه، فنحكم السعادة في طلب ما ليس منها»(1).

فحضور الصحة والسلامة لا يرغبنا بشيء ما دمنا لا نهتم بها ولا نطلبها لكونها حاضرة ولا يشكل عدمها أثرا على الحصول على السعادة: «فليس في تلك الأمور اذا حضرت ما يرغب فيها، وهي لا تضيف شيئا على السعادة»(2)،وهذه ما يصفها افلوطين بانها ضرورات معاشية وليست فقط خيرات معها فالرجل السعيد لا يرغب فيها لان السعادة لا تتحقق بها ما دام الإنسان كان قد حصل على الأفضل فلابد من أن يحتمل طوارئ ما زال أن العالم يسير هكذا.

إن الملذات التي يحصل عليها الإنسان جراء السعادة هي ليست ملذات بالمعنى المادي (ملذات الإباحيين وملذات الجسد) إذ إن هذه الملذات (تبطل السعادة) وتقع الأفراح المفرطة أيضا في هذا الاتجاه، لكن إن كان (المجتهد) لا يعتريه ظرف التغيير والتقلبات، فان الخير في كل الأمور حاضر عنده و حاصل لديه، حتى أن أفعاله تتكيف على وفق تكيف الأقدار وتبقى حسنة وان عاكستها الظروف، وليس فقط أفعاله البدنية بل حتى النظر ، فاذا نظر العارف المجتهد في الجزئيات فلأنها تحتاج بحثا وتدقيقا ويبقى (العلم الأعظم) في متناول يده ومعه(3).

ومن هنا يرى افلوطين أن السعادة ليست بضخامة الجسم أو عافيته كما اسلفنا، ولكن اذا توفر لحكيم ما كل من خلال الطبيعة، ولم يتوفر ذلك لحكيم آخر، فهل يعني هذا بان السعادة غير متحققة لهما ؟ وهل لهذا قضية في ادراك الكمال ؟ يرى افلوطين انما نحن ننظر إلى الحكيم والسعيد (المجتهد) من خلال عجزنا ونقصنا ، لان هذه الأمور لا

ص: 315


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 75.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 75.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 79.

تزيده ولا تنقصه وهي ما يقلل من قدره، بوضعنا له عرضة للطوارئ، فلا مقام للسعادة في أعراف الناس، لان السعادة بالمفهوم الأفلاطوني استعداد للخير من جهة الأعلى.

ثم يسأل افلوطين سؤالا مهما، هل إن السعادة تزداد مع مر الزمن، وهي تدرك على انها حاضرة. ويعتقد افلوطين أن السعادة لو كانت ذكرى وتم استذكارها في الكلام، فهي ليست بسعادة ، لأنها حالة ثابتة راهنة، وليست السعادة هي رغبة دائمة بالفعل والحياة، فكلما ازداد الفعل ازدادت السعادة، وبهذه يصبح اختلاف في مرتبة السعادة، فتكون سعادة الأمس اقل من سعادة اليوم أو بالعكس، فان نظر الإنسان إلى موضوع معين ويزداد مع ذلك تدفق الزمن لا يعني انه اكثر سعادة بذلك، إن الذي يحصل هو تساوي النظر في لحظة واحدة، ينتقد افلوطين من قال إن الرجل ليعيش سعيدا منذ بداية الحياة حتى آخرها وان شخص آخر عاش السعادة وعرفها في آخر حياته، وان السعادة إن كانت تزداد وتنقص فكذلك مقدار الشقاوة يزداد وينقص، وعليه أن نحسب فترات السعادة للإنسان بان نجمع ما كان يشكل سعادته في وقت مع وقت لاحق، وننظر إلى الحالة الحاضرة ونجمع معها حالتها الماضية، ونقول بذلك إن الزمان ازداد وبهذا نخضع السعادة لمقياس من مقياس الزمن، وهذا امر متناقض اذا قسنا السعادة بالحظة الحاضرة وقد قسناها سابقا بالزمان، جعلناها هنا غير قابلة للتقسم، وهذا ما يعبر عنه افلوطين بانه (حماقة) فإننا نستطيع أن نحصي الأمور الماضية كتعداد الأموات لكن لا نستطيع إحصاء لحظات السعادة.

ويرى افلوطين أن الزمان صورة للابد والنفس بما انها أخرجت من مقام الأبد، وكان العالم العلوي أمرها الخاص بها، فهي غير خاضعة للزمان ولا تقاس به، انما تقاس بالسرمدية : «فهنا لا زيادة ولا نقصان، ولا قياس بطول ما ، بل الحاضر بالذات في خلوه التام من المدة والزمان، ولا يجمع بين الأيس والليس، بين الزمان والسرمدية»(1).

فالسعادة عند افلوطين في حياة تامة كاملة يحصل عليها الإنسان بالشوق بعيدا عن

ص: 316


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 84.

الزمان واقعة بين السرمدية، وان ما يحاول الإنسان من الحصول عليه الحسنات من انما هو ليس الزيادة في الزمان بل إن الإنسان يجني الخير ولا يمل و لا يكل مما يطرا عليه من الحوادث : «فان فعل النفس في التفطن وهو فعل قائم في النفس بينها وبين ذاتها، وهذا هو حقا الثبات في السعادة»(1).

المبحث الثالث: مفهوم الحسن:

- يعد الإنسان الكائن الحي الوحيد الذي امتلك قدرة الهية وتذوقا فنيا ونفسيا للجمال من خلال تذوقه لما يدور حوله من مظاهر الكون والطبيعة، وهو تأمل يشمل تذوق الطبيعة (المادي) والتذوق الحيوي الذي يحياه الإنسان في البنية حتى يبدو له الكون في اجمل صوره فيستمتع بجمال الخالق في خلقه، والجمال موضوع وتساؤل للإنسان منذ اقدم عصوره واختلف حول مصدره كونه هبة من الاله الخالق، وان مصدره روح شيطاني فمن المحذور البحث فيه(2).

-أما موضوع الجمال من حيث مفارقة تجليه الظاهري، وباطنية أسراره، فانه يكاد أن يكون اقرب الموضوعات إدراكا للخلق في صفاته، كشفا لحقيقة إبداعه، من قبل رؤية المبدع المطلق (الحق) الذي ابدع المخلوق الحسي في مظاهره المتعددة للتعبير عن الجمال الكلي واللامرئي»(3).

ويعتقد أن أول مشكلة جمالية مرتبطة من خلال إدراكي لما هو جميل، هذا الأدراك الذي يقسم إلى إدراكين، ادراك حسي (خارجي) هو إدراكي لما موجود من خلال الحواس، وادراك باطني داخلي (تأمل ذاتي) هو ادراك الانفعالات النفسية، أفكار، مشاعر، إرادة، انفعالات، عواطف، وما يجمع الإدراكين معا هو أن موضوعها (المدرك) حاضر مباشر أمام الوعي(4).

ص: 317


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 85.
2- ينظر: راوية عبد المنعم عباس، القيم الجمالية، دار المعرفة الجامعية، مصر، من دون طبعة، 1987م، ص 7-8 .
3- عبد القادر فيدروخ، الجمالية في الفكر العربي، اتحاد الكتاب العرب، 1999م، ص 12.
4- ينظر: ولتر سيس، معنى الجمال، ت. أمام عبد الفتاح أمام، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2000، ص 42.

ومن الغريب ما قاله أحد الباحثين : «لا يتضح راي قاطع لأفلوطين بهذا الشأن، فهو يقرر من جهة أن الاله يهب الجمال كل الكائنات باقيا في ذاته الجمال، الأول جمالا اعلى من الجمال وهوه مبدا أول لجمال عالم المثل، ويقرر من جهة ثانية أن الجمال ليس (..) بل هو بعده ويحتاج إلى (...) ولا يحتاج (...) إليه ليكون في درجة مباشرة بعده»(1).

وهنا ندخل إلى دراسة النظرة الأفلاطونية عن مفهوم الجمال، وكيفية علاج موضوعاته، بعد أن يقدم افلوطين استفهاما حواريا قبل البدء بكل فصل من تاسوعات، إذ نجد أن أفلوطين يؤكد على بعدين من الأبعاد الجمالية، بعد مادي كان له فيه راي خاص، وبعد روحي يحدد به اتصاله (بالخير والحسن الأعلى) ويحدد فيها أيضا التطهيرات في تكوين الفكرة الجمالية، يتساءل افلوطين هل إن الحسن في كل الأمور شيء واحد لا اصل له سواه؟ أم إن الحسن يكون في الجسد وآخر يكون في غير الجسد ؟ ما الذي ينبه أنظار المشاهدين للحسن ويجذبها نحوه ويجعلها تلذ بمشاهدته ؟

يبين افلوطين أن هناك اتفاقا بين الناس من أن الجمال هو تناسب بعض الأجزاء مع بعض وتناسبها بالنسبة إلى الكل، وهذا ما يجعل الشيء جميل المنظر وهذه النظرة يقدم افلوطين لنقدها، موضحا أن النظرة الجمالية هنا نظرة ليست بسيطة، انها نظرة مركبة لان الأشياء تكون جميلة بما فيها من تناسب وتزان و فالشيء جميل بتوازنه وتناسب فروعه، ومن ثم إن هذه النظرة الجمالية للكل تسحب الجمال من الأجزاء الفرعية المكونة لذلك الكل، فهي لا تملك الحسن في حدود ذواتها: «بل فقط بقدر ما لها تساعد أن يتم الحسن في الكل»(2).

يعتقد افلوطين أن الكل اذا كان جميلا ، وجب أن تكون الأجزاء المكونة له جميلة أيضا و وهو يفرق بين أن يكون الشيء جميلا بسبب أجزائه المكونة له و بين أن

ص: 318


1- غسان خالد ،افلوطین ،عویدات، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1983م، ص 226،
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 86.

تركب أو تشكل شيئا جميلا من أجزاء قبيحة يزيد توضيحه للمسألة بان ليس كل جميل متكونا من أجزاء بسيطة فالشمس يقوم جمالها ولا تعتمد على تناسب أجزاء الوانها، وهذا ليس فيما يخص البصر فحسب، بل أن السمع له جماليته وصورته الجمالية، فالصوت يكون جميلا بغض النظر عن الأصوات المركبة له فالحسن: «في

حيز البصر بخاصة، وهو أيضا في حيز السمع يدركه في تناسق الألفاظ »(1).

وينتقل افلوطين إلى مسألة (الأمور الفكرية والعلمية) ويعالج مسالة الجمالية فيه، من خلال طرح تساؤلات عدة، فهل أن التناسب مدخليه في تكوين النظرة الجمالية؟،هل بالإمكان تكوين نظريات في العلوم أو قوانين أو معارف من خلال التناسب بين النظريات أو تكوين رؤية علمية جمالية من توافق في الآراء الفاسدة؟، وهل إن لكل فضيلة حسن في النفس؟، وهل إن هناك تناسبا وما هو التناسب الذي به يتم التأليف بين بعض النفس وبين مشاهداتها(2).

وبعد هذا التساؤل الذي يقدمه افلوطين يقدم نظريته في ادراك الأجسام للجمال، ادراك الجمال في الأجسام يكون بما تلمحه النفس لمحافظة لفظ باسمه، ثم تعرفه وترحب به، تتكيف وفقا له، أما القبيح فلا تستطيع النفس الا أن تنسحب أمامه وتتمنع عليه وترده مستغربة، هذا الاستقباح والقبول يرده افلوطين لكون أن النفس بحقيقتها، انها بجانب الذات المتعالية على كل الأمور فتطرب وتفرح وتسحب ما كان قريبا مها، وتطرد وتبعد ما كان غريبا عنها، وليس في هذا الشيء ما يقود أو يعود إلى التجانس أو التناسب ويطلق افلوطين مصطلح (مطلق القبح) موضحا موقفه إزاء النظرية الأفلاطونية في قياس الصورة الحاضرة بجماليتها إلى مثالا لها في عالم آخر، إن ادراك الحسن والجمال لا يكون بمجرد التناسب أو تأتيه صورة تشابه وتماثله في عالم آخر، فالجسم جميل بسبب : «اشتراكه في عقل أتاه من عالم الآلهة»ا(3).

ص: 319


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 86.
2- ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 87.
3- أفلوطين، التاسوعات، ص 88 .

ويحاول أن يعالج مسالة الجمال بين ما هو في الجسم وما هو فوق الجسم، كمسالة البيت القائم في الخارج، مسالة البيت القائم في الذهن، حتى يستطيع الإنسان أن يحكم بالحسن (الجمال) على البيت الكائن في الخارج، فالبيت الذي في الخارج اذا أغفلنا النظر إلى الحجارة التي تكونه فهو مثالا للبيت في الذهن وهنا تحدث كثرة موزعة بين الهيولى وظاهرة فيها، ولكن وجود صورة مثالية لها تجعل صورة الوحدة (ضابطة لهذه الكثرة): «اذا ما ادركنا صورة تبرز مشرفة على الصور الأخرى لممنا شعث ما كان مشتتا في الكثرة، ورفعناه وسقناه إلى السرج الباطن بعد أن اصبح لا تقسيم فيه، ودفعاه إلى ذلك السر على انه يناسبه ويوافقه ويجانسه»(1).

ويصور افلوطين الجماليات والأشياء الجميلة في الحسيات بانها ارتسامات أو أشباح قامت بعملية فرار من عالمها وجاءت إلى الهيولى المتكثرة فقامت بتنظيمها وظهرت أمامنا جميلة باهرة، وهو يعالج أيضا الجمال فيما فوق الحسيات ما تدركه النفس ويطلب أن تبقى الحواس في السفليات ولا ترتقي معا للحكم على ما تدركه النفس، وهذا من خصائص المشاهدة عند افلوطين، وهنا التفاتة رائعة يؤكد أفلوطين أننا لا نستطيع أن نحكم على الأشياء الجميلة الحسية الا من خلال النظر اليها وادراك الحس فيها، فالمكفوف لا يستطيع أن يرى الأشياء الجميلة لعدم قدرته على رؤيتها والإحساس بها، فالأعمال الباطنية كذلك فمن لم نشرح له صورا من الأدراك والأعمال

والعلوم التي لها مدخليه ببهاء الفضيلة لا يستطيع أن يدرك مظهر العدل والعفة.

ويصف افلوطين من تحصل له هذه الأمور ويحصل له الأدراك النفسي أن يشعر بالفرح والجذب والطرب، وهذا يختلف اختلافا واضحا بين الأدراك النفسي وما يدركه الإنسان في الأدراك الحسي، الانفعالات تخبر النفوس بما لا نستطيع أن نراه، واكثر نفوسنا إدراكا هي النفوس التي تكون اشد حبا وهياما، كما يرى الحسن في الأجساد لا يكون بمستوى واحد عند من يرونه، فالجمال النفسي يختلف فمن كان يمتلك شعورا اقوى يوصف بالعشق.

ص: 320


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 88.

ويوجه افلوطين ليدرك معاني هذا الجمال واللذة سؤالا إلى الذين عاشوا اللحظات وكيف يستطيعون أن يفرقوا بين حالة ما قبل الصلاح في العمل وبين حالة الاستعداد الروحي، إن ما يشعرون به ليس شكلا أو لونا أو حجما، إن ما يشعرون به نفوس منزهة عن اللون المنطوية على العفة، إن كل ما يحصل بعد هذا الانجذاب والصلاح عظمة النفس، والعفة الصافية وسلامة القوية، والشجاعة في مظهرها المنطبع بالمروءة هو ارتياح واطمئنان، انه الروح الساطع الرباني الأصل وهي أمور نحبها انها الموجودات الجميلة(1).

وهذه المرحلة لا يصل اليها الإنسان الا بعد تهذيب النفس من الشرور التي علقت بها نتيجة اتصالها بالبدن وتطبعت بما يريده البدن، انها حالة ذلك الرجل الذي سقط في الطين والوحل ولا يمكن أن يعود إلى جماله الا بعد أن يزيل ما علق به من أدران الوحل، فالنفس لا تستطيع التحرر من الشرور التي علقت بها وليست بجوهرها الا بعد أن تميط عنها الانفعالات التي انسكبت بها نتيجة اتصالها بالبدن(2).

ومجموعة الفضائل - التطهيرات - تصل اليها النفس بعد تنقيتها من مطالب الجسد ونزعاته هي العفة والشجاعة والفضائل، فالعفة تقطع كل صلة بالجسد وتهرب من الملذات الظاهرة، والشجاعة عدم الخوف من الموت، والموت هو مفارقة النفس للجسد ولا يخاف المفارقة من كان يعيش (وحده مع ذاته) وتحصل للإنسان كرامة توجب له احتقار الدنايا وفطنة يفكر من خلال عدولة عن الدنيويات، فالنفس بعد أن تطهر تصبح مثالا وعقلا وتمسي مجردة عن الجسد كل التجرد وتضحى روحانية كلها فكل الجماليات أما تحصل للإنسان من معين الحسن، مصدر كل جمال هو العالم الرباني، وبذلك نستطيع أن نوازن بين ما قدمة النص وبين التساؤل السابق الذي قدمة الباحث غسان خالد

ويتحدث افلوطين عن ذلك الارتقاء إلى العالم العلوي، عن حضور الذات

ص: 321


1- للاستزادة أكثر حول تحليل النص ينظر: أفلوطين، التاسوعات، ص 88 وما بعدها.
2- للمزيد حول تحليل النص ينظر : أفلوطين، التاسوعات، ص 90-91.

الإنسانية بذات المدرك للجمال، ويستخدم عبارات من جماليات المشاهدة، ويؤكد وجوب العودة والارتقاء إلى ذلك الخير الذي ترغب به کل نفس، هذا الخير شاهد افلوطين عليه من يقول انه قد رآه ، ومن عرف له الحسن، وهنا يؤكد افلوطين كي نصعد إلى الخير الأبدي، نتوجه نحو هذا العالم ونتجرد مما لبساه أثناء هبوطنا ، فالنفس هابطة وأثناء هبوطها حصل لها تلبس به لاتصالها بالبدن فلابد لها من تتجرد عنها ومن يرغب للصعود لابد يتطهر ويخلع ما عليه من ثياب ثياب الشهوات، لكي يصعد إلى أقداس الهياكل عليهم أن يصعدوا عراة، ليدركوا: «القائم بتفرده وحده في صفاته وببساطته وقداسته، هو الذي يرتبط به كل شيء، والذي فيه تحدق ببصرها الأشياء كلها فترز أيسها وحياتها وعرفانها بالروح، إذ انه علة الأيس والحياة والروح»(1).

وهنا يصف افلوطين حالين حالة من شاهد، وحالة من لم يصل بعد إلى المشاهدة ، فالذي لم يصل إلى المشاهدة يتصف بانه اعظم عشقا وحنينا للخير، واعظم همه هو أن يتحد به، أما المشاهد له فهو يسحر بحسنه، ويصاب بالبهتان والفرح ويشعر بالاضطراب البريء من كل ضرر، ويأخذ بالعشق الحق، ويحتقر كل ما كان يظن انه حسنا، ومن يشاهد الآلهة أو احدها لا يرغب بعد ذلك بحسن الأجساد ويستمد كل أموره من الملأ الأعلى، ويصف افلوطين هذا الحسن «بالقول: ما راينا لو أنا شاهدنا ذلك الذي يوزع الحسن على كل شيء ويمد بالحسن كل شيء، باقيا في ذاته لا ينال شيء غيره، ولو بقينا هكذا في مشاهدته نتمتع به ونتحول إليه، فهل نعود في حاجة إلى حسن ما لأنه هو الحسن الأعظم وهو الحسن الأصلي يخلع الحسن على من يحبونه، ويجعلهم هم أيضا أهلا للحب»(2).

فالشقي من ترك هذا الجمال وترك هذا الحسن واخذ بجمال الألوان والأجساد، ويهتم بالسلطان ومقامات الجاه، حقا على النفس أن تسلك طريق المجاهدة، الجهاد

ص: 322


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 92.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 92.

الأكبر الاسمى الذي يوصلها لذلك الحسن والذي من حقها أن تضحي لأجله بكل العروش وبكل سيادة على الأرض وحقها أن تزهد بكل ما في البحار والسماء اذا كان هذا الزهد «ما يؤمن الفوز برؤياه بعد توجيه الوجه إليه»(1).

هذه الرؤية هي رؤية خالصة، الرؤية التي تساعدنا على السير للوصول إلى الجمال، ولكن بعد أن نترك النظر إلى بهجة وجمال الأجساد، ونترك وراءنا ونحقق معنى الفرار إلى الجمال الأعلى من خلال قول فلوطين «فلنفر هاربين إذن إلى الوطن المحبوب»(2).

هذا الفرار هو ما يحقق الحسن الباطن والنظر الباطن، ويبين افلوطين الفرار بان نعود النفس على مشاهدة الحسن في المعاملات ثم في الأعمال، وهو لا يعني بالأعمال الأعمال الفنية، بل يعني الأعمال التي يقومون بها أهل الصلاح والفضل، مثال النحات من اجل ما يقرب به افلوطين الفكرة.

فالنحات عندما يصنع التمثال يقوم بعدة عمليات قطع وصف وتنظيف وتمليس، وبهذا يخرج صورة للتمثال، فعلى الإنسان حتى يسطع أمامه بهاء الفضيلة وترى فيه العفة منصبة على القاعدة المقدسة لابد من أن يزيح الفضول عن النفس ويسدد ما كان معوجا فيها، فان تحقق وحدة الصفاء مع الذات وابتعد كل ما يمنعك من الشوق كنت بتمامك النور الحق، المنزه من كل قياس، وتكون بذاتك يقينا واحدا، فتصبح تلك العين التي تدرك الحسن الأعظم، وتلك الحقيقة (الحسن الأول) أو الخير والخير والحسن الأول واحدا عند افلوطين وكمال الحسن قائما في الملا الأعلى.

ص: 323


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 93.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 93

المبحث الرابع: مفهوم الخير والشر:

كعادته يتساءل افلوطين عن الخير أين يكون؟ أو ليس هو قيام الحياة بفعلها وفقا لما تقتضيه الطبيعة ، واذا كانت الكائنات تتألف من عناصر كثيرة فان الخير هو قيامها بالفعل الخاص بها وفقا للطبيعة دائما ومن دون إهمال أي ناحية من نواحيه، فخير النفس هو قيامها بالفعل الخاص بها، لكن النفس تعمل لأشرف سبيل، وتصل إلى اشرف مقام، فذلك الشرف هو ما يكون خيرا بالنسبة اليها، بل انه الخير على الإطلاق، وتحصل على هذا الخير التشبه بالخير الأشرف، أو عن طريق أن تتوجه إليه أثناء قيامها بأفعالها، ولا يلزم الخير أن يتجه بنفسه إلى خير ما أو يهدف إليه، لأنه كما يقول افلوطين: (المعين القائم بطمأنينة) وهو من يخلع على كل الأشياء هيئة الخير فالنفس تتوجه إليه لا لكونه يخلع الخير على كل الأشياء ولا بواسطة العرفان لأنه قائم بذاته في ما هو عليه، وهذا الخير هو ما يتعلق به كل شيء و يتعلق هو بشيء، انه يهدف إليه كل شيء ويبقى ثابتا وإليه يتجه كل شيء، والعلاقة بين الأشياء وبينه علاقة الدائرة بمركزها، علاقة الشمس بالنور : «ينبعث منها ويبقى متصلا بها فمن أية ناحية قابلته كان معها لا ينفصل عنها ، واذا حاولت فصله من جهة ما، وجدته هو ابداً في جانب الشمس»(1).

إن النفس بطبيعتها تتوجه إلى الخير إذ وضحنا ذلك في تأصل المفاهيم، لكن بواسطة الروح ، فهي تتجه إليه عندما تتوجه النفس بنفسها نحو الروح التي تلي الخير مباشرة، وبذلك تكون اقرب إلى الخير من كل الكائنات الأخرى: «وهي تتشح بهيئة الخير بواسطة الروح ، انما يتم لها الخير عندما تتوجه وجهها نحو الروح الذي يلي الخير فورا، فالخير اذا هو الحياة لمن كان له حياة وهو الروح لمن كان حظ من الروح ومن توافرت له الحياة مع الروح اخذ من الوجهين»(2).

ويقارن افلوطين بين الحياة والخير من جهة وبين الحياة والشر من جهة، انها

ص: 324


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 95.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 96.

كالبصر عند من يرى بوضوح ومن لا يرى بوضوح، ويمزج فكرة الموت مع فكرة الحياة ويداخلها في مفهومي الخير والشر، فهل الحياة شرّ للإنسان أم هي خير له، وهل إن الموت شر للإنسان أم انه خير له، ويقارن افلوطين بين وجودين للنفس: وجودها في الحياة ووجودها بعد الموت، والنفس اذا كانت كلية فأي شر يمكن إن تخشى منه، سواء أكانت في الحياة أو في الموت، وفرق بين النفس التي تحافظ على صفائها والنفس التي لا تحافظ على صفائها، فالشر ليس بموتها وإنما بحياتها، ليس الحياة هي الاتحاد بين النفس والجسد ، وليس هذا ما يقصده افلوطين، وأيضا ليس الموت هو الانفصال عن الجسم: «نعم إن الحياة خيرا لمن كانت حياته صالحة، ولكنها ليست خيرا على انها جمع بين النفس والجسد بل لأنها تدفع الشر بواسطة الفضيلة»(1)، وهي لا تحيا بحياة المركب كما يؤكد ذلك افلوطين بل انها تحيا بحياة: تؤدي بها إلى حال المفارقة والانفصال»(2).

ويحاول افلوطين أن يحدد مفهوم الشر، ذلك بعد تحديد مفهوم الخير وحقيقته، وهو يؤكد مرة أخرى أن الخير ما يتعلق به كل شيء وما إليه تهدف كل الأشياء، لأنها تجد اصلها فيه وتجد انها في حاجة دائمة إليه، والخير لا يحتاج إلى شيء ولا يعوزه شيء فهو مكتف بذاته، وان كل الموجودات (الروح والآيس والنفس والحياة) وأعمالها وما تتجه إليه من الحسن وما فوق الحسن فهي من العالم الروحاني، الخير الأعلى هو الذي يجعل روحنا (نحن) تحفل بالقضايا والمقدمات وادراك ما في مجال النطق وتعتمد على طرق الاستدلال وقوة النظر في النتائج، وهذه القوة هي ما تمكننا من الحصول على مشاهدة كل الأمور التي لم تكن في أول الأمر، ويصف افلوطين الخير بصفات، بانه الكل في كل شيء، الكل من جملته في كل ناحية، وبعض ذلك الكل ليس متشبها به، كل شيء متميز عن بعض، وليس مشتبها ببعض، والروح هي الفعل الأول لذلك الخير (الذات الأولى)، فالخير هوهو في ذاته، وما يفعله الروح هو التفلسف بذاته (الخير)، والنفس حلبة الرقص التي تدور حول الروح، وتحق اليها

ص: 325


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 96.
2- أفلوطين، التاسوعات، ص 96.

وتنفذ فيها ببصيرتها، والغرض من هذا الوصف الذي تطرق إليه افلوطين لتوضيح أن هذه الحياة هي حياة الآلهة المطمئنة السعيدة وهذه الدورة من الحياة لا مكان فيها للشر، ومكان الشر هو حالة العوز في مقابل من هو مكتف بذاته، والذي يكون في حالة فوضى لا يستقر على حال، ويكون عرضة لكل انفعال، انه نهم وفقر بالذات وهذه الصفات التي يذكرها افلوطين ليست أعراضا عنده وإنما وإنما هي حقيقة الشيء.

وكما أن الروح تكون قريبة من حقيقة الخير فان الأجساد تكون قريبة وفي المقام الأول من مقام الشر، وهي في الوقت نفسه محرومة من الحياة يفسد بعضها بعضا، والنظام فيها مفقود، ودورها انها تحيل بين النفس وبين فعلها الذي أمضته الطبيعة اليها، وبذلك تكون النفس في هرب دائم لأنها تجري باستمرار، والنفس ليست كالشر في ذاتها ولذا تكون شرا في المقام الثاني، ويؤكد افلوطين ما أشار إليه من أفلاطون يرى بان ليس كل نفس شريرة انها تحصل على الشر كونها غير خارجة عن نطاق الهيولى، وليست صافية بحد ذاتها فخالطها الخلل من كل جانب ولم تصب الكمال من جانب آخر.

ويؤكد أفلوطين أن حقيقة الشر ليست قائمة في الهيولى، بل انها قبل الهيولى، لان الحرمان انتفاء للخير وان كان الحرمان مطلقا كان الشر مطلقا أيضا، وهناك تناسب عكسي بين الحرمان والشر، فكلما زاد الحرمان كلما قويت جهة الشر كما يقول افلوطين، وليس الشر في عالم الآلهة، بل انه يكون في عالم الفساد والفرار من الشر يكون بتجنب الرذيلة وكل ما يتولد عنها .

يدعو افلوطين الإنسان إلى التمهل وعدم السرعة في الرقي والصعود في مدارج الكمال لان إقحام النفس إقحاما انما هو (انتحار مباح) : «واذا قدر لكل أنسان اجل محدود فان استعجاله ليس بلائق الا لأمر قاهر، فضلا على أن المقام في العالم الأعلى يكون وفقا للحالة التي انطلقنا عليها، فالواجب الا ننطلق ما دام ثمة مجال للاستزادة من التقدم المتواصل »(1).

ص: 326


1- أفلوطين، التاسوعات، ص 109.

الخاتمة

وفي نهاية البحث ممكن نستخلص نقاط عدة لعل أهمها ما يأتي:

اهتم افلوطين اهتماما واضحا بالأخلاق القائمة على العقل وعلى الحدس، وعلى تربية النفس ومساعدتها للعلو والسلوك والرفعة في مدارج الكمال. وهذا مما اثر كثيرا على التفكير الفلسفي الإسلامي في مجال الأخلاق و التربية.

أكد على أهمية النحن في عروجه إلى ما فوق النحن، تاركا كل ملذات الجسد حتى لو كانت القصور والممتلكات الفارهة التي لا تعدل الكمال في شيء. وهنا نجد سحنة صوفية لدى أفلوطين استند عليها الصوفيون بعد ذلك ونقدها الفلاسفة المسلمون.

وإن كان قد تأثر بالأخلاق الرواقية فإنه انتهى إلى عد التجربة الصوفية تجربة الوجد هي الغاية النهائية التي يجب أن تتحدد تبعاً لها وتترتب عليها كل المقدمات المؤدية لكل معرفة، ومن ثمّ الأساس لكل نظرية في المعرفة، كذلك بین ماهية هذه التجربة ما فيها من جانب ذاتي وما فيها من جانت علوي يأتي عن طريق الواحد (الله) لذلك يعد أفلوطين مؤسس نظرية الحدس في الفكر الإنساني التي أثرت على مسار كثير من مدارس الفلسفة الغربية والاسلامية.

وصف افلوطين حالين حالة من شاهد، وحالة من لم يصل بعد إلى المشاهدة، يتصف بانه اعظم عشقا وحنينا للخير، ومن يصل المشاهدة فهو يسحر بحسن الخالق، ويصاب بالبهتان والفرح ويشعر بالاضطراب البريء من كل ضرر، حتى انه يشعر بالوصول إلى العشق الحق ويحتقر كل ما كان يظن انه حسنا. يحث نجد لهذا النوع الاتصال الروحي الأثر الكبير بكثير من تيارات الفكر الإنساني ومنها إسلامية بین ناقد ومادح.

ونجدنا افلوطين يؤكد على بعدين من الأبعاد الجمالية: بعد مادي كان له فيه راي خاص، وبعد روحي يحدد به اتصاله (بالخير والحسن الأعلى) ويحدد فيها أيضا

ص: 327

التطهيرات في تكوين الفكرة الجمالي، ونلاحظ مدى تأثر الفكر الإسلامي الإجمالي بهذه الفكرة خصوصا في التطهير والاتصال بالخير الأعظم.

إن الخير المطلق محور وجود الروح وأساس سعادتها،ولا ولا تتحقق السعادة فی السعي وراء الماديات وإنما هي باتصال الروح بالخير المطلق. وهذه الفكرة هي التي بنى عليها الفيلسوف المسلم الفارابي في كتابه تحصيل السعادة، وكذلك كتاب تحصيل السعادتين للأصفهاني.

إن الطابع العام لفلسفته هو غلبة الناحية الذاتية فيها على الناحية الموضوعية.هی فلسفة تمتاز بعمق الشعور الصوفي والمثالية الأفلاطونية ووحدة الوجود الرواقية فالمعرفة عنده تبدأ من الذات وتنتهي إلى الله من غير أن تمر بالعالم المحسوس.

المصادر والمراجع:

افلوطين، التاسوعيات، ت. فريد جبر، الناشر مكتبة لبنان ،لبنان، الطبعة الأولى، 1997م.

أنجلو شيكوني، أفلاطون والفضيلة، ت. منير سغبيني، دار الجيل، بيروت- لبنان، الطبعة الأولى، 1986م.

برتراند رسل، حكمة الغرب، ت. فؤاد زكريا ، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، الطبعة الثانية،2009م.

حربي عباس عطيتو، ملامح الفكر الفلسفي الديني في مدرسة الإسكندرية القديمة، دار العلوم العربية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1992م.

راوية عبد المنعم عباس، القيم الجمالية، دار المعرفة الجامعية، مصر، 1987م .

عبد القادر فيدروخ ، الجمالية في الفكر العربي، اتحاد الكتاب العرب، 1999م.

غسان خالد ،افلوطین، عويدات، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى 1983م.

محمد مهران رشوان، تطور الفكر الأخلاقي في الفلسفة الغربية، دار قباء، القاهرة، 1998م.

محمد عبد الرحمن مرحبا ، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، عويدات، بيروت - لبنان، 2007م.

محمد فتحي، الجدل بين أرسطو وكنط، المؤسسة الجامعية، بيروت - لبنان، الطبعة الأولى، 1995م.

مصطفى النشار، تاريخ الفلسفة اليونانية من منظور شرقي، دار قباء، مصر، 1998م.

ولتر سيس، معنى الجمال، ت. أمام عبد الفتاح أمام، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 2000م. يوسف كرم، تاريخ الفلسفة اليونانية، مراجعة، هلا رشيد أمون، دار التقدم، (بلا تاريخ).

ص: 328

المذاهب الأخلاقية للحداثة

خلفيتها التاريخية، روّادها، ونظامها المعرفي

عبد الحميد يوسف(1)

يمكن القول إنَّ تأسيس النظم الأخلاقية غير الدينية وظهور الأخلاق الدنيوية أو الأرضية، من أهم خصائص العالم الغربي في القرن الثامن عشر فما بعد. فبعض النظم الأخلاقية تتصادم وتتعارض مع الأخلاق الدينية، فضلاً عن كونها نظماً علمانية. ويمكن إعطاء مثال على ذلك من الأخلاق الداروينية، فهي أخلاق توصي بسحق الضعيف من جانب القوي؛ لأنَّ ذلك يتطابق وقوانين الطبيعة الصارمة. فكل التعاليم المتضاربة مع الحركة التكاملية لبقاء الأصلح إنما هي تعاليم سلبية. وقد أسهب المتألّهون في مناقشة القيمة الشرعية المنطقية للأخلاق العلمية، لا سيما الأخلاق الداروينية.

إن مطلبنا من هذا البحث هو التعرض إلى المرجعيات المؤسسة للمذاهب الأخلاقية التي ولدت في الغرب جراء الانقلابات ضربت الفكر الاجتماعي والفلسفي

ص: 329


1- باحث في الفلسفة الغربية - فلسطين. ترصد هذه المقالة أبرز المذاهب والتيارات الأخلاقية التي ظهرت في أزمنة الحداثة الغربية ولا سيما تلك التي تزامنت مع ما عُرف ب- عصر التنوير وتبعاً لما ورد فيها من عرض منهجي، فقد تبين لنا ان هذه المذاهب ولدت تحت وطأة الصراع المرير بين العلمنة وسلطنة الكنيسة في أوروبا. ولعل الفرويدية والداروينية كتيارين رئيسيين معاديين للاهوت المسيحي شكلا معاً عنوانين نموذجيين لمثل هذا الصراع، وخصوصاً في خلال الحقبة التي انتصرت فيها العلمنة على اللاهوت السياسي للكنيسة. المحرر

إبان عصر التنوير. ومن المفيد في هذا السياق إلقاء الضوء أولاً على ما قدمه الفلاسفة علماء الاجتماع الذين صرفوا قسطاً وفيراً من جهودهم في الميدان الأخلاقي. يلي ذلك عرض للسيرة التاريخية للمذاهب الأخلاقية التي رافقت صعود الحداثة.

أخلاقيو الأزمنة الحديثة

مونتاني وباسكال: ليس هناكمن شك في أن نتاج «مونتاني» هو الذي افتتح التأمل الأخلاقي «العلماني» في العصور الحديثة.

ولا ريب أيضاً في أنّ هذه الأخلاق تنتمي - بأساسها الخفي إلى زمرة الأخلاق العلوية، ولكنها من التحفظ وبهجة الطابع بحيث لا يمكن اعتبارها إلا كمجموعة مبادئ تخص «الرجل الصالح» ذا التطلع المحدود بعض الشيء، أو كفن سطحي (لمعرفة كيفية الإستمتاع شرعاً بوجودنا). وقد جرى التقليد على التقريب بين اسم باسكال واسم مونتاني الذى كان مصدر وحي كبير بالنسبة إليه. ولكن باسكال ليس في الواقع صاحب مذهب أخلاقي بل هو عالم ومترافع عن الدين المسيحي . ومن ثم لا يمكن تسميته «أخلاقياً» إلا من حيث كونه رساماً للأخلاق الممارسة، أو بصورة أدق لما يسمى اليوم الوضع «البشري الواقع»، فقد اقتبس كتاب مونتاني من هذه الناحية كثيرا من «الأبحاث» التي أسبغ عليها طابعاً تشاؤميّاً بهدف الإمعان في إبراز ضعف الإنسان وقابليته للعطب.. فمخيلة الإنسان تخدعه باستمرار وهو حبيس متطلبات التلاؤم من كل نوع، ويعجز عن الحكم على نفسه بنفسه، كما أنّه عبد لأهوائه «الترفيه» التي يحاول عن طريقها الهرب من ذاته(1).

وليس ما يتفرد به باسكال الاستنتاج اللاهوتي هو طرائقه التي يبغي بواسطتها اقناع قارئه، وذلك انطلاقاً من مبدأ ينص على أن لكل مجال منهجاً خاصاً به، ومن ثم فإنّه يجب على العقل المتفوق القوة في مجال الرياضيات أن يخضع في مجال اللاهوت إلى سلطة السنة الموروثة أو تلك الفكرة العميقة التي قوامها : إنّ إرادة الإيمان تقود إلى الإيمان، اذ

ص: 330


1- Georg Simmel. Thephilosophy of Money- philosophie des Geldes. Translated by Tom Bottomore and David Frisby (London;Boston، M.A : Routledge Kegan Paul، 1978

لا يمكن في الغالب الإنضمام إلى مذهب إلا عن طريق الأفعال (حتى غير الصادقة منها في البدء) فهي التي تولّد - دونما شعور - القناعة ووحدة السلوك.

2- ديكارت ومالبرانش: كان «ديكارت» ميتافيزيائياً عظيم الطاقة (وهو يهيمن على تطور الفلسفة المعاصرة بمجموعها كما يصفه «بوترو»)، ولكنه لم يكن أخلاقياً مجدداً، وذلك على الأقل فيما يتعلق بقواعد الحياة التي اقترحها علينا ... التي نجدها معروضة في مقالة المنهج (الجزء الثالث) التي وضعها عام 1637. فهذه القواعد مزيج من البراغماتية التقليدية [إطاعة قوانين واعراف بلادي... إلخ] والوحي الرواقي (الثبات في الآراء ما أن يتم تبنيها وحتى لو لم تكن «مؤكدة» بشكل كامل.. و[أن أحاول دائماً تغيير رغباتي بالأحرى عوضاً عن تغيير نظام العالم]..).

غير أن هذه القواعد لم تتصد لأن تكون أكثر من أقوال أخلاقية ميتة بانتظار الأخلاق النهائية التي كان ديكارت يأمل استنتاجها من علمه ومن ميتافيزيائه بعد اكتمالها، ولكن هذه الأخلاق التتويجية (التي لم يتح له سوى رسم خطوطها البدائية في مراسلاته وفي كتاب الأهواء) تلتقي بشكل متطابق تقريبا مع تعاليم «مقالة المنهج» سوى أنّها تستند هذه المرة إلى مفهوم عقلي عن الإنسان.

نتيجة لذلك، فإنّ الأخلاق، هي ليست فن القضاء على «الأهواء» كالإعجاب والحب والحقد، بل فنّ استخدامها لأجل تدعيم الأفكار والسلوكيات الملائمة للفرد تجد نفسها أي الأخلاق أمام طريقين: - التأثير على «الأهواء» عن طريق الجسد (نظراً لوجود تفاعل) وهذا مصدر الأهمية الأخلاقية للطب . - التأثير عليها عن طريق الإرادة [«فإما أن تركز هذه اهتمام العقل على الأشياء المغايرة لتلك التي تولد الأهواء التي ينبغي القضاء عليها، أو أن تجعل الجسد يتخذ مواقف تتنافر مع الهوى السيء، أو أن تفيد من تداعي الأفكار لكي تحمل الهوى على تغيير موضوعه» كما قال «برييه»]، فتكون هذه الممارسة الحرة للإرادة في الواقع أنقى الينابيع طراً «للاكتفاء» شريطة أن تتم الممارسة وفقا للعقل» ... هذا العقل الذى يجب تعريفه (وهذه بالطبع مسلمة ديكارتية) بأنه: اتجاه نحو وعي يزداد وضوحاً بإستمرار للمحل الذي يشغله الفرد في

ص: 331

«الكل« (الوطن، الإنسانية، الكون، الإله) ونحو عاطفة حب وطاعة للنظام الإلهي تزداد عقلانية بإستمرار، وهذا مصدر سلوك «الكرم» (بحسب تعبير ديكارت) الذي يقوم على هجر كل مصلحة شخصية والخضوع الفعال بحبور «للعلوية الكاملة» التي يتوقف عليها العالم بأجمعه، ويتفق ذلك فعلياً ولكن بصورة عقلانية هذه المرة مع وجهة نظر الرواقية ومفهوم «التقبل» لديها(1).

أما «مالبرانش» فقد اراد في كتاب بحث في الأخلاق» عام 1684 إكمال أخلاقية ديكارت عن طريق البرهان على صحة مسلمته القائلة بوجود «استعمال حسن» للإرادة. ترتبط أخلاق مالبرانش كل الإرتباط بمجموع فلسفته المتمحورة حول فكرة توقفنا على الله (توقف كلي شامل). هكذا - بحسب مالبرانش - فإنّه عندما «تعتقد» ملكة الفهم لدينا أن لديها تمثلات عقلية فالواقع أن الله هو الذي يؤثر فينا بواسطة عقله الخالد.

3- سبينوزا: تبدو لنا فلسفة سبينوزا (المتوفي عام 1677) من عدد من الزوايا كإشتقاق مستنبط من الديكارتية، وكإفقار لها في الحين نفسه. فمن ناحية أولى في الواقع نجد أن «ثنوية» ديكارت تتحول فيها إلى «واحدية» شمولية الألوهية، وعلى ذلك فليس الجسد والروح سوى مظهرين (لا يبدوان متميزين إلا من وجهة نظرنا الإنسانية، البدائية والمحدودة معا) تتجلى بواسطتهما حقيقة واقعية واحدة هي وحدها الحقيقة الأصلية (نستطيع تسميتها الإله، أو الطبيعة، أو الجوهر اللامتناهي، أو الخ..)، وهي تتجلى تلقائيا وبالضرورة تحت ضغط «ميل توسعي» خاص بها. ومن ناحية أخرى فإنّ الأخلاقية السبينوزية الشهيرة ليست أي شيء آخر سوى التطور المنهجي لفكرة كانت على درجة ثانوية من الأهمية في الأخلاق الديكارتية، وهي فكرة أن الفرد متوقف بصورة كاملة على النظام الإلهي(2).

4- لايبنيتز: كان «لايبنيتز»(المتوفى عام 1716) أقل إخلاصاً بدوره للديكارتية التي حولها إلى تعددية مثالية : فكل كائن - بالنسبة إليه - وحدة روحية خالصة (أو «مونادة»)..

ص: 332


1- Ipid. PP. 120.
2- راجع في هذا الصدد: الفلسفة الأخلاقية عند سبينوزا - إشراف د. أحمد عبد الحليم عطية - دار التنوير - بيروت -2008.

هي مجموعة من الإدراكات الحسية التي يشوبها بعض الإبهام التي تعكس بصورة شبه شاملة كل الإدراكات الحسية الأخرى، وهذه المجموعة ذات ميل داخلي تلقائي لجعل «النظرة إلى العالم» المتشكلة منها تزداد وضوحاً إستمراراً. وعلى هذا فإنّ طريق الكمال الأخلاقي والعقلاني هو: تأييد هذا الإنتقال إلى إدراكات حسية أشد تميزاً، لأن كل «مونادة» حين تزداد معرفة بنفسها إنما تكتشف بجلاء أكبر تماثلها مع المونادات الأخرى، والروابط التي تشدها إليها، والمخطط العام (أو «الأحادي»، أو كون الذرات الروحية).

مضى القرن الثامن عشر الذى كان تجريبيا بصورة أساسية وميالاً من ثمّ إلى الأخلاقيات «الطبيعية»، فعادت أخلاقيات العلوية إلى الإنتشار، ولا سيما في ألمانيا. وكان مصدر وحيها الفلسفات «الرومانطيقية» الواسعة التي نمت وتطورت في حقبة أعوام 1830، وهي فلسفات مزجت بين ميتافيزياء «كانط» وميتافيزياء «سبينوزا»، (بعد أن عدلتهما تعديلاً عميقاً) .. فقد تصور «كانط» أنّ العالم المحسوس الذي نعيش فيه هو نتيجة عمل بنياني، نفذته بعضا «الصور» الخاصة بالروح في «مادة» غامضة لا يمكن معرفتها إلى الأبد، بحد ذاتها. أمّا خلفاء «كانط» فقد أزالوا هذه الإزدواجية ولم يقبلوا إلا بواقع واحد، هو الفاعلية البناءة في الروح، هذه الروح التي هی الخالق بشكل كامل لكل هذه المظاهر التي ندعوها «الأشياء».

أما بالنسبة ل- «سبينوزا» فقد احتفظ هؤلاء منه بتصوره العام، ولكن بعد أن بثوا فيه «حيوية» ذلك المفهوم الذى كان الفكرة الكبرى في تلك الحقبة، أي مفهوم «الصيرورة الكلية». وهكذا فقد حددوا «الجوهر - الإله» السبينوزي بصورة أقل استاتيكية، فهو يبدو لهم تطوريا وخاضعا لقانون داخلي فيه يفرض عليه التقدم نحو انتاجات تتزايد ثراء وتعقيدا دونما توقف.

یری «فیخته» (المتوفي عام 1814) والذي «قلب السبينوزية على وجهها الآخر» بحسب تعبير «جانيه» و «سياي» أنّه ليس هناك سوى حقيقة وحيدة وأولية هى ال- «أنا»، تلك الروح الكلية التي ماهيتها هي كونها فاعلية، وإرادة تهدف باستمرار لتجاوز الحدود الذاتية لها..

ص: 333

وقد استنبط «فيخته» من نظرته هذه أخلاقيّة عملية تعدّ أنّ «الكثرة» - أو التعدد - ليست إلا الوسيلة التي تتيح لل- «أنا» التقدم، ويجب أن تهدف الفضيلة إلى العمل على تحقيق الكمال لدى الآخرين بقدر ما يفعله المرء بالنسبة لنفسه بالذات، كما يجب أن تهدف إلى تنمية انسجام المجموعة وتنمية الحرية الفردية لكل عضو من أعضائها في الوقت نفسه. وهذا مصدر مثله السياسي الأعلى القائم الإشتراكية الجامعة (على طريقة «برودون» حوالي 1840)، التي تخص الدولة بدور وحيد هو حماية التفاهمات بين الأشخاص(1).

5- هيغل وشيلنغ: ذهب «هيغل» (المتوفى عام 1831) و«شيلنغ» (المتوفي عام 1854) إلى اعتبار الأخلاق كمرحلة من تلك الصيرورة الضرورية التي يتشكل منها الكون يصورة اساسية، وبالنسبة لهيغل فإنّ الكائن الماهوي هو الفكرة الخالصة (اللا واعية لنفسها في البدء) التي تخرج إلى الطبيعة، وهي تنمي بهذه العملية شيئا فشيئا ذخائرها الذاتية (الكامنة فيها كطاقة في مطلع الأمر).

وأما شيلنغ فإنّنا نجد لديه استلهاما شبيها بالسابق، ولكنه يتخذ شكلاً أقل «عقلنة» بكثير. فهو يتصور «المطلق» بصورة رومانطيقية جداً على أنّه «دينامية» مقتدرة ومبهمة تتطور بصورة متناظرة في الطبيعة (التي هي نوع من «الذاتية» لها).

ولا تتمثل الأخلاق في فلسفة شيلنغ (أو فلسفاته بالأحرى، لأنّه عرض عدداً من الفلسفات المتوالية التي تزداد نسبة الصوفية والشاعرية فيها أكثر فأكثر)، لا تتمثل مختلفة عن كونها عملاً من أعمال الحركة التطورية الخلاقة. و«زمنا» من أزمنتها.

6- شوبنهاور: يتصف فكر شوبنهاور (المتوفى عام 1860) بطابع خاص أشد بروزاً، مع أنه يماثل في رومانطيقيته فكر شيلنغ، ويخالف بشكل واضح التفاؤل الذي اتصف به معاصروه، (الذين اعتبروا أن الصيرورة هي ماهوياً تقدم). فهو يرى من ناحية أخرى أنّ خُلق الفرد ثابت لا يتغير، ومن ثم فإنّ التبشير بأية أخلاق أمر لا فائدة منه مطلقاً. فالأخلاق علم نظري ليس له مفعول واقعي ولا دور له سوى أن يصنف،

ص: 334


1- عبد المنعم الحفني - موسوعة الفلسفة والفلاسفة - الجزء الأول - مكتبة مدبولي - القاهرة - 1999 - ص 109.

بحسب نظام تقييمي منطقي، الأنماط المختلفة الممكنة للحياة. فالأخلاقية الوحيدة التي يمكن تبريرها في هذه الظروف وبعد تحليل تخميني هي الرحمة، التي تهدف إلى نكران الذات بشكل كلي وإلى المساهمة الكلية في الألم العام.

وعلى هذا، فإنّ سلوك الحكيم يقوم على الإفلات من هذه الدائرة الجهنمية... وذلك عن طريق الفن أولاً، فالفن هو تأمل العالم بصورة مجردة عن الغرض. ولكن الطريق الأجدر بالاعتبار هو الرحمة، فهي التخلي عن الذات، أو بتعبير آخر ادراك التطابق العميق للكائنات، هذا الإدراك الذى يأذن بفهم ما تتصف به الأنانية من جنون... فحينما يدرك الإنسان أن الآخرين هم هو بالذات، وحينما يجعل من الألم الكلي ألمه الشخصي، فإنّ إرادته تتنازل عن مكانها، وهذا هو التخلي عن «إرادة الحياة» والذي لو عمّ لقاد الإنسانية إلى الخلاص ( ال- «النيرفانا» البوذية) أو بالأحرى إلى الغناء - السعيد - للنوع .

ظهور المذاهب الأخلاقية

نستطيع القول من بعض النواحي أن الكانطية تمثل انعكاس مفهوم الإرادة الإلهية هذا على صعيد الأخلاقية الإنسانية.. أما المنابع الحقيقية للاكانطية فنجدها في نتاج «روسو» وفي مذهب «التقوى» الجرماني الذي ظهر في حقبة 1750 (ويقوم على تفسير اللوثرية بالمعنى الفردي، والمناداة من ثمّ بأولوية الشعور والضمير الشخصي على جميع المذاهب).

مذهب كانط

تشكل فلسفة «كانط» بمجموعها (كما عرفها هو ذاته) ثورة شبيهة بتلك التي قام بها «كوبرنيك» في مجال الفلك حين جعل الكواكب تدور حول الشمس، بينما كان علم الفلك القديم يتصور ان الشمس هي التي تدور، ومعها الكواكب حول الأرض.

وفي الواقع، لو درسنا المعطى الأخلاقي.. أي تلك الأفعال التي يتفق الناس على اعتبارها «صالحة».. لاتضح لنا أنّ ما يأذن لنا بوصف فعل ما بأنه «فاضل» ليس على

ص: 335

الاطلاق انطباقه على قاعدة ميتافيزيائية ما (أو نفعيه، أو علمية أو الخ..) ولكن بنيانه الصوري فحسب، المستقل كل الاستقلال عن التحقق المادي لهذا الفعل.

لقد اتجه «كانط» في سبيل تحقيق غرضه السابق إلى الأخلاق الحية (كما فعل «روسو»، أي إلى «الفلسفة الأخلاقية الشعبية» واعتقد أنّها تنطوي على مبدأ يستطيع استخلاصه منها، وهو مبدأ خالص بشكل مطلق، وداخلي بالنسبة لأي سلوك نحكم عليه بأنه أخلاقي، ومستقل عن أي عنصر ذاتي محسوس... هذا المبدأ هو الواجب، أي إطاعة القانون لا لسبب آخر الا احترام القانون فحسب، وبمعزل عن أي اعتبار آخر حتى ما كان نبيلاً (كالمودة تجاه الآخرين أو الرغبة في اكمال المرء نفسه بنفسه إلخ..) فضلاً عن أي دافع مصلحي ( كالكبرياء والمنفعة ...) وقد أطلق «كانط» على هذا المبدأ العمدي الذي يقوم على جعل التمثل العقلي ل«القاعدة» - والتمثل وحده لا أثر الفعل - محرك الإرادة، أطلق عليه إسم الإرادة الحسنة»(1).

حاول «كانط» البرهان على أنّ هذا «الأمر ليس طاغية يتحكم بشكل لا منطقي (وكان ذلك إحدى النقاط الضعيفة في بنائه).. فقد أكد أنّه إذا كنا نحس بإلزامية الواجب فذلك لأننا نشعر بأنّه يفرض نفسه بصورة واحدة متشابهة على كل كائن عاقل موجود في نفس ظروفنا. وهذا ما يعني بتعبير آخر أنه يمكن تعريف «صورة» الأخلاقية بأنّها «مبدأ كليّة»، أي فعلاً يمكن تصنيفه حالاً ك«خير» أو «شرير» تبعاً لقابليته أو عدم قابليته لأن يصبح كلياً. وليس هذا المبدأ الصانع للكلية، أي تلك البنية الفطرية في كل روح، سوى ماهية «العقل العملي» (وهذا هو الاسم الذي يطلقه «كانط» على العقل الإنساني من حيث اشرافه على الممارسة العملية للسلوكات ومقابل «العقل المحض» الذي هو العقل الإنساني من حيث بحثه عن معرفة العالم) ... وهكذا يصبح بإمكاننا وضع صيغة عامة وعقلانية تأذن بتوجيه الفاعلية تلقائياً وفي كل لحظة: «تصرف بحيث تستطيع جعل دافع فعلك قاعدة كلية».. (ويصبح الفعل مداناً في اللحظة التي نجعله فيها كلياً مما يقودنا

ص: 336


1- فرانسوا غريغوار - المذاهب الأخلاقية الكبرى - ترجمة قتيبة المعروفي - منشورات عويدات - بيروت - باريس - ط-3-1984ص113.

إلى تناقض منطقي : فتعميم مبدأ الكذب من شأنه بحدّ ذاته أن يُدمر هذا المبدأ.. إذ إنّه لن يبق هناك من ينخدع بأي شخص آخر)(1).

وقد استخلص «كانط» من هذه القاعدة قاعدتين أخريتين (ليستا في الواقع سوى مظهرين مختلفين لها):

أ - يجب احترام فكرة الكلية، فهي القاعدة لكل أخلاقية حينما وجدت.. أي لدى كل كائن إنساني. وهذا ما يؤدي إلى قاعدة وجوب اعتبار الإنسان دائماً «كنهاية بحد ذاته»، أي ك- «مطلق» (لكون يحمل مبدءاً مطلقا)، وتجنب اعتباره أبداً كوسيلة... وينتج عن ذلك إدانة الفسق مثلاً ولاسترقاق لأنهما يعنيان جعل المرأة أو الرجل أداة للملذات أو للعمل.

ب - يجب على كل كائن بشري: أن يتصرف بحيث يشعر بنفسه «كموضوع ومشرع» في الوقت نفسه. ذلك أنّه بالنظر لكون الإنسان مطلقا، فهو لا يستطيع الخضوع في سلوكه لأية قاعدة خارجية، بل يخضع للقواعد النابعة عن إرادته الذاتية فحسب ولكن يجب على هذه الإرادة أن تتذكر أنّ الاشخاص الآخرين هم أيضاً مطلقون، فلا يستطيعون من ثمّ الشعور بالالتزام تجاه قانون أخلاقي إلا إذا كان صانعه ذاته - وهو المساوي لهم - يشعر بالخضوع له(2).

مذاهب ما بعد كانط

ولبيان جدل الانقطاع والتحولات التي تقلب فيها الغرب سنعرض بعض المذاهب التي تخللت العقل الأخلاقي الغربي بعد كانط. وهي على الجملة ذهبت إلى النظر فی الأخلاق بوصفها معطىً وضعياً ومجتمعياً. وهي على الوجه الآتي:

1- المذهب الانفعالي : يمثله الفيلسوف الإنكليزي التجريبي ديفيد هيوم (1711 - 1776) وهو يرى أنّ المعارف الحقيقية هي المعارف التي يكتسبها الإنسان عن طريق

ص: 337


1- فرنسوا غريغوار - المصدر نفسه ص115.
2- المصدر نفسه - ص116.

الحس، يعني أن القيم واللزوميات الأخلاقية منشؤها الانفعالات الداخلية عند الأفراد لا أن منشأها واقعي وعيني. ويعد المذهب الإنفعالي واحداً من المذاهب الأخلاقية غير التوصيفية. ويتفق هذا المذهب مع المذهب الأشعري (لدى المسلمين) في أنَّه لا يرى إلى أنَّ للأحكام الأخلاقية منشأ واقعياً.

2- المذهب الإجتماعي: مؤسسه إميل دوركهايم(- 1858) (Emile Durkhiem 1919)، معتقده الأخلاقي على أربعة أحياز:

أ - لا وجود للأخلاق من دون المجتمع.

ب - المجتمع يملك شخصية مستقلة عن الأفراد.

ج - لا بد من اتباع المجتمع في الأخلاق فهو الذي يحدد معادلة الحسن والقبيح.

د - معرفة الأعمال الحسنة والقبيحة تكون بالرجوع إلى أخلاقيات المجتمع وآدابه وتقاليده . (...)

3- مذهب المنفعة : تبنّاه الفيلسوف جرمي بنتام 1848 - 1832 (Jerme Benthams) وجون ستيوارت میل 1806 - 1873 (Jhon Stuart Mill) وليس هذا المذهب سوى نسخة معدلة من الأبيقورية «فاللذة عند بنتام هي الخير الوحيد والألم هو الشر الأوحد «ويقول جون ستيوارت مل : «اللذة المبتغى الأوحد». فهما يشتركان مع أبيقور في القول، بأنَّ السعادة هي الخير بالذات، والسعادة ليست سوى اللذة. ولقد رأى هذان الفيلسوفان أنَّ المشكلة الأساس في الأبيقورية، هي كونها تهتم بالفرد ومصالحه، وتغفل المنفعة العامة (...) على أنَّ الفيلسوفين يختلفان حول كون المنفعة العامة هدفاً أو وسيلة، رغم اتفاقهما على كونها مطلوبة، وخيراً أخلاقياً. «بنتام» يعتقد أنَّها وسيلة للوصول إلى السعادة الشخصية . أما ستيوارت مل فيعتقد بكونها هدفاً ومطلوباً أصلياً .(...)(1).

ص: 338


1- المصدر نفسه.

4- المذهب العاطفي: جاء هذا المذهب تعديلا لمذهب المنفعة العامة، حيث یؤمن العاطفيون عموماً بأنَّ الأفعال التي لها صفة فردية من جميع الجهات لا تقع ضمن دائرة التقييم الأخلاقي (...) من أبرز ممثلي هذا المذهب: آدم سميث (1723- 1790) (Adam Smith)الاقتصادي وفيلسوف الأخلاق الإنكليزي المعروف، والألماني آرثر شوبنهاور (1798-1860) (Arthur Senopenhauer) والفرنسي

أوغست كونت) (1798-1857) Augeste Compt).

5- مذهب القوَّة: يعدّ هذا المذهب - الذي دعا إليه الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه (1844 - 1900) - ردّة فعل على الأخلاق المسيحية التي تستند إلى المذهب الأخلاقي الرواقي هذا التأثر بالرواقية أدى إلى اتجاهات أخلاقية سلبية تدعو الناس إلى الاستسلام للقضاء والقدر، ومن هنا، شعر نيتشه بأنَّ من يتربى على هذا المذهب، سوف يكون إنساناً خاملاً مستعداً لتحمل الظلم، فانبرى لمواجهة هذا المذهب الأخلاقي، وثار في وجه الأخلاقيات المسيحية:» اعتراض نيتشه على المسيحية، هو أنها تدعو إلى روحية العبودية في نفوس أتباعها» وتربيّ إنساناً خاملاً وذليلاً ، وهذه الأخلاقيات غير مقبولة، وعلى المذهب الأخلاقي أن يربي إنساناً فاعلاً ومؤثراً. وهو يقول عن المسيحية: «أنا أدين المسيحية وأحكم عليها بأقسى حكم أصدره مدّع حتى الآن، وأرى فيها أبشع صور التدمير أذمُّها وأعدُّها لعنة عظيمة، فهي ليست سوى ذل البشرية الخالدة».

يرى نيتشه أنَّ «القوّة» و«السلطة» أساس الأخلاق الفاضلة كلها. وفي شرحه لنظريته الأخلاقية يرى أن كل موجود حي يحب حياته، ويريد المحافظة عليها، وهذا الأمر يحتاج إلى القوة. لذا فإنّ الإنسان الضعيف محكوم بالهزيمة والفناء. (...)

6- مذهب العقلانية المنفتحة: مع الفيلسوف النمساوي كارل بوبر (1902 - 1994) الذي احتل موقعاً مميزاً في ثقافة القرن العشرين ويعد واحداً من أبرز فلاسفة العقلانية المنفتحة وفلسفة (1723-1790) العلوم، ستنتقل العقلانية الغربية إلى طور جديد كل الجدّة. وسيكون للأخلاق معنى آخر خارج الدائرة المثالية للأفلاطونية المحدثة وكذلك خارج دائرة الديالكتيك الهيغلي. يتخذ بوبر من المجتمعات

ص: 339

القائمة في الغرب الأوروبي والأميركي نموذجاً لمفهوم المجتمع المنفتح جاعلاً من الديمقراطية الليبرالية المثال الأعلى للنظم الاجتماعية. وبذلك يكون الوسط العلمي ما يُرجع إليه كونه نموذج النقاش العقلاني القابل لكل النظريات والاقتراحات شرط أن يتم مناقشتها وتقييمها بحسب المعايير الموضوعية للمنهج العلمي(...) ولذا فإنّ المسألة الأخلاقية تصبح أكثر جلاءً إذا ما وضعنا مطالبنا سلباً، أي إذا طلبنا القضاء على العذاب بدلاً من توفير السعادة»(1).

7- المذهب الأركيولوجي: في مرحلة متأخرة من رحلة العقل الفلسفي الغربي سيكون لتأويل الأخلاق بعد مختلف. علماً أنَّ عمليات التأويل التي سنأتي عليها بعد قليل لم تغادر مؤثرات ما سبقها. إحدى أبرز محطات هذه الرحلة كانت مع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو. ولعلَّ كتابه «تاريخ الجنسانية» المؤلَّف من ثلاثة أطوار، سيعده النقاد، الوعاء الذي يحوي في طيَّاته فلسفته الأخلاقية. والسؤال الذي نواجهه هنا هو الآتي: أيّة أخلاق تلك التي تقرّب إليها فوكو في «تاريخ الجنسانية»؟.

هناك من قدَّم الإجابة تبعاً لقراءته للقصد مالفوكوي» فوجد أولاً أنَّ الأخلاق في ضمن هذا الحقل تريد أن تتجاوز كل الأدبيات الفلسفية التي تُطرح عادة تحت هذا العنوان. وأول ما يفعله فوكو هو تأكيد الفصل بين الأخلاق (La Morale) وبين الإتيكا (Lethique). وهذا الفصل يميّز بين الأخلاق باعتبارها منظومة القيم والأوامر والنواهي التي تنتصب في مستوى الشخصية القمعية للمجتمع، وبين سلوك الأفراد الذي لا يمكن اعتباره مقدماً أنّه مندمج في الأخلاق أو خارجي عنها.

لا شك في أن المذاهب السبعة التي ذكرناها، تتداخل في ما بينها ويتغذى كل منها مما سبقه. إلا أن تطورات النقاش الأخلاقي في الغرب. وخصوصا في الأحقاب الأخيرة من القرن العشرين أطلقت كمية هائلة من التأويلات يمكن القول أن بعضها يمكن أن يُطلق عليه مذهبًا أخلاقيًا . كالذي سوقته البروتستانتنية الإنجيلية في أميركا بعد صعود المحافظين الجدد.

ص: 340


1- المصدر نفسه.

في المتاهة الكانطية

محاولة في نقد القانون الأخلاقي الكانطي

*محاولة في نقد القانون الأخلاقي الكانطي(1)

إدريس هاني(2)

«لقد تحوّل كانط إلى أبله»

نيتشه

مدخل

لا يخفى أن الكانطية كانت قد أنجزت ثورة كبرى في تاريخ الفلسفة الحديث قوامها وضع العقل نفسه أمام سؤال النقد؛ وبذلك صار لها الفضل في الإجهاز على ما تبقى من أُسُس فلسفية للاهوت المسيحي وعموم الميتافيزيقا الغربية. فقد يقال إنّه ليس ثمة من أمكنه فعلاً تسديد الضربة القاضية لآخر قلاع الإيمان منذ ديكارت،

ص: 341


1- بحث مستل من كتاب (أخلاقنا في الحاجة إلى فلسفة أخلاق بديلة) للمؤلف من منشورات مركز الحضارة، بيروت عام 2009م.
2- مفكر إسلامي مغربي، يؤكد الباحث أنه لا يخفى ان الكانطية كانت قد أنجزت ثورة كبرى في تاريخ الفلسفة الحديث قوامها وضع العقل نفسه أمام سؤال النقد، لكن المحاولة الكانطية في تهريب مسألة الإيمان من حاق العقل إلى هامش العقل العملي، من خلال متاهة القانون الأخلاقي أن ينزل الأخلاق منزلة الدين، والإنسان منزلة الإله، بمعنى آخر محاولة إسناد القانون الأخلاقي إلى العقل العملي، ظنا منه أن هذا يكفي كي نجعل الإنساني مستقبلا عقلانيا خاليا من الدين، كما جاء في كتابه (الدين في حدود العقل 1793): » أنه تأسيساً على مفهوم الإنسان بوصفه الكائن الحرّ والخاضع بنفسه لقوانين بلا شرط تصبح الأخلاق في غنى عن فكرة وجود كائن آخر أسمى من الإنسان، حتى يعلمه ما يجب عليه. المحرر

أكثر مما قام به صاحب سؤال الأنوار وناقد العقل المحض ، وقد باتت هذه القناعة راسخةً في أذهان كثير من فلاسفة القرون الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين وإلى اليوم، بمن فيهم مؤرخو الفلسفة. وهذا الرأي يقع في مقابل رأي آخر، يرى عكس ذلك تمامًا؛ يرى في المحاولة الكانطية محض مسامحة تحجب تسليمًا مضمرًا بكلّ الأسس الميتافيزيقية واللاهوتية التي ناضل هذا الأخير في سبيل تقويضها. على الأقل لم ير نيتشه في قدوم كانط ما هو جدير بإحداث التغيير فى أُسس الفلسفة الألمانية التي وَسَمها بأوصاف تتراوح بين الانحطاط والخداع والبله. يتساءل نيتشه عن حقيقة هذا الجديد الذي جاءت به الكانطية حينما يقول: «من أين ذلك الاقتناع الألماني، الذي يُسمع صداه إلى اليوم، بأنه بدءًا من كانط قد حدث انعطاف نحو شيء أفضل »(1).

غير أننا سنكتشف بعد ذلك أن حتميّة الإيمان تحققت بصورة أقوى داخل الجدل الكانطي نفسه، إذ إن أولى علامات الفشل في تقويض الإيمان، هي عندما اضطر هذا الأخير إلى إحداث ضرب من الشرخ الوظيفي بين عقلين، كان أحرى أن يُظهرا تطوُّح المحاولة الكانطية في تهريب مسألة الإيمان من حاقٌّ العقل النظري إلى هامش العقل العملي، الهامش الذي يصبح بموجب إطلاقه مركزاً يهمش العقل النظري بوصفه، دون حد تعقل الأشياء مطلقًا. الفضل في دحض مسألة الإيمان ومعاودة تأسيس فكرة الله من خلال السؤال الأخلاقي هي حكاية عن انسداد آفاق الدحض الفلسفي لفكرة الله، ولقد أكدت الحقب التاريخية التي أعقبت المحاولة الكانطية أن الأخلاق هی أعجز ما تكون عن القيام في دنيا الخلق خارج الدين أو لا أقل بلا شرطه، أو لا أقل دون تقمص أدواره وتمثل وظائفه. ولو عبرنا بطريقة مارتان بليز، فإنَّ القيم الدينية تحتلّ قمة سلَّم القيم الإنسانية(2). إننا نزعم أن العالم اليوم - وبخلاف أكثر الذين اعتبروا أن العصر يعاني حقا من أزمة قيم - لا يعيش أزمة قيم إلا بقدر ما يعيش أزمة

ص: 342


1- فريديرك نيتشه، عدو المسيح، ص 38.
2- Martin Blias. L'échelle des Valeurs Humaines. p 150 Un document produit en version numérique par Mme Marcelle Bergeron, bénévole Professeure à la retraite de l'école DominiqueRacine de Chicoutimi, Québec et collaboratrice bénévole

دين. ولقد حاول كانط جهده عبر متاهة القانون الأخلاقي أن يُنزل الأخلاق منزلة الدين، والإنسان منزلة الإله، بمعنى آخر محاولة إسناد القانون الأخلاقي إلى العقل العملي، ظنًا منه أن هذا يكفي كي نجعل المستقبل الإنساني مستقبلاً عقلانيًا خاليًا من الدين، ومن دون الحاجة إلى المحفّز الوحياني، وهذا ما أكد عليه مرارًا وتكرارًا في أعماله الكبرى؛ حيث نجد مثالاً عنه في مقدّمة الطبعة الأولى من كتابه «الدين في حدود العقل»(1793)، ما معناه أنه، تأسيسا على مفهوم الإنسان بوصفه الكائن الحرّ والخاضع بنفسه لقوانين بلا شرط ، تصبح الأخلاق في غنى عن فكرة وجود كائن آخر أسمى من الإنسان، حتى يعلمه ما يجب عليه، كما هو في غنى عن هو في غنى عن أي دافع آخر لإنجاز ذلك، غير القانون نفسه، وبالجملة فهو ليس في حاجة إلى أن يستند إلى الدين في أمر أمكنه تحقيقه انطلاقاً من العقل العملي المحض، فهذا الأخير يكفيه لتحقيق ذلك(1).

والحق أننا نجد في المحاولة الكانطية الفاشلة على براعتها في التمنطق والتفلسف، فهما متحيراً للعقل؛ عقلاً لاذ بالاقتصاد حدا لم يعد قادرًا بموجبه على الفعل إلا عبر التشطير والتفكيك والتحير بين وظائف قسمي عقل بلا مَقْسَم، نظر إليهما كانط تحت تأثير جامح تعدّى الأرسطية نفسها، بوصفهما عالمين منشطرين على نحو الحقيقة. إثبات الشيء في ذاته والحكم بامتناع تعقله على الحقيقة، ليس نزعة لتنسيب العقل أو معانقة غير معلنة لإسميّة نجد في المتن الكانطي ما يناقضها؛ بل هو تحايل على حتمية الإطلاق التي سوف تعود بجلالها من ناف ت العقل العملي بصورة تعوّض عجز العقل النظري، وتثبت ما حكمت الكانطية بعدم اختصاصه بالعقل النظري؛ لأن السؤال المطروح اليوم على كانط: هل العقل العملي شطر لصيق بالعقل النظري، وهل يكفي أن نطرد من حيّز العقل النظري؛ إمكانية معرفة الأشياء كما هي في حقيقتها لا كما هي عارضة على ملكة الفهم، حتی تفقد صفة العقلانية؟

ص: 343


1- Emmanuel Kant، La Religion dans les Limites de la Raison، p15. Traduction de André Tremesaygues. développée par JeanMarie Tremblay, en collaboration avec la Bibliothèque PaulèmileBoulet de l'Université du Québec à Chicoutimi Un

إذن ، كان يكفي أن نقول : إن العقل العملي هو عقل خارج نطاق العقل وهو أول متهم.

فكيف نظر كانط إلى الأخلاق؟ وكيف نظر إلى الدين؟

الجواب على هذين السؤالين يستدعي الحديث عن القانون الأخلاقي وعن الموقف الكانطي من الدليل الأنطولوجي . ونؤكد هنا على أننا لا نطمح فقط إلى نقد تهافت الطريقة الكانطية المخاتلة في محاولتها التأسيس للإلحادية الحديثة التي تبدأ من تأكيد عدم الحاجة إلى الدين، وتستمر بفك الأخلاق عن الدين، وأحيانًا فك الدين عن الإله -حكاية دين بلا إله- وأخيراً دين الخروج من الدين في تمثلات مراوغة للروح الكانطية مع غوشيه. وكلّها ترى سندها الموضوعي في القانون الأخلاقي، وفي مشروع نقد العقل بشقيه المجرّد والعملي. يؤكد هيغل، وهو أحد أبرز نقاد كانط، على ذلك قائلاً : كما هو معروف فإن تأثير النقد الذي وجّهه الفيلسوف إيمانويل كانط ضدّ الأدلة الميتافيزيقية عن وجود الله، أدّى إلى التخلي عن تلك الحجج، ولم تعد تذكر في أي بحث علمي عن الموضوع، وفي الحقيقة إن المرء يكاد يخجل من أن يوردها أصلاً.

ويذكر في مثال نقد كانط للدليل الغائي، أنه بفضل كانط جرى التشكيك لأوّل مرّة في هذا الدليل(1).

إننا نسعى هنا لجعل القانون الأخلاقي نفسه أبرز الأدلة الحديثة على وجود الله؛ بل إنها أبرز الطرق الحديثة على أن الدين ضرورة وحتمية أنطولوجية. وحينئذ وجب أخذ أحكامنا هنا بشروطها أو لنقل برسم التنسيب، فقد يرى بعض في كانط مؤسّسا لهذه الإلحادية، وقد يرى فيه بعض مؤسّسا للإيمان، وهذا كله يمكن الوقوف على مظاهر منه في الحيرة الكانطية. وأما مقارنةً مع نيتشه - وفي نظره- فإنَّ كانط لا يزال يربط نجاحه بنجاح اللاهوت. وفي نظري، إن المتاهة الكانطية مفتوحة لتأكيد الحكم ونقيضه؛ فالقدرة الاستدلالية مراوغة إلى حدّ أنّها صنعت مفارقات العقل؛ بل انتحرت

ص: 344


1- فريدريك هيغل ، الأعمال الكاملة (محاضرات فلسفة الدين) ص 121-18.

غرقا في نقائضه؛ لذا قد يرى أنصار الإيمان غايتهم في القول الكانطي الذي ضيق من اختصاص العقل، النظري، وقد يجدون فيه ما يخدم الإيمان، بينما الواضح أن التهافتية الكانطية صُدمت بصمود قوة العقل النظري، ونفاذ عالم الأشياء، وصلابة فكرة الله والدين.

***

القانون الأخلاقي

لقد شغلت إشكالية العلاقة بين الأخلاق والدين، حيّزًا لافتًا في النقد الكانطي في معرض صياغة إيمانويل كانط ل- «القانون الأخلاقي». وبقدر ما كان نقد العقل الخالص قد حسم في ذلك الشرخ بين النظري والعملي، فإنَّه استطاع أن يهزم العقلانية الجامحة في غرورها، ويخدش من كبريائها وتطاولها على عالم الأشياء والحقائق، وإذا كان فرويد قد تحدّث يومًا عن ذلك الجرح النرجيسي الذي أحدثته جملة الانقلابات العلمية المشهودة من قبيل ثورة الفلك الكوبرنيكي والبيولوجيا الداروينية والتحليل النفسي الفرويدي، أمكن بعدئذ الاعتقاد بأنَّ نقد العقل الخالص هو في صميمه واحد من الصدمات التي شكلّت جرحًا نرجسيًّا لأزمنة جعلت من العقل جوهرًا قادرًا على فهم كلّ الموضوعات، سواء تلك التي تبدو متاحة للفهم، أو حتى تلك التي لا يحتويها العياني كمُعطى للحس، فقد حاول قلب كلّ البناء التقليدي لفلسفة الأخلاق ؛ قلبًا شرسا وقاسيًا. ونجد مثال ذلك في ما يعبر عنه عنوان كتاب: «الدين بعد الأنوار»، لهيرمان لوبا، كتأكيد على وجود تلك القطيعة. إلى ذلك، يشير جوزيف سايفرت بالقول: «يعترض هيرمان لوبا بطريقة راديكالية على إمكانية معرفة الله في كتابه «الدين بعد الأنوار»، ويقترح تأويلاً وظيفيا لله، وينطلق من افتراض مفاده أنه بعد الأنوار وبعد كانط، فإنه قد أصبح من اللامعقول ادّعاء حق امتلاك الحقيقة في ما يتعلّق بالمعرفة الموضوعية لله»(1).

ص: 345


1- جوزيف سایفرت، الله کبرهان على وجود الله، ص162.

لكنه وعلى الرغم من ذلك، يتراءى لنا أننا أمام صورة من النقد، مهما بلغ شأنه ومهما بلغ تمظهره بالجذرية، لم يحقق قطيعته الكبرى مع جوهر الإشكالية التي بها كان الدين نفسه ضرورة أخلاقية، كما بدا لمن وردوا قبله أو من استصحبوا ذلك بعده؛ بل وربما تحصل من خلال نقد العقل العملي وجود ممرّ لتثبيت هذه الحقيقة التي لم يف بها النقد الكانطي عبر تهافتاته، لكنَّها صدرت شذر مدر عبر رياضة نقدیة هي بالأحرى، وحسب التوصيف النيتشي، لا تعدو أن تكون سوى مساومة مع المنقود على طول الخط فليس إذن «لنقد كانط من موضوع غير التبرير، وهو يبدأ بالإيمان بما ينتقده»(1)، فهو مع ذلك يقرّ بأن القانون الأخلاقي من جهة ما، يقود - من خلال فكرة الإله الخير - إلى الدين(2). كما لم يحقق قلبًا كوبرنيكيا، في مجال فلسفة الأخلاق، من حيث كان قلبه خادعًا وواقعا فى ضروب من الاستبدال والحجب؛ حيث ما بدا من هذا القلب الذي قيل حوله الكثير، ما هو بالأحرى سوى محض مغامرة في صلب مفارقة أشبه ما تكون بخفّة ساحر أو ماهر في الإخفاء على ما رأى ناقده شوبنهاور. وهي المفارقات التي سرعان ما ستعود إلى البدايات، لاستئناف ما استنكفت عن إمضائه بدوا، في نوع من المصالحة العبثية.

***

مأزق التفويت إلى العقل العملي

تلك حيلة تقليدية كرستها الأرسطية، وتعاظم أمرها عبر تاريخ الفلسفة المسائية الوسيطة، وكذا المدرسانية لآباء الكنيسة، حتى كانت لها الحكومة على الحقبة الفلسفية الممتدّة إلى الأنوار، حينما عزّزت الديكارتية من المقولات الأرسطية التقليدية، وأهمها تجسيم الشرخ المثنوي لعقلين استهلكت الفلسفة نفسها داخلهما، كما استفحلت حيرتها عند تخومهما وبين أقصييهما . لعلّ ذلك أكبر وهم وَسَم القول الفلسفي التقليدي والحديث معًا. كان الاستثناء المعانق للوحدة موجودًا دائماً على

ص: 346


1- جیل دولوز، نيتشه والفلسفة، ص 15
2- Emmmanuel Kant، Critique de la Raison Pratique، p205

هامش شقوة التفكيك المعتسف . وبالتأكيد لم تكن الكانطية لتمثل هذا الاستثناء على الرغم من الحركة الانقلابية التي قادتها ضد أوهام العقل الخالص، وللتحقيق لا بد من القول إن الأرسطية ما كانت لتمضي هذا المضيّ الأحمق إلى اعتبار التقسيم الإجرائي للعقل بمثابة تقسيم على نحو الحقيقة، فلا يخفى أنَّ الدليل الأنطولوجي، ودفع فكرة استحالة العلم، وثبوت الحقائق في ذاتها، وإمكان الإدراك لها وللمتعالي، هي في صلب الرسالة الأرسطية. وما الانقلاب الكانطي في صميم هذه الحقائق والأحكام سوى ثمرة لزيغ النزعة الإطلاقية التي وَسَمت الكانطية وعموم الفلسفة الغربية، بما فيها الغارقة في التنسيب. والتنسيب في الفلسفة الغربية، عادة ما يأخذ طابعًا مخادعا وحجاجيًا ليس إلا؛ أي حينما تعاطت الكانطية مع الإجرائية الأرسطية بنحو الحقيقة الواقعية. يرى هابرماس أن كانط كان قد وضع عقلاً مجزءًا محلّ المفهوم الجوهري للعقل الموروث عن التقليد الفلسفي، غير أننا لا نوافق هابرماس على ذلك، فقصارى ما بلغته المحاولة الكانطية، هو أنَّها وزعت أدوارًا ووظائف حقيقية وبقسوة بين شطري عقل أصبحا عقلين، فيما كان الموروث الفلسفي منذ أرسطو يمنحهما لتلك القسمة الإجرائية الصورية للعقل؛ أي إن كانط جعل من التجزيء العقلي حقيقة وليس إجراء صوريًا فقط، كما منحه أدوارًا كبرى جعلت كلّ شطر منه يستطيع أن يتحرك بمفرده، لكن من دون أن يصمد في وجه لعنة المفارقة، وقد تكون هذه لعنة المفارقة، وقد تكون هذه من مظاهر الحيرة إن لم نقل التهافت الكانطي الذي أدركه رعيل النقاد الذين لم يهادنوا محاولته بقدر ما لاحقوا مكامن ذلك الفشل. فهيغل ما فتئ يذكّر بذلك: «فإنه بالمثل أن فلسفة كانط وتهافتات كانط ودحضها لتلك الأدلّة قد تحملناه لفترة طويلة»(1).

لعلّ أهم مظهر من مظاهر هذه التهافتية نزعة الشرخ والتجزيء العقلي، فحتى لو افترضنا أن التجزيء هنا وظيفي وإجرائي، فإن كانط عجز عن تجميع شتاته وتوحيد ما كان قد جزاه ابتداء. يشير هابرماس إلى هذه الحقيقة؛ أي إلى ما آل إليه وضع التقسيم أعلاه، «لمفهوم عقل مجزا إلى عناصره حيث لم تعد وحدته سوى شكلية»(2). فهو -

ص: 347


1- فريدريك هيغل، الأعمال الكاملة (محاضرات فلسفة الدين)، ص19.
2- يورغن هابرماس، القول الفلسفي للحداثة، ص33.

كما يراه - يفصل بين ملكتي العقل العملي والحكم والمعرفة النظرية بوضع كلّ منها على أسس خاصة بها»(1).

وهي المسألة نفسها التي لفتت انتباه راينهولد حينما نفى أن تكون الثنوية التي أقامها كانط بين الحساسية والفهم، حلا(2). ويستدعي إميل برهييه موقف هردر ناقدًا كانط: «والحق أن حساسية هردر بالوحدة وبالاتصال في الأشياء جَرَحَها ما أدخله كانط على هذه الأشياء من تقسيمات وتفريقات : «انشقاق في الطبيعة البشرية، التفريق بين ملكات المعرفة، التجزي في العقل نفسه»: إن عناوين الفصول الأخيرة هذه من كتاب ما بعد النقد تحدد منحى الكتاب برمته، والحق أن الفصل بين الحساسية والفهم، بين الظاهرة والشيء في ذاته، بين العقل النظري والعقل العملي، لم يصدم هر در وحده؛ بل صدم كثيرين أيضًا غيره؛ ولن يكون من هم للميتافيزقا اللاحقة على كانط غير مجاوزة الكانطية عن طريق إعادة بناء وحدة الذهن التي فصمها النقد»(3).

لا يخفى، أنَّ الأخلاق في الفلسفة الكانطية - هي كما في تموضعها الأرسطي التقليدي - من مسائل العقل العملي. حيث لا يتسنى لنا فهم المشكل الأخلاقي في مفارقاته الكانطية، إلا إذا استوعبنا مفارقة العقل العملي نفسه عند كانط، لاسيما وأن العقل النظري حسب هذا الأخير، لا يمكنه إثبات القيم الأخلاقية أو القِيَم الدينية بوصفها أوامر إلهيّة. ومن هنا، جاء نقضه على أرسطو وغيره ممن أثبتوا - في نظر كانط - أكثر مما يتيحه الفهم؛ أي إنهم تمادوا مع شرود العقل النزاع إلى معانقة الوحدة والكمال، إذ إنَّ ما يقع خارج حدود التجريب، لا يمكن إثباته في الأمر نفسه(4). ولا يجد المتأمل للتخريج الكانطي ما يصلح نقدًا جذريا لأصول النظر والتقسيم الأرسطي للعقل، فما زعمه ليس إلا إدانة لأرسطو لإثباته أكثر مما يثبته العقل النظري،

ص: 348


1- المصدر نفسه، ص 19.
2- إميل برهييه، تاريخ الفلسفة: القرن الثامن عشر، ص 302.
3- المصدر نفسه، ص306.
4- أجد أن مراد كانط بالنومينا هو مؤدى ما عرف في الفلسفة الإسلامية ب«نفس الأمر». والجنبة التي أنظر منها إلى هذا التشاكل في الاصطلاح ، أن مفاد الأمر نفسه، ما كان وجودًا واقعيًّا لا تشوبه شائبة المشخصات اللازمة لوجوده في الذهن.

فهو نقد في طول المنظومة الأرسطية التي بدا كانط متقيدًا بها ومستحضرًا مسلّماتها ومتواطئًا إلى حد ما مع مقولاتها، على أقل في حدود القبليات والوجود الذهني وتصوّر الزمان والمكان ومبدأ التناقض . ولم يتمكن النقد الكانطي من طرح السؤال على التقسيم الأرسطي للعقل؛ بل سلّم به تسليمًا. وبينما كانت لغة التنسيب سيدة الموقف في العلم النظري، كان التسليم سيد الموقف في العلم العملي، وبذلك يصبح السؤال كبيراً : أي معيار أنجع في العمل لتجنيب العقل الفوضى والعماء في العلم العملي؟ كما وجب تحقق المعيار في مجال العلم النظري، علما بأن خطورة الفوضى في العمل لا تقلّ ضراوة عن الفوضى في النظر، ومن هنا جاء إنكاره أيضًا للدليل الأنطولوجي، بوصفه استبدالاً لمفهوم الكمال، كما استنكاره للدليل الكوسمولوجي بوصفه استبدالاً للضرورة، وكلاهما لا يثبتان بالعقل النظري(1)، فالحس لا يمكنه إثبات الكلي؛ إذ كلّ ما يثبت بالعلية هو واقع في حيّز التعينات الجزئية، فيثبت كلّ معلول علته، ولكن لا يعني ذلك إثبات علة أولى بواسطة الحس: «لذلك فإنني لا أستطيع أبدًا أن أدرك بما لهذه الكلمة من معنى واقعي وصحيح، الأشياء الخارجية؛ بل أستطيع أن أستدلّ على وجودها فقط من إدراكي الحسي الداخلي الخاص، معتبراً أن هذا الإدراك الحسي بوصفه معلولاً لشيء ما خارجي يجب أن يكون أقرب علّة له؛ ولذلك فإنَّ استدلالاً يبدأ من معلول معطى إلى علّة معينة يكون استدلالاً مشكوكًا في أمره دائماً ؛ وذلك لأن المعلول قد يكون نتيجة لأكثر من علّة واحدة»(2).

من هنا، ندرك كيف كان مجال المشكل الخلقي هو العقل العملي وفلسفة الواجب. وإذا كان القدامى قد اجتهدوا ليرقوا بالأخلاق إلى درجة العلم أو الصناعة، كما يبدو من كلام ابن مسكويه، فإنَّ كانط يريد البلوغ بها إلى ما هو أبعد من كونها مجرد علم؛ أي أراد لها أن تصبح قانوناً محكومًا بالضرورة، حيث أقامها على فكرة الواجب اللأ مشروط، وهي الفكرة التي تؤسس لإشكالية العلاقة بين الأخلاقي

ص: 349


1- لا يرى كانط في الدليلين إلا دليلاً واحدًا يتنكر ويتلبس ثوباً مختلفًا؛ لذا يقول: «أما البرهان الأول، فلقد قدمه العقل المجرد، وقدمت الخبرة الثاني، بينما يوجد في الواقع برهان واحد فقط. أي أنه الأول الذي يبدل ثوبه وجرس صوته كي يظن فيه على أنه الثاني».(إيمانويل كانط، نقد العقل المجرد ، ص 666).
2- المصدر نفسه، ص417.

والديني، كما في نقد العقل العملي. ليست الأخلاق مستقلة عن الدين فحسب؛ بل إنَّ الدين تابع لها، انطلاقاً من أن الأخلاق هي نفسها دليل على وجود الله - وهذا - على كلّ حال لا يجعلنا ننخدع بالتحليل الكانطي، إلى الدرجة التي تدفعنا إلى إحلال الدليل الأخلاقي الكانطي محلّ الدليل الأنطولوجي أو الدليل الكوسمولوجي، اللذين قوّضا في العقل النظري؛ ذلك لأن الدليل الأخلاقي لا يرقى إلى مقام إثبات الوجود الموضوعي، بقدر ما هو مراوغة لإشباع حاجة العقل المجرد إلى وجود مبدأ للممكنات. إنَّ الأخلاق هي من يقود إلى الدين وليس العكس، وليس أي دين بلا شرط جدير بهذا الإيصال في حالة واحدة فقط يمكن لدين ما أن يكون طبيعيا، وفي الوقت نفسه وحيانيا؛ وذلك حينما؛ يستطيع الناس من خلال أبسط الاستعمال لعقولهم - كما ينبغي لهم ذلك أيضًا - أن يصلوا إليه(1).

ليس للأخلاق الكانطية من مرتكز، سوى ما سمّاه هذا الأخير، بالإرادة الخيرة. وهي خير في ذاتها وليست مجرد خير. حتى يمكنه بناءً عليه، تمييزها عن الفضيلة، بوصفها - الفضيلة نفسها - قابلة للاستعمال في الشر، فالإرادة الخيرة، هي المعيار الذي يجعل الفضيلة نفسها خيراً ؛ بحسب ما تقتضيه تلك الإرادة، باعتبارها خيراً مطلقًا غير مشروط أو مقيّد. من هنا، تتحول الإرادة الخيرة إلى هدف مقصود من الفعل الأخلاقي، حيث لا دخالة لآثار هذا الفعل في تحديد قيمته، فالإرادة الخيرة، غاية في ذاتها، سواء أتحققت أم لا ؛ لأن مصدر خيريتها هي النية (Lintention) ومن ثمّ الإخلاص ونقاء السريرة، فليس المعوّل عليه في الفعل الأخلاقي محض أداء الواجب على نحو الالتزام الشرعي أو القانوني؛ بل أن يكون الباعث على الالتزام بأداء الواجب هو تقدير واحترام الواجب، فالذي يميّز الفعل الأخلاقي عن الانقياد للقانون، هو هذه الإرادة الخيرة التي تجعل بعضًا يؤدي الواجب بدافع الإرادة الخيرة واحترام الواجب نفسه، كما تجعل بعضًا آخر يؤدي الواجب بدافع الخوف أو اللذة أو المصلحة. إن القانون الأخلاقي الكانطي هو بخلاف القانون الطبيعي لا يقوم على أساس الإكراه؛ بل إن الفعل الأخلاقي الإرادي هو نفسه ضد الطبيعة، وبه يسمو

ص: 350


1- إيمانويل كانط، الدين في حدود العقل المحض، ص 115.

الكائن إلى المعقولية. ليس برسم تجردها؛ بل المعقولية هنا بما هي مقوم لماهية الفعل الأخلاقي. بهذا يستطيع الإنسان احتلال مملكته بوصفها مملكة حرة وليست طبيعية محكومة بالضرورة. وإذا تبين أن الإنسان هو الكائن الوحيد من بين الكائنات الذي يعمل الواجب، أمكننا القول، إنَّ الإنسان الكانطي هو كائن أخلاقي بامتياز، بما أن فكرة الواجب تجعل من الواجب نفسه مبدأ أوليَّاً وصُوَريَّا محضًا، مجرّدًا عن أيّ اعتبار عملي أو تجريبي. فهو أساس الفعل الأخلاقي، ولا أساس له.

ولكي يصبح الفعل الأخلاقي في مقام أرقى من كونه مجرد فعل تتحقق به اللذة وطلب السعادة ودفع الألم واستبعاد الشقاوة، كما في سائر مذاهب الأخلاقيين القدامى منذ الفلسفة القورينائية إلى ابن مسکویه، عمل كانط على التمييز بين الأوامر - من حيث هي قوانين العقل العملي - ما هو شرطي منها وما هو مطلق (الأمر المطلق)، فالأمر الشرطي ليست قيمته في ذاته؛ بل بما هو وسيلة إلى شيء ما تحدّده المصلحة أو المنفعة (المقاصد)، بينما الأمر المطلق، هو ذو طبيعة كلّية، فهي بخلاف الأمر المشروط غير مشروطة ولا مقيدة، ولا تتحدّد بأمر تجريبي أو خارجي. إنَّ الأمر المطلق هو وحده الذي يمثل قانونًا عمليّا، أما الأمر المشروط أو الشرطي، فهو مجرد مبادئ تتحدّد قيمتها من خلال فعلها الغائي، فهي إذن تجريبية وليست مطلقة، ولا تصلح أن تكون قانونًا أخلاقيا كليًّا. وبهذا، يكون كانط قد ارتقى بالأخلاق إلى ذروة الفعل الإرادي المستقل؛ إذ إنّه جعل الفعل الأخلاقي مستندًا إلى فكرة الواجب والإرادة الخيرة(1)، وبذلك ينبغي أن يكون للأخلاق مصدر خارجي، على أنَّ منبع هذه الأخلاق، هو «الواجب» الذي يجعل الكائن الأخلاقي الحرّ في وضع متعال إزاء منطق الطبيعة الحسي، فهذه الحرّية ذاتها مستمدة من العقل المتعالي على الطبيعة؛ ولذا يرى كانط أنّ الإنسان حرّ ومضطرّ في آن واحد.

إذا كانت الذات المعقولة المحدّدة في المطلق العقلي المتعالي على الزمن

ص: 351


1- انظر بهذا الصدد: إيمانويل كانط، نقد العقل العملي، ص 126-128-19-207 ؛ إيمانويل كانط، الدين في حدود العقل المحض ، ص 16.

والعليّة، هي من يضع التصميم النهائي لما سيتحقق بذاتنا التجريبية المُحَسّة، فهذا ما يجعلها أفعالاً غير حرّة، خاضعة للعلّية والضرورة إن كلّ ما يتحدّد في الذات العالية المطلقة يتميز بالحرية، وكلّ ما يتمّ في الذات التجريبية المُحَسّة خاضع للضرورة. سوف يعمل إيمانويل كانط على التخفيف من وطأة هذا الشرخ الكبير أو بالأحرى هذه الثنائيات الجاثمة على العقل الفلسفي الأرسطي ومن ثم الديكارتي، بما يجعل منه عقلاً ثنوياً، وهي النتيجة المنطقية للشرخ الكانطي بين النظري والعملي، وطبيعة جدلهما، وهو أمر يجعل الذات منشطرة على نفسها بين الضرورة والحرية.. بين المطلق والنسبي.. بين الكلي والجزئي.. فإذا كانت فكرة الواجب تقوم على الحرية، باعتبار أن المبدأ الطبيعي يقوم على التسلسل العلي (causal) على منطق الضرورة، فإنَّ الحرية بوصفها متعالية لا تتحدد إلا صُوَريَّا، فلا تتحدد الحرية على أساس الضرورة؛ لأنها غير خاضعة للتجربة المُحَسّة. من هنا، لم يكن مجال الإرادة الأخلاقية ما هو كائن؛ بل مجالها هو ما يجب أن يكون، وهو بخلاف ما يدخل في اختصاص العقل النظري من حيث إن: «الخبرة تخبرنا بما هو كائن وليس بأن ما هو كائن يجب بالضرورة أن يكون كما هو كائن وليس خلافًا لحاله تلك»(1). لم يكن ذلك هو التناقض الوحيد الذي حاول كانط تبريره عبر فعل الهروب إلى منطق التعالي بالذات العقلية المطلقة، وباختراع فكرة الحريّة ذات المدلول المتعالي والغامض. ثمة مسألة أخرى، هي بلا شك فرع للإشكالات السابقة تتعلّق بالعلاقة بين الفضيلة بوصفها خيراً خلقيًّا، والسعادة بوصفها خيراً طبيعيًّا، وإذا كان العقل العملي نفسه عاجزا عن ف هذا التناقض، وإذا كان كانط يرى العلاقة بين الأمرين، علاقة تركيبية علية وليست تحليلية، فإنَّ القول بكون الفضيلة علة للسعادة أو العكس، ممتنع، لجهة كونهما ليستا من سِنْخ واحد. فالفضيلة بما أنها أخلاقية عقلية صرفة، يمتنع نزولها منزلة العلة للسعادة، بوصفها تجريبية محسوسة، والعكس يصح أيضًا. لعل هذا ما حدا بكانط، للحديث عن الخير الأقصى، بوصفه الكمال الأقصى المشترك للفضيلة والسعادة. فهو يمثل الكمالين، وأيضًا يوحدهما. بهذا يضمن كانط الكمال المستقبلي لهما،

ص: 352


1- إيمانويل كانط، نقد العقل المجرد ، ص 47 .

وأيضًا الوحدة لما كان قد نظر إليهما في حال الفصام والشرخ العقليين. هذا الكمال وتلك الوحدة لا يتمان إلا في مستوى الخير الأقصى، وفي دائرة المطلق، وهو ما عاد كانط ليثبت به وجود عالم مطلق، بعد أن أنكره أو أنكر إثباته خارج الذات العقلية المطلقة، أو لعله كان عالماً مطلقًا لا يتمتع بالوجود الواقعي، سوى كونه عالما عقليًّا محضًا، اصطنعه العقل نفسه كي يحلّ به أزمة التعارض بين الأمرين. والواقع، أن كانط، على الرغم من حديثه عن انفصال الفضيلة عن السعادة، يؤكد اتصالهما من ناحية أخرى، فالإشكال هو في محاولة إيجاد علاقة علية بينهما، لكن هذه العلاقة لا تتجاوز حدود التجاور ، أو لنقل حدود الاقتران، فالفعل الأخلاقي لا ينطلق بهدف نيل السعادة، لكنه يرتب ذلك من باب الاقتضاء وليس العلية، أما الفضيلة، فمهما كانت، فهي لا تمثل الخير الأقصى. إن الحديث عن وجود نحو اتصال بين الفضيلة والسعادة يظلّ تناقضًا من وجهة نظر العقل النظري، فقط، حينما يتعين علينا الحديث عن علاقة علية بينهما، وإلا فإن هذا، فضلاً عن أنه لا تناقض فيه، هو نظري إذا ما عالجنا العلاقة خارج شرائط العلاقة العلية، كأن نفسرها بالاقتران والاقتضاء. ومع ذلك فإن العقل العملي يقدّم حلاً لهذا التناقض من خلال احتوائهما في فكرة الخير الأقصى، بوصفه ضامن الكمالين «الفضيلي» و«السعادي»، وضامن وحدتهما.

إن السؤال الجوهري الذي لم يُجِبْ عنه كانط، ولعلّه تخطاه عنوة، هو: من أين جاءت فكرة اللاتناهي والمطلق إلى الذات المتعالية لهذا الكائن الأخلاقي، وكيف يمكننا اعتبار المطلق معلولاً للتناهي، بما أن التناهي حسي واللاتناهي تجريد محض ؟ إن كانط يتحدث عن العقل المتعالي بوصفه نزاعا إلى معانقة الكمال، كظاهرة مسلمة. ولا ندري كيف يتحدث عن عجز العقل في الاستدلال على خلود النفس أو الله، ولا يجد إشكالاً في المصادرة على يقينية انعدام مصدر آخر خارجي لهذه الإرادة الخلاقة، وكيف استدل على عدم وجود عالم خارجي موضوعي يتمتّع بهذا القدر من التعالي. إذا كان كانط قد نفى عالم المطلق إلى براري العقل العملي، فإنَّ العقل العملي نفسه لا يمكن تصوّره إلا كمنتج للعقل النظري، ألا يدل ذلك على أن مصداقيّة الدليل الأخلاقي نفسه تنبع من حجية العقل النظري؛ فيستوي بذلك في

ص: 353

الاعتبار مع الدلیل الأنطولوجی؟! ألا یعنی فعل التشطیر ذاك حیلة من حیل العقل النظري نفسه، أو تكتيكا من تكتيكاته التي تصبُّ في استراتيجيا عقل يسعى إلى ابتلاع عالم الأشياء وإعادة عرضه وفق الفهم ليس إلا ، أو لعله مجرد محاولة فاشلة للتخفيف من حدة مفارقات عقل نزاع لانتهاك مصادراته؟ أليس ذلك نتاجًا للتمركز العقلي بوصفه حصرًا واستبعادًا ؟ ! ألا يفترض في العقلين معًا أن يكون أحدهما في طول الآخر ، لحظتين في فعالية متقلبة لعقل متكاثر ؟ ! بل لعلّ السؤال الأخطر: إن كان فعل التشطير العقلي وفعل التفويت والمناوبة ما بين النظري والعملي، كلاهما حكمًا عقليًا في نهاية المطاف، أو لنقل إن كان العقل يحكم بلا جدوى البحث عن الشيء في ذاته، والاقتصار على الفهم أو ظواهر الأشياء كما تعرض على العقل، أفلا يعني ذلك وقوعنا في حيلة أخرى من حيل عقل لا يزال مسكونا بباركليته؛ حيث يصبح عائقًا من عوائق التفكر والتفكير ؟! تلك أبرز مفارقات النقد الكانطي!

وإذا كان كانط قد جعل فكرة التحقق الكامل للواجب لا تقوم في العالم الحسي الموسوم بالتناهي، مفترضًا لها عالمها المطلق المابعدي، فما المانع، إذا أردنا محاسبته بأثر رجعي، أن يكون مبدأ المطلق في العقل ذا منبع مفارق؟! وإلى أي حدّ أمكن كانط التحرّر من الذاتية الديكارتية حتى في عزّ تسخيفه للدليل الأنطولوجي المؤسس للكوجيتو الديكارتي؛ بل وإلى أي حد بدا الكوجيتو الكانطي البديل، مستغنياً عن قبلياته؟

***

إثبات وجود الله من خلال فكرة الواجب الأخلاقي

لا يخفى ذلك الموقف الكانطي التقويضي للدليل الأنطولوجي الذي عمل على نقضه وتسخيفه في نقد العقل النظري، لكن هذا لا يعني أنَّ كانط الذي اختمرت في ذهنه تناقضات الفكر الفلسفي وانحصار العقل الديكارتي بوصفه استمرارًا للعقل المؤلّه، وأيضًا ملابسات الجدل التاريخي بين العقلي والديني أو الديني والديني،

ص: 354

الذي لم يزل على أشدّه في تداعيات الإصلاح الديني؛ أجل هذا لا يعني، أنَّ كانط الذي بدا أكثر تحفظًا من يقينيات النهضة، وأكثر رفضًا لرسوم فلسفات اللاهوت المسيحي، كان يسعى في سبيل تقويض فكرة «الله» من خلال تقويض الدليل الأنطولوجي. فلقد عاد ليثبت ذلك وفق ما يمكن أن نسميه«الدليل الأخلاقي». هذا الاستبدال في مسالك الحجّة والبرهان، يرفع عن كانط عبء التحدي الذي يمكن أن يمثله الدليل الأنطولوجي ضد الشرخ العقلي الكانطي الثنوي، وما تفرّع عنه من إشكاليات؛ لعلّ في مقدمتها المأزق الثنوي الذي جعل «العقل» كما لو كان جوهرين فاردين أو جوهرًا منقسمًا على نفسه، فتقويض الدليل الأنطولوجي هو في واقع الأمر استبعاد لمطلق الدليل على وجود الله على أساس العقل النظري، أو تضييق لمسالك الدليل على وجوده، وذلك حتى لا تكون فكرة الله الحقيقة الأولى التي تتفرع عنها باقي الحقائق، بما في ذلك الذات. فإذا كان الدليل الأنطولوجي يثبت المطلق خارج الذات ومطلقاتها، فإن الدليل الأخلاقي القائم على الإرادة الحرّة المطلقة المتعالية، يجعل المطلق هو الذات، وفكرة «الله» متفرعة عنها أو صنيعة لها، ليس على نحو الحقيقة؛ بل على نحو ما يمكننا اعتباره تجوّزا، ضربًا من الوعي المتخيّل بالإله، وعيًا يفرزه العقل العملي ويؤيّده العقل النظري، شريطة ألا تكون العلاقة بين المطلق والحسي أو الفضيلة والسعادة، علاقة عليّة، وذلك لمقتضى الإشكال التجزيئي المزمن في الأخلاق الكانطية الصُوَرية، وقصد فك أزمة التناقض. إن فكرة «الله» في نظر كانط، وحيثما أردنا استيعاب فلسفته الأخلاقية، هي بالأحرى حيلة من حيل العقل العملي لإضفاء الوحدة المتخيلة على الذات المطلقة العالية الصُوَرية، بوصف الأخلاق ذاتها تصمیمات صُوَرية في عالم يتحكّم به معيار «النيات»، ولا قيمة بعدها لما سيترتب عليه من آثار. إذا كانت أخلاق الواجب هي من هذا التصميم الغامض المحكوم بنيات غامضة ومطلقة لا تتحدّد بغاياتها أو آثارها أو ما يقترن بها من منافع في الآن والمستقبل، فإن فكرة الخير الأقصى التي اخترعها العقل العملي للتخفيف من حدّة التناقض بين خير أخلاقي وخير طبيعي، وأيضًا فكرة الكائن الإطلاقي الأسمى، الذي يمثل غاية الكمال والوحدة للفضيلة والسعادة، هو فكرة لا تعين لها في الواقع، سوى

ص: 355

تخريجة، إن كانت تشهد على تهاوي البنية التناقضية للقانون الأخلاقي الكانطي، فهي تشهد على عجزها عن التعالي بالمطلق الذاتي عن المطلق المتعالي الموضوعي، الذي عادت والتفت عليه، بعدما ثبت أنه لا مناص منه ، فكيف يغدو ما أنتجته الذات المطلقة. المتعالية كمالاً وغاية لمطلقه . تلك أكبر المفارقات التي لم ينتبه إليها كانط ولا حتى نقاده، وعليه، لم تعد فكرة «الله» حقيقة مقصودة في حد ذاتها في هذه

المنظومة الثنوية الكانطية؛ بل هي مخاتلة للالتفاف على التهافت الكانطي المزمن، وحيلة وظيفية تخييلية لتبرير استمرارية نسق مغشوش، مهدّد بالتشظي، ومحاط بلعنة «الثنوية»، وهكذا تصبح فكرة «الله» سببًا لاستقامة الفكر، وليس الفكر سببًا لبلوغها. من هنا، لا يسع كانط إلا أن يكون مسلّما بالكشف والوجدان لما لا مكنة للبرهان على احتوائه ضمن آلياته، فيكون ها هنا قد داعب الدليل الأنطولوجي، وعانق بنيته

في صميم هذه اللعبة الاستدلالية الاستبدالية، فيكون مناط الدليل الأخلاقي نفسه مناط الكوجيتو الديكارتي؛ لا، بل إن إثبات وجود «الله»، ولو لغاية دعم صمود النسق - وإن كان هذا نفسه مناقضًا لفكرة الإرادة الخيّرة في ذاتها لا في ما يمكن أن يترتب عليها من آثار هذا الإثبات هو نزول عند واقع الضرورة وحتمية الفقرين: الفقر الوجودي والفقر المعرفي، وهو التفافة أخرى على «برهان الصديقين»، كما اكتمل في الفلسفة الصدرائية، وكما وجدنا له معاقرة لا تخلو من أهمية في فكرة الله كبرهان على وجود الله عند داعية الفينومينولوجيا الجديدة: جوزيف سايفرت، أو يكون متشبئًا بالدليل والبرهان في طلب العرفان، فيكون قد برهن «بالنظري» - حيث لا استدلال إلا به- على ما سُلّم به بواسطة «العملي»، فيكون في كلتا الحالتين، قد قدم أقوى الأدلة على وجود «الله»، بهذا الاضطراب والأوب المنهجي لأصول كان قد عمل وسعه لتفسيخها وإثبات نقائضها، بما هو حاك عن عجز في الاستغناء المعرفي نفسه؛ كعنوان على الفقر المعرفي مقايسة على الفقر الوجودي. وسيزداد إدراكنا لهذه المقايسة متى ما أدركنا علاقة المعرفة بالوجود، فيكون موضوع الفقر واحدًا؛ حيثما اعتبرنا المعرفة هي عين الوجود. وهو أيضًا دليل قوي على تهافت دليل سلك أوعر المسالك لنقض الدليل الأنطولوجي، فسقط في أسوأ الأدلة وأكثرها مفارقة. على أن

ص: 356

النقد الكانطي للدليلين، الأنطولوجي والكوسمولوجي، ينطوي على شبهة منهجية وأخرى مفهومية عقلية وثالثة منطقية، ويمكننا الإشارة إلى ذلك بالقدر الذي لا يتعدّى الغرض؛ حيث المقام ليس مقام نظر في الدليل الأنطولوجي أو النقض الكانطي له على نحو التفصيل.

1 - الشبهة المنهجية

لقد أكدنا سابقًا أنَّ كانط لم يجعل المنهج في البداية طريقًا لإثبات وجود «الله»؛ بل إن فكرة «الله» هي من صدمت منهجه وفرضت نفسها عليه، ما يؤكد على هشاشة منهج عاجز عن تأمين نفسه من نقائضه، وهذا في حدّ ذاته دليل آخر على تهافت الدليل الأخلاقي القائم على معطى عقل متفكك ومتباعد الأجزاء.

2 - الشبهة العقلية

منشأ ذلك رؤية مغالطة للعقل؛ حيث نظر كانط إلى تمظهراته وآثار فاعليته ومسارات تشكيكاته وحركته، بوصفها تجلّيات لعقلين متجوهرين ضمن نَسَقين يتعاونان بقدر ما يتنافران. آية ذلك أننا مع البلاهة الكانطية سنجد أنفسنا أمام إله يقودنا إليه القانون الأخلاقي من دون أن يقتدر العقل النظري على إدراكه، فحينما تصبح المعرفة مستحيلة تمامًا، نكون أمام شيء ما ثابت بالعقل العملي، غير متعقل بالعقل النظري، نحن لسنا هنا فقط أمام عالم يناقض العقل بل بين وظيفتين للعقل تجعله نقيضًا لنفسه، ففي نظر نيتشه، كان كانط يحاول أن يرسي فكرة وجوب أن يكون النقد نقدًا للعقل بواسطة العقل بالذات «أليس هذا هو التناقض، أن يجعل من العقل المحكمة والمتهم في الوقت ذاته»(1).

3 - الشبهة المنطقية

يستصحب كانط بنية المنظور الأرسطي للدليل والبرهان، حتى لكأن النقد الكانطي، على الرغم من جرأته وثوريته، لم يبرح المقولات الأساسية لهذا المنطق

ص: 357


1- جیل دولوز، نيتشه والفلسفة، ص117.

الصُوَري، الذي عمل على إعادة انتشاره بصورة جعلته يلتهم نفسه ويغرق في مفارقات وتناقضات شتى؛ بل أرى في المحاولة الكانطية محاولة انعتاق فاشلة أو انتحار داخل النسق الأرسطي - الديكارتي نفسه. فالمآزق الكانطية هي مآزق الإرث الأرسطي؛ إذ إن أقوى المحاولات النقدية للعقل، وهنا استثني من فتق القول في العقل خارج الأورغانون الأرسطي ، أعني تحديدًا أمثال هيغل ونيتشه. هذه المحاولات لم تنجح في رجّ البداهات التي تشكل قوام النسق الباراديغمي للعقل الأرسطي؛ لذا سيعمد كانط إلى التنصّل من إكراهات النسق ذاته إلى تعميق فجوة العقلين - كما لو كان مجتهدا من داخل المذهب لا من خارجه - ومع أن لا استدلال البتة يمكن قيامه خارج النظري، فإن فعل المناوبة الكانطي القاضي بالتخلّص من مآزق المفارقة، بواسطة التقسيم الوظيفي للعقل وهو على أي حال تقسيم عقلي أيضًا - هو أشبه ما يكون بثعلب يقطع رجله بأسنانه للتخلّص من المصيدة(1). لم يكتف كانط باستحضار التقسيم الأرسطي للعقل؛ بل زاد في تعميق الفجوة، ما أدى إلى استفحال أزمته، ومن آثارها تضييق مسالك الدليل، متمّماً بحماسة وانتحارية ما كان دشنه أرسطو، واستلهمه ابن رشد، وتخبطت فيه عقلانية النهضة والأنوار، ومن آثارها أيضًا استبعاد دليل الوجدان من طرق الدليل، وهو أمر أدى إلى نتيجتين هما على تمام الخطورة:

الأولى: انحصار مسالك الدليل، وإليه يضاف تخصيص كلّ عقل ببنية دليلية ما، وهذا مردود أصلاً؛ حيث لا طريق لإثبات هذا الاختصاص إلا بالعقلين أو أحدهما أو ثالث لهما ثابت لا مرفوع. وفي كلّ واحد من الافتراضات المذكورة ما يقوّض النسق الكانطي، فإذا كان المنشأ عقلاً نظرياً، فما جدوى الاختصاص رأسًا، وإن كان عمليًّا، فهو تغليب وحكومة للعملي على النظري، وإن كان عقلاً ثالثًا، فهو بداية التسلسل محال، فإن قيل كشفًا، فهو بخلاف مقتضى النظر الكانطي. وكل واحد من هذه الافتراضات يستدعي تفصيلاً إضافيًا ليس ها هنا مقامه.

الثانية: طرد بعض أشكال الدليل من دائرة البرهان أو بعض مسالكه من دائرة الدليل رأسًا. وإليه يضاف حصر الوظيفة العقلية في مجال دون آخر. وكلتا النتيجتين

ص: 358


1- هذا المثال للثعلب أستعيره من الأديب والشاعر الفرنسي الكبير ألفريد دي موسيه، في اعترافات فتى العصر.

أخرتا المنطق، وأعاقتا النظر في مسالك الدليل وبناه، مع أن العقل العملي بالنتيجة هو معانقة مخاتلة للكشف والوجدان.

إننا أمام فيلسوف لم تمكنه ملحمته النقدية للعقل النظري من التحرر من الباراديغم المتسلّط للحداثة؛ حيث بلغ التمركز العقلي مداه، هذا إذا لم نعتبر فلسفته تعزيزاً لهذا التمركز ؛ بل ربما فاق الديكارتية نفسها، هذه الأخيرة - على الأقل - كانت قد اعترفت للعقل بالإمكان المحض، فهو كائن موجود بغيره ولغيره، لكنه مع كانط - على الأقل - في نطاق العقل العملي هو قائم بذاته، صانع الحقائق، إذا كان ديكارت قد احتفظ بإمكانية العقل جاعلاً من التعالي - الممكن إدراكه وحدسه عقلاً - وجودًا مستقلاً؛ موجودًا بذاته، ولذاته بحسب الدليل الأنطولوجي المقوّم للكوجيتو الديكارتي، فإن كانط قد جعل من ذلك التعالي - الممتنع إدراكه - وجودًا لغيره، ومخلوقا للعقل العملي ، لكن لا يخفى أن المحاولة الكانطية بمثابتها دحرجة سيزيفية، هي رفض عنيد للاعتراف بالدحرجة، وإخفاء متواصل لكوجيتو، وأكثر انهماما بالذات واختلاقاتها. على أن التشطير العقلي هو هروب من وحدة عقل تهدّد بنيته المفارقاتية المتخيّلة، النزعة التمركزية العقلية الكانطية. فإذا كان العقل العملي هو منفى العقل النظري؛ حيث يبدو هذا الميكانيزم المزدوج لعبة استيهامية للعقل النظري نفسه في إخفائه لوجهه الآخر؛ أي اللاعقل حتى ليبدوا أن العقلين معًا لا التقاء لهما في المنظور الكانطي إلا في حدود السؤال الثالث؛ أي عن المأمول خلف امتثالي الواجب، فإننا نتساءل: هل فعل التفويت إلى العقل العملي هو حكم نظري أم عملي - كما سبق ذكره - أم لعقل ثالث خشي كانط اختراعه، فرقًا من عقيدة التثليث أو منعا للتسلسل المنطقي ؛ لأن افتراض عقل ثالث يفرض سؤالاً جديدًا عن منشأ صلاحيته واختصاصه بهذا الحكم ؟ إن العقل العملي لا يملك الحكم بالتفويت؛ لأنه مستقبل لا مرسل، فهو محكوم بالنظري، خاضع لسلطته وتمركزه. وبما أن الاستشكال هو نظري، تعين أن يكون الحكم بالتفويت نظرياً، فيقال : إنّ هذا من اختصاص العملي، فإذا استبعدنا العقل الثالث دفعًا للتسلسل، قلنا إنَّ النظري نفسه يقرّر الحكم بالتفويت، ويقرّر مجالات اختصاص العملي، ويحدّد ميكانيزماته. على أن كانط الذي يرفض أن تصبح

ص: 359

فكرة الإيمان فكرة معرفية قابلة للبرهنة كيف يمارس استبعاداته برسم العقل النظري ثم ينقل رأيه إلى الآخر المتلقي، مسلّمًا بإمكانية إقناع الآخر في ما يشبه الدعوة وممارسة الإقناع ؟

***

المتخيّل حينما يحتوى مطلقه

إذا وضعنا تلك النتائج نُصب لحاظنا، أمكننا حينئذ وضع اليد على الهشاشة البنيوية لهذا التدابر المثنوي التناقضيّ الذي جعل النقدويّة الذاتية الكانطية في قلب أسوأ المفارقات. ومفاد هذه النتائج، التي هي غاية القول الأخلاقي الكانطي، هو أن المطلق المتخيّل منتج للمطلق الذاتي المتعالي؛ ولكنه في الآن نفسه يتهاوى في سفوح الفقر الوجودي لمتخيّله. ففكرة «الله» واليوم الآخر، ليستا ها هنا لحظة انتشائية في هذا البناء الكانطي المتأرجح داخل جدل عقلين؛ بل هما المخرج الوحيد والممكن لهذا البناء الذي لا يعترف بانسداداته ولا يخجل من مفارقاته. فبعدما أن كانت الحرية هي الأساس الأعلى البديهي الذي تقوم عليه الأخلاق، انضافت فكرة «الله» وفكرة الخُلد، بوصفهما مسلّمتين عجز كانط عن البرهنة عليهما، والعجز هنا - بلا شك - كانطي بامتياز؛ لأن لا أحد يسلم بذلك الشرخ والفصام الذي أخضع لهما العقل والذات الإنسانية. فإن كان هذا التسليم برسم العقل العملي، فهلا يقال إنَّ تسليم العقل العملي هو فرع خفيّ لتسليم العقل النظري؟ فإن قيل إنَّ النظري هنا لا يثبت ولا ينفي، فهل هي استقالة النظري إزاء كبرى اليقينيات وأقدمها رسوحًا في حياة البشر ؟! يقول سايفرت - وهو من الفلاسفة الألمان المعاصرين- إن إلها لا يوجد إلا في الوعي، هو إذن إله ميت حقا(1). ونقول على المنوال نفسه هاهنا: بأن إلها لا يملك أن يقاربه العقلان معًا، ولا يملك العقل النظري أن يتوصل إليه، ولا يفرض تجلّيه على العقلين ولا يقاربه إلا العملي، لهو حقا إله خيالي !

ص: 360


1- جیل دولوز، نيتشه والفلسفة، ص21.

إذا ما سايرنا كانط في التفافاته على مصادراته، وقبلنا بلعبة الاستبدال التي جعلت فلسفته الأخلاقية تعانق النهاية السيئة، وما كانت قد سلمت باستبعاده، في حالة ارتداد منهجي أو حيل استبدالية ترتكز على مسلّمات الدين المسيحي، إذا ما سريناه فسنجد أن الإشكال الذي طرح على فكرة الكمال والوحدة الممكنة بين الفضيلة والسعادة سيتفجر ضمن السؤال الآتي : هل بوسع هذا الكائن الأخلاقي أن ينجز الواجب على ذلك النحو الأكمل، في حياة محكومة بالتناهي، وحيث لا قيمة للواجب إذا لم يكن الإمكان متاحًا لإنجاز تحققه هذا على ذلك النحو ؟ وهذا ما يفرض خلود النفس، ويفترض وجود عالم آخر غير هذا العالم المادي المتناهي. وعليه يصبح الله والنفس الخالدة، مسلّمتين يفرضهما العقل العملي الكانطي حيث لا كمال في تحقق الواجب من دون افتراض خلود النفس، ولا وحدة بين الفضيلة والسعادة من دون افتراض وجود الله كضمان للتوفيق بين الضروري والمطلق. باختصار، إن كانط يجعل من مسلّمة الله وخلود النفس مقتضيين للعقل العملي، لا يمكن البرهنة عليهما من خلال العقل النظري، فهما عقيدتان تستندان إلى الإيمان، وهذا ما يعني - حسب كانط - أن العقل العملي وإن أكد عليهما كمسلّمتين، لا يمكنه جعلهما موضوعين للمعرفة. وهذا ما يعني أن فكرة الله مدركة أخلاقيًّا، ولا يمكن الاستدلال عليها أو نقلها عبر التبليغ أو الدعوة مثلاً. إنها حقيقة يدركها كلّ كائن أخلاقي بما هو أخلاقي. ومن ثم لو افترضنا أننا أمام تعريف كانطي جديد للإنسان بوصفه كائنًا أخلاقيًا، فهل خروج الحيوان من هذه الخاصية، سيحرم الحيوان من إدراك «الله»، مثلما حرمه الذين أخرجوه من خاصية النطق والعقل ؟ هذا سؤال يظلّ مفتوحًا؛ بل سيشكل تحديًا آخر ضد القانون الأخلاقي الكانطي.

إذا استوعبنا ما سلف ذكره، أدركنا حينئذ الدوافع التي جعلت الدين في نظر كانط يحتل مجالاً تابعًا، مترتبًا على الأخلاق؛ حيث يتحدّد وجودها مستقلاً عنه، فالأخلاق لا تحتاج إلى الدين؛ بل إذا اعتبرنا فكرة الله والخلود، على ضرورتهما العملية، من اختراع العقل الأخلاقي، أدركنا أن الدين نفسه تابع للأخلاق؛ أي تابع للعقل العملي. الدين في نظر كانط، تجريد محض. إنه عبارة عن روح واحد، كامن خلف

ص: 361

هذا التشكل المختلف للدين. إنها فكرة عدمية ترى إلى الدين حقيقة واحدة خالصة، وليس عقيدة؛ بل لا يوجد لها أساس تاريخي بقدر ما هي عبادة خيرة، فالدين هو بالنتيجة، ما يُبحث عنه من داخل الذات وليس خارجها. وطبعا لا ننسى أن ما تقوله الكانطية أكثر احتياطاً مما يدعو إليه النَسَق النقدي الكانطي. إنه كان عاجزا عن البوح بما يخالف حقيقة الإيمان التي رعتها الكنيسة حتى ذلك الوقت.

***

مناقشة الرأي الكانطي

لو أنَّ النقد الكانطي اقتصر على تعزيز فكرة الواجب، بما هي أرقى حالات العرفان الديني نفسه، دونما الحاجة إلى هذا القلب الكوبيرنيكي العديم الجدوى، لكان وضعه أقوى من هذه الهشاشة البنيوية التي اقتاده إليها إصراره - منقطع النظير - على لعبة التشطير العقلي، أو لعبة المناوبة بين العقلين اللذين هما في نهاية الأمر، فعل تجريدي للعقل النظري نفسه. فلا يخفى التأثير السلبي للبيئة الدينية التي عايشها كانط وعاصر أقوى مفاعيل تمأسُسها التاريخي وتهيكلها الديني، ما جعل الدين في النهاية يتحوّل إلى جملة من الرسوم والطقوس الفاقدة للروحية الخالصة أو فكرة الواجب. لكنَّ هذا التأثير لم يمنحه القدرة الكافية للتغلّب على صعوبة النفق المنهجي الذي وضعه أمام أخطر أشكال التناقض، سواء ما بين النظري والعقل العملي، أو حتى تلك التي كانت تواجه العقل العملي نفسه، وهذا ما اضطره إلى اختلاق تخارجاته التخييلية. وقد بات الإيمان هنا ليس حقيقة عقلية أو غاية فلسفية؛ بل مجرد مخرج لذلك التناقض الكبير والمهول ما بين الحريّة بوصفها تعاليًا فوق الضرورة، وفكرة «الله» التي طرحت كمسلمة للعقل العملي. فمنهجيًّا لم تحرز الثورة الأخلاقية الكانطية ما كانت تصبو إليه، فلقد اصطدمت بصخرة الإيمان، إلا أنها عرفت كيف تخاتل للالتفاف عليه ووضعه خارج الإمكان المعرفي إيمانًا عمليا لا دليل ينهض على اعتباره بمقولات العقل النظري. إن المحصلة النهائية لهذه الفلسفة الأخلاقية التي قبلت بالدين على مضض كتابع ليس إلا، تبشر بدين من اختراع الذات (= الدين الحقيقي) رافضة موضوعيته أو جعلية تعاليمه، مستعيضة بذات قدسانية قادرة على

ص: 362

الاستقلال بخيريّتها، وبهذا نخلص مع كانط إلى نحوين من التمركز، لعلهما من أشهر معرات الحداثة، وأخطر ما وسم علاقتها بالفلسفة والدين معا، وهما:

1 - التمركز العقلي (logocentrisme): به كان كلّ ما هو خارجي، من اختلاق العقل . العالم نفسه تشكيل عقلي محضر

2 - التمركز الديني المسيحي (chrétocentrisme): حيث في عز التجرد العقلي والتهميش الديني، ارتأى في المسيحية الخالصة، ما يقارب الكلي الطبيعي - تجوّزا - إزاء باقي الأديان الأخرى، ففي كلّ دين ثمة شيء من المسيحية.

إذن، بهذا الحنين التمركزي المزدوج، عبر كانط بما فيه الكفاية عن أنه منتج لهذا الباراديغم المتسلّط في عصره: التمركز العقلي النهضوي، والتمركز الديني المسيحي، وكلاهما يؤكدان على التمركز الثالث : ( = التمركز المجالي الأوروبي (Europocentrisme).

ففي نظره «ليس ثمة إلا تاريخ واحد يملك الإجابة عن تلك المطالب : إنها الكنيسة التي منذ بداياتها تحمل في ذاتها بذور ومبادئ الوحدة الموضوعية للإيمان الديني الحقيقي والعالمي»(1). وتصل هذه المركزية الروحية المأرضَنة برسم العناد الكانطي الجاهل والمتجاهل للمختلف، إلى حدّ تناسي الأشكال الأخرى للتجارب الدينية. ولم يعاقر بعد ذلك إلا اليهودية بوصفها، حسب المنظور الكانطي، مسلوبة الروح ؛ بل لنقل ليست دينا رأسًا، ففي الحقيقة «اليهودية ليست دينًا، إننا لا نرى فيها سوى مجموعة ما من الناس ينتمون إلى عرق خاص، لم يؤسسوا كنيسة ولكن أسسوا دولة توجه بقوانين سياسية بسيطة، هذه الدولة يمكن أن تكون محض زمنية بشكل يجعلها حتى لو اندثرت بفعل دوائر الزمن، تظل راسخة دائماً في اليهودية. هذا الاعتقاد الذي ينتمي إليه بصورة أساسية بحيث في يوم من الأيام يمكن أن تتحقق (بمجيء المسيَّا - المنتظر -)»(2).

ص: 363


1- إيمانويل كانط، الدين في حدود العقل المحض، ص 155.
2- المصدر نفسه.

فالأنوار، إذن، لم تستطع تحقيق عالميتها المجرّدة، حتى في صلب هذا الشرود العقلي لمعانقة المطلق، إن كلا التمركزين - اللذين يحتويهما التمركز الأكبر المجالي عنوان أرضنة الفلسفة هيغليًّا، والدين كانطيَّا، والرأسمالية فويبريا- هما مرض القول الفلسفي للحداثة، والهذيان التصنيفي إلى حد صياغة متعالي الجغرافيا الفلسفية للحداثة. ويمكن دفع ذلك بأواليتين نقديتين:

أولاً: يمكننا دفع التمركز العقلي، بتفكيك أزمته ، ومعانقة آخره (= آخر العقل). كما يمكن دفع التشطير العقلي الثنوي أو التثليثي بنقد فصاميته التخييلية، وفضح انقساميته أو مناوباته المخاتلة. ليس لدينا ما نخشاه، طالما أن ثمرات ذلك التمركز تتجلى اجتياح العقل الأداتي، وحصر امتدادات الفاعلية والشعور الإنساني المتعدي للعقل الاختزالي، يكفينا في دفع شر هذا التمركز، آماد النقد الهيغلي للنقد الكانطي، وإذا شئت يكفينا الموقف النيتشي التمرّدي، ألم يقل هابرماس: «مع دخول نيتشه إلى قول الحداثة، تتغير المحاجة رأسًا على عقب»(1).

ثانيًا: يمكن ردّ التمركز الديني عند كانط، من خلال مساءلة دينية مفتوحة، ومن خلال فلسفة الدين ومنزلة الأخلاق في المنظور الإسلامي مثلاً. إن الموقف الكانطي التمركزي هذا يبدو فضيحة أكبر لو قارناه بموقف نيتشه في «عدو المسيح».

في نزع التمركز الديني - التاريخي المنظور الإسلامي دليلاً

صحيح أن كانط قصد إلى الإمساك بسرّ الدين الحقيقي خلف هذا التكاثر التاريخي للصيغ العقدية، بما يجعلها عرضة لتضخم الطقوس وخطر التهيكل، ولكن هذا لم يمنع من القبض داخل هذا الإصرار على التجاوز التاريخي، على إرهاصات لتمركز ديني، يجعل من المسيحية في أوروبا - بوصفها لحظة تاريخية في التشكل الديني الخاص نفسه - محورًا لاستشكالات كانط الدينية والأخلاقية. فهل ياترى كان

ص: 364


1- المصدر نفسه، ص 140

من الممكن أن يحدث الانقلاب الأخلاقي الكوبرنيكي الكانطي، فيما لو كان هذا الأخير مسلما؟! ، وأي معنى أن يعقد كانط في الدين في حدود العقل المحض فصلاً موسوما ب: الدين المسيحي كدين طبيعي ؟ وإذن أي مفارقة تلك التي تواجهنا عندما نعرف أي معنى للدين الطبيعي عند كانط، سوى أننا باستعمالنا المبسط لعقولنا نصل إليه، فهل هذا هو واقع الدين المسيحي من بين كلّ الأديان؟

كيف يصمد هذا العناد أمام الإدانة النيتشية الكنسيّة؛ إذ لم تقف هذه الإدانة عند حدّ تفضيل البوذية عليها؛ بل إنه عبر عن تمرده على التمركز الديني الكنسي ابتداء من تصوّر الألوهة، وانتهاء إلى نوعية السلوك، فهي أي: «الكنيسة تقاوم حتى النظافة (المعيار الأول على المسيحية بعد طرد المسلمين كان إغلاق الحمامات العامة، حيث كانت قرطبة وحدها تحتوي على 270 حماما) ... إن الإسلام لدى احتقاره المسيحية يمتلك ألف مرة الحق بأن يفعل ذلك؛ إذ هو يتطلب الرجال. لقد حرمتنا المسيحية من مجاني الحضارة القديمة وفي ما بعد حرمتنا من ثمار حضارة الإسلام»(1). الموقف النيتشي هنا وإن بدا أكثر قسوة على المسيحية، إلا أن المهم في ذلك هو التمرد على ذلك التمركز الذي جعل كانط في نهاية المطاف يرى أن المسيحية هي هي محور الدين الكوني، حتى أنه لم يدرس الأديان وخصوصيّاتها كما فعل على الأقل نيتشه حسبما تشهد أفكاره وآراؤه.

تحمل استشكالات كانط الأخلاقية والدينية مركب هذا التمركز الديني، الذي لم يخل من مقايسات، سواء في مستوى التعميم - تعميم الاستشكال الديني والأخلاقي المسيحي الأوروبي على كلّ التشكلات الدينية والعقدية - أو في مستوى الاستعارة الخفية والاستبدال الديني الذي عالج به مأزق العقل العملي. هذا فضلاً عن أن الاستشكالات الكانطية الدينية، هي استشكالات الإسلام نفسه لكن برسم حلول وآفاق أخرى؛ بل إن مشروعية وجوده تكمن في كونه مبدأ للكلمة السواء، تضاف إلى ذلك حتمية الكتاب المهيمن وفكرة الخاتمية، وهي ثورة ضد التهيكل الديني،

ص: 365


1- إيمانويل كانط، الدين في حدود العقل المحض، ص 65-181.

وخطوة باتجاه كونيته وأنسنته بشرط التجرد ونبذ الفتنة حتى يكون الدين كله لله، كضامن لاستمراريته، وكدعوة لما يحيي النوع أو يفك عنهم الإصر والأغلال التي كانت عليهم، وهذا ما يظهر تباعًا من خلال المبادئ الثلاثة الآتية:

1 - دعوى الكلمة السواء

يظهر من خلال المبادئ الثلاثة، أن الجامع بينها هو أن التاريخية الإسلامية ليست تاريخية زمنية محضة، أو تاريخية سبق ولحاق، بل إنها تاريخية إنجاز. هكذا، كان الإسلام مصرًا منذ البدء على أن لا يتحدّث عن الدين (دين الله بوصفه الدين الحق) أي بوصفه اختلافًا جديدًا على إيقاع التشكل التاريخي للأديان؛ بل عود إلى بدء؛ إلى الدين الخالص الذي جعل كلّ رموز الديانات السابقة رموزاً للإسلام. يدلّ على ذلك، كونه الصورة الخاتمة التي أعادت ما «تتورخ» من الديانات السابقة التي خضعت لتأثير الملابسات التاريخية والسياسية والثقافية، وقد عانق بعضها الوثنية أو بعض رموزها في حالة ارتداد - وما تشخصن منها، مثل اليهودية بوصفها دين يهودا، أو المسيحية بوصفها دين المسيح - إلى منبع الإسلام والانقياد للمبدأ الأعلى. من هنا، يفترض القول: إنَّ «المجرّد» هو ما يمكن وجوده أو وجود بعضه في كلّ دين سماوي آخر؛ وليس التاريخي المشخصن الذي أعاد تحيين الموقف التشخيصي السابق، معلنًا أزمته المزدوجة؛ كالمسيحية الجاحدة (الكافرة) بالرسالة الخاتمة؛ حيث نقضت جحود اليهودية بالمسيح ، ثم سرعان ما استعارت الموقف الجحودي اليهودي نفسه في موقفها من «محمد». على أن ليس ثمة ما يبرّر الاكتفاء بالدين سوى أنه يحتوي على مؤهلات ختم الأديان السابقة بوصفها سابقة الأديان السابقة بوصفها سابقة في التشكّل التاريخي، لا في مستوى الأصالة، بما يؤسس لحوار الأديان على أسس برهانية [ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(1).

على أن البرهان هنا ليس بمعناه المحصور على قواعد المنطق الأرسطي؛ بل

ص: 366


1- سورة البقرة: الآية 111

بمعناه المفتوح بحسب مراقي السلم الحجاجي التواصلي؛ أي ما تسالم عليه أهل الأديان في منطق الاحتجاج الملزم ، الذي يبدأ من الاستشهاد نصا، كما في سائر الاحتجاجات الدينية، وانتهاءً بشهادة الإعجاز تكوينا، كما في حادثة المباهلة، وفي ذلك دفع لتساوي الأدلة وإمكانية العلم.

ويتجلى مبدأ «الكلمة السواء» في ثلاث دعاوى:

- دعوى ال«لستم».

- دعوى «التبعيض».

- دعوى «وحدة المصدر» أو الأصل الإبراهيمي للديانات السماوية.

1 - 1 - دعوة ال«لستم»

هذه الدعوة، هي تهمة صريحة بالتحريف. إن الكلمة السواء لها عائق تاريخي ومعرفي (= تحريفي)، فيصار إلى القول أن لا إمكان لتحقق الكلمة السواء إلا بنهج التقويم، وهو موقف تاريخي ومعرفي لإعادة المصداقية. وإثبات ذلك ليس هذا مورده؛ بل يطلب في الأبحاث التي جاءت تترى شاهدة على وقوع التحريف بما لا يدع مجالاً للشك من خلال نقد الأثر (= تاريخيته) ونقد النص (= تفكيكه وتأويله).

1-2 - دعوى «التجزيء»

وهي الدعوى التي تحمل تهمة صريحة باجتزاء النص تبعًا للهوى والمصالح الشخصية أو الفئوية، والاجتزاء والتبعيض هو أخطر من المحو في بعض الأحيان، حتی أن النص المجتزأ أو الموقف التجزيئي قد يحوّل النص إلى نقيض المراد،کما هو أخطر ممن جعله نصًا معدومًا. ألا ترى إلى من يأخذ بشطر الشهادة «لا إله» ويمحو ما تلاها لينقلب الأمر إلى نقيض المراد؛ من الشهادة بالوحدانية إلى شهادة كفر بواح . وإذا كانت الرسالة الخاتمة فضحت التحريف في مستوى دعوى ال«لستم»، فإنها فعلت الأمر ذاته باستعادة ما كانت الديانات السابقة قد استبعدته،

ص: 367

مستعيدة إياه في صلب السياق الطبيعي لرسالة متمّمة لما لم تقتض الحكمة تنزيله سابقًا، ولإتمام ما كان قد تعرّض للانتقاء والتجزيء والبتر: «أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض».

1-3 - دعوى «وحدة المصدر والأصل المشترك»

وهي دعوى تحمل تهمة الغفلة عن الأصل في الدين السماوي، وعن المبدإ؛ ذلك لأن التحريف والتجزيء اللذين مصدرهما الهوى ينبعان معا من الممارسة الشركية التي بلغت قمة استفحالها، حيث لا شرك أقوى من فعل التصرف في النص والمشاركة في إعادة صياغته أو بتره بما يستجيب للأهواء المتحيرة.

بدأت الدعوى إلى الكلمة السواء من الدعوى إلى البرهان:

وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ(1) .

أم اتَّخَذُوا من دونه أَلهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذكرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ

مِنْ دُونِهِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ(2).

(أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَللهُ مَعَ اللهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(3).

مرورًا بالتقويم (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ والإنجيل وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طغْيَانًا وكُفْرًا فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)(4).

ص: 368


1- سورة البقرة: الآية 111
2- سورة الأنبياء: الآية 24.
3- سورة النمل: الآية 64.
4- سورة المائدة: الآية 68.

وانتهاء بالدعوى إلى المباهلة : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ الله عَلَى الْكَاذِبِينَ(1)؛ وهذه الدعوى أظهرت أن الاحتجاج هو فعل متكثر تدرّجي وتوتري، يتحدّد بما هو تداولي وما تسالم عليه الطرفان، فالمباهلة هی آقصی ضروب الدليل، حيث انتصر موقف الدين الخاتم وعزّز مصداقيته لا بوصفه تشكلاً تاريخيًا؛ بل تصحيحًا وإكمالاً وبلوغاً للدين الخالص، وبهذا يندفع التمركز الديني المسيحي الكانطي من موقف «الكلمة السواء» كما في حادثة المباهلة. ويتحقق الجواب عن الدين الحقيقي الكانطي بوصفه لا تاريخيًا ولا رسوما؛ بل موقفًا سبق استشكاله دونما حاجة لقلب كوبرنيكي أخلاقي، ولا حتى برفض الأحكام نفسها بوصفها مداخل أخلاقية وليست نهايات دينية؛ ذلك لأن عالم كانط الأخلاقي الحر، المستغني عن الضرورة، لا يرى إلى العالم الواقعي بواقعية أو ذرائعية ونسبية؛ إذ حتى التوصل إلى الإرادة الحرة هو فعل تدريجي وتطور في الاقتدار، وإذا وجد من بدا مسلوب الإرادة الحرة، فذلك دليل على أنها لا توجد على نحو واحد، فثمة جبر يشتد بمقدار افتقاد هذه الإرادة، وثمة تحرّر يشتد بمقدار امتلاكها، ففي كون الإرادة الحرة أمرًا يقصد وغاية تدرك، تأكيد على أن في بدء طلب الإرادة الحرة، يقف الواجب، فيكون بمثابة العلّة الأولى في مراقي التقدّم نحو الإرادة، وهذا إنما يعيد الأمر إلى بداية الإشكال الكانطي: لمن الأسبقية، هل هي للدين أم للأخلاق. أقول: فضلاً عن شبهة المقايسات الكانطية الدينية كما أشار إليها شوبنهاور(2)، إن الأسبقية باعتبار الإرادة الحرة هي مكتسبة وليست تكوينية تكون الأسبقية للدين، وتكون الأخلاق غايته؛ بل إن كانط بإصراره على فكاك الأخلاق عن الدين، وجعلها منبثقة من الإرادة الحرة وليس الواجب ولا حتى الغاية، يكون قد رام حلّ مشكلة الجمود

ص: 369


1- سورة آل عمران: الآية 61.
2- الأمر هنا أشبه برجل راقص امرأة في حفلة تنكرية قبل أن يكتشف في نهاية المطاف أن من كان يراقصها هي زوجته وليست امرأة أخرى. وقد وصف شوبنهاور الطريقة الكانطية بلعبة ساحر وماهر في خفة اليد. وهي تهمة تشبه إلى حد ما تهمة كانط نفسه لمن حاولوا تعديد الدليل على وجود الله، بين الكوني والأنطولوجي، فيما هو دليل واحد. ومع ذلك فإن كانط في نظر نيتشه لم يطلع من اللاهوت. فهو «مع ذلك، فهذا العدمي ذو الأحشاء المسيحية الدوغمائية، قد فهم الفرح كمعارضة». (إيمانويل كانط، الدين في حدود العقل المحض، ص 41.)

الديني الكنسي بما هو أدعى للاستشكال. هذه الدعوى الغارقة في مثلها الأفلاطونية، تستبعد الأطر الاجتماعية والإكراهات الواقعية التي تجعل الفرد غارقًا في ضروب من الضرورات، ولا يتسنّى له الفكاك منها إلا توسلاً بأسباب خارجية، ولا تحقق لذلك بوجود الواجب في أساس الفعل الأخلاقي. وليست الأخلاق معلولة دائماً للإرادة الحرة؛ بل إن الإرادة الحرة معلولة بالضرورة للفعل الأخلاقي، وتنمو بنموه، هذا ما يجعل العلاقة بينهما علاقة تأثير متبادل. على أن في أساسهما يقع الواجب والضرورة؛ بل إن الحديث عن الإرادة الحرة وانتفاء الواجب والضرورة والغاية من الفعل الأخلاقي، دعوى لعالم خارج منطق الاجتماع وإكراهاته، دعوى إلى أن يكون الناس أخلاقيين أو لا يكونوا، باعتبار هذه العبارة تعني لنكن معصومين أو لا نكون!؟ فالقانون الأخلاقي الكانطي، هو قانون مجعول للآلهة وليس للبشر ! أليس الطريق إلى الحريّة يتطلب انتصارًا على مسلسل ،الضرورات، وهذا يتطلّب إكراها يمكن الذات من التدريب والتمرن على الإقتدار ؟ فالأحكام مداخل وليس نهايات. ومتى نظر إليها كنهايات وطقوس، صح حينئذ الموقف الكانطي الذي لم يضف جديدًا على الاستشكال الإسلامي نفسه ضد أزمة الأديان السابقة، وإن جاء الحل الكانطي غاية في الحيرة.

2 - مبدأ الكتاب المهيمن

ليس مفاد الهيمنة هنا محض الحكومة القاضية بترجيح اللاحق على المتقدّم، وقد قلنا سابقا إن الحدث الإسلامي هو انقلاب على تاريخانية التمأسس الديني وتَشَخصُنه وتمركزه العرقي أو المجالي؛ بل هو حركة باتجاه المطلق والكوني؛ إذ كلّ ما في فحوى الكتاب الخاتم، وحتى ما يبدو تمركزا، هو تمحور وسطي كوني، تحول يعكسه تغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة كحدث شاهد على الأصل الواحد للديانات، حيث إبراهيم أبو الأنبياء الذي رفع القواعد من البيت كتموقع يتوسّط المعمورة، راسما مركز الكونية الجغرافية، وتتابع حركة بحركة الفلك الدوار في أثناء الطواف، حيث ترسم هذه الحركلة اندماجا في الكونية الطبيعية في حراكها الزمني،

ص: 370

على أن الطواف يرمز إلى الحركة الدائرية، بوصفها أكمل الحركات وأتمها . إن مبدأ الكتاب المهيمن إشارة إلى مفهوم الحكومة، بمعناها الذي يفيد «النسخ»؛ أي إحكام المتشابه - كلّ أنواع المتشابه - سواء أكان مصدر «المتشابه» جهلاً أم تحريفا أم نفاذ حكم مجعول على نحو المؤقتية أم الحكم النسبي. مصححا شاهدًا وفاضحا، حيث تشكّل وسطيته بين الشريعاتية المجرّدة (التوراتية) والروحانية المجردة (الإنجيلية) تداخلاً واندماجا بين الروحي والشرائعي، على نحو يوحي بحكومة الدين الخاتم الجامع لنسق الروحي والشرائعي معا على ما تحقق مجتزءاً في ما سبق. وبهذه الهيمنة، يدفع التمركز الديني الكانطي - المسيحي، مثالاً واستشكالاً، بفكرة الكتاب

- المهيمن الحاكم الناسخ؛ حيث لا مركزية للسابق المجتزئ على اللاحق المكمّل الناسخ.

3 - مبدأ الخاتمية

لا إطناب في صدق دعوى الخاتمية، حيث يمتنع بداهة أن يتمركز الآني والمحدود على المستمر والكوني. وليس ثمة ما يؤكد على دعوى الخاتمية في ما سبق، حيث كلّ ما هنالك يدعو للآنية والمؤقتية والتداولية المحصورة ، وكونها بشرت بورود أنبياء جدد يعد دليلاً على هذه المؤقتية. ولا واحدة من تلك جعلت الخاتمية أميز ما يميزها غير الإسلام. وهي ليست دعوى مغلقة؛ بل مفتوحة لا تقيم دعواها على غير البرهان [ قُل هاتُوا بُرهانكُم] . دعوى خالدة، كونية، لا تلوذ بالمنغلق؛ بل قوتها واستقواؤها بالكوني والبرهاني، والدعوة المفتوحة، لا بالمراوغة وشراء الذمم؛ بل بقهر الدليل والحوار المفتوح، وبكل الوسائط الدليلية الممكنة. تلك الأدلة التي تبدأ بالحجاج وتنتهي إلى الإعجاز من الكلمة السواء إلى المباهلة، فالحجة هي الدليل، لا الترديد!

عود على بدء

لا تبرح استشكالات كانط الدينية والأخلاقية الآتي:

لا يمكن للأخلاق أن تنهض إلا على الواجب، وهذا الواجب، أساسه إرادة

ص: 371

حرة منطلقة، لا جبر يحددها من الخارج، فلا يمكن أن تكون الأخلاق نابعة من الضرورة، ولا يمكن أن تكون غائية قاصدة باعثها المنفعة. إن المأزق الذي دعا كانط إلى رفض المتعالي الخارجي وافتراض الأمر المطلق، هو رفضه للضرورة في إتيان الواجب، ورفضه للمقاصد في الفعل الأخلاقي، حتى وإن كانت علاقة الاقتران بين الفضيلة والسعادة، هي علاقة جدارة، لا علاقة علية. إذا كانت فلسفة الخطيئة قد شكلت عبئًا على الدين المسيحي، ما جعل كانط يستشكل دينيا وأخلاقيا من داخل أنموذجها ، فإن الإسلام بوصفه ضامن كونية الدين ووسطيته يخطئ كلّ افتراضات واستشكالات كانط، حيث مرادنا هنا، أن نجيب عن استشكالات كانط الأخلاقية والدينية من دون أن يدعونا ذلك إلى انقلاب كوبرنيكي أخلاقي، أو التنكر لفكرة الضرورة ولمداخل الأخلاق وضرورات الترقي بالنوع من مستوى ال«لستم».

جدل الضرورة والحرّية في إتيان الواجب

لا نعقد هنا مقارنة بين الدين المسيحي والدين الإسلامي، من حيث هي مقارنة خاطئة، اللهم إلا إذا أخذنا المسيحية كصيرورة تاريخية مستوعبة في «الإسلام» بالمعنى العام، لا الخاتمي الخاص، الذي هو محتواها - هكذا هي دعوى الإسلام نفسه، حيث الدين عند الله الإسلام - ، على أن دعوته إلى الكلمة السواء،هي دعوة للقبض على الأصول الإسلامية في الديانات السماوية، باعتبار الإسلام هو مبدأها ومنتهاها. من هنا، يجري الحديث عما استقر في الاعتقاد المسيحي، وكيف مارس الإسلام مبدأ الإحكام والهيمنة الناسخة عليه، كاشفًا بذلك عن أن الإسلام يضمن دفع التمركز المسيحي الكانطي بإعادة النظر في مضمون «الخطيئة» - المركزية في الدين المسيحي - في مقابل الفطرة التي تشكل مبدأ ومنتهى ما يبلغه المرء. فالإنسان لا يولد محمّلاً بوزر الخطيئة؛ بل يولد على الفطرة. تفترض الخطيئة وجود كائن شقي يلتمس خلاصه الصعب، في حين تفترض فكرة «الفطرة» وجود كائن يتطلب الحفاظ على نقاوته المعطاة. يسعى الكائن الحامل عبء الخطيئة إلى مقاومة مزدوجة؛ إغواء الشيطان والانتقام الإلهي؛ إذ تبدو ملحمة الخلاص هنا بوجهيها الفاوستي

ص: 372

والبروميتيوسي، ملحمة انعتاق إنساني مقذوف به في متاهة منزوع عنها اللطف، وكل ما من شأنه تيسير سبل الوصول لكائن ذنبه الوحيد أنه رهينة خطا أبيه. هذا فيما سعى الكائن الطالب النقاوة الفطرية إلى مقاومة الشيطان في ممشى موسوم بالمحرابية؛ إذ ليس للخطايا أي اعتبار إلا بقدر الإصرار والنية الخالصة. فالخطايا ينسخها العمل الصالح، والتطهر منها يكون بإعلان مقاومتها. إن قيمة العبادة في هذه المحرابية التي يظهر فيها العبد تعبويته الروحية باتجاه الهدف، وهذه النقاوة التي يسميها كانط «النية» (intention)، هي قيمة الفعل الأخلاقي والديني للعابد المسلم، وهو فعل قابل للتصرف، وليس فقط مجاله الرهبنة.

يتنزل الكائن في المنظور المسيحي محملاً بخطيئة «أب» خدعه الشيطان، وأغوته المرأة، ويتنزل الكائن في المنظور الإسلامي محملاً بأمل صرف لاستعادة الصعود، وليس في ذاكرته شيء من خطيئة الأب، سوى عبرة يفيد منها كما أفاد أبوه وتحقق خلاصه بالاستغفار والاستعصام من غواية الشيطان: [ولا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزرَ أُخرَى] !

فالأب يضحي في أولى تجارب الخلق من أجل الأبناء، وليس الأبناء هم من يرتهنون لخطيئة الأب، بهذا يعاد إخراج الخطيئة إسلاميّاً، تقويضًا لنزعة باترياركية، ثاوية في صلب فلسفة «الخطيئة»، هذه الأبوية التي تتضخم وتتأسس في منشأ عقدي مسيحي ارتقى بخطيئة الأب إلى أن يجعل منها مأزقًا أنطولوجيا. ففي منطق العدالة الإلهية التي هي المثال عن العدالة الاجتماعية والكونية -«ومن كلّ شيء موزون»- ليس له من ذكرى أب خاض امتحانًا وكالة عن النوع، ونزل لاستئناف رحلة الاستخلاف إلى جوار إمرأة ليس له من فضل عليها في موازين الحساب، إلا التقوى المتاحة بالتساوي لكليهما.

ففي دنيا كائن مزدوج الميول ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّنَهَا فَأَهْمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَنَهَا﴾(1)

لا يمكن الحديث عن إرادة حرة، يستعصم بها الكائن من دون إثارة من الخارج، تذكره بالميثاق أو تثير له دفائن عقله المكنون، تصبح الضرورة علاجًا من أدواء الغفلة

ص: 373


1- سورة الشمس: الآيتان 8-7 .

والنسيان، فالضرورة ها هنا، مدخل للتحرّر لا علة له كما يتوهّم كانط. الضرورة هنا لا تنتج الحرية؛ بل تضطر الكائن إلى أن يبرح سبل الإكراه ليقف على طريق التحرّر ، فالضرورة هنا تدفع الضرورة، وهي لطف خارجي لتبديد إكراهات النزول . ودفع الضرورة بالضرورة خطوة في طول التحرر . فإذا أمكن رفع عبء الخطيئة من الضمير، أمكن تحرير «المتخلق» ودفعه إلى حيث الامتثال الخالص، الذي قوامه المعرفة الخالصة والاندماج في مقام ال- «الستم» . وهو ما حكى عنه سيد العارفين علي بن أبي طالب قائلاً: «وقوم وجدوا الله أهلاً للعبادة فعبدوه {لا طمعا في جنته ولا خوفًا من ناره] فتلك عبادة الأحرار»!

هكذا أمكننا إدراك جدل الضرورة والحرية؛ إذ لا مفر من اجتياز مقامات الاضطرار قهراً في عبادة العبيد أو نفعًا في عبادة التجار، إلى مقام العرفان والوجد عبادة الأحرار.. وكلّها مقامات يتيحها التصوّر الإسلامي باعتبار عالم الخلق هو عالم كثرات وتنازعات ونزولات وصعودات، فبمقتضى الواقعية الأخلاقية أرقى : إلى الخلق بالحق. فعالم «كانط» الأخلاقي هو عالم صوفي خالص، لا يمكن تحققه إلا في اليوتوبيا الكانطية، وضامنها العقل النظري، فالتحرر من عبودية العبيد والتجار، وطلب عبودية الأحرار - التي هي الصبغة التي قصد إليها كانط، وتطلب منه الأمر إحداث انقلاب جذري في العقل وفلسفة الأخلاق - هو فعل كدح مستدام.

***

حينما تغدو الأخلاق بلا قصود

إن طلب القصود لا ينفي خلوص الامتثال، فإذا كانت الأخلاق مشككة تشتدّ وتسترخي بحسب جهد المتخلّق أو بحسب حال ملكته في التضعف والاشتداد، في الفورية والتراخي، فإن القصود تبع لها في التشكك. إذا كان العبد يطلب منفعته فی الفكاك من النار، أو إذا كان العبد التاجر يطلب منفعته في جنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، فإن العابد الحرّ يطلب منفعته في لذة

ص: 374

الرضى والفناء وشتان ما بينهما، وإن كان القاسم المشترك هو ذاك الإصرار على طلب لذة، وإن بدت رمزية، فهي لدى العارف مما لا يقاس بلحم طير مما يشتهون؛ بل هي غاية في المتعة، يرى العارف أن الملوك لو أطلعوا على ما هم ونظراؤهم عليه من حسن الاستمتاع ، لجالدوهم عليه بالسيوف. فماذا لو أدرك هذا الرهط ممن قيّده علوق الأبدان والأشباح، وحجبت عنه صقع العقل في منتهى تجرده، حتى كان زهده في الدنيا والآخرة معا، طلبًا لصاحبهما، فتستوي الدنيا والآخرة في مداهما التعلّقي العنصري الطبيعي والمثالي الأفلاطوني الشبحي، أمام هذا السفر في التجرّد المحض، فتظلّ «اللذة» ثاوية في صلب «التخلق» نفسه، ولا عليك بعد ذلك إن كان كانط قد استبعد السعادة من الفعل الأخلاقي؛ إذ سرعان ما انتهى إلى تأكيدها على نحو من العلقة الاقتضائية، فالفضيلة مهما انفصلت، ستتحد بلا شك مع السعادة،فيغلب الاتصال على الانفصال والالتئام على الشرخ. وعليه، فلا مجال لرفع الضرورة أو القول بمزاحمتها للفعل الأخلاقي، ولا مجال لرفع القصود عنه؛ إذ لا تنافي بينهما. هكذا نستطيع بمثال «الدين الخاتم» أن ندفع التمركز الديني المسيحي وعبء الخطيئة بوصفه الدافع المؤسس للانقلاب الكانطي. على أن محايثة الفعل الأخلاقي للدين هي دعوى إسلامية؛ مبدأها: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». ومنتهاها «الدين المعاملة»!

فالقول بدین خالص مجرّد لا تاريخي ولا موضوعي، مع ارتفاع الضرورة وانتفاء القصد، يجعل من الأخلاق الكانطية أخلاقاً لعالم ليس عالم «خلق»؛ بل عالم حق بلا خلق . ولعله عالم عمائي بلا «حق» ولا «خلق»!

لا یری كانط أي علاقة بين الإرادة الخيّرة والقصود النافعة، فالإرادة الخيرة هي خيرة في ذاتها، لا بما يترتب عليها من آثار نافعة. وهكذا حاول كانط أن يقطع نهائيا مع التصوّر الأخلاقي السائد، سواء في فلسفات الأخلاق القائمة على مفهوم اللذة والسعادة، أو الرؤية الدينية التي تشاركها التصوّر نفسه. فهذا إلى حد ما صحيح، باعتبار أهمية «النية» في الفعل الأخلاقي والديني، تلك النية التي حولتها غلبة

ص: 375

الطقوسية والشكلية على روح الأخلاق والدين إلى ضرب من النفاق. لكن، هنا نلاحظ مدى تأثير الواقع الديني الفاسد الذي عاصره، كانط وجاءت فلسفته الأخلاقية کرد فعل عليه، ما أفقده توازنه وموضوعيته. على أن ثمة رؤيتين على مستوى واحد من الخطا؛ رؤية ترى أنّ الأعمال تُقَوَّم بالنيات الخالصة فحسب، ورؤية ترى أنّ الأعمال تُقَوَّم بالمصالح النافعة فقط، وثمة رؤية متوازنة للأخلاقية الإسلامية الخاتمة والوسطية، تقبل بالشرطين معًا: شرط النية الخالصة وشرط الإتقان في العمل والاجتهاد في تحقيق العمل.

ولا شك في أنَّ كانط، كما لاحظ ذلك شوبنهاور، يفرّق بين الباعث والمصلحة، على أنَّ المصلحة نفسها هي الباعث على الإرادة، فلا يخلو فعل من الأفعال من باعث، هو المصلحة. وكأن شوبنهاور يؤكّد القاعدة الشرعية الإسلامية نفسها؛ حيثما وجدت المصلحة فثمة شرع الله. على أنَّ هذه المصالح ليست بالضرورة ظاهرة ولا آنية؛ بل قد تخفى إلى حين، فتظهر فى آثارها الآجلة.

إن ما يبدو للناظر في الفلسفة الأخلاقية الكانطية - وكما كشف ناقده الأول شوبنهاور - أنها أخلاق لم تستطع - على الرغم من ادعاءاتها - الانفصال عن الدين بل لقد سقطت في ضرب من الاستبدال ؛ بحيث أسقطت كلّ معاني الدين على القانون الأخلاقي، كما أذعنت لفكرة «الله»، وإن كانت جعلت منها مسلّمة للعقل العملي. والحق، أن المبدأ الأعلى للخلق، هو ضرورة، ليس لعجز العقل عن الاستدلال على وجودها؛ بل لأنه واجب الوجود الذي لم تخف آثاره حتى يحتاج إلى معرف ودليل، فهو ضروري المعرفة، وهذا يثبته دليل الصديقين. وقد عجز كانط عن أن يثبت ذلك في بحثه عن الدين العقلي، بوصفه تجريدات أخلاقية محضة! لقد بالغ حينما دعا إلى دين خالص مجرّد لا يتجسّد فى رموز وسلوك ظاهر، إنه ضرب من النيات المجردة غير الآبهة بالآثار العملية الدالة على نقاء النية والإرادة الحرة، وهذا أمر يتعذر استيعابه في ممالك البشر وطبائعهم، حيث لا ينهض الاجتماع إلا على أساس المصالح والخير المتحقق في الخارج. إذا كان الإسلام الخاتم يحتفل بالنيات، فلأنه يراها

ص: 376

شرطًا للفعل الاستخلافي الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بالمصالح أو ما يسميه القرآن: [ مَا يَنفَعُ النَّاسَ] ! ، ولا تكون الأحكام والشرائع رسومًا مجردة إلا حينما لا تتكامل مع إمحاض النيات. وهذه الأخيرة لا معنى لها إلا بما تحققه من امتثال أيضًا، فالأحكام هي مداخل للأخلاق، كما إن الأخلاق هي مصاديق مشخصة للنيات.

بقدر ما تنزع المثالية الصرفة التي جعلت القانون الأخلاقي الكانطي خاليًا من أيّ باعثية، ولو كانت خيرًاً محضًا، إلا أن تكون باعثية في ذاتها، بقدر ذلك تتهاوى المثالية المذكورة إلى سفح الريبية من الحالة المثالية الضامنة لتحقق الواجب الأخلاقي. حيث أنزل الأخلاق من كونها حالة مثالية إلى كونها قانونا بلا ضمانات ولا محفزات، مع أنها بهذا المعنى لا يمكنها أن تتحول إلى قانون، حيث القانونية تجعلها حالة قهرية وحتمية ، اللهم إلا إذا اعتبرنا الإنسان كائنا أخلاقيًا كما یریکانط بحسب هذا التحليل، وهو تعريف خاطئ لأسباب عالجناها في مورد غير هذا المورد. ولكن لنقل باختصار: لسبب بسيط ، هو أن الأخلاق نفسها تجلَّ للعقل، فكل مرتبة عقلية تكشف عن خلق .

وأخيراً : هل لنا أن نشكك في قوة المعمار الفلسفي الكانطي؟

كلا.. ليس ذلك غايتنا، حيث ليس له نظير في تاريخ الفلسفة الحديث انتظامًا وسعة ومتانة، لكنه أيضًا يظلّ المتاهة الأكثر مدعاة للحيرة، ولذلك وجب نقد الكانطية.

ص: 377

اشكالية الحرية في فلسفة كانط

بين الفهم الترانسندنتالي والفهم العملي

زيد عباس الكبيسي

المقدمة

يتناول هذا البحث مشكلة فلسفية مهمة، تتعلق بمفهوم الحرية، عند الفيلسوف أيمانوئيل كانط، وهي المشكلة التي اتخذت طابعا إشكاليا، بين نوعين من الحرية هما (الحرية العملية، والحرية الترانسند نتالية). فالحرية عند كانط هي مفهوم ميتافيزيقي لا يمكن تفسيره أو تبريره من خلال الواقع. وهي في ذات الوقت وردت في النقائض العقلية الكانطية، حيث احتلت الحرية مكانة النقيضة الثالثة بينها، بوصفها مفهوماً علياً يجب التسليم به لتفسير السببية في (القضية)، ولكن في (نقيض القضية) فأنه ليس هناك من حرية، وإن كل ما يحصل انما يحصل وفقاً للطبيعة.

ولما ورد تحليل كانط الأكثر تفصيلا عن الحرية في كتابه (نقد العقل العملي)، وحاول من خلاله البرهنة على أن معرفتنا للقانون الأخلاقي توجب علينا أن نكون أحرارا (من وجهة نظر العقل العملي). فإن النقد الأول (نقد العقل النظري) والذي يصف قوانين الطبيعة والشروط الترانسدنتالية للتجربة، صار ما يمكن ان نعده تمهيداً

ص: 378

لذلك المطلب. ولأجل الحفاظ على حجته حول حقيقة الحرية من وجهة نظر العقل العملي، توجب على كانط أن يُظهر أن الحرية ليست مستحيلة من وجهة نظر العقل المحض، على الرغم من استحالتها في نقيض القضية الثالثة. لذا كان على النقد الأول ان يلعب دورا جوهريا في فلسفة كانط الأخلاقية من خلال توظيف المثالية الترانسند نتالية لإثبات أمكانية التوافق بين الحرية الترانسندنتالية مع الطبيعية، والعلاقة السببية التجريبية. ولكن هذا الفهم الترانسندنتالي للحرية يصطدم مع تصور اخر لمفهوم الحرية يعارض الأول تماما، یورده كانط في النقد الثاني، هو ذلك المفهوم من الحرية المتصور من ارتباطه بالارادة والممارسة الاخلاقية المحكومة بالواجب الاخلاقي. تلك الطبيعة الاشكالية لمفهوم الحرية عند كانط والمتمثلة بعلاقة الحرية بالسببية والطبيعة من جهة، وعلاقتها بالإرادة، وبالقانون الأخلاقي والواجب من جهة اخرى، حفزتنا للبحث عن ما يمكن ان يوصلنا إلى طريقة لإنتاج تصور لمفهوم الحرية عند كانط يمكن ان تحل به تلك الاشكالية من خلال الكشف خلال الكشف عن طبيعة تلك العلاقات التي ارتبط بها مفهوم الحرية مع المفاهيم الأخرى المؤسسة للنص الفلسفي عند كانط .

السببية وعلاقتها بالحرية والطبيعة:

قسم كانط ميدان الفلسفة إلى مجالين هما الطبيعة والحرية(1). فيقول: ((إن التشريع العقل البشري (الفلسفة) موضوعين: الطبيعة والحرية، فهو يتضمن من ثمَّ قانون الطبيعة مثلما يتضمن قانون الأخلاق، في البداية في نظامين خاصين وفيما بعد في نظام فلسفي واحد. وتدور فلسفة الطبيعة على ما هو كائن، وفلسفة الأخلاق فقط على ما يجب أن يكون))(2). وقد انعكس مفهوم الحرية عند كانط من خلال مفهومه للنقد، فالنقد ليس رفضاً لجميع القيود وتخطياً لجميع الحدود، بل إنه أثبات للحدود. فهو لا يهدف إلى التوسيع بقدر ما ينشد شروط الصلاحية. ولا يتعلق الأمر

ص: 379


1- Henry E. Alison. Kant's Theory Of Taste. A Reading Of The Critique Of Aesthetic Judgment.Modern European Philosophy. Cambridge University Press. P. 201. 202
2- عمانويل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مشروع مطاع الصفدي، مركز الإنماء القومي، رأس بيروت - لبنان، 1988، ص 400، 401.

هنا بالرقابة، وإنما بنقد العقل. وهذا النقد لا يكتفي بإثبات حدود لعقلنا، بل يبين نهايات معينة. فلا يكتفي ببيان جهل العقل فيما يتعلق بهذه النقطة أو تلك و إنما يعين جهالته فيما يتعلق بجميع المسائل التي هي من نوع معين(1).

ويجب التفكير بالحرية الترانسدنتالية بوصفها مستقلة عن كل ما هو تجريبي، وعن الطبيعة بشكل عام ، فننظر لها بوصفها موضوعاً للحس الداخلي في الزمان أو موضوعاً للحس الخارجي في كل من الزمان والمكان معاً. ومن دون الحرية الترانسدنتالية بمعناها المناسب الذي هو فقط عملي قبلي فلا قانون الأخلاق ولا المسؤولية يكونان ممكنين(2).

لقد كانت المشكلة الأساسية في الفلسفة المتعالية، هي دراسة إمكان وجود أحكام فيزيائية ذات طبيعة تركيبية أولية، وأهم هذه الإحكام التي توصل إليها كانط هی (السببية). فالسببية عنده حكم تركيبي لا تحليلي، لأن التجربة لها دور في صياغة هذا الحكم الذي يركب معرفة جديدة من عناصر توجد بالخارج. وعند كانط كل قضية يُنظر لها على أنها ضرورية فهي حكم أولي. وكل قضية يُنظر لها على أنها كلية (أي لا تأتي من التجربة) فهي حكم أولي أيضاً(3). ولهذا فالسببية مبدأ تركيبي أولي، وكل التغيرات تتم وفقاً لهذا المبدأ . إذن مادامت التجربة لا تعطي المشروعية المطلوبة لمبدأ السببية، إذن سيفرضها الذهن البشري نفسه(4).

إن مفهوم السببية كضرورة طبيعية غير مماثل لمفهوم السببية بوصفها حرية . فالضرورة الطبيعية تختص فقط بوجود الأشياء كونها محددة في الزمان، ومن ثمّ بوصفها علتها. فإن افترضنا أن الأشياء الموجودة في الزمان هي صفات الأشياء بذاتها -على ما يفعل اسبينوزا) فالضرورة في العلاقة السببية لا يمكن على أي نحو أن تكون

ص: 380


1- عبد السلام بنعبد العالي، الميتافيزيقا العلم والايديولوجيا، دار الطليعة - بيروت، 2،1980، ص 41، 42.
2- فريال حسن خليفة، الدين والسلام عند كانط، مصر العربية للنشر والتوزيع - القاهرة، ط1، 2001، ص 66.
3- Timothy James Aylsworth. Freedom In Kant's Critical Philosophy: Keystone Of Pure Reason. May 2010.P.1.
4- إلياس بلكا، الوجود بين السببية والنظام، المعهد العالمي للفكر الاسلامي - هرندن - فرجينيا - الولايات المتحدة الامريكية، ط 1 ، مكتب التوزيع في العالم العربي بيروت - لبنان، 2009، ص 127 - 129.

متحدة بالحرية، ذلك لأن كليهما في تناقض مع الآخر. فعلاقة السببية تدل على أن كل حدث، أو فعل يحدث في لحظة معينة من الزمان هو فعل ضروري بمقتضى شرط سابق له، وطالما لا نقدر على التحكم في الماضي فكل ما نفعله بالضرورة بسبب شروط محددة لا تكون في قدرتي. (أي إننا في ذات الوقت نفعل و لا نكون أحرار ...)فإذا كان نصف الفرد الموجود في الزمان بالحرية، فإن ذلك يعني أن وجوده متضمن في أفعاله، وأفعاله باعتباره موجوداً في الزمان لا يمكن أن تكون مستثناة من قانون الضرورة الطبيعية، فالحرية تكون تصوراً مستحيلا(1).

وفي هذا يرى كانط أن: ((لا علاقة لمفهوم السببية بوصفها ضرورة طبيعية، مقابل مفهوم السببية بوصفها حرية، بوجود الأشياء إلا من حيث إن هذا الوجود للأشياء هو قابل للتعيين في الزمان كظواهر بمقابل عليتها كأشياء في ذاتها. والآن، لو أخذنا تعيينات وجود الأشياء في الزمان على أنها تعيينات للأشياء في ذاتها (وهي صيغة تمثلها الأكثر شيوعاً)، لكان من المحال عندئذ الجمع بين الضرورة والحرية بعلاقة العلية بأي شكل من الأشكال؛ بل على العكس هما معارضان الواحد للآخر بوصفهما متناقضين، لأنه ينتج عن الأولى أن كل حدث ومن ثم أيضاً كلُّ فعل يحصل في نقطة من الزمن إنما يقع حتماً تحت شرط ما كان في الزمن السابق عليها. والآن، ولم يعد الزمن الماضي تحت سيطرتي، فإن كل فعل أقوم به لا بد من أن يتم بالضرورة بأسباب معينة ليست تحت سيطرتي، أي إنني في اللحظة التي أفعل فيها لست أبداً حراً. وبكل تأكيد، حتى لو اعتقدت أن وجودي بأكمله هو مستقل عن أي علة غريبة (مثل الله)، بحيث لا تكون الأسباب المعيّنة لعليتي، وحتى لوجودي بأكمله من خارج عني على الإطلاق، فإن هذا لن يحوّل ولا بأقل شئ تلك الضرورة الطبيعية إلى حرية. والسبب في ذلك هو أنني لا أزال أقف في كل نقطة من الزمن تحت ضرورة أن أكون معيناً لأن أفعل بما ليس تحت سيطرتي، أي إن سلسلة الأحداث اللا متناهية من جهة ما قبل(Parte Priori)لا يمكنني إلا أن أكملها على وفق نظام

ص: 381


1- فريال حسن خليفة، الدين والسلام عند كانط، مصدر سبق ذكره، ص 66.

محدد مسبقاً، وهي لا تستطيع أبداً من عندها، فتكون سلسلة طبيعية متواصلة، ولهذا السبب تكون الحرية عليتي إطلاقاً))(1).

وبناءً على ذلك سيكون هنالك نوعان من السببية، واحدة وفقاً للطبيعة وأخرى بناءاً على الحرية:

الأولى هي اقتران حالة بحالة سابقة تليها بموجب قاعدة في العالم المحسوس. (لكن بما أن سببية الظاهرات تستند لشروط زمنية، وكذلك الحالة السابقة ما كانت لتولّد مسبباً يرى النور لأول مرة في الزمان لو كانت قائمة دائماً، فسبية سبب يحدث أو يتولد تكون هي الأخرى قد تولدت أيضاً وتحتاج بدورها وفقاً للمبدأ الفاهمي إلى سبب).

والثانية على العكس، نفهم بحرية (بالمعنى الكسمولوجي) قدرة الواحد على البدء من ذاته حالة لا تخضع سببيتها بدورها لسبب آخر يعينها من حيث الزمان وفقاً للطبيعة. فالحرية كما يقول كانط: ((بهذا المعنى فكرة ترنسندنتالية محضة لا تتضمن بدءاً أي شئ مستمد من التجربة، ولا يمكن لموضوعها ثانيا، أن يعطى بتعين في أي تجربة ، لأن (كل ما يحصل يجب أن يكون له سبب) و (سببية السبب التي هي نفسها حاصلة أو متولدة، يجب أن يكون لها بدورها سبب) قانون كلي، بل قانون إمكان كل تجربة؛ وبه يتحول كامل حقل التجربة، وباعداً ما بَعد، إلى جملة من مجرد طبيعة))(2). وبما انه لا يمكن التوصل لاكتشاف أي جملة مطلقة للشروط في العلاقة السببية، فالعقل يبتدع فكرة عن تلقائية يمكن أن تبدأ من نفسها الفعل، من دون أن يسبقها سبب آخر يُعيّنها بدورها للفعل وفقاً لقانون الاقتران السببي(3).

إذن يقدم كانط تفسيراً سلبياً للحرية يرى انه لا يثمر في فهم ماهيتها بقوله: ((إن

ص: 382


1- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت - لبنان، 2008، ص .174،173.
2- عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة مصدر سبق ذكره، ص 272،273.
3- المصدر نفسه، ص 273.

الإرادة نوع من العلية تتصف به الكائنات الحية، من حيث هي كائنات عاقلة، والحرية ستكون هي الخاصية التي تتميز بها هذه العلية فتجعلها قادرة على الفعل وهي مستقلة عن العلل الأجنبية التي تحددها: مثلما أن الضرورة الطبيعية هي الخاصية التي تتميز بها العلية لدى جميع الكائنات غير العاقلة التي تجعل فاعليتها تتحدد بتأثير العلل الأجنبية عنها))(1). فالحرية يمكن أن تُعرّف سلبياً بأنها خاصية الإرادة في الكائنات العاقلة لأن تفعل مستقلة عن العلل الأجنبية، أي إن الحرية هي الصفة التي تتصفُ بها الإرادة العاقلة في قدرتها على الفعل من دون تأثير من الأسباب الأجنبية. ويمكن أن تُعرّف الحرية إيجابياً بأنها تشريع الإرادة لنفسها بنفسها(2).

ولكن هناك تصوراً ايجابياً عن الحرية ينبثق عن ذلك التصور السلبي، ويفوقه غناه وخصوبته. حيث يقول كانط : ((انه لما كان تصور العلية ينطوي على تصور القوانين التي تقتضي بالضرورة أن نسلم عن طريق شيء نسميه علة، بشيء آخر نسميه نتيجة، فإن الحرية على الرغم من أنها ليست في الحقيقة خاصية تتصف بها الإرادة وفقاً لقوانين الطبيعة، لا يمكن أن توصف لهذا السبب بأنها مجردة عن كل القوانين، بل الأولى أن يُقال إنها يجب أن تكون علية تسير في أفعالها وفقاً لقوانين لا تتحول، وان كانت هذه القوانين من نوع خاص، وإلا لكانت الإرادة الحرة شيئاً محالا))(3).

فالفهم الايجابي للحرية يجب ألا نعطيه للاستخدام النظري إذ ليس من المفروض أن تُبين الحرية الإيجابية أن الشر الأخلاقي ليس عقلانياً جداً بحيث إنه مستحيل. في الحقيقة، لا يقترح كانط أننا يجب أن نشرح الأفعال نظرياً بإحالتها إلى الخيار الحرّ للبديهيات في عالم ذكي. إن دور فكرة الحرية والعالم الذكي هي بالأحرى دور عملي. ذلك يعطي مفهوماً لنا يدفعنا نحو طاعة القانون الأخلاقي. فحرية الإرادة عند كانط لا يمكن تثبيتها نظرياً. إن تثبيتها يعني تحقيق معرفة العالم الشيئي وهذا

ص: 383


1- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي ، مراجعة عبد الرحمن بدوي، منشورات الجمل، ط1، 2002،ص145.
2- عبد الرحمن بدوي، الأخلاق عند كانط، وكالة المطبوعات - الكويت، 1979،ص95.
3- أمانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 145،146.

شئ لا نملكه. يتم تأكيد حرية الإرادة ولكن كتفسير عملي وبذلك فقط من وجهة نظر عملية ولكن بالتأكيد، هناك إغراء بالقول ببساطة لا يمكن ردّ ذلك إلى العامل الأخلاقي الذي يجب تحفيزه بهذا المفهوم سواء كان الشخص في الحقيقة الفعلية حرّ أو مُصمّم ميكانيكيا(1).

ولعل ردّ كانط على هذا القلق الموجود في فكرة حقيقة العقل. يكمن في أن حقيقة العقل هي وعينا بالقانون الأخلاقي كأرضية مُحددة الإرادة. إذ يرى كانط أنه يمكن أن نعرف المبادئ العملية الخالصة بنفس الصورة التي نعرف بها المبادئ النظرية الخالصة بصلتنا بالضرورة التي يوجبها العقل لنا ولإزالتها من الشروط العملية التجريبية التي يوجهها العقل. وبذلك فإن القانون الأخلاقي يُقدم لنا بواسطة العقل حالما يُنشئ البديهيات للإرادة وهي التي تكشف حريتنا لنا. ويُظهر ذلك لنا بأننا قادرون على العمل حتى ضد أقوى ميولنا ورغباتنا، لأن هناك حالات موجوبة علينا . وأن الشخص الذي يدرس هكذا حالة (يحكم.... بإنه يستطيع عمل شئ ما لأنه يعرف أن عليه أن يقوم بذلك وهو يدرك بأنه حرّ - وتلك حقيقة من دون القانون الأخلاقي كانت ستبقى مجهولة بالنسبة لنا). لو وضعنا هذا سوية مع الجدل من العمل الأساس حول العمل بموجب فكرة الحرية فأننا سنصل إلى إمكانية الأخلاقية ذات البنية المعقدة في أننا :

يجب أن نعمل بموجب فكرة الحرية (على الأقل السلبي منها).

لذلك يجب أن نعمل على بديهيات نعتبر أنفسنا قد اخترناها.

بالجدل من التلقائية (أو بإزالة كل الظروف العملية التجريبية كما يوجهنا العقل)فإننا ننقاد إلى القانون الأخلاقي (المفهوم الإيجابي للحرية).

تعلمنا قدرتنا على العمل حسب القانون الأخلاقي بأننا (سلبياً) أحرار.

ص: 384


1- Christine M.Korsgaard. Creating The Kingdom Of Ends. Morality As Freedom. Harvard University. Cambridge University Press. P. 174. 175.

لو كان الأمر كذلك، فإننا أعضاء في العالم الذكي ولنا نداء باطني أعلى من إرضاء رغباتنا .

يعطينا هذا الحافز بأن نكون أحرار إيجابياً - وذلك أمر أخلاقي. ولكن كل هذا لا يزال عند مستوى التفسير العملي. تعني (4) و (5) سابقاً، إننا يجب أن نصدق بتلك الأشياء من أجل إطاعة المقولات(1).

ولكن هنالك ثمة عقبة تترصد الحرية من حيث إنها لا بد من أن تكون متحدة مع آلية الطبيعة في كائن ينتمي للعالم الحسي، وهذه العقبة لا تزال تهدد الحرية بالدمار الكامل. ولكن هنالك دائما أملا بمخرج سعيد لإقرار الحرية، كما يقول كانط. أي ((إن هذه العقبة نفسها تضغط بشدة كبيرة على المنظومة التي يُعتبر فيها الوجود القابل للتعيين في الزمان والمكان هو وجود الأشياء في ذاتها، فهي من هنا، لا تُرغمنا على التخلي عن أفتراضنا الرئيسي لمثالية الزمان مجرد صورة للعيان الحسي وهكذا مجرَّد طريقة لتمثل الأشياء الذي هو خاص بالفاعل بوصفه ينتمي إلى العالم الحسي، وهكذا فإن هذه العقبة لا تطلب منا سوى أن نوحد هذا الأفتراض مع فكرة الحرية))(2).

ولإزالة هذه العقبة كتب كانط قائلا:)) الآن لكي يرفع مظهر التناقض في الحالة التي أمامنا بين آلية الطبيعة والحرية في الفعل الواحد بعينه، يجب على المرء أن يتذكر ما قيل في نقد العقل المحض أو ما ينتج عنه من أن الضرورة الطبيعية التي لا يمكن لها أن تعيش سوية مع حرية الذات،هی ليست مرتبطة إلا بتعيينات الشئ الخاضع لشروط الزمان ومن ثمَّ فقط لهذا (الشي) الذي هو بمثابة ظاهرة للذات الفاعلة ومن هنا فإن الأسباب المعينة لكل فعل للذات إنما يقع حتى الآن في ما ينتمي إلى الزمان الماضي، وهو لم يعد تحت سيطرتنا ......))(3). ولكن من ناحية أخرى فالذات عينها

ص: 385


1- Christine M. Korsgaard. Creating The Kingdom Of Ends. Op. Cit. P. 175
2- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، مصدر سبق ذكره، ص182،181.
3- المصدر نفسه، ص 178.

تعي وجودها كشئ في ذاته محدد فقط عن طريق القانون المعطى لذاته خلال العقل، أي القانون الأخلاقي. وفي وجوده لا شئ يكون متقدماً عليه ومحدداً لإرادته. ((وعندما يكون السؤال عن قانون وجودنا المعقول القانون الأخلاقي، العقل لا يسلم بأختلافات زمنية ويسأل فقط عما إذا كان الحدث ينتمي لي بوصفه فعلاً لي، وعندئذ يرتبط بشكل أخلاقي بالشعور عينه، سواء كان الحدث يجري الآن أو منذ زمن ماض طويل فهو ليس إلا ظاهرة فردية في عين الوعي المعقول بوجودها أي الوعي بالحرية، وهذه الظاهرة تتضمن مظاهر الاستعداد الذي هو خاص بالقانون الأخلاقي فلا يجب أن يكون محكوماً بالضرورة الطبيعية التي هي مختصة به بوصفه مظهراً أو ظاهرة، ولكن محكوماً وفقاً للتلقائية المطلقة للحرية))(1).

ولا يدعي كانط أننا نستطيع أن نعرف أننا كمدركين بالعقل أو مواضيع شئ بذاته (نومین) نكون أحراراً بصورة ترانسندنتالية (أننا لا نكون نحاول أن نؤسس حقيقة الحرية) وفي الحقيقة يدّعي كانط أننا (لا نحاول حتى أن نبرهن الاحتمالية للحرية). وعلى الأرجح يأمل فقط أن يؤسس أن (الطبيعة على الأقل لا تتعارض بصورة سببية الحرية تماماً)، وهو لا يهدف إلى التأكيد على أن مفهومنا عن الحرية الترانسندنتالية محتمل في الواقع، بل فقط أن هذا المفهوم ممكن منطقياً(2).

ویرى من جانب آخر، أن إمكان الحرية وأن كانت تُهم السيكولوجيا، إلا أنه لا يوجد إلا الفلسفة الترنسدنتالية لتهتم بحلها، ذلك لأنها تستند لأدلة ديالكتيكية للعقل المحض وحسب. ولأجل جعل هذه الفلسفة قادرة على إعطاء جواب لا يُرفض حول المسألة، يجبأولاً تحديد المنهج الذي يجب إتباعه(3). ويرى أيضاً انه إذا كان لدى الوجود في العالم الطبيعي القدرة على تحقيق التغييرات في العالم فذلك مدرك بالعقل فقط، وليس موضوعاً للفطرية والعفوية. فإذن قدراته السببية وعلاقاته ربما

ص: 386


1- فريال حسن خليفة، الدين والسلام عند كانط، مصدر سبق ذكره، ص 67.
2- Derk Pereboom.Kant On Transcendental Freedom. Philosophy And Phenomenological Research. Volume 73. Issu 3. November 2006. University Of Vermont. P. 6. 7
3- عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، مصدر سبق ذكره،ص274.

تبحث من خلال مظهريين (كشيء بذاته) له القدرة على الفعالية، وذلك هو مدرك بالعقل فقط (وربما كظاهراتي)، وستكون أفعاله محددة أو مقررة سببياً في العالم الطبيعي. ويتابع كانط بان هكذا وجود سيملك كلا من الصفة التجريبية التي تحدد كيف إن تصرفاته تتبع الشروط القبلية المؤقتة، ويملك الصفة المدركة بالعقل فقط التي تقود فعاليته العقلية كأنه شيء بذاته. وفي صفته المدركة بالعقل فقط فان أفعاله سوف لن تتبع السببية الناتجة من الشروط السابقة المؤقتة وفقاً للقوانين التجريبية. وبما أن له القدرة على أن يبدأ أفعاله من دون تحديد بشروط قبلية مؤقتة، فان هذا الوجود سوف يفي بشروط التعريف للحرية الترانسندتالية(1).

واعتماداً على هذا المبدأ يبني كانط البرهان الآتي في التوضيح أو التفسير:

بما أن المبدأ للسببية الطبيعية ينطبق من دون استثناء على كل الحوادث، فان الإرادة الحرة ممكنة أو محتملة فقط إذا أفعال الإنسان يمكن أن تكون معتبرة، تحت مختلف الوجوه، كأنها نتائج أو آثار لكل من التسبيب الطبيعي والقوة الحرة.

إذا كان الوجود في العالم الطبيعي له القدرة على أحداث أو أنتاج تغيرات فذلك هو مدرك بالعقل فقط وليس موضوع للفطرة أو العفوية، وقدراته السببية ربما تكون مدروسة تحت وجهين وسوف يملك كلا من الصفة التجريبية والصفة المدركة بالعقل فقط، کشئ بذاته تصرفاته سوف تكون موضحة في معنى من صفته التجريبية. بل كالشيء بذاته، نشاطه سوف يكون مسترشداً بواسطة المدرك بالعقل فقط (مثال المبادئ المعيارية أو القياسية)، ووفقاً لصفته المدركة بالعقل.

في صفته المدركة بالعقل هذا الوجود سيكون له القدرة على أن يبدأ الأفعال بصورة مستقلة عن الأمر بواسطة خضوعه لشروط قبلية مؤقتة، ولهذا سيكون حراً بصورة ترانسند نتالية.

ص: 387


1- Graham Bird، A Companion To Kant، Part Lll: The Moral Philosophy: Pure And Applied، 18، Andrews Reath، Kant S Critical Account Of Freedom، 2006، P.281

الكائنات البشرية تمتلك قدرات عقلية تلك هي المدركة بالعقل ولا تتعارض مع الفطرة. وهذه تبدو أنها تحصر القدرة أن تقود اختياراتها وأفعالها بمبادئ عقلية - وذلك هو أنها تبدو بقدر ما (عقل يمتلك السببية)، وهو القدرة على أحداث تغيرات في العالم، إذن كذلك، الكائنات البشرية تمتلك قدرة السببية تلك هی المدركة بالعقل وأنها ترضي المبدأ في (2) سابقاً، إن قدراتها السبية والعلاقات ربما تدرس تحت مظهرين وسوف تملك كل من الصفة التجريبية والعقلية.

من المفترض أن العقل هو القدرة السببية التي تستطيع أن تقود إلى الفعل (كما في 4 أعلاه)، إن الكائنات الحية هي حرة بصورة ترانسدنتالية في صفاتها العقلية (المدركة بالعقل). ولديها القدرة (الإمكانية) أن تباشر أفعالا خلال الممارسة لإمكانياتها العقلية، برغم أن هذه أفعال متشابهة يمكن كذلك أن تكون معطاة تفسيرات تجريبية بمعنى الحقائق السايكولوجية عن الوسيلة أو الأداة(1).

ولعل من أهم المتناقضات الكانطية أهمية وخطورة هو التناقض الموجود بين الحرية والحتمية. حيث حاول كانط حل هذا التناقض بالرجوع إلى تفرقته المشهورة بين الظواهر) الخاضعة للزمان والمكان. فالحياة الإنسانية مزدوجة في رأي كانط

فهناك:

الوجود الحسي المتمثل بالأفعال الخارجية التي تندرج تحت عالم التجربة، ولذا هي مترابطة كسائر الظواهر، متسلسلة وفقاً لقوانين الحتمية، ومن ثم يمكن اعتبار الإنسان مجرد ظاهرة.

لكن في ملاحظة أن هذه الأفعال ليست سوى رموز تعبر عن الخلق الباطن أي عن الذات الحقيقية، فان هذه الذات أو الأنا ليست باطنة في الزمان، بل هي عالية عليه، إذن إننا نخضع لقوانين الضرورة في جانبنا الخاضع للزمان ومتحقق بالتجربة، ولذلك ترتبط أفعالنا بالبواعث والدوافع السابقة عليها(2).

ص: 388


1- Graham Bird، A Companion To Kant، Part Lll: The Moral Philosophy, Op. Cit، P.281 ، 282.
2- زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، سلسلة مشكلات فلسفية، ط 3 مكتبة مصر، 1972 ، ص 36.

فالحرية لا يمكن أن تشبه أي ظاهرة أخرى من أي نوع كانت، فهي من طراز مختلف كل الاختلاف. أما كيفية معرفتها؟ ف: ((معلوم أن من المسائل الرئيسية في فلسفة كانط أن الإنسان ليس قادراً على معرفة تجاوز حدود التجربة.... إننا لا نستطيع أن نصل إلا إلى موضوعات واقعة في الزمان والمكان، وبعبارة أخرى إنه ليس لدينا من منبع آخر للمعرفة الصحيحة سوى الحدس الحسي الخارجي أو الداخلي))(1). وهنا يجب دراسة مناقشة كانط للفجوة بين الطبيعة والحرية، وضرورة وجود إنتقال من طريقتنا في التفكير حول الطبيعة إلى طريقتنا في التفكير حول الحرية. فيرى كانط أن مفاهيم العقل قد تجعل من الممكن الإنتقال من مفاهيم الطبيعة إلى المفاهيم العملية، وبتلك الطريقة قد تدعم الأفكار الأخلاقية نفسها وتربطها بالإدراك التأملي للعقل(2).

ویری أننا نصادف في مسألة الطبيعة والحرية، صعوبة في معرفة ما إذا كانت الحرية بعامة ممكنة فقط، وهل يمكنها إن كانت ممكنة، أن تتلاءم مع كلية القانون الطبيعي للسببية. وعليه يتساءل كانط : ((هل القضية التالية هي قضية شرطية منفصلة بدقة : كل مسبب في العالم يجب أن يصدر إما عن الطبيعة وإما عن الحرية وإما يمكن بالأحرى للاثنين، في صلة مختلفة، أن تفعلا معاً في حادث واحد بعينه: وصحة هذا المبدأ القائل بترابط كل أحداث العالم الحسي ترابطاً شاملاً على وفق قوانين الطبيعة الثابتة سبق أن أثبتت بقوة، بوصفه مبدأ للتحليلات الترنسد نتالية لا يحتمل أي عبث؟))(3). إذن المسألة تنحصر في ((هل يمكن للحرية أن توجد على الرغم من هذا المبدأ، وبالنظر للمسبب نفسه الذي يتعين وفقاً للطبيعة أم إنه يجب استبعادها نهائياً بتلك القاعدة التي لا تنتهك))(4).

فيرى كانط أن افتراض الواقعية المطلقة للظاهرات هو افتراض عامي يظهر سوء

ص: 389


1- إميل بوترو ، فلسفة كانط، ترجمة عثمان أمين، مصر: الهيئة للكتاب، 1972،ص366.
2- Henry E.Alison، Kant's Theory Of Taste، Op. Cit، P. 198.
3- عمانوئيل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مصدر سبق ذكره، ص 274.
4- المصدر نفسه،ص274.

تأثيره في تشويش العقل. فلو كانت الظاهرات أشياء في ذاتها لما كان هناك من وسيلة لإنقاذ الحرية. إذ إن الطبيعة ستكون السبب التام والمعين في ذاته لكل حدث، وسيكون شرط كل حدث متضمناً فقط في سلسلة الظاهرات الخاضعة مع مسبباتها بالضرورة لقانون الطبيعة، والعكس إن لم نحمل الظاهرات إلا على ما هي عليه بالفعل دون زيادة، أي لا كأشياء في ذاتها بل مجرد تصورات مترابطة وفقاً لقوانين أمبيريقية، ومن ثم يجب أن يكون لها أصول ليست بظاهرات. ويمكن للمعلول أن يُعد معلولاً حراً بالنظر لعلته المعقولة وان يُعد في نفس الوقت بالنظر إلى الظاهرات، كنتيجة لها وفقاً لضرورة الطبيعة(1).

وعليه يقول كانط: ((يستحيل الجمع بين العليَّة كونها حرية وبينها كونها آلية طبيعية من حيث تثبت ألأولى بالقانون الأخلاقي والثانية بقانون الطبيعة، وذلك في ذات واحدة، أعني الإنسان إلا بتصوّر أن الإنسان بوصفه كائناً في ذاته هو على علاقة بالقانون الأخلاقي، لكنه على علاقة بالثاني بوصفه ظاهرة، الحالة الأولى في الوعي المحض والثانية في الوعي التجريبي. ومن دون ذلك يكون تناقض العقل مع نفسه محتما))(2).

إن قانون الطبيعة بوصفه قانوناً تخضع له موضوعات العيان الحسي، يجب أن يقابله شيماً (أي أسلوباً عاماً للمخيلة). أما قانون الحرية فلا يمكن أن يخضع له أي عيان، وأي شيماً، ومن ثمَّ لا يخضع لمفهوم الخير - غير المشروط أيضاً من اجل تطبيقه في الواقع. والنتيجة أنه ليس للقانون الأخلاقي سوى الفهم الذي يمكن بواسطته أن يُطبق على موضوعات الطبيعة، وما يضعه الفهم تحت فكرة للعقل ليس شيماً للحساسية بل قانون، وهو قانون الطبيعة من حيث الصورة لا غير، لذا يقرر كانط ان ((هذا القانون هو ما يمكن للفهم أن يضعه تحت فكرة العقل لمصلحة ملكة الحكم، ومن هنا نستطيع أن نسميه نمط القانون الأخلاقي)) (3).

ص: 390


1- عمانوئيل كنط، نقد العقل المحض، مصدر سبق ذكره، ص 274.
2- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، مصدر سبق ذكره، من هامش توضيحي لكانط، ص47.
3- إمانویل کنت مصدر سبق ذكره، ص 137،138.

وأن بين الحرية (كما الحرية كما هي موصوفة في النقد الأول ومستنبطة في النقد الثاني)،وبین الطبيعة فجوة، يحاول كانط سدها في النقد الثالث، مدعياً أن استعدادنا الطبيعي للحكم التأملي يجعلنا مدركين لوحدة أو انسجام قوانين الطبيعة والحرية. ففي النقد الثالث يستنتج كانط، إن الطبيعة هي تابعة أو خاضعة بصورة غائية إلى الاستعمال الأخلاقي للحرية. فمفهوم الحرية يصلح ليكون مرتكز لمخطط كانط البنيوي(1).

ويستند كانط إلى حقيقة أن لمقولات الحرية ميزة واضحة بمقابل مقولات الطبيعة كون مقولات الطبيعة ليست سوى صور للأفكار، أما مقولات العقل العملي والإرادة المحضة فإنها تتجه نحو تعيين تحكم حرّ، ولها مفاهيم أولية عملية، بدلاً من صور العيان (الزمان والمكان) التي ليست قابعة في العقل نفسه، إنما يجب أن تأتي من مكان آخر، أي ((من الحساسية)) كما يقول كانط، فهي: ((صورة إرادة محض كونها معطاة في العقل، ومن ثمَّ في ملكة التفكير نفسها، وبهذا يحدث أنه، بما أن أوامر العقل المحض العملي كافة لا صلة لها إلا ب- تعيين الإرادة وليس بالشروط الطبيعية (لمهارة عملية) ل- تنفيذ غاياتها، فإن المفاهيم العملية قبلياً التي على علاقة بمبدأ الحرية الأسمى تصبح حالاً معارف من دون أن تكون بحاجة إلى انتظار عيانات لكي تتقبل المعنى، وهذا يحدث لسبب جدير بالملاحظة، هو أنها تُنتج هي نفسها حقيقة ما ترجع إليه (نية الإرادة) والذي ليس فيه إطلاقاً أي شأن للمفاهيم النظرية))(2). ولكن ينبغي ملاحظة كون هذه المقولات لا تعني العقل العملي إلا بعامة، ومن ثمَّ فهي تمضي بترتيبها من تلك التي لا تزال غير معينة أخلاقياً ومشروطة حسياً نحو تلك التي كونها غير مشروطة حسياً، هي معينة بالقانون الأخلاقي وحده(3).

فيأتي كانط بالنقد الثالث لإعطاء طريقة فهم كيف أن شكلي (القوانين السببية والقانون الأخلاقي) قد تتناسب بطريقة مكملة لبعضها وليس متنازعة(4). من أجل

ص: 391


1- Timothy James Aylsworth، Freedom In Kant's Critical Philosophy، Op. Cit،، P. 1، 2
2- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، مصدر سبق ذكره، ص 133.
3- المصدر نفسه، ص 133.
4- Michelle kosch, freedom and reason in kant. schelling, and kieregaard.published in the united states by oxford university press inc، new York، first published،2006،Cit،p.17

أن يحقق الترابط بين عالم الضرورة وعالم الحرية، أو بين مجال العلم ومجال الميتافيزيقا، ذلك لأن ملكة الحكم تصبح الواسطة بين الذهن والعقل، ويصبح الشعور باللذة هو الواسطة بين المعرفة والإرادة(1). فالإرادة كما يقول كانط: ((بما هی ملكة الرغبة، هي بالفعل أحد الأسباب الطبيعية الكثيرة في العالم، من بين تلك التي تفعل على وفق مفاهيم؛ وكل ما يتصور على أنه ممكن بواسطة الإرادة (أو أنه ضروري) يسمىعملياً - ممكناً (أو ضرورياً)، وهذا بخلاف إمكانية أو ضرورة فعالية طبيعية لا يكون سببها معيناً بمفاهيم ترجع إلى السببية (وإنما بآلية كما هی الحال في المادة الجامدة، وبغريزة كما لدى الحيوانات). وهنا يبقى من دون تعيين ما إذا كان المفهوم الذي يعطي القاعدة لسببية الإرادة مفهوماً طبيعياً أو مفهوم الحرية))(2).

وفي هذا الفرق لو كان المفهوم المعين للسببية مفهوم الطبيعة، لكانت المبادئ تقنية - عملية. أما ان كان مفهوم الحرية ، فستكون عندئذ أخلاقية - عملية. وبما أن الأمر في تقسيم علم العقل يعود بكامله إلى اختلاف الموضوعات التي تحتاج معرفتها إلى مبادئ مختلفة، لذا فتكون الأولى من باب الفلسفة النظرية (كعلم الطبيعة)، بينما تشكل الأخرى وحدها بشكل كامل الفلسفة العملية (كعلم الأخلاق)(3).

والآن هل يستطيع العقل المحض أن يكون عملياً، وأن يشتمل بذاته على الشروط الضرورية الكافية لقانون أصيل غير القوانين الميكانيكية للطبيعة، وعلى شروط توجيه للإرادة مطابق لهذا القانون؟(4).

يرى كانط أن: ((تشكل الأوامر العملية - أخلاقياً، القائمة كلياً على مفهوم الحرية، فضلا عن أقصائها اقصاءً تاماً الأسباب المعيّنة للإرادة، الآتية عن الطبيعة، نوعاً خاصاً من الأوامر يسمى أيضاً بكل بساطة قوانين، ومثلها في ذلك مثل تلك القواعد التي تخضع لها الطبيعة، إلا إنها تختلف عنها في أنها لا تقوم على شروط حسية، بل

ص: 392


1- أميرة حلمي مطر، فلسفة الجمال - اعلامها ومذاهبها، دار قباء - القاهرة، 1998،ص109.
2- إمانويل كنت، نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هنا المنظمة العربية للترجمة، الحمراء - بيروت، ط1، 2005، ص 68.
3- المصدر نفسه، ص 68،69.
4- إميل بوترو، فلسفة كانط، مصدر سبق ذكره، ص 309.

على مبدأ فوق - المحسوس، وتطالب بأن يكون لها، إلى جانب القسم النظري من الفلسفة، قسم آخر خاص بها وحدها بشكل كامل تحت أسم الفلسفة العملية))(1). إذن فمجموعة القواعد العملية التي تعطيها الفلسفة، التي مبدأها غير مستمد بأي شكل من الأشكال من مفهوم الطبيعة - المشروط دوماً حسياً - فلا بد من أن يقوم على فوق - المحسوس الذي يمكننا، هو وحده من معرفة الحرية على وفق قوانين شكلية؛ - وهذا يعني إذا أن الأوامر والقواعد لا تكون عملية - أخلاقياً نظراً لهذا القصد أو ذاك، وإنما بغض النظر عن أية علاقة مسبقة بغايات أو مقاصد(2).

وبذلك سيكون لملكة المعرفة الخاصة بنا حقلان، بحسب وجهة نظر كانط: (حقل المفاهيم الطبيعية وحقل مفهوم الحرية) لأنها في كل منهما تكون واضعة للقوانين قبلياً. وبناءً على ذلك تقسم الفلسفة إلى نظرية وعملية. أما التشريع الذي يتم بمفاهيم الطبيعة بواسطة الفهم (فهو تشريع نظري)، والتشريع الذي يتم عن طريق مفهوم الحرية ويتم بواسطة العقل (وهو تشريع عملي بحت). إذن للفهم والعقل تشريعان مختلفان في حقل التجربة الواحد، من دون أن ينال أحدهما من الآخر، وذلك لأنه بالقدر الزهيد الذي يؤثر به مفهوم الطبيعة على التشريع عن طريق مفهوم الحرية - بهذا القدر ذاته - يعطل مفهوم الحرية تشريع الطبيعة. ويتمثل مفهوم الطبيعة موضوعاته بالتأكيد في العيان، ولكن ليس كأشياء بحد ذاتها، بل كظواهر، في حين يتمثل مفهوم الحرية في موضوعه بالتأكيد شيئاً بحد ذاته، وإنما ليس في العيان، لذا فليس بوسع أي من الاثنين تحقيق معرفة نظرية عن موضوعه كشيء بحد ذاته. ومن ثم يكون فوق - المحسوس، الذي علينا من دون شك أن نضع فكرته أساساً لكل مواضيع التجربة، لكننا لن نستطيع أبداً أن نسمو بها ونوسعها فتصبح معرفة(3).

والآن بعد أن رسخت بين ميداني مفهوم الطبيعة (بما هو حسي) والحرية (فوق حسي) هوة لا يسبر غورها، بحيث يستحيل معه أن يقوم معبر بين طرفيها، كأننا بین

ص: 393


1- إمانويل كنت، نقد ملكة الحكم ، مصدر سبق ذكره، ص 70.
2- المصدر نفسه، ص 70.
3- إمانويل كنت، نقد ملكة الحكم ، مصدر سبق ذكره، ص 72،71 .

عالمين مختلفين كل الاختلاف، فلا يمكن لأي منها التأثير في الآخر، مع أنه ينبغي أن يؤثر هذا في ذاك (أي ينبغي على مفهوم الحرية أن يحقق في عالم الحواس الغاية المكلف بها بحسب قوانينه) ومن ثمَّ فلا بد من أن يكون التفكير بالطبيعة ممكناً بطريقة تتوافق بها شرعية صورتها على الأقل مع أمكانية الغايات التي يجب أن تتحقق فيها وفوق قوانين الحرية. إذن لا بد من وجود أساس لوحده فوق - المحسوس الذي يكمن في أساس الطبيعة، مع ذلك الذي يتضمن مفهوم الحرية عملياً يجعل مفهومه الانتقال من نوع تفكير الواحد على وفق مبادئ إلى نوع تفكير الآخر على وفق مبادئ أيضاً أمراً ممكناً، حتى وأن لم يصل لا نظرياً ولا عملياً، إلى معرفته، فيكون من ثمّ من دون حقل خاص به(1).

طور كانط - بعيداً عن علاقة التضحية بين الفهم والعقل - إمكان فكرة الحرية كشيء في ذاته. وأيضاً الذات التي تفكر في هذه الفكرة التي هي من ثم عضو في مجتمع فوق حسي(2).

لقد قامت مفاهيم الطبيعة التي تتضمن أساس كل معرفة نظرية قبلياً على تشريع الفهم. وقام مفهوم الحرية المتضمن قبلياً أساس جميع الأوامر العملية المستقلة عن الحسي على تشريع العقل. إذن لكل من الملكتين تشريعه الخاص به من حيث المضمون، ولا يوجد فوق هذا التشريع، تشريع آخر (قبليا)، وهو أمر يبرر تقسيم الفلسفة إلى نظرية وعملية(3).

جدلية العلاقة بين الحرية والقانون الأخلاقي

الحرية وحدها قادرة على إيجاد ارتباط بين فكرة الإرادة الخيرة خيرية مطلقة، وبين فكرة الإرادة التي قاعدتها قانون كلي. فيبدأ كانط بالتمييز بين الإرادة بوصفها نوعاً من عليّة الكائنات الحية، من حيث كونهم عقلاء ، وبين الحرية بوصفها الخاصية

ص: 394


1- المصدر نفسه، ص 73.
2- كريستوفر وانت، أندزجى كليموفسكي، أقدم لك كانط، ترجمة أمام عبد الفتاح أمام، المشروع القومي للترجمة أشراف جابر عصفور، العدد 430 الناشر - المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2002، ص 112.
3- إمانويل كنت، نقد ملكة الحكم، مصدر سبق ذكره، ص 74.

التي لهذه العليّة من حيث هي قادرة على العمل مستقلة عن العلل الأجنبية التي تحددها وتعيّنها، كما أن الضرورة الطبيعية هي الخاصية التي لعلية كل الكائنات العديمة العقل في أن تتحدد في فعلها بواسطة تأثير هذه العلل الأجنبية(1).

إننا نتصور أنفُسنا أحراراً في إرادتنا، إلا أن هذه الحرية ليست تصوراً منتزعاً من التجربة، لأنه - أي هذا التصور - يظل باقياً دائماً، مع أن التجربة تكشف عكس ما يجب يحدث إن افترضنا أنفُسنا أحراراً. وضروري أيضاً حدوث كل شيء وفقاً القوانين الطبيعة، والضرورة الطبيعية كالحرية ليست تصوراً مستمداً من التجربة، فتصورها يتضمن في ذاته تصور الضرورة، ويتم هذا بمعرفة قبلية سابقة على التجربة بان شيئاً يحدث عن علة سابقة، وهذا ما تدل عليه التجربة، أما ضرورة هذا فهو أمر يدرك قبل التجربة أي بالعقل المحض المحض(2).

فيرى كانط أن فعل احترام القانون الخلقي يمثل جانباً من جوانب الاستعداد الأصلي للخير في الطبيعة الإنسانية، أي ذلك الجانب الذي يسميه كانط استعداد الشخصية، وهو القدرة على احترام القانون الأخلاقي كما هو في ذاته. وهذه القدرة هي شعور أخلاقي في داخلنا، ذلك الشعور هو قوة دافعة للإرادة باعتبارها إرادة حرة، وسمة الإرادة الحرة هي سمة الخير ، والخير مكتسب واكتسابه يتطلب إمكانية القدرة على احترام القانون الأخلاقي، وأن تكون هذه الإمكانية في طبيعة استعداد الشخصية، والشخصية ذاتها هي فكرة الإنسانية معقولة تماماً، والاستعداد هو الأساس الذاتي، هو تبني أو اختيار مبدأ أو قاعدة باحترام وقوة دافعة، فيبدو مكتسباً يناصره الاستعداد ويعززه(3).

ويرى كانط أننا عندما نقوم بخيارنا فإننا لا بد من أن نعمل بموجب فكرة الحرية، ويفسّر ذلك بأننا لا نستطيع استيعاب العقل الذي يستجيب بوعي لارتباط من الخارج

ص: 395


1- عبد الرحمن بدوي، الأخلاق عند كنت، مصدر سبق ذكره، ص 94،95.
2- المصدر نفسه، ص 100،101.
3- فریال حسن خليفة، الدين والسلام عند كانط، مصدر سبق ذكره، ص 68.

فيما يتعلّق بأحكامه، ربما طبعاً نختار العمل برغبة ولكن إلى الحد الذي نعتبر به العمل الخاص بنا، فإننا نعتقد أننا قد جعلنا المبدأ الأساسي هو العمل على أساس هذه الرغبة . لو نشعر بأن الرغبة تدفعنا نحو هذا العمل، فإننا لا نعتبر العمل ناتجاً عن إرادتنا وإنما طوعيّاً. النقطة هي لیست إننا من المهم أن نؤمن بإننا أحرار ولكن يجب

علينا أن نختار وكأننا أحرار(1).

وهكذا فإن العقل الذي أفكاره دائماً قد أصبحت غامضة عندما بدأت بصورة تأملية يمكن أن يُعطى للمرة الأولى واقعية موضوعية رغم إنه لا يزال عملي فقط، وأن استعماله الغامض المتعالي يتغير إلى استعمال متأصل حيث يصبح العقل في ميدان التجربة، وذلك سبب كاف من خلال الافكار. فيصبح العقل سببا كافيا بإخبارنا كيف أن الشخص الحرّ سيعمل وبتوفير المفهوم الباطني الأعلى مما يحفزنا للعمل بتلك الطريقة. إذ لو أن القانون الأخلاقي بالفعل يعطينا المفهوم الإيجابي للحرية عندها سنعرف كيف أن شخصا ذا إرادة حرّة بالكامل سيعمل. وذلك بالتحفيز لفكرة النداءات الباطنية العالية التي تعطينا إياها الحرّية، فإننا يمكننا أن نعمل بتلك الطريقة بأنفسنا. و لكن لو استطعنا العمل بالضبط كما لو كنا في حالة إننا أحرار تحت تأثير فكرة الحرية، حينها نحن أحرار. وأن الإرادة في الجدل من التلقائية عندما تؤشر خيارها الأصلي لا يمكن أن تفعل أكثر من ذلك. فتختار أن تفعل حسب القانون الأخلاقي من أجل تحقيق حريتها ويمكننا أن نقوم بنفس الشئ بفعلنا الأخلاقي، يمكن أن نجعل أنفسنا أحراراً(2).

ويتساءل كانط ماذا تكون إذن حرية الإرادة أن لم تكن هي الاستقلال الذاتي (Autonomies)، أي الخاصية التي تتميز بها الإرادة فتجعل منها قانوناً لنفسها؟ فالقضية التي تقول إن الإرادة في جميع أفعالها هی القانون الذي تصنعه لنفسها ليست إلا صيغة أخرى من المبدأ الذي يقول إن علينا ألا نفعل فعلاً حتى يكون مطابقاً للمسلمة التي يمكنها أيضاً أن تتخذ من نفسها موضوعياً يعد قانوناً كلياً

ص: 396


1- Christine M. Korsgaard. Creating The Kingdom Of Ends. Op. Cit.P. 162.
2- Ipid.P. 176.

شاملا. وهذه هي صيغة الأمر الأخلاقي المطلق، كما مبدأ الأخلاقية: وعلى ذلك فالإرادة الحرة، والإرادة الخاضعة لقوانين أخلاقية شيء واحد بالذات(1).

فالاستقلال الذاتي للإرادة هو المبدأ الوحيد للقوانين الأخلاقية والواجبات المطابقة لها، والمبدأ الوحيد للأخلاقية يقوم في الاستقلال عن كل مادة، وفي ذات الوقت في تعيين التحكم بمجرد صورة تشريع قانون كلي يجب أن تكون المسلمة قادرة عليه. ولكن كما يقول كانط : ((إن ذلك الاستقلال هو الحرية بالمعنى السلبي، في حين أن هذا التشريع الخاص بالعقل المحض، ومن حيث كذلك هو عملي، هو الحرية بالمعنى الايجابي، فالقانون الأخلاقي إذاً لا يعبر عن شيء آخر سوى الاستقلال الذاتي للعقل المحض العملي، أي الحرية، وهذه نفسها هي الشرط الصوري لكل المسلمات، شرط يمكنها بموجبه وحده أن تكون متوافقة مع القانون الأخلاقي الأعلى))(2).

وتُعرف الإرادة الحرة بحسب كانط بأنها (سببية عقلانية تكون مؤثرة من دون أن يُقررها سبب خارجي. إن أي شئ خارج الإرادة يعتبر سببا خارجيا دخيلا بما في ذلك الرغبات والميول للشخص. يجب أن تكون الإرادة الحرة من تقرير الذات. مع ذلك و لأنها سببية، يجب أن تعمل حسب قانون ما، وبما أن مفهوم السببية يقتضي مفهوم القوانين ... فذلك يعني أن الحرية هي بلا قوانين، لذلك فإن الإرادة الحرة يجب أن يكون لها قانونها الخاص بها))(3).

ويتضح من ذلك أن الحرية لا يمكن أن تمثل العالم المحسوس له، وهذا هو السبب الذي لا نستطيع من أجله أن نصل إلى كنهها وطبيعتها عن طريق المعرفة النظرية على نحو ما بين ذلك نقد العقل المحض. وشأن الحرية في ذلك شأن وجود الله، وخلود النفس، وكلية العالم، التي لا يقابلها جميعاً موضوع تجريبي أو عيان حسي، ولا تقع في إطار الزمان والمكان، وهما الشرط الأول لكل معرفة ممكنة.

ص: 397


1- امانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 146.
2- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، مصدر سبق ذكره، ص 86،87.
3- Christine M.Korsgaard، Creating The Kingdom Of Ends، Op.Cit،P.163

فنحن لا نستطيع بالعقل المحض أن نعرف عن طبيعتها شيئاً، وإن وجب علينا مع ذلك ألا ننكر وجودها، بل نفترضها كأفكار (تنظيمية) للتجربة. ومن ثم كان العقل العملي يكمل ما عجز عنه العقل المحض، وكانت له بذلك الأولوية عليه(1).

وفي المقدمة للطبعة الثانية للنقد الأول، قدم كانط وصفاً لنظريته آخذا بالاعتبار العلاقة بين الأفكار للقوانين الطبيعية (ميكانيكية الطبيعة)، والعلاقة بين الحرية والأخلاقية. ويشدد على الأهمية لبيان أن الفكرة أو الرأي عن الحرية هو ليس مناقضاً أو منكراً للعقل التأملي، رغم أن العقل التأملي لا يمكنه أثبات وجوده(2).

ولما كانت الأخلاقية لا تصلح قانوناً لنا إلا من حيث إننا (كائنات عاقلة) فينبغي لها كذلك أن تكون صالحة لجميع الكائنات العاقلة، و لما كان من الواجب أن تستمد من خاصية (الحرية) وحدها، فإن من الواجب كذلك أثبات أن (الحرية) خاصية تتصف بها إرادة جميع الكائنات العاقلة، ولا يكفي البرهان عليها باللجوء إلى تجارب مزعومة للطبيعة الإنسانية، لتعذر الأمر ولا سبيل إلى البرهنة عليها إلا بطريقة قبلية، بل ينبغي إثبات أنها تتصل بفاعلية الكائنات العاقلة التي وهبت الإرادة(3).

إن مفهوم الأخلاقية على وجه الاستقلال كان تجديدا في فلسفة كانط الأخلاقية. وفي تطوير رأيه عن البشر كأنه قوة مستقلة بذاتها فان كانط طور أفكارا جديدة حول الحرية وطبيعة الفعل . وان فكرته كذلك لها مضامين مهمة لحالات باقية حول تركيب ومحتوى الأخلاقية. وأحد هذه المضامين يفسر مدى الأهمية الكبيرة لهذه الفكرة الكانطية في المناقشات الحاضرة. إنها تعني أن لا مبدأ لسعادة الإنسان يمكن أن يكون أساساً للأخلاقية أو يبين هدفها(4).

ص: 398


1- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، مصدر سبق ذكره، هامش المترجم (80)، ص 147.
2- Eilert Sundt - Ohisen، Kant And The Epistemology Of Metaphysics، King Of College London P. 9.
3- امانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 149.
4- Imanuel Kant. Groundwork For The Metaphysics Of Morals. Edited And Translated By Allen W. Wood. With Essays By J. B. Schneewind. Marcia Baron. Shelly Kagan. Allen W. Wood. Yale University Press. New Haven And London. 2002. P. 88.

وبتتبع نتائج هذه الفكرة الكانطية، نجد أن الأفعال الإنسانية يمكن إعتبارها ضرورية من وجه، وحرة من وجه آخر: فأي فعل من الأفعال بما هو ظاهرة من الظاهرات، واقعة في نطاق الطبيعة، يكون محدداً تحديداً مطلقاً بالنسبة إلى سوابقه في الزمان، كما بالنسبة لحركة الجسم الجامد . لكن الفعل نفسه يمكن أن يتصور حراً، من حيث صدوره من كائن إنساني ناطق، وينتمي إلى عالم ! زماني (أي يقع خارج الزمان)، ومن ثم فللإنسان طبيعتان:

طبيعة ظاهرية - وتقع في قبضة تجربتنا وظاهرة لطبيعتنا الحقيقية.

طبيعة باطنية - وليست في زمان (خارج الزمان)(1).

إذن وكما يرى كانط، ((أن كل كائن لا يمكنه أن يفعل فعلاً إلا تحت تأثير فكرة (الحرية)، فهو من وجهة النظر العملية كائن حر حقاً، أي إن جميع القوانين المرتبطة بالحرية ارتباطاً لا ينفصم تصلح للانطباق عليه تماماً كما لو أن إرادته في ذاتها و لأسباب تقرها الفلسفة النظرية فإنه يعترف بحريتها اعترافاً صحيحا))(2).

وبعد أن یرد كانط التصور المحدد للأخلاقية إلى فكرة الحرية فأنه يقول : (( لم يكن في مقدورنا أن نقيم الدليل على وجود هذه الحرية كشئ واقعي، لا في أنفسنا و لا في الطبيعة الإنسانية، رأينا فحسب أن من الواجب علينا أن نفرض وجودها إذا أردنا أن نتصور كائنا مزودا بالعقل وبالشعور بعليته فيما يتصل بالأفعال (التي يقوم بها)، أي كائنا مزودا بالإرادة، وهكذا نجد أن علينا لهذا السبب نفسه أن ننسب إلى كل كائن مزود بالعقل والإرادة هذه الخاصية التي تجعلهُ يعين نفسه للفعل تحت تأثیر فكرة الحرية))(3). لكنه يرى أن افتراض وجود هذه الأفكار ينبثق عنه الشعور ب- (قانون للفعل)، وان المبادئ الذاتية للأفعال، أي المسلمات، ينبغي دائماً بمقتضى هذا القانون أن تؤخذ بحيث تكون صالحة كذلك من الناحية الموضوعية، أي بحيث

ص: 399


1- عثمان أمين، رواد المثالية في الفلسفة الغربية، دار المعارف، 1967 ، ص 120،121.
2- امانوئیل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 149.
3- امانوئیل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 151.

تصلح لأن تكون مبادئ كلية وشاملة، ومن ثمّ لأن تكون تشريعاً شاملاً ينبع من أنفسنا(1).

إن إدعاء كانط بأننا يجب أن نعمل في ظل فكرة الحرية هو أمر معروف جداً بحيث لا نحتاج لاستشهادات حوله. وفي (الأخلاقية كحرية)، نجد إشارات يُشير بها كانط إلى أنه حتى لو تعلمنا أن الحتمية حقيقة عند تقرير ما يجب عمله، فإن ذلك يخلق اختلافا في اعتباراتنا، حتى لو كان علينا أن نتعلم أن الحتمية حقيقية، فإن علينا أن نتصرف و كأننا أحرار(2).

لكن هناك سؤال مهم يطرحه كانط : ما الذي يحتم عليَّ أن أخضع لهذا المبدأ، بوصفي كائناً عاقلا بوجه عام، و ما الذي يحتم تبعا لذلك على جميع الكائنات الأخرى المزودة بالعقل أن تخضع له؟ يُريد كانط هنا أن يُسلم بأنه ما من منفعة تدفعه إلى ذلك، إذ لو كان هناك منفعة لما أمكن قيام الأمر الأخلاقي المطلق، ولكن يجب عليه مع ذلك إيجاد منفعة ومعرفة كيفية حدوث ذلك. وكما يقول: ((ذلك لأن (يجب علي) هذه في حقيقة أمرها (أنني أريد) التي تصلح لكل كائن عاقل، بشرط أن يكون العقل عنده عملياً دون ما عقبات تمنعه من ذلك، أما بالنسبة للكائنات التي تتأثر مثلنا بالحساسية، أي التي تتأثر بدوافع من نوع آخر و لا يحدث لها دائما ما يفعله العقل وحده وبدافع من ذاته، فإن ضرورة الفعل تلك يعبر عنها عندئذ بفعل (ينبغي)، كما تميز الضرورة الذاتية من الضرورة الموضوعية)) (3).

وذلك يعني أن الضرورة التي تخضع لها الإرادة الحرة وفقاً لنظام الوجود، هي الإرادة نفسها، من حيث إن هذه الإرادة والعقل شيئاً واحداً. أنما الإرادة وحدها تضع ضرورة القانون. ومن ثم ترتبط الضرورة و الحرية، دون أن يكون في الحرية شيء

ص: 400


1- المصدر نفسه ص 151.
2- Sergio Tenenbaum. The Idea Of Freedom And Moral Cognition In Groundwork lii. University Of Toronto. Philosophy And Phenomenological Research. Vol. 84. Issue 3. May 2012. Pages 555 -589. P.558.
3- امانوئیل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 151،152.

يذكرنا بالضرورة الطبيعية. فهذه الضرورة هي الضغط الواقع على شيء من شيء آخر خارج عنه، أما ضرورة الإرادة الأخلاقية هي ذاتها من صنع الإرادة الحرة(1).

إذن وكما يبدو كأن كانط أقتصر على افتراض وجود القانون الأخلاقي بوجه خاص (أي مبدأ استقلال الإرادة نفسه في فكرة الحرية) من دون أن يتمكن من أثبات واقعيته وضرورته الموضوعية في ذاته. فكما يرى أن مجرد كون الإنسان جديراً بالسعادة يمكن أن يكون شيئاً نافعاً في ذاته حتى لو لم يكن هناك دافع إلى المشاركة في هذه السعادة. ولكن هذا الحكم ليس في الحقيقة إلا النتيجة المترتبة على الأهمية التي يفترضها كانط في القوانين الأخلاقية (حين نتجرد عن طريق فكرة الحرية من كل منفعة تجريبية)(2).

فكانط يحول أنظارنا إلى المجال الأخلاقي الذي قوامه فكرة (الواجب). فالحياة الحسية ليست كل شيء، فنحن نحيا حياة أخلاقية وهذه هي الحياة الحقيقية ف- (ذاتنا) الحقيقية تتمثل في حياتنا الأخلاقية و(الواجب) هو الشيء الوحيد الذي يمكن اعتباره يقيناً مباشراً مطلقاً. وفي نظر كانط فالواجب هو صوري محض، طابعه النزاهة المحضة، ورائده التعبير عن صوت العقل، دون الخضوع لأي شئ آخر. و أن كل ما عدا الواجب قد يحيطه الشك ويحتمل النقاش لأنه (شرطي)، أما الواجب فوحده يتصف بطابع الأمر المطلق، أي طابع اليقين الذي لا يقبل جدالاً و لا نقاشاً(3).

ولو كان الإنسان ينتمي إلى العالم المعقول وحده، لجاءت كل أفعاله مطابقة لمبدأ التشريع الذاتي للإرادة المحضة. ولو كان ينتمي إلى العالم المحسوس وحده، لجاءت كل أفعاله وفقا لقانون الرغبات والميول، فالإنسان إذن ينتمي إلى كلا العالمين معاً المعقول والمحسوس(4).

ص: 401


1- إميل بوترو، فلسفة كانط، مصدر سبق ذكره، ص 371.
2- امانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 153.
3- زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، مصدر سبق ذكره، ص 38،39 .
4- عبد الرحمن بدوي، الأخلاق عند كنت، مصدر سبق ذكره، ص 99.

إذن يفضي بنا الأمر إلى التفرقة بين (عالم محسوس و عالم معقول)، فنجد أن عالم الحس يتفاوت وفقاً لتفاوت الحساسية لدى المشاهدين للعالم، في حين نجد عالم المعقول يبقى دائماً بذاته لا يتغير. أي يمكن القول أنه فيما يتعلق بالإدراك الحسي البسيط وبالقدرة على تلقي الإحساسات يمكن أن يعد الإنسان نفسه عضواً في (عالم محسوس)، في حين ينبغي عليه بالقياس إلى ما يصل إلى الشعور لا عن طريق تأثير الحواس بل بطريق مباشر أن يعد نفسه عضواً في (عالم معقول). وهذه النتيجة التي يصل إليها الإنسان المتأمل، يمكن أن يجدها في الفهم الشائع الذي يغلب عليه الميل. والإنسان في الحقيقة يجد في نفسه ملكة يتميز بها عن سائر الأشياء، بل عن نفسه ذاتها، من حيث تأثره بالموضوعات، وهي (مَلكة العقل)(1).

والعقل يتجاوز كل ما تستطيع الحساسية أن تقدمه إليه، وأيضاً يجعل مهمته الرئيسية تنحصر في التمييز بين العالم المحسوس والعالم المعقول ومن ثم في تعيين الحدود التي لا ينبغي للفهم نفسه أن يتعداها. وبحسب كانط فان هذا السبب يتحتم على الكائن العاقل، بوصفه عقلاً أن يعد نفسه منتمياً لعالم معقول لا لعالم محسوس، ومن ثم لديه وجهتا نظر يمكنه أن يتأمل نفسه من خلالهما وأن يعرف قوانين ممارسة ملكاته، و قوانين أفعاله جميعاً:

فهو من ناحية انتمائه لعالم محسوس يخضع لقوانين الطبيعة (التبعية).

وهو من ناحية انتمائه لعالم معقول يخضع لقوانين مستقلة عن الطبيعة غير تجريبية، بل قائمة على أساس العقل وحده(2).

وتعمل جدلية العالمين هذه، بصورة أفضل في كتاب نقد العقل العملي عما هو في التأسيس، إذ يريد كانط أن يجادل بأن فكرة وجودنا في العالم العقلي تقترح الحرية لنا، وأن قدرتنا على النشاط العفوي التلقائي التي تكشف عن نفسها في إنتاج العقل للأفكار تجعلنا أعضاء في العالم العقلي. بذلك، قد نعتبر أنفسنا أحراراً. وفي النقد

ص: 402


1- امانوئیل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 156،157.
2- امانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 158،159.

الثاني، طور كانط المجادلة المعاكسة بأن الحرية تقودنا إلى مفهوم وجودنا في العالم العقلي. وعليه، فالأخلاقية هي التي تعلمنا بأننا أحرار. لذلك، فإن الأخلاقية نفسها (تشير لنا) نحو العالم العقلي. على أن جدل نقد العقل العملي يكون متفوقاً لأن الحرية تتطلب ليس فقط أننا لدينا إرادات، وبأننا يمكن أن نتحفز ونندفع من هناك كما يمكن أن نقول. في حين أن جدل التأسيس يضع قدرتنا النظرية لتشكيل أفكار خالصة في العالم العقلي، ولكن ذلك بحد ذاته لا يعني أنّها يمكن أن تُحركنا. والأخير هو ما يجب أن تُظهره المجادلة. تبدأ الجدلية في النقد الثاني بحزم من حقيقة أننا يمكن أن نتحفز و نندفع بأفكار خالصة. إمكانية أن نتحفّز ونندفع بهذه الصورة هي ما يسميها كانط حقيقة العقل. ولكن وظيفة فكرة وجودنا العقلي كباعث هي بالأساس نفسها في الكتابين. إن المخاطبة الشهيرة للواجب في نقد العقل العملي مثل التأسيس تتطلب معرفة مصدر الاستحقاق الخاص الذي نخصصه للأخلاقية. والجواب ثانيةً هو أن إحترام القانون الأخلاقي ينتج من فكرة طبيعتنا العقلية. فيرى كانط أن باعث العقل العملي الخالص هو لا شيء آخر أكثر من القانون الأخلاقي الخالص نفسه طالما أن ذلك يسمح لنا بفهم واستيعاب سمو وجودنا الفائق الإحساس(1).

فمن ناحية انتماء الكائن العاقل بوصفه عقلاً إلى العالم المعقول فهو يخضع إلى قوانين مستقلة عن الطبيعة قائمة على أساس العقل وحده، وسبق أن ذكرنا أن الحرية تخضع لقانون من نوع خاص ولا تخضع إلى قوانين الطبيعة ، و أنها من أفعال العقل وترتبط بالكائن العاقل، إذن فالحرية تخضع إلى قانون يقوم على أساس العقل وحده.

إذن بعد هذا العرض الذي يقدمه كانط، تزول الشبهة التي أثارها فيما سبق، حول الحلقة المفرغة التي تستتر خلف الطريقة التي يستدل بها من الحرية على وجود الاستقلال الذاتي، ومن الاستقلال الذاتي على وجود القانون الأخلاقي، فيقول: ((وإننا ربما لا نكون في الحقيقة قد جعلنا من فكرة الحرية مبدأ إلا بالنظر إلى القانون الأخلاقي، لكي نعود بعد ذلك فنستنتج هذا القانون الأخلاقي من الحرية و أننا قد لا

ص: 403


1- Christine M. Korsgaard. Creating The Kingdom Of Ends. Op. Cit.P. 170.

نستطيع نتيجة لذلك أن نعلل هذا القانون أي تعليل على الإطلاق، و أن ذلك لم يزد في الواقع على أن يكون مطالبة بمبدأ تسلم لنا به طائعة نفوس طيبة الطوية(1)، وإن لم يكن في إستطاعتنا أبداً أن نجعل منه قضية تقبل إقامة البرهان عليها . و لكننا نرى الآن كيف أننا حين نتصور أنفسنا أحراراً، نضع أنفسنا في العالم المعقول كأعضاء فيه، وأننا نتعرف الاستقلال الذاتي للإرادة مع النتيجة المترتبة عليه، ونقصد بها الأخلاقية، و لكننا حين نتصور أنفسنا ملتزمين بالواجب نحسب أننا أعضاء في العالم المحسوس كما نحسب أننا في الوقت نفسه أعضاء في العالم المعقول))(2).

في الحقيقة أن برهان كانط (بأن الأشخاص أحرار) تتضمن مرحلتين. ففي نقد العقل المحض، يبرهن أن الإمكانية للحرية ليس لها مانع من الطبيعة لتجربتنا في العالم، أو من المتطلبات للمعرفة العلمية، أو من أي نظريات ميتافيزيقية مبررة. وهذا البرهان يعتمد على المثالية المتعالية عند كانط. إن كانط يدعي أن التجربة مبنية استناداً إلى شكلين من البديهة - المكان والزمان - والمقولات ألاثني عشر، أحدها السبب والنتيجة. و لأن هذه البديهيات والتصنيفات توفر البنية لتجربتنا، ويعرف أي شخص سابقاً أن أي تجربة لنا ستكون (زمكانية SpaceTime) وسوف تلائم سلسلة من أسباب طبيعية تعارض أمكانية حصول التجربة - وعلى أية حال و بسبب هذه البديهيات والتصنيفات تبنى تجربتنا، و لا يستطيع أحد ما تطبيقها لكي يعرف الأشياء بنفسها وفي سياق البرهان أو النقاش لهذه المثالية المتعالية فأن كانط يقدم بعض المتناقضات، ثالثها تأكيدات الخلاف أو الصراع بين الادعاءات أو المطالب التي تقر بوجود حرية أو بعدم وجود حرية(3).

ففي نقد العقل المحض ، كان هدف كانط ببساطة هو فتح الفضاء للحرية. أما في المرحلة الثانية من البرهان، فإن كانط يبرهن على حقيقة الحرية. وفي النقد الثاني،

ص: 404


1- الضمير.
2- امانوئیل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 160.
3- Patrick R. Frierson. Freedom And Anthropology In Kant's Moral Philosophy.Cambridge University Press. 2003. P.14.

فإنه يدعي أن حقيقة العقل هي بأن الناس لديهم التزامات أخلاقية، ويعمل علی هذه الحقيقة التي بها نكون مدركين مباشرة لتأييد الحقيقة للحرية. و أكثر من ذلك فإن هذا الالتزام الأخلاقي لا يعتمد على أي تفاصيل عملية حول نفس المرء أو ذاته(1). لقد أبتكر كانط طريقة جديدة في التفكير بالأخلاق وفي أنفسنا بصفتنا كائنات أخلاقية. و أدرك أن كل المحاولات السابقة حول توضيح المبادئ الأخلاقية لم تكن صحيحة. ففي تأسيس ميهنا كيف الأخلاق يقدم كانط المبادئ الجوهرية لمختلف التصورات الأخلاقية(2).

ولكن السؤال هنا كيف يصبح الأمر الأخلاقي ممكناً وفقا لتلك المبادئ الجوهرية؟ إن الكائن العاقل جزء من العالم المعقول، و لا يُسمي علته (إرادة) إلا لمجرد كونه علة فاعلة في هذا العالم. إلا أنه يشعر من ناحية أخرى بأنه جزء من العالم المحسوس، الذي تكون فيه أفعاله مجرد ظواهر لتلك العلية. و لكن لا يمكن أن نُدرك إمكانية هذه الأفعال عن طريق هذه العلية. بل نفهمها من ناحية تحددها بظواهر أخرى، وهي (الرغبات والميول). إذن وكما يقول كانط : ((لما كان العالم المعقول يحتوي على الأساس الذي ينبني عليه العالم المحسوس كما تنبني عليه تبعاً لذلك قوانينه، وكان إذن بالقياس إلى إرادتي، المبدأ المباشر للتشريع، ولما كان من الواجب كذلك أن يتصور على هذا النحو، فسوف يكون علي، بوصفي عقلاً، وإن أكن من ناحية أخرى كائناً ينتمي إلى العالم المحسوس، أن أعرف أنني خاضع لقانون العالم الأول - العالم المعقول ، أي للعقل الذي يحتوي على هذا القانون في فكرة الحرية، ومن ثم الاستقلال الذاتي للإرادة، كما سيتعين عليَّ تبعاً لذلك أن أعد قوانين العالم المعقول أوامر أخلاقية بالنسبة لي والأفعال المطابقة لهذا المبدأ واجبات))(3).

أذن ما دامت فكرة الحرية تجعلني عضواً في عالم معقول، فإن الأوامر الأخلاقية تصبح ممكنة. فلو لم أكن عضواً في هذا العالم وحده، لأصبحت جميع أفعالي

ص: 405


1- Ipid، P.15.
2- Imanuel Kant، Groundwork For The Metaphysics Of Morals، Op. Cit، p. 83.
3- أمانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 161، 162.

مطابقة دائماً للاستقلال الذاتي للإرادة، ولكني لما كنتُ أرى نفسي في ذات الوقت عضواً في عالم محسوس فأفعالي يجب أن تكون مطابقة له. وهذا الواجب يعبر عن قضية - تركيبية قبلية - من حيث الإرادة الواقعة تحت تأثير الشهوات الحسية تضاف إليها فكرة هذه الإرادة نفسها (من جهة أن هذه الإرادة تنتمي إلى العالم المعقول)، أي كونها إرادة خالصة وعملية تحتوي في ذاتها على الشرط الأعلى للإرادة الأولى بما يتفق مع العقل(1).

أما علاقة الحرية بالاختيار والضرورة، فالحرية لا يمكن أن تختلط بحرية الاختيار، فوظيفتها هو أن تستبعد من كينونتنا كل ما هو فردي وتعسفي وحادث. أما الحرية والضرورة، فرغم أن كانط عرف الحرية أحياناً بأنها (إرادة ضرورية)، فليس صحيح التوحيد بينها وبين الضرورة، لأننا حينئذ نقع في تصور للحرية شبيه بالتصور الذي وجده كانط عند ليبنز، الذي رفضه رفضاً باتاً. الحرية تتوافق مع القانون الأخلاقي ولا ترتد إليه. إنما بالاستنباط، أي بالانتقال من فكرة إلى أخرى، يسير الإنسان من القانون إلى الحرية(2).

ويرى أن الناس جميعاً يتصورون أنفسهم أحراراً في إرادتهم، لذا فجميع الأحكام على الأفعال تأتي كما كان ينبغي لها أن تحدث. و مع ذلك فليست هذه الحرية تصوراً مستمداً من التجربة و لا يمكن أن تكون كذلك لأن هذا التصور يبقى دائماً على ما هو عليه، بينما تبين التجربة عكس تلك المطالب المتمثلة في افتراض الحرية على أنها مطالب ضرورية. ومن الجانب الآخر فمن الضروري لكل ما يحدث أن يتحدد حتماً وفقاً لقوانين الطبيعة، وهذا تصور ينطوي على تصور الضرورة، ومن ثمَّ تصور معرفة قبلية. وتصور الطبيعة هذا تؤيده التجربة و لا مفر من افتراضه إذا قدر للتجربة أن تصبح أمراً ممكناً. لذلك كانت الحرية فكرة من أفكار العقل يحيط الشك بحقيقتها الموضوعية في ذاتها، في حين الطبيعة تصور من تصورات الفهم، يثبت حقيقته الواقعة، و لا بد له من أن يثبتها، بالأمثلة التي تقدمها التجربة(3).

ص: 406


1- المصدر نفسه، ص163،162.
2- إميل بوترو، فلسفة كانط، مصدر سبق ذكره، ص 370،371.
3- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 165،166.

و لأن التجربة مبنية وفقاً لقوانين السببية فلا أحد يستطيع أن يكون مجرباً باستثناء لو كان محدداً بأسباب قبلية. لهذا لا شيء يستطيع أن يكون مجرباً كأنه حر. و لكن ما يمكن تصوره أن الأشياء الحرة بذاتها تهيء أو توفر الأرضية أو الأساس للسلسلة من الظواهر التي هي مرتبة أو مقدرة وفقاً للقوانين الطبيعية، وان هذه الأشياء الحرة لا تحتاج لا إلى سماح بتوضيح أبعد منظوراً له من زاوية الأسباب و لأن هذه الأشياء بذاتها ليست مبنية وفقاً للتصانيف المصممة من المعرفة الإنسانية، التي لا تستطيع أن تكون لها الاهتمام بالأهداف الممكنة من تجربتنا(1). ويقول كانط : ((سواء كان هذا هو الأصل الذي ينشأ عنه ديالكتيك العقل إذ كنا نجد فيما يتعلق بالإرادة، أن الحرية التي ننسبها إليها تبدو متناقضة مع الضرورة الطبيعية، و أن العقل وهو يقف في مفترق الطرق هذا، يجد من وجهة النظر التأملية أن طريق الضرورة الطبيعية معبد وعملي أكثر بكثير من طريق الحرية، فإننا نجد مع ذلك من وجهة النظر العملية أن درب الحرية هو الدرب الوحيد الذي نستطيع ونحن نسير عليه أن نستخدم عقلنا في كل ما نأتي وما ندع من أفعال، وهذا هو السبب الذي يتعذر معه على أدق الفلسفات كما يتعذر معه على أكثر العقول الإنسانية جهالة أن يجادل في حقيقة الحرية جدلاً سفسطائيا))(2).

إذن على العقل أن يفترض مقدماً عدم وجود تناقض حقيقي بين (الحرية والضرورة الطبيعية) لنفس الأفعال الإنسانية، ذلك لأن العقل وكما يرى كانط لا يستطيع التخلي عن تصور الطبيعة كما لا يستطيع أن يتخلى عن تصور الحرية. و رغم ذلك يجب أن يمحو التناقض الظاهري، حتى وان لم نفهم كيف تكون الحرية ممكنة، فلو كانت فكرة الحرية تناقض نفسها أو الطبيعة توجب التضحية بها في سبيل الضرورة الطبيعية(3). فنحن أحرار إذا نظرنا إلى ذاتنا العالية على الزمان. ونحن مجبرون إذا نظرنا إلى أفعالنا التي تتحقق في الزمان. ولكن الضرورة التي تسود في نطاق الظواهر

ص: 407


1- patrick R.Frierson، Freedom And Anthropology In Kant's Moral Philosophy Op.Cit، P.14.
2- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 166.
3- المصدر نفسه، ص 167.

لا تثبت بحال أن (الذات) المعقولة ليست حرة. ولا نستطيع التحقق من وجود تلك الحرية بالرجوع إلى التجربة السيكولوجية لأن التجربة نفسها ليست ممكنة إلا بالقياس إلى ما يتعاقب ويتسلسل ضرورة وفي العودة للذات نجد بواعث ودوافع قد تتسبب في تحقق الفعل. و لا يمكن أثباتها (أي الحرية) بالبرهان المنطقي، لأن الحرية إذا اندرجت في أقيسة، ومن ثمَّ إذا أصبحت نتيجة ضرورية لشيء آخر، فقد استحالت إلى ضرورة، ومن ثم فإنها لن تكون حرية على الإطلاق. وللخروج من هذا المأزق فلا سبيل إلا الأخلاق، لأن الأخلاق وحدها قادرة على حل هذا الإشكال بعد فشل المنهج المنطقي والمنهج السيكولوجي. وشعورنا بالواجب هو القانون الذي يحدد ما ينبغي أن يكون، ولو كنا نحيا مجرد حياة زمانية محسوسة، لما كان بوسعنا التحدث إلا عما كان، وما هو كائن، وما سوف يكون أي عن الظواهر الماضية والحاضرة والمستقبلية فقط، من دون أن يكون بوسعنا التحدث عما ينبغي أن يكون، أو تصور ما يجب أن يكون(1).

ويبدو أنه لا سبيل للإفلات من التناقض إذا تصورت الذات التي تعتقد في نفسها الحرية، أنها حين تزعم لنفسها الحرية بنفس المعنى وبنفس العلاقة التي تكون عليهما حين تسلم بالقياس إلى الفعل نفسه بخضوعها للقانون الطبيعي. إذن المهمة التي تلقى على الفلسفة التأملية،هی ان تبين على اقل تقدير أن الوهم الذي تقع فيه بسبب هذا التناقض القائم على وصفنا الإنسان بأنه حر (نتصوره بمعنى وفي علاقة) مختلفة عما لو نظرنا إليه كقطعة من الطبيعة تخضع لقوانينها، والأمران يوجدان معاً بل ويجب تصورهما متحدان في الذات الواحدة اتحاداً ضرورياً، ولو كان الأمر على خلاف ذلك لما استطعنا تفسير: ((لماذا ينبغي علينا أن نرهق العقل بفكرة، وإن يكن من الميسور لها دون أن تقع في التناقض أن تتحد بفكرة أخرى تثبت صحتها إثباتاً كافياً، إلا أنها تلقى بنا في مأزق يضايق العقل وحده في ميدان إستعماله النظري))(2).

وتبعا لذلك فلو دخلت الحرية مجرى ظواهر العالم فإنها تحتمل أمراً من اثنين :

إما لن تكون حرية بل طبيعة: وستقع في التناقض مع نفسها .

ص: 408


1- زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، مصدر سبق ذكره، ص38.
2- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 167، 168.

أو أنها ستحطم القواعد التي تجعل التجربة ممكنة: وستقع في التناقض مع الطبيعة. ومن ثم فإمكان وجود الحرية مرتبط بوجودها في عالم آخر غير عالم الظواهر(1).

وعليه، فهل يمكن أن ننسب الحرية إلى عالم العقل أو المفاهيم المجردة التي تكون قائمة بذاتها، غير محتاجة إلى تجربة تؤكد وجودها أو تقيم الدليل عليها ؟ وهل تجلي الحرية في عالم العقل يبعدها عن الارتباط بعالم الظواهر؟ وهل يعني كانط من معنى افتراض الحرية هو افتراضها في عالم الظواهر ، لا نفي وجودها من العالم العقلي؟ وما هي وظيفة العقل التأملي؟ يرى كانط أن كل ما تطلبه الفلسفة العملية من العقل التأملي هو أن يضع حداً للمنازعات التي يقع فيها عند بحثه في المشكلات النظرية، ليتيسر من ثمَّ للعقل العملي إيجاد الاطمئنان والأمان لمواجهة الهجمات الخارجية(2).

للإنسان بحسب كانط طبيعتان، إذ إن وحدة طبعنا (التجريبي) منبعها (طبع عقلي) و لا زماني، وهو محصل حريتنا. فكل شخص منا قد حدد طبعه مرة واحدة خارج الزمان، بفعل من أفعال إرادة حرة، وأفعالنا إنما هي تجليات لفعل الإرادة هذا. إذن فوجود طبع عقلي مترأس على وحدة الطبع التجريبي لا يناقض القانون العام الذي تجري عليه العلية الميكانيكية. وتقع وحدة الطبع التجريبي تحت طائلة تجربتنا ليست إلا الظاهرة لطبيعتنا الحقيقية خارج الزمان، فالإنسان كما يرى كانط من حيث هو إنسان ليس إلا ظاهرة لنفسه(3). لكن وكما يقول : ((إن مطالبة العقل الإنساني المشترك نفسه بحقه المشروع في حرية الإرادة يقوم على أساس الشعور والافتراض المسلم به باستقلال العلل المعينة تعييناً ذاتياً خالصاً التي يؤلف مجموعها ما يتعلق بالإحساس وحده ومن ثم ما يعرف بوجه عام باسم الحساسية))(4).

ص: 409


1- المصدر نفسه، هامش المترجم رقم (104) ص 168.
2- المصدر نفسه، ص 169.
3- إميل بوترو، فلسفة كانط ، مصدر سبق ذكره، ص 370،369.
4- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 169.

وان خضوع أي شيء في عالم الظواهر لقوانين معينة، واستقلاله عنها من حيث هو شيء أو ماهية في ذاتها، أمر لا ينطوي على تناقض. وتفكير الإنسان وتصوره عن نفسه على هذا النحو المزدوج، يقوم على:

الشعور الذي لديه عن نفسه من حيث هو موضوع يتأثر عن طريق الحواس.

شعوره بنفسه من حيث هو عقل مستقل عن الانطباعات الحسية(1).

وهنا يذهب الإنسان إلى أن له إرادة تتصور أن الأفعال تكون ممكنة عن طريقها بل وضرورية. وعلية مثل هذه الأفعال قائمة فيه بوصفه عقلاً كما هي قائمة في قوانين النتائج والأفعال التي تطابق مبادئ عالم معقول، لا تزيد معرفته به في الحقيقة على أن العقل وحده (العقل المحض) هو الذي يضع له القانون. و هذه القوانين تخص العقل بشكل مباشر ومطلق بحيث لا يتسنى لما تحث عليه الميول والدوافع أن تخرق قوانين إرادته بوصفها عقلاً. بل إن العقل : ((لا يتحمل مسؤولية هذه الميول والدوافع، ولا ينسبها إلى ذاته الحقيقية، أعني إلى إرادته، وإنما ينسب إليها (أي إلى ذاته) التسامح الذي يمكن أن يحمله لها في نفسه إذا هو سمح لها بأن تؤثر على مسلماته بما يعود بالضرر على القوانين العقلية للإرادة))(2).

ويقرر كانط أن العقل العملي لا يتجاوز حدوده المرسومة له على الإطلاق حين يندمج بالفكر في عالم معقول، ولكنه يتجاوزها حين محاولته لمعاينة نفسه وأن يحس بنفسه فيها. وهذه الفكرة لها جانبان احدهما سلبي و الآخر ايجابي:

فهي سلبية بالنسبة للعالم المحسوس، الذي لا يقدم للعقل في تحديده للإرادة أية قوانين.

وهي فكرة ايجابية من ناحية واحدة فحسب، وهي (أن الحرية من حيث إنها تعيين سلبي، مرتبطة في الوقت نفسه بملكة ايجابية)، وعلى وجه التحديد بعلية للعقل نطلق

ص: 410


1- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 169،170.
2- المصدر نفسه،ص171،170.

عليها اسم الإرادة، أي بملكة الفعل، على نحو يجعل مبدأ الأفعال مطابقاً للشرط الذي يتيح للمسلمة التي ارتفعت إلى مستوى القانون أن تكون صالحة صلاحية شاملة(1).

ولكن إذا أراد العقل أن يستمد من العالم المعقول موضوعاً للإرادة، أي دافعاً لها، فهو بذلك يتعدى حدوده ويدعي العلم بشيء لا يعرف عنه لا قليلاً و لا كثيراً. ومن ثم كما يرى كانط فإن تصور عالم معقول ما هو إلا وجهة نظر يضطر العقل للتسليم بها وراء الظواهر ، لأجل أن يتسنى له أن يتصور نفسه عقلاً عملياً، وهو أمر مستحيل لو أن مؤثرات الحساسية كانت معيَّنة للإنسان، ومع ذلك يكون ضرورياً إن لم ننكر عليه الشعور بذاته بوصفه عقلاً، ومن ثمَّ من حيث هو علة عاقلة تصدر في أفعالها عن طريق العقل، أي علة حرة في أعمالها(2).

إذن ينطوي هذا التصور على فكرة نظام وتشريع يختلفان عن نظام وتشريع الآلية الطبيعية المتعلقة بالعالم المحسوس، كما يجعل تصور عالم معقول تصوراً ضرورياً، من دون أن يدعي انه يجعل فكره مطابقاً لغير شرطه الصوري، أي ((الشمول مسلمة الإرادة بوصفها قانوناً، ومن ثمَّ للاستقلال الذاتي للإرادة الذي يمكنه وحده أن يكون على أتفاق معها؛ في حين أن جميع القوانين التي تتحدد بعلاقتها بموضوع من الموضوعات تعطي تبعية لا نصادفها إلا في القوانين الطبيعية و لا يمكن أن تتعلق بغير العالم الحسي))(3).

إلا أن العقل يتعدى جميع حدوده المرسومة له إذا ما حاول تفسير كيف يصبح العقل المحض عملياً. و هذه المحاولة تتساوى تساوياً تاماً مع محاولته في تفسير كيف تصبح الحرية ممكنة، ذلك لأننا لا نستطيع تفسير شيء من دون إرجاعه إلى قوانين يمكن أن يعطي موضوعها في تجربة ممكنة. أما فكرة الحرية فهي فكرة

ص: 411


1- المصدر نفسه، ص 171.
2- المصدر نفسه، ص 172.
3- المصدر نفسه، ص 172.

خالصة، لا يمكن إدراك طبيعتها، ولا يمكن إخضاعها لقوانين الطبيعة، أو التجربة، فما هي إلا افتراض ضروري للعقل عند كائن يعتقد نفسه يمتلك إرادة. ولكن تعطل تحديد هذه الفكرة عن طريق قوانين الطبيعة لا يعني إعلان استحالة الحرية(1).

لا نجد كانط هنا ينفي وجود الحرية، بل كانت غايته من هذا التحليل الدقيق هو لبيان التصور السائد لفكرة الحرية المفترضة، لبناء أساس جديد يقوم على حل المشكلة عقلياً وكما سيتضح لنا لاحقاً.

ويرى كانط أنه من الطبيعي أن يؤدي عزل علية الإنسان (أي إرادته) عن جميع القوانين الطبيعية التي تحكم العالم الحسي في شخص واحد بالذات إلى التناقض؛ وعلى الرغم من ذلك يزول هذا التناقض إن أراد المرء تدبر الأمر، وأن يعترف منصفاً بأنه لابد من وجود الأشياء في ذاتها وراء الظواهر، تؤسس هذه الظواهر، و لا يستطيع المرء أن يطلب من القوانين التي تتحكم في أفعالها أن تكون هي نفس القوانين التي تخضع لها ظواهرها(2).

من كل ما تقدم، يريد كانط توضيح الحد الأقصى لكل مبحث أخلاقي، و تكمن أهمية هذا الحد في:

أن العقل لا يظل من ناحية في العالم الحسي، بطريقة تضر بالأخلاق، بحثاً عن الدافع الأسمى، وعن منفعة قريبة للإفهام وان كانت تجريبية.

وأن لا يظل من ناحية أخرى يرفرف عاجزاً بجناحيه من دون أن يتحرك من موضعه فی فضاء من التصورات المتعالية يحمل اسم العالم المعقول.

ولكي لا يضيع في خرافات ذهنية موهومة(3).

وفكرة العالم المعقول الخالص، الجامع لكل العقول، تظل دائماً فكرة نافعة

ص: 412


1- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 172،173.
2- المصدر نفسه، ص 174
3- المصدر نفسه،ص179.

يمكن أن تحقق عقيدة عقلية، وإن كانت كل معرفة تنتهي عند حدود هذا العالم ولا نستطيع أن نكون أعضاء في مملكة شاملة للغايات في ذاتها (للكائنات العاقلة)، حتى نحرص على الاهتداء بسلوكنا بمسلمات الحرية كما لو أنها قوانين طبيعية، لكي نستطيع عن طريق هذا المثال الرائع لمملكة شاملة للغايات.. إثارة الاهتمام الحي بالقانون الأخلاقي في نفوسنا(1).

إن العقل العملي وحده يُحدد مفهوم الحرية من خلال إعطائه حقيقة موضوعية. ومفهوم الحرية كفكرة للعقل، فإنه يتمتع بامتياز على كل الأفكار الأخرى، لعدم إمكان تحديده عملياً، فيكون المفهوم الوحيد الذي يعطي الأشياء في ذاتها معنى، ويجعلنا ندخل بالفعل العالم المعقول(2).

القانون الأخلاقي بوصفه قانونا ً للحرية:

رغم أن العلاقة بين الحرية والقانون الأخلاقي أساسية في فلسفة كانط الأخلاقية، فإن من الصعب غالباً أن نفسر بدقة طبيعة هذه العلاقة في عمله هذا، وكيف تطورت فكرته في هذه القضية من كتاباته قبل النقدية إلى عمله الأخير(3).

تبدأ فلسفة كانط من حيث الأخلاق ، نازعة نزوعاً صريحاً إلى الحرية، فهي لا تريد أن يكون الفعل الأخلاقي أخلاقياً ما لم يكن صادراً عن الإرادة الحرة. فنتائج الفعل مهما كانت أخلاقية لا تُعد أخلاقية أن صدرت عن خضوع لإرادة خارجية. فأخلاقية الفعل عنده تنبثق من (ناموس الفعل الذاتي)، وصدوره عن كياننا الداخلي، أي إن بعض الأفعال يجب أن تعدّ أوامر إلهية، لأنها ملزمة لنا إلزاماً داخلياً، و لا ينبغي أن ينظر إليها على إنها ملزمة لنا لأنها أوامر إلهية(4).

ص: 413


1- المصدر نفسه، ص 179.
2- جيل دولوز، فلسفة كانط النقدية، تعريب أسامة الحاج، ط2، 2008، ص 51.
3- Sergio Tenenbaum. The Idea Of Freedom And Moral Cognition In Groundwork Iii. Op. Cit P.555
4- عثمان أمين، رواد المثالية في الفلسفة الغربية، مصدر سبق ذكره، ص 122.

فتقوم الأخلاق عنده إذن على الحرية والشرط الأول الذي يجب توافره حتى يصبح المثل الأخلاقي حقيقة واقعية هو الحرية. وحيث لا تكون حرية لا تكون أخلاق، و لا أخلاقية من غير حرية(1).

وإن كان مذهب كانط الأخلاقي مذهباً اجتماعيا، يُنظر إلى الفرد فيه من جهة علاقاته بأفراد المجتمع، لا أن الفرد ينبغي أن يكون حراً وليس لأحد عليه سلطان، ما لم يلحق ضرراً بالآخرين. ومن ثم فالحرية عبارة عن الاستقلال الذي يملكه الفرد إزاء المجتمع الذي هو جزء منه من حيث إن هذا الاستقلال حق من حقوقه، وفقاً للتعريف الكانطي: ((الحق هو جملة الشروط التي تجعل الإرادة الخاصة لشخص ما متفقة مع إرادة آخر، طبقاً لقانون كلي للحرية))(2).

يعتقد كانط أن القانون الأخلاقي هو قانون الإرادة الحرة، و أننا يجب أن ننظر إلى أنفسنا كأحرار، فالحرية عنده تخضع للقوانين ولكن ليست قوانين الطبيعة التي يخضع لها الكائن العاقل، أي إن الحرية لا تعني عشوائية السلوك، بل هي خاضعة لإرادة الكائن العاقل القادر على السلوك بحسب تصور القوانين. أي إنها تخضع للعقل وقانون العقل . ف- ((كل شيء في الطبيعة يخضع لقوانين. الكائن العاقل وحده هو الذي يملك المقدرة على السلوك بحسب تصور القوانين، أي بحسب مبادئ، أو بعبارة أخرى هو الكائن الذي يملك الإرادة لذلك. ولما كان العقل مطلوباً لأجل استنباط الأفعال من القوانين، فليست الإرادة سوى عقل عملي. وإذا كان العقل بغير نزاع هو الذي يعين الإرادة، فإن الأفعال التي تصدر عن مثل هذا الكائن، التي تعرف من الناحية الموضوعية بأنها ضرورية، هي كذلك من الناحية الذاتية أفعال ضرورية))(3).

و بما أن الإرادة هي ملكة العقل كما- -يرى والإرادة خاصية الكائن العاقل إذن

ص: 414


1- المصدر نفسه، ص119.
2- المصدر نفسه، ص 125، 126، نقلا عن كانط: (نظرية الحق) مدخل ب ترجمة فرنسية بقلم بارني باريس 1853.
3- أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 77،78.

يمكن القول أن أصل (الحرية) هو العقل ويمكن أن نطلق عليها (الحرية العقلية). أي إنها من الأفعال الضرورية للعقل.

في كتاب نقد العقل العملي يدّعي كانط أن موضوع الشيء بذاته (النومن) يقدم كل شيء في الماضي الذي يحدد أفعالنا الحرة لكن الموضوع المشابه الذي من جهة أخرى مدرك كذلك لوجوده الخاص به كأنه شيء بنفسه، كذلك يعرض وجوده بقدر ما أنه لا يصمد أو يقف تحت شروط مؤقتة ولنفسه كأنه ممكن تصوره فقط بالقوانين التي يعطيها لنفسه من خلال العقل. وفي هذا الوجود لا شيء سابق إلى التحديد لأرادته، كل فعل وبصورة أعم كل تحديد متغير لهذا الوجود وفقاً للوعي الداخلي، حتى التاريخ الداخلي لوجوده ككائن حسي. هو ملحوظ في الوعي لوجوده المدرك فقط كنتيجة، وليس كأساس محدد لسببيته كشيء بذاته(1).

ونتيجة (الواجب) المطلق الذي يمليه العقل، هي القدرة و الإستطاعة في رأي كانط. فإن كان ينبغي أن لا أكذب، إذن كان من الممكن إلا أكذب. فإن كان لديّ هذا الدافع أو ذاك، مما ترتب عليه بالضرورة تفوهي بتلك الكذبة، لكن هذا لا يصدق إلا على المجال الزمني. أما من وجهة نظر العقل، فالحق كان ينبغي إلا أكذب، وكذبي وليد حرية معينة، حرية ليست خاضعة للزمان، ولكنها حقيقة واقعية. وحتى إن لم يفهم الإنسان طبيعة تلك الحرية، فإنه لا بد من أن ينسب لنفسه مبدء حراً يفسر به ما عليه من التزامات خلقية، وهذه الحرية التي يتحدث عنها كانط ليست مجرد حرية ظاهرية مستندة لإرادة خاضعة للضرورة العلية، بل هي حرية (ترانسندنتالية) تعبر عن قدرة حقيقية في توجيه ذواتنا، في استقلال تام عن سائر المعطيات التجريبية، والواقع أن طابع الواجب اللامشروط يفترض تلقائية لا مشروطة لدى الموجود الذي يعمل هذا الواجب، ومن ثمَّ علينا التسليم بثنائية باطنة في الإنسان، ما دامت أفعالنا تندرج من ناحية في سلسلة الظواهر العلية فتتصف بأنها تجريبية، نسبية، قابلة للتفسير، ومن ناحية أخرى تعبر عن اختيار أصلي لا زماني، طابعه معقول، فتخلع على الإنسان صفة

ص: 415


1- Derk Pereboom، Kant On Transcendental Freedom، Op. Cit، P.30.

الحرية وتجعل منه موجوداً مسؤولاً. أي إن كل فعل أخلاقي يفترض لدى الإنسان حرية أصلية هي الشرط المطلق الذي من دونه لن يكون للشعور الأخلاقي أي وجود. أذن فكانط ينتهي إلى الإيمان بالحرية، تلك الحرية التي من دونها لن يكون ثمة واجب، هو في حد ذاته واجب، إن لم يكن أول الواجبات(1).

والحرية كما يرى هي أيضاً الوحيدة من بين جميع أفكار العقل التأملي التي نعرف قبلياً بإمكانيتها، ولكن من دون أن ندركها، لأنها شرط القانون الأخلاقي الذي لنا معرفة به. فمفهوم الحرية، باعتبار أنهُ تمَّ البرهان على حقيقته بقانون ضروري للعقل العملي، إنما يشكل الآن حجر الغلق في بناء منظومة العقل المحض بكاملها، حتى التأملي، وكافة المفاهيم الأخرى (مفهوم الله والخلود) التي تبقى فيها مجرد أفكار من دون قوام، أما الآن فهي تتصل به وتنال معه و به قواماً وحقيقة موضوعية، أي إن إمكانيتها قد حصلت على برهان بأن الحرية هي حقيقية، لأن هذه الفكرة تتجلى عبر القانون ألأخلاقی(2).

إن القانون الأخلاقي بالنسبة لإرادة الكائن الكلي الكمال هو قانون القداسة، إلا أنه بالنسبة لكلّ كائن عاقل مخلوق هو قانون الواجب، وقانون تعيين أفعال هذا الكائن نفسه بواسطة احترام القانون وعن تهيب أمام واجبه. ويجب ألا يؤخذ أي مبدأ ذاتي آخر كونه دافعاً، وإلا يكون من الممكن أن ينتهي الأمر بالفعل إلى أن يكون مطابقاً لما يأمر به القانون فعلاً، لكنه لا يكون قد تم بدافع من الواجب حتى ولو تم وفقاً له، إذ لا تكون نية القيام بالفعل أخلاقية ، و هذا ما يعود إليه الأمر حقيقة في هذا التشريع. أما الواجب والالتزام المستحق فهما التسميتان الوحيدتان اللتان يليق بنا أن نطلقهما على علاقتنا بالقانون الأخلاقي. صحيح أننا أعضاء مشرعون في مملكة الأخلاق الممكنة بواسطة الحرية، التي تقدم لنا كونها موضوع احترام بالعقل العملي، لكننا في الوقت نفسه رعايا فيها ولسنا أصحاب السلطان، وما تجاهلنا لمرتبتنا الأدنى بوصفنا مخلوقات، ورفضنا بدافع الغرور لهيبة القانون المقدس، سوى خيانة له، بحسب روحه، حتى ولو كان قد أوفى حرفه كل الحق(3).

ص: 416


1- زكريا إبراهيم، مشكلة الحرية، مصدر سبق ذكره، ص39.
2- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، مصدر سبق ذكره، ص44.
3- المصدر نفسه،ص158،157.

إذن السؤال عن كيفية إمكان قيام الأمر الأخلاقي المطلق؟ فيقول كانط : ((يمكن الإجابة عليه بمقدار ما نستطيع بيان الافتراض الوحيد الذي يمكنه أن يقوم على أساسه، ونعني به فكرة الحرية، وبمقدار تفهمنا للضرورة التي ينطوي عليها هذا الافتراض، وهو أمر يكفي لضمان الاستعمال العملي للعقل، أي للاقتناع بصلاحية هذا الأمر المطلق، وصلاحية القانون الأخلاقي تبعاً لذلك، أما كيف يصبح هذا الافتراض نفسه ممكناً، فذلك ما لا سبيل لعقل بشري أن يفهمه أبداً))(1).

لكن كما يشرح لنا بقوله: ((لكن لما كانت التجربة لا تقدم لنا علاقة علة بین ونتيجة إلا إذا كانت هذه العلاقة قائمة بين موضوعين من موضوعات التجربة، وكان على العقل المحض هنا بوساطة أفكار بسيطة (لا تقدم أي موضوع للتجربة) أن يكون هو علة لمعلول موجود بغير شك في التجربة، فإن من المستحيل علينا نحن بني الإنسان تمام الاستحالة أن نفسر كيف ولماذا يحقق لنا المنفعة شمول المسلمة بوصفها قانوناً، و لا كيف ولماذا تحقق الأخلاقية تبعاً لذلك المنفعة))(2). فالشيء المؤكد هو أن الأخلاقية تكون لها قيمة بالنسبة لنا لمجرد أنها تحقق مصلحة. فتكون قيمتها عندنا من حيث إننا بشر، فهي تنبع من إرادتنا بوصفها عقلاً، أي من ذاتنا الحقيقية، وفيما يتعلق بالظاهرة الخالصة، فإن العقل يدرجه بالضرورة تحت طبيعة الشيء في ذاته(3).

فإن القانون الأخلاقي، بصفته قانون الحرية كما يقول كانط: ((إنما يأمر بمبادئ معيَّنة عليها أن تكون مستقلة استقلالاً تاماً عن الطبيعة، وعن توافق هذه مع ملكة الرغبة عندنا (بصفتها دوافع) لكن الكائن العاقل الفاعل في العالم ليس هو نفسه في الوقت عينه، على الرغم من ذلك، علة العالم والطبيعة، فإذن لا يوجد في القانون الأخلاقي أيُّ سبب ، مهما كان صغيراً، لارتباط ضروري بين الأخلاقية والسعادة المتكافئة معها لدى كائن ينتمي إلى العالم كجزء منه ومن ثم تابع له، و لا يستطيع

ص: 417


1- امانوئيل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، مصدر سبق ذكره، ص 176،177.
2- المصدر نفسه،ص176.
3- المصدر نفسه، ص 176.

لهذا السبب بالذات أن يكون علة هذه الطبيعة، كما أنه لا يستطيع، بقواه، فيما يتعلق بسعادته، أن يجعل الطبيعة متفقة باستمرار مع مبادئه العملية))(1).

يأمرنا العقل بطاعة القانون الأخلاقي، ويكون هذا الأمر متناقضاً إن لم يكن لدينا إمكانية الاستجابة له. ومن ثمَّ فلا حاجة لنا بالالتفاف إلى اتساق الفكر مع نفسه اتساقاً ضرورياً، من أجل استخلاص تصور الحرية من تصور الواجب. ولمعرفة طبيعة الحرية و إمكانيتها يمكن تبسيط هذا التدليل الأساسي:

ماذا ستكون الحرية مستخلصة على هذا النحو؟ يُعبر عن الأمر الأخلاقي بكلمة (يجب) لا بكلمة (يتعين)، أي إنه الالتزام بالمعنى الدقيق لا ضرورة قاهرة و آلية. فالقانون الأخلاقي لا ينتج ! آثاراً لا مناص منها، كما هو حال القوانين الطبيعية. والأفعال التي يأمر بها قد لا تتحقق. فهي متصورة على أنها إمكانية أنجاز ما يأمر به القانون، إذن هي صورة من صور العلية. وفكرة العليَّة متضمنة فكرة القانون، ومن ثم فالحرية يجب أن يكون لها قانون ما ملائم لطبيعتها. إن الحرية لا توجد عندنا إلا محددة بالقانون الأخلاقي. فلا نكون أحراراً، إلا بقدر ما نكون خاضعين للقانون الأخلاقي. إذن إن كانت الحرية من جهة هي الاستقلال بإزاء قوانين العالم الطبيعي، فهي من جهة أخرى التبعية بالقياس إلى القانون الأخلاقي(2).

هل يمكن تصور الحرية ممكنة؟ كيف نوفق بين الحرية التي يفترضها القانون الأخلاقي وبين الضرورة الآلية التي تفرض نفسها على جميع أفعالنا؟ لاحظ كانط فلسفة ليبنز قد تحل هذه الصعوبة وهي نظرية الحرية باعتبارها (عفوية الذهن) وطبقاً لهذه النظرية فالفعل الحر محدداً هو أيضاً، وفي الوقت الذي تكون فيه الظواهر الطبيعية محددة بظواهر طبيعية أيضاً، فتكون أفعالنا الحرة محددة بتمثلات الفهم. إذن الحرية والآلية لا تختلفان إلا في طريقة التحديد. وهذا الحل في نظر كانط حل وهمي. ((فالسبب الذي لأجله تكون الحرية مستحيلة في الطبيعة يوجد آخر الأمر

ص: 418


1- المصدر نفسه، ص218.
2- إمانويل كنت، نقد العقل العملي، مصدر سبق ذكره، ص 367، 368 .

في الزمان. فنظرية ليبنتز تحت شرط المكان تركت شرط الزمان، لأنه إنما تتعاقب تمثيلات الفهم في الزمان))(1).

الخاتمة

اخيرا يمكن ان نقول ان الخطوة الأولى لحل تلك الاشكالية التي لازمت مفهوم الحرية عند كانط، هي الاخذ بنظر الاعتبار تلك العلاقة الجدلية التي ارتبط بها مفهوم الحرية مع كل من مفهومي السببية، والقانون الأخلاقي. حيث أن السببية التي مثلت حكماً تركيبياً أولياً عند كانط وليس تحليلياً، هي من اهم الأحكام التي توصل إليها، التي كان للتجربة دور في صياغتها. على ان مفهوم السببية بوصفه ضرورة طبيعية، لا علاقة له بمفهوم السببية بوصفه حرية. وهذا يعني وجود نوعين من السببية، تمثل الأولى اقتران بحالة سابقة بموجب قاعدة في العالم المحسوس. وتمثل الثانية قدرة الفرد للبدء من ذاته، أي لا تخضع سببيتها لسبب آخر من حيث الزمان ووفقاً للطبيعة.

ومن خلال البحث في ميتافيزيقا الأخلاق عند كانط وجدنا أن القاعدة الأساسية لأفعالنا يجب أن تحكمها الأخلاق أي إننا نستند إلى قاعدة الأخلاق في الفعل الحر، فالأفعال المحكومة بقوانين وضعية أو محكومة بالدين ليست أفعالاً أخلاقية بذاتها. فمثلاً (الغش في البيع ، فلو غش أحدهم في البيع فإن القانون الوضعي يحدد له عقوبة، والدين يحاسبه، أيضاً، ومن ثم فإنه إن ترك الغش فسيكون خوفاً من العقاب) هذا ما يرفضه كانط ويعتبر أن تركه الغش ليس خيراً بذاته، لأنه لم يبن على أساس الأخلاق. فلو ترك الغش لأنه فقط يجده فعلاً غير أخلاقي ومن ثم لا يرضاه، وليس خوفاً من العقاب، حينها فقط يكون الفعل أخلاقياً بذاته، ومحققاً في ذات الوقت الغاية الدينية والقانونية معاً. لذا يحرص كانط على أن يكون القانون والدين مبنيان على قاعدة الأخلاق، وليس العكس. فالأخلاق تسبق الدين وتسبق القانون. وبناءً على هذه الأخلاق الميتافيزيقية الكانطية، كان ينبغي على الحرية أن تكون مستندة الى ذات القاعدة. فحين أمارس حريتي في فعل ما، يجب أن أخضع نفسي لقانون

ص: 419


1- المصدر نفسه، ص 369،368.

الأخلاق وهذا الإلزام أخلاقي بحت. و قاعدة الأخلاق تتمحور حول (الواجب). وقيمة هذا الواجب بأنه لا عقوبة تتبعه كما في القانون الوضعي أو الدين. فحين أخضع للواجب الأخلاقي فإني أمارس الفعل الأخلاقي أو الحرية بذاتها. ومن خلال التمييز بين ما يشير إلى عالم الأشياء في ذاتها، وبين ما يشير لعالم الظواهر، نصل الى ان الإنسان مجبر كونه ظاهرة، وحر كونه شيء في ذاته. وهذه هي الخطوة الثانية التي ينبغي تظل شاخصة في الذهن اثناء قراءة النص الكانطي، وهي تفرقة أشار لها كانط منذ البداية بين الشيء لذاته والشيء في ذاته، وهذه التفرقة هي التي من شأنها ان تحل اشكالية هذا البحث، بل هي التي تفسر الكثير من تناقضات هذا العالم.

وإذ وجدنا ان هناك امكانية لحل اشكالية الحرية من جانب واحد وواحد، فقط، هو بحثها في حدود العقل الخالص، من حيث ان تصور الحرية وتصور السببية لا يناقض احدهما الآخر، فهي حرية ترانسندنتالية، في مقابل استحالة تصورها في عالم الظواهر، لذا كان ينبغي البحث عنها في حدود العقل العملي الذي من شأنه ان يعطي للحرية حقيقة موضوعية عملية من دون الخوف من الوقوع في تناقض مع الضرورة الطبيعية. الا ان اشكالية فهم الحرية في فلسفة كانط بمجملها تظل قائمة، وذلك من خلال ظهورها في تأسيس متافيزيقا الاخلاق بوصفها اداة للتفسير الذاتي للارادة التي يتميز بها الإنسان عن طريق خضوعه للقانون الاخلاقي، وفقا للواجب. في مقابل ظهورها نقد ملكة الحكم بوصفه مسنداً لحل التناقض الظاهر بين عالم الطبيعة وعالم الاخلاق، أي بين العقل النظري والعقل العملي. ليصل الى نتيجة مفادها ان كل ما في الطبيعة من جمال ونظام وانسجام، من جهة، ومبادئ عقلية من جهة اخرى، لا يمكن ان يُفهم كل ذلك الا عن طريق الاخلاق وحرية خالصة يملكها الإنسان والايمان بوجود الله. وهذا يحيل الى مفهوم آخر للحرية يتحرك في حدود الدين والذي هو عند كانط مجال للحوار الحر لانه قائم على اتصال ارادي اختياري. وهو مفهوم يصعب تصوره في مقابل التصور السياسي لمعنى الحرية بوصفها الحق الأول للانسان الذي يرجع إليه لتحقيق الخير العام داخل المجتمع، فالحرية هنا هي مفتاح تحقيق السلام في المجتمع، وهو المفهوم الذي ظهر في مشروع كانط للسلام الدائم.

ص: 420

المصادر

إلياس بلكا، الوجود بين السببية والنظام، المعهد العالمي للفكر الاسلامي - هرندن - فرجينيا - الولايات المتحدة الامريكية، مكتب التوزيع في العالم العربي بيروت - لبنان، ط 1 ، 2009.

أمانويل كانت، تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق، ترجمة د. عبد الغفار مكاوي، مراجعة عبدالرحمن بدوي، منشورات الجمل، ط1، 2002.

إمانويل كنت، نقد العقل العملي، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، ط1، بيروت - لبنان، 2008.

أمانويل كنت، نقد ملكة الحكم، ترجمة غانم هنا، المنظمة العربية للترجمة، الحمراء بيروتلبنان، ط 1،2005

أميرة حلمي مطر ، فلسفة الجمال - اعلامها ومذاهبها، دار قباء - القاهرة، 1998.

إميل بوترو، فلسفة كانط، ترجمة عثمان أمين، مصر: الهيئة للكتاب، 1972.

جيل دولوز، فلسفة كانط النقدية، تعريب أسامة الحاج، ط2، 2008.

زكريا إبراهيم مشكلة الحرية، سلسلة مشكلات فلسفية، ط 3،مكتبة مصر، 1972.

عبد الرحمن بدوي، الأخلاق عند كانط، وكالة المطبوعات - الكويت، 1979.

عبد السلام بنعبد العالي، الميتافيزيقا العلم والايديولوجيا، دار الطليعة - بيروت، ط2، 1980.

عثمان أمين، رواد المثالية في الفلسفة الغربية، دار المعارف، 1967.

عمانويل كانط، نقد العقل المحض، ترجمة موسى وهبة، مشروع مطاع الصفدي، مركز الإنماء القومي، رأس بيروت - لبنان، 1988.

فريال حسن خليفة، الدين والسلام عند كانط، مصر العربية للنشر والتوزيع - القاهرة، ط1، 2001 .

كريستوفر وانت، أندزجى كليموفسكي، أقدم لك كانط، ترجمة أمام عبدالفتاح أمام، المشروع القومي للترجمة، أشراف جابر عصفور، العدد 430 ، الناشر - المجلس الأعلى للثقافة، ط1، 2002.

د) مصادر باللغة الأنكليزية

Christine M.Korsgaard. Creating The Kingdom Of Ends. Kant's Moral Philosophy. 6 - Morality As Freedom. Harvard University. Cambridge University

Press.

Graham Bird. A Companion To Kant.Part Lll: The Moral Philosophy: Pure And Applied. 18. Andrews Reath. Kant 'S Critical Account Of Freedom. 2006.

Henry E. Alison. Kant's Theory Of Taste. A Reading Of The Critique Of Aesthetic Judgment. Modern European Philosophy. Cambridge University Press.

ص: 421

Imanuel Kant. Groundwork For The Metaphysics Of Morals. Edited And Translated By Allen W. Wood. With Essays By J. B. Schneewind. Marcia Baron.

Shelly Kagan. Allen W. Wood. Yale University Press. New Haven And London. 2002.

Michelle kosch. freedom and reason in kant. schelling, and kieregaard.published in the united states by oxford university press inc. new York. first published. 2006.

Patrick R. Frierson. Freedom And Anthropology In Kant's Moral Philosophy.Cambridge University Press. 2003.

المجلات (بحوث ومقالات)

Derk Pereboom. Kant On Transcendental Freedom. Philosophy And Phenomenological Research. Volume 73. Issu 3. November 2006. University Of Vermont.

Sergio Tenenbaum. The Idea Of Freedom And Moral Cognition In Groundwork Iii. University of Toronto. In Philosophy And Phenomenological Research. Vol.84. Issue 3. May 2012, Pages 555-589.

رسائل وأطاريح

Eilert Sundt - Ohisen. Kant And The Epistemology Of Metaphysics. King Of College London.

Timothy James Aylsworth. Freedom In Kant's Critical Philosophthe Keystone Of Pure Reason, Texas AM University. 2010.

ص: 422

الأخلاق الذاتیة الکانطیة و الخدمة الالهیة

اشارة

هادي قبيسي(1)

أفكار كانط مر عليها الزمان، وجاءت من بعدها كثير من المحاولات المؤيدة أو المناقضة أو الناقدة، لكنها تعبر عن حالة من حالات الفكر الإنساني، قد تتكرر في ميادين وأزمنة وحضارات مختلفة ومتعددة، ومن هنا فإننا عندما نحاور تراث كانط نكون في حوار محتمل مع النماذج المعاصرة لتلك الحالة الفكرية والمعنوية، فلا نكون في مسار نبذل فيه الجهد النظري المتمركز حول الماضي فحسب، بل إننا نحاول طرق أبواب متناظرة في زمننا الحالي، لا سيما إذا كانت احتجاجاتنا منصبة على الأسس والمنطلقات لا النتائج والجزئيات. فقد نجد ميول كانط الفكرية لدى كثيرين في زمننا، ومن ثمّ يمكن أن نحاورهم عبر مرآته وتأملاته، إذ يمكن لكتاباته أن تكون تعبيراً عن مكنوناتهم وتطلعاتهم.

الإشكاليات التي كان يسعى خلفها كانط، وجهوده في الحفر عميقاً للوصول

ص: 423


1- باحث في الفلسفية وعلم الاجتماع الإسلامي. كانت بداية هذه المقاربة للباحث تؤكد ان أفكار كانط، رغم ما جاء بعدها من دراسات نقدية او مؤيدة ، الا انها تبقى تعبر عن حالة من حالات الفكر الإنساني، الا انه يصل الى نتائج قوامها ان كانط حاول استنقاذ الأخلاق من فخ النسبية والاستنسابية البراغماتية، لكنه لم ينجح في إخراجها من الذاتية، نظرياً يمكن له أن يدعي وصلاً بالأصل الأخلاقي، لكنه وصل غامض وغير دقيق معاييره مفتوحة على كل احتمال وبذلك يغدو الاختيار مشروطاً بالأشخاص والظروف، فهنا حصل التمكين لأصل الأخلاقية، لكن النظام الأخلاقي ظل عرضة للمجهول. المحرر

إلى جذر رؤية فلسفية، تستكمل توكيد ضرورة ثبات قانون الأخلاق واستقراره، استناداً إلى العقل البريء والصافي، ظلت أسيرة إمكانات كانط الذاتية واستجابته للنقاشات الجارية في زمنه، فلم يتحرك في إطار من رؤية كلية تضع العقل والإنسان والنظم الحياتي في سياق مسوّغ ومنسجم هادف. فتح كانط المجال للعقل ليسبح في عالم الوجود، من دون الغوص في منزلقات الوجود أو التبصر في الغاية من ذات الكينونة، أو التآلف مع نظم الطريق المنسجم مع الفطرة للوصول إلى تلك الغاية، ناهيك عن الالتفات أو التنبه على أسباب الاحتجاب والشبهة والالتباس في هذه القضايا الحاسمة التي تتصل بكل أبعاد الحياة الفردية والاجتماعية. لا نبتغي أن نحمل كانط أكثر مما حمل نفسه من مسؤوليات، لكننا سنحاول هنا أن نفهم دائرة حركته واشتباكاته ومحاوره، في أي جبهة تحركت وأي مدارات أغفلت.

سنقدم في هذه المقالة نقداً معيارياً كلياً لفكر كانط الأخلاقي من وجهة نظر إسلامية. يستند هذا التقييم إلى محاولة سابقة لتحديد المعايير القرآنية التي يمكننا الاستناد إليها في نقد النتاج الفكري الإنساني المستند إلى ذاته منفصلاً عن الوحي وتمحيصه، وقد نشر جزء منها هنا في عدد سابق(1)، وهي معايير تحدد دائرة الاختزال التي يقع فيها المجهود المعرفي الإنساني حين يدور حول ذاته، ويقصي الوجود الإلهي بكليته أو بمندرجاته التشريعية. وهي تهدف إلى استدخال النص الإلهي بوصفه مصدراً مرجعياً نقدياً فى مقاربة النصوص البشرية . وحينما نقارب الحوار بلغة معيارية، لا نبتغي إقامة محكمة، بقدر ما نسعى لترميم محاولة كانط والتبصر في تعثراتها ونقائصها. فعلى الطرف النقيض للاختزال يقف السعي نحو الاستكمال.

أنانية / ربوبية:

المعيار الأول الذي نستفيد منه في الحوار مع مجهودات كانط الأخلاقية، يتعلق بأصل مرجعية الذات في نظم الحياة على أساس قانون الأخلاق وترسيم سبل طيّ طرق الترقي والتكامل. بعضهم يرى أن ليس ثمة حاجة إلى ربوبية الخالق القيوم،

ص: 424


1- قبيسي، هادي / الإنسان مختزلاً / الاستغراب / العدد السابع / ربيع 2017

فهذا شأن فردي خاص، لكننا نرى أن في الرؤية الوحيانية توكيد على ضرورة الدور الإلهي في التكامل الفردي والاجتماعي، وهناك آيات قرآنية كثيرة في هذا الصدد،«یهدی الله لنوره من يشاء»(1)و «إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم»(2)و«الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا»(3).

بالمقابل، استناد كانط إلى العقل المحض، بما يمثله من إرادة ذاتية، في سعيه للوصول إلى تعالي الذات الإنسانية، هو إحدى المنزلقات الوجودية التي عثر بها في سعيه الدؤوب للخلاص من التراخي الأخلاقي، الذي انسحب من السلوك الحياتي المعاش إلى الأصل النظري ليهدم مسوّغ وجود النظم السلوكي.كان هم كانط المركزي تثبيت أصالة القيمة الأخلاقية وثباتها، بالارتكاز إلى العقل المستقل المنفرد، فهناك النجوم في السماء والشعور الذاتي الأخلاقي، ليس ثمة إله في البين.

لم يستطع كانط الوصول إلى ركن وثيق، ليبني عليه بنيانه، فقد وقع من حيث لا يدري، وإن من حيث التعبير والتنظير على الأقل، في وهدة الذاتية وبناء الأنانية، واعتبار الذات مرجعية الوجود ومسند المعرفة الأول والنهائي. نقول إن الخلل قد يكون من حيث التعبير والتنظير في الحد الأدنى لأن كانط قد لا يكون لديه النية في التحول إلى محورية الإنسان أو ألوهيته وإنما لم يجد أمامه سبيلاً آخر أو مرجعية بديلة. قد يعبر المتفلسف عن فكرة لم يجد بديلاً منها في تجواله المنطقي، لكنه قد لا يتبنى بالضرورة كل مندرجاتها إذ تكون في طور الولادة النظرية ولم تخضع للتجربة والمعايشة متعددة الأبعاد والجوانب، كما يمكن أيضاً ألا يسبر كل أغوارها أو يتلمس تداعياتها المنطقية والمعنوية بأجمعها، ولذلك احتملنا ألا يكون كانط قد تآلف مع فكرة محورية الإنسان في إدراكه العقلي الواعي. لكن لغته وطروحاته تعكس ما كان يدور في أعماق كانط المنعزل عن العالم، وإن تبني تلك الدروب البحثية الشغوفة ومآلاتها ومعاييرها الأخلاقية التي توصله إليها يقودنا إلى العيش في معزل عن كانط الوجودي.

ص: 425


1- سورة النور / الآية الخامسة والثلاثين.
2- سورة يونس / الآية التاسعة.
3- سورة العنكبوت / الآية التاسعة والستين.

قد يكون كانط المتخلق مثالي السلوك إلى حد كبير، وقد يكون كانط المتفكر بريئاً في مقاصده واندفاعاته، لكن كانط الكاتب سلك بنا سبيلاً وعراً نحو الغربة الفردانية شاء ذلك أو لا، وهذا هو كمين النبوات الأرضية، فهذه النبوات تبقى عرضة لآثار الاشتغال العقلي ومترتباته حينما لا يكون له نافذة تقيه ظلال المعزل وعتمة بئره .

صحيح أن سالكي طريق العبودية يستندون إلى العقل والقلب في معرفة الرب المعبود، لكن عندما يلوح لهم بارق إلهي يحصل التسليم والانقياد وتدور الذات حول مرجعية الإله الموجد القيوم. يوضح القرآن الكريم هذه الحالة في الآية «لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون»(1)، هنا العقل خرج من العزلة وشرنقة الذات، إلى فضاءات الاستماع إلى الوحي الإلهي والإلهام الرباني. لم يخسر فعاليته ودوره التعرفي، ولم يسقط في بئر الفردانية.

وهذا النقد، الذي ينطلق من تطلع مثالي لا يتيسر إلا لمن استند في رؤيته إلى فلسفة كلية تعود بالكينونة إلى البساطة الأولى ووحدة الأشياء، بما يجعل من السير الخُلُقي رجوعاً إلى أصل لا نزوعاً إلى محتد كيما يوجد هذا السير، الانسجام بين دوافع نكران الذات. التي هي أصل الأخلاق وبين الحاجة للوجود وإثبات حقيقة الذات. إن لم يحل هذا الإشكال المصيري تبقى النفس البشرية مأخوذة برغباتها الوجودية محفزة بقلقها الحتمي، ومن ثم متمسكة بمصالح الأنا، موجدة المسوغات الكثيرة للتخلي عن الواجب والمسؤولية تجاه الآخر

النظام الأخلاقي الإسلامي دار حول وجود رب، تبدأ من لدنه أصول التربية الأخلاقية بنظريتها وتعاليمها، وكذلك في وجودها واستمرارها، فهو قائم قيوم بربوبيته، سواء عبر تنزيل الوحي وتشريعه نظم الحياة، أو في قيادة السالكين نحو الكمال بيد الرعاية والعناية. تلك الربوبية تستطيع أن تنزع عن الإنسان ثياب الأنانية الضيقة، وتلبسه ثياب العناية. الرحمانية الموهوبة من المنان الخلاق، وحينها يمكن أن يغدو الإنسان «الولي الخادم»، الذي يقدم كل ما في وجوده لأجل الآخرين، فهو

ص: 426


1- سورة الأنبياء / الآية السابعة والعشرين.

الباقي بالله في غيب الحقيقة وحقيقة الغيب يستمسك باليد الإلهية، والفيوضات الربانية التي تأخذه من ضيق المخلوق إلى سعة الخالق.

نجد آثار هذا المنهج في الخطاب الإنساني الموجه إلى الواجد القيوم، المتوارث عن سلالة الرسالة الإلهية، فنسمع سيد الساجدين عليه السلام يتلمس بداية الطريق نحو الأخلاقية السامية في دعائه المعروف باسم «دعاء مكارم الأخلاق» بعبارة افتتاحية (اللهم وفر بلطفك نيتي)(1)، طلب من الواجد القريب من حبل الوريد، لتوفير النية والغاية وسمت الجهد الصحيح المستند إلى معرفة حقائق الوجود، تلك المعرفة التي تطلب من الله هي الأخرى كما في الحديث الشريف المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (اللهم أرني الأشياء كما هي). هذه العبارة التي يفتتح بها أوائل دعاء مكارم الأخلاق، تشكل المدخل الواقعي والوجودي نحو التحرر الأخلاقي، المنسجم مع العقلانية والحرية ، لكن مع الالتفات، في الوقت نفسه، إلى وهمية العزلة الإنسانية، والحضور الإلهي الحقيقي، الذي يأخذ السالك خطوة فخطوة نحو الطهرانية القصوى.

العقلانية هنا تدرك واقع ظهور القيومية وشهود الربوبية الإلهية على عالم الخلق وتسلطها على قلب الإنسان، والحرية تتأتى من الخروج من دائرة القيد الترابي. ولا بد من الإشارة كذلك إلى أن متن دعاء مكارم الأخلاق، الذي أخذناه واحداً من أهم مرجعيات الأخلاق الإلهية، ينطوي على رؤية تفصيلية تعتمد في أساسها على فكرة الدعاء والطلب، بدءاً من النية وصولاً إلى سائر المراتب والصفات الجمالية والجلالية الأخلاقية.

الإنسان / الله:

المعيار الثاني وهو يأخذنا إلى نقد اختزالية الهيومانيسم، محورية الإنسان مقابل محورية الله، وهنا العثرة الكبرى لهذا الاتجاه، فقد وضع واجب الوجود في موقع أدنى من ممكن الوجود، فأدخل المساعي الفكرية الساعية لمعرفة الذات وغاياتها

ص: 427


1- الصحيفة السجادية / دعاء مكارم الأخلاق.

في التيه والضياع، من خلال رؤية تختزل الواقع وتغير حقائقه. الاعتقاد بمحورية الإنسان، بما هو متفكر يسبر غور العالم، يفتش عن ذاته ومآلاته، وكيفية الوصول إلى كمال أوصافه، تدفعه نحو الغربة والأحادية، وهذه إحدى مآلات العقل المنطوي على ذاته المستند إلى قدراته، من دون التماس لمنبع الوجود، ذلك المنبع الواعي والغائي الخلاق والجميل اللامحدود.

تم تغييب هذا الأصل في مسارات كانط ولغته، وبدلاً من ذلك تم إعطاء دور المحور والمنشأ للعقل المحض، فيما أعطي لنبع الوجود الأزلي الأول صفة أثر من آثار العقل، فالله سبحانه وتعالى مجرد «فكرة»(1)، توصل إليها العقل وأنتجها وربما يوظفها في سياق مشروع تأصيل منطقه، على أنه مرجع أول مستقل بذاته، في ميل يقرب من شطحات فيورباخ واعتبار الله حاجة استحدثتها عوامل العقل المبدعة. الألوهية البديلة هنا غدت للإنسان الموكول إلى نفسه، المعتمد على تصورات عقله وأبحاثه، الذي ليس له موئل في كنف الواجد الخالق. وإن من أكبر عثرات الأخلاق الاختزالية هي هذا الاستبدال، ولو الجزئي، بين الإنسان والإله، فهذه عثرة أخلاقية وإن كانت ثغرة في العقلانية قبل ذاك.

لا يستقيم وجود الإنسان بذاته لأنه حادث تقوم بغيره، وإحالة الإنسان إلى ذاته دفع له في ظلمات الغربة، ومتاهات البحث المستعصية والمتطاولة، التي ليس بمقدورها أن تصل به إلى الانسجام الشامل الحقيقة في شتى عوالمها ومستوياتها ومراتبها،ففي سعي كانط إلى ترتيب حياة الفرد ضمن نسق منسجم مع العقل والواقع، مسيرة لم تستكمل وجهد لم يصل الذروة.

في المنظور القرآني، القلب المتوجه نحو فاطر السماوات والأرض وخالق النفس «وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون»(2)، يدرك أن الغاية من النظام الأخلاقي هو التماثل مع الجميل المطلق المتعالي بلا حدود، ولذلك فإن حركة

ص: 428


1- كانط، إيمانويل / نقد العقل العملي / ت: ناجي العونلي / جداول / 2011 / ص 90.
2- سورة يس / الآية الثانية والعشرين.

النضج والتسامي الأخلاقي تحمل قابلية الاستمرار والنمو، بالمعونة الإلهية والرعاية الربانية، وكذلك من خلال محورية أصل الجمال. وكيف لأخلاقية لا تهتدي إلى الجميل الأزلي وتتأدب في تعاملها مع حضوره الذي يخترق العوالم ومراتب الوجود أن تدعي الكمال والواقعية في آن، ولذلك أرشدنا الوحي الإلهي إلى هذا الطريق الأسمى «وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض»(1).

الاستقلال / الارتباط:

المعيار الآخر ويتعلق كذلك بالعلاقة بين الممكن والواجب، فما حقيقة هذه الصلة وما عمقها وآثارها ؟ وكيف يتقوم تكامل الإنسان بعيداً عنها ؟ هل من الضروري لقيام الأخلاقية الحضور في مجتلى الفعل الإلهي؟ أو أن الغفلة عنه لا تمنع ذلك؟ وهل هناك فارق بين الغفلة المقصودة وغفلة الجهل الكلي؟ اعتبر كانط أن قيام الأخلاقية مسألة ذاتية تتقوم بالعقل المحض، ولم يأت على مناقشة قضية استقلال الإنسان عن الله، فقد كانت خارج البحث

انفصال الإنسان عن مصدر وجوده و سبب استمرار کینونته، يجعله عرضة لآثار نقائصه ومحدوديته، ومصباح العقل إن لم يسكن في قلب مطمئن متحرر من قلق الوجود، سيجد لنفسه الطرق والسبل لتبرير الذاتية، وكذلك سيبقى محروماً من الموئل الإلهي، فمتى وصل إلى وحدة سنخية الأوراد والأعمال وتسربت روح الخدمة لله في كل شؤونه اندكت سدود العشوة وتأصلت حالة الانسجام الوجودي، وأصبح مستعداً لتلقي الفيوضات الغيبية والاستماع إلى الإلهامات الإلهية، التي تدفع أمامه الأبواب إلى دار السلامة، وتجعله مستعداً لخدمة الآخرين، متفلتاً من الحاجة النفسية إلى المقابل المعنوي أو المادي، مندفعاً بعيداً عن شهوة العقل، الذي إن ترك مستقلاً، سوف يتحرك نحو محوريته الذاتية وقطبية وجوده. وحين يفك قيد طائر الروح سيحلق في ميادين البذل والإيثار ، مأخوذاً بالجذبات الجمالية ومستنيراً بالتيسير الإلهي في لحظات قتل النفس والعبور عنها إلى الآخرين.

ص: 429


1- سورة الأنعام / الآية التاسعة والسبعين.

في الواقع هناك كثير من الأخلاق الفردية والاجتماعية التي لم تدخل في المجال السماوي، وبقيت أخلاقاً فطرية أرضية، وهي تحتاج إلى شريعة تحددها وتحافظ عليها وتستكمل حدودها، وهو ما سنناقشه في المعيار التالي، وبعد ذلك تحتاج إلى العناية الإلهية، لكي لا تبقى ضعيفة التجذر وقابلة للتغير، ولكي ترقى في مستويات البذل والخروج من الذاتية لأقصى الحدود، وتتمكن من إيجاد جماعة أخلاقية نموذجية في علاقاتها الداخلية والخارجية.

رأي / شريعة:

تظهر آثار الاختزال في ميدان التشريع في دائرة معرفة الطريق الوعر بين الإنسان الآن والإنسان المكتمل، فمن وصل إلى ذاك الاكتمال لكي يرسم الطريق إليه ؟ ومن يعرف علة النقص الذاتي والكمالي في الإنسان كيما يدرك سبيل ردمها وإعفائه من آثارها؟

رتبت الرسالة الوحيانية مدارج كمال الإنسان ليصل إلى اللقاء الإلهي، من دون أن يفقد ذاتيته دفعة واحدة، فدرجة بعد أخرى، يطل هذا المخلوق الضعيف على عوالم الوجود المعنوي، في انسجام بين العقل والعاطفة والقلب والروح والجسد، ليتحضر الرجوع النفس المطمئنة إلى ربها راضية مرضية، ودون هذا الرجوع لا يتحقق السلو عن الذات الترابية الدنيوية. الشريعة يسرت هذا الطريق العسير، من خلال التوجيهات الكلية والتعليمات التفصيلية، بحيث لا ينكب العقل في الملمات على ذاته، التي هي في عين الحاجة والضعف والنقص، وفي حمأة عطشها للكمال والتكامل، ففاقد الشيء لا يعطيه، بل يأخذه من عليم بما خلق وأوجد، مطلع على دقائق حاجات الطريق ومحطاته.

بناءً على هذا، فإن مجرد التخلص من نسبية الأخلاق لا يؤول بالضرورة إلى التخلق السلوكي التكاملي، فلا بد من معرفة الطريق التفصيلي والقيم الجزئية يتسرب خطأ ومجالات انطباقها في المعترك الإنساني الفردي والجماعي، بحيث لا يتسرب

ص: 430

العقل من نافذة الرغبات والحاجات، فهذا النبي الباطني تنقصه التربية لكي تستثار دفائنه، فيكون على صراط رسمه الموجد المشرع.

صراط يحدد أوان خدمة الآخرين وشروطها وأشكالها ومكامن اختلالها ومواضع تحريمها، فليس البذل والإيثار منفصلاً عن كل شامل ومنظور كامل يجعل لكل خطوة أثراً في عالم المعنى ومراتب الوجود، ويحميها من ترك آثار تصد عن درب المعرفة المعنوية المشرقة.

من جهته، وحينما يقول كانط (اعمل حسب القاعدة التي ترغب بأن تتحول إلى قانون عام(1)(يكون قد أعطى مقود التشريع للإنسان، ولهذا مخاطر كثيرة، فحين يكون مصدر تحديد الفعل الاخلاقي هو العقل الذي يتوصل إلى معاييره من خلال تشخيص ما يرغب أو يقبل به الفرد قاعدة عامة فهذا يعني أن ليس للقانون الاخلاقي مصدر معياري سوى رغبات الفرد نفسه. حاول كانط وضع قيد لهذا التراخي من خلال قاعدة أخرى (تصرف وكأنك ترى الإنسانية كل الإنسانية وكأنها غاية وليست وسيلة)(2)فيذهب إلى الصالح الكلي العام، من دون أن يضع له معايير تحدد مكامن الضرر ومكامن الصلاح، وبذلك نعود إلى نفس الدائرة المفرغة.

النفس / الفطرة:

عنوان أخير يجدر بنا تناوله في هذا الحوار العاجل مع كانط الأخلاقي، وهو الهوية الذاتية للنفس البشرية، ما تربتها وطينتها الأصلية ؟ وكيف نصل بين تلك النشأة الروحانية التي حصلت مع النفخة الإلهية وبين قانون الأخلاق المتناسب؟

اشتغل البحث المعرفي المنقطع عن مصادر المعرفة السماوية على تحليل النفس البشرية في سلوكياتها ومشاعرها وميولها وأبعادها المختلفة، من دون أن يكون له مدخل نحو تعريف دقيق لحقيقة وجودها وسبب حياتها، ونشأتها المجردة المتعالية،

ص: 431


1- كانط، إيمانويل / أسس ميتافيزيقيا الأخلاق / ت: محمد الشنيطي / دار النهضة العربية / 2009 / ص 30.
2- كانط، إيمانويل / أسس ميتافيزيقيا الأخلاق / ت: محمد الشنيطي / دار النهضة العربية / 2009 / ص 31.

وكذلك الميثاق المودع في الفطرة، ومن هنا كان السعي لوضع أطر لتنظيم حياة الفرد النفسية والاجتماعية غارقاً في تعددية الآراء منقطعاً عن الاستناد إلى التعريف الشامل والعميق لموضوع البحث.

معرفة النفس الإنسانية طريق شاق، وإن سار من دون مقدمات أولية ذات مصدر يقيني وحياني، فإنه سيعثر بتعقيدات وظلمات كثيرة، ذلك أن المسار التكاملي التربوي المستند إلى الإرادة الحرة الذي يوصل إلى حقيقة الإنسانية، المنوط بها موقع الخلافة الإلهية الفريد، يستدعي التوازي بين مسار تكامل الإرادة ومسار تكامل المعرفة من جهة أخرى، فلا تكتسب المعرفة إلا باستحقاق، ولا استحقاق إلا بإرادة، تؤثِرُ أحد طريقين وسبيلين، أحدهما ترابي والآخر سماوي.

الطريق السماوي خفي مستتر، ينكشف لمن اقتعد بساط الخدمة الإلهية وابتدأ أول أمره بالتسليم ووصل به سيره إلى الرضا والتفويض لله في كل شيء، معرفة مشروطة مرتبطة بالعبادة، أي الخضوع للواقع الحقيقي والامتناع بإرادة حرة عن الغفلة عنه والغرق في الوهم، خضوع حددت معالمه الشريعة ونظمت سبل التوصل إليه تعاليمها وتوجيهاتها. خضوع يعيد الإنسان إلى النفخة الرحمانية والفطرة الإلهية، مطلقاً يديه من غل النشأة الدنيا وعوالق عوالم التراب المتكثرة ، هنا يعود العقل مشرقاً مؤيداً بجنود المعرفة، عقل الخليفة الخادم للخلق، عقل يقوم في مقام التوله للجميل والجمال وصفاته المودعة في الفطرة البسيطة العفوية، هو مرآة لتجلي الجميل الذي أوجده ووهبه إمكان الإرادة والحرية في الارتقاء المستحق نحو الألوهية السامية، عن طريق العبودية والخضوع للحقيقة المطلقة.

حاول كانط في طريقه نحو توطيد النزعة الاخلاقية أن يجردها من الرغبة معتبراً أن الرغبة نقيض المسؤولية وغطاءً يكتم نداء الضمير، في حين أن العمل الأخلاقي هو سبب السعادة الحقيقية، فالخليفة الخادم هو أكثر الناس سعادة وانسجاماً مع أبعاد وجوده والأكثر اختماراً في فطرته، لا بل هو الفطرة بعينها والخلق النوراني الأول الفعل المسؤول المتلازم مع فطرة الخير والحق والجمال فعل تمثل وتخلّق

ص: 432

بالاخلاق والصفات الالهية، وهو بذلك سبب للقرب الاختياري من أصل الحق والخير والجمال، ذلك الأصل المطلق الذي تمثل الحرية الحقيقية الوجودية التي تهفو اليها نفس الإنسان عنواناً للقرب منه، فالتحرر من العوالم هو الهم المركزي للبشرية، وإن كانت تعبر عنه سلوكياً بحسب غشوات الطريق والتباساته.

خاتمة:

حاول كانط استنقاذ الأخلاق من فخ النسبية والاستنسابية البراغماتية، لكنه لم ينجح في إخراجها من الذاتية، نظرياً يمكن له أن يدعي وصلاً بالأصل الأخلاقي، لكنه وصل غامض وغير دقيق، معاييره مفتوحة على كل احتمال وبذلك يغدو الاختيار مشروطاً بالأشخاص والظروف، فهنا حصل التمكين لأصل الأخلاقية، لكن النظام الأخلاقي ظل عرضة للمجهول.

المصادر والمراجع:

دجاكام، علي / الفلسفة الغربية برؤية الشهيد مطهري / ت- : أسعد الكعبي / المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية / 2016

دراز / محمد عبد الله / دستور الأخلاق في القرآن الكريم / مؤسسة الرسالة / بيروت / ط 11 /2005 .

قبيسي، هادي / الإنسان مختزلاً / الاستغراب / العدد السابع / ربيع 2017.

الصحيفة السجادية / دعاء مكارم الأخلاق.

كانط، إيمانويل / نقد العقل العملي / ت- : ناجي العونلي / جداول / 2011.

كانط، إيمانويل / أسس ميتافيزيقيا الأخلاق / ت: محمد الشنيطي / دار النهضة العربية / 2009.

ص: 433

الالتزام الأخلاقي مباحثة برغسون مع كانط

اشارة

مونيك كاستيلو Monique Castillo(1)

بادئ ذي بدء، من المستحيل عدم إثارة العقبات المنهجية التي تعترض إقامة مباحثة بين مدرسة كل من كانط وبرغسون حول طبيعة الالتزام الأخلاقي. فأولاً، لأن الفلاسفة لا يتصرفون على أنهم أساتذة في الفلسفة، فهم بالكاد لا يعلّق بعضهم على بعض ؛ وثانياً لأن مواجهة الأساليب الفلسفية الكانطية والبرغسونية ستبدأ حتماً بمعارضة الفرق بين الأخلاق العقلانية والأساس ماوراء العقلاني للأخلاق، وسرعان ما سيؤدي ذلك إلى إقفال مزدوج للنقاش على ما يُظهر أن الأخلاق الكانطية تثبت مفهوم كانط حول العقل، في حين تثبت الأخلاق البرغسونية تفوق العقل على الحدس. وفي النهاية، لأنه ينبغي منح كانط حق الرد، والذي لا يمكن أن يتم عبر

ص: 434


1- باحثة في الفلسفة الحديثة - معهد الدراسات الفلسفية - باريس. - العنوان الأصلي : Les Lobligation morale: le débat de Bergson avec Kant Monique Castillo - المصدر : 2001 n° 59. p. 439- 452. DOI 10.3917/leph.014.0439) 4/les Études philosophiques - تعريب : أسامة الريحاني . - عضو فريق الترجمة في مركز دلتا للأبحاث المعمقة - بيروت. تبحث هذه المقالة للباحثة الفرنسية مونيك كاستيلو في إمكان إجراء تناظر بين الفيلسوفين الألماني إيمانويل كانط والفرنسي هنري برغسون تدور المناظرة الافتراضية التي يسعى هذا البحث إلى تظهيرها حول منهجين متباينين يعالجان القضية الأخلاقية والتزاماتها. ففي حين نجد أن الأخلاق الكانطية تعمل على إثبات مفهوم العقل كما بينه كانط، تمضي الأخلاق البرغسونية إلى إثبات تفوق العقل على الحدس. لكن النقطة المحورية التي يتركز عليها هذا البحث هي تناول الالتزام الأخلاقي بوصفه تجربة فكرية. المحرر

تقديم حجج السلطة، التي - علاوة على ذلك - لن تكون كتلك الحجج التي ظهرت بعد وفاته. وهكذا لا يبقى إلا رأي واحد يتمثل في تصوّر هذه المناظرة بوصفها تجربة فكرية .

ولنبدأ من خلال تناول الالتزام الأخلاقي بوصفه تجربة فكرية تنطوي تحت عنوان التجربة الداخلية لتؤدي إلى ازدواجية مدروكية الالتزام الأخلاقي.

1- واجب الكينونية والتعبئة الأخلاقية

«واجب الكينونية» من الواجب - وهو تجربة إنعكاسية تدل على تصور الالتزام على أنه ضغط اجتماعي لا ينطبق على أساس الواجب لدى كانط. ولأن كلمة «ضغط»في حد ذاتها تلغي الفكر المتعلق بواجب كينونية الواجب، فإن التجربة التي يطبقها كل فرد بوصفها واجباً هي «واجب الكينونية».

وإذا كان وجود الأنا الاجتماعية ليس مقبولاً به، فإنه يُوجّه من خلال الأخلاق نحو طبيعة الروابط الاجتماعية والحقيقة التي يحافظ عليها المجتمع من خلال التوافق العام للسلوكيات الفردية مع قوانين تلك الروابط. ولكن بمجرد الاعتراف بالقوانين والعادات في هذا الدور والوظيفة، وبمجرد الإدراك بأن الالتزام الأخلاقي ليس أخلاقياً بطبيعته وإنما اجتماعي، تختفي قوته الملزمة وينتهي نظري له على أنه دافع جمالي. ولا أرى أن أحداً قد يغامر في التأكيد على أن رأيه الموضوعي أو الحيادي أو العادل ينبع من كونه يتصرف تحت تأثير ما كمراقبة الآخرين له. وعلاوة على ذلك، تظهر التجربة أن الضغط التضامني نفسه ليس ما يقودني إلى الواجب، وإنما بالأحرى يحررني منه. فإذا ما سمح الضغط لي بالحد من خياراتي وجعلها تقديماً بسيطاً، وإذا استطعت الاعتماد على تأثير «جيد» ، وهو «جيد» لأن كلاً من الأسرة والمجتمع والغريزة والطبيعة يستفيد منه، سوف أغتنمه للهروب من هذا الداخليّ المُلزِم والرسمي جداً، وهو أمر يدفعني للعمل من أجل مطلب محض، وهو العالمية». «إن السلطة المؤسسية التي تهدف إلى أن تكون للعامة تصبح «أخلاقية» حين يتولاها من يُعترف

ص: 435

به باعتباره المتلقي (...). فالسلطة الأخلاقية تقوم على الحقيقة المؤسسية من دون الخلط بينهما».

ومما لا شك فيه أن الأخلاق الاجتماعية تتمتع بدافع تضامني شديد القوة، وأنها تثير شعوراً بالولاء بلا منازع لقانون الجماعة؛ ولكن من يطيع الأخلاق العشائرية وحدها، سواء أكانت عشيرة عائلية أم وطنية، يُظهر نفسه محروماً من الإرادة الأخلاقية على وجه الخصوص ؛ وكما يظهر التحليل البرغسوني، فهو لا يتصرّف إلا بحسب غريزته بطريقة تحت عقلانية. وإن دائرة التضامن، بحسب برغسون، لا يمكن تجاوزها في أثناء التوجه نحو العالمية، مما يرسم في الوقت نفسه حدود المفهوم البراغماتي للالتزام الأخلاقي.

كما يجب توخي الحذر من السمعة، إذ يبدو أن تقبل الشارع الفرنسي المفاهيم الكانتونية لم يكن سوى فهم كانط بوصفه فيلسوفاً المحرمات على المستوى النظري (مع الحدود المدرجة في الجماليات المتعالية) والعملي. ولكن لا يمكن نسيان أن كانط يعارض المفهوم الذي يعدّه الفلاسفة أنفسهم «واجباً»، تماماً كما سيعارضه برغسون بدوره ولو اختلفت أسبابهما، وذلك حين يقللان من شأن الواجب وينحدران به إلى عده مجرد طاعة وضغط خارجي، حتى لو كان هذا الضغط الخارجي نابعاً من الداخل. ولذلك يجب أن نحذر من القوة التثبيتية للكلمات، فإذا كنا نفكر في «الواجب» بدلا من «واجب الكينونية» وفي «القانون» بدلاً من «القانون الكوني»، فإن الإلزام الأخلاقي الكانطي لا يزداد قرباً من الأخلاق الاجتماعية، بل يصبح بغيضاً لا يطاق، إذ يتألف من القول إن واجبي هو عبارة عن طاعتي للقانون، وهي الصيغة التي قد تُنسَب لإيخمان ولكنها ليست لكانط .

ومن ناحية أخرى، يبرهن العقل الواقعي بما لا يقبل الجدل أن أعرف منذ البداية أنّ ما يأمرني لا يؤثر في، لأني بنفسي أحوّل الواجب إلى أمر. وقد تكون صيغة شيلر الساخرة متطرفة («أن تفعل على مضض ما يأمرك به الواجب»)ولكنها تحمل جانباً من الحقيقة، وهي أن الإرادة الأخلاقية ليست طبيعية ولا يمكنها حتى تقليد الطبيعة.

ص: 436

ویری كانط أن الالتزام الأخلاقي يشهد على تفكك الحياة البيولوجية في الحياة المميزة للأنواع البشرية بشكل خارج عن السيطرة، وأن الانقسام بين الوجود وواجب الكينونية ينبغي أن يجعل من المستحيل انغلاق الذات على نفسها إلا لممارسة «سوء النية» التي تحدّث عنها سارتر ، فيجعل من الفرد نوعاً من المجتمع المفتوح، ويتجلى ذلك في سيادة حق البشرية على حق الإنسان كما أكدها كانط .

ومن أجل إضافة وسائل التفكير العقلاني إلى هذه التجربة الفكرية، ينبغي علينا أن ندرك أن التفسير الإجتماعي حصراً للأخلاق يقع في مأزق لا مفر منه. وإذا بدا الالتزام بشكل ضروري وطبيعي كأنه عمل مجتمع منغلق، فإن جميع الأخلاق الاجتماعية الخاصة لها ما يسوّغها . كما أن أكثر الخصوصيات المجتمعية الوحشية واللاإنسانية لها في حد ذاتها شرعيتها غير القابلة للنقد، حتى إن احترام انغلاق الأخلاق يتعارض حتماً مع مبدأ الإخاء البشري.

2- من الواجب إلى الحب.

يثير هذا هذا العنوان تجربة فكرية أخرى مع برغسون، مفادها أن الحب تجاوز

الواجب، وهكذا يتجاوز الدافع الالتزام المتعلق به والذي يصبح صميم الأخلاق، وتصبح التجربة الأخلاقية كلها «تعبئة» كاملة. وإن أي تمثيل للواجب لا يكفي في حد ذاته لإنتاج قوة الدافع ، بل هو بمنزلة الحركة التي هي العاطفة، ومصدر هذه التعبئة هو أبعد من أن تتحكم به الظروف لأنه ينبع من الدافع الفريد والأصلي الذي يعيد خلق الحياة كحياة، أي كاندفاع وإن تحليل برغسون الالتزام بوصفه دفعة وجذباً وطموحاً يمارس في حد ذاته قوة أخلاقية تساعد على فهم أن الدافع بنفسه هو حركة لا تنفصل عن العمل، بل هو العمل. وهذه هي تجربة الصوفي الذي يختبر مباشرة في عمله محبة الله للمخلوق التي تحتضن الإنسانية العالمية، وهي تجربة من دونها سيتحول الحب الذي يتظاهر المرء به نحو الإنسانية العالمية إلى حب فارغ أو مستعار . ولهذا فإن محتوى الالتزام تعبوي وليس صيغته كذلك، وهذا يتطابق مع المطواعية القصوى للطاقة الحيوية للديناميات النقية التي لا تشترط حتى إعمال العقل.

ص: 437

تظهر التجربة أنني ربما لا أستطيع الإيعاز بهذا التجديد، أو تجربة هذه التعبئة أو إلهامها، غير أني أفهم وأتلقى وأقبل كدليل واضح على هذه الأولوية المطلقة للدافع وراء التمثيل، ولذلك يمكن أن نفهم أن ما يتجاوز العقل ليس بلاعقلاني. ومن دون الرجوع إلى مفهوم الحافز لدى كانط أو بالاشتباه بالشذوذ النفسي لدى برغسون، قد يقدم ذلك شرحاً إيجابياً لهذا المُدرَك في التجربة الصوفية على حد تعبير برغسون. وقد مازت المسيحية، جوهر التصوف الكامل، التكوين التاريخي لإنسانيتي على المستوى الأخلاقي، ولأنسنتي على المستوى النفسي. فحين أفهم التجربة الصوفية بوصفها تجربة ما وراء عقلانية، ربما يكون هذا التكوين الاجتماعي والثقافي بمنزلة تتابع بديهي للمُدرَك الذي قدمه برغسون للحياة النفسية كمسألة روحية، متروحنة في كل حال. وربما تكون هذه طريقة أخرى لإدارة فكرة واجب الكينونية في المسيحية؛ فالحماسة المتطرفة للعقائد والطقوس ستكون مشبوهة و«باثولوجيا» بالمعنى الواسع الذي يستخدمه كانط لهذا المصطلح ، إذ يعزو إلى علم الميكانيك العاطفة المتكيفة التي تستنسخ تكييفها الخاص. ولا يكون الحال نفسه عندما تركز الحماسة على الإلهام أو الحدس الخلاق في المسيحية، إذ لن يكون مناسباً أن ننكر على الدين ما يمنحه الجميع على مضض للفن والأدب والشعر، أي الحدس الخلاق للعبقرية الذي يخلق أو يعيد خلق قدرة الخلق لدى كل شخص.

ولذلك، علينا أن نعترف بأهلية اختبار مُدرَكَين للالتزام وليس مُدرَكاً واحداً، إذ تحدد تجربة الالتزام عند برغسون خليطاً بين الباعث والقيود: إذ يبقى في القيد شيء من الباعث ما فوق إنساني لا يكون الالتزام من دونه سوى فعل مجتمع من النمل الأبيض وليس مجتمعاً إنسانياً. أما كانط فيرى أنه إن لم يُؤكِّد الامتثال للواجب أن احترام الواجب لا يمكن قياسه بأي امتثالية اجتماعية، أي بالمصلحة العملية لكل مجتمع على حدة، فسيكون من المستحيل الاعتراف بوجود ما يسميه يسميه «التصرف في الشخصية «، وهي تقديم كوني لدى كل منهما.

ومن دون هذا الفهم الأخلاقي الأدنى لمفهوم كل منهما حول الأخلاق، فإنه

ص: 438

ببساطة لن يكون من الممكن قراءة هذين الفيلسوفين، ولا يبقى إلا أن نذكر أسباب الاهتمام الذي قد يكون مشتركاً في كلتا القراءتين، وهو أمر يبدو لي أنه بسبب النطاق الكوني الذي يعزوه كل منهما إلى أساس الالتزام الأخلاقي. وفي كلتا الحالتين، يذهب التحليل إلى ما هو أبعد من مسألة الذاتية الأخلاقية التي لا تكون مسؤولة إلا عن ضمان مشروعية السلوك ومطابقته البسيطة مع القوانين والعادات المعمول بها، وهو يشمل مصير الجنس البشري والالتزام الأخلاقي حول المصير ومستقبل البشرية على أنها مسألة مفتوحة، وذلك بحسب كل من كانط وبرغسون. ويرى كل منهما أن التغلب على مجتمعات معينة كالدول التي تشن الحرب بضرورة طبيعية أو اجتماعية، يقودها نفس الإلهام: وهو واقع الإنسانية العالمية التي يطلق عليها برغسون «الإخاء البشري» ويسميها كانط «الوجهة الأخلاقية البشرية». وهكذا تجعل الأخلاق كل واحد منهما فيلسوفاً كونياً بحسب لغة كانط التي قد تكون موضع تساؤل. فماذا يعنيه أن تكون أستاذاً في علم الأخلاق أو فيلسوفاً أخلاقياً حين ينبغي على الالتزام أن يلتفت إلى وجود البشر بوصفها مخلوقات حية ؟

II. من الالتزام الأخلاقي إلى الجنس البشري

(1) البعد الكوني للمسألة الأخلاقية. أثار كل من المفكرين تشبيهاً خارجياً وموجزاً يجعل من الممكن تحديد النطاق الجديد لهذا الاستكشاف. ففيما يتعلق بكانط، يبدو من خلال علم العمارة النقدية للعقل الخالص، وكذلك في العلوم الطبيعية، أنّ الفيلسوف الذي يُعرف بأنه «مُشرِّع العقل» هو الذي يعطي صيغة القانون العالمي للأخلاقيات ومن ناحية أخرى، تعتزم المدرسة البرغسونية إطالة أمد العلوم المادية بوساطة علم الذهن الذي يؤدي إلى صياغة قانون للتطور يجعل الطاقة الصوفية أصل التحولات الأخلاقية العظيمة للبشرية. إنها مسألة إدراج الأخلاق في نسيج الواقع الكوني. وفي كلتا الحالتين، تظهر إرادة قمع الأوهام التي تقود الميتافيزيقيا نحو مشكلات لا حلول لها، والاهتمام بإشراك الميتافيزيقيا في مسار تقدم المعارف. وإنّ كلاً من الفيلسوفين مدرك لعلوم زمانه، وطلب الحصول

ص: 439

على العلمية التي توقعها كلاهما من الفلسفة لا تتكون عند محاكاة أسلوب العلوم الطبيعية، ولكن في جلب نوع من المعرفة ذي طبيعة ميتافيزيقية، كتلك التي لم تصورها أو تضعها الفيزياء أو الفيزيائيون.

وهكذا، فإن الصيغة التي يفقد الإنسان فطرته بسببها وتستخدم في كثير من الأحيان بطريقة بلاغية وسطحية، تفقد كل الفرضية بمجرد أنها تشترك في الأنطولوجيا الحقيقية المستقبل البشرية، حيث تأمر بقراءة الحقيقة البيولوجية على أنها حقيقة ميتافيزيقية، كطبيعة تعدّ حياة الإنسان للغايات التي تتجاوز إمكانيتها حدود الطبيعة والفكر، وتذهب أبعد مما أرادت لها الطبيعة»، وهي الظاهرة التي عبر عنها كانط باللغة اللاهوتية ب- «الخطيئة الأصلية» في كتاب «تخمينات حول بداية التاريخ البشري».

كما أن تناول الأخلاق كالبيولوجيا المتجسدة» أو كحقيقة بيولوجية ميتافيزيقية يجعل من الممكن مقارنة ما هو قابل للمقارنة لدى كل من المؤلفين في كتاب كانط «نقد ملكة الحكم وكتاب برغسون منبعا الأخلاق والدين». وهنا تعد الدقة ضرورية فلا مجال لوضع الفلسفيتين على المنوال نفسه لأن ذلك سيكون عبثياً وسيؤدي إلى خيانة كل منهما، بل يتعلق الأمر بمدى افتراض كل منهما على طريقته حقيقة أنه ينبغي على البشرية أن توجد كأنواع عبر اعتماد طريقة تحدد اللحظة التي تتباعد فيها إجابات كانط وبرغسون بشكل جذري ويثير كانط مسألة السبب وراء وجود البشرية كأجناس على الشكل الآتي: لماذا يجب على الإنسان أن يكون؟» بينما يثيره برغسون كما يأتي: «كيف للبشرية أن تتحرر من ضرورة كونها نوعاً؟» إنه سؤال مبالغ فيه وخارج عن موضوع البحث من وجهة نظر الإدراك أو الذكاء، ولكنه من جهة أخرى يحمل عدداً من المعاني فيما يتعلق بالجواب الوحيد الذي يفضي إليه الجنس البشري، وهو نفسه في كلا السؤالين: إن وجود البشرية بوصفه نوعاً لا يمكن فهمه إلا كسبب لوجود الخلق.

وبين السؤال والجواب، تجدر الإشارة إلى الملاحظة نفسها، وهي أن الجنس البشري لديه سمة وجوب أن يقوم بنفسه بكل ما يمكن أن يكون، ويجب أن يرسم

ص: 440

وحده مستقبلاً لنفسه ويعيش المستقبل الذي رسمه فقط. إن التأكيد على إمكانية أن يكون أصله البيولوجي نتيجة القضاء على «التحالف القديم بين الإنسان وبقية الخلق» هو استنتاج محتمل، لكن يمكن الحكم عليها بشكل نظري أو فكري خالص في إطار المدرسة الكانطية والبرغسونية. ويتبنى جاك مونود هذا الاستنتاج باسم علم الوراثة على أنه تطرف مسوّغ لوجهة نظر نيتشه حول «موت الله»، إذ يحكم على أن الجنس البشري ينتج من حادث في الكون، وأن الكون، لا يعطي أي معنى لوجوده، ويخلص إلى أن الإنسان - الذي صار إنساناً عن طريق الصدفة - ليس له ما يسوغه في تقويض وجوده الخاص أو حريته الخاصة؛ ومن ثمَّ، يجب ألا يعد التدين اليهودي المسيحي والحقوق الطبيعية للإنسان ومسألة التقدمية والتاريخية من الأساطير القديمة التي تتعارض مع تطور العلم. يكمن الخطر في هذا المجال بالاستعاضة عن نتيجة الاستجواب واستبدال مشكلة إيديولوجية بمشكلة ميتافيزيقية؛ إذ يعتقد كانط، كما برغسون، أن الأمر لا يتعلق بإحياء أي «تحالف قديم» بين الجنس البشري والمخلوقات الأخرى، بل هو لإظهار أن البشرية يجب أن تخلق بنفسها مغزى علاقتها بالعالم كشرط لوجودها، وهو الوجود الصيروري. ومن ناحية أخرى، لا يمكن أن ننسى أن نيتشه قد تحقق في علم الأخلاق لأن الجنس البشري لا يمكن إلا أن يقدم استجابة أخلاقية لمسألة «القيمة» من وجوده الوقائعي (وهي صياغة نيتشه مسألة المعنى)، وهو الرد الذي يختار الأخلاق ما فوق إنسانية على الأخلاق الإنسانية للغاية.

2) أفق العدالة - يعود بنا هذا الإعتبار إلى برغسون بدلاً من إبعادنا عنه، فلا تتمثل الوظيفة الوحيدة للالتزام الأخلاقي في الواقع في إدامة الأنواع الحية في مرحلة البقاء والتسويات التكيفية مع الواقع المادي. بل يلعب الالتزام - الذي هو مجرد طابع اجتماعي - دور الغريزة، وهو جزء من التوازنات التي تسودها الطبيعة. وهو لا يمثل مع ذلك سوى طريقة واحدة من الحياة، في حين أن جنسنا البشري يعيش في الحياة الحقيقية فقط داخل عمليات التحول والتوقفات والتجدد الأخلاقي.

يرى كانط أن الإنسانية - بعد أن فقدت الغريزة - تضطر إلى العمل وفق ما يمثل

ص: 441

القوانين وليس وفق القوانين نفسها؛ فقد كان هناك فصل بين الوجود وواجب الكينونية منذ نشأة أنواعنا الحية، وتوجب على هذا الفصل اختراع وسائل لوجوده، التي أصبحت في ما بعد وسائل صيرورته. فتمثل القيد الأول الذي يفرض الحياة بوصفه شرطاً جماعياً للبقاء بكل من الوجود الاجتماعي وبقاء المجتمعات من خلال الوحدة القسرية بين أعضائها. وإذا اعتمدنا صيغة تناسب كانط وبرغسون معاً، نخلص إلى أن هذا ما «أرادته الطبيعة» لأنواعنا الحية، حيث ترى المدرسة الكانطية أنه أن أوان شرعنة غريزة الانضباط وفقاً لكتاب منبعا الأخلاق والدين.

في النسخة الكانطية، إذا وضعنا أنفسنا مكان الطبيعة في محاولة منا لفهم عملها من خلال حكم انعكاسي، نرى أن الطبيعة لا تريد للمجتمعات الانغلاق على نفسها، لأن ذلك ليس فيه أعلى درجات العدالة المنظمة. بل إن الانغلاق الذاتي للدول هو ما ينتج الحروب، ومعها تنقيحات جيوسياسية مستمرة. ومن ثم، فإن الإنسانية - التي تفهم بمعنى التجربة الطبيعية للجنس البشري - لا يمكن إدراكها إلا بوصفها تاريخاً، وهو تاريخ يتراوح بين الانغلاق والانفتاح وبين الاجتماعية والإنسانية العالمية، وبين القيود والعدالة؛ ويُعبر عن أفق هذا التحول بوصفه المثل الأعلى، المثل الأعلى السياسي الكوني لدى كانط . ويجيب المثل الأعلى الديموقراطي على السؤال الاجتماعي للعدالة كونه يجمع بين المواطنة والإخاء لدى برغسون، الذي يعتمدأحد تعبيرات كانط التاريخية الجديرة بالذكر عندما يقول: «الديمقراطية هی ذات جوهر إنجيلي وتمتلك محرك الحب. وهكذا نكتشف الأصول العاطفية في روح روسو، والمبادئ الفلسفية في عمل كانط، والخلفية الدينية في كانط وروسو معاً.»

ونتساءل ما يعنيه أن يكون أخلاقياً من وجهة نظر تاريخ الجنس البشري؛ إذ من الممكن المضي قدما في فكرة أن توقع المستقبل يشكل جزءاً مهماً من عمل الفيلسوف الأخلاقي، فكما قال برغسون: «لا متعة فوق متعة المحبة... حياتنا ستصبح أكثر خطورة وأكثر بساطة»؛ وكما قال كانط: «في التجليات الظاهرية لما هو صحيح أخلاقياً

في الجنس البشري، يمكن تقييم ما انتفع به من ثقافته في الطريق الأفضل».

ص: 442

تبنى كانط بتردد دور النبي، وتراه يُفضّل التاريخ النبوي على التاريخ الكهاني العرافي للبشرية الذي يمكنه الكشف عن علامات المستقبل في الوقت الحاضر . ويبدو من ناحية أخرى، أن صورة النبي تناسب هؤلاء المجددين والمحوّلين في الإنسانية الأخلاقية الذين يعبر عنهم برغسون بالأبطال والقديسين.

لم يكن استخدام مصطلح «النبي» اعتباطياً، فقد عرف المفكر ماكس ويبر كيفية إصلاح الفكرة القائلة بأن خيبة الأمل في العالم تسير جنباً إلى جنب مع اختفاء شخصية النبي الذي يستبدل بفكرة السيطرة على العالم العقلانية الهادفة؛ كما أن التنبؤ يحل محل الأنبياء. ولكن من المؤكد أن هذا الرأي الأحادي حول إحكام القبضة على الآلات يتعارض مع الفصل الأخير من كتاب «منبعا الأخلاق والدين»، والذي ينتهي بالعبارة الشهيرة: تصور العالم بأنه «آلة لصنع الآلهة» وهي صيغة سحرية ولكنها لا تزال غير مفهومة خارج إطار المُدرَك الصوفي للأخلاق وللالتزام وللحياة بذاتها.

ما بعد العدالة

العقلانية

1) الاختلاف الميتافيزيقي بين كانط وبرغسون. في هذا المستوى، لم يعد مفهوما الالتزام الأخلاقي واضحين إلا من خلال فروقهما، وبما أن التصوف هو أصل التحولات الأخلاقية العظيمة للبشرية، فإن الأسباب التي وضعتها مدرسة برغسون لكسر الأساس المنطقي للالتزام تصبح واضحة تماماً، إذ ينفصل الذكاء عن ليصبح المُدرَك الصوفي للخَلق الأخلاقي غير قابل للقياس مع عقلانية العمل : «مما رأيناه في الطابع العقلاني للسلوك الأخلاقي، لن تكون القاعدة بأنّ أصل الأخلاق هو العقل». بل يجب أن يتحلى بخبرة معينة من الفكر العلمي، وهي الحدس، بحيث تكون هذه المعقولية منيرة للعقل بدلاً من أن تتجاوزه، كفعل الحدس الذي لا يمكن اختزاله بقناعة بسيطة أو اعتقاد بسيط. فعلى سبيل المثال، إنّ افتراض أن يختار برغسون - بقناعة شخصية - تفوق الأخلاق الصوفية، هو اقتراح لا يعقلن مفهوم أصل الأخلاق، بل يقضي على مجال الوصول إليه. ولما كان برغسون يتحدث بصفة الفيلسوف من أجل أن يُفهم على هذا النحو، ينبغي رفع مستوى الفلسفة بتجربة

ص: 443

ميتافيزيقية، تتمثل بالقدرة على التوجه إلى ما هو أبعد من مجال التمثيلات «في صميم كلّ من الحساسية والعقل».

الالتزام الأخلاقي: مباحثة برغسون مع كانط

تُعدُّ هذه التجربة الأخلاقية طاقة حيوية إبداعية خالصة، تُشكل في حد ذاتها دليلاً تجريبياً على أن الإنسان يتخطى الإنسان. وهي تجربة لا يمكن للبشرية أن تخوضها وفقاً للتزمين الذي وضعه كانط للأمل في استمرار التقدم نحو الأفضل، بل فقط من خلال استعادة الطاقة الإبداعية الخاصة بها. ومن دون استنفار هذا التجدد - الذي يرجع إلى أصل القوة المرنة والروحية للحياة بوصفها طاقة - فإن التطور سيكون مجرد كلمة فارغة أو طريقة فكرية للتخاطب .

ولذلك، من الضروري إلغاء أي مسافة بين الوجود وواجب الكينونة في أصل إعادة خلق الطاقة المعنوية؛ وبخلاف ذلك، لن تنشئ الأخلاق الالتزامات بل ستنميها. ويتجلى تجاوز واجب الكينونة هذا في صيغة ذكرها كتاب «منبعا الأخلاق والدين» فيما يأتي: «فينا: نداء الأبطال: لن نتبعه ولكننا سنشعر بأنه علينا فعل ذلك، وسوف نعرف لذلك الطريق التي ستتسع إذا ما مررنا بها. وفي الوقت نفسه سيتضح غموض الالتزام الأعلى لكل الفلسفة: فقد بدأت الرحلة وكان من الضروري إيقافها؛ وباستئناف مسارهم، هم یریدون فقط ما أرادوه بالفعل».

تلغي الصوفية الغموض بشكل كامل، حيث تقتل كل مسافة بين الدافع والحركة، حتى مسافة الجذب، وتلغي المسافة بين الرموز والأشياء في وحدة تسبق كل الانقسام، كما تتغلب على الواجب، القوة التعبوية للدافع التي عرفها برغسون بطاقة الحب، أي تجربة الحب التي تكشف عن الخلق على أنه مؤسسة لله «لخلق المبدعين». وإن استبدال الخلاقين بالمخلوقات هو خير مترجم للطاقة التي هي لیست سوی روح،وهي القوة التي تعمل فقط.

من هنا، ينتقل الدافع عبر التعبئة التي يحدثها في الآخرين من خلال الطموح

ص: 444

والانجذاب، وينمو الالتزام على أنه مشاركة بعاطفة خلاقة ليشعر كل واحد مرة أخرى أنه من خلق المذاهب والمثل التي تسكن فيه. إنها ليست الفكرة التي تلهم، بل إنه الإلهام من يوحي بالفكرة.

وهكذا يظهر التباين مع كانط بشكل واضح، حيث تجاوز برغسون حدود الفهم الفئوية والحساسة، وتجاوز الحدسُ الذكاء والعاطفة الخلاقة العقل. واستعاد برغسون الاستخدام الكامل للميتافيزيقا إلى حد ما، إذ يمكن للمرء أن ينتقل من الكينونية إلى التعرُّف، ومن الامتناع عن التجزؤ إلى التجزؤ، ومن اللانهائية إلى المحدودية. كما أن الأخلاق تستمد أصلها من الامتناع الأصلي عن التجزؤ، والذي نجده في الحب الباطني للبشرية الذي يعبر عنه برغسون - إرادياً أو لا إرادياً - باللغة الكانطية عبر جعله «الجذر المشترك للحساسية والعقل». وهذا الجذر المشترك يلغي إشكال شكلانية المدرسة الكانطية، لأنه يتم إلغاء المسافة بين الوجود وتجلياته حين يغادر المرء الزمن ليضع نفسه في الديمومية. وهناك صيغة مذهلة للتعبير عن هذه الوحدة المطلقة للنشاط الخالص كالآتي: «ليس هناك مسافة بين الله ومحبة الله، ولا شك فی أن برغسون يظهر الحدود النظرية الكانطية من خلال اعتماد الممارسة الفلسفية نفسها.

2) علم الجمال والميتافيزيقا لدى كانط . ومع ذلك، على الرغم من الاختلافات الميتافيزيقية الأصولية، لا تعد هذه الفلسفات غير متكافئة في ما بينها، بل من الممكن مقارنة أهدافها الأخلاقية إذا تبنى المرء لغة كانط حول الفن والدين.

إنها الحدود النظرية الكانطية التي خرقتها ميتافيزيقيا برغسون فمن جهة، يرى كانط أن الأخلاق هي التي تمكنه من التقدم في ما هو أبعد من المعقول، وهذه هي الحال الحرية التي - وفقاً للنقد الثالث - «يمكن أن تذهب بالعقل إلى ما وراء الحدود حيثما يبقى كل مفهوم (نظري) حول الطبيعة منغلقاً دونما أمل». وتُفسّر الأخلاق الفاعلين الأخلاقيين على أنهم بدايات محضة لا سابق لها، تبني ممكلة من الإرادة الخالصة التي هي الأصل غير الطبيعي لآثارها في العالم. ومن ثم يمكن

ص: 445

تحدید دستور قانوني كامل بين الناس بوساطة الفكرة نفسها، حتى يستبدل بالعلاقات الحرة المحض الروابط الطبيعية للعنف، وفقاً للاستنتاج الذي توصل إليه ملحق عقيدة القانون.

ومع ذلك، لا يمكنني أن أعرف ما ينتج من الحدود النظرية للفلسفة - والذي أستطيع التفكير به وفهمه والرغبة فيه - في صيغة حددتها التجربة الطبيعية؛ ويعود ذلك إلى أن الحساسية لا متقايسة في مدى اتساع الفكرة، وبهذا تقف الوسائل المحسوسة للعقلانية مقصرة أمام الوضوح المتكامل للعالم.

يفترض الالتزام الأخلاقي لتحققه هذا المدرك العالمي الذي يتجاوز التعقل الممكن من الناحية الفئوية: إن الافتراض من السيادة الجيدة الأصلية - لإله هو الخالق الأخلاقي للعالم - قيام وحدة الخلق التي تلغي كل المسافة بين السبب والنتيجة، وبين الوجود وسبب وجوده، وبين المحسوس والمعنى. ولا تتمثل هذه الوحدة للمحسوس والمعنى إلا في حدود صلاحيات التمثيل: كما النموذج الأصلي، بوصفه إدراكاً نموذجياً، وهو نفسه في الممارسة العملية: ومفادها أن الإرادة المقدسة، التي تلغى فيها المسافة بين الوجود وواجب الكينونة، وبين الواجب والإرادة، لا يمكن إلا أن تكون نموذجاً أصلياً للإرادة البشرية، حتى إنّ الالتزام الأخلاقي سيعيش حالة من التوتر والتجاوز المستمر، وهذا ما عرفه ألكسيس فيلونينكو بالأخلاق البطولية، أي البطولة التي لا يمكنها إلا أن تميل نحو القداسة.

والسبب هو أنه لا يمكن عقلنة الحساسية بالكامل أو تحويلها إلى نشاط محض، إذ يبقى عمقها باثولوجياً أي سلبياً، ويُعبر علم اللاهوت لدى كانط بقوله إن الخطيئة الأصلية تبقى، عند الجميع، بمنزلة الانغلاق الذاتي للأنانية.

هذا لا يعني أنه لا مكان للتطلع والإلهام، ذلك لأن المسافة بين العفوية والسلبية تصنع التطلع إلى ما لا نهاية، إلى ما هو غير مشروط . وببساطة فإن الأمر لا يتعلق بالأخلاق، بل بالجزء الجمالي من الفلسفة التي يتعامل فيها كانط مع التغلب

ص: 446

المحتمل للحساسية على نفسها. ويظهر في شعور الجمال والجلال تجاوز للقيود المنطقية للعقلانية، وقد فسّر النقد الأول مفهوم «القوة الأساسية» المطبقة على الروح بوصفها فكرة الجذر المشترك للفهم والحساسية، وهو التغلب على عدم التجانس في القدرات وهذه الوحدة، التي لا تعرفها وسائل الذكاء، هي التي ترجعنا إليها العداوات لأنها «تجبرنا ، ضد إرادتنا ، على النظر إلى ما وراء المحسوس والبحث فيما فوق المحسوس عن نقطة التقارب لكل مقدراتنا الأولية». كما تُشعرنا تجربة الجلال، من ناحية أخرى، بالتطلع إلى وحدة تسعى فيها قوة الحساسية إلى أن تصبح متطابقة مع العقل؛ وهكذا تتحوّل الحاجة إلى افتراض مُدرَك أساسي للواقع المحسوس - لوضع اللانهائية في أساس المحدود - لتصبح واضحة من الناحية الجمالية. ويستخدم الخيال - الذي يرغب في توسيع قدرته بشكل مفرط إلى حدود تمثيل العموم المطلق للطبيعة بوصفها مقياسه الواقعي والحقيقي - مقياس الحجم هذا ليوجه «مفهوم الطبيعة نحو الأساس ما فوق المحسوس (التي توجد في أساسها تماماً كما هي قدرتنا على التفكير)»؛ فقد أعطى الفن للعبقرية مكانة القدرة الخلاقة القادرة على خلق طبائع أخرى وغيرها من التجارب المحتملة الظاهرية، التي هی

مزيج من الإحساس والمعنى.

ومع ذلك، بقدر ما يذهب النشاط الإبداعي والإلهام المُبتكر في تجلياتهما، فإنهما لن يحلاً محل الالتزام الأخلاقي، بل يُحضرانه فقط عبر نوع من التعليم الجمالي للحساسية، وهو تشكيل لا يذهب إلى حد التحول أو التجلي، حيث تحافظ الكانطية على تجزئة ما توحده البرغسونية، لأن الحساسية في رأي برغسون قد تكون أخلاقية في حد ذاتها، تماماً كما هي الحال في الحب.

ومن هذا المنطلق، قد تظهر عددا من التطورات والتعليقات المرتبطة بمكانة الحساسية في الأخلاق وفي الدين، فضلاً عن إمكان التعليم الأخلاقي للحساسية. وسننظر ختاماً في إحداها من خلال دراسة رمز التصوف في حدود العقل العملي، وسنسأل ما إذا كان يمكن أن تعمل خلاف ذلك بالنسبة لنا كنموذج أولي

ص: 447

IV)التصوف والأخلاق

1) لكي يتم تقديم مسألة الإلهام الصوفي لدى كانط على برغسون، ينبغي توخي الدقة في اعتماد المفردات. ففي اللغة الدقيقة ، يشير مصطلح «التصوف» إلى الباثولوجيا التي تتكوّن من تلقي العقائد من أجل جذور الإيمان. إن الخلط بين الواقع التاريخي للعقيدة وحيازة المعرفة المتتالية يجعل ما هو صوفي متطرّف: فالمغالي يحكم ويدين زملاءه بدل الله كما لو كان هو الله. ولكن يمكن مقارنة مفهوم برغسون حول التصوف،مع ما يلزم من تبديل، مع ما يسميه كانط «الإيمان الحي» أو «الإيمان المقدس»، وهو جوهر أخلاقي بالمعنى الذي يرتبط فيه، في حد ذاته، بفكرة من العقل الأخلاقي في المقياس الذي لا يخدم فقط على أنه قاعدة سلوك وإنما أيضاً على أنه باعث». وينبغي التأكيد على مصطلح» الباعث» لأنه يتجاوز الصفة الرسمية للالتزام الأخلاقي باعتباره قاعدة سلوك. ويستند هذا الإيمان إلى» نموذج البشرية الأولي المقبول لدى الله (ابن الله)» حول «الإنسان - الإله»، وهو ما يمكن ترجمته كالآتي: لم تكن تاريخية يسوع هي التي غذت الإيمان بنقائه وخلقه وحياته، بل هو إلهام عظة الجبل من فعل ذلك.

إن التمييز بين الإيمان الحي والهذيان الشعائري أمر بالغ الأهمية من أجل التفريق بين الإيمان الأخلاقي والإيمان العبودي. وهكذا فإن الموافقة التي أعطيت للنموذج الأصيل للإنسان - الإله تفصل الإيمان الحقيقي على الصوفية المزيفة والمتصوفين المزيفين، من أولئك الذين يستخدمون الأخلاق والإيمان ليفرضوا على الحساسية المحتوى المحدد للمعتقد. فالإيمان العبودي هو الذي يقبل تأثير أولئك الذين يدعون أنهم يتناسبون مع «الجذر المشترك» للحساسية والمعنى. ومع استمرار النموذج القديم، لا يمكن تمثيل الوحدة - الكلية البشرية إلا كقدوة مثلى للكمال،

التي تبقى على هذا النحو خارج أي مطابقات وأي احتجاز سياسي أو ديني.

2) الصوفية والأسطورة. يرى برغسون أنه طالما بقي المرء في الصوفية الإنجيلية، لا يُحدث تجاوز الميتافيزيقيا للأخلاق مشكلة إذا كانت ميتافيزيقيا الخلق الذاتي؛ فننتقل من الدين إلى مصدره ويمكننا قراءة المدرسة البرغسونية حول ذلك بصفتها «فلسفة المسيحية».

ص: 448

ولكن تزداد صعوبة التفسير عندما يتعلق الأمر بالإلهام الصوفي لدى البطل «المتصوّف العبقري» الذي سيقود البشرية خلفه لرغبته في جعلها «نوعاً جديداً» محرراً «من ضرورة كونها نوعاً». فهل إن البطل زعيم كاريزماتي؟ يؤكد هنري غوهييه أن «المتصوف الصادق هو أيضاً المتصوف الحقيقي». وهكذا، لا نجد صعوبة في الاعتراف بهذه الحقيقة حين يتعلق الأمر بالقديسين، لأنهم يجددون النموذج الأصيل ويعيدون إنعاشه: «الصوفيون العظماء»، يكتب برغسون، «هم المقلدون والمتممون الأصليون - ولكن غير الكاملين - وأتباع مسيح الأناجيل الحقيقيون»؛ غير أنّ تبديل رمز المتصوف في المجال الاجتماعي والسياسي يثير عدداً من الأسئلة.

ونحن نعلم، كما يشير برغسون، أن هناك صوفية مزيفة، كالإمبريالية، وهي العملة المزيفة للتصوّف. وإذا كانت الصيغة التي تقضي بأن «غريزة معينة تقودهم (للمتصوفين) إلى الإنسان الذي سيوجههم بالطريقة التي يريدون السير وفقها» تنطبق على مجال الروحانية الدينية، فلا يخلو الأمر من استحضار خطر التعصب الذي يتسم به التصوّف بالمعنى الكانطي ونقله إلى المجال السياسي. ألا ينبغي لنا أن نفصل التصوف والسياسة خوفاً من الخلط بينهما ؟ «حين يرى المرء ما فعله رجال الدين عموماً بالقديسين، كيف له أن يفاجأ بحقيقة ما فعله البرلمانيون بالأبطال؟ حين نرى ما فعله الرجعيون بالقداسة، كيف لنا أن نندهش مما فعله الثوار بالأبطال؟»من هذه الملاحظة يستنتج بيغوي العبرة الآتية: «إن الشيء الأساسي يكمن في أن السياسة لا تلتهم التصوّف الذي أحدثها في أي نظام حكم ونظام سياسي».

ولما كانت الديمقراطية، كما يعتبرها برغسون، تتمتع بجوهر إنجيلي، كونها أبعد ما يكون عن الطبيعة بجميع المفاهيم السياسية، يمكن أن نتفق مع المعنى الذي تضيف فيه دافع الرابط الأخوي إلى الحق في المواطنة. فهل هذا يعني وجوب اعتبار شخصية سانجیست، على سبيل المثال، شخصية صوفية لأنه المحرض على التصوف الجمهوري بمعنى علم الأسطورة الجمهوري؟ وبهذا نطلق على مصطلح «الصوفي» معنى واسعاً يشمل الخرافة والوظيفة الخرافية، كما تقترحه مادلين بارثيليميمادول

ص: 449

مع الأخذ بعين الاعتبار «الديمومة والاندفاع الحيوي والصوفي العظيم الذي سيوفر على البشرية الكثير من الخرافات المشحونة بشعور لا ينضب».

من أجل التعبير بما يخالف مشكلة التفسير التي يحدثها التصوف في السياسة، يمكن القول إن الخط الفاصل بين التصوف والتضليل، إذا كان واضحاً من وجهة نظر التحليل الفلسفي، قد تم محوه في كل من جانبي العمل والعاطفة، تحت تأثير الحاجة الملحة والارتباكات العاطفية. ويمكن اعتبار العبقرية المستوحاة من الخالق ك- «إعادة خلق» للأساطير التي هي في حد ذاتها إعادة خلق للاندفاع الحيوي. وبين التصوف والتضليل تواصل مسألة الأسطورة، من خلال تناقضها، إثارة مهمة نقد القدرة على إعطاء الحكم كنقد للقدرة على التقييم ومنح الموافقة. وقد أصبحت هذه المهمة أكثر ضرورة بسبب التداخل بين «المجتمع المفتوح»و «المجتمع المنغلق»في رمزية تعبوية للأفراد الذين يتطابقون دائماً مع الطبيعة البشرية، التي يحددها برغسون بأنها «لا تتغير وبأن سياستها - بالبحث والتحقيق - تكشف عن شراسة.

يثير الفصل الأخير من كتاب «منبعا الأخلاق والدين» كل هذه الأسئلة. ومع إيلاء المزيد من الاهتمام بالصفحات المكرسة للديمقراطية على وجه التحديد، يلاحظ المرء الحكمة من مفردات برغسون وبخاصة حقيقة أنه يمنح المثل الأعلى الديمقراطي وظيفة مماثلة تماماً لوظيفة النموذج الأصيل بالمعنى الكانطي، وهو الاتجاه الذي «تُحوَّل نحوه البشرية»، أي الثورة التي أشارت إلى «ما ينبغي أن يكون»، أو بالأحرى، إلى ما لا ينبغي أن يكون من دون أن يسهل عليها تحديد «ما يجب القيام به». وهكذا، كما قال برغسون ، ينبغي «نقل» الجوهر الإنجيلي للديمقراطية في السياسة، ولكن بالمعنى الذي يشير فيه «النقل» إلى الحفاظ على المسافة بين المطلق والنسبية وبين المثالي والحقيقي. ويراعى هنا خطر الخلط بين التصوف والسياسة ويُعبر بوضوح عن الإرادة في معالجته . ومن ثم، لا يمكن تعريف البطل على أنه زعيم أو تبني سلطة الرئيس له، بل يتحتم عليه أن يتجسد في نوع أو نموذج أصيل لتحقيق تعبئة قادرة على التصدي للضغط على الحريات (أو) لقمع الحريات من قبل السلطة. ويمكن القول إنه يخلق دوافع الأخوة في السياسة، مما يجعل من الروابط الأخوية القوة الدافعة التي تعيد بشكل دوري توليد أشكال جديدة من الحرية والمساواة.

ص: 450

المشروع الأخلاقي الغربي مقاربة نقدية

«الوجودية أُنموذجا»

د. عامر عبد زيد الوائلي(1)

المبحث الأول : الفلسفة الوجودية «المفهوم والشخصيات»

إِنَّ البحث عن «تعريف الفلسفة الوجودية»، يبين لنا أنَّ هذا الاتجاه ليس أكثر من كونه اتجاها فلسفيا، ولا يدعي أنَّه دين أو مذهب عقائدي ذو نزعة دينية؛ فهو مذهب فلسفي معاصر غربي ظهر استجابةً لما هو راهن حين هيمنت أخلاقيات الحرب بقسوتها وتجبرها وعنفها كله وهي تسعى من أجل الهيمنة والشمولية في الغرب حيث الفاشية والنازية من جهة، والروح النفعيَّة في المعسكر الغربي الأمريكي الذي كان هدفه تحقيق الأرباح الاقتصادية وهيمنة الشركات على العالم وتنافس الأطراف المتصارعة على مناطق النفوذ والمستعمرات على حساب حرية الإنسان ومصيره، وفي النتيجة كانت تلك الظروف التي ساهمت في بزوغ الفلسفة الوجودية

ص: 451


1- استاذ فلسفة الحضارة الوسيطة (اسلامي - مسيحي) يحاول الباحث في هذه الدراسة ان يبرز موقف الوجودية مشكلة الاخلاق وهذا ما أكده العنوان بوصفه ثريا النص وقد قسم الباحث البحث الى المبحث الأول، الفلسفة الوجودية «المفهوم والشخصيات «وفيه عرف الوجودية وبين تياراتها الفلسفية فيما جاء المبحث الثاني، موقف الوجودية الاخلاقي، حاول خلاله تبيان خصوصية موقف هذه المدرسة من الاخلاق، الا انه في الخاتمة يستعرض مجموعة من النتائج منها هذه النتيجة : عَدَّ كثير من الباحثين الأفكار الوجودية سرطانًا ينخر في المجتمعات الغربية من خلال الانحلال الخُلُقي الذي أصاب مجتمعهم؛ بسبب فقدان المعيار أو المقياس. المحرر .

التي أكدت إبطال كل الفلسفات التي قادت الشعوب الغربية إلى هذا المصير الحزين من إبادة وتشريد ؛ فوصلت نتائج الحرب الى أرقام كبيرة.

ولا يمكن فهم الوجودية خارج تلك الرهانات الضاغطة في الفكر الغربي التي أظهرت الحرب. فكانت الحداثة عنيفةً وقضت على الإنسانية بفعل هيمنة الآلة على الإنسان؛ ولعل هذا ما بينه علماء الاجتماع الألمان في مدرسة فرانكفورت(1).

ثم أكدته الفلسفة الوجودية التي قدمت نفسها بوصفها فلسفة حياة هدفها الدفاع عن حرية الأفراد أمام تجبر الحداثة والدول الشمولية والنزعة الامبريالية. ومن هنا عُدَّت الفلسفة الوجودية - كما تصورها عبد الرحمن بدوي - من أبرز المذاهب الفلسفيّة المعاصرة، وفي الوقت نفسه هي من أقدمها ، ولكنَّ ما يميّزها أنَّها فلسفة تحيي الوجود، وليست مجرد تفكير في الوجود(2). ولعلَّ هذه السمة بالذات جعلتها من أكثر المذاهب الفلسفيّة شهرة حتى السبعينات من القرن الماضي في الغرب، وهي مرتبطة بما هو راهن وقتها حيث كانت الحرب وما أفرزته من نتائج وهذا موضوع إشكالي في الفكر الغربي يتعلق بإبراز قيمة الوجود الفردي للإنسان، وقد ظهرت الوجودية نتيجة لحالة القلق التي سيطرت على أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، واتسعت مع الحرب العالمية الثانية، وسبب هذا القلق هو الفناء الشامل الذي حصل نتيجة الحرب، ومن خلال تلك الظروف كان هناك الكثير من الأفكار الوجوديَّة التي تجد أنَّ السلطات المهيمنة وما تفرضه من قيم كانت وراء ما حدث من جرائم كبيرة ارتكبتها الأنظمة الشمولية سواءً كانت نازيَّة أم فاشية أم ماركسية أم ليبرالية متوحشة هيمنت على مصير الناس وحولتهم إلى مجرد أدوات، وكانت تلك الأفكار قد وجدت لها مؤيدين كما وجدت لها نقادًا عدُّوا الوجودية مذهبًا يعبر عن دعوات خادعة تهدف إلى محاربة القيم المجتمعية وتسعى إلى إثارة الفوضى بحجة

ص: 452


1- انظر: سعاد حرب، الانا والآخر دراسة في فلسفة سارتر ومسرحه ، دار المنتخب العربي ، ط1، بيروت، 1994، ص9، يشير سارتر: لهذا يجبر السيد العبد على أن يعمل من اجله، وأن يحضر له اشياء الطبيعة.وهكذا يصبح العبد الحد الواسطة بين السيد والشيء.
2- عبد الرحمن بدوي، دراسات في الفلسفة الوجودية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت (د،ت)، ص 20-19 .

الحرية و إشباع الرغبات بلا قيود بعيدا عن قيم المجتمع والدين وقد قدمت الوجود على الماهية، (باعتبار أن الماهية هي الطبيعة المعقولة لاشي وان الوجود هو التحقق الفعلي له)(1)ومن ثَم فإنَّها ترى أن) فلسفة الوجود هي الفلسفة التي في جوهرها ان هي الا انصراف عن (المجرد) الى (المشخص) وتحول عن (الماهيه) الى (الوجود)، وتعلق الإنسان من حيث هو موجود فردي»(2).

ولعل هذا ما يمكن أن نلمسه في حياة سيرن كيركجور Soren Kierkggrd (1855-1813)(3)الذي عاش حياةً قصيرةً ؛ ولكنَّها كانت ينبوعًا ثرياً دافقًا حيًّا للفكر الفلسفي من أخريات القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا فله يدين يسبرز وهيدجر ومارسيل بكثير من تأملاتهم وموضوعات تفكيرهم(4)، فهو القائل: (إن أجد حقيقة، حقيقة ولكن بالنسبة إلى نفسي انا، أن أجد الفكرة التي من أجلها اريد أن أحيا و أموت)، وعلق عبد الرحمن بدوي بالقول: (القول يقوم على الوجود المتوتر الحي بما ينطوي عليه من مخاطرة، ووثبة، وخطيئة - كل هذه معان أساسية تكون مقولات الحياة الوجودية عند كيركجور)(5)ومن ثَمَّ فإنَّ (الوجود الحقيقي هو وجود الأفراد، أما النوع فهو اسم لا وجود له في الخارج؛ فمثلاً : زيد وخالد وإبراهيم، هؤلاء موجودون حقيقيون، لا شك في وجودهم، ولكن الإنسان أو النوع الإنساني كلمة لا حقيقية لها في الخارج كما يزعمون)(6)ومن أجل تبيان هذا الأمر يقول «عبد الرحمن بدوي «: الموت ليس مشكلة فلسفية، بل المشكلة ه- (أني أموت) وفارق هائل بين أن أبحث في الموت بوصفه معنى عاماً مجرداً وبين أن أبحث في (أنى الموت؟!) فيجب ردّ

ص: 453


1- س.ي جود، مدخل إلى الفلسفة ألمعاصره، ت:- د. محمد شفیق شيا، مؤسسة نوفل ، ط1، بيروت 1981، ص 132.
2- زكريا ابراهيم، الفلسفة الوجودية، ص 11
3- ولد في كوبنهاكين في 15 مايو سنة 1813 ، يعدّ الاب الحقيقي للفلسفة الوجودية، يقال كان تلميذا لهيجل في مراحل الأولى من عمره، لكن ثار فيما بعد على فلسفته النظرية. كان اخا لسبعة اطفال الذين مات خمسة منهم معوالدته قبل ان يصل الحادية والعشرين من العمر. كانت كتاباته في البداية في السخرية التي وجهت اشد نقد لفلسفة هيجل. سوري كيركغارد كان ديكارتيا الى العظم.
4- عبد الرحمن بدوي، دراسات في الفلسفة الوجودية، ص 27.
5- عبد الرحمن بدوي ، دراسات في الفلسفة الوجودية، ص 98.
6- عامر عبدالله، معجم ألفاظ العقيدة مكتبة العبكات ،ط1، الرياض، 1997 ، ص 439 وانظر : ناصر القفاري، وناصر العقل، موجز في المذاهب والأديان المعاصرة، دار الصميعي للنشر والتوزيع، ط1، الرياض، 1992، ص 115.

المسائل إلى الموجودات، والنظر إليها بوصفها موضوعات يعانيها الموجود نفسه، فالذات الموجودة أو الذات الوجودية لا العقل المجرد - عند الوجوديين - هي التي يجب أن تكون العامل في إيجاد الفلسفة(1).

أَمَّا الحديث عن «أبرز فلاسفتها» فلا شكّ فى أنَّ هناك مرجعيات فلسفية لهذا التيار الفلسفي، ونجد أوّل من تعود له الفلسفة الوجودية هو الفيلسوف الدانماركي (سورین کیرکجارد) (1813-1855)، في نزعته الوجودية المؤمنة ونقده العنيف للفكر الشمولي لدى الكنيسة وفلسفة هيجل حيث نجده قد أقام مذهبًا فلسفيًا مسيحيًا مؤمنًا يقوم على الإيمان والتجربة الدينية. ولكننا لا نستطيع أن نتبين موقفه النقدي من الكنيسة وتأكيده التجربة الدينية الفردية خارج انتمائه الديني اذ (على الرغم من انتقادات (كيركجورد) العنيفة والمتزايدة التي وجهها له (لوثر) فإنَّ وجوديته لا يمكن فصلها - في الواقع - عن مذهبه البروتستاني)(2)؛ ولكنَّ العامل الديني لا يمكن أن يكون عاملاً حاسما في الفصل والتمييز بين فلاسفة الوجودية، متدينين وملحدين، ومردّ صعوبة التمييز طبيعة العلاقة القائمة بينهما، فهي علاقة ذات طابع ينطوي على مفارقة إلى أقصى حد، ولكنَّ هذه العلاقة تبدو غائبة عند الدارسين للفلسفة الوجودية وهم بطبيعتهم لديهم ولع بإيجاد تصنيفات من أجل الفهم، الذي قد يقود إلى التبسيط المخل وبالنتيجة يتحول إلى عائق أكثر منه معين على الفهم والسبر للفكر الوجودي على صعيد الممارسة والتنظير، فهناك فلاسفة ذوو ميول وجودية لا يمكن أن يحيط بهم هذا التصنيف(3)؛ و على الرغم من المخاطرة تلك ولكننا نحاول أن نتابع هذا التصنيف؛ لأنَّ العمل الديني يشكل ثقلاً في مقاربتنا الأخلاقية على الرغم من إدراكنا صواب تلك الملاحظات ومنها ايضا هذه الملاحظة التي تؤكد أنَّ التصنيف على أساس ديني يقودنا إلى (نوع من العلاقة التي تجمع بين الحب والكراهية التي تتشابك فيها عناصر الايمان و عدم الايمان)(4)؛ «ولكن ما يعقد الأمور

ص: 454


1- عبد الرحمن بدوي، دراسات في الفلسفة الوجودية، ص21.
2- جون ماكوري، الوجودية، ت: د. امام عبد الفتاح امام، سلسلة عالم المعرفه الكويت، 1982، ص 20.
3- انظر: زكريا ابراهيم، الفلسفة الوجودية، ص 13-14.
4- جون ماكوري ، الوجوديه، ص 18-19

وجود مدرستين ،وجوديتين تختلف الواحدة منهما عن الأخرى وبالنتيجة وجود نوعين من الوجوديين، أولهما: الوجوديون المسيحيون، ومنهم الفيلسوف الألماني المعاصر (كارل يسبز) والفيلسوف الفرنسي (جابرييل مارسيل) والاثنان كاثوليكيان. وهناك سمات مشترك يمكن أن نطلق عليهما توصيفا دينيًا بوصفها قاسما مشتركا يميزهما عن الآخرين ولكنَّ هذا لا يعني عدم وجود مشتركات مع الآخرين على الرغم من اختلافهم الديني، وعلى هذا الأساس يمكن القول إنَّ الفلسفة الوجوديَّةَ بوصفها فلسفة معاصرة تنقسم إلى قسمين:

أوّلاً ، الوجوديّة الدينيّة التي تسمّى ب(الوجودية المسيحية):

من أشهر روادها غابريل مارسيل (1889-1969)(1)وله فضل بارز، فضلا بارزا في تحليلاته الفلسفيّة الدقيقة، خصوصا في كتابه (يوميات ميتافيزيقية)، وفي عنايته بمسألة الملك والوجود وتمييزه بينهما ورفعه الوجود فوق الملك .(2)الذي سيطرت على فكره الوجودي النزعة التفاؤليّة، وعدَّ الإيمان بالربّ قادراً على حلّ مشكلات الإنسان، كما كان لكارل ياسبرز أثره في الوجودية الدينية، حيث عدَّ الحرية شرطاً للوصول إلى الرب.

(کارل جاسبرز) (1883-1969)(3)الفيلسوف الألماني المعاصر، ولد في سنة (1883م)، ويعيش في سويسرا منذ سنوات، وهو أكثر ارتباطا بكير جكور، وأشد تاثيراً بالنزعة اللامعقولة. و ينماز بالتوسع في التحليلات الجزئية لظواهر الوجود، وغزارة إنتاجه وتشعبه، وأبرز تحليلاته ما كتبه عن «المواقف الجدية - Grenzsituationen»، وهي المواقف النهائية التي يوجد فيها الإنسان و لا يستطيع منها خلاصاً و لا فراراً.

ص: 455


1- غبريل مارسيل، فرنسي الجنسية، يعتقد ان تسامي الفرد على ذاته هو اساس وجوده وبخاصة اذا كان التسامي نحو الله.
2- عبد الرحمن بدوي ، دراسات في الفلسفة الوجودية ، ص 25
3- كارل ياسبرز الماني الجنسية، في البداية رفض لقب فيلسوف وجودي، كان طبيبا في سنة 1933 اصدر كتابه في ثلاث مجلدات بعنوان (الفلسفة) كتب الكثير في موضوع الوجودية لا بلغة الالحاد وانما بطريقة كيركجارد. يعتقد یا سبرزان کیر کجارد و نيتشه هما من اعظم فيلسوفين ظهرا في التاريخ بعد هيجل على الرغم من عدم اتفاقه معهما شدد بدوره على الحرية كشرط للوصول الى الله فيكتب: (ان الإنسان الذي يشعر حقا بتجربته، ويكتسب في نفس الوقت اليقين بالله، فالحرية والله شيئان مرتبطان لا ينفصلان وعنده هو طريق التسامي الى العلو، هو موضوع الله بحد ذاته.

إِنَّها تمثلُ جدارًا نصطدم به في أي اتجاه اتجهنا... والموقف الرئيس بين هذه المواقف الحدية أو النهائية كلها هو الموت، وهو موقف يطبع بطابع النسبية كلّ أفعاله، ولابد من أن أكيف أعمالي وفقا له. ويتلوه موقف الألم، الذي يقف من خلفه الموت و لا سبيل إلى الخلاص منه ايضا ... والخلاصة العامة لتحليل هذه المواقف النهائية هي أنَّ الوجود مشكلة بطبيعته، ولهذا ينتهي كل شيء إلى الغرق على حد تعبير يسبرز.(1)إنَّ هذه التجربة قد اتخذت عند (يسبرز) صورة شعور حاد بما في الوجود من قابلية للتحطيم، لأنَّه حقيقة هشَةٌ سريعة الانكسار. (ولاشك في أن يسبرز قد تحت تأثير أبو الوجودية الحديثة (كير كجار) ولكن من المؤكد أن أحدا لم ينجح في استخدام مفاهيم كير كجارد قدر مانجح ياسبرز في هذا المضمار)(2).

ثانياً، الوجودية الملحدة:

من أشهر مفكري هذا التيار من الوجودية، مارتن هايدجر و سارتر، وسيمون دي ،فوار، وألبير كامو ، وقد كان لكل من هدجر وسارتر حضور متميز في هذا التيار الوجودي.

أمَّا (هيدجر) فقد تجلّت تلك التجربة الوجودية عنده على شكل وجدان قلق قوامه الشعور بأنَّ الوجود سائر حتما نحو الموت. و تبدو عند (سارتر) على صورة شعور مريض بالغثيان. ولم ينكر الوجوديون أن تجربتهم هي وليده تجربه ذاتية حية لا تكاد تنفصل عن صميم وجودهم. و نراهم يقررون بصراحة أنَّ المشكلة الفلسفية لا يمكن أن تعني شيئا بالنسبة إلى أي إنسان لم يجد نفسه معانقا لها، مأخوذا في حبالها واقعيا تحت أسرها »(3).

وقد كانت المرجعية التي انطلق منها الاثنان في موضوع الفينو منولوجيا الحقيقة المباشرة التي تفرض نفسها على الوعي؛ لأنَّها (حاضرة) أمام الوعي. وهي ايضا

ص: 456


1- عبد الرحمن بدوي ، دراسات في الفلسفة الوجودية ، ص 24.
2- زکریا ابراهیم، دراسات في الفلسفة المعاصرة، ج1، دار مصر للطباعة، القاهرة. ص425.
3- زكريا ابراهيم، الفلسفة الوجودية، ص 13-14.

تكشف عن ذاتها كما هي كائنة، إن هذه الظاهرة يمكن أن تدرس وتوصف؛ بقدر ما هي.

ليس هناك وجود - وراء - الظاهرة؛ لأنَّ قيام وجود ما هو بالضبط ما يظهر، وهكذا نصل إلى فكرة الظاهرة (phenomena)، تلك التي نلتقي بها مثلا في فينومنولوجيا هوسرل أو هدجر(1)، ولكنَّ هوسرل كما يرى سارتر لم يتعد إطلاقا الوصف الخالص للظاهرة من حيث هي كذلك، فهو تداخل في نطاق الوعي الخالص بعد أن علق النظر في الوجود و الواقعي للأشياء ثم جاء هيدجر وأخذ فكرة القصد وطبقها على الوجود متجاوزا الوعي. ففكرة القصد عند هيدجر قد أتاحت له أن يمضي من الوعي ومن موضوعات الوعي إلى الوجود الواقعي العالمي. وبعبارة أخرى فإنَّ القصد الهوسرلي قد أصبح عند هيدجر الوجود - في العالم in derweltscin، مما أتاح لهدجر أن يقيم أنطولوجيا أي علماً للوجود(2).

أما سارتر فهو ينطلق من «الكوجيتو» الديكارتي والكوجيتو يعزز الأنا أو الفكر الخالص حقيقة وهو مبدأ أول، ولكنَّ سارتر لا يقف عند الكوجيتو وإنما هو يتخذ الكوجيتو نقطة انطلاق لينظر إلى الوعي وموضوعه معا في علاقتهما التي لا تنفك فالفينومنولوجيا عند سارتر هي فينومنيولوجة جامعة(3). فهو القائل: إنّ (هايدجر والوجودييم الفرنسيين وأنا ايضا...... وهاتان الفئتان من الوجوديين تلتقيان على صعيد واحد وتتفقان على (أن الوجود يسبق الجوهر)(4).

والعلاقة بين هؤلاء الفلاسفة تكشف لنا أنَّ الوجودية - كنظرية وتطبيق - ليست حركة جديدة، والدليل على هذا ما قدمه (سورين كيركجارد)، بل هناك من يطبق المنهج التاريخي ويحاول الحفر في التراث الفلسفي بحثا عن أسلاف لهذه الفلسفة

ص: 457


1- حبيب الشاروني، بين برجسون وسارتر ازمة الحرية، دار المعارف، القاهرة، 1963، ص 90-91.
2- نفس المصدر، ص 92.
3- نفس المصدر والصفحة.
4- جان بول سارتر، الوجوديه مذهب انساني، منشورات دار مكتبه الحياة، ط2، بيروت، ص 25-26.

التي تؤكد على حرية الإنسان كما يظهر هذا في مؤلفات أغلب فلاسفتها الذين كانوا منقسمين - كما سبق القول - إلى تيارين أحدهما مؤمن والآخر ملحد ولكنَّهما يمثلان الفلسفة الوجودية في سعيها إلى تحقيق حرية الإنسان التي تقيدها الكثير من القيود الاجتماعية والفكرية والأخلاقية من فلسفات اجتماعية ذات نزوع مادي أو مثالي ولكنَّهما يشتركان في تقييد نزوع الإنسان. إنَّ فلاسفة الوجودية كانوا مختلفون في موقفهم ليس من الأخلاق بل من الدين والمؤسسة الدينية كما كان (سورين كيركجارد) في موقفه النقدي من الكنيسة؛ ولكنَّه كان مؤمنًا ويجد في سلوك الكنيسة سلوكًا معارضاً للإيمان الحق . وقريب من موقفه كان هناك فلاسفة آخرون، وفلاسفة كان موقفهم من الدين موقفًا مضادًا فكانوا ملحدين مثل هيدجر وسارتر. وكان لهذا التيار حصرا موقف من الدين والله والغيبيات عامة، فقد نظروا لها نظرة فلسفيّة مرتابة في قدرتها على ايجاد حلول لما يعانيه الإنسان من مشاكل.

المبحث الثاني: موقف الوجودية الاخلاقي

انطلقت هذه الفلسفة أوهذا الأسلوب في التفلسف من مقاربة مهمة في وضع الحقيقة الواقعية (Reality) في تصورات دقيقة محكمة أو حبسها في مذهب مغلق كما فعل هيجل مثلا لهذا لم تكن الوجودية (تعتقد أنه لا توجد باستمرار حدود حاسمة او واضحة المعالم، فخبرتنا ومعارفنا هم باستمرار حدود حاسمة او واضحة المعالم، فخبرتنا ومعرفتنا هما باستمرار شذرات غير مكتملة، ولا يمكن ان نعرف العالم ككل....)(1)فهذه الرؤية النقدية للخطابات الشمولية الهيجيلية وتلك التي تولدت عنها رؤية تحاول اخضاع العالم لها، وهذه الرؤية خلقت عوامل الهيمنة وادعت امتلاك الحقيقة؛ فكانت الحرب واحدة من نتائجها المدمرة وكان من نتائجها الشعور باليأس والإحباط، الذي مثَّل الراهن الذي كان يعقب الحرب وما خلفته من شعور عميق بانهيار القيم الليبرالية الغربيَّة، إذ اصبح الوجوديون يعانون من إحساس

ص: 458


1- جون ماكوري، الوجودية، ترجمة: امام عبد الفتاح ،امام در الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، 1986، ص 10.

أليم بالضيق، والقلق، واليأس، والشعور بالسقوط والإحباط؛ مما ولد موقفًا نقديًا وجوديًا بإزاء كل تلك الفلسفات الشمولية، فكان البديل كما ظهر في مقاربة هدجر التي احتفظت بالرؤية العينيَّة للوجود من دون أن تقود تلك الرؤية إلى التضحية بالترابط المنهجيّ التي تربطنا بالتحليلات الفلسفيّة النسقيَّة التقليدية. إنَّ تلك الرؤية العينيَّة سوف تخلق أسلوبًا بالتفلسف يدرك المشكل الذي يعانية الإنسان بعد الحرب؛ لهذا كانت الوجوديَّة بأسلوبها الجديد الذي (يبدأ من الإنسان لامن الطيعة.... فالذات هي الموجود في نطاق تواجده الكامل، فهذا الموجود ليس ذاتا مفكرة فحسب وانما هو الذات التي تأخذ المبادرة في الفعل، وتكون مركزا للشعور والوجدان.)(1)فهذا الوجود الذي يظهر فيه الإنسان وقد أُلقي به في هذا العالم وسط مخاطر تؤدي به إلى الفناء من دون حام له، ولابدَّ من أنَّ يلد شعور عام بالإحباط والانطواء على الذات المجروحة من الآخر الذي هو مستقل عن الذات بل هو الجحيم الذي يهدد الذات.

إنَّ هذا الفكر كان - بلا ادنى شك فكر - يتّسم بالانطوائية الاجتماعية والانهزامية في مواجهة المشكلات المتنوعة. قد يبدو هذا الكلام محض تأويل فيه كثير من التفريط والتبسيط فلو عدنا إلى ما قاله سارتر بهذا الصدد نجده يقارب أمرًا مهما إشكالياً بل ونتائجه يومها راهنة إذ نقد المنظومات الفلسفية التي تولدت عنها تلك النتائج الكارثية للحرب التي كانت المحفّز للتأمل الوجودي. إنَّ النظرة إلى الإنسان کوجود لا بوصفه ذاتا مفكرة هي مقاربة نقدية للفلسفات التي هيمنت عليها المعرفة التقنية التي أهملت الإنسان كوجود له استقلاليته، وأصالة وجود الإنسان متقدمة عن ماهيته بمعنى (ان الإنسان يوجد اولا وقبل كل شيء ويواجه نفسه وينخرط في العالم، ثم يعرف نفسه فيما بعد... وعلى نحو ما يصنع من ذاته.)(2)بمعنى أنَّ وجودك هو الذي يحدد هويتك وليس كما تصورها أرسطو تقدّم الماهية على الوجود، أوكما تصورتها المثالية في تقدم الفكرة على الواقعة.

هذه الفكرة حيوية وتحتاج إلى عرض أكثر وتأصيل، وهي فكرة ظهرت مع هوسرل

ص: 459


1- جون ماكوري، الوجودية، المصدر السابق، ص 12.
2- جون ماكوري، الوجودية، المصدر السابق، ص 12-13.

ولكن بتأويل هيدجر وسارتر لها وإن كان تأويلهما لم يتقبله هوسرل ذاته فاعترض على هيدجر تلميذه يوم أهداه كتابه (الوجود والزمن) فأصل الفكرة تكمن، أنَّ هوسرل حاول أن يبتكر منهجا للوصف التفصيلي الدقيق للأنواع المختلفة من الموضوعات في ماهيتها الخالصة، ولكنَّ لبَّ هذا المنهج أو المذهب هو (الوصف)؛ لأنَّه يقدّم لنا وصفًا تفصيليًا لماهية الظاهرة على نحو ما تعطى للوعي ولكي تتأكد من دقة الوصف فلابد للذهن من أن يتطهر من الافتراضات السابقة والإحكام المبتسرة، ومن الضروري أن تبقى داخل حدود الوصف(1). ولكن هيدجر وغيره من الوجوديين لم يتقبلوا المذهب الظاهراتي كما هو عند هوسرل فطوروا لونًا من الظاهراتية تلائم أغراضهم الخاصة في الوقت الذي يؤكد هوسرل أهمية الماهية (Essence) ويعتقد أنَّ الظاهريات علم دقيق، ونجد الوجوديين يؤكدون أهمية الوجود الإنساني العيني (Existence)(2). وهذا الموقف يقوم على مقاربة هيدجر إذ (حاول تعقب المفهوم لغويا فكلمة الفينومينولوجيا مشتقة من لفظين هماLogos Phainomenon)، أما المعنى الاول فهو مشتق من الفعل اليوناني Pheinein)) بمعنى يظهر ويخرج إلى النور فالظاهري ما يبدو أو يظهر إلى النور، ولابد من انتزاع الحقيقة من الظواهر ويرفض هيدجر وجود الشيء في ذاته بل إنَّه يؤكد ليس هناك إلا أن نعرف الظواهر على نحو ما تظهر نفسها في ذاتها .. أما المعنى الثاني(Logos) نجد أن هيدجر يبين لنا أنَّ هذا اللفظ يعني «الظهور «فالقول(Legein) هو ظهور((3) apo phainestani) . وانطلاقا من هذه الرؤية يصل هدجر إلى تاكيد التمييز بين وجودين (الوجود في العالم و الوجود داخل العالم) وهذا يعني لونًا من العلو على العالم بفصل ظهور الإنسان خارجا منه أو منبثقا عنه، وإن كان مهددًا باستمرار بأن ينزل إلى مرتبة الموجود داخل العالم ويفقد بذلك وجوده المتميز ويستوعبه مستوى من الوجود أدنى من المستوى البشري أعني وجودا غير مسؤول وغير مفكر أدنى من الموجود الإنساني)(4)هذا المستوى من الوجود زائف بلا شك.

ص: 460


1- جون ماكوري، الوجودية، المصدر السابق، ص24.
2- جون ماكوري، الوجودية، المصدر السابق، ص ص 25.
3- نفس المصدر، ص 27.
4- نفس المصدر، ص 118.

أعتقد أن هذا التأصيل ضروري في تبيان المرجعية الوجودية عن الإنسان وبالنتيجة عن أصالة موقفهم من القيم لأنَّ ما يميّز الإنسان فردانيته واستقلاله وأصالة الاختيار لدية بوصفها خاصية ضرورية والمحك الذي يبرهن على استقلال القرار لدية بوصفه انعكاسًا له وليس تكرارًا سلبيًا للآخرين، ومن هنا تظهر أصالة حريته واختياره وأيضا التزامه بموقف قيمي قائم على مؤشرات عدة عند الوجوديون بحسب ما سبق هو تقديسهم للحرية فمن دون حرية يفقد الإنسان أصالة وجوده ويصبح وجودا زائفا، وهذا يفترض أن يخضع ما يحيط به إلى اختياره وحريته وما وبالنتيجة اخضاع كل ما يحيط به إلى الاختيار النقدي مهما كانت مصادرها ، ولابد من أن يكون له قرار وموقف قيمي قائم على أصالة وجودة وأصالة شعوره بالحرية بعيدا عن المشاعر السلبية، مما يقتضي تسخير كل الطاقات والامكانيات لصالح تحقيق الذات الفردية من دون إعطاء أهمية للماهيات أو الجواهر أو الكليات أو المجتمع كما أسلفنا.

الإنسان والحرية:

كانت الحرية واحدة من أركان الخطاب الوجودي والمدخل الضروري إلى موقفهم الأخلاقي إذ كانوا يؤكدون على الوجود الإنساني، ويتخذونه منطلقا لكل فكرة، ويعتقدون أنَّ الإنسان أقدم شيء في الوجود، وما قبله كان عدمًا، وأن وجود الإنسان سابق لماهيته، ويقولون : إنهم يعملون لإعادة الاعتبار الكلي للإنسان، ومراعاة تفكيره الشخصي، وحريته، وغرائزه، ومشاعره. وما ذكرناه من تصورهم الأساس على تقديم الوجود على الماهية يمثل تقديم الواقعة على التصور أي إنَّهم يحاولون أن ينطلقوا من الواقعة أولا في رسم أبعاد للحرية. هذا ما يمكن أن نستلهمه من مواقف وتنظيرات كل من كيركيجر وهيدجر وسارتر.

اما كيركيجر: فقد أكَّد أنَّ الناسَ عند الوجوديين ثلاثة : رجل جمال، ورجل أخلاق ورجل دين؛ ولذا أدرج السالكين سبيل الحياة: ثلاثة مدارج، أولها: المدرج الجمالي: يحيا في اللحظة الحاضرة المنعزلة والثاني: الأخلاقي يحيا في الزمان والثالث الديني يحيا في السرمدية. أما رجل الجمال والحساسية، لا عبر الا بالمنفعة، ولهذا فهو

ص: 461

يسرف في اللذات، ولا يرتبط بشيء؛ لأنَّ كل ارتباط أو واجب يقيده وكل قيد فيه يتعلق بلحظة مقبلة و أخرى مدبرة. فهو يتصور لحظات الزمن المنعزلة ويعطي كل منها استقلالها وقيمها الذاتية(1).

أما رجل الأخلاق فيرى معنى الحياة و الوجود في العيش تحت لواء الواجب وكلاهما يقتضي الذكرى والتكرار ؛ لأنَّ المسؤولية و الواجب، ولابد من أن يكون كل منهما حاضرا في ذهن صاحبه على الدوام. فعلى الأخلاقي مسؤوليات وواجبات في المجتمع الذي يعيش فيه وفي الدولة التي ينتسب إليها بل ونحو الإنسانية عامة(2)...

أمَّا رجل الدين فلا يحيا في الزمان؛ لأنَّه أشاح بوجهه عن هذه الدنيا، وولى وجهه قِبَل الآخرة قبل عالم فوق الزمان لا لأنَّه تجزئة مطلقة للزمان؛ بل لأنه في مرتبة أعلى،«ليس عند ربكم صباح ومساء». ولهذا فهو متجرد من الدنيا وعن الزمان ولا صلة له؛ إلا بالسرمدية. وكل المعايير هي تصور عن تلك الحياة الأزليَّة الأبدية التي يتصور أنَّه يحباها من حضن الألوهية. وبالجملة أحواله هي تلك المقامات والأحوال المعروفة عند الصوفية(3). ولكنَّ كلَّ مدرج لا يكفي نفسه بنفسه.

أمَّا هيدجير : فكانت بداياته في إفراغه لمقولات كيركيجر الدينية فقد أفرغها هيدجير من كل محتوى ديني وجعلها وجدانية خالصة وعلى نفس النحو تأثر به سارتر.

وبعد استبعاده الأسئلة مثل: أين انا؟ وما معنى الوجود؟ التي وجدها أسئلة لا معنى لها؛ لأنَّ الوجود في هذا العالم لم يكن أمراً متوقفا على إرادتي، لقد رمي بي في هذا الوجود.. فلا أملك الا التسليم به؛ لكن هذا السقوط لا ينطوي على معنى الذم، بل هو أمر ايجابي، إذ بغيره ما كان يمكن وجودي ان يكشف لنفسه، ولولاه لظل وجودي في إمكانيات للوجود لانهائية لها. إن سقوطي معناه ايضا خروجي عن...، وهذا الخروج عن ... هو الذي حقق امكانيات وجودي(4).

ص: 462


1- عبد الرحمن بدوي، دراسات في الفلسفة الوجودية، ص 46-47 .
2- نفس المصدر، ص48.
3- نفس المصدر، ص49.
4- نفس المصدر، ص 90

ولكنه هنا يقف عند نوعين من الوجود: وجود أصيل وآخر: وجود مزيف، فيؤكد أنَّ القلق هو الذي ينبه الإنسان إلى وجوده والإنسان بطبعه يميل إلى الفرار من وجه العدم الماثل في صميم الوجود، وذلك بالسقوط بين الناس وفي الحياة الزائفة؛ ولكي يعود إلى ذاته لابدَّ من قلق يوقظه.

والقلق نوعان: قلق من شيء وقلق على شيء، فالموجود في العالم يقلق على إمكانياته التي لن يستطيع - مهما فعل - أن يحقق منها غير جزء ضئيل جداً؛ لسببين:

الأول: أنَّ التحقيق يقتضي الاختيار لوجوده والنبذ لسائر الوجود.

والآخر : ثمة حقيقة كبرى تقف من دون استمرا التحقيق هي الموت، فالموت ليس ثمرة الحياة بل تحطيمها والقضاء عليها؛ ولكنَّ الحياة تنطوي على الموت....

لهذا يقول هيدجر : إِنَّ هذا الوجود هو بطبيعة وجود الفناء (Zum sein) أو وجود للموت(Ende seinZun- tode) فبمجرد أن يولد الإنسان يكون ناضجا للموت، فالحي يحمل الموت بين جوانحه(1).

انطلاقا من تلك الأفكار نستطيع القول إنَّ مفهوم الحرية، قد كان حاضرا في فكر الفلاسفة الوجوديين؛ لهذا أكدوا حرية الإنسان المطلقة، وأنَّ له أن يثبت وجوده كما يشاء، وبأي وجه يريد، من دون أن يقيده شيء، وأنَّ عليه أن يطرح الماضي وينكر كل القيود؛ دينيَّةً كانت أم اجتماعيَّة أم فلسفيّة أم منطقيَّة! ويقول المؤمنون منهم: إن الدين محله الضمير أمَّا الحياة بما فيها فمقيّدة لإرادة الشخص المطلقة. فهذا التوجه كان قد أثر بعمق على موقفهم من القيم؛ لأنهم بهذا قدَّموا رغبات الإنسان على أي شريعة خارجية سواء كانت دينيَّة أم عرفيّة أم قانونيَّة؛ لأنهم يحاولون أن يمنحوا الإنسان تفويضا واسعًا ويجعلون من رغباته وضميره الفردي منطلقا تجاه الآخر وليس القوانين المفروضة عليها سواء كانت منزلة أم اجتماعية.

ص: 463


1- المصدر السابق، ص 93

وانطلاقا من تلك الرؤية لدى فلاسفة الوجودية نجد أنَّ موقفهم من «القيم والأخلاق «يتجلى في أنَّهم لا يؤمنون بوجود قيم ثابتة توجه سلوك الناس وتضبطه، إنما كل إنسان يفعل ما يريد، وليس لأحد أن يفرض قيما أو أخلاقًا معينة على الآخرين، فإنَّ هذا الموقف خصوصا أدَّى إلى الاتجاه الملحد كما يرى مؤرخوها:»وقد أدى فكرهم إلى شيوع الفوضى الخُلقية، والوجودي الحقُّ عندهم هو الذي لا يقبل توجيها من الخارج، إنما يسير نفسه بنفسه، ويلبي نداء الباطني من دون قيود ولا حدود.

النقد:

مهما كان الأي أو الحقيقة في تفسير الوجودية للقيم الاجتماعية والدينية؛ الا انهم، وهذا بطبيعة الحال ليس تفسيراً محضاً، بل هو موقف واضح المعالم يظهر في أشكال متنوعة في أقوالهم وسلوكياتهم، وفي حقول متعددة سواء كان في المسرح أم في الادب.

وبالآتي فإن موقفهم أو تفسيرهم من القيم الاجتماعية التي تظهر في سلوكيات الناس وتحكم على تصرفاتهم في وقتها، وجدت لدى الوجودية تقريعاً شديداً في آدابهم ومواقفهم الفلسفية والنقدية الجمالية والأدبية، فهم خلال تلك الحقول المتنوعة مارسوا تفكيك المنظومات الاخلاقية وعدوها حواجز مصطنعة تحول حرية الفرد وانطلاقه وأكدوا على أن أي ايمان أو تسليم بأي وسيلة أو حيلة من حيل تلك المنظومة القهرية تمارس نفي حريتك ؛ لأنها تولد الاغتراب وتدفعك الى ممارسة سلوكيات غير متوافقة غاياتك الفردية الحقيقية.

فهذه المبالغة تظهر موقفاً يتسم بالنفي لكل شيء وكأنّهم بهذا يحملون المجتمع والثقافة السائدة ما حدث من أحداث الحرب وما صاحبها من ناحية ومن ناحية ثانية نفي منظومة القيم لا يسهم بالضرورة من إحداث تغيير حقيقي؛ لأنّ أي تغيير يفترض بأن يكون قد بدأ بنقد الشخص أولاً الى الجانب السلبي في وجوده من دون نقد

ص: 464

يشخص ما هو سلبي وصولاً الى تقديم البدائل التي تعد هي الحلول الممكنة التي تخلق معالجة لما هو قائم من الرهانات.

بل إننا نجده حاضراً في فكر كيركجورد نفسه فقد «بدأ هجومه العنيف على الفلسفة العقليّة، فهاجم الفلسفات التي سبقته وهاجم العقل باعتباره ميراثا للإنسان ويحمل على القواعد والقوانين التي تجعل الإنسان يلتزم بقواعد وقوانين الكون والأصولية والعلاقة بينهما، كما هاجم أصحاب «الفلسفة الموضوعية العلمية «ايضا، اما الدين فقد قادت اساطير الأحزان في المسيحيّة إلى التوتر والقلق والتمزق والضغط ...»(1).

أما سارتر ففضلاً عما عرضناه سابقاً من أفكاره؛ لكن في موضع نقدها نجد بأنّه استطاع أن يستغل فورانه النفسي ليعود باليأس إليه حتى يقوي ميله على تحطيم كل العقائد .... وهكذا ما تميزت به كتب سارتر نفسها، إذ أنها ترتبط بتاريخ الشعور والانفعالات والخوف حتى نعتها النقاد بانها فلسفة اليأس العقلي(2).

وقد عقد سارتر كتاباً أطلق عليه ب- «الوجودية الإنسانية» بعد ما كثر النقد الموجه ضدها من الجوانب الآتية (الجانب الديني والجانب الإلحادي و الجانب الفلسفي) وكان أهم ما اتفقوا عليه هو أنها ليست نزعة إنسانية فقط وانما ضد النزعة الإنسانية(3)أما فيما جاء عنه في تأويله للذات «إنّنا ، وقد بينا تهافت هذه المقولة في تأويل الذات، فكيف يمكن كنا أن نفهم كثيراً من أنماط السلوك الانساني التي يصعب غاية الصعوبة أن نُرْجِعَهَا إلى مجرّد الوعي، مثل الهستريا والعصاب والأحلام، وهلم جرا ؟ والحق بأنّ سارتر ليرد على هذا الاعتراض المفترض لم يكتف بجواب واحد، وإنما وضع نظرية بأكملها، وسعى للبرهنة عليها والتدليل لها في جزء كبير من مصنّفه المذكور،

وهذه النّظريّة كان قد بناها على مقولة أخرى...(4)».

ص: 465


1- مصطفى غلوش ، الوجودية في الميزان، مجلة رسالة الامام ، ع 4 ، القاهرة، 2002م، ص 27.
2- محمد إبراهيم، الوجودية فلسفة الوهم الإنسان، الهيأة العامة لشؤون الأميرية، ط1، القاهرة، 1984م، ص 15-16.
3- محمد إبراهيم، الوجودية فلسفة الوهم الإنسان، ص22.
4- سارتر، نقد سارتر لمقولة «اللاوعي» www.fiseb.com.

انطلاقا من تلك النظريات فأنهم يشرعوا الى تحرك الجموع الشبابية ودفعها الى نفي المجتمع والسعي الى سلوكيات تفصل الإنسان عن مجتمع عبر أشكال متنوعة من السلوكيّات الاحتجاجية المتمردة وهو ما ترافق مع أشكال متنوعة من الآداب والموسيقى وأشكال متنوعة من الأزياء وكلها تحرض على خلق القطيعة مع قيم المجتمع وعذرهم هو ؛ انهم اعتقدوا هذه المنظومة تسهم بالحد من حرية الفرد، وهم بهذا يمارسون نفي ما هو جماعي مجتمعي أو منظومة دينية من أجل الدفاع عن ما اعتقدوا أنه يمارس تحرير الإنسان.

الأمر الآخر إن نقد التاريخ وما صاحب الحرب من مصاعب وجرائم بحق الانسانية كان لابد من ردود فعل لها من قبل المجتمع والثقافة؛ لأنها تظهر تحول اجتماعي عميق كان لابد من أن تظهر إرهاصاته في الأخلاق والثقافة والفكر. فان العيون إذا رأت أو لو رأت فلن ترى إلا مأمورة محكومة خاضعة لطغيان الحكومات وخطاباتها السياسية المدعومة بخطابها الاعلامي ومنظومتها العقابية وتبريراتها الثقافية هذا ما ظهر في آداب سارتر وبيركامو وغيره من فلاسفة الوجود الذين كانوا يمارسون تفكيك تلك الخطابات السلطوية التي يختفي من ورائها خطاب اقتصادي يمثلها المهيمنون من رجال المال؛ فالحروب كانت مشاريع مربحة وهي وما تزال الا انها بالتأكيد تترك أثراً مدمراً فى حياة الشعوب والأفراد فمعاداة الخطابات الشمولية ونقدها ضرورة الا أنه قاد الى آثار جانبية لا تقل تدميراً عن آثار القوة الصلبة الاثار تتمثل في القوة الناعمة التي تم استثمارها أيضاً من قبل تلك الدول في الوقت التي كانت ثورة ضدها تم تحويل مسارها وأعيد توظيفها في خدمة تلك القوى . أي أن السلطة هي إعادة استثمار الوجودية واحتواء خطابها والإسهام في انتشارها في أماكن أخرى من العلم خصوصاً في الشرق الأوسط إذ تمّ نشر أفكارها في المنطقة كجزء من القوى الناعمة الغربيّة في المنطقة والعمل على نشر قيم الوجودية التي لها رهانات مختلفة عن رهانات المنطقة القائمة على المقاومة والتحرر فجاءت أفكار الوجودية من أجل التحريض على هموم فردية وليس مجتمعية.

ص: 466

فتم إعادة انتاج تلك القيم ونشرها خارج محيطها الأوربي الى العالم والتأكيد على الأفكار والسلوكيات والشخصيات الأدبية والفلسفية التي انتشرت بالمنطقة في وقت اختفت الوجودية في الغرب وحلّت محلها البنيوية التي أحلّت مفهوم النظام والنسق بدلاً من مفهوم الذات وغيرها من المفاهيم التي اختفت غربيا تماما.

لكن تلك المقولات والأفكار التي عرفت في الغرب إذ إن الفلسفة الوجودية أيضًا ظهرت كردة فعل للفلسفة المثالية التي ترسي قواعد المثل والقيم بأنها ثابتة، وبخاصة الأفكار التي نادى بها الفيلسوف المثالي (هيجل)، من خلال نظريته: (الديالكتيكية)، التي كان مدارها المواضيع المهمة ؛ كمعرفة الله، والقيم الدينية والمسيحية، بينما نجد بأنّ الماركسية رحبت بفكر هيجل ، وأرست قواعد الماركسية التي رفضتها الفلسفة الوجودية وعارضتها؛ لأنها لا تعطي الإنسان الحرية المطلقة. ففي الوقت الذي تقدم فيه الفلسفة الوجودية تواريخ الأفكار؛ بوصفها مبدأ ومزاج وطراز سلوكي، وقد تم وصفها كونها كمذهب فكري وأدبي - كما مر بنا في ثنايا بحثنا - في أثناء الحرب العالميّة الثانية، وقد توصف تأثيراتها وحضورها في الأدب الفرنسي، وفي انتاج كثير من الأدباء الأوروبيين، وبرز ما يسمى: ب- «الأدب الوجودي»؛ الا أن مبالغتهم في نبذ كل موروث عقدي وأخلاقي وقيمي، ودعوتهم للحرية المطلقة من دون أي قيد أو حدود «كي تفتح له المجال أن يكشف العالم على حقيقته، والتخلص من حالة الكآبة والتشاؤم، وشرود الذهن، إلا أن القلق والخوف بدأ يراود المفكرين من جديد في هذا العصر حول مفاهيم الوجودية نفسها؛ لأنها أصبحت عائقًا وخطرًا كبيرًا على مصير الإنسانية(1)».

إذا لم يكن من يحسبون «الوجوديين» في الغرب أو في مقلديهم في الشرق الاوسط كصدى لهم كانوا يرددون أقوال الوجودية كما تجلّت في النصوص الأدبية شعر أو مسرح أو قصة او رواية أو في أفكار فلاسفة الوجودية فإن المقلدين لهذه الافكار مجرد مستهلكين لها وإن أسهموا في محاكاتها الا انهم يحاولون خلق

ص: 467


1- الفلسفة الوجودية وروادها، 1435ه.

مماثلة بين قيم بين قيم المجتمع الصناعي وما خلفه من حروب وأفكار وأشكال الاحتجاج وبين مجتمعات ما قبل الصناعة مستعمرة تحاول ان تحاكي رهانات وأفكار غريبة عنها وتعيد استثمارها وهي تردد الاقوال الوجودية نفسها. في وقت هذه الافكار، أصبحت سرطانًا ينخر في المجتمعات الغربية من خلال الانحلال الخُلقي الذي أصاب مجتمعهم بسبب فقدان المعيار أو المقياس. ولكن هذه الأفكار الوجودية استطاعت أن تنفذ إلى أذهان الناس في الوطن العربي، الذي يرتكز على الدين والقيم والمبادئ، وسأعرض بعض الأعمال والمجالات التي دخلت الوجودية فيها، ونفثت فيها أفكارها التي تعمق مشاعر القلق والعبث، وقد أسهم الاعلام الغربي والعربي معا في إشاعة تلك الافكار على الرغم من أن لكل منهم - أي الاعلام الغربي والعربي - أهدافاً مختلفةً ؛ الا إنها تسهم الى حد بعيد بتعميق التخدير والقلق من خلال الإعلام و الأعمال الدرامية، فلقد عملت تلك الاعمال على إعادة دمج السلوك لدى الكثير من الشباب بشكل جعلهم مغتربين عن مجتمعهم وقيمه وغريبين عن رهاناته ومشاكله. في حين أن تلك الافكار قد زرعت من قبل في المجتمع الغربي كمشاعر، منها: «القلق واليأس، نتيجة للإلحاد وعدم الإيمان، وهما من ركائز هذا المذهب؛ لذا يجب أن يعي الشباب المسلم حقيقة المذهب الوجودي وهو يتعامل مع إفرازاته الفكرية والأدبية»(1).الا «أن القلق والخوف بدا يراود المفكرين من جديد في هذا العصر حول مفاهيم الوجوديّة نفسها؛ لأنها أصبحت عائقاً وخطراً كبيراً على مصير الانسانية،.... واصبحت كالسرطان تنخر في المجتمعات الغربية من خلال الانحلال الخلقي الذي أصاب مجتمعهم بسبب فقدان المعيار أو المقياس(2)».

الخاتمة

يبدو أنَّ هذا الموقف من الأخلاق كان يتمظهر بأشكال متنوعة من التنظير الفلسفي أو من الأدب الوجودي قصة أو مسرحية أو رواية وكلها كانت تحرض الإنسان على أن يخلق قطيعة مع منظومة القيم السائدة فوجدوا فيها توقا يحدُّ من حرية الإنسان

ص: 468


1- الفلسفة الوجودية (1430ه) : المذهب الوجودي، موقع الألوكة، تم استيرادها بتاريخ 27/ 5/ 1435ه
2- يوحنا بيداويد ، الفلسفة الوجودية وروادها ، 19874.0=http://www.ankawa.com/forum/index.php?topic

كما تصوروه، ولكنَّ مبالغتهم في نبذ كل موروث عقدي وأخلاقي وقيمي، ودعوتهم للحرية المطلقة من دون قيد أو حدود (كي تفتح له المجال أن يكشف العالم على حقيقته، والتخلص من حالة الكآبة والتشاؤم، وشرود الذهن، إلا أن القلق والخوف بدأ يراود المفكرين من جديد في هذا العصر حول مفاهيم الوجودية نفسها؛ لأنها أصبحت عائقًا وخطرًا كبيرًا على مصير الإنسانية)(1).

تصوروا كما مر ذكرنا في تحليل كيركجارت أن «رجل الجمال» يعيش من أجل المتع الحسيَّة في وقت تصور «رجل الأخلاق» وهو الذي يعيش تحت لواء المسؤولية والواجب نحو المجتمع والدولة والإنسانية؛ ولذلك فهو يؤمن بالزواج ولكن لا علاقة له بدين أو غيره . أما «رجل الدين» وهو عندهم لا يحيا في الزمان، فلا صبح ولا مساء (ليس عند ربكم صباح ومساء)؛ ولهذا فهو متجرد عن الدنيا، وأحواله في الجملة هي تلك الأحوال المعروفة عند الصوفية. فهو مارس نقد الجانب السطحي من المنظومة التي تقدم المنافع واشباع الغرائز باسم الدفاع عن الحياة ومباهجها ولهذا قدم عليه الجانب الاخلاقي الذي يحرص على ما هو اخلاقي يعمق الشعور بالواجب ويقدس الروابط ويحرص ان يمنحها حقها وهو بهذا يرتقي على الجوانب الحسية الغرائزية صوب المسؤولية المجتمعية، وهو بهذا يرتقي بسلوكه عندما يجعل من الخلق القويم ولعل هذا يذكرنا بمفهوم الواجب عند كانط الا انه يرتقي اعلى من ماهو زمن دنيوي صوب ما يتعالى عن الدنيوية ويصبح قرين الأخروية عندما يربط كل شي بتجربته الروحية المشدودة صوب المقدس الذي يتجاوز الزمان والمكان. فهذه الفكرة تتعارض مع الفهم الوجودي الملحد الذي يقدم حرية الفرد على كل واجب وكل تجربة روحية .

ومن هذا حديث الوجوديين عن الوجود والزمان ومحاولة الجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل، فالوجود الإنساني مهموم بتحقيق إمكانياته في الوجود، والزمانيّة هى الوحدة الأصلية لتركيب الهم، والخلاصة - عندهم - أن الماضي يوجد

ص: 469


1- الفلسفة الوجودية وروادها (1435ه) : منتديات عنكاوا، تم استيرادها بتاريخ 1435/5/26ه.

في ذاته المستقبل، والمستقبل هو خارج الماضي، وفي الوقت نفسه ينطوي في ذاته على الماضي، والشيء نفسه يقال عن الحاضر في علاقته مع الماضي ومع المستقبل معاً، فالعلاقة بین هذه اللحظات الثلاث إذن علاقة اندراج واستبعاد معاً. ولعل هذا ما جاء به هدجر (فالعلاقة بين التخارجات الزمانية للحاضر والمستقبل والماضي هي تناظر العناصر الأساسية في الهم السقوط ، والمشروع ، الارتماء»، ليست رابطة توال في الزمان للحظات الزمان الثلاثة، ذلك ان الماضي ليس خلق والحاضر بوصفه شيئا لم يعد موجودا بعد والمستقبل هو «الامام» بوصفه ما ليس بعد ...).

لقد كانت ولادة الفكر الوجودي كمخرج من حال اليأس والكآبة والقلق الذي يساور الإنسان في العصر الحديث. في ظل الصراع مع الخطابات الأيديولوجية الفاشية والنازية والماركسية والخطاب اليبرالي، بمعنى كان ظهور هذه الفلسفة الوجودية كردة فعل للفلسفة المثالية التي ترسي قواعد المثل والقيم الثابتة، ولاسيَّما الأفكار التي نادى بها الفيلسوف المثالي (هيجل)، من خلال نظريته: (الديالكتيكية)، التي كان مدارها المواضيع المهمة؛ كمعرفة الله، والقيم الدينية والمسيحية. ونجد أنَّ الماركسية رحّبت بفكر هيجل، وأرست قواعد الماركسية التي رفضتها الفلسفة الوجودية وعارضتها؛ لأنَّها لا تعطي الإنسان الحرية المطلقة.

عَدَّ كثير من الباحثين الأفكار الوجوديَّة سرطانًا ينخر في المجتمعات الغربية من خلال الانحلال الخُلقي الذي أصاب مجتمعَهُم؛ بسبب فقدان المعيار أو المقياس.

ص: 470

مناقشة لأطروحات (جيمس ستيريا) الأخلاقية

نحو إزالة الوهم عن نسبية الأخلاق

مازن المطوري(1)

يدرك المطلعون على الفلسفة الأخلاقية أهمية البحث في إشكالية نسبية الأخلاق، وما تلقيه من نتائج وتداعيات على الواقعين الاجتماعي والسياسي، لا سيما في عصرنا الذي يُوسم بكونه عصر زوال الشموليات والسرديات الكبرى، والمبادئ الأخلاقية المطلقة، والقيم الأزلية الثابتة، وغدا عصر المرونة والتساهل والنسبية في كلّ شيء!

هذا الإطار يرى المفكر الأميركي جيمس رأى ستيربا أن الباحث الأخلاقي حتى يستطيع مواجهة تلك التحديات، عليه أن يمر بمعالجة إشكالية نسبية الأخلاق،

ص: 471


1- باحث وأستاذ في الحوزة العلمية - النجف الأشرف - العراق. تعرّض المفكر الأميركي وأستاذ الفلسفة في جامعة نوتردام بالولايات المتحدة جيمس ستيربا(James Sterba)، لإشكالية نسبية الأخلاق في كتابه: ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق. وقد سعى المؤلف فى هذا الكتاب إلى تفكيك الأبنية المعرفية لهذه الإشكالية، مشخصاً متطلباتها وعناصرها، بغية تحرّي أبرز ما ورد في ميدان معالجة التحديات التي يواجهها علم الأخلاق الغربي، المتمثلة في: البيئوية، والنسوية، والتعددية الثقافية. هنا مناقشة لأفكار ستيربا وأطروحاته في حقل النظريات الأخلاقية، وفيها يستعيد الباحث العراقي الشيخ مازن المطوري أبرز السجالات التي شهدتها مشاغل فلسفة الأخلاق في تاريخ الحداثة الغربية. المحرر - جيمس ب. ستیربا James P. Sterba باحث ومفكر أميركي - أستاذ الفلسفة الأخلاقية والسياسية في جامعة نوتردام، وله مجموعة كبيرة من الكتب والمقالات .

إذ ما قيمة إعطاء مقاربات لمسألة البيئوية أو النسوية والتعددية الثقافية إذا كانت الأخلاق نسبية تتمثل في رأي ووجهة نظر، وأن ما هو صحيح بالنسبة إليك خاطئ بالنسبة لغيرك. فمنهجياً يتطلب البحث في مقاربات تلك التحديات - التي يواجهها علم الأخلاق الغربي - أن نعالج أولاً إشكالية نسبية الأخلاق، إلى جانب كون الأخلاق لازمة عقلياً ومتطلبات الأخلاقية.

شرع ستيربا بإعطاء تصور إجمالي مقتضب عن نسبية الأخلاق، فقرّر أن الإنسان يوصف بكونه مؤمناً بالأخلاق النسبية إذا كان يرى أن الأخلاق تمثل وجهة نظر ورأي شخصي يقوله الإنسان في مختلف الأفعال، فقد يكون ما هو صحيح بالنسبة لك خاطئاً بالنسبة لغيرك، فالإجهاض قد يكون صحيحاً وأخلاقياً عند أناس، وغير أخلاقي عند آخرين، وهكذا الحال في المثلية الجنسية والإنعاش وغيرهما. وقرّر أن النسبيين يرون أن آراءهم في النسبية تحظى بتأييد واسع من قبل الآراء الأخلاقية المتنوعة، كما أنهم يجدون في التعارض الفعلي الواقع في المجتمع الواحد، شاهداً على صدق ما يقولونه(1).

متطلّبات النسبية الأخلاقية

بعد بيانه الموجز للمراد من النسبية الأخلاقية، قرر ستيربا أن النسبيين حتى يمكنهم الاستفادة من التنوع الأخلاقي القائم فعلاً في دعم ما يقولونه من كون الأخلاق مجرد رأي ووجهة نظر، لابد من توفر مجموعة متطلبات تجعل من نظرية نسبية الأخلاق محل قبول وتعطيها قوة. وتتمثل هذه المتطلبات في : وحدة الفعل والحيثية، الفكر الناضج، مرجعية الأخلاق، نسبية الحقيقة.

وحدة الفعل وشانية التقييم المختلف

حتى تستطيع نظرية النسبية الأخلاقية الاستناد للتنوع الأخلاقي القائم بالفعل لتحظى بالدعم، لابد لها من إظهار أنّ الفعل في نفسه من شأنه أن يكون صحيحاً

ص: 472


1- ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 12 - 13

وخاطئاً بغض النظر عن الحيثيات والزوايا الأخرى. إذ ما لم تكن هناك وحدة في الموضوع ووحدة في زاوية النظر للفعل فلا يمكننا القول: إنّ الواقع المتنوع في المواقف الأخلاقية يؤيد نسبية الأخلاق بشهادة اختلاف وجهات النظر بالنسبة للفعل الواحد. إذ إنّ مثل هذا التنوع مرجعه اختلاف زوايا النظر للفعل، ومن شأن ذلك أنّ يؤدي إلى اختلاف موضوع الحكم الأخلاقي ، بل إنَّ الواقع نفسه يؤكد لنا أن الفعل الذي تدينه مجتمعات معينة وتحظره لا يمثل نفس الفعل الذي تجيزه مجتمعات أخرى وتصفه بالأخلاقية. ويسوق ستير با بعض الأمثلة لذلك :

فالقتل الرّحيم الذي يجيزه شعب الاسكيمو لما يمثله من انتقال إلى وجود أسعد على وفق اعتقادهم، يختلف عن القتل الرحيم الذي تعارضه الجمعية الطبية الأميركيّةُ التي لا تؤمن بوجود عالم آخر أسعد من عالمنا. ومعنى ذلك أن دخول عنصر الإيمان بوجود عالم آخر أسعد من عالمنا وعدم الإيمان، أثر في اختلاف الفعل الذي انصب عليه الحكمان الأخلاقيان، ومن ثمَّ فتنوع الواقع الأخلاقي بالنسبة للقتل الرحيم راجع لاختلاف زاوية وجهة النظر للفعل، وهذا لا يعطي أن نفس الفعل من شأنه في ذاته أن يكون صحيحاً وخاطئاً.

كما أن وضع الأطفال المشوّهين في الأنهر بلطف من قبل شعب النيور لإيمانه أن هؤلاء الأطفال هم صغار الأحصنة التي يلدها الإنسان بالصدفة، يختلف عن الإقدام على قتل الأطفال الذي يدينه معظم الناس. فدخول عنصر التشوه أعطى بعداً آخر للمسألة.

والإجهاض الذي يمنعه بعض الناس بتبرير أن الجنين إنسان ناضج له حق الحياة كالآخرين، يختلف عن الإجهاض الذي لم تدخل فيه فكرة كون الجنين إنساناً ناضجاً له حق الحياة.

إن الفكرة التي يريد ستيربا تأكيدها من خلال تسجيله لهذه الأمثلة أن النسبية الأخلاقية إنما تحظى بالاعتبار والدعم من التنوع الأخلاقي القائم فعلاً، في ظرف

ص: 473

إثباتها أن الفعل المدان وغير المدان واحد وينظر إليه من زاوية واحدة، بنحو يكون بنفسه ذا شأنية الحكم بالصحة والخطأ عليه، فعند ذلك يمكننا القول: إنّ الأخلاق مرجعها للرأي الشخصي وأن ما يكون صحيحاً لديك يكون خاطئاً عند غيرك.

يبدو أن ستيربا في تأكيده على عنصر وحدة الموضوع وزاوية النظر، يريد أن ينأى بالنقاشات التي تجري في هذا الميدان عن الجدل، وحتى لا يكون كل باحث متقوقعاً في زاوية نظر معينة ويصب ملاحظاته ونقاشاته على وفق تلك الزاوية ونستغرق في الواقع المتعدد أخلاقياً، فما لم نحدد موضوع البحث جيداً في الرتبة السابقة فلن نتمكن من الوصول إلى مقاربة سليمة للمشكلة، ذلك أن كل باحث يتخذ وضعاً مختلفاً ينظر منه إلى المشكلة على شاكلة نسبية أينشتاين العامة!

سوى أنّ التشديد على أهمية إبراز صلاحية الفعل الواحد لأن يكون صحيحاً وخاطئاً، يعود بنا إلى البحث في الحسن والقبح سواء كانا عقليين أو عقلائيين، وكأنّ ستيربا يلمز من طرف خفي إتجاه برتراند راسل (1872 - 1970م) في تفسيره للحسن والقبح الذي سلك فيه مسلكاً شخصياً ذوقياً وأخضعهما للاعتبار الشخصي. فراسل يقيم مفهومي الحسن والقبح على أساس العلاقة القائمة بين المفكّر (الإنسان) والشيء الذي يبحث عنه ، فكلما كانت تلك العلاقة هي المحبة كان الشيء حسناً،وكلما كانت هي البغض كان الشيء قبيحاً، والحب والبغض يرجعان بنفسيهما إلى المنفعة والفائدة ولو من بعض الوجوه(1).

إنّ لازم هذا التفسير للحسن والقبح، للأخلاقي وغير الأخلاقي، أن تكون الأخلاق نسبية لا محالة، وعند ذلك ستحظى نسبيّة الأخلاق بدعم من التنوع الأخلاقي الفعلي الذي يرجع لتلك الرغبة والمحبة والبغض. أمّا وفق المقاربة التي قدمها ستيربا أنّ الواجب على دعاة النسبية تحديد الفعل نفسه أولاً، فبذلك نقترب من الحسن والقبح، بمعنى أنّ معيار الأخلاقية واللا أخلاقية يقوم على أساس النظر للفعل في نفسه وبتجرد عن كل نزعة، فعند ذلك نستطيع أن نقرر النسبية أو الاطلاقية في الأخلاق. والنسبية

ص: 474


1- المجتمع البشري، في الأخلاق والسياسة، برتراند راسل: 36 ،42،ترجمة عبد الكريم أحمد، مراجعة حسن محمود، مكتبة الأنجلو المصرية.

الأخلاقية كنظرية إنما تحظى بالاعتبار والدعم من الواقع الأخلاقي المتنوع، عندما يستطيع النسبيون أن يقرّروا في حالة من هذا القبيل - أي النظر للفعل الواحد في نفسه وبتجرد - إنّ الفعل من شأنه أن يكون صحيحاً وخاطئاً في ذات الوقت وبغض النظر عن كل اعتبار . أما إذا لم يستطع النسبيون الأخلاقيون إثبات ذلك، فسيكون من المتعذّر الركون إلى النسبية الأخلاقية، ويكون من الصعب على النسبيين في الأخلاق حينئذ الاستناد إلى التنوع والتعدد الأخلاقي الخارجي.

إنّ الذي ينفعنا في المقام - كما قرر ستيربا، وهو محق في ذلك - أن نرى الأفعال في ذاتها وفي عالمها، وليس في عالم الخارج المتزاحم الذي تتشابك فيه الأفعال، ولا تعرف العيش بسلام بسبب ما يلحقها من اعتبارات ومقولات أخرى. ومن ثم يكون الترجيح بين المتزاحمين راجعاً للمبررات والتجارب والغرائز وما يرتبط بذلك. والتنوع الأخلاقي المشاهد واقعاً والذي يستند إليه النسبيون في الأخلاق، مرجعه إلى النظر للأفعال والحكم عليها في عالم الخارج المتشابك، ومثل ذلك لا ينفعنا لتقرير صحة النسبية الأخلاقية، كما لا ينفع النسبيين الاستناد لهذا الواقع لتدعيم وجهة نظرهم. وإنما نريد النظر لأداء الأمانة بما هو أداء للأمانة وإرجاعها لصاحبها مجرداً عن كل اعتبار زائد من نفع أو مكافأة، لنرى هل يمتلك شأنية أن يكون صحيحاً وخاطئاً في الوقت ذاته، فإذا ما وجدناه فاقداً لمثل هذه الشأنية، وأنّه لا يمكن إلا أن يكون أخلاقياً حسناً، فهذا يعني أنّ الأخلاق مطلقة ولا تحظى النسبية بدعم واعتبار.

لا مراء في أنّ اختلاف الأحكام الأخلاقية في موضوع ما، وتنوع الآراء في المجتمعات المختلفة، بل والمجتمع الواحد، هو نتيجة طبيعية للنظر للأفعال في عالم الخارج. أي إنّ عالم المصلحة والمفسدة التي يقف الإنسان عليها بعد التجربة، والمصلحة والمفسدة هي بطبيعتها مقولات نسبية. فما هو نفع ومصلحة عند فرد أو شعب أو في مقطع تاريخي معين، لا يكون كذلك لدى فرد آخر أو مجتمع مختلف، أو في مقطع تاريخي ثان.

ص: 475

الأخلاق والمعرفة

بعد أن قرّر ستيربا ضرورة ملاحظة الفعل في نفسه لاختبار صلاحيته للاتصاف بالصحة والخطأ في وقت واحد، حتى يتمكن دعاة نسبيّة الأخلاق من تدعيم مقولتهم بالاعتماد على الواقع المتنوع، فالواجب بعد ذلك على وفق ستيربا يقضي أن يكون الحكم على الأفعال بالصحة والخطأ مستنداً لأفكار متأنية فضلى. أي بعد نضج عقلي وفكري. فحتى تحظى نظرية نسبية الأخلاق بدعم الواقع المتنوع لابد أن يكون حكم بعض الناس على فعل ما بالصواب مستنداً إلى أرقى مرتبة فكرية وصلوا إليها بعد التأمل والنضج، ويكون حكم الآخرين على نفس الفعل بالخطأ مستنداً لأفضل أفكارهم وبعد نضج تأملي. إنّ الأفعال التي يتعذر على الناس (كتفادي المواد المسرطنة في القرون الوسطى) بلوغها بأفضل أحكامهم ليست أفعالاً يصح القيام بها أخلاقياً، لأنّ الأخلاقية تتطلب إمكانية الوصول إليها نوعاً ما. وهكذا عندما نقيّم أحكام الناس الأخلاقية في الإطار الذي نظموها فيه سنتمكن أحياناً من معرفة أنّهم عَجَزوا عن التوصل إلى الأحكام التي نظنها صحيحة أخلاقياً. إذا صح ذلك فلن تكون أحكامهم متفاوتة أحكامنا من حيث وثاقة الصلة بالموضوع حتى وإن كان ما يظنونه صحيحاً ليس ما نظنه صحيحاً كالحاجة إلى النظافة في العمليات الطبية(1).

يعيد ستيربا الاختلاف والتنوع الفعلي المشاهد في الأحكام الخلقية إلى عدم توفر التشاور الكافي حول الموضوع قبل إصدار الأحكام، إذ ما لم نتوفر على معرفة الواقع بطريقة ما لا نستطيع أن نعطي حكماً خلقياً سليماً، ومن ثم يغدو الاختلاف الملاحظ في التقييمات الأخلاقية لفعل واحد ليس كما افترضه دعاة نسبية الأخلاق، وإنما مرجعه إلى الفشل في التفكير بحكمة حول تلك الأفعال، فثمة معادلة بين تنوع الأحكام الخلقية على فعل واحد وبين افتقاد التفكير المتأني السليم من جهة، وبين الاتفاق في الحكم الخلقي وبين التفكير الناضج المتأني .

وعلى وفق هذه المعادلة ستنحسر دائرة المؤهلين لإصدار الأحكام الأخلاقية، إذ

ص: 476


1- ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 14.

ليس كلّ الناس يمتلكون ذلك القدر الكبير من المعرفة والتأمل الفكري والحكمة. ومعنى ذلك أنّ الإيمان بنسبية الأخلاق أو إطلاقيتها ليس من شأن آحاد الناس من مراهقي الفكر ونيّئي الحكمة، وإنما هو شأن الناضجين فكرياً ومعرفياً، وهذا ما يقودنا إلى تحديد مرجعية لإصدار الأحكام الخلقية تتمتع بذلك القدر الكافي من الفكر والنضج والحكمة يؤهلها لإصدار أحكام عملية خلقية تحدد ما ينبغي وما لا ينبغي فعله للناس.

ويحق لنا هنا أن نثير بعض الأسئلة حول هذا العنصر . فهل يتوقف إدراك الحكم الأخلاقي على النضج العقلي والفكري ؟ أم أنّ الأحكام الأخلاقية مدركات من سنخ آخر مختلف عن الفكر والتأمل النظري؟ وهل الحكم الأخلاقي المقصود هنا هو أصل الحكم الأخلاقي والمبادئ الأخلاقية والقيم الأساسية أم مفردات الأحكام الأخلاقية التي تخضع لتفاصيل الواقع ؟ ولعلنا نتوقف عند شيء من ذلك في قادم الحديث.

مرجعية الأخلاق

علاوة على عنصري تحديد الموضوع والنضج العقلي، فالمطلوب من نظرية نسبية الأخلاق أن تبين لنا المرجعية التي تستمد منها وتنسب إليها وتوسم بالأخلاقية باعتبارها. فهل النسبية ناشئة من النسبة إلى مجتمع ما صغيراً كان أم كبيراً؟ أم إلى المعتقدات الشائعة؟ هنا يقرّر ستيربا الآتي: يجب أن تخبرنا النسبيّة الأخلاقية أيضاً بما يُفترض أن تنسب إليه الأخلاقية. فهل عليها أن تنسب إلى المعتقدات الشائعة في مجتمع ما أو لدى جماعة أصغر أو لدى أي فرد؟ إذا كانت متصلة بأي من هذه المعتقدات فإنّ أي فعل (القتل بالتعاقد مثلاً) قد يكون خاطئاً من وجهة نظر مجتمع معين وصائباً من وجهة نظر إحدى العشائر في ذلك المجتمع (المافيا مثلاً) وخاطئاً مجدداً من وجهة نظر أحد الأفراد المعنيين في ذلك المجتمع أو تلك العشيرة. ولكن في هذه الحالة لن يتمتع الأفراد بأي أسس منطقية للتقرير بشأن ما يتعين عليهم القيام به إذا أخذنا كل شيء في الاعتبار(1).

ص: 477


1- ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق:15.

حقاً إننا ما لم نحدّد المرجعية الصحيحة والسليمة للأخلاق فإنّنا سندخل في فوضى النسبية الضحلة وضياع البوصلة الأخلاقية. إذ ما لم يكن هناك أساس موضوعي مطلق للأخلاق فعند ذلك لن نتمكن من القول أنّ مجموعة من الأفكار الأخلاقية أفضل من مجموعة أخرى، وإنما تكون المجموعة الأولى صحيحة وأخلاقية بتبع الأساس الذي يؤمن به مجتمع معين، فيما تكون المجموعة الثانية صحيحة وأخلاقية بتبع الأساس الذي يؤمن به مجتمع آخر، فاستحسان مجتمع لأخلاقيات ستالين وهتلر وموسوليني لا يعتبر تدهوراً أخلاقياً وتراجعاً في القيم الإنسانية على وفق ميزان النسبية الأخلاقية، وما يترتب على ذلك من انعدام مرجعية موضوعية مطلقة، فما لم يحدد النسبيون مرجعية الأخلاق بشكل مقبول فعند ذلك سندخل في نسبية عشوائية، ولن تتمكن النسبية حينئذ من المحافظة على شيء من العقلانية أو تحظى بدعم الواقع الأخلاقي المتعدد.

يرى ستيربا أنّ دعاة النسبية الأخلاقية حتى لو استطاعوا إظهار مرجعية للأخلاق جديرة بالتفضيل على سواها، فإنّ ذلك لن يعدم المشاكل أمام النسبية الأخلاقية، إذ ستبرز حينئذ إشكالية طريقة اتخاذ القرارات الخلقية، فهل يتحتم على الأفراد حينئذ - وحتى يكون سلوكهم أخلاقياً - أن يعمدوا إلى سؤال من خبراء تلك المرجعية المناسبة عن الطريقة الفضلى للسلوك الأخلاقي أو بما يتعين القيام به؟ إن معنى ذلك أن يظلّ أفراد ذلك المجتمع منتظرين لقرارات خبراء المرجعية حتى يستطيعوا اتخاذ ما يلزم القيام به في سلوكهم وتداعيات حياتهم، وهذا بدوره يعطّل فاعلية الأخلاق في المجتمع وينتج شللاً وإعاقة سلوكية.

أو قد يُفترض أنّ خبراء تلك المرجعية يقومون بدءاً بتقديم لائحة لما هو لائحة لما هو الصحيح وما يلزم القيام به وما هو خاطئ ولا ينبغي فعله، ثم يقوم أفراد ذلك المجتمع بالتصويت ليكون رأي الأغلبية هو الميزان في تحديد السلوك الأخلاقي في المجتمع. إنّ هذه الفرضية وإن كانت مقبولة بمستوى معين على وفق ستيربا، وتعطي للأخلاق بعداً تعاقدياً إلا أنّها تتطلب تحديد بعض الأسس المطلقة غير النسبية وغير الخاضعة

ص: 478

للتعاقد تنطلق منها لتؤسس عليها فرضيتها في وجوب رعاية العقد الأخلاقي، كمبدأ رعاية المصلحة العامة مثلاً.وهذا يمثل خروجاً على ادعاء النسبيين في أنّ الأخلاق تتمثل في رأي ووجهة نظر فحسب(1).

مساءلة ستيربا

أفهم أنّ مراد ستيربا من هذا النقاش في هذه النقطة بالتحديد الوصول إلى النتيجة التي يؤمن بها وقررها بعد ذلك في مقاربته لإشكالية التعددية الثقافية، من التأكيد على أنّ الأخلاقيات المدنية وحدها القادرة على تخطي النسبية ويمكن الدفاع عنها، وهي في الوقت ذاته قادرة على تأمين أسباب كافية متوفرة لجميع من تُطبق عليهم للتقيّد بمتطلباتها، كما تعطي تبريراً لاستخدام القوة لتطبيق تصوراتها وإمكانية إلقاء اللوم على غير المتقيّدين بها(2).

حتى تستطيع النظم الأخلاقية - كما يقرر ستيربا - تبرير استخدام القوة ضد غير الملتزمين بها، عليها أن تبرز لنا أسباباً كافية لكي يلتزم بها جميع الناس بلا استثناء، ومثل هذا الأمر غير متوفّر في الأسباب الدينية، لأنها لا تقدم تبريراً سوى للمؤمنين بها، ومن ثم تعجز عن تقديم تبرير لاستخدام القوة من أجل تطبيق متطلباتها الأخلاقية(3).

وستيربا في هذا التوجه لا يختلف كثيراً عما قرّره والتر ستيس (1886 - 1967م) من أن الكف عن الإيمان بالأساس الديني للأخلاق، وإن كان ينتج لنا نسبية أخلاقية، إلا أنّنا يمكننا تجاوز ذلك. أي إنّ إشكالية الذاتية التي تقودنا للنسبية، من خلال القول بوجود أساس دنيوي يمكن أن يكون ثابتاً وراسخاً بطريقة معقولة لا يؤدي إلى نسبية عشوائية. كما شرح ذلك تفصيلاً في كتاب الدين والعقل الحديث(4).

ص: 479


1- المصدر نفسه : 16
2- المصدر نفسه : 128 126-، 161.
3- المصدر نفسه : 126.
4- الدين والعقل الحديث، والتر ستيس: 289 فما بعدها: ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى 1998م.

الواضح أن ستيربا ينتمي في الفلسفة الخُلقية إلى المدرسة الكانطية المعدّلة والمطوّرة من قبل أستاذ الفلسفة السياسية في جامعة هارفرد جون رولز (1921 - 2002م)،والمدرسة المعروفة بنظرية العدالة والإنصاف، مع صياغة ستيربا نفسه لتجاوز مشكلة حقوق الحيوان والعدالة البيئية. وتنص هذه الصيغة على الفتوى التالية: قم بتلك الأفعال التي سيُوافق عليها بالإجماع خلف ستار الجهل من وجهة نظر أولئك الذين يتأثرون بها(1).

وعلى وفق هذه الصيغة يكون الشخص أخلاقياً عندما تتطابق أفعاله مع المباديء التي يختارها الناس بالإجماع، وتحدد تلك المباديء التوزيع الملائم للحريات الأساسية والفرص والفوائد الاقتصادية، وحقوق الناس وواجباتهم تجاه المصالح الاجتماعية.

ولكن إلى أي مدى يصح ما ذكره ستيربا؟ وهل تتجاوز مقاربته الوقوع في إشكالية النسبية التي هرب منها ؟ وهل يمكن لمقاربة الأخلاق المدنية أن تنأى بنفسها عن الملاحظات التي سجلها ستيربا على النسبيين في موضوع مرجعية الأخلاق؟

لا يعنينا كثيراً الآن التوقف عند كل هذه الملاحظات، ولكننا سنشير لبعض ما يناسب هذا المقام في فقرة لاحقة، لنرى هل إنّ ما يقدمه لنا الدكتور ستيربا من أخلاق دنيوية مدنية وفق الصيغة الكانطية المعدلة يتجاوز النسبية أم لا وذلك بغض النظر عن مواضع الاتفاق والاختلاف مع الأخلاق الكانطية؟

نسبية الحقيقة

لقد افتتح جيمس ستيربا أفقاً آخر فى نقاش دعاة نسبية الأخلاق. عنيتُ به نظرية المعرفة وما تقرره من كون الحقيقة مطلقة أو نسبية، التي تعدّمن مُهمات مسائل الابستمولوجيا. وقد أراد ستيربا بذلك اختبار نظرية نسبية الأخلاق داخلياً، ذلك أن كل نظرية حتى تستقيم لابد أن تحظى بالانسجام داخلياً مع نفسها وفق قانون الهوية واستحالة التناقض. فالإشكالية المهمة التي تواجه دعاة نسبية الأخلاق تتمثل في أنّ

ص: 480


1- ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 46. وتلاحظ تفاصيل رؤية رولز في: العدالة كإنصاف، إعادة صياغة، جون رولز، ترجمة الدكتور حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، الطبعة الأولى 2009م.

هذا الإدعاء نفسه ليس نسبياً، وإنما هو إدعاء مطلق لكل زمان ومكان، فهو يقرر حقيقة تقول : إنّ الأخلاق نسبية ولا يمكن أن تكون إلا نسبية، وهذا تناف بين. إذ كيف تكون الأخلاق حقيقة نسبية وهي تقرر لنا ذلك بشكل مطلق ؟ إذ ما لم نؤمن بأنّ الحقيقة مطلقة فإنّنا نعجز عن القول إنّ الأخلاق نسبيّة لأننا بذلك نطلق القول بنسبية الأخلاق

ونقرر النسبية كحقيقة مطلقة.

ویرى ستيربا أنّ نسبية الأخلاق قد يمكن الدفاع عنها أمام هذه الإشكالية بافتراض أن القاعدة التي تقول : الأخلاق نسبية ليست قاعدة أخلاقية ولا تقرر حكماً أخلاقياً، ومن ثمّ فافتراض أنّها مطلقة لا ينافي نسبية الأخلاق! ولكن مثل هذه المقاربة كما يقرر ستير با لا تصمد كثيراً في الدفاع عن نسبية الأخلاق، ذلك أن الحقيقة إذا لم تكن نسبية فما هو المبرر للاعتقاد بأنّ الأخلاق نسبية، وبجملة أخرى: ما هو المبرر للاعتقاد بأنّ العنصر الأخلاقي الجيّد نسبي مع الإيمان بأنّ الحقيقة ليست نسبية؟!

ويمكن أن تصاغ هذه الإشكالية بشكل آخر بأنّ يقال: إنّ دعاة نسبية الأخلاق إما أنهم يفترضون أنّ دعواهم حقيقية وإما أنهم لا يفترضون ذلك. وواضح أنّ الافتراض الثاني لا قيمة له لأنه لا يحكي عن مضمون معتبر، ولا يتصور أنّ دعاة نسبية الأخلاق يقولون به، لأنّهم يريدون تقرير حقيقة تقول إنّ الأخلاق نسبية وليست مطلقة لكل زمان ومكان، واستندوا في تقرير ذلك إلى الواقع المتنوع أخلاقياً. وحينئذ فهذه الحقيقة إما أنّها نسبية وإمّا أنّها مطلقة. فلو كانت نسبية فهي قاصرة عن تقرير أنّ الأخلاق نسبية، إذ حتى يمكنها تقرير ذلك لابد من أن تخرج عن بزتها النسبية للإطلاق، فإذا كانت مطلقة، وكانت الحقيقة غير نسبية، فحينئذ ما هو المبرر للاعتقاد الفعلي بأنّ العنصر الأخلاقي الجيد والصحيح نسبي ؟!

أما تبني القول بنسبيّة الحقيقة فهو يولّد إشكالية الجذر ونقائض المعرفة (البارادوكس)، لأنّ القول بنسبيّة الحقيقة حقيقة ، فإذا شملتها قاعدة نسبيّة الحقيقة وقعنا في التناقض (بارادوكس)، إذ مع التسليم بنسبيتها نسمح لنقيضها وهو الحقيقة المطلقة بالحياة، وإذا استثنينا القاعدة من الشمول لنفسها قضينا عليها وعلى كونها قاعدة!

ص: 481

إنّ النسبيّين في النظرية الخلقية يعجزون - كما يقرر ستيربا - عن تفسير وبيان السرّ في عدم التزام نظريتهم بالنسبية في مدعاها، ومن جانب آخر يعجزون كذلك - فيما لو التزموا بأنّ الحقيقة مطلقة - عن بيان مبرر مقبول لالتزامهم بكون الحقيقة مطلقة، الذي يمثل مقولة خصومهم!

هكذا يضع ستير با دعاة نسبية الأخلاق أمام أربعة إشكاليات، تحتاج للمقاربة حتى تتمكن نظرية نسبية الأخلاق من الاستناد للواقع المتعدد والمتنوع خُلقياً لتدعيم وجهة نظرها القائلة بأنّ الأخلاق مجرد رأي ووجهة نظر. وقد لخص ستيربا الإشكاليات الأربعة قائلاً: أولاً ، يصعب على النسبيين الأخلاقيين إظهار أنّه في وسط التنوع الأخلاقي القائم هناك أفعال كافية متوفرة يتشاور بها الناس، بحيث يحكم على الفعل نفسه بأنه صائب من قبل البعض ، وخاطئ من قبل آخرين يتبعون جميعاً أفضل مشاوراتهم الأخلاقية . ثانياً، يصعب على النسبيين الأخلاقيين تحديد الجماعة المرجعية المناسبة التي ستحدد من خلالها الأخلاقية ثالثاً، حتى لو افترضنا إمكانية تحديد الجماعة المرجعية المناسبة، يصعب على النسبيين الأخلاقيين تفسير لم لا تلتزم نظريتهم بشيء من القيمة النسبية للأحكام الأخلاقية من الدرجة الأولى على الأقل. أخيراً، يصعب على النسبيين الأخلاقيين تفسير سبب التزامهم ببيان غير النسبيين للحقيقة(1).

لكن ستيربا في الوقت الذي أبرز هذه الإشكاليات أمام دعاة نسبية الأخلاق، وجعلها نظرية غير قابلة للتصديق، رأى أن ذلك لا يهزمها بشكل كامل، ولست أدري إنّ كان ينطبق ذلك على الأخلاق المدنية التي يؤمن بها !

ص: 482


1- ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: 17

ملاحظات ختامية

بداية نحن نختلف مع دعاة نسبية الأخلاق في اتخاذهم المنهج التجريبي طريقاً للكشف عن الأخلاق والتعامل معها بوصفها معطى تجريبياً محسوساً. فاتخاذ المنهج التجريبي يقضي على وجود مبادئ أخلاقية مطلقة لكل زمان ومكان. فالفيلسوف التجريبي يلج الفلسفة الخلقية بلا سند قبلي غير إخلاصه لنزعته التجريبية وأن تكون نتائج بحثه منسجمة معها. وهذا يفرض عليه أن لا يمنح قضايا الأخلاق شيئاً مختلفاً عن سائر قضايا الواقع التي يحاول الكشف عنها تجريبياً، ومن ثم فهو يستبعد العقل وسلطانه وضروراته، ويفسر الأخلاق بعيداً عن كل معطى قبلي عقلي، وحينئذ يكون من الطبيعي جداً أن يقول بنسبية الأخلاق ويفسرها تفسيراً حسياً، ويقيمها وفق قاعدة المنفعة واللذة وغيرهما من المقولات.

من جهة ثانية، نوافق ستيربا في تسجيله أصل الإشكاليات الأربعة على دعاة النسبية الأخلاقية، ولكننا نختلف معه منهجاً ونتيجة، وإن اتفقنا في رفض مقولة نسبية الأخلاق، ولكن المنطلق والفضاء والنتائج مختلفة. ونختم بمجموعة ملاحظات:

أولاً: نحن نقرّ أنّ لكل مجتمع ونظام قائمة من الأخلاقيات يلتزم بها وأتباعه، ويوصف بالأخلاقية تبعاً لالتزامه بتلك القائمة، ونتيجة ذلك نسبية الكثير من المفاهيم الأخلاقية المتداولة في العالم المعاش. ولكن هذه النسبية تختلف عمّا يقوله دعاة نسبية الأخلاق، فهي نسبية لاحقة للتجارب البشرية والظروف الاجتماعية والتاريخية والمصالح والمفاسد التي يعمل بنو البشر على اكتشافها. ومثل ذلك لا يلازمه أن تكون الأخلاق في واقعها نسبية، ولا وجود لمعايير ومقاييس أخلاقية مطلقة ومتعالية على التجارب والظروف المختلفة، يدركها العقل بالحدس والبداهة بعيداً عن كل تجربة، كما في اعتقادنا بعقلية الحسن والقبح. فالنسبية التي ننكرها هي نسبية الأخلاق في الواقع وعالم الثبوت وعالم الأفعال في ذاتها، إذ للقيم الأخلاقية والمبادئ الأساسية في هذا العالم استقلال تام عن تقييماتنا الخاصة وآرائنا ووجهات أنظارنا، وإنما تفرض نفسها بطريقة أولية حدسية، فالمبادئ الأخلاقية موضوعية قائمة

ص: 483

بذاتها، وأما إدراكنا لها، أو لتفاصيل المواقف الأخلاقية في العالم المعاش المتزاحم المتشابك، فهو يتغير بحسب تغير الزاوية التي نوجه منها رُؤيتنا لتلك القيم، وبحسب الغايات الأساسية التي يؤمن بها كل مجتمع، وحسب سُلّم الترجيحات بين الأهم، والمهم، والمتزاحمين، الذي يختلف باختلاف الأنظمة الفكرية، وإدراكها للمصالح والأولويات وفق رؤيتها لمجمل ما يتصل بحياة الإنسان.

وبجملة أخرى: نحن نقرّ بالنسبية التوصيفية ، بمعنى أن المجتمعات فضلا عن الأفراد مختلفة اختلافاً شاسعاً حول بعض أو جميع الأحكام الأخلاقية، وهذه النسبية لا تتضمن حكماً بالصحة أو الخطأ على حكم من تلك الأحكام، وإنما تتضمن توصيفاً لوجود تعدد في الأحكام الأخلاقية. وأما المرفوض فهو النسبية الماوراء الأخلاق، بمعنى نفي وجود حكم أخلاقي مطلق في الواقع، لأن الأخلاق - كما تفترض النسبية الماورائية - ترجع للإحساس وسليقة الإنسان ورأيه والتعاقد والتوافق المجتمعي، ومن ثم لا يكون اعتبارها وأخلاقيتها مطلقة وعامة.

ثانياً : إضافة لما سجّله ستيربا على دعاة النسبية الأخلاقية، يمكن أن يلاحظ : إنّ دعاة النسبية الأخلاقية انطلقوا في تأسيس رؤيتهم من أخذ التنوع والتعدد الأخلاقي في الواقع كأمر مسلّم لا نقاش فيه، أي أنهم بعد إذعانهم بالواقع المتعدد أخلاقياً في حياة الإنسان انطلقوا في عملية تفسير ذلك الواقع الأخلاقي المتنوع، فأرجعوه إلى الآراء ووجهات النظر. فالأخلاق إنما تتعدد وتكون نسبية بسبب ما تمثله من آراء ووجهات نظر. وهنا من حقنا التساؤل: هل هذا التفسير للواقع الأخلاقي المتعدد يتضمن توصيات أخلاقية عملية أم لا يتضمن ذلك؟ فهل رؤية دعاة نسبية الأخلاق مجرد إخبار عن الواقع وتفسيره لا أكثر ، أم أنّها تتضمن مضافاً لذلك توجيهات وتوصيات عملية تترتب على القول بأنّ الأخلاق نسبية، كاحترام أخلاق الآخرين ومنظوماتهم العملية وعدم جواز فرض النظم الأخرى عليهم تحت أي تبرير؟

فإنّ كانت رؤيتهم لا تتضمن أي توجهات عملية سلوكية، وإنما يقتصر دورها

ص: 484

على تفسير وبيان أسباب ذلك التنوع الأخلاقي الواقعي، فمثل هذه الرؤية حينئذ لا تقدم لنا كثيراً، وإنما تظل عزاءً يُسلي به النسبيون أنفسهم، ومن ثم فليس لرؤيتهمتأثير على خيارات الآخرين الذين يؤمنون بإطلاقية الأخلاق وينطلقون فی ذلك من منهج مختلف عما هو لدى النسبيين، سواء في ميدان الأخلاق أم فی ميدان نظرية المعرفة وتفسير الحقيقة .

أمّا إذا اختاروا الشق الأول، وقالوا بأنّ هذه الرؤية تتضمن توصيات عملية أخلاقية بضرورة احترام أخلاق الآخرين وعدم التعدي عليها وفرض أخلاق أخرى انطلاقاً من نسبية الأخلاق، فهذا يعني حينئذ أنهم تحولوا من تفسير واقع التعدد الأخلاقي والحكاية عنه إلى إعطاء توصيات عملية سلوكية تنتمي لميدان الحكمة العملية وما ينبغي وما لا ينبغي فعله. ومثل هذا الانتقال، أي من أحكام الواقع إلى أحكام الواجب، من نسبيّة الأخلاق واقعاً إلى ضرورة احترام منظومة أخلاق الآخرين عملاً، غير مقبول منطقياً. إذ لا يمكن استنتاج قواعد الحكمة العملية والسلوك والتشريع والأخلاق من الواقع وما يتضمنه من قوانين منطقياً، فهذه الانتقالة تفتقد للأساس المنطقي، لعدم وجود علاقة استنتاجية منطقية بين أحكام الواقع وأحكام الواجب، كما سجّل ذلك الفيلسوف الإسكتلندي المعروف ديفيد هيوم أمام البحث الأخلاقي والقيمي عامة(1). وهذه الانتقالة كان ستير با قد عابها على علم الأخلاق الغربي في استجابته لإشكالية البيئوية(2).

ثالثاً: بشأن الإشكالية الأولى التي سجلها ستيربا على دعاة نسبية الأخلاق، نقول: إننا برغم من تسليمنا بما ذكره ستيربا من ضرورة النظر للأفعال بما لإظهار شأنيتها وصلاحيتها للاتصاف بالصحة والخطأ في وقت واحد من شخصين مختلفين، إلا أنّ ذلك ليس مطّرداً في كل الأفعال، إذ ثمة أفعال ليست بالقليلة يقف العقل عاجزاً عن إدراك الصحة والخطأ فيها أو الأخلاقية واللا أخلاقية مهما كان مزوداً بالتأمل والتأني. ومثل هذه الموارد تمثّل عقبة أمام التوجه الليبرالي الذي يطمح لإخضاع كل شيء

ص: 485


1- الموسوعة الفلسفية المختصرة: - 532 531.
2- ثلاثة تحديات أمام علم الأخلاق: -80 76

لعقله. ومذهب الأخلاق الكانطية بأي صيغة كان وبمقولاته القبلية كمفهوم الواجب، يعجز عن أن يكون مقياساً لشريعة أخلاقية من دون أن تتلوّث الأحكام التفصيلية الأخلاقية بالميول والنوازع الحسية والنفعية. ثمة أسئلة طرحها نفسه عن الانتحار والكذب والإحسان، تبين لنا صعوبة أن يكون الحكم أخلاقياً وسليماً من النوازع والاعتبارات الأخرى.

هذه الملاحظة تجري فيما ذكره ستيربا في الأخلاق المدنية، ومن ثمّ يكون رجوع إلى المقاييس النسبية المختلفة بحسب المجتمعات وما تقدره من أوليات وما تزودها به التجارب والخبرة من مصالح.

بعد أن قرّر كانط حرمة الانتحار وحظره أخلاقياً لأنّه يمثل انتهاكاً للإنسانية! عاد ليطرح سؤالاً تركه بلا جواب، يتمثل في حكم أن يقدم الإنسان على موت محقق لأجل إنقاذ الوطن، فهل يعد ذلك من الانتحار ؟ وهكذا طرح أسئلة فيما يرتبط بالكذب والإحسان التي حار في جوابها، فضلاً عن التعليل بانتهاك الإنسانية، هذا المفهوم الفضفاض الذي لا يعرف الحدود والقرار، وتختلف الأنظار بشأنه!

هذا يعني أنّ المبدأ الصوري في الأخلاق الكانطية التي تبنّاها جون رولز وجيمس ستير با تعديلات وإضافات، فاقد لإمكانية أن تكون مقياساً تنضبط على أساسه مع قواعد التشريع الأخلاقي. ذلك أن التشريع يلاحظ السلوك والأفعال في عالم التجربة والواقع والخبرة، عالم الممارسة الإنسانية، والأفعال في هذا العالم كما ألمحنا لذلك مسبقاً، لا تعيش بسلام، وإنما تلتبس وتتشابك بعضها مع بعض، وتتزاحم، فقد يكون الفعل الواحد مصداقاً للفضيلة والرذيلة في وقت واحد. وهذا المعنى يسري على سائر المقولات، فالحرية على سبيل المثال التي هي قاعدة الإلزام الأخلاقي وجوهر السلوك وميزان المسؤولية، تخضع في عالم الممارسة لمحددات موضوعية، فهي حرية في عالم العقل الخالص، ولكنها في عالم الممارسة تلتبس بمعوقات الطبيعة، ولذا يجعلها أرباب التشريع مرنة قابلة للاستثناء والتخصيص، ومن هذا نعرف السرّ في تعبير فقهاء التشريع الإسلامي ((ما من عام إلا وقد خُص)).

ص: 486

رابعاً: لقد سجل ستيربا في ثاني إشكالية تتطلب مقاربة من قبل دعاة نسبية الأخلاق، أنّ الوصول للحكم الأخلاقي الصائب على فعل ما لابد أن يكون بعد النضج العقلي والتأمل الفكري وأفضل أفكار الإنسان. ويبدو لنا أن ستيربا وقع في نفس الإشكالية التي وقع فيها النسبيون الأخلاقيون لما استندوا للواقع المتنوع لتقرير أن الأخلاق نسبية ! إذ من الواضح أن سلوك غالب البشر محكوم بالمصالح والمفاسد والعدوان والأنانية، ولا علاقة له بالأفكار العقلية، إلا أنّ ذلك لا يصح مستنداً للقول: إنّ الحكم الأخلاقي الصحيح المنصب على الفعل ذاته إنما يتوصل إليه بعد التأمل الفكري والتأني، فخضوع سلوك البشر للغرائز والعدوان والدوافع النفسية والفسلجية لا ينفي وجود مدركات أخلاقية بديهية لا تتوقف على ملاحظة أو تأمل فكري ونضج تشاوري. ولعل نظرة بسيطة إلى تاريخ الأفكار والأشخاص تبین لنا ذلك. فالفيلسوف اليوناني أرسطو طاليس له فتاوى أخلاقية تدخله في جملة المنحطين أخلاقياً برغم مقامه العلمي الشامخ، فيما نجد عكس ذلك لدى تلميذه الإسكندر المقدوني. فعلى الرغم من عدم صحة المقايسة بينهما في الفكر والفلسفة والنضج العقلي، إلا أنّ الإسكندر يعدّ أكثر نبلاً وأخلاقيةً من أرسطو

وهذا يدلنا على أنّ الأخلاق غير تابعة للعلم ولا ترتبط به ولا بالنضج العقلي والتأمل الفكري، وإنما هي خاضعة للإدراك البديهي لمبادئ السلوك العملي من الحسن والقبح، واستجابة لنداء الضمير.

ويبدو أن ستيربا في هذه الملاحظة قد نظر للأفعال في عالم تشابكها الخارجي، وما يتداخل في ذلك من مصالح و مفاسد وغرائز وطبائع، فطلب أن نرجئ الحكم الأخلاقي إلى ما بعد التشاور والنضج والتأمل، حتى يكون حكمنا أكثر أخلاقية وأقرب رحماً من الواقع. وهذا خروج عما قرّره في الإشكالية الأولى.

إنّ المعرفة النظرية والفكر لا ينتجان نظاماً أخلاقياً ولا قواعد سلوكية. سوى أنّ التقدم المعرفي والنمو الفكري يُسهمان في اكتشاف آليات التطبيق، ومعرفة الوسائل الأنجع في تجسيد الأخلاق وتحقيق المبادئ القيمية من خير وعدالة؛ وحينئذ يحق لنا

ص: 487

التساؤل: هل أسهمت النزعة التجريبية المتقدمة والمذهب المادي وأخلاقه النفعية في بناء عالم أفضل يتشارك فيه جميع الآدميين من الشعوب المختلفة في قراراتهم وتقرير مصيرهم، وهي الفكرة التي تدعي الليبرالية أنّها تمثل جوهر مشروعها؟ إنّنا لا نحتاج بعد هذا التساؤل لاستعراض قصص الواقع ومآسيه!

خامساً: إنّ ستيربا وفي إطار سعيه لمقاربة التحديات الثلاثة التي يواجها علم الأخلاق الغربي، تبنى النظرية الأخلاقية التي قال بها جون رولز في العدالة والإنصاف مع إضافات، التي تنص على أن الشخص يكون أخلاقياً عندما تتطابق أفعاله مع المبادئ التي يختارها الناس بالإجماع، ومن ثم اعتقد ستيربا أنّ الأخلاق المدنية الوحيدة القادرة على تخطي إشكالية نسبية الأخلاق، وتوفّر لنا مبررات لتطبيقها على الجميع واستخدام القوة ضد مخالفيها. ولنا أن نسجل هنا:

أ): إننا كيف نستطيع الاختيار في ظل حجاب الجهل؟ وكيف يمكن للإنسان في جو الفراغ وغياب النموذج وعلامة الطريق أن يقرّر ؟ فإذا ما كان الإنسان يجهل حقيقة ذاته فمن العبث حينئذ الطلب منه أن يتخيّل خطةً لحياته ! فإذا ما جُرِّد الإنسان عن الجماعة التي ترفده بهويته، وجُرِّد عن نظمه وتقاليده، فسيكون من المتعدّر عليه اختيار أي شيء على الإطلاق.

ب: إنّ هذه النظرية تفترض اجتماع أشخاص لاختيار القواعد والمبادئ التي ينبغي أن تقود بنية المجتمع وتوزّع الخيرات من حقوق وحريات وثروات وغيرها، وهؤلاء في ظرف توفرهم على الوعي بالمعطيات المتصلة بتاريخ الإنسانية، جاهلون كل الجهل بخيراتهم ومنافعهم الفردية الخاصة في الوضع المستقبلي القادم بعد إقرار العقد. وهذا هو معنى ستار الجهل الذي تحدث عنه رولز وستيربا، فلولا هذا الحجاب لما خضع اختيار مباديء العدالة للعقلانية ولتماهى مع النفعية.

وهنا يحق لنا القول : إنّه ما لم يكن هناك فهم مسبق لمعنى الخير وآلية تطابقه مع رعاية حقوق الآخرين، وما لم يكن هناك إدراك قبلي أن هناك حقوقاً وواجبات، لما

ص: 488

استطاع خبراء الأخلاق المدنية المؤسسون للعقد، أن يقرّروا أن الفعل الأخلاقي هو الذي يتطابق مع المبادئ التي اختارها الناس بالإجماع تحت ستار الجهل!

ج): من حقنا أن نسأل الدكتور ستيربا عن مفهوم العدالة التي تتحقق عبر رعاية المصالح العامة والمبادئ التي اختارها الناس بالإجماع؟ إن العدالة مفهوم قيمي نسبي تابع وليس مفهوماً متعالياً حتى يشكل مرجعية لمبادئ الأخلاق المطلقة، ونقرر على ضوء ذلك أخلاقية الفعل بإزائه. فالعدالة من وجهة نظر الرأسمالي تختلف عن العدالة في مفهومها الاشتراكي، وكلاهما يختلفان عن العدالة عند المتدين بالدين الإسلامي مثلاً، وهذا يفترض أن يحدد مفهوم العدالة مسبقاً تجريبياً ثم ننطلق لجعله غاية للمبادئ التي سيختارها الناس بالإجماع، مما يعني أن الأخلاق المدنية لا تخرج عن إشكالية النسبية التي سجلها ستيربا وهرب منها.

علاوة على ذلك؛ فإنّ افتراض أن الأخلاقية متطلبة عقلائياً لا يساوي الإيمان بالأخلاق المدنيّة، لأنّ المدنية مفهوم بعدي تجريبي وليس مفهوماً قبلياً، وإذا كان تجريبياً خضع للتقييم النسبي، ومن ثم سيعجز عن تقديم مبرّرات كافية للالتزام بمتطلباته الأخلاقية بالنسبة لغير المؤمن به، فالادعاء بأنّ المدنية وحدها متوفّرة للجميع هو ادعاء يكذبه الواقع. إنّ قاعدة رعاية المصلحة العامة قد تقتضي من وجهة نظر أخرى، أن تراعي الأقلية في مجتمع ما هوية الأغلبية من أبناء ذلك المجتمع، وحينئذ يمكن افتراض وجود مبرر لتطبيق أخلاقيات الأكثرية.

ثم عليَّ أن افترض كون الإنسان طيّباً وخيراً بذاته، وافتراض أن هذه الخيرية والطيبة تشكل تحديداً إضافياً للشخص الفاضل أخلاقياً، يتوقف على تحديد المراد من الخير الذي يمثل سؤالاً مركزياً في فلسفة الأخلاق، فحتى يمكن لمفهومي الطيب والخير المساهمة في تحديد الشخص الفاضل أخلاقياً لابد من تحديد المراد منهما مسبقاً.

ه) بتصوري أنّ ستيربا بإثارته لمسألة ستيربا بإثارته لمسألة مرجعية الأخلاق ومسائل أخرى قد افتتح الباب على مصراعيه للنقاش فيما يسمى بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والذي

ص: 489

تبنته الأمم المتحدة عام (1948م). والنقاش حول هذا الإعلان في مرجعيته ونسبيته أمر له سابقة ليست بالنادرة في دنيا الأفكار الغربية(1).

والمفارقة أن هذا الإعلان الحقوقي جاء بهدف ردم الفجوات الأخلاقية والقانونية والسياسية التي أحدثتها القوى المناهضة للعالمية، فأسهم في ترسيخ فكرة العالمية الحقوقية، وضرورة اعتراف دول العالم جميعاً بحزمة من المبادئ والحقائق الأخلاقية المتعالية المطلقة، في الوقت الذي كان الإتجاه السائد في دنيا الفكر الغربي يتبنى نسبية الحقيقة ونسبية القيم، قافزاً في ذلك الإعلان على التنوع الأخلاقي والثقافي والتاريخي الواضح للعيان، والذي لا يقل أهميّة عن الإعلان المشار إليه !

ص: 490


1- ينظر على سبيل المثال: الاستسلام للمثالية، أنثروبولوجيا حقوق الإنسان، مارك غوديل، ترجمة الدكتورة هناء خليف غني، باشتراك ثلاثة دور نشر : مكتبة عدنان ومنشورات الاختلاف ومنشورات ضفاف، بيروت، الطبعة الأولى 2015م فكرة حقوق الإنسان، تشارلز آر. بيتز، ترجمة: شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، فبراير 2015م.

أخلاقيات ما بعد الحداثة

مطالعة نقدية للبنية المعرفية والمآل الايديولوجي

محمود حیدر(1)

حين مضى إيمانويل كانط ليسأل «ما الأنوار؟»، كان على يقين من أن مهمته تتعدى مقام التعريف. فهو لم يكن يبتغي الاكتفاء، وحسب، بتوصيف ماهية الأنوار، وإنما توخى قراءة سيرورة التجربة كما هي في صعودها وهبوطها، وفي أنظمة القيم التي أطلقتها سحابة الفترة التي عايشها فيها .

جاء السؤال الكانطي ليفتح على ممارسة فلسفية لا تُبقي الأنوار بمنأى من فضاء النقد. جاء بالسؤال لينقد الخلاء الأخلاقي الذي تسببت به العقلانية الصارمة. لذلك سيرى إلى الأنوار بما هي خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول فيها عن وجوده. والقصور - على رأيه - هو حالة العجز عن استخدام الفكر (عند

ص: 491


1- مفكر وباحث في الفكر الفلسفي والأديان المقارنة - لبنان. النقطة المحورية التي أسست لهذا البحث هي لحظة التنوير مع كانط وسؤاله حينها "ما هي الأنوار ؟"، ويعلق الباحث على السؤال بالقول إن كان كامط كان على يقين من أن مهمته تتعدى مقام التعريف. فهو لم يكن يبتغي الاكتفاء، وحسب، بتوصيف ماهية الأنوار، وإنما توخّى قراءة سيرورة التجربة كما هي في صعودها وهبوطها، وفي أنظمة القيم التي أطلقتها سحابة الفترة التي عايشها فيها. لهذا حاول الباحث خلال بحثه أن يقارب الامر الاخلاقي في التجربة الغربية بتحولاتها المتعددة وصولا الى النتيجة التي كتبها الباحث في نهاية بحثه بالقول : لقد منحت هذه العقلانية "العقل" قابلية صريحة للاستخدام والطاعة. فالعقل على ما نعرف يملك قابلية أن يتخذ من ذاته موضوعاً. مثلما يملك القدرة على التخارج نحو العالم واتخاذ معطياته موضوعاً للكلام والفعل. ولهذا فإنَّ جميع الا الأسئلة. تثار خارج العقل وداخله بواسطة العقل إياه. لكن السؤال عن محل الأخلاق في فضاء العقل، سوف يظل الأهم في الفضاء اللامتناهي لعالم الإنسان. وخصوصاً في أثناء الارتحال المتواصل لحداثة الغرب المقبلة. (المحرر)

الإنسان) بمعزل عن الآخرين. أما الإنسان القاصر فهو المسؤول عن قصوره لأنَّ العلة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين». ثم أطلق كانط أطروحته الشهيرة كمحاولة لاجتياز التشيؤ الذي راح يأخذ بناصية الأنوار: «لتكن لك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك»، وكان ذلك بحق هو شعار عصر التنوير.

لم يتوقف كانط عند هذا الحد. فوجد أنَّ كمال الأنوار لا بد له من عقلانية مشروطة بالطاعة. كان يقول «فكروا قَدْرَ ما تشاؤون وفي ما تشاؤون، ولكن عليكم أن تطيعوا». وسيؤخذ عليه في ما بعد، بأنَّه زاوَجَ بين حرية الفكر وطاعة الحاكم.- وهنا ليس بالضرورة كما يتبين من تأويلية كانط للطاعة أن يكون الحاكم شخصاً بعينه؛ فسيتبين لنا في ما بعد أنَّه يقصد القانون أو المؤسسة بوصفهما الناظم العام لحركة الأفراد وسلوكهم في الاجتماع أكثر مما يرمي إلى شخصنة المطاع - لكن هذا الإشكال المكسو بالغموض هو الذي شاع يومئذ، حيث ستضاعفه الظروف التي حكمت ظهور الأطروحة الكانطية، لجهة أنَّ صياغتها تمت في بلاط الملك فريدريك ملك بروسيا. ومع أنَّ لكانط حجّته في قوله أنَّ تحديد الحرية لا يناقض التنوير إذا أُحسنَ استعماله، فإنَّ غاية «ناقد العقل المحض» من وراء أطروحته، كانت حفظ الأنوار العقلية بالأخلاق العملية. وهو ما يسوّغه في مقالته لناحية «أنّ الاستخدام العام لعقلنا لابد من أن يكون حراً في جميع الحالات، وهو الذي يستطيع وحده أن يأتي بالتنوير إلى البشر، في حين أنَّ الاستخدام الخاص لعقلنا لا بد من أن يخضع لتحديد صارم جداً. دون أن يكون ذلك من الموانع المحسوسة في «طريق التنوير»(1).

مع ذلك، ظلَّ التأويل الكانطي لحقيقة الأنوار مثار جدال على امتداد قرنين متصلين إلى يومنا هذا. لكن التطورات الفلسفية التي أعقبت ثورة كانط ستمتلئ بإشكاليات لا نهاية لها في ثنائية العقل / الأخلاق. وسيأتي زمن لاحق في الغرب تسود فيه قاعدة «كل ما هو عقلي فهو واقعي». ومع هيغل ستبدأ رحلة جديدة تزوّج الأنوار بالحداثة بوصف الأنوار روح هذه الحداثة. وكما سيظهر تالياً فإنَّ الغالب

ص: 492


1- إيمانويل كانط - ما هي الأنوار ؟ تقديم جميل قاسم - ترجمة شربل داغر - دار الأنوار - بيروت - 2003.

في الحداثة الغربية المتأخرة أنَّها رأت إلى العقل وتعاملت معه، بما هو أداة صارمة، وحيدة لصناعة أزمنتها، أو ما يمكن وسْمَهُ بنطاقها الجيو- معرفي والحضاري.

هل يجوز القول إنَّ انقلاباً على الكانطية تمَّ باسم العقلانية الخالصة، على يد الذين جاؤوا بعده كهيغل وماركس وفرويد ونيتشه على وجه الخصوص، ثم أولئك الذين ورثوا هؤلاء أمثال لوكاش، ودوركهايمر، فضلاً عن هيوم، وهوسرل، وهايدغر، وباشلار، وليفي ستراوس وفوكو؟

سوف يبدو الجواب مستصعباً لأنَّ المذكورين كانوا على تفاوت مقيم فيما بينهم في كثير من النزوعات والاجتهادات والأفكار والنظريات. غير أنَّ مشتركاً ظلَّ يصلهم وهو أنَّهم أعادوا تقديس العقل المجرَّد وأجروا ضرباً من الفصل عن الأخلاق فضلاً عن الدين، سيكون له آثاراً حاسمة على التاريخ اللاحق للعقل الحداثي الغربي.

على أنَّ كانط الذي نقل الاهتمام الفلسفي من حدود الأنطولوجيا التقليدية إلى حدود البحث عن معايير المعرفة ومعايير العمل، أي إلى نطاق التجربة الإنسانية المباشرة، إنما كان بذلك ينزِلُ الفكر من حدود المنطق المجرد، إلى حدود منطق الأحداث وصلتها بعقل الإنسان من جهة، وبعمله من جهة أخرى. فمنذ أن أطلق شعاره الثلاثي : ماذا يمكنني أن أعلم، ماذا يمكنني أن أعتقد، ماذا يمكنني أن أفعل ؟ ... كان يقلب أساس التقليد الفلسفي كلّه. إذ ينتقل التفلسف من مهمة ادّعاء الكشف عن الحقيقة، والحقيقة المطلقة، إلى مهمة التساؤل الأساسي عن معيار كل حقيقة، والحقيقة المطلقة ذاتها، وعن معيار العمل (الأخلاق والسياسة)، الذي يرتكز هو بدوره على حدود المعرفة. غير أنَّ كانط الذي وعى مهمته في البحث عن الشكل منذ الأصل، كان في الوقت ذاته يتمنّى أن يقدم المضمون كذلك. فمن حيث إِنَّ الهدف التقليدي للفلسفة هو «اكتشاف الحقيقة»، وكأنَّ لها وجوداً مستقلاً عن العقل والإنسان، أراد كانط أن يكشف عن «الشكل» الذي به يمكن أن تتم المعرفة، وعن قوانين هذا الشكل. وهو في هذا كان يهدم ادّعاءً عزيزاً على الفلاسفة منذ قديم الزمان، بإمكان بلوغ حقيقة مفصولة عن الفعل، ويبني بديلاً عنه فيما سوف يسمى

ص: 493

مستقبلاً «نظرية المعرفة». لقد حاول كانط جاداً أن يقيم سلطة المعيار، الشكل، مقابل سلطة المطلق، المضمون. وبذلك فتح الطريق واسعاً أمام العلم، من جهة لبناء مضامين جزئية، وحقائق نسبية، وأمام الفلسفة الجديدة من جهة أخرى لتتنازل عن حق امتلاك المطلق، والتراجع نحو أصول المشكلات المعرفية والسلوكية، دون تورط بمضامينها الخاصة. لذا كان جهد كانط ينصب بالدرجة الأولى على عملية تحرير أولى للفلسفة من طغيان اللاهوت الديني من ناحية، وطغيان المطلق الفلسفي من ناحية أخرى، وإن كان يصعب التمييز بينهما عندما نواجه الفلسفات الوثوقية السابقة على كانط . لقد كانت إذن بداية رحلة الموقف النقدي هي في هذا التحرير الذي من دونه ما كان لطريق النقد أن يشرع أبوابه أمام الحضارة الغربية لتحقيق مرحلتها الإنطلاقية نحو العلم والتجربة»(1).

فكرة «الواجب» كأخلاق عليا

لم تكن رؤية كانط للأنوار خارج الدائرة الكبرى لرؤيته الوجودية. لهذا جاء «نقد العقل المحض» ليضيء على قضية من أعقد القضايا التي ستكون مدار السجال الفلسفي في غرب القرنين الثامن عشر والتاسع عشر عنينا بها قضية توحيد الأخلاق بالدِّين على هذا الحيّز تقوم الرؤية الكانطية على فكرة الواجب. وهي على ما نعرف، كانت الفكرة المحورية في أطروحاته لا على الصعيد النظري فحسب، بل على الصعيد العملي أيضاً. فقد تميّزت حياة كانط بالتقيد الصارم بالواجب. ويمكن تلخيص نظرته الخُلقية بأنَّها دعوة إلى تأدية الواجب كغاية في ذاته، أي لا لشيء سوى كونه واجباً. والناس - عنده - يعرفون الواجب بفطرتهم، وهو يدلُّهم على ما ينبغي فعله في هذا الظرف أو ذاك. وقد عبر كانط عن هذا الواجب غير المشروط بقوله : إنَّ على المرء أن يفعل للآخرين ما يريد أن يفعلوه له، أي أن يؤدي الفعل الذي يتمنى أن يصير مبدأ عاماً. (...) وهكذا فإنَّ الدافع الأعلى للعمل الخُلُقي عند كانط هو الواجب من أجل الواجب، أي كغاية في ذاته، وليس الواجب الذي يسفر عن مكافأة أو ثناء أو إطراء ، وإلا انحطّت الأخلاق عن رتبتها(2).

بدءاً من هذه القاعدة الأخلاقية الفلسفية سوف تمضي فكرة الواجب من أجل

ص: 494


1- مطاع صفدي - نقد العقل الغربي - مركز الإنماء القومي - بيروت 1990 - ص 115 - 116.
2- أديب صعب - المقدمة في فلسفة الدين - دار النهار - بيروت - الطبعة القانية 1995 - ص 236.

الواجب إلى مداها الأقصى. لم يكتف كانط بما تؤديه الفكرة من أفاعيل أخلاقية عامة، فقد سعى إلى عقد رباط وثيق مع الدين بوصفه الفضاء الجامع للعقلي والخُلُقي في آن. ثم راح يسأل عن التبرير الأعلى للواجب. أي هل يجوز أن يضحي المرء بكل شيء من أجل الواجب ولا يحصد، بالضرورة سوى الخيبة ؟ ويجيب أنَّه لا بد من أن يكون ثمة تبرير أخير لهذه التضحيات، هو ما يغدق على الحياة معنى . ويجد كانط هذا التبرير في السعادة. لكن هذه السعادة هي من النوع الذي لا يتحقق تماماً إلا في حياة ثانية. عند هذه النقطة بالذات يجد كانط طريقاً من الواجب إلى الله، ومن الأخلاق إلى الدِّين. فالسعادة كمكافأة على الواجب غير ممكنة بعيداً عن كائن خُلقي أعلى يضمنها. هكذا

يفترض الإيمان بالخير الأعلى، أي بالفضيلة والسعادة، إيماناً بوجود الله. (...).

هكذا رأينا مع كانط أنَّ معادلة الدين هو الأخلاق «تفترض وجود الله، وهي تعني أنَّ المحتوى الوحيد للدين هو السلوك الفاضل القائم على فعل الواجب كغاية في ذاته وإطاعة صوت الضمير كما لو كان صوت الله. لكن سيأتي بعد كانط من يتقدم بنظرة أخرى تجعل من الدين أخلاقاً من غير أن ترى ضرورة لوجود الله. من أبرز دعاة هذه النظرة المفكر والفيلسوف الألماني لودفيغ فوير باخ الذي عاش في القرن التاسع عشر وأحدث أثراً كبيراً حتى وقتنا هذا(1).

وحتى لا نمضي لا نمضي في المنحنى الذي رأى إلى فيورباخ نقيضاً ل«كانط» في رؤياه للدين والأخلاق لا بد من ملاحظة: إنَّ رؤية فيورباخ للدين، ولصلة الدين بالأخلاق، وأيهما أسبق على الآخر، قد مرت بأحقاب متفاوتة. وهذه الأحقاب هي بمثابة مراتب يمكن رصدها في أربعة تطورات تعكس أربعة مفاهيم في فهمه لماهية الدين.

الأول تمثل في «جوهر المسيحية» حيث قدَّم تصوراً للدين في نطاق الديانة المسيحية، أتبعه ب«جوهر الإيمان عند مارتن لوثر» الذي يُعد مرحلة انتقالية بين «جوهر المسيحية» وكتابه «جوهر الدين» و«محاضرات في جوهر الدين» اللذين يمثلان المرحلة الثالثة في تفكيره. بينما المرحلة الرابعة والأخيرة نجدها في كتابه

ص: 495


1- المصدر نفسه - ص 237.

Théogony الذي كثيراً ما يغفل عنه الشراح عند الحديث عن «الدين عند فيورباخ». ما يهمنا المرحلة الأخيرة في تفكير فيورباخ الديني. حيث يُظهر فيها بإيضاح أكثر ، الارتباط بين الدين والأخلاق. وقد ظهرت هذه المرحلة عندما تطورت الفنون المتحضّرة وضعفت ضغوط قوى الطبيعة على الإنسان، وفي هذه المرحلة وانطلاقاً من الأسس النفسية للدين - كما ظهرت في المراحل السابقة - فقد طوَّر فيورباخ افتراضاً شَعَرَ أنَّه أكثر ملاءمة لتفسير الأوجه المتعدّدة للتطور الديني. ففي كتابه: التيوجونيا، حسب المصادر العبرية الكلاسيكية والمسيحية القديمة، الصادر عام 1857م، أشار على سبيل المثال إلى إدراك الإنسان لمثله العليا وإدراكه، لاعتماده على كائنات أخرى، يمكن أن يكونا معاً نوعاً من الحث على السعادة.

وطبقاً لهذا الرأي فقد ادَّعى الإنسان أنَّ رغباته يمكن الحصول عليها. ولكي يجعل هذا الافتراض صحيحاً، نَظَرَ البشر إلى آلهتهم على أنَّهم المكملون والضامنون للرغبات البشرية. فنشأة الآلهة لا تكمن فيما يرى فيورباخ في اعتماد سلبي على الطبيعة والبشر، ولكن تكمن في حافز إيجابي يقوم على افتراض أن الرغبات والأماني البشرية تتفق وطبيعة العالم . وثمة من قارئيه من رأى أنَّ فيورباخ نشر كتابه: التيوجونيا من أجل إيجاد توافق بين «إنسانية» «جوهر المسيحية» و«طبيعية» «جوهر الدين». حاول فيورباخ أن يعثر في مفهوم الله على العناصر الإنسانية والطبيعية. فالإنسان بهذا المعنى حين يصطدم بالقدرة الكلية للطبيعة، يُسقط على الآلهة رغبته في الانتصار عليها «أي على الطبيعة». ورغم ذلك فإنَّ فيورباخ كما يعتقد /ريردان/ B.M.Reardon قادر على أن يهب الإيمان لعصر خلا من الإيمان. ولهذا يضع فلسفته في تيار «الفكر الديني في القرن التاسع عشر» في كتابه الذي يحمل الاسم نفسه. ففيورباخ ليس مستهزئاً بالدين، ذلك لأنَّ الجانب الديني للحياة ليس عبثاً، وإنما هو المفهوم الأساس لإدراك الإنسان لذاته. وذلك لأنَّ موضوع الدين الرئيسي هو الإنسان كما يتضح من تحليل الخبرات الدينية التي تتعدى صور اللاهوت غير المتناسقة. فالله انعكاس للإنسان على ذاته(1).

ص: 496


1- B.M.Reardon: Religion thought، in Nineteenth Century Cambridge Unipress 1966. p.83.

سوف نجد الرأي نفسه لدى /جون لويس/ الذي يرى أنَّ «فيورباخ كان رجلاً متديناً إلى أبعد الحدود، ومن ثم فإنَّ ماديته جاءت مختلفة تماماً عن أية مادية سابقة. فهو لا يحقر الدين وإنما يرى في الله إسقاطاً لحالة الإنسان البائسة المحرومة»(1). وفي هذه الدلالة من فهم الأطروحة الأخيرة لفيورباخ حول الدين، لا يبدو لنا على الراجح أ أنَّ هذا الأخير جاد كثيراً عن الكانطية وما كانت عليه أحوالها حيال الدين.

والآن لنعد إلى كانط لنسأل عما إذا كان الفيلسوف الألماني لاهوتياً كسواه من فلاسفة اللاهوت المسيحي؟

ثمة من الدارسين من لا يفضل خلع هذه الصفة على كانط. ذلك لأنَّ الأخير رفض المناقشات التقليدية أو الميتافيزيقية على وجود الله في كتابه «نقد العقل المحض» لكنَّه سيبين في كتابه «نقد العقل العملي»»إنَّ افتراض وجود الله ضروري للحياة المنطقية». ومن جهتنا نزعم أنَّ هذا الافتراض ليس برهاناً كانطياً. بمعنى كونه نتيجة مناقشة نظرية، إنَّه افتراض عملي. فالأخلاق تستدعي الإيمان بالله في التحليل الأخير، وذلك للمزاوجة بين الفضيلة (الواجب) والسعادة. وهذا ما سمّي ب«البرهان الخلقي» على وجود الله. وهو افتراض لا تستقيم الأخلاق الكانطية إلا به(2). وعلى أي حال فإنَّ نظرة كانط إلى الدين على أنَّه أخلاق، لا تعني إنكار وجود الله وإحلال بديل، كالإنسانية، محلّه وإعلان الأخلاق ديناً. ومع أنَّه (كانط) لم يمارس (حسب الدارسين) الطقوس الدينية ولا الصلوات ولا نما صوفياً. إلا أنه نظر إلى الخبرة الخلقية كما لو كانت الخبرة الدينية الوحيدة. فالدين الصحيح وكما يبين كانط نفسه، هو الحياة الخلقية التي تبلغ ذروتها في تأدية الواجب والتضحية بكل شيء في سبيله لأنَّه الواجب. وكل شيء غير طريقة الحياة الخلقية يظن الإنسان أنَّه قادر على فعله لإرضاء الله هو، في نظر كانط، محض وهم ديني وعبادة زائفة لله. وعنده أنَّ المؤسسات الدينية قد تكون بعيدة جداً عن الدين الحقيقي، في حين أنَّ

ص: 497


1- أحمد عبد الحليم عطية - جوهر الدين عند فيورباخ - الفكر العربي المعاصر - العدد 74 75 آذار (مارس) نیسان (أبريل) 1999
2- المصدر نفسه - ص 239.

الكنيسة الحقيقية كيان غير منظور ، يمثل الاتحاد الروحي للناس جميعاً في الفضيلة عبر الخدمة الخلقية لله(1).

يستفاد من ذلك، على الجملة، أنَّ الإنسان عند كانط هو كائن عاقل، وبما أنَّه عاقل فهو كائن أخلاقي، وبما أنَّه أخلاقي فهو كائن دين. ولهذا فإنَّ البحث في المسألة الدينية عنده لا يقوم إلا على دراسة مسبقة للأخلاق. في كتابه «تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق» يبدأ كانط بطرح الضرورة القصوى لبناء فلسفة أخلاقية خالصة ومطهرة من كل ما يعود إلى علم النفس والأنثروبولوجيا» ولهذا السبب يعود إلى الوعي المشترك والعادي ليسأله حول موضوع الأخلاق، فيجد أنَّ هذا الوعي المشترك يعدّ الإرادة الخيرة الشيء الوحيد الذي هو أخلاقياً خير بذاته، وإنَّ هذه الإرادة لا يُحكم عليها من خلال نجاحاتها، بل فقط من خلال نيَّتها ومسعاها والذي يجعل من إرادة ما إرادة خيرة هو أفهوم (مفهوم) الواجب، فتصبح الإرادة الخيرة هي التي تفعل إقراراً للواجب وليس وفقاً له فقط. ذلك لأنَّ القيمة الأخلاقية للفعل - إقراراً للواجب - ليست في الهدف الذي يتوصل إليه الشعار الذي يقرره. وهذا الشعار لا يتعلق بواقع موضوع الفعل، بل يتعلَّق فقط بمبدأ الإرادة الذي لا يخضع لأي موضوع من موضوعات الميل (Penhant). من هنا يصبح «الواجب ضرورة القيام بالفعل احتراماً للقانون. وما يشكل الإرادة الخيرة هو أساساً خضوعها للواجب وليس تعارضها مع الميل. وهنا لا يقصد كانط بالضرورة أنَّ الميول عند الإنسان هي كلّها سيئة، ولكنَّه يرفض أن تشكل هذه الميول شعارات الإرادة ومبدأ الأخلاق. فهو لا يستبعد من الأخلاق الفعل الذي يساعد في إنجازه مَيْلٌ ما . ولكنَّه يرفض الفعل القائم فقط على الميل لأنَّ الإرادة الخيرة هي التي تطيع الواجب مهما كان هذا الميل(2).

لقد أُخضعت مقولة الواجب عند كانط إلى تأويلات لا حصر لها. سوى أنَّها لم تغادر النقطة المحورية التي أسست لكل تلك التأويلات. هذه النقطة بوصفها

ص: 498


1- المصدر نفسه - ص 239.
2- إلهام منصور - في المسألة الدينية / الأخلاقية عند كانط - «مجلة الفكر العربي المعاصر» العدد (58 - 59) تشرين ثاني - كانون أول 1988.

المشترك الداخلي للدين والأخلاق والله، وفطرة الكائن العاقل. ثمة من قدَّم الدين على الأخلاق. أي بوصف الأخلاق ناتج الفضاء الديني اللامتناهي وبوصف هذا الأخير، ناتج الوحي الإلهي . وثمة مَنْ وجد أنَّ علاقة الدين بالأخلاق عند كانط هی كعلاقة الأثر بالسبب. وما قيل عن بحثه في الدين على أنه تبرير للدين المسيحي هو أمر مشكوك فيه - حسب وجهة النظر هذه - ذلك أنَّ تناوله الدين المسيحي بالذات كان من باب ما يجب أن يكون وليس من باب ما هو قائم، لأنه دافع عما يجب أن يكون الدين المسيحي وليس عما هو في الواقع(1).

إلا أنَّ هناك من المؤوّلين من لم يفصل الدين عن الأخلاقية الكانطية التي وردت في جملة مصنّفاته، وخصوصاً في «نقد العقل العملي» و«ميتافيزيقا الأخلاق».صحیح أنَّ كانط لم يعط أهمية للأديان التاريخية. وفلسفة الدين عنده ليست فلسفة هذا الدين أو ذاك، بل هي فلسفة كل دين، إلا أنَّه تكلَّم على فلسفة الدين الطبيعي. وفي حين كان الدين الطبيعي في القرون الوسطى يعني البراهين الفلسفية أو الميتافيزيقية على وجود الله، صار مع كانط يعني افتراض وجود الله كضرورة للحياة العملية أو الخلقية. وقد تأثر كانط في أفكاره الدينية بأفكار عصر التنوير في أوروبا، خصوصاً بعقلانية الربوبيين. حيث إنَّ الربوبيين - كما هو معروف - قد خفضوا الدين إلى تعاليمه الخلقية، ولم يوافقوا على المحاكمات اللاهوتية بين مختلف الفرق المسيحية. ثم اشتدَّت تلك النزعة في القرن الثامن عشر بين مَنْ سُمُّوا ب«المفكرين الأحرار» الذين رفضوا سلطان التقاليد وأعلنوا الاحتكام إلى العقل. واتخذت (هذه النزعة) شكل الدعوة إلى فصل الدين عن الميتافيزيق وجعله ديناً خُلقياً. فالربوبيون عقلانیون آمنوا بالله، لكنهم أنكروا الإيمان بالوحي الديني(2).

وأياً كان رأي القائلين بالتزام أو عدم التزام كانط بالمسيحية كلاهوت، أو بموافقته «المفكرين الأحرار» في إنكار الإيمان بالوحي الديني أو عدم موافقته لهم، فإنَّ الكانطية منحت جلَّ حقولها لثنائية الدين / الخلاق. وجعلتها ضمن

ص: 499


1- إلهام منصور - المصدر نفسه.
2- أديب صعب - مصدر سبق ذكره - ص 239 .

إطار الموضوعات الكبرى لفلسفة الدين. والأهم من كل ذلك أنَّ السؤال الكانطي في العقل والأخلاق والدين سيؤسس لرحلة مفتوحة من الأسئلة التي أخذت بها الحداثة منذ ثلاثة قرون ولم تنفك عنها إلى الآن. فإذا كانت الأشياء في العالم، من حيث هي كائنات لا تستقل بوجودها تفترض علَّة عليا تفعل وفقاً لغايات فإِنَّ الإنسان - بحسب الكانطية - هو الغاية الأخيرة للخليقة. وذلك لأنَّه من دون الإنسان فإنَّ سلسلة الغايات المتوقفة بعضها على بعض لن تكون مؤسّسة تأسيساً كاملاً. وفي الإنسان وحده، أو فيه وحده بوصفه ذاتاً للأخلاقية، يمكن العثور على التشريع الذي يجعله وحده قادراً على أن يكون غاية أخيرة تخضع لها الطبيعة بأسرها من الناحية الغائية(1).

لا يتوقف الأمر على عمومية الأطروحة الكانطية. ولسوف يتجه البحث المساجلات اللاحقة إلى سياق من القراءة يرى إلى الدين والعقل والأخلاق على أنَّها ثلاثية فارقت النقد لتدخل في فضاء التأويل اللامتناهي. وثمة من رأى أنَّ مثل هذه المفارقة لو هى حصلت لأقامت الحد على النقد.

كان السؤال لدى عدد من أقطاب الفلسفة المعاصرة أمثال غادامير، وهابرماس، وريكور هو أين تقع الكانطية من النقد والتأويل، هل يمكن الاستنتاج أنَّ كانط اختار النقد بديلاً عن التأويلية السائدة؟ ومن ثم هل يمكن العثور لدى كانط على ضرب من التأويلية الفلسفية، أم أنَّ النقد الذي ارتضاه عنواناً لفلسفته وشعاراً لعصر برمته، لا يمكن له أن يلتقي مع أية تأويلية ممكنة؟

سعى الفيلسوف الفرنسي المعاصر بول ريكور إلى بيان أنَّ كانط كان صاحب تأويلية فلسفية. وربما ذهب ريكور إلى حكم كهذا ليتمكن من استعادة كانط على النحو الذي يسدد ممارسته الهرمنيوطيقية لتحقيق فهم حديث للثلاثية الكانطية. لقد اتكأ ريكور في حكمه هذا على كتاب «الدين في حدود عقل مجرد» الذي نشره (كانط) سنة 1993.وينطلق من أنَّه «ليس بوسعنا أن نعتبر الكتاب المشار إليه امتداداً لمنطقة النقد التي

ص: 500


1- عبد الرحمن بدوي - إيمانويل كانط - فلسفة القانون والسياسة - وكالة المطبوعات - الكويت 1979 - ص 440.

رسمتها مؤلفات كانط النقدية بل يجدر بهذا الكتاب أن يحمل عنوان «تأويلية فلسفية في الدين». في حين راح من يخالف ريكور في قراءته لكانط ليبين أنَّ الفيلسوف الألماني ليس صاحب تأويلية فلسفية في الدين. بل إنَّه على وجه الدقة صاحب فلسفة حكم.. إنَّ كتاب «الدين في حدود عقل مجرد «ليس تأويلية للدين مثلما ذهب إلى ذلك بول ريكور. بل هو قراءة عقلية، أي أخلاقية للدين. وهي قراءة لم تكن، حسب دنيس توارد تنشغل بالدين في تاريخيته ولا في نصيَّته التي تخصه، ومن ثم ليس بوسعنا أن نعتبر الدين عند كانط ضرباً من الآخر الذي يتميّز عن الفلسفة، ومن ثمة يفلت من دائرة .النقد إنَّ العقل الذي ينتصب ها هنا حاكماً على الدين لا يرى سوى ما يستمده من نفسه من قوانين أخلاقية قبلية، ما دام العقل عند كانط، والعقل فحسب، هو القادر على إعطاء معنى فلسفي معقول للدين (بل ولأية ظاهرة أخرى حتى العقل نفسه) فإنَّ مقصد كانط ليس تأويل النصوص الدينية، إنما هو فحسب بيان ما يمكن للعقل، الذي هو في صميمه عقل عملي أن يقوله في خصوص الدين. بل وأكثر من ذلك، فكانط حينما يتناول وقائع الدين بالمعالجة إنما يفعل ذلك، وهو على وعي تام بأنَّ أهمية النصوص الدينية لا تكمن في كونها استطاعت أن تقدّم صياغة واضحة للقوانين الأخلاقية الكونية الذي ينبغي على كل امرىء أن يستمدها من نفسه(1).

جدل الانقطاع: الأخلاق في معزلها

لأنَّ الأخلاق أول ما يطلبه الإنسان من الأديان السماوية، فقد جاءت التصورات التقليدية لترى إلى الأخلاق باعتبارها مفهوماً دينياً سماوياً، ومن ثمَّ لا يمكن الفصل بین الأخلاق والدين. لكن الحداثة، ونعني الحداثة الغربية على الأخص ستشهد لمفكرين سعوا إلى تفكيك الرباط داخل تلك الثنائية. فرويد مثلاً سيجد أن مستقبل الدين وهم من الأوهام، وعليه فلا مناص لإنقاذ الأخلاق من أن تصبح وهماً إلا أن يتم عزلها عن الدين وعن المؤسسة الكنسية.

وربما أمكن القول: إنَّ تأسيس النظم الأخلاقية غير الدينية وظهور الأخلاق

ص: 501


1- أم الزين بن شيخة المسكيني - كانط والتأويلية - «الفكر العربي المعاصر» العدد 121 - 122 - خريف 2001 - شتاء 2002

الدنيوية أو الأرضية من أهم خصائص العالم الغربي في القرن الثامن عشر فما بعد. فبعض النظم الأخلاقية تتصادم وتتعارض مع الأخلاق الدينية، فضلاً عن كونها نظماً علمانية. ويمكن إعطاء مثال على ذلك من الأخلاق الداروينية فهي أخلاق توصي بسحق الضعيف من قبل القوي؛ لأنَّ ذلك يتطابق وقوانين الطبيعة الصارمة، فكل التعاليم المتضاربة مع الحركة التكاملية لبقاء الأصلح إنما هي تعاليم سلبية. وقد أسهب المتألهون في مناقشة القيمة الشرعية المنطقية للأخلاق العلمية، لا سيما الأخلاق الداروينية(1).

ولبيان جدل الإنقطاع والتحولات التي تقلب فيها الغرب سنعرض إلى بعض المذاهب التي تخللت سيرورة العقل الأخلاقي الغربي بعد كانط . وهي على الجملة ذهبت إلى النظر في الأخلاق بوصفها معطىً وضعياً ومجتمعياً. منها على سبيل المثال ما ظهر في القرن الثامن عشر ما سُمِّي المذهب الانفعالي ويمثله الفيلسوف الإنكليزي التجريبي ديفيد هيوم (1711 - 1776) وهو يرى - إن المعارف الحقيقية هي المعارف التي يكتسبها الإنسان عن طريق الحس، ويترتب على هذا المذهب أنَّ القضايا الأخلاقية الحقيقية هي تلك المبرزة للأحاسيس والإنفعالات لا للحقائق الواقعية، ويخلص إلى «أنَّ الأخلاقيات ترجع بالنهاية إلى الإحساس الأخلاقي لا إلى العقل وإدراكاته. ويعد المذهب الإنفعالي واحداً من المذاهب الأخلاقية غير التوصيفية. ويتفق هذا المذهب مع المذهب الأشعري (لدى المسلمين) في أنَّه لا يرى إلى أنَّ للأحكام الأخلاقية منشأ واقعياً بل يعتقد بأنّها مجرد بيان كاشف عن أحاسيس وعواطف من .يطلقها. ويمكن اعتبار المدرسة الوضعية المنطقية (تأسست في فيينا في العقد الثاني من القرن العشرين بزعامة مورتيس شليك) في بعدها الأخلاقي من أهم فروع هذا المذهب(2).

ص: 502


1- أحد قراملكي - الهندسة المعرفية للكلام الجديد - ترجمة حيدر نجف وحسن العري - مراجعة عبد الجبار الرفاعي - دار الهادي - بيروت - طبعة 1 - 2002 - ص (209).
2- مجتبى مصباح - فلسفة الأخلاق - دراسة مقارنة بين المذاهب الأخلاقية - ترجمة محمد حسن زراقط - «معهد الرسول الأعظم العالي - بيروت ط (1) - 200 - ص 48، 54، 68 ، 76.

المذهب الإجتماعي: مؤسسه إميل دوركهايم (Emile Durkhiem) 1858 - 1919، معتقده الأخلاقي على أربعة أحياز :

أ - لا وجود للأخلاق من دون المجتمع.

ب - المجتمع يملك شخصية مستقلة عن الأفراد.

ج - لا بد من اتباع المجتمع في الأخلاق فهو الذي يحدد معادلة الحسن والقبيح.

د - معرفة الأعمال الحسنة والقبيحة تكون بالرجوع إلى أخلاقيات المجتمع وآدابه وتقاليده . (...)

-مذهب المنفعة: تبنّاه الفيلسوف جرمي بنتام 1848 - 1832 (Jerme Benthams) وجون ستيوارت میل 1806 - 1873 (Jhon Stuart Mill) وليس هذا المذهب سوى نسخة معدلة من الأبيقورية «فاللذة عند بنتام هي الخير الوحيد والألم هو الشر الأوحد «ويقول جون ستيوارت مل: «اللذة المبتغى الأوحد». فهما يشتركان مع أبيقور في القول، بأنَّ السعادة هي الخير بالذات، والسعادة ليست سوى اللذة. ولقد رأى هذان الفيلسوفان أنَّ المشكلة الأساس في الأبيقورية، هي كوها تهتم بالفرد ومصالحه، وتغفل المنفعة العامة (...) على أنَّ الفيلسوفين يختلفان حول كون المنفعة العامة هدفاً أو وسيلة، رغم اتفاقهما على كونها مطلوبة، وخيراً أخلاقياً. «بنتام»يعتقد أنَّها وسيلة للوصول إلى السعادة الشخصية. أما ستيوارت مل فيعتقد بكونها هدفاً ومطلوباً أصلياً .(...)

المذهب العاطفي: يؤمن العاطفيون عموماً بأنَّ الأفعال التي لها صفة فردية من جميع الجهات (أي نرجع آثارها ونتائجها إلى الشخص الفاعل وحده) لا تقع ضمن دائرة التقييم الأخلاقي (...) من أبرز ممثلي هذا المذهب: آدم سميث Adam Smith((1723 - (1790) الاقتصادي وفيلسوف الأخلاق الإنكليزي المعروف والألماني آرثر شوبنهاور (Arthur Senopenhauer) (1788 - 1860) والفرنسي أوغست كونت (...).1857 - 1798 (Augeste Compt)

ص: 503

- مذهب القوَّة: يعدّ هذا المذهب - الذي دعا إليه الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه (1844 - 1900) - ردة فعل على الأخلاق المسيحية التي تستند إلى المذهب الأخلاقي الرواقي هذا التأثر بالرواقية أدى إلى اتجاهات أخلاقية سلبية تدعو الناس إلى الاستسلام للقضاء والقدر، ومن هنا شعر نيتشه بأن من يتربى على هذا المذهب، سوف يكون إنساناً خاملاً مستعداً لتحمل الظلم، فانبرى لمواجهة هذا المذهب الأخلاقي، وثار في وجه الأخلاقيات المسيحية : «اعتراض نيتشه على المسيحية، هو أنها تدعو إلى روحية العبودية في نفوس أتباعها» وتربي إنساناً خاملاً وذليلاً، وهذه الأخلاقيات غير مقبولة، وعلى المذهب الأخلاقي أن يربي إنساناً فاعلاً ومؤثراً. وهو يقول عن المسيحية: «أنا أدين المسيحية وأحكم عليها بأقسى حكم أصدره مدّع حتى الآن، وأرى فيها أبشع صور التدمير أذمُّها وأعدُّها لعنة عظيمة، فهي ليست سوى ذل البشرية الخالدة».

يرى نيتشه أنَّ «القوّة» و«السلطة» أساس الأخلاق الفاضلة كلها. وفي شرحه النظريته الأخلاقية يرى أن كل موجود حي يحب حياته ، ويريد المحافظة عليها، وهذا الأمر يحتاج إلى القوة. لذا فإنَّ الإنسان الضعيف محكوم بالهزيمة والفناء.(...)

وأحسن خلاصة لمذهب نيتشه الأخلاقي، ما يذكره هو بنفسه حين يسأل ثم يجيب : «ما هو الخير. هو الذي ينمّي حس السلطة. ما هو الشر؟ هو ما يولد من الضعف. ما هي السعادة؟ إحساس ازدياد السلطة، والانتصار على العوائق لا القناعة،بل المزيد من السلطة، ليس السلام بل الحرب، لا الفضيلة بل الذكاء. العاجزون والمرضى ينبغي إعدامهم، وهذا هو الأصل والقاعدة الأولى لحقوق الإنسان، فما هو الأكثر ضرراً من الفساد؟ هو العطف على المرضى؛ أي المسيحية». لكن الفيلسوف الألماني الوجود مارتن هايدغر (Martin Heidegger) سوف يتجاوز القراءة المدرسية التقليدية لنتشيه حين يرى إليه أنّه آخر الميتافيزيقيين في العالم الغربي. إذ يتكثّف في فكره السؤال الميتافيزيقي وينجز فيه. وجواب نيتشه عن هذا السؤال هو الآتي: إنَّ إرادة الاقتدار هي الطابع الأساسي لكل «كائن «في حين يشكل «العود الأبدي لذات النفس» التعين الأعلى للكينونة.

ص: 504

ويوضح هايدغر أنَّ ما يقصده نيتشه ب- «إرادة الاقتدار» أنَّها ليست إلا تفسيراً لكلمة الإرادة التي تتضمن الحركة نحو... التوجه نحو شيء ما... الإرادة هي سلوك يتجه نحو ... إنّ ذلك كله - يضيف هايدغر - ليس بعد إرادة ولكنه متضمن فيها. فالإرادة هي أن تكون سيداً على ذاتك، إنَّها الخضوع لقيادتنا الخاصة، وهي القرار بأن نخضع لأحكامنا أو التي هي بذاتها تنفيذ(...). على أنَّ التعريف الجوهري للإرادة بحسب تأويلية هايدغر لنيتشه - هو أنَّها «ماهية الكائن «وهي وهي تطلع نحو اقتدار أكثر ، نحو التعزيز والسمو : «الإرادة هي أن تكون أقوى» وهي تتميز بكونها خلاقة كما يكتب نيتشه. والاقتدار هو معنى آخر ل«الإرادة». ويماثل نيتشه غالباً بين الاقتدار» و «القوة» من دون أن يعطي لهذا المفهوم الأم. الأخير أي تحديد. أما لماذا حكم هايدغر على نيتشه بأنّه آخر ميتافيزيقيي الحداثة الغربية. فإننا نجد جوابه عندما يمضي في قراءة المفاهيم الأساسية التي وضعها نيتشه، وخصوصاً «إرادة الاقتدار» بوصفها فناً من ناحية، وبوصفها معرفة من ناحية ثانية. يرى هايدغر أنَّ كلمة «الاقتدار» تتضمن المعاني الثابتة ل- «القوة» كما ظهرت في اليونان القديمة. ويقارن بين مفهوم الاقتدار والمفهوم الأرسطي ل«Actus» وال- (Potentia)، لا كما وصل من خلال العصر الوسيط، ولكن كما يظهر في كتاب «الميتافيزيقا» لأرسطو. ويبين هايدغر، إنَّ ثمة علاقة تربط بين «الكينونة بالقوة» و «الكينونة بالفعل» الأرسطيتين، ومفهوم الكينونة عند نيتشه. ذلك رغم أن نيتشه لم يكن يعي هذه الصلة. وهذا الفهم للإقتدار يضع «الإرادة الاقتدار» في المسار الأساسي للفكر الفلسفي الغربي، ومن ثم فإنَّ عمل نيتشه، على قلب القيم من خلالها. يندرج ضمن هذه الميتافيزيقا(1).

هذا المعنى الميتافيزيقي ل- «فيلسوف العدم» سوف يعيده إلى فضاء الوجود عبر ما يسميه ب- «الإنسان الأعلى» الذي يولد من «العود الأبدي لذات النفس». والمعروف أنَّ هذه الأخيرة هي إحدى الأطروحات المركزية التي تشكل أساس فلسفة نيتشه، التي تمنح الكائن كينونته الخُلُقية من حيث كونها القبول الأعلى للحياة وللكائن.

ص: 505


1- هايدغر قارئاً نيتشه - «مجلة العرب والفكر العالمي» العدد الرابع - خريف 1988.

المفارقة أنَّ قراءة هايدغر لنيتشه بوصفه فيلسوفاً ميتافيزيقياً ظلت في حجرة ضيقة بينما سادت القراءة التقليدية التي اختزلت الفيلسوف بوصفه - وحسب عدواً للأخلاق والدين.

- مذهب العقلانية المنفتحة: مع الفيلسوف النمساوي كارل بوبر (1902 - 1994) الذي احتل موقعاً مميزاً في ثقافة القرن العشرين ويعد واحداً من أبرز فلاسفة العقلانية المنفتحة وفلسفة العلوم، ستنتقل العقلانية الغربية إلى طور جديد كل الجدّة. وسيكون للأخلاق معنى آخر خارج الدائرة المثالية للأفلاطونية المحدثة وكذلك خارج دائرة الديالكتيك الهيغلي. يتخذ بوبر من المجتمعات القائمة في الغرب الأوروبي والأميركي نموذجاً لمفهوم المجتمع المنفتح جاعلاً من الديمقراطية الليبرالية المثال الأعلى للنظم الاجتماعية. وبذلك يكون الوسط العلمي ما يُرجع إليه كونه نموذج النقاش العقلاني القابل لكل النظريات والاقتراحات شرط أن يتم مناقشتها وتقييمها حسب المعايير الموضوعية للمنهج العلمي(...) كذلك يرى بوبر في حرية التعبير وتنوع الأفكار والاتجاهات في الديمقراطية الليبرالية شبهاً لعملية الجدال النقدي بين التفسيرات والفرضيات المختلفة في الفيزياء. وتجري عملية تحقيق الأصلح والأفضل في المجتمع بطريقة شبيهة بتلك التي يجري فيها التقرب في الحقيقة في العلم فكما إننا لا نملك - حسب بوبر - أي وسيلة مباشرة للإقتراب من الحقيقة العلمية، حيث يتم ذلك عن طريق كشف الخطأ ودحضه في التجارب، كذلك لا يملك المجتمع من وسيلة لتحسين حياة أفراده إلا بواسطة تخفيف آلامهم وتسهيل الصعوبات التي تواجههم. وعنده إنَّ تحقيق السعادة ليس أمراً ممكناً، بل الممكن هو كشف مصادر الآلام والمآسي ومحاربتها قدر الإمكان إذ «بدلاً من طلب السعادة القصوى لأكبر عدد من الأفراد يتعين علينا، بتواضع أكثر ، أن نطلب للجميع أقل قدر ممكن من العذاب، وأن يتحمل العذاب الذي لا يمكن تجنبه - كالمجاعة في حال نقصان المواد الغذائية - بالتساوي. وفي هذا شبه بالنظرة إلى المنهج العلمي التي عرضتها في منطق الاكتشاف العلمي». إنَّ المسألة الأخلاقية تصبح أكثر جلاءً إذا ما وضعنا مطالبنا سلباً، أي إذا طلبنا القضاء على العذاب بدلاً من توفير السعادة».

ص: 506

عند هذه النقطة من تعيين بوبر للأخلاق الواقعية سوف تنطلق العقلانية النقدية إلى أبعد مدى لها. وستمارس نقداً صارماً للأفلاطونية مروراً بالكانطية والهيغلية والماركسية ساعية إلى تأسيس عقلانية عملية لا تكون فيها الأخلاق إلا عضواً منظومة مجتمعية ينتظمها العالم المفتوح على كل ما هو جدير بالبقاء والديمومة. يقول بوبر عن أفلاطون إنّه في تصوره للدولة لا يرى مكاناً للعدالة إلا في مجتمع تراتبي صارم يحدد لكلِّ فرد موقعه الواضح في البنية الهرمية. فيكون الحفاظ على العدالة ومن ثمَّ على السلم الاجتماعي قد تحقق بواسطة نظام حديدي قائم على الطاعة المطلقة، اختار أفلاطون الدولة التوتاليتارية الجذرية على حساب الروح الفردية والديمقراطية وهو الخيار الذي أودى بأستاذه الكبير سقراط إلى الموت.

بعد قرون فلسفية طويلة ستعود الأطروحة الأفلاطونية عبر هيغل، الذي وجد فيه بوبر تضحية متجددة بكيان الأفراد وخياراتهم الذاتية على مذبح الكليات التاريخية والحتمية الموضوعية. إذ ينطلق الفيلسوف الألماني من مبدأ المساواة بين ما هو عقلاني وبين ما هو قائم تاريخياً، وتصبح الأشكال المجتمعية تجليات ضرورية ذات نسب متفاوتة في النضج، لتحقيق العقل الكلي لدن ذاته. وتصبح آلام الأفراد وعذابات البشر الثمن الذي لا بد من دفعه لكي تحقق الفكرة المطلقة ذاتها عبر الصراعات المجتمعية والقومية، وهذا هو جوهر الديالكتيك الهيغلي (...). على هذا النحو لا يحجم بوبر عن ربط فلسفة الهوية الهيغلية بالملكية المطلقة لفريدريك وليام، حاكم بروسيا والمعارض لكل تقنين دستوري لسلطته وخلف هذا الإدغام الظاهري، تتربَّص مصالح الملكية المطلقة لفريدريك وليام. إنَّ فلسفة الهوية تفيد في تبرير النظام القائم. ونتيجتها هي وضعية أخلاقية وقانونية، أي العقيدة القائلة بأنَّ ما هو قائم هو صالح، لأنه لا توجد معايير إلا المعايير السائدة، إنَّها عقيدة «السلطة دائماً على حق»... إن توتاليتارية هيغل الجذرية تعتمد على أفلاطون بقدر اعتمادها على فريدريك وليام الثالث، ملك بروسيا في الحقبة المهمة خلال الثورة الفرنسية وبعدها. ومضمونها أنَّ الدولة هي كل شيء والفرد لا شيء؛ فهو مدين للدولة بكل شيء، في وجوده المادي كما الروحي. يكتب هيغل: «إنَّ الكلي موجود في الدولة.

ص: 507

والدولة هي الفكرة الإلهية كما هي متحققة على الأرض... علينا إذن أن نعبد الدولة كتجل للإله على الأرض، وأن نعتبر أنه إذا كان فقه الطبيعة صعباً، فإنَّ فقه جوهر الدولة أكثر صعوبة بدرجة لا متناهية... إنَّ الدولة هي مسيرة الله في العالم... يجب فهم الدولة ككائن حي... والدولة الكاملة تتمتع، في جوهرها، بالوعي والفكر. الدولة تعي ما تريد... الدولة متحققة؛ والواقع المتحقق هو حتمي. ما هو متحقق هو حتمي أبداً... الدولة قائمة لذاتها ... إنَّ الدولة هي الحياة الأخلاقية القائمة، المتحققة فعلاً». هذه المقاطع كافية لتبيان أفلاطونية هيغل وإصراره على المرجعية الأخلاقية المطلقة للدولة، وهو يضرب عرض الحائط بكل أخلاق فردية وكل ضمير شخصي».

تقوم مقولة المجتمع المنفتح البوبرية على رفض مفهوم التغيير الجذري كما فهمه أفلاطون وماركس، أي التغيير المطلق من الصفر حيث يعاد بناء المجتمع على أسس جديدة مختلفة كلياً عما سبق إنَّ التقاليد والمؤسسات السائدة ذات قيمة حياتية براغماتية لأنَّه من دونها لا يستطيع الأفراد أن يقوموا بأدوارهم الاجتماعية المتوقعة منهم، ومن ثم ينهار صرح النشاط الإجتماعي كله. فمهما بلغت مساوئ النظام القائم فهو لا ينفك عن أن يكون نظاماً، تندرج الحياة الإجتماعية تحت لوائه منذ مئات السنين، وذلك على النقيض من الحلول الثورية الطوباوية التي تغامر بنشر الفوضى والدمار مستخدمة مفاهيم أخلاقية مجردة كالعدالة (أفلاطون) والمساواة (الماركسية).

سوف تمتد «البوبرية» إلى نسيج «العقل الأخلاقي الغربي» بظواهره وأحيازه الأوروبية والأميركية. وفي خلال المرحلة المعرفية الفلسفية التي وصفت ب«ما بعد الحداثة» أو «الحداثة البَعْدية» سوف يتبين لنا كم للتنظير البوبري من مفعولية ثقافية وأيديولوجية على صعيد ممارسة وتشكيل أنظمة القيم الجديدة في العقل الغربي. ولو نحن قسنا القضية الما بعد حداثية، على وفق المعيار البوبري لمفهوم المجتمع المنفتح لوجدنا أنه يحوي عناصر نظرية وأخلاقية براغماتية تركبت على نحو شد الصرامة. لذا فإنَّ تجربة بوبر في فقه الظاهرات الاجتماعية إنما تنطلق من موقف سياسي وأخلاقي واضح في دفاعه عن الديمقراطية الليبرالية واعتصامه في ضمن

ص: 508

دائرة القيم الفردية، ومع ذلك فهو بمجرد أن يمضي في مواجهة محيطات الواقع التاريخي حتى يعود إلى الاعتراف بالدور الحاسم للمؤسسة الاجتماعية الحاكمة، وتحديداً بدور وهمة الدولة في ضبط الروح العام للمجتمع المنفتح. وهو في ذلك ما يوحي بشيء من التناقض والتباين في موقفه الفلسفي. وهو أمر سوف نقع على تمثلاته الجلية فيما بعد. أي في الكيفية التي اتبعها العقل الغربي، والعقل الأميركي على وجه الخصوص في ما يمكن وصفه بأخلاقيات الهيمنة.

- المذهب الحَفْري (الأركيولوجي): في مرحلة متأخرة من رحلة العقل الفلسفي الغربي سيكون لتأويل الأخلاق بعد مختلف. علماً أنَّ عمليات التأويل التي سنأتي عليها بعد قليل لم تغادر مؤشّرات ما سبقها. إحدى أبرز محطات هذه الرحلة كانت مع الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو. ولعلَّ كتابه «تاريخ الجنسانية» المؤلف من ثلاثة أطوار، سيعدُّه النقّاد، الوعاء الذي يحوي في طيَّاته فلسفته الأخلاقية. والسؤال الذي نواجهه هنا هو الآتي : أية أخلاق تلك التي تقرّب إليها فوكو في تاريخ الجنسانية»؟

هناك من قدَّم الإجابة تبعاً لقراءته للقصد «الفوكوي» فوجد أولاً أنَّ الأخلاق في هذا الحقل تريد أن تتجاوز كل الأدبيات الفلسفية التي تُطرح عادة تحت هذا .العنوان وأول ما يفعله فوكو هو تأكيد الفصل بين الأخلاق(La Morale) وبين الإتيكا (Lathique). وهذا الفصل يميّز بين الأخلاق باعتبارها منظومة القيم والأوامر والنواهي التي تنتصب في مستوى الشخصية القمعية للمجتمع، وبين سلوك الأفراد الذي لا يمكن اعتباره مقدماً أنه مندمج في الأخلاق أو خارجي عنها. إذ يبقى السلوك هو أقرب إلى أصحابه ومنفذيه، من كل ما يمكن أن يضاف إليه قسراً أو طوعاً من الأوامر والنواهي. فالأركيولوجي لا يهمه منظومة الأخلاق من حيث هي مؤسسة اجتماعية أو دينية أو تاريخية، ولكنه يتوجه إلى سلوك الأفراد الفعلي تجاه ذواتهم أولاً. وهو ما يسميه فوكو بتقنيات ممارسة الذات، يجعلها تكون بالنسبة للخارج كثنية موجة في خضم العالم، كما يقول /دولوز/، بحيث تكون هي الداخل في الخارج، وهي الخارج في الداخل. وسيبدو تأويل فوكو لافتاً لتلك «الممارسة الذاتية»، غذ سيظهر لنا أن نظريته تلك ناتجة عن اختبار ومعاينة أكثر مما هي معرفة ذهنية مجردة.

ص: 509

فحين سُئل فوكو من قبل شارحيه الأميركيين عن فلسفته، دريفوس / و /رابينوف، ماذا سيكتب بعد الانتهاء من شرح تاريخ الجنسانية، أجاب الفيلسوف فوراً سأهتم بذاتي.. وبالطبع فليس معنى ذلك أنَّ فوكو أجل الاهتمام بذاته إلى ما بعد الانتهاء من مشاريعه الفلسفية الكبرى، كما أجل الكتابة في إتيكا الذات. فلقد كان الانشغال الذاتي - بالذات هو عنوان الهمّ الفوكوي الفلسفي، والفردي الخاص به في آن، منذ البداية. وهو منذ «تاريخ الجنون» و «مولد العيادة» وصولاً إلى «الكلمات والأشياء» و«المراقبة والمعاقبة» كان محور تفكيره هو التحفير العميق الشامل عما يقع على الذات من تقنيات الخارج الذي يمنع ولوج الذات كداخل إليه، وصولاً في النتيجة إلى اكتشاف النقلة المختلفة التي تشكلها الذات إزاء ذاتها، ليس بمعزل عن هذا الخارج نفسه، ولكن في صميمه، وفي طريقة اختراقه، وجعله يقبل كذلك بخارجيتها المختلفة وسط خضمه(1).

في مناقشته لحداثة التنوير التي جرت تحت السؤال نفسه الذي طرحه كانط «ما الأنوار؟» بعود فوكو ليمارس عملية أركيولوجية هي موجودة أصلاً في قلب الإشكال الكانطي. كما لو أنَّه يريد أن يعمقه أو يؤوّله على طريقته. وها هو يقول: يبدو لي أننا لم نعرف قبل اليوم فيلسوفاً مثل كانط في نصه هذا (المقصود نص كانط في «الأنوار»)حيث ربط بإحكام ومن الداخل معنى تأليفه بالمعرفة، وجمع التفكير حول للخطة الفريدة التي يكتب فيها وعنها: يبدو لي التفكير

التاريخ بتحليل خصوصي بالراهن - والكلام لفوكو - بوصفه اختلافاً في التاريخ وسبباً لمهمة فلسفية خصوصية، بمثابة العامل الجديد في هذا النص . وفي ضمن هذا المنظور يرى فوكو أنه وجد نقطة انطلاق نحو ما يسميه موقف الحداثة. ويتساءل فوكو بالاستناد إلى نص كانط عما إذا كان ممكناً تصور الحداثة على أنها موقف أكثر من كونها مرحلة من التاريخ (...) ويقول : إننا نتحدث غالباً الحداثة بوصفها سمة عهد، أو مجموعة عن الصفات من المميّزة لعهد ما ونثبتها على هذه الصورة في روزنامة تكون فيها مسبوقة بما قبل الحداثة، شبه الساذجة أو البدائية، ومتبوعة ب- «ما بعد حداثة مريبة وملتبسة.. وأعرف

ص: 510


1- مطاع صفدي - إتيكا فن الوجود - الفكر العربي المعاصر - العدد السابع - صيف 1989.

إننا نتساءل عندها إذا كانت الحداثة تشكل تتمة «الأنوار» أو تطورها، أو أنها قطيعة أو انحراف بالنسبة إلى المبادئ الأساسية للقرن الثامن عشر.

غير أنَّ الاستفهام الأكثر مرارة لدى فوكو هو ذاك الذي لاحظناه في نهاية مقالته حين يصرح: «لا أعرف إذا كنا سنصبح راشدين ذات يوم أشياء عدة في تجربتنا تؤكد لنا أن حدث «الأنوار» التاريخي لم يجعل منا ،راشدين، وإننا لم نصبح كذلك بعد؟!(1).

هل نقدر أن نرى إلى مرارة الإستفهام الفوكوي هذا على أنه ضرب من مقاربة أخلاقية لتهافت الحداثة الغربية بعد نحو ثلاثة قرون على «الأنوار»؟

غالب الظن أنَّ المسألة بالنسبة إلى فوكو مضت في مسارها الحفري / المعرفي على نحو لا ينأى عن سؤال الأخلاق بوصفه سؤالاً فلسفياً بامتياز.

جداليات الأخلاق التواصلية

تميز السجال الفلسفي في الغرب ابتداءً من النصف الثاني للقرن العشرين بإعادة الاعتبار لسؤال الأخلاق كأحد أهم الأسئلة الأنطولوجية. فلقد صار من المؤكد بالنسبة للنخب ومؤسسات الفكر والمجتمع المدني أن مجتمعاً لا يستطيع أن يرضي رغبة الفضيلة في الطبيعة البشرية، ليس مجتمعاً عقلانياً. إنَّه فقط أحد الأنظمة المتحيّزة بحسب توصيف أرسطو، والذي يمكن أن يسقط عاجلاً أم آجلاً، عندما تجد الفئة المظلومة الفرصة المناسبة لذلك.

جرى هذا القول مجرى نقد الحداثة التي اتخذت من العقلانية المجردة سبيلاً أوحد لها لتثبت أقدامها وتسود. وسيأتي في الغرب من يستعيد ثالوث الإستفهام الكانطي ويؤوله على طريقته بوصفه ثالوثاً لا يخص عقلانية الغرب وحسب، بل يمتد إلى العقل الإنساني في شموله الكوني: ماذا يمكن لنا أن نعرف؟ وماذا نعمل كي نحقق المعرفة، أي كيف نعرف؟ وما الذي يمكننا أن نرجوه كي نعرف؟... وهنا تتواصل الحلقات الثلاث في السعي نحو أي مشروع يرنو لتأسيس عقلاني تواصلي:

ص: 511


1- المصدر نفسه - ص 179 - 182.

النظري، والعملي، والعملي النظري؛ فننتقل بذلك من حيّز الفهم والتحليل الواصف، إلى البحث في ذات الحدث المعرفي، أي تفكيك العقل من الداخل.

على هذا الوجه سنرى كيف أنَّ الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس(1)ركّز ضمن طموحه في تأسيس نظرية معيارية للحداثة، على أربعة أسس نظرية لبلورة تصوره النقدي للمعرفة وللمجتمع وهي نظرية العقلنة، ونظرية النشاط التواصلي، وجدل العقلنة الإجتماعي، ونظرية المجتمع التي تجمع بين الإهتمام بقضايا الممارسة وباعتبارات النظام. ومن أجل صياغة كل هذه المفاصل النظرية عمل هابرماس على التقاط مختلف الانفتاحات النظرية والفكرية التي سمحت له ببلورة أسئلته وبتعميق تحليلاته للكشف عن الآليات المختلفة المنتجة للظواهر المرضية للحداثة. فنقد الاستلاب والتشيؤ كما عند أدورنو ولوكاش من خلال نقد العقلانية الأداتية أدى إلى ملامسة ما سماه ب- «الإستعمار الداخلي» للعالم المعيش الذي تفرضه عمليات العقلنة على العلاقات وأشكال التبادل(2)وبالرغم من كلَّ ذلك فإنَّ هابرماس لم يُرد أن يتخذ من سلبيات العقلانية الأداتية ذريعة لترك مشروع الحداثة، بل إنَّه يلح على موضعة فكره في سياق تطورها وتحولها، ولكن بشرط الانتقال من المجال المعرفي لفلسفة الوعي إلى بنية الفلسفة التواصلية من دون القفز إلى مرحلة ما يُسمَّى بما بعد الحداثة، أو التشبث بالمواقف المضادة للحداثة. لأنَّ همه المركزي تمثل في إعادة تنشيط الطاقة النقدية للعقل الأنواري، من خلال إبراز المضمون المعياري لفكرة التفاهم الموجودة في مختلف اللغات، وأشكال التواصل.

كيف صيغت الأخلاق التواصلية بالترابط الحميم مع العقلانية لكي تتم إعادة تشكيل الحداثة بعيداً عن التشيؤ والاستلاب؟

سنلاحظ بداية أن احتمال الهيمنة داخل مجتمع معقلن يمكن تجنبه، في نظر هابرماس، وذلك باحترام معايير محددة تسترشد بما يسميه ب- «أخلاق التواصل» لأنَّها

ص: 512


1- راجع «ما هي الأنوار» - مصدر سبقت الإشارة إليه ص (71).
2- Habermas (J): La technique et la Science Comme Ideologi, op. cit. pp 88-89.

تقدم وجهة نظر نقدية لمختلف وجهات النظر المعرفية للسياسة (...) ففي هذه الحالة تتدخل أخلاق التواصل لتأسيس وجهة نظر نقدية لا تعطي الأهمية، فقط للمنطلقات المنهجية أو للمنطق المحرك للموقف المعرفي، بل تهتم كذلك بالصيرورة الإيديولوجية. أي إِنَّ هذه الأخلاق تعترف لكل مجال بقدرته على التبرير والتفسير داخل حدود مجاله الخاص، من دون أن تسمح له بادعاء التعميم انطلاقاً من المقدمات والنتائج والأحكام التي تنتجها ممارسته المعرفية على موضوعاته الخاصة (...) فالأخلاق التواصلية، عند هابرماس، هي التي تخلق إطاراً عقلانياً للتفاهم بين مختلف مجالات المعرفة، وللتفاوض بين المصالح المتعددة، وذلك كله بالتأكيد على العلاقة الضرورية بين العقلانية السياسية والشرعية الديمقراطية، والتساؤل الدائم عن شروط الاتفاق بین ما هو ضروري عملياً وما هو ممكن موضوعياً(1).

إنَّ ما يمكن النظر إليه بوصفه استراتيجيا أخلاقية هو لأجل إعادة تصويب حركية العقل، حيث ظهرت هذه الحركية في المراحل المتقدّمة لصعود الحداثة كما لو أنَّها سخّرت للاستلاب المحض. ربما بدا المجهود النظري الذي بذله هابرماس منذ النصف الثاني للقرن العشرين وكأنه محاولة فلسفية تتوخى إقامة الحد على ظاهرة اختزال العقل التي امتلأت بها الأحياز المختلفة للحداثة الغربية. إنَّ محاولة هابرماس وسواها من المحاولات المتأخرة في الفلسفة الغربية سعت إلى الكشف عن العقل المرتبط والملازم للممارسة التواصلية اليومية، وفي إعادة بناء مفهوم غير اختزالي للعقل . وذلك اعتماداً على قاعدة صلاحية الخطاب. لا سيما وإنَّ العقلانية الغربية تعطي أولوية استثنائية للعقل الغائي وللممارسات التي تستهدف تحقيق مصالح وغايات معينة. ولأجل ذلك فهي تدمج أكثر من وساطة، وعلى رأسها المال والسلطة لضمان التوازن الاجتماعي الذي يسمح بمبادرات تدخل في سياق النشاط الأداتي أو الاستراتيجي.

في هذا المدلول يبدو العقل التواصلي ضرباً من كانطية متجددة ولكن بلغة ما بعد

ص: 513


1- محمد نور الدين أفاية - الحداثة والتواصل في الفلسفة النقدية المعاصرة - نموذج ها بر ماس - دار أفريقيا الشرق - الرباط - الطبعة الثانية - ص 167 .

حداثية. فالعقل التواصلي هو روح العقل العملي لجهة تلازمه التكويني مع الأخلاق. ذلك أنَّ الفلسفة الألمانية في ما بعد الحداثة انبرت إلى توكيد العقل التواصلي «كصيغة تركيبية لقضية الحداثة الغربية والعقلانية، سواء في تعبيرها الأنواري أو في تمظهراتها النقدية. صحيح إنَّ فكر الأنوار يؤكد على عنصر إنَّ فكر الأنوار يؤكد على عنصر النقد في دعوته العقلانية، لكن تطورات المجتمعات الصناعية وتطبيقات العقلانية، التي لا تكف عن التجدد والتبدل، جعل الفكر الأنواري يستنفد طاقاته المفاهيمية من جهة، فيما تحول بشكل من الأشكال إلى خطاب يضفي المشروعية على المجتمع الحديث من جهة أخرى(1).

إنّ العقلانية التواصلية التي ستجد في القيمة الأخلاقية أساساً لها،هي المقابل الفلسفي للعقلانية الأداتية، مع أنَّ الأخيرة ستفلح بالسيطرة على عالم ما بعد الحداثة في الغرب. لكن العقلانية الأداتية التي أنتجت عالماً موجهاً من طرف إدارة صارمة إلى درجة الرعب كما يقول أدورنو، ستكون موضع نقد لا هوادة فيه فيما كان العالم يتجه بخطى حثيثة نحو نهاية القرن العشرين.

العقل الأخلاقي الغربي منقوداً

سوف تنمو لدى الأنتلجنسيا الفكرية والفلسفية في الغرب الراهن ما يمكن اعتباره فلسفة أخلاقية نقدية. من مبادئها أنَّ الفلسفة وهي تقترح قواعد عامة للسلوك، أو تقدم نظريات عن العالم، فلا بد من أن يكون لها وجهة دينية. فيحتاج الدين لعقلانية الفلسفة. ومن جهتها لا تتجاهل الفلسفة مشكلات الدين. ولقد كانت اهتمامات كانط التأسيسية في السؤالين الأشهرين ماذا أعرف؟ وماذا علي أن أسلك، ذات قيمة دينية لا تقل عن قيمتها الفلسفية. فتسأل عن كيف يرتبط الإنسان بحاجاته، وعن الذي يوجد في الأشياء ويتحقق في أفكارنا.

لكن الأخلاقية الحقيقية بحسب المفكر الأميركي جون بانيس هي أكثر من قواعد للسلوك في مجتمع ما. لأنَّ هذه القواعد يمكن أن تختلف كلياً باختلاف الجماعات.

ص: 514


1- المصدر نفسه - ص 209.

فالأخلاقية تقضي باحترام نظام الكون الذي فرضه «اللوغوس»، الفيض المقدس الذي يحافظ على بنيان الكون ونظامه. وبما أنّه ما من شيء يمكن أن يوجد خارج «اللوغوس» فنحن أيضاً جزء منه، حتى أنه يجب أن نحترم دستوره الذي هو واحد لكافة اشكال الحياة وحتى للأشياء غير الحيّة(1).

منذ كانط إلى الكلام اللاحق على الحداثة البعدية، أو ما سمي «ما بعد الحداثة» مرَّت ثلاثة قرون أو نحوها في هذه الأثناء لم ينفك سؤال الإنسان عن كونه السؤال الفلسفي الذي تدور حوله أسئلة الوجود كلها. لكن هذا السؤال سوف يستدعي سؤال الأخلاق كسؤال متعلّق به تعلقاً سنخياً. بل هو عين الأول، وتجلٌ له. تماماً كما هو شأن العقل كمائز للإنسان، وإن ذهب فلاسفة محدثون إلى تقديم العقل على الأخلاق تقديماً لم يدركوا أنهم بهذا إنما ينزعون من الكائن البشري ما هو من تكوين ذاته وطبيعته.

لقد بدا واضحاً في الرؤيات الجديدة لسؤال العقل / الأخلاق في الغرب أن مقولة «كل ما هو عقلي هو واقعي» ليست إلا واحدة من القواعد التي أسست للاستلاب. وهي بهذا جعلت الإنسان حيواناً سياسياً بامتياز، إذ دفعت به إلى الحد الذي لا يرى نفسه إلا في مرآة سلطانها. والذين وضعوا هذه المقولة في سياق الزمان الواقعي كانوا على يقين بأنَّهم إنما فعلوا ذلك ليبينوا أنَّ الأطروحة الأخلاقية التي حملتها الفلسفة الألمانية على أجنحة اللاهوت الديني إن هي إلا سراب لا يلوي على شيء. كان التنظير الذي أراد أن يُسقط الأخلاق من عليائها الأرضي، يستهدف أصلاً كل ما له صلة بالدين والميتافيزيقا. قالوا إنَّ الأخلاق والدين هما شكل من أشكال الإيديولوجيا الهائمة خارج دائرة الواقع. وإنَّ الكائن هو نتاج التاريخ، وإن انتظم الأمر في نطاق الديالكتيك الذي يبين أنَّ الوعي ليس فليس الوعي هو الذي يحدد الحياة، بل الحياة هي التي تحدد الوعي»..

هذا هو وهو أمر جعل الكلاسيكيات الفلسفية للماركسية تصب نقداً لا هوادة فيه

ص: 515


1- جون بانيس - أسس التعامل الأخلاقي للقرن الحادي والعشرين - ترجمة أحمد رمو - دار علاء الدين - دمشق - 2002 - ص 73 .

على الفلسفة الألمانية. فلم ترَ فيها إلا إيديولوجيا واغتراب كونها خاضعة من حيث تكوينها وتطورها لهيمنة التصورات التي وفّرها لها اللاهوت الديني.

لقد أرادت المادية الديالكتكية أن تدفع عن الإنسان الاستلاب الذي أطلقته حركة الحداثة وتقنياتها، فإذا بها تدفعه نحو استلاب من نوع آخر منذ تلك اللحظة التي أمسكت فيها بناصية الحركة التاريخية بدءًا من نهاية القرن التاسع عشر وعلى امتداد القرن العشرين بأكمله.

ولم يكن افتتاح الألفية الثالثة ليجيء بما يبدل من روح التساوي الحاد في مقولة العقلي / الواقعي. فلقد أظهر المشهد العام كل ما يمت بصلة إلى النهايات والبدايات فی آن. كان ثمة نهاية مدوية للسجال الإيديولوجي في حداثة الغرب المتأخرة. ليبتدئ ضرب جديد من «المواج الإيديولوجي» تولّت الليبرالية المابعد حداثية رسم أحداثه وأجناسه وفصوله عبر الآليات الهائلة لثورة الاتصال وما توصل إليه الذكاء الخارق للزمن التكنو إلكتروني المعولم.

كانط حاضرة

لقد أخذ السجال في العقلاني والأخلاقي مناحي أوثق تواصلية مما سبق . فالنظام الإجمالي للقيم (القوانين - الدولة - مبدأ السيادة - المجتمع المدني - الفرد الخ) هو الذي سيعين اتجاهات السلوك العام. وهبطت مقولتا الخير والشر من عليائها النظري البحت إلى حقل الاختبار الإنساني الحي والسيَّال. وهكذا فبإزاء الاجتياح الهائل للعقلانية الصارمة، كان ثمة ما يُظهر الحاجة إلى أخلاقية حقانية وعقلانية في آن، تعيد التوازن إلى النظام المهزوز في الاجتماع البشري. لقد كانت روح في السجال المتأخر خصوصاً لجهة إحياء البعد الأخلاقي لعالم الحداثة البعدية وبث الروح فيها. كان الحضور واجباً وبديهياً أيضاً حين بلغت العقلانية وهي تقود مجتمعاتها، ذروة الشغف اللاهث نحو السيطرة. وكذلك حين تركت الإنسان هائماً على وجهه في صحراء الغربة والسأم. فعلى هذا النحو لم يكن إعلان موت الإنسان إلا المنجز المأساوي الأشد استغراقاً في التشاؤم والعدمية.

ص: 516

كتابه «سؤال الأخلاق» والذي يعد بحق علامة فارقة سيشار إليها فی فلسفة الأخلاق - ينقد الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن الحداثة الغربية ويبين نقطة إشكالية مهمة في الحدود الفاصلة والجامعة بين العقل والأخلاق وأيهما أخص بالنسبة للإنسان. يبدأ بالرد على القائلين بأنَّ «ميزة العقل الإنساني أنه لا يملك اليقين بنفع لا ضرر فيه، ولا بصواب لا خطأ معه» فيرى أنَّ هذه الدعوة «لا تصدق إلا على القوة العقلية من قوى الإنسان التي هي من جنس قوة الإدراك التي تتمتّع بها البهيمة. فمعلوم - كما يقول - أنَّ البهيمة لا تهتدي إلى أغراضها إلا بعد محاولات متتالية تخطئ فيها أكثر مما تصيب. وحتى إذا أصابت، فلا تضمن لنفسها أنها لا تعود إلى الخطأ مرة ثانية. وكذلك الإنسان في ممارسته لعقله على مقتضى التصور المذكور؛ بل ما المانع من أن نسمّي القوة الإدراكية الخاصة بالبهائم هي الأخرى عقلاً ! فإنها لیست تختلف عن قوة الإدراك عند الإنسان إلا في الدرجة ؛ وإذا كان الأمر كذلك، لزم أن لا تكون العقلانية - كما هي في تصور بعضهم - هي الصفة التي يتفرد بها الإنسان وتميّزه عن البهيمة؛ فكلا الإنسان والحيوان لا يقين له فيما أصاب فيه، بل تكون، على العكس من ذلك، هي الصفة التي تجمع بينهما؛ وبهذا يقع هؤلاء هم أنفسهم في الخطأ من حيث أرادوا الصواب، آتين مرة أخرى على غفلة منهم بنقيض مقصودهم، فقد أرادوا أن يرفعوا رتبة الإنسان، فإذا بهم يُنزلونه رتبةٌ دونها.

وإذا بطل أن تكون العقلانية هي الحد الفاصل بين الإنسانية والبهيمة، وجب أن يوجد هذا الحد الفاصل في شيء لا ينقلب بالضرر على الإنسان من حيث أراد الصلاح والفلاح في الملآل، ولا يقع الشك في نفعه متى تقرر الأخذ به ولا به ولا في حصول الضرر متى تقرر تركه وليس هذا الشيء إلا مبدأ طلب الصلاح نفسه، وهو الذي نسميه باسم «الأخلاقية»؛ فالأخلاقية هي وحدها التي تجعل أفق الإنسان مستقلاً عن أفق البهيمة؛ فلا مراء في أنَّ البهيمة لا تسعى إلى الصلاح في سلوكها كما تسعى إلى رزقها مستعملة في ذلك عقلها ؛ فالأخلاقية هي الأصل الذي تتفرع عليه كل صفات الإنسان من حيث هو كذلك ، والعقلانية التي تستحق أن تُنسب إليه ينبغي أن تكون تابعة لهذا الأصل الأخلاقي.

ص: 517

ويمضي طه عبد الرحمن في الشطر الأول من رحلته النقدية في كتاب سؤال الأخلاق، مظهراً الالتباسات التي غشيت أعمال دعاة العقلانية والمحدثين. حيث ظنَّ هؤلاء أن العقلانية واحدة لا ثانية لها وإنَّ الإنسان يختص بها بوجه لا يشاركه فيه غيره. وعبد الرحمن يخالف أصحاب هذا الظن بملاحظة أنَّ العقلانية تقوم على قسمين كبيرين: فهناك العقلانية المجرَّدة من «الأخلاقية»، وهذه يشترك فيها الإنسان مع البهيمة، وهناك العقلانية المسدَّدة بالأخلاقية، وهي التي يختص بها من دون سواه؛ وخطأ المحدثين أنَّهم حملوا العقلانية على المعنى الأول وخصوا بها الإنسان؛ ولا يصح أن يُستدرك علينا، فيقال بأنَّ العقلانية التي يختص بها الإنسان على نوعين: «العقلانية النظرية» التي لا أخلاق فيها و «العقلانية العملية» التي تنبني على الأخلاق؛ ذلك لأنَّ الأولى - أي العقلانية النظرية - إن أمكن وجودها، فلا يمكن أن يتفرد بها الإنسان ككما تبين؛ أما الثانية - أي العقلانية العملية، فإنَّه، إن جاز أن يتفرد بها الإنسان، فلا يجوز أن تكون الأولى أصلاً لها ولا حتى أن تكون في رتبتها كما يُظَن؛ والصواب أنَّ الأخلاقية هي ما به يكون الإنسان إنساناً، وليست العقلانية كما انغرس في النفوس منذ قرون بعيدة؛ لذا ينبغي أن تتجلى الأخلاقية في كل فعل من الأفعال التي يأتيها الإنسان، مهما كان متغلغلاً في التجريد، بل تكون هذه الأفعال متساوية في نسبتها إلى هذه الأخلاقية، حتى إنَّه لا فرق في ذلك بين فعل تأمُّلي مجرَّد وفعل سلوكي مجسّد(1).

حداثة المابعد: اللاديني لا أخلاقي

لم يغادر النقاش الفلسفي الذي شهدته الحداثة الغربية المتأخرة ثالوث العقل - الدين - الأخلاق. ذلك على الرغم مما ألقت به الثورة التكنو - الكترونية من حُجب لا حصر لها على فضاءات النقاش. قد يكون العكس تماماً هو الذي حدث بالفعل. أي إنَّ هذه الثورة بتظاهراتها المختلفة شديدة التنوّع ، وصولاً إلى الثورة الرقمية والمعلوماتية كتجلَّ أخير لها، سوف تضاعف من الحاجة لاستحضار سؤال الأخلاق والدين ناهيك عن سؤال العقل. وإذا كان لنا أن نلاحظ مناحي واتجاهات حركة

ص: 518


1- طه عبد الرحمن - سؤال الأخلاق - مساهمة في النقد الأخلاقي للحداثة الغربية - المركز الثقافي العربي - بيروت - الرباط - ط 20011 - ص 13 - 14.

التفلسف في الغرب الآن، فسنجد إلى أي مدى يظهر الديني كعامل مؤثر في الظواهر ذات المنشأ الفلسفي. كان العالم الروسي نيقولا برديائيف يقول «إنَّ لليقظات الفلسفية دائماً مصدراً دينياً، وظل يميل إلى الاعتقاد، حتى في ذروة شيوع النزعات الفلسفية الإلحادية، إنَّ الفلسفة الحديثة عامة، والفلسفة الألمانية خاصة هي أشد مسيحية في جوهرها من فلسفة العصر الوسيط، وذلك بسبب موضوعاتها الرئيسية وطبيعة تفكيرها . فلقد نفذت المسيحية - بحسب برديائيف - إلى ماهية الفكر نفسه من فجر العصور الحديثة(1).

لا بل حتى أولئك الذين يوصفون بالتيار الفلسفي المادي أكدوا على ضرورة الدين باعتباره وظيفة أبدية للروح الإنساني، وإنَّه يجب على الفلسفة نفسها أن تدخل حظيرة الدين وأن تجعله محوراً لها.

الأهم من ذلك أنَّ الاستعادة الحداثية لمفهوم الأخلاق بما هو نأي عن الشر ونزوع إلى الخير، بل للأخلاق الكانطية المسيحية تعييناً ، إنما هي استعادة من باب الوجوب . ثمة في الغرب اليوم، بل ومنذ بضعة عقود إرهاصات ذات حرارة مرتفعة تدعو إلى مراجعة شاملة للعقلانية كمفهوم وكنمط حياة في آن.

في رؤياه النقدية لأخلاق الحداثة الغربية سيلاحظ طه عبد الرحمن - في كتابه الذي أتينا عليه قبل قليل - مَدَيات التهافت التي عصفت بالحداثة فوجد أنَّ الحضارة الغربية الحديثة التي هي حضارة «اللوغوس» أو حضارة العقل، هي حضارة ذات وجهين: عقلي وقولي وذات شقين: معرفي وتقني، وكيف أنَّ هذين الوجهين وذينك الشقين، وإن قصدا تلبية حاجات الإنسان المختلفة والمتزايدة، فإنهما يضران بأخلاقيته بقدر يهددا إنسانيته؛ فالوجه العقلي من هذه الحضارة يقطع عنه اسباب الترقي في مراتب الأخلاق، والوجه القولي يضيّق نطاقها ويجمد حركتها ويُنقص من شأنها، والشق المعرفي يخرجها من الممارسة العلمية ويفصلها عن المعاني الروحية، والشق التقني يعمل على استبعادها والاستحواذ عليها كما يحرص على أن يستبدل بها غيرها؛ وما ذاك إلا لأنَّ هذه الحضارة

ص: 519


1- N. Berdyaer: The Russian Revolution، the Uni، of Michigan press، 1961 pp. 11- 12.

حضارة ناقصة عقلاً وظالمة قولاً ومتأزمة معرفة ومتسلطة تقنية. وفي السياق نفسه يستطرد عبد الرحمن ليظهر أنَّ حاجة المفكر المسلم إلى أن يتأمل في الممارسة الأخلاقية لهي أشد منها في أي وقت مضى، وهو يضع لهذه الحاجة اعتبارات ثلاثة:

أحدها، أنَّ الآفات التي تحملها حضارة «اللوغوس» إلى الإنسان،وهي ، كما ذُكر، أربعة أساسية: «النقص» و «الظلم» و «التأزم» و «التسلط»، التي تُؤذي الإنسان في صميم وجوده الأخلاقي بما ييأس معه من الصلاح في حاله والفلاح في مآله، لا يمكن أن يخرج منها أهلها بمجرد تصحيحات وتعديلات يُدخلونها على هذا الجانب أو ذاك من هذه الحضارة المتكاثرة، نظراً لأنَّ هذه التقويمات المحدودة ليست في قوة هذه الآفات الشاملة، حتى تقدر على محو آثارها وسوءاتها الأخلاقية؛ ولا أدل على ذلك من أنهم لا يكادون يفرغون من إجراء هذه الإصلاحات أو تلك حتى تظهر لهم من تحتها إفسادات أتوها من حيث لا يشعرون، فيقومون إلى إصلاحها، فيجدون مرة أخرى من الإفساد ما وجدوا من ذي قبل، وهكذا من غير انقطاع؛ وهذا يعني أنَّ أخلاق السطح لا تنفع في الخروج من آفات العمق، بل لا بد في ذلك من طلب أخلاق العمق، وهذه، على خلاف الأخرى، تدعونا إلى الشروع في بناء حضارة جديدة لا يكون السلطان فيها ل- «اللوغوس»، وإنما يكون فيها ل- «الإيتوس» (أي الخُلُق)، بحيث تتحدّد فيها حقيقة الإنسان، لا بعقله أو بقوله، وإنما بخُلُقه أو فعله؛ فلا مناص إذن من أن نهيئ الإنسان لحضارة «الإيتوس»، متى أردنا أن يصلح في العاجل ويُفلح في الآجل.

والاعتبار الثاني، أنَّ العالم، بلا شك، مقبل على تحول أخلاقي عميق في ظل ما يشهده من تحولات متلاحقة في جميع مناحي الفردية وميادين الحياة المجتمعية؛ وإذا كان لا بد لهذه التحولات المختلفة من أن تُفرز قيماً ومبادئ ومعايير أخلاقية جديدة، فلا يبعد أن يلجأ سادة هذا العالم إلى وضع نظام أخلاقي عالمي جديد كما هو شأنهم مع النظام التجاري العالمي، وإن كان هذا النظام الأخلاقي الجديد قد لا يرى النور إلا بعد الفراغ من وضع سلسلة من أنظمة عالمية متعددة أخرى: اقتصادية وسياسية وعسكرية وإعلامية وثقافية؛ ومرد هذا التأخير إلى سيادة تصور للأخلاق يجعلها تابعة ولاحقة لهذه الأنظمة الأخرى، لا متبوعة وسابقة عليها.

ص: 520

والاعتبار الثالث، أنَّ هناك غياباً كلياً للمساعي التي تعمل على تجديد النظر في الأخلاق الإسلامية بما يجعل هذا النظر يضاهي الفلسفات الأخلاقية الغربية الحديثة، ولا بالأولى يجعله يواجه التحدي الأخلاقي المقبل؛ وهذا الغياب المؤسف لن يزيد المسلمين إلا تضعضعاً في مركزهم، ولا سيما أنهم لا يملكون، على ما يبدو في الأفق القريب، إلا ما انطوى عليه الإسلام من القيم الأخلاقية والمعاني الروحية لتثبيت وجودهم وقول كلمتهم في الحضارة العالمية المنتظرة(1).

ما لا يُشك فيه أنَّ الاعتبارات التي وضعها طه عبد الرحمن وهو يتقصى مسار التحولات في العقل الأخلاقي الغربي تفضي إلى ضرب من التواصل والتأثير على البنية الأخلاقية للمجتمعات العربية والإسلامية وتلك مسألة سيكون لها مجال مخصوص من النقاش. مع هذا فإنَّ ما يتولاه بحثنا هذا في تحولات الفكر الأخلاقي الغربي قد يؤدي مساحة لا بأس بها من المهمة اللاحقة.

عقلانية التنوير: أثر بعد عين

لقد مضى زمن مديد بدا أنَّ اللحظة لم تَحِنْ لكي يختلي العقل الغربي بنفسه ويتأمَّل. ثمة من يزعم، وفي زعمه اقتراب من حقيقة المشهد في الغرب، إنَّ الحداثة وهي تنجز آخر تقنياتها لا تنفك تستغرق في غفلتها التي أدَّت بها إليها عقلانيتها ذات البعد الواحد. لم تعد العقلانية - كما حملت في نصوص التنوير الغربي - صالحة على ما يظهر - للإحاطة بما صار يعرف اليوم ب- «ما بعد الحداثة. كذلك فإنَّ العقلانية التي نذرت نفسها لاستنقاذ التاريخ من بدائيته، وأوهامه، وفوضاه، دخلت في ما ينافي قيمتها الأصلية. حتى السؤال الذي أنتجته ليعثر لها عن طريقة فضلى لسيادة العقل، ما فتى أن انقلب عليها. صار سؤالاً استجوابياً في ما يقدمه المشهد العالمي من تغييب لأحكام العقل وقوانينه. كأنما انقلبت هي أيضاً على نفسها، فاستحالت «طوطماً» للخداع والإيهام، بعدما كانت أنجزت فلسفتها «العظمى» في «تإليه» الإنسان.

ص: 521


1- طه عبد الرحمن - سؤال الأخلاق - مصدر سبق ذكره - ص 145

استهلت العقلانية بيانها في ما أملته عليها حاجتها إلى الوثوب والترقي. فكان عليها أن تتوسل الحداثة والديمقراطية وحقوق الإنسان وأن تؤكد وجوب أن يغادر العالم فضاء الوعي الإيديولوجي بما هو - على ما رَوَتْ - فضاء مكتظ بالأوهام، إلى رحاب الوعي العقلاني. غير أنَّ السيرورة التي حكمت العالم على امتداد ثلاثة قرون انتهت إلى منعطفات تراجيدية، وكانت الحربان العالميتان الأولى والثانية في النصف الأول من القرن العشرين والحروب المتفرقة الكبرى والصغرى في نصفه الثاني، بمثابة علامات حاسمة في التحول النهائي في اتجاه اللاعقلانية الجائرة.

أما علامة التحوُّل الكبرى فهي تلك التي انتهت إليها العقود الخمسة من الحرب الباردة. ما رتبت انهيار منظومة تاريخية كاملة من ثوابت الفهم، وأنظمة القيم، وعلاقات القوة، في العالم كله. ربما كانت الحرب الباردة تحصيل هادئ للعقلانية، عندما أرادت أن تستريح من تمجيدها للعنف. إلا أنها ما كانت لتجنح إلى مثل هذه المسالمة الماكرة، لولا أن انضبط العالم بتوازن مثير للهلع.. وإلا لكان استأنف الغرب السياسي هذيانه العنيف، ومشى بخيلاء نادر خلف العقل الهيغلي، مطمئناً لفلسفة القوة، بوصفها علة التاريخ، وسبب اشتغال العقل وسلواه. سنلاحظ أنَّ هذه الفلسفة (فلسفة هيغل) «تميل إلى تشبيه مدار التاريخ، أي مدار الروح، بمدار الشمس. كانت تقول بأنه إذا كان نور الشمس يسير من الشرق إلى الغرب، فإنّ ضوء العقل يتحرك في الوجهة نفسها، ذلك أنَّ آسيا هي بداية مسار العقل، أي البداية المطلقة للتاريخ، وأوروبا هي الغرب الفاصل أو نهاية التاريخ».

جرى هذا التنظير الفلسفي مجرى اليقين في غريزة الغرب السياسي. أسس «روحياً» لحملات القوة، وسوّغ لمقولة استعمار الشرق، فجعلها تاريخاً ممتداً لم تنته أحقابه بعد. لقد اعتبرت عقلانية التنوير أنها هي نفسها التاريخ، وهي نفسها البديل للزمان اللاعقلاني الذي استولد جهالة القرون الوسطى تحت تأثير المؤسسة المسيحية. ومعها أصبح زمن الإنسان أدنى إلى صحراء تيه لجهة كونه مجرد ما يدونه الإنسان عن تفوقه وقسوته وفعاليته وجبروته. أي كل ما يكتبه، أو يروي تقدمه. ولذلك فليس

ص: 522

من قبيل التجريد أن يستنتج ايديولوجيو العقلانية الغربية - الأميركية - تعييناً، «أنَّ فن تكوين الحقائق أهم من امتلاك الحقائق». لقد انبرى هؤلاء إلى استدعاء هذه المقولة ورفعها إلى مستوى متعال فكان من نتيجة ذلك أن آلت بهم إلى ذروة اللاعقلانية، بينما هم يدخلون الألف الثالث على حصان التهديد النووي واحتكار السيطرة المطلقة على العالم . إِنَّ الخط الذي انتهت إليه العقلانية الحديثة من خلال - مطابقة العقل الكوني الإنساني بين الواقع والمعقول، أي إضفاء العقلانية على المعقول بدلاً من عقلنته - قد دفعت به إلى أن يقبل كشيء معقول عدداً من مظاهر الاستلاب الإنساني، لم يعد العقل مجسداً فى الأفعال والأنظمة والعلاقات البشرية، أو أن يسعى إلى البحث عما يحرّر من الاستلاب، بل أصبح يبرر أنواع الاستلاب الموجود. وبدا بوضوح أنَّ ضغط الواقع القائم في المجتمع الإنساني المعاصر قد دفع إلى أن يتراجع خطوات إلى الوراء عمّا كان قد أعلن عنه كغاية له في لحظة انبثاقه، وفي مراحل تطوره الأساسية. لم تعد غاية العقل هي الكشف عن جوانب اللامعقول في الواقع، بل غدت هي البحث عن الصيغة التي يمكن بفضلها اعتبار ذلك الواقع مطابقاً للمعقول. لم تعد الغاية هي التجاوز والتنوير والتغيير، بل أصبحت هي التبرير بعينه. وبدل أن يكون العقل الإنساني موجهاً للواقع المعاصر له، أصبح خاضعاً لهذا الواقع ...(1)».

«عقلنة»لا عقلانية الهيمنة

تعبر اللاعقلانية عن نفسها دائماً، بوسائل عقلانية. ذلك إنَّ عقلنة ما هو غير معقول، أي منح المشروعية لسطوة رأس المال والشركات وامتداداتها يستلزم تأليف لغة ذرائعية قصدها إضفاء رداء المعقولية على الذي يحدث. لقد اتخذت العقلانية هنا صفة جديدة كل .الجدة. أصبحت بمثابة ايديولوجية تسوّغ الربط بين الإجراءات والوسائل المتوفرة وبين ما هو مرسوم من أهداف واستراتيجيات. لعل دولة ما بعد الحداثة (تحتل أميركا نموذجها الصارخ اليوم) هي اليوم هي أكثر النماذج اهتداء إلى هذا التحويل الإيديولوجي للعقلانية. عند انتهاء الحرب الباردة أخذت الليبرالية قسطها

ص: 523


1- محمود حيدر - في أحوال ما بعد الحداثة - العقلانية الغربية لم تعد ذات أثر - «مجلة فكر» العدد 78 - 79، تموز -كانون ثانى 2002.

الوفير من الراحة لكي تؤدلج انتصارها. زعم منظروها أنها نهاية التاريخ وخاتمته السعيدة. ولقد تسنّى لهم بوساطة شبكة هائلة من الإتصالات البصرية والسمعية - أن ينتجوا المقدمات الأولى لمعارف ما بعد الحداثة. استطاعت «العقلانية الأميركية» أن «تفلسف» اللامعقول الدولي، «وتمفهم» لا توازنيته. وتؤدلج الاستهلاك فتمنحه صفة النظام المقتدر ، الآيل إلى إنتاج حقائق معرفية تؤسس للديمقراطية الجديدة وحقوق الإنسان. كان على «عقلانية «ما بعد الحرب الباردة أن تقطع صلتها بالموروث المفاهيمي لحداثة التنوير. لقد حسمت مقالتها المدعاة بتقريرها إن تداعيات المشهد العالمي» لا يعكس فقط نهاية الحرب الباردة، أو نهاية حقيقة خاصة بعد الحرب، بل نهاية للتاريخ بالذات: أي نهاية التطور الإيديولوجي للبشرية كلها، وتعميم الديمقراطية الليبرالية الغربية كشكل نهائي للسلطة على البشرية جمعاء. وفي ما يوحي إظهار عقلانيتها اعترفت الليبرالية بأنَّ انتصارها جرى في مجال الأفكار وهو لما يزل بمعظمه هناك، فلم يكتمل في العالم الواقعي. كأنما تريد بهذا أن تؤسس ل- «الما» بعد ولما ينبغي أن تكون برامجها الميدانية في العالم. لكي تسود الليبرالية سيادة كاملة، مطلقة، تملك خلالها الزمان والكينونة معاً وبلا منازع(1).

هل تشعر الليبرالية في زمن «الما بعد العالمي» ، أنها بلغت حدود «الجنون» حين جانبت نظام القيم وجعلت العالم كينونة منزوعة الأخلاق .. ثم هل تجد نفسها واقعة في ما يشبه الخواء المفتوح على اللامتناهي؟!

لقد تنبهت الوجودية إلى هذا بصورة مبكرة. فأجابت فيما يشبه الفانتازيا الفلسفية حين وجدت أنَّ اللاعقلانية غالباً ما ترتدي رداء العقل لكي تعيد اكتشاف ذاتها، ثم لتظهر حسنها عارية أمام الملأ . ربما هي تدرك أنَّها مضطرة إلى الهروب من العقل تحت وطأة المصلحة والدوام وغريزة البقاء. لكن سيبدو أنَّ لعبة الهرب من العقل إلى الجنون كأنها عودة إلى العقل بمخيلة أخرى. إنَّ هذه السيرورة التي ستؤول حتماً إلى مآل كهذا، لا بد من أن تنتج معرفة على صورتها. معرفة تسعى إلى ملء الخواء، ولو بإيديولوجيات

ص: 524


1- المصدر نفسه.

كاذبة بحيث تكون المحصلة شيوع قناعات واعتقادات كلية، غايتها عقلنة السائد السياسي ونمط حياة المتفوق، وغايتها تأسيس المزيد من القدرة على اكتساح العالم عبر تحويل التبرير الإيديولوجي إلى مقدس يدخل في ثنايا الوجدان العام للبشرية. بهذا يصير - كل ما ومن يساهم في تشكيل وترسيخ هذه الغايات معترفاً به، وعضواً في المشروع العقلاني وكل - ما ومن - يعرقله يصير لا عقلانياً أو كائناً لا تاريخياً.

كان مؤلماً للفيلسوف الفرنسي جان فرنسوا ليوتار أن يقف أمام صورة العالم فيجده على هذا النحو من الخواء والوحشية فإذا هو يقول: «لقد منحنا القرنان التاسع عشر والعشرون من الإرهاب قدر ما نتحمل. لقد دفعنا ثمناً باهظاً للحنين للكل وللواحد، للمصالحة بين المفعوم والمحسوس، بين الخبرة الشفّافة والخبرة القابلة للتوصيل. وتحت المطلب العام للنضوب وللتهدئة، يمكننا أن نسمع دمدمة الرغبة في العودة إلى الإرهاب في تحقيق الوهم للإمساك بالواقع. والإجابة هي: لشن حرباً على الكلية Totality لنكن شهوداً على ما يستعصي على التقديم، لننشط الاختلافات وننقذ شرف الإسم(1)».

كذلك سوف يأتي من الفلاسفة الفرنسيين المابعد حداثيين من يعيد التأكيد على أن العقلانية وانتقاد العقلانية كلاهما ممارستان تحتاجان إلى العقل كمستند من ناحية، وكخطاب مضمر أو صريح لكل العلاقات الأخرى، سواء منها المعترفة بسلطان العقل والداعية له ، أو المنتقدة لبعض إنتاجه باسم إنتاجات أخرى أتت أو لم تأت بعد. والطريق الذي يقترحه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا والمدعو بالتفكيك،إنما هو استراتيجية ممارسة مختلفة تأتي في الوقت الذي تهافتت فيه كل الخطط حسب رأيه، وقيل كل ما يقال، وفُعلَ ما يمكن أن يُفعَل. فالخطاب المطلق قد أنجز وانتهى سلطانه. وفي هذه اللحظة بالذات يراد لنا أن نقول شيئاً مختلفاً، وأن نعمل العمل المختلف. ودريدا ليس يائساً من استراتيجية للتفكيك في حقل كلّ شيء فيه بات خرباً وأنقاضاً، بالرغم من كون التفكيك واقعاً بين الإحراج الفلسفي (العقلانية

ص: 525


1- جان فرنسوا ليونار - الوضع ما بعد الحداثي - دار شرقيات للنشر - القاهرة - ترجمة أحمد حسان - ص 109.

والنقد العقلاني للعقلانية). لكن له حيلته ومغامرته فهو في الوقت الذي يقول فيه أمر الكلام فإنَّه يدحض ، ولو صامتاً، كلام الأمر ذاك. كان يقول مثلاً إِنَّ هذا هو الحق (وهو ليس الحق تماماً). وإنَّ هذا هو الخير، (وليس الخير تماما). وراء الأوامر المنطوقة يقف صف متراص من الأفكار الخلفية الصامتة الأخرى غير الملفوظة التي تقيم مملكة المختلف حتى في لحظة الإقرار بكل المزدوجات الفلسفية المعهودة. فتحت قبة الخطاب المطلق ينتهي التاريخ. لكن لعبة التفكيك قادرة على استعادة البحث فيما وراء ذاكرة الرموز والدلالات. إنها ليست الطريق المؤدية إلى اللاشعور الذاتي للتاريخ ولكنها تصنع زمان اللاشعور التاريخي هذا بعد تحققاته الشعورية ذاتها وليس قبلها. فهي ليست قراءة الحاضر لما وراء الماضي، وإنما قراءة ما وراء الماضي في الحاضر ذاته(1).

تنوير المابعد: الإنسان مغلولاً

أظهرت تحولات نهاية القرن العشرين ما ينبئ بهزة كبرى أصابت عالم الإنسان. فجعلته على غير سويته وبدلت أحواله على الجملة. وبدا كما لو أنَّ خلاصه يوجب قيامة أخلاقية جديدة. غير أنّ هذه التحولات لم يقابلها بعد، «قوة توازن» تعيد للعالم صوابه، وتفتح للإنسان باباً للتفاؤل. حتى ليبدو الحال، كما لو كان عالم الإنسان يجري بشغف نادر نحو الكارثة . أو كأنَّه سائر، تحدوه الرغبة ليصنع جحيمه بنفسه.

كل شيء، على ما يبدو، يلج فضاء التفاؤل الحائر في الغرب الثقافي. وليس ثمة ما يوقف السباق إلى الهاوية سوى ما تبقى، ممّا يحكى عن حقوق الإنسان. لكن الأمر سيبقى غير موقوف على هذا المحدد الأخلاقي، فالعقل الذي روهن عليه لكي ينتظم أزمنة التنوير، «ويؤنسن» إنسانها، غدا عقلاً محتلاً بشهوة المصلحة والاستحواذ. ولقد ثبت من تجربة العقل على امتداد تسعة عقود فائتة كم كانت نتائجها كارثية على الإنسان. خصوصاً حين جعل العقل الوسيلة الأشد فظاعة، لاستلاب الكائن البشري. وقبل بضعة عقود كان للمفكّر المعروف هربرت ماركوز رؤية ثاقبة في تشكيل صورة

ص: 526


1- مطاع صفدي - مصدر سبقت الإشارة إليه.

مستقبلية للمجتمع الصناعي الغربي. لقد كشف عن مقولة الإنسان ذي البعد الواحد الذي خلقه المجتمع ذو البعد الواحد. فالإنسان في هذا المجتمع فقد حقه في الحياة بمجرد أن سلَّم للمجتمع مقاليد أمره. فتوهم بأنه يعيش الحرية فيما هو يغرق في استیلاب سحيق لا قاع له. رأى ماركوز يومها أنَّ «المجتمع المستلب» يلبي حاجات وهمية لإنسانه من خلال الدعاية الكاذبة ووسائل الاتصال الجماهيرية الخادعة. وفي اعتقاده أنه إذا كان المجتمع يحرص - بهذا المعنى - على تلبية هذه الحاجات المصطنعة أفليس ذلك لأنَّها شرط استمراره ونمو إنتاجيته فحسب، بل أيضاً لأنها خير وسيلة لخلق الإنسان المسلوب، القابل بالمجتمع ذي البعد الواحد المتكيف معه، وما الإنسان ذو البعد الواحد في هذا المعنى، إلا ذاك الذي استغنى عن الحرية بوهم الحرية. فإذا كان (هذا الإنسان) يتوهم بأنه حر لمجرد أنه يستطيع أن يختار بين تشكيلة كبيرة من البضائع والخدمات التي يكفلها له المجتمع لتلبية «حاجاته»، فما اشبهه من هذه الزاوية بالعبد الذي يتوهم بأنه بأنه حر لمجرد أن منحت له حرية اختيار سيارته (...) إِنَّ المجتمع الصناعي المتقدم لم يزيف حاجات الإنسان المادية فحسب، بل زيف أيضاً حاجاته الفكرية، أي فكره بالذات. الفكر أصلاً هو عدو لدود لمجتمع السيطرة، لأنَّه يمثل قوة العقل النقدية السالبة، التي تتحرك دوماً باتجاه ما يجب أن يكون لا باتجاه ما هو كائن. وهذه القوة هي في خاتمة المطاف قوة إيديولوجية. إنَّ المجتمع ذا البعد الواحد قد أحاط الإيديولوجيا بالازدراء والتحقير باسم عقلانيته التكنولوجية، بل هو امتصها وأبطل مفعولها . مع أنَّ هذا لا يعني بالطبع أنه لم تعد هناك إيديولوجيا. كل ما هنالك أنَّ المدينة التقنية أصبحت هي الإيديولوجيا. وأبرز وجوهها من هذه الزاوية المذهب العاملي في الفيزياء، والمذهب السلوكي في العلوم الاجتماعية. والسمة المشتركة الأساسية لهذين المذهبين هي الالتزام بالواقع المعطى أو القائم، ونبذ المفاهيم الشمولية أو النقدية التي تهدد بالكشف عن بعد آخر لذلك الواقع.

لم يسفر منطق التحولات الذي استغرقته الرحلة الطويلة للحداثة الغربية، إلا عن إدخال الإنسان في لجة الليقين. أما كارثة التحرر التي تحدث عنها ماركوز فهي تلك التي دفعت العالم إلى فضاء اللاعقلانية بوسائط عقلانية. وهنا تكمن على نحو

ص: 527

خاص قوة المجتمع ذي البعد الواحد: أي الطابع العقلاني للاعقلانيته. لقد ذهب مديرو هذا النوع من المجتمع إلى تسويق ما عرف ب«الفكر الإيجابي». أي الفكر الذي يمهد لسيرورة القبول والإذعان وعدم الاحتجاج. إنَّ الأكثر مدعاة للهلع في هذه السيرورة، هو أن الفكر الإيجابي ناجم من امتثالية صارخة للأمر الواقع.

كأنما القبول القسري «للإيجابية» سيتحول إلى إيمان بها، وإلى اعتقاد بقيمتها العليا وبحسب ماركوز فإنَّ «القبول بالفكر الإيجابي هو قبول قسري ويبين ذلك بالقول أنه قسري لا بحكم الإرهاب، وإنما بفعل سلطة المجتمع التكنولوجي وفعاليته الساحقة المغفلة. في حين أنَّ الفكر الإيجابي يؤثر من هذه الزاوية المحددة على الوعي العام، ومن ثمَّ على الوعي النقدي. كذلك فإنَّ ابتلاع الإيجابي للسلبي يتمثل في التجربة اليومية العاجزة عن التمييز بين الظاهر العقلاني والواقع اللاعقلاني(1).

لقد ذهبت العقلانية في «أدلجة» نفسها حتى الرمق الأخير . لكنها لم تستيقظ من لاوعي الاستحواذ بعد. لقد أدخلت نفسها والعالم في كونية بلا أخلاق، فبدا المشهد الإجمالي على صورة عالم بلا عقل. ذلك أن عقلانية ما بعد الحداثة، هي الآن في ذروة الخروج على العقل، ومع ذلك فهي لم تغادره حتى في اللحظة التي يشطح فيها نحو الجنون..

لقد منحت هذه العقلانية «العقل» قابلية صريحة للاستخدام والطاعة. فالعقل، على ما نعرف، يملك قابلية أن يتخذ من ذاته موضوعاً. مثلما يملك القدرة على التخارج نحو العالم واتخاذ معطياته موضوعاً للكلام والفعل. ولهذا فإنَّ جميع الأسئلة . تثار خارج العقل وداخله بواسطة العقل إياه. لكن السؤال عن محل الأخلاق في فضاء العقل، سوف يظل الأهم في الفضاء اللامتناهي لعالم الإنسان. وخصوصاً أثناء الارتحال المتواصل لحداثة الغرب المقبلة.

ص: 528


1- هربرت ماركوز - الإنسان ذو البعد الواحد - راجع مقدمة جورج طرابيشي - دار الطليعة - بيروت - ص 12 - 13 - 65.

جدلية السعادة والقلق في ظل التقنية

بين مارتن هيدجر واولريش بيك

د. علاء كاظم الربيعي(1)

المقدمة

يتجلى البحث عن السعادة بما توفره القيم الاخلاقية من أسس وقواعد تمكن الفرد من السلوك نحو تحقيق السعادة والخير لذاته والاخرين، وهذا لا يقتصر على مشروع إيديولوجي محدد بل تشترك في ذلك مجالات ومشاريع مختلفة، وهذا ما تعهد العلم بتحقيقه للأفراد من المتعة والرفاهية بوساطة التكنلوجيا والتقنية، التي بإمكانها تخليص الإنسان من الواقع التعيس أو المعاناة، فالدراسة هذه لا تختص بماهية السعادة مفهوماً ودلالات، بقدر ما هو توضيح وتفكيك لمنطق الوهم الذي قامت عليه هذه المشروعات الايدلوجية، إذ إن التكنلوجيا والتقنية مثلما اختزلت

ص: 529


1- مدرس الفلسفة السياسية في كلية الآداب / جامعة واسط: يتجلى البحث عن السعادة بما توفره القيم الاخلاقية من أسس وقواعد تمُكّن الفرد من السلوك نحو تحقيق السعادة والخير لذاته ،والاخرين، وهذا ما تعهد العلم بتحقيقه للأفراد من المتعة والرفاهية بوساطة التكنلوجيا والتقنية، لكن كيف استطاعت التقنية افراغ الانسان ولاسيما الاوربي من كل عقيدة دينية أو جانب روحي ، مكونة بذلك الازمة الاخلاقية والاضطراب والفوضى في حياة الناس مصادرة بذلك كل عوامل السعادة. ولعل تعبير هيدجر من أن القلق عامل ضروري لاستمرار الحياة، وهو ماينقذ الإنسان بما يشكله من الحرية، وذلك في تمييز الوجود الزائف عن الوجود الحقيقي، في حين اولريش بيك يعد الخطر هو ما يُعدم الحياة مسبباً في ذلك ازمات يصل تاثيرها الى كل انحاء العالم . وبالنتيجة يؤكد الباحث لقد عملت التقنية على تلخيص الايدي العاملة مما أدى الى تسريح كثير من العمال من المصانع، مسببة بذلك ازمة مالية وفقر من دون مراعاة لحقوق العمال. المحرر

كثيرا من الوقت، والتقريب بين المسافات، والانجازات العلمية الهائلة التي خدمت الإنسان، إلا أنها في ذات الوقت استوعبته، ليتحول الى هامش على ما جاء به العلم، بعدما كان مركزاً يحرك الطبيعة والعلم معاً، ليتبدد جهده الى هيمنة يخضع لها، ومن كونه منتجا الى مستهلك فحسب.

إن تطور الجانب التطبيقي للعلوم فيما يخص الأجهزة التقنية التي ابتكرت خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر أدى الى التطرف والمغالاة في النظر الى نتائح هذه العلوم، إذ غيرت التطبيقات العلمية وجه الحياة في العالم كاختراع التليفون والتلغراف والتصوير الفوتغرافي والسينما والسيارة ...الخ.

وكانت نتيجة ذلك سيادة نوع من الايمان المتطرف بالعلم، وصل إلى حد الاعتقاد بأن العلم الدقيق والمعرفة العلمية الدقيقة ووتطبيقاتها التقنية هي وحدها القادرة على أن تاخذ بيد البشرية في الطريق الموصل الى السعادة والكمال، متجاهلة بذلك ما يمكن أن يقدمه الفن أو الشعر أو الادب أو الاستبصار الاخلاقي(1).

لم يتوقف تطور التقنية على اختزال دور الإنسان بل عملت على أعادة انتاجه على وفق ما تخطط له وما تتبعه، وذلك من بث البرامج العلمية والاجتماعية، إذ يتحول تفكير الإنسان من ما هو جوهري و من گونه خليفة يحمل رسالة انسانية، لم يكلف بها إلا هو على سائر الموجودات الى تحجيم وجوده وغاياته في اشباع الرغبات فحسب، ولا تكون السعادة إلا بهذا المعنى.

ولكن الأسئلة التي يمكن بحثها في مدى اخفاق التقنية في تحقيق السعادة. والانحراف عن ما جاءت به، وهذا ما نبحثه على مستوى العرض والتحليل والنقد عند فلاسفة وعلماء اجتماع وهو على سبيل الايجاز وليس الحصر كل من (مارتن هيدجر 1889 - 1976م، اولریش بيك 1944 - 2015م).

بعد أن حلت التقنية محل كل عقيدة يمكن أن يرجع لها الإنسان بعد الخواء

ص: 530


1- زكريا ، فؤاد : التفكير العلمي، سلسلة عالم المعرفة يناير 1987 ص 147 .

الروحي. نجدها حلت محل العمل كذلك، إذ احلت التقنية محل الراسمالية مكونة بذلك ازمة العمل الذي يعد بحد ذاته عامل عوز وفقر لكثيرين ممن تركوا العمل وهذا ما يتجلى عند ماركيوز في علاقة العمل والتقنية.

أفرزت التقنية عددا من المشاكل التي تعد مخاطر تهدد أمن الإنسان وحياته، منها مشكلة البيئة والتلوث وما يتداخل مع مشكلة الاحتباس الحراري، وصولا الى مشكلة الغذاء وأزمة السكن التي لم يوفر لها الاطار اللازم حتى الان، مروراً بمشكلة الموارد الطبيعية التي يطلب حلها نوعا من التفكير في الحاضر والمستقبل، ومحاولة الخروج من قوقعة الانانية والمصلحة وحب الاستهلاك التي تسود المجتمعات البشرية الحالية(1). وهذا ما نعالجه مع اولريشك بك في المخاطرة الكونية.

إن تحديد مفهوم التقنية كمصطلح فلسفي من جانب ومطلح علمي من جانب آخر يمكن أن يعتنق بثلاث علاقات ألا وهي(2):

1- علاقة حوار:

فن، مهنة، مهارة، علوم تطبيقية.

2- علاقة إرتباط.

احتياج، وسيلة، تقدم، علم، منفعة

3- علاقة تعارض

الوجود - هيدجر.

وهذا ما نبحثه مع هيدجر في العلاقة بين التقنية والوجود وهل تشكل خطرا بحد ذاتها أو إن الخطر يكمن في تاثيراتها لا في ماهيتها.

ص: 531


1- أحمد ابراهيم. إشكالية الوجود والتقنية عند مارتن هيدجر منشورات الاختلاف الجزائر، الدار العربية للعلوم - ناشرون، بيروت الطبعة الأولى 2006 ص 129 .
2- المصدر نفسه: ص 43.

أولاً: مارتن هيدجر.

في فلسفة هيدجر ناخذ خواصا محددة، كثيراً ماتتعارض مع السعادة أو تنافيها، وهو مبدأ القلق والعدم، إذ إن حياة القلق هي ما ينبغي أن يعيشها الانسان، اذا أراد أن يخرج من هيمنة المجتمع بكل ما يشكله من قواعد وتقاليد تحقيقاً لمبدا الحرية، فالقلق هو ما يحرك الإنسان ويعزز انسانيته، على أن ذات القلق هو ما يتشكل خطرا على الإنسان مع وجود التقنية، أو الجانب الخطر منها، وإن كان هنالك اختلاف بين هيدجر الذي جعل حياة الخطر هي غاية للإنسان يسعى للوصول اليها وبين اولریش بيك الذي نقد هذا القلق وأن التقنية قد تكون بتاثيراتها السلبية عدماً للحياة والإنسان.

جدلية السعادة والقلق الوجودي

تعرف الاشياء بتناقضاتها وهذا ما يمكن معرفته في سير مفهوم السعادة بالضد مع المفاهيم التي جاءت بها الفلسفة الوجودية، إذ تتنافي قيم الخير والسعادة مع القلق والعدم والبؤس والمستقبل المجهول الذي ينتظر الإنسان، فالوجودية كما يراها هيدجر وسارتر «ليست مذهبا فلسفياً بقدر ما هي نزعة يأس وتشاؤم. ذلك أن الإنسان متى انصرف عن مشاغله وهمومه وضروب القلق التي تساوره من كل جانب، وفكر في ذاته لم يجد سوى العدم المطلق أو الفراغ التام، فلا يدري لماذا جاء الى هذه الحياة التي سوف تنتهي بأن تقذفه الى العدم مرة اخرى»(1).

مجرد أن يسري في الإنسان صراع الوجود والبقاء، والياس من كل مما حصله عليه بالمعاناة(2)، نجده قد فقد الأمل والمتعة في هذه الحياة، وهذا ما يتشكل مع ما يحمل من الهم ، ف«العلاقة بين الإنسان والعالم ليست مجرد علاقة بين موجودين كائنين في المكان، أو مجرد مجرد صلة بين ذات وموضوع، وإنما هي علاقة وجودية قوامها الشعور

ص: 532


1- برییه، امیل: اتجاهات الفلسفة المعاصرة، ترجمة: د. محمود قاسم مراجعة د: محمد محمد القصاص، منشورات دار الكتاب للنشر والطباعة والتوزيع، المكتبة العامة، جامعة الاسكندرية، سنة النشر 1998 ص16.
2- توجد تصورات فلسفية عدة للمعاناة اذ ترى أنها أمر سيئ ومنفصل تماماً عن السعادة، وتعد مجرد لحظات تعيسة، تمثل فجوات في حياة السعداء أو فواصل لحظية فيها، في حين تذهب تصورات اخرى الى انه لا يمكن تصور السعادة الا بوجود المعناة وانها مكملة لها. ينظر ليزا بورتولوتي: الفلسفة والسعادة، ترجمة وتقديم أحمد الانصاري، مراجعة حسن حنفي المركز القومي للترجمة القاهرة الطبعة الأولى 2013 ص189.

بالأهتمام. ومعنى هذا أن مجرد ارتباط الموجود البشري بالعالم هو الذي يجعل منه موجوداً (مهموماً) يحمل دائما عبء وجوده»(1).

لا يمكن للإنسان أن يحظى بالسعادة مع وجود الهم والقلق، وإن وجدت تكون بذلك مصطنعة وليست حقيقية أو تكون وهمية، وحتى اللذة نجدها مقرونة بذلك القلق والنظر للحياة على أنها عدم. بل نجد أن هيدجر يجعل شرطاً اساسياً للحياة الحرة بان يعيش الإنسان القلق بكونه عقلاً مختلفاً أو إنسانا يتميز عن الحياة الجمعية للأخرين.

يميز هيدجر بين الوجود الاصيل للذات أي الوجود الحقيقي وبين الوجود الوهمي وهذا ما يصف به الإنسان الحديث في ظل العيش ضمن المجتمع البشري من دون أن يكون واعيًا، مرتبطاً بالعقل الجمعي، «إن إنسان العصر الحديث قد اصبح يعيش في حالة اجتماعية زائفة، لانه اتخذ من (الوجود مع الاخرين) ذريعة للتنازل عن وجوده الخاص ، فلم يعد وجوده سوى انغماس في عالم الجمهور، وهكذا فقد أنسان العصر الحديث انسانيته وحريته وصار مجرد موضوع ينطق بلسان الآخرين، ويتحرك في مجال ذلك الوسط الاجتماعي الغفل»(2). وبالامكان ابداله بغيره، بقاء الإنسان في الوجود فهو ما يسميه هيدجر بالسقوط(3)، بهذه الصورة الواهمة أو المزيفة.

إن ما يميز الوجود الانساني هو أن يكون ذاته، بيد أن يكون كذلك، فهو ليس واقعة من الوقائع، أو مجرد معطى بسبب بسيط، وهو أن الإنسان ليس شيئاً، ولذلك فإن الانية أو الذاتية بتعبير اوضح هي تظل مجرد إمكانية علينا أن نحققها أو نكتسبها، والوجود الزائف المبتذل هروب من الذات، ورفض لمعرفة الوضع الانساني وتحمل ما يفرض من مسئولية وأعباء، وهو في الوجود الزائف يسعى الإنسان إلى النسيان نسیان ذاته، والتشاغل عنها، والتلهى عن مأساته الانسانية، وتعاسته الطبيعية، إنه في نهاية الأمر اغتراب عن الذات وإضاعة لها(4).

ص: 533


1- ابراهیم زکریا: دراسات في الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر ص 402.
2- ابراهیم زکریا : دراسات في الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر، ص 406.
3- كامل فؤاد: أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، دار الجيل بيروت، الطبعة الاولى 1993، ص 198
4- المصدر نفسه ص198.

ونحن قبال ذلك امام ضربين من الوجود البشري وجود حقيقي اصيل ووجود زائف، وهذا ما ينتمي الى الذات الواهمة التي تعيش الاستلاب، والذات الحقيقية التي تعيش الارادة، فالوجود الزائف هو ماتهرب به الذات من حريتها، والتنصل من مسؤليتها، والتخلص من الشعور بالقلق.

نصل بذلك، إلى أن الوجود القلق هو ما يختلف فيه الإنسان عن الآخرين وبه تكمن السعادة عند هيدجر بكون الإنسان القلق هو إنسان حر، ومن هذا الجانب ننقد هيدجر في تصوره ، وإن كان محقا في جزء منه في التمييز للوجود الحقيقي للانسان عن الآخرين. ولكن ليس بهذه الصورة التي تخلق منه انسانا متصارعا مع ذاته ومع الاخرين بعيداً عن كل مفاهيم الطمأنينة والسكينة التي هي عوامل سعادة بحد ذاتها، وبذلك أين نضع معايير الجمال والمتعة من كل ما جاء به هيدجر للوجود، وكون الحياة ضبابية مظلمة اكثر مما كونها جميلة وممتعة.

ماهية التقنية في الخطر

يقترن مفهوم التقنية مع التكنولوجي: كانت التكنولجيا أو التقنيات تستخدم لوصف المعالجة النسقية، مثلاً، في دراسة الفنون، وسيما الفنون النافعة أو الالية، كما يوحي جذر الكلمة الاغريقي tekhne) الذي يعني الفن أو اتقان صنعة معينة. وفي أواخر القرن التاسع عشر، كان استعمالها الرئيس يرتبط مباشرة بالحرف الصناعية. وتطابقت هذه المهارات والتقنيات التطبيقية مع صناعة المعامل والتجارة(1). وصولا الى التقنيات الحديثة في اللكترونيات وما يهمنا هو انعكاس هذه التقانة على الواقع والإنسان والتحول القيمي له.

عرض هيدجر التقنية على مستوى تاريخ الفلسفة المتعاقب، إذ ما اخذناها بمعنى العلم والمعرفة، فأنها تعود الى اليونان في حدود فترة افلاطون، كانت كلمة تقنية مرتبطة دائما بكلمة (أبستينيوس) وهي تعني العلم والمعرفة. وقد يفهم من هذه

ص: 534


1- طوني بينيت - لورانس غروسبيرغ - ميغان موریس: مفاتیح اصطلاحية جديدة (معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع)، ترجمة: سعيد الغانمي، المنظمة العربية للترجمة، مركز الدراسات الوحدة العربية الطبعة الأولى بيروت 2010،ص.209-208.

الكلمة معنى الانكشاف أو التنبؤ، فالاهتداء الى شيء ما، والتعرف عليه. إذ تقدم المعرفة انفتاحات، وبما هي كذلك انكشاف، وهذا ما يميزه ارسطو في الاختلاف بين الانكشاف والمعرفة(1).

نجد محاولة الانكشاف والتنبؤ عند مارتن هيدجر في الوصول الى الحقيقة(2)،التي بإمكانها أن تخلص الإنسان من القلق الذي يهيمن عليه في مواجهة المستقبل، ويتخذ اولريش بيك هذا المعنى في محاولة الحد من المخاطرة، أو كشف الخطر قبل وقوعه. إن مصير الانكشاف ليس في حد ذاته خطراً من بين الاخطار، بل هو الخطر عينه، إذ يستخدم هيدجر معنى التقنية في التمييز بين ما تأتي به وبين سر ماهيتها، إن القدر الذي يوجه نحو التسخير هو الخطر الاقصى، ليست التقنية هي ما هو خطير، بل هناك غموض ماهيتها، إن ماهية التقنية، من حيث إنها مصير للانكشاف هي الخطر. إن المعنى المعدل لكلمة استفسار (Gestell)يصبح مالوفا لدينا إذا فهمنا الاستفسار بمعنى المصير أو القدر وبمعنى الخطر(3).

فالانكشاف أو التفسير لا يمكن فهمه، الا بفهم مفهوم الموت، بكونه الحالة الوحيدة التي تكشف ذلك القلق وتبدده في ذات الوقت، مفهوم الموت كثيراً ما ارهق الإنسان وحال دون تحقق سعادته، فلحظة الموت هي لحظة الانكشاف لما لم يكن يدركه وهي بذلك تفسير للحقيقة أو العدم أو تفسير المسقبل.

إن ما يمكن ملاحظته بالخطر الذي يشكل المبدأ الكامن للحياة عند هيدجر، هناك حيث يكون الخطر ينمو ما ينقذ وما يمكن أن يعاش في تميز الافراد، وإن اختلفت ماهية التقنية في ذلك بين هيدجر وما وضحه اولريش بيك في عد التقنية هي حياة المخاطرة التي تهدد الإنسان بتطوراتها، وهذا ما عمل على محاربته وإن كان الاشتراك معاً في عامل التنبؤ والانكشاف، الا أن الاختلاف في حياة الخطر والقلق هي ما ينمو وينقذ الإنسان في نفسه، وان كان العالم هي ذات الإنسان التي يصطدم بها.

ص: 535


1- هيدجر ، مارتن: التقنية - الحقيقة - الوجود. ترجمة محمد سبيلا ، عبد الهادي مفتاح المركز الثقافي العربي، ص54.
2- بحث هيدجر الحقيقة والية الوصول لها في اكثر من موضع ومنها كتابه (نداء الحقيقة) ينظر في ذلك هذا الكتاب ترجمة د : عبد الغفار مكاوي - كلية الاداب - جامعة القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة عام 1977.
3- ينظر . مارتن هيدجر : التقنية - الحقيقة - الوجود، ص54.

إن العدم الذي يحول دون تحقق السعادة للانسان لا يقتصر على الموت والعدم،بل يسري ذلك على التقنية بانها جزء من ذلك العدم التي تسعى إليه من خلال تطور الاسلحة... وما يدخل في ضمن المخاطرة متشكلة بالارهاب والعنف وفقدان الامن، وهذا ما يمكن بحثه في ارهاصات التقنية والمخاطرة عند اولريش بيك.

ثانياً: اولريش بيك

تبعث التقنية على الخطر وعدم اليقين التي تقف من السعادة على طرفي النقيض، قد يذهب التأمل حول ما تصنعه التقنية للانسان من روائع الى الاخذ بيده الى السعادة والرفاهية، على الرغم مما يجوبها من مخاطر، وهذا ما نلاحظه في فلسفة اولريش بيك. بالاختلاف مع هيدجر حول مسألة التقنية والخطر أو الاقتراب من مدرسة فرانكفورت

النقدية.

يقترب اولريش بيك من مدرسة فرانكفورت في النظرية النقدية من تحول العقل الكوني الى عقل اداتي غايته الهيمنة والسيطرة على الإنسان كما سنشهده عند هوركهايمر في كتابه تواري العقل عام 1947م وكتابه الثاني جدلية العقل في نفس السنة بالاشتراك مع أدورنو. العقل الذي يتحث عنه أدورنو . العقل الذي يتحث عنه المؤلفان هو العقل الغربي المعرف هنا بالثقافة التقنو علمية، وبالتسيير والفعالية. وهو مايسميه ماكس ويبر بالعقل الاداتي.

فقد العقل خاصيته الثورية المحررة التي كانت له في عصر الانوار، عندما كان أداة تحرر من الدين، من الخرافات والمعتقدات السحرية. اصبح أداة تسلط وإخضاع وإخضاع للجماهير وتوحيد للسلوكيات. تواري العقل وجدلية العقل مستوحان من هيجل الجدلية وماركس نقد الراسمالية يترجمان بشكل فلسفي نقدا للمجتمع الصناعي والتسيير التكنور قراطي للاقتصاد(1).

ص: 536


1- دوریتی، جان فرانسوا: فلسفات عصرنا تياراتها، مذاهبها، أعلامها، وقضاياها. ترجمة: إبراهيم صحراوي، الدار العربية للعلوم ناشرين، منشورات الاختلاف. الجزائر الطبعة الأولى 2009، ص 172.

يتناغم كذلك تفكير اولريش بيك مع ماركيوز احد اعضاء هذه المدرسة وهو تلميذ هيدجر في الثورة والعمل ، إذ ينقد الراسمالية في استعبادها الاقتصادي والثقافي للفرد ويمكن بيان ذلك في علاقة انهاء التقنية لروح العمل.

أما الاختلاف بين هيدجر وعالم الاجتماع اولريش بيك، فقد لاتكون هنالك علاقة مباشرة إلا أن القضية هي ذاتها التي بحثت من قبلهما فيما يخص التقنية بعلاقتها بالوجود عند هيدجر، وهو محور القلق الوجودي الذي يستثمره اولريش بيك في المخاطرة، «إن(القلق بشأن الوجود) الذي أثارته المخاطرة العالمية على مستوى العالم، قد أدى منذ زمن طويل... الى المقامرة حول الوجود، إلى مسابقة حيازة قبح العالم»(1).

يوجد هذا القبح والهيمنة على العالم من خلال المشكلات التي تكبل الإنسان بالقيود وهي من جراء تأثير التقنية، ولعل هذا ما بحثه اولريش بيك في كتابه (مجتمع المخاطرة العالمي) بحثاً عن الامن المفقود، في تاثير التقنية والتكنلوجيا على الإنسان.

بحث اورليش بيك المخاطرة بكونها تحول دون تحقيق الأمن والرفاهية الاجتماعية ومن ثم السعادة، وقد يكون ذلك فيه شيء من التناقض أي كلما زادت التكنلوجيا والتقنية تقدماً كلما زادت الرفاهية للمجتمع، وإن كان ذلك من المبالغة بسسب المخاطر التي زادت بازدياد تطور التقنية.

يؤثر التطور التقني على ازدياد وتيرة الخطر واعمال العنف والارهاب والازمات الكونية التي حددها اولريش بيك في (التغيير المناخي - الارهاب - الطاقة الذرية - الاسلحة النووية) التي تضاعفت مع تقنيات المستقبل (الهندسة الوراثية - والتقنيات الشديدة الصغر «تقنيات النانو» وصناعة الإنسان الآلي)، التي تسببت بازمات محلية ودولية، فالتحولات الوراثية وتقنيات التواصل والذكاء الاصطناعي، التي تتمازج يوما ما فيما بينها ستقوض احتكار الدولة باللجوء الى العنف، والانتقال بالحرب الى من

ص: 537


1- أولريش بيك: مجتمع المخاطر العالمي (بحثاً عن الامن المفقود) ترجمة: علا عادل، هند ابراهیم، بسنت حسن، المركز القومى للترجمة، الطبعة الأولى 2013، ص 19.

كونها دولية (دولة ضد دولة او دول) الى فرد أو افراد ضد دولة وهو مايسمى بفردنة الحرب(1).

ويمكن أن نأخذ امثلة كثيرة على احداث هذه الازمات، إذ يمكن لطاعون يبتكر وراثياً ان يستهدف سكاناً معنيين من خلال إطالة فترة الاحتضان، كما يمكن التهديد بقنبلة ذرية صغيرة يمكن تصنيعها من قبل أي كان بتكاليف زهيدة. فالفارق بين الاسلحة الذرية والكيميائية فارق بعيد يتعلق بتطورات تقنية تقوم على المعرفة(2).

وهذا ما يمكن ملاحظته في علم الطب الجيني الذي يحاول أن يشخص الجينات الوراثية، أذ بامكانه أن يتنبأ بتراكيب جينية ذات مخاطر اقل واستبعاد اجنة المخاطرة. وفي ذلك يتعين على جميع الازواج اجلا او عاجلا أن يواجهوا هذا القرار الحاسم، سواء رغبوا في ذلك، ام لم يرغبوا حيث سيضطرون الى تقييم الامور ليقرروا ما اذا كانت رغبتهم منع المعاناة و الالم. وهو ما يدخل في ضمن الامن الصحي والغذائي بما فيها الامراض المزمنة و الفتاكة ومنها مرض السرطان، وهذا ما يدخل ضمن حساب المخاطرة الذي يربط العلوم الطبيعية والتقنية والاجتماعية معاً.

إذ يمكن تطبيق هذا الحساب على ظواهر متباينة تماماً عند إدارة الصحة - بدءاً من مخاطرة المدخنين وصولاً الى مخاطرة الطاقة النووية - كما يمكن تطبيقه على المخاطر الاقتصادية، ومخاطر البطالة، وحوادث المرور والشيخوخة(3).

نحن نتكلم عن الامن بكونه عامل اساس في تحقيق السعادة للافراد في العصر الراهن، وأن فقده في المجتمع يؤدي الى انهيارات كبيرة على مستوى الدولة والفرد معاً.

وبذلك لانعني الامن الاجتماعي فحسب، بل الامن الوجودي فيما يختص بحفظ

ص: 538


1- ينظر اورلريش بيك: السلطة والسلطة المضادة ( في عصر العولمة) ترجمة د. جورج كتورة د. إلهام الشعراني،المكتبة الشرقية بيروت، الطبعة الأولى 2010 ص 57.
2- ينظر اورلريش بيك: السلطة والسلطة المضادة، ص57.
3- ينظر اور لريش بيك: مجتمع المخاطر العالمي، ص 28.

العالم والكون، ولاسيما بعد الاضطرابات الكبيرة التي تسبب بها العلم والتكنلوجيا في مشاكل على مستوى تغيير درجات الحرارة والاحتباس الاحراري وصولا الى الحروب النووية والبيولوجية.

يتكلم العلماء ويبحثون كثيراً في أمر عدم الأمن، لكنهم يعنون بذلك غالباً عدم الامن الاجتماعي، ويغضون الطرف بذلك عن الانحدار الشديد للامن الوجودي الذي تواجهه العوالم الحية اليوم، خاصة في الاركان التي يسودها السلم في العالم: فالمحاور الثلاثة للامان - الدولة والعلم والاقتصاد فشلت في توفير عنصر الامان - إذ تدمر المواطن الواثق بنفسه(1). وبذلك تكليف الافراد ما لم تقدر الدولة والعلوم والشركات على القيام به، مما يبين زيف ما تدعيه التكنلوجيا من تحقيق الامن والسعادة للانسان.

قوة التقنية في اللاعقلانية

تكمن الإشكالية في سير التقنية ضد العقل بل تهيمن عليه وتعيد انتاج افكاره ولعل ذلك يرجع الى طابع التقنية ذاته، «أن السيطرة الاجتماعية في عصر التقدم التكنلوجي تتلبس طابعاً عقلانياً يجرد سلفا كل احتجاج وكل معارضة من سلاحها»(2).

يبقى العامل العقلي ملتبس في اقترانه مع العصر التقني، كيف يمكن أن نتصور غياب العقلانية بتطور التقنية، اليس الآخيرة من شأنها تعمق العقل وتعزز دوره في التقدم والتطور الذي نلاحظه في كل جوانب الحياة. وهذا متوقف على ما نقصده بالطابع العقلاني للسيطرة في المجتمع الصناعي؟ إنه قبل كل شيء قدرة هذا المجتمع، بفضل التطور التقني، على استباق كل مطالبة بالتغيير الاجتماعي، وعلى تحقيق هذا التغير تلقائياً.

تبدو العقلانية صفة ظاهرة للتقنية ليس إلا، من خلال اختلاف الظاهر مع الباطن

ص: 539


1- ينظر اولريش بيك: مجتمع المخاطر العالمي، ص 94.
2- ماركوز، هربارت، الإنسان ذي البعد الواحد، ترجمة: جورج طرابيشي . دار الاداب، بيروت ط19883 ص 11.

وما تسعى إليه من توحيد بالرؤى والافكار على المستوين المادي والمثالي يكاد يجعل الإنسان ذا بعد واحد(1).

التقنية التي في صددها الان تسير ضد العقل وهي من ثمَّ تقف ضد تطور العمل، «أن الوضعية الاساسية للأزمنة الجديدة هي الوضعية التقنية. وهي ليست تقنية لأننا نعثر فيها على الات بخارية، أو أنها في ما بعد المحرك المعتمد على الانفجار، بل على العكس من ذلك، فإن أشياء من هذا النوع توجد فيها لأن هذا العصر عصر تقني»(2).وهذا ما يجعلنا نميز بين انواع واشكال مختلفة للتقنية بحسب العصر الذي يلقي بصفاته وخصائصه عليها، وبذلك يمكن أن نميز بين تقنية قديمة بدائية بدأت مع بدا العمل. وتقنية معاصرة تكاد تلغي جوهر العمل وفاعليته، «إن ما ندعوه تقنية الازمنة الجديدة ليس فقط اداة، أو وسيلة يمكن أن يكون انسان اليوم سيدها او ذاتها الفاعلة ... إن هذه التقنية هي نمط تأويل للعالم، نمط لا يحدد فقط وسائل المواصلات والتزويد بالمواد الغذائية وصناعة المسليات، بل يحدد كل موقف للإنسان - في امكانياته الخاصة - أي إنه نمط يضرب بميسمه كل قدراته على التجهيز وهذا ما يجعل التقنية غير قابلة للخضوع والتحكم بها»(3) ومن ثم يفقد العقل منهجه في التعامل مع الكم الهائل من هذه المنتجات ومحاولة اغتنائها ولعل تلك الميزة، ميزة المجتمع الصناعي الساعي الى الانتاج من دون التدقيق بما ينتج، همه الاول الربح على حساب الجانب الاخلاقي والعقلي.

فالمجتمع الصناعي هو برمته مجتمع لاعقلاني، لأن تطور انتاجيته لا يؤدي تطور الحاجات والمواهب الانسانية تطوراً حراً، بل على العكس من ذلك تماماً، فإنتاجيته لايمكن أن تستمر في التطور على الوتيرة الراهنة، إلا إذا قمعت تطور الحاجات والمواهب الانسانية وتفتحها الحر، شأنها في ذلك شأن السلم الذي ينعم به المجتمع المعاصر ، إذ إن هذا السلم غير متحقق إلا بفضل شبه الحرب الشاملة المنذرة دوما

ص: 540


1- المصدر نفسه ص12.
2- محمد سبيلا، عبد السلام بنعبد العالي: الحداثة الفلسفية (نصوص مختارة) الشبكة العربية للأبحاث والنشر ط1، بيروت 2009 ص 236
3- المصدر نفسه،ص236-237.

بالاندلاع(1). وهذه ما نجده في تغييب دور القوى المراقبة لعمل الانتاج ويكمن ذلك في تطور الاسلحة البيولوجية والنووية.

قد عملت التقنية على تغييب عمل القوى الاجتماعية مثل اختزال دور الاعلام للسلطة القائمة. أو ترغيب منظمات المجتمع المدني بشيء من الامتيازات التي تمنح لها مما يضمن سكوتها والغاء دورها الناقد والمراقب لأداة الحكومات فضلا عن المطالبة بحقوق الافراد فما لم يتحقق بفضل القوى المستبدة تحقق بفضل هذا الشكل من الانظمة الديمقراطية، «إن عالم الحضارة الصناعية المتقدمة هو عالم استبدادي يملك القدر لا على وأد أي محاولة لمعارضته ونفيه فحسب، ولا على تمييع وتذويب ودمج القوى الاجتماعية التي يمكن أن تعارضه فحسب، بل أيضاً على استنفار وتعبئة جميع . طاقات الإنسان الجسدية والروحية وجميع القوى الاجتماعية للذود عنه وحمايته»(2). وهنا نتساءل في ماهية القوى الاجتماعية ودورها سيما ان اهميتها تكمن في دورها الاصلاحي وليس الثوري فقط كما يذهب الى ذلك كارل ماركس في القوى العمالية ودورها الثوري.

إن اتحاد القوى المتعارضة في السلطة بإمكانه يبيد دور القوى الاجتماعية ودورها في التغيير بل إن الاتحاد لم يكن لولا هذه الغاية بمعونة ما تقدمه التقنية من عقلانية وشرعية في اعمالها في السيطرة «إن الهدف من توحد المتعارضات في المضمار السياسي قطع الطريق على القوى الاجتماعية التي يمكن أن تكون عامل التغيير التاريخي. واتحاد المتعارضات هذا هو الذي يفسر لنا عجز الاحزاب الثورية في المجتمعات الصناعية المتقدمة وانزلاقها المستمر نحو الانتهازية والاصلاحية والاندماج المتعاظم بالنظام القائم»(3). على أن الاختلاف في التقنية تقدم ما هو عقلاني ظاهراً فقط مع ما تضيفه في الانتظام للإنسان.

ص: 541


1- ماركوز، هربارت: الإنسان ذو البعد الواحد ص 11.
2- ماركوز، هربارت: الإنسان ذي البعد الواحد ص 13.
3- المصدر نفسه ص14.

انتهاء العمل في وجود التقنية. (انتهاء عصر الوظيفة)

العمل عامل اساسي في بناء الحياة وتعمير الارض وتحقيق السعادة وتكمن هذه الاهمية في بناء الإنسان ذاته، فالإنسان الذي يفقد العمل، أو لا يمتلكه، يعيش كل ظروف القلق والفقر والعوز، مهما اختلف العمل فان اتقان الإنسان له يشعره بالاطمئنان بما يوفره لنفسه وعائلته، لذلك وضعت الدول المتطورة والصناعية اهمية كبيرة لتشريع قوانين العمل وتوفير حقوق العامل وهذا ما دفع فلاسفة كثيرون بان ينصف العمال. والطبقة البروليتارية اذ ذهب الى ذلك كارل ماركس و حنة ارندت في التمييز بين مفاهيم عدة تقترن مع العمل كالدح والنشاط وانعكاسات هذه المفاهيم في الحقول المختلفة منها الاجتماعية والسياسية فضلا عن الاعمال اليومية والمهنية.

يكمن التساؤل في كيفية اختزال التقنية للعمل، فهي بصورة من الصور حلت مكانه لتختصر الاعمال الكثيرة في عمل واحد والصعبة منها في ايعازات الکترونية بسيطة، كما يذهب الى ذلك ماركيوز في الدور الذي تلعبه التكنولوجيا في تنميط الإنسان، فالتكنولوجيا في نظره: هي علم تحويل الأشياء إلى أدوات مروضة لاستغلالها لأغراض اجتماعية وحضارية، أنها فن غزو الطبيعة والتغلب على مقاومتها الخرساء، من هنا تلعب دوراً تقدميا على حد قول ماركوز، كما هو في المجتمع الأحادي البعد الذي أصبح الشكل العالمي للإنتاج المادي، وهي القوة الكلية المحددة لحياة العصر وثقافته، في ظل مجتمع طبقي قمعي اضطهادي، فان منطقها وهو منطق سيطرة الإنسان على الطبيعة، يصبح المنطق المحدد للعلاقات الاجتماعية أيضا فبدل أن تكون قوة تحررية أصبحت عقبة أمام تحرر الإنسان بتحويلها البشر إلى أدوات مسيطر عليها، فتكون عقلانية اللاعقلانية في التكنولوجيا أنها لا تجعل تحرر الإنسان غايتها الأولى، لان الواقع التكنولوجي الراهن هو واقع استعباد الإنسان وتشيؤه وتحوله إلى أداة لا واقع تحرره كما يعتبر ماركوز أن التكنولوجيا سياسة قبل أن تكون أي

ص: 542

آخر، لان منطقها هو منطق السيطرة والهيمنة، ولأنها تخدم سياسة القوى الاجتماعية المسيطرة في الوقت الراهن(1).

كيف لنا أن نتصور مجتمع ما بعد العمل الذي بموجبه يفقد الإنسان جزءاً من

الامن بما يمكن للعمل أن يوفره، إذ يذهب اندري غورتس في الاجابة من الانتقال الى الوقت الكامل للعمل الى استثمار الوقت لرفاهية الإنسان. مكتشفا في تعاسة الحاضر عن خيار لتطور اجتماعي، يوفق من جديد بين الأمن والحرية للجميع على التتالي: إننا نترك مجتمع العمل من غير أن نبحث عن ملامح مجتمع جديد، نحن نعلم ونحس وندرك أنه من الممكن أن نصبح عاطلين، من الممكن أن نكون عمالا في الحد الادنى، وعمالا لبعض الوقت باحثين عن فرص العمل، وعمالاً مؤقتين، ولكن ما يعرفه كل واحد منا نحن الافراد ، لم يصل بعد الى ادراك حقيقتنا الجديدة المشتركة. انه يمين الصدق، الذي يقول: طوباوية السوق الحرة ليست هي الحل وانما هي سبب المشكل الجوهري، ثم أن مولدا جديد للنمو لان يبعث مجتمع عمل الوقت الى الحياة(2).

لكن ما هو البديل عن مجتمع العمل، نحن نعلم أن التقنية حلت نتيجة انتهاء هذا المجتمع وتحول دور الإنسان من الوقت الكامل للعمل الى وقت الرفاهية كما مر مسبقا الا أن التحول الطبيعي لهذا المجتمع كما يذهب اولريش بيك في «أن نقيض مجتمع العمل هو تقوية المجتمع السياسي للأفراد، لمجتمع المواطنين النشيط في عين المكان وعبر الحدود»(3). إن الراسمالية بوساطة التقنية تلغي العمل. ولم تعد البطالة مصيراً حدياً، إذ هي تصيب من حيث طاقتها الكل وتصيب الديموقراطية بوصفها شكلاً من أشكال الحياة، ولكن الراسمالية الشاملة، التي تزيل مسؤولية التشغيل والديموقراطية، تدفن بذلك شرعيتها الخاصة، قبل أن يوقظ ماركس جديد الغرب من سباته، ينبغي

ص: 543


1- ينظر هربارت ماركوز ، الإنسان ذي البعد الواحد ص 13.
2- بيك اولريش: هذا العالم الجديد (رؤية مجتمع المواطنة الجديد) ترجمة: د، ابو العيد دودو، منشورا دار الجمل،الطبعة الأولى ص9.
3- المصدر نفسه ص 9.

العودة إلى الافكار والنماذج المنتهية منذ مدة من اجل عقد اجتماعي متغير. فمستقبل الديموقراطية وراء مجتمع العمل يجب أن يؤسس من جديد(1).

إلا أن انتهاء العمل أو تحول مساره، كما في وقت الرفاهية لابد من النظر في أن نوع العمل تغير الى ما تقدمه الشركات او المصانع ليس سلع مصنعة بل الى ما يمكن أن يقدم من خدمات فنجد وجود شركات خدمية مختصة بكل الخدمات المقدمة من التعليمية والسياحية وصولا الى خدمات الاتصال والنقل مما يفتح نافذة اخرى لشكل اخر من العمل.

يقترب مجتمع العمل من نهايته كلما زاد تعويض الناس بأستعمال التفنيات الذكية، فالبطالة المتزايدة، لن يكون من الممكن العودة بها لفترة طويلة الى الازمات الاقتصادية، وانما الى راسمالية متطورة من الناحية التقنية، وهذا يعني أن الالية السياسية الاقتصادية القديمة قد فشلت، وعمل الكسب كله قد وقع تحت طائلة التعويض الخطر الذي لايزال التحفظ بشانه قائما(2).

إن الخطر الكامن بعد انتهاء العمل ليس من مسؤولية الدولة فحسب كذلك الافراد والمؤسسات التي لاترتبط بالدولة بصورة مباشرة ومن حقها، أو تمتلك تسريح العمال بسهولة «كلما زاد عدم تدخل الدولة وزادت المرونة في علاقات العمل، ازدادات سرعة تغير مجتمع العمل الى مجتمع الخطر تغيرا، لايمكن تقديره لا بالنسبة الى الدولة والسياسة ومن المهم جدا في الوقت ذاته حل لغز الخطر»(3).وهذه مشكلة تلخص العمل ومحدوديته بالنسبة للافراد الذي اصبح عامل من تدهور حياة الإنسان وتعاسته وفي بعض الاحيان انحرافه الى اعمال غير شرعية.

إن التكنلوجيا أو التقنية التي الغت دور العمال لم تدرك بصورة لا ارادية بان هذا العامل أو المواطن هو صوت فاعل بكونه هو المستهلك و المشتري لكل ما تنتج

ص: 544


1- ينظر اولريش بيك ماهي العولمة؟ ترجمة د. أبو العيد دودو منشورات الجمل بيروت - بغداد الطبعة الثانية عام 1999 ص 105 .
2- بيك اولريش: هذا العالم الجديد ص5.
3- المصدر نفسه ص 7.

وما أن يقاطع هذه المنتجات حتى يتعطل دورها، وهذه اشكالية لم يفكر فيها كثير من القائمون على التقنية، إذ اكتشف المواطن أن فعل الشراء يعد بمثابة ورقة تصويت يستطيع أن يطبقه بشكل سياسي دائم، ففي المقاطعة يتحالف المجتمع الاستهلاكي النشط مع ديمقراطية مباشرة و ذلك على مستوى العالم كله.

الخاتمة

بعد أن عرضنا جدل العلاقة بين ما يعانيه الإنسان وما يهم له أو يقلق وما ساهمت فيه التقنية من تعزيز هذا الوجود الواهم للسعادة والرفاهية التي قيدت بشروط تلك النتاجات يمكن ان نختصر أهم النتائج في الاتي:

مايهمنا من هذه الدراسة هو كيف استطاعت التقنية افراغ الانسان. ولاسيما الاوربي بكونه المصنع لها الى افراغ قلبه من كل عقيدة دينية أو جانب روحي، مكونة بذلك الازمة الاخلاقية والاضطراب والفوضى في حياة الناس مصادرة بذلك كل عوامل السعادة.

إن القلق عند هيدجر عامل ضروري لاستمرار الحياة، وهو ماينقذ الإنسان بما يشكله من الحرية، وذلك في تمييز الوجود الزائف عن الوجود الحقيقي، في حين اولریش بيك يعد الخطر هو ما يُعدم الحياة مسبباً في ذلك ازمات يصل تاثيرها الى كل انحاء العالم.

لا يقتصر الانكشاف أو التنبو بالمستقبل على عامل الموت بكونه لحظة الحقيقة عند هيدجر ومعها يزول كل مجهول، بل أنه يسري على التنبؤ بالحوادث والازمات الكونية ومنها الحروب النووية والبيولوجية.

أعادت التقنية انتاج الافكار من جديد بما يناسب تحقيق الربح في كل مكان، وإن كان ذلك يتصادم مع روح العلم والاخلاق.

عملت التقنية على تلخيص الايدي العاملة مما أدى الى تسريح الكثير من العمال من المصانع، مسببة بذلك ازمة مالية وفقر من دون مراعاة لحقوق العمال.

ص: 545

قائمة المصادر

1. ابراهيم أحمد: إشكالية الوجود والتقنية عند مارتن هيدجر منشورات الاختلاف الجزائر، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت الطبعة الأولى 2006.

2. أولريش بيك: مجتمع المخاطر العالمي (بحثاً عن الامن المفقود) ترجمة: علا عادل، هند ابراهیم، بسنت حسن، المركز القومى للترجمة، الطبعة الاولى 2013.

3. هذا العالم الجديد (رؤية مجتمع المواطنة الجديد) ترجمة : د، ابو العيد دودو، منشورا دار الجمل، الطبعة الأولى كولونيا 2001.

4. السلطة والسلطة المضادة (في عصر العولمة) ترجمة د. جورج كتورة د. إلهام الشعراني. المكتبة الشرقية بيروت، الطبعة الأولى 2010.

5. ماهي العولمة ؟ ترجمة د. أبو العيد دودو منشورات الجمل بيروت - بغداد الطبعة الثانية عام 1999.

6. أميل برييه: اتجاهات الفلسفة المعاصرة، ترجمة: د محمود قاسم. مراجعة د: محمد محمد القصاص، منشورات دار الكتاب للنشر والطباعة والتوزيع، المكتبة العامة، جامعة الاسكندرية، سنة النشر 1998.

7. جان فرانسوا دوريتي: فلسفات عصرنا تياراتها، مذاهبها، أعلامها، وقضاياها. ترجمة: إبراهيم صحراوي، الدار العربية للعلوم ناشرین، منشورات الاختلاف. الجزائر الطبعة الأولى 2009.

8. زکریا :ابراهيم دراسات في الفلسفة المعاصرة، مكتبة مصر.

9. طوني بينيت - لورانس غروسبيرغ - ميغان موریس: مفاتیح اصطلاحية جديدة (معجم مصطلحات الثقافة والمجتمع)، ترجمة: سعيد الغانمي، المنظمة العربية للترجمة، مركز الدراسات الوحدة العربية الطبعة الأولى بيروت 2010.

10. ليزا بورتولوتي : الفلسفة والسعادة، ترجمة وتقديم أحمد الانصاري، مراجعة حسن حنفي المركز القومي للترجمة القاهرة الطبعة الأولى 2013.

11. محمد سبيلا، عبد السلام بنعبد العاليا لحداثة الفلسفية (نصوص مختارة) الشبكة العربية للأبحاث والنشر ط1، بيروت 2009.

12. مارتن هيدجر : التقنية - الحقيقة - الوجود. ترجمة محمد سبيلا، عبد الهادي مفتاح المركز الثقافي العربي لاتوجد سنة نشر.

13. نداء الحقيقة ترجمة د: عبد الغفار مكاوي - كلية الاداب جامعة القاهرة، دار الثقافة للطباعة والنشر، القاهرة عام 1977.

14. فؤاد كامل: أعلام الفكر الفلسفي المعاصر، دار الجيل بيروت، الطبعة الاولى 1993.

15. فؤاد زكريا : التفكير العلمي سلسلة عالم المعرفة يناير 1987.

16. هربارت ماركيوز، الإنسان ذي البعد الواحد ترجمة: جورج طرابيشي دار الاداب، بيروت ط3 1988

ص: 546

هذا الكتاب

يسعى هذا الكتاب المؤلف الجماعي بمجلداته

الثلاثة إلى استعادة التراث الأخلاقي الإسلامي بأبعاده

الدينية والفلسفية والسوسيولوجية وكذلك إلى

التعرف على التيارات والمذاهب الأخلاقية على نطاق

إنساني شامل، وذلك انطلاقاً من استراتيجية معرفية

تهدف إلى إعادة تظهير مكارم الأخلاق كقيمة جوهرية

لبناء الحضارات الإنسانية المعاصرة.

إنَّ أُطروحة الكتاب تمثَّلُ الموقف الذي تنطلقُ مِنْهُ في

مقاربة موضوعِنا، وهي راهنيّةُ الأخلاقِ وأثرها في

إقامة السلوك وتقويمه ، وبَعْثِ قيم العدل والفضيلة

من خلال تأصيلها في النصّ الديني؛ لما يمثله من

مركزية ثقافية ووجدانية في ضمير الناس ولعل هذا

يتحقق من خلال تناول قيم مكارم الأخلاق وهي وهي تمثَّلُ

رأس مال مشترك بين المسلمين.

تطبيق المركز

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 547

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.