نحن و تراثنا الأخلاقي المجلد 1

هوية الکتاب

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

سلسلة استراتجیات معرفیّة

نحن وتراثنا الاخلاقي (1)

إعداد وتحریر

أ.د.عامر عبدزيد الوائلي

ص: 1

اشارة

العتبة العباسية المقدسة

المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية

1

نحن وتراثنا الاخلاقي

الجزء الأول

تحریر

أ.د.عامر عبدزيد الوائلي

المحرّر: محمدرضا دهقانزاد

2018 م

ص: 1

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 2

هوية الكتاب

* الوائلي، عامر عبد زيد

* نحن وتراثنا الأخلاقي / تحرير أ.د. عامر عبد زيد الوائلي

* الطبعة الأولى، كربلاء، العراق، العتبة العباسية المقدسة المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، 1439 ه_، 2018م.

ISBN: 9789922604107 (set) *

* 3 مجلد 24 سم.

* يتضمن إرجاعات ببليوجرافية.

* -1 الأخلاق الإسلامية 2 الأخلاق - فلسفة. ألف. العنوان

BJ1291.W35 2018 *

* مركز الفهرسة ونظم المعلومات

ص: 3

الفهرس

مقدمة المركز ... 6

مقدمة التحرير ... 12

المحور الاول:

الكليات والمفاهيم والمبادئ التصورية

- الأخلاق والقيم.. في المعنى والمصطلح والتجربة ... 20

علي زين الدين

- فلسفة القيمة معناها ودلالاتها من سقراط إلى أزمنة الحداثة ... 20

جميل قاسم

- الأخلاق المعياريّة سبيلٌ لم يُطرق في مجال البحوث الأخلاقيّة الإسلاميّة .... 45

- محمد مطهري فريماني

- الأخلاق الدينية والواقعية الأخلاقية ... 73

- محمد لغنهاوزن

- الأخلاق الإسلامية ... 100

- عظيم نانجي

- الميتا أخلاق: السعي إلى أساس إبستمولوجي للأخلاق في الفكر الإسلامي ... 118

- مريم العطار

أخلاقيات الميديا ( دعاوي التنظير ومبررات التفعيل ) ... 145

- بهاء درويش

- المذهب الأخلاقي للفضاء الإلكتروني ... 165

- حميد رضا آية اللهي

ص: 4

المحور الثانى:

التراث النقلي «وهو التراث المعتمد على القرآن والعترة»

- البُعد القرآني للسلوك الأخلاقي عند أئمة أهل البيت الإمام الحسن (أنموذجاً) .... 200

حسين حمزة شهيد

- قرآنية القيم الأخلاقية في وصايا أئمة أهل البيت المعصومين ... 215

وسام حسين جاسم العبيدي

الإصلاح الأخلاقي في فكر آل البيت علیهم السّلام زيد الشهيد أنموذجاً» ... 242

حيدر زوين

- النسبة بين الفقه والأخلاق في تعاليم الإمام الرضا علیه السّلام ... 255

أحمد باكتجي

- اخلاق الوحي ... 277

المرجع الديني الشيخ جوادي آملي

- الأخلاق القرآنية والشريعة الإسلامية ... 293

خالد أبو الفضل

- العلاقة بين الدين والأخلاق في القرآن الكريم ... 308

عبد الحسین خسروپناه

ص: 5

مقدمة المركز

(اللهم اجعل نفسي... مفارقة لأخلاق أعدائك)

زيارة أمين الله

في نظرةٍ سريعةٍ وإجماليةٍ إلى تاريخ البشرية والمنظومة الإسلاميّة التي قطنت في هذه المعمورةٍ وما حملته من اختلاف وتقلَّباتٍ مستمرةٍ، نرى أنَّ مسألةَ الأخلاق تعدُّ أمراً محوريّاً في هذهِ المنظومة، إذ شهدَ العالم نزاعاً مستمرّا بين قوى الخير وقوى الشرِّ وهو نزاعٌ أخلاقيٌّ بامتياز، وذلكَ أنَّ معايير الأخلاقِ تعدُّ قانونا ملزماً بالاتباع، والإنسان يميلُ عادةً إلى السيرِ نحو الميولِ والأهواء والانفلات من الضوابطِ والقوانين ومن هنا يحصل النزاع.

وقد تنبّأت الملائكةُ بهذا الأمر حينما قالت: «أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ» (1)، وهي ناظرة إلى هذا النزاع، ولكن نظرتها كانت أحاديةً ومن جانبٍ واحدٍ إذ رأتْ جانب الشرّ فقط، ولذا جاء الجواب الإلهي: «إنيِّ أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ»(2) . هذه الإجابة تدلُّ أولاً على النظرةِ الثنائيةِ للمنظومةِ الإنسانيةِ، وتدلُّ ثانياً على غلبةِ جانب الخير، وعلى أنَّ ما رأتهُ الملائكةُ من شرِّ ليس إلّا المخاضَ الذي تنضجُ فيه النفس الإنسانيةُ لتصلَ إلى مقام الخلافةِ

ص: 6


1- البقرة: 30
2- النحل: 66

الإلهيةِ. فكما أنَّ اللبنَ لا ينضجُ إلّا عبرَ مخاضٍ مستمرٍّ بينَ فرثٍ ودم كما في قولهِ تعالى: «نُسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَنًا خَالِصًا سَائِعًا للشاربينَ» ، كذلك الإنسان الكامل (بمختلف مراتبهِ من الأعلى إلى الأدنى) لا يصلُ إلى مقامِ الخلافة الإلهية ِإلّا عبرَ مخاضٍ وصراعٍ مستمرٍّ بين قوى الخير وقوى الشرٍّ المتمثّلة بأدنى مراتبِ الوجودِ أي الدنيا.

***

من هذا المنطلق ورد هذا الدعاء الشريف في زيارة أمين الله، إذ ورد بطلبِ التوفيق لمفارقةِ الأخلاق السيئةِ أي أخلاق أعداء الله.

في هذا النص المبارك مداليل محوريّة نشيرُ إلى أهمها:

النطاق:

ونعني بنطاقِ الأخلاقِ شموليتها لتعمَّ جميعَ المنظومةِ الإنسانيةِّ لتشمل الفرد والمجتمع ونظام الدولة.

أمّا الفرد فمكلّفٌ بالإيمانِ والعمل الصالحِ والتعرّف على محاسن الأخلاقِ ومساوئها للالتزام بالأولى وترك الثانية في سلوكهِ الفردي والشخصي.

أما المجتمع فهو السلوك الأخلاقي الجمعي المتمثّل بالأسرةِ، والجار وأبناء الدين الواحد والمذهبِ الواحد، وكذلك سائر الأديانِ أو غير الملتزمينَ بدين إذ إنَّ أخلاقَ المجتمع تشمل جميع هذه ِالحالاتِ سيما بخصوص الآخر إذ ورد التأكيد بشأنه ِأيضا كقولهِ تعالى: «لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ»(1) .

ص: 7


1- الممتحنة: 8

وكذلك ما ورد عن أمير المؤمنين علیه السّلام في نهج البلاغةِ من تقسيمِ الناس إلى: نظير لنا في الخَلْقِ وأخٍ لنا في الدين.

أمّا نظامُ الدولةِ فنقصد بهِ ما يلزم على أجهزةِ الدولةِ من الشخصِ الأول فيها إلى سائر مفاصلها من سلوك أخلاقي في تعاطيهم المهني سواء مع الوضع الداخلي من رعاية العدل والإحسانِ أو الوضع الخارجي من حيثِ الحفاظ على العزّةِ والشجاعةِ والإباء وعدم الرضوخِ للاستصغار والاستعمارِ وما شاكل، وعهد أمير المؤمنين علیه السّلام لمالك الأشتر هو خير مَعين ومُعين لأخلاق الدولة.

المنطلق:

نعني بمنطلق الأخلاق الأسس والمباني التي تُستنبطُ الأخلاق منها، إذ قد اختلفت مصادر الأخلاق في مدارس واتجاهات مختلفة كوّنت منظومات وتيارات متنوّعة ٍتعتمد إمّا على الدين أو العقل أو الطبيعة ِأو الوجدانِ أو الحبِّ وما شاكل، وستتعرّف عليها في هذا الكتاب الماثل بين يديكَ، ولكن ما يهمنا هو الأخلاق الدينية المنبعثة من العقل السليم والدين القويم، مضافا إلى الاهتمام بالسلوك الأخلاقي العملي مع قطع النظر عن التنظيرات المختلفة حول فلسفة الأخلاق ومصادرها المختلفة.

مثلما يشير هذا الدعاء المبارك الوارد في زيارة أمين الله فإنَّ الأخلاق كما تكون بالاكتساب والجهادِ، كذلكَ تكون جرّاءَ الفيضِ الإلهي، فهنا يدعو الزائر ليفيضَ الله عليه عنايتهُ في تركِ أخلاق أعدائهِ ليتحلّى بأخلاق أوليائه.

الاستراتيجيا :

وهي الخطّة والبرنامج العملي لإيصال الفرد والمجتمع إلى الكمال المطلوب

ص: 8

في وضعهِ الحالي وكذلك المستقبلي مع لحظ نقاط الخلل ومحاولة معالجتها.

***

لا يمكننا رسم معالم استراتيجيتنا الأخلاقيّة الإسلاميّةُ دون لحظ الهدف الأعلى أو الأهداف العليا الموجودة في الشريعة الإسلاميّة.

وعند تدبّر الآيات والروايات نصلُ إلى أهداف عدّة قد يكون من أهمها بخصوص الفرد إيصاله إلى الكمال المطلوب علما وعملا، أما بخصوص المجتمع فهو تحويل الأمّة الإسلاميّةِ إلى أمّة ٍوسط تكون ميزانا ومقياساً ونموذجاً يُحتذى بهِ من قبل سائر الأمم، كما تعلّقت الإرادة الإلهيةِ بذلك في قوله تعالى: «وَكَذَلكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا»(1).

فالأمّةُ الإسلاميّةُ لا تكون وسطاً ومقتدى وشهيدة على سائر الأمم إلّا بمتابعةِ مكارم الأخلاق وترك مساوئها على مستوى الفرد والمجتمع ونظام الدولة طبعاً مع رقابة الوليّ المعصوم حتى يُرجعها إلى هداها ورشدها ويكون هو الميزان والمعيار لها: «وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا» ومن بعدهِ تتحوّل الوظيفة إلى وصيّه المعصومِ ليكون كالشمسِ ينتفع بهِ الناس سواء أكانَ ظاهراً، أو غائبا كالشمسِ الغائبةِ وراء الغيوم .

ومن هذا المنطلق فمعالم الاستراتيجيا الأخلاقية الإسلاميّة تعتمد على:

1. الموقف العلمي، وهو يتبلور بالتعرّف على نظام القيم وما يقابلها، وكذلك لزوم التعرّف على ملابسات العصر الحديث وما يستبطنه من خدع وإعلام زائف تصوّر القبيح حسنا والحسن قبيحا.

ص: 9


1- البقرة: 143

وكذلك التعرّف على التيارات والمدارس الأخلاقيّة المختلفة إن الدينية أو الوضعية للتعرّف على نقاط القوّة والضعف، وكذلك الإيجابيات والسلبيات، إذ إنَّ هذا الموقف العلمي الشامل يعيننا على وضع الخطط والبرامج القويمة.

.2 الموقف العملي، ووضع مخطط ونظام لتنميةِ تلك القيم بعد التعرّف عليها، وذلك من خلال بثّ تلك القيم وتعميمها والدعوة إليها من خلال مجالسِ الوعظ والكتبِ والمجلات والندوات ووسائل الإعلام، لتعمّ الفرد والمجتمع ونظام الدولة.

وهذا الأمر وإنْ يبدو بعيد المنال، فإنّ نظرتنا إليهِ ليستْ طوباويّة، فنحن أنَّ نعتقد مسير البشرية لا بدَّ وأن يتجه لهذه الجهة وهو وعد الله تعالى: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بي شَيْئًا»(1) .

ولا تكون وظيفتنا إلّا التمهيد لتلكَ اللحظة من خلال بناء الجماعة الصالحة والدعوة إلى الخير

***

تلبيةً لهذهِ المهمةِ تمَّ تدوين ُهذا الكتاب ليشمل بمحاوره ِالستّةِ أهمَّ الآراءِ والنظريات المتعلّقة ِبالمنظومةِ الأخلاقيّةِ في العالمين الإسلامي والغربي.

ونحن إذ نقدّم هذا الكتاب للقارئ العربي، نعتقد بلزوم المزيد من الاهتمام بالجانب الأخلاقي وحاجة الساحةِ المعرفيّة إلى دراسات جادة بهذا الخصوص،

ص: 10


1- النور: 55

ولا يفوتنا أن نقدّم شكرنا وتقديرنا للأستاذ الدكتور عامر عبد زيد الوائلي الذي قام بمهمة متابعة المشروع والاستكتاب والتحرير ليخرج بهذه الحلّة الجميلة، وكذلك نشكر كلَّ من ساهم في تدوين وإخراج هذا السفر القيّم.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين

وآله الميامين.

النجف الأشرف

المولد الحسيني 3 شعبان المعظم 1439ه_

ص: 11

مقدمة التحرير

مكارم الاخلاق: مقاربة في تراثنا الاخلاقي

إن طبيعة الثقافة يمكن أن تتحدد من خلال المرجعيات الموجه لها، وذلك في تبين أثرها في تشكيل وتصميم عالمنا المعيش؛ لأن الثقافة تبقى بمثابة المجال الروحي الذي يجد فيه الفرد وجوده النفسي وبحكم المجال أو البيئة الثقافية له، لأننا لا يمكن أن نفهم الفرد من دون الثقافة التي ينتمي لها.

في ظلِّ التحولات الراهنة، تُعَدُّ الأخلاق ركنًا من أركانِ الإصلاحِ المعنويّ الذي يمنحُ الفردَ أو الجماعةَ موجهات ٍمعنويّةً يمكنُ أن تجعلَ منهم أفرادًا صالحينَ يحققونَ الإصلاحَ الاجتماعيَّ، والنجاةَ في حياتهم الدنيويَّة والأخرويَّة، فهي أخلاقٌ مرتبطةٌ بحضارة معينةٍ، أو دينٍ معينٍ، إذ إنَّ عمرَ العلاقةِ بينَ الدين والأخلاقِ يمتدُّ إلى عمر ِالبشريَّةِ، وهذا يعني أنَّ له حضورًا راسخاَ في الثقافةِ البشريَّة.

بالأخلاقَ تعلو الأممُ وتنهضُ وتزدهر وتتقدّم، وهي دليلٌ على بقاء الحضارات وتقدّم شعوبها ورفعتِها؛ فيقلّ مُعدّل الجريمةِ والانحطاطِ والاستغلالِ، ولا يصعد الأغنياءُ والأقوياءُ على حِساب الفقراءِ والضُّعفاء. وهذا أيضا يجعل الأخلاقَ متفاوتةً بين النَّاسِ ؛ نظراً لاختلاف البيئاتِ الثقافيَّةِ والدينيِّةِ التي ترعرعوا فيها؛ ونظراً أيضًا لاختلاف أهميّتها عند النّاس، فقسمٌ من النّاس يضربون بها عرض الحائطِ ويعدُّونها معيقاً للطموحِ والتقدّمِ والنّجاح ، وهم بذلك يدوسونَ على إنسانيتهم وعلى مَن حولَهم؛ حتى يستطيعوا الوصولَ إلى أهدافهم وغاياتهم الدّنيئةِ الرّخيصة، التي ستسبّب لهم ولِمَن حولَهُم الهلاكَ والخسرانَ ؛ وبهذا هم يساهمون في تقريرِ مصيرِهم.

ص: 12

ومن ناحيةٍ ثانيةٍ نجد أنَّ طبيعةَ الأخلاق طبيعةٌ تراكميّةٌ بامتياز، متنوّعة ٌمصادرها، فقد يستمدُ النّاسُ أخلاقَهم من العاداتِ والتقاليدِ والأعرافِ المتّبعةِ، وقد يقوِّمُ الدِّينُ أخلاقَ النّاسِ، بتأكيدِ الأخلاقِ الحميدةِ، ومحو الأخلاقِ السيئةِ التي نشأوا عليها؛ لهذا فالأديانُ ضروريَّةٌ جداً للنواحي الأخلاقيّةِ، إضافةً إلى وظيفتها الرّئيسةِ الأخرى والمتمحورة حولَ تعريفِ النّاسِ بخالقِهم وربِّهم المعبود .

ومن هنا يأتي الرّهانُ الباعِثُ على تناولِ المشكلةِ وما تمثِلُهُ من راهنيَّةٍ في حياةُ الناسِ ومعاشِهم، في ما يحتاجون إليه من تمثِّلٍ للقيم التي تُعَمِّقُ التعايش وتحقِّقُ السلوكَ القويمَ في علاقةِ الإنسان بربِّهِ وعلاقتِهِ بأخيهِ الإنسان الآخر، والعمل على تمثُّلِ السلوكِ الفاضلِ الذي نَجِدُهُ متمثلاً في سلوكِ كثير من الشخصياتِ الفاضلةِ في تاريخِ الاسلامِ، وهي تمثَّلُ الكارزمةَ الدينَّيَة التي تقومُ على قيمِ السماحةِ والفضيلةِ، كما عبّرَ عن أهميتها «ماكس فيبر». وهي تبدو راهنيَّةً غائبةً نحاول استحضارَها في الأقوالِ على صعيد النصِّ المقدَّسِ، أو على صعيد استعراضِ نماذجَ مِن السيرةِ من خلالِ عرضِ أقوالٍ تَحُثُ أقوالِ تَحُثُ على مكارمِ الأخلاقِ، بوصفها نماذج قِيميَّة قابلة للتمثُّلِ والمحاكاةِ على صعيدِ الفردِ والجماعةِ، أو نماذج في التربية والتعليم والإرشاد الأخلاقيّ؛ حتى يتحوَّلَ إلى باعثٍ نفسيٍّ داخليّ يُحرِّضُ الإنسان على اتباعِ الأخلاقِ النابعة من نفسٍ طَيبَّةٍ، وإرادةٍ خالصة؛ لأنَّ الأفعالَ التي تصدرُ عن تكلفٍ، لا خيرَ فيها . ولكنَّها إنْ كانت أصيلةً في بواعِثِها فإنَّها تبدو كالدستور الذي ينطوي على قواعدِ السلوك الذي يستندُ في تقييمه إلى الخير والشر بكل بواعثهما القِيَميَّة سواء كانت من الدين أم من المجتمع.

أوَّلاً: الأخلاق في اللغة:

إِنَّ الحفرَ في دلالة معنى الأخلاق في اللغة أمرٌ ضروريٌّ، لأنَّ اللغةَ هي خزينُ تجاربِ الأممِ، التي أُودعتْ فيها، ودلالة «مكارم الأخلاق» في اللغة بوصفها جمعَ خُلُقٍ تظهر لنا من خلال الآتي : مَكَارِمُ : جمع مَكْرُمَة، (كرم) اسم جامع لكل ما يُحْمَد، فالله عز وجل كريم حميد الفِعال ورب العرش الكريم العظيم. الكَرَم نقيض اللُّوْم

ص: 13

يكون في الرجل بنفسه، وإن لم يكن له آباء، ويستعمل في الخيل والإبل والشجر وغيرها من الجواهر إذا عنوا العِتْق، وأَصله في الناس (1) .

الأخلاق: جمع خُلُق - بضم اللام وسكونها: الدين والطبع والسجية، (2) (3) وحقيقته كما يقول ابن منظور - ويتكرر هذا المعنى في القواميس -: الخلق : الدين والطبع والسجية، «أنه صورة الإنسان الباطنة، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها، بمنزلة الخَلقِ لصورته الظاهرة» (4).

وذهب ابنُ الأثيرِ الى المعنى نفسِهِ بقوله : وحقيقته انه لصورة الإنسان الباطن، وهي نفسه وأوصافها ومعانيها ولها أوصاف حسنة وقبيحة (5) .

وهذا ما نجده في قول الجرجاني كذلك (الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر ورؤيا فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلا وشرعا بسهولة سميت الهيئة خلقا حسنا وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سميت الهيئة خلقا سيئا) (6).

وهو ما أكَّدَهُ الغزالي أنَّ الخلقَ عبارةٌ عن هيئةٍ في النَّفس راسخة، وقال: «إن الألفة ثمرة حسن الخلق والتفرقة ثمرة سوء الخلق» (7)؛ الخلق» بمعنى أنَّ هناك باعثًا نفسيَّا داخليَّا يحرِّضُ الإنسان على اتباع الأخلاقِ النابعة من نَفْسٍ طيّبةٍ، وإرادة خالصة، أمَّا الأفعال التي تصدر عن تكلُّفٍ، فلا خير فيها.

وهذا ما جعل بعض أهل العلم الدينيّ يؤكدون أنَّ ما أسرَّ عبدٌ سريرةَ خيرٍ، إلا

ص: 14


1- انظر لسان العرب دار صادر، بیروت، 2004
2- ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، تحقيق: عبد السلام محمد هارون ، ج 2 ، دار الفكر ، بيروت، 1399ه، ص213
3- فيروز آبادي مجد الدين محمد بن يعقوب قاموس المحيط تحقيق مكتبة التراث في مؤسسة الرسالة، إشراف محمد نعيم العرقسوسي، 2005 ، ص 881
4- ابن منظور، لسان العرب، ج 5، ص 14
5- ابن الأثير النهاية في غريب الحديث، ج 2، دار الفکر، بيروت، 1399ه، ص 70
6- الجرجاني، علي بن محمد بن علي، التعريفات، ص101
7- الغزالي، إحياء علوم الدين، دار بن حزم، ط1، بيروت،2005، ص 611

ألبسهُ اللهُ رداءها، ولا أسرَّ سريرةَ شرّ قط، إلا ألبسهُ اللهُ رداءها .

في النتيجة تبدو الأخلاقُ كالدستورِ الذي ينطوي على قواعدِ السلوك الذي يستند في تقييمِهِ على الخير والشر؛ ولكن يظهر أنَّ تلك التعريفات تشير إلى أنَّ الأخلاقّ لها جانبان، أحدهما: نفسيٌّ باطنيّ، والآخر: سلوكيٌّ ظاهريّ، أي إنَّ الأخلاقَ نفسيَّةً أو معنوية منظرها الخارجيّ هو ما نسميه المعاملةَ أو السلوكَ فالأخلاق مصدر والسلوك مظهر (1).

ثانيا: الأخلاقُ في الاصطلاح:

يُعرَّفُ عِلْمُ الأخلاقِ بوصفهِ العلمَ الذي «يبحث عن المبادئ وترتيبها واستنباطها والكشف عن أهميتها للحياة الأخلاقية، مع بيان الواجبات التي يلتزم بها الإنسان»(2) فالأخلاق هي «حال للنفس داعية إلى أفعالها من غير فكر أو رويّة وهذه الحال تنقسم قسمين منها ما يكون طبيعيا من أصل المزاج كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو الغضب، ومنها: ما يكون مستفادا بالعادة والرويّة ويكون مبدوءاً بالفكر ثم يستمر عليه شيئًا فشيئًا حتى يصير ملكا وخلقا » (3).

ويبدو أنَّ هذا التعريف يوظِّفُ المعنى اللغوي السابق، في تأكيد حكم أخلاقيّ يقوم أو يصف سلوك الفرد أو الجماعة والحكم عليه مستندًا على قيمتين؛ هما: الجمال والقبح، وهما مرهونان بالمصدرِ الذي يحكم عليهما، وفي الإسلام: «الجميلُ ما جمَّله الشرع، والقبيحُ ما لا يرضاه ولا يقرُّه الشرع». ولعل حاكمية الشرع حاضرة هنا في توصيف «مكارم الأخلاق» وهي الجنبة العملية التي تعتمد على الأوامر والنواهي الشرعية في النص سواء كان القرآن أم نصَّ المعصوم، ومن هنا جاء «مفهوم مكارم الأخلاق»: هي مجموعةُ من العادات والسُّلوكات والتّصرّفات والأقوال والأفعال التي تنبع من ذات الإنسان وضميره وقناعته؛ فالخير والشّر داخله في صراعٍ دائمٍ، فمتى

ص: 15


1- محفوظ علي عزام الأخلاق في الإسلام بين النظرية والتطبيق ، ص11 ، ص 12
2- مقدمة كتاب علم الأخلاق إلى نيقوماخوس لأرسطو : بارتلي. ترجمة أحمد لطفي السيد، مطبعة دار الكتب،1942م، ص 8
3- مسكويه، تهذيب الأخلاق دراسة و تحقيق عماد الهلالي، منشورات الجمل، ط1، بيروت، 2011

ما غلب خيرُه شره أصبح صاحب خُلُقٍ عظيمٍ، وجزءٌ من الأخلاق تُكتسب بالتّربية الصّالحة والاعتياد على سلوك الأوائل من ذوي الأخلاق الحميدة، وهذا الجزء يقع على عاتق كلّ وليّ أمر من الوالدين والمدرسة والمعلّمين والمجتمع. فالتعريف كأنَّهُ يراعي الأبعادَ الأربع: الجانب العقليّ الواعي القائم على التأمل في مورد النص، والثاني: الجانب النفسيّ الذي يكون عليه الفرد أو الجماعة، والثالث: الجانب الاجتماعيّ وما يحمل المجتمع من موروثٍ اجتماعيّ، والرابع: الجانب التكويني للفرد.

وهذا ما يمكنُ أن نستلهمَهُ من التعريف اللغويّ إذ نجد مفهوم الأخلاق يتحدد في جانبين، هما: الأخلاق والآداب التي حثَّ عليها الإسلام وذُكِرت في القرآن الكريم والسُّنَّة النبويَّة اقتداءً بالنبي محمد صلّی الله علیه و آله الذي هو أكمل البشر خُلقا لقول الله سبحانه عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم)، فمكارمُ الأخلاقِ أفضلُ الدّرجات في كلّ خُلُقٍ؛ فالأمانة خُلُقُ كريمٌ ومن اتّصف بكمالِ الأمانةِ فقد وصل إلى مرحلة المكارمِ في هذا الخُلُق، كما كان يُوصف الرسول صلّى الله عليه و آله بالصّادق الأمين، وهذا يعني أنَّ الأخلاقَ فيها جنبةٌ دينيَّةٌ مهيمنةٌ تتمثَّل بأوامر ونواهٍ إلهيَّة؛ ولهذا فان السّبب في اجتماع الأخلاق الحميدة مع التديّن الصّادق والعميق، هو أنّ المتديّن يسعى للوصول إلى الكمال المطلق، وكلما ارتقى أكثرَ في تديّنِهِ ومعرفته بالله كلما عظمت أخلاقُهُ؛ ولهذا كله فالرّسل هم أعظم البشر أخلاقاً؛ لأنّهم أعرف النّاس بالله. وهناك أحاديثُ تدعو إلى حسن الخلق، وأَنَّ أساس هذا الدّين العظيم هو مكارم الأخلاق ومحاسنها؛ فقد روى البيهقي أنّ النبي صلّى الله عليه و آله قال: «إنما بعثت لأتممّ مكارم الأخلاق»، وإنّ كلمة البرّ هي الجامعة لمعاني الدّين، قال عنه النّبي صلّى الله عليه و آله : «البرّ حسن الخلق»، رواه مسلم. وقد اتصف النبّي صلّى الله عليه و آله بما وصفه به الله سبحانه وتعالى، وأثنى عليه بحسن الخلق، فقال جلّ وعلا: «وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ» ، القلم /4 .

***

يسعى هذا الكتاب المؤلف الجماعي بمجلداته الثلاثة إلى استعادة التراث الأخلاقي الإسلامي بأبعاده الدينية والفلسفية والسوسيولوجية وكذلك إلى التعرف

ص: 16

على التيارات والمذاهب الأخلاقية على نطاق إنساني شامل وذلك انطلاقاً من استراتيجية معرفية تهدف إلى إعادة تظهير مكارم الأخلاق كقيمة جوهرية لبناء الحضارات الإنسانية المعاصرة.

إنَّ أُطروحةَ الكتاب تمثّلُ الموقفَ الذي ننطلقُ مِنْهُ في مقاربةِ موضوعِنا، وهي راهنيّةُ الأخلاقِ وأثرُها في إقامةِ السلوك وتقويمه، وبَعْثِ قيمِ العدلِ والفضيلةِ من خلال تأصيلها في النصِّ الدينيّ؛ لما يمثلُهُ من مركزيَّة ثقافيَّة ووجدانيَّة في ضمير الناس. ولعل هذا يتحقق من خلال تناول قيم مكارم الأخلاق وهي تمثِّلُ رأسَ مالِ مشترك بين المسلمين .

المحرر: أ. د. عامر عبدزيد الوائلي

ص: 17

ص: 18

المحور الاول

الكليات والمفاهيم والمبادئ التصورية

« الاخلاق، علم الاخلاق، فلسفة الاخلاق»

ص: 19

الأخلاق والقيم .. في المعنى والمصطلح والتجربة

الأخلاق والقيم .. في المعنى والمصطلح والتجربة (1)

علي زين الدين (2)

عُرفت الأخلاق لدى علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا، بأنّها قيم أو منظومة قيم، تعرف عليها الإنسان بإعتبارها جالبة للخير وطاردةً للشر، وهكذا تعرفها الفلسفة الليبرالية إذ تعطيها معنى نسبياً يخضع للواقع ولفهم الناس ولطبيعة البيئة. ولهذا فهي ليست من المطلقات، ولهذا أيضاً قيل عنها إنها شكل من أشكال الوعي الإنساني كما تعدّ مجموعة من القيم والمبادئ تحرك الأشخاص والشعوب، كالعدل والحرية والمساواة ، بحيث ترتقي إلى درجة أنها تصبح مرجعية ثقافية لتلك الشعوب لتكون سنداً قانونياً تستقي منه الدول الأنظمة والقوانين وهي السجايا والطباع والأحوال الباطنة التي تُدرك بالبصيرة والغريزة، وبالعكس يمكن اعتبار الخلق الحسن من أعمال القلوب وصفاته. وأعمال القلوب تختص بعمل القلب بينما الخلق يكون قلبياً ويكون في الظاهر.

وعلم الأخلاق يعتني بدراسة السلوك الإنساني على ضوء القواعد الأخلاقية التي تضع معايير للسلوك، يضعها الإنسان لنفسه أو يعتبرها التزامات وواجبات تتم بداخلها

ص: 20


1- يتناول هذا المقال من عالم المفاهيم، مفهومين متلازمين هما الأخلاق والقيم. وسيتطرق الكاتب إلى تعريفهما في مجال المصطلح والمعنى، وكذلك ظروف نشوئهما وتبلورهما فى إطار النظريات الأخلاقية التي سادت عصر التنوير فضلاً عن التراث الفلسفي اليوناني. المحرر
2- مترجم وصحافي لبناني

أعماله. فالأخلاق هي محاولة التطبيق العلمي، والواقعي للمعاني التي يديرها علم الأخلاق بصفة نظرية، ومجردة». والكلمة الإنكليزية للأخلاق «Ethic» مستخلصة من القاموس اليوناني (إيثيه) أي «عادة». وتكون الأخلاق طقماً من المعتقدات أو المثاليات الموجهة، التي تتخلل الفرد أو مجموعة من الناس في المجتمع.

والديونتولوجيا - من الجذر اليوناني (ديون) أي «ما يجب فعله» و(لوغيا) أي «العلم» - أو علم الواجبات وهو مفهوم يستخدم كمرادف للأخلاق المهنية، فيختصّ هذا المجال بالواجبات ويحكم على الفعل راجعاً إلى القواعد والقوانين(1).

أما علم «الأخلاق» Ethics ، فإنّه يتعلق بوجه عام، بمعايير السلوك التي يتحدد بموجبها الإعجاب بموقف معين أو رفضه احترامه أو إدانته. وربما تسري هذه المعايير على المجتمع بأسره، لتشكل ميثاقاً شرفياً، أو ربما تنطبق فقط على بعض الممارسات المهنية لمجموعة بعينها من هذا المجتمع، وكلمة Moralis الأصل اللاتيني لكلمة «أخلاق»، وقد صاغ شيشرون Ciceron (السياسي والخطيب الروماني) هذه الكلمة ترجمة للكلمة اليونانية ethos (الطبع، العادة) بعد أن اشتقها من كلمتي mos و mores بمعنى «عادة» أو «عادات» (2) .

معنى القيم

مثل الأخلاق والعلوم التي تناولته بالتعريف والتحليل كذلك الحال بالنسبة إلى القيم ومعناها ودلالاتها الاصطلاحية.

ومفهوم القيمة، أو القيم، من المفاهيم المعقدة ذات استخدامات كثيرة ومعان متنوعة. فعلى سبيل المثال نجد هذه المفردة مستعملة بمعان مختلفة في الفلسفة والحقوق وعلم النفس وعلوم الاقتصاد والسياسة والاجتماع وعلم الأخلاق وغيرها، زد على ذلك، أننا لا نجد لها تعريفاً موحداً متفقاً عليه حتى في داخل كل اختصاص (3).

ص: 21


1- راجع «معنى الأخلاق»- https://ar.wikipedia.org
2- عبد المنعم الحفني، موسوعة الفلسفة والفلاسفة، الجزء الأول، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1999، ص 106
3- أبو تراب طالبي، مفهوم القيم قراءة تاريخية ، فصلية ( المنهاج ) ، العدد 75 - خريف 2014

في المعجم الفلسفي ل_ «لالاند»، ذُكِرَت لمفهوم القيمة استخدامات توزعت على أبعاد أربعة هي:

-1 إلى أيّ مدى تكون مطلوبة وتتعلق بها رغبة الفرد أو الجماعة ؟

2 - ما هي الدرجة التي تحظى بها من الأهلية والمطلوبيّة؟

3 - ما هو الهدف الذي تثمره وتنتجه هذه القيمة؟

4 - ما هو مستوى التفاعل الذي تحققه هذه القيمة بالقياس إلى جماعة وزمان معینین (1).

عُرِّفت القيمة في علم الاجتماع بأنّها ما يُحكم عند الفرد أو الجماعة بكونه حسناً أو قبيحاً، لائقاً أو غير لائق، مطلوباً أو غير مطلوب. وعرفها بعضهم أيضًا بأنّها الميزان والمعيار المختار من قبل الفرد أو الجماعة من بين البدائل المتاحة المطروحة بالنسبة إلى موقع ما.

وذهب العالم الفرنسي غي روشيه متأثراً في ذلك بكل من دوركايم وبارسونز، إلى القول بأنّ القيمة هي الركيزة الأساسية التي يستند إليها الفعل، وقال: «القيمة طريقة في الحياة أو العمل ينظر إليها الشخص أو الجماعة بوصفها مفهوماً يتلبس ويتشخّص به الأفراد وتصرفاتهم ويصبح شعاراً لهم» ورأى إن القيمة ذات خصائص جوهرية، وهي عبارة عن:

1- القيمة هي الملهمة للعمل، أو - بتعبير بارسونز - هي الهادية والموجهة .

2 - القيم نسبية، (بالنظر إلى عوامل الزمان والمكان والاجتماع).

3 - للقيم ثقل وأساس عاطفي.

4 - للقيم سلسلة من المراتب ما يعني أن بروز قيم جديدة في المجتمع يكون أمراً نادراً. وأمّا ما يحدث في الغالب، فهو أنّ سلسلة مراتب القيم أو جماعة ما تكون

ص: 22


1- المصدر نفسه

عرضة للتغير. ولهذا السبب فإنّنا في تغيير القيم يجب حصول التغيير على مستوى سلسلة مراتب هذه القيم وحاصل هذا الأمر أنّ القيم الرفيعة ذات الدرجة العالية تهبط وتنخفض درجتها لتحل قيمٌ أخرى مكانها(1) .

إلى هذا نستطيع أن نجد في علم النفس تعاريف عدة أخرى لمفهوم القيمة، نشير من بينها إلى ما يأتي:

1- القيمة هي بمثابة الدافع والمحرك (motive) ، أو أنّها تعود في جذورها إليه. ]ويلسونم وماك ليلاند].

2- القيمة بمثابة التعلق والاهتمام (interest)، ]باريش أولبرت، وفرتون].

3- القيمة هي بمثابة الاعتقاد (beilef) [روكيتش]

4- القيمة هي بمثابة الميل والنزوع (2).

وعلى هذا الأساس فإنّ القيم هي عبارة عن الميزان والمعيار لتعريف وتحديد الوضع المطلوب الذي ينبغي أن تكون عليه الأمور، والميزان الذي على ضوئه يتم الاختيار من بين الخيارات المختلفة بشكل غير مشروط وغير نفعي (مطلق)، من قبل الفرد أو الجماعة، وبعبارة أخرى: القيم هي المعايير للاختيار بشكل غير مشروط وغير نفعي التي تحدد للفاعل الوضع اللازم والمطلوب.

وعلى ضوء هذا الذي ذكرناه، لا بد - في دراسة القيم والخصائص التي تتسم بها ؛ من أخذ النقاط الآتية بعين الاعتبار:

1 - تنتمي القيم إلى فصيلة الأمور الذهنية والمعرفية، وإن كان لها آثار عينية.

2 - تندرج القيم تحت الضروريات القطعية.

3 - تتصل القيم من ،داخلها وفيما بينها وفضلا عن سائر عناصر الثقافة من خلال سلسلة من المراتب البنيوية والجوهرية.

ص: 23


1- المصدر نفسه
2- المصدر نفسه

4 - ليست القيم بأسرها بمثابة واحدة مطلقة من المطلوبية والمرغوبية، بل هي درجات عدة ومتفاوتة. وهذه الميزة توجب أن تكون سلسة المراتب لكل القيم بلحاظ مطلوبيتها عند أفراد متعددين وسلسلة المراتب القيمة عند فرد ما (من بين القيم المختلفة) متنوعة ومتعددة . (1)

فلسفة الأخلاق ومعناها

يركز مصطلح «الأخلاق الفلسفية» أو «الفلسفة الأخلاقية» - وهما مصطلحان يستخدمان هنا بالتبادل - على قضايا «القيمة». وقد نشأت نظريات (في الأخلاق) تتفاوت إلى حد بعيد فيما تصبو إليه وتختلف في درجة شموليتها وتصنيفها وتفصيلها؛ إذ إنّ المفاهيم التي نحاول عن طريقها أن نجد معنى لأنفسنا ولنشاطنا ولحياتنا ولطبيعة التفكير ومداه وندرك من خلالها المسائل المتعلقة بمعنى الموت والخطايا التي لا تغتفر - تحتاج إلى التحليل والفهم. وبالمثل يحتاج بحث القيم التي نسعى إلى تحقيقها بأنماطها المختلفة من العلاقات الاجتماعية، إلى حسن السيطرة عليها والتحكم فيها. فعلى سبيل المثال، قد يكون من قبيل الخطأ أو الاستنتاج الفاسد أن نفكر في العلاقات الشخصية مثل الحب أو الصداقة، على اعتبار أنّها تتشكل من قواعد وأهداف، وقد تتضمن هذه القضايا تحقيقا أو بحثا في الأساسيات التي توجه السلوك الفعلي أو العملي. فيبحث الفلاسفة الأخلاقيون في دور المثل العليا في توجيه التفكير العملي والنشاط الفعلي، ويعالجون مسائل مثل(2): ما هو السلوك المقبول ،أوما الذي ينبغي أن يفعله شخص ما في حالات معينة («الإفتاء في قضايا الضمير» casuistry، يطبق مبادئ أخلاقية عامة على كل حالة، أمّا الأخلاق الوضعية، أي الأخلاق التي ترتبط بمواقف وأوضاع معينة، فهي تتعامل مع كل حالة كمسألة منفصلة قائمة بذاتها)، ويبحث الفلاسفة الأخلاقيون فيما يتجاوز الأعراف المحددة ومعايير السلوك وما لا يتجاوزها؛ وهذه المعايير هي في حد ذاتها حد ذاتها أهداف ربما نبحث في إيجاد تبرير لها. وتبحث الفلسفة الأخلاقية أيضا في طبيعتي الفضيلة

ص: 24


1- المصدر نفسه
2- موسوعة الفلسفة والفلاسفة، المصدر السابق، ص 112

والرذيلة ومعنى كل منهما ، كما تبحث في مفاهيم تقييم الذات، مثل الشرف والاعتزاز والمعصية والعار والخزي التخاذل والإقدام وهي المفاهيم التي قد تنشط أو تخبو في ظل ظروف معينة. إنّ بعض الفضائل والرذائل المحددة مثل الأمانة والخداع، قد يكون لها معنى خاص في علاقتها بأنفسنا وبالأخرين فيما يتعلق بفهم النفس، ومن ثم في علاقتها بالسلامة والأكراسيا arasia (اللامعقولية الشخصية / ضعف الإرادة). ويجري البحث في مجال الأخلاق في ماهية ما هو موجود، أو فيما يمكن أن ،يوجد، ليكون شراً أو سيئاً، أو دنيئاً، أو غير لائق، أو مبهرجاً، أو مقبولاً، أو جيداً، أو لطيفاً، أو مثيراً، أو رائعاً، أو مدهشاً، أو مثيراً للمشاعر بشكل آخر، فمواقفنا وتقييماتنا تحتاج دوما إلى الشرح والتبرير.

الأخلاق الشكلية والأخلاق الموضوعية

تتميز أخلاق الشكل أو الصورة Formal ethics عن أخلاق الموضوع objective ethics ، الأولى مجالها القيم الأخلاقية للأفعال والأشخاص، بينما تربط الثانية قيمة الشخص بنتائجه العملية، ولذلك يسميها كانط أخلاق نجاح ethics of success ، ويعرف كانط الأخلاق الصورية بأنّها الأخلاق التي تسترشد بقواعد الأخلاق التي يعرفها العقل العملي وهي قواعد صورية أو شكلية.

وفي مقابل أخلاق كانط الصورية قامت أخلاق الموضوع، بدعوى أنّه لا يمكن أن توجد أخلاق من دون موضوع. وتميزت في أخلاق الموضوع عدة نزعات، أولها: نزعات أصحاب فلسفة القيم وعلى رأسهم ماكس شيلر، الذي يرى أنّ القيم مُثل عليا وانفعالات من الإنسان نحو غايات يصنعها بحرية، وعرف القيمة بأنّها ما يجب فعله؛ وثانيها: نزعة أصحاب الأخلاق الوضعية، وهؤلاء تتوزعهم علوم البيولوجيا والنفس والاجتماع. ويرى البيولوجيون، وعلى رأسهم سبنسر، أن الأخلاق يجب أن تحترم دورة حياة الإنسان الفسيولوجية، وأن تقرر المفيد للإنسان علميًا وتبتعد عن الأحلام والتهاويل. يذهب الاجتماعيون، وعلى رأسهم دوركايم، إلى أنّ الأخلاق وقائع اجتماعية يمكن ملاحظتها ووصفها كالوقائع الفيزيائية، وبذلك يمكن إقامة علم أخلاق

ص: 25

يسميه بريل «علم الأعراف science of mores» . ويرى النفسانيون أن الأخلاق أفعال منعكسة شرطية تكونت بفعل التربية ، وأن الالتزامات الخارجية منشؤها الضغوط الوراثية والوالدية التي تشكل ما يسمى بالأنا الأعلى، ودوره الأساسي قمع الدوافع الغريزية، ويمثل الماضي أو الأخلاق المغلقة، بينما يمثل الأنا الصيرورة أو الأخلاق المفتوحة (1).

ولا توجد القيم الأخلاقية مستقلة فلا بد لها من حوامل، لكن إدراكها لا يتوقف على وجود الحوامل، وفي الإمكان أن نتحدث عن عالم من القيم كما تحدث أفلاطون عن عالم من المثل، فالإنسان يدرك القيم الأخلاقية بنوع من الرؤية الباطنة، كما في إدراكه للمعاني الكلية، وهو ما يفسر إدراكها من قبل الطفل والبالغ والجاهل والمثقف. وتتضارب آراء الفلاسفة في نشأتها، فمنهم من يرجعها إلى مصادر خارج الإنسان إلهية أو اجتماعية ومنهم من يقصرها على الإنسان دون سواه، فالإلهيون أو اللاهونيون يقولون بالأخلاق اللاهوتية theological ethics وينسبونها إلى مصدر واحد هو الله، ومن هؤلاء نفرٌ يقررون أنّ مصدر القيم هو الإنسان، ولكنه لا يدركها لا بتأثير علاقته الروحية بالله، وأنّ الله قد جعل الخير والشر في طبائع الأشياء ليدركها العقل، فما يراه فيها العقل من خير أو شر هو ما فطرها الله عليه وعلى رأس هؤلاء کیر کجارد.

ويغلب على الفلاسفة القول بأنّ الإنسان هو واضع القيم الأخلاقية، وعلى رأس هؤلاء نيتشه، وكان يرى أنّ الفعل الأخلاقي لا يصدر إلّا ممن في استطاعته اتيانه، لأنّه فعل مسؤول وصادر عن ارادة حرة، ومن ثم فأصحاب القيم الأخلاقية هم الأقوياء الأعلون بنفوسهم. أمّا العبيد والمستضعفون فهؤلاء لهم أخلاق العبيد، وهي أخلاقُ من الاتضاع والزهد والمسكنة والتضحية فضائل .

أربعة مبادئ لفهم المصطلح

في مرحلة متأخرة من الأبحاث حول فلسفة الأخلاق ينطلق الفيلسوف الاسكتلندي ألسدير ماكنتاي من أربعة مبادئ وهو يؤسس نقدياً لما يسميه زمن ما بعد الفضيلة.

ص: 26


1- عبد المنعم الحفني موسوعة الفلسفة والفلاسفة، الجزء الأول ، مكتبة مدبولي القاهرة، 1999، ص 108

وهذه المبادئ تبدأ من زمن أرسطو إلى أزمنة ما بعد الحداثة. وهي على الشكل التالي:

- المبدأ الأول مبدأ سوسيولوجي مفاده أنّ المجتمع قبل الفرد، فالمجتمع يحتل مرتبة الأولوية في الواقع وفي الاعتبار، في حين يحتل الفرد المرتبة الثانوية.

- المبدأ الثاني مبدأ تاريخي وقد عنى أن الأخلاق تابعة للتاريخ أو لها علاقة بالتاريخ، فضائلها تتغير من زمن إلى زمن. فليس هناك فضائل أخلاقية مطلقة.

-المبدأ الثالث مبدأ غائي (Telos) أي إن للفضائل غايات ترمي إليها وليست بالأمور الاعتباطية المتروكة للفرد أو الأفراد ونزواتهم وتقلّباتها.

المبدأ الرابع مبدأ أخلاقي، وبالمعنى الدقيق، ومفاده، مصلحة المجتمع فوق كل مصلحة، وهو مبدأ أرسطو .

شكلت هذه المبادئ ما يشبه المطرقة النيتشوية التي نزل بها ماكنتاير على الفلسفات الفردية من أولها إلى آخرها، وبخاصة بعد إخفاق مشروع عصر التنوير (The Enligtenment) أيّما إخفاق، فحطمها تحطيماً. وفي هذا السياق يذكر المختصون على سبيل المثال لا الحصر، مذهب المنفعة (Utilitarianism) الذي وضعه جيرمي بنتام (Jeremy Bentham) والذي قال بالسعادة الكبرى للعدد الأكبر في كتابه: مبادئ الأخلاق والتشريع قاصداً العدد الأكبر من الأفراد. كما أذكر مذهب الفيلسوف الألماني كانط الذي قال بالواجب المطلق أو الأمر الأخلاقي المطلق الذي يجب أن يلتزم به الفرد. (1)

ولقد انقسم الفلاسفة بشأن وجود القيم إلى فريقين فريق الواقعين (ethical realism) الذين يقرون أنّ للقيم موضوعيّة ووجودًا ماديًا كوجود الكليات، وفريق الذاتيين (subjectivism ethical) الذين ينكرون أن يكون للقيم أي وجود موضوعي،

ص: 27


1- ألسدير ماكنتاي بعد الفضيلة، بحث في النظرية الأخلاقية، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2013 أنظر : مقدمة المترجم حيدر حاج اسماعيل ، ص 18

ولا ينسبون إليها الّا وجودا ذاتيًا. وكان أفلاون من أنصار الفريق الأول حيث جعل للمثل عالماً بذاته على رأسه الخير ، وهذه المثل ليست تصورات ذهنية، أي موجودة ،الذهن، ولكنها موجودات حقيقية وإن اختلف وجودها عن الوجود المادي للأشياء. ومن أنصاره في العصر الحديث نيقولا هارتمن، ويجعل لها وجوداً ندركه ادراكا وجدانياً مباشراً بالحدث، إلّا أنّه وجود ذاتي مثالي، حيث القيم الأخلاقية ترتبط بالذوات التي تحملها، وقيم الأشياء، ولا يرتبط السلوك الأخلاقي إلّا بالأشخاص، لأنّه لا يندر عليه إلّا الذوات التي لها إرادة وتفعل في حرية، وتترسم الغايات والمقاصد. ولا ينبغي أن نفهم أنّ هارتمن يقول بقيم نسبية، فالشجاعة عنده لا تتوقف على الشجاع، بل إنّ الشجاع صار شجاعاً لأنّه قد امتلأ بالشجاعة، ولذلك إنّ هارتمن من القائلين بالوجود المادي (material essence) للقيم الأخلاقية (1).

ومن جهة مبادئ الحياة الأخلاقية ينقسم الأخلاقيون إلى مذاهب شتى، أهمها المذهب العقلي في الأخلاق ethical rationalism كما هو عند سبينوزا وكانط مثلاً، وهؤلاء يستندون إلى العقل في تقرير الخير وقواعد السلوك؛ والمذهب الطبيعي في الأخلاق ethical naturalism ويحدد أصحابه معنى الخير بمفهوم طبيعي، فهو كل ما يؤدي إلى لذة (أبيقور وبنتام) أو إلى منفعة الناس (مل)؛ ومذهب العاطفة في الأخلاق ethics of sympathy (آدم سميث وشوبنهاور).

ويمجد أصحابه العاطفة سواء على صورتها الحيوية، أو على صورة التعاطف والمحبة، ويجعلون أساس الأخلاق ما نستحسنه أو نميل إليه؛ ومذهب الإرادة الأخلاقية ethical voluntarism (نيتشه) ويصف القائلون به الخير: بأنّه كل ما يعلي الإنسان شعوره بالقوة وإرادة القوة، والشر بأنّه كل ما يصدر عن ضعف، والحياة بأنّها نمو وزيادة في الاقتناء، ومن ثم فهي إرادة قوة (2).

ص: 28


1- الموسوعة المصدر السابق، ص 109
2- المصدر نفسه، ص 107

أخلاق الاستحسان Approbation of Ethics

مجموعة من النظريات المثالية في الأخلاق تقوم على فكرة أنّ الصواب هو ما يستحسنه المجتمع أو الدين أو الضمير. ويصف ليفي بريل الضمير الفردي والاجتماعي بأنّه مجموعة من العادات والأعراف التي تستحسنها المجتمعات خلال عملية تطورها التاريخي، ومن ثم يسميها وقائع اجتماعية، ويبنى عليها علماً يسميه علم الأعراف science of mores أو علم الآيين وتدور النظريات الدينية في الأخلاق عند بارت ونايبور وغيرهما على فكرة أنّ الله أعلم بصالح عباده، ومن ثم فإنّ ما يأمر به الله كان واجب الفعل، لأن مصدره الله، فيه صالح البشر. غير أنّ النوع الثالث من نظريات الاستحسان يجعل الإنسان نفسه هو مصدر الإلزام الخلقي بمجموعة من الأفكار تسمى نظريات الحس الخلقي moral sense theories تقول بوجود حس أو إحساس خلقي في الإنسان حيث تسعده أفعاله التي تتوجه إلى الخير العام، وتصرفه عن متابعة اللذة إلى ممارسة الواجب الاجتماعي. وفسر شافتسبري بهذا الحس الأخلاقي إعجابنا بالتضحية بذواتنا من دون طمع في مكافأة، أو خوف من عقاب. وأطلق جوزيف بتلر (1692 - 1752) على هذا الحس الأخلاقي اسم الضمير، وهو هنا ضمير فردي وليس ضميراً اجتماعياً، ووصفه بأنّه حدس الواجب intuition of duty ، وجعله المصدر السيكولوجي للأخلاق. وردّ آدم سميث (1723 - 1790) - الأخلاق في التحليل النهائي إلى مصدر واحد هو التعاطف مع الناس، ومن ثم أطلق على هذا الضرب من الأخلاق اسم أخلاق التعاطف ethics of sympathy. ودورها ديفيد هيوم (1711 – 1776) إلى أخلاق الاستحسان، حيث قال بوجود عاطفة استحسان sentiment of approbation، ووصف الصواب بأنه ما نستحسنه وما يعطينا اللذة العاجلة أو ما يؤدي إلى لذة آجلة، ووصف الفضائل بأنّها ما يجعل الإنسان مقبولاً أو مفيداً لنفسه وللآخرين. وكان آدم سميث يشترط أن لا يترك لكل شخص على حدة أمر البت فيما يجوز وما لا يجوز، وإلا كان ما نستحسنه مسألة شخصية، وعلى ذلك افترض شخصية مثالية كان يتمنى لو توجد ونسب إليها ما يمكن أن يحظى باستحسان الجميع، وقامت على هذه الشخصية المفترضة مجموعة

ص: 29

من الأفكار سُميت بنظريات المراقب المثالي ideal observer theories في الأخلاق. وبالرغم من أنّ هذه النظريات تحاول أن تنسب الأخلاق إلى مصدر موضوعي، إلّا أنّها تظل مع ذلك ذاتية الطابع، وإن كانت لا تعد من نظريات النزعة الذاتية الخاصة في الأخلاق ethical subjectivism. (1).

مهما يكن من أمر، فقد احتل مفهوم الأخلاق في عصر ما بعد الحداثة موقعه المتجدد في عالم المفاهيم. حيث يأخذ النقاش في الغرب مساحات واسعة وخصوصاً لجهة إعادة تعريف ماهية الأخلاق في ضوء التحولات التي يشهدها العالم المعاصر.

ص: 30


1- الموسوعة - المصدر نفسه - ص 111

فلسفة القيمة .. معناها ودلالاتها من سقراط إلى أزمنة الحداثة

جميل قاسم (1)

ترجع فلسفة أو علم القيم (القيمة) أو نظرية القيم إلى كلمة أكسيوس axios اليونانية، وتدل على ما هو «قيم» أو «ثمين» أو «جديد»، والإكسيولوجيا axiology هو العلم الذي يبحث في ما هو «قيم» و «ثمين» و «جديد»، وتكون الفلسفة المتصلة به فلسفة القيم values Philosophy of أو نظرية القيم، أو القيمة.

ويعرّف العلامة المصري عادل العوا القيمة بأنّها «كل ما له شأو في التصور وفي الفعل لدى أفراد وجماعات»(2). وكلمة شأو، باللغة العربية، تعني القيمة «الجدارة»، «الكمال» «الوزن» و«السعر» و «القدرة» و«الطاقة». والقيمة، مشتقة من القوام أي «العدل» وحسن الطول، وحسن القامة، وهي تعني في اللغة القدر، وقوم السلعة أي قدّرها، وفي القرآن الكريم (فيها كتب قيمة) (3)، أي مستقيمة، تبين الحق من الباطل على استقراء وبرهان. وقوام كل شيء، ما استقام به، وقوام العيش: عماده، وقوام الجسم: تمامه. والتقويم: عملية التفضيل والترجيح، والشيء الراجح، في اللغة العربية، هو الوازن، والتفاضل بين القوم هو أن يكون بعضهم أفضل من بعض (4).

ص: 31


1- أستاذ الفلسفة وعلم الجمال في الجامعة اللبنانية، مؤدى هذا البحث الوقوف على فلسفة القيمة من خلال التعريف الاصطلاحي واللغوي وكذلك من خلال موقعها في الحقل المعرفي الغربي. ثم ينتقل إلى عرض السجال الذي دار حولها من زاوية نقديّة تبدأ من التأسيس الإغريقي لفلسفة الأخلاق وصولاً إلى أزمنة الحداثة وما بعدها. المحرر
2- العوا، عادل العمدة في فلسفة القيم، دار طلاس، دمشق 1986، ص42
3- سورة البينة، الآية 3
4- ابن منظور، لسان العرب مادة، قيمة، رجّح، فضّل

والقيمة عند فردريك نيتشه تعني جينالوجية القيمة أي تقييم القيمة، أو إعادة تقييم القيمة، بحثاً عن بعدها الدلالي، لا العباري وحسب.

والقيمة في الفكر الحديث طراز من التفكير الفلسفي يراد تسميته بصيغة علم مستحدث تدل عليه كلمة إكسيولوجيا axiologie .

رأى لولي لافيل Lavelle)، «إننا نشعر أحياناً بأنّ مشكلة القيمة مشكلة جديدة، ولكن ليس من جديد سوى الاسم، وفي أيامنا في وسعنا إقامة علم مستقل نطلق عليه اسم الأكسيولوجيا» (1).

أما العوّا فيذهب إلى القول: «إن مفهوم القيمة هو نشاط ذهني يتصور أمراً ذا شأن ويسميه قيمة، وهذا التصور الفكري متصل أشد الاتصال بالفعل، وما الفعل الواعي إلّا استبصار واختيار، ونحن ما أن نتخذ قرارا بتفضيل إمكان على إمكان حتى يتم صنع الفكر ، أي : صنع اختيار القيمة وتحديدها(2) ، وإذا رجعنا إلى الاشتقاق اللغوي لهذا الاسم «أكسيولوجيا» في أصله الإغريقي لوجدناه يدل على ما هو «ثمين» أو جدير بالثقة، وهذا يعني أن الإكسيولوجيا علم يبحث في ما هو ثمنين بتقدير قيمته، وتكون الفلسفة المتصلة به فلسفة قيم أو نظرية قيم. ويضيف: إنّ الفكر ليطرح مشكلة القيمة منذ أن يتساءل عن شأن الوجود وقيمته (3).

إن كل نظرة ممعنة في تاريخ الفكر الفلسفي توضح أن كل فلسفة تنطوي على مسعى قيمي ولكن مشكلة القيمة لم تطرح بصورة منعزلة عن سواها إلّا في العصر الحديث، حين حرص الباحثون على استغلال مشكلة القيمة دون سائر المشكلات الفلسفية والميتافيزيائية المحضة، بل والنظر إلى هذه المشكلات الميتافيزيائة ذاتها من وجهة نظر قيمية.

كذلك لم ينفكّ الباحثون عن مسعاهم للإحاطة بمشكلة القيمة في علاقتها بالحاجات الإنسانية، سواء اتصلت بمجال الحياة الاقتصادية، أو العاطفية، أو

ص: 32


1- العوا، مرجع سابق ص44
2- العوا العمدة، مرجع سابق، ص 44
3- العوا، العمدة، مرجع سابق، ص 45

العقلية، أو الأخلاقية، أو الروحية، أو السياسية أو التربوية أو الفنية.

إن ذيوع أفهوم الإكسيولوجيا، اليوم، يتيح لنا القول «في البدء كانت القيمة»، وهكذا ما فتئت الفلسفة تنزل القيمة منزلة الصدارة من حيث اهتمامها الفعلي، وإن كان علم الإكسيولوجيا حديثاً، كعلم للقيمة(1).

ولأن الفلاسفة أخذوا يقربون الكائن من الكمال، وبدا البحث في قرب الكائن من الكمال أو بعده عنه منطلق تفاؤل أو تشاؤوم.

وكان كمال الكائن فى نظر أرسطو يتمثل فى «صورته» فى علاقة المادة بالصورة، وهذه الصورة تسوغ وجود الكائن أي هو أمرٌ يجعل الشيء مرغوباً به أو مراراً.

والكمال، في هذا المعنى، خاصة حيادية، أو حال إنجاز، وترجيح وتفضيل.

والثابت أن الفلسفات الكبرى، تتكشف عن أنّها فلسفات قيمة ما دامت تدّعي تقديم قواعد للفكر ذاته وقواعد للعمل والسلوك، وتقيم تسلسلاً قيمياً بين مختلف أشكال الكائن، كما أنّها تسعى لإقامة هذا التسلسل القيمي على مستوى الحكمة، أي الفعل التأملي المسؤول.

وتنفرد فلسفة القيم والتفكير القيمي بإتاحة الفرصة أمام العقل الإنساني، كيما يضفي على الحياة والوجود معنى قيمياً.

وقد شبه شارل لالو ch. lalo دور القيمة في الفكر الحديث بفكرة «الطاقة» أو فكرة «القوة» في العلم الحديث (2).

والقوة بالمعنى النيتشوي، هي إرادة القوة المقومة للأشياء والموضوعات، وهي قوة أو طاقة جينالوجية (تقويمية) يتعذر تحديدها كقوة، أو طاقة، إلاّ من خلال ظواهريتها (الظواهر ذاتها) أي من حيث تأثيرها في نشاط الأفراد، والجماعات، في تطورها التاريخي والانطولوجي.

والقيمة هي قوة وطاقة استحضار واستبصار خلاقة، أي خالقة للقيم.

ص: 33


1- العوا، العمدة، مرجع سابق، ص45
2- شارل للالو، الفن والأخلاق، ترجمة د. عادل العوا، دمشق، 1970، ص 120

ويذهب ريمون رويه Ruyer .R إلى أن القيمة هي التي تفسر القوى المرئية (واللامرئية) (1).

نشأة فلسفة القيم:

يمكن الكلام على ثلاث مراحل كبرى في تطور الفكر البشري. وهذه المراحل تطابق ثالوث أقسام التاريخ السياسي المدرسية وهي : «العصر القديم» وينتهي بنشأة الفكر الفلسفي في اليونان وقد كانت نهايته في العام ،529م ، عندما أغلق الإمبراطور جوستيبان مدرسة أثينا وشتت شمل ممثلي المذهب الأفلاطوني - الجديد، ثم رحلة «العصر الوسيط ويليها «عصر النهضة» وفيه ازدهرت الفلسفة العربية بوجه خاص، وكان من انتقالها إلى أوروبا الإسهام في نشأة النهضة وتحقق الانبعاث في الغرب، وما تلاه ذلك من تطور فكري ميز «العصر الحديث» في القرن السابع عشر حتى اليوم(2).

أ- العصر اليوناني:

عني الفكر اليوناني بالكائن من حيث هو كائن، وبالوجود من حيث هو موجود، وقد بلغ البحث عن الكائن أوجه في الأفلاطونية التي تنادي بأنّ سبب الوجود هو الخير (أو القيمة) . وتضم فكرة الخير المطلق فكرتي الحق المطلق والجمال المطلق، أمّا الكائنات الأخرى فهي ظلال متفاضلة لهذا الثالوث «الإلهي»(3).

ومقابل أفلاطون «الإلهي» الذي يرى أن المثل الأعلى أو الله، مقياس الأشياء كلها، وهو قيمة القيم. نجد بروتاغوراس «الإنساني» يرى بأنّ «لكل إنسان حقيقته» وبأن للقيمة بذاتها واقعاً ذاتيًا، وليست كامنة في المثل الأعلى. ومن ثمَّ فالإنسان هو معيار كل شيء .

كما يرى أن بروتاغوراس هو أول من تجرّأ على إخضاع الإنسان للحقيقة والقيمة

ص: 34


1- العوا، العمدة، مرجع سابق، ص 50
2- العوا العدة، مرجع سابق، ص 56
3- العوا العمدة، مرجع سابق ص58

باعتباره «مقياس الأشياء كلها» ولكنه يرى بأنّ صيغة بروتاغوراس تحفل بالإبهام (1).

لقد حاول سقراط الوصول إلى ربط القيمة بالمنفعة باعتبار القيمة سمة كلية معيارها الإنسان.

أما أفلاطون فقد اهتم بتعميق محاولة سقراط، من خلال ربط الكائن بالقيمة بالمثل الأخلاقي الأعلى، باعتبار أن جميع الموجودات تستمد وجودها وماهيتها من الخير الأعلى، وهي فضيلة التشبه بالله.

وخلافاً لسابقيه فقد اعتمد أرسطو على ثنائية المادة والصورة بدل ثنائية القيمة والواقع. ورأى أن القيمة متجسدة في الواقع تجسد الصورة في الهيولى وأن تحقق القيمة هو إنتاج الطبيعة ذاتها بذاتها.

عند أرسطو أن للمادة وجودًا بالقوة يصبح وجودًا بالفعل ناجماً عن اجتذاب الصورة المادة. خاصة وأن التسلسل الطبيعي لمختلف صور الوجود ينتهي في التأمل أو الخير ،المحض، أو الكمال، وبه تتحد النفس البشرية بالعقل الإلهي ، وتسهم في حياة الخلود لأن الله سعيد بذاته، وهو في وقت واحد عقل صرف وفعل صرف ويجعل أوستيب القورينائي - متأثراً بتعليم سقراط، من الوجود والخير الأقصى على معيار أو غاية للذة ،الحسية شرط أن تكون اللذة فاضلة.

وقد انازت فلسفة ابيقور النظرية باعتبارها اللذة التي تقوم على الحكمة، والحكمة اقتصادًا في اللذة أو لذة فاضلة. وشهدت النزعة الحسية أوج تطرفها مع الديونيسية الغريزية التي تعدّ اللذة لذة جسدية، وذوقية كلية: خمر، ومال وجنس (النزعة الكلبية - السوقية Cinique التي تقوم على إشباع الغرائز الحسية.

و في الفترة الهلينتسية حاول افلوطين التوفيق في نظريته للواحد، بين اليونان والمسيحية فرأى أن القيمة هي ينبوع حياة النفس والمبدأ المشترك بين المعرفة والوجود، بإخضاع الروح للفكر أو المثل الأعلى.

ص: 35


1- العوا العمدة، مرجع سابق ص67

ب - القيمة في العصر الوسيط

لقد شهد العصر الوسيط، المسيحي، إحلال «الشخص» محل الكائن. وفي ظل النظام اللاهوتي أو الديني السائد في العصر الوسيط، صار من المتعذر بلوغ الكائن إلا من حيث صلته بالشخص (الأنا) وخضعت الأنا لتراتبية المنظور اللاهوتي المسيحي، حيث المادة الأدنى، ثم الجسد والروح، المثال الأعلى في ثالوث اللاهوت المقدس، من ذروة الله، إلى حضيض العدم.

أما المسيحية فقد ألحقت على فكرة الإله - الإنسان المجسد الوسيط للقيمة في الوجود، باعتبار أن الله ذاته شخص وأنه يقتضي أن يعيش خلقه كافة حياة شخصية باتحاد معه ولا تكون الحياة سوى الوسط الذي يتم فيه هذا الاتحاد(1). وبناء على إناطة الاتحاد باللطف الإلهي باتت القيمة كلها قيمة دينية. وبهذا تكون قد خرجت عن المفهوم الفلسفي - العقلي للقيمة نحو منظور لاهوتي.

ج- القيمة في العصر الحديث

وفي العصر الحديث (عصر النهضة والأنوار) تنوس فلسفة القيمة بين الوضعية (بيكون) والمثالية العقلية (ديكارت) وتغدو القيمة مماثلة في السيطرة على الطبيعة والواقع في قواعد الفكر والسلوك.

وفي هذا العصر ثار ديكارت على فلسفة العصر الوسيط ورأى أن لا نهائية الكائن وكمال القيمة لا ينفصلان. ولقد ميّز ديكارت بين قرابة خمسة وأربعين لونّا من ألوان الهوى، يمكن إرجاعها إلى ستة أنواع رئيسية : هي الرغبة (الشهوة) اللذة والتألم والدهشة (أو الإعجاب) والحب، والكره. وفي وسع الإرادة أن تغير موضوع الهوى بأنّ تربط بين الأفكار بحيث يتمكن الإنسان من تغلب الأهواء المشروعة، أي أنواع اللذات والرغبات المعتدلة.

ورأى ديكارت أن كل لذة ينبغي أن تقاس بحسب قاعدة العقل ولما كان الخير

ص: 36


1- العوا، العمدة، م، س ، ص 73-74

الأسمى معرفة الحقيقة (أنا أفكر إذن أنا موجود) فإنّ الخير لا يمكن أن يتجلى إلاّ على الوجه العقلي، لأن من كمالنا نملكه. وبأنّ، القيمة تقوم على الذات المفكرة (الكوجيتو).

تخطى باسكال، جفاف العقل الديكارتي ويميز ما يسميه (نظام القلب) في ضمن ثالوث أنظمة هي نظام الأجسام ونظام العقول ونظام الإحسان. يقول باسكال: «إن جميع الأجسام، السماء، والنجوم، والأرض وممالكها، لا تساوي أدنى فكر. لأن الفكر يعم ذلك كله، ويعلم ذاته، والأجسام لا تعلم شيئًا. وأن الأجسام جميعًا، والعقول جميعًا، وجميع ما تنتج ، كل ذلك لا يساوي أدنى حركة من حركات المحبة، فالمحبة ترجع إلى نظام أرقى بما لا نهاية له.

وذهب سبيوزا إلى أن لا نهائية الكائن تستغرق كمال القيمة، بالرغم من أن القيمة تتصل بالحكمة والمعرفة. ورأى بأنّ القيمة هي قيمة مدنية كاملة.

واشتهر ليبنتز بتفاؤله المذهبي، ووجد أن فكرة الأفضل أو الأبدع هي وحدها القادرة على ربط الماهيات بعالم الموجودات.

وإذا كان عالمنا أفضل العوالم فذلك لأنّه ليس في الإمكان مما كان، لأن للقيمة في هذا العالم فاعلية أو فعل دينامي. وقد أكد ليبنتز أن العقل الإلهي عقل الحاسوب الأعظم، الذي يتصور سلفًا الممكنات كلها، وليس لهذا التصور معنى إلّا بالنسبة للاختيار الذي ستقوم به تلك الإرادة المبدعة التي لا تقرر إلا باختيار الأفضل.

وعلى هذا فإنّ ليبنتز يقرر تضامن القيمة والإمكان، في علاقة النسبي بالمطلق في منهجه المونادولوجي الذري المطلق.

تأويلية كانط للقيمة

كانط فيلسوف العقل قال بالعقل الذي هو عقلان نظري وعملي وميز بينهما من حيث الاهتمام والوظيفة والمجال. فعنده أن العقل النظري يتناول شؤون العلم

ص: 37

والمعرفة. أمّا العقل العملي فإنّه يتناول الجانب العملي.

تتجلى وظيفة هذا العقل العملي في توجيه أعمالنا وأفعالنا، ويتم ذلك على نحوين: فإما أن يفيد العقل العملي من معطيات التجربة ويدرك علاقات الحوادث بعضها ببعض بغية استثمار ارتباطها وتعاقبها وتحقيق هدف ما عندما تتوافر شروطه وأسبابه، أو عقل عملي محض ينص على أن القيمة الأخلاقية العليا هي ضرورة إطاعة الواجب لأنّه واجب، وأياً كان مادته، وسواء أكانت هذه المادة سارة أو مؤلمة، وهذا العقل العملي المحض هو في نظر كانط الوجدان الأخلاقي الصحيح، والقيمة الصحيحة.

وقد أبرز كانط مفهومي الجدارة والقيمة كمقومين لفلسفيته الأخلاقية، باعتبار أن جدارة الإنسان وأهميته تمثلان معيار القيمة والأخلاق.

إن مفهوم القيمة لايزم مفهوم الشخص الإنساني، على وفق قاعدة كانطية شهيرة: اعمل دائماً، على نحو تعدّبه الشخص الإنساني في نفسك وفي الآخرين غاية لا واسطة.

واعتبر أن للكائن العاقل كرامة، وهذه الكرامة تميزه عن سائر الكائنات التي ليس لها في ذاتها غاية، كالآلة والحيوان وغيرها من الوسائل، أمّا الكائنات العاقلة فغايتها في ذاتها (1).

وفي مجال الدين يتميز كانط برفضه الادعاء بأنّ الدين أساس الأخلاق وقوله على العكس إن الأخلاق أساس الدين، بل إنّ الدين هو نفسه أخلاقية Moralitat، وهو أمرٌ الذي ناهضته فيما بعد البراغماتية وكان له أثر كبير على تطور القيم وتوظيفها مادياً ومصلحياً.

وقد وافقه هيجل حيث اعتبر الدين قضية ،أخلاقية والقيمة الأخلاقية قيمة عقلية كلية. وقد وحد هيجل العقل بالموجود باعتبار كل موجود معقول، وكل معقول موجود في الجدل الديالكتيكي الكلي.

ص: 38


1- انظر: إيمانويل كانط في كتابيه المرجعين: «نقط العقل المحض» و «نقد العقلي العملي»

وهكذا فقد انبنى التصور الهيجلي على فكرة «الوعي الشقي» الذي تقوم عليه الأخلاق المسيحية اللاهوتية، وهو منظور يقوم على الاستلاب والاغتراب الإنساني.

وإذ يبدو جدل هيجل أساساً للجدل، الذي يقود إلى الفكر المثالي، أو (الروح) فإنّ ماركس، في تبنيه للجدل الهيجلي (جدل الطريحة والنقيضة والجمعية) يرى أن للعالم المادي، وجوداً موضوعياً مستقلاً عن الوعي في ثنائية - وجدلية - الوعي والمادة، أمّا القيمة بالمفهوم الماركسي فهي قيمة اقتصادية، تقوم على العامل الاقتصادي أو القيمة الاقتصادية كمقوم لكل قيمة أخلاقية، وجمالية وحقوقية.

وصفوة القول إن مفهوم القيمة بدا كأنه إعراب عن مثل أعلى إنساني، مختلفاً بذلك عن مفكري العصر القديم، وإذ رأوا أن الفلسفة هي التي تحدد مكانته في إطار النظام الطبيعي، وهو أمرٌ نشأ في اعتقاد هؤلاء بأنّ على المرء أن يحيا بحسب الطبيعة.

ونظر الفكر اليوناني «اللوغرقراطي» إلى الإنسان بما هو موجود، في علاقة العقل بالموجود، والخير بالقيمة، في عالم المثل (أفلاطون) أو عالم المادة والصورة (أرسطو).

و خرج بروتاغوراس على المفهوم الميتافيزيقي باعتبار «الإنسان معيار كل شيء» باعتبار أن لكل امرئ حقيقة.

وحلت الكلمة المسيحية محل اللوغوس الهليني، وتوحد بها، وأصبحت القيمة لاهوتية.

وفي عصر النهضة، وهو الذي يعني «البعث» الإغريقي عاد عصر النهضة إلى مفهوم الإنسان، والعقل (اللوغوس) ليحل نظام أنطولوجي جديد - إنساني، بدل النظام اللاهوتي.

ولم يقل التأثير الكبير الذي أحدثته المسيحية من قبل، في منظور الفكر الفلسفي القديم.

ص: 39

وفي العصر الحديث اكتشف الإنسان تعذر بلوغه الكائن إلّا من حيث علاقته بالأنا (الفاعل) ، ولم يعد الكائن مركز البحث بل المعرفة، وتشوق الفكر الحديث إلى امتلاك الطبيعة والسيطرة عليه، وما فتئ هذا الفكر ينوس في إطار المعرفة بين ضروب الوضعية والمثالية بحسب الحافه التماس الموضوع ، والسيطرة عليه باستثمار معرفة قوانينه، أمّا القيمة فإنّها تتمثل في ممارسة هذه السيطرة، وهي تتحقق بالعمل العقلي في المجال النظري، وبالفعل الأخلاقي في المجال العملي، ويجد الإنسان في فكره ذاته القدرة الخلاقة في السيطرة على الطبيعة قوانينها من قبل أن تملي عليه مشيئتها باستعمالها.

دلالة القيمة ومغزاها

هو إذاً، التطور العام لفكرة القيمة في العصور القديمة والوسطى والحديثة.

ما مغزى ودلالة القيمة : قد يرى بعضهم القيمة في الكمال، أو الجمال، أو الحق، أو الحقيقة، أو الجدة، أو الاستقامة أو الثبات أو الثبوتية، وقد تكون القيمة ذات معنى علمي، كنظرية الجاذبية، أو نظرية التطور، أو نظرية النسبية، فيقال عنها نظريات قيمة ؟ ! ، أو على العكس، فقد تكون القيمة لاهوتية، يقوم فيها مغزى الخير والحق والجمال على أساس ديني (لاهوتي) كمفهوم الدين القيم ، القرآن الكريم (و ذلك دين القيمة) و «فيها كتب قيمة» (البينة، الآية 8) .

وقد يكون للقيمة معنى جمالي (فني) فيقال عن العمل الفني بأنه عمل قيّم كالموناليزا في الرسم، والإهرامات في فن الهندسة، وأبي الهول (السفينكس) في فن النحت، وبرج ايفل في فن العمارة الحديدية، والأعمال الفنية الانطباعية، والتعبيرية، والتكعيبية والتجريدية والتجريبية الخ، أعمالاً قيمة.

وقد تكون القيمة ذات مغزى علمي كاكتشاف علم الميكانيكا، والثورة المعلوماتية، وعلم الجينوم، ويقال عن هذه الاكتشافات بأنّها قيمة.

وقد يكون للاقتصاد دور في ترسيخ القيمة ،والمعنى كنظريات التبادل، والإنتاج والتوزيع والتراكم وفائض القيمة ورأس المال فيقال عن هذه المصطلحات بأنه

ص: 40

مفاهيم قيمة لا نعلم من دونها دورة الحياة الاقتصادية الحديثة والمعاصرة.

وقد يكون للقيمة معنى سياسي، كتعريف أرسطو لأنظمة الحكم، الملكية، والديمقراطية، والبلوتوقراطية، والأوليغارشية في علم السياسة، ويقال عن هذه النظريات بأنّها قيّمة وهامة.

وقد يكون ثمة استعمال سيكولوجي للقيمة، فيقال أن نظرية «اللاوعي» الفرويدية قد أحدثت قطيعة أبستمولوجية في مجال القيمة السيكولوجية، وقد يضاف بأنّ نظريات علم النفس الفردي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الشكل الكلي (الجشطالت) هي نظريات قيمة وهامة.

وقد تضاف القيمة إلى كل إنجاز علمي، ورياضي وفولكوري، وانتربولوجي الخ.

وترتبط القيمة أيضاً بالأخلاق، تبعاً لاستخدام لفظ القيمة في محال فلسفة «الخير» في علاقة فلسفة القيمة بالحاجات الإنسانية والميول، والرغبات، والأمنيات، والخلاص والدين والدينونة والوجود في العالم والعالم الآخر، سواء اتصلت بالحياة والموت والاقتصاد والاعتقاد، والشؤون الروحية والسياسية والتربوية والجمالية.

وتتجلى فلسفة القيم على نحو «ذاتي» على صفة ما يقدره إنسان ما (قيمة ذاتية) أو نحو اجتماعي، أو جماعي، أو قانوني (قيمة موضوعية).

القيمة الذاتية يطلبها الناس كوسيلة لتحقيق غاية ذاتية، باختلاف الأفراد، وحاجاتهم، واختلاف الفئات الثقافية والطبقية، فقيمة السيارة مرهونة بما تؤديه من خدمات، لكن نوع و (موديل) السيارة، وثمنها قد تؤشر إلى قيمة خارجية «تدل على الغنى والموقع الاجتماعي، والطبقة الاجتماعية.

أما القيمة الموضوعية، فلا تتحدد بزمان ولا مكان ولا درجة أو طبقة، أو غني أو فقير، كالموت والحياة، والعلم، والارتقاء، والتطور، والعقل، وهنا قد يكون الفقير

ص: 41

بالمال غنياً بالعلم، كقيمة، وقد يكون الوضيع بالحسب والنسب عالماً ورائداً في العالم، وقد يكون الأمي رياضياً فذّاً (الملك بيليه في كرة القدم) وقد يكون العبد فارساً، وشاعراً مفوّهاً (عنترة) وقد يكون الأعمى أديباً (أبو العلاء، طه حسين).

والقيمة رغم ذلك، ليست بديهية، وقد رأى نيتشه في العصر الحديث أن القيمة تفاضلية (في ما يتعدى الخير والشر) تقوم على الرغبة، وإرادة القوة والسيادة والعبودية (أخلاقية الأسياد وأخلاقية العبيد).

وحتى بالمعنى السيكولوجي فإنّ القيم ترتبط بالعقل، والرغبة، والذوق والغريزة. وعلى سبيل المثال، فأنواع الطعام والرداء، واللحن والموسيقى ليست متطابقة، بل متفاضلة differencial فقد يكون لها قيمة عند فرد، ولا يكون لها القيمة ذاتها عند فرد آخر، وقد تثير الاشمئزاز والكراهية عند فرد ثالث من هنا الاختلاف باختلاف الأفراد، والجماعات والزمان والمكان والظروف والأحوال، مما يؤكد على الطابع النسبي للقيمة، وقد يكون للقيمة معنى حدّي hedomic كما يقول سبينوزا بهذا الصدد «نحن لا نرغب في شيء لأنّه قيم، بل إنّه قيم لأننا نرغب فيه».

ویریى رينيه جيرار أن المحاكاة بين البشر تقوم على الرغبة بالاستحواذ على «الملكية» وهذه الرغبة من طبيعة نزاعية تقوم على الرغبة بالاستحواذ على ما يملكه الآخر بنوع من الهيمنة والتسلط والحسد والغيرة، والرغبة بتحقيق الذات التيمولوجية (التيموس)، وهي تأخذ شكلين سلبي وإيجابي (تحقيق الذات، بالمعنى الإيجابي، وتحقيق الذات من أجل الهيمنة على الذوات الأخرى، بالمعنى السلبي) (1).

وقد يعتقد المرء بأنّ القيم كونية، بدأت مع شريعة حمورابي، مروراً بأديان التوحيد الكبرى التي تنص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والبغي (لا تقتل، ولا تزن لا تسرق لا تعامل الآخرين بما لا تحب أن يعاملوك به، التقوى الإيمان، ولكن العصر الحديث في الغرب يعد القيم وجودية (لا دينية ولاهوتية) وتقدم الوجودية الذات والذاتية الإنسانية على الذات والذاتية الإلهية

ص: 42


1- انظر: رينيه جيرار، المقدس والعنف، دار الحصاد، ط1، دمشق، 2002، ص 75

(في فصل الوجود عن الماهية واعتبار الإنسان معيار ومناط القيمة والمعنى (فلسفة الإنسان الأعلى).

والقيم المرادفة للوجودية في العصر الحديث هي القيم الليبرالية، القائمة على مفهوم الحرية والمنفعة والمصلحة بالمعنى الاقتصادي، ويقابلها الاشتراكية، كنظرية تؤكد على أن المنفعة والمصلحة بالمعنى الاقتصادي ينبغي أن تكون اجتماعية (اشتراكية) وليست فردية.

وثمة معان موضوعية للقيمة، بالمعنى القانوني والحقوقي، وهي معان ضرورية، ودائمة (ولكنها قابلة للتعديل) تتخطى الأهواء الفردية ولا تتبدل بتبدل الأهواء والرغبات الذاتية.

وفي هذا الإطار يرى برتراند راسل أن عمومية القيم تعني الذاتية والموضوعية في آن معاً، فالقيم ذاتية من حيث هي صادرة عن الذات (الإنسانية) وموضوعية من حيث أنّها ملتقى الناس جمعياً، في علاقة الواقع بالمثل الأعلى.

طبيعة وتصنيف القيم:

وتصنف القيم، على الجملة إلى :

قيم نظرية، تقوم على نظرية المعرفة والحقيقة - لذاتها (على أساس ميتافيزيقي، وأنطولوجي، ومنطقي) كالقول بأنّ الخير هو العدل، أو الكمال، أو الاستقامة).

قيم مثالية: كالقول مع أفلاطون بأنّ القيمة العليا هي مثال المثل أو القول بأنّ القيمة الأخلاقية مناطها الفضيلة، وتعرف بما ينبغي عمله بناء على الوازع (العقلي) وهو موقف أرسطو في مؤلفه الأخلاق «إلى نيقوماخوس» وكتاب «السياسة».

وقد تقوم القيمة في العصور القيمة الحديثة على العمل (ماركس وماكس فيبر) أو الإرادة (نيتشه) أو المعرفة (العلم) أو القيمة الجمالية، وهو موقف يرى بناء على أسس جمالية وفنية مناطها حاسة الذوق الجمالية وهو موضوع تفاضلي بامتياز، أو

ص: 43

القيمة الدينية واللاهوتية، وهو يرى الذي يرى بأنّ معيار الخير والحق والجمال هو الله، والتقوى، والإيمان بالله، والخلص الروحي، والثواب والعقاب، واليوم الآخر والقيامة الخ.

ولا ننسى البيئة، والفلسفة الأيكولوجية، التي تعد الحفاظ على البيئة والمجال الحيوي غاية الأخلاق.

وأخيراً - لا آخراً - الفلسفة النباتية، التي تجد أن أصل الشر في العنف - ضد الإنسان والحيوان، وأن سقوط الإنسان في العالم Direlection بدأ مع تراجيدية القتل الأخوي Fratricide (قابيل وهابيل) وتحول الإنسان، بسقوطه في العالم مع الطبيعة الملائكية إلى الطبيعة الحيوانية، وأن العودة إلى الأخلاق المثلى (الطبيعية) تكون بعودة الإنسان النباتي (أصلاً) إلى الطبيعة وتحوله إلى إنسان أعلى - أو إنسان كامل (ملائكي) في تخلّصه من عادة سفك الدماء واعتماد النظام الغذائي الطبيعي، والصحي، النباتية.

ص: 44

الأخلاق المِعياريّة

سبيلٌ لم يُطرق في مجال البحوث الأخلاقيّة الإسلاميّة

تأليف محمد مطهّري فريماني (1)

تعريب (دار الترجمة الأمير محمد جمعة (2))

الخلاصة

هناك طريقٌ لم يُطرق بعدُ في مجال البحوث الأخلاقيّة، ولهذا الطريق آثارٌ عميقةً في تصرّفات الفرد، ويمُكن أن يُسمّى هذا الطريق ب_«الأخلاق المعياريّة» الذي لا نجد شيئًا عنه في ميراثنا الأخلاقي سوى بعض الإشارات، وتسعى الأخلاق المعياريّة لأن تضع بين يدي الفرد «تقريرًا أخلاقيّاً فِعليّاً عنه» ، وأن تُوفّر له المعايير التي يتمكّن بمساعدتها من اختبار نفسه فيرى أنّه يمتلك مثلاً خُلقًا حسنًا كالصدق أو أنّه بريءٌ من خُلقٌ سيءٍ كالحسد، ولا تكتفي بذلك وحسب بل تجعله مُطّلعاً على وضعه الأخلاقي العامّ والكلّي أيضًا، وبعض آيات القرآن وكذلك الروايات تلفتُ نظر الإنسان إلى الأمور الأخلاقيّة من هذا الاتجاه، ولكن مع ذلك نجد بأنّه لم يكن هناك تركيزٌ على الأخلاق المعياريّة كفرعٍ مستقل في الأخلاق، ويسعى هذا البحث إلى تبيين منزلة الأخلاق المعياريّة وخصائصها والتحدّيات التي يواجهها البحث في هذا الباب.

الكلمات المفتاحيّة : الأخلاق الإسلاميّة، الأخلاق المعياريّة، التقرير الأخلاقي، الفضائل النفسيّة، الرذائل النفسيّة.

ص: 45


1- أستاذٌ مساعدٌ في مؤسّسة الإمام الخميني (ره) للتعليم والأبحاث. muhammadmotahari@gmail.com
2- أستاذٌ في الحوزة العلميّة في قمّ، حائزٌ على ليسانس في الحقوق من الجامعة اللبنانيّة

مُقدّمة

قلّما يصرف شخصٌ وقته في المطالعة الدقيقة للإرث الأخلاقي الإسلامي المكتوب، ومع ذلك لا يُبدي إعجابه بالأمور الدقيقة والعميقة التي فيه، ومع ذلك نرى بأنّ هناك حلقةً مفقودةً تُقلّل من أثر هذه البُحوث الأخلاقيّة، بحيث لو وُجدت لأمكنها أن تُشكّل حلقة وصلٍ قريبة بين المحتوى الصافي للكتب الأخلاقيّة وبين المتلهّفين لامتلاك القدرة الفعّالة لذلك الإرث القيّم، وإذا لم تتوفّر هذه الحلقة لإيصال هذا الماء الزلال إلى المتعطّشين للأخلاق الإلهيّة في المجتمع الفكري، فهناك أشخاصٌ عديدون سيذهبون وراء الأخلاق التي هي من صُنع أنفسهم ولا أساس لها، وستتكرّر قصّة الماء الملوّث كما يصطلح عليه العرفان الحديث النشأة - والذي جذب إليه باسم العرفان الأصيل عددا من الشباب - وسيتكرّر ذلك في باب الأخلاق أيضًا.

ويمُكن أن تُسمّى هذه الحلقة المفقودة - أو بتعبيرٍ آخر : الطريقُ غير المطروقة في البحوث الأخلاقيّة - «الأخلاق المعياريّة»، تلك الأخلاق التي تُبرز الوضع الأخلاقي الفعلي لأيّ فردٍ من خلال توفير المعايير ، ويمُكن استلهام هذه النظرة المعياريّة في الأخلاق - كما سنستدلّ على ذلك لاحقًا - من القرآن وروايات المعصومين عليهم السلام، ورغم أنّ بحث المعيار قد طُرح في مواطن مختلفة في فلسفة الأخلاق، ومن ضمنها في البحث عن معيار الفعل الأخلاقي، إلّا أنّ «الأخلاق المعياريّة» الذي تسعى هذه المقالة إلى بيانه له ماهيّةٌ مختلفة.

من خلال هذه المقدّمة، سيتّضح الشوط أو الأشواط التي ينبغي لهذه المقالة أن تقطعها من أجل أن تُثبت المدّعى بل الدعاوى التي ليست بصغيرة، فسنوضّح في البداية وبنحوٍ مجملٍ المراد من «الأخلاق المعياريّة»، ثمّ سنبحث لماذا لم تحز الأخلاق المعياريّة على تركيز علماء الأخلاق بنحوٍ مستقلٍّ، وفي الخطوة التالية، سنتعرّض لأهميّة المنهج المعياري، وسنُشير إلى عناية القرآن وبعض الأحاديث بهذا المنهج، وبعد الفراغ من القسم الأوّل الذي خُصّص لتعريف الأخلاق المعياريّة ومنزلته، سننتقل إلى القسم الثاني، حيث سنتعرّض هناك إلى التحدّيات التي تواجه

ص: 46

الأخلاق المعياريّة، وفي هذا القسم سنبحث في الإشكالات التي يمُكن أن تُطرح حول كلِّ من إمكانيّة الأخلاق المعياريّة ومطلوبيّتها وضرورتها . أمّا الآن فسنبدأ بحثنا عن ماهيّة الأخلاق المعياريّة.

القسم الأوّل: ماهيّة الأخلاق المعياريّة ومنزلتها

1. ماهيّة الأخلاق المعياريّة

عند مطالعة كتب الأخلاق الإسلاميّة، يُواجه القارئ مراراً وتكرارًا المواضيع التي من قبيل: «تعريف الأخلاق» و«شرفُ عِلم الأخلاق» و«فائدة الأخلاق» و«أنواع الفضائل والرذائل والمقارنة بينها» و «مراتب الفضائل والرذائل» و«كيفية التخلّص من الرذائل والتحلّي بالفضائل» و «السبيل لحفظ الاعتدال في السلوك الأخلاقي».

ولم يكن هناك موضوعٌ تم التركيز عليه والاهتمام به في الكتب الأخلاقيّة(1) مثلما حصل بالنسبة لموضوع الفضائل والرذائل النفسانيّة، وطبعاً نحن لا نتوقّع من هذه الكتب غير ذلك؛ لأنّه: أوّلاً: الأخلاق جمع «خُلُق»، وعلماء الأخلاق يُفسّرون الخُلق بالمَلكة النفسانيّة (الفضيلة والرذيلة). ثانيًا : الهدف من تأليف الكتب الأخلاقيّة هو اكتساب الأخلاق الحسنة، ورفع الأخلاق السيئة، وقد بيّن علماء الأخلاق هذه الفكرة بعباراتٍ مختلفةٍ(2) ، ومن الطبيعي فإنّ الخطوة الأولى لاكتساب الفضائل وإزالة الرذائل - أو على الأقل إحدى الخطوات الأولى - هي أن يطّلع الإنسان على حالته ووضعه من ناحية فضائله ورذائله، وقد اهتمّ علماء الأخلاق وبأنحاء مختلفة بأصل هذه المسألة، يعني بضرورة اطلاع الإنسان على حاله من حيث ما لديه من فضائل ورذائل، ولكن كما سنرى لاحقاً، رغم أنّنا وللوهلة الأولى نجد في كتب الأخلاق أنّهم

ص: 47


1- من الواضح أنّ المقصود هو كتب الأخلاق في العالم الإسلامي، ولذا ومن أجل تجنّب تكرار كلمة «الإسلامية» سنتجنّب ذكر هذا القيد قدر الإمكان، كذلك من الواضح أنّ موضوع بحثنا منصبٌ على «الأخلاق الفاضلة» وهي ما اختاره علماء الإسلام في علم الأخلاق، وليس «الأخلاق الوظيفيّة»، فخلافًا للأخلاق الوظيفيّة إنّ ما يُطرح في الأخلاق الفاضلة هو تزيين النفس بالفضائل وتخليصها من الرذائل، وهي من مباني الأخلاق الإسلاميّة، ولهذا السبب قيل: «موضوع هذا العلم هو النفس الناطقة التي هي حقيقة الإنسان ولبّه» (جامع السعادات، ج 1، ص 59
2- كتب ابن مسكويه في مقدمة كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق ما يلي: غرضنا في هذا الكتاب أنْ تُحصّل لأنفسنا خُلقاً تصدر به عنّا الأفعال كلّها جميلةً» (ص 81)

طرحوا بعض العناوين الواعدة من قبيل: «في تعرّف الرجل عيوبَ نفسِه» (الرازي، 1939 ، ص 33)، لكنّهم نادرًا ما قدّموا مِلاكاً ومعياراً يستطيع الإنسان أن يتعرّف من خلاله على وضع رذائل نفسه وفضائلها.

إنّ أغلب الأفراد مطّلعون على آثار ارتفاع اليوريا والكوليسترول في الدم التي تُضرّ بالحياة الطبيعيّة للإنسان، وكذلك على سُبل خفضها في الدم أيضًا، ولكنّ وهو أمرٌ يوجد الدافع والإرادة الجادّة للاهتمام بسلامة البدن بنحوٍ مؤثّرٍ أكثر في الإنسان، ليس التعليمات الصحيّة، بل الفحوصات الصحيّة التي تُعطي تقريرًا بمستوى اليوريا والكوليسترول في الدم لنفس «هذا الشخص».

لقد تكلّم علماء الأخلاق بأفضل ما يكون حول فضائل النفس ورذائلها، وكيفيّة تحلّيها بالأخلاق الحسنة، وكيفيّة إزالة الأخلاق السيّئة منها ؛ ولكن إذا غضضنا النظر عن الإشارات المتفرّقة، فإنّ الإنسان إذا طالع هذه الكتب، لن يحصل عنده تصوّرٌ واضحٌ عن وضعه وحاله الفعليّ، لا بالنسبة إلى فضيلة معيّنةٍ أو رذيلةٍ معيّنةٍ، ولا بالنسبة إلى وضعه الكلّي.

وقبل أن نقدّم مزيدًا من التوضيح، ينبغي علينا أن نُقدّم تعريفا لهذا وهو أمرٌ تفتقده الأبحاث الأخلاقيّة، والذي بإمكانه أن يسدّ هذا الفراغ.

«الأخلاق المعياريّة» هي فرعٌ من علم الأخلاق الذي يتكفّل بتوفير المعايير للفرد يتمكّن من خلالها أن يعرف وضعه الأخلاقي الفعلي سواءً بالنسبة إلى فضيلةٍ أو رذيلة ٍخاصّةٍ، أم بالنسبة إلى وضعه الأخلاقي العامّ والكلّي، وبعبارةٍ أخرى: الأخلاق المعياريّة تسعى لأن تعطي الإنسان «تقريرًا أخلاقيّاً فعليّاً»، وأن توفّر له المعايير التي يتمكّن بمساعدتها أن يختبر نفسه هل لديه الخُلْق الحَسن الفلاني، كالإخلاص مثلاً؟ وهل هو بريءٌ من الخلق السيّء الفلاني كالغرور مثلاً؟ وهي لا تقتصر على ذلك وحسب، بل تجعله مطّلعاً على وضعه العامّ والكلّي من الناحية الأخلاقيّة.

ومن خلال هذا التعريف يتضّح أنّ نطاق الأخلاق المعياريّة يشمل توفير

ص: 48

المعايير في ثلاثة مجالات:ٍ الأوّل: الرذائل كالحسد والكِبر والرياء. الثاني: الفضائل كالإخلاص والصبر والتوكّل. الثالث: الوضع الأخلاقي العامّ والكلّي للإنسان الذي يكشف - بعد الفراغ عن الوضع المتعلّق برذائل خاصّة أو بفضائل خاصّة - عن مقدار ما للرذيلة أو الفضيلة من جذورٍ في النفس (1).

2. منشأ عدم اهتمام علماء الأخلاق بالأخلاق المعياريّة

قليلاً ما تجد واحدًا من مؤلّفي كتب الأخلاق الإسلاميّة ممن لم يُشبّه النفس بالبدن إمّا صراحةً أو كنايةٌ ، وهذا الأمر واضحٌ جدًا في كتب المتقدّمين والمتأخّرين (2)، وفي الواقع لقد تفطّنوا جدًا بأنّ الأخلاق هو نوعٌ من طبابة النفس، وقد استعمل مصطلح «طبّ النفس» في كتب الأخلاق المتقدّمة، ومن بينها كتاب «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه (ابن مسكويه 1426ه_، ص 265) ولذا نجد أنّ محمّد بن زكريا الرازي قد رجّح تسمية كتابه المشهور في علم الأخلاق ب_«الطبّ الروحاني».

طبعًا، هذا الفرق الكبير بين النفس والبدن في علم الأخلاق كان محلاًّ للاهتمام، فنحن نجد أنّ خالق عالم الوجود قد وضع في البدن ما يُعبر عنه اليوم ب_«جهازُ إنذارٍ ذاتيٍّ» ، فالحرارة والخفقان والتهوّع و.... كلّها تعمل بمنزلة الإنذارات العامَّة، أمّا الآلام الخاصّة من قبيل الألم في القلب أو البطن أو ... فهي تعمل بمنزلة الإنذارات الخاصّة؛ لكنّنا لا نجد جهاز إنذارٍ كهذا في النفس، وبتعبير المرحوم الفيض الكاشاني إنّ أمراض القلب من الأمراض التي لا يستطيع نفس الإنسان أن يعرفها بنفسه، ولذا فهو يغفل عنها . (3)

ص: 49


1- من أجل تركيز البحث وتوضيحه بنحوٍ أكبر ، سنتعرّض في القسم الأوّل من هذه المقالة للرذائل فقط، وذلك مراعاةً للاختصار فقط، وإلّا فإنّ الاستدلالات والهموم التي تطرحها هذه المقالة شاملةٌ لها بأجمعها، أمّا المجالان الآخران (يعني: الفضائل وكذلك الوضع الكلّي للفرد) فسيتمّ بحثهما في القسم الثاني من المقالة بنحوٍ خاصٍّ
2- من جهة يا للأسف، ومن جهة أخرى يا لحسن الحظّ، إنّ مقدار ما في كتب الأخلاق الإسلاميّة المشهورة من المطالب والأمثلة المتكرّرة والمتشابهة، مقدارٌ كبيرٌ جدًا إلى الحدّ الذي يشعر معه الإنسان أحيانًا أنّ المحقِّقين في هذا المجال لا يحتاجون لذكر المصدر عن الإشارة إلى أحد الأفكار الموجودة في الكتب المتعدّدة، وموضوع التكرار خاصّةً يصدق فيما يتعلّق بما جاء في إحياء العلوم للغزالي؛ لكن طبعا إذا كانت الفكرة من الأمور التي لا خلاف فيها، وخصوصًا بين الشيعة والسنّة
3- وعبارة المرحوم الفيض كالآتي: «إنّ من الأمراض ما لا يعرفها صاحبهُا، ومرضُ القلب ممّا لا يعرفه صاحبُه فلذلك يَغفل عنه» (المحجة البيضاء ، ج 5، ص 11)0، وتجدر الإشارة إلى أنّ ما يُعبّر عنه ب_«الإحساس بالمسؤوليّة الأخلاقيّة» فيه من الإبهام أكثر ممّا يمُكن أن يورد على كلام المرحوم الفيض الكاشاني هذا

والآن بما أنّ أمراض النفس هي نوعاً ما من الأمور التي يصاحبها الغفلة عادةً، فهل كتبنا الأخلاقيّة بحكم الصيدليّة، بحيث تقتصر فقط على توفير نتاجها بنحوٍ مبوّبٍ ومرتّبٍ في رُتبٍ وطبقاتٍ، لكنّها لا تسأل الشخص الذي يدخل إليها عن علّته ومرضه، ولا تُبيّن له ما هو مرضه، وإنّما توفّر لمن يُراجعها جميع الأدوية الموجودة في صيدليّة الأخلاق؟ وبعبارةٍ أخرى: هل أنّ أطبّاء الأخلاق رغم معرفتهم للأمراض، إلّا أنّهم لا يعرفون أيّ المرض الذي حلّ بالشخص وما هي درجة معاناته منه، ولذا فهم يكتفون بتقديم صيدليّةٍ ممتلئةٍ بالأدوية وحسب؟

لحسن الحظّ، ليس الأمر كذلك. فنحن نجد أنّهم وضعوا سبيلاً لكي يتعرّف كلّ شخصٍ على أمراض نفسه، وكما أشرنا سابقًا، طرح محمّد بن زكريّا الرزاي بحثًا بعنوان «في تعرّف الرجل عيوب نفسه»، وطبعًا يمُكن أن نجد بسهولةٍ بعض العناوين الشبيهة به في الكتب السابقة عليه واللاحقة له، فمثلاً: نجد أنّ المرحوم الفيض الكاشاني قد استعمل عنوان «بيان الطريق الذي به يَعرفُ الإنسان عيوب نفسه» الفيض الكاشاني، 1403ه_، ج 6، ص 112) وأمّا الملّا مهدي النراقي فقد استعمل عنوان «طريق معرفة الأمراض النفسانيّة» (النراقي، 1209 ه_، ج 1، ص 131).

وأحيانًا قد لا تجد في الكتب الأخلاقيّة من قبيل كتاب «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه عناوين من قبيل: «طريق معرفة عيوب النفس»، ومع ذلك تجد أنّه تعرّض لهذا الموضوع (ابن مسكويه ، 1426ه_، ص 278 إلى 280)، وهو يرى في آخر بحثه أنّ ما طرحه يعقوب بن إسحاق الكندي في هذا المجال، هو أبلغ ممّا طرحه المتقدّمون (المصدر السابق، ص 280) طبعاً اكتفت بعض الكتب الأخلاقيّة بالسعي فقط لكشف العيوب، لكنّها لم تقدّم أيّ طريقةٍ لمعرفتها (1) ، ويجب الالتفات إلى أنّه لِمسألة كيفيّة معرفة عيوب النفس، سابقةٌ طويلةٌ جدًا حتّى خارج نطاق الأخلاق الإسلاميّة، مثلاً : نجد

ص: 50


1- مثلاً: نجد أنّ المرحوم الشيخ عبّاس القمي لم يُقدّم في كتاب «كلمات طريفة» معياراً أو أسلوبًا لتشخيص العيوب، وإنمّا اكتفى فقط بالتأكيد على أنّه ينبغي للشخص «أن يستقصي وأن يسعى سعيًا بالغاً في طلب عيوبه، ويتعرّف بدقّة على معايبه (كلمات طريفة، ص 60 [ وكذا المقامات العليّة، ص 170] ،

أنّ جالينوس قد ألّف كتابًا في القرن الثاني الميلادي في موضوع «معرفة عيوب النفس» والذي ينقل عنه ابن مسكويه أيضًا (المصدر السابق، ص 278).

على كلّ حالٍ، إنّ الحلول التي طرحها علماء الأخلاق من قبيل: ابن مسكويه والرازي والغزالي والفيض الكاشاني والنراقيّين وشُبّر وغيرهم تتشابه مع بعضها البعض، ولكي نستخرج العلاقة بين هذه السُبل وبين الأخلاق المعياريّة، سنقوم بتعداد خلاصة الحلول الأربعة التي ذكرها الفيض الكاشاني تبعًا للغزالي (الغزالي، 1406 ه_، ج3، ص 69) وذلك تحت عنوان «بيانُ الطريق الذي به يعرف الإنسان عیوب نفسه».

1. أن یرجع إلى شخصٍ بصيرٍ بعيوب النفس، ومثل هؤلاء الأشخاص نادرٌ جدَّا في زماننا.

2. أن يطلب من صديقٍ صدوقٍ أن يُراقب له تصرّفاته، وأن يُخبره بعيوبه.

3. أن يتعرّف على عيوب نفسه من لسان أعدائه.

4. أن يكتشف عيوب نفسه من خلال معاشرة الناس.

وكما هو ملاحظٌ، نجد أنّ جميع الحلول الأربعة - التي هي أساسًا تكرارٌ لكلمات جالينوس (جالينوس، 1353 ش ، ص 25) - تعتمد على وجود شخصٍ أو أشخاصٍ في البين، ففي السبيل الأوّل، كان الاقتراح هو الرجوع إلى عارفٍ مطّلعٍ على أسرار الباطن، وطبعاً المشكلة هنا لا تقتصر على «عدم إيجاد شخص كهذا»، بل حتّى لو وجدناهم من أجل أن يتحدّثوا عن عيوب الآخرين أو فضائلهم، فسنجد أنّ لديهم بعض الموانع، من ضمنها أنّ كتمانهم لا يسمح لهم أن يُظهروا هذه الأمور لغيرهم، وأمّا السُبل الثلاثة الأخرى، فرغم أنّ مشكلة الندرة غير موجودةٍ، لكن يبقى أنّه ليس هناك مِلاكٌ ولا معيارٌ في اختيار الشخص الذي يُخبرنا عن عيوبنا، بل تقتصر التوصية فقط على الاستعانة المباشرة أو غير المباشرة من الآخر؛ إذن فالنتيجة المُحصّلة من السبل الأربعة هي الاستعانة المباشرة من العارف والصديق

ص: 51

الصدوق ( في السبيلين الأوّل والثاني)، والاستعانة الغير مباشرة من الأعداء والناس ( في السبيلين الثالث والرابع).

بناءً على هذا، في الجواب على هذه المجموعة من الأسئلة: هل يمُكن لي أن أكتشف من خلال هذا الطريق أنّني أعاني من رذيلة الحسد أم لا؟ وهل أتمتّع بفضيلة الإخلاص أم لا ؟ سيكون جواب المرحوم الفيض الكاشاني وعلماء الأخلاق الآخرون: يجب أن ننظر إلى القائمة التي قدّمها لنا العارف ذو الضمير الصافي، أو الصديق الصدوق، أو إلى العيوب التي بيّنها لنا العدوّ الصريح اللهجة، فننظر هل أنّ هذه الرذائل أو الفضائل من ضمنها أم لا ؟ (1) ( وتجدر الإشارة إلى أنّ الحلّ الرابع لا يخرج تماماً عن الحلّين الثاني والثالث).

لو افترضنا أنّه كان هناك حديثٌ يجري حول /نالأخلاق المعياريّة» في الإرث الأخلاقي الإسلامي، فقطعًا كان ينبغي أن يطرحوا سبيلاً خامسًا لتشخيص أمراض النفس في نفس هذا البحث (معرفة عيوب النفس)؛ ولكن كما هو المُلاحظ لم يقترح علماء الأخلاق أيّ سبيلٍ آخر لذلك.

والسؤال المهمّ الذي يُطرح هنا: لماذا يعتقد علماء الأخلاق بأنّه ليس للفرد دورٌ في معرفة عيوب نفسه، وأنّه يجب عليه أن يطلب العون في ذلك من الآخرين وحسب؟

ينبغي علينا أن نبحث عن جواب هذا السؤال في كلمات جالينوس التي نُقلت في الكتب من قبيل كتاب «تهذيب الأخلاق» لابن مسكويه، حيث يقول هناك: «لمّا [كان] كلّ إنسانٍ يُحبّ نفسَه خَفيت عليهِ معايبُه ولم يَرها وإنْ كانت ظاهرةً» (2) (ابن مسكويه، 1429 ه_، ص 278)، ومن هنا يمكننا أن نجد جذور قِلّة الاهتمام بل الإهمال للأخلاق المعياريّة .

ص: 52


1- إنّ الحلول الأربعة التي ذُكرت بشكل متكرّر في كتبنا الأخلاقية، إنّما كانت ناظرةً إلى العيوب والرذائل، وهي ليس ناظرة إلى الفضائل على ما يبدو، وإذا طُرح هنا بحثٌ حول الفضائل، فذلك من أجل التهيئة للاستمرار بالبحث؛ لأنّ الأخلاق المعياريّة مضافًا إلى أنّها تُطبّق على الرذائل، فهي تُطبّق على الفضائل أيضًا؛ كذلك يمُكن تطبيق الأخلاق المعياريّة فيما يتعلّق بالوضع الكلّي والعامّ للفرد من الناحية الأخلاقيّة، وسيأتي فيما بعد مزيدٌ من التوضيح لهذا الأمر في أواخر هذه المقالة
2- لقد بُيّنت مسألة أنّ العاشق أعمى بالنسبة لمعشوقه بأنحاء مختلفة منذ القِدَم في المصادر الدينيّة وغير الدينيّة، والنفس بالنسبة للإنسان هي من أبرز مصاديق هذا المعشوق (راجع: «رازی در طب روحاني [= الرازي في الطبّ الروحاني]»، ص 24) ، وقد صارت هذه الفكرة عامّةٌ إلى الحدّ الذي صارت مضربًا للمثل

إنّ الفرضيّات المسبقة في ذهن العلماء هي أنّ تقييم الوضع الأخلاقي عن طريق شخصٍ ما يتلازم مع «الملاحظة» و«الرؤية» للمعايب بواسطة ذلك الشخص، ومن الصحيح جدًا أنّه في هذه الحالة هناك مانعٌ كبيرٌ اسمه «حبُّ الذات»، وقاعدة «حبُّ الشيء يُعمي ويُصمّ» تمنع من رؤية العيوب المذكورة؛ ومن هنا نجد أنّهم – ومن أجل اكتشاف عيوب الفرد - وضعوا نفس الشخص ]الذي يخضع للتشخيص[ جانبًا، وذهبوا خلف العارف والصديق الصدوق والعدو والمجتمع، وذلك من أجل أن يُخرجوا حبّ الذات من الطريق.

إنّ النقطة الأساسيّة هي أنّه إذا كانت معرفة الإنسان لعيوب نفسه لا تتمّ إلّا من خلال «أن ينظر إلى نفسه» فحبُّه لذاته سيمنع من تجويز أيّ دورٍ لنفس الإنسان في هذه المهمّة، ولكن إذا كُنّا نقترح أمرًا آخر، وهو أنّنا نُقدّم له المعايير بدلاً من أن نجعله ينظر إلى نفسه؛ وعندها سيزول دور حبِّ الذات أو على الأقل سيُصبح تأثيره قليلاً جدًا.

مثلاً إذا سُئلَ أحد أعضاء الهيئة العلميّة - ومن دون أيّ مقدّمات - : هل تحسد زملاءك على نجاحاتهم العلميّة الكبرى؟ فعلى الأغلب سيأتي الردّ بالنفي بشكلٍ قاطعٍ وصادقٍ، وعندما يُراجع نفسه، فكذلك قد لا يجد في نفسه أيّ حسدٍ، ولكن لو قُدَّم لنفس هذا الأستاذ معيارٌ بحيث يُطلَب منه أن يضع نفسه تحت المراقبة الدقيقة في المرّة القادمة وفي «اللحظات الأولى» التي يسمع فيها خبر نجاحٍ علميٍّ كبيرٍ لأحد زملائه، وأن يُراقب : «هل أحسّ بالغيرة في نفسه ولو في تلك اللحظات الأولى، أم أنّ حالته كانت كمن سمع خبر نجاح ابنه فسعد مباشرةً؟» وغالبًا ما يجد الشخص عند تحليل نفسه من خلال وضع هذا المعيار بين يديه أنّ جوابه الأول الذي رأى فيه بأنّ شجرة الحسد ميتّةٌ في نفسه، لم يكن صحيحًا.

ولا يمُكن القول: بما أنّ هذا الفرد لديه حبٌّ لذاته، لذا فإنّ الانزعاج الذي مرّ بخاطره في اللحظات الأولى ظلّ مخفيًا، وذلك رغم أنّه في الحالة الأولى (يعني: عند ملاحظته لنفسه من دون المعيار ) كان حبّه لذاته مانعا له من أن يطّلع على وجود

ص: 53

الحسد داخل نفسه، ولكن من خلال إعطائه هذا المعيار - وهو مجرّد نموذجٍ للتوضيح - نجد أنّ حبّ الذات لم يمنع هذا الشخص من تشخيص الحسد بنفسه.

ومن هنا، فإنّ الأخلاق المعياريّة وجدت علاجًا لمسألة حبّ الذات، وبدلاً من أن تعزل الشخص عن الحكم على نفسه بتهمة «حبّ الذات» ثمّ تُرجع كلّ شخصٍ إذا أراد أن يتعرف على عيوبه إلى عارفٍ ذي ضميرٍ منيرٍ أو إلى صديقٍ صدوق أو إلى عدوّ حقود أو إلى الناس العاديّين، بدلاً من ذلك كلّه تَضع بين يديه المعايير، فكُلّ شخصٍ له إمكانيّة الدخول إلى أمرٍ فريدٍ لا يستطيع أن يدخل إليه الأشخاص العاديّون وهو باطنه الخاصّ به، فهذا المصدر المهمّ والفريد لا ينبغي أن يُعزل جانبًا ببساطةٍ بسبب حبّ الذات، بل يمُكن من خلال توفير المعايير المحسوبة، أن يُسند إليه دورٌ أساسيٌّ في تشخيص العيوب (والفضائل)، وهذا هو المبنى الذي بُنيت عليه الأخلاق المعياريّة.

3. علماء الأخلاق وما وفّروه من معيار حول رذيلة الكِبر

كما رأينا، فإنّ علماء الأخلاق لم يعتنوا بدور الفرد بعنوانه أحد السُبل لمعرفة فضائل نفسه ورذائلها، ولكنّ ذلك لا يعني أنّنا لا نستطيع أن نجد أيّ فضيلةٍ أو رذيلةٍ قد وُضع لها معايير أحيانًا في طيّات الكتب الأخلاقيّة، فعلى سبيل المثال فقط، نجد أنّ أكثر الكتب الأخلاقيّة عندما تصل إلى رذيلة الكِبر، تُقدّم خمسة معايير يستطيع كلّ شخصٍ ومن دون مساعدةٍ أحد أن يعرف من خلالها هل أنّ نفسه مُصابةٌ بهذه الرذيلة أم لا ؟ وقد جاء هذا الأمر في كلِّ من كتب المتقدّمين والمتأخرين أيضًا، ومن بين كتب المتأخرين نجد أنّ العنوان الذي استعمله العالم المُكثر في التأليف المرحوم السيّد عبد الله شبّر والذي ضمّنه كلمة المعيار أيضًا، مناسبٌ جداً، حيث قال (1) : «في الميزان والمعيار الذي يَعرفُ به الإنسان نفسَه هل هو متواضعٌ أو متكبّرٌ» (شبر، 1382، ص 176).

ص: 54


1- أحيانًا لا يَستعمل علماء الأخلاق مصطلح «المعيار » أو «الملاك» وأمثالها ، إلّا أنّهم يطرحون نفس هذه الفكرة، فمثلاً وضع الغزالي هذا المعيار في «إحياء العلوم» تحت عنوان «بيان أخلاق المتواضعين ومجامع ما يظهر فيه أثر التواضع والتكبّر» (الغزالي 1406، ج 3، ص 273)

إنّ السُبل التي ذُكرت في الكتب الأخلاقيّة لتشخيص وجود الكبر عدة، وممّا ذُكر ما يأتي: هل قبوله للحقّ خلال نقاشه أقرانه صعبٌ؟ هل يجد أنّ جلوسه في الأماكن المنخفضة في المجالس والمحافل ثقيلٌ عليه؟ هل يستجيب لدعوة الفقراء؟ وهل يصعب عليه السعي في حاجات الآخرين بحيث يذهب إلى الأزقّة والأسواق من أجلهم ؟ هل يصعب عليه لبس اللباس الخفيف والقديم؟ هل يصعب عليه الجلوس مع الخدم على سفرةٍ واحدةٍ وتناول الطعام معهم؟ (المصدر السابق، 176 - 177)، وقد أضاف بعض علماء الأخلاق مثل الملّا مهدي النراقي فقراتٍ أكثر إلى هذه القائمة (راجع: النراقي، 1209ه_، ج 1، ص 394 - 395).

إنّ نظرةً نحو المعايير المطروحة لتشخيص رذيلة الكبر، تُظهر أنّ علماء الأخلاق إنّما نظروا إلى هذا الموضوع نظرةً إجماليّةً، ولم يُركّزوا على جوانب الموضوع بالشكل الكافي، ومن هنا، نجد أنّهم جعلوا عدم مبالاة الشخص بمكان جلوسه في المجلس، أحد المِلاكات والعلامات العامّة لتشخيص الكبرِ، في حين أنّ مِلاكاً كهذا قد يكون له معنى وموضعيّة بالنسبة لبعض الطبقات الخاصّة في المجتمع من قبيل العلماء والشخصيات الكبيرة، أمّا بالنسبة للأشخاص الاعتياديين من قبيل مجتمع طلّاب المدارس أو حتّى طلّاب الجامعات، فلا يُعدّ عدم الرغبة في الجلوس في صدر المجلس أو في ذيله معياراً أو علامةً تدلّ على عدم التكبّر ، بل كثيرًا ما لا يكون لصدر المجلس وذيله مفهومٌ بالنسبة لهم من الأساس.

وفي الضمن نسأل : إذا كانت الرذائل على درجات كما يقول به علماء الأخلاق، ومن ضمنها ما علّمونا إياه في بحث الكِبر، فهل يمُكن أن نُقدِّم مِلاكاتٍ ومعايير من دون أن نُرتّبها بحسب درجة الرذيلة ؟ فهل دور المعايير هو أن تتمكّن فقط تقديم إجابة إمّا بالنفي أو بالإثبات بالنسبة لوجود الكبرِ عند الإنسان، أم يجب أن تُوضّح لنا أيضًا مقدار الكِبر الذي عند الشخص؟ لم نجد أيِ متابعةٍ لهذه الأسئلة فيما عُرض من معيارٍ.

القرينة الأخرى التي تدلّ على أنّ علماء الأخلاق اقتصروا في نظرتهم على النظرة

ص: 55

الإجماليّة عند تقديمهم لمعيار تشخيص الكِبر ، هو أنّ القرآن الكريم قدّم لنا معيارًا للكِبر وأكّد عليه تأكيدًا خاصّاً، لكنّنا مع ذلك نجد أنّ الكتب الأخلاقيّة - في الحدّ الذي بحثنا فيه - لم تتعرّض في بحثها حول معيار الكِبر، للمعيار المطروح من القرآن، قال الله تعالى في سورة غافر : (إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ في صُدُورِهِمْ إِلَّا كبْرٌ) (غافر /56) .

ولو أنّ موضوع تقديم المعيار لرذيلةِ الكِبر كان مَركزاً لاهتمام علماء الأخلاق بنحوٍ جادٍّ، لَكان من المناسب أن يُوضّحوا لماذا لم يتعرّضوا أصلاً لهذه الآية المليئة بالمعاني، مع كلّ ما فيها من انحصارٍ في بيان المِعيار المتعلّق بتشخيص الكبر (طبعاً يمكن أن يُذكر سببٌ لذلك، لكن ليس بحثنا حول وجود سببِ أو عدمه، بل حول عدم تعرّضهم لذلك).

إذن لا تقتصر المسألة على المسألة على أنّ النهج والاتجاه المعياريّ في تشخيص الرذائل والفضائل لم يكتسب مكانته المناسبة بحيث يكون بمثابة منهجٍ في إرثنا الأخلاقي، بل حتّى البحث الذي جرى حول عددٍ من الرذائل أو الفضائل الخاصّة (1) هو الآخر لم يَحُز على الاهتمام المطلوب، بل كان بحثًا استطراديًا.

وهذا الأمر يستدعي التأمّل، فلماذا وقع الاختيار في باب تقديم المعايير المتعلّقة بتشخيص الرذيلة الأخلاقيّة على خصوص الكِبر من بين عشرات الرذائل ؟ ولماذا قُدّم علماء الأخلاق معيارًا في خصوص الكِبر دون غيره ؟

وفي هذا المجال، يمُكن أن نقدّم احتمالين على الأقل، والاحتمال الأوّل هو أن الكِبر على الخصوص إنّما يظهر في تصرّفات الأفراد بنحوٍ أفضل وذلك خلافًا لعدد من رذائل أخرى، فالتكبّر له القابليّة لأن يُكتشف في تصرّف المُتكبّر بنحوٍ أفضل من

ص: 56


1- إنّ مسألة تقديم معيار في باب الرذائل، لم تُبيّن في الكتب الأخلاقيّة بصورة شاملة إلّا فيما يتعلّق برذيلة الكبر، ولا - تجد نظيراً لذلك حول الرذائل أو الفضائل الأخرى إلّا ما ندر، مثلاً: في كتاب «مصباح الشريعة ومفتاح الحقيقةَ»، وهو كتابٌ مجهول المؤلّف، تُوجد فيه روايةٌ حول الصدق تبدأ بهذا النحو : «فإذا أردتَ أن تعلم أصادقٌ أنتَ أو كاذبٌ ...» (راجع: الجيلاني، 1360 ش ، ص 411)؛ لكن هناك نقطةٌ جديرةٌ بالذكر فيما يتعلّق بالمحاسبي صاحب كتاب «الرعاية لحقوق الله» وهي ما سنتعرّض لها بعد قليل

اكتشاف الرياء في تصرّف المرائي؛ ومن ثمَّ، فتقديم المِلاك والمعيار ليس فيه مؤنه زائدة، فنفس سُهولة الوصول إلى المعيار، هو الدافع لطرح هذا الموضوع.

أمّا الاحتمال الثاني فهو أنّ علماء الأخلاق حينما كانوا ينظرون حولهم، أي إلى المجتمع العِلمي ، كانوا يرون أنّ هذه الرذيلة منتشرة ومحلّ ابتلاء فيما بينهم أكثر من باقي الرذائل، ولذا أرادوا من خلال تقديم هذا المعيار أن يُنبّهوا أنفسهم وغيرهم إلى تصرّفاتهم .

وأيّا يكن ،دافعهم، فهو يصلح لأن يكون السبب الذي جعل العلامات التي ذكروها لتشخيص الكِبر متشابهةً في أكثر الكتب الأخلاقيّة، لكنّه لا يرقى إلى درجة أن يُوجد حركةً بين علماء الأخلاق لتقديم معيارٍ دقيقٍ ومحسوبٍ في باب الكِبر، أو إلى أن يُقدِّموا معايير للرذائل الأخرى.

وكما ذُكر سابقاً، فما بُيّن في هذا المجال، عمدته في باب التكبّر، فضلا عن ما ندر فيما يتعلّق بعددٍ من الرذائل المعدودة، وكذلك من النادر أن يُقدِّموا معياراً بالنسبة إلى الفضائل (فقط في مواطن استثنائيّة جدًا)، مضافًا إلى ذلك نجد أنّ تقديم معيار يُبيّن الوضع الأخلاقي العامّ والكلّي للشخص لم يكن يُشكّل همًّا في الإرث الأخلاقي.

إلى هنا تم البحث عن المُراد من الأخلاق المعياريّة، وكذلك عن سبب خلوّ كرسيّه في فلسفة الأخلاق، لكن من غير الإنصاف أن ننهي هذه المقالة من دون أن نتعرّض للمحاسبي (المتوفى في 243 ه_) أو لكتابه القيّم «الرعاية لحقوق الله»، وهو الشخص الذي نجد في آثاره مواضيع مرتبطة بالأخلاق المعياريّة أكثر من أيّ شخصٍ في تاريخ علم الأخلاق الإسلامي؛ هذا على الرغم من أنّه هو الآخر لم يتعرّض لها بنحوٍ مستقلّ أو على شكل منهجٍ مستقلٍّ ، وفي الكتاب المذكور نجدُ فصلاً بعنوان: «بمَ يَعلم العبدُ أنّ نَفسه قد تركتْ الكِبْر على الصِدْق» (المحاسبي، 1289 ه_، ص 405) وفصلاً آخر بعنوان: «متى يَعلم العبدُ أنّه قد نفى الحَسد» (المصدر نفسه، ص 498).

قد يظنّ البعض بأنّ سبب عدم اهتمام علماء الأخلاق بالأخلاق المعياريّة، مردّه

ص: 57

إلى أنّ تعاليم «محاسبة النفس» ملأت مكانه وسدّت الفراغ بشكلٍ كاملٍ.

ولكن كون الأخلاق المعياريّة توفّر للإنسان تقريرًا أخلاقيًّا بين يديه، لا ينبغي أن يجعلنا نتصوّر بأنّ الأخلاق المعياريّة هي نفس المحاسبة؛ ومن ثمَّ، لا بدّ لنا هنا من إجراء مقارنةٍ بين الأخلاق المعياريّة ومحاسبة النفس وسنرى في هذه المقارنة أنّ هذين الأمرين رغم تشابههما في بعض الأمور ، إلّا أنّ هناك اختلافا رئيسيًا فيما بينهما، بل هما عبارةٌ عن تعليمَيْن وأمرين مختلفين وكلّ واحد منهما مطلوبٌ بنفسه على حدة، وقد اهتمّت الآيات والروايات بكلّ واحدٍ منهما على حدةٍ.

4. الأخلاق المعياريّة ومحاسبة النفس

إنّ محاسبة النفس مصطلحٌ شائعٌ ومعروفٌ ليس فقط في المجال الأخلاقي التخصّصي، بل حتّى بين عامّة الناس، ورغم أنّ مصطلح «محاسبة النفس» مصطلحٌ روائيٌّ أكثر من أن يكون قرآنيًا، لكنّ هذا المضمون استُعملَ في القرآن أيضًا، وقول تعالى: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدِ} (الحشر /18) يمُثْل نموذجًا على ذلك (راجع: الطباطبائي، 1291 ه-، ج 19، ص 19 ، ص 217) .

لقد أُكّد على محاسبة النفس في كلمات الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله وأمير المؤمنين علیه السّلام وبعض المعصومين علیه السّلام أيضًا، وقد بُيّن معناها في نفس نصّ أحد الأحاديث بشكلٍ واضحٍ، حيث جاء فيه: «ليسَ مِنّا مَن لمْ يُحاسب نفسه في كلّ يَومٍ، فإِنْ عَمِلَ خيراً استزادَ الله مِنه وحَمدَ الله عليه وإنْ عَمِلَ شيئًا شرّاً استغفر الله وتابَ عليه» (المجلسي، 1403 ه_، ج 77، ص 88).

كما هو واضحٌ، فإنّ محاسبة النفس تتعلّق بالأعمال، وتبحث في أنّه هل قام بأعمال الخير والشرّ أم لم يقم بها؟ ولا ينبغي الخلط بين الخطأ والمعصية وبين العيب والرذيلة، كما أنّه لا ينبغي لنا أن نَعتبر أنّ كلاً من العمل الصحيح والثواب من جهةٍ والفضيلة من جهة أخرى هي أمرٌ واحدٌ، فمحاسبة النفس، محاسبةٌ لأعمال النفس وليست محاسبةٌ لرذائلها وفضائلها، وطبعاً هذان الأمران ليسا منعزلان عن

ص: 58

بعضهما البعض تمامًا؛ لأنّ اكتشاف الرذائل والفضائل هو من نتائج مُحاسبة النفس وهو ما تمّ التصريح به في كلام أمير المؤمنين علیه السّلام حيث قال: «منْ حاسبَ نفسَه وقفَ على عيوبَه وأحاط بذنوبه» الآمدي، 1366 ش ، ج 2، ص 224).

وهذا الحديث الشريف يُبيّن هذه النقطة، وهي أنّ الوقوف على العيوب أمرٌ مختلفٌ عن الاطلاع على المعاصي، فالمعصية وصفٌ لبعض أفعال الإنسان، في حین أنّ العيوب هي وصفٌ للنفس.

وبناءً على هذا، فأحد الأهداف المهمّة والمشتركة بين محاسبة النفس والأخلاق المعياريّة، كشف عيوب النفس وفضائلها، لكنّ هذا الهدف يحصل في محاسبة النفس من خلال دراسة الأعمال، أمّا في الأخلاق المعياريّة فيحصل من خلال استخدام المعيار، وفي هذه الحالة، لا ينبغي أن يظنّ الإنسان بأنّه يمُكن أن يُوضَع كلاً من محاسبة النفس والأخلاق المعياريّة مكان بعضهما البعض، فمحاسبة الأعمال اليوميّة لها آثارها وبركاتها الخاصّة بها، ونحن بحاجة لأن نتذكّر معاصينا، كما أنّنا مُكلّفون بأن نذكر نعم الله علينا التي مِن ضمنها أعمالنا الصالحة، وهذا الأمر إنّما يجري في محاسبة النفس وليس في الأخلاق المعياريّة.

ورغم أنّ محاسبة النفس تُطلع الإنسان على ما «احتطب على ظهره» لكنّها لا تُعطيه معلوماتٍ مباشرةً عن (بِما كَسَبَت قُلوبُكُم) (البقرة/225)، فإنّ الوصول إلى عيوب النفس من خلال محاسبة النفس، يحتاج إلى دراسةٍ وتحليلٍ تفصيليٍّ للمعلومات التي يحصل عليها الإنسان من خلال محاسبته لنفسه (وأحياناً يحتاج إلى دراسةٍ ومراجعةٍ مستمرّةٍ للأعمال لمدّةِ عدّةِ أشهرٍ)، وهناك أمور دقيقة لا بدّ من مراعاتها (1)، في المقابل إنّ الأخلاق المعياريّة تمُكّن الإنسان من الوصول إلى هذا الهدف من خلال تقديم المعيار بشكلٍ مباشرٍ، ومن دون مراجعة الأعمال(2)، فطريق

ص: 59


1- قد نواجه أحيانًا في محاسبة النفس صدور بعض الأخطاء من الإنسان التي لا تحكي عن ملكة في النفس، في حين - أن الأخلاق المعياريّة تتعامل مع «الأخلاق» أي المَلكات فكثيراً ما يرتكب الإنسان خطأ يكون ناشّئًا عن قلّة الالتفات، وليس عن مَلَكة لديه، مثلاً الشخص الذي لديه مَلَكة السخاء والكرم ولكنّه قد يبخل في أحد المواطن بشكلٍ استثنائيٍّ بسبب سوء الظَّنّ، فخطؤه هنا، لا يكشف عن مَلَكةٍ خاصّةٍ
2- من أجل تحديد نسبة الذكاء لأحد الأشخاص ، فيُمكن أن يُطلب منه أن يُجيب على قائمة من 200 سؤال ؛ ولكن إذا كان بالإمكان تعيين نسبة ذكاء الإنسان من خلال بضعة أسئلة فقط، فبالتأكيد سيُصبح تعداد الأشخاص المشاركين في تحديد نسبة ذكائهم عشرات الأضعاف، تشبه حالة محاسبة النفس، حالةَ قائمة الأسئلة التي تحوي مئات الأسئلة، أمّا الأخلاق المعياريّة فتُشبه قائمة الأسئلة التي تحتوي على بعض الأسئلة فقط، وطبعاً من المسلّم بأنّ الأخلاق المعياريّة تفتقد لبعض مزايا محاسبة النفس ، ومن بينها حالة التوجّه التي تحصل للإنسان من خلال مراجعته لكل تصرّفٍ تصرّفٍ

وصول الأخلاق المعياريّة نحو كشف العيوب ( والفضائل) أقصر وأوضح، ولا حاجة فيها إلى محاسبة الأعمال.

والحقيقة هي أنّنا عبيد الله لسنا مُكلّفين بمراقبة أعمالنا وحسب، بل نحن مُكلّفون أيضًا بمراقبة قلوبنا أيضًا، ولذا نجد أنّ الله عزّ وجلّ يؤكّد بعد ذكره للسمع والبصر والفؤاد، بأنّنا سنُسأل عنها جميعًا، قال تعالى: {كُلُّ أُولئكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤولاً} (الإسراء/36) ، أفلا يُعتبر تحذير الله هذا نوعاً من لفت النظر إلى لزوم مراقبة القلب؟ إن كان الجواب نعم فالأخلاق المعياريّة تؤدّي هذه المهمّة من خلال آليّةٍ بسيطةٍ جدًا مقارنةً بمحاسبة النفس.

بناءً على هذا لا بدّ من التفريق بين «محاسبة النفس» و «وزن نفس» وهذا التفريق يمُكن استلهامه من تعاليم الرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله، أيضًا، حيث قال: «حاسبوا أنفسكم قبلَ أنْ تُحاسَبوا وزِنوها قبل أنْ تُوزنوا». (المجلسي، 1403 ه_، ج 70 ، ص 73) .

وخلافًا لما يُقال عادةً، لا نعتقد بأنّ هذين المقطعين بصدد بيان مطلب واحدٍ، بل المقطع الأوّل ناظرٌ إلى محاسبة النفس، وهو ما يُوازي السمع والبصر في الآية الشريفة، في حين أنّ المقطع الثاني منها ناظرٌ إلى قياس ووزن النفس، وهو ما يُوازي الفؤاد في الآية السابقة، فالأخلاق المعياريّة تتمتّع بهذه الميزة الفريدة، وهي أنّها تُعطي تقريرًا «مباشراً» عن حالة النفس.

5. سبب كون الأخلاق المعياريّة مهمّةً

إنّ ما بذلناه من جهد في بيان المنزلة الخاصّة بالأخلاق المعياريّة، لم يكن من أجل إضافة مصطلحٍ إلى مصطلحات علم الأخلاق، بل كان مُنطلقنا من الأساس هو وضع معيارٍ سهلِ الوصول بين يدي الإنسان يُنجيه من الضلالة، ويُضفي أثرًا خاصًا على عمله، ويدفع المُخاطب للحركة والسعي، وهذا الأمر لا يَصْدُق في المسائل الأخلاقيّة

ص: 60

وحسب، بل يشمل نطاقاً واسعاً، فمثلاً: يمُكن توصية الناس بأن يسجدوا لله بالنحو الذي يليق به سبحانه؛ لكنّ هذا الأمر لا يضع بيد الناس مِلاكاً، ولا يجعلهم يعرفون في نهاية المطاف ما هي الحالة التي لا بدّ أن يشعروا بها حتّى تكون سجدتهم سجدةً أو غیر سجدةٍ؟ ونجد أنّ المرحوم آية الحقّ السيّد علي القاضي الطباطبائي رحمه الله قد أعطى لتلميذه المتميّز المرحوم آية الله السيّد محمّد حسن الإلهي الطباطبائي معيارًا يُبيّن له فيه كيف ينبغي أن يسجد في الحضرة الإلهيّة، وذلك من خلال هذا البيت:

وفي الصبح فاسجُد شاكِرًا ومُسبحًا.. تَراكَ تُرابَ الأَرْضِ للأَصْلِ مُلْصِقَا

(الطباطبائي، 1287 ش، ص 1129) (1).

وفي مجال المسائل الأخلاقيّة، الوضع بهذا المنوال، وهناك رواياتٌ تهزّ أعماق الإنسان في باب الإخلاص (2) وتجعل الإنسان يُراقب أحواله ونيّاته، ولكن أحيانًا يمُكن لتوفير ملِاكٍ متاحٍ بسهولةٍ أن يفتح الطريق جدًا، ومن ضمن ذلك ما قالوه مِن أنّ الإنسان إذا أراد أن يعرف بأنّ عمل الخير الذي قام به هل كان عن إخلاص أم لا؟ فعليه أن ينظر : لو أنّ شخصًا آخر قام بنفس عمل الخير هذا ، فهل كان سيشعر بنفس المقدار من السرور أم لا؟

ومِن المُسلَّم بأنّ معياراً كهذا - لو كان صحيحًا - يمٌكن له أن يجعل الإنسان مطّلعًا

ص: 61


1- ربما لو وُفّرت المعايير لكون الإنسان طالبًا للعلوم الدينيّة، لكان الوضع في أيّامنا بنحو مختلف، فإنّ الشخص الذي يعدّ نفسه طالبًا للعلوم الدينية، في حين أنّ مقدار ما يعرفه عن القرآن أقل بالنسبة لباقي العلّوم المتدّاولة من قبيل المنطق والنحو والفقه والأصول والفلسفة والعلوم الشرقيّة والغربيّة وهو للأسف وضعنا الغالب علينا نحن الطلّاب، فصدق عنوان طالب العلوم الدينيّة عليه في هذه الحالة فيه شكٍّ، هذا مع أنّنا مطّلعون جميعًا على الدعوة الأكيدة للقرآن بالتدبّر وكذلك على شكوة النبيّ صلّی الله علیه و آله القَطعيّة من هجر القرآن في محضر الله عزّ وجلّ، واليوم نجد أنّ بعضنا نحن الطلّاب ينكَبُّ على مواقع الأخبار ويُحقّق فيها قبل أن يُنفذ أمر الله عزّ وجل الذي يقول فيه {فَاقرَءوا ما تَيسَّرَ) (المزمل / (20)، وقد وصلَ هذا العبد [يعني نفسه[ بعد سنوات من الدراسة والتحصيل في العلوم الدينيّة وغيرها إلى هذه النتيجة بشكل صادق، وهي أنّه يصدق عليّ أني «طالبٌ لنَفسي» أكثر بكثير ممّا يصدق عليّ أنّي «طالبٌ للعلوم الدينيّة»، وربّما لو أنّهم وفروا لنا المعايير المتعلّقة بطلب العلوم الدينيّة من البداية، لَمَّا كُنّا اليوم في هذا الوضع، لكنّهم بدلاً من أن يمنحونا المعيار، منحونا الألقاب، ففتحنا «جامع المقدّمات» فأصبحنا «ثقة الإسلام» ، ولبسنا زيّ العلماء فأصبحنا «حُجة الإسلام» وبحمد لله لو أنّنا نجمع المريدين، ونتحدّث بأسلوب علمائيٍّ و ... فلن يطول بنا المقام حتّى نُصبح «آية الله». طبعاً وألْفُ طبعاً يختلف الأمر والحساب مع الأشخاص المخلصين والعلماء، وعددهم ليس بقليل بين رجال الدين
2- «أنا خيرُ شريكٍ مَن أشرَكَ معي غيري في عمل عمله لم أقبله إلّا ما كان لي خالصاً» (الكليني، ج2، ص295)

على حالة نفسه بالنسبة لفضيلةٍ معيّنةٍ أو لرذيلةٍ معيّنةٍ، وكما سنُبيّن لاحقاً يمُكن أيضًا توفير معايير تُبيّن حالةَ النفس العامّة والكلّيّة.

القسم الثاني: التحدّيات التي تواجه الأخلاق المعياريّة

1. إمكانيّة معرفة المَلَكات من خلال المِعيار

ذكرنا أنّ الأخلاق المعياريّة يمُكنها أن تُطلع كلّ شخصٍ على وضعه بالنسبة لما يملك من رذائل وفضائل وذلك من خلال توفير المعايير والإشكال الأوّل الذي يمُكن أن يُطرح هنا هو أنّ الأخلاق المعياريّة في الأساس تضع قدمها في طريقٍ سدّه الله عزّ وجلّ ولم يسمح به إلّا للخواص من عباده فاكتساب البصيرة فيما يتعلّق بعيوب النفس نعمةٌ من النِعم الإلهيّة الخاصّة، ولا يُريد الله أن يُطّلع كلّ الناس على أوضاعهم وأحوالهم من خلال توفير بعض المعايير لهم ، فكما أنّ الطريق الاعتيادي للكشف عن باطن الناس مسدودٌ، ولا يمُكن القيام بذلك إلّا من طُرقٍ خاصّةٍ، فكذلك الإحاطة بعيوب النفس لا يتيّسر إلّا بعنايةٍ خاّصةٍ من الله، ومن هذا المنطلق قال النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله لأبي ذر : «إذا أراد الله بعبدٍ خيراً فقّههُ في الدين، وزهّدهَ في الدنيا، وبَصّره بعيوب نفسِه» (الصدوق، 1388 ش، ص 531).

فكما أنّ نعمة فهم الدين وكذلك نعمة الزهد إنّما مُنحتا لعددٍ قليلٍ من الأفراد، فكذلك الأمر بالنسبة للبصيرة بعيوب النفس، فهي لا تحصل إلّا لعددٍ قليلٍ من الأفراد، وبناءً على هذا لا يمُكن أن يكون هناك معايير تجعل الناس مطلعةً على عيوبها بسهولةٍ.

وفي الجواب على ذلك يجب أن يُقال: لا ينبغي أن يُستظهر من الرواية بأنّ الاطلاع على عيوب النفس مهما كان حجمه منحصرٍ بالأولياء وخواصّ عباد الله؛ لأنّه وكما مرّ في الحديث السابق في باب محاسبة النفس «مَن حاسبَ نفسَهُ وقفَ على عُيوبِه وأحاطَ بذنوبِه»، فإنّ محاسبة النفس التي يمُكن إجراؤها من قِبل الجميع، تُعدّ واحدةً من الطُرق لكشف العيوب؛ وبناءً على هذا، فالاطلاع على

ص: 62

عيوب النفس، هو أمرٌ ذو مراتبٍ، وبعض هذه المراتب لا يتيسّر للجميع.

والدليل الآخر الذي يدلّ على أنّ المراد من حديث «إذا أراد الله بعبدٍ خيراً ... بَصّرهُ بعيوبِ نفسِه» مرتبةٌ خاصّةٍ من الاطلاع على العيوب، هو ما ورد في الحديث الآخر للرسول الأكرم صلّی الله علیه و آله والذي يقول فيه : «إذا أراد الله بعبد ٍخيراً عاتبه في مَنامه» (پاينده، 1359 ش، الحديث 156). فهذا الحديث الشريف شاهدٌ واضحٌ على أنّ المُراد من البصيرة بالعيوب التي في الرواية السابقة كان نوعًا خاصًّا من الاطلاع على العيوب، لا كلّ نوعٍ من الاطلاع، وقد كتب العارف الربّاني المرحوم آية الله السيّد محمّد الحسين الطهراني حول رؤيا السلّاك على الخصوص ما يأتي:

«فإنّ تعبير رؤيا السالكين يختلف عن تعبير نفس الرؤيا لغير السالكين... وترك المشتهيات المادّيّة واللذائذ الشهويّة لله وفي الله وترك هذه الأمور - الذي هو عين أعمال التقرّب إلى الله - يتمثّل للسالك في النوم بصورة طعامٍ لذيذٍ وفاكهةٍ حلوةٍ وبشكل روضةٍ وبُستانٍ وحشائش خضراء وماءٍ صافٍ زلالٍ،... وإذا ما قدّم السالك أحيانًا لذّة نفسه فإنّه يرى تلك الليلة كأنّ عقربًا يلسعُه». (الطهراني، 1424 ه_، ص 138).

إذن فالاطلاع على عيوب النفس له أنحاء مختلفة ، وبعض مراتبه فقط، يقتصر على الخواصّ من عبيد الله، أمّا ما نقوله من أنّ اطلاع الإنسان على عيوب النفس بمرتبةٍ من المراتب مُمكن للجميع، ليس غير ممنوعٍ وحسب، بل هناك ما يدلّ عليه، وكنموذجٍ على ذلك، يمُكن الاستفادة من الآية النورانيّة: {رَبُّكُم أعلَمُ بما في نفوسِكُم} (الإسراء / 25) بأنّ للإنسان اطلاعاً على ما يجري في نفسه إلى حدٍّ ما (وتفصيل الاستدلال مع الالتفات إلى سياق الآية غير مُتيسّرٍ في هذه العجالة) وفي سورة القيامة النورانيّة، قال تعالى: {بَلِ الإِنسُنُ عَلَى نَفْسِهِ بَصيرَةٌ} (القيامة / 14) وفي هذه الآية نجد أنّه رغمَ النظرة البدويّة قد تجعلنا نظنّ أنها تتحدّث عن يوم القيامة، لكنّ الروايات التي نُقلت تدلّ على أنّ الإنسان يطّلع على خصائص نفسه في هذه الدنيا (الطباطبائي، 1391 ش، ج 20، ص 106) .

ص: 63

كذلك لا بدّ من الالتفات إلى أنّ السُبل المعروضة في أكثر الكتب الأخلاقيّة لاختبار الكِبر في النفس هي سُبلٌ للبحث عن عيوب النفس، ولم يعتبر أيّ عالمٍ من علماء الأخلاق أنّ هذه السُبل متعارضة مع حديث النبيّ صلّی الله علیه و آله الذي خاطب فيه أبا ذرٍّ، ومن الواضح أنّنا لا ندعي أنّ الأخلاق المعياريّة تُؤدّي إلى حصول الإنسان على «إحاطة علميّة» على الرذائل والفضائل النفسيّة، بل المدُّعى هو أنّه يمُكن للجميع الاطلاع من خلال الأخلاق المعياريّة على مرتبةٍ من العلم برذائلهم أو فضائلهم النفسيّة، وهو وهو أمرٌ له أثرٌ كبيرٌ في عمل الإنسان.

2. تطبيق الأخلاق المعياريّة بالنسبة للفضائل

الإشكال الثاني الذي يمكن طرحه هو أنّه لا يمكن للمرء أن يُعمّم الأخلاق المعياريّة حتّى بالنسبة للفضائل؛ لأنّه الإنسان سيتعرّف على الفضائل التي يتمتّع بها من خلال الأخلاق المعياريّة، في حين لا ينبغي للإنسان أن يَرْكن إلى فضائله، فتكليفنا هو أن نتّهم أنفسنا، وأن نعتقد بأنّنا معرّضون للخطأ، «وتعداد الفضائل» لأنفسنا، يُهيّءُ الأرضيّة لغرورنا، وهذا خلاف أحد أهمّ أهداف الأخلاق الإسلاميّة، يعني تنقية النفس من الرذائل.

والجواب على ذلك: أوّلاً : لا يمُكن الجمع بين الاعتقاد بكون الأخلاق المعياريّة مفيدةً في باب الرذائل، ومضرّةٌ في باب الفضائل، حيث يمُكن للإنسان بعد توفير معيارٍ له في باب رذيلةٍ من الرذائل، أن يصل إلى هذه النتيجة، وهي أنّه ليس لديه هذه الرذيلة في وجوده، أو أنّها ضعيفةٌ، وإذا لم نقل دائماً فعلى الأقل في كثيرٍ من الحالات يمُثّل فقدان رذيلةٍ ما دليلاً على أنّ الفضيلة التي تُقابلها موجودةٌ لدى الشخص، مثلاً: جاء في عددٍ من الكتب الأخلاقيّة ومن بينها: «إحياء علوم الدين» و «جامع السعادات»، بأنّ الصحابة لمّا كانوا يعلمون بأنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله ينزعج إذا قام له أحد الحاضرين إذا دخل إلى المجلس، لذا لم يكن أحدٌ منهم يقوم من مجلسه إذا دخل(1). وهذا بنفسه عبارةٌ عن معيارٍ حول مرتبةٍ من مراتب الكِبر؛ يعني إذا كان هناك شخصٌ يرى قيام

ص: 64


1- «وكانوا إذا رَأوه لم يقوموا له لِمَا يَعلمون مِن كراهته لذلك» (الغزالي، 1406 ه_، ج 3، ص 374 الغزالي، 1209 ه_، ج 1، ص 392)

شخصٍ له، فينزعج من ذلك واقعاً في قلبه، فيعرف أنّه تخلّص من الكِبر أو من مرتبةٍ من مراتبه، وهذا الأمر لا يمُكن أن يحصل ما لم توجد مرتبةٌ من مراتب التواضع فيه، مِن هنا نجد أنّ العلماء من قبيل الغزالي والفيض الكاشاني يرون في توضيحهم للمصطلحات الثلاثة المشهورة «التخلية والتحلية والتجلية» بأنّ المصطلحين الأوّل والثاني متلازمان دائماً، أي إنّ التخلية عن أحد الرذائل يتلازم مع التحلية بإحدى الفضائل (الغزالي، 1406ه_، ج 1، ص 26)، وبناءً على هذا، لا يمُكن القول بأنّ الأخلاق المعياريّة مُفيدةٌ بالنسبة للرذائل وفي نفس الوقت مضرّةٌ بالنسبة للفضائل.

ثانيًا : إذا اعتبرنا أنّ احتمال الغرور هو المانع من استعمال الأخلاق المعياريّة في باب الفضائل، فبنفس هذا الدليل يمُكن الاستدلال على لزوم الاقتصار على محاسبة النفس فيما يتعلّق بالرذائل فقط دون الفضائل، في حين أنّه في محاسبة النفس، كما أنّ الإنسان يُعدد معاصيه وأغلاطه ويستغفر منها ، كذلك يُعدد ما فعله من أمورٍ حسنةٍ ويحمد الله عليها، ويجب الالتفات إلى أنّ هذا الدستور العامّ لا يقتصر على علماء الأخلاق، بل هو عين مفاد رواية : «ليسَ مِنّا مَن لم يُحاسب نفسَهُ...» الذي ذُكر سابقاً حول محاسبة النفس.

ثالثًا : ذِكر الحسنات والفضائل أو الالتفات إليها ، إذا ما حصل بضوابطه، فليس فقط لن يُؤثر أثرًا سلبيًا وحسب، بل سيُصبح العبد أكثر عزمًا على عبوديّته لله، وكما نعلم فإنّ هناك ترابطاً بين صلاة الليل وبين الاستيقاظ في الأسحار، قال تعالى: {والمُستَغفِرينَ بالأسْحَار} (آل عمران / (17)؛ {وبالأسْحَارِ هُم يستَغفِرون} (الذاريات / 18). ولذلك نجد أنّ الإمام موسى بن جعفر علیه السّلام يدعو بهذا الدعاء بعد الركوع من صلاة وتره: «هذا مقامُ مَن حسناتُه نِعمةٌ منك وشكرُه ضعيفٌ وذنبُه عظيمٌ» (القمي، 1377 ش، قسم كيفيّة صلاة الليل ص 893). ففي صلاة الليل التي فيها اعتمادٌ شديدٌ على الاستغفار، يُشير من يُحيي الليل في قالب هذا الدعاء إلى حسناته أيضًا ، ولكنّه بالطبع ينسبها إلى الله عزّ وجلّ، ويعترف بشكره الذي لا قيمة له، وبناءً على هذا، ففي الأخلاق المعياريّة، إذا كان الالتفات إلى الفضيلة مصاحبًا للتبصّر والحذر ، فلن يَنجرَّ إلى الغرور (1) .

ص: 65


1- لو أنّ شخصًا يفهم الكلام المعروف والعميق للمرحوم آية الله السيّد محمّد حسن الإلهي الطباطبائي بشكلٍ صحيح، لكان كافيًا في أن لا يقع في الغرور، فهو كثيرًا ما كان يُكرّر هذه الجملة، وهي أنّه علينا أوّلاً أن نتوب من الأعمال الصالحّة التي عملناها فما بالك بالمعاصى (الطباطبائی، 1387 ش ، ص 46)، النقطة الأخرى التي يمُكن أن تُشكّل مانعاً من غرور الإنسان بما لديه من فضائل هي أنّ الفضائل نسبيّة، وأنّها إنمّا تظهر في بعض الظروف الآنيّة، وليس من المعلوم أن يُحافظ الإنسان عليها في الظروف الأخرى أيضاً، وبتعبير جلال الدين الرومي، الكلاب نائمةٌ في نفس الإنسان، وعددهم كبيرٌ وحتّى لو أنّهم كانوا نائمين وغير بارزين، فذلك فقط لأنّهم ليس لديهم الطعام المناسب، قال: چون ک ه در کوچه خری مردار شد *** صد سگ خفته بدان بیدار شد صد چنین سگ اندر این تن خفته اند **** چون خوراکی نیست شان بنهفته اند ]والمعنى: حينما مات حمارٌ في داخل الزقاق استفاق مائة كلبٍ من نومتهم، وهناك مائة كلبٍ مثلها مختفية ٌتحت هذه الثياب، ولكن لم يتوفّر طعامها، لذا فهي ما زالت نائمة[. النقطة الأخرى هي أنّ الفضائل - كالرذائل - لها مراتبٌ، ومن هنا لا تقتصر كلّ فضيلة على معيار واحدٍ، والناس الاعتياديون إذا كان لديهم فضيلةٌ ما، فليس لديهم إلّا مرتبةٌ منها لا جميع مراتبها؛ ومن ثمَّ فالاطّلاع علىً فضيلةٍ نفسانيّة أحيانًا ليس فقط لا يوجب الغرور، بل هو بنفسه يمُثّل دافعًا جديدًا للوصول إلى المراتب الأعلى، أمّا الذين يخرجونَ مرفوعين الرأس من امتحانات المعايير في جميع المراتب فهم الكُمَّل فقط، وإذا كان المفترض أن تزلّ أقدام هؤلاء أيضًا في وادي الغرور، فهذا يعني أنّهم لم يصلوا إلى هذه المقامات بعد، والتذكير بهذه النقطة لا يخلو من الفائدة أيضًا، و ، وهي أنّه إذا كان المفترض أن يكون لكلّ رذيلةٍ وفضيلةٍ معياراً ، فللغرور معيارٌ أيضًا، ويمُكن للإنسان من خلال مراجعته لمعيار الغرور أن يتعرّف هل أصابه الغرور في نفس الوقت وأن يحمي نفسه منه، وعلى كلّ حال، فمجرّد التدبّر في بعض الآيات، لا يُبقي للإنسان العاقل غروراً بالنسبة لفضائله، قال تعالى: {ولَولا فَضلُ الله عَلَيْكُم وَرَحمَتُهُ ما زكى مِنكُم مِن أحَدٍ أبَدًا ولكِنَّ اللهَ يُزَكي مَن يَشَاءُ واللٌه سَميعٌ عَليم} (النور / (21)

وعلى أيّة حالٍ فالفضائل النفسيّة هي نِعمٌ إلهيّةٌ، وليس لدينا من دليلٍ يجعلنا أن نستثنيها من حكمِ {وأمّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّتْ} (الضحى / 11).

3. الأخلاق المعياريّة والوضع الأخلاقي العامّ والكلّي

الإشكال الآخر ناظرٌ إلى توفير المعايير حول الوضع الأخلاقي الكلّي للفرد، فمن الممكن أن يُقال : قد نَقبل بأنّ الفرد يمُكنه أن يطّلع من خلال المعايير على ما يمتلكه مِن رذيلةٍ خاصّةٍ أو فضيلةٍ خاصةٍ، ولكن من غير الممكن التوصّل من خلال الأخلاق المعياريّة إلى أيّ نتيجةٍ تتعلّق بالوضع العامّ والكلّي لأخلاق الأفراد؛ لأنّه لا وجود لهذا النوع من المعايير، وبعبارةٍ أخرى كلّ فضيلةٍ أو رذيلةٍ، يمُكن أن يكون لها معيارها أو معاييرها الخاصّة بها، ولكن ليس لدينا رذيلةٌ عامّةٌ أو فضيلةٌ عامةً حتّى نرغب بتوفير معيارٍ كلىٍّ لها .

لقد نشأ هذا الإشكال من الفرض المسبق القائل بأنّ الرذائل (وكذلك الفضائل) مُنفصلةٌ عن بعضها البعض، ولا يوجد أيّ علاقةٍ خاصّةٍ فيما بينها، في حين أنّه على الأقل هناك ارتباطٌ بين بضع الرذائل (والفضائل)، بمعنى أنّه يمُكن لرذيلةٍ خاصّةٍ أن

ص: 66

تؤدّي إلى رذائل أخرى، وكذلك الأمر بالنسبة لبعض الفضائل (1)، وقد عَدّت الرواياتُ الفضائلَ مترابطةً مع بعضها البعض، [قال الإمام الصادق علیه السّلام[ : «إِنَّ خِصالَ المكارِمِ بَعضُها مُقَيَّدٌ بِبَعضٍ» (العاملي، 1403 ه_، ج 11، ص434) وقد أكّد أمير المؤمنين علیه السّلام على أنّ بعض الفضائل أحيانًا تجرّ فضائل أخرى، قال: «إِذَا كَانَ فِي رَجُلٍ خَلَّةٌ رَائِقَةٌ فَانْتَظِرُوا ]مِنْهُ] أَخَوَاتِهَا» (السيّد الرضي، 1369 ه_، الحكمة رقم 445).

وإذا كان الأمر كذلك، بحيث يمُكن لفضيلةِ معيّنةِ أن تؤدّي إلى فضائل أخرى، وكذلك كان يمُكن لرذيلةٍ معيّنةٍ أن تستتبع رذائل أخرى - وذلك كما تُشعر به الرواية حول الكذب (2)- عندها يمُكن لنا من خلال تمييز بعض الفضائل والرذائل المِفتاحيّة أن نُزاوج بين ذلك وبين سبيل الاطلاع على الوضع الكلّي لنفوس الأفراد.

ويمُكن استنباط هذه الرؤية فيما يتعلّق بالرذائل أو الفضائل المفتاحيّة من القرآن أيضًا، فالقرآن يُؤكّد على وجود دورٍ أساسيٍّ لبعض الفضائل أو الرذائل في نيل السعادة أو في حصول البُعد.

إنّ المقارنة بين الآيتين التاليتين، تعطينا نتيجةً مثيرةً للإعجاب، قال تعالى: {فَأَما مَن تَابَ وَآمَنَ َوعَمِلَ صلِحًا فَعَسى أن يكونَ مِنَ المُفْلِحين} (القصص / 67)، وقال تعالى : {ومَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ المُفْلِحون} (الحشر / 9 ).

أفليس من العجيب أنّ الله في الآية الأولى لم يُعطِ وعدًا قطعياً بالفلاح حتّى بعد «التوبة» و«الإيمان» و «العمل الصالح» حيث قال: {فَعَسى أن يكونَ مِنَ المُفْلِحين}، وفي المقابل نجد أنّه يُعطي وعدًا قطعيًّا بحصول الفلاح لمن وقى نفسه من «شُحّ نفسه» بل حتّى استعمل لذلك تعبيراً يُفيد الحصر ، قال تعالى: {فَأولئِكَ هُمُ المُفْلِحون}! وقد جُعل «الشُّحّ» الذي يعني البخل المصاحب للحِرص، بنحوٍ من الأنحاء مركزا للاهتمام في الآية الأخرى – {وأحضِرَتِ الأنفُسُ الشُّحَّ} (نساء /128) - وهو ما يؤيّد الدور المفتاحي

ص: 67


1- لقد كانت العلاقة بين الرذائل والفضائل محلّ اهتمام أكيدٍ من قبل المرحوم الخواجة نصير الدين الطوسي في كتابه «أخلاق ناصري» (راجع الطوسي، 1360 ش، المقالةً الأولى، الفصل الرابع إلى الفصل الثامن)
2- «جُعِلَتِ الخَبَائِثُ كُلُّها في بَيْتٍ واحدٍ، وَجُعِلَ مِفْتَاحُهَا الكَذِبَ» (المجلسي، 1403 ه_، ج 69، ص 263)

لهذه الرذيلة النفسانيّة في مجال الوضع الأخلاقي الكلّي والعامّ للإنسان.

كذلك الأمر في جانب الفضائل ، حيث يُستنتج من بعض الآيات بأنّه يمُكن أن يكون لبعض الفضائل دورًا حياتيًا وأساسيّاً يُغيّر مسار الوضع العامّ والكلي للإنسان، وتمُثّل الآية 119 من سورة المائدة نموذجاً لذلك، قال تعالى: {يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ}.

وبناءً على هذا، فمع الالتفات إلى علاقة الفضائل ببعضها البعض وكذلك علاقة الرذائل مع بعضها البعض، يمُكن لنا من خلال التدبّر في آيات القرآن وفي الروايات، أن نَحصُل على المعايير الأساسيّة لتشخيص الوضع العامّ والكلّي للأفراد.

4. صعوبة وتعقيد توفير المعيار

التحدّي الآخر الذي ينبغي أن نُشير إليه، هو أنّ توفير المعايير في باب الرذائل والفضائل وعرضها يعتريه بعض التعقيدات ويحتاج إلى دقّةٍ خاصّةٍ، وقد عرضنا قبل قليلٍ معياراً لكشف وجود الإخلاص، وهو أنّ الإنسان إنّما يكون مخلصًا فقط حينما يكون مسرورًا من إنجاز العمل الصالح عن طريق شخصٍ آخر بنفس مقدار سروره لو صدر منه، وهذا المعيار - على الأقل - لا ينسجم للوهلة الأولى مع ما ورد في بعض الأدعية، ففي الدعاء لوليّ العصر عجل الله فرجه والذي يرويه يونس بن عبد الرحمن عن الإمام الرضا علیه السلام ، والذي جاء في «مفاتيح الجنان» بعد دعاء العهد، نجد أنه بعد أن يدعو الداعي بأن يكون من خُدّام الإمام الحجّة عجّل الله فرجه، يَطلب من الله المساعدة والمدد ، ويطلب منه أن يكون ذلك خالصًا من كلّ رياءٍ وسمعةٍ، ويستمرّ بهذه الحالة في الدعاء ويقول : «وَلَا تَسْتَبْدِلْ بنَا غَيْرُنَا فَإِنَّ اسْتبْدَالَكَ بنَا غَيْرُنَا عَلَيْكَ يَسِيرٌ وَهُوَ عَلَيْنَا كَثِير» (القمي، 1377 ش ، ص 723). فالإنسان المُخلِص إخلاصاً كاملاً ، يُريد من الله أن لا يستبدله بغيره في حصول هذا التوفيق الإلهي، ویری أنّ هذا الأمر ثقيلٌ وصعبٌ عليه، وهذا يعني أنّه لابدّ من بحث المعيار السابق حول الإخلاص بتأمّلٍ أكبر.

ومن الواضح أنّ الأسئلة التي يجب أن يُجاب عليها في باب الأخلاق المعياريّة

ص: 68

لا تتعلّق فقط بتعيين المعايير والأسئلة الآتية هي من ضمن الأسئلة التي ينبغي الحصول على إجابتها قبل تدوين المعايير : هل مصدر المعايير في الأخلاق يجب أن لا يكون إلّا القرآن والروايات وحسب، أم يمُكن أن يكون للمعايير العقليّة البحتة دورٌ في هذا المجال أيضًا؟ وهل يمُكن أن يكون للعلوم التي هي من قبيل علم النفس أن تُساعد الأخلاق المعياريّة؟ وما هي نسبة الخطأ المحتملة في الأخلاق المعياريّة؟ وهل يمُكن لخداع النفس أن يُؤثِّر سلبًا على فعاليّة التشخيص في الأخلاق المعياريّة؟ وهل تُوفّر الأخلاق المعياريّة للفرد تشخيصًا كاملاً للفضائل والرذائل النفسيّة؟ وهل الأخلاق المعياريّة عامّةٌ، بمعنى أنّها قابلة للتطبيق حتّى لو كان الإنسان مصداقاً لقوله تعالى: {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} (المنافقون / 3) ؟ وما هي الكلمات المفتاحيّة التي يمُكن 3)؟ الاستعانة بها لإيجاد المِلاكات في الآيات والروايات؟ وكيف يمُكن لنا الاستعانة بالإرث الأخلاقي الإسلامي بالنحو الأمثل من أجل الأخلاق المعياريّة؟

ينبغي التعرّض لهذه الأسئلة في مجالٍ آخر.

الاستنتاج

إذا غضضنا النظر عن العدد المحدود جدًا من المتعلّمين، فإنّ الإرث العظيم المكتوب في باب الأخلاق الإسلامي، قليلُ الفائدة بالنسبة لأغلب أفراد المجتمع، وأحيانًا يبقى من دون أن يُستفاد منه أصلاً، وعندما يُظهر طلاب الأخلاق الإسلاميّة عطشهم من أجل معرفةٍ أكبر في هذا الباب، يُرجع أجمعهم إلى نسخةٍ واحدةٍ من الكتب، من قبيل كتاب «معراج السعادة» ]بالنسبة للقارئ الفارسي، و«جامع السعادات» بالنسبة للقارئ العربي[، وفي النتيجة فإنّ الأشخاص الذين ليس لديهم المعرفة الصحيحة للرذائل والفضائل، سيُواجهون قائمةً طويلةً من الرذائل وعلاجاتها ومن الفضائل ومزاياها وسيبقون في حالةٍ من الحيرة والدهشة وأنّه كيف السبيل للعمل بهذه الوصفة التي كُتبت لجميع هذه الأمراض؟!

ومن خلال تجمیع المعايير الدقيقة في الرذائل والفضائل في كتابٍ واحدٍ صغيرٍ - والذي يحتاج تدوينه إلى همّةِ مجموعةٍ من المُحقّقين وإلى صرفِ وقتٍ طويلٍ من

ص: 69

أجله - ومن خلال توفير هذه المعايير للمجتمع ، يمُكن لكلّ واحدٍ إلى حدٍّ ما أن يَطَّلع على حالته فيعرف ما يمتلكه من الفضائل والرذائل في الحال، فيعرف مثلاً أنّه يُعاني من الرياء بشكلٍ ضعيفٍ أو متوسّطٍ أو شديدٍ، أو أنّ إخلاصه يقع في أيّ درجةٍ، ويمُكن له من خلال المعايير المفتاحيّة أن يتعرّف على وضعه وحالته العامّة، فكما نحتاج إلى «مفاتيح الجنان» نحتاج أيضًا إلى «مفاتيح الحياة» وكذلك نحتاج إلى «معايير الحياة» أيضًا كي يتمكّن كلُّ شخصٍ بمساعدة هذه المعايير من معرفة أيّ المفاتيح التي ينبغي عليه أن يذهب إليها أوّلاً، وأيّ الأبواب يفتح، ومن ثمَّ يتعرّف على مسيره في التكامل الأخلاقي، إنّ فرصة الحياة قصيرةٌ جدًا، بحيث يمُكن لجرس الانتهاء أن يُقرع في أيّ لحظةٍ، ولن يبقى مجالٌ للإنسان بأن يبقى متحيّراً في اختيار المفاتيح

إنّ الإنسان الذي يمُكن أن يكون بأعماله مصداقا لقوله تعالى: {وهُم يَحسَبونَ أَنَّهُم يُحسِنونَ صُنعًا} (الكهف / 104)، أو يُبتلى بسرطان {فَأَنسهُم أَنفُسَهُم} (الحشر (19) الذي لا علاج له، أو انسدّ طريقه نحو الكمال من خلال {فَطُبعَ عَلَى قُلوبِهِم} (المنافقون/3) يحتاج إلى أن يكون مُطَلعًا بنحوٍ مستمرٍّ على وضعه الأخلاقيّ والمعنويّ، وبرأينا فإنّ الأخلاق المعياريّة مضافًا إلى أنّها تستطيع أن تُساعد الإنسان في هذا المسير ولو بشكلٍ نسبيٍّ، فكذلك آثارها إن لم تكن أكثر من محاسبة النفس، فليست أقل.

ص: 70

المصادر

1. القرآن الكريم.

.2 ابن مسكويه أحمد : (1426ه_)، تهذيبُ الأخلاق وتطهير الأعراق، النجف طليعة النور.

.3 ابن بابويه (الشيخ الصدوق)، محمّد بن علي : (1338 ش)، الأمالي، طهران، کتابفروشی اسلامیه.

.4 الآمدي عبد الواحد: (1366 ش)، تصنيف غرر الحكم ، تحقيق مصطفى درايتي، قم، مكتب الإعلام الإسلامي.

.5 الإلهى الطباطبائي، السيّد محمّد حسن: (1387 ش)، إلهيّة (يادنامه) [=مذكّرات إلهيّة]، طهران شمس الشموس.

6. پاینده أبو القاسم: (1356 ش)، نهج الفصاحة، طهران، سازمان چاپ و انتشارات جاویدان.

.7 الطهراني، السيّد محمّد الحسين: (1424ه_)، الروح المجرّد، بيروت، المحجّة البيضاء.

8. جالينوس: (1353 ش)، جوامع کتاب طيماوس في العلم الطبيعي، إخراج حنين بن اسحاق، في «أفلاطون في الإسلام : نصوص، حقّقها وعلّق عليها عبد الرحمن بدوي»، طهران، مؤسسهء مطالعات اسلامی دانشگاه مک گیل.

.9 الرازي محمّد بن زكريّا : (1939م) ، رسائل فلسفيّة، كتاب الطب الروحاني، القاهرة، بول كراوس.

.10 السيّد الرضي، محمّد : (1369 ه_)، نهج البلاغة، تصحيح: محمد دشتي، قم، نشر إمام علي (ع).

.11 شبّر، السيّد عبد الله : (1383ه_)، الأخلاق، تدقيق جواد شبّر ، مُقدّمة السيّد محمّد القطيفي، النجف، مطبعة النعمان.

12. الطباطبائي، السيّد محمّد حسين: (1391ه_)، الميزان في تفسير القرآن، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

13. الطوسي، نصير الدين: (1360 ش)، أخلاق ناصري [=الأخلاق الناصريّة[، مجتبى مينوي وعلي رضا حيدري، طهران، خوارزمي.

14. العاملي، محمّد بن الحسن (الشيخ الحرّ) : (1403 ه_)، وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، بيروت، دار إحياء التراث العربي.

15. الغزالي، محمّد : (1406ه_)، إحياء علوم الدين، بيروت، دار الكتب العلميّة.

.16 . الفيض الكاشاني، الملّا محسن : (1378 ش)، الحقايق في محاسن الأخلاق، طهران، کتابفروشی اسلامیه.

ص: 71

17. الفيض الكاشاني، الملّا محسن : (1403 ه_)، المحجّة البيضاء في تهذيب الإحياء، بيروت، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات.

18. القمي، الشيخ عبّاس: (1365 ش) كلمات طريفة، قم، مؤسسه در راه حق.

19. : (1377 ش)، كليّات مفاتيح الجنان، قم، انتشارات فاطمة الزهراء.

20. الجيلاني، عبد الرزاق: (1360 ش)، الشرح الفارسي لمصباح الشريعة ومفتاح الحقيقة، طهران، کتابخانه صدوق.

21 مجتبوي، السيّد جلال الدين: (1367 ش)، علم اخلاق اسلامی [=ترجمة كتاب جامع السعادات للفارسيّة[، طهران، حكمت.

.22. المجلسي، محمّد باقر : (1403 ه_) ، بحار الأنوار، بيروت، مؤسسة الوفاء.

.23 المحاسبي، الحارث : (1389 ه_)، الرعاية لحقوق الله، بيروت، طباعة عبد القادر أحمد العطار.

.24 محقق، مهدي: (1346 ش)، رازی در طب روحانى [=الرازي في الطبّ الروحاني[ ، نشريهء دانشکدهء ادبیات و علوم انسانی دانشگاه تهران، السنة 4، (1346 ش) ، رقم 4.

.25 محمّدي الري شهري، محمّد: (1383 ش)، ميزان الحكمة، قم، دار الحديث.

26. النراقي، المُلّا أحمد: (1370 ش)، معراج السعادة، طهران، دهقان.

27 . النراقي، المُلّا مهدي: (1209ه_)، جامع السعادات، بيروت، مؤسسة الأعلمي.

ص: 72

الأخلاق الدينية والواقعية الأخلاقية

الأستاذ محمد لغنهاوزن (1)

ترجمة هبة ناصر

خُلاصة

تهدفُ هذه المقالة إلى استكشاف العلاقات بين الأشكال المختلفة من الواقعية الأخلاقية وبعض الآراء حول الأخلاق الدينية، وعلى وجه الخصوص الأخلاق الدينية في التراث الإسلامي. تجدرُ الإشارة إلى أنّ كلّ ما ورد في هذه المقالة ينطبقُ أيضاً على الآراء الأخلاقية في التعاليم الدينية الأخرى. أولاً ، تُقدّم هذه المقالة عرضاً تاريخياً موجَزاً لتصاعد الواقعية الأخلاقية في القرن العشرين، وتمُيِّزُ ثانياً بين الأنواع الرئيسية من الواقعية الأخلاقية، بينما تحتجُّ ثالثاً على أنّه لكلّ نوعٍ رئيسيٍ من هذه الواقعية - سواءً الواقعية الأخلاقية الشديدة أو الواقعية الأخلاقية الطفيفة - يمُكن صياغة وجهات النظر الدينية التي تتطابقُ مع كلٌّ من التوجِّه نحو تبنّي الواقعية أو رفضها. ولكن في كلتا الحالتين، ينبغي على عالِم الأخلاق أن يدفع ثمن تبنّيه أو رفضه. في الختام، يحتجّ الكاتب على أنّ الموقف الذي تبنّاه أبرز الفلاسفة المسلمين - والذي يرجع إلى ابن سينا مروراً بالملّا صدرا - يلتقي في نقاطٍ مهمة مع الموقف غير الواقعي.

المصطلحات الرئيسية

النظرية الأخلاقية الأخلاق الإسلامية الإبستمولوجيا الأخلاقية، الواقعية

ص: 73


1- أستاذ مُساعد في مؤسسة الإمام الخميني للتعليم والبحوث

الأخلاقية، الواقعية الشديدة البنّائية ،الأخلاقية، الأشاعرة، المعتزلة، المشّائيون، الأخلاق الدينية، المافوق أخلاقية الشيعية.

مقدّمة

جورج إدوارد مور وأصول الواقعية الأخلاقية المعاصِرة

قد يحتجّ أحدهم على أنّ الواقعية الأخلاقية نشأت على يد أفلاطون، فالخير هو جزءٌ من ثالوث يضمُّ الجمال والحقيقة في قطْبيه الآخَرين ويُشكّلُ العالَم السامي للمُثُل الأفلاطونية. ولكن في القرن العشرين، وقف جورج إدوارد مور (1958-1873) وراءَ استحداث الواقعية الأخلاقية المعاصِرة. في العام 1903، نُشِر كتابُه «الأصول الأخلاقية»، ومع هذا الكتاب ظهرت الأخلاق الفوقية لأوّل مرة كفرعٍ متميّزٍ في علم الأخلاق حيث تُبحَث معاني المصطلحات الأخلاقية وتُحلَّل المفاهيم والافتراضات الأخلاقية.

يُعَدُّ جورج إدوارد مور أحد المؤسّسين للفلسفة التحليلية، وكتابه «الأصول الأخلاقية» هو من ضمن المؤلَّفات التي ساهمت في تعريف هذا النمط والمنهاج الفلسفي. ادّعى مور أنّه كان بصدد إجراء تحليلٍ مفهومي، أي: إرجاع الافتراضات إلى المفاهيم التي تتكوّن منها وتحويل المفاهيم إلى أفكارٍ أبسط حتّى يصل الفردُ إلى مفاهيم أولية غير قابلة للتعريف كالخير. قام برتراند راسل (Bertrand Russell) في جامعة كامبريدج بدعم مطالبه لاتّباع الصلابة المنطقية، ولاحقاً نال مور دعمَ لودفيغ فيتغنشتاين كذلك. بالرغم من أنّ المؤرّخين يعتبرون أنّ هؤلاء العلماء الثلاثة هم مؤسّسو الفلسفة التحليلية، إلا أنّ كلَّ واحد ٍمنهم كان لديه رأيه الخاص فيما يتعلّق بكيفية إجراء التحاليل.

في كتاب «الأصول الأخلاقية»، سعى مور لدحض جميع النظريات الأخلاقية الرئيسية التي عاصرها كالمثالية والتطوّرية والنفعية. بالرغم من أنّه قد دافع عن نوعٍ من النفعية المثالية، إلا أنّ هذا النوع كان بعيداً عن أشكال النفعية التي تبنّاها

ص: 74

المنظِّرون الأخلاقيون السابقون، فقد اتّخذ مور موقفاً ثائراً. فيما يتعلّقُ بالأخلاق العملية، لم يدافع مور عن الأخلاق الدينية، ولا عن النشاط السياسي الإصلاحي الذي كان يُناصره بينثام (Bentham) والفيلسوفَيْن من آل ميل (Mill)، ولا عن الصلابة الأخلاقية المنسوبة إلى أخلاقيات الواجب لدى كانط في الواقع، ناصَرَ مور مذهب الجمالية والتمتُّع بالصحبة الصالحة والصداقات العميقة، وتقدير الفن والجمال الطبيعي، والنظر إلى الحياة على النحو الذي كان ينظرُ إليها المؤلِّفون والفنّانون في العصر الفكتوري من أمثال أوسكار وايلد (Oscar Wilde) ووالتر بايتر Walter Pater). بعد طباعة كتاب «الأصول الأخلاقية»، أصبح مور الفيلسوفَ الحكيمَ في عيون نخبة طلّاب جامعة كامبريدج الذين شكّلوا معه جماعةً سريّةً تُدعى «الرُّسُل»، وفي عيون المفكّرين الذين أصبحوا يُعرفون بمجموعة بلومسبري(Bloomsbury).

في الأخلاق النظرية، بدا مور متمرّداً كذلك دخل آخرون في الجدال حول التعريف المناسِب ل_ «الخير» ولكن صرّح مور بأنّ الخير هو غير قابل للتعريف واتّهم أيَّ شخصٍ يعارضه بأنّه يرتكب خطأ أسماه «المغالطة الطبيعية». عدّ مور أنّه إذا فكّرنا بكلّ الأشياء الخيّرة سوف نجدُ بأنّها لا تشتركُ جميعاً بخاصيّةٍ طبيعيةٍ واحدة، ولا يمُكن تحديد الخير بالفائدة أو إرادة فعل الواجب أو أي شيء آخر. كما أشار برنارد ويليامز (Bernard Williams) وآخرون، فإنّ «المغالطة الطبيعية» ليست مغالطةً في الواقع لأنّها تنطبقُ على ما يعتبره مور آراءً خاطئة وليس استنتاجاتٍ مختلّة. علاوةً على ذلك، قام مور بتطبيق مصطلح «المغالطة الطبيعية» على نظريات الأمر الإلهي وأيضاً على النظريات التي تُعرِّف الخير على ضوء الخصائص الطبيعية. من ثمَّ، فإنّ علماء الأخلاق المتديّنين سيكونون بصدد ارتكاب الخطأ إذا قاموا بتفسير الهجوم على المذهب الطبيعي في نظرية مور الأخلاقية كدليلٍ على الخضوع للإيمان الديني.

يُقدّم مور مصطلح «المغالطة الطبيعية كما يأتي:

«قد يصحُّ أنّ كلَّ الأشياء الخيّرة هي شيءٌ آخر كذلك، كما يصحُّ أنّ كلّ الأشياء الصفراء تُنتجُ نوعاً معيّناً من الذبذبة في الضوء. يُفيدُ الواقع أنّ علم الأخلاق يهدفُ

ص: 75

لاستكشاف الخصائص الأخرى التي تنتمي إلى جميع الأشياء الخيّرة. ولكن ظَنّ عددٌ كبيرٌ من الفلاسفة أنّهم حينما أطلقوا الأسماء على تلك الخصائص الأخرى كانوا بصدد تعريف الخير فعلاً؛ أي إنّ تلك الخصائص ليست شيئاً «آخر» ببساطة بل هي نفس الخير بشكل مُطلق وتام. أنا أطرحُ تسمية هذا الرأي «مغالطة طبيعية» وسوف أسعى للتخلّص منه».

في تكملة لهذا النقاش، نجدُ أنّ مور قام بالتأكيد على ثلاثة ادّعاءات:

1. لا يمُكن استنتاج الافتراضات الأخلاقية بشكلٍ صحيح من الافتراضات غير الأخلاقية.

2. المصطلحات الأخلاقية (ومن ضمنها «الخير» على وجه الخصوص) ليست قابلة للتعريف على ضوء المصطلحات غير الأخلاقية.

3. الخصائص الأخلاقية تختلفُ في نوعها عن أيّ خصائص غير أخلاقية أو أيّ ترکيب لهذه الخصائص.

الادّعاء الأول منطقي، والثاني لفظي، والثالث ميتافيزيقي، وهذه الادّعاءات الثلاثة بتمامها هي مثيرةٌ للجدل ولا يمُكن ترسيخها عبر اتّهام من لا يقبل بها بارتكاب المغالطات. افْتَرِضُ أنّ أحدهم يتبنّى مذهب السعادة ويعتقد بأنّ الخير هو ما يقودُ إلى الهناء الأقصى. لقد ساد هذا الموقف في الأفلاطونية اليهودية والمسيحية والإسلامية. لا تردُ أيُّ مصطلحاتٍ أخلاقية في عبارة «يقودُ إلى الهناء الأقصى»، ومن ثمَّ وفقاً للادّعاء الثاني لا يمُكن الاستفادة منها لتعريف «الخير». ولكن لا يعتقد الأفلاطونيون أنّ خاصية الإيصال إلى الهناء الأقصى هي خاصيةٌ غير أخلاقية. أما مور، فإنّه يرى أنّ خاصية الخيرية تختلف في ماهيتها عن خاصية الإيصال إلى الهناء، وذلك لأنّه يعتبر أنّ هذه الخاصية الأخيرة ليست أخلاقية. قد يحتجّ المدافع عن مور بأنّ تعريف الخير على ضوء الهناء الأقصى لا يمُكن أن يكون صحيحاً، فحتّى لو أفادت نظرية مذهب السعادة أنّ الخير هو ما يقود إلى الهناء إلا أنّ هذا ليس معنى كلمة «الخير» في اللغة

ص: 76

الإنكليزية. بالرغم من ذلك، لا يهتمّ مور بالتعاريف اللفظية ويُصرّح أنّه حينما يدّعي عدم قابلية تعريف «الخير» فإنّه لا يقصد أنّ هذه الكلمة لا تمتلك معنی لفظياً في قاموس اللغة. من ثمَّ، هناك معيارٌ يمُكن من خلاله رفض انطباق التعريف القاموسي المتمثّل ب_«الإيصال إلى الهناء» على «الخير»، ولكنّ هذا المعيار لا يتّصلُ بمقصد مور حينما يدّعي بأنّ «الخير» هو غير قابل للتعريف .

اعترضتْ هيلاري بوتنام (Hilary Putnam) على مور معتبرةً أنّ بديهياتنا اللفظية لا تَكشِفُ شيئاً عمّا ننسبه إلى الموضوع حينما نُطبّق المحمول عليه. تُشيرُ بوتنام إلى أنّ الحصول على المفهوم يعني القدرة على استعمال الكلمات بأساليب محدّدة من ثمَّ، فإنّ إدراك مفهوم الخير يوازي معرفة الاستخدام المناسب للكلمات التي تُعبِّر عن هذا المفهوم، وقد يحظى الفرد بهذه الكفاءة من دون معرفته بأنّ الاستعمال المناسب المصطلح «الخير» يتمثّل بانطباقه على ما يُوصل إلى الهناء. من ثمَّ، لا يمُكن الحُكم على كوْن «الخير» قابلاً للتعريف أم لا من خلال الاعتماد على البديهيات اللغوية أو البصيرة المفهومية بل من خلال الإستناد إلى وهو أمرٌ يُوضّح قُدرتَنَا على استعمال العلامات المهمّة. يُشيرُ مَن يتبنّى مذهب السعادة إلى أنّ تصريحنا بأنّ الشيء هو خيرٌ يعني التصريح بأنّه يقود إلى الهناء، ولو عن غير قصد. قد يكون هذا الرأي خاطئاً ولكنّ إظهار خطئه يقتضي المزيد من التأمُّل حول ما نقصده من الكلمات التي نستعملها.

يُعرَف احتجاج مور ضدّ المغالطة الطبيعية ب_«جدلية السؤال المفتوح»، وقد تمّت صياغته بطرقٍ كثيرة إلا أنّ صياغات مور في الأغلب ليست على درجة الوضوح المطلوبة. فيما يلي نوردُ مقتطفاً من كتاب «الأصول الأخلاقية» حيث يتمّ تحديد الجدلية وتقديم نموذجٍ عنها:

«أظنُّ أنّه يتّضحُ أولاً أنّه ليس كلّ خيرٍ أمراً طبيعياً (اعتياديا)، بل على العكس فإنّ الغريب كثيراً ما يكونُ أفضل من الطبيعي من الواضح أنّ الامتياز الفريد - والوحشية الفريدة - ليسا طبيعيان بل هما غريبان ولكن مع ذلك يمُكن القول بأنّ الشيء

ص: 77

الطبيعي هو خير، وأنا بنفسي غير مستعد لمناقشة أنّ الصحة هي أمرٌ حسن. ولكن ما أؤكِّد عليه هو أنّه لا ينبغي اعتبار هذا الأمر واضحاً بل اعتباره سؤالاً مفتوحاً، فإنّ التصريح بوضوحه يعني الإشارة إلى المغالطة الطبيعية».

بما أنّ كوّن x أمراً حسناً يبقى سؤالاً مفتوحاً - حيث يمُكن استبدال x بأيِّ تحليلٍ مُقترَح لمفهوم الخير كالصحة أو الحالة الطبيعية كما ورد في الفقرة السابقة- يعتبر مور أنّ ما يترتّب على ذلك هو عدم إمكانية تحديد أنّ x هو أمرٌ حسن . يتّضحُ من خلال ذکر مور للصحة والحالة الطبيعية كأمثلة أنّ لديه هدفاً أفلاطونياً. كان أفلاطون وأرسطو قد اعتبرا أنّ الامتياز يتحقّق حينما تعمل المدارك البشرية بشكلٍ سليم، أي لدى الاعتدال في شهية الإنسان وطموحاته وذكائه، وهو ما ينطبق بالتتالي على فضائل العفة والشجاعة والحكمة. وعليه، فإنّ من يتّبع فلسفة أرسطو يعتبر أنّ الطبيعة تكمنُ في تفادي الإفراط أو التفريط المدمِّرَيْن. أمّا مور، فإنّه يُفسِّر الأمر الطبيعي بالاعتيادي أو الشائع. من ثمَّ، وفقاً لمتّبعي فلسفة أرسطو، فإنّ الصحة ليست أمراً حسناً لكوْنها الحالة الشائعة لدى البشر أو الحالة البدنية الاعتيادية للجسد، بل إنّ الصحة أمرٌ حسن لأنّها الحالة التي تعمل فيها أعضاء الجسد بشكلٍ سليم ومتناغم.

بسبب شعبية ما يُسمّى بالتيار الجديد لعلم دلالات الألفاظ الذي قامت بوتنام بتأييده، فإنّ الفلاسفة ينصحون بالاحتياط فيما يتعلّق بالخلط بين المسائل الميتافيزيقية واللغوية. إحدى الأمثلة على ذلك كلمة « الماء » . حينما يستفسرُ الفرد عن معنى «الماء» باللغة الإنكليزية فإنّه يكونُ قد طرح سؤالاً لغوياً. ولكن قد يقترح المرء استخدام كلمة «الماء» بطريقةٍ تختلفُ نوعاً ما عن الاستعمال العادي -مثلاً: الدعوة لضمّ الثلج والبخار في تعريف «الماء» - وكلّ هذا يندرجُ أيضاً في ضمن علم دلالات الألفاظ. كذلك، توجد أسئلةٌ إبستمولوجية حول كيفية معرفتنا بأنّ شيئاً ما هو «ماء». في النهاية، تنشأ قضايا ميتافيزيقية تتعلّق بالماهية الحقيقية للماء. على سبيل المثال، قد نعتبر بأنّ الماء هو الحالة السائلة من H2O ، ولكنّ كلمة «الماء» لا تعني «سائل ال_ H2O» لأنّه بمقدور الفرد أن يعرف معنى «الماء» من دون معرفة تركيبته الجُزيئية. من

ص: 78

الناحية الإبستمولوجية، قد يعلم المرء أن السائل في الكوب هو ماء من دون علمه بأنّ الماء هو سائل H2O. لا يعني أيٌّ ممّا سبق أنّ الماء بجوهره ليس سائل ال H2O. قد يُصرّ عالم الكيمياء أنّه لا يوجد عالَم ممكن حيث يكون الماء في كوب ولكنّه ليس H2O لأنّ الماء يتمتّع بتركيبٍ جُزيئي بغضّ النظر عن معنى الكلمة التي تصفه أو الطرق التي نُدركه من خلالها.

على ضوء هذا التمييز بين علم دلالات الألفاظ والميتافيزيقيا، يبدو أنّ أدلة مور الواردة ضدّ الطبيعية الأخلاقية في كتابه «أصول الأخلاق» هي مُشوَّشة. يحتج مور بأنّ «الخير» لا يعني x حيث يكون هذا الأخير نوعاً من الاختزال المزعوم للخير داخل خاصيّةٍ طبيعية أو خارقة للطبيعة. بناءً على التمييز بين معاني الكلمات، يستنتجُ مور أنّ تحديد الخصائص هو ارتكابٌ للخطأ. ولكن لا يمُكننا أن نستنتج بأنّ الماء لیس سائل ال_ H2O فقط لأنّ «الماء» لا يعني «سائل ال_ H2O ». من ثمَّ، لا يمُكننا أن نتوصّل إلى نظرية المتعة التي تُفيد بأنّ الخير هو ما يُثير المتعة ولا إلى الادّعاء اللاهوتي بأنّ الخير هو ما يكون قريباً من الله، والسبب ببساطة هو أنّ «الخير» لا يحملٌ أيَّ معنىً من هذا القبيل. إذا أمكن لجدلية السؤال المفتوح أن تُثبت شيئاً ما فإنّ ذلك هو فقط الادّعاءات بأنّ هيئة «y=x» ليست تحليليةً لدى السؤال المفتوح عن كوْن x هو y أم لا.

قام مور بالاحتجاج على معاني المفاهيم الأخلاقية، وأراد من ذلك الدفاع عن نظرية ميتافيزيقية حول طبيعة الخير تمُثَّلُ شكلاً صارماً من الواقعية الأخلاقية. بما أنّه لا يمُكن تقسيم مفهوم الخير إلى مفاهيم أبسط ومن ثمَّ يكون هذا المفهوم غير قابلٍ للتعريف، استنتج مور أنّ خاصية الخير هي بسيطةٌ ميتافيزيقياً ولا يمُكن إدراكها إلا من خلال الحدس المباشر.

بغضّ النظر عن العيوب الكامنة في أدلة مور، كانت آراؤه مؤثّرةً بشكلٍ هائل. اقتنع كثيرون بأنّ جدلية السؤال المفتوح قد أظهرتْ بأنّ تطبيق الخصائص الأخلاقية على الخصائص الطبيعية (أو الخارقة للطبيعة) هو أمرٌ خاطئ. ولكن بالرغم من ذلك، لم

ص: 79

تتمثّل النتيجة بتبنّي الناس للواقعية الأخلاقية غير الطبيعية التي أيّدها مور. مع أنّ فلاسفة من أمثال بريتشارد (Prichard)، روس (Ross)، وكاريت (Carritt) قاموا بالدفاع عن الواقعية لدى مور ، إلا أنّ كثيرين قد استنتجوا بأنّ دليل السؤال المفتوح قد أظهر بأنّه لا ينبغي اعتبار المصطلحات الأخلاقية مُحدّدة لأيّ خصائص على الإطلاق. على خلاف نوايا مور، فقد أدّت أدلّته إلى أن يقومَ العديد من الأفراد بتبنّي شكلٍّ معيّن من مذهب نفي الإدراكية أو المذهب التعبيري. على سبيل المثال، قام العلماء الوضعيون المنطقيون من أمثال آير (A.J. Ayer) وكارناب (Carnap) الذين لم يهتمّوا بالمبادئ الميتافيزيقية التي أيّدها مور وتلامذته بتبنّي مذهب نفي الإدراكية.

مع تراجُع الفلسفة الوضعية المنطقية وإنعاش الميتافيزيقيا على يد ويلارد ف . أ . كواين (Willard Van Orman Quine) وويلفريد سيلارز (Wilfrid Sellars) بعد الحرب العالمية الثانية، بدأت تظهرُ أشكالٌ أخرى من الواقعية الأخلاقية. استمرّت الأخلاق الأفلاطونية - التي كان أبرز مدافعيها غيرترود أنسكومب(Gertrude Anscombe)، بيتر غيتش (Peter Geach) وفيليبا فوت (Philippa Foot) - بالذبّ عن عناصر المذهب الطبيعي الذي هاجمه مور فضلا عن الدفاع عن هيئات المذهب التعبيري التي أعقبت الأشكال الأولية من مذهب نفي الإدراكية الذي تبنّاه العلماء الوضعيون كان غيتش وأنسكومب كاثوليكيَّيْن بينما كانت فوت مُلحدة، ولكنّهم استطاعوا معاً بناء أُسس أخلاقيات الفضيلة في القرن العشرين وما فتئ هذا المشروع يحظى بالمؤيِّدين في أوساط المفكّرين المتديّنين والملحدين.

يتمُّ أحياناً تقسيمُ الأشكال الأجدد من الواقعية الأخلاقية التي ظهرتْ على الساحة إلى فرعين: البريطانية والأمريكية. تأثّرت الواقعيةُ الأخلاقية البريطانية بفيتغنشتاين (Wittgenstein) وانطلق الدعمُ البريطانيُّ لهذه الواقعية من طرق استخدام اللغة الأخلاقية. اتّجه الواقعيون البريطانيون نحو التخصيص الأخلاقي وإنكار كوْن الخصائص الأخلاقية طارئة على الخصائص المادية. أمّا النموذج الأمريكي من الواقعية الأخلاقية، فقد تأثّر بالواقعية المتعلّقة بالوحدات النظرية في فلسفة العلم

ص: 80

الطبيعي. وفقاً لهذا الرأي، فإنّ الخصائص الأخلاقيّة تطرأ على الخصائص الطبيعية. تمثّل أسلوب الاستدلال المفضّل هنا باستنتاج أفضل التفاسير، وقد قام ريتشارد بوید (Richard Boyd) وديفيد برينك (David O. Brink) بتأييد القياس بين الواقعية العلمية والواقعية الأخلاقية.

في القرن الواحد والعشرين ظهر شكلان إضافيان من الواقعية الأخلاقية. مثّل أوّلُ شكلٍ مجرّد إعادة التعبير والدفاع عن الواقعية التي ناصرها مور التي أصبح اسمها «الواقعية الأخلاقية الشديدة». أمّا الشكل الثاني من الواقعية، فإنّه قد سار في الاتّجاه المقابل ويمُكن تسميته ب_«الواقعية الطفيفة». وفقاً لهذا الرأي، فإنّ إحدى النظريات المتقلِّصة عن الحقيقة تسمحُ لنا بالتصريح بوجود حقائق أخلاقية كطريقةٍ أخرى للإعلان عن الجمل الأخلاقية. تؤخَذُ عبارة «صحيح أنّ السرقة خطأ» بمعنى «السرقة هي خطأ» لا أقل أو أكثر. على هذا الأساس، يحتجّ سيمون بلاكبورن (Simon Blackburn) على أنّه : بما أنّ مناصري مذهب نفي الإدراكية هم مستعدّون لتأييد العبارات الأخلاقية، ينبغي عليهم أن يتخلّوا عن الادّعاء بعدم وجود الحقائق الأخلاقية، وقد منح رأيَه لقب «شبه الواقعية». قام مارك تيمونز (Mark Timmons) بتطوير نظرياتٍ أخلاقيةٍ طفيفةٍ أخرى والدفاع عنها بينما قام ماثيو كرايمر (Matthew Kramer) بمناصرة الواقعية الأخلاقية الطفيفة بجلاء. يمتلكُ مناصرو هذا النوع من الواقعية استعداداً للتصريح بوجود حقائق وخصائص أخلاقية ولكنّهم يعتبرون أنّ هذا الإذعان لا يقتضي التزاماتٍ ميتافيزيقية، أو بأنّه يستدعي إلتزاماتٍ ضئيلةٍ للغاية حيث لا يُوازي الاعترافُ بالحقائق الأخلاقية سوى الاستعداد للتأكيد على الادّعاءات الأخلاقية. كذلك، فإنّهم يعترفون بوجود خصائص أخلاقية ولكنّ تفسيرهم لدعوى وجود خاصية الخير هو أنّ هذه الدعوى هي مجرد طريقةٍ أخرى للتصريح بأنّ بعض الأمور هي خير .

يكفي هذا الاستعراضُ التاريخي الموجَز لأدلة الواقعية الأخلاقية منذ زمن مور للإشارة إلى الكم الهائل من المؤلّفات الموجودة حول الواقعية الأخلاقية في يومنا

ص: 81

الحالي. يُقدِّمُ المؤلّفون تعريفاتٍ مختلفة عن الواقعية الأخلاقية، وبعضها دقيقٌ للغاية بينما بعضها الآخر غير مُتقَن. عُرّفتْ الواقعية الأخلاقية بأنّها مبدأٌ ميتافيزقيٌ ولغويٌ وإبستمولوجي، ويمكن العثور على الأدلة لصالح أو ضدّ النماذج المتنوّعة من الواقعية الأخلاقية وعرضها بدرجةٍ عالية من الحنكة. لا أهدف في هذه المقالة إلى تقييم هذه الأدلة إلا بالقدر الذي تنعكسُ فيه على الأخلاق الدينية، ولكن أولاً ينبغي أن نتناول دائرة المواقف التي تبنّاها المفكرون الدينيون تجاه الأخلاق.

الإسلام والأخلاق

قدّم علماءٌ أخلاق الدين طائفةً واسعةً من الآراء حول العلاقة بين الأخلاق والدين، وكلّ الآراء تقريباً التي تبنّاها علماء الدين المسلمون لها نظيرٌ في الكتابات المسيحية. كذلك، وعلى الأغلب، فإنّ الآراء التي تُشبه وجهات نظر المؤلفين المسيحيين قد تمّ الدفاع عنها من قبل مؤلّفين مسلمين أو يمُكن الذبّ عنها من قبلهم . سوف أقومُ بتناول بعض الآراء التي يمُكن - أو قد تمّ فعلاً - التطرُّق إليها من منظورٍ إسلامي. بالرغم من التداخُل الكبير في الآراء الأخلاقية للتعاليم الدينية المختلفة، إلا أنّه توجد بعض المناقشات التي برزت بشكلٍ أوضح في أوساط المسلمين كالعلاقة بین الأخلاق والقانون الديني، وهذه المناقشة قد تُوفّر مدخلاً مناسباً لتناول الأخلاق الإسلامية والواقعية الأخلاقية.

إحدى أهم النقاشات وأكثرها إثارةً للجدل بين العلماء المسلمين هي العلاقة بين الأخلاق والقانون الديني. تُرجمتْ الكلمة اليونانية Ethikos إلى الأخلاق باللغة العربية، وكانت الترجمة جيدة لأنّ الكلمتين تنبعان من جذرٍ يعني الشخصية. أما في التعاليم الغربية، سُرعان ما توسّعت مادة الأخلاق إلى ما هو خارجٌ عن تعاليم الفلاسفة اليونانيين حول الفضائل، فأصبحت الأخلاق تتضمّن النقاشات حول الواجبات والحقوق والمبادئ والمعايير. تمّ النقاش في التعاليم الإسلامية أيضاً حول هذه القضايا، إلا أنّها لم تعدّ بشكلٍ عام جزءاً من الأخلاق فالحقوق والواجبات تردُ في الشريعة بينما تتناولُ الأخلاق موضوعَ الفضائل. اعتُبرت الشريعة التي تأمر

ص: 82

بحقوق وواجباتٍ معيّنة قانوناً دينياً بشكلٍ عام، ولم يكن هناك رأيٌ يُفيدُ وجودَ قانونٍ أخلاقي مُوازٍ للقانون الديني ولكنّه مُختلفٌ عنه. اعتقد المسلمون بأنّ كمية الأخلاق التي يتوصّل إليها العقل من دون إرشادٍ دينيٍ هي قليلةٌ جداً، وقاموا بالتركيز على مسألة وجود الحُسن و القبح العقلي بالرغم من احتجاج بعضهم على إمكانية استمداد الواجبات من المعرفة العقلية للخير والشر. كذلك ، اختلف العلماء المسلمون بشكلٍ كبير حول المقدار الدقيق من المعرفة الأخلاقية التي يمُكن التوصُّل إليها بشكلٍ مستقلٍ عن الوحي.

بالرغم من أنّ علم الإلهيات لدى الأشاعرة معروفٌ بتبنّيه لمبدأ الإرادة الإلهية حيث يعتمدُ الصواب والخطأ بشكلٍ تام على أوامر الله، بينما علم الإلهيات لدى الشيعة - كالمعتزلة - يَسمحُ للعقل بتمييز الخير في بعض الحالات على الأقل ويُفيد بأنّ إحسان الله يتعارض مع إمكانية أمره بما يُعرف شرّه بشكلٍ مستقلٍ عن الوحي، إلا أنّه توجد مجموعةٌ واسعةٌ من المواقف المختلفة التي تتوسّط طرفيّ هذين النموذجين.

قد يتَّخذُ الفرد موقف المعتزلة الذي يُفيدُ أنّه يستحيل على الله أن يأمر بما يعرف العقل أنّه ظُلم، ولكنّه في نفس الوقت قد يدّعي بأنّ ما يعلم العقل أنّه ظلُم يقتصرُ على البديهيات. من ثمَّ قد يأمر الله بالسرقة ولكن ليس السرقة الجائرة. لا يمُكن أن يأمر الله بالظلم لأنّه يستحيل على الله أن يأمر به، ويصدقُ بشكلٍ بديهي أنّ الظلم هو شر. قد يُعتَبَر هذا الرأي نوعاً خاصاً من الشكوكية الأخلاقية حيث لا توجد معرفةٌ أخلاقية غير بديهية مستقلة عن الوحي.

من ناحيةٍ أخرى، قد يتمُّ الدفاع عن الموقف الأشعري من خلال الاحتجاج بأنّ المعرفة الأخلاقية التي يتوصّل إليها العقل حول الحقائق البديهية ليست معرفةً أخلاقية على الإطلاق بل هي مجرد معرفة منطقية. أيّ محتوى يتضمّن مصطلحاتٍ أخلاقية خارج ما هو موجودٌ في المنطق والقواعد اللغوية ينبغي أن يكون من قِبَل المشرّع الإلهي. قد يصل الفرد إلى درجة نفى الأخلاق كلياً والادّعاء بأنّ الأوامر

ص: 83

الجوهرية الوحيدة هي تلك التي يُصدرها القانون الأخلاقي. أمّا إحدى الأشكال الأكثر اعتدالاً من العقيدة الأشعرية، فإنّها قد تُبقي على الرأي الذي يُفيدُ بأنّ العقل غير قادر على تمييز الحقائق الأخلاقية الجوهرية ولكنّها تُنكر كوْن الأوامر الإلهية غير عادلة. وفقاً لهذا الرأي، الخير والحق هو ما يأمر به الله ولكن ليس لأنّ الله هو الذي أمر به بل لأنّ الله يعلمُ ما هو خيرٌ وحق بينما لا يستطيع العقل البشري الوصول إلى هذه المعرفة بشكلٍ مستقلٍ عن الوحي.

قد يُعتَبَرَ الرأي الذي أبرزناه آنفاً ضمن أنماط الاستنباط الأخلاقي من الكتاب المقدّس التي تعدّ أنّ المصدر الرئيسي لمعرفة الصواب والخطأ هو الوحي. يفترضُ مذهب إنكار هذا الرأي إمكانيةَ حيازة المعرفة الأخلاقية من مصادر أخرى مستقلّة عن القرآن والسنّة (بالنسبة إلى الشيعة تُضاف إلى سُنّة النبي سنّةُ الأئمة المعصومين) أو مندمجة معها. كما ذكرنا سابقاً، فإنّ المعتزلة والشيعة قد لجأوا إلى العقل. من بين المصادر الأخرى للمعرفة الأخلاقية التي ناقشها المسلمون نذكرُ الوجدان، العُرف، وحُكم العقلاء.

بالنسبة لأفلاطون، قد تعدّ معرفة هيئة الخير أقصى معرفة أخلاقية، ولا تتيسّر إلا لمن تُظهِرُ مداركه الروحية التناغم التراتُبيّ المناسب. في التعاليم الأفلاطونية، تمّ الاحتجاج بأنّ أولئك الذين يحيَون بشكلٍ مستقيم يمتلكون المعرفة الأخلاقية التي لا تتوفّر للآخرين. فقط من خلال تطبيق الفضائل يمكن للإنسان أن يعرف الهدف الذي تصبو إليه الحياة المستقيمة. تبرزُ الاتجاهات الأفلاطونية والأرسطية والأفلاطونية الجديدة في تراث الفلسفة الإسلامية، وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على الإبستمولوجيا الأخلاقية للفلاسفة المسلمين. سعى الفارابي بشكلٍ جلي للتوفيق بين العناصر الأفلاطونية والأرسطية في الفكر الأخلاقي والسياسي، وقد انعكستْ النظرة الأفلاطونية (والسقراطية) التي تُفيدُ بأنّ الفضيلة بحد ذاتها هي نوعٌ من المعرفة في قيام الفارابي بالمقابلة بين المدينة الفاضلة والمدينة الجاهلة.

يمُكن تقديم كلّ الآراء حول المجال السابق كأشكالٍ شكوكية تقريباً، وهذا يعتمدُ على مقدار المعرفة الأخلاقية التي يمُكن استخراجها من المصادر الأخرى غير

ص: 84

الكتاب والسنّة. من ثمَّ، يمُكن للفرد أن يتّخذ موقفاً عقلانياً للغاية حيث يكون العقل وحده كافياً لمعرفة الحقائق الأخلاقية الجوهرية، مثلا:ً من الخطأ أذيّة الأفراد مُرهفي الحسّ للتسلية، وضرورة الاحتراز عن الأفعال التي تضرّ بالصحة من دون سببٍ وجيه، ووجوب عدم تقبُّل الموظّفين الحكوميين للرشاوي. قد يدّعي أحدهم على نحوٍ مثيرٍ للجدل بأنّ العقل يحكمُ بشكلٍ مستقل عن الكتاب والسنّة على النواهي التي تعدّدينيةً بالتحديد، ومن الأمثلة على ذلك حرمة شرب الكحول. ولكن مهما كانت الدعاوى الداعمة للعقل متطرفة أو مثيرة للجدل، يستطيع الفرد أن يعتقد بأنّ ميدان قيام العقل بإصدار الأحكام الأخلاقية هو محدودٌ للغاية، وأنّ العقل لا يستطيع تمييز الصواب من الخطأ في معظم القضايا من دون مساعدة الوحي الإلهي.

يمُكننا أن نُشكّل نموذجاً يتناول المواقف المتّخَذَة كالآتي:

1- المعرفة الأخلاقية المستندة إلى الكتاب والسنّة:

أ) المعرفة الأخلاقية المستندة إلى الكتاب والسنة من دون العودة إلى مصادر أخرى.

ب المعرفة الأخلاقية المستندة إلى الكتاب والسنّة مع العودة إلى مصادر وشروطٍ أخرى للمعرفة.

2 - المعرفة الأخلاقية المستقلة عن الكتاب والسنّة: العقل، العُرف، آراء العرفاء، آراء الصالحين، الوجدان.

فيما يأتي، سوف نتناول الاعتراضات الثلاثة التي يمُكن توجيهها إلى هذا الجدول.

أولاً، توجد اختلافاتٌ مهمة حول كيفية تقسيم المعرفة الأخلاقية المستندة إلى الكتاب والسنّة إلى الفرعين (أ) و (ب). من الواضح أنّه لا توجد معرفةٌ مُستندة إلى الكتاب والسنّة من دون العودة إلى مصادر أخرى، فلا يمُكن فهمهما من دون معرفة قواعد اللغة العربية وبلاغتها، وحتّى إنّ أبسط الاستنتاجات تعتمد على العقل. إذاً،

ص: 85

فلنعتبر أنّ الفرع الأول يتألف من المعرفة المستمَدّة من العلم بالمعاني اللفظية للكتاب والسنة فضلا عن جميع مُستلزمات هذا العلم التي يمُكن توسعتها لكي تتضمّن مجالاتٍ كالمعرفة التاريخية اللازمة لتقييم صحّة الأحاديث. قد يُعتَبَر الخلاف الأصولي الإخباري متمحوراً حول مسألة إمكانية الاستفادة في عملية استنباط الأحكام من الكتاب والسنّة من المبادئ الزائدة عن المطلوب لفهم المعنى اللفظي، ولكنّ هذا ليس دقيقاً لأنّه يستحيلٌ تحديد دلالات مجموعة العبارات التي ينبغي ضمُّها إلى معناها اللفظي. علاوةً على ذلك، وبما أنّ الفرع الثاني ليس فارغاً، ينبغي السؤال عن المصادر الأخرى غير الدينية التي ينبغي الرجوع إليها من أجل استخراج الأحكام الأخلاقية من الكتاب والسنّة. حينما نفهم القرآن بشكلٍ صحيح ونُحدِّد الأحاديث الموثوقة، ما المعرفة الزائدة التي نحتاجُ إليها لكي نتوصّل إلى استنتاجاتٍ أخلاقية؟ هل يمُكن اتّباع هذه المبادئ العقلانية في حالات الشك؟ وهل يمُكن تصنيف هذه الحالات بحدّ ذاتها؟ بأيِّ طرقٍ تستطيعُ معالمُ النصّ، والسمات التاريخية، والأبعاد الأخرى المتعلّقة بسياق العبارة أن تُساهم في فهم هذه العبارة؟ ناقش علماءُ الأصول بعض هذه القضايا، وقد ادعى بعضهم أنّه يتحتّم على من يريد مزاولة الاجتهاد أن يفهم أغراض الأحكام الإسلامية المتعدّدة، وهذا الأمر غير متاحٍ إلا لمن يعيشُ حياةً مفعمة بالتقوى. لا تعدّ التقوى مصدراً للمعرفة الأخلاقية ولكنّها شرطٌ لجزءٍ من المعرفة الأخلاقية، أي الفهم الصحيح للقانون الأخلاقي الذي تُقدّمه الشريعة. وَقَعَ أيضاً جدالٌ كبير بين العلماء والمفكّرين المسلمين حول المدى الذي يتّصلُ فيه العلم بالقضايا المستجدّة والتكنولوجيا والأوضاع السياسية بعملية استنباط الحكم.

أحد أكثر الآراء تأثيراً في هذا الميدان يعود إلى الشهيد باقر الصدر، فقد انتهج الموقف المعاصر الذي تبنّاه أغلب علماء الشيعة والذي يُفيدُ إمكانية الاعتماد على الإدراك العقلي للتوصُّل إلى المبادئ التي يمُكن من خلالها استخراج الأحكام الدينية، وقد قام الصدر أيضاً بدراسة الاعتراضات على المواقف الأكثر تطرُّفاً. في سياق بحثه، قام بوصف أنواعٍ عدة من المعرفة العقلية : أ) المعرفة العقلية المبتنية على

ص: 86

الحس والاختبار ؛ ب) المعرفة العقلية المبتنية على البديهيات؛ وج) المعرفة العقلية المبتنية على التأمُّل النظري.

ثانياً، قد تختلف المواقف حول محتوى الفرع الثالث، أي المعرفة الأخلاقية المستقلة عن الكتاب والسنّة ومقتضياتهما. على سبيل المثال، قد يدّعي بعضُ العرفاء أنّه بإمكان الفرد حيازةَ المعرفة الأخلاقية بشكلٍ مستقل عنهما وذلك عبر الإلهام .العرفاني قد يُحتَجّ أيضاً بأنّ العقل يعلم أنّه لا ينبغي للفرد أن يؤذي نفسه حينما يمُكن تفادي ذلك بسهولة، ولكنّ الأفعال المؤذية تُعرف من خلال الاختبار وتطوُّر العلوم الطبية فقط (مثلاً: الضرر الذي يُسبّبه التدخين). من ثمَّ، هناك معرفةٌ أخلاقية يمُكن التوصُّل إليها فقط من خلال العقل والتجربة والعلم بشكلٍ مستقل عن الكتاب والسنّة . إزاء هذا الفرع ، قام الفلاسفة المسلمون بتطوير آراءٍ أخلاقية مستندة إلى تحليلاتهم للفضائل والاستدلال العملي.

ثالثاً، يبقى السؤال عن مقدار المعرفة الأخلاقية التي يمُكن التوصُّل إليها في الفروع الثلاثة. قد يرى أحدهم أنّه بالرغم من إمكانية التوصُّل إلى المعرفة الأخلاقية عبر العقل وحده إلا أنّ هذه المعرفة محدودةٌ للغاية. انتقد هيغل الصورية الفارغة في أخلاقيات كانط، وكذلك يمُكن للعلماء المسلمين أن ينتقدوا المحاولات الرامية إلى استخراج الأحكام الأخلاقية من العقل وحده لأنّها لا تُنتج أكثر من صوريةٍ فارغة. من هنا، قد يدّعي الفرد ضرورة اعتماد المعرفة الأخلاقية الجوهرية على الكتاب والسنّة، أو قد يلجأ إلى المصادر الأخرى للمعرفة الأخلاقية كالوجدان، الحدس الأخلاقي الشخصي أو المنسوب إلى المتّقين والصالحين، أو المصادر والشروط الأخرى التي تمّ اقتراحها للوصول إلى المعرفة الأخلاقية.

باعتقادي، فإنّ الواجبات الدينية هي واجباتٌ أخلاقية، ويمُكن دعم هذا الرأي من خلال الاستدلال الآتي:

1 - يقعُ على عواتقنا واجبٌ أخلاقيٌ متمثِّلٌ بإطاعة الله.

ص: 87

2 - لكي نُطيع الله ينبغي أن نتّبع الأحكام الدينية.

3 - إذا كان علينا واجبٌ أخلاقي يقتضي فعل ، ولكي نقوم ب_x ينبغي أن نأتي ب_ y، إذاً يقع على عاتقنا واجبٌ أخلاقيٌ متمثل بالقيام ب_y .

4 - من ثمَّ، علينا واجبٌ أخلاقي يستدعي امتثال الأحكام الدينية.

وقع خلافٌ حول المقدّمة الأولى حيث عدّ بعضهم أنّه لا يقع علينا واجبٌ أخلاقي بإطاعة الله، بل يقتضي العقل المحتاط طاعته. يمُكن صياغة هذا الرأي في إحدى أشكال العدمية الأخلاقية الدينية حيث نضطرّ لامتثال الأحكام الدينية انطلاقاً من الاحتياط وحده، وحيث تكون الأحكام الإلهية قوانين مفتقدة إلى العلل وبالكاد تتّصل بمفهوم الأخلاق اليوناني. أعتقد أنّه يمُكن تقديمُ احتجاجٍ لاهوتيٍ صائب يُخالف هذا الرأي، ولكنّني لن أُقدم على ذلك هنا فالغاية هي مجرد الإقرار بإمكانية وجود العدمية الأخلاقية الدينية.

إذا كانت هذه العدمية باطلة، وإذا لم تُعرَّف الأخلاق على نحوٍ يستثني الواجبات التي يمتثلها الإنسان لله، وإذا كانت التعاليم الدينية حول وجود الله وصفاته حقيقية، يمُكن الدفاع بشكلٍ جيد عن الفرع الأول، وذلك على قاعدة الإحسان الإلهي.

قمنا إلى حدّ الآن بعرض مجموعة آراء في أوساط العلماء المسلمين حول مصادر المعرفة الأخلاقية، ولكن يبقى السؤال عن دلالات المواقف بالنسبة لمناصري الميتافيزيقيا الأخلاقية الواقعية.

الأخلاق والميتافيزيقيا الإسلامية

من الواضح أنّ الميتافيزيقيا لدى بعض المعتزلة الأوائل كانت شكلاً شديداً من الواقعية الأخلاقية. عدّ جزءٌ من هؤلاء المتكلّمين الأوائل أنّ الخير والشر هما خصائص غير مادية للأفعال، كما أنّ إحدى الفواكه قد تكون تفاحةً أو ذا لونٍ أحمر. ولكن تكمنُ المشكلة في أنّ نسبة الشر إلى الفعل - كتجاوز حدود الأراضي الشخصية

ص: 88

- يعتمدُ على الظروف. إذا دخل أحدُهم إلى أرض غيره لكي يُنقذ طفلاً يتعرّض للغرق فإنّ هذا فعلٌ مُسوَّغ، ولكن إذا دخل آخر إلى هذه الأراضي لكي يتجسّس على جاره فإنّ هذا الفعل ليس جائزاً. من ثمَّ فإنّ الفعل ليس خيراً أو شراً بجوهره، فقد تكونُ حالةٌ ما شراً أو خيراً اعتماداً على الظروف. التفت المعتزلة في البصرة إلى هذا الأمر، فقاموا بتطوير نظرية متطوّرة ل_ «الوجوه» (الأبعاد)، وقد قامت هذه النظرية بإنقاذ الواقعية التي تبنّاها المعتزلة ولكن فقط من خلال جعلها نسبية.

نجد ٌفي كتابات مور مساراً مشابهاً ينطلقُ من بيانٍ مُطلق للخصائص الأخلاقية ويصل إلى اعتبار هذه الخصائص نسبية، ولكنّ هناك اختلافا مهما. العنصر النسبي للخير الذي اعترف به مور يتضمّن التثمين الواعي للشيء الذي يُعد خيراً. على سبيل المثال، العمل الفني ليس خيراً في جوهره ولكنّ الشيء الكليّ الذي يتضمّن تثمين هذا العمل الفنيّ قد يكون خيراً. بدأ مور مع الفكرة التي تُفيدُ أنّه لا يمُكن اختزال الخير الكامن في الشيء في أيِّ تركيبٍ لخصائصه الطبيعية (أو كوْن الله قد أمر به)، بل ذلك الخير يطرأ على الخصائص الطبيعية للشيء. بتعبيرٍ آخر، إذا امتلك x ولا نفسَ الخصائص الطبيعية، فلا يمُكن لهما أن يختلفا في خصائصهما الأخلاقية. هيمنتْ هذه الفكرة على كتاب «الأصول الأخلاقية»، ولكن حينما نُشر كتاب «الأخلاق» في العام 1912، كان مور قد توصّل إلى أن ينسبُ القيمة الجوهرية فقط إلى الكليّات التي تضمُّ الحالات الواعية.

إنّ التشديد على النظر إلى الخير بأسلوب أكثر دقّةً (يشتملُ على معرفة الكيفية التي يتلقّى من خلالها البشر أو الكائنات الواعية الأخرى ما يُعتبر خيراً) يُشكّلُ صعوباتٍ لنموذج المعرفة الأخلاقية الذي قام بتحريك الواقعية بادئ الأمر. وفقاً لهذا النموذج، فإنّ الأفعال والصفات الشخصية وأنماط الحياة والأشياء الأخرى التي تخضعُ للحُكم الأخلاقي - سواء كانت تفاصيلاً أم أنواعاً - لديها خصائص أخلاقية. توصّل البشر إلى إدراك هذه الخصائص عبر نوعٍ من الحدس الذي يمُكن تفسيره إمّا كحدسٍ عقلائي - يُقال عادةً بانطباقه على المبادئ العامة - وإمّا كحسٍّ

ص: 89

و

أخلاقي يتعلّق بأفعالٍ أو أحداث خاصة. ولكن إذا لم تكن الخصائص الأخلاقية متّصلة بالأشياء بشكلٍ مباشر بل بالأشياء المتعلقة بالكائنات الواعية فحسب، يُصبح نموذج المعرفة الحدسية مُثقلاً بالأعباء إلى حدٍّ بعيد. لا يُفيدُ الحدس العقلاني كثيراً خارج ميدان الاندراج والاستنباط المفهومي، ويتعثّر في مجال العلاقات إذا لم يكن مدعوماً بالبُنى الموجودة في المنطق والرياضيات المعاصِرَيْن. حتّى مع هذا الدعم، يضطرب الحدس العقلاني حينما يتطرّق إلى علاقة الأشياء بالفاعلين الواعين لأنّنا نفتقدُ إلى الدليل على قدرة مداركنا العقلية على الإدراك الحدسي لهذه العلاقات المعقّدة. هذا لا يعني أنّه لا يمُكن معرفة هذه العلاقات بل المقصود أنّ هذه المعرفة لا يمكن تسميتها بالحدسية. يبدو أنّ الحسَّ الأخلاقي لديه فرصةً أفضل في التعرُّف على هذه التعقيدات إذا كان الشعور والتعاطُف المطلوبَان متطوِّرَيْن بشكلٍ مناسب، ولكن من أجل التمييز بين المشاعر التي تقودنا إلى تبنّي المعتقدات الأخلاقية الصحيحة من الخادعة ينبغي تدعيمها باعتباراتٍ تمتدّ إلى ما هو أبعد بكثير من الحدسيات المباشرة.

هو

تكمنُ إحدى دوافع تبنّي أيِّ شكلٍ من أشكال الواقعية الأخلاقية في الفكرة التي تُفيد أنّ الدفاع عن الدعاوى الأخلاقية في مقابل اتّهامها بالشكوكية، النسبية، الذاتية، أو الاعتباطية لا يمُكن إلا أن يتمّ عبر تأسُّسٍ متين في الواقع. قد يندفع بعض المتديّنين للقبول بالواقعية الأخلاقية لهذا السبب أيضاً، ولكن ينبغي أن نحذر كثيراً من المبالغة في التعميمات. كما أشرنا سابقاً، يعتقدُ بعضُ علماء الأخلاق الدينيِّين بنوعٍ من الشكوكية الأخلاقية ويعتبرون أنّه ليس بمقدور العقل أو الشعور أو أيّ قدرةٍ بشرية إدراكية أخرى أن تميِّز الصواب من الخطأ، ومن هنا تأتي الحاجة إلى الوحي. فيما يتعلّق بالنسبية، تعتمدُ الأمور على تحديد أيّ الأحكام الأخلاقية تتّصل بأيّ العوامل. يعتقدُ بعض المتديِّنين أنّ الحقوق والمسؤوليات تتّصل بالجنس، أو الانتساب إلى دائرة العلماء، أو اتّصال النسب بالنبي، أو الإيمان. يرفض كثيرٌ من المتديِّنين (ولكن ليس جميعهم) أن تكون النسبية متعلقة بالزمان أو المكان إذ إنّ حكم الله يُلزمنا في يومنا الحالي كما ألزم الناس في زمن النبي. تبنّى الشهيد الإيراني

ص: 90

مرتضى مطهري موقفاً معتدلاً فيما يتعلّق بهذه القضية فاعتقد بوجود بعض الثوابت والعناصر الأخلاقية التي تتفاعل مع طوارئ الزمان والمكان. فضلا عن ذلك، فإنّ الذاتية والاعتباطية مثيران للجدل ولا يُجمِعُ عليهما علماء الدين. تبدو بعض القوانين الدينية مفتقدة للعلل كتفاصيل الأفعال العبادية بالرغم من أنّ علماء الدين غالباً ما يدّعون أن الحكمة الإلهية تكمنُ خلف ما يبدو لنا أنّه حكم مفتقدٌ للعلة.

مسألة الذاتية هي أكثر إثارةً للجدل، فأحياناً توصَفُ نظرياتُ الأمر الإلهي في مجال الأخلاق على أنّها ذاتية. على سبيل المثال، يحتجُّ جورج حوراني على أنّ نظريات الأمر الإلهي لدى الأشاعرة هي ذاتية لأنّ «قيمة الفعل تُعرَّف عبر علاقتها بمواقف محدّدة أو بآراء عاقلٍ يتولّى منصب القضاء أو الرقابة، مثل الرغبة أو عدم الرغبة، الأمر والنهي الموافقة أو الرفض». يُكمل حوراني شرْحَه قائلاً: «العامل المحدِّد هو عقلٌ (الإله)، ومن ثمَّ تُصنَّف نظرية الأخلاق بشكلِ صحيحِ على أنّها «ذاتية». هذا استخدامٌ غريب لمصطلح «الذاتية» الذي يُستعمل عادةً في نظريات الحكم الأخلاقي حيث تقومٌ هذه الأحكام بوصف المواقف (أو الأوامر) الأخلاقية أو التعبير عنها. يرفض حوراني الوصف الأكثر شيوعاً «الإرادة الأخلاقية» لأنّ «هذه التسمية لا تُظهر بشكلٍ جيدٍ علاقتها بالأنواع الأخرى من النظريات». ليس الهدف هو الاختلاف حول التسميات بل فهم العلاقة بين النظريات الأخلاقية والميتافيزيقية. قابَل حوراني بين «الموضوعية العقلانية» في المذهب المعتزلي و «الذاتية الإلهية» في المذهب الأشعري، واعتبر أنّ دحض الأخير يُعَدُّ تأييداً كافياً للأول الذي يُشير - وفقاً لعبد الجبّار - إلى وجود السمات الأخلاقية.

قام حوراني بشكلٍ صريح بالمقارنة بين الموضوعية في المذهب المعتزلي ومذهب الحدسية البريطاني وأضاف إليها إشاراتٍ إلى كتاب مور «الأخلاق». اعتبر حوراني أنّ كُلاً من علماء المعتزلة وعلماء مذهب الحدسية البريطانيين قد توصّلا جوهرياً إلى نفس الاستنتاجات لأنّهما كانا يردّان على الأشكال المختلفة من الذاتية. سعى المعتزلة وراء قاعدةٍ موضوعية للأخلاق تُعارضُ الذاتية اللاهوتية، وقد سعى

ص: 91

علماء مذهب الحدسية البريطانيون إلى نفس الأمر في مقابل تيارات الذاتية المتواجدة في الفكر المسيحي ونظريات العَقْد الاجتماعي. يعتبر حوراني أنّ نفس النزاع قد وقع الفلسفة اليونانية :

«من هنا، فإنّ انتشار نظريات الذاتية بين السفسطائيين هو الذي أدّى بشكلٍ جزئيٍ إلى تحفيز جهود سقراط وأفلاطون للعثور على علم أخلاق موضوعي يعتمدُ على تعاريف المصطلحات الأخلاقية، ونظرية عالم المثُل، ونظريةٍ موازية للمعرفة. مع حلول زمن أرسطو كان هذا التحدّي قد انقضى، ويُلاحَظ الفتور في مؤلفاته حول أكثر القضايا جوهريةً في الأخلاق».

توجد نقاط عدّة جديرة بالملاحظة في هذا الاقتباس. أولاً، يُقدّم حوراني صورةً ثنائية لتاريخ الأخلاق حيث يعتبره صراعاً بين مناصري الذاتية والموضوعية. ثانياً، تمتلكُ الموضوعية مكوّناتٍ ميتافيزيقية وإبستمولوجية وهي الواقعية الأخلاقية ومذهب الحدسية تباعاً. الأمر الثالث والأهم هو اعتباره بأنّ أرسطو يعود بأدراجه نحو الذاتية فيما يتعلّق ب_ «أكثر القضايا جوهرية». استبقى أرسطو على لجوئه إلى الحدسيات العقلية في أخلاقه، وقد عدّه ديفيد روس مناصراً للحدسية. ولكنّ أرسطو لم يعتقد بأنّ ما يُحدَس هو ضمن المثل الأفلاطونية أو السمات الأخلاقية غير الطبيعية. من ثمَّ، يبدو أنّ ما يعتبره حوراني «فتوراً» في أكثر القضايا جوهريةً في الأخلاق هو رفض أرسطو للواقعية الأخلاقية التي تعثر على السمات الأخلاقية في الأشياء كما يُعثر على الأمور الطارئة في المادة.

يبدو أنّ الصراع المعتزلي الأشعري قد أدّى بالعلماء إلى الافتراض بأنّه إذا رفض أحدهم الإرادة الإلهية في الأخلاق وتجنَّب كلاً من الشكوكية ومذهب نفي الإدراكية، فإنّ الخيار الوحيد الذي يستحقّ التأمُّل هو الحدسية الواقعية. يبدو أنّ هذا الذي قاد البروفيسور راينهارت إلى اعتبار الصوفيين ورثة المعتزلة، حيث كتب ما يأتي:

«بمعنى ما ... فإنّ ورثة المعتزلة هم الصوفيون الذين يشتركون في أصول الدعوى والتقوى - ليس مع القشيريين أو أتباع محمد الغزالي بل مع أحمد الغزالي وابن عربي

ص: 92

والقنوي والسهروردي المقتول وذلك من خلال نظريتهم المعرفية حول الوح الوحي الخاص المتشعبة بشكلٍ غامض، وحركات القلب والدوافع المتصارعة والشغف والمخاوف والأحزان. لا يتمثّل الأمر فقط في أنّ أبرز شخصيات التاريخ المعتزلي كانت زاهدة، بل إنّ إحدى أهداف الزهد هو الإصغاء إلى التلقينات الداخلية».

هذه ملاحظةٌ عميقة. اعتبر المعتزلة والصوفيون (والإشراقيون) أنّه باستطاعتنا من خلال الزهد أن نكتسب المعارف الباطنية التي تسمحُ لنا بتثمين الحقائق الأخلاقية المختلفة. ولكن إذا قبلنا بعلم الوجود الخاص بالمعتزلة، فهذا يعني أنّه: كما أنّ الله قد خلق للأشياء في العالَم ألواناً وأصواتاً يمُكن إدراكها من خلال الحواس، فإنّه قد خلق لها سماتٍ أخلاقية يستطيعُ الزاهد أن يُدركها. لا يتّضحُ بالنسبة لي أنّ الصوفيين سوف يقبلون بهذا الأمر. فيما يتعلّق بعلم الإلهيات قد ينحاز كثيرٌ من الصوفيين إلى الأشاعرة ويقبلون بنوع معيّن من الإرادة الإلهية. يقومُ الزهد بتوفير الإدراك الأخلاقي للصوفي الأشعري لأنّ الصوفي يتّحد مع الألوهية ويحب ما يحبّه الله ويكره ما يكرهه، والسبب وراء ذلك الإدراك ليس الخصائص الأخلاقية للأمور المحبوبة أو المبغوضة بل الموقف الإلهي تجاهها الذي يتّخذه الصوفيُّ الزاهد.

قد يقوم الزهد بتسهيل الوصول إلى المعرفة أو الإلهامات الباطنية الأخلاقية بطريقةٍ أخرى، وقد ناقشها ابن سينا في آخر كتاب «الإشارات» مقدّماً بديلاً ثالثاً في النزاع حول المعرفة الأخلاقية، وهذا البديل ليس شكلاً من مذهب الحدسية الواقعية أو مذهب الإرادة الأخلاقية. يُفيد هذا الرأي المشّائي لابن سينا أنّنا نتبيّن الخير من خلال اعتباره ممتعاً، والمتعة ليست إحساساً بل هي الرضا بإنجاز الخير مع كونه خيراً. الخير ليس خاصيةً غير طبيعية بل يتّصل بغايات وكمالات ذلك وهو أمرٌ يُحكم على موضوعه بأنّه خير. من خلال الزهد، يستطيعُ المرء تفادي الأخطاء في الحُكم على ما هو خير التي تنشأ بسبب إهمال الكمالات الفكرية والاهتمام المفرط بالمتع المادية وفقاً لابن سينا، فإنّ المعرفة الباطنية التي تُكتَسب عبر الزهد لا تمُكّن الزاهد من إدراك الخير غير الطبيعي الكامن في الأشياء المتعدّدة، وذلك لأنّ الأشياء

ص: 93

هي خيرٌ فقط بالنسبة لمن يستطيع استخدامها لكي يصبح أكمل أو يتخلّص من العيوب.

يستطيع التفسير الآنف مُساعدَتنا في حلّ معضلةٍ وردتْ في نص «الإشارات» تتناولُ مسألة الحصول على بعض الأمور الممتعة ولكن كرهها بعد ذلك.

«قد يُكتَسَب الشيء الممتع ولكن يغدو موضع كراهية بعد ذلك، كما أنّ بعض المرضى يكرهون الحلويات ولا يشتهون الأشياء التي كانوا يرغبونها في السابق. هذا ليس نقضاً لما سبق ذكره فهذه الأشياء ليستْ خيراً في هذه الحالة لأنّ الحواس ليست مُدركة لها بالنظر إلى خيرها».

أنّ

تُخمِّنُ المترجِمة عِناتي أنّ جُملة «هذه الأشياء ليست خيراً في هذه الحالة» قد أتت ك_«نتيجةٍ لغفلة ابن سينا أو أحدٍ من كتابه»، وقد توصّلت الأستاذة إلى هذا الاستنتاج لأنّه من الواضح أنّ ابن سينا لم يكن من مناصري الذاتية ولم يعتبر الشيء يكون خيراً فقط حينما تُدرك الحواسُّ خيرَه. تُفسِّر عناتي المثال على أنّه بيانٌ لحصول الكراهية تجاه شيءٍ خيِّر بسبب المرض، ولكن يبدو أنّ ما يقصده ابن سينا هو أنّ الحلويات ليست جيّدة للمريض ومن ثمَّ لن يستطيع التمتُّع بها لأنّه ليس بمقدور الحواس حينئذ إدراك الحلويات عن الطريق التي تُدرَك المتعة خلاله، أي أن تكون خيراً. المعرفة الباطنية التي يظهر الخير من خلالها ممتعاً ليست تلك العملية التي يتمُّ من خلالها معرفة الخاصية غير الطبيعية للشيء، بل معرفة أنّ الشيء يستجلبُ كمال الإنسان - وهذا يختلف تحت الظروف المتنوّعة.

ص: 94

الاستنتاجات

في خلاصة القول، يمُكن تطوير علم الأخلاق الديني طرقٍ بعدّة مختلفة، وإحدى هذه الطرق هي نظرية الأمر الإلهي الصادر عن الإرادة في الأخلاق. بالرغم من وجود أسبابٍ فلسفية ولاهوتية تدعونا لرفض هذه النظرية - وتتمثّل على التتالي في أنّ طاعة الله لن تكون أخلاقية وأنّ الأوامر الإلهية سوف تفشل في إظهار الحكمة الإلهية - إلا أنّ هدف هذا البحث ليس تقديم هذه الأدلة أو تفحصّها بل الهدف هو تناول العلاقة بين المواقف التي يمُكن تبنّيها في الأخلاق الدينية فيما يتعلّق بالواقعية الأخلاقية.

وقد سبق وأن تمّ الترويج للواقعية في هيئاتٍ تضمُّ المعالم الآتية:

رفض النسبية المعيارية

رفض الذاتية

رفض مذهب نفي الإدراكية

رفض العدمية

رفض الشكوكية الأخلاقية

القبول بأنّه يمُكن معرفة بعض الحقائق الأخلاقية على الأقل، وذلك عبر الحدسيات العقلانية أو الحس الأخلاقي والضمير أو عبر كليهما معاً.

القبول بأنّ الحقائق والخصائص الأخلاقية تتواجد بشكلٍ مستقل عن العقل والفكر أو إرادة الفاعلين الأخلاقيين.

تستقلُّ آخر هذه النقاط عن غيرها، أي يمُكن إدخال نماذج من النقاط الأخرى في النظرة المشّائية للأخلاق من دون الالتزام الأنطولوجي بوجود الحقائق والخصائص الأخلاقية بالطبع، يوجد المزيد ممّا ينبغي قوله حول كيفية تعامل النظرة المشّائية مع الحدسيات الأخلاقية وكيف تختلف الإبستمولوجيا الأخلاقية المشّائية عن

ص: 95

إبستمولوجيا الواقعية الأخلاقية الشديدة في الواقع، فإنّ النزاع بين المشّائيين ومناصري الواقعية الشديدة لا يدور حول الأنطولوجيا بل حول العلاقة بين الإبستمولوجيا والأنطولوجيا. بالنسبة لمناصري مذهب الحدسية الواقعية، فإنّ الحدسيات تُقدِّمُ نافذةً على الواقع الأخلاقي حيث تُعلَم الحقائق الأخلاقية من خلال معرفة الأخلاق عبر الحدس أمّا بالنسبة للمشّائيين والبنّائين ،الأخلاقيين، يمُكن معرفة الحقائق الأخلاقية عبر تفحُّص شروط الاستدلال العملي والاهتمامات البشرية، بغضّ النظر عن القول بتوافُق هذه الحقائق مع الوقائع الأخلاقية أو وصْفها للخصائص الأخلاقية. بالإمكان مقارنةُ موقف البنّائية الأخلاقية مع موقف الملا صدرا حيال وجود المثال الأفلاطوني المتمثّل بالخير. وافق الملا صدرا على وجود عالم المثل الأفلاطونية لأنّه كان يعتبر أنّ المفاهيم العامة ينبغي أن تنعكس في الميدان الفكري، ولكنّه لم يكن يعتقد بأنّ اللجوء إلى المثل يُساهم في حلّ الإشكاليات المعرفية حول الأنواع الطبيعية. كذلك، قد يقبل المشّائيون والبنّائيّون بتفسيرٍ طفيف للواقعية التي تدور حول الحقائق والخصائص الأخلاقية مع إنكار كوْن اللجوء إلى الحدسيات المباشرة لهذه الوحدات يُقدّم معرفةً أخلاقية. ينبغي أن تعتمد المعرفة الأخلاقية المستقلة عن الوحي على العلم بالطبيعة البشرية والاستدلال العملي.

فيما يتعلّق بالإرادة الإلهية، قد نتخيّل بأنّ أشعرياً يقبلُ بشكل من الواقعية الأخلاقية ويعتقد بأنّ الخصائص الأخلاقية غير الطبيعية تكمنُ في الأشياء والأفعال بأمرٍ إلهي، فتترافق الإرادة التشريعية الإلهية بالضرورة مع مشيئته الإبداعية بأن تكون الخصائص الأخلاقية ملتصقة بالأشياء. قد يعتقد هذا الأشعريُّ أيضاً بأنّ البشر لا يستطيعون الوصول إلى الواقع الأخلاقي إلا عبر الحقيقة الموحاة. الأمر الجوهري بالنسبة لمتّبعي مذهب الإرادة الإلهية في الأخلاق هو ليس إنكار الواقعية بل الفرضية الإبستمولوجية التي تُفيدُ أنّه لا يمُكن معرفة الحقائق الأخلاقية عبر أيّ وسيلة أخرى غير الوحي.

يمُكن أيضاً تطوير نظريات الأمر الإلهي الخالية من الإرادة الأخلاقية بأساليب

ص: 96

تتوافق مع شكل شديد من الواقعية المتعلّقة بالقيم. ينبغي أن يُنظَر إلى مسألة إنكار الإرادة الإلهية الأخلاقية كفرضيةٍ إبستمولوجية وليس معرفية. يُتيحُ علمُ الأخلاق الدينيّ الذي يرفض الإرادة الإلهية في الأخلاق إمكانيةَ الوصول إلى معرفة بعض الحقائق الأخلاقية على الأقل بشكلٍ مستقلٍ عن الوحي. يمُكن شرح كيفية معرفة هذه الحقائق الأخلاقية من خلال طرق عدّ، وأبرز طريقَيْن تمّ تطويرهما في العالَم الإسلامي كانا: أ) أسلوب المتكلّمين المعتزلة والشيعة الذين قدّموا نموذجاً واقعياً للحدسيات الأخلاقية؛ وب) أسلوب الفلاسفة مَن زمن الفارابي وصولاً إلى الطوسي والملا صدرا ومَن بعدهم مِن الذين دافعوا عن المقاربة المشّائية تجاه الأخلاق والحكمة العملية. مع أنّه يمُكن تصنيف المقاربة المشّائية على أنّها واقعيةٌ بنحوٍ طفيف، إلا أنّ لديها قواسم مشتركة مع بعض نماذج البنّائية الأخلاقية أكثر من الواقعية الشديدة التي دافع عنها مور والمعاصرون من مؤيِّديه .

قدّم الأستاذ راينهارت بديلاً معقولاً لاقتراح حوراني بأنّ الواقعية الأخلاقية تبدو كردّة فعلٍ ضدّ الذاتية، واعتبر أنّ السبب وراء الانتقال إلى مذهب الإرادة كان انحسار الحماس الدعوي الإسلامي. سعى الدعاة لاستحضار الحقائق الأخلاقية التي يعرفها غير المسلمين من أجل جذبهم إلى الدين الإسلامي، وقد اقتضى هذا الأمر الاعترافَ بالحقائق الأخلاقية التي يمُكن معرفتها بشكلٍ مستقل عن الوحي. حينما تدعّمت بُنى ومؤسسات الحضارة الإسلامية وانحصر النشاطُ الدعوي في حدود دار الإسلام، أصبح الالتزام بالأحكام الأخلاقية الإسلامية اختباراً للإيمان وليس وسيلةً لجذب الغرباء، ولم يُقدَّم سببٌ آخر للأوامر والنواهي غير أنّها تخضع للحكم الإلهي.

بما أنّ عبد الجبار (935-1025) وابن سينا (حوالي (980-1037) كانا عالِمَيْن مُعاصِرَيْن، يُعتَبَر بأنّ مؤلّفاتهم تعكسُ نفْسَ العوامل الاجتماعية المؤيِّدة للإقرار بوجود الحقيقة الأخلاقية المستقلة عن الوحي. يحتاجُ تبيانُ سبب بقاء هذا الإقرار في التراث الشيعي للفلسفة اللاهوتية منذ زمن الخواجة نصير الدين الطوسي (1274-1201) فصاعداً إلى تحليلٍ يربو عمّا بإمكاني تقديمه. لا داعي للقول بأنّ

ص: 97

العوامل الاجتماعية التي ينبغي تناولها تشتملٌ على أكثر من مجرد التحفيز على تقديم الإسلام والدفاع عنه أمام الغرباء. حينما نُوجِّه اهتمامنا نحو العوامل الاجتماعية التي قد تُشجّع على اتِّباع الاتّجاهات اللاهوتية المتنوّعة، لا ينبغي أن نسقط في فخّ التبسيط حيث يُرى الاستدلال خارجاً عن الموضوع بشكلٍ تام. يصعبُ الدفاع عن مذاهب الواقعية الأخلاقية الشديدة لأنّها تفترض وجودَ سماتٍ غير طبيعية وإمكانية الوصول إليها عبر حدسياتٍ مُلتبسة. لقد قادت هذه المعضلات الفلسفية المتعلقة بالواقعية الشديدة إلى أن يقوم كلّ من مور وعبد الجبّار بتعقيد نظرياتهما من خلال الاعتراف ببعض الأبعاد الارتباطية للسمات الأخلاقية، ولعلّ هذه التعقيدات بحدّ ذاتها هي التي جذبت علماء الشيعة من الطوسي فصاعداً إلى اتّخاذ موقفٍ حول الفلسفة الأخلاقية يميل أكثر إلى المشّائية.

في العالم الإسلامي المعاصر، لا يوجد إجماعٌ حول الإرادة الإلهية أو الواقعية الأخلاقية. يبدو أنّ سياسات الهوية تُروّج لنوعٍ من الإرادة الإلهية بينما يُتوقَّع من الدفاع الفكري عن الإسلام في الميادين العالمية أن يجري على وفق المقاربات التي تتضمن عناصر من العقلانية و/أو شكلٍ من الحدس الأخلاقي. لأسبابٍ تاريخية، ما زالت الإرادة الإلهية في الأخلاق مرفوضةً في علم الإلهيات لدى الشيعة بالرغم من أنّه _كما ذكرنا سابقاً قد تُساهم العوامل المروّجة لهذه الإرادة في الحدّ من نطاق المعرفة الأخلاقية المستقلّة عن الوحي مع عدم الوصول إلى إنكارٍ تامٍ لها، وهذا يُفضي إلى شكوكيةٍ أخلاقية مُخفّفة. في إيران كان التهديد الذي مثّلته الماركسية إحدى الدوافع العظمى للسماح بالتعليم العام للفلسفة في حوزات قم. بالرغم من أنّ بعض أشكال التحفُّظ أشكال التحفظ الديني قد تؤيّد الشكوكية المخفّفة التي تتعلّق بالاستدلال الأخلاقي وقد تحدّ من نطاق المعرفة الأخلاقية المستقلة نطاق المعرفة الأخلاقية المستقلّة عن الوحي، إلا أنّ مسيحيين غربيّين قد قاموا بتقديم دفاعٍ ديني لصالح الواقعية الأخلاقية في مقابل العناصر الذاتية التي تمّت مهاجمتها في ما يُسمّى ب_ «الحروب الثقافية»، ولن يكون العثور على ميول مُشابِهة في أوساط المسلمين الإيرانيين أمراً مفاجئاً. الواقعية الأخلاقية هي جذابةٌ بالنسبة لبعض الأشخاص لأنّهم يرون أنّها تُقدّم طريقةً للدفاع عن الادّعاءات

ص: 98

الأخلاقية المطلقة في مقابل النسبية الثقافية من ناحية أخرى، تتّجه عملية عولمة الخطاب الأخلاقي نحو ترويج الآراء الأخلاقية التي تبدو مختلفةً عن تلك التي تُقدّسها الشريعة الإسلامية، وقد يُساعد هذا الأمر في تقوية ميول العلماء المسلمين نحو التشكيك بقدرة العقل الطبيعي على دعم الأخلاق الإسلامية. من المتوقَّع أنّ الاعتماد على الادّعاءات بوجود الحدسيات المباشرة للحقيقة الأخلاقية لن يُساهم إلا في تصلُّب المواقف المتعارضة في هذه المرحلة، تُقدِّمُ البنّائية المشّائية بديلاً معقولاً يمُكن أن نؤسّس عليه الأخلاق الدينية التي تتلاءم مع الإصرار الشيعي على العقل والعدل، والله أعلم.

ص: 99

الأخلاق الإسلامية

عظيم نانجي (1)

ترجمة: هبة ناصر

خَلاصة

يتضمّنُ التراثُ الأخلاقي الإسلامي دراسةَ مُقارباتٍ مُتنوِّعة حول القيم الأخلاقية، ولقد نشأت التقاليدٌ الإسلامية المختلفة التي نشهدها في يومنا الحالي كنتيجةِ لهذه التأكيدات والمقاربات المتباينة. تشكّلتْ الواجباتُ الأخلاقية للأفراد تجاه بعضهم البعض داخل المجتمع فضلا عن العلاقات مع المجتمعات الأخرى بفعل الاعتبارات الفلسفية واللاهوتية والعملية السابقة، وقد تطوّرت هذه التطبيقات لاحقاً لتُشكِّل مصطلحاتٍ شرعية وأخلاقية تتبعُ لمدارس فكرية مختلفة. تختتمُ هذه المقالة بالإقرار بوجود التنوُّع في الأمة والتأكيد على أهمية «الانفتاح المستمر على احتمالات الاكتشافات الأخلاقية الجديدة والتحديّات التي تمُثُّلها».

مُقدِّمة

يندرجُ الإسلام في ضمن أحدث الأديان العالمية الرئيسية وينتمي إلى قسم الأديان التوحيدية التي تضمُّ اليهودية والمسيحية. منذ بداياته قبل أكثر من 1،400 عام في الموقع الجغرافي الذي يُدعى السعودية في يومنا الحالي، نما الإسلام وانتشر ليضمّ نحو مليار تابع يعيشون في كلّ ركنٍ من أركان العالم تقريباً. بالرغم من أنّ أغلبية

ص: 100


1- باحث في معهد الدراسات الاسماعيلية

أتباع الإسلام الذين يُطلق عليهم تسمية «المسلمين»- يقطنون في قارتيّ أفريقيا وآسيا (ومن ضمنها الجمهوريات الآسيوية التي كانت تنتمي سابقاً إلى الاتّحاد السوفييتي أو تقع شمال غرب الصين)، إلا أنّ عدد المسلمين في قارتيّ أمريكا وفي أستراليا وأوروبا قد ازداد بشكلٍ كبير خلال الربع الأخير من القرن العشرين. في الآونة الأخيرة، اتّجهتْ الدول والجماعات المختلفة التي تُشكِّلُ الأمة الإسلامية نحو التعبير - وإن بدرجاتٍ مختلفة- عن الحاجة لربط تراثها الإسلامي بمسألة تحديد الهوية الوطنية والثقافية. حينما ترافقتْ هذه الظاهرة مع ردود الفعل أو الصراعات المحلية أو الدولية، فإنّها قد تسبّبتْ بمقدارٍ كبيرٍ من التشويش وسوء الفهم حول دور الإسلام من ثمَّ، فإنّه من المهم أن نقوم بتنمية نظرةٍ تاريخية إلى الكيفية التي تمّتْ من خلالها صياغة المجال الكامل للقيم الإسلامية وافتراضاتها الأخلاقية الجذرية في مسار التاريخ الإسلامي وذلك من أجل تثمين تنوُّع التراث الإسلامي المتمثِّل بالفكر والحياة الأخلاقيَّيْن.

المنشأ والمسار: القيم التأسيسية

يكمنُ مصدر الإلهامُ الأول للقواعد والفرضيات التي طبعتْ الإيمان والعمل في الإسلام في مصدرين أساسيَّيْن: الأول هو الكتاب المقدّس الذي يُجسِّدُ الرسالة التي أوحاها الله إلى النبي محمد صلّی الله علیه و آله (المتوفّى في العام 632) المتمثِّلة بالقرآن، أمّا الثاني فهو تطبيق تلك الرسالة عبر النمط المثالي المشهود لأفعال النبي وأقواله وعاداته، أي ما يُسمّى بالسنّة . يعتقدُ المسلمون أنّ القرآن هو الختام في سلسلةٌ من الكتب الموحاة التي أرسلها الله إلى البشر وأنّ السنّة الظهور التاريخي لحياةٍ بشرية تجري على وفق الإلهام والهداية الإلهية وتتجلّى في شخص النبي محمد صلّی الله علیه و آله الذي يعتقدون بأنّه خاتم الرسل المبعوثين من قِبل الله.

المصادر التأسيسية للإيمان الإسلامي

احتجّ الباحث المرموق في الفكر الإسلامي المنتمي إلى جامعة شيكاغو والمفكِّر الإسلامي العصري الراحل فضل الرحمان أنّ اهتماماً عقلياً وأخلاقياً عميقاً بإصلاح

ص: 101

المجتمع قد دفع الإسلام في مرحلته الأولى، وأنّه تمّ تصور هذا المقصد الأخلاقي بأساليب تُحفّز على الالتزام العميق بالاستدلال والخطاب العقلي. كما في غيره من الأديان - وخصوصاً اليهودية والمسيحية - فإنّ الإسلام لدى الإجابة عن السؤال التالي: «ما الذي ينبغي فعله واجتنابه؟» كان لديه مفهومٌ محدّد عن مصادر المرجعية الأخلاقية. حينما أظهر الله مشيئته إلى البشر في القرآن، فإنّه قد حثّهم أيضاً على استخدام العقل في فهم الوحي. أدّى قسمٌ قسم من هذا الاستفسار العقلي لمعرفة معنى الوحي إلى أن يقوم المسلمون بتفصيل قواعد السلوك الأخلاقي والمبادئ التي تبتني عليها هذه القواعد مع مرور الوقت، تمّ أيضاً تفصيل العلاقة بين القرآن وحياة النبي كأسوةٍ في السلوك وذلك من أجل توسعة الإطار الذي يمُكن من خلاله تحديدُ القيم والواجبات. تضمّنت عمليةُ التحديد والتفصيل تطبيقَ الاستدلال البشري، وهذا التفاعل المستمر بين العقل والوحي فضلا عن إمكانيات ومحدوديات العقل مقارنةً بالوحي، قد وفّر أساسَ المصطلحات التي تُشكّل الفكر الأخلاقي في الإسلام.

القرآن والسنّة

تُشيرُ إحدى السور القرآنية المسمّاة ب_«الفرقان» إلى أنّ الوحي هو النقطة المرجعية لتمييز الحق من الباطل، وتمضي هذه السورة في تقديم الأمثلة حول أنبياء قد ورد ذكرهم في الإنجيل وعلى أدوارهم كوسطاء في إيصال كلمة الله إلى مجتمعاتهم. تماماً كاليهودية والمسيحية، فإنّ بداية الإسلام قد ترسَّختْ في الفكرة التي تُفيدُ أنّ الأمر الإلهي هو قاعدة تأسيس النظام الأخلاقي عبر المسعى الإنساني. في مواضع أخرى من القرآن، يُشيرُ التعبيرُ نفسه إلى مفهوم الأخلاق المنزَّلة التي تُقدِّمُ للبشرية تمييزاً واضحاً بين الحق والباطل اللذَيْن لا يخضعان للتبدّلات البشرية. من خلال تأسيس القاعدة الأخلاقية في المشيئة الإلهية، تتوفّر للإنسان فرصة الاستجابة عبر إنشاء وعي عقلاني يُبقي على صلاحية الوحي. وعليه، يمُكن أن يوجد أساسٌ أوسع للفعل البشري إذا تمّ تطبيق العقلانية كنتيجةٍ للوحي، وذلك من أجل تفصيل القواعد التي تشتملُ على مجموع الأفعال والقرارات البشرية.

ص: 102

التفاعل بين الوحي والعقل

تظهر هذه المواضيع في السرد القرآني لقصة خَلق آدم وتراجعه. تميّزَ الإنسان الأول آدم عن الملائكة الذين أُمروا بالسجود له بقدرته الموهوبة من قبل الله على «تسمية الأشياء»، أي إدراك العلم الذي يمُكن التعبير عنه لغوياً ومن ثمَّ تقنينه وهي قدرةٌ ليست مُتاحة للملائكة الذين يُعتبرون كائناتٍ ذات بُعدٍ واحد يترافقُ الواجب المتمثِّل بعدم تجاوز الحدود مع هذه القدرة الإبداعية. يرمزُ الشيطان في القرآن إلى التعدّي لأنّه قد عصى أمر الله بإكرام آدم والسجود له، ومن ثمَّ فإنّه قد تنكّر عن طبيعته الفطرية وحدوده.

إنّ قصة آدم تعكسُ القدرة على الخير والشر المدمَجَة في الوضع البشري فضلا عن القصة المنكشفة حول الاستجابة البشرية للوحي الإلهي المستمر عبر التاريخ. تمُثَّل هذه القصة الكفاح المتواصل للبشرية بُغية اكتشاف الوسيلة للوصول إلى الفعل الموزون والخضوع للدستور الإلهي بهذا المعنى، تُعبِّرُ كلمة الإسلام عن الوحي الأصلي وتستلزمُ الخضوع لإحراز التوازن. أمّا المسلم فهو الذي يسعى عبر العمل الحيازة ذلك التوازن في حياته الشخصية وفي المجتمع.

ما هي التقوى؟

تُلَخَّص الصفة الإنسانية التي تشتملُ على مفهوم القيمة الأخلاقية المثالية في القرآن في مصطلح «التقوى» الذي يرد في هيئاته المختلفة أكثر من مئتيّ مرّة في النص القرآني. من ناحية، تمُثِّلُ التقوى القاعدة الأخلاقية التي تُشكِّل أساس الفعل البشري، ومن جهةٍ أخرى فإنّها تدلُّ على الضمير الأخلاقي الذي يجعلُ البشر مُدركين لمسؤولياتهم تجاه الله والمجتمع. حينما يتمّ تطبيقها على الإطار الاجتماعي الأعمّ، تغدو التقوى العلامة الأخلاقية الشاملة على المجتمع الأخلاقى الحقيقي.

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (سورة الحجرات، الآية 13)

على نحوٍ أدق، حينما يُوجِّه القرآن خطابَه إلى المسلمين الأوائل فإنّه يصفهم

ص: 103

ب_{ الأمة الوسط}، و {شهداء على الناس} كما أنّ الرسول محمدا شهيد على الأمة.

الإسلام طريقٌ حياة

وعليه، يُنظَرُ إلى الأمة الإسلامية كوسيلةٍ تُترجم عبرها المفاهيم والأوامر القرآنية على المستوى الاجتماعي، ويُصبحُ الأفراد أمناء يُطبّقون النظرة الأخلاقية والروحية في الحياة الشخصية. يتحمّل هؤلاء الأفراد المسؤولية أمام الله والأمة لأنّها القيِّمة على مسؤولية المحافظة على علاقة العهد مع الله . يؤكِّدُ القرآن على البُعد الثنائي في الحياة الإنسانية والاجتماعية الذي يتمثّل بالمادة والروح، إلا أنّه لا يعتبر هذه الأبعاد مُتعارضة ولا يفترضُ بأنّ الأهداف الروحية ينبغي أن تُسيطر بطريقةٍ تخفضُ من قيمة الأبعاد المادية فى الحياة. يعترفُ القرآن بالتكامل بين البعدين ويؤكِّدُ على أنّ السلوك والتطلٌّعات البشرية تتمتّعُ بالأهمية لأنّها أفعالٌ إيمانيةٌ تندرجُ ضمن الأُطُر الإنسانية والاجتماعية والثقافية الأوسع. بهذا المعنى، يمُكن أن نفهم بأفضل طريقةٍ الفكرة التي تُفيدُ بأنّ الإسلام يُجسِّدُ أسلوباً شاملاً للحياة.

يمُكن تقديمُ مثالٍ على أحد أبعاد هذه النظرة، وذلك عبر التأكيد القرآني على أخلاقيات إصلاح الفساد في الحياة الاجتماعية والاقتصادية. على سبيل المثال، حثّ القرآن الأفراد على إنفاق أموالهم على: 1) العائلة والأقربين؛ (2) الأيتام؛ (3) الفقراء؛ 4) أبناء السبيل؛ 5) المساكين؛ و6) فكّ الرقاب. تُحدّدُ هذه الأعمال المسؤوليةَ الملقاة على عاتق الإنسان المسلم التي تتمثّلُ بتطوير الضمير الاجتماعي ومشاركة الموارد الفردية والجماعية مع المعوزين. تأخذُ هذه الأفعال طابعاً تأسيسياً في القرآن عبر فرض الزكاة الذي يتضمّن معنى«العطاء»، «الفضيلة» ، «النماء»، و«التطهير». مع مرور الوقت، انضمّ هذا الواجب إلى أركان الإيمان وهي الصلاة والصوم والحج. سعى القرآن أيضاً لإزالة المعاملات الربوية من المجتمع التجاري في مكة والمدينة، ووُصمت هذه المعاملات بأنها تعكسُ انعدام أخلاقيات العمل وبأنها استغلالٌ غير مناسب للمحتاجين.

على المستوى الاجتماعي، يتضمّنُ تأكيدُ القرآن على مسألة العائلة اهتماماً بتحسين

ص: 104

وضع المرأة، وذلك عبر محو الممارسات الجاهلية كوأد البنات ومنح النساء حقوقاً جديدة. تشتملُ هذه الحقوق على الحق في الملكية، والإرث، وعقد الزواج، وإقامة دعوى الطلاق لدى الضرورة، والحفاظ على المهر. نُظِّمتْ مسألةُ تعدُّد الزوجات وقُيِّدتْ بحيث جاز للرجل الزواج من أربعة نساء ولكن فقط إذا استطاع أن يعدل بينهن في السابق فهم المسلمون هذا الحُكم في إطار القرن السابع حين نزل وبأنّه قد وفّر المرونة الضرورية لحلّ مسألة التنوّع الاجتماعي والثقافي الذي نشأ مع توسُّع الإسلام. ولكن من ناحيةٍ أخرى.

بما أنّ القرآن قد منحَ امتيازاً للمسلمين باعتبارهم {خير أمّةٍ} تتمثّل وظيفتها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فإنّ وظيفة النبي محمد صلّی الله علیه و آله كغيره من الأنبياء السابقين قد تضمّنتْ إنشاءَ حكومةٍ عادلة مُقدَّرة إلهياً . انطوى الجهدُ الرامي لتحقيق هذا الهدف على دخول المسلمين في الحرب، والمصطلح القرآني الذي يَشتملُ على هذا الجهد بتمامه هو الجهاد كثيراً ما يُترجَم هذا المصطلح بشكلٍ مُبسَّط وخاطئ إلى «الحرب المقدّسة»، ولكنّه في الواقع يحملُ دلالةً أوسع بكثير تشتملُ على السعي بالأساليب السّلمية كالتبليغ والتعليم ، ويأتي أيضاً بمعنى شخصي ونفسي يتمثّل بالكفاح لتزكية الروح. حينما يُشيرُ هذا المصطلح إلى الدفاع العسكري في حرب مُحقّة، فإنّ القرآن يُحدِّد شروط الحرب والسِّلم ، وكيفية معاملة الأسرى، ومسألة حلّ النزاع، ويُشدّد على أنّ الهدف النهائي لكلمة الله هو دعوة الناس وهدايتهم إلى {سُبُل السلام}.

الواجبات الفردية في الحكومة الإسلامية

مع تشكُّل الحكومة الإسلامية، أصبح من الضروري تناول مسألة علاقتها وموقفها تجاه غير المسلمين الذين يمتلكون تعاليم مكتوبة مماثلة وعلى وجه الخصوص اليهود والمسيحيون الذين يُشيرُ إليهم القرآن ب_ {أهل الكتاب}. في الأماكن التي سكن فيها أهل الكتاب كرعايا في الدولة الإسلامية، تمّ منحهم «الحماية» عبر اتّفاقٍ مُتبادل يدفعون بمقتضاه ضريبةً إزاء حماية ممتلكاتهم الخاصة وقوانينهم وممارساتهم الدينية ولكن لا يُسمَح لهم بدعوة المسلمين إلى دياناتهم. يُفصِحُ القرآن عن خصوصية

ص: 105

المجتمع الإسلامي ومكانته البارزة، ويُشجّع على توجيه احترامٍ أكبر للاختلاف والتباين في المجتمع البشري مع تفضيل الأهداف الأخلاقية المشتركة ونبذ المواقف التفريقية والعدوانية

{لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن ليَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيرات} (المائدة، الآية 48).

التعابير الشرعية والأخلاقية

تنعكسُ الحاجةُ للتناغم بين الأمر الإلهي الأخلاقي والحياة البشرية في الأحاديث النبوية المحفوظة التي يُنظَر إليها على أنّها مُوضِّحة للقيم والأوامر القرآنية ومؤكِّدة لها. مع الوقت، أصبحت مسألةُ تسجيل مشاهد من حياة النبي وكلماته وأفعاله وعاداته أمراً يُقدِّمُ للمسلمين نمطاً خالداً يُحتذى به في الحياة اليومية، وقد اتّخذت هذه المسألة أيضاً دوراً هاماً في شرح القرآن وتتميمه. بالنسبة للمسلمين، عزّزت شخصيةُ محمد وجهاده وتقواه ونجاحه النهائي من دوره كقدوةٍ وكخاتم الأنبياء، ويوجد في جميع اللغات تقريباً التي يتحدّث بها المسلمون تراثٌ غنيٌ من الشِّعر في مدح النبي ممّا يزيدُ من الاقتداء بسلوكه ويُعزِّز الشعور بالقُرب الشخصي منه ومن وأهل بيته ومودّتهم. بالنسبة للمسلمين، تتلازمُ رسالة القرآن وحياة النبيّ صلّی الله علیه و آله دائماً عبر التاريخ بوصفهما نماذج للسلوك الأخلاقي، وقد شكّلا القاعدة للمفكّرين المسلمين للقيام بتطوير الأدوات الشرعية اللازمة لتجسيد الأوامر الأخلاقية.

أدّتْ عمليّة تفصيل العلوم الشرعية إلى تقنين المعايير والتشريعات التي تُشكِّلُ مفهومَ القانون في الإسلام التي تُدعى ب_ الشريعة عموماً. تندرج ُالمدارس التشريعية الإسلامية المتنوِّعة ضمن الهيئات التي تمّ تطويرُها لتشمل الأمر الأخلاقي، وقد فصّلتْ كلُّ واحدةٍ من هذه المدارس أحكامها الشرعية عبر عملية الفقه، وذلك من أجل تكوين تفسيرها الخاص للكيفية التي ينبغي أن يقوم من خلالها المسلمون بالاستجابة للأوامر الإلهية في حياتهم اليومية.

ص: 106

بموازاة الأحكام الفقهية الآخذة بالتطوُّر، انبثقتْ مجموعةٌ من الفرضيات الأخلاقية التي تُعبِّرُ عن القيم الأخلاقية وتتجدّرُ في مفهومٍ أكثر ميلاً نحو التنظير والفلسفة حول السلوك البشري، وذلك كاستجابةٍ للقرآن وحياة النبي صلّی الله علیه و آله. على خلاف ما يُعتقد عموماً، فإنّ المجموعات الإسلامية ومدارس الشريعة لم تكن مُحدَّدة بوضوح خلال القرون الثلاثة الأولى من التاريخ الإسلامي فقد كانت معظمها ما تزالُ تمرُّ في فترة التبلور ولم تُحدَّد وتُفصَّل حدودها ومواقعها بشكلٍ تام. لم تُحقِّق المنشآت العامة والفقهية والتعليمية في العالم الإسلامي في ذلك الحين تلك الهيئات أو الأهداف الكلاسيكية التي نُسبت إليها لاحقاً. تكمنُ إحدى مفاتيح عملية التعريف والتمييز في طبيعة الخطاب العام الذي طبع المجتمع الإسلامي المتنامي خلال قرونه الثلاث الأولى. أدّتْ الفتوحات والتوسُّع الإسلامي إلى الاحتكاك بثقافاتٍ مُختلفة، وقد قام المسلمون مع الوقت بانتقاء بعضٍ من التراث الفكري لهذه الثقافات وصقله وتطويره. صنعتْ عمليةُ دمج الإرث الفكري والفلسفي التابع لليونان والهند وبلاد فارس وغيرها ظروفاً معيّنة ونمطاً من النشاط الفكري أدّى لاحقاً إلى نشوء التراث العالمي للحضارة الإسلامية المنبعثة. لعِبَ العلماءُ المسيحيون واليهود الذين كانوا قد تعرّفوا بدرجاتٍ متفاوِتة على العلوم العالمية المذكورة آنفاً دوراً وسيطاً مهماً ك_ «مترجمين»، وعلى وجه الخصوص لأنّهم كانوا مُدركين بأنّ التوجُّه الأخلاقي للمسلمين قد تشكّل من المفاهيم التوحيدية التي يشتركون بها التي تستندُ إلى الأمر والوحي الإلهي. أصبح يُستخدَمُ مصطلح الأدب للدلالة على نطاقٍ واسعٍ من المعاني التي يُشيرُ إليها الخطاب الأخلاقي والفكري واللغوي المنبثِق، ويمُكننا أن نُلاحظ في هذه المدّة الممتدّة بين القرنين الثامن والعاشر ظهورَ ما أضحى لاحقاً مواقف لاهوتية وفكرية محدَّدةً بوضوح في المجتمع الإسلامي وقد عُرفت بتعاليم السنّة والشيعة والمعتزلة والفلاسفة المسلمين.

تحدّدتْ الخطوط الرئيسية للبيئة والمنظور الأخلاقيَّيْن المبتنيَيْن على الرسالة القرآنية عبر المواقف الأخلاقية العامة التي أصبحت تُعَدُّ معيارية بسبب التعبير عنها بلغةٍ ومصطلحاتٍ فقهية في الفترة المبكِّرة من التاريخ الفكري الإسلامي، قدِمت هذه القيم إطاراً مرجعياً للاستيعاب الانتقائي للفرضيات الفلسفية والأخلاقية من

ص: 107

التعاليم الأخرى وتطويرها، وشكِلت قاعدةً لتوسعة نطاق هذا الإطار الإسلامي وتطبيقه من أجل التعبير عن قيمٍ أخلاقية أخرى غير القيم المحدَّدة فقهياً فحسب. بما أنّه يصعبُ التأكيد على فروقٍ واضحة في الإسلام بين الدِّين والمجتمع والثقافة، يبدو أنّه من المناسب حينما نقومُ بمناقشة الأخلاق الإسلامية أن ندع المجال لتمام الاتّجاهات الفقهية واللاهوتية والفلسفية والعرفانية لتُشكّل مصادر الكشف عن الفرضيات والالتزامات الأخلاقية، وذلك من أجل تثمين كلِّ من التطوُّر والاستمرارية في المجال التام للفكر والحضارة الإسلامية.

المقاربات اللاهوتية والتقليدية

اتّسم التحوُّل إلى ما سمّاه مارشال هودجسون بالحضارة «الإسلاميكية» بنوعين من البدايات الأخلاقية والفكرية التي تستمدّ إلهامها من النصوص التأسيسية الإسلامية والعمليات العقلانية التي تعكسُ الذات. تضمّنت الأولى قيام المسلمين الأوائل بترك الثقافة العربية الجاهلية المرتبطة بشكلٍ أساسيٍ بالتراث المحلي الشفهي والانتقال إلى الثقافة المستِندة إلى النص الموحى الذي تسبّب حفظُه وتدوينه باللغة العربية إلى نشوء الظروف المناسِبة لانبعاث حضارةٍ إسلاميةٍ جديدة تعتمدُ على القرآن وتضمُّ الأمر التوحيدي المنعكس في اليهودية والمسيحية وتوسِّعه . أمّا «البداية» الثانية، فقد تأثّرتْ بشكلٍ جزئي بترجمة الكتب القديمة حول الفلسفة والطب والعلوم (التي تضمّنت الأعمال الفارسية والهندية القديمة بدرجةٍ أقل) إلى اللغة العربية ودراستها. ساهمتْ المناقشات الأخلاقية والقابليات الفكرية المنبعِثة من تراصُف ودمْج هذه الطلائع لتحويلها إلى بداياتٍ جديدة - التي قام العلماء اليهود والمسيحيون بتسهيلها إلى حدِّ ما - بالتحفيز على الاهتمام بالكيفية التي ينبغي من خلالها التوفيق بين وجهات النظر الدينية والأنماط الفكرية للاستفسار.

أدّى انبعاثُ النمط الفكري للاستفسار الذي يعتمدُ على تطبيق الوسائل العقلية كطريقةٍ لفهم الأوامر القرآنية إلى أن يقوم المسلمون بالاستفادة من علم مكرَّس الدراسة الكلام - أي كلام الله. كانت أهداف هذا العلم إلهية، بمعنى أنّ الهدف من

ص: 108

استخدام العقل هو فهم كلام الله وتعليله وقد تضمّنتْ المناقشات قيام المسلمين بتفصيل بعض الاهتمامات الأخلاقية وتعريفها مثل:

1. معنى بعض الأوصاف القرآنية الأخلاقية ك_ «العدل»، «الواجب»، «الخير»، «الشر»، وما إلى ذلك.

2. مسألة العلاقة بين الإرادة البشرية الحرّة والإرادة الإلهية.

3. قدرة البشر على الاستنباط العقلي للمعرفة بالقواعد والحقائق الأخلاقية الموضوعية.

من دون إجحاف عملية الجدال والمناقشة التي جرتْ بين الفرق الإسلامية المختلفة، يمكُن بشكلٍ عام الإعلانَ عن بروز موقفين واضحَين: الموقف المنسوب إلى المعتزلة والموقف التقليدي (المنسوب عموماً إلى المذهب السنّي في الإسلام).

المنهج المعتزلي

احتجّ المعتزلة أنّه : بما أنّ الله عادلٌ ويُثيبُ ويُعاقب وفقاً لعدله، ينبغي أن تكون إرادة البشر حرّة لكي يكونوا خاضعين للمساءلة. من ثمَّ، أنكر المعتزلة أن تكون الأفعال مقدَّرة سابقاً. ثانياً، اعتبروا أنّه: بما أنّ المفاهيم الأخلاقية تمتلكُ معنىً موضوعياً، فإنّ البشر يمتلكون القدرة الفكرية لإدراك هذه المعاني. وعليه، فإنّ العقل بالنسبة إليهم هو خاصيةٌّ رئيسية ويستطيعُ بشكلٍ مستقلٍّ عن الو- الوحي أن يصل إلى الملاحظات التجريبية ويستخرج استنتاجاتٍ أخلاقية. ولكن مع ذلك، اعتقد المعتزلة بأن العقل الطبيعي ينبغي أن يتكامل بالوحي الإلهي وأن يُؤيَّد به. يتّصلُ رأيٌ معتزليٌ آخر بهذه الفكرة ويُفيدُ أنّ طبيعة الله العادلة تحول دون أي اعتقادٍ بأنّ الله قد يقومُ عمداً بدفع المؤمنين نحو الذنوب.

اندثرتْ المدرسة الفكرية للمعتزلة على مرِّ التاريخ وقد اعتبر أغلبُ العلماء التقليديون أنّ آراءها غير مناسبة. يُشيرُ دحض العلماء التقليديين للنقاط الرئيسية لهذه المدرسة إلى

ص: 109

وجودِ مقاربةٍ مختلفة تجاه المصادر التي تُستَمَدَّ منها القيم الأخلاقية والإطار الإيماني الذي تتمتع فيه بالمعنى. يُفيدُ الموقف التقليدي الذي يتجلّى على سبيل المثال في نتاج الشافعي - وهو أحد مؤسِّسي المذاهب الفقهية الإسلامية - أنّ أصول الإيمان هي تطبيقية وليست تنظيرية. على خلاف الاعتقاد المعتزلي بأنّ العقل الطبيعي يُخوِّلنا تحديدَ الخير والشر، أكّد الشافعي على أنّ الوحي هو المصدر النهائي للتحديد. بما أنّ مبدأ المساءلة البشرية يمُثَّلُ أساس الفكر الفقهي، فإنّ الواجبات تعني القدرة على القيام بها ويتمُّ تحديدُ الخير والشر على أساس النص القرآني وامتداده أي السنّة النبويّة. من ثمَّ، فإنّ الأفعال هي خيرٌ أو شرٌ لأنّ التعاليم الإلهية تُحدِّد أنّها كذلك.

فيما يتعلّقُ بمسألة الإرادة البشرية للقيام بالفعل حُورِب الرأي المعتزلي من إحدى النواحي عبر مفهوم «الاكتساب». تمّ الاحتجاجٌ بأنّ القدرة الإنسانية على القيام بالأفعال ليست مُلكاً للفرد بل تأتي من الله إذ إنّ البشر «يكتسبون» المسؤولية عن أعمالهم ومن ثمَّ يُصبحون خاضعين للمساءلة. ينبغي التأكيد على أنّ المفكِّرين التقليديين لم يعترضوا على استخدام العقل بل العكس ولكنّهم قد اختلفوا مع العقلانيين حول القيمة الموهوبة له فقد اعتبروا بأنّه وسيلة وأداةٌ مُساعِدة لإثبات قضايا إيمانية ولكنّه يأتي في مرتبةٍ ثانويةٍ محضة في علاقته بتعريف الواجب الأخلاقي.

المقاربة السنيّة

في تلخيصه للموقف التقليدي، أكّد جورج مقدسي على أنّ القاعدة النهائية للواجب الأخلاقي من منظور الموقف التقليدي هي النصوص الإسلامية التأسيسية - أي القرآن والسنّة - وقد تمّ تفصيلها وتطبيقها باعتبارها الأوامر والنواهي الإلهية التي تُشكّل الشريعة المصاغَة في المدارس الفقهية الإسلامية. تمّ التعبير عن صياغات الأوامر والنواهي هذه في الكتب الفقهية بمصطلحاتٍ أخلاقية، وتمّ انتقاء خمس فئاتٍ لتقييم جميع الأفعال.

1. الواجبات كالصلاة والزكاة والصيام.

ص: 110

2. المستحبات التي لا تعدّ واجبة كالصدقات والإحسان والنوافل.

3. المباحات التي يتّخذُ الفقه منها موقفاً مُحايداً التي لا تستدعي الثواب أو العقاب.

4. المكروهات التي يُردَع عنها وتُعدُّ مبغوضة إلى أنّها ليست محرَّمة. يختلفُ الفقهاء حول الأفعال التي تندرجُ ضمن هذه الفئة.

5. المحرّمات وهي الأفعال المحظورة كالقتل والزنا والكفر والسرقة والسُّكر.

فضلا عن ذلك، قام الفقهاء بوضع هذه الفئات ضمن إطارٍ ثُنائيٍ من الواجبات: تجاه الله وتجاه المجتمع. في كلِّ الحالات، تمّ النظر إلى الانتهاك من ناحيةِ قانونية ولاهوتية باعتبار أنّه يُشكّلُ جريمةً وذنباً في نفس الوقت. تخضعُ هذه الأفعال للعقوبة القانونية فحاول الفقهاء أن يُحدّدوا ويُفصِّلوا شروط العقوبة. على سبيل المثال، إحدى عقوبات السرقة أو قطع السبيل هي قطع اليد أو الجَلد في أحيان نادرة. حاول الفقهاء عموماً أن يأخذوا التوبة الفعلية بعين الاعتبار وذلك لكي يُخفِّفوا من هذه العقوبة مُتبعِّين بذلك سنّة النبي المتمثِّلة بتقييد العقوبات بالحالات القُصوى.

تلقَّتْ بعضُ هذه الفئات اهتماماً خاصاً في دولٍ إسلامية عدّة في الآونة الأخيرة حيث أُعيدتْ العمليات الفقهية التقليدية، ولكن يوجد قدرٌ كبيرٌ من الاختلاف في العالم الإسلامي حول ضرورة بعض هذه العمليات وإمكانية تطبيقها. حينما يُتَّخذ قرارُ التطبيق، يتمُّ تنفيذ العقوبة في المحاكم الشرعية من قِبل قضاة مُسلمين مُعيَّنين. كذلك، يتّخذ الفقهاء أو خبراء القانون دور المفسِّرين للشريعة وهم مخوّلون لتقديم آراء فقهية مُطّلعة. قد يقوم الأفراد الراغبون بالتأكُّد من المقصد الأخلاقي لبعض الأفعال بالتماس هذه الآراء، ولكنّ أغلب المدارس الفقهية الإسلامية يعتبرون أنّها لیست مُلزمة. تعدّ المدارس السنيّة الرئيسية الأربع نفسها بأنها تعكسُ المواقف المعيارية حول مسائل التفسير الفقهي والأخلاقي. بالنسبة لهؤلاء الفقهاء المسلمين،

ص: 111

يتعلّق كلٌّ من القانون والأخلاق بالواجبات الأخلاقية في النهاية ويعتقدون بأنّ هذه الواجبات هي محور الرسالة الإسلامية.

المقاربات الفلسفية

مثّلتْ عمليةُ إدخال التراث الفلسفي التابع للعصور القديمة إلى العالم الإسلامي عاملاً رئيسياً مكّن من استخدام المفكِّرين المسلمين لهذا التراث برزت شخصياتٌ من أمثال الفارابي، ابن سينا، ابن رشد، وغيرهم من العلماء الذين اشتهروا في القرون الوسطى في أوروبا باعتبارهم فلاسفة ومفسِّرين ودُعاة إلى التعاليم الكلاسيكية العائدة إلى أفلاطون وأرسطو. مثّل الأدب - أي الخطاب العام المبني على اللغة والاهتمامات الفلسفية والأخلاقية - جزءاً مهماً من التراث الأخلاقي العالمي في الإسلام وقد عكس الجهود الرامية إلى التوفيق بين القيم المستمِّدة من الدين والكتاب المقدّس وبين قاعدةٍ أخلاقية قائمة على الفكر والأدب. وعليه، يتمتّع التراث الإسلامي الفلسفي حول الأخلاق بأهميةٍ مُزدوجة، وذلك بسبب قيمته في استمرارية الفلسفة اليونانية الكلاسيكية ،وتعزيزها، والتزامه بالجمع بين الإسلام والفكر الفلسفي.

احتجّ الفارابي (المتوفّى عام 950) على وجود التناغم بين تصوّرات الدين الفاضل وأهداف الحكومة الحقيقية. من خلال الفلسفة، يستطيعُ المرءُ أن يفهم كيفية تحقيق السعادة الإنسانية ولكنّ العودة الفعلية إلى الفضائل والأفعال الأخلاقية تستدعي توسُّط الدين. قام الفارابي بمقارنة تأسيس الدين بتأسيس المدن أي إنّه كما يتحتّمُ على السكّان اكتسابَ السمات التي تجعلهم مواطنين في الحكومة الفاضلة، فإنّ مؤسِّس الدين يُنشئُ القواعد التي ينبغي الالتزام بها عملياً بُغية تأسيس مجتمعٍ دينيٍ سليم. يُشيرُ زخمُ جدلية الفارابي - وخصوصاً في تعبيره الوارد في كتابه «المدينة الفاضلة» - إلى وجود إطارٍ مجتمعي لإحراز السعادة النهائية ومن ثمَّ وجود أدوارٍ اجتماعية وسياسية مهمة للدين فضلا عن انشغال السياسيين باهتماماتٍ مماثلة. في هذا الصدد، يُشيرُ التركيزُ على الفضيلة ومعانيها الأخلاقية إلى وجود محوٍر مشترك في كلٍّ من الفلسفتين اليونانية والإسلامية، أي: تطبيق هذه المعايير والقواعد على

ص: 112

المجتمعات السياسية. كلّما ازدادت الحكمة والفضيلة التي يتمتّعُ بها الحكّام والسكّان، ترتفعُ إمكانية الوصول إلى الهدف الحقيقي للفلسفة والدين أي: السعادة.

أمّا ابن سينا (المتوفّى عام 1037)، فقد طوّر الحجة التي تُفيدُ أنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله يُجسِّدُ مجموع الفعل والفكر الفاضل، وأنّ أفضل السلوك والتفكير ينعكسُ في إحراز الفضيلة الأخلاقية. اكتسبَ النبيُّ صلّی الله علیه و آله الصفات الأخلاقية الضرورية لرقيِّه، وبما أنّه قد حاز على الروح الكاملة فإنّه لم يتحلّ فقط بالفكر الحرّ بل أصبح أيضاً قادراً على وضع القواعد ليتّبعها الآخرون، وذلك من خلال الأحكام وإنشاء العدالة. هذا يعني أنّ النبيّ صلّی الله علیه و آله أعظم من الفيلسوف والحاكم الفاضل اللَّذيْن يمتلكان القدرة على التطوُّر الفكري والتحلّي بالأخلاق العملية تباعاً. وفقاً لابن سينا، فإنّ إنشاء العدالة هو أساسُ كلَّ خيرٍ بشري، وإنّ مزيج الفلسفة والدين يشتملُ على العيش المتناغم في هذه الدنيا وفي الآخرة.

واجه ابن رشد (المتوفّى عام 1198) المهمّة الشاقة المتمثِّلة بالدفاع عن في وجه الهجمات، ومن أشهرها هجمة عالم الدين السنّي الكبير الغزالي (المتوفّى في العام 1111) حاول الغزالي في كتابه «تهافت الفلاسفة» أن يعرض الفلاسفة كأفرادٍ متناقضين ومعارضين للكتاب، وقائلين بالبدع أحياناً. اعتمد دفاع ٌابن رشد على احتجاجه بأنّ القرآن قد حثّ على التدبُّر والتعقُّل، وأنّ دراسة الفلسفة تُتمّم المقاربات التقليدية تجاه الإسلام. كذلك، أكّد أنّ الفلسفة والإسلام يمتلكان أهدافاً مشتركة ولكنّهما يصلان إليها بأساليب مُختلفة. وعليه، توجد وحدةٌ أساسية بين المسلمين الذين يتبنّون الأُطر الفلسفية للاستفسار وأولئك الذين يؤكِّدون على الأُطر الفقهية .

بإيجاز ، قام الفلاسفة المسلمون من خلال توسعتهم ومراجعتهم الدورية للمفاهيم الكلاسيكية المتقدِّمة بربط الأخلاق بالمعرفة النظرية التي ينبغي أن تُكتسب بوسائل عقلية. بما أنّ البشر هم عقلانيون، اعتُبرت الفضائل والخصائص التي يقومون بتبنِّيها وتطبيقها مُقربةً للهدف النهائي للأفراد والمجتمع ، وهذا الهدف هو تحقيق السعادة.

ص: 113

وجهات النظر الشيعية والصوفية

اختلف الشيعة مع السنّة في نَسْبهم للسلطة الشرعية بعد موت النبيّ صلِّ الله علیه و آله إلى ابن عمّه وصهره علي علیه السّلام ومن ثمّ إلى أبنائه المنصوص عليهم المعروفين بالأئمّة علیهم السّلام، وقد تطوّر لدى الشيعة مفهومُ التعقُّل الخاضع لتوجيه الإمام . يؤمنُ الشيعة بأنّ الإمام مهديٌّ علیه السّلام من قبل الله، وقد اتّخذ الأئمة علیهم السّلام في أوائل التاريخ الشيعي دورَ الأمناء على القرآن وتعاليم النبيّ صلّی الله علیه و آله ، والأدلّاء على عملية تفصيل وتنظيم الرؤية القرآنية حول الفرد والمجتمع. تماماً كالمدارس الإلهية والفلسفية المبكِّرة، أكّد الشيعة على اعتماد الخطاب العقلاني والفكري والتزموا بإدخال العناصر المناسِبة الموجودة في الأديان الأخرى والتعاليم الفكرية غير الإسلامية وتطويرها.

من بين الأمثلة على المؤلّفات الأخلاقية الشيعية، يردُ كتاب «الأخلاق النصيرية» بقلم نصير الدين الطوسي (المتوفّى عام 1275) . طوّر الطوسي المقاربات الفلسفية الموجودة في أوساط المسلمين وربَطها بالمفاهيم الشيعية حول الهداية. كذلك، لفت الطوسي الاهتمام إلى الحاجة لأن تكون التشريعات الأخلاقية مُستنِدة إلى تفوُّق المعرفة ورُجحان الحُكم من قبل فردٍ «يتميّز عن الآخرين بالمدد الإلهي فيستطيع أن يُحقِّق كمالَهم». حاول ولفريد مادلونغ (Wilfred Madelung) أن يُظهِر بأنّ الطوسي قد مزج في كتابه الأخلاقي عناصر من الأفلاطونية الجديدة فضلا عن وجهات نظرٍ فلسفية وأخلاقيةٍ تابعة للشيعة الإثني عشريّة والإسماعيليّين .

تُطلَقُ على الشيعة الإثني عشرية هذه التسمية بسبب اعتقادهم بأنّ الثاني عشر من الأئمة الذين يؤمنون بهم قد غاب عن هذا العالم ولن يظهر شخصياً إلا في آخر الزمان لكي يُعيد العدل الحقيقي. في زمن غيبة الإمام، يقومُ العلماء المجتهدون الذين يُحدّدون الحق والباطل للأفراد في جميع قضايا الحياة الشخصية والدينية بهداية المجتمع. في التعاليم الشيعية، يلعبُ هؤلاء العلماء - الذين يُطلق عليهم «الملالي» في التعبير الشعبي - دوراً مهماً باعتبارهم قدوات، وفي الآونة الأخيرة اتّخذوا دوراً رئيسياً في الحياة السياسية في إيران ساعين وراء تشكيلها تمشياً مع رؤيتهم للحكومة الإسلامية.

ص: 114

وعليه، يبقى الاتّصال الشيعي بالتعاليم والقيم الإسلامية منوطاً بالسلطة الروحية المستمرّة الممنوحة للإمام أو نوّابه.

الأخلاق الإسلامية في العالم المعاصِر

يمُثَّل المذهب الصوفي البُعدَ العرفاني والباطني للإسلام، ويؤكِّدُ على تنمية الحياة الشخصية الباطنية سعياً وراء الحبّ والعلم الإلهي. بما أنّ قسطاً كبيراً من التعاليم إلى تمكين الفرد المسلم من التقرُّب إلى الله، فقد اعتُبر بأنّ هؤلاء المريدين ينبغي أن يلتزموا بحياةٍ باطنية تتّسم بالإخلاص وبأفعالٍ أخلاقية تؤدِّي إلى الإحياء الروحي. تتكاملُ مراعاة أحكام الشريعة مع التقيُّد بمسار التهذيب الأخلاقي ومن ثمَّ يتمكّن المريد من عبور «مراتب» روحية متعدّدة تُمثِّلُ كلُ واحدةٍ منها النماء الباطني الروحي حتّى يصل إلى فهم العلاقة الجوهرية المتمثِّلة بالحب والاتّحاد بين المريد والله. بما أنّ المغزى الباطني للفعل قد شكّلَ بُعداً مهماً للفهم الصوفيّ للسلوك الأخلاقي، فقد أكّد الصوفيون على الرابط بين الإدراك الداخلي التجريبي للأخلاق وبين التعبير الخارجي لها فأضحى الفعل الأخلاقي الحقيقي هو ذاك الذي يُحيط بتمام الحياة ويتغلغل فيها.

في البيئة المؤسّسية، قامت الفرق الصوفية المنظّمة بتدريس ضرورة الامتثال للتعاليم الإسلامية التقليدية ولكنّها قد أضافت عنصر التهذيب والتطهير الباطني. بسبب عدم تشابه الممارسات التي تغرسُ التهذيب والإدراك الأخلاقي في الثقافات والتعاليم التي قابلها الإسلام ، تمّ إدخال العديد من الممارسات المحليّة. على سبيل المثال، تمّ تقبُّل العادات والممارسات الأخلاقية التي كانت تلتزمُ بها الشعوب وفقاً التقاليدها المحلية، وذلك في دولٍ كإندونيسيا وغيرها من البلدان حيث حصلت موجات اعتناقٍ هائلة للدِّين الإسلامي. وعليه، قدّمت الممارساتُ الصوفية الأخلاقية جسراً لإدخال القيم والممارسات الأخلاقية التابعة للتعاليم المحلية إلى السلوك الأخلاقي الإسلامي ممّا يُظهرُ شمولية وجهات النظر الصوفية الإسلامية حول اتّحاد البُعد الباطني للأديان المختلفة . أصبح الغزالي - عالم الدين السّني الذي ذكرناه آنفاً -

ص: 115

مناصراً للفكر الصوفيّ ولكنه حاول أن يدمج الآراء الأخلاقية الواردة في الشريعة مع مفهوم التقوى الباطنية الذي طوّره الصوفيّون. اعتقد الغزالي بأنّ الواجبات المفروضة من قبل الله هي نقطة الانطلاق لتنمية الشخصية الأخلاقية شريطة أن تقود في الوقت المناسب إلى معنى التوجُّه الباطني للأخلاق. بالرغم من ذلك، تردّد الغزالي في قبول تأكيد بعض الصوفيين على وجود قاعدةٍ للفعل الأخلاقي تكونُ تجريبيةً محضة ومُنقادة إلى هداية الذات.

استمرّ تطبيقُ التراث الأخلاقي المتنوّع وتأثيره بدرجاتٍ متفاوتة على المسلمين في العالم المعاِصر. سواء كان المسلمون يُشكلّون الأغلبية في عدد من الدول المستقلّة التي نشأت خلال هذا القرن أو كانوا يعيشون في جماعاتٍ وأعداد كبيرةٍ في أماكن أخرى، فإنّهم يمرّون حالياً في مرحلةٍ انتقاليةٍ مهمة. يتنامى الوعيُ في أوساطهم حول ضرورة التعرُّف إلى تراثهم القديم وتكييفه مع الظروف المتغيِّرة وعولمة المجتمع البشري. كما في غيرها من القضايا، لا يمُكن أن تنعكس المسائل الأخلاقية في الردود الموحِّدة وينبغي أن يؤخذ التنوُّع والتعدُّدية اللذين اتّسم بهما المجتمع الإسلامي في الماضي والحاضر بعين الاعتبار.

أخذت المعاييرُ الأخلاقية التي تستطيع إدارة قضايا العدل الاقتصادي والاجتماعي من ناحية والإستراتيجيات الأخلاقية التي تتعامل مع مسائل الفقر واختلال التوازن من ناحيةٍ أخرى أكبر قسط ٍمن الاهتمام الإسلامي بالقضايا الأخلاقية. سواء كانت تُصنَّف هذه الردود على أنّها «عصريّة» أو «أصولية»، إلا أنّها تعكسُ جميعاً تفسيراتٍ محدّدة للرموز والأنماط الإسلامية القديمة، وحينما تُعيدُ الردود صياغة القواعد والقيم فإنّها تستخدم إستراتيجياتٍ مختلفة لإدراج واستبعاد و ترميز تمثيلاتٍ محدّدة في الإسلام. فيما يتعلّق بالاهتمامات الأخلاقية الإجمالية، يسعى هذا الخطاب المستمر إلى إنشاء قواعد لكلِّ من الحياة العامة والخاصة ومن ثمَّ فإنّه ثقافيٌ وسياسيٌ واجتماعيٌ ودينيٌ في آنٍ واحد.

بما أنّ المفهوم المعاصر للديِّن الذي يُدركه أغلب الناس في الغرب يفترضُ وجودَ انفصالٍ نظريٍ بين النشاط الديني المحض والنشاط العلماني المتصوِّر، تبدو بعضُ

ص: 116

أبعاد الخطاب الإسلامي المعاصر - الذي ينبذ هذا الانفصال غريبةً ومتقهقرة في أغلب الأحيان. حينما يرتبط هذا الخطاب المعبَّر عنه بلغةٍ دينيةٍ تقليديةٍ ظاهرية مع التغيير الراديكالي أو العنف، فإنّه يُساهمُ للأسف بتعميق التصوُّرات النمطية حول التعصُّب والعنف والاختلاف الثقافي والأخلاقي الإسلامي. كما تُشيرُ الأحداث والتطوُّرات في الربع الأخير من القرن العشرين لا يمُكن أن يكون ردُّ واحدٌ في المجتمعات الإسلامية العدة في العالم ردّاً معيارياً لجميع المسلمين.

في سعينا نحو رؤيةٍ تقودُ المسلمين في قراراتهم وخياراتهم حول القضايا الأخلاقية الحالية والمستقبلية، لا يتمثّل أهمّ تحدّي بمجرَّد الاتّصال بالدعامة الأخلاقية القديمة والتحاور معها ولكن - كما كان دأب المسلمين في الماضي - الانفتاح المستمر على احتمالات الاكتشافات الأخلاقية الجديدة والتحديات التي تمُثِّلها.

ص: 117

الميتا أخلاق: السعي إلى أساس إبستمولوجي للأخلاق في الفكر الإسلامي التقليدي

مريم العطار(1)

ترجمة إيمان سويد

ملخص

الهدف من هذه المقالة هو نقد أساس الميتا أخلاق لمقاصد الشريعة وتبدأ من خلال تقديم الميتا أخلاق الشريعة وتوضح المقالة باختصار، في قسمين فرعيين، العلاقة المتصورة بين الميتا أخلاق والأخلاق المعيارية والعلاقة بين الأخلاقيات، الفقه الإسلامي (أصول الفقه) وعلم اللاهوت (علم الكلام). وتدرس المقالة افتراضات الميتا أخلاق القرآن بحجة أن الأخلاق القرآنية تسمح بإعادة النظر في أساس الميتا أخلاق المقاصد بما أنها تتقبل القيم الأخلاقية الموضوعية وتسمح بإبستمولوجيا أخلاقية تقوم على المنطق. أما آخر وأطول قسم من المادة فيطرح الحجج التي تسلم بالمنطق البشري في صياغة المقاصد ويشير إلى أن هذا يتطلب أساسا أخلاقيا مختلفا، أساس أقرب إلى مفهوم المعتزلة للأخلاق. وتستند الحجج إلى عمل بعض العلماء التقليديين والمعاصرين الذين لاحظوا التناقض في نظرية المقاصد التقليدية، وفي آراء أولئك العلماء الذين عبَّرت وجهات نظرهم ومبادئهم الأخلاقية عن فهم للأخلاق يتعارض مع الطوعية الأخلاقية أو «نظرية الأمر الإلهي»

ص: 118


1- (دكتوراه في الفلسفة الإسلامية، جامعة ليدز، تدرِّس التراث العربي في الجامعة الأميركية في الشارقة مجلة الأخلاق الإسلامية 1 (2017)

في الأخلاق. ويفترض بنظرية المقاصد هنا، وبوضوح، أن تكون معيارية وليس مجرد نظرية وصفية.

مقدمة

تركز هذه الورقة على وضع الحجج من أجل أساس الميتا الأخلاقية لنظرية المقاصد. وأرى بأن مقاصد الشريعة، كنظرية أخلاقية معيارية ينبغي تعديلها والتوفيق بينها وبين نظرية التكليف العقلي من خلال ترسيخها في أساس ميتا أخلاقية سليمة.

التكليف العقلي نظرية وضعها المعتزلة. وهذا يعني ضمنا أن جميع البشر وُهِبوا العقل والقدرة على التمييز بين الخير والشر. ويستند التكليف العقلي إلى المعرفة الضرورية عند البشر للمبادئ الأخلاقية مثل مبدأ الامتناع عن ارتكاب الإثم والالتزام بإعادة الوديعة. وفقا لهذه النظرية، كل البشر العقلانيين مكلفين بالقيام بما هو معروف بأنه خير. فالتكليف العقلي متمايز عن التكليفات المعروفة فقط من خلال الوحي مثل الطقوس، بما في ذلك الصيام، والصلاة والمتطلبات الغذائية. ولمزيد من المعلومات حول نظرية التكليف العقلي انظر، على سبيل المثال، عثمان 1971 والعطار 2010، 76-79.

النظرية التي قدمت، تقليديا الأساس الإبسمتي (المعرفي) للنظرية المعيارية هي نظرية الشريعة عن الخير والشر (الحسن و القبح) ، وهو ما يماثل «نظرية الأمر الإلهي» هذه النظرية تقول بأن القيم الأخلاقية (الخير والشر) لا معنى لها على الإطلاق بمعزل عن الأمر والنهي الإلهي. وفقا لذلك، فإن الأوامر والنواهي الإلهية لا تشكل فقط الأساس الإبستيمولوجي، ولكن أيضا على الأساس الأنطولوجي (الوجودي) للأخلاق؛ أي لا يوجد خير أو شر (حسن وقبح) حقا بمعزل عن ما يُؤمر ويُنهى عنه. وبالتالي، فإنه ينطوي بالضرورة على عدم إمكانية النظر إلى المعرفة الأخلاقية بمعزل عن الأوامر والنواهي الإلهية. فأولئك الذين شددوا على إرادة الله عوضا عن أوامره فضلوا أن يطلقوا على ذلك اسم الطوعية الأخلاقية أو الطوعية اللاهوتية، مما يعني أنه يجب تفسير أوامر الله وفقا لإرادته. ولا بد أنهم افترضوا أن

ص: 119

«إرادته» أو قصده غير معروف بشكل أوضح من «أوامره» . نظرية القيادة الإلهية تسود أيضا في الأخلاق المسيحية البروتستانتية. وأنصار هذه النظرية في المسيحية تشمل مارتن لوثر (توفي عام 1546) كارل بارث (توفي عام 1968) وإميل برونر (توفي عام 1966) وغيرهم.

أقر بعض علماء المسلمين التقليديين بوجود القيم (الخير والشر) بمعزل عن الوحي، لكن دون ربطها بالأحكام الأخلاقية - الشرعية (الصواب والخطأ) أو الأحكام الأخلاقية المعروفة في الإسلام (المحرمة أو المفروضة أو الموصى بها أو المشجع عليها أو الجائزة). وكان هذا هو موقف معظم علماء الشريعة الراحلين(1) الذين ستتم مناقشة مواقفهم في نهاية هذه المقالة، بما أن الفضل يعود اليهم في تأسيس «مقاصد الشريعة»، والتي أصبحت شائعة في أوساط المسلمين الإصلاحيين الحديثين والمعاصرين. فمن جهة، لقد أيدوا صراحة الطوعية الأخلاقية، في حين أنهم، من جهة أخرى، أسسوا نظرية أخلاقية تتطلب بوضوح اعتمادا واسع واسع النطاق على العقل. ومن أجل تطوير مفهوم المقاصد وفهمه وأدواره وشرعيته في عصور مختلفة من التاريخ الإسلامي، نتناول ممثليه الرئيسيين بدءا من الجويني والشاطبي وابن عاشور وانتهاء بالمفكرين المعاصرين الإصلاحيين، انظر الخطيب 2007.

تقدم هذه المقالة اقتراحا يقول بأن إعادة التفكير في أساس الميتا الأخلاقية الذي يوفر الأساس المعرفي (الإبسمتي) لنظرية المقاصد أمر ضروري لتطوير نظرية أخلاقية أكثر اتساقا ورسوخا. ومن الضروري أيضا خلق حالة ذهنية، والتي إذا ما تم تأييدها، فإنها سوف تتيح للناس صنع أحكام أخلاقية من شأنها أن ترشدهم وتوجههم في حياتهم وتساهم في خلق جو فكري يدعم ويشجع «المنطق الأخلاقي الإبداعي»، بدلا من الخوف والتقليد والاتهامات بالكفر. فإعادة التفكير في الأسس المعرفية (الإبسمتية) قد تسهم في الحد من الظاهرة التي وصفها سمير رشواني ب_ «المطالب المفرطة من أجل الفتاوى المنتشرة على نطاق واسع، وتكشف عن حالة

ص: 120


1- أعني بعلماء الأشعرية المتأخرين، الأشاعرة الذين برزوا في أواخر القرن الحادي عشر فصاعداً، بدءاً من إمام الحرمين الجُويني

اعتزال «المنطق الأخلاقي الإبداعي» التي يعاني منها العديد من المسلمين» (رشواني 2015).

كما أنه، وعندما يعتقد المرء أن الأخلاق مبنية على العقل الممنوح للبشر، عوضا عن الأوامر والنواهي التي يفسرها علماء الدين حصرا، فإن المرء سيتمكن من التفكير بشكل خلاق والانخراط في منطق أخلاقي منتج. بيد أن إعادة النظر في أسس الميتا الأخلاقية لنظرية المقاصد تتطلب توضيحا لما هو المقصود بالميتا أخلاق وما هي العلاقة المفترضة بين الأخلاق الميتا أخلاق ، «أصول الفقه»، و الكلام(1) في الفكر العربي الإسلامي.

الأخلاق المعيارية والميتا أخلاق

الميتا أخلاق هي ذلك الفرع من الفلسفة الأخلاقية الذي يعنى بتحليل المصطلحات والمفاهيم المستخدمة في الأخلاق المعيارية. مصطلح «ميتا» يعني ما بعد أو ما وراء وبالتالي فإن مفهوم الميتا أخلاق ينطوي على نظرة معزولة أو على نظرة شاملة خاطفة لمشروع الأخلاق بأكمله. ويمكن تعريف الميتا أخلاق بأنها دراسة لأصل ومعنى المفاهيم الأخلاقية (فيسر، بحث 2014). وتكمن أهمية الميتا أخلاق في كونها أداة مهمة تساعدنا على فهم أفضل للمصطلحات والمفاهيم التي تستخدم في أي كلام معياري (بيان معياري). على سبيل المثال، إذا قال شخص ما «يجب أن تحفظ وعودك»، فإننا قد نشركه في مناقشة معيارية عن طريق سؤاله عما إذا كان يجب على المرء أن يحافظ دائما على وعوده أم أن المرء يكون معفى من حفظ هذه الوعود في ظل ظروف معينة؟» مع ذلك قد نختار أولا أن نفهم معنى المصطلحات المستخدمة في الكلام المعياري وبالتالي نسأل «ماذا ينبغي أن يعني حقا هنا؟ مثال آخر، إذا قال أحدهم: «السرقة حرام» فإننا قد نسأل ما إذا كانت السرقة

ص: 121


1- أمتنع عن ترجمة كلمة «الكلام» إلى علم اللاهوت الدراسي أو التأملي، لأنها تتعلق أساساً بمبادئ الدين (أصول الدين)، وقد وُضعت إلى جانب «أصول الفقه» من أجل توفير الأسس النظرية للمعتقد والممارسة. ويتداخل التخصصان أحيانًا، خاصة عند التعامل مع ما قد يطلق عليه الآن الفلسفة الأخلاقية في هذا المقال أستخدم مصطلح «الكلام» الأكثر تداولا من «أصول الدين» وسأحتفظ بمصطلح «الأصول» للشارة إلى «أصول الفقه»

محرمة بالمطلق أو ما إذا كانت جائزة في ظروف معينة ؟ هذا السؤال سيأخذنا إلى مناقشة معيارية، كما سنحاول البحث عن القواعد أو المعايير التي بموجبها تكون السرقة محرمة. وقد نرغب أولا فهم المصطلحات الهامة أخلاقيا التي يتم استخدامها البيان أعلاه ونجد بالتالي المعنى لمصطلحات المحرم ، الخير، الواجب، وهلم جرا. هل يعني ذلك أن سلطة معينة أعلنتها كذلك ؟ هل هذا يشير إلى أن العمل هو ضار بالنسبة للعامل؟ هل يعني ذلك أنه يعاقب عليه القانون (الشرع)؟ ما هو المعنى الحقيقي لل_ «المحرم» ؟ إن البحث عن المعنى الحقيقي للمصطلحات المستخدمة في البيانات الأخلاقية المعيارية هو ما نعنيه حقا بالميتا أخلاق. بيد أنه تجدر الإشارة إلى أنه لا يوجد معالم واضحة بين الأخلاق والميتا أخلاق، لأن مجالي التحقيق متشابكان بشكل وثيق. ويمكن للمرء أن يناقش قضايا ميتا أخلاقية في سياق البحث المعياري أو إثارة مسألة أخلاقية معيارية في سياق بحث ميتا أخلاقي.

في هذه المقالة يُنظر إلى نظرية «مقاصد الشريعة» على أنها نظرية معيارية، حيث تستند معايير الحكم على أي عمل على المعايير التي توفرها هذه النظرية، وهي الأهداف الشاملة الخمس «الكليات الخمس» الضرورية لرفاهية المجتمع «المصالح الضرورية» المعروفة باسم «المقاصد»(1). وليست النظرية المعيارية نفسها هي التي تمت مناقشتها في هذه المقالة، والتي تتعلق أساسا بفرضية الميتا الأخلاقية للنظرية التي تتعلق بمعنى محدد لمصطلحات القيم الأساسية للخير والشر أو الحسن والقبح. (لمناقشة نظرية مقاصد الشريعة واستخدامها في الفكر الإصلاحي للمسلمين المعاصرين، انظر دودريجا 2014).

الأخلاق، الفقه (أصول الفقه) والكلام

من الأهمية بمكان ولأغراض هذه الدراسة توضيح العلاقة المفترضة بين الأخلاق والفلسفة الأخلاقية ومبادئ الشرع (أصول الفقه)، لأن الاستفسارات الأخلاقية الأكثر صدقا في الفكر العربي الإسلامي هي تلك المنتشرة في كتب «أصول

ص: 122


1- تعتبر الكليات الخمس، تقليديا، بأنها تشمل الحفاظ على الدين، الحياة، النسل، الملكية والفكر. وأضاف إليها العلماء الحديثين والمعاصرين قيما أخرى

الکلام». (انظر، على سبيل المثال، صبحي 1969، 14؛ حوراني 1985، 20؛ راينهارت 1983). وقال إدوارد معاد بحق ، أن «أسئلة الإبستيمولوجيا الأخلاقية يتم التعامل معها، وتحدد جزئيا، بواسطة مجموعة من الطروحات الميتافيزيقية والميتا أخلاقية، والإبستيمولوجية المترابطة والتي يتم التعامل معها في ميادين متمايزة لكنها ذات صلة عضويا ب_ «أصول الفقه السليم» (معاد، 2007).

إن البحث عن الأساس المعياري للأحكام الأخلاقية مسألة تهم فيلسوف الأخلاق والعالم الأصولي (أصول الفقه) على حد سواء. على سبيل المثال، لقد اعتبر العديد من الفلاسفة المنفعة هي المعيار النهائي للأحكام الأخلاقية(1). واعتبرها البعض بأنها الفائدة للعامل(2)، وأصر آخرون على أنها مصلحة الأغلبية هي التي تهم، في حين طور بعض الفلاسفة النظرية بإضافة مبادئ وقوانين وقیود، ردا على الانتقادات التي أثيرت ضد مبدأ المنفعة واعتبر بعض علماء الأخلاق بعض القواعد العقلانية المطلقة والأخلاقية الشاملة المعايير من أجل حقيقة الأحكام الأخلاقية (3). بينما أيد آخرون النسبوية الأخلاقية (النسبية الأخلاقية) ورأوا أن الأحكام الأخلاقية نسبية وتختلف عبر الثقافات. وبطريقة مماثلة، قام الباحثون في أصول الفقه بالتحقيق في موارد ومبررات الأحكام الأخلاقية؛ بعضهم تقبل «العرف»، بعضهم اختلفوا حول مفهوم «التفضيل الفقهي» (الاستحسان) ووضع آخرون أنظمة حول «المصلحة» (الرفاهية أو المصلحة العامة)، واختلفوا على معنى الإجماع. ويبدو أن من غير الملائم الاعتراض والقول أنه لا ينبغي مقارنة علماء الأصول مع فلاسفة الأخلاق، بما أن الأوائل يعتبرون الأوامر والنواهي الإلهية هي المعايير النهائية للأحكام المعيارية، بينما يعطي الفلاسفة العقل والمنطق الأولوية الأولى. فالمقارنة قابلة للتطبيق بما أن علماء الأصول يأخذون بالاعتبار موارد مختلفة، كما ذكر أعلاه. مع ذلك، فإن السبب الأهم الذي يرتبط بالغرض من هذه الدراسة هو عدم توافق العلماء على المبرر

ص: 123


1- مثل جيريمي بينثام (توفي عام 1832) وجون ستيوارت ميل (توفي عام 1873)
2- أشير إلى الأنانية الأخلاقية حيث مصلحة العامل هي المعايير النهائية للعمل الأخلاقي
3- الذين تم تفسير آدابهم على أنها أدب غير وجودي في التقليد الفلسفي الغربي، مثل إيمانويل كانت (توفي عام 1804)

النهائي للأحكام الأخلاقية الذي يختلف وفقا لافتراضاتهم المضمنة الميتا أخلاقية الصريحة أو الضمنية.

الافتراضات المضمنة الميتا أخلاقية للقرآن (1)

تمت مناقشة الوضع الأنطولوجي (الوجودي) للقيم الأخلاقية والأسس الأبسمتية (المعرفية) للأخلاق في تاريخ الفكر العربي - الإسلامي تحت عنوان «قضية الخير والشر» (مسألة الحسن و القبح). والسؤال كما صيغ من قبل العلماء الأوائل هو ما إذا كان الشرع (القانون الإلهي) يحدد أو يشير فقط إلى الأخلاق (الشرع مثبت أم مبين)؟ بالطبع ليس هناك جوابا قرآنيا واضحا من شأنه أن يدعم أي من المواقف المتنافسة التي اعتمدها المعتزلة والأشاعرة تقليديا. مع ذلك، فإن الروح والأخلاقيات القرآنية تدعم بوضوح الأساس الموضوعي للأخلاق وما أعنيه هنا بالأساس الموضوعي للأخلاق هو الخير والشر الملحوظين في سلوك وأعمال البشر التي يمكن الحكم عليها من خلال ملاحظة العواقب الضارة أو المفيدة للعمل والسياق والظروف والتطابق مع المفهوم الطبيعي للقيم الأخلاقية المشتركة بين الناس بغض النظر عن دينهم. وقد تم التحقيق في هذه القضية من قبل علماء الكلام الأوائل الذين اختلفوا وأبدوا آراء متباينة بشأن طبيعة الخير والشر. وقد اعتبر بعضهم مثل أبو الهذيل العلاف (توفي عام 841/227) أن القيم الأخلاقية للأعمال هي خصائص جوهرية للأعمال واعتبرها كيانات طبيعية متأصلة فى الأشياء والأعمال واعتبرها ،آخرون، مثل أبو هاشم (توفي عام 933/321) بأنها ذات صلة بحالة العامل في حين اعتبر عبد الجبار أن قيمة

ص: 124


1- يفترض أن تكون الافتراضات الضمنية الميتا أخلاقية للقرآن هي نفسها تلك الموجودة في «السنة». هذا الأمر مبرر بما أن العناصر غير «العبادية» [لا علاقة لها بالطقوس الدينية[ لمفهوم «السنة» مرتبطة بشكل تأويلي (هيرمينوطيقيا) مع تلك الموجودة في القرآن بطريقة غير مقيدة بنظرية أصول الفقه التقليدية، كما حاجج دودرجا (231 ،2015 Duderija). فضلا عن ذلك، كانت الصلة المفاهيمية والتأويلية (الهيرمينوطيقية) للسنة مع القرآن واضحة في العلم الكلاسيكي الإسلامي (230، ibidem) . ومن المهم الإشارة إلى أنه «من جهة، كانت هناك دائما أزمة قائمة بين مفهوم السنة المعتمد على الحديث على الصعيدين الإبستيمولوجي والمنهجي لدى المتخصصين بالحديث الذين يتبعون فهم «أهل الحديث» ل_«السنة» (بالإضافة إلى بعض الفقهاء المسلمين المشاركين لنفس هذا المفهوم)، وبين المعتزلة وبعض المنظرين الشرعيين (الأصوليين) الحنفيين والمالكيين الذين كان فهمهم ل_ «السنة» أقرب إلى كيفية فهم السنة قبل عملية كتابة الحدیث» في السنة وعملية تقليد الفكر الإسلامي .» دو دريجا (2015 Duderija). للبحث في الافتراضات الضمنية الأخلاقية للحديث، انظر العطار 2010، 21-25

العمل سواء كان خيرا أو شرا تحددها حالة العمل ظروفه، وعواقبه. (لنظريات مختلفة فيما يتعلق بطبيعة الخير والشر، انظر: العطار ،2010 ، 123-135). في حين رأى علماء الشريعة بالإجماع أنه ليس هناك من خير أو شر حقيقي بمعزل عن الأمر والنهي الإلهي، وفي حين أن معظم الفقهاء وعلماء المعتزلة يعتقدون أن المعرفة الأخلاقية ممكنة بمعزل عن الدين رأى علماء الشريعة أن القانون الديني (الشريعة) هو المصدر الوحيد للمعرفة الأخلاقية. ويعتزم القسم التالي تسليط الضوء على وضع القرآن فيما يتعلق بهذه المسألة، مع الأخذ بعين الاعتبار تفسيرات بعض علماء الكلام الذين فسروا القرآن باستخدام المصادر التقليدية (تفسير المأثور) وأولئك الذين يعتبرون بأنهم قد أنتجوا تفسيرات تأخذ منحى الرأي (1).

الأنطولوجيا الأخلاقية (موضوعية القيم الأخلاقية في القرآن الكريم)

غير أن القول بأن القيم الأخلاقية موضوعية لا يعني بأنها خصائص فيزيائية توجد من تلقاء نفسها وبشكل مستقل عن وعي الإنسان فالموضوعية هنا تعني فقط وجود أساس حقيقي متعلق بعمل، بما في ذلك سياق العمل والنتائج التي من شأنها أن تبرر الحكم. وتشير الموضوعية أيضا إلى أن القيم الأخلاقية مستقلة عن أي ذوق أو رغبات للفرد. بعبارة أخرى، عندما نقول إن القيم الأخلاقية موضوعية فإننا نعني بأنها ليست ذاتية وليست نسبية.

ودعما للوضع الموضوعي للقيم الأخلاقية في القرآن، من المهم الانتباه إلى أن القرآن قد استخدم لغة قائمة من قبل في وحي الرسالة الإلهية. وقد استخدم المفاهيم الخاصة بمعانيها ودلالاتها الخاصة، وتناول العديد من المصطلحات الأخلاقية بالنسبة إلى الوثنيين (المشركين)، مثل العدل، الظلم، الخير، الشر. ولذلك فقد استخدم مصطلحات أخلاقية بطريقة يمكن أن يفهمها الناس. فإذا كانت أعمال الخير

ص: 125


1- يقسم «الذهبي» 1976 «التفسير» إلى أنواع مختلفة، بما في ذلك الأعمال التي استخدمت المصادر التقليدية (التفسير بالمأثور) والتفسير الذي يأخذ بالرأي. ويصنف الأخير في خانة الرأي الذي تمت الموافقة عليه والرأي المدان. وصنف الأعمال التفسيرية للمعروفين بأن لديهم ميولا معتزلة بأنها «تفسير» بواسطة الرأي المدان بما في ذلك «الكشاف» للزمخشري ، و«تنزيه القرآن عن المطاعن» لعبد الجبار. في حين صنف التفسير الأشعري من بين التفاسير التي تأخذ بالرأي المعتمد انظر المجلد 1، ص. 205 . وصنف «تفسير» الطبري وابن كثير في قائمة «التفسير بالمأثور»

والشر مذكورة في آيات مثل الآية 90 في سورة النحل «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ * يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»، فإن الله بالتأكيد يأمر بالعدل وفعل الخير (للآخرين) وإعطاء ذي القربى، وبأنه يحرم الفتن والشر والعصيان إن الله يحذرك بأنك إذا كنت ملتفتا إلى أن ذلك معناه فقط الامتثال للأوامر ، فإن الجملة بأكملها ستكون تكرارا لا معنى له وغير مجد تقريبا. ومن بين اكثر المصطلحات الشائعة في القرآن عن الأعمال الفاضلة هي «المعروف». ففي موسوعة القرآن (Encyclopedia of the Qur'an)، يلفت راينهارت الانتباه إلى حقيقة أنه، على الرغم من أن هذا المصطلح يظهر ثلاثين مرة في القرآن الكريم، فإن المعلقين لا يشعرون بالحاجة إلى شرحه لأنه يعتبر أمرا مفروغا منه. ويضيف:

«من الجدير بالذكر أن ما ينطوي عليه من معان، كمصطلح أخلاقي، هو أن الأمر الصحيح معروف (راينهارت ،2002، 62). هذه الآيات تدعم الرأي القائل بأن القيم والواجبات التي يروج لها القرآن كانت معروفة جيدا لبعض الناس قبل الإسلام، وهذا يعني أن الأوامر الإلهية التي أعرب عنها القرآن ليست أوامر تعسفية، وإنما صالحة، تنشد المعرفة الأخلاقية الإنسانية. ويؤكد خالد أبو الفضل أيضا أن «القرآن غالبا ما يستخدم مصطلحات مثل الظلم، العدل أو الصالح (الخير) بطريقة موضوعية، وكأنها حقائق أنطولوجية - مستقلة وموضوعية». ويبدو أنه يعترف بالطبيعة الموضوعية للقيم الأخلاقية وصحة المعرفة الأخلاقية بمعزل عن الوحي. ففي فقرة بليغة يقارن أبو الفضل المبادئ الأخلاقية مع النور الإلهي المتاح لجميع الناس:

«مجازيا، المبادئ المعنوية والأخلاقية هي مثل العناصر الفائقة الساطعة في نور الله». ويرى أن من الممكن البحث عن هذه العناصر المضيئة والاعتراف بها دون الوحي. (أبو الفضل 2004).

الإبستمولوجيا الأخلاقية (الأخلاق المعرفية) والقرآن الكريم

معظم المسلمين العاديين يتقبلون إجابة بسيطة بشأن حكم الأعمال. قد يسعون

ص: 126

ببساطة لمعرفة ما إذا كان العمل مسموحا به (حلال) أم محظورا (حرام)، مع ذلك فإن الكثيرين سيجدون أنه من المشروع طرح أسئلة أكثر عن أسباب كونه حلالا أو حراما. وسيؤدي هذا التحقيق المشروع بالتأكيد إلى تأسيس الأحكام المعنوية أو الأخلاقية القانونية في أحكام القيم. إن تأسيس الأحكام الأخلاقية (الصواب والخطأ) أو الأحكام الأخلاقية الشرعية الواجبة، المباحة، المستحبة، المحرمة، والمكروهة) في أحكام القيم ( الخير والشر) أو (الحسن والقبح) هو ما يميز حقا الإبستيمولوجيا الأخلاقية التي تقوم على العقل والمنطق. لذلك، يتم اعتبار عمل أو سلوك ما خاطئ ومحرم لأنه شر، ولا يعتبر شرا لأنه محرم.

مع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن هذا لا يتعارض مع الاعتقاد بأن «القبيح» و «الحرام» يدلان على نفس العمل.

يقول تعالى صراحة أنه وهب الناس معرفة الخير والشر وجعل هذه المعرفة في الطبيعة البشرية وتقول الآيات 107 في سورة الشمس : (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا)، أي أن النفس التي جعلها كاملة ومثالية وألهمها معرفة الصح من الخطأ، فإن من يطهرها سينجح ومن يفسدها سوف يفشل بكل تأكيد». وهنا معرفة الخير والشر تكون واحدة من القدرات الفطرية التي خلقها الله في الإنسان. ولذلك ذكر الله هذه المعرفة بصفتها هبة خاصة . وفي تفسير ابن كثير (توفي عام 1372/773) يذكر أن ابن عباس فسر الآية: (فألهمها فجورها وتقواها)، بأنها تعني «أن الله أوضح الخير والشر لها (للروح)». وأكد أيضا سعيد بن الجبير على ذلك بقوله أن: «الله منح الروح الإلهام لمعرفة ما هو الخير وما هو الشر» (ابن كثير (2000، 10 : 497). في حين يطلعنا عبد الجبار المعتزلي (توفي عام 1024/415) في كتابه «تنزيه القرآن» أن بعض الناس فسروا الآية بطريقة تؤكد عقيدة الحتمية، معتبرا أن الفجور والتقوى هي صفات الإنسان التي خلقها الله فيه. وبطبيعة الحال، لا يتفق عبد الجبار مع هذا التفسير ويذكر بأن «ما هذا التفسير ويذكر بأن «ما هو المقصود من كلمة ألهمها هو أن الله أطلع الروح الإنسانية وكشف لها الشر حتى يمكنها تجنبه وأظهر لها الصواب كي تتبعه (عبد الجبار، لا تاريخ 463).

ص: 127

تقول الآيات 8-10 من سورة البلد: «أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْن» - هذه الآيات تشير إلى أن القدرة على التمييز بين الخير والشر هي أيضا نعمة من الله وقال ابن كثير في «تفسيره» بأنه ذكر عن ابن عباس (توفي عام 687/68)، وعبد الله ابن مسعود (توفي عام 652/32) وآخرين قولهم أن كلمة «النجدين» (أي الطريقين) تعني : «الخير والشر» (ابن كثير 10، 2000: 484). وأضاف عبد الجبار أن «هذا يدل على أن الله قد أرشد الجميع، المؤمنين وغير المؤمنين» (عبد الجبار، لا يوجد تاريخ، 463). الإنسان أيضا وهبه الله نفحة إلهية وهي التي وصفها الله في القرآن في الآية 29 من سورة الحجر : فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ. كما يؤكد القرآن الكريم على أن الإيمان هو طبيعة الإنسان، لكنه عرضة للنسيان. وكان الله يبعث رسله لتذكير الإنسان بهذا الإيمان المنسي. ولذا، تقول الآية 30 من سورة الروم : فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّين حَنِيفًا * فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا * لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ * ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيَّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون. وتقول الآيتان 53 و 54 من سورة غافر : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ، هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الألْبَابِ. وفي الآية 35 من سورة النور: اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةِ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةِ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرَبِيَّةِ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ، يصف الله الطبيعة الخيرة والوحي الإلهي بأنهما «نور على نور». ومن هنا، فإن الوحي الإلهي ليس نورا على ظلمة وإنما نور على نور.

إن عهد الله مع البشر مذكور في القرآن الكريم، حيث أقر كل البشر بالتزامهم طاعة الله، خالقهم. ففي الآية 172 من سورة الأعراف : وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ، الجملة الأخيرة توضح كون البشر مسؤولون أخلاقيا بشكل فطري. وهكذا فإن العهد مع البشر والنفحة الإلهية في البشر يشيران إلى أن جميع أحفاد آدم يمتلكون ضميرا يميز الخير من الشر، الأمر الذي يتفق مع تفسير عبد

ص: 128

الجبار (المرجع السابق، 153)، الزمخشري، والنسفي من بين آخرين. (الزمخشري طبعة عام 1407 هجرية، 2 : 176؛ النسفي، 11998: 617).

لذلك يمكننا أن نخلص إلى أن القرآن يفترض قدرة الإنسان على التمييز بين الخير والشر، ولا يستثني دور العقل في المعرفة الأخلاقية. أما تفسيرات أولئك الذين تم تصنيف أعمالهم التفسيرية بصفتها تفسيرا يعتمد على المصادر التقليدية (التفسير بالمأثور) والتفسير الذي يأخذ منحى الرأي فتؤكد ذلك بوضوح في الواقع، إن التأكيد على أن العقل المستقل غير قادر على معرفة الخير والشر، وأنه لا يوجد خير وشر قبل الوحي لا يقوض دور العقل في الأخلاق فحسب، بل ويؤدي إلى وجود فجوة بين الأخلاق والدين. فتعطيل العقل ودوره في المعرفة الأخلاقية كان وراء إصدار بعض الفتاوى الشرعية المعاصرة اللاعقلانية، وتتناقض المعرفة العلمية (1) مع وغيرها والتي تعتبر بغيضة ولا يمكنها الصمود أمام التفكير الأخلاقي (2).

ومن بين العلماء المعاصرين يلفت عبد العزيز ساجدينا الانتباه إلى حقيقة أن التحقيق الأخلاقي المرتبط بالابستيمولوجيا الأخلاقية أو الأنطولوجيا الأخلاقية غير متطور في المناهج الدراسية الإسلامية (ساجدينا 2009، 41). وقال إن «غالبية العلماء السنة، وتماشيا مع الطوعية اللاهوتية للشريعة التي بررت أولوية إرادة الله على الفكر (مما أدى إلى تحديد الأخلاق بالشرع الإيجابي الإلهي وإنكار إمكانية أن يكون للقيم الأخلاقية أي أساس آخر عدا إرادة الله)، قاوموا الدافع العقلاني للقرآن» (المرجع السابق، 86). بينما يؤكد خالد أبو الفضل أن «المسلمين يشجعون على البحث عن المسلمات الأخلاقية التي يمكن أن تكون أهدافا مشتركة مع الإنسانية

ص: 129


1- على سبيل المثال إنكار حقيقة أن الأرض تدور حول الشمس ومناقشة الدكتور نضال قسوم لهذا الأمر في //:http - movedoesntnidhalguessoum.org/earth، تم الدخول إليه في 20 يناير/ كانون الثاني 2015
2- على سبيل المثال، انظر نقد الفتوى لأحمد ريشوني والتي تسمح بالزواج بنية الطلاق فيقول : «الزواج موضع التساؤل لا يعلن شيئا عن التوقيت حيث أن الزوج يبقيه سرا بينما يتم الإعلان عن توقيت زواج المتعة وهو مقبول من كلا الطرفين. في الواقع، إن الزواج بنية الطلاق أسوأ من زواج المتعة، لأنه زواج مؤقت ويتضمن الخداع والغش عندما يخدع الرجل المرأة وعائلتها. ويجب أن يكون هذا الزواج أكثر جدارة بالتحريم من غيره». في «الأخلاق والتشريع في القرآن الكريم»، وهي ورقة قدمت في الندوة: «القرآن والأخلاق: النهج والأهداف والأمثلة»، التي نظمها مركز أبحاث التشريع الإسلامي والأخلاقيات (CILE)، الدوحة، من 4 إلى 6 يناير / كانون الثاني 2015

ككل. ويبدو لي أن هذه سمة أساسية لدين عالمي يستهدف البشرية جمعاء، وليس جماعة ثقافية، أو اجتماعية أو عرقية» (أبو الفضل 2014). وذكر عبد الله دراز أنه «وفقا للقرآن نفسه، يأتي قانون الضمير، على الصعيد الوجودي، أولا قبل الدين الحقيقي (الدين الذي له مؤسِّس تاريخي محدد). إن شعور الخير والشر، الصواب والخطأ، قد نُفخ في كل روح إنسان منذ خلقه». وأكد دراز على ذلك بقوله، «لم يأت الشرع الحقيقي لإلغاء القانون الطبيعي وتدمير السلطة الداخلية التي أسسها (دراز 2008، 286). مع ذلك، وكما لاحظ سمير رشواني»، فقد تجاهل دراز مناقشة بعض القضايا الخطيرة، بما في ذلك الحكم الأخلاقي قبل دعوى الشريعة الإسلامية التي أيد فيها بإيجاز مذاهب مدرسة اللاهوت الأشعرية وانتقد وجهات نظر المعتزلة دون الدخول في التفاصيل» (رشواني 2015).

الجدل حول المبرر النهائي للأحكام الأخلاقية

رأى الأشاعرة أن القانون الديني يحدد ويوضح الأخلاق (الشرع مثبت ومبين)، مما يعني أنه لا يوجد خير ولا شر بمعزل عن الوحي، ومن دون الوحي الأعمال ليس لها قيمة أخلاقية. وعلى النقيض من ذلك، اعتبر المعتزلة أن الوحي يدل على الخير والشر ولا يثبتهما (الوحي مبين لا مثبت). ووفقا للمعتزلة، دور الوحي هو مجرد الإشارة، منذ أن تم تأسيس كل شيء بطريقة معينة منذ بداية الخلق. فالإنسان قادر بطبيعته الفطرية وعقله على التمييز بين الخير والشر. والشرع الإلهي بحسب المعتزلة لم يكن من الممكن أن يكون بوحي تغيير طبيعة الأشياء ولا لتحويل الخير إلى الشر والشر إلى الخير. فضلا عن ذلك، الأوامر الإلهية ليست تعسفية؛ فهي أوامر أخلاقية تتفق مع العقل والميول الطبيعية. ويستتبع موقف الأشاعرة بالضرورة أن تكون الأوامر الإلهية تعسفية، لأن تلك الأوامر تنطلق من الإرادة المطلقة، ولا يقيدها حتى واقع الخلق بحد ذاته وهذا ما يفسر لم رأى الأشاعرة أن من الممكن فرض «التكليف بما لا يطاق» وهي عقيدة كان الأشاعرة المتأخرون قد الغوها والذين رفضوا بعض العقائد الموجودة بالضرورة ضمنا في نظرية الأشاعرة حول الخير والشر، بما في ذلك

ص: 130

تعسفية الأوامر الإلهية. (لمزيد من المعلومات حول خلافات المعتزلة - الأشاعرة انظر: العطار، (2010)، ص. 75-76).

وتتبنى النظرية التي وضعها علماء الأشاعرة المتأخرين (1) والتي تعرف باسم نظرية مقاصد الشريعة، فكرة أن الأوامر والنواهي الإلهية هادفة وليست تعسفية. فأولئك الذي اعتنقوا مفهوم الأوامر الهادفة يبدو أنهم يناقضون ما يستدل عليه بالضرورة من أي «نظرية منسجمة عن الأمر الإلهي»، أي أن الأوامر والنواهي تعسفية. مع ذلك، ووفقا لهؤلاء ، فإن «الأغراض» ليست، وكما قد يعتقد البعض، لتحقيق «المصلحة» العامة أو الرفاه التي تم تحقيقها حفاظا على «الكليات الخمس». ف_ «المصلحة» وفقا للأشاعرة هي التقيد بالمقاصد، التي لا تعرف إلا عن طريق المنطق الاستقرائي الذي يتضمن استخلاص الأغراض من الأوامر والنواهي الإلهية الصريحة. وهذا يعني أن أولئك الذين تمسكوا بنظرية «أغراض الشرع» من بين الأشاعرة بقوا مخلصين لأشعريتهم من خلال رؤيتهم بأن «المصلحة» فقط ما يأخذه الشرع بالاعتبار، ولا تشمل ما يمكن تحديده حسب المنطق والعقل. فالمصلحة الحقيقية، وفقا لهم لا يمكن أن تكون معروفة إلا بالتحقيق في مختلف الأحكام وملاحظة الأهداف الكامنة وراءها. وبالتالي، لا يمكن معرفة «المصلحة العامة» أو «الأغراض» ، بمعزل عن الأوامر والنواهي، تماما كما من غير الممكن معرفة الخير والشر الحقيقين قبل ظهور الوحي.

لذلك، وعلى الرغم من أن الأشاعرة قد عدلوا «نظرية الأمر الإلهي» من خلال استيعاب الأوامر والنواهي الإلهية الهادفة في نظريتهم، إلا أنهم ما زالوا مخلصين للأشعرية من خلال تنظيم وتعديل مفهوم «المصلحة» بما يتناسب مع المفهوم الأشعري للخير والشر، وانكارهم بذلك دور العقل البشري في تحديد المصلحة والمقاصد. يمكن للمرء أن يقول أنهم وضعوا العربة قبل الحصان كما وصف الأمر أبو الحسن الأشعري، على الرغم من أنهم زادوا من قوة الحصان وحسنوا من قدرته على القفز ومن خلال افتراض الهدف . الأوامر والنواهي، فإن المعيار النهائي

ص: 131


1- مثل الجويني (توفي عام 1085/478)، الغزالي (توفي عام 1111/505)، القرافي (توفي عام 1285/684)، العز بن عبد السلام (توفي عام (1261/660) والشاطبي (توفي عام 1388/790)، وذلك من بين آخرين

للأحكام ليس الأوامر والنواهي نفسها، بل الأغراض التي تقف وراء هذه الأوامر والنواهي. بيد أن الاستدلال الاستقرائي للأحكام الدينية - الشرعية المنتشرة في النصوص المقدسة الطريقة المتبعة من قبل العلماء الأشاعرة. ويبدو أن هذه المنهجية لم تعد مناسبة ويجب تعديلها بطريقة تعطي العقل الدور الذي يستحقه.

صحيح أن الطوعية الأخلاقية أو نظرية الأمر الإلهي بقيت هي الموقف الميتا الأخلاقي السائد في المقاصد ذات المنحى الفكري، ولكن، وكما رأينا، فإنها ليست الخيار الوحيد الممكن في الأخلاق وأصول الفقه ولا تمثل بالتأكيد الموقف القرآني.

ومن الجدير بالذكر أن التعريفات الأولى للأحكام الأخلاقية - الشرعية قد تأسست في أحكام القيم . وقال التهناوي (توفي بعد عام 1745/1158) أن المعتزلة عموما قد اتفقوا على التعريفات التالية للأحكام المعيارية للأعمال:

الواجب هو الفعل أو حكم الفعل، الذي إذا لم يتم تنفيذه، فإنه يستتبع أو يؤدي إلى الفساد أو الأذى (مفسدة).

الحرام هو حكم الفعل، الذي إذا تم تنفيذه فإنه يؤدي إلى فساد (مفسدة).

المندوب هو حكم الفعل الذي إذا تم تنفيذه فإنه ينطوي على بعض الفائدة (المصلحة).

المكروه هو حكم الفعل، الذي إذا لم يتم تنفيذه، فإنه ينطوي على فائدة.

المبارك هو حكم الفعل الذي لا يترتب عليه أي فساد أو فائدة.

هذه هي أحكام الأفعال قبل وبعد الوحي في الفكر المعتزلي. ووفقا للزركشي (توفي عام / 1392/749) : «العقل اعتبر بأن الله، وبسبب حكمته العظيمة، لا يمكن أن يكون قد ترك، في أي وقت من الأوقات، الأمر بمصلحة دون أن يجعلها واجبة ومجزية، ولا يمكن أن يكون قد أمر بترك أي ضرر، في أي وقت دون أن يكون قد جعل ذلك الترك محرما ومعاقبا عليه مما يثبت حكمته، وإلا لن تكون هناك حكمة في الألوهية» (الزركشي 1994/1414، 1: 190). بيد أننا نعلم أن غالبية الفقهاء

ص: 132

قبل الأشعري، وليس فقط المعتزلة، قد اتفقوا على أن المصلحة هي المعيار النهائي للأحكام الأخلاقية، وبالتالي فإن التعريفات المذكورة أعلاه لا يمكن أن تكون موضع نزاع من قبل معظم العلماء المسلمين. (انظر على سبيل المثال نيازي 1996، 43). ويطلعنا التفتازاني (توفي عام 793 / 1390) على الموضوع فيقول بأن »هذه المسألة مأخوذ بها في كتب الأصول [أصول الفقه] للشافعية والأشعرية لتتفق مع معتقد المعتزلة بأن العقل يمكن أن يحكم على الخير والشر» (التفتازاني لا تاریخ 2: 216)، والتي من الواضح أنها تشير إلى أن الأشاعرة الذين اتبعوا المدرسة الشافعية للفقه قد تقبلوا عقيدة المعتزلة في فقههم (أصول الفقه). في الواقع، لقد لاحظ علماء العصور الوسطى والعلماء المعاصرين التناقض القائم بين كتابات الأشاعرة في الفقه وكتاباتهم في أدب «الكلام» (قراري 2010) على الرغم من أن العقل، وفقا للأشاعرة، كما نعلم، لا يمكن أن يعرف بشكل مستقل الخير والشر، فإننا نجد بأن القرافي (توفي عام 1285/684)، وهو أشعري، يقول بأن «الأوامر تتبع المصلحة وأن المحرمات تتبع الأضرار». ورأى القرافي بأن «المشرع (صاحب الشرع) لم يترك شيئا يُعتبر سببا لجعله عملا واجبا معينا من دون أن يتضمن ذلك العمل مصلحة تتناسب مع كونه واجبا. أما إذا كانت فائدة العمل أقل، فقد جعل منه سببا للتوصية بالقيام به. كما أنه أيضا لن يجعل من مطلق شيء سببا لتحريم عمل ما بالنسبة للعامل ما لم يتضمن هذا السبب ضررا متناسبا مع التحريم. فإذا كان الضرر أقل من ذلك، فقد جعل السبب لهذا العمل مكروها. على سبيل المثال، إعطاء رغيف الخبز لشخص ما جائع وعلى وشك الموت، أمر واجب وسبب وجوبه هو ضرورة الحفاظ على حياته، وهي مصلحة كبرى تتناسب مع الواجب» (القرافي لا تاريخ 3: 113).

ومن الواضح أن البيان أعلاه للقرافي أقرب إلى مفهوم المعتزلة عن الخير والشر العقلاني منه للأشاعرة، ويوافق تماما تعريفات الأحكام المعيارية للأعمال. مع ذلك، وفي أماكن أخرى، يوضح القرافي نقطة الخلاف مع المعتزلة ويظهر لنا توافق الأشاعرة مع المعتزلة على معنيين من معاني الخير والشر العقلانية ما يحتكم إلى التصرفات

ص: 133

الطبيعية للمرء وما له سمة التميز أو النقص في حين أن المعنى الثالث، والذي هو الأهم، من حيث أنه المعنى المعياري الأخلاقي ويرتبط بالخلاص النهائي، لا ينشأ إلا بمقتضى القانون الديني الشرعي، وفقا للقرافي وجميع الأشاعرة. فهو يقول: «الشر هو الذي حرمه الله والخير هو ما لم يحرمه» القرافي 1973/1393، 1: 88).

ينبغي للمرء أن يتساءل حقا، كيف يحدث أن العمل يكتسب سمة التميز ويتفق مع الأحكام الطبيعية للمرء، لكنه مع ذلك لا يستحق الثواب في الآخرة، أو كيف يمكن أن يكون للعمل سمة النقص والتخلف أو عدم التوافق مع الأحكام الطبيعية و مع ذلك فإنه لا يستحق اللوم والعقاب؟ صحيح أن القرآن الكريم يقول في الآية 15 من سورة الإسراء: «مَنِ اهْتَدَى فَإِنما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ * وَمَنْ ضَلَّ فَإِنما يَضِلُّ عَلَيْهَا * وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً»، مع ذلك، فإن هذا يمكن أن ينطبق على الواجبات الدينية التي لا يعرفها العقل، مثل الصلاة والصوم. إذ وفقا للمعتزلة الذين يعتبرون العدالة مبدأهم الرئيسي فاعل الشر سوف يُعاقب. أما الأشاعرة، وعلى الرغم من عمق بعض تحليلاتهم وأهمية مساهماتهم، فقد ظلوا أوفياء لنظرية الأشعري في الأخلاق التي تتوافق مع نظرية الأمر الإلهي في الفكر الغربي المعاصر.

نقد الأساس الأشعري لنظرية المقاصد

إن الطوعية الأخلاقية، التي دعا إليها الأشعري، تعني ضمنا أن «من المستحيل نهاية المطاف تفسير أوامر الله من حيث أي غرض أو هدف» (فرانك 1983، 214_215). وبالتالي، ظلت الطوعية الأخلاقية موقفا لاهوتيا ولم تنجز في «أصول الفقه»، حيث واصل الفقهاء من جميع المدارس استخدام العقل واستخلاص الأحكام من خلال مختلف المنهجيات التي لم يكن يمكن استخدامها دون إدراك الأسباب القائمة وراء الأوامر الإلهية. وهناك مثال جيد على الطوعية الأخلاقية هو موقف الأشعري (توفي عام 935/323) وداوود الظاهري (توفي عام 882/270) اللذان كانا على استعداد لقبول العواقب الأكثر تطرفا لموقفهم هذا أنه لو كان

ص: 134

الله قد أمر بالسرقة والوثنية، فسيكون من حق البشر بعد ذلك الحق في ارتكاب السرقة والعبادة الوثنية. فبالنسبة للأشاعرة، لا يوجد سبب مقنع لإرادة الله لشيء على حساب عكسه وبأن ليس هناك من سبب بالنسبة له ليأمر بشيء بدلا من عکسه. حتی أن الأشاعرة المتأخرين بدءا من الجويني (1085/478) وما بعده تقبلوا هذا الموقف الذي استدعى الانتقاد من ابن تيمية (توفي عام 1328/728)، عندما قال: «أولئك الذين يجادلون ضد مسألة تأكيد الحكمة في أعمال الله تعالى، فقههم يتناقض مع مبادئ «كلامهم»؛ بما أنهم بالتأكيد يؤكدون العكس في قضايا الفقه والتفسير والحديث. ونفى الرازي المنطق في الكلام، لأن سيده هو الأشعري، بينما قبل الاستدلال ]عند التحقيق في قضية ذات صلة بالفقه، لأن سيده في ذلك المجال كان الشافعي» (ابن تيمية، منهاج السنة، المجلد1، 34. p - 35، المستشهد به في كتاب صبحي 1969، 85-86).

أدرك فخر الدين الرازي (توفي عام 1209/606) والأشاعرة الآخرون أن هناك ثلاثة طرق معترف بها عموما لتعريف الحُسن والقبح. وقد اتفقوا مع المعتزلة حول المعنيين الأولين، ولم يتفقوا على الثالث. وقال: «التعريف الأول يدل على ما هو جذاب أو مثير للاشمئزاز في التصرف الطبيعي للمرء (ملائمة الطبع ومنفراته)، والثاني، يدل على أن شيئا له خاصية التميز أو الكمال (صفة الكمال) أو العيب و الخلل (النقص). وهذان المعنيان [الخير والشر] هما معنيان عقلیان، على حد سواء. مع ذلك، يقال أحيانا أن هذه المصطلحات تشير إلى أن عملا معينا يفرض العقاب أو الثواب، والمدح أو اللوم. إذا كان هذا يعني أنها بالنسبة لنا [الأشاعرة[ هي مسألة شرعية، فإنها على النقيض من ذلك بالنسبة للمعتزلة» (الرازي 1991/1411، 478_479).

وهكذا، فقد أكد الرازي مثل القرافي، على أن أسباب الأحكام الإلهية لا يمكن أن تكون أغراضا وأسبابا إنسانية، وذكر أن هذا مخالف لما أكد عليه المعتزلة ومعظم الفقهاء (الرازي (1991/1411 (483). وكان الرازي باحثا يجمع بين اللاهوت والمعرفة الفلسفية والشرعية. كان مفكرا متطورا ويطلعنا أيمن شحادة، على أن مناقشات

ص: 135

الرازي حول مواضيع أخلاقية معينة هي من بين المناقشات الأكثر اختراقا في التاريخ الإسلامي وتتطابق بسهولة مع مناقشات مقابلة في أي نص موجود من نصوص المعتزلة. (شحادة 2006، 2).

قيل لنا أنه «وفقا لعلماء الدين (المتكلمين) فإن «العقل» هو مصدر المعرفة، وعلى هذا النحو، فإنه نقيض النقل أو التقليد. وكلمتا «الفطرة» و «الطبيعة» تستخدمان له أيضا. وبالتالي فإن العقل هو وسيلة طبيعية لمعرفة ما هو الصواب والخطأ بشكل مستقل عن سلطة الوحي» (رحمان 1986).

مع ذلك كان السؤال عما إذا كان العقل يتضمن القدرة على معرفة الصواب والخطأ موضع خلاف عند الأشعري (260 / 873-324 / 935)، الذي أصر على الأولوية الأبسمتية (المعرفية) للوحي على حساب المعرفة الأخلاقية. وكان هناك حجة فعالة قد أثيرت ضد موقفه هي أنه سيكون من المستحيل معرفة الله وصدق وشرعية وحيه ما لم يكن لدى المرء القدرة على التمييز بين الخير والشر.

وقد اعترف بالوظيفة المعيارية للعقل علماء لم يلتزموا بالمدرسة الأشعرية، وهذا يشمل أيضا معظم الفقهاء حتى زمن الجويني (توفي عام 1085/478). ويبدو أن هذا الأخير هو الأول الذي يجمع، على الصعيد المنهجي، الفقه الشافعي مع اللاهوت الأشعري، ويستثني المعرفة الأخلاقية مما هو معروف بالضرورة(1). والمعرفة وفقا لأبو الحميد الغزالي (450-505/ 1058-1111) هي إما دين إما دين أو أغراض إنسانية. (الغزالي 1995، 1:72). بيد أن الغزالي لا ينكر أن المبادئ الأخلاقية والمقاصد والغايات المقبولة عموما يمكن تحديدها من خلال البحث والتحقيق في مقاصد البشر. مع ذلك، هذه المقاصد دقيقة ومخفية، لذلك لا ينتبه لها إلا المحققون (2).

وأوضح الغزالي الأغراض الأساسية التي تعرف بالمقاصد (الشرع) والتي تعكس

ص: 136


1- لقد أيد المعتزلة البصرانيون المعرفة الضرورية عن الخير والشر التي تعتبر عامة. ويتضمن ذلك معرفة شر الإثم، وخير الشكر لفاعل الخير ، وما إلى ذلك. أما الأشاعرة فقد أنكروا ذلك. على سبيل المثال، أنظر الجويني 1950/1369، 260
2- المرجع نفسه

في الواقع المقاصد النهائية للإنسان. تلك الغايات الشاملة المعروفة (الكليات الخمس) أو مقاصد الشرع . وظل الغزالي مثل معلمه الشافعي الجويني ومثل الفقيهين المالكيين القرافي (1285/684) وبعد ذلك الشاطبي (توفي عام 1388/790) وفيا للتصور الأشعري للأخلاق. ووفقا للشهرستاني، فقد رأى أبو الحسن الأشعري (توفي عام 935/324)، مؤسس الأشاعرة الذين يكنون بكنيته ، أن «المعرفة مشتقة من العقل، لكن التأسيس للالتزام بالواجب يكون من خلال الوحي». ويوضح الشهرستاني أن هذا تم التأكيد عليه من أجل منع الالتزام الرشيد (الوجوب العقلي) من عدم إنكار المعرفة التي تحدث بواسطة العقل. (الشهرستاني، لا تاريخ، 371).

مع ذلك، من المهم أن نلاحظ أن ليس كل العلماء ممن ساهموا في تطوير مفهوم المقاصد كانوا أشاعرة. فعلى سبيل المثال، لقد اعتبر القفل الشاشي (توفي عام / 976/365) العقل قادرا على معرفة الخير والشر. وقال في كتابه انه يعتبر أن الخير في الشريعة يستند إلى العقل والحكمة اللذان يقفان وراء كل ما تفرضه وهو ينظر إلى بعض التشريعات العلمانية المتعلقة بالسياسة وإدارة الحياة اليومية بصفتها خيرا وواجبا ويؤكد أن صلاحها يقرره العقل (واجب بالعقول)، في حين أضاف أن السياسات الفضيلة لا تتم إلا به. (الشاشي (2007، 30). ويبدو أن الفقهاء الحنفيين الأوائل والشافعيين قبل الجويني كانوا يشاركونه هذا الموقف. على سبيل المثال، لقد أكد العالم الشافعي ابن سراج (توفي عام 918/306) ، الذي كان أيضا أحد معلمي الشاشي، أكد على أن شكر فاعل الخير واجب، وأن العقل غير المساعد يمكن أن يميز الخير من الشر في بعض الأمور (راينهارت ،1995، 17، في إشارة إلى كتاب البحر المحيط للزركشي، (MS Paris Bibliotheque Nationale، 811Arabe)) ومن الواضح أن أعمال القفل الشاشي وغيرهم من علماء الشافعية تتضمن مراجع واضحة عن الفكر الأخلاقي المعتزلي كما نوه بذلك أيضا أحمد الشمسي. (الشمسي 2014، 20-25)

بعض المراجع الأولى حول مفهوم المصلحة (مفهوم أساسي في أصول الفقه

ص: 137

وفقه المقاصد) ربطت هذا المفهوم بقانون وجد خارج نصوص الوحي كما هو الحال في كتاب ابن المقفع (ص 757/139) والماتريدي الأول أبو بكر الجصاص (توفي عام 980/370). فبالنسبة للجصاص، أي قضية لم يتم تناولها في الكتاب المقدس يمكن أن يقررها العقل. ووفقا لفيليستا أوبويس (Felicita Opwis)، «هذا من شأنه أن يكون مجالا للتفكير المستقل والأحكام الناتجة تقع خارج نطاق القانون الديني والمساءلة الدينية» (أوبويس 2010، 31). ومن المثير للاهتمام، أنه يبدو أن هناك وجهة نظر مماثلة لتلك التي للجصاص كانت مقبولة لدى المعتزلي المتأخر أبو حسين البصري (1044/436) .

لقد اعتبر البصري، مثل الجصاص، أن الأحكام التي لم يتم تناولها صراحة في الكتاب المقدس وعلى أساس الفكر وحده تقع خارج عالم الدين وبالتالي فإنها مستثناة من المساءلة الدينية. (إبيديم (Ibidem)، 34). واعتبر أن قانون الوحي هو وحده الذي يضفي المعرفة حول المصلحة الشرعية (إبيديم (Ibidem)، 34).

المشكلة في الرأي المذكور أعلاه أنه يقلل من شأن الأحكام الأخلاقية والسلوك الأخلاقي عندما لا تستند بشكل صريح إلى الوحي. هذا يعني أيضا أن الأشخاص الذين لا يتبعون أي شريعة وحي سوف يكونوا مستثنين من الثواب والعقاب الإلهي . فمن جهة، هذا أمر مثير للقلق لأنه يقيد بالتأكيد نطاق الشريعة. مع ذلك، ومن جهة أخرى، هو تحرر لأنه يعني عدم وجود قوة أو سلطة دينية أو سياسية قادرة على ادعاء الجزاء الإلهي بالنسبة للشرائع التي هي من صنع الإنسان. مع ذلك، ليس كل المعتزلة يوافقون على وجهة النظر المذكورة أعلاه، بما أن عبد الجبار (توفي عام 1024/415)، على سبيل المثال، كان يرى أن ما «يستحق الثواب هو العمل الذي يتميز في حد ذاته من خلال ما يستلزم كونه واجبا أو مستحبا» (عبد الجبار، لا تاريخ، 12 : 279). وقد ميز هو وغيره من المعتزلة قبله بين الواجبات الأخلاقية التي أسموها التكليف العقلي والواجبات الدينية التي أسموها التكليف الشرعي. الأول هو الالتزام بالمبادئ الأخلاقية المعروفة لدى جميع الكائنات العقلانية، والثاني يشمل الالتزامات التي لا يمكن للمرء

ص: 138

معرفتها من دون الوحي مثل الالتزامات بأداء الطقوس الدينية والعبادة. فبالنسبة لعبد الجبار، معرفة الله تعتبر لطفا، بما أن المرء يعلم أن أفعال الشر تستحق العقاب وأعمال الخير تستحق الثواب. وهكذا يصبح الشخص المكلف أقرب إلى تجنب الشر. بمعنى آخر، ومع العلم بأن الله سوف يجزي على الأعمال الصالحة ويعاقب على أفعال الشر، فإن هذا سوف يساعد المؤمن على بذل جهده وبشغف في ما يفعله.

رد الفقهاء الأشاعرة على مفهوم «المصلحة» لدى الفقهاء المعتزلة. وقالت أوبويس أن «شكوك الأشاعرة تجاه «قوانين البشر» أجبرهم على إيجاد الطرق التي من شأنها تمكين الشرع الديني من مخاطبة جميع التجارب الإنسانية، حتى وإن لم يتم تناولها صراحة في مصادره النصية. وكان رائدا في هذه الجبهة اللاهوتي الأشعري والفقيه الشافعي الجويني». ووفقا لأوبويس، «حاول الجويني حماية امتيازات علماء الدين في إصدار أحكام دينية موثوقة بخصوص مسائل دنيوية عن طريق وضع منهجية واضحة لاستخلاص أحكام تتعلق بمواقف غير مسبوقة، والتي تقف حيالها مصادر الشرع صامتة» (أوبويس 2010، 42).

لا بد أن الأشاعرة قد استفادوا من عمل أسلافهم المعتزلة في العثور على ما يشكل «المصلحة» وفقا للعقل البشري، ولكن من خلال الاعتقاد بأن المعنى الحقيقي للمصلحة هو الحفاظ على المقاصد الإلهية وليس مقاصد البشر الذين كانوا قادرين على الحفاظ على الشرعية الدينية لأي حكم جديد يقوم على مبدأ «المصلحة» ونظرية المقاصد . وفي «المُغني» ، العمل الضخم الذي تضمن تتويجا لمعتقدات المعتزلة، كتب عبد الجبار : «في حالة الخلاف حول معنى نص معين، [أي من القرآن[، يجب أن يكون فهمه وتفسيره بطريقة تتفق مع نوايا أو أهداف المسلمين (المقاصد). (عبد الجبار، لا تاريخ 6-ب: 331) هذه المقاصد هي بالضرورة مقاصد الشرع ومغزاه المقصود. فضلا عن ذلك، إنها مسلمات أخلاقية وأهداف مشتركة بين جميع البشر .

ملاحظات ختامية

يجد الشمسي بأن حقيقة الاستخدام المنهجي ل_ «المصلحة» كشعار في اشتقاق

ص: 139

القاعدة التناظرية قد بدأ بعد تراجع المعتزلة ومع صعود اللابديهية الأشعرية. (الشمسي 2014: 20). إنه على حق، بما أن الأشاعرة، من جهة، أيدوا صراحة الطوعية الأخلاقية، رافضين بذلك الواجب العقلاني، ومحددين دورا ثانويا للعقل في المسائل الأخلاقية للحد منه واقتصار دوره على تفسير النصوص، في حين أنهم، ومن ناحية أخرى، وضعوا نظرية أخلاقية تتطلب بوضوح اعتمادا واسع النطاق على العقل، وهو أمر لا يتناسب مع دوره (العقل) التابع الذي عينه له الأشاعرة. وبصرف النظر عن الحقيقة بأن الأشاعرة المتأخرين الذين وضعوا نظرية المقاصد ما زالوا مؤمنين بالعقيدة الأشعرية في الأخلاق، لكنهم استفادوا كثيرا من مساهمات المعتزلة. وقد وضعوا نظرية المقاصد على أساس أهداف إنسانية يعرفها العقل ويدعمها الوحي .

هذه الأهداف، كما أشار إليها الغزالي خفية ولا يمكن ملاحظتها إلا من قبل الذين يحققون فيها حقا. لذلك فإن أهداف أو مقاصد الشريعة ليست مشتقة من نصوص المصادر الكتابية، كما لاحظ ذلك أيضا أنفر إيمون (Anver Emon)، الذي أضاف قائلا أن «نصوص المصدر ، في الغالب، تؤكدها وتؤيدها»(1).

بالنسبة للغزالي، يبدو أن هذه القيم معروفة بديهيا فهي تتعلق بأنواع القيم التي يمكن لأي مجتمع أو تقاليد شرعية التمسك بها إذا كانت تحافظ على المجتمع وتجعله يزدهر. وقال من المستحيل على أي مجتمع (ملة من الملل) أو أي نظام قانوني (شريعة من الشرائع) يهدف إلى إصلاح الخلق أن لا يشمل محرمات في مقابل الاهمال وضبط النفس من هذه القيم الخمس» (الغزالي، المصطفى، 1 : 637 ، مقتبس في كتاب إيمون 2013، 135).

وهذا ما يعترف به الشاطبي، الذي يضيف: «ومعرفة الضروريات الخمس (الكليات

ص: 140


1- إيمون (2013،135 Emon). يحاجج إيمون (Emon) في كتابه فيقول بأن الآشوريين طوروا نسخة معينة من نظرية القانون الطبيعي التي تعتمد على مفهوم «المصلحة والمقاصد». وقد ميز هذا المفهوم عن نظرية المعتزلة الأخلاقية التي سماها نظرية القانون الطبيعي الصعبة. ولكن لا يوجد في أي مكان في الكتاب أي تعريف واضح لما يعنيه القانون الطبيعي. ويظل الكاتب يشير على امتداد الكتاب إلى مفهوم «دمج الحقيقة والقيمة» ، ولكن ذلك أيضا لم يتم توضيحه. مقالة حديثة، كشف أندرو مارس ( Andrew March) عن مفهوم «القانون الطبيعي» محاججا بأنه مفهوم غامض ويمكن تطبيقه على أي تفسير للشريعة الإسلامية، والذي يبدو أنه ينطبق على تفسير إيمون (Emon) أيضًا. انظر: مارس/ آذار 2015

الخمس) الدين، والحياة، والذرية، والممتلكات والفكر التي تهدف الشريعة إلى الحفاظ عليها، أمر أقرب إلى المعرفة اللازمة ...» (الشاطبي 1997، 1: 20).

لقد سبق أن أشرت إلى أهمية مفهوم «المعرفة الضرورية» في الأخلاق وشرحت معناها. والمعرفة اللازمة هنا تشير بالتأكيد إلى المعرفة التي تكون مستقلة عن الوحي.

وتتفق نظرية الاشعري عن الخير والشر بالتأكيد مع بقية النظريات الأشعرية في «الكلام»، ولكنها ليست بالنظرية التي لا غنى عنها في مبادئ أصول الفقه إن القبول والاعتراف بالوكالة الإنسانية في صياغة وتأسيس «الضرورات الشاملة الخمس» (الكليات الخمس) أو المقاصد أمر يتطلب أساسا ماديا أخلاقيا مختلفا. وهي نظرية من شأنها القضاء على التناقض الذي لاحظه العلماء التقليديون والمعاصرون، وتفتح الباب للتفكير الأخلاقي في المسائل النظرية والعملية من وجهات نظر مختلفة مع الأخذ بعين الاعتبار تقدم المعرفة الإنسانية.

ص: 141

المراجع

*عبد الجبار، عماد الدين أبو الحسن بن أحمد ، لا تاريخ ، «تنزيه القرآن عن المطاعن»، بيروت، لا تاريخ. تم استرجاعه من http://books.rafed.net/view.php؟type=c_fbookb_ 761 = id، تم استرداده في 20 فبراير/ شباط 2015 .

*عبد الجبار، عماد الدين أبو الحسن بن أحمد. 1958-1965. «المُغني في ابواب التوحيد والعدل» (20 مجلدا منها 16 فقط موجودة). «النظر والمعارف»، المجلد 12. الإرادة، المجلد 6 – ب. القاهرة: وزارة التربية والتعليم.

*خالد ابو الفضل ، 2004. «مكان الواجبات الأخلاقية في الشريعة الإسلامية». UCLA مجلة القانون الإسلامي والشرق الأدنى 4، 1-40.

*خالد ابو الفضل ، 2014 . «عندما تفشل السعادة : منظور إسلامي». مجلة القانون والدين 29: 123_109 .

*مریم العطار، 2010. «الأخلاق الإسلامية: نظرية الأمر الإلهي في الفكر العربي الإسلامي». لندن: روتليدج (Routledge).

*الذهبي، محمد حسین. 1976. «التفسير والمفسرين». القاهرة: مكتبة وهبه، 3 مجلدات.

*دراز، 2008 .M.A. «العالم الأخلاقي للقرآن». ترجمة دانييل روبنسون (DanielleRobinson) وريبيكا ماسترتون (Rebecca Masterton.). لندن نيويورك بوريس.

*أديس رودريجا (Adis Duderija)، طبعة 2014، «المقاصد والفكر الإسلامي الإصلاحي المعاصر : دراسة . نيويورك: بالغريف ماكميلان (Palgrave Macmillan US.).

* أديس دودريجا (Adi Daderija) ، «الوضع النسبي للحديث والسنة كمصدر للسلطة الشرعية في مقابل القرآن في الفكر الحداثي الإسلامي». في أديس دودريجا (Ads Duderija)، (طبعة)، «السنة ومكانتها في الشريعة الإسلامية : البحث عن حديث سليم، 211-231. نيويورك: بالغريف (Palgrave) .

*أفنر إيمون ، طبعة 2013 ، «نظريات القانون الطبيعي الإسلامي»، أكسفورد: مطبوعات جامعة أوكسفورد.

*جيمس فيسر ، «الأخلاق، موسوعة الإنترنت عن الفلسفة» - استعراض الأقران المصادر الأكاديمية» - /A Peer Reviewed Academic Resource URL= http://www.iep.utm.edu ethics/H1 تم استرداده في 18 ديسمبر/ كانون أول 2014 .

*ريتشارد .م. فرانك، 1983. «الواجب الأخلاقي في اللاهوت الإسلامي الكلاسيكي»، مجلة الأخلاق الدينية 11، 204- 223 .

ص: 142

* أبو حامد محمد بن محمد الغزالي، 1995. «المصطفى من علم الأصول». مجلدان. بيروت: دار صادر.

* جورج ف. حوراني، 1985. «العقل والتقليد في الأخلاق الإسلامية». كامبريدج: مطبوعات جامعة كامبريدج.

*اسماعيل ابن كثير، 2000 ، «تفسير ابن كثير». مختصر من قبل مجموعة من العلماء تحت إشراف الشيخ صفي الرحمن المباركبوري. دار السلام نيويورك، لاهور.

*إمام الحرمين الجويني، 1950/1369. «كتاب الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد». تحریر محمد یوسف موسى وعلي عبد المنعم . القاهرة: مطبعة سعادة.

* معتز أ. الخطيب، 2007. «الوظيفة المقصدية : مشروعيتها وغاياتها»، إسلاميات المعرفة 12/48 ، ص. 9_34.

*أندرو ف. مارش 2015. «تطييع الشريعة الالتباسات التأسيسية في الدفاع عن العقائد الاسلامية الحديثة». القانون والمجتمع الاسلامي، 22: 45-81.

*ادوارد عمر معاذ، 2007. «الطريق إلى الواحة : الشريعة والعقل في الإبستيمولوجيا الأخلاقية الإسلامية». المجلة الدولية للفلسفة والدين 3/62 ، 135-148.

* أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي . 1998/1419. «مدارك التنزيل وحقائق التأويل»، 3 مجلدات. تحرير يوسف علي بديوي. بيروت: دار الكلام الطيب. المجلد 1.

*عمران احسان خان نیازي. 1996. «نظريات الشريعة الإسلامية : منهجية الاجتهاد. دلهي: آدم للناشرين.

*فليسيتيس أوبويس(Felicitas Opwis) ، 2010. «المصلحة ومقاصد الشريعة: الخطاب الإسلامي حول التغيير الشرعي من القرن الرابع / العاشر إلى الثامن / الرابع عشر ليدن: بريل.

*أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن القرافي. بدون تاريخ. «أنوار البراق أنواء الفروق» ، 4 مجلدات بيروت عالم الكتب. المجلد 3.

*أبو العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن القرافي. 1973/1393. «شرح تنقيح الفصول». مجلد .1 تحرير طه عبد الرؤوف القاهرة: شركة الطباعة الفنيه .

*سليمان بن الحسن القراري، 2010. «رفع التعارض المنسوب الى الأشاعرة في نظريات التعليل» . الرابط : htm. 131689_86_artshow/nawafeth/net.islamtoday.www//:http الذي تم الدخول إليه في 29 أغسطس/ آب 2015 .

* أ . رحمان، 1986. «عقل» . EI2. ليدن بريل.

*سمير رشواني، «الدرس الأخلاقي للقرآن قراءة في بعض المقاربات الحديثة». وهي ورقة مقدمة في الندوة: القرآن والأخلاق: النهج والأهداف والأمثلة، نظمها مركز بحوث التشريع والأخلاق الإسلامية (CILE)، الدوحة، من 4 إلى 6 يناير/ كانون الثاني 2015.

ص: 143

*محمد بن عمر فخر الدين الرازي. 1991/1411. كتاب «المحصل وهو محصل أفكار المتقدمين والمتأخرين والحكماء والمتكلمين». تحرير حسين عطاي. القاهرة : مكتبة دار التراث.

*كيفن راينهارت ، 1983. «الشريعة الإسلامية كأخلاق إسلامية». مجلة الآداب الدينية 2/11، 186-203.

*كيفن راينهارت، 2002. «الأخلاق والقرآن». موسوعة القرآن المجلد 2، 55-79. ليدن: بريل.

*عبد العزيز ساجدينا، 2009. «الإسلام وتحدي حقوق الإنسان». أوكسفورد: مطبوعات جامعة أكسفورد.

* أحمد محمود صبحي ، 1969. «الفلسفة الأخلاقية في الفكر الإسلامي». القاهرة: دار المعارف .

*محمد بن عبد الكريم الشهرستاني،. 2009/1430. «نية الإقدام في علم الكلام». تحرير ألفريد غیوم. القاهرة : مكتبة الثقافة الدينية.

*محمد حبيب شاكر (مترجم) 1983. «القرآن الكريم». شركة TahrikeTarsile QuranInc .،، المهورست ،نيويورك، (بدون تاریخ)، المجلد 2، ص. 216.

*أحمد الشمسي، 2014. «الحكمة من قانون الله: نظريتان». في الشريعة الإسلامية نظريا: دراسات في الفقه تكريما لبرنارد فايس. تأليف كيفن راینهارت وروبرت غليف، 19-37. ليدن: بريل.

*القفل الشاشي، 2007. «محاسن الشرع». تحرير أبو عبد الله محمد علي السماك. بيروت: دار الكتب العلمية.

* الشاطبي، واسمه إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي. 1997/1417. «الموافقات». 7 مجلدات. تحرير أبي عبيدة مشهور بن حسن السلمان. القاهرة: دار ابن عفان.

*أيمن شحادة، 2006. «الأخلاق الغائية لفخر الدين الرازي». ليدن: بريل.

*سعید الدین مسعود بن عمر التفتازاني، بدون تاریخ، «شرح التلويح على التوضيح». مجلدان. القاهرة : مكتبة صبيح.

* محمد علي تحناوي. 1996. «موسوعة كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم». مجلدان. ترجمه من الفارسية إلى العربية عبد الله الخالدي. بيروت: مكتبة لبنان ناشرون.

*عبد الكريم عثمان، 1971. «نظريات التكليف: آراء عبد القاضي الجبار الكلامية». بيروت: مؤسسة الرسالة.

*أبو القاسم محمود بن عمر بن أحمد الزمخشري، 1407 ه_. «الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل». بيروت: دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة، 4 مجلدات المجلد 2.

*عبد الله بدر الدين محمد بن عبد الله الزركشي. 1994/1414. «البحر المحيط فى أصول الفقه». 8 مجلدات. القاهرة: دار الكتب.

ص: 144

أخلاقيات الميديا

(دعاوي التنظير ومبررات التفعيل)

بهاء درويش

ربما علينا أن نبدأ البحث بمقدمة نبين فيها كيف بدأ مبحث الأخلاق مبحثاً فلسفياً نظرياً إلى أن نشأت أخلاقيات العلم والتكنولوجيا أو «الأخلاقيات التطبيقية» والتي يُعد مبحث «أخلاقيات الإعلام» أحد فروعها. نحاول بعد ذلك الإجابة عن السؤال: لماذا ظهرت أخلاقيات العلم والتكنولوجيا؟ ثم ننتقل بعد ذلك إلى معالجة محاولات تنظير هذا المبحث من خلال وضع مبادئ ضابطة وموجهة له. ولما كانت صناعة الإعلام ذات تأثير خطير في تشكيل الرأي العام وكان العلم واكتشافاته التكنولوجية المتلاحقة ذات تأثير بعضها نافع وآخر ضار، كان للإعلاميين الذين يتحدثون عن العلم ومنتجاته دور مهم في تبصير الجمهور وتوعيته بكيفية التعامل مع هذه المنتجات. وأخيراً يناقش البحث - محاولاً دحض - دعاوي بعض الكتاب الغربيين الذين يزعمون أن مبادئ أخلاقيات الإعلام الكونية Global media ethics - التي تصلح للانطباق في كل مكان - وهو الاتجاه الأكثر حداثة في أخلاقيات الإعلام مبادئ غربية في الأساس، إسهامات الثقافات الأخرى فيها قليل.

مقدمة

كان مبحث الأخلاق منذ الحضارات الشرقية القديمة والحضارة اليونانية القديمة مبحثاً فلسفياً نظرياً يهتم بوضع قواعد ومبادئ أخلاقية عامة حول ماهية الخير والشر أو يهتم بتحديد القيم الأخلاقية الواجب اتباعها ولكن مع تقدم العلم والتكنولوجيا - وتحديداً بدءاً بالقرن العشرين بدأت تظهر مشكلات أخلاقية ناجمة عن هذا التطور

ص: 145

العلمي المستمر والمتلاحق وذلك في شتى المجالات مثل مجال الاقتصاد والبيولوجيا والهندسة والفضاء والإعلام ... الخ . تمثل المشكلات الأخلاقية لكل علم مجال بحث مستقل، هناك أخلاقيات لعلم الطب، وأخلاقيات للبيولوجيا، وأخلاقيات للهندسة، وأخلاقيات الإدارة وأخلاقيات الإعلام.....الخ. هذه المباحث - التي تشكل في مجموعها ما يعرف بأخلاقيات العلم والتكنولوجيا - مباحث فلسفية بينية. توصف هذه المباحث بالأخلاقيات التطبيقية، أي تطبيق المعايير والمبادئ الأخلاقية في حل المشكلات الناجمة عن تطور هذه العلوم. تُعد أخلاقيات الطب والتي تستخدم بشكل خاطئ أحيانا مرادفاً لأخلاقيات البيولوجيا- أكثر هذه المباحث اكتمالا، لقدمها النسبي عن بقية فروع الأخلاقيات التطبيقية، بينما يقف مبحث «أخلاقيات الإعلام» ضمن المباحث الأكثر حداثة التي لم تتشكل بعد بشكل نهائي، بل وتتطور باستمرار.

لماذا أخلاقيات العلم والتكنولوجيا ؟

للإنسان كرامة تميزه من بقية الكائنات الحية: كرامة المريض تتطلب أن تعامله معاملة كريمة وأن تقدم له أفضل علاج متاح ومن ثم أن تحمي حياته (أخلاقيات الطب)، وكرامة الإنسان تتطلب أن يضع المهندس ومنتج التكنولوجيا بصفة عامة - في اعتباره حياة الإنسان ورفاهيته وهو يقدم المنتجات الهندسية أو التكنولوجية، إذ إن لكل نواتج التكنولوجيا تقريباً تأثيراتها في صحة الإنسان وحياته ورفاهيته (أخلاقيات الهندسة والتكنولوجيا). وكرامة الإنسان تتطلب أن تستأذنه قبل استخدامه مادة بحث في تجربة، وتكون صريحاً تجربة، وتكون صريحاً معه بإعلامه بكل المنافع والمضار التي قد تنتج عن التجريب عليه (أخلاقيات البحث العلمي في مجال الطب والصيدلة). وكرامة الإنسان تتطلب ألا تضره باحتكار بعض البضائع حتى ترهقه مادياً (أخلاقيات الإدارة). وكرامة الإنسان تتطلب عدم الإضرار به والخاصة بمنتجات التقانات الدقيقة (النانوتكنولوجيا) بحيث لا تظهر في السوق سوى البضائع التي تم اختبار سلامتها وضمان عدم إضرارها بالمستهلك، سواء على المدى القصير أو الطويل (أخلاقيات النانوتكنولوجيا)، وكرامة الإنسان تقتضي ألا تقدم له صورة مزيفة للواقع تؤثر في

ص: 146

حكمه على مجريات الأحداث التي تدور في العالم حوله (أخلاقيات الإعلام). يتسارع التقدم التكنولوجي في شتى المجالات بصورة مدهشة، تاركاً لنا مشكلات أخلاقية لا يمكن أن نقف منها موقف المتفرج. فها هو ذا الإنسان قد شارف على أن يتمكن من استنساخ إنسان آخر، وها هو ذا قد أصبح في إمكانه أن يتحكم في جنس الجنين القادم، وها هو ذا قد أصبح في إمكانه إفناء الأرض ومن عليها بضغطة زر. فالاستنساخ وتحديد جنس الجنين وإفناء الكرة الأرضية نواتج تكنولوجية. ألا تثير مشكلات أخلاقية؟ وماذا عن المجتمعات مثل عالمنا العربي - المجتمع المتدين الذي يحيل المشكلات الأخلاقية لرجال الدين ليحكموا له عما هو مقبول أخلاقيا (شرعاً) وما هو غير مقبول ؟

لا شك أن الإجابة قد أصبحت واضحة. نعم: لا علم دون أخلاقيات توجهه، وذلك إذا ما أردناه علماً يخدم البشرية، ويحقق للإنسان رفاهيته. العلم كما أصوره دائما عربة قائدها الحكيم هي الأخلاقيات، من دونه لا ضمان لوصول العربة بسلام إلى مبتغاها أي لا ضمان لتحقيق العلم لهدفه ألا وهو خدمة البشرية

ماهية أخلاقيات الإعلام

قلنا إن «أخلاقيات الإعلام» مبحث فلسفي شديد الحداثة بالنسبة للفروع الأخرى من الأخلاقيات التطبيقية يعني بالتساؤل حول ما الذي يشكل الممارسات الإعلامية الأخلاقية ولماذا وما الذي يجب على رجال الإعلام من الناحية الأخلاقية أن يفعلوه. الإجابة عن هذين التساؤلين تقتضي الإجابة عن مجموعة من الأسئلة الفرعية مثل : هل يجب على رجال الإعلام دائماً من الناحية الواقعية الالتزام بالصدق في نشر الأخبار؟ هل يجب على رجال الإعلام الالتزام بالموضوعية في عرض الأخبار والأحداث؟ وإذا أرادوا ذلك ، فهل بمستطاعهم ؟ هل من حقهم نشر الأخبار الخاصة بالشخصيات العامة واقتحام حيواتهم الشخصية؟ هل يمكن تسويغ اتجاه رجال الإعلام أحيانا للكذب من أجل الحصول على قصة ما ؟ هل هناك ما يسوغ اقتحامهم خصوصيات الآخرين تحت اسم المصلحة العامة ؟ هل عرض الأفلام الجنسية في

ص: 147

التلفاز أو السينما أمر يمكن تسويغه أخلاقيا ؟ هل من حقنا أن نقلق بشأن عرض أفلام الرعب ؟ هل يمكن تقديم تسويغات عقلية للرقابة بكل صورها ؟ هذه هي بعض الإشكاليات التي يقدمها مبحث «أخلاق الإعلام».

4.1 هل هناك أخلاقيات في الإعلام ؟

بداية فإنه يجب أن نعرف أن الأبحاث التي تدور حول أخلاقيات الإعلام تسير في اتجاهين: اتجاه يرفض القول إن هناك أساساً ما يمكن تسميته بأخلاقيات الإعلام انطلاقا من أن تصور أخلاق الإعلام هو في ذاته تصور متناقض ذاتياً، ذلك أنه كيف يمكن للصحفي أن يكشف عن بعض القصص التي يريد الناس معرفتها إذا كان يجب عليه دائما التحلي بالأخلاقيات واحترام مشاعر وخصوصيات أولئك الذين يقوم بفضحهم ؟ ثم إن نوع الأخبار التي ينشرها والطريقة التي يحصل بها عليها أحيانا ما تكون غير أخلاقية، كيف يمكن أن يكون هناك - إذاً - اتساق بين مهنته ومسؤوليته الأخلاقية ؟ أضف إلى ذلك أن الغالبية من الناس ينظرون إلى رجال الإعلام - أو الصحافة تحديداً - على أنهم أولئك الذين يبحثون دائما عما يروج بضاعتهم أكثر، أي عن فضائح الناس، إذ هي مصدر كل من الشهرة والمال للصحفي. كيف يمكن إذاً - أن تكون هناك أخلاقيات للإعلام أو للصحافة ؟ وما يقوي هذه النظرة هي إصرار رجال الإعلام على ما يسمى حرية التعبير. ثم إنه إذا كانت وظيفة رجال الإعلام تتراوح من نشر الفضائح السياسية لبعض الشخصيات إلى عرض الأحداث المهمة التي تحدث في العالم فإن هذه المهام جميعها لا صلة لها من قريب أو من بعيد بالأخلاق.

أما الفريق الآخر فيرى على العكس أنه إذا كانت وظيفة الصحفي نشر الأخبار المهمة ذات الدلالة بما في ذلك عرض أشكال الفساد والغش والمسائل اللا أخلاقية التي تحدث في المؤسسات الحكومية وغير الحكومية ومن بعض السياسيين والحديث عن الجريمة المنظمة وفضح الثراء غير الشرعي لبعض الشخصيات وهو ما جعل من الصحافة «السلطة الرابعة» كما يسمونها من حيث إنها من يملك

ص: 148

مراقبة ذوي السلطة والنفوذ في المجتمع، فإذا كانت وظيفة الصحفي باختصار هي الكشف عن الفساد وفضحه، فإن هذا وحده يقف دليلاً على صلة الإعلام بالأخلاق، بمعنى أنه إذا كانت مهمتها الكشف عن المسائل اللاأخلاقية، فإنه يجب على رجالها أن يكونوا أبعد الناس عن هذا الذي يريدون كشفه وفضحه فرجال الإعلام عليهم واجب أخلاقي يتمثل في الكشف بإخلاص عن الأعمال غير الأخلاقية، من هنا فإنه لكي يكونوا متسقين مع أنفسهم فإن هدفهم يجب أن يتمثل في احترام المعايير الأخلاقية للسلوك التي يطلبون من غيرهم التمسك بها.

والجدير بالذكر أنه إذا كان فحص الممارسات الصحفية والتحقق من فهم العامة للدور الذي تلعبه الصحافة يندرجان أيضا ضمن اهتمام الدراسات الإعلامية وعلم النفس وعلم الاجتماع، فإن هذه الدراسات جميعها لا يمكنها الإجابة عن السؤال: ما الذي يجب - وما الذي لا يجب - على الصحفي - من الناحية الأخلاقية - أن يفعله؟

- إن البحث في الالتزامات الأخلاقية للصحافة والإعلام مبحث فلسفي خالص من حيث إنه مبحث معياري.

أخلاقيات الإعلام - إذاً - مبحث أخلاقي يعني بالبحث في تلك المعايير التي تجعل من الإعلام إعلاماً جيداً، بمعنى أن المعايير الأخلاقية معيار التمييز بين الإعلام الجيد والإعلام غير الجيد، وبما أنه بحث في المعايير فهو بالأساس مبحث فلسفي.

والآن ما المعايير التي تجعل من الإعلام إعلاماً جيداً ؟

كما هي الحال في سائر المباحث الفلسفية فإن هذه المعايير مثار خلاف بين الفلاسفة كما سنرى الآن :

الصدق

دعنا نتساءل أولا ما المقصود بالصدق في نشرات الأخبار. المقصود بالصدق في نشرات الأخبار هو تقرير أمور واقعية، أي أمور لا يتدخل فيها الصحفي بالخيال،

ص: 149

أمور حدثت بالفعل، ذلك أن الأخبار قد أصبحت بشكل متزايد مصدرنا الرئيس في معرفة ما يدور في العالم من حولنا، من دون أن يتدخل فيها بالتحريف أو الإضافة أو عرضها عرضاً جزئياً.

والحقيقة أنه ما إذا كان على الإعلامي أن يكون صادقاً في نقل الخبر أو عرضه أو المادة الإذاعية يرتبط بالضرورة بتصورنا لوظيفة الإعلامي.

لقد اختلف الباحثون حول تصور وظيفة الإعلامي، خاصة وأن تصور الإعلام من حيث إنه السلطة الرابعة يكاد يكون أمراً متفقاً عليه. ومن هنا فإن السؤال هو ما الذي نعنيه بأن الإعلام هو السلطة الرابعة ؟

أحد تفسيرات أن الإعلام هو السلطة الرابعة أنه ما يملك سلطة مراقبة ذوي السلطة والنفوذ لصالح الشعب. فالشعوب في الدول الديمقراطية تريد أن تعرف ما إذا كان أصحاب السلطات الثلاث الأخرى - التشريعية والتنفيذية والقضائية - يؤدون عملهم الذي أنابهم الشعب عنهم على أكمل وجه. فإذا كان الشعب قد فوض أصحاب السلطات الثلاث في إدارة شؤونه من تشريع لتنفيذ لقضاء، فإنه يريد أن يطمئن على أن هؤلاء يعملون لصالحه، أي إن القوانين توضع ويتم تنفيذها لمصلحة الشعب لا لأغراض خاصة، وأن رجال القضاء يحكمون بالعدل العين التي تراقب هذا بالنيابة عن الشعب هي الصحافة. من هنا كانت هي السلطة الرابعة، فهي الجهة الموجودة لتطمئن الشعب أن الأمور تسير على ما يرام أو لتنبهه على أن هناك خللاً يحدث. وأن تفعل ذلك يتطلب بالضرورة صدق نقل الأخبار من هنا كان على الإعلامي أن يكون صادقاً في نقل الأخبار أو عرضها.

إلا أن هناك رأياً آخر يذهب إلى أن هذا التصور لوظيفة الإعلامي يضيق من إطار هذه الوظيفة، أو أنه يحصرها في الإعلام السياسي وحسب. فالناس تهتم بالمثل بأخبار نجوم الكرة والمسرح والسينما والحوادث وغير ذلك من الأمور، من هنا فإن وظيفة الإعلامي هي نقل الأخبار التي تهم الناس من حيث إنهم كائنات بشرية، لا أن تنحصر وظيفته في الإعلام السياسي

ص: 150

هنا نجد أنه حتى مع هذا الرأي، فإن الإعلامي يجب أن يتصف بالصدق. ذلك أن الصدق هو ما يساعد الناس على الحكم على شتى أمور الحياة التي تنقلها له وسائل الإعلام حكما صحيحاً. أما تشويه الأخبار بالنقل المتعاطف أو الجزئي للمعلومات فمن شأنه تقديم صورة مشوهة للواقع ومن ثم لا يمكن الناس من الحكم حكماً صحيحاً مما قد ينعكس على سلوكياتهم وردود أفعالهم.

رأي ثالث يذهب إلى أن وظيفة الإعلام تسلية الناس وهو ما يعني أن ميول الناس ورغباتهم هي ما تحدد الأجندة الإذاعية، أو تحدد نوع القصص والأخبار التي يريدها الناس أو تكون مثار اهتماماتهم.

يرى المعترضون على هذا الرأي أن جعل رغبات الناس وميولهم هي المحدد المطلق للخدمات الإخبارية التي يقدمها الإعلام سيؤدي حتما إلى إعلام سيء، لأن ذلك لن يؤثر فقط في نوع الأخبار المختارة للعرض والتي قد تهم الناس، ولكنه سيؤثر أيضا في طريقة تغطية الأخبار إذ سيعتمد بالضرورة على استثارة مشاعر الناس أو محاولة جذب تعاطفهم أو عرض القصة أو الخبر من الزاوية التي تجذب المشاهد أو المستمع أو القارئ، وهو ما يعني البعد عن الحقيقة والموضوعية في عرض الخبر، فقد يكون الخبر صحيحاً ولكن الوقائع التي يتم اختيارها للتركيز عليها في النشر دون غيرها من وقائع الحدث، ونبرة المراسل الصحفي أو المحلل والألفاظ التي يختارها للتعبير بها، كل هذا قد يمثل الحدث تمثيلاً سيئاً للدرجة التي قد ينتهي بها المتلقي إلى الانطباع المعاكس تماما للانطباع الذي كان يجب أن يخرج به المتلقي إذا ما تم نقل الخبر نقلاً موضوعياً.

ولكن أليس لهذا الصدق الواجب على الصحفي أن يلتزم به حدود أو استثناءات؟ مما لا شك فيه أن الأمن القومي يعد أحد استثناءات هذا الصدق الواجب على الإعلامي أن يلتزم به. إذا ما شعر الإعلامي أن قص قصة ما من شأنه أن يوقع الضرر بمجتمعه، فلا شك أن الامتناع عن الإعلام بالخبر هو التصرف الأكثر أخلاقية في هذه الحالة، فهو أفضل من الكذب أو القص المتجزئ. ويندرج تحت مبدأ أن دفع الضرر يقدم هنا على جلب المنفعة.

ص: 151

الموضوعية

على الصحفي - إذاً - الالتزام بالموضوعية في نقل الخبر أو الواقعة أو الشريط الإخباري، والموضوعية مقصود بها عرض المادة الإعلامية من شتى جوانبها، لا عرضها من جانب واحد كما تعني عدم تدخل الإعلامي بأهوائه أو ميوله في اختيار جانب معين يعرض من خلاله الموضوع. وإذا ما تم عرض المادة الإعلامية من زاوية محددة لأنه یری أن هذه هي الزاوية الصحيحة التي من خلالها يتم عرض مادته عرضاً أميناً فعليه أن يضع دائما إمكانية أن تكون هناك زوايا أخرى من الممكن تفسير الموضوع من خلالها. كذلك تعني الموضوعية ضرورة تحقق الإعلامي من صحة وشمولية مصادره.

ولكن السؤال :الآن هل يمكن لمعيار الموضوعية هذا أن يتحقق ؟

يرى رافضو معيار الموضوعية في الإعلام أن مطلب الموضوعية كشرط للإعلام الجيد أمر خيالي صعب التحقق للأسباب الآتية:

1- إنه حتى على افتراض أمانة الصحفي ورغبته الصادقة في النقل والعرض الموضوعي للخبر ، فإن لكل منا بالضرورة - من حيث إننا بشر - رؤيته الخاصة وتصوره الخاص لأمور الواقع، من هنا ينشأ التساؤل : ألن يتأثر الصحفي - رغماً عنه - بهذه الرؤية الشخصية للواقع الذي يحيط به؟ ألن يتأثر بفهمه الخاص للأمور ؟ هل يمكن للصحفي أن يفصل تحليلاته الصحفية عن تراثه واعتقاداته وتصوراته التي تكونت عبر السنين لشتى أمور الحياة؟ ألن يؤثر هذا في عمله رغما عنه ؟

2- كيف يمكن الفصل بوضوح بين ما هو مجرد ،وصف، وما هو تفسير وما هو تقييم للحوادث؟ وما دامت الأفراد والمجتمعات المختلفة تفسر وتقيم العالم بصور ،مختلفة، أي ينظر كل منهم إلى العالم من وجهة نظر مختلفة، فإن الخبر على هذا النحو ذو طبيعة نسبية، أي إن الخبر هو كذلك بالنسبة لجماعة معينة في سياق معين. ثم إن لكل خبر عادة العديد من التفسيرات والتقييمات من قبل محللين مختلفين.

ص: 152

انظر مثلا - وإن كان هذا مثالاً بسيطاً ولكنه مثال مُمثل - لمباراة في كرة القدم، واستمع إلى محلل من الفريق الضيف، ثم استمع لتحليل آخر - للمباراة نفسها من الفريق المضيف تجد اختلافاً في التحليلين قد يصل إلى أن تشعر وكأنك تستمع لتعليق عن مباراة مختلفة.

3- كثيرا ما نرى صحفاً تنشر خبراً واحداً ولكن كلاً منهم ينشره من زاويته المختلفة. ثم إن الصحفيين والصحف تختار عادة الأخبار التي ترى أهمية نشرها. يكمن في عملية الاختيار هذه والزوايا المختلفة للحدث الواحد التي تركز كل صحيفة على إحداها أو بعضها تبرير القول إن رجال الإعلام يقومون بتغطية الأحداث مدفوعين باهتماماتهم وقيمهم الخاصة وإن ما يسمى الموضوعية في الإعلام أمر خيالي.

أما دعاة الموضوعية فعلى الرغم من أنهم يسلمون بأن النشر يخضع دائما لعملية اختيار، وأن لكل محلل ميولاً وعواطف وتحيزاً لجانب معين يرى منه صحة الخبر، إلا أن هذا لا يمنع من القول بموضوعية النقل أو التحليل. تكمن الموضوعية في عرض الأمور من جوانب شتى وفي استعداد المحلل دائما أو الإعلامي أن يرى أنه أحيانا كان على خطأ ، لا أن يتخذ من الحدث مثالا يدعم به تحيزه فهذا هو ما من شأنه أن يمكن المشاهد من الخروج بحكم موضوعي وهو ما يمثل الصحافة الجيدة. إن جوهر الصحافة الجيدة لدى أنصار الموضوعية يكمن في القدرة على وزن الأدلة بموضوعية وكتابة قصة من الممكن التحقق منها أو تكذيبها بواسطة الأدلة والوصول إلى نتيجة مبررة، لا أن يكتب من زاوية عاطفية.

هل الصدق والموضوعية يسوّغان عرض العنف في وسائل الإعلام

قلنا إن الإعلام الجيد هو ذلك الإعلام الذي يقدم صورة صادقة وموضوعية للواقع، صورة تمكن المتلقي من الحكم على ما يدور حوله في العالم بشكل صحيح وهو ما لن يتمكن من فعله متی قدمنا له صورة غير أمينة ومشوهة للواقع. من هنا فإنه لما كان العنف والجريمة أحداثا فعلية وواقعية تحدث وتشكل جزءا من الأحداث التي نحياها، كان عرضها - سواء في صورة أخبار أو أفلام - يمثل جزءاً من واجب

ص: 153

الصحفي المتمثل في ضرورة تقديمه لصورة صادقة وموضوعية للواقع الذي نحياه. لذا يرى أولئك الذين لا يعارضون عرض الجريمة والعنف عن طريق وسائل الإعلام - سواء أكانت الجرائم المدنية (القتل والسرقة) أو جرائم الحرب (القتل والدمار) أو الأفلام التي تعرض لقصص الجريمة - أن أولئك الذين يقفون ضد عرض صور العنف على شاشات العرض، إنما ينطلقون من أيديولوجية معينة تكمن في محاولة تقديم صورة جيدة مثالية لواقع لا نحياه.

ومع هذا فإنه على الرغم من أن واجب الإعلامي تقديم صورة واقعية وموضوعية للواقع، فإن هناك كثيرون ممن يقفون ضد عرض صور العنف. يمكن إجمال الأسباب التي يستندون إليها على النحو الآتي:

للإعلام تأثير قوي في المشاهد والقاريء والمستمع يصل إلى حد غرس سلوكيات معينة لديه تصل إلى حد تقليد ما يراه - بدءا بما يعرضه ممثلو الإعلانات مروراً بالمغنيين وصولا للممثلين - وذلك في حركاتهم وأقوالهم بل وحتى في طريقة ارتدائهم ملابسهم . من هنا كان عرض الجرائم وطرق ارتكابها من شأنه أن يولد عند بعضهم بعض السلوكيات العنيفة.

إن التعريض المتكرر للمشاهد لصور العنف قد يحوله إلى كائن لامبالٍ لا يتعاطف مع ضحايا العنف، ولا يقدر بصورة صحيحة حجم المعاناة التي يعانيها ضحايا العنف في صورتيه المدنية والعسكرية.

إن فضح مرتكبي الجرائم قد يحولهم إلى أشخاص مستهجنة اجتماعياً هم وعوائلهم، ونكون بذلك قد عاقبناهم مرتين مرة عقاباً قانونياً محدد المدة (كالسجن مثلا) ومرة عقاباً اجتماعياً يظل يطاردهم إلى الأبد.

يزداد القلق من عرض العنف متى أخذنا في الاعتبار تزايد سهولة إمكانية رؤية الأطفال لمثل هذه الأنواع من الأفلام، ذلك أن الأطفال - خلاف الكبار - ليس لديهم خبرة سابقة بنوعية هذه الأحداث والمشاعر التي يتم عرضها مما قد يجعلهم يعتقدون

ص: 154

أن هذه الصورة المشوهة للحب والجنس والعنف والمقدمة عن طريق الفيلم مثلاً هي الصورة الطبيعية لهم وأن هذه هي السلوكيات الطبيعية التي يجب أن يسلكها الإنسان العادي. ويزداد الأمر سوءاً مع الطفل الذي يعاني إهمالاً عاطفياً فيعتقد هو الآخر أن هذه هي العواطف والمشاعر الطبيعية التي يسلكها الناس الطبيعيون، فالطفل يتعلم بالخبرة والتقليد ومن ثم فإذا كانت هذه فقط أمثلة المشاعر والسلوكيات التي رآها نتيجة إهماله وعدم رؤيته لمشاعر أو سلوكيات مختلفة، فقد يعتقد أن هذه هي المشاعر والعواطف والسلوكيات الطبيعية. وأخيرا فإن الإفراط في عرض أفلام العنف قد يعكس صورة لمجتمع يتبنى ضمن ما يتبنى ثقافة العنف.

الأمانة

أن يرى الجمهور في الصحافة السلطة الرابعة يعني ضمن ما يعني ثقة من جانب الشعب في الصحافة. هذه الثقة ثقة في أمانة الأخبار والتحليلات والمصادر التي تأتي بها الصحافة، كما أنها ثقة في أمانة رجال الإعلام وصدقهم.

من هنا يثار السؤال: هل هناك ما يسوّغ للصحافة ورجال الإعلام أحيانا الكذب والغش والالتواء والمناورة وسيلةً يكشف بها رجال الإعلام عن فساد ما وذلك المصلحة الشعب؟ هل «الغاية تبرر الوسيلة» مبدأ يمكن للصحفيين أحياناً اتخاذه من أجل الكشف عن أوجه فساد بعض ذوي السلطة أو النفوذ وذلك من أجل إعلام الشعب بالحقيقة ؟

هناك رأيان متعارضان:

يرى كانط أن الكذب والغش وعدم الوفاء بالوعد أساليب لا أخلاقية لا يوجد على الإطلاق ما يسوّغها، وبالتالي يجب على المرء - صحفياً كان أو أياً ما كانت مهنته - ألا يتبعها.

يرى الرأي الآخر أن الصحفيين إذا ما اتبعوا الصدق والأمانة دائما فلن يحصلوا على أخبار تمكنهم من فضح المفسدين، ومن ثم فإنه كما أننا نقبل أحيانا في أوقات

ص: 155

الحرب والأزمات سرية بعض الأخبار والكذب على الشعب من أجل الحفاظ على السرية أو لعدم إثارة الفزع بين الناس، فإن هناك بالمثل ما يسوّغ للصحافة المناورة في الحوار مع رجال السلطة وعدم الفصح عن النيّات وراء الأسئلة الموجهة لهم وذلك من أجل التأكد من سلامة سلوكياتهم وأنها موجهة لصالح الشعب وكذلك هناك ما يسوّغ مراقبة أفعالهم سراً وذلك للتحقق من عدم استغلالهم سلطاتهم استغلالا سيئاً، كأن نتحقق من عدم تعرضهم لأخذ رشاوي أو من عدم إساءة استغلال مواقعهم لمصالحهم الخاصة.

حق الخصوصية

هنا نجد بالمثل رأيين متعارضين :

هناك من يميل عادة لافتراض أن اقتحام الخصوصية يعد شكلاً من أشكال الاعتداء عليها إذا ما تم من دون موافقة صاحبها سواء تم هذا الغزو بواسطة الصحفي أو البرامج الإعلامية ومن ثم فهو مرفوض أخلاقياً. إذ إن أدنى ما يعنيه هذا هو عدم احترام أحد حقوقنا بوصفنا أفراداً. ولهذا السبب فإن القوانين تكفل للفرد صيانة حرمة المنزل والأوراق الخاصة ليس لأحد الحق في معرفة خصوصياتنا. إن جزءاً مما تعنيه الصداقة هو حقنا في الكشف للأصدقاء فقط عن بعض خصوصياتنا. من هنا تكمن قيمة الخصوصية في أنها تمنع الآخرين من ممارسة أي حقوق تضر بنا. من هنا كان غزو الخصوصية لا يعني فقط الحصول من دون إذن على معلومات خاصة بنا ولكن تعني معرفة الآخرين بالعلاقات والنشاطات والاهتمامات التي نراها لا تهم أحداً سوانا.

ثم إن الخصوصية تمكننا من تنمية هويتنا وشخصيتنا بوصفنا أفراداً وإقامة علاقات وصداقات خاصة، بحيث إنه إذا ما قلنا لكل الناس كل شيء يخصنا أو سلكنا المسلك نفسه مع الأصدقاء والغرباء والزملاء، فإن دلالة كثير من الأفعال الخاصة والأقوال التي نخص بها بعضهم دون بعضهم الآخر ستتلاشى. نحن عادة نختار أن نكشف فقط لبعضهم عن جوانب خاصة من جوانبنا وهو ما يساعدنا على إقامة علاقات تثري حياتنا.

ص: 156

إلا أن هناك من يرى أنه قد لا يكون لدينا حق في خصوصية بعض المعلومات أو النشاطات التي نمارسها متى كان يجب أن يتم عرض هذه المعلومات والنشاطات في إطار عام. متى كان ما يتم ممارسته بصورة خاصة يندرج تحت المصلحة العامة، هنا يزول حق الفرد في الخصوصية فحق السياسي في الخصوصية لا نقول إنه تم غزوه أو الاعتداء عليه متى قام أحد الصحفيين بالتحري والبحث في أحد الصحفيين بالتحري والبحث في أحد شؤونه السياسية الخاصة تحققاً من واقعة فساد مثلا. فلو اعتبرنا حق السياسي في الخصوصية حقاً مطلقاً، فإن هذا سيعطي الفساد الفرصة للازدهار والتفشي. من هنا لا يُعد بحث الصحفي في الأوراق الخاصة لرجل السياسة اعتداء على خصوصيته خاصة إذا كانت هذه الأوراق هي التي ستكشف عن بعض تفاصيل واقعة فساد معينة، بل هو فعل مبرر من أجل المصلحة العامة، إذ لا يمكن إدراج الفساد السياسي مثلا ضمن الشؤون أو الأفعال الخاصة لأي شخص والتي لا يجب لأحد الاقتراب منها.

من هنا كان هناك ما يسوّغ البحث في الشؤون الخاصة لذوي السلطة متى كان لدى الصحفيين مسوّغ قوي للاعتقاد في تورطهم في إحدى وقائع فساد، كأن يكون هناك اعتقاد أن أحد رجال السلطة هؤلاء قد تلقى مثلا أموالاً لاستخدام سلطته السياسية، وما يسوغ لرجال الإعلام هذا البحث والتدخل في خصوصية ذوي السلطة أن جمهور العامة قد أنابهم لمعرفة ما إذا كان ممثلو الشعب يمثلون مصالح الشعب تمثيلاً صحيحاً أو لا . فواجب رجال الإعلام هنا واجب أخلاقي تجاه الشعب وهو أن يكشفوا للشعب عن أشكال الفساد. وبالمثل متى لم يكن رجال الإعلام والأطباء والمعلمون يعملون من أجل مصلحة من هم من المفترض أن يعملوا لصالحهم ، ولكن يستغلون وظائفهم لمصالحهم الشخصية، فإن أفعالهم لا تندرج تحت الخصوصية التي يجب عدم الاقتراب منها. فمن حق الناس أن يطمئنوا إلى أن استثماراتهم تتم بالشكل الصحيح وأن الأطباء يلتزمون بالقواعد الأخلاقية لمهنتهم، وأن المعلمين يوجهون أبناءهم التوجيه الصحيح.

ص: 157

4.2 إعلام العلم وأهميته

هناك جانب على قدر كبير من الأهمية بدأ الإعلاميون والمشتغلون بالعلم معاً الانتباه إلى أهميته في الآونة الأخيرة ألا وهو مسؤولية الإعلاميين في نقل أخبار العلم والعلماء.

لما كان نقل المعلومات العلمية للعامة - من خلال وسائل الإعلام بصورة غير دقيقة وإعطاء العامة صورة غير صحيحة عن العلم والمنتجات التكنولوجية من شأنه أن يفقد العامة الثقة في العلم والعلماء، كان للإعلاميين دور مهم في الحديث عن العلم قناعة بهذه الأهمية بدأت تظهر في أماكن كثيرة من العالم - وخاصة في الولايات المتحدة - مؤسسات أو جمعيات للكتاب في مجال العلم. تُعد المؤسسة القومية لكتاب العلم the National Association of Science Writers إحدى هذه المؤسسات التي تأسست عام 1955 في الولايات المتحدة. وضعت هذه المؤسسة مدونة أخلاقية تم تحديثها عام 2014 حددت فيها الواجبات الأخلاقية التي يجب على الإعلاميين في مجال العلم اتباعها، نوجزها فيما يأتي:

على الإعلاميين في مجال العلم أن يتحروا دقة المعلومات العلمية ومصادرها ودقة صياغتها ونشرها.

على الإعلامي تجنب كل أشكال التمييز القائم على الجنس أو العرق أو الدين أو أي شكل من أشكال التمييز غير المسوّغ.

يجب أن يكون عمل الإعلامي في مجال العلم هو عمله الخاص وليس منقولاً من غيره. الانتحال غير مقبول تحت أي ظرف.

على كتاب العلم مع هذا، تشجيع تبادل الآراء في مجال العلم، وتجنب أي تضارب في المصالح والإبلاغ الفوري عن أي تضارب مصالح لا يمكن تجنبه.

على الكتاب في مجال العلم أن يقبلوا الإعلان الفوري والعلني عن أية أخطاء

ص: 158

وتصحيحها فوراً.

هذه الثقافة - ثقافة الكتابة الإعلامية عن العلم ومنتجاته - مع الأسف ما زالت غائبة عن محيط ثقافتنا العربية لعدة أسباب أهمها أن العالم العربي متأخر إلى حد كبير في إنتاج العلم لا يشارك في إنتاجه، فهناك فجوة علمية وتكنولوجية عميقة بيننا وبين ،الغرب، فالعالم العربي بالأحرى مستهلك لمنتجات العلم أكثر منه منتج لها وبالتالي فمسألة القلق من التصوير غير الدقيق لمنتجات العلم لا تقلق المتمعات العربية مثل المجتمعات الأجنبية. السبب الثاني: غياب تطبيق مبدأ المحاسبية في معظم البلاد العربية أو ضعفه من ذا الذي يمكن أن يحاسب إعلامياً عربياً أعطى معلومة خاطئة عن منتج تكنولوجي معين ؟ أضف إلى هذا أن معظم الصحف اليومية والمجلات الأسبوعية لا تفرد مساحات كافية تبرز بها أهمية العلم والتكنولوجيا، فالنسبة العالية للأمية والبطالة تجعل نسبة قراءة الصحف والمجلات نسبة ضعيفة وتأتي القراءة في العلم في ذيل اهتمامات القاريء العادي. تفسر هذه الأسباب عدم إدراج أي قواعد أخلاقية ضابطة للإعلاميين في مجال العلم ضمن مدونات أخلاقيات الإعلام.

ولكن لما كانت الإرادة السياسية في الآونة الأخيرة في كثير من الدول العربية قد أظهرت اهتماماً بالعلم والتكنولوجيا حين قطع قادة العرب - الذين اجتمعوا في سرت - ليبيا 2010 في الدورة 22 لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى القمة وعداً على أنفسهم ب_ «زيادة الإنفاق على البحث العلمي والتقني وتوطين التقنية الحديثة وتشجيع ورعاية الباحثين والعلماء وتطوير القدرات العربية العلمية والتكنولوجية والنهوض بمؤسسات البحث العلمي» وصدرت بالفعل استجابة لهذا الاجتماع من خلال «الاستراتيجية العربية للبحث العلمي والتقني والابتكار» الصادرة في 2014 ، فمن الضروري أن يواكب الاهتمامَ بالعلم والتكنولوجيا اهتمامٌ بأخلاقياته، وهو ما يعني في مجال حديثنا هنا ضرورة رفع درجة الثقافة العلمية للإعلاميين الذين يتحدثون في العلم وأن تتضمن مدونات السلوك الإعلامي ضوابط لسلوكيات هذه الفئة من الإعلاميين.

ص: 159

3. 4 هل يمكن أن تكون هناك أخلاقيات كونية للإعلام؟

Global Media Ethics

مع بداية سبعينيات القرن الماضي نشأ اتجاه ينادي بما عرف بأنه أخلاقيات كونية للإعلام. نشأ هذا الاتجاه في بدايته كمحاولة لإصلاح نظام الإعلام الكوني أو تطويره وذلك بعد أن سيطرت قلة من البلدان الغربية على الإعلام لاستحواذها على أدوات تكنولوجيا الإعلام والاتصال الحديثة وهو ما عُد شكلاً من أشكال عدم المساواة. إذ أصبح الإعلام الإخباري يستخدم تكنولوجيا الاتصال لجمع النصوص والأفلام والفيديوهات حول العالم بسرعة غير مسبوقة وتوزيعها على الجمهور في مختلف أنحاء العالم بسرعة أيضاً. من هنا جاءت المطالبة بأخلاقيات كونية للإعلام والتي عنت وضع مجموعة من المبادئ والمعايير العامة لممارسة الصحافة والإعلام في عصر العولمة تنطبق على كل مكان وزمان. وخشية أن تهدد القيم الغربية التي يحملها الإعلام الغربي القيم الأخلاقية للبلدان الأخرى غير الغربية وبصفة خاصة البلدان النامية، نشأ تجمع أطلق عليه «النظام العالمي الجديد للمعلومات والاتصالات New World Information and Communication Order» تكون هذا التجمع من دول عدم الانحياز واليونسكو وأعضاء لجنة ماكبرايد MacBride. وخرج التقرير باسم «عالم واحد وأصوات متعددة One World Many Voices» ولم ترض الولايات المتحدة ولا بريطانيا عن هذا التقرير.

ولم يمت حلم الوصول إلى مجموعة واحدة من المبادئ والسياسات التي تنظم النشر المسؤول والعادل للأخبار على مستوى العالم. فلقد عقدت الأمم المتحدة عام 2003 اجتماعاً في جنيف تحت عنوان «القمة العالمية لمجتمع المعرفة» انتهى بتبني 175 دولة إعلان لمبادئ موحدة تلا هذا الاجتماع اجتماع آخر في تونس عام 2005 للنظر في كيفية تطبيق مبادئ جنيف. كان أهم ما شغل هاتين القمتين هو النمو المتزايد للإعلام عبر الإنترنت online media.

يمكن أن نجد على الأقل سببين لنشأة اتجاه محاولة إيجاد أخلاقيات كونية

ص: 160

للإعلام. السبب الأول أن الأخلاقيات المحلية الإقليمية لم يعد بمقدورها مناقشة المشكلات الجديدة التي تواجه الصحافة العالمية. الثاني : لقد فرضت مسؤوليات عالمية جديدة نفسها وأصبح لها تأثير كوني عالمي. فالتقارير الإخبارية من خلال الأنترنت أو الأقمار الصناعية تصل إلى كل مكان في العالم وقد تؤثر في الحكومات وجيوش البلاد المختلفة. من هنا أصبح هناك حاجة لأخلاقيات كونية تناسب عالماً تصل فيه الأخبار لجماعات ذات ثقافات وأديان وتقاليد مختلفة. كما أن مبدأ الموضوعية التقليدي الذي يجب أن يتصف به الصحفي التقليدي أصبح معناه الآن أن يكون الصحفي موضوعياً في تقاريره بإزاء عالم متعدد الرؤى والتقاليد والثقافات وليس فقط بإزاء مجتمعه الذي كان يخاطبه الصحفي في الماضي.

يضيف بعضهم مسوّغاً آخر للحاجة لأخلاقيات كونية للإعلام، ألا وهو أننا نحيا الآن في عالم هو بالأحرى قرية كونية يحكمها مجموعة أنساق من الإعلام الحكومي، يحتكر كل منها بناء صورة للآخر تغذي روح الانقسام والفرقة هي في أغلب الأحيان صورة ليست صحيحة. نحن في حاجة إلى إعلام مختلف يؤسس لصحافة سلمية peace journalism تهدف للوصول إلى فهم للتعددية الثقافية والكونية التي نحياها. إذا كانت أخلاقيات الإعلام قد ركزت حتى وقت قريب على أخلاقيات الإعلامي الفرد، فإننا في حاجة لأخلاقيات للإعلام تناسب العالم الكوني الذي نعيش فيه، تتأسس على اتفاقيات دولية ترى في التواصل حقاً من حقوق البشر.

4.4 ماهية هذه الأخلاقيات الكونية.

يرى بعض أدعياء هذا الاتجاه أنهم في محاولتهم تأسيس هذا النسق الكوني من ثقافات مختلفة، لم تكن التصورات الأخلاقية لهذه الثقافات غير الأوربية والأميركية - مثل ضرورة احترام الكرامة الإنسانية وقول الصدق وعدم اتباع العنف سوى تصورات غربية اقتبسها أصحاب هذه الثقافات اللاأورو أمريكية وضمنوها أنساقهم الفكرية بحيث تناسب ثقافتهم. وبالتالي تبقى الأطر الممثلة للأخلاقيات الكونية للإعلام في النهاية أطراً غربية.

الحقيقة أن هذا الزعم يجافيه الصدق والموضوعية، إذ إن هذه القيم - وسأقصر

ص: 161

حديثي هنا على الثقافة العربية الإسلامية - ليست في أساسها قيماً غربية. لقد كتب صاحب هذه الأسطر مقالاً بعنوان Arab Perspectives نُشر عام 2014 شرح فيه المنظور العربي الإسلامي للخمسة عشر مبدأ من مبادئ أخلاقيات البيولوجيا التي أقرتها سائر الدول الأعضاء في اليونيسكو عام 2005 في وثيقة الإعلان العالمي لأخلاقيات البيولوجيا وحقوق الإنسان Universal Declaration of Bioethics and Human Rights . هذه المبادئ هي احترام الكرامة الإنسانية المنفعة والضرر الاستقلالية والمسؤولية الفردية، الموافقة المستنيرة، ناقصي وفاقدي الأهلية، احترام الضعف البشري والسلامة الشخصية، الخصوصية والسرية، العدالة والمساواة والإنصاف، عدم التمييز وعدم الوصم، احترام التعددية والتنوع الثقافي، التضامن والتعاونف المسؤولية الاجتماعية والصحة، التوزيع العادل للمنافع، حماية الأجيال المستقبلة، حماية البيئة والتنوع البيئي والمحيط الحيوي. لم يعن كاتب هذه الأسطر بشرح المنظور العربي الإسلامي لهذه المبادئ من حيث إنها في أصلها مبادئ غربية تم الاستعانة بها في ثقافتنا العربية الإسلامية ولكنه أراد أن يبين كيف أنها جزء لا يتجزأ من الثقافة الإسلامية منذ نشأة الإسلام. حيث دلل كاتب هذه الأسطر على ذلك باستشهادات من القرآن والسنة. كان ملخص رأي كاتب هذه الأسطر أن سائر المبادئ يمكن أن نجد أساسها في المبدأ الأول ألا وهو احترام كرامة الإنسان للإنسان كرامة في المفهوم الإسلامي لأن الله اختاره خليفة له على الأرض . لحفظ هذه الكرامة يجب الامتناع عن الإضرار بها ونسعى إلى نفعها واحترام كرامة الإنسان تعني احترام خصوصيته واستقلاليته في اتخاذ القرارات وهي الاستقلالية المحكومة بالمسؤولية تظهر استقلالية الإنسان في حقه في تقديم الموافقة. يجب حماية ناقصي الأهلية وفاقديها كجزء من احترام كرامتهم، وكذلك يجب احترام ضعفهم ولأن البشر خلفاء الله على الأرض، فلا تمييز بين شخص وآخر وهو ما يعني ضرورة تحقيق العدالة والمساواة والإنصاف، وعدم التمييز وعدم الوصم. لا ينطبق هذا على الأجيال الحالية فقط ولكن ينسحب على الأجيال المستقبلية أيضا. ولأن البيئة بكل مكوناتها من خلق الله فلها قيمة في ذاتها، وهو ما يعني ضرورة حمايتها لذاتها وليس فقط من أجل الأجيال القادمة.

ص: 162

نعم يتفق كاتب هذه الأسطر على أن حظ العرب حتى الآن من التنظير قليل، للدرجة التي يزعم بها أنه لا وجود لنظرية أخلاقية عربية إسلامية تتأسس على مبادئ أخلاقية نابعة من البيئة الإسلامية يمكن الاستعانة بها بشكل كلي في حل المشكلات الأخلاقية لأي ميدان من ميادين الأخلاقيات التطبيقية. إلا أن هذا لا أن هذه المبادئ غير موجودة وأنها ليست جزءاً من ثقافتهم. هناك فارق بين عدم تنظيري للمبادئ التي تحكم - أو يجب أن تحكم - سلوكي وبين عدم وجودها. قد يقول قائل إن هذه المبادئ التي شرحها كاتب هذه السطور في المقال الأجنبي سالف الذكر مبادئ خاصة بميدان بحث آخر وهو أخلاقيات البيولوجيا ولكننا نقول إن كثيرا من هذه المبادئ ينطبق على مجال الإعلام مثل حماية كرامة الإنسان، وعدم الإضرار والمنفعة وعدم التمييز والعدالة واحترام التعددية والتنوع الثقافي والخصوصية والسرية والمسؤولية الاجتماعية، وأن معنى المبادئ الأخلاقية ثابت لا يتغير. يختلف الأمر فقط في طريقة تطبيق المبادئ واستخدامها من مجال لآخر. فمعناها لا يختلف سواء طبقت على مجال البيولوجيا أو الإعلام أو الإدارة أو أي مجال من مجالات الأخلاقيات التطبيقية.

ص: 163

المراجع المستخدمة

أولا: المراجع العربية

الكسو «الاستراتيجية العربية للبحث العلمي والتقني والابتكار». جامعة الدول العربية 2014 2017-06-20 تم الدخول بتاريخ html.24-56-07-06-04_http://www.alecso.org/en/2016

ثانياً: المراجع الأجنبية

Darwish. B. (2014). 'Arab Perspectives' (2014) in H.A.M.J. ten Have, B. Gordijn (eds.), Handbook of

Global Bioethics. Springer Reference. pp. 269291 -

Kieran, Matthew (1999). Media Ethics. Praeger, Westport, Connecticut London.

National Association for Science Writers (2014). Code of Ethics for Science Writers. In https://www.nasw.org/code_ethics_science_writers. 18 تم الدخول بتاريخ 2017-12-.

Shakuntala Rao and Herman Wasserman (2007). Global Media Ethics Revisited. A postcolonial critique. in Global Media and Communication [7665-(2007)17423:1] Volume 3 (1): 29 50_. In http://journals.sagepub.com/doi/pdf/10.1177/ تم الدخول بتاريخ 17 - 12 - 2017 1742766507074358

Tehranian, M. (April 1, 2002) Peace Journalism: Negotiating Global Media Ethics. In The International Journal of Press/Politics. In Journals. Sagepub.com/doi/ .abs/10.11771081180/x0200700205تم الدخول بتاريخ 17 - 12 - 2017 .

Ward, S. Global Media Ethics. Center for Journalism Ethics. School for Journalism and Mass Communication. University of Wisconsin-Madison. In https://ethics.journalism.wisc.edu/resources/global_media_ethics/تم الدخول بتاریخ 2017_12_17.

ص: 164

المذهب الأخلاقي للفضاء الإلكتروني

الأستاذ الدكتور : حميدرضا آية اللهي

1. المقدمة

كل عمل يقوم به الإنسان مبني على نظام من القيم والأخلاق حيث يتخذ قراره بناءً عليه، ورغم أننا نؤمن بمعايير أخلاقية عامة متشابهة، لكن تطبيق هذه المعايير على الظروف الجزئية في فعالياتنا يواجه العديد من المشاكل، مما يدفعنا إلى اتخاذ قرارات مختلفة ناجمة عن ظروف تلك الفعاليات لكن بالتحليل الدقيق لقراراتنا نواجه اختلاف المعايير الأخلاقية فنعتبر ما هو غير أخلاقي أخلاقياً، ولا نهتم بالوجه الأخلاقي للعمل الأخلاقي الذي نقوم به. ومن هذا المنطلق، يحاول علماء الأخلاق تحليل الظروف الخاصة لفعالية ما لتنظيم المهام الأخلاقية بما يتناسب مع الفعاليات التي نقوم بها، لكي يتمكن سائر الأفراد من العيش بشكل أخلاقي في نظام موحد من المعايير. يطلق على هذه التعليمات «المذهب الأخلاقي» أو «مدونة «الأخلاق» أو «التعليمات الأخلاقية». إن إحدى أهم هذه الفعاليات تتمثل في العمل ضمن الفضاء الافتراضي مما يجعلنا نواجه ملاحظات أخلاقية مختلفة؛ وبالتالي فنحن بحاجة إلى معايير لممارسة الفعاليات بشكل جيد ضمن الفضاء الافتراضي. سنحاول في هذه المقالة تنظيم التعليمات الأخلاقية لمختلف أنواع الفعاليات ضمن الفضاء الافتراضي وتقديمها لجميع الناشطين في هذا المجال.

لإعداد المذهب الأخلاقي في الفضاء الإلكتروني قمنا بجمع وتصنيف العديد

ص: 165

من المذاهب التي وضعت على مستوى العالم في هذا المجال من خلال دراسة قوالب المذاهب الأخلاقية، فقد تم تصميمه بشكل معين في النهاية ليتناسب مع العقيدة المشتركة للمذاهب الأخلاقية في الفضاء الإلكتروني في بلدنا الإسلامي. على الرغم من أن العديد من المبادئ الأخلاقية العالمية في هذا المذهب الأخلاقي مشتركة، ولكن بما أن المعايير الأخلاقية يمكن أن تتأثر بالثقافات المختلفة، فقد جرى تقويم محتوى هذه المذاهب من حيث تناسبها مع الثقافة الإيرانية الإسلامية وتم استقصاء النقاط الرئيسية والتي يجب الانتباه إليها بناءً على ثقافتنا. وتتم مراجعة القضايا الأخلاقية في مختلف المجالات (مثل الأخلاق، والأخلاق المعيارية والأخلاق التطبيقية، الخ)، وتحليلها. من الواضح أن التحليلات الأخلاقية في الفضاء الإلكتروني في المذهب الأخلاقي مختلفة من المداولات الأخلاقية الأخرى. حاولنا في البداية تحديد ما نعنيه بالضبط بالمذهب الأخلاقي واختلافه عن مجالات التفكير الأخلاقي الأخرى، لكي نركز بالضبط على ما نتوقعه من المذهب الأخلاقي، و ألا نخطئ بينه وبين قضايا الفروع الأخرى للأخلاق.

هناك عدة مراحل لإعداد المذاهب الأخلاقية، حيث ذكرت الخطوات اللازمة الواحدة تلو الأخرى لتدوين المذهب الأخلاقي لكي يتعرف القارئ على خريطة الوصول إلى المذهب الأخلاقي النهائي.

كما تقدم فعلى الرغم من اشتراك المذاهب الأخلاقية في بعض الجوانب، غير أنها تتأثر بالثقافة التي يتم تقديمها ضمنها. ولذلك فإن من الضروري في المذهب الأخلاقي في الفضاء الافتراضي والذي يقدم على أساس المنهج الإسلامي أن نبين كيف يمكننا اتباع المنهج الإسلامي. حاولنا بداية تحليل العناصر المكونة للأخلاق ذات المنهج الإسلامي وتقديم إطار لها، فقمنا بتحليل وجهات نظر المفكرين الإسلاميين حول الأخلاق الإسلامية وتقديم نموذج لبيان الأخلاق ذات المنهج الإسلامي مستندين إلى وجهات النظر تلك لكي نشير إلى الاختلافات بين الأخلاق ذات المنهج الإسلامي والأخلاق ذات المنهج العلماني الذي تعتمد عليه أكثر

ص: 166

المذاهب الأخلاقية الموجودة. ورغم استخدام مصطلح الأخلاق الإسلامية بكثرة في الأوساط العلمية، غير أننا لم نشهد أية نظرية حتى الآن تبين لنا السمات التي تتمتع بها الأخلاق الإسلامية سنحاول من خلال النظرية التي نعتمدها في هذا البحث أن نقدم خطة شاملة للأخلاق ذات المنهج الإسلامي لنصل عن طريقها إلى المذهب الأخلاقي ذي المنهج الإسلامي في الفضاء الافتراضي.

لتنظيم القواعد الأخلاقية في الفضاء الافتراضي، يجب أن نبين التحديات التي تواجه هذه الأخلاق في الفضاء الافتراضي الذي يختلف عن الفضاء المادي. ولهذا السبب، قمنا بدراسة وجهات نظر المفكرين في هذا المجال لبيان وجه اختلاف الفضاء الافتراضي عن الفضاء المادي.

في القوالب المستخدمة لتدوين المذاهب الأخلاقية، هناك عدة محاور أساسية. يجري في البداية تصنيف الفعاليات إلى أنواع رئيسية . وبما أن للأفراد مواقف مختلفة وبالتالي ملاحظات مختلفة في كل فعالية، لذلك يتم تصنيف الفعاليات لكي نعرف مستخدمي تلك الفعاليات

من البديهي أن هذه التصنيفات استقرائية ولا ضرورة منطقية لها. ولذلك يمكن لأفراد آخرين تقديم تصنيف آخر. في الخطوة التالية تذكر المبادئ العامة الأخلاقية التي تشكل المحاور الرئيسية للمذهب الأخلاقي. وبما أنه يجب تنظيم المبادئ المذكورة بمنهج إسلامي، ولذلك فإنها أكثر من سائر مبادئ المذاهب الأخلاقية. وبناءً على ثلاثة أنواع من الفعاليات وخمسة أنواع من المستفيدين من الفضاء الافتراضي، فقد تبين أنه يجب تحديد الواجبات والمحرمات الأخلاقية لكل منها .

لتدوين الرموز الأخلاقية لكل مستخدم في فعالية معينة، لجأنا إلى أربعة مصادر:

1. جمع وتنقيح المحاور المختلفة للمذاهب الأخلاقية في المجتمع العالمي ولا سيما حول الفضاء الافتراضي وغيره وذكر الموقع الإلكتروني لكل منها في النهاية.

ص: 167

2. الكتب والمقالات التي تتحدث حول التحليل الأخلاقي للفضاء الافتراضي في العالم.

3. الأعمال المنشورة على أساس وجهة نظر إسلامية من قبل بعض المفكرين في مجتمعنا حول البحوث الأخلاقية النظرية في الفضاء الافتراضي، ولقد حاولنا تحليل وجهات النظر هذه للوصول إلى مذهب أخلاقي إسلامي.

4. الكتب والمقالات التي تتناول التحديات الأخلاقية للفضاء الافتراضي والأضرار الناجمة عنه حيث استعنا بمجموعة الملاحظات الموجودة فيها لتدوين التعليمات اللازمة للمذهب الأخلاقي.

ورغم الاستعانة بهذه المصادر، ولكن بما أن هذا النوع من المذهب الأخلاقي يتم إعداده للمرة الأولى، لذلك فقد تم تدوين وتنظيم كافة التعليمات بناءً على أساس استنتاج المؤلف واجتهاده.

وأغلب المذاهب الأخلاقية تتمحور حول الوظائف والواجبات والمحظورات، لكنها لا تأخذ بعين الاعتبار الحقوق التي توجدها الوظائف لكل من المستخدمين. وأخيراً فقد تم تنظيمها على أساس الوظائف الأخلاقية للنظام الحقوقي الناجم عنها.

ولكي تكون التعليمات الأخلاقية هذه دقيقة، فقد حاولنا إرسال النص الأولي للمذهب الأخلاقي إلى العديد من نخب البلاد للحصول على ملاحظاتهم وانتقاداتهم و دراستها وتطبيقها في المذهب الأخلاقي النهائي لدى الضرورة. ونتقدم بالشكر الجزيل للتدقيق الذي قام به كافة أولئك الأعزاء مما يترتب عليه إثراء المذهب الأخلاقي وتصديقه وتأييد مضمونه.

نتمنى أن نكون قادرين من خلال هذه المذاهب الأخلاقية على الاستفادة الأخلاقية المثلى من الفضاء الافتراضي .

ص: 168

2. المنهج الإسلامي للأخلاق في الفضاء الافتراضي الاختلافات والأساليب

على الرغم من أن الصلاح والطلاح العقليين معياران في الرؤية الشيعية للأخلاق، لكن الرؤية الأخلاقية للفكر الإسلامي تختلف عنها في الفكر العلماني وتميزه عن الأخلاق العلمانية والمسيحية والأشعرية والإخبارية. لتدوين منهج إسلامي للأخلاق في الفضاء الافتراضي، يجب أخذ ملاحظات أساسية بعين الاعتبار للحفاظ على الروح الإسلامية له. يهتم هذا المنهج في الجانب البنيوي - المضموني بحسن النية ويقر بالتفصيل لا بالإجمال بعجز العقل عن تغطية كافة الجوانب الأخلاقية، وبالتالي فهو يعتبر نفسه بحاجة إلى إرشاد الوحي. ويتطرق العقل إلى الاجتهاد في حالات أكثر تفصيلاً بناءً على تعاليم الوحي. ويتم بيان كافة هذه التعليمات بناءً على الربوبية الإلهية.

إن نظرة الإسلام إلى الأخلاق لا تعتبر توجه الأخلاق مقتصراً على الرفاهية والاستقرار المادي للإنسان، بل يعتبر النمو المادي والمعنوي للإنسان المتمثل في القرب الإلهي من المخاوف الرئيسية له ويفكر بوجهي النظام المتعادل.

أما من الجانب الحقوقي فقد قام بتطبيق شريعة تضمن حقوق كافة الكائنات بالاستناد إلى الباري تعالى ويعتبر أن أساس شرعية الفعاليات الأخلاقية هو الولاية الربوبية ولا يمكن سلب هذه الحقوق إلا بإذن الله لقد منح الله الإنسان كرامة تعتبر حياة الإنسان معادلة لحياة جميع البشر. يجب أن يتكون التعاليم الأخلاقية مبنية على الحقوق الإلهية.

ولا يكتفي الإسلام في تطبيق الأخلاق بالنصائح، بل أخذ بعين الاعتبار نظاماً جزائياً لإحقاق حقوق الإنسان وتخلقه بالأخلاق الإلهية حيث يعتبر نظام الثواب والعقاب الأخروي أهم جزء فيه.

خصائص أخلاق الفضاء الافتراضي

ص: 169

للفضاء الافتراضي خصائص عدة:

1. نطاق عالمي واسع جداً

2. ظروف هوية مختلفة

3. إمكانية النسخ (6 ,2009 ,Johnson-62)

4. سرعة كبيرة

5. وفرة محيرة من المعلومات

6. إمكانية التأثير الفوري والواسع

وهكذا فإن العلاقات الأخلاقية في الفضاء الافتراضي تتسم بخصائص يؤدي الاهتمام بها إلى ملاحظات معينة. ويواجه المستخدمون من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات العديد من القضايا الأخلاقية منها ما هو غير معلوم. ويمكن اعتبار أكثر هذه القضايا شيوعا مختلفة عن الفضاءات المادية وذلك نظراً للأسباب التالية :

1. امتزاجها بالمجهول: من الإمكانات التي يتيحها الفضاء الافتراضي، إمكانية الاحتفاظ بسرية الهوية أو الدخول بأسماء مستعارة، وليس من الضرورة أن تنطبق هوية الأفراد الافتراضية على هويتهم الواقعية، وهكذا لا يمكن الكشف عن الهوية الحقيقية. يمكن لهذا الأمر أن يوجد العديد من القضايا الأخلاقية في العلاقات الافتراضية بين الأفراد (ثقة الإسلامي، 2012م، ص 194-187).

2. تنوع الشعور بالمسؤولية وقبولها: لكل فرد مسؤولية تجاه الإمكانات التي يتمتع بها ويجب أن يتحمل هذه المسؤولية في الاستفادة من هذه الإمكانات. إن التقنيات المعلوماتية والاتصالات توفر الكثير من الإمكانات للمستخدمين مما يخلق العديد من المسؤوليات.

3. دائرة النطاق المعلوماتي والنطاق الخصوصي الفردي : تم تعريف معايير مادية

ص: 170

في العالم المادي لتمييز خصوصية الأفراد ونطاقاتها. ومع ظهور تكنولوجيا المعلومات والاتصالات أصبحت هذه المعايير المادية تعاني من النقص والعجز في تعيين معايير الخصوصية في العالم الافتراضي. إن تعريف نطاق خصوصية الأفراد في الفضاء الافتراضي واحترامه من قبل الآخرين من أهم القضايا المطروحة في هذا المجال.

4. الغموض في امتلاك المعلومات والملكية الفكرية: نظراً لاختلاف المضمون الافتراضي والإلكتروني عن المادي، فلا يمكننا تطبيق قوانين الملكية الفكرية في الفضاء المادي على محتويات الفضاء الافتراضي. ومن هذا المنطلق، وإذا فرضنا أن كل محتوى إلكتروني في العالم الافتراضي خاضع للحماية الفكرية، فيجب علينا تعريف وتعيين معايير الملكية المذكورة واحترامها.

5. نطاق الجرائم في الفضاء الافتراضي: نظراً لاختلاف الفضاء الافتراضي عن المادي، فإن ماهية الجريمة في الفضاء الإلكتروني وسببها وطريقتها تختلف عنها في الفضاء المادي. وهذا ما يجعل نطاق تعريف ومعايير الجريمة في العلاقات بين الأفراد عبر الفضاء الافتراضي واسعاً أكثر من الفضاء المادي.

6. ميزة أمن المعلومات والمعلومات الآمنة: من أهم مخاوف مستخدمي الفضاء الافتراضي، الحصول على المعلومات الآمنة والموثوقة من المحتويات الإلكترونية الموجودة لتحقيق هذا الهدف يجب أن يكون لدى المعنيين بأمر توليد ونقل ونشر المحتويات الإلكترونية في الفضاء الافتراضي شعور بالمسؤولية.

إن ما أشرنا إليه في وصف كل من القضايا المذكورة أعلاه وتعيين المعايير غير الأخلاقي في الفضاء الافتراضي وما يتبعه من تعيين المفاهيم الأخلاقية المناسبة مقابل تلك المعايير ، ورغم أنه يمكننا وضع ذلك تخت عنوان القضايا المذكورة أعلاه، ولكن يمكن أن تحظى هذه القضايا بالاهتمام في كل من تقنيات الاتصالات،

ص: 171

وبالتالي أخذ مذاهب أخلاقية محددة للعالم الافتراضي بعين الاعتبار.

4. المستفيدون

إن السلوك الأخلاقي في الفضاء الافتراضي متناسب مع الدور الذي يمكن لكل فرد أن يلعبه فيه. ولذلك فإن فرز المستفيدين من الفضاء الافتراضي يساعد على تشخيص واجباتهم الأخلاقية. ورغم وجود الكثير من أنواع المستفيدين في الفضاء الافتراضي، لكن أهم الأنواع تتمثل فيما يلي:

1. صانعو القرار السياسي: الأفراد الذين يقومون بتحديد الاستراتيجيات والتخطيط الكلي في البيئة الافتراضية، واستنادا إلى السياسات التي يضعونها الترتيب الذي تقومي يتم تصميم الفضاء الافتراضي، ويقومون بتعيين جميع الإجراءات لاستعمال المستخدم للفضاء الافتراضي، ونتيجة لذلك يقوم المستثمرون بدفع ثمنها يمكن أن تكون الحكومة من صناع السياسات لأجل تحقيق واجباتها.

2. مصممو الفضاء الافتراضي: وهم من يقوم بتصميم وتطبيق البرمجيات والمعدات حسب السياسات المتبعة.

3. مسؤولو وملاك الفضاء الافتراضي: وهم الأفراد المسؤولون عن فضاء افتراضي في الإنترنت ويملكونه من الناحية الحقوقية والفكرية.

4. الموظفون وهم الأفراد المسؤولون عن تطبيق وتنصيب البرمجيات والمعدات المذكورة لتسهيل تقديم الخدمات للمستخدمين.

5. مستخدمو إرسال المعلومات واستقبالها: بعض المستخدمين يستقبلون المعلومات فقط والبعض الآخر منهم يرسل المعلومات ويستقبلها وأهم هؤلاء المستخدمين أعضاء الشبكات الاجتماعية.

6. الرقابة الحكومية: تواجه الحكومات بعض القضايا الأخلاقية بما يتناسب مع

ص: 172

المسؤولية الاجتماعية لها ومن البديهي أننا لا نعني هنا دور الحكومة في الرقابة على الأعمال الحكومية الخاصة بها، فالحومة قادرة على لعب دور فعال مثل صناع السياسة أو مسؤولي الفضاء الافتراضي.

إن التصنيف المذكور أعلاه تصنيف استقرائي يضم أهم أنواع المستخدمين، و مع ذلك فهناك العديد من الأنواع الأخرى التي لا يتسع المجال لذكرها هنا. وفضلاً عن اختلاف الواجبات الأخلاقية لمستخدمي الفضاء الافتراضي، فإن نوع علاقة المستخدمين ببعضهم يؤثر على التعاليم الأخلاقية ونوعها. ولذلك فإن كل من المواقع، والدردشة، والأخبار، والبريد الإلكتروني، والشبكات الاجتماعية، ومحركات البحث، والاتصالات المتنقلة، والإعلان على الإنترنت، والمواقع الإعلامية وغيرها يمكنها أن تتمتع بالمذهب الأخلاقي الخاص بها، وقد قمنا في هذه المقالة بتقسيم الفعاليات إلى ثلاث فئات كلية تشمل أنواع الفعاليات المذكورة. تم التصنيف هنا حسب كيفية تفاعل الأفراد في الفضاء الافتراضي، ولذلك فكافة هذه الفعاليات تشمل الفئات الثلاثة التالية:

أ- المذهب الأخلاقي الخاص بالفعاليات أحادي الجانب في الفضاء الإلكتروني، مثل مواقع الأخبار، والمواقع ، ومحركات البحث ومواقع المعلومات وبعض ألعاب الكمبيوتر.

ب- المذهب الأخلاقي الخاص بالتفاعل المتبادل في الفضاءات الافتراضية مثل البريد الإلكتروني، والدردشة وغيرها.

ج- المذهب الأخلاقي الخاص بالتفاعل متعدد الأطراف، مثل الشبكات الاجتماعية مثل الفايبر، الفيسبوك، الواتس أب، التلغرام والإينستاغرام وغيرها.

5. المبادئ الأساسية الأخلاقية للفضاء الافتراضي

يمكن تصنيف المبادئ الأساسية الأخلاقية في الفضاء الافتراضي إلى ما يلي:

ص: 173

1. النزاهة

2. الحفاظ على الخصوصية والامتناع عن الغيبة

3. الأمن وعدم إلحاق الضرر المادي والمعنوي بالآخرين

4. الأمانة واحترام حقوق الآخرين

5. الحفاظ على القيم الدينية والعرفية

6. النية الصحيحة الأخلاقية

7. مبدأ تعميم الفائدة والمساعدة في تطوير وارتقاء الآخرين

1. النزاهة: كل نوع من الأنشطة في الفضاء الافتراضي من طرف المصممين والمشغلين والمستخدمين يجب أن يتمتع بالنزاهة ويجب عدم عرض المعلومات المخالفة للواقع أو المعلومات التي تفهم بغير مكانها.

2. الحفاظ على الخصوصية والامتناع عن الغيبة كل شخص ممن يعمل في الفضاء الافتراضي له معلومات خاصة والتي بدون موافقتهم لا يمكن الوصول إليها ولا يمكن نشر أو نقل هذه المعلومات الخاصة بطريقة أولية. وهذا ما يعني أن الشخص لا يمكنه أن يدخل إلى المعلومات الخصوصية للآخرين ولكنه الدخول للفضاء الافتراضي من أجل نشر وإعادة نشر المعلومات الخاصة للآخرين بدون موافقتهم. أو بعبارة أخرى ما يسمى بالغيبة - في مصطلح السنة الإسلامية- وفي حال حدوثها يجب تأمين الرضا من الشخص.

3. الأمن وعدم إلحاق الضرر المادي والمعنوي بالآخرين: كل الإجراءات القائمة في الفضاء الافتراضي يجب ألا أن تلحق الضرر بالمستخدمين أو المشغلين أو المصممين بشكل فردي أو جماعي إلا إذا كان مطابقاً للقانون في الموارد التي يكون فيها نشاط افتراضي فيه ضرر للآخرين في المجتمع. لا يمكن استخدام الفضاء الافتراضي من أجل إلحاق الضرر بأموال وشرف أوالروح المعنوية للآخرين.

4. الأمانة واحترام حقوق الآخرين في الفضاء الافتراضي يجب على كل

ص: 174

فرد احترام حقوق الآخرين وألا يلحق الضرر بهم. لذلك يجب احترام الملكية المعنوية. وفي حال عدم مراعاة هذا العمل فإن ذلك ما يسمى عدم رعاية حق الناس في العرف الديني.

5. الحفاظ على الأخلاق الدينية والعرفية: في كل مجتمع هنالك مجموعة من القواعد والقيم الأخلاقية والثقافية بما يتناسب معها ولذلك يجب أن تكون أنشطة الفضاء الافتراضي لا تسبب ضرراً لهذه القيم (إذا كانت لا تخالف القوانين الدينية). كما أنه يجب احترام الخصوصيات الدينية وكل سلوك يؤدي إلى الضرر في هذه القيم يجب أن يكون ممنوعاً.

6. النية الصحيحة الأخلاقية : يجب على المستفيدين من الفضاء الافتراضي لديهم دوافع مختلفة لاستخدامه والتي غالباً ما تكون هي القيام بنشاط معين. هذه الدوافع والنوايا يجب ألا تكون منافية للأخلاق العامة. فالأنشطة التي تقام بالنية الصحيحة دائماً ما تستحق الإعجاب.

7. مبدأ تعميم الفائدة والمساعدة في تطوير وارتقاء الآخرين: يجب أن يكون الهدف الأصلي للاستفادة من الفضاء الافتراضي قيماً, وبما أن الفضاء الافتراضي هو مكان للتعامل بين المستخدمين لذلك فإن التعامل الأخلاقي يجب أن يكون من أجل تعمیم الفائدة والمساعدة في تطوير وارتقاء الآخرين.

6. المبادئ الأخلاقية لمشتركي الفضاء الافتراضي (من أجل الأنشطة الأحادية الجانب في الفضاء الافتراضي)

صانعو القرار السياسي:

صناع سياسات الأنشطة المختلفة في الفضاء الافتراضي يجب أن:

1. يجب الانتباه أن المبادئ الأخلاقية في الفضاء الافتراضي هي نفسها المتعارف عليها في الحياة الواقعية.

ص: 175

2. إن العواقب الأخلاقية ستكون محل مراقبة وبحث وفي حال وجود مخالفة أخلاقية في ذلك يجب أن يجدد نظره في سياسته وسلوكه، حتى لا تسبب تلك السلوكيات ظهور مشاكل لا تحمد عقباها. ويجب على واضعي السياسات أن يظهروا أنهم قاموا بهذه الدراسة.

3. والإعلان عن نقاط الضعف والمخاطر للسياسات الخاصة بهم بكل صدق وإخلاص والشعور بالمسؤولية. كل سياسة في الفضاء الافتراضي مهما كانت جيدة، لكنها في النهاية لها نواقص ومن هذا الاحتمال من الممكن وقوع بعض المشاكل في هذه السياسات.

4. في جميع الإجراءات التي يقومون بها يجب أن يكون هنالك نزاهة ويجب اجتناب الأفعال التي تؤدي إلى خداع المصممين والمالكين في الفضاء

الافتراضي.

5. أن تكون السياسات مهتمة بالمعلومات الشخصية للمستخدمين ويجب تجنب السياسات التي تسبب الضرر لخصوصية المستخدمين من البديهي أننا نتحدث عن السياسات التي تناقض الخصوصية للمستخدمين وليس الاستفادة غير المناسبة من قبل المستخدمين.

6. يجب الاهتمام بحقوق المصممين حيث يجب التواصل لاتفاق معهم قبل وضع السياسات.

7. يجب متابعة هذه السياسات لكي لا توقع الأفراد والمجتمع في الخطر ويجب ألا تنظم بما لا يسبب الضرر بهم.

8. متابعة هذه السياسات بحيث لا تسبب الضرر للقيم الثقافية والدينية.

9. اجتناب الدوافع غير الأخلاقية في إجراءاتهم وأن تكون نيتهم سليمة في تنظيمها.

ص: 176

10. أن يوضحوا في سياساتهم وسلوكهم المخاطر من الاستفادة من الفضاء الافتراضي مثل الاعتياد بالأنترنت وانفصام الشخصية، وعدم التحرك، والتأثيرات الجسمية غير المناسبة، والآثار الاجتماعية وخاصة العائلية، والابتعاد عن المجتمع والاضطراب وطرح الحلول من أجل حل هذه المشاكل.

11. أن ينظموا سياستهم على أن تساهم في تطوير المجتمع والأفراد من الناحيةالأخلاقية والمعنوية.

12. أن تشمل سياستهم التطوير المادي والمعنوي للأفراد والمجتمعات والاستفادة من الفضاء الافتراضي من أجل رفع التخلف والجهل في بعض المجتمعات مثل الدول الأفريقية.

13. أخذ المشورة من علماء الأخلاق والفلسفة والدين وباقي العلوم الإنسانية من أجل وضع سياساتهم.

مصممو الفضاء الافتراضي:

مصممو الفضاء الافتراضي يجب أن:

1. يحب الانتباه إلى أن المبادئ الأخلاقية فى الفضاء الافتراضي هي نفسها المتعارف عليها في الحياة الواقعية.

.2 النزاهة والأمانة والاحترام للقيم العرفية والدينية والاحترام للحدود الدينية ورعايتها في تصاميمهم.

3. أن يكون هنالك احترام وأمانة مع أرباب العمل، واعلامهم بأي نقص حاصل في النظام.

4. أن يعملوا بدقة من أجل حفظ الأمور السرية لمالكي المواقع

ص: 177

5. أن يسعوا بكامل طاقاتهم من أجل ارتقاء وإزالة المشاكل الفنية في الموقع والنظام من أجل حفظ المعلومات الشخصية والخاصة للمستخدمين.

6. يجب أن يصمموا الموقع في حال كان هنالك إعلانات للبضائع والخدمات أو معلومات غير مرغوبة في هذا الموقع أن يكون المستخدمون قادرين على إيقافها والأفضل من ذلك أن يكون هنالك تدابير خاصة، ليكون للمستخدم القدرة على اختيار استلام الإعلانات .

7. إذا كان هنالك بعض المشاكل الأخلاقية في تصميمه يمكنه التعاون مع مصمم آخر لحل هذه المشاكل .

8. مراعاة الراحة والأمان من أجل المستخدمين في تصميمهم بشكل دقيق.

9. مراعاة الأمن الأخلاقي والمعنوي للمستخدمين في تصميمهم بشكل دقيق.

10. تصميم برامج مختلفة من أجل تعليم الطبقات المختلفة مقل العميان والصم والبكم أو ذوي الإعاقة الخاصة الفكرية ومن لديهم ضعف في النمو المادي والمعنوي.

11. العمل لإزالة التخلف في بعض البلدان وتسهيل الوصول الميسر والرخيص لإمكانات الفضاء الافتراضي في العدالة الاجتماعية.

يجب على المصممين ألا يقوموا بما يلي:

1. ألا يستخدموا في تصميمهم على أمور تخالف العفة.

2. أن يتبعوا السياسات غير الأخلاقية لمالكي المواقع

3. ألا يكون تصميمهم بطريقة تسمح للمعلومات القادمة من المستخدمين أن تكون في اختيار المواقع والأشخاص والمجتمعات بدون إذن أصحابها.

ص: 178

مالكو الفضاء الافتراضي:

يجب على مالكي الفضاء الافتراضي:

1. يحب الانتباه أن المبادئ الأخلاقية في الفضاء الافتراضي هي نفسها المتعارف عليها في الحياة الواقعية.

2. النزاهة والأمانة في حفظ المعلومات الخصوصية للآخرين، ورعاية الأمن الفكري والاقتصادي للآخرين في الفضاء الافتراضي، وتجنب الإضرار بأي عمل أو حقوق للأفراد.

3. لا يحب فقط عدم الإساءة والافتراء على الآخرين ولكن منع الإساءة والافتراء من قبل أي من المستخدمين.

4. حذف الحساسيات الشخصية الوهمية وغير المعتبرة.

5. قبول جميع المطالب المقررة وفي حال وجود ضرر أو أذية من أجل الغير، العمل على حلها .

6. رعاية الحقوق الفكرية للآخرين، واجتناب إعادة نشر مواضيع الآخرين بدون ذكر المنبع . ويجب ألا يقوموا بإعطاء المعلومات السرية والشخصية للمستخدمين مثل الايميل أو كلمة السر و ... ولا بأي شكل من الأشكال للأفراد والحقوقيين الآخرين.

7. اجتناب أي نوع من التفرقة بين المستخدمين مثل التفرقة القومية، والجنسية والأممية.

8. أن يكون سلوكهم قائما على الشفافية والإنصاف والحياد .

9. أن تكون أولويتهم التطور الأخلاقي والمعنوي للمستخدمين.

10. أن يكونوا متيقظين لأي نوع من الجريمة أو الأمور المخالفة للأخلاق العامة

ص: 179

في مواقعهم من قبل المستخدمين والعمل على عدم انتشارها.

11. احترام الأعراف الدينية والحدود الدينية، ومنع كل نوع من التبليغ عليها.

12. إجراء تدابير خاصة من توثيق الهوية الواقعية للأفراد والشخصيات المعروفة الفنية والسياسية والرياضية ...وغيرها .

13. أن يتابعوا أي شكاية من قبل المستخدمين أو الدول في حال إخلال الأمن وإقلاق راحة الأفراد في الفضاء الافتراضي وإجراء المتابعة في حدود السلطة الممنوحة.

يجب أن لا يقوم مالكو الفضاء الافتراضي :

1. يجب أن يعلموا السلطات عن أي نوع من الجريمة السرقة، النهب القتل أو الأمور التي تخالف الأخلاق.

2. أن تكون نيتهم غير سليمة في أنشطتهم ولكن يفضل أن تكون هذه النية صافية وجيدة من أجل إتمام العمل.

المستخدمون

يجب على مستخدمي الفضاء الافتراضي أن يلتزموا بما يلي:

1. يحب الانتباه إلى أن المبادئ الأخلاقية في الفضاء الافتراضي الفضاء الافتراضي هي نفسها المتعارف عليها في الحياة الواقعية.

2. النزاهة والأمانة وحفظ الخصوصية والأمن المادي والمعنوي لجميع المستخدمين عند الاستفادة من الفضاء الافتراضي

3. أن يعملوا على حفظ المعلومات الشخصية لهم ولأصدقائهم بشكل دقيق ومحاولة عدم الاستفادة منها ضمن الفضاء الافتراضي والاستفادة من كامل إمكانات المواقع من أجل حفظ خصوصية الأفراد.

ص: 180

4. أن يكونوا على اطلاع كامل من آثار الاستفادة من الفضاء الافتراضي مثل الاعتياد على الأنترنت وانفصام الشخصية وعدم التحرك اللازم والتأثيرات الجسمية غير المناسبة والضرر الاجتماعي - وخاصة على المجتمع، الابتعاد عن المجتمع-، إضافة إلى اضطراب المعلومات. تنظيم برنامج من أجل التخفيف من هذه المشاكل مثل اتباع حمية إعلامية.

5. الاحترام المادي والمعنوي لسؤولي الفضاء الافتراضي وعدم تضييع حقوقهم.

6. في الموارد التي يحتاج فيها مسؤولو الموقع معلومات عن المستخدمين في الفضاء الافتراضي يجب أن يعلموهم بشكل شفاف، فقط في الحالة التي يكون فيها الفرد يستخدم معلومات غير واقعية ويستفيد من معلومات كاذبة يمكنهم القيام بذلك. ومن البديهي أن التكليف الأخلاقي لهذا الشخص تماثل باقي الأفراد وهي واجبة الاتباع.

7. احترام الحقوق المادية والمعنوية للآخرين في الفضاء الافتراضي وبرعاية الملكية الفكرية للآخرين يجب عدم الإضرار بهم.

8. احترام القيم العرفية العقلية والدينية والحدود الدينية وتجنب الإساءة والإضرار بمقدسات المجتمع بأي شكل من الأشكال(مثل الكتابات، الصور أو الفيلم والصوت).

9. رعاية مبدأ السرية والشفافية في الحالات الضرورية، وتجنب التفرقة والتعصبات القومية والدينية والثقافية.

10. اجتناب الدعاية للمواقع التي تنشر الكذب والغيبة والتهمة والسرقة وخيانة الأمانة والإساءة للمقدسات والمواضيع التي تضيع الدين والاستهزاء بالإفراد والجماعات أو إفشاء أسرار الناس أو الاعتداء على خصوصيات الآخرين.

11. اجتناب إيجاد حسابات شخصية وحساب مستخدمين بأسماء أخرى.

ص: 181

12. استخدام الشخصية الواقعية من أجل أي نشاط في الفضاء الافتراضي.

13. الاستفادة من الفضاء الافتراضي من أجل التطوير المادي والمعنوي للإنسان وعدم الكذب في إجراء المشورات الصحيحة للأفراد المحتاجين.

14. الاهتمام بالمبادئ الإنسانية والمعنوية والأخلاقية مثل الظلم ونشر العدالة في الأنشطة القائمة في الفضاء الافتراضي.

يجب أن لا يقوم مستخدمو الفضاء الافتراضي:

1. عدم نشر المواضيع التي لا تكون موثوقه (مثل المواضيع الدوائية والطبية أو الإجراءات الأمنية أو التوصيات الدينية والسلوكية) ولا تكون مؤيدة من قبل المرجع الرسمي.

2. عدم الاستفادة من الفضاء الافتراضي من أجل القيام بأمور تنافي الأخلاق وتروح للجريمة والجناية والسرقة والإساءة والافتراء والكذب والغيبة والاستهزاء وغيرها ..

3. عدم الاستفادة من المواقع التي تنشر الصور أو الأفلام أو الكتابات المنافية للعفة وتنشر الفحشاء والانحرافات الجنسية وفي حال وجود مثل هذه المواقع القيام بإجراءات مناسبة للحد من انتشارها.

4. عدم الاستفادة من الفضاء الافتراضي من أجل إيجاد العداوة والنزاع بين الأفراد والمجتمعات. ومن الأفضل استخدام الفضاء الافتراضي من أجل تنمية المحبة والخير وإزالة الخلافات.

5. السعي قدر المستطاع لعدم الاطلاع على المعلومات الخاصة والمحرمة لباقي المستخدمين.

الحكومات

ص: 182

يجب على الحكومات أن تقوم بما يلي :

1. يحب الانتباه إلى أن المبادئ الأخلاقية في الفضاء الافتراضي هي نفسها المتعارف عليها في الحياة الواقعية.

2. القيام بالإجراءات القانونية المناسبة من أجل المحافظة على الأشخاص بما يتناسب مع الضرر اللاحق بهم، وذلك لأن محتوى الفضاء الافتراضي قد يسبب الضرر لبعض الأفراد وخاصة الأطفال منهم.

3. القيام بالإجراءات القانونية المناسبة كما في الحياة الواقعية من أجل منع الجريمة والجناية والقتل والأعمال المنافية للعفة وإشاعة الفحشاء والترويج للمواد المخدرة والسرقة والتدليس والكذب والعمل على مواجهتهم بالقانون بما يناسب تصرفاتهم.

4. السعي لحفظ خصوصيات الأفراد والمعلومات المحرمة، أو الضغط على الأفراد من أجل الحصول على المعلومات، إلا إذا كان هنالك ضرر أصيل، يجعل شخصاً آخر في المجتمع والتي تحتاج لمراجع قضائية للحصول على هذه المعلومات.

5. السعي قدر المستطاع من أجل نشر الأفكار الحرة في الفضاء الافتراضي.

6. القيام بإجراءات مناسبة من أجل إيجاد الفضاء الافتراضي السالم والآمن والاستفادة بشكل جيد منه من أجل التطوير والتنمية الاقتصادية والعلمية والثقافية والدينية والأخلاقية في المجتمع.

7. القيام بإجراءات من أجل الارتقاء بالتعليم في المجتمع وتدوين برامج مؤثرة من أجل القيام بذلك.

8. السعي من أجل حفظ الحقوق المادية والمعنوية للأفراد، وتحقيق الراحة والأمن في الفضاء الافتراضي من خلال سماع الشكاوى وإحقاق

ص: 183

حقوق الأفراد من خلال الإجراءات والإقدامات المناسبة.

9. الاستفادة بشكل جيد من الفضاء الافتراضي من أجل حماية الطبقات التي ممكن أن تتأذى مثل المتخلفين وذوي الإعاقات الخاصة المادية والفكرية .

10. توسعة الخدمات الإلكترونية من أجل الاستفادة السهلة والعادلة للمواطنين الخدمات الدولة وأن تكون هذه الخطوة من أولوياتها.

يجب ألا تقوم الحكومات بما يلي:

1. يجب عليها ألا تقوم بتفتيش عقائد وأفراد الحسابات بأشخاص واقعية وحقوقية أو لمالكي المواقع.

2. عدم استخدام الفضاء الافتراضي من أجل وضع المخالفين والمعارضين تحت الضغط.

7. المذهب الأخلاقي الخاص من أجل التعاملات الثنائية في العالم الافتراضي (مثل الإيميل أو البريد الإلكتروني)

البريد الإلكتروني يمكنه أن يقدم خدمات كبيرة لمستخدميه وبسبب خصائصه فإنه يواجه مسائل أخلاقية خاصة والتي توجب أن تكون واضحة المبادئ التوجيهية والأخلاقية وهو الأساس في تعامل كل أصحاب العمل. في البريد الإلكتروني يمكن تصنيف أصحاب المصلحة الرئيسيين في العمل إلى ما يلي :

1. أصحاب مزودات البريد الإلكتروني الأصلي والذين يقدمون خدمات البريد الإلكتروني

2. المستخدمون للبريد الإلكتروني والمستفيدون من الخدمات ذات الصلة

3. الحكومات والمحاكم

ص: 184

أصحاب مزودات البريد الالكتروني الأصليون

بالنسبة لأصحاب مزودات البريد الإلكتروني الأصليين والذين يقدمون خدمات البريد الإلكتروني فينطبق عليهن بعض من المبادئ الأخلاقية المتعارف عليها لدى أصحاب العالم الافتراضي ولكن في غير الموارد المذكورة يجب أن يتم الانتباه للمبادئ الأخلاقية التالية:

أصحاب مزودات البريد الإلكتروني الأصليون

1. بما أنهم بإعلاناتهم سيحصلون على تكاليف الإيميل ومن خلاله يكسبون أجرهم، لذلك يجب أن تكون كل طرق استخدام المعلومات في البريد الإلكتروني حصراً من أجل الأمور التجارية، كما أنها يجب أن تكون شفافة وواضحة بالنسبة للمستفيد وفقط في الحدود المسموح بها من عنوان الايميل ومحتوى البريد الإلكتروني للمستخدم.

2. احترام الكرامة الإنسانية للمستخدمين والتعامل معهم بكل نزاهة في أي وقت كان.

3. الحياد في التعامل والإنصاف في التعامل مع المستخدمين للبريد الإلكتروني وإذا كان هنالك مجال معين للخدمات المقدمة يجب ألا يكون هنالك أي تفريق عنصري أو عرقي أو جنسي أو ديني ... وإذا كان العمل على المستوى العالمي يجب ألا يكون هنالك مثل هذا التفريق.

4. يجب ألا تستخدم الإعلانات لتوجيه الإهانة لأفراد أو أقوام أو تجريح مقدسات الآخرين بأي شكل من الأشكال وأن يبتعدوا عن أي نوع من الإعلانات التي تخالف الأخلاق والأعراف.

5. يجب أن يجهزوا تدابير للشكوى في حال قيام أحد المستخدمين بالاستفادة من الايميل بأمور تخالف الأخلاق والتصرف المناسب معهم، وفي حال التكرار يجب أن يتم حذف حسابه بالكامل.

أصحاب المزودات يجب ألا:

ص: 185

1. يقوموا بحذف أو تغيير أي معلومة متعلقة بالمستخدمين بدون إذن منهم أو من أجل إغرائهم ليتم تقديمها لهم.

مستخدمو البريد الإلكتروني

لقد تم الحديث مسبقاً عن المبادئ الأخلاقية التي يجب مراعاتها من قبل مستخدمي العالم الافتراضي بشكل عام ولكن بالنسبة لمستخدمي البريد الإلكتروني يجب مراعاة الأمور التالية:

يجب على مستخدمي البريد الإلكتروني :

1. أن يحترموا خصوصيات المستخدمين الآخرين وأن يتجنبوا إرسال الرسائل الإلكترونية التي تخدش حقوق الآخرين وكرامتهم.

2. حول إرسال رسائل البريد الإلكتروني الشامل لمختلف المستخدمين هذا الحق محفوظ للمستقبل ويمكنه من خلال قائمة المراسلات إخراجها بشكل سهل. لذلك يجب أن يكون هذا الحق للمستقبل محفوظاً في الإيميلات المرسلة، مع وجود إمكانية حذف اسمه من قائمة الايميلات المرسلة بشكل بسيط.

3. إذا كان المستقبل لا يرغب باستقبال بريد إلكتروني من شخص آخر، يجب إعلامه ويجب على المرسل ألا يرسل له مرة أخرى.

4. عند إرسال البريد الإلكتروني يجب الانتباه لهذه الملاحظة وذلك لأن بعض الأفراد لا يرغبون أن يظهر اسمهم في البريد الإلكتروني المرسل بطريقة الإرسال الجماعي(forward) لذلك يجب أن يحذف اسم من لا يرغبون بذلك من الرسائل الإلكترونية المرسلة بهذه الطريقة.

5. يجب الانتباه إلى أن كل المبادئ الأخلاقية العامة تطبق في المواضيع المرسلة لذلك فإن كل هذه المبادئ مثل النزاهة واجتناب الغيبة والتهمة والافتراء والاستهزاء بالآخرين وتوجيه الإهانات والإضرار بهم يطبق عليها

ص: 186

نفس المبادئ وفي هذا حق للناس أيضاً وفي حال مخالفة هذه القوانين يجب التعويض لهم.

6. يجب الانتباه إلى عدم إرسال الفيروسات إلى البريد الالكتروني للآخرين.

7. احترام القوانين الاجتماعية لديهم وعدم التصرف بما يخالف هذه القوانين.

يجب على مستخدمي البريد الإلكتروني ألا:

1. أن يفتحوا البريد الإلكتروني باسم شخص آخر وأن يستخدموا اسمه بإرسال واستقبال الرسائل .

2. أن يحاولوا الحصول على كلمات سر الحسابات الأخرى أو بطريقة ما أن يحاولوا الوصول إلى حساب أشخاص آخرين وفي حال حدوث ذلك صدفة، واستطاعوا الوصول إلى محتويات البريد الإلكتروني للآخرين، يجب ألا يطلع أحد على هذا المحتوي أو يجعلهم الفضول يفعلون ذلك .

3. ألا يرسلوا البريد الإلكتروني والذي يؤدي إلى إيجاد العداوة بين الأشخاص أو يجعل الآخرين يكرهون بعضهم.

4. يجب ألا يستخدموا البريد الإلكتروني لنقل المواضيع المحرمة.

الحكومات

بالإضافة إلى المبادئ الأخلاقية المذكورة عموماً في الفضاء الإلكتروني يجب على الدول :

1. أن تقوم بكل ما بوسعها لاحترام حرية الأفراد في إرسال واستقبال الرسائل الإلكترونية.

2. يجب اتخاذ الإجراءات القانونية للحفاظ على الأشخاص وبما يتناسب من أذيتهم بدون الدخول إلى خصوصيات المستخدمين وذلك لأن محتوى

ص: 187

بعض الرسائل الإلكترونية قد يكون مسيئاً وخاصة بالنسبة للأطفال.

3. يجب أن يكون هنالك تأمين السلامة والأمن و تبادل للمعلومات مع أصحاب المزودات وذلك في حال الاستفادة من البريد الإلكتروني من قبل المستخدمين بجريمة أو جناية أو قتل أو أفعال تنافي العفة أو إشاعة الفحشاء أو التشجيع على المواد المخدرة أو السرقة أو الكذب والاختلاس .

4. السعي من أجل حفظ خصوصية الأفراد والمعلومات السرية عنهم في البريد الإلكتروني، فلا يجب الحصول على المعلومات منهم تحت الضغط، إلا إذا كان هنالك ضرر عام، أو هنالك خطر على حياة فرد من أفراد المجتمع والذي يحتاج إلى حكم المرجع القضائي للسماح بالحصول على هذه المعلومات.

5. حفظ الحقوق المادية والمعنوية للأفراد وحقيق الأمن والراحة لهم في تبادل الرسائل الإلكترونية ووضع خطة للوصول إلى شكايات المستخدمين في هذا المجال من أجل إحقاق الحق والقيام بالإجراءات المناسبة.

يجب على الحكومة ألا تقوم بما يلي:

1. ألا تضع معارضيها تحت الضغط من خلال إرسال رسائل إلكترونية لهم.

2. يجب ألا يكون هنالك ضغط على أصحاب المزودات من أجل معرفة الآراء الفردية من خلال الحسابات حقيقية وحقوقية .

8. المبادئ الأخلاقية الخاصة من أجل التعامل مع الفضاء الإلكتروني المتعدد (مثل الشبكات الاجتماعية)

أصحاب المصلحة المعنيين بهذا الأمر يمكن تقسيمهم إلى ثلاثة أقسام رئيسية :

أصحاب ومنتجو الشبكات الاجتماعية -2 - المستخدمون -3 الدول

المبادئ الأخلاقية لصاحبي ومنتجي الشبكات الإجتماعية:

ص: 188

يجب على صاحبي ومنتجي الشبكات الاجتماعية أن:

1. أن يتذكروا بشكل عام إن المبادئ الأخلاقية في الشبكات الاجتماعية، هي نفسها المبادئ الأخلاقية في الحياة الواقعية بشكل كامل.

2. أن يمنعوا قدر الإمكان إطلاق ونشر وإعادة نشر الأخبار الكاذبة.

3. السعي قدر المستطاع من أجل الارتقاء بالموقع وإزالة المشكلات الفنية والتقنية فيه من أجل حفظ المعلومات الشخصية والخصوصية للمستخدمين.

4. يجب أن يتخذوا الإجراءات المناسبة في حال وجود شكاوى من قبل الدولة أو المستخدمين الآخرين بما يخل الأمن والراحة في فضاء الشبكات الاجتماعية والمجتمع.

5. السعي قدر المستطاع من أجل الارتقاء بالموقع وإزالة المشكلات الفنية والتقنية من لتحقيق الأمن والراحة للمستخدمين.

6. ان تكون الإعدادات آمنة لكي يتكن المستخدمون استخدام هويتهم الحقيقية.

7. حذف الحسابات الشخصية الوهمية أو الغير معتبرة.

8. أن يكون هنالك إجراءات خاصة لحماية الهوية الشخصية للأفراد الواقعيين والمشاهير الفنيين والسياسيين والرياضيين و..

9. مراعاة القوانين والاتفاقات الدولية بما يناسب الإسلام حول الحريات السياسي والمدنية وذلك بما يتعلق بتقديم الخدمات .

10. في حال تغيير محتوى الاتفاق مع أصحاب مواقع شبكات التواصل الاجتماعي، يجب إعلام المستخدمين بشكل شفاف ومباشرة.

ص: 189

11. في حال تم استخدام الحساب من قبل المستخدمين في الشبكات الاجتماعية من أجل السرقة أو القتل أو الاتهام أو إشاعة الفحشاء أو إيجاد التفرقة أو العداوة، يجب التعامل معهم بشكل مناسب وفي حال اضطر الأمر يجب حذف حسابهم.

يجب ألا يقوم أصحاب ومنتجو شبكات التواصل الاجتماعي بما يلي :

1. وضع المعلومات الشخصية والخاصة للمستخدمين مثل اسم الحساب أو كلمة السر بيد الأفراد والمستخدمين الآخرين.

2. لا يجوز تحت أي شرط من الشروط ، استخدام المعلومات الخاصة والسرية لأغراض شخصية، وذلك من أجل استخراج البيانات أو رصد الرسائل الخاصة أو تخزين المعلومات.

3. أن يستخدم الحساب كمنبع للمعلومات من أجل كشف جرم، أو كشف مكان ما، قبول أو رفض ادعاء ما وكذلك إفشاء المعلومات الشخصية والمحرمة مع الدولة أو المسؤولين المحليين، إلا في حالات خاصة محددة تحت إشراف السلطات الرقابية.

4. يجب عدم التفريق بين المستخدمين من حيث الدين والعرق والحكومات والجماعات من خلال تقديم الخدمات.

المستخدمون:

يجب على مستخدمي الشبكات الاجتماعية:

1. أن يتذكروا بشكل عام إن المبادئ الأخلاقية في الشبكات الاجتماعية، هي نفسها المبادئ الأخلاقية المتعارف عليها في الحياة الواقعية.

2. يجب الانتباه إلى أن الأنترنت له ذاكرة طويلة وحذف المعلومات عن حساباتهم لا تعني بالضرورة حذف كل معلوماتهم الشخصية بشكل كامل،

ص: 190

ولذلك يجب عليهم أن يكونوا على دراية كافية بهذا الموضوع.

3. يجب الاستفادة من كل الإعدادات الموجودة في الشبكات الاجتماعية من أجل حفظ المعلومات الشخصية والسرية (مثل :Privacy Check-up)

4. حجب الأفراد الذين يقلقون راحتهم ويفقدونهم الأمان.

5. بتطبيق مبادئ الإعدادات الأمنية في الشبكات الاجتماعية سيساهم ذلك في تأمين الراحة والأمن للمستخدمين.

6. يجب مراعاة حقوق النشر في نشر وإعادة نشر وصياغة المحتوى.

7. التصرف بمسؤولية في مقابل الأذية الناجمة عن نشر وإعادة نشر المعلومات.

8. يجب تجنب إهانة الآخرين في التعبير عن وجهات نظرهم فيما يتعلق بمضمون المستخدمين.

9. أن يكونوا على اطلاع كامل بمضمون ما يقومون بإعادة نشره.

10. أن يستخدموا المعلومات الحقيقية مثل (الاسم البريد الإلكتروني، سنة الميلاد، اسم البلد و ...) في الدخول إلى حساباتهم. ويجب الابتعاد عن اختيار الهوية المستعارة وغير الحقيقية في استخدامهم للحسابات.

11. عدم التعامل مع المستخدمين مجهولي الهوية

12 . اجتناب إيجاد حسابات شخصية وحسابات لمستخدمين آخرين .

13. استخدام الشخصية الواقعية عند القيام بأنشطة اقتصادية أو تجارية في الشبكات الاجتماعية.

14. تجنب إنتاج أو نشر أو إعادة نشر أي محتوى مثل ( نص، فيلم، صوت، صورة) فيه إهانة للأديان وخاصة الأديان السماوية.

ص: 191

15. تجنب إنتاج أو نشر أو إعادة نشر أي محتوى مثل (نص، فيلم، صوت، صورة) فيه منافاة للعفة والأخلاق العمومية مثل إشاعة الفاحشة والانحرافات الجنسية.

16. أن يكونوا مسؤولين وصادقين و محترمين في إظهار ونشر وإعادة نشر آرائهم ونظراتهم

يجب على مستخدمي الشبكات الاجتماعية ألا يقوموا بما يلي :

1. السعي قدر المستطاع عدم وضع معلوماتهم الشخصية والسرية وصورهم الشخصية وأفلامهم الخصوصية على الشبكات الاجتماعية

2. عدم إفشاء المعلومات الشخصية والسرية للأصدقاء الآخرين والأعضاء في الشبكات الاجتماعية.

3. يجب ألا يقوموا بنشر معلومات خاصة أو عامة متعلقة بالمستخدمين الآخرين في خارج الشبكات الاجتماعية في داخل الشبكات الاجتماعية.

4. عدم السعي للوصول إلى المعلومات الشخصية والسرية للمستخدمين الآخرين

5. ألا يستخدموا بعض الوسائل مثل : طلب الصداقة أو إرسال رسالة خاصة أو النكز أو وضع الإعجاب بما يخلق إزعاجاً للآخرين

6. عدم نشر محتوى (مثل نص، فيلم، صور) من أجل تهديد أو تخويف المستخدمين الآخرين أو أفراد خارج الشبكات الاجتماعية.

7. عدم نشر أو توزيع أو تبادل أو إرسال أي نوع من البرامج والتي تساهم في الإخلال بالأمن أو إقلاق الراحة للمستخدمين الآخرين وخاصة في الشبكات الاجتماعية.

ص: 192

8. عدم نشر أو إعادة نشر أو إطلاق المحتوى الكاذب أو المخالف للواقع أو الشائعات في هذه الشبكات.

9. عدم استخدام هذه الشبكات من أجل القيام بعمليات إجرامية مثل السرقة أو الابتزاز أو القتل ..... في المجتمع.

الحكومات

المبادئ الأخلاقية للدول في الشبكات الاجتماعية هي نفسها المبادئ الأخلاقية العامة في الفضاء الافتراضي

المصادر المستخدمة في البحث بشكل مباشر أوغير مباشر:

ابراهيمي، ياسر؛ نيستاني، زهرا (إعداد وترجمة) (2012م) منشورهاي اخلاقي در عرصه فن آوري اطلاعات و ارتباطات؛ قم، دانشگاه قم؛ طهران: شوراي عالي اطلاع رساني، دبيرخانه امامي، سيدمحمد حسين (2013م) بايسته ها و نبایسته هاي اخلاقي: (سبک اخلاق اسلامي در فضاي مجازي)؛ اصفهان: نشر دارخوین

آيت اللهي، حميدرضا (2004م) «تاثير بستر ديني در بيشرفت علم» در مجله بژوهش هاي فلسفي كلامي، فصلنامه دانشکاه قم، سال چهارم شماره اول، بهار 2004م، صص 75-65

بارتازيان كامبيز (2009م) نگاهي به تاثیرات اینترنت و فضاي مجازي بر روند دينداري ویرایش داود میرزایی مقدم؛ تهیه و تنظیم موسسه دارالمعارف؛ قم: دارالمعارف.

بالمر، مايكل (2006م) مسائل اخلاقي، ترجمه علي رضا آل بویه، قم: بژوهشكاه علوم وفرهنك اسلامي.

بايا علي (2008م) فناوري ، فرهنك واخلاق؛ طهران: بژوهشگاه فرهنك ، هنر و ارتباطات

ترلو، كريسبين؛ لنکل، لورا؛ تومیک، آلیس (2009م) ارتباطات کامبیوتر- واسط (CMC): تعاملات اجتماعی و اینترنت؛ ترجمه سروناز تربت، طهران: جامعه شناسان.

ثقه الاسلامي، عليرضا (2009م) چالشهاي اخلاقي در عصر اطلاعات : جستارهايي در اخلاق اطلاعات؛ طهران: چابار همارا.

ثقه الاسلامي، عليرضا (ویراستار و ترجمه) (2012م) چکیده مقالات؛ قم: دانشکاه قم ؛ طهران: شوراي عالي اطلاع رساني،

جانسون، دبورا جي؛ ميلر كيث دبليو (2013م) اخلاق رایانه: تجزيه و تحليل فناوري اطلاعات مترجمان ایمان آقابابایي، عليرضا ثقه الاسلامي و بيمان لولوئیان ؛ به سفارش دبیرخانه شوراي عالي

ص: 193

اطلاع رسان،: قم: دانشگاه قم.

جعفري، ن؛ اعتمادي، ع؛ عاصمي، ع (2011م) خانواده و آسیب رسانه اي: رايانه و اینترنت؛ اصفهان: آموخته.

جمعي از نویسندگان (2012م) مسائل اخلاق فن آوري اطلاعات در روایات اسلامی؛ قم: جوادي آملي (2005م) حق و تکلیف در اسلام، قم: مرکز نشر اسراء

جوادي، محسن (2009م) بژوهشنامه اخلاق وفناوري اطلاعات؛ طهران: وزارت فرهنك و ارشاد اسلامی بژوهشگاه فرهنك، هنر و ارتباطات.

جهانکیر، عيسي (2010م) شیعه در فضاي سايبر: رويكردي اجتماعي؛ قم: موسسه آموزشي وبژوهشي امام خميني (ره)، مركز دار.

چاوشي روح اله (2013م) به دنياي مجازي خوش آمدید؛ قم: دانشگاه قم؛ طهران: شوراي عالي اطلاع رساني، دبيرخانه.

حبیبیان روح الله (2013م) کلیک های مثبت و منفي، مشهد: آستان قدس رضوي.

حسین زاده ثاني، نازیلا (2011م) دختران، اینترنت (والدین- مدرسه – جامعه)؛ مشهد: ضریح آفتاب.

حسيني، سيدمحمد (2013م) تلفن همراه، آسیب ها و راه حل ها، قم: عطر ياس.

خاني جزني، جمال (2006م) اخلاق و فناوری اطلاعات؛ با همکاري مركز تحقيقات مخابرات ایران؛ طهران: بقعه.

خاني جزني، جمال (2009م ) آداب فضاي مجازي؛ طهران: سازمان پژوهشهاي علمي و صنعتی ایران.

دربیکی، بابک (ویراستار) (2000م) چالشهاي حقوقي، اخلاقي واجتماعي فضاي رايانه اي؛ کروه مترجمان احمد حمزه لوئي... وديكران؛ طهران: خانه کتاب

دريس، ليلا (2011م) فرهنك بديده ها: ماهواره، اینترنت، تلفن همراه؛ با همکاری اداره آموزش وبرورش شهرستان نجف آباد؛ نجف آباد: انصار الامام المنتظر (عج)

دهقاني بور، راحله (2012م) حكم فقهي وحقوقي ارتباط زن و مرد نامحرم در فضاي مجازي؛ طهران: بليكان.

رجبي، اكرم (2012م) نقض حریم خصوصي در فضاي سايبري؛ طهران: آرمان رشد.

رشادیان، خلیل (2012م) دانش نامه اخلاق اطلاعاتي و امنيتي؛ مشهد: سبحان توس

ریچلر، جیمز (2008م) فلسفه اخلاق ترجمه آرش اخكري، طهران: دار حکمت

رینالدر، جورج دابليو (2013م) اصول اخلاقي در فناوري اطلاعات (اخلاق حرفه اي) ترجمه میثم محمدبور، ویراست سوم، بابل: علوم رایانه

ص: 194

سبحاني، جعفر (2000م) مدخل مسائل جدید در علم کلام، قم: موسسه امام صادق (ع)

سبحاني، جعفر (2002م) حسن وقبح عقلي يا بايه هاي اخلاق جاودان، قم: موسسه امام صادق (ع)

سيد سعادتي، فهيمه (2012م) هنجارهاي اخلاق اسلامي در حریم خصوصي فضاي مجازي؛ ]به سفارش[ دانشکاه هنر اسلامي تبريز .؛ تبريز : فروغ آزادي.

شبيري، فاطمه (2008م) راهنماي والدين در استفاده فرزندان از رایانه؛

شبيري، فاطمه (2008م) رایانه در خانه؛ طهران: سبيدبرك.

شعاع كاظمي، مهرانكيز ؛ مومني جاويد، مهرآور (2012م) آسيبهاي اجتماعي (نوبديد) با تاکید بر تئوري هاي زير بنايي و راهکارهاي مقابله اي، طهران : آواي نور.

شکرخواه، يونس (2011م) (سرویراستار) فضاي مجازي ملاحظات اخلاقي ، حقوقي واجتماعي؛ برگزار کننده موسسه مطالعات آمريکاي شمالي و اروباي دانشکاه طهران، مرکز بژوهش سياستهاي فضاي مجازي دانشکاه طهران؛ طهران: دانشکاه طهران، موسسه دار.

شکوفیان، شهرام (2012م) اخلاق حرفهراي (فناوري اطلاعات): طهران وينا.

شهرياري، حميد (2009م) اخلاق فناوري اطلاعات، قم: دانشگاه قم.

صفر بيكي، حمزه (2013م) از مجاز تا واقعیت، طهران: ایران فرهنگ

طباطبايي، محمد حسین (لاتا) فرازهایی از اسلام، طهران: جهان آرا

الطوسي، نصیر الدین (1987م) كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، قم: دار شكوري

فرامرز قرا ملكي، احد؛ درخشاني، لعبت؛ رضايي شريف آبادي، سعيد (2011م) اخلاق حرفه اي در کتابداري و اطلاع رساني طهران: سازمان مطالعه و تدوين كتب علوم انساني.

فرانکنا، ویليم كي (2006م) فلسفه اخلاق، ترجمه هادي صادقي، چ2 ، قم: كتاب طه.

كاتب، مجتبي (2013م) اصول و مباني اخلاق حرفه اي، طهران: وينا.

كاظمي، احسان و دیگران (2013م) زندگي در فضاي مجازي: جنبه هاي رواني/ اجتماعي اینترنت؛ اصفهان: دانشگاه آزاد اسلامی، واحد خوراسکان، معاونت بژوهشي.

كرم اللهي، نعمت الله (2011م) اینترنت و دین داري، قم :

كوبر، ال (2009م) اینترنت و کمین اخلاقي : نیمه بنهان قدرت ترجمه حميد مرتضوي،

لنک ،کریستین؛ هوب، نیلز؛ اندورنو، روبرتو (ویراستاران) (2012م) اخلاق وحقوق مالكيت فكري (مباحث جاري در حوزه سیاست گذاري علم و تکنولوژي) ترجمه ارمغان عبيري، طهران : میزان مشكيني، علي (2004م) درس هايي از اخلاق ترجمه حسین استاد ولي، قم: دار الهدي مصباح مجتبي (2005م) بنیاد اخلاق، قم: دار موسسه امام خميني (ره)

ص: 195

مصباح فرف عليرضا (2011م) آداب استفاده از تلفن همراه و رایانه؛ یزد: تیک.

مطهري، مرتضي (1983م) فلسفه اخلاق، قم: بنیاد 15 خرداد

مطهري، مرتضي (2003م) عدل الهي، طهران: دار صدرا

ملكان، ليلا (2010م) مسایل اخلاقي واجتماعي در فناوري اطلاعات طهران: اتحاد: آتي نکر منطقي، مرتضي (2009م) چت رومهاي ايراني، جوانان واولياء؛ طهران: جهاد دانشگاهي، واحد طهران.

ميرباقري، سيدمحمدمهدي (2013م) نكاهي بنيادين به نسبت اخلاق و فن آوري اطلاعات؛ قم نهاد نمايندگي مقام معظم رهبري در دانشکاهها، دفتر نشر معارف

میكاييلي جعفر (2011م) دنياي مجازي : بررسي آثار مخرب اینترنت؛ به سفارش معاونت فرهنکي سازمان فرهنکي هنري شهرداري طهران؛ طهران: موسسه فرهنگي هنري شهرداري طهران؛ موسسه نشر شهر

ميكاكيزا، جوزف (2013م) مسایل اخلاقي و اجتماعی در عصر اطلاعات

هاني، سيدحسن (2012م) اخلاق و فناوري اطلاعات (7) پنج کتاب در پنج مقاله؛ قم: دانشگاه قم وشوراي عالي اطلاع رساني، دبيرخانه .

Code of Ethics for Virtual Space

A Bloggers' Code of Ethics, Society of Professional Journalists Code of Ethics, http://www.spj.org/ethicscode.asp

ACS (Australian Computer Society) Code of Ethics, https://www.acs.org.au/- data/assets/pdf_file/00057835//Code-of-Ethics.pdf.

American Institute for Constructors, the AIC Code of Ethics, http://www. professionalconstructor.org/?page=Bylaws

API Code of Ethics, The Australian Property Institute, http://www.api.org.au/ assets/media_library/000218/000//original.pdf?1315789593,

Astromech Company Ethics for Web Design.

CAI Code of Ethics, http://courses.ncsu.edu:8020/classes-a/computer_ethics/

Can you improve your code of ethics? Craig Branson, American Society of Newspaper Editors, http://www.asne.org/index.htm

Chat Etiquette, By Jody-Ann Beelby http://im.about.com/od/acronyms/a/ acronyms.htm

Christian Internet Code of Ethics, http://www.naznet.com/index

ص: 196

CIPS Code of Ethics and Professional Code of Conduct (Canada's Association of Information Technology (IT) Professionals), www.cips.ca/ethics.

Code of Ethics and Conduct for TLA (The Lost Art), By Wingnut Jones in The Lost Souls TLA, http://the-lost-art.com/code-of-ethics/

Code of Ethics and Professional Conduct, Project Management Institute.

Code of Ethics for Bloggers, Social Media and Content Creators, http://mor10. com/code-of-ethics-for-bloggers-social-media-and-content-creators/

Code of Ethics for Web Design, Julie Denise Underwood, 2008.

Code of Ethics of The University of Southern California, March 28, 2004, https:// about.usc.edu/files/201107//USC_Code_of_Ethics_2004.pdf

Computer Ethics Policy, Georgia State University, March 6, 1995, http://courses. cs.vt.edu/professionalism/WorldCodes/GSU.html

Email Ethics and Good Practice- A Sample Policy, Lynmar Solutions Limited, Lynmar Computer Solution, www.lynmarsolutions.co.uk

Email Ethics, Prof. Simon Rogerson, Febuary 2000, Centre for Computing and Social Responsibility, De Montfort University, http://www.ccsr.cse.dmu.ac.uk/esources/general/ethicol/Ecv10nol.pdf

Email Etiquette Ethics, Nelly Bava, http://www.citehr.com/40817-email- etiquette-ethics.htmlixzz33ZLFrO8p

Ethical Code of the Bulgarian Media, National Council for Journalistic Ethics, November 2004, http://ethicnet.uta.fi/bulgaria/ethical_code_of_the_bulgarian_ media

Ethical Framework for Web Design, RJM Web Design, http://www. rjmwebdesign.com/web-design-ethics.php.

Ethics Web Design, http://www.dcnicholls.com/code.html

Ethics, E-mail, and the Counselling Profession, By Dan L. Mitchell and Lawrence J. Murphy, Therapy Online, www.therapyonline.ca

Excite Media's Code of Ethics, Web Designers | Graphic Design | Search Engine Marketing Brisbane, http://www.excitemedia.com.au/Code-of-Ethics-pg14844. html

ص: 197

Immediate Media Co. Website Code of Conduct, October 2013, http://www. immediate.co.uk/website-code-of-conduct/

Internet E-mail Code of Conduct Policy, February 2001.

Internet Code of Ethics, Public Library Colchester http://lovemylibrary.ca/ policies/internet-code-of-ethics/

On Codes of Ethics for Web Design, James K. Harris, Georgia Southern University

Professional Ethics for Freelance Web Design Jobs, CV Tips, http://www.cvtips. com/career-success/professional-ethics-for-freelance-web-design-jobs.html

Search Engine Optimization Code of Ethics, Grimnes Associates, of Bruce Clay LLC, http://www.grimnes.com/codeofethics.aspx

Simon Rogerson, Ben Fairweather, Steve McRobb, New Code of Ethics, Febuary 2001, http://www.ccsr.cse.dmu.ac.uk

The Code of Ethics of the Albanian Media Association of Professional Journalists of Albania, 2006.. http://ethicnet.uta.fi/country/albania

The Ethics of Email Amongst Colleagues: A Manifesto, March 24, 2012 by Mike Langlois, LICSW 12 Comments

The Polish Journalists' Association (SDP), Media Ethics Charter. Wes Morgan, Network Computing Policy, http://ethicnet.uta.fi/poland/media_ethics_charter.

The Power of Email, The Art of Successful Efficient Office Communication.

The Site Code of Ethics, Society for Incentive Travel Excellence, http://www. siteglobal.com/p/cm/ld/fid=25

The Visualscope LLC Code of Ethics.

The Website Ethics Code of Ethics, www.websiteethics.org/coe.shtml

Using a Code of Ethics, Texas AM University NSPE's Board of Ethical Review Cases, Michael Pritchard's Applied Ethics Cases University of Waterloo American Anthropological Association St. Louis University Santa Clara University The Funeral Ethics Association Online Ethics Center.

ص: 198

المحور الثاني

التراث النقلي

« وهو التراث المعتمد على القرآن والعترة »

ص: 199

البعد القرآني للسلوك الأخلاقي عند أئمة أهل البيت علیهم السّلام الإمام الحسن (أنموذجاً)

د. حسين حمزة شهيد(1)

مقدمة

يُعد مبحث الأخلاق من المباحث المهمة التي اهتم بدراستها المفكرون من علماء وفلاسفة، لما يترتب على الفعل أو السلوك الخلقي من آثار خيرة وشريرة في حياة الفرد والمجتمع، فانحراف الإنسان عن سلوكه الصحيح يفقده وظيفته بوصفه خليفة الله الأرض، تلك الوظيفة التي تحتم عليه الحفاظ عليها من خلال الالتزام بالعبادة والسلوك الأخلاقي الحميد، وهو أمرٌ يؤذن بخطورة واضحة تُهدد المجتمع الإنساني.

ومن هنا حاول الباحث في هذه الدراسة أن يُبين الأخلاق عند الإمام الثاني من أئمة الهدى وهو الإمام الحسن المجتبى علیه السّلام) ، والكشف عن الأصل القرآني لها، كونه الإمام الوحيد من بين الأئمة الذي ما زلنا نحن كباحثين مقصرين بأقلامنا في حقه، ويحاول دراسة هذا المبحث دراسة معاصرة بإضفاء مصطلحات أخلاقية معاصرة، كالأخلاق النظرية والعملية، والكشف عن مدلولاتها عند الإمام الحسن علیه السّلام.

ص: 200


1- أستاذ الفلسفة الإسلامية في جامعة الكوفة، كلية الآداب قسم الفلسفة ، ارجع " الباحث " الاهتمام بالمبحث الأخلاقي، لما يترتب على الفعل أو السلوك الخلقي من آثار خيرة وشريرة في حياة الفرد والمجتمع، فانحراف الإنسان عن سلوكه الصحيح يفقده وظيفته بوصفه خليفة الله في الأرض، تلك الوظيفة التي تحتم عليه الحفاظ عليها من خلال الالتزام بالعبادة والسلوك الأخلاقي الحميد، وقد حاول في بحثه، أن يُبين الأخلاق عند الإمام الثاني من أئمة الهدى وهو الإمام (الحسن المجتبى علیه السّلام) ، لهذا قسم بحثة إلى الأخلاق في القرآن الكريم ، و الأخلاق عند الإمام الحسن علیه السّلام وخاتمة المحرر

هذا الجانب من شخصية الإمام السبط علیه السّلام له حين نتناوله بالدراسة لم نكن لنقصد بحال أن ألائمة الهداة عليهم السلام يتباينون في هذا الجانب أو سواه من عناصر الشخصية الإسلامية المثلى، فهم سواء في ذلك، وحين نسلط الضوء على الجانب الأخلاقي من شخصية الإمام الحسن الله علیه السّلام فإنما نعني بذلك عرض نماذج من أخلاقه وأسلوب تعامله مع الناس وتماشياً مع خطتنا هذه نذكر طرفا من أخلاقه المثلى، لكي تكون مثلا يُحتذى ومنهجا يُقتدى.

وقد انقسم البحث على مبحثين وخاتمة، تناول الباحث في المبحث الأول تحديد القرآن الكريم للسلوك الأخلاقي من خلال أشارته لعدد من القيم والفضائل الأخلاقية.

أما المبحث الثاني فقد بينتُ فيه الأخلاق عند الإمام الحسن علیه السّلام من خلال تحديده لعدد من المفاهيم والفضائل الأخلاقية وسلوكه الأخلاقي مع المجتمع ، والذي جمع فيه بين الجانبين النظري والعملي، وكانت مصداقاً للمفاهيم الأخلاقية التي دعا إليها القرآن الكريم.

أما الخاتمة فقد تضمنت أهم النتائج التي توصل إليها الباحث.

المبحث الأول: الأخلاق في القرآن الكريم

يرمي الباحث في هذا المطلب إلى ذكر بعض القواعد والتعاليم الأخلاقية التي دعا إليها القرآن الكريم، بوصفهما الرافد أو المنبع الذي استقى منه أئمة أهل البيت علیهم السّلام سلوكهم الأخلاقي، وتمثلت تعاليم الإسلام في القرآن الكريم والسنة النبوية، وأخذ العرب يتدبرون هذه التعاليم وما اشتملت عليه من آداب وتشريع، فاتسعت مداركهم وتفتحت عقولهم على آفاق جديدة من العلم والمعرفة(1).

والإسلام في حقيقته عقيدة وشريعة وعبادات وأخلاق، وهذا يعني أن الأخلاق الإسلامية نابعة من الدين وهي جزء منه، وهي الثمرة الحقيقية للعقيدة والعبادة،

ص: 201


1- يُنظر : زقزوق، د. محمود حمدين، مقدمة في علم الأخلاق، ط3، دار القلم ، بيروت، 1983، ص 56

والتدين الحقيقي يورث الأخلاق القويمة السديدة ، ولا دين بلا خلق(1). وقد تجسد هذا المعنى في قول الرسول صلّی الله علیه و آله (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) (2)، فالغاية الأسمى للدين قد حصرها الرسول صلّی الله علیه و آله واقصرها على الأخلاق الصالحة الحميدة.

والقرآن الكريم أراد مجابهة حياة الفرد وتنظيمها على وفق ما يخدم الفرد والمجتمع معاً فقدم للإنسانية صورة النشاط الفردي الذي ينبغي أن يسير عليه ويحقق متطلباته الأساسية بحكمة واعتدال في حال توازن تام بين رغبات النفس ورغبات الجسد انطلاقاً الحاجة الطبيعية لكل منها ، وعدم إهمال أحدهما من أجل الآخر(3).

وفي مجال علم الأخلاق يعالج القرآن الكريم المشكلات التي يعالجها الفلاسفة عادةً، وهي ما في الأخلاق من واجب أو إلزام ومشكلة الخير والشر، والفضائل والرذائل، وحرية الإنسان، ويحاول الباحث أن يقف على بعض التعاليم الأخلاقية التي دعا إليها القرآن الكريم التي كان مصداقها العملي هم أئمة أهل البيت علیهم السّلام .

الفضائل والرذائل:

أول المسائل الأخلاقية التي دعا إليها الباري (عز وجل) في كتابه المجيد هو الالتزام بالفضائل والابتعاد عن الرذائل ، جاعلاً سعادة الدنيا والآخرة جزاء من التزم

بالفضائل، والشقاء والعذاب في الدارين جزاء من لم يلتزم بها، يقول تعالى ((إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) (4)، وقوله تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (5).

كما أشار الله تعالى إلى العمل الصالح ودوره في فلاح الإنسان، ((وَالْعَصْرِ، إِنَّ

ص: 202


1- يُنظر : الشرقاوي، د. محمد عبد الله الفكر الأخلاقي، دار الجيل، بيروت، القاهرة، 1990، ص111
2- رواه مالك
3- موسی، محمد یوسف، القرآن والفلسفة، القاهرة 1958، ص 22
4- سورة النحل، اية 90
5- النحل ، 97

الإنسان لَفِي خُسْرِ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (1).

كما أشار القرآن إلى الفعل الخلقي ومدى علاقته بالخير أو الشر، قوله تعالى(إنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً، إذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلا الْمُصَلِّينَ) (2).

ونجد القرآن الكريم يتحدث عن طبائع الإنسان الأخلاقية، ومنها قوله تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَب وَالْفِضَّة وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ(3).

2) الأخلاق والنفس الإنسانية:

الإسلام كسائر رسالات السماء يعتمد في إصلاحه أخلاق الفرد على تهذيب النفس الإنسانية قبل كل شيء، لان النفس هي بمثابة الجوهر الروحي من الإنسان بخلاف الجسد المادي الفاني، والذي هو بمثابة أداة للتعبير عن السلوك الإنساني، فكل ما للإنسان من أدراك بأقسامه من بصر وشم وسمع وذوق ولمس، هو أدراك خاص بالجوهر الروحاني أو النفس(4).

من هنا جاء اهتمام المفكرين من علماء وفلاسفة بهذا العنصر من الإنسان، وقد سبقهم في ذلك القرآن الكريم من خلال تمييزه بين الفضائل والرذائل التي تكتسبها النفس الإنسانية.

وحسبنا هنا أن نبين صفات السلوك الإنساني السوي كما رسمها القرآن الكريم، التي منها :

الاعتدال أو عدم الإفراط والمغالاة في الأفعال والانفعالات، قوله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقكَ وَلا تَبْسُطها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) (5).

حُسن الخلق، وهو التسامي في السلوك الإنساني، فلا تنحدر النفس في سلوكها

ص: 203


1- العصر ، آية 1-3
2- المعارج ، 19-21
3- آل عمران 14
4- يُنظر : العقاد / عباس محمود الإنسان في القرآن الكريم / دار الكتاب اللبناني، بيروت 1986، ج 3، ص 270
5- الاسراء 29

حين يكون عنوانها حسن الخلق وحين تكون صفاتها الدماثة واللين والعطف قوله تعالى (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (1).

التواضع، وهي الصفة التي تشير إلى اعتراف الإنسان بضعفه أمام خالقه، قوله تعالى (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خَاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً) (2).

الصدق، قوله تعالى (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) (3) .

الأمانة، قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَميعاً بصيراً) (4).

الحلم والرفق، وهما من صفات الإحسان والخير (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ) (5) وقوله (الَّذِينَ يُنفِقُونَ في السرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (6).

المحبة، وفي مقدمتها حب الله تعالى إذ يعدُّ أقدس وأنبل معاني الحب، ولهذا الحب مظاهر كثيرة ، منها الإحسان والصبر والتوكل والتطهر وغيرها، وهذا ما تضمنته مجموعة من الآيات، قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (7)، وقوله (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسطينَ) (8) ، وقوله ( الله يحب المتطهرين) (9).

ص: 204


1- القلم آية 4
2- الفرقان، 63
3- التوبة، 119
4- النساء، 58
5- الأعراف، 199
6- آل عمران، 134
7- المائدة ، 13
8- المائدة،42
9- آل عمران 159

الجود والكرم، وهي متضمنة في معاني الإنفاق، قوله تعالى (وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) (1) وقوله (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ ) (2) .

الأمانة، قوله تعالى (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاس أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعمَّا يَعِظُكُمْ به إنَّ اللهَ كانَ سَمِيعاً بصيراً) (3).

كما حدد القرآن الكريم مجموعة من الخصال السلبية للنفس البشرية، منها:

الضعف، بمعنى أن الإنسان خُلق ضعيف في تكوينه المادي وهو من اضعف المخلوقات، قوله تعالى (يُرِيدُ اللهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً) (4).

العَجلة، قوله (خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُون) (5).

الكُفر، وهو من أرذل الصفات واشرها قوله (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةٌ كَانَتْ آمَنَةٌ مُطْمَئِئَةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْف بما كانُوا يَصْنَعُونَ) (6).

البخل، قوله (وَأَنْفَقُوا خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسه فأولئكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (7).

الطغيان، قوله تعالى (كَلاً إِنَّ الإنسان لَيَطغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنِي، إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرّجْعی) (8).

ص: 205


1- البقرة، 272
2- آل عمران، 93
3- النساء، 58
4- النساء، 28
5- الأنبياء، 37
6- النحل ، 112
7- التغابن ، 16
8- العلق ، 86

الهلع، أو الجزع في النفس، (إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً، وَإِذا مَسَّهُ الخَيْرُ مَنُوعاً، إلا المُصَلِّينَ) (1).

النميمة والحقد، (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْناً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ تَوَّابٌ رَحيمٌ) (2).

النفاق والرياء، ( بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً) (3).

وهنا لا بد من الإشارة إلى أن الأخلاق الإسلامية أصيلة في مصدرها، لان مصدرها الوحيد هو القرآن والسنة الطاهرة ، ولا يجوز أن يقال بحال من الأحوال أن للأخلاق الإسلامية مصدراً آخر أو مصادر أخرى مثل الفلسفات الشرقية القديمة أو الفلسفة اليونانية، وإذا جاز لنا قبول تأثير هذه الفلسفات على الفلسفة الإسلامية أو غيرها من مناحي الفكر الإسلامي، فلا يجوز لنا قبول ذلك على الأخلاق الإسلامية، ذلك لأن هذه الأخلاق ولدت كاملة في القرآن وطُبقت كاملة في سنة الرسول صلّى الله عليه وآله تطبيقاً نموذجياً كاملاً، ومن بعده طبقها أهل البيت علیهم السّلام، علی ما يتضح في سياق حديثنا عن أخلاق الإمام الحسن علیه السّلام.

المبحث الثاني - الأخلاق عند الإمام الحسن علیه السّلام

إن من أقوى العلل في ظهور الشرائع السماوية وبقاء سلطانها الروحي عنايتها بالأخلاق، واهتمامها بتهذيب النفوس وتهذيبها بالنزعات الخيرة.

وقد اهتم النبي محمد صلّی الله علیه و آله بها اهتماماً بالغاً واعتبرها من ابرز الأسباب التي بعث من اجلها بقوله (أنما بُعثت لأُتمم مكارم الأخلاق)، وقد استطاع بمكارم أخلاقه أن يوقظ البشر من سباته ويؤسس معالم الحضارة في العالم الإسلامي، ويغير مجرى

ص: 206


1- المعارج ، 19-22
2- الحجرات، 12
3- النساء،138

التاريخ، فقد ألف ما بين القلوب ووحد المشاعر والعواطف وجمع الناس على صعيد المحبة والإخاء(1).

وهذه الأخلاق الرفيعة قد تمثلت من بعد النبي عند وصيه أمير المؤمنين على بن أبي طالب علیه السّلام، ومن بعده عند سبطه الإمام الحسن المجتبى علیه السّلام ، بحكم ميراثه من جده العظيم وأبيه سيد البلغاء(2) .

ويحاول الباحث أن يدرس مبحث الأخلاق عند الإمام الحسن علیه السّلام الدراسة معاصرة من خلال الكشف عن ما يسمى عند فلاسفة وعلماء الأخلاق (بالأخلاق النظرية) و (الأخلاق العملية)، ومن ثم لا بد من الكشف عن معاني هذين المصطلحين عند ذوي الاختصاص قبل ذكر مضامينها في فكر الإمام الحسن علیه السّلام.

أولاً الأخلاق النظرية:

إنّ كلمة الأخلاق لها مفهوم واسع، وآخر ضيّق؛ فهي في مفهومها الضيق تعني الصدق والوفاء، والإصلاح بين الناس، وعدم الغيبة والتهمة والنميمة، وتجنّب سائر الصفات الرذيلة، بينما تعني في مفهومها الواسع الخلفيات الروحية للأخلاق الفاضلة؛ فالصدق - مثلاً - نابع من الاستقامة في النفس والإصلاح ناتج عن رؤية صافية إلى الحياة، والوفاء منبثق من شجاعة نفسية لدى الإنسان.. أما الكذب والنميمة والتهمة والغيبة، فانّ هذه الصفات السلبية نابعة من انحرافات نفسية، وتشوّش واضطراب في الرؤية، وفقدان البصيرة في الحياة (3).

وعلى هذا وطبقاً للمفهوم الضيق تأتي مرتبة الأخلاق بعد كثير من الواجبات، على عكس المفهوم الواسع الذي يعتبر الأخلاق قاعدة لسائر الفضائل، بل منطلقاً حتى للإيمان بالله سبحانه وتعالى سلوك الإنسان نتاج تربيته(4).

ص: 207


1- يُنظر : الشرقاوي، د. محمد عبد الله، الفكر الأخلاقي، دار الجيل بيروت، 1978 ، ص 112
2- القرشي، الشيخ باقر شريف، حياة الأمام الحسن، ج1، ص290
3- المصدر نفسه، ص 293
4- المدرسي السيد محمد تقي الأخلاق عنوان الأيمان ومنطلق العمل، ص 10

والأخلاق قسمان: الأول نظري أو ما يُعرف بالبعد النظري للأخلاق، والآخر البُعد العملي أو ما يُعرف بالأخلاق العملية، فالأول هو الأخلاق النظرية التي تدرس الضمير والخير والشر والحرية والإرادة والفضيلة وماهيتها وأنواعها، والحق والواجب والنية والقصد والاختيار والمعايير والقيم والبواعث (1).

أما الأخلاق العملية فتبين وتدرس الواجبات المختلفة، واجب الإنسان نحو نفسه، وخالقه، ونحو عائلته ونحو الوطن ، والدولة والإنسانية، وبعبارة أخرى تعرض الأخلاق العملية لمباحث الأخلاق النظرية بالتطبيق على ظروف الحياة المختلفة لتقول فيها كلمتها ببيان ما يتفق مع الخير والشر والحق والفضيلة والواجب (2).

والعلاقة بين الأخلاق النظرية والأخلاق العملية ليست علاقة تنافي وتعارض، بل هي علاقة تداخل وتفاعل وإلا لكان فيلسوف الأخلاق شريراً بالضرورة و لكان كل إنسان فاضل دمث الأخلاق، غبياً أو على الأقل عديم التأمل والتبصّر والنظر، إنما هي تقسيمات أكاديمية يراد بها التحليل والتبسيط تجنباً للتعقيد الذي تتصف به الظاهرة الخلقية وتسهيلاً للبحث والدراسة (3) .

وبرأي الباحث فإن الأخلاق بشقيها النظري والعملي قد تجسدا في فكر الإمام الحسن المجتبى علیه السّلام، ويمكن لنا تلمس هذا الجانب النظري عند الإمام الحسن علیه السّلام من خلال تحديده وتعريفه لمصطلحات عدة يمكن تسميتها بلغة العصر (مكارم الأخلاق) في إجابته على أسئلة أبيه المرتضى علیه السّلام نختار منها ما يلي (4):

* السداد: دفع المنكر بالمعروف

* الشرف: اصطناع العشيرة وحمل الجريرة ( موافقة (الإخوان)

ص: 208


1- مغنية ، محمد جواد، فلسفة الأخلاق في الإسلام، دار العلم ، بيروت، 1977، ص 12-54
2- ينظر: مرحبا، د. محمد عبد الرحمن المرجع في تاريخ الأخلاق، جرس برس، ط1، طرابلس، 1988، ص14-15
3- ينظر: مرحبا، محمد عبد الرحمن، من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات، ط ،3 ، بیروت، 1983، ص 125
4- الشيرازي حسن كلمة الإمام الحسن، ص 63

* المروءة : العفاف وإصلاح المرء ماله إصلاح الرجل أمر دينه، وحسن قيامه على ماله، وإفشاء السلام والتحبّب إلى الناس)

* السماحة البذل فى العسر واليسر

* الإخاء : الوفاء في الشدّة والرخاء

* الغنيمة : الرغبة في التقوى والزهادة في الدنيا

* الحلم : كظم الغيظ وملك النفس

* الغني: رضى النفس بما قسم الله وإن قلّ، فإنّما الغنى غنى النفس

* المنعة : شدّة البأس ومقارعة أشد الناس

* الصمت: ستر العيب وزين ،العرض وفاعله في راحة، وجليسه آمن

* المجد : أن تعطي في الغرم، وأن تعفو عن الجرم

* العقل : حفظ القلب كلّ ما استرعيته (استوعيته) أو حفظ القلب لكلّ ما استتر فيه

* الثناء: إتيان الجميل وترك القبيح

* الحزم : طول الأناة والرفق بالولاة والاحتراس من الناس بسوء الناس

* الكرم: العطيّة قبل السؤال والتبرع بالمعروف والإطعام في المحلّ

* النجدة : الذبّ عن الجار والمحاماة في الكريهة والصبر عند الشدائد

وأجاب الإمام علیه السّلام بكل استرسال وعدم تكلّف على مجموعة أخرى من أسئلة أبيه فيما يخصّ (مساوئ الأخلاق) ونختار منها ما يأتي:

* الدنيئة : النظر في اليسير ومنع الحقير

ص: 209

* اللؤم : احتراز المرء نفسه (ماله) وبذله عرسه (عرضه)

* الشحّ: أن ترى ما في يديك شرفاً وما أنفقته تلفاً

* الجبن : الجرأة على الصديق والنكول عن العدوّ

* الفقر: شره النفس في كلّ شيء

* الجرأة: موافقة الأقران

* الكلفة : كلامك فيما لا يعنيك

* الخُرْق : معاداتك إمامك ورفعك عليه كلامك

* السفه : إتباع الدناة ومصاحبة الغواة

* الغفلة : تركك المسجد وطاعتك المُفسِد

* الحرمان : تركك حظّك وقد عرض عليك

* شرّ الناس من لا يعيش في عيشه أحد

وتحدّث الإمام علیه السّلام عن أصول الجرائم الأخلاقية وأمهات الرذائل قائلاً: هلاك الناس في ثلاث : الكبر ، الحرص، الحسد

* الكبر : به هلاك الدين وبه لُعِن إبليس

* الحرص: عدو النفس وبه أُخرج آدم من الجنّة

* الحسد: رائد السوء و به قتل هابیل قابیل

كما نجد الإمام علیه السّلام يُحدد أربعة مستويات من الناس على وفق مستواهم الخلقي، يقول (( إن الناس أربعة ، فمنهم من له خِلاق وليس له خُلق، ومنهم من له خُلق وليس له خِلاق، ومنهم من ليسه له خُلق وخِلاق، فذاك اشر ،الناس ومنهم من له خُلق وخِلاق، فذاك أفضل الناس)) (1).

ص: 210


1- المصدر نفسه، ص 65

بمعنى انه لا يكفي أن يكون للإنسان طرف ويتمسك به، ويفقد الطرف الآخر العملي، بل لا بد من توافر الطرفين معاً حتى يكتمل السلوك الأخلاقي قولاً وفعلاً.

ويقول مخاطباً أهل الكوفة ((إن الحكم زينة والوفاء مروءة والعجلة سفه، والغرور ضعف، ومجالسة أهل الدناءة شين ومخالفة أهل الفسوق ريبة)) (1) . وروي عنه انه قال ((مكارم الأخلاق عشر: صدق اللسان وصدق البأس، وإعطاء السائل، وحسن الخلق، والمكافأة بالصنائع، وصلة الرحم، والترحم على الجار، ومعرفة الحق للصاحب، وقري الضيف، ورأسهن الحياء)) (2).

كُل ذلك يوحي لنا أن الإمام الحسن علیه السّلام كان يهتم بتحديد المصطلحات الأخلاقية تحديداً دقيقاً، وهذا ما نعني بمصطلح اليوم (الأخلاق النظرية)، كما انه يقسم الناس إلى طبقات حسب سلوكهم الأخلاقي، وهو أمرٌ ينم عن أدراك الإمام الحسن علیه السّلام أهمية وخطورة الفعل الخلقي وما يترتب عليه من آثار خيرة أو شريرة ومستويات حسب فعله الأخلاقي.

الأخلاق العملية:

كان الإمام الحسن علیه السّلام آيةٌ في الخُلق الإنساني والرفعة وحسن الأخلاق، ما رآه احد إلا هابه، ولا خالطه إنسان إلا أحبه، ولا سمعه صديق أو عدو يتحدث أو يخطب إلا أحب أن يصغي إليه حتى ينهي حديثه(3). قال محمد بن إسحاق ((ما بلغ احد من الشرف بعد رسول الله صلّی الله علیه و آله ما بلغ الحسن بن علي، كان يبسط له على باب داره، فإذا خرج وجلس انقطع الطريق، فما يمر احد ... فإذا علم قام ودخل بيته فيمر الناس، لقد أعطاه الله وقاراً خاصاً وهيبة نبوية)).

وقال الزركلي من المؤرخين واصفاً الإمام الحسن علیه السّلام ((كان عاقلاً حليماً محباً للخير ، فصيحاً من أحسن الناس منطقاً وبديهةً، وكان معاوية يوصي أصحابه باجتناب

ص: 211


1- المصدر نفسه، ص 67
2- يُنظر: دخيل، علي محمد علي، أدعية الإمام الحسن، دار المرتضى، ط1، بيروت، 2000،ص59
3- الحاج حسين، حسين إبراهيم، الإمام الحسن رائد الواقعية السياسية، دار الهادي، 2007، ص 40

محاورة رجلين هما الحسن بن علي وعبد الله بن عباس، لقوة بداهتمها)) (1). ومصداق أخلاق الأمام علیه السّلام العملية كثيرة يُحدثنا بها من أرخ له، كان من بينها انه كان يغضي عمن أساء إليه، ويقابله بالإحسان، فقد كانت عنده شاة فوجدها يوماً قد كسرت رجلها فقال لغلامه من فعل هذا بها ؟ قال الغلام أنا، قال الأمام علیه السّلام: ولما ؟ قال: لأجلب لك الهم والغم، فتبسم الإمام علیه السّلام وقال له : لأسرك، فاعتقه وأجزل له العطاء(2).

ومن عظيم أخلاقه علیه السّلام لانه كان جالساً في مكان فأراد الانصراف منه، فجاء فقير فرحب به ولاطفه وقال له: إني جلست على حين قيام منا، أفتأذن لي بالانصراف؟ فقال له : نعم يا ابن رسول الله صلّی الله علیه و آله(3).

وهنا إشارة من قبل الإمام علیه السّلام إلى أن حق الجليس من الآداب الاجتماعية التي توجب المحبة والألفة، وتوجد التعاون والترابط بين الناس، فلذا أمر الإسلام بها وحضِّ عليها .

وقد روي انه في يوم من الأيام امتاز جماعة من الفقراء قد وضعوا على وجه الأرض كسيرات من الخبز كانوا قد التقطوها من الطريق وهم يأكلون منها، فدعوه إلى مشاركتهم، فأجابهم إلى ذلك وهو يقول: إن الله لا يُحب المتكبرين، ولما فرغ من تناول الطعام معهم، دعاهم إلى ضيافته فأطعمهم وكساهم(4).

تلك هي بعض شمائل الإمام علیه السّلام و بعض مواقفه السخية مع أبناء الأمة التي كان لها أبعد الأثر في تجسيد الخلق الإسلامي الرفيع.

وقد ذكر ابن عائشة أن رجلاً من أهل الشام قال: دخلت المدينة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام فرأيتُ رجلاً راكباً على بغلة لم أرَ أحسن منه وجهاً ولا سمتاً ولا ثوباً، ولا دابة منه فمال القلب إليه، فسألت عنه، فقيل هذا الحسن بن علي بن

ص: 212


1- الزركلي (خير الدين) ، ج 1 ، الإعلام، دار العلم للملايين، بلا0ت، ص 230
2- الخوارزمي مقتل الحسين ، ج 1، ص 147
3- القرشي، الشيخ باقر شريف، حياة الأمام الحسن ، ص292
4- أعيان الشيعة، ج4، ق1، ص24

أبي طالب علیه السّلام، فامتلأ قلبي له بغضاً وحسدت علياً أن يكون له ابن مثله، فصرت إليه وقلت له: أأنت ابن علي ؟ فقال : أنا ابنه فقلت: فعل بك وبابنيك اسبهما . فلما انقضى كلامي قال لي : أحسبك غريباً ؟ قلت: أجل، قال: مل بنا، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مال آسيناك، أو إلى حاجة عاونّاك، قال: فانصرفت عنه ما على الأرض أحب إلي منه وما فرت فيما صنع وصنعت معه إلا شكرته وخزيت نفسي (1).

وقد شهد له أعداؤه بذلك، إذ لما استشهد الإمام الحسن علیه السّۀام، بکی علیه مروان في جنازته، فقال الحسين علیه السّلام: أتبكيه وقد كنت تجرعه ما تجرعه، فقال: إني كنت أفعل ذلك إلى أحلم من هذا، وأشار بيده إلى الجبل (2).

هكذا شب الحسن ونهل العلم من بيت النبوة والرسالة وكذلك الأدب والخُلق هو وأخوه الحسين علیه السّلام، ولقد أثمرت هذه التربية في بيت علي وفاطمة وفي حجر الرسول صلّی الله علیه و آله هذا النمط الغرير من الخُلق الرفيع الذي لا مثيل له، فضلاً أنه كان مثالاً للإنسانية الكريمة ورمزاً للخلق العظيم، لا يثيره الغضب ولا يزعجه المكروه وكان مصداقاً لقوله تعالى((ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم))، وقد قابل جميع ما لقيه من سوء وأذى ومكروه من الحاقدين عليه بالصبر والصفح الجميل(3).

الخاتمة

اتضح لنا من خلال البحث كيف أن الأئمة علیهم السّلام كانوا مثالاً للأخلاق السامية، وأنهم امتداد لجدهم الرسول صلّی الله علیه و آله، وقد جسد الإمام الحسن المجتبى علیه السّلام هذه المُثل والأخلاق على مستوياتها النظرية والعملية الواقعية، وكانت أخلاقه نموذجاً للأخلاق التي دعا إليها القرآن الكريم من فضائل، وطاعات، وخُلق حسن، ومحبة، وحلم، وجود وكرم.

ص: 213


1- ابن خلكان (أبو العباس شمس الدين أحمد)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: محمد محى الدين عبد الحميد ، ج2، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1949 ، ص 68
2- العسقلاني، ابن حجر، تهذيب التهذيب، ج 2، ص 298
3- الموسوي، محمد، السياسة الملتزمة في نهج الإمام الحسن، ط1، دار المحجة البيضاء، لبنان، 1999، ص16

أما على المستوى النظري فيتمثل في تحديد الإمام لعدد من المصطلحات الأخلاقية سواء التي تعرف (بمكارم الأخلاق) ، أو ما تعرف(بمساوئ الأخلاق)، وهو أمرٌ يوحي بأن الإمام قد سبق الفلاسفة وعلماء الأخلاق في بحثهم هذه الموضوعات.

وقد جسد الإمام علیه السّلام هذه المعاني الأخلاقية على مستوى الواقع الإنساني بمستوياته المتعددة، وهو ما يُعرف بالأخلاق العملية، إذ عرف عنه تواضعه وزهده وتقبله للأخر، وهذه كلها من سمات السلوك الإنساني الرفيع.

مصادر البحث

القرآن الكريم

ابن خلكان (أبو العباس شمس الدين أحمد)، وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان،تحقيق: محمد محي الدين عبد الحميد ، ج2، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1949.

إمام، د. عبد الفتاح إمام، فلسفة الأخلاق، ، دار الثقافة للنشر والتوزيع، 1990.

الحاج حسين، حسين إبراهيم، الإمام الحسن رائد الواقعية السياسية، دار الهادي، 2007.

الخوارزمي، مقتل الحسين ، ج 1.

دخيل، علي محمد علي، أدعية الإمام الحسن دار المرتضى، ط1، بيروت، 2000.

الزركلي (خير الدين) ، ج 1 ، الإعلام، دار العلم للملايين، بلا0ت.

زقزوق، د. محمود حمدین، مقدمة في علم الأخلاق، ط3، دار القلم، بيروت، 1983.

الشرقاوي، د. محمد عبد الله، الفكر الأخلاقي، دار الجيل، بيروت، القاهرة، 1990.

العقاد، عباس محمود/ الإنسان في القرآن الكريم، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1986.

القرشي، الشيخ باقر شريف، حياة الإمام الحسن ، ج 1.

المدرسي، السيد محمد تقي الأخلاق عنوان الأيمان ومنطلق العمل.

مرحبا، د. محمد عبد الرحمن المرجع في تاريخ الأخلاق ، جرس برس، ط1،طرابلس،1988.

مغنية ، محمد جواد، فلسفة الأخلاق في الإسلام، دار العلم، بيروت، 1977.

مغنية ،محمد جواد، فلسفة الأخلاق في الإسلام، دار العلم،بيروت،1977.

من الفلسفة اليونانية إلى الفلسفة الإسلامية، منشورات عويدات، ط3، بيروت، 1983.

الموسوي، محمد، السياسة الملتزمة في نهج الإمام الحسن، ط1، دار المحجة البيضاء، لبنان ، 1999.

موسی، محمد يوسف القرآن والفلسفة، القاهرة، 1958 .

ص: 214

قرآنية القيم الأخلاقية في وصايا أئمة أهل البيت المعصومين علیهم السّلام

قراءة في رسالة الحقوق للإمام السجاد علیه السّلام أنموذجا

د. وسام حسين جاسم العبيدي (1)

من بين أبرز القضايا التي شكّلت مثار جدلٍ ونقاشٍ في عصرنا الراهن، هي قضية التعايش السلمي، وتفترض هذه القضية أهميتها عبر ما نلمسه من وجود صراعات إثنية وعرقية وقومية ومذهبيّة و... الخ من صراعات تقوم على أساس مبدأ تفضيل هوية على أخرى، ولعلّ هذه المشكلة أخذت بُعدها السياسي المؤثر في المنطقة العربية بخاصة حين زُرع الكيان الصهيوني القائم على استقطاب كل شخص يحمل انتماءً دينيًا معروفًا مهاجرًا من دولته التي ترعرع فيها ونشأت عشيرته في حماها لاجئًا إلى هذه الدولة ليكون مواطنًا ينتمي إليها، وهنا يجدر بنا أن نعي أهمية مبدأ التعايش السلمي لا كما قنّنه الفكر الغربي بوصفه مُصدّرًا للأفكار الجديدة إلى دول العالم الأخرى، وقد لا نختلف على أهمية الفكر الغربي في بلورة مثل هذه الأفكار، إلا أنّنا لا بُدّ لنا من الرجوع إلى الحاضنة الإسلامية التي أسهمت بفضل رجالاتها الأوائل بدءًا بالرسول الأكرمه صلّی الله علیه و آله وانتهاءً بآل بيته الطيبين الطاهرين علیهم السّلام فهم تراجمة وحي الذين اؤتمنوا على كتاب الله الكريم، فكانوا بحق أفضل من فهم النصّ القرآني الإلهي وحمله إلى الناس فهماً وتطبيقاً، وفي هذه الحالة سيكون لنا وعيٌ جديد لفهم

ص: 215


1- أستاذ في كلية الإمام الكاظم (ع) ، يؤكد الباحث على أحد المفاهيم الأخلاقية العملية أنها مفهوم التعايش ويرجع تناوله إلى هذا المفهوم لما تركه من جدلٍ ونقاشٍ في عصرنا الراهن؛ وقد وجد اغلب المرجعيات تحيله إلى أصول غربية إلا انه يحاول تأصيل المفهوم في القرآن الكريم والتراث الإسلامي عامة والإمامي خاصة ولعل هذا ما تجلى في عنوان البحث بوضوح ، وقد اكد على تميز هذا التراث عن الغرب بحضور الغيب إذ يأخذ البعد الأخروي جانبًا كبيرًا من تحفيز المؤمن على أدائه حقوق عبادته مثلما أراد لها المشرِّع الحكيم. المحرر

المبادئ الحياتية التي يحتاجها الناس وبحسب مفهومها يتقرر عليهم كيفية العيش فيما بينهم.

إنّ الرجوع إلى تراث أهل البيت علیهم السّلام وبالتحديد رسالة الحقوق للإمام زين العابدين علي بن الحسين علیه السّلام سيكون لنا مرجعًا أساسًا في ترسيم العلاقات الاجتماعية بين الناس فيما بينهم من جهة، وبينهم وبين الخالق سبحانه من جهة ثانية، وهذا ما سيمنح البحث دفعةً للأمام؛ ذلك لأن الخوض في مدوّنة إسلامية تنتمي إلى القرن الأول الهجري، من شأنِها أنْ تعزّز الصورة المشرقة للدين الإسلامي بوصفه دينًا عالميًا منفتحا على جميع الديانات الأخرى، وليس مقتصرًا بأحكامه على معتنقيه فحسب، بل يشمل الجميع بنظرته التسامحية المعبّرة عن رحمة الله المطلقة لعباده من بني البشر .

وليكن قبل الولوج في متن (رسالة الحقوق منطلقنا من النصّ القرآني، بوصفه المدرسة الإلهية التي تتلمذ في أروقتها أئمّة أهلِ البيت علیهم السّلام فهم تلاميذ القرآن الذين عملوا على ترسيخ مفاهيمه عمليّاً وطبّقوا أفكاره من حيث لم يكن لها مطبّق، ولو بنظرة عجلى نمرُّ على النصّ القرآني، فنقرأ مثل قوله تعالى : ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)) [الممتحنة: 8] فالآية تدعو بصريح خطابها إلى معاملة الآخرين ممّن ليسوا على دين الإسلام، بالبرّ والإحسان وإنصافهم لهم من الحقوق الإنسانية العامة ما يحفظ كرامتهم بوصفهم بشرًا خلقهم الله مثل ما خلق المؤمنين به.

فكرامة الإنسان هي المِلاك الذي دعانا إليه الخالق العظيم، ولا سبيل إلى حفظ هذه الكرامة إلا عن طريق معرفة الحقّ الذي على المكلّف أنْ يمتثله، وفي المقابل أنْ يتعرّف على حقوق الآخرين فينبغي له في هذا المقام من أدائه كاملاً صحيحًا معبرًّا عن احترامه للآخرين، ومعبّرًا عن شكره نعمة الوجود التي أسبغها الله سبحانه عليه، فلم يجعله جمادًا أو لم يخلقه أساسًا، وهذا الشرط يقرّره الدرس الكلامي فيما يعد مسوّغًا أساسيًّا لمعرفة (واجب الوجود).

ص: 216

وقد أقسم الله العظيم سبحانه في كتابه الكريم أنّ هذا المخلوق الذي جعله خليفةً في أرضه لا يكون سعيدًا رابحًا تلك الفرصة الوجودية في حياته ما لم يكن مؤمنًا، وهذا الشرط الأول، وعطفه على شرطٍ آخر يكمّل الأول ، وهو العمل الصالح الذي يعكس مدى صلاحية الإيمان الذي تغلل في عقله، فقال جل شأنه: ((وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإنسان لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)) [العصر: 1 - 3] فالآية تؤكّد على شرط الربح الأبدي لذلك الإنسان إذا أراد أنْ يكون خليفةً يمثّل إرادة الله ومشيئته النافذة على جميع مخلوقاته، وذلك بالعمل الصالح، والتواصي بالحق، والصبر، فالحقّ والصبر على أدائه مع النفس و مع الآخرين يمثّلان المحكّ الأساس الذي يكشف عبودية الإنسان الخالصة لوجه الخالق العظيم.

ومن هذا التجوال السريع في أفنية تلك المعالم القرآنية الزاخرة بالعِبر والدروس سنُعرّج إلى رياض تلك الحقوق الناضرة بثمار الأخلاق الإنسانية السامية والمعطّرة بأريج تلك النفحات الإلهية الخالدة، فنبدأ بالتدرّج فيها بحسب الآتي:

- عتبة الرسالة: تبدأ رسالة الحقوق للإمام زين العابدين علیه السّلام بقوله: ((اعلم رحمك الله أن لله عليك حقوقا محيطة بك في كل حركة حركتها، أو سكنة سكنتها، أو منزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها أو آلة تصرفت بها بعضها أكبر من بعض وأكبر حقوق الله عليك ما أوجبه لنفسه تبارك وتعالى من حقه الذي هو أصل الحقوق ومنه تفرع، ثم ما أوجبه عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك)) وهي عتبة تمنح المخاطب كثيرًا من الطمأنينة والراحة؛ هذا لأنّها تكفّلت ببيان ماهية الحقوق التي ينبغي على الإنسان من القيام بها، ومعلومٌ أنّ النفس الإنسانية تميل إلى الراحة وتطمئنّ إلى ما لا يدفعها إلى مهاوي الصعوبة، فالحق من جملة الأشياء التي تضع النفس الإنسانية على محكّ الامتثال لما هو مطلوبٌ منها، هو التزامها على الدوام بأداء الحق، ففيه مشقّة على النفس، ولكن هذه المشقّة ليست إلا لرقيّ تلك النفس وصعودها في مدارج الكمال، بوصفها النفس التي أودعها الله سبحانه من روحه في جسد الخليفة المؤهّل لتنفيذ حكم الله في أرضه؛ ولهذا عقّب الإمام علیه السّلام داعيًا

ص: 217

لمن وجّه إليه الخطاب بالعلم ب_ (رحمك الله) فهذه الحقوق التي سيذكرها الإمام علیه السّلام ليست من باب معاقبة الإنسان وتكبيله بهذه القيود المعيقة لحريّته كما يتصوّر بعض المادّيين ممّن أبوا أنْ ينعتقوا من أوهام أفكارهم السطحية المتعلقة ببريق هذه الحياة ولم يفكّروا بما بعد ذلك، بل هي منطلقة من باب الرحمةِ به، ورحمة الله كما يقول عنها في كتابه وسعت كلّ شيء، إلا إذا أبى ذلك المخلوق أنْ يستقبل نفحات تلك الرحمة، ويوصد باب قلبه إزاءها، فلا تسعه حينذاك، وبهذا يكون الإنسان ظالماً لنفسه كما عبرت عن ذلك أكثر من آية كريمة(1) عن ذلك منها قوله تعالى : ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)) (يونس: 44) فللرحمة الإلهية ظروف موضوعية تعمل على إنفاذها إلى قلوب عباده، ولعلّ معرفة الإنسان ما يتوجّب عليه من فعل إزاء نفسه أوّلاً، ومن ثمَّ إزاء الآخرين، بما يُعرف ب_(الحق) يمثّل السبيل الأوحد لتلقّي فيوضات رحمة الله وإلا تكون الرحمة من دون هذا الضابط، خارجةً عن قيد حكمة الله وعدله .

ولو أتينا إلى النفس الإنسانية ونظرنا إلى ما جُبِلت عليه من طباع، كان أوّلها ظهورًا هو حبّ النفس، التي يعبّر عنها علماء الأخلاق ب- القوّة السَّبُعيَّة) ولعله شعورٌ غريزيٌّ ينطلق من مقوّمات عدّة، فليس هناك أحد من لا يحبّ نفسه ويحرص على إشباع رغباتها، ولكن لا بُدّ لهذا الإنسان من ترويض نفسه على وفق ما أمر الله سبحانه من حقوقٍ وواجبات تعمل على توجيهها بحسب المشيئة الإلهية التي اختطها لعباده، فكانت الحقوق ميدانًا لترشيد سلوك النفس الإنسانية، والحقوق جمعٌ المفرد (الحق) و((هو يَدُلُّ عَلَى إِحْكَامِ الشَّيْءِ وَصِحَتِهِ. فَالْحَقُّ نَقِيضُ الْبَاطِلِ، ثُمَّ يَرْجِعُ كُلُّ فَرْعِ إليه بِجَوْدَةِ الاِسْتِخْرَاجِ وَحُسْنِ التَّلْفِيقِ وَيُقَالُ حَقَّ الشَّيْءُ وَجَبَ)) (2). فمعنى الحق هو الإحكام والتثبيت وكل شيءٍ تريد أنْ تثبته يكون واجبًا، فإذا أراد هذا الخطاب أنْ يكون مؤثرًّا في متلقّيه، جعلها في سياق وصفٍ يحمل الآخرين على أخذها مأخذ الجد والاهتمام، وهو وصف تلك الأوامر بالحقوق؛ لتكون منهجًا ثابتا يسير عليه

ص: 218


1- ينظر: البقرة: 57 ، وآل عمران: 117 ، والأعراف: 160 والتوبة 70 ، والنحل: 33 ، و : 118، والعنكبوت: 40، والروم: 9
2- مقاييس اللغة: 16/2

الإنسان فيعرف صلاح عمله من فساده ومن ثمّ يضمن سعادته في الدارين عبر الحفاظ على تنفيذ تلك الحقوق.

وقد أجاد الإمام علیه السّلام في وصف تلك الحقوق بالمحيطة؛ وذلك لشموليتها في تغطية جميع شؤون الفرد المسلِم بها، ولعظمة المدبّر الحكيم الذي أوجدها، وبيان دقيق مشيئته في خلقه الذين لم يخلقهم عبئًا، كما قال جل شأنه: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنما خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ)) [المؤمنون: 115] فكل حركةٍ يقوم بها الإنسان أو سكنة أو مقامِ يصل إليه - على تنوّع تلك المقامات عليه أنْ يعرف حق ذلك المقام أو ذلك الشأن الذي هو فيه، فيؤدّيه، وهذا البيان إنما يكشف قدرة الله على خلقه وأنه كفيلٌ لهم بأن يكونوا سعداء في حياتهم إذا امتثلوا لأداء تلك الحقوق والتزموها مع أنفسهم ومع الآخرين. وهذا أبرز مصاديق الدين الذي فرضه الله على الناس؛ هذا لأن الدين التزام الإنسان بمجموعة من الأوامر والنواهي التي تمثّل كيان الدين وهويّته، وعلى فرض كون مثل هذه الأوامر والنواهي صدرت لغاية رفعة البشر وصلاح شأنهم، فمع الالتزام بها يكون الإنسان مثابًا في الآخرة وسعيدًا في الدنيا بتطبيقها، وبمخالفتها يكون معاقبًا في الآخرة.

وفي مطلع هذه العتبة أراد الإمام علیه السّلام أن يوجِزَ تلك الحقوق بصورةٍ عامة، فأجملها أبلغ إجمال، عبر ذلك التوصيف الرائع الذي راعى فيه التسلسل من حيث الأهمّية وجلالة الشأن، بدءًا بحق الله على الإنسان، ثم حقّ النفس على الإنسان، متجليًّا حقّها بما يؤدّيه الإنسان من أفعالٍ عبر جوارحه التي من خلالها يتم التواصل مع الآخرين في هذه الحياة، ومن ثمّ بعد أداء تلك الحقوق التي تخصّ الإنسان بوصفه المخاطب في هذه الرسالة تنطلق الوصايا الحكيمة لتعريفه بما عليه فعله والالتزام به من حقوق إزاء الآخرين بدءًا بحق الأئمة ومن ثمّ حقوق الرعية، ثم حقوق الوالدين.

ولا يخفى على أيّ مطّلع لهذه الرسالة أنّها تمثّل مدرسةً أخلاقية متكاملة، ينهل منها الدارسون الذين يبتغون تشييد علمٍ للأخلاق، فموضوع علم الأخلاق المرسوم لدى المتشرعة هو الإنسان من حيث اتصافها بصفات مختلفة حسنة أو قبيحة وملكات

ص: 219

كثيرة، مذمومة أو ممدوحة، منها ما هو ذاتية موهوبية : ومنها ما هو عَرَضيٌّ اكتسابيٌّ. أما الغرض منه فيتحقق في تكامل الإنسان وتعاليه وتمامية مكارم أخلاقه ونيله إلى مراتبه التي خلقه الله تعالى لأجل الوصول إليها، وتخلقه بأخلاق الله تعالى وتأدبه بآداب رسله وأوصيائه لكي يتقرب إلى ربه ويسعد في الدنيا والآخرة بقربه لأن يبعثه ربه مقاماً محموداً ويلحقه بالأبرار والمتقين(1).

مضمون الرسالة وهو لبابُها الذي يُشكّل جوهر الرسالة، وقد تقسّمت موضوعاتها الأساسية بين ثلاثة محاور هي:

1 - الحقوق الشخصية والفردية : وهذه الحقوق أخذت الجانب الأوّل من الرسالة ؛ لأنّها ابتدأت ببيان ما على الإنسان فعله مع ربّه من واجبٍ وحقوق تنبغي مراعاتها وعدم التفريط فيها؛ لأهميتها القصوى، ولأثرها فيما بعد ذلك من واجبات تنبني على أوّل تلك الحقوق. وقد انطلقت تلك الحقوق من مبدأ الاستخلاف، وهو مبدأ يُؤسّس على أصالة حرية الإنسان. وكما هو معلوم أنّ حرية الإنسان لا تتحقّق ما لم يعرِف من أين تبدأ مساحة الحرية وإلى أين تنتهي تلك المساحة وبالجهل بتلك القضية يتمّ الاعتداء والتجاوز على حدود الله ومن ثمّ معصيته، فبمعرفة الله يعرف العبد نفسه بامتثاله أوامره وانتهائه عن نواهيه، وهو أمرٌ يتحقق عبره معرفة الإنسان لنفسه، وعليه يكون الإنسان عارفًا ما أودع الله فيه من إمكانات تتجسّد عبر حواسّه التي أنعمها عليه. ومن أبرز تلك المبادئ التي تشكّل هوية الإنسان (الخليفة) من خلال معرفته بالله وعبادته حقّ عبادته هو احترام الذات الإنسانية بوصفها ذاتاً مؤهّلة للخلافة الربانية على الأرض التي خلقها الله وجميع الموجودات لأجل ذلك الإنسان المثال. فقوله تعالى: ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)) [الذاريات: 56] وهذه العبادة إنما تكون نتيجةً وثمرةً لتلك المعرفة التي أشار إليها الإمام علیه السّلام في قوله: ((فأما حق الله الأكبر فأنك تعبده لا تشرك به شيئا، فإذا فعلت ذلك بإخلاص جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والأخرة، ويحفظ لك ما تحب منها)) وقد اشترط الإمام علیه السّلام أنْ تكون

ص: 220


1- دروس في الأخلاق: 7-8

العبادةُ لله خالصةً من دون شريك، فهي العبادةُ الحقّة التي تؤهّل العبد لرقيّ مدارج الكمال؛ ذلك أنّه لا يستحقّ العبادة بمعنى الامتثال المطلق إليه والخضوع لأوامره ومن ثمّ تطبيقها غير الله سبحانه وتعالى بوصفه (واجب الوجود) الذي أنعم على كل الموجودات بنعمة الخلق والإيجاد في عوالم الإمكان، فليس من العدل أنْ يجعل العبد بينه وبين الله شريكاً أو معه شريكاً يخالفه في الأوامر، وهذا هو الظلم العظيم بحق النفس الإنسانية حين تنحرف عن جادّة الصواب، المُشار إليه في قول العبد الصالح لقمان الحكيم في وصيته لابنه فيما قصّه القرآن الكريم على نبيّه صلّی الله علیه و آله بقوله سبحانه: ((وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشَّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)) [لقمان: 13] فحين يُشرِك الإنسان أحدًا بعبادته لله يكون بين إرادتين متناقضتين، فضلاً عن كونه فعلاً منافيًا للحكمة، حين يتّخذ الإنسان مثيلا له بإمكان وجوده، مساويًا للخالق العظيم، وهذا العمل منافٍ للعدل في أبسط مصاديقه، ومنطبقٌ عليه وصف (الظلم العظيم) الذي لا يُغفر للإنسان، وبهذا صرّح الباري جلّ شأنه في محكم كتابه: ((إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ باللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا)) [النساء: 48] وهو المعنى نفسه الذي فصله الرسول الكريم محمد الله بقوله : ((الظُّلْمُ ثَلاثَةٌ: فَظُلْمٌ لا يَغْفِرُهُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَظُلْمٌ يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وَظُلْمٌ لا يَدَعُهُ اللهُ، فَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَالإِشْرَاكُ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي يَغْفِرُهُ اللَّهُ فَذُنُوبُ الْعِبَادِ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَأَمَّا الظُّلْمُ الَّذِي لا يَدَعُهُ اللَّهُ فَظَلْمُ الْعِبَادِ بَعْضَهُمْ بَعْضًا، لا يَدَعُهُ اللَّهُ حَتَّى يُقِصَّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضِ)) (1). وبالإخلاص لله سبحانه في العبادة، يضمن الإمام علیه السّلام للمسلم المؤمن بالله، الفوز بالغنى عن المخلوقين؛ لأنّ الله هو الخالق الذي تعهّد لعباده ولجميع مخلوقاته أنْ يرزقهم فيما لو أدّوا حقّ طاعته وأخلصوا له في العبادة، إذ يقول جل شأنه: ((مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقِ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (*) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) [الذاريات: 57 – 58[ ويتحقّق الأمن الغذائي والوقائي والاقتصادي بمعرفة الإنسان حدود الله، فلا يعتدي على خلقه، بل لا يعتدي على جوارحه التي هي أمانةٌ جعلها الله في عنقه،

ص: 221


1- مسند أبي داود الطيالسي، أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصرى (المتوفى: 204ه_)، تحقيق: الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي، دار هجر - مصر، ط1، 1419 ه_ - 1999م : 3/ 579

وفي خلاف ذلك يكون الفقر والإذلال في الدنيا والعقوبة في الآخرة؛ لخروج الإنسان من دائرة عبوديّته ودخوله حبائل الشيطان، التي لا تورده إلا المهالك، يقول سبحانه مخبراً عن حال أقوامِ حال أقوام عصوا أوامر أنبيائه فخسروا كل ما لديهم في الدنيا بما اقترفوه من ظلم بحقّ أنفسهم أولاً وبحق الآخرين، وخسروا الآخرة، فقال عنهم جلّ شأنه: ((وَأَلَّو اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّريقَة لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا)) [الجن: 16] .

أما الحقوق التي تخصّ الفرد، فتتوزّع على جوارحه واحدةً بعد الأخرى فتبدأ باللسان، وتنتهي بالفرج، وهي بحسب الآتي:

- حق اللسان

- حق السمع

- حق البصر

حق الرجلين

- حق اليد

- حق البطن

- حقّ الفرج

وجميع الحقوق التي ذُكرت لهذه الأعضاء التي بوساطتها يتمّ للإنسان العيش في هذه الحياة، والتعامل مع الآخرين ويجني ثمار ما يكسبه بوساطتها، تؤكّد على حق الصيانةِ لها من الوقوع في الحرام، سواء في القول أو الفعل باليد أو السعي إليه، أو أكله، فحقّ هذه الهبات الربّانية أنْ توظّف في طاعة خالقها الذي أوجدها من عدم، ومن الظلم بحقّها أنْ يستعملها الإنسان لإرضاء شهواته، بعيدًا عن تحكيم العقل الذي يوجب على الإنسان بمقتضى فطرته النقيّة أنْ يتجنّب الحرام لما فيه من مضارٍّ على الجسد قبل أنْ يكون منهيًّا عنه من قبل الله، كذلك لما فيها من إشغال وتضييع وقتٍ في غير فائدة تعود على صاحبها بالخير والصلاح فمثلا يشير الإمام علیه السّلام في

ص: 222

ضمن حق اللسان على الإنسان (وإعفاؤه عن الفضول الشنيعة القليلة الفائدة التي لا يُؤْمَنُ ضررُها مع قلة عائدتها ويُعدُّ شاهدَ العقل والدليل عليه وتزيُّن العاقل بعقله: حسنُ سيرته في لسانه) وقد استدلّ الإمام علیه السّلام بالعقل كونه دليلاً لا يختلف اثنان في أرجحية الحكم الصادر منه، بما يمنح مضامين الرسالة بُعدًا إنسانيًّا خارج التوصيف الديني أو الإثني، بأنّ العاقل محمودٌ في جميع المجتمعات، ولا دليل يُشير إلى حسن عقله غیر حسن لسانه مع الآخرين. وفي حقّ السمع أولى الإمام علیه السّلام إلى ما يستفيد الإنسان منه فيما يكسبه عن طريق هذه الحاسّة المستقبلة لكلام الآخرين على اختلاف مضامينه، فحقّه يتمثّل ب_ ( تنزيهه عن أنْ تجعله طريقًا إلى قلبك إلا لفوهةٍ كريمة تُحدِثُ في قلبِكَ خيراً أو تُكسِبُك خُلُقًا كريماً فإنّه بابُ الكلام إلى القلب يُؤدّي إليه ضروب المعاني على ما فيها من خيرٍ أو شرٍّ) ولما كان السمع مثل الباب - بحسب تشبيه الإمام له - بوساطته يدخل كلام الآخرين إلى القلب - بمعنى العقل- كان الأولى بصاحبه أنْ ينتقي من ذلك الخطاب ما يرقى بنفسه إلى الطهارة المعنوية التي تربأ به عن الفحشاء من القول والأفكار التي تحضّ على الرذيلة، فالاقتصاد فيما يستلمه الإنسان من ذلك الخطاب الداخل إليه، ينبغي أنْ يكون طيّب الأثر والنتيجة على صاحبها، فاكتساب الأخلاق الكريمة والصفات الحميدة المرضية عند الله لا تكون إلا عبر ذلك التواصل المادّي لها من خلال حاسّة السمع، وقد بالغ الرسول صلّی الله علیه و آله و أئمة أهل البيت علیهم السّلام في إسماع مخالفيهم طيّب الكلام وأحسنه؛ وذلك لإيمانهم أنّ الكلمة الطيّبة تؤثّر في النفوس، وتهدي صاحبها إلى طريق الحق، والكلام حين يوظّف لغاية أخلاقية رفيعة لا يضيع أجر قائله عند الله؛ لما في آثاره الناجمة عنه من إصلاح النفوس بهدى الله، يقول تعالى : ((إليه يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ)) [فاطر: 10] .

ويتجلّى الجانب الوقائي في حق البصر، في غضّه عن كلّ ما يحرّك الغريزة الشهوية عند الإنسان، وهذا هو معنى الابتذال في النظر ، أما السبيل الأوحد لصيانة حق البصر، تتجسّد في جعلها مستقبلاً لكل مشهدٍ أو منظر يؤدّي إلى الاعتبار من سِيَر الماضين، أو الاستفادة عمليَّا منها في نقل تجارب الآخرين المفيدة للإنسانية،

ص: 223

فقال علیه السّلام: (وأمّا حقّ بصرك : فغضّهُ عمّا لا يحلّ لك وتركُ ابتذالهِ إلا لموضع عبرةٍ تستقبلُ بها بصراً أو تستفيدُ بها عِلمًا، فإنّ البصرَ بابُ الاعتبار) فبالنظر يحفظ الإنسان تلك التجارب ويكرّرها لإدامة عجلة التواصل مع الآخرين بوصفها مشاهد دافعة لحفظ البشر ومطوّرة لإمكاناتهم وصقلها في تجارب أخرى. وتلتقي هذه التوصية مع ما ذكره الله سبحانه في كتابه الكريم، حين خاطب المؤمنين: ((قُلْ لِلْمُؤْمِنينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ)) [النور: 30] وهو الأمر نفسه في حق الرِجلين، حين يوصي الإمام علیه السّلام أنْ لا يكون السعي إلا في حلال ،الله، ومعلومٌ أنّ حلال الله لا يخرج عن مدار الفائدة العملية العاجلة للإنسان قبل تحصيل الثواب في الآجلة، فكثيرٌ من الناس من يسعى إلى قضاء وقته فيما حرّم الله، سواء أكان في الاعتداء على حقوق الآخرين من عباده، أم كان سعيًا لإشباع غريزته الحيوانية بما يكسبه إثماً عظيمًا لتعدّيه حدود الله، فيقول: (وأما حقّ رجليك: فأنْ لا تمشي بهما إلى ما لا يحلُّ لك، ولا تجعلهما مطيّتك في الطريق المستخفّةِ بأهلها فيها فإنها حاملتكُ وسالكةُ بك مسلك الدِّين والسبقُ لك) وفي هذه الحقّ يذكر الإمام أنّ حقّ الرجلين أنْ لا يخرج عن دائرة مرضاة الله تعالى، على أنّها مطيعةٌ لأوامرك كالمطيّة التي تنقلُ صاحبها من دون معاندةٍ منها، فلا بدُّ إذن من إكرام هذه النعمة الإلهية التي فوّض الله أمرها إلى صاحبها، بما يكسبه حمدًا وثوابًا وفائدةً تعمّ المجتمع في الدنيا، والثواب في الآخرة.

أمّا حقّ اليد على الإنسان، فهو الاعتدال في التعامل مع الآخرين عبرها، فيقول: (وأما حقّ يدك فأن لا تبسطها إلى ما لا يحلّ لك، فتنال بما تبسطها إليه من الله العقوبة في الآجل، ومن الناس بلسان الأئمة في العاجل، ولا تقبضها مما افترض الله عليها، ولكن توقّرها بقبضها عن كثيرٍ مما لا يحلّ لها وبسطها إلى كثيٍر مما ليس عليها. فإذا هي قد عُقلت وشُرّفت في العاجل وجبَ لها حسن الثواب في الآجل) وهي قريبة الصلة بالآية القرآنية: (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةٌ إِلَى عُنُقكَ وَلَا تَبْسُطُهَا كُلَّ البَسْط فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [الإسراء: 29] إذ التوسّط في الأمور يجنّب الإنسان الوقوع في موارد الهلكة، فضلاً عن كونه سلوكًا مذموما يبتعد عن سلوك العقلاء الذين حُمّدت

ص: 224

سيرتهم فكان الأنبياء وأولياء الله الصالحين أجلى مصاديقهم، فلا يخرجون عن دائرة الاعتدال والوسطية في تعاملهم مع الآخرين، فالعاقل - كما يعرّفه الإمام علي علیه السّلام - هو الذي يضع الأمور في مواضعها ، والأحمق على العكس من ذلك، فلا يكونون بخلاء مع من يستحقّ العطاء فيحرمونه ما أوجب الله عليهم من إيتاء المعروف، فيكون سلوكاً مذموما ًعقلاً، ومخالفًا لشرع الله، ولا يكونون مسرفين للخير في غير موضعه، وبهذا يضيع الخير المقدّم في ظرفٍ لا يستحقّ ذلك البذل، وهذا ما ابتعد عنه الصالحون من أنبياء وعباده الصالحين، فقال عزّ من قائل واصفًا إيّاهم بقوله : (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان: 67] .

ومسلك الاقتصاد لم يقتصر على حقّ اليد فحسب، بل توفّر أيضا في حقّ البطن، فالوقوع في القليل من الحرام مثل كثير منه، كذلك في الحلال من المكسب لا ينبغي للإنسان أنْ يُسرِف في الطعام، لما في الشبع من مضارٍّ صحّية تُفسد الجسد وتُسرع في إهلاكه، وهو قوله: (وأمّا حقّ بطنك فأنْ لا تجعله وعاءً لقليلٍ من الحرام ولا لكثير. وأن تقتصد له في الحلال، ولا تُخرجه من حدّ التقوية إلى حدّ التهوين وذهاب المروءة. وضبطهٌ إذا همّ بالجوع والظمأ، فإنَّ الشبع المنتهي بصاحبه إلى التُّخم، مكسلةٌ ومثبطةٌ ومقطعةٌ عن كلّ برٍّ وكرم وإنَّ الريّ المنتهى بصاحبهِ إلى السُكرِ مسخفةٌ ومجهلةٌ ومذهبةٌ للمروءة) كلُّ هذه المضارِّ الصحّية والنفسية تنتج عن الإسراف في الطعام، فهي نتاجٌ طبيعي لتجاهل حقّ البطن من الابتعاد عن حلال الله والاقتصاد فيه. وأجد أنّ هذا الحقّ تبيانًا لقوله تعالى: ((وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)) [الأعراف: 31] فَالنَّهْيُ عَنِ السَّرَفِ نَهْيُ إِرْشَادِ لا نَهْي تَحْرِيمِ، وَلِأَنَّ مِقْدَارَ الإِسْرَافِ لَا يَنْضَبط فَلَا يَتَعَلَّقُ بهِ التَّكليف، وَلَكِنْ يُوكَلُ إلى تَدْبِيرِ النَّاسِ مَصَالِحَهُمْ، فَإِنَّ تَرْكَ السَّرَفِ مِنْ مَعْنَى الْعَدْل(1).

ص: 225


1- ينظر: التحرير والتنوير، ابن عاشور: 5/95

ويختم الإمام بآخر عضوٍ يمثّل هو وعضو اللسان الذي ذكره في أوّل كلامه، يمثّلان مخرجات الإنسان، بخلاف السمع والبصر والبطن فهما يستلمان فقط، وبخلاف اليدين والرجلين، فهما أداتان يحقق الإنسان بهما مُراده بالمنظور المادّي القريب، أمّا اللسان والفرج، فأثرُهما يتجلّى بعد حين، وكلّما يبتعد أثرهما يزداد خطرهما عليه، فعليه إذن أنْ يُراعي حقّهما ، وأنْ يُبالغ في صيانة تلك المخرجات عبر تينك الأداتين، فبالكلمة الطيّبة التي يُصدرها العبد الله مع ومع الآخرين لا يزداد إلا رفعةً وثناءً في الدنيا وثوابًا جزيلاً في الآخرة، وبخلافه يخسر الإنسان كلّ أعماله حتى الحسن منها، ولعل حديث النبيّ صلّی الله علیه و آله جوابًا على معاذ بن جبل خيرُ دليلٍ على خطورة ما أشرنا إليه، إذ قال له في ضمن بيان أهمية العبادات وارتباطها كلها بعمل اللسان، ((ثُمَّ قَالَ: «أَلَا خبرك بملاك ذلكَ كُلَّه ؟ « فَقُلْتُ لَهُ: بَلَى يَا نَبيَّ الله. فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ، فَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا» فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ فَقَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ، أَوْ قَالَ: عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهم؟))(1)، ويُقرّر الشيخ محمد مهدي النراقي (ت: 1209 ه_) خطورة اللسان بوصفه ((أعظم آفة للشيطان في استغواء نوع الإنسان، فمراقبته أهم، ومحافظته أوجب وألزم ، والسرُّ فيه - كما قيل- أنه من نعم الله العظيمة، ولطائف صنعه الغريبة، فإنه وإنْ كان صغيراً جِرمُهُ، عظيمٌ طاعتهُ وجُرمُه، إذ لا يتبيّن الإيمان والكفر إلا بشهادته، ولا يُهتدى إلى شيء من أمور النشأتين إلا بدلالته وما من موجود أو معدوم إلا وهو يتناوله ويتعرّض له بإثبات أو نفي، إذ كلُّ ما يتناوله العلم يعبّر عنه اللسان إما بحق أو باطل، ولا شيء إلا والعلم يتناوله)) (2) ، ومن هنا نُدرك السّر في تقديم حق اللسان من قِبَل الإمام علیه السّلام قبل استعراضه حقوق سائر الأعضاء.

والأمر نفسه يكون مع حفظ الفرج، بتنزيهه عن مواطن الحرام والشُبهة، ولا يتمُّ ذلك الحفظ والتمكّن من صيانته إلا عن طريق غضّ البصر عن النساء، ومعلومٌ أنّ المقصود بغضّ البصر هو النظر إلى النساء بشهوة الملامسة لهنّ، ولعل قول الرسول

ص: 226


1- مسند الإمام أحمد بن حنبل : 345/36
2- جامع السعادات، النراقي: 1/ 130

صلّی الله علیه و آله كفيلٌ ببيان ما نحن فيه، فحين حذر من الجلوس في الطرقات العامة التي يمرُّ بها جميع الناس، لم يكن منعه ناشئًا من فراغٍ وحاشاه من ذلك، بل أراد ذلك المنع الذي يُسبب فتنةً وفساد للشخص الجالس فيها، فكان له أنْ يبيّن الاحتياطات اللازمة لدرء تلك المفاسد بقوله المبارك: «إِيَّاكُمْ وَالجُلُوسَ بِالطُّرْقَاتِ» فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا مِنْ مَجَالِسِنَا بُةٌ نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: «إِذْ أَبَيْتُمْ إِلَّا المَجْلِسَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ» قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «غَضُ البَصَرِ ، وَكَفُّ الأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنِ المُنكَرِ»(1)، أما السبيل الآخر الذي طرحه الإمام علیه السّلام لصيانة الفرج من الوقوع في حبائل الشيطان وتزيينه للشهوة وإيقاظه لغريزة الجنس. فيتمثّل باستذكار الموت الذي يوقظ الإنسان من سُبات الغفلة ويهيّئه لعالم الخلود الدائم إما في النعيم وإما في الجحيم، وهذا التخيير يرتكز على مقدار الأعمال الحسنة المرضية عند الله سبحانه، أو عكس ذلك من أعمال ظلمٍ أوقعت صاحبها في الحرام الموجب لعقاب الله وغضبه، ولا يخفى أنّ القرآن الكريم أبان من خلال بعض مضامين آياته السامية أنّ الإنسان المُسلّم بتعاليم الله والمحبّ للقائه يتمنّى الموت، أما الكافر الجاحد بتعاليمه والمخالف لها، لا يتمنى أنْ يموت، فقال جلّ شأنه مبيّنا إحدى خلال المعاندين من بني إسرائيل، ((قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُون النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (*) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ)) [البقرة: 94 - 95] ولذا كان رسول الله صلّی الله علیه و آله كثيرا ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول : ((أكثروا ذكر الموت فإنه هادم اللذات حائل بينكم وبين الشهوات يا عباد الله ما بعد الموت لمن لم يغفر له أشد من الموت القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته)) (2). وعبر هذه المراقبة التي وجّه النبيُّ الأكرم صلّی الله علیه و آله وآل بيته المعصومين إليها، يتحقّق حفظ الفرج من الوقوع في الحرام المؤدّي لسخط الله، بل أكثر من ذلك حين يجعله متساويًا وسائر مخلوقاته التي لا تفرّق بین الحلال والحرام، في حين أنّ المولى سبحانه جعل ((الموجود البشري... يتمتع بمقدرة خاصة لا نجد لها نظيراً على الإطلاق في كافة مستويات العالم الحيواني وهي

ص: 227


1- صحيح البخاري: 8/ 50
2- الأمالي، للشيخ المفيد: 264- 265

القدرة على مراقبة سلوكه والحكم عليه ، وهنا ضبط وإشباع وهي عند الحيوان إشباع لشهوات إلا أنّ الإنسان يُوجِد اتّزاناً بينهما وهي المسافة الواعية بين المسافة الواعية بين الإنسان والحيوان فلا يأكل ولا يشرب مثله، بل يقضي على ضرورة الحيوان بطريقته الإنسانية)) (1).

بقي لنا أن نشير في ختام هذا المطلب الأخلاقي فيما يخصّ حق الفرج أنّ الإمام ذكره في ختام حقوق الأعضاء الأخرى؛ لما بيّناه آنفًا من ارتباط مخرجاته بما يدخل لتلك المستلمات من الأعضاء، فبما تكسب تلك الجوارح تنعكس النتيجة فيما بعد ذلك في آخر الأعضاء، فالنظر والسمع واليدين والرجلين والبطن إنْ كانت مدخلاتها حراماً فلا تخرج منه عن طريق الفرج إلا حرامًا، وإذا كانت مدخلات تلك الجوارح حلالا فتكون نتيجة ذلك أيضًا على الفرج، فلا يبغي إلا حلال الله، ويصدق فيه ما يقال في أمثال المناطقة - من باب التشبيه - أنّ النتيجة تتبع أخسّ المقدّمات. ولعلّه ذكر حقّ الفرج من باب كونه أسفل تلك الجوارح وألزمها بالستر والصيانة، ولأنه عورةً تقع في أسفل جسد الإنسان؛ فلذا كان حفظ الفرج وصيانته من الحرام التزاما بأوامر الله سببًا موجبًا للمغفرة الإلهية والأجر العظيم المتمثّل بجزاء الله العادل لعباده المطيعين، فقال عزّ من قائل: ((وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ)) [الأحزاب: 35] .

ويشرع الإمام السجّاد علیه السّلام بعد تبيان حقوق الأعضاء على الإنسان، يبيّن له حقوق الله عليه من عباداتٍ افترضها، ينبغي أنْ تؤدّى كما أرادها الله سبحانه لا شكلاً فحسب، بل بمراعاة الغاية التي تنضوي عليها كلُّ عبادة، فلا فائدة يجتنيها الإنسان المسلم من امتثاله لتلك الفرائض الإلهية ما لم تحقّق هدفها العاجل في حياته الدنيا؛ لأنه سبحانه حكيمٌ يقدّر المنافع والآثار التي يستفيد منها العبد في قضاء حاجته في الدنيا فضلاً عن قضاء حوائج المؤمنين والناس الذين يشاركهم فرصة العيش في هذه الحياة، وكذلك تقدّر العبادات المفروضة عليه بعين الله وتثمينه لها بالثواب الجزيل في عالم الآخرة، ولكن لا يمكن أنْ تحقّق مثل تلك العبادات أثرها الآجل في الآخرة ما لم تُحرز هدفها في تكامل الإنسان ورقيّه مراتب السعادة في الدنيا أيضًا..

ص: 228


1- فلسفة الأخلاق، د. مصطفى عبده : 22- 23

يبدأ الإمام علیه السّلام بحقّ الصلاة على الإنسان، بوصفها أوّل الأعمال التي ينظر الله فيها؛ لأهميّة تلك العبادة على حياة الإنسان وما تتركه عليه من مضامين عمليّة جليلة، فلا بُدّ إذنْ من إيلائها الأهمية القصوى، فقال: (فأمّا حق الصلاة: فأنْ تعلمَ أنّها وِفادةٌ إلى الله وأنّك قائمٌ بها بين يدي الله. فإذا علمتَ ذلك كُنتَ خليقاً أنْ تقوم فيها مقام الذليل. الراغب الراهب، الخائف الراجي، المسكين المتضرّع، المعظّم من قام بين يديه بالسُكون والإطراق وخُشوع الأطراف ولين الجناح وحُسن المناجاة له في نفسه والطلب إليه في فَكاكِ رقبتك التي أحاطت به خطيئتك واستهلكتها ذنوبُك ولا قوة إلا بالله) فحقّ الصلاة التي فرضها الله سبحانه على عباده المؤمنين، أن تكون بدرجة الاستشعار العالي الأهمية والتهيُّؤ لها؛ وذلك لعظمة من تفِدُ عليه، وبموجبها يتمّ قبول الإنسان في حضيرة المؤمنين المبشّرين برحمة الله والمنعّمين بجنانه الخالدة، فهذا الاستشعار يفرضُ على صاحبه أنْ يكون متخلّقًا بسيماء الصالحين الذين عبدوا الله وكأنهم يروه رأي العين، فتظهر علامات ذلك الخشوع على جوارحهم، من سكونٍ وإطراق وخشوعٍ يبدو على سائر أعضاء الإنسان، إلى آخره من علاماتٍ تتجلّى على سلوك المصلّي في كل حالات الصلاة؛ لعظمة المطلوب من الله العظيم، وهو الخلاص من العقوبة بسبب الذنوب التي يرتكبها الإنسان الذي يستسهل المعاصي في حياته، فيقع في وهادها، ويستمرأ الباطل فيعلق في شراكه؛ لذا كان على الإنسان في صلاته أنْ يدعو الله مخلصًا في قراءته سورة الحمد وحين رفع اليدين بالقنوت وحين الركوع عليه أنْ يستشعر الذلّ أمام الخالق المتكبّر وكذلك في السجود والقيام والتشهد لأجل أنْ تؤتي هذه العبادة ثمارها العمليّة في حياته، كان له أنْ يمتثل لمضامين الصلاة وأنْ يعزم على أدائها، وهذا ما حمده الله سبحانه في عباده المؤمنين حين يصفهم بقوله الشريف: ((قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ)) [المؤمنون: 1 - 2] فالفلاح لا يحققه المؤمنون إلا أذا كانت صلاتهم مشفوعة بالخشوع؛ لما فيه من تفعيلٍ للقلب على سائر الجوارح، وفي قبال ذلك وصف أقوامًا من المسلمين الذين آمنوا بالله ظاهرًا، ولكن كان إيمانهم قشرًا خفيفًا لم يتغلغل إلى حياتهم وسائر سلوكهم فتتغيّر بموجب تلك العبادة الموجبة لمغفرة

ص: 229

الله ورضوانه التي بتحققها تُقبل سائر عباداتهم ومعاملاتهم بعين القبول والرضا عند الله سبحانه، فقال: ((وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ)) [التوبة: 54] فمثل هؤلاء على الرغم من أدائهم الزكاة أو غيرها من نفقات أوجبها الله سبحانه عليهم يعدّون كفّارًا عند الله ؛ لأنه سبحانه يعلم ما في سرائرهم من كراهية لأداء حقوقه منهم، على الرغم من أنّ الله غنيُّ عن عباده، ولكن أوجب مثل تلك الحقوق، ليختبر إيمان المؤمنين به بما رزقهم من أموال، فكانت عند الله غير مقبولة، هذا لأن صلاتهم لم تحقق الغاية المُثلى في استشعار العبودية لله، فلم يكن ركوعهم وسجودهم بداعي امتثال الرغبة في التواصل مع الله والدعاء المخلص له بالهداية، بل كانت تلك العبادة شكليّةً صاحبها الكسل من أدائها، وواحدٌ من أبرز مصاديق الكسل هو التماهل في أدائها، أو الاستعجال في قضائها. وهو أمر دعا الرسول الكريم صلّی الله علیه و آله أنْ يذمّ أمثال أولئك ممّن يتظاهر في الصلاة ولا يعطيها حقّها، فقد ورد عنه أنه قال: ((تِلْكَ صَلَاةُ الْمُنَافِقِ، يَجْلِسُ يَرْقُبُ الشَّمْسَ حَتَّى إِذَا كَانَتْ بَيْنَ قَرْنِيَ الشَّيْطَانِ، قَامَ فَنَقَرَهَا أَرْبَعًا، لَا يَذَّكَّرُ اللهَ فِيهَا إِلَّا قَليلاً)) (1).

ويلتمسُ الإمام السجاد علیه السّلام الغاية نفسها في تحديد حقّ الصوم، بوصفه حجابًا يقي الإنسان لا من الطعام والشراب فحسب، بل يقي لسانه من الكلام الخارج عن دائرة الحق، وكذلك السمع والبصر والفرج والبطن، كلّ تلك الجوارح ينبغي أنْ تكونَ محجوبةً عن الحرام قولاً وفعلاً، فإنْ ظهر ذلك الحجاب عليها، كان للصومِ أَنْ يُؤتي أُكُله بما أراد له الله سبحانه وخطّط له من حكمة، وإنْ لم يظهر الأثر المبتغى ففي ذلك خيانةٌ لحق هذه العبادة، إذ قال علیه السّلام : (وأما حقّ الصوم: فأن تعلم أنه حجابٌ ضربه الله على لسانك وسمعك وبصرك وفرجك وبطنك ليسترك به من النار. فإنْ سكنتْ أطرافُك في حجبتها رجوتَ أنْ تكون محجوبًا. وإنْ أنتَ تركتها تضطربُ في حجابها وترفع جنبات الحجاب فتطّلع إلى ما ليس لها، بالنظرةِ الداعية للشهوة والقوة الخارجة عن حدّ التقية لله لم تأمَنْ أنْ تخرِقَ الحجاب وتخرُجَ منه) فرعاية حقّ الصوم تتحقّق

ص: 230


1- صحیح مسلم: 1/ 434

في صيانة مبدأ التورّع عن محارم الله وبمقتضاه يصل الصائم مبتغاه المتمثّل برضا الله عليه وثوابه الجزيل، أمّا حين تنتهك تلك الحُجُب فلا يُقبل أداء مثل تلك العبادة؛ لكونها أفرِغت من محتواها وتجرّدت عن هدفها السامي بجعل الإنسان متحكّماً في شهواته بحسب ما يراه العقل صواباً، ولذا يُنبّه الله في قرآنه الكريم إلى بعض الممارسات التي تخرج بالمسلم عن حدوده، فقال عزّ شأنه : ((وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)) [البقرة: 187].

وينبغي الالتفات إلى قولِ الإمام في ذيل استعراضه هذه الحق والذي قبله (حق الفرج، حق الصلاة) والذي بعده (حق الصدقة، حق الهدي، حق السلطان، حق المعلم حق السائس، حق الرعية) إذ يختم بالعبارة : (ولا قوّة إلا بالله) تأكيدًا إلى إخلاص النية في طلب الاستعانة من الله في استمداد القوّة لأجل صيانة تلك الحقوق، والصبر على أدائها؛ هذا لأن الإنسان مجبولٌ على التعجّل في إنجاز أكثر أموره، وقد وصف الله سبحانه الإنسان بقوله: ((وَكَانَ الإنسان عَجُولًاً)) [الإسراء: 11] فلا بُدّ من الصبر والتأنّي في أداء حقوق جوارحه وحقوق عباداته التي يؤدّيها، ومن دون ذلك تستحيل إقامة هذه الحقوق، فلا مناص من الالتجاء لله سبحانه والتماس القوّة منه، فهو القادر على منح أوليائه الصالحين من القوّة على أداء حقوق عبادته بما أودع في الإنسان من قُوى خفية أهّلته أنْ يكون خليفته في الأرض وأنْ يحمل أمانةً عجزت الجبال عن حملها، فمشيئته نافذةٌ بين الكاف والنون إن أراد لها أنْ تتحقق فيمن هداه الله واستحقّ ذلك اللطف الإلهي المخصوص بعباده الصالحين.

ويأخذ البعد الأخروي جانبًا كبيراً من تحفيز المؤمن على أدائه حقوق عبادته مثلما أراد لها المشرِّع الحكيم؛ هذا لأن الحياة الخالدة تكمنُ فيما وراء هذا العالم المادّي، وعلى أساس العمل في هذه الحياة يكون الثواب والعقاب في ذلك العالم، على أنّ الإسلام لم يفرّط بالجانبين، فلم يطلب من الإنسان أنْ ينسى نصيبه من دنياه من التماس الطيب من العيش ولكن وضعه في حدود حلال الله، كما قال سبحانه: ((وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ

ص: 231

اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)) [القصص: 77] وهذا ما ينبغي أنْ يكون عليه كل الملتزمين بأوامر الله ونهيه، فالتماس الأجرِ من الله إنما يترجم إيمان العبد بأنَّ الله سبحانه أوكل إليه التصرّف بما رزقه من مال، والأمر الآخر يُظهر يقينه بأنّ الجزاء على ذلك العمل سيكون أكبر عند الله في ذلك العالم الذي لا ينفع الإنسان شيئًا مثلُ عمله الذي قدّمه في الحياة الدُنيا، ولذا كان حقّ الصدقة تبيانًا لهذا الجانب، يقول الإمام علیه السّلام في ذلك: (فأن تعلم أنّها ذُخر عند ربّك. ووديعتُك التي لا تحتاجُ إلى الإشهاد ، فإذا علمتَ ذلك كُنتَ بما استودعته سرًّا أوثقَ بما استودعته علانية، وكُنتَ جديرًا أنْ تكون أسررتَ إليه أمرًا أعلنته، وكان الأمرُ بينك وبينه فيها سِرًا على كلّ حال) فمِلاك تحقيق هذه العبادة المتمثّلة بالصدقة للتي يستحقّها من الفقراء، في عدم إعلانها؛ وذلك لسحق القوّة الأنانية في النفس، إمعاناً في الإخلاص لوجه الله من دون أحدٍ من المخلوقين، ولأنّ الله وحده هو الذي يُجازي المتصدّق بجزيل ثوابه، كان له وحده ينبغي التوجّه إليه، ولا فضلَ لمن يبتغي مدح الناس على ما يرائي به من عمل مهما كان كبيراً. فالأجر العظيم كلُّه لمن أخلص لله سواءَ أكان ذلك الإخلاص متمثّلاً في عباداته أم في معاملاته، وهم الذين وصفهم الله في كتابه الكريم بقوله: ((تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَة أَعْيُنٍ جَزَاءً بمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)) [سورة السجدة: 16 - 17] . والعملُ إنما يشمل العبادة التي تكون بين العبد وربّه، ويشمل المعاملة والسلوك الذي يكون بينه وبين الآخرين.

ونستطيع القول: إنّ المحور الأساس الذي انطلقت منه رسالة الحقوق، يتمثّل في تحقيق الإخلاص، فهو الشرط الأساس الذي بموجبه يتمّ قبول الأعمال لصلاح النيّة التي تبتغي رضا الخالق من دون المخلوقين وبهذه النية يصلح العمل وينفذ أثره في المجتمع ؛ لكونه عملاً يراعي الجانب الإنساني فقط، لا لأجل كسب دعايةٍ سياسية، أو تحشيد الرأي الإعلامي لجهة لها مآربها الخفية وراء ذلك العمل، ولعل قوله تعالى: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لا تريد منكم جزاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبَّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا *

ص: 232

فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا)) [الإنسان : 8 - 11] يلخّص مفهوم الإنسانية كلّها، وهذه ألتفاته إلهية عظيمة كانت في هذه السورة العظيمة المسماة ب_ (الإنسان) وبمقتضاها أنّه لا يصحّ وصف مجتمعٍ ما بالإنساني، ما لم يُحرز أفراده شرط الإخلاص لله في سلوكهم الحياتي فيما بينهم، فالإطعام أو المساعدة أو تقديم العون أو قضاء حوائج الآخرين... الخ من أعمال حين تبتغي وجه الربّ الكريم، تُؤتي أكلها في تحقيق الشرط الإنساني لها، ومن ثمّ تكون النموذج الأمثل للإنسان الخليفة الذي أكرمه الله من دون سائر مخلوقاته بتسخير كل ما في الوجود له. وهذا الشرطُ ما أفصح به الإمام السجاد علیه السّلام في أكثر من موردٍ من موارد رسالة الحقوق العظيمة المحتوى، ولعلّ أكثر الموارد وضوحًا هو في قوله مبيّنًا حق الهدْيِ بقوله: (وأمّا حقّ الهدي فأنْ تُخلِصَ بها الإرادةَ إلى ربّك والتعرّض لرحمته وقبوله ولا تُريد عُيونَ الناظرين دونه. فإذا كُنتَ كذلك لم تكُنْ متكلّفًا ولا متصنّعًا وكُنتَ إنّما تقصِدُ إلى الله) ويكشف الإمام علیه السّلام عبر التزام العبد شرط الإخلاص في العمل، أنّه لمّا كان العمل المقدّم من العبد إلى الآخرين بنية القُربة إلى الله واكتساب الأجر والثواب منه لا من المخلوقين، سيكون بعيدًا عن المظاهر الخادعة ومجرّدًا عن كلّ ما يُشعر بالتكلّف والحرج وإرهاق النفس، كما هو الحال فيما يكون من أعمال بروتوكولية يقوم بها بعض الناس لأجل استرضاء أحد الخصوم، أو لأجل أنْ يظهر فيما بين أفراد مجتمعه بالمظهر اللائق، إذ تكون مثل تلك الأعمال مصحوبة بالتكلّف من النفس، فمثلاً تجد البذخ الزائد في إعداد الطعام، ولم يؤكل منه حين الطعام إلا أقلُّ من نصفه، وما يتبقى يكبّ في النفايات، أمّا لو كانت النية خالصة لله، لكانت بتلك الأموال التي استُهلكت في إعداد هذه الموائد الطافحة بما لذ وطاب من طعام قضاء حاجة مؤمنٍ أو مؤمنة أو السعي في إصلاح ذات بينٍ أو معونة مدينٍ يستحقّ قضاء حاجته طلبًا لما عند الله من أجرِ جزيلٍ أعدّه لمن يعمل على قضاء حوائج الناس بما رزقه الله من مال؛ لأنّ الإسراف من أخلاق الشيطنة في التعامل، وقد وصف سبحانه أولئك بأنهم إخوانٌ يعينون إبليس في إضلال الآخرين وإيقاعهم في شراك المعصية لتحقيق مآرب إبليس في الصدّ عن

ص: 233

رحمة الله التي شاءت أن يكون بني آدم خلفاء في الأرض، فقال: ((وَآتِ ذَا الْقُرْبيَ حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا)) [الإسراء : 26 – 27[ . وفي ظلّ هذا المعنى، يُعلّل الإمام علیه السّلام بيان الإخلاص في العمل وتجنّب التكلّف فيه بقوله: (واعلم أنّ الله يُراد باليسير ولا يُراد بالعسير كما أراد بخلقه التيسير ولم يُرد بهم التعسير، وكذلك التذلّل أولى بك من التدهقن؛ لأنّ الكُلفةَ والمؤونة في المتدهقنين. فأمّا التذلل والتمسكن فلا كُلفةَ فيهما ولا مؤونة عليهما، لأنّهما الخلقة، وهما موجودان في الطبيعة. ولا قوة إلا بالله) فواحدةٌ من أبرز ثمار الإخلاص في العمل، يظهر في التيسير وعدم التكلّف فيه؛ لأنّ الله يعلمُ ما في سريرة العبد، فيكافئه على صلاح نيته، صغُر ذلك العمل أم كبُر، فهو القائل: ((يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) [البقرة: 185] وهو الأمر نفسه الذي أكّد عليه الرسول الكريم صلّی الله علیه و آله بقوله : ((«إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنَّيَّةِ ، وَإنَّمَا لِامْرِئ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَو امْرَأَةِ يَتَزَوَّجُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ»)) فالنيّة الخالصة إنّما تنسجم وطبيعة النفس، أما التكلّف فهو خروجٌ من فطرة الله، ومن ثمّ تعدٍّ لحدوده التي رسمها بمقتضى حكمته وعدالته.

وتتفرّع من محور الإخلاص في النية مبادئ أخلاقية عدّة تحقّق حياةً سعيدةً لأفراد المجتمع في حياتهم بقبولهم الآخر ، مع إبداء النُصحِ فيما بينهم؛ لأجل التكامل الأخلاقي والوصول إلى مصداق (خيرِ أمّة) ذلك العنوان الذي رسمه الجليل في قرآنه بقوله: ((كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)) [آل عمران: 110] فمعيار أفضلية هذه الأمة لالتزامها شرع الله في إسداء النُصح والتوجيه بما يُسمّى فقهيًا بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويمثّل هذا المبدأ حقًّا للسلطان عليك، وذلك بقول الإمام علیه السّلام: (فأمّا حقّ سائسك بالسُلطان: فأن تعلم أنّك جُعِلتَ له فتنةً. وأنه مُبتلًى فيك بما جعله الله له عليك من السلطان، وأنْ تُخلِص له في النصيحة. وأن لا تُماحكه وقد بُسِطتْ يدُهُ عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه. وتذلّل وتلطّف لإعطائه من الرضا ما يكفّهُ عنك ولا يضرُّ

ص: 234

بدينك. وتستعينُ عليه في ذلك بالله) وهنا يكون التلطّف لأجل إدامة عجلة النُصح والتوجيه بما يُصلح حال المجتمع، فالتلطَّف في إبداء النُصح مهمٌّ جدًّا بما يتركه من أثرٍ إيجابيٍّ في الآخر مهما كان عاتيًا في سلطته، وهو أمرٌ أكّد الباري سبحانه على التزامه حين أرسل كليمه موسى وهارون علیهم السّلام إلى الطاغية فرعون، بأنْ يلتزما منطق الحوار المُنتج ؛ لعلّه يُؤتي أكُله في استلانة المخاطَب ومن ثمّ كسر شوكة ضلاله بذلك الطرح الهادئ، وذلك بقوله سبحانه: ((اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)) [طه 43 - 44] وكذلك حين يُخاطب رسوله الخاتم صلّی الله علیه و آله يركّز على صفة اللطف في الحوار لأجل غايةٍ أسمى، وهي هداية الآخرين لطريق الهداية والصواب، فيقول: ((فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكَّلِينَ)) [آل عمران: 159] ولعمري إنها خصلة الصدّيقين من عباده حين يتحلّون بالصبر لا لأجل تحقيق مصلحة شخصيةٍ بل لأجل غاية أسمى من ذلك، وهي إصلاح من حولهم ولكن عبر هذا الأسلوب الطيّب الذي يفرض على الآخرين الاستجابة له والاستماع إليه.

2 - الحقوق الاجتماعية المتعلقة بالآخرين

لمّا كان الإنسان محور هذه الحقوق، فقد نظر الإمام علیه السّلام ((بعُمقٍ وشمولٍ إلى الإنسان، ودرس جميع أبعاد حياته وعلاقاته خالقه ونفسه وأسرته ومجتمعه وحكومته ومعلّمه وكلّ من يرتبط به أدنى ارتباط، ويمكن أن يُقال: إنّ تنظيم العلاقات الاجتماعية على أساس تعيين مجموعة الحقوق بشكل دقيق هو الرصيد الأوّل للنظام الاجتماعي الإسلامي، وهو المبنى المعقول للتشريعات الإسلامية عامة)) (1) ، وهنا نجد الجانب الأخلاقي بارزاً بوضوح في كل حقٌّ من هذه الرسالة، إذ لم تقتصر على الحقوق الخاصة بالعبد وربّه، بل كانت تلك الحقوق مقدّمة لحقوق الآخرين على الإنسان، وبهذه تتحقق القاعدة العقلية في التهذيب الذي يبدأ بسلوك الإنسان

ص: 235


1- أساليب الإصلاحات الاجتماعية عند الإمام زين العابدين، محمد محسن الجلالي: 150

مع خالقه، ثم ينطلق ذلك التهذيب إلى رعاية حقوق الآخرين، فالمعلّم له الحق على من يُعلّمه ب_ (التعظيم له، والتوقير لمجلسه، وحسن الاستماع إليه. والإقبال عليه. والمعونة له على نفسك فيما لا غنى بك عنه من العلم بأنْ تُفرّغ له عقلك. وتُحضِرَه فهمك. وتُزكّي له قلبك وتجلّي له بصرك بتركِ اللذّات ونقص الشهوات وأن تعلمَ أنّك فيما ألقى إليك رسولُهُ إلى من لقِيكَ من أهل الجهل فلزِمَك حسنُ التأدية عنه إليهم، ولا تخنه في تأدية رسالته والقيامِ بها عنه إذا تقلّدتها) يتلخّص فحوى هذه الرسالة في صيانة أمانة العلم، والإخلاص في أدائها، بوصف هذين الشرطين تعبيراً عن شكرِ المعلّم لما قدّمه من خدمةٍ جليلة؛ ميّزته عن سائر المخلوقات فجعلته كائناً مميزاً بالعلم، يقول الشهيد الثاني العامليّ: ((إنّ امتيازك عن سائر جنسك ليس إلا بهذه القوة العاقلة، التي قد خصّك الله بها من بينها المميزة بين الخطأ والصواب، الموجبة لتحصيل العلوم النافعة لك في هذه الدار وفي دار المآب، فقعودك عن استعمالها فيما خُلقتَ له، وانهماكك في مهلكك من المأكل والمشرب، وغيرهما من الأعمال التي يُشاركك فيها سائر الحيوانات حتى الديدان والخنافس... مع أنّك قادرٌ على أن تصير من جملة الملائكة المقرّبين باستعمال قوّتك في العلم والعمل بل أعظم من الملائكة عينُ الخسران المبين)) (1). وقد أشاد الله سبحانه بمقام العالم الذي ينفع الآخرين بعلمه من حيث الأجر والثواب لديه، فقال: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنما يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ)) [الزمر: 9]، وفي آية أخرى: ((إِنمَّا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)) [فاطر: 28]، وكذلك قوله: ((يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتِ)) [المجادلة: 11] كلُّ تلك الآيات البيّنات تُظهر مقام العالم بوصفه مصداقاً للإنسان الخليفة المستحق لتكريم الله له بأنْ يُسجِدَ له جميع مخلوقاته حتى الملائكة، وأنْ يسخّرها لخدمته طوعًا، وهذا التبجيل الإلهي المقام العالم إنّما يعمل على حضّ الآخرين أنْ يتسابقوا لأن يكونوا بهذه المنزلة، فإنْ لم يقدروا فعليهم أنْ يوقّروا العالم، وبهذا نصّ كلام الإمام السجاد علیه السّلام على ضرورة إعظام العالم وإجلال مقامه من قِبل المتعلّم والإخلاص في اكتساب المعارف منه

ص: 236


1- منية المريد في أدب المفيد والمستفيد : 392- 393

ونقلها إلى الآخرين؛ لتعمّ الفائدة على الجميع، وبموجبها يتقدّم المجتمع خطواتٍ إلى الأمام وصولاً إلى مدارج الكمال، أو المجتمع المعصوم المؤهّل لخلافة الأرض، تلك الفكرة التي أشار إليها بعض العلماء الأجلاء، لانسجام مثل ذلك المجتمع مع فكر القائد المنتظر والمصلح العالمي المنشود لإرساء دعائم العدل والصلاح وتطبيق الدين الإسلامي كما أراد الله له أنْ يكون دينًا خاتماً لكل الأديان بما يملك من حلولٍ لجميع إشكالات العصر الراهنة فضلاً عن السابقِ منها.

ويتكرّر وصف السائس في موارد عدّة من رسالة الحقوق، لملاحظة الفرق بينه وبين المدبّر، يقول أبو هلال العسكري (ت: 395ه_) : ((بَين السياسة وَالتَّدْبير وَذَلكَ أن السياسة هِيَ النّظر في الدقيق من أُمور السوس مشتقه من السوس هَذَا الْحَيَوَان الْمَعْرُوفِ وَلهَذَا لَا يُوصف الله تَعَالى بالسياسة لأن الأمور لا تدق عَنهُ التَّدْبير مُشْتَقٌ من الدبر ودبر كل شيء آخره وأدبار الأمور عواقبها فالتدبير آخر الأمور وسوقها إلى ما يصلح به أدبارها أي عواقبها وَلِهَذَا قيل للتدبير المستمر سياسة وَذَلِكَ أَن التَّدْبير إذا كثر وَاسْتمرّ عرض فِيهِ مَا يحتاج إلى دقة النّظر فَهُوَ رَاجع إلى الأول)) (1).

ويستمرُّ الإمام السجاد علیه السّلام في استعراض حقوق الآخرين على اختلاف مقاماتهم، بما يمنح هذه الرسالة بعدًا اجتماعيًا شاملاً يغطّي أكثر فئات المجتمع، ولا يحصرها في فئة من الناس، أو مقام اجتماعي دون مقامٍ آخر، فحين يكون الشخص من ضمن الرعية، تنبني حقوقٌ ينبغي أداؤها وهذا ما تجسد في (حق السائي بالملك) أما حین يكون المخاطب حاكمًا فعليه تكون ثمة حقوق ينبغي أداؤها فيما يخصّ رعيته، فيقول في بعضٍ منها: (فأمّا حقوقُ رعيّتك بالسُلطان: فأن تعلم أنّك إنّما استرعيتهم بفضلِ قوّتكَ عليهم فإنّه أحلّهم محلّ الرعية لك ضعفُهُم وذلُّهُم، فما أولى من كفاكه ضعفُهُ وذلُّه حتى صيّره لك رعيةً وصيّر حُكمَك عليك نافذا، لا يمتنعُ منكَ بعِزّةٍ ولا قُوّة، ولا يستنصرُ فيما تعاظمهُ منك إلا بالله بالرحمة والحياطة والأناة وما أولاكَ إذا عرفتَ ما أعطاكَ الله من فضلِ هذه العزّة والقوّة التي قهرتَ بها، أنْ تكونَ لله شاكرًا؟!)

ص: 237


1- الفروق اللغوية : 27

ولا يخفى على كل مطلع بصير أنّ الإمام علیه السّلام يرى أنَّ سطوة السلطان هي التي منحته القدرة على أنْ يُنفذ مشيئته في رعيّته، وهذه القُدرة على حُكم الآخرين إنّما هي نعمةٌ خوّلها الله لبعض عباده ممّن يتسنّم الحكم؛ فهو محاسبٌ على هذه النعمة بأنْ يكون عادلاً مع رعيّته لا يظلمهم أو يسلب حقوقهم، على أنّ الاختلاف في مراتب الناس تقتضيه الضرورة الاجتماعية، وليس من باب الظلم أنْ يكون اختلاف في مقامات الناس، فهذا حاكم وذلك محكوم وكلٌّ له حقوق وعليه واجبات، وكلٌّ يقدّم للآخر خدمةً من موقعه بلا أيِّ منّةٍ منه أو استعلاء على الآخر، يقول تعالى: ((وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيَّا)) [الزخرف: 32] فالتفاوت بين العباد في القوة والضعف والعلم والجهل والحذاقة والبلاهة والشهرة والخمول، لأجل حكمةٍ إلهية تقتضي اختبار البشر من خلال تعاملهم فيما بينهم على اختلاف مراتبهم الاجتماعية وعلى اختلاف ما وهبهم الله من إمكانات أهّلت كل واحدٍ منهم أنْ يكون مختلفًا بما عند الآخرين، فلو سوّى خالقهم فيما بينهم في كل هذه الأحوال لم يخدم أحدٌ أحدا ولم يصر منهم مسخرا لغيره وحينئذ يفضي ذلك إلى خراب العالم وفساد نظام الدنيا(1)؛ فلذا كان للحاكم أنْ يتذكّر حقّ هذه النعمة بأن يجعل قوّته فيما يُرضي الله من عدلٍ بين رعيته، وهذا الحقُّ الذي يؤدّيه في هذا المقام بالذات إنّما يُترجم شكره لله القوّي القادر على كلّ شيء، وبخلافه لا يرقب إلا الهلاك سريعاً؛ فالعدلُ هو المعيار الأسمى في الوفاء لحقِّ الرعية من قبل الحاكم، يقول سبحانه: ((وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصيرا)) [النساء: 58] .

وتأتي الحقوق التي يقرّها الله سبحانه وتعالى على المكلّف بها من عباده باتجاه الآخرين، في المرحلة الثانية؛ لأنّها ثمرة الحقوق الأولى المتعلّقة بذات الشخص فمن عرف ربّه عرف ما عليه من حقوق وواجبات إزاء نفسه، ومن ثمّ عرف ما عليه من حقوق للآخرين ينبغي أداؤها، وما له من واجبات ويبتني على مبدأ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام. بعبارة عصرية أن الحرية الشخصية تضمن حرية الآخرين ولا

ص: 238


1- ينظر: مفاتيح الغيب، الرازي 491/32

تتعدى على حقوقهم، وانتفاؤها يكون بالتجاوز. وكذلك على مبدأ التعاقد التكافل الاجتماعي، فالزوجة والأم والأب والولد والأخ وحتى المملوك ملك يمين والجارية، كلُّ أولئك لهم حقوقٌ ينبغي أداؤها بما يُرضي الله سبحانه.

وكذلك فيما يخص التعامل مع الآخرين من طبقات المجتمع بدءًا بالجار، والغريم والمستشير، والخليط والخصم والمشير والناصح والصغير والكبير، والسائل والمسؤول وأهل الملّة وأهل الذمّة، كلَّ هذه الحقوق تمثّل منظومة أخلاقية متكاملة تُصعّد الروح الإنسانية في آفاق التعامل وتضمن التكافل والتراحم فيما بينهم، وتعمل على ردم الهوّة الاجتماعية عبر ذلك التواصل المحبوب عند الله خالق الناس أجمعين، إذ يقرّر سبحانه تلك الحكمة من خلقه الناس على اختلافهم بقوله : ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)) [الحجرات: 13] فالتقوى التي يصلها الإنسان لا تتجلّى إلا من خلال تعامله مع الآخرين بما يُرضي الله وبما أمر في محكم قرآنه من تشريعاتٍ تضمن للجميع سعادتهم فيما لو اتّخذوا حكمه نهجًا في سائر أمورهم، وهو المجتمع الإنساني الصالح الذي يُؤهّل للاستخلاف على الأرض بما يُسارع إليه من خيرٍ سواء أكان بين أفراد المجتمع الواحد، أم بين المجتمعات، يؤطّر كلّ تلك الحقوق الخشية من الله والتورّع عن معاصيه؛ لما فيها من مفاسد تعود عليه في الدنيا بالخراب الاجتماعي والاقتصادي، وفي الدار الآخرة تورده موارد الهلكة في نار الجحيم، وقد مدح سبحانه أولئك الذين يعملون الصالحات بما استشعروه من إيمانٍ عميقٍ تغلغل في قلوبهم، فنتج عن ذلك الإيمان كلّ خير وصلاح في دُنياهم وآخرتهم، بقوله : ((إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)) [المؤمنون: 57-60[.

ويختم الإمام علیه السّلام في ذيل هذه الرسالة العظيمة بقوله: (فهذه خمسون حقّاً محيطاً بك

ص: 239

لا تخرُجُ منها في حالٍ من الأحوال يجب عليك رعايتها والعمل في تأديتها والاستعانة بالله جلّ ثناؤه على ذلك. ولا حول ولا قوة إلا بالله والحمد لله رب العالمين) ولا يخفى أنّ وصفَ الالتزام بهذه الحقوق بالواجب؛ لأهميتها القصوى في سعادة الإنسان، ولكونها ضرورية في تحقيق الشرط المائز في كيان هذا المخلوق ألا وهو الإنسانية، فمن دونها لا يستأهل الإنسان أن يوصف بهذا الوصف الرفيع الذي يجعله ممثّلاً للمشيئة الربّانية في عالم الدنيا ومستحقًا لثواب الله العظيم بموجب الالتزام بها.

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم

أساليب الإصلاحات الاجتماعية عند الإمام زين العابدين محمد محسن الجلالي، الأمانة العامة للعتبة الحسينية المقدّسة، ط1، 1436ه_ .

الأمالي للشيخ المفيد، أبو عبد الله محمد بن محمد بن النعمان العكبري البغدادي (ت: 413ه_)، مراجعة : علي أكبر غفاري، دار التيار الجديد دار المرتضى، قم، د.ت.

التحرير والتنوير: التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن محمد بن محمد الطاهر بن عاشور التونسي (المتوفى: 1393ه_)، الدار التونسية للنشر - تونس، 1984 ه_.

جامع السعادات، محمد مهدي النراقي، انتشارات اسماعیلیان، قم، ط7، مطبعة سرور، 1428ه_ .

دروس في الأخلاق، آية الله المشكيني، نشر الهادي قم 1379ه_.

صحيح البخاري، محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي (ت: 256 ه_)، تحقيق: محمد زهير بن ناصر الناصر ، دار طوق النجاة، ط1، 1422ه_.

صحیح مسلم، مسلم بن الحجاج أبو الحسن القشيري النيسابوري (المتوفى: 261ه_)، تحقيق: محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت، د.ت.

الفروق اللغوية، أبو هلال الحسن بن عبد الله العسكري (ت: نحو 395ه_)، حققه وعلق عليه : محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة - مصر، د.ت.

فلسفة الأخلاق، د. مصطفى عبده، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط2، 1999م.

مسند أبي داود الطيالسي، أبو داود سليمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصرى (المتوفى: 204ه_)، تحقيق: الدكتور محمد بن عبد المحسن التركي، دار هجر - مصر، ط1، 1419 ه_ - 1999م.

ص: 240

مسند الإمام أحمد بن حنبل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (المتوفى: 241ه_)، تحقيق: شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرون، إشراف: د عبد الله بن عبد المحسن التركي، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421 ه_ - 2001م.

معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس بن زكرياء القزويني الرازي (ت: 395ه_)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر ، عام النشر : 1399ه_ - 1979م.

مفاتيح الغيب = التفسير الكبير محمد بن عمر الملقب بفخر الدين الرازي (ت: 606ه_)، دار إحياء التراث العربي - بيروت، ط3، 1420 ه_.

منية المريد في أدب المفيد والمستفيد الشيخ زين الدين بن علي العاملي المعروف بالشهيد الثاني (ت: 966ه_)، تحقيق: رضا المختاري، د.ت.

ص: 241

الإصلاح الأخلاقي في فكر آل البيت علیهم السّلام «زيد الشهيد أنموذجاً»

د. حیدر زوین(1)

المقدمة

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين محمد المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الغر الميامين ومن والاهم إلى يوم الدين.

وبعد، فيعد الخلق الحسن من الأهداف المباركة التي دعا إليها الرسول الأكرم محمد (ص) ، وأئمة أهل البيت فهذه السمة الاجتماعية تعد من السمات الأساسيّة في بناء الإنسان الصالح وتكامله؛ نظراً لما تحمله من مضامين ومثل عليا ترفع من منزلة الأشخاص التي يتسمون بها، ومردها إلى النشأة والبيئة.

والتأديب كما ورد عن الأثر في قول الرسول الأعظم صلّی الله عله و آله : ((لقد أدّبني ربي؛ فأحسن تأديبي)) يدل من دون شك على ندرة هذا المبحث الإنساني في المجتمع وذلك؛ لأنّ لفظة تأديب في المعجم تعني : كثرة الأدب وتكريره؛ فالتأديب: يقتضي حمل سمات الآداب العامة الرئيسة، وما يتمخض عنها من سمات إضافيّة وهي بزنة تفعيل التي تقتضي المبالغة في الأمر.

ص: 242


1- كلية الآداب جامعة الكوفة - قسم اللغة العربية، جاء بحثه حفرا في مفهوم الإصلاح الأخلاقي عبر التأصيل اللغوي والشرعي من اجل كشف جذور هذا الإصلاح في القرآن ومن ثم في في فكر آل البيت عليهم السلام " زيد الشهيد أنموذجاً "، المحرر

وقد قسمت بحثي الموسوم: ((الإصلاح الأخلاقي في فكر أهل البيت علیهم السّلام زيد الشهيد أنموذجاً)) على ثلاثة مباحث سبقا بمقدمة وانتهيا بخاتمة تبين أهم النتائج التي توصل إليها الباحث فضلاً عن قائمتين إحداهما لهوامش البحث والأخرى لمظان البحث الرئيسة : (المصادر والمراجع) ، وقد قسِّم المبحث الأول الذي جاء :بعنوان مفهوم الإصلاح بين اللغة والاصطلاح والقرآن الكريم على ثلاثة محاور حمل الأول عنوان: الإصلاح لغة واصطلاحاً، والثاني: مظاهر الإصلاح في القرآن الكريم أما المبحث الثاني فقد وسم بعنوان: الإصلاح الأخلاقي في فكر آل البيت علیهم السّلام ودرس المبحث الثالث: مظاهر الإصلاح الأخلاقي في خطبة زيد بن علی علیه السّلام.

وقد استعان الباحث بمجموعة من المصادر التاريخية والأدبية واللغوية والدينية كي ينجز هذا البحث المتواضع فهو لا يدعي الكمال في كل ما قام به وما بذله من جهد؛ لأن الكمال لله عز وجل وحده والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطيبين الطاهرين.

المبحث الأول: مفهوم الإصلاح بين اللغة والاصطلاح والقرآن الكريم

أولاً : مفهوم الإصلاح في اللغة: الإصلاح هو مصدر للفعل الرباعي (أصلح)، (يصلح) والمصدر (إصلاحاً) وثمة فارق أسلوبي بين إصلاح وصلاح فصلاح مصدر للفعل الثلاثي : (صلح) وإصلاح للرباعي (أصلح) (1).

ثانياً: مفهوم الإصلاح (اصطلاحاً): الإصلاح قد يرد في دلالات عدة دلالات عدة وهي على النحو الآتي.

الإصلاح نقيض الفساد أقول: أصلحت نفسي أي عالجت فسادها (2).

الإصلاح بمعنى معالجة الخطأ السلوكي للفرد أقول أصلحت الطالبة من سلوكها أي قوّمتهُ بالإصلاح(3).

ص: 243


1- ينظر: لسان العرب، ابن منظور، مادة (صلح)
2- ينظر: المفردات في غريب القرآن المؤلف : أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (المتوفى: 502ه_)، 134
3- ينظر: المصدر نفسه: 168

الإصلاح قد يقابل السيئة في موضع آخر ودلالة ثانية كقولنا عمل فلان عملاً صالحاً وتبعه عملاً سيئاً (1).

الإصلاح يحمل دلالة هداية ورشاد من رب العزة لعباده وذلك من خلال قول الصدق واتباع الحق (طريق الصواب) (2).

الإصلاح يعني إزالة البغضاء والتشاحن ومحو التنافر والعداء بين طرفين متخاصمين(3) .

ثالثاً: مفهوم الإصلاح في القرآن الكريم

وردت لفظة الإصلاح في ثمانية مواضع في القرآن الكريم في وقد جاءت على النحو الآتي:

وردت هذه اللفظة لمرتين فقط بصيغة المصدر ( إصلاح) الأولى في قوله تعالى: «وَلاتُفْسِدُوافيالأرضبَعْدَإِصْلاحِهَا»(4) و تارة ثانية في قوله عز من قائل: «إِنْ أُرِيدُ إِلّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ مَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أنيب»(5) .

ووردت بصيغة اسم الفاعل (صالح) من الفعل الماضي الثلاثي (صلُح) في ثلاث آيات في قوله تعالى: «خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَ آخَرَ سَيِّئًا»(6) ، وفي قوله تعالى : «وَلَقَد اصْطَفَيْنَاهُ في الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ»(7) ، وفي قول العزيز الحكيم «وَيُكَلَّمُ النَّاسَ في الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ»(8).

ص: 244


1- ينظر: المصدر نفسه: 321
2- ينظر: المصدر نفسه : 245
3- ينظر المصدر نفسه : 90
4- (سورة الأعراف : الآية 56)
5- (سورة هود: الآية 88)
6- (سورة التوبة: الآية 102)
7- (سورة البقرة: 130)
8- (سورة آل عمران 46)

ووردت بصيغة اسم الفاعل (مصلح) على زنة جمع السلامة من اسم الفاعل المصاغ من الفعل الرباعي في سورة البقرة في قول الحكيم الخبير: ((وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)) (1) .

فيما وردت بصيغة الفعل المضارع (يصلح) في قوله تعالى:

(«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ»)(2) ،

وبصيغة الفعل المضارع المنصوب بحذف النون في قول العزيز الحكيم: («وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لأيمَانِكُمْ أَن تَبَرُّوا وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»)(3) .

فالمتمعن في الآيات المتقدمة يستنتج منها المفهوم الذي أراده القرآن الكريم وهو كما يشير المفسرون إلى أن الإصلاح هو تغيير تدريجي جزئي. ومن أدلّة الإصلاح قوله صلّی الله علیه و آله ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان)) (4).

ويعد الإصلاح نمطاً أساسياً من أنماط التغيير الذي يتخذ أشكالاً عدّة من أهمها التقويم والتقويم يعبر عن موقف يتجاوز كل من موقفي الرفض المطلق والقبول المطلق إلى موقف نقدي قائم على أخذ وقبول الصواب، ورد ورفض الخطأ، فهو نقد للسلطة لتقويمها لغرض الكشف عن أوجه قصورهاعن أداء دورها. ومن أشكال الإصلاح النصيحة وما يدل على ذلك قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله ! ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)) (5) يقول

ص: 245


1- ( سورة البقرة: الآية 11)
2- (سورة الأحزاب : الآية 71)
3- (سورة البقرة الآية 224)
4- (صحیح مسلم المسمى بالمسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل الى رسول الله (ص) للإمام الحافظ أبي الحسين هشام بن الحجاج القشيري النيسابوري (261206ه_) : الحديث 78)
5- المصدر نفسه: الحديث 260

الباقلاني بعدما ذكر فسق الإمام وظلمه ((... بل يجب و عظه و تخويفه و ترك طاعته في شيء ممّا

يدعو إليه من معاصي الله)) (1).

رابعاً: مفهوم الإصلاح الأخلاقي في فكر أهل البيت علیهم السّلام.

وما نقصده بالإصلاح الأخلاقي الإصلاح الذي يهدف إلى مكارم الأخلاق التي دعا إليها النبي الأكرم محمد صلّی الله علیه و آله و أئمة أهل البيت علیهم السلام؛ بغية الحفاظ على القيم الاجتماعية والثقافية والدينية في المجتمع الإسلامي ويتحقق ذلك من خلال النصح والإرشاد والوعظ .

ومن ذلك قوله تعالى مخاطباً نبيه الأكرم محمد صلّی الله علیه و آله: ((وإنّك لعلى خلق عظيم)) (2) .

وقول الرسول صلّی الله علیه و آله : أ) (( إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)) (3).

ب) وقوله صلّی الله علیه و آله: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم أخلاقاً، وخياركم خياركم لنسائكم)) (4).

ت) وقوله صلّی الله علیه و آله : ((إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم؛ فسعوهم بأخلاقكم)) (5) .

ث) وقوله صلّی الله علیه و آله: ((أفاضلكم أحسنكم أخلاقاً الموطئون أكنافا الذين يألفون

ويؤلفون)) (6).

ج) وقوله صلّی الله علیه و آله: ((أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً، وخيركم لأهله)) (7).

ص: 246


1- ينظر : تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل المؤلف: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (المتوفى: 403ه_)، 186
2- (سورة القلم، الآية 4)
3- جامع الأصول : 4/4 و السلسلة الصحيحة: 75/1
4- سنن ابو داود: 632/2 ت: 4682 و الكافي: الكليني، 99/2، وجواهر البحار 373
5- العيون 53/2 ، وأمالي الصدوق : 268
6- الكافي : 102/2
7- العيون: 38/2

-3 وقول الإمام علي علیه السّلام: أ) ((حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق)) (1).

ب) وقوله علیه السّلام : ((وعليكم في طلب الحوائج بأشراف النفوس وذوي الأصول الطيبة، فإنّها عندهم ،أقضى، وهي لديهم أزكى)) (2) .

ت) وقوله علیه السّلام: (( عنوان صحيفة المؤمن حسن خلقهِ)) (3) .

-4 وقول الإمام الحسن علیه السّلام : ((إنّ أحسن الحسن الخلق الحسن)) (4) .

5- وقال الإمام الصادق علیه السّلام : أ ) (( إن الله خصّ رسله بمكارم الأخلاق وطبعهم عليها، فامتحنوا أنفسكم؛ فإن كانت فيكم فاحمدوا الله عز وجل واعلموا أنّ ذلك من خير، وإن لم تكن فيكم فاسألوا الله تعالى التوفيق لها واجتهدوا)) (5).

ب) (( مكارم الأخلاق عشرة : اليقين والقناعة والصبر والشكر والحلم وحسن الخلق والسخاء والمروءة والغيرة والشجاعة)) (6).

ت) (( ما يقدم المرء على الله عز وجل بعمل بعد الفرائض أحبّ إلى الله تعالى من أن يسع الناس بخلقهِ)) (7) .

وقد أشار الشعراء إلى هذه الخلّة الحميدة، أشادوا بها ومن ذلك قول الشاعر حبيب ابن أوس (أبو تمام):

فلم أجد الأخلاق إلا تخلقاً ...... ولم أجد الأفضال إلا تفضلا

ص: 247


1- غرر الحكم ودرر الكلم: الآمدي، مطبعة: دار الثقافة - النجف ، 167
2- المصدر نفسه: 214
3- ميزان الحكمة: الريشهري، 359/1
4- المصدر نفسه، 411/2
5- الكافي : 56/2
6- ميزان الحكمة: محمد الريشهري ، 856/2
7- الكافي : 100/2

أحمد شوقي:

صلاح أمرك للأخلاق مرجعه ...... فقوِّم النفسَ بالأخلاقِ تستقمِ

وقال معروف الرّصافي في الموضوع نفسه:

هي الأخلاقُ تنبتُ كالنباتِ ...... إذا سقيتْ بماء المكرماتِ

وقد أشاد الشاعر محمود الأيوبي بهذه الصفة وبحاملها إذ يقول:

والمرءُ بالأخلاقِ يسمو ذكره ...... وبها يفضّلُ في الورى ويوقّرُ

المبحث الثالث : أنماط الإصلاح في خطبة زيد بن علي رضي الله عنه:

قال زيد الشهيد رضي الله عنه في خطبته الشهيرة حين أراد الخروج إلى المعركة :

(( الحمد لله الذي منّ علينا بالبصيرة، وجعل لنا قلوباً عاقلة وأسماعاً واعية، قد أفلح مَن جعل الخير شعاره والحقّ دِثاره، وصلّى الله على خير خلقه محمد الصادق الذي جاء بالصدق وصدّق به من عند ربه والطاهرين من عترته وأُسرته والمنتجبين من أهل بيته أيها الناس العَجَل قبل حُلول الأجل، وانقطاع الأمل، فوراً.. كم طالب لا يفوته هارب إلّا هرب منه إليه، ففِرّوا إلى الله بطاعته، واستجيروا بثوابه من عقابه، فقد أسمعكم وبصّركم ودعاكم إليه وأنذركم وأنتم اليوم حجّة على مَن بعدكم، إن الله يقول: ليتفقّهوا في الدِّين وليُنذروا قومَهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يَحذرون. ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات أولئك لهم عذاب عظيم. عِبادَ الله، إنا ندعوكم إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا الله ولا نُشرك به شيئاً ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً مِن دون الله سبحانه وتعالى، إنّ الله دمّر قوماً اتّخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله. عباد الله، كأنّ الدنيا إذا انقطعت وتقضّت لم تكن، وكأنّ ما هو كائن قد نزل، وكأن ما هو زائل قد رحل، فسارعوا في الخيرات واكتسبوا المعروف تكونوا مِن الله

ص: 248

بسبيل، فإنّ من سارع في الشرو اكتسب المنكر ليس من الله في شيء أنا اليوم أتكلّم وتسمعون ولا تنصرون وغداً بين أظهركم هامة فتندمون، ولكن الله ينصرني إذا ردّني إليه، فهو الحاكم بينا وبين قومنا بالحق، فمن سمع دعوتنا وأناب إلى سبيلنا وجاهد بنفسه نفسه ومَن يليه من أهل الباطل لادّعائهم الدنيا الزائلة الآفلة على الآخرة الباقية، فالله من أولئك بريء؛ وهو يحكم بيننا وبينهم. إذا لقيتم قوماً فادعوهم إلى أمركم؛ فإن يُستجبْ لكم برجلٍ واحد خيرٌ مما طلعت عليه الشمس من ذهب وفضة؛ وعليكم بسيرة أمير المؤمنين علیه السّلام بالبصرة ؛ لا تتبعوا مُدبراً؛ ولا تُجهزوا على جريح؛ ولا تفتحوا باباً مغلقاً، والله على ما نقول وكيل. عبادَ الله، لا تقاتلوا عدوكم على الشكّ فتضلّوا عن سبيل الله ، ولكن البصيرة ثمّ القتال؛ فإنّ الله يجازي عن اليقين أفضل جزاء يجزي به على حقّ؛ إنّه مَن قتل نفساً يشكّ في ضلالتها كمن قتل نفساً بغير حق عباد الله البصيرة ثمّ البصيرة)) (1).

يتمثل الإصلاح في ثورة زيد بن علي علیه السّلام في الأنماط الآتية /

الإصلاح السلوكي: فهذه الكلمات التي سطّرها سلام الله عليه تعبر بحق عن الإصلاح الحقيقي الذي مثلته تلك الثورة المعطاء فهو لم يخرج طمعا في منصب أو رغبة إلى مال وإنما طلباً إلى الإصلاح السلوكي لأمة جده رسول الله صلّی الله علیه و آله والاقتداء بسيرة سيد الوصيين الإمام علي بن أبي طالب علیه السّلام واستكمالاً للمشروع الريادي الذي بدأه الإمام الحسين السبط علیه السّلام . والأئمة من ذريته أجمعين. إذ يتمثّل هذا الإصلاح في قوله رضي الله عنه: (( الحمد لله الذي منّ علينا بالبصيرة، وجعل لنا قلوباً عاقلة وأسماعاً واعية، قد أفلح مَن جعل الخير شعاره والحقّ دِثاره، وصلّى الله على خير خلقه محمد الصادق الذي جاء بالصدق وصدّق به من عند ربه والطاهرين من عترته وأُسرته، والمنتجبين من أهل بيته، أيها الناس العَجَل العَجَل قبل حُلول الأجل، وانقطاع الأمل، فوراً.. كم طالب لا يفوته هارب إلا هرب منه إليه، ففِرّوا إلى الله بطاعته، واستجيروا بثوابه من عقابه، فقد أسمعكم وبصّركم ودعاكم إليه وأنذركم وأنتم اليوم حجّة على مَن بعدكم)) (2).

ص: 249


1- الحدائق الوردية في مناقب أئمة الزيدية، تأليف: شيخ الإسلام: الشهيد حميد بن أحمد بن محمد المحلي 143/3
2- المصدر نفسه: 143/3

فقد وشحت هذه الخطبة بمظاهر اجتماعيّة رئيسة أكد عليها القرآن الكريم وحثّ عليها الرسول الكريم التي تتمثل في رفض الظلم ونبذ العبودية وعدم الركون إلى الحاكم الجائر وعدم مداهنة الباطل في سلوكياته؛ لأنّ ذلك سيجلب مزيداً من الويلات والمآسي ويلحق بأمّة الإسلام العار والشنار.

الإصلاح الأخلاقي: ويتمثل هذا النمط من الإصلاح في وصاياه (رضوان الله تعالى عليه) لجنوده قبل النزول إلى ميدان الحق ومقارعة الباطل إذ يذكر هؤلاء الجند بأخلاق وتصرفات جيش الإمام علي علیه السّلام في معركة الجمل إذ قال: ((وعليكم بسيرة أمير المؤمنين عليه السّلام بالبصرة؛ لا تتبعوا مُدبراً؛ ولا تُجهزوا على جريح؛ ولا تفتحوا باباً مغلقاً، والله على ما نقول وكيل )) (1) ، فجميع هذه الأفعال والتصرفات مجموعة من الوصايا الاجتماعيّة التي ركّزت على الخلق السامي الذي يجب أن يتمتع به الإنسان المسلم بوصفه مقاتلاً قبل أن ينزل أرض المعركة.

الإصلاح القرآني: ويتمثل في اقتباساته رضي الله عنه المتعددة من القرآن الكريم، ومن ذلك قوله: ((إن الله يقول: ليتفقّهوا في الدِّينِ وليُنذروا قومَهم إذا رجعوا إليهم لعلّهم يَحذرون)) (2)، وهنا جاء بالاقتباس القرآني المباشر ليكون أقرب إلى نفس المتلقي من غيره (غير المباشر) الذي استعمله أيضا في موضع آخر في قوله: ((ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات أولئك لهم عذاب عظيم)) (3)، وقوله في موضع آخر : ((عِبادَ الله، إنّا ندعوكم إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا الله ولا نُشرك به شيئا)) (4)، وقوله في موضع ثالث: ((ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً مِن دون الله سبحانه وتعالى)) (5)، والملاحظ أنّ هذا الاقتباس أكثر استعمالاً من النوع الأوّل لما يحمله من خاصيّة تتمحور في تخفّي الآيات القرآنية في ثنايا الخطابة فيبدو النصّان

ص: 250


1- المصدر نفسه : 143/3
2- (سورة التوبة : الآية 122)
3- (سورة آل عمران: الآية 105)
4- (سورة آل عمران: الآية 64)
5- (سورة التوبة: الآية 31)

(القرآني، والخطابي) كأنهما نصٌ واحد، وهذه المزيّة هي التي ترفع من القيمة الفنيّة للخطابة، وتعمِق أهداف الخطابة في نفس السامع.

الإصلاح التأديبي: ويشمل هذا الإصلاح الموعظة والنصيحة؛ لأنّه يدخل من باب الآداب العامّة التي يجب أن يتحلى بها الشخص بوصفه إنساناً، وقد يطلق عليه بالإصلاح الإنساني ويتجلّى ذلك في قولِه: ((لا تتبعوا مُدبراً؛ ولا تُجهزوا على جريح؛ ولا تفتحوا باباً مغلقاً)) (1)، فقد استعمل (رضوان الله تعالى عليه) أسلوب النهي المتمثل ب_(لا الناهية الجازمة)، والفعل المضارع المجزوم في ثلاثة مواضع ، وهذه الأفعال نهي لجنده من أجل الابتعاد عن هذه الممارسات التي قد يرتكبها الجند في الحروب من بعد أن يدخلوا المدن فالأعراف الاجتماعيّة تُحتِم على سليل النبوة اتِباع هذا النمط ؛ لأنّه القدوة الصالحة من تلك الشجرة النبويّة المباركة وهذا يظهر المذهب الحق الذي دعا إليه زيد الشهيد.

الإصلاح الوعظي (الإرشادي): وقد تحدثنا عن هذا النمط في المبحث الأول وأشرنا إليه وذكرنا أنه يدخل في جوانب النصيحة والإرشاد ويتمثّل هذا النمط في قوله (رضوان الله تعالى عليه) : ((أيها الناس العَجَل العَجَل قبل حُلول الأجل، وانقطاع الأمل، فوراً .. كم طالب لا يفوته هارب إلّا هرب منه إليه، ففِرّوا إلى الله بطاعته، واستجيروا بثوابه من عقابه ، فقد أسمعكم وبصّركم ودعاكم إليه وأنذركم وأنتم اليوم حجّة على مَن بعدكم)) (2) .

فقد شاع عن العرب الأوائل في عصر ما قبل الإسلام استعمال الحكم والمواعظ والأمثال القديمة وتضمينها خطبهم الحربيّة؛ وذلك من أجل حث المقاتلين على الاستبسال والمضي قدما نحو النصر والشائع في هذا النمط استعمال أفعال الأمر، وقد جاءت هنا على التتالي: ( ففروا إلى الله، واستجيروا بثوابه) وهذه الأفعال مبنية على الضم؛ وهي مسندة إلى واو الجمع وهذا الإسناد يحمل دلالة الكثرة من المخاطبين ومن الملفت في

ص: 251


1- الحدائق الورديّة: 143/3
2- المصدر نفسه: 143/3

هذا النمط أيضا استعمال أسلوب التكرار في قوله : (العَجَلْ العَجَلْ) والمظهر الفني في هذا الجانب هو شد الأذهان على اللفظ المكرر الذي يحمل فائدة السرعة والتوكيد وتمكين جرس الألفاظ حتى تتزامن هذه اللفظة مع الألفاظ التي تنتهي بصوت اللام.

فضلاً عن ذلك نلمح سمة فنيّة صوتيّة أخرى تتمثل في استعماله (رض) للجناس الاشتقاقي في قوله : ((كم طالب لا يفوته هارب إلّا هرب منه إليه)) (1) فالجذر (هرب) هو الأصل ولذا اشتق منه اسم الفاعل هارب.

وهرب منه في المعجم تختلف في الدلالة عن هرب إليه ؛ لأن هرب منه أي خاف منه وهرب وابتعد عنه، وهرب إليه: أي: هرب نحوه والتجأ إليه وهذا هو الذي يحقق الانسجام الصوتي والصرفي في هذا المقطع من الخطبة.

ص: 252


1- المصدر نفسه 143/3. قائمة بمظان البحث الرئيسة (المصادر والمراجع) خير ما نبتدئ به كتاب الله العزيز (القرآن الكريم). تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل المؤلف : محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (المتوفى: 403ه_) المحقق: عماد الدين أحمد حيدر الناشر: مؤسسة الكتب الثقافية - لبنان الطبعة: الأولى، (1407ه_ - 1987م)، عدد الأجزاء: 1. الحدائق الورديّة في مناقب أئمة الزيديّة: تأليف/ شيخ الإسلام الشهيد حميد بن أحمد بن محمد المحلي ت(652ه_)، تحقيق: د. المرتضى بن زيد المحظوري الحسني، مطبعة: مركز بدر للطباعة، والنشر والتوزيع، ط2، صنعاء- (1423ه_ 2002م.) (صحيح مسلم المسمى بالمسند الصحيح المختصر من السنن بنقل العدل عن العدل الى رسول الله (ص) للإمام الحافظ أبي الحسين هشام بن الحجاج القشيري النيسابوري (206 - 261ه_)، تحقيق: نظر بن محمد الفاريابي (أبو قتيبة)، منشورات: دار طيبة للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، الرياض (1427ه_ - 2006م). لسان العرب: لأبي الفضل جمال الدين محمد بن مکرم بن منظور، سنة النشرف 2003م (د. ت)، منشورات: دار صادر، بيروت، عدد الأجزاء (15). المفردات في غريب القرآن المؤلف: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (المتوفى: 502ه_) المحقق: صفوان عدنان الداودي الناشر : دار القلم الدار الشامية - دمشق بيروت الطبعة: الأولى - 1412 ه_

الخاتمة

في نهاية هذا البحث لابد من ذكر النتائج التي توصّل إليها الباحث

الإصلاح يحمل معاني عدة وهي تختلف بين المعجم العربي والقرآن الكريم وهذا يعود إلى طبيعة استعمال المفردة وموقعها في السياق فضلا عن تفسير السورة في القرآن الكريم ورؤية المفسر، استعملت لفظة الإصلاح في القرآن الكريم في ثمانية مواضع، إذ وردت بصيغة المصدر (إصلاح) في موضعين وفي المواضع المتبقية: (بصيغة الفعل الماضي وصيغة الفعل المضارع وصيغة اسم الفاعل)

مفهوم الصلاح مأخوذ أساساً من الفعل الماضي الثلاثي (صلح)، في حين أن مصطلح الإصلاح مرجعه الفعل الرباعي (أصلح).

تمخّض الإصلاح في خطبة زيد الشهيد رضي الله عنه بمجموعة من الأنماط والمضامين التي اتّضحت من خلال خطبته، وقد جاءت هذه الأنماط على النحو الآتي:

الإصلاح القرآني.

الإصلاح التأديبي

الإصلاح الأخلاقي.

الإصلاح السلوكي.

الإصلاح الوعظي.

يتمثّل الإصلاح القرآني في الاقتباس القرآني الذي استعمله زيد الشهيد رضي الله عنه بين الفينة والفينة وقد جاء هذا الاقتباس على نوعين الأول غير المباشر والآخر المباشر وفائدة الأول الانسجام النصي بين النص القرآني والخطابي والآخر فهو يحمل قيمة فنيّة تتمثل في تخفي الآيات الكريمات في ثنايا هذا الفن فيبدو النصّان بنصٍ واحد.

ص: 253

يتمثّل الإصلاح الوعظي أو الإرشادي في كثرة استعمال الإمام لأسلوبي النهي والأمر وعادةً ما يستعمل الفعل المضارع المسبوق ب_( لا ) الناهية الجازمة فضلاً عن ذلك نلمح أسلوب الأمر يتمثّل في استعمال أفعال الأمر والخاصيّة الثالثة هي توافد الأمثال والمواعظ والحكم وهي سمة من سمات الخطابة في عصر ما قبل الإسلام.

الإصلاح التأديبي الذي حملته خطبة الشهيد زيد تمثّل في الحث على نبذ الأعراف الشائنة التي كان اعتاد عليها الجند العرب في حروبهم وغاراتهم وقد جاء الإسلام المحمدي الأصيل ونهى عنها ونفر منها الثلة الصالحة المتمثلة بآل البيت علیهم السّلام.

ص: 254

النسبة بين الفقه والأخلاق في تعاليم الإمام الرضا علیه السّلام

تعريب: حسن مطر

بقلم: أحمد باكتجي(1)

الخلاصة

لقد كانت النسبة بين الفقه والأخلاق موضع تأمل علماء الدين، وشغلت اهتمامهم منذ القدم ولا تزال، ولكنها في الظروف الراهنة - حيث نشهد تحولاً في العلاقات الاجتماعية والثقافية وتغيّراً في أنماط الحياة - فقد تضاعفت الحاجة إلى بيان هذه النسبة إثر تطور الفقه والاهتمام بمكانة الأخلاق في الحياة الاجتماعية، وهو أمرٌ ضاعف من ضرورة إعادة النظر في هذه المسألة. ومن بين الأئمة الأطهار علیهم السّلام يبدو أن الإمام الرضا علیه السّلام قد أبدى - بسبب الظروف الاجتماعية والثقافية القائمة عصره - أهمية خاصة بالفقه والأخلاق، وقد بحث مختلف جوانب هذه المسألة على نطاق واسع. وفي هذا الإطار يمكن لنا أن ندرك أن رؤية طيف إلى التكاليف الدينية، والاهتمام بعلل الشرائع ومناشئها الأخلاقية والإنسانية، والاستناد إلى التأديب في السلوك الديني وغير ذلك من أساليب المواجهة الخاصة مع مسائل الشريعة التي نشاهدها في أحاديث الإمام الرضا علیه السّلام، قد شكلت أرضية صلبة للربط والأخلاق في تعاليم هذا الإمام الهمام، حيث يمكن لإدراك دقائق هذه التعاليم أن يمثل نموذجاً ناجعاً لإعادة النظر في مسائل عصرنا.

الكلمات المفتاحية: الأخلاق الفقه الإمام الرضا علیه السّلام، المعارف.

ص: 255


1- أستاذ مساعد في علوم القرآن والحديث في جامعة الإمام الصادق (عليه السلام). apakatchi@gmail.com

المقدمة

لقد كانت النسبة بين الفقه والأخلاق موضع بحث بين العلماء منذ القدم، بيد أن هذه النسبة إنما تزداد تعقداً بشكل خاص عندما يصل بنا الأمر إلى الحديث عن الأخلاق الدينية. إن المصادر الرئيسة للفقه والأخلاق الدينية في النصوص الدينية تتلخص في القرآن الكريم والسنة الشريفة، وكلاهما يتحدث عن الواجبات والمحظورات، ولذلك لا يكون هناك فرق بينهما لا من الناحية المضمونية ولا من ناحية المصادر والمراجع. وربما أمكن القول: إن وجه الاختلاف والتمايز الوحيد بين الفقه والأخلاق الدينية يكمن في الحدود المرسومة بشكل تعيّني في تاريخ العلوم الإسلامي، وهذا في حين أنه عند الحديث في حقل النصوص، يكون تطبيق هذه الحدود صعباً، بل وقد يكون متعذراً في بعض الأحيان. وفيما يتعلق بالقرآن الكريم يستحيل رسم الحدود بين الآيات الفقهية آيات الأحكام والآيات الأخلاقية، كما يبدو الأمر مشكلاً بنفس النسبة فيما يتعلق بأحاديث النبي الأكرم صلّی الله علیه و آله والأئمة الأطهار علیهم السّلام أيضاً. فما أكثر الأحاديث التي يعتبرها الفقهاء من الأحاديث الفقهية، وفي الوقت نفسه يذهب علماء الأخلاق إلى اتخاذها مستنداً لاستنباط القواعد والأصول الأخلاقية.

ليس هناك من خلاف بين علماء الإسلام في القول بأن التخلق بالفضائل الأخلاقية واجتناب الرذائل من شأنه أن يوصل الإنسان إلى التعالي، بيد أن السؤال يدور بينهم حول الحد الأدنى الضروري من ذلك. وفي الوقت الذي يذهب طيف من العلماء إلى القول بأن الفقه والأخلاق حقلين متعاشقين، ولا يعتبرون الحد الأدنى من الإلزامات المفروضة على الإنسان منحصراً بالتعاليم المبوّبة بوصفها أحكاماً فقهية، يذهب طيف آخر من العلماء إلى نوع من الورع الفقهي، ويعملون على تحديد الإلزامات العملية بالإلزامات الفقهية.

وفي خصوص ما تقدم يبدو من المهم جداً أن نبحث من أجل العثور على موقف الأئمة الأطهار علیهم السّلام والحلول المطروحة من قبلهم والمقالة الراهنة تبحث في الإطار

ص: 256

العام لهذا الموقف والحل، رغم أن التفصيل في ذلك يحتاج - بطبيعة الحال - إلى مساحة أكبر من مجرّد مساحة مقالة. وفي هذا السياق يبدو أن البحث بشأن النسبة بين الفقه والأخلاق في الأحاديث المأثورة عن الإمام الرضا علیه السّلام من الكثرة والأهمية بحيث يمكن من خلال تحليلها التقدم خطوة في إطار تصوير هذا الارتباط.

إطلالة على المدارس المنافسة في التربية الأخلاقية

من بين المدارس الأخلاقية في التاريخ تتجلى مدرسة الأئمة من أهل البيت علیهم السّلام في القرن الهجري الأول بوصفها مدرسة تجمع بين الترابط والانسجام وبين عدم انفصالها عن الأوضاع الاجتماعية والحاجة الثقافية لعصر كل واحد من الأئمة الأطهار علیهم السّلام.

لقد تجلت خصوصية تعاليم الإمام الباقر علیه السّلام - طوال القرن الهجري الثاني - بالمقارنة إلى الأئمة السابقين بسعة التعاليم والخوض التفصيلي في تحليل مكارم الأخلاق ومساوئها، وإن الذي تمّ الاهتمام به في تعاليم هذا الإمام الهمام أكثر من غيره يمثل وجوهاً من الأخلاق الاجتماعية، من قبيل: التأكيد على قضاء حوائج المؤمنين، وكيفية تنظيم العلاقات بينهم، بل وحتى آداب مصاحبتهم، واختيار الصاحب من بينهم (1).

وفيما يتعلق بمورد التعاليم الأخلاقية للإمام الصادق علیه السّلام يمكن لنا أن نؤكد بعض الأمور ، وهي تعاليم بشأن كيفية تعامل الشيعة مع عامة المسلمين، وتعاليم بشأن وظائف وحقوق الشيعة على بعضهم ومواعظ متنوّعة في باب التخلق بمكارم الأخلاق، وتجنب مساوئ الأخلاق. وكذلك جانب من تعاليمه الناظرة إلى نقد الاتجاهات الصوفية التي كانت مدوّنة آنذاك في شكلها البدائي، وفي المقابل كان علیه السّلام يوصي أتباعه بممارسة حياة طبيعية ومتعارفة وعيشة معتدلة (2).

ص: 257


1- انظر مثلاً : الكليني، (1391ه_)، ج 2، ص 181؛ أبو نعيم الإصفهاني، (1351 ه_)، ج 3، ص 184 – 187
2- انظر: الكليني، (1391 ه_)، ج 5، ص 65 - 70 ، وج 6، ص 441 – 444؛ أبو نعيم الإصفهاني، (1351ه_)، ج 3، ص193

يجب القول إنه بالتوازي مع هذه المدرسة في القرن الثاني للهجرة قد تبلورت مدارس أخرى، دخلت في حوار مع هذه المدرسة. وهي المدارس التي تم تأسيسها في القرن الأول للهجرة بهمّة الفقهاء السبعة في المدينة المنوّرة على أساس رؤية فقهية، وقد تمّ الاستناد فيها إلى ورع فقهي هو عبارة عن امتثال الواجبات الدينية وتجنب محرّمات الشرع (1) . وقد استمرّ هذا المسار في القرن الهجري الثاني على يد عالم المدينة الشهير (مالك بن أنس)، حيث كان يؤكد على التعاليم التقليدية لأصحاب المدينة في باب الزهد والتنسّك، وكان يخالف الامتناع عن النعم الدنيوية، مقدماً تفسيراً فقهياً للزهد والورع (2) . وفي مقدمة رسالة خاطب فيها الخليفة العباسي هارون الرشيد أكد - بعد ذكر الموت وأهوال القيامة - على إقامة العبادات الشرعية برؤية فقهية (3) .

وفي معرض جولتنا على المدارس الأخلاقية في العراق يجب أن نشير إلى ثلاث مدارس رئيسة تبلورت في نهاية القرن الأول للهجرة واستمرت طوال القرن الثاني للهجرة، وهي: مدرسة البصرة ذات الاتجاه التخويفي بزعامة الحسن البصري (م: 110ه_)، حيث تقوم على التخويف من العقاب، وعدم الانكباب على الدنيا، والتأكيد على الزهد والإكثار من العبادة وملازمة الحزن، وإن رؤيتها المفرطة إلى الزهد وترك الدنيا، قد وضعت تعاليمها على مسافة بعيدة من التكاليف الفقهية. ومدرسة الرجاء البصرية بزعامة ابن سيرين (م: 110ه_)، وهي تؤكد على الرجاء وتمتاز بخصائص من قبيل: الدعوة إلى السعي من أجل الدنيا في الحدود المتعارفة، والورع واجتناب المحرمات والشبهات والاقتصاد والاعتدال في العبادة، والتأكيد على كثرة الاستغفار، ومعاشرة الناس ومخالطتهم بالبشر والمعاملة الحسنة، وموقفها تجاه النسبة بين الفقه والأخلاق أقرب إلى موقف مدرسة المدينة ومدرسة الإرجاء الكوفية بزعامة أبي حنيفة الذي كان في الحياة الفردية يعتبر العمل - برغم قيمته - منفصلاً عن حقيقة

ص: 258


1- انظر : أبو نعيم الإصفهاني، (1351 ه_)، ج 2، ص 162
2- انظر: الدميري، (بلا تاريخ) ، ج 2، ص 2، ص 317 – 318
3- انظر: مالك بن أنس، (1373 ه_)، ص 6 - 8

الإيمان، وهو رغم عدم تبشير العاصي بالجنة إلا أنه يعتبره مؤمناً وأخاً دينياً لسائر أفراد المجتمع. إن هذه المدرسة - التي كان بعض أتباعها من مشاهير الفقهاء - حيث لم تكن تربط العمل بالإيمان مباشرة ، لم تكن ترى حاجة إلى فصل اتباع الحدّ الأدنى من المستوى الفقهي عن اتباع الحد الأقصى الذي يفوق التعاليم الفقهية (1) .

بعد هذه الإطلالة والجولة القصيرة على آراء المعاصرين من العامة والفضاء الذي کان يسود المحافل العلمية في خصوص العلاقة بين الأحكام الفقهية والأخلاقية، نسعى إلى بيان موقف الإمام الرضا علیه السّلام من هذه المدارس المختلفة، وما هي النسبة المرسومة في الروايات المأثورة عنه بين الفقه والأخلاق.

تبويب مقولة الأحكام والنسبة بين الفقه والأخلاق

إن من بين التحديات الهامة التي شهدتها المحافل الفقهية طوال القرن الهجري الثاني، نمط التعاطي مع أحكام القرآن الكريم والارتباط بينه وبين السنة النبوية. طوال ذلك القرن كان هناك تياران متوازيان، وقد أدى التعارض الفكري بينهما إلى حدوث بعض التحديات العلمية في القرن الثاني.

إن أحد هذين التيارين انخفض مستوى أهميته في القرون اللاحقة، ولكنه كان أكثر تناغماً مع المضامين القرآنية والأحاديث النبوية وتعاليم أهل البيت علیهم السّلام، ولم يكن هذا التيار يضع السنة في عرض الكتاب وإنما في طوله. وكان هذا التيار يعتبر أمر الله في الكتاب أصل الشريعة، و(ما سنّه رسول الله) يمثل بسط ذلك الأمر، وإن الكتاب والسنة ليسا أدلة على الحكم الشرعي، بل هما التشريع بعينه، وفي نظرة تراتبية، كان الكتاب - بوصفه حكم الله - يقع في مرتبة أعلى من السنة. وبطبيعة الحال فإن هذه الرؤية التراتبية إلى الكتاب والسنة كانت مقرونة بأصل ثابت أيضاً، وهو أن التخلفعن واجبات السنة النبوية بدوره لم يكن جائزاً أيضاً. وفي هذه الرؤية تكون ثمرة النظرة التراتبية إلى الكتاب والسنة بشكل طولي لا عرضي، أولاً: هو أن أحكام

ص: 259


1- انظر : باكتجي (1377 ه_ ش)، ص 222 -233)

الشريعة ذات ماهية تراتبية، فهي ليست على مرتبة واحدة، وأنه للمواجهة التخلف مع عن الشريعة، يجب أن تكون المواجهة بدورها ذات مراتب أيضاً، وثانياً: في موارد السهو والنسيان أو التزاحم، يجب أن يكون مبنى الترجيح هو المراتب الراجعة إلى منشأ الحكم، وهل هي مأخوذة من الكتاب أو السنة أو من طرق أخرى.

هناك شواهد تثبت أن الرأي الأخير بشأن الارتباط بين الكتاب والسنة يمكن العثور عليه في تعاليم الإمام الباقر علیه السّلام(1) ، والإمام الصادق(2) علیه السّلام، والإمام الكاظم علیه السّلام(3). وقد تواصل - كما سيأتي ذكره في السطور اللاحقة - في تعاليم الإمام الرضا علیه السّلام أيضاً .

وفي قبال هذا التيار كان هناك تيار آخر، أضحت تعاليمه في القرون اللاحقة هي الغالبة والسائدة في المحافل العلمية، وقد كان هذا التيار يرى أسبقية أحكام الشريعة بالقياس إلى الكتاب والسنة وكان يسعى من خلال الاستفادة من بعض الأدوات إلى بلوغ المحتوى الموجود وراء الكتاب والسنة. لقد قام هذا الرأي في القرن الثاني للهجرة، ولا سيما في محافل أصحاب الحديث، وتم تقديم صيغته المدوّنة والمكتوبة في (الرسالة) لمحمد بن إدريس الشافعي (م: 204 ه_) إمام المذهب الشافعي(4). وقد كان هذا التيار يرى أن الكتاب والسنة أدلة للوصول إلى الحكم الشرعي، وحيث كان يرى آليتها هي الدلالة، لم يكن يرى تمايزاً في المراتب بينهما على نحو ما تقدم سنخه آنفاً. فالمسألة هي بيان حكم في إطار دليل، وكان بإمكان الشارع المقدس أن يرشد الناس إلى حكم معيّن من أحكام الشرع بواسطة دليل من الكتاب أو السنة أو بواسطة دليل آخر .

جدير بالذكر أنه في ظل التحديات الماثلة بين هذين التيارين، كان تقسيم الأحكام - بالنسبة إلى القائلين بعدم التراتبية بين أحكام القرآن والكتاب(5) - على نحو من الحصر العقلي أو في ما إذا كان في مجموع الأدلة حكم أم لا . فإن لم يكن هناك حكم

ص: 260


1- انظر مثلاً : ابن بابويه، (1404ه_)، ج 1، ص 338 - 339
2- انظر مثلاً : الكليني، (1391 ه_)، ج 2، ص 383
3- انظر مثلاً : الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 1، ص 109
4- انظر مثلاً : الشافعي، (1358 ه_)، ص 19 - 20 ، و 39
5- هكذا ورد في النص، ولعل المراد (بين الكتاب والسنة)!

كان الوضع قائماً على الإباحة، وإن كان هناك حكم فهو إما مقرون برخصة الترك أم لا، فإن كان مقروناً برخصة الترك وكان أمراً فهو من الندب (الاستحباب)، وإن كان نهياً فهو من الكراهة، وإن لم يكن مقروناً برخصة الترك، وكان أمراً فهو واجب، وإن كان نهياً فهو محرّم. وهذا هو النموذج الذي عُرف لاحقاً في المصادر الأصولية في القرون اللاحقة بالأحكام الخمسة. أما بالنسبة إلى الذين يقولون بالتراتبية في الأحكام فقد تم بسط هذه المقولة واتخذت صورة طيفية. ويمكن لنا أن نشاهد انعكاس هذا النوع من الرؤية ونتيجتها في تبويب الأحكام في حديث مأثور عن الإمام الرضا علیه السّلام رواية أحمد بن الحسن الميثمي، على النحو الآتي:

(إن الله - عز وجل - حرّم حراماً وأحل حلالاً وفرض فرائض، فما جاء في تحليل ما حرّم الله أو تحريم ما أحل الله أو دفع فريضه في كتاب الله رسمها بين قائم بلا ناسخ نسخ ذلك، فذلك مما لا يسع الأخذ به؛ لأن رسول الله صلّی الله علیه و آله لم يكن ليحرم ما أحل الله ولا ليحلل ما حرّم الله، ولا ليغير فرايض الله وأحكامه، وكان في ذلك كله متبعاً مسلماً مؤدياً عن الله وقول الله - عز وجل – إِنْ( أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) (1)، فكان متبعاً لله مؤدياً عن الله ما أمره به من تبليغ الرساله... وكذلك قد نهى رسول الله صلّى الله عليه و آله عن أشياء نهي حرام فوافق فذلك نهيه نهي الله، وأمر بأشياء فصار ذلك الأمر واجباً لازماً كعدل فرايض الله تعالى، ووافق في ذلك أمره أمر الله تعالى، فما جاء في النهى عن رسول الله صلّی الله علیه و آله نهي حرام جاء خلافه لم يسع حرام جاء خلافه لم يسع استعمال ذلك، وكذلك فيما أمر به [الأئمة الأطهار علیهم السّلام] ، ل أنا لا نرخص فيما لم يرخص فيه رسول الله صلّی الله علیه و آله ولا نأمر بخلاف ما أمر رسول الله صلّی الله علیه و آله إلا لعله خوف ضروره؛ ف إما أن نستحل ما حرم رسول الله صلّی الله علیه و آله أو نحرم ما استحلل رسول الله صلّی الله علیه و آله ، ف لا يكون ذلك أبداً؛ ل أنا تابعون لرسول الله صلّی الله علیه و آله مسلمون له كما كان رسول الله صلّی الله علیه و آله تابعاً ل أمر ربه - عز وجل - مسلماً ، وقال - عز وجل - (مَا أَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (2) ، وإن رسول الله صلّی الله علیه و آله نهى عن أشياء نهي حرام بل إعافة وكراهة وأمر بأشياء ليس فرض ولا واجب بل

ص: 261


1- الأحقاف: 9
2- الحشر : 7

أمر فضل ورجحان في الدين رخص في ذلك للمعلول وغير المعلول، فما كان عن رسول الله صلّی الله علیه و آله نهي إعافة أو أمر فضل فذلك يسع استعمال الرخص) (1) .

فكما نشاهد في هذه الرواية هناك نظرة تراتبية إلى أحكام الكتاب والسنة، تمهّد الأرضية إلى رؤية طيفية إلى الواجبات والمحظورات، وإن هذه الرؤية قد أوجدت لرفية في هذا النموذج يمكن معها للكلام في الفضائل ونقائض الفضائل أن يندرج في طيف من الواجبات والمحظورات؛ إذ يقع في طرف منه الواجبات القرآنية، بينما تقع المحظورات القرآنية في الطرف الآخر.

جدير بالذكر أن هناك نظرة مماثلة نجدها عند المتقدمين من علماء المذهب الحنفي أيضاً، وقد سبق أن تحدّثنا عن ارتباط هذا المذهب الفقهي بمدرسة الإرجاء الكوفية، وأشرنا هناك إلى كيفية إعداد هذه النظرية لإيجاد رؤية طيفية بالنسبة إلى أفعال الإنسان. وعلى كل حال فإن التبويب المتداول في الكتب الأصولية لدى الأحناف لأعمال المكلفين تشير بوضوح إلى مدى قرب رؤيتهم من الرؤية المأثورة عن أهل البيت علیهم السّلام ولا سيما منهم الإمام الرضا علیه السّلام منهم . فقد ورد في تبويب الأحناف للأحكام أن العمل الذي يكون القيام به مطلوباً من الشرع يشمل طيفاً من الفرائض والواجبات والسنن والمندوبات (المستحبات)، وإن ما طلب تركه يشمل الحرمة وكراهة التحريم وكراهة التنزيه(2) (3).

علل الشرائع والنسبة بين الفقه والأخلاق

إن التدقيق في الأحاديث المأثورة عن الإمام الرضا علیه السّلام ، يثبت أن هناك مساحة واسعة من أحاديثه علیه السّلام لقد تم بيانها في مقام بيان علل الشرائع أو أنها أحكام شرعية صيغت في إطار التعليل. وبغض النظر عن التطبيق الفقهي لهذه الروايات إذا صحت

ص: 262


1- ابن بابويه، (1984) م، ج 2، ص 22 - 24
2- في التعاريف التي قدمها الأحناف في القرون المتأخرة تم إلحاق السنة المتواترة بالكتاب، وفي الحقيقة بدلاً من أن تقام علاقة تراتبية بين حكم الله وحكم رسول الله (ص) ، يناط فصل الأطياف بمقدار قطعية صدور مرجع الحكم
3- انظر: السرخسي، (بلا تاريخ) ، ج 1، 110 - 115؛ ابن نجيم، (بلا تاريخ) ، ج 1 ، ص 69، وج 2، ص 277؛ البيضاوي، (بلا تاريخ) ، ج 1 ، ص 76 - 77 ؛ الطحطاوي، (1318 ه_)، ج 1، ص 181

من الناحية السندية، وبغض النظر عن شأن كفاية دلالتها أن تعدّ من قبل الفقيه علة منصوصة تمهّد الطريق للقياس المنصوص العلة أو ما يُعرف - بعبارة أخرى - بتعميم الحكم، فإن التطبيق الآخر لهذه الروايات يكمن في إيجاد اللحمة بين الفقه والأخلاق. لا بدّ من الالتفات إلى أنه في الكثير من العلل المذكورة للأحكام الفقهية هناك التفات إلى الدوافع التي تندرج - طبقاً لكل تعريف - في دائرة الأخلاق، وبذلك فإن الإمام في هذا النوع من الأحاديث يؤكد على نوع من العلاقة السببية بين تشريع الأحكام والوصول إلى التعالي الأخلاقي. إن هذا النوع من التلاحم الذي يعني التشريع من أجل بلوغ التعالي الأخلاقي، يمكن العثور عليه - كنموذج - في الحديث القيّم الذي يرويه محمد بن سنان عن الإمام الرضا علیه السّلام، إذ يقول :

(إن علة الصلاة أنها إقرار بالربوبية لله عز وجل، وخلع الانداد، وقيام بين يدي الجبار - جل جلاله - بالذل والمسكنة والخضوع والاعتراف، والطلب للإقالة من سالف الذنوب، ووضع الوجه على الأرض كل يوم إعظاماً لله - جل جلاله - وأن يكون ذاكراً غير ناس ولا بطر، ويكون خاشعاً متذللاً راغباً طالباً للزيادة في الدين والدنيا، مع ما فيه من الإيجاب والمداومة على ذكر الله - عز وجل - بالليل والنهار، لئلا ينسى العبد سيده ومدبره وخالقه فيبطر ويطغى ويكون ذلك في ذكره لربه - جل وعز - وقيامه بين يديه زاجراً له عن المعاصي ومانعاً له من أنواع الفساد) (1) .

وفي فقرة أخرى من رواية محمد بن سنان ورد في بيان علة الزكاة - فضلا عن رفع حاجة الفقراء - قيل : إنها تستوجب تعليم النفس على الصبر، واعتياد الإنسان على شكر النعمة، وبناء روح الرأفة والعطف تجاه المستضعفين والمساكين والحثّ على مساعدتهم(2).

وفي ذات هذه الرواية عند الحديث عن علّة الحج يُشار إلى بعض العلل، من

ص: 263


1- ابن بابويه، (1385ه_)، ج 2، ص 317 ؛ ابن بابويه (1404ه_)، ج 1، ص 214 - 215؛ وقريباً من هذا المضمون ما ورد في حديث عن الفضل بن شاذان، انظر: ابن بابویه، (1385ه_)، ج 1، ص 256 - 257؛ ابن بابويه، (1984 م)، ج 2، ص 110 - 111
2- انظر: ابن بابویه، (1385ه_)، ج 2، ص 369 ؛ ابن بابويه (1404 ه_)، ج 2، ص 8 ؛ ابن بابويه، 1984م)، ج 2، ص 69

قبيل : إن الحج إنما شرّع ليخرج الإنسان من جميع الذنوب، وأن يتوب عما مضى، ويبدأ صفحة ناصعة في المستقبل، ويضاف إلى ذلك أن إنفاق المال والتعب الذي يصيب الجسم في الحج يدفع الإنسان نحو الحذر من اتباع الشهوات واللذائذ. ثم يستطرد في بيان ثمار أخرى مترتبة على الحج من قبيل التخلي عن قسوة القلب، وعدم الغفلة عن ذكر الله، والاهتمام بحقوق الآخرين، وكفّ النفس عن الفساد، كما تمّت الإشارة إلى أن الحج فرصة لاجتماع المسلمين والتعرّف على مشاكل بعضهم؛ وبذلك يمكن لأهل المكنة أن يقدموا يد العون لإخوتهم من ذوي الحاجة(1).

وفي موضع آخر من حديث محمد بن سنان عند الحديث عن علة تشريع الصوم تمّت الإشارة إلى موارد من قبيل: تقوية الصبر، والابتعاد عن الشهوات، والاهتمام بمشاكل المحتاجين والبائسين (2) .

وفي هذا الحديث الرفيع، في معرض الكلام عن الأبحاث الخارجة عن دائرة العبادات، نشاهد إثارات أخلاقية على نطاق واسع، من ذلك على سبيل المثال ما ورد في بيان سبب حرمة الزوجة على الزوج أبداً بعد التطليقة التاسعة، حيث قيل في بيان علة ذلك: إنه لاعتبار الزوج كي لا يستضعف المرأة ولا يظلمها، وأن يعمل الشخص ألف حساب قبل أن يسارع إلى تطليق زوجته (3) .

وهناك نصّ مماثل في باب علل الشرائع يرويه الفضل بن شاذان النيسابوري، عن الإمام الرضا علیه السّلام، حيث يشتمل بدوره على معطيات واسعة في بيان العلاقة والارتباط الوثيق بين الفقه والأخلاق من ذلك أن هناك فقرة في هذا الحديث بشأن العلة الملزمة للإنسان بعبادة الله تقول : (فإن قال قائل : لم تعبدهم؟ قيل: لئلا يكونوا ناسين ،لذكره ولا تاركين ، لأدبه ولا لاهين عن أمره ونهيه إذا كان

ص: 264


1- انظر: ابن بابويه، (1385ه_)، ج 2، ص 404 - 405؛ ابن بابويه، (1984 م)، ج 2، ص 97
2- انظر: ابن بابويه (1385ه_)، ج 2، ص 378؛ ابن بابويه (1404 ه_)، ج 2، ص 73؛ ابن بابويه، (1984م)، ج 2، ص 98. وقريب من هذا المضمون ما ورد في حديث عن الفضل بن شاذان، انظر: ابن بابویه، (1385 ه_)، ج 1، ص 270؛ ابن بابويه 1984م)، ج 2، ص 123
3- انظر: ابن بابویه، (1385ه_) ، ج 2، ص 507 ؛ ابن بابويه (1404 ه_)، ج 2، ص 502؛ ابن بابويه، (1984 م)، ج 2، ص 102

فيه صلاحهم وفسادهم وقوامهم فلو تركوا بغير تعبد لطال عليهم الأمد وقست قلوبهم) (1) .

وجاء في حديث ابن شاذان في بيان علة صلاة الجماعة: إن الاجتماع للصلاة يمهّد الأرضية ليتعاون المؤمنون على البر والإحسان والتقوى واجتناب الذنوب (2) .

وكذلك ورد في حديث ابن شاذان بشأن علة الإحرام في الحج، موارد من قبيل: الخشوع قبل الدخول إلى الحرم، وتجنّب اللهو والاشتغال بمتع الدنيا، والإقبال على بيت الله بشكل كامل مع الخشوع والخضوع عند التوجه إلى البيت(3).

الاحتياط في حدود الفقه والأخلاق

إن من بين الأمور التي حظيت باهتمام العلماء المسلمين في حدود الفقه والأخلاق على الدوام، هو الاحتياط والسلوك المقرون بالحزم. إن الاحتياط - سواء أكان من قبل المفتي أو من قبل المقلد، وسواء أكان منبثقاً من الشبهة الحكمية أو من الشبهة الموضوعية هو في جميع الأقسام المعروفة في الأبحاث الفقهية - سلوك في إطار تدارك الجهل، بيد أن هناك نوعاً خاصاً من الاحتياط يفوق الحالات المتقدمة، وأن الدافع له في الأساس ليس هو تدارك الجهل والشك في الحكم أو الموضوع، بل الغاية منه تأديب النفس، وراحة الضمير، والاطمئنان من ناحية الحصول على رضوان الله. وفي الوقت الذي يقع الاحتياط الاستدراكي في دائرة الورع الفقهي، فإن الاحتياط التأديبي يرفع الأسوار القائمة بین الفقه والأخلاق. وخلافاً للاحتياط الاستدراكي الذي يرتبط بوضع ذي حالتين، فإن الاحتياط التأديبي يمكن أن يكون عبارة عن طيف متفاوت الدرجات والمراتب.

إن الاحتياط الاستدراكي إذا كان متعلقاً بتشخيص الحكم، يتعلق بالمفتي عندما

ص: 265


1- ابن بابويه، (1385ه_)، ج 1، ص 256؛ ابن بابويه، (1984م)، ج 2، ص 110
2- انظر ابن بابويه، (1385ه_)، ج 1، ص 262؛ ابن بابويه، (1984 م)، ج 2، ص 116
3- ابن بابويه، (1385ه_)، ج 1، ص 274 ؛ ابن بابويه، (1984م)، ج 2، ص 127

يكون بصدد استنباط حكم من الأدلة التفصيلية بالطرق الظنية، بيد أن افتراض أن يقع المعصوم في حالة الجهل بالحكم، وهو أمرٌ يضطره إلى الاحتياط الاستدراكي، مخالف للفرضية المعروفة في عقائد الإمامية في حقل علم الأئمة علیهم السّلام. وعليه عندما نواجه في الأحاديث المأثورة عن الأئمة علیهم السّلام كلاماً بشأن الاحتياط في مقام بيان الحكم، لا ينبغي حمل الاحتياط هنا على الاحتياط الاستدراكي أبداً، وبناء على الفرضية المذكورة في أعلاه يجب حمل الاحتياط في هذه الموارد على الاحتياط التأديبي.

وفي الروايات المأثورة عن الأئمة علیهم السّلام النواجه الاحتياط بوصفه مصطلحاً محورياً في كثير من الموارد، وهناك من بينها - بطبيعة الحال - ما يتحدّث عن الاحتياط الاستدراكي، ومن ذلك يمكن الإشارة إلى حديثين يرويهما عبد الرحمن بن الحجاج عن الإمام الكاظم علیه السّلام، أحدهما بشأن كفارة محرمين قاما بصيد حيوان(1)، والآخر بشأن شخص يريد بيع سيف مرصّع بفضة ديناً وجعل ثمنه ذهباً(2). وأما الإمام الذي استعمل - من بين الأئمة الأطهار علیهم السّلام - مصطلح الاحتياط في عدد من موارد الاحتياط التأديبي، فهو الإمام الرضا علیه السبلام، وعلى هذا الأساس فإن تعاليم هذا الإمام في حقل الربط بين الأخلاق والفقه تحظى بمنزلة خاصة.

من ذلك على سبيل المثال يمكن الإشارة - من بين هذا النوع من الاحتياط - إلى الحديث الذي يرويه البزنطي عن الإمام الرضا علیه السّلام في خصوص عدّة المتعة. وقد جاء في نص هذا الحديث المقتضب عن الإمام علیه السّلام قوله: (قال أبو جعفر علیه السّلام: عدة المتعة خمسة وأربعون يوماً، والاحتياط خمسة وأربعون ليلة) (3). وكما نرى فإن هذه الرواية تتألف من شقين الشق الأول كلام للإمام الباقر علیه السّلام ينقله الإمام الرضا علیه السّلام، وأما الشق الثاني فهو كلام الإمام الرضا نفسه. جدير بالذكر أن كلام الإمام

ص: 266


1- انظر: الكليني، (1391ه_) ، ج 4، ص 391؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 5، ص 467
2- انظر: الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 251؛ الطوسي، (1364ه_ ش)، ج 7، ص 113؛ المصدر نفسه، (1363 ه_ ش، ج 3، ص 98
3- الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 458)

الباقر علیه السّلام مروي عنه بكلا اللفظين: (خمسة وأربعون يوماً)، و(خمسة وأربعون ليلة) من قبل بعض أصحابه علیه السّلام ، ومن أمثال : زرارة بن أعين ومحمد بن مسلم (1). أما الاحتياط المذكور في العبارة المأثورة عن الإمام الرضا علیه السّلام، فيبدو أن سببه يعود إلى شیوع روايات أخرى بين الإمامية مأثورة عن الإمام الصادق علیه السّلام ، ومضمونها أن العدة في المتعة بمقدار حيضة لمن تحيض، وبمقدار شهر لمن لا تحيض(2). (3) كما نجد نسبة هذا المضمون في رواية غير مشهورة عن الإمام الباقر علیه السّلام أيضاً (4)، ونشاهد أيضاً في طيف من الروايات المأثورة عن الإمام الصادق علیه السّلام القول بخمسة وأربعين يوماً (5).

وهناك بعض الروايات تحكي بوضوح عن مثل هذا الاختلاف بين أصحاب الإمام الصادق علیه السّلام بشأن عدّة المتعة (6) ، ويبدو أن الحديث المأثور عن الإمام الرضا علیه السّلام يمثل من الناحية العملية وجهاً من الجمع بين القولين، وذلك بحمل الخمسة وأربعين يوماً على الاحتياط، وإن هذا الاحتياط - بطبيعة الحال - هو من نوع الاحتياط التأديبي. وفي الحقيقة يجب القول: إن ذلك القول المتروك في حديث الإمام الرضا علیه السّلام من حيث الاحتياط، هو القول بعدة الشهر الواحد.

كما يمكن العثور على نموذج آخر من الاحتياط التأديبي في النسة بین المتعة، وتحديد عدد الزوجات بأربعة. وبطبيعة الحال فإن القول المشهور عند الإمامية

ص: 267


1- انظر: الحميري، (1413ه_)، ص 361؛ أحمد بن محمد بن عيسى، (1408ه_)، ص 83 و 89؛ البرقي، (1331 ه_ ش)، ص 330 الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 458 وج 6، ص 175؛ ابن بابويه، (1404 ه_)، ج 3، ص 464؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 259
2- انظر: أحمد بن محمد بن عيسى، (1408 ه_)، ص 85
3- في أغلب المصادر الروائية تم تبديل عبارة (وإن كانت لا تحيض شهر) (انظر: أحمد بن محمد بن عيسى، (1408 ه_، ص 85) إلى (وإن كانت لا تحيض، فشهر ونصف)، (انظر: الكليني، 1391ه_)، ج 5، ص 451 و 458؛ الطوسي، (1364 ه_ ش ، ج 8 ص 165). بيد أن هذا الأمر واضح ؛ إذ إن الفترة الزمنية الممتدة بين حيضتين هي في حدود الشهر تقريباً، وهو أمرٌ يدفعنا إلى القول بأن الصيغة الأخيرة هي نتيجة تحريف الحديث الأصلي من أجل تناغمه مع الأحاديث التي ترصد مدّة العدة بخمسة وأربعين يوماً
4- انظر: الحميري، (1413ه_)، ص 361
5- انظر: عاصم بن حميد، (1405ه_)، ص 31؛ أحمد بن محمد بن عيسى، (1408ه_)، ص 82 و 85 ؛ الطوسي، (1363 ه_ ش)، ج 3 ، ص 150 و 152 ؛ المصدر ذاته، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 264- 265)
6- انظر: الكليني، (1391 ه_)، ج 5، ص 451

هو أن تحديد الزوجات بأربعة إنما يخص النكاح الدائم، وأما النكاح المنقطع فلا يشمله هذا التحديد. وقد نقل هذا القول المشهور في أحاديث الإمامية، عن الإمام الباقر (1) علیه السّلام، وعن الإمام الصادق علیه السّلام أيضاً (2).

في مثل هذه الأجواء هناك حديث مأثور عن الإمام الرضا علیه السّلام مضمونه يأمر بإدراج (المتعة ضمن الزوجات الأربعة). إن الراوي - الذي هو صفوان بن يحيى، وفي رواية أخرى البزنطي - يسأل الإمام علیه السّلام قائلاً : (هل يكون ذلك احتياطاً؟)، ويجيبه الإمام: (أجل). وفي أحد الضبطين لهذا الحديث ينقل الإمام إدراج المتعة في ضمن الزوجات الأربعة عن الإمام الباقر(3) علیه السّلام ، وفي رواية أخرى يروى هذا الكلام عن لسانه (4).(5) وقد نقل القول بإدراج المتعة ضمن الزوجات الأربعة عن الإمام الصادق علیه السّلام أيضاً(6). وعلى كل حال نشاهد أن الإمام يرجّح أحد القولين - المنقولين عن الإمام الباقر والإمام الصادق علیه السّلام - على الآخر ، من باب الاحتياط التأديبي.

وفي الختام يجدر بنا القول إنه في بعض الموارد التي ورد فيها الكلام في أحاديث الإمام الرضا علیه السّلام عن احتياط يفوق الاحتياط الاستدراكي، يمكن العثور على نماذج تعود إلى أصل تشريع الحكم، وهو بصدد إثبات أن الحكمة من التشريع قد أمرت برعاية الاحتياط بشكل كامل أو على نحو جزئي، وهو احتياط ربما أمكنت تسميته بالاحتياط التشريعي، ولا بد من الالتفات إلى اختلافه المبنائي عن الاحتياط التأديبي.

ص: 268


1- انظر: أحمد بن محمد بن عيسى، (1408ه_)، ص 89؛ الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 451؛ الطوسي، (1363 ه_ ش ، ج 3، ص 147؛ المصدر ذاته، (1364ه_ ش)، ج 7، ص 259
2- انظر: الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 451؛ العياشي (1380 ه_)، ج 1، ص 234؛ ابن بابويه، (1404 ه_)، ج 3، ص 461 الطوسي، (1363ه_ ش)، ج 3، ص 147؛ المصدر ذاته، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 259
3- انظر : الطوسي، (1363ه_ ش)، ج 3، ص 148 المصدر ذاته، (1364ه_ ش)، ج 7، ص 259
4- انظر: الحميري (1413 ه_)، ص 362
5- من الجدير ذكره أن دقة الضبط في رواية الحميري من جهات مختلفة أقل من رواية الشيخ الطوسي، فأولاً: إن الراوي في كلا الحديثين هو البزنطي، وأما في رواية الطوسي فنجد البزنطي يقرر السؤال والجواب بين صفوان بن يحيى والإمام الرضا (ع)، وفي حديث الحميري يلعب البزنطي دور السائل. وثانياً : إن السائل في رواية الشيخ الطوسي هو الذي يستعمل كلمة (الاحتياط)، ويحصل بعد ذلك على تأييد الإمام وإمضائه، وأما في رواية الحميري فقد نقلت كلمة الاحتياط كتتمة لكلام الإمام الرضا (ع)
6- انظر: الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 259

و من بين نماذج الاحتياط التشريعي في الكلام المنقول عن الإمام الرضا علیه السّلام، يمكن لنا الإشارة إلى الموارد الآتية:

رواية محمد بن سنان عن الإمام الرضا علیه السّلام في خصوص تحقق البينونة في الطلاق بالنسبة إلى المملوك بطلاقين(1)، في حين أن أصل هذا الحكم قد نقل عن النبي الأكرم صلّی الله علیه و آله مرفوعاً ، و عن عدد من الصحابة والتابعين موقوفاً، وكذلك عن بعض المتقدمين من الأئمة الأطهار علیهم السّلام، وليس هناك متسع في الأقوال يسمح بالاحتياط التأديبي (2).

والمورد الآخر من موارد الاحتياط التشريعي يتعلق بجواب الإمام الرضا علیه السّلام عن سؤال محمد بن سنان بشأن العلة في كون القاعدة في جميع الحقوق تقوم على (أن البينة على من ادعى واليمين على من أنكر)، إلا في بحث القتل، حيث يكون اليمين على المدعي ّ على المدعى عليه (3) . هناك روايات في هذا الشأن تدل على أن تشريع هذا الحكم يعود إلى النبي الأكرم (4) صلّی الله علیه و آله.

كما ورد توضيح هذا التشريع في رواية عن أبي بريد بن معاوية عن الإمام الصادق (5) علیه السّلام ، وكذلك في رواية عن أبي بصير عنه علیه السّلام أيضاً، وهو أمرٌ يثبت أن

ص: 269


1- انظر: ابن بابويه، (1385ه_)، ص 507 ؛ المصدر ذاته، (1984م)، ج 2، ص 102
2- نقلاً عن عائشة عن النبي (ص) ، انظر: الدارمي ، (1407 ه_)، ج 2، ص 224؛ البخاري، (1397 ه_)، ج 2، ص 128؛ أبو داود السجستاني، (1369ه_)، ج 2، ص 257؛ الترمذي، (1395ه_) ، ج 3 ، ص 488؛ ابن ماجة، (1952 م)، ج 1 ص 672 . ونقلاً عن ابن عباس عن النبي (ص)، انظر: أبو داود السجستاني (1369ه_)، ج 2، ص 257 . ونقلاً عن ابن عمر عن النبي (ص) ، انظر : ابن ماجة (1952م)، ج 1، ص 672 ؛ الدارقطني (1386 ه_) ، ج 4، ص 38. ونقلاً عن الإمام علي (ع) ، انظر: القاضي نعمان (1409 ه_)، ج 2، ص 321 الطوس (1413 ه_)، ص 238 و 575 . ونقلاً عن عمر بن الخطاب انظر: الصنعاني، (1403ه_) ، ج 7، ص 221 ، منصور، (1403ه_)، ج 1، ص 344 - 345 . ونقلاً عن: عبد الله بن عمر، انظر: الدارقطني (1386 ه_)، ج 4، ص 38 - 39؛ البيهقي، (1414 ه_) ، ج 7، ص 369 . ونقلاً عن: إبراهيم النخعي انظر : سعيد بن منصور (1403 ه_)، ج 1، ص 344 . ونقلاً عن القاسم وسالم، انظر: البخاري، (1397 ه_)، ج 2، ص 128. ونقلاً عن الإمام الباقر (ع) ، انظر الكليني، (1391ه_)، ج 6، ص 169. ونقلاً عن الإمام الصادق (ع)، انظر: الكليني، (1391 ه_)، ج 6، ص 169؛ الطوسي، (1364ه_ ش)، ج8، ص 154. ونقلاً عن الإمام الكاظم (ع)، انظر: الطوسي، (1363ه_ ش) ، ج 3 ، ص 335؛ المصدر ذاته، (1364ه_ ش)، ج 8، ص 135
3- انظر: ابن بابویه، (1385ه_)، ص 542؛ المصدر ذاته، (1984م)، ج 2، ص 103
4- انظر: البخاري، (1407 ه_)، ج 6، ص 2630؛ مسلم (1955 م)، ج 3، ص 1295 - 1296؛ الكليني، (1391 ه_)، ج (1955م)، ج 7، ص 361؛ القاضي نعمان، (1383ه_)، ج 2، ص 428؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 10، ص 166
5- انظر: الكليني، (1391ه_)، ج 7، ص 362 و 415 ابن بابويه (1404 ه_)، ج 4، ص 98؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 6، ص 229

الاحتياط فيه تشريعي ومن سنخ الاحتياط المذكور في المورد السابق.

الاتجاه ما فوق الفقهي في بيان الأحكام

في معرض البحث عن الارتباط بين الفقه والأخلاق في تعاليم الإمام الرضا علیه السّلام، يجدر بنا في هذا القسم الإشارة إلى بعض المسائل التي تندرج من حيث الموضوع تحت دائرة المسائل الفقهية، ومن هنا يعمل الفقهاء على بحثها، بيد أن هناك في الروايات المأثورة عن الإمام الرضا علیه السّلام نوعاً من البيان ما فوق الفقهي سواء بشكل کامل أو على نحو جزئي.

إن قسماً من هذه البيانات ما فوق الفقهية ترتبط بالمسائل التي يرد فيها الوجوب والفضيلة في إطار الأمر، أو ترد الحرمة ونقيض الفضيلة في إطار النهي. وبطبيعة الحال فقد ورد التصريح بالوجوب والحرمة في هذا النوع من الأحاديث أحياناً، وفي بعض الأحيان على نحو افتراضي.

وكنموذج للأمر يمكن الإشارة إلى حديث في باب شراء ماء باهظ الثمن للوضوء، حيث يشتمل متن الحديث على سؤال يطرحه صفوان بن يحيى على الإمام الرضا علیه السّلام بشأن شخص بحاجة إلى الوضوء للصلاة ولا يكون معه ماء للوضوء، ثم يصادف شخصاً يبيعه الماء بمئة درهم أو ألف درهم، وتكون لديه القدرة على بذل ذلك المال، فهل يجب عليه شراء الماء للوضوء أو يمكنه الاكتفاء بالتيمم ؟ فيجيبه الإمام الرضا علیه السّلام بوجوب شراء الماء للوضوء (1) . علينا أن نعلم بأن كثيرا من الفقهاء لم يفتوا بالوجوب على طبق هذه الرواية، حيث مالوا إلى جانب وجوب الوضوء بوصفه فرضية في البحث إلى اعتبار مضمون هذا الحديث نوعاً من الأمر بالفضيلة. ولم يذهب إلى تفسير الأمر الموجود في هذا الحديث بالوجوب سوى نزر قليل من الفقهاء من أمثال السيد المرتضى (2).

ص: 270


1- انظر: الكليني، (1391 ه_)، ج 3، ص 74؛ ابن بابويه، (1404 ه_)، ج 1، ص 35؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 1، ص 406
2- انظر: الآبي، (1408ه_)، ج 1، ص 97؛ العلامة الحلي (1414)، ج 2، ص 163- 164؛ ابن فهد، (1407ه_)، ج 1، ص 197 - 198

وكنموذج للنهي يمكن لنا أن نذكر حديثاً بشأن أكل لحم بعض الحيوانات من قبيل الخيل والبغال - من وجهة نظر الفقهاء في الحد الأدنى - إلى اعتبار أن النهي الوارد هنا هو بمنزلة ترك الفضيلة، وليس النهي المحرم (1) . وقد ذهب عموم الفقهاء ومن بينهم الشيخ الطوسي إلى حمل النهي الوارد في هذا الحديث على الكراهة دون الحظر (2).

إن جانباً مما يمكن اعتباره بوصفه اتجاهاً ما فوق فقهي في بيان الأحكام الموارد التي يبدو أن الإمام الرضا علیه السّلام قام بتفصيل شقوقها أو تعميم الحكم الفقهي فيها من خلال إرجاعها إلى المناطات الأخلاقية. ومن بين الأمثلة على هذا الاتجاه يمكن مشاهدة رواية ناظرة إلى توسيع دائرة الموارد التي يجوز فيها العزل للزوج. طبقاً لهذا الحديث الذي يرويه يعقوب الجعفي عن الإمام الرضا علیه السّلام ، تنقسم موارد جواز العزل إلى ستة أقسام من النساء، وفي طيف منها تندرج العلة في طيف فقهي تام - من قبيل أن تكون المرأة جارية - وفي طيف آخر تذكر علة عقلية - من قبيل عقم المرأة - ومن ثمَّ هناك طيف ثالث من العلل الأخلاقية من قبيل تنمّر المرأة أو كونها سليطة اللسان، وهي من الأمور النسبية ومن سنخ نواقض القيم الأخلاقية، ولا يمكن تبويبها فقهياً، أو أنه لم يتم تبويبها حتى الآن في الحد الأدنى(3).

وربما أمكن الإشارة إلى نموذج آخر من هذا النوع إلى حديث يرويه معمر بن خلاد عن الإمام الرضا علیه السّلام ، قائلاً : (سألت أبا الحسن الرضا علیه السّلام عن الرجل يتزوج المرأة متعة فيحملها من بلد إلى بلد ؟ فقال : يجوز النكاح الآخر ولا يجوز هذا) (4). فإذا قرأت بوصفها جملة خبرية (5)، كان المعنى أن إجبار الزوجة على الصحبة في ، السفر يتعلق بالنكاح الآخر - وهو الدائم - وفي هذا النوع من النكاح - أي المتعة -

ص: 271


1- انظر: الطوسي، (1363 ه_ ش)، ج 4، ص 74؛ المصدر ذاته، (1364 ه_ ش)، ج 9، ص 42
2- انظر: المصدر أعلاه
3- للوقوف على هذا الحديث، انظر: ابن بابويه، (1362ه_ ش)، ص 329؛ المصدر ذاته، 1404 ه_)، ج 3، ص 443؛ المصدر ذاته، (1984م) ، ج 1، ص 251 الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 491
4- الكليني، (1391 ه_)، ج 5، ص 467
5- هناك من المتأخرين من اعتبر هذه الجملة استفهامية، معتبراً إياها من الاستفهام الاستنكاري، مستفيداً نقيض المعنى المتبادر من الحديث، وعندها لن يكون في الحديث شاهد لنا . (انظر مثلاً: الخواجوي، (1411 ه_)، ج 2، ص 280-281)

لا يجوز هذا النمط من الإجبار. يبدو أن المراد من هذا الحديث - كما ذهب بعض الشارحين إلى ذلك أيضاً - أن أساس مناط المتعة لا يتناغم مع مثل هذا الإجبار، ولا يمكن إكراه المرأة في النكاح المنقطع على السفر مع الزوج من بلد إلى بلد، وأما إذا كانت المرأة هي التي ترغب في مرافقة الزوج في مثل هذه الأسفار ، فلا شك في جواز ذلك ولن يكون هناك بحث في هذا الشأن (1).

إن جانباً من المباحث ما فوق الفقهية التي يمكن لها بيان الارتباط بين الفقه والأخلاق، هي الإشارة إلى الوضع الأفضل في مورد الفعل الذين يكون الحكم الفقهي فيه واضحاً. من ذلك يمكن الإشارة - على سبيل المثال - إلى مسألة المهر حيث أن أصل مسائله واضحة، فلا يوجد غموض بشأن هذه المسألة في الاستناد إلى الكتاب والسنة حيث يكون المهر أمراً لازماً في تحقق عقد النكاح، أو يكون من الواجب على الزوج دفعه بعد إتمام النكاح بيد أنه قد تمّت الإشارة في حديث عن الإمام الرضا علیه السّلام إلى هذه النقطة، أن المرأة في عصر النبي الأكرم صلّی الله علیه و آله كانت تكتفي أحياناً بجعل تعلم سورة من القرآن أو درهم أو قبضة من حنطة كمهر للزواج من رجل، وبذلك تمّ التأكيد على فضيلة التساهل في المطالبة بالمهر وعدم إرهاق كاهل الرجل بالمهور الغالية (2) (3).

ومن ثمًّ لا بد في نهاية المطاف من الإشارة إلى موارد من (الأمر) في الأحاديث المأثورة عن الإمام الرضا علیه السّلام ، التي لا يكون فيها الأمر ناظراً إلى الوجوب الشرعي، وإنما تكون ناظرة إلى تنظيم العلاقات بين الناس وحسن السلوك، ويكون صدورها من

ص: 272


1- انظر: الفيض الكاشاني، (1365 ه_ ش) ، ج 22 ، ص 676 ؛ المجلسي، (1393ه_)، ج 8، (1363 ه_ ش)، ج 20، ص 257
2- انظر: الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 414؛ أحمد بن محمد بن عيسى، (1408ه_)، ص 115؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 366
3- لا بدّ من الالتفات - بطبيعة الحال - إلى أن التأكيد على أفضلية حالة بالقياس إلى حالة أخرى، لا تكون تعبيراً عن فضيلة أخلاقية دائماً، بل قد تكون ناظرة إلى التقاليد والأعراف السائدة في ثقافة ما، من قبيل الاختلاف في الأعراف والتقاليد بين العرب والإيرانيين بشأن زمن دفع المهر ، وفي حديث البزنطي عن الإمام الرضا (ع) بالنسبة إلى الشخص الذي يروم دفع المهر وفقاً للتقاليد الإيرانية في بداية النكاح، أمر لامتثال التقليد والعرف الآخر بشكل جزئي بدفع شيء من المهر قبل الزفاف (انظر: الكليني، (1391ه_)، ج 5، ص 413؛ الطوسي، (1363 ه_ ش) ، ج 3، ص 221، المصدر ذاته، (1364 ه_ ش) ، ج 7، ص 358). وبطبيعة الحال لم يتعامل عموم الفقهاء مع هذه الحالة بوصفها حالة ملزمة

أجل الحيلولة دون النزاعات وسوء الفهم وأفضل نموذج لهذا النوع من الأحاديث الناظرة إلى الارتباط بين الفقه والأخلاق، الحديث الذي يرويه سليمان بن جعفر الجعفري عن الإمام الرضا علیه السّلام. حيث يشار في هذا الحديث إلى أن الإمام الرضا أمر من حوله بتعابير قاطعة وحاسمة بعدم استئجار شخص لعمل إلا بعد بيان أجره بشكل دقيق، وعدم ترك الاتفاق على ذلك إلى ما بعد إنجاز العمل (1) . هذا في حين أنه لو تم الصلح لاحقاً بين الأجير والمستأجر، يمكن للإجارة - من الناحية الفقهية - أن تكون خالية من الإشكال، وحتى إذا لم يمكن الصلح، يمكن حل الخصومة بعد ذلك على أساس دفع أجرة المثل.

الاستنتاج

من مجموع ما تقدم يمكن لنا أن نستنتج بأن الإمام الرضا علیه السّلام قد سار على منهج التأكيد على التماهي بين الفقه والأخلاق، وبغض النظر عن مجرّد التأكيد على الالتزام بالأصول الأخلاقية، يتم تقديم بعض المباني في إطار هذه المماهات، ومن خلال مختلف الأحاديث والوقائع الحادثة تمّت إقامة أنواع متعددة من العلاقة والارتباط بين حقل الفقه والأخلاق ويبدو أن بالإمكان بيان هذه المباني على النحو الآتي: الاستناد إلى الرؤية الطيفية تجاه التكاليف الدينية بدلاً من الرؤية المحدودة على أساس الملاكات الثنائية (الصفر والواحد)، والاهتمام بعلل الشرائع، والخوض في المناشيء الأخلاقية للتشريع، والاهتمام بالاحتياط التأديبي، والاتجاهات ما فوق الفقهية في بيان المسائل الفقهية. يبدو أن بسط معطيات هذا النوع من الأحاديث المأثورة عن الإمام الرضا علیه السّلام وكذلك تتبع التعاليم المماثلة في أحاديث سائر الأئمة الأطهار علیهم السّلام من شأنه أن يمهّد الأرضية من أجل توسيع إطار العلاقة بين حقل الفقه والأخلاق، وهما الحقلان اللذان لا نشاهد بينهما حدّاً فاصلاً في أصل الشريعة، وإن الضرورات الراهنة المتعلقة بتوسعة نطاق علم الفقه، تقتضي أن تتمّ هذه التوسعة بحيث يكون التلاحم بين الفقه والأخلاق مأخوذاً بنظر الاعتبار على الدوام، فلا يتمّ تجاهل الأصول الأخلاقية في مسار هذه التوسعة.

ص: 273


1- انظر: الكليني، (1391ه_) ، ج 3 ، ص 288 - 289؛ الطوسي، (1364 ه_ ش)، ج 7، ص 212

المصادر والمراجع

- القرآن الكريم.

- الآبي، الحسن بن أبي طالب (1508 ه_)، كشف الرموز، إعداد الاشتهاردي واليزدي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي.

- ابن بابویه، محمد بن علي (1362 ه_ ش)، الخصال، إعداد: علي أكبر غفاري، قم، جماعة المدرسين.

- ابن بابويه محمد بن علي (1385ه_) ، علل الشرائع النجف المكتبة الحيدرية.

- ابن بابویه، محمد بن علي (1404 ه_)، من لا يحضره الفقيه، إعداد: علي أكبر غفاري، قم، جماعة المدرسين.

- ابن بابويه، محمد بن علي (1984م) ، عيون أخبار الرضا (ع)، بيروت، مؤسسة الأعلمي.

- ابن فهد الحلي، أحمد بن محمد (1407 ه_)، المهذب البارع، إعداد: مجتبى عراقي، قم، مؤسسة النشر الإسلامي.

- ابن ماجة، محمد بن يزيد (1952 - 1953م)، سنن ابن ماجة، إعداد: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، دار إحياء الكتب العربية.

- ابن نجيم، زين بن إبراهيم (بلا تاريخ)، البحر الرائق، بيروت، دار المعرفة.

- أبو داود السجستاني، سليمان بن الأشعث (1369 ه_)، سنن أبي داود، إعداد: محمد محيي الدين عبد الحميد القاهرة، دار إحياء السنة النبوية.

- أبو نعيم الإصفهاني، أحمد بن عبد الله (1351ه_)، حلية الأولياء، القاهرة، مطبعة السعادة.

- أحمد بن محمد بن عيسى (1408ه_)، النوادر ، قم ، مدرسة الإمام المهدي (ع) .

- البخاري، محمد بن إسماعيل (1397 ه_ / 1977م) ، التاريخ الصغير، إعداد : محمود إبراهيم زاید، حلب / القاهرة، دار الوعى / دار التراث.

- البخاري، محمد بن إسماعيل (1407 ه_)، صحيح البخاري، إعداد: مصطفى ديب البغا، بیروت، دار ابن كثير .

البرقي، أحمد بن محمد (1331 ه_ ش)، المحاسن، إعداد: جلال الدین محدّث، طهران، دار الكتب الإسلامية.

ص: 274

- البيضاوي، عبد الله بن عمر (بلا تاريخ) نهاية السؤول في شرح منهاج الأصول، بيروت، عالم الكتب.

- البيهقي، أحمد بن حسين (1414 ه_)، السنن الكبرى، إعداد: محمد عبد القادر عطا، مكة، دار الباز.

- باکتجي، أحمد (1377 ه_ ش)، أخلاق ديني دائرة المعارف بزرگ اسلامي، ج 7، طهران، مركز دائرة المعارف بزرگ إسلامي.

- الترمذي، محمد بن عيسى (1398 - 1395 ه_)، سنن الترمذي، إعداد: أحمد محمد شاكر وآخرين ،القاهرة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي .

- الحميري، عبد الله بن جعفر (1413ه_)، قرب الإسناد، قم، مؤسسة آل البيت (ع).

- الخواجوي، محمد بن إسماعيل بن حسين (1411 ه_)، الرسائل الفقهية، قم، مطبعة سيد الشهداء.

- الدار قطني، علي بن عمر (1386 ه_)، سنن الدار قطني، إعداد: عبد الله هاشم اليماني، بيروت، دار المعرفة .

- الدارمي، عبد الله بن عبد الرحمن (1407ه_)، سنن الدارمي، إعداد: فواز أحمد زمرلي وخالد السبع العلمي، بيروت، دار الكتاب العربي.

- الدميري، محمد بن موسى (بلا تاريخ)، حياة الحيوان، القاهرة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي.

- السرخسي، محمد بن أحمد (بلا تاريخ)، الأصول، إعداد: أبو الوفاء الأفغاني، حيدر آباد دكن، لجنة إحياء المعارف النعمانية.

- سعيد بن منصور (1403 ه_)، السنن، إعداد: حبيب الرحمن الأعظمي، بمبعي، الدار السلفية.

- الشافعي، محمد بن إدريس (1358ه_) الرسالة، إعداد: أحمد محمد شاكر، القاهرة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي.

- الصنعاني، عبد الرزاق بن همام (1403ه_)، المصنف، إعداد: حبيب الرحمن الأعظمي، بيروت، المكتب الإسلامي.

- الطحاوي، أحمد بن محمد (1318ه_)، حاشية على مراقي الفلاح، القاهرة، مكتبة مصطفى البابي الحلبي.

- الطوسي، محمد بن حسن (1363 ه_ ش)، الاستبصار، إعداد: حسن الموسوي الخرسان، طهران، دار الكتب الإسلامية.

- الطوسي، محمد بن حسن (1364 ه_ ش)، تهذيب الأحكام، إعداد: حسن الموسوي الخرسان، طهران، دار الكتب الإسلامية.

ص: 275

- الطوسي، محمد بن حسن (1413 ه_)، الأمالي، قم، مؤسسة البعثة.

- عاصم بن حميد (1405 ه_) أصل ضمن الأصول الستة عشر، قم، دار الشبستري.

- العلامة الحلي، الحسن بن يوسف (1414 ه_)، تذكرة الفقهاء، قم، مؤسسة آل البيت (عليهم السلام)

- العياشي، محمد بن مسعود (1380 - 1381ه_)، التفسير طهران كتابخانة علمية إسلامية.

- الفيض الكاشاني، محمد محسن (1365ه_ ش) ، الوافي، إصفهان، مكتبة الإمام أمير المؤمنين (ع).

- القاضي نعمان (1383ه_) ، دعائم الإسلام، إعداد: آصف فيضي، القاهرة، دار المعارف.

- القاضي نعمان (1409 - 1412ه_)، شرح الأخبار، إعداد: محمد الحسيني الجلالي، قم، جامعة المدرسين.

- الكليني، محمد بن يعقوب (1391ه_)، الكافي، إعداد: علي أكبر غفاري، طهران، دار الكتب الإسلامية.

- مالك بن أنس (1373 ه_)، الرسالة القاهرة، مكتبة محمود علي صبيح.

- المجلسي، محمد تقي (1363 ه_ ش)، مرآة العقول، إعداد: هاشم رسولي محلاتي، طهران، دار الكتب الإسلامية.

- المجلسي، محمد تقي (1393ه_)، روضة المتقين، إعداد: حسين موسوي كرماني وعلي بناه اشتهاردي، طهران، بنیاد کوشانبور.

- مسلم بن حجاج (1955 - 1956م) ، صحیح مسلم، إعداد: محمد فؤاد عبد الباقي، القاهرة، عيسى البابي.

ص: 276

أخلاق الوحي

المرجع الديني الشيخ جوادي آملي

ترجمة: علي الحاج حسن

ملخص

يمتاز النظام الأخلاقي الإسلامي عن الأنظمة الأخلاقية الأخرى من جهات عدة من أبرزها الاختلاف في البعد الفاعلي. اعتبرت الأنظمة الأخرى أن بعض الأمور من أمثال العقل، الفطرة، الطبيعة وأسباب أخرى، دخيلة في وجود القضايا الأخلاقية؛ إلا ان العلماء المتدينين اجمعوا على مصدرية الوحي للأخلاق الإسلامية. يمكن الحصول على مواد علم الأخلاق من خلال مبادئ خاصة تعود بشكل مباشر إلى مصادر الوحي. وقد اجتمعت هذه العناصر الثلاثة (المواد المبادئ والمصدر) مع بعضهما بحيث لو لم تستند مادة واحدة من مواد الأخلاق لمبدأ يعود إلى مصدر الوحي، لأدى الأمر إلى عدم إطلاق عنوان «الأخلاق الإسلامية» على تلك الأخلاق. يتعرض المقال الحالي لتوضيح مضمون الأخلاق الإسلامية وتميزها عن المدارس الأخلاقية الأخرى.

الكلمات المفتاحية: علم الأخلاق، أخلاق الوحي، حقيقة العدل والظلم، ماهية الإنسان.

الحمد الأزلي لله تعالى والسلام الأبدي على الأنبياء بالأخص خاتم الأنبياء محمد صلّی الله علیه و آله. والسلام اللامتناهي على الائمة الاطهار علیهم السّلام بالاخص الموجود الموعود المهدي (عجل الله تعالى فرجه الشريف). نتولى هذه الذوات المقدسة ونتبرأ من معانديهم.

ص: 277

العناصر المحورية في الأخلاق

يمتلك علم الأخلاق الهام وكما علوم الفقه الحقوق والقانون ثلاثة عناصر محورية: المواد المبادئ والمصادر . أما سبب احتياج هذه العلوم للعناصر الثلاثة أنها من سنخ الأعمال - مع أنها ذات مصادر علميّة - والمسألة العملية يجب أن تكون جزئية ومحدودة وواضحة؛ لان الكلي والمطلق والمبهم لا يمكن أن يكون معياراً للعمل. وعلى هذا الأساس يجب أن تقدم العلوم المتقدمة على شكل مواد منضبطة ومنظمة ويجب أن تعتمد كل أن تعتمد كل مادة على مبدأ تندرج تحته حيث ينطبق المبدأ الذي هو قانون حاكم وجامع على المادة؛ فلا يكون اندراج الفرع تحت الأصل مشكوكاً فيه ولا يمكن أن يكون انطباق الأصل على الفرع مدعاة للترديد. ويستنبط كل مبدأ من مصدر خاص حيث يعود المبدأ بعد التحليل إلى المصدر، فيترعرع المبدأ تحت المصدر من خلال تعليل خاص.

تنماز مواد علم الأخلاق الخاص - كما العلوم الأخرى بانها تستفاد من مبادئ خاصة وينماز المبدأ أيضاً بانه يُستخرج من مصادر خاصة.

الوجه في تسمية أخلاق الوحي

ان السبب الذي يدفع لإطلاق الوحي على علم الأخلاق أن المواد الجزئية لهذا العلم تُستخرج من مصادر خاصة حيث تكون مصادر المبادئ وحيانية؛ بحيث لو لم يجرِ إرجاع مادة من مواد الأخلاق وأمثالها إلى مبادئ معينة تعود إلى مصدر الوحي، عند ذلك لن تكون الأخلاق المذكورة وحيانية. فيما يأتي نشير إلى نقاط أساسية عدة.

قواعد الأخلاق الأساسية

الأولى : المبادئ العلمية

صحيح أن الأخلاق من جملة العلوم العملية، إلا أنها لا يمكن أن تكون من دون العلم؛ لان عنوان عمل الإنسان الذي هو موجود مفكر ومختار، يختلف عن عنوان

ص: 278

اصل الفعل الذي يستخدم لمطلق العمل. أن العمل الذي يؤديه الإنسان المفكر والحر يكون بعد تقييم وجه الحق والباطل أو النافع والضار فيه. أن تشخيص الخير والشر فيه هو على عاتق قوى الإنسان العلمية وأما تحققه العيني بحيث يكون له وجود خارجي، فهو على عاتق قواه العملية وقوى الإنسان الحر العلمية والعملية قد تكون ضعيفة وقد تكون قوية وكما أنها قد تكون مستقيمة وقد تكون معوجة. ان النبوغ أو البلادة - التي تتعلق بقواه الإدراكية - والفروقات الأخرى - ذات العلاقة باختلاف قواه الجاذبة والدافقة - كلها ترتبط بالقوة نفسها وليس بالأوصاف النفسانية التي تُطرح في الأخلاق. طبعاً هناك طرق عدة ليس المجال لذكرها في هذا المقال تتعلق بحفظ كمال القوة عند الوجدان والحصول عليها عند الفقدان.

الهدف الأساس هنا الإشارة السريعة للاختلاف بين القوى العلمية والعملية لنفس الإنسان المفكر والحر وبين أوصافه النفسانية. قد يكون الشخص عادلاً من حيث الفعل - فهو لا يقترف الذنب عمداً- لكنه قد لا يكون كذلك من ناحية قوة الإتيان بالعمل الإنسان البليد أو الجبان أو الحريص قد يكون عادلاً من حيث الفعل وفي الفقه الأصغر عند قياسه بجمع مال مباح وحلال من خلال تراكم الأعمال إذ انه يؤدي الحقوق الإلهية وحقوق الناس؛ إلا انه لا يكون عادلاً في الفقه الأكبر باعتبار قوة العمل؛ لان العدل في الفقه الأكبر هو أن تكون كافة قوى الشخص العلمية والعملية في حدّ الاستواء ومن دون عيب الإفراط ونقص التفريط . والغرض من القول أن عدل القوى هو ما يُطرح في الفلسفة والعدل في الأخلاق هو وصف وفعل وهذا ما يعالجه هذا المقال.

الثانية: المبادئ العملية

أن علم الأخلاق هو من الأخلاق هو من شُعب الحكمة العملية والحكمة العملية كالحكمة النظرية على عاتق العقل النظري أو من يتولى الحصول على العلوم المختلفة باعتبار أن الأخلاق من سنخ الحكمة والمعرفة. واختلاف المعلومات ومنها الحقيقة الخارجية التي يكون العلم بها من نوع العلم بالكون وعدمه، ومنها الأمر الاعتباري

ص: 279

التي يكون العلم بها من سنخ الوجوب وعدمه لن يكون مؤثراً من هذه الناحية. الحكم في هذا الاصطلاح هي ما يدركه العقل النظري مطلقاً ووظيفتها التصور، التصديق، الجزم وأمثال ذلك وأما الأوصاف والأعمال فهي مطلقاً على عاتق العقل العملي وتتولى مسؤولية الإرادة، الانتخاب، العزم، القصد، النية، والإخلاص. وإذا كان هذا الاصطلاح غير رائج بين أصحاب الفلسفة وأصحاب علم الأخلاق، إلا انه يطابق الحديث المعروف: «قُلتُ له ما العقل ؟ قال : ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان» (أصول الكافي، ج 1، ص11) حيث يتولى العقل العملي العمل وليس العلم بالحكمة العملية.

الثالثة: تعين المبادئ

تستفاد مواد علم الأخلاق من خلال مبادئ معينة من قبيل الخير والشر، الحسن والقبح العدل والظلم الصدق والكذب الاستقلال والتبعية، الحرية والعبودية ..... واهمها العدل والظلم. طبعاً فإن معنى كل واحدة من العنوانين واضح؛ لان العدل عند الجميع عبارة عن وضع كل شيء موضعه والظلم هو تجاوز كل شخص عن حده : «العدل يضع الأمور مواضعها» نهج البلاغة، الحكمة (437) .

ماهية العدل والظلم

أن مفهومي العدل والظلم واضحين؛ ولكن ليس من السهل معرفة كنه وحقيقة المفهومين عند العقل؛ العقل بمثابة مصباح يضيء شعاعاً محدداً وينتشر نوره في تلك الأرجاء، العقل يدرك الكون بمقدار ما يشاهده وأما ما هو أعلى من ذلك فيتضح من خلال الوحي. هناك كثير من الأمور التي تبقى مجهولة للعقل ولا بد من اللجوء في معرفتها إلى الوحي؛ ومن جملة ذلك حقيقة العدل والجور؛ لان أماكن ومواضع الأشياء والأشخاص والأجناس والقبائل والمجموعات المختلفة، ليس واضحاً. هل يستوي مكان الشراب والخل أو الخنزير والنعجة ؟ هل تتساوى منزلة الرجل والمرأة في الأمور المالية وغير المالية كافة؟

ص: 280

ان الشخص الوحيد الذي يدرك أماكن الأشياء والأشخاص هو خالقها والطريق الوحيد للوصول إلى قانون الله هو الوحي الإلهي. لا يمكن لأي شخص الاطلاع على حكم خالق الأشياء والأشخاص الخاص من دون الاطلاع على الوحي الذي خصص للكاملين من الناس والمعصومين. من هنا يصبح المصدر الوحياني ضرورياً للمبادئ الأخلاقية، وإلا فالإنسان غير المعصوم وغير الكامل يضع الأشياء والأشخاص على أساس وهمه وخياله - في الفكر - وعلى أساس شهوته وغضبه - في الدافعية - ويظن أن تنظيم الأمور بهذا النحو يجري على مدار العدل والتعدي عنه يدور مدار الظلم.

أن قسماً كبيراً من مسائل حقوق الإنسان التي تتولاها المنظمات الدولية، قد سقطت في هذا التهافت بين القول والفعل؛ لان عددا من مدافعي حقوق الإنسان، يتحدثون بشكل عادل إلا انهم ظالمون من ناحية الفكر والعمل . هؤلاء تنطلق ألسنتهم للحديث بالعدل الذي لا يعني شيئاً سوى الظلم؛ لأنهم وضعوا الأشياء ظلماً وتعاطوا مع حقوق الأشخاص جوراً إلا انهم ظنوا أن رعاية هذا القانون الظالم هو العدل والظلم حسب ظنهم هو تجاوزه. فقد اعتبروا على سبيل المثال أن من العدل تشريد أمة مظلومة ومن الظلم أن تنهض الأمة للدفاع عن ارضها.

الرابعة: وحيانية مصدر الأخلاق

أن السّر وراء حصرية المصدر الأساس لمبادئ العلوم الأخلاقية والفقهية والحقوقية والقانونية بالوحي أن المصادر العدة لعلم المعرفة البشري، الأعم من التجربة الحسية، التجربة المجتزئة، التجريد الفلسفي والكلامي، التجريد الفلسفي والكلامي، التجريد الخالص في العرفان النظري والشهود العرفاني الذي يمكن خلاصته في العلم الحصولي والحضوري، كل ذلك هو من سنخ علم معرفة القانون وليس وضع القانون.

بعبارة أخرى، فإن الإنسان وكذلك الموجودات الممكنة لم تتمكن من خلق ذات أي موجود على الإطلاق، ولم تخلق العوارض الذاتية والمفارقة ولم تؤدِ دور الارتباط

ص: 281

بين العرض والجوهر وبين العارض والمعروض. وعلى هذا الأساس ليس لها ايّ دور في التقنين؛ نعم ينحصر دورها في معرفة القانون فقط أما التقنين فهو حق حصري لخالق الأشياء والأشخاص؛ لان المقنن يجب أن يمتلك إحاطة ومعرفة بكافة الأمور ليتمكن من وضع قانون جامع أن الذي يتأتى من قانون الملازمة أو «كل ما حكم به العقل حكم به الشرع وبالعكس» - بعد امتلاك تصور صحيح لهاتين القاعدتين وفرض صحتهما في الجملة وليس بالجملة - هو في إطار معرفة القانون فقط والتلازم بين العقل والنقل، وليس في إطار التقنين الخاص بخالق الكون. وتتحقق المسألة الآتية بأدنى مستويات الترديد وهي أن التوحيد هو التقنين بالمعنى الجامع في الأخلاق والفقه والحقوق و.... وان وضع كافة القوانين هو بيد الذات الإلهية المتعالية وأما وضع أي قانون من جهة الإنسان فهو « هباءً منثوراً».

الخلاصة أن:

التقنين بمعناه الجامع حق حصري لخالق الإنسان والكون وخالق الربط بينهما.

معرفة القانون الموضوع تحصل عن طريق الوحي الإلهي للكاملين والمعصومين علیهم السّلام من البشر .

البرهان العقلي - الأعم من التجربي وغير التجربي - وكذلك الدليل النقلي المعتبر كل ذلك هو سراج ينير ذاك الصراط المستقيم والسراج لا يصنع جادة ولا يهندسها وللدين بمعناه الجامع - الذي هو صراط الحق المستقيم مهندس وصانع واحد وهو الله. والأنبياء علیهم السّلام هم أشخاص معصومون يعرفون القانون وليسوا مقننين: «أن الحكم إلا لله» (سورة الأنعام، الآية 75) أما تفويض بعض الأحكام للمعصومين عليهم السلام الذي يحصل من خلال الإلهام فهو ذو معنى خاص يتناسب مع التوحيد الربوبي وحصرية التقنين بالله تعالى.

الشهود العرفاني كالعلم البرهاني الحصولي، ليس له دور اكبر من معرفة القانون. أن مشاهدة الحق والصدق والعدل والخير لا تعني على الإطلاق وضعها العيني.

ص: 282

وعلى هذا الأساس وبلحاظ الرؤية الكونية لم يكن أي شخص حقيقي أو حقوقي مقنناً ولن يكون كذلك. الله تعالى هو المقنن الوحيد والمعصوم علیه السّلام هو الإنسان العارف بالقانون بشكل مباشر ومن دون واسطة وأما الآخرون فيعرفونه عن طريق العقل والنقل ويفهمون الحكم الموحى به إلى الرسول صلّی الله علیه و آله.

الخامسة: وحدة المصدر والمبدأ

أن القوانين الأخلاقية التي تعرض في قالب مواد مستخرجة من مبادئ خاصة، يجب أن تعتمد من جهتين على الحقائق العينية؛ الأولى من جهة معرفة المصدر حيث يجب أن تستند المبادئ الأخلاقية إلى مصدر وحياني مرتبطة بالموجودات التكوينية في نظام الخلق برباط وثيق. والثانية من جهة التلازم بين تكامل الموجود العيني وأشكال الكمال الخارجي. وتوضيح ذلك أن:

الإنسان موجود عيني وتكويني ولن يكون اعتبارياً.

هذا الموجود عيني، متكامل وحيوي ولم ولن يكون موجوداً جامداً وراكداً.

تكامل الموجود الحقيقي وحيوية الموجود العيني هو بتحصيل الكمال العيني والوجود الحقيقي، وليس الاعتباري.

القوانين الفقهية والأخلاقية والحقوقية والقانونية تتشكل بأجمعها من وجوبات وعدم وجوبات اعتبارية أن عناوين المالكية الرئاسة والمرؤوسة ليس لها وجود خارجي على الإطلاق. كما أن الحلية والحرمة أو الصحة والبطلان وبعضها أحكام تكليفية والآخر أحكام وضعية، تقع جميعها في دائرة اعتبار الواقع وليس العينية الخارجية.

لو لم تكن القوانين الأخلاقية وأمثالها وحيانية وإذا لم تستند إلى معايير عينية من قبيل المصالح والمفاسد الخارجية، عند ذلك لن يبقى أي سبيل لإثبات ارتباطها بالواقع العيني. وفي النتيجة لن يكون هناك أي طريق لتكامل المجتمع البشري

ص: 283

الحقيقي؛ لان خيال البشر العاديين وأوهامهم وكذلك غضبهم وشهواتهم وهي أمور تهيء أرضية الأمر والنهي، لا يدعو أي منها إلى الطمأنينة ولا تؤدي إلى العلم بالارتباط بين قوانين الموضوع والواقع العيني. ومن خلال هذا الطريق فقط يمكن إثبات ضرورة استناد مبادئ المواد الأخلاقية والقوانين إلى الحقائق الخارجية.

السادسة: علاقة الصفات الأخلاقية بالحقائق العينية

أن القوانين الأخلاقية كالقواعد الفقهية والحقوقية والقانونية ترتبط بالحقائق العينية عند اعتمادها على الوحي؛ لان الإنسان مسافر ينتقل من الدنيا إلى القبر ومن هناك إلى القيامة ومن ثم إلى ساحة الثواب أو العقاب أي الجنة أو النار. أن كل ما يحصل في المحطات القادمة كلها موجودات عينية وكل ما يحصل في مراحل هجرته، هو تلك الثمار اللذيذة والمرة من تلك الشجرة التي زرعها ورواها بأخلاقه وأعماله. لا يمكن إجبار الشخص بأي شيء خارج عن عقيدته وخُلقه وعمله. وعلى هذا الأساس فإن مواد علم الأخلاق الوحيانية وكما أنها مسبوقة بالحقائق العينية أي المعايير الواقعية من قبيل المصالح والمفاسد، فهي ملحوقة أيضاً بالحقائق الخارجية، أي القبر والجنة والنار وجمعيها موجودة في حاق الخارج. إذا كانت المواظبة على تعاليم الطبيب أو تركها تظهر في هوية الإنسان - من قبيل السلامة أو المرض وهو الموجود الخارجي، فكيف يكون الأمر مع الشيء الموجود خارج إطار البدن.

السابعة: الأخلاق والحقيقة الإنسانية

ترتبط الأخلاق الوحيانية من بُعد آخر بالحقيقة العينية. يحصل الإنسان في بداية ولادته على هوية تكون الروح أعلى مراتبها والبدن أدناها. أن هذين الموجودين الجارين يشكلان حقيقة واحدة ثم تصل الثنائية الابتدائية إلى التثليث النهائي. تمتلك كلمة خُلق (بالضم) وكلمة خلق (بالفتح) معنىً مشتركاً وهو الخلق، الأول في الظاهر والآخر في الباطن؛ لأن خُلق (بالضم) لا يقصد منه ظهور الأوصاف النفسانية فقط؛ بل يتناسب مع ذلك، فيخلق البدن البرزخي بمقدار وهيئة وأعضاء وجوارح والإنسان

ص: 284

المتخلق، يمتلك روحاً عالية وبدناً مادياً ضعيفاً، والبدن البرزخي المتوسط يرافقه في رحلاته أثناء النوم ويحشر في القبر مع البدن البرزخي. ويعيش في المعاد ببدنه الأصلي والدنيوي.

وعلى هذا الأساس، يتحول الإنسان ذي البعدين (الروح والبدن المادي) في البداية إلى إنسان ذو أبعاد ثلاثة (الروج، البدن البرزخي والبدن المادي). أن جمال البدن المتوسط وقبحه مرهون حُسن خُلقه أو سوءه ويكون تعلق الروح بذاك البدن البرزخي والمثالي مستمراً ودائماً؛ على الرغم من ظهورها عند النوم فقط؛ وهذا يعني أن اتصال الروح بذاك البدن المثالي الذي يظهر في الرؤيا، أمر حقيقي؛ مع العلم أن اصل وجود ذاك البدن البرزخي واقعي أيضاً (وليس اعتباري).

الخلاصة، أن البدن البرزخي الذي يظهر في الرؤيا ليس اعتبارياً على الإطلاق كما أن علاقته بروح الإنسان ليست مقطعية فالبدن البرزخي قد يكون مشهوداً عند بعض الأشخاص من أصحاب البصر. الفارق الهام بين البدن البرزخي والبدن المادي - بغض النظر عن مثاليته أو ماديته - هو في الظهور والخفاء.

الثامنة : التكامل في ظل سلامة القوى الإنسانية

يشكل الجزء المهم من الأخلاق إصلاح القوى العملية واستخدامها بشكل صحيح ومن هنا فالعمل الصحيح يستعين بالعلم الصادق ويتولى هذا العلم القوى العلمية لذلك لم يبحثوا عنه بشكل مباشر. ولتوضيح انفصال القوتين عن بعضهما وإمكان سلامتهما، اعتلالهما أو سلامة احدهما واعتلال الآخر، يدفعنا للاستعانة بتمثيل من صور القوى الخارجية الأربعة لتتضح من خلال ذلك حالات القوى الباطنية الأربعة المراد تمثيلها يمتلك الإنسان جزأين منفصلين عن بعضهما من ناحية القوى الظاهرية؛ فهو يمتلك عينين وأذنين يهيء بواسطتهما الإدراك الخارجي؛ فيرى بالعين ويسمع بالأذن ويمتلك ايدٍ وأرجل يؤدي بها حركات خارجية؛ فهو يأخذ ويلقي بإحداها ويتحرك بالأخرى. ومن هنا فالصور الأربعة للجوارح عبارة عن : قوى

ص: 285

الإدراك أو قوى التحريك وهي:

أما أن يكونا سالمين أو

أن يكونا معتلين أو

أن تكون قوة الإدراك سالمة وقوة التحريك معتلة أو

أن تكون قوة التحريك سالمة وقوة الإدراك معتلة.

إذا شعر الشخص بخطر ، كما لو شاهد عقرباً أو أفعى، فإذا كانت كلتا قوتيه سالمتين تحرك بسرعة وابتعد عن العقرب أو الأفعى أو انه يقوم بإبعادهما ومن ثمَّ يبقى سالماً. أما في الحالة الثانية فهو لن يشعر بالخطر ولن يمتلك القدرة على الفرار. أما في الحالة الثالثة، فهو وان شعر بالخطر، إلا انه لن يمتلك القدرة على النجاة منهما .

وفي الحالة الرابعة فهو وان كان يمتلك القدرة على الحركة، ولكن وبما انه لا يشعر بالخطر فلن يدرك الاتجاه الذي سيفر إليه لا بل قد تكون جهوده عبارة عن الاقتراب من الخطر. فلو أن شخصاً رأى الحية والعقرب على سبيل المثال وبما أن يديه ورجليه عاجزتان عن الحركة سيتعرض السمومهما ، ومع ذلك لا يمكن الاعتراض عليه وسؤاله عن عدم الابتعاد رغم أحساسه بالخطر كما لا ينبغي الإضافة على قدراته العلمية وتزويده بالنظارة أو المنظار أو التلسكوب أو الميكروسكوب..... لأن هذا الأشخاص لا يعاني من أي إشكال إدراكي، بل مشكلته الوحيدة أن أعضاءه لا تتحرك والعلاج هو محاولة فك قيوده.

يمتلك الإنسان في داخله قوتين منفصلين عن بعضهما تتولى إحداهما الفكر والثانية الدافعية. يجري الحديث عن الأولى تحت عنوان العقل النظري وعن الثانية تحت عنوان العقل العملي ويكون الإنسان على اربع صور بناءً على هاتين القوتين: أن تكون قوتاه هاتين ،سالمتين، أن تكونا معتلين أن تكون قوته العلمية سالمة وقوته العملية معتلة، وأخيراً أن تكون قوته العملية سالمة والعلمية معتلة.

ص: 286

في الحالة الأولى تكون بعض المفاهيم من أمثال العدل والظلم، الخير والشر، الضرر والنفع، الحسن والقبح الحق والباطل والصدق والكذب واضحة لديه فيميل نحو الكمال ويبتعد عن الانحراف . يُعرف هذا الإنسان الكامل بعنوان «العالم العادل» . الحالة الثانية، يكون الخير والشر غير معلومان لديه ولا يتمكن من التوجه نحو الحق والانحراف عن الباطل حيث يُعرف هذا الشخص بعنوان «الجاهل المتهتك». أما في الحالة الثالثة وان كان الحسن والقبح معلوماً، إلا أن القوة الموكلة بالإرادة والعزم والتصميم والإخلاص فهي معطلة ويكون هذا الشخص العالم ملوثاً ويطلق عليه «العالم الفاسق»، كما لا يمكن توجيه الاعتراض العلمي إليه وسؤاله : لماذا فعلت هذا ألم تكن تعلم؟ لان مشكلته هي في تعطل عنصر الإرادة والعزم العملي وليس الجزم العلمي. أما في الحالة الرابعة وان كانت قدرة اتخاذ القرارات وقوة الإرادة سالمة، إلا انه قد يقترب تارة من الحق وقد يبتعد تارة أخرى عنه وذلك لجهله العلمي بالحق والباطل. ويُعدّ عن هذا الشخص بالناسك قليل الإدراك المعرض لخطر الخداع.

أن الذي نقُل عن الإمام علیه السّلام عندما قال: «كم من عقل أسير تحت هوى أمير» (نهج البلاغة الحكمة 211) يراد به تعطل قوى العمل الصحيح؛ على الرغم من أن الشخص الهائم قد يكون عاجزاً عن الإدراك الصحيح. تحاول الأخلاق الوحيانية تقسيم القوى العلمية والعملية الباطنية هذا من جهة، وعلاج أمراضهما من جهة ثانية، ودعم وتقوية السالم منها من جهة ثالثة والاستفادة الصحية من القوى السالمة والمفيدة من جهة رابعة لتترتب بعد ذلك المراحل اللاحقة عليها. ومن هنا فهي تتضمن الخصائص اللازمة لتكامل الأخلاق الإلهية الإنسانية.

التاسعة: الأخلاق هي الفصل المقوم للإنسان

إن رعاية القواعد الأخلاقية قد تكون عند البعض بمثابة الحال وعند البعض الآخر بمثابة الملكة وتكون لا وحدي من المتخلقين بالأخلاق الإلهية بمثابة الفصل المقوم؛ بحيث يكون هذا الأخير قد انتقل من رتبة العرض المفارق إلى رتبة العرض الذاتي ثم عَبَرَ عن تلك المرحلة فتجذرت في هوية الشخص المتخلق بحيث يؤدي

ص: 287

عدم وجود الخصوصية الأخلاقية إلى عدم ثبات واستقرار اصل هوية الشخص. أن هذا الإنسان الكامل يمتاز بامتلاكه وضعاً أخلاقياً وعملاً أخلاقياً أيضاً نشأ كلاهما من تلك الهوية ولا يمكن اعتبار وصفه الأخلاقي مساوياً لوجوده، عدا عن انه لا يمكن أن يكون أعلى منه ؛ لا الوصف المزبور والفعل المذكور وان كانا موجودين كاملين إلا انهما أثران للهوية المتخلقة والأثر لا يكون أعلى من المؤثر ولا مساوياً له، بل كل مؤثر يكون أعلى من اثره : «فاعل الخير خير منه» ( نهج البلاغة، الحكمة32).

بما أن الخلق الحسن هو اثر كمالي للإنسان صاحب الأخلاق وكل اثر مقهور للمؤثر، لذلك عَبّر القرآن الكريم حول أخلاق خاتم النبوة بكلمة «على»: «انك لعلى خلق عظيم» (سورة القلم، الآية 4) أي انك مسلط على الخلق العظيم والخلق العظيم تحت سيطرتك. وهذا التعبير الإلهي يصدق على بعض أهل الإيمان المستفيدين من الفيض الخاص والفوز الإلهي : «فهو على نور من ربه» (سورة الزمر، الآية22) أي أن النور وصف وفعل اسند إليه من جانب الله تعالى، فهو كالمركب الذي يتحرك بإرادته. أما الاختلاف بین الكمال الذاتي وبين الكمال الوضعي والفعلي فهو في درجة الوجود؛ أي انهما يشتركان في مفهوم ،واحد، إلا أن مصداقهما الأعلى فهو في داخل هوية الإنسان المتخلق بالأخلاق الإلهية ومصداقهما المتوسط والأدنى هما في حد وضعه وفعله أن الاشتراك المفهومي مقبول على مبدأ التشكيك في الحقيقة الواحدة ولا حاجة للغرق في أوحال الاشتراك اللفظي؛ طبعاً لا يمكن أن يُطرح هنا موضوع الجوهر والعرض للشيء الواحد من خلال إرجاع أشكال الكمال الحقيقي إلى سنخ الوجود؛ لان أي من مصاديق الخُلق الكمالي الثلاثة (الذاتي، الوضعي الفعلي) ليس ذا ماهية، ولا يندرج تحت أي مقولة من المقولات المعروفة؛ لان جمعيها تعبر عن حقيقة الوجود وهي كما حقيقة الوجود منزهة عن الماهية وبريئة عن مقولتي الجوهر والعرض.

يشير تمثل أو تجسد وتجسم الإنسان المتخلق بصورته الخلقية إلى أن الخلق المذكور هو من سنخ الوجود وليس الماهية. مع العلم انهم يعتبرونه في الحكمة

ص: 288

العملية الرائجة من الكيفيات النفسانية وهو من سنخ الماهية بناءً على الحكمة النظرية المتداولة، ومع ذلك فهناك عدد من الشواهد التي تبين ان الخُلق الكريم والعظيم والحسن كحقيقة العلم من سنخ الوجود وليس الماهية.

العاشرة: علم الأخلاق يقبل الاستدلال

الأخلاق من جملة العلوم الجزئية التي تندرج تحت علم كلي وجامع هو الفلسفة والمقصود من ذلك الأخلاق النظرية التي تكون في رديف العلوم الحصولية والاستدلالية وهي تقع تحت مجموعة الرؤية الكونية؛ ويقابل ذلك الأخلاق العملية التي هي سير وسلوك خارجي ويحصل الوصف الأخلاقي فيها بواسطة الفعل الأخلاقي وتظهر من خلال السير الجوهري للصيرورة الخلقية التي عرضناها في النقطة التاسعة.

ويمكن البحث بشكل مستقل عن الاختلاف بين الأخلاق العملية والعرفان العملي والشهودي. أما خلاصة الأخلاق العملية فهي تحصيل الزاد وخلاصة العرفان العملي فهي شهود المقصد والوصول إلى المقصد حيث يكون تهيئة الزاد من المقدمات.

طبعاً يجب الالتفات إلى نقطة هامة وهي أن فعالية الأخلاق في تدبير الأمور، إصلاح الفرد والمجتمع، أيجاد الاستقلال والحرية للامة والوصول إلى كافة الكمالات السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية كل ذلك مرهون لاستناد مبادئها إلى المصادر الوحيانية؛ لان الإنسان الكامل يمتلك المبادئ كافة باعتبار انه كون جامع وهو يرتبط بالمقصد بالأخص النهائي برباط وثيق؛ إلا أن ذلك لن يكون محلاً لاستفادة المجتمع البشري. أمر القرآن الكريم صاحب الخُلق العظيم الاهتمام بالأشخاص التابعين وتعليمهم قوانين وتعاليم وآداب الارتقاء: «واخفض جناحك لمن تبعك من المؤمنين» (سورة الشعراء ، الآية 215) كما أن الرسول صلى الله عليه واله وسلم كما سائر الأنبياء ينبغي عليه حفظ اصل الرفقة مع السائرين نحو الحق وان لا ينفصل عنهم : «ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم

ص: 289

من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً» (سورة النساء، الآية (69) أما مجال الرفقة بين الأنبياء والأشخاص العاديين فهو الأخلاق العملية وليس العرفان الشهودي؛ لان الذوات القدسية موجودون مع بعضهم البعض في دائرة العرفان العملي الذي هو الحضور في بلاط المقصود، والأشخاص الاعتياديون قليلاً ما يصلون إلى ذاك المقام المنيع. وإذا وصل بعض الأفراد النادرون أمثال الحارثة بن مالك إلى مقام الإحسان - وهو مقام كان وليس قممه - فإن ذلك بسبب التأسي بأسوة العرفاء الواصلين والاقتداء بقدوة المتخلقين؛ على الرغم من أن المرتبة الخاصة للرسول الأكرم تصحح ذلك حيث قال: «لي مع الله حالات لا يسعني فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل» ( منهاج النجاح، 1384، ص 274).

خلاصة الكلام:

أن علم الكلام النظري يدور حول معرفة الزاد ومعرفة كيفية توسيع الزاد وطرق استكشاف الراحلة .

يسعى السير والسلوك في الأخلاق العملية لتحصل الزاد العملي، تهيئة الزاد في الخارج والحفاظ العيني عليه ومن ثم تهيئة الراحلة والحفاظ الخارجي عليها.

يبحث العرفان النظري حول معرفة المقصد وإدراكه.

العرفان العملي والشهودي هو الخطوات في وادي الفناء عند مقام الواحد الأحد والبقاء بعد الفناء فيه .

من هنا لا يمكن إنكار ضرورة الاهتمام بالعلم النظري والعملي للأخلاق الوحيانية؛ لان الأخلاق هي الضمانة لإجراء الأحكام الفقهية والحقوقية والقانونية وأما إذا احتوى القانون على نقص وإذا وجد فيه عيب، فالأخلاق الوحيانية هي التي بإمكانها جبران الفراغ أو تصحيحه.

النتيجة

ص: 290

يبني علم الأخلاق على مبادئ علمية وعملية متعددة أما منشأ تلك المبادئ فهو الذات الإلهية المقدسة ومصدرها إرادته ومشيئته السارية والجارية. وتكون الأخلاق الإسلامية وحيانية باعتبار عجز العقل عن وضع قوانين جامعة؛ لان نقصه واضح في ذلك ولعل أفضل برهان على هذا الأمر كلام أمير البيان حيث قال: «غاية العقل الإقرار بالجهل». (تصنيف غرر الحكم و درر الحكم ، ص52) وما ظن بعضهم من أن الأوصاف الأخلاقية من الأمور الاعتبارية، فغير صحيح؛ لان هذه الأوصاف قد امتزجت بالحقائق العينية والخارجية إن الحقيقة الإنسانية مركبة من روح وجسم مادي والخلقيات الإنسانية هي من الملكات النفسانية حيث تتجلى تلك الملكات في الظاهر الجسماني. الأخلاق أمر نفساني ومعيار الشخصية الإنسانية ويمكن بواسطتها الوصول إلى رتبة العدنية ومقام الخلة ؛ وقد جاء الحديث حول مقام إبراهيم علیه السّلام انه وصل إلى مقام الخلة واصبح خليلاً لله لامتلاكه صفتين أخلاقيتين عدم الحاجة إلى غير الله وإطعام الفقراء والإحسان اليهم.

ص: 291

المصادر:

القرآن الكريم

البسطامي، علي بن طيفور (1384)، منهاج النجاح في ترجمة مفتاح الفلاح، طهران: حکمت الطبعة السادسة.

التميمي الامدي، عبد الواحد، (1366)، تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، قم: مكتب الأعلام، الطبعة الأولى.

السيد الرضي، أبو الحسن محمد، (1414ه_ ق)، نهج البلاغة، قم: هجرت، الطبعة الأولى.

الكليني، محمد بن يعقوب (1362) ، الكافي، طهران: الإسلامية، الطبعة الثانية.

جلال الدین محمد البلخي الرومي (مولوي)، (1382)، مثنوي معنوي، باهتمام: توفيق سبحاني، طهران، الطبعة الثالثة.

ص: 292

الأخلاق القرآنية والشريعة الإسلامية

خالد أبو الفضل (1)

يساهم هذا البحث في توضيح الوسائل والطرق الممكنة لفهم طبيعة العلاقة بين الأخلاق والشريعة. يسعى الباحث البروفسور خالد أبو الفضل - وهو أميركي مسلم من أصل هندي - إلى تبيين حقيقة معرفية مفادها أن فهم العلاقة الدقيقة بين الأخلاق والشريعة هو من البديهيات التأسيسية الآيلة إلى تشكيل نظرية معرفة في الأخلاق القرآنية. يشير أبو الفضل إلى أن النظرية الإسلامية عرضت وتم تقديمها في إطار المبادئ الإسلامية العامة، إلا أنه يؤكد بصورة حاسمة على دينامية وحيوية الشريعة كمنظومة تدبيرية ينبغي المحافظة عليها وإعادة تظهيرها بما يخدم الحضارة الإنسانية المعاصرة. وهذه النتيجة لا تكون ممكنة برأيه إلا بالإبقاء على القدرات الإبداعية للأفراد والجماعات في المجتمع الإسلامي

الكلمات المفتاحية: القرآن - الأخلاق الإسلامية - التشريع الإسلامي - الشريعة - اللاهوت الإسلامي.

***

ص: 293


1- أستاذ الشريعة والقانون في جامعة كاليفورنيا بلوس انجلوس، والأستاذ الزائر في جامعة ييل للقانون، ومن أشهر الباحثين المسلمين في الولايات المتحدة. وعضو لجنة الحريات بالكونغرس. العنوان الأصلي للبحث Quranic Ehics and islamic law المصدر: 7 (2017)1 28-journal of islamic ethics ترجمة: عماد الدين عبد الرزاق – مراجعة: كريم عبد الرحمن

شَغِل السؤال عن الكيفية التي يصبح فيها القانون (الشريعة) معروفاً، أذهان المفكرين المسلمين منذ زمن بعيد. وقد ركزت المناقشات والمناظرات الحامية الوطيس التي جرت في العصور الحديثة، على دور المبادئ الأخلاقية والعقل في تطوير وتنمية التعاليم الدينية. كثيرا من الآراء رأت إلى رسالة النبي محمد صلّى الله عليه و آله كجزء لا يتجزأ من المشروع الأخلاقي الكوني الذي تم تشييده وفق مبدأ تطوير وتنمية الوجود الأخلاقي الطبيعي للبشرية. وهذا أمرٌ تم تدعيمه عن طريق النص القرآني. وهو النص المقدس الذي اثنى الله تعالى من خلاله على نبيِّه صلّى الله عليه و آله والاستقامته وسمو أخلاقه كما ورد في الآية الكريمة {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . (1) والى جانب النصوص القرآنية الداعية إلى مكارم الأخلاق، هناك الأحاديث النبوية التي تؤكد على العلاقة الوثيقة، والصلة القوية بين الإسلام والأخلاق. من أبرز هذه الأحاديث قوله صلّى الله عليه و آله «أقربكم مني مجلسًا يوم يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً». وإذا أخذنا في الاعتبار الدور المحوري الذي تؤديه الأخلاق في العقيدة الدينية، لن يكون مثيرًا للدهشة أن نرى الأجيال السابقة من المفكرين المسلمين كيف ناقشوا بعمق البحوث الفلسفية اليونانية المتصلة بطبيعة الالتزامات الأخلاقية. في هذا السياق نشير إلى أنه في التراث الإسلامي القديم كان يوجد فرق متنازعة ومتعارضة يمثل المعتزلة قطبها الأول. فلقد تبنى المعتزلة وجهة النظر التي تقول إن بالإمكان معرفة العدالة والفضيلة عن طريق العقل البشري. أما القطب الثاني فهم التقليديون (أهل الحديث) الذين دافعوا عن وجهة النظر القائلة أن العدالة والفضيلة يمكن معرفتهما عن طريق الوحي الإلهي.

في القرون الأولى من التشريع الإسلامي، كانت المناقشات التي تتعلق بالطبيعة الفعلية الحقيقية للعدالة الأخلاق، ودور العقل والوحي، ذات أثر فعال لجهة حيويتها ودينامياتها. أما في العصر الحديث، فقد شهدت المناقشات والمناظرات ضموراً وانخفضت إلى أدنى حد؛ ذلك على الرغم من وجود مصلحین مسلمین مثل محمد إقبال اللاهوري توفي (1938) ومحمد عبده (1905) وسواهما. لقد سعى أمثال هؤلاء لإعطاء العقل دوراً وازناً وحاسماً في القانون الإسلامي(الشريعة). إلى

ص: 294


1- سورة القلم - الآية 4

جانب هؤلاء المصلحين بعض الأصوليين الحديثين مثل أبو الأعلى المودودي توفي (1979)، الذي تعامل مع القواعد الشرعية كمصدر أساسي لجميع المبادئ الأخلاقية والعدالة لقد رأى أن التراث التشريعي الإسلامي ذو وظيفة إرشادية وتنويرية، وليس ذلك فحسب، بل أيضاً يملك وظيفة نقدية. فضلاً عن ذلك يوجد العديد من المصلحين المعاصرين راحوا يتبنون الرأي القائل بضرورة خضوع التعاليم والتقاليد والأعراف التشريعية القديمة إلى الفحص والنقد الدقيق. وهو ما يعتني به بحثنا هذا لجهة الدوافع والبواعث الأخلاقية المتضمنة في الوحي القرآني، وإمكانية انتقال هذه الدوافع والبواعث الأخلاقية إلى مفاصل القانون والنظام الإسلامي (1).

1- العدالة كطريق وسبيل للألوهية. (طبيعة التشريع الإسلامي)

قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَينَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا}(2). تحمل هذه الآية رسالة واضحة وجلية مفادها أن الإنسان بصفة عامة، ومن قبل أن يحمل أمانة الله في التكليف والاختيار، ويوافق على هذا الامتحان الصعب والشاق من التكاليف الدينية، هو في الوقت نفسه مسؤول عن قراراته وأفعاله في الحياة الدنيا وفي الآخرة. وبناء على ذلك منحنا الله العقل لكي نختار البدائل لذا فالإنسان محاسب على أفعاله، فلو نجح كان له الثواب، ولو فشل وأخفق استحق العقاب. إنها أمانة التكليف الشاقة والصعبة. ولا يقتصر الأمر على حمل أمانة التكليف الشاقة، بل جعل الله الموجودات البشرية نائبة عنه، أي أن الإنسان هو خليفة الله في الأرض كما في قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِف في الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُر كَيْفَ تَعْمَلُونَ}(3). لذا فإن الهدف الأسمى للإنسان في هذه الحياة هو إدراك وتحقيق صراط الله المستقيم، وهذا يستلزم كفاحاً أخلاقياً مستمراً ودائماً للوصول إلى هذا المسار الإلهي. وعندما

ص: 295


1- ملحوظة : معظم الفقهاء والقضاة والمشرعين يستخدمون كلمة القانون الإسلامي بمعنى الشريعة، وهذا ما يلمح إليه الباحث تكراراً فى هذا البحث
2- سورة الأحزاب - الآية 72
3- سورة يونس - الآية 14

تحدث القرآن الكريم عن صراط الله المستقيم، والذي ينشأ من دوافع أخلاقية، تعامل مع الصراط كحقيقة واقعية فعلية وموجودة. والصراط المستقيم وكذلك الجانب الأخلاقي منه هما أمران متساويان في الامتداد الزماني والمكاني، وفي الوقت نفسه غير منفصلين عن الله. يستخدم القرآن عدة مصطلحات مثل «الظلم» أو «العدل» أو «الجيد» بطريقة موضوعية، كما لو كانت حقائق أنطولوجية - مستقلة وموضوعية. فالإلهية تجسيد لكل ماهو أخلاقي ومعنوي وجيِّد وصحيح، ومن ثمَّ فإن وجود الإلهية كحقيقة موضوعية يعني بالضرورة وجود قيم أخلاقية من قبيل العدالة والخير. وبناءً على ذلك لا معنى أن يدعي امرؤٌ ما وجود الله وفي الوقت نفسه يقول بعدم وجود العدالة والخير . فوجود الله يتضمن وجود كل من العدالة والخير على اتمِّهما . العدالة الجزئية أو الخير الجزئي يمكن أن تكون سياقية وطارئة ونسبيّة، لكن العدالة المطلقة، والخير المطلق ليسا كذلك العدالة المطلقة والكمال والخير هي صفات إلهية، لأن الإلهية تجسد كل ماهو حق وخيِّر . والله تعالى يجسد كل أنواع الجمال {لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}(1) . ومن العدل أن نقول إن الله يجسد كل جميل وجيد والصراط المستقيم يعلمه الله، أما الإنسان فلا يعرفه، ولذلك فهو يحتاج إلى الله من أجل إرشاده وهدايته. والقرآن الكريم في كثير من آياته يحض المسلمين على أن يسلكوا الصراط المستقيم {اهْدِنَا الصَّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}(2). ومع انه لا يوجد كهنوت في الإسلام، إلا أن التجارب التاريخية للمسلمين أنتجت نوعًا من الخبرات القانونية عرفت باسم الفقه. في الإسلام السني (أهل السنة والجماعة) فإن سلطة الفقهاء احتمالية وعارضة وطارئة بصورة تامة خصوصًا في الاختلافات الشخصية في مسائل الفقه. ولذا لا يوجد عالم دين يمكن أن يدعي لنفسه سلطة دينية مقدسة، أو أن يدعي العصمة من الخطأ. من ناحية أخرى، فإن القرآن وتعاليم الأنبياء عموماً تدعو الناس إلى الاعتماد على قدراتهم الشخصية في فهم وإدراك الصراط الأخلاقي المستقيم. وعلاوة على ذلك، ووفقًا للقرآن الكريم لا يمكن الإنسان أن يهرب من المسؤولية والجزاء أو

ص: 296


1- سورة الحشر - الآية 24
2- سورة الفاتحة - الآية 6

الحساب، عن طريق الاعتماد على الممارسات المعتادة والمألوفة وتعاليم أجدادهم التي ليس لها علاقة بتعاليم الإسلام، كأعذار عن الفشل أو الإخفاق في الوصول إلى الصراط. هنا نتحدث عن علاقة الفرد بالصراط المستقيم كحقيقة موضوعية. بمعنى آخر نتحدث عن المبادئ والقواعد الأخلاقية، ومسؤولية الأفراد في أن يحيوا ويعيشوا حياة أخلاقية.

الشريعة والالتزام الأخلاقي

لدى الحديث عن الالتزامات الأخلاقية في القانون الإسلامي (الشريعة). فإن من الأمور الحاسمة أن نميز بين الإلزام، والمسؤولية القانونية. كل كائن بشري مفطور على التزام أخلاقي ومسؤولية أخلاقية في السعي لمعرفة الصراط المستقيم، وكذلك في سعيه إلى اعتماد المبادئ الأخلاقية التي لا تنفصل عن الألوهية ذاتها. والقرآن الكريم يصف معرفة الصراط المستقيم الذي يتضمن الاعتقاد في الله بأنه فعل ينشأ خارج أو بعيدًا عن المعرفة العقلية، ذلك بأنه مسألة من مسائل الحس المشترك. فالقرآن الكريم يصف نفسه ككتاب ذكر ، ووظيفته الأساسية أن يذكِّر الناس بحقيقة الله، وهذه الحقيقة تتضمن وجود وحضور الله في كل شي. كما يؤكد القرآن على أن من وسائل معرفة وإدراك هذه الحقيقة (العقل - التذكر – الفكر) وان الحقيقة هي الله والله هو الحقيقة. ولكن معرفة الله توجب وتحتّم معرفة القيم التي تتعلق ذاتها بالله - هذه القيم مثل العدالة- الأمانة وغيرها. في هذا الصدد يقول الراغب الأصفهاني (502 ه_ 1108م) إن فعل الخير يرادف ويساوي الإلزام بتبني القيم الإلهية. بمعنى (أن نتخلَّق بخلق الله). يذكر القرآن العديد من عناصر الاستقامة، ويرى أن الصراط المستقيم متضمَّن في الطبيعة الفعلية للموجودات البشرية، أي أنه حدس طبيعي (فطرة) تُنسجُ وتُحاكُ في بنية وتركيب الوعي الإنساني والفطرة هي التي تساعد في التمييز بين ما يكون ربَّاني إلهي، وما هو بشري. وكذلك بين ما هو خيِّر (حسن) وما هو شر (قبيح) . وعليه يدعو القرآن الناس ويحضُّهم على التفكير، والتأمل والتعقُّل كوسيلة من وسائل الوصول إلى حقيقة الله وصراطه المستقيم. أن

ص: 297

حتمية ووجوب هذا التأمل والتعقل جرى تأكيدها عن طريق حديث النبي صلّی الله علیه و آله (تفكّر ساعة خير من عبادة ليلة) (الدارمي حديث رقم 658) . وأما عناصر الصراط المستقيم فيمكن أن تصل إليها الموجودات البشرية من خلال فعل التفكير والتذكّر، بما يعني أن الصراط لا يكون تاماً وكاملاً إلا من خلال الاعتقاد بتوحيد الله. ورغم أن العديد من عناصر الصراط يمكن التماسها عن طريق القدرات العقلية والحدسية، فإن بلوغه في تمامه وكماله يتطلب قوة إضافية أخرى إنه يحتاج إلى النعمة الإلهية. فالقرآن الكريم يصف الله بأنه نور محض، ويصر على أن من ينكر وجود الله فهو أعمى من الناحية الروحية، بمعنى أنه لا يملك بصيرة روحية. إن المبادئ الأخلاقية والقيم تمثل سمات وخصائص تنسب إلى الإلهي بطريقة مجازية، والقواعد والمبادئ الأخلاقية تشبه عناصر عُلْوية سماوية مضيئة تُفاض من داخل النور الإلهي. ومن وجهة نظر لاهوتية أو من منظور لاهوتي فإن هذا يعني أن الشخص الذي يفعل هذا يصبح أعمى جزئياً، أو يستطيع أن يرى أشياء ومواد مضيئة، لكنه لا يرى النور الإلهي التام. ومن هنا فإن كل الموجودات البشرية تملك مسؤولية فردية إيجابية لتحقيق هذا النور بقدر الإمكان من ناحية أخرى، فإن هذه المسؤولية تبدو مختلفة تماماً عن الإلزام نفسه. على سبيل المثال الموجودات البشرية ملزمة بالسعي نحو الصراط ، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنها مسؤولة عن الإخفاق والفشل في تحقيق الصراط، أو حتى الفشل في البحث عنه، أو السعي إليه في الاعتقاد الإسلامي فإن المسؤولية الإلهية تكون شيئًا موجودًا في حرية الاختيار الإلهي أو حرية التصرف الإلهي وحده. إذ لا يملك أحد أن يقول لله أن يغفر أو يسامح أو يعاقب، فالله تعالى يملك الحرية التامة في فعل ذلك، وتلك المسؤولية يمكن أن نبحث عنها من خلال وسائل وأدوات التشريع الإسلامي وبصورة جوهرية وأساسية، فإن التشريع الإسلامي يهتم بالبحث في الالزمات وترسيخها تكاليف الحلال والحرام وأيضا يبحث في المسؤوليات الدنيوية أو القانونية للمسلمين (المسؤوليات القانونية والمدنية). هناك وسيلة أخرى لفهم وظائف التشريع الإسلامي تتمثل هذه الوسيلة في البحث عن الوسائل والأدوات المنهجية لتفسير وإدراك الحقوق سواء كانت هذه الحقوق تتعلق بالله

ص: 298

أو بالناس والحقوق من ناحية أخرى توجد بصورة موضوعية وفعلية، ووجودها لا يكون مشروطاً أو طارئاً في حقل المعرفة البشرية، ولو سلمت الموجودات البشرية أو أقرت بالحق الشخصي ،الفردي، فذلك لا يستتبع بالضرورة أن هؤلاء الناس يملكون القوة لإجبار ولإلزام الأفراد أن يتحملوا مسؤولية قانونية عن تجاوز أو انتهاك كل من حقوق البشر وحقوق الله.

الشريعة كأيديولوجيا وتطبيق

الشريعة من الناحية التاريخية ظاهرة اتضحت مساراتها كممارسة قانونية اجتماعية معقدة ومركبة، ونسجت مع حتمية نصِّية، وكذلك مع هوى سياسي وأنماط اجتماعية متعلقة بالعرف، كل هذا أُدمج ونُسج ضمن مسار تاريخي غني وخصب ومعقِّد يصعب فصله. ولكن المظهر التاريخي للشريعة كان أيضاً مذهبياً وعقائدياً وطموحاً بشكل مثالي. لم تكن الشريعة مجرد ممارسة تاريخية مفيدة فحسب، بل أيضاً ذات فعالية أيديولوجية استجوبت وواجهت الواقع الاجتماعي والسياسي.

وفقاً للنظرية القانونية الإسلامية فإن الغرض من الشريعة الإسلامية هو السعي من أجل الصراط المستقيم، ومتى فعلنا ذلك نستطيع أن نساهم في تحقيق سعادة ورفاهية البشر. ففي القانون الإسلامي (الشريعة) يعني تحقيق رفاهية وخير الناس؛ ومصلحة الناس هي تعبير أو عبارة تقنية وفنية يُقصد بها تحويل القيم المجردة مثل العدالة والرحمة، إلى منافع ومصالح مادية حسية، ليتم الاستمتاع بها. غالباً ما يعرِّف المؤلفون المسلمون وغير المسلمين إلى مصطلح القانون الإسلامي بالشريعة من الناحية اللغوية تُشتّق من الفعل شرع أي أمر . وقد أطلق هذا الاسم على مورد المياه، أي الماء الجاري، وشرعت الإبل أي جاءت وحضرت إلى مكان الماء. والشريعة اصطلاحًا هي كل ما شرعه الله لعباده من أحكام جاء بها الأنبياء. والشريعة الإسلامية هي ما نزل به الوحي على محمد بن عبد الله صلّی الله علیه و آله من أحكام لإصلاح أحوال الناس في الدنيا والآخرة، سواء في ذلك الأحكام العقائدية أو الأحكام العملية الأخلاقية. وفي هذا السياق تقدم الشريعة المعايير والقواعد النظرية والعملية المتعلقة بالنظام

ص: 299

الإسلامي. ويجب أن نلفت الانتباه إلى أن القرآن هو المصدر الأساسي والرئيس للشريعة. والكلام الإلهي بوجه عام يركز على المبادئ الأخلاقية العامة والقليل من القوانين الخاصة المحددة (تقريباً يوجد ثمانون آية في القرآن يمكن رؤيتها كقوانين خاصة محددة بالمعنى الدقيق) لكن القرآن يمثل بصورة أساسية كتاب هداية وتخلُّق. وهكذا فإن القوانين الخاصة التي تعدّ جزءاً من الشريعة الثابتة يجب أن تحقق معيارين:

المعيار الأول، يتمثل في القوانين الخاصة التي ينبغي أن يتم صياغتها بواسطة ما هو إلهي، وبطريقة واضحة وغير غامضة.

المعيار الثاني، ويتمثل في وجوب أن يكون القانون الخاص في طبيعته وفي ذاته متضمِّناً المبدأ الأخلاقي الذي يقصد منه. ومن الأمثلة على تلك الأوامر، الأمر بالصلاة خمس مرات في اليوم، وصيام شهر رمضان، وإيتاء الزكاة، وحرمة ممارسة الجنس خارج نطاق الزواج، والتشهير (الغيبة) شرب الخمر، وأكل لحم الخنزير الخ .... مثال آخر يتضمن ويشمل الأمر القرآني بأن العقود والمواثيق يجب أن تكون بالرضا والقبول وليس بالجبر والقسر، كما يجب أن تتحرر من الخداع. وعلى جميع المشاركين في العقود والمواثيق أن يبذلوا قصارى جهدهم للمحافظة على عقودهم ومواثيقهم. ولقد حاول الفقهاء والمشرّعون المسلمون وغير المسلمين أن يبرهنوا على أن هذه الأوامر والقوانين تمثل تفويضاً رسمياً عن طريق الله، وأنها في ذاتها مبادئ وقواعد أخلاقية من سماتها وطبيعتها عدم الخضوع للتغيرات الطارئة العارضة، والتغيرات الزمنية. ومن الضروري ملاحظة أن هذه الأوامر والقواعد الخاصة تعدّ جزءاً من الشريعة الإلهية، وتمثل نوعًا خاصاً من القوانين، التي يتم وصفها غالباً عن طريق القوانين والأوامر القرآني (أحكام القرآن). سوى أن هذه القوانين تشكل جزءاً فقط وتوصف إلى حد ما، كقوانين ثابتة أي مطلقة وغير مشروطة. وفي هذا المجال نذكر حقيقة مهمة، وهي أن استعمال أو تطبيق بعض هذه القوانين والأحكام يمكن أن يعطل مؤقتاً أو يعلّق في حالة الضرورة. وتوضيح ذلك أن قيم الشريعة تمثل القيم الأعلى والأسمى التي تتفوق على جميع القيم الأخرى. ولو كانت المصلحة

ص: 300

العامة متساوية مع المصالح السياسية، فإن هذا يعني أن الشريعة تعزز النظام النفعي للقيمة، أو نظام القيم النفعية بصورة تامة. لذا لا بد من التمييز بين الحاجة والدعوى للاستثناء القائم على الضرورة، والتعطيل المؤقت لقوانين الشريعة على أساس المصلحة العامة دعوى الضرورة هنا تمثل وسيلة وأداة لحماية القيمة الأخلاقية أو المبدأ الأخلاقي، أما الاستثناء القائم على المنفعة فسيكون متناقضا مع موضوعية الشريعة ودعوتها إلى القيم الأخلاقية المطلقة. هذا في حين لا يوجد ما يدل على أن القرآن قصد أن يقر أو يصادق على النسبية الأخلاقية، كأساس لقانون الشريعة. أنا لا أدعي أن الشريعة الإسلامية لا تعترف بإدماج المصالح العامة في حالات محدودة؛ وهذه الإحالة لا تتعارض مع القيم الأخلاقية العليا للشريعة، كما أنني لا أدعي أن القانون الإسلامي يحصر نفسه في التسليم بحالات الضرورة العامة. ومما لا شك فيه أن التشريع الإسلامي يقر بالاستثناءات في القانون وفي الحالات التي تستدعي ذلك وتكون ذات طابع عام. بعض المشرعين المعاصرين استنتجوا أن التمييز بين الضرورة والمصلحة العامة يكون فقط في الدرجة، وليس في طبيعة كل منهما. وهذا غير صحيح، فالضرورة تعلق تطبيق القانون من أجل الحفاظ على قيمة أعلى، لكن الادعاء بأن جميع القوانين يمكن تغييرها من أجل خدمة المصلحة العامة يجعل القانون خاضعًا للقاعدة الشاملة ومبادئ الرفاه العام أو الرفاهية مع هذا الالتزام النفعي الشامل، يصبح من الصعب الدفاع عن الموضوعية وإطلاق أي قيمة أخلاقية.

عقوبات الحدود.. مثالاً

إن وضع قانون المصالح العامة موضع التنفيذ كوسيلة وطريقة لإيجاد الاستثناءات القانونية بات إلى حد ما مسألة مرئية ومحسوسة في العصور الحديثة. ذلك لأن القانون القرآني يفترض أن يكون جزءاً من الشريعة الثابتة والقوانين والأوامر القرآنية أو النوع الخاص من الأوامر والمبادئ الأخلاقية المحددة والخاصة. وعلى الرغم من أن هذه الأوامر الخاصة هي جزء صغير ومحدود من النظام القانوني، إلا أنها ذات أهمية رمزية كبيرة. فالقوانين الخاصة تتضمن مجموعة من العقوبات والجزاءات

ص: 301

الرادعة التي تعرف باسم عقوبات الحدود وعقوبات الحدود هذه تشمل الحقوق المتعلقة بالله وبالإنسان معاً. وهي (حقوق مختلطة) Mixed Rights)) من أمثلتها الجلد، والرجم حتى الموت ، وقطع اليدين، وكل هذه العقوبات تمثل جوانب خلافية وجدلية في قانون الشريعة في العصر الحديث. وكثيرون من المسلمين، أصبحوا يمتلكون دليلاً لا يقبل الشك على الهوية الفريدة للنظام القانوني الإسلامي، حيث يمثل رمزاً بالنسبة اليهم لجهة الاستقلال السياسي والثقافي. أما عقوبات الحدود بالنسبة لغير المسلمين فهي تمثل دلالة واضحة على وحشية وبربرية وقسوة العصور الوسطى المظلمة. وهنا يجب لفت الأنظار إلى أن كثيرا من علماء المسلمين وغير المسلمين يتعاملون مع هذه القوانين كما لو كانت تمثل لب وجوهر النظام القانوني الإسلامي. وعليه فقد زعموا أن قانون الشريعة بصورة أساسية وجوهرية يتعارض مع المفاهيم الحديثة لحقوق الإنسان. ومما لا شك فيه أن معظم الفقهاء المسلمين في العصور الوسطى اعتبروا عقوبات الحدود جزءًا من الشريعة الثابتة، ومن أجل هذا لم يجعلوا عقوبات الحدود خاضعة للتغيير والتعديل أو الإلغاء والإبطال، سواء بصورة متعمدة أم لا. كما أن معظم الفقهاء المسلمين في العصور الوسطى رسخوا الانطباع بأنه من غير الممكن تحقيق وإنجاز قانون الشريعة من دون وضع عقوبات الحدود موضع التنفيذ ذلك بأن الحدود بوجه عام تكون متمِّمة ومكملة للنظام القانوني الإسلامي، أو النظام التشريعي في الإسلام ولكن من المثير للاهتمام أن عقوبات الحدود بالكاد كانت متحققة ومنجزة في تاريخ القانون الإسلامي، وما ذلك إلا لأن الفقهاء المسلمين وضعوا حاجات ومطالب تحتاج إلى دليل وبرهان وشروط مسبقة لتنفيذ الحدود بطريقة عملية وتطبيقية. وعلى العموم يمكن النظر إلى عقوبات باعتبارها جزءاً ثابتاً من مبررات ومسوغات الشريعة.

على سبيل المثال أن عقوبات الزنا والسرقة . مؤشرات قوية ودلالات واضحة على القيمة التي وضعتها الشريعة لقيمة العفَّة. ويجب أن نلفت الانتباه إلى أن العقوبات ذاتها، متوقفة على القرينة والحجة، كما تعتمد على مجموعة من العوامل مثل التخفيف، إلى جانب تحرّي نية وغرض وهدف مرتكب الجريمة أو الفعل الذي

ص: 302

يستوجب إقامة الحد . هنالك أحاديث نبوية كثيرة تدعو المسلمين للبحث عن وقاء وستر وغطاء لاجتناب نزول عقوبة الحد، والتسرع في تطبيقها قبل التثبت والتحقق. من ناحية ثانية يجب أن نساعد من يتوب عن هذه الجرائم التي تستوجب إقامة الحدود، وعدم فضحه أو كشف ستر الله عنه . تجدر الإشارة إلى أن عقوبات الحدود ذاتها متضمنة في القيمة الأخلاقية، وهي معدة لمنع السلوك غير الأخلاقي. ومن المعقول بل من المقبول أن نتعامل مع القيم الأخلاقية في الشريعة كقيم ثابتة ومطلقة، ونتعامل مع القوانين الخاصة والأوامر الخاصة كقوانين موقوفة على تبيَّن القرينة والسياق الزماني والمكاني الذي حصلت فيه.

السعي نحو حقيقة الألوهية

في ما وراء المبادئ الأخلاقية العامة والقوانين الخاصة المتضمنة في المبدأ الأخلاقي، يوجد معنى لنموذج أصلي ثابت في الشريعة. فالشريعة قانون إلهي رباني، والله يعرف تمامها وكمالها، أما النظام القانوني الوضعي فهو نظام يصنعه الإنسان ويقوم على إمكانيات محددة وهدفه من أجل تحقيق وإنجاز العدالة، المساواة، والأمان، وتحقيق هذه القيم هو تحقُّق فرديٌّ، كما أن هذه القدرات والإمكانيات تكون احتمالية. كذلك فإن السعي إلى تحقيق النظام القانوني متوقفٌ على مجموعة من الشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتداخلة والمركبة والشريعة، من ناحية أخرى لا تكون إمكانية فقط، بل أيضاً حالة متحققة بواسطة الله. فالشريعة ربانية إلهية، وليست طارئة ،احتمالية وهي في معناها الصحيح حقيقة إلهية، ونموذج مطلق وتام وكامل ذلك بأنها نموذج من الوحي الإلهي الذي يمنح المعنى والهدف لحياة هؤلاء الذين يسلكون صراط الله المستقيم. ولأن الإنسان خليفة الله في الأرض، كانت الموجودات البشرية مأمورة أن تصلح في الأرض ولا تفسد فيها، بل وجب على الناس أفراداً وجماعات أن يكافحوا للوصول إلى صراط الله المستقيم، وأن يتبعوا سبيل الله، ويعملوا على نشر الخير ومقاومة الشر، بمعنى تحقيق ما هو أخلاقي، ومقاومة غير الأخلاقي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) فالأمر بالمعروف هو

ص: 303

سبب جوهري في نيل رضاء الله وهذا هو العهد والميثاق الذي أخذه الله على العباد ليكونوا خلفاء في الأرض.

أن عناصر الميثاق الإلهي تتطابق مع طبيعة الإلزام الذي يدين به المسلمون تجاه الشريعة، ولكي تحافظ البشرية على العهد والميثاق الإلهي، فهي مأمورة أن تشارك في عملية تفويض أو انتداب من خلال تلك العملية تسعى الموجودات البشرية إلى ما هو خيِّر، وتتجنب ما يجلب الشر. ومع أن الله يُظهر الحقيقة التامة للخيرية، فإن الموجودات البشرية لا تملك حرية الدخول لمعرفة الله، وأن المعرفة الإنسانية لا يمكن أن تتساوى مع حقيقة الألوهية. علاوة على ذلك، فإن الموجودات البشرية يمكن أن تحقق وتنجز أجزاء من الحقيقة، لكنها لا يمكن أن تحيط بالحقيقة الكلية للشريعة، إذ كيف يمكن للموجودات البشرية أن تمثل الحقيقة الإلهية الكاملة، وهي تقترف الآثام والذنوب.

الأوامر الأخلاقية القرآنية في عصر الكوزموبوليتانية

كما بيَّنا سابقاً، فإن القرآن يقرّ بمبادئ أخلاقية معينة بصورة كلية وتكون قابلة للتطبيق. والقرآن في هذا السياق غالبًا ما يؤيد ويدعم تلك المبادئ الأخلاقية بطريقة واضحة وجلية وإلزامية، ويحض الناس والمسلمين بخاصة على السعي إلى تحقيق وإنجاز تلك المبادئ الأخلاقية الكلية، التي تصلح كأهداف مشتركة بين الحضارات الإنسانية كلها. وهذا ما يمثل سمة جوهرية وأساسية للإسلام كدين شامل يخاطب البشرية ككل. في السياق إياه يؤكد القرآن على أنه يحمل رسالة عالمية لجميع البشرية، وليس لقبيلة معينة أو جنس معين. كما يؤكد أن نبي الإسلام(ص) جاء للبشرية ككل بالرحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}. (1) فالرحمة سمة وخاصِّية أخلاقية رئيسية في الإسلام، وهذه الخاصيِّة تتضح أيضاً بصورة ظاهرية خارجية في كل شيء يفعله الإنسان وهو ما يعرف قرآنياً باسم (الإحسان). فالإحسان هو أن تعرف الآخر، وتنشر المحبة والسلام بين الناس، وهو هبة ونعمة عظيمة من رحمة الله يؤدي إلى أن تنعم

ص: 304


1- سورة الأنبياء - الآية 107

البشرية بالسلام والأمان والسعادة. ومعرفة الآخر لا تكون ممكنة من دون نعمة الإحسان، الذي يجعل الناس تقترب من بعضهم البعض. كما أن القانون الإسلامي يجب أن يشيّد على أساس الزخم الأخلاقي في القرآن، أو على أساس مجموعة الإمكانيات والمسارات الأخلاقية القرآنية. والغالب في التوجيه الأخلاقي القرآني أن على الناس أن يكافحوا من أجل الحصول على نعم الله وعطاياه. ونعم الله تشمل التطور الاجتماعي، وبالمثل فهي تتضمَّن كثيرا من الحقوق بالنسبة للموجودات البشرية. وعلى الرغم من أن نعم الله لا يتم التفكير فيها بطريقة معيارية، فإن القرآن يتحدث بصفة دائمة عن الشروط والأحوال المتميزة اجتماعيًا، مثل السلام والأمان والنجاح المادي والاقتصادي، ويتحدث عن هذه الأشياء كنعم وعطايا من الله تكون متوقفة على جهود البشر. كما أنه من الضروري قراءة النصوص القرآنية لكي نأخذ منها العبر الأخلاقية، وهذا يحتاج إلى تغيير وتغير معرفي كبير في فهم الوسيلة والطريقة التي يؤكد الله بها المبدأ الأخلاقي. إن إحدى الوسائل في فهم المسارات الأخلاقية القرآنية، وفهم ديناميات القرآن في التعامل مع ترسيخ الحقوق الأصلية، فضلا عن الحقوق الفرعية يجري من خلال فهم الآيات لجهة إنهاء الاستضعاف (ظلم واضطهاد يتم بواسطة القوي لنزع شي ما بالقوة من الآخر الضعيف) داخل السياق التاريخي في الإسلام الأول أو المبكر. يشير القرآن على الدوام إلى الشروط والأحوال الاجتماعية التي شكلت وكوَّنت مجموعات معينة من الأمم المستضعفة ويذكّر بأن الخضوع والاستسلام النموذجي والمثالي يكون بالخضوع لله، أما خضوع الإنسان للإنسان ففيه ظلم وذل وإذلال، ولذا فإن الخضوع لله يمثل حلاً وسطاً وتسوية لخضوع الموجودات وضعفها أمام موجودات أخرى، فالاستضعاف ليس فكرة أو مفهوماً مادياً فقط، بل هو يتضمن أيضا عناصر سيكولوجية للمستضعفين (ضحايا الاستضعاف). هؤلاء الضعفاء يتم رؤيتهم كمضطهدين، وإذا أخفقوا وفشلوا في القيام بفعل إيجابي ضد هذا الظلم والاضطهاد فإن القرآن يلومهم على ما فعلوا ويصفهم ب_ «ظالمي أنفسهم». قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ مُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ * قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ * قَالُوا أَلَمْ تَكُنَّ أَرْضُ اللَّهِ

ص: 305

وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا * فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ * وَسَاءَتْ مَصِيرًا}(1)، فإذا لم يحاول المستضعفون تغيير تلك الحالة من الضعف والظلم، كانوا من الظالمين لأنفسهم.

هناك أذن، نقطتان تدوران حول الخطاب القرآني في حالة الاستضعاف:

أولاً : أن التوجيهات القرآنية تعمد غالباً إلى إنهاء حالة الاستضعاف، وكسر الاستكبار والغطرسة التي تتخلل تلك العلاقة. وهذا يعني أن هذه التوجيهات ملائمة ومناسبة للحياة الإنسانية، فضلاً عن أنها توضح الحاجة إلى وضع نهاية لظروف وأحوال الاستضعاف.

ثانياً : العلاقة بین الاستضعاف والغطرسة هي سبب آخر لدعوة القرآن الناس إلى الكفاح من أجل تحقيق وإنجاز كثير من الحقوق التي تكون متسقة ومنسجمة مع الحقوق الأصلية الأساسية التي أمر الله بها . فلو تعاون الناس فيما بينهم وساعدوا أنفسهم بوضع نهاية لموقف الاستضعاف، لتسنى لهم السير والعمل في سبيل الله، حتى يكسبوا نعم الله ويستحقونها. فضحايا الاستضعاف يحتاجون إلى أن يكونوا أقوياء، والقوة هنا ليست قوة مادية فقط، بل قدرة نفسية ووجدانية لمواجهة الطغيان في آثاره الأخلاقية.

الشريعة الإسلامية والرشد

إن الجوهر الأساسي لمفهوم الشريعة، هي أنها وحي إلهي، وطموح نسعى إليه، وهي تشريف وتكريم للإنسان، والموجودات البشرية مكرَّمة، لأنها مفطورة على الاتصاف بصفات الله ، ومن ثمَّ فهي قادرة على فعل أشياء من عند الله. وأمانة التكليف التي قام الإنسان بحملها، ورفضتها السموات والأرض والجبال، هذه الأمانة هي مهمة شاقة وعبء ثقيل، لذا كرم الله الإنسان من أجلها والله قادر على خلق وإيجاد الأفعال التي لا حد لها من الجمال الحقيقي؛ وحين كفَّت الموجودات البشرية عن السعي نحو الجمال، وغفلت عن ميثاقها ووعدها والتزاماتها تجاه السامي والجليل والمهيب والسماوي، وسقطت في الكسل والتراخي، والقنوط واليأس، انحرفت عن الصلاح والتقوى والورع، وسقطت في نقيض ذلك. والتذكير بحقيقة خلافتنا لله على

ص: 306


1- سورة النساء الآية 97

الأرض، وقربنا من الطبيعة الإلهية، وأن الله خلقنا على صورته يجعلنا نقترب من النور الإلهي. وعندما نعيش ونحيا في الجمال الزائف، ومن دون خصائص وصفات الألوهية، فإننا نبتعد ويتعثّر سيرنا نحو النور الإلهي، كما نصبح عرضة للانحراف عن الصلاح والتقوى والورع. والشريعة في هذا السياق تُفهم بصورة دقيقة كمرادف لفضائل التقوى والصلاح والورع، وكنماذج سامية عليا. والقرآن الكريم يصرح ويعلن أننا عندما نفعل الخير، فإن الله يحب المحسنين وفهم الشريعة كمجموعة من الفضائل الطبيعية، وتبنيها كمرشد وموجه معياري يثبت الميزة والخاصية والهوية الأخلاقية للبشر. ونحن كمسلمين ملزمون بتنفيذ المبادئ الأخلاقية القائمة على التعاليم الإلهية. ولسبب بسيط، هو أننا سوف نلقى الشرف والكرامة في الخضوع والتسليم بالتوجيه الإلهي.

الخاتمة : إن المبادئ الأخلاقية المطلقة بمثابة البوصلة والأضواء المرشدة الهادية في الشريعة. والقرآن الكريم يؤكد صحة وصدق وحقيقة المبادئ الأخلاقية كفضائل غير قابلة للانفصال عن الخير والجمال والألوهية ذاتها. ومن المعروف أن القوانين والقواعد القرآنية تقدم أمثلة توضيحية من أجل تحقيق المبادئ الأخلاقية المطلقة في حدود الاعتدال والمعقولية. وما يكون في حدود الاعتدال والمعقولية لا يتم تعريفه بواسطة القانون، وإنما عن طريق العلاقات القائمة على السياق الاجتماعي، والمشاركة المتبادلة والشعور المعرفي والعمليات الثقافية والاجتماعية.

نشير أخيراً إلى أن حقيقة الاستخلاف هو تكليف الإنسان بعمارة الأرض، وهذا أمرٌ يلزم المسلمين أن يعيدوا بناء التعهد بالمشاركة في التعاليم التي بينَّتها الشريعة الإسلامية على أساس فهم مقتضيات الحضارة الإنسانية عقلانياً وأخلاقياً.

ص: 307

العلاقة بين الدين والأخلاق في القرآن الكريم

العلاقة بين الدين والأخلاق في القرآن الكريم (1)

عبد الحسین خسرو پناه (2)

ترجمة: محمد زراقط

الخلاصة:

يشتغل علم الأخلاق في مجالات عدّة بعضها توصيفي وبعضها له طبيعة آمريّة أو فلنقل تهدف إلى التوصية ببعض الأمور. وتوضيح العلاقة بین الأخلاق والدين واحدة من الموضوعات الأساسية في البحث الأخلاقيّ المعاصر. والمقصود من الأخلاق في دراستنا هذه هو قضايا علم الأخلاق (الصدق حسن، والكذب قبيح...) والمقصود من علم الأخلاق ومن الدين الحقائق التي تكشف للإنسان عن الرؤية الصحيحة المتعلّقة بالسلوك والنظر بما يضمن له سعادته في الدنيا والآخرة. وفي توضيح هذه العلاقة بين الأخلاق والدين ثمّة توجّهات ثلاث هي: التباين، والاتّحاد، والتفاعل. وقد كشف لنا البحث في القرآن الكريم عن أنّ التوجّه الصحيح هو الأخير أي التفاعل والتعامل بين الدين والأخلاق.

الكلمات المفتاحية: الدين الأخلاق، العلاقة، القرآن.

ص: 308


1- العنوان الأصلي للمقالة : «رابطه دین و اخلاق در قرآن»، مجلة: أخلاق وحياني، التخصّصية الفصلية، السنة الأولى، العدد الأوّل، خريف 1391ه_.ش
2- أستاذ في الحوزة العلمية في قم، وأستاذ باحث في المعهد العالي للثقافة والفكر الإسلامي

شرح الإشكالية:

العلاقة بين الدين والأخلاق من المسائل التي شغلت أذهان الفلاسفة والمتكلّمين وعلماء الأخلاق، وما زالت تشغل أذهانهم على مدى قرون متمادية. ومن الشواهد الدالة على هذا الانشغال رواج التعبير المركّب من كلمة أخلاق، مضافةً إلى الإسلام تارةً واليهوديّة طورًا، والمسيحيّة طورًا آخر والبوذيّة كذلك، وعلى هذه الأديان يُقاس ما سواها، إن كان ثمّة سواها ... وقد طُرِحت آراء وأفكار حول هذه العلاقة فثمة فلاسفة يونان ورومان من أمثال سقراط وأفلاطون وغيرهم يعتقدون باستقلال الدين عن الأخلاق، ثمّ ما لبثت هذه النظريّة أن تطوّرت إلى حدودها القصوى على يد ماركس وفرويد، كما إنّ بعض علماء الكلام الإسلاميّ العدليّة منهم وغير العدليّة طرحوا أفكارًا تعبّر بشكلٍ أو بآخر عن شكلٍ من أشكال العلاقة أو القطيعة بين المجالين، وقد عبّروا عن هذه العلاقة أو القطيعة في مواقفهم من التحسين والتقبيح على أساس الشرع أو العقل. ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ الأسئلة التي يمكن معالجتها والبحث فيها في هذا المجال كثيرةٌ منها :

- إلى أيّ مدًى يجب أن تكون الأخلاق دينيّةً، وألا يمكن أن تكون علمانيّةً؟

- هل يمكن تحويل الدين والأخلاق كلَّ منهما إلى الآخر وإرجاعه إليه، أم أنّ كلاً منهما مستقلٌّ عن الآخر ولا يمكن إرجاعه إليه ؟

- هل ينبغي أن تؤخذ التعاليم الأخلاقية من النصوص الدينية، أم أنّ العقل والضمير قادران على اكتشاف هذه التعاليم دون مساعدة العقل ؟

- هل الدين في مجال الأخلاق يضع الحدود الدنيا المطلوب الالتزام بها، أم هو يتولّى بيان الحدّ الأعلى لهذه التعاليم؟

- وفي حال تبنّي الانفصال بين الدين والأخلاق، فهل تسود بين الطرفين حالةٌ من الوئام والانسجام أم أنّهما يتعارضان في بعض الحالات؟ وبناء على التعارض أيّهما يُقدّم على الآخر؟

ص: 309

سوف نحاول في هذه المقالة النظر في طبيعة العلاقة بين الدين والأخلاق على ضوء القرآن الكريم، في سعيٍ منّا لتحصيل الجواب القرآنيّ عن الأسئلة المطروحة أعلاه أو بعضها على الأقلّ.

ماهيّة الدين في القرآن وحدود نطاقه:

قبل التعرّف إلى الدين القرآن ينبغي معرفة العلاقة بين الدين والمفاهيم الكلّيّة والتوجهات المختلفة في تفسير الدين.

الدين والمفاهيم الكليّة:

الدين من المفاهيم الكلّية العامّة التي تقبل الانطباق والحمل على مصاديق عدّة. ولا بدّ في مثل هذا البحث من تحديد طبيعة هذا المفهوم لمعرفة أنّه من المفاهيم الماهويّة أو الفلسفية أو المنطقيّة. ولعلّنا قبل ذلك نحتاج إلى شرح المراد من هذه المصطلحات الثلاثة في تصنيف المفاهيم:

1- المفاهيم الماهويّة، أو المعقولات الأوليّة هي المفاهيم التي تخطر في ذهن الإنسان بطريقة آليّة ودون الحاجة إلى ممارسة عمليّات ذهنيّة أو مقارنات بين شيئين أو أشياء، وهذه المفاهيم تُنتزع عادةً من المصاديق الجزئيّة، مثل: الإنسان والبياض وغيرهما من المفاهيم المشابهة التي تنطبق على مصاديق عدّة أو فلنقل تُنتزع من مصاديق عدّة. وذلك أنّه بمجرّد تحقّق الاتّصال الشخصيّ بين الإنسان وبين مجموعة من المصاديق سواء كان ذلك بواسطة الحواسّ أو بواسطة الشهود الباطنيّ، يعمد العقل إلى انتزاع مفهوم كلّىٍّ ينطبق على مجموع المشاهدات الجزئيّة التي تحقّق الاتّصال بها حسيّاً أو شهوديًّا. ومن خصائص المفاهيم الماهويّة أنّها ترسم الحدود الوجوديّة لماهيّات الأشياء، وتكون لمصاديقها بمنزلة القالب ينطبق عليها جميعًا.

2- المفاهيم الفلسفيّة أو المعقولات الثانية الفلسفيّة، وهي المفاهيم التي يتوقّف انتزاعها على النظر والمقارنة. ومن أمثلتها: العلة والمعلول، وهما مفهومان يتوقّف انتزاعهما على ملاحظة العلاقة بين شيئين وإدراك توقّف أحدهما على الآخر. فعندما

ص: 310

نلاحظ النار والحرارة الناجمة عنها ويدرك العقل العلاقة بينهما ينتزع من النار مفهوم العلّة ومن الحرارة مفهوم المعلول. ولولا هذه المقارنة والاستنتاج لما أمكن انتزاع هذين المفهومين. ومن أبرز خصائص هذا النوع من المفاهيم أنّه ليس لها بإزائها مفاهيم وتصوّرات جزئية؛ بحيث ينتزع الذهن المفهوم الكلي للعلية من الصور والمفاهيم الجزئية التي له.

-3 والمفاهيم المنطقية أو المعقولات الثانية المنطقيّة هي المفاهيم التي تُنتزع من ملاحظة مفاهيم أخرى والنظر في خصوصيّاتها. مثلاً عندما يلاحظ العقل مفهوم الإنسان ويدرك قابليّته للانطباق على مصاديق كثيرةٍ، ينتزع مفهوم «كليّ» . ومن هنا كانت هذه المعقولات صفاتٍ لمفاهيم أخرى. وجميع المفاهيم الأصلية التي تُستخدم في علم المنطق هي من هذا النوع. (رحیق مختوم، ج 1؛ آموزش فلسفه، ج 1، درس 15).

وبالنظر في شرحنا لأقسام المفاهيم المتقدّمة يتبيّن أنّ الدين ليس واحدًا من أيٍّ منها، وذلك لأنّه لا يبيّن حدود مصاديقه حتى يكون من المفاهيم الماهويّة ، ولا يُنتزع من ملاحظة العلاقة بين شيئين أو أشياء حتّى يكون من المفاهيم الفلسفية، وليس حكمًا أو صفة لمفهوم آخر حتى يكون من المفاهيم المنطقية.

والسرّ في عدم إمكان تصنيف الدين في إطار مجموعة من المجموعات المتقدمة هو أنّ المقسم لهذه الأقسام الثلاثة هو المفاهيم البسيطة؛ أي المفاهيم البسيطة تنقسم إلى : ماهويّة وفلسفية ومنطقية؛ والدين ليس مفهوماً بسيطاً حتى يدخل تحت قسمٍ من هذه الأقسام؛ بل هو مركّبٌ اعتباريٌّ له أجزاء وفروع متعدّدة. وهو من هذه الناحية يشبه مفهوم العلم الذي ينطبق على الفيزياء، وعلم النفس، والرياضيّات، والتاريخ. مفهوم العلم مركّب اعتباريٌّ أطلقه العلماء بطريقة تعاقديّة وبناء على توافق على أجزاء محدّدة.

اختلاف التوجّهات في تعريف الدين

اختلفت التوجّهات في تعريف الدين وتنوّعت وأهمّ ما يمكن الإشارة إليه في هذا

ص: 311

المجال ثلاثة توجّهات هى: التجريبية، والعقليّة، والنقليّة.

1- الاتجاه التجريبي والاجتماعيّ

ينطلق هذا الاتجاه في تعريفه للدين من النظر إلى جميع مصاديق الدين الموجودة سواء كانت إلهيةً أو بشريّة، وتوحيدية أو شركية، وسماويّة أو أرضية، وذلك بهدف العثور على تعريف جامع مانع ينطبق على جميع مصاديق الدين، ويمنع ما ليس دينًا من الدخول في دائرة هذا التعريف.

ويرى عددٌ من الباحثين عدم إمكان تبنّي تعريف جامع مانع تنضوي تحته جميع مصاديق الدين المحقّقة والموجودة؛ وذلك لأسباب عدّة:

أولاً : إنّ الأديان تعرّضت خلال مسارها التاريخيّ لكثير م التغييرات والتفسيرات التي أفضت إلى تأسيس فرقٍ ومذاهب عدّة. وهذه الفرق أو المذاهب تتبنّى معتقدات ومقولات مختلفة وفي بعض الأحيان متضادّة أو متناقضة. ومن الصعوبة بمكانٍ، طرح تعريف يجمع تحت لوائه جميع هذه التنوّعات على الرغم من تناقضها واختلافها؛ إلا إذا استفدنا في هذا التعريف من الكلمات المبهمة التي ليس لها دلالات محدّدة واضحة. ومثل هذا الخيار لا يتناسب مع مقام التعريف.

ثانيًا : إنّ تعريف الدين ليس هو أوّل حالات الاشتغال العلمي على الدين ودرسه والبحث فيه. فالبحث في حقيقة الدين والنقاش في تعريفه مسبوقٌ بمجموعة من المبادئ التي ينبغي حسمها في علوم أخرى مثل: علم المعرفة، والإناسة (الأنثروبولوجيا)، والفلسفة، كما هو مسبوقٌ بتحديد موقفٍ من الواجب والدور الذي يمكن أن يؤدّيه الدين. وكمثال على تأثير هذه الاختلافات في التعريف نشير إلى أنّ النظر في النصوص الدينيّة يعطي تعريفاً يختلف عن النظر إلى الدين من الخارج وبعيدًا عن هذه النصوص.

ومهما يكن من أمرٍ ، فإنّه يبدو لنا أنّ النظرة التجريبيّة والاجتماعيّة إلى الدين تفيدنا

ص: 312

بوجود ثلاث خصوصيّات مشتركة موجودة في جميع الأديان سواء كانت إلهيّة أو بشريّة والخصوصية الأولى هي الاعتقاد بوجود عالم باطنيٍّ ملكوتيّ مضافًا إلى العالم المُلكيّ الظاهريّ، والثانية هي الاعتقاد بالنجاة (الخلاص) والفلاح، والثالثة هي تقديم الدين منظومة وصفيّة وقيميّة للعلاقة بين الملك والملكوت وتكون وسيلة لنيل الخلاص والنجاة. وجميع الأديان إلهيّةً كانت أم بشريّة تدّعي أنّها تكشف للإنسان كيف يمكن أن ينفذ من الظاهر إلى الباطن ومن عالم المُلك إلى عالم الملكوت، وتدّعي أنها تقدّم للإنسان الوصفة الصالحة للنجاة والفلاح. هذا ولكن الاتّجاه التجريبيّ لا يمكنه الحكم بحقّانية هذه الدعوى أو عدم حقّانيّتها، أو التمييز بين الدين الحقّ والدين غير الحقّ، ولأجل هذا نجده يقنع بالاكتفاء بوصف هذه الأديان والحكاية عن ما تدّعيه. وبناء عليه نرى أنّ إصدار الأحكام على الدين ودعاواه تحتاج إلى الاشتغال بآليات أخرى غير آليّات هذا الاتجاه، والاتّجاه المرشّح هو الاتّجاه المنطقيّ.

2- الاتجاه العقليّ المنطقيّ

يبتني هذا الاتّجاه في مقام فهم الأديان على النظر في حقيقة الدين بطريقة عقلية منطقيّة، بغضّ النظر عن ما تحقّق من الدين في الواقع، وذلك ليحكم على مدّعيات الدين بالصحة والفساد، وليقوّم مدى صحّة وصدقيّة مدّعياتها. وممّا يمكن لهذا الاتّجاه الاستفادة منه مجموعة من المبادئ المعرفية والإناسيّة والفلسفية، ويستند إلى هذه المبادئ للقول في تعريف الدين والحكم على ما تحقّق من مصاديقه أو عليها. وأحد مسارات هذا الاتّجاه هو أن يثبت بالاستناد إلى مجموعة من المقدّمات والمفاهيم البديهيّة أنّ وجود الله الحكيم العادل الجامع لجميع الكمالات، ثم يثبُت وجوب الحياة بعد الموت على ضوء حكمة الله وعدله ويتّضح بالاستناد إلى ما ذكرناه وغيره أنّ معتقدات الإنسان وسلوكه في هذه الحياة ينعكس في الحياة الآخرة ويرتبط بها. وبعبارة أخرى : يثبُتُ على ضوء هذه المقدّمات والقواعد المنطقية أنّ عالم الظاهر ليس مقطوع الصلة بعالم الباطن، وأنّ عالم الملك ليس منبتًّا عن عالم

ص: 313

الملكوت. وفي مرحلة لاحقةٍ يثبِتُ أصحاب هذا الاتّجاه أنّ الأدوات والوسائل العاديّة المتاحة للبشر كالعقل والتجربة والشهود لا تسمح لهم باكتشاف الصلة بين العالمين، ولا تسمح لهم بتقديم وصفة ناجعة لتأمين السعادة والنجاة والفلاح الأبديّ. وعليه تقتضي الحكمة الإلهيّة ضرورة مدّ يد الهداية للناس وهذا يتحقّق عندما يبقى الوحي الإلهيّ مصوناً من يد التحريف والعبث البشريّ به.

وحقيقة الدين وفق هذا الاتّجاه، تتوفّر على المبدإ الفاعليّ، والمبدإ الغائيّ والمبدإ المضمونيّ (تبيّن العلاقة بين الملك والملكوت وكيفية نيل السعادة). ومثل هذا التعريف لا ينطبق سوى على بعض الأديان وليس على جميعها. والأديان البشريّة على الرغم من أنّ بعضها على الأقل يدّعي بعض الدعاوى المشار إليها وخاصّة قضية الربط بين الملك والملكوت على الرغم من ذلك فإنّ هذا التعريف لا ينطبق عليها ولا يصدق عليها الدين حقيقةً وواقعًا، وهي ليست قادرةً على هداية البشر إلى طريق سعادتهم، وهي عاجزةٌ عن اكتشاف العلاقة الحقيقيّة بين ظاهر العالم وباطنه. (المصدر نفسه.)

3- الاتّجاه النقلي والداخل دينيّ

وردت كلمة دين في بعض النصوص الدينيّة مثل : الأفستا (Avesta) ، والتوراة والقرآن. ومن هنا فإنّ النظر في هذه النصوص وكيفية استخدامها لهذا الكلمة يسعفنا في فهم الدين ويكشف لنا وجه الحقّ في تعريفه.

كلمة الدين في الآفستا(Avesta)

الدين (دَئِنا = daena) في نصوص الآفستا من الجذر «داوس» والمعنى الذي يشير إليه هذا الجذر بحسب المعجم الاصطلاحي الآفستي، هو التفكير، والوعي والمعرفة. ودئنا في الديانة الزرادشتية عُدّ أساسًا وبنيانًا. وذلك لأنّه بحسب الأفستا القوّة الدرّاكة والعاقلة هي التي تعطي الإنسان القدرة على التمييز بين الخير والشرّ، وبالتالي تكون سببًا لفلاحه ونجاته. ويرى بعض الباحثين في الزرادشتية أنّ كلمة دَئِنا

ص: 314

تعود إلى الجذر «داي» (day) الذي يعني الرؤية من الفعل ديدن باللغة الفارسية؛ ولأجل هذا فسّر هؤلاء هذه الكلمة بالنظر والرؤية، ولكن ليس النظر والرؤية بالمعنى المتداول العاديّ في الحياة اليومية؛ بل النظر والرؤية في مجال الدين والشهود، أي الفعل الذي ينجم عنه في نهاية المطاف إدراك الإنسان الحقيقة الإلهيّة. (اوستا، ص 115 ، و 424)

كلمة دين في التوراة

لم ترد كلمة دين في العهد الجديد والأناجيل الأربعة المعتمدة في المسيحية، ولكنّ هذه الكلمة وردت مع بعض اشتقاقاتها في التوراة ودلّت في هذه الاستعمالات على معنى الحكم والجزاء في الحياة الدنيا، وليس في الآخرة. فقد ورد في سفر التكوين أنّ الله أدان البشر بمجموعة من الحوادث منها طوفان نوح وتدمير مدينتي سدوم وعمورة. ويُحتمل أن الاسمين «دان» (Dinnah) (Dan) و «دينة» اللذين يذكر أنّهما اسمان لابنين من أبناء يعقوب مشتقّان من هذه المادة التي تعني الإدانة والجزاء. وتروي التوراة أنّ أحد أبناء الأمراء يعجب بإحدى بدينة ابنة يعقوب ويزني بها ثم يرغب في الزواج منها بعد ذلك، ويطلب من أبيه أن يخطبها له، فيفعل الأب ولكنّ يعقوب وأبناءه يشترطون في الموافقة على الخطبة أن يختتن هو وجميع ذكور قومه لأنّهم لا يزوّجون ابنتهم لرجل أغلف، فيوافق الرجل ويطلب من أقرانه من بني قومه الاختتان فيستغل شمعون ولاوي ابني يعقوب فرصة معاناة الرجال من ألم الاختتان ويدخلان مضاربهم فيقتلون الرجال ويسبون النساء والأطفال وينهبون الأموال انتقامًا لشرفهم . وهكذا يدينون القوم بسبب انتهاكهم شرف أختهم ويظهر من التوراة أنّها سُمِّيت بهذا الاسم بسبب هذه الواقعة. (سفر التكوين، الإصحاح 34)

وكلمة دان ترد هي أيضًا في سفر التكوين من التوراة. ففي سياق الحديث عن راحيل إحدى زوجات يعقوب التي كانت لا تلد، بخلاف أختها وضرّتها التي كانت كثيرة الذريّة، تخبرنا التوراة أنّ راحيل غارت من أختها وقالت ليعقوب: «هب لي بنين، وإلّا فأنا أموت!». فيغضب يعقوب على راحيل ويقول لها: «ألعليّ مكان الله

ص: 315

الذي منع عنك ثمرة بطنك؟»، فوهبته جاريتها المسمّاة بلهة وطلبت منه يطأها فتلد وتأخذ ولدها ويكون لراحيل بدل أمّه، فاستجاب يعقوب لطلبها وحبلت وولدت له ابنًا، فقالت راحيل: «قد قضى لي الله وسمع أيضًا لصوتي وأعطاني ابنًا. «لذلك دعت اسمه دانا» (سفر التكوين، الإصحاح 30)

وبناء على هذا يمكن القول إنّ كلمة دين في التوراة تعني الجزاء والإدانة ثوابًا وعقابًا في هذه الدنيا، أمّا في التلمود فإنّها تفيد الجزاء والإدانة في الآخرة.

كلمة دين في القرآن

وردت كلمة دين في القرآن مرّات عدّة وأفادت معاني عدّة تختلف بحسب السياق الذي وردت فيه، ومن هذه المعاني التي دلّت عليها هذه الكلمة عند ورودها في القرآن الكريم:

1 - الدّين بالمعنى المعروف (النظام المعرفي والقيمي) سواء كانت حقًا أم باطلاً، ومن موارد استعمال هذه الكلمة في هذا المعنى في القرآن الكريم يمكن الإشارة إلى هذه الآيات «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون» (سورة التوبة : الآية 33). و «لكم دينكم ولي دين» (سورة الكافرون: الآية 6)، وقوله تعالى: «ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين» . (سورة آل عمران: الآية 85)

2 - الدين (النظام المعرفي والقيميّ) الحقّ الإلهيّ: ومن الآيات التي استعملت : فيها كلمة دين في هذا المعنى قوله تعالى: «ما تعبدون من دون إلا أسماء سمّيتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألّا تعبدوا إلا إيّاه ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون» (سورة يوسف: الآية 40)، ومنها قوله تعالى: «وأن أقم وجهك للدين حنيفًا ولا تكونّن من المشركين» (سورة يونس: الآية 105)، ومنها أيضًا قوله تعالى : «إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذي أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع

ص: 316

العقاب» (سورة آل عمران الآية 19)، وقوله تعالى: «أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً وإليه يُرجعون» (سورة آل عمران: الآية 83)، وقوله تعالى: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدين كلّه ولو كره المشركون» (سورة التوبة : الآية 33)؛ وقوله تعالى: «ووصّى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بنيّ إنّ الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون» (سورة البقرة: الآية 132).

3- الجزاء والحساب: ومن الآيات التي وردت فيها كلمة دين بهذا المعنى نشير إلى الآيات الآتية، وهي قوله تعالى: «مالك يوم الدين» (سورة الفاتحة: الآية 4)، وقوله: «والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين» . (سورة الشعراء: الآية 82)

4- قوانين الشريعة؛ (الميزان في تفسير القرآن، ج 15، ص 79) وذلك في قوله تعالى: «وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ * هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ * مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ * هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ * فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا باللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ * فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ» (سورة الحج: الآية 78)؛ ومنها قوله تعالى: «فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ * كَذَلِكَ كِدْنَا ليُوسُفَ * مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ * وَ نَرْفَعُ دَرَجَاتِ مَّن نَّشَأ * وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ» (سورة يوسف : الآية 76). وتجدر الإشارة إلى أنّ المعنين الأوّل والثاني محتملان في هاتين الآيتين أيضًا.

5 - الطاعة والعبودية والتديّن؛ (الميزان في تفسير القرآن، ج 17، ص 233)، وذلك كما في قوله تعالى: «إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقّ فاعبد الله مخلصًا له الدين» (سورة الزمر : الآية 2)، وقد ورد عن أمير المؤمنين عليّ ( عليه السلام) قوله : «الإسلام هو التسليم والتسليم هو اليقين». (نهج البلاغة، باب الحكم، الحكمة 125)

6 - الاعتقادات القلبية والإيمان؛ (الميزان في تفسير القرآن، ج 9، ص 428) وذلك

ص: 317

كما في قوله تعالى: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انفِصَامَ لَهَا وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» (سورة البقرة: الآية 256)، ومن ذلك قوله عزّ وجلّ أيضًا: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنُ واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً» (سورة النساء: الآية 125)

7 - الإسلام، مضافًا إلى الآية 19 من سورة آل عمران ثمّة روايات وأخبار عدّة تفيد أنّ كلمة «دين» تعني الإسلام والشريعة الخاصّة التي نزلت على رسول الله محمد صلّی الله علیه و آله ومن ذلك ما ورد عن النبيّ نفسه صلّی الله علیه و آله حيث يقول : «جائني جبرائيل فقال لي: يا أحمد الإسلام عشرة أسهم وقد خاب من لا سهم له فيها، أوّلها شهادة أن لا إله إلا الله وهي الكلمة، والثانية الصلاة وهي الطهر والثالثة الزكاة وهي الفطرة، والرابعة الصوم وهي الجُنّة، والخامسة الحج وهي الشريعة، والسادسة الجهاد وهو العزّ، والسابعة الأمر بالمعروف وهو الوفاء، والثامنة النهي عن المنكر وهو الحجة، والتاسعة الجماعة و هي الألفة، والعاشرة الطاعة وهي العصمة . » (العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 65، ص 380)

وسأل كميل بن زياد أمير المؤمنين علیه السّلام عن قواعد الإسلام ماهي؟ فقال: «قواعد الإسلام سبعة، فأوّلها العقل، وعليه بُني الصبر، والثاني صون العرض وصدق اللهجة، والثالثة تلاوة القرآن على جهته، والرابعة الحبّ في الله والبغض في الله، والخامسة حقّ آل محمد ومعرفة ولايتهم، والسادسة حقّ الإخوان والمحاماة عنهم، والسابعة مجاورة الناس بالحسنى». (المصدر نفسه، ص 381.) وورد عن الإمام الباقر علیه السّلام قوله : «الإسلام على خمس، على الصلاة والزكاة والصوم والحج والولاية» . (الكليني، أصول الكافي، ج 1، ص 18.)

يرى بعضٌ أنّ كل كلمة لها معنى أساسيّ، وهذا المعنى الأساس يبقى على الرغم من احتمال طروء تحوّل في معناها. فكلّ عنصر في نظام عنصر في نظام حيٍّ، من الطبيعيّ أن تطرأ على العلاقات بين عناصره حالات من التبدّل والتغيّر، وكثيراً ما يؤدّي هذا

ص: 318

العنصر أدوارًا جديدةً لم يكن يؤدّيها من قبل، وذلك أشبه بالأدوار التي يؤدّيها الفرد في المجتمع الذي يعيش فيه. ودور الكلمات يشبه إلى درجة بعيدة دور الفرد في المجتمع. وإذا لم نقبل هذه القاعدة في اللغة والكلمات بشكلٍ كاملٍ، فلا مجال لإنكارها بالكامل أيضًا، ويبدو أنّه لا مناص من الموافقة عليها ولو بشكلٍ جزئيٍّ ومورديّ ومن هذه الموارد كلمة دين في القرآن الكريم. فإنّ تكرار استخدام هذه الكلمة في سياقات مختلفة تستدعي بالضرورة القبول بتعدّد المعاني التي تشير إليها هذه الكلمة بحسب السياق، ولكنّ استفادة هذه المعاني المختلفة مشروطٌ بانسجام هذا المعنى مع النسيج السياقيّ الخاصّ به، وبعدم تعارض هذه المعاني مع المعنى المركزي الأساس.

من أشكال الخلل في المعاجم وكتب اللغة أنّها في كثير من الأحيان تستعيض عن اكتشاف المعنى الأساس بالإشارة إلى مجموعة من المعاني الاستعمالية التي غالبًا ما تكون نسبيّة مرتبطة بهذا السياق أو ذاك، أو بهذا الزمن والمرحلة الزمنية أو تلك. ومن النماذج التي يمكن الإشارة إليها نموذج كتاب المنجد وهو أحد معاجم اللغة العربية المعاصرة. فهذا المعجم يذكر لكلمة «دين» حوالي تسعة وعشرين معنٍّى. وكلّ واحدٍ من هذه المعاني قد يكون صحيحًا في سياقه الخاصّ وفي إطار استعماله؛ ولكن عندما نخرج هذا المعنى من ذلك السياق نجد أجنبيًا عن المعنى الأساس لهذه الكلمة. ويكشف النظر في موارد استعمال كلمة «دين» في القرآن الكريم عن أنّ المعنى الأساس للدين كان واحدًا على الرغم من دخول بعض الاختلاف في الآداب والمناسك وقواعد السلوك والقوانين الاجتماعية وغيرها... على الرغم من هذا الاختلاف فإنّ الجوهر الذاتيّ والجوهريّ للدين لا يتقيّد بزمان ولا بمكان، ولا يرتبط بأشخاص بأعيانهم. أمّا المعاني النسبية فهي معاني مقيّدة بالزمان والمكان والأشخاص.

والاستفادة من هذا المبدأ اللغوي التفسيريّ؛ بل ربّما من دونه وبالاكتفاء بجمع الآيات التي ترد فيها كلمة دين، تسمح باكتشاف المعنى الحقيقيّ والأساسيّ لهذه

ص: 319

الكلمة في القرآن الكريم والروايات. ونحن نرى أنّ حقيقة الدين في النصوص الدينيّة هي: «مجموعة الرؤى والقواعد السلوكيّة من أوامر ونواهٍ، تبيّن للإنسان سبيل نجاته وسعادته».

والدراسة الدلاليّة (السيمانطيقية) لموارد استخدام كلمة «دين» في القرآن الكريم تكشف عن أنّها استخدمت في أكبر عددٍ من المرّات في معنيين يبدوان في الظاهر متنافيين. والمعنى الأول من هذين المعنيين هو الشريعة والآداب والقوانين ومن موارد الاستعمال في هذا المعنى الآيات الآتية: «لَكُمْ دِينَكُمْ وَليَ دِينِ»، «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ»، «وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا»، «وَالْيَوْمَ يَيْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ»، «يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ» ... والمعنى الثاني هو الجزاء والثواب والعقاب وهو ما ورد في عدد من الآيات منها : «مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ» ، «إِنَّ الدِّينَ لَواقع»، «الَّذِينَ يُكَذَّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ»، «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ» . هذا ومن المعاني التي استخدمت كلمة «دين» فيها معنى التديّن وهذا لا بدّ من إرجاعه إلى المعنى الحقيقي الذي نسعى في البحث عنه.

وخلف الظاهر الذي يوحي بالاختلاف بين المعنيين، يمكن بالتأمّل في موارد استعمال كلمة «دين» اكتشاف المعنى الأساس والمرجعيّ لهذه الكلمة. والمنشأ الذي يبرّر الوحدة بين المعنيين المذكورين أعلاه يستند إلى فرضٍ قرآنيٍّ يبين العلاقة التكوينية بين الأعمال ونتائجها، وهذا ما يُستفاد من عددٍ من آيات القرآن الكريم. ومثال ذلك من عالم الطبيعة أنّ من يزرع القمح مثلاً في الظروف الطبيعيّة، له أن يتوقّع الحصول بعد مدّة من الزمان على محصول من القمح الذي زرعه. ووفق القاعدة نفسها يكشف القرآن الكريم عن العلاقة الوثيقة بين العمل وبين جزائه أو فلنقل بين العمل وبين المصير الذي ينتهي إليه الإنسان ومن هنا نلاحظ أنّ الرسالة التي تتضمّنها آيات عدّة من القرآن الكريم تفيد أنّ جميع عقائد الإنسان وأعماله ومناسكه وسلوكه والآداب التي يتأدّب بها والتعاليم التي يلتزم بها في حياته الدنيا، تخضع للتقويم في الآخرة، وينال الإنسان جزاءه على أساسها، وبعبارة أقرب إلى

ص: 320

المقصود تنعكس الآخرة وتترتّب عليها نتائجها : «يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَانًا لَيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ﴿6﴾ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ﴿7﴾ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» (سورة الزلزلة : الآيات 86)

ففي يوم القيامة تظهر العلاقة الوثيقة بين الأعمال ونتائجها، وهذا ما يسمح بالتعبير عن الدين بأنّه الجزاء، وذلك لأنّ العقاب والثواب هما نتائج ما اعتقده الإنسان وما مارسه في هذه الدنيا دغدغه فرجامین، ص 9573)

ولعلّ بعض الناس يعتقدون أنّ العمل ونتيجته أمران منفصلان أحدهما عن الآخر؛ وبناء على هذا الاعتقاد يتساءلون عن صحّة الربط بين المعنيين لهذه الكلمة؟ وفي الجواب عن هذا السؤال نقول إنّ بعض آيات القرآن تكشف بوضوح عن هذا الاتّحاد وتبيّن أنّ الجزاء هو النتيجة التي ينتهي إليها العامل في الآخرة بحيث تكون العلاقة بين العمل والجزاء علاقة الظاهر بالباطن، وبعبارة أخرى : العمل ونتيجته أحدهما ظاهر حقيقةٍ والآخر باطنها. ففي سورة العنكبوت يخاطب الله أهل جهنّم بقوله: «ذوقوا ما كنتم تعملون» ، فهو تعالى يأمرهم بتذوّق نفس ما كانوا يعملون وهذا هو ما ندّعيه، وقد استعمل الله عزّ وجلّ الأمر بالتذوّق بدل الأمر بالرؤية. وفي سورة البقرة يقول الله تعالى عن لسان الصالحين فى الجنّة: «هذا الذي رزقنا من قبل» . فهم يتحدّثون عن أنّ الرزق الذي ينالونه هو عين ما كانوا يرزقونه من قبل.

وحاصل الكلام، ومع غضّ النظر عن المبدأ الذي أشرنا إليه، فإنّ لكلمة «دين» في القرآن الكريم معنيين أحدهما في الدنيا والآخر في الآخرة وبعد الموت. والمعنى الدنيويّ للدين هو الأعمال والقواعد السلوكيّة والحدود والقيود المبتنية على تعاليم القادة الإلهيّين، وهذا ما يُعبّر عنه ب_«الدين القيّم» ، و «دين الحقّ». والمعنى الأخروي أي عالم ما بعد الموت هو انتقال المؤمنين والصالحين إلى الجنّة والخلود فيها، وانتقال الكافرين إلى النار والخلود في عذابها الأبديّ. والإعلان عن هذين العالمين والحديث عنهما في القرآن يعني أنّ كلًّا منهما مقدّس بحسب القرآن الكريم. وعليه فالدين هو الحقائق التي تبيّن للإنسان أعماله في هذه

ص: 321

الدنيا ونتائجها في الآخرة. فإذا كان هذا الدين منتسباً إلى الله تعالى فهو دینٌ حقٌّ وصادق يمكن الوثوق به والاعتماد على بياناته وتقديراته. أما إذا كان منتسبًا إلى غير الله تعالى فلا مجال للوثوق بهذا البيان ولا الاعتماد على تشخيصه لما سوف يؤول إليه حال التديّن بتعاليمه في ذلك العالم.

والمرجع في تشخيص القضايا الدينيّة وتمييزها عن غير الدينيّة هو كل ما أو من يتوقّع في حقّ القدرة أو صلاحية اكتشاف العلاقة بين عالم الملك والملكوت أو بين ظاهر الأعمال والاعتقادات وباطنها. وما له هذه الصلاحية من المصادر هو ما أنزله الله تعالى وأرسل به بعض البشر إلى الناس وهو الكتب السماوية أو الكلام الصادر عن هؤلاء الرسل (في الإسلام هو الكتاب والسنّة)، أو القوّة التي يمكن بها اكتشاف هذه العلاقة المشار إليها على أن يكون هذا الكشف قطعيًّا ويقينيًّا (العقل). وبناء على هذا فإنّ جميع القضايا والإخبارات الشرعية هي إخبارات دينيّة؛ لأن الأصل الأوليّ فيها أن تكون صادرةً بهدف بيان سبيل السعادة أو سبيل الشقاء، وبيان الأعمال وما يترتّب عليها في العالم الآخر. ولا نخرج عن هذه القاعدة إلا بدليل ومبرّر يجعلنا نحكم أنّ هذا الإخبار الوارد في السنّة مثلاً لا يقصد منه هذا بل صدر لأجل أمرٍ آخر . وهذا استثناء له أمثلته في السنّة الشريفة، كما لو ثبت أنّ هذا القول أو التصرّف صدر عن المعصوم على وجه التقيّة، ففي هذه الحالة لا يُعدّ مضمونه المباشر تقيّةً على الرغم من أنّ كونه تقيّة أمرٌ دينيٌّ .

وحاصل ما تقدّم أنّ جميع تعاليم القرآن الكريم وجميع ما تضمَّنته السنّة من أخبار عن المعصومين هو قضايا دينيّةً؛ حتى لو لم يكن في ظاهره أمراً عباديًّا، كالإخبارات التي وردت في علاج بعض الأمراض، أو التوصية بهذا الطعام أو ذاك. وجميع هذه التوصيات لها تهدف إلى بيان الصلة بين الأعمال في الدنيا وآثارها في الآخرة حتّى لو لم يُصرّح بهذا الأمر الأخير في الآية أو الرواية. والأمر نفسه ينطبق على مدركات العقل في مجال الاعتقادات والتعاليم؛ حيث إنّها أوّلاً تبيّن الصلة وتكشف عن العلاقة بين الحياة الدنيا وبين السعادة والشقاء الأخرويين، أو فلنقل تكشف عن العلاقة بين

ص: 322

عالمي الملك والملكوت؛ وثانيًا لأنّ مدركات العقل وأحكامه في هذا المجال قطعيّةٌ يمكن الاطمئنان إليها، فهي لأجل هاتين الملاحظتين يمكن عدّها من القضايا الدينيّة. وأما المدركات العقلية التي لا تتوفّر فيها هاتان الخصوصيّتان فلا يمكن عدّها قضية دينيّةً. وعلى ضوء هذا يظهر أنّ الأبحاث التي تصنّف في الفلسفة في باب الإلهيّات بالمعنى الأخص (المباحث المتعلّقة بمعرفة الله والنبيّ أو الإمام ومباحث المعاد) هي أبحاث دينيّة ونتائجها نتائج دينيّة على الرغم من استنادها إلى العقل لإثبات هذه الفكرة أو نفي تلك. وأما المباحث المتعلّقة بالرياضيات أو المباحث الفلسفية العامّة فلا شيء يقتضي عدّها قضايا دينيّة؛ وذلك لأنّها لا تهدف إلى بيان الآثار والنتائج التي تترتّب على الأعمال في الآخرة. وبكلمة عامّة: كلّ قضية تهدف إلى الكشف عن العلاقة بين العمل وآثاره في الآخرة، بطريقة يقينية أو موجبة للاطمئنان هي قضية دينيّة، سواء كان مصدرها العقل أو النقل (القرآن والسنّة).

والصراط المستقيم في القرآن الكريم هو الدين الإلهيّ: «قل إنني هداني ربّي إلى صراطٍ مستقيم دينًا قيّماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين» (سورة الأنعام: الآي 161). وقد ورد عن الإمام الباقر علیه السّلام في حديث عن رسول الله صلّى الله عليه و آله وقد ذكر إبراهيم علیه السّلام: دينه دينيّ وسنّته سنّتي... (نور الثقلين، ج 1، ص 785) «اَلر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» (سورة إبراهيم: الآية 1)

ويرى الشيخ جوادي آملي أنّ الدين هو: مجموعة العقائد، والأخلاق، والقوانين والمقرّرات التي تهدف إلى إدارة أمور المجتمع الإنسانيّ وتربية الإنسان. وإذا كانت هذه الأمور حقًّا أمكن التعبير عنها بدين الحقّ. وعليه فإنّ الدين الحقّ هو مجموعة العقائد والقوانين والمقرّرات التي نزلت من لدن الله تعالى، والدين الباطل هو الدين الذي لا يستند إلى الله عزّ وجلّ. (شریعت در آینه معرفت، ص93- 95)

ص: 323

الأخلاق في القرآن الحقيقة والمجال

الأخلاق هي الصفة النفسانيّة أو الهيئة الراسخة التي على أثرها تصدر عن الإنسان أفعال محدّدة ٌدون حاجة إلى كثير من التفكير والتأمّل. وهذا المعنى اللغوي ينطبق على الفضائل والرذائل، ومن هنا يمكن تقسيم الأخلاق الأخلاق بحسب هذا التعريف إلى أخلاق فاضلة وأخرى رذيلة.

والأخلاق (Ethics) في الاصطلاح علمٌ يتحدّث عن أهم ميادين الحياة الإنسانية. فكلّ فردٍ من بني البشر يواجه في حياته على الدوام أسئلة حول ما يجب فعله وما لا يجوز ولا ينبغي أن يفعله. فيسأل نفسه مثلاً: هل يجب أن أكون صادقًا في الشهادة التي أؤدّيها في المحكمة؟ هل إيذاء الناس أمرٌ سيئ؟ هل الفرار من السجن قبيحٌ ؟ هل يجب علينا تجنّب الكذب في أحاديثنا ؟ إلى غير ذلك ذلك من الأسئلة الكثيرة التي تتعلّق بكلّ فعلٍ من أفعالنا الاختياريّة. وهذه الأسئلة المتعلّقة بالسلوك الإنسانيّ، هي منشأٌ الأسئلة من نوع آخر، من قبيل: ما هو المعيار الذي على أساسه تُصنّف الأفعال إلى حسنة وقبيحة ؟ هل القضايا ذات الطابع الأخلاقيّ تتوفّر على معيار يساعد على التمييز بين الصادق منها والكاذب؟ ما هي طبيعة العلاقة بين الأخلاق وبين سائر العلوم أو الساحات الفكرية مثل: الدين والفنّ والتربية ... ؟ هل يمكن استنتاج الأحكام الأخلاقيّة من القضايا الخبريّة؟ وأسئلة أخرى تتجاوز العشرات. والمباحث الأخلاقيّة يمكن تقسيمها إلى سبع محاور رئيسة، هي:

1 - توصيف المعتقدات الأخلاقيّة

هذا النوع من القضايا العلمية أو بعبارة أوضح هذا البحث العلميّ له طابعٌ تجريبيٌّ توصيفيّ، وتاريخيّ. وهذا الاشتغال هو اشتغال علميٌّ اهتمّت به علوم عدّة مثل علماء التاريخ، وعلماء النفس، والاجتماع. والهدف الذي يراد من البحث في القضايا الأخلاقية في هذا المحور هو توصيف الأخلاق أو النظم الأخلاقية واكتشاف ما فيها ووصف واقعها وهو ما يُسمّى ب_ «الأخلاق التوصيفيّة» (Discriptive Ethics)

ص: 324

(فلسفه أخلاق، ص 25). وقد تعرّض القرآن لأخلاق الأمم وقدّم وصفًا لها ولو على نحو الإيجاز والاختصار.

2 - القضايا الأخلاقيّة

والحديث عن القضايا الأخلاقية هو حديث عن الحسن والقبح وما يجب ولا يجوز من أعمال الإنسان، وعن الصفات الحسنة والصفات القبيحة التي يمكن أن يتّصف بها الإنسان. والبحث في هذا النوع من القضايا يُسمّى ب_ «الأخلاق المعياريّة» (أو الأخلاق الآمرة) (Normative Ethics) وأحيانًا تُستخدم عبارة «الأخلاق من الدرجة الأولى» للتعبير عن هذا النوع من المباحث. وتنقسم الحقائق الأخلاقية إلى قسمين: القسم الأول هو القضايا التي محمولها مفاهيم من قبيل حسن وقبيح؛ والقسم الثاني هو القضايا التي محمولها مفاهيم من قبيل يجب ولا يجوز . وقسم كبير من المسائل التي تعرّض لها القرآن ذات طابع قيمّي يحدّد القيم الإيجابية والسلبيّة، والأوامر والتعاليم الأخلاقيّة.

3 - الدفاع الفلسفي عن القضايا الأخلاقية

تبرير القواعد والأحكام الأخلاقيّة من أهمّ ما يشغل بال فلاسفة الأخلاق. وبعبارة أخرى يشتغل فلاسفة الأخلاق على مجموعة من القضايا الأساسية واحدة من أهمّها البحث في المبرّرات والدواعي التي تدفع إلى الالتزام بالقواعد والأحكام الأخلاقية. فبعض علماء فلسفة الأخلاق يبرّرون ذلك بالإشارة إلى الآثار والنتائج السلبية التي تترتّب على مخالفة قواعد الأخلاق، وهذه الآثار تارة تلحظ من الناحية الاجتماعية وأخرى من الناحية النفسية الفرديّة. وآخرون يرون أنّ كون الإنسان أخلاقيّاً ومتخلّقًا يتوقّف على أن لا يكون للمصلحة الشخصيّة أي دور في الدفع نحو هذا الفعل، أو المنع عنه، وبالتالي فإنّ التخلّق مرهونٌ بموافقة القواعد الأخلاقية دون أن يدخل الإنسان أي تبرير آخر في حسبانه وهؤلاء المفكّرون يرون أن نداء الواجب قطعيٌّ ومطلقٌ وبالتالي كافٍ في الدفع نحو الفعل الأخلاقيّ. وثمّة جماعة ثالثة من علماء

ص: 325

فلسفة الأخلاق يرون أنّ التبريرات الميتافيزيقيّة والدينية لها دورٌ مهمٌّ وأساسٌ في تفسير وتبرير الالتزامات الأخلاقيّة. ويحاول هؤلاء إثبات أنّ الأخلاق تفقد معناها عندما تفتقد إلى الحدّ الأدنى من التبرير الدينيّ أو الميتافيزيقيّ. (فرهنگ ودين، ص 13 و 14).

ومن الأبحاث الأساسيّة في مجال الأخلاق محاولة أهل الاختصاص في هذا الميدان تقديم معيارٍ عامٍّ يُستند إليه في الحكم على الأفعال بالحسن أو القبح، من وجهةٍ أخلاقيّةٍ. فعندما يُقال ملاك الحسن أو الوجوب هو: اللذّة، أو الضمير الشخصيّ، أو الانسجام مع الكمال الإنسانيّ، أو البعد العلويّ في الإنسان، يكون القائلون بهذه المعايير بصدد محاولة تقديم معيارٍ عامٍّ صالحٍ لتقويم جميع الأفعال. ومثل هذه الأبحاث التي تُناقش في كلٍّ من فلسفة الأخلاق وفي علم الأخلاق نفسه، ، هي من المبادئ التصديقيّة التي يُبنى عليها علم الأخلاق. ويمكن تقسيم النظريّات التي تهدف إلى تبرير الأخلاق المعياريّة أو الأمريّة إلى قسمين: النظريّات الغائية (Teleological Theories)، ونظريات أخلاق الواجب (Deontological Theories).

الغائيّون يلاحظون في تقويم الأفعال والحكم عليها من ناحية أخلاقيّة يلاحظون نتائجها والآثار المترتّبة عليها، سواء كانت هذه النتائج المترتّبة منفعة شخصيّة للفاعل كالحصول على اللذة أو غير ذلك من النتائج المذكورة، ومن الفلاسفة الذين يميلون إلى هذا الأسلوب في التفكير يمكن الإشارة إلى: هيوم، وبنتام، وجان ستيوارت مل.

وأمّا مؤيّدو نظريات أخلاق الواجب فهم لا يهتمّون بالنظر إلى النتائج والآثار المترتّبة على الفعل؛ بل يرون أنّ الفعل في حدّ ذاته ينقسم إلى حسنٍ وقبيح، وإلى ما يجب فعله وما لا يجوز فعله، بغضّ النظر عن النتائج والآثار المترتبّه عليه. ومن الفلاسفة الذين يفكّرون بهذه الطريقة، كانط وبريتشارد.

وفي القرآن الكريم في مقام الدفاع عن بعض القضايا والتقويمات الأخلاقيّة،

ص: 326

تعّتمد طريقتان إحداهما التبرير العقلانيّ (بالغاية أو بالاستناد إلى الواجب)، والثانية التعبّد المقرون بالحكمة.

4 - تبيين المفاهيم القيميّة

ومن القضايا التي أخذت نصيبها من البحث في علم الأخلاق أو على ضفافه، البحث في معاني المفاهيم المستخدمة في النقاشات الأخلاقيّة، كالبحث في معنى الحُسن أو القبح ؛ حيث المختصّون ماذا يُقصد عندما يُقال عن فعل إنّه حسن ٌأو قبيحٌ؟ ويبدو أنّنا لا نجد في القرآن آية تبيّن هذا المعنى؛ ولكن الأخبار والروايات الواردة في التراث الإسلاميّ فيها ما يجيب عن هذا السؤال ومثله.

5 - واقعية القضايا الأخلاقيّة

و من الأبحاث التي تطرح في علم الأخلاق البحث حول طبيعة القضايا الأخلاقيّة، بهدف الكشف عن الخلفية التي تنطلق منها هذه القضايا وبعبارة أخرى محاولة العثور على جواب لهذا السؤال: هل القضايا الأخلاقيّة هي قضايا خبريّة لها واقعٌ وراءها تُقاس به فتكون صادقة في حالة التطابق معه وتكون كاذبة إذا لم تطابقه، أم أنّ القضايا الأخلاقية هي قضايا إنشائية لا توصف بالصدق ولا بالكذب. ويبدو لنا أنّ هذا القرآن لم يتصدَّ لبيان الحال في هذا النوع من المباحث.

6 - المباحث المرتبطة بالاستنتاج

هل يمكن استنتاج القضايا الأخلاقية من القضايا التي تقع خارج نطاق علم الأخلاق أو العكس، وهل يمكن أن نجد قضايا خارج دائرة علم الأخلاق تُستنتج من القضايا ذات الطابع الأخلاقيّ؟ وهذا السؤال من الأسئلة المهمّة في ميدان الأبحاث الأخلاقية ويعبّر عنه في بعض النقاشات بعبارة : هل يمكن استنتاج ما ينبغي أن يكون من ما هو كائنٌ؟ وبعبارة ثانية : هل يمكن العبور من ما ينبغي وما لا يجوز إلى الصحيح والخطإ؟ ومثل هذا السؤال لا ينبغي توقّع العثور على جواب له في آيات القرآن الكريم.

ص: 327

7 - العلاقة بين الأخلاق وسائر العلوم والمعارف

والطائفة الأخيرة من المباحث الأخلاقية التي نودّ الحديث عنها والإشارة إليها هي البحث عن العلاقة بين الأخلاق وسائر العلوم والمعارف، ومنها: الفنّ، والتربية، والقانون والدين... ومن الأسئلة التي تطرح في هذا المجال: هل الأخلاق الفردية أو الاجتماعية تترك أثرها في الثقافة وبناء الحضارة؟ وهل ثمّة علاقة بين الواجبات والممنوعات الأخلاقية والتعاليم الدينيّة؟ وهل يتولّد الدين من الأخلاق، أو العكس هو الصحيح بحيث إنّ الأخلاق من نتائج الدين وآثاره؟ وهذه الأسئلة يمكن تحصيل جوابها من القرآن الكريم، على الرغم من عدم الحديث عنها بصراحة فيه.

والمحور الرابع إلى المحور السابع تُعطى الأسماء والعناوين الآتية: الأخلاق التحليلية، والنقدية، وما وراء الأخلاق (الأخلاق النظرية)، ومبادئ الأخلاق، والأخلاق من الدرجة الثانية (Second order Ethics). الأخلاق التحليلية لا تهدف إلى تقديم أجوبة عن الأسئلة الأخلاقية ولا تقدّم أجوبة معياريّة وقيميّة؛ بل تهدف إلى الإجابة عن الأسئلة ذات الطابع المنطقيّ والمعرفيّ والمعنائي (السيمانطيقي). والعلاقة بين الدين والأخلاق محلّ البحث عنها في المحور السابع من المحاورة المتقدّمة. على الرغم من أنّنا سوف نتحدّث عن المحور السادس لنجيب عن السؤال حول استنتاج الأخلاق من الدين ومرادنا من الأخلاق في هذه المسألة علم الأخلاق أو الأخلاق المعياريّة والآمرة.

الأخلاق في النقاش حول العلاقة مع الدين، هي وسيلة من وسائل قوننة سلوك الأشخاص في المجتمعات البشريّة. والأخلاق هي ردّ فعلٍ على مشكلة العلاقة بين الأفراد أو الجماعات المنافسة، والهدف من الأخلاق هو ضبط أو التخفيف من حدّة النزاعات التي تنتج عن هذه المنافسة. ولا شكّ أيضًا في أنّ السلطة وسيلة من وسائل ضبط النزاعات المشار إليها. ولكن بين الأخلاق والسلطة فارقٌ كبير ومن أهم الفوارق بين الأمرين أنّ الأخلاق تستند إلى الموافقة بالقوّة (بالمعنى المنطقيّ للقوّة) على مقتضياتها وقواعدها، بخلاف السلطة التي لا تستند بالضرورة إلى القبول

ص: 328

والموافقة. (فرهنگ و دین، ص 65). وبكلام موجز: المقصود من الأخلاق في هذه المقالة هو العلم الذي يشتغل على سلوك الإنسان والذي يميّز بين الحسن والقبيح، وما يجب وما لا يجوز.

العلاقة بين الأخلاق والدين

العلاقة بین الأخلاق والدين يمكن أن تُفهم بطريقتين : الأولى؛ العلاقة المضمونية والمحتوائيّة؛ أي بأن نستخرج القواعد والتعاليم الأخلاقيّة من النصوص الدينيّة. وبناء على هذا الفهم لا مجال للحديث عن الأخلاق خارج إطار النصوص الدينيّة، فلولا النصوص والمصادر الدينيّة لما توفّر بين أيدينا قضايا تخبر عن حسن الأفعال أو قبحها، ولا قواعد تحدّد للإنسان ما يجب عليه وما لا يجوز له. الطريقة الثانية؛ أن نرى أنّ هذه العلاقة بين الطرفين هي علاقة مبنائيّة؛ بحيث لا تُستنتج الأخلاق من الدين والنصوص الدينيّة، بل من مصادر أخرى كالعقل والضمير أو الفطرة أو غير ذلك؛ ولكن على أن تعدّ التعاليم الدينيّة مستندًا داعماً لتطبيق القواعد الأخلاقيّة، ومن أهمّ هذه التعاليم الاعتقاد بوجود الله والمعاد. وبناء على الفهم الأول سوف تكون الأخلاق جزءًا من الدين أو عينه. أمّا إذا صح الفهم الثاني، فإنّ الأخلاق سوف يكون لها مجالها المستقلّ عن الدين على الرغم من أنّ بعض التعاليم الدينيّة سوف تؤدّي دور المبادئ التصديقيّة للأخلاق .

مجال الدين ونطاقه في الأخلاق: مقاربات متنوّعة

ثمّة مقاربات ثلاث لنطاق الأخلاق الدينيّة والنظرة إلى العلاقة بين الدين والأخلاق، وهذه المقاربة هي: التباين، الاتّحاد، التفاعل. فبعض المفكّرين يرون انفصال مجال الدين ونطاقه عن مجال الأخلاق، ولا يقبلون أيّ شكلٍ من أشكال التواصل والتداخل بين المجالين. وآرخون يرون وجود علاقة عضويّة واتّحاد بين الطرفين. وأصحاب المقاربة الثالثة يؤمنون بوجود شكلٍ من أشكال التفاعل والتأثير المتبادل بين الطرفين. وفي ما يأتي سوف نحاول عرض هذه المقاربات بشيء من التفصيل.

ص: 329

1 - مقاربة التباين

يرى أصحاب هذه المقاربة إلى الدين والأخلاق على أنّ لكلٍّ منهما مجاله ونطاقه الخاصّ به، أو ساحته التي يبدئ القول فيها ويعيد، بحيث يكون له الكلمة الفصل في مجاله دون أن يكون بينه وبين الطرف الآخر أيّ شكلٍ من أشكال التواصل أو الترابط المنطقيّ، وإذا التقيا مرّة فهو لقاء عابرٌ كما يلتقي مسافران دون أن يخطّط أحدهما للقاء بالآخر . («دين وأخلاق»، قبسات، العدد 13، ص 32) وقد تبنّى هذه المقاربة عددٌ من المفكّرين الملحدين والمؤمنين بالمسيحيّة، من أمثال الفيلسوف الوجودي کیرکیجارد . فهو يرى أنّ الشخص الذي يبقى في دائرة الأخلاق لا يمكنه أن يخطو إلى مرحلة الإيمان. ومن هنا يرى أنّ إبراهيم علیه السّلام لم يتّبع حكم الأخلاق في مسألة التضحية بابنه وإنّما اتّبع حكم الدين وقدّمه على ما تقتضيه الأخلاق. وبناء على هذه المقاربة ليس ثمّة ترابطٌ بين الدين والأخلاق، وإذا التقيا مرّة فإنّ ذلك يكون بالعرض، ولا يكشف اللقاء عن ترابط منطقيّ. وإلى هذا الشكل من اللقاء أشرنا عندما ذكرنا مثال المسافرين الذي يلتقي أحدهما بالآخر في محطة من المحطات على الرغم من أنّ كلا منهما له مقصد يختلف عن مقصد الآخر وغايته.

وأنصار هذه المقاربة يستندون لإثبات صحّتها إلى مجموعة من الأدلّة منها، الاستناد إلى أنّ بين الدين والأخلاق تفاوتاً واختلافاً موضوعيًّا. وذلك أنّ الدين يتدخّل في مجال العلاقة بين الإنسان والله وينظّم هذه العلاقة ويضع لها القواعد، أمّا الأخلاق فأمرٌ له صلة بالعلاقة بين الناس. ومن الواضح أنّ هذا الدليل يتهاوى إذا وسّعنا دائرة الدين وأثبتنا أنّ الدين يدخل على خطّ العلاقة بين الإنسان وبين الله كما يدخل على خطّ العلاقة بين الإنسان والإنسان.

والمستند الثاني الذي يلجأ إليه هؤلاء هو أنّهم لا يرون أيّ اشتراك بين الدين والأخلاق على مستوى الهدف والغاية؛ وذلك أنّ هدف الدين هو تأليه البشر (جعلهم إلهيّين وتقريبهم من الله) وتمكينهم من التعالي والرقيّ الروحيّ، بينما هدف الأخلاق هو تقديم توصيات عملانية لتصحيح العلاقات الاجتماعية بين الناس وهذا الدليل

ص: 330

يمكن المناقشة فيه ببيان أنّ من الوسائل والطرق التي تؤدّي إلى تصحيح العلاقات الاجتماعية تعاليهم وترقيتهم الروحية أو تأليههم بحسب المدّعى أعلاه، وبناء عليه يكون هدف الأخلاق هدفًا متوسّطاً للدين.

ويرى بعض المفكّرين الغربيّين أنّ ربط الأخلاق بالدين يؤدّي إلى التضحية بالأخلاق وانهيارها؛ وذلك لأنّ ضعف العقيدة الدينيّة يؤدّي بالضرورة إلى ضعف الوازع الأخلاقيّ عندما نربط بين الأخلاق والدين. وبعبارة أخرى: إنّ طروء الشكّ على قضية الإيمان بالله تعالى، يؤدّي إلى سدّ باب التكامل الأخلاقيّ وإلى سدّ باب تنمية الاستعدادات الخلّاقة الأخرى عند الإنسان عندما تربط هذه الاستعدادات ومقتضياتها بالإيمان الدينيّ. (فلسفه دین، ص 80، تاریخ فلسفه، ج 7، ص 313)

وهذا الاستدلال يسقط أيضًا إذا شكّكنا في التلازم المدّعى بين ضعف الإيمان الدينيّ وضعف الوازع الأخلاقيّ، فكثيراً ما يضعف اعتقاد بعض الناس ومع ذلك يبقى التزامهم الأخلاقيّ على حاله، حتى في مجال الأخلاقيّات الدينيّة، أضف إلى ذلك أنّه لا يصحّ تجاهل الوجه الآخر من القضية، فالإيمان بالله والاعتقاد بالمعاد يعدّان ضمانةً من الضمانات التنفيذيّة للتوصيات الأخلاقية.

2 - مقاربة الاتّحاد

يرى أكثر المفكّرين المسلمين أنّ الدين هو مجموعة العقائد والأخلاق والأحكام التي شرّعها الله بهدف هداية الإنسان والأخذ بيده نحو تأمين سعادته في الدنيا والآخرة، والواسطة بين الناس وبين ربّهم هم الأنبياء. وبناءً على هذا، ليس فقط لا قطيعة بين الدين والأخلاق، بل بينهما علاقة واتّحاد فبعض الدين أخلاق وبعض الأخلاق دينٌ وهذا ما يُسمّى بنسبة العموم والخصوص من وجه بين المفهومين بحسب الاصطلاح المنطقيّ. («دين وأخلاق»، قبسات، العدد 13، ص 32) ويمكن تشبيه الدين بالشجرة فتكون العقيدة جذرها، والأخلاق جذعها، والأحكام أغصانها وأوراقها وثمارها.

ص: 331

3 - مقاربة التفاعل

تقتضي هذه المقاربة أنّ الدين والأخلاق لكلٍّ منهما هويّته المستقلّة عن هويّه الآخر ، ولكن مع تفاعل وتأثير متبادل على الرغم من هذا الاستقلال. وكلّ من الطرفين محتاج إلى الآخر من زوايا عدّة. وذلك أنّ قبول بعض القضايا الدينيّة يتوقّف على قضايا وأحكام أخلاقيّة، والتصديق ببعض القضايا الأخلاقية يتوقّف على الاعتقاد ببعض القضايا الدينيّة. وعليه ليس بين الدين والأخلاق انفصالاً تامّاً وليس بينهما ارتباطٌ عضويٌّ يجعل أحدهما جزء الآخر؛ بل بينهما علاقة علّية ومعلوليّة، وتأثير وتأثر متبادل، وهذا ما أسميناه بالتفاعل. ووجوه التفاعل بين الطرفين متعدّدة نشير إلى بعضها في ما يأتي:

أ - حاجات الدين إلى الأخلاق

1 - يذكر عددٌ من المتكلّمين في بداية كتبهم الكلامية أنّ وجوب شكر المنعم من المنطلقات الأساس التي تدعو إلى البحث عن وجود الله تعالى. وذلك أنّ الإنسان يواجه هذا السؤال قبل البدء بالاستدلال على وجود الله: لماذا يجب عليّ البحث عن وجود الله والتعرّف إليه؟ والجواب الذي يتبنّاه هؤلاء المتكلمين هو: إنّ الإنسان يرى نفسه في نعمةٍ فعليه أن يتعرّف إلى هذا المنعم ليشكره ؛ لأنّ القاعدة الأخلاقية تقتضي شكر المنعم ووجوبه. ومن الذين استندوا إلى الأخلاق لإثبات وجود الله الفيلسوف الألماني كانط الذي يشكّك في كثيرٍ من البراهين العقلية التي يُراد بها إثبات وجود الله. ويرى فلاسفة آخرون أنّ المعرفة البديهيّة بوجود أوامر ونواهٍ أخلاقية دليل على وجود آمرٍ وناهٍ، وهذا الأمر والناهي هو الله تعالى الذي يعرف من أوامره ونواهيه الأخلاقيّة. (خدا در فلسفه، ص 97؛ تاریخ فلسفه غرب، ج 2، ص 971)

2 - حاجة الدين إلى الأخلاق على مستوى الغاية

حاجة الدين إلى الأخلاق على مستوى الهدف والغاية من الموارد التي تكشف عن التفاعل بين الدين والأخلاق. وذلك أنّ إدارة الحياة الفرديّة والاجتماعيّة للإنسان،

ص: 332

من الأهداف التي يبتغيها الدين ويريدها، وهذا الهدف لا يتحقّق إلا في ظلّ بعض التعاليم والتوصيات الأخلاقيّة، وبناء عليه لا تتحقّق غايات الدين وأهدافه إلا بواسطة الأخلاق.

3 - حاجة تبليغ الدين إلى الأخلاق

من أهمّ الوسائط والأساليب في تبليغ الدين وإيصال رسالته إلى المخاطبين به، السلوك الأخلاقيّ الذي يتحلّى به الدعاة والمبلّغون عن الله. ومن هنا نجد أنّ الله تعالى يعلن النبيّه صلّی الله علیه و آله بوضوح وصراحة أنّ حسن خلقه من الوسائل المهمّة التي تسمح بالناس بالتحلّق حوله وعدم الانقضاض عنه : «وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ» (سورة آل عمران: الآية 159)

ب - حاجة الأخلاق إلى الدين

يقع الحديث عن حاجة الأخلاق إلى الدين على الضفّة المقابلة للموقف الذي يتبنّاه دعاة علمنة الأخلاق. وحاصل الاعتقاد بالأخلاق الدينيّة أنّ الأوامر والنواهي الأخلاقيّة تحتاج إلى الدين في مقامي الثبوت والإثبات؛ مضافًا إلى أنّ الدين يعدّ ضمانة تنفيذيّة للتعاليم والتوصيات الأخلاقية كما أشرنا أكثر من مرّة.

من الخدمات التي يقدّمها الدين أنّه يسهم في تبيين بعض القيم الأخلاقيّة، بالاستعانة بالتعاليم الدينيّة، ويرسم على ضوء هذه التعاليم حدود السلوك الإنسانيّ ومعاييره. («دين وأخلاق»، قبسات، العدد 13، ص 34) فجزئيّات التصرّفات الإنسانيّة الاختياريّة يعجز العقل وحده في كثير من الحالات عن اكتشاف الموقف منها وتشخيص الحسن منها من القبيح. وبناءً عليه إذا كنّا نعترف للعقل بالقدرة على تشخيص الموقف الأخلاقيّ من كليّات الأفعال، فإنّ هذا العقل يعجز في كثير من الحالات عن إدراك انطباق هذا المدرك العقليّ الكلّيّ والعامّ على هذا المورد الجزئيّ أو عدم انطباقه، ومن هنا يحتاج إلى مساعدة الدين في تحديد الجزئيّات.

ص: 333

والدين مضافًا إلى إسهامه في الكشف عن حسن بعض الأفعال وقبح بعضها الآخر، هو ضمانة تنفيذية للالتزام بكثير من القيم الأخلاقية. فكثيرٌ من الناس يحتاجون إلى التحفيز لمساعدتهم على فعل الحسن وتجنّب القبيح. ومن هنا الإيمان الدينيّ عمومًا وما يتضمّنه من وعدٍ ووعيدٍ حافزًا يساعد في مزيد من الإقبال على الحسن، أو رادعاً عن القبيح.

ولا شكّ في تأثير المنافع الدنيويّة والأخروية المترتّبة على الأفعال في مدى التزام الناس بهذا السلوك أو ذاك، والدين يقدّم هذه الخدمة للإنسان حيث إنّه يكشف له عن ما يترتّب على الأفعال من نتائج. يُضاف إلى هذا أنّ الأفعال الأخلاقية تتوقّف على غايتها وكلّما كانت هذه الغاية أعلى كلّما ارتقت الأخلاق وتعالت، والدين يبيّن للإنسان الأخلاقيّ الغاية العليا والهدف الأقصى للالتزام بالتعاليم الأخلاقيّة.

النتيجة

عندما تكون الدنيا مزرعة للآخرة، ومقدّمة للحياة الأبدية الخالدة، وعندما يكون للأفعال الاختياريّة نتائج وآثار تترتّب عليها عندها يتّضح أنّ أفعال الإنسان لها انعكاس وتأثير في سعادته النهائية. والعقل الإنسان عاجزٌ عن اكتشاف جميع تفاصيل الآثار والنتائج المترتّبة على الأفعال، ومن هنا فإنّه يحتاج إلى من يأخذ بيده ليبيّن له ما عجز عن اكتشافه، وهذا العجز هو أول الأبواب التي تفتح باب التواصل بين الدين والأخلاق. (فلسفه أخلاق، ص 186)

وعلى الرغم من عدم توقّف إدراك معنى الحسن والقبح على النصّ الدينيّ والوحي، فإنّ الأخلاق تحتاج إلى الدين في كشف التعاليم والقيم والأخلاقيّة. مضافًا إلى أنّ الدين يسهم في تحديد الهدف الأسمى للتخلّق والالتزام بالتعاليم الأخلاقيّة كما يمثّل الدين ضمانةً تنفيذيّة مهمّة توثّق عرى الالتزام بهذه التعاليم، وخاصّة عند الأشخاص الذين يحتاجون إلى حوافز للتخلّق.

وعندما ننظر إلى العلاقة بين الدين والأخلاق من الخارج نرى بوضوح أنّ الإيمان

ص: 334

الدينيّ والاعتقاد بالله والمعاد والثواب والعقاب في الآخرة، له دور مؤثّر في تحقّق التعاليم الأخلاقية في مقام العمل، وإذا نظرنا إلى هذه العلاقة من داخل الدين فإنّنا نرى هذه الحقيقة بوضوح أكبر حيث تؤكّد كثير من التعاليم الدينيّة على الأخلاقيّات وتدعو إليها وتبيّن أهميّتها. والإسلام كما يبيّن بعض المبادئ الكبرى في مجال الأخلاق كالعدل والظلم وما شابه ويبيّن مصاديق هذين الأمرين، كذلك هو يبيّن غايات القيم الأخلاقية وأهدافها، وبعض هذه المصاديق وهذه الغايات لا یبدو أنّ معرفتها من خارج الدين أمر ممكنٌ، ولأجل ذلك لا مناص من الرجوع إلى الدين لتكميل المعرفة الأخلاقية وتوثيق الالتزام بتوصياتها.

المصادر والمراجع:

القرآن الكريم.

نهج البلاغة.

آوستا (1379 ه_.ش.)، الترجمة الفارسية هاشم رضي، لا مكان، انتشارات بهجت، الطبعة الأولى.

جوادي آملي، عبد الله، (1372 ه_.ش.) شریعت در آینه معرفت طهران، مرکز نشر رجا.

جوادي آملي، عبد الله، (1381 ه_.ش.) ، رحیق مختوم، قم، اسراء.

طباطبائي، محمد حسين، (1394 ه_ .ق.) ، الميزان في تفسير القرآن، قم، مؤسسة إسماعيليّان.

طهماسبي علي، (1379 ه_.ش.) ، دغدغه فرجامین، طهران، انتشارات یادآوران .

العروسي الحويزي، عبد علي بن جمعة، (لا تاريخ)، تفسير نور الثقلين، قم، المطبعة العلمية، الطبعة الثانية.

فرانكا، ويليام كي، (1382 ه_.ش.) ، فلسفه اخلاق، الترجمة الفارسية: هادي صادقي، قم، مؤسسه طه.

کاپ لستون، فردريك (1375 ه_.ش.) ، تاریخ فلسفه کاپلستون، ج 8، الترجمة الفارسية: بهاء الدين خرّمشاهي، طهران، شرکت انتشارات علمي و فرهنگی.

كتاب مقدّس، (1380 ه_.ش.) ، الترجمة الفارسية: فاضل خان همدانی، طهران، انتشارات اساطير، الطبعة الأولى.

الكليني، محمد بن يعقوب، (لا تاريخ)، الأصول من الكافي، طهران، انتشارات علمية اسلامية.

ص: 335

المجلسي، محمد باقر ، (1983 م.)، بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار، بيروت، مؤسسة الوفاء.

مصباح يزدي، محمد تقي (1373 ه_ . ش . ) ، آموزش فلسفه، طهران، انتشارات سازمان تبلیغات.

مصباح يزدي، محمد تقي، (1373 ه_ . ش .) ، «دين وأخلاق»، قبسات، العدد 13.

هاس پرز، جان، (1372 ه_.ش.) ، فلسفه دین، قم، دفتر تبلیغات.

الیاده، میرچا، (1374 ه_.ش.)، فرهنگ ودين، بإشراف بهاء الدين خرّمشاهي، طهران، انتشارات طرح نو.

الیاده، میرچا، (1384 ه_.ش.) خدا در فلسفه، الترجمة الفارسية: بهاء الدين خرّمشاهي، طهران، پژوهشگاه علوم انسانی و مطالعات فرهنگی.

ص: 336

هذا الكتاب

يسعى هذا الكتاب المؤلف الجماعي بمجلداته الثلاثة إلى استعادة التراث الأخلاقي الإسلامي بأبعاده الدينية والفلسفية والسوسيولوجية وكذلك إلى التعرف على التيارات والمذاهب الأخلاقية على نطاق إنساني شامل، وذلك انطلاقاً من استراتيجية معرفية تهدف إلى إعادة تظهير مكارم الأخلاق كقيمة جوهرية لبناء الحضارات الإنسانية المعاصرة.

إنَّ أُطروحةَ الكتاب َتمثَّلُ الموقفَ الذي تنطلقُ مِنْهُ في مقاربةِ موضوعِنا، وهي راهنيّةُ الأخلاقِ وأثرُها فى إقامةِ السلوك وتقويمه ، وبَعْثِ قيم العدلِ والفضيلةِ من خلال تأصيلها في النصّ الدينيّ؛ لما يمثلُهُ من مركزيَّة ثقافيَّة ووجدانيَّة فى ضمير الناس. ولعل هذا يتحقق من خلال تناول قيم مكارم الأخلاق وهي تمثَّلُ رأس مال مشترك بين المسلمين.

المَرکَز الإسلامي للدراسات الاستراتجیّة

تظبیق المرکز

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 337

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.