مناهج المتكلمين في فهم النص القرآني

هوية الکتاب

مناهج المتكلمين في فهم النص القرآني

الأستاذ الدكتور ستار جبر حمود الاعرجي

هويّة الكتاب

. الکتاب:مناهج المتكلمين في فهم النص القرآني

. تالیف: الأستاذ الدكتور ستار جبر حمود الاعرجي

. الناشر:المرکز الاسلامی للدراسات الاستراتیجیه العتبه العباسیه المقدسه.

. الطبعه:الاولی 2017م_ 1438 ه_.

ص: 1

اشارة

هويّة الكتاب

. الکتاب:مناهج المتكلمين في فهم النص القرآني

. تالیف: الأستاذ الدكتور ستار جبر حمود الاعرجي

. الناشر:المرکز الاسلامی للدراسات الاستراتیجیه العتبه العباسیه المقدسه.

. الطبعه:الاولی 2017م_ 1438 ه_.

ص: 2

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 3

قَالَ تَعَالَى :

«هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ

مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ

مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا

تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ

تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ

آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا

أُولُو الْأَلْبَابِ (7)»

صدق الله العلي العظيم

سورة آل عمران / 7

ص: 4

هذا الكتاب

في الاصل رسالة تقدم بها المؤلف الى كلية الاداب

في جامعة الكوفة في محافظة النجف الاشرف

للحصول على شهادة الدكتوراه في الفلسفة

ونوقشت بتاريخ 2000/8/9

واجيزت بتقدير جيد جداً عال.

ص: 5

تقديم

ان هذه الرسالة في دراستها للنص القرآني تعيد لهذه الامة الكريمة هيبتها وحضارتها وموضوعيتها واستمداد مواقفها من النص الذي لايأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه..

لكل امة تراث تراثنا في الادب العربي وتراثنا في الشعر الجاهلي وتراثنا في الثقافات الماضية.

ولكن قمة مايبقينا ويوحدنا ويخلدنا ويجعلنا خير امة اخرجت للناس هو القرآن العظيم هذا الكتاب الذي يتهيب الطلاب دراسته اما لانحرافهم عن الخط الديني واما لصعوبة هذا النص على المستوى المعاصر.

جاءت هذه الرسالة سدا لكثير من الثغرات وعالجت موضوعا مهما بروح موضوعية.

الموضوع عالج مذاهب للمسلمين كافة متمثلة بابرز فرقهم الامامية والمعتزلة والاشاعرة.

ولكنني كما رايت الطالب كان موضوعيا لم يتحيز الى فئة ولم يقف عند راي الا مناقشا ومحللا فكان رجلا موضوعيا وطالبا مجدا متأنيا.

رايت فيه حضور شخصيته فلم ينقل النصوص جزافا وان تكررت لان الفرق كل منها يبحث نفس الموضوع لاسيما في المحكم والمتشابه وقضية العقل وهذا امر مفروغ منه.

ص: 6

ان الجامعات العريقة في العالم كالسوربون وكامبرج واكسفورد وهارفرد وجامعة لندن وجامعة القاهرة لاتخرج افضل من هذه الرسالة.

لقد قرأت الكثير من الرسالات على سوية عالمية وكانت هذه الرسالة احدى هذه الرسالات التي تتسم بالصبغة العالمية .

... ان هذه الرسالة تعد بحق مفخرة لجامعة الكوفة .

الاستاذ المتمرس الدكتور

محمد حسين علي الصغير

استاذ الدراسات القرانية والبلاغية والنقدية

في جامعة الكوفة 8/9 / 2000

ص: 7

المقدمة

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف خلقه اجمعين محمد واله الطيبين الطاهرين وصحبه الاخيار المنتجبين .

وبعد:

فقد انزل تعالى كتابه الكريم هداية للناس وبينات من الهدى والفرقان وجعله شرعة ، ومنهاجا، لايغادر صغيرة ولا كبيرة الا احصاها تبيانا لكل شيء ودستوراً لتنظيم امور العباد، وجعل السنة شارحة له ومبينة لاحكامه وتعاليمه وجعل العقل رسولا ثانياً فأسس منظورا المنظومة المرجعيات المشكّلة للعقيدة، ودعى الى تدبر آياته وانتزاع الحقيقة الكبرى من بين الاف آياته انه لايعتريه نقص ولايعتوره اختلاف {ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} واسس لاصول المنهجيات والانعكاسات عن النص، ونظم أصول فهم دلالاته وكشف معانيه، ووضع المعايير لمعالجة تعارضاته الظاهرية فرسم منهج تفسيره بان ارجع فهمه الى رد متشابهاته الى محكماته، ورده الى الراسخين في العلم ممن اختصهم الله تعالى بان كشف لهم عن دلالاته.

ان هذا القرآن يهدي للتي هي اقوم، وان أي فهم يجب ان يكون انعكاسا عنه لاعكساً عليه لتبقى للنص مرجعيته المركزية كونه الخطاب المركزي والدستور الالهي.

لقد اسست الدعوة للتفكر والتدبر عند تحققهما لمعيارية مهمة ومنطلقات تأصيلية لطبيعة الرؤية التي يجب ان يستضاء النص لتكوينها حتى تكون مؤهلة لأن يقال انها منظومة عقيدة.

ص: 8

ففي هدي القرآن تنطلق افاق متجددة من الفهم لكي ترتبط باصوله فان عليها ان تستحضر مباديء ومعايير فهم مقنن باطاره الذي جاء لتصويره وتقريره ببعديه الزمانيين النزولي والمفتوح غير المقيد بزمان أو مكان.

هكذا كان النص واحداً وسيبقى واحدا مابقي حلال محمد حلالاً وحرامه حراماً، وما النظرات والتمثلات للنص الا ،رؤى كان بعضها موفقا حيث برفت وومضت في ذهن اصحابها استضاءات بضوابط ومعايير فهمه كما ارساها وكما اسس لها المنهج النبوي وتمثلها المؤهلون الحقيقيون لكشف دلالاته وكان بعضها زيغا وابتغاء فتنة اتبع متشابهات الكتاب ابتغاء عكس الطروحات والاهواء والاراء الخاصة للنص لانتزاع تأهيل غير مشروع دخيل على النص كما هو دخيل على الانعكاسات الايجابية عن النص من ركائز الفكر الاسلامي والمشروع المركزي المستضيء بالنص والمشكل للنسق العقائدي.

أصل القرآن المعياريات ومباديء فهم، فبيَّن انه تبيان لكل شيء، وان فروعه ترد الى اصوله، وانه لايتناقض وانه لايزيد ولا ينقص وانه لايتحدد ،بزمان وانه سقف لكل تطور، لايعلوه فهم ولايسبقه منظور ، وان فهمه يجري باستدعاء كامل جزئیات منظوره الخاص لان أي فهم محدود يهمش النص ويعوم مفاهيمه لتطفو على سطح الفكر محاولات محدودة القدرة على التعبير عن اجواء النص ومفاهيمه وطرحه للعقيدة.

ان حركة النص متجددة ومفاهيمه تتخطى كل الابعاد والانعكاسات عنه ربما جمدت في اطارها الزمني ،الضيق والنص لا ينتظر المتخلفين عن حركته، فدعوته للتدبر استعجالا للهمم واستنهاضاً للعزائم للحاق بركب الكمال، وعدم الانزواء في حدود الاطار النزولي أو الجمود على ظاهر وتحديده بفهم ساذج ينحرف بالنص عن اطاره البياني البعيد غوراً الذي يغوص في ابعاد ماكانَ للعقل البشري ان يسبرها بقدراته المحدودة بالغة مابلغت.

ص: 9

لقد انبثقت افهام عكست على النص رؤية تهمشه وتسلبه مرجعيته لتفتتها في عملية استقطاب لبعض ابعاد النص، لتحميلها الهوى المذهبي والطرح اللاموضوعي البعيد عن افاق النص ومراميه وغاياته، وكان لابد من وقفة تستضي المعايير التي اسسها القرآن وتحفظ للنص مركزية الخطاب وحاكمية التأسيس ومنح الاهلية لكل فهم يتصدى لكشف دلالاته.

واذا كان النص واحدا والافهام متعددة فهذا مقبول ومساوق للطبيعة البشرية ولتفاوت الادراكات والقدرات والافهام، ولكن لايمكن قبول نص واحد وافهام متناقضة تحمل النص مسؤولية التناقض والتعدد المتنافر الاقطاب وتبرء نفسها بل تدعي لطرحها استضاءة خطاب المركز والسير في هدي نسقه العقيدي .

فالقران الكريم جاء ليدعو الى التعدد الوحدوي في الافهام بما يخلق حالة التلامح الفكري والتدبر الايجابي وصولا الى صياغة المشروع الفكري الاسلامي استضاءةً بومضات الاشعاع التي تنعكس عن كل نص من نصوصه ودعا الى فهم منضبط يستدعي تلك الاضاءات ويستحضر تلك المعايير ويسترشد بتلك الضوابط.

ان هذا البحث قد حاول ان يتلمس هذا التعدد الوحدوي في فهم النص القرآني ووجد في الساحة الفكرية الاسلامية الاتجاهات التي تمثلت هذه الاسس وعالجت طروحاتها وآراءها في ضوء تلك المعايير وتصدت لعملية كشف لدلالات النص انتزاعا للمنظور القرآني للعقيدة.

وهذا ما يستدعي استبعاد كل الافهام التي انحرفت عن مسيرة النص وهديه، وشكلت محاولة لحرف مسيرة الاتجاهات المنضبطة عن الوصول الى النتيجة الحتمية التي هي من لوازم كون القرآن واحدا وان دعوته الوحدة. تلك النتيجة هي توحد الاتجاهات المتعددة في صياغة تكاملية تتظافر في كشف منظور ونسق عقائدي

ص: 10

مبدؤه الاول التوحيد والتنزيه ومنتهاه تحصين عقيدة الانسان من عوامل الزيغ والانحراف تحقيقا لاهلية تمثيل امة كانت خير امة اخرجت للناس.

لذلك فان هذا البحث اكتفى باستقراء مناهج المذاهب الكبرى المنضبطة في فهمها للنص، واضطر الى استبعاد بعض المناهج الاخرى تحاشيا للاطالة والتوسع الذي ربما احتاج الى اضعاف حجمه الحالي. لذلك قام البحث بمحاولة متواضعة ربما خذلتها الادوات وربما قصرت بها الاستعدادات الشخصية المحدودة، ولكنه حاول جاهدا الاخلاص والموضوعية في تصديه لتلمس اسس واصول منهج فهم النص عند المتكلمين فجاء هذا البحث الذي اختار ان يتناول (منهج المتكلمين في فهم النص القرآني وقد انتظم في مقدمة وتمهيد وثلاثة ابواب وخاتمة.

وقد تصدى الباب الاول لمحاولة كشف منهج الامامية في فهم النص القراني، وجاء متوزعا على مدخل تاريخي كان لابد منه للتعريف بهذا المذهب الكلامي الذي اشاح عنه اغلب مؤرخي ودارسي المذاهب الكلامية ولم يعطوه ما يوجبه البحث الموضوعي من مساحة مناسبة.

ثم انقسم البحث على ثلاثة فصول استقرأ الاول منها اثر الائمة من اهل البيت اهلا في تأسيس منهج الامامية في فهم النص القراني لكونهم الناطقين بلسان الوحي وورثة متلقيه لخصوصية علمهم وليس لأنهم يعدون ضمن المتكلمين.

وتصدى الفصل الثاني للكشف عن منهج متكلمي الامامية في التعامل مع النص في حالتي الظهور والتشابه .

وكشف الفصل الثالث عن موقفهم من التأويل واسسه وضوابطه ليختم بنماذج تطبيقية لفهم متكلمي الامامية للنصوص القرانية وتوظيفها في تشكيل منظورهم للعقيدة في ضوء النص.

ص: 11

وتخصص الباب الثاني في الكشف عن منهج المعتزلة في فهم النص القراني، فابتدأ بمدخل تاريخي مختصر حاول استحضار بدايات الظهور وجذور النشأة عند المعتزلة.

وتوزع باقي البحث فيه على ثلاثة فصول حاول الاول منها تلمس دور العقل في منهج المعتزلة في فهم النص وتصدى الفصل الثاني لاستبيان اهم اسس وركائز المنهج العقلي عند المعتزلة وافرد الثالث لنماذج تطبيقية في فهم المعتزلة للنص القرآني وجاء الباب الثالث والاخير محاولة لاستكشاف المنهج الاشعري في فهم النص القراني فابتدأ بوقفة ضرورية في مدخل تاريخي حاول تلمس جوانب الارتباط والتاثير لموقف السلف واهل الحديث( اهل السنة )على المذهب تاريخيا وفكريا.

ثم توزع باقي البحث في الباب على ثلاثة فصول رئيسية تصدى الاول منها لاستبيان فهم متكلمي الاشعرية لطبيعة العلاقة بين الشرع والعقل، ومن ثم طرق الاستدلال على العقيدة في ضوء هذه العلاقة.

وتصدى الفصل الثاني للكشف عن موقف الاشعرية في التعامل مع خصائص النص القرآني في احتوائه المحكم والمتشابه وكيفية تعاملهم مع ظاهر النص.

وانتهى الباب بالفصل الثالث الذي استعرض نماذج تطبيقية لفهم متكلمي الاشعرية للنص القراني .

لينتهي البحث بخاتمة حاولت ان تلم بشتات الموضوع، نتلمس منها اهم النتائج المتحصلة عن هذا الخوض في عباب المناهج الكلامية في فهم النص القرآني، لتنتهي تلك الخاتمة بتوصيات واقتراحات تصدر عن قدرة متواضعة لكنها حاولت مخلصة ان يكون لها حصة في بلورة معايير وضوابط فهم النص القراني عند المعاصرين لتحقيق حالة التوائم مع النص، وترسيخ مرجعيته.

وقبل الدخول في تفاصيل هذه البحث لابد من الاشارة الى جملة امور ينبغي

ص: 12

التنبيه عليها اهمها:

1 - ان هذه الرسالة جاءت محاولةً للكشف عن منهج المتكلمين في فهم النص القرآني تحديداً وليست رسالة في الكشف عن المناهج الكلامية بكل ابعادها وطروحاتها.

2 - ان الرسالة لم تخض في بحر المقارنة بين هذه المناهج، وانما حاولت جاهدة الكشف عن كل منهج منها، وبيان اصوله واركانه وطبيعة معالجاته للنص، ليتم في خاتمتها تلمس عوامل التوحد والتقارب بين تلك المناهج وتحاشى البحث المقارنات ايضاً للابتعاد عن الوقوع في التكرار والاطناب والاطالة.

3 - ان البحث اختص المذاهب الكلامية الكبرى الثلاثة الامامية والمعتزلة والاشعرية واشاح صفحا عن باقي المذاهب مع مايمتلكه بعضها من المقومات المشابهة لهذه الثلاثة، ولكن ساحة البحث فيه لا تسمح بالتوسع الكبير لاسيما وقد جاء بحالته هذه واسعا.

4 - ان البحث ضمن كل فصل عن كل مذهب حاول تلمس القواسم المشتركة بين اقطابه ومتكلميه واخذ عينات من هؤلاء الاقطاب ممن له منظومة كلامية كاملة وله تاثير واضح في صياغة منظور ذلك المذهب للعقيدة، ولم يتوسع كثيرا في متابعة الامتدادات للشخصيات أو الامتدادات التاريخية، وكاد ان يحصر نفسه في القرون الثالث والرابع والخامس والسادس الهجرية لما برز في هذه القرون خصوصا الثالث والرابع منها من اقطاب كبار تمثلوا النهضة الفكرية وشكّلوا ملامح مهمة في صياغة مذاهبهم التي ينتمون اليها.

5 - حاول البحث استقراء المرجعيات المؤثرة في كل منهج ، وصياغة طبيعة حاكمية هذه المرجعيات على طروحاته.

ص: 13

6 - اختلفت نوعا ما طبيعة المعالجة وتحكيم النقاط السابقة بين مذهب واخر بما تفرضه طبيعة كل منها وسماته المميزة التي تقتضي نوعا من الطبيعة الخاصة في التعامل معه.

ولايسع المؤلف في النهاية الا ان يدعو الله مخلصا ان يكون قد وفق في سبر وكشف ملامح المنهج الاسلامي المتعدد المذاهب المتوحد الاستضاءة بالنص والسير ،بهديه فان وفق لذلك فما هو الا توفيق بالله وان اخفق فما هي الا محدودية الاستعدادات، وضعف القدرات وعزاؤه انه اخلص النية واستنهض الهمة في محاولته فما عليه الا التوكل على من هو حسب من توكل عليه واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.

المؤلف

ص: 14

الباب الأول : منهج الإمامية في فهم النص القرآني

اشارة

الفصل الأول: تأسيس الأئمة (عليهم السلام) لاصول منهج فهم النص القرآني

الفصل الثاني: موقف متكلمي الامامية من ظاهر النص ومتشابهه

الفصل الثالث: اسس التأويل وتطبيقات المنهج

ص: 15

مدخل الإمامية: البدايات والنشأة

كان ظهور التشيع في الساحة الفكرية الاسلامية من الافرازات المهمة لطبيعة فهم بعض النصوص القرآنية (1)، وماتابعها من نصوص الاحاديث النبوية (2) التي هي جزء من الوحي، لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ﴾ (النجم/43).

جاءت هذه النصوص في حق الإمام علي بن ابي طالب(عليه السلام) والنص على امامته ،

ص: 16


1- يرى الشيعة والإمامية منهم بالذات نزول العديد من الآيات القرآنية في النص على الإمام علي منها: أ - آية المباهلة قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَ كُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَذِبِينَ ﴾ (آل عمران/61). ب - آية التطهير قوله تعالى: قَالَ تَعَالَى:﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تطهيرا﴾ (الاحزاب/33). ج - آية الولاية قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ (المائدة / 55 ) . د- قوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ وَآيَةٌ مِّن زَيْهِ ۖ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ﴾ (الرعد/ 7). ه- قوله تعالى: ﴿عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَا الْعَظِيمِ ﴾ (النبأ /21) . و- اية اكمال الدين قوله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَمَ دينا﴾ (المائدة/3) وغيرها.
2- يرى الإمامية ان الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)نص على امامة علي في مناسبات عدة وبروايات متكثرة من اهمها : أ- حديث الغدير / قوله(صلی الله علیه وآله وسلم)(( من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه)). ب- حديث المنزلة قوله(صلی الله علیه وآله وسلم)((انت مني بمنزلة هارون من موسى)). ج- حديث الراية قوله(صلی الله علیه وآله وسلم) (الاعطين الراية غدا رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرار غیر فرار لايرجع حتى يفتح الله على يده. د -قوله (صلی الله علیه وآله وسلم) ((علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار)). ه- حديث مدينة العلم قوله (انا مدينة العلم وعلي بابها). للتفصيل حول الايات والروايات انظر: مداركها عند الإمامية في المرتضى: الشافي في الإمامة / الطوسي: تلخيص الشافي ج 2ج3 / العلامة الحلي: الالفين. وانظر ايضاً احمد محمود صبحي نظرية الإمامة 209-175.

وخلافته للرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)في قيادة الامة، وبيانا لفضائله، وما يختص به من مكانة، وفضل، وصلة بالنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)كما يفهمها الشيعة بعامة والإمامية منهم بخاصة ويشاركهم الراي في تأكيد بعضها باقي الفرق الاسلامية.

في ضوء ما تقدم يمثل الإمام علي(عليه السلام)القطب الذي دارت حوله عجلة التشيع، وانطلقت اتجاهاته وفرقه المختلفة وهذا مايتاكد من خلال تسمية الفرقة التي اعتمدت هذه الخصوصية، فصارت موالاته واتباعه عنوانا لها حتى عاد اسما خاصا، فالشيعة في اللغة: الانصار والاتباع، ولكنه اخذ لايطلق الاویراد به(كل من يتولى عليا واهل بيته(عليهم السلام) حتى صار اسما لهم خاصا) (1).

وهذا ماصارت تتعارف عليه كتب الفرق والعقائد عند دراستها لتاريخ الشيعة وعقائدهم(2)، حتى ان الشهرستاني التفت الى هذا التخصيص فوضع له تحديدا دقيقا اذ يقول: (الشيعة هم الذين شايعوا عليا(عليه السلام)على الخصوص وقالوا بامامته وخلافته نصاً ووصية ..)(3).

ان هذا الارتباط يكاد أن يكون ذا اهمية بالغة في تحديد البدايات التاريخية للتشيع، ومظهراً لاولويته في التأسيس كمذهب كلامي له استقلاليته، فضلا عن الاستمرارية التي امتدت بالمصطلح زمنيا، ليشمل المعنى نفسه من التولي والمشايعة لاولاده واحفاده من بعده، بل القول بالحصر الذي ينقله الشهرستاني ب_ (ان الإمامة لا تخرج من اولاده، وان خرجت فبظلم يكون من غيره، أو بتقية من عنده) (4).

ص: 17


1- ظ: الفيروز ابادي: القاموس المحيط 3: 47 ،مختار الصحاح ص 347 .
2- ظ مثلا : الأشعري ابو الحسن علي بن اسماعيل (ت 330ه_) مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين 1: 65، تح محمد محي الدين عبد الحميد مكتبة النهضة المصرية، القاهرة ط13691ه_ - 1950م، المقريزي (تقي الدين احمد بن علي (ت 845ه_) : الخطط المقريزية 4 :173 وما بعدها مطبعة النيل مصر 1324ه_ الشهرستاني، الملل والنحل1: 146. تحقیق :محمد سيد كيلاني،دار المعرفة بيروت لبنان 1980م.
3- الملل والنحل 1: 146.
4- المصدر نفسه.

الا ان الباحثين قدماء ومحدثين قد اختلفوا في تحديد البداية التاريخية للتشيع رغم هذه الدلالة المهمة في ارتباطه بالإمام علي بن ابي طالب(عليه السلام)بما يمثل نقطة انطلاق، ويكاد اختلافهم في ذلك ينحصر في تحديدين (1).

الأول: نشوؤه في حياة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) .

ويورد اصحاب هذا القول - دليلا - عشرات الروايات التي يستدل بها الشيعة على احقية علي(عليه السلام) بالإمامة والخلافة التي كانت دافعا للكثير من الصحابة والتابعين فيما بعد لمشايعة علي(عليه السلام)وتوليه؛ ليتحقق فيهم المعنى اللغوي للتشيع، فكانوا انصاره واتباعه، ثم ليتوسع ذلك فيما بعد الى اتجاه فكري رئيس على الساحة الفكرية والعقائدية في الحضارة الاسلامية .

الثاني: نشوؤه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وقد اختلفوا في نقطة البداية على خمسة آراء بين القول انها يوم السقيفة، أو يوم الدار، أو يوم الجمل، أو يوم صفين، أو بعد مقتل الإمام الحسين بن علي بن ابي طالب(عليه السلام).

والشيعة بعامة متفقون على نشأة التشيّع في حياة الرسول، وهو ما يعضده معنى لفظ الشيعة وارتباطه بعلي(عليه السلام)بتخصيصه ابتداءً بمشايعيه واصحابه ومؤيديه. وهذا ما أكده أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي (ت / 322ه_) في كتاب الزينة، بقوله: (أما الألقاب القديمة التي ذُكِرَت على عهد رسول الله صلى الله عليه وجاءت في الأخبار عن النبي صلّى الله عليه ،وعن الصحابة، وعن التابعين، فخمسة ألقاب، وهي: الشيعة، والمرجئة ،والرافضة، والقدرية، والمارقة. فهذه خمسة قديمة جاءت فيها الأخبار وسائر الألقاب حدثت من بعد، وهي كلّها ألقاب فرق انشعبت من هذه الفرق الخمس ومرجعها إلى هذه الفرق، أوّلها الشيعة )(2).

ص: 18


1- ظ البغدادي: الفرق بين الفرق 15 دار الافاق الجديدة بيروت 1408ه_ - 1987م ، الشهرستاني: الملل والنحل 1: 147 الحسني (هاشم معروف) : الشيعة بين الأشاعرة والمعتزلة 28 دار القلم، بيروت ط19781م.
2- الرازي، أبو حاتم أحمد بن حمدان / كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية العربية 3 :35 بعنوان ذكر ألقاب الفرق في الإسلام، تحقيق الدكتور عبد الله سلوم السامرائي .

ثم قال بعد ذلك مباشرة : (معنى الشيعة: يُقال إنّ الشيعة لقب لقوم كانوا أَلِفُوا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه في حياة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)، وعرفوا به مثل: سلمان الفارسي، وأبي ذر الغفاري، والمقداد ابن الأسود، وعمار بن ياسر، وغيرهم.

كان يقال لهم: شيعة علي،وأصحاب عليّ، وقال فيهم رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم):

( اشتاقت الجنّة إلى أربعة: سلمان، وأبي ذر ،والمقداد، وعمّار)، ثمّ لزم هذا اللقب كلّ من قال بتفضيله بعد إلى يومنا - إلى أن قال: - ولم يرد في ذكر اللقب شيء من الأخبار (1) أعني في التشيّع كما رُوي في المرجئة والرافضة والمارقة والقدرية)(2)

وايد النوبختي (ابو محمد الحسن بن موسى )هذا المعنى إذ حدد أصول جميع الفرق باربعة، فالشيعة منهم : (هم فرقة علي بن ابي طالب، المسمون بشيعة علي في زمان النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)،وبعده معروفون بانقطاعهم اليه والقول بامامته)(3) .

وقد أورد محدّثو العامة ومفسّروهم روايات عديدة عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) تمدح عليّاً وشيعته، وأنّهم الفائزون يوم القيامة. أخرجوها عن أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) ، والإمام الباقر عن آبائه(عليهم السلام) ، وكذلك عن أبي رافع، وأبي برزة، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأم سلمة، وجابر بن عبد الله الأنصاري، وعبد الله بن عبّاس كلُّهم؛ عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)(4).

ص: 19


1- أي: أخبار الذمّ كما يُفهم ذلك بوضوح من سياق كلامه، ويدلّ عليه أحاديث مدح الشيعة في كتب العامة كما سنشير إليه بعد قليل.
2- كتاب الزينة في الكلمات الإسلامية والعربية 3: 35- 36. أقول: حشره الرافضة بين الفرق المذكورة ليس بشيء؛ لأنّه من المكذوبات عليهم في عهد دولة الطلقاء، ولم يصح عن النبي صلى الله عليه وآله حديث في ذمّ (الرافضة) البتة، وقد صرّح عدوّ (الرافضة) ابن تيمية في منهاج السنة في حديثه عن موقف الشعبي من الرافضة 1: 22 - 36 يكذب الأحاديث المرفوعة التي فيها لفظ الرافضة، والثابت من طرق أهل البيت (عليهم السلام )تبجيل هذه التسمية والافتخار بها؛ لأنّها فيما تعنيه(رفض الجبت والطاغوت).
3- فرق الشيعة ص 36 ، المطبعة الحيدرية، النجف ط4 1389 ه_ 1969م.
4- أنظر: الطبراني / المعجم الكبير 1 : 319 / 948 ، والمعجم الأوسط 4: 122، و4: 187، 6: 354 - 355، و7: 343، والحسكاني الحنفي / شواهد التنزيل 1 : 178 / 189 و 2: 295 / 927 ، و 2: 460 - 461 /1126، و 2: 463 / 1130، و 2: 464 / 1131 ، و2: 465 / 1132 ، وابن الصباغ المالكي / الفصول المهمة : 122 ، والزرندي الحنفي / نظم درر السمطين 92 وابن حجر الهيتمي / الصواعق المحرقة : 159، والسيوطي الشافعي / الدر المنثور 6 379 والشوكاني / فتح القدير 5 : 477 478 ونسبه إلى ابن مردويه وابن عساكر وابن عدي. هذا فضلاً عن تواتر الروايات من طرق أهل البيت في مدح رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)لشيعة علي(عليه السلام) وبيان جملة من فضائلهم كسلمان وعمّار والمقداد ونظائرهم رضي الله عنهم. ولم يكن هذا ليخفى على علماء العامة أنفسهم لولا العصبية التي عبر عنها غير واحد منهم كالشبلنجي في نور الأبصار 89 الذي قال - بعد ذكر أحاديث مدح الشيعة من طرق العامة أنفسهم وشيعته هم أهل السنة؛ لأنهم هم الذين أحبوه كما أمر الله ورسوله لا الروافض وأعدائه الخوارج». وما أشبهه بقول الآلوسي في مختصر التحفة الاثني عشرية: 52 في كلامه عن حديث الثقلين حيث قال: «وليسالمتمسك بهذين الحبلين - القرآن والعترة - إلاّ أهل السنّة ؛ لأنّ كتاب الله ساقط عند الشيعة عن درجة الاعتبار»!! (أَنْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) [الأنعام: 6 / 24].

الأمر الذي يؤكّد أصالة التشيّع وعراقته وامتداد جذوره إلى بدايات الإسلام الأولى، وظهوره المبكّر كان بحثّ مباشر من رسول الله صلى الله عليه وآله على التمسك بعليّ عليه السلام وأهل بيته الأطهار عليهم السلام، بدءً من يوم الإنذار ومروراً بالغدير والثقلين وانتهاءً بمرضه الأخير (صلی الله علیه وآله وسلم).

فالنبي الأعظم(صلی الله علیه وآله وسلم)إذن هو أوّل من غرس بذرة التشيّع حتّى أينعت في زمانه وأثمرت بسلمان المحمدي، والمقداد بن الأسود الكندي الذي كان في تشيعه كزبر ،الحديد، وعمّار بن ياسر وخزيمة بن ثابت الأنصاري، وأبي ابن كعب، وأبي ساسان وبريدة بن حصيب الأسلمي، وخالد بن سعيد ابن العاص، وخزيمة بن ثابت الأنصاري، وسهل بن حنيف، وأخيه عثمان ابن حنيف، وأبي أيوب الأنصاري، والبراء بن عازب، والهيثم بن التيهان وغيرهم ممن كانوا - مع جميع بني هاشم - الشجى المعترض في حلق من اغتصب عليّاً حقّه وشوكة في عين من مهد له.

وقد ظهرت في تاريخ التشيع فرق منها الكيسانية والزيدية والاسماعيلية والإمامية (1) . وانقسمت كل فرقة منها بدورها الى فرق متعددة حتى بالغ بعض الباحثين فاوصل مجموعها الى ثلاث مئة فرقة (2)، وعدها الآخرون بنحو

ص: 20


1- ظ الشهرستاني الملل والنحل 1: 146 ما بعدها
2- المقريزي : الخطط ص 173 .

عشرين (1)، وقد انقرض اغلب هذه الفرق التي تنسب الى الشيعة، ويستغل ذكرها لتشويه صورتهم واستهجان ،عقائدهم على الرغم من ان عقائد تلك الفرق وآراء اصحابها دالة بوضوح على انها لاتتصل من قريب ولا بعيد بالاسلام (2) فضلا عن الصلة بالتشيع الحقيقي كمذهب ينطلق من أسس الاسلام واصوله ومفاهيمه المحددة في الكتاب الكريم وما استنبطه ائمة اهل البيت لا منه وفصله اقطاب المذهب ومفكروه في مصنفاتهم وكتبهم المعتبرة البعيدة عن كل مايتعارض مع أصول الاسلام (3).

ولا أدل على الانفصال والبعد بين التشيع الحقيقي وتلك الفرق مما قام به الأئمة (عليهم السلام)من التنديد بها، وتكفير بعض اتجاهاتها، والتبري من مقالاتها على رؤوس ،الاشهاد والتشديد على اصحابهم وشيعتهم بالابتعاد عنها، وتكذيب مقالاتها (4)، مما اوردته كتب العقيدة التي تمثل التشيع الحقيقي.

وقد اضمحلت تلك الفرق بعيد نشأتها وكأنّها فقاعات سرعان ما انفجرت و تلاشت عن الأنظار ولم يبقَ منها إلا الزيدية والإسماعيلية.

وهما وإن احتفظتا ببعض أصول التشيّع إلا إنّهما لا يمثلأنه من كل وجه؛ لمفارقتهما له فى أصول مهمة أخرى، ومن هنا فإذا ما أُطلق لفظ (الشيعة) فلا ينصرف إلاّ إلى

ص: 21


1- ظ مثلا الأشعري: مقالات الاسلاميين :1 65 وما بعدها، الاسفرايبني تفاصيل المصدر: التبصير في الدين 15.
2- بقول عبد القاهر البغدادي (ت 429ه_): (فما هم من الاسلام وان كانوا منتسبين اليه انظر: الفرق بين الفرق ص 17 تحقيق لجنة احياء التراث دار الجبل ودار الافاق الجديدة بيروت 1408 ه_ - 1987م.
3- انظر مثلا الشيخ المفيد (محمد بن محمد بن النعمان ت 413 )اوائل المقالات في المذاهب المختارات الشريف المرتضى (ت 436 ): الفصول المختارة من العيون والمحاسن ومجموعة في فنون علم الكلام الطوسي (ابو جعفر محمد بن الحسن ت 460 ه_ ) : الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد والغيبة العلامة الحلي( الحسن بن يوسف ت: 726 ه_): مناهج اليقين في اصول الدين وكشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد.
4- انظر مثلا الطبرسي (أبا منصور احمد بن علي بن ابي طالب توفي في حدود 620 ه_) : الاحتجاج 2: 213 مؤسسة ،النعمان بيروت لبنان 1385 ه_.

مذهب الإمامية الإثني عشرية، وأما مع إرادة غيره فلابد من إضافة لفظ الشيعة إليه.

جدير بالذكر .. إن الزيدية تعتقد بإمامة أمير المؤمنين الإمام علي ابن أبي طالب والحسن والحسين وعلي بن الحسين(عليه السلام)، وزيد بن علي ابن الحسين رضى الله عنه، ثم إمامة كل فاطمي دعا إلى نفسه وكان على ظاهر العدالة (1).

اما الاسماعيلية فهم القائلون بانتهاء الإمامة الى اسماعيل الابن الاكبر للامام جعفر الصادق(عليه السلام)وهو الإمام السابع في سلسلة الأئمة عندهم ولهذا يسمون ايضا بالسبعية كما يسمون بالباطنية (2) . واسماعيل هذا لاتعترف الإمامية الاثنا عشرية بامامته وتقول انه توفي في حياة ابيه جعفر الصادق(عليه السلام).

ومن الواضح مخالفة ذلك لأصول التشيع ومبادئه الأساسية التي بقيت كما هي مصانة من كلّ غلو أو تقصير عند الإمامية.

ومما يجب التنبيه اليه ما وقع فيه الكثير من الباحثين في تاريخ الفرق وعقائدها من اشتباه وخلط وتعميم بالغائهم الفوارق والحدود الواضحة الفاصلة بين الإمامية الاثني عشرية - وهم اكثرية الشيعة اليوم - والفرق الاخرى المنقرضة أو المنفصلة التي فقد اغلبها اية صلة له بالاسلام كالغلاة.

على ان بعض الباحثين تعدى ذلك الى وصم الشيعة باراء فردية تبناها بعض الاشخاص منفردين فصارت في نظر اولئك الباحثين - قدماء ومحدثين - اراء وعقائد للشيعة تسجل في كتب الفرق وتعد ضمن المذاهب الكلامية.

ثمّ زاد الوهابية في الطنبور نغمة فيما كتبوه أخيراً في (موسوعة الأديان والمذاهب الميسّرة )حول الإمامية وغير ذلك من كتبهم !

ص: 22


1- ظ: النوبختى / فرق الشيعة 70 المفيد / أوائل المقالات: 44 .
2- ظ: الشهرستاني الملل والنحل 1: 168.

وهذا ماتنبه اليه بعض الباحثين المحدثين وعده من قبيل (التشويه المخزي.. والاحكام التعسفية التي اطلقها البعض على الشيعة) (1). لذلك فان الامانة العلمية والبحث الموضوعي يستدعيان من الباحثين الالتفات الى هذه القضية الخطيرة، وتحديد المصطلح تحديداً علميا والاعتماد على كتب الإمامية الاثني عشرية عند الحديث عن ارائهم ومعتقداتهم. يقول الإمام الغزالي (ان الوقوف على فساد المذاهب قبل الاحاطة بمداركها محال بل هو رمي في العماية والضلال) (2) .

ولو شئنا استخلاص تصور تاريخي من مجمل ماكتب عن نشأة الإمامية كفرقة لوجدنا على الرغم من ان مصطلح الإمامية تأخر في الظهور حتى (اواخر القرن الثالث الهجري) (3) حين بدأت الفرقة في التميز من غيرها، وصارت اراؤها تطرح في الساحة الفكرية من قبل اقطابها ومتكلميها ويتوضح انفصالها عن باقي فرق الشيعة على الرغم من هذا التأخر فان جذورها الفكرية وأسس عقائدها تمتد كما يرى كثير من العلماء الى عصر الرسالة وان بذرتها (وضعت مع بذرة الاسلام من قبل صاحب الشريعة (صلی الله علیه وآله وسلم) نفسه ) (4).

ص: 23


1- ظ. د عرفان عبد الحميد دراسات في الفرق والعقائد الاسلامية / 17- 21 دار التربية، بغداد، 1977م.
2- نقلا عن المصدر نفسه (المقدمة).
3- عبد الله فياض تاريخ الإمامية / 83.
4- محمد حسين كاشف الغطاء: اصل الشيعة واصولها / 109 المطبعة العربية، القاهرة، 1377 ه_.

ص: 24

تمهيد: المنهج في اللغة والاصطلاح

أولاً :في اللغة

المنهج من النهج وهو الطريق، وطريقٌ نهج : أي بَيَّنْ واضح، ومَنْهَجَ الطريق وضَحَهُ، وانهج الطريق :وضح واستبان، وصار نَهْجاً واضحا بينا (1).

والمنهاج الطريق الواضح، وفلان يستنهج نهج فلان أي يسلك مسلكه(2) .

قال تعالى: ﴿ لِكُلِّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجَاً ﴾ (المائدة /48) .

وهكذا نجد ان اصل المنهج في اللغة يدور حول معنى الطريق والسبيل الواضح المستقيم.

وهذا المعنى استحضرته الآية الكريمة في الاستعمال القراني.

وكلمة المنهج في الادبيات المعاصرة مترجمة عن الكلمة الانجليزية(metho) وهي مشتقة من كلمة تعني: البحث أو النظر أو المعرفة كما استعملها افلاطون وارسطوا (3)وان كانت في معناها الاشتقاقي تلتقي الى حد التطابق مع معناها اللغوي العربي اذ تشير الى الطريق أو المنهج المؤدي الى الغرض المطلوب .(4)

ص: 25


1- ابن منظور، جمال الدين محمد بن مكرم الافريقي المصري (ت 711ه_) : لسان العرب 12: 143 مادة نهج دار صادر، دار بیروت 1375ه_ 1956م، الزبيدي، محمد مرتضى: تاج العروس 1: 251 ،الجوهري تاج اللغة وصحاح العربية 445 ،دار الفكر بيروت 1397ه_.
2- لسان العرب 12: 143 .
3- ظ: د. عبد الرحمن بدوي، مناهج البحث العلمي 3، وكالة المطبوعات، الكويت، ط3، 1977 .
4- المصدر السابق نفسه .

ثانياً: في الاصطلاح

يكاد المعنى الاصطلاحي للمنهج ان يرتبط من بعض جوانبه بمعناه اللغوي وان اختلفت درجة هذا الارتباط بين تعريف وآخر عند اهل الاصطلاح، ويمكن في هذا الاطار استعراض بعض تلك التعاريف للخروج بتصور عن معنى المنهج.

فقد كان ارسطو يرى في المنهج انه (صناعة نظرية تعرفنا الحد الصحيح الذي يسمى بالحقيقة حدا واي القياسات برهاناً) (1).

ويلاحظ ان الاصطلاح اتخذ بعداً تطورياً فعند فرانسيس بيكون تمت صياغة قواعد المنهج التجريبي في كتابه الاورغانون الجديد (2).

وتمثلت عند رينيه ديكارت محاولة الكشف عن المنهج المؤدي الى حسن السير بالعقل للوصول الى الحقيقة اذ يعرفه بأنه (قواعد مؤكدة بسيطة إذا راعاها الانسان مراعاة دقيقة كان في مأمن من ان يحسب صوابا ماهو خطأ) (3).

ويشير الى هذا التحديد في مقالة الطريقة اذ يرى ان المنهج هو (الترتيب الصحيح، والاحصاء الدقيق لجميع ظروف الشيء المبحوث عنه) (4).

وقد خص ديكارت المنهج بأحد اهم مؤلفاته وهو مقال عن المنهج) سنة 1637م.

وأحتل المنهج مكانة واضحة التأثير عند مناطقة بور رويال حيث جعلوه قسما رابعا من منطقهم وحدّوه بأنه (فن التنظيم الصحيح السلسلة من الافكار العديدة، اما من اجل الكشف عن الحقيقة حين

ص: 26


1- ظ النشار، د. علي سامي المنطق الصوري 5، المكتبة التجارية بيروت، ط1، 1950م .
2- بدوي ،مناهج البحث العلمي 4 .
3- ظ بدوي: المصدر نفسه، وانظر: مراد وهبة ويوسف كرم، المعجم الفلسفي 231 ، دارالثقافة الجديدة، بيروت، ط2، 1971م.
4- مقالة الطريق لحسن قيادة العقل للبحث عن الحقيقة 110، ترجمة: جميل صليبا، بيروت، 1970 .

نكون بها جاهلين أو من أجل البرهنة عليها للاخرين حين نكون بها عارفين) (1) .

وهو تعريف يمكن ان يُستخلص منه انواع المناهج من حيث طبيعة الوظيفة التي تؤديها.

ويرى د. عبد الرحمن بدوي اننا إذا اضفنا منطق بيكون الى منطق بور رويال فان القرن السابع عشر يكون قد شهد بداية تكون المنهج الاستدلالي والمنهج التجريبي حتى أخذ معناه الاصطلاحي السائد بأنه( الطريق المؤدي الى الكشف عن الحقيقة والعلوم بواسطة طائفة من القواعد العامة تهيمن على سير العقل وتحدد عملياته حتى يصل الى نتيجة معلومة)(2).

وينقل صاحب المعجم الفلسفي تعريفاً للمنهج انه (الطريق الواضح في التعبير عن شيء، أو في عمل شيء، أو في تعلم شيء، طبقا لمباديء معينة وبنظام معين بغية الوصول الى غاية معينة) (3). وهو تعريف يلتقي مع التعريفين السابقين.

ويذهب الدكتور علي سامي النشار الى أن المنهج هو (طريق البحث عن الحقيقة في أي علم من العلوم، أو في أي نطاق من نطاقات المعرفة الانسانية) (4).

اما الدكتور ياسين خليل فيرى ان المنهج (أي اجراء يطبق على اشياء مختلفة ومتنوعة

فيحولها من حالتها غير المنتظمة الى نظام بينها على اساس علاقات ارتباطاتها ببعضها)(5) .

ويلاحظ على مجمل هذه التعريفات ان قاسما مشتركا يجمع بينها في حدها للمنهج تتمثل فيه ركيزتان هما:

ص: 27


1- بدوي: مناهج البحث العلمي 4 .
2- ظ المصدر نفسه 5 .
3- ظ المعجم الفلسفي 231 .
4- ظ نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام 1 :6 دار المعارف، مصر ط3، 1965م .
5- منطق البحث العلمي 16، ساعدت جامعة بغداد على نشره، يغداد 1394ه_ 1974م .

1- استحضار المعنى اللغوي الذي يعني المنهج فيه الطريق المستقيم الواضح.

2- النظام الذي يربط بين العلاقات أو الاشياء المختلفة للوصول الى غاية هي تحصيل المعرفة الصحيحة.

ومن خلال ذلك يمكن ان نستنتج ان المنهج في الحقيقة هو الجانب التطبيقي النظرية البحث عند الباحث، ولذا نجدها تختلف في طبيعتها بحسب طبيعة النظرية نفسها والمجال الذي تتمثل فيه الغاية من تطبيقاتها. لذلك فنحن في حدود البحث هنا نجد ان المنهج هو الطريقة التي يتبعها المتصدي لفهم النص للكشف عن دلالاته وهذا يقوم على خطوات منظمة تتمثل فيها مجموعة مفاهيم ومنطلقات ومنظومة مصطلحات يتسلح بها المتصدي في سعيه للوصول الى غايته، ومن خلال هذه المسيرة يمكن انتزاع مجموعة مؤثرات تتحكم في عملية سير المتصدي مع النص وتحدد اسلوبه الخاص في بلوغ تلك الغاية ومن ثم تحديد اساليب الاستدلال عليها واثباتها، من أهمها:

1- المرجعيات التي تشكل المعين الذي يزود المتصدي لفهم النص بخزين فكري وصلة بقواعد مركزية لها اهميتها في اضاءة اجواء الكشف عن النص.

2- طبيعة الوسائل والادوات المساندة للمتصدي في عملية الكشف عن معاني النص ودلالاته واهمها خصائص النص نفسه واللغة التي صاغ بها خطابه .

3- الطابع الفكري الخاص بالمتصدي والذي يكوّن حصيلته التي تؤهله للتصدي للكشف عن دلالة النص.

هذه الامور بأجمعها تنتظم في اطار عام تشكل في النهاية طبيعة الرؤية (المنظور) الذي يكونه المتصدي - وهو هنا المتكلم - للعقيدة في اطار الخطاب القرآني وهذا ما سيقف عنده البحث طويلا ليخرج بتصور عن المناهج الكلامية الكبرى التي تصدت لاستنباط اصول العقيدة من النص القراني.

ص: 28

الفصل الأول : تأسيس الأئمة (عليه السلام) لأصول منهج فهم النص القرآني

اشارة

ص: 29

توطئة :

ان الباحث في الارث الغني الذي تركه الأئمة من اهل البيت (عليهم السلام)في جهدهم التفسيري للنص القرآني من اجل استكناه الأصول والأسس التي رسخوها كاضاءات يفهم منها النص، وتؤشر ، دلالاته، يلاحظ ان هذا الجهد يتخذ مسلكين مهمين:

المسلك المنهجي

ويستند هذا المسلك على امرين :

أولاً : اهليتهم(عليهم السلام) للتأسيس والتأصيل ومن ثم تفسير النص فعليا، ويتضح ذلك من خلال ما يختصون به من صفات ومميزات متفردة تعطيهم هوية الاهلية الكاملة للبحث في النص بل كونهم جهة مقابلة له كما سيتبين في اعتقاد الإمامية مصداقا لحديث الثقلين.

ثانيا: الى وضع الضوابط وتأصيل القواعد التي ينطلق في ضوئها المفسر لكشف دلالات النص وافاق التعامل معه والنظر اليه، والموقف بازاء مجموعة مغاليق مهمة في النص لا تكشف لكل احد يمثل النفاذ منها المفاتيح التي تشرع ابواب الفهم في وجه المفسر ، ليعود النص ناطقا فاعلا ويتخذ موقعه الصحيح بوصفه محوراً تدور حوله الافهام المختلفة، وليس تابعا متخلفا عن مكانته، يدور في افلاكها على الرغم من اختلافها بل تناقضها احياناً.

ص: 30

المسلك التطبيقي:

وهو المسلك الذي يستقريء ماورد عنهم(عليهم السلام)من نصوص وروايات لتفسير النص القرآني، واستنطاق ،اياته وكشف معانيه وستتبين من ذلك انواع المناهج التي وردت في تفسيرهم(عليه السلام)، ومثلت تأصيلا للاتجاهات التفسيرية للنص، ومؤثراً في تحديد اساليب الكشف عن دلالاته، وهذا المبحث سيخوض في افاق واسعة وامتدادات يقتضي تتبعها للوصول الى الهدف الذي عقد لاجله، لذا سنجد ان البحث فيه واسع يقتضي التوسع الذي لامفر منه في التفاصيل المبحوثة في مطالبه.

المبحث الأول: المسلك المنهجي

المطلب الأول: أهلية التأسيس

تقوم المنظومة الكلامية (العقائدية) للامامية على اساس مجوعة ثوابت وركائز تمثل الأصول التي يرجع اليها لبيان الاعتقادات في أصول الدين، ومن تلك الثوابت المهمة خصوصية الأئمة من اهل البيت

(عليهم السلام)ومرجعيتهم في هذا البيان، وهذه المرجعية تنطلق اساسا من خصوصية علمهم وما يتفردون به من انواع المؤهلات.

تعتقد الإمامية على نحو الاجماع عند متكلميها باشتراط ان يكون الإمام اعلم اهل زمانه وتتمثل حدود هذه الاعلمية عندهم في (وجوب كونه عالما بجميع ما اليه الحكم فيه) (1) واذا علمنا ان للامام (عليه السلام)الولاية العامة في امور الدنيا والدين تبين لنا مدى السعة المفتوحة لافاق علم الإمام التي يعللها الشريف المرتضى بأنها (وجوب

ص: 31


1- ظ الشريف المرتضى: الناسخ والمنسوخ (مخطوط) مكتبة الامام امير المؤمنين العامة (5/1386) الطوسي: الاقتصاد ،310 العلامة الحلي: الالفين في امامة امير المؤمنين 124 .

كونه أعلم الناس إذ لو لم يكن عالما لم يؤمن ان يقلب الاحكام والحدود وتختلف عليه القضايا المشكلة فلا يجيب عنها أو يجيب عنها بخلافها)(1).

وقد ورد عنهم (عليهم السلام)ما يشير الى علمهم وحدوده وافاقه ففي الكافي للكليني روي عن الإمام الباقر (عليه السلام)(ت: 114 ه_) انه قال في تفسير قوله تعالى: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِى ام الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (الزمر / (9): (انما نحن الذين يعلمون)(2)

ونجد تحديد ملامح هذا العلم في ما روي عن الإمام جعفر الصادق(عليه السلام)(ت: 148 ه_) اذ يقول (إنّا اهل بيت عندنا معاقل العلم، وآثار النبوة، وعلم الكتاب وفصل ما بين الناس)(3) واما حدود هذا العلم فيقول (عليه السلام)عنها: ( والله لقد اعطينا علم الأولين والآخرين) (4) .

ومن اوجه ذلك العلم انهم يعلمون ايضا ما في الكتب السماوية الاخرى فضلاً عن القرآن الكريم وهو ما تؤكده الرواية المتفق على نقلها بين كتب الفرق المختلفة عن الإمام علي بن ابي طالب(عليه السلام)انه قال (لو ثنيت لي الوسادة لحكمت بين اهل التوراة بتوراتهم وبين اهل الانجيل بانجيلهم وبين اهل الزبور بزبورهم وبين اهل الفرقان بفرقانهم) (5).

هذه السعة في علم الأئمة يعللها الإمام الصادق(عليه السلام)بطبيعة مهمة الإمامة في ماروي عنه من حديث طويل حين سأله بريهة قال (جعلت فداك انّى لكم التوراة

ص: 32


1- انظر: المحكم والمتشابه -79 80 طبع حجر ایران 1312 ه_.
2- ظ الكافي (الاصول) 1 :212 ،دار الكتب الاسلامية طهران.
3- المفيد:الاختصاص 303 المطبعة الحيدرية - النجف الاشرف ط 1 1390 ه_ - 1971 م.
4- ابن شهر آشوب (محمد بن علي ت: 588ه_) : مناقب آل ابي طالب المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف، ط1، 1376 ه_ - 1956 م.
5- البحار 89 87 تفسير العياشي 1 15 القوشجي ( علاء الدين علي بن محمد (ت :789): شرح تجريد الكلام طبع حجر ایران 1301 ه_.

والانجيل وكتب الانبياء ؟ - وذلك بعد ما حاججه الإمام بنصوصها - فقال(عليه السلام) : هي عندنا وراثة نقرؤها كما قرأوها ونقولها كما قالوها ان الله لا يجعل حجة في ارضه يسئل عن شيء فيقول لا ادري) (1).

وقد توسع متكلمو الإمامية في إثبات هذا المفهوم والاستدلال عليه كواحد من اهم أسس عقيدتهم في الإمامة وشرط لازم لها. يقول الشيخ الطوسي : ( ومما يدل على ان الإمام يجب ان يكون عالما بجميع احكام الدين ماثبت من كون الإمام حجة في الدين وحافظا للشرع ) (2)

ومدى علمه ومرتبته في زمان وجوده تتمثل في( ان لايكون هناك من هو اعلم منه؛ لأنه هو الحجة على العباد فوجب ان يكون اعلم الخليقة) كما نقل المسعودي عن الإمامية (3).

ومن اجلى مصاديق علم الأئمة (عليهم السلام)بهذه الحدود ماتمثل في علمهم بالقرآن وتفسيره وتأسيس أصول العقيدة انطلاقا من اياته الكريمة، بل ان الأئمة ليلا في نظر الرسول الاعظم هم عدل القرآن لن يفترقوا عته حتى يرث الله الارض ومن عليها كما يفيده حديث الثقلين المتواتر.

أخرج الفريقان عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض وعترتي أهل بيتي ولن يتفرّقا حتّى يردا عليَّ الحوض فانظروا كيف تخلّفونى فيهما ) (4).

ص: 33


1- الصدوق التوحيد 275 .
2- تلخيص الشافي 1: 271 تعليق السيد حسين بحر العلوم مطبعة الاداب النجف، 1383 ه_ - 1963م.
3- ظ: مروج الذهب :3 156 القاهرة 1958 م.
4- الترمذي / سنن الترمذي :5 662/ 3786، وأحمد بن حنبل / مسند أحمد 3: 17 و 26 و 59، وفضائل الصحابة له أيضاً 2: 585 / 990 و 2: 779 / 1382 ، وابن أبي عاصم / السنة 2: 1023 - 1024 / 1597 و 1598، وأبو يعلى الموصلي / مسند أبي يعلى 2 :6 / 1017 و 2 :8 - 9 / 1023 ، وابن الجعد / مسند ابن الجعد 1: 397 / 2711، وابن سعد / الطبقات الكبرى ،2:194 وابن أبي شيبة / المصنف 7 :176 / 27 والطبراني في معاجمه الثلاثة: الكبير 3 :65 - 66 / 2678 و 2679 و 2679 ، والصغير 1: 131 و 135 والأوسط 4 :262 - 263 / 3463 و 4: 328 / 3566 ، والجويني / فرائد السمطين 2 :144 - 146 / 438 و439 و 440 باب 33. والشيخ الصدوق / إكمال الدین 1: 235 / 46 و 1 237- 238 / 54 و 57 و 1 240 / 61 باب (22) ، ومعاني الأخبار له أيضاً: 90 / 1 و 2 باب معنى الثقلين، والخصال له أيضاً 65 / 97 ، والشيخ المفيد / الأمالي : 134 / 3 مجلس (136)، والشيخ الطوسي / الأمالي: 255 / 460 (529) مجلس ،(9) والإسترآبادي / تأويل الآيات الظاهرة: 616 .

وورد من طرق شتّى بلفظ : إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي ... إلخ) عن أبي ذر الغفاري وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة، وأم سلمة، والبراء بن عازب، وجابر بن عبد الله الأنصاري وحذيفة بن أسيد، وحذيفة بن اليمان وزيد بن أرقم، وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس، وعمر بن الخطاب.

ورواه من أهل البيت عليهم السلام مرفوعاً: أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام، وكذلك ولده الأطهار : الإمام الحسن والإمام الباقر، والإمام الصادق، والإمام الكاظم، والإمام الرضا (عليهم السلام) (1) .

وتتحدد العلاقة بينهما من الرواية الاخرى عن هشام بن حسّان، عن الإمام أبي محمد الحسن بن علي السبط(عليه السلام)أنّه خطب الناس بعد بيعتهم له، فقال مبينا مقام أهل البيت : نحن حزب الله الغالبون، وعترة رسول الله الأقربون، وأهل بيته الطيبون الطاهرون وأحد الثقلين اللذين خلفهما رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) في امته والثاني كتاب الله فيه تبيان كل شيء لاياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه فالمعول علينا في تفسيره لانتظنا تأويله بل نتيقن حقائقه فأطيعونا فان طاعتنا مفروضة اذ كانت بطاعة الله مقرونة، قال الله عزّوجلّ:﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ

ص: 34


1- ظ: الدكتور ثامر العميدي / غيبة الإمام المهدي عند الإمام الصادق عليهما السلام 36 - 46 ففيه تخريج واسع لجميع طرق الحديث مع بيان أكثر من خمسة وثلاثين عالماً من علماء العامة الذين صححوا الحديث أو صرحوا بتواتره .

وَأُولِي الأَمرِ مِنكُمْ فَإِن تَتَزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ (1)،﴿ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى

الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم ﴾(2).

فهم (عليه السلام)وحدهم العارفون بمحكم الكتاب ومتشابهه واذا كان غيرهم يشاركهم في فهم المحكم فان المتشابه مما لايعرف تأويله معهم احد كما هو مقتضى الروايات عنهم فهم وحدهم الراسخون في العلم الذين وصفتهم الآية بذلك.

أخرج ثقة الاسلام ،الكليني عن الإمام الصادق(عليه السلام)انه قال في تفسير قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ (آل عمران/7): (هو أمير المؤمنين والأئمة (عليهم السلام))(3).

ومن خطب أمير المؤمنين عليه السلام المشهورة خطبته التي يقول فيها: (.. أين الذين زعموا أنّهم الراسخون في العلم ،دوننا، كذباً وبغياً علينا أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا الله وحرمهم وأدخلنا وأخرجهم بنا يُستعطى الهدى، ويُستجلى العمى، إنّ الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم لا تصلح على سواهم ولا تصلح الولاة من غيرهم) (4)

وطريقهم الى هذه المعرفة الالهام أو التلقي والوراثة عن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم).كما يصفه الشيخ الطوسي (5) .

فعلم الأئمة بجميع المتشابه في القرآن الكريم مستمد من هذا الطريق كما هو مدلول الرواية عن الامام الباقر(عليه السلام)في تفسير آية المتشابه قال (فرسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) افضل

ص: 35


1- النساء: 59 .
2- الطوسي: الامالي :1: 121 مطبعة النعمان / النجف 1384 ه_ - 1964 م.
3- اصول الكافي 1 :415 .
4- نهج البلاغة 2: 27 الخطبة رقم 144 ، وابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة 9: 86 في شرح الخطبة المذكورة.
5- تلخيص الشافي 1: 253.

الراسخين في العلم قد علّمه الله عز وجل جميع ما انزل عليه من التنزيل والتأويل، وماكان الله لينزل عليه شيئاً لم يعلم تأويله واوصياؤه من بعده يعلمونه كله)(1).

هذا الرسوخ يراه الإمامية اجلى مصاديق خصوصية الأئمة (عليه السلام)في فهم القرآن حق فهمه وهو المعبر عنه في نص القرآن الكريم بقوله تعالى: {لايمسه الا المطهرون (الواقعة (79) وهم يؤكدون هذا الاختصاص بتفسير القرآن بعضه ببعض ليستدلوا على اختصاصهم بصفة التطهير وذلك في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ﴾ (الاحزاب/33).

والطهارة المقصودة في الأيتين( طهارة نفس الانسان في اعتقادها وارادتها، وزوال الرجس عن هاتين الجهتين ويرجع الى ثبات القلب فيما اعتقده من المعارف الحقة .. من غير تمايل الى اتباع الهوى ونقض ميثاق العلم وهذا هو الرسوخ في العلم) (2).

وهذا الامر يمثل ركيزة الاهلية الكاملة لتفسير النص القرآني في اعتقاد الإمامية وهو ما تؤكده طبيعة المعية بين اهل البيت (عليهم السلام)والقرآن في حديث الثقلين اذ مقتضى الحديث انهم (عليه السلام) العالمون بتفسيره، وتأويله، وظاهره وباطنه، وعدم انفكاك احدهما عن الاخر.

وقد تصدى الأئمة(عليهم السلام)لتأكيد هذه الصلة فضلا عن تأكيد الاهلية الخاصة بهم في استيعاب واستكناه معانيه واستنطاق آياته لتعبر عن نفسها فيعود كشفهم المعاني الايات وصولا الى مراد الله تعالى منها وهو ما تؤكده الروايات الواردة عنهم في بيان انهم هم الراسخون في العلم الذين قصدتهم الآية أو في الأقل انهم اجلى المصاديق التي ينطبق عليها معناها فهم لا يغيب عنهم شيء من علم الكتاب اذ يعلمونه كله.

ص: 36


1- المجلسي: البحار 7: 39.
2- الطباطبائي الميزان 3 :5554 .

وقد أكد الإمام الصادق(عليه السلام)الى ذلك عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمُ مِّنَ الْكِتَبِ أَنَا ءَائِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ ﴾(النمل/40) قال: وعندنا والله علم الكتاب كله .(1).

ولأجل معرفة حقيقة تلك الاهلية العلمية - وتأكيد واقعيتها في اظهار الفهم الإمامي لها - لابد من الكشف عن طريقها بعد ان تعرفنا على طبيعة علمهم وحدوده.

طريق علم الأئمة الهلام :

بإنعام النظر في مصادر الحديث الأساسية عند الإمامية مع كتب متكلميهم وعلمائهم، تتبلور أمامنا مجموعة طرق تمثل المعين الذي يستقي منه الإمام علمه تتمثل في:

الاخذ عن الرسول الكريم(صلی الله علیه وآله وسلم) مباشرة بالنسبة لمن عاصره (صلی الله علیه وآله وسلم)من أهل البيت كأمير المؤمنين والسبطين عليهم السلام وبالواسطة كما في بقية الأئمة التسعة من ذرّية الإمام الحسين وأولهم الإمام علي بن الحسين وآخرهم الإمام المهدي عليهم السلام الذين أخذوا العلم عن آبائهم، عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)ولهم في ذلك تصريحات شتّى لا حصر لها ربما فاقت التواتر.

ويكون هذا الاخذ عنه من جهة تفسيره الكتاب الكريم الذي يتلقاه وحيا، و مما ورد عنه (صلی الله علیه وآله وسلم)من الاحاديث الشريفة، ويُعد سندهم إلى تلقي العلم النبوي من أعظم الاسانيد وأجلها قدرا وقداسة في عالم الرواية، ويسمى عند العامة بسلسلة الذهب، وسعوط المجانين وعطر الرجال ذوي الالباب (2) ، وقد اعترف بهذه الأوصاف الجليلة

ص: 37


1- الكليني: اصول الكافي 1 :229 .
2- يُنظر الخطيب البغدادي / تاريخ بغداد 3 :37 في ترجمة محمد بن عبد الله بن طاهر برقم 1004، والشيخ الصدوق / الخصال: 53 / 68 باب الاثنين وعيون أخبار الرضا عليه السلام له أيضاً :1 205 - 206 / 6 باب (22) .والشيخ الطوسي / الأمالي: 449 / 1004 (10) مجلس (16).

أحمد بن حنبل، وإسحاق ابن راهويه وهما من أعاظم علماء العامة(1). ولذلك فهم يحكمون بصحة أي حديث إذا وافق سنة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)والا ترك.

وقد أسس أهل البيت عليهم السلام جملة من القواعد العلمية الرصينة لمعرفة حقيقة ما يُنسب إليهم في كتب الحديث، نظير قاعدة العرض على الكتاب الكريم والسنة المطهرة، وغير ذلك ممّا عُرِفَ في بحث التعارض في كتب الأصول تفصيلاً.

اخذ الإمام اللاحق العلم من الإمام السابق حيث يكون كل امام مصدرا في تلقين العلم الى من بعده (2).

الإلهام يرى الإمامية ان هذا الطريق هو سبيل الإمام الى العلم في حال استجد شيء للامام لم يتبين من الطريقين السابقين وهذا الطريق يتمثل في ان للامام قوة قدسية يتلقى بها الالهام اودعها الله تعالى فيه( فمتى توجه الى شيء أو شاء ان يعلمه على وجهه الحقيقي (فانه) لايخطيء فيه ولايشتبه) (3) إذ ان تلك القوة القدسية تكون عنده في غاية الكمال، وتحجبه عن الحاجة الى غيره وسلوك السبيل التحصيلي النظري، أو الحاجة الى البراهين والاستدلالات العقلية التي يتبعها غيره في سبيل تحصيل العلم اذ من لوازم امامته ان لايسأل عن شيء فيقول لا اعلم، وان لايحتاج في علمه الى احد غيره والالزم الدور وهو باطل. وقد وردت العديد من الروايات عن الأئمة (عليه السلام)في ان الإمام يعلم حين يشاء ان يعلم (4).

ص: 38


1- صرح بذلك الغماري الشافعي أحمد بن محمد بن الصديق الحسني المغربي في كتابه فتح الملك العلي بصحة حديث مدينة العلم علي: 130 .
2- المظفر: عقائد الإمامية ص 67.
3- عقائد الإمامية 67.
4- انظر المحسني محمد آصف: صراط الحق في المعارف الاسلامية والاصول الاعتقادية 3 :350 مطبعة النعمان النجف الاشرف 1388ه_ - 1968م.

ومن استعراض صور العلم عند الأئمة (عليه السلام)نلاحظ انها تتخذ صورتين (1) :فهو فعلي مرةً يستمد من الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)الذي طريقه الوحي أو من الإمام السابق، وارادي اخرى بمعنى ان الإمام إذا اراد ان يعلم شيئا يعلمه بعد ان لم يكن عنده بمعنى انه لا يعلمه قبل الارادة.

والأحاديث المصرحة بأنهم (عليه السلام)(مُحَدَّثون )كثيرة، بل متواترة في هذا الباب حتّى قال ابن خلدون (ت / 807ه_) في حديثه عن الإمام الصادق عليه السلام وغيره من أهل البيت عليهم السلام : ( وقد قال صلى الله عليه [وآله] وسلّم: «إنّ فيكم مُحَدَّثين»، فهم - يعني: أهل البيت (عليه السلام)- أولى الناس بهذه الرتب الشريفة، والكرامات الموهوبة) (2) .

ص: 39


1- المحسنى صراط الحق 3: 171 (بتصرف).
2- ابن خلدون / تاریخ ابن خلدون 1 495 الفصل 53 .
المطلب الثاني: جهود الأئمة (عليه السلام)في خدمة القرآن والعقيدة
اشارة

ان المتصدي لاستعراض تاريخ الأئمة (عليه السلام)وصلتهم بالقرآن الكريم يتلمس بوضوح اهمية جهودهم(عليه السلام) في التصدي لتفسير النص وبيان معانيه واستنطاقه ليتبين بوضوح خصوصية اهليتهم المتفردة، ابتداءً من اولهم الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)حتى اخرهم(عليهم السلام).

فمما لايسع منكر ان ينكره افضلية علي(عليه السلام)وسعة علمه بالقرآن واولويته واسبقيته الى تأويله وقربه من ينبوعه الاصيل ولصوقه ،به، فهو الباب الذي تنبثق منه ينابيع العلم ويطلع منه على آفاقه المطلقة من مصدر الوحي، روى عبد الله بن عباس عن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)انه قال (انا مدينة العلم وعلي بابها فمن اراد المدينة فليأتِ من الباب)(1)، وفي لفظ آخر (أنا مدينة العلم وعلي بابها ، وهل تُدخل المدينة إلّا من بابها (2)؟!)

ص: 40


1- الحاكم النيسابوري: مستدرك الصحيحين :3 126 قال الحاكم عنه ( هذا حديث صحيح الاسناد) .
2- هذا الحديث متواتر من طرق الإمامية وحدهم، يُنظر: الشيخ الصدوق / عيون أخبار الرضا عليه السلام 1: 71 / 298 والخصال له أيضاً: 574 / 1 باب السبعين ، والتوحيد له أيضاً: 307 / 1 باب (43) ، والأمالي له أيضاً: 425 / 560 (2) مجلس (55) ، و 655 / 891 (2) مجلس (83) ، والكوفي محمد بن سليمان / مناقب أمير المؤمنين عليه السلام 2: 558 / 1071، والقاضي النعمان / شرح الأخبار :1: 89 / 1 و 2 و 3 و 4 والثقفي / الغارات 1: 34، والشيخ المفيد / الإرشاد 1 ،33، والفصول المختارة له أيضاً 135 و 220 و 224 والاختصاص له أيضاً ،238 والشريف المرتضى / تنزيه ، الأنبياء: 212، والشيخ الطوسي / الأمالي: 559 / 1172 (8) مجلس (20)، و : 578 / 1194 (8) مجلس (23)، والكراجكي كنز الفوائد :1 ،149 والتعجب له أيضاً 55 ، وابن شهر آشوب / المناقب :1 314 و 2 111 و3 : 47، وابن حمزة الطوسي / الثاقب في المناقب : 120 و 130 و 266 ، وابن شعبة الحرّاني / تحف العقول: 430، والطبرسي أحمد بن علي / الاحتجاج :1 102 ، والطبرسي الفضل بن الحسن / إعلام الورى بأعلام الهدى 1 317، والإربلي / كشف الغمة 1: ،111 و 1 528 وابن المشهدي / المزار ،576 وشاذان بن جبريل / الفضائل 96 ، والسيد ابن طاوس / التحصين 550 وإقبال الأعمال له أيضاً 1 507 ، وسعد السعود له أيضاً: 209 والعلامة الحلّي / كشف اليقين: 51، وعلي بن يوسف الحلّي (أخو العلامة الحلّي) / العدد القويّة: 248 ، وابن ميثم البحراني / شرح مئة كلمة 56 و 251، والشيخ حسن بن سليمان الحلّي / المحتضر 2 و 9 و 92 وابن بطريق / العمدة: 285 :و 480/294 292:9 و 481 و 482 و 483 و484 و 485 و 486 و :301 / 506 كما ورد الحديث في جلّ التراث التفسيري الإمامي أيضاً، يُنظر: التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري عليه السلام :630 والثمالي أبي حمزة / تفسير أبي حمزة الثمالي: 272 والقمّي علي بن إبراهيم / تفسير القمي 1 :68 وفرات / تفسير فرات الكوفي: 265 ، والطبرسي / تفسير مجمع البيان :2 : 28، والاسترآبادي / تأويل الآيات الظاهرة :1: 220 وسائر كتب التفسير المتأخرة. ورواه من علماء العامة ابن أبي حاتم / الجرح والتعديل :6: 514/98 وقال بعد رواية الحديث: قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سألت أبي عنه - أي عن راوي الحديث - فقال : ما أراه إلا صَدَقَ ، والطبراني / المعجم الكبير 11 55، والطبري المفسّر / تهذيب الآثار (مسند الإمام علي عليه السلام )104 / 8 ، والحاكم النيسابوري / المستدرك على الصحيحين 3 126 - 127 من عدة طرق، وصححه، والحاكم الحسكاني الحنفي / شواهد التنزيل 1 :104 / 118، و 1: 432 / 459، والخطيب البغدادي / تاريخ بغداد 3: 181 في ترجمة محمد بن عبد الصمد البغوي برقم 1203 و 5: 110 في ترجمة أحمد بن فاذويه الطحان برقم (2502) ، و 7 : 182 في ترجمة جعفر بن محمد أبي محمد الفقيه برقم (3613)، و 11: 49 - 50 في ترجمة أبي الصلت الهروي برقم (5728) و 11 :205 في ترجمة عمر بن الفرج الهاشمي برقم (5908)، وابن عساکر / تاریخ دمشق 9 :20 و 42 :378 - 383 من طرق كثيرة و 45 :321 والزمخشري / الفائق في غريب الحديث 2: 16 (رتَجَ)، والراغب الأصفهاني / مفردات غريب القرآن: 64 في معنى (باب). وقد تصدّى أبو الفيض الغماري الشافعي المغربي في كتابه (فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي ) إلى دراسة جميع طرق الحديث في مصادره عند العامة، وانتهى إلى القول الجازم بصحته عندهم، كما أثبت العلامة الشيخ محمد حسن السقاف الأردني في كتابه (تناقضات الألباني ): 104 / 8 صحة الحديث مع جهل الألباني الوهابي وتعصّبه، فليلاحظ.

واذا كان رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)الناطق بلسان الوحي وطريق تلقيه عن السماء ﴿ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾ (النجم/43). فان أمير المؤمنين عليا(عليه السلام)هو نفس محمد بدلالة اية المباهلة من قوله تعالى: ﴿فَمَنْ حَاجَكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَ كَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَذِبِينَ ﴾ (آل عمران/61).

كما يرى مفسرو الإمامية (1)أن أمير المؤمنين اقرب الناس الى رسول الله، ومكمل مهمته من بعده ووارث علمه وصنو القرآن وعدله ومستنطقه.

يروي سليم بن قيس الهلالي عنه(عليه السلام) انه قال: (مانزلت على الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) من آية من القرآن الا اقرأنيها واملاها عليّ وكتبتها بخطي وعلمني تأويلها وتفسيرها وناسخها ومنسوخها ومحكمها ومتشابهها وخاصها وعامها ودعا الله عز وجل ان يعلمني فهمها وحفظها فما نسيت آية من كتاب الله ولا علما املاه الي فكتبته وماترك شيئاً اعلمه

ص: 41


1- ظ الطوسي التبيان :2 : 485 الطبرسي مجمع البيان ،2 :453 الطباطبائي الميزان 3: 223 .

الله عز وجل ولا امر ولأنهي وماكان ومايكون من طاعته أو معصيته الا علمنيه وحفظته فلم انس منه حرفا واحدا ثم وضع يده على صدري ودعا الله عزّوجلّ أن يملأ قلبي علماً وفهماً وحكمة ونوراً، لم أنسَ من ذلك شيئاً، ولم يفتني شيء لم أكتبه، فقلت: يا رسول الله أتتخوف عليَّ النسيان فيما بعد ؟ فقال صلى الله عليه وآله: لست أتخوف عليك نسياناً ولا جهلاً، وقد أخبرني ربّي جلّ جلاله أنّه قد استجاب لي فيك وفي شركائك الذين يكونون من بعدك، فقلت: يا رسول الله ومن شركائي من بعدي؟ قال صلى الله عليه وآله : الذين قرنهم الله عزّوجلّ بنفسه وبي، فقال: ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ﴾(1)، فقلت : يا رسول الله ومن هم؟ قال: الأوصياء منّي إلى أن يردوا عليَّ الحوض، كلُّهم هادٍ مهتد، لا يضرهم من خذلهم، هم مع القرآن والقرآن معهم لا يفارقهم ولا يفارقونه، بهم تنتصر أمتي، وبهم يمطرون، وبهم يدفع عنهم البلاء، ويستجاب دعاءهم، قلت: يارسول الله سمّهم لي فقال: ابني هذا ووضع يده على رأس الحسن، ثمّ ابني هذا ووضع يده على رأس الحسين عليهما السلام، ثمّ ابن يُقال له علي وسيولد في حياتك فاقرأه مني السلام، ثمّ تكملة اثني عشر، فقلت: بأبي أنت وأمي يا رسول الله سمّهم لي رجلاً فرجلاً، فسمّاهم رجلاً رجلاً، فيهم والله يا أخا بني هلال مهدي أُمّة محمد الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلما وجوراً ) (2).

ويؤكد الإمام(عليه السلام)خصوصيته في القرب منه فيقول : (وليس كل اصحاب رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)من كان يسأله ويستفهمه حتى انهم كانوا ليحبون ان يجيء الأعرابي أو الطاري فيسأله (صلی الله علیه وآله وسلم)حتى يسمعوا كلامه وكان لايمر بي من ذلك شيء الا سألته عنه وحفظته) (3).

ص: 42


1- النساء: 59.
2- الصدوق / إكمال الدين وإتمام النعمة: 284 - 285 / 27 باب ،24 والخصال له أيضاً: 232 باب الأربعة، ونحوه عند الطبري الإمامي / المسترشد في الإمامة : 231 - 236 / 67 باب ،1 والإسكافي المعتزلي / المعيار والموازنة 300 .
3- نهج البلاغة : 440 - 443 الخطبة رقم 210 ، الطبرسي: الاحتجاج 1: 395 .

هذا القرب من النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) بكل معانيه والتلقي عنه جعل عليا(عليه السلام)محيطا بعلوم الكتاب الكريم كلها، ويكفي في ذلك أنّه صرّح عليه السلام بهذا، فقال على روس الأشهاد:( سلوني قبل ان تفقدوني والذي فلق الحبة وبرأ النسمة لو سألتموني عن آية، في ليل نزلت أو في نهار انزلت مكيها ومدنيها سفريها وحضريها، ناسخها ومنسوخها محكمها ومتشابهها وتأويلها وتنزيلها لاخبرتكم به) (1) .

وهو القائل يصف سعة علمه (بل اندمجت على مكنون علم لوبحت به الاضطربتم اضطراب الارشية في الطوى البعيدة ) (2) فلا غرو ان يكون(عليه السلام) دائرة معارف إسلامية كبرى لانظير لها في تاريخ الاسلام موسوعة علمية للقرآن الكريم لم يحسن مجتمعه الاستفادة منها، إذ كان عليه السلام رأس علماء الأمة بلا منازع، وسيّد مفسّريها ،قاطبة وكيف لا يكون كذلك وهو من عنده علم الكتاب الذي أشارت إليه الآية - كما يرى الإمامية وكثيرون غيرهم - في قوله تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾(الرعد/43)، انه نزل في علي.

روى ذلك أبو سعيد الخدري، عن رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)(3).

ورواه عن أميرالمؤمنين علي عليه السلام كلُّ من: سلمان الفارسي (4)، وسليم ابن قيس الهلالي (5) ، وقيس بن سعد الأنصاري (6)، ورواه عن عبد الله بن عباس : أبو صالح (7)،

ص: 43


1- ظ: ابن سعد الطبقات الكبرى :2 338 ، الصدوق التوحيد 305 المفيد: الاختصاص 236 القرطبي الجامع لاحكام القرآن 1 35 وغيرها.
2- ظ: ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة مج 1: 213 .
3- الصدوق / الأمالي: 659 / 892 3 مجلس (83)،والحاكم الحسكاني / شواهد التنزيل 1: 400 / 422.
4- الصفّار / بصائر الدرجات: 236 / 21 باب 1.
5- سليم بن قيس / كتاب سليم: 313 .
6- کتاب سلیم: 422 .
7- الحاكم الحسكاني / شواهد التنزيل 1: 405 / 427.

وسعيد بن جبير (1) ، ورواه عن الإمام الباقر(عليه السلام) : أبو حمزة الثمالي(2)، وأبومريم(3) ،وبريد ابن معاوية (4)، وجابر بن يزيد الجعفي (5)، وعبد الله بن عجلان (6)، وعبد الله بن عطاء (7)،وعبد الله بن وليد السمان (8) ، وعمر بن حنظلة(9) ، وفضيل بن يسار (10)، ونجم (11).

ورواه عن الإمام الصادق(عليه السلام) : أبو بصير (12)وسدير الصيرفي (13) ، وعبد الله بكير(14) ، وعبد الله بن الوليد (15) وعبد الرحمن بن كثير(16)، وعمر بن أذينة (17) ،

ص: 44


1- شواهد التنزيل :1: 401 / 423.
2- بصائر الدرجات 236 / 18 باب 1.
3- المصدر السابق: 235 / 16 باب 1.
4- المصدر السابق: 234 - 235 / 12 وفيه:( إيّانا عنى وعلّي عليه السلام ،أولنا وعلّي أفضلنا وخيرنا بعد النبي صلى الله عليه وآله) ومثله في: 236/ 20 باب (1) ، والكليني / أصول الكافي 1 :229/ 6 باب أنّهم يعلمون علم الكتاب كلّه من كتاب الحجّة، والعياشي / تفسير العياشي 2 : 220 / 76 ، والقاضي النعمان / دعائم الإسلام 1: 22 .
5- بصائر الدرجات 233 / 4 باب ،1 و 235 / 14 باب (1) .
6- المصدر السابق 235 - 236/ 17 باب ،1 والعياشي / تفسير العياشي 2: 221 / 78.
7- العياشي/ تفسير العياشي 2: 220 / 77 ، والقرطبي المالكي /الجامع لأحكام القرآن 9 : 336، والحاكم الحسكاني / شواهد التنزيل :1 402 / 425 .
8- سعد بن عبد الله القمي في كتابه بصائر الدرجات كما في مختصره مختصر بصائر الدرجات / الشيخ حسن بن سليمان الحلي 109 .
9- جماعة من أصحاب الأصول الأربعمائة / الأصول الستة عشر: 88 .
10- بصائر الدرجات: 286 / 18 باب ،1 وتفسير العياشي 2: 221 / 79.
11- المصدر السابق: 233 - 234 / 5 و 6 باب 1.
12- بصائر الدرجات: 235 / 15 باب 1.
13- المصدر السابق: 233 / 3 باب ،1 و 250 251 / 5 باب (6) ، وأصول الكافي :1 357 / 3 باب نادر في ذكر الغيب من كتاب الحجة.
14- المصدر السابق: 232 / 1 باب 1.
15- المصدر السابق : 249 / 6 باب 5 .
16- المصدر السابق: 234 / 7 باب ،1 وفيه (إيَّانا عنا وعلي أولنا وأفضلنا وخيرنا).
17- القمي علي بن إبراهيم / تفسير القمي 1: 367 .

وفضيل بن يسار(1)، ومثنى الحنّاط (مضمراً) والمراد به الإمام الصادق (عليه السلام)(2).

ورواه عن الإمام الرضا(عليه السلام): أحمد بن عمر(3) ، ومحمد بن الفضيل (4) .

ورواه عن ابن الحنفية: أبو عمر بن زاذان (5) ، ورواه إسماعيل بن أبي خالد عن أبي صالح (6) .

وقد زعم بعض مفسري العامّة أنّ الآية نزلت في عبد الله بن سلام وهو عجيب !

أمّا أوّلاً: فلأنّ العامّة أنفسهم رووا عن عبد الله بن سلام أنه سأل رسول الله عن تلك الآية نفسها، فقال(صلی الله علیه وآله وسلم): (إنما ذاك عليّ بن أبي طالب) (7) .

وأما ثانياً : فلأنّ الآية مكّيّة وعبد الله بن سلام أسلم بعد الفتح، ومن هنا سلكوا في تفسيرها مسالك شتّى حتّى قال بعضهم أنّ المقصود بها هو الله عزّوجلّ ولم يلتفت إلى حرف العطف الحاكم بضرورة المغايرة، فضلاً عن الأخبار المتواترة عن أهل البيت في نزول الآية في عليّ عليه السلام وولده من أهل البيت.

جدير بالذكر أن ابن الجوزي ذكر في تفسيره (زاد المسير) اختلاف العامة في نزول الآية المذكورة، وعدّ القول في نزولها في الإمام علي من جملة أقوالهم(8) ، وروى الثعلبي في تفسيره - كما في نهج الإيمان - نزولها في أمير المؤمنين عليه السلام من

ص: 45


1- بصائر الدرجات: 234 / 8 باب 1.
2- بصائر الدرجات: 234 / 10 باب ،1 وفيه (نزلت في علّي والأمّمة عليهم السلام) .
3- بصائر الدرجات: 234 / 9 باب 1.
4- المصدر السابق 235 / 13 باب 1.
5- محمد بن سليمان الكوفي / مناقب أمير المؤمنين عليه السلام 191 ذيل حديث / 114، وشواهد التنزيل 1: 401 / 422، والقرطبي المالكي / الجامع لأحكام القرآن 9: 336 .
6- شواهد التنزيل :1 404 / 426 نقله القندوزي الحنفي في ينابيع المودة: 284 باب 56 عن الثعلبي.
7- نقله القندوري الحنفي في ينابيع المودة : 284 باب (56) عن الثعلبي.
8- ابن الجوزي / زاد المسير :4 251 -252 .

طريقين (1)، وقال العلّامة الطبرسي: ويؤيد ذلك - أي نزولها في علي(عليه السلام) - ما روي لسلام عن الشعبي أنّه قال : ما أحد أعلم بكتاب الله بعد النبي من علي بن أبي طالب (عليه السلام)ومن الصالحين من أولاده) (2).

ولقد تكاثرت المصاديق على اختصاصه عليه السلام بهذا الوصف، وكونه أعلم صحابة رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)، بالكتاب، فضلاً عن غيرهم، وهذا ما تعارف عليه الصحابة أنفسهم، فقد سئل ابن عباس وهو الموصوف بحبر الأمة وترجمان القرآن والملازم لعلي عليه السلام وتلميذه وخريجه كما يعبر ابن أبي الحديد ، (3)، وقد عرف من بين الصحابة بكثرة ما ورد عنه من الروايات في تفسير القرآن وقد سئل: أين علمك من علم ابن عمك ؟ فقال : كنسبة قطرة المطر إلى البحر المحيط(4) !

وفي رواية عن سعيد بن المسيب أن ابن عباس رضى الله عنه سأل رجلاً: أعلي أعلم عندك أم أنا ؟ فقال الرجل لو كان أعلم عندي منك لما سألتك (وكان جاءه سائلاً) قال: (فغضب ابن عباس حتى اشتد غضبه، ثم قال: ثكلتك أمك، علي علّمني، وكان علمه من رسول الله صلى الله عليه وآله ورسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) علمه الله من فوق عرشه، فعلم النبي صلى الله عليه وآله من الله وعلم علي من النبي وعلمي من علي وعلم أصحاب محمد كلّهم في علم علي كالقطرة الواحدة من سبعة أبحر) (5).

وروى العامة عن عامر بن شراحيل الشعبي أنّه قال: (ما أحد أعلم بما بين اللوحين من كتاب الله - بعد نبي الله - من علي بن أبي طالب) (6) .

ص: 46


1- ابن جبر / نهج الإيمان: 566 فصل 37.
2- الطبرسي / مجمع البيان 6 :54.
3- شرح النهج :11: 19 .
4- شرح النهج :11: 19 .
5- الطوسي الامالي 1: 11.
6- الحاكم الحسكاني / شواهد التنزيل 1: 36 .

ورووا عن عبد الله بن مسعود، أنّه قال: (إنّ القرآن أنزل على سبعة أحرف، ما منها حرف إلا له ظهر وبطن، وإنّ عليَّ بن أبي طالب عنده علم الظاهر والباطن) (1). ورووا عن عمر بن الخطاب أنّه قال : ( علي أعلم الناس بما أنزل على محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)) (2)

هذه الملامح المهمة من العلاقة الوثيقة بين الإمام والنص القرآني اتضحت في خصوصية فهمه (عليه السلام)الى درجة يصورها قوله في قصة التحكيم : (انا القرآن الناطق )(3).

ومن خطبة له(عليه السلام)في نهج البلاغة : ( أرسله على حين فترة من الرسل، وطول هجعة من الأمم وانتقاض مبرم فجاء بتصديق بين الذي يديه والنور المقتدى به ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق، ولكن أخبركم عنه، ألا إن فيه علم ما يأتي، والحديث عن الماضي، ودواء دائكم، ونظم ما بينكم) (4) .

في الكافي : (فاستنطقوه ولن ينطق لكم، أخبركم عنه، إنّ فيه علم ما مضى، وعلم ما يأتي إلى يوم القيامة وحكم ما بينكم وبيان ما أصبحتم فيه تختلفون، فلو سألتموني عنه لعلّمتكم )(5).

وفي تفسير القمي: (فلو سألتموني عنه لأخبرتكم عنه؛ لأنّي أعلمكم) (6) .

وانعام النظر في تلك الاقوال وغيرها من اقواله (عليه السلام)الكثيرة الاخرى يثبت ان اقل مايدل عليه (ان مانقل عنه من اعاجيب المعارف الصادرة عن مقامه العلمي الذي

ص: 47


1- أبو نعيم الأصفهاني / حلية الأولياء 1 :65 ورواه القندوزي في ينابيع المودّة: 448 باب 65 عن عبد الله بن عباس .
2- شواهد التنزيل 1 :30 .
3- القندوزي / ينابيع المودة 1: 214 / 20.
4- نهج البلاغة 2: 52 الخطبة رقم 158 وابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة 9:217 .
5- الكليني / أصول الكافي :1 7/61 باب الردّ إلى الكتاب والسنّة من كتاب فضل العلم.
6- القمي علي بن إبراهيم / تفسير القمي 1 :3.

يدهش العقول مأخوذ من القرآن الكريم) (1)، أي: من نص القرآن أو فحواه أو دليل خطابه.

هذا الفهم الكامل للنص القرآني الذي تعبر عنه الروايات السابقة يصفه الإمام (عليه السلام)بانه استنطاق للنص الذي لا ينطق بنفسه، وانما تلك مهمة الإمام المعصوم ووظيفته التي يرثها عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)كما مر في كلامه(عليه السلام) :(ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن اخبركم عنه)(2).

وقد قام (عليه السلام)بهذه المهمة الجليلة خير قيام حتى اننا لو احصينا ماروي عنه (عليه السلام)لوجدناه اكثر الصحابة تصديا لتفسير القرآن، حتى قال ابن ابي الحديد ان اكثر علم التفسير اخذ عنه (3) .

وكان لخصوصيته العلمية وقربه من النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)من جهة، وامتداد حياته طوال فترة «الخلافة الراشدة» من جهة اخرى أثر كبير في سعة هذه الجهود ووضوح اثرها في تفسير القرآن الكريم بخاصة، وقد اشتدت الحاجة بعد رحيل النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) الى توضيح معاني القرآن، وبرزت قضايا جديدة وحاجات فرضتها طبيعة اتساع الرقعة الجغرافية لدولة الاسلام اوطبيعة التلاقح الحضاري والعقائدي الذي فرض تحديات اخرى اوجبت تصدي علماء الدين الى بلورة المنظور الاسلامي للعقيدة المستمدة من الكتاب الكريم وكان علي(عليه السلام) وابناؤه من بعده في مقدمة من وقف تلك الوقفة وهي مهمة الإمام المعصوم التي سنجد ان متكلمي الإمامية يرونها اساسا ودليلا لاثبات وجوب الإمامة اذ لابد من وجود الإمام المعصوم (الانتفاء البيان في النص في كل زمان يبين للناس في القرآن والسنة فلا يحصل البيان يقينا وحيث ان هناك تلازما

ص: 48


1- الطباطبائي: الميزان 3: 71 .
2- نهج البلاغة الخطية 158 ص 223 تصنيف صبحي الصالح ط1 بيروت 1967م.
3- شرح النهج مج 1 1: 19.

بین امره تعالى بالتقوى وضرورة البيان وان التقوى مترتبة وتالية للبيان ومنوطة به وحيث ان النص فيه المتشابه والمحكم والمجمل والظاهر فلابد من معصوم ،اذ لولا وجود المعصوم المبين للآيات الذي يحصل بقوله اليقين لم يحصل مانيط به من التقوى وهو مقتضى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ وَايَتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾(1) (سورة البقرة /187).

هذا الارث العظيم الذي خلفه الإمام (عليه السلام)والذي لم يتهيأ لهذا البحث في حدوده الضيقة الا لمس جوانب بسيطة منه هو التركة التي انتقلت الى الأئمة الآخرين علام ولاسيما أننا قد أسلفنا القول ان احد طرق علم الإمام هو التلقي عن سابقه مما شكّل منظومة يكمل بعضها بعضا وكان لكل من الأئمة دوره الواضح فيها وان تفاوتت ملامحها التطبيقية الواقعية لكل امام منهم بتأثير الظروف السائدة في عصره وطبيعة حاجات ذلك العصر والمؤثرات السياسية والفكرية فيه مما كان له أثر واضح في بروز الدور العلمي لبعض الأئمة اكثر من الباقين ومن خلال القاء نظرة سريعة على الساحة الفكرية التي غطتها مدة حياتهم لاستقراء طبيعة جهد كل منهم نلتقط بعض الشذرات من ملامح دورهم.

واول ما يتجلى ذلك في خصوصية الدور الكبير الذي اداه الامام الحسن الزكي (عليه السلام)(ت 50 هجرية )حيث سار على نهج ابيه(عليه السلام)في حمل راية الامامة بكل ما احتملته من مهام جليلة كان اهمها الحفاظ على مسيرة الاسلام العظيم وتثبيت ركائز العقيدة في فترة حالكة شهدت احداثا جليلة استدعت منه تلك الوقفة التي حفظت بيضة الاسلام.

فقد كانت له (عليه السلام)مواقف في الدفاع عن العقيدة تركت اثرا كبيرا في صياغة المنظور الاسلامي عموما والامامي على وجه الخصوص والذي يقوم على استجلاء

ص: 49


1- انظر: العلامة الحلي الالفين في امامة امير المؤمنين 389 علام (بتصرف)

المعاني الواقعية للنص القراني والنبوي باستنطاقهما ليبوحا بما حملاه من ابعاد ذلك المنظور المتكامل المعصوم.

واكثر مانجد مصاديق ذلك فيما ورد عنه(عليه السلام)من المناظرات والمحاججات التي تناولت - بمساحة كبيرة - اغلب مباحث العقيدة وجوانبها وخصت اصل الامامة واثباتها والنص عليها وبيان احقيتهم إلا بها (1)، مع تعرية سائر مدعيات السلطة ومزاعمها في شرعيّة تصدّيها لخلافة الرسول وتفنيدها.

وقد حفلت المجاميع الحديثة وكتب العقيدة عند الامامية بالكثير من هذه النصوص الواردة عنه(عليه السلام)والتي شكلت رصيدا تمثله متكلموا الامامية فيما بعد مع ماورد عن باقي الائمة (عليهم السلام)، واسسوا في ضوئه ركائز المنظومة الدفاعية المتكاملة لعقائد الإسلام من وجهة نظر حماته (أهل البيت ايلام ) .

واستكمالاً لهذا الدور، نجد ان الإمام الحسين بن علي(عليه السلام)(استشهد : 61 ه_) قد أسس الإمامة، ودافع عن مفاهيمها وضوابطها ورتبتها في المنظومة الإسلامية وموقعها الرفيع بكونها أصلاً من أصول الدين ولم تكن مجرد منصب سياسي، ولا الموقف تجاهها سياسياً وانما كانت عنده مسؤولية للامام تجاه الله يتولاها بالنص؛ ولذلك فهو حين لم يبايع يزيد، فلأنه يرى انه في ظل دولة يقوم نظامها السياسي على أسس دينية فلا تعد البيعة أو انتخاب الحاكم مجرد عمل سياسي وان بيعة وأن بيعة رجل معلن للفسق والفجور إنّما هي انحراف عن أصل من أصول الدين، الأمر الذي صرح به بعض كتاب العامة أنفسهم (2).

وانطلاقا من هذا الأصل بالذات وهو من اهم ركائز المنهج العقائدي عند الإمامية

ص: 50


1- انظر للتفصيل الاحتجاج 1: 395 - 420، 2 133:، الصدوق التوحيد ص 45، 184، 230 ، 307، 378 - 383 وكذلك الكليني: الكافي (الاصول)، المرتضى: الشافي العلامة الحلي الالفين في مواضع كثيرة منها.
2- ظ :احمد محمود صبحي: نظرية الامامة 322 .

كانت ثورته ضد الحكم الاموي قضية ومبدأ دينيا( يتصل بالدعوة والعقيدة اكثر مما يتصل بالسياسة والحرب. ذلك أن معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب بل يايدلوجية تمس العقيدة في الصميم) (1) فقد حاول الحكم الأموي أن يرسخ نظرية في القضاء والقدر تتقاطع مع ركائز العقيدة الإسلامية وتناقض القرآن، وتنسب انحرافات الحكام إلى قضاء إلهي وتمثيل بشري لإرادة السماء، وهي قضية تمثلت في سيادة عقيدة الجبر، وأن الخليفة ظل الله في الأرض والمنفذ لإرادته، وهو ما عبر عنه بالتفويض الإلهي الذي بنت عليه الدولة الأموية سياستها، مستهينةً بكتاب الله عزّوجلّ، وسنة رسوله (صلی الله علیه وآله وسلم)حتى تحوّل المبدأ الإسلامي في الحاكمية السياسية إلى قيصرية وراثية لا تحدها الضوابط الدينية الروحية التي تمثل أهم ركائز الأهلية للحاكم في المنظور الإسلامي.

من هنا حاول معاوية الباغي الطليق التملص من جنايته على الإسلام والمسلمين باختياره ولده الفاسق الملعون للسلطة من بعده تحت ذريعة القضاء والقدر من الله تعالى وأنّه - بزعمه - ليس للعباد خيرة في أمرهم .

وهكذا كادت أن تترسّخ نظرية التفويض الإلهي للحاكم بغض النظر عما إذا كانت مسيرته في طاعة الله أو سخطه وكأنه قضاء حتمي على العباد وهي تحولات دراماتيكية في مسيرة العقيدة الإسلامية، كانت لها آثار مدمرة في الواقع العقائدي والسياسي فيما بعد.

وقد كانت حاجة الإسلام الملحة في ظل تلك التطورات السياسية المتلاحقة إلى كلمة (لا)، ولم يكن أحد ليسبق سبط الرسول الأعظم (صلی الله علیه وآله وسلم)إليها في ذلك الحين، فكانت ثورته عليه السلام تصحيحا للمسيرة وترسيخا لمفاهيم الدعوة الإسلامية الصحيحة، وتأسيسا لأصول الموقف المبدئي من قضية الإمامة (الخلافة) ومعايير النظر إليها،

ص: 51


1- المصدر نفسه.

ودفاعا عن الحق الديني وليس الشخصي في اختصاص الإمام (عليه السلام)بالنص الإلهي بطريق النص من النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ، ثم نص الأئمة اللامم السابق منهم على اللاحق.

وكان لاستشهاده(عليه السلام)في سبيل هذا المبدأ ثمار جليلة من اهمها انه مثل (نقطة تحول في التفكير السني من حيث استنكار جمهور اهل السنة موالاة خلفاء الجور وانتهوا الى اعتبار الخلافة الدينية منتهية بتنازل الإمام الحسن(عليه السلام)(1)

ونلاحظ ان الخط الفكري لولده الإمام علي بن الحسين(عليه السلام): (ت: 95ه_) قد طبع بطابع الدعاء (2) ، كمجال اعتمده الإمام لبثَّ الدعوة الاسلامية فالصحيفة السجادية التي ضمت ماورد عنه (عليه السلام):من ادعية حملت الكثير من المفاهيم القرآنية وجلّت الأصول العقائدية واسست لمنهج فكري ينطلق من تحقيق الصلة مع الله تعالى كاساس لبناء عقيدة قوية تضع الانسان على آفاق بناء النظام الاسلامي الاجتماعي والتعبدي والعقائدي الذي أسس القرآن الكريم والسنة الشريفة ركائزه الأولى(3)، ثم انطلق الخط الفكري عند الإمام الباقر محمد بن علي بن الحسين(عليه السلام): (ت: 114ه_) من دور التوجه الى التوسع في بث العلوم والمعارف حتى لنلاحظ ان ممارسته لامامته اكثر ماتبرز من(كثرة روايته الاحاديث عن الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) و عن آبائه الام وبث العلوم والمعارف بكل وسيلة بحيث شكل ذلك مصداقاً جليا للروايات المشهورة في تلقيب الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) له بالباقر (4) وهو وصف صار خاصا به(عليه السلام): حتى لا يطلق الاوينصرف

ص: 52


1- نظرية الإمامة 348 و وأما ترضي فرقة الوهابية على يزيد الفاسق الملعون لعنة الله عليه، وعدهم له خليفة مفترى عليه! فلا يضر أهل السنّة أصلاً، لأنّ الوهابية المبتدعة ليسوا من أهل السنّة، بل شرذمة مبتدعة مكفّرة لأهل السنّة، مقتدية بذلك بضلالة ابن تيمية ونصبه وبغضه لأمير المؤمنين عليّ وأهل بيته عليهم السلام.
2- ظ : المصدر نفسه 350 محمد الخليلي امالي الإمام الصادق : 153 مطبعة النعمان / النجف 1965م - 1384 ه_.
3- انظر الصحيفة السجادية وقد طبعت عدة طبعات وتحوي 54 دعاء في مختلف الاغراض.
4- من رواية طويلة ان جابر بن عبد الله الانصاري( كان يقعد في مجلس رسول الله عليها والله.. وكان ينادي ياباقر العلم ياباقر العلم. فكان اهل المدينة يقولون جابر يهجر. وكان يقول والله ما اهجر ولكن سمعت رسول الله بها الله يقول ستدرك رجلا مني اسمه اسمي وشمائله شمائلي يبقر العلم بقرا فذاك الذي دعاني الى ما اقول )انظر اصول الكافي :1: 469 المفيد: الارشاد .294 المطبعة الحيدرية، نجف ط1392،2، 1972م. وروى قريباً منه اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي 2: 320 .

الذهن اليه وحده -كما تعارف اهل اللغة فنجدهم في تعريفهم البَقْرُ انه شق العلم والتوسع فيه واستنباط فروعه وانه لذلك سمي محمد بن علي بالباقر(1) فقد اثرت عنه (عليه السلام): علوم ومعارف في شتى المجالات الفكرية الاسلامية.

قال الشيخ المفيد: روى أبو جعفر (عليه السلام)أخبار المبتدأ، وأخبار الأنبياء، وكتب عنه الناس المغازي، وأثروا عنه ،السنن واعتمدوا عليه في مناسك الحج التي رواها عن رسول الله له وكتبوا عنه تفسير القرآن وروت عنه الخاصة والعامة الأخبار، وناظر من كان يرد عليه من أهل الآراء، وحفظ عنه الناس كثيراً من علم الكلام)(2) .

حتى قيل (لم يظهر عن احد من اولاد الحسن والحسين عليهما السلام من العلوم ماظهر منه من التفسير والكلام والفتيا) (3).

وكان (عليه السلام): إذا ما قال: قال رسول الله ) لا يُسأل عن الواسطة بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله تصديقاً لقوله وإذعاناً من سامعيه بأنه عليه السلام لا يقول إلا حقاً وصدقاً عن آبائه الأطهار(عليهم السلام)، عن رسول الله وقد صرّح بهذا سالم بن أبي حفصة حين دخل على الإمام الصادق(عليه السلام): بعد وفاة أبيه الإمام الباقر(عليه السلام): ، فقال: (إنا لله وإنا إليه راجعون ذهب والله من كان يقول : قال رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، فلا يُسأل عما بينه وبين رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) ، لا والله لا يُرى مثله أبداً ..) (4)

ويعد تولي الإمام جعفر الصادق(عليه السلام):(ت: 148ه_ ) الإمامة بعد ابيه الامام

ص: 53


1- انظر مثلا الازهري تهذيب اللغة 9: 136 ابن منظور لسان العرب ،5 :140 الفيروز ابادي: القاموس المحيط 375:1 .
2- المفيد / الإرشاد 2: 163 .
3- المجلسي: البحار 11: 84.
4- الشيخ المفيد / الأمالي 354 / 7 مجلس42، والشيخ الطوسي / الأمالي: 125 / 195(1) مجلس (5).

الباقر مرحلة تاريخية فاصلة وحاسمة طبعت المذهب بطابعها في جميع المجالات الفكرية، وكان لطبيعة عصره كونه مرحلة انتقال السلطة من الامويين الى العباسيين ان فسح امامه المجال واسعا لترسيخ أسس الفكر الإمامي وأن يتوسع في جهده العلمي وعطائه الفكري فتوزعت اهتماماته على شتى العلوم الدينية وتناولت العلوم الاخرى كالكيمياء والفلك والرياضيات .

وقد استقل(عليه السلام): بالإمامة مدة اربعة وثلاثين سنة 148114ه_) كانت لها اهمية كبيرة في وضوح اثره البارز في فكر الإمامية وتبين ذلك بوضوح تام في منهجه الفكري القائم على اساس المحافظة على العقيدة الاسلامية في وجه تيارات الالحاد والزندقة التي سادت عصره، وموقفه من الحِجاج والمناظرة مع اتباع الفرق الاسلامية الاخرى (1).

وكان لمنهجه اثره الواضح في تشكيل منهج الإمامية الكلامي والتفسيري، ويظهر اثر ذلك بوضوح من كثرة تلامذته الذين عدوا بأربعة الاف (2).

وقد نسب اليه تفسير للقرآن (3) وجمع وجمع تلميذه

(المفضل) مجالسه واماليه التي ضمنها اراءكلامية مهمة تناولت شتى مفاهيم العقيدة (4). كما رويت عنه كما رويت عنهأحاديث كثيرة في جميع العلوم الإسلامية.

وصارت للامام الصادق(عليه السلام)بسعة علمه وكثرة الآخذ عنه مدرسة بل جامعة اسلامية كبرى انتشرت اثارها في ارجاء العالم الاسلامي وشكل اتباعها الكثير من الملامح الفكرية الاسلامية تفسيراً وفقها وكلاما .

ص: 54


1- نظرية الإمامة: 362 ، عبد الله فياض تاريخ الإمامية ص 150.
2- ظ: المفيد: الارشاد 249 .
3- ظ: بروکلمان تاریخ الادب العربي 4: 119 .
4- ظ: محمد الخليلي: امالي الإمام الصادق(عليه السلام)خصوصاً الجزء الرابع منها.

وهؤلاء الأئمة الثلاثة علي بن الحسين ومحمد الباقر وجعفر الصادق(عليه السلام) : ارتبطوا بالقرآن بعلاقة وطيدة وتصدوا لتفسيره وكشف معانيه وشكلوا قوام مدرسة الكوفة في تفسير القرآن (1).

كما ان تلامذة كل من الإمامين الباقر والصادق(عليهم السلام)يمثلون الاتجاه النصي في مدرسة الكوفة في التفسير التي كان لها أثر واضح في ظهور مؤلفات عديدة في تفسير القرآن الكريم (2).

تولى الإمامة بعد الصادق السلام : ستة ائمة هم ولده موسى الكاظم (ت: 183ه_) ثم علي بن موسی الرضا(عليه السلام) (ت: 203 ه_) ثم محمد الجواد (عليه السلام)(ت: 219 ه_ ) ثم ابنه علي الهادي ( ت : 254ه_) ثم ابنه الحسن العسكري (عليه السلام)(ت: 260 ه_ ) ثم ولده الإمام المنتظر المولود عام 255 ه_. وهو عليه السلام الإمام الموعود المنتظرالمبشر بظهوره في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلئت ظلما وجوراً.

وقد قام كل واحد منهم (عليهم السلام)بدوره الرسالي في حماية الإسلام وتعميق حركته في وجدان الأمة، وحماية الرسالة من حالات التردّي بالوقوف في وجه التيارات الفكرية المنحرفة بما لا يتّسع الحديث عنهم عليهم السلام بأكثر من ذلك، سيما وقد تصدّت موسوعة بحار الأنوار إلى جمع ما أثر عن كلّ واحد منهم عليهم السلام على هذا الصعيد، فكانت عدة مجلدات.

إنّ في تنوّع أدوار وسيرة الأئمة الإثني عشر، بدءاً من أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) : وانتهاءً بالإمام الحجة بن الحسن العسكري عجل الله تعالى فرجه الشريف؛ وبحسب طبيعة واختلاف المرحلة والظروف السياسية المحيطة بكلّ واحد منهم ما يزيل

ص: 55


1- ظ: د. محمد حسين الصغير (مدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم )بحث منشور في مجلة المورد عدد3 سنة 1988م عدد خاص بالدراسات القرآنية ص95 .
2- المصدر السابق نفسه 95.

الرتابة عن تلك المسيرة المشرقة ويجعلها تتواصل مع مختلف المواقف والظروف نحو هدف أسمى وهم مشترك، ذلك هو حفظ الكتاب الكريم، وسنّة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وطلب الاصلاح وهداية الخلق إلى الحق.

وسوف تتضح لنا - إن شاء الله تعالى - ملامح الدور الكبير الذي مارسه الأئمة عليهم السلام في تفسير القرآن وبيان أصول العقيدة انطلاقاً منه، ومن ثم تأسيس أصول المنهج الإمامي في فهم النص القرآني.

المبحث الثاني: ضوابط التعامل مع النص القرآني عند الأئمة

من خلال متابعة تصدي الأئمة (عليهم السلام)لتفسير النص، وتجلية معانية، وبيان مفاهيمه وفك اسرار متشابهه كونهم الراسخين في العلم الكاشفين عن النص المستنطقين له كما هو مدلول الروايات - من خلال ذلك كله نجدهم(عليه السلام)يضعون جملة من الضوابط المهمة تُؤسس عليها أصول النظر الى النص القرآني ثم محاولة فهمه وتفسير نصوصه.

ولما كانوا(عليه السلام)عدل القرآن والناطقين عنه والمتلقين علمه عن النبي أو بالالهام فانهم انما يفهمون النص ويكشفون عن معناه بتلك الهبة القدسية وهم ممن يؤسسون ويؤصلون منهج فهمه، فان هدفهم من ذلك هو:

اولا: ان يواكب النص العقل الانساني في حركته، ويتصاعد معه في ترقياته.

ثانيا: الكشف عن السبل والدلالات التي يرسمها القرآن في اضاءة الطريق والنهوض بمهمة البيان.

3 - تسهيل ولوج هذا الطريق وصولا الى تحقيق الهدف من النزول؛ لأن الخطاب

ص: 56

وإن كان المخاطب به، والمسؤول عن تبيينه هو النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)ومن يقوم - بأمره - مقامه؛ إلا إنّه يجب على الأمة تدبّره، فهو عام من جهة إلزام الأمة به، ولا يختص سبب نزوله یمورده ،أمّا اختلاف الناس في مراتبههم تجاهه، فسبب :

1 - اختلافهم في الطرق الحاكية للتبيين النبوي مع توسعة العامة دائرة الحجية لتشمل أقوال من ليس بمعصوم.

2 - تفاوتهم في القدرة على فهم النص القرآني.

3 - اختلافهم في الزاوية التي يسقطون منها نظرهم إلى النص.

4 - اختلاف وسائلهم المستعملة في فك مغاليقه.

رابعا: الاختلاف في الغاية التي تكون منطلقاً في تصديهم لمحاولة فهمه وكشف دلالاته اذ كثيراماتكون تلك الغاية محركاً الى النظرة الموضوعية للنص بعيدا عن التعصب والتأويل المتعسف مثلما يمكن ان تكون تلك الغاية ايضاً سبباً في تحميل النص مالا يحتمله وجره الى مالا صلة له ،به أو مط المفاهيم وتفكيك السياقات والوحدة الموضوعية في النص لفتح ثغرات تلغى من خلالها المفاهيم الخاصة بالمتصدي للفهم وبالتالي يؤدي ذلك كله الى اضعاف نسيج النص بما يخرج فهم المتصدي عن ايقاع مسيرة النص ومن ثمّ مسيرة العقل والوصول به الى المنطقة الآمنة التي تتجمع عندها الامكانات التي يحملها النص في القدرة على تغيير الواقع ورسم ملامح المسيرة الانسانية.

كان هذا كله هو المحور الذي دارت حوله الضوابط التي رسخها الأئمة للمتصدي لتكون دلالات وعلامات في مسيرة حركة النص، ومن ثمّ مسيرة المفسر والمستفهم ولتمثل عوامل تمنع الخروج عن حدود الطريق الذي يرسمه النص القرآني اولا ثم هي مانعة من تخلف الفهم في مسيرته بعيدا عن النص وحركته ثانيا، اذ تبث فيه

ص: 57

ديناميكية وطاقة دافعة دائماً الى محاولة اللحاق بالنص لاستكناه کوامنه واستكشاف وتدبر مفاهيمه ومن ثمّ انعكاس هذه الفعالية في تلمس ما في النص من القدرة ليس على مسايرة الزمن ،حسب وانما سبق كل حدود متصورة للبعد الزمني الذي هو فيه ،واحاطته باية ابعاد للتطور يمكن ان يتوافر عليها ذلك الزمن المعين، بل تؤشر هيمنة النص واحتوائه لكل خط نهاية متصور يمكن ان يقف عنده العقل البشري وقدرته المزود بها. فللنص القدرة على الانطلاق بعيدا عن كل خط نهاية لأنه تبيان لكل شي

ولان علاقته مع الزمن هي علاقة البعد المفتوح .

وهذا الاحتواء والاحاطة عجز العقل البشري حتى اليوم عن استكمال ولو تصور جوانبه واستبيان احتمالاته وامكاناته فضلا عن مسايرته ومن ثم فسيبقى العقل البشري المحدود متخلفا عن الوصول الى استكناه وتفصيل كل ما يحمله النص من (تكثيف )دلالات وتركيز مفاهيم مالم يستهد بهذه الضوابط التي تزوده بآليات وضعها العقل المعصوم الذي خص بالقدرة على استنطاق النص وبدونها فان ذلك العقل المحدود سيعجز عن مجرد القدرة على الارتقاء الى مستوى التدبر المثمر المندوب اليه في النص وهو اقصى ما يستطيعه - وسنقف عند هذا التفاوت بينهما في قضية الظاهر والباطن في النص - بما يستلزم من المحدود التبعية للمعصوم والاستهداء به في ما يؤسسه من أصول النظر الى النص وهذا ما سيجعلنا نخوض عميقا في الروايات الواردة عن الأئمة من اهل البيت (عليهم السلام)في تاسيس الضوابط والاليات لفهم النص من بيانهم لها مباشرة كضوابط أو بانتزاعها من تطبيقهم لها عند تفسيرهم للنص، أو عند اقتباسهم النص في مجال الاستدلال به للكشف عن ملحظ عقيدي أو تفصيل اصل من أصول الدين وبما ان البحث بازاء تحديد هذه الضوابط بدقة يتحكم بها الاطار البياني المروي عن المعصوم فسيبتعد الباحث عن التنظير والاجتهاد الخاص على الأصل ويكتفي - قدر الامكان - بتلقي انعكاساته التي تبرق في الذهن مع محدودية القدرة

ص: 58

الشخصية للتعبير عنها أو في تلقيها. وهذه الضوابط يمكن اجمالها بالآتي:

أولا: تعيين حدود النظر الى النص وقيمته الذاتية

ويقوم ذلك على تصور الطاقات المفتوحة للنص والاحاطة بطبيعة ما يحمله من خصائص كامنة وظاهرة لايمكن - في حدود زمن معين - تصورها تفصيليا لان ذلك أمر يكشف عنه في ضوء تراكم فاعلية العقل البشري وامكاناته الموضوعية ازاء النص وان كان تصور ذلك ممكنا اجماليا في اطار الاستضاءة بما يُعرّف النص به نفسه كونه﴿ تبيَنَا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ (النحل/89).

وهذا ما شدد اهل البيت(عليهم السلام)الاشارة اليه ورسموا لسبيل التفسير دلالة مهمة يجب ان لا تتخطى هذه الحقيقة وهو ما نلمسه جليا من بعض الروايات المنقولة عنهم (عليه السلام).

من ذلك مارواه عمر بن قيس الماصر، عن الإمام الباقر(عليه السلام) : انه قال (ان الله لم يدع شيئا تحتاج اليه الامة الى يوم القيامة الا انزله في كتابه وبينه لرسوله وجعل لكل شيء حدا وجعل عليه دليلا يدل عليه)(1) .

وعن سليمان بن هارون قال: (سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول : ما خلق الله حلالاً ولا حراماً إلا وله حد كحد الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق، وما كان من الدار فهو من الدار حتّى أرش الخدش ممّا سواه، والجلدة ونصف الجلدة) (2)

وعن سماعة، عن أبي الحسن موسى(عليه السلام)قال: قلت له: أكلّ شيء في كتاب الله وسنّة نبيه (صلی الله علیه وآله وسلم)، أو تقولون فيه ؟ قال : بل كلّ شيء في كتاب الله وسنة نبيه (صلی الله علیه وآله وسلم)) (3) .

ص: 59


1- ظ: ابو جعفر محمد بن الحسن الفروخ الصفار بصائر الدرجات 1: 6 طبع طهران (د. ت)
2- أصول الكافي 1: 3/59 باب الردّ إلى الكتاب والسنّة من كتاب فضل العلم.
3- أصول الكافي 1: 62 / 10 من الباب السابق.

ويستنتج من هذا أنّ عدم وقوف المتصدّي لعملية التفسير على جملة من الموضوعات والأحداث والمعارف والعقائد في الكتاب الكريم أو السنة المطهرة، لا يعني أبداً خلوّهما عن ذلك بقدر ما يعنيه قصور فهم المتصدّي وقلة بضاعته وضعف استعداده لعملية استنباط ذلك منهما؛ لأنّ في الكتاب العزيز خصوصاً والسنة الشريفة عموماً إشارات وتنبيهات وتلويحات كثيرة لم يهتد إليها إلا أهل البيت عليهم السلام في تشخيص معارف الدين وعقائده التي لم يصل كثير منها إلى أيدي الناس، لأنّ اکتناه رموز الكتاب ومعرفة إشاراته وتلويحاته والعلم بأسراره وظواهره وبواطنه والإحاطة التامة بالسنة النبوية والوقوف على جميع تفاصيلها إنّما هو من خصائص العترة عليهم السلام التي لا يشاركهم فيها أحد بمقتضى اصطفائهم الثابت قرآناً وسنة.

ويؤكد أهل البيت مصدرية القرآن للتأصيل في تحديد دقيق لوجه الحق بين كل مختلفين فيه بإرجاعهما الى واقع ماعليه القرآن في تأصيله الأصول وامهات المسائل وان لم يخض في التفصيل والتفريع في كل شؤونها.

روى المعلى بن خنيس قال: (قال أبو عبد الله(عليه السلام) : ما من أمر يختلف فيه إثنان إلا وله أصل في كتاب الله عزّوجلّ، ولكن لا تبلغه عقول الرجال) (1).

وروى حماد، عن أبي عبد الله(عليه السلام): قال: (سمعته يقول: ما من شيء إلا وفيه كتاب أو سنة) (2).

ومهمة التفريع وانتزاع الجزئيات تبقى مهمة الفهم المتصدي الذي يتفاوت كما اسلفنا، ونجده في اعلى حدوده وامكاناته يتمثل عند الأئمة الهلام في ما يصوره الأئمة بأقوالهم.

ص: 60


1- ظ: البرقي( الشيخ ابو جعفر محمد بن خالد المحاسن 267 دار الكتب الاسلامية. طهران.
2- أصول الكافي1 :4/59 باب الردّ إلى الكتاب والسنة من كتاب فضل العلم.

ففي الصحيح عن عبد الأعلى بن أعين الثقة قال : (سمعت أبا عبد الله(عليه السلام)يقول: قد ولدني رسول الله صلى الله عليه وآله، وأنا أعلم كتاب الله، وفيه بدء الخلق، وما هو كائن إلى يوم القيامة، وفيه خبر السماء وخبر الأرض وخبر الجنّة وخبر النار، وخبر ما كان وما هو كائن أعلم ذلك كما أنظر إلى كفّي إنّ الله يقول: فيه تبيان كلّ شيء) (1)

وقال(عليه السلام) : أيضاً (2)(اني اعلم ما في السموات وما في الارض واعلم ما في الجنة واعلم ما في النار، واعلم ماكان ومايكون ثم مكث هنيئة فرأى ان ذلك كبر على من سمعه فقال: علمت ذلك من كتاب الله عز وجل ان الله يقول عز وجل ان الله يقول ﴿تِبْيَنَا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾(النحل/89).

وقال (عليه السلام):لإسماعيل بن جابر( كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم ،وفصل ما بينكم ونحن نعلمه )(3).

وكان الإمام الباقر(عليه السلام) : يقول لأصحابه : (إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله)(4)

وهذا هو قول الواثق بعلمه العارف بالقرآن الكريم حقّ معرفته، وهو نظير قول أمير المؤمنين(عليه السلام):المتواتر:(سلوني قبل أن تفقدوني..) الذي لم يقله أحد من الصحابة قطّ غير أمير المؤمنين عليه السلام، وهو ما صرح به ابن عبد البر القرطبي المالكي في الاستيعاب عن جماعة من الرواة والمحدّثين، وكذلك ابن شبرمة القاضي المشهور، وعبد الرحمن بن أبي ليلى(5)، وقد تواتر ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام إذ رواه ثلاثة

ص: 61


1- أصول الكافي 1 8/61 من الباب السابق.
2- الكافي (الاصول 1 :261 ، البحار ج 92 ص 85 المكتبة الاسلامية / طهران 1387 ه_ .
3- أصول الكافي 1: 61 / 9 باب الردّ إلى الكتاب والسنّة وأنّه ليس شيء من الحلال والحرام وجميع ما يحتاج الناس إليه إلا وقد جاء فيه كتاب أو سنة من كتاب فضل العلم.
4- أصول الكافي 1: 5/60 من الباب السابق.
5- انظر: ابن أبي الحديد المعتزلي / شرح نهج البلاغة ،2 ،286 والقاضي النعمان / شرح الأخبار 2: 311.

من ولده الأطهار عليهم السلام وهم: الإمام علي بن الحسين زين العابدين (عليه السلام): (1) والإمام أبو جعفر محمد ابن علي الباقر (عليه السلام): (2)، والإمام أبو عبد الله جعفر بن م محمد الصادق (عليه السلام): (3).

كما رواه جماعة عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، وهم:

أبو الطفيل عامر بن واثلة الكناني الصحابي (4)، وأبو المعتمر(5) ، والأصبغ بن نباتة (6)، وجارية بن قدامة السعدي (7)،وزر بن حبيش (8)، وسليم بن قيس الهلالي(9)، وعباية بن رفاعة (10)، وعبد الرحمن بن أبي ليلى(11)، وعطاء بن ربعي (12)،وعدي بن حاتم الطائي(13)، وعلقمة بن قيس(14)، وعُمير بن عبد الله (15)، وكميل بن

ص: 62


1- الصفار / بصائر الدرجات: 317 / 6 باب ،13، والعياشي / تفسير العياشي 2: 282 / 22، والصدوق / التوحيد: 305 / 1 باب (43).
2- الصدوق / التوحيد 92 / 6 باب 4 ،والشريف الرضي / خصائص الأئمة: 62 ، والطبرسي / مجمع البيان 10: 489، وابن أبي الحديد المعتزلي / شرح نهج البلاغة 2: 286.
3- الشيخ المفيد / الاختصاص: 248 ، والشيخ حسن بن سليمان الحلي / مختصر بصائر الدرجات: 198.
4- الحاكم النيسابوري / المستدرك على الصحيحين 2 352 ،وصححه، وابن عساكر / تاریخ مدينة دمشق 17: 335 ،و397:42 .
5- أخرجه ابن النجار كما في كنز العمال للمتقي الهندي الحنفي 13: 165 / 36502.
6- الصفار / بصائر الدرجات 2: 319 / 13 باب ،13 والصدوق / الأمالي : 196 / 207 (1) مجلس (28)، و: 422 / 560 (1) مجلس (55) ، والشيخ المفيد / الإرشاد :1: 33 والاختصاص 2 235 و 279 ، والطبرسي / الاحتجاج 1: 184.والسيد ابن طاوس / اليقين ،489 والفتّال النيسابوري / روضة الواعظين: 118 .
7- رواه ابن النجار كما في كنز العمال للمتقي الهندي الحنفي 13: 165 / 36502.
8- ابن شهر آشوب / مناقب آل أبي طالب 1: 317 .
9- فرات الكوفي / تفسير فرات الكوفي: 67 - 68 / 38 ، ورواه سليم في كتابه المعروف ب_ کتاب سلیم: 331 .
10- مناقب آل أبي طالب 1: 317.
11- الثقفى / الغارات 1 :7 .
12- بصائر الدرجات: 287 / 10 باب 2.
13- مناقب آل أبي طالب 1: 317.
14- المصدر نفسه 1: 317.
15- ابن عساكر / تاريخ مدينة دمشق 42 / 400.

زياد النخعي(1)، ومسلم بن أوس(2)والنزال بن سبرة (3)، ويحيى بن أُمّ الطويل(4) وعن علي بن النعمان أنّ رجلاً دخل على الصادق(عليه السلام): وسأله عن قول أميرالمؤمنين عليه السلام: (سلوني قبل أن تفقدوني .. فقال(عليه السلام) : (فإنّ هذا حق) (5).

وقال ابن أبي الحكم :(سمعت مشيختنا وعلماءنا يقولون: خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(عليه السلام) ، فقال في خطبته سلوني قبل أن تفقدوني ..)(6).

ورواه مرسلاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام): ابن شبرمة القاضي (7).

والأعمش سليمان بن مهران (8)، وعبيد السمين (9)، وهشام بن سالم الجواليقي(10).

جدير بالذكر أنّه صح عن صالح بن أبي الأسود عن الإمام الصادق(عليه السلام) ، قال :(سلوني قبل أن تفقدوني، فإنّه لا يحدّثكم أحد بعدي بمثل حديثي)(11)؛ لأنّه حديث العالم بجميع ما في كتاب الله عزّوجلّ، فلا يضاده في شيء يقوله أو يفعله.

هذه الطاقات والشمولية الكامنة في النص القرآني هي خصائص ذاتية له

ص: 63


1- الإسكافي المعتزلي / المعيار والموازنة 82 .
2- أخرجه ابن النجار كما في كنز العمال للمتقي الهندي الحنفي 13 165 / 36502.
3- القطب الراوندي / الخرائج و الجرائح :3: 1333/ 53 ، والشيخ حسن بن سليمان الحلي / مختصر بصائر الدرجات: 30.
4- مناقب آل أبي طالب 1 :317 .
5- بصائر الدرجات: 316 / 1 باب 13.
6- الشيخ المفيد / الإرشاد 1 ،330 ومناقب آل أبي طالب 2: 105.
7- القاضي النعمان / شرح الأخبار 2: 311.
8- القاضي النعمان / شرح الأخبار 1: 196.
9- ابن قولویه / كامل الزيارات: 155/ 16191 باب (23).
10- بصائر الدرجات: 287 / 7 باب (2) .
11- جماعة من أصحاب الأئمة عليهم السلام / الأصول الستة عشر : 76 والقاضي النعمان / شرح الأخبار 3: 292 - 293/ 1200 ، ورواه من العامّة المزّي في تهذيب الكمال 5: 78 في ترجمة الإمام الصادق عليه السلام برقم 950 ومثله الذهبي في سير أعلام النبلاء 6 :257 (117) ، وكذلك في تذكرة الحفاظ 1: 166 / 162 (9).

ميزته عن غيره من الكتب السماوية لذا ترى الإمام الباقر(عليه السلام): يقارن القرآن في مطلقيته مع الكتب الاخرى في نسبيتها، فيقول في ما نقله العياشي (قال الله الموسى(عليه السلام) :﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ ﴾ (الاعراف/145)، فعلمنا انه لم يكتب لموسى(عليه السلام): الشيء كله، وقال الله العيسى(عليه السلام): ﴿وَلأُبَيّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ﴾ (الزخرف (63) وقال لمحمد (صلی الله علیه وآله وسلم)﴿وَجِتْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَنَا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ (النحل/89) (1).

وترتبط هذه الشمولية والاحاطة باهم خصائص الرسالة الاسلامية في كونها خاتمة الرسالات وهي - بناء على ذلك - من لوازم الخاتمية في كونها كمال الدين الالهي المنزل الى العباد في استنفاد لكل محتملات الحاجة الانسانية التي ينبغي للنص تغطيتها وهذا المعنى هو ما عبر عنه الإمام الصادق في ما روى عنه: (ان الله انزل القرآن تبيان كل شيء حتى والله ماترك شيئا يحتاج العباد اليه الا بينه للناس حتى لايستطيع عبد يقول : لو كان هذا في القرآن الا انزل الله فيه )(2)وهذا ما اكده القرآن لنفسه في آخر مانزل منه خاتما الوحي الالهي في آخر ما يتضمنه بقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾(المائدة/3).

ان هذه الشمولية في النص تستلزم من المتصدي - لتفسيره كما يوحي به الأئمة(عليهم السلام)- ان يرتقي بفهمه الى مستوى استكناه الآفاق المفتوحة للنص بما يحقق کشف مالم يكشف بعد.

ص: 64


1- تفسير العياشي: 2: 266 .
2- المجلسي البحار :92 ،85 انظر ايضا الرواية المؤكدة لهذه عن الإمام الرضا (ع) : ( ان الله عز وجل لم يقبض نبينا الالالالالاله حتى اكمل له الدين وانزل عليه القرآن فيه تبيان كل شيء بين فيه الحلال والحرام والحدود والاحكام وجميع ما يحتاج اليه الناس كملا وقال عز وجل [ما فرطنا في الكتاب من شيء]. الكافي (الاصول) 1: 198.
ثانيا :مرجعية النص ومركزيته وحاكميته.

ان احاطة النص القرآني وشموليته تقتضي - على سبيل الامر البدهي - ان يكون هذا النص معيارا ومقياسا يحدد بازائه وفي ضوئه كل مايمت الى الاسلام - شريعة أو عقيدة - بصلة فما وافقه أخذ به لأنه وحده الحق والكلمة الناطقة بخطاب الله تعالى والمعبرة عن قوانين الوجود كما مر فيها قوله تعالى:﴿ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَب هُوَ الْحَقُّ ﴾(فاطر/31).

وقال تعالى: ﴿فَإِن نَتَزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ (النساء/59).

وقال تعالى: ﴿ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ﴾ (النحل/64) .

هذه المعيارية اكدها الرسول الكريم (صلی الله علیه وآله وسلم)لكونها دستورية المنظور الاسلامي في مختلف جوانبه بقولهصلی الله علیه وآله وسلم):(ان على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا فما وافق كتاب الله فخذوه وماخالف كتاب الله فدعوه) (1)، فان مايترتب على ذلك هو كامل الاستفادة من الخصائص والاثار المهمة التي توافر عليها النص والتي بينها صلی الله علیه وآله وسلم)قوله (القرآن هدى من الضلالة وتبيان من العمى، واستقالة من العثرة، ونور من الظلمة وضياء من الاحداث وعصمة من الهلكة ورشد من الغواية، وبيان من كل الفتن ،وبلاغ من الدنيا الى الآخرة، وفيه كمال دينكم، وماعدل احد من القرآن الا الى النار )(2).

وبما ان السنة شارحة القرآن وهو الذي وجه المسلمين الى وجوب الرجوع الى النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)فقال تعالى: ﴿وَمَا ءَانَنكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَنكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾ (الحشر/7) .

ص: 65


1- الكافي (الاصول) 1 :69 .
2- الكافي (الاصول) 2: 600 .

فاننا نجد النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) يوصي بالتمسك بالقرآن والاخذ به وعرض الروايات المنقولة عنه (صلی الله علیه وآله وسلم)على كتاب الله.

وان حجب هذه المعيارية - التي يجعلها الأئمة الهلام ضابطا مهما لفهمه - بالغاء شرط موافقة الاحاديث أو ما يستنبط من القرآن يعني ذلك العدول الى ما يؤدي الى النار ويدخل ذلك في خانة الكذب المؤدي اليها وقد كثرت الكذابة على النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وانتشر الوضع والافتراء حتى نبّه (صلی الله علیه وآله وسلم)فقال : ( من كذب علي متعمدا فليتبوء مقعده من النار)(1)، فلابد والحال هذه من مراقبة ماينقل ومحاسبته في ضوء هذه المرجعية وضرب ما خالفها منه عرض الجدار.

وهذا أمر شديد الضرورة تفرضه - فضلاً عن كثرة الكذب والوضع في الاحاديث كثرة الافهام المختلفة الاتجاهات التي تصدت للتعامل مع النص واستجلاء تصورها لملامح العقيدة واصولها وكثر من ثمّ اهل الجدل والتأويل والاراء، وصار كل اهل راي يلجؤون الى النص محاولين تاويله بما يوافق مذاهبهم، فصار لزاما على كل متصد للتفسير ان يحافظ على هذه المعيارية والحاكمية للنص القرآني ثم السنة الصحيحة الصدور وهو ما ينطبق عند الإمامية على مايرد عن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)والأئمة (عليه السلام)، ولهم -أعني الإمامية - في إثبات حجيّة سنة أهل البيت (عليه السلام)وجعلها كسنة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)من هذه الجهة بلا فرق عشرات الأدلّة العقلية والنقلية التي يشاركهم بروايتها سائر

المسلمين.

لذلك نجد ان الأئمة (عليه السلام)في تاسيسهم لمنهج فهم النص يؤكدون هذا الضابط الرئيس بجعل القرآن الكريم معيارا وحاكما على المفسر الخوض على وفق مؤشراته لتحديد حقية مايذهب اليه أو بطلانه.

ص: 66


1- البخاري: ابو عبد الله محمد بن اسماعيل صحيح البخاري 1: 29 كتاب العلم المطبعة الكبرى الاميرية ببولاق مصر 1314 ه_ سنن الترمذي 11: 67 .

وقال بعضهم لأمير المؤمنين(عليه السلام)صف لنا ربك حتى نزداد في توحيده تعالى وصفاته وطريق معرفته فقال : ( مادلك القرآن عليه من صفته فاتبعه ليوصل بينك وبين معرفته وائتم به واستضيء بنور هدايته فانها نعمة وحكمة أوتيتهما فخذ ما أوتيت وكن من الشاكرين ومادلك الشيطان عليه مما ليس في القرآن فارفضه ولافي سنة الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)، وائمة الهدى اثره فَكِلْ علمه الى الله عز وجل فان ذلك منتهى حق الله عليك ) (1).

والمراد ب_ ( ما كلفك الشيطان.. الخ) من قول الإمام(عليه السلام): هو( التوهمات والخيالات الحاصلة في النفس من المعارف فليس لاحد ان يتبعها بل لابد من الاعتقاد بالواقع على ماهو عليه وايكال علم ذلك الى الله تبارك وتعالى والا فيدخل ذلك في اتباع الشيطان واغوائه والتعمق المنهي عنه)

(2)

وعن الإمام الباقر(عليه السلام) : انه قال إذا حدثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب الله)(3).

وورد عن الإمام الرضا(عليه السلام)في اجوبته عن مسائل ابي قرة المحدث وقد سأله في ان الرؤية قسمت لمحمد (صلی الله علیه وآله وسلم)كما قسم التكليم لموسى (عليه السلام): فاكد الإمام(عليه السلام): نفي الرؤية عن الباري تعالى، فكان ان احتج السائل بروايات عن الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) في حقيقة مارأه في المعراج مما تصوره( ابو قرة) تفسيرا لآيات سورة النجم واستدل به لتاكيد حصول رؤية الله تعالى عند النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) فاستنكر الإمام (عليه السلام)تلك الروايات واكد استدلالا بالايات القرآنية استحالة حصول الرؤية فقال ابو قرة فتكذب بالروايات ؟

ص: 67


1- الصدوق التوحيد 55 .
2- السبزواري مواهب الرحمن في تفسير القرآن 5: 59 .
3- الطبرسي: الاحتجاج 2:56 .

قال الإمام (ع) : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبت بها)(1).

أي كذب بها بالمعنى الذي يفهمه منها القائلون بالرؤية البصرية والا فالروايات في حصول الرؤية (القلبية) كثيرة الورود عن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)والأئمة ليلا ، الأمر الذي أيده القرآن الكريم بكل قوة، حيث نفى الرؤية البصرية بقوله تعالى: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الأَبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَرَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ (2) وأثبت الرؤية القلبية بقوله تعالى:﴿ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾(3).

ثالثا :مرجعية النص لنفسه

ان معيارية النص القرآني لغيره تمثل اهلية ذاتية لتمثيل نفسه بنفسه، وهذا ما يمثل ضابطا يشكل اساس منهج تفسيري اصيل هو البدء في الكشف عن النص بما كشفه عن نفسه من تفسير القرآن بالقرآن الذي يقوم على استيضاح معنى الآية من نظيراتها واهلية ذلك مستمدة من التدبر المندوب اليه في الكتاب نفسه قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالُهَا ﴾ (النساء /82) حيث يتم تشخيص المصاديق وتعرفها بالخواص التي تعطيها الايات وذلك لازم قوله تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَبَ تِبْيَنَا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾(النحل/89) اذ كيف يتصور ان يكون القرآن الكريم تبيانا لكل شيء ويعجز عن ان يكون تبيانا لنفسه وكيف يكون هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ونورا مبينا وهم احوج مايكون ان يهديهم اليه ويبين لهم نفسه ويضيء لهم خباياه؟.

ص: 68


1- الصدوق التوحيد 111 .
2- الانعام: 103 .
3- النجم: 11.

وقد جاء (إن القرآن ليصدق بعضه بعضا) (1)ومن مصاديق وتطبيقات هذا التصديق، ان يبين بعضه خبايا بعض والاستمداد ببعضه على كشف بعضه الآخر.

ومما لاشك فيه انه بوجود هذا الطريق الى فهم القرآن من الاهتداء بالبيان الالهي نفسه ينتج ان طريق فهمه غير مسدود وانه لايحتاج الى طريق سواه وان كان هادياً فهل يفتقر الى غيره في الهداية اليه ونحن نلاحظ من الكتاب نفسه ان الله تعالى هو المبين الأول لمراده من كلامه، كما في قوله تعالى:﴿ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ عَايَتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ (سورة البقرة /187).

﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَنتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ (سورة البقرة (219) .

﴿ثمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ (القيامة ( 19 ) .

﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ (آل عمران /7).

وفي هذا الملحظ المهم يرد عن الأئمة(عليه السلام) الكثير من الروايات في ضابطية هذا المنهج واولويته في مصادر تفسير النص القرآني ومنع تجاوزه الى غيره مع وجود البيان فيه والى الاخذ به والتدبر في نصوصه وتحقيق معياريته لقياس صحة أي فهم لنصوصه أو فحص عن صحة المرويات المنقولة عن الأئمة(عليه السلام) في تفسيره كما تبين سابقا.

ونلاحظ انهم في تفسيرهم كثيرا مايستدلون بالآية على اختها ويستشهدون بمعنى على آخر في تفسير النص وهذا بلا شك دال على ان ذلك واقع في نطاق الامكان ويمكن للمخاطب ان يناله ولكن هذا الامر مقيد بوجوب النظر اليه في اطار انه (لم يكن عملا آليا لايقوم على كثير من التدبر والتعقل وليس بالامر الهين الذي يدخل تحت مقدور كل انسان وانما هو امر يعرفه اهل العلم والنظر خاصة) (2) .

ص: 69


1- نقله المتقي الهندي في كنز العمال 1: 619 / 2861 عن الطبراني مرفوعاً، ونقله ابن كثير في تفسير القرآن العظيم 1: 355 عن أحمد بن حنبل من طريق آخر مرفوعاً.
2- الذهبي محمد حسين التفسير والمفسرون 1: 41 .

ولو كان الأمر كذلك لما وجدنا عشرات بل مئات الآراء التفسيرية المتضادة الصادرة من (أهل العلم والنظر خاصة).

نعم، ما ذكره صحيح في الجملة، ولكن لا يمكن الأخذ به على إطلاقه، وإلا لما بقيت هناك ثمة ميزة للمرجعية العلمية التي أشار لها القرآن الكريم بلفظ الراسخون في العلم)، وحدّدتها السنة المطهرة وقيدتها بالقرآن الناطق أمير المؤمنين الإمام عليّ(عليه السلام)وولده(عليه السلام)من بعده، كما يدلّ عليه حديث الثقلين المتواتر بلفظ (كتاب الله وعترتي أهل بيتي).

لذلك فما يستفاد من قيامهم (عليه السلام)بتفسير القرآن بالقرآن وتأصيلهم هذا الضابط المهم ان المتعين في التفسير الاستمداد بالقرآن على فهمه وتفسير الآية بالآية وذلك بالتدرب بالآثار المنقولة عن النبي واهل بيته للام وتهيئة ذوق مكتسب منها ثم الورود والله الهادي)(1)وستكون للبحث وقفة مع بعض مروياتهم(عليه السلام)في تفسير القرآن بالقرآن في مطلب قادم.

رابعا :الموقف من المحكم والمتشابه .

نلاحظ في متابعتنا النص الوارد عن الأئمة(عليهم السلام)لقضية المتشابه انه يستشرف النص القرآني ويستضيء بخطوطه العريضة. ولاسيما ذلك النص الذي أسس للموقف من المتشابه في القرآن آلية الحل والمرجعية التي ينطلق منها الى كشف التشابه وازالته ممثلا في الآية 7 من سورة آل عمران قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ايت تُحكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَةٌ فَأَمَا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشبَه مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّسِحُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ء امَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الأَلْبَب ﴾.

ص: 70


1- الطباطبائي: الميزان 3: 87.

ويمكن تلمس هذا الكشف المتصور للمتشابه عند المعصوم في مرجعيتين :

المرجعية الأولى :المحكم

ونلاحظ هنا ان الكتاب قد سبق الى تاسيس وتحديد الاهلية الكاملة لهذه المرجعية في رفع التشابه فحين نتابع مادة (حكم) التي يعود اليها لفظ (المحكم) نجدها تعني: الشيء الذي حُكِّمَ اصله ومنع منعا بحيث لايمكن نفوذ شيء اليه حتى يفصله) (1) وبالعودة الى القرآن نفسه نجده يؤكد هذا المعنى حين يصف نفسه بانه جميعه کتاب محکم قال تعالى: ﴿الركتَب أَحْكِمَتْ ءَايَتُه ﴾. (هود/2).

كما اننا نلاحظ انه يصف نفسه بان جميعه متشابه بقوله تعالى:﴿ كِتَبًا مُّتَشَبِها مَّثَانِيَ ﴾ (الزمر / (23) .

لكن اية المتشابه في سورة ال عمران تنحى منحى مغايرا تماماً لهذا الإعمام وتبتعد بالوصف الى التعبير عن معنى اخر للتشابه المقصود فتبتعد بالوصف الى اتجاه تاسيسي لاليات الكشف عن النص حيث تقسم اياته الى (محكمات) و (متشابهات) لتشكل العلاقة الحتمية والتظافرية بينهما بلا انفكاك ولتؤكد ان الفصل بينهما يعني اقتطاع النص وتهميش الجزء المهم منه.

هذه العلاقة هي من مرجعية المحكم للمتشابه المعبر عنها في الكتاب ب_ (الامومة). ففي قوله تعالى :﴿ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ يمكن استخلاص المراد منها من خلال متابعة المفردة في القرآن لكشف الدلالة الاصلية لمعنى ام اذ تلاحظ انها ترد فيه بمعنى الأصل وما يرجع اليه الشيء.

لاحظ قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْهَانَّا عَرَبِيًّا لِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ ﴾ (الشورى/7).

ص: 71


1- لسان العرب مادة حكم 12: 134.

وقوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ فِي أُمِ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيُّ حَكِيمُ ﴾ (الزخرف/4) .

وما ينتج من هذا هو ملامح صورة هذه المرجعية في المحكم للمتشابه حين يلجأ اليها في رفع التشابه حيث يتبين بوضوح ان المراد من المحكمات هي الآيات التي تتضمن اصولا قرآنية ثابتة ومسلمة في مقابل المتشابهات التي تبقى مداليلها من دون بیان مالم ترجع الى تلك الأصول الثابتة فالمحكم اذن هو محكم بذاته ومبين بنفسه.

اما المتشابه فيؤول الى الاحكام بعد رده الى المحكم الذي هو الأصل الثابت وهكذا تثبت دلالة الإحكام على النص باكمله فيعود جميعه محكما ويرتفع التشابه الذي ثبت انه وقتي مندفع اولا بمرجعية المحكم له.

هذه الحقيقة المهمة كانت مدارا للفهم المعصومي في طريق الكشف عن التشابه من تاكيدها وبيان اسسها العامة منهجة وتطبيقاً وتاشير ضابطيتها وحاكميتها عند التصدي لكشف دلالات النص القرآني.

وهذا ماتتظافر العديد من الروايات عنهم (عليه السلام)لبيانه المندرج ضمن اتجاهين

1 - روايات كاشفة عن تحديدهم (عليه السلام)للمتشابه.

ونلاحظ هنا العديد من الروايات نكتفي ببعضها، فمن ذلك ماروي عن الإمام الباقر(عليه السلام)انه قال: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ وَايَنتُ تُحكَمْتُ هُنَّ أُمُّ الكِتاب وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتُ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا نَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبَّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَبِ ﴾. فالمنسوخات من المتشابهات والمحكمات من الناسخات ..)(1).

ص: 72


1- العياشي: التفسير 1: 11.

كذلك ماورد في الرواية عن الإمام الصادق في رد المنسوخ الى المتشابه(1).

وفي رواية اخرى اكثر تفصيلا وتحديدا عن أبي بصير، عن الإمام الصادق(عليه السلام) قال: (ان القرآن زاجر وآمر يأمر بالجنة ويزجر عن النار )(2).

أي يأمر بما يوجب الدخول في الجنّة، ويزجر عمّا يوجب الدخول في النار، وهذا في المعنى أمر بامتثال أمره ونهيه والمداومة عليه(3).

وقد أضاف القمي في تفسيره بعد هذه الرواية: (وفيه محكم ومتشابه فاما المحكم فيؤمن به ويعمل به واما المتشابه فيؤمن به ولايعمل به وهو قول الله تعالى ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ ﴾(4)

والنهي عن العمل بالمتشابه هنا نظراً لاجماله الذي يجب معه الرجوع الى المفصل بمقتضى العقل ومن ثم ارجاع المتشابه الى المحكم.

ووصف المنسوخات التي لا يُعلم ناسخها بأنّها من المتشابهات مع كون المتشابه أعمّ من المنسوخ الذي لا يعلم ناسخه؛ إنّما هو بلحاظ كون المنسوخ والمتشابه من باب واحد في حصول الاشتباه بهما بقاءً وثباتاً وأمّا وصف المحكمات بأنّها من الناسخات مع كون المحكم أخصّ من الناسخ من وجه؛ فهو بلحاظ كون المحكم - بالقياس إلى المتشابه - كالناسخ قياساً إلى منسوخه في البقاء والثبات؛ لأنّهما من باب واحد أيضاً، وهما في النتيجة سيّان . وعليه فمن عمل بالمتشابه دون المحكم فكأنّه عمل بالمنسوخ دون الناسخ. وفي الحديث الشريف تقريع بليغ لأولئك الذين نصبوا أنفسهم أعلاماً

ص: 73


1- ظ: العياشي: التفسير 1:11 .
2- الكليني / أصول الكافي 2 : 601 / 9 من كتاب فضل القرآن والعياشي / تفسير العياشي 1: 10 / 6.
3- يُنظر: المازندراني / شرح أصول الكافي 8 91 والمجلسي / بحار الأنوار 66: 94.
4- ظ :القمي علي بن ابراهيم التفسير 2: 451 تصحيح وتعليق السيد طيب الموسوي الجزائري مطبعة النجف 1386 ه_.

للأمة ووقعوا في جهلهم في متشابهات الكتاب العزيز فضلوا وأضلوا.

وفي رواية اخرى عن الإمام الصادق (عليه السلام)انه سئل عن المحكم والمتشابه فقال: (المحكم مايعمل به والمتشابه ما اشتبه على جاهله )(1).

والتعبير ب_ (جاهله) يؤكد هنا على وجود من ،لايجهله وهذا مايلزم عنه الرد اليه فيعود المتشابه ،محكما وهو ما يتمثل بمرجعية ( من لا يجهله) وهم الراسخون في العلم الذين اشارت اليهم الآية - في حدود فهم الإمامية - وهذا ماسنقف عنده بعد قليل.

2 -روايات في دلالة المتصدي للتفسير ان عليه بعد معرفة المحكم والمتشابه اجراء لوازم المرجعية بينهما وذلك برد المتشابه للمحكم ليعود النص كله محكما ويرتفع التشابه وبذلك ينكشف من النص ما يترتب عليه الفلاح واصابة الحق والاهتداء بهدي الكتاب وكشف المراد منه عن الإمام الرضا (عليه السلام)(من رد متشابه القرآن الى محكمه هدي الى صراط مستقيم..( ثم قال )ان في اخبارنا متشابها كمتشابه القرآن ومحكما كمحكم القرآن فردوا متشابهها الى محكمها ولا تتبعوا متشابهها فتضلوا)(2).

والرواية ظاهرة في ان الأئمة (عليه السلام) يرون مرجعية لكل محكم (مبين) في مقابل كل متشابه بغض النظر عن موضع وروده نصاً قرآنياً كان أو حديثا مرويا.

وما لم يتم فحص المتشابه ثم رده الى المحكم، فان الرغبة في فهم النص وكشف معانيه ستكون واقعة في اطار ماعبر عنه الإمام الباقر(عليه السلام) برواية جابر الجعفي عنه، :قال ( ياجابر ليس ابعد شيء من عقول الرجال من تفسير القرآن) (3)

ص: 74


1- العياشي: التفسير 1: 162.
2- الصدوق عيون اخبار الرضا(عليه السلام) 1 : 290 والرواية مروية ايضا عن الرسول عليه هو الله انظر الاحتجاج 2: 192 .
3- ظ: العياشي: التفسير 1: 12.

المرجعية الثانية: الراسخون

الراسخون في العلم الذين اوجب العقل والشرع الرجوع اليهم هم الرسول اهل بيته المطهرون(عليه السلام)، الذين علموا تاويل متشابه القرآن بالاخذ عن الرسول الله وبعلمهم بالمتشابه يعود محكما ويرتفع التشابه عنه، ويرى سائر علماء الإمامية تبعا لأئمتهم ان قوله تعالى:﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ معطوف على قوله تعالى:﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا الله ﴾فيكون المراد : لايعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم (1).

وقد وردت العديد من الروايات عن الأئمة (عليه السلام)مؤكدة هذا الفهم للاية الذي يحصر معناها فيهم، وتؤكد هذه الروايات ان ذلك من الأسس المهمة التي ينطلق منها لفهم النص في ضوئها، فيحتكم في رفع التشابه في الآيات فضلاً عن المحكم اليهم هم جيلا .

فمن ذلك ماروي عن الإمام الباقر(عليه السلام) أنه سئل عن الآية ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾. فقال : يعني تاويل القرآن كله الا الله والراسخون في العلم، فرسول الله افضل الراسخين قد علّمه الله جميع ما انزل عليه من التنزيل والتأويل وما كان الله منزلا عليه شيئاً لم يعلمه تأويله واوصياؤه من بعده يعلمونه كله..)(2) .

والرواية السابقة عن الإمام الصادق(عليه السلام)في تحديد المتشابه تؤكد هذا المعنى اذ يقول الإمام (عليه السلام)بعد ایراده الآية في روايته والراسخون في العلم هم آل محمد ) (3).

وفي رواية اخرى عنه (عليه السلام)ايضا انه قال (نحن الراسخون في العلم ونحن نعلم تأويله) (4).

ص: 75


1- انظر مثلا القمي: التفسير1: 96 العياشي: التفسير 1: 163 السبزواري مواهب الرحمن 5: 47 وغيرها.
2- العياشي التفسير 1: 164 .
3- المصدر نفسه 1:163 .
4- المصدر نفسه: 164 .

هذه الروايات الصريحة في انحصار الرسوخ بهم(عليه السلام)اقل ماتدل عليه انهم ممن ينطبق ويجري عليهم معنى الآية فهم اجلى مصاديقها والا فهناك العديد من الروايات الأخرى عنهم(عليه السلام)تحدثت عن صفات الراسخين بمعان يمثلون هم المصداق لها.

وقد حدّد لنا الإمام أبو جعفر باقر العلم عليه السلام معنى الراسخين في العلم ،فقال عليه السلام: الراسخون في العلم من لا يختلف في علمه )(1).

وهذا التحديد يلتقي تماما مع التحديد الوارد في الآية الكريمة. حيث ورد فيها مقابلة الرسوخ في العلم بقوله تعالى : في وصف الفئة الاخرى «الذين في قلوبهم زيغ »فكان الرسوخ في العلم هو الثبات وعدم الاختلاف والارتياب (الزيغ) عند العالم.

ويزيد الامر توضيحاً ما ورد عن الإمام الكاظم(عليه السلام)انه قال لهشام بن الحكم (ت 199 ه-): (ياهشام ان الله حكى عن قوم صالحين انهم قالوا :﴿رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ﴾ (آل عمران (8) علموا ان القلوب تزيغ وتعود الى عماها ورداها.

انه لم يخف الله من لم يعقل عن الله ومن لم يعقل عن الله لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ينظرها ويجد حقيقتها في قلبه ولايكون احد كذلك الا من كان قوله لفعله مصدقا وسره لعلانيته موافقا لان الله عز اسمه لم يدل على الباطن الخفي من العقل الا بظاهر منه وناطق عنه) (2).

ولا شك أنّ هذا مصداق للزيغ الذي وصفت به الفئة المقابلة للراسخين في الآية ممن يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة .. ويتأكّد كون الرجوع إلى الراسخين في العلم من الضوابط المهمة في الكشف عن النص و (إحكام )متشابهه من كلام الإمام علي(عليه السلام)من حديث

ص: 76


1- أصول الكافي 1: 1/245 باب في شأن إنا أنزلناه في ليلة القدر من كتاب الحجة.
2- الكافي الكاشاني تفسير الصافي 1: 248 .

طويل يخلص بعده إلى بيان حكمة وجود المتشابه وخصوصية الراسخين بقوله (عليه السلام): (ثم أن الله جل ذكره لسعة رحمته، ورأفته بخلقه، وعلمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كتابه «بالتأويلات الباطلة» قسم كلامه ثلاثة اقسام:

فجعل قسما يعرفه العالم والجاهل.

وقسما لا يعرفه الا من صفا ،ذهنه ولطف حسه وصح تمییزه ممن شرح الله صدره للاسلام.

وقسما لا يعرفه الا الله وامناؤه والراسخون في العلم (1).

والقسم الثالث الذي يشير اليه الإمام لاشك دال على انحصار الرسوخ بهم ليلام ؛ لأنّهم هم أمناء الله عزّوجلّ على وحيه وإن رغمت أنوف أُموية كثيرة.

وقد علّل أمير المؤمنين(عليه السلام) هذا التقسيم بذلك فقال عليه السلام في تتمة الرواية نفسها: ( وإنّما فعل الله ذلك لئلاً يدّعي أهل الباطل من المستولين على ميراث رسول الله صلى الله عليه وآله من علم الكتاب ما لم يجعل الله لهم، وليقودهم الاضطرار إلى الائتمار لمن ولاه ،أمرهم، فاستكبروا عن طاعته تغرّراً(2)وافتراء على الله عزّوجلّ، واغتراراً بكثرة من ظاهرهم، وعاونهم، وعاند الله عزّوجلّ ورسوله) (3).

الخامس:ادراك خصوصية تضمن النص للظاهر والباطن

إذ ان من المؤكد ان للمنهج القرآني واسلوبه في ايصال الافكار والمفاهيم والمعارف المختلفة اثراً بالغ الاهمية في عملية الكشف عن دلالاته، وهذا ما يستلزم من المتصدي العملية الكشف ان يكون مستوعباً للاساليب القرآنية في التوصيل والتبليغ وصيغ

ص: 77


1- الطبرسي: الاحتجاج 1: 37 .
2- أي: تمنعاً وتمرداً.
3- الاحتجاج 1: 376 .

التعبير، يقول تعالى ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالُهَا ﴾ (سورة محمد/23) وقال تعالى : ﴿كِتَبُ أَنزَلْنَهُ إِلَيْكَ مُبَرَكُ لِيَدَّبَّرُواْ ءَايَتِهِ، وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُواْ الأَلْبَبِ ﴾. (سورة ص/ 29) ونلاحظ ان اسلوب القرآن التعبيري يكاد يتصور في صورتين تعبيريتين هما:

1 - الظهور المباشر : وهو مايتمثل فيه ارتسام مدلول الكلمة أو الكلام بالنظرة الأولى في الذهن كما في قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ (الاخلاص / 1).

2- التضمن والاحتواء المستبطنين وهو مايتمثل في استعمال القرآن للمثل والقصة للايحاء بالمفاهيم من جهة أو استعمال الرمز والاشارة الخفية والاحتواء على مفاهيم مستبطنة لاتنكشف بمجرد التدبر ولاتظهر بالاكتفاء بالظاهر.

وقد عبر الإمام الصادق (ع) عن هذه الحالة بقوله (عليه السلام)(نزل القرآن باياك اعني واسمعي ياجارة) (1)، ومثله عن الإمام الرضاء(عليه السلام)(2)، وكذلك عن عبد الله بن عباس (3)

وهذا ما يطلق عليه في النقل عن الرسول والأئمة السلام بالظاهر والباطن واحتواء النص عليهما، وهو ماجاءت الروايات العديدة لبيانه فمن ذلك ماروي عن الرسول من حديث طويل في وصف القرآن الكريم (له ظهر وبطن فظاهره حكم وباطنه علم ظاهره انيق وباطنه عميق)(4).

ص: 78


1- الكليني: الكافي 2 :631 .
2- الطبرسي / الاحتجاج 2: 222 .
3- الشريف المرتضى / تنزيه الأنبياء عليهم السلام ،167، والشيخ الطوسي / التبيان في تفسير القرآن 10 :28 والطبرسي / مجمع البيان 7 : 465 وجوامع الجامع له أيضاً 2: 757 ، ورواه من العامة الفخر الرازي في كتابه عصمة الأنبياء: 112 . وأصل إيّاك أعني واسمعي يا جارة عجز بيت شعري قاله سهل بن مالك الفزاري، وله قصّة. أنظر: الطريحي / مجمع البحرين 1: 427 .
4- البحار 89 :97 الفيض الكاشاني: التفسير الصافي 1: 9 .

ويبدو ان المراد من الظهر هنا مايفهم من ظاهر الآيات الشريفة ومن البطن الاشارات والرموز وفي رواية عن الإمام علي(عليه السلام)(مامن آية الا ولها اربعة معان: ظاهر وباطن وحدٍ ومطلع، فالظاهر التلاوة والباطن الفهم، والحد هو أحكام الحلال والحرام والمطلع هو مراد الله من العبد)(1)فالتلاوة هنا الظاهر من مدلول اللفظ، واما الباطن فعنى به مافي ذلك الظاهر من معان مستبطنة.

هذه الثنائية في النص الواحد تستدعي من المفسر المتصدي التفاتا مهما الى ضرورة الوقوف طويلا امام النص، وعدم الانجراف الى التأسيس على الظاهر وحده بحيث يتقيد فيه وينزوي بالنص في دائرة ضيقة ويهمش مفاهيم ومعارف ربما تكون هي الجانب الاكثر تعبيرا وتوصيلا لمراد المتكلم بالنص القرآني وربما تستبعد الكثير من الوجوه المحتملة في تفسيره لاسيّما إذا كان النص كما عبر عنه الإمام علي (عليه السلام): (حمال ذو وجوه) (2).

وهذا ما يتأكد بالمصداق الواقعي في الرواية عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال: سألت ابا جعفر الإمام الباقر(عليه السلام) عن شيء من تفسير القرآن فاجابني، ثم سألته فاجابني بشيء آخر. فقلت جعلت فداك كنت اجبتني في المسالة بجواب غير هذا قبل اليوم ؟ فقال(عليه السلام): ياجابر ان للقرآن بطنا وللبطن بطن وظهرا وللظهر ظهر ياجابر ان الآية يكون اولها في شيء واوسطها في شيء واخرها في شيء وهو كلام متصل ينصرف على (وجوه)(3).

ص: 79


1- الفيض الكاشاني / التفسير الصافي ،1 ،130 وأورده الزركشي في البرهان في علوم القرآن 2: 153 فصل في حاجة المفسّر إلى الفهم والتبحر في العلم ولم ينسبه إلى أحد.
2- الشريف الرضي / المجازات النبوية : 251 والشيخ المفيد / أوائل المقالات: 401، وابن أبي الحديد / شرح نهج البلاغة 18: 71، وذكره من العامة الشوكاني في فتح القدير :1 ،12، وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث 1: 427 حَمَلَ، ومثله ابن منظور في لسان العرب :11: 175 (حَمَلَ) أيضاً.
3- العياشي: التفسير 1: 11 .

وهذا المستبطن من المفاهيم والمعاني في النص لابد له من كاشف يتحدد عند الأئمة بنحو من الانحصار بهم (عليه السلام)مصداقاً وتطبيقا للرسوخ في العلم الذي تبين لنا انهم ان لم يكونوا مصداقه الوحيد.

ثم ان الفهم للباطن من النص يتعلق بالمائز الذي اختصوا به من جهة ولطبيعة النص في مخاطباته التي تستحضر اختلاف الافهام وهو ما اشارت اليه روايات عديدة عنهم ليسلام كقول الإمام الحسين(عليه السلام)(کتاب الله عزوجل على اربعة اشياء على العبارة والاشارة واللطائف والحقائق فالعبارة للعوام والاشارة للخواص واللطائف للاولياء والحقائق للانبياء (عليه السلام)) (1).

ويظهر من هذا امران:

1 -ان للقرآن مراتب من المعاني المرادة بحسب مراتب اهله ومقاماتهم. وهذا لا يمنع من وصول المرتبة العليا إلى ذوي المراتب الأقل بالتعليم، كوصول الحقائق إلى الأولياء بواسطة النبي، وإلى الخوّاص بتوسطهم (عليه السلام)، وهكذا في بقية المراتب الأخرى.

2 -ان الظهر والبطن امران ،نسبيان فكل ظهر بطن بالنسبة الى ظهره وبالعكس كما يظهر من الرواية السابقة عن الإمام الباقر(عليه السلام) التي تضمنت اختلاف اجوبته عن سؤال واحد.

من هنا نفهم ميزتهم ليلام في الكشف عن باطن النص الذي يصل الى حد النطق عن القرآن(الصامت) كما عبر عنه الإمام علي (عليه السلام)في قوله (ارسله على حين فترة من الرسل.. الى قوله (عليه السلام)ذلك القرآن فاستنطقوه ولن ينطق ولكن اخبركم عنه الا ان فيه علم مايأتي والحديث عن الماضي ودواء دائكم ونظم مابينكم)(2)، وكما في قوله (عليه السلام)

ص: 80


1- المجلسي: البحار ج 90 ص 20.
2- تقدّم تخريجه .

(انا القرآن الناطق وهذا القرآن الصامت)(1) تصريحا بان فهمه للقرآن وانكشاف باطنه له بما علمه الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)مما مر بيانه في الروايات السابقة وهذا الانكشاف هو المائز الذي يفصل بين مجرد التدبر في النص وهو اعلى مايصل اليه غير المعصوم من متصدين للفهم ممن اجتمعت فيه الشرائط العامة للفهم وزالت عنه الموانع فاستنبط العقائد الحقة الموافقة للبراهين العقلية واستظهر الاحكام العملية بمقدار مادل عليه الظاهر، فليس في وسع هؤلاء الا النظر من وراء حجاب الالفاظ الظاهرة والمفاهيم والصور الذهنية فهم يستفيدون منه بحدود تلك الامور الاساسية المتاحة لهم.

اما الملاحم والغيبيات والتأويل بمعنى ارجاع مفاهيم ومعارف الكتاب الى اصولها وغيره مما لا يكفي مجرد التدبر لاستظهاره، ولاترقى العبارة للتعبير عنه، ولاتفيد الاشارة في الارشاد اليه مما هو خارج عن نطاق الظهور اللفظي فلا يمكن استنباطه وتحصيله الا بالعبور والرقي من مجرد التدبر الى الاستنطاق الذي يتوقف على تنزل القرآن من السر الى العلن وان ينطق بمكنونه وذلك لا يكون الا لمن هو اهله وهم مستنطقو الباطن العميق.

السادس: استبعاد التفسير بالرأي والهوى عن ساحة فهم النص:

يشكل التفسير بالراي احد الاتجاهات الرئيسة في تفسير النص القرآني وتكاد صورته تتحدد في مسلكين :المسلك الأول المقبول باعتماد النظر المجرد (الذي يستعين بقواعد اللغة واساليب البيان من غير ان يخالف تفسيرا عن النبي الله اويتنافى مع اسباب النزول التي صحت طرق اثباتها) (2).

ص: 81


1- نهج البلاغة : الخطبة 158 ص 223 .
2- : الزرقاني مناهل العرفان 1: 518 .

ومن ثمّ فهذا المسلك يعتمد الاتجاه العقلي في الكشف عن معاني الآيات والفاظها وفي هذه الحدود اجاز العلماء هذا اللون من التفسير في ضوء شرائط تحرزية تتمثل في ارجاعه الى مرجعية النص ومعياريته اولا ثم الاعتماد على ماورد تفسيره عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) والأئمة ليلا ثانيا. وكذلك ان لا تعرف فيه بشاعة الاستقباح.

هذه الضوابط ستكون في ما بعد منيرة السبيل للمفسر برأيه على ان يكون حائزاً للضوابط الفنية والموضوعية للمفسر التي تشكل ضابطا اخر مهما من ضوابط التفسير بان يكون ذا معرفة واطلاع بقوانين اللغة ( واساليبها بصيرا بقانون الشريعة حتى ينزه كلام الله على المعروف من تشريعه)(1).

ونلاحظ هنا ورود الكثير من الروايات عن الصحابة والتابعين في التفسير بالراي بهذه الحدود أعني عدم معارضتها لما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وأهل البيت إيلام وعدم منافاتها لأدلّة العقول، وجريانها على وفق قواعد اللغة وأساليب البيان العربي.

وكان تلميذ الإمام علي عبد الله بن عباس من القلائل الذين اوتوا علما في كتاب الله رغم تحرج اكثر الصحابة من القول في تفسير كتاب الله)(2) .

المسلك الثاني: التفسير بالرأي المنهي عنه:

فقد وردت العديد من الروايات عن الرسول ،وآله ،والصحابة والتابعين في استقباحه والنهي عنه وهو التفسير القائم على التخلي عن الضوابط التي حدد بها المسلك الأول فهنا يتم تفسير النص بالرأي الخاص دون الاعتماد على شيء من علوم الشريعة والنظر الى مرجعية الأسس والاصول التشريعية والعقائدية فيكون معنى

ص: 82


1- الزركشي: البرهان في علوم القرآن 2: 178 .
2- ابن تيمية: مقدمة في تفسير القرآن 38.

الرأي هنا الاعتقاد عن اجتهاد وربما اطلق على القول عن الهوى والاستحسان وكيف كان)(1)؛ اذ نلاحظ من الروايات النبوية نهيا شديدا عنه كما في قوله (صلی الله علیه وآله وسلم) : (من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار )(2) ، وفي لفظ: (من تكلم في القرآن برايه فاصاب فقد اخطأ) (3) .

وينطلق النهي والتشديد فيه عند الأئمة الهلام من هذا الاطار النبوي، ونلاحظ هنا انهم ليلا في رواياتهم يحددون ثلاث صور تندرج جميعا تحت عنوان لجوء المفسر الى الاستمداد من غير القرآن في تفسيره وتتمثل هذه الصور في:

الصورة الأولى: التكلم في القرآن بالرأي فمما روي عن أبي بصير، عن الإمام الصادق(عليه السلام) انه قال: (من فسر القرآن برأيه، ان اصاب لم يؤجر، وان اخطأ فهو ابعد من السماء) (4) .

ويجعل الإمام الرضا(عليه السلام)اللجوء الى الراي بمرتبة الكفر اذ يروى عنه انه قال (الرأي في كتاب الله كفر) (5).

والروايات هنا تشير الى التفسير بالراي في قيامه على استقلال المفسر برايه في تفسير كلامه تعالى بما عنده من الاسباب والاجتهاد وعدم الرجوع الى غيره في فهم الكلام الالهي مما يوقعه في مغبة ان يقيس) كلامه تعالى بكلام الناس)(6).

ومن وجوه تأثير التفسير بالرأي المنهي عنه الجانب العقائدي بالذات، حيث

ص: 83


1- الميزان 76:3 .
2- تفسير العياشي 1 :17 ، الكاشاني: تفسير الصافي ،1: 21 سنن الترمذي 11: 67.
3- الترمذي: سنن الترمذي :11 ،67 الكاشاني تفسير الصافي: 1: 21
4- تفسير العياشي 1: 17 .
5- المصدر نفسه.
6- الميزان 76:3 .

نلاحظ ان الآيات الكريمة المعتمدة في هذا الجانب لدى طائفة من المفسرين ربما كان يتبين بعضها من بعض آخر، أو يكون شاهدا عليه، وهو من وجوه تفسير القرآن بالقرآن إلا انهم لم يلاحظوا ذلك، مما نجم عنه اثار خطيرة تتمثل في ظهور التنافي بين الآيات القرآنية متسبب عن ابطال المفسر وتضييعه للترتيب المعنوي الموجود في مضامينها فيؤدي الى وقوع الآية في غير موقعها ووضع الكلمة في غير موضعها) (1) ويلزم عن هذا التأويل صرف بعض آيات القرآن أو اكثرها عن ظاهرها.

هذا المسلك الخطير لجأت إليه بعض الاتجاهات الفكرية في الاسلام فصارت تؤول نصوص القرآن بما ينسجم واتجاهاتها محاولة - بذلك سحب النص الى مستوى التحييد التام عن مساره الخاص الى مسار آخر يخدم ويتبع طروحات ذلك الاتجاه بتأويل الآيات التي يخالف ظاهرها اسس المذهب المؤوّل، وبالتالي تحكيم أصول المذهب في النص المرجعي واخراجه عن معياريته.(2)

وقد نبه الأئمة ليلا الى خطورة هذا التهميش للنص وسحبه عن محوريته الى الدوران في فلك الاراء المختلفة كل يجره الى محوره الذي يريد.

وأول من نبّه على خطورة هذا الاتجاه الإمام علي (عليه السلام) حيث يقول بشأن هؤلاء: (ترد على احدهم القضية في حكم من الاحكام فيحكم فيها برأيه ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره فيحكم فيها بخلاف قوله ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً والههم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد افأمرهم الله سبحانه بالاختلاف فاطاعوه ؟ ام نهاهم عنه فعصوه ؟ ام انزل الله دينا ناقصا فاستعان بهم على اتمامه ؟ ام كانوا شركاء له فلهم ان يقولوا وعليه ان يرضى ؟ ام انزل

ص: 84


1- المیزان 3 81-80 .
2- نقل الدكتور أبو سليمان في كتابه الفكر الأصولي ص: 122 عن الكرخي - أحد علماء العامة - أنه قال: (الأصل أنّ كل آية تخالف قول أصحابنا، فإنّها تحمل على النسخ، أو على الترجيح، والأولى أن تحمل على التأويل من جهة التوفيق) !

الله سبحانه دينا تاما فقصر الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) عن تبليغه وادائه والله سبحانه يقول ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَبِ مِن شَيْءٍ (الانعام /38). وتِبْيَنَا لِكُلِّ شَيْءٍ (النحل/89) وذكر ان الكتاب يصدق بعضه بعضا وان لا اختلاف فيه فقال سبحانه وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (النساء /82) . وان القرآن ظاهره انيق وباطنه عميق لاتفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه ولا تكشف الظلمات الا به)(1).

2 -الصورة الثانية: تفسير القرآن بغير علم

عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)( من فسر القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار)(2)

وقوله ايضاً (من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار)(3).

وقوله (صلی الله علیه وآله وسلم)(فما علمتم منه فقولوا وماجهلتم به فكلوه الى عالمه )(4).

ومن المصاديق المهمة للتفسير بغير علم ما يتمثل في التصدي لتفسير القرآن من دون علم بعلومه المختلفة التي تتظافر في مابينها لتشكل ادابا فنية وموضوعية يتسلح بها المفسر فتكون ملكة وحسا وسلاحا بيد المفسر لامتلاك امكانية ان ينكشف له ماابهم على غيره ممن افتقر الى تلك الاداب والعلوم وهذا مايتبين بوضوح من الرواية الطويلة عن الإمام الصادق(عليه السلام)يقول في وصف هؤلاء ... احتجوا بالمنسوخ يظنون انه الناسخ واحتجوا بالمتشابه وهم يظنون انه المحكم واحتجوا بالخاص وهم يظنون انه العام واحتجوا باول الآية وتركوا السبب في تاويلها ولم ينظروا الى ما يفتح الكلام والى مايختمه ولم يعرفوا موارده ومصادره اذ لم ياخذوه عن اهله

ص: 85


1- الأحتجاج 1: 389 .
2- سنن الترمذي 11 :67.
3- الحر العاملي الوسائل 12 :140 .
4- السيوطي: الدر المنثور 2 :7 .

فضلوا واضلوا واعلموا رحمكم الله ان من لم يعرف من كتاب الله عزوجل الناسخ والمنسوخ والخاص من العام والمحكم من المتشابه والرخص من العزائم والمكي من المدني واسباب التنزيل والمبهم من القرآن في الفاظه المنقطعة والمؤلفة ومافيه من علم القضاء والقدر، والتقديم والتأخير والمبين والعميق والظاهر والباطن والجار فيه والصفة لما قبل مما يدل على مابعد والمؤكد منه والمفصل وعزائمه ورخصه ومواضع فرائضه واحكامه ومعنى حلاله وحرامه الذي هلك فيه الملحدون والموصول من الالفاظ والمحمول على ماقبله وعلى ما بعده فليس بعالم بالقرآن ولا هو من اهله )(1).

والرواية لاتحتاج الى تعليق فمن دون هذه العلوم ومعرفة جزئياتها تفصيليا وابداء الرأي في معاني النص القرآني وتصويرها على انها كشف للمراد منه يعني ذلك كله تفسير القرآن بغير علم بحقيقة المراد، فيعود تفسيرا بالراي والهوى والاستحسان الذي لايمت للنص ومعانيه بصلة ويقع تحت نطاق المنهي عنه المذموم الخوض فيه.

3 الصورة الثالثة: ضرب القرآن بعضه ببعض

وردت العديد من الروايات عن الرسول(2)(صلی الله علیه وآله وسلم) والأئمة الام في النهي عن ذلك لأنه مما يقع تحت نطاق تحكيم الرأي الخاص والميل النفسي بتاثيرات الاتجاه الفكري والاثر المذهبي في تفسير النص.

فمن ذلك ماروي عن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)(انه خرج على قوم يتراجعون في القرآن وهو مغضب فقال : لهذا ضلت الامم قبلكم باختلافهم على انبيائهم وضربهم الكتاب بعضه ببعض قال وان القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضا ولكن نزل ليصدق بعضا، فما عرفتم فاعملوا به وما تشابه عليكم فامنوا به )(3).

ص: 86


1- المرتضى الايات الناسخة والمنسوخة 41 تحقيق: علي جهاد الحساني .
2- ظ :مسند أحمد 11 :82.
3- السيوطي: الدر المنثور 6:2 .

فالحديث في مجال بيان اصل مهم يقوم عليه النظر الى النص القرآني يتمثل في ان هذا القرآن ومن حيث كونه منزلا من عند الواحد الاحد العليم المحيط فانه يصدق بعضه بعضا والا ثبت اللازم الآخر المقابل الذي صورته الآية الكريمة كدليل لصدوره عنه تعالى وذلك قوله تعالى: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (النساء/82) وهذا ما اكده الإمام علي(عليه السلام)في رواية عنه دفع خلالها شبهة تناقض الآيات الكريمة فيما بينها عند من تصور حدوث ذلك من خلال ظواهر الآيات وعجزه عن فهم حقيقة المراد منها، فتصور ان بعضها يكذب بعضا .

عن أبي معمر السعداني قال: ان رجلا أتى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال یا امیر المؤمنين اني شككت في كتاب الله. فقال(عليه السلام) : ثكلتك أمك وكيف شككت في كتاب الله المنزل ؟ قال: لاني وجدت الكتاب يكذب بعضه بعضا فكيف لا اشك فيه ؟ فقال الإمام (عليه السلام): ان كتاب الله ليصدق بعضه ولا يكذب بعضه بعضا ولكنك لم ترزق عقلا تنتفع به فهات ما شككت فيه من كتاب الله عز وجل (...) (1)، ثم قام الإمام (عليه السلام)برفع شبهة التناقض بين ظواهر الآيات كما تصورها هذا الشاك بتأويلها بما يكشف الشبه ويؤكد عصمة النص من التناقض والاختلاف ويرسخ مرجعيته في تأسيس أصول عقيدة صحيحة.

من ذلك ايضا ما ورد في الصحيح عن القاسم بن سليمان عن الإمام الصادق(عليه السلام)انه قال: (ما ضرب رجل القرآن بعضه ببعض الا كفر)(2) .

قال الشيخ الصدوق - بعد أن أخرج الحديث عن الامام الباقر سألت ابن الوليد عن معنى هذا الحديث فقال : هو ان تجيب الرجل في تفسير آية بتفسير آية أخرى، ويبدو ان هذا الكلام اراد به اصحاب المذاهب والمقالات من تأويلهم الايات التي لا تتوافق في ظاهرها مع أصول مذاهبهم بما يؤدي الى (اختلاط بعضها ببعض وبطلان ترتيبها ودفع مقاصد بعضها ببعض) (3) .

ص: 87


1- الصدوق. التوحيد 255.
2- العياشي: التفسير 1: 18 .
3- الميزان 3: 81 .

فهذا الضرب لبعض الآيات ببعض اكثر ما يكون في الآيات التي تفصل العقيدة وتؤسس اصولها، حيث يلجأ اولئك المتمذهبون الى انظارهم الخاصة وآرائهم المستقلة فيحكمون انها معنى للآية المعينة ويحكمون على آية اخرى برأي آخر لهم ويجمعون بين الآيتين بذلك الرأي او يجعلون رأيهم في تلك الآية دليلا على ما اختاروه في الآية الاخرى من معنى (1).

وهو ما وصل حد النهي عنه وذمه الى درجة اعتباره كفرا عند الرسول يا الله والأئمة الهلام لأنه يلزم منه نسبة تكذيب القرآن بعضه بعضا ووقوع التناقض فيه.

وكمثال على ما ذكرناه ما أورده الشيخ الطوسي في التبيان من احتجاجات بعض علماء العامة في مقام إثبات بعض الفضائل الموهومة لبعض الصحابة من القرآن الكريم، فقال ما هذا لفظه: (فأما قولهم: إن معنى قوله تعالى: ﴿كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِن قَبْلُ ﴾(2) هو أنه أراد قوله تعالى: ﴿فَإِن رَجَعَكَ اللهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَذَنُوكَ لِلْخُرُوج فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَتِلُوا مَعِيَ عَدُوا﴾ (3) مملوء بالغلط الفاحش في التاريخ؛ لأنّا قد بيّنا أنّ هذه الآية - التي في التوبة - نزلت بتبوك سنة تسع وآية سورة الفتح نزلت سنة ستّ، فكيف تكون قبلها؟!

وينبغي لمن تكلم في تأويل القرآن أن يرجع إلى التاريخ، ويراعي أسباب نزول الآية على ما رُوي، ولا يقول على الآراء والشهوات)(4)

ومن الواضح أنّ الذي دعاهم إلى تفسير آية سورة الفتح بآية سورة التوبة هو التعصّب الأعمى ولو على حساب التاريخ وأسباب النزول !

ص: 88


1- السبزواري المواهب 5 :69 (بتصرف).
2- الفتح: 15.
3- التوبة: 83.
4- الشيخ الطوسي / التبيان في تفسير القرآن : 325 - 326 في تفسير الآية المذكورة في سورة الفتح.

ان هذا الالتفات من الأئمة ليلا لهذا الضابط المهم الممثل في النهي عن التفسير بالرأي خصوصا - ماكان عن الأئمة الهلال الذين شاع في أزمانهم هذا اللون من التفسير - قد فرضته طبيعة التحولات الفكرية والتحديات العقائدية ممثلة في:

1 - ظهور الفرق الكلامية المختلفة التي تجعل القرآن يدور في فلك آرائها وتحاول تطويع النص لملائمة تلك الآراء التي تتبناها.

2 - اتساع حركة التلاقح الفكري والعقائدي للاسلام مع باقي الامم والديانات باتساع حركة الترجمة ونقل التحدي العقائدي الاسلامي الى ساحة الاديان الاخرى والاتجاهات اللادينية بتوسع الفتوحات الاسلامية ودخول غير المسلمين في الاسلام.

بسبب ذلك كله كان لا بد من تأطير العقيدة الاسلامية المستمدة من النص بعوامل الحماية من ان تنزلق الانظار المختلفة الى مغبة عكس هويتها المذهبية المحدودة على النص المعصوم المطلق.

السابع: تجرد النص عن قيود الزمان والمكان والمحدودية

ان استقراء بيئة النص وأجواءه الواقعية الحاصلة والمتوقعة المستقبلية يقدم مستويين متصورين لعلاقة النص بالزمن هما :

الأول : المستوى النزولي المقيد

وينطلق هذا المستوى من صلة النص القرآني بالسبب الذي تعلق به واستوجب نزوله سواء كان ذلك واقعة احتاجت حكما شرعيا او كان عائدا الى مقتضيات تتالي النزول التجزيئي للنص وصولا الى مرحلة الاكتمال.

والنص في هذا المستوى - وحسب صلته بالسبب الأول تكون له علاقة وثيقة بالسبب قد يتقيد من بعض جوانبه بما تفرضه وقائع سبب النزول والحالة التي

ص: 89

اختص النص بالتعبير عنها، مثلما تحكمه امور اخرى اذا كان السبب هو المقتضيات المتصلة بالنزول التجزيئي ومن تلك الامور مثلا السياق والنظم والوحدة الفنية والموضوعية للنص والاجمال والتفصيل والبيان الابهام... الخ

2 -المستوى المفتوح

هنا ينطلق النص في خصائصه الاحتوائية بعيدا عن مقتضيات الزمان والمكان مخلفا وراءه سبب النزول الذي ينسحب الى تشكيل حالة جزئية نسبية لا تعدو ان تكون مجرد اشارة بسيطة في طريق فهم النص تضيء للمتصدي لتفسيره بعض الجوانب المساعدة على تصور اجواء النزول والمعنى الاكثر صلة بمراد الله تعالى - تبعا لذلك - من خطابه حين تتعدد الاحتمالات والافهام المختلفة.

فهنا ينطلق اللفظ بعمومه المفتوح القابل للانطباق والمتحرر عن حدود الحالات الجزئية التي تقیدت بزمان او مکان معينين فتتحول خصوصية السبب الى امر غير ذي اعتبار الا بتلك الحدود الضيقة المشار اليها وتكون العبرة في الحالة الجديدة بعموم اللفظ وقدرته على الجريان والانطباق على كل زمان او مكان ما دام يتوفر فيهما الجوانب الموضوعية والمقتضيات التي جاءت الآية (النص) للتعبير عنها ويغطيها النزول (العموم) الأول هكذا يصبح النص الواحد في نزوله حالة مكثفة من النزولات المتعددة لكنها ادمجت جميعا في نص واحد تلافى التعدد الزمني بالقدرة على التعميم والانطباق وذلك مما استلزمته خاتمية الرسالة اولا وانتهاء عهد النبوة بانقطاع الوحي ثانيا.

ذلك كله من اجل تحاشي امرين :

الاول: الوقوع في مغبة الخضوع للأفهام المختلفة المستقبلية التي تدور في فلك النص.

ص: 90

الثاني: الوقوع تحت طائلة محاولة تفسير النص من خلال الروايات الموضوعة او الاسرائيليات او التفسير بالرأي المنهي عنه.. الخ مما يجعل النص دائرا في فلك تلك التفسيرات والافهام وبالتالي يقتطع منه اهم خصائصه واسس نزوله في ممثلة مرجعيته في البناء الفكري والعقائدي .

وهذا البعد المفتوح في الصلة بالزمن يعطي للنص اضافة مهمة تشكل خصيصة اساسية هي قوام هيمنة النص على غيره ومرجعيته المفتوحة زمنيا ومكانيا وموضوعيا، هذه الاضافة تتمثل في ان النص ستكون له قدرة دائمية متجددة في العلو والاحتواء لكل حالة تفرضها مقتضيات كل زمن متصور وحاجته الى الاستمداد من النص القرآني تصويرا واحاطة وتعبيرا وبالتالي سيكون المنظور القرآني هو السقف الذي يعلو فوق كل منظور يمكن ان يستمد من نواميس وضعية او كشوف علمية او افهام مستضيئة بالنص تقيدت بحدود زمنها .

بهذا سيحافظ النص على تحرره من قيود الزمن الذي يُخضَع فيه لعملية الكشف عن دلالاته وسيثبت ان حلال محمد حلال الى يوم القيامة وحرامه حرام الى يوم القيامة: اولا - في جانبه التشريعي - كما سيثبت دلالة ان النص {تبيانا لكل شيء}(1)ومهيمنا على غيره ومحيطا بالحاجات والمقتضيات عموما في جوانبه الاخرى.

خلاصة هذا الضابط المهم في الكشف عن النص والاستمداد منه اذن تتمثل في تجرده عن الارتباط بالقيود النسبية فهو تعبير لفظي تسلح باللغة في التعبير عن قوانين عامة، وتلك الحالة الجزئية (سبب النزول )وان ورد النص لمعالجتها ولكنها لن تقيده ،بقيودها وان نسبيتها وجزئيتها الموضوعية لا تشكل تحديدا للنص ومجالا نهائيا لاحتمالات انطباقه وانما تبقى للنص خصيصة الجريان والامتداد في الانطباق على المصاديق المتجددة الظهور عبر الازمان والاجيال والامكنة على كل الحالات التي

ص: 91


1- النحل: 89.

تعبر فيها هذه الجزئيات عن روح القانون الكلي الذي جاء به النص، وستمثل كل حالة جزئية في زمنها بالتالي احد الافراد المنطوية تحت حكم ذلك القانون الكلي.

هذا ما عبرت عنه القاعدة العامة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب )(1).

وهذا ما اثبته النص القرآني لنفسه من خلال نصوصه التي جاءت بصيغتها الخطابية واللفظية عامة ومطلقة سواء في احكامها او معالجاتها لذا كانت خصيصة النص المهمة في انه بهيكله اللفظي وبالمعنى المستبطن( المختزن) فيه تعبيريا يبقى خالدا لخلود محتواه وعموم مفاهيمه وثبات اعجازيته.

هذه القضية الخطيرة الاهمية في فتح امكانات فهم النص وتقليده خصائصه الذاتية كاملة والخروج به عن نطاق التقييد تصدى الأئمة اللام للكشف عنها وانتزاع قواعد واسس التعامل مع النص في ضوئها وكانت عندهم من الثمرات المهمة والمؤثرات التي ساهمت في تعريفنا فيما بعد باهلية منهج مهم في تفسير النص القرآني وضع الأئمة الهلام اسسه وطبقوه بانفسهم وكان من انواع التفسير التي ارتبطت بهم خصوصا بعد النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)حتى لا نكاد نجد لغيرهم اثرا فيها لأنها تعتمد ثنائية النص (الظاهر والباطن )واختصاصهم بأهلية استنطاق الباطن وفهمه والكشف عنه، هذا المنهج هو منهج التفسير بالجري او الانطباق وتنكشف امامنا ملامح هذا الضابط المهم عندهم(عليه السلام)من خلال ما ورد عنهم في ذلك وهو كثير.

منه ما ورد عن أمير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام)في نهج البلاغة في احدى خطبه جاء فيها: (ثم انزل القرآن نورا لا تطفأ مصابيحه وسراجا لا يخبو توقده، وبحرا لا يدرك قعره، ومنهاجا لا يضل نهجه وشعاعا لا يظلم ضوؤه وفرقانا لا يخمد برهانه وبحرا لا ينزفه المنزفون وعيون لا ينضبها الماتحون، ومناهل لا يفيضها

ص: 92


1- هذه القاعدة من القواعد الأصولية المتفق عليها بين عموم المسلمين وهي مأخوذة من كلمات أهل البيت عليهم السلام ومرجعها إليهم؛ إذ لم يسبقهم إليهم أحد، وسيأتي في كلماتهم عليهم السلام ما يؤكد ذلك.

الواردون وبرهانا لمن تكلم به وشاهدا لمن خاصم ،به وفلجا لمن حاج به، وحاملا لمن حمله، ومطية لمن اعمله، وآية لمن توسموجنّة لمن استلام وعلماً لمن وعى، وحديثاً لمن ،روى، وحكماً لمن قضى)(1)

وقوله (ع) في موضع آخر (وان القرآن ظاهره انيق وباطنه عميق لا تفنى عجائبه ولا تنقضي غرائبه، ولا تكشف الظلمات الا (به) (2) .

وعن الإمام علي بن الحسين(عليه السلام)في اشارة الى ضرورة التصدي الى الكشف عما في النص من معارف وامكانات وثراء محتوى قوله (عليه السلام)(آیات القرآن ،خزائن فكلما فتحت خزينة ينبغي لك أن تنظر فيها )(3)

أنّ في آيات القرآن الكريم أنواعاً عديدة من جواهر المعاني، والأسرار العجيبة، والحقائق الساطعة مع أصناف كثيرة من فرائد اللطائف والفوائد والدقائق ،والإشارات الهادفة، والرموز الناطقة والعبر النافعة والمواضع البليغة، وغير ذلك مما جل وخطر، ولذلك كان القرآن الكريم - مع و لفظه وصغر حجمه - مشتملاً على جميع ما كان وما هو كائن وما يكون إلى يوم القيامة كما مرّ ذلك في أحاديث شتّى عن أهل البيت عليهم السلام؛ الأمر الذي ينبغي معه تسلّح المفسّر تسلّح المفسّر بالعدّة الكافية لخوض لججه والعوم في بحره .

ص: 93


1- نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده : 172 - 178 الخطبة رقم 198، وبشرح ابن أبي الحديد المعتزلي 10: 199 الخطبة رقم (191).
2- نهج البلاغة بشرح الشيخ محمد عبده 1: 54 الخطبة رقم 18 والليثي/ عيون الحكم والمواعظ : 143 و 323 والحلواني / نزهة الناظر وتنبيه الخاطر: 113 / 47، والطبرسي / مجمع البيان 1 :33 ، والطبرسي / الاحتجاج 1: 390 والإربلي / كشف الغمة ،2 ،423، والعلامة الحلّي / كشف اليقين 189 - 190، وابن أبي الحديد المعتزلي / شرح نهج البلاغة :1 288 الخطبة رقم (18) . وورد ضمن حديث طويل عند الكليني / أصول الكافي 2: 2/598 من كتاب فضل القرآن وتفسير العياشي 1: 3 / 1، والحسن بن سليمان الحلّي / مختصر بصائر الدرجات: 197 ، ونقله السيد ابن طاوس في كشف المحجة: 192 عن کتاب رسائل الأئمة عليهم السلام لثقة الإسلام الكليني.
3- أصول الكافي 2: 609/ 2 باب في قراءة القرآن من كتاب فضل القرآن وابن فهد الحلي / عدّة الداعي: 267.

وفي ايحاء مهم الى ما يكتنزه النص القرآني من كثافة التعبير واحتواء المعاني وجريان المفاهيم والدلالات الداعية الى الاستنطاق، يروى عن الإمام الباقر(عليه السلام)قوله الحمران بن اعين وقد سأله عن ظهر القرآن ،وبطنه، فقال لا ظهره الذين نزل فيهم القرآن، وبطنه الذين عملوا بمثل اعمالهم، يجري فيهم ما نزل في اولئك)(1).

هذا المعنى عبر عنه الإمام تفصيليا في رواية اخرى عنه عن الفضيل بن يسار قال: (سألت ابا جعفر

(عليه السلام)عن هذه الرواية ما في القرآن آية الا ولها ظهر وبطن وما فيه حرف الا وله حد ولكل حد مطلع ما يعني بقوله : ظهر وبطن ؟ قال: ظهره تنزيله، وبطنه تأويله منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد يجري كما يجري الشمس والقمر، كلما جاء منه شيء وقع قال الله تعالى {وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم }نحن نعلمه)(2).

وفي رواية اخرى عنه (عليه السلام)شديدة الاهمية في دلالتها وما تومئ اليه من تحذير التجاوز على هذا الضابط وتتناول مفهوم فك الارتباط بين عموم لفظ الآية (النص) والبعد الزمني المقيد بسبب النزول يقول(عليه السلام) (ولو ان الآية اذا نزلت في قوم ثم مات اولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء، ولكن القرآن يجري اوله على آخره ما دامت السموات والارض ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير او شر )(3)

وفي رواية عن الإمام الصادق(عليه السلام)نلاحظ اعلى حالات الانطلاق بالنص عن قيود البعد الزماني والمكاني وفتح الافاق امام تعبيرية النص عن احاطته واحتوائه لاحتمالات الارتقاء في كل ،زمن وقدرته على التجدد الدائم واستنهاض القابليات المستجدة للتفسير والفهم والكشف عن مخزونه اذ يقول (عليه السلام)لرجل :سأله ما بال القرآن لا يزداد على النشر والدرس الا غضاضة ؟ فأجاب (عليه السلام)( لأن الله تبارك وتعالى لم يجعله

ص: 94


1- العياشي 1: 11 .
2- المصدر نفسه 1: 11.
3- المصدر نفسه 1: 10 .

لزمان دون زمان ولا لناس دون ناس فهو في كل زمان جديد وعند كل قوم غض الى يوم القيامة)(1).

هذا المعنى يزيده الإمام الرضا (عليه السلام)تأكيدا بقوله في وصف القرآن (هو حبل الله المتين وطريقته المثلى المؤدي الى الجنة والمنجي من النار لا يخلق على الازمنة ولا يغث على الالسنة لأنه لم يجعل لزمان دون زمان بل جعل دليل البرهان والحجة على كل انسان﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾(2)(فصلت (42).

هذه التحديدات المهمة في تحرير النص من قيود الزمان والمكان ينعكس عنها تحرر آخر ذو بعد شديد الاهمية يرد في المنظور الإمامي ويتجسد في ثمرتين مهمتين تنتجان عنه:

الأولى اعطاء مساحة للعقل البشري المترقي ان ينهل في كل زمان من مخزون النص حصته في الفهم التي تتناسب مع امكاناته المحدودة في ضوء زمنه.

الثانية: ان يفهم ان أي قصور في التعبير والاحاطة والاحتواء والهيمنة طارئ يعكس على النص انما هو اجنبي عن النص ومناف لقدسيته وعلويته المرتبطة بمصدره القدسي المعصوم عن كل نقص او قصور وبالتالي فالقصور مرتبط تماما بالفهم البشري المتصدي لتفسير النص وهذا القصور امر محتمل في أي زمان ولأي فهم اذا استحضرنا باقة من اهم خصائص النص القرآني (المساعدة على حصوله والمتمثلة في تضمنه الظاهر والباطن وتعدد الدلالات ووجود المتشابه، وشموليته ذات البعد الزماني المفتوح.

ص: 95


1- المجلسي البحار 2: 280 .
2- الصدوق عيون اخبار الرضا 2: 130.

الثامن: التأويل المنسجم مع الضرورات العقلية الشرعية

ویراد به اعتماد التأويل منهجا في التوفيق بين ما يحكم به العقل وظواهر الكتاب المخالفة له، وللأصول القرآنية الثابتة، خصوصا في تلك الآيات التي تنبني عليها اسس عقيدة مثل آيات الصفات الخبرية التي تنسب لله تعالى اعضاء وجوارح تستلزم التشبيه والتجسيم، او تلك الآيات التي ان اخذت على ظاهرها ينتج عن ذلك تناقض او على الاقل اختلاف بين تلك الظواهر. كما هو الحال مثلا في الآيات التي يستدل بها القائلون بالاختيار المطلق للانسان في افعاله في قبال آيات اخرى استدل بها القائلون بالجبر وكآيات الرؤية نفيا أو جوازا. اذ نلاحظ في هذا الاطار ان التأويل يصبح ضرورة حتمية تفرضها اسس واصول العقيدة وينطق بها النص نفسه وتستوجبها خصائصه في الاحتواء على المتشابه والظاهر والباطن والمبهم والمجمل وجريان النص على المصاديق المتعددة بعد ارتفاع قيد الزمان والمكان.

هذا الضابط - في اللجوء الى التأويل - يتبين في آثار الأئمة(عليهم السلام)بالتأكيد غير المباشر عليه من خلال منهجهم التطبيقي في التعامل مع الآيات السابق ذكرها باللجوء فعليا الى تأويل الآيات التي تضمنت الخصائص المارة الذكر ودلت عليها واسست للعقيدة اصولاً ثابتة.

وسيتطرق البحث عند الحديث عن انواع التفسير عند الأئمة(عليهم السلام)في الجانب التطبيقي من هذا المبحث الى العديد من الروايات التي تمخضت عن التعبير عن منهج الأئمة في التأويل واسبقيتهم الى وضع اسسه في استنطاق النص وكشف معانيه وهذه الاسبقية.

واولهم في هذا المضمار الإمام علي(عليه السلام)اذ له الاسبقية في تحكيم العقل وفي (الدفاع عن مبادئ الاسلام والتوفيق بين العقل وظاهر الوحي) (1) .

ص: 96


1- محمد جواد مغنية : فلسفات اسلامية 759.

التاسع: التحذير من المناهج القاصرة عن فهم النص القرآني :

وفي هذا الضابط المهم يتم استبعاد المناهج الباطلة والوسائل المنحرفة عن ساحة الأهلية للكشف عن معاني النص ودلالاته، والنهي عن معاملة النص في ضوء ضوابطها وبالتالي رفض ثمرات تلك المناهج ممثلة فيما تتمخض عنه من اعتقادات وآراء باطلة تفسد العقيدة وتشوه ملامحها المستمدة من النص، وتؤدي الى تخريب الارث الفكري الاسلامي المنبثق عنه واهم تلك المناهج ما تمثل في المجبرة والمشبهة والمجسمة والغلاة، ومدى فهمهم السقين للنصوص، وتأويلاتهم الباطلة التي ما أنزل الله بها

من سلطان.

ومن اوضح الوسائل التي نهى الأئمة (عليهم السلام)عن اتباعها - في طريق فهم النص الاسرائيليات وما قدمته من تفسيرات او مناسبات او تفصیلات يتقاطع الكثير منها مع اسس وثوابت العقيدة الاسلامية (1)

ص: 97


1- انظر للتفصيل في ذلك مثلا الطبرسي: الاحتجاج 2: 199 وما بعدها .
المبحث الثالث: نماذج تطبيقية لمنهج الأئمة
اشارة

في فهم النص القرآني

نلاحظ في مجال تطبيق اسس و ضوابط تفسير النص وكشف معانيه ومراميه وتحكيم معياريته وتأكيد مرجعيته ان ائمة اهل البيت (عليهم السلام)قد اتجهوا اتجاها خاصا في فهم النص له خصائصه ومميزاته المتفردة بين اتجاهات التفسير ذات الابعاد الموضوعية او التاريخية ولتشكيل تصور متكامل عن الملامح التطبيقية لمنهج الأئمة(عليهم السلام)فانه لا بد من امرين :

1 - استقراء انواع تفسير النص الوارد عن الأئمة (عليهم السلام)في رواياتهم.

2 - الكشف عن اثر الأئمة(عليهم السلام)ومنهجهم في تأصيل ملامح اسس وأصول العقيدة التي تشكل المنهج الكلامي المتفرد للائمة(عليهم السلام)وهو بذاته اهم المنطلقات تأثيرا في تشكيل ملامح المنظومة الكلامية لمتكلمي الإمامية لذا فلا بد من متابعة هذين الملحظين:

الملحظ الأول: انواع التفسير عند الأئمة (عليهم السلام)
اشارة

لو شئنا الكشف عن مناهج التفسير التي نجد لها تأصيلا في تفسير الأئمة(عليهم السلام)لوجدنا انهم فسروا القرآن بحسب مقتضيات كل نص وفقا لمناهج مختلفة.

واذا كان مما لا يسع هذا البحث كشف واستقراء كل تلك المناهج المتصورة فانه يمكن ان نلمح اوضح تلك المناهج ورودا فيما روي عنهم(عليهم السلام)متوخين منها ما كان

ص: 98

معتمدا على فهمهم الخاص ربطا او تحليلا وما تبين فيه تطبيق ضوابطهم المتفردة وبالتالي ستخرج بعض انواع التفسير عن ساحة البحث هنا بحسب هذه التحديدات ويمكن تلخيص البحث في الانواع الاخرى كما يلي:

1- منهج تفسير القرآن بالقرآن :
اشارة

تأكد لنا سابقا اهمية هذا المنهج في التفسير (الفهم) للنص القرآني فضلا عن انه من ركائز المنهج الصحيح واليقيني في فهم النص وكان الالتزام بالقرآن كمرجعية اولى في فهمه بما ينطق عن ذاته وكونه ﴿ تِبْيَنَا لِكُلِّ شَيْءٍ﴾ (النحل/89) ولم يفرط فيه من شيء ﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَبِ مِن شَيْءٍ ﴾ (الانعام/38).

وثبت لنا استحالة ان يكون الكتاب كذلك ويفرط بأهم ركيزة فيه وهي قدرته على ان يبين نفسه فيكون مفهوما عند المخاطبين به.

ونلاحظ ان الأئمة(عليهم السلام)كانوا اول من فتق البحث في هذا الضابط المهم في تصديهم لاستنطاق النص بما اسس ملامح منهج تفسير القرآن بالقرآن كمصداق لوصف الرسول للقرآن انه ينطق بعضه ببعض ويشهد بعضه على بعض) (1).

فكان هذا المنهج هو الطريق السوي الذي اتبعوه ع وهم معلموا القرآن والهداة الى ما جاء به.

وقد لاحظ الباحث ان تطبيق هذا المنهج يرد عن الأئمة (عليهم السلام)بعدة اشكال منها:

أ - تفسير الآية بالآية:

وقد بلغت الروايات في ذلك العشرات ساكتفي ببعضها بحيث يكون الاختيار في اشكال هذا المنهج او المناهج الاخرى واقعا على تفسيراتهم(عليهم السلام)للآيات المتضمنة

ص: 99


1- مسند أحمد 10 :230، 11: 30 .

لاصول العقيدة دون الخوض في الايات المتعلقة بالجوانب الاخرى الاخلاق والاجتماع والاحكام.. الخ لنلمح من خلال ذلك اثر تفسير الأئمة(عليهم السلام)في توجيه سير منظومة الاعتقادات عند الإمامية واثرها في منهج متكلميهم.

من ذلك مثلا ما ورد عن الإمام أبي محمد الحسن بن علي العسكري(عليه السلام) قال في تفسير قوله تعالى: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ (الفاتحة/6) (أي قولوا اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم بالتوفيق لدينك وطاعتك لا بالمال والصحة فقد يكونون كفارا او فساقا قال (عليه السلام): وهم (أي المنعم عليهم )الذين قال الله (فيهم): وَمَن﴿ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأَوَلَيْكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّلِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَيكَ رَفِيقًا ﴾ (النساء /69).

وحكي هذا بعينه عن أمير المؤمنين(عليه السلام)، قال: ثم قال: ليس هؤلاء المنعم عليهم بالمال وصحة البدن، وإن كان كلّ هذا نعمةً من الله ظاهرة، ألا ترون أن هؤلاء قد يكونون كفّاراً أو فسّاقاً فما ندبتم [إلى] أن تدعوا بأن ترشدوا إلى صراطهم وإنّما أُمرتم بالدعاء لأن ترشدوا إلى صراط الذين أنعم [الله] عليهم بالإيمان بالله، والتصديق برسوله، وبالولاية لمحمد وآله الطيبين) (1)

ومن ذلك ايضا ما روي عن الامام الصادق(عليه السلام)قال: قرأ رجل على أمير المؤمنين(عليه السلام)قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامُ فِيهِ يُغَاتُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ﴾(2) على البناء للفاعل بفتح الياء في( يعصرون)] قال: ويحك أي شيء يعصرون؟، يعصرون الخمر قال الرجل: يا أمير المونين كيف اقروا؟ قال عليه السلام: إنّما نزلت (عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ) أي: يمطرون بعد سنين المجاعة، والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءَ تَجَاجًا ﴾ (3)(4)

ص: 100


1- تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام 47 - 48 / 22، والصدوق / معاني الأخبار: 36 / 9 باب معنى الصراط.
2- يوسف/49.
3- النبأ: 14 .
4- القمي: التفسير 1: 346 .

وهكذا صحح الفهم الخاطئ الذي وقع فيه الكثيرون من خلال استحضاره النص القرآني الدال على القراءة الصحيحة.

وهناك روايات اخرى عنه (عليه السلام)في هذا الاتجاه التفسيري للآية بالآية ومن ذلك ايضا ما ذكره الاربلي في كشف الغمة، قال(وروى أبو الحسن علي بن أحمد الواحدي في تفسيره الوسيط ما يرفعه بسنده أنّ رجلاً قال: دخلت مسجد المدينة، فإذا أنا برجل يحدث عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)والناس حوله، فقلت له: أخبرني عن عن﴿ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُورٍ﴾ (1) فقال نعم : الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة فجزته الى آخر يحدث عن رسول الله فسألته عن ذلك فقال: اما الشاهد فيوم الجمعة واما المشهود فيوم النحر .

([2]) فجزتهما الى غلام كأن وجهه الدينار(2) وهو يحدث عن رسول الله فقلت اخبرني عن شاهد ومشهود فقال : نعم اما الشاهد فهو محمد واما المشهود فيوم القيامة اما سمعت الله سبحانه يقول ﴿يَأَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾ (3)، وقال ﴿ذَلِكَ يَوْمٌ مجموع لهُ النَّاسُ وَذَلِكَ مَشْهُودٌ ﴾(4) .

فسألت عن الأول فقالوا : عبد الله بن عباس .

وسألت عن الثاني فقالوا: ابن عمر.

وسألت عن الثالث فقالوا الحسن بن علي بن ابي طالب (عليه السلام)وكان قول الحسن احسن(5) .

وفي لمحة من تفسير آيات الصفات الخبرية نجد الإمام (عليه السلام)ينزه الباري عن

ص: 101


1- البروج : 3 .
2- لعله اراد به الوجه المدور المشرق.
3- الاحزاب/45 .
4- هود/103 .
5- الإربلي / كشف الغمّة 2: 166 ، والطبرسي / مجمع البيان 10 / 315 - 316.

الجسمية والتشبيه فقد سئل عن قوله تعالى :﴿ قَالَ يَنإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ﴾(1) ، فقال(عليه السلام):اليد في كلام العرب القوة والنعمة قال الله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُرَدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابُ ﴾(2) وقال: ﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَهَا بِأَتِيدِ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾(3)، وقال ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحِ مِنْهُ ﴾ (4)أي قواهم، ويقال: لفلان عندي أيادي كثيرة، أي: فواضل وإحسان وله عندي يد بيضاء، أي: نعمة) (5).

وسأل عبد الرحمن بن كثير أبا عبد الله الصادق (عليه السلام)عن قوله تعالى :﴿فَسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾(6)، قال(عليه السلام): الذكر محمد ونحن اهله المسؤولون)(7)، ذلك في اشارة الى قوله تعالى :﴿ قَدْ أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا رَسُولَا يَنْلُوا عَلَيْكُم ايت الله ﴾(8)

وعن أبي الصلت في حديث طويل عن الإمام الرضاء(عليه السلام)في عصمة الانبياء، قال(عليه السلام):( واما قوله ﴿وَذَا النُّون إذ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ﴾(9)، انما ظن بمعنى استيقن ان لن نضيق عليه رزقه الا تسمع الى قول الله عز وجل ﴿وأَما إِذَا مَا ابْنَلَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، فَيَقُولُ رَبِّي أَهَنَنِ ﴾(10)أي: ضيق عليه رزقه، ولو ظنّ أنّ الله لا يقدر عليه لكان كَفَرَ ) (11) .

ص: 102


1- سورة ص 75 .
2- سورة ص 17.
3- الذاريات 47 .
4- المجادلة /22.
5- التوحيد 153 .
6- النحل/43 .
7- ظ اصول الكافي 1 :210 .
8- الطلاق/ 10-11.
9- الانبياء/87.
10- الفجر /16 .
11- الصدوق عيون اخبار الرضا ع :1 201 دار العلم/ قم / 1377 ه_ الكاشاني تفسير الصافي 2: 103
ب - التفسير بالسياق :

من اشكال تفسير القرآن بالقرآن نفسه اعتماد السياق في تفسير الآيات فالقرآن الكريم باعتباره كلاما فلا بد لاجل فهمه وليكون المفسر في جو النص والوقوف على معانيه ان يحيط المفسر بالسياق القرآني الذي لا غنى له عن اتباعه كونه حجة من القرآن ذاته حيث يمثل اهم ركائز النظم القرآني الذي( يعتني بالمناسبة بين الآيات والفاظ الآية الواحدة) (1).

يصور الزركشي اهمية السياق بقوله (اذا لم يرد النقل عن السلف فطريق فهمه هو النظر الى مفردات الالفاظ من اللغة العربية ومدلولاتها واستعمالها بحسب السياق)(2).

ويؤكد السيوطي على وجوب مراعاة السياق بتأكيد مراعاة المفسر للمعنى الحقيقي والمجازي ومراعاة التأليف والغرض الذي سيق له الكلام من خلال ملاحظة الارتباط بين المفردات)(3) .

وهكذا فان السياق يكشف عن المعاني المرادة في الالفاظ ويهدف الى فهمها (من دوال اخرى لفظية كالكلمات التي تشكل مع اللفظ الذي نريد فهمه كلاما واحدا مترابطا، او حالية كالظروف والملابسات التي تحيط بالكلام وتكون ذات دلالة في الموضوع) (4).

وتنطلق اهلية السياق هنا وخصوصيته في هذا الكشف من خلال (اعتبار القرآن جميعه وحدة واحدة متماسكة وان فهم بعضه متوقف على فهم جميعه واعتبار السورة كلها اساسا في فهم اياتها واعتبار الموضوع فيها اساسا في فهم جميع النصوص التي ورد فيها) (5).

ص: 103


1- الزركشي، البرهان 2: 13 .
2- البرهان في اعجاز القرآن 2 : 172.
3- الاتقان في علوم القرآن 4: 227 .
4- البلاغي (محمد جواد ):آلاء الرحمن في تفسير القرآن 1: 372 .
5- محمد البهي: الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي ص 96 دار الفكر بيروت ط1.

وبالتالي فاغفال السياق يؤدي الى الوقوع في الكثير من الاخطاء التي تفصم عرى هذه الوحدة الموضوعية للنص وتحيده عن مقاصده ومراميه.

من اهم امثلة ذلك ما حصل عند المجبرة مثلا في المنهج التجزيئي باقتطاع النص وفصم السياق واللجوء الى منهج( التطبيق)، وليس التفسير الذي يقوم على سحب النص تعسفا وفرض رأي المذهب او الاتجاه التفسيري كتفسير وحيد له، اذ نراهم يستدلون بالآية الكريمة قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾(1)

على (ان ذلك يدل على ان الله خالق لافعالنا)(2) في حين ان الملاحظ في السياق الذي جاءت فيه الآيات انها ( حكاية لقول ابراهيم(عليه السلام)مع قومه واستنكاره لعبادتهم الاصنام والتي هي اجسام والله تعالى هو المحدث لها)(3) ، وهذا ما تصوره الآية السابقة على هذه الآية والمرتبطة بها لتصوران احتجاج ابراهيم(عليه السلام) على قومه في قوله تعالى: على لسانه ﴿قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾(4)

هذه الضوابط الهامة والاثر الكبير للسياق نجده قد وظف بتميز في تفسير الأئمة(عليه السلام)للنص القرآني بما شكل ملامح منهج متميز يكشف عن النص ويبعد كل شبهة تناقض او اختلاف فيه ويؤكد الوحدة الموضوعية.

واليك نماذج من تفسير الأئمة(عليه السلام)للنص بالسياق:

:فمنه مارواه وهب بن وهب القرشي عن الامام الصادق، عن أبيه الامام الباقر، عن أبيه الامام السجاد قال: إنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن علي عليهما السلام يسألونه عن الصمد فكتب إليهم: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد، فلا تخوضوا في

ص: 104


1- الصافات/96 .
2- الطوسي: التبيان 8 : 47 .
3- الطوسي التبيان 8 :47 .
4- الصافات / 95-96 .

القرآن ولا تجادلوا فيه، ولا تتكلّموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدي رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)يقول : من قال في القرآن بغير علم فليتبوأ مقعده من النار، وإن الله سبحانه قد فسّر الصمد، فقال:﴿ اللهُ أَحَدُ اللهُ الصَّمَدُ ﴾، ثم فسره فقال :﴿ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾(1).

ومنه ما روي عن الإمام الباقر(عليه السلام) ان حمران بن اعين سأله (2)عن قوله تعالى: ام انا انزلناه في ليلة مباركة} (الدخان (3) فقال(عليه السلام) : ( هي ليلة القدر في كل سنة من شهر رمضان في العشر الاواخر فلم ينزل القرآن الا في ليلة القدر قال الله عز وجل ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ (الدخان/4).

وعن الإمام الصادق (عليه السلام)وقد سأله ابو حمزة الثمالي عن قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ (الفتح /4)، فقال(عليه السلام): الايمان، قال عز من قائل﴿ لِيَزْدَادُوا إِيمَنًا مَّعَ إِيمَنهم ﴾ (الفتح 4) (3).

وفي الصحيح الثابت عن صفوان بن يحيى الثقة، قال: (سألني أبو قرة المحدّث أن أدخله على أبي الحسن الرضا(عليه السلام)، فاستأذنته في ذلك، فأذن لي، فدخل عليه، فسأله عن الحلال والحرام والأحكام حتى بلغ سوله إلى التوحيد فقال أبو قرّة: إنا روينا أن الله قسم الرؤية والكلام بين نبيين فقسّم الكلام لموسى ولمحمد(صلی الله علیه وآله وسلم)، الرؤية ، فقال أبو الحسن (عليه السلام): فمن المبلغ عن الله إلى الثقلين من الجن والإنس :﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ ﴾(4) ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾(5) و﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ﴾(6) أليس محمد ؟

ص: 105


1- الصدوق / التوحيد 90 - 91 / 5 باب 4.
2- الكاشاني: تفسير الصافي 1: 41 .
3- اصول الكافي 2: 15 .
4- سورة الأنعام: 103.
5- طه: 110 .
6- الشورى: 11.

قال بلى.

قال: كيف يجيئ رجل إلى الخلق جميعا فيخبرهم أنه جاء من عند الله، وأنه يدعوهم إلى الله بأمر الله، فيقول:﴿ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ ﴾ ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا﴾ و﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءُ ﴾، ثم يقول: أنا رأيته بعيني، وأحطت به علما وهو على صورة البشر ؟! أما تستحون ؟! ما قدرت الزنادقة أن ترميه بهذا أن يكون يأتي من عند الله بشيء، ثم يأتي بخلافه من وجه آخر؟!

قال أبو قرة: فإنّه يقول: ﴿ وَلَقَدْ رَوَاهُ نَزْلَةٌ أُخْرَى﴾ (1)

فقال أبو الحسن(عليه السلام): إن بعد هذه الآية ما يدل على ما رأى حيث قال: ﴿ماكَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ﴾(2) يقول : ما كذب فؤاد محمد ما رأت عيناه، ثم أخبر بما رأى، فقال: ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾ (3)، فآيات الله غير الله، وقد قال الله: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾(4)، فإذا رأته الأبصار فقد أحاطت به العلم ووقعت المعرفة.

فقال أبو قرة فتكذب بالروايات؟

فقال أبو الحسن(عليه السلام) : إذا كانت الروايات مخالفة للقرآن كذبتها، وما أجمع المسلمون عليه أنه لا يحاط به علما ولا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء ؟) (5) وينبغي هنا التذكير بأمرين:

ص: 106


1- النجم: 13.
2- النجم: 11.
3- النجم: 18.
4- طه : 110 .
5- أصول الكافي1 :95-2/96 باب في إبطال الرؤية من كتاب التوحيد والصدوق / التوحيد: 110 - 111 / 9 باب ،8 والسيّد المرتضى / الأمالي: 103 - 104 مجلس ،(10) ، والطبرسي / الاحتجاج 2: 184-185، والفتال النيسابوري / روضة الواعظين 33 - 34 .

أحدهما: إنّ السياق إنّما يعتبر به إذا لم يرد في مورده نص، وهذا ما أشار إليه الزركشي في كلامه السابق بقوله : إذا لم يرد فيه النقل عن السلف.

والثاني: إنّما يؤخذ بالسياق فيما إذا كانت السورة أو الآيات تعدّ مقطعاً واحداً من الكلام، وكان نزولها جملةً واحدة، فحينئذ يكون بعضه قرينةً لفهم البعض الآخر بمقتضى السّياق، فلو علم أن بعض الآيات نزل في قضيّة معينة لا علاقة لها بما قبلها وما بعدها، ففي مثله لا يتحكّم السّياق ولا يؤخذ به البتة.

2 -منهج التفسير بالجري (الانطباق ،المصداق)

ربما يكون هذا المنهج مما انفرد به ائمة اهل البيت (عليه السلام)فوضعوا اسسه الخاصة بهم في فهم النص، ولهذا التفسير خصوصية علمية ذات بعد مرتبط بالقدرة على استنطاق باطن النص وكشف معانيه كشفاً يزيل عنها كل حجب وحدود ظاهر الالفاظ وقيودها لينطلق الى باطن الآية وقدرتها على الشمولية وكسر قيود الزمان والمكان والقدرة على الانطباق على معان متجددة تمثل مصاديق يشملها النص.

والملاحظ هنا ان كثيرا من الروايات الواردة عن اهل البيت(عليه السلام)في تفسير النص القرآني هي من قبيل بيان المصداق وتحقق جريان معاني الآيات ودلالاتها عليه وان اختلف هذا المصداق من حيث درجة الظهور والخفاء.

هذا المنهج التفسيري يتحرر من الارتباط بعامل الزمن واثره في فهم النص الذي يتمثل في سبب النزول كقضية يستفاد منها للوقوف من خلالها على المعنى الذي يتضمنه النص القرآني باعتبار معرفة سبب النزول( طريقا قويا في فهم معاني الكتاب العزيز والاستعانة بسبب النزول لدفع توهم الحصر) (1) فالحوادث والحاجات التي تمثل سببا للنزول في كثير من آيات القرآن الكريم اهميتها هنا لا تنسحب الى اكثر من

ص: 107


1- السيوطي: الاتقان 1: 107 .

معرفة الآية وما فيها من معنى ودلالات وإلا فان( ما ورد من شأن النزول وهو الامر او الحادثة التي تعقب نزول آية او آيات في شخص او واقعة لا يوجب قصر الحكم على الواقعة لينقضي الحكم بانقضائها ويموت بموتها لان البيان عام والتعليل مطلق فان المدح النازل في حق افراد من المؤمنين او الذم النازل في حق آخرين معللا بوجود صفات فيهم لا يمكن قصرهما على شخص مورد النزول مع وجود عين تلك الصفات في قوم غيرهم وهكذا)(1).

والقرآن الكريم نفسه يؤكد هذه الحقيقة يقول تعالى ﴿يَهْدِى بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ، سُبُلَ السَّلَامِ ﴾ (المائدة/16).

فالنص القرآني العام الذي نزل بسبب خاص معين (يشمل بنفسه افراد السبب وغير افراد السبب لان عمومات القرآن لا يعقل ان توجه الى شخص معين)(2) .

هذا التحديد نجده ممثلا بوضوح في مرويات ائمة اهل البيت (عليه السلام) بمعنى (الجري) والذي ينسجم تماما مع القاعدة العامة (العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب).

وقد مرّ في أقوال الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام - وسيأتي أيضاً - ما يؤكّد أسبقية أهل البيت (عليه السلام)في تأسيس هذه القاعدة المتفق عليها بين سائر المفسّرين من الفريقين كما ذكرنا ذلك من قبل، بل يمكن القول بأن التراث الإمامي في التفسير يشهد بأمثلة شتّى على وجود هذه القاعدة في تفسير أهل البيت عليهم السلام جميعاً حيث درجوا على اتباعها، وكانت محور هذا المنهج التفسيري عندهم عليهم السلام فنجدهم يطبقون معنى الآية من القرآن على ما يقبل أن تنطبق عليه من الموارد، وإن كان خارجا عن مورد النزول والاعتبار يساعد على هذا فالقرآن نزل هدى للعالمين

ص: 108


1- الطباطبائي: الميزان 1: 42 .
2- صبحي الصالح مباحث في علوم القرآن 159 .

.. وما بينه من الحقائق النظرية حقائق لا تختص بحال دون حال ولا زمان دون زمان وما ذكره من فضيلة او رذيلة وما شرعه من حكم عملي لا يتقيد بفرد دون فرد ولا عصر دون عصر لعموم التشريع ) (1).

هذا الضابط المهم كان للائمة (عليه السلام)في تصديهم لتفسير النص اثر بارز في تفعيله لكشف دلالات النص التي لا تظهر لكل ذي فهم وتستلزم فهما خاصا قادرا على استحضار امكانات النص التي ينطق بها ايحاءا بما يمثل استبطانا يستدعي آفاقا واسعة يتحرك في اطارها وهذا الضابط هو ما عبر عنه الإمام الباقر(عليه السلام)فيما روى عنه ابو بصير قال سألته عن الرواية (ما في القرآن آية إلا ولها ظهر وبطن وما فيها من حرف إلا وله حد ولكل حد مطلع ) ما يعني بقوله (ظهر وبطن) ؟ قال(عليه السلام) : ظهره تنزيله وبطنه تأويله منه ما مضى ومنه ما لم يكن بعد يجري كما يجري الشمس والقمر كلما جاء منه شيء وقع )(2)

هذه السعة المتصورة في شمول النص تبعده الى آفاق بعيدة من التحرر من قيد سبب النزول ومورده ذلك التقييد الذي يعده الأئمة الهلام اماتة للآية.

قال الإمام الباقر(عليه السلام)( ولو ان الآية اذا نزلت في قوم ثم مات اولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن من شيء ولكن القرآن يجري اوله على آخره ما دامت السموات والارض ولكل قوم آية يتلونها هم منها من خير او شر)(3).

ومن ملامح توافر (التنزيل) على هذا (الجري): انطباق الكلام بمعناه على المصداق كانطباق قوله تعالى: ﴿ يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّدِقِينَ﴾ (التوبة/119) على كل طائفة من المؤمنين الموجودين في الاعصار

ص: 109


1- الطباطبائي: الميزان 1: 42 .
2- تفسير العياشي 1: 11.
3- المصدر نفسه 1: 10 .

المتأخرة عن زمان نزول الآية وهذا نوع من الانطباق، وكانطباق آيات الجهاد على جهاد النفس، وانطباق آيات المنافقين على الفاسقين من المؤمنين.. الخ)(1).

والخلاصة في اهلية هذا المنهج بل ضابطيته في التفسير واستحضاره الافاق الواسعة في فهم النص وتقرير شموليته تقوم على اساس( ان للقرآن اتساعا من حيث انطباقه على المصاديق وبيان حالها فالآية منه لا تختص بمورد نزولها بل تجري في كل مورد يتحد مع مورد النزول ملاكا كالامثال التي لا تختص بمواردها الأول بل تتعداها الى ما يناسبها وهذا المعنى هو المسمى بجري القرآن)(2) والذي وردت العشرات من الروايات عن الأئمة (عليه السلام)في تفسير القرآن وفق ضوابطه واسسه كبيان لبعض المصاديق التي تنطبق عليها الآيات.

- من ذلك مثلا ما ورد عن الإمام علي(عليه السلام)انه قام اليه رجل فقال: (يا امير المؤمنين ما الآية التي نزلت فيك ؟ فقال(عليه السلام) اما سمعت الله يقول {أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه} (هود/17) ، فرسول الله الا الله على بينة وانا الشاهد له ومنه )(3)

- وأكد الإمام الرضاء (عليه السلام)هذا التفسير للآية نفسها فقال (امير المؤمنين(عليه السلام) الشاهد على رسول اللهصلی الله علیه وآله وسلم) ورسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)على بينة من ربه)(4).

-كذلك قول الإمام الباقر(عليه السلام)في تفسير آية النور انه قال في قوله تعالى: ﴿كَمِشْكَوةِ فِيهَا مِصْبَاحُ الْمِصْبَاحُ ﴾(النور /35) : المشكاة نور العلم في صدر النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) ﴿الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ ﴾ الزجاجة صدر علي(عليه السلام) صار علم النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) الى صدر علي﴿ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُبَرَكَةٍ ﴾قال: نور﴿ لَا شَرْقِيَّةِ وَلَا غَرْبِيَّة ﴾قال: لا يهودية ولا نصرانية

ص: 110


1- الطباطبائي الميزان 1: 72
2- المصدر نفسه 3: 67 .
3- تفسير العياشي 2: .143 .
4- الكافي (الاصول) 1: 190.

﴿يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارُ نُورُ﴾ يكاد العالم من آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)ان يتكلم بالعلم قبل ان يسئل ﴿نُورٌ عَلَى نُورٍ ﴾يعني اماما مؤيدا بنور العلم والحكمة في اثر امام من آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)وذلك من لدن آدم حتى تقوم الساعة) (1) .

- وعن الإمام الصادق في معنى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ ءَاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ يَتْلُونَهُ، حَقَ تِلَاوَتِهِ أَوَلَتَبِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ (سورة البقرة/121) قال(عليه السلام): هم الأئمة(عليه السلام) )(2).

- وعنه(ع) ايضا في تفسير﴿ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ﴾ (الفاتحة/5) انه اميرالمؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)(3)

ولايسع البحث ان يتوسع في ايراد كثير من الروايات في هذا الباب ولمن شاء ذلك الرجوع الى المجموعات الحديثية والتفسيرية كالكافي(الاصول)، ومن لا يحضره الفقيه والتوحيد للصدوق والاحتجاج للطبرسي وتفسيري القمي والعياشي وموسوعة البحار وغيرها.

هذان المنهجان إذن من مناهج التفسير عند الأئمة (عليه السلام)هما الاكثر بروزا في الروايات مع وضوح خصوصية فهم الأئمة(عليه السلام)وإلا فهناك الكثير من الروايات عنهم(عليه السلام)في تفسير الآيات القرآنية باعتماد السنة المشرفة او التفسير المنطلق من اسس اللغة وفنونها البيانية والبلاغية.. الخ وهو ما يمكن الرجوع فيه الى نفس المصادر السابقة الذكر .

ص: 111


1- الصدوق التوحيد 158.
2- تفسير العياشي 1: 57 .
3- المصدر نفسه 1: 24 .
الملحظ الثاني: تأصيل الأئمة لاصول العقيدة
اشارة

انطلاقا من النص القرآني

اذا كان القرآن الكريم قد استكمل في جانب من الخطاب الموحى به قواعد الحياة العملية وطبيعة التعبير عن طقوس العبادة والمعاملات ممثلة بالشريعة فان الجانب الاكبر من هذا الخطاب اختص بتأسيس أصول العقيدة واقامة صرح تصور عن الطبيعة وما وراء الطبيعة( ميتافيزيقا )كاملة وتصور اسلامي متكامل للمنظومة (الكلامية) التي لا يمكن لاي دين ان يكون بدونها رابطا بين العابد والمعبود.

والأئمة (عليه السلام)وهم عدل القرآن والمستنطقون والمؤهلون لكشف معانيه ودلالاته كانوا اولى من يتحمل مسؤولية الكشف عن تلك الأسس المشكّلة للعقيدة كخطوة اولى تستلزم بعدها بناء منهج اثباتها والبرهنة عليها ليتم بالتالي تقديمها الى متلقيها من اهل العقيدة او مناوئيها وبالتالي فقد اندرجت في هذه المهمة عند الأئمة(عليه السلام)ثلاثة مراحل مهمة تمثل فيما بينها منهجا تكامليا مكونة ملامح التصور الإمامي للعقيدة واصولها بما يمكن تلخيصة في:

1 - منهج التعرف على العقيدة وكشف اسسها.

2 - منهج اثباتها والبرهنة عليها.

3 - منهج توصيلها وبيان تفاصيلها.

ص: 112

اولا :البيان والكشف

هناك مجموعة من العوامل المؤثرة في محيط النزول القرآني مكانيا وفكريا ممثلة في:

1- تركيز الخطاب العقائدي القرآني القائم على تأكيد حجية العقل ومساحة فاعليته في الفكر الانساني عموما وكونه مناطا للتكليف وبالتالي الدعوى القرآنية للتدبر والتفكر في الآيات الانفسية والآفاقية.

2 -شيوع البحث العقلي عند المسلمين بعد النبي ، والموقف الدفاعي الذي كان بد من اتخاذه امام العقائد والملل والافكار المضادة القادمة من خارج الحدود او المتجذرة داخلها، ثم التوجه الفكري الذي صبغ مراحل تاريخية مهمة بصبغته وذلك بانشغال المسلمين بالبحث الفلسفي.

3 -ظهور اتجاه يتحدر من أصول تعود الى الصحابة والتابعين (رض) يقوم على التعبد بظواهر النصوص والابتعاد عن الخوض في المجادلات والنظر والبحث عن تأويلات وتفسيرات ربما خيف - وهو خوف سلبي - ان تشغل المسلمين بمناقشاتها وهو اتجاه يعوّم النص ويهمش الجانب الاكبر من الخطاب القرآني في ضوء رؤية قائمة على الحدود الضيقة لظواهره.

4- بروز اتجاه آخر مهم وله خطورة كبيرة ذات تأثير واضح فيما بعد ناتج عن اختلاف الفرق في فهمها للنص القرآني وبالتالي اخراج النص القرآني من مرجعيته ومحاولة اخضاعه لما يوافق الآراء المذهبية ليعود ذلك (تطبيقا) ابعد ما يكون عن (التفسير) للنص.

هذه العوامل المهمة كان لها اثر كبير في تصدي الأئمة(عليه السلام) لمهمة تأسيس منهج ورؤية عقائدية تشكل المنظور القرآني الذي تتمثل فيه القدرة على سد أية ثغرات قد

ص: 113

تتسبب عن مثل هذه العوامل التي عايش بعض الأئمة (عليه السلام)ظهور تأثيرها او انهم ادركوا حتمية ظهورها في الافق الفكري الاسلامي فاستوجب ذلك منهم(عليه السلام)وضع تلك الأسس والتصدي للمهمة الصعبة.

ونجد هذا متمثلا بوضوح في ان البحث العقلي وجد اهتماما كبيرا عند الأئمة(عليه السلام)وشيعتهم. ففي الوقت الذي نجد ان اغلب الصحابة يبتعدون عن الخوض في المسائل العقلية والبحوث العالية ويعتقدون ان القرآن الكريم اغناهم عن الخوض فيها او نهى عن تجاوز الحدود المرسومة فيه (1) ، وان النبي كان يصرفهم في بداية البعثة عن الخوض فيما يحيد بهم عن القصد ومرحلة بناء الركائز في هذا الوقت نجد ان الإمام علي بن ابي طالب(عليه السلام)قد تصدى للمهمة الجليلة بوضع اسس الكشف عن منظومة العقائد الاسلامية الكلامية من خلال التعرف عليها وبلورة مفاهيمها انطلاقا من النص القرآني وكان من اهم ملامح هذا التصدي عنده السلام:

1 اسبقيتها(عليه السلام) الى تأويل ظواهر الكتاب وتحكيم العقل في الدفاع عن الدين، والتوفيق بين العقل وظاهر الشرع (2).

2 -بیان ملامح العقيدة والمنظور القرآني لاسسها فيما ورد عنه(عليه السلام)من الروايات التي بلغت المئات وتضمنتها كتب التفسير والعقائد واشتمل (نهج البلاغة) على الكثير منها مما يتناول الحكمة والمباحث التوفيقية ومفاهيم التوحيد والعدل حتى ان تفرده في ذلك واضح بحيث لا نجد في كلام احد من الصحابة والتابعين كله كلمة واحدة من ذلك)(3) حتى صار العلم الإلهي وهو اشرف العلوم (من كلامه اقتبس وعنه نقل واليه انتهى ومنه ابتدأ) (4) .

ص: 114


1- النشار (علي سامي) نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ص 4 (بتصرف) منشأة المعارف الاسكندرية - مصر ط2 1962 م .
2- ظ: محمد جواد مغنية : فلسفات اسلامية 759
3- احمد محمود صبحي: نظرية الإمامة ص 269
4- ابن ابي الحديد شرح نهج البلاغة 1: 17.

وللإمام(عليه السلام)فضل رجوع كافة اتجاهات البحث الكلامي اليه في اصولها المعتمدة المستمدة من فهم النص القرآني بحيث صار( جميع ما اسهب المتكلمون من بعد في تصنيفه وجمعه انما هو تفصيل لتلك الجمل وشرح لتلك الاصول )(1)التي اسسها الإمام(عليه السلام)ووضع اصولها فمنه اخذت.

ففضلا عن الإمامية والزيدية - وصلتهم به واضحة ظاهرة - فان المعتزلة والأشعرية يرجعون اليه وعنه تعلموا اصولهم (2).

واتخذ الامر الاتجاه نفسه مع الأئمة الباقين(عليهم السلام)من بعده كل بحسب قوة ظهور تأثير تلك العوامل - السابقة الذكر - وطبيعة الظروف الفكرية والسياسية وتمثل بروز ذلك واضحا عند الإمام الباقر (عليه السلام)الذي( تشعب البحث الكلامي في عصره وظهرت آراء المعتزلة العقلية وكثر الجدل حول ذات الله وصفاته ...)(3) .

وكذلك الإمام الصادق(عليه السلام) الذي ظهرت في وقته العديد من المشكلات الكلامية كمشكلة خلق الافعال (4)وكانت له وقفة كبيرة في وجه الملحدين والمشككين (5)وتحدثت عنها كتب العقائد والاحتجاج عند الإمامية.

وكان من اهم ملامح المنهج التأويلي عند الإمام علي(عليه السلام)والأئمة من بعده انهم تصدوا لتنزيه الباري عن التجسيم ومكافحته ودفع شبه المشبهة وخرافاتهم في ذلك. يقول القاضي عبد الجبار( واما امير المؤمنين فخطبه في بيان نفي التشبيه واثبات العدل اكثر من ان تحصى )(6) .

ص: 115


1- الشريف المرتضى: الامالي 1: 148
2- ابن ابي الحديد شرح النهج 1: 17
3- ظ احمد محمود صبحي: نظرية الإمامة ص 360.
4- ايضا ص 366.
5- ظ: محمد الخليلي امالي الإمام الصادق 165 وما بعدها، وانظر الصدوق التوحيد الطبرسي، الاحتجاج.
6- فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة 163 طبع تونس 1974.

ويقول البغدادي: قال امير المؤمنين (رض) (ان الله تعالى خلق العرش اظهارا لقدرته لا مكانا لذاته )وقال ايضا( قد كان ولا مكان وهو الآن على ما كان)(1) وهو(عليه السلام) القائل (ما وحده من كيفه ولا حقيقته اصاب من مثله ولا اياه عنى من شبهه ولا حمده من اشار اليه وتوهّمه)(2).

ولو شاء الباحث ايراد ما صدر عنهم(عليه السلام)من الروايات في توضيح أصول العقيدة واسسها لاحتاج ذلك الى مجلدات ضخمة وهو ما تصدت له مجموعة من المجاميع الكلامية والحديثية عند الإمامية على رأسها:

1 - أصول الكافي للكليني (ت 329ه_).

2 - التوحيد للصدوق ( ت 381 ه_ ) .

3 - الاحتجاج للطبرسي ابو منصور علي بن ابي طالب ( ت حوالي 620ه_).

4 البحار للمجلسي (ت 1111 ه_).

ثانيا: الاثبات والبرهنة

من خلال متابعة المجموعات الكلامية والحديثية السابقة الذكر واستقراء روايات الأئمة (عليه السلام)في بيان اسس العقيدة والدفاع عنها نلاحظ ان علم الكلام كدرس عقائدي تتمثل مهمته في الاساس في صورتين :

1 - مهمة تنويرية : هدفها تنوير الفهم الاسلامي للفرد ورقيه في ادراك مضامين عقيدته وتعميق اطلاعه على مفاهيمها الواردة في الخطاب الديني كتاباً او سنة من مثل ما يرجع البحث فيه الى الخالق ووجوده وصفاته والقضاء والقدر والنبوة وعصمة الانبياء والإمامة والمعاد... الخ.

ص: 116


1- الفرق بين الفرق 200.
2- نهج البلاغة (181).

ونلاحظ ان الأئمة(عليه السلام)قاموا بهذه المهمة خير قيام وهو ما بينه البحث في المقصد السابق.

2 - مهمة دفاعية : تمثل الوازع الرئيس العقلي في الاسلام ثم شكلت الغرض الاساس من ظهور علم الكلام وتدوينه وتوسيع مطالبه لمجابهة التيارات المضادة والدفاع عن الدين و حفظ ایمان اتباعه بدرء الشبهات وتأصيل الحجج والبراهين وانتزاع الادلة من الأصول القرآنية.

هذه المهمة الخطيرة كان لها نصيب وافر من الاهتمام عند الأئمة (عليه السلام)تتبين بوضوح من خلال:

1 -تصديهم(عليه السلام)بانفسهم للمناظرة في الدين والاحتجاج على المخالفين وشرح المسائل الاعتقادية طالما سنحت الظروف لذلك بما يزيل كل ابهام أو شبهة.

2 -حثهم لاصحابهم على الوقوف بوجه المعاندين والملحدين واهل الشبه وتشجيعهم على المناظرة والجدل وتكريمهم لاصحابهم ممن اوتي القدرة على ذلك کهشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي ومحمد بن حكيم ومحمد بن الطياروعلي بن منصور ومؤمن الطاق وزرارة بن اعين ويونس بن عبد الرحمن والفضل بن شاذان وغيرهم )(1) . مع تاكيد ان ليس كل مايقوله هؤلاء يمثل رأي الأئمة (عليه السلام).

- فمما يروى عن الإمام الصادق(عليه السلام)انه كان يقول لعبد الرحمن بن الحجاج (كلم اهل المدينة فاني احب ان يرى في رجال الشيعة مثلك) (2).

- وعنه (عليه السلام)ايضا انه قال لهشام بن الحكم حين سأله عن مسائل في اسماء الله فأجابه عنها وقال: افهمت يا هشام فهما تدفع به اعداءنا والملحدين في دين الله عز

ص: 117


1- انظر للتفصيل فلاسفة الشيعة حياتهم وآراؤهم: عبد الله النعمة دار مكتبة الحياة، بيروت.
2- المجلسي: البحار ج 2 حديث 42 .

وجل غيره وتبطل شبهاتهم ؟ فقال هشام نعم فقال (عليه السلام)له: وفقك الله يا هشام) (1).

-وقال الإمام موسى الكاظم(عليه السلام) لمحمد بن حكيم (احد اصحابه) كلم الناس وبين لهم الحق الذي انت عليه وبيّن لهم الضلالة التي هم عليها )(2) وقد وردت الكثير من الروايات عنهم(عليه السلام) في تحديد ضوابط الجدل الديني وتأشير ملامحه لابعاده عن ان يكون جدلا عقيما لا منتجا ومنع دخوله في متاهات المذهبية وخوضه فيما يجب عدم الخوض فيه كالذات الالهية او وقوعه في مغبة التجرد عن مرجعية النص او تصدي غير المؤهلين للجدل.

- فمن ذلك مثلا ما في باب الجدل في ذات الله ما روى عبد الحكيم القصير قال: (سألت أبا جعفر (الإمام الباقر(عليه السلام) ) عن شيء من التوحيد. فرفع يديه الى السماء وقال :تعالى الله الجبار من تعاطى ثم هلك) (3)

- وعنه(عليه السلام)ايضا انه قال ( دعوا التفكر في الله فان التفكر في الله لا يزيد الا تيها لان الله تبارك وتعالى لا تدركه الابصار ولا تبلغه الاخبار )(4).

-وعن الإمام الصادق(عليه السلام)انه قال من اخذ دينه من افواه الرجال ازالته الرجال ومن اخذ دينه من الكتاب والسنة زالت الجبال ولم يزل. وقال(عليه السلام):اياكم والتقليد فان من قلد في دينه هلك (5).

- وعنه (عليه السلام)ايضا ان احد اصحابه قال له: جعلت فداك سمعتك تنهى عن الكلام وتقول : ويل لاهل الكلام يقولون هذا ينقاد وهذا لا ينقاد وهذا ينساق وهذا لا

ص: 118


1- المفيد: تصحيح الاعتقاد (مطبوع مع اوائل المقالات) ص 218
2- المصدر نفسه.
3- الصدوق : التوحيد 456
4- المصدر نفسه.
5- المفيد تصحيح الاعتقاد 219

ينساق وهذا نعقله وهذا لا نعقله فقال(عليه السلام): انما قلت ويل لهم اذا تركوا قولي وصاروا الى خلافه) (1).

-ومما في باب نهي غير المؤهلين عن الخوض في الجدل انه(عليه السلام)نهى رجلا عن الكلام وأمر آخر به فقال له بعض اصحابه جعلت فداك نهيت فلانا عن الكلام وأمرت هذا به ؟ فقال(عليه السلام) : هذا ابصر بالحجج وارفق منه) (2).

- وفي رواية اخرى انه دعا جماعة من اصحابه فتكلموا في حضرته ثم تكلم هشام بعدهم فاثنى عليه ومدحه وقال له مثلك من يكلم الناس)(3) .

ثالثا :تبليغ العقيدة وبيان تفاصيلها

يتأكد هذا المنهج عند الأئمة وتتبين تطبيقاته بوضوح في طول مراحل حياتهم(عليه السلام)ابتداء بالإمام علي (عليه السلام) حتى آخرهم فيما تجده مرويا عنهم من آلاف الروايات الواردة في المدونات السابقة الذكر وغيرها مما كان هدفه تجسيد ملامح العقيدة بأصولها كافة حتى لم يفلت موضوع او جزئية تشكل ملمحا من ملامح العقيدة الا وبينوا الفهم الصحيح له واصلوا جذوره القرآنية وفصّلوا ما يتفرع فيه من الكلام حتى شكل ذلك منظومة كلامية لا نجد لها مثيلا عند اية فرقة من الفرق الكلامية باستحضار خصوصية دور الأئمة (عليه السلام)في أصول مذهب الإمامية وطبيعة خصوصيتهم الدينية والعلمية.

والرجوع الى المظان السابق ذكرها يؤكد هذا القول ويكشف عن الملامح التطبيقية لهذا المنهج . وقد تصدى هذا البحث لايراد الكثير من المرويات عنهم(عليه السلام)

ص: 119


1- ظ الكليني: الكافي (الاصول) 1: 171 المفيد : تصحيح الاعتقاد 218
2- المفيد: تصحيح الاعتقاد 218
3- المصدر نفسه.

منها ما سبق ذكره وان ترك الكثير منها لمقتضيات الضبط والاختصار خصوصا وان تلك المدونات الكبرى قد اغنتنا عن الخوض في تفاصيلها فيحسن الرجوع اليها.

ص: 120

الفصل الثاني : موقف متكلمي الإمامية من التعامل

اشارة

مع ظاهر النص ومتشابهه

ص: 121

تمهید

يمثل القرآن الكريم حجة الله على عباده ومعجزته الكبرى وطريق إثبات رسالة نبيه(صلی الله علیه وآله وسلم) وهو منهاجه وناموسه المنزل لهداية البشرية الى مافيه صلاحها، ورسم طريق حياتها، وتنظيم صلتها بالخالق. وترتيبا على ذلك فلا بد ان تتوافر في هذا الخطاب إمكانات التوصيل للمخاطب بما يتناسب وقدراته على الفهم ما دامت الغاية منه هي الهداية. قال تعالى: ﴿ذَلِكَ الْكِتَبُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ (سورة البقرة/2).

وهذه الحقيقة تتأكّد ضرورتها من خلال اشارة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)فيما رواه الإمام الصادق (صلی الله علیه وآله وسلم)انه(صلی الله علیه وآله وسلم) قال (1)بعثنا) معاشر الانبياء لنكلمَ الناسَ على قَدْرِ عقولهم)

هذه القضية العامة تحتاج لتحقق صدقها في مورد التطبيق الى معاضدة عوامل اخرى ينبغي ملاحظتها. لذلك لا بدّ من الالتفات الى خصيصتين مهمتين من خصائص النصّ القرآني ينبغي التعامل معه باستحضارهما من قبل عموم المخاطبين بالنص والمتصدين لفهمه واستنباط أصول العقيدة منه على وجه الخصوص، وهما:

الأولى: ان هذا النص نزل بلغة العرب وخوطب به المتحدثون بهذه اللغة. وهو مايمثل سنة إلهية جارية ﴿وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ﴾ (الاحزاب/62) حيث يقول تعالى:﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ ﴾

(ابراهيم (4) )

وبالتالي فان على المتصدي لفهم هذا النصّ وتدبره ان يجري في تعامله مع معانيه كما يجري مع تلك اللغة التي نزل بها من صيغ التعبير وضوابطه، واسسه ودلالاته وعليه ان يستوعب معاني نصوصه في ضوء هذه الأسس وهذا يؤشر ضرورة ان يفهم المتصدي لذلك ان الكلام - أيّ كلام - له حالتان هما

ص: 122


1- اصول الكافي 1 :23 .

1 - خفاء الدلالة، واجمال المعنى. وهي حالة يعبر عنها قرآنياً ب_ (التشابه) ؛ حيث لا يمكن الاطمئنان الى تعيين احد المعاني المحتملة للكلام على انه هو المعنى المراد حقيقة من قبل المتكلم بالنص، كما لو تعمد المتكلم الاجمال والاخفاء في كلامه، بحيث لم يمكن الافصاح عن مراده منه او انه يتعمد ان يكون كلامه مفتقرا الى قرينة يعتمد ايضاحه عليها، تكون خافية على السامع وبدونها لا يفهم مراده، ويبقى الكلام في حيّز (التشابه).

2 - وضوح الكلام في دلالته ويعبر عنه قرآنيا ب_ (الأحكام)، وله درجتان :

أ-النص : وهو ما لا يحتمل فيه الخلاف بالمرة (1)كقوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللهُ أحد ﴾(الاخلاص/1).

ب - الظاهر : وهو ما يُحتمل فيه الخلاف بين مراد المتكلم من كلامه وفهم السامع، وان كان هذا الاحتمال لا يرقى الى مستوى التأثير في دلالة اللفظ في معناه المراد عند المتكلم.

ومما تسالم عليه العلماء كافّةَ العمل بظهورات الكلام وحجيته في تعيين المعنى المراد من قبل المتكلم، وهذا ما سار عليه الناس في مخاطباتهم. فما من كلام يطلقه المتكلم الا وهو مورد للعديد من الاحتمالات التي يمكن ان تكون مقصودة من الالفاظ او من القرائن التي تكتنفها ولكن حيث يكون احد هذه الاحتمالات هو البارز من بينها، فان السامع يأخذ به ويعتبر الكلام ظاهراً فيه، ويترك الاحتمالات الاخرى، ويلزم المتكلم به كما ألزم المتكلم السامعين به.

وبدون هذا لا يمكن لمسيرة الحياة ان تمضي بسهولة ويسر، ويصبح من المستحيل على البشر التفهُمُ والتفهيم فيما بينهم.

الثانية: ان القرآن الكريم، وان كان منزلاً لهداية البشر كما نص في آياته، وهي غايته

ص: 123


1- انظر المحقق الحلي (جعفر بن محسن بن يحيى ت 676ه_) : معارج الاصول ص 52 ، طبع حجر ایران 1310 ه_.

الكبرى، إلاّ أنّه لا بد من ان يُعرف كون نزوله على الرسول ، له وانه يمثل الناموس والمرجعية للمنظور الاسلامي بكل جوانبه ولجميع حاجات الحياة المستنبطة منه؛ فان الله تعالى أوكل الى نبيه (صلی الله علیه وآله وسلم)مهمة التفريع والتفصيل لجوانب هذا المنظورالاسلامي عقيدة ونظاماً تعبدياً؛ لتكون السنة النبوية بذلك شارحة القرآن ومبينته(1) .

وحينئذ، فليس غريباً ان يحوي القرآن الكريم من ضمن ما يحويه المحكم والمتشابة - من حيث الدلالة - وهذا ليس تناقضاً في الغرض الإلهي بين الهداية المستلزمة للبيان ووجود المتشابه فيه، فالناس ليسوا جميعا في مرتبة واحدة في فهم النص القرآني، والقدرة على استيضاحه.

ومن هنا يثبت ما للنص في حالتي الظهور والخفاء - من خصائص وامكانات في التعبير تستدعي تدبّراً وتفهما، وعمقا في النظرة اليه واستحضارا لضوابط التعامل معه.

وهذا ما يؤكد اهمية التعرف الى آفاق النظرة الى ظواهر القرآن ومتشابهاته عند المتكلمين عموما، والإمامية منهم ما دام هذا المبحث قد خصص لاستبيان موقفهم في التعامل معها.

المبحث الأول: ظاهر القرآن عند متكلمي الإمامية

اشارة

الظهور كما تمت الاشارة اليه مرتبة من مراتب البيان في النص. وهو واقع في القرآن الكريم ضمن المحكمات من الآيات اذ هو قسم من المحكم. وقسيمه الآخر هو النص الذي لا يقبل الا معنى واحدا في حين يحتمل الظاهر اكثر من معنى. وسنتعرف الى اهمية الظاهر واثره عند متكلمي الإمامية من خلال مجموعة مقاصد:

ص: 124


1- انظر للتفصيل الكليني: الكافي (الفروع) 3: 2711 / 3 4:509 ،245، القرطبي: الجامع لاحكام القرآن مطبعة دار الكتب المصرية ط2 القاهرة 1372 ه_ / 1952م وما ينبغي في روايته ومحله 2 :234 المكتبة السلفية المدينة المنورة ط13882ه_ 1968م.
المطلب الأول: الظاهر لغةً واصطلاحاً
1- الظاهر فى اللغة:

ترد مادة (ظهر) في اللغة العربية، ويكون المراد من أصل الظهر من كل شيء هو خلاف البَطن (1)والظاهر خلاف الباطن. ظَهَرَ يَظْهَرُ ظُهُوراً، فهو ظاهرٌ وظَهير(2) وظَهَرَ الشيءُ ظُهوراً، أي تبيَّن، واتضح معناه فالظاهر هو الواضح المنكشف البارز بعد الخفاء (3).

والظواهر : أشراف الارض (4)أي ما علا منها، وارتفع، فبان من بعيد. لذلك يقال: قريش الظواهر ، وهم الذين ينزلون ظهر مكة.

وواضح ان المعنى اللغوي للظهور يؤكد خصوصية البيان، والوضوح والبروز، وهي امور عامة مشتركةٌ بين كل ما هو ظاهر في معناه المعيَّن.

2 -الظاهر في الاصطلاح :

لما كان الظهور امراً متعلقا بمرتبة البيان في النص، ووضوح الدلالة وانكشاف المراد من اللفظ، ومن ثمّ تنبني عليه عملية التعامل مع النص لاستنباط المراد منه. وبما ان هذه القضية شأن مشترك، وغاية تقع في دائرة بحث المستنبط للفروع، او الأصول، والأول منهما الاصولي، والثاني المتكلم. فلا بد من استبيان تصور الاتجاهين في

ص: 125


1- انظر: ابن منظور لسان العرب 4 520 مادة ظهر الجوهري تاج اللغة وصحاح العربية 2: 730 مادة ظهر.
2- لسان العرب 4: 523.
3- الفيروزابادي: القاموس المحيط ،2 ،82 الزبيدي تاج العروس :12: 485 الكويت 1974.
4- الزبيدي : تاج اللغة 2: 732 (مادة ظهر).

تحديد المصطلح. ونظراً لأنّ اقطاب المذهب الإمامي ممن اخترناهم نموذجاً للبحث التطبيقي تمثيلا للمذهب هم انفسهم من اقطاب البحث الاصولي ايضا. لذا ارتأى الباحث تحديد المصطلح وابعاده من خلالهم، والابتعاد عن التوسع المؤدي الى الاطالة بما لا تحتمله خصوصيات البحث .

نلاحظ ان الظهور يرد عند الاصوليين في نطاق بحثهم في دلالة النصّ على المعنى ومرتبتها بين الوضوح والخفاء؛ اذ نجد انهم يقسّمون الكلام من هذه الناحية الى الواضح والخفي - وهو ما تبين لنا اتصاف النصّ القرآني به ايضا - والمائز بينهما هو الاستعانة على فهم النص بقرائنَ خارجية ( فما لم يحتج الى ذلك فهو واضح وإلا فهو خفي) (1).

والظاهر عندهم( احد الاقسام المتعددة للواضح الدلالة، يشترك معه في ذلك النصّ والمفسر)(2).

وفي حدود الاتجاه الاصولي في بحث الظاهر عند متكلمي الإمامية نلاحظ لتحديد المصطلح عندهم أبعادا متعددة:

فالشيخ المفيد (ت 413ه_) يمثل الظاهر عنده( المطابق لخاص العبارة عنه تحقيقاً لعادات اهل اللسان؛ فالعقلاء العارفون يفهمون من ظاهر اللفظ المراد) (3)ففهم اهل اللغة العارفين بها لمعنى معين على انه مراد المتكلم، حسب ضوابط واصول تلك اللغة يحقق حالة الظهور في النص في نظر الشيخ المفيد.

ويبتعد تلميذه الشريف المرتضى (ت 436ه_) عن التفصيل والتوسع؛ ليحدد

ص: 126


1- ظ : بدر المتولي عبد الباسط: اصول الفقه على مذاهب اهل السنة والإمامية ص 211 مطبعة دار المعرفة بغداد ط1 1951 م.
2- المصدر نفسه.
3- انظر: تذكرة الاصول ص ،169 طبع ،حجر، ایران 1322 ه_ مطبوع مع كنز الفوائد للكراجكي ت 449 ه_

الظاهر بانه( ما امكن ان يُعرف المراد به) (1).

ونلاحظ هنا التفاتة مهمة في تحديده احتمالية امكان معرفة المراد به الى خصوصية الظاهر في الدلالة الظنية التي لا ترقى الى مستوى القطع، وانما تتعدد احتمالات ،المعنى ويكون الظاهرُ ارجحها.

اما عند الشيخ الطوسي (ت 460 ه_) فنلاحظ استفادة الأصل اللغوي للظهور؛ اذ الظاهر عنده( ما يظهر المراد به للسامع. فمن حيث ظهر مراده، وصف هو بانه ظاهر)(2) فأي معنى من المعاني المتعددة المحتملة اظهر المراد للسامع، كان ذلك هو الظاهر.

وهذا التحديد يؤكده العلامة الحلي (جمال الدين الحسين بن المطهرات 726ه_ . فالظاهر عنده ما كان راجحا من المعاني، حيث يحتمل اللفظ معنيين او اكثر الراجح منها هو الظاهر . اما الوضع اللغوي او العرفي او الاصطلاحي فيمثل الدليل على تلك الارجحية وذلك الظهور )(3)وكلامه الاخير هذا يعطي معيارية مهمة لاصول اللغة، ومراتب العارفين بها في دعم معنى معين وترجيحه على غيره للتعبير عن المراد.

وفي موضع آخر نجد العلامة الحلي يضيف ضابطا آخر في التحديد، حين يرى ان الظاهر : هو ما دل على مراده مع الحاجة الى التأويل؛ ليكون اغلب على الظنّ. وذلك من خلال تعريفه للتأويل بانه(احتمال يعضده دليل يصير به اغلب على الظن من الذي دل الظاهر عليه)(4).

ويمكن من خلال التعريفات السابقة وربطها بالاصل اللغوي انتزاع امرين :

ص: 127


1- الذريعة في اصول الشريعة :1 392، طهران 1346 ه_.
2- عدة الاصول: 154 طبع ،حجر طهران 1317ه_.
3- مبادئ الوصول الى علم الاصول : 65 (بتصرف) تحقيق عبد الحسين البقال مطبعة الاداب /النجف ط1 1390 ه_ - 1970 م.
4- المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

1 - ان الجامع بينها - وهو ما يشترك فيه اغلب الاصوليون - ان الظاهر هو ما دل على معنىً واحد ولم ينفِ احتمال غيره، وهذا القيد هو الفارق بين الظاهر، وقسيمه النص.

2 - ان الظهور وصف اضافي نسبي، فالالفاظ لما كانت قالباً للمعاني. بحسب التخاطب، فكأن المتكلم قد احضر المعنى نفسه في ذهن السامع بكلامه. وان هذا امر يعلم بالوجدان، ففهم السامع للمعنى يعتمد على علمه بوضع ذلك اللفظ لذلك المعنى، وبالتالي فان الظنَّ هو مرتبة حجية الظاهر. ومن الطبيعي حينئذ ان تكون له مراتب مختلفةٌ باختلاف الاشخاص والمعاني )(1)، ومن هنا صار واضحاً - عند الاصوليين - ان دلالة الظاهر على المعنى دلالة ظنية لان التالي للقرآن حيث تتبين له المعاني التي يظن انها هي المقصود والمراد من النص المتلو، فانه في الوقت نفسه يحتمل ان يكون هناك معان اخرى هي المقصودة من النص، ووجود الاحتمال يعني ظنية المعنى وهذا ما يتفق عليه اغلب اصوليي مذاهب الشافعية والحنابلة والمالكية، والإمامية(2) .

ص: 128


1- ظ : العلامة الحلي نهاية الوصول الى علم الاصول (مخطوط) القسم الثاني ورقة 130 مكتبة امير المؤمنين / النجف تحت رقم ت 1489: 5 اصول.
2- الإمام الشافعي: الرسالة ص 401 تحقيق احمد محمد شاكر مطبعة مصطفى البابي الحلبي / القاهرة 1358 ه_ 1940 ه_ ابن قدامة روضة الناظر وجنة المناظر في اصول الفقه على مذهب الإمام احمد بن حنبل ص 92 المطبعة السلفية / مصر 1378 ه_ السيد عبد الأعلى السبزواري مهذب الاحكام في بيان الحلال والحرام 2 :72 مطبعة الآداب النجف / 1399 ه_ 1979م، وغيرها.
المطلب الثاني: ظاهر القرآن وباطنه عند الإمامية

تحتل قضية الظواهر القرآنية اهميةً كبيرةً في فهمه. وهي من المسائل المهمة في مناهج التفسير المختلفة، وتكاد تمثل معياراً مهماً في تحديد المنطلقات الفكرية الرئيسة المحددة لأبعاد أي منهج فكري عقائدي .

ونلاحظ ان المسلمين انقسموا الى عدة اتجاهات رئيسة في موقفهم من ظواهر النصوص يمكن اجمالها في (1):

1 - من قال بوجوب الوقوف عند ظاهر اللفظ مطلقاً حتى لو خالف العقل.

2 - من قال بجواز التأويل، بل بوجوبه - في بعض الحالات - اذا تصادم الظاهر مع العقل.

3 - ومنهم من قال بجواز التأويل مطلقاً، ولو كان الظاهر موافقا لحكم العقل، وهؤلاء جماعة الصوفية.

فمن تمسك بالظاهر تمسكاً حرفياً: الظاهرية، والحشوية الذين وقفوا بجمود على ظواهر النصوص، وصل بهم الى حد انكار المجاز في القرآن بحجة انه خلاف الظاهر، كما سيمر بنا في المباحث القادمة.

ونلاحظ ان الباطنية وجدوا في الحديث المروي عن الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)( ما نزل من القرآن من آية إلا ولها ظهر وبطن )(2) عالما فسيحا فاطلقوا لخيالاتهم العنان، وساحوا

ص: 129


1- محمد جواد مغنية : فلسفات اسلامية 446.
2- الطوسي التبيان 1 :9.

باذواقهم الى آفاق بعيدة الى درجة اختفت معها مدلولات الكلمة العربية التي تشكل مادة الخطاب القرآني بما يفقد النص أية صلة بالحياة العملية وتشريعاتها، وليفقد بالتالي عنوانه الاساسي وهوكونه كتاب هداية، ومصدر تشريع ومنهج حياة وهذا هو طابع اغلب الصوفية، وكذلك الاسماعيلية والغلاة.

ولا شك ان بلاء التمسك والجمود على ظواهر النصوص ليس بأقل سلبية، واثراً تراجعياً - عن قيمة النص ومرجعتيه وافاقه المفتوحة - من المتمسكين ببواطن الآيات وتأويلاتهم التي تقطع عن النص كل صلة بالحياة، وتحيد به الى ما يبعده عن غاياته وافاقه التي يغطيها فالاتجاهان بين الافراط والتفريط وذلك اننا نلاحظ ان النصّ القرآني يوجد فيه ظواهر مقصودة في خطاباته، كما في قوله تعالى :مثلا ﴿وَأَقِيمُواْ الصَّلَوةَ ﴾(سورة البقرة /43) كما توجد فيه ايضا آيات لا يراد بها معانيها اللغوية الظاهرة المبذولة وانما قصد منها معان عرفية يتقبلها عرف التخاطب على سبيل التجوز والتشبيه كآية:﴿ يَجْعَلُونَ أَصَبْعَهُمْ فِي عَاذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ﴾(سورة البقرة/19)، وكقوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾

(الفتح/10)، وعند البحث في الاتجاه الإمامي، وموقفه من ظواهر النصوص القرآنية نلاحظ - فيما يرد عند اقطابهم المحققين - اعتماد ظواهر القرآن مستندين في ذلك الى ثلاثة مدارك مهمة من الادلة تتمثل في محكم الكتاب ،وما صح عن اهل البيت (ع) ، والبراهين العقلية، ولا مجال هنا للخوض في تفصيلات استدلالاتهم. ويحسن الرجوع الى الكتب الاصولية لاستقصاء البحث فيها، وان كانت بعض ملامح ذلك ستتبين خلال التطرق الى اسس التعامل مع الظاهر فالشيخ المفيد يستفيد الدليل اللغوي واصل نزول القرآن بلغة العرب كموجب مؤثر لضرورة اعتماد حجية ظواهر القرآن الكريم، فيقول: (ان القرآن نزل بلسان العرب ولغتهم، قال تعالى:

﴿بلِسَانٍ عَرَبيّ مُّبِينِ ﴾ (الشعراء / 195).

وقال تعالى: ﴿قُرانَا عَرَبِيَّا غَيْرَ ذِي عِوَج ﴾ (الزمر/28).

وقال تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْتَهُ قُرْهَانَّا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ عَايَتُهُ أعْجَمِيٌّ وَعَرَبى ﴾

ص: 130

(فصلت /44) فاذا ثبت ان القرآن نزل بلغة العرب وخوطب به المكلفون في معانية على اللسان وجب العمل بما تضمنه على مفهوم كلام العرب دون غيرهم) (1) وليؤكد دلالة الظواهر القرآنية وحجيتها وضابطيتها المعتمدة؛ فانه يضع تحديدا مهما للعبور من الظاهر الى اعتباره استعمالاً مجازياً او استعارياً. وبالتالي يقول (فمن تأول القرآن بما يزيله عن حقيقته وادعى المجاز فيه او الاستعارة بغير حجة قاطعة فقد أبطل بذلك واقدم على المحظور، وارتكب الضلال)(2).

وقد أكد السيد الخوئي هذا الاتجاه الإمامي في اعتماد حجية ظواهر القرآن انطلاقا من خصوصية القرآن نفسه، ووظيفة النبي الله في البلاغ والبيان إذ يقول: (لا شك ان النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)لم يخترع لنفسه طريقة خاصة لافهام مقاصده وانه كلم قومه بما الفوه من طرائق التفهيم والتكلم وانه اتى بالقرآن؛ ليفهموا معانيه وليتدبروا آياته فيأتمروا بأوامره، ويزدجروا بزواجره . وقد تكرر في الآيات الكريمة ما يدل على ذلك ...بوجوب العمل بما في القرآن ولزوم العمل بما يفهم من ظواهره)(3).

وقد قطع الشيخ محمد جواد مغنية جازماً بأن الإمامية يحرمون تفسير القرآن تفسيرا باطنيا) (4)

والذي عند الإمامية في قضية ظهر القرآن وبطنه، انه كما توجد لظاهر النص قيمة فكذلك للباطن، والقرآن كما انه يستحيل وقوع التناقض بين آياته - وليس بين ظواهره فقط - فإنه لا يقع اختلاف او تناقض بين ظواهره وبواطنه، وبالتالي( فظاهر القرآن عندهم ،حجة، كما ان باطنه حجة. ولكن بنحو لا يكون معارضا لظاهرالقرآن)(5).

فبعد ان ثبتت حجية الظاهر، فان الباطن القرآني المقبول هو الموافق للظاهر، او

ص: 131


1- ظ الرسالة العددية 5 مطبوع ضمن (مصنفات الشيخ المفيد) بمناسبة الذكرى الالفية ايران ط1 1413 ه_-
2- الافصاح في إمامة امير المؤمنين (ع): 89 المطبعة الحيدرية / النجف 1386 ه_.
3- انظر للتفصيل البيان في تفسير القرآن 281 - 291 .
4- التفسير الكاشف 7 : 209 .
5- الطباطبائي الميزان 71.

الساكت عنه الظاهر؛ اذا أيدته الادلة الخارجية اما فهم لباطن مخالفاً للظاهر فليس بحجة، ولا يُقبل ممن جاء به فالإمامية في منهجهم لفهم النص مع اطلاق المجال امام المفسر لاعمال عقله، وبذله الجهد في محاولة فهم الآيات الكريمة التي لم يرد نص في تفسيرها وبالتالي فلظواهر القرآن حجية ولا يقبل تحديد خصوص مرجعية تفسيرها وكشف دلالاتها بالأئمة (صلی الله علیه وآله وسلم)او مخصوصين غيرهم بما يعتمد كدعوة على ان القرآن قصد ابهامه لتوكيد الحاجة للامام فهذه دعوى مناقضة للقرآن نفسه الذي يدل على انه نزل تبيانا لكل شيء، وهدى وبلاغاً.

والنتيجة، فان من اسقط ظواهر القرآن لا يمت للامامية بصلة، وهو بين طرفي الافراط والتفريط - سابقي الذكر - اما حشوي او باطني ولذلك المنهج آثار خطيرة على الفكر الاسلامي ولا اساس لدعوى بعض الباحثين البعيدة عن الموضوعية - القائمة على اطلاق الاقوال جزافاً دون الرجوع الى الاستقراء الكامل للآثار والاقوال في اتهام الإمامية في ربط الظاهر بالباطن، وانهم (يعتقدون ان مثل هذا الربط لا يكفي في حمل الناس على ان يذهبوا مذهبهم هذا، فحاولوا ان يحملوهم عليه من ناحية العقيدة والارهاب الديني الذي يشبه الارهاب الكنسي للعامة في العصور المظلمة من حمل الناس على ما يوحون به اليهم ، بعد أن حظروا عليهم إعمال العقل، وحالوا بينهم وبين حريتهم الفكرية) (1).

كما اننا من جانب آخر نجد عند الاتجاهات الاسلامية الأخرى من يتمسك بالباطن إمّا مطلقاً او بالتوفيق بينه وبين الظاهر، واعتبار ان كلاً منهما مراد. لكننا لا نجد بين الإمامية من وقف عند الظاهر وتمسك به تمسكا حرفياً الى حدّ الجمود كما وقع في ذلك الظاهرية من اهل السنة بانكارهم المجاز وسنتبين ملامح ذلك بوضوح عند استعراض التطبيقات الواردة عن متكلميهم في موضعها الخاص من هذا البحث.

ص: 132


1- الذهبي ،محمد حسين التفسير والمفسرون ،2 :29 دار الكتب الحديثة، القاهرة، ط1، 1381ه_ - 1961م.
المطلب الثالث: اسس التعامل مع ظواهر القرآن
اشارة

في البحث الكلامي عند الإمامية

اتجاهات المذاهب الاسلامیة فی الموقف من الظاهر
اشارة

توطئة:

يلاحظ الباحث في موقف المتكلمين من ظواهر القرآن انهم حيث يستقرئون النص القرآني للكشف عن دلالاته في مجال تأسيس الأصول العقائدية، فان علاقتهم بالظاهر تتفرع الى اتجاهات مختلفة كل حسب المنطلقات الفكرية والخصوصية المنهجية التي تشكل الاساس المهم ، ومنظومة المعايير التي على النتاج الفكري ان يتواءم معها، ويبتعد عن أية تقاطعات تحيد به عن خصوصية المذهب، فهنا التقاطع مرفوض، بل ان الحياد كحالة وسطى لا يمكن قبوله خصوصا مع الأصول الكبرى التي تشكل هيكلية البناء الفكري للمذهب، ولذا نلاحظ مثلا ان اطلاق صفة الإمامي على شخص فذلك يعني انه لابد ان يخضع للاصول الكبرى للمذهب والتي حددها الشيخ المفيد كما سبق لنا ذكره في العرض التاريخي (1) وهذا ما ينطبق ايضا على النسبة للاعتزال فيقال معتزلي لمن حدده الخياط(2) فقضية الموقف من ظاهر النصّ تمثل ركيزة مهمة من ركائز المنهج الكلامي ويلاحظ السعة الكبيرة للبحث فيها، وملامحها البارزة

ص: 133


1- يقول الشيخ المفيد (.. فهو علم على من دان بوجوب الإمامة، ووجودها في كل زمان، وأوجب النص الجلي والعصمة والكمال لكل إمام ثم حصر الإمامة في ولد الحسين بن علي (ع) ، وساقها الى الرضا علي بن موسى (ع)..) اوائل المقالات ص 44.
2- الخياط المعتزلي: الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد ص 26 تحقيق دينبرج دار الكتب المصرية القاهرة 1344 ه_ 1952 م يقول : (وليس يستحق احد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالاصول الخمسة التوحيد والعدل ،والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين، والامر بالمعروف ،والنهي عن المنكر. فإذا كملت في الانسان هذه الخصال فهو معتزلي).

التأثير في استنباط جزئيات كل اصل من أصول العقيدة على اختلاف المذاهب في تحديد ،مجموعها، وان اتفقوا على ثلاثة منها كأسس مشتركة هي التوحيد والنبوة والمعاد، إلا ان اکثر ما ترد اشكاليات التعامل مع الظواهر بما ينتج عنه كثرة الاختلاف والتقاطع في موضوعي الصفات الإلهية (الخبرية) وعصمة الانبياء، فاخذ الآيات على ظواهرها ينتج عنه في موضوع الصفات الإلهية نسبة الجوارح والاعضاء والوقوع في مغبة التشبيه والتجسيم كما حصل عند المشبهة والمجسمة، واخذها على ظاهرها في عصمة الانبياء يعني نسبة افعال تخدش موضوع العصمة المطلقة وتنسب الوقوع في بعض الذنوب والمعاصي، او النسيان والخطأ الخ. ولذلك اختلفت المذاهب الكلامية الاسلامية في مرتبة العصمة بين الاطلاق والتقييد كما اختلفوا في وقت حصولها . الا ان آثار هذا الاختلاف في حدود عصمة الانبياء لم تكن له تلك الآثار الخطيرة الاهمية، والتأثير في موقف الفرق الاسلامية من بعضها وخصوصيات منهج كل منها كما حصل مع الاختلاف في الموقف في حدود الصفات الالهية حيث يتقاطع الظاهر من النصّ مع ظواهر أخرى، او مع المرجعيات التي يعود اليها كل مذهب ،كلامي او يتقاطع مع الدليل العقلي واصول المذهب ،ومنطلقاته، فالموقف من هذه القضية هنا يشكل الركيزة الاساس للمذهب الكلامي وينعكس بمعاييره على كل جوانب البحث عند المتكلم وفي هذا القسم بالذات من الظواهر القرآنية نلاحظ حضور هذه الركيزة كمعيار فاصل بين المذاهب الاسلامية اذ نجدهم قد انقسموا الى عدة اتجاهات يمكن اجمالها في(1)

1 -الاثبات مع التكييف

او الوقوع في مغبة التجسيم ، وتشبيه الخالق بخلقه

وهو ما زعمته المجسمة والمشبهة ممن قالوا :انه تعالى له يدان وعينان ،ووجه ويخضع للقرب، والبعد ... الخ يقول الشهرستاني (أما) مشبهة الحشوية فقد أجازوا

ص: 134


1- للتفصيل يحسن الرجوع الى الزركشي: البرهان 2 : 78 دار احياء الكتب العربية القاهرة 1376 ه- 1957 م ط1، ابن عربي (محي الدين ت 638 )رد المتشابه الى المحكم ص 57 مقدمة المحقق نقلا عن كتاب ابن عربي مراتب الحروف) القاهرة مطبعة الصدق الخيرية 1368 ه_ 1949م علي سامي النشار نشأة الفكر الفلسفي ص20.

على ربهم الملامسة والمصافحة وان المسلمين المخلصين يعانقونه سبحانه في الدنيا والآخرة.. كذا) (1).

2 -الاثبات بلا تكييف، او تشبيه

كما هو موقف الأشعري، ومن تابعه ويقوم على اجراء معنى ظاهر الآية من دون تحديد لكيفية معينة تحاشيا للوقوع في التشبيه، او التعطيل. يقول الاشعري (2): (ان الله سبحانه وجها بلا كيف)، كما قال: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالإكْرَامِ ﴾ (الرحمن (27)، وانه له يدين بلا كيف، كما قال﴿ خَلَقْتُ بِيَدَى ﴾(سورة ص 75) وهذا هو موقف السلف المنقول عنهم. بیدی

3 -التفويض

وهو موقف بعض الأشعرية الذي يقوم على اجراء هذه الصفات كما وردت في ظاهر الآيات القرآنية مع تفويض المراد منها اليه تعالى. ويصف الشهرستاني هذا الاتجاه واصحابه فيقول : ان جماعة كثيرة من السلف يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه، ولا يؤولون ذلك إلا انهم يقولون انا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه مثل قوله: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ (طه/5)، ومثل قوله ﴿ِمَا خَلَقْتُ بيدى ﴾(سورة ص 75)، ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات. بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بانه لا شرك له وذلك قد اثبتناه)(3).

وهذا ما يميل اليه الفخر الرازي بان يضع معيارا منهجيا كليا في التعامل مع هذه الظواهر يقوم على عدها من المتشابهات مع القطع بان المراد ليس الظاهر منها. يقول ( هذه المتشابهات يجب القطع بان مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها، كما يجب تفويض معناها الى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها)(4).

ص: 135


1- الملل والنحل 1 :105 .
2- الإبانة في أصول الديانة ص 18.
3- الملل والنحل 1 :92-93 .
4- اساس التقديس 223 .

وهذا المذهب الذي عليه اغلب الأشاعرة المتأخرين عن الأشعري، كالباقلاني، والجويني والبغدادي الا اننا وجدنا - كما سيتبين في فصل الأشعرية - انهم كثيرا ما لجأوا الى تأويل العديد من الآيات، وشكلت عندهم حالات تطورية في المنهج تنحو الى محاولات عقلنة الموقف منها ، وشكلت مراحل متعددة للمنهج الأشعري.

4- التأويل

وهو الاتجاه الذي اشتهرت به الإمامية والمعتزلة مع اختلاف في الأسس والمنطلقات والمعايير التي تتحكم بآفاق التأويل، وتحدد ابعاد اهليته، ومرتبة مرجعيته التي تمثل آخر محاولة يلجأ اليها المتصدي لفهم النص بعد المرور بالمرجعيات الاخرى وهو كمنهج اشتهر عن المعتزلة اكثر من غيرهم لاعتبارات كثيرة كان بعضها ايديولوجيا يستهدف المس بالاتجاه الإمامي الذي هو شريك المعتزلة في التأويل. كما تدخلت اعتبارات اخرى من اهمها انّ المعتزلة تطرفوا فيه الى حد بعيد حتى خرجوا بالنصّ القرآني عن حاكميته وصارت تأويلاتهم تتعدى الأسس المنضبطة، وحكموا عقولهم في النص فذهبوا في سياحة كبرى بعيدة عن آفاقه. ويقوم منهجهم على تأويل نصوص الآيات وظواهرها مع قطع النظر عن مورد الصفات الخبرية فكل آية يجدون لها تعارضا مع اصولهم، فهي واجبة التأويل .

ولهذا المنهج خطورة ربما لا تقل عن خطورة الجمود في المنهج المضاد القائم على إثبات تلك الصفات الخبرية على ما ور في ظواهر الآيات بما استلزم التشبيه والتجسيم حيث ادى هذا التأويل المنفلت الى الوقوع - في احيان كثيرة - في مغبة التفسير بالرأي بالحدود المنهي عنها، ودفع بعض اتباع الفرق الاخرى تبعا لذلك الى اتهامات وصلت حد الالحاد او التكفير.

ص: 136

أمَّا الإمامية فللتاويل عندهم أسس وحدود وضوابط يمكن تلمس ابعادها المنهجية على سبيل الاجمال في وصف ابي الفتح الكراجكي ( محمد بن علي ت 449 ه_) لاعتقاد الشيعة الإمامية في الموقف من ظواهر الآيات اذ يقول : ( ويجب ان يعتقد ان جميع ما فيه [أي القرآن من الآيات التي يتضمن ظاهرها تشبيه الله تعالى ،بخلقه وانه يجبرهم على طاعته او معصيته او يضل بعضهم عن طريق هدايته، فان ذلك كله لا يجوز حمله على ظاهره وان له تأويلا يلائم ما تشهد العقول به )(1) ، وتسبقه في الاهلية (مرجعيات ) اخرى تستنفد قبل اللجوء اليه، وتلك المرجعيات نفسها تحدد اطار دخول التأويل الى ساحة البحث بعد ان تنتهي فاعلية الوسائل الاخرى وهو ما سيتبين في المباحث القادمة.

ص: 137


1- ظ: كنز الفوائد :1 243 طبع حجر 1322 ه_.
منهج متكلمي الإمامية في التعامل مع الظاهر

توطئة :

نلاحظ عند استقراء الجانب التطبيقي في تعامل المتكلمين الإمامية مع النصوص القرآنية باختلاف غاياته تعرفا او استنباطا واستدلالا في مجال أصول العقيدة ان هذا التعامل مع تلك النصوص الظاهرة يتحدد ويتواءم مع طبيعة الدلالات التي حملت بها الآيات، ومرتبة الخطاب في الظهور او الخفاء، وطبيعة تناسبه مع الأصول والمعايير التي يجب المقايسة اليها في الفهم المتوصل اليه للنصّ، وابتعاده عن التقاطعات التي توقعه في دائرة الابتعاد عن تمثيل الأصول الفكرية للمذهب.

فنحن نجد من خلال متابعة هذه الظهورات القرآنية ان بحث متكلمي الإمامية لها انقسم الى طريقين تبعا لتلك الضوابط واهمها طبيعة الظهور والخفاء في النصوص ،حيث انقسمت الى:

اولا ظواهر الآيات التي يرى متكلمو الإمامية انها احادية الدلالة تمثل نصا محكما لا يحتاج الى تأويل او توجيه وانما هو ينطق بالمراد بمعناه الظاهر، ويدل على الأصل العقيدي في كلياته او جزئياته - حسب النص - بما لا يحتاج الى صرفه عن ذلك الظاهر، او الى قرينة مؤكدة لظهوره من خلال تناسبه مع تلك الأصول والمعايير والادلة التي تمثل محاور المنهج الفكري للمذهب آرائهم. فنحن في هذا المجال نلاحظ ان متكلمي الإمامية كثيراً ما بنوا آراءهم في العقائد او اوصلوها الى غيرهم تعريفا بها او جادلوا في الدفاع عنها مع المخالفين اعتمادا على تلك الظواهر واستدلالا بها ،واحتلت حيّزاً كبيرا في ساحة البحث الكلامي عندهم بما ينفي - بوضوح - تلك الشبه والاتهامات التي أدت ببعض الباحثين الى الخروج عن الموضوعية، والحياد عن طريق

ص: 138

الحق ،باتهامهم بالباطنية، ونأيهم عن الظواهر مطلقا - وقد سبقت الاشارة الى ذلك ولكنهم وضعوا لذلك اسسا منهجية هامة يستضاء بها عند التعرض للكشف عن دلالات الظاهر القرآني سيكشف عنها هذا المبحث.

ثانيا: صرف النصوص عن ظواهرها وما تؤديه من معنى الى معان اخرى يتم الكشف عنها، هذا الصرف عن الظاهر يخضع لاعتبارات متعددة تنطلق من وقوع تلك الآيات ضمن دائرة (التشابه الذي لا يعلم المراد منه بمجرد دلالة الظاهر عليه ويحتاج الى مزيد من إعمال الفكر والتدبر والارجاع الى الأصول القرآنية نفسها، (المحكمات)، او توجيه ذلك النص بالتأويل لابعاده عن دائرة التقاطع او التناقض، او

الاختلاف الذي يؤدي اليه التمسك بمجرد الظاهر.

وستكتمل ملامح تصور تلك الاعبتارات والمعايير، والأسس المتحكمة باللجوء للتأويل بعد التعرف على (المتشابه)، واصول المنظور الإمامي الكلامي فيه لذلك كان لمبحث التأويل مساحة مهمة في هذا البحث بعد استكمالها تكتمل - بعون الله - ملامح المنهج الإمامي مدعما بالتطبيقات العامة.

أسس التعامل مع الظاهر القرآني
اشارة

يقرر متكلموا الإمامية حين يؤصلون لمنهج التعامل مع الظاهرة القرآنية مجموعة أسس وضوابط في الاطارين او المسلكين الذين تمر بهما عملية (الاستنباط) انطلاقا من تلك الظواهر، وهما الاطار الاصولي المؤسس لعملية استباط الفروع، وبناء الاحكام والاطار الكلامي المتوجه الى استنباط أصول العقيدة.

فأما الاطار الاصولي فلمتكلمينا الاربعة دور بارز في البحث فيه وتفعيله انطلاقا من كلية اساسية تقوم على تأكيد حجية ظواهر الكتاب، وبالتالي قيامها اساسا للاستنباط وتفريع الاحكام الشرعية في جوانب الحياة المختلفة: عبادات، او معاملات.

ص: 139

وقد غطوا هذه القضية بمزيد من البحوث المؤسسة، وقعدوا القواعد التي تحدد اطاراً منهجيا اصوليا متكاملا. وليس هنا محل التفصيل في ذلك. إلا انه يمكن الرجوع الى كتبهم الاصولية لاستقراء طبيعة مواقفهم فيها(1) اما الاطار الكلامي، فهو لا ينفك عن الاطار الأول في حدود موضوع البحث، وان اختلف معه منهجياً، (فالظاهر) في البحث الكلامي يبقى على ظنيته من حيث الدلالة، لكنّه من حيث كونه قسماً من (المحكم) ينهض كعنصر مهم في الكشف عن ملامح العقيدة واصولها بعد ان يتعرض على يد المتكلم الإمامي الى التفعيل المنظم، القائم على اساس اطار مرجعي متعدد الابعاد ،تتمثل فيه خصوصيات مهمة يتسم بها المنهج الإمامي في تعامله مع نصوص العقيدة.

لذلك فان الأسس والضوابط التي يقررها المتكلمون الإمامية في التعامل مع ظاهر النصوص، يمكن التمييز بينها من حيث الاثر والاهمية في طبيعة الحكم على ذلك الظاهر والاستفادة منه بحيث تنقسم على قسمين:

القسم الأول : اسس لتحديد المرجعيات
اشارة

والمعايير الكلية التي لا يمكن التعامل مع النص الا في اطار الاستضاءة بها، والمقايسة اليها وتترتب هذه المرجعيات احيانا في تسلسل يمثل مراحل على المتصدي لفهم النصّ المرور بها تباعا، او انها تتخذ سوية في تكميل بعضها بعضا بحيث ان كلا منها لا ينفك في معياريته عن الأخريات؛ لأنها ،وان كانت مستقلة عن بعضها البعض ومختلفة نوعا ما من حيث الحجية الا انها لا يمكن ان تتناقض فيما بينها في حدود قدرتها على الكشف عن المراد مع صحة الخطوات والأسس التي تتبع في استخلاص المراد من النصّ بواسطتها، وهذه المعايير تمتد آثارها وحاكميتها الى كل جزئية تتبعها المتكلم في بحثه، ويتضمنها النص في أي

ص: 140


1- انظر مثلا للمفيد: تذكرة الاصول، وللشريف المرتضى : الذريعة في اصول الشريعة ،وللشيخ الطوسي: عدة الاصول، وللعلامة الحلي: مبادئ الوصول الى علم الاصول / معارج الاصول نهاية الوصول الى علم الاصول .

مراتب البيان كان ظاهره ومتشابهه لذلك سيفصل البحث القول فيها هنا، ويتجنب التوسع فيها في المباحث الاخرى رغم صلتها بها تحاشيا للتكرار ولضرورات منهجية وفنية، وهذه الأسس تتمثل في:

أ - المرجعية المركزية للقرآن الكريم نفسه

فالقرآن الكريم كما تبين لنا خلال المبحث السابق وما اكده ائمة اهل البيت ايلام وهم رأس المذهب الإمامي - هو المرجع الأول لفهم ذاته والمعيار الاساس في استنطاق نصوصه وكشف معانيه واستخراج دلالاته. ولذلك كان منهج تفسير القرآن بالقرآن يستنفذ حضورا قويا وفاعلا في نجاح المفسروالمتصدي لفهم النص إذا امتلك ادوات الفهم واستضاء بضوابط تؤمن له مسيرة آمنة من العثرات في مواجهة خصوصيات النصّ ومميزاته وما يحتويه من متشابهات ومجملات، ومبهمات ... الخ.

فالمفسر هنا يحصل على ميزة مهمة للكشف عن دلالة الآيات تتمثل في القطعية التي تتمتع بها حين تكون في مرتبة (النص) وهو ما لا يحتمل الا معنى واحدا، وهو ما يتمثل في الكثير من الآيات الكريمة التي عبر عنها الكتاب نفسه بالاحكام ووصفها ب_ (ام الكتاب) فهي الأصل الذي يرجع اليه للكشف عن دلالة سواه مما لايرقى الى تلك المرتبة من حيث البيان. ومن ثمّ تأتي المرتبة الاخرى ممثلة في الظاهر الذي وان احتمل معنيين او اكثر الا ان احدهما ارجح وبالتالي عليه المعول حسب الضوابط

المحددة للارجحية كما سيمر بنا - اذ ينتقل المتكلم هنا الى المرجعية الثانية المؤهلة للكشف عن دلالة النص ممثلة في النص الوارد عن الأئمة نبوياً او إمامياً وهو ما سنفصل فيه القول في نقطة (ب).

ب - النص الوارد عن المعصوم

ويقصد به هنا النص الصادر عن المعصوم سواء كان الرسول او الأئمة الاثني

ص: 141

عشر من اهل بيته(صلی الله علیه وآله وسلم)حيث يرى الإمامية في جميع اتجاهاتهم ان ما يصدر من هؤلاء الأئمة (صلی الله علیه وآله وسلم) - بعد ثبوت صحة صدوره عنهم - له نفس حجية ما يصدر عن النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)، وقد كان لهذه القضية مساحة واسعة في بحوثهم الاصولية والكلامية للاستدلال عليها والدفاع عنها (1).

وهنا نلاحظ ان للمرويات الصادرة عن ائمة اهل البيت(صلی الله علیه وآله وسلم)اهمية كبرى في الكشف عن دلالات النص، واستنباط أصول العقيدة من خلال فهمهم له عند المتكلم الإمامي. كما نلاحظ بوضوح ان فاعلية هذه المرجعية والمعيارية قد تصل احيانا الى ان تكون الوحيدة المعتمدة في عملية الكشف تلك، لان طريق الإمام في الكشف عن دلالات النص مصدره الوحي - كما يرون - الذي يكون فيه لكل امام طريق عن آبائه وصولا الى النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)الذي تقرر انه ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وحي يوحى ﴾

(النجم/43).

هذا ،اولا وثانيا ان الإمام بذاته - وكما تبين لنا في المبحث السابق - له القدرة الذاتية بما اوتي من مؤهلات خاصة وعلم يرتقي الى مستوى معادلة النص القرآني نفسه بدلالة حديث الثقلين في روايته الإمامية (2) - له القدرة على استنطاق النص وكشف مراد الله تعالى منه فيما يختص به من تلك المميزات اضافة الى ما يشترك به مع غيره من الحس العربي والذائقة والفهم، مما يتواءم مع النص القرآني وعربية نزوله ،واساليبه في البيان وهو ما يمثل اطاراً آخر في عملية الكشف عن دلالاته.

وبالتالي يكون ما استنبطه الإمام وفهمه من النص بعد تحقق صدوره عنه قطعي الدلالة .ولهذا نجد ان معالجة ظواهر النصوص - فضلا عن بواطنها ومتشابهاتها -

ص: 142


1- انظر تفصلات ذلك بالادلة العقلية والنقلية عند كل من المرتضى، الشافي 122 طبع حجر، الطوسي، تلخيص الشافي ،2 :46 العلامة الحلي: كشف المراد 149 وما بعدها، منهاج الكرامة 46 ،الالفين 36، 443 وغيرهم.
2- انظر صحیح مسلم فضائل الصحابة 3،37 /الترمذي السنن 5: 328 / مسند احمد 3: 17 و 26 / الحاكم النيسابوري (ابو عبد الله محمد): المستدرك على الصحيحين مكتبة ومطبعة النصر الحديثة الرياض.

تخضع لهذا المعيار المهم، حيث ان الرجوع الى رواية المعصوم المفسرة للنص القرآني المعيّن يعني انقلاب ذلك الظاهر من النص( الظني الدلالة) كما هو حكمه الاصولي الى نص قطعي؛ لأنه تعضد برأي المعصوم وكشفه لدلالاته. فالمتكلم الإمامي حين يرى رأيا في النص القرآني، او يستنبط جزئية من جزئيات العقيدة من خلاله، فانه ان وجد نصا معصوميا معضدا لما يراه من كلام الإمام، فانه لا يعود بحاجة الى مؤيد غيره بعد النص نفسه.

هذه المرجعية لكلام المعصوم انما تعتمد بهذه المرتبة؛ لأن النص وحده لا يمكن ان يكون كافيا ومتفردا في الاستدلال والبيان لدلالاته، خصوصا لو استحضرنا خصائصه في احتوائه على المتشابهات والمجملات والمبهمات، والعمومات التي لا يكشف عنها إلا بالنص المفسر للقرآن وهو السنة الكاشفة عن دلالاته وقد اشرنا الى ان السنة تمثل عند الإمامية ما يرد عن المعصوم النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)، او الإمام السلام فهما متساويان في حجية ما يرد عنهما (1)- بعد تحقق قطعية الصدور - اضافة الى ان النص يحمل على افضل الوجوه عند الاستدلال لأنه حمال ذو وجوه)(2) .

والاختلاف الظاهر بين الاتجاهات والمذاهب المختلفة المتصدية لفهم النص في اصولها الفكرية بالرغم من ان النص (المرجع) واحد دلیل صدق ان النص لا يمكن انفراده في كل جزئية متصورة للعقيدة ولا بد من تفعيل هذه المرجعية الكاشفة عنه بوظيفتها التفسيرية .

وعند استقراء المئات من الروايات الواردة عن الأئمة(صلی الله علیه وآله وسلم)، والتي تضمنت تفسيرا للنصوص القرآنية، والتي اعتمدها متكلمو الإمامية نلاحظ ان تفعيل هذه المرجعية

ص: 143


1- فالسنة عندهم (قول المعصوم وفعله وتقريره ولا فرق بين ان يكون المعصوم النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)، او الأئمة الاثنا عشر) انظر: السيد محمد تقي الحكيم الاصول العامة للفقه المقارن ص 147 طبع بيروت ط1.
2- قال الرسول (ص): (القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على احسن وجوهه) اخرجه ابو نعيم وغيره من حديث ابن عباس انظر .

اتخذ طريقين يمثل كل منهما دوراً للإئمة (صلی الله علیه وآله وسلم)في الكشف عن معاني النص:

الأول: هو دور الدلالة والارشاد واضاءة الطريق حيث يستضئ المتكلم وهو في مجال الكشف عن الأصول العامة والخطوط الكلية العريضة، أو الهيكلية التأسيسية لاستنباط العقيدة بالنقل عن المعصوم، وهو ما يمكن ان نعتبره (المرجعية النسبية )حيث ان هذا كله يكون قبل الولوج الى النص القرآني وقبل الخوض في التفريع وتفصيل الجزئيات اذ تمثل نصوص الأئمة (صلی الله علیه وآله وسلم)هنا الاضواء الكاشفة التي يسير المتكلم بهديها متلمسا افضل السبل للكشف عن المنظور القرآني.

وهذا ما يناظر التأسيس المنهجي الذي سبق لنا تحديد ابعاده في المبحث السابق وهو ما تؤكده روايات الأئمة(صلی الله علیه وآله وسلم)انفسهم فعن الإمامين الباقر والصادق(صلی الله علیه وآله وسلم) : (إنما علينا ان نلقي اليكم الأصول وعليكم ان تفرعوا) (1) وعن الرضا (صلی الله علیه وآله وسلم)(علينا الأصول وعليكم الفروع) (2).

هذا الدور توافر عليه الأئمة(صلی الله علیه وآله وسلم)ممارسة وتفعيلاً؛ لأنهم الاقرب الى النصّ؛ ففي بيوتهم نزل القرآن، وهم مهبط الوحي ومعدن الرسالة فالمتكلم في حدود هذا الدور حين يتعرض الى نص قرآني تتعدد فيه الاحتمالات نراه يستدعي النقل المعصومي؛ ليحدد له الاتجاه ويضمن له سلامة المسير . فالرواية المعتبرة - هنا - تمثل هادياً ومرشداً في طريق فهم النص يحدد في ضوئها اقوى المحتملات وأرجحها، وتعين على ايجاد الشواهد والادلة المعينة للاقرب الى مراد الله تعالى.

والإرث المعصومي يغطي أبعاد التشريع والعقيدة، ويسد حاجاتها المتكثرة والمتجددة بسعته وانفتاحه مع الحاجة الى غربلته مما علق به من مرویات لم تصح نسبتها الى الأئمة (صلی الله علیه وآله وسلم). ولذلك نجد ان المتكلمين الإمامية كحال باقي اتجاهات

ص: 144


1- ظ الحر العاملي: وسائل الشيعة 18: 41 .
2- انظر المصدر نفسه 18: 41 .

التعامل مع الخطاب القرآني يلجأون الى ذلك الارث يقول الشيخ المفيد .. وان كل حادثة ترد فعليها نص من الصادقين(صلی الله علیه وآله وسلم)يحكم به فيها، ولا يتعدى الى غيرها. وبذلك جاءت الاخبار الصحيحة والآثار الواضحة عنهم(صلی الله علیه وآله وسلم))(1)

وهذا الارث يمثل مرجعية قطعية تكون لانعكاساتها على النص افادة اليقين. يقول العلامة الحلي: (والكتاب والسنة لا يفيدان اليقين في كل الاحكام لكلّ المكلفين، ولا يفيد ذلك إلا قول المعصوم فتعيّن وجود معصوم يفيد قوله اليقين، ويجب على كافة المكلفين اتباعه..)(2).

الدور الثاني : المرجعية الكاملة

فبعد ان تستنبط القواعد والاصول العامة والخطوط العريضة للمنظور القرآني تبرز الى السطح اهمية الولوج الى النص في تفصيلاته وجزئياته، كشفاً عن جزئيات العقيدة، وتحديدا لابعادها الكاملة فهنا نجد ان صورة النص امام المتكلم تتحول الى تعميمات ومبهمات يعجز بمجرد وسائله واستعداداته عن كشف السبل معها الى بلوغ المراد من النص خصوصا مع استحضار خصائص النص القرآني في احتوائه على المتشابهات التي تتعدد ،احتمالاتها، ولا يمكن الترجيح فيما بينها كالمجملات والمبهمات، والعمومات .... الخ فهنا نجد ان المتكلم الإمامي لكي يتجنب الوقوع في مزالق الانفصال عن واقع النص ولكي يبتعد عن السياحة خارجه بتأويلات وآراء هامشية لا مرجعية لها، اما بالاستبطان الساذج بادعاء الكشف عن ما يحتمله النص من معان بعيدة او بالاستظهار الذي يعجز عن ادراك الباطن الذي يمثل ثروة النص الكامنة التي تخاطب ارقى مراتب العقل البشري، لكي يتجنب كل ذلك نلاحظ المتكلم الإمامي يلجأ الى الاستعانة بمن تنكشف له من النص ابعاده، وافاقه التي يستلزم

ص: 145


1- ظ اوائل المقالات 174
2- الألفين 204

الكشف عنها مؤهلات وعلاقة خاصة بالنص ذات اهلية وهوية مصدرها التشريع نفسه .هنا - إذن - تحضر المرجعية الكاملة للنقل المعصومي في بيان ما يقيد اطلاق النص او يبين مبهمه او يخصص عموماته، او يحدد الخطوط الرئيسة لتأويله بما يكشف عن آفاقه التعبيرية المتخطية لكل سقف متصور للفهم البشري الذي تقيده نسبيات المكان، والزمان ومرتبة الفهم.

إلا ان هناك مسألة هامة لا بدَّ من الاشارة اليها تتمثل في تأكيد ان وظيفة الإمام في المرجعية في الدورين المنوطين به لا تعني انها مرجعية في فهم اصل النصّ القرآني فالقرآن كتاب عربي مفهوم للمخاطبين به، ولا يحتاج في اصله الى مرجعية الإمام وإلا فستتحول بذلك الى مرجعية سابقة على النص نفسه. وهذا خلاف للقرآن الكريم نفسه الذي يقول انه كتاب هداية وبيان، ولكونه يفسر بعضه بعضا لحديث الثقلين نفسه الذي اعطى للامام هوية التأهيل والعدلية للقرآن فالحديث يجعل الأولوية للعدل الاكبر (القرآن) ومن ثم تأتي مرجعية الإمام. قال الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)(اني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي)(1) واهلية التفويض والمرجعية للنص المعصومي ذات هوية قرآنية، ونبوية، وعقلية سيتجلى بعضها بوضوح عند الخوض في تطبيقات فهم الإمامية للنص القرآني وذلك في اصل الإمامة حيث يحشد متكلموهم - كما سنرى - الادلة المذكورة للاستدلال على وجوب اصل الإمامة ومن ثم عصمة الإمام ووظيفته المكملة لوظيفة النبوة(2).

فحين يقول القرآن الكريم في وصف وظيفة النبوة : ﴿يُبَيِّنُ لَكُم ﴾(المائدة/19) فيحدّد المقام بانه مقام تبيين، ثم يعطيها التفويض الكامل، والمرجعية المؤهلة في قوله :تعالى: ﴿ وَمَا ءَالَنَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَنكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾(الحشر/7)، ثم يؤكد

ص: 146


1- انظر مصادر الرواية: ذكرت في هامش (3) الصفحة 14 من الرسالة من هذا البحث.
2- انظر ص 153-14 من هذه الرسالة.

مصداقيتها وصلتها بالتشريع الالهي في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْى يُوحَى﴾

(النجم/43) .

هذه المؤهلات جميعا يرى الإمامية انها تتحول بعد النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)الى الأئمة الاثني عشر السلام . وهم يرون ان هذا هو ما يؤكده القرآن الكريم في مواقع عديدة، والروايات عن الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)فضلا عن الأئمة الهلام انفسهم يقول الإمام الصادق (صلی الله علیه وآله وسلم):

ان الله عز وجل أدّب رسوله حتى قومه على ما ،اراد، ثم فوّض اليه فقال:﴿وَمَا ءَانَنكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَنكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾ (الحشر/7) فما فوض الله الى رسوله (صلی الله علیه وآله وسلم)، فقد فوضه الينا)(1) .

والإشارة المهمة في اسبقية مرجعية النص القرآني ومعياريته نجد الأئمة اهلا يولونها اهمية كبرى بحيث تذوب في فلكها كل المعايير الاخرى طلبا لقياس الصحة او الفساد حيث لا يتحقق الاعتبار لتلك المعايير إلا بعد المرور من المقايسة الى المرجعية المركزية للنص القرآني. ذلك ما تؤكده رواياتهم ليلا التي تؤسس لعملية حماية النص من ان تصادره روايات الوضاعين والكذابين واصحاب الاهواء، والغلاة والباطنية ومن شاكلهم. لذلك نجدهم يقولون:

(کل حديث مردود الى الكتاب والسنة، وكل شيء لا يوافق كتاب الله، فهو زخرف) (2).

ويقولون (ما لم يوافق من الحديث القرآن فهو زخرف)(3).

واذا انتقلنا الى ساحة البحث الكلامي؛ لاستيضاح اثر هذه المرجعية للنقل المعصومي، سواء في اطارها النسبي بالهداية والارشاد او الكامل في كشف

ص: 147


1- الكليني: اصول الكافي 1: 268.
2- انظر الحر العاملي وسائل الشيعة ابواب صفات القاضي / الباب التاسع 18: 7978.
3- الحر العاملي وسائل الشيعة 18 :78 79 .

الدلالات التفصيلية للنص، فسنلاحظ ان متكلمي الإمامية يضعونها في صدر اهتماماتهم، ويؤسسون - انطلاقا منها - ركائز منهج كلامي متكامل، ومرجعية واضحة.

فنحن نجد ان الشيخ المفيد - وهو يضع اسس منهجه الكلامي، ويبدأ بطرح آرائه الكلامية - يشير بما لا يقبل التأويل الى مرجعية الأئمة الهلام على ما يستنبطه بفهمه من أصول العقيدة إذ يقول : (باب) ما اجتبيته انا من الأصول نظرا ووفاقا لما جاءت به الآثار عن ائمة الهدى من آل محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)، وذكر من وافق ذلك مذهبه من اصحاب المقالات).(1)

ونلاحظ انه عمم هذه المرجعية على كل جزئية من العقيدة توصل اليها فنجده يقول في مسألة خلق القرآن:( واقول ان كلام الله محدث . وبذلك جاءت الآثار عن آل محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)، وعليه اجماع الإمامية) (2).

ويقول (وامنع من اطلاق القول عليه انه مخلوق وبهذا جاءت الآثار عن الصادقين الهلام ، وعليه كافة الإمامية)(3) .

وفي مسألة ارادة الله تعالى يقول : ان ارادة الله تعالى لافعاله هي نفس افعاله ،وإرادته لإفعال خلقه امر .بالافعال وبهذا جاءت الآثار عن ائمة الهدى من آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم))(4).

وهذه اللازمة نجدها تتكرر كثيرا في مواضع عديدة من كتبه، وخصوصا اوائل المقالات الذي اشتمل على اهم آرائه الكلامية (5) .

ص: 148


1- اوائل المقالات ص 54 .
2- المصدر نفسه ص 57.
3- المصدر نفسه.
4- المصدر نفسه.
5- انظر مثلا الصفحات ،58 59 ،62 ،72 85، 98 وغيرها / وانظر لتاكيده اصل مرجعيتهم الافصاح ص 31 ،3 ،123 -86 .58
ج - اللغة:

عند عدم وجود نص كاشف لدلالات النص القرآني فان للغة معيارية مهمة تمثل نسبة من الاستضاءة التي يتمكن المتكلم بواسطتها من كشف بعض الدلالات المهمة للنص وان اختلفت هذه الإهمية والمرتبة لمرجعية اللغة حسب النص، وطبيعة ما يحتمله من دلالات ولكن تبقى عملية الانطلاق في فهمه محكومة بوجوب النظر في لغة النص ومعاييرها؛ اذ لا بد من الرجوع الى لغة القرآن نفسه. وعموم اللغة العربية حين نتعرض الى نص ربما اشكلت بعض دلالاته على الفهم. وهذا امر تتفق عليه كل المناهج التي تتعامل مع النص القرآني على اختلاف اتجاهاتها؛ اذ انه لما كان النص القرآني نازلا بلغة العرب ولما كان قد وصف نفسه ب_ (المبين)(1)، وأن وظيفته الاساسية هي البيان ولما كانت اللغة هي الوسيلة الى ذلك، فان هذا الامر يستلزم ان تكون معانيه جارية على أصول المعاني العربية في اللغة العربية. وقد اكد الطبري هذه القضية في مقدمة تفسيره إذ يقول : (الواجب ان تكون معاني كتاب الله المنزلة على نبينا(صلی الله علیه وآله وسلم)لمعاني كلام العرب موافقة، وظاهره لظاهر كلامها ملائما وان باینه کتاب الله بالفضيلة التي فضل بها سائر الكلام والبيان)(2) . وسنلاحظ حضورا فاعلا للغة ومعياريتها في الكشف عن الدلالات في النص القرآني تطبيقيا على ظواهر النصوص فضلا عن متشابهاته في المبحث التطبيقي، وان كانت هناك اشارات عند متكلمينا الى هذه المعيارية في مجال التأسيس المنهجي، كما في مجال المعالجة للنصوص، وكشف دلالاتها في ضوء أصول اللغة وقوانينها (3).

ص: 149


1- قال تعالى: {الر تلك آيات الكتاب المبين} (يوسف/1).{الر تلك آيات الكتاب وقرآن مبين} (الحجر/1). {إن هو إلا ذكر وقرآن مبين} (يس (69). {هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين} (آل عمران/138).
2- ظ :جامع البيان في تأويل آي القرآن مج_ 1 ص 6 المطبعة الميمنية / مصر 1321 ه_
3- انظر مثلا رأي المفيد والمرتضى في الفصول المختارة ص 25 ،المفيد الافصاح ،86، المرتضى الامالي 2: 54 / 2: 296 / 2: 309 / 2: 314، الشافي 219 وغيرها الطوسي: الاقتصاد ،76 التبيان :1 ،6 العلامة الحلي انوار الملكوت 85 کشف : المراد /322 الرسالة السعدية 52 .
د - العقل
اشارة

يمثل العقل مرتبة اخرى للمرجعية في الكشف عن دلالات النص القرآني، ونرى له حاكمية معتبرة في بعض الموارد في طريق هذا الكشف، حيث يعرض عليه الفهم المتصور للنص.

ونجد للدليل العقلي اهمية كبيرة وحضورا فاعلا وركنية اساسية في التأسيس المنهجي عند متكلمي الإمامية وهم يستضيئون في هذا الإطار بما للعقل من مكانة سامية في المنظور الاسلامي تمثل احدى كليات هذا المنظور وأسسها بل انها تنبني عليها كمنطلق اساس للخطاب الديني، ففي الرواية عن الإمام الباقر عام قال: (لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له اقبل فاقبل ثم قال له ادبر فادبر ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو احب الي منك ولا أكملتك إلا فيمن احب اما إني إياك أمر ، واياك انهى واياك اعاقب واياك اثيب)(1).

وقد جاءت الروايات العديدة عن الأئمة (صلی الله علیه وآله وسلم)في تأكيد مكانة العقل في الاسلام، واثره الكبير في بناء العقيدة والاستدلال على جزئياتها، وبناء التصور الانساني لأصولها حتى عاد العقل نبيا باطنيا للانسان يهديه الى سبل الرشاد، ويضيء له الطريق الى صحة الاعتقاد. فعن الإمام موسى بن جعفر علم انه قال لهشام بن الحكم: (يا هشام ان لله على الناس حجتين حجة ظاهرة ، وحجة باطنة، فأما الظاهرة، فالرسل والانبياء والأئمة (صلی الله علیه وآله وسلم)، واما الباطنة، فالعقول) (2).

في تفصيل هذه الحجية للعقل التي تكون حتى مع غياب الحجة الأولى (الانبياء)

ص: 150


1- الكافي (الاصول )1 :10
2- المصدر نفسه 1: 16 .

يقول (عليه السلام): (حجة الله على العباد النبي والحجة فيما بين العباد وبين الله العقل) (1).

ولو تفحصنا رواياتهم(عليه السلام)في استبيان ماهية العقل، لوجدنا ان لهذه الوظيفة في الصلة بين الله والعبد حضورا مهما في تحديد تلك الماهية بحيث تتحول معرفة العبد بربه الى اساس لتلك الماهية فكأن بدونها لا حضور للعقل إذ يقول الإمام الصادق(عليه السلام)وقد سئل : ما العقل ؟ قال : ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان )(2).

وفي مقام التفصيل لما للعقل ان يكون فاعلا في ادراكه وممارسة لوظيفته، نجد الإمام الصادق لا يفصل ذلك، فيقول:(ان اول الامور ، ومبدأها وقوتها وعمارتها التي لا ينتفع شيء إلا به العقل الذي جعله الله زينة لخلقه، ونورا لهم، فبالعقل عرف العباد خالقهم، وانهم ،مخلوقون وانه المدبر لهم وانهم المدبّرون وانه الباقي، وانهم الفانون واستدلوا بعقولهم على ما رأوا من خلقه من سمائه وارضه، وشمسه وقمره وليله

ونهاره، وبان له ولهم خالقا ومدبرا لم يزل ولا يزول وعرفوا به الحسن من القبيح وان الظلمة في الجهل، وان النور في العلم، فهذا ما دلهم عليه العقل)(3) ونلاحظ بعد هذا ان الإمام(عليه السلام)يؤسس لحدود مرجعية العقل، وآفاق ساحة فاعليته، وما يمكن له الخوض فيه؛ اذ يُسئل في الرواية نفسها فهل يكتفي العباد بالعقل دون غيره ؟ فيقول (عليه السلام):

ان العاقل لدلالة عقله الذي جعله الله ،قوامه وزينته وهدايته علم ان الله هو الحق وانه هو ربه وعلم ان لخالقه محبة وان له كراهة وان له طاعة وان له معصية، فلم يجد عقله يدله على ذلك، وعلم انه لا يوصل اليه إلا بالعلم وطلبه ،وانه لا ينتفع بعقله، ان لم يصب ذلك بعلمه، فوجب على العاقل طلب العلم والادب الذي لا قوام له إلا به )(4) .

ص: 151


1- المصدر نفسه 1: 25 .
2- المصدر نفسه 1: 11.
3- الكافي (الاصول) 1 :29 .
4- المصدر والصفحة السابقين .

ومما يضيء الطريق امام الباحث في اهمية العقل ودوره في المنهج الكلامي ان يحصر ملامح الدور المتصور من خلال استعراض الروايات الواردة عن ائمة اهل البيت(عليه السلام)- وقد فعلنا - ثم ما انعكس عن تلك الروايات في استنباط متكلميهم لملامح هذا الدور.

احتمالات دور العقل
اشارة

وهنا يمكن ان تحدد تلك الملامح عندهم بأن دور العقل يقع ضمن ثلاثة ،احتمالات كما هي محددة كوظيفة عامة للعقل عند الاتجاهات المختلفة ولمختلف حاجاتها. تلك الاحتمالات هي:

1 - دور الميزان

حيث يكون العقل هنا معيارا تقاس اليه انعكاسات فهم النص عند المتصدي لذلك. وهذا ما نلاحظ له حضورا نسبيا في العديد من المواضع عند بحث متكلمي الإمامية في اسس العقيدة، حيث ان الدليل العقلي - هنا - يصبح ذا مركزية تتمحور حولها احتمالات النص، حين يتعارض معه - في حالة الظهور المحتمل لاكثر من معنى - حيث يؤول النص بما يتفق مع العقل . اما ان يتحول العقل الى ميزان بمعنى انه المبنى الذي له المركزية الأولى في قبال النص بمراتب ظهوره المختلفة فلا يقبل ذلك مع حضور مركزية المرجعيتين الأولى والثانية لاصل عدم التناقض مع مع العقل فيهما - بل ان ذلك الدور للعقل ينتهي في بعض المواضع مع إثبات حجية النصّ، فبعدها ينتهي دور العقل ويبدأ النص بشقيه القرآني والمعصومي بالانفراد بالفاعلية. وحقيقة هذا الدور (الميزان) تتجلى مثلا فيما روي عن الإمام الرضا(عليه السلام)حين سأله ابن السكيت فما الحجة على الخلق اليوم ؟ قال(عليه السلام): العقل . تعرف به الصادق على الله فتصدقه والكاذب على الله، فتكذبه ..)(1) .

2 - دور المفتاح

حيث يقوم العقل هنا ككيان مرجعي ثابت الدور والحجية لا يتحدد دوره في حالة دون اخرى ولا بمرتبة من الاستدلال دون اخرى فهو مفتاح قادر على ممارسة وظيفته في عموم حالات الحاجة اليه وهذا ما نلاحظ فاعليته ايضا

ص: 152


1- البحار 1:99 كتاب العقل والجهل باب 2 .

في العديد من الحالات سواء في روايات الأئمة(عليه السلام)، او في ما ورد عن متكلمي الإمامية تنظيرا لهذا الدور، او تطبيقا من خلال تفعيله في التعامل مع العديد من النصوص، او الانطلاق منه في التعرف على العديد من أصول العقيدة مما للعقل فيها دور، وسنلاحظ ان هذا الدور، والحضور للعقل بهذا الاطار يردان كثيرا في حالات مهمة كالاستدلال على وجود الله تعالى وفي إثبات وجوب النبوة، وبالتالي الإمامة(1)، فضلا عن التحديد المعياري المؤثر في القول بالتحسين والتقبيح العقليين(2) .

3 -دور المصباح

حيث يكون للعقل مهمة اضاءة الطريق امام المتصدي لفهم النص وهدايته الى استنباط أصول العقيدة وهو دور يكاد يشكل بهذا التحديد حقيقة التصور العام لدور العقل عند الإمامية في عموم الجوانب التشريعية والعقائدية حيث ان الحضور هنا حضور منظم، ومؤطر بضوابط واصول وتحديدات تربطه ربطا كاملا بالمرجعيتين الأولى والثانية، وان كانت لا تلغي نسبية الدورين السابقين.

وهذا الدور بالذات نلاحظ ان روايات الأئمة(عليه السلام)تشير اليه، وتؤكده، كما ورد عن الإمام علي (عليه السلام) في نقله عن الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم)( ألا ومثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت )(3) .

وتنجلي من خلال الروايات طبيعة التحديدات والضوابط المقننة لدور العقل، والتي تنتهي عندها فاعليته لتتحول الاهلية كاملة الى مرجعية النص الوارد عن الأئمة وحدها للكشف عن دلالات النص ومعانيه في اتجاهات حركة منهج فهمه إيا

ص: 153


1- ظ المفيد: اوائل المقالات ،80 المرتضى: اجوبة مسائل اهل الري ورقة 8 أ( مخطوطة)، المحكم والمتشابه: 118 جمل العلم والعمل ،36 ،38 الطوسي: الاقتصاد ،42، 86، 134 ، 167، العلامة الحلي: انوار الملكوت ،7، 59، مناهج اليقين في اصول الدين (مخطوط) 99 مكتبة الامام امير المؤمنين(عليه السلام)العامة تحت رقم 13/4/1 الباب الحادي عشر ،6 كشف المراد ،305 كشف الحق ،28 الرسالة السعدية 61.
2- انظر للتفصيل العلامة الحلي: كشف الحق 36 في إثبات وجوب النظر عقلا.
3- المجلسي البحار 1: 99 .

كانت غاياتها ،حيث تنسحب ادوات العقل من ساحة البحث في حالة عدم وجود النص المقنن، كما تلغى فاعلياتها حيث يكون النصّ حاضرا تفصيليا ومؤهلا، وذلك ان العقل له اهلية العمل في جوانب محددة ،ومعينة لا امكانية له تتعداها، ويغيب عن تغطية آفاق واسعة من التصور الكامل للعقيدة واجلى ما يكون ذلك مثلا في السمعيات من حيث تفصيل وبيان ،مبهمها، حيث لا طريق للعقل الى ذلك، وان كان

احتمال وجوده فلا يتعدى حالة الاثبات فقط، حيث يحضر الدليل العقلي احيانا.

هذه الحدود نتلمسها بوضوح من خلال العديد من الروايات المعصومية التي تصدت لبيان حدود فاعلية العقل ودوره فقد روى ابو بصير انه سأل الإمام الصادق(عليه السلام)، فقال : ترد علينا اشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سنته فننظر فيها ؟ فقال(عليه السلام) : لا ، أما إنك إن أصبت لم تؤجر، وإن اخطأت كذبت على الله)(1).

حيث يتبين مضمون الرواية بتشديد النكير على النظر خارج اطار مرجعية النص والسنة - بتحديدها الإمامي - وهي المرجعية الثانية.

ويؤكد الإمام الرضا(عليه السلام) هذا المعنى ليونس بن عبد الرحمن حين سأله: بمَ أوحد الله ؟ فقال يا يونس لا تكن مبتدعا من نظر برأيه هلك، ومن ترك اهل بيت نبيه (صلی الله علیه وآله وسلم)،ضل، ومن ترك كتاب الله وقول نبيه كفر) (2) وإشارة الى تحديد آفاق ساحة البحث العقائدي ودور العقل نجد الإمام الصادق(عليه السلام) يقول ان اصحاب المقاييس طلبوا العلم بالمقاييس، فلم تزدهم المقاييس من الحق إلا بعدا وان دين الله لايصاب بالمقاييس)(3)

هذا التحديد المعصومي لدور العقل من قبل الأئمة (عليهم السلام)تأسيس منهم لاصول

ص: 154


1- الحر العاملي :وسائل الشيعة 18: 24.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه 18: 27 .

المذهب الإمامي، نلاحظ انه رسخ اسسه عميقا في منهجهم الكلامي، وشكل محوراً متفرداً تدور حوله الافهام المتصدية للتعامل مع النص، حيث ان المتكلم حين يغطي بالعقل بعض مساحات الصورة التي له فاعلية في اضائتها، ينسحب تاركا للنصّ المعصومي أهلية البيان والاداء والكشف عن دلالات النصّ، وتحديد ابعاده، وآفاقه المفتوحة النهايات، حيث يغطي بمطلقيته المتحررة من قيود الزمان والمكان محل الحاجات التي يمكن ان تطرأ حيال أية جزئية يغطيها النص ويتناولها.

ولذلك فنحن لا نكاد نجد - حتى في هذه الحدود الضيقة لفاعلية العقل - رأيا ، او فهما، او تحديدا عقليا لاية جزئية من المنظور الإمامي للعقيدة إلا ونجد لها جذورا وأساسا في روايات الأئمة (عليهم السلام). ولو تابعنا استدلالاتهم العقلية والنقاط التي اعملوا العقل في استنباطها، واحصيناها في استقراء كامل، ثم عدنا الى روايات الأئمة(عليهم السلام) لوجدنا تلك الجذور والأسس ،شاخصة، وقد تركت اثرها الكبير في اضاءة اجواء محيط تصور دلالات النص إمام المتصدي لفهمه. ونظرة فاحصة الى ما ورد عنهم (عليهم السلام)من روايات في كتب الكافي (الاصول) والتوحيد للصدوق والاحتجاج للطبرسي والبحار للمجلسي، اضافة الى تفسيري القمي ،والعياشي، تؤكد لنا قطعيا هذه الحقيقة، حيث نجد ان رواياتهم(عليهم السلام)غطت القرآن بكامله تفسيراً وبيانا وكشفا للاصول العقيدية.

ولو تصدى الباحث لبيان هذه القضية تفصيلاً لاحتاج ذلك الى مجلد ضخم لاستيعاب تفصيلاتها التي سيتبين بعضها في المبحث التطبيقي. كما ستتبين بعض ملامحها منهجيا عند الحديث عن أسس التعامل مع الظاهر - تحديدا - في الصفحات القادمة من هذا المطلب. وان بيان هذه الحدود والضوابط لدور العقل لا يقلل من شأنه أبدا، بل هو يؤكد رصانة الفهم الإمامي لهذا الدور، واثره في استنباط العقيدة بما يؤكد - مع استحضار المعنى السابق بمرجعية النص الوارد عن الأئمة - حقيقة عدم التناقض بين العقل والنصّ حتى اننا نجد الأئمة(عليهم السلام)يؤكدون ان ما وجد مخالفا

ص: 155

للعقل مما يروى عنهم لا يؤخذ به ويضرب به عرض الجدار ونجد ان المتكلم الإمامي - كما سيتبين - يفعّل الدليل العقلي في ضوء هذه التحديدات، ويعطيه مساحة كبيرة للبحث فلا نجد جزئية للبحث في العقيدة إلا واعمله فيها في مختلف مراحل المنهج الكلامي تعريفاً او اثباتاً او توصيلاً مع بقاء ضوء النص الوارد عن الأئمة كاشفاً لمحيط الفهم للنص وهاديا لسبيل البحث في آفاقه وابعاده المطلقة. هذا التحديد نراه يظهر بوضوح عند الشيخ المفيد وهو يحدد عقائد الإمامية واصول مذهبهم الكلامي ،وقولهم بمحدودية مرجعية العقل، وخضوعها لهيمنة النص، حيث يقول: (اتفقت الإمامية على ان العقل يحتاج في علمه ونتائجه الى السمع وانه غير منفك عن سمع ينبه الغافل على كيفية الاستدلال) (1).

ويحدد الشريف المرتضى بعض المواضيع مما لا طريق من جهة العقل للقطع به وبالتالي فهو بحاجة الى السمع وان مرجعيته نسبية إذ يقول : ( واذا لم يكن للعقل في ذلك مجال فالمرجع فيه الى السمع فان دل سمع مقطوع به من ذلك على شيء عول ،عليه والا كان الواجب التوقف عنه، والشك فيه) (2) .

وتعددت الاشارة عند العلامة الحلي الى ان العقل ليس شاملا لكل الأصول والاحكام في ادراكه وان هناك ما لا فاعلية له فيه، وانه ليس بعام في سائر الاحكام والتأويلات وانه لا يستقل بأكثر الاحكام، فكيف بالكل ؟ ذلك فضلا عن انه لا يمكن الاستدلال به مع المخالفين (3).

ص: 156


1- اوائل المقالات 49 .
2- رسائل الشريف المرتضى (المجموعة الأولى )ص 19 تحقيق احمد الحسيني، مطبعة الاداب، النجف، 1386 ه_.
3- ظ :الالفين ،300، 302، 304، 306 .
القسم الثاني : اسس منهجية في حدود التعامل مع ظاهر النص

حيث يقف الباحث هنا للكشف عن الأسس التي في ضوئها تعامل متكلمو الإمامية مع ظواهر النصوص القرآنية مع الاستضاءة طبعا بالاصول الاربعة التي مر ذكرها كمرجعيات مع تحاشي الخوض في تفصيلاتها التطبيقية هنا والاكتفاء ببيان ملامحها المنهجية تاركين التفصيل للبحث التطبيقي على أصول العقيدة، واستنباطها.

وتتمثل هذه الأسس في:

1 - تأكيد ان ظواهر القرآن يستحيل ان تتناقض فيما بينها او تختلف بعد مرورها بالمرجعيات السابقة، والتصدي لكشف دلالاتها مع الاستضاءة بالضوابط والتسلح بالادوات. وقد قال تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْهَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ (النساء/82).

وان ما يشتبه فيه البعض من حدوث ذلك مردود ولا اساس له ومرده الى محدودية الفهم او التحلل من ضوابط التعامل معه او محاولة اخضاعه للاهواء والمذاهب بتطبيق نصوصه - لا تفسيرها - على اصولها فان خالفتها سحب النص عن اطاره المرجعي وعُوِّمت دلالاته لتوافق تلك الأصول.

يستفيد الشيخ المفيد هذا المعنى منهجيا، ويوظفه تطبيقيا حين يتصدى لدفع شبهة القائلين بوجود الاختلاف بين الظواهر القرآنية فيما نقله واكد معناه السيد المرتضى، حيث يدفعان الشبهة ببيان خصوصية معنى كل آية استدل بها المشتبه على التناقض. وقد كان السؤال قد وجه للمفيد عن قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ (الحج / 47)، وقوله في موضع آخر : ﴿تَعْرُجُ الْمَلَيْكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ فَأَصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا ﴾(المعارج (4-5)، وقوله تعالى في موضع آخر: ﴿ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ

ص: 157

ثمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ (السجدة/5)، وما الوجه في هذه الآيات مع اختلاف ظواهرها ؟! فكان جواب الشيخ عن الآية الأولى والثانية: انها تحمل على التعظيم لأمر الآخرة والاخبار عن شدته واهواله، فاليوم الواحد من ايامها على اهل العذاب كألف سنة من سني الدنيا لشدته، وعظم بلائه ... واما الآية الثالثة، فالمعنى فيها على ما ذكر انه يعرج في يوم مقداره لو رام نسر قطعه لما قطعه إلا في الف سنة، ثم يخلص الى دفع الشبهة في نهاية الاستدلال بقوله : واذا كان الامر على ما بيناه لم يكن بين المعاني تفاوت على ما وصفناه(1). وهذا مثال من كثير يدفعان فيه تناقض الظواهر القرآنية بطرق متعددة يحسن الرجوع لاستقرائها الى مصادرهما (2) وعدم الاختلاف بين ظواهر القرآن امر مسلم عند الشيخ الطوسي وهو وان لم يكن وجها من وجوه الاعجاز في نظره، فهو على الاقل يستحسن ان يكون من فضائل القرآن وامتناعه عن عده وجها للاعجاز لدفع اعتراض محتمل، وذلك لان لقائل ان يقول : إن العاقل إذا تحفظ وتيقظ حتى لا يقع في كلامه تناقض لم يقع. فمن این انه خارق للعادة ؟!) (3) فالطوسي وان دفع ذلك، لكنه اثبت خصيصة عدم الاختلاف بين الظواهر بل عموم النصّ القرآني وهذا ما اكده في موضع آخر اذ يقول (لا يجوز ان يكون في كلام الله تعالى وكلام نبيه(صلی الله علیه وآله وسلم)، تناقض، وتضاد)(4) ثم يستدل على ذلك بظواهر الآيات الكريمة، كقوله تعالى: ﴿ إِنَّا جَعَلْتَهُ قُرْهَانَا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾(الزخرف/3)، وقال: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِي مُّبِينٍ ﴾(الشعراء/195). وقال: ﴿ ما فَرَّطْنَا فِي الْكِتَبِ مِن شَيْءٍ ﴾(الانعام /38) ، وقال : ﴿تِبْيَنَا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾ (النحل (89). وقد وقع استدلاله هذا في طريق إثبات حجية الظواهر القرآنية تفصيلاً(5)

ص: 158


1- ظ: المرتضى الفصول المختارة من العيون والمحاسن ص 76.
2- ظ مثلا المصدر السابق المفيد: اوائل المقالات الافصاح عن إمامة امير المؤمنين المرتضى: الامالي، الشافي.
3- الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد ص 291.
4- التبيان 1 :4 .
5- المصدر نفسه .

والخلاصة ان اعتماد الظواهر القرآنية في استنباط أصول العقيدة، وتفريعاتها، او الاستدلال عليها بتلك الظواهر يعتبر من اساسيات المنهج الكلامي عند الإمامية، ومن لوازم هذا الاعتماد والاستدلال اعتقاد متبنيه بعدم التناقض والاختلاف بين تلك الظواهر. وهذا ما يتبين بوضوح في عشرات النماذج التطبيقية (1).

2 - ان للظاهر القرآني حجية ذاتية، ودلالة على المراد راجحة حسب ضوابط حد الظهور بوجود رجوح لواحد من المعاني المحتملة للنص وان هذا الظاهر ما دام يمكن الابقاء عليه، وكشف المراد من النص في ضوئه - بحسب ضوابط المرجعيات السابقة التفصيل - فانه لا يُلجأ الى التأويل وصرف النص عن الظاهر، وبهذا يمكن الاستدلال بالنص الظاهر وتأسيس أصول العقيدة بناء على الظواهر القرآنية، ما دامت لا تحتاج الى هذا الصرف، وتوافق الادلة، ولا تختلف فيما بينها حسب الضابط رقم 1 فلا يعدل

عنها الى غيرها كالقول بمجازيتها. وهذا ما نلاحظ الشيخ المفيد يؤكده بقوله: (وقد ثبت ان الاستعارة ليست اصلاً يجري في الكلام، ولا يصح عليها القياس، ولا يجوز لنا ان نعدل عن ظواهر القرآن وحقيقة الكلام الا بدليل يلجئ الى ذلك ..) (2).

ويؤكد ذلك في موضع آخر، فيقول: (من) تأول القرآن بما يخرجه عن حقيقته، وادعى المجاز منه والاستعارة بغير حجة قاطعة، فقد ابطل بذلك، واقدم على المحظور، وارتكب الضلال) (3).

وهذا ما قام عليه المرتضى في تعامله مع الظواهر القرآنية رغم ميله الواضح

ص: 159


1- انظر المفيد: اوائل المقالات و تصحيح الاعتقاد 39، 200 204 233، 238 ،240، 254، الافصاح: 30 / 39، المرتضى: الفصول المختارة 76 وما بعدها الامالي1: 503 تنزيه الانبياء ،77، 149 ،وغيرها العلامة الحلي الالفين 296 وما بعدها .
2- الفصول المختارة من العيون والمحاسن 25.
3- الافصاح في امامة أمير المؤمنين (ع) 89 وانظر طريقته في تفصيل ذلك تطبيقاً في ص87، وما نقله الشريف المرتضى عنه في الفصول المختارة 22، 25.

الى التأويل، واشتهاره بتوسع استدلالاته في ذلك؛ اذ انه يحدد الانصراف عن الظاهر بضوابط واسس من اهمها ان الكلام يبقى على حقيقته وظهوره ويحدد المراد من النص بحسبها ما دامت الادلة مساعدة على ذلك. ولا خلاف له مع الأصول، والابتعاد عن صرفه عن حقيقته فهو يقول: (ان حمل الكلام على الحقيقة التي تعضدها الرواية اولى من حمله على المجاز، والتوسع مع فقد الرواية)(1) ولذلك نراه يختار - احياناً وجهاً معيناً في تفسير الآية بالابقاء على ظاهرها وحقيقتها، ويرجحه على غيره؛ لأنه يقول بالمجاز، حيث ان الحقيقة مقدمة على المجاز عنده (2).

وعلى هذا الاساس نجده احيانا يستبعد العديد من وجوه التأويل للآيات؛ لأن ظاهر النص لا يحتملها، ولا يقتضيها مكتفيا بالدلالة على الآية بتفسيره (3).

بل انه وحفاظا منه على قوة حجية الظهور في بعض الآيات، يبتعد - ليس فقط - عن التأويل الى المجازية والاستعارة بغير دليل، بل يتعدى ذلك الى بعض الاعتبارات البلاغية واللغوية، كتقدير المحذوف، وهو احد وجوه التأويل عنده؛ فان ذلك لا يكون عنده ما دام اتباع الظاهر ممكنا. لذلك يقول في ترجيح رأي في آية على آخر: (وفي هذا الوجه ترجيح لغيره من حيث اتبعنا فيه الظاهر ولم نقدر محذوفا وكل جواب مطابق الظاهر ولم يُين على محذوف كان اولى)(4) وقد سار على هذا الضابط المهم في موارد عديدة من كتبه يمكن تتبعها (5).

واكد الشيخ الطوسي مضمون هذا الضابط، واعتباره عنده، حيث اكتفى باعتماد

ص: 160


1- ظ الامالي 2: 171.
2- المصدر نفسه.
3- الامالي 2: 181.
4- المصدر نفسه 2: 120 .
5- انظر مثلا الامالي :1 503، 2 : 146، 2: 187.

ظواهر العديد من الآيات استدل بها في مواضع عديدة (1)دون ان يلجأ الى صرفها الى التأويل، وهي مما قد يلجأ غيره الى تأويلها، وامتنع هو لعدم وجود الصارف الى ذلك.

ورغم ان العلامة الحلي قد شغلته الاستدلالات العقلية وطغت على اكثر كتبه في أصول العقيدة والاحتجاج؛ لاثبات آرائه عن التنظير للاسس المنهجية وتحديد الضوابط والمعايير ، الا ان ذلك مما يمكن تلمسه واستفادته بوضوح من خلال مواضع عديدة حاد فيها تماما عن اللجوء الى التأويل وابقى على ظاهر الآية، فاعلا في استفادة أصول العقيدة والبرهنة عليها بالادلة السمعية (القرآنية) (2) ، حتى اننا نلاحظ انه في مقام نفيه للرؤية على الباري تعالى مع وجود عديد من الآيات التي يشير ظاهرها الى الرؤية نجده ينفي تماما ان يصرف مثل قوله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَذٍ نَاضِرَة ﴾(القيامة /22) الى المجازية، ويبقيه على ظاهره ويؤكد دلالته على عدم وقوع الرؤية مستندا في ذلك الى أصول اللغة واستعمالاتها.

3 - ان حاكمية ظواهر النصوص القرآنية تنعكس وتنسحب حتى الى التأويل ،كطريق يسلكه المتكلم؛ لرفع التعارض بين ظاهر النص والاصول والادلة، حيث يجعلون من شروط وجوه التأويل ان تكون موافقة للظاهر القرآني، ولا تتعارض معه وهذا الامر لن نخوض في تفصيلاته هنا تاركين ذلك للبحث عن اسس التأويل وضوابطه.

4 - ان الدليل العقلي المعتمد في البرهنة على أصول العقيدة او جزئياتها يجب ان لا يكون مخالفا للظاهر القرآني، وذلك انطلاقا من استحالة وقوع التناقض بين العقل

ص: 161


1- يرد ذلك في عشرات المواضع من التبيان منها مثلا 1: 5 ،4 :240 تلخيص الشافي 1: 67، عدة الاصول 157 الاقتصاد 75 / 90 / 209 وغيرها.
2- انظر مثلا الالفين ،402،406 409 410 420 ،وغيرها، كشف المراد ،383 ،392 ،427، 440، 443 ،وغيرها الرسالة السعدية ،51، 56، 58 انوار الملكوت في شرح الياقوت 58 طبع طهران 1338 ه_ كشف الحق ونهج الصدق 43 مطبعة النجاح بغداد استقصاء النظر في البحث عن القضاء والقدر 51 مطبعة الحوادث بغداد 1978 م.

والنص، وهي قضية كبرى تمثل معيارا مهما في المناهج الكلامية الاسلامية عموما، وتتضح تفصيلاتها في محاولة التوفيق بين العقل والوحي.

ولا يخرج الإمامية عن هذا الاطار حتى اننا - ونحن نجد لهم استدلالات عقلية في الكثير جدا من أصول وجزئيات العقيدة - لا نلاحظ ابدا اختلافا مع ظواهر الكتاب بل هي تستمد صدقها من الكتاب نفسه، وتعتمد مرجعيته، وتستضيء بأصوله. ولذلك فمتكلموهم نادرا ما يتركون الدليل العقلي وحيدا في ساحة الاستدلال على اصولهم وآرائهم، وانما يردفونه غالبا بالدليل النقلي الذي يؤكد الأصل او الرأي الذي يعتمدونه. ومؤلفاتهم تعج بالامثلة على ذلك.

فالشيخ المفيد - وهو يمثل بواكير اتجاه عقلي جديد، وتأسيساً منهجياً للمنظومة الكلامية عند الإمامية - نلاحظ توافر كتبه العديدة على اشارات كثيرة تؤكد على ضرورة خضوع الدليل العقلي لمرجعية النص القرآني والمعصومي، حتى انه انتقد بعض سابقيه ممن تأولوا الادلة العقلية وقايسوها الى اخبار وآراء تتعارض مع ظواهر الآيات، وعد وجود النص ثم العقل مغنياً عن تلك الاخبار والآراء التي لا يقام لها

وزن (1).

ونجده يؤكد خضوع اهلية الدليل العقلي والرأي القائم عليه للنص المعصومي الذي هو عنده صنو القرآن وعدله - حيث نراه يشير فيما يخص آراءه الكلامية في كتابه اوائل المقالات مثلا انها جاءت موافقة للآثار الواردة عن الأئمة(عليهم السلام)(2) ، ثم يشرع في بيان تلك الآراء في كل جزئية من أصول العقيدة بالنظر العقلي. ويرفقها بالاستدلال بظواهر آيات قرآنية.

ص: 162


1- ظ تصحيح الاعتقاد (مطبوع مع اوائل المقالات) 254، 263 رسالة في اجوبة المسائل السروية (رسائل الشيخ المفيد المجموعة الأولى) ص 56 مكتبة دار الكتب التجارية النجف ط 1 (د. ت).
2- اوائل المقالات ص 54 وما بعدها.

كما نجد له احيانا تلميحات الى عدم نهوض الدليل العقلي بالاستدلال على قضية معينة كان للظاهر القرآني الكفاية في بيانها (1) . وعدم المخالفة للظاهر احد ركنين اساسيين في الدليل العقلي عند المرتضى، وبعكسه تسقط دليليته، والركن الاخر هو عدم خضوع ذلك الدليل للاحتمالية. ففي مجال اثباته لعصمة الانبياء(عليهم السلام)يقول : (قد بيّنا بالادلة العقلية التي لا يجوزفيها الاحتمال ولا خلاف الظاهر ان الانبياء للام لا يجوز عليهم الكذب، فما ورد بخلاف ذلك من الاخبار لا يلتفت اليه ويقطع على كذبه إن كان لا يحتمل تأويلاً صحيحاً لايقاً بأدلة العقل ...)(2) وأعاد تأكيد هذا المعنى في موضع آخر بتقريره اشتراط عدم الاحتمال والمجاز ووجوه التأويلات في الادلة العقلية التي اعتمد عليها في إثبات عدم جواز المعاصي على الانبياء)(3) وفي موضع آخر نراه يؤكد هذا النهج باستبعاده وجهاً من وجوه التاويل العقلي، لأنه مخالف لظاهر القرآن. ففي قوله تعالى: ﴿وَنَادَىٰ نُوحٌ رَّبَّهُ، فَقَالَ رَبِّ إِنَّ أَبْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَكِيمِينَ ﴾. (هود/45) كان احد الوجوه في تفسيره وهو المروي عن قتادة عن الحسن انه لم يكن ابنه، مستدلا بقوله تعالى : ﴿لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾. وأوّل قوله تعالى:﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ﴾. لكن الشريف المرتضى رد هذا الاستدلال والتأويل واستبعد هذا الوجه في الآية؛ لأن فيه منافاة للقرآن (ظاهر الآية )؛ لأنه تعالى قال :﴿ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ ﴾، فأطلق عليه البنوة؛ ولأنه ايضا استثناه من جملة اهله بقوله تعالى:﴿ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ ﴾(4) .

ويؤكد الشيخ الطوسي ضابطية وجوب عدم مخالفة الاستدلال العقلي لظواهر القرآن بتأسيسه قضية كلية لذلك. فبعد ان يقيم الدليل العقلي على حسن العفو عمن ندم

ص: 163


1- المصدر نفسه ص 57.
2- تنزيه الانبياء ص 27 المطبعة الحيدرية / النجف ط 13943 ه_ 1974م.
3- الامالي 1: 478 .
4- المصدر نفسه 1 :503 وانظر امثلة اخرى على ذلك في 1: 308، 1: 311، 2: 246 وغيرها.

على فعل القبيح؛ لقبحه، وعزم على عدم العودة اليه، يقول ( وانما قلنا ذلك لاننا دللنا على حسن العفو من حيث عدمنا الدليل المانع منه، وليس في السمع ما يمنع ايضا منه لانا سبرنا ادلة السمع ايضا، فلم نجد ما يمنع منه، فيجب ان يكون التجويز باقياً على ما علمناه بالعقل) (1) ونجده في موضع آخر يستدل بالدليل العقلي على حسن المدح على بعض الافعال والذم على بعض آخر - استنادا الى اصالة التحسين والتقبيح العقليين عند الإمامية - ليؤكد ان هذا الاستدلال يؤكده القرآن الكريم فيورد على ذلك عددا من الآيات الكريمة الدالة بظواهرها على استدلاله العقليّ وموافقته لتلك الظواهر (2).

وهذا المنحى عنده يشكل منهجا ثابتا يتاكد في العديد من المواضع الاخرى التي لا مجال لاستقصائها هنا اوردها خصوصا في المحاججة والرد على الخصوم والمخالفين (3).

اما العلامة الحلي فعنده يتجلّى الحضور الفاعل للاستدلال العقلي الذي طغى على اکثر مؤلفاته، حتى مثل طابعاً خاصاً عنده فنلاحظ ان هذا الضابط يكاد يحكم تلك الاستدلالات العقلية. وهو وان لم يبين لنا صورة هذه الضابطية تفصيليا كقاعدة يسير عليها، إلا انها تظهر واضحة التأثير في العديد من المواضع في كتبه حين يلتزم الاستدلال العقلي بالخطوط العامة التي رسمها الظاهر القرآني في مجال بيان أصول العقيدة كما في إثبات علمه تعالى بالكليات والجزئيات، ردا على الفلاسفة(4) وفي إثبات معنى العلم لصفة السمع والبصر للباري تعالى(5) وفي مجال إثبات حدوث القرآن، وتعضيد

ص: 164


1- ظ الاقتصاد 206
2- المصدر نفسه 99.
3- انظر ردوده على المشبهة والمجسمة والغلاة الحشوية، والمفوضة والمعتزلة والتناسخية والاخوارج وغيرهم في التبيان 1: 30، 2: 216، 2: 418، 4: 113، 4: 129، 5 : 93، 7 : 243، 10: 366 وغيرها
4- ظ كشف المراد 310 - 311.
5- كشف الفوائد 49 طبع حجر /طهران 1305 ه_ تسليك النفس الى حظيرة القدس (مخطوط) مكتبة الحكيم ضمن مجموعة مخطوطات برقم 2929 ورقة 55.

الدليل العقلي بظاهر القرآن، ردا على قول الأشعرية في قولهم بقدم القرآن (1)، وفي استخدام ظاهر القرآن بتأكيد دليل التمانع على اساس فهمه للنص القرآني قوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا وَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَنَا ) (2) (الانبياء /22).

وفي مجال إثبات عصمة الانبياء مطلقا، وابطال قول من نسب لهم صدور الذنب (3)وفي مجالات اخرى عديدة لا مجال لاستقصائها (4) .

5 - الموقف من الاخبار والروايات واثرها في فهم ظاهر القرآن تبين لنا خلال الحديث عن(المرجعيات) الكبرى الأسس المنهجية لمركزية النص الوارد عن الأئمة، واهليته المهيمنة في الفكر الكلامي عند الإمامية، فضلاً عن الجوانب الفكرية الاخرى وتبين لنا هناك ملامح الدور المؤثر الذي يمثله النقل المعصومي في استنباط اسس المنظور الاسلامي ونأى البحث عن الخوض في الجزئيات المنهجية لموقف متكلميهم من اعتبار ملامح التأثير المتعلقة بضوابط الرواية والدراية، والقبول والرد للروايات ،وصلة ذلك بالظاهر والتعامل معه وفقا لذلك.

وهنا يمكن ملاحظة العديد من المعالجات المنهجية التفصيلية للاخبار والروايات لترسيخ اسس الاستفادة منها تفصيلياً واثرها في عملية الكشف عن الدلالات التي يحملها النص في اطاره المبين للعقيدة واصولها وما ينعكس عن النص او يدور في فلکه ضمن آفاق النقل عن الائمة.

وتتعدد وجوه ،المعالجة وجوانب النظر، واساليب المحاسبة والاستفادة من تلك الآثار عند متكلمي الإمامية بما يمكن اجماله في مجموعة نقاط يكتفي الباحث ببيانها دون الخوض في تطبيقاتها هنا واهمها

ص: 165


1- الرسالة السعدية 58-56 .
2- ظ انوار الملكوت في شرح الياقوت 94 - 95 .
3- كشف الحق ونهج الصدق ص 82 مطبعة النجاح بغداد.
4- انظر مثلا الألفين ،402، 405، 408، 411 .

أ - عدم الحاجة الى الولوج في معترك الاحاديث التي لم يتم التحقق من استحقاقها درجة الاعتبار، وصحة الصدور، وعدم المخالفة للنص القرآني ما دام النص قد استنفذ وجوه الحاجة للبيان والتفصيل (1).

ب - عدم الاخذ بالروايات اذا كانت مخالفة للظاهر القرآني (2).

ج - مع تحقق الاعتبار، وصحة الصدور في الاخبار يلجأ الى صرفها الى التاويل عند مخالفتها للظاهر القرآني(3)

د - ان الاخبار عن الأئمة (عليهم السلام)تحتمل التشابه الذي لايفهم المراد منه، فيجب رده الى محكمها ،كما هو مضمون الرواية عنهم(عليهم السلام).

فان في كلامهم ظاهراً وباطناً وخصوصاً وعموماً. وقد يشتبه المتصدي في تأويلها كما ان منها ما ليس صحيحا نقله عنهم (عليهم السلام) ، مما يرقى الى درجة الاعتبار والبناء عليه؛ إذ يجب التحري هنا؛ للتأكد من كونه صدر عنهم فعلاً، بعرضه على ضوابط التحقق من الصحة (4)

ه_ - تحديد شرائط قبول الخبر الذي تنبني عليه أصول وتفريعات عقائدية. كما نلاحظ التاكيد على ذلك مثلا عند الشيخ المفيد الذي يجعل الاستدلال الذي طريقه الاكتساب مؤثراً في العلم بصحة جميع الاخبار )(5)، وفي موضع آخر يوضح حدّ التواتر الذي يشترط في الاخبار التي موضوعها العقيدة وتمثل دليلا قاطعا عليها (6).

ويتناول الشريف المرتضى ضوابط وأسساً اخرى ففي حديثه عن النص على امامة

ص: 166


1- ظ: المفيد تصحيح الاعتقاد ص 238.
2- ظ تصحيح الاعتقاد 267/252/203 ، الافصاح عن امامة امير المؤمنين ص18/16/14 ، المرتضى: الامالي 1 28 1 318 تنزيه الانبياء ص ،77، الآيات الناسخة والمنسوخة 208 ،وغيرها الطوسي التبيان 1 :4، 1: 5 ،
3- ظ المفيد : اوائل المقالات ،76 تصحيح الاعتقاد 209 / 225 / 238.
4- ظ المفيد: رسالة في اجوبة المسائل السروية 56 اوائل المقالات 63 / 77 تصحيح الاعتقاد 266 ، الطوسي: التبيان 1: 6 .
5- اوائل المقالات 109 .
6- المصدر نفسه 110 وانظر تحديدات وتفصيلات اخرى في تصحيح الاعتقاد ،198 ،220 224 ، الافصاح 13، 20.

امير المؤمنين(عليه السلام)يبين ضوابط الروايات الواردة في الموضوع ، المؤكدة لاستدلاله فيه، وانها استجمعت الشرائط التي في ضوئها حكم بوجود النص الجلي على امامته ام، اذ يحددها بأنها تنتهي في الكثرة الى حد لا يصح معه ان يتفق الكذب منها على المخبر الواحد، وان يعلم انه لم يجمعها على الكذب جامع من تواطؤ ، وما يقوم مقامه، وان يكون اللبس والشبهة زائلين عما خبرت به (1)ولذلك نجده احيانا يرفض قطعيا اقامة عقيدة على اساس الاحاديث حيث يجدها (مطعونة ضعيفة) (2)وباستجماع هذه الضوابط يمكن اعتبار تلك الاخبار والتأسيس عليها.

وترد عند الشيخ الطوسي العديد من الاشارات المهمة في تحديد ضوابط شهادة الروايات على الكتاب كاللجوء الى طريقة الآحاد من الروايات الشاردة والالفاظ النادرة ( فانه لا يقطع بذلك، ولا يجعل شاهدا على كتاب الله، وينبغي ان يتوقف فيه، ويذكر ما يحتمله ولا يقطع على المراد منه بعينه فانه متى قطع بالمراد كان مخطئا، وان أصاب الحق)(3)وحدد ملامح منهجية مهمة لقبول الاخبار قائمة على اسس من موافقة ضوابط التعديل والترجيح، وكاشتراطه لقبول الخبر الاجماع او التواتر عمن يجب اتباع قوله وعدم قبوله لخبر الواحد وضوابط و شرائط اخرى(4) .

وقد وردت عن العلامة الحلي ضوابط وتحديدات اخرى للاستفادة من الروايات والاخبار في استنباط أصول العقيدة لا تحيد عن أسس سابقيه (5)، ودعوته للتدبر في الاخبار التي يراها نصا خفياً على إمامة امير المؤمنين(عليه السلام)(6).

ص: 167


1- الشافي ،88 ،132، 167 ،168 ،185 وانظر تفصیلات اخرى في تنزيه الانبياء 148، الأمالي 2: 35
2- تنزيه الانبياء ص 125 وانظر تفصيلات اكثر في المصدر نفسه 127 / 140 / 143.
3- التبيان 1 6 - 7 .
4- المصدر نفسه 1: 3، 1: 16 وللتطبيق انظر المصدر نفسه 1 :27، 1 :60 ،8: 340 الاقتصاد 333، 344، تلخيص الشافي 1: 124، 1 :134 وانظر نماذج تطبيقية في تفسير الآيات في ضوء اخبار ائمة اهل البيت (ع) بعد تطبيق الضوابط والأسس عليها في التبيان 2: 121، 2: 168، 4: 242، 5: 393 .
5- الألفين 62، 63، 64.
6- تسليك النفس (مخطوط) 76 انوار الملكوت 221 .

المبحث الثاني: الموقف من قضية المحكم والمتشابه

المطلب الأول: الإحكام والتشابه في النص القرآني

يرد مفهوما الإحكام والتشابه في القرآن الكريم في اطارين يوصف بهما النص الشريف يختلفان من حيث الكلية والجزئية.

الاطار الأول: وصف القرآن الكريم كلياً بالاحكام والتشابه

فالاحكام هنا يوصف به القرآن الكريم باجمعه في قوله تعالى: ﴿الركتب أُحكمت وايَتُهُ ﴾: (هود/ 2)

والإحكام في هذا الاطار من حيث اللغة اريد به وصف القرآن الكريم بالاتقان بحيث لا يتصور فيه العكس، فكونه محكماً يبعد عنه اي نقص متصور من اختلاف او تناقض، او مخالفة للاصول والبديهيات، أوضعف في الاسلوب، أو وهن في التعبير واما التشابه، فقد وصف به القرآن باجمعه في قوله تعالى :﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَبًا مُّتَشَبِها مَّثَانِيَ نَفْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللهِ ﴾ (الزمر / 23 ) .

فالتشابه المقصود هنا هو ما يكون بين الاشياء المختلفة من تماثل في الاوصاف واتفاق في الكيفيات فكأن الآية ارادت وصف القرآن الكريم بتماثل آياته المختلفة في انتظامها ضمن سياق واحد من الاعجاز في بلاغة الخطاب، وقوة الاسلوب واحكام الروابط بحيث لا تختلف نصوص خطابه من حيث قدرتها على التعبير عن الحقائق بما ينسجم مع اختلاف استعدادات المتلقين، وتفاوتهم في الفهم والاهتداء إلى سبيل الحق.

ص: 168

ويقول الشيخ الطوسي عن هذا الاطار (ان وصفه بانه محکم کله المراد به انه بحيث لا يتطرق عليه الفساد والتناقض والاختلاف والتباين والتعارض بل لاشيء منه الا وهو في غاية الاحكام إما بظاهره أو بدليله على وجه لامجال للطاعنين عليه، ووصفه بانه متشابه انه يشبه بعضه بعضاً في باب الاحكام الذي اشرنا اليه )(1)

ووصف عموم القرآن بالاحكام والتشابه بهذين المعنيين مما لا خلاف فيه بين عموم المسلمين، فقد اعجز القرآن الكريم فصحاء العرب بما تضمنه من مصاديق ذلك، والتي غطت وجوها متعددة من وجوه الاعجاز.

الاطار الثاني وهو يختلف عن الاطار الأول في المراد بالاحكام والتشابه اولا، وكون الموصوف بهما من النص القرآني هو بعضه وليس كله ،ثانيا، حيث يُقسم الكتاب هنا إلى قسمين آيات محكمة واخرى متشابهة. وقد جمع الوصفان في آية واحدة قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ وَايَتٌ تُحكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتُ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا نَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَبِ ) (آل عمران/7). فالآية ظاهرة في استقصاء انطباق الوصفين على كلّ القرآن الكريم من خلال القسمة (منه آيات محكمات)، و(وأخر متشابهات)، فتناولت النصّ بقسميه المتصورين كما اوحت باتصاف كل قسم بوصفه الخاص، لتأكيد خصوصية المعنى المراد للاحكام والتشابه، وذلك باستخدام حرف (من) الدال على التبعيض، فالمقصود منهما في هذا الاطار مختلف تماماً عما أريد في الاطار الأول، وهو يمثل ركيزة مهمة في اطار المصطلح القرآني، وعلماً مستقلاً من علوم القرآن، واساساً منهجياً؛ اذ تنعكس عن الموقف منه تحديداً او تفعيلاً ملامح المنهج الفكري ،اصول فهم النص القرآني.

ص: 169


1- الطوسي التباين :1: 11 عدة الاصول 154.

وقد وصفت الآيات المحكمة في هذا الاطار ب-( ام الكتاب )لتحميلها مهمة خاصة اذ تتمتع بمرجعية مهيمنة على مجمل النص القرآني؛ فلفظ (الام) في اللغة يمثل ما يكون مرجعاً وموئلاً واصلاً يرجع اليه، وهو ما تمثله الآيات المحكمة فعلاً بالنسبة إلى قسيمها الآخر (الآيات المتشابهة )وهو ما اشارت اليه الآية بوضوح حيث تكون المحكمات المرجع الذي يستند اليه في كشف دلالات المتشابهات التي يلفها الابهام والآية ترتب على اتباع المتشابهات اثراً خطيراً لتؤكد هذهِ المرجعية التي تمثل حاجزاً عن ترتب ذلك الاثر (الزيغ، والاتصاف بمرض القلب عن تجريد الآيات عن الرجوع إلى الأصل. وبالتالي تكون مرتعاً خصباً يستغله أولئك الزائغون، وينقادون إليه فيعوّمون المتشابهات بتحميلها مالا تتحمل مما لا يسهل كشفه مع تغييب مرجعية الأصل (المحكمات) وهذا ما يترتب عليه الوقوع في مغبة التأويلات المذهبية التي تخرج بالنصّ عن مركزيته وهيمنته فالمحكم في هذا الاطار يراد به( مايفهم المراد بظاهره) (1) .

فهو واضح الدلالة بيّن المعنى ويتضمن بهذه الحدود مرتبتين النص، والظاهر.

أما المتشابه فهو كما يرى الشيخ المفيد: المحتمل الذي لا يتضح دون النظر، اذ يرى ان الآيات المتشابهات هي ( محتملات لا يتضح مقصودها الا بالفحص والنظر)(2)

أما الشيخ الطوسي فالتشابه عنده :(ما أشتبه المراد منه بغيره، وان كان على المراد والحق منه دليل) (3)فهو الكلام غير الواضح في دلالته على ما أريد به، ويقع هنا في الآيات المجملة التي تفتقر إلى التفصيل، والمؤولة التي لا تدل على المعنى الا بعد التفسير والكشف والمشكلة التي خفيت دلالتها للالتباس والابهام(4).

ص: 170


1- المفيد: النكت الاعتقادية ص 246 المكتبة العصرية بغداد 1343 ه_
2- المصدر نفسه .
3- الطوسي: التبيان 1:11 .
4- هادي كاشف الغطاء الهادي فيما يحتاجه التفسير من الميادي ص 91 (بتصرف) مطبعة الآداب / النجف ،1393ه_ - 1973م.

وقد سبق ان فصل البحث القول في ظاهر النصّ كقسم من أقسام المحكم، والقى هناك بعض الضوء على المحكم من خلاله، وما يهم هنا هو المتشابه في القرآن والموقف منه.

يقول الراغب الأصبهاني:( المتشابه ما أشكل تفسيره لمشابهته بغيره أما من حيث اللفظ، أوالمعنى)(1).

وخص المتشابه من حيث المعنى بان من مصاديقه (أوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة فان تلك الصفات لا تتصور لنا؛ اذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه ولم يكن من جنس ما نحسه) (2) .

وعرفه الشيخ الطوسي بأنه: (ما أحتمل وجهين فصاعداً) (3).

وللمسلمين آراء كثيرة في تحديد معنى المحكم والمتشابه تكاد ان تتفق فيما بينها في المرتكزات الاساسية والمعاني الكلية وان اختلفت في تحديد بعض الدلالات الجزئية ولا مجال هنا للخوض في تفصيلاتها فيحسن الرجوع إلى مظانها (4).

ص: 171


1- المفردات 254 .
2- المصدر نفسه.
3- التبيان 3: 395.
4- انظر: تفصيلات الآراء. الزركشي: البرهان في علوم القرآن :2 ،8279 الطوسي، التبيان 3: 395 وما بعدها، الطبرسي: مجمع البيان ،2 ،410 السيوطي الاتقان 2 2-3 وغيرها.
المطلب الثاني: علم تأويل المتشابه

انقسم المتصدون لفهم النص القرآني حيال آية المتشابه، وموقع الواو منها في قوله تعالى: ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾إلى فريقين:

الفريق الأول: من يرى ان الواو في قوله تعالى:﴿وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾. للاستئناف ويكون المراد منها بالتالي: ان تأويل المتشابه لا يعلمه الا الله تعالى وحده واما الراسخون في العلم فقد مدحوا في الآية بتجنبهم الخوض في المتشابه واتباعه وتركوه لله تعالى؛ اذ هو سر من اسراره، لا يكشف لاحد من العباد؛ ولأن متبعيه دموا ووصفوا بالزيغ عن الحق وهذا ما نقله السيوطي عن ابن عباس في اصح الروايات عنه(1)

ونقل الحارث المحاسي (ت 243 ه_) عن عبيدة انه قال في الآية: (من اين يعلمون تأويله ؟ وانما انتهى علم الراسخين إلى ان قالوا (آمنا به كل من عند ربنا) (2).

وسئل الإمام مالك عن الراسخين ايعلمون تأويله ؟ فقال انما معنى ذلك ان قال: وما يعلم تأويله الا الله ثم اخبر، فقال: (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وليس يعلمون تأويله)(3).

واكد الطبري في تفسيره كون الواو للاستئناف، وقدر معنى الآية بحسب ذلك، فقال: (واما الراسخون في العلم فيقولون: آمنا به كل من عند ربنا. لا يعلمون ذلك ولكن فضل علمهم في ذلك على غيرهم. العلم بان الله هو العالم بذلك دون سواه من خلقه )(4)

ص: 172


1- الاتقان: 2:3
2- العقل وفهم القرآن 329 تحقيق حسن القوتلي دار الفكر بيروت ط19711 م.
3- المصدر نفسه .
4- جامع البيان 3:122 ط 1 بولاق / مصر 1324 ه_

ويؤكد رأبه هذا حين يحدد معنى المتشابه بانه( مالم يكن لاحد إلى علمه سبيل مما استأثر الله بعلمه دون خلقه )(1).

وكون الواو للاستئناف يرجحه ايضاً الزركشي (2) والسيوطي(3) .

الفريق الثاني : الذي يرى ان الواو في الآية للعطف، وبالتالي فالراسخون يعلمون تأويل المتشابه، كما يعلمه الله تعالى، والى ذلك ذهب طائفة منهم عبد الله بن عباس في رواية عنه، وانه قال : (انا ممن يعلمون تأويله) (4) .

ومنهم ايضاً مجاهد؛ اذ قال في تفسير الآية: (يعلمون تأويله) (5) وعن الضحاك انه قال بذلك وعلل رايه انهم: (لو لم يعلموا تأويله لم يعلموا تاسخه من منسوخه، ولا حلاله من حرامه، ولا محكمة من متشابهه) (6) وهو ما اختاره النووي؛ لأنه الاصح حيث( يبعد ان يخاطب الله عباده بما لا سبيل لاحد من الخلق إلى معرفته)(7).

واهل السنة، واغلب الصحابة والتابعين وتابعوهم بل حتى المتأخرون على الرأي الأول.

اما الإمامية فهم يكادون أن يجمعوا على القول الثاني وان الواو في الآية للعطف، وأنّ الراسخين يعلمون تأويل المتشابه.

وهذه القضية تحتل عندهم اهمية كبرى تتصل بمنصب الإمامة الذي هو قطب

ص: 173


1- المصدر نفسه.
2- البرهان 2: 83 .
3- الاتقان 2 :3.
4- ظ: السيوطي: الاتقان 2 :3.
5- المصدر نفسه.
6- المصدر نفسه.
7- المصدر نفسه.

الرحا في مذهبهم، وتمثل ركيزة منهجية يقوم عليها بناء كبير يتمثل في حشد واسع من التأويلات لطائفة كبيرة من آيات الكتاب اعتماداً على الروايات الواردة عن المتهم؛ اذ يرون ان الرسوخ الموصوف في الآية مخصوص بالأئمة (عليهم السلام).

وهذا ما تؤكده الروايات الواردة عن الأئمة (عليهم السلام)انفسهم، والتي تشكل المرجعية المركزية للمذهب كما سبق بيانه وقد تناول البحث هذه الروايات في المبحث الأول من هذا الفصل.

فالمتشابه عند الإمامية مما يقع تحت نطاق امكان الكشف والبيان عن دلالاته. ولكن ليس لكل احد ، وانّما يمكن ذلك لمن خصهم الله تعالى بالرسوخ وكانوا عدل الكتاب؛ فان رد المتشابه إلى الراسخين في العلم يعني صيرورته محكماً لما يمثله النص الوارد عن الأئمة من خصوصية كونه مبيّن ،القرآن والكاشف عن دلالاته اضافة إلى مرجعية النصّ لنفسه في كشف محكمه لمتشابهه، كما اشارت الآية الكريمة في جعل المحكمات (ام الكتاب) وهو ما اكده الأئمة (عليهم السلام)في رواياتهم، وفصل القول فيه متكلمو المذهب ومفسروه.

هذه الخطوط العريضة للموقف من علم تأويل المتشابه نجدها تتجسد بوضوح في آراء متكلمي الإمامية وخصوصاً من اختار البحث استطلاع ارائهم في فهم النص.

فالشريف المرتضى - مثلاً - يورد في تفسير هذا الموضع من الآية ثلاثة وجوه (1)،يرى انها جميعاً مما يمكن للآية ان تحتملها، ويشير إلى ان النتيجة المستخلصة منها جميعاً أنّ الراسخين يعلمون تاويل المتشابه، إما على نحو العموم، أو - وهو اقل ما تتحمله الآية - انهم يعلمون المتشابه على سبيل الاجمال، ولا يعلمه بعينه وتفصيلاً الا الله تعالى.

وحتى مع كون الواو للاستئناف فانه يؤول قوله تعالى على لسان الراسخين :

ص: 174


1- الامالي 1: 440

{يقولون امنا به }أنه (استئناف جملة استغني فيه عن حرف العطف كما استغني في قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُونَ ثَلَثَهُ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُم﴾ (1) (الكهف/22) .

واما المراد بالتأويل في الآية لا محالة هو (المتأوَّل)؛ لأنه قد يسمى تاويلاً، تاويلاً، وهو مالا يعلمه العلماء، وان كان الله عز وجل عالماً ،به كنحو قيام الساعة، ومقادير الثواب ،والعقاب وصفة الحساب وتعيين الصغائر..) (2).

ويخصص صفة الرسوخ في العلم المقصودة في الآية بالأئمة الهلام في تفسير آية كريمة اذ يقول : (... ثم وصف الأئمة ليلا فقال تعالى : ﴿التَّبِبُونَ الْعَبدُونَ الْحَمِدُونَ السَيحُونَ الرَّكِمُونَ السَّجِدُونَ الْأَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَفِظُونَ لِحُدُودِ اللهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (﴾التوبة/112)، الا ترى انه لا يصح ان يامر بالمعروف الا من قد عرف المعروف كله حتى لا يخطىء فيه ولا يزل ولا ينسى ولا يسئل ولا ينهى عن المنكر الا من عرف المنكر كلَّه واهله ولا يجوز لاحد ان يقتدي، ويأتم الا بمن هذه صفته، وهم الراسخون في العلم الذين قرنهم الله تعالى بالقرآن، وقرن القرآن بهم))(3).

ومن خلال تعريفه للمتشابه، نجد الشيخ الطوسي يؤكد امكانية علم الراسخين بتأويله، فانه يوحي بقسمته إلى ما يمكن ان يعلم من قبل العباد، وما اختص الله تعالى .به ذلك ان المتشابه عنده هو (مالا يعلم المراد بظاهره حتى يقترن به ما يدل على المراد منه)(4) فما تم له هذا الاقتران اذن ينكشف ويرتفع تشابهه ويعود محكما، وما لم يحصل معه ذلك الاقتران يبقى في دائرة التشابه، وهذا ما ينطبق على المتأول.

ص: 175


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه 1: 441
3- الآيات الناسخة والمنسوخة ص 38 .
4- التبيان 3 :395.

كما يمكن استفادة ذهابه إلى امكان العلم بتأويل المتشابه من خلال تقسيمه لمعاني القرآن على اربعة اقسام (1):

الأول: ما اختص الله بالعلم به فلا يجوز لاحد تكلف القول فيه، ولا تعاطي معرفته، وذلك مثل قوله تعالى: ﴿يَسْتَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ ربي﴾ (الاعراف/187) .. وهذا القسم هو اجلى مصاديق المتشابه الذي يمكن ان يكون سنداً للقائلين بالاستئناف في الواو الواردة في الآية؛ اذ ان هذا القسم يقع في دائرة مالا يعلمه الا الله تعالى وليس للراسخين إلى علمه من سبيل بل لا يجوز

الخوض فيه . ولا شك ان اتباعه مستلزم للزيغ الذي عبرت عنه الآية الكريمة.

الثاني: ما كان ظاهره مطابقاً لمعناه. فكل من عرف اللغة التي خوطب بها عرف معناها.

الثالث: ما هو مجمل لا ينبيء ظاهره عن المراد مفصلاً، مثل قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلوةَ وَءَاتُوا الزَّكَوةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّكمِينَ ﴾ (سورة البقرة 43)....ومثل هذا تفصيلياً لا يمكن استخراجه الا من قبل النبي عليه الله ووحي من جهة الله تعالى فتكلف القول في ذلك خطأ ممنوع منه.

الرابع: ما كان اللفظ مشتركاً بين معنيين فما زاد عنهما، ويمكن ان يكون كل واحد منهما ،مراد، فهذا مالا ينبغي ان يقدم احد به فيقول ان مراد الله فيه بعض ما يحتمل الا بقول نبي او امام معصوم، وباستحضار تحديده السابق الذكر للمتشابه نجده ماثلاً في هذا القسم.

فتقسيم الطوسي يمكن ان نلحظ منه توزيعاً للخطاب القرآني حسب مراتب البيان والوضوح في الدلالة فيه، فاشده ابهاما يقع في دائرة الغيب الذي لا يعلمه الا الله

ص: 176


1- التبيان 1:5 .(بتصرف).

تعالى، وهو متشابه ليس لأحد تكلف القول فيه، وثم يمكن معرفته بعد ان يخضع لضوابط الخطاب نفسه وقدرته على الكشف عن دلالاته رد المتشابه للمحكم) او بتحقيق وظيفة النبوة والإمامة كمرجعية للبيان فيه مما يشكل مصداقاً لصفة الرسوخ في العلم.

وهو يؤكد وجود هاتين المرجعيتين لرفع التشابه (الطارىء) على النصّ بالرجوع اليهما.

فالمرجعية الأولى تتمثل في النصّ نفسه في قسمه الأول مما ورد في الآية وهو المحكم.

اذ المحكم هو ( ما علم المراد بظاهره من غير قرينة تقترن اليه ولا دلالة تدل على المراد؛ لوضوحه، نحو قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا ﴾(يونس /44). وقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ (1)(النساء /40) .

ولأنه بهذه الدرجة من وضوح الدلالة فان له مرجعية، ويمثل اصلاً يقايس اليه المتشابه، وهو ما عبرت عنه الآية بقوله تعالى: {ام الكتاب اذ معنى ذلك اصل) الكتاب الذي يستدل به على المتشابه وغيره من امور الدين) (2) .

ونلاحظ ان تطبيق مصداقية هذه المرجعية الأولى اخذت مكانتها لكبيرة عند الشيخ الطوسي في تفسيره للمتشابهات؛ اذ يردها إلى تلك المحكمات التي هي اصولها. فمن الامثلة التطبيقية لذلك - مثلاً (3) - قوله تعالى:﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ ﴾ (سورة البقرة/286) . فظاهر الآية احتمل تكليف المشاق، واحتمل تكليف مالا يطاق، وأحد المعنيين لا يجوز عليه تعالى لقوله : ﴿لَا يُكَلِّفُ

ص: 177


1- التبيان 3 :395 .
2- المصدر نفسه 3: 395 .
3- المصدر نفسه 3: 397 .

اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا ءَاتَنهَا ﴾(الطلاق (7) وهو المحكم والاصل، فيرد اليه ويؤخذ بما وافقه من الاحتمالين وكذلك في قوله تعالى: ﴿ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ ﴾ (النساء/77) فرددناه إلى المحكم الذي هو قوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾(آل عمران/78).

اما المرجعية الثانية فهم الراسخون في العلم وهم الأئمة(عليهم السلام)حيث انهم يعلمون تأويل المتشابه، حيث نجد ان الشيخ الطوسي ليؤكد هذا المعنى، فهو لا يقول بعطف، ولا استئناف صراحة، وانما - في تلميح إلى عدم الحاجة إلى ذلك - يقتطع من الآية ما يدل على رأيه صراحة من خلال التطبيق الفعلي لما يراه في تفسيرها، اذ يقول: ﴿يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ ﴾أي تفسيره :﴿إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾. يعني الثابتين فيه) (1) .

ونحن نلاحظ هنا اثر الروايات الواردة عن اهل البيت(عليهم السلام)في هذا التقسيم. وقد مرت بنا سابقاً - كما نلاحظ اثر الروايات في عموم تفسيره (التبيان) الذي جاء مصداقاً مهماً من مصاديق المنهج الاثري في تفسير القرآن الكريم (2)، كما كان يمثل تفسيراً اعتمد الراي والمعقول في منهجه.

واذا كان للسابقين بعض الرشحات في بيان الأسس المنهجية المعتمدة في فهم النص، فان العلامة الحلي قليلاً ما يتعرض إلى تحديدها وانما يذهب مباشرة إلى توظيفها تطبيقياً. فعلى الباحث في ذلك ان ينتزعها من خلال تلك التطبيقات. فنحن نجده في منهجه الكلامي الذي ميزته العقلنة في جميع جزئياته ومراحله قد وظف الأسس المنهجية، والاستدلالات المنطقية في استنباط أصول العقيدة، وهو ما يلحظ جلياً في موقفه من (المتشابه) بالذات والذي يؤطر فيه لعلاقة متينة مع الإمامة،

ص: 178


1- المصدر نفسه 3 :399
2- لاح ابن منظور جمال الدین محمد بن مكرم الافريقي المصري (ت 711ه_) : لسان العرب 12 :143 مادة نهج دار صادر، دار بيروت 1375ه_ 1956م، الزبيدي، محمد مرتضى: تاج العروس 1 :251 الجوهري تاج اللغة وصحاح العربية ،445 دار الفكر بيروت 1397ه_ » .

انطلاقاً صار من (العدلية) للكتاب بدلالة حديث الثقلين و (الخلافة) للرسول عليه الله وسنته (المبينة) فهما اطاران لعلاقة المعصوم (الإمام) بالنص القرآني.

فوجود المتشابه في النص القرآني يشكل منطلقاً اساسياً للاستدلال على وجوب الإمامة اولاً ، وعصمة الإمام ثانياً عند العلامة الحلي، اذ يستدل على ذلك بآية المتشابه ووجه الاستدلال عنده ان أي تاويل للنصّ القرآني يخضع للاحتمال ولا يفيد اليقين؛ إذ ان( الغلط في التأويل ضلال محذور، وحذر عنه في غاية التحذير وكل غير معصوم يمكن ان يكون كذلك. والإمام ثابت لوجوب الإمامة. فالإمام معصوم) (1) .

وبعد ان يقرر قطعية تاويلهم(عليهم السلام)للقرآن، فضلاً عن اصل معرفتهم بتأويل المتشابه، يؤكدها ببيان نسبية التشابه اذ هو خاص بغيرهم. فمعهم لاوجود للتشابه؛ اذ ينكشف لهم المراد منه، ويكتسب ذلك الكشف يقينية تامة. يقول (.... ان التشابه والاجمال إنّما هو لاحتمال النقيض، وهو من عدم العلم اليقيني، فاما من علم يقيناً جزماً بمراد الله تعالى من هذا اللفظ، وهم المعصومون الذين هم المتقوم حقيقة وغيرهم بالمجاز، فانهم يعلمون دلالة اللفظ يقيناً، ومراد الله تعالى منه فلا يكون مجملاً او متشابها بالنسبة اليهم)

(2)

ونجده يستفيد هذهِ الخصوصية للمعصوم ، واستمرار وظيفته المبينة للنص، وكشف التشابه عنه مع تحديده لدور كل من طرفي النصّ : الكتاب نفسه والسنة الشارحة له واثرهما في الاستدلال عند حديثه عن الآية الكريمة، قوله تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَتُ بغيا بينهم ﴾ (سورة البقرة /213) بَغْيًا اذ يحدّد وجه الاستدلال بها ب_( ان الاختلاف [ وقع ] في التأويل لا التنزيل، وقوله تعالى:﴿ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَتُ بَغْيًا بَيْنَهُم ﴾. ليس المراد حصوله لهم بالفعل، بل

ص: 179


1- الالفين 412 .
2- المصدر نفسه 310 .

المراد نصب ما يصلح ان يفيد العلم يكون بغياً، وهو [ أي ما يصلح ان يفيد العلم] إما عقليّ أو نقلي)، ثم يبين الموقف من العقل وحاكميته النسبية، سواء عند المخالف او الموافق، فيقول ( والأول ((العقلي )) لا يصلح عند المخالفين مطلقاً، وأما عندنا، فلأنه ليس بعام في سائر الاحكام والتأويلات، فتعين الثاني ((اي النقل))).

(والنقل إمّا قراني أو نبويّ ولما كان البحث في تأويل الكتاب مع وجوده فلزم الانتقال للسنة. ولما كانت (ليست شاملة للاحكام التي لا تتناهى؛ ولأنها تحتاج إلى بيان تأويل لها فان اكثرها ،مجملات ،وعمومات و مجازات واحتمالات فليس الا المعصوم؛ لأنّ قول غيره لا يكون بينة ويكون الاختلاف بعده بغياً؛ لأنّ البينة ما يفيد العلم اليقيني. ولهذا جعل الاختلاف بعده بغياً) (1).

وخلاصة القول في علم تاويل المتشابه عموماً، والموقف من الآية الكريمة، وقوله تعالى: {وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم.. خصوصاً ان الغالبية العظمى ان لم نقل الجميع - من الإمامية على ان الواو في الآية عاطفة، وان الراسخين يعلمون تاويل المتشابه (2).

وما يميل اليه الباحث في هذه المسألة ان خلطاً قد وقع في معنى التأويل الجأ إلى هذا الاختلاف، حيث جاوز المختلفون المعنى القرآني المراد من التأويل، وبنوا عليه أصل الاختلاف، وهو ما سنقف عنده في مبحث التأويل. فالواو - هنا - يصح ان تكون عاطفة اذا اردنا بالتأويل في الآية تفسير الآية المتشابهة تفسيراً لفظياً مما يمكن ان يعلمه اهل اللسان وفنونه وما يكشف عنه

ص: 180


1- الالفين 301 .
2- انظر مثلا: الشريف الرضي (ت 406 ه_) : حقائق التأويل 5: 128 الطبرسي مجمع البيان 2: 401 دار احياء التراث العربي بيروت 1379 ه_، ابن شهر اشوب متشابهات القرآن ،2 ،241 السيد عبد الله شبر (ت 1242 ه_ ): تفسير شبر ص 86 دار الكتب العلمية ،بغداد السبزواري: مواهب الرحمن ،5: 47 واما السيد الطباطبائي صاحب الميزان فيرى ان القرآن يدل على جواز العلم بتأويله لغيره تعالى ؛ وأما هذه الآية، فلا دلالة لها على ذلك، وهو ينطلق - هنا - من خصوصية معنى التأويل فيما يراه وهو غير ما فهمه الآخرون من معنى يشير إلى حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر.

(اصل الكتاب )من دلالات ومفاهيم. اما حقيقة معناها الذي تؤول اليه - وهو المعنى القرآني المراد بالتأويل - فهذا مالا يعلمه الا الله تعالى.

كما يصح ان تكون الواو استئنافية، اذ ان حقيقة ما تؤول اليه المتشابهات خافية على غيره تعالى، لكنهم يعلمون تفسير الفاظها، ويبنى ذلك عند الباحث على ان القرآن الكريم يدل عليه من ناحيتين:

الأولى - تعبيره باتباع المتشابهات من قبل من في قلوبهم زيغ وهذا يعني ان لها مفهوماً يفهمه الناس ولولا ذلك لماصح ان يطلق لفظ (الاتباع).

الثانية - ان القرآن كتاب هداية وبيان، وقد وصف نفسه بأنه تبيان لكل شيء، فكيف لا يكون مفهوماً بعمومه فضلاً عن المتشابهات منه ؟! ومن جانب آخر، فان الآية قد عينت اصلاً يُرجع اليه لمعرفة المتشابهات، وهو (المحكم) الذي يردّ اليه فلا شك ان هذا الردّ الى المحكم، والمقايسة إلى اصوله وقواعده مما يمكن لكثيرين، وقد مارسه كل مفسري القرآن الكريم، وبالتالي يمكن معرفة ما تكشفه المحكمات) من تشابه المتشابهات) فتبين امكان معرفة تاويل المتشابه، بمعنى تفسيره اللفظي الذي اشرنا اليه.

ويبدو وأن للروايات الواردة عن الأئمة (عليه السلام) - مما تناوله في المبحث الأول في تخصيصها الرسوخ بهم(عليه السلام)- مدخلية في تأويل متكلمي الإمامية ومفسريهم للآية بالتخصيص.

والحق ان تلك الروايات يمكن ان تعدّ من باب الجري والانطباق حيث يمكن ان تتعدد المصاديق التي تشملها الآية، ويكون الأئمة(عليه السلام)من تلك المصاديق، بل اجلاها تحققاً بعد الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم).

ونستذكر هنا اشارة الإمام علي(عليه السلام)إلى علم الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)بتأويل المتشابه (1)،وبالتالي - حسب أصول الإمامية - علم الأئمة للام به ايضاً.

ص: 181


1- نهج البلاغة 44 .
المطلب الثالث :حكمة وجود المتشابه في القرآن

ومما يتصل بالمتشابه في القرآن وتنسحب آثاره على اسس المنهج عند الإمامية قضية الحكمة من وجوده في القرآن الكريم.

يقول الشيخ الطوسي : انها تتمثل في( الحث على النظر الذي يوجب العلم دون الاتكال على الخبر من غير نظر، وذلك انه لو لم يعلم بالنظر ان جميع ما يأتي به الرسول(ص) حق يجوز ان يكون الخبر كذباً، وبطلت دلالة السمع وفائدته، فلحاجة العباد إلى ذلك من الوجه الذي بيّناه انزل الله متشابهاً ولولا ذلك لما بان منزلة العلماء وفضلهم على غيرهم؛ لأنه لو كان محكماً كله لكان من يتكلم باللغة العربية عالما به ولا كان يشتبه إلى احد المراد به فيتساوى الناس في علم ذلك، على ان المصلحة اقتضت ذلك، وما انزله محكماً فلمثل ذلك )(1) ويؤكد الطبرسي في تفسيره هذا المنظور في حكمة المتشابه الذي لولا وجوده لاكتفى الناس بالخبر عن النظر ولينتج عن ذلك ان (لا يتبين فضل العلماء على غيرهم ولكان لا يحصل لهم الثواب النظر، وإتعاب الخواطر في استنباط المعاني) (2).

ويرى الفيض الكاشاني اهمية هذا المنظور، وضرورة وجود المتشابهات في النص ؛لضرورة تفرضها طبيعة النصّ نفسه، ويوحي بها اصل المتشابه وخصوصيته؛ اذ ان المتشابهات محتملات لا يتضح مقصودها الا بالفحص والنظر؛ ليظهر فيها فضل العلماء الربانيين في استنباط معانيها، وردها إلى المحكمات وليتوصلوا بها إلى معرفة الله وتوحيده) (3).

ص: 182


1- التبيان 3 :396 وانظر المصدر نفسه 1: 11 .
2- مجمع البيان 1 :41.
3- تفسير الصافي 1: 246 .

ويلتفت السيد السبزواري الى ان حكمة وجوده مرتبطة باصل السبب في وقوعه؛ اذ التشابه انما يحصل في رأيه بسبب القصور في العقول وعدم الاحاطة برد المتشابه للمحكم. وبالتالي فحكمة وجوده تتمثل في عدم درك العقول وعدم احاطتها بالحقائق القرآنية والا فلا قصور في نفس الآيات المباركة بعد رد بعضها إلى البعض ..)(1).

وهذا ما يرجحه الباحث في المسألة؛ اذ ان الخطاب القرآني جاء محيطاً في خطاباته بجميع المراتب المتصورة في الفهم والادراك في العقل الانساني، وبما ان عليه أن يغطي في نص واحد هذهِ المراتب على اختلافها؛ فقد جاءت نصوصه مستوعبة للواقع (الموجود) فعلاً من الاستعدادات والقدرات وللحد الاعلى المتصور من تراكمها وترقيها. وقد قال الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم)( بعثنا معاشر الانبياء لنكلم الناس على قدر عقولهم)(2).

ذلك، فضلاً عن عن أن وجود المتشابه في القرآن في رأي الباحث كان الشرارة الأولى التي شكلت منطلقات العقل الاسلامي للتعامل مع النصّ ولبروز ،ملامحه كرؤية ومنظور لمركزية الخطاب ومرجعيته بشكل خاص ولتشكيل تصور عام للعقل المخاطب بالنص القرآني، ودعوته بل منهجه القائم على التدبر والتفكر في آفاق هذا النصّ، والسير معه في ترقياته، غوصاً في استنباط أصول المنظور الالهي للوجود عموماً، وللعقيدة بشكل خاص ولتؤكد حالة اخرى تتمثل في خصوصية من تتحقق فيه القدرة على الاحاطة التامة بتأويل المتشابه وكشف معانيه وبیان مدلولاته والاشارة اليه كجهة، ينبغي تمثل مرجعيتها في هذا الكشف والبيان وهم من تحقق فيهم معنى الرسوخ الموصوف في الآية. فوجود المتشابه له صلة كبيرة بالعقل الانساني المخاطب بالنص القرآني، وهو ضرورة عقلية تفرضها خصوصية النص من جهة، وخصوصية المخاطب به ومراتب فهمه من جهة اخرى وتعيين مرجعية انكشاف معانيه في جهة

يحصل معها اليقين بكشف دلالاته من جهة ثالثة.

ص: 183


1- المواهب 855 .
2- سنن الترمذي 11 :53.

ص: 184

الفصل الثالث : أسس التأويل و تطبيقات المنهج

اشارة

ص: 185

المبحث الأول: حقيقة التأويل

أولاً: التأويل لغةً

التأويل من الأول، أي الرجوع إلى الأصل ومنه: الموئل الذي يُرجع اليه (1).

قال الجوهري: التأويل تفسير ما يؤول اليه الشيء. وقد أوَّلته، وتأوَّلته بمعنى (2).

وقال ابن منظور: الأول: الرجوع. آل الشيء يؤول مآلاً: رَجَعَ. وأوَّل اليه الشيء: رجَعَه(3)

واوله، وتأوّله: فسره. وقوله عز وجل: ﴿ وَلَمَا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ (يونس/39)، أي لم يكن معهم علم تأويله... وفي حديث ابن عباس (رض) قوله له عبر قوله : (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل).

وقال ابن الأثير : هو من آل الشيء يؤول إلى كذا، أي رجع، وصار اليه. والمراد بالتأويل: نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الاصلي إلى ما يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ)(4) .

وفي قوله عز وجل هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ (الاعراف/53)، قال أبو اسحق معناه هل ينظرون الا ما يؤول اليه امرهم من البعث، وما يؤول اليه الأمر عند قيام الساعة )(5)

ص: 186


1- الراغب الاصفهاني: المفردات في غريب القرآن ،3 تحقیق محمد سيد كيلاني، مطبعة البابي الحلبي 1961م.
2- الجوهري : تاج اللغة وصحاح العربية 4 :1627 مادة (اول) تحقیق احمد عبد الغفور عطا، دار الكتاب العربي القاهرة 1956م.
3- لسان العرب 13:33 مادة اول المطبعة الاميرية بولاق، مصر، ط1، 1302 ه_.
4- انظر: المصدر نفسه 13: 34 .
5- المصدر نفسه 13 :35 .

ولا يخفى ماللاستعمال اللغوي من اثر بارز في تحديد مفهوم اللفظ في اية لغة. وعلينا من هذا الباب بالذات ان نستحضر حدود هذا الاستعمال في العربية للفظ التأويل، والذي يكاد يتحدد إجمالاً بما يرجع اليه الشيء، ويصير، ويجب ان نستحضر ذلك عند بحث موقف اهل الاصطلاح والقرآن الكريم من القضية.

ثانياً: التأويل اصطلاحاً

يقول الشيخ الطوسي : أن التأويل هو( التفسير ، وأصله المرجع، والمصير) (1).

وهو تعريف يشير إلى شقين من الدلالة يتعلق أولهما باللفظ وكشف معانيه ،وثانيهما بحقيقة أخرى يؤول اليها مدلول اللفظ، ويمثل مصيرها الذي ترجع اليه. ويؤكد هذا المعنى عند تفسيره لقوله تعالى: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ، وَلَمًا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾: (يونس/39).

قال: معناه ما يؤول أمره اليه وهو عاقبته ومعناه متأوله من الثواب والعقاب (2).

ويكاد العلامة الحلي ان يتطابق في تعريفه مع رأي الغزالي؛ فالتأويل عنده (احتمال يعضده دليل يصير به أغلب على الظن من الذي دل الظاهر عليه)(3).

ونلمح عند ابن رشد (ت: 595 ه_) تحديداً للمعنى الاصطلاحي للتأويل بدلالة اللفظ المنقولة دون الاستناد إلى الأصل اللغوي وهو تعريف تابعه عليه الكثيرون، وصار معتمداً عند الباحثين، وبني عليه اسس منهجية في التوفيق بين الشريعة

ص: 187


1- التبيان 2: 399 وأكده في تفسير قوله تعالى {.. وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم} قال: (معناه تفسيره )ظ المصدر والصفحة أنفسهما.
2- المصدر نفسه 5 :436 .
3- مباديء الوصول إلى علم الاصول ص 155 تحقيق عبد الحسين محمد علي البقال مطبعة الآداب النجف ط 1970 ،1.

والحكمة فالتأويل عنده اخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير ان يخل ذلك بعادة لسان أهل العرب في التجوز من تسمية الشيء بشبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الاشياء التي عدت في تعريف أصناف الكلام المجازي) (1) ومع التوسع الكبير عند الباحثين في تعداد تعريفات التأويل فلسنا بحاجة إلى استقصائها بما يوقع في التكرار بقدر ما نحن بحاجة إلى تحديد اطار عام. وما أوردناه كاف لذلك. وما يهم في هذهِ التعريفات ان أغلبها يقيَّد مدلول التأويل بما يتمثل في اخراج اللفظ عن دلالته الحقيقية الموضوعة في أصل اللغة. وهذا ما يستدعي التوقف عنده، ويستلزم مقدمة مختصرة قبل الولوج إلى تفصيلاته.

فهذه التعريفات اصطلاحية. والتعريف الاصطلاحي كما نفهم هو ما تعارف عليه أهل الاصطلاح من وضع لفظ ما؛ ليدل على معنى معين يتبادر إلى الذهن عند اطلاق ذلك اللفظ. والى هذا الحدّ، فالمعنى الاصطلاحي قد أبتعد عن الأصل اللغوي الذي استقر على ان التأويل من الأول بمعنى الرجوع، فالتأويل ما اليه المصير والرجوع.

فالحقيقة العرفية لللفظ التأويل تم الابتعاد عنها في الاصطلاح، وقيدت دلالاتها فيه باطار يتعلق بابعاد بلاغية، وينفلت إلى اطار الأصل اللغوي.

ثالثاً: التأويل في الأستعمال القرآني

ما هو حال الحقيقة الشرعية هنا ؟ نلاحظ أن الخطاب الشرعي (القرآن) التزم باصول اللغة، وتقيد بوضع اللفظ فيها، وكان أكثر قربا بل تطابقاً مع ذلك الأصل وأكثر شمولية في تحديد أبعاد المصطلح في حالاته المختلفة التي عبر المعنى الاصطلاحي عن جزء يسير من أبعادها.

ص: 188


1- فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال ص ،32 المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ط 3 1986م.

فاذا علمنا أن الحقيقة الشرعية للفظ تتمثل في اللفظ الذي كان وضعه بيد الشارع وثابتا من قبله (1) بما يعطيه من قطعية الصدور، وبالتالي المرجعية في التعبير عن الدلالات المرادة من اللفظ اذ ليس هناك أولى من الكتاب نفسه في بيان معاني المفردات الواردة فيه لو تتبعنا حركة المفردة في القرآن الكريم، وما أضفي عليها من دلالات وأبعاد، لوجدناها تشكل - منتظمة - الركائز الاساسية للمنظور الذي ترد فيه في كل مرة بما يكاد يتقاطع مع المعنى الاصطلاحي للفظ، فلفظة التأويل ترد في القرآن الكريم سبع عشرة مرة في خمس عشرة آية (2)، اثنتان منها تردان في سورة آل عمران في آية المتشابه وهي قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ

ص: 189


1- المشكيني: مصطلحات الاصول 95 (بتصرف) ، المطبعة العلمية، قم، ایران د.ت.
2- ت - السورة ورقم الآية: 1، 2 - آل عمران 7:﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ وَايَةٌ تُحْكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَبِ ﴾ 3 - النساء:﴿ كَفَرُوا فَإِن تَتَزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ 4 5 - الاعراف 53 : ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبَّنَا بِالْحَقِّ ﴾ 6 - يونس 39 :﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ، وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ 7 - يوسف 6 :﴿ وَكَذَلِكَ يَجْنَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾. 8 - يوسف 21:﴿ وَكَذَلِكَ مَكَنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾. 9 - يوسف 36: ﴿نَبَتْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَبِّكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ 10 - يوسف 37: ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامُ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ ﴾ 11 - يوسف 44 :﴿قَالُوا أَضْغَتُ أَحْلَهِ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَمِ بِعَلِمِينَ ﴾ 12 - يوسف 45 - 46: ﴿أَنَا أُنتِتُكُم بِتَأْوِيلِهِ، فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ ﴾. 13 - يوسف 100:﴿ يَتَأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُ يَنيَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا﴾ . 14 - يوسف 101:﴿101 رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ﴾ 15 - الإسراء 35: ﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾. 16 - الكهف 78 :﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ 17 - الكهف 82 :﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾

انت تُحكَمَت هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَةٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّسِحُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ وَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَكَرُ إِلَّا أُولُوا الأَلْبَب ﴾ (آل عمران/7)، في هذا الموضع فقط يمكن أن يجد أصحاب المعنى الاصطلاحي ما يؤيد رأيهم - من زاوية - حيث أضيف هنا إلى الآيات المتشابهة إذا أوحت الآية نفسها بهذا الامكان مع ما يمكن أن يدعم ذلك من تضمّن حد المتشابه للاحتمالية والابهام في المعنى. وقد أوحت الآية بانكشافهما بالتأويل اما الآيات الأخرى، فينبغي التوقف عندها طويلاً، فهذه الآيات جميعاً تدل بوضوح على ان التأويل الوارد فيها جاء بمعنى مختلف عما ذهب اليه أهل الاصطلاح، ووقعوا من الخلط.

اذ أن الآيات لا تشير أبداً إلى أنها قصدت معنى التفسير ، أو بيان مدلول الالفاظ الا بكثير من التجوز والاتساع .

فالاستعمال القرآني للفظ يستحضر أكثر الابعاد التي احتواها الأصل اللغوي وأهمها، وهو الرجوع والمصير الذي يؤول اليه الشيء الذي اضيف التأويل اليه. وهو في هذه الآيات الخمس عشرة يجيء بمعنى الامر العلمي الذي يقع في المآل تصديقاً لخبر، أو رؤيا يراها نائم، أو لعلم أحيط بالغموض، وقصد به شيء أبهم وتُرك كشفه للمستقبل.

ولما كان الاستعمال القرآني هو الاطار المرجعي للكشف عن دلالة اللفظ فی المنظور القرآني، فلابد هنا - اذن - من تحديد المفردة بذلك الاطار. وهذا ما يجعلنا نستبعد المعنى المصطلح عليه، ولا ندعي أنه هو مراد الله تعالى من اطلاق المفردة، فالتأويل في المعنى القرآني ليس مفهوماً يمثل مدلولاً للفظ وانعكاساً عنه، بل أن ما يمكن أنتزاعه من هذه الآيات أنّه (من الامور الخارجية العينية، واتصاف الآيات بأنها ذات تأويل من قبيل الوصف بحال المتعلق، وان اطلاق المعنى الاصطلاحي عليه هو

ص: 190

استعمال مُوَلَّد نشأ بعد نزول القرآن وهذا المعنى لم يكن خافياً على بعض المفسرين القدماء، خصوصاً أنه يستمد أصوله من الأصل اللغوي للمفردة.

وكان من أوائل من التفت اليه ابو علي الجبائي (ت 303ه_) اذ المراد بالتأويل كما يرى (مصائر الامور وعواقبها) (1).

واستدل بقول تعالى : ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ﴾ (الاعراف/53) أي: مصيره وعاقبته.

وهذا المعنى أكده من بعده الشريف الرضي (ت 406 ه_)، وقال في ذلك: (... وهذا المعنى يلامح ما نحن في ذكره؛ لأنّ الجزاء هو الشيء الذي آلوا اليه، وحصلوا عليه) (2).

والملاحظ ان جذور هذا التحديد ترجع إلى أوائل المفسرين، اذ نلاحظ ان معنى الجزاء يرد عند مجاهد في تفسيره للآية الكريمة، قوله تعالى :﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تأْوِيلًا ﴾(النساء/59). إذ يرى أنه تعالى أراد بالتأويل هنا: الجزاء على الاعمال(3).

وينبه القاسمي إلى أسبقية السلف في الالتفات إلى هذا المعنى مفصلاً أبعاده المتصوّرة؛ إذ التأويل هو ما أوّل اليه الكلام، أو يؤول اليه، أو يؤول اليه، والكلام انما يرجع ويعود ويستقر إلى حقيقته التي هي عين المقصود به كما قال بعض السلف في الآية :﴿ لِكُلِّ نَا مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ (الانعام /67)، أي: لكل نبأ حقيقة، فاذا كان الكلام خبراً فالى الحقيقة يؤول ويرجع ، واذا كان طلباً فالى الحقيقة المطلوبة يؤول ويرجع ... واذا كان وعداً ووعيداً، فالى الحقيقة المنتظرة يؤول ويرجع ،كما روي عنه(ص) أنه تلا قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن

ص: 191


1- ظ للتفصيل الشريف الرضي: حقائق التأويل 128 - 129.
2- المصدر نفسه.
3- أنظر الطوسي : التبيان 3: 237.

تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ﴾ (الانعام/65) قال: أنها كائنة، ولم يأت تأويلها بعد) (1) والملاحظ على الرواية هنا أنها تعيد جذور هذا المعنى إلى الرسول (ص) ، وهو الناطق بلسان القرآن. وهذا يؤكد ما قدمناه من كونه الحقيقة الشرعية للفظ والقاسمي يرجع استفادته للمعنى إلى ابن تيمية (728ه-)، وينسبه اليه والحق أنه ليس السباق اليه كما تبين لنا، فقد سبقه الجبائي والشريف الرضي بحوالي أربعة قرون.

والثمرة المترتبة على هذه القضية عموماً تتمثل فيما ينعكس على تفسير آية آل عمران الذي قيده أهل الاصطلاح بمعنى التفسير ودلالة اللفظ في الوقت الذي أستعمله القرآن بمعنى مختلف والمخرج من هذه القضية وما ينعكس عنها على موقف المفسرين والمتكلمين من الواو الواردة في قوله تعالى: {وما يعلم تأويله الا الله والراسخون في العلم... هو ما قدمناه في موضوع المتشابه من رأي في ان الآية يمكن أن تتحمل كلا الامرين العطف والاستئناف .

فيكون المعنى الاصطلاحي للتأويل بذلك منطلقاً للقائلين بالعطف، وعائداً إلى تفسير اللفظ، وكشف دلالاته فيكون الراسخون عالمين بالتأويل ويكون المعنى القرآني بالمقابل حاضراً، ومؤيداً للقائلين بالاستئناف اذ التأويل بحدود الاستعمال القرآني يشير إلى تفسير المعنى، والمآل الذي يصير اليه المتعلق الذي أضيف اليه لفظ التأويل، ويكون علمه بالتالي خاصاً بالله تعالى وليس للراسخين اليه طريق.

وهنا تعود إلى ساحة البحث قضية اختلاف المذاهب الكلامية الاسلامية تجاه قضيتين مهمتين في أصول العقيدة التي نتجت عن الموقف من الآيات التي تناولتهما بالتفصيل فضلاً عن اختلافهم الاقل وضوحاً في غيرهما.

القضية الأولى: الصفات الخبرية التي جاءت ظواهر الآيات القرآنية لتشير فيها

ص: 192


1- القاسمي (محمد جمال الدين ت 1332 ه_ 1914م) محاسن التأويل (تفسير القاسمي) 4: 768 دار أحياء الكتب العربية وفق على طبعة وتصحيحه محمد فؤاد عبد الباقي ط1 1376ه_ 1977م.

إلى نسبة الجوارح والأعضاء، وما يستلزم الجسمية والحلول، حيث أختلفوا فيها بين جامد على الظاهر ،ومفوض ،ومؤول .

والثانية: عصمة الأنبياء والاختلاف في فهم الآيات التي جاء في ظواهرها نسبة الذنوب والمعاصي إلى الانبياء(عليه السلام). فأختلفوا بين وسطي قائل بجواز بعض الذنوب، وناسب للصغائر والكبائر إلى الانبياء، ومنزه مطلق يؤول جميع تلك الظواهر.

ويرى الباحث أن الأختلاف الحاصل في هاتين القضيتين بين المتكلمين إنّما نتج عن الخيار الذي يلجأ اليه كل مذهب تجاه (الظواهر) القرآنية.

وقد أشرنا سابقاً إلى أن الطرفين المتقابلين حيال الآيات المتشابهة هما طرفا افراط أوتفريط بين التجسيم والتشبيه، أو التعطيل والتأويل المنفلت عن الأصول.

لذلك ينبغي - كما يرى الباحث - ضبط منظومة الحلول المتصورة للخروج من مغبة الوقوع بين هذا الافراط وذاك التفريط، ويتمثل ذلك - فيما يرى - في تحديد المصطلحات وضبط حدودها خصوصاً ان المصطلح يشكل قطب الرحا في اية منظومة لمذهب ،كلامي، وتصوره لاصول العقيدة.

ومنطلق هذا الاتجاه يتمثل في التركيز اولاً على قضية كلية تتمثل في أن الكتاب والسنة هما الخطاب المركزي، والمرجعية المطلقة، وأن هذه المرجعية تتوافق مع العقل، ولا يتصور أن يكون هناك نقاط تقاطع دائمية بينهما وبالتالي فالتقاطع الظاهري الحاصل في تصور المتصدي لفهم النصّ ناتج عن الانطلاق من تصورات مسبقة لوجود مثل هذا التقاطع تتمثل في تحكيم أصول المذهب (الفهم) ومقايسة دلالات النصّ اليها.

ولما كانت هذه الأصول أحياناً متضمنة لهذا النقص في تحديد المصطلحات، فقد حصل هذا القصور الذي أنتج الخلاف. ولما كان أكثر الخلاف بين الاتجاهات ينصب على ظواهر الآيات وتصور معارضتها للعقل، فإن الباحث يعتقد أن الخروج من هذهِ

ص: 193

الاشكالية يتم في اطار طريقين :

الأول : استفادة المرجعية المركزية للنصّ نفسه من خلال الآيات المحكمات والذي أشرته الآيات الكريمة نفسها كطريق لرفع التشابه برد المتشابهات إلى المحكمات وبالتالي عودة المتشابه نصاً محكماً تتمثل فيه ما تقدمه الآيات المحكمة من دلالاته. وهذا يستبعد الكثير من نقاط التقاطع بين الافهام المختلفة.

الثاني: تحديد أبعاد مصطلح الظاهر أولاً، ومن ثَمَّ تحديد إنعكاساته على النص الوارد فيه بأكمله فلا شك أن هناك فرقاً بين الظهور في لفظ واحد، والظهور في إطار جملة المفردات الواردة في السياق.

فورود لفظ اليد والعين والوجه والعرش مفرداً... الخ. لاشك أنه ينتج عنه تبادر المعنى الحقيقي لكل منها ممثلاً في العضو أو الجارحة. وإنما يتبادر إلى ذهن المتذوق لهذه اللغة والذي له معرفة ولو بسيطة بإصولها وميزاتها في مجالاتها التعبيرية، بتضمنها الحقيقة والمجاز - يتبادر - المعنى الحقيقي المقصود من قبل الشارع المقدس في خطابه فقولنا : يد مفردة، لاشك أن المتبادر منها هو العضو، لكن قولنا فلان باسط اليد، ولفلان علي يد بيضاء، لاشك أن المتبادر منها معنى الجود في الأولى والتفضل في الثانية جريا على عادة العرب في الاستعمالات المجازية والاستعارية. ولا يعتبر مشابه ذلك المنهج في تفسير القرآن تأويلاً، وإنما هو متابعة للظهور في النص القرآني وتمسك به في الحقيقة اذ يميز بين المفردة المقتطعة عن سياق الآية، والمفردة في إطار السياق في الجملة الواردة فيها. وهذا ما يضطر اليه متطرفوا الآخذين بالظاهر، ويمارسونه دون أدنى شعور بالتناقض مع أصول فهم النصّ، والتعامل معه في إطار لغته أو في لغة الأصول التي تسالم عليها المنتمون إلى الخط الفكري للمذهب.

ص: 194

ويعتقد الباحث أنه بذلك يزول الكثير من نقاط التقاطع الأخرى المفتعلة التي ربما تنتج عن تحكيم تصورات مسبقة يحاكم في ضوئها النصّ بغض النظر عن بيانه الذاتي في تأشير الدلالات التي يقصدها من خطابه .

وقد مارس المسلمون عموماً - منذ صدر الدعوة الاسلامية، ومع نزول أول النصوص القرآنية المتضمنة لمثل هذه الاستعارات والتجوزات - عملية فهم النص في إطار ما تعارفوه من أصول اللغة، ومظلتها التعبيرية وهذا مانراه واضحاً في تفسير النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وصحابته وتابعيهم (رض) ، وجاءت الروايات عند الأئمة من آل البيت (عليه السلام)زاخرة باصول هذا الاتجاه، وموضحة لأبعاده وممارسة له تطبيقياً(1)، ومحددة لابعاد التأويل، ومؤصله لمنهج الإمامية.

ص: 195


1- أنظر في ذلك عشرات الروايات في التوحيد للصدوق، والكافي للكليني، والاحتجاج للطبرسي.

المبحث الثاني: أسس التأويل عند متكلمي الإمامية

ان متابعة إستقرائية لمؤلفات متكلمي الإمامية للبحث عن الأصول المنهجية المعتمدة والمتحكمة في تحديد ابعاد النظر التي تسقط بأضوائها على النصّ؛ لاستكناه دلالاته، ترفدنا بمجموعة من الأسس والضوابط والتحديدات، نلاحظها تتناثر في عشرات المواضع من تلك المؤلفات متظافرة فيما بينها؛ لتشكل البناء المنطقي المرجعي الذي يمثل النسق المتبع في استنباط أصول المذهب الكلامي. فمتكلم و الإمامية يحكمون تلك الأسس ويتابعونها في عملية توظيف تستحضر أصول التعامل مع النص في حركته وترقياته، متخلصة بذلك من كل العثرات التي يتصور احتمال الوقوع فيها عند المسير في ذلك دون التقيد بها؛ اذ مع الانفلات من حدود هذه الأسس، تفقد المنظومة المنتزعة - منظورا كلاميا - علاقتها مع النصّ الذي يمثل المركزية الفكرية الاساس كما تفقد ميزة التحلي بكونها مذهباً ينطوي على اطر منهجية واضحة واتجاه فكري ذي رؤية ومنظور محكوم باصول و ضوابط؛ ولا يشترط وجود جميع تفاصيلها وجزيئاتها عندهم جميعاً؛ اذ يكتفي بعضهم أحياناً في استحضار ضوابطها تطبيقاً عند إبداء آرائهم الكلامية دون الاشار اليها تحديداً، وهي تتوزع على تشكيل تصور متكامل عن التأويل، تحديداً للأبعاد، وبياناً للضوابط، وتأشيراً للشروط في ممارسته، مع التنبيه إلى أنهم في تأويلاتهم تطبيقياً او لاسس المنهج، إنما يقصدون من التأويل في غالب الاحيان المعنى الاصطلاحي الذي أشرنا اليه. ولا يحضر المعنى القرآني هنا صراحة. وبالتالي فإنّ التأويل المعمول به - والذي تتضح ملامحه جلية في تطبيقاتهم للمنهج - يقوم على أساس المرجعيات التي سبق تحديدها في مبحث سابق؛ ليستمد منها إطاره المنهجي ومشروعية طروحاته. وأقوى ما يستندون اليه - هنا - هو النصّ الوارد عن الأئمة (عليه السلام)،

ص: 196

لما يعتري النص القرآني من أحتوائه المجمل والمتشابه وإن الكلام في تاويله والسنة تشمل كل الكتاب تفسيراً وبياناً وتخضع للاختلافات فيبقى ضرورة الإمام المعصوم المكمل لوظيفة النبوة - كما يرون - ويلاحظ - هنا - أنه ما من تأويل لآية في الكتاب أي مفسر أو متكلم اماميّ، الا ونجد له جذورا في رواية عن أحد الأئمة(عليه السلام)في تفسيرها يذكرها صراحة كمستند لرأيه، أو يكتفي بمواءمة الخطوط العريضة لدلالاتها.

ونظراً إلى الاتساع الكبير في طبيعة تعبير متكلمي الإمامية عن الأسس المتحكمة في عملية التأويل وعرضها وتكاثر المصاديق المؤكدة لها. فان البحث يضطر إلى التقاط خطوطها العريضة التي تمثل الرؤية العامة الكلية لكل نقطة من تلك الأُسس، تاركاً ما ينطوي تحتها من تفريعات تقتضي متابعتهاواستقراؤها تفصيلياً أن يتضاعف هذا المبحث عدة مرات بما لامسوغ له ما دامت تلك الخطوط الكلية كافية للتعبير عن رؤية هؤلاء المتكلمين لتلك الأسس التي يمكن اجمالها في:

أولاً: إن التعامل مع النصّ ينطلق في أول خطواته من كلية مهمة تتمثل في أن الأصل في الكلام الحقيقة، ولا يصرف الكلام الاعتبارة استعارة أو مجازاً الاً بوجود الادلة العقلية القاطعة، فضلاً عن أن التأويل إن تم بعد تمثّل هذا الاساس فأن الأولى فيه ان يُحمل الكلام على الحقيقة تفعيلاً وتصديقاً لسمة القرآن الرئيسة، وركيزة الخطاب فيه المتمثلة في أنَّه جاء على أصول لغة العرب وموافقة أساليبها في التعبير. وقد عد (الشيخ (المفيد تأويل القرآن بما يزيله عن حقيقته، وإدعاء المجاز فيه - بغير وجه قاطع - إبطالاً وإقداماً على المحظور (1).

وأكد المرتضى ذلك تطبيقاً بقوله : إنَّ الاستعارة ليست أصلاً يجري في الكلام ولا يصح عليها القياس وليس يجوز ان تعدل عن ظواهر القرآن وحقيقة الكلام الا بدليل يُلجيء إلى ذلك (2).

ص: 197


1- الأفصاح 89.
2- الفصول المختارة 25 .

وللطوسي على هذا الاساس معيار لتحديد الحقيقة والمجاز تأكيداً لأهميته باعتباره ركيزة منهجية فاللفظ عنده يحكم بأنه حقيقة انطلاقاً من ظهور استعماله فيها ( من غير أن يثبت ما يقتضي كونه مجازاً من توقيف أهل اللغة، أو يجري مجرى التوقيف، فأصل الاستعمال يقتضي الحقيقة وانما يحكم في بعض الالفاظ المستعملة ب_ (المجاز)؛ الأمر يوجب علينا العدول عن الأصل (1). وكلامه الأخير ظاهره إشتراط

الدليل الصارف عن الحقيقة وعند البحث في تطبيقات المتكلمين، نجد الكثير من الاشارات إلى تفريعات أخرى مؤكدة لهذا الاساس المنهجي (2).

ثانياً: ان التأويل باعتباره سبيلا إلى دفع التناقض، وتحاشي تحميل النص لدلالات تتناقض مع ركائز العقيدة وأصولها ، فهو إنّما يقع على الظاهر، حين يخالف الدليل العقلي، وإلا فالنصّ الذي يقطع بدلالته، ولا يخضع للأحتمالية لا يخضع للتأويل.

يقول الشيخ المفيد في تسويغ لجوئه إلى التأويل، وتأسيساً لمعيارية الدليل العقلي على الظاهر في حديثه عن إثبات العصمة للأنبياء على مذهب الإمامية ... لكنني عدلت عن الظاهر في مثل هذا لدلالة عقلية أوجبت علي العدول عنه كما توجب الدلالة عليّ المرور مع الظاهر عند عدم الدليل الصارف عنه، وهي ماثبت من عصمة الانبياء للام(3) . ويحدد الشريف المرتضى لنفسه هذا الاساس معياراً يكاد يمثل

مسحة عامة في عموم كتبه - وخاصة الامالي - حيث هيمنت بمعياريتها على تاويلاته للآيات الكريمة التي تناولتها وينسحب على عموم آيات القرآن الكريم، إذ يقول: (فاذا ورد عن الله تعالى كلامٌ ظاهره يخالف مادلّت عليه أدلة العقول، وجب صرفه عن ظاهره - ان كان له ظاهر - وحمله على ما يوافق الادلة العقلية، ويطابقها. ولهذا

ص: 198


1- تلخيص الشافي 2: 183 .
2- أنظر مثلا المفيد اجوبة المسائل السروية رسائل (المفيد )،46 ، المرتضى: الامالي ،2 ،12 ،171، 205، 217، العلامة الحلي - كشف المراد ،323- 453 .
3- العيون والمحاسن ص 22.

رجعنا في ظواهر كثيرة من كتاب الله تعالى أقتضى ظاهرها الاجبار والتشبيه أو مالا يجوز عليه تعالى) (1) . وقد أكد هذه القاعدة العامة في فهمه عند تعرضه للآيات الموحي ظاهرها بالتجسيم اذ يقول: (ولابد - مع وضوح الادلة على ان الله تعالى ليس بجسم واستحالة الانتقال عليه - الذي لا يجوز الا على الاجسام - من تأوّل هذهِ الظواهر، والعدول عما يقتضيه صريح الفاظها قرب التأويل أم بعد) (2).

والقضية الثانية التي مثَّلت عنده ركيزة لوجوب ممارسة التأويل على الظواهر هي عصمة الانبياء، عن ظاهر ماورد في الآيات التي تنسب لهم ذنوباً ومعاصي، حيث يلجأ كما الزم نفسه في مقدمة كتابه تنزيه الانبياء - إلى تأويل ما تعلق به المخالف من الآيات والأخبار التي اشتبه عليه ، وجهها، وظن أنّها تقتضي وقوع كبيرة أو صغيرة من الانبياء والأئمة (عليه السلام)(3) ووصف فعله هذا وتعميمه فقال: إنّه يقوم على (صرف ماله ظاهر عن ظاهره والعدول به إلى ماوافق مدلول الدلالة التي لا يختلف مدلولها ولا يتطرق عليها التأويل. وهذا فعلنا فيما ورد في آيات القرآن التي تخالف بظاهرها الأدلة العقلية مما يتعلق به الملحدون، أو المجبرة، أو المشبهة) (4)وهو يوحي بأهمية هذا المنهج، ويبرر اهتمامه بهذه القضية (لجلالة موقفها من الحجة) (5) ومقايسة الظاهر إلى دليل العقل يمثل منطلقاً لتأسيس معيارية العقل تجاه النصّ عند الطوسي؛ اذ يحدد موقفه من الظواهر على أنها تبنى على ادلة العقول، ولا تبنى أدلة العقول على الظواهر . واذا علمنا بدليل العقل أن القبيح لا يجوز عليهم، تأولنا الآيات، إن كان لها ظواهر (6).

ص: 199


1- الامالي 2 :300 .
2- المصدر نفسه 2: 399
3- تنزيه الانبياء ص 1 ط 3 النجف المطبعة الحيدرية 1394ه_ 1974م.
4- تنزيه الانبياء 166.
5- تنزيه الانبياء 166.
6- الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد 260، 262 .

ونلمح هذا المنهج عند العلامة الحلي تطبيقيا في مواضع عديدة، كما في حديثه عن الرؤية، اذ يقول : (وكل ما جاء في الكتاب والسنة بجواز الرؤية عليه تعالى فمؤول) (1) ويصف الكراجكي موقف الإمامية عموماً من الظواهر فيما تعارضت فيه مع الدليل كاعتقاد واجب، فيقول : (يجب ان يعتقد أن جميع ما فيه أي

(القرآن من ) الآيات التي يتضمن ظاهرها تشبيه الله تعالى بخلقه، أو أنه يجبرهم على طاعته، أو معصيته، أو يضل بعضهم عن طريق هدايته فان ذلك كله لا يجوز حمله على ظاهره وان له تأويلاً يلائم ما تشهد به العقول) (2).

وهناك مواضع أخرى عديدة وردت فيها إشارات متكلمي الإمامية إلى موقفهم في ضرورة تاويل الظواهر المخالفة لدليل العقل (3) .

ثالثاً: إن التأويل يقع دائماً على السمع عند تعارض النقل مع الدليل العقلي هذا فضلاً عن التأويل حين يتعارض النقل مع نقل آخر ونلاحظ ذلك عند المفيد مثلاً في تحكيم العقول على ما خالفها من الأخبار حيث يطرح الحديث المخالف لأحكام العقول (القضية العقول بفساده) (4).

وكما نلاحظ هذا واضحاً فيما يوحي به تأويله للآيات العديدة وضرورة ملائمتها للدليل العقلي فان الشيخ الطوسي يحدد هذهِ الضرورة إنطلاقاً من الكلية الحاكمة بأن (الشرع لا يأتي الا بما يوافق العقل على طريق الجملة لا على طريق التفصيل )(5).

وشكلت قضية تأويل السمع إذا خالف العقل - كما عند الإمامية جميعاً - أهم

ص: 200


1- مناهج اليقين في أصول الدين (مخطوط مكتبة أمير المؤمنين رقم 1، 4، 13 ص 210).
2- اعتقاد أهل الايمان (ضمن كنز الفوائد) ص 111 طبع حجر 1322ه
3- ظ المفيد: أوائل المقالات ،72 ، 77 المسائل السروية (الرسائل) ،49 56 المرتضى الامالي :2: 205 وغيرها. البيان 1 9، 11 في تحديده للمحكم والمتشابه.
4- تصحيح الأعتقاد 268 .
5- الأقتصاد 248-249.

ركائز المنهج الكلامي عند العلامة الحلي وتكررت الاشارة إليها في أكثر كتبه ويقيم علة ذلك على الادلة المنطقية التي تتصل بأصول منهجه في التحسين والتقبيح وحاكمية العقل في الادراك والنظر اذ ان تخصيص النقلي بالتأويل دون العقلي يقوم على ان العقلي أصل النقلي فلو أبطلنا الأصل لزم ابطال الفرع أيضاً فوجب العدول إلى تاويل النقلي وإبقاء الدليل العقلي على مقتضاه)(1).

رابعاً: أن التأويل يجب أن يستند إلى الحجج والادلة والمرجعيات، وليس الرأي القائم على الهوى، أو ماطعنَ فيه من استدلالات ونبذ التقليد الذي يخرج التأويل عن الارتباط بأصول وضوابط تمثل موفقاً يتابع الهوى الخاص للمؤول تجاه النص.

ونجد الشيخ المفيد - مثلاً - يكثر من مهاجمة اولئك الذين ينطلقون من الرأي والهوى، أو يتحررون من الأصول المنهجية، فيبنون تأويلاتهم على اخبار وروايات لا أساس لها من الاستناد إلى المرجعيات، إذ يقول عن حديث بنى عليه الشيخ الصدوق تأويلاً (وليس الخبر متواتراً يقطع العذر، ولا عليه اجماع ولا نطق به القرآن ولا ثبت عن حجة الله تعالى فينقاد)(2).

ويشير أحياناً إلى استناد تاويلاته وآرائه إلى النص الصحيح الوارد عن الأئمة(عليهم السلام)(3).

كما يشير المرتضى أثناء تطبيقاته في تأويل الايات إلى إستنادها إلى مرجعيات کالکتاب، أو العقل، أو اللغة(4) كما في موضوع أفعال العبد، وإن الله تعالى ليس ، بفاعل لها. يقول في الاستدلال على توجيهه لرأيه : الدليل على ذلك من كتاب الله ومن اخبار رسول اللهنفس المصدر 1 :184 (بتصرف).و من اجماع الأمة؛ ومن حجج العقول)(5).

ص: 201


1- كشف المراد ص 263 وطابقه في نهج المسترشدين (مخطوط) ص 67 في مكتبة أمير المؤمنين، النجف رقم 2024 وأنظر عشرات المواضع في تطبيق ذلك في (الالفين).
2- تصحيح الاعتقاد 252 .
3- أوائل المقالات ،57، 58 ،72 وغيرها.
4- ظ تنزيه الانبياء ،14 ،166 الفصول المختارة 22 .
5- أنظر انقاذ البشر من القضاء والقدر (ضمن رسائل العدل والتوحيد) 1: 274 تحقيق محمد عمارة مصر، دار الهلال 1971م.

وتتحدّد بعض جهات المرجعية التي يجب استناد التأويل اليها عند الشيخ الطوسي في رجوع التأويل إلى الادلة العقلية والشرعية من اجماع، أو نقل متواتر عمن يجب اتباعه... ومتى كان التأويل يحتاج إلى شاهد من اللغة فلا يقبل من الشاهد الا ماكان معلوماً بين أهل اللغة شائعاً بينهم) (1).

ويحدّد ملامح أخرى بذهابه إلى ضرورة الردَّ فيه إلى الكتاب والسنة والأئمة (عليه مالسلام)(2)

خامساً :تحكيم كتاب الله تعالى في أي تأويل وضرورة إستناده اليه، وأولوية وجوه التأويل التي يشهد لها الكتاب واستبعاد أية تأويلات تقع في حالة تقاطع مع الكتاب، أو تخالفه.

فالشيخ المفيد - وهو يقرر العقيدة الإمامية في أفعال العبد - يدفع استدلال المخالف بروايات غير معتبرة بأن حاكمية القرآن هنا هي المقدمة في قبول التأويل، إذ يقول : وكتاب الله تعالى مقدم على الاحاديث والروايات واليه يُتقاضى في صحيح الاخبار وسقيمها. فما قضى به، فهو الحق دون سواه) (3) ولذلك نجده في مواضع عديدة من كتبه حين يلجأ إلى رفض تأويل ،مخالف أو إثبات تأويل يراه الأولى في فهم الآيات يستدعي النصوص القرآنية، فيستعين بما يشهد لاثبات رأيه، أو دفع رأي المخالف من الآيات (4)

ص: 202


1- التبيان 1 :6.
2- المصدر نفسه 3: 237 .
3- تصحيح الاعتقاد، ص 200.
4- ظ الافصاح 20 أوائل المقالات ،57، 59، 62، 64 ،72، 95، 97، 106 وغيرها الفصول المختارة ،22، 25، 32، رسائل الشيخ المفيد ص 65.

وقد تكاثرت الأمثلة التي استدعى المرتضى فيها ما يشهد لتأويلاته من القرآن، أو يحكم بدفع رأي مخالفه (1). وقد أوجب على نفسه تحكيم الكتاب، ومسايرته في تأويلاته، كما يشير في تنزيه الانبياء؛ إذ يقول (شرط أن لا تتكلم ولا نتأول فيما يضاف إلى الانبياء من المعاصي الاّ على آيه من الكتاب) (2).

ومثلت هذهِ الحاكمية للكتاب على التأويلات الصادرة عن الشيخ الطوسي والعلامة الحلي سمة بارزة طبعت تلك التأويلات بطابعها إثباتاً لها، أو دفعاً لرأي المخالفين (3) والحق أنّ هذا الاساس المهم، وتفصيل متكلمي الإمامية له، يمثل مصداقاً مهماً لتفصيل مرجعية النصّ القرآني في دلالته على نفسه وبيانه لمدلولاته، وتطبيقاً لتفسير القرآن بالقرآن .

سادساً: ان التأويل يجب أن يكون مطابقاً لادلة العقل، ولا يخالف الأصول المبنية عليها وإن تلك الأدلة، لا يدخلها المجاز ولا ،الاحتمال فهي مؤهلة للحاكمية مع اعتبار أنها لا تتناقض مع النقل. ونجد أجلى تحديد لضابطية هذا الاساس، وطغيانه على تاويلات متكلمي الإمامية فيما طبقه الشيخ المفيد كضابط منهجي مهم في تاويلاته للآيات (4).

وعبر عنه الشريف المرتضى في اعتباره الدليل العقلي أصلاً، وكل ماعداه تفريعاً عنه. ولا بد للفروع من متابعة الأصل، ولا بدَّ للتأويل - بالتالي - من مطابقته؛ إذ يقول

ص: 203


1- ظ المرتضى الامالي 311، 340، 497، 2: 503 ، 216، 233، 311، 313 ،316 ،334 انقاذ البشر 290، 294، 300 الآيات الناسخة والمنسوخة 58، 59، 63 ،67 ،72 ، 72 ، تنزيه الانبياء ،133 ،149 جمل العلم والعمل ص 40 .
2- تنزيه الانبياء 152 .
3- ظ الطوسي: الاقتصاد 58 ،67، 75، 90 ،وغيرها التبيان في عشرات المواضع منها مثلا :1: 55، 120، 198، 2: 330 ،382، 430 ،3 ،79، 552 وغيرها تلخيص الشافي 2: 17، 39 العلامة الحلي الالفين ،95، 102، 320 كشف المراد 337 ،427 ، نهج المسترشدين (محظوظ) ،72 ،226 ، 310 نهج السداد (مخطوط) ص 54 ، 77 تحت تسلسل 717 مكتبة أمير المؤمنين العامة مناهج اليقين ،710 الرسالة السعدية 70 كشف الحق 82.
4- أنظر أوائل المقالات ،47 ،59 تصحيح الاعتقاد 213 ،234 ،238 240 الفصول المختارة 31 وغيرها.

(إن الادلة لا يجوز فيها مجاز ولا أحتمال ولا ما يخالف الحقيقة وهي القاضية على الكلام التي يجب بناؤه عليها، والفروع ابداً تنبني على الأصول. فاذا ورد عن الله تعالی کلام ظاهره يخالف مادل عليه ادلة العقول، وجب صرفه عن ظاهره وحمله على ما يوافق الادلة العقلية ويطابقها (1) . وهكذا ينبني التأويل لكلام عنده على أن (الأدلة العقلية تقضي على ما يطلق من الكلام، ولا يقضي الكلام على الادلة)(2).

هذهِ القضية تمثل عند الشيخ الطوسي البديل من الوقوع في مغبة التقليد لمن يؤول بما يناسب أصوله. والمفروض أنه (ينبغي أن يرجع إلى الأدلة الصحيحة، أمّا العقلية، أو الشرعية) (3).

وأسس العلامة الحلي في منهجه للدليل العقلي على أنه هو الأصل الذي ببطلانه يبطل ماتفرع عنه من الدليل النقلي لذلك (وجب العدول إلى تاويل النقلي، وإبقاء الدليل العقلي على مقتضاه)(4) . ويقول في موضع آخر (العقل أصل النقل فلم يبق إلاّ العلم بالعقل، وتأويل النقل) (5).

سابعاً: الاستفادة من الأخبار والروايات الموافقة للأصول المستمدة من الأدلة العقلية والكتاب (6) والتي تمر من طوق الحماية الممثل في ضوابط قبول الروايات، أو ردّها بحيث تنال درجة الصحة . نلاحظ أن اطار هذه الاستفادة من الاخبار اتخذت عدة أشكال احتلت مكانها في تطبيقات متكلمي الإمامية عند تحديد موقفهم من

ص: 204


1- الامالي 2 300 ولاحظ تطبيقاتها على التأويل في نفس المصدر 1: 477 تنزيه الانبياء 14، 27، 154، 166.
2- المصدر نفسه.
3- التبيان 1: 6 .
4- كشف المراد 263.
5- نهج المسترشدين (مخطوط) ص 67 وانظر أيضاً نهج السداد (مخطوط)55.
6- ظ المفيد: أوائل المقالات ،200 ،المرتضى تنزيه الأنبياء ،17، الامالي 1 :344 العلامة كشف المراد ،393 ،394 الباب الحادي عشر 51 تسليك النفس 76 منهاج الكرامة 168.

قضايا العقيدة وتشكيل أصولها ومن تلك الاشكال تفضيل التأويل المعضد بما في الروايات المكتسبة للصحة على مالم يعضد ويعتمد الظن والرأي(1) وردّ التأويل الذي يخالف ما جاء في الروايات الصحيحة، وقبول ماوافقها (2)، والاستدلال على صحة التأويل المختار بشهادة دلالة الروايات على ماجاء فيه (3) .

كما يلاحظ ان متكلمي الإمامية حددوا أبعاداً أو ضوابط مهمة في محاكمة الروايات وتسهيل الاستفادة منها في البحث في أصول العقيدة وقد تبين لنا سابقاً بعض ملامح هذهِ الضوابط في مبحث الظاهر ، ونلمح ان أهمها في هذا الباب موافقة الروايات للأصول المعتمدة في الحاكمية وهي الادلة العقلية، وعدم مخالفتها ظاهر القرآن وروايات الأئمة عليهم السلام والمقايسة اليها ورفض بناء العقيدة على خبر الواحد ورد الروايات غير المكتسبة للصحة (4) .

ثامناً : أن ادلة التأويل تتمثل في المرجعيات التي لها الحاكمية كمنطلقات معيارية القبول التأويل أورده وتتمثل في اللغة في ضوابطها والمتعارف من استعمالاتها، والمجاز كخصيصة تتضمنها اللغة ويتمثلها القرآن الكريم.

فنحن نلاحظ أن عرف اللغة واستعمالاتها كانت من الضوابط المهمة ذات الفاعلية الكبيرة في منطلقات التأويل للنصوص وإنتزاع أصول العقيد منها، حيث يساير القرآن الكريم لغة العرب وإستعمالاتها وضوابط اللسان العربي وبالتالي فأسلوبه يجب أن يحاكم أولاً وفق تلك الأصول وعلى أساسها تكشف دلالات نصوصه. وهذا ما نطقت

ص: 205


1- المفيد: 31 العيون والمحاسن، تصحيح ،215، 256 ، الطوسي: البيان 1: 7، 9.
2- المفيد أوائل 198 تصحيح الاعتقاد ،231 ،2492 ، الطوسي تلخيص الشافي :2 : 138 التبيان 1: 4، 6، 7.
3- المفيد تصحيح الاعتقاد 256 المرتضى الامالي ،2 ،171 التبيان :1: 188، 3: 236 ، 547، 8: 67، 6: 223، العلامة: أنوار الملكوت 221، 224 .
4- المفيد أجوبة المسائل السروية 46 أوائل المقالات ،174 تصحيح الاعتقاد 225 ، 231 ،240، 252، 268، المرتضى، الامالي 1 430 الطوسي التبيان 1: 3 .

به تأويلات متكلمي الإمامية في فهمهم لنصوص القرآن؛ إذ برز سلاح اللغة أساساً في عملية التأويل، وبرزت عندهم إضافة إلى ذلك حاكمية اللغة وضوابطها في قبول التأويلات وردها (1).

ويمثل المجاز كفنّ يشكل خصوصية مؤثرة في بلاغة الخطاب القرآني، ويعد قطباً مركزياً في عملية التأويل - السلاح الرئيس والسمة الفنية المميزة للنص، والمشكلة لأحد أهم مصاديق اعجازه البلاغي وقد تمثل متكلمو الإمامية أهمية المجاز ، وشكل عندهم آفاقاً مميزة لتأويل النص، كانت الطريق الرئيس لترسيخ اصولهم العقيدية وتثبيت ركائز منهجهم الكلامي، وسبيل الخروج من كثير من التقاطعات بدون المجاز تعود لوازم للتناقض في النص نفسه أو تناقضه مع العقل كما في آيات الصفات الخبرية، أو الآيات التي أشارت ظواهرها إلى ما يخالف أصول المذهب في قضية عصمة الأنبياء (عليه السلام) ، أو غيرها مما يخالف أصولهم (2). وهكذا وبسبب فاعلية المجاز فقد توجه متكلموهم إلى وضع أصول وضوابط للأستعمال المجازي، حيث لا يلجأ إلى اعتبار الكلام مجازاً إلا بحجج وأدلة (3)، وعدم حمل اللفظ على أستعمال لا يكون له وجود في أصل وضعها (4).

والبحث للتأويل القائم على المجاز عما يشهد له في الأصول والادلة، واستعمالات اللغة (5)وأستبعاد التأويلات المتعسفة فى تحديد مجازية ماليس بمجاز، أو الضعيفة في ابراز وجوه معتبرة في ذلك تتقاطع مع أصول هذا الفن (6).

ص: 206


1- أنظر المفيد: تصحيح الاعتقاد 186 ، 188،191 ، 264 ، المرتضى الامالي 1: 71 ، 1 : 590 ،2: 154، 2: 197-198 ،2: 289287 الطوسي: الاقتصاد ،350 تلخيص الشافي ،2 ،22 ، 3 ،10 ، العلامة الحلي: كشف المراد ،322، 453 454، مناهج اليقين 105 ،نهج السداد 45 .
2- المفيد: أجوبة المسائل السروية 46 تصحيح الاعتقاد ،247 ،المرتضى، الامالي 1: 3، 2: 14، 144.
3- المفيد: الافصاح 89 .
4- الطوسي: الاقتصاد 350 .
5- الطوسي : الاقتصاد 324 تلخيص الشافي 2: 24 .
6- ظ المفيد تصحيح الأعتقاد 247.

وقد ألتفت الشريف المرتضى إلى أهمية المجاز وأثره في فهم النص القرآني، حيث عکس حاكميته على فصاحة النص وبلاغته؛ إذ يقول : (ان الكلام قد تدخله الحقيقة والمجاز، ويحذف بعضه وان كان مراداً ويختصر حتى يفسر، ولو بسط لكان طويلاً . وفي هذهِ الوجوه تظهر فصاحته، وتقوى بلاغته .وكل كلام خلا من مجاز واختصار وأقتصار، بَعُدَ عن الفصاحة، وخرج عن قانون البلاغة)(1).

ولذلك نجد لهذا المعنى حصة كبيرة وتطبيقات في تاويله للنصوص القرآنية وأجلى ما برزت في كتابيه الامالي وتنزيه الأنبياء، وقد أغنتنا كثرتها عن حصرها.

تاسعاً: إذا كان للعقل دوره في عملية التأويل فلابد من ادراك أن هناك من القضايا مالا طريق للعقل للاستدلال عليه وان السمع وحده طريق ذلك مع تأكيد أن العقل لا ينفك عن السمع . هذه القضية تمثل أحد أهم اسس منهج الإمامية عموماً، وموقفهم من العقل وحدود علاقته بالنص والمرجعية المركزية للنصّ في مقابل النسبية في مرجعية العقل بحدود تلك المركزية ويصور الشيخ المفيد أهم ملامح هذا الموقف بقوله إتفقت الإمامية على أن العقل يحتاج في علمه ونتائجه إلى السمع، وإنه غير منفك عن سمع ينبه الغافل عن كيفية الاستدلال)(2).

ويشكل هذا التحديد المنهجي المهم اضاءة دائمية تحدد منطلقات تفعيل العقل وآفاق دوره في إدراك أصول العقيدة، وكشف دلالات النص المبينة لها فضلاً عن حدود حاكميته فيما يكون حاكماً في ادراكه قبل ورود السمع لذلك نلاحظ أن هناك من المسائل ما كان الدليل العقلي فيها أساساً معتمداً في التحديد كقضايا وجوب النظر في معرفته تعالى وأدلة وجوده وقاعدة اللطف والعدل الالهي ووجوب النبوة والإمامة(3) ، وغيرها

ص: 207


1- الامالي 2: 300 .
2- أوائل المقالات 49.
3- المفيد أوائل المقالات ،29 ،97،83، المرتضى الشافي في الإمامة ،4 ،6، 9، 15 ، 24 مجموعة في فنون علم الكلام من ،66 العلم والعمل ،29، 31 ،32، 45 الفصول المختارة ،37 الطوسي، الاقتصاد ،42 ،84، 175 ،245، 297، العلامة الحلي: مناهج اليقين 99 231 كشف المراد ،3 119، 373 .

من المسائل ومما لا يمنع العقل عنه. كما نلاحظ ان من المسائل مالا طريق للعقل ودليله للاستدلال عليها، أو بينها تفصيلاً ولذلك فأنه يعود إلى مرجعية النص نفسه (1).

ونجد في هذا الاطار العديد من الاشارات على ذلك، ويلخص الشريف المرتضى ملامح الموقف في ذلك بأن مالا مجال فيه للعقل، فالطريق اليه هو السمع وإلاّ فالتوقف عنده (2).

عاشراً: تأكيد قيمة الأثر الوارد عن الأئمة(عليهم السلام)في خصوصية احاطته بدلالات النص وانطباق صفة الرسوخ المؤهلة للتاويل المنطقي للنصّ بعد تحقق شرائط القبول الرد وبالتالي مرجعية الإمام المعصوم في كشف آفاق التأويل المحتملة وضرورته نتيجة لذلك كجهة مؤهلة لتبيين النص.

وقد تبين لنا في المبحث السابق أهمية هذه المرجعية، وكونها قطب الرحا، والسمة البارزة في منهج الإمامية، إنطلاقاً من عقيدتهم في الإمامة وضرورتها ووظائفها.

وحاكمية الأثر الوارد عن المعصوم مطلقة على كل محاولة تتصدى لفهم النص. فما وجد فيه أثر عن الأَئمة صحيح الصدور، لاكلام معه في أصل كشفه عن دلالات النص وهو بالتالي له الأولوية في الأتباع وتأسيس أصول العقيدة على الاثر الوارد عنهم(عليهم السلام)وهو ما تمت الاشارة اليه تطبيقاً عند الشيخ المفيد الذي بنى الكثير من آرائه في العقيدة إنطلاقاً من نصوص الأئمة(عليهم السلام)(3).

ويوضح الشريف المرتضى ملامح هذه المرجعية للنصوص عن الأئمة(عليهم السلام)

ص: 208


1- المفيد أجوبة المسائل السروية ،46 أوائل المقالات ،51 ،57 59 80 85 الطوسي الاقتصاد ،206 231 التبيان 5:1 .
2- ظ المجموعة الأولى من رسائل الشريف المرتضى ص 19.
3- ظ أوائل المقالات 54.

وحاكميتها من خلال بيان أهمية وظيفة الإمام في بيان الحق الوارد في الطريق السمعي في الوصول اليه، اذا السمعي انما يدرك بالنقل الذي في مثله الحجة ولاحق علينا يجب العلم به من الشرعيات إلا وعليه دليل شرعي. وقد ورد النقل عن النبينفس المصدر 1 :184 (بتصرف).والأئمة من ولده صلوات الله عليهم فنحن نصيب الحق بالرجوع إلى هذه الأدلة والنظر فيها، والحاجة في ذلك كله إلى الإمام ثابتة؛ لان الناقلين (المؤولين) يجوز أن يعرضوا عن النقل إما بشبهة، أو أعتماد فينقطع النقل أو يبقى فيمن ليس نقله حجة ولادليل فيحتاج حينئذ المكلفون إلى دليل هو قول الإمام وبيانه(1) .

هذه الركيزة نراها قاسماً مشتركاً في جميع ماصدر عن متكلمي الإمامية ومفسريهم المتصدين لفهم النص القرآني، فضلاً عن غيره من مصادر التشريع والعقيدة. نجد الشيخ الطوسي يؤسس لركائز هذا المعنى بقوله : (ماكلف الله تعالى الا ما مكّن من الوصول اليه من الشريعة وغيرها فما نقل من الشريعة عن الرسول صلی الله علیه وآله وسلم) نقلاً ظاهراً يقطع العذر كلفنا فيه الرجوع إلى النقل وما لم يكن فيه نقل ولا مايقوم مقامه من الحجج السمعية . اما لأنّ الناس عدلوا عن نقله؛ أو لأنهم لم يُخاطبوا به، وعوّل بهم إلى قول الإمام القائم مقام الرسولصلی الله علیه وآله وسلم) ، كلفنا فيه الرجوع إلى قول الأئمة المستخلفين بعد الرسول نفس المصدر 1 :184 (بتصرف).. ولهذا نجد الحكم في جميع ما يحتاج اليه في الحوادث موجود، فيما تنقله الشيعة عن أئمته(عليهم السلام))(2).

ويقوم فهم الإمامية لاهمية وظيفة الإمام تجاه النصّ القرآني على ركيزة ان الإمام هو السبيل إلى رفع التشابه الوارد في قسم كبير من آيات القرآن؛ لأنه لم يرد عن الرسول ما يبين جميع ذلك، فوجب نصب الإمام من هذا الباب وخصوصاً في حق من تخلف وجوده عن وجود الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم) (3)

ص: 209


1- ظ تنزيه الأنبياء 208 .
2- تلخيص الشافي 1: 131 .
3- نفس المصدر 1 :184 (بتصرف).

هذه القضية بالذات مثلت أحد الأستدلالات المهمة عند الإمامية على وجوب الإمامة وبني عليها العديد من كتب إثبات الإمامة عندهم. وأشهرها الشافي للمرتضى، وتلخيصه للطوسي والألفين للعلامة الحلي.

فالعلامة الحلي يرى أن أدلة الشرع من الكتاب والسنة لاتدل بنفسها لاحتمالها (التأويل)، ولذلك أختلفوا في معناها مع أتفاقهم في كونها دلالة فلابد من مبيّن عرف معناها اضطراراً من الرسول أو من امام... ولأن الدليل العقلي محل نقاش في حاكميته، وعدم اعتراف بعض المخالفين بصلاحيته، فتعين وجود الإمام المبين المانع من الاختلاف(1) والذي بوجوده يرتفع التشابه، ويعود النص القرآني بالنسبة اليه محكمًا کله (2)وهو يستفيد من آيه المتشابه في سورة آل عمران - هذا الخصوص؛ إذ تدل الآية في رأيه على (أنه تعالى حكم بعلم تأويله ((المتشابه)) لقوم مخصوصين ميزهم بكونهم راسخين فيه ان المراد بالخطاب بالمتشابه هو العمل أيضاً به، ولا يحصل الأمنُ من الخطا في العلم به الا من المعصوم فيجب )(3)وهو هنا يشير إلى معنى الرواية الواردة عن الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في تاكيد قطعية دلالة تاويل الأئمة للنص القرآني؛ إذ يقول فيما روى عنه .... نحن حزب الله الغالبون، وعترة نبيه الاقربون، وأحد الثقلين الذين جعلنا رسول الله (ص) ثاني كتاب الله فيه تفصيل لكل شيء، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه والمعول علينا في تفسيره، لا نتظنى تأويله، بل نتبع حقايقه فأطيعونا؛ فان طاعتنا مفروضة ...) (4)

هذه القضية نلاحظ أثرها الواضح في تاويلات العلامة الحلي في تصديه لكشف دلالات النص، ونتلمس بوضوح اثر الروايات الواردة عنهم (عليهم السلام)بالاشارة إلى أنهم هم

ص: 210


1- ظ الالفين ،85، 198، 302 (بتصرف).
2- المصدر نفسه 86 ،400 .
3- المصدر نفسه 99-98 .
4- ظ الحر العاملي: الوسائل 18: 144.

الراسخون في العلم هذا الاتجاه الذي سار عليه العلامة الحلي، ومن سبقه، او جاء بعده. وقد تعرضنا لبعض تلك الروايات في المبحث الأول.

فحاكمية هذه المرجعية ظاهرة الوضوح على التأويل عند هؤلاء المتكلمين وقد أتخذ ذلك اشكالاً عديد مثل:

قيام أصل التأويل انطلاقاً من تلك الروايات (1).

تقوية التأويل المختار بما يعضده من الروايات عن الأئمة (عليهم السلام)(2)

رفض التأويل الذي يتعارض مع الروايات الواردة عنهم(عليهم السلام)(3).

الاشارة إلى كون التأويل وكشف دلالة النص، وجه لضرورة الإمام، وكونه معصوماً (4).

وضعهم للعديد من الضوابط للتعامل مع الروايات في استنباط أصول العقيدة ،وتأويل النصوص (5)

ص: 211


1- المفيد: الافصاح ،37 43 أوائل المقالات ،57 ،58، 72 ،وغيرها الطوسي تلخيص الشافي 2: 138، العلامة الحلي: الالفين ،84 ،86، 99، 303 وغيرها.
2- المفيد تصحيح الاعتقاد 199 209، 214، 232، 235 .
3- المفيد أوائل المقالات ،115 تصحيح الاعتقاد 247.
4- المفيد: تصحيح الاعتقاد ،274 العلامة الحلي وقد الف كتاب الالفين بكامله لاثبات ذلك.
5- المفيد: المصدر نفسه 266 وأنظر أجوبة المسائل السروية (الرسائل) ص 56.

المبحث الثالث: نماذج تطبيقية في فهم الإمامية للنص القرآني

اشارة

توطئة:

تتبين ملامح المنظور العام لمنهج متكلمي الإمامية من خلال ركيزتين اساسيتين:

الأولى: الرؤية المنهجية من خلال استبيان المرجعيات الرئيسية والمنطلقات المؤثرة، واسس الموقف من مجموعة قضايا تمثل متشابكةً الصورة العامة للمنهج التي تشکل اضاءات ومحددات لملامح الطريق، كمنطلقات لابدّ - قبل التصدي لعملية فهم النص- من تفعيلها وهذا الجانب قد افردنا له المبحثين السابقين بكل المطالب الواردة فيهما.

الثانية: مجموعة الآراء التي يتخذها متكلمو الإمامية في موقفهم من أصول العقيدة وجزئياتها وهذا المبحث ارجأناه إلى هذه الصفحات، ولا بد قبل الخوض في تفاصيله من التأكيد على أن البحث هنا ليس أستقصاءاً لجميع فعاليات فهم النص القرآني المصور والمبين لتلك الأصول والجزئيات، والتي تمثل بمجموعها منظومة كلامية متكاملة، لأنّ استقصاء ذلك سيحتاج بلا شك إلى مايزيد على حجم هذه الرسالة كاملة، حتى لواكتفى البحث بعدد معين من المتكلمين. لذلك فالتطبيقات هنا ستلقي الضوء على فهم متكلمي الإمامية لنصوص رئيسة كانت لها آثار كبيرة في تشكيل الموقف العام للمذهب من قضايا العقيدة ضمن أصولهم الخمسة:

1 - التوحيد 2 - العدل 3 - النبوة 4 - الإمامة 5 - المعاد

وسنكتفي في بعض النصوص بما يتفق المتكلمون الاربعة فيه على نفس الاستدلالات

ص: 212

والبيان لمجمل موقفهم، مع الاشارة إلى موضع ذلك في كتبهم، تاركين من لم يكن له رأي في بعضها؛ إذ أننا لم نستطع تحصيله في حدود استقصائنا في البحث.

كما لابدّ من الإشارة ختاماً إلى أن هذه التطبيقات ستمثل مصاديق لمجموع المباحث السابقة في الملامح المنهجية للمذهب، وليست تطبيقات لمنهج التأويل فحسب ،وسينتظم ذلك على أساس الأصول الخمسة عندهم كالآتي:

التوحيد
اشارة

هو الركيزة الاساس في الخطاب الديني لجميع الديانات السماوية، والمبدأ العام لنبوات الانبياء، وبدونه تفقد اية رسالة صلتها بالسماء وهو أول تعليم يصدره الانبياء لاممهم، قال تعالى : ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ، فَقَالَ يَقَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهِ غَيْرُهُ ﴾ (الأعراف (59). وسينتظم بحث متكلمي الإمامية للقضية في عدة محاور كالاتي .

1- وجوب النظر :

حيث يعتقد الإمامية بوجوب النظر لمعرفته تعالى، ويشتركون في ذ ذلك مع كل المذاهب الكلامية، لكنهم يفترقون عنهم كما هو موقف المعتزلة والزيدية - في القول بأن مدرك هذا الوجوب هو العقل (1) .

إلا أنّ العلامة الحلي يضيف إلى العقل أن السمع أيضاً يدل على ذلك فهو يقول - وهو تصوير لمجمل رأي الإمامية :

(الحق أن مدرك وجوب النظر عقلي لا سمعي وإن كان السمع قد دلّ عليه أيضاً بقوله تعالى: ﴿ قُلِ انْظُرُواْ ﴾

ص: 213


1- ظ المرتضى الشافي ص 61 ،الفصول المختارة 1: 37 أجوبة مسائل أهل الري (مخطوط) ورقة 8 أ مركز صدام للمخطوطات تحت رقم 37023 ،9 الطوسي الاقتصاد ص 42 ص 162 الكراجكي كنز الفوائد ،98 العلامة الحلي احقاق الحق 1: 37.

ونراه يؤول استدلال الأشاعرة على الوجوب السمعي بالآية، وهي قوله تعالى:﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾ (الاسراء /15) بعدة وجوه من التأويل. فمن وجوهها المحتملة عنده:

أ - أن الرسول المقصود هنا هو العقل.

ب - ان المراد ( ماكنا معذبين) على الواجبات السمعية.

2- إثبات وجوده تعالى

في حدود استقصاء البحث لمتكلمي الإمامية وموقفهم من الوجود الالهي نجد أنهم يستدلون على ذلك بالادلة العقلية كدليل الوجوب ودليل الحدوث - ممالا مجال لتفصيله ممالا مجال لتفصيله - وهذا مترتب على قولهم بوجوب النظر عقلاً، لكننا نلمح عند الشريف المرتضى استعانة ببعض النصوص القرآنية في الردّ على الملحدين والزنادقة والدهرية، كل في مذهبه والذين ينكرون وجوده تعالى(1) وأوضح ما يكون ذلك في رده على الزنادقة في قولهم : إن العالم يتولد بدوران الفلك، ووقوع النطفة في الارحام؛ لأن عندهم أن النطفة إذا وقعت تلقاها الاشكال التي تشاكلها، فيتولد حينئذ بدوران القدرة والاشكال التي تتلقاها مرور الليل والنهار والأغذية والأشربة والطبيعة، فتتربى وتنتقل وتكبر.

ويقوم رده عليهم على أساس فهمه لقوله تعالى:﴿ وَمَن نُعَمِّرْهُ نُنَكِسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَايَعْقِلُونَ﴾(يس/68). إذ يرى أنه تعالى عكس قولهم بهذه الآية إذ معناها: أن من طال عمره، وكبر سنه، رجع إلى مثل ماكان عليه في حال صغره وطفوليته، فيستولي عليه عند ذلك النقصان في جميع آلاته، ويضعف في جميع حالاته. ولو كان الأمر كما زعموا من أنه ليس للعباد خالق مختار لوجب أن تكون تلك النسخة، أو ذلك الانسان

ص: 214


1- ظ الآيات الناسخة والمنسوخة تحقيق على جهاد ص 107 - 111 .

زائداً أبداً، مادامت الاشكال والفلك ثابت والغذاء ممكن ومرور الليل والنهار متصل (1).

ويرى العلامة الحلي أن النص القرآني يعاضد الدليل العقلي لاثبات وجوده تعالى؛ إذ يرى أن في قوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ، عَلَى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ ﴾.

﴿ (فصلت (53) استدلال لميّ على وجوده تعالى وتأكيد برهان الوجود إذ أن الدليل على وجوده تعالى أن تقول : إن هذا موجود بالضرورة، فأن كان واجباً فهو المطلوب، وأن كان ممكناً، أفتقر إلى مؤثر، فاذن كان واجباً فهو المطلوب، وإن كان ممكناً تسلسل، أو دار، وقد تقدم بطلأنهما. وهذا برهان قاطع أشار اليه في الكتاب العزيز بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدُ﴾ (فصلت/53) (2).

3 -الصفات الالهية : إن ما يمكن إنتزاعه من مجمل الآيات القرآنية الكريمة التي تناولت الصفات الالهية، أن هذه الصفات تدور حول محورین :

الأول: ما يشير إلى وجود الكمالات، وواقعيتها في الذات الالهية كصفات العلم والقدرة والحياة وهي صفات ثابتة فيها، ولا يمكن أتصافها بالنقيض، وتسمى عند متكلمي الإمامية بالصفات الثبوتية، كما تسمى أحياناً بالجمالية.

الثاني: ما ينزه الذات الالهية عن صفات تستلزم النقص والحاجة، كالجسمانية والحركة والتحيز ،والتغير فينبغي سلبها عنها .

ونلاحظ أن القرآن الكريم قد اشار إلى هذين المحورين باجمال في قوله تعالى:﴿ نَبَرَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْحَلَلِ وَالإكرام ﴾ (الرحمن (78) . وقد توزعت عليها تطبيقات فهم النص عند المتكلمين ،الإمامية وان لم يكن لجميع المتكلمين في تقسيماتهما استدلالات قرآنية. وسيكتفي البحث بالاشارة إلى ماعليه استدلالات قرآنية لاقطابهم.

ص: 215


1- المصدر نفسه 109.
2- كشف المراد 305 .
3- الصفات الثبوتية

أ - الوحدانية : من أهم الأدلة على وحدانيته تعالى دليل الممانعة الذي يستدل عليه المتكلمون (1) بقوله تعالى: ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا وَالِهَةً إِلَّا اللهُ لَفَسَدَتَأْ فَسُبْحَانَ اللهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾(الأنبياء /22). إذ يرى المرتضى في الآية أنها إبانة من الله تعالى للقائلين بالثنويه والشريك بان (الخلق لا يصلحون إلا بصانع واحد فقال:﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا وَالِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَنَا ﴾ ثم نزه نفسه فقال﴿ فَسُبْحَنَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ والدليل على أن الصانع واحد حكمة التدبير، وبيان التقدير)(2).

ويقول الشيخ الطوسي: (لو كان فيهما - يعني السماء والارض - آلهة، أي: من يحق له العبادة ﴿إِلَّا اللهُ لَفَسَدَنَا﴾ ؛ لأنه لو صح ،الهان، أو آلهة لصح بينهما التمانع، فكان يؤدي ذلك إلى أن أحدهما، إذا أراد فعلاً، وأراد الآخر ضده، إما أن يقع مرادهما، فيؤدي إلى إجتماع الضدين اولا يقع مرادهما، فينتقض كونهما قادرين، أو يقع مراد احدهما، فيؤدي إلى نقض كون الآخر قادراً. وكل ذلك فاسد. فاذاً لا يجوز ان الإله إلا واحد)(3) .

2 - قوله تعالى: ﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَرٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَه إِذا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾(4) (المؤمنون /91) .

ويصب الشريف المرتضى فهمه لدليل التمانع من خلال فهمه لهذه الآية؛ إذ يقول: (فاخبر الله تعالى أن لو كان معه آلهة لانفرد كل آله بخلقه، ولابطل كلُّ منهم فعلَ الآخر، وحاول منازعته فابطل إثبات إلهين خالقين بالممانعة ،وغيرها ولو كان ذلك لثبت الاختلاف وطلب كل اله ان يعلو على صاحبه، فاذا شاء أحدهم أن يخلق

ص: 216


1- أنظر جذور الاستدلال بهذه الآية على التوحيد عند الأئمة (ع) في الصدوق: التوحيد ص 250.
2- الآيات الناسخة والمنسوخة ص 108.
3- التبيان ،7 238، 239 ،7: 391 وأنظر فهم الطوسي للدليل في الاقتصاد 78.
4- أنظر استدلال الأئمة (ع) بالآية: التوحيد الصدوق 65.

إنساناً، وشاء الآخر أن يخلق بهيمة، فاختلفا، وتبايناً في حال واحد، واضطرهما ذلك إلى التضاد والاختلاف والفساد وكل ذلك معدوم ، فاذا بطلت هذه - والحال كذلك - ثبتت الوحدانية بكون التدبير واحد اً، والخلق غير متفاوت، والنظام مستقيم)(1).

ويرى الطوسي في الآية جواباً لمحذوف تقديره لو كان معه اله آخر﴿ إِذَا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهِ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾. وفيه الزام لمن يعبد الاصنام... ومعنى﴿ إِذَا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَم بِمَا خَلَقَ ﴾. آي؛ لانفرد به، ولحوله من خلق غيره؛ لأنه لا يرضى أن يضاف خلقه وإنعامه إلى غيره) (2) .

واكتفى العلامة الحلي بالتوجيه العقلي لدليل التمانع انطلاقاً من فهمه للآيتين، دون أيرادهما في استدلاله(3).

ب - صفة القدرة: يستدل الشريف المرتضى على كونه تعالى قادراً من خلال صنعه تعالى، وهو طريق المتكلمين عموماً، ويورد على هذهِ الصفة مجموعة آيات كريمة (4) أهمها ماجاء في فهمه لمعنى مشيئته تعالى من خلال الآية الكريمة وهي قوله تعالى:: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ) (هود/118). إذ يرد فهم من يرى في الآية دليلاً على خلاف مذهب المرتضى في المشيئة على أن الآية انما عنت المشيئة التي ينضم اليها الالجاء وليس المشيئة على سبيل الاختيار فهو تعالى إنما أراد في الآية: (أن يخبرنا عن قدرته وأنه ممن لا يغالب ولا يعصى مقهوراً، من حيث كان قادراً على الجاء ،العبيد وأكراههم على ما أراد منهم)(5).

ص: 217


1- الآيات الناسخة والمنسوخة ص 107 ،108 .
2- التبيان 391:7 .
3- ظ أنوار الملكوت ،94 منهاج اليقين ،201 نهج المسترشدين 119.
4- أنظر استفادته من بعض ظواهر الآيات في مجموعة من فنون علم الكلام ص 77 تحقيق محمد حسن آل يس مطبعة المعارف بغداد ط19551م.
5- ظ الامالي 1: 70 .

ویرى الشيخ الطوسي أن الآية جاءت متضمنة معنى القدرة عنده تعالى على أن يجعل الناس على دين واحد كما في قوله: ﴿وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾(الزخرف/33)، أي على دين واحد، بان يخلق في قلوبهم العلم بأنهم لو داموا على غير ذلك لمنعوا منه، لكن ذلك لا ينافي التكليف ويبطل الغرض بالتكليف؛ لأن الغرض به استحقاق الثواب (1).

ج - السمع والبصر : يقوم رأي الإمامية على نفي السمع والبصر الماديين عنه تعالى. ويتفق الشيخ المفيد والعلامة الحلي على أن السمع والبصر الوارد ذكرهما في القرآن بمعنى العلم ويستدل على ذلك ب- (الاذن) الشرعي باطلاق هاتين الصفتين وصفتيهما عليه تعالى وقد اشتمل الكتاب العزيز على إثباتهما له ويصح الاستدلال بالسمع عليه(2). ويقصد العلامة الحلي الآيات الكريمة كقوله تعالى: ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعُ بَصِيرُ ﴾(الحج / 61) ﴿وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ (النساء/134). وخصص الشيخ ﴾ المفيد كون جميع ماورد في القرآن من ذلك بأن معناه العلم (3).

أما الشيخ الطوسي فيرى أن السمع والبصر منسوبين لله تعالى بمعنى الادراك، ويربطهما بصفة الحياة المستلزمة لهما، إذ يقول في تفسير قوله تعالى:﴿ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ (النساء /134) ، يعني أنه كان لم يزل على صفة يجب أن يسمع المسموعات، إذا وجدت ويبصر المبصرات إذا وجدت وهذه الصفة هي كونه حياً لاآفة فيه والصفة حاصلة له في الازل والآفات مستحيلة عليه فوجب وصفه بأنه

سميع بصير (4).

ص: 218


1- التبيان 6 :83 .
2- كشف الفوائد 49.
3- أوائل المقالات ص 59 .
4- الاقتصاد 57.

إلا أنه يوحي بأن السمع والبصر بمعنى العلم في تفسيره لقوله تعالى:﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ (الحج /61) إذ معنى الآية: (أنه يسمع ما يقول عباده في هذا،بصير به، لا يخفى عليه شيء منه حتى يجازي به).

د - صفة الكلام : يعتقد الإمامية أن كلامه تعالى محدث ولذلك فهم يرون أن القرآن الكريم محدث، رافضين بذلك رأي الأشاعرة بقدم ،القرآن، وموجهين كلام المعتزلة في قولهم بخلق القرآن؛ إذ يرفضون اطلاق صفة مخلوق على القرآن. وهذا في الحقيقة مستمد من مسلك أئمة أهل البيت (عليهم السلام)(1) .

يقول الإمام الصادق : إن القرآن كلام الله محدث غير مخلوق) (2).

ويقوم رفضهم لاطلاق صفة مخلوق على القرآن الكريم (3) على فهم للنص القرآني نفسه ؛ إذ أن مفردة.. (خلق) وتصريفاتها في الاستعمال اللغوي والقرآني تشير - إذا لم يقيد الكلام - إلى الكذب.

يقول الشريف المرتضى واصفاً رأي الإمامية (وعندنا لا يجوز إطلاق هذه العبارة (مخلوق) على القرآن... لأنا نقول أنه مدبر مقدر... وان كنا نقول أنه محدث، الا ان الوصف بالخلق إذا لم يقيد الكلام، فانه يقتضي أنه مكذوب فيه؛ لأن العرب تقول: خلق واختلق ... وكل هذا يقتضي الكذب ويقال قصيدة مخلوقة، إذا اضيفت إلى غير قائلها.

ويلتفت الشريف المرتضى - كحال الإمامية عموماً - إلى ضرورة تاكيد نفي الجسمية عنه تعالى من خلال نفي الحجاب بمعناه المادي؛ إذ( لا يجوز أن يكون أراد

ص: 219


1- ظ الصدوق: التوحيد 224 - 227 .
2- المصدر نفسه: 227 .
3- ظ المفيد: أوائل المقالات 57 ،المرتضى مجموعة في فنون علم الكلام ،81، 82 الاصول الاعتقادية 80، الطوسي :الاقتصاد 68 .

بقوله تعالى:﴿مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾أن الله كان ﴿مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾يكلم عباده، لأن الحجاب لا يجوز الاّ على الاجسام المحدودة)(1).

ثانياً: الصفات السلبية:

وتقوم هذه الصفات - كما أسلفنا - على تنزيهه تعالى بسلب كل نقص. ومن أهم ما أستدل عليه متكلمو الإمامية أو بينوه بالنص القرآني ما يمكن إجماله ب-:

أ - تنزيهه تعالى عن التشبيه والجسمية والجهة والمحل والحلول والاتحاد ان هذه الامور جميعاً مما يستلزم الحاجة، ويتنافى مع كونه تعالى واجب الوجود الغني المطلق. قال تعالى:﴿يَأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ (فاطر/15) كما أن بعضها يستلزم التركيب، والمركب مفتقر إلى الاجزاء، وهذا يتنافى مع واجب الوجود، ويدخل في حيز الامكان. وقد تصدى الأئمة(عليهم السلام) بشدة للتجسيم والتشبيه ووقفوا مدافعين ضده، واشتهروا بموقف التنزيه ووردت عنهم العشرات من الروايات في بيان ذلك. ومن بينها تاويل للآيات التي يرد ظاهرها بذلك (2).

وقد جمعت أهم هذهِ المسلوبات) التي جلت ذاته تعالى عنها في آيات الصفات الخبرية. لذلك سنتناول بعضاً من أهمها وهي التي كان المتكلمي الإمامية منهجهم في تاويلها والكشف عن دلالاتها كاتي

1- صفة الوجه : يتردد ذكر هذه الصفة في عدد من الآيات القرآنية تختلف في المعنى المقصود منها، وإن كان هناك رابط مشترك بين تلك المعاني المختلفة وهو: كونها جميعاً تضاف اليه تعالى على نحو المجاز، وأنها مخالفة في ظاهرها للاصول الدالة على تنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين، ونفي الجسمية عنه.

ص: 220


1- الامالي 2 ،206، وانظر الشيخ الطوسي: التبيان 9 : 177 .
2- ظ الصدوق التوحيد الطبرسي: الاحتجاج .

من هذه الآيات :

أ - قوله تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ الْمُشْرِقُ وَالْمُغرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله ﴾(سورة البقرة/115) يرى الشريف المرتضى أن الوجه في الآية يحتمل ثلاثة وجوه من التأويل(1)هي:

أن يراد :فثمَّ الله لاعلى معنى الحلول، ولكن على معنى التدبير والعلم، فثم رضا الله، وثوابه والقربة اليه.

ان یراد به الجهة وتكون الاضافة بمعنى الملك والخلق والانشاء والاحداث... أي أن الجهات كلها لله تعالى، وتحت ملكه.

ولم يُدل الشيخ الطوسي برأيه الخاص في تاويلها، إلا أنه أشار إلى الأختلاف فيها ولمح التأييده للتأويل الذي اختاره الرماني والجبائي بان يكون معنى الآية (فثم رضوان الله)، حيث أن التقدير المناسب لها في رأيه تذكروه حيث كنتم من أي وجه وله المشرق والمغرب والجهات كلها )(2).

ب - قوله تعالى:﴿وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ﴾ (سورة البقرة/272).

قال الشيخ الطوسي إن المراد بوجه الله - هنا - رضوان الله (3). ويورد في سياق تفسيره للآية قولين في ذكر الوجه يمكن في الحقيقة أن تعكس دلالاتههما على جميع الآيات التي جاء فيها ذكر هذه الصفة، والوجهان هما(4).

1 -لتحقيق الاضافة اليه تعالى؛ لأن ذكره يزيل الابهام أنه له، أو لغيره.

ص: 221


1- ظ الامالي 1: 593 .
2- التبيان 1: 475 .
3- المصدر نفسه 2 :354 .
4- المصدر نفسه.

2 -لأشرف الذكرين في الصفة؛ لأنه إذا قلت : فعلته لوجه زيد فهو اشرف في الذكر من: فعلته لزيد؛ لأن وجه الشيء في الأصل أشرف ما فيه... من أجل شدة ظهوره، وشدة بيانه .

ج - قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ (القصص (88).

يرى الشريف المرتضى أن المراد بالآية (1) إلا هو ويورد وجهاً آخر محتملا يمكن أن يكون المراد بها ما يقصد به إلى الله تعالى ويوجه نحو القربة اليه جلت عظمته. ويستفيد من تأويل الآية نفي التشبيه عنه تعالى : إذ يقول : ( وكيف يسوغ للمشبهة أن يحملوا هذهِ الآية... على الظاهر ؟ او ليس ذلك يوجب أنه تعالى يفنى، ويبقى وجهه ؟ وهذا كفر وجهل من قائله) (2).

ويكاد الشيخ الطوسي أن يتطابق مع تأويل المرتضى؛ إذ يرى أن معنى (إلا وجهه): الا ذاته، وقبل كل شيء إلا ما اريد به وجهه (3).

ولم أجد للعلامة الحلي تأويلاً للآية إلا أنه أستفاد منها في إثبات صحة وقوع العدم (4).

4 -قوله تعالى:﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ﴾(الرحمن (27) .

يرى الشريف المرتضى أن معنى الوجه في الآية نفسه تعالى، ولذلك لم يقل (ذي (الجلال) كما قال :﴿ تَبَرَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ﴾(الرحمن/78) لما كان أسمه غيره(5) ويطابق تاويل الشيخ الطوسي للآية تأويل المرتضى معنى وأن أختلف لفظاً؛

ص: 222


1- المرتضى الامالي 1: 593 .
2- المصدر نفسه.
3- التبيان 8 :184.
4- ظ كشف المراد ... ص 427.
5- الامالي 1: 59 .

إذ يرى أن معنى الآية : ( ويبقى الله) أو يبقى ربك الظاهر بأدلته)(1).

5- قوله تعالى:﴿ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله (الروم /39) ، ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ ﴾ / الأعلى (الليل /20) ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ ﴾ (الإنسان/9). معناه عند المرتضى أن هذه الأفعال مفعولة له [ تعالى ومقصود بها ثوابه والقربة اليه والزلفة عنده (2). ويرى الطوسي أن معناه لله وذكر الوجه لذكره بأشرف الذكر تعظيماً له(3) أو طلباً الرضوان الله(4).

2- صفة العين ترد في مجموعة آيات كقوله تعالى:

﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِي وَلِنُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ﴾ (طه/39).

﴿أصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ﴾ (هود/37) ، (المؤمنون/27).

﴿وأصبر لحكم رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾. (الطور/48).

﴿تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا جَزَاء لِمَن كَانَ كَفَرَ ﴾ (القمر /14).

يقوم تفسيره هذه الآيات عند الإمامية على قاسم مشترك جامع بين دلالاتها، هو حصول ما تصوره بعلم منه تعالى، وإدراك ورعاية. فالآية الأولى قوله تعالى: {على عيني أي وأنا أراك يجري أمرك على ما أريد (5).

أما الآيات الثلاث الباقية، فمعناها بمرأى منا وإدراك أي (علم) وحراسة (6).

ص: 223


1- التبيان :472:9، 10: 210 .
2- الامالي 1: 592 .
3- التبيان 10: 210 .
4- المصدر نفسه 10: 366 .
5- التبيان 172:7 .
6- ظ التبيان 5 552 :362:7 9 : 419، 9: 448، الاقتصاد 73 .

3 - صفة اليد لليد خمسة أوجه وهى(1) الجارحة ، والنعمة والقوة، والملك ،وإضافة الفعل. وقد جاءت الآيات الكريمة دالة على بعض هذه الوجوه، كقوله تعالى ::﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾. (المائدة/64).

﴿قَالَ يَناإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى ﴾ (سورة ص/ 75).

﴿إنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ (الفتح /10).

ففي الآية الأولى قوله تعالى: ﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ (المائدة/64).

نجد أن الشيخ المفيد يختار أحد تلك المعاني للآية فاليد هنا: النعمة، وجاءت التثنية لدلالة على نعمتيه العامتين في الدنيا والآخرة(2) .

وأيد الشيخ الطوسي ذلك، وأورد للتثنية وجهين آخرين هما (3):

1 - الثواب والعقاب 2 - انها للمبالغة.

قوله تعالى: ﴿قَالَ يَإِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى ﴾ (سورة ص /75).

يتفق المفيد والمرتضى والطوسي على أن المراد باليد هنا معنى النعمة وأن التثنية للإشارة إلى نعمتي الدنيا والآخرة (4).

الا أن الشريف المرتضى يضيف وجهين آخرين محتملين لليد في الآية(5): الأول: أن المراد به الاضافة فيكون جارياً مجرى :قوله لما خلقت انا وأيده في ذلك الشيخ

ص: 224


1- ظ الطوسي: التبيان 3 :568 .
2- أوائل المقالات 188.
3- التبيان 3 :568 .
4- المفيد أوائل المقالات ،191 المرتضى الامالي 1 :565 الطوسي الاقتصاد: 72، التبيان 8: 581.
5- الامالي 1: 565 .

الطوسي(1) الثاني: أن المراد به القدرة.

قوله تعالى:﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ (الفتح 10).

قال الشيخ الطوسي: إن في يَدُ اللَّهِ - قولين (2).

أحدهما عقد الله في هذهِ البيعة فوق عقدهم؛ لأنهم بايعوا الله ببيعة نبيه عبدالله .الآخر: قوة الله في نصرة نبيه (ص) فوق نصرتهم.

ومن الآيات الموحية بمعنى اليد قوله تعالى: ﴿ وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّتُ بِيَمِينِهِ ﴾ (الزمر (67) . ويمينه هنا بمعنى قدرته (3).

4- صفة الساق قال تعالى:﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾ (القلم/42).

أتفق الشيخ المفيد(4) والشيخ الطوسي(5)إن المراد هنا بالساق هو شدة الأمر، وصعوبته كناية عن على الأعمال، وقد كنى العرب عن شدة الحرب وصعوبتها بذلك، فقالت :قامت الحرب على ساق.

5- الحركة والانتقال :

قال تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكَ صَفًّا صَفًّا ﴾ (الفجر (22) .

وقال تعالى: ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَبِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ﴾(سورة البقرة/210).

ص: 225


1- الاقتصاد ،72 التبيان 8: 581 .
2- التبيان 9: 319 .
3- الطوسي: الاقتصاد 72.
4- أوائل المقالات 187.
5- التبيان 10: 87 .

قال تعالى :﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلَيْكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ﴾ (الأنعام /158).

يتمثل موقف الإمامية تجاه الآيات الموحية في ظاهرها بالحركة والانتقال في التأويل. وذلك انطلاقاً من اصولهم القائمة على الأدلة أن الله تعالى ليس بجسم، وإستحالة الانتقال عليه الذي لا يجوز إلا على الاجسام ،فلابد من تأول ظواهر الآيات ،والعدول عما يقتضيه صريح الفاظها (1).

فان هذهِ الآيات كما يرى الشريف المرتضى جاءت بما لا يجوز على الله تعالى من الحركة والانتقال، فلابد من تأويلها (2)

ويقوم هذا التأويل على تقدير محذوف يتحدد بحسب سياق الآية التي يرد فيها. ففي قوله تعالى:

﴿ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ﴾. يقدر محذوف، بحيث يكون المعنى : يأتيهم عذاب الله (3).

ويقدر محذوف هو المضاف في ﴿يَأْتِيَ رَبُّكَ﴾ فيكون المعنى، يأتي أمر ربك بالعذاب، أو أن يراد به: يأتي ربك بعظيم آياته (4) .

وكذلك في قوله ((جاء ربك))، فقد قدر فيه محذوف، فيكون المراد جاء أمر ربك (5) .

ب - تنزيهه عن الرؤية:

أتفقت كلمة متكلمي الإمامية عموماً على نفي الرؤية بالأبصار مطلقاً عن الباري تعالى في الدنيا، أو الآخرة، وأقاموا على ذلك الاستدلالات الكثيرة إذ يرون أنه (قد شهد

ص: 226


1- ظ المرتضى الامالي 2 :399 (بتصرف).
2- الامالي 2: 399.
3- الطوسي: التبيان 2 :188 .
4- المصدر نفسه :4 353 .
5- التبيان :4: 353، 10: 347 .

العقل، ونطق القرآن وتواتر الخبر عن أئمة الهدى من آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم) )(1) في تنزيهه تعالى عن ذلك.

وما يهمنا هنا متابعة موقفهم في فهم الآيات الكريمة التي تطرقت إلى هذا الموضوع وأهمها خمس آيات هي:

الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَمُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ (سورة البقرة /55).

الآية الثانية قوله تعالى: ﴿يَسْتَلُكَ أَهْلُ الْكِتَب أَن تُنَزِلَ عَلَيْهِمْ كِتَبًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَالِكَ فَقَالُوا أَرنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّعِقَةُ بِظُلْمِهِم ﴾(النساء/153).

يرد استدلال الشريف المرتضى بهذه الآية على قوله بنفي الرؤية، بعد أن يفصل القول في آية

(الاعراف/143) - التي ستمر بها لاحقاً - في قوله تعالى:﴿ لَن تَركني ﴾.

إذ يرى في الآيتين أنهما مما يقوي جوابه بأن موسى سأل الرؤية لقومه ولم يسألها لنفسه، وأنه تعالى أجاب موسى بمحضر من قومه بما يدل على أن الرؤية لا تجوز عليه تعالى (2)

وهذا ما أكده الشيخ الطوسي (3) والعلامة الحلي الذي حكم بتأويل كل ماجاء بجواز الرؤية(4). واستفاد الطوسي من قوله تعالى: ﴿فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ ﴾أنه (توبيخ من الله تعالى). ومن قوله تعالى: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ﴾أنه يعني (فصعقوا بظلمهم أنفسهم عن سؤالهم موسى أن يريهم

ص: 227


1- ظ :المفيد أوائل المقالات 62.
2- ظ الامالي 2: 216
3- ظ الاقتصاد 77 التبيان 1 :252.
4- ظ كشف المراد ،322 أنوار الملكوت 86 نهج السداد ص 55.

الله، لأن ذلك مما هو مستحيل عليه تعالى. وفي ذلك دلالة واضحة على استحالة الرؤية عليه تعالى واستعظام تجويزها؛ لأنهم كانوا يفكرون به، ويجحدونه، ولم ينزل عليهم الصاعقة، فلما سألوا الرؤية انزلها عليهم وفي ذلك دلالة على ان اصل كل تشبيه تجويز الرؤية عليه تعالى..)(1).

الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَر وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ (الأنعام (103) يتفق المرتضى والطوسي والعلامة الحلي على أن الآية جاءت في مقام مدح الباري لذاته بنفي و الادراك عنه تعالى، والادراك هو الرؤية (2) وأن وجه التمدح فيما يرون أنه تعالى تمدح بنفي الادراك الذي هو رؤية البصر عن نفسه على وجه يرجع إلى ذاته، فيجب أن يكون في ثبوت الرؤية له في وقت من الاوقات نقص وذم لايليق به تعالى (3).

ويستدل الطوسي على وقوع التمدح في الآية بدليلين أولهما: الاجماع على ذلك، والثاني أن جميع الأوصاف التي وصف (( (تعالى)) بها نفسه قبل هذه الآية وبعدها مدحة، فلا يجوز أن يتخلل ذلك ماليس بمدحه (4). وهذا ما أيده العلامة الحلي(5) .

وأكدوا كون(الادراك) المراد في الآية بمعنى الرؤية ووجه ذلك عند المرتضى( أنه خص((أي الادراك )) بآلة البصر التي لا يعقل إدراكها في غير الرؤية) (6).

وأستفاد الطوسي ذلك من الاستعمال اللغوي؛ إذ (أن الادراك إذا أضيف إلى واحد

ص: 228


1- التبيان 3 :376 -377 .
2- ظ المرتضى: الامالي ،1:22 مجموعة في فنون علم الكلام ،83 الطوسي الاقتصاد ،76، التبيان 240 العلامة الحلي أنوار الملكوت ،85 نهج المسترشدين ،72 مناهج اليقين 210 .
3- المصادر أنفسها المرتضى والطوسي في هامش (1) أما العلامة الحلي فأنظر : نهج المسترشدين 73 .
4- التبيان 4: 241 .
5- ظ أنوار الملكوت 858 الرسالة السعدية 51.
6- مجموعة في فنون علم الكلام ص 83.

من الحواس، أفاد ماتلك الحاسة آلة فيه، ألا ترى أنهم يقولون ادركته بأذني يريدون: سمعته، وأدركته بأنفي يريدون شممته وأدركته بفمي يريدون: ذقته. وكذلك إذا :قالوا أدركته ببصري يريدون رأيته) (1).

الآية الرابعة : قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَيْنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ، قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَينِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَني فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقَا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾(الأعراف (143).

وفي الآية مجموعة امور قام عليها فهم متكلمي الإمامية يمكن إجمالها في:

1 - سبب سؤال موسى(عليه السلام)ولهم فيه وجوه منها:

أ - أن يكون(عليه السلام)انما سألها لقومه وليس لنفسه (2)ويقوي ذلك ما حكته الآيتان الأولى والثانية.

ب - أن يكون سألها لنفسه بقصد العلم الضروري باظهار بعض أعلام الآخرة(3)، ويكون ذلك بقصد إزالة الشبهات والخواطر عنه وللأنبياء أن يسألوا مايزيل عنهم الوسواس والخطرات كما سأل إبراهيم(عليه السلام)،ربه، فقال﴿ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ ( سورة البقرة /26). غير أنه سأل ما يطمئن قلبه (4).

ج - وهو قريب من السابق أنه سأل من آيات الساعة التي يعلم معها العلم الذي لا يختلج فيه الشك، كما يعلم في الاخرة(5).

ص: 229


1- التبيان 4 :241 .
2- ظ المرتضى الامالي 2 ،215 الطوسي: الاقتصاد ،77، التبيان :4 567 العلامة نهج السداد 55.
3- الامالي: 2 :218 الاقتصاد 77، التبيان 4 :568 .
4- التبيان 4 :568 .
5- المصدر نفسه 4: 569 .

2- جواب طلب موسى (عليه السلام)؛ إذ كان جوابه تعالى في شقين أولهما: أنه قال: (لن) تراني) وهو نفي عام للرؤية (1) ، يؤكده أن (لن) تفيد النفي على وجه التأبيد (2)، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا ﴾ (الجمعة /7).

:وثانيهما: تعليق الرؤية باستقرار الجبل؛ فان استقر مكانه فسوف تراني حيث أنه تعالى (علق جواز الرؤية باستقرار الجبل في تلك الحال التي جعله فيها ((دكا)). فلما كان ذلك محالاً لما فيه من إجتماع الضدين السكون والحركة في حالة واحدة، علم أن الرؤية كذلك محال؛ إذ لا يتعلق بالمحال إلا المحال (3).

3 توبة موسى(عليه السلام)التي صورتها الآية وجاءت على وجه الانقطاع اليه (تعالى))، والرجوع إلى طاعته وإن كان لم يعصِ، أو يصدر عنه ذنب فيقال لمن جوز الرؤية هنا : إذا كان موسى(عليه السلام) سأل ما يجوز عليه تعالى، فمن أي شيء تاب (4)؟

الآية الخامسة : قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَذٍ نَاضِرَةٌ ﴾ }(القيامة /22).

نلاحظ أن فهم متكلمي الإمامية للآية ينطلق من تحديد معنى (ناظرة) فالنظر يحتمل في اللغة معاني عدة كتقليب الحدقة حيال المرئي، طلباً للرؤية والانتظار، والمقابلة، والفكر والتأميل والتعطف والرحمة ... الخ (5).

وقد استقروا جميعاً على ان معنى ناظرة - هنا - من الانتظار واحتملوا لتفسير الآية:

1 -إن (((الى)) واحد الآلاء = النعم ،فهي منتظرة لآلاء ربها(6)وهذا الوجه قائم على استفادة ظاهر الآية دون اللجوء إلى اعتباره استعمالاً مجازياً، ولا تقديره

ص: 230


1- الامالى 2: 221.
2- الطوسي: التبيان 4 :568 العلامة الحلي نهج المسترشدين ص 73 نهج السداد ص 55.
3- المرتضى ،2 :221 الطوسي: التبيان :4 ،569 العلامة الحلي: كشف المراد 323.
4- الامالي :2: 220 التبيان 4 :570 .
5- ظ الامالي 1: 37 التبيان 10: 199 .
6- ظ المصدران السابقان أنفسهما وأنظر العلامة الحلي: كشف المراد 322

لمحذوف، وهو ما احتمله المرتضى، ورجحه العلامة الحلي(1) .

2 -تاويل الآية على :الانتظار للثواب مع حذف المنتظر وذكر المنتظر منه، وهو ما تجري عليه عادة العرب فيكون معناها منتظرة لثواب ربها (2) .

ويستدل الشيخ الطوسي بالاستعمال القرآني على أن ((ناظرة)) - هنا - بمعنى منتظرة بقوله تعالى: ﴿وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةِ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ﴾ (النمل/35) أي منتظرة(3).

ويستمد المتكلمون الإمامية جذور موقفهم في الرؤية من كلمات الأَئمة الهلام ونلاحظ - هنا - تجلي مرجعية النص الوارد عن الأئمة، ووضوح تاثيره في كل مامر من تفصيلات تفسير الآيات السابقة الذكر عند الأئمة(عليهم السلام)(4) ، يصل أحياناً إلى درجة التطابق، وأخرى إلى درجة الاستضاءة به في كشف دلالة الآية.

العدل( الجبر والاختيار)

مما يتفرع من كونه تعالى عادلاً مفاهيم عديدة استدل عليها متكلمو الإمامية، وكان النص القرآني سلاحهم إثباتاً أورداً وننتخب من بين ذلك ما يتناول ماله صلة بأفعال العباد؛ حيث أن موقف الإمامية في هذهِ القضية هو الموقف الوسط بين افراط المجبرة في نسبة أفعال الانسان خيراً أو شراً إلى الله، وتفريط القدرية و (المعتزلة) في تفويض الأفعال إلى العبد، ونفي صلتها بالله مطلقاً.

ص: 231


1- كشف المراد 322 .
2- المرتضى الامالي :1: 36 الطوسي الاقتصاد ،76، التبيان ،10 ،197 العلامة الحلي: كشف المراد 323.
3- الطوسي مصدراه السابقان أنفسهما هامش 4 .
4- ظ نهج البلاغة ص 262 قوله (ع) ((لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس)) وقوله (ع) (الظاهر لا برؤية )ص 212 وما عن الإمام الباقر (ع) : ( لم تره الابصار بمشاهدة العيان )وقوله :(ع): (لم تره العيون بمشاهدة الابصار) وأنظر تفاصيل هذه الروايات وروايات أخرى عنهم (ع) في الكليني: الكافي 1 :97، 100 الصدوق التوحيد 107، 122 وقد جاءت بعض تلك الروايات في تفسير هذه الآيات الخمس.

وينطلق الإمامية من موقف أئمتهم (عليهم السلام)من القضية عندما يذهبون إلى القول إنه لاجبر ولا تفويض إنما أمر بين الأمرين. فقد روي المفضل بن عمر عن الإمام الصادق(عليه السلام)أنه قال: لاجبر، ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين. قال: قلت وما أمر بين أمرين قال (عليه السلام): مثل ذلك مثل رجل رأيته على معصية، فنهيته، فلم ينته، فتركته ففعل تلك المعصية، فليس حيث لم يقبل منك، فتركته أنت الذي أمرته بالمعصية (1).

وزاد الإمام الرضا(عليه السلام) الأمر تفصيلاً، فقال فيما رواه الحسن بن علي الوشاء. قال: سألته، فقلت له: الله فوض الأمر إلى العباد ؟ قال: الله أعز من ذلك، ثم قال: قال الله عز وجل: یابن آدم انا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك مني عملت المعاصي بقوتك التي جعلتها فيك (2).

ويتناول بحث متكلمي الإمامية القضية انطلاقا من فهم النصوص القرآنية أساسيات هذا المبدأ التي نلاحظ حضورها من خلال مجموعة مطالب:

الأول: رد استدلال المجبرة بظواهر الآيات القرآنية وأستفادة الجبر منها، بأن تلك الآيات مؤولة.

من أبرز الامثلة على ذلك ما أستدل الجبرية بظاهره على قولهم بالجبر في قوله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (الصافات/96).

حيث يقوم تاويل الإمامية للآية على العدول بها عن ظاهرها (3) فالمرتضى يرى أن الآية بخلاف ماظنه، المجبرة (4)؛ لأنها تضمنت خبراً عن إبراهيم (ع) أنه: (عير قومه بعبادة الاصنام واتخاذها آله من دون الله تعالى بقوله:﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴾

ص: 232


1- الصدوق :التوحيد 362 .
2- المصدر نفسه 362 - 363 .
3- ظ المرتضى الامالي: 2: 239 .
4- ظ تنزيه الانبياء ،43، وأنظر أيضاً انقاذ البشر من القضاء والقدر (رسائل العدل والتوحيد) ص 294.

(الصافات/95) وإنما أراد منحوت أي الأجسام؛ لأن الذي كانوا يعبدون الأصنام دون أفعالهم فيها، فعنفهم الله تعالى بالآية، كما يرى معه الشيخ الطوسي (1) . ويقوم تأويل المرتضى للآية على طريقين:

أولهما: أنها تقتضي تقدير محذوف بعد قوله تعالى: ﴿ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ يرجع إلى (ما) التي بمعنى الذي، ويقدره بلفظه (فيه). ويرفض تقدير المجبرة لمحذوف هو الهاء؛ ليسلم ما أدعوه فتقديرهم ليس باولى من تقديره(2).

ثانيهما: أن حمل الآية على ما ادعاه المجبرة يقتضي تناقضاً وذلك؛ لأنه قد أضاف العمل اليهم بقوله : ﴿ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ وذلك يمنع من كونه خلقاً لله تعالى؛ لأن العامل للشيء هو من أحدثه وأخرجه من العدم إلى الوجود.

ويرى العلامة الحلي أن هذه الآية وماشابهها مما استدل به المجبرة على نسبتهم افعال العباد إلى الله كقوله تعالى :﴿ اللهُ خَلِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾(الرعد /16)﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ (سورة البقرة/7) أن تلك الآيات متأولة. وقد ذكر العلماء تاويلاتها في كتبهم، وهي معارضة بمثلها. وقد صنفت تلك الآيات على عشرة أوجه منها (3):

1 - الآيات الدالة على إضافة الفعل إلى العبد، كقوله تعالى: ﴿ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَبَ بِأَيْدِهم﴾ (سورة البقرة /79)﴿ إن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ ﴾ (الأنعام /116) ﴿مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَبِهِ ﴾ (النساء/123).

2 - الآيات الدالة على مدح المؤمنين على الايمان، وذم الكفار على الكفر، والوعد والوعيد، كقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ﴾ (غافر/17) .

3 - الآيات الدالة على تنزيه أفعاله تعالى عن مماثلة أفعالنا في التفاوت والاختلاف

ص: 233


1- الاقتصاد 102.
2- تنزيه الأنبياء 44.
3- ظ كشف المراد 337 .

والظلم، كقوله تعالى: ﴿مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَوُتِ ﴾ (الملك /3) ، ﴿ الَّذِى أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ﴾ (السجدة /7). والكفر ليس بحسن، وكذا الظلم.

4 - الآيات الدالة على التحسر والندامة على الكفر والمعصية، وطلب الرجعة كقوله تعالى:﴿ وَهُمْ يَصْطَرِجُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَلِحًا ﴾} (فاطر /37) ، ﴿رَبِّ ارْجِعُونِ ﴾(المؤمنون/99).

الثاني : أنه تعالى لا يفعل القبيح. ويستدل الشيخ المفيد على ذلك بقوله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَةٌ، وَبَدَأَ خَلَقَ الْإِنسَيْنِ مِن طِينِ ﴾ (السجدة /7) .

إذ يستفيد منها أنه تعالى اخبر بأن كل شيء خلقه، فهو حسن غير قبيح، فلو كانت القبائح من خلقه لنا في ذلك لما حكم بحسنها، وفي حكم الله تعالى بحسن جميع ما خلق شاهد ببطلان قول من زعم أنه خلق قبيحاً (1).

وكذلك بقوله تعالى:﴿ مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَوُتِ ﴾ (الملك/3). إذ يرى

﴿ أنه تعالى نفى التفاوت عن خلقه، وقد ثبت أن الكفر والكذب متفاوت في نفسه. والمتضاد من الكلام متفاوت (2)وهذا ما عليه المرتضى (3) ، وأكده العلامة الحلي الذي استفاد من الآيتين وأشباههما تنزيهه تعالى عن مماثلة أفعالنا في التفاوت والاختلاف .والظلم والكفر ليسا بحسنين (4).

وانطلاقاً من هذا التنزيه الاجمالي عن فعل القبيح جاءت تفصیلات تنزيهه تعالی عن نسبة مطلق أفعال العباد اليه (5)والذي يترتب عليه أمور منها:

ص: 234


1- ظ أوائل المقالات 200.
2- ظ أوائل المقالات 201 .
3- انقاذ البشر 274.
4- كشف المراد 337 .
5- ظ المفيد: تصحيح الاعتقاد ،201 ، المرتضى انقاذ البشر من القضاء والقدر (رسائل العدل والتوحيد) 274، 289 الطوسي: الاقتصاد 99 ،100 العلامة الحلي: الرسالة السعدية 70 اسقصاء النظر في البحث عن القضاء والقدر 51 ،کشف المراد 337.

أ - نفي نسبة الشر اليه (1).

ب - نفي نفي الاضلال عنه، أو ارادته للضلال (2) .

ج - تنزيهه عن القضاء بالمعصية (3) .

كما يترتب عليه نسبة الكفر والمعاصي الى العباد، وتسويلات الشيطان(4) .

وقد توافر متكلمو الإمامية في هذه المطالب المختلفة على متابعة النصوص القرآنية فهماً وبياناً ممالا مجال للتوسع في بيانه (5).

الثالث :معنى نسبة الهداية والاضلال اليه تعالى.

يحدد الشريف المرتضى معنى الهداية في اللغة بالدلالة وأما معناه فله عنده قسمين (6)

أ- هدى بمعنى الدليل والبيان وهذا مايناله منه تعالى كل العباد والمكلفين البالغين. ومما يدل عليه قوله تعالى:﴿ وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَعِقَةُ الْعَذَابِ الْمُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ (فصلت/17). حيث افادت الآية أنه تعالى : (هدى) ثمود الكفار، فلم يهتدوا فاخذتهم الصاعقة بكفرهم وكذلك قوله تعالى : ﴿ إِنَّا هَدَيْنَهُ السَّبِيلَ ﴾ (الانسان/3). يعني دللناه على الطريق.

ص: 235


1- المرتضى انقاذ البشر 302 ،308 .
2- المفيد: تصحيح الاعتقاد 204 - 205 الطوسي: الاقتصاد ،90 العلامة الحلي: كشف المراد 343، المرتضى انقاذ البشر ص 298.
3- المفيد تصحيح الاعتقاد 207-209، المرتضى انقاذ البشر 290 الطوسي : الاقتصاد .94
4- المفيد: المصدر السابق ،213 المرتضى المصدر السابق 306 ،307 ، العلامة الحلي: كشف المراد 338، 340.
5- انظر المصادر الواردة في الهوامش 5:1 من هذه الصفحة.
6- انقاذ البشر 297-296 .

ب- هدى هو الثواب والنجاة فلا يفعل الله هذا الهدى إلا بالمؤمنين المطيعين، كقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَلَكُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ﴾(سورة محمد/ 4-5). وانما يهديهم بعد القتل بأن ينجيهم، ويثيبهم.

وقوله تعالى: ﴿ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ ﴾. (الرعد/27).أي من تاب. أما اضلال الله تعالى للكافرين، فهو تعالى اضلهم بأن عاقبهم وأهلكهم عقوبة لهم على كفرهم، ولم يضلهم عن الحق، ولا أضلهم بأن أفسدهم (1).

ويجب تنزيهه تعالى عن الاضلال بالمعنى المنسوب إلى غيره كما في قوله تعالى: ﴿وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِى﴾ (طه/85). وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنكُمْ جِيلاً كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ﴾ (يس/62). إذ اضلال السامري بأن دعاهم إلى عبادة العجل، والاضلال في الآية الثانية اريد به أفسد ،وغرَّ وخَدَعَ والله لايغر العباد ولا يظهر في الارض الفساد(2).

ويشترك العلامة الحلي معه في حيثيات التقسيم ومعانيها في الهدى والضلال، منزها له تعالى عن الضلال بمعنى خلاف الحق، وفعل الضلالة، ومقرراً أنه تعالى نصب الدلالة على الحق، وفعل الهداية الضرورية في العقلاء، ولم يفعل الايمان فيهم، لأنه كلفهم به، ويثيب على الايمان فمعاني الهداية صادقة في حقه تعالى إلا فعل ماكلف به (3).

النبوة

يرد العديد من التطبيقات في فهم النص القرآني في أصل النبوة عند متكلمي الإمامية مما يتفق فيه الإمامية، أو يختلفون مع باقي المذاهب الاسلامية. وسيخصص

ص: 236


1- المصدر نفسه 298 .
2- المصدر نفسه 298 -299.
3- كشف المراد 343 .

البحث الحديث عن هذا الأصل في موضوعين من أهم ما أختلفوا فيه مع غيرهم ،هما:

1- الفرق بين النبي والرسول: حيث أختلف المسلمون في ذلك إلى فريقين: الأول: المعتزلة الذين قالوا بعدم الفرق بينهما (1). الثاني: الإمامية (2) والاشعرية (3)القائلين بالفرق بينهما.

حيث ترى الإمامية أن كل رسول، فهو نبي، وليس كل نبي، فهو رسول. وقد كان من أنبياء الله عز وجل حفظةٌ لشرائع الرسل وخلفاء لهم في المقام(4) .

ومن أهم ما أستدلوا به على هذه المغايرة قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلَا نَبِي ﴾ (الحج /52).

ويرى المرتضى أنَّ وجه المغايرة بينهما يتمثل في طريق الوحي، أو سعة الرسالة، فان النبي هو الذي يتلقى الأوامر الالهية بالمنام ، ولا يرى الملك عياناً، والرسول هو الذي علت منزلته؛ لاجل تكلفه بأمر الرسالة، وعزمه على القيام بها (5).

وينطلق موقف متكلمي الإمامية هذا أساساً من روايات الأئمة الهلام التي أشارت إلى التفريق سواء من حيث طريق الوحي، أو حيثيات أخرى(6)

2- عصمة الأنبياء للام : مما يميز الأنبياء(عليهم السلام)عن غيرهم من البشر ما يشترط .

ص: 237


1- ظ القاضي (عبد الجبار بن أحمد الاسد آبادي (ت 415ه_): شرح الاصول الخمسة ص 567، تحقيق د. عبد الكريم عثمان مصر ط19651م.
2- المفيد :أوائل المقالات 49 .
3- ظ النسفي: (أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود مدارك التنزيل وحقائق التأويل 2: 106 دار الكتاب العربي بيروت (د. ت).
4- المفيد: المصدر السابق ص 49.
5- ظ مجموعة في فنون علم الكلام ص 63 .
6- ظ الكليني: الكافي (الاصول) 1: 177 وما بعدها.

توافره فيهم من صفات على رأسها العصمة التي يرى الإمامية أنها مطلقة، حيث لا يجوز عليهم شيء من المعاصي والذنوب كبيراً أو صغيراً، لاقبل النبوة، ولا بعدها(1).

وهذا التنزيه من الأصول الثابتة في مذهب الإمامية. ولذلك لايقبل مايخالفه من نصوص. وانطلاقاً من ذلك فهم يؤولون الآيات التي يشعر ظاهرها بخلاف هذا الأصل. يقول الشريف المرتضى معبراً عن موقف الإمامية عموماً في ذلك: إذا ثبت بالدليل عصمة الأنبياء (عليهم السلام)، فكل ماورد في القرآن مما له ظاهر ينافي العصمة، ويقتضي وقوع الخطأ منهم، فلابد من صرف الكلام عن ظاهره وحمله على مايليق بأدلة العقول) (2).

كما يؤكد الموقف حيال الروايات والأخبار في ذلك إذ يقول: (قد بينا بالأدلة العقلية التي لا يجوز فيها الاحتمال، ولاخلاف الظاهر أن الأنبياء(عليهم السلام) لا يجوز عليهم الكذب فما ورد بخلاف ذلك من الاخبار لا يلتفت اليه، ويقطع على كذبه إن كان لا يحتمل تأويلاً صحيحاً لايقا بأدلة العقل، فإن أحتمل تأويلاً مطابقاً، تأولناه، ووفقنا بينه وبينها) (3).

وهذا الموقف أيده الشيخ الطوسي انطلاقاً هنا الأُسس العامة للمنهج، والتي سبق الاشارة اليها إذ يرى أن الظواهر التي يستدل بها القائلون بوقوع المعصية من الانبياء عليه(عليه السلام)(تبنى على أدلة العقول، ولا يبنى أدلة العقول على الظواهر وإذا علمنا بدليل العقل أن القبيح لا يجوز عليهم تأولنا الآيات إن كان لها ظواهر)(4).

وتطبيقاً لهذه الأسس ، وركائز الموقف نجد أن متكلمي الإمامية يؤولون الكثير

ص: 238


1- ظ المفيد: أوائل المقالات 70 المرتضى: تنزيه الأنبياء ص 82 الشيخ الطوسي: الاقتصاد 260 العلامة الحلي: کشف المراد 376 .
2- الامالي 2: 399 .
3- تنزيه الانبياء 27 .
4- الاقتصاد 262 .

من تلك الآيات التي جاءت ظواهرها بوقوع المعاصي والذنوب عنهم (عليهم السلام)حتى أن الشريف المرتضى الف كتاباً في تنزيه الانبياء)، والرد على المخالفين في نسبة ذلك اليهم. وفي إثبات أصل العصمة للأنبياء لا يستدل الشيخ المفيد بقوله تعالى :﴿ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَا الْحُسْنَى ﴾ (الأنبياء (101).

﴿وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ ﴾ (سورة ص/47).

﴿وَلَقَدِ اخْتَرْنَهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَلَمِينَ ﴾ (الدخان/32).

إذ يستفيد من هذه الآيات أن الأنبياء والأئمة من بعدهم معصومون في حال نبوتهم وامامتهم من الكبائر كلّها والصغائر (1)

ونختار بعض النماذج التطبيقية لتأويلات متكلمي الإمامية للآيات الكريمة في إثبات عصمة الأنبياء ( السلام .

ففي إثبات عصمة آدم(عليه السلام)نجد أن الشريف المرتضى يتأول النهي الصادر عن مقاربة الشجرة في قوله تعالى: ﴿وَلَا نَقَرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ ﴾. (سورة البقرة/35) أنه نهي أرشادي لامولوي ودلالة الآية أنه (عليه السلام)( عصى بأن فعل منهياً عنه، ولم يعصِ بأن ترك ماموراً به) (2).

ذلك أن النهي والأمر ليسا يختصان بصيغة واحدة ليس فيها احتمال ولا أشتراك. وقد يؤمر عندنا بلفظ النهي، وينهى بلفظ الأمر) (3). وهذا ماتقويه دلالة الآية الكريمة المصورة للحالة في قوله تعالى: ﴿أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ ﴾ (الاعراف/22).

حيث أن الأمر قد يسمى نهياً، والنهي أمراً . وهذا كله مدخل لاثبات عصمته(ع)، وتأويل المعصية التي نسبها اليه ظاهر قوله تعالى: ﴿وَعَصَى عَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ﴾

ص: 239


1- تصحيح الاعتقاد ص 255، أوائل المقالات ص 70.
2- تنزيه الأنبياء 11 .
3- تنزيه الأنبياء 11 .

(طه/21) . ذلك أن المعصية هنا هي مخالفة الأمر ، والأمر من الحكيم تعالى قد يكون بالواجب وبالمندوب معاً، فلا يمتنع على هذا أن يكون تاركاً نفلاً وفضلاً، وغير فاعل قبيحاً وليس يمتنع أن يسمى تارك النفل ،عاصياً، كما يسمى بذلك تارك الواجب )(1)فوصف تارك الندب هنا بأنه عاص (توسع وتجوز، والمجاز لايقاس عليه، ولا يتعدى به عن وصفه)(2).

وأيد الشيخ الطوسي اسس تاويل المرتضى، حيث يبني تأويله على أحتمال الامر للوجوب والندب فمعنى الآية عنده ان آدما خالف ما أمره الله به فخاب ثوابه والمعصية مخالفة الأمر سواء أكان واجباً أو ندباً... وفي الكلام حذف لأن تقديره: أن آدم تاب إلى الله وندم على ما فعل فاجتباه الله واصطفاه (وتاب عليه)، أي: قبل توبته وهداه إلى معرفته والى الثواب الذي عرضه له )(3).

عصمة ابراهيم(عليه السلام) :

في مجال تنزيهه عن اعتقاد الوهية الكواكب أو الشك في الله تعالى وهو ما يقتضيه ظاهر الآية وهي قوله تعالى: ﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الَّيْلُ رَمَا كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لاَ أُحِبُّ الأَفِلِينَ فَلَمَّا رَهَا الْقَمَرَ بَازِغَا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَهَا الشَّمْسَ بَازِعَةُ قَالَ هَذَا رَبِّي هَذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَنقَومِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ (الأنعام / 78.76) .

في هذا الباب نجد متكلمي الإمامية يتأولون الآية بما يبعد دلالة الظاهر لمخالفته الأصول والادلة العقلية، وهي الاساس المهم للمقارنة، فالشريف المرتضى يرى أن تنزيه إبراهيم (عليه السلام)عن الشكل في الله وأعتقاد الوهية الكواكب يعتمد على وجهين:

ص: 240


1- المصدر نفسه 9.
2- المصدر السابق نفسه 9 .
3- التبيان 7 :218.

الوجه الأول (1): له فيه جوابان مما أقتضاه ظاهر الآية :

1- إن إبراهيم(عليه السلام)قال ذلك في زمان مهلة النظر، وعند كمال عقله، وحضور ما يوجب عليه النظر بقلبه، وتحريك الدواعي على الفكر والتأمل له؛ لأن إبراهيم(عليه السلام)لم يخلق عارفاً بالله، وإنما اكتسب المعرفة لما أكمل الله تعلى عقله.

2 -أنه أخبر عن ظنه، وقد يجوز أن يظن المفكر والمتأمل فى حال نظره وفكره مالا أصل له، ثم يرجع عنه بالادلة والعقل، ولا يكون ذلك منه قبيحاً.

الوجه الثاني : يعتقد فيه المرتضى أن الأمر ليس ما في الوجه الأول، وإنما كان ماصورته الآيات من تنقل إبراهيم السلام منهجاً إبراهيمياً في إثبات فساد اعتقاد قومه من خلال إثبات فساد معبودهم وقد انتشرت فيهم حينها عبادة الكواكب إذ يتلخص موقف إبراهيم (عليه السلام)عنده بأنه قال ذلك (على سبيل الإنكار على قومه، والتنبيه لهم على أن ما يغيب، ويأفل، لا يجوز أن يكون إلهاً معبوداً).

ويستعرض الشيخ الطوسي أربعة وجوه في تاويل الآية لاثبات تنزيه إبراهيم (عليه السلام)ثلاثة منها تؤكد ما ذهب اليه المرتضى، والوجه الرابع الذي يضيفه أن إبراهيم (عليه السلام)قال ذلك (على وجه المحاجة فيجعلها مذهبا ليرى خصمه المعتقد لها فسادها) (2).

ويستفيد من الآية دلالة على(ان معرفة الله ليست ضرورية، لأنها لو كانت ضرورية لما احتاج الكواكب وأنتم تعلمون حدوثها وحدوث الاجسام ضرورية، وتعلمون أن لها محدثاً على صفات مخصوصة ضرورة. وما كان يحتاج إلى تكلف الاستدلال والتنبيه على هذا)(3).

ص: 241


1- تنزيه الأنبياء 22.
2- ظ التبيان 4 :200-196
3- الامالي 1: 477 - 481.

عصمة يوسف (عليه السلام)

من أهم ماتصدى متكلمو الإمامية له لتنزيه يوسف (عليه السلام)فيه عن المعصية ما يقتضيه ظاهر قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ، وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّعَا بُرْهَنَ رَبِّهِ ﴾(يوسف/24)، فقد أورد المرتضى والطوسي عدة وجوه في تأويل الآية بما يدفع عن يوسف (ع) تهمة الهم بالفاحشة، والوقوع في المعصية من خلال تفعيل مرجعية اللغة واللجوء إلى ضوابط اللسان العربي واستعمالاته وذلك باستعراض ما يحتمله (الهم) من معان هي(1).

1- العزم على الفعل، كقوله تعالى:﴿ إِذْ هَمَّ قَوْمُ أَن يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ ﴾

(المائدة/11).

2- خطور الشيء بالبال وأن يقع العزم عليه قال تعالى: ﴿إِذْ هَمَّت طَائِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا ﴾ (آل عمران/122) . أراد تعالى ان الفشل خطر ببالهم.

3- المقاربة: بمعنى : كاد أن يفعل.

4- الشهوة وميل الطباع.

وينتهيان من احتمال لفظ (الهم) لهذا الاختلاف والاتساع في المعنى إلى تحكيم الأصول والأسس المعتمدة في التأويل مستبعدين الوجه الذي يقتضي همه(عليه السلام) بالعزم على القبيح ويجيزان باقي الوجوه (لأن كل واحد منها يليق بحاله) (2).

فالشيخ الطوسي يورد الوجوه الاربعة انفسها للهم في اللغة، وينتهي إلى نتيجة

ص: 242


1- تنزيه الأنبياء 53 - 54 التبيان 6 :120 - 121 .
2- الامالي 1: 477 - 481 تنزيه الأنبياء ،54 التبيان 6: 121 .

الشريف المرتضى نفسها باستبعاد العزم منه(عليه السلام)واجازة باقي الوجوه؛ لأن كل واحد منها يليق بحاله، ويؤكدان أنه حتى مع قبول أن يحمل الهم في الآية على العزم، فأن له تأويلاً بأن يكون معناها أنه (هم بضربها ودفعها عن نفسه، كما يقول القائل: قد کنت هممت بفلان، أي: بأن أوقع به ضرباً، أو مكروهاً)(1).

وهذا ما يتأكد من خلال استعراض المرتضى لما يؤكد أن (همها به متعلق بالقبح بشهادة الكتاب والآثار بذلك، وهي ممن يجوز عليها القبيح. فمن الكتاب قوله تعالى: وَرَوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ ) (يوسف/23) وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ راودته ، عَن نَّفْسِهِ فَأَسْتَعْصَمَ ﴾ (يوسف /32).

أما الآثار فواردة باطباق مفسري القرآن ومتأوليه على أنها همت بالفاحشة والمعصية (2).

كما أكد أن همه (عليه السلام)بالمعنى الذي سبق تفصيله بأن هم بدفعها وضربها؛ ذلك أن الادلة العقلية دلت على أنه لا يجوز أن يفعل القبيح، ولا يعزم عليه) (3)ومن الأدلة على ذلك من الكتاب قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ ﴾ (يوسف/24)، وقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ﴾ (يوسف /52).

عصمة نبينا محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)

يتمثل موقف الإمامية من عصمة الرسول على انه (صلی الله علیه وآله وسلم)(لم يعص الله عز وجل منذ خلقه الله عز وجل إلى ان قبضه، وبذلك نطق القرآن، وتواتر الخبر عن آل محمد (صلی الله علیه وآله وسلم)) (4)

ولذلك فهم كعادتهم مع باقي الأنبياء(عليه السلام) - يتأولون ظواهر الآيات التي

ص: 243


1- ظ المصادر السابقة نفسها وأرقام الصفحات.
2- ظ الامالي 1: 48 تنزيه الأنبياء 57.
3- تنزيه الأنبياء 57 (بتصرف).
4- المفيد: أوائل المقالات ص 71- 72.

تخالف هذا الأصل ويرون أن تلك الظواهر لها تأويل( بضد ما توهمه [(المحتجون بها )] والبرهان يعضده على البيان وقد نطق به الفرقان)(1).

فالشيخ المفيد يرى أن القرآن الكريم نطق بعصمة الرسول(ص) بقوله تعالى:﴿ وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى﴾ (النجم/1-2)، فنفى بذلك عنه كل معصية ونسيان(2) .

وفي قوله تعالى:﴿ لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ ﴾ (الفتح /2) . الذي يقتضي ظاهره صدور الذنب عنه (صلی الله علیه وآله وسلم)ومغفرته تعالى له نجد للاماميه فيه تأويلاً ينزهه (صلی الله علیه وآله وسلم)عن كل ذلك. فالمرتضى يفهم أن ظاهر الآية دال على غير نسبة الذنب اليه (صلی الله علیه وآله وسلم)، إذ يختار في معناها وجهاً يراه أشبه بالظاهر من وجوه اخرى استعرضها (3). إذ يرى أن المراد بقوله تعالى: ﴿ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِك﴾ الذنوب اليك، ويبني ترجيحه لذلك على أساس مرجعية اللغة واستعمالاتها؛ إذ أن (الذنب مصدر والمصدر يجوز اضافته إلى الفاعل والمفعول ... ومعنى المغفرة على هذا التأويل هي الازالة والفسخ والنسخ لاحكام اعدائه من المشركين عليه وذنوبهم اليه في منعهم إياه عن مكة، وصدهم له عن المسجد الحرام، وهذا التأويل يطابق ظاهر الكلام حتى تكون المغفرة غرضاً في الفتح ووجهاً له)(4).

ولا يمتنع أن يكون للآية وجه آخر كما يرى، وذلك أن يريد تعالى (ما تقدم زمانه من فعلهم القبيح لك ولقومك، وما تأخر) (5).

ويبني الشيخ الطوسي رؤيته في فهم الآية على أستعراض أقوال من تصدى لفهم

ص: 244


1- المصدر نفسه ص 72 .
2- المصدر نفسه ص 72.
3- ظ تنزيه الأنبياء 135.
4- المصدر نفسه.
5- المصدر السابق 136.

الآیه وهی(1).

1 - ما تقدم من معاصيك قبل النبوة وما تأخر عنها.

2 - ما تقدم قبل الفتح وما تأخر عنه.

3 - ما قد وقع منك، ومالم يقع على طريق الوعد بأنه يغفره ان كان.

4 - ما تقدم من ذنب أبيك آدم، وما تأخر عنه.

وبما أن هذهِ الأقوال جميعاً تقتضي نسبة الذنب اليه (صلی الله علیه وآله وسلم)، أو غيره، وهو آدم (عليه السلام)و تخالف أصول الإمامية في عصمة الأنبياء(عليه السلام)مطلقاً عن الذنب، فأن الشيخ الطوسي يرى أن هذه الوجوه كلها لا تجوز عندنا؛ لأن الأنبياء(عليه السلام)لا يجوز عليهم فعل شيء من القبيح، لا قبل النبوة، ولا بعدها).

ويرى أن للآية وجهين من التأويل يؤكد فيهما ما أختاره المرتضى فيها(2) .

أحدهما ليغفر لك ما تقدم من ذنب أمتك، وما تأخر بشفاعتك ولمكانك، فأضاف الذنب إلى النبي وأراد به أمته كما قال ﴿وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ ﴾. (يوسف/82). يريد أهل القرية، فحذف المضاف، وأقام المضاف اليه مقامه، كما في قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ ربُّكَ ﴾(الفجر/22) والمراد وجاء أمر ربك.

الثاني : أراد يغفر ما أذنبه قومك اليك من صدهم لك عن الدخول إلى مكة في سنة الحديبية ... والذنب مصدر تارة يضاف إلى الفاعل، وتارة إلى المفعول.

وفي قوله تعالى:﴿ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ ﴾(الشرح /2-3).

يقتضي الظاهر نسبة الوزر ووقوع المعاصي اليه (صلی الله علیه وآله وسلم). نجد الإمامية يتأولونها بما

ص: 245


1- التبيان 314:9 .
2- التبيان 314:9 .

يبعد الظاهر. فالمرتضى يرى أن الوزر في أصل اللغة هو الثقل، وانما سميت الذنوب بأنها وزر لأنها تثقل كاسبها وحاملها فاذا كان الوزر كذلك، فكل شيء أثقل الانسان وغمه وكده وجهده جاز أن يسمى وزراً تشبيهاً بالوزر الذي هو الثقل الحقيقي وليس يمتنع أن يكون الوزر في الآية انما أراد به غمه (صلی الله علیه وآله وسلم)وهمه بما كان عليه قومه من الشرك، وأنه كان هو وأصحابه بينهم مستضعفاً مقهوراً فكل ذلك مما يتعب الفكر، ويكد النفس . فلما ان أعلى الله كلمته ونشر دعوته، وبسط يده، خاطبه بهذا الخطاب تذكيراً له بمواقع النعمة عليه ليقابله بالشكر والثناء والحمد ويقوي هذا التأويل قوله تعالى: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ (الشرح /4)(1) .

لأنهما عنده (لا يصحان على مذهبنا لأن الأنبياء لا يفعلون شيئاً من القبائح) (2) وينتهي إلى أن المراد بالآية هو أن الله تعالى لما بعث نبيه (عليه السلام)، وأوحى اليه وأنتشر ،أمره، وظهر ،حكمه كان ماكان من كفار قومه وتتبعهم لاصحابه باذاهم لهم وتعرضهم إياهم ما كان يغمه ويسوؤه ويضيق صدره ويثقل عليه فازال الله ذلك بأن أعلى كلمته وأظهر دعوته وقهر عدوه، وأنجز وعده ونصره على قومه، فكان ذلك من أعظم المنن ، وأجزل النعم) (3).

الإمامة

أصل الإمامة من أهم ما أختلف فيه الإمامية مع المذاهب الاسلامية الأخرى. فقضية وجوب الإمامة. هناك من المسلمين من أوجبها، وفيهم من لم يوجبها، كما أن من أوجبها أختلفت في طريق الوجوب أهو العقل أم السمع ... الخ من حيثيات الأختلاف. ولكنهم على الأقل أتفقوا على ضرورة وجود امام يحفظ الشرع والمهم هنا

ص: 246


1- ظ تنزيه الأنبياء 133.
2- التبيان 10: 372 .
3- المصدر نفسه.

أن الإمامية تقول بوجوب الإمامة على الله تعالى من باب اللطف (1) . وأن العقل هو طريق إثبات وجوبها فليس لنا - هنا - تطبيقات على فهم النص، وإنما هي إضاءة في أصل الإمامة، وأول ما يطالعنا من النصّ القرآني وروده في قضية الإمامة أنه يتمثل في طريق إثباتها الذي أنقسم المسلمون فيه إلى فريقين بين قائل أنها بالاختيار، وهم المعتزلة والأشعرية، والخوارج (2)، والقائلين بالنص : اما بالاسم، أو الصفة، وهم الإمامية (3)، والزيدية، والبكرية، ومعهم ابن حزم (4) على اختلاف في ذلك.

فالإمامية يقولون بوقوع النصّ من الباري تعالى على الإمام (عليه السلام)بنص القرآن الكريم، ويوردون على ذلك آيات عديدة دليلاً على مايرونه.

ومن أهم تلك الايات:

الآية الأولى:

قوله تعالى:﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلوةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوة وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ (المائدة/55). يستدل الشيخ الطوسي بهذه الآية وآيات أخرى على أنها نص) متواتر )(5) على أن الإمام علي بن أبي طالب(عليه السلام) هو الإمام، ويكاد يجمع مفسروا الإمامية ومتكلموهم على وجه الاستدلال بهذه الآية، وينقسم على الأقسام الآتية:

1 - دلالة إِنَّهَا حيث يرى الشيخ الطوسي والعلامة الحلي أن وجه الاستدلال

ص: 247


1- ظ المرتضى الامالي ،2 :323 الشافي ص ،4 ، 6 ، 9 ،وغيرها الطوسي تلخيص الشافي 1: 69 العلامة كشف المراد 388.
2- ظ القاضي عبد الجبار المغني في أبواب التوحيد والعدل ،20 ، 1 ص 120-121 تحقيق عبد الحليم محمود وسليمان ،دینا، مصر، مطبعة القاهرة، عبد القاهر البغدادي (ت 429ه_): أصول الدين ص 279 مطبعة الدولة استنبول ط13461ه_ 1928م ، الباقلاني (ت 403ه_) : التمهيد في الرد على الملحدة 178 تحقيق محمد عبد الهادي أبو ريدة و محمود محمد الخضيري مصر 1947.
3- ظ المفيد أوائل المقالات 44 الطوسي: الاقتصاد ،313 العلامة الحلي: كشف المراد 229.
4- ظ ابن حزم ( علي بن احمد ت 456ه_): الفصل في الملل والاهواء والنحل 4: 107.
5- ظ النكت الأعتقادية ص 50 -49 .

فيها أنها تفيد الحصر، وهو أمر معروف عن أهل اللغة، وقد حكم فيه مرجعية اللغة؛ لأن لفظ (ان) للإثبات و (ما) للنفي... ولا يجوز أن يردا على موضع واحد ضرورة، ولا ورود النفي إلى المذكور وصرف الإثبات إلى غيره بالإجماع، فتعين العكس وهو المطلوب (1).

2 - دلالة لفظ وَلِيُّكُمُ ، حيث يرون أن المراد بها في الآية (من كان متحققاً بتدبيركم والقيام بأموركم وتجب طاعته عليكم )(2)والمستحق لوصف الأولى، وهو معلوم عند أهل اللغة، حيث يقولون: فلان ولي ،المرأة، إذا كان أولى بالعقد عليها، وفلان ولي الدم إذا كان له المطالبة بالقود والدِّية والعفو، ويقولون ولي عهد المسلمين للمرشح للخلافة (3).

3 - الاستدلال بأن لفظ ولي إنما افاد معنى الإمامة؛ لأن قوله تعالى:﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا ﴾لا يقصد به جميع المؤمنين، بل بعضهم الذي أختص بالوصف التابع للتخصيص، وهو قوله تعالى: ﴿َالَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَوَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَوةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ وقد علم أن ايتاء الزكاة لم يكن امرا مستغرقا لكل المؤمنين، بل بعضهم وهو علي بن ابي طالب ام الذي دلت الروايات على أنه هو الذي انطبق عليه هذا الوصف (4).

4 - الإجماع على أنها نزلت فيه (عليه السلام)، حيث يتفق الطرفان المختلفان في دلالة الآية أنها نزلت فيه (5).

ص: 248


1- ظ الطوسي تلخيص الشافي 2 :15 العلامة الحلي أنوار الملكوت 225 نهج المسترشدين 105 كشف المراد 394.
2- ظ المرتضى الشافي ،122 ،134 الطوسي الاقتصاد 319 تلخيص الشافي 2: 10 العلامة الحلي: كشف المراد 394 نهج المسترشدين ص 106.
3- الطوسي: الاقتصاد 319 التبيان 3: 549 .
4- المرتضى الشافي ،123 الطوسي الاقتصاد ،320 التبيان 3 549 تلخيص الشافي 2: 15 العلامة الحلي: أنوار الملكوت ص ،226 كشف المراد 394 .
5- الطبري: جامع البيان 6: 186 الطوسي التبيان :3 :551 السيوطي الدرر المنثور 2: 293 .

الآية الثانية:

قوله تعالى: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّقٌ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِى الظَّالِمِينَ ﴾(سورة البقرة/124).

ويستدل متكلمو الإمامية بالآية على أن لفظ ﴿عَهْدِى﴾ قصد به الإمامة(1). وذلك أن قوله تعالى:

﴿ عَهْدِى﴾ إذا كان لفظاً مشتركاً، وجب أن يحمل على ما يصلح له، ويصح أن يكون عبارة عنه، فيقال عند ذلك ان الآية دلت على أن كل ماتناوله اسم العهد لاينال الظالم(2) ومن هذا الباب ترد الآية عندهم في مقام الاستدلال على عصمة الإمام؛ لأن الآية اقتضت نفي الإمامة عمن كان ظالماً على كل حال... ولا أحد ممن ليس بمعصوم يؤمن ذلك منه، ولا يجوز فيه، فيجب بحكم الآية أن يكون من يناله العهد معصوماً)(3).

الآية الثالثة:

قوله تعالى: ﴿يَأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلَغَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾(المائدة/67).

حيث يستدل بها على النصّ المتواتر على الإمام علي(عليه السلام)كما يرى الشيخ المفيد (4) وهو ما أيده الشيخ الطوسي بايراده كون احد وجوه سبب نزولها ماقاله الإمامان الباقر والصادق(عليه السلام)ان الله تعالى لما أوصى إلى النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)أن يستخلف علياً، كان يخاف أن يشق ذلك على جماعة من اصحابه فأنزل الله هذه الآية تشجيعاً له على القيام بما أمره بأدائه (5).

ص: 249


1- ظ المرتضى الشافي ،183 الطوسي: التبيان 1: 449.
2- المصدران السابقان انفسهما.
3- المصدر نفسه، وأنظر الطوسي تلخيص الشافي 253 .
4- النكت الاعتقاد ص 49 .
5- التبيان 3:574

ويربط العلامة الحلي نزول الآية بيوم الغدير وما جاء فيه من بيان فضل الإمام علي(عليه السلام) في إعلان النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)لولايته على المؤمنين إمتثالاً للخطاب الذي جاء في الآية حيث قال في ذلك اليوم: ((من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم وال من والاه وعادِ من عاداه وأنصر من نصره ))إذ الولي هو الأولى بالتصرف، ولعدم صلاحية غيره ههنا(1).

الآية الرابعة:

قوله تعالى : ﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تطْهِيرًا ﴾ (الاحزاب/33). يرى الشيخ المفيد ومعه الإمامية أن الآية نزلت في حق الخمسة أصحاب الكساء (عليه السلام) : الرسول ،وعلي وفاطمة وأبنيهما، وأنها نزلت في بيت أم سلمة، وأنه(صلی الله علیه وآله وسلم)غطاهم بكسائه، وتلا الآية بدلالة الإجماع على أنها نزلت عليه حينها (2).

ويرى الشيخ المفيد والشيخ الطوسي أن الآية دالة على العصمة من الذنوب، لأن الذنوب من أرجس الرجس والارادة هنا خبر عن وقوع الفعل خاصة، ولا وجه في رأيهما لاستدلال من قال أنها نزلت في نساء النبي بدلالة السياق. وهما يحتكمان في ذلك إلى مرجعية اللغة واستعمالات اللسان العربي، وذلك (أن من عرف شيئاً من اللسان وأصله لا يرتكب هذا القول، ولا توهم صحته؛ وذلك أنه لاخلاف بين أهل العربية أن جمع المذكر بالميم وجمع المؤنث بالنون، وأن الفصل بينهما بهاتين العلامتين ولا يجوز في لغة القوم وضع علامة المؤنث على المذكر، ولا المذكر على المؤنث، ولا استعملوا ذلك في حقيقة ولا مجاز)(3).

ويقوم الاستدلال بالآية عند المرتضى على استفادة وقوعها في إثبات العصمة لهم(عليهم السلام) ذلك أن لفظ (انما) يفيد الحصر والاختصاص الذي يتأكد فيهم (عليهم السلام)بدلالة

ص: 250


1- ظ أنوار الملكوت ،226 ، كشف الحق ،88 ، كشف المراد 394 (بتصرف).
2- الفصول المختارة ،32-31 المسائل السروية 25 الطوسي: التبيان 8 :340 .
3- المصدر نفسه.

ان ارادته تعالى يستحيل تخلفها عن المراد؛ لقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾(يس /82) (1).

ويستفيد العلامة الحلي اضافة لما مر من دلالة حديث الكساء واستناد الإمام علي (عليه السلام)اليه في إدعاء الإمامة لنفسه فيكون صادقاً، وبالتالي دلالة الآية على العصمة لآل البيت (ع)(2).

وهناك العديد من الآيات التي يستند اليها متكلموا الإمامية في إثبات النص بالإمامة والعصمة للامام، وأفضليته وباقي صفاته، كقوله تعالى: ﴿ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ ﴾ (آل عمران/61).

وكقوله تعالى: ﴿اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّدِقِينَ ﴾ (التوبة (119). وقوله تعالى: ﴿ قُلْ لَا أَسْلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ﴾ (الشورى/23).

وقوله تعالى: ﴿ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ﴾ (النساء/59).

وقوله تعالى:﴿ وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ، وَالْمُؤْمِنُونَ ﴾ (التوبة/105). وغيرها (3).

المعاد

يرى الإمامية اسوة بسائر متكلمي المذاهب الاسلامية إثبات المعاد ووجوبه وكونه شاملاً، وهو الأصل الثابت في كل الديانات السماوية، ونلاحظ هنا أن النص

ص: 251


1- ظ الشافي 181.
2- كشف الحق 88.
3- للتفصيل في وجوه الاسدتلال وابعاد فهم المتكلمين لتلك النصوص راجع الشيخ المفيد الافصاح في امامة أمير المؤمنين والنكت الاعتقادية المرتضى الشافي في الإمامة الطوسي تلخيص الشافي ج-2، العلامة الحلي: الألفين، كشف المراد كشف الحق.

القرآني ترد الاستفادة منه في هذا الأصل ضمن مجموعة عناوية تتعلق بصحة وقوع العدم، وكيفية المعاد، وحقيقة ما يحدث فيه مما يقع ضمن السمعيات نلاحظ مثلاً استفادة متكلميهم صحة وقوع العدم من قوله تعالى : (1)﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وجه رَبِّكَ ذُو الْجَلَلِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ (الرحمن/26-27)، وقوله تعالى: (الرحمن/26-27)، وقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ (القصص /88).

ويستفيد الشريف المرتضى إثبات المعاد من خلال رده تعالى على الدهرية في انكارهم البحث (2) في قوله تعالى: ﴿ وَقَالُوا أَوذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَنَّا أَعِنَا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا قُل كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا أَوْ خَلْقًا مَمَا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِى فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾(الاسراء/49-51).

وأنه تعالى ضرب مثلاً على البعث والنشور ووقوعهما بقوله تعالى: ﴿وترى الأَرْضَ هَا مِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ ﴾(الحج /5) .

ومما ردَّ به تعالى على الدهرية والملحدة منكري البعث (3)في قولهم﴿ أء ذَا مِتْنَا وَكُنَّا نُرَاباً ذَلِكَ رَجَعُ بَعِيدٌ ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿ وَأَحْيَيْنَا بِهِ، بَلْدَةً مَّيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ (سورة ق/3-11).

كما نلمح أشارته إلى كون المعاد روحانياً وجسمانياً معاً من خلال رده على من أعترض على مسائلة الموؤدة في قوله تعالى:﴿ وَإِذَا الْمَوْءُ دَةُ سُبِلَتْ بِأَتِي ذَنْبٍ قُتِلَتْ ﴾(التكوير /98) فقال: كيف يصح أن يسأل من لاعقل له، ولا فهم. فكان جوابه ان الامة متفقة على أنهم في الآخرة وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات وأفضل الأحوال، وأن عقولهم تكون كاملة، فعلى هذا يحسن توجه الخطاب إلى الموؤدة؛ لأنها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله)(4).

ص: 252


1- المفيد: تصحيح الاعتقاد 231 ، العلامة الحلي كشف المراد 427 .
2- الآيات الناسخة والمنسوخة ص 110.
3- المصدر نفسه ص 111.
4- الامالي 2: 280 .

الباب الثاني : منهج المعتزلة في فهم النص القرآني

اشارة

الفصل الأول : العقل ودوره في فهم النص القرآني

الفصل الثاني: أسس وأصول منهج المعتزلة في فهم النص القرآني

الفصل الثالث: نماذج تطبيقية في فهم النص القرآني

ص: 253

مدخل المعتزلة : الجذور والنشأة

تصدت المئات من المؤلفات في الفلسفة وعلم الكلام قديمة وحديثة إلى التعريف بالمعتزلة، وبيان بداية ظهورها، ومراحل تطورها، وأثرها في الواقع الفكري الاسلامي وهذا مما يجعل البحث يميل إلى الاختصار الشديد في عرض الجانب التأريخي الذي أغنته تلك المصادر(1) .

البدايات يحاول المعتزلة أن يربطوا بدايات ظهور مذهبهم الكلامي بجذور الاسلام الأولى . فهذا صاحب الطبقات حين يعد الطبقة الأولى منهم ينسبها إلى الخلفاء الراشدين الاربعة (رض) والثانية إلى الحسنين (ع) ، ومحمد بن الحنفية، وغيرهم من الصحابة ولايرد ذكر واصل بن عطاء (ت 131 ه_)، وعمرو بن عبيد (ت 143ه_) الافي الطبقة الرابعة منهم(2) في الوقت الذي ترجع أغلب المصادر التاريخية بداياتهم إلى هذين العلمين، وتربطها خصوصاً بواصل بن عطاء الذي كان اعتزاله لحلقة أستاذه الحسن البصري (ت 110ه_) بعد خلاف حول ( مرتكب الكبيرة) فقال الأستاذ كلمته الشهيرة: اعتزلنا واصل) (3) بداية لأحد أصول المعتزلة الخمسة، وهو المنزلة بين

ص: 254


1- انظر مثلا من القديمة : الإمام الأشعري (أبو الحسن علي بن اسماعيل ت 330ه_) مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين 1: 216 وما بعدها / تح- محمد محي الدين عبد الحميد / مصر النهضة 1369ه_ 1950م عبد القاهر البغدادي (ت 429ه_) : الفرق بين الفرق) 114 وما بعدها الشهرستاني الملل والنحل 1 43 وما بعدها تحقيق محمد سيد كيلاني. ومن الحديثة د. النشار (علي سامي) نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام ص 255 وما بعدها، د. عرفان عبد الحميد: دراسات في الفرق ص 100 وما بعدها.
2- ظ ابن المرتضى (أحمد بن يحيى) ت 480 ه_ المنية والأمل (طبقات المعتزلة) 3-2.
3- ظ البغدادي: الفرق بين الفرق ص 118 .

المنزلتين، كما هو بداية لاتجاه فكري كان له أثره العظيم في النتاج الفكري الاسلامي وهذه الحادثة كما يرى أغلب المؤرخين هي السبب الرئيس في تسميتهم بالمعتزلة(1) ولا مجال هنا للتفصيل بعد أن توسعت فيه تلك المصادر المارة الذكر وبينت فرق المعتزلة وطبقاتها وأقطابها.

الاصول المعتزلة كحال باقي المذاهب الاسلامية تتعدد الفرق التي تنضوي تحتها، وتتميز بطابع خاص ومنهج ذي أصول وأتجاهات تنتمي جميعاً إلى مدرسة واحدة ذات كيان تقوم ركائزه الفكرية على أصول خمسة (هي أشبه ما تكون بالاعمدة الخمسة التي لاينال شرف الانتساب اليهم الاّ من قام فكره على أساسها وقواعدها)(2).

هذه الحالة وتحديد معيار للاعتزال نجدها جلية في كلام قطبهم الخياط (أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان (ت 300ه_) الذي يقول: (وليس يستحق أحد منهم اسم الاعتزال حتى يجمع القول بالاصول الخمسة: التوحيد، والعدل، والوعد والوعيد والمنزلة بين المنزلتين والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فاذا كملت في الانسان هذه الخصال، فهو معتزلي)(3)

ويرجع تحديد هذه الأصول الخمسة كاسس للعقيدة عند المعتزلة إلى ضرورات املتها طبيعة الظروف، والواقع الفكري الذي انبثق فيه الاعتزال، وطبيعة المهمة الجسيمة التي تصدى المعتزلة لتحمل جزء مهم منها - تجاه مخالفي الاسلام أسوة بباقي المذاهب الاسلامية - وكذلك المتعلقة بالقضايا المطروحة في الساحة الفكرية،

ص: 255


1- المصدر نفسه / وأنظر الاسفراييني (أبو المظفر ت 418 ه_) التبصير في الدين 60.59 وهو ما يؤيده القاضي عبد الجبار المعتزلي في شرح الاصول الخمسة 137، 138 .
2- د. محمد عمارة : المعتزلة ومشكلة الحرية الانسانية 43 المكتبة العالمية بغداد ط2 1984م.
3- الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد 126 تحقيق ونشر نيبرج 1344ه_- 1925م.

وهو أمر يحدده القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمداني (ت 415ه_) في جوابه لمن سأل عن سبب الاقتصار على تلك الأصول؛ إذ يقول : لاخلاف ان المخالفين لنا لا يعدو أحد هذهِ الأصول، الاترى ان خلاف الملحدة والمعطلة والدهرية، والمشبهة قد دخل في التوحيد وخلاف المجبرة بأسرهم دخل في باب العدل، وخلاف المرجئة دخل في باب الوعد والوعيد، وخلاف الخوارج دخل تحت المنزلة بين المنزلتين وخلاف الإمامية دخل في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) (1).

وستتبين خلال سير البحث تفاصيل مهمة عن هذه الأصول وطبيعة فهم المعتزلة للمرجعيات التي انبثقت حدودها عنها. وهذا ما يغني عن الخوض في تفصيلاتها. ولابدَّ قبل الخوض في تفصيلات هذا الفصل - من الاشارة إلى أن البحث يكاد يعتمد في خصوص منهج المعتزلة في فهم النص القرآني على القاضي عبد الجبار لأنه أكثر المعتزلة تصدياً للكشف عن دلالات النص الكريم، وأكثرهم تأليفاً في هذا الباب مع الأخذ بنظر الاعتبار ضياع أكثر مؤلفات المعتزلة الكلامية. وسيكون لغيره دورهم في انكشاف أصول هذا المنهج الاعتزالي بحسب ورود النصّ القرآني عنهم، إثباتاً لآرائهم أورداً لمخالفيهم.

ص: 256


1- شرح الاصول الخمسة 124.

الفصل الأول : العقل ودوره في فهم النص القرآني

اشارة

ص: 257

المبحث الأول : مفهوم العقل

تتجلى لنا مع المعتزلة ملامح مدرسة مهمة قامت على أساس محاولة التوفيق بين الوحي الالهي

(الشريعة) ، والعقل الانساني (الحكمة) وشهد دور العقل ازدهاراً كبيراً في الفترة التي طغى فيها الاعتزال على الساحة الفكرية الاسلامية، وخصوصاً في القرنين الثاني والثالث الهجريين، ومَثَّل موقفهم منه تفردا وسمة طبعت اصولهم بطابعها وربما كانت سبباً رئيساً للصدام والخلاف مع المذاهب الأخرى، والذي نتج عن تخويلهم العقل دوراً قيادياً بولغ فيه حدا عاد معه النص (المرجعية المركزية) دائراً عندهم - في فلك العقل، وخاضعاً في أغلب الأحيان لاسسه وضوابطه، فصار العقل هو المرجع الأساس.

ومفهوم العقل عندهم يراد به العقل العام الذي يمثل حداً مشتركاً بين العقول وليس العقل الفردي وهم يربطونه بقضيتين رئيستين هما العلوم الضرورية والتكليف. وهذا ما يتبين بوضوح من خلال تحديد القاضي عبد الجبار للعقل؛ فهو عنده (عبارة عن جملة من العلوم مخصوصة متى حصلت في المكلف صح منه النظر والاستدلال والقيام بأداء ماكلف) (1).

هذا الارتباط بين العقل والتكليف تتجلى فيه أهمية العقل وحكمة وجوده في النوع البشري كطريق يستند اليه في حصول المعرفة الضرورية كمقدمة لقيام أصل التكليف. فلما كان العلم بذلك الشيء مما لا يكون الا ضرورياً، فلا بد من أن يخلقه وحتى مع احتمال عدم ضروريته وكونه أمراً مكتسباً، فأنه من الحسن أن يخلقه

ص: 258


1- المغني في أبواب التوحيد والعدل 11: 380 الجزء الخاص بالتكليف تحقيق محمد علي النجار، عبد الحليم وزارة الثقافة والارشاد القومي / مصر 1385ه_ 1965م ، المصدر السابق نفسه 11: 372 .

تعالى فيه؛ ليصح( ان يعلم ويؤدي ماعلمه على الوجه الذي كلف)(1).

هذه القدرة عند العقل على العلم بالضروريات تتبعها قدرة مهمة أخرى على التمييز بين الأفعال فهو كما أنه محتاج للقدرة على أصل الاحداث للأفعال لأداء التكليف المأمور به، فأنه كذلك يحتاج إلى(أن يكون عالماً بما كلف به، وصفاته، والفصل بينه وبين غيره؛ ليصح أن يقصد إلى احداثه، وليصح أنه قد أدى ما كلف به)(2) .

من هذا المنطلق بالذات نجد القاضي عبد الجبار يجعل العقل أصلاً لوجوب المعرفة وهو ما أختلفت فيه المعتزلة والإمامية ( العدلية) مع الأشاعرة، وتمخضت عنه قضية التحسين والتقبيح العقليين التي ترتبط بها مسألة العلاقة بين النبوة والعقل. وهو ما يتناوله المطلب القادم ولكن ما يجب التأكيد عليه - هنا - أن مفهوم العقل عند المعتزلة يتحدد في ضوء وظيفة العقل التي تشكل معياراً مهماً في فهم ،ضرورته وحكمة وجوده، كمناط للتكليف الذي هو سبب في أصل الخلقة، كما عبرت الآية الكريمة وهي قوله تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾(3)(الذاريات/56) ولما كان أصل التكليف مما يتساوى فيه كل العقلاء، فلا بد من تساوي العقول فيهم جميعاً، انطلاقاً من أصل العدل الذي هو الركيزة الأخرى في أصول المعتزلة وهذا ما يجعل العقل وفق هذا المفهوم غير قابل - في حدود التكليف - للزيادة والنقصان وذلك ما دفع المعتزلة الى رفض ان يسمى العقل (جوهراً أو آلة أو حاسة، أو قدرة ... وذلك لأن الجواهر والآلات والحواس والقدرة مما يقع فيها الزيادة والنقصان) (4).

ص: 259


1- القاضي عبد الجبار المصدر نفسه 11: 372 .
2- المصدر السابق نفسه 11: 372 .
3- القاسم بن إبراهيم بن اسماعيل الرسي (ت 246 ه_ : أصول العدل والتوحيد ضمن رسائل العدل والتوحيد) ص 96 تحقیق محمد عمارة مطبعة دار الهلال / مصر / 1971م.
4- المغني 11: 380.

المبحث الثاني: النبوة والعقل

يؤكد المعتزلة وجود علاقة وثيقة بين العقل والنبوة، وحاجة كل منهما إلى الآخر. وكما أن العقل أصل واجب يقتضيه التكليف، فالنبوة عندهم واجبة على الله تعالى بضرورتها للعقل ومساندتها .لادلته. فالنبوة لاتعرف الا بالعقل، فضلاً عن أن أصل الألوهية لا يثبت الاً بالعقل، وبالتالي فالعقل هو أصل الأصول (1) عندهم وبه أوجبوا الأصول والمعارف الضرورية قبل ورود السمع فقالوا بأن أصول المعرفة وشكر المنعم واجبة، قبل ورود السمع (2) وهكذا يمكن للعقل الاستقلال عن النبوة ابتداء في الضروريات مما لا تقتضي سمعاً، وأن (النبوة) تنضوي تحت عنوان اللطف من الباري تعالى الذي يجب نتيجة له ورود التكاليف إلى العباد حيث يتم ذلك بتوسط الأنبياء (ع) امتحاناً واختباراً :﴿ ليَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَى عَنْ بَينَة ﴾(3) (الانفال /42).

وتتبين استقلالية العقل ابتداءاً عند المعتزلة في اجلى مصاديقها من خلال قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين، حيث يقوم هذا الأصل المنهجي المعياري في أفعال العباد عموماً على وثوق المعتزلة بقدرة العقل على الحكم مستقلاً.

وهذه النظرية تمتد بجذورها إلى ملل ومذاهب سابقة على الإسلام وقف المعتزلة أنفسهم ضدها في كثير من المواقف دفاعاً عن العقيدة. ومن تلك الملل التناسخية، والثنوية والبراهمة (4)كما نجد لها جذوراً في محيط الفكر الاسلامي عند الجهم

ص: 260


1- ظ محمد عمارة : تيارات الفكر الاسلامي 70 71 (بتصرف).
2- الشهرستاني الملل والنحل 1: 45.
3- المصدر السابق نفسه 1: 45 .
4- ظ د. عبد الستار الراوي: ثورة العقل في فكر معتزلة بغداد 40 منشورات وزارة الاعلام العراق 1982 .

بن صفوان الذي حكم( بايجاب المعارف بالعقل قبل ورود السمع )(1)وتقوم هذهِ النظرية على تحييد دور النبوة في موقف فكري عقلاني يمثل واقعية تحفظ للعقل البشري مكانة تستوجبها قدراته الفطرية الممكنة من الاستقلال بالحكم، والتي تقتضيها طبيعة الدور الذي تحمله اياه الارادة الإلهية في الخلافة في الارض، كما تحفظ للعقل دوره الفعال حتى مع نزول النبوات في حاكمية العقل نفسه عليها؛ لبناء مصداقية أولية تمثل منطلقاً لقبول حاكميتها التفصيلية فيما لا مجال للعقل أن يحكم فيه.

وهذه النظرية ترتبط بقضية مركزية تنبثق عن الأصل الثاني من أصول الاعتزال، وهو العدل، وتقوم على كلية معيارية: ان الله عادل وان اعماله لغاية، وسبيله العدل اليها)(2) ومع ورود السمع عن الباري، أو عدم وروده فهذه الصفة ثابتة في الذات الإلهية بل هي عين الذات كما هو مقتضى مسلكهم في الصفات الإلهية وبالتالي فأن ما تستلزمه أن يكون للأشياء بحكم العقل في ذاتها حسناً أو قبحاً. فان الفعال الحسنة فيها حسن ذاتي جعلها كذلك، والأعمال القبيحة فيها ذاتها ما يجعلها كذلك(3).

وهم لا ينكرون أن يكون للشرع (النبوة) دور في التعرف إلى حسن الاشياء وقبحها بل يثبتون للشرع فضل اخبارنا بذلك الحسن أو القبح فيها، أما القدرة على التمييز لاصل هذا الحسن والقبح مع عدم وجود الشرع، فهي خاصة للعقل، ولذلك فان الأوامر والنواهي الصادرة عن الشرع هي من لوازم كون الأشياء حسنة أو قبيحة بذاتها. فهو( ليس مستقلا في امره ونهيه بل تابعا لما في الاشياء ذاتها من حسن وقبح )

ص: 261


1- الشهرستاني: الملل والنحل: 1: 88 .
2- ظ د عبد الستار الراوي: ثورة العقل 41.
3- ظ القاضي عبد الجبار المغني 6: 18 (التعديل والتجوير) تح_: أحمد فؤاد الاهواني مصر ط1، 1382ه_ - 1962 م.

(1) ونلاحظ أن هناك تدرجاً موضوعياً لا ترتيبياً في مراحل كشف الحسن والقُبح، وتفعيل دور العقل في الأفعال والأشياء :

فمنها ما يخضع للنظر بفائدة الصدق وضرر الكذب وبالتالي فالحسن والقبح هنا من الضروريات الا أن هناك من الأفعال ما يعجز النظر عن تحديده، فهنا يأتي دور العقل الذي يتولاها ويستكشف وجوه الحسن والقبح فيها وهو هنا يتفرد في المرجعية الا أنه يترك مالا دور له فيه إلى الحاكم به فالعبادات، وهي الفروع الخارجة عن اطار حكم العقل، وقبله النظر؛ لأن مهمة تفصيلها وبيانها تمثل مصداق مرجعية الشرع (2)التي لا يسمح المعتزلة لانفسهم ان ينكروها، ولكنهم في الوقت نفسه يجدون لها ما يربطها بنظرية التحسين والتقبيح العقليين حيث يشترطون في هذه العبادات (أن يكون التوجه اليها لوجه وجوبها، فعلاً للحسن وتركاً للقبيح أي طلباً للنفع ودفعاً للضرر ، لارجاءً في الجنة أو خوفاً من النار) (3).

هذه الحاكمية للعقل لها منطلق رئيس يمثل سمة مهمة في علاقة العقل بالنبوة في المنظورالاعتزالي، يتمثل في أن العقل والنبوة لا يتعارضان ولا يصطدمان، وانما هما متعاضدان (فالعقل يدرك الخير والشر، والحسن من القبيح، وان الشرع يأتي مؤيداً لما أقره العقل)(4).

فهما يتبادلان المرجعية كل حسب اختصاصه فما ينضوي الحكم فيه ابتداءاً تحت نطاق العقل، فالمرجعية فيه اليه ( حيث - يجب على الحكيم بمقتضى العقل والحكمة ثواب المطيع، وعقاب العاصي )(5).

ص: 262


1- المصدر نفسه (بتصرف) .
2- ظ القاضي عبد الجبار المغني ،6:18 ، 20 ، د. عبد الستار الراوي: ثورة العقل 41-42 .
3- القاضي عبد الجبار :شرح الاصول الخمسة 307.
4- ظ محمد جواد مغنية : فلسفات اسلامية 378.
5- ظ محمد جواد مغنية : فلسفات اسلامية 378.

وأما الشريعة النبوية، فدورها يتمثل في (مقدرات الاحكام، ومؤقتات الطاعات، مما لا يتطرق اليها عقل ... فتوقيت الثواب والعقاب والتخليد يعرف بالسمع)(1) هكذا قسموا الاختصاصات بين العقل والسمع.

ومع ذلك فهم لم ينفوا احتمال وقوع التعارض بينهما، الا أن هذا التعارض ليس حقيقياً، وإنما هو ظاهري يكمن حله في تحكيم المرجعية للعقل بتأويل الدلالة الشرعية إلى ما يوافق العقل، انطلاقاً من أهم ركائز المنهج الاعتزالي في كون العقل اصلاً، والسمع فرعاً يحتاج في إثباته إلى الأصل مع تأكيد وحدة المصدر لكليهما فالناصب لادلة النبوة، وما يترتب عليها من شرع ناصب لادلة العقل وهو الله تعالى)(2).

واجمال موقفهم من هذه القضية يقوم على أن العقل يستطيع أن يصل إلى كليات الاحكام المتصلة بالله وصفاته من التوحيد والعدل، ووجوب شكره، كما أنه يمكن أن يعرف الحسن والقبح اجمالاً، بينما تنفرد الشريعة بالكشف عن طرق الوصول إلى هذه الكليات وكيفية أداء هذهِ الواجبات العقلية. فالعقل لا يمكنه معرفة مقادير الطاعات ومواقيتها، لذلك يحتاج إلى الشرع لبيانها، وتعريفه بها (3).

وبالتالي نلاحظ ان علاقة العقل بالنبوة (الشرع) تتمثل عند المعتزلة في حالتين متعارضتين ظاهراً، وان اتفقتا موضوعاً :

الحالة الأولى: حالة الفصل بين دليل العقل، ودليل الشرع مع الحفاظ على اسبقية دليل العقل، وكونه أصلاً لدليل الشرع وهذا ما تمثلت انعكاساته على نظرية التحسين والتقبيح العقليين. وكان تحديد اختصاصات كل من العقل والشرع مصداقاً

ص: 263


1- الشهرستاني: الملل والنحل 1 :81 .
2- ظ حسني زينة : العقل عند المعتزلة 121- 122 .
3- ظ د. نصر حامد الاتجاه العقلي في التفسير 60 دار التنوير بيروت / ط 19821م (بتصرف).

لهذا الفصل وهذه الحالة نجدها موضحة بجلاء عند القاضي عبد الجبار كركيزة منهجية كانت لها اثارها المترتبة على مجمل المنهج الاعتزالي، وخصوصاً في حدود تعامله مع قضايا العقيدة والاستدلال عليها، وتفصيل كلياتها، إذ يصورها على أساس من التنهيج والتعيين لاصول الاستدلال بالنصّ فيقول:

((کلامه تعالى لايدل على العقليات من التوحيد والعدل، لأن العلم بصحة كونه دلالة مفتقر إلى ما تقدم بذلك، فلو دل عليه لوجب كونه دالاً على أصله، ومن حق الفرع أن لا يدل على الأصل؛ لأن ذلك يتناقض )(1).

وأهم ما يريد البحث - هنا - انتزاعه من هذهِ القضية المهمة في المنهج الاعتزالي ،عموماً طبيعة تأثيرها وانعكاساتها على منهجهم في فهم النص القرآني على وجه الخصوص فهذه العلاقة تتبين تاثيراتها في العديد من المفاهيم والمعالجات والتطبيقات وأصول حاكمية العقل في فكر المذهب.

الحالة الثانية: تمثل ركيزة أخرى في المنهج الاعتزالي وموقف يتخذه المعتزلة كمظلة حماية من الوقوع في مغبة التغريب في المنهج، وضياع الارضية التي تستند اليها اسس البناء المنهجي، وذلك بتشبيك أواصر الصلة بالنص المركزي للعقيدة من خلال تأكيد ان المنهج وإن اعتمد أصل العقل كمرجعية أساس، الا أن ذلك منطلق من حالة الاتفاق والتكامل المبدئي بين العقل والشرع وهذا ما ينبثق عن كلية أساسية يعني تجاهلها الوقوع في المحاذير السابقة الذكر هذه الكلية تتمثل في عدم التعارض بين الدليلين الا ظاهراً فهما ،متفقان ومتطابقان لا يمكن مطلقاً أن بتناقضا.

وبالتالي فالشرع - ممثلاً في خطابه المركزي (القرآن) - لا يمكن أن يأتي بما ينافي ما في المرجعية المركزية (العقل)، وقد نصبا من قبل جهة واحدة، والاً أقتضى ذلك نسبة التناقض اليها، وهذا محال . يقول القاضي عبد الجبار (ان) الرسول المؤكد لما في العقول

ص: 264


1- المغني 16: 403( اعجاز القرآن) تحقيق امين الخولي وزارة الثقافة والارشاد القومي، مصر 1380ه_ 1960.

بمنزلة تواتر أدلة العقول فاذ حسن منه تعالى نصب دليل بعد دليل فكذلك القول في بعثة الرسول) (1). فغاية الأمر أن الشرع لاينفرد في الاستدلال ابتداءاً.

يقول القاضي عبد الجبار( ليس في القرآن الا ما يوافق طريقة العقل، ولو جعل ذلك دلالة على أنه من عند الله من حيث لا يوجد في أدلته الا ما يسلم على طريقة العقول ويوافقها، إما على جهة الحقيقة او على المجاز ، لكان أقرب ) (2).

ويؤكد ثبوت معيارية هذهِ القضية في المنهج الاعتزالي عموماً وآثارها المنعكسة على أصول المعتزلة بقوله: (أن) سائر ماورد به القرآن في التوحيد والعدل ورد مؤكداً لما في العقول . فأما أن يكون دليلاً بنفسه يمكن الاستدلال به إبتداءً فمحال)(3).

أن هذهِ التحديدات والتقنينات المنهجية كانت سلاح المعتزلة الفعال في وقفتهم العقائدية بوجه التيارات الإلحادية والباطنية. المعادية للاسلام، كما كانت ذات تاثير كبير في تأجيج ثورة العقل المنتفضة بوجه الجمود الذي كان يسري كنتيجة تفرضها سيطرة الاتجاهات الحشوية، والظاهرية وأهل الحديث، حيث مثل هذا الاتجاه دافعاً تثويريا في بنية الفكر السائد أدى إلى كشف تلك الاتجاهات، واستفزازها للخروج من قيود كبَّلت النصّ المركزي المتحرر أصلاً، بل حملته ما يعيق تفجير امكاناته الذاتية المحمَّل بها، وبالتالي عطلت النص عن أداء مهمته المركزية في قيادة حركة التغيير العقائدي في ضوء مناهج فاعلة سلّح بها كاساس لعملية التغيير تلك.

ولولا افراط المعتزلة في تحميل العقل سلطة ذات طابع تقديسي متسلط أدى

ص: 265


1- المغني 15: 20-19 ( التنبؤات والمعجزات) تح_ محمد الخضيري ومحمود ،قاسم وزارة الثقافة والارشاد القومي مصر 1385ه_ 1965م.
2- المصدر نفسه 16: 403 .
3- المصدر نفسه :4: 174 (رؤية الباري)، تحقيق محمد مصطفى حلمي ابو الوفا الغنيمي التفتازاني وزارة الثقافة والارشاد القومي، مصر 1965م.

بهم إلى شيء من الانقطاع عن الجذور ، لكان واقع الساحة الفكرية الاسلامية يشهد للاعتزال وجوداً كبيراً ولما اندثر الاعتزال مذهباً كلامياً يمتلك كل عناصر القوة الذاتية. الاً أن هذا التفريط وتلك المهمة المتخلى عنها، كان لها أن تترك بصماتها الواضحة فيما بعد بظهور طلائع منهج الأشاعرة الذي حاول تحاشي الوقوع في الثغرات التي وقعت فيها المعتزلة، وتحجيم دور العقل، وتأكيد سلطة النصّ المركزي الذي هو وحده الاحق بالطابع التقديسي، ليقينية ،عصمته، وشمولية حاكميته.

ص: 266

المبحث الثالث: ترتيب المرجعيات

ينكشف من نهج الاعتزال - اذاً - قطبا مرجعية يتفاوتان في الاولوية، ويختص كل منهما بطابعه المميز ويتصلان بعلاقات موضوعية تقتضي تفرد كل منهما باختصاصه وفنية تقرب بينهما وتؤدي إلى التكامل بين الدورين تتمثل فيما ينعكس على فهم النصّ الذي يتضمن ما يخاطب العقل ليخوضه ،لوحده كما فيه مالا مجال للعقل الخوض فيه فعليه الوقوف عند اعتابه متعرفاً على ما يكشفه وبؤسسه الخطاب الشرعي من دلالات ،ومفاهيم ومنظور للعقيدة. لكن هذه العلاقات الفنية بين المرجعيتين تقتضي ورود مرجعيات جديدة.

فالمرجعيتان الأوليان، وهما النص نفسه (الشرع )والعقل الذي يحكم ابتداءاً يحملان طابعاً خارجياً عن الواقع المعاش، والظرف الذي يتمثل فيه التكليف ومعه لابد من مدّ أواصر الارتباط مع ذلك الواقع الذي يفرض نفسه، ويطرح حاجات لابد من سدّها، وهو ما حصل فعلاً بيروز دور الرسول كناطق بخطاب الشرع، ومؤد لوظيفة تفعيله في عملية ،التغيير، ثم بروز تمثلات العقل للتفاعل بين الخطاب

والمخاطب، ممثلة في الاجماع .

وهكذا يسلسل المعتزلة ،مرجعياتهم، والاصول المستندة اليها، ونجد ذلك ممثلاً بوضوح في بدايات الاعتزال الأولى مع القاسم بن إبراهيم بن اسماعيل الرسي (ت246ه-) إذ يؤسس لبناء مرجعي يضرب عميقاً بجذوره ويتطاول عالياً بانعكاساته على دور المخاطب في الوصول إلى مقاصد النص، وكشف دلالاته، والتمثل بالتالي الطروحاته، وتفعيل دوره في عملية التغيير، فضلاً عن تثبيت مالا يتقاطع مع اسس

ص: 267

تلك المرجعيات التي يصبها القاسم الرسي في منظومة تشتمل على ثلاث حجج يحتج بها المعبود على العباد وهي:(1)

1 - العقل ، 2 - الكتاب ، 3 - الرسول

وترتبط كل واحدة من هذهِ الحجج بمعرفة تكون طريقاً للوصول اليها؛ لتتظافر بالتالي على تشكيل منظومة معرفة عقائدية:

فحجة العقل جاءت بمعرفة المعبود، وجاءت حجة الكتاب بمعرفة التعبد، وجاءت حجة الرسول بمعرفة العباد (2).

ولايفوته - هنا - أن يلتفت إلى تاكيد أهم سمات المنهج الاعتزالي، قبل أن يبدأ بتفريع أصول هذهِ الحجج، وذلك بتأكيد خصوصية مرجعية العقل؛ إذ هو (أصل الحجتين الأخيرتين؛ لأنهما عرفا به ولم يعرف بهما) (3).

ويقوم تحديد أصل وفرع كل حجة من هذه الحجج على حيثية وقوع الاختلاف فيه، وعدم وقوعه فجعله للشيء أصلاً، يقتضي عدم الاختلاف فيه، بينما يقع ذلك في الفرع وسنلاحظ أن هذه الأصول والفروع المنبثقة عن هذهِ الحجج تشكل ركائز اساسية في عموم الرؤية المنهجية للمعتزلة فأصل المعقول ما أجمع عليه العقلاء، ولم يختلفوا فيه، والفرع: ما أختلفوا فيه، ولم يجمعوا عليه... وأصل الكتاب هو المحكم الذي لا أختلاف فيه، الذي لا يخرج تأويله مخالفاً لتنزيله، وفرعه المتشابه من ذلك فمردود إلى أصله الذي لا اختلاف

ص: 268


1- أصول العدل والتوحيد (ضمن رسائل العدل والتوحيد) 96 .
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه .

فيه... وأصل السنة التي جاءت على لسان الرسول ماوقع عليه الاجماع بين أهل القبلة، والفرع ما أختلفوا فيه عن الرسول (ص)(1).

ونلاحظ - هنا - انبثاق مرجعية رابعة عند القاسم الرسي هي الاجماع الذي نجد الرسي يقرر فاعليته في الحجة الأولى (العقل)، حيث يجعل إجماع أهل القبلة على ما جاء على لسان الرسول أصلاً للسنة، ثم يعيد تشكيل المرجعية حيث يكون المعتمد الاخبار الواردة عن الرسول (ص) فالمختلف فيه من الاخبار عن الرسول (ص) يحتاج إلى الرد إلى (أصل الكتاب ،والعقل والإجماع)(2).

هذه المرجعية ثلاثية الأبعاد نجدها متمثلة في آراء واصل بن عطاء تطبيقاً، وليس على نحو النقنين وتحديد الأصول، حيث يستفيد الغرابي أن واصلاً استعمل في استدلاله على رأيه وإبطال رأي عمرو بن عبيد في مرتكب الكبيرة، واثبات كونه فاسقاً وليس كافراً - وهو مقتضى أصل المنزلة بين المنزلتين من أصول المعتزلة الخمسة - ثلاثة أنواع من الأدلة:(3)

أولاً: الدليل النصي من القرآن الكريم الذي أشارت اليه الآيات التي ساقها.

ثانياً: الدليل العقلي.

ثالثاً: الإجماع، فقد قال - بعد ذكر آراء المخالفين وبين ما أتفقوا عليه وما أختلفوا

ص: 269


1- المصدر نفسه 97 .
2- المصدر نفسه، ويؤيد القاضي عبد الجبار هذا التحديد وتأكيد مرجعية القرآن والاجماع . انظر المختصر في أصول الدين (رسائل العدل والتوحيد) 187.
3- علي مصطفى الغرابي: تاريخ الفرق الاسلامية ونشأة علم الكلام عند المسملين مكتبة محمد علي صبيح مصر ط13782ه_ 1958م.

فيه - فأجمعوا على تسميته (بالفسق)، فنأخذ بالمتفق عليه ولانسميه بالمختلف فيه (الكفر) ، فهو أشبه بأهل الدين.

وإعتبار ،مرجعية ودلالة الإجماع ليست مما يجمع عليه المعتزلة أنفسهم؛ فهذا النظام - فيما ينقله الشهرستاني - يرفض هذه المرجعية، ويرى أن الاجماع ليس بحجة في الشرع)(1) كما يرفض حجية القياس في الأحكام الشرعية، ويجعل الحجية في (قول الإمام المعصوم)(2) ليشترك مع متكلمي الإمامية في ذلك.

ويجمع القاضي عبد الجبار في النهاية مرجعيات المعتزلة في ترتيب الادلة الشرعية على أنها : العقل الكتاب السنة والإجماع (3).

ص: 270


1- المل والنحل 1: 57 .
2- المصدر نفسه .
3- انظر فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة 139 تحقيق فؤاد سيد الدار التونسية تونس 1393ه_ 1974م. ويضم الكتاب كتابين آخرين لكل من أبي القاسم البلخي والحاكم الجشمي .

الفصل الثاني : المنهج المعتزلي في فهم

اشارة

النص القرآني

ص: 271

الأسس والأصول

توطئة:

يتمثل في منهج المعتزلة في فهم النص القرآني ثلاثة محاور رئيسة، تتشكل بموجبها الرؤية العامة لهذا المنهج، وتحدد سماته العامة في ضوئها، ويتجلى من خلالها بوضوح طغیان مرجعية العقل وانعكاس ضوابطها على مجمل عملية فهم النص القرآني والتعامل معه عند المتكلم المعتزلي. هذه المحاور تتمثل في:

1 - تحديد أسس التعامل مع النصّ، وطبيعة المؤثرات المتحكمة في توجيه منهج الكشف عن دلالاته، ومن ثم آليات الاستدلال بها.

2 - تحديد الأصول المساندة للمتكلم في تصديه لفهم النص، وأهمها هنا اللغة، وامكاناتها وضوابط اللسان العربي واستعمالاته، بعد أن يتصدى المحور الأول لبيان بعض تلك الأصول، واسس الاستفادة منها.

3 - تشكيل ركائز الرؤية المنهجية من خلال تمثل خصوصية النصّ في احتوائه على المحكم والمتشابه، وبالتالي تصور ملامح التأويل العقلي تجاه المتشابه؛ لرفع التعارض الظاهري بين مرجعيتي العقل والنصّ، وصولاً إلى تحكيم أصول هذا المنهج الاعتزالي تجاه ما يعارضها .

هذه المحاور الثلاثة تستدعي تناولها تفصيلياً للدخول إلى ساحة التطبيق، وانتزاع ملامح الرؤية النهائية للمنهج الاعتزالي في فهم النص القرآني وهذا ما ستتصدى له المطالب الثلاثة لهذا المبحث.

ص: 272

المبحث الأول : أسس وضوابط فهم النص والمؤثرات فيها

تتناثر في مؤلفات المعتزلة عشرات من الاشارات التنظيرية المنهجية، أو التطبيقية كأسس وضوابط لكيفية فهم النص القرآني والتعرف على منظوره للعقيدة، ومن ثم كيفية اثباتها ورد شبه وهجمات المخالفين وتتوسع النظرة في بعض تلك الأسس والضوابط إلى اطار منهجي عام، بغض النظر عن خصوص فهم النص القرآني؛ إذ تتعداه إلى التأسيس والتنهيج لمرجعية باقي الحجج وهذا المطلب سيتناول هذهِ الأُسس والضوابط مذكراً ببعض ملامحها التي استدعت المطالب السابقة بيانها تفصياً ومظهراً لملامح جديدة، بحيث تنتظم جميعاً؛ لتشكل منظومة ضوابط، واطاراً منهجياً يراقب تطبيق التفصيلات الجزئية، ويتحكم بطبيعة الأداء في التعامل مع النصّ وفق المسلك الاعتزالي العام.

هذه الأسس والضوبط والمؤثرات المنهجية يمكن اجمالها - مع الاشارة إلى مواضعها دون الخوض في التفصيلات الكثيرة التي تعوّم الطابع المنهجي - بما يأتي:

أولاً: تحديد تسلسل للمرجعيات التي تشكل الغطاء الفكري والمعين الذي يستمد منه المتكلم المعتزلي أصول عقيدته، فضلاً عن منهجه في فهم النص القرآني، وقد تناول البحث هذهِ القضية في المبحث الأول، وانتهى إلى رباعية المرجعية عند المعتزلة في :أركان العقل ثم الكتاب ثم الرسول ثم الاجماع مع بعض الاختلافات البسيطة بينهم في طريقة الاستفادة والمعالجة (1).

ص: 273


1- انظر مثلا القاسم الرسي : اصول العدل والتوحيد (رسائل العدل والتوحيد )97/ الشهرستاني: الملل والنحل 1: 57 / القاضي عبد الجبار شرح الأصول الخمسة 142، المختصر في اصول الدين (رسائل العدل والتوحيد 187) فضل المعتزلة وطبقات الاعتزال 139، الغرابي: تاريخ الفرق الاسلامية 86، 91 .

274

مناهج المتكلمين في فهم النص القرآني

ثانياً: تحديد ملامح العلاقة بين العقل والشرع، وإثبات عدم التناقض بينهما، واستناد العقل للشرع، وتحديد اختصاص كلّ منهما وقد مر تفصيل ذلك في المبحث السابق ايضاً (1)

ثالثاً: أولوية مرجعية العقل، وأصالته في الاستدلال ومعياريته في الحاكمية على كل ماعداه من المرجعيات واعتماده في الاستدلال على العقيدة، ومن ثَمَّ دور النصّ، فما وافق العقل أخذ به، وما خالفه يؤول (2)مع تأكيد أن الدليل العقلي لايدخله الاشتراك، والمجاز والاستعارة، وهو فرقها عن أدلة القرآن وغيره(3) .

رابعاً: تحديد أبعاد العقيدة، وتثبيت أصولها التي تمثل معيارية على الفروع والتفصيلات ليتم المقايسة اليها. ومن الاشكال التي يمكن الاشارة اليها إجمالاً في هذا الصدد:

1 - تحديد تلك الأصول والفروع، ثم الحكم بالاخذ بما وافقها، وتأويل ماحالفها (4).

2 - تحديد معيار للانتماء إلى الاعتزال والتسمي باسمه في أصولهم الخمسة(5).

3 - تحديد أصول للتوحيد قائمة على التنزيه وتأويل الآيات المتشابهة في الصفات، ووضع حدود للعقل، بحيث يقف عند المعنى الكلي الواجب لله، ولا يخرج عنها (6).

ص: 274


1- وانظر الاشارات إلى ذلك الشهرستاني : الملل والنحل ،1 ،81 زهدي حسن جار الله المعتزلة 247، مصر ط1 1947، الغرابي: تاريخ الفرق الاسلامية 238 محمد جواد مغنية : فلسفات اسلامية 378.
2- انظر محمد عمارة: مقدمة رسائل العدل والتوحيد 30 / عبد الكريم الخطابي الله ذاتاً وموضوعاً 420 دار ،المعرفة ، بيروت ط13953ه_ 1974م، محمد سلام مدكور مناهج الاجتهاد 499 الغرابي: تاريخ الفرق الاسلامية 236. نصر حامد أبو زيد الاتجاه العقلي في التفسير 236 .
3- أبو زيد: الاتجاه العقلي 182.
4- ظ القاسم الرسي: اصول العدل والتوحيد 96 .
5- الخياط المعتزلي: الانتصار ،126 ، القاضي عبد الجبار المختصر في اصول الدين (رسائل العدل والتوحيد) 174 وما بعدها.
6- ظ الشهرستاني: الملل والنحل :1: 45 القاضي عبد الجبار( المختصر في اصول الدين (رسائل العدل والتوحيد )ص ،186 الغرابي: تاريخ الفرق الاسلامية .2382194 .

خامساً: تحديد التعامل مع ظاهر النص فيؤخذ بالظاهر مادام موافقاً للاصول (1) ويكون الحمل على الظاهر - في هذا الاطار - أولى من الصرف إلى التأويل (2)، ورفض الأخذ بالظاهر، إذا خالف الاصول(3).

سادساً: تحديد معيارية الأصول الام في النصّ القرآني ممثلة في مرجعية المحكم وضرورة رد المتشابه اليه (4) بعد أن يحددوا ضوابط موضوعية لكل من المحكم والمتشابه، مع تفعيل منهج تفسير القرآن بالقرآن بشرط اخضاع الاستدلال بالقرآن إلى النظر العقلي الحاكم؛ إذ ان هذا الاستدلال بالسمع لا يصح الا بعد معرفة المتكلم به وصفاته من العدل والتوحيد وهي أمور من صميم النظر العقلي(5)، وسيأتي بحث المحكم والمتشابه تفصيلاً.

سابعاً: استفادة مرجعية اللغة في كشف دلالات النص القرآني، وضوابط استعمالات اللسان العربي وأساليب التعبير وقوانين البلاغة العربية (6). وسنقف عند هذهِ المرجعية في المطلب القادم تفصيلاً.

ثامناً: مع المعارضة الظاهرية في النص للاصول العقلية، وضرورة التأويل وفق المسلك المعتزلي يتم تحديد اسس وضوابط للتأويل (7)وسيتم التفصيل في ذلك عند بحث المحكم والمتشابه.

ص: 275


1- ظ القاضى عبد الجبار متشابه ،القرآن تحقیق د عدنان محمد ،زرزور دار التراث القاهرة ط1 1969م الصفحات ،2 ،411، 420، 421، 431، 446، 476 وغيرها.
2- المصدر نفسه 2: 412 .
3- المصدر نفسه ،2 ،417 ،427 ،435 ،525، 531 وغيرها شرح الاصول الخمسة 213، 226، 227.
4- ظ القاضي عبد الجبار متشابه القرآن :1 20-18 ، المختصر في أصول الدين رسائل العدل والتوحيد) 139، 149، تنزيه القرآن عن المطاعن ،29، 30، 41 ،42، 104 أو غيرها، ط بيروت 1966.
5- نصر حامد أبو زيد الاتجاه العقلي في التفسير 181.
6- القاضي عبد الجبار : شرح الاصول الخمسة ،228 ،436 تنزيه القرآن عن المطاعن ص 49، 50، 111، 113، 226، المغني 5: 172 ،173 (الفرق غير الاسلامية )تحقيق د. محمد الخضيري وزارة الثقافة والارشاد القومي، مصر 1964م متشابه القرآن ،1 ،58 59 ،72 ، 127، 128 وغيرها.
7- ظ القاضي عبد الجبار شرح الاصول الخمسة 606،607.

تاسعاً: تحديد أصول وضوابط الاستفادة من الروايات والأخبار، وتحديد ما يمكن أن كون لها فاعلية فيه، واستبعاد ما يخالف ظاهره منها أصول المعتزلة (1) ، والاستفادة من الاخبار فيما لاطريق آخر غيرها في بيانه (2) مع تحديد المرجعية المعيارية التي ترد اليها الاخبار المختلفة ممثلة في العقل والكتاب والسنة (3)، مع تأكيد عدم الاحتجاج بالأخبار والأحاديث في العقائد (4)واسبقية الادلة الاخرى في ذلك وأخبار الاحاد - بالذات لاتجد عند المعتزلة قبولاً في العقائد والاصول وان قبلوا بها في الفروع يقول القاضي عبد الجبار في سبب ذلك: (لا يجوز قبول ذلك فيما طريقه العلم؛ لأن كل واحد من المخبرين يجوز عليه الغلط فيما يخبر به ويصح كونه كاذباً فيه. ولا يجوز ان ندين ونقطع على الشيء من وجه يجوز الغلط فيه، لانا لانأمن بالاقدام على اعتقاده من أن يكون جهلاً، ولانأمن من أن تكون اخبارنا كذباً. وانما يعمل بأخبار الاحاد في فروع الدين ،وما يصح ان يتبع العقل فيه غالب الظن فاما ما عداه فان قبوله فيه لا يصح ) (5).

عاشراً: تحديد معيارية منضبطة محكومة الأسس للمجاز، وبيان شرائط التجوز، مادم الانتقال من الحقيقة إلى المجاز، ومن المجاز إلى الحقيقة ممكناً دون الاضطرار إلى قلب المعاني(6) مع المنع عن التأويل المجازي الا لضرورة تفرضها معارضة ظاهر الكلام للاصول (7).

ص: 276


1- الشهرستاني :الملل والنحل 1 :163 القاضي عبد الجبار المختصر رسائل العدل والتوحيد 191.
2- القاضي عبد الجبار: المختصر في اصول الدين (رسائل العدل والتوحيد) 240 .
3- القاسم الرسي: اصول العدل والتوحيد رسائل العدل والتوحيد 97.
4- القاضي عبد الجبار: شرح الاصول الخمسة 268-270، المختصر (رسائل العدل والتوحيد) 191 وأنظر محمد سلام :مدكور مناهج الاجتهاد 499، 501 .
5- المغني 4: 225 وانظر أيضاً موقفه في المختصر (ضمن رسائل العدل والتوحيد )224 شرح الاصول الخمسة: 690.
6- ظ القاضي عبد الجبار: المغني 5: 172، 173.
7- ظ د نصر حامد أبو زيد: الاتجاه العقلي في التفسير 124، د. محسن عبد الحميد تطور تفسير القرآن 115، بيت الحكمة جامعة بغداد 1989م.

المبحث الثاني: الأصل اللغوي وأثره في فهم النص القرآني عند المعتزلة

اشارة

كان العديد من أقطاب الاعتزال علماء لغة وبلاغة شهدت لهم ساحة البحث اللغوي محاولات عديدة تميزت بالعمق والجدة حتى ان بعضها يمثل بدايات تجديدية تنهيجاً وتطبيقاً، استفاد منها من جاء بعدهم وكانت البحوث اللغوية - وخصوصاً البلاغية والبيانية - تحتل موقعاً مهماً في ثقافة المتكلم المعتزلي كاساس لتوظيف قدرات اللغة وسماتها المميزة وخصائصها الفنية في الكشف عن دلالات أقدس نص شرف تلك اللغة بنزوله عربياً.

وقد أختص العديد من مؤلفات المعتزلة في تفسير النصّ القرآني، واستنباط دلالاته، للتعرف على العقيدة، وكانت اللغة فيها قطب الرحا في العديد من معالجات النصوص وفق المسلك المعتزلي. ولو لم يكن في ذلك الا متشابه (القرآن للقاضي عبد الجبار، و (الكشاف) للزمخشري لكفى دليلا على تميز عطائهم اللغوي، وتوظيفه في خدمة منهجهم الفكري.

ويتأكد عمق أثر الأصل اللغوي في فهم النص القرآني عند متكلمي المعتزلة من خلال تعاملهم مع الآيات الكريمة في ضوء اللغة وقوانينها وضوابط اللسان العربي وفنونه البلاغية بما يكشف عن اطارين من التعامل والتوظيف يدوران حول :

1 - معاني الالفاظ ودلالاتها .

2 - فنون البلاغة وأثرها في فهمهم للنصوص.

ص: 277

المطلب الأول : أثر الالفاظ في فهم النص القرآني

يتفق المعتزلة تقريباً (1) - عدا أبا علي الجبائي(2) (ت303ه_) - على أن الأصل في اللغة هو المواضعة والاصطلاح، وليس التوقيف من الله تعالى، كما ذهب أهل السنة مستدلين بقوله تعالى: وَعَلَمَ ءَادَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ (سورة البقرة/31)، وهذا الرأي الاعتزالي ينسجم تماماً مع تحكيم مرجعية العقل، ومعياريته التي تمثل الحرية فيها ركيزة مهمة. فاللغة تتأسس في رأيهم على الاصطلاح والمواضعة بين البشر. وهذا أمر يرتبط من جانب آخر بأصل التوحيد الذي يستلزم تنزيهه تعالى عن الحاجة إلى الاشارة الحسية التي تستلزمها المواضعة، لذا فهي غير جائزة في حقه تعالى(3).

وليس البحث في صدد التفصيل في هذهِ القضية، وقد أفردت لها مصادر اخرى بحثا موسعاً(4).

والمهم - هنا - أن نتلمس أبعاد التأثير الذي تمارسه اللغة في المنهج المعتزلي عموماً، ومنهجهم في فهم النص القرآني خصوصاً بحيث وجدنا الأصل اللغوي فاعلاً في مقابل الأصل العقلي وان كان ينضوي تحت سلطته، إذ مثلت اللغة سلاحا بيد المعتزلة في تحكيم أصل العقل في مقابل النص كاساس لإثبات التوافق، وعدم التعارض بينهما، فقد استخدمت في تأويل كلّ ماخالف الأصل العقلي من ظواهر النصوص، وجعلت أساساً لإثبات أنَّ كل ما خالفها متشابه بدلالة تلك الأصول نفسها. فكان أن توسع المعتزلة توسعاً كبيراً في توظيف اللغة لخدمة منهجهم. حتى أنهم لجأوا - في بعض الاحيان - إلى تحميل الالفاظ دلالات تتوائم مع اتجاههم بطريقة لم تبق لظواهر

ص: 278


1- ظ القاضي عبد الجبار : المغني 5 ،166-164 .
2- المصدر نفسه 15: 106 .
3- ظ: نصر حامد أبو زيد الاتجاه العقلي في التفسير 73.
4- ظ مثلًا: نصر حامد أبو زيد : المصدر السابق 70 وما بعدها وليد قصاب: التراث النقدي والبلاغي للمعتزلة في مواضع متعددة أهمها الفصل الرابع 407 وما بعدها.

النصوص القدرة على الدلالة على المعنى مادامت قد اختلفت مع اصولهم. واختيار وجوه من المعنى للالفاظ تكون الاقرب من اصولهم، وان لم تكن الارجح والأولى (1) .

وكان ذلك الاتجاه عند المعتزلة يستدعي جهوداً جبارة في تفعيل أصل اللغة، وشكّل الموروث اللغوي العربي، وطاقات اللغة العربية على التعبير، وما أنعكس عنه من موروث نثري وشعري مادةً مؤثرةً في ايدي متكلمي المعتزلة لتوجيه معاني النصوص وتأويلها بما يوافق أصولهم، وبرعوا في ذلك ايما ،براعة فلم تعجزهم الحجة في اللغة على ذلك التوفيق لسد الفجوات التي ربما تطرأ في اصولهم بما يخالف أصول اللغة وهذا المنحى بالذات يمثل إحدى ضرورات قولهم بالمواضعة في اصل اللغة ليتيح لهم القدرة على التوليد والتجديد في الدلالات والاشتقاق، والاستنباط الذي كانت له أحياناً كثيرة فضيلة أثراء اللغة العربية، وتجديد مناهج دراستها واستنباط مفاهيم واصطلاحات جديدة اغنت الدرس اللغوي(2).

وكان للالفاظ ودلالاتها، وما تؤديه من معان أثر كبير في الاستدلال المعتزلي المنطلق لإثبات أصول الاعتزال، أورد مخالفيه استناداً إلى النصوص القرآنية حتى أنه لا يخلو أصل من تلك الأصول الخمسة وجزئياتها من توجيه المعنى الآيات، أو تحليل لدلالاتها في ضوء معاني ماورد فيها من مفردات واجلى ماتمثل ذلك في اصل التوحيد الذي يقوم عندهم على أساس التنزيه المطلق، وتمثلت فاعلية هذا الاتجاه في تأويلهم لآيات الصفات الخبرية، حيث تعمقوا في كشف دلالات ظواهر الالفاظ بما يبعد شبه المجسمة والمشبهة (3) كما تمثلت تلك الفاعلية بوضوح أقل في باقي الاصول (4).

وستتبين في مبحث التطبيقات بعض الملامح الدالة على تفعيل هذا الأصل، واسلوب المعتزلة في الاستفادة منه في خدمة منهجهم الكلامي في فهم النصوص القرآنية.

ص: 279


1- انظر وليد قصاب التراث النقدي والبلاغي للمعتزلة 438-439 (بتصرف).
2- المصدر نفسه 441 (بتصرف).
3- انظر مثلا: رسائل العدل والتوحيد الرسي : أصول الدين ص: 106، 108 ، 110 / القاضي عبد الجبار المختصر: 191-186، متشابه القرآن :1 ،213 ،226 ،272، 230 ،233 . وغيرها.
4- انظر مثلًا (رسائل العدل والتوحيد الرسي : أصول الدين ،111 ،114 / القاضي عبد الجبار المختصر 194، 214، متشابه القرآن ،1 ،74،73، 224، 242 ، 2 : 224 ، تنزيه القرآن عن المطاعن ،16، 22، 44، 104، 125، 147، 148، 213، 230 ، 266 ، 263 ، شرح الاصول الخمسة 723 وغيرها.
المطلب الثاني: فنون البلاغة وأثرها في فهم النص

احتلت البلاغة العربية، مكانة عظيمة الاهمية في المنهج الاعتزالي في فهم النص القرآني الذي شيد للبلاغة بناءاً شامخاً بما أضفاه على اللغة العربية من أبعاد جديدة حلّقت بها فوق اللغات تزهوا بهذا النص المعجز ببلاغته.

والمتتبع لتراث المعتزلة الفكري يلاحظ أن من أهم سماته قدرته على كشف دلالات النص التعبيرية وتأسيس ملامح رؤية متميزة لخصوصياته في تميز خطابه المشحون بالفن البلاغي، حتى قال بعض الباحثين إن البلاغة نشأت في أحضان بيئة المتكلمين وخاصة المعتزلة وأزدهرت وترعرعت في هذه البيئة... وتعهدها في أول أمرها المعتزلة... وقد كان أثر المعتزلة (( في ذلك )) عظيماً)(1).

وكان لهم فضل في وضع اسس وبدايات العديد من فنون البلاغة العربية، أو تأسيس مصطلحاتها، وتحديد أبعادها كأبتداء ظهور المجاز مصطلحاً بلاغياً على ایدیهم (2) . وفن المجاز بالذات كان له حضور عظيم في استدلالات المعتزلة ومسالكهم في کشف دلالات النصوص القرآنية واستخدموه في منهج اختص بسمات منفردة، سيطرت عليها رغبتهم الجامحة في إثبات آرائهم، وتوجيه نصوص القرآن بما يطوعها لملائمة أصولهم، وانصب فهمهم لتلك النصوص على أسس تبعده عن كل التصورات المخالفة كالمشبهة والمجسمة والجبرية.

وكانت الآيات المتشابهة ميداناً واسعاً صال فيه متكلمو المعتزلة يحملون سلاح

ص: 280


1- د. وليد قصاب التراث النقدي والبلاغي للمعتزلة 5 .
2- المصدر نفسه .

المجاز، يطوعون كل ما يشم منه معارضة منهجهم في فهم الآيات، ليصوغوا رؤية عقائدية تقوم على سلطان العقل ويمثل المجاز فيها الاختيار الارجح للتعامل مع تلك النصوص.

فتوسعوا فيه إلى حد يقول معه ابن جني وهو منهم: (اعلم أن أكثر اللغة مع تأمله مجاز لا حقيقة) (1) ولذلك نجد المتكلم المعتزلي ينظر إلى معظم آيات القرآن الكريم مما يخالف ظاهره أصول المعتزلة على أنه من المتشابه الذي لابد من تأويله بصرفه عن ظاهره واعتباره مجازاً، أو استعارة أو أي شكل آخر من فنون البلاغة القرآنية الا ان لبحث ركز جهده على المجاز لاهميته كطريق يسلكه المتكلم المعتزلي الدفع التعارض بين الظاهر وتلك الأصول والا فان الفنون الاخرى اخذت عند متكلمي المعتزلة - خصوصاً القاضي عبد الجبار - موقعاً هاماً في توجيه مسلك فهم النص، والمساهمة في كشف دلالاته وساهموا في نواح عديدة في اضفاء عناصر مذهبهم الكلامي على تلك الفنون وأسسوا معايير متفردة، وحددوا المصطلحات والمفاهيم، واحسنوا استخدامها في استدلالاتهم وفهمهم لمعاني الآيات (2).

فمن تلك الفنون البلاغية التي نجد لها مكاناً في فهم المعتزلة (القاضي عبد الجبار) للآيات الكريمة:

1 - الخبر والانشاء وفوائدهما البلاغية وأغراضهما القرآنية كالتهديد والتوبيخ والانكار والأمر بالنسبة للخبر واسلوبي الاستفهام والامر وما يتفرع عنها من أغراض - بالنسبة للانشاء - كالتقرير والتحدي والتوبيخ والدعاء (3) .

ص: 281


1- الخصائص ،2 :448 تحت على النجار دار الكتب المصرية، القاهرة 1374 ه_ - 1955م.
2- من أهم ما يتمثل فيه جهوده ما بحثته مصادر مثل وليد قصاب: التراث النقدي والبلاغي للمعتزلة، الاب فيكتور شلحت اليسوعي: النزعة الكلامية في اسلوب الجاحظ، دار المعارف / مصر 1964 د. نصر حامد أبو زيد: الاتجاه العقلي في التفسير / د. عبد الفتاح لاشين بلاغة القرآن في آثار القاضي عبد الجبار، دار الفكر العربي 1978م وغيرها.
3- ظ القاضي عبد الجبار تنزيه القرآن ،104 ،105، 162، 213، 230 ، 265، 296، 274 وغيرها متشابه القرآن :1: 81 ،2: 424، 2 : 516 وغيرها.

2 - القصر : ويعني تخصيص شيء بشيء في طريق مخصوص(1) كالقصر باياك في تفسير قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (الفاتحة/5)، والقصر ب_ (انما) في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخشَهَا ﴾ (النازعات/45)(2).

3 - اخراج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر(3).

4 - التشبيه (4).

5 - الاستعارة (5).

6 - الكناية (6).

7 - بعض فنون البديع كالمشاكلة والتورية والمبالغة والتقسيم والطي والنشر... الخ (7) وغيرها مما لايسع المجال لذكره تفصيلا (8).

وما يهم البحث هنا هو تحديد مفهوم المجاز عند المعتزلة، ومن ثم أثره في فهم النص القرآني الذي يتضح من خلال:

1 - استبيان الأسس والمعايير والضوابط للاستعمال المجازي.

ص: 282


1- ظ أحمد الهاشمي: جواهر البلاغة 179 ط2 بيروت لبنان (د.ت).
2- ظ متشابه القرآن :1: 41، 42، 48 وغيرها.
3- ظ تنزيه القرآن ،12 ،25 79 المغني 17: 25، 26.
4- تنزيه القرآن ،16، 18، 269، 398 .
5- أيضاً ،16، 108 متشابه القرآن :1: 52، 54، 58، 215، 247.
6- تنزيه القرآن 208 .
7- ظ متشابه القرآن ،1 ،56، ،57 ،237، 2: 655 / تنزيه القرآن ،32، 94، 147.
8- انظر للتفصيل في صلة هذه القضايا بالبلاغة القرآنية عبد القاهر الجرجاني : اسرار البلاغة تحقيق ه_. ريتر طبع أوفسيت مكتبة المثنى بغداد ط2 / 1399/ 1979م.د. محمد حسين الصغير اصول البيان العربي وزارة الثقافة والاعلام دار الشؤون الثقافية بغداد 1986.

2 - متابعة تطبيقات هذا الفهم للمجاز وتحكيم تلك المعايير والضوابط. وهذا الشق (الثاني) سيتم تناوله اجمالياً في مبحث التطبيقات، حيث يكاد لا يخلو توجيه لآية عند المعتزلة من اعتبار للمجاز وتطبيق على اسسه. أما مفهوم المجاز وضوابطه فلابد من تناولهما لانتزاع ملامح الرؤية المنهجية عند المعتزلة.

اولا - مفهوم المجاز : يقول ابن جني في التفريق بين الحقيقة والمجاز ومحدداً لمفهوم المجاز : (ان الحقيقة ما أقر في الاستعمال على أصل وضعه في اللغة والمجاز ماكان بضد ذلك)(1)أي ما نقل عن الأصل الذي وضع في اللغة، فالمجاز هو قسيم الحقيقة ومعياره عنده محدد باطار أنه( لايقع في الكلام ويعدل عن الحقيقة اليه الا لمعان ثلاثة هي: الاتساع والتوكيد والتشبيه فان عدمت هذه الاوصاف الثلاثة كانت الحقيقة البتة)(2) وكان الجاحظ (ت) أول من أكد أن المجاز هو مقابل الحقيقة (3)ويقول القاضي عبد الجبار التجوز: استعمال اللفظ في غير ماوضع له في الاصل(4).

فالمجاز نقل للفظ من حدود الدلالة المتعارف عليها كاصل وضع للتعبير عنه تحديداً إلى دلالات جديدة مضافة لكنها ليست مقتطعة عن تلك الأصول أو غير متعارفة، وهذا ما سنجده مؤكداً عند تناول اسس وضوابط المجاز وخصوصاً عند القاضي عبد الجبار نفسه.

ولا مجال هنا للتوسع في تعريفات المجاز وتحديد ابعاده فهذا مما تصدت كتب البلاغة إلى بيان أثره في تصوير دلالات النص القرآني ودوره في هذا الخطاب وتقسيمات وأنواع المجاز وصوره القرآنية(5)

ص: 283


1- الخصائص 2: 442 .
2- المصدر نفسه .
3- ولید قصاب: التراث النقدي والبلاغة للمعتزلة 335 .
4- شرح الاصول الخمسة 436.
5- ظ عبد القاهر الجرجاني: دلائل الاعجاز 280 وما بعدها دار المعرفة بيروت 1398ه_ 1978م وانظر ايضاً د. محمد حسين الصغير: مجاز القرآن خصائصه الفنية وبلاغته العربية دار الشؤون الثقافية بغداد 1994م حيث قدم دراسة وافية في المجاز القرآني استعرض فيها أيضاً بعض جهود المعتزلة.

ثانيا - اسس وضوابط توظيف المجاز في فهم النص عند المعتزلة:

تتعدد الاشارات التي تتضمن بيان جملة من الأسس والضوابط المتحكمة في تحديد المجاز، وكيفية الاستفادة منه في فهم النص القرآني عند متكلمي المعتزلة وسيحاول البحث استخلاصها اجمالياً بالاستفادة من كتب المعتزلة أنفسهم او من الدراسات التي تناولت جهودهم الكلامية والبلاغية وهذه الأسس والضوابط يمكن اجمالها في الآتي:

1 - تأكيد خصوصية اللغة العربية وبالتالي النص القرآني بها في الاحتواء على المسلكين في التعبير : الحقيقة والمجاز(1). وهذا ما يجعل معالجة النص في ضوء هذهِ الخصيصة تحتمي بالانتماء إلى ركائز فكرية مرتبطة بالواقع الفكري ومؤهلة لانعكاس مفاهيم الخطاب على أدائها، وبالتالي تمثل ذلك الخطاب، واستنطاق، وكشف دلالاته في جو من عدم الاغتراب عن النص، وبيئته التي نزل فيها وهذه القضية لا يختلف فيها احد من متكلمي المسلمين، أو الباحثين في العربية وبلاغتها.

2 -تأكيد ضرورة الفصل بين الدلالتين الحقيقية والمجازية، وتحديد المصطلح تحديداً منهجياً لتحاشي الوقوع في الاختلاط سواء في ذهن المتكلم أو المستمع(2)لأن هذا الاختلاط وعدم التحديد المسبب له يعني تعويم تلك الخصيصة التعبيرية في لغة النص ينتج عنه تغييباً للاطر المنهجية المحددة للاستفادة منها في كشف دلالات النص، بحيث تتحول الأحكام على ذلك النص، أو تمثل دلالاته، والقطع على مفاهيم معينة تنسب اليه أنها هي المراد، إلى مصادرة لمرجعية النص وتهميشاً لدوره وأبعاده عن أداء مهمته الرسالية.

ص: 284


1- القاضي عبد الجبار فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص ،152 التراث النقدي والبلاغي للمعتزلة 342 .
2- ظ نصر حامد أبو زيد الاتجاه العقلي في التفسير 129.

يعبر القاضي عبد الجبار عن هذهِ الضرورة ويضع لها معياراً فيقول (1): (اعلم أن من حق المجاز إذا استعمل ان لا يراعى معناه كما يراعى ذلك في الحقائق، لأن ذلك يوجب كونه في حكم الحقيقة، لأنه ان روعي معناه وجعل تابعا له، واجري حيث يجري معناه حل محل الحقيقة).

3 -ينتج عن الخصيصة المبينة في نقطة (1) امكانية انتقال احكام الالفاظ بعرف الجماعة المتكلمة باللغة - بناء على القول بالمواضعة في أصل اللغة - فيجوز كما يرى القاضي عبد الجبار( انتقال حكم اللفظة بالتعارف عن المجاز إلى الحقيقة، وعن الحقيقة إلى المجاز وكل ذلك لا يوجب قلب المعاني) (2)وهذا أمر يمثل ثمرة من ثمار عدم الخلط بين المصطلحين كما تبينت ضرورته في نقطة (2) وهو دال من جهة اخرى على اصالة الاستعمالين المجازي والحقيقي في اللغة العربية .

4 - تاكيدا للنقاط السابقة وتمشياً مع أصول التعبير العربي، وكضرورة عقلية يفرضها تفاوت مراتب المخاطبين - وهي قضية اخذها الخطاب القرآني بعين الاعتبار - فان حمل النص على الحقيقة أولى من حمله على المجاز والذي يلزم عنه تأويل النص، وتفعيل دور المتصدي لفهمه من أجل كشف دلالاته، ومع تفاوت المراتب المشار اليه فليس كل المخاطبين مؤهلين لفهم النص مع كونه مجازاً - تتأكد هذهِ الضرورة يقول القاضي عبد الجبار معللاً ذلك:( لأن اللفظة متى أمكن حمل معناها في كل موضع على حقيقة واحدة فحملها على فوائد مختلفة أو على المجاز في موضع والحقيقة في موضع آخر لا يجوز)(3).

5 - لايعني ذلك على الرغم من ضابطية النقطة السابقة في اولوية الحقيقة

ص: 285


1- المغني 5: 188.
2- المغني 5: 172، 173 .
3- المصدر نفسه 7: 213 خلق (القرآن) تحقيق إبراهيم الايباري وزارة الثقافة والارشاد القومي.

على المجاز انكار خصائص المجاز في ابراز القيم التعبيرية في النص، وهو ما يتمثل عند المعتزلة في تأكيد خصوصية الاستعمال المجازي في التعبير عما تعجز الحقيقة عن التعبير عنه بحكم ثبات دلالتها وفقرها الايمائي(1)وهذه القضية من الدواعي الاساسية في كون الخطاب احتوى على هذا الكم الكبير من الاستعمالات المجازية ،وتفعيل المعتزلة لهذا الدور وانعكاسه على منهجهم في فهم النصوص بما غطى الكثير من معالجاتهم للآيات الكريمة استنباطاً لاصولهم الكلامية لتتأكد بذلك تطبيقياً نظرة المعتزلة إلى وظيفة المجاز في النص القرآني في( اثارة التأمل العقلي والاجتهاد النظري الذي عدوه جزءا من التكليف الغرض منه تعريض الناظر لمزيد من الثواب يزيد على ثواب المقلد ويربو عليه) (2).

6 - تأكيداً لحدود المصطلح وربطاً للمجاز بأصوله وجذوره الانتمائية للغة العربية وقوانينها فان المجاز لا يكون مجازاً دون أن يكون له اصل في اللغة إذ أنه لما كان التجوز هو( ان يستعمل اللفظ في غير ما وضع له في الأصل)(3) فان كون اللفظ بحيث لا يجوز أن يستعمل الا في وجه واحد - يقتضي أنه هو الاستعمال الحقيقي - يعني بطلان المجاز أصلاً إذ لا يمكن ان يكون المجاز هو الأصل تاسيساً على ما تاكد في النقطة (4)، ولذلك يؤكد القاضي اصالة الحقيقة التي بدونها يفقد المجاز اصل وجوده إذ يقول (كون اللفظة مجازاً ولا حقيقة لها لا يصح في اللغة)(4).

7- تاكيداً لاصالة المجاز في العربية من وجه آخر وتوفيراً احتياطياً لسد الثغرات المحتملة في تاويلات المعتزلة وتوجيههم دلالات النص فلا بد من ربطها بالموروث اللغوي والخزين البلاغي في فنون اللغة وأساليبها التعبيرية المتكثرة يضع المعتزلة

ص: 286


1- د :نصر حامد أبو زيد الاتجاه العقلي في التفسير 130.
2- المصدر نفسه .
3- القاضي عبد الجبار: شرح الاصول الخمسة 436.
4- المغني 7: 130.

مظلة منهجية تربط تلك التأويلات بالجذور ممثلة في سبق الاستعمال مع عدم القياس على نفس نمطه - لأنهم يرفضون القياس في المجاز(1)- حيث يؤكدون أن كل وجه مجازي استعمله القرآن الكريم فلابد أن يكون له سبق استعمال عند العرب وإن عجزنا عن إيجاده واستحضاره .

ويعلق هذا العجز غالباً على الرواة وعدم نقلهم له ويرى القاضي عبد الجبار مؤسساً لأبعاد معيارية في ربط المجاز القرآني - وفق المنظور والتحديد المعتزلي - باستعمالات العرب أن لذلك ثلاثة حيثيات يمكن البناء عليها تتمثل في:

1 - لا يجب ان جميع ما تكلموا (( العرب )) به من المجاز أنه منقول الينا.

2 - لا يجب إذا لم نعرفه أن لا يكون معروفاً عند بعض العرب، ولو أنقطع نقله لكان الكتاب - في الأخذ بنمطه - يدل عليه.

3 - لا يجب أن يوجد في صريح كلامهم نفس ما وجد في القرآن، لكنهم إذا تكلموا به جاز أن يخاطب تعالى به.

وينتهى من ذلك كله إلى أنه (متى علمنا من قول رسول الله (ص) مثل ذلك علمنا أن العرب تكلمت به أو بمثله فلا مطعن ما ماذكرناه بذلك)(2).

أن هذهِ الأسس والضوابط وجدت طريقها إلى تشكيل ملامح معيارية على طبيعة المنظور الاعتزالي لدلالات النص القرآني، ومن ثم على ملامح ذلك المنظور لاصول العقيدة المستمدة من هذا النص، وأكثر ما تجلى ذلك في التأويل الذي مارسه المعتزلة منهجاً ثابت فرض طابعه على الاعتزال انطلاقاً من حتمية اللجوء إلى العقل وحاكميته على كل ما عداه، وضرورة تأويل ما يتعارض معه ظاهراً، مادام استبعاد ذلك المتعارض

ص: 287


1- المصدر نفسه 5: 188.
2- المغني 5: 190.

-وهو هنا النص القرآني - غير ممكن لأنه يمثل مرجعية اخرى يفقد الأصل العقلي بدونها أهم استناداته ومعينه في تفصيل الأصول وتفريعها، ودروها في استكمال صورة ذلك المنظور العقائدي.

ولما كان التأويل يقترب من المجاز حد التوحد في التعامل مع مقتضيات الدلالة الظاهرية (الحقيقية) في اللفظ للأصول، بما يستلزم صرفها إلى المجاز، وبالتالي كشف دلالات النص في ضوء ذلك من خلال التأويل فان هذه التحديدات والضوابط تنعكس أيضاً على التأويل ومسالكه وأساليبه عند متكلمي المعتزلة. وسنقف على ذلك لاحقاً بعد وقفه لا محيص عنها عند الركيزة الرئيسة في المنهج الاعتزالي والتي تتشابك عندها العلاقات والروابط والأسس التي مرت جميعاً، وكان احتواء النص عليها أساساً ودافعاً مركزياً لاختيار مبدأ الصرف إلى المجاز وبالتالي طرح التأويل حلاً للخروج من التناقضات والتعارضات المحتملة للنص مع الأصول العقلية.

هذا كله سيمثل مدخلاً إلى استبيان الملامح التطبيقية للمنهج المعتزلي، ويضع البحث وجها لوجه مع مسلك المعتزلة في كشف دلالات النص القرآني.

ص: 288

المبحث الثالث: المحكم والمتشابه وفهم النص

اشارة

توطئة:

من خلال مامر بحثه من أسس وبيانه من أبعاد لبعض المفاهيم والمصطلحات ينكشف قسم من ركائز المنهج الاعتزالي ولابد من استكمال البحث بالوقوف عند أهم الركائز الباقية القائمة على أساس الموقف من المحكم والمتشابه) واتصال هذه الركيزة بعلاقات وروابط مع تلك الركائز السابقة للوصول إلى انتزاع تصور إجمالي عن منهج المعتزلة في فهم النص القرآني وهذا ما يقتضي بحث القضية في مجموعة محاور تمثل متكاملة مجمل موقفهم فيها تستحضر جهد المعتزلة في :

أ- تحديد مفهوم المحكم والمتشابه واستبيان وجودهما في القرآن ودلالات ورودهما فيه.

ب - موقفهم من امكان علم المتشابه

ج -توظيف المفهومين في خدمة المنهج العقلي من خلال بيان :

1 - ضوابط التأويل 2 - مزية المحكم على المتشابه 3 - حكمة المتشابه وفوائده، 4 - حجية الاستدلال بالمتشابه وكيفيته وصولاً من هذا كله إلى تفعيل المفهومين في خدمة المنهج المعتزلي وسيلاحظ البحث بعد مسيرة طويلة مع مؤلفات المعتزلة التي تناولت نصوص القرآن واعتمدتها في التعرف على دلالات النص أو الاستدلال به أو الرد لآراء المخالفين اعتماداً عليه أن القاضي عبد الجبار كان المصدر الغالب في بيان تلك المحاور بسبب كثرة مؤلفاته القرآنية، وتفرده في : كثرة ما بقي من تلك المؤلفات مؤلفاته عموماً

ص: 289

بعد أن ضاعت أغلب مؤلفات المعتزلة الآخرين وفي اتجاهه الواضح إلى تركيز الاهتمام بالنص القرآني وتكثيف جهوده في تناوله من نواح وحيثيات متعددة ومختلفة.

أ - تحديد المفهومين

من أقدم الاشارات الواردة في ربط المحكم والمتشابه بأصول المعتزلة - وان كان ذلك اجمالاً - ماورد عن القاسم الرسي الذي رتب على تقسيمه لاصول المرجعية في الفكر الاعتزالي إلى العقل والكتاب والرسول ان لكل من تلك الأصول أصلاً وفرعاً.

فالكتاب أصله المحكم وهو عنده الذي لا اختلاف فيه، الذي لا يخرج تأويله مخالفاً لتنزيله.

وأما فرعه فهو المتشابه وهو( مردود إلى أصله الذي لا أختلاف فيه بين أهل التأويل) (1).

وكان الرسي في هذا الاجمال في تحديد المتشابه يشير إلى أن المتشابه ما أختلف فيه استناداً إلى تعريفه لقسيمه( المحكم) وقد التفت د. نصر أبو زيد إلى مافي هذا التحديد عن الرسي من أولوية محاولة الربط بين قضية المحكم والمتشابه وأصول الاعتزال(2).

ويرى الباحث فيها أول اشارة - عند المعتزلة - إلى المبدأ الهام الذي اسس له القرآن كركيزة منهجية لفهم نصوصه بجعل المحكم الأصل الثابت الذي يرد اليه المتشابه وهذه الاشارة إلى كون المتشابه فرعاً له وستقف عندها عند بيان مزية المحكم على المتشابه.

الا أن اكثر تفصیل واهتمام نالته قضية المحكم والمتشابه تمثل عند القاضي عبد

ص: 290


1- اصول العدل والتوحيد( رسائل العدل والتوحيد) 97:1.
2- الاتجاه العقلي في التفسير 164 .

الجبار الذي الف فيها كتابا ضخما من جزئين هو ( متشابه القرآن)(1).

ونجد أن المفهوم عنده يأخذ شقين من الدلالة نبه اليهما القرآن الكريم واستفاد القاضي ذلك كما استفاده غيره (2):

الشق الأول: كون القرآن ينقسم إلى قسمين آيات محكمة وأخرى متشابهة وهو المعنى الذي يمثل ركيزة مهمة في أي منهج لفهم النص عند المتكلمين. وجاءت الآية الكريمة قوله تعالى: ﴿مِنْهُ وَايَةٌ تُحكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ ﴾(آل عمران /7) مصورة لهذا التقسيم ومؤكدة له.

الشق الثاني : وصف القرآن بأجمعه أنه محكم وأنه متشابه وهذا الوصف يخرج من ساحة الاهتمام المركزي عند القاضي عبد الجبار بل عند جميع متكلمي المذاهب الاسلامية لأنه انما يتعلق ببيان جوانب الاعجاز في النص وليس بمؤثر مباشرة في توجيه اسس المنهج الكلامي.

يعرض القاضي عبد الجبار اعتراض من يسأل عن صحة التقسيم الأول مع استحضار الوصف الوارد في الشق الثاني فيقول(3): (فان) سأل سائل فقال: كيف يصح ماذكرتموه وقد وصف عز وجل جميع القرآن بأنه محكم بقوله تعالى﴿ الركب أُحكمت اينتهُ ﴾ (هود/ 1).

ووصف جميعه بأنه متشابه بقوله:﴿ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَبًا مُّتَشَبِها ﴾(الزمر /23) وهذا يمنع ماذكرتموه من انقسام القرآن إلى القسمين اللذين ذكرتموهما ؟ تتمثل في جواب القاضي عبد الجبار اشارتان مهمتان في موقفه من القضية :

ص: 291


1- طبع بتحقیق عدنان محمد زرزور في قسمين، دار التراث القاهرة 1969م.
2- راجع فصل (الإمامية) : مطلب المحكم والمتشابه عندهم وسيرد تفصيل رأي الأشعرية في الموضوع في الفصل الثالث من هذه الرسالة
3- متشابه القرآن 1: 20 .

الأولى: ان التقسيم الذي جاء في الشق الأول أنما هو تقسيم يستمد اهليته وصحته من الكتاب نفسه فيقول (ان) الذي ذكرناه من ان فيه محكماً ومتشابهاً قد ورد الكتاب بصحته في قوله عز وجل : ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ وَايَتُ تُحكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتُ ﴾(1)(آل عمران/7) كما استند الوصف للقرآن بأجمعه إلى الكتاب.

الثانية: أن المراد بالشق الثاني في وصف القرآن بأجمعه بالاحكام والتشابه مختلف تماما فی معناه عن الشق الأول وضرورة الفصل بين المفهومين لبلورة اسس الانطلاق في فهم النص من خلال تحديد المصطلح بوضوح لذلك فهو يحدد المراد بالاحكام والتشابه في الآيتين المعترض بهما على التقسيم بأن (وصف جميعه بأنه محكم ليس المراد منه ما قدمناه ((الشق الأول )) وإنما اريد به أنه تعالى أحكمه في باب الاعجاز والدلالة على وجه لا يلحقه خلل ووصفه جميعه بأنه متشابه المراد به أنه سوّى بين الكل في أنه أنزل على وجه المصلحة ودل به على النبوة، لأن الأشياء المتساوية في الصفات المقصود اليها يقال فيها متشابهة، فاذا صح ذلك لم يطعن ما ذكره السائل فيما قدمنا ذكره من حقيقة المحكم والمتشابه)(2).

ونعود إلى مفهوم المحكم والمتشابه بمعناه الأول والذي اختلف فيه كثيراً لنتبين موقف المعتزلة في هذا التحديد فاقدم الاشارات إلى تحديد المحكم والمتشابه ومعناهما عند أقطاب العتنزلة ما ينقله الأشعري (ت 330ه_) عن واصل بن عطاء (ت131ه_) وعمرو بن عبيد (ت 143ه_) اللذان يحصران دلالة المحكم والمتشابه في الوضوح والخفاء فالمحكمات ما أعلم الله سبحانه من عقابه للفساق : كقوله تعالى: ﴿وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا ﴾ (النساء/93) وما أشبه ذلك من آي الوعيد وقوله تعالى:

ص: 292


1- المصدر نفسه.
2- متشابه القرآن 1: 20-21 .

﴿وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتُ ﴾نقول: (أخفى الله عن العباد عقابه عليها، ولم يتبين أن يعذب عليها كما بين في المحكم منه )(1) ويلاحظ د. علي سامي النشار أن تفسير واصل هذا اثر في نظرة من جاء بعده بحيث دفعهم إلى بحث القضية في ضوء تفسيره لها (2).

وهذا ما يلاحظ على فهم أبي بكر الاصم (من طبقة أبي الهذيل العلاف (توفي بعد 266 ه_) (3) الذي أنطلق من أصل الوضوح والخفاء أيضاً في تحديده المحكمات من الآيات أنها تعنى (حججاً واضحة لاحاجة لمن يتعمد إلى طلب معاينتها كنحو ما اخبر عن مشركي العرب أنه خلقهم من النطفة، وأنه أخرج لهم من الماء فاكهة وأبًا وما أشبه ذلك، فهذا احكم كله، فقال: قال الله سبحانه: ﴿ وَايَتٌ مُحْكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ ﴾ (آل عمران/7) أي الأصل الذي لو فكرتم فيه عرفتم أن كل شيء جاءكم به محمد(صلی الله علیه وآله وسلم) حق من عند الله سبحانه)(4) .

أما المتشابهات في قوله تعالى: ﴿ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتُ ﴾ فهي كنحو ما أنزل الله من أنه يبعث الأموات، ويأتي بالساعة وينتقم ممن عصاه أو ترك آية أو نسخها مما لا يدركونه الا بالنظر ، فيتركون هذا أو يقولون: إئتنا بعذاب الله، في كل هذا عليهم شبهة حتى يكون منهم النظر فيعلمون أن لله أن يعذبهم متى شاء، وينقلهم إلى ماشاء)(5).

أما الاسكافي (أبو جعفر محمد بن عبد الله 240ه_) فان له منحى آخر مقارباً نوعاما في المفهومين ، يتعلق بوحدة الدلالة أو تعددها مع الاحتمال فالآيات المحكمات :هي التي لا تأويل لها غير تنزيلها، ولا يحتمل ظاهرها الوجوه المختلفة) (6).

ص: 293


1- مقالات الاسلاميين :1: 269 تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد مكتبة النهضة العربية ط1 1369ه_ 1950م.
2- نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام 1: 289 منشأة المعارف / الاسكندرية ط19622م.
3- المصدر نفسه .
4- مقالات الاسلاميين 1: 269 .
5- مقالات الاسلاميين 1: 270 .
6- المصدر والصفحة انفسهما .

أما المتشابهات في الآية فهي: (الآيات التي يحتمل ظاهرها في السمع المعاني المختلفة)(1).

وسنجد ان لهذا المنحى عند الاسكافي أثره في تحديد المفهومين عند من جاء بعده وخصوصاً القاضي عبد الجبار (ت 415 ه_).

فالقاضي عبد الجبار يقيم رؤيته لحقيقة المحكم والمتشابه على أساس يتمتع بمظلة مرجعية اللغة وقوانينها موجهاً دلالات المفردة وفق أصولها ،مع ملاحظة ان نظره أثناء ذلك لم يغب عن دلالة المفردة نفسها في النص القرآني، فهو يستعرض الاقوال في حقيقة المحكم والمتشابهه بطريقة عرض الآراء على سبيل الاعتراضات التي تستوجب منه ردا يتمثل فيه بيان رأيه هو ففي جوابه على اعتراض مفترض حول معنى المتشابه يستند على الأقوال الكثيرة في حقيقته(2) . يقول القاضي: (ان المحكم انما وصف بذلك لان محكماً احكمه، كما ان المكرم انما يوصف بذلك لان مكرماً ما أكرمه، وهذا بيّن في اللغة، وقد علمنا أنه تعالى لا يوصف بأنه أحكم هذه الآيات المحكمات من حيث تكلم بها فقط، لأن المتشابه كالمحكم في ذلك وفي سائر ما يرجع إلى جنسه وصفته)(3). فهو هنا يشير إلى استبعاد المعنى العام للأحكام في دلالته الاعجازية من جانب ومن جانب آخر يجلو خصيصة المحكم المرجعية من حيث صدوره عنه تعالى بهذا الوصف العام إضافة إلى معناه الخاص كقسيم للمتشابه مهيئاً بذلك السبيل إلى بناء قانون عام يحكم مجمل الموقف من المحكم والمتشابه في مجال معالجة النصوص المتشابهة ويؤكد أصالة المحكم وسنتعرض له لاحقاً والمهم

ص: 294


1- المصدر والصفحة انفسهما.
2- من تلك الأقوال التي يوردها: فيهم من قال أن المحكم هو الفرائض والوعد والوعيد والمتشابه هو القصص والأمثال، وفيهم من قال أن المحكم هو ما بين لنا مقاديره وشروطه من الاحكام والمتشابه هو مالم يبين حاله من الصغائر والكبائر إلى غير ذلك من الخلاف ظ :متشابه القرآن 1: 19_18، وأنظر تفاصيل الآراء فيهما عند السيوطي: الاتقان في علوم القرآن 2:3 .
3- متشابه القرآن 1 18-19 .

أنه بعد أن يستعيد الوجوه المطروحة في معنى المحكم يطرح رأيه المستند إلى أرضية من قوانين عقلية ولغوية تتصل بنظرية المعتزلة العامة فى أصل اللغة كمواضعة بين الناطقين، أو بالتعارف أو بشواهد العقل فالمحكم يجب أن يراد به (أنه أحكم المراد به بأن جعله على صفة مخصوصة وقد علمنا أن الصفة التي تؤثر في المراد هي ان توقعه على وجه لا يحتمل الأ ذلك المراد في أصل اللغة أو بالتعارف أو بشواهد العقل، فيجب فيما اختص بهذه الصفة أن يكون محكماً) (1).

ومن أمثلة هذا التحديد المعياري قوله تعالى :﴿ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدُ اللهُ الصَّمَدُ ﴾(الاخلاص /21) ونحو قوله تعالى:﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا (یونس /44) وما شاكله) (2).

أما المتشابه فهو الذي جعله عز وجل على صفة تشتبه على السامع من حيث خرج ظاهره عن أن يدل على المراد به لشيء يرجع إلى اللغة أو التعارف) (3).

ومما تتحقق هذه المعيارية فيه ((كونه متشابهاً ))نحو قوله تعالى:﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ﴾(الأحزاب/57) إلى ما شاكله).

وتفصيل هذهِ الأبعاد المعيارية للتشابه تتمثل في أن (ظاهره يقتضي ما علمناه محالاً، فالمراد مشتبه، ويحتاج في معرفته إلى الرجوع إلى غيره من المحكمات) (4).

في هذا التحديد تتبين ملامح مرجعيتين مهمتين يلمح القاضي عبد الجبار بأولاهما اشارة وذلك في قوله (ماعلمناه محالاً ) ويقصد بها الأصول العقلية التي يستند اليها في تحديد مايليق عما هو محال بعد أن تبينت لنا صورة الربط بين الأصول العقلية للمعنزلة وقضية المحكم والمتشابه والمرجعية الثانية هي في اشارته الصريحة إلى

ص: 295


1- متشابه القرآن 1: 19.
2- المصدر والصفحة انفسهما .
3- المصدر والصفحة انفسهما .
4- المصدر نفسه .

الرجوع إلى المحكمات كأصول ودليله في ذلك اللغة واستعمالات لفظ (الام) الذي جاء في صفتها فقوله تعالى: {هن ام الكتاب يدل على ما ذكره في مفهوم المحكم والمتشابه لأنه جعل لها المزية على المتشابه وذلك لايصح الا على الوجه الذي قلناه دون ما حكينا (أي الآراء التي نقلها في معناهما))(1).

هذهِ المرجعية التي يجب رد المتشابه اليها لتحديد معناه ممثلة في (المحكم) هي القانون العام الذي طبع ظاهرة التأويل وفق المسلك المعتزلي عموماً والذي كان لهم فيه اتجاه يكاد يتكرر عند جميع المذاهب الكلامية يتمثل في جعل كل ما يوافق أدلة المذهب وطروحاته من المحكمات وكل ما خالفها واستدل به الخصم - وان صح في أحيان كثيرة - من المتشابهات التي لابد من تأويلها.

ب - امکان علم المتشابه

ينقل الأشعري اختلاف المعتزلة في علم المتشابه إلى قولين(2): فقال قائلون: ليس يعلم تأويل المتشابه الا الله ولم يطلع عليه أحد.

وقال قائلون: قد يعلمه الراسخون في العلم وان هذا القول (( الآية)) عطف وبالتالي امكان علمه للراسخين في العلم وهذا الأمر من اللوازم الضرورية لمجمل منهج المعتزلة وسلطة العقل المطلقة في ذلك المنهج والآفاق الواسعة التي خولوا إياه فاعلية الخوض فيها، وهو كما يبدو الفريق الارجح وهو ما يثبت عند التتبع، خصوصاً إذا أخذنا بنظر الاعتبار ميلهم الكبير إلى التأويل من جهة، ومن جهة اخرى عدم وصول الكثير من مؤلفات اقطابهم وأغلب ما وصل مما نقله القاضي عبد الجبار ممثلاً لنفسه أو راي غالبيتهم يتضمن ترجيح القول الثاني والذي يتبين عند القاضي بوضوح كما أن اسس المنهج العقلي عند المعتزلة تقتضي ساحة واسعة يخوضها العقل

ص: 296


1- المصدر نفسه .
2- مقالات الاسلاميين 1: 270 .

للوصول إلى أهم ركيزتين في ذلك المنهج هما التوحيد للباري بالتنزيه المطلق عن مشابهةالمخلوقين والعدل الالهي بلوازمه المتعددة وأهمها إثبات الحرية والمسؤولية الفردية للإنسان وتنزيهه تعالى عن فعل القبيح.

واذا أخذ بنظر الاعتبار أن النصوص القرآنية التي يستدل بها خصوم المعتزلة واقعة - ضمن معايير المعتزلة - في ساحة التشابه بما يتعارض مع اصولهم واسسهم العقلية وبالتالي ضرورة التأويل لتبيَّن لنا ضرورة مثل هذا الموقف من القضية.

ويميل الباحث - لولا نص الاشعري(1)- إلى أن الموقف الوحيد الذي يمكن تصوره للمعتزلة في هذهِ القضية هو القول بامكان علم الراسخين بتأويل المتشابه لأنه الأكثر انسجاماً وتوافقاً مع اسس موقفهم وبدونه يبقى الكم الهائل من التأويلات الواردة عنهم مكشوفاً دون غطاء حماية يتمثل في الارتباط باهلية تضمنها مرجعية الكتاب نفسه أما الحيثيات التفصيلية لهذا الموقف فلا نجد عند المعتزلة من يخوض فيها بالتفصيل الذي يرد عند القاضي عبد الجبار الذي يطرح رأيه من خلال استعراض الرأي المخالف الذي يحمله الاحتمالات المتعددة التي قد ترد في ذهن معترض موجود فعلاً اوهمي يطرح اسئلة يستند إلى أصول القاضي عبد الجبار نفسه واسس المعتزلة عموماً ونلاحظ ان إثبات القاضي وبيانه لرأيه يمر من خلال مجموعة مفاهيم يقيم استدلالاته عليها في طريق الوصول إلى إثبات مايرى خلال رد شبهات الخصم ويمكن تلخيصها في:

ص: 297


1- ربما يطرح هنا نص الإمام يحيى بن الحسين وهو زيدي قريب من الاعتزال الذي يورده في رسالته ضمن رسائل العدل والتوحيد( أن القرآن محكم ومتشابه وتنزيل وتأويل وناسخ ومنسوخ وخاص وعام... الخ ويقول في نهايته فاذا فهم الرجل ذلك اخذ حينئذ بمحكم القرآن واقر بمتشابهه ظ رسائل العدل والتوحيد 2: 107) . ويرى الباحث انه لادلالة في قوله هذا على انه مع الفريق الأول في القول بعدم علمه المتشابه لأن الاقرار به لا يستلزم القول بأنه لا يعلم بل ربما كان العكس صحيحاً وهو ما ماسنجد القاضي عبد الجبار يوجهه عند تأويله الآية على الوجهين المحتملين وغاية ما يمكن أن يفيده هذا النص جعل المحكم ذا مزية على المتشابه في ضرورة الرد اليه كما سنبحثه لاحقاً.

1 - رد اعتراض الخصم المستند إلى التحديد الذي الزم به القاضي نفسه للمتشابه والذي يقوم على كونه مما يمكن الاستدلال به حاله في ذلك كحال المحكم الا انه يحتاج إلى قرينة. وبما أن الخصم يرى أن ذلك يتم لوصح أن المتشابه يمكن أن يعرف المراد به وأن الغرض من انزاله يكون الايمان به فقط فكان على القاضي بيان هذا القول لأن الخصم اعتمده فقال( ان المتشابه هو الذي لا يعلم تأويله الا الله وهو الذي لا سبيل للمكلف إلى العلم به وانما كلف الایمان به وانما يفارق المحكم بأن لا يعلم المراد به كالمحكم ولا يصح كونه دلالة كما يصح ذلك في المحكم)(1)ان صحة هذه الاعتراضات تعني هدماً لاسس مهمة في النظر العقلي تجاه النص وهو طريق اختاره المعتزلة منهجاً وهذا الفرض يستلزم نفي أهلية المتشابه للاستدلال فيبطل بذلك الوجه الذي قدمه أو يقول في المتشابه أن لا يمكن أن يعلم المراد به فيؤدي إلى كونه عز وجل عابثاً في انزاله له - تعالى الله عن ذلك - والفرضين يخالفان اعتراضي الخصم وإثبات قوله هو بامكان علم المتشابه، وهذا مايتم عبر إثبات أنه تعالى لا يفعل الا لغرض يرجع إلى المكلف لأنه تعالى يستحيل عليه المنافع والمضار فانما قصد بخطابه نفع المخاطب كما يقصد بسائر افعاله مصالح العباد وقد ثبت أن النفع لايقع بالخطاب بجنسه ولا بسائر صفاته وإنما يقع به لامر يرجع إلى معناه ولذلك يقبح من احدنا إذا كان غرضه افهام الغير ومخاطبته ان يخاطبه بالزنجية مع تمكنه ان يخاطبه بالعربية ولا سبيل له إلى معرفة الزنجية البتة فاذا صح أنه تعالى خاطب بلغة مخصوصة، وغرضه نفع المكلف... فلا بد في جميع كلامه من أن يكون دلالة يمكن أن يستدل بها على المراد)(2).

ثم يبين ما يلزم من قول الخصم فيقول ( ولو جوزنا والحال هذهِ في بعض خطابه

ص: 298


1- متشابه القرآن 1: 13 .
2- المصدر نفسه 1 :13-14 (بتصرف).

أن لا يكون عز وجل أراد به ما يصح من المكلف أن يعرفه، لجوزنا ذلك في سائره. وذلك يوجب أن لا يوثق بشيء من خطابه وأن يكون عابثاً في ذلك، وأن لا يكون بينه وبين أن يخاطبنا - ونحن عرب - بالزنجية فرق وفساد ذلك يبطل هذا القول) (1).

أما قول المعترض بأن الواجب في المتشابه هو الايمان به فقط دون الحاجة إلى معرفة المراد منه - وهو موقف مطروح عند اتجاهات اخرى سادت في عصر القاضي(2) - فأنه ينطلق في رده من لوازم الايمان المتعلقة به وأهمها البيان للوجه الذي يتعلق به الايمان فيقول (فأما قول من يقول إن الواجب في المتشابه الايمان به فقط فذلك بعيد لأنه يجب أن يعلم على أي وجه يصح أن يخاطب عز وجل به، ثم يؤمن المكلف به على ذلك الوجه، وإن كان المخالف يقول : أنه نؤمن بأنه من كلامه تعالى وانه لم يرد به شيئاً فهو الذي بينا فساده)(3)لأنه يستلزم العبث وحاشاه تعالى عن ذلك.

كما يرد قول من قال( نؤمن أنه قد اراد به ما للمكلف فيه نفع ولا يمكنه أن يعرف ذلك فهذا يوجب كونه عابثاً وكأنه أوجب على الخلق في المتشابه أن يعتقدوا فيه أنه لافائدة فيه ويتعالى الله عن ذلك) (4).

ودليله على هذا الرأي يستمده من الكتاب الذي يؤكد لنفسه أهلية البيان والكفاية ممالا يتفق مع كون المتشابه مما لا يعلم فيقول : ( وكتاب الله عز وجل ينطق بما قلناه لأنه قد بين أنه أنزله فيكون شفاء وهدى ورحمة، وبيّن أن فيه البيان والكفاية واقعة ،به ولو كان لا يفهم به المراد لم يصح ذلك فيه) (5).

ص: 299


1- متشابه القرآن 1: 14.
2- راجع فصل الإمامية الموقف من المحكم والمتشابه.
3- متشابه القرآن 1: 14 .
4- المصدر نفسه 1: 14 .
5- المصدر نفسه 1: 14 .

2 - توجيه المراد بالآية على الاحتمالين فعلى الاحتمال الأول وهو العطف الذي يؤيده فإن معنى الآية أنه تعالى كأنه قال: وما يعلم تأويله إلا الله وإلا الراسخون في العلم، وبيّن أنهم مع العلم بذلك يقولون آمنا به في أحوال علمهم به یکمل مدحهم، لأن العالم بالشيء إذا أظهر التصديق به فقد بالغ فيما يلزمه، ولو علم وجحد كان مذموماً )(1).

وأما الاحتمال الثاني فأن توجيه القاضي عبد الجبار له يقوم على أساس تحديد المراد بمصطلح التأويل حتى مع القول بالاستئناف للواو فيرى أن المراد به هنا المتأول لأنه قد يعبر بأحدهما عن الآخر ولما كان المعلوم من حال المتأول انه (يوم القيامة والحساب ومقادير العقاب أنه عز وجل يختص بالعلم به وبوقته لأن تفصيل ذلك لا يصلحه أحد من العباد فعلى هذا القول لا يجب أن يكون المتشابه مما يعلم المكلف تأويله)(2).

3 - استفادة سياق الآية في تأكيد ارجحية رأيه المختار إذ يلزم من خلافه إلزامات تتعارض مع السياق إذ لو كان المراد ان المتشابه لا يعلم وأن سائر المكلفين أنما كلفوا الايمان به لم يكن لتخصيصه العلماء بالذكر معنى (لأن غير العلماء لا يلزمهم ما يلزم العلماء فلما قال [ والراسخون في العلم يقولون آمنا به ] فخصهم بذلك، علم أن المراد به أنهم لما علموا المراد بالمتشابه صح منهم الايمان به فخصهم بالذكر دون غيرهم)(3).

كما أن ذلك معارض لسياق الآية من وجه آخر اذ لولا صحة هذا التأويل لموقف الراسخين في الايمان مع العلم به لم يكن لجعله تعالى المحكم أصلاً للمتشابه معنى إن لم يلزم الا الايمان به ولولا صحة ذلك لم يكن لذمه من يتبع المتشابه ابتغاء الفتنة

ص: 300


1- المصدر السابق نفسه 1: 15 .
2- المصدر نفسه 1 ،15، وانظر: توجيه الاحتمال في المغني 16: 379 (اعجاز القرآن).
3- متشابه القرآن 1: 15.

معنی لأنه كان يجب في كل من أتبع المتشابه لابتغاء الفتنة، علم أن من أتبع المتشابه للدين وعلى الوجه الصحيح يكون محموداً)(1).

والنتيجة النهائية التي يوظف من خلالها المحكم والمتشابه ليوافق أصول المعتزلة والقاضي عبد الجبار تتمثل في أن ذلك كله (يبين أن ليس في كتاب الله عز وجل شيء الا وقد أراد عز وجل به ما يمكن المكلف أن يعرفه وإن أختلف مراتب ذلك (( رسوخاً أو أقل )) ففيه (( أي الكتاب )) ما يستقل بنفسه ويمكن معرفة المراد بظاهره، وفيه ما يحتاج إلى قرينة على الجملة وفيه ما يحتاج إلى قرينة مفصلة) (2)

ج - توظيف المفهومين في خدمة المنهج العقلي
1 - ضوابط التأويل

يحيط القاضي عبد الجبار عملية التأويل بحزام امان حماية لاسسها العامة وابعاداً للمتطفلين عليها لكي لا يكون القول بامكان علم المتشابه طريقاً سالكاً لكل من تصور نفسه مؤهلاً لذلك بادعاء تحصيل صفة الرسوخ في العلم، وهي صفة يرى كل من أوّل الآية على العطف في الواو أن اتجاهه مؤهل لها.

ونلاحظ أن أبعاد رؤيته للتصدي لعملية التأويل توجّه من خلال تحكيم أبعاد المنهج المعتزلي العقلاني الطابع الذي يستحضر مرجعيات المعتزلة الكبرى كما يستحضر سياق الآية وضرورة اعتبار بنية المنظور القرآني لامكان الكشف عن المتشابه ممثلاً في تحديد مرجعية أولى هي الرد إلى المحكم بعد إرساء مجموعة أركان المصطلحين (المحكم والمتشابه) للتفريق بينهما معيارياً ومن ثم امتلاك المعرفة الضرورية بأصول عملية فهم أي نص ذي طابع ديني ممثلة في العلم بأحكام الشرع وأدلة الفقه

ص: 301


1- المصدر نفسه 1: 16.
2- المصدر نفسه .

والكتاب والسنة والاجماع مع جمع ذلك كله إلى أهم أركان المنهج الذي يراه ضرورة لكل متصد لفهم النص متمثلاً في معرفة مبدأي التوحيد والعدل وهذه النقطة بالذات يرى الباحث أنها تستفاد من ربط مجموع هذه الاشتراطات ببعضها من جهة ومن جهة أخرى وهي الأهم أن القاضي عبد الجبار ترك تناولها في كتابه (متشابه القرآن) ذي الطابع التفسيري الذي احتوى اصولاً مشتركة ليفرد لها بحثاً خاصاً في (شرح الأصول الخمسة )كأنه يشير بذلك إلى صلة القضية عموماً بأصول المعتزلة الكلامية، ومضفياً صفة الأهلية وتحقق الاستعداد عند القائلين بتلك الأصول الخمسة للتصدي العملية التأويل وكشف دلالات المتشابه وبالتالي اضفاء كامل المشروعية على تأويلات المعتزلة للنصوص القرآنية، ولنلاحظ نصه الذي يورد فيه هذه الاوصاف المخصوصة لمن أراد الاتصاف بأهلية كشف دلالات النص إذ يقول : (اعلم أنه لا يكفي في المفسر أن يكون عالماً باللغة العربية مالم يعلم معها : النحو والرواية والفقه الذي هو العلم بأحكام الشرع وأسبابها، ولن يكون المرء فقيهاً عالماً بأحكام الشرع وأسبابها الا وهو عالم بأصول الفقه التي هي أدلة الفقه والكتاب والسنة والاجماع والقياس والاخبار وما يتصل بذلك، ولن يكون عالماً بهذه الاحوال الا وهو عالم بتوحيد الله تعالى وعدله وبأدلة واحكام الشرع. وكان بحيث يمكنه حمل المتشابه على المحكم والفصل بينهما، جاز له أن يشتغل بتفسير كتاب الله تعالى. ومن عدم شيئاً من هذه العلوم فلن يحل له التعرض لكتاب الله جل وعز إعتماداً على اللغة المجردة، أو النحو المجرد أو الرواية فقط) (1) ثم يضع معياراً لطبيعة العلاقة بين المحكم والمتشابه المحكومة برد المتشابه علىالمحكم كأنه يختم بيانه بتطبيق للأسس والضوابط التي أقرها فيقول: ( يبين ما ذكرناه ويوضحه أن المفسر لابد من أن يكون بحيث يمكنه حمل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَى ﴾ (الشورى/11) وقوله: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا

ص: 302


1- شرح الاصول الخمسة 607-606 .

مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ ﴾(الاعراف /179) إلى قوله﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ (الذاريات /56) وهكذا الحال في غيرهما من الآيات المتشابهة والمحكمة فهذا هو الذي يجب أن يكون عليه المفسر من الأوصاف) (1).

2 - مزية المحكم على المتشابه

ان أجلى ما يمكن تلمسه من تصور المعتزلة لمزية المحكم على المتشابه تمتد جذورها التأسيسية إلى أوائل المعتزلة ممثلة في إشارة القاسم الرسي إلى كون المحكم أصلاً للكتاب لا يقع فيه الاختلاف (2)وهي الحيثية التي تميزه عن المتشابه وتجعله مهيمناً عليه وتفرض المقايسة للفرع على الأصل والتقيد بحدود مرسومة تنطلق من الأصل وتنعكس على الفرع وبالتالي فان أي تفعيل للفرع أو تعامل معه في محاولة كشف دلالاته والاستضاءة بها في التعرف الى العقيدة محكومة بالخطوط العامة للمحكم وضرورة دفع أي تعارض ظاهري معه وهو يرى أن اغفال هذا الرد أو انكاره يترتب عليه الوقوع في مغبة التشبيه، فقد انكرت الحشوية من أهل القبلة رد المتشابه إلى المحكم وزعموا أن الكتاب لا يحكم بعضه على بعض وان كل آية واجب حكمها بوجوب تنزيلها وتأويلها ولذلك ما وقعوا في التشبيه وجادلوا عليه لما سمعوا من متشابه الكتاب فلم يحكموا عليه بالآيات التي جاءت بنفي التشبيه) (3).

هذا التأسيس نلاحظ له ملامح أخرى عند الإمام يحيى بن الحسين الزيدي الذي بلور هذهِ الرؤية العامة للمعتزلة في صورة قيادة النص المحكم (الإمام) للمتشابه (المأموم) حيث يرى أنه إذا فهم كون القرآن محكماً ومتشابهاً وناسخاً ومنسوخاً وخاصاً وعاماً (4) .. الخ (أخذ حينئذ بمحكم القرآن، وأقر بمتشابهه ،أنه

ص: 303


1- المصدر نفسه .
2- رسالة اصول العدل والتوحيد (ضمن رسائل العدل والتوحيد )1: 97 .
3- المصدر نفسه 1: 97-98 .
4- رسائل العدل والتوحيد 2: 188 .

من الله، كما قال الله سبحانه :﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ وَايَةٌ تُحْكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتُ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا نَتَشَبَهَ مِنْهُ ﴾. فلذلك جعل المحكم اما ما للمتشابه) (1)ولتأكيد هذهِ الإمامة يورد مجموعة آيات يراها محكمة تقع في باب الرؤية كقوله تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾(الاخلاص/4) وقوله : ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ﴾ (الشورى/11) وقوله : ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ﴾

(الانعام / 103) ثم يورد آيات أخرى تقع في باب التشابه كقوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ﴾

(الكهف/110). ويرى أن هذه المتشابهات لابد أن تأتم بالمحكمات بالعرض عليها لكشف المراد بها وتوجيه معنى ظاهرها وطريقة ذلك أنه يفسر الآية الأولى بأن المراد (ان الوجوه يومئذ تكون ناضرة مشرقة ناعمة، إلى ثواب ربها منتظرة) (2).

وعلى أن المراد من رجاء لقاء الله في الآية الثانية هو رجاء لقاء ثوابه)(3) .

ونجد أن هذهِ القضية تاخذ عند القاضي عبد الجبار حيزاً مهماً لما تمثله من أثر في استفادة أصالة المحكم وبالتالي تمثل قضية لابد من ترسيخ ركائزها بقوة للانطلاق بعد ذلك مع النصوص وممارسة التأويل في ضوء الاستناد إلى حاكمية العقل المستندة إلى النص في هذا الاطار بالذات. ويبني القاضي انتزاعه لأبعاد مزية المحكم على المتشابه من خلال استبيان ما يتفقان فيه وما يفترقان بعد تثبيت حصول هذهِ المزية فعلا، وتأكيد أن وجود الاختلاف لاينقض - كما قد يعترض معترض - الأصل الذي يقول به المعتزلة في (أن جميع كلامه تعالى سواء في أنه انما يدل بعد أن يعرف عز وجل أنه حكيم واذا كان كذلك فما الفائدة في الفصل بين المحكم والمتشابه)

ص: 304


1- المصدر نفسه 2:193 .
2- رسالة اصول العدل والتوحيد (ضمن رسائل العدل والتوحيد )2: 193.
3- المصدر نفسه 2:

(1) كما أنه لايخالفه للاجماع الذي يقول بكون المحكم أصلا للمتشابه وأن له من الحظ ما ليس للمتشابه كما نطق كتاب الله فقال : ﴿مِنْهُ وَايَتٌ تُحكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (آل عمران/7).

وتوجيه القاضي للقضية ورد الاعتراض يقوم على أن ما يقوله في هذا الباب لاينقض ماذكرناه من الأصل ولايخرج عن الاجماع والكتاب وذلك أن المحكم كالمتشابه من ،وجه وهو يخالفه من وجه آخر )(2).

فوجه الاتفاق بينهما يتعلق بطبيعة الاستفادة منهما في الاستدلال التي يحكمها أصل واحد يتساويان فيه هو الذي يمثل الطابع المنهجي للاعتزال القائم على أساس دليل العقل والذي يرتبط به المحكم والمتشابه من خلال هذه الحيثية بالذات حيث يقول القاضي في تصوير ذلك فاما الوجه الذي يتفقان فيه فما قدمناه من أن الاستدلال بهما أجمع لا يمكن الا بعد معرفة حكمة الفاعل وأنه لا يجوز أن يفعل القبيح)(3) . وهذا الأمر يرتبط بدليل العقل وارتباطه بالسمع من جهة أخرى يفهم من خلالها اتفاقهما وذلك كونهما متساويين في اعجازية الخطاب حيث( ان خطابه لما لم يمكن أن تعلم صحته الا بالمعجز ولم يميز ذلك بين المحتمل من كلامه ((المتشابه)) وبين المحكم منه حلاً محلا واحدا في هذا الباب)(4).

اما الأختلاف بين المحكم والمتشابه فهو في الحقيقة ما تتبين من خلاله مزية المحكم على المتشابه وهذا الاختلاف يتبين من خلال:

أ - أن دلالة المحكم على ما يدل عليه تتحقق بمجرد معرفة طريقة الخطاب

ص: 305


1- متشابه القرآن 1: 6
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه .
4- المصدر نفسه .

والعلم بالقرائن وذلك لما كان المحكم(في موضوع اللغة أو لمضامة القرينة لا يحتمل الا الوجه الواحد) (1).

اما المتشابه فليس كذلك لأنه لا يكفي لدلالته على ما يدل عليه أن يكون السامع (يحتاج عند سماعه إلى فكر مبتدأ ونظر مجدد ليحمله على الوجه الذي يطابق المحكم او دليل العقل)(2) أي ان يتمتع السامع بالقدرة على تمثل تحقق المرجعيتين لتحصيل دلالة المتشابه على المراد وهما الرد إلى المحكم كأصل ومن ثم موافقة أدلة العقل ودليل صحة ذلك (أنه عز وجل بين في المحكم أنه أصل للمتشابه فلابد أن يكون العلم بالمحكم أسبق ليصح جعله أصلاً له ولا يتم ذلك الا على ماقلناه)(3).

ب - التفريق من حيث كون المحكم والمتشابه متحققين في الأصول أم الفروع فعند التحقق في الأصول فهما متفقان في الارتباط بطابع الاعتزال المنهجي الثابت وهو أن يبنيا على أدلة العقل أصلاً (لأنه لا يصح ممن لم يعلم أنه جل وعز واحد حكيم لا يختار فعل القبيح أن يستدل أنه جل وعز بهذه الصفة بكلامه فالمحكم في هذا الوجه كالمتشابه)(4).

ولكنهما في هذا الاطار (العقلاني) نفسه يختلفان عند محاولة تفعيلهما في اطار إقامة الحجة على المخالف لاصول التوحيد والعدل حيث أن المخالفين في التوحيد والعدل يمكن أن نحاجهم بذكر المحكم ونبين مخالفتهم لما أقروا بصحته في الجملة (كونه متفق على واحدية المراد فيه ) ويبعد ذلك في المتشابه)(5).

ص: 306


1- متشابه القرآن 1: 6 .
2- المصدر نفسه 1: 76 .
3- المصدر نفسه 1: 7 .
4- المصدر نفسه
5- المصدر نفسه

وعند التحقق في الفروع فان مزية المحكم واضحة ثابتة تتعلق بكون المحكم لا يحتمل الا وجهاً واحداً بينما المتشابه ليس كذلك إذ المراد) به يشتبه على العالم باللغة ويحتاج إلى قرينة محددة في معرفة المراد به ويلتفت القاضي عبد الجبار هنا إلى ضرورة منهجية تتمثل في تأسيس معيارية لتحديد الأحكام والتشابه وهذا ما يستدعي تأشير المرجعية المؤثرة في هذا التحديد أهي اللغة من حيث دلالة المراد من اللفظ أم العقل ؟ ولما كانت اللغة تقتضي في أصل المواضعة أن كل كلمة تحتمل غير ما وضعت له بحيث تحتمل أكثر من مراد صار لازماً أنه( لو لم يرجع إلى أمر لا يحتمل لم يصح التفرقة بين المحكم والمتشابه)(1) وليس ذلك الا دلالة العقل التي هي وحدها لا احتمالية فيها.

3 - حكمة المتشابه وفوائده

يستحضر القاضي عبد الجبار ما يمكن ان يتمسك به معترض يتمسك بظواهر الأمور من أعتراض على تضمن النص القرآني للمتشابه في الوقت الذي يلزم من القرآن وهو الذي غايته البيان - أن يخاطب بالمحكم وهو الأولى في الحكمة والمصلحة وكيف يصح ذلك واحتواؤه عليهما معا يعني الاختلاف الذي نفاه تعالى عن كتابه بقوله: ﴿ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ (النساء / 82) وكل ذلك يوجب القدح في القرآن وهذا ما يستوجب تلمس وجه الحكمة في ورود الخطاب متضمناً المتشابه حيث يطعن القاضي في اصل الاعتراض القائم على حيثية المصلحة وتعلقها بالمحكم فقط دون المتشابه إذ يخالف هذا الرأي تماماً (لأن المصلحة قد تتعلق بالمتشابه فقط ومتى بيّن ذلك بطل ما أوردوه) (2). وينبني بيان هذهِ المصلحة عنده على مقدمات تتمثل في:

ص: 307


1- متشابه القرآن 1: 8 .
2- المصدر نفسه .

1 - ان الغرض من كتاب الله جل وعز التكليف وما يتصل به من ثواب وعقاب.

2 - ان العلوم يجوز أن يكون الصلاح فيها أن تكون ضرورية وأن تكون مكتسبة.

3 - ان الضرورية يجوز أن يكون الاصلح الوصول اليها بمعاناة أو بدونها وكذلك المكتسبة يجوز أن يكون الصلاح أن ينجلي طريقها وأن يكون في أن يغمض ذلك (وهكذا صارت العلوم في هذا الوجه بمنزلة سائر الأفعال التي يفعلها تعالى والتي يكلفناها)(1)أي ان المصلحة فيها ربما يكون لها أكثر من وجه. وبعد أن يوفر القاضي عبد الجبار لرأيه ما يدعمه من وجود المثل والقياس عليه يصل إلى تثبيت تحقق المثلية في موضوع البحث حيث يستدل على فساد الاعتراض المخالف بأن المحكم لا يخرج عن ذلك، حيث لايلزم ان يأتي على وجه واحد مع تأكيد كونه محكماً كله، فكما أنه (ليس لأحد في نفس المحكم أن يقول: هلا جرى على طريقة واحدة في الوضوح - لأنه قد يختلف في هذا الوجه وأن اتفق الكل في أنه قد أحكم المراد به فكذلك ليس له أن يلزم في البيان السمعي أن يجعل بابا واحداً فلا يكون الاً محكماً ولا في نسخه فلا يجعله الا باباً واحداً)(2).

وأما وجه الحكمة فأنه - مع التأكيد على مزية المحكم على المتشابه - الا أنه قد يكون للمتشابه

( مزية على المحكم في المصلحة)(3).

ومما يبين وجه المصلحة في ذلك أنه لو كان كل القرآن محكماً (لكان الأكثر يتكلون على التقليد، لأنهم الآن يتكلون على تقليده وفيه متشابه فكيف به لو كان جميعاً محكماً ؟ ومتى انقسم إلى الأمرين كان أقرب إلى أن يطلبوا الترجيح في أحدهما بالنظر والتفكر)(4). وهكذا يؤسس القاضي عبد الجبار على وجود المتشابه في القرآن

ص: 308


1- المصدر نفسه .
2- متشابه القرآن 1: 24 .
3- المصدر نفسه .
4- المصدر نفسه 1: 29 .

منطلقات نبذ التقليد والدعوة إلى النظر وبالتالي تفعيل العقل في مواجهة المجاهيل والمتشابه مما تستحث به هذه المواجهة بطابع الغموض الذي يكتنفه والذي يلزم كشفه بالعودة إلى المرجعيات الأصل (المحكم) وأدلة العقل وهذا أعمال نظر ونبذ تقليد وهو الأولى والأوثق ربطاً بالمصلحة ولما (ثبت أن الواجب على المكلف أن يعرف الله تعالى بالنظر والادلة ويحرم عليه الرجوع إلى التقليد في ذلك.... فكل أمر يبعث على النظر ويصرف عن التقليد فهو أولى في الحكمة، مما الأقرب فيه أن يدعو إلى التقليد)(1).

وهكذا صار الأولى والأصلح أن يأتي الخطاب بما هو أولى وأصلح فصار إنزاله عز وجل القرآن محكماً ومتشابها هو الأقرب إلى ذلك من وجوه، فيجب أن يكون حسناً في الحكمة وأن يكون أولى من أن يجعله كله محكماً)(2).

وللمتشابه بعد ذلك فوائد جليلة في تحقيق هذهِ المصلحة وغيرها وثبوت الحكمة من تضمن الخطاب له وتلمس تلك الفوائد عند القاضي عبد الجبار يدلنا بوضوح على سعيه بجهد دؤوب إلى توطيد أركان سلطة العقل وتفعيل دوره وخلق أجواء التنوير المنطلق من كليات النص ولكن المستضيء بهدي دليل العقل. هذه الفوائد يمكن إجمالها في:

أ - حث سائر أهل المذاهب على النظر والتأمل في النص لأنهم منى ظنوا وجود مایؤید مقالاتهم ويدفع ما عند خصومهم - وهذا ما يحتمله المتشابه - صارت رغبتهم في النظر فيه أقوى وتأملهم له أعمق فيكون ذلك( داعية للمحق إلى انشراح صدره وللمبطل إلى تأمل ما يزول به عن باطله. ولو كان جميعه محكماً لما حصل هذا الوجه )(3).

ص: 309


1- المصدر نفسه 1 :25 .
2- المصدر نفسه
3- انظر المغني 16: 373 وانظر أيضاً شرح الاصول الخمسة 610-600.

فالقاضي عبد الجبار هنا يلاحظ مدى الفائدة التي يجنيها الواقع الفكري من اثارة استعدادات العقل المتمثل للنص للخوض في آفاقه والكشف عن دلالاته بما يعود بفائدة جليلة للوصول الى الحق.

ب - ان التعارض الظاهري الواضح بين دلالات المحكم والمتشابه يفتح الطريق امام أدلة العقل للدخول إلى ساحة البحث حيث أن وجودهما سوية في النص سيلجيء من يبتغي الحق والبصيرة إلى (الرجوع إلى أدلة العقول لينكشف بها الحق من الباطل فيعلم ان الحق في المحكم، وأن المتشابه يجب حمله على ما يوافق المحكم)(1).

ج - ان تضمن الخطاب لكليهما يمثل دعامة لحث الوعي عند اتباع أهل المذاهب وابعادهم عن التقليد ويبعد قاريء القرآن عنه فليس تقليده كلام الله تعالى في آية محكمة في نفي التشبيه كقوله تعالى: ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ﴾(الشورى/11) بأولى من أن يقلده في آية خلافها متشابهة كقوله تعالى: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴾ (الفجر /22) لذلك كله فأن انقسام القرآن الكريم إلى محكم ومتشابه (يصرف عن التقليد لامحالة وما صرف عن التقليد المحرم وبعث على النظر والاستدلال فهو في الحكمة أولى، فيكون وجود المتشابه في القرآن أولى(2).

4 - حجيته في الاستدلال وكيفيته

في هذا الاطار نجد القاضي عبد الجبار يمرر إلى المتصدي لفهم النص اشارات عديدة لكيفية تفعيل النص في تدعيم الدليل. وبالتالي كشف امكانيات التوافق مع النص ومواطن التقاطع مع أصوله لكي يتم تجنبها من جهة بالتوفيق بينهما ولتثبيت أركان مهمة لمنهج فهم متكامل في بناء منظور العقيدة خصوصاً في الآفاق التي لاينهض بتفصيلها الا النص وحده من جهة ثانية، وهذه ضرورة ملجئة إلى تعامل واعِ

ص: 310


1- المغني 16: 373 374، وأنظر أيضاً متشابه القرآن 1: 25 شرح الاصول الخمسة 601.
2- متشابه القرآن ،1 ،25 وأنظر شرح الاصول الخمسة 600- 601.

ومحسوب الخطوات ومنطقي التدريج في متابعة مستوى حركة النص المتصاعدة في كشف المنظور المركزي للعقيدة.

في هذا الاطار العام لانجد بين المفهومين( المحكم والمتشابه) فرقاً في الأهلية للاستدلال حيث أن القرآن هنا كله حجة ودليلية في محكماته ومتشابهاته غاية الأمر أن المتشابه منه إنما يحتاج إلى زيادة معرفة السامع بالوجه الذي تقتضي المرجعيات العقل المحكم، اللغة أن يصرف اليه بخلاف المحكم الذي يقف دالاً بنفسه على المراد لايحتاج الا دلالة اللغة في بيان الوجه الذي وضع له ليحمل عليه.

فالمتشابه (ليس كذلك فان الاحتجاج به يقع على خلاف الوجه الذي يقع عليه المحكم)(1).

ويحتاج بيان كيفية الاستدلال منه إلى وجهين (2):

أحدهما يتصل بنفس الخطاب وموضوعه .

والآخر بما يدل عليه من الاحكام العقلية والسمعية.

إذ أن لهذين الاعتبارين تأثيراً في توجيه الاستقلال في الدلالة أم الحاجة إلى غيره منها إذ ينقسم الخطاب في ذلك على ضربين (3):

1 - المستقل بنفسه في الإنباء عن المراد

2 - غير المستقل بنفسه فيما يقتضيه بل يحتاج إلى غيره.

وهذا الضرب الثاني له قسمان أيضاً:

أحدهما يعرف المراد به وبذلك الغير بمجموعهما.

ص: 311


1- ظ متشابه القرآن 1: 33-32 .
2- المصدر نفسه 1: 33 .
3- ظ المصدر نفسه 1: 34 (بتصرف).

الثاني يعرف المراد به وبذلك الغير بانفراده ويكون هذا الخطاب لطفاً وتوكيداً.

والخطاب في هذين القسمين يحتاج في انكشاف دلالته إلى قرائن (قد تكون متصلة سمعاً وقد تكون منفصلة سمعاً وعقلاً حيث يتظافر الدليلان في إثبات المطلوب فالدليل العقلي وان امكنه هنا الانفصال ألا أنه كالمتصل في أن الخطاب يترتب عليه، لأن قوله جل وعز:﴿ يَأَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ ﴾ (سورة البقرة /21) مع الدليل العقلي الدال على أنه لا يكلف من لاعقل له أكد في بابه من أن يقول: يا أيها العقلاء اتقوا ربكم)(1).

أما آليات الاستدلال وكيفية قيامه فيتبين من خلال طرح القاضي عبد الجبار لها مجمل الرؤية العامة للمنهج الاعتزالي عموماً في التعامل مع النص القرآني فأنه متى ورد الخطاب وأمكن حمله على ظاهره عندما لا يتقاطع مع أدلة العقل وكان الخطاب ظاهراً في وضع اللغة سواء أكان عاماً أو خاصاً، وجب حمله على ما يقتضيه ذلك الظاهر وهذا يلحق بالقسم الذي يستقل بنفسه في الدلالة من الكلام ومتى كان الخطاب ممتنع الحمل على الظاهر استوجب هنا النظر والتأمل في أي الوجوه المحتملة يجب حمله عليها (2).

هذا النظر والتأمل كما يرى القاضي هو تلمس الملامح السابقة الذكر (بأن تطلب القرائن على الوجه الذي ذكرناه)(3).

ومن المؤكد أن النظر أمر يتفاوت فيه الناس وبحسب قدرة الناظر يكون الفلاح في إصابة الوجه المراد من الخطاب وهذا ما يلتفت القاضي عبد الجبار إلى أهميته کرکن آخر مكمل لصورة الاستدلال يستحضر الاستعدادات الذاتية فليس كل من نظر

ص: 312


1- المصدر نفسه 1: 34 .
2- المصدر نفسه 1 :35 (بتصرف ).
3- المصدر السابق نفسه والصفحة نفسها.

وتأمل نجح في الوصول إلى مستوى الدليلية والاعتبار لذلك يقول( ان كان السامع قد تمهدت له الأصول وعرف العقليات وما يجوز فيها وما لا يجوز، وعلم مايحسن التكليف فيه ومالا يحسن وعلم من جمل اللغة ما يعرف به أقسام المجاز ومفارقاتها للحقائق حمله على ما أريد به في الحال والا أحتاج إلى تكلف نظر عند سماعه ذلك، فان تكاملت الآلات له أمكنه النظر في الحال والا احتاج إلى التشاغل بمافي الأصول حتى تتكامل آلاته ويصير من اهل الاجتهاد فيمكنه ان يحمل الخطاب على حقه)(1).

دور العقل ودور الشرع: الركيزة الأخيرة في منهج الاستدلال بالمتشابه يبينهما القاضي على أساس تحديد دور كل من العقل والشرع في كشف دلالات الخطاب حيث ينقسم الخطاب بهذا الاعتبار على قسمين (2):

الأول: الأحكام الشرعية وهي مالولا الخطاب ماكان للعقل أن يعلمها إذ لولاه (لما صح أن يعلم بالفعل الصلوات الواجبة ولا شروطها ولا أوقاتها، وكذلك سائر العبادات.

الثاني مادل على مالولاه لأمكن أن يعرف بأدلة العقول وهذا ينقسم على قسمين:

1 - مالا ينفرد العقل بعلمه وهو مالولا الخطاب لامكن أن يعلم بادلة العقول ويصح ان يعلم مع ذلك بالخطاب فيكون كل منهما كالآخر في صحة معرفة الغرض به وهذا كنفي الرؤية عن الباري تعالى إذ تصح معرفته بالعقل والسمع.

2 - ما يمكن للعقل علمه متفرداً عند عدم الخطاب ولايمكن علمه الا للعقل كالتوحيد والعدل، وهذان تحتاج معرفتهما ابتداء إلى أصل العقل من حيث تستند اليه حجية دلالة السمع؛ لأن قوله تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ﴾(الشورى /11)

ص: 313


1- المصدر نفسه .
2- المصدر نفسه : 37-35 (بتصرف).

و ﴿وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾(الكهف /49) و﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ (الاخلاص / 1) (لا يعلم به التوحيد ونفي التشبيه والقول بالعدل لأنه حتى ان لم يتقدم العقل ومعرفة الانسان بهذه الأمور عقلاً لم يعلم أن خطابه تعالى حق، فكيف يمكن الاحتجاج فيما أن لم تتقدم معرفته به لم يعلم صحته).

إلى هذا الحد من استعراض الملامح والابعاد المنهجية وتفصيل بيان الأسس

والضوابط التي ينطلق منها فهم النص عند المعتزلة يكون قد تشكل تصور اجمالي عام يمثل رؤية لمنهج المعتزلة في فهم النص الا أن هذا التصور يكتسب أقوى دعائم تحوله إلى تصديق وتفصيل لذلك الاجمال حين تستعرض تطبيقات هذا المنهج فعلياً بالدخول إلى التعامل الفعلي لمتكلمي المعتزلة مع النصوص القرآنية لربط التصور بمصاديق تحققه في مواجهة مباشرة مع حركة المتكلم المعتزلي في ضوء العقل مسلحا بالتأويل يخوض غمار معركة وُفّق فيها كثيراً وأخفق أحياناً حين غالى في تقدير دور العقل إذ أطلقه منفرداً في ساحة كان يحتاج فيها إلى العون.

فهذه التطبيقات ستكتمل بها ملامح رؤية عامة لمنهج المعتزلة في فهم النص القرآني لهذا سيفرد لها البحث المبحث القادم.

ص: 314

الفصل الثالث : نماذج تطبيقية في فهم المعتزلة للنص القرآني

اشارة

ص: 315

توطئة:

بعد هذه الرحلة مع مراحل التأسيس والتنهيج في الفكر الاعتزالي في محاولة لتشكيل رؤية واضحة عن دور النص القرآني في هذا الفكر وطريقة توجيهه وتوظيفه لاثبات اصوله استدلالا في الاثبات او الرد لابد من استقراء تطبيقات هذا المنهج عند التعامل مع النصوص.

وقد توزعت النصوص القرآنية على مجمل الأصول الخمسة عند المعتزلة بحيث يكاد لا يبقى موضوع من هذه الأصول إلا ولهم عليه بحث في نص قرآني.

ولا مجال هنا للخوض في استقراء كل ما اعتمده المعتزلة من نصوص وكيفية تعاملهم معها. وهذا ما يفرض محاولة انتخاب اقرب النصوص واوضحها دلالة على تأييد التطبيقات للرؤية التي تم انتزاعها على انها تمثل منهج المعتزلة في فهم النص.

ولابد من الاشارة إلى ان الدليل العقلي وفاعليته في المنهج الاعتزالي قد اخذ مساحة واسعة من رؤيتهم لاصولهم وهو يتظافر مع الدليل السمعي - القرآني منه بالذات - في تأكيد منهجهم ولكن هذا الدليل (العقلي) لن يجد في هذا المبحث مكانا لأنه يستدعي وقفات يطول معها البحث، كما انه يتعارض مع الاساس الذي لاجله عقد البحث في التطبيقات.

وتجدر الاشارة هنا ايضا إلى ان النص القرآني وفهمه عند المعتزلة كان اجلى ما يتمثل تطبيقا في جهود القاضي عبد الجبار، لأنه الأكثر تأليفا في الجوانب القرآنية في تشكيل المنظور الاعتزالي للعقيدة وصاحب الحظ الاوفر في وصول اغلب مؤلفاته في ذلك الجانب.

ص: 316

فنحن نجد للنص القرآني حضورا واضحا في كتبه 1 - متشابه القرآن 2 - تنزيه القرآن عن المطاعن 3 - شرح الأصول الخمسة 4 - المغني ( في اكثر من جزء )وسيتابع البحث قدر ما يجب ان يتابع نصوص باقي متكلمي المعتزلة خصوصا ما توافر منها في مؤلفات المعتزلة انفسهم.

ومنهج العرض في هذهِ التطبيقات سيسود على منهج التحليل، ذلك ان أي تدخل للباحث على هذه التطبيقات قد يتعارض مع الغاية من ايرادها وهي ملاحظة مدى التطابق بين المسلك المنهجي التأسيسي والمسلك التطبيقي، كما ان هذا العرض سيتابع حركة النص القرآني من خلال توظيف المعتزلة له حسب اصولهم الخمسة: 1 - التوحيد 2 - العدل 3 - الوعد والوعيد 4 - المنزلة بين المنزلتين 5 - الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

الأصل الأول: التوحيد

وجوب النظر :

كان مما ثبت في منهج المعتزلة اهمية العقل ودوره في المعرفة وابتدائها ومما يترتب على هذا قول المعتزلة في النظر فهم يرون (ان اول ما يجب على الانسان هو النظر والتفكر في طريق معرفة الله تعالى )(1)وهو واجب عقلا كما يرون (2)ولكنهم يستدلون عليه ايضا بالدليل السمعي ومما يستدلون به على ذلك انطلاقا من النص

ص: 317


1- القاضي عبد الجبار: المختصر في اصول الدين (رسائل العدل والتوحيد) 170.
2- ظ: القاسم الرسي: اصول العدل والتوحيد (رسائل العدل والتوحيد )ص 98 ،القاضي عبد الجبار :شرح الاصول الخمسة 88 .

القرآني (السمع): (انه تعالى اوجب النظر وحث عليه ومدح فاعله وذم المعرض عنه فقال جل وعز قُلِ انْظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ) (يونس/101) وقال جل :وعن أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (الغاشية/17) وقال تعالى: ﴿ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (الذاريات /21)..)(1).

ويرى القاضي عبد الجبار ان كل ما جاء في القرآن من تنبيه على الحجاج (يدل على وجوب النظر وفساد التقليد)(2) .

أركان التوحيد :

ينقسم وجوب النظر في معرفته تعالى كما يرى القاسم الرسي على وجهين إثبات ونفي وهما يشكلان اساس معايير التوحيد حيث سنجد ان تلك المعايير لها ثلاثة وجوه تترتب على ذلك النفي والاثبات وهي(3):

1 - الفرق بين ذات الخالق وذات المخلوق حتى ينفي عنه جميع ما يتعلق بالمخلوقين.

2 - الفرق بين الصفتين حتى لا تصف القديم بصفة من صفات المحدثين.

3 - الفرق بين الفعلين حتى لا تشبه فعل القديم بفعل المخلوقين.

وما يترتب على هذه المعايير ان مخالفتها تدفع إلى خلاف التوحيد (فمن شبه بين الصفتين ومثل بين الفعلين فقد جمع بين الذاتين، وخرج إلى الشك والشرك بالله وبرئ من التوحيد والايمان)(4) .

ص: 318


1- المختصر 171.
2- المصدر نفسه .
3- اصول العدل والتوحيد( رسائل العدل والتوحيد) 98.
4- المصدر السابق نفسه 99 .

ويؤكد القاضي عبد الجبار لوازم للتوحيد حيث يدور على خمسة أصول يشترك في بعضها مع ما ورد تفصيله عند الرسي. هذه الأصول إذ عرفت تحصل معها جملة ما يلزم فيه وهي(1) :

1 - إثبات حدوث العالم.

2 - إثبات المحدث.

3 - بيان ما يستحقه من الصفات.

4 - العلم بما لا يجوز عليه من صفات المخلوقين.

5 - إثبات وحدانيته.

وسيتكاتف الدليل السمعي (القرآني) مع العقلي الذي هو الأصل عند المعتزلة - على تدعيم هذا الأصل بكل حجج الاثبات والمهم هنا هو استطلاع ما اورده المعتزلة من نصوص قرآنية وطريقتهم في توجيهها وسينقسم البحث في تطبيقاتهم على اصل التوحيد إلى مجموعة امور تنطلق من المعايير السابقة الذكر كالآتي:

الوحدانية

من اهم ما يستدل به المعتزلة لاثبات انه تعالى واحد هو دليل (التمانع) والذي يقوم على نفي التعدد حيث انه لو كان مع الله تعالى ثان لم يخل من ان يكون غير ،واحد، وهذا لا يصح لأنه يجب إذا كان قديما ان يكون مثلا له لان القدم صفة من صفات النفس والاشتراك في صفات النفس يوجب التماثل فاذا كان تعالى قادرا لذاته وجب في الثاني ايضا ان يكون قادرا لذاته، ولو كان كذلك لوجب إذا اراد احدهما احياء جسم واراد الاخر اماتته ان لا يكون فعل احدهما بالوجود اولى من فعل الاخر

ص: 319


1- المختصر (رسائل العدل والتوحيد) 173.

وهذا يوجب اما ان لا يوجد مرادهما جميعا، وفي ذلك ايجاب ضعفهما او ان يوجد مراد احدهما دون الآخر وذلك يدل على ضعفه وانه ليس بقديم مع الله فاذا لم يجب ان يكون تعالى الا واحدا (1).

هذا المعنى يستدلون عليه بالنص القرآني قوله تعالى:﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا وَالِهَةٌ إِلَّا اللهُ لَفَسَدَنَا ﴾(الانبياء /22).

ووجه الاستدلال كما يرى القاضي عبد الجبار في الآية بقوله: (لأنه كان لا يمتنع ان

يريد احدهما تسكينهما ودوران الفلك فيهما على هذا الحد، ويريد الآخر ضد ذلك فيقع الفساد ويزول الصلاح) (2)

والاستدلال بالسمع هنا يصح في حق من يؤمن بالوحي الذي يرى المعتزلة ان من

نصوصه الاخرى الدالة على التمانع (3) ووحدانيته تعالى : قوله تعالى:﴿ وَمَا مِنْ إِلَهِ إِلَّا إِلَهُ وَاحِدٌ ﴾(المائدة/73) وقوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ﴾ (الاخلاص /1) فثبت بذلك انه( لا يجوز ان يكون مع الله تعالى قديم ثان)(4).

ما يتفرع عن اصل التوحيد :

يتفرع عن اصل التوحيد عند المعتزلة مجموعة قضايا تمثل في تفصيلاتها آراء في العقيدة وتتناول مباحث متعددة يتناولها البحث بالتفصيل مركزا على توظيف النصوص القرآنية فيها:

ص: 320


1- انظر المختصر ،199 ، وما اضافه د. محمد عبد الهادي ابو ريدة من شروح وتعليقات لتلامذة القاضي عبد الجبار الشرح الاصول الخمسة على تحقيقه المخطوطة (ديوان الاصول) لابي رشيد سعيد بن محمد النيسابوري وما لخصه ابو ريدة من آراء المعتزلة / ص 626 نشر وزارة الثقافة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والطباعة والنشر 1968م وسنشير إلى ذلك دائما ب_ ديوان الاصول وقد جمعنا بين النصين عن المختصر وديوان الاصول .
2- المختصر 199.
3- ديوان الاصول 626 .
4- ظ الشهرستاني: الملل والنحل 1 :45-44

أ - طبيعة استحقاقه تعالى الصفات :

من وجوه التوحيد في نظر المعتزلة انه تعالى واحد في كل وجه ومن مصاديق ذلك انهم نفوا عنه تعالى صفات زائدة على الذات وقالوا ان صفاته تعالى عين ذاته فهو عالم بذاته، قادر بذاته حي بذاته لا بعلم وقدرة وحياة هي صفات قديمة ومعان قائمة بذاته، لأنها لو شاركته في القدم لشاركته في الالهية.

يعبر القاضي عبد الجبار عن التوحيد في هذا الجانب بقوله (العلم بأن الله واحد لا يشاركه غيره فيما يستحق من الصفات نفيا واثباتا على الحد الذي يستحقه والاقرار به) (1)وحده فيما يتعلق بالصفات الأصل فيه ان يعلم :(انه تعالى كان قادرا فيما لم يزل ،ويكون قادرا فيما لا يزال ولا يجوز خروجه عنها لضعف او عجز وانه قادر على جميع اجناس المقدورات )(2)وهي قدرة لذاته وليست بقدرة، وفي صفة العلم جملة القول (انه يجب ان يعلم انه تعالى كان عالما فيما لم يزل ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة بجهل او سهو وانه عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصح ان تعلم عليها)(3) وفي صفة الحياة ( جملة القول ان يعلم انه تعالى كان حيا فيما لم يزل ويكون حيا فيما لا يزال ولا يجوز خروجه عنها في حال من الاحوال لا بموت ولا بما يجري مجرى ذلك)(4) وهكذا في صفاته تعالى نجد القاضي عبد الجبار يصور رأي المعتزلة بعينية الصفات للذات فهو عالم قادر حي بذاته لا بعلم وحياة وقدرة...

ويرى القاضي عبد الجبار ان هذه المسألة ليست مما يستدل عليه بالسمع واصل المعتزلة المنهجي

(المعياري) في بناء اصولهم على اسس عقلية يخالف ذلك

ص: 321


1- شرح الاصول الخمسة 128.
2- المصدر نفسه 155 .
3- المصدر نفسه 160.
4- المصدر نفسه 166 .

لهذا فهو حين يرد على المخالفين في قوله في الصفات - وهو هنا هشام بن الحكم (ت 179ه_) بانه تعالى يستحق تلك الصفات لمعان محدثة وتعلقه بالسمع فاورد دليلا آيات كريمة (كقوله تعالى:

﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوا أَخْبَارَكُمْ ﴾(محمد /31) وحتى إذا دخلت على الفعل المضارع افادت الاستقبال وهذا يدل على انه تعالى حصل عالما بعد إذ لم يكن عالما وقوله تعالى:﴿ الْئَنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ﴾ (الانفال/66) قالوا: فعلق التخفيف عنهم بهذا الوقت ثم عطف عليه العلم فيجب ان يكون عالما بعلم محدث) (1)نلاحظ ان رده يأخذ طريقين(2):

يتمثل الأول في توضيح الاساس المعياري السابق الاشارة والذي يرتبط بالاصول العقلية للمعتزلة والقائم على عدم جواز الاستدلال بالسمع على مسألة تنبني صحة السمع عليها وذلك لأن الاستدلال عليها (( بذلك )) يجري مجرى الشيء على نفسه وذلك مما لا يجوز ولأنه استدلال بالفرع على الأصل.

اما الثاني فهو توجيهه للآيات الكريمة التي احتج بها المخالف بما يؤيد رأيه حيث يقول ان العلم قد ورد بمعنى المعلوم : يقال جرى هذا بعلمي أي وانا عالم به.. ويقال هذا علم ابي حنيفة وعلم الشافعي، أي معلومهما، واذا ثبت هذا فقوله تعالى: ﴿ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَهِدِينَ منكم ﴾المراد به حتى يقع الجهاد المعلوم من حالكم، وقوله تعالى: ﴿ الْكَنَ خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ﴾ أي وقع الضعف المعلوم من حالكم وقوعه....)

كما يرد من وجه آخر على من يتصور انه تعالى يستحق هذه الصفات لمعان قديمة بانه لو كان الامر كذلك لوجب ان تكون مثلا لله تعالى)(3)وهو هنا يتخذ

ص: 322


1- شرح الاصول الخمسة 194.
2- المصدر194-195 وانظر ديوان الاصول 583 .
3- المصدر نفسه 197.

الطريقين السابقين أنفسهما في الرد، فالمسألة مما لا يستدل عليه بالسمع اما الآيات التي يستدلون بها (1)كقوله تعالى: ﴿أَنزَلَهُ بِعِلمه ﴾ (النساء/166) وقوله تعالى: ﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ ﴾ (سورة البقرة/255) وقوله تعالى:﴿ فَلَنَقْضَنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ ﴾(الاعراف (7) ويستدلون على القدرة بقوله تعالى: ﴿وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَهَا بِأَتِيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ (الذاريات (47) أي بقوة وقوله تعالى: ﴿هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ (فصلت/15). فيرى ان الاستدلال بالآيات هنا استدلال بالظاهر ولا تعلق لهم به لأن هذهِ الباءات انما تدخل في الآلة كقولهم: امشي برجلي واجذب بيدي.. وليس العلم بآلة فيما دخل فيه)(2).

اما إذا عدل عن الظاهر إلى التاويل فليس الخصم اولى منه بذلك ولذا فهو يؤول الآيات بما يوافق أصول المعتزلة (الدلالة العقلية):

فقوله تعالى:﴿ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ﴾ أي وهو عالم به.

وقوله تعالى: ﴿ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ ﴾أي معلوماته.

وأما صفة القدرة واستدلالهم عليها بقوله تعالى: ﴿ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾(فصلت/15) فيجب ايضا حمله على ما يوافق ادلة العقول فمعنى الآية المراد بها (وصف اقتداره وانه اقدر القادرين)(3).

ب - نفي التشبيه والتجسيم :

يمثل التنزيه المطلق للباري تعالى عن مشابهة المخلوقين والاتصاف بلوازم الجسمية ركيزة اساسية في اصل التوحيد عند المعتزلة وقد اجمعوا على ذلك.

ص: 323


1- شرح الاصول الخمسة 211 ، ديوان الاصول 583
2- المصدر نفسه ،212 وانظر ايضا ديوان الاصول: 583 .
3- انظر تأويله للآيات في شرح الاصول الخمسة 212 .

يقول الأشعري واصفا عقيدتهم في التوحيد انهم (اجمعوا على ان الله واحد ليس كمثله شيء وهو السميع البصير وليس بجسم ولا شبح ولا جثة، ولا صورة ولا لحم ولا دم ولا شخص ولا جوهر ولا عرض ولا بذي لون ولا طعم ولا رائحة ولا مجسَّة ولا بذي حرارة ولا برودة ولا رطوبة ولا يبوسة ولا طول ولا عرض ولا عمق ولا اجتماع ولا افتراق ولا يتحرك ولا يسكن ولا يتبعض وليس بذي ابعاض واجزاء وجوارح واعضاء وليس بذي جهات ولا بذي يمين وشمال وامام وخلف وفوق وتحت ولا يحيط به مكان ولا يجري عليه زمان ولا تجوز عليه المماسة ولا العزلة ولا الحلول في الاماكن ولا يوصف بشيء من صفات الخلق الدالة على حدوثهم...)(1).

كما نقل الشهرستاني صورة التنزيه المعتزلي عن التشبيه بأنهم اتفقوا على (نفي التشبيه في كل وجه جهة ومكانا وصورة وجسما وتحيزا وانتقالا وزوالا وتغيرا وتأثرا)(2).

هذا الموقف التنزيهي يلخصه القاضي عبد الجبار بقوله ( وجملة القول في ذلك ان الذي يلزمه

(المكلف) ان الله تعالى لم يكن جسما فيما لم يزل ولا يكون كذلك فيما لا يزال، ولا يجوز ان يكون على هذه الصفة بحال من الاحوال)(3).

والحق ان هذهِ القضية اخذت حيزا واسعا من ساحة الخلاف الفكري بين المذاهب الكلامية الاسلامية والنقطة المحورية في هذا الخلاف كانت منطلقاتها الرئيسية (الاصول) عقلية إلا ان ترتب الخلاف ظهر اكثر ما يكون جلاء من خلال الموقف من النصوص القرآنية التي جاءت الكثير من ظواهر الآيات فيها بما يتنافى مع

ص: 324


1- مقالات الاسلاميين 1: 216 .
2- الملل والنحل 1: 45 .
3- شرح الاصول الخمسة 216، 230 .

لوازم الالوهية وتنزيهها عما لا يليق بالذات المقدسة فالتعارض الحقيقي يبدأ من نقطة الانطلاق في التعامل مع تلك النصوص.

وكان موقف المعتزلة من هذهِ القضية محكوماً تماما باصولهم وأسسهم العقلية في التعامل مع عموم قضايا العقيدة فضلا عن التعامل مع النصوص السمعية كمادة الصياغة تلك العقيدة او الاستدلال عليها او رد شبه المخالفين لها.

فأصول المعتزلة كما سنرى تعلقت بتثبيت مرجعيات تمثل أصول غير قابلة

للاحتمال وتتمثل في ثوابتهم العقلية في اصولهم الخمسة واعتبار كل ما وافقها من النصوص صنواً في الاحكام والاصلانية يصلح للتعرف والاستدلال ويجب المقايسة اليه وتحكيمه على الشق الثاني من تلك النصوص مما يخالف الأصول العقلية ويتقاطع معها وبالتالي يقع حله الأول عندهم في اعتباره متشابها فيكون ان تترتب عليه معالجاتهم المنهجية ممثلة في:

1 - عرضه على المحكم لتحديد اطار عام يبعده عن كل ما ينفيه المعتزلة ويرونه مخالفا.

2 - عرضه إلى اصولهم العقلية العامة التي تتوائم مع المحكم من الكتاب.

3 - استفادة مرجعية الأصول المساندة الاخرى في املاء الفراغات التي ليس للدليل العقلي الخوض فيها - من المعالجات الفنية البحتة - او التي لم يتفرغ النص نفسه لمعالجتها تفصيليا كالضوابط اللغوية والبلاغية.. الخ.

هذه الامور الثلاثة مما يقع ضمن اطار التأويل لدفع التعارض بين النص والاصول فكان هذا هو طريق المعتزلة في التعامل مع تلك الآيات المتشابهة وخصوصا ما استلزم منها في ظاهره الوقوع في مغبة التجسيم والتشبيه واهم تلك النصوص ما ورد فيه ذكر صفات خبرية كالوجه واليد والساق والاستواء على العرش والجنب والبعد

ص: 325

والقرب والمجيء.. الخ حيث نلاحظ هنا ان منهج المعتزلة تجاه هذه الآيات تمثل في انهم (اوجبوا تأويل الآيات المتشابهة وسموا ذلك النمط توحيدا)(1) كما يعبر الشهرستاني فهم جميعا يؤولون كل آية توهم تشبيه الباري ويحتكمون فيها إلى قوله تعالى: {ليس كمثله شيء} (الشورى /11) لأنها تشبهه بالحوادث او تنسب اليه ما يصوره جسما ويردون بأدلة العقل والنقل اقوال المشبهة والمجسمة وللنص القرآني ظهور واضح في هذا الرد الذي ينطلق من نفي لوازم الجسمية عنه تعالى لأنه لو كان جسما لوجب ان لا يخلو من دلائل الحدوث كالقرب والبعد والاجتماع والافتراق وكان يجب ان يكون محدثا كهذه الاجسام وايضا فكان يجب ان يحتاج إلى مركب ومصور ومؤلف له كما تحتاج الاجسام إلى ذلك)(2)، ومن النماذج على تأويل الآيات التي وردت فيها الصفات الخبرية :

صفة الوجه

ينقل الأشعري عنهم موقفا اتفاقيا على قولين(3):

الأول: لأبي الهذيل العلاف (ت بعد 226 ه_) وهو: ان وجه الله هو الله.

الثاني : يستند إلى الآية وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ (الرحمن /27) .

وممن يمثله النظام (ت بين 221-231 ه_)(4) ويرى ان معنى الآية: ويبقى ربك، من غير ان يكون يثبت وجها يقال انه هو الله او لا يقال ذلك فيه.

ولا شك ان القولين عموما يتوافقان مع التنزيه ولا يشيران إلى إثبات الوجه بالمعنى الظاهري .

ص: 326


1- الملل والنحل 1: 45 .
2- القاضي عبد الجبار : المختصر( رسائل العدل والتوحيد )185 .
3- ظ مقالات الاسلاميين 1:262.
4- المصدر نفسه 228 .

وكان القاضي عبد الجبار اكثر وضوحا في ربط الآية بأصل التوحيد القائم على نفي التشبيه وان توصل إلى نفس المعنى للآية، فالآية لا تدل على إثبات وجه له تعالى عن قولهم (( المجسمة )) وسنده في ذلك اللغة العربية (لغة النص) واستعمالاتها للفظ الوجه ذلك ان الوجه فيها( قد يراد به ذات الشيء، وعلى هذا تقول العرب هذا وجه الرأي، ووجه الامر، ووجه الطريق ومتى كان الكلام فيما لا بعض له فلا شك ان المراد به ذاته فيختلف موقع هذه اللفظة بحسب ما يستعمل فيه، فإذا صح ذلك وجب ان يكون المراد : ويبقى ربك)(1).

وفي قوله تعالى: ﴿ وَكُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ (القصص (88).

نجد القاضي يستحضر نفس تفاصيل الأسس اللغوية في استعمال لفظ الوجه معتمدا عليها في رد استدلال المجسمة بالآية إذ يرى ان المراد بها (كل شيء هالك إلا ذاته أي نفسه والوجه بمعنى الذات مشهور في اللغة، يقال: وجه الثوب جيد، أي ذاته جيدة)(2).

صفة العين

يجمع المعتزلة على انكار العين لله تعالى وينقسمون إلى فرقتين في طبيعة حيثية هذا الانكار فمنهم من انكر اصلا ان يقال انه ذو عين وان له عينين ومنهم من قال بالعين وانه تعالى اراد بها العلم وانه ،عالم، وتأول قوله تعالى: ﴿ وَلِيُصْنَعَ عَلَى عيني﴾ (طه/39) أي بعلمي(3) .

وهذا ما يؤيده القاضي عبد الجبار فهو حين يرد على المجسمة استدلالاهم بالآية

ص: 327


1- متشابه القرآن 2 :638-637.
2- شرح الاصول الخمسة 227.
3- ظ الأشعري: مقالات الاسلاميين 1: 248

وقولهم: انه تعالى اثبت لنفسه فيها العين وذو العين لا يكون إلا جسما، يرى ان الأصل في لفظ العين في اللغة ان تكون بمعنى العلم، يقال: جرى هذا بعيني أي بعلمي وهو يؤكد ضرورة هذا التأويل في اللفظ هنا وإلا استلزم تعدد الاعين حسب دلالة ظاهر آية اخرى يقول ( ولولا) ما ذكرناه وإلا لزم ان يكون لله تعالى عيون كثيرة لأنه قال: {بأعيننا} والمعلوم خلاف ذلك)(1)فهذه الآية الثانية قوله تعالى :﴿ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا ﴾ (القمر /14) تقتضي التعدد ويرى ان تأويلها يكون ايضا على ان المراد بالعين فيها هو العلم حيث قال انها تجري ونحن عالمون بها، فكنى بالأعين عن علمه بأحوالها. كما يقال: هذا بمرأى من فلان ،ومسمع، ويقال لفلان عين، إذا تحسس الخبر ليعرف..)(2).

فلا بد مع الآية الثانية من مخالفة الظاهر حيث ان (حمله على ظاهره يمتنع لأنه يوجب ان لله عيونا كثيرة، لا عينين ) (3).

ومثل هذا يقوله مع الآية الاخرى التي ذكرت العين فيها بالجمع وهو يلزم في تأويله لها من استند إلى الظاهر من المجسمة فالآية لا تدل على ما يقولون لأن ذلك يقتضي ان يكون له اعينا وذلك يبطل قولهم : (لأن من يصرح بالجسم منهم، وباثبات الجوارح يثبته كمثل صورة ،آدم، ولا يثبت له إلا عينين)(4) ثم ينتهي إلى تأويل الآية على مسلكه مع الآيات المشابهة إذ يوجب ان يكون المراد بذلك : اثباته عالما بجميع ما يحصل من العباد، وهذا كما يقال ان هذا الشيء وقع بمرأى مني ومسمع )(5)وهكذا نجد ان صفة العين منسوبة لله تعالى اينما وردت فتأويلها عندهم: العلم بالمضاف اليها وهو معروف في كلام العرب (6).

ص: 328


1- شرح الاصول الخمسة 227.
2- المختصر( رسائل العدل والتوحيد )188.
3- المصدر نفسه .
4- متشابه القرآن 2: 631 .
5- المصدر نفسه .
6- ظ النيسابوري: ديوان الاصول 599 .

صفة اليد

اجمعت المعتزلة فيما ينقل الأشعري على موقفين تجاه صفة اليد(1) .

الأول: ينكر مطلقا ان يقال لله يدان.

الثاني : ومنهم من زعم ان الله يدا وان له يدين وذهب في معنى ذلك إلى ان اليد نعمة..

ولا شك ان الموقفين لا يختلفان عن بعضهما لمن تصور مسلك المعتزلة المنهجي تجاه المتشابه من الآيات، إذ ان الفريق الأول لا يكفيه مجرد الانكار لليد فلا بد له من معالجة ظواهر النصوص القرآنية التي تنسبها له تعالى، أي لا بد من التأويل وهو الذي عليه الموقف الثاني.

فينتج انهم جميعا ينكرون اليد مطلقا ولابد لهم من معالجة النصوص فهم فريق واحد غاية الآمر ان الأول ربما لم يتصد لعملية التأويل فعلا وان اعترف بضرورتها.

وهذا ما ينطبق على الصفات الاخرى ايضا كما سنلاحظ ونلاحظ مثلا ان المعتزلة منذ بداياتهم يؤولون اليد النعمة كما عليه النظام (2)كما يؤولونها بمعان اخرى حسب السياق الذي ترد فيه.

فالقاسم الرسي مثلا يؤول اليد في قوله تعالى: {خلقت بيدي }ان معناها بقدرتي وعلمي، يريد اني على ذلك قادر وبه عالم توليت ذلك بنفسي، لا شريك لي في تدبيري وصنعي: لا ان قدرتي وعلمي ونفسي غيري)(3). وهو يستفيد من السياق الذي

ص: 329


1- ظ مقالات الاسلاميين1: 248
2- المصدر نفسه 1: 228، 266
3- اصول العدل والتوحيد (رسائل العدل والتوحيد) 107.

وردت فيه اللفظة حيث قال تعالى : ﴿قَالَ يَابْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى اَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ ﴾ (سورة ص/ 75).

في تفسيرها بآيات اخرى اتحدت معها في الموضوع مما يقع في باب تفسير القرآن بالقرآن حيث قال: (وقد بين معنى هذه الآية في آية اخرى فقال :﴿ إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾. (آل عمران/59) وقال جل ثناؤه ﴿إنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَهُ أَن تَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ (النحل /40) يريد إذا كوّنا شيئاً كان (1).

ويؤول اليد بالنعمة في قوله تعالى: ﴿بَل يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ﴾(المائدة/64). حيث يقول :

( وتأويل ذلك عند اهل العلم: بل نعمتاه مبسوطتان على خلقه رزق ،موسع ورزق مضيق ينفق كيف يشاء أي يفعل لذلك ما هو اصلح لعباده)(2) . ويتضح من ذلك ان التثنية كما يرى عائدة إلى نوع الرزق من حيث التوسعة والتضييق الا ان القاضي عبد الجبار الذي تأول اليد في الآية بالنعمة ايضا يرجع التثنية فيها إلى نوع النعمة من حيث صلتها بعمل العبد إذ يرى انه تعالى اراد (نعم الدنيا والدين)(3) ثم وافق تأويل القاسم الرسي بالرزق بقوله: ان ذلك جاء (إبطالا لقول اليهود : ان يده مغلولة، لأنهم ارادوا انه بخيل يقتر الارزاق على خلقه، ويبين ذلك انه تعالى شبه بقوله ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَعْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا نَبْسُطها كُلَّ اَلْبَسْطِ فَنَقَعُدَ مَلُومًا محْسُورًا ﴾(الاسراء/29) وانما اراد ان انفق قصدا لا اسرافا ولا اقتارا) (4).

ص: 330


1- المصدر السابق نفسه .
2- المصدر نفسه .
3- المختصر 188
4- المصدر نفسه.

وهو في هذا التأويل انما ينطلق من أصول المجاز في الاستعمال لليد بمعنى النعمة كما يقال لفلان عندي يد، واياد(1)

ويؤول القاسم الرسي اليد بمعنى الاضافة للقدرة والملك ففي قوله تعالى: ﴿تَبَرَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (الملك /1) يرى انه بعني: له الملك ويستند إلى لغة العرب حيث يقولون : الملك بيد فلان وقد قبض فلان الملك والارض وذلك في قبضته وبيمينه يعنون في قدرته وملكه، كذلك السموات والارض وما بينهما وما فيهما في قبضة الله وبيمينه يعني في قدرته وملكوته وسلطانه اليوم ويوم القيامة وفي كل وقت)(2).

ويؤوّل القاضي عبد الجبار اليد في قوله تعالى:﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ (الفتح /10) بما يبعد ما تراه فيها المشبهة من خلال ما يلزم عنها إذ يرى انه: (لا يصح تعلق المشبهة به في إثبات اليد لله تعالى، وذلك ان ظاهره يوجب جواز المصافحة عليه وجواز اليمين على يده حتى يصح فيه معنى الفوق، وقد علمنا ان القوم لا يجوزون ذلك)(3)ویری ان المراد بها القوة والقدرة فهو ينفي ايضا تفسير الفوقية هنا بالمكان انطلاقا من ظاهر النص حيث يقول (ولا يكون في وصفه - تعالى - بإن يده فوق ايديهم على معنى المكان على هذا الوجه فائدة لأن الضعيف قد تكون يده فوق يد القوي. فالمراد بالآية إذا علمنا المقصد انه اقوى فيهم واقدر )(4).

ومما يقع تحت صفة اليد ايضا نسبة (اليمين) و(القبضة) له تعالى وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَمَةِ

ص: 331


1- المصدر نفسه .
2- اصول العدل والتوحيد 107.
3- متشابه القرآن 2 :620 .
4- المصدر نفسه

وَالسَّمَوَاتُ مَطونَتُ بِيَمِينِهِ سُبْحَنَهُ وَتَعَلَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ (الزمر / 67)

حيث يؤول القاضي عبد الجبار ذلك بانه جاء على سبيل التمدح والمبالغة فلا يصح تعلق المشبهة بالآية ان له تعالى يمينا ولا كفا وسنده في ذلك لغوي( لأن التعارف في اللغة ان التمدح بما يجري هذا المجرى انما يريد به الملك والاقتدار ليصح فيه المدح وانما ارادوا بذلك المبالغة في كونه مالكا لأن حظ اليمين في هذا الوجه اقوى منه في حظ الشمال.. وكذلك فانما يراد بان الشيء في قبضة فلان، انه يصرفه كيف اراد، وانه مستجيب له فيما شاء، فلما كانت الارض هذهِ حالها مع الله تعالى وكذلك السموات، جاز ان يتمدح بانها في قبضته وان السموات مطويات بيمينه)(1).

صفة الساق

ففي قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾ (القلم/42) نجد ان القاضي عبد الجبار يؤول الآية انطلاقا من استعمالات اللغة العربية حيث يرى ان معنى الساق هنا الشدة والمراد بالآية شدة اهوال يوم القيامة كما يقال كشفت الحرب لنا عن ساقها)(2).

ويرى ان هذهِ الآية لا مجال لتعلق المشبهة بها على رأيهم خصوصا وان الظاهر لا يساعد على هذا التعلق حيث انه (ليس في الظاهر اضافة الساق إلى من هوله، لو كان المراد بالساق الجارحة فمن اين ان المراد اثباته لله ؟ تعالى عنه)(3).

صفة الجنب

ص: 332


1- المصدر نفسه 2: 598 .
2- المختصر ،187 متشابه القرآن 2 :663 .
3- ظ المصدران والصفحات انفسها .

ففي قوله تعالى:﴿ أَن تَقُولَ نَفْسٌ بَحَسْرَكَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ الله﴾ (الزمر/56) نجد ان القاضي يؤولها استنادا إلى قوانين اللغة واساليب التعبير فيها ليبعد استدلال المشبهة بها حيث يرى انها لا تدل على ان لله جنبا على ما تقوله المشبهة وذلك ان هذه اللفظة إذا ذكرت مع الفعل الذي يفعل للغير او لأجل الغير وينتهي إلى ان المراد به الذات وهو الذي يستند في هذا إلى ما يعقل فيه الكلام عند العارفين به فيقول ( وهو الذي يعقل من قول القائل: احتملت هذا في جنب فلان وليت المال في جنب فلان فانما اراد الله تعالى على ما فرطت في ذات الله ومتى لم يحمل على هذا الوجه لم يفد البتة)(1). ومن المعتزلة من تأول الجنب هنا بالامر فمعنى الآية ما فرطت في امر الله(2).

نسبة لوازم الانتقال والحركة كالمجيء والاتيان

فالمجيء كقوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَا صَفًّا ﴾ (الفجر / 22).

حيث يؤول القاسم الرسي الآية على اساس نفي كل ما يوهم الانتقال والمكان وكون المجيء هنا بمعنى المجيء لآيات الله فمعنى الآية معه جاء الله جل ثناؤه بآياته العظام في مشاهد القيامة وجاء بتلك الزلازل والاهوال، وجاء بالملائكة الكرام فتجلت ((فانجلت )) الظلم وانكشفت عن المرتابين البهم وبدا لهم من الله ما يكونوا يحتسبون)(3) فكأنه يريد تقدير محذوف بين اللفظ الموجب ظاهره للتجسيم ولفظ الجلالة.

وهذا نفس مسلك القاضي عبد الجبار إذ يرى ان هناك محذوفا وان يبعد مع

ص: 333


1- المصدر نفسه 2: 597
2- مقالات الاسلاميين 1: 266
3- اصول العدل والتوحيد 108

تقديره ما تعلق به المشبهة في انه تعالى يجيء ويذهب لأنه لو كان كذلك لكان محدثا مدبّرا مصورا فالمراد بالآية مع هذا التقدير للمحذوف (جاء امر ربك او متحملو امر ربك للمحاسبة والفصل )(1) وسنده هنا الاستعمال اللغوي فيما يقال:(عند التنازع في الامر الذي يرجع فيه إلى بعض الكذب : إذا جاء الشافعي فقد كفانا ويراد بذلك كتابه) (2). .

وكذلك في قوله تعالى : ﴿فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَنَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ﴾ (النحل/26). وقوله﴿ فَأَنَهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ﴾ (الحشر /2).

حيث يسلك المعتزلة - والرسي هنا - المسلك السابق نفسه في التأويل بتقدير محذوف حيث يكون المراد بهذه الآيات وامثالها في المعنى انه تعالى اتاهم بعذابه ،وامره ليس انه اتاهم بنفسه ،زائلا وكان في مكان فكان عنه منتقلا، ولذلك يقول القائل للرجل إذا جاء بامر عجيب: لقد اتيت بأمر عظيم)(3)

الاستواء

مما ترتب عن اصل التوحيد ايضا تنزيهه تعالى عن الاستواء الذي يستلزم الجسمية. ونلاحظ هنا ان اغلب متكلمي الاسلام قد تأولوا هذا المعنى لله تعالى ونفوا لوازمه المؤدية للتشبيه، كما نلاحظ انهم تطابقوا تقريبا في تأويلهم له بمعنى الاستيلاء كما كانت مرجعيتهم الأولى في تأويل الآية وهي اللغة واحدة وخصوصا ما جاءوا به من شواهد تدلل على المعنى الذي يرونه للاستواء.

من اول الاشارات التطبيقية لتأويل الايات التي ورد فيها الاستواء ما يرد عن ابي

ص: 334


1- متشابه القرآن 2 : 689 وانظر ايضا المختصر 188.
2- المصدر نفسه
3- المختصر 108، 109

علي الجبائي (ت 303ه_) حيث يستند إلى اللغة وقوانينها في توجيه المعنى في الآية إذ يرى ان الاستواء في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِى خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ﴾ (سورة البقرة/29) يعني : القصد فيكون معنى الآية: ثم قصد الخلق السماء، واراد ذلك، ولذلك عداه ب- (إلى) ولا يكاد يعدى ب_ (الى) ذلك إذا اريد به الاستواء على المكان)(1). ونفي المكان عن الباري بما يقتضيه تنزيهه عن الجسمية هو الحيثية الرئيسة في تأويل القاضي عبد الجبار للاستواء حيث بنى استدلاله على نفي الجسمية التي يقتضيها ظاهر قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طه/5) على:

اولا: تحكيم الأُسس العقلية (الأصول) في كون هذه المسألة مما لا يجوز الاستدلال عليه بالسمع لان صحة السمع موقوفة عليه.

ثانيا :بتأويل الآية وفقا لقوانين اللغة واستعمالات العرب فقال عن الاستواء فيها انه بمعنى الاستيلاء والغلبة وذلك مشهور في اللغة)(2) وبذلك رد استدلال المجسمة بالآية على شبهتهم بان الاستواء بمعنى القيام والانتصاب وهي من صفات الاجسام فيجب كونه جسما (3).

ونجد التأويل الذي ينقله د. عبد الهادي ابو ريدة عن المعتزلة في تحقيقه ديوان الأصول للنيسابوري يتطابق مع هذا التأويل الوارد عن القاضي ويبدو انه من آرائه وموارد التطابق ان الاستدلال بني على نفس الاصلين المذكورين حيث لم يجوز الاستدلال بالسمع لأنه استدلال بالفرع على الأصل.

وفي الثاني انه اول الآية بنفس تأويل القاضي عبد الجبار فالمراد بالعرش هو

ص: 335


1- ظ القاضي عبد الجبار متشابه القرآن 1: 74
2- شرح الاصول الخمسة 226
3- المصدر نفسه

الملك والمراد بالاستواء هو الاستيلاء والغلبة وانما خص العرش بالذكر لعظمته واضاف هنا اصلا ثالثا للاستدلال يتعلق بلوازم الالوهية بطريقة يتحاشى معها المحذور الوارد في الاستدلال الأول وهو الاستدلال بالفرع على الأصل حيث يرى ان نفي الجسمية هنا ضرورة لا مجال للتغاضي عنها إذ يلزم من انه لو فرض ان الله تعالى جسم لكان جسما حيا مختصا ببنية مخصوصة وبتأليف وتركيب من لحم ودم ورطوبة .. فكان محدثا ومن كان كذلك لم يستحق الالوهية، فلا يصح الاستدلال بقوله)(1).

ونلاحظ ان هذا الاستدلال الاخير متفرع عن الاستدلال الأول.

وفي قوله تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ﴾ (الرعد (2).

يكتفي القاضي عبد الجبار باستحضار مرجعية اللغة وقوانينها في كشف دلالات اللفظ بما يحقق التنزيه المطلق إذ يرى ان معنى الآية: انه استوى واقتدر وملك ولم يرد تعالى بذلك انه تمكن على العرش جالسا وهذا كما يقال في اللغة استوى البلد للامير او استوت هذه المملكة لفلان وقال الشاعر:

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق

ولم يرد جلوسه او انما اراد استيلاءه واستعلاءه)(2)وليؤكد تأويله يدخل عنصرا جديدا يستحضر أصول اللغة إذ انه لولا ان يكون تأويله هو معنى الآية لما تحقق معنى التمدح الذي قصدت اليه (لأن كلا يصح ان يجلس على سريره وعلى مكانه، وانما خص العرش بالذكر لأنه اعظم خلقه، فنبه به على انه على غيره اشد اقتدارا، كما قال : ﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ (التوبة /129) ونبه بذلك على انه بأن يكون ربا لغیره (اولی)(3) .

ص: 336


1- ديوان الاصول 598
2- المختصر 186
3- المختصر 186 وانظر ايضا متشابه القرآن 2: 403 .

ونجد في استدلالات القاضي عبد الجبار على هذه المسألة مصداقا للمنهج المعتزلي العقلي الذي يوظف الأصول المساندة لخدمة طروحاته. فانه يمكن ان ينتزع من تعامل القاضي - الذي سبق ايراده - مع الآية جملة امور :

1 - انه يفعّل الأسس العقلية في التعامل مع النص القرآني من خلال استدعائها للحكم في هذه القضية وتأكيد حاكميتها على النصوص.

2 - انه يؤكد توزيع الاختصاصات بين المرجعيات حين يرفض الاستدلال بالسمع على المسألة لأنها محكومة بانها من الأصول والسمع فرع فلا يجوز تحكيمه في مثلها.

3 - نقل مرجعية الكشف عن الدلالات التي يحملها النص بما يجعلها تتوافق مع أصول الاعتزال إلى مرجعية ثالثة لتأكيد مشروعية التأويل العقلي وتحكيم اسسه إذ يجعل للغة الكلمة الفصل في هذه المسألة.

متفرقات

كما نجد العديد من التأويلات لنصوص قرآنية عديدة ورد في ظاهرها ما يلزم عنه التشبيه او التجسيم ونسبة ما لا يليق بواجب الوجود تعالى ومن الامثلة على ذلك ما جاء من تاويل المعتزلة المسائل يتناولها البحث باختصار بعد ان تبينت بعض الأسس العامة لمنهج التأويل عندهم من خلال ما مر وستكتمل بما سيأتي لاحقا. ومن الامثلة على بعض تلك المسائل :

1 - وصفه تعالى بالنور: ففي قوله تعالى :﴿ اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾(النور /35) . يتعلق الثنوية بالآية ويزعمون انها دالة على انه تعالى نور مستندين إلى .الظاهر ولكن المعتزلة يرفضون هذا الاستدلال بدفعهم الاخذ بدلالة الظاهر لأنه يستلزم مخالفة الأصول ويرد دليلهم على رد الاستدلال بالآية إلى شقين:

ص: 337

1 - رفض ما يلزم عنه لأن النور لا بد من ان يكون جسما، والجسم يكون محدثا، وصانع العالم لا يجوز ان يكون محدثا

2 - تأويل الآية بما يؤكد نتيجة المقدمات السابقة على ان المراد بها الله منوّر السموات والارض،سمى الفاعل باسم الفعل وهذا كقول العرب فلان صوم وفطر ورضى وعدل.

ثم يستندون بعد مرجعية اللغة هذهِ إلى دلالة الآية نفسها من خلال السياق حيث يرون ان ما يدل على صحة هذا التأويل (قوله تعالى: من بعد{ مثل نوره کمشكاة }فلو كان الله تعالى نورا لما جاز ان يضيف النور إلى نفسه، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه (1)

2 - العندية مضافة اليه تعالى ففي قوله تعالى ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ (آل عمران/169). يشتبه المجسمة انها دالة على المكان.

ویرد ابو علي الجبائي ذلك ويفسر الآية على العلم فالمراد بها عنده انهم احياء في معلومه (( تعالى )) كما يقول احدنا لصاحبه لا تظنن ان الامر كما تقوله بل هو وكذا عندي وعند الله وانما يعني بذلك انه كذلك في معلومه وهذا هو ظاهر الكلام فلا تعلق لهم به)(2)فهو هنا يشير إلى ان الآية لاتقتضي تأويلا وان ظاهرها كاف في دفع تعلق المجسمة بها.

3 - الصعود مظافاً اليه تعالى في قوله تعالى: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ﴾. (فاطر/ 10) يؤول القاضي عبد الجبار الآية على ان المراد بها انفراده تعالى بالحاكمية فمعناها انه ((= العمل )) يرتفع إلى حيث لا حكام سواه، كما يقال في الحادثة ارتفع امرها إلى الامير إذا صار لا يحكم فيها سواه) (3).

ص: 338


1- ظ ديوان الاصول 634 .
2- ظ القاضي عبد الجبار متشابه القرآن 1 :172 .
3- المختصر 187.

4 - كونه في مكان ففي قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ ﴾ (الانعام/3) يؤول الآية على ان المراد (1) انه عالم بهما، محافظ عليهما، عن التغير والزوال مدبر لهما ويستدل على صحة هذا التأويل بسياق الآية نفسها في قوله تعالى:

يعلم سركم وجهركم بعدها. وفي قوله تعالى: ﴿وَأَمِنتُم مَن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ ﴾ . (الملك/16).

يرى القاضي عبد الجبار ان تأويل الآية بتعلق المكانية بالسماء وليس بالله تعالى فمعناها (ان) في السماء نقماته وضروب عقابه لان عادته ان ينزلها من هناك ثم يستدل بسياق الآية على صحة ذلك بقوله تعالى: {ان يخسف بكم الارض فنبه به على ذلك}(2).

ج - الرؤية

یکاد موقف المعتزلة في الرؤية وانكارها يمثل في منهجهم اصلا من الأصول قائما بذاته(3) يمكن اضافته الى اصولهم لولا تحديدهم لها بهذه الخمسة بحيث ينضوي ضمن اصل التوحيد ويقع في اطار تنزيهه تعالى عن التشبيه والتجسيم.

والمعتزلة مجمعون على انه سبحانه لا يرى بالابصار ولكنهم اختلفوا - كما ينقل الأشعري - في الرؤية القلبية فقال ابو الهذيل واكثر المعتزلة نرى الله بقلوبنا، وحتى هذه الرؤية محكومة عندهم بالتأويل، اذ أن معناها انا نعلمه بقلوبنا. وانكر آخرون هذه الرؤية (4).

ص: 339


1- المصدر نفسه 187.
2- المصدر نفسه.
3- كما يستفيد ذلك .د. علي سامي النشار ظ: نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام 1: 330
4- ظ: مقالات الاسلاميين :1 : 218 بتصرف) وانظر القاضي عبد الجبار: المختصر 190.

بل أنكر البصريون اصل تأويل الرؤية بمعنى العلم في قوله تعالى:﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ (الاعراف /143) لأن ذلك (يتيح للمخالفين ثغرة ينفذون منها إلى مهاجمة الفكر المعتزلي القائم على نفي الرؤية تماما حتى ولو على سبيل العلم)(1) ووصل ذلك النفي حدا قال معه بعضهم بتكفير من يقول بجوازها من المخالفين بل بكفر من يشك في كفر القائل بها وقال آخرون بعدم التكفير وعلة ذلك ان الجهل بانه تعالى لا يرى لا يقتضي جهلا بذاته ولا بشيء من صفاته (2)

وتشديدهم النكير على القول بالرؤية عليه - سبحانه وتعالى - يعود إلى ما يترتب عليها من لوازم تؤدي إلى اعتباره - تعالى - جسما او متحيزا حيث الرؤية من صفات الاجسام وكذلك لأنها تقتضي المقابلة - وهذا اهم ادلتهم العقلية في نفيها لوجود الشيء المرئي في جهة مقابلة للرائي وذلك محال في حقه تعالى (3). وصورة الرؤية المرفوضة وحدودها كما يرى القاضي: أنه تعالى لا يرى بالابصار لا في دار الدنيا ولا في دار الآخرة مع جواز الرؤية بالمعرفة والعلم عليه. فنحن لا نراه الآن ولو افترضنا رؤيته لوجب ان نعلمه لأن من حق ما نراه ان نعلمه على ما هو به ولما كنا نفتقد العلم الضروري به تعين انه ليس بمرئي لنا الآن (4).

ويقيم القاضي دليله العقلي في نفيها عنه تعالى في الآخرة على جوانب علمية تتعلق بطبيعة الأبصار وما يلزم لتحققه إذ يرى ان الرؤية (تعني اتصال شعاع بين

ص: 340


1- د عبد الستار الرواي ثورة العقل في فكر معتزلة بغداد 256 منشورات وزارة الثقافة والاعلام بغداد 1982 ط1.
2- ظ القاضي عبد الجبار شرح الاصول الخمسة 276 الفخر الرازي (ت 606 ه_) اعتقادات فرق المسلمين والمشركين 37 (بتصرف).
3- ظ: الخياط الانتصار 67 ، 68 ط 1 مصر 1925 القاضي عبد الجبار المختصر ،191 شرح الاصول الخمسة 191(بتصرف).
4- ظ المختصر: 190 متشابه القرآن 1 140 المغنى (الرؤية) 4: 99

الرائي والمرئي ويشترط في مثل هذا الاتصال تعين القوام المادي لها)(1) وهذا ما يوقع في التجسيم الذي يتعارض مع كونه تعالى منزها مطلقا عندهم.

ورغم ان مسألة الرؤية، من تعلقات اصل التوحيد وبالتالي لايصح الاستدلال على الأصل بالفرع كما هو مسلكهم إلا انهم في مسألة الرؤية بالذات يرون جواز الاستدلال بالسمع على نفيها وذلك لأن صحة السمع لا تترتب عليها فيمكن معرفة صحة السمع مع الشك في ان الله تعالى يرى او لا يرى والدليل على ذلك في رأيهم ان معرفة الله تعالى ومعرفة توحيده وعدله وحكمته... كل ذلك يمكن اثباته مع عدم القطع بأن الله يرى او لا يرى ولذلك نجدهم يستدلون بالادلة السمعية - اضافة إلى العقلية - على نفيها وقد مارسوا عملية التأويل لكل النصوص التي تخالف هذا النفي كما استدلوا بآيات عديدة لاثبات رأيهم فيها ويمكن تناول بعض تطبيقاتهم في فهم الآيات في هذه المسألة من خلال استعراض بعضها كالآتي:

1- قوله تعالى:﴿ لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَر وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ (الانعام / 103)وهم يعدون هذه الآية محكمة(2) فيستدلون يظاهرها دونما حاجة إلى التأويل وبأنها جاءت لتؤصل وتؤسس للموقف من الرؤية ولتنفيها مطلقا وبأنها تكفي حجة على ذلك لما تضمنته من مجموعة من الدلالات تتبين خلال استعراض فهمهم لها ودلالة الآية بظاهرها على نفي الرؤية جاءت مواءمة لاسس وضوابط التأويل الذي يجب ان لا يلجأ اليه وان يبقى في فهم الدلالة على الظاهر ما دام الحمل على الظاهر اولى من الصرف إلى المجاز وتأويلها(3).

ص: 341


1- المغني 4 : 62.
2- ظ: القاضي عبد الجبار متشابه القرآن 2: 673،674 حيث يحكّم الآية ويستحضر كونها اصلا يرد اليها باقي الآيات ويقايس عليها دلالات تلك الآيات وانظر ايضا المختصر ،191-190، ديوان الاصول 603 .
3- انظر النقطة (5) من اسس المنهج العقلي عند المعتزلة .

ويقوم فهم المعتزلة للآية والاستدلال بها على نفي الرؤية على جملة امور كالاتي:

أ - معنى الادراك :حيث انه متى قرن البصر به لا يعرف في اللغة ان يراد به الرؤية بالبصر وان الرؤية بالبصر والادراك بالبصر متساويان ولذلك يجريان في النفي والاثبات على حد واحد والآية تنفي الادراك مطلقا فيجب ان نقطع بانه تعالى لا يرى بالابصار(1) .

ب - ان هذا النفي للادراك بالبصر جاء( تمدحا راجعا إلى ذاته ((تعالى)) وما كان من نفيه تمدحا راجعا إلى ذاته كان اثباته نقصا، والنقائص غير جائزة على الله تعالى في حال من الاحوال (2)وهم يستدلون بالاجماع على وقوع هذا المدح بنفي الرؤية ويردون على من اعترض بأن لا مدح في الآية بدليل ان المعدومات لا ترى وان كثيرا من الموجودات ايضا لا ترى بقولهم: ان المدح جاء في نفي ادراك الابصار له، وبأنه لا تأخذه سنة ولا نوم يقترن بالقول بانه الحي القيوم)(3).

ج - وقد يعترض معترض بثبوت الرؤية المستند إلى ظاهر الآية بأن الله يدرك الابصار، فهو اذن مبصر فيجب ان يرى نفسه وكل من قال بانه يرى نفسه قال بأنه يراه غيره (4).

ثم يكملون رد الاعتراض حتى مع التسليم بالظاهر وانه تعالى: {يدرك الابصار}بان المقصود هو : الرؤية بالابصار والله يدرك ويبصر لا ببصر كبصرنا وعلى هذا لا يمكن ان تنسب اليه الرؤية ولا يدخل تحت حكم الادراك الذي من نوع ادراكنا)(5).

2 -قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَذٍ نَاضِرَةُ ﴾(القيامة /22) يستدل مثبتو الرؤية بهذه

ص: 342


1- ظ متشابه القرآن ،1: 255 ،2 ،674 المختصر ،190 وانظر ايضا ديوان الاصول: 601.
2- شرح الاصول الخمسة 233 متشابه القرآن 1: 255
3- ديوان الاصول:602
4- المصدر نفسه.
5- المصدر نفسه.

الآية على رأيهم مستندين إلى ظاهرها ويقوم استدلالهم بها على اساس انها خاص في نسبتها إلى قوله تعالى: ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ ﴾باعتبار انه عام ثم بنوا العام على الخاص فانتهوا إلى ان نفي الرؤية بقوله تعالى: {لا تدركه الابصار خاص بدار الدنيا وقوله تعالى: ﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾خاص بالآخرة(1) ويقوم رد المعتزلة على هذا الاستدلال على مجموعة امور يصورها لنا القاضي عبد الجبار (2) :

أ - ان الآية في سياقها لم تحدد (النظر) بالبصر فلم تقل (ناظرة بالبصر).

ب - ان النظر يحتمل عدة معان بأن يكون الناظر (مفكرا، ومنتظرا للرحمة وطالبا للرؤية فهو محتمل إذا ولا يترك به ما لا يحتمل) .

ج - ان تأويل النظر في الآية بمعنى الانتظار فمعناها: منتظرة لرحمة الله وناظرة إلى ثوابه ونعيمه في الجنة (3).

ويجد القاضي عبد الجبار لتأويله هذا مستندا في الروايات عن الإمام أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)وابن عباس وغيرهما من الصحابة والتابعين) (4)

ه_ - استبعاد ان يكون النظر في اللغة هو الرؤية لأن النظر عبارة عن تقليب الحدقة الصحيحة نحو المرئي التماسا لرؤيته، اما الرؤية فهي ادراكنا للمرئي كنتيجة لاتجاه الحاسة نحوه لا يتحتم ان يكون النظر مؤديا إلى الرؤية فالانسان قد ينظر ولا يرى (5).

وهم يستشهدون على هذا التحديد بمرجعية اللغة من خلال خزينها فيأتون

ص: 343


1- المصدر نفسه 63.
2- المختصر: 190.
3- وهذا رأي القاسم الرسي في تأويل الآية انظر اصول العدل والتوحيد 105.
4- المختصر : 191
5- ظ دیوان الاصول: 604

بالعديد من الشواهد في إثبات ان النظر ليس هو الرؤية مثل قول القائل: نظرت إلى الهلال فلم اره... وقوله : نظرت حتى رأيت... وقوله: نظرت فرأيت، وكل هذا دال على التمايز بين النظر والرؤية.

كما ان من عادة العرب ان ينوعوا في النظر فيقولون: نظر نظر ،راض ونظر نظر غضبان ونظر نظر شزر فلو كان النظر هو الرؤية لكانوا ينوعون الرؤية كما ينوعون النظر(1)

وهم في مجال نفيهم المطلق للرؤية بانه حال من الاحوال يرفضون الكثير من الافتراضات بحصولها باعتبارات اخرى لا نخوض في تفصيلها مثل (2): ان يرى تعالى بحاسة سادسة.

انه كما ان الواحد منا يعقل القديم انه ذات مخصوصة موجودة من غير اشتراط المقابلة فكذلك يجوز ان يراه الواحد منا من غير اشتراط ذلك.

انه تعالى لا يمكن ان يرى لأن هناك موانع يمكن ان تمنع من الرؤية.

انه تعالى يخلق فينا في الآخرة ادراكا نراه به.

3 -قوله تعالى : حكاية عن موسى﴿ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَينِي وَلَكِن انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ﴾ (الاعراف/143) يستدل المثبتون للرؤية بهذه الآية على انه(عليه السلام)جوز الرؤية عليه تعالى فطلبها ويردّ المعتزلة هذا الاستدلال من خلال فهم الآية ودفع الاستناد عليها حيث ان ظاهرها كاف في الدلالة على استحالة الرؤية وينبني هذا الاستدلال على سياق الآية ودلالات ارتباط وتعلق بعضها ببعض كالآتي:

ص: 344


1- المصدر نفسه 603 .
2- انظر المصدر نفسه: 607-609 تفصیلات ردود المعتزلة على هذه الافتراضات.

أ- ان قوله تعالى: { لن تراني} يدل على المنع من وقوعها (1) ذلك ان (لن) نفي على التابيد وان استعملت في غير ذلك فعلى سبيل التوسع والمجاز(2).

ب_ ان المراد بسؤال موسى(عليه السلام)الرؤية طلب الجواب بالمنع من الرؤية من جهته تعالى لكي يعرف اصحابه انها مستحيلة عليه تعالى لأنهم لم يقنعوا بقوله ويستدلون على هذا التوجيه بآية اخرى تفيد استكبار الله تعالى لطلب قوم موسى علام الرؤية وذلك بقوله تعالى:﴿ يَسْتَلْكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِلَ عَلَيْهِمْ كِنَبًا مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ﴾(3) (النساء/153).

وهذا التوجيه ينزه موسی(عليه السلام)عن طلب الرؤية لنفسه انطلاقا من مسلك المعتزلة في تنزيه الانبياء عما لا يليق وطلب الرؤية مما يشددون فيه النكير حتى كفّر بعضهم من قال بجوازها - كما اسلفنا - وهذا المسلك الاكثر رفضا لقبول الرؤية بكل معانيها حتى العلم الذي قال به البغداديون يتبناه معتزلة البصرة حيث يقولون ان موسى ما طلب الرؤية لنفسه ويؤكد هذا ما ورد عن لسانه في قوله تعالى: ﴿أَتهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنا﴾ (الاعراف /155) فهو تبرؤ منه وانما اضاف لنفسه طلب الرؤية لأنه امام قومه وكان مطالبا بالرد على مثل هذا السؤال فتوجه به نيابة عن قومه فليس ثمة ذنب عليه وانما الذنب ذنب قومه(4)كما ينزهون موسی(عليه السلام )من جانب آخر فيقولون بانه لا يجوز ان يكون جاهلا بالله وبانه لا يرى وانما هو لم يكن عالما بحال نفسه وهل يمكنه ان يرى القديم تعالى

ص: 345


1- القاضي عبد الجبار المختصر: 191.
2- ديوان الاصول 611 .
3- ديوان الاصول 610 .
4- المصدر نفسه، وانظر .د عبد الستار الراوي: ثورة العقل 253 .

او لا) (1)وقال ابو الهذيل العلاف ان الرؤية في الآية بمعنى العلم ورفض القاضي ذلك(2)

4- قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَدٍ لَمَحْجُوبُونَ ﴾ (المطففين/15) يستدل به مثبتو الرؤية انه تعالى يجوز ان يرى للمؤمنين يوم القيامة لأنهم كحال الكفار. ويرد المعتزلة (القاضي عبد الجبار )ان هذا يستلزم الدلالة على جسم في مكان وهذا بيّن الفساد ويؤول الآية على ان المراد منها : انهم عن رحمته ممنوعون) (3).

كما ان الآية لم تقل انهم محجوبون عن رؤية الله تعالى فاستدلال المثبتين بها عدول عن الظاهر واذا عدلوا عنه فليسوا هم بأولى بالتأويل من المعتزلة وهنا يؤولونها بوجه آخر فيقولون ان المراد : انهم عن ثواب ربهم يؤمئذ لمحجوبون (4)ويرون ان هذا التأويل موافق للدلالة العقلية والسمعية وان استدلال المثبتين بالآية استدلال بدليل الخطاب ( والاستدلال بدليل الخطاب في الشرعيات لا يجوز)(5).

5 -قوله تعالى: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَاءَ رَبِّهِ ﴾ (الكهف (110).

6- قوله تعالى : ﴿تَحِيَّتُهُم يومَ يَلْقَونَهُ سَلَمٌ ﴾ (الاحزاب /44).

حيث تمسك مثبتو الرؤية بالآيتين على ان المراد باللقاء هو الرؤية(6).

ويرد المعتزلة ذلك منطلقين من (7):

ص: 346


1- ديوان الاصول 611 .
2- ظ شرح الاصول الخمسة 262 .
3- المختصر 191
4- ديوان الاصول 613 .
5- ديوان الاصول 613 .
6- المصدر نفسه 611.
7- المصدر نفسه .

1 - تحديد معنى اللقاء انه ليس الرؤية بل ملاقاة جسمين وانه يستعمل في اللغة حيث لا تستعمل الرؤية مثلا يقال: رأيت فلاناً وما لقيته والكفيف يقول: لقيت فلانا ولا يقول : رأيته(1).

2 - إذا اراد المثبتون ان يعدلوا بلفظ اللقاء عن الظاهر إلى التأويل فليسوا اولى من المعتزلة بذلك لذا يلجأون إلى تأويلها بما يوافق ادلتهم العقلية والسمعية (2).

3 -يؤولون قوله تعالى: فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ، ان المراد به: من كان يرجو لقاء ثواب ربه (3).

:ويؤولون تحيّتهم يوم يلقونه سلام ب_ : تحيتهم يوم يلقون ملائكته.

وهذا التأويل للآيتين يقوم على تقدير محذوف وان يذكر الله تعالى نفسه ويريد غيره ولذلك امثال كثيرة في القرآن (4).

4 - يلزمون المثبتين بان مخالفة هذا التأويل يلزم عنها ان المنافقين يرون الله تعالى لقوله عنهم ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقَا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ ﴾ (التوبة/77)، فاذا تأول المثبتون هذهِ الآية على ان المراد يوم يلقون عقابه. يطالبهم المعتزلة بقبول تأويلهم لقوله تعالى:﴿فَمَن كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ ﴾بأن المراد هو: فمن كان يرجو لقاء ثواب ربه(5).

ويرفض المعتزلة الاستدلال بالروايات والاخبار على قضايا العقيدة كما اسلفنا في اسسهم العقلية ان كانت معتبرة اما مع عدم الاعتبار والطعن في الرواة والاسانيد

ص: 347


1- المصدر نفسه 612.
2- المصدر نفسه .
3- المصدر نفسه 612.
4- المصدر السابق نفسه.
5- المصدر نفسه.

فانهم يستبعدونها نهائيا ولذلك فقد ردوا الاستدلال بالروايات على القول بصحة الرؤية(1)

د - خلق القرآن

تمثل هذه المسألة نقطة تقاطع شديدة التأثير في تشكيل بنية العلاقة بين التيارات الكلامية الاسلامية، حيث بدأت معها المواجهات الدموية بين اتباع المذاهب المختلفة عندما دخلت السياسة في توجيه دفة المسألة بتأييد الاتجاه العقلاني الذاهب إلى (خلق القرآن )وضرب الاتجاه الاخر القائل بقدمه (2) وكان من الافرازات المهمة لتعريض الناس إلى الامتحان في ما يقولون حيال المسألة ان اخذت القضية بعدا مؤثرا في تعميق الهوة بين تلك المذاهب وكان تعامل المعتزلة في الوقت الذي بزغت سلطتهم فيه وخصوصا ايام المأمون( عبد الله بن هارون الرشيد 170-218 ه_) ومن بعده المعتصم والواثق قاسيا مع المذاهب الأخرى حتى ان من اشهر ضحايا هذهِ المسألة التي تحولت إلى محنة بنفس الاسم الإمام احمد بن حنبل (241164 ه_) وانتهت تلك المحنة بمحنة مقابلة ايام المتوكل (206-247 ه_) حيث انقلبت الامور على المعتزلة وصاروا هم البديل في تحمل معاناة سقوا كأسها لمخالفيهم في المسألة (3) وكان لهذه المحنة المقابلة اثرها الكبير في تحطيم جهود فكرية احتاجت قرنا كاملا التبنى ومثل ذلك ضربة قوية وجهت إلى الاتجاه العقلاني في الفكر الاسلامي.

ولسنا في مجال التعرض لهذه المحنة تاريخيا فذلك بعيد عن الهدف الاساسي لهذا البحث وخلاصة موقف المعتزلة في المسألة انها من تفرعات اصل التوحيد في واحد

ص: 348


1- القاضي عبد الجبار شرح الاصول الخمسة 263 المغني 4:222-237 في تفصيل الموقف من الروايات مما لا مجال التفصيله هنا وانظر ايضا ديوان الاصول: 613.
2- ظ ابن النديم الفهرست 121 بيروت ،1964 الطبري: تاريخ الرسل والملوك 11: 1089 بيروت.
3- ظ ابن الاثير الكامل في التاريخ 7 :47 وما بعدها.

من مصاديقه المهمة ممثلا في تنزيهه تعالى عن ان يكون محلا للحوادث (1) .

وهم يرون ان القرآن كلام الله تعالى ووحيه وهو مخلوق ،محدث مفعول لم يكن ثم كان انزله تعالى على النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)ليكون (د الاً على ثبوته، كما جعله دلالة للناس من خلال الاحكام التي جاء بها، ليرجع اليه المسلمون في حياتهم واحتياجاتهم إلى احكامه) (2)

واساس استدلالهم العقلي على القضية مبني على ان الكلام عرض محدث وبالتالي فالقرآن وهو كلامه تعالى محدث ايضا وصورة الاستدلال يعرضها القاضي عبد الجبار بقوله : (إذا كان الكلام حروفا منظومة، واصواتا مقطعة فهو عرض خلقه الله لأن الاعراض محدثة، لهذا كان كلامه محدثا ، فإذا كان الكلام ،محدثا، فالقرآن محدث ايضا لأن كلا منهما خلقه واحدثه)(3)وبما ان كلا منهما محدث وان الله تعالى منزه عن ان يكون محلا للحوادث فليس الكلام محدث في ذاته تعالى وانما يحدثه تعالى في محل وهذا المحل يشترط ان يكون جمادا حتى لا يكون هو المتكلم دون الله (4)وقد تبين لنا في فصل الإمامية تأييدهم لحدوث القرآن وامتناعهم عن القول بأنه (مخلوق) تحرجا من اللفظ وما يوحيه من دلالات، ورفض الأشعرية ومن قبلهم السلف القول بخلق القرآن وجاء الأشعرية بنظرية الكلام النفسي لتحاشي الاشكالات التي اثارها المعتزلة وبنوا استدلالاتهم عليها.

والمهم هنا ما يتعلق بتوظيف المعتزلة للنصوص القرآنية في تأييد رأيهم حيث لجأوا إلى ظواهر النصوص غالبا في الاستفادة منها لدعم توجيههم للقضية وهي

ص: 349


1- القاضي عبد الجبار المغني 7: 3 خلق القرآن تحقيق ابراهيم الابياري ط 1 مصر، وزارة الثقافة والارشاد القومي ط 1 1961 م).
2- ظ المصدر نفسه والصفحة والجزء.
3- المغني7: 3 المحيط بالتكليف 306 تحقيق عمر عزمي، مصر ط 1 1965.
4- المغني 7: 296.

ظواهر متعددة الصيغ وجهوها جميعا لتدل على حدوث القرآن كما ستلاحظ من خلال استعراض بعض تلك الآيات:

حقيقة الكلام وحدوثه

في حقيقة الكلام نلاحظ ان المعتزلة يدققون كثيرا في تأكيد خصوصية هذه الصفة ودفع الاشتباه في تصور ان يخرج الكلام منه تعالى كما يخرج من المخلوق يقول القاسم الرسي في رده على المشبهة الذين فهموا من قوله تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى كَلِيمًا ﴾ (النساء /164) انه تعالى يكلم بلسان وشفتين وخرج كلامه كما خرج من المخلوقين يقول: (انه ((تعالى)) انشأ كلاما خلقه كما شاء فسمعه موسى سلام وفهمه وكل مسموع من الله فهو مخلوق لأنه غير الخالق له )(1).

وأول النداء في قوله تعالى: ﴿إِنّى أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَلَمِينَ﴾ (القصص (30) - انه غير المنادي والمنادي بذلك هو الله جل ثناؤه والنداء غيره، وما كان غير الله مما يعجز عنه الخلائق فمخلوق ؛ لأنه لم يكن ثم كان بالله وحده لا شريك له (2)ومثل هذا يقال عندهم عن أي كلام وصف صدوره عنه تعالى کوصفه تعالى لعیسی(عليه السلام) بانه كلمته والقرآن والكتب السماوية الاخرى (3).

ومثل هذهِ القاعدة العامة يؤكدها القاضي عبد الجبار في استدلاله على حدوث القرآن إذ يرى ان كل ما ورد في كتاب الله عز وجل مما يدل على ان الله تعالى يغير القرآن او بعضه او يقدر عليه او يبدله بغيره، او يقدر على مثله او يأتي بمثله، او يجتزئ منه يدل على حدوثه) (4).

ص: 350


1- اصول العدل والتوحيد 109
2- المصدر السابق نفسه
3- المصدر نفسه 109
4- المغني 7: 89 ويقول في موضع آخر (ان كل ما ذكرناه من الادلة يوجب في جميع كتبه وكلامه انه ،محدث، فهو كاحسانه ونعمه، لأنه من النعم في الحقيقة، لأنه إذا امر ونهى وهدى ،وارشد فقد اجزل النعم) ظ: المختصر 195.

حدوث القرآن

يستفيد المعتزلة من العديد من ظواهر الآيات الكريمة التي تؤكد ان القرآن محدث بهذه الصيغة نفسها او بتصريفاتها او بما شابهها من الالفاظ الدالة على حدوثه بعد ان لم يكن.

فالقاسم الرسي الذي يرى ان كل الكتب السماوية مخلوقة كالقرآن ويستدل بقوله تعالى:﴿ إِنَّا جَعَلْتَهُ قُرْءَانَا عَرَبِيًّا ﴾(الزخرف/ 3) ويريد خلقناه مستفيدا من ورود هذا اللفظ (الجعل) في القرآن بهذه المعنى كما في قوله تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ (الاعراف /189) يقول : خلق منها زوجها (1).

كما يستدل بقوله تعالى: ﴿ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرِ مَن رَّبِّهِم تُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ (الانبياء /2) وقوله تعالى:﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ ﴾ (القلم /44).

وقوله سبحانه:﴿ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ﴾ (طه/113)، يستدل بهذه الآيات على (ان كل محدث من الله جل ثناؤه فمخلوق لأنه لم يكن فكان....)(2) .

ويستدل القاضي عبد الجبار على انه تعالى لا يكون متكلما (الا إذا فعل الكلام واحدثه بحسب المصلحة)(3) بالقرآن الكريم الذي يدل على ذلك وانه مخلوق لأنه تعالى يقول﴿ وَمِن قَبْلِهِ كِتَبُ مُوسَى﴾ (الاحقاف) وهذا انه يوجب بعد غيره وهذا من علامات الحدوث (4)وقال تعالى : ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ ﴾ (الزمر /23)

ص: 351


1- اصول العدل والتوحيد 109
2- المصدر نفسه 110
3- المختصر 194 .
4- المختصر ،194 متشابه القرآن 2: 613

ومن حق الحديث ان يكون محدثا وقال تعالى:﴿ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا﴾(الاحزاب (37) والمفعول لا يكون إلا محدثا.

كما يضع في هذا الاطار في الدلالة على الحدوث والخلق كل ما جاء في آياته وصفه بانه ينتسخ وينسى وبأنه يبتدأ به وبانه ذكر ،محدث، وبانه مفصل محكم موصل، وبأنه عربي وبانه سور كثيرة، يدل على انه فعله لأن كل ذلك من علامات الحوادث والافعال) (1).

ويستدل القاضي عبد الجبار ايضا بقوله تعالى:﴿نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَنَةَ وَالْإِنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ ﴾(آل عمران/43) على حدوث القرآن ودلالتها في جهات عدة منها وصفه بأنه انزله وذلك لا يصح إلا في الحادث لأن القديم يستحيل ذلك عليه والكلام ان لم يصح انزاله لأنه لا يبقى فقد يصح انزال الكتاب وانزال ما يقوم مقامه من الحكاية ومنها انه وصفه بانه انزله بالحق وتخصيص نزوله يدل على حدثه ومنها انه جعله متأخرا عن التوراة والانجيل وجعلهما ،قبله وما غيره قبله لا يكون إلا محدثا )(2) .

ويستحضر القاضي عبد الجبار ما يمكن ان يعترض به معترض بالقول عن القرآن وانه انزل دفعة واحدة إلى سماء الدنيا ثم كان ينزل على قدر الحاجة، ويرى ان ذلك لا يقدح في صحة القول بحدوثه ( مع ما ذكرناه من تقدم خلق كتاب موسى له فجميع ذلك إذن متفق غير مختلف)(3).

ولا يفوته ان يستدل بالاخبار إذا كانت موافقة للاصل الذي يبنى عليه فهو في هذه المسألة يستدل بقوله (صلی الله علیه وآله وسلم)( كان الله ولا شيء، ثم خلق الذكر وما خلق الله من سماء ولا ارض اعظم من آية الكرسي)(4).

ص: 352


1- المختصر 194، 195.
2- متشابه القرآن 1: 140
3- متشابه القرآن 2: 613، 614
4- المختصر ،195 وأنظر الرواية في سنن الترمذي 11: 15 .

الأصل الثاني: العدل

يؤسس القاضي عبد الجبار لاصل العدل عند المعتزلة مقدمات تمثل اصولا تأتي المصاديق المبينة لقولهم في العدل متفرعة عنها ومواءمة المعياريتها وهي(1) .

•ان الافعال معقولة فى الشاهد.

•ومنها تميز فعلنا عن فعله تعالى.

•ومنها تمييز الحسن من القبيح وضروبه

•ومنها ان القبيح لا يجوز ان يقع من فاعل دون فاعل.

فمن هذه المقدمات تتفرع عن اصل العدل مجموعة مسائل تمثل ركائز مهمة في المنهج الاعتزالي في بناء المنظور العقائدي وهم يستدلون على كل ذلك بآيات القرآن الكريم ويوظفونها لتأييد ما يقولون ومن هذه المباحث المتفرعة(2):

ان افعال العباد حادثة من قبلهم وليس من خلقه تعالى

انه لا يكلفهم إلا ما يطيقون.

ومنها ان قدرتهم متقدمة لما يفعلون.

ومنها انه تعالى لا يعاقب من لا ذنب له ولا بذنب غيره.

ومنها انه لا يريد القبيح ولا يحبه ولا يرضاه ولا يشاؤه بل يكرهه ويسخطه.

وسيورد البحث بعض التطبيقات في فهم النص القرآني على بعض هذه التفرعات.

ومن مصاديق الاستدلال بالنص القرآني وفهمه على اصل العدل عند المعتزلة ما

ص: 353


1- المختصر202
2- المصدر نفسه.

عن أبي علي الجبائي في الاستدلال بقوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِى مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾(يونس/ 25) إذ يرى ان هذه الآية قوية الدلالة على العدل، . لأنه تعالى لا يجوز ان يصف نفسه بأنه يدعو إلى دار السلام وهو مع ذلك يصد عن الايمان ويصدف عنه ويمنع منه)(1).

1 - افعال العباد:

تمثل هذه المسألة مشكلة واجهت المتكلمين واختلفوا فيها ازاء طبيعة الصلة بين ارادة الله تعالى وارادة الانسان وأيهما المؤثرة في صدور فعل الانسان، أي بكلام آخر هل الانسان مجبور في افعاله واذا كان كذلك كيف يحل التقاطع مع كونه عادلا إذ يحاسبه تعالى على فعل اجبره عليه ام ان الانسان حر مختار فما هي صلة فعله بإرادة الله وهل يمكن ان يصدر عن العبد ما لايريده الله.

وقد انقسم المسلمون تجاه هذه المسألة إلى جبرية وقدرية ومتوسطين.

والمعتزلة يقولون بحرية العبد وينفون عن انفسهم صفة القدرية ويلقونها على الآخرين يقول القاضي عبد الجبار اعلم ان القدرية عندنا انما المجبرة والمشبهة وعندهم المعتزلة، فنحن نرميهم بهذا اللقب وهم يرموننا به)(2) ويقوم نفيهم للقدر لا على اساس نفي تقدم علم الله وانما عدم تجویز قیام الحوادث به تعالى وهو من لوازم اصل التوحيد في عدم اتصافه تعالى بالصفات لمعان محدثة (3)

وقضية افعال الانسان تتصل بالقضاء والقدر ونلاحظ من خلال ربط المعتزلة للقضية بالله تعالى وتحديد طبيعة صلتها بإرادته انها وظفت ايضا لتؤكد التنزيه المطلق للباري لذلك يبعدون ان تكون صلة افعال العبد بقضاء الله وقدره بمعنى

ص: 354


1- ظ: القاضي عبد الجبار متشابه القرآن: 360 ،361
2- شرح الاصول الخمسة 772.
3- ظ: شرح الاصول الخمسة 186.

الخلق الذي يستوجب كونه تعالى خالقا لها يقول القاضي عبد الجبار لسائل مفترض: إن أردت بالقضاء والقدر الخلق فمعاذ الله من ذلك، وكيف تكون افعال العباد مخلوقة لله تعالى وهي موقوفة على قصودهم ودواعيهم ان شاءوا فعلوها وان شاءوا تركوها) (1).

وأساس هذا الاستبعاد للصلة يقوم على ما يلزم منه ان العباد بذلك لا يستحقون عليها المدح والذم والثواب والعقاب)(2)وهذا مبدأ ثابت في عدل الله تعالى يلزم من خلافه كونه - تعالى - ظالما ويستدلون على ذلك بأدلة عقلية ونقلية يطول البحث بإيرادها يمكن الرجوع إليها فى مظانها (3).

فهم الآيات

من الاستدلالات المواءمة لمنهج المعتزلة ورأيهم في هذه المسألة ما عن الحسن البصري في رسالته إلى عبد الملك بن مروان في القدر. حيث يستدل بالنص القرآني على رد قول المجبرة بخلقه تعالى لفعل العبد وذلك في قوله تعالى:﴿ لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَنَاخَرَ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةُ ﴾ (المدثر / 3837) حيث يفهم من الآية انه تعالى جعل فيهم القدرة ما يتقدمون بها ويتأخرون وابتلاهم لينظر كيف يعملون، وليبلو اخبارهم. فلو كان الامر - كما يذهب اليه المخطئون - لما كان اليهم ان يتقدموا ولا يتأخروا، ولما كان المتقدم اجر فيما عمل ولا على متأخر لوم فيما لم يعمل لأن ذلك بزعمهم ليس منهم ولا اليهم ولكنه من عمل ربهم)(4).

ص: 355


1- المصدر نفسه 771 وانظر المختصر
2- المصدر نفسه، والصفحة
3- راجع مثلا: رسائل العدل والتوحيد تحقيق محمد عمارة خصوصا المختصر في اصول العدل والتوحيد للقاضي عبد الجبار 208 وما بعدها شرح الأصول الخمسة 771 - وما بعدها تنزيه القرآن عن المطاعن 77 - وما بعدها.
4- رسالة في القدر (رسائل العدل والتوحيد )84.

كما يستدل على كونه تعالى ( لم يجعل الامور حتما على العباد ولكن قال ان فعلتم كذا فعلت بكم كذا، وان فعلتم كذا فعلت بكم كذا، وانما يجازيهم بالاعمال [ بأنه ] كما قال ﴿فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ﴾(1)(سورة ص/ 61).

ونجد القاضي عبد الجبار يوظف النصوص القرآنية للدلالة على ما يقوله المعتزلة بنفي فعل العبد عنه تعالى وتحميل الانسان مسؤولية اعماله فمن ذلك مثلا ما يستدل به المجبرة من قوله تعالى:

﴿ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الْأَمْرِ مِن شَيْ وقُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُله لله ﴾(آل عمران/154) حيث يفهمون من الآية انه لا صنع للعبد ويرد القاضي استدلالهم هذا مستفيدا من سياق الآية نفسها حيث يقول وجوابنا انه تعالى حكى عنهم ماذا هم عليه وهو قوله: ﴿لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا ﴾(آل عمران/154) فلا دلالة فيما حكاه عنهم فأما قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ ﴾. فالمراد به ما يتصل بالنصرة والتمكين ولولا ذلك ما امرهم بالجهاد ولما ذمهم على تركه ولذلك قال بعده (وهنا يستدعي القاضي نصوصا قرآنية اخرى مطبقا تفسير القرآن بالقرآن)﴿ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لَا يُبْدُونَ لَكَ ﴾( آل عمران/154) فنبه بذلك علىانه سبحانه يعلم من حالهم ما لا يعلمه (ص) وقوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾ آل) عمران /159) ترغيب للرسول (ص) في جميل الاخلاق ليكون قبولهم اقرب ويدل على ان صرفهم فعلهم لأنه لو كان خلقا من الله فيهم لما صح ان يقول : ﴿فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ هَمْ وَشَاوِرُهُمْ فِي الْأُمِّر ﴾ آل عمران/159) لأنه لا يصح لنا ان نشاور فيما يخلقه تعالى، ولما صح قوله :﴿ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ﴾(آل عمران/159) ولما صح قوله :﴿ إِن يَنصُرْكُمُ اللهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ﴾(آل عمران/160) لأن ما يوجد في الغالب والمغلوب هو من مثل الله تعالى)(2) .

ص: 356


1- المصدر نفسه 85.
2- تنزيه القرآن عن المطاعن 82 ،83

كما يستدل بقوله تعالى: ﴿ فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ (يس/54) على ان العبد هو خالق اعماله والمستحق لجزائها ثوابا او عقابا إذ يقول : ( ويدل ايضا على انه لا يجازيهم على ما يخلقه فيهم، لأنه يكون مجازيا لهم على ما لا سبيل لهم إلى التخلص منه وهذا اعظم من تعذيب الواحد على ذنب غيره، وقوله فاليوم لا تظلم نفس شيئا يقتضي تنزيهه عن الظلم وذلك لا يتم إلا على ما نقول)(1).

ويرد على قول المجبرة بانه إذا كان الفعل من العبد اليس الايمان من الله وكذلك الدين وسائر الطاعات فكيف يضاف ذلك إلى الله ولم يخلقه فيقول : (يضاف اليه تعالى لأنه امر به واعان عليه ولطف كما يضاف ادب الولد إلى ابيه من حيث ادبه وهذبه وعلمه فاما المعاصي فلا تضاف إلى الله لأنه نهى عنها وكره فعلها وتوعد عليها بالعذاب)(2).

ويؤول القاضي عبد الجبار الآيات التي يستند اليها المجبرة في القول بحصول افعال العباد بقضاء الله وقدره، ويقوم هذا التأويل على تحديد معاني المفردة واصول القرآن في استخدامها ففي مقام الزامه للمجبرة بقولهم : ان الفواحش والقبائح من خلق الله تعالى وما خلقه فقد قضاه وقدره من وجه، فيجب الرضا إذا بذلك وهذا كفر وان لم يجب الرضا به ففي ذلك دلالة على انه ليس من قضاء الله تعالى.. واذا لم يكن من قضائه فليس من خلقه بل هو من افعال العباد من هنا يدخل إلى تفصيل القضاء

إلى شقين:

أ - قضاء الله تعالى على الاطلاق، وهو ما خلقه وقدره، وأوجده واوقعه، وهو الذي اراده بقوله: ﴿ فَقَضَتْهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ﴾(فصلت/12).

ص: 357


1- متشابه القرآن 2: 276
2- المختصر 210

ب - ما اقدر العبد عليه وأمر به ونهى عنه ويفرعه ايضا إلى(1).

1 - ما قد يقال في الواجبات من قضاء الله حيث اوجب قطعا فشبهت بما يخلقه تعالى لا محالة ويلزمنا الرضا بذلك كما قال تعالى:﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ ﴾ (الاسراء/23).

2 - وما قد يقال في سائر افعال العباد انها من قضاء الله بمعنى انه اخبر عنها ودلنا عليها، فهذا مجاز لان قضاءه هو الخير والدلالة دون الفعل.

وينتهي بالتالي من هذا الاستدلال الى ان فعل العبد من خلقه الا ما كان واجبا منه على نحو ما اورده في نقطة رقم (2) المتعلقة بقوله تعالى ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُواْ إِلَّا إِيَّاهُ ﴾فضلا عن قضائه تعالى على الاطلاق [ دون تقييد ] الوارد في نقطة أ.

وعندما يتمسك المجبرة بظواهر آيات اخرى يرد فيها لفظ الخلق مضافاً اليه تعالى يؤول القاضي تلك الآيات ويحكم بخطأ تأويل المجبرة مستفيدا من نواح عديدة يحكم بها على صحة ما يراه.

فقد يستدل المجبرة بقوله تعالى :﴿ خَلِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ (الانعام /102) وقوله : ﴿هَلْ مِنْ خَلِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾ (فاطر/3) وقوله : ﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ ﴾(الرعد/16) على انه لا يجوز اضافة افعال العباد اليهم مع هذه الظواهر التي تنسب الخالقية لله تعالى فيما جاءت به .

ويقيم استدلاله على مجموعة ركائز : (2)

1 - انه يستحضر اصل الحسن والقبح الذاتيين في الاشياء فيحكم بخطأ ما اولوه بدلالة العقول (لأنه تعالى ثَبَّت في العقول... واوضح ان فاعل الظلم والكذب العالم

ص: 358


1- ظ: المختصر: 212 (بتصرف).
2- ظ المصدر نفسه 214 - 215 0 (بتصرف).

بحالهما يستحق الذم والنقص فلا يجوز ان يتمدح بما نصب منصب الدم لتناقض ذلك وكيف يصح ان يتمدح بقوله: ﴿ خَلِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾. ويريد بذلك انه خلق القبائح وانما اراد تعالى بذلك انه الخالق للانسان وسائر النعم ليبعث الخلق بذلك على الشكر والطاعة.

2 - ان المراد بقوله : ﴿خَلِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾: المخلوقات دون غيرها فلا مخلوق يوصف بذلك إلا والله فاعله لأن افعال العباد لا توصف بذلك إلا مع التقييد.

3 - ويؤول قوله تعالى:﴿ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (الصافات /96) استفادة من السياق الذي وردت فيه الآية فالمراد به الاصنام التي عملوها بمعنى عملوا تسويتها ،ونحتها لأن ما هذه حاله يقال انه عمل الصانع.. ولولا ان هذا هو المراد لم يصح ان يكون تعالى ذاما ولا مبكتا بعد قوله:﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا نَنْحِتُونَ ﴾ (الصافات/95) فلما وبخهم بذلك من حيث بيّن انه تعالى خلق الاصنام كما خلقهم، فلم عدلوا عن عبادته مع انه الخالق المنعم عليهم.

4 - اما قوله تعالى:﴿ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ، فَتَشَبَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ﴾فيؤوله على اساس رد قول الثنوية وعباد الاصنام بنزع الوحدانية في الربوبية عن الباري تعالى حيث (لا يوجبون ان يكون الخالق والمنعم والمحيي والمميت والرازق واحدا )فما يبين رأي المعتزلة بان العبد هو الفاعل : (انه لا يجب ان يتشابه الخلق فخلقه تعالى متميز من فعل العبد وكسبه ثم يستعين بالاستعمال القرآني للمفردة واضافتها إلى غيره تعالى للتدليل على تأويله فيقول: (ثم يقال لهم فقد قال تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَلِقِينَ ﴾ (المؤمنون/14) فنبه على إثبات خالق سواه وان كان لا يطلق ذلك وقال:﴿ وَإِذْ تَخلُقُ مِنَ الطِينِ كَهَيْةِ الطَّيْرِ ﴾ (المائدة/ 110) فأضاف ذلك إلى عيسى

ص: 359

وقال:﴿ وَتَخْلُقُونَ إفكا ﴿(العنكبوت/17) فيجوز ان يتناقض الكتاب فان قالوا: لا فالمراد اذن ما قلناه ليسلم الآي اجمع ويتفق معناها ولا يختلف)(1) .

2 - تنزيهه تعالى عن فعل القبيح

من لوازم كونه تعالى عادلا تنزيهه عن فعل القبيح وهذا مرتبط من جهة معينة بأفعال العباد، وشبهة المجبرة في نسبتها اليه تعالى بالألجاء والجبر وحيث ان افعالهم فيها القبيح فقد كان من حيثيات قولهم بحرية الانسان ومسؤوليته عن فعله وتنزيه الباري تعالى وهكذا فالمعاصي والظلم والضلال لا يفعلها الله تعالى ولا يلجئ العبد اليها ولا يريدها منه ولما كان الكثير من الآيات الكريمة قد جاءت ظواهرها موحية بهذه النسبة لله تعالى وقد احتج بها المجبرة على مذهبهم فقد تصدى المعتزلة لتوجيه تلك الظواهر الموافقة الادلة عندما لا تكون بحاجة إلى التأويل او تأويلها حيث يكون ذلك ضروريا على مسلكهم في تأويل ما خالف الأصول والادلة التي يحكمونها فمما يقع في باب تنزيهه تعالى عن فعل القبيح مثلا:

أ - انه تعالى لا يفعل المعاصي:

يقول القاسم الرسي (والله تعالى لا يقضي جورا ولا باطلا ولا فجورا، لأن المعاصي كلها باطل وفجور وجور، والله يتعالى ان يكون لها قاضيا او مقدرا، بل هو كما وصف نفسه، جل ثناؤه، إذ يقول : ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَصِلِينَ ﴾ (الانعام /57)... وانما يؤتى العبد من نفسه بسوء نظره وایثاره ،هواه وشهوته من قبل الشيطان عدوه الذي يوسوس في صدره ويزين له سوء عمله ويتبعه فيضله ويرديه ويهديه إلى عذاب السعير وقال جل ثناؤه يحذر عباده الشيطان:﴿ يبَنِى ءَادَمَ لَا يَفْيْنَنَّكُمُ الشَّيْطَنُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ﴾ (الاعراف /27) .

ص: 360


1- ظ المختصر 215

وقال تبارك وتعالى: ﴿الشَّيْطَنُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاءِ ) (سورة البقرة/268) وقال سبحانه ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَب السَّعِيرِ ﴾(1)(فاطر/6) .

وهكذا يأخذ الرسي بظواهر هذه الآيات لأنه يكفيه مؤونة تأويلها ليثبت ان المعاصي في الحقيقة من الانسان وقد جاء ت النصوص بنسبتها اليه والى تسويل الشيطان وغروره .

ويؤكد القاضي عبد الجبار تنزيهه تعالى عن فعل المعصية والقبيح عند تأويله لظاهر الآية الكريمة قوله تعالى: ﴿ وَلَا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾(هود/34) حيث استدل بها المخالفون على انه تعالى يخلق الغي والفساد والكفر.

فالقاضي يقيم رد الاستدلال على ان الظاهر لا يدل على ما فهموه منها بانه تعالى فعل الغواية وان معنى الآية في ظاهرها انما يدل على ان نصحه [ أي نوح ] لا ينفع ان كان تعالى يريد ذلك وهل يريده ويفعله ام لا ؟ لا يتناول من الظاهر ولا يدل عليه فالتعلق به (بعيد)(2)

ب - الهدى والضلال واثر ارادته تعالى

من المسائل التي تتفرع عن اصل العدل وتحديد المسؤولية عن فعل العبد مسألة اثر ارادته تعالى في تحقق الهداية او الضلال وترتبط هذه المسألة ارتباطا واضحا بمنهج المعتزلة القائم على التنزيه المطلق في اصل التوحيد وبالتالي فللقضية صلة بأهم اصلين من أصول المعتزلة التوحيد والعدل وارتباطها بأصل التوحيد يأتي من

ص: 361


1- اصول العدل والتوحيد 112، 113
2- متشابه القرآن 1: 378

صلتها بتنزيهه تعالى عن فعل القبيح او ارادته او الامر به فضلا عن ان اصل العدل بذاته وما يتضمن من تفرعات مرتبط بالتوحيد من حيث كونه بحث في صفة من صفاته تعالى يعبر القاضي عن هذهِ العلاقة بقوله (ان) الارادة فعل من هذه الافعال ومتى تعلقت بالقبيح فيجب لا محالة وكونه تعالى عدلا يقتضي ان تنفى عنه هذهِ الارادة)(1).

وتصور المعتزلة للارادة الالهية يستحضر حاكمية التنزيه المطلق في كل حيثية لها ارتباط بها كانعكاسات او مصاديق ولذلك يضعون كاساس - تقاس عليه تلك المصاديق والانعكاسات - معيارا يتمثل في انه تعالى يريد ما لا يقع ويقع ما لا يريد فهو تعالى اراد من الكافر الايمان وان لم يقع منه ولم يرد منه الكفر وان وقع منه وينبني هذا القول على حيثية مهمة ترتبط بالحسن والقبح الذاتيين من جهة وعلمه تعالى من جهة اخرى وقدرته تعالى المطلقة وصلتها بالقضاء من جهة ثالثة فكل هذه الجهات نجدها حاضرة في تساؤل مهم سيطبع تطبيقات هذه القضية ومسألة التنزيه عموما هذا التساؤل يمثل اساساً تبنى عليه نظرة المعتزلة وهو: كيف يريد الله تعالى ما لا يرضاه ولا يحبه ؟وكيف يشاؤه ويكونه ؟ وكيف تجتمع ارادته له وبغضه وكراهته(2) ؟ تأسيسا على تصور المعتزلة للاجابة عن هذا التساؤل يرد المعتزلة قول مخالفيهم بما يلزم عنه نسبة الهداية والاضلال اليه تعالى على نحو الالجاء ومن المصاديق المتقدمة لذلك ما يرد عند القاسم الرسي في ابعاد لرؤية متكاملة تنحل معها عقدة النظر إلى لوازم التنزيه المطلق عند المعتزلة وظواهر الآيات التي تنسب الهداية والاضلال اليه تعالى ويمكن اجمال هذه الرؤية في امور(3):

ص: 362


1- شرح الاصول الخمسة 431.
2- ظ المصدر نفسه 431 وما بعدها.
3- اصول العدل والتوحيد 113 - 114

1 - ان على العبد ان يعلم انه لا حول ولا قوة له إلا بالله العلي العظيم الحليم الكريم.

2 - ان الله تعالى عالم بما العباد عاملون والى ما هم صائرون وانه احاط بكل شيء علما واحصى كل شيء عددا.

3 - انه لم يجبر احدا على معصية ولم يحل بين احد وبين الطاعة فالعباد عاملون والله جل ثناؤه العالم باعمالهم والحافظ لافعالهم والمحصي لاسرارهم.

4 - ان يعلم العبد ان الله تعالى يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وانه لا يضل حتى يبين لهم ما يتقون فاذا بيّن لهم ما يتقون وما ياتون وما يذرون فأعرضوا عن الهدى وصاروا إلى الضلالة والردى اضلهم بأعمالهم الخبيثة حتى ضلوا.

بهذه المقدمات تكتمل ملامح رؤية اعتزالية لموقف العبد في افعاله فهو المهتد وهو الضال بعمله وان هدايته تعالى لعباده لطف منه واضلالهم مبني على معصيتهم لارادته منهم ان يهتدوا ويأتي دور الآيات لتدعم ملامح هذا التصور المنطلق من اصولها والمبني على أساسها يقول القاسم الرسي مشيرا إلى ما تقدم لايراد الدليل من القرآن عليه(1)كذلك قال جل ثناؤه:﴿وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ ﴾ (ابراهيم /27) وقال سبحانه: ﴿ وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ ﴾ (سورة البقرة/26-27) وقال تعالى: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ (الصف /5) ولا يغفل القاسم الرسي عن تنبيه من قد يشتبه فيظن ان هدايته واضلاله المحكي هنا على نحو الابتداء إذ يقول : (ولم يبتديء ربنا جل ثناؤه احدا بالضلالة من عباده ولا وصف بها احدا من قبل ان يستحقها وكيف يبتدئ احدا من عباده بالضلالة - كما قال القدريون الكافرون الكاذبون على

ص: 363


1- اصول العدل والتوحيد 113

الله - والله جل ثناؤه ينهى عباده عنها ويحذرهم اياها ويقول :﴿ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ﴾ (النساء /176) يعني: لأن لاتضلوا وقال جل ثناؤه: ﴿ الرَّ كِتَبُ أَنزَلْنَهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الحَمِيدِ ﴾(ابراهيم /1) وقال سبحانه ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيّراً نِعْمَةٌ أَنْعَمَهَا عَلَى حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ﴾ (الانفال /53) ولو ابتدأهم بالضلالة كان قد غير ما بهم

من النعمة قبل ان يغيروا)(1)وهكذا تترى الشواهد القرآنية لتبني صرحا تنزيهيا المعنى صلة ارادته تعالى بأفعال العباد عموما فضلا عن بيان معنى الهداية والضلال اللذين يفترقان، فالهداية من الله، قال تعالى :﴿ أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَنَيْنِ وَهَدَيْنَهُ النَّجْدَيْنِ ﴾(البلد8 /10) والنجدان هما طريق الخير والشر - يقول سبحانه: بينا له الطريقين ليسلك طريق الخير ويتجنب طريق الشر وقال عز وجل: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا للْهُدَى ﴾ (الليل/12) وقال جل ثناؤه: ﴿ وَالَّذِى قَدَّرَ فَهَدَى ﴾ (الاعلى/3) فهذه ظواهر آيات تؤكد ان الهدى منه تعالى يوظفها القاسم الرسي ليثبت ما يرى.

اما الضلال فمن العبد ومن تسويلات الشيطان، وقد قال تعالى :لنبيه (صلی الله علیه وآله وسلم):﴿ قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِى وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحَى إِلَى رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ﴾. (سبأ /5) فأمر نبيه(صلی الله علیه وآله وسلم)ان ينسب ضلاله، إن كان منه إلى نفسه، والهدى إلى ربه تبارك وتعالى وقد علم الله جل ثناؤه، ان لا يكون من نبيه(صلی الله علیه وآله وسلم)ضلالة ابدا وان لا يكون منه إلا الهدى وانما امر بذلك تأديبا لخلقه، وان ينسبوا ضلالتهم إلى انفسهم وينزهوا عنها ربهم وان ينسبوا هداهم إلى الذي به اهتدوا وبعونه وتوفيقه رشدوا والقدريون المفترون يكرهون ان ينسبوا الضلالة إلى أنفسهم والفواحش، ولا يقرون ان الله جل ثناؤه ابتدأ عباده بالهدى)(2) .

ص: 364


1- المصدر نفسه 114.
2- اصول العدل والتوحيد 115

اما القاضي عبد الجبار فيبني رؤيته للمسألة انطلاقا من اصل التنزيه المطلق للباري ،تعالى، وهذا ما يتاكد من خلال إدراجه لها في الأصل الرابع من التوحيد في ذكر ما لا يجوز عليه تعالى من الصفات (1) وأول ما يؤسسه هنا هو تحديد حقيقة الإرادة فالمريد هو القاصد إلى الفعل والمختار له على غيره وقد يعلم احدنا الشيء ولا يريده وقد يعلمه ويريده) وطبيعة هذهِ الارادة في مقام تعلقها بالله تعالى (ان الدليل دل على انه مريد هو الذي يدل على ان ارادته فعله لأنا نعلمه مريدا من حيث خاطب وامر وأخبر.. وهذه الارادة يجب ان تحدث في حال حدوث الخبر وإلا لم يكن بأن يوجب كونه خبرا عن واحد (( النبي(صلی الله علیه وآله وسلم))) بأولى من ان يكون خبرا عن جماعة)(2) ومن هذه الحيثية يتبين ارتباط فعل العبد بارادته تعالى فانه تعالى (يريد كل مراد من افعال ،عباده فانما يريد منها ما امر وحث عليه دون المعاصي والمباحات ودليله الذي يرد به على الجبرية التي تخالفه - وهو منتزع من الدليل القرآني - انه تعالى (قد نهى عن المعاصي، فلا يجوز ان يكون مريدا لها، وقد ثبت انه ساخط لها وعلى فاعلها فلا يجوز ان يريدها كما لا يجوز ان يحبها)(3) .

وهذه الارادة من الله تعالى ليست ارادة حتم والجاء وإلا لانتفى كونها نافذة ان صح انه يريد من الكافر الايمان ولا يفعله كما اعترض عليه محدود الارادة هنا انها (لا يقع بها الفعل، فلا يمتنع ان يريد تعالى ما لا يفعله العبد لسوء اختياره ولا ارادة لله تعالى موجبة لافعال العبد فلا يمتنع ان لا يقع مراده... واذا كان تعالى قد بعث الانبياء ليريد الطاعات والزمنا ان نريدها دون المعاصي، فكيف يريد هو المعاصي فيخالف ما امر به فاذا كانت ارادته موجبة فكيف يأمر بما اراد خلافه)(4)

ص: 365


1- ظ المختصر 196.
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه 197.
4- المصدر السابق نفسه 198.

ثم ينتزع الدليل الاجمالي من القرآن الكريم مستفيدا من ظواهر الآيات ما دامت مؤكدة لأصول موقفه يقول: (والقرآن يدل على ما قلناه لأنه قال تعالى: ﴿وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ ﴾ (غافر / (31) و﴿ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ ﴾(آل عمران/ 108) ( كما قال : ﴿وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ﴾ (سورة البقرة /20) و: ﴿ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ ﴾(الاعراف/28) (1)وفي حدود تعلق ارادته تعالى بالهدى والضلال كما جاءت به ظواهر النصوص يؤول الآيات بما يوافق هذه الأصول - مارة الذكر - فيحكمها في الدلالة المنتزعة من تلك الآيات، إذ يقول في مقام الرد على المخالفين الذين يستدلون بقوله تعالى: ﴿فَمَن يُرِدِ اللهُ أَن يَهْدِيَهُ، يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلَامِ وَمَن يُرِد أَن يُضِلَهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَضَعَدُ فِي السَّمَاء ﴾ (الانعام/125) على ان الله يريد الهدى ويريد الضلال ان المراد بقوله ((تعالى)) فمن يرد الله ان يهديه إلى الصواب في الآخرة يجعل صدره ضيقا حرجا وظاهر الكلام ان المراد مستقبل ولا يمكن ان يمنع من حمله على ما قلناه (2).

ويستفيد من هذهِ الآية وتوجيه دلالتها في إثبات اصل المعتزلة في العدل ومبدأ اللطف منه بالذات حيث يقول ردا على ما قد يعترض به احد على تأويله للآية بالقول: كيف يصح ذلك وانتم تقولون اراد ((تعالى)) من الكل الهدى ؟ وكيف يصح ذلك ونحن نعلم ان الكافر لا يكون ضيق الصدر بكفره بل ربما يكون اشرح بما هو عليه من المؤمن ؟ يقول في جوابه ان المراد بالهدى في الآية: زيادات الهدى كقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى ﴾ ( سورة محمد /17) وقوله {من يرد ان يضله} أي عن هذه الزيادات ( من حيث يعلم انه لا ينتفع بجعل صدره ضيقا حرجا فتضطرب عليه اعتقاداته الفاسدة إذا فكر فيها. وهذا يدل على قولنا في العدل انه تعالى يريد

ص: 366


1- المختصر 198.
2- متشابه القرآن 1: 263

بفعل المؤمن ما يكون اقرب إلى ثباته على الايمان من شرح الصدر بزيادات الادلة ويفعل بالكافر ما يكون اقرب إلى ان يقلع عن الكافر من ضيق الصدر وإلا فقد هدى الجميع بالادلة)(1).

ج - اللطف :

وهو مما يتفرع عن اصل العدل وهو من الثوابت التي لها انعكاسات وثمرات عديدة في أصول العقيدة في المنظور المعتزلي ويتعلق وجوبه - وهو ما يراه المعتزلة -بكون العبد حرا مختارا.

ونجد اللطف تحديدا عند القاضي عبد الجبار يتعلق بالحيثية التي يقال به لاجلها او بالثمرة التي تنتج عنه إذ تختلف اساميه فربما سمي توفيقا وربما سمي عصمة إلى غير ذلك (2)وهذه اشارة إلى تعلق اللطف من حيث يسمى عصمة ببعثة الانبياء وضرورة عصمتهم عما لا يليق بمنصب النبوة وعلاقته من حيث يسمى توفيقا بفعل العبد وهذا ما يتبين من خلال حقيقته عنده إذ اللطف هو (كل ما يختار عنده المرء الواجب ويتجنب القبيح او ما يكون عنده اقرب اما إلى اختیار او إلى ترك القبيح)(3).

وقد اتفق اوائل المعتزلة على وجوب اللطف مطلقا (4) إلا ان القاضي عبد الجبار يفصل بين الالطاف فيوجب اللطف بتقييد يرتبط بالتكليف ويرى لذلك ان اللطف ليس بواجب قبل التكليف ولا مقارنا له ولا يبقى الا الاحتمال الثالث الذي لا رابع له وهو ما اختاره بكون اللطف متأخرا عن التكليف (5)وهو يستدل على رأيه في وجوب

ص: 367


1- ظ تنزيه القرآن عن المطاعن 137 .
2- شرح الاصول الخمسة 519.
3- المصدر نفسه، وانظر متشابه القرآن 2: 719
4- شرح الأصول الخمسة 520.
5- ظ المصدر نفسه ،521 وانظر متشابه القرآن 2: 447

اللطف بانه إذا كلف (( تعالى)) المكلف وكان غرضه بذلك تعريضه إلى درجة الثواب ،وعلم ان في مقدوره ما لو فعل به لاختار عنده الواجب واجتنب القبيح، فلا بد من ان يفعل به ذلك الفعل والا عاد بالنقض على غرضه)(1).

والمهم في هذا المقام ان نعلم كيف وظف المعتزلة النص القرآني للدلالة على ما يرونه في اللطف.

فمما يستدل به المعتزلة عموما على اللطف قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا الْغُلَمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَنًا وَكُفْرًا ﴾ (الكهف/80) حيث يرون في دلالة الآية انه تعالى بيّن انه انما قتله وحسن منه ذلك من حيث لو بقي لكان في بقائه مفسدة لأبويه وكانا يختاران لأجله الكفر، وذلك يوجب ان منع ما هو مفسدة في التكليف ،واجب وان فعل ما يدعو إلى ترك الكفر والايمان لا بد منه في ازاحة العلة)(2).

ويطبق القاضي عبد الجبار على اللطف في رأي المعتزلة مجموعة من الآيات يستفيد من خلالها جملة امور كما يأتي:

فما يدفع به شبهة المجبرة انه تعالى يفعل المعصية ((البغي))في العبد استدل له بقوله تعالى:﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ، لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ، خَبِيرٌ بَصِيرُ ﴾(الشورى /27) حيث يدل على بطلان قولهم لأنه تعالى بيّن انه لا يبسط الرزق لئلا يقع منهم البغي فكيف يظن مع ذلك انه الذي يخلق الكفر والبغي فيهم ؟)(3)ولما كان هذا التحديد في نصبه تعالى ما يبعد العبد من المعصية

ص: 368


1- المصدر نفسه، وانظر: المختصر ،231 متشابه القرآن 2: 719
2- ظ القاضي عبد الجبار متشابه القرآن 2: 478
3- متشابه القرآن 2 :606

مما يقع ضمن حد اللطف فهو دلالة عنده على اللطف من حيث انه تعالى (خبر بانه انما لم يبسط الرزق لهم لئلا يقع منهم البغي)(1)

وللطف عند المعتزلة حدود واعتبارات فمنها انه لا يقع اللطف الا لاهل الطاعة والايمان فلا لطف مع المنافقين يستدل القاضي عبد الجبار على ذلك بقوله تعالى: ﴿فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقَا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ﴾ (التوبة/77) ووجه استدلاله انه تعالى لما خلاهم ونفاقهم ولم يلطف بهم من حيث كان المعلوم انه لا لطف لهم لتقدم النفاق فيهم جاز ان يضيف ذلك إلى نفسه)(2) واثباته هذه الاضافة اليه تعالى مع تأويلها بمعنى اللطف كانت طريقه في رد دعوى المجبرة انه تعالى ادام النفاق فيهم فكيف يصح مع حكمته .

واللطف انما يرتبط بالطاعات عموما كما ينتفي عمومه في المعاصي مع التمكين من المنع بالنهي يقول القاضي عبد الجبار في قوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُم مِّن نِعْمَةٍ فَمِنَ ﴾(النحل/53) ان الايمان نعمة منه تعالى لكن لا على نحو الفعلية كما يتمسك المجبرة بظاهر الآية حيث انه تعالى لم يقل وما بكم من نعمة فمن فعل الله حتى يوجهونها بما يؤيد الجبر(3)وعلى هذا الحد يطلق) في المعاصي فيقال هي من الشيطان لما كان دعاؤه اليها كالسبب والمعونة... وقد قال تعالى: في مثله :﴿قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَنِ ﴾ (القصص / 15) ثم يخلص إلى ما يساعده في انتزاع مساندة الآيات لموقفه في اللطف وتنزيهه تعالى عن الجاء العبد إلى المعصية فيقول ( من على هذا الحد نقول في الطاعات اجمع انها من الله تعالى لما وصلنا اليها بألطافه ومعونته وتيسيره ولا نقول ذلك في المعاصي وان مكَّنَ تعالى منها لما منع منها بالنهي والزجر والتهديد)(4).

ص: 369


1- المصدر نفسه.
2- تنزيه القرآن عن المطاعن 169
3- متشابه القرآن 2: 444
4- المصدر نفسه 2: 445

ومن تأويلاته للأيات التي تحمل الاشارة إلى معنى اللطف في قوله تعالى: وَلَوْلَا أَن تَبَّتْنَكَ لَقَدْ كِدةً تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا ﴾ (الاسراء/74) فالمجبرة ربما استدلوا بهذه الآية على انه تعالى ما دام يثبت المطيع على الطاعة وما كان ذلك ليصح لو لم تكن من فعله في العبد واستدلاله بالآية يقوم على (1)

(1).

1 - ان التثبيت على الشيء ليس هو الشيء نفسه لأن الفعل قد يحصل ويثبت الفاعل عليه وقد يحصل ولا يثبت عليه.

2 - سبق ثبوت ان الفاعل لا يجوز ان يثبت على فعله لعلة سوى فعله فلا بد من حمل الآية على غير ما حملوه .

3 - لا بد من حملها على انه تعالى يثبته بالالطاف والمعونة والتأييد والعصمة.

4 - ان الآية لا تدل على ما ذهبوا اليه إذ لو كان تعالى خلق فيه الفعل ونهاه فلا معنى للآية لأنه كان يجب ان يكون ممنوعا من هذا الركون.

وهذه المعاني المتعددة التي رأى القاضي أرجحية الحمل عليها تتكرر عنده كمعان للطف.

فهو يوصف بانه توفيق إذا صادف وجوده اختيار المكلف للطاعة، لأنها وافقته في الوجود والوقوع على وجه لولاه لم تحصل هذه الموافقة(2).

واما العصمة فعبارة عن الامر الذي عنده لا يفعل المكلف القبيح على وجه لولاه لاختاره فيوصف بانه عصمة من حيث امتنع عنده ولاجله (3).

واما المعونة فلا تكون بأن يمكن من الفعل فقط بالقدرة وغيرها لأن ذلك لو صح

ص: 370


1- متشابه القرآن 2: 468 .
2- المصدر نفسه ،2 ،735 شرح الاصول الخمسة 779
3- المصدر نفسه متشابه القرآن 2 :735 .

لوجب ان يوصف تعالى بانه معين للبهائم والمجانين كما وصف بأنه معين للمكلف ولوجب ان يوصف بانه اعانه على الكفر إذا اقدره عليه كما يوصف بذلك إذا اقدره على الايمان على بعض الوجوه (1).

ونلاحظ ان هذهِ الوجوه ستحمل عليها العشرات من الآيات الكريمة في تطبيقات التأويل وكشف دلالة النصوص عند المعتزلة لاسيما القاضي عبد الجبار ولا مجال للخوض هنا في التفصيلات فيحسن الرجوع إلى مصادره (2).

التكليف بما لا يطاق :

وهو مما يتفرع عن اصل العدل، وقد اختلف فيه المسلمون فقال الأشاعرة بجوازه عقلا(3)واجمع الإمامية (4) والمعتزلة (5)على عدم جوازه وقبحه لأن تكليفه يلزم عنه العبث حيث يعلم انه لا يقدر عليه.

وقد استدل المثبتون لجوازه سمعا وليس عقلا - وهم الأشاعرة بقوله تعالى: أَنْبِتُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ (سورة البقرة/31) حيث يرون انه تعالى : كلفهم الانباء مع انهم لا يقدرون عليه (6)ويقوم رد القاضي عبد الجبار على هذه الآية بالذات على اساس ان هذا لم يكن تكليفا ولو كان تكليفا ففيه الزام للاشاعرة حيث انه سيكون تكليفا لما لا يعلم وهم لا يجوزونه فهویری انه تعالى انما

ص: 371


1- المصدر نفسه 2: 724 وانظر ايضا شرح الاصول الخمسة 779
2- ظ مثلا متشابه القرآن ،1:9 ،25، 65، 11، 168، 199، 217، 264، 299، 318، 342، 382، 396، 2: 419، 464، 697،649، 616، 589، 536 ،480 .
3- ظ الباقلاني( ابو بكر محمد بن الطيب ت 403 ه_) التمهيد في الرد على الملحدة والمعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة ،294 المكتبة الشرقية، بيروت، نشر الاب ريتشارد يوسف مكارثي.
4- ظ العلامة الحلي احقاق الحق :1 ،119 الكراجكي كنز الفوائد 40.
5- ظ الأشعري مقالات الاسلاميين 1: 275
6- ظ القاضي عبد الجبار شرح الاصول الخمسة 400.

قال ذلك ( تعريفا لهم بالعجز عن الانباء، لا ان ذلك تكليفا وعلى هذا لو كان تكليفا لكان تكليفا لما لا يعلم وذلك مما لا يجوزه القوم (( الأشعرية )) وان اجازوا تكليف ما لا يطاق)(1) .

وعلى الرغم من ان المسلك العام للمعتزلة هو عدم الاستدلال بالسمع على ما توقفت صحة السمع عليه إلا ان القاضي عبد الجبار يستدل على مذهب المعتزلة ورأيه فيه بالسمع وذلك بقوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا (سورة البقرة/286) واستدلاله هذا على سبيل المعارضة والاستئناس لا على سبيل الاستدلال والاحتجاج )(2) مكتفيا بدلالة ظاهر الآية على خلاف قول الأشاعرة.

الأصل الثالث : الوعد والوعيد

اتفق المسلمون على انه تعالى وعد عباده المطيعين بالثواب وتوعد الكافرين منهم بالخلود في النار(3) .

إلا انهم اختلفوا في دوام وانقطاع الغذاب للمذنبين فيرى المعتزلة وهو ما يهمنا هنا - ان المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض واذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها استحق الخلود في النار ولكن يكون عقابه اخف من عقاب الكفار وسموا هذا النمط وعدا ووعيدا (4) وهذا الأصل ولتعلقه بافعال العباد ومبدأي الثواب والعقاب فانه متصل بأصل العدل، ذلك ان كونه عادلا فهو لا بد من ان ينجز( ما وعد به وما توعد عليه وهو صادق في وعده ووعيده)(5) .

ص: 372


1- المصدر نفسه.
2- المصدر نفسه 431.
3- ظ البغدادي: اصول الدين ،242 المفيد اوائل المقالات ،52 الحلي: كشف المراد 261 .
4- ظ الشهرستاني: الملل والنحل :1 ،45 انظر ايضا القاضي عبد الجبار شرح الأصول الخمسة 666.
5- الخياط :الانتصار ،126 وانظر د عبد الستار الراوي: ثورة العقل 44.

وقد جعل المعتزلة الايمان بهذا الأصل من الضروريات حيث يترتب على انكاره كفر المنكر به لنبوة النبي (ص)(1) لأنه تعالى وعد وتوعد فيما انزله عليه (ص) وهذا ما نعلمه ضرورة وقد تكثرت المصاديق عليه في القرآن كقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا الصَّلِحَتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَرُ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا ﴾ (سورة النساء /122).

وكقوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ﴾(سورة النساء/116).

أما حقيقة الوعد والوعيد فالوعد كما يعرفه القاضي عبد الجبار(2): (كل خبر يتضمن ايصال نفع إلى الغير او دفع ضرر عنه في المستقبل بلا فرق بين ان يكون حسنا مستحقا وبين ان لا يكون كذلك ويجعل لعدم التفريق - هذا - اساسا انه تعالى كما يقال انه وعد المطيعين بالثواب فقد يقال وعدهم بالتفضل مع انه غير مستحق.

اما الوعيد فهو كل خير يتضمن ايصال ضرر إلى الغير او تفويت نفع عنه في المستقبل ولا فرق بين ان يكون حسنا مستحقا وبين ان لا يكون كذلك)(3)واساس عدم التفريق هنا انه كما يقال انه تعالى توعد العصاة بالعقاب قد يقال توعد السلطان الغير باتلاف نفسه وهتك حرمه ونهب امواله مع انه لا يستحق ولا يحسن).

وشرط الاستقبال في الحدين معا (الوعد والوعيد) لا يد منه وبدونه لا يكون واعدا ولا متوعدا (4).

ويستدل القاضي عبد الجبار على الوعد والوعيد بظاهر الآية الكريمة قوله تعالى : ﴿إِنَّ

ص: 373


1- انظر القاضي عبد الجبار شرح الاصول الخمسة 124.
2- المصدر نفسه 135
3- المصدر نفسه.
4- شرح الاصول الخمسة 135 (بتصرف).

اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ (الرعد/31) إذ يراه دليلا على ان وعده ووعيده ((حق )) لا يقع فيهما خلف) (1)وهو نفس ما يراه دليلا في قوله تعالى: ﴿ بَل لَهُم مَّوْعِدُ لَن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْبِلًا ﴾(2)(الكهف /58) وفي مجال اثباته رأي المعتزلة بعدم المساواة بين حال الفاجر و المتقي إذا كانا مؤمنين بان يحصل مع الفاجر من الاعمال ما يساوي عمل المتقي ويزيد عليه، يرى ان الحق في الامر ما يدل عليه قوله تعالى:﴿ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّلِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ﴾ (سورة ص/ 28)

وهو انه تعالى انما اراد ان لا يجعلهما بمنزلة فيهما يتعلق بالثواب والعقاب، لأنه قد سوى بينهما في اكثر احكام الدنيا ونعيمها فإذا كان المراد ما قلناه وجب ان يدل على ان الفاجر يدخل النار، وإلا ادى إلى ان يكون بمنزلة المتقي(3).

ومما في مجال الاستدلال على تأكيد وقوعه ما جاء في قوله تعالى: ﴿ترى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعُ بِهِمْ ﴾ (الشورى/22) حيث يرى القاضي عبد الجبار دلالته على مذهب المعتزلة في الوعيد بناءا على ان الذي كسبوه هو العقوبة المستحقة على ظلمهم، فخبر تعالى انه واقع بهم لا محالة (4).

كما يستفيد من ظاهر الآيات في إثبات ان الوعيد الوارد منه تعالى لا يتغير وذلك في دلالة قوله تعالى: ﴿قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَى وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَى وَمَا أَنَا بِظَلَمٍ لِلْعَبِيدِ ﴾ (سورة ق/28-29) حيث يدل على (ان الوعيد الوارد عن الله تعالى لا يتبدل ولا يتغير. وانه لا يجوز ان يكون فيه اضمار وشرط، ولا ان يكون خارجا

ص: 374


1- تنزيه القرآن 203 204 وهو نفس توجيهه للآية: ﴿ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ ﴾ (الزمر/20) ظ: متشابه القرآن 2: 593
2- تنزيه القرآن 240
3- متشابه القرآن 2: 590
4- المصدر نفسه 2: 605

على وجه التعمية ولا يجوز فيه الخلف، لأن كل ذلك يقتضي التبديل، وقد ابى الله تعالى ذلك في وعيده)(1).

وتتكثر الآيات التي يستدل بها القاضي على مذهب المعتزلة ورأيه في الوعد والوعيد كقوله تعالى: ﴿أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقَا لَّا يَسْتَوُنَ ﴾ (السجدة /18)(2) وقوله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَوى أَصْحَبُ النَّارِ وَأَصْحَبُ الْجَنَّةِ أَصْحَبُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَابِرُونَ ﴾(الحشر /20) (3) وغيرها (4).

الشفاعة:

وهي مما يقع في باب الوعد والوعيد ويبحثه المعتزلة مستندين فيه إلى النصوص القرآنية. وقد اجمعت المذاهب الاسلامية على حصولها للنبي(صلی الله علیه وآله وسلم)في امته والمعتزلة يقولون بذلك (5) الا انهم لا يرونها مطلقة وانما يضيقون حدودها حيث لا يثبتونها إلا للتائبين من المؤمنين(6).

وصلتها بالوعد والوعيد ترتبط بانها احدى ادلة المرجئة الذين يوردون على المعتزلة الطعن في القول بدوام عقاب الفاسق (7).

ومن مصاديق التضييق في الشفاعة عند المعتزلة انها لا تكون في اخراج الفاسق

ص: 375


1- المصدر نفسه 2: 626
2- ظ المصدر نفسه :2: 561، 2 : 650
3- ظ المصدر نفسه.
4- انظر مثلا المصدر نفسه 2: 663، 668، 682، 699، 701 وغيرها.
5- ظ شرح الاصول الخمسة 687
6- المصدر نفسه 688
7- المصدر نفسه 687

من النار ويستدلون بقوله تعالى:﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا لَّا تَجْزِى نَفْسُ عَن نَّفْسٍ شَيْئًا ﴾(سورة البقرة / 48) إذ يرون انه يدل على ان من استحق العقاب لا يشفع النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)له ولا ينصره لأن الآية وردت في صفة اليوم ولا تخصيص فيها، فلا يمكن صرفها إلى الكفار دون اهل الثواب وهي واردة فيمن يستحق العذاب ذلك اليوم)(1) .

ثم يستفيد القاضي عبد الجبار من السياق في الآية دلالتها على رأي المعتزلة وذلك انه (ص) (لو كان يشفع لهم لكان قد اغنى عنهم واجزى فكان لا يصح ان يقول تعالى لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولما صح ان يقول: {ولا يقبل منها شفاعة ] وقد قبلت شفاعته (صلی الله علیه وآله وسلم)فيهم)(2)

ومن الظواهر القرآنية التي استدل بها المعتزلة ايضا قوله تعالى: ﴿ مَا لِلظَّلِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعِ يُطَاعُ ﴾ (غافر /18) حيث تنفي الآية الشفاعة للنبي في الظالم وانها (لا تكون الا للمؤمنين لتحصل لهم المزية في الفضل وزيادة الدرجات مع ما يحمل له (صلی الله علیه وآله وسلم)من التعظيم والاكرام ) (3).

وهناك آيات اخرى عديدة استدل بها المعتزلة على قولهم في الشفاعة وتأولوا آيات اخرى استدل بها المخالفون لا مجال للتوسع في الخوض فيها هنا (4).

مرتكب الكبيرة

هذه المسألة مما يتفرع عن اصل الوعد والوعيد وتتصل بتخليد مرتكبها في النار إذا لم يتب وهو رأي المعتزلة وقد تعددت المصاديق على اثباته في بحث

ص: 376


1- متشابه القرآن 1: 90
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه 2: 600
4- انظر للتفصيل المصدر السابق نفسه :1: 177 ،336 ،2 ،442، 449 ،522، 592،561، 597، 606، 665، 685 وغيرها.

الوعد والوعيد - كما سبق - ويقوم تفصيل رأيهم على فهمهم للآيات الكريمة التي توعدت هذه الفئة بالخلود إذا لم تصدر عنهم التوبة فتتكامل الآيات هناك مع ما يمكن ان يستدل به هنا ومنه ما استدل به القاضي عبدالجبار من قوله تعالى:﴿ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَلِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ﴾. (الجن/23) إذ يرى ان الآية دالة على الوعيد وانه تعالى (اخبر ان العصاة يعذبون في النار ويخلدون فيها والعاصي اسم يتناول الفاسق والكافر جميعا فيجب حمله عليهما)(1)وهذا الحمل يضعه القاضي عبد الجبار لرد اعتراض من قد يعترض انه ((أي مرتكب الكبيرة ))فاسق على اصل المعتزلة وذلك لأنه هنا مشروط بعدم تحقق التوبة منه ومعها تختلف المسألة لأنه تعالى لو اراد احدهما دون الآخر لبينه، فلما لم يبينه دل على ما ذكرناه )(2) .

وهذا نفس استدلاله على قوله تعالى:﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَلِدُونَ ﴾ (الزخرف/74) ويؤكد القاضي شرط التوبة في رفع عقوبة التخليد في النار لمرتكب الكبيرة حيث يقول في جواب السؤال: هل تبلغ المعصية مبلغا لا يكون في الطاعات ما يزيد عليه ؟ ويجيب: نعم الكبائر من الكفر والفسق، لأن من اقدم على خصلة منها لم يزل عقابه إلا بالتوبة)(3).

وقد استفاد القاضي عبد الجبار من ظواهر الآيات وما احتاج منها إلى التأويل في تدعيم رأي المعتزلة في المسألة(4).

ص: 377


1- شرح الاصول الخمسة 657.
2- المصدر نفسه
3- المختصر 232 .
4- انظر لتفصيل ذلك مثلا في: متشابه القرآن 1: 136، 152، 225، 376، 2: 618، 622، 699.

الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين

هذا الأصل اكثر أصول المعتزلة الخمسة ارتباطا بنشأتهم التاريخية وتحديد بدايات ظهورهم كمذهب ذي استقلالية فكرية وذلك من جهة ارتباط تلك النشأة بواصل بن عطاء (80) ه_ 131 ه_) حيث ينسب اليه انه اول من قال بالمنزلة بين المنزلتين في الحادثة المعروفة التي ترويها اكثر المصادر التاريخية(1) التي بحثت في نشأة المعتزلة والتي جرت بين واصل بن عطاء واستاذه الحسن البصري حول مرتكب الكبيرة وهل هو مؤمن ام كافر وكان رأي واصل هو القول بالمنزلة بين المنزلتين فليس هو بمؤمن ولا كافر وانما فاسق وتقريره : ان الايمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سمي المرء مؤمنا وهو اسم مدح والفاسق لم يستجمع خصال الخير ولا استحق اسم المدح فلا يسمى مؤمنا وليس هو بكافر مطلقا ايضا لأن الشهادة وسائر اعمال الخير موجودة فيه، لا وجه لانكارها، لكنه إذا خرج من الدنيا على كبيرة من غير توبة فهو من اهل النار)(2)وقد كان لهذا المبدأ المعتزلي دوره في تشكيل تيار وسطي في قضية تتصل بالعمل العبادي للانسان وتخفيف غلواء الاتجاه الخارجي الذي حكم بكفر مرتكب الكبيرة وحمل الكثير من الابعاد التي تحكمت فيها اهواء الخوارج في قتال اعدائهم ومخالفيهم ويقرر القاضي عبد الجبار هذا الأصل ويقيم له ركائز منظور يعتمد فهم النصوص القرآنية ويوجه الآيات بما يوافق رؤيته له القائمة على قول مجمل في ان الغرض من هذا الباب هو ان صاحب الكبيرة لا يسمى مؤمنا ولا كافرا وانما يسمى فاسقا) (3).

ومما استفاده من دلالات الآيات الكريمة في دعم رأيه قوله تعالى : ﴿يَوْمَ تَبْيَضُ وُجُوهُ

ص: 378


1- ظ مثلا: الشهرستاني: الملل والنحل :1 48 ، الخياط: الانتصار 118 البغدادي: الفرق بين الفرق 98 وغيرها
2- الشهرستاني الملل والنحل 1 :48
3- شرح الاصول الخمسة 701.

وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَنِكُمْ ﴾(آل عمران / 106) فهو يدفع ما قد يستدل به مستدل من ظاهر الآية انها تدل على انه ليس في المكلفين الا كافر او مؤمن ولا منزلة بينهما وهو يعتمد سياق الآية وما يحتمله من دلالة مضمرة تلزم عن استدلال المخالف بها ويقرر لنفسه حق احتمالها إذا احتملها الخصم.

فلو ان الآية دلت على ما قال فيجب (ان تدل على ان ليس فيهم الا كافر مرتد لقوله تعالى: ﴿أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَنِكُمْ ﴾. وقد ثبت خلاف ذلك. واذا جاز إثبات كافر اصلي لم يذكره تعالى جاز إثبات فاسق لم يذكره تعالى)(1) . ويستدل على عدم جواز تسمية مرتكب الكبيرة مؤمنا من حيث انه لا يوصف بانه مومن مطلقا لأن المؤمن هو الذي يمدح ويعظم وهؤلاء يلعنون ولا يوصف بانه كافر لان الكافر هو الذي يختص باحكام من قبله وغيره وليس إثبات وصفين دلالة على نفي ثالث(الفاسق) (2)وتخصيص اسم المؤمن بما لا يجوز شموله لمرتكب الكبيرة يستدل عليه بالاستعمال القرآني حيث انه تعالى لم يذكر اسم المؤمن إلا وقد قرن اليه المدح والتعظيم ويأتي على ذلك بشواهد قرآنية(3) مثل قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ ءَامَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ أَوْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَذِنُوةً ﴾ (النور (62).

ويرد استدلال الخوارج بقوله تعالى: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَفَّى لَا يَصْلَنَهَا إِلَّا الْأَشْقَى الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى﴾

(الليل/16-14) قالوا انه تعالى بيّن ان النار لا يدخلها إلا كافر. وبالاتفاق ان صاحب الكبيرة من اهل النار فيجب تسميته كافرا وبنى رده على ان ما يصفه ظاهر الآية غير ما هو وصف الفاسق ويرى في الآية مجالا للاستدلال على

ص: 379


1- تنزيه القرآن عن المطاعن 73
2- المصدر نفسه 74.
3- انظر الشواهد في شرح الاصول الخمسة 703-701

الخوارج وليس العكس لأن غاية ما يدل عليه الظاهر ان جهنم لا يصلاها الا الاشقياء الذين ذكرهم الله تعالى فمن این انه ليس هناك نيران اخر يصلاها غير الموصوفين بهذه الصفة ((الفساق )) فقد ذكرنا ان تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه)(1).

الأصل الخامس : الامر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهو اصل يتعلق بجوانب اخلاقية عملية ولا يتصل بالبحث النظري(2) ومع ذلك يبحثه المتكلمون كما يبحثه الفقهاء وقد اتفقت كلمة المسلمين على وجوبه ولكنهم اختلفوا في طريق هذا الوجوب . فالمعتزلة يرى بعضهم ان طريقه السمع وهذا رأي ابي هاشم والقاضي عبد الجبار (3).

بينما كان ابو علي الجبائي - قبلهما - يرى ان طريق وجوبه العقل والسمع معا(4)وقال البصريون - اتفاقا - بوجوبه من ناحية السمع كتاباً وسنةً واجماعاً(5)وهذا ما يراه القاضي عبد الجبار الذي يرى دلالة هذهِ المرجعيات على وجوبه (6)وكلها داخلة تحت نطاق السمع والمهم هنا هو استدلال المعتزلة على وجوبه بالادلة القرآنية تاركين الخوض في تفاصيل الادلة الباقية (7).

ص: 380


1- المصدر نفسه 723 .
2- النشار نشأة الفكر الفلسفي: 350
3- شرح الاصول الخمسة 142
4- ظ القاضي عبد الجبار طبقات المعتزلة 47
5- شرح الاصول الخمسة 142.
6- ظ المختصر 248
7- للتفصيل انظر شرح الاصول الخمسة 142 وما بعدها المختصر 248

من اهم ما يستدلون به قوله تعالى: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾ (آل عمران/110) وقد استدل بها معتزلة البصرة(1) على وجوبه ويستفيد القاضي عبد الجبار من الآية انها جاءت في مقام مدح الله تعالى لنا على ذلك(فلولا انها من الحسنات الواجبات لما فعل ذلك) (2).

ومن الآيات ايضا قوله تعالى :﴿ لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَاءِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ﴾(3)(المائدة/78-79).

ومن الآيات ايضا قوله تعالى: ﴿ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ﴾(آل عمران (104) حيث يرى في الآية دلالة على وجوبهما بانه تعالى (اوجب على طائفة ممن يهتدون بالآيات ان يدعوا إلى الخير ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر)(4)والآية دالة في رأيه ايضا على الغرض من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر وكونهما كذلك واجبا كفائيا بأن لا يضيع المعروف ولا يقع المنكر فاذا ارتفع هذا الغرض ببعض المكلفين سقط عن الباقين فهو واجب كفائي بدلالة (من) التي جعلت في الآية (5)

وهكذا يرسم المعتزلة من خلال التطبيقات - التي كانت حصتها كبيرة في هذا البحث لضرورات فرضتها خصوصية التوسع المعتزلي في التأويل - ملامح منهج عقلي

ص: 381


1- شرح الاصول الخمسة ،142 وانظر ايضا د. عبد الستار الراوي: ثورة العقل 48.
2- المصدر نفسه.
3- ظ المختصر 248
4- ظ تنزيه القرآن عن المطاعن 73.
5- المصدر نفسه.

متكامل في فهم النص القرآني توزعت مصاديق تحققه على اصولهم الخمسة واستدعى الخوض في عدد كبير من الآيات تكفي لتشكيل تصور ولو إجمالياً عن ذلك المنهج وإلا فان استقصاء كل الادلة القرآنية التي اعتمدها المعتزلة واسسوا فهمهم للعقيدة على اساس من فهمهم لدلالتها يحتاج إلى اضعاف حجم هذه الرسالة لذا اكتفى الباحث بما سمح به طابع الرسالة.

ص: 382

الباب الثالث : منهج الأشعرية في فهم النص القرآني

اشارة

الفصل الأول : علاقة العقل بالشرع وطرق الاستدلال على العقيدة

الفصل الثاني: موقف الاشعرية من المحكم والمتشابة

الفصل الثلث نماذج تطبيقية في فهم الاشعرية للنص القرآني

ص: 383

مدخل

الأشعرية : النشأة والجذور التاريخية والفكرية

ان تحديد بداية تاريخية لمذهب أو إتجاه فكري امر تكتنفه صعوبات عديدة يختلف طابعها بحسب الظروف والمؤثرات والبيئة التي يظهر فيها، يتسم بعضها بطابع علمي وبعضها الآخر بطابع تاريخي وبعضها الثالث ذا طابع فني بحت يتعلق بمدى اهتمام المختصين بتسجيل مايتصل بذلك المذهب أو الاتجاه.

هذه الصعوبات جميعا ربما تتكاتف على تشكيل ما يجعل تحديد بداية تاريخية حقيقية للاشعرية كمذهب كلامي امرا لازما لكثير من التحوط والتدقيق لتحديد تلك البداية ليس من جانبها التاريخي البحت وحسب وانما - وهوالمهم - جوانبها الفكرية. لذا سيحتاج البحث هنا الى تحديد جانبين يقتضيان التفصيل حول تلك البداية ويتمثلان في :

1 - البداية التاريخية بتحول الإمام ابي الحسن الأشعري (ت 324ه_) عن تيار الاعتزال المنطلق بعيدا عن الجذور التي ينتمي اليها الأشعري (أهل السنة) ليستعيد صلته بها بعد عدة عقود من السنين قضاها فى الاعتزال (1).

2 - البدايات الفكرية التي اسست لمنطلقات مذهب الأشعري العقائدية ممثلة في الأسس والاصول العقائدية للسلف واهل الحديث من اهل السنة السابقة لظهوره، وطبيعة صلته بها ، وحقيقة مايمثله مذهبه وسط هذين ،التيارين التيار الذي انشق عنه والتيار الذي عاد اليه وهنا سنبحث باختصار قدر الامكان اراء السلف واهل

ص: 384


1- ظ: احمد امین ظهر الاسلام 4 :65 دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1389ه_ 1969م.

الحديث وسمات منهجهم ونترك البحث في موقفه الوسط الى المباحث القادمة.

1 - البدايات التاريخية :

لایکاد کتاب يؤرخ للمذاهب الكلامية الاسلامية وخاصة الأشعرية يخلو من ذكر الحادثة التي جرت فيها المناظرة التاريخية بين الإمام ابي الحسن الأشعري واستاذه المعتزلي ابو علي الجبائي البصري والتي يربطون بها بداية ظهور المذهب وانطلاق الاتجاه الجديد الذي شق الساحة الفكرية وشكّل الاتجاه البديل عن التيارين السائدين الحشوية واهل الحديث والتزامهم التعبد بالنص وتجميد دور العقل من جهة والاعتزال وهو التيار العقلاني الذي تابع العقل في انطلاقته من القيود وحكمه في كل شأن من شؤون العقيدة والتشريع من جهة اخرى.

هذه المناظرة تذكرنا بانطلاقة الاتجاه العقلاني عند المعتزلة بانشقاق واصل بن عطاء عن استاذه التابعي الكبير الحسن البصري وان اختلفت القضيتان.

تقوم المناظرة بين الأشعري والجبائي على اساس تعليل مذهب الأشعري في توقفه في قضية الصلاح والأصلح والغرض في افعاله تعالى التي اشكل فيها على مذهب المعتزلة وشيخه الجبائي بمسالة الاخوة الثلاثة (1)وفي مناظرته الثانية حول اسماء الله تعالى وهل هي توقيفية مقيدة بالنص ام ان للقياس اللغوي والعقل دور في استنباطها(2).

تبني اغلب المؤلفات التاريخية والكلامية على هاتين المناظرتين اسس الاتجاه

ص: 385


1- راجع تفاصيل المناظرة: السبكي (تاج الدين ابو نصر عبد الوهاب) (ت 771ه_) طبقات الشافعية 2: 250 251 المطبعة الحسينية القاهرة ط1. وانظر ايضا ابن خلكان (شمس الدین احمدت 681ه_) وفيات الاعيان :4 267 - 268 طاش كبري زادة مفتاح السعادة ومصباح السيادة 2: 147 حيدر آباد ،الدكن، احمد محمود صبحي في علم الكلام ،2 ،45، دار النهضة العربية بيروت، ط5، 1405 ه_ 1985 م.
2- طبقات الشافعية 2 251 ، وانظر احمد محمود صبحي في علم الكلام 2: 47 .

الأشعري الخاص وتأسيس المذهب الجديد، ولاشك ان مذهبا متكاملا يقدم منظومة كاملة من الفهم والتحديد لعقائد تتناول كل جوانب الاعتقاد بمحاورها التي تمثل اصولا للدين لايمكن تصور انها تنبني على مجرد خلاف في قضيتن ثانويتين وكان الأولى بمن اسس لهذا الاتجاه في تحديد البداية ان يلتفت الى حقيقة التقاطع الكبير الذي احس الشيخ الأشعري نفسه انه قد وصل اليه مع عقائد السلف واهل الحديث التي تؤطر الجو الفكري لعقيدة اغلب اتباع المذاهب الفقهية السائدة لاهل السنة - عدا

الاحناف - وواقع الرفض للاتجاه العقلاني المتصاعد عند المعتزلة والذي لاقى عداءً ومقتا شديدين عندهم بعد (محنة خلق القرآن) هذا من جانب ومن جانب اخر فان الشيخ الأشعري لمس وجود التأييد للتفعيل المنضبط لدور العقل عند فئات واسعة تاثرت بالانفتاح الحضاري، ولاحظت آثار جهود المعتزلة في الدفاع عن العقيدة، وضرورات تشكيل جدار صد لهجمات العقائد المخالفة على العقيدة الاسلامية، وضرورة مجابهتها بنفس مناهجها القائمة على تفعيل دور العقل، ولمس ان الاتجاه السلفي ومنهج اهل الحديث غير مؤهل بمنهجه السائد على القيام بهكذا مهمة واذا كان عليه ان يسايره من جهة - وهو ماحصل في منظومته العقائدية في كتاب الابانة - فانه امر مؤقت ستلحقه محاولة للتجديد تكون فرصته فيها اكبر - بعد كسب تأييد الاتجاه السلفي - في اعطاء فرصة اكبر للعقل في تدعيم عقائد اهل السنة وقد تمثلت في الاتجاه الاوسع في استخدام الدليل العقلي في الاستدلال اورد عقائد المخالفين في كتابه ((اللمع)) واذا كان هذا الاتجاه عنده قد حصل فعلا فان مسألة تأييد الاتجاه السلفي واهل الحديث لم تكن امرا سهل الحدوث، بل انه قد تحمل مقاطعة وهجوما من العديد من التيارات الفاعلة وقيادات المذاهب السائدة (1)وان مسألة الرضا عنه قضية احتاجت الى ( تأهيل) طروحاته العقائدية كي توافق اصول اهل السنة ليتم قبوله ممثلا لعقيدتهم.

ص: 386


1- ظ: احمد محمود صبحي في علم الكلام 2: 16، 17.

لكن الأشعري نجح في تثبيت ركائز المنهج الجديد على الاقل بما هيأ الفرصة الكبيرة لاتباعه الكبار فيما بعد ان يقيموا صرح المذهب الكلامي الأشعري ويؤسسوا الركائزه واركانه وليحددوا خط سير متصاعد نحو العقلنة يمر بكل من القاضي ابي بكر الباقلاني :(ت: 403ه_) وعبد القاهر البغدادي (ت: 429 ه_) وامام الحرمين ابو المعالي الجويني (ت: 478 ه_) وحجة الاسلام قطب المذهب ابو حامد الغزالي (ت: 505ه_) والشهرستاني (ت: 548ه_) وانتهاء بالقفزة الى التنهيج للارتباط بالمنهج

الفلسفي عند الفخر الرازي (ت: 606ه_) وعضد الدين الايجي (ت: 756 ه_).

وهؤلاء الاقطاب وغيرهم - ممن لم يذكر البحث - يتسم منهج كل منهم بمميزات وخصائص متفردة كما ان هناك قاسما مشتركا يجمعهم يتمثل في حاكمية اصول الأشعرية العامة واثرها في منظورهم للعقيدة ومنهجهم في استنباطها من خلال النص القرآني ومسلكهم في فهمه وحدود وابعاد دور النص المتفاوتة فيما بينهم.

2 الجذور الفكرية السابقة لظهور الأشعرية (السلفية واهل الحديث )

يمكن تلمس الملامح الرئيسية لاثر الفترة السابقة للاشعري في ظهور مذهبه وتبلور منهجه الفكري من خلال استعراض مجموعة مسائل رئيسية ستثبت ان انقلاب الشيخ الأشعري على الاعتزال وتحوله عنه سيطرت عليه قضية محاولة اصلاح عقائد اهل الحديث ومع بقائه على الاعتزال ماكان ذلك ممكنا حيث ان مايمكن انتزاعه اجمالا عن المنهج السائد عندهم كان قريبا من اثبات تام لبعض الصفات الخبرية وموقف جامد على النص في عموم الصفات وكان للتجسيم والتشبيه صوت عالٍ في الساحة الفكرية مما اوجب انقلابا اصلاحيا يتواءم مع الأصول المنهجية لاهل السنة ويستفيد من ادوات المعتزلة (المعقلنة) للخروج من التشبيه الى التنزيه وكان من اهم ما نجح فيه في هذه المحاولة قلبه الموقف في بعض المسائل كالقول يقدم القرآن فجعل القديم منه الكلام النفسي القائم بالله تعالى وليس القرآن الملفوظ المسموع

ص: 387

وجاء بعقيدة الكسب في افعال العبد منهيا صورة السلب الكامل لقدرة العبد في فعله وابقى بعض المسائل على حالها كمسالة الرؤية في الاخرة التي لم يخالف فيها تقريباً الا في نفي الكيفية (1).

ومن المسائل الرئيسية التي ينبغي بحثها هنا قبل التعرض لمنهج الأشعرية الملامح العامة لمنهج السلف واهل الحديث وطروحاتها الرئيسية في العقيدة وحقيقة صلة الأشعري بها وتمثيله .لها. وهذا ما يندرج في الاتي:

أ - موقف السلف من العقل وعلاقته بالشرع :

ان للعقل حالتين يتمثل موقف السلف منه على اساسهما:

الحالة الأولى - حالة التعارض مع النص : وموقف السلف هنا هو تقديم النص مطلقا فيثبتون ما اثبت وينفون مانفى(2) وتتحدد علاقتهما بخضوع العقل للشرع فليس له ان يكون معارضا له في شيء (3)فالعقل هنا محجور عليه والشرع هو الدليل والهادي الموجه وليس الا الاستهداء به وعدم معارضته مطلقا، واذا احتمل تصور حصول هذه المعارضة فلابد من التسليم للشرع والا كان خلافه بدعة والمعارض من عمل الشيطان ومن عدل عن منهج الصحابة والتابعين وجمع بين العقل والنقل... وطلب الدين بالكلام فقد تزندق (4) وان احتمال حصول التعارض بينهما مرتبط بعوامل لاتعدو ان تكون مترتبة على فهم النص السمعي وطبيعة المعالجة ولذلك حالتان :

ص: 388


1- ظ :ابن عساكر الشامي (ت 571ه_) : تبيين كذب المفتري فيما نسب الى الإمام ابي الحسن الأشعري مقدمة المحقق محمد زاهد الكوثري 14-15 .
2- ظ : ابن تيمية (نفي الدين ت 728 ه_): درء تعارض العقل والنقل الجزء الأول ق1: 76 - 77، السيوطي (جلال الدين ت 911ه_) صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام 158.
3- ظ: عبد الحليم محمود الاسلام والعقل 23 نشر دار الكتب الحديثة 1973 م
4- ابن قيم الجوزية (ت : 974ه_) : الصواعق المرسلة 130 ، السيوطي: صون المنطق والكلام 96، 151

الأولى : ان يعتمد النقل الضعيف في فهم حصول حالة تعارض كأن يكون الحديث مكذوبا وهنا لايصح ان يعتبر هذا تعارضا.

الثانية: ان يكون ماورد في الشرع وحكم بسببه بالتعارض منسوخا هذا في حال لو كانت الامور التي يحكم فيها بحدوث التعارض مما يدخل تحت نطاق بحث العقل وادلته، فما بالك لو كانت في الغيبيات التي لامجال له لبحثها فهنا لايتصور ان يكون فيها تمحل تعارض بين العقل والشرع لأنها خارجة عن نطاق العقل والشرع جازم بها فلا يمكن حصول تعارض.

ويرتبط حصول التعارض بين العقل والشرع بتصوره في ادلة كل منهما ومايمكن ان يقام عليهما من استدلالات وطبيعة ( درجة) المعرفة التي تقام عليهما من القطع أو الظن وبالتالي عن الارجحية منهما حسب ذلك فهنا حالات ينبني عليها الترجيح:

فاما مع كون كليهما قطعيا فالمتفق بين العقلاء انه لايجوز التعارض بينهما والا كانت القطعية منتفية.

واما إذا حصل التعارض فلابد ان احدهما قطعي والاخر ظني وهنا الارجحية للقطعي بلا نقاش والحديث في الحالة الثالثة حين يكون كلاهما ظنيا فهنا على المتصدى لفهم النص ان يبحث عن المرجحات فلأيهما حصلت كان هو المقدم شرعياً كان ام عقلياً لافرق فالتقديم هنا قائم على ان القطعي يقدم لأنه قطعي والراجح يقدم لاقترانه بالادلة (1).

ويستند السلفية في تقديم حكم الشرع وتحجيم العقل الى مجموعة ادلة يمكن اجمالها في :

1 - ان العقل بنفسه غير كاف - عند معارضته الشرع - لو حصل التعارض وان

ص: 389


1- ظ ابن تيمية المصدر نفسه 79 - 80 وانظر ايضا ابن القيم: الصواعق المرسلة 84 (بتصرف)

الدين انما كمل وتم بالنبوة وقد قال تعالى:﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ﴾ (المائدة/3).

والعقل وحده ناقص والركون اليه مخالف للاية وليست له الاهلية لان تسلم اليه الامور في الوقت الذي تمت الاهلية للشرع حتى قال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ (النساء / 65).

فلابد من التسليم المطلق بالشرع وعدم معارضته بعقل ولاغيره (1).

2 - ان العقل نفسه قد دل على صدق الشرع بما جاء من تصديق العقل لنبوة محمد(صلی الله علیه وآله وسلم)وتقديم العقل على الشرع يتضمن القدح في العقل والشرع، لان العقل قد شهد للشرع والوحي بانه اعلى منه وانه لانسبة له اليه ..)(2)فلا يمكن ان يتعارضا. وفي هذا الدليل نلاحظ انهم يعطون للعقل دورا في اثبات الاستدلال.

3 - ان منهج الصحابة والتابعين - وهم المرجع في بيان التشريع وبهم الاقتداء - هو الالتزام بما جاء به الشرع وعدم معارضته بالعقل(3)فوجب الاهتداء بمنهجهم والالتزام بسيرتهم.

4 - الارتباط بين الايمان وتصديق الشرع ممثلا في نبوة النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)يقول ابن قيم الجوزية ان المعارضة بين العقل ونصوص الوحي لاتتأتى على قواعد المسلمين المؤمنين بالنبوة حقا.. وان هذه المعارضة ليست من الايمان بالنبوة في شيء)(4).

ص: 390


1- ابن القيم :الصواعق المرسلة 90 (بتصرف).
2- المصدر نفسه 88
3- ظ السيوطي: صون المنطق والكلام ،151 عبد الحليم محمود التفكير الفلسفي في الاسلام: 127
4- لصواعق المرسلة 118

5 - ان تقديم العقل يلزم عنه تحكيم الخلافات والنزاعات فأهل العقل متناقضون مختلفون ابدا. والابتعاد عن الشرع تمسكا بالعقليات ادى الى النزاع والفرقة وتمخض عن الخلاف ولايمكن للسلفية هنا ان ينسوا محنة (خلق) (القرآن) وما رافقها من صراع عرض المسلمين الى فترات حرجة في تاريخهم الفكري.

6 - ان الشرع يستلزم قطعية الادلة، وهو قد جاء بغيبيات يعلم اهل العقل قبل غيرهم انها خارجة عن نطاق ادراكه واحكام العقل فيها سمتها الظن غالبا ولذا فالعقل معزول عن الشرع واحكامه ولايمكنه ان يعارض الشرع في ذلك (الغيبيات)(1).

الحالة الثانية: تقاسم الاختصاص .

وفي هذه الحالة يتقاسم كل من العقل والشرع الفاعلية في ساحة البحث في العقيدة فللعقل فاعليته في كشف ما انیط به کشفه وعلّق به ادراکه وللشرع میدانه الذي لايتخلى عنه.

فتحجيم العقل وهجره له ميدانه الذي اغلقت فيه الابواب ولكن ضرورات علمية وموضوعية يلزم عن اهمالها نقص منهجي اساسي جعلت السلفية يضطرون الى تحميله دوره المناط به تلك الضرورات متعلقة بطبيعة الميدان الذي يبحث فيه فلابد في بعض المسائل من اعتماد العقل وان كان ذلك لا يعني الاستقلالية التامة اذ يبقى العقل في هذا الدور يعمل ضمن الاطار العام للشرع وذلك قائم على اساس تقسيم الخطاب الديني الى طرفيه الرئيسيين اللذين يغطيهما: الشريعة والعقيدة أو الفروع والاصول .

ففي الشريعة التي تضمنت تنظيم علاقة الانسان بربه وطبيعة التكاليف الشرعية

ص: 391


1- ظ عبد الحليم محمود: الاسلام والعقل 28 .

التي كلف بها نجد ان سمة الاجمال والتحديد سائدة وان الانماء والزيادة والتفصيل والتحليل تركت للنظر والاستدلال والاجتهاد الشخصي لاستنباط ما اجمل أو فصل في الكتاب الكريم أو السنة المشرفة بما يتوافق مع مافيهما(1).

وهنا للعقل حالتان من الفاعلية :

الأولى : تدبر التشريع وفهمه ومعرفة ما يراد به وهذا ما يعبر عنه مانقله السيوطي عن الموقف فيه بقوله (انما اعطينا العقل لاقامة العبودية لالادراك الربوبية)(2)ويرتبط هذا بالتكليف والعقل شرط فيه.

الثانية: الاجتهاد في الفروع واستخدام العقل في استنباطها وهو امر سمح به الشرع نفسه وليس ادل عليه من اجتهاد الصحابة والتابعين (رض) في الفروع ورفضهم ذلك في الاصول(3)

وهنا يتبدى دور العقل بوضوح مع الاستمرارية ذلك ان النصوص متناهية والوقائع غير متناهية ومالايتناهى ((الوقائع)) لا يضبطه مايتناهى ((النصوص))(4)

هذا الاجتهاد من اهم مصاديقه القياس الفقهي عندهم وقد جعلوه احد الأصول الاربعة في الاجتهاد لتحصيل الحكم وهو امر قائم على دور مهم للعقل وان كان اصل جوازه مستند الى الجواز بحكم الشرع (5) وتتاكد صلته بالعقل وتفعيل دوره فيه من اشتراط( التهدي الى مواضع الأقيسة، وكيفية النظر والتردد فيها، من طلب اصل أو لا، ثم طلب معنى مخيل يستنبط منه، فيعلق الحكم عليه، أو شبه يغلب على الظن فيلحق الحكم به )(6)

ص: 392


1- الشهرستاني : الملل والنحل 1: 204 وانظر عرفان عبد الحميد دراسات في الفرق 138.
2- صون المنطق والكلام 180.
3- ظ المصدر نفسه 157 (بتصرف) وانظر الشهرستاني: الملل والنحل 1: 199، 206.
4- ظ الملل والنحل 1: 199
5- ظ المصدر نفسه 1: 199
6- المصدر نفسه 1: 200.

اما العقيدة (الاصول) فالسلفية يقطعون فيها بان لادور للعقل فانه تعالى قد استوفى أصولها كلها في قرآنه واوضحتها وحددتها اقوال الرسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم)وافعاله فلا مجال البتة للبحث فيها بالاستقصاء والنظر والاجتهاد الشخصي لذا كانوا يشددون النكير على من تصدى لذلك وهذا ماجعل الإمام الأشعري محطا لهجومهم في محاولته الاصلاحية لربط عقيدة السلف بتيار العقلنة وتأسيس ركائز البحث العقلي في العقيدة لاثباتها والدفاع عنها وهو يصف موقفها من النظر والجدل الذي يعدونه بدعة فيقول( وينكرون الجدل والمراء في الدين والخصومة في القدر، والمناظرة فيما يتناظر فيه اهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة ولما جاءت به الاثار التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى ينتهي الى رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم)ولا يقولون كيف ؟ ولا لم ؟ لان ذلك بدعة)(1).

والاصول عند السلف واهل الحديث، كالالهیات وجودا وصفات والغيبيات والسمعيات مما بينه الشرع كاملا ولامجال للعقل ان يجتهد فيها ولا وظيفة له ازاءها الا التسليم والتصديق والفهم وليس له معارضتها، ويبقى للعقل دور المعرفة وللشرع دور الايجاب يقولون (الواجبات كلها بالسمع والمعارف كلها بالعقل فالعقل لايحسن ولا يقبح ولا يقتضي ولايوجب والسمع لايعرف أي لا يوجد المعرفة بل يوجب) (2)فهم في هذه المرحلة المهمة ذات الاثر الواضح في بدايات الأشعرية رفضوا المنهج الكلامي تماما وبالتالي رفضوا محاولة التوفيق بين العقل والشرع لاثبات مسائل العقيدة وجعلوا المصدر الوحيد للعقيدة والمعتمد في استنباطها وبيانها مايفهمونه من ظواهر النصوص الواردة في القرآن أو السنة بل ان متشابهان تلك النصوص كانت

ص: 393


1- مقالات الاسلاميين :322، وانظر ايضا مصطفى عبد الرازق تمهيد لنا ريخ الفلسفة الاسلامية 118 وما بعدها في تفصيلات موقف السلف واصحاب الاتجاه السلفي من النظر واعمال العقل والكلام والجدل في العقيدة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة ط 13863 ه_، 1969م.
2- الشهرستاني الملل والنحل 1:42 .

لها حصة كبيرة في ذلك اذ لما كان موقفهم هو التوقف والتفويض فانهم تعاملوا مع تلك الظواهر والمتشابهات دون اللجوء الى التاويل - وظيفة العقل - لتحقيق توافقها مع مقتضيات الادلة العقلية انطلاقا من مبدئهم بعدم وجود التعارض اصلا.

ب - اثر هذا الموقف في منظورهم للعقيدة:

ان هذه المواقف القائم على الحجر على العقل وتجميد دوره في العقيدة ادى الى تحكيم الفهم المنعكس عن ظواهر أو متشابهات النص قرآنياً كان أو نبويا بل وتاكيد مرجعية فهم الصحابة والتابعين وائمة المذاهب لتلك النصوص وتحول موقفهم منها الى مبدأ قدسي وهكذا صارت العقيدة هي ما اعتقدوه انطلاقا من تلك المرجعيات وكان اهم ما ناثروا فيه في هذا الاطار ماتجلى في موقفهم في الصفات الالهية حيث لانجد للعقل دور ولا فاعلية اذ نجدهم قد( وصفوا الله عز وجل بما يبدوا ان الكتاب والسنة وصفاه بها ونسباه اليه تعالى دون نظر الى تجويز العقل لهذا الاتصاف أو إحالته له بل دون الرجوع الى العقل كي يجوز اويحيل (1).

ولهذا المسلك في الصفات واثباتها يسمى السفيه واهل الحديث ب_ (الصفاتية)(2) فهم قد اثبتوا لله تعالى في صفاته (ان علمه وقدرته وحياته وارادته وسمعه وبصره وكلامه صفات له ازلية ونعوت له ابدية) (3).

ويدخل ضمن نطاق اهل السنة ويمثل موقفهم هذا في الصفات والتبرؤ من التشبيه والتعطيل فيها والاعتقاد في الابواب العقلية بأصول الصفاتية سائر ائمة المذاهب من

ص: 394


1- احمد البهادلي: محاضرات في العقيدة الاسلامية ج 2 (الصفات الالهية في اهم المذاهب الاسلامية )198 شركة الحسام للطباعة الفنية / بغداد ط1 1420 ه_ 1999م.
2- الشهرستاني: الملل والنحل 1: 42، 43.
3- البغدادي (عبد القاهر ت 429ه_): الفرق بين الفرق ،336 وانظر الشهرستاني: الملل والنحل حيث يقول في وصف اصل التوحيد والقول بالصفات عندهم ان) الله تعالى واحد في ذاته لاقسيم له وواحد في صفاته الازلية لانظير له وواحد في افعاله لاشريك له) 1: 43.

اهل السنة واصحابهم وهم (اصحاب مالك والشافعي والاوزاعي والثوري وابي حنيفة وابن ابي ليلى واصحاب ثور واصحاب احمد بن حنبل واهل الظاهر وسائر من اعتقد باصول الصفاتية).(1).

والمهم في هذا الباب ان رؤوس فقهاء الصفاتية قد وقفوا بوجه محاولات النظر والجدل في قضية الصفات ليدفعوا عن اتباعهم التكلف في البحث والتفتيش في المتشابهات ونفي الحاجة الى التأويل.

ولذلك اكتفوا بمرجعية الكتاب والسنة فقالوا بالصفات السبع الذاتية أو المعنوية ثابتة له تعالى لورود نسبتها في الكتاب المجيد مثل قوله تعالى :﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ ( سورة البقرة /255) وقوله ﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾ (الشورى/50) وقوله : ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ (النساء/164) وقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ (النساء/58) وقوله ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ: إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾. (يس/82) الى غير هذه الايات التي تثبت لله تعالى صفات القدرة والعلم والكلام والسمع والبصر والارادة والحياة)(2) .

وكذلك اثبتوا له تعالى الصفات الفعلية استناد الى الكتاب المجيد كالخالقية والرازقية والعطاء والنصرة وغيرها من الصفات الفعلية الكثيرة وذلك كقوله تعالى: ﴿إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْتَهُ بِقَدَرٍ ﴾ (القمر /49) وقوله ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى﴾ (الضحى/5) وقوله ﴿وَكَفَى بِاللهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا ﴾(النساء/45) حيث نلاحظ في هذه الصفات وسابقتها ان الظاهر القرآني كان المستند الاساس في اثباتها له تعالى والتقاطع المنهجي الواضح يتبين بوضوح في صفات من نوع آخر هي الصفات الخبرية التي اخبر بها القرآن المجيد والسنة الشريفة فقد ادت هذه الصفات الموهم ظاهرها

ص: 395


1- ظ البغدادي: الفرق بين الفرق 314 (بتصرف ).
2- البهادلي: الصفات الالهية 201 ،202.

بالتشبيه اساسا مهما لتحديد اهم ملامح اركان وسمات المنهج المميز عند المذاهب الكلامية، وتناول هذه الصفات وموقف السلف منها امر مهم من جهتين :

الأولى انها صفات لابد من تعاضد العقل - في ممارسته التأويل - مع النقل لاستبيان دلالاتها الحقيقية وبكونها تتصل بالنص القرآني وفهمه اتصالا واضحا ومنفردا لان معرفتها والاخبار بها جاءت غالباً في النصوص القرآنية.

الثانية : ان موقف السلف منها في خصوصيته كان له اثر كبير في منهج الأشعرية في التعامل معها، وخصوصا في بدايات الظهور عند الأشعري كما أثر عند المتاخرين كالرازي كما سنرى

ويتبين موقف السلف من تلك الآيات في حالة تكاد توقع في التناقض اذ انهم في نفس الوقت الذي يأخذون هذه الآيات على ظواهرها ويكتفون بالقول انهم يؤمنون بها كما جاءت في النص ودون تاويل أو تكييف ينطلقون - كما يقولون - من اصل اثبات تنزيهه تعالى عن التشبيه. وهذا المذهب القائم على التوقف والسكوت عن تفسير تلك النصوص وكراهة الخوض فيها والسؤال عنها مستند الى اعتقاد السلف انها مما استأثر تعالى بعلمه هذا الاستناد يقوم في اساسه على فهمهم للاية الكريمة وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ﴾ آل عمران/7) حيث يقتطعون الآية من سياقها ويقولون بالاستئناف فيما بعدها (1).

يقول الشهرستاني مقررا مذهبهم حيال هذه الصفات ان بعضهم بالغ في اثبات الصفات الى حد التشبيه بصفات المحدثات وان هؤلاء الذين توقفوا في التأويل قال: عرفنا بمقتضى العقل ان الله تعالى ليس كمثله شيء فلا يشبه شيئاً من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها، وقطعنا بذلك الا انا لانعرف معنى اللفظ الوارد فيه مثل

ص: 396


1- ظ: ابو عثمان اسماعيل الصابوني عقيدة السلف واصحاب الحديث ،107 المطبعة المنيرية، بيروت 1970م.

قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طه/5) ومثل قوله ﴿خَلَقْتُ بِيَدَكَ ﴾(سورة ص/75) ومثل قوله ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ ﴾ (الفجر / 22) الى غير ذلك، ولسنا مكلفين بمعرفة هذه الايات وتاويلها بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بانه لاشريك له{ وليس كمثله شيء} وذلك قد اثبتناه يقينا)(1).

وهناك من السلف من قال بتأويل بعض تلك الصفات على وجه يحتمله اللفظ، ويعرض ابن خلدون لمذهبهم بالطريقة نفسها مبعدا عن اعتقاد السلف أي احتمال للقرب من التشبيه اذ يبين اصل اعتقادهم على تغليب ادلة التنزيه ويرى ان من وقع في التشبيه منهم ليسوا سوى شواذ بينهم (2).

هذا المنهج الذي اختاره السلف هو منهج السلامة كما يسمونه (3)

لذلك نجدهم يقولون في هذه الصفات الخبرية منطلقين من ظاهر النص القرآني(4)انه سبحانه على عرشه كما قال ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طه/ 25) وان له يدين بلاكيف، كما قال ﴿ خَلَقْتُ بِيَدَى ﴾( سورة ص 75)، وكما قال ﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ (المائدة/64) وان له عينين بلا كيف كما قال﴿ تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا ﴾(القمر/14)، وان له وجها كما قال ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَلِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ (الرحمن/27) ويثبتون له الرؤية بالابصار يوم القيامة مستندين الى قوله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَذٍ نَاضِرَةُ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾(القيامة /22-23) ... الخ من الصفات التي شكل الظاهر القرآني مرتكزا اساسيا في اثباتها وان وضعوا لذلك تحرزا في تاكيد انهم يحكمون بان الايات المتشابهة لاتدل

ص: 397


1- الملل والنحل 92:1
2- راجع المقدمة ص 463 - 464
3- الملل والنحل :1 104 .(بتصرف).
4- ظ الأشعري :مقالات الاسلاميين 320 وانظر ايضا ص 260.

على تشبيه الخالق بالمخلوقين فان الله تعالى منزه عن صفات الحوادث مطلقا فهم يثبتون الظاهر مطلقا ويؤمنون به مع نفي المماثلة بين صفات الباري والصفات الانسانية(1)وهكذا صار معتمدهم في اثبات الصانع وتحديد صفاته هو الخبر الصادر عن النبي (ص)(2) ولا طريق للعقل في ذلك، فرفضوا جميع الادلة التي تقوم على اسس عقلية واعتبروها واهية لاتصلح لهذا الامر الخطير واهم تقودهم لها انها قد تصلح للضد فبدلا من اثبات الصانع تعالى فانها ربما استخدمت في نفي الصانع.

والحديث عن الصفات عموما لاسيما الخبرية منها وهي اصدق مايقع في باب المتشابه يجرنا الى ضرورة استكناه موقف السلف من قضية المحكم والمتشابه بغض النظر عن كون مصاديقه متعلقه بالصفات أو بالاصول الاخرى للعقيدة وهو موقف يحدد بعض ملامح المنهج عموما عندهم.

ج - المحكم والمتشابه عند السلف

يمكن تشكيل ملامح تصور اجمالي عن موقف السلف من قضية المحكم والمتشابه من خلال اشارات عديدة ذات طابع تطبيقي اكثر منه تنظيري منهجي.

فبغض النظر عن تحديد المفهومين عندهم - وقد سبقت الاشارة اليه - نجد انهم يحددون المحكم من الكتاب - وهم في ذلك كباقي من نظر فيه - على اسس تقدم وتؤهل طروحاتهم في تصورهم للعقيدة، فكل ماجاء من الايات ظاهرها أو نصها بل حتى الكثير من متشابهاتها يعد وفق معاييرهم في التوقف والتفويض في درجة قدسية المحكم من حيث عدم التطرق لمحاولة كشف دلالاته أو تأويله فهم ياخذون النصوص على ماجاءت ويفهمون المراد منها على مادل ظاهرها عليه وموضوعنا الرئيسي هنا هو المتشابه وعلمه

ص: 398


1- انظر ابن خزيمة (محمد بن اسحاق ): التوحيد واثبات صفات الرب ،11 تحقيق محمد خليل 1968 م ،الشهرستاني : الملل والنحل 104 105 ابن القيم الصواعق المرسلة 134.
2- ظ ابن القيم : الصواعق المرسلة 126، 127.

فهو ما ينعكس تطبيقيا على المنهج وسيكون البحث فيه وفق ثلاثة محاور:

1 - الموقف من اية المتشابه :

من الاشارات المهمة المفيدة في تحديد موقفهم من الآية الكريمة قوله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ وَايَنتُ تُحكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتُ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا نَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ﴾ (آل عمران/7) مايورده الشهرستاني من سبب توقف السلف عن تفعيل دور العقل في الموقف من الايات الموهمة للتشبيه وعدم تفسيرها حيث ان احد اسباب ذلك كما ينقل هو المنع الوارد كما يفهمون - في هذه الآية وان سبب عدم اقدامهم على التأويل هو التحرز عن الوقوع في الزيغ الوارد ذكره في الآية(1) وهذا يعني انهم يقولون بالاستئناف في الواو في قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ: إِلَّا اللَّهُ وَالرَّسِحُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾واكثر تفصيل وتحليل لمذهب السلف في المتشابه وموقفهم من الآية الكريمة تضمنه كتاب اساس التقديس للفخر الرازي وسنلاحظ لاحقا انه يتبنى مع الاشاعرة هذا الموقف فالمحصلة النهائية لمذهبهم فيه تنطلق من اساس معياري يضعونه مبدأ يفهم في ضوئه كل مايقع تحت اطار التشابه ذلك ان الموقف من المتشابهات عندهم يتمثل في انه (يجب القطع فيها بان مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها الى الله تعالى ولايجوز الخوض في تفسيرها)(2).

ولاشك ان هذا الموقف يؤكد انهم يقطعون انها مما لايعلمه الا الله ويفسرون الآية على هذا الاساس وهذا ماتبين بوضوح من خلال احتجاجهم على رأيهم بعدة وجوه بهمنا منها هنا ما يتعلق بفهم سياق الآية وتحديدهم المراد منها اذ يستدلون

ص: 399


1- ظ الملل والنحل 1: 104
2- ظ: اساس التقديس في علم الكلام ،182 مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر، 1354 ه_ - 1935م.

على وجوب التوقف في المتشابه بعدة وجوه : الأول(1) منها مبني على فهم الآية كالاتي:

1 - تضمن الآية في سياقها معنى الذم لطلب المتشابه حيث قال تعالى :﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا نَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ ﴾. (ولو كان طلب المتشابه جائزا لما ذم الله تعالى على ذلك)...

2 - ان الله تعالى مدح الراسخين في العلم بانهم ﴿يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ ﴾. وقال في سورة البقرة ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ ءَامَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ ﴾ (الآية /26) فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل ذلك المتشابه على التفصيل لما كان لهم في الايمان به من مدح ..

3 - لو كان قوله تعالى:﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ﴾ معطوفاً على قوله ((الا الله)) الصار قوله ﴿يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ﴾ ابتداء وانه بعيد عن الفصاحة لأنه كان الأولى ان يقال: وهم يقولون آمنا به أو يقال ويقولون آمنا به.. وبالتالي فان القول بالعطف يحتاج الى تاكد بينما القول بالاستئناف لايحتاج الى ذلك.

4 - وهو افضلها كما يراه الفخر الرازي قوله تعالى: ﴿كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾ يعني انهم امنوا بما عرفوه على التفصيل وبما لم يعرفوا تفصيله وتأويله، اذ لو كانوا عالمين بالتفصيل في الكلام لم يبق لهذا الكلام فائدة.

اما الوجه الثاني فيستند الى موقف الصحابة والتابعين وينطلق من اجماعهم على ان هذه المتشابهات في القرآن والاخبار كثيرة والدواعي الى البحث عنها والوقف على حقائقها متوفرة فهم كانوا اولى بالتأويل ان كان صحيحا وجائزا وبالتالي فلا متناعهم عنه - اذ لو فعلوا لاشتهر ونقل الينا بالتواتر وعدم نقله الينا عن احد منهم علمنا ان الخوض فيه غير جائز(2) .

ص: 400


1- المصدر نفسه ،183، 184 ، وانظر ايضا الملل والنحل 104
2- اساس التقديس 184، 185

ويقول الصابوني موضحا لموقفهم من المتشابه انهم يكلون علمه الى الله تعالى، ويقرون بان تأويله لايعلمه الا الله كما اخبر الله عن الراسخين في العلم انهم يقولون في قوله تعالى:﴿ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَبِ ﴾(آل عمران /7)(1) واذ تبين لنا موقف السلف من المتشابه وفهمهم للاية التي اوردت اصول التعامل مع المتشابهات تتجلى بوضوح طبيعة موقفهم من ايات الصفات الخيرية وكيفية فهمهم واستدلالهم بظواهر النص أو بعض متشابهاته على مايرون فرفضهم التأويل منطلق من هذا الفهم وهم يوردون على رفضهم له والتوقف عن معالجة الايات وفق ادلة العقل باخراجها عن دلالة ظواهرها ادلة تكاد تنطلق من المحاور العامة التي جاءت الآية الكريمة لبيانها وتستند ادلتهم هذه بالتالي الى فهمهم الآية وهي ما يمكن اجماله في الاتي :

1 - المنع الوارد في القرآن الكريم ويقصدون به الآية الكريمة واضافتها الزيغ الى من مال الى تأويل المتشابهات - كما يفهمون - وبالتالي فهم ابتعدوا عنه (2)تحرزا عن الوقوع في الزيغ فيؤمنون بها كما جاءت ولا يتعرضون الى تاويلها ويفوضون معانيها الى الله تعالى.

2 - مايتعلق بدرجة الحجية في الدليل فالتأويل امر مظنون بالاتفاق وصفات الباري تعالى يجب ان يرجع فيها الى ماهو قطعي والقول فيها بالظن غير جائز فربما أولّت الآية على غير مراده تعالى وادى ذلك الى الوقوع في الزيغ ولذا فهم يقولون كما قال الراسخون في العلم: ﴿كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا ﴾آمنا بظاهره، وصدقنا بباطنه ووكلنا علمه الى الله ولسنا مكلفين بمعرفة ذلك، اذ ليس ذلك من شرائط الايمان واركانه.

3 - يرجع الى طبيعة التأويل وكونه ظنيا فهو يختلف باختلاف وجهات النظر عند

ص: 401


1- ظ عقيدة السلف واصحاب الحديث 107.
2- ظ الملل والنحل 104، الفخر الرازي: اساس التقديس 183، د عرفان عبد الحميد دراسات في الفرق: 214

المتصدين لفهم النص، فاذا ترك الباب مفتوحاً لتفسيرات مختلفة متباينة فذلك من شانه تفريق الامة وهو حرام ومايؤدي اليه محرم ايضا ولذا صار السلف الى الفضيلة الكاملة والتقوى باستعمال هذه المتشابهات دون تأويل وتفرق واختلف من بعدهم فرق لأنهم اقتحموها.

ج - علاقة الأشعري ومذهبه بالسلف( اهل السنة واصحاب الحديث)

يقول الإمام الأشعري في كتابه الابانة وهو الذي يمثل المنطلق الرئيس لاصلاح عقيدة اهل السنة مع الالتزام الشديد بخطوطها العريضة وأصولها في تأكيد منه لعدم خروجه عن الخط العام للسلف في مسلكه الجديد وخصوصا ارتباطه باصول العقيدة التي التزم بها الإمام احمد بن حنبل :(ت 241 ه_) : قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا عز وجل وبسنة نبينا (صلی الله علیه وآله وسلم)وماروي عن الصحابة والتابعين وائمة الحديث ونحن بذلك معتصمون وبما كان يقول به ابو عبد الله احمد بن محمد بن حنبل نَضَّر الله وجهه ورفع درجته واجزل مثوبته قائلون ولمن خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل والرئيس الكامل الذي ابان الله به الحق ورفع به الضلال واوضح به المنهاج وقمع به بدع المبتدعين وزيغ الزائغين وشك الشاكين فرحمة الله عليه من امام مقدم وخليل معظم مضخم وعلى جميع ائمة المسلمين)(1).

وهو يؤكد ذلك اثناء عرضه لمذهب اصحاب الحديث واهل السنة في مقالات الاسلاميين فيقول ( (وبكل ماذكرنا من قولهم نقول واليه نذهب)(2).

ان هذه الصلة والتبعية لمذهب السنة واهل الحديث تبدو واضحة في المراحل الأولى من الاتجاه الجديد وقد حاول فيها الإمام الأشعري ان يكون متوافقا في طروحاته مع مذهبهم وتمثل ذلك في اهم سمتين في موقفه منهم:

ص: 402


1- الإبانة عن اصول الديانة : 8 ، المطبعة المنيرية القاهرة.
2- مقالات الاسلاميين: 325

الأولى: انه وقف بوجه خصومهم المعتزلة وكان انقلابه عليهم انطلاقه مهمة في تشكيل الاتجاه الجديد الذي لم يخرج كثيرا عن الخط الفكري لاهل السنة والحديث في بداياته.

الثانية: انه ربط نفسه ابتداء بهذا الخط وتبنى طروحاته وارائه واهم الأسس التي قام عليها والنصين السابقين يدلان على ذلك بوضوح، هذا من جهة ومن جهة اخرى فانه مع الحنابلة بالذات كان شديد المرونة واكثر من مدح امامهم احمد بن حنبل لكننا نلاحظ مع ذلك انهم لم يغفروا له اهم ماقام عليه مذهبه الجديد وهو اقحامه علم الكلام والنظر والجدل في علوم الدين فوقفوا في وجهه (1)وقد كانت المذاهب الفقهية الأخرى اكثر مرونة معه واستطاع ان يمهد للاعتراف بعلم الكلام وبالمسلك الجديد ضمن الاطار العام لمذهب اهل السنة والحديث ليجعله في النهاية ممثلا لهم. خصوصا ان المذاهب الأخرى اكثر قرباً من تقبل دور للعقل لاسيما الاحناف منهم لأنهم من مدرسة الرأي في الفقه وكان لتلامذته من بعده واهمهم الباقلاني (ت 403 ه_) ومحمد بن تومرت مهدي الموحدين (ت 524ه_) دور كبير في تحصيل اعتراف المالكية لعلم الكلام والبحث العقلي والمسلك الجديد عموما (2).

وسنلاحظ عند البحث في منهجه ان هذا الموقف من الأشعري لم يكن على اطلاقه الوارد في تصاريحه هذه وانما اختط لنفسه المنهج الوسط الذي سنتناوله هناك ايضا والذي سيكون له اثر كبير في اصلاح عقيدة اهل الحديث وابعاد التصورات التي وقع فيها المجسمة والحشوية القائلين بالتجسيم والجهة والجبر .. الخ وغيرها من العقائد الموروثة عن الملل الاخرى وخصوصا اليهودية والنصرانية التي دخلت الى صفوف المسلمين عن طريق الاحبار والرهبان وماكان لهذه الخطوة ان تلاقي النجاح الذي كان يأمله وحققه

ص: 403


1- ظ احمد محمود صبحي في علم الكلام ،2:16 دار النهضة العربية، بيروت، ط5، 1405ه_ 1985 م
2- ظ1 احمد محمود صبحي: في علم الكلام 2:16 .

فعلا مع اتباعه من بعده لولا اعلانه الانقلاب عن عقيدة الاعتزال وانحراطه في اصحاب الحديث (1) والذي مهد له القول الذي أوردناه وهناك عامل آخر كان له اثره الواضح في النجاح المتحقق في عملية الاصلاح هذه وهو مقدرته الفكرية الكبيرة التي تمرنت على مسلك المعتزلة اصحاب التفكير العقلي والنظر والجدل فاكتسب منهم اصول التشبيه والتنزيه التي لم يستطع الانسلاخ عنها وبقيت ذات تاثير كبير على مسلكه العام في عقيدته وكان اكثر قربا منهم في المراحل المتأخرة من منهجه وان كان قد خدم الحشوية نوعا ما حين امد عقائدهم بسيل الادامة عندما اعاد تكرار الكثير منها في كتابه الابانة والتزمها واعتمد لاثباتها النصوص والروايات وهو ما يمثل المرحلة الأولى في منهجه.

وبميل البحث في نهاية هذا المدخل الى تحاشي ايراد التطبيقات في استدلالات السلف واهل السنة والحديث بالنصوص القرآنية ومسلكهم في استنباط العقيدة اذ يكفي لتحقيق ذلك غالبا مجرد استحضار النصوص القرآنية وظواهر الآيات الكريمة مع استذكار الركيزة المعيارية الرئيسية في منهجهم بأخذ الايات ظاهرها ومتشابهها بمبدأ التنزيه عن التشبيه والتجسيم والاحجام عن اية معالجة لها اذ يكتفي المتصدي لفهم النص هنا بمراقبة النص في حركته الظاهرية مع الجمود على موقف المتلقي وحسب ولا دور له مطلقا يتعدى ذلك.

ص: 404


1- ظ الابانة ،8 وانظر ايضا ابن خلكان وفيات الاعيان 1: 464

منهج الأشعرية في فهم النص القرآني

توطئة

تطبع صورة المنهج الأشعري في العقيدة مجموعة نقاط يتصاعد الخط البياني بينها، ويمثل المعيار الذي يؤشر حركة هذا الخط: الدور الذي يناط بالعقل في فهم العقيدة وتحديد اصولها في الجانب المنهجي، والموقف من الصفات الالهية وطبيعة الاعتقاد فيها لاسيما الصفات الخبرية بالذات حيث يتقاطع ظاهر النص مع الدليل العقلي في الجانب التطبيقي بحسب هذين الاطارين ومعاييرهما يحدد الباحثين مراحل تاريخية فكرية يمر بها المنهج الأشعري. حيث نلاحظ ان هذين الاطارين يحددان مراحل التطور في المنهج الأشعري وكالاتي:

ففي الاطار المنهجي نلاحظ ان الأشعرية مرت بثلاث مراحل نشهد فيها الخط التصاعدي في اكتمال صورة المنهج وتأسيس ركائزه وبناه الفكرية(1):

في المرحلة الأولى نشهد بداية الانطلاقة في ثورة التصحيح في عقائد اهل السنة والحديث بظهور الإمام الأشعري وتنطبع هذه المرحلة بمعالجات شكلت محاولة لتأصيل النشأة وصياغة الأسس الفكرية للمذهب ويلتحق بالإمام الأشعري في هذه المهمة التأسيسية أقطاب كبارهم القاضي ابو بكر الباقلاني وعبد القاهر البغدادي وابو المعالي الجويني حيث نلاحظ تناغما واضحا في تحديد المنطلقات وتكاملا بين الخطوات المتبعة بما يشكل في مجموعه ملامح مرحلة موحدة الجهود وان اختلفت

اركانها في بعض السمات المميزة لكل قطب من هؤلاء الاقطاب.

ص: 405


1- ظ احمد محمود صبحي: في علم الكلام 2:43 وما بعدها.

وفي المرحلة الثانية يميل الخط الفكري الأشعري الى تحديد الاطر النهائية للمنهج وصولا الى حالة الاكتمال في تشكيل المنظومة العقائدية ونشر المذهب وترسيخ جذوره على الساحة الفكرية ويقود المسار في هذه المرحلة الإمام الغزالي ومهدي الموحدين ابن تومرت والشهرستاني .

في المرحلة الثالثة ياخذ الخط التصاعدي نحو العقلنة قفزة كبيرة بالانسلاخ عن الطابع الكلامي المرتبط بمرجعيات فهم النص ليدخل في اطار يتشابك بالاتجاه الفلسفي ويركب عجلته ويستعير ادواته حيث يدخل المذهب الأشعري هنا مرحلة علم الكلام الفلسفي ممثلا في مسلك الفخر الرازي وعضد الدين الايجي.

اما في الاطار التطبيقي على اصول العقيدة وتحديد جزئياتها فنلاحظ ان الموقف من الصفات الالهية يطبع المراحل التاريخية للمذهب الأشعري والانتقال من الطابع العام لموقف مذاهب اهل السنة والحديث (الصفاتية) كمرحلة اولى تؤصل لمنطلقات الأشعرية مرورا بمرحلة ثانية يتمثل فيها دور الأشعري في ظهوره بمنهجه الجديد وتفعيل دور العقل في فهم النص القرآني واستنباط التصور الجديد لمعالجة ظواهر النصوص والانفلات من لوازم المنهج القديم الذي كان يسير احيانا بمسلك يقترب من الوقوع في مغبة التشبيه والتجسيم حيث يكتفي بالتعبد بالنصوص على ظواهرها وتلك الظواهر توهم احيانا بهذا المنحى التشبيهي رغم ان الاتجاه في تلك المرحلة يعلن ان تعامله مع النص في ظاهره محكوم بالتنزيه عن التشبيه والتجسيم، لكن مجرد الاعلان دون تفعيل مايلزم عن هذا المبدأ عند التعامل مع النصوص واتخاذ موقف السكوت على النص وعدم التصرف فيه لا يكفي لتحقيق هذه الحالة. وفي هذه المرحلة يعضد عبد القاهر البغدادي منهج الأشعري في الصفات والمرحلة الثالثة يمثلها القاضي الباقلاني والجويني بقولهما بنظرية الاحوال(1) في الصفات الالهية والتي

ص: 406


1- مبتكر النظرية الأول هو ابو هاشم الجبائي المعتزلي (ت 321ه_). ويرى بعض المتكلمين انه ليس للحال تعريف محدد بالحد أو الرسم، اذ ليس لها حد حقيقي لكي تعرف بحدها وحقيقتها على وجه يشمل كل الاحوال الا ان الجويني يعرفها في كتابه الارشاد بانها (صفة لموجود غير متصفة بالوجود ولا بالعدم) ص 80 نشر الخانجي القاهرة 1950م ويقسمها للقائلين بها على قسمين : 1 - الحال المعللة 2 - والحال غير المعللة. الحال المعللة : هي كل حكم ثبت للذات بسبب معنى قام بها ككون العالم عالما والقادر قادراً ونحو ذلك من المعاني التي إذا قامت بمحلها اوجبت له حالا . والحال غير المعللة هي كل صفة اثبات لذات من غير علة زائدة على الذات اذ انها كل وصف لا يرجع الى نفي ولايتناقض العلم بوجود الموصوف مع الجهل به. انظر: الجويني: الشامل في اصول الدين: 630 تحقيق د. علي سامي النشار منشأة المعارف الاسكندرية 1969 م.، الارشاد الى قواطع الادلة في اصول الدين 80 تحقيق محمد یوسف موسى علي عبد المنعم نشر الخانجي مصر :الشهرستاني: نهاية الاقدام 132 .

تهدف الى دفع الاشكال القائم على ان القول بمغايرة الذات الالهية للصفات يلزم عنه تعدد القدماء (1)

ومايهم البحث في هذه المراحل على اختلاف المعايير المحددة لطبيعتها وتقسيمها ما يتعلق منها بفهم النص القرآني عند الأشعرية.

وقضية منهج فهم النص القرآني عند الأشعرية تكاد لاتتأثر بطبيعة التغيرات والمراحل التي يمر بها المنهج الأشعري العام بما يمكن ان يحدد بمراحل معينة يفصل بينها بمعايير واضحة تاريخيا أو فكريا اذ نلاحظ تداخلا واستعادة لنفس المعايير ومسالك الفهم للنص بين مراحل متقدمة من الأشعرية ومراحل متاخرة كموقف التفويض - على سبيل المثال - الذي نلاحظ ظهوره في المراحل المتاخرة عند الأشعرية في احد موقفين للفخر الرازي بعد أن ظهر في المراحل الأولى والجذور والبدايات ممثلة

في عقيدة اهل السنة - كما تبين لنا سابقا ..

وقد لاحظ البحث تصديقا لذلك ان فهم النص القرآني عند متكلمي الأشعرية تحكمه مجموعة عناصر مشتركة تتوزع ملامحها وابعادها ومصاديقها على اداء كل منهم - مع تفاوت ملحوظ أو غير ملحوظ - وتشكل بمجموعها تصوراً عاما نجد تاثيره

ص: 407


1- البهادلي: محاضرات في العقيدة الاسلامية 2: 253-183

واضحا في رؤيتهم العامة للعقيدة واصولها واسس بنائها انطلاقا من النص القرآني الذي يشكل المرجعية الكبرى التي توظف كل المرجعيات الاخرى لتؤدي الى تاكيد منظوره للعقيدة حسب الفهم الأشعري لهذا النص.

لذا ارتاى البحث ان يتابع تلك العناصر المشتركة وانتزاع ابعاد المنهج الأشعري في فهم النص القرآني من خلال تحديد موقف الأشاعرة منها لأنها تقدم صورة اكثر تكاملا لهذا المنهج في الوقت الذي تقدم المراحل التاريخية وتقسيماتها تصورا عن المنهج الأشعري الكلامي العام الذي ربما طبع في بعض فتراته ومحطاته الفكرية لاسيما المتاخرة منها بطابع المرجعيات الاخرى وخصوصا العقل وطرق الاستدلال المستندة الى مداركه والسنة الشريفة والاجماع التي طبعت المراحل الأولى بالذات.

لذلك كله وتمشيا مع منهج هذه الرسالة الذي اتبع في تناول منهج المذاهب الكلامية السابقة فان البحث سيتناول موقف الأشعرية من اغلب القضايا المبحوثة عند تلك المذاهب لتحديد ملامح المنهج الأشعري في التعامل مع النص القرآني انطلاقا من خصائصه الذاتية وطبيعته التعبيرية ومجموعة الادوات التى تستلزمها عملية فهمه ومقتضيات کشف دلالاته لهذا ستتمحور المباحث التالية حول مجموعة قضايا على رأسها:

العقل وموقف الأشاعرة منه وطبيعة الدور الذي يؤهل له عندهم ثم علاقة العقل بالشرع واين يتعارضان وفي اية نقطة يبدأ دور كل منهما، وفي أي المسائل يستقل كل منهما وايها يتحدان في العمل فيها، وعن بيان طرقهم في الاستدلال ودور العقل فيها وخصائص النص القرآني البيانية ممثلة في قضية المحكم والمتشابه والموقف ازاء المتشابهات كركيزة اساسية في المنهج الأشعري واي منهج آخر ثم التأويل وموقفهم منه وابعاد فهمهم لاسسه ثم ينتهي البحث الى محاولة انتزاع السمات والخصائص العامة للمنهج الأشعري في فهم النص القرآني قبل ان يتلمس الجوانب التطبيقية للتحقق من تطبيق اصول واسس المنهج عند التعامل مع النص القرآني في المبحث الاخير من هذا الفصل.

ص: 408

الفصل الأول : علاقة العقل بالشرع وطرق الاستدلال على العقيدة

اشارة

ص: 409

توطئة:

تتعدد الملامح المشكلة لتصور الأشعرية للدور الذي يمكن للعقل ان يقوم به في عملية استنباط اصول العقيدة وفهم النص، وتتعدد طرق الوصول الى هذا الاستنباط فتنفصل مرة وتتظافر اخرى تعرفا أو استدلالا، وبالتالي تتبين من الحالتين ملامح العلاقة بين العقل والسمع ودوريهما في تشكيل المنظومة العقائدية ولاستبيان ملامح منهجية مهمة لها اثرها في تصور منهج الأشعرية في فهم النص القرآني لابد من متابعة هذه المحاور الثلاثة :

1 - موقفهم في قضية التحسين والتقبيح .

2 - طبيعة علاقة العقل بالشرع.

3 - طرق الاستدلال الأشعري في العقيدة.

المبحث الأول: التحسين والتقبيح

ترتبط هذه المسالة عند الأشعرية بعقيدتهم في التوحيد وقولهم في حرية المشيئة الالهية المطلقة وقد بحثها الإمام الأشعري في باب التعديل والتجوير(1)على سبيل التطبيق من خلال مايترتب على موقفه فيها.

وقد نقل الشهر ستاني عنه في اصول عقيدته انه يذهب الى التحسين والتقبيح

ص: 410


1- ظ اللمع في الرد على اهل الزيغ والبدع: 116- 117 تصحيح وتعليق د. حموده غرابه مطبعة مصر القاهرة 1955 م.

الشرعيين وان مبناه فى ذلك انه لايجوز الايجاب على الله تعالى اذ هو الموجب فلا يجب عليه شيء(1).

والواجبات عنده كلها سمعية والعقل لايوجب شيء ولايقتضي تحسينا ولاتقبيحا )(2)

وتاسيسا على هذا فلا وجوب على الله من جهة العقل فيما ترتب على التحسين والتقبيح العقليين عند الإمامية والمعتزلة من مسائل كمعرفة الله تعالى وبعث الرسل وشكر المنعم واثابة المطيع وعقاب العاصي والصلاح والاصلح واللطف)(3)فهذه كلها تجب بالسمع لا العقل .

وهذا الموقف في المسالة هو ماذهب اليه مشايخ الأشعرية( انه لايعرف بالعقل حسن شي من الاشياء ولا قبحه سوى المعنيين بل انما يعرف بالشرع)(4) فالافعال قبل ورود الشرع خالية من الحسن والقبح بمعنى ترتب تحسينا ولاتقبيحا والحسن والقبح مرتبطان بالشرع فالحسن ماحسنه والقبح ماقبحه) (5) .

ويرتبط هذا بطبيعة المرجعيات التي يستند اليها الأشعرية ولمن تكون الحاكمية للعقل ام الشرع، فالعقل عنده ليس حاكما على الشرع بل العكس هو الصحيح

ص: 411


1- الملل والنحل 1: 101
2- الملل والنحل 1: 102
3- المصدر نفسه: 102
4- شيخ زادة (عبد الرحيم بن علي ): نظم الفرائد وجمع الفوائد في بيان المسائل التي دفع فيها الاختلاف بين الماتريدية والأشعرية في العقائد ص 31 المطبعة الادبية مصر ط1 1317 ه_. وانظر ايضا: الفخر الرازي: الاربعين في اصول الدين 246 وما بعدها مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية حيدر اباد الدكن ط13531 ه_.
5- البغدادي ابو منصور عبد القاهر بن طاهر التميمي ت (329ه_) اصول الدين ،210 ، وانظر ايضا الاسفراييني ابو المظفر طاهر بن محمد (ت 471 ه_) : التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن فرق الهالكين 159 160 مكتبة الخانجي / مصر، الجويني ابو المعالي (ت 178ه_) : الارشاد الى قواطع الادلة في اصول الاعتقاد 358 -359 .

ولذلك فطريقتهم في فهم العقيدة واستنباط اصولها تستند الى ماجاء في الشرع ثم اللجوء للادلة العقلية لا ثبات صحة ما استنبطوه فالعقل هنا يمكن ان يكون معينا للمعرفة الدينية ومقرراً لاوامر الشريعة ومتعقلا لقضاياها وادلته مركبة على السمعية أو معينة في طريقها(1).

وحقيقة الخلاف في الحسن والقبح وطبيعة دور العقل فيهما لاتشمل جميع معانيهما اذ تتفق الأشعرية مع العدلية (2) والماتريدية في معنيين وتختلف في معنى ثالث حيث ان الحسن والقبح يقال لمعان ثلاث (3):

الأول : ماكان صفته صفة كمال فحسن وماكان صفته صفة نقصان فقبح.

الثاني: ماوافق الغرض فهو حسن وماخالفه فهو قبيح.

ولانزاع في ان هذين المعنيين يدركهما العقل ولاتعلق لهما بالشرع.

الثالث ما يتعلق به المدح في العاجل والثواب في الآجل يسمى حسنا ،ومايتعلق به الذم في العاجل والعقاب في الآجل يسمى قبيحا.

وهذا المعنى الاخير بمعنى ان الفعل يتصف بذاته بالحسن أو القبح وبالتالي كونه (متعلق الذم والعقاب أو متعلق المدح والثواب هل هو لاصل صفة قائمة بالفعل) (4)هو مافيه النزاع بين الأشعرية وغيرهم ولانزاع لهم في اعتبارهما عبارتين عن رغبة الطبع ونفرته انهما معلومان بالعقل ويقوم موقف الأشعرية هنا لاعلى اساس نزع

ص: 412


1- محمد عبده بين الفلاسفة والمتكلمين 1: 198 تفاصيل محمد ابو زهرة تاريخ المذاهب الاسلامية 177، مصطفى عبد الرازق تمهيد لتاريخ الفلسفة الاسلامية 289، 293.
2- العدلية : مصطلح يطلق ويراد به الإمامية والمعتزلة لقولهما باصل العدل وكونه ضمن اصول الدين الخمسة عندهما.
3- ظ شیخ زاده :نظم الفرائد 32
4- الرازي: الاربعين 249 .

الاهلية بكل معانيها عن العقل ابتداء، فهم يفرقون بين حصول المعرفة ووجوبها . فلا خلاف لهم في اصل حصول المعرفة وان العقل طريق اليها انما الخلاف في الوجوب ولذلك يقول الأشعري المعارف كلها انما تحصل بالعقل وتجب بالسمع)(1) ولهذا المبدأ (المعيار) ترتبات سنجد اثارها واضحة على فهم الأشعرية للنص القرآني في مقام استنباط اصول العقيدة وتفعيل الدليل السمعي فيها، وهو ماستتبين ملامح بوضوح اكثر عند البحث في طبيعة العلاقة بين العقل والشرع ودور كل منهما في ذلك، وطبيعة الاختصاص الموكل اليه حيث تتأثر عملية الاستدلال وطريقه بكون المسألة المستدل عليها واقعة ضمن اطار العقليات ام السمعيات، بغض النظر عن السمة الواضحة عند الأشاعرة في تعاضد الدليلين وتواردهما على استنباطاتهم لاصول المذهب في العقيدة.

ص: 413


1- ظ الشهرستاني: نهاية الاقدام في علم الكلام ،371 ، تصحيح الفرد جيوم مطبعة المثنى بغداد.

المبحث الثاني: علاقة العقل بالشرع

اشارة

تمثل طبيعة العلاقة بين العقل والشرع وابعاد فهم الأشعرية لها وتحديدهم لاسسها منطلقا مركزيا وركيزة اساسية في المنهج الأشعري عموما وهي ذات تاثير كبيراً في تحديد السمات العامة للمذهب، وقد طبعت اداء متكلميه عموما وتمثلت انعكاساتها على فهمهم للنصوص القرآنية وتوجيهها لاستنباط اصول العقيدة وينبغي لتشكيل تصور عن هذه العلاقة وذلك الفهم متابعة مجموعة امور تتحدد في ضوئها جملة من الأسس والمنطلقات المؤثرة في المنهج الأشعري لذا سينقسم البحث هنا على المحاور الآتية:

1 - حقيقة العلاقة بين العقل والشرع.

2 - اختصاص كل منهما في استنباط العقيدة .

3 - السمات العامة للمنهج الأشعري تبعا لموقفه في المحورين السابقين.

المطلب الأول: العلاقة بين العقل والشرع

سبق ان اتضح لنا ان منهج السلف - والسلفية فيما بعد - قائم على ان لاتعارض بين العقل والشرع وان القول بذلك بدعة فالمعارض مرفوض مطلقا وهو من عمل الشيطان (1)

ص: 414


1- ظ: ابن القيم الجوزية: الصواعق المرسلة 130 وما بعدها.

وعند استعراض مواقف متكلمي الأشعرية نجد ان هذه القضية من الثوابت في منهجهم فالعقل والشرع يستحيل ان يتناقضا وان حصل ذلك فهو تعارض ظاهري حيث ينحل بتأويل الدلالة الشرعية الى ما يوافق العقل لأنه يستحيل تصور ان ياتي الشرع بما يناقض العقل يقول الغزالي ( لايتصور ان يشمل السمع على قاطع مخالف للعقول)(1) ولذلك فاذا ورد في السمع ماقضى العقل باستحالته وجب فيه التأويل (2).

وهذا الموقف قائم على ان الأشعرية لا يحكّمون العقل مطلقا وانما الحاكمية في العقيدة عندهم للشرع ويرون في ذلك ان صدق الشرع متوقف على تصديق العقل ابتداء له والا كان ذلك وقوعا في الدور(3)يقول الغزالي (النقل جاء من العقل وليس لك ان تعكس)(4) ويقول في تفصيل اثر يدل على ثقته بالعقل فيراه المقياس في قياس صدق ماجاء الشرع بالعقل عرف صدق الشرع ولولا صدق دليل العقل لما عرفنا الفرق بين النبي والمتنبي والصادق والكاذب وكيف يكذب العقل بالشرع وما ثبت الشرع الا بالعقل) (5). ويفصل البغدادي القول اكثر في هذه المسالة فيقول انما اضيفت العلوم الشرعية الى النظر لان صحة الشريعة مبنية على صحة النبوة، وصحة النبوة معلومة من طريق النظر والاستدلال) (6) فثبوت الشرع متوقف على معرفة الله تعالى ومعرفته تعالى تتوقف على صدق المخبر عنه أي على بعثة الانبياء عليهم السلام ولو توقفت تلك المعارف على الشرع لزم الدور

وهو باطل (7).

ص: 415


1- الاقتصاد 133 .
2- الاقتصاد 133 .
3- الدور: توقف الشيء على مايتوقف عليه ويسمى الدور المصرح كما يتوقف أ على ب وبالعكس، أو بمراتب ويسمى الدور المضمر كما يتوقف أعلى ب وب على جوج على أ/ الجرجاني: التعريفات 62.
4- ميزان العمل 339 .
5- ظ: د :جلال محمد موسى: نشأة الأشعرية 431.
6- ظ: اصول الدين 14 - 15.
7- ظ الغزالي: ميزان العمل 339 الاقتصاد ،3،4 ،133 ، وانظر: صبحي في علم الكلام 2: 298

ولذلك تراهم يعتبرون ان دلالة الشرع يقينية مع عدم المعارضة العقلية لكنها تكون ظنية ان حصل المعارض (1).

يقول الغزالي في ذلك( كل ماورد السمع به ينظر فان كان العقل مجوزا له وجب التصديق به قطعا ان كانت الادلة السمعية قاطعة في متنها ومستندها لايتطرق اليها احتمال)(2).

وهذا ما يدفع الى ضرورة التأويل عند حصول التعارض الظاهري بين العقلي والنقلي فان ماقضى العقل باستحالته فيجب فيه تاويل ماورد السمع به.. واذا توقف العقل في شيء من ذلك فلم يقض فيه باستحالة ولاجواز وجب التصديق ايضا لادلة السمع فيكفي في وجوب التصديق انفكاك العقل عن القضاء بالاحالة)(3).

هذه الحاكمية الابتدائية للعقل ومالزم عنها من مقايسة ظاهر النص السمعي ومعيارية عدم مخالفته للعقل - فيما للعقل فيه دور - تمثلت في فكر الأشعرية منذ بداياتها الأولى وسط اجواء الجمود على النص عند الحشوية واهل الحديث وتمثل ذلك عندهم في مسلكين يكادان يطبعان المنطلقات والبدايات وتوجهات المنهج عند كل من اقطابهم هذان المسلكان هما:

الأول: رفضهم للاتجاه السائد عند السلف واهل الحديث والحشوية في دفع العقل عن أي دور في استنباط العقيدة بالمنع عن النظر والاستدلال ومعاداة الكلام والبحث في امور العقيدة بالمنهج العقلي يقول الأشعري في بيانه للواقع الذي عليه هؤلاء: (اما بعد فان طائفة من الناس جعلوا الجهل راس مالهم وثقل عليهم النظر والبحث عن الدين ومالوا الى التخفيف والتقليد وطعنوا على من فتش عن اصول

ص: 416


1- ظ الجرجاني : شرح المواقف 2: 55-54
2- الاقتصاد 132.
3- المصدر نفسه 133.

الدين ونسبوه الى الضلال وزعموا ان الكلام في الحركة والسكون والجسم والعرض والالوان والاكوان والجزء والطفرة وصفات الباري عز وجل بدعة وضلالة، وقالوا :لو كان هدى ورشاد لتكلم فيه النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)وخلفاؤه واصحابه.. فلما لم يرووا الكلام في شيء مما ذكرنا علمنا ان الكلام فيه بدعة والبحث عنه ضلالة لأنه لو كان خيرا لما فات النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ولتكلموا فيه) (1) ثم الكلام الذي يصدر به رسالته في استحسان الخوض في علم الكلام ردا على الاتجاه الذي يصفه يدفعه في صفحات الرسالة بايراده الادلة من القرآن الكريم وسنة النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)ثم يبدا بالتأصيل القرآني والنبوي لموضوعات العقيدة ومسائلها ببيان المواضع التي بحثها وتطرقت اليها في النصوص ويضع حداً معيارا مهما فيقول - بعد حديثه عن الفروع - (فاما حوادث تحدث في الأصول في تعيين مسائل فينبغي لكل عاقل مسلم ان يرد حكمها الى جملة الأصول المتفق عليها بالعقل والحسن والبديهة وغير ذلك لان حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع ان تكون مردودة الى اصل الشرع الذي طريقه السمع، وحكم مسائل العقليات والمحسوسات ان يرد كل من ذلك الى بابه ولا يخلط العقليات بالسمعيات ولا السمعيات بالعقليات)(2)وهو يرجع سبب عدم خوض النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)في بيان هذه المسائل مما يقع ضمن العقليات كخلف القرآن والجزء والطفرة.. الخ انها لم تحدث في ايام النبي(صلی الله علیه وآله وسلم)ولو حدثت لتكلم فيها وبينها كما بين سائر ماحدث في ايامه من تعيين المسائل وتكلم فيها (3) . هذه الضرورة التي ادت بالإمام الأشعري الى مواجهة . هذا الاتجاه الفكري السائد في الساحة الفكرية في عصره لتأهيل البحث الكلامي وتاصيل جذوره ودوره في الواقع الفكري لاهل السنة للدفاع عن العقيدة امام هجمة

ص: 417


1- رسالة في استحسان الخوض في علم الكلام ص 3 مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن 1344ه_
2- المصدر نفسه 8 (بتصرف ).
3- المصدر نفسه 8 (بتصرف ).

المخالفين والجامدين على النص واهل الملل الاخرى كانت سببا في مواجهة اخرى عند قطب من اقطاب الأشعرية هو الإمام الغزالي الذي سادت في عصره ايضاً الدعوات الى نبذ النظر العقلي واستبعاد علم الكلام عن ساحة العقيدة فكان رده مدويا وسط ساحة فكرية كان فيها طرف آخر هو الفلاسفة وقع في الافراط إذا كان ذلك الاتجاه الأول قد وقع في التفريط .

بين هذين الطرفين وقف الإمام الغزالي يؤسس للواقع الفكري اسس ومباديء للخوض في علم الكلام ولمن تكون الاهلية في البحث عن اصول العقيدة وسادت هذه الفكرة اغلب كتبه اذ طالب بالجام العوام عن الخوض في البحث عن ذلك ويؤصل لاثر العقل والسمع معا في بيان العقيدة وانهما لايمكن ان يتعارضا وانما يعضد احدهما الاخر مع اختصاص كل منهما بدوره يقول .... وتحققوا ان لامعاندة بين الشرع المنقول والحق المعقول وعرفوا ان من ظن من الحشوية وجوب الجمود على التقليد واتباع الظواهر ما اتوا به الا من ضعف العقول وقلة البصائر وان من تغلغل من الفلاسفة وغلاة المعتزلة في تصرف العقل حتى صادموا به قواطع الشرع ما أتوا به الا من خبث الضمائر ، فميل اولئك الى التفريط وميل هؤلاء الى الافراط وكلاهما بعيد عن الحزم والاحتياط) (1) ثم يلتفت الى المنهج البديل الذي يراه الحق بعد ان بين حقيقة خطأ من اتبع احد الطرفين فيقول (بل الواجب المحتوم في قواعد الاعتقاد ملازمة الاقتصاد والاعتماد على الصراط المستقيم، فكلا طرفي قصد الامور ذميم وأنّى يستتب الرشاد عند من يقنع بتقليد الاثر والخبر وينكر مناهج البحث والنظر، أو لا يعلم انه لامستند للشرع الا قول سيد البشر(صلی الله علیه وآله وسلم) ، وبرهان العقل هو الذي عرف به صدقه فيما أخبر وكيف يقتدى للصواب من اقتفى محض العقل واقتصر وما استضاء بنور الشرع ولا استبصر ؟ فليت شعري كيف يفزع الى العقل من حيث يعتريه العي والحصر ؟

ص: 418


1- الاقتصاد في الاعتقاد 3،4

أو لايعلم ان العقل قاصر وان مجاله ضيق منحصر ؟ هيهات قد خاب على القطع والبتات وتعثر باذيال الضلالات من لم يجمع بتاليف الشرع والعقل هذا الشتات. فمثال العقل البصر السليم عن الافات والاذاء ومثال القرآن الشمس المنتشرة الضياء فاخلق بأن يكون طالب الاهتداء المستغني إذا استغنى باحدهما عن الآخر في غمار الاغبياء فالمعرض عن العقل مكتفيا بنور القرآن مثاله المتعرض لنور الشمس مغمضا للاجفان فلا فرق بينه وبين العميان فالعقل مع الشرع نور على نور)(1) .

وهو ينتهي بعد هذا النص الطويل - الذي اورناده لما فيه من اسس تمثل موقف الأشعرية والغزالي من المسألة خير تمثيل - الى تاكيد ان هذا المنهج هو ما عليه اهل السنة من اصحاب البحث العقلي (الأشاعرة) حيث يقوم منهجهم على هذه الأسس متبعا تحقيق تعاضد العقل والشرع ومتانة العلاقة بينهما اذ يقول ( وسيتضح لك ايها المشوق الى الاطلاع على قواعد عقائد اهل السنة المقترح تحقيقها بقواطع الادلة انه لم يستأثر بالتوفيق للجمع بين الشرع والتحقيق فريق سوى هذا الفريق)(2) وتراه يجعل كتابيه (الجام العوام عن علم الكلام )و (الاقتصاد في الاعتقاد ) لبيان تلك الأسس وتحقيق تلك الاضافة ومما يوضح ذلك مثلا انه جعل للاقتصاد اربع تمهيدات تطغى عليها هذه العلاقة وبيانها والاستدلال عليها(3).

وقضية عدم التعارض وتعاضد العقل والسمع اخذت فاعليتها الكبيرة عند متكلمي الأشعرية وخصوصا منذ ظهور القاضي الباقلاني واضع اسس المنهج مرورا بالجويني والغزالي والرازي والايجي وغيرهم ممن لم نذكر وتمثلت تلك الفاعلية في المسلك الثاني.

ص: 419


1- المصدر السابق نفسه 4.
2- المصدر نفسه.
3- فالتمهيد الأول: في بيان ان هذا العلم من المهمات في الدين والثاني في بيان انه ليس مهما لجميع المسلمين بل لطائفة منهم مخصوصين والثالث في بيان انه من فروض الكفايات لا من فروض الاعيان والرابع من تفصيل مناهج الادلة التي اوردها في الكتاب حيث قسم الادلة وانواعها وكان للدليل العقلي في ذلك حضور واضح الاقتصاد 4،5.

المسلك الثاني :وتمثل فيه توظيف الدليل العقلي ليعاضد الدليل النقلي في اثبات مذهب الأشاعرة وبيان موقفهم في المسائل الكلامية المختلفة حيث نلاحظ ان الادلة العقلية دخلت في الاستدلال على العديد من المسائل التي ارادوا اثباتها أو دفع ادلة المخالفين لهم فيه ولكن ذلك محكوم بالطابع العام للمنهج الأشعري في انه اقرب الى السمع منه الى العقل وارجحية الدليل النقلي في الاستدلال وهو ماسنمر به لاحقا ومن المسائل التي استدلوا عليها بالادلة العقلية وجود الله تعالى وحدوث العالم واثبات الرؤية وكلام الله (الكلام النفسي) وقدم القرآن ونظرية الكسب في افعال الانسان(1) وغيرها.

المطلب الثاني: توزيع الادوار (اختصاص العقل والنقل)

يكاد موقف الأشاعرة من العقل وعلاقته بالشرع ان تحكمه طبيعة الخصائص لكل منهما وبالتالي طبيعة الدور الذي يمكن لاي منهما ان يمثله في المعرفة عموما وفي استبيان مسائل العقيدة بشكل خاص.

فلكل منهما حدوده والخط الذي يبدا منه وهذه الحدود والخطوط قد تتلاقى احيانا فيتعاضدان على الوصول للمطلوب وقد ينفرد النقل بدور لايشاركه العقل فيه، ولكن ما للعقل ان يبحثه ويدركه لا يناقض السمع في تحديده له بل العكس حيث يستحيل ان يتعارضا.

لذلك نجدهم يبنون موقفهم على ان الادوار والاختصاصات موزعة بين العقل

ص: 420


1- راجع في ذلك مؤلفات الأشعرية حيث لامجال للتفصيل في بيانه لان فيه خروج عن هدف البحث الرئيسي وتوسع لامجال له -من تلك المؤلفات اللمع للاشعري والانصاف والتمهيد للباقلاني والارشاد والشامل للجويني وميزان العمل والاقتصاد وقواعد العقائد للغزالي والاربعين والمحصل للرازي والمواقف للايجي وشروحه.

والسمع فهناك مايستقل به العقل ولايحتاج السمع وهناك مالا طريق له الا السمع

وان بقيت كلية ان العقل اصل لاثبات الشرع قائمة لامساس بها وهذا ما يؤسس له الإمام الأشعري في وضع حدود فاصلة بين الاختصاصين اذ يقول ان حكم مسائل الشرع التي طريقها السمع ان تكون مردودة الى اصول الشرع التي طريقها السمع وحكم مسائل العقليات والمحسوسات ان يرد كل شيء من ذلك الى بابه ولا تخلط العقليات بالسمعيات ولا السمعيات بالعقليات..)(1)ونجد التفصيل في الادوار في تصوير البغدادي لمجمل مذهب الأشعرية في حقيقة دور العقل ب_ (ان العقول تدل على صحة الصحيح، واستحالة المحال وعلى حدوث العالم وتناهيه وجواز الفناء جملة وتفصيلا وعلى اثبات الصانع وتوحيده وعدله وعلى جواز بعثة الرسل وعلى جواز تكليف العباد )(2) وبكلامه هذا يستبعد ان يكون للعقل دور في الايجاب بل مجرد الجواز لان تلك مهمة الشرع وهو ما اختلفت فيه الأشعرية مع المعتزلة حيث يرى الأشاعرة في( ذلك انه لايجب على الله شيء فبعثه الرسل وتكليف العباد يندرجان تحت الجواز لا الوجوب وانه لايجب على احد شيء قبل ورود الشرع وان الثواب والعقاب منوطان بالامر والنهي الالهيين)(3)وبالتالي فهم لايرون تلازما بين حكم العقل وحكم الشرع.

لكهم لا ينكرون دور العقل البارز في اثبات الشرع اصلا فمعرفته تعالى ومعرفة صدق نبيه (ص) في ادعائه النبوة والرسالة منوطان بالعقل )(4) لكن هذا الدور الذي

يعطى للعقل في هذه المسائل دور محدد ومقنن فاذا كان للعقل هنا فاعلية فانها محددة بالادراك فقط حيث يرى الأشعري ان العقل يستطيع ان يدرك وجود الله

ص: 421


1- استحسان الخوض في علم الكلام ص 10
2- اصول الدین 210
3- المصدر السابق نفسه، وانظر في علم الكلام 123 .
4- البغدادي: اصول الدين 210 .

ولكن العقل الة للادراك فقط اما الأصل الوحيد لمعرفة الله فهو الوحي)(1)ومن الوحي يتلقي العقل تحديد التحسين والتقبيح اذ لايدل بنفسه على احدهما لأنهما (من موارد الشرع وموجب السمع )(2) وكون معرفة الله تحصل بالعقل لايمس بكونها انما تجب بالسمع ويحدد البغدادي الواجبات على المكلف في هذا الاطار ب- النظر) والاستدلال المؤديين الى معرفة الله تعالى وتوحيده وصفاته وعدله وحكمته ثم النظر والاستدلال المؤديان الى جواز ارسال الرسل وتكليف العباد ماشاء)(3).

وللغزالي تقسيم منهجي لطبيعة الامور التي يحكم بها العقل والسمع وتحديد معياري مهم بحيث تتمثل عنده انضج محاولات التحديد لابعاد هذه المسألة وجعلها في اطار منهجي بحيث يغني عن البحث عن التطبيقات التي تمثل مصاديق للتحديد حيث يقسم الامور التي لاتعلم بالضرورة الى(4)

1 - ما يعلم بدليل العقل دون الشرع وهو حدوث العالم ووجود المحدث وقدرته وعلمه وارادته واساس تفرد العقل هنا ان كل هذا مالم يثبت لم يثبت بالشرع وهذا راجع الى اصالة العقل في اثبات الشرع ابتداء اذ (الشرع يبنى على الكلام فان لم يثبت كلام النفس لم يثبت الشرع، فكل ما يتقدم في الرتبة على كلام النفس يستحيل اثباته بكلام النفس (السمع).

2 - ما يعلم بالشرع دون العقل وهو تخصيص احد الجائزين بالوقوع وهو موافق للعقول وهذا انما يعرف من الله تعالى بوحي والهام ونحن نعلم من الوحي اليه بسماع كالحشر والنشر والثواب والعقاب وامثالهما وهذه الامور تسمى بالسمعيات

ص: 422


1- ظ دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام 66، ترجمة محمد عبد الهادي ابو ريدة لجنة التاليف والترجمة والنشر مصر ط4 1377ه_ - 1957م.
2- الجويني: الارشاد 258.
3- اصول الدين 210 .
4- الاقتصاد 132.

ولا طريق اليها الا السمع وحده وهذا مايتفق عليه الأشعرية جميعا فهو خاصة للسمع يتفرد بها(1).

3 - مايعلم بالعقل والسمع معا وهو كل مايتأخر رتبة عن اثبات كلام الله تعالى كمسالة الرؤية وانفراد الله تعالى بخلق الحركات والاعراض كلها وما يجري هذا المجرى.

ويضع الغزالي المعايير لتحديد اصول العلاقة والحاكمية بين العقل والسمع حين يبحث ماجاء في الشرع فكل ماورد به السمع فله ثلاث حالات(2):

أ - فاذا كان العقل مجوزا له وجب التصديق به قطعا ان كانت الادلة السمعية قاطعة في متنها وسندها.

ب - واذا كان العقل يقضي باستحالته فيجب فيه تأويل ماورد السمع به.

ج - واذا توقف العقل فيه فلم يقض باستحالة ولاجواز فيجب التصديق به ايضاً لادلة السمع اذ يكفي في وجوب التصديق به انفكاك العقل عن القضاء بكونه محالا.

وخلاصة موقفه في العلاقة بينهما انه يرفض جعل العقل اصلا والنص فرعا تابعا له (اياكم ان تجعلوا المعقول اصلا والمنقول تابعا ورديفا فان ذلك شنيع منفر)(3)

ويجعل كلا منهما اصلا مع ترجيح كون العقل هو الحكم فيما يأتي به النص وذلك في حالة الاختلاف وحدها.

هذا التحديد سيلقي بمعاييره على اراء الأشاعرة الكلامية حيث ان تفصيل الكلام

ص: 423


1- الغزالي: لاقتصاد134 ، وانظر ايضا الشهرستاني: نهاية الاقدام في علم الكلام 468 - 470 حيث يوردان الادلة القرآنية ومن السنة الشريفة على كل من هذه السمعيات وانظر صبحي: في علم الكلام ،257 انظر ايضا. د جلال محمد موسی نشأة الأشعرية: 432
2- الاقتصاد 132، 133
3- الغزالي القسطاس المستقيم 111 ، مطبعة الترقي، مصر، 1318 ه_ - 1900م.

فى هذه الامور الاخروية خاص بالقرآن وان كان العقل يعضده في اثبات اصول بعضها كوجوب المعاد مثلا.

المطلب الثالث: السمات العامة للمنهج الأشعري

في ضوء موقف الأشعرية من العقل ومدى اهليته في فهم النص وتوظيفه في الاستدلال تتبين لنا اهم ملامح هذا المنهج وسماته العامة وفي هذا الاطار نلاحظ ان معيارا مهما يفرض نفسه ليحدد تلك الملامح ذلك المعيار يتمثل في الواقع الفكري الذي ظهرت الأشعرية فيه وطبيعة المؤثرات في تشكيله وهنا نلمس ان هذه الملامح شكلت قواسم مشتركة في المذهب في سلسلة حلقات متكاملة ليمثل كل قطب من اقطابه احدى هذه الحلقات مع جوانب من التفرد والتميز عند كل منهم لكنها

جميعا تنتظم في النهاية في صورة نهائية تمثل هذه الملامح سماتها العامة التي تنتظم في سمتين رئيسيتين.

الأولى - ادخال العقل في البحث في العقيدة

فقد كان الواقع الفكري الذي انطلقت فيه طلائع المذهب الأشعري محكوما بتيارين رئيسيين هما:

أ - الحشوية واهل الحديث الذين يحرمون الخوض في الكلام والنظر ويبعدون العقل فى الدلالة على العقيدة الاسلامية ويكتفون بالتعبد بظواهر النصوص.

ب - المعتزلة الذين اعتمدوا العقل ولجئوا الى تاويل كل نص يرونه مخالفا لارائهم ولايكادون يعتمدون على السنة في الاستدلال على العقيدة فجاء ظهور الإمام الأشعري

ص: 424

ومذهبه بالاعتدال بين المنهجين فلتحقيق التوافق مع الخط الأول اثبت مرجعية الكتاب والسنة كمصدر اساسي للعقيدة ولكنه خالفهم في الوقت نفسه بان فتح الباب امام الدلائل العقلية والكلامية لتعضد ماجاء في هذا المصدر من براهين وانتصر للبحث الكلامي الذي واجه الأبعاد لفترة طويلة في صفوف اهل السنة والحديث وكانت رسالته في استحسان الخوض في علم الكلام بداية الجنوح عن هذا الخط حتى جعل نفسه مرمى لسهام العداء من الحنابلة خصوصا لاسيما انه جاء بمذهب سيكون

البديل المذهب احمد بن حنبل وموقفه في العقائد ليكون مذهبا لاهل السنة.

وهو من جهة اخرى يتوافق مع الاتجاه الاعتزالي في بحثه عن كثير من العقليات والحسيات التي لاصلة لها بمسائل العقيدة وانما تدخل في خانة البحث الفلسفي فتراه يبحث في مقالات الاسلاميين من مسائل مثل الجسم والجوهر والحركة والسكون والجوهر الفرد والطفرة هذا في نفس الوقت الذي ابتعد عنهم واقترب من اهل الحديث حين انكر التحسين والتقبيح العقليين وارتقى منبرا اعلن منه انسلاخه عن القول بالعدل والانقلاب على المعتزلة بالقول بالرؤية وقدم القرآن (1).

ولهذه السمة وجهان يتمثل فيهما هذا الاعتدال في المذهب الأشعري:

1 - عدم عزل العقل أو استبعاده

حيث ستتاكد فاعليته بوضوح في تدعيم المنهج الأشعري وطبعه بطابع المنهجة والقيام على اسس وضوابط رصينة ليشكل خطاً فاصلا وكيانا مستقلا اثبت قدرته الفائقة على مواجهة كل الاتجاهات المخالفة وكان لاقطابه من فطاحل المتكلمين جولاتهم في ميدان البحث الكلامي وسيمر بنا لاحقا تفصيل طرقهم في الاستدلال وميزة الادلة العقلية وحضورها عندهم.

ص: 425


1- لتفاصيل الخطبة انظر: ابن عساکر تبيين كذب المفتري 39 ابن خلكان: وفيات الاعيان 2: 446. السبكي 2: 246

2- عدم اطلاق العقل بلا حدود

حيث ان منهج الأشاعرة يقوم ايضا على عدم تغليب العقل على النص ورفض التسليم التام لاحكامه الا إذا ايدها الشرع لذا حاولوا ان تكون استدلالاتهم العقلية مقترنة بالادلة النقلية وهم انما يرفضون الحاكمية المطلقة للعقل لاسباب تتعلق بأهليته وطبيعة احكامه يمكن اجمالها في:

أ - التغير وعدم الثبات في احكامه(1)وهذا ما يجعلها ظنية لاتنهض بضوابط التشريع واستنباط العقيدة.

ب - ان هناك من مسائل العقيدة مالا طريق للعقل ان يحكم فيها ويقتصر بيانها على الشرع والخبر الوارد عنه كحشر الاجساد وبعث من في القبور والصراط والميزان.. الخ فهي تقع خارج نطاق العقل ومعتمد معرفتها خبر الشرع(2).

الثانية : الموقف الوسط

كان لهذين التيارين السائدين في الساحة الفكرية الاثر الكبير في اشباع اجوائها بالاحساس بالحاجة الى عملية تغيير تستحضر الاعتدال وذلك بعد ان لقي الفكر مالقي من محن وفتن بسبب هذا الاستقطاب( المتمثل بطرفي الافراط والتفريط الحشوية واهل الحديث من جهة والاعتزال من الجهة الاخرى. وكان مسار الفكر عند منحنى خطير من الاستقطاب الى الاعتدال)(3)فكانت هذه الفترة من حدود 300 ه_ وهي فترة انقلاب الأشعري على المعتزلة قد طبعت ب_ (مظاهر التوفيق والحلول الوسطى وقد شكلت اهم ملامح القرن الرابع الهجري وما بعده في غير علم الكلام)(4).

ص: 426


1- انظر في التفصيل: الباقلاني : التمهيد ،105 الجويني: الارشاد : 263
2- ظ: الشهرستاني نهاية الاقدام ،467، الملل والنحل 1: 102، 103
3- صبحي في علم الكلام 2: 37
4- صبحي في علم الكلام 2: 37

وليس أدل على هذا من ظهور ثلاثة مذاهب تتبنى تلك الحلول بالاعتدال بين النقيضين المعتزلة واهل الحديث (الحنابلة) أي بين العقل والافراط في حاكميته عند المعتزلة والنقل والتعبد بظاهر النص واستبعاد العقل تماما عند اهل الحديث (الحنابلة) هذه المذاهب هى(1)الطحاوية في مصر نسبة الى ابي جعفر الطحاوي (ت: 321ه_) والماتريدية في ماوراء النهر نسبة الى ابي منصور الماتريدي (ت: 323ه_) والأشعرية وهي مذهب ابي الحسن الأشعري (ت: 324ه_) في العراق.

فظهور هذا الاتجاه اذن يمثل ضرورة فكرية املتها حاجات فكرية وعقيدية وكان لها اثر كبير في خلق جو يتسم - نوعا ما - بالاستقرار والهدوء.

وكون الأشعري قد اختط لنفسه هذا المنهج الوسط امر يكاد يتفق عليه اغلب الباحثين في سيرته أو في تاريخ مذهبه حتى كأنه قد جمع بين المذهبين في كل مورد من موارد العقيدة يقول ابن عساكر عنه (نضّر الله وجهه وقدس روحه.. فانه نظر في كتب المعتزلة والجهمية والرافضة فسلك طريقة بينها

- :قال جهم بن صفوان العبد لايقدر على احداث شيء ولا على كسب شي، وقالت المعتزلة هو قادر على الاحداث والكسب معا فسلك طريقة بينهما فقال : العبد لايقدر على الأحداث ويقدر على الكسب وكذلك قالت الحشوية المشبهة : ان الله سبحانه وتعالى يرى مكيفا محددا كسائر المرئيات وقالت

المعتزلة والجهمية والنجارية : انه سبحانه لايرى بحال من الاحوال، فسلك رحمه الله طريقة بينهما فقال يرى من غير حلول ولا حدود ولا تكييف كما يرانا هو سبحانه وتعالى وهو غير محدود ولا مكيف وكذلك قالت النجارية ان الباري سبحانه بكل مكان من غير حلول ولاجهة وقالت الحشوية والمجسمة انه سبحانه حال في العرش وان العرش مكان له وهو جالس عليه فسلك طريقة

ص: 427


1- ظ احمد محمود صبحي في علم الكلام 2: 37

بينهما فقال: كان ولا مكان فخلق العرش والكرسي ولم يحتج الى مكان وهو بعد خلق المكان كما كان قبل خلقه وقالت المعتزلة يده يد قدرة ونعمة ووجهه وجه وجود وقالت الحشوية يده يد جارحة ووجهه وجه صورة فسلك طريقة بينهما فقال: يده يد صفة ووجهه وجه صفة كالسمع والبصر ..) (1) وهكذا في باقي الموارد المختلفة في العقيدة حيث نراه ياتي بالموقف الوسط بين الاتجاهين المتضادين ويقول ابن خلدون في وصف مذهبه يعد عرض الطرق الاخرى وقام) الشيخ ابو الحسن الأشعري امام المتكلمين فتوسط بين الطرق..)(2) كما يقول محقق كتاب التبيين محمد زاهد الكوثري في وصف منهج الأشعرية عموما (والأشعرية هم العدل الوسط بين المعتزلة والحشوية لا ابتعدوا عن النقل كما فعل المعتزلة ولا عن العقل كعادة الحشوية، ورثوا خير من تقدمهم وهجروا باطل كل فرقة، حافظوا على ماكان عليه النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ، واصحابه وملأوا العالم علما ..)(3).

ويؤكد ابن عساكر اهلية واصالة هذه الطريق الوسطى التي انتهجها الأشعري والأشاعرة من بعده واستنادها الى الأصول الشرعية الكتاب والسنة اذ يقول (وهذه الطرق التي سلكها لم يسلكها شهوة وارادة ولم يحدثها بدعة واستحسانا ولكنه اثبتها ببراهين عقلية مخبورة وادلة شرعية مسبورة واعلام هادية الى الحق وحجج داعية الى الصواب والصدق هي الطرق الى الله سبحانه وتعالى .. )(4).

فالأشعري ومعه اقطاب المذهب ادركوا ان للعصر حاجاته وللفكر ضروراته وان البقاء على ما انتهجه الحشوية واهل الحديث يعني الوقوع في تقاطعات فكرية عديدة وكبيرة مع اصول العقيدة بل ومخالفة النص نفسه لان عقائدهم تمت بالصلة

ص: 428


1- تبيين كذب المفتري 152-149 (بتصرف ).
2- المقدمة 464 .
3- انظر: تبيين كذب المفتري مقدمة المحقق 19.
4- المصدر نفسه 152 .

- مع التفاوت - الى التشبيه والتجسيم وقد كان موقف الأشاعرة ينطلق من كلية مهمة تتمثل بالتنزيه وهي في اقل حالاتها اكتفت بالبلكفة أي بالقول في الصفات الخبرية كما جاءت في ظاهر النص القرآني ولكن بلا كيف(1)

المبحث الثالث: طرائق الاستدلال على العقيدة

اشارة

توطئة:

يتبع الأشاعرة في استدلالاتهم على العقيدة واثبات ارائهم مجموعة طرق تتحدد بحسب نوع الدليل المستخدم وهذا ما يستدعي بيان بعض المصطلحات قبل الخوض في انواع الادلة فالاستدلال عندهم - كما يعرفه الباقلاني هو نظر القلب المطلوب به علم ماغاب عن الضرورة والحسن)(2).

وبهذا يكون الدليل عنده ما امكن ان يتوصل بصحيح النظر فيه الى معرفة مالایعلم باضطراره (3).

وهذا التحديد نجد مايؤيده عند ابي المعالي الجويني الذي يحدد الادلة بانها (هي التي يتوصل بصحيح النظر فيها الى مالايعلم في مستقر العادة اضطرارا)(4).

ولتحقيق هذا العلم تنقسم الادلة الى اضرب حددها الباقلاني بثلاثة واقتصر

ص: 429


1- ظ الأشعري: الابانة 9.
2- الانصاف فيما يجب اعتقاده ولايجوز الجهل به 15 تحقیق محمد زاهد الكوثري، نشر الخانجي، ط13822 ه_ - 1963م. وانظر ايضا .د. محمد :رمضان الباقلاني واراؤه الكلامية 282 .
3- المصدرين انفسهما.
4- الارشاد 8.

الجويني على اثنين، فالباقلاني يرى ان الادلة تنقسم على(1) :

1 - الدليل العقلي: وهو (ماله تعلق بمدلوله نحو دلالة الفعل على فاعله، ومايجب كونه عليه من صفاته نحو حياته وعلمه وقدرته وارادته).

وهذا القسم يقول به الجويني ايضا ويقترب فيه من تحديد الباقلاني اذ الدليل العقلي عنده هو( مادل بصفة لازمه هو نفسه عليها، ولايتقرر في العقل تقدير وجوده غير دال على ،مدلوله كالحادث الدال بجواز وجوده على مقتض يخصصه بالوجود الجائز وكذلك الاتقان والتخصيص الدالان على علم المتقن وارادة المخصص) (2).

فاهم سمات الدليل العقلي اذن هذا التعلق بين الدال والمدلول ولزوم احدهما للاخر.

2- الدليل السمعي (الشرعي): وهو عند الباقلاني( الدال من طريق النطق بعد المواضعة ومن جهة معنى مستخرج من اللفظ )وهذا التعريف بطابعه المنطقي نجده اکثر قربا من خصوصية السمع في تحديد الجويني الذي يجعل الدليل السمعي هو النوع الثاني ولايقول بنوع ثالث فهو يعرف الدليل السمعي بانه (الذي يستند الى خبر صدق أو امر يجب اتباعه)(3) .

3- الدليل اللغوي: وهو الدال من جهة المواطأة والمواضعة على معاني الكلام، ودلالات الاسماء والصفات وسائر الالفاظ وهذا الدليل لم يجعله الجويني ضمن الادلة بل اكتفى بالنوعين السابقين.

ص: 430


1- الانصاف 15، وانظر ايضا محمد رمضان: الباقلاني 282
2- الارشاد 8
3- المصدر نفسه.
المطلب الأول : الدليل العقلي

ان تحديد دور العقل في اطار خاص ضيق وتحميل السمع المسؤولية الكبرى في تحصيل العقيدة وتأسيس المنظور الخاص للمذهب لايعني غياب الدليل العقلي عن منهج الأشعرية في الاستدلال على العقيدة، بل العكس حيث نلاحظ ان هذا الدليل يُفَعَّل بشكل بارز في منهجهم، واكثر مايكون ذلك وضوحا عند الأشعري في كتابه اللمع الذي نجد فيه العقل وادلته اكثر حضورا منه في الابانة الذي اعتمد السمع بشكل اوسع كما نجده عند الباقلاني (ت: 403 ه_) الذي يمثل وجوده على الساحة الأشعرية بداية التنهيج كما يقول محققا كتابه (التمهيد).

(اما القيمة الكبرى لعمل الباقلاني فقد كانت في التنهيج وفي بناء مذهب الأشاعرة الكلامي والاعتقادي بناءا منظما لا من حيث الطريقة المنطقية الجدلية فحسب بل من حيث وضع المقدمات التي تبنى عليها الادلة ومن حيث ترتيب هذه المقدمات بعضها مع بعض على نحو يدل على امتلاك ناحية فن الجدل وعلى اطول اعتبار في اصول الاستدلال)(1)

ونجده عند الجويني (ت 478ه_) الذي افاد من فلسفة اليونان التي اكسبته كما اكسبت غيره من الأشاعرة منذ القرن الرابع الهجري مقدرة على الجدل وقوة في الاستدلال... وكذلك انعكست الثقافة الفلسفية على نسقه الكلامي وصياغته للموضوعات..)(2) .

وكان حضوره جليا اقتضته ضرورات المواجهة مع ممثلي جبهة العقل - متمثلة

ص: 431


1- ظ مقدمة المحققين محمود محمد الخضيري ود. محمد عبد الهادي ابو ريدة على التمهيد في الرد على الملحدة والرافضة.
2- احمد محمود صبحي: في علم الكلام 149

بالفلاسفة - عند الغزالي (ت 505ه_) الذي وجه لهم ضربة كبيرة وقال بكفرهم في ثلاثة مسائل وبدعهم في عدة مسائل اخرى. هذه المواجهة اقتضت دراية وحنكه ومعرفة باصول الفلسفة، وقوانين المنطق ومسالك الجدل، ومناهج الاثبات حتى لقد عد الغزالي في خانة الفلاسفة ودرست اراؤه على انه من ممثلي الفلسفة الاسلامية وهذا الحضور لادلة العقل عنده لم يقتصر على مواجهته تلك وانما تمثل بوضوح ايضا في بحوثه الكلامية وتشكيل منظومته العقائدية والدفاع عنها حتى لقد توارى الى جانبه سابقوه من اقطاب الكلام ومتكلمي مذهب الأشعرية وكان يمثل بالنسبة لعلم الكلام الأشعري ارسطو بالنسبة للفلسفة حيث اصبح من بعده تابعين له دائرين في فلکه کشراح ارسطو على مدى القرون كما يرى بعض الباحثين (1).

ومع الفخر الرازي اكتملت صورة الانسياق الكلامي الى البحوث الفلسفية ومعالجة اصول العقيدة بادواتها وسلوك طريق الفلاسفة في الاستدلال حتى اذا عد منهج التفسير الفلسفي أو الكلامي انصرف الذهن الى الفخر الرازي وتفسيره الكبير - مفاتيح الغيب - كاجلى مصاديق هذا المنهج وكان (اول من استحدث التفسير الكوني للايات مستعينا بالفلسفة والمنطق والعلم.. حتى انه وجد لديه المضمون الأشعري في القالب الفلسفي فصار اشعري المذهب فلسفي المنهج)(2)

ويكمل منهج الرازي هذا منهج خلفه عضد الدين الايجي (ت 756ه_) الذي يشكل كتابه المواقف نسقا كلاميا متكاملا كان للعقل حضوره الجلي في كل مباحثه وعد الكتاب الذروة التي انتهت اليها الصياغة الأشعرية لعلم الكلام(3). وبتصفح مباحثه لاستبيان الموضوعات التي تطرق اليها في المواقف الستة نجد البحث العقلي

ص: 432


1- ظ: احمد محمود صبحي: في علم الكلام 2: 167 (بتصرف ).
2- ظ: المصدر نفسه 2: 281 .
3- المصدر نفسه 2: 358 .

والمنهج العقلي في الاستدلال طابعا عاما في جميعها واكثر مايكون ذلك تركيزا في المقدمات الخمس الأولى منه (1).

ولا يختلف باقي متكلمي الأشعرية في استخدام المنهج العقلي وادواته في منظوماتهم الكلامية وانما تناولنا من ذكرناه على سبيل التمثيل.

ولتبين هذا الحضور الواضح واستقراء طرق الاستدلال عند متكلمي الأشعرية نستقرء انواع الادلة العقلية التي استخدموها في تشكيل تلك المنظومات وتطالعنا هنا مجموعة ادلة عقلية تكاد تشمل استدلالات متكلمي الأشعرية كما ان اغلبهم متفقون على استفادتها وتفعيلها في اثبات مدعاهم ورد اراء الخصوم وان كان لبعضهم اراء في استبعاد بعضها أو في طبيعة توجيهه لعملية الاستدلال بها بما يختلف عن الآخرين وهذه الادلة تتمثل في:

أ - القياس :

وهذا الدليل مما يعتمده علماء الأصول عند بعض المذاهب الفقهية الاسلامية حيث يستخدم في استنباط الاحكام الشرعية العملية وهذا القياس مفيد للظن.

وقد فعله المتكلمون واطلقوا عليه قياس الغائب على الشاهد حيث يتم فيه الاستدلال على الأصول - واهمها المتعلقة بالله تعالى - قياسا على وجود نظائر لها في الممكنات ويقصدون بالغائب الله تعالى كونه غائب عن الحس والشاهد هي الممكنات (2)وقد سبق المعتزلة الى استخدام هذا الدليل(3) وتفعيله في العديد من المسائل الكلامية. وكان الإمام ابي حنيفة (ت: 150ه_) وهو متبني القياس في

ص: 433


1- يشتمل الكتاب على ستة مواقف الأول في المقدمات والثاني في المسائل العامة والثالث في الاعراض والرابع في الجوهر والخامس في الالهيات والسادس في السمعيات . انظر الجرجاني شرح المواقف المطبوع بثمانية اجزاء في اربعة مجلدات وهو افضل ،شروحه، مطبعة السعادة مصر 1325 ه_ 1907م.
2- ظ: الجرجاني : شرح المواقف 1: 195 ،196
3- ظ المصدر والصفحة انفسهما.

الفروع قد استخدمه في الأصول اذ استدل على قوله بقدم الصفات الالهية بقياس المساواة حيث ان دليله على ذلك ان تلك الصفات جميعا وردت على وتيرة واحدة في النصوص (1)

وعلى الدليل اعتراضات ونقود كثيرة في الفروع فضلا عن الأصول لامجال هنا للخوض فيها والمهم ان الأشعرية لم يميلوا جميعا لاستخدامه فقد رفضه الغزالي (2)الذي يقول اما ميزان الراي والقياس فحاش لله ان اعتصم به فانه میزان الشيطان(3) وكان اشهر من استعمله من الأشعرية ابي الحسن الأشعري والقاضي الباقلاني الذي وصفه بالقياس والحكم بالنظائر والامثال (4)وهو يرى ان العلة المشتركة بين امرين تنهض اساسا للمقايسة بينهما حيث يقول ( من الادلة ان يجب الحكم والوصف للشيء في الشاهد لعلة ما فيجب القضاء على ان من وصف بتلك الصفة في الغائب فحكمه في انه مستحق لها تلك العلة حكم مستحقها في الشاهد لأنه يستحيل قيام دليل على مستحق الوصف بتلك الصفة مع عدم ما يوجبها)(5)

ب - السبر والتقسيم :

وهو منهج يقوم على الاختبار وهو المعنى اللغوي للسبر وتجزئه القضية المستدل عليها وهو معنى التقسيم ومعناه حصر الاوصاف في الأصل والغاء بعضها ليتعين الباقي للعلية (6).

وقد اشار الباقلاني من متقدمي الأشعرية الى هذا الدليل بقوله في تحديد وبيان

ص: 434


1- مقدمة الشامل في اصول الدين للجويني.
2- ظ الاقتصاد: 17.
3- القسطاس المستقيم ص 16.
4- ظ الانصاف : 20
5- التمهيد :38
6- ظ الجرجاني: التعريفات 116

آلية الاستدلال به (من الادلة ان ينقسم الشيء في العقل على قسمين، أو اقسام يستحيل ان تجتمع كلها في الصحة والفساد، فيُبطل الدليل احد ،القسمين فيقضي العقل على صحة ضده، وكذلك ان افسد الدليل سائر الاقسام صحح العقل الباقي منها لامحالة، نظير ذلك علمنا باستحالة خروج الشيء عن القدم والحدوث فمتى قام الدليل على حدوثه بطل قدمه، ولو قام على قدمه لافسد حدوثه..)(1)ويصف الغزالي وهو من متأخري الأشعرية هذا المنهج بتفصيل وتوسع وان طابق رأي الباقلاني في المعيار الرئيسي في تحديده اذ يحدد السبر والتقسيم ب_ (ان نحصر الامر في قسمين ثم يبطل احدهما فيلزم منه ثبوت الثاني)(2) وتوسع الغزالي يتمثل في المصداق الذي يتمثل فيه استخدام هذا المنهج تطبيقيا وهو نفس المثال الذي استفاده الباقلاني حيث يبني الغزالي الاستدلال على قضية حدوث العالم بالشكل الآتي: قولنا العالم اما حادث واما قديم.

ومحال ان يكون قديما فيلزم منه لا محالة ان يكون حادثا انه حادث وهذا اللازم هو مطلوبنا(3)

وهو علم مقصود استفدنا ه من علمين اخرين :

احدهما قولنا: العالم اما قديم أو حادث فان الحكم بهذا الانحصار علم.

والثاني: قولنا ومحال ان يكون قديما وهذا علم آخر.

والثالث هو اللازم منهما وهو المطلوب بانه حادث.. ومهما أقر الخصم باصلين يلزمه لامحالة الاقرار بالفرع المستفاد منهما وهو صحة الدعوى (4)

ص: 435


1- التمهيد 38.
2- الاقتصاد: 12
3- المصدر نفسه 12، 13.
4- المصدر نفسه 13.

والغزالي يرد هذا المنهج في الاستدلال الى القياس اذ ينقل عن المناطقة انهم يسمونه الشرطي (المنفصل ويبدو ان الغزالي متاثر هنا بالاتجاه الذي ساد في عصره في رد مناهج الاصوليين وطرقهم في البحث الى المنطق اليوناني (1).

ومن الالتفاتات اللطيفة مايستفيده السيوطي من ان لهذا المنهج اسس قرآنية حيث استخدمه القرآن الكريم في قوله تعالى: ثَمَنِيَةَ أَزْوَاجٌ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ الذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْن (الانعام/143) ويرى ان وجه الاستدلال (ان الكفار لما حرموا ذكور

الانعام تارة واناثها اخرى رد تعالى ذلك عليهم بطريق السبر والتقسيم فقال: ان الخلق لله تعالى خلق من كل زوج مما ذكر ذكراً وانثى فمم جاء تحريم ماذكرتم ؟ أي ما علته... لايخلو اما ان يكون بان اخذ ذلك عن الله تعالى والاخذ عن الله تعالى اما بوحي وارسال رسول أو سماع كلامه ومشاهدة تلقي ذلك عنه، فهذه وجوه التحريم لا تخرج عن واحد منها والأول يلزم عليه ان يكون جميع الذكور حراما، والثاني يلزم عليه ان تكون جميع الاناث حراما، والثالث يلزم عليه ان يكون تحريم الصنفين معا فبطل مافعلوه من تحريم بعض في حالة وبعض في حالة لان العلة على ماذكر تقتضي اطلاق التحريم، والاخذ عن الله بلا واسطة باطل ولم يدّعوه، وبواسطة رسول كذلك لأنه لم يأت اليهم رسول قبل النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) واذا بطل جميع ذلك ثبت المدعى وهو ان ماقالوه افتراء على الله وضلال) (2) . ج - بطلان المدلول ببطلان الدليل :

وهذا الدليل يقوم على اساس اثبات استحالة دليل الخصم ونقضه وليس على اثبات

ص: 436


1- ظ : د. محمد رمضان الباقلاني واراؤه الكلامية 299.
2- الاتقان في علوم القرآن 2: 136

المدعى ويصف الباقلاني وهو اول من وضع هذا الدليل - فيما يرى ابن خلدون (1) ويعارضه بعض الباحثين (2) - ويقيمه على اساس تزييف ادلة الخصم لاثبات بطلان مدعاه ويصور الغزالي طبيعة الاستدلال هنا بانها تكون بان لايتعرض المستدل لثبوت دعواه وانما يدعي (استحالة دعوى الخصم بان تبين انه مفض الى المحال، وما يفضي الى المحال فهو محال لامحالة)(3) ويمثل له ب قولنا ان صح قول الخصم ان دورات الفلك لأنهاية لها لزم منه صحة قول القائل ان مالانهاية له قد انقضى أو فرغ منه، ومعلوم ان هذا اللازم محال فيعلم منه لامحالة ان المفضي اليه محال وهو مذهب الخصم)(4) والغزالي لا يضع لهذا المنهج اسما ويكتفي ببيان ماذكر اختصارا.

وهذا الدليل مما اختلف فيه المتقدمون عن المتاخرين فيما ينقل ابن خلدون(5) واشهر من رفض هذا الدليل ولم يأخذ بدلالته الفخر الرازي(6) فقد وجهت اليه نقود واعتراضات عديدة كان من اهمها ما اعترض به الايجي في المواقف وهو ان بطلان دليل الخصم وتزييفه لايعني بطلان المدعى(المدلول) حيث يمكن ان يكون هناك دليل اخر لم يطلع الخصم عليه ( فحتى لو سلم ان هذا الشيء الذي يدعيه الخصم لادليل عليه في نفس الامر فلا يدل ذلك على عدمه، بدليل ان الباري عزوجل لو لم يخلق العالم الذي يدل على وجوده لم يدل على عدمه قطعا ) (7)

د الاستدلال بالشبيه أو المثيل :

ص: 437


1- المقدمة 465.
2- د. محمد رمضان الباقلاني واراؤه الكلامية 300 .
3- الاقتصاد 13.
4- الاقتصاد 13 .
5- ظ المقدمة / 466، 465.
6- ظ: د احمد محمود صبحي في علم الكلام 2: 280
7- ظ المواقف 1: 193

وهذا الدليل مما يكثر استخدامه عند المتكلمين عموما لاسيما الأشعرية وهو يناظر قياس الشبه عند الاصوليين والفقهاء ويقوم هذا الدليل كما يرى الباقلاني على اساس ان يستدل بصحة الشيء على صحة مثله وماهو في معناه، وباستحالته على استحالة مثله وماكان بمعناه)(1) ويمثل لذلك باستدلالنا على اثبات قدرة القديم سبحانه على خلق جوهر ولون مثل الذي خلقه واحياء ميت مثل الذي احياه وخلق الحياة فيه مرة اخرى بعد ان اماته..)(2).

ويبني الغزالي طريقة الاستدلال بما يقرب من راي الباقلاني - دون ان يسمى الدليل - بشكل يعتمد فيه على التمثيل والقياس بتحديد مقدمة للاستدلال وطريقة ذلك ان نرتب اصلين على وجه اخر مثل قولنا : كل ما لايخلو عن الحوادث فهو حادث وهو اصل آخر فيلزم منهما صحة دعوانا وهو ان العالم حادث وهو المطلوب)(3).

ص: 438


1- ظ التمهيد 38 .
2- المصدر نفسه وانظر ايضا .د. محمد رمضان الباقلاني ص 302 .
3- الاقتصاد 13
المطلب الثاني: الدليل السمعي

للدليل السمعي في الجهد الكلامي الأشعري حضور طاغ واهميته لاتعدوها اهمية أي دليل آخر. وهذا الحضور الكبير لم يتخذ مستوىً واحداً عند جميع اقطاب الأشعرية كما انه لم يكن متساويا في كل المرات التي استخدمه فيها ايا منهم(1) مع اختلاف الموضوع المبحوث والغرض من الاستدلال بهذا الدليل حيث نلاحظ في هذا الاطار ان هناك مجموعة مؤثرات على مستوى الاستدلال بالدليل السمعي يمكن اجمالها في:

1 - طبيعة الظرف الذي استدعى تصدي المتكلم الأشعري للاستدلال حيث ان منهج المتكلم لاثبات مايريد يختلف عن منهجه حين يريد الدفاع عنه كما يختلف حين تكون الحاجة الى مجرد بيانه

2 - طبيعة الموضوع الذي استوجب الاستدلال عليه ومدى الحاجة الى الادلة الاخرى المساندة، فمع ان الدليل السمعي لايغيب تقريبا عن اغلب استدلالات الأشاعرة الا ان حضوره يقل كلما تصاعد دور العقل واستجدت بحوث ذات طبيعة اقرب للفلسفة والمنطق (2)

3 - تصاعد الاتجاه نحو العقلنة عند اقطاب الأشعرية ففي الوقت الذي نجد الأشعري في الابانة نصياً يتملكه الدليل حتى ياخذ بظاهره دون أي تصرف ويتحكم به النص تماما نجده في اللمع اكثر تحررا كما ان من جاء بعده كانوا يتجهون بوضوح

ص: 439


1- يلاحظ في هذا الاطار ان الاستشهاد بالادلة القرآنية يقل كلما تصاعد الاتجاه نحو البحوث العقلية والخوض في الجوانب والمصطلحات الفلسفية وهي الروح السائدة عند متأخري الأشعرية كالجويني والرازي والايجي ويبدو انهم ارادوا ان ينأوا بالنص عن المنازعات القدسيته ظ في علم الكلام 2: 280 .
2- الملاحظة السابقة نفسها.

الى تفعيل الدليل العقلي وزيادة الاعتماد عليه في تعضيد الدليل السمعي حتى كانت مسحة الباقلاني هي التنهيج ووضع الأسس وميل الجويني الى توسيع الاستدلال العقلي وبدا الخوض في البحوث التي تقع ضمن دائرة الفلسفة والمنطق وهو ما طبع اداء الرازي والايجي (1).

4 - مؤثرات الساحة الفكرية والضرورات الملجئة للتصدي للاستدلال فكان التصدي للاتجاهات الداخلية بمعنى المنتسبة الى المحيط الاسلامي كالمشبهة والحشوية والجهمية والمعتزلة والشيعة.. الخ يستدعي امتلاك الدليل السمعي لزمام الاستدلال ولكن عندما تكون المواجهة مع المخالفين في الملة والعقيدة من اهل الكتاب أو الثنوية أو الملحدة.. الخ فان ذلك يستلزم فاعلية دور العقل وادلته لأنها نفس اسلحة الخصم ولابد من مجاراته فيها فضلا عن انه لايعترف بحجية السمع في اطاره الاسلامي .

5 - طبيعة الدليل السمعي القرآني بالذات في خصائصه التعبيرية والبيانية واحتوائه المجمل والمتشابه والمبهم.. الخ مما يقع الاستدلال به على ظاهره دون تصرف ضمن السكوت أو التفويض.. وهذا مالم يكن فاعلا عند العديد من متكلمي الأشعرية حيث كان اللجوء للتأويل ضرورة اساسية لابعاد التعارض بين العقل والشرع، وكشف الدلالات الحقيقية للنص، بما يتواءم مع اصل التنزيه للباري تعالى. وقد تفاوت اقطاب الأشعرية بين هذه المواقف المختلفة واثرها في طبع منهج أي منهم.

وعموما فقد مثل الدليل السمعي عندهم السلاح الاكبر وما من جزئية من العقيدة الا واستفادوا لها دليلا من النص القرآني أو السنة النبوية وجعلوه اصلا واساسا لاثباتها لاسيما إذا اخذنا بنظر الاعتبار موقفهم من التحسين والتقبيح وقولهم انهما شرعيان وبالتالي اثبات ثمرات ذلك في مسائل العقيدة بالدليل السمعي مثل وجوب النظر وبعثة الانبياء.. الخ.

ص: 440


1- الملاحظة السابقة نفسها.

وهنا لابد من الالتفات الى معرفة هذا الدليل وانواعه المندرجة تحته تاركين استقراء اثره ومواضع تفعيله والاستفادة منه في الاستدلال الى المبحث الخاص بالتطبيقات حيث يكون المحور هناك هو النص القرآني وكيفية استخدامه في الاستدلال على العقيدة.

والأشاعرة لم يلتفتوا جميعا الى مسألة التقسيم والتعريف بابعاد استفادتهم من هذا الدليل والتصدي لايراد التفاصيل المتعلقة به اذ ان التطبيق الفعلي اثناء إدلائهم بموقفهم في المسائل الكلامية المختلفة اغناهم عن الخوض في تفصيل ذلك لكن شذرات واشارات ترد هنا وهناك عند بعضهم يمكن ان تساعد في تشكيل تصور اجمالي عن ذلك.

واكثر مايكون هذا واضحا عند القاضي الباقلاني الذي يضع تحديدا لاقسام الدليل السمعي يمثل رايه وراي جمهور الأشعرية عموما (1) حيث يتمثل الدليل السمعي هنا بما ياتي(2).

1- كتاب الله عز وجل.

2 - سنة رسول (صلی الله علیه وآله وسلم).

3 - اجماع الامة.

4 - ما استخرج من هذه النصوص وبنى عليها بطريق القياس والاجتهاد.

هذه الاقسام اضافة الى حجج العقول هي الطريق التي يدرك بها الحق والباطل، ولكي يكون توظيفها في الاستدلال مقبولا يورد الباقلاني ما يثبت حجيتها المرجعية المركزية الحاكمة على كل ماسواها من ادلة وهي النص القرآني فدليل حجية الكتاب نفسه انه تعالى قال (( آمرا باتباع كتابه والرجوع الى بيانه)):

ص: 441


1- ظ: د. محمد رمضان الباقلاني واراؤه الكلامية 286
2- ظ: الباقلاني : الانصاف فيما يجب اعتقاده 19،20

﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالُهَا ﴾ (سورة محمد/24) وقال عز وجل ﴿ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ (النساء/82) وقال تعالى: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْمَانَ يَهْدِى لِلَّتِي هِىَ أَقومُ ﴾ (الاسراء /9) .

وقال سبحانه﴿ تِبْيَنَا لِكُلِّ شَيْءٍ ﴾(النحل /89) و﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾(الانعام/38) ودليل حجية سنة الرسول(ص) انه (قال عز وجل في الامر باتباع رسوله (صلی الله علیه وآله وسلم): ﴿وَمَا ءَاتئكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَانَهَنكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ (الحشر/7).

وقال: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أليم﴾(النور/63). ويستدل على حجية الاجماع بانه سبحانه (وصف عدالة امة نبيه(صلی الله علیه وآله وسلم) والامر باتباعها والتحذير من مخالفتها ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ﴾ (سورة البقرة /143). وقال : ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (آل عمران /110).

وقال:﴿ وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا نَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ (النساء/115).

واستدل على حجية القياس والاجتهاد انه تعالى (قال في الامر بالقياس والحكم بالنظائر والامثال﴿ فَاعْتَبِرُوا يَتأُولِي الْأَبْصَرِ ﴾ (الحشر /2 ) .

وقال ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ منهم ﴾ (النساء/83).

وقال النبي (صلی الله علیه وآله وسلم)القاضيه معاذ بن جبل رض حين انفذه الى اليمن لاقامة الحدود واستيفاء الحقوق (بم تحكم) ؟ قال بكتاب الله عز وجل. قال فان لم تجد ؟ قال

ص: 442

بسنة رسول الله(صلی الله علیه وآله وسلم) قال : فان لم تجد قال اجتهد رايي واحكم . فقال(صلی الله علیه وآله وسلم) الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي الله ورسوله)(1) .

واذا كان الباقلاني قد بين مرجعية هذه الادلة وحاكميتها وطريقتها في الوصول الى الحق وبيان اصول العقيدة فلا يعني ذلك عدم اشارة الاخرين اليها وانما ميزة الباقلاني انه شملها جميعا بالذكر وتناولها على سبيل البيان كاسس منهجية فضلا عن حضورها في تطبيقاته على فهم النصوص القرآنية اما الاخرون فانها اما ان ترد الاشارة الى بعضها على سبيل البيان والتصريح - وليست كلها(2) - واما انها تفعّل بشكل واضح اثناء التطبيقات فالأشعري مثلا وهو في مجال التقديم لكتابه الابانة يوحي بمرجعية الكتاب والسنة وكونهما الدليلين المركزيين في عقيدته اذ يقول .(.. وظهرت لنا به البينات جاءنا بكتاب عزيز لاياتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد جمع فيه علم الأولين واكمل به الفرائض والدين. فهو صراط الله المستقيم وحبله المتين من تمسك به نجا ومن خالفه ضل وغوى وفي الجهل تردى )(3)وكلامه واضح في اثبات دليليته ومرجعيته وان الحق في اتباعه والرجوع اليه ثم يسند ذلك باثبات مرجعية السنة المشرفة استنادا الى الكتاب العزيز فيقول ( وحث الله في كتابه على التمسك بسنة رسوله (ع) فقال عز وجل ﴿ وَمَا ءَانَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَانَهَنكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾ (الحشر /7) وقال عز وجل ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ:﴿ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمُ ﴾ (النور / 63) وقال ﴿وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾ (النساء/83)

ص: 443


1- ظ سنن ابي داود 4 :18 ابن قيم الجوزية اعلام الموقعين 1: 243 .
2- الا ان البغدادي في اصول الدين يصرح بان العلوم الشرعية بالذات تؤخذ من اربعة اصول هي: الكتاب والسنة والاجماع والقياس وهي اشارة ليست صريحة لهذه الاصول على انها اصول للاستدلال بالذات لذا استثناها البحث من الذكر في المتن ظ اصول الدين ،2 :25، وانظر في علم الكلام 123.
3- الابانة :5

وهكذا نجد اثر هذا الاستدلال المباشر عند من جاء بعده خصوصا الباقلاني الذي استند الى نفس هذه الادلة كما مر بنا واذا كان هذا النص يؤكد الدليلية للقرآن والسنة بصورة غير صريحة فانه في مقالات الاسلاميين وهو يعرض لعقيدة اهل السنة يؤكد هذه الدليلية عندهم كما يشير الى مرجعية اخرى منعكسة عن السنة الشريفة تتمثل في موقف الصحابة (رض) والتابعين ممن نقل عنه (صلی الله علیه وآله وسلم)اذ يقول

(.... ويؤمنون بان الله سبحانه يخرج قوما من الموحدين من النار على ماجاءت به الروايات عن رسول الله (ص) وينكرون الجدل في الدين والخصومة في القدر والمناظرة فيما يتنا ظرفيه اهل الجدل ويتنازعون فيه من دينهم بالتسليم للروايات الصحيحة ولما جاءت به الاثار التي رواها الثقات عدلا عن عدل حتى ينتهي ذلك الى رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم) .. )(1) ويؤكد ذلك في موضع آخر فيقول ( ويعرفون حق السلف الذين اختارهم الله سبحانه لصحبة نبيه (صلی الله علیه وآله وسلم) وياخذون بفضائلهم ويمسكون عما شجر بينهم صغيرهم وكبيرهم)(2)

ثم يقول ( ويصدقون بالاحاديث التي جاءت عن رسول الله (صلی الله علیه وآله وسلم).... ويأخذون بالكتاب والسنة كما قال عز وجل فَإِن تَنَزَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ (النساء/59) ويرون اتباع من سلف من ائمة الدين.. ثم يؤكد انه على هذا الرأي في مرجعية هذه الادلة حيث يتبناها جميعا كما يتبنى مايبنى على اساسها من اراء في العقيدة بقوله : ( وبكل ماذكرنا من قولهم نقول واليه نذهب)(3)وهذا ماسنجد صداه ايضا عند باقي متكلمي الأشعرية فللغزالي اشارة الى كيفية تحصيل الاقرار بالادلة العقلية التي سبق بيان اشارته اليها حيث يجعل لذلك مدارك ستة احدها السمعيات ومثالها ان) ندعي مثلا ان المعاصي بمشيئة الله تعالى ونقول كل كائن

ص: 444


1- مقالات الاسلاميين 1 :322 .
2- المصدر نفسه 1 :323.
3- مقالات الاسلاميين 1: 325.

فهو بمشيئة الله تعالى.. فاما قولنا هي كائنة فمعلوم وجودها بالحس وكونها معصية بالشرع)(1) ثم يشير الى اثبات الأصل الذي يستند اليه الاستدلال على كونها بمشيئة الله وهو (اجماع) الامة على صدق قول القائل ماشاء الله كان ومالم يشأ لم يكن فيكون السمع مانعا من الانكار)(2) ونلاحظ اشارة صريحة اخرى الى الادلة السمعية عند مهدي الموحدين محمد بن تومرت الذي يقسم طرق العلم الى ثلاثة حس وعقل وسمع ثم ينقسم السمع الى ثلاثة اقسام (3):

(الكتاب والسنة والاجماع )ويبدو انه استبعد القياس عنها لأنه يرى انه مفض الى الظن المعارض للعلم اليقيني وكذلك التقليد فهو يرى ان لاسبيل للعلم بوسائل ظنية(4)وهذه اشارة يفهم منها انه يرى يقينية الدليل السمعي وهي قضية تبناها اغلب اقطاب الأشعرية ويبحثونها في نطاق التأهيل لاستدلالاتهم بها وتاكيد نهوضها بمسؤولية الاثبات للمذهب أو الرد للمخالفين ولكن هناك اشارة الى ان الأشاعرة يذهبون الى ان الدلائل النقلية تفيد الظن وليس القطع ينقلها شيخ زادة(5)

مستندا الى شرح المواقف للشريف الجرجاني كما ينقل انهم يستدلون على ذلك بان الدلائل النقلية

( مبنية على اللغة والصرف والنحو وعدم الاشتراك والمجاز والاضمار والنقل والتخصيص والتقديم والتاخير والناسخ والمعارض العقلي وهي ظنية )(6)

والذي تحصّل من متابعة اقطاب الأشعرية مخالف لهذا النقل لشيخ زادة الذي يبدو عليه هواه الماتريدي واضحا عند عرضه للخلافات بين الماتريدية والأشعرية

ص: 445


1- الاقتصاد 17.
2- الاقتصاد 17
3- ظ احمد محمود صبحي: في علم الكلام 2: 226
4- ظ المصدر والصفحة انفسهما .
5- ظ: نظم الفرائد وجمع الفوائد : 42
6- المصدر نفسه 43.

حيث نرى ان متكلمي الأشعرية يؤكدون على اثبات يقينية الدليل السمعي كمنطلق اساس تنبنى عليه عملية الاستدلال غاية الامر انهم لاسيما الايجي صاحب المواقف الذي نقل عنه النص على هذه الظنيات التي ينبني عليها الدليل النقلي يقولون انه لايمكن تقديم الدليل النقلي على العقلي لما في ذلك من ابطال للاصل بالفرع وانما تفيد الادلة النقلية اليقين بقرائن مشاهدة أو متواترة (1) وهذه الظنية الموقتة المقيدة بهذا الحد للادلة السمعية يؤيدها المتأخرون(2)- وهم من نقل عنهم شيخ زادة كالرازي والبيضاوي اضافة للايجي - اما المتقدمون فانهم يقولون بيقينية تلك الادلة ويبنون استدلالاتهم عليها كالباقلاني(3) وامام الحرمين الجويني الذي رفض قصر اليقينية على النظر الدليل العقلي ولزوم كل علم يقيني عنه

( ليجعل للسمعيات من اليقين ماليس للعقليات فللادلة السمعية دلالتها على العلم اليقيني)(4)

وهذه القضية يستفيد منها احمد محمود صبحى قضية مهمة يراها سمة من سمات مذهب الأشعرية حيث يلاحظ (ان الأشعرية تهدف الى ان تثبت فى القلوب اعتقادا لا في العقول رأيا أو اقناعا ومن ثم تجعل السمعيات اكثر يقينا من العقليات)(5).

ص: 446


1- ظ :احمد محمود صبحي: في علم الكلام 2: 364
2- ظ: د محمد رمضان :الباقلاني 303 ومصادره.
3- ظ : التمهيد 40 وما بعدها محمد رمضان الباقلاني 303 .
4- احمد محمود صبحي في علم الكلام 2 :152.
5- المصدر نفسه هامش الصفحة نفسها.
المطلب الثالث: الدليل اللغوي

يحتل هذا الدليل مساحة اضيق من سابقيه في استدلالات الأشعرية وتقل اشاراتهم اليه في مقام التنهيج لكنه واضح الحضور في تطبيقاتهم لمنهجهم في فهم النصوص القرآنية حيث يلاحظ ان حاكمية قوانين اللغة واستعمالات العربية وشواهد الخزين الادبي والبلاغي تحضر بوضوح في فهم الأشعرية للنصوص وتوجيهها بما يوافق اصول مذهبهم وهذا ما سنلاحظه جليا في فهمهم للايات الموحية بالصفات الخبرية كالاستواء واضافة الاعضاء والجوارح ومسألة الرؤية وخلق القرآن.

وتقوم دلالة الدليل اللغوي (من جهة المواطأة والمواضعة على معاني الكلام ودلالات الاسماء والصفات وسائر الالفاظ وقد لحق بهذا الباب دلالات الكتابات والرموز والاشارات والعقود الدالة على مقادير الاعداد وكل مالايدل الا بالمواطأة والاتفاق) (1).

وهذه الامور ظنية الدلالة في ذاتها(2)ولذلك فان ماينبني عليها يبقى ظنياً ايضاً مالم تعاضده الادلة العقلية والنقلية وان كانت هذه الاخيرة تنبني ايضا على الادلة اللغوية من لغة وصرف ونحو وعدم اشترك ومجاز واضمار ونقل وتخصيص وتقديم وتأخير.. الخ وبالتالي تكون هي نفسها ظنية مالم تقترن بقرائن مشاهدة أو متواترة (3) كما اسلفنا.

توطئة:

يمر النص القرآني بحالتين هما الاحكام والتشابه كما يعبر عن نفسه في قوله تعالى: ﴿مِنْهُ وَايَتٌ تُحْكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتُ ﴾(آل عمران (7).

ص: 447


1- الباقلاني: الانصاف 15، وانظر التمهيد 39.
2- ظ شیخ زادة :نظم الفرائد 42.
3- ظ في علم الكلام 2 :364 .

وبما ان المحكم يحتوي النص والظاهر، والنص لاخلاف فيه ولا نقاش في قطعيته ودلالته اذ لا يحتمل الا وجها واحدا من الدلالة فيبقى الظاهر الذي يكون احد المعنيين المحتملين له راجحا والاخر مرجوحا ، وهو ما يقع فيه الاختلاف في البناء عليه واستنباط العقيدة على اساسه فلابد هنا من استقراء موقف الأشاعرة من الظاهر تفصيليا، لاسيما وقد بينا ان موقفهم الاجمالي بين الموقفين المتضادين منه هو التوسط بين الجامدين على الظاهر من اهل الحديث والحشوية والمتطرفين في تأويله وهم المعتزلة.

والاختلاف الاكثر وضوحا يتجلى في المتشابه من الآيات وهو ما يكاد يشمل العدد الاكبر من آيات العقيدة في القرآن الكريم وخاصة تلك الآيات التي تعلقت بالصفات الخبرية وبسببها وقع الخلاف بين المتكلمين بين جامد على الظاهر ومفوض ومؤول لذا سيميل البحث هنا الى تناول ثلاثة قضايا رئيسية ليخرج بتصور عن ركيزة اساسية في منهج الأشعرية هذه القضايا هي:

1 - موقفهم من ظاهر النص (كقسم من المحكم).

2 - موقفهم من المحكم والمتشابه عموما.

3 - موقفهم من التأويل.

ص: 448

الفصل الثاني : موقف الأشعرية من المحكم و المتشابه

اشارة

ص: 449

المبحث الأول: موقف الأشعرية من ظاهر القرآن

يمثل الموقف من ظاهر الآيات حدا فارقا لتعيين اصول المذهب الكلامي واسس منهجيته في فهم النص وقد لاحظنا في الفصل الأول من هذا البحث كيف افترقت المذاهب الكلامية الاسلامية حيال الظاهر الى عدة اتجاهات.

وما يهمنا هنا موقف الأشعرية من ظاهر النص وكيف يوظف في استنباط العقيدة واول ما يطالعنا هنا الإمام الأشعري مؤسس المذهب وهو يبني ركيزة التعامل مع الظاهر ويقنن للضوابط التي تحكم ذلك، فهو يجعل لظاهر النص حاكمية ودلالة ملزمة في اجرائه ما لم تكن هناك حجة تصرف هذا الالزام وتدفع الى صرف الظاهر عن حقيقته فالقرآن على ظاهره الا ان تقوم حجة بان يكون على خلاف الظاهر) (1)وهو يقول لمن اعترض على سبب انكار ان يكون قوله تعالى: ﴿ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعمًا ﴾ ( يس /71) وقوله تعالى:﴿ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى ﴾ (سورة ص/75) على المجاز: (حكم كلام الله عز وجل ان يكون على ظاهره وحقيقته ولا يخرج الشي عن ظاهره الى المجاز الا لحجة الا ترون انه اذا كان ظاهر الكلام العموم فاذا ورد بلفظ العموم والمراد به الخصوص فليس هو على حقيقة الظاهر، وليس يجوز ان يعدل بما ظاهره العموم عن العموم بغير حجة، فكذلك قول الله عز وجل {لما خلقت بيدي على ظاهره وحقيقته من اثبات اليدين ولا يجوز ان يعدل به عن ظاهر اليدين الى ما ادعاه خصومنا الا بحجة(2) وفي هذا الموقف يتبين بوضوح متابعة الأشعري لمذهب السلف في مهاجمة التأويل ما لم تكن هناك ضرورة، ويرى الايمان بالنص ولكن

ص: 450


1- الابانة: 39
2- الابانة: 39

بلا كيف ولا تشبيه) (1)ولذا ذهب الى الاخذ بظواهر النص التي تنسب لله تعالى الاعضاء والجوارح وباقي الصفات الخبرية ولكن بلا كيف لكي لا يتقاطع مع مبدأ التنزيه عن التشبيه(2) الذي حكم به مذهبه وقد بلغ من تشدده في متابعة الظاهر الى ان قال ان له تعالى بدين بالتثنية متابعة لظاهر النص في تثنيتهما قوله تعالى:﴿ بيدى ﴾(سورة ص/75) و﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾(المائدة/64) وللتخلص من الوقوع في التجسيم والكيفية قال ان كلتا يديه يمينا تمشيا مع الظاهر في الآية قوله تعالى : ﴿بِيَمِينِهِ ﴾(الزمر/67) ويقوم موقف الغزالي على اساس ينطلق من موقف الأشعري تقريبا، لكنه يعطي بعض المجال للتصرف مع النص حيث يكون للتأويل ضرورة وان بقي ظنيا والا فالتوقف في الظاهر عنده اسلم فهو (لاينكر التعويل على التأويل في موضعه والاخذ بظاهر النص في محله دون افراط ولا تفريط)(3)وسنجده يضع ضوابط للتأويل بما يترك لظاهر النص حاكمية ما دامت دلالته لاتخالف حجة تلزم صرفه الى التأويل وهو ما سنبحثه في مطلب قادم.

وكان الفخر الرازي اكثر الأشعرية التفاتا الى ضرورة تحديد المعايير ورسم الرؤية المنهجية للتعامل مع الظاهر في كلام يشير فيه الى طبيعة العلاقة بين النص والعقل ولمن الارجحية ،اذ نجده يميل عن الخط العام للاشعرية في ترجيح النقل على العقل اذا تعارضا ويبدو ان ذلك انعكاساً للجانب الفلسفي واثرا فلسفيا في فكره كما يرى احمد محمود صبحي (4)اذ يرجح العقل عند التعارض لأنه لابد من العقل لاثبات صدق النقل اذ نجده في (المحصل) يرى انه اذا عارضت الظواهر النقلية براهين

العقل او قامت الدلائل العقلية القاطعة على ثبوت شيء ثم وجدنا ادلة النقل يشعر

ص: 451


1- جلال محمد موسى: نشأة الأشعرية 272.
2- ظ الابانة: 9.
3- ظ جلال محمد موسى: نشأة الأشعرية 431.
4- ظ في علم الكلام 2: 287

ظاهرها بخلاف ذلك فانه باطل ان تصدق الظواهر النقلية وتكذب الظواهر العقلية ،لأنه لا يمكننا ان نعرف صحة الظواهر النقلية الا اذا عرفنا بالدلائل العقلية اثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول واذا لم تثبت هذه الأصول خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة (1)ولكن الرازي في اساس التقديس يضع تحديدا يستحضر فيه الاحتمالات المتصورة للتصرف عند تعارض الظواهر القرآنية مع البراهين العقلية بما يبعد استنتاج احمد محمود صبحي بميله عن خط الأشعرية بل هو في الحقيقة متفق معهم تماما إن لم يكن اقربهم الى مذهب اهل السنة في بعض جوانب كلامه كما يتوضح من خلال قراءة نصه اذ يقسم الاحتمالات عند التعارض الى(2) :

1 - اما ان يصدق بمقتضى الاثنين العقل والنقل وهذا محال لأنه يلزم عنه صدق النقيضين.

2 - واما ان يبطل كلاهما وهذا محال ايضا لأنه يلزم عنه تكذيب النقيضين.

3- ان يصدق الظواهر النقلية وتكذب الظواهر العقلية وذلك باطل لأنه لا يمكننا ان نعرف صحة الظواهر النقلية الا اذا اعرفنا بالدلائل العقلية اثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم). ولو جوزنا القدح في الدلائل العقلية صار العقل منها غير مقبول. حيث ان القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي الى القدح في العقل والنقل معا وانه باطل.

الى هذا الحد من الكلام المطابق لما في نص(المحصل)فكلام الرازي متفق تماما مع رأي الأشعرية الاخرون في جعل العقل اصلا لاثبات النقل ابتداء كما اسلفنا في المبحث السابق ولا ميل في هذا ، وحتى ان كان هناك بعض الحق في استنتاج د. احمد محمود

ص: 452


1- ظ: محصل افكار المتقدمين والمتأخرين ،32 المطبعة الحسينية القاهرة 1323 ه_ وانظر المصدر السابق 286.
2- اساس التقديس 172، 173 .

صبحي فان باقي كلام الرازي يوحي بخلافه اذ يترك للقضية مجالا واسعا يدخل منه التأويل والتفويض وهو ما يربطه بالمنهج الأشعري بل ومنهج اهل السنة حيث يقول:

(ولما بطلت الاقسام الاربعة لم يبق الا ان يقطع بمقتضى الدلائل العقلية بان هذه الدلائل النقلية اما ان يقال انها غير صحيحة او يقال انها صحيحة، الا ان المراد منها غير ظواهرها. ثم ان جوزنا التأويل واشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل ولم يجز التأويل فوضنا العلم بها الى الله تعالى)(1). فانت ترى انه يحفظ للنص ارجحية من خلال ايجابه على العقل ان يصرف دلالة الظاهر المخالف لأدلته الى التشكيك في صحته بمعنى صحة نقله او فهمه واستنتاجه من قبل المتصدي او انه صحيح ولكن المراد منه غير الظاهر.

ومما يمكن استفادة موقف باقي الأشعرية من الظاهر القرآني من خلاله، مناقشة مسألة يقينية وقطعية الادلة النقلية اذ ذهبوا الى انها يقينية مالم تعارض البراهين العقلية (2)فاما بذاتها فانها تحتمل الاشتراك والمجاز والاجمال ... الخ فتكون ظنية من هذا الباب ولا شك ان الظاهر مما يخضع لهذا الحد المعياري. ولكن بعضهم كما تبين فيما سبق (3)ذهب الى يقينية الادلة النقلية بدرجة اليقينة في العقلية.

ص: 453


1- اساس التقديس: 172.
2- انظر موضوع الدليل السمعي ضمن المبحث الأول من هذا الفصل .
3- ايضاً

المبحث الثاني: المحكم والمتشابه

تمثل هذه القضية ركنا اساسيا في بناء النص القرآني ولابد للمتصدي لفهم النص ان يوليها النصيب الاكبر من الاهتمام كما انه لابد لتشكيل تصور عن منهج فهم النص عند أي مذهب كلامي او متكلم من استقراء موقفه منها، فهي من المسائل التي يمثل الموقف منها الحد الفاصل بين مذهب وآخر ومتكلم وآخر.

ولما كانت مسائل العقيدة اكثر ما تكون واردة في الآيات المتشابهة فلا بد من معالجة للنصوص بطريقة يفلت المتصدي لفهم النص فيها من مغبة الوقوع في تقاطعات مع اصول العقيدة كالتشبيه او التجسيم او نسبة الظلم والمعاصي الى الباري تعالى او نسبة الكبائر والذنوب الى الانبياء السلام ... الخ.

وعند ملاحظة الجهد الكلامي للاشعرية لاستقراء موقفهم من المحكم والمتشابه نجد انهم يسلكون في ذلك مسلكين

1 - المسلك المنهجي: وهو يقوم على تناول هذه القضية بالتفصيل لدلالتهما وبيان تعريفهما واقسامهما والحكمة منهما ثم تبعا لذلك بيان الموقف من المتشابه ان كان علمه مقتصرا عليه تعالى ام ان الراسخين في العلم يمكنهم علم تأويله وذلك من خلال تفسيرهم للآية الكريمة من سورة آل عمران﴿ هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَبَ مِنْهُ وَايَتٌ تُحْكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْعٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾(آل عمران/7).

وهذا المسلك لم اجد في حدود تتبعي من سلكه بتفصيل واسهاب غير الفخر

ص: 454

الرازي وتناول الغزالي باختصار واجمال بعض جوانبه خاصة المتعلقة بالتأويل.

2 - المسلك التطبيقي :وهنا نلاحظ ان ما من متكلم اشعري الا وله دور في تناول المتشابه من الآيات وتحديد موقفه من المسائل الواردة فيها وتوظيف تلك الآيات في عملية الاستدلال وان تفاوتت مواقفهم منها توقفا او تفويضا او تأويلا كما سيتبين.

ان هذين المسلكين يقتضيان ان يتابعهما البحث لاستخلاص تصور اجمالي عن موقف الأشعرية من المسألة. ولهذا فسيتناول هذا المطلب المسلك الأول ويتصدى المطلب الثاني للمسلك التطبيقي.

علما بان المسلك الأول وان كان رأي الفخر الرازي يطغى عليه، فانه في الحقيقة انما يمثل رأي الأشعرية عموما في اغلب تفاصيله.

المسلك المنهجي:

وهو ما يمثله هنا الفخر الرازي كما اسلفنا وله في ذلك بحث طويل ينتظم من مجموعة مسائل تخص المحكم والمتشابه يتناولها البحث بالتفصيل لما فيها من تقرير لمذهبه وموقف الأشعرية عموما، وهذه المسائل هي:

أولا - هل يجوز ان يكون في كتاب الله تعالى ما لاسبيل الى علمه ؟

تمثل هذه القضية مدخلا يلج من خلاله الفخر الرازي الى البحث عن المحكم والمتشابه وينقل فيها رأيين متضادين (1).

الأول: رأي كثير من الفقهاء والمحدثين والصوفية، وهم يجوزون ذلك.

الثاني: رأي المتكلمين وهم ينكرون ذلك ويستدلون بالآيات والاخبار والادلة

ص: 455


1- ظ: اساس التقديس 173 .

العقلية على انه لايقع في كتابه تعالى ما لا يمكن علمه .

وهو يورد تلك الادلة وسيختار البحث الادلة القرآنية منها بالذات واهمها (1).

أ-قوله تعالى:﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبِ أَقْفَالُهَا ﴾(سورة محمد/24). فيرون في الآية امرا للناس بالتدبر في القرآن ولو كان غير مفهوم فكيف يأمرنا بالتدبر فيه !.

ب - قوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾

(النساء/82) فكيف يامرنا بالتدبر فيه لمعرفة نفي التناقض في الاختلاف مع انه غير مفهوم للخلق.

ج - قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَنَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيّ مُّبِينٍ ﴾ (الشعراء /192-195) ولو لم يكن مفهوما، فكيف يمكن ان يكون الرسول منذرا به وايضا قوله تعالى: بِلِسَانٍ عَرَبِيِّ مُّبِينٍ يدل على انه نازل بلغة العرب واذا كان كذلك وجب ان يكون معلوما.

د - قوله تعالى : ﴿لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ﴾(النساء/83) والاستنباط لايمكن الا بعد الاحاطة بمعناه.

ه_ - قوله تعالى :﴿ هَذَا بَلَغُ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ ﴾ (ابراهيم/52) فكيف يكون بلاغا وكيف يقع الانذار به وهو غير معلوم ؟ وقال في آخر الآية: ﴿ وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبَبِ ﴾ (البقرة/269) ، وانما يكون كذلك لو كان معلوما.

كما يورد للمخالفين القائلين بجواز ان يكون ذلك فى القرآن بعض الادلة اهمها الدليل القرآني الوحيد القائم على آية المتشابه في قوله تعالى: في صفة المتشابهات ﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ﴾ (آل عمران/7) حيث ينقل الرازي عن هؤلاء انهم

ص: 456


1- ظ: المصدر نفسه 173، 175.

يقولون بالوقف وانه لازم ثم يضيف بما يصور موقفه هو من الآية (الوقف هنا لازم وسيأتي دليله ان شاء الله)(1).

ثانيا - وصف القرآن بالاحكام والتشابه .

حيث يلتفت الرازي كحال من سبق ان بحثوا في ذلك الى ان القرآن الكريم دل على انه كله محكم وكله متشابه.

كما دل على انه بعضه محكم وبعضه متشابه فلذلك اربعة مقامات في القرآن :

أ - ما يدل على انه كله محكم بقوله تعالى: ﴿الركتَب أَحْكِمَتْ ايَتُهُ ﴾(هود/ 1) و﴿ الرَّ تِلْكَ ءَايَتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ﴾ (يونس/1).

ومعنى المحكم هنا كونه) حق في الفاظه، وكونه حقا في معانيه وكل كلام سوى القرآن فالقرآن افضل منه في لفظه ومعناه، وان احدا من الخلق لا يقدر على الاتيان بكلام يساوي القرآن في لفظه ومعناه والعرب تقول في البناء الوثيق والعهد الوثيق الذي لايمكن نقضه انه محكم فهذا معنى وصف كل القرآن انه محكم(2).

ما يدل على انه بكليته متشابه فهو قوله تعالى: ﴿كِتَبًا مُّتَشَبِها ﴾(الزمر /23) والمعنى انه يشبه بعضه بعضا في الحسن والفصاحة ويصدق بعضه بعضا واليه الاشارة بقوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا ﴾ (النساء /82) أي: لكان بعضه وارد على نقيض الآخر ولتفاوت نسق الكلام في الجزالة والفصاحة (3).

ج_ د - ما يدل على ان بعضه محكم وبعضه متشابه وهو قوله تعالى: ﴿مِنْهُ

ص: 457


1- اساس التقديس 176.
2- المصدر نفسه 178.
3- المصدر والصفحة انفسهما.

وَايَتُ تُحْكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَخَرُ مُتَشَبِهَتُ﴾(1)(آل عمران/7).

ثالثا - تحديد المفهومين :

يورد الفخر الرازي للمفهومين تعريفات من اللغة ويشير الى تعددها عند اهل الاصطلاح واشتمال كتب سابقيه عليها(2). اما موقفه هو في تحديدها فيتعرض له يتفصيل يتناول فيه اللفظ ودلالته المحتملة واختلاف درجة القطعية والاحتمال فيه بما يؤثر في تحديد كونه محكما او متشابها او واقعا ضمن احد الانواع المندرجة تحتهما بما يفيد في تحديد المفهومين فاللفظ الذي جعل موضوعا لمعنى له عدة حالات (3):

1 - ان يكون موضوعا لذلك المعنى ولا يحتمل غيره فهو النص.

2 - ان يكون محتملا لغير المعنى الذي وضع له فله هنا حالتان :

الأولى ان يكون احتماله لاحدهما راجحا على الاخر فيكون ذلك اللفظ بالنسبة الى الراجح ظاهر وبالنسبة للمرجوح مؤولا.

الثانية ان يكون احتماله لهما على السوية فهنا :

يكون اللفظ بالنسبة اليهما معا مشتركا وبالنسبة الى كل واحد منهما على المعنيين محتملا ويخرج هذا التقسيم بأن اللفظ له اربع حالات (4): النص والظاهر والمجمل والمؤول، والنص والظاهر منها يشتركان في حصول الترجيح لكن ميزة النص انه ترجيح مانع من النقيض وليس الظاهر بمانع النقيض وهذا القدر من الدلالة للفظ في هذين النوعين هو المحكم اللفظ.

ص: 458


1- المصدر والصفحة انفسهما.
2- اساس التقديس 179.
3- المصدر نفسه 179، 180
4- المصدر نفسه 180.

اما النوعين الآخرين: المجمل والمؤول فهما يشتركان في ان دلالة اللفظ غير راجحة الا ان المجمل لا رجحان فيه بالنسبة لكل من الطرفيين اما المؤول ففيه رجحان بالنسبة الى طرف المشترك وهو عدم الرجحان بالنسبة اليه وهذا هو المسمى بالمتشابه لان عدم الفهم حاصل فيه . واذا كان اللفظ الى المفهومين على السوية فهنا كما يقول الرازي يتوقف ،الذهن مثل القرء في دلالته على معنيين هما: الحيض والطهر. لكن الصعب المشكل كما يرى ان يكون اللفظ بأصل وضعه راجحا في احد المفهومين ومرجوحاً في الاخر ثم ان الراجح يكون باطلا والمرجوح حقا(1) ومثال ذلك عنده قوله تعالى:﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن تُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ﴾. (الاسراء/16) فظاهر هذا الكلام يؤمرون بأن يفسقوا ومحكمه قوله تعالى: ﴿إن اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء ﴾(الاعراف/28) ردا على الكفار فيما حكى عنهم ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِها ﴾(الاعراف/28) وكذلك قوله تعالى:﴿ نسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ ﴾ (التوبة/67) وظاهر النسيان ما كان عند العلم ومرجوحه الترك فانساهم انفسهم.

ومحكم ذلك قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسَيَّا﴾(مريم /64) وقوله تعالى :﴿لا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنسَى﴾ (طه/52) وفي هذا الكلام نلاحظ امرين مهمين:

الأول : اشارة الرازي الى الصعوبة والاشكال في كون اللفظ راجحا في احد المفهومين ومرجوحا في الاخر كانه يشير الى النسبية في تحديد المحكم من من الآيات عن المتشابه منها حيث ان اهل المذاهب والاراء التزموا مبدأ ارادوا به ابعاد الكثير من التقاطعات مع الأصول القرآنية للمسائل التي بحثوها فلجئوا الى اعتبار كل ما وافق ارء هم محكما وكل ما خالفها متشابها.

الثاني: ان الرازي يمثل لهذه الحالة في اللفظ بمثالين يستنتج منهما اتباعه لمبدأ

ص: 459


1- اساس التقديس 180 .

رد المتشابه للمحكم وهذا ما يشير اليه عند بحثه في معايير الاحكام والتشابه لوضع الضوابط المنهجية.

رابعاً - معايير الاحكام والتشابه.

يرى الرازي في تخاصم اصحاب المذاهب وادعاء اصحاب كل مذهب (ان الآيات الموافقة لمذهب الخصم (متشابهة ضرورة ملجئة الى تحديد قانون ومعيار يرجع اليه في هذا الباب ويتعلق هذا المعيار بالظهور في النص فهذا الظهور كما سلف في البحث له حاكمية وثبات لا يجوز دفعهما الا بدليل يقول اذا كان لفظ الآية او الخبر ظاهر في معنى فانما يجوز لنا ترك الظاهر بدليل منفصل، والا لخرج الكلام عن ان يكون مفيدا، ولخرج القرآن عن ان يكون حجة (1)والدليل الذي لأجله يترك الظاهر من اللفظ اما لفظي او عقلي.

اما الأول : فهذا انما يتم اذا حصل تعارض بين الدليلين وفي هذه الحالة فليس احدهما اولى من الآخر في حالتي الاخذ والترك الا ان يعترض معترض فيقول ان احدهما قاطع في دلالته والاخر ظاهرا فهنا يرجح القاطع على الظاهر او يقال كل واحد منهما وان كان ظاهرا لكن احدهما اقوى والأول باطل لوجود مبدأ قانوني آخر يتمثل في ان الدلائل اللفظية لا تكون قطعية لأنها متوقفة على نقل اللغات ونقل وجوه النحو والتصريف وعلى عدم الاشتراك والمجاز والتخصيص والاضمار وعدم المعارض العقلي والنقلي وكل واحد من هذه المقدمات مظنونة والموقوف على المظنون اولى ان يكون مظنونا فيثبت هنا رأيه بأن الادلة اللفظية لايمكن ان تكون قطعية.

واما الثاني فهو ان يقال احد الظاهرين اقوى من الآخر الا ان احدهما اقوى ،

ص: 460


1- اسس التقديس 181 .

فعلى هذا التقدير يصير ترك احد الظاهرين لتقرير الثاني مقدمة ظنية ولا يجوز التعويل على الظنون في المسائل العقلية القطعية وبذلك يثبت الرازي قانونه بعدم صرف اللفظ عن ظاهره الى معناه المرجوح الا بقيام دليل قاطع على ان ظاهره محال ممتنع وعند حصول هذا فان على المكلف ان يقطع هنا بأن مراد الله تعالى من هذا اللفظ ليس ما اشعر به الظاهر.

وعند هذا المفترق ينقسم المتكلمون الى موقفين سنجدهما يتجليان بوضوح في اتجاهات متكلمي المذاهب عموما فضلا عن الأشعرية منهم هذان الموقفان هما:

أ - التأويل فان من جوز التأويل يعدل اليه عن الظاهر.

ب - التفويض فمن لم يجوز التأويل يفوض علمه الى الله تعالى.

خامسا - الموقف من امكان علم المتشابه او عدمه.

لا يعرض الرازي لموقف الأشاعرة من علم المحكم والمتشابه بصورة مباشرة وانما يقدم تفصيلا المذهب السلف من ذلك واعتراض المتكلمين بتمثيلهم الموقف المخالف ومحور الخلاف يقع في فهم الآية الكريمة قوله تعالى: ﴿ مِنْهُ ءَايَتٌ تُحكَمَتُ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأَخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا نَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾(آل عمران/7) ويتلخص موقف السلف من الآيات المتشابهة كما يعرضه انهم يذهبون الى وضع مبدأ بأن هذه المتشابهات (يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها الى الله تعالى ولا يجوز الخوض في تفسيرها. ويقوم هذا المبحث على فهمهم للآية الكريمة بقولهم بالتمسك بوجوب الوقف على قوله تعالى:﴿ وَمَا يَعلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ ﴾(آل عمران /7) فيكون ما بعدها استئنافا للكلام.

وكان موقف المتكلمين انه يجب الخوض في تأويل تلك المتشابهات فكان موقفهم

ص: 461

قراءة الآية بعطف الراسخين على الله تعالى في علمه تأويل المتشابه وحجتهم في ذلك ان القرآن يجب ان يكون مفهوما ولاسبيل اليه في روايات كذا المتشابهة الا بذكر التأويلات فكان المصير اليه واجبا.

ويبدوا ان موقف السلف يجد بعض التأييد غير الظاهر عند الرازي الا انه يصطدم بوجود المتشابهات التي لابد من تأويلها لذا نجده يلتفت الى نادرة البيان القرآني في انه تعالى( لم يذكر لفظ المتشابهات الا وقرن بها قرينة تدل على زوال الوهم الباطل)(1) ويمثل لذلك بعدة امثلة منها(2):

1 - انه تعالى قال اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ (النور (35) ثم قال بعده مثل نوره فاضاف الى نفسه ولو كان تعالى نفس النور لما اضاف الى نفسه ،لان اضافة الشيء الى نفسه ممتنعة.

2 - ولما قال تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طه/5) ذكر قبله﴿ تنزيلا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلَى﴾ (طه/4) وبعده قوله﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى﴾ (طه/6) فهاتان الآيتان تدلان على ان كل ما كان مختصا بجهة الفوقية مخلوق محدث، وينتهي الرازي الى موقف من المتشابهات يعرضه باقتضاب واختصار شديدين اذ يقول فثبت بما ذكرنا ان الطريق في هذه المتشابهات التأويل في تلك الالفاظ تأدبا في حق واجب الوجود)(3) هذا الاقتضاب والاختصار في عرض مذهبه انما هو حاصل في الجانب المنهجي فيما يخص التأويل ،کاختیار اما في الجانب التطبيقي فقد لجأ الرازي الى التأويل كحال باقي الأشعرية لأنه ضرورة لا مناص من سلوكها كما سيتبين فيما بعد رغم انه في فترات متاخرة ربما مال الى التفويض ايضا متابعة منه لاهل السنة.

ص: 462


1- اساس التقديس 188،189.
2- المصدر نفسه 188،189.
3- المصدر نفسه 189.

المبحث الثالث: التأويل عند الأشعرية

اشارة

توطئة

يمثل التأويل كاختيار في مواجهة التعارض بين ظاهر النص وادلة العقل ملمحا مهما من ملامح العلاقة بين العقل والنقل، وضرورة تفرضها طبيعة النص المحمل بافاق تعبيرية بيانية توظف فنون البلاغة من مجاز واستعارات وتشبيهات، كما تفرضها خصيصة مهمة وقانون معياري فرضه هو بنفسه باشارته الى وجود اصل ترجع اليه الفروع وذلك بتنصيب المحكم من الآيات اصلا على المتشابه منها فيرد الفرع الى الأصل وهذا وجه من وجوه التأويل فالنص ملتفت الى انه يعبر عن الباري تعالى تارة بابعاد أي وصف يشبهه بخلقه او بقربه من المحسوسات وذلك كقوله تعالى:﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ﴾ (الشورى (11) وقوله : لَمْ يَلِدْ وَلَمْ ﴿ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾ (الاخلاص /43) وتارة تعبر الآيات عنه بما يوهم شبهه تعالى بمخلوقاته كقوله تعالى: ﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ (الفتح/10) وقوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾(طه/39) وقوله تعالى: ﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإكْرَامِ ﴾ (الرحمن /27) .

وامام هذه النصوص لابد للمسلم من وقفة لكشف الدلالات التي حملتها النصوص فهو محمل بمسؤولية تنزيه الباري تعالى عن مشابهة المحدثات ولا طريق الى رفع هذا التعارض بين تلك الآيات وتحقيق التنزيه الا بتأويل تلك النصوص بما يليق بساحة قدسه تعالى ويحافظعلى خصوصية النص وقداسته ومعايير وضوابط فهمه.

ص: 463

المطلب الأول: موقفهم من التأويل

وقد كان موقف السلف وهم الأصول الحقيقية للاشعرية والمعين الاكبر لمذهب الأشعرية من التأويل انهم كانوا ( يثبتون لله صفات خبرية مثل اليدين والوجه، ولايؤولون ذلك الا انهم يقولون: هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها صفات خبرية، فبالغ بعض السلف في اثبات الصفات الى حد التشبيه بصفات المحدثات واقتصر بعضهم على صفات دلت الافعال عليها وما ورد به الخبر(1) فهم منقسمون على فريقين(2):

أ - من توقف في التأويل كمالك بن انس واحمد بن حنبل وسفيان الثوري وداود بن علي الاصفهاني وغيرهم.

ب - من اول على وجه يحتمله اللفظ.

وظهر فريق من المتأخرين قالوا لا بد من اجراء تلك الالفاظ الموهمة بالتشبيه والتجسيم على ظاهرها فوقعوا في التشبيه الصرف(3)والموقف السلف هذا تأثير وانعكاسات على موقف الأشعرية حيث نلاحظ ان الخطين الرئيسيين المؤول والمفوض مارسا التأثير على متكلمي الأشعرية وكان التأويل ضرورة لا يمكن لأي اتجاه مهما بلغ من التمسك بظواهر النصوص والسكوت عن تفسيرها او تفويض معانيها المرادة الى الله تعالى ان يتحاشاها اذ ان من النصوص ما لاسبيل لأي من هذه المواقف لحل ،اشکالاته واصدق مثال على هذه الضرورة ان الإمام احمد بن حنبل مع شدة

ص: 464


1- ظ الشهرستاني: الملل والنحل 1: 93.92
2- المصدر نفسه.
3- ظ: الشهرستاني الملل والنحل 92 ،93 .

تمسكه بالتوقف حيال الظواهر المتضمنة للصفات الخبرية فقد اقر بوجوب تأويل ثلاثة احاديث هي (1)قوله (ص) (الحجر الاسود يمين الله في الارض) وقوله (صلی الله علیه وآله وسلم)(اني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن) وقوله (ص) حكاية عن الله تعالى (انا جليس من ذكرني) وهذه الضرورة في التأويل امر يقول به كل المذاهب الكلامية الاسلامية بل هو ضرورة منهجية بدونها يصبح هناك الكثير من الثغرات في منظور المذهب للعقيدة وهذا ما أشار اليه الرازي بقوله ( جميع فرق المسلمين مقرون باته لابد من التأويل في بعض ظواهر القرآن والاخبار ) (2)والأشاعرة ضمن المتكلمين عموما يقولون بهذا التأويل وضرورته ويقيم الجميع الحجة على ذلك ان القرآن يجب ان يكون مفهوما، ولاسبيل اليه في روايات [ اعتقد ان هناك تصحيف والصحيح الآيات ] المتشابهة الا بذكر التأويلات فكان المصير اليه واجبا) (3).

ولكنهم يتفاوتون في درجة اللجوء الى التأويل فالإمام الأشعري في بداياته كان يرفض التأويل الا لضرورة (4)ملجئة حتى انه اكتفى في الصفات الخبرية وهي ما يُحتاج فيه الى التأويل ان قال باثباتها ولكن بلا كيف (5) حتى عرفت هذه الطريقة بالبلكفة، فالله تعالى قد استوى على عرشه كما قال ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ (طه/5) وان له وجها كما قال﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَلِ وَالْإِكْرَامِ ﴾(الرحمن /27) وان له يدين بلا كيف كما قال ﴿خَلَقْتُ بِيَدَى ﴾ (سورة ص /75) وكما قال﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾(المائدة/64) وان له عينا بلا كيف كما قال ﴿تجرى بِأَعْيُنِنَا ﴾(القمر /14)... الخ.

ص: 465


1- اساس التقديس: 81 .
2- المصدر نفسه 79.
3- اساس التقديس: 187.
4- ظ د. جلال محمد موسی: نشأة الأشعرية 272.
5- ظ الابانة 9.

ويبدو ان هذا الاتجاه بالذات يكون اكثر قربا من الالتزام بظواهر النصوص من السلف واهل الحديث والحشوية اذ ان هؤلاء سكتوا عن تفسير هذه الآيات وفوضوا معانيها الى الله تعالى ولكن هذا الخط الأشعري بدأ في التصاعد نحو العقلنة واللجوء الى التأويل بعد الأشعري ابتداء بالقاضي الباقلاني الذي أورد العديد من التأويلات للكثير من الآيات الكريمة كلما دعت الضرورة عند تقاطعها مع الأصول التي قال بها وسنلاحظ بعض الملامح من ذلك عند البحث في التطبيقات.

ويمرر الغزالي قضية التأويل من خانة العلاقة بين العقل والنقل حيث يعرض لمذهب اهل السنة وباقي الفرق في التأويل فيراها تنقسم على خمسة اراء(1):

الأول منها : ما وقف عند ظاهر النص ومنع من التأويل.

الثاني : ما جعل العقل هو الأصل ولم يعتبر النقل ولذلك فتح باب التأويل على مصراعيه.

الثالث: جعل العقل هو الحكم والضابط بما يأتي به الشرع فرفض اخبار الثقات والاحاد.

الرابع: جعل النص اصلا والعقل تابعا .

الخامس: وهو الذي يتبناه في المسألة بجعل كل من العقل والنقل اصلا فلكل مجاله وحدوده ولاتعارض بينهما، وانه مع التعارض فالعقل هو الأصل وهنا يختلف مع الشيخ الأشعري(2)واكثر متقدمي الأشعرية فهو يقول باللجوء الى التأويل عند الضرورة في الموضع الذي يستوجبه كما يأخذ بالنص على ظاهره ايضا (3)ولكن

ص: 466


1- ظ قانون التأويل ،9 نشير محمد زاهد الكوثري، مطبعة الانوار ، مصر 1359 ه_ (بتصرف).
2- د جلال محمد موسی : نشأة الأشعرية 431.
3- المصدر نفسه

التأويل عنده أمر يرى انه يلجأ اليه مضطرا وان هناك ما يعجز عن كشف المراد منه، والتأويل لا يعدو أن يكون ظنونا وتخمينات وانه انما يلجأ اليه في امر الاجتهاد لتيسير الامر على العوام في فهم ما ورد به التشريع من التكاليف(1)ولذلك ترى الغزالي يضع قيوداً شديدة على اللجوء للتأويل اذ لايؤهل له الا صفوة الواصلين (المتجردين لتعلم السباحة في بحار المعرفة القاصرين اعمارهم عليه الصارفين وجوههم عن الدنيا ،والشهوات المعرضين عن المال والجاه والخلق وسائر اللذات المخلصين لله تعالى في العلوم والاعمال العاملين في جميع حدود الشريعة وآدابها في القيام بالطاعات وترك المعاصي، المفرغين قلوبهم بالجملة عن غير الله تعالى المستحقرين للدنيا بل للاخرة والفردوس الاعلى في جنب محبة الله تعالى، وهؤلاء هم اهل الخوض في بحر المعرفة وهم مع ذلك كله على خطر عظيم يهلك من العشرة تسعة الا ان يسعد واحد بالدر المكنون)(2). ويجعل الرازي للظاهر حاكمية واهلية لتمثيل دلالة النص حيث لايجوز صرف اللفظ عن الظاهر(الا عند قيام الدليل القاطع على ان ظاهره محال ممتنع) (3)ولذلك فعلى المتصدي للتأويل في هذه الحالة ان (يتحقق عنده القطع واليقين بأن مراد الله بهذا اللفظ ليس ما اشعر به الظاهر)(4). هذه الضوابط عند الرازي تبين بوضوح اثر موقف السلف من التأويل ولجوئهم الى التفويض في المتشابهات على موقف الرازي الذي يتبنى في (اساس التقديس )هذا الموقف اذ يقول عند الحديث عن الآيات الموهمة للجهة ورداً على الكرامية في موقف يتبين فيه دعمه لادلة العقل وجعلها اصلا على الدليل النقلي المستند الى الظاهر الذي استدلت الكرامية به يقول (.. فثبت بهذا الطريق إنا متى بيّنا ان تلك الدلائل العقلية (( المنافية للجهة ))قاطعة

ص: 467


1- ظ المصدرين السابقين.
2- الجام العوام عن علم الكلام 11
3- اساس التقديس 182
4- المصدر نفسه.

يقينية لم تقدر الكرامية على معارضة تلك العقليات اليقينية بهذه الظواهر، وهذا كلام في غاية القوة، وعند هذا نختار مذهب السلف ونقول لما عرفنا بتلك القواطع العقلية انه ليس مراد الله تعالى من هذه الايات اثبات الجهة لله تعالى فلا حاجة بنا بعد ذلك الى بيان ان مراد الله تعالى من هذه الآيات ما هي وهذه الطريق اسلم في ذوق النظر وعن الشغب ابعد)(1)ولكنه في تفسيره الكبير يدلي برأي مختلف اذ يرى ان هذه النصوص لابد معها من التأويل لتعيين المراد منها (2)والخلاصة النهائية التي تستنج من موقف الأشعرية عموما وجمعا بين آراء مختلف اقطابهم انه يصب في موقفه العام في التوسط بين المعقول والمنقول وعدم تغليب العقل مطلقا واثبات الحاكمية للنص ما لم يتعارضا، فالتأويل ليس تغليباً للعقل ودفعا للنص عن مركزه وانما هو محاولة في التوفيق بينهما فيما وقع فيه تعارضا ظاهريا انطلاقا من استحالة تناقضهما.

ص: 468


1- اساس التقديس 153.
2- ظ التفسير الكبير (مفاتیح الغيب) ،22 :6، طبع عبد الرحمن محمد، القاهرة 1357 ه_ 1938م. والحق ان هذا الموقف المتغير له شبيه يسبقه عند امام الحرمين الجويني كما سنرى الذي لجأ الى التأويل ووظفه في كشف دلالات النصوص القرآنية بما يوافق مذهبه الأشعري واتجاهه فيه ولكن نقل عنه في ايامه الاخيرة عزوفه عن التأويل والجدل وتراجع عنه الى التفويض والتسليم فهو الحق وليس استخدام العقل والتأويل. ينقل السبكي في طبقات الشافعية 3 :260 انه قال في اخر ايامه (لا تشتغلوا في الكلام فلو عرفت ان الكلام يبلغ بي مابلغ ما اشتغلت به )وانه تمنى ايمانا كايمان العجائز ورجع الى مذهب السلف انظر ايضا جلال محمد موسى: نشأة الأشعرية 408، احمد محمود صبحي في علم الكلام 2: 164.
المطلب الثاني: اسس التأويل

يقسم الآمدي (ابو الحسن علي ت 631ه_) التأويل باعتبارين كمدخل لتعريفه وهما: (1)

أ - التأويل من حيث هو تأويل بقطع النظر عن الصحة والبطلان وهو: حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر مع احتماله له.

ب - التأويل الصحيح المقبول الذي يقول به وهو حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر مع احتماله بدليل يعضده.

وعند تتبع مسيرة الأشعرية مع التأويل يتبين انهم يضعون جملة اسس وضوابط ومعايير لتقنين التأويل ووضعه في اطار منضبط باصول المذهب، هذه الأسس والضوابط يمكن اجمالها في:

1 - عدم صرف اللفظ عن المعنى الذي دل عليه الظاهر الى غيره الا بدليل قاطع يثبت استحالة معنى الظاهر(2)

2 - تحقق القطع واليقين عند المكلف ان مراد الله تعالى ليس المعنى الذي عليه الظاهر(3)

3 - ان يقوم به الماهر الحاذق في علم اللغة العارف باصولها، ثم بعادة العرب في الاستعمال من حيث الاستعارات والمجازات والكنايات ومنهاجها في ضروب الامثال (4).

4 - ان يستند التأويل الى مرجعية الكتاب والسنة والسلف من الصحابة وان

ص: 469


1- ظ الاحكام في اصول الاحكام 3 :49
2- ظ المصدر نفسه، وانظر الرازي اساس التقديس 182.
3- ظ اساس التقديس 182.
4- الغزالي :فيصل التفرقة 62 نقلا عن د. محسن عبد الحميد: التأويل وضوابطه بحث منشور في مجلة الرسالة الاسلامية العددان ،82، 83 السنة الثامنة 1975 م ص 40.

لايخالفها (1).

5 - اذا عارضت الادلة النقلية براهين العقل واثبتت البراهين العقلية شيء ثم خالف ظاهر النقل ذلك فانه باطل ان تكذب براهين العقل وتصدق ظواهر النقل لان العقل يعرف به اثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة عليه فلا يقدح في العقل لان في ذلك قدح في العقل والنقل معا (2)

6 - فيما يتعلق بالالهيات بالذات نجد جملة اسس يضعها الأشاعرة يمكن انتزاعها من خلال استقراء مجمل تأويلاتهم ومنها:

أ - لا دخل للعقل والقياس في ايجاب معرفته تعالى وتسميته فلا يجوز اطلاق اية تسمية تأولاً لم ترد في القرآن فلا يوصف تعالى بالعقل كما لايوصف بالشهوة حتى ان قصد بذلك ارادته لافعاله .(3).

ب - ان التأويل للآيات يجب ان لا يترتب عليه نفي ولا تعطيل بحجة التنزيه عن التشبيه(4) .

ج - وجوب تأويل كل ظاهر في النص يوهم بالجهة او الحيز او التركيب او الافعال كالصعود واالنزول والدنو والمجيء... الخ. مما يلزم عنه التشبيه بالحوادث او التجسيم، وهذا ما سيتبين عند البحث في تطبيقات الأشعرية لأصول منهجهم في فهم النص القرآني في المبحث القادم.

د - انه تعالى اذا ضاف فعلا الى شيء فان كان ظاهر تلك الاضافة ممتنعا فالواجب صرف ذلك الظاهر الى التأويل(5)

ص: 470


1- ظ الأشعري الابانة 6، 9.
2- ظ الرازي: المحصل 32
3- ظ الباقلاني: الانصاف 39 الجويني الارشاد 148، احمد محمد صبحي: في علم الكلام 100.
4- ظ: الأشعري: الابانة 34.
5- الرازي: اساس التقديس 104

الفصل الثالث : نماذج تطبيقية في فهم الأشعرية للنص القرآني

اشارة

ص: 471

توطئة:

مثلت المباحث والمطالب السابقة وقفة مع البناء المنهجي في فكر الأشعرية بعامة ومنهجهم في فهم النص القرآني بخاصة، من حيث اركانه واسسه والمؤثرات فيه، ومن خلال تلك المباحث امكن تشكيل تصور اجمالي عن هذا المنهج، ولن تكتمل صورته ما لم نقف على الجانب التطبيقي الفعلي لاسس هذا المنهج وهو الجانب الاكثر تفصيلا والاقرب الى بيان طبيعة المنهج الأشعري في معالجة النصوص القرآنية وتوجيهها لتوظف في دعم آراء المذهب وكيفية الكشف عن دلالاتها وآليات الاستدلال بها، وهذا الجانب هو ما سيدرسه هذا المبحث بما يقتضي بيانا لأمور منها:

1 - ان البحث هنا سوف لن يستقرىء كل المسائل الكلامية التي بحثها متكلموا الأشعرية فهذا توسع لا مجال له هنا.

2 - سيتم تناول اكثر المسائل صلة بطبيعة المنهج الأشعري كسمات مميزة له كالصفات الخبرية والرؤية والكلام الالهي والكسب....

3 - لا يمكن للبحث ان يتناول رأي جميع متكلمي الأشعرية في أية مسألة يبحث في تطبيقات فهمها عندهم وسيكتفي بالاراء التي تكفي لتمثيل فهمهم لها.

4 - ان متكلمي الأشعرية يختلفون احيانا في بعض الجزئيات لمسائل معينة ولكن تبقى الخطوط العريضة لاصول المذهب قواسم مشتركة فيما بينهم. لذا سيحاول البحث تلمس تللك الخطوط واستحضار ما يمثل راي المذهب عموما في مسائل العقيدة التي سيبحثها.

ص: 472

النماذج التطبيقية

الالهيات

أولاً: وجود الله تعالى.

1 - وجوب النظر في معرفته تعالى:

استدلال الأشعرية على هذه القضية يرتبط من عدة وجوه بموقفهم من العقل وعلاقته بالشرع وقضية التحسين والتقبيح وقد تعرض لها البحث سابقا والمهم هنا انهم يرون انّ العقل يستطيع ادراك وجوده فهو آلة للادراك، اما وجوب معرفته تعالى فالأصل الوحيد لها هو السمع ومدرك وجوبها هو الشرع ، وجملة احكام التكليف متلقاة من الادلة السمعية (1)واصل وجوب النظر الذي يكاد يتفق عليه اغلب الأشاعرة وان طريقه السمع للباقلاني فيه رأي آخر اذ يرى عدم جواز النظر في ذاته تعالى لأنه لا يمكن الوصول الى معرفة كنهه وحقيقته، والنظر الواجب على المكلف هو النظر والتفكر في مخلوقاته لا في ذاته وهذا ما دلّ عليه السمع (2) في قوله تعالى: ﴿وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾ آل عمران/191) وقوله تعالى: ﴿أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (الغاشية /17) فالنظر والتفكر يكون في المخلوقات لا في الخالق ومما يدل على ذلك جواب موسى(عليه السلام)لما سأله فرعون ﴿وَمَا رَبُّ اَلْعَلَمِينَ ﴾ (الشعراء/23) اجابه بأن مخلوقاته تدل على انه إله ورب وقادر لا اله سواه حيث انه قال ﴿قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا ﴾ (الشعراء /24).

ص: 473


1- ظ الجويني: الارشاد 8 دي بور: تاريخ الفلسفة في الاسلام ،66 ، صبحي في علم الكلام 2 :153
2- ظ : الانصاف 29

2 - اثبات الصانع تعالى :

يقيم الأشعرية العديد من الادلة العقلية لاثبات وجوده تعالى وما يهم هنا هوالادلة القرآنية حيث جعلوها معضدة لحكم العقل في وجوب وجود الصانع تعالى. فالإمام الأشعري يستدل بالدليل القرآني في خلق النطفة بعد ان يقدم دليلا عقليلا بحتا على وجوده تعالى يتعلق باصل فلسفى هو حاجة الممكن للعلة او الحادث للسبب وهو قانون العلية وهو دليل كلامي بحت يمثل نقلة عند الأشعري عن منهج المحدثين. ثم يأتي الدليل القرآني معضدا، فيرى انه اذا كان تحول النطفة علقة ثم مضغة، ثم لحما ودما ،وعظما اعظم في الاعجوبة كان اولى ان يدل على صانع صنع النطفة ونقلها من حال الى حال، وقد قال الله تعالى: ﴿ أَفَرَعَيْتُم مَّا تُمْنُونَ وَأَنتُمْ تَخلَقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَلِقُونَ ﴾ (الواقعة/59-58) فما استطاعوا ان يقولوا بحجة انهم يخلقون ما يمنون مع تمنيهم الولد فلا يكون ومع كراهتهم له فيكون(1)ويستدل بدليل آخر يعتمد الآيات الانفسية في اثبات الصانع اذ يرى انه تعالى قال منبها لخلقه على وحدانيته: ﴿وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ (الذاريات/21) حيث (بين لهم عجزهم وفقرهم الى صانع صنعهم ومدبر دبرهم)(2)ودليل الباقلاني ان للعالم محدث احدثه (وجود الحوادث متقدمة ومتأخرة مع صحة تأخر المتقدم وتقدم المتأخر ولا يجوز ان يكون ما تقدم منها وتأخر متقدما ومتأخرا لنفسه.. فوجب ان يدل على فاعل فعله.. قال تعالى: ﴿ فَعَالُ لِمَا يُرِيدُ ﴾(هود/107)، وقال﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾(النحل /40) ووجه الاستدلال انه يدل على علمنا بتعلق الفعل بالفاعل في كونه فعلا كتعلق الفاعل في كونه فاعلا بالفعل... فلو جاز وجود فعل لا من فاعل وكتابة لا من كاتب لجاز وجود كاتب لا كتابة له وصانع لا صنعة

ص: 474


1- اللمع 18، 19.
2- المصدر نفسه 19.

له... فلما استحال ذلك وجب ان يكون اقتضاء الفعل للفاعل ودلالته عليه كاقتضاء الفاعل في كونه فاعلا لوجود الفعل وحصوله منه)(1)

3 - انه تعالى لا يشبه شيء من مخلوقاته:

يستدل الأشعري انه تعالى لايشبه شيء من مخلوقاته بالدليل العقلي اولا حيث انه لو اشبهها لكان لازم ذلك اتحاد الحكم بينه وبين مخلوقاته في الحدوث سواء كان الشبه من جميع الجهات أوشبه من بعض الجهات يقول (لو اشبهها لكان حكمه في الحدث حكمها، ولو اشبهها لم يخل من ان يشبهها من كل الجهات او من بعضها، فان أشبهها من جميع الجهات كان محدثا مثلها من جميع الجهات ،وان اشبهها من بعضها كان محدثا من حيث اشبهها ويستحيل ان يكون المحدث لم يزل قديما) (2)ثم يأتي بالدليل القرآني المؤكد لهذا الاستدلال العقلي فيقول (وقد قال تعالى: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ﴾(الشورى/11)، وقال تعالى: ﴿وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾(الاخلاص /4)، واستدلاله العقلي في كون المشابهة من جميع الجهات يستلزم كونه محدثا لا نقاش عليه ولكن قوله ان المشابهة من بعض الجهات يلزم عنها حدوثه من تلك الجهات فيه نقاش اذ المشابهة من بعض الجهات مع التحفظ على قدمه تعالى لا يلزم عنها كونه محدثا اذ يمكن للمشبهة ان يعترضوا بانهم يقولون بقدمه تعالى ولكن له يد ووجه وجوارح.. وكان يمكن الاستناد في هذا الجانب الى ان مشابهة الممكنات تستلزم مشابهتها في انها لا تنفك عن الحاجة وهو دليل كونها ممكنة والممكن لا يكون واجب الوجود.

4 - وحدانية الصانع تعالى :

يرى المتكلمون ان الواحد هو ما لايصح انقسامه الا ان الأشعرية كالباقلاني

ص: 475


1- الانصاف 18.
2- اللمع 20.

وابن فورك والجويني يضيفون الى ذلك معنيين آخريين هما من لانظير له، ومن لاملجأ ولا ملاذ سواه ويرون انه لايكتمل الايمان بوحدانيته تعالى دون الايمان بهذه الاركان الثلاثة (1)

وهم جميعا يستدلون على وحدانيته تعالى بدليل التمانع ويقوم هذا الدليل عند الأشعري على انه لو تصور صانع آخر مع الله فان الاثنين لا يجري تدبيرهما على نظام ولا يتسق على احكام ولابد ان يلحقهما العجز، او واحد منهما، لان احدهما اذا اراد ان يحي انساناً واراد الاخر ان يميته لم يخل ان يتم مرادهما جميعا او لايتم مرادهما او يتم مراد احدهما دون الآخر، ويستحيل ان يتم مرادهما جميعا لأنه يستحيل ان يكون الجسم حيا وميتا في حال واحدة وان لم يتم مرادهما

جميعا وجب عجزهما، والعاجز لايكون الها ولاقديما. وان تم مراد احدهما دون الاخر وجب عجز من لم يتم مراده منهما والعاجز لايكون الها ولاقديما (2) ثم ينتهي الى انتزاع التمانع ليعضد دليله بالدليل القرآني فيقول فدل ماقلناه على ان صانع الاشياء واحد، وقد قال الله تعالى﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا وَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَنَا ﴾ (الانبياء /22) فهذا معنى احتجاجنا آنفا(3)

وكان الباقلاني اكثر توسعا وتفصيلا واعتمادا على الدليل القرآني وقدمه على

دليل العقل وقام استدلاله على تحديد معنى الوحدانية اولا انه ليس معه سواه

ولامن يستحق العبادة الا اياه ولا نريد بذلك انه واحد من جهة العدد فقط

ولكن نريد انه لا شبيه له ولا نظير وانه ليس معه من يستحق الالهية سواه وقد قال تعالى:﴿ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهُ وَاحِدٌ ﴾(النساء/171) ومعناه لا اله الا الله (4)وفهمه

ص: 476


1- ظ الجويني: الشامل ،345 صبحي في علم الكلام .2: 156 . ويقول الغزالي في معنى الوحدانية (واحد لاشريك له، فرد لامثيل له صمد لاضد له متوحد لا ند له) ظ الاربعين في اصول الدين 35.
2- اللمع 20، 21.
3- المصدر نفسه 20 ،21 .
4- الانصاف 33

للآية الكريمة في معنى التمانع يقوم على اثباتها لمعنى الوحدانية اذ يقول في تفصيله لدلالتها (والدليل على ان صانع العالم على ما قررناه. قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا وَالِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا الله لفسدتا ﴾ (الانبياء /22) والدليل المعقول مستنبط من هذا النص المنقول، فانا نرى الأمور تجري على نمط واحد في السموات والارض وما بينهما من شمس وقمر وغير ذلك، ولو كانا اثنين او اكثر فلا بد ان يجري خلاف او تغير من احدهما على الاخر وقد بينه سبحانه فقال ﴿إِذَا لَابْتَغُوا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا ﴾(1)وهذا الدليل في الحقيقة دال على وحدة التدبير أي وحدة المدبر ويؤكد في معناه الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَةٍ إِذَا لَذَهَبَ كُلٌّ إِلَه بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ (المؤمنون/91) فهي اقرب الى توحيد المدبر منها الى توحيد الصانع كما انها تقع في مقام الاستدلال بالنظام على وجود المنظم وتابع باقي متكلمي الأشعرية(2) الإمام الأشعري في الاستدلال بآية ﴿لَوْ كَانَ مَعَهُ عَالِهَةٌ ﴾وايدوا تفسيره وتفسير الباقلاني لوجه الاستدلال بها، كما ان متكلمي االإمامية والمعتزلة استدلوا بنفس الآية على الوحدانية (3).

ثانياً: الصفات الالهية

يثبت الأشاعرة لله تعالى صفات ثبوتية ازلية، ويكون اتصافه تعالى بها عندهم لمعان قديمة وهذه الصفات زائدة عن ذاته (4)وهي سبع صفات صفات الذات (5)وهي: الحياة العلم الارادة السمع، البصر، القدرة، الكلام.

هي

ص: 477


1- المصدر نفسه 33 .
2- ظ الجويني: لمع الادلة في عقائد اهل السنة والجماعة 86 المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر ط1 1985ه_ - 1965م، الرازي: الاربعين 92 وغيرها.
3- راجع فصلي الإمامية والمعتزلة ضمن التطبيقات (اثبات الوحدانية).
4- انظر مثلا الباقلاني الانصاف ،38 التمهيد 227 ،الجويني: الارشاد 137 -138.
5- ظ الباقلاني: الانصاف 35 ومابعدها التمهيد 262 وما بعدها الجويني: الارشاد 62 وما بعدها، الغزالي :الاقتصاد 53 وما بعدها.

وقد استدلوا بعدة ادلة عقلية على رايهم هذا لامجال هنا للخوض فيها ويكتفي البحث بالادلة النقلية حيث يلاحظ في هذا الاطار انهم استدلوا غالبا بظواهر النصوص القرآنية.

ففي صفة الحياة(1) مثلا يستدلون بقوله تعالى :﴿ اللهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ﴾(سورة البقرة/255) وقوله تعالى:﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ ﴾(الفرقان /58) ويستدلون على صفة العلم(2) بقوله تعالى: أَنزَلَهُ, بِعِلْمِهِ (النساء /166) وقوله تعالى:﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ (طه/110) وقوله تعالى: ﴿يَعْلَمُ خَانَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ﴾ (غافر/ 19) ويستدلون على الارادة (3) بقوله تعالى: ﴿ فَعَالُ لِمَا يُرِيدُ ﴾(هود/ 107) وبقوله تعالى: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ﴾(سورة البقرة /185) وقوله ﴿وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ﴾ (الانفال (67) ويستدلون على السمع والبصر(4) بقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ (الشورى /11) وبقوله: ﴿ أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَنهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ﴾ (الزخرف/80) وقوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ (العلق/14) ويستدلون على القدرة (5)بقوله تعالى:﴿ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾(المائدة/ 120 ويستدلون على الكلام(6) . بقوله تعالى: ﴿مِنْهُم من كَلَّمَ اللَّهُ ﴾ (سورة البقرة/253) وقوله تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾(النساء /164) وقوله تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ﴾ (الانعام /115).

ص: 478


1- ظ: الباقلاني : الانصاف 35 الغزالي: الاقتصاد 71
2- الباقلاني : الانصاف 35 ،الغزالي: الاقتصاد: 71 .
3- الباقلاني الانصاف 36 ،الغزالي: الاقتصاد 71.
4- الباقلاني : الانصاف 37 ،الغزالي: الاقتصاد 71.
5- الباقلاني الانصاف 35 ،الغزالي: الاقتصاد 71 .
6- الباقلاني : الانصاف 37، الغزالي: الاقتصاد 71 .

وما يدخل في نطاق البحث بشكل اوسع في موضوع الصفات: صفة الكلام من حيث تعلقها بقضية (قدم القرآن) - كما يرون - والرؤية وهي داخلة عندهم ضمن باب ما يجوز عليه تعالى، ونوع اخر من الصفات هو الصفات الخبرية سبّب الكثير من التقاطع للاشعرية مع غيرهم وكان محوراً للاختلاف بين المذاهب الاسلامية الكلامية الذاهبة الى التأويل من جهة والسلف والحشوية واهل الحديث الذين تعبدوا بظاهرالنصوص غالبا من جهة اخرى، وهنا سيأخذ البحث هذه القضايا بالتفصيل مبتدئا

بالصفات الخبرية ثم الرؤية والكلام.

أ - الصفات الخبرية

وهي اكثر مسألة اشتد حولها الخلاف بين المذاهب والاتجاهات الكلامية عموما وقد استقصى البحث بعض تلك المذاهب والاتجاهات فيها في الفصلين الأول والثاني ويستقرء الآن موقف الأشعرية.

ان تتبع مسار المنهج الأشعري في تعامله مع الصفات الخبرية ومسلكهم في معالجتها يلاحظ حركة تصاعدية من مستوى مطابق تقريبا لموقف السلف واهل الحديث الى التأويل في اعلى حالاته المنضبطة بضوابط الأشعرية التي سبق بيانها ويلاحظ ان هذا التصاعد ربما اتخذ حركة معاكسة بالنزول من ذلك التأويل الى الموقف الذي ابتدأ منه وهو التفويض او البلكفة في احسن الاحوال بما يمكن اجماله في ثلاثة مواقف:

1 - اثبات الصفات الخبرية دون تشبيه وبلا تكييف

وهو ما عبر عنه بالبلكفة ويمثل موقف الإمام الأشعري حيث يعرض فهمه للآيات وموقفه من الصفات الواردة فيها وان الله استوى على عرشه كما قال﴿ الرَّحْمَنُ

ص: 479

عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(1)(طه/5) ويتحدث عن هذا الاستواء في الباب السابع من الابانة فيقول (نقول ان الله عز وجل يستوي على عرشه كما قال يليق به من غير طول استقرار كما قال.. كل ذلك يدل على انه ليس في خلقه ولا خلقه فيه وانه مستو على عرشه (2). ويقول (وان) له وجها بلا كيف(3)كما قال :﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَلِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ (الرحمن /27) ويقول في موضع آخر: قال تبارك وتعالى: ﴿كُلٌّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ (القصص / (88) ويقول :﴿ وَیبَقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ والإكرام ﴾(الرحمن/27) فاخبر ان له وجها لايفنى ولا يلحقه الهلاك (4)ويقول عن صفة اليد (وان له يد بلا كيف كما قال : ﴿خَلَقْتُ بِيَدَى﴾(سورة ص /75) وكما ﴿ قال : ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ (5)(المائدة/64) ويقول عن صفة العين (وان له عينا بلا كيف كما قال: ﴿تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا ﴾(6)(القمر/14) فالأشعري هنا يتعامل مع ظاهر الآيات ويجريها على معانيها الحرفية مع الامتناع عن الحديث في الكيفية تحاشيا للوقوع في التشبيه وهذا الموقف نجد جذوره عند السلف وأئمة المذاهب واهل الحديث، كما تبين وهو موقف ربما يكون اكثر تعقيدا وصعوبة من إتخاذ الموقف الاخر وهو التفويض لان البلكفة تصطدم مع كون القرآن الكريم انزل بيانا وهدى وتبيانا لكل شيء ولا يتصور ان يترك المتصدي لفهم النص حائرا في كيف يوجه النص وهو مسؤول عن التعبد به وبناء عقيدته على اساسه خصوصا اذا وضعنا في نظر الاعتبار ان هذا المنهج نفسه سيتصدى لنصوص اخرى ويقوم بتأويلها.

ص: 480


1- الابانة 18.
2- المصدر نفسه 34 .
3- المصدر نفسه 18.
4- المصدر نفسه 35.
5- المصدر نفسه 18.
6- المصدر نفسه 18.

2 - تفويض المراد من آيات الصفات الخبرية الى الله تعالى.

يقوم هذا المسلك على مواجهة الآيات الواردة باضافة الصفات الخبرية بايكال علمها الى الله تعالى وتفويض المراد منها اليه ويشكل هذا المسلك اختياراً عند العديد من اقطاب الأشاعرة يكون الاختيار الاوحد احيانا ويكون الاختيار النهائي بعد سلوكهم للتأويل في الفترات المتقدمة في حياتهم كما سيتبين.

ويبين الشهرستاني وهو يقرر عقيدة السلف ويعرض لمذهبهم في الصفات الخبرية طبيعة هذا المسلك فيقول( وكذلك يثبتون صفات خبرية مثل اليدين والوجه، ولا يؤولون ذلك الا انهم يقولون هذه الصفات قد وردت في الشرع فنسميها صفات خبرية (( ثم ينقل عنهم قولهم)) : عرفنا بمقتضى العقل ان الله ليس كمثله شيء، فلا يشبه شيء من المخلوقات ولا يشبهه شيء منها وقطعنا بذلك، الا انا لا نعرف معنى اللفظ الوارد فيه مثل قوله سبحانه: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾ومثل قوله: ﴿خَلَقْتُ بِيَدَى ﴾ومثل قوله: ﴿ وَجَاءَ رَبُّكَ ﴾ولسنا مكلفين بمعرفة تفسير هذه الآيات بل التكليف قد ورد بالاعتقاد بانه لا شريك له، وليس كمثله شيء، وذلك قد اثبتناه(1)

وكان من اشهر من مال الى التفويض الجويني الذي أثر عنه قبل وفاته انه تمنى ايمانا كايمان العوام وندم على الخوض في الكلام والجدل وذلك بعد ان كان من اكثر الأشعرية خوضا في التأويل واقترب من آراء المعتزلة في موقفه من الصفات الخبرية بالذات (2) كما سيفصل البحث فيه عند الحديث عن التأويل.

ويلاحظ ايضا بعض الميل عند الرازي الى التفويض وذلك اثناء عرضه لمذهب السلف من الآيات المتشابهة اذ يقول في اساس التقديس (ان هذا المتشابهات يجب

ص: 481


1- الملل والنحل 1: 92-93 .
2- د احمد محمود صبحي في علم الكلام 156.

القطع بأن مراد الله منها شيء غير ظواهرها، كما يجب تفويض معناها الى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها)(1)وان كان يصرح في نهاية الكلام الى اهمية التأويل وضرورته عند التعامل مع الآيات المتشابهة تادبا في حق واجب الوجود(2).

ويبدو ان اللجوء الى التفويض كان غرضه اتخاذ موقف السلامة الذي يتصورونه افضل من اثبات تلك الصفات الذي قد يؤدي عند الافراط فيه والتمسك باجراء ظاهر النص الى التشبيه والتجسيم

3 - تأویل آيات الصفات الخبرية.

تبين لنا في مبحث المحكم والمتشابه طبيعة الأسس والضوابط التي وضعها متكلمو الأشعرية للخوض في تأويل الآيات عند اختيار هذا الطريق، واذا تابعنا اراءهم الكلامية وتعاملهم مع الآيات التي وردت فيها الصفات الخبرية نجد معظمهم قد مال الى التأويل وشكل عنده ضرورة لابد من سلوكها بحيث كان النصيب الاوفر من ذلك عندهم هو تأويلهم للصفات الخبرية وان تفاوتوا في ذلك. لذ سيتعرض البحث الى نماذج من تأويلاتهم مصداقا للجوئهم الى التأويل وتطبيقا لاسسهم التي وضعوها له ويلاحظ في هذا الاطار انقسامهم الى فريقين :

فريق يؤول كل الصفات الخبرية التي ترد في الآيات بما يمكن اعتباره مسلكا عاما.

وفريق لايؤول الا بعض النصوص ويكتفي في بعضها الاخر بالتفويض او اجراء النص على ظاهرة دون بيان الكيفية.

وهذا ما سنلحظه عند استعراض هذه التأويلات مع الميل للاختصار كالآتي:

1 - الاستواء

ص: 482


1- ظ اساس التقديس 182 .
2- المصدر نفسه189

وهذه الصفة ترد في القرآن الكريم في عدة آيات اهمها قوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ﴾(طه/5) وقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَمَاءِ فَسَوَنهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ﴾( سورة البقرة /29) . وقد اختلف فيها الأشاعرة فبعد ان كان الأشعري يرى تفويض العلم بكيفيتها الى الله تعالى (1) الابانة 31 (2)نجد الباقلاني يفسرها بالاستيلاء(3)وهو ما يقترب فيه من تأويلات الإمامية والمعتزلة لهذه الصفة وهذا هو ما يؤيده الجويني الذي يرى ان كونه بمعنى الاستيلاء لا يشعر بالاضطراب والمقاومة والمغالبة (4)وهو ينقل ان بعضهم ذهب الى ان المراد بالاستواء هنا القهر والغلبة وذلك سائغ في اللغة شائع فيها اذا القائل يقول استوى الملك على الاقليم اذا احتوى على مقاليد الحكم فيه وهذا كقول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق *** من غير سيف ودم مهراق (1)

وهو قول اورده كل من اوّل الاستواء كما مر بنا.

ويؤيد الابجي هذا التأويل بالاستيلاء ويضع معيارا مهما يستفيد فيه من قوانين اللغة العربية اذ يرى ان الاستواء اذا تعدى بالى، فانه يدل على القصد والارادة واذا تعدى بعلى فانه يدل على الاستيلاء لذا فهو يؤيد كون الاستواء بمعنى الاستيلاء في قوله تعالى : ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العرش استوى﴾(5) (طه/5) ويستعد عن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ ﴾(فصلت/11) اذ يرى ان معنى الاستواء هنا هو القصد والارادة (6)

ص: 483


1-
2-
3- الانصاف 25 وهو يرى ان العرش ليس مكان لله تعالى لان الله تعالى كان ،ولامكان فلما خلق المكان لم يتغير عما كان) الانصاف 41.
4- ظ الشامل 554 .
5- الجرجاني شرح المواقف 8 :110
6- المصدر نفسه.

2 - الوجه

ترد هذه الصفة في عدة آيات كريمة كقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وجهه,﴾ (القصص /88)﴿ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ﴾(سورة البقرة/115) ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَلِ وَالْإِكْرَامِ ﴾ (الرحمن/27).

وعند متقدمي الأشعرية نجد أن غير الأشعري يقول بصفة الوجه لله تعالى لكنه لايكيف ذلك (1) ويرى انه تعالى اخبر في الآيات (ان له وجها لا يفنى ولا يلحقه الهلاك)(2).

ويضفي الباقلاني على تفسيره الآية بعدا تأويليا يبعد عن منهج الأشعري في فهمها فالوجه في هذه الآيات وفي غيرها هو الذات فعند استدلاله على صفة البقاء لله تعالى بانها بمعنى انه دائم الوجود يستدل بقوله تعالى: ﴿وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ﴾(الرحمن /27) وقوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾ (القصص/88) ويرى ان الوجه في كلتا الآيتين يعني ذاته تعالى (3).

ويكتفي البغدادي بتفسير قوله تعالى: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكُ إِلَّا وَجْهَهُ ﴾. بأن المراد به (بطلان كل عمل لم يقصد به وجه الله تعالى(4) .

بينما يرجح الجويني ان يراد بالوجه هنا (ان يحمل على الوجود، وقيل المراد بالوجه الجهة التي يراد بها التقرب الى الله تعالى ويقال فعلت ذلك لوجه الله تعالى معناه لجهة امتثال امر الله) (5)فكان اكثر تفصيلا للمعنى وقربا الى التأويل من البغدادي الذي يميل غالبا الى التزام خط الإمام الأشعري في فهمه للآيات.

ص: 484


1- ظ الابانة 9 ،مقالات الاسلاميين 1: 320 .
2- الابانة 35.
3- ظ الانصاف 37 ،38.
4- اصول الدين 110.
5- الارشاد 157.

وكان الرازي اكثر صراحة في رفض ان يكون الوجه المذكور في هذه الآيات هو الوجه بمعنى العضو والجارحة )(1) واستدل على ذلك بسياق كل آية وخصوصية التعبير فيها ملزما المشبهة بأصولهم ففي قوله تعالى: {كل شيء هالك الا وجهه }لو كان الوجه هو العضو المخصوص لزم ان يفنى جميع الجسد والبدن وان تفنى العين التي على الوجه وان لا يبقى الا مجرد الوجه وقد التزم بعض حمقى المشبهة ذلك وهو جهل عظيم ) (2)وفي قوله تعالى : { ويبقى وجه ربك ذو الجلال والاكرام} يرى ان الوجه هو الذات حيث ان ظاهر الآية يقتضي وصف الوجه بالجلال والاكرام (ومعلوم ) ان الموصوف بالجلال والاكرام هو الله تعالى وذلك يقتضي ان يكون الوجه كناية عن الذات)(3)وهو يطابق تفسير الجويني للآية ويؤكد ضرورة تأويل الوجه الوارد في الآيات متبعا طريقة الزام الخصم بالادلة ففي قوله تعالى: {فاينما تولوا فثم وجه الله }يستبعد كونه الوجه المخصوص (فانا ندرك بالحس ان العضو المسمى بالوجه غير موجود في جميع جوانب العالم وايضا فلو حصل ذلك العضو في جميع الجوانب لزم حصول الجسم الواحد دفعة واحدة في امكنة كثيرة وذلك لا يقوله عاقل)(4)نافيا بذلك لوازم الاخذ بظاهر الآية من كونه تعالى جسما. ويلزم المشبهه والمجسمة بقولهم بان الوجه قديم ازلي في نفيه لكون الوجه هو العضو اخذاً للآيات على ظاهرها ففي قوله تعالى: ﴿يُرِيدُونَ وَجْهَهُ﴾ وقوله تعالى: ﴿ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعلَى ﴾لا يمكن حمل شيء منها على الظاهر (لان وجهه تعالى على مذهبهم قديم ازلي والقديم الازلي لايراد لان الشيء الذي يراد معناه انه يراد حصوله دخوله في الوجود، وذلك القديم في الازل محال وايضا فهؤلاء كانوا يعبدون الله تعالى، وما

ص: 485


1- اساس التقديس 117 ،118
2- المصدر نفسه.
3- المصدر نفسه 118.
4- اساس التقديس 118.

كانوا يريدون وجه الله كيف كان وانه لو كان غضبان عليهم فهم لايريدونه بل انما يريدون منه كونه راضيا عنهم وذلك يدل على انه ليس المراد من الوجه في هذه الآيات نفس الجارحة المخصوصة بل المراد منه شيء اخر وهو كونه تعالى راضيا عنهم (1).

3 - العين.

وردت هذه الصفة في عدة آيات كريمة كقوله تعالى:﴿ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا ﴾(القمر/ 14 ) و ( وَأَصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾ ( هود /37) و﴿ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا ﴾(الطور /48) و ﴿ وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي﴾ .

(طه/39) وغيرها. وقد اتخذ فهم هذه الايات خطا تصاعديا من البلكفة عند الإمام الأشعري حيث يرى ان الآيات الاربعة تفيد عينا بلا كيف (2) كما تفيد ميل منه الى التأويل في موضع آخر لصفة السمع والبصر ورؤيته (3)تعالى للاشياء وهذا ما يؤيده عبد القاهر البغدادي حيث يرى في قوله تعالى: ﴿وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى﴾ انه بمعنى الرؤية بمعنى الآية (على رؤية مني ولكنه يؤول الآية الثانية مستفيدا من السياق القرآني الذي جاء بعدها بما يبعد قصد الجارحة عن الآية فقوله تعالى : ﴿تَجْرِى بِأَعْيُنِنَا ﴾اراد به تعالى (العيون التي جرت بها السفينة في الماء لأنه قال ﴿ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونَا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قَدِرَ ﴾ (القمر / 11-12) فجرت السفينة بتلك العيون المنفجرة )(4). الا ان الجويني يرى للآية تأويلا مخالفا ويرجح اضافتها العين لله تعالى انه بمعنى الحفظ والرعاية كعادة العرب في الاستعمال اذ معنى قوله تعالى ﴿تجرى بِأَعْيُنِنَا ﴾عنده انها تجري باعيننا وهي منا بالمكان المحوط بالملائكة والحفظ والرعاية

ص: 486


1- المصدر السابق نفسه.
2- الابانة 9 ،35 مقالات الاسلاميين 1: 32
3- الابانة 35.
4- اصول الدين 110 .

يقال فلان بمرأى من الملك ومسمع اذا كان بحيث تحوطه عنايته وتكتنفه رعايته) (1)ولكنه من جانب اخر لم يستبعد المعنى الذي ذهب اليه البغدادي في الآية (2) وهو يرى الاتفاق على ان هذه الآيات تصرف عن ظاهرها(3).

ويسلك الرازي في معالجته لهذه الآيات مسلكا يقوم على:

1 - انها (لا يمكن اجراؤها على ظاهرها)(4).

2 - ان وجوه هذا الصرف عن الظاهر تبنى على وجوه تستند الى ما يلزم عن اجراء الظاهر من نقص وكالاتي (5):

ففي قوله تعالى : { ولتصنع على عيني }يقتضي الظاهر( ان يكون موسى (عليه السلام)مستقرا على تلك العين ملتصقا بها مستلقيا عليها، وذلك لا يقوله عاقل).

وفي قوله تعالى: ﴿وَأَصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا﴾ . يقتضي ان يكون آلة تلك الصنعة هي تلك الاعين وان اثبات الاعين في الوجه الواحد قبيح وينتهي الى ان التأويل هو الحل الذي يبعد هذه النواقص فيقول ( فثبت انه لابد من المصير الى التأويل، وذلك هو ان يحمل هذه الالفاظ على شدة لعناية والحراسة والوجه في حسن هذا المجاز ان من عظمت عنايته بشيء وميله اليه ورغبته فيه كان كثير النظر اليه فجعل لفظ العين التي هي آلة النظر كناية عن شدة العناية (6)

ص: 487


1- الارشاد 157.
2- المصدر نفسه 157.
3- المصدر نفسه 157 .
4- المصدر نفسه 121.
5- الارشاد 121.
6- المصدر نفسه 122.

4 - اليد.

يرد هذا اللفظ في عدة آيات كريمة من القرآن كقوله تعالى: ﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أيديهم﴾ (الفتح (10) ﴿و مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَى ﴾ (ص/75) و﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾(المائدة/64) .

يرى الأشعري ان له تعالى يد بدلالة هذه الآيات ولكن بلا كيف (1)ويبدو ان اغلب متكلمي الأشعرية الاخرين يميلون الى تأويل اليد هنا بالقدرة كالبغدادي الذي يستحسن هذا الوجه وينقل رأي الأشعري ثم يؤيد معنى القدرة بقوله ( وذلك صحيح على المذهب اذا اثبتنا لله القدرة وبها خلق كل شيء ولذلك قال في آدم (عليه السلام) ﴿خَلَقْتُ بِيَدَى ﴾ووجه تخصيصه لآدم(عليه السلام)بذلك ان خلقه بقدرته لا على مثال له سبق لامن نطفة ولا نقل من الأصلاب الى الارحام كما نقل ذريته من الأصلاب الى الارحام )(2)

وقد اختار الجويني هذا التأويل للآية بالقدرة فقال (والذي يصح عندنا حمل اليدين على القدرة...)(3) ووصف قول من استبعد ان تكون اليد هنا بمعنى القدرة بانه قول غير سديد وسبب ذلك (ان العقول قضت بان الخلق لا يقع الا بالقدرة او يكون القادر قادرا فلا وجه لاعتقاد وقوع خلق آدم (عليه السلام)بغير القدرة (4).

ويبين الرازي تأويله للآيات منطلقا من طبيعة الاستعمال اللغوي لليد مقارنة بحقيقتها (فلفظ اليد حقيقة في هذه الجارحة المخصوصة الا انه يستعمل على سبيل المجاز في امور غيرها )ويبدو من تلك الامور:(5) القدرة ،التعمة، ذكر لفظ اليد صلة

ص: 488


1- الابانة ،9 ،35 مقالات الاسلاميين 1: 230
2- اصول الدين 111 .
3- الارشاد 155.
4- المصدر نفسه 156.
5- اساس التقديس 125.

للكلام على سبيل التاكيد ثم تراه يميل الى تأويل الآيات وسيتبين ان هذه المعاني جميعا ترد في دلالة الآيات في استعمالها لفظ اليد ففي قوله تعالى:﴿ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾جاءت اليد بمعنى القدرة اذ معنى الآية( ان قدرة الله تعالى غالبة على قدرة الخلق)(1) وجاءت بمعنى النعمة في قوله تعالى : حكاية عن اليهود﴿ يد الله مغلولة ﴾اذ يثبت عنده (ان المراد انهم كانوا يعتقدون ان نعم الله تعالى محبوسة عن الخلق ممنوعة عنهم فصارت هذه الآية من اقوى الدلائل على ان لفظة اليد قد يراد بها النعمة)(2)والنعمة ايضا هي معنى اليد في قوله تعالى:﴿ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾ويقوّي ذلك عنده:

أ - ما تبين ان قول اليهود يد الله مغلولة ليس معناه الغل والحبس بل معناه احتباس نعم الله تعالى عنهم فوجب (ان يكون قوله ﴿بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ﴾عبارة عن كثر نعم الله تعالى وشمولها للخلق حتى يكون الجواب مطابقا للسؤال)(3)

ب - ان حمل اللفظ على ظاهره يلزم عنه كون يديه مثل يد صاحب التسنج تعالى الله عنه(4) فثبت ان المراد منه افاضة النعم.

وترى الرازي ايضا يؤول لفظا آخر يرد في القرآن بما يوهم باليد (الجارحة) ففي قوله تعالى: ﴿وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ، يَوْمَ الْقِيَمَةِ ﴾ (الزمر / 67) اذ يستدل بالادلة العقلية على نفي امكان حمل الآية على ظاهرها لما يلزم عنه من محالات وينتهي الى وجوب تأويلها بان يقال: ان الارض في قبضته الا ان هذا الكلام كما يذكر ویراد به احتواء الانامل على الشيء فقد يذكر ويراد به كون الشيء في قدرته وتصرفه

ص: 489


1- اساس التقديس 126.
2- المصدر نفسه 126 .
3- المصدر نفسه.
4- اساس التقديس 126.

وملكه، يقال هذه البلدة فى قبضة السلطان والمراد ما ذكرناه) (1) ويؤول لفظ اخر يوهم باليد في قوله تعالى: ﴿وَالسَّمَوَاتُ مَطْوِيَّتُ بِيَمِينِهِ ﴾ (الزمر / 67) بان اليمين هنا (عبارة عن القوة والقدرة) (2).

5 - النور.

من ذلك قوله تعالى:﴿اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَيَشكَوة فِيهَا مصْبَاحُ الْمِصْبَاحُ ﴾(النور /35).

يتفق اغلب الأشعرية على تأويل النور الوارد في الآية وان اختلفوا في المعنى المراد منه فالبغدادي يستفيد من السياق في الآية وورود لفظ السموات والارض فيرى ان وصفه تعالى انه نور السموات والارض ( على معنى انه منورها )(3).

اما الجويني فهو يرى ان معنى كونه تعالى نور السموات والارض انه هادي اهل السموات والارض وهو يرى انه (لايستجيز لمسلم منتم للاسلام القول بان نور السموات والارض هو الله)(4)فيستفيد من المعنى اللازم عن اجراء الآية على ظاهرها في استبعاد المعنى المادي للنور فالمقصود في الآية في رأيه (ضرب الامثال بذلك على الاجمال وقد نطق بما ذكرناه سياق الادلة فانه عز وجل من قائل قال ﴿وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَلَ لِلنَّاسِ ﴾(النور / 35) وتابعه الرازي في معنى الآية بانه لايصح القول بانه تعالى هو هذا النور المحسوس بالبصر مستدلا على ذلك بعدة وجوه تتعلق بفهم الآية وظاهر وسياق ورودها وهي(5):

ص: 490


1- اساس التقديس 130، 131.
2- الممصدر نفسه 134.
3- اصول الدین 78 .
4- الارشاد 158 .
5- اساس التقديس 96 ،97 .

ا - انه تعالى لم يقل انه نور بل قال انه نور السموات والارض، ولو كان نورا في ذاته لم يكن لهذه الاضافة فائدة.

ب - لو كان كونه تعالى نور السموات والارض بمعنى الضوء المحسوس لو جب ان لايكون في شيء من السموات والارض ظلمة البتة لأنه تعالى دائم لايزال ولا يزول.

لو كان تعالى نور بمعنى الضوء وجب ان يكون ذلك الضوء مغنيا عن ضوء الشمس والقمر والنار والحس دال على خلاف ذلك.

د - انه تعالى ازال هذه الشبهة بقوله﴿ مَثَلُ نُوره﴾ اضاف النور الى نفسه، ولو كان تعالى نفس النور ذاته لأ متنعت هذه الاضافة.

ه_ - انه تعالى قال وجعل الظلمات والنور فتبين بهذا انه تعالى خالق الانوار .

و ان النور يزول بالظلمة ولو كان تعالى عين هذا النور المحسوس لكان قابلا للعدم وذلك تقدم من كونه قديما واجب الوجود، وبهذه وغيرها من الوجوه البديعة في الاستدلال ينتهي الرازي الى تأويل قوله تعالى: ﴿ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ بنفس تأويل الجويني ان معناها هادي اهل السموات والارض(1).

6 - الساق :

ويرد ذكرها في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ﴾(القلم /42) يرى الجويني انه لايتخيل حمل الساق على الجارحة ذو تحصيل فيوجب تأويلها ویری ان معناها (الانباء عن الاهوال يوم القيامة وصعوبة احوالها وما يدفع اليه المجرمون من انكالها...) (2).

ص: 491


1- اساس التقديس 98 .
2- الارشاد 159.

ويرد الرازي احتجاج من وصفه تعالى بنسبة الساق اليه سبحانه واقام استدلاله على ذلك مستفيدا من ظاهر الآية وسياقها من وجوه (1).

أ - ليس في الآية ان الله تعالى يكشف عن ساقه بل قال ﴿يُكْشَفُ عَن سَاقٍ ﴾بلفظ ما لم يسم فاعله .

ب - ان اثبات الساق الواحد للحيوان نقص وتعالى الله عنه.

ج - ان الكشف عن الساق انما يكون عند الاحتراز عن تلوث الثوب بشيء محذور وجل اله العالم عنه.

وينتهي من ذلك كله الى تأويل الآية فقوله يكشف عن ساق أي:

شدة القيامة وعن اهوالها وانواع عذابها واضافه الى نفسه لأنه شدة لايقدر عليها الا الله تعالى ونلاحظ ان هذا التأويل مطابق لتأويلات الإمامية والمعتزلة للآية.

7 - الحركة والإنتقال .

فقد وردت آیات یوهم ظاهرها بنسبة ما يلزم عنه الحركة والانتقال كقوله تعالى: ﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا أَن يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْعَمَامِ ﴾ (سورة البقرة (210).

للرازي في تأويل الآية وجهين كلاهما يقوم على تقدير محذوف(2)

الأول: انها بمعنى هل هل ينظرون الا ان تأتيهم آيات الله فجعل مجيء آياته مجيئا له على التضخيم بشأن الآيات كما يقال جاء الملك اذا جاء جيش عظيم من جهته.

الثاني: ان يكون المراد هل ينظرون الا ان يأتيهم امر الله، وفي هذه الوجه نلاحظ انه يضع معيارا للتأويل في ظواهر الآيات يقوم على انه تعالى اذا اضاف

ص: 492


1- اساس التقديس 140.
2- اساس التقديس 103، 104 وهو ما بنى الجويني تأويله للاية عليه ايضا ظ الارشاد 106 وانما اختار البحث قول الرازي فيها لأنه اكثر تفصيلا.

فعلا الى شيء فان كان ظاهر تلك الاضافة ممتنعا فالواجب صرف ذلك الظاهر الى التأويل... فكان تأويله هذا بتقدير حذف المضاف واقامة المضاف اليه مقامه وذلك مجاز مشهور يقال ضرب الامير فلانا والمراد انه امر بذلك وهو شبيه لقوله تعالى: ﴿وَسْئلِ الْقَرْيَةَ﴾ (يوسف/82) والمراد أهل القرية وقوله: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ ﴾(المجادلة /5) والمراد يحادون أولياء الله.

ويستدل على صحة تأويله بالسياق الذي وردت الآية فيه وما يفسرها من القرآن نفسه ولذلك وجهان (2)

ا - انه قوله تعالى: ﴿يَأْتِيَهُمُ اللهُ ﴾ وقوله: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ ﴾(الفجر /22) اخبارعن حال القيامة وان هذه الحوادث لما وردت في واقعة واحدة لم يبعد حمل بعضها على بعض.

ب - انه تعالى قال بعد هذه الآية ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ ﴾ولا شك ان الالف واللام للمعهود السابق وهذا ما يستدعي ان يكون قد جرى ذكره من قبل ذلك حتى يكون الالف واللام اشارة اليه وما ذاك الا الذي اضمره من ان قوله ﴿يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ ﴾أي ياتي امر الله.

وهذا التأويل بوجهيه مطابق ايضا لتأويلات الإمامية والمعتزلة للآية.

8 - ما يوهم كونه تعالى في السماء.

حيث ترد بعض الآيات الكريمة بما يوهم حلوله في مكان ومنها ما يوهم حلوله سبحانه في السماء كقوله تعالى: ﴿أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كيْفَ نَذِيرٍ ﴾ (المك/ 16-17).

ص: 493

يحتمل الجويني للآية عدة معان تدل جميعا على القطع بان الذي في السماء هو غيره تعالى يقول: (1)

يجوز ان يقال معنى قوله تعالى:﴿ء أَمِنهُم مَّن فِي السَّمَاءِ﴾ . حكمه وامره وسلطانه ويجوز ان يريد ملكا مسلطا على عذاب مستوجب العذاب وقد حمله بعض المتأولين على جبرائيل (ع) فانه الذي جعله الله جعل قرى قوم لوط عليها سافلها واقتلها من حيث اراد الله وهو المعني بقوله﴿ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينِ ﴾ (التكوير/20).

9 - الجنب .

يرد ذكرها في قوله تعالى: ﴿بَحَسْرَكَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ ﴾ (الزمر/56) يقطع الجويني جازما بعدم امكان حمل الجنب في الآية على الجارحة ويرى ان ذلك لا يلتبس إلا على غر غبي ويستدل على ذلك بان انتظام الكلام لا يقبله اذ لايستقيم محل الجنب على الجارحة مع ذكر التفريط (2)وبالتالي فلا يبقى الا تأويل الآية بحمل الجنب على جهات امر الله تعالى ومآخذها، وقد يراد بالجنب الذرا يقال فلان محترس برعاية فلان لائذ بجنابه.. (3).

ب - الرؤية

وهي من اهم ما وقع فيه اختلاف الأشعرية مع الإمامية والمعتزلة وتكاد تمثل ركيزة اساسية في المنظور الأشعري للعقيدة.

وقد ثبت لنا في الفصلين السابقين ان الإمامية والمعتزلة نفوا وقوع الرؤية وأولوا كل الآيات التي ورد ظاهرها موحيا بذلك كما اولوا الآيات التي استدل بها

ص: 494


1- الشامل: 556 .
2- الارشاد 158، 159
3- المصدر نفسه 158 ،159

الأشاعرة القائلين بجواز الرؤية. وبيانا لاهمية هذه المسألة عند الأشعرية لانكاد نجد متكلما منهم الا ويعقد لها بحثا(1)خاصا لاثباتها بالادلة العقلية والنقلية ورد استدلالات النافين لها وهم يقيمون الادلة العقلية على جواز الرؤية ويجتهدون في اثبات حصولها مع دفع اعتراضات واشكالات الخصوم في القول باستلزامها التجسيم والحيز والجهة عليه تعالى ولامجال للخوض في ذلك حيث عقد هذا المبحث لاستقصاء منهجهم في فهم النص القرآني فيحسن الرجوع الى كتبهم الكلامية(2) .

ولكن لاضير في التنويه الى ان اهم دليل عقلي يقيمونه على جوازها هو دليل الوجود، يقول الباقلاني في تقريره لهذا الدليل فان قال قائل فهل يجوز ان يرى القديم سبحانه بالابصار ؟ قيل له ،اجل فان قال : فما الحجة في ذلك. قيل له الحجة في ذلك انه موجود والشيء انما يصح ان يرى من حيث كان موجودا (3).

وتتعدد ادلتهم القرآنية على جواز الرؤية ويتوسعون في بحثها بما يحتاج استقصاؤه الى كتاب ضخم مستقل ويكتفي البحث هنا بما يقدم تصورا عن اعتقادهم في المسالة حيث نجدهم يستدلون بمجموعة آيات قرآنية على وجوب حصولها شرعا كالآتي:

اولا قوله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَيْنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ، قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَينِي وَلَكِن أنظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرٌّ مَكَانَهُ, فَسَوْفَ تَرَينِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكَّا وَخَرَ مُوسَى صَعِقَا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَنَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾(الاعراف/143) هذه الآية من اهم واقوى ما استدل

ص: 495


1- ظ :الأشعري الابانة ،16: اللمع 61 ،67 وانظر الباقلاني : الانصاف ،176 التمهيد 301 الجويني: الارشاد 177 الشهرستاني الملل والنحل :1 100 الغزالي: الاقتصاد 41
2- ظ :الأشعري: الابانة 16 اللمع 61 67 الباقلاني : الانصاف ،47 ،177 الجويني الارشاد 177، الشهرستاني: الملل والنحل :1 ،100 الغزالي الاقتصاد 41 وما بعدها.
3- التمهيد ،301، الانصاف 181 .

به الأشعرية على قولهم بوجوب الرؤية وتعددت مواضع الاستدلال ووجوهه في الآية بما يمكن اجماله في الاتي:

1 - طلب موسى(عليه السلام)الرؤية : حيث يستدلون به على كون رؤيته تعالى جائزة ووجه الاستدلال كما يقرره الإمام الأشعري انه لايجوز ان يكون موسى(عليه السلام)الذي قد البسه الله تعالى جلباب النبيين وعصمه بما عصم به المرسلين فيسأل ربه ما يستحيل عليه واذا لم يجز على موسى فقد علمنا انه لم يسال ربه مستحيلا وان الرؤية جائزة على ربنا عز وجل(1) وانه لو كانت ممتنعة في حقه تعالى لكان طلبه (عليه السلام) لها جهلا منه لما يجوز عليه تعالى وما لايجوز ممانزه عنه الانبياء(عليه السلام) فلما اعتقد (عليه السلام)جواز الرؤية فهو لايخلو من ان يكون اصاب او خطأ ( ولما لم يجز ان يكون النبي مخطئا في اعتقاده فلم يبق الا انه اصاب) (2)

يقول الجويني في توجيه الاستدلال بسؤال موسی(عليه السلام) و لزوم علم النبوة بصفاته تعالى

(يجوز على الانبياء الريب في أمر يتعلق بعلم الغيب، اما ما يتعلق بوصف الباري عز وجل فلا يجوز عليهم الريب فيجب حمل الآية على ان ما اعتقده موسی(عليه السلام) جوازه جائز(3)بل ان الجويني يرى ان قوله تعالى: ﴿ قَالَ لَن تَرَينِي﴾ وهو ما اعتبره النافون للرؤية اقوى دليل على استحالتها لان{لن} للتابيد يراه اقوى الادلة على ثبوت جواز الرؤية : فان من اصطفاه الله لرسالته واختاره واجتباه لنبوته وخصصه بتكريمه وشرفه بتكريمه يستحيل ان يجهل من حكم ربه ما يدركه... المعتزلة وغيرهم من نفاة الرؤية.

2 - تعليق الرؤية على استقرار الجبل :بقوله تعالى: جوابا على سؤال موسى: ﴿وَلَكِن

ص: 496


1- الابانة 13 وانظر البا اقلاني : الانصاف ،47 البغدادي: اصول الدين ،99 الجويني: الارشاد 185.
2- انظر المصادر السابقة وانظر ايضا الجويني لمع الادلة 104 الجرجاني شرح المواقف 3: 158
3- لمع الأدلة 104.

أنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَيْنِي﴾ حيث يرون ان تعليق الرؤية على استقرار الجبل وهو أمر ممكن عقلا يعني جوازها ويقول الإمام الأشعري في تقرير وجه الاستدلال (فلم) كان الله عز وجل قادرا على ان يجعل الجبل مستقرا كان قادرا على الامر الذي لو جعله لرآه ..موسى... ولو اراد الله عز وجل تبعيد الرؤية لقرن الكلام بما يستحيل وقوعه ولم يقرنه بما يجوز وقوعه فلما قرنه باستقرار الجبل وذلك امر مقدور لله سبحانه دلّ ذلك على انه جائز ان يرى الله عز وجل (1). ويرى الشهرستاني في هذا الجواب وجها آخر للاستدلال على جواز الرؤية اذ انه تعالى قال لَن تَرَينِي ولم يقل لست بمرئي فاثبت العجز وامتناع الرؤية من جهة الرائي فلهذا قال ﴿وَلَكِن أَنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ, فَسَوْفَ تَركني﴾ اذ الجبل لما لم يكن مطيقا للتجلي مع شدته وصلابته فكيف يكون البصر مطبقا، فربط المنع بامر جائز ومع جوازه احال المنع على ضعف الآلة لاعلى معنى الاستحالة فدل على ان السؤال كان بأمر جائز فتحقق الجواز(2)

3 - معنى قول موسى﴿ تُبْتُ إِلَيْكَ ﴾: حيث يعترض النافون للرؤية بهذا القول على ان موسى علم تاب عن طلبه السؤال لما تبين له استحالة الرؤية وانه اخطأ بطلبها وقد فصل الباقلاني وجوها في الرد على الاعتراض هي: (3)

أ - انه(عليه السلام) لما رأى عظيم الآية من جعل الجبل دكا وصعوقه قال على جري العادة من القول عند الفزع﴿ تُبْتُ إِلَيْكَ ﴾.

ب - ان يكون قال ذلك للشدة التي اصابته عند سؤال الرؤية وان كانت الرؤية جائزة.

ج - ان موسی ام كانت ارادته تعجيل الرؤية له في الدنيا قبل الاخرة وكان مراد الله تعالى تاخيرها الى الاخرة وان لا يتقدم على نبينا (صلی الله علیه وآله وسلم)في الرؤية....

ص: 497


1- الابانة 14 وانظر ايضا الباقلاني: الانصاف 47، 179.
2- نهاية الاقدام في علم الكلام ،367، 368 وانظر ايضا االباقلاني : الانصاف 178
3- ظ: الانصاف 179، 180

ثانيا: قوله تعالى : ﴿وُجُوهٌ يَوْمَذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَتِهَا نَاظِرَةٌ ﴾(القيامة/22-23) يقوم استدلال الإمام الأشعري بالآية على تعداد المعاني المحتملة للنظر في اللغة ثم يستبعدها جميعا بالاستدلال ليبقى ما يدل على الرؤية بالبصر. فالنظر في اللغة (1):

(اما ان يكون نظر الاعتبار كقوله تعالى: ﴿ أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾(الغاشية /17) او يكون نظر الانتظار كقوله تعالى: ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَحِدَةً ﴾ (يس / (49) او يكون نظر الرؤية، ثم يرد المعنيين الأولين عن الدلالة على معنى الآية فلا يجوز ان

يكون نظر التفكر والاعتبار لان الاخرة ليست بدار اعتبار ولا يجوز ان يكون نظر الانتظار لان

النظر اذا ذكر مع الوجه لم يكن معناه نظر الانتظار الذي بالقلب، وايضا فان نظر الانتظار لايكون في الجنة لان الانتظار معه تنغيص وتكدير واهل الجنة لهم في الجنة ما لاعين رأت ولا اذن سمعت من العيش السليم والنعيم المقيم واذا كان هذا هكذا لم يجز ان يكونوا منتظرين فتبعد المعاني الثلاثة من النظر: التفكر والاعتبار والانتظار ويصح الرابع وهو الرؤية لتثبت صحة رأيه في الآية بان معناها (انها ((الوجوه)) مشرقة﴿ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ أي رائية )(2) وهو يستبعد تأويل النافين للرؤية للآية بتقدير مضاف محذوف بحيث يكون تقدير الآية (الى ثواب ربها ناظرة انطلاقا من معيار منهجي اساسي يستند الى انه تعالى قال: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ولم يقل الى غيره ناظرة )ويتمثل في ان القرآن على الظاهر وليس لنا ان نزيله عن ظاهره الا لحجة (3) ويؤكد الباقلاني كون النظر في الآية هو الرؤية لاثبات انها جاءت دليلا على جوازها مستفيدا من قوانين اللغة وسياق الآية ( فالنظر في كلام العرب اذا قرن بالوجه ولم يضف الوجه الذي قرن بذكره الى قبيلة او عشيرة وعدي بحرف الجر ولم يعد الى مفعولين، فالمراد به النظر بالبصر لا غير ذلك، الا ترى الى قولهم انظر الى زيد بوجهك يعنون بالعين التي في وجهك (4)

ص: 498


1- الابانة 12.
2- المصدر نفسه 12.
3- المصدر نفسه 13.
4- ظ التمهيد 267 .

وهذا ما اكده الجويني اسنتادا الى نفس الدليل اذيقول بعد التفصيل المعاني النظر المحتملة في اللغة وقد مر تفصيل الأشعري لها والنظر في الآية التي احتججنا بها موصول بالى خبر عن الوجوه الناظرة المستبشرة فاقتضاء النظر اثبات الرؤية) (1).

ثالثا: قوله تعالى:﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾(يونس/26) حيث يرى الأشعرية ان الزيادة المذكورة في الآية هي الرؤية ويستدلون على ذلك بان الصحابة جميعا فهموا منها هذا(2)وان الخليفة ابو بكر الصديق (رض) قال (الزيادة :النظر الى وجهه الكريم )وقد ذكر هذا التفسير موفوعا الى الرسول (صلی الله علیه وآله وسلم).

وينقل الأشعري هذا المعنى عن اهل التأويل فالزيادة هي: النظر الى الله عز وجل ولم ينعم الله عز وجل اهل جنانه بافضل من نظرهم اليه ورؤيتهم له )(3).

رابعا: قوله تعالى:﴿ كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَذٍ مَحْجُوبُونَ ﴾ (المطففين/15) يرتب الأشعري معنى هذه الآية في دلالتها على الرؤية على معنى قوله تعالى: ﴿تَحِيَّتُهُم يَومَ يَلْقَونَهُ سَلَمُ ﴾ (الاحزاب/44) اذ يرى ان المؤمنين يلقونه واذا لقوه رأوه وقد قال تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَذٍ لَحْجُوبُونَ ﴾تنصل بالكفار اذ انه تعالى قد (حجبهم عن رؤيته ولا يحجب المؤمنين)(4). وهذا ما اكده الباقلاني في معنى الآية حيث يفهم منها الدلالة على اختصاص المؤمنين بعدم الحجب وانه خاص بالكافرين حيث ان) الحجب للكفار عن رؤيته عذاب فدل على ان المؤمنين غير محجوبين ولا يعذبون بعذاب الحجاب) (5).

ص: 499


1- الارشاد 182.
2- ظ الباقلاني : الانصاف 187.
3- الابانة 14.
4- المصدر نفسه 14.
5- الانصاف 180، 181 وانظر تفسير الابجي للآية في شرح المواقف للجرجاني 3: 195

خامسًا: قوله تعالى : تحيتهم يوم يلقونه سلام (الاحزاب /44) .

حيث يفسر الأشعري كما مر ان المؤمنين يلقونه تعالى وانهم اذا لقوه رأوه(1) .

ويقيد الباقلاني اللقاء بانه اذ قرن بالتحية فلا يقتضي الا الرؤية (2)ويذهب الرازي الى تأويل كل ما جاء في القرآن من لفظ اللقاء على انه الرؤية (3) معدداً الآيات التي وردت في القرآن الكريم.

سادسًا: قوله تعالى : ﴿لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَر﴾ (الانعام / 103) وهذه الآية هي اقوى ما يحتج به النافون للرؤية من الإمامية والمعتزلة وغيرهم.

ويربط الأشعري دلالة الرؤية بآية اخرى هي قوله تعالى: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾(القيامة /23) حيث يرى ان هذه الآية تخص الرؤية في الاخرة وتجوزها وان قوله تعالى: لاتدركه الابصار خاص (في الدنيا دون الاخرة لان القرآن لا يتناقض، فلما قال تعالى في آية اخرى انه لاتدركه الابصار علمنا ان الوقت الذي قال انه لا تدركه الابصار فيه غير الوقت الذي اخبرنا انها ناظرة اليه )(4) ويبنى الباقلاني فهمه للآية على ان دلالتها جواز الرؤية وليس ما احتج به النافون لها من انها جاءت في مقام التمدح بنفي ادراك الابصار ويرد استدلالهم بها على نفي الرؤية بعدة وجوه منها: (5)

أ - ان التمدح في الآية انما وقع في قوله تعالى: ﴿وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَرَ ﴾. لان كون الشيء لا يدرك بالابصار لايدل على مدحه الا ترى المعدوم لاتدركه الابصار ولايوجب كون ذلك مدحة وان الوصفين الذين يتمدح بهما لابد ان يكون في كل واحد منهما

ص: 500


1- الابانة 15.
2- الانصاف 47.
3- اساس التقديس 95 .
4- اللمع/ 65.
5- ظ الانصاف 182-184 (بتصرف).

مدح بمجرده نحو قوله تعالى : ﴿عَزِيزٌ حَكِيمُ ﴾ (سورة البقرة/209).

ب - ان المدح وقع في الآية بكونه تعالى مع جواز رؤيته منعنا من الادراك له بان يحدث في ابصارنا مانعا يمنعنا من رؤيته فالمدح وقع بكونه قادرا على ذلك دون غيره من الخلق فقوله تعالى: ﴿ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَرَ ﴾حجة على النافين للرؤية.

ج - ان المعتزلة بالذات لايصح لهم الاحتجاج بهذه الآية لان البصريين منهم عندهم انه تعالى لم يعن بالادراك الرؤية وانما العلم.

د - ان الآية لا حجة فيها للنافين لأنه تعالى لم يقل لا تراه الابصار وانما قال﴿ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ﴾ والادراك بمعنى يزيد على الرؤية لان الادراك: الاحاطة بالشيء من جميع الجهات والله تعالى لا يوصف بالجهات ولا انه في جهة فجاز في ان يرى وان لم يدرك.

ه_ - ان معنى الآية خاص في الدنيا وان جاز ان تدركه في الاخرة للجمع بين الآيتين﴿ لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَرُ﴾و﴿ إِلَى رَتِهَا نَاظِرَةٌ ﴾وبأن الابصار التي لاتدركه هي ابصار الكفار دون المؤمنين للجمع بين قوله تعالى:﴿ وُجُوهٌ يَوْمَهدِ نَاضِرَةُ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾(القيامة/22-23) وقوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَذٍ مَحْجُوبُونَ ﴾(المطففين/15) وهذا صحيح لان الحجاب لما كان للكفار دون المؤمنين، كذلك الرؤية للمؤمنين دون الكفار.

و - ان ابصار الخلق لا تدركه في الدنيا والاخرة لأنها جعلت للفناء وانما يحدث لهم بصرا غير هذا البصر ويكون باقيا غير فان فيرى الباقي بالباقي، وفي هذه الوجوه التي احتملها الباقلاني نكاد نجد ان اغلب الوجوه التي استند اليها الأشاعرة في فهمهم للآية واستدلالهم على الرؤية مع استحضار لزوم دفع اعتراضات النافين للرؤية وهذه الآية اقوی اعتراضاتهم ويتفق الجويني مع الباقلاني في اغلب هذه الوجوه فله في الكلام في هذه الآية مسالك منها:

ص: 501

1 - ان الله لايدرك جريا على ظاهر الآية بل يُدرك.

2 - ان ما تمسك به السالكون مسلك النفي للرؤية استندوا الى نفي الادراك لأنه يستلزم الاحاطة واللحوق وانما يلحق ذو الغايات.

3 - ان الآية مطلقة غير مختصة بالاوقات وهي عامة فيها فيحمل المطلق على المقيد فيحمل نفي الادراك على ايام الدنيا (1)ويبني الغزالي فهمه للآية على الوجوه الثلاثة الاخيرة التي ذكرها الباقلاني كما يتابع اغلب ما ذكره الجويني فمعنى الآية يتردد ان يكون لا تحيط به الابصار ولا تكتنفه من جوانبه كما تحيط الرؤية بالاجسام وذلك ،حق او هو عام فاريد به في الدنيا وذلك ايضا حق وهو ما اراده بقوله سبحانه لن تراني في الدنيا (2).

ج - الكلام

قضية الكلام الالهي من القضايا التي ترتبت عليها العديد من الخلافات وكانت مثارا للجدل الطويل والافتراقات بين المذاهب الكلامية الاسلامية عموما.

وكان للاشعرية فيها موقف تبناه جميع متكلميها ومثلت صلة (الكلام) بصفاته تعالى من جهة والقرآن كونه قديما ام مخلوقا من جهة اخرى اهم نقاط التقاطع والاختلاف فمن حيث الصفات تمثل الخلاف في ما هي حقيقة كلامه تعالى وهل هو صفة ذاتية له كالقدرة والحياة والعلم ام هو من الصفات الفعلية كالخلق والرزق وتبعا لذلك هل هو قديم مع الذات ام محدث عند الفعل بحسب نسبته الى أي النوعين وقد تبين لنا في فصل المعتزلة انهم ذهبوا الى ان الكلام مخلوق فان حقيقته

اصوات و حروف ليست قائمة بالذات المقدسة وانما مخلوقة يخلقها تعالى في غيره

ص: 502


1- الارشاد 183،182
2- الاقتصاد 47.

كاللوح المحفوظ او جبرائيل او النبي فيكون معنى كونه متكلما ايجاده الكلام وليس من شرط الفاعل ان يحل عليه الفعل(1)

ويذهب الأشعرية في ذلك مذهبا مختلفا اذ يرى الأشعري ان الكلام معنى قائم بالنفس الانسانية وبذات المتكلم وليس بحروف واصوات كما ذهب المعتزلة، فهو القول الذي يجده القائل في نفسه ويجيله في خلده وفي تسمية الحروف التي في اللسان كلاما حقيقيا تردد اهو على سبيل الحقيقة ام المجاز ، وان كان على طريق الحقيقة فاطلاق اسم الكلام عليه وعلى النطق النفسي بالاشتراك (2)فهم يرون ان حقيقة الكلام هو الكلام النفسي اما الحروف والكلمات والاصوات فما هي إلا دلالة على الكلام النفسي والدليل غير المدلول (3)

ويجمل الباقلاني القول في القضية وما يجب الاعتقاد به فيها بانه(يجب ان يعلم ان الكلام الحقيقي هو المعنى الموجود في النفس لكن جعل عليه امارات تدل عليه )(4).

ثم يفصل القول في طبيعة اعتقاد الأشعرية في القضية وصلتها بالقرآن الكريم وقضية قدم الكلام او حدوثه فيقول: (اعلم انه تعالى متكلم له كلام عند اهل السنة والجماعة وان كلامه قديم ليس بمخلوق ولا مجعول ولا محدث، بل كلامه قدیم صفة من صفات ذاته كعلمه وقدرته وارادته ونحو ذلك من صفات الذات ولا يجوز ان يقال كلام الله عبارة ولا حكاية، ولا يوصف بشيء من صفات الخلق ولا يجوز ان يقول احد لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق، ولا اني اتكلم بكلام الله) (5)

ص: 503


1- ظ القاضي عبد الجبار : شرح الاصول الخمسة 528 ،وما بعدها المغني 7: 3 (بتصرف).
2- ظ: الشهرستاني: نهاية الاقدام 320
3- المصدر نفسه.
4- الانصاف 71.
5- المصدر نفسه.

وخلاصة القول في القضية اذ لامجال للتفصيل فيها هنا (1)ان الأشعرية يذهبون الى ان الله تعالى متكلم بكلام ازلي قائم بذاته ليس من جنس الحروف والاصوات واطلقوا عليه الكلام (النفسي الذي هو حقيقة الكلام الالهي كما يرون، اما الحروف والاصوات فهي دالة عليه ويسمونها الكلام) (اللفظي فالدلالة مخلوقة محدثة والمدلول قديم ازلي والفرق بين القراءة والمقروء والتلاوة والمتلو كالفرق بين الذكر والمذكور فالذكر محدث والمذكور قديم(2) .

وما يهم في هذا المقام ان مما ترتب على قضية قدم الكلام قول الأشعرية يقدم القرآن وعدم القول بخلقه وقد مر بنا ان هذه المسألة أنتجت محنة خلق القرآن في ايام الخليفة المأمون وسببت صراعا فكريا امتد عقودا من السنين بعده حتى عهد الخليفة المتوكل .

وقد استدل الأشعرية على قدم الكلام ومن ثم قدم القرآن بالادلة العقلية والنقلية ويهم البحث هنا استقصاء اهم الادلة القرآنية على المسألتين كالاتي:

1 - قدم الكلام

وقد استدلوا على ذلك بعدة ادلة من القرآن الكريم منها(3):

أ - قوله تعالى: ﴿ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْ ﴾ (الاعراف/54) حيث دل على ان الامر غير مخلوق لان كلامه امر ونهي وصبر.

ب - قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقِّ ﴾ (الاحزاب/4) .

ج - قوله تعالى :﴿ إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَهُ أَن نَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ (النحل / 40 ) .

ص: 504


1- للتفصيل راجع الباقلاني الانصاف 71 وما بعدها الشهرستاني الملل والنحل 1: 96 وما بعدها.
2- الأشعري 34 ومابعدها الجويني: الارشاد ،99، 104 وما بعدها الشهرستاني: الملل والنحل 1: 96
3- ظ: الأشعري: الابانة ،19 ، 20 اللمع 34، الباقلاني الانصاف 71 ،الجويني: الارشاد 104 وما بعدها.

فلو ان كلامه تعالى مخلوق لاحتاج خلقه الى قول يقول به {كن}، واحتاج القول الى قول ثالث والثالث الى رابع الى ما لأنهاية له وهذا محال باطل فثبت ان القول الذي تكون به الاشياء المخلوقة غير مخلوق وهو كلامه القديم (1).

د - قوله تعالى: ﴿وَمِنْ ءَايَيْهِ أَن تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ﴾ (الروم/25) وامر الله هوكلامه وقوله فلما امرهما بالقيام فقامتا لايهويان كان قيامهما بامره (2).

ه_ - قوله تعالى: ﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَتُ رَبِّي﴾

(الكهف/109). ومن فنى كلامه لحقته الافات وجرى عليه السكوت فلما لم يجز ذلك على ربنا عز وجل صح انه لم يزل متكلما (3).

2 - قدم القرآن

مما استدل به الأشعرية على قدم القرآن وانه ليس مخلوقا :

أ - قوله تعالى:مخبراً عن المشركين انهم قالوا﴿ إن هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ﴾ (المدثر /25) يعني القرآن فمن زعم ان القرآن مخلوق فقد جعله قولا للبشر وهذا ما انكر الله على المشركين(4) .

ب - قوله تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ اللهُ أَحدُ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ﴾(الاخلاص /41) يستدل به الأشعري على قدم القرآن والكلام ووجه الاستدلال انه كيف يكون القرآن مخلوقا واسم الله في القرآن، هذا يوجب ان تكون اسماء الله مخلوقة ولو كانت كذلك لكانت وحدانيته مخلوقة.

ص: 505


1- - ظ الأشعري: اللمع ،33، الباقلاني الانصاف 71.
2- الأشعري: الابانة 19، 20.
3- المصدر نفسه.
4- الابانة 21 .

ج - قوله تعالى﴿ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِى خَلَقَ فَسَوَّى﴾ (الاعلى /21) وجه الاستدلال عند الأشعري انه لايجوز ان يكون ربك الاعلى الذي خلق فسوى مخلوقا كما لا يجوز ان يكون جد ربنا مخلوقا قال تعالى: في سورة الجن ﴿جَدُّ رَبِّنَا ﴾وكما لا يجوز ان تكون عظمته مخلوقة كذلك لا يجوز ان يكون كلامه مخلوقا (1).

د - قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْيَا أَوْ مِن وَرَاى حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ﴾ (الشورى (52) .

ووجه الاستدلال بها كما يرى الأشعري انه لو كان كلام الله لا يوجد الا مخلوقا في شيء مخلوق لم يكن لاشتراط هذه الوجوه معنى (2).

ه_ - قوله تعالى : ال وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَمَ الله ﴾(التوبة /6) وجه الدلالة عند الباقلاني ان المسموع هو كلام الله القديم الذي هو صفة لله تعالى قديمة موجودة بوجود قديم قبل سماع السامع لها وانما الموجود الحادث هو سمع السامع وفهم الفاهم(3) واستدل الجويني بالآية على ان كلامه تعالى مسموع (4).

و - قوله تعالى: ﴿وَقُرْءَ أَنَا فَرَقْنَهُ لِنَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكث ﴾(الاسراء/106). يستدل بها الباقلاني على التفريق بين المقروء وهو كلامه تعالى القديم وقراءة الرسول(صلی الله علیه وآله وسلم) وهي فعل له الله التي هي صفته (5).

ز - رد الأشعرية على اقوى ما استدل به القائلون بحدوث القرآن وهو قوله تعالى:

ص: 506


1- المصدر نفسه 23.
2- ظ المصدر نفسه 23 .
3- الانصاف93،94
4- ظ الارشاد 133، 134
5- الانصاف 93، 94

﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِن رَّبِّهِم تُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ (الانبياء/2).

ويرى الباقلاني فساد الاستدلال بالآية وان معناها (ما يأتيهم من وعظ من النبي(صلی الله علیه وآله وسلم) ووعدوتخويف ﴿إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾الان وعظ النبي علي الله ووعيده وتحذيره ذكر قال تعالى: ﴿ ﴿فَذَكَرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرُ ﴾ (الغاشية/21) ويقال فلان في مجلس الذكر أي الوعظ لان قريشا لم تضحك وتلعب بالقرآن ولكن افحمت عند سماعه وتشتتت فيه اهوائهم واراؤهم (1).

افعال الانسان (نظرية الكسب)

للاشعرية في افعال الانسان موقف ومذهب تتجلى فيه بعض ملامح الموقف الوسط الذي سبق الحديث عنه من جهة وتبدو عليه ملامح الجبر وموقف المجبرة من القضية من جهة اخرى اكثر وضوحا.

فالأشعري في بدايات انطلاق المذهب جبري لايرى للعبد قدرة على فعله، وان الافعال مخلوقة لله يقول في الابانة .... انه لاخالق الا الله وان افعال العباد مخلوقة لله مقدورة كما قال خ﴿ لَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾وان العباد لايقدرون ان يخلقوا شيئا وهم يخلقون كما قال﴿ هَلْ مِنْ خَلِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾ (2)

وحين يعرض لموقف اهل السنة واهل الحديث وعقيدتهم يقول (واقروا ان لاخالق الا الله ،وان سيئات العباد يخلقها الله وان اعمال العباد يخلقها الله عز وجل وان العباد لايقدرون ان يخلقوا منها شيئا) (3) وقد علمنا انه تبنى هذه العقيدة والاراء

ص: 507


1- التمهيد 248.
2- الابانة :9
3- مقالات الاسلاميين 1: 321

في النهاية حين قال وبكل ماذكرنا من قولهم نقول واليه نذهب)(1) هذا القرب من المنظور الجبري للقضية حاول الأشعري ومن جاء بعده من اقطاب المذهب معالجته بنظرية تتخلص من الجانب الذي يستلزم الجبر ويؤكد مطلقية القدرة والمشيئة والخالقية لله وشموليتها له تعالى بما اجمع عليه المسلمون - كما يرى - بان (ماشاء الله كان ومالم يشأ لم يكن) (2).

وتمثل الحل في قولهم بنظرية الكسب التي سلكوا فيها منحى تطورت فيه تصاعدا منه الى باقي اقطاب المذهب وتقوم هذه النظرية على اساس التفريق بين الافعال الى(3) :

اضطراري، واختياري

فالأولى مايقع من العبد وهو عاجز عن رده والثانية ماللعبد قدرة عليه ولكن اصل الارادة المتحكمة به هي ارادة الله تعالى ويسميها (كسيبة).

فتكون ارادة الله تعالى هي الأصل في الفعلين الاضطراري ينفرد به والثاني يكون باحداثه له يقول (ان الدليل على خلق الله تعالى حركة الاضطرار قائم في خلق حركة الاكتساب وذلك ان حركة الاضطرار ان كان الذي يدل على ان الله خلقها حدوثها فكذلك القصة في حركة الاكتساب وان كان الذي يدل على خلقها حاجتها الى مكان وزمان فكذلك قصة حركة الاكتساب، فلما كان كل دليل يستدل به على ان حركة الاضطرار مخلوقة لله تعالى يجب به القضاء على ان حركة الاكتساب مخلوقة لله تعالى وجب خلق حركة الاكتساب بمثل ماوجب به خلق حركة الاضطرار)(4) فالفعل

ص: 508


1- المصدر نفسه 1: 325
2- الابانة ،44 مقالات الاسلاميين 1: 320
3- اللمع 74.
4- المصدر السابق نفسه 74، 75.

منتسب الى الله تعالى في حالتي الفعل والخلق فانه تعالى هو خالقه، يقول فان) قال :قائل: فلم لادل وقوع الفعل الذي هو كسب على انه لافاعل له الا الله كما دل على انه لاخالق له الا الله قيل له كذلك نقول فان قال: فلم لادل على انه لا قادر عليه الا الله عز وجل ؟ قيل له: لا فاعل له على حقيقته الا الله تعالى ولا قادر عليه ان يكون على ما هو عليه من حقيقته ان يخترعه الا الله تعالى )(1).

ويحدد الباقلاني حقيقة الكسب وتعلقه بالفعل فيقول (معنى الكسب انه تصرف في الفعل يقدرة تقارنه في محله فتجعله بخلاف الضرورة من حركة الفالج وغيرها)(2). كما يحدد طبيعة صلة الفعل بارادة الله تعالى وارادة العبد فيقول ردا على من اعترض بالقول: لو كانت افعالنا خلق لله لكانت مقدورة لنا وله (ولو كان كذلك لجاز ان نفعلها ويتركها هو أو نتركها ويفعلها هو فيكون الشيء مفعولا متروكا) فاجاب انطلاقا من كون الاستطاعة على الفعل - عند الأشعرية - تكون في حال حدوث الفعل :(3) (هذا باطل لان الانسان لايقدر على الفعل الا في حال وجوده فلا يجوز ان يتركه في حال قد وجد فيها ولايجوز ايضا ان يتركه الله في تلك الحال لأنه هو الموجد لعينه دون العبد الذي يكسبه، فلو تركه لم یکن موجود)(4).

من الامثلة التي يضربها الأشعرية في قولهم بالكسب ماينقله البغدادي (ضرب بعض اصحابنا للاكتساب مثلا في الحجر الكبير قد يعجز عن حمله رجل ويقدر اخر على حمله منفردا به إذا اجتمعا جميعا على حمله كان حصول الحمل باقواهما ولاخرج اضعفهما بذلك عن كونه حاملا، كذلك العبد لايقدر على الانفراد بفعله ولو

ص: 509


1- المصدر السابق نفسه 72.
2- التمهيد 347.
3- ظ: اللمع 94.
4- التمهيد 346.

اراد الله الانفراد باحداث ماهو كسب للعبد قدر عليه ووجد مقدوره فوجده على الحقيقة بقدرة الله تعالى ولا يخرج مع ذلك المكتسب من كونه فاعلا ) (1).

وهذا المثال واضح في ان الأشعرية ربما لم ينجحوا في الخروج من بين طرفي الافراط والتفريط في افعال العبد فهم هنا اقرب الى الجبر اذ لا معنى - مع انفراده تعالى بالفعل - لان يكون للعبد يعد ذلك قدرة موجودة وان هذا التوجيه بالكسب ليس اكثر من محاولة تصدت بالالفاظ وتغييرها ولم تقدم حلا معقولا فابقت الانسان في حالة الجبر ونزعت عنه المسؤولية الفردية مع العلم بان القول بان له حرية ومسؤولية عن افعاله لايعني خدشا في اصل التنزيه للباري تعالى بل العكس هو الصحيح لان في ذلك اثبات للعدل الالهي، حيث يلزم عن مبدأ التكليف والثواب والعقاب كون الانسان فاعلا وعموما فلا يسع البحث الخوض في تفاصيل النظرية وتصاعد التطور في اركانها، وما ادخل عليها من تحسينات مع ظهور كل قطب جديد من اقطاب الاشعرية (2) وخصوصاً الباقلاني والجويني فالباقلاني اثبت ان هناك تاثير للقدرة الحادثة ولكن بنسبة خاصة اذ يرى ان كون الفعل حاصلا بالقدرة الحادثة أو تحتها نسبة خاصة، ويسمى ذلك كسبا وذلك هو اثر القدرة الحادثة)(3)وجاء الجويني بخطوة اخرى مضافة في التطوير فرفض نفي القدرة والاستطاعة فقال انه لابد من نسبة فعل العبد الى قدرته حقيقة لاعلى وجه الاحداث والخلق فان الخلق يشعر باستقلال ايجاده من العدم... فالفعل يستند وجوده الى القدرة والقدرة يستند وجودها الى سبب آخر تكون نسبة القدرة الى ذلك السبب كنسبة الفعل الى القدرة وكذلك يستند سبب الى سبب اخر حتى ينتهى الى سبب الاسباب)(4).

ص: 510


1- اصول الدين 134
2- لمزيد من التفصيل راجع الباقلاني التمهيد 345 وما بعدها البغدادي: اصول الدين 133 وما بعدها الجويني :الارشاد 187 وما بعدها.
3- ظ: الشهرستاني: الملل والنحل :1 97 د محمد رمضان الباقلاني 600
4- المصدر نفسه 1: 98 - 99.

والمهم هنا هو استقراء طبيعة توجيه الآيات القرآنية لاثبات الكسب وكون افعال العبد مخلوقة لله تعالى في فهم الأشعرية للنص القرآني حيث استدلوا بمجموعة ايات على ذلك يستعرض البحث بعضها.

أ - قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (الصافات/96).

ب - قوله تعالى:﴿جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (السجدة /17).

حيث استدل الأشعري بهما على ان اكساب العباد مخلوقة لله تعالى ووجه الاستدلال انه لما كان الجزاء واقعا على اعمالهم كان الخالق لاعمالهم وفي الآية الأولى يلاحظ ان الأشعري يقتطع الآية من سياقها ويفردها بحكم على دلالتها ببعد بها عن السياق بل يحملها معنى بعيدا وهذا ما انتبه اليه بنفسه حين افترض ان مفترض قد يفترض فيقول (1): افليس الله تعالى قال ﴿ قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ ﴾ (الصافات/95) وعنى الاصنام التي تحتوها فما انكرتم ان يكون قوله﴿ َوَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ (الصافات/96) اراد الاصنام التي (عملوها ويجيب الأشعري قيل له خطأ ما ظننته لان الاصنام منحوتة لهم في الحقيقة فرجع الله تعالى بقوله ﴿أَتَعْبُدُونَ مَا نَنْحِتُونَ ﴾اليها وليست الخشب معمولة لهم في الحقيقة فيرجع بقوله﴿وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾اليها.. وليس يجوز ان يعملوا الخشب في الحقيقة فلم يجز ان يكون الله تعالى اراد بقوله ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ﴾ الرجوع اليها ووجب ان يرجع الى الاعمال كما رجع بقوله ﴿جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾(الواقعة /24 )الى الاعمال)) (2).

ويقوم اساس الاستدلال على نظرية الكسب عند الأشعري على التفريق بين الخلق

ص: 511


1- اللمع 69.
2- اللمع 70.

والاختراع والكسب فالواحد منا إذا سمي فاعلا فانما يسمى فاعلا بمعنى انه مكتسب لا بمعنى انه خالق)(1)وهو يستفيد هذا التفريق وما استفاده منه من قوله تعالى: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾(سورة البقرة/286) وهذا هو مذهب اهل السنة والجماعة الذي يؤيده الباقلاني ويستدل على صحته بالآية الأولى عند الأشعري وايات اخرى.

ففي قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ﴾ (الصافات/96) ينهج نفس منهج الأشعري فيأخذ الآية على ظاهرها اولا مع اقتطاعها من سياقها الذي وردت فيه فيقول في معنى الآية اخبر تعالى انه خالق لاعمالنا على العموم كما اخبر انه خالق الصورنا وذواتنا على العموم وهذا من اوضح الادلة في الكتاب) (2).

ج - قوله تعالى:﴿خَلِقُ كُلِّ شَيْءٍ ﴾ (الانعام/102) ووجه الاستدلال بها عند الباقلاني انه (معلوم ان افعالنا مخلوقة اجماعا، وان اختلفنا في خالقها وهو تعالى قد ادخل في خلقه كل شيء مخلوق فدل على انه لاخالق لشيء مخلوق غيره سبحانه وتعالى فترى ان استدلاله هنا عقلي بحت استفاد من الايات ظاهرها وبنى عليها الاستدلال المنطقي.

د - قوله تعالى :﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُم هَلْ مِن شُرَكَابِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَنَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ (الروم/40).

ووجوه الاستدلال بالآية تستفيد سياقها كالاتي (3).

1 - انه تعالى قال ﴿اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ﴾. وهذا عام في ذواتنا وصفاتنا، ثم اكد ذلك بقوله تعالى: ﴿ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُبيكُمْ ﴾ يعني ثم خلق

ص: 512


1- الانصاف 144
2- المصدر نفسه 145.
3- المصدر نفسه 146.

ارزاقكم، وعند المخالف ان العبد يخلق افعاله ورزقه فهو خلاف ما اخبر الله تعالى به من كونه خالقا لنا ولارزاقنا .

2 - انه تعالى قال ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُيكُم . فكما لا يقدر احد ان يخلق موته ولاحياته فكذلك لايقدر ان يخلق فعله ورزقه من حركة ولاسكون ولاغير ذلك.

3 - انه تعالى نزه نفسه عن قول القدرية والقائلين بنسبة خلق فعل العبد الى العبد بان قال: ﴿فَتَعَلَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ (الاعراف/190) ثم اكد ذلك بعده بمواضع فقال : هَلْ مِنْ خَلِقٍ غَيْرُ اللَّهِ ﴾(فاطر (3) سبحانه وتعالى وقال: ﴿ أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾(النحل /17).

وقد تصدى الباقلاني لرد اعتراضات القائلين بخلق الانسان لفعله في استدلالهم

بالايات الكريمة حيث ان له فهم اخر لتلك الايات كالآتي(1) :

فاذا احتجوا بقوله تعالى : ﴿جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ (الواقعة/24) على انه اثبت لنا العمل والعمل هو الفعل والفعل هو الخلق.

فجوابه انه تعالى اراد هنا بالعمل الكسب والعبد مكتسب يدل على ذلك انه قال في موضع آخر﴿جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ (التوبة/82) نحن لانمنع ان يسمى كسب العبد عملا له انما نمنع ان يكون العبد خالقا مخترعا لفعله مخرجا له من العدم الى الوجود.

وان احتجوا بقوله تعالى: ﴿فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَلِقِينَ ﴾ (المؤمنون/14).

وبقوله تعالى: ﴿وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِينِ ﴾(المائدة / 110). ﴾

فله عدة اجوبة منها : انه تعالى عنى باحسن الخالقين احسن المقدرين فعيسى السلام

ص: 513


1- الانصاف 149-150

يقدر الطين صورة والخلق يقدرون الصورة صورة لا انهم يخرجون الصورة من العدم الى الوجود. فقال تعالى:﴿ أَحْسَنُ الْخَلِقِينَ ﴾ أي المقدرين.

ومنها ان الله تعالى هو الخالق لاخالق سواه لكن لما ذكر معه غیره قال احسن

(الخالقين وان كان هو الخالق على الحقيقة دون غيره

ومنها: ان لفظة افعل في كلام العرب يراد بها اثبات الحكم لاحد المذكورين وسلبه الاخر من كل وجه .. فكذلك قوله تعالى: ﴿أَحْسَنُ الْخَلقِينَ . اثبت الخلق له به دون غيره.

ويأخذ د. احمد محمود صبحي على الشيخ الأشعري استدلاله بالآيات التي سبقت الاشارة اليها ولم يستفد من الايات التي يرد فيها لفظ الكسب صريحا ويرى ان الأشعري انما امتنع عن الاستدلال بها لأنها تؤكد نسبة الفعل للانسان ومن ثم مسؤوليته عنه ومحاسبته على ماكسب أو اكتسب أو فعل)(1)ومن تلك الايات قوله تعالى: ﴿وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ (سورة البقرة/141).

﴿ أُوْلَبِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ (سورة البقرة / 202) .

﴿ وَمَن يَكْسِبُ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ ﴾ (النساء / 111).

﴿ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ ﴾ (الاعراف/39).

﴿ وَمَا أَصَبَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ﴾ (الشورى /30) .

ص: 514


1- في علم الكلام .2 :82

التكليف بما لايطاق

يرى الأشعرية جواز تكليفه تعالى عباده مالايطيقون.

ويرتبط هذا الجواز في المسالة بارادته تعالى لافعال العبد وحقيقة قدرة العبد فلما كانت ارادته تعالى واحدة قديمة ازلية متعلقة بجميع المرادات من افعاله الخاصة وافعال عباده من حيث انها مخلوقة لا من حيث انها مكتسبة لهم فعن هذا قال الأشعري( اراد ((تعالى)) الجميع من خيرها وشرها ونفعها وضرها وكما اراد وعلم اراد من العباد ما علم.. وتكليف مالايطاق جائز على مذهبه لهذه العلة ولان الاستطاعة عند الأشعري عرض والعرض لا يبقى زمانين. ففي حال التكليف لايكون المكلف قط قادرا لان المكلف من يقدر على احداث ما أمر به) (1). ولكنه يفرق بين وجهين من ذلك عندما لايجوز على من لاقدرة له على الفعل اصلا وليس على من لا يستطيعه لأنه اختار ضده.

ويستدل الأشعرية على جواز التكليف بما لايطاق بعدة آيات مثل:

1 - قوله تعالى: للملائكة أَنْبِتُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَدِقِينَ ﴾ (سورة البقرة/31).

يستدل بها الأشعري ووجه الدلالة انه تعالى يعني اسماء الخلق وهم لايعلمون ذلك ولايقدرون عليه (2) .

2 - قوله تعالى: سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ ﴾ (القلم/42) ووجه

ص: 515


1- ظ :الشهرستاني الملل والنحل 1: 96 (بتصرف) ، انظر ايضا في علم الكلام 2: 83
2- اللمع 113

دلالتها عند الأشعري انه إذا جاز تكليفه اياهم في الاخرة مالايطيقون جاز ذلك من الدنيا.

3 - انه تعالى قد امر بالعدل وقال ﴿وَلَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حرصتم ﴾(النساء/129).

4- قوله تعالى: ﴿ رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَابِهِ ﴾ (سورة البقرة (286) .

ويستدل الأشعري بانه لو لم يكن التكليف بما لايطاق جائزا لما دعوا اليه الا يحملهم اياه (1).

ويفهم الباقلاني من الآية دلالتها على جوازه لأنه لو كان تكليف مالايطاق ظلما وعبثا وقبيحا من الله تعالى لكانوا قد رغبوا اليه في الا يظلمهم ولايسفه عليهم ولايوجب من الاوامر مايخرج به عن حد الحكمة والله اجل من ان يثني على قوم اجازوا ذلك عليه (2).

ص: 516


1- ظ: احمد محمود صبحي في علم الكلام 2: 83 ،84.
2- التمهيد 294.

الخاتمة

في ختام هذه المحاولة في كشف منهج فهم النص القرآني عند المتكلمين وبخاصة المذاهب الثلاثة الكبرى منهم وهم الامامية والمعتزلة والاشعرية يتوقف الباحث لتلمس اهم النتائج التي تمخض عنها البحث والخروج بما هو ضروري من التوصيات حيث تبلورت اهم النتائج المنتزعة في الاتي:

1 - ان النص القراني الكريم كان له الأثر الجلي في تأصيل البحث الكلامي عند المسلمين بما لايقارن معه أي تاثير اخر لمؤثرات داخلية أو خارجية، فقد جاء بمنظومة كاملة للعقيدة واسس لمناهج الاستدلال عليها، وقنَّن اصول فهم جزئياتها من خلال الاستضاءة بنصوصه .

2 - ان هذا النص الكريم حمّل بآفاق تعبيرية نقلت الفكر العربي الاسلامي نقلةً واسعة من جمود الجاهلية وسطحية مفاهيمها، وجاء بمفاهيم جديدة قدمت عقيدة نقلت الانسان المسلم من سذاجة التصور لملامح العقيدة الى منظور يصمد في وجه هجمات كل المنظومات الاخرى للاديان والملل ويحقق اهلية الخاتمية والعالمية للرسالة وهي اهم خصائصه.

3 - ان البحث كشف عن اربعة مرجعيات رئيسية تناوبت وتفاوتت في الحاكمية عند كل مذهب من المذاهب الكلامية الثلاثة وتتمثل هذه المرجعيات في القرآن الكريم، السنة الشريفة العقل والاجماع.

لكن الكتاب الكريم نفسه كان المرجعية الوحيدة ذات التأثير المهيمن والكامل والحضور الجلي في كل جزئية وكان العقل يتطاول هنا ويبتعد قليلا هناك، وكانت

ص: 517

السنة رديفة الكتاب وشارحة مجملاته واصوله خصوصا عند الامامية والاشعرية وقد كان للسنة بمعناها عند الامامية وهي تشمل سنة المعصوم عموما وليس النبي (صلی الله علیه وآله وسلم) بالذات اثرها الكبير بل ان الاثر الوارد عن الائمة(عليهم السلام)الذي اكتسب اهلية تمثيل المنظور القراني والنبوي عندهم كان الحاكم الاكبر بعد القرآن في الوقت الذي نكاد نجد تاثير السنة يتلاشى عند المعتزلة.

4 - ان العقل تفاوتت حاكميته فكانت في ذروتها عند المعتزلة، ووضعت لها الضوابط والمعايير للتفعيل عند الامامية والاشاعرة.

5 - انقسمت المذاهب الكلامية امام خصوصيات النص في احتواء المحكمات والمتشابهات، وفي خطابه الذي يستحضر الافهام المختلفة، ويستدعي مرجعية اللغة ولاسيما عند حديثه في الصفات الخبرية الى ثلاثة اتجاهات رئيسية هي: الوقوف عند الظاهر بلا تكييف، والتفويض مع ميل جزئي للتأويل، والتأويل على نطاق واسع عند حدوث تعارض ظاهري بين دلالات النصوص أو مع أدلة العقل.

6 - ان الجميع ينطلق من كلية انه يستحيل ان يتعارض الشرع والعقل وان أي تعارض ان حدث فهو لفظي وقتي يزول بالتأويل أو انه راجع الى خلل في الفهم عند المتصدي للكشف عن دلالات النص مع اتفاق الجميع على ان العقل اصل ابتداءاً في تأكيد الشرع والاستدلال عليه.

7 - لم يستطع أي مذهب من المذاهب الكلامية التي درست في البحث ان يفلت من ضرورة التأويل فهو ضرورة لابد منها والا وقع المتصدي للكشف عن دلالات النص في تقاطعات كثيرة اهمها الوقوع في وهم التعارض بين العقل والشرع.

8 - ان منهج التفويض كانت له مرحلة تاريخية مؤقتة في المذهب الاشعري تحددت في البدايات عند مؤسسه الامام الاشعري والقت ببعض ظلالها على طروحات الباقلاني والجويني والرازي في الفترة لمتأخرة من حياتهما.

ص: 518

9 - ان الموقف من المحكم والمتشابه، وامكان علم تأويله وبالتالي تحديد ابعاد مساحة البحث في النص الكريم قد تمحض عن اتجاهين رئيسين: اتجاه يفسر آية المتشابه قوله تعالى: ﴿ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ﴾ آل عمران / 7 بعطف الراسخين على الله تعالى في امكان ،علمه وهؤلاء هم الامامية والمعتزلة والاتجاه الآخر هم الاشعرية الذين فسروا الآية بان الواو للاستئناف فلا يعلمه الا الله تعالى، ولكنهم لجئوا مع ذلك الى التأويل تخلصا من مغبة الوقوع في التشبيه والتجسيم، ولكنه التأويل المنضبط الاصولي المحكوم بضوابط وحدود.

10 - لقد كان لكل مذهب من المذاهب المبحوث عنها كانت له جذوره واسلافه الذين القوا بظلال تأثيرهم على صياغاته لمنهجه في فهم النص، ومنهجه عموما، لاسيما الامامية في مرجعية الائمة للام ، والاشعرية في تأثير مواقف السلف واهل الحديث وخفَّ هذا التأثير عند المعتزلة وان حاولوا ان يجدوا لانفسهم جذورا تمتد الى بعض الصحابة وخصوصاً الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام).

ولابد في الختام من الاشارة الى جملة توصيات يرى الباحث اهميتها في بلورة منهج اسلامي متوحد منضبط باصول الخطاب المركزي القراني في فهم نصوص هذا الخطاب، واستمداد اضاءاته في صياغة منظور للعقيدة ومن اهم هذه التوصيات :

1 - على الباحثين في المناهج الكلامية الاسلامية ان يستضئيوا بهدي القرآن في دعوته الى الاعتصام بحبل الله جميعا بالتوحد والتكامل وذلك بالبحث عن القواسم المشتركة بين المذاهب المتعددة وبلورة عوامل التوحد وإقصاء كل ما من شأنه ان يفرق الكلمة ويشتت الجمع مما بثته اياد خفية حاولت طمس الوحدة.

2 - على الباحثين ان يكونوا امناء في تحديد الاصول والحدود الفاصلة بين التعميم ،والتخصيص فلا يمكن ان تنسب اراء لفرقة محدودة ضمن مذهب منقسم الى

ص: 519

عشرات الفرق المشابهة الى ذلك المذهب ،باجمعه وبالتالي يحمل المذهب طروحات واراء متناقضة يعلن تنصله عنها وبراءته منها . كما يجب البحث بموضوعية عن اصول العقيدة لكل مذهب في اطار مرجعياته وفي اطار نتاجه الفكري الخاص وليس نقلا عن باحثين ومؤرخين ربما كان لهم مواقف معادية اثرت في تشويه ارائه أو الاسباب سياسية أو أيديولوجيه .

3 - اننا بحاجة الى منهج جديد يستخلص القواسم المشتركة بين المذاهب المعتبرة الموجودة على الساحة الفكرية ويستدعي مايسد باقي الثغرات في ادائها والتي نتجت عن انشغالها بالصراع فيما بينها باثبات صحة طرحها ورد هجمات المقابل وافساد وابطال ارائه .

4 - ان ثورة العقل التي شكلت انطلاقة تاريخية في الواقع العربي الاسلامي بنزول القرآن الكريم في تغيير شامل للواقع الانساني عموما، ثم اضاءة بعض وميضها في حدود القرنين الثالث والرابع تستدعي محاولة لتقصي اسباب التراجع في العقل العربي، فالنص باق ومنظوره مستمر ومتجدد والخمود والخمول والعجز اصاب العقل المتصدي والمتعامل مع النص فلنستضيء النص من جديد ولنعيد للعقل العربي هيبته ولنحسب ما الذي خسره الفكر العربي الاسلامي بتجميد وتراجع حركة العقل.

وأخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين

الباحث

ص: 520

المصادر والمراجع

أولاً: المخطوطات

الشريف المرتضى، ابو القاسم علي بن الحسين (ت 436ه_)

- اجوبة مسائل اهل الري مركز صدام للمخطوطات تحت رقم 9/37023.

-الناسخ والمنسوخ مكتبة الامام امير المؤمنين(عليه السلام) العامة النجف الاشرف، تحت رقم 138.

العلامة الحلي (الحسن بن يوسف بن المطهر (ت 726ه_)

- تسليك النفس الى حضيرة القدس / مكتبة الحكيم / النجف الاشرف ضمن مجموعة مخطوطات تحت رقم 929.

- مناهج اليقين في اصول الدين مكتبة الامام امير المؤمنين(عليه السلام)العامة / النجف الاشرف تحت رقم 13/4/1 .

-نهج السداد في شرح واجب الاعتقاد / مكتبة مكتبة الامام امير المؤمنين(عليه السلام)العامة/ النجف الاشرف تحت رقم 717 .

- نهج المسترشدين في اصول الدين / مكتبة الامام امير المؤمنين(عليه السلام)العامة / النجف الاشرف تحت رقم 2024.

-نهاية الوصول الى علم الاصول / مكتبة الامام امير المؤمنين(عليه السلام)العامة / النجف الاشرف تحت رقم 1489 / 5 (اصول).

ثانياً: المطبوعات

ص: 521

-اشرف ما نبتديء به: القرآن الكريم

ابن ابي الحديد ،عز الدين ابو حامد عبد الحميد بن هبة الله المدائني (ت 656ه_)

-شرح نهج البلاغة تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم دار احياء الكتب العربية ،القاهرة، عيسى البابي الحلبي 1385ه_ 1965م.

ابن تيمية تقي الدين عبد الحليم (ت 728ه_)

-درء تعارض العقل والنقل دار الكتب العلمية 1971م.

ابن جني ابو الفتح عثمان (ت 392ه_)

-الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الكتب المصرية 1374ه_ 1955م.

ابن حزم علي بن احمد (ت 456ه_)

-الفصل في الملل والاهواء والنحل ( بهامش الملل والنحل للشهرستاني)، ط بيروت 1975 م.

ابن حنبل الامام احمد (ت 241ه_)

- مسند احمد تحقیق احمد محمود شاکر، دار المعارف مصر 1369 ه_ 1950 م.

ابن خزيمة محمد بن اسحاق (ت 311ه_)

-التوحيد واثبات صفات الرب المطبعة المنيرية القاهرة 1354ه_.

ابن خلدون ولي الدين عبد الرحمن (ت 808 ه_)

- المقدمة، مطبعة مصطفى محمد، مصر (د.ت)

ص: 522

ابن خلکان ،شمس الدین بن احمد (ت) (681ه_ )

وفيات الاعيان واخبار الزمان،تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة، مصر، ط19481 م.

ابن سعد، محمد بن سعد بن منيع البصري الزهري (ت 230ه_)

- الطبقات الکبری، دار صادر، دار بيروت ،بيروت 1380 ه_ 1960م .

ابن ،رشد ابو الولید محمد بن احمد (595ه_)

- فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ط19863م.

ابن شهر آشوب ،محمد بن علي (ت 588ه_)

-مناقب آل ابي طالب ،المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف 1376ه_ 1956م.

ابن عبد البر، يوسف بن عبد الله بن محمد المالكي (ت 463ه_)

-جامع بيان العلم وفضله وما ينبغي في روايته وحمله المكتبة السلفية، المدينة المنورة 1368ه_ 1968م.

ابن عربي، محي الدين (ت 638ه_)

رد المتشابه للمحكم، مطبعة الصدق الخيرية، القاهرة 1368ه_ 1949م.

ابن عساكر، علي بن الحسين بن هبة الله الدمشقي (ت 571ه_)

- تبيين كذب المفتري فيما نسب الى الامام ابي الحسن الاشعري نشره القدسي، مطبعة التوفيق دمشق 1347ه_ .

ابن قيم الجوزية ،ابو عبد الله محمد بن ابي ايوب (ت 751ه_)

ص: 523

-الصواعق المرسلة في الرد على الجهمية والمعطلة ،اختصار محمد بن الموصلي ،مطبعة الامام ،القاهرة 1380ه-.

ابن المرتضى، احمد بن يحيى (ت 480ه_)

-المنية والامل، بيروت ط19611م.

ابن منظور، جمال الدین محمد بن مكرم الافريقي المصري (ت 711ه_)

-لسان العرب. دار صادر، بيروت 1375ه_ 1956م.

ابن النديم، محمد بن اسحاق (ت (385ه_)

-الفهرست ،مطبعة الاستقامة ،القاهرة.

ابو زید ،نصر حامد

-الاتجاه العقلي في التفسير. دار التنوير، بيروت ط19821م.

احمد امین

-ظهر الاسلام، دار الكتاب العربي، بيروت 1388ه_ 1969م.

احمد محمود صبحي

-في علم الكلام، دار النهضة العربية، بيروت ط5، 1405ه_ 1985م.

- نظرية الامامة، دار المعارف، مصر، 1969 .

الازهري، ابو منصور محمد بن احمد (ت 370ه_)

- تهذيب اللغة. تحقيق عبد العظيم محمود / الدار المصرية 1384ه_.

الاسفراييني، ابو المظفر طاهر بن محمد (ت 471ه_)

ص: 524

- التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية ،مكتبة الخانجي مصر.

الاشعري ابو الحسن علي بن اسماعيل (ت 330ه_).

- الابانة عن اصول الديانة، المطبعة المنيرية ،القاهرة .

-استحسان الخوض في علم الكلام، مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الدكن 1344 ه_.

-اللمع في الرد على اهل الزيغ والبدع، تقديم د. حمودة غرابة مطبعة مصر 1955 م.

- مقالات الاسلاميين واختلاف المصلين، مطبعة النهضة المصرية ط19551م.

الاشعري، سعد بن عبد الله (ت 301ه_)

-المقالات والفرق، طبع طهران 1963م.

الآمدي، ابو الحسن علي (ت 631ه_)

الإحكام في اصول الأحكام ،مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1967م.

الايجي، عضد الدين عبد الرحمن بن احمد (ت 656ه_)

المواقف ،دار الكتب، بيروت (د. ت).

الباقلاني، القاضي ابو بكر محمد بن الطيب (ت 403ه_)

- الانصاف فيما يجب الاعتقاد به، تحقیق محمد زاهد الكوثري مؤسسة الخانجي مصر 1382ه_ 1963م.

- التمهيد في الرد على الملحدة والمعطلة، تحقيق محمد عبد الهادي، ابو ريدة ومحمود محمد الخضيري مصر 1947 م.

ص: 525

-التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة نشر الاب ريتشارد يوسف مكارثي بيروت.

البخاري، ابو عبد الله محمد بن اسماعيل ( ت 256ه_ )

- صحيح البخاري، المطبعة الكبرى الاميرية ،ببولاق مصر 1314 ه_

بدوي، د. عبد الرحمن

- مذاهب الاسلاميين، دار الملايين ،بيروت 1971م.

- مناهج البحث العلمي، وكالة المطبوعات، الكويت، ط3، 1977م.

البرقي، ابو جعفر محمد بن خالد

- المحاسن، دار الكتب الاسلامية، طهران.

البغدادي ،عبد القاهر (ت 429ه_)

-اصول الدين الاسلامي ،مطبعة الدولة، استنبول ط 13461 ه_ 1928 م.

-الفرق بين الفرق، تحقيق لجنة احياء التراث ،دار الجيل، بيروت 1408ه_ 1987م.

البلاغي، محمد جواد

- الاء الرحمن في تفسير القرآن، مطبعة العرفان ،صيدا، لبنان 1933م.

البهادلي، احمد كاظم

- محاضرات في العقيدة الاسلامية .الجزء الثاني: الصفات الالهية، شركة حسام ،بغداد 1420ه_ 1999م.

البهي، محمد

-الفكر الاسلامي الحديث وصلته بالاستعمار الغربي، دار الفكر، بيروت، ط1.

ص: 526

الترمذي، ابو عيسى محمد بن عيسى (ت 279ه_)

-صحيح الترمذي، بشرح ابي بكر بن العربي، مطبعة الصاوي، القاهرة 1353 ه_.

جار الله، زهدي

-المعتزلة، منشورات النادي العربي، يافا 1947م.

الجرجاني، عبد القاهر

-اسرار البلاغة، تحقيق ه_ ريتر مكتبة المثنى، بغداد ط2 1399ه_ 1979 م.

- دلائل الاعجاز دار ،المعرفة، بيروت 1389ه_ 1978م.

الجرجاني ،الشريف علي بن محمد (ت 816ه_).

-شرح المواقف، مطبعة السعادة، مصر 1315ه_ 1907 م.

جلال محمد موسی

- نشأة الاشعرية وتطورها، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1982م.

الجوهري، اسماعيل بن حماد (ت 393ه_ 398ه_)

-تاج اللغة وصحاح العربية، تحقيق احمد عبد الغفور عطا، دار الكتاب العربي، القاهرة .1956م.

الجويني، امام الحرمين ابو المعالي (ت 478 ه_ )

-الارشاد الى قواطع الادلة في اصول الدين تحقيق محمد يوسف موسى، علي عبد المنعم ،نشر مكتبة الخانجي مصر.

- الشامل في اصول الدين، تحقيق علي سامي النشار، منشأة المعارف بالاسكندرية 1969م.

ص: 527

- لمع الادلة في عقائد اهل السنة والجماعة ،المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر ط13851ه_ 1965م.

الحارث المحاسبي (ت 243ه_)

العقل وفهم القرآن ،تحقيق حسن القوتلي دار الفكر، بيروت، ط1، 1971م.

الحاكم النيسابوري، محمد بن عبد الله (ت 405ه_).

- المستدرك على الصحيحين ،مكتبة ومطبعة النصر الحديثة الرياض.

الحر العاملي، محمد بن الحسن (ت 1104ه_).

- وسائل الشيعة الى نيل مسائل الشريعة، دار احياء التراث العربي، بيروت ط4 1391 ه_ حسني زينة

- العقل عند المعتزلة، دار الافاق الجديدة، بيروت 1978م

الحويزي ،عبد علي جمعة (ت 1112ه_)

- تفسير نور الثقلين، مطبعة الحكمة، طهران 1374ه_

الخليلي، محمد

-امالي الامام الصادق ،مطبعة النعمان ،النجف الاشرف 1384 ه_ 1965م.

الخطابي، عبد الكريم

-الله ذاتا وموضوعا، دار المعرفة ،بيروت ط13953ه_ 1974م.

الخوئي، السيد ابو القاسم الموسوي (ت 1413ه_)

ص: 528

- البيان في تفسير القرآن ،المطبعة العلمية، قم 1394ه_ 1974م.

الخياط المعتزلي، ابو الحسين عبد الرحيم بن محمد (ت 300ه_)

الانتصار والرد على ابن الراوندي الملحد تحقيق د. نيبرج دار الكتب المصرية ،القاهرة 1344ه_ 1925م.

دي بور

- تاريخ الفلسفة في الاسلام، ترجمة محمد عبد الهادي ابو ريدة ،لجنة التاليف والترجمة والنشر مصر ط4 1357ه_ 1977م.

الذهبي، محمد حسين

- التفسير والمفسرون، دار الكتب الحديثة القاهرة ط1/ 1381ه_ 1961م.

الرازي، فخر الدين محمد بن عمر (ت 606ه_)

-الاربعين في اصول الدين ،مطبعة مجلس دائرة المعارف العثمانية حيدر آباد الركن ط 1 1303ه_.

- اساس التقديس في علم الكلام، مطبعة مصطفى البابي الحلبي مصر 1354ه_ 1935 م.

- التفسير الكبير ( مفاتيح الغيب ) طبع عبد الرحمن محمد القاهرة 1357ه_ 1938م.

- محصل اراء المتقدمين والمتأخرين المطبعة الحسينية القاهرة 1323ه_

الرازي محمد بن ابي بكر بن عبد القادر (ت 666ه_)

-مختار الصحاح دار الكتاب العربي، بيروت 1967م.

ص: 529

الراغب الأصبهاني: ابو القاسم الحسين بن محمد (ت 502ه_)

-المفردات في غريب القرآن، تحقیق محمد سيد كيلاني، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة 1961م .

الراوي، د.عبد الستار

- ثورة العقل في فكر معتزلة بغداد وزارة الاعلام، العراق 1982م

الرسي القاسم (ت (246ه_ )

- اصول العدل والتوحيد (ضمن رسائل العدل والتوحيد )تحقيق محمد عمارة دار الهلال مصر 1971م.

الشريف الرضي، ابو الحسن محمد بن الحسن (ت 406 ه_ )

- حقائق التأويل في متشابه التنزيل، بيروت 1353ه_

رمضان ،محمد

-الباقلاني واراؤه الكلامية، مطبعة الامة ،بغداد 1986م.

الزبيدي، محمد مرتضى (ت 1205ه_)

-تاج العروس، الكويت، 1974م.

الزركشي ،بدر الدين محمد بن عبد الله (ت 794 ه_ )

-البرهان في علوم القرآن ،تحقيق :محمد ابو الفضل ابراهيم دار احياء الكتب

العربية القاهرة ط13761ه_ 1957م.

الزمخشري ،جار الله بن محمود بن عمر (ت 528ه_)

ص: 530

- الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الاقاويل في وجوه التاويل دار الكتاب العربي، بيروت.

السبزواري، السيد عبد الاعلى

-مهذب الاحكام في بيان الحلال والحرام، مطبعة الاداب النجف الاشرف 1399ه_ 1979 م

-مواهب الرحمن في تفسير القرآن، مطبعة الاداب النجف الاشرف 1406ه_ 1986 م

السبكي، تاج الدين عبد الوهاب بن علي (ت 771ه_)

-طبقات الشافعية الكبرى، مطبعة الحسينية، مصر، ط1.

السيوطي، جلال الدين بن عبد الرحمن ( ت 911ه_)

-الأتقان في علوم القرآن المكتبة الثقافية، بيروت 1973م.

-الدر المنثور في التفسير بالمأثور المكتبة الاسلامية، طهران 1377ه_.

-صون المنطق والكلام عن فني المنطق والكلام مكتبة الخانجي مصر ط 1 (د.ت).

الشافعي، الامام محمد بن ادريس (ت (204ه_)

- الرسالة تحقيق محمد شاكر مطبعة مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1358ه_ 1940 م.

شبر، السيد عبد الله

- تفسير شبر، دار الكتب العلمية بغداد.

الشهرستاني ابو الفتح عبد الكريم (ت 548ه_)

ص: 531

-الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلاني، دار المعرفة، بيروت 1400ه_ 1980م.

-نهاية الاقدام في علم الكلام مطبعة المثنى ،بغداد.

شيخ زادة ،عبد الرحيم بن علي

- نظم الفرائد وجمع الفوائد في بيان المسائل التي وقع فيها الاختلاف بين الماتريدية والاشعرية في العقائد، المطبعة الادبية ،مصر ط 1 1317ه_.

الصابوني، ابو عثمان بن اسماعیل

- عقيدة السلف واصحاب الحديث ،المطبعة المنيرية، القاهرة 1970م.

الصالح، صبحي

- مباحث في علوم القرآن، بيروت، ط10، 1977م.

- نهج البلاغة (تصنيف) ، بيروت ط13871ه_ 1967م.

الصدر، حسن

-الشيعة وفنون الاسلام ،مطبعة العرفان، صيدا، 1331ه_.

الصدوق، محمد بن علي بن بابويه (ت 381ه_)

- إكمال الدين طبع حجر، طهران (د. (ت).

-التوحيد دار المعرفة، بيروت (د. (ت)

- عيون اخبار الرضا المطبعة الحيدرية النجف الاشرف 1390ه_ 1970م.

،الصراف ابو جعفر محمد بن الحسن الفروخ

-بصائر الدرجات، طبع طهران .

ص: 532

الصغير، د. محمد حسين

-اصول البيان العربي دار الشؤون الثقافية، بغداد 1986م

-مجاز القرآن خصائصه الفنية وبلاغته العربية، دار الشؤون الثقافية، بغداد

طاش كبري زادة ،احمد بن مصطفى (ت 962ه_)

- مفتاح السعادة ومصباح السيادة، حيدر آباد الركن.

الطباطبائي، محمد حسين

-الميزان في تفسير القرآن ،مؤسسة الاعلمي، بيروت ط3 1393ه-، 1973م.

الطبرسي، ابو الفضل علي بن الحسن (ت 548ه_)

- مجمع البيان في تفسير القرآن، دار احياء التراث العربي، بيروت 1379ه_.

الطبرسي، ابو منصور احمد بن علي بن ابي طالب ( توفي بحدود 620ه_)

-الاحتجاج ،مؤسسة النعمان، بيروت 1385ه_

الطبري ابو جعفر محمد بن جرير (ت 310ه_)

-تاريخ الرسل والملوك، تحقيق: محمد ابو الفضل ابراهيم دار المعارف، مصر، ط2

-جامع البيان عن تاويل أي القرآن المطبعة الميمنية، مصر 1321ه_

الطوسي، ابو جعفر محمد الحسن (ت 460 ه_)

-الاقتصاد فيما يتعلق بالاعتقاد مطبعة الاداب النجف، الاشرف 1399ه_ 1979م.

-الامالي ،مطبعة النعمان النجف الاشرف 1384ه_ 1964م.

ص: 533

- التبيان في تفسير القرآن ،تحقيق احمد حبيب قصير العاملي، مطبعة النعمان ،النجف الاشرف 1383ه_ 1964م.

-تلخيص الشافي تعليق السيد حسين بحر العلوم مطبعة الاداب النجف الاشرف ط2 1383ه_1963م.

- عدة الاصول طبع حجر طهران 1317ه_.

عبد الله فياض

-تاريخ الامامية واسلافهم من الشيعة، بيروت، لبنان.

عبد الباسط، بدر المتولي

-اصول الفقه على مذاهب اهل السنة والامامية، مطبعة دار المعرفة بغداد ط1 1951 م.

عبد الحليم محمود

-الاسلام والعقل، دار الكتب الحديثة، بيروت 1973م.

عبد الحميد د. عرفان

- دراسات في الفرق والعقائد الاسلامية دار التربية بغداد 1977م.

عبد الحميد د. محسن

-تطور تفسير القرآن بيت الحكمة، بغداد 1989ه_

العلامة الحلي الحسن بن يوسف بن المطهر (ت 726ه_)

- استقصاء النظر في البحث عن القضاء والقدر، مطبعة الحوادث، بغداد 1978م.

ص: 534

- الالفين فى امامة امير المؤمنين المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف ط2 1389ه_ 1969 م.

-انوار الملكوت في شرح الياقوت طبع حجر طهران 1383ه_.

-الرسالة السعدية مطبعة الغري النجف الاشرف 1395ه_ 1975م.

- كشف الحق ونهج الصدق، مطبعة النجاح ،بغداد

-كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد مؤسسة الاعلمي بيروت ط1 1399ه_ 1979 م.

- منهاج الكرامة في معرفة الامامة تحقيق محمد رشاد سالم (مطبوع مع منهاج السنة النبوية لابن تيمية) المطبعة الكبرى الاميرية بولاق مصر 1321ه_

العياشي، ابو النضر محمد بن مسعود بن عياش السلمي ت 320ه_.

- تفسير العياشي تحقيق هاشم الرسولي المحلاتي المكتبة العلمية الاسلامية

طهران (د.ت).

الغرابي، علي مصطفى

-تاريخ الفرق الاسلامية ونشأة علم الكلام عند المسلمين، مطبعة محمد علي صبيح واولاده مصر ط13782ه_ 1958م.

الغزالي ابو حامد محمد بن محمد (ت 505ه_)

-الاربعين في اصول الدين المطبعة العربية، مصر ط2، 1344ه_.

-الاقتصاد في الاعتقاد دار الكتب العلمية بيروت ط1 1409ه_ 1988م.

-الجام العوام عن علم الكلام نشر محمد عطية الكلبي مصر 1350ه_ 1932م.

ص: 535

- قانون التأويل، مطبعة الانوار مصر 1359ه_.

- القسطاس المستقيم، مطبعة الترقي، مصر 1318ه_ 1900م.

- قواعد العقائد، عالم الكتب بيروت ط2 1405ه_ 1985 م.

المستصفى في علم الاصول مطبعة المثنى بغداد عن الطبعة الاميرية مصر 1324 ه_.

الفيروز آبادي ابو طاهر مجد الدین محمد بن يعقوب (ت 817ه_)

- القاموس المحيط تحقیق د حسین نصار، مطبعة مصطفى البابي الحلبي، مصر 1953ه_1371 .

الفيض الكاشاني محمد بن المرتضى (ت 1091ه_)

الصافي في تفسير القرآن المطبعة الاسلامية طهران 1374ه_.

القاسمي، محمد بن جمال الدين (ت (1323ه_ )

- تفسير القاسمي (محاسن التأويل)، دار احياء الكتب العربية، القاهرة، ط1، 1977ه_1396 م.

القاضي عبد الجبار بن احمد الاسد آبادي (ت 415ه_ )

- تنزيه القرآن عن المطاعن دار النهضة الحديثة، بيروت (د.ت).

شرح الاصول الخمسة تحقيق د. عبد الكريم ،عثمان مكتبة وهبة القاهرة ،ط1 1384ه_ 1965م.

- فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة تحقيق فؤاد ،سید الدار التونسية تونس 1393ه_ 1974م.

ص: 536

- متشابه القرآن، تحقیق عدنان محمد زرزور دار التراث مصر ط 1 1969م.

المحيط بالتكليف دار الهلال، مصر، 1971م.

- المختصر في اصول الدين (ضمن رسائل العدل والتوحيد )تحقیق محمد عماره دار الهلال، مصر، 1971م.

المغني في ابواب التوحيد والعدل وزارة الثقافة والارشاد القومي، مصر باشراف د. طه حسين وابراهيم مدكور 1960- 1965.

ج4 تحقیق محمد مصطفى حلمي حلمي ابو الوفا 1965م

- ج 5 تحقیق محمود محمد الخضيري 1965م.

- ج 6- تحقیق احمد فؤاد الاهواني 1962م.

ج7 تحقیق ابراهيم الايباري 1961م

- ج 11- تحقیق محمد علي النجار، عبد الحليم النجار 1965م.

ج 13- تحقيق ابو العلا عفيفي 1962م.

- ج 15- تحقیق محمود محمد الخضيري 1965م

ج 16 تحقیق امين الخولي 1960م

- ج 20 تحقيق عبد الحليم محمود وسلیمان دینا

القرطبي، ابو عبد الله محمد بن احمد الانصاري ت (567ه_)

الجامع لاحكام القرآن، مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة ط13722ه_ 1952م.

القمي ابو الحسن علي بن ابراهيم (ت بعد (307ه_)

ص: 537

- تفسير القمي تحقيق السيد طيب الموسوي الجزائري، مطبعة النجف، النجف الاشرف 1386ه_ .

القندوزي، سليمان بن ابراهيم (ت 1294ه_)

ينابيع المودة المكتبة الحيدرية النجف الاشرف 1384ه_ 1965م.

القوشجي، علاء الدين علي بن محمد (ت 789ه_)

- شرح تجريد الكلام طبع حجر ایران 1301ه_

كاشف الغطاء، محمد حسين

- أصل الشيعة واصولها المطبعة العربية، القاهرة 1377ه_

كاشف الغطاء هادي

-الهادي فيما يحتاجه التفسير من المبادي مطبعة الاداب النجف الاشرف.

الكراجكي ابو الفتح محمد بن علي بن عثمان (ت 449ه_)

كنز الفوائد طبع حجر ایران 1322 ه_

الكليني، ابو جعفر محمد بن يعقوب بن اسحاق (ت (329ه_)

الكافي (الاصول) دار الكتب الاسلامية طهران 1383 ه_

المجلسي، محمد باقر (ت 1111ه_)

البحار الأجزاء ،39،89،90،92، 1،2،11) المكتبة الاسلامية، طهران 1387ه_.

المحسني، محمد آصف

- صراط الحق في المعارف الاسلامية والاصول الاعتقادية مطبعة النعمان النجف

ص: 538

الاشرف 1388ه_ 1968م.

الشريف المرتضى علي بن الحسين الموسوي (ت 436 ه_)

الاصول الاعتقادية ضمن نفائس المخطوطات تحقيق محمد حسن آیاسین دار المعارف بغداد1373ه_ 1954 م.

الامالي (درر الفوائد وغرر القلائد)، تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم، دار احياء الكتب العربية القاهرة 1373ه_ 1954م.

- انقاذ البشر من القضاء والقدر (ضمن رسائل العدل والتوحيد)، تحقيق محمد عمارة، دار الهلال مصر 1971م.

- تنزيه الانبياء المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف، 1394ه_ 1974م.

جمل العلم والعمل تحقيق رشيد الصفار مطبعة النعمان، النجف الاشرف ط 13871 ه_.

الذريعة في اصول الشريعة، طهران 1374ه_

- رسائل الشريف المرتضى تحقيق احمد الحسيني مطبعة الآداب، النجف الاشرف 1386ه_.

الشافي في الامامة طبع ،حجر ایران 1301 ه_.

- الفصول المختارة من العيون والمحاسن، المطبعة الحيدرية النجف الاشرف.

- مجموعة في فنون علم الكلام (ضمن نفائس المخطوطات المجموعة الخامسة) تحقیق محمد حسن آل ياسين، مطبعة المعارف بغداد 1375ه_ 1955.

المحكم والمتشابه طبع حجر ایران 1312ه_

ص: 539

-الايات الناسخة والمنسوخة، تحقيق علي جهاد الحساني بيروت، لبنان.

المسعودي، ابو الحسن علي بن الحسين بن علي (ت 346ه_).

-مروج الذهب ومعادن الجوهر تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، مطبعة السعادة مصر ط13844 ه_ 1964م.

مسلم بن حجاج النيسابوري (ت 261ه_)

صحیح مسلم دار الكتب بيروت 1977م

المشكيني، علي

- مصطلحات الاصول المطبعة العلمية قم ایران (د.ت)

المظفر، محمد رضا

- عقائد الامامية، دار المحجة البيضاء، بيروت 1997 م.

مغنية محمد جواد

فلسفات اسلامية دار ،التعارف بيروت ط19761م.

الشيخ المفيد محمد بن محمد بن النعمان ت (413ه_)

الاختصاص المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف 1390ه_ 1971م.

- الارشاد المطبعة الحيدرية النجف الاشرف ط2، 1392ه_ 1972م.

- الافصاح في امامة امير المؤمنين، المطبعة الحيدرية النجف الاشرف 1386 ه_.

- اوائل المقالات المطبعة الحيدرية النجف الاشرف 1970م.

تذكرة الاصول مطبوع مع كنز الفوائد للكراجكي طبع حجر ایران 1322ه_

ص: 540

- تصحيح الاعتقاد مطبوع مع اوائل المقالات.

- رسائل الشيخ المفيد مكتبة دار الكتب التجارية النجف الاشرف ط1 (د.ت).

النكت الاعتقادية المكتبة العصرية بغداد 1343ه_.

المقريزي، تقي الدين احمد بن علي (ت 845ه_)

- الخطط المقريزية مطبعة النيل، مصر 1324ه_ النشار، علي سامي.

- المنطق الصوري المكتبة التجارية، بيروت، ط1، 1950م.

- نشأة الفكر الفلسفي في الاسلام، دار المعارف الاسكندرية، ط2، 1962م.

النوبختي ابو محمد الحسن بن موسى توفي حوالي 310ه_

فرق الشيعة، المطبعة الحيدرية، النجف الاشرف، ط4، 1389ه_ 1969م.

النعمة ،عبد الله

- فلاسفة الشيعة حياتهم واراؤهم دار مكتبة الحياة، بيروت.

النيسابوري ابو رشید سعید بن محمد .

-ديوان الاصول تحقيق محمد عبد الهادي ابو ريدة المؤسسة المصرية للتأليف والترجمة والطباعة والنشر 1068م.

الهاشمي، احمد

- جواهر البلاغة ط2 بيروت (د.ت).

ولید قصاب

ص: 541

التراث النقدي والبلاغي للمعتزلة حتى نهاية القرن السادس دار الثقافة الدوحة 1405ه_ 1985 م.

ياسين خليل (الدكتور )

منطق البحث العلمي، ساعدت جامعة بغداد على نشره، بغداد، ط1، 1394ه_ 1974م.

يحيى بن الحسين، الامام

- رسائل العدل والتوحيد (الجزء الثاني)، تحقيق: محمد عمارة دار الهلال مصر 1971م .

ثالثاً: الدوريات

- د. محمد حسين الصغبر (مدرسة الكوفة في تفسير القرآن العظيم )، بحث منشور في مجلة المورد العدد 3 لسنة 1988 (عدد خاص بالدراسات القرآنية ).

- د. محسن عبد الحميد (التأويل وضوابطه ) ، بحث منشور في مجلة الرسالة الاسلامية العددان ،82،83 لسنة 1975 .

ص: 542

الفهرس

المقدمة ...8

تمهيد المنهج في اللغة والاصطلاح ...15

اولاً: المنهج في اللغة ...15

ثانياً: المنهج في الاصطلاح ...16

الباب الأول: منهج الامامية في فهم النص القرآني ...19

:مدخل الامامية البدايات والنشأة ...20

الفصل الاول: تأسيس الائمة لاصول منهج فهم النص القرآني... 29

توطئة ...30

المبحث الأول: المسلك المنهجي ...30

المطلب الاول أهلية التأسيس ...31

المطلب الثاني: جهود الأئمة في خدمة القرآن والعقيدة ...40

الاول: تعيين حدود النظر ...59

الثاني: مرجعية النص ومركزيته وحاكميته ...65

:الثالث مرجعية النص لنفسه ...68

الرابع الموقف من المحكم والمتشابه ...70

الخامس ادراك خصوصية تضمن النص للظاهر والباطن ...77

السادس: استبعاد التفسير بالرأي والهوى ...81

السابع: تجرد النص عن قيود الزمان والمكان ...89

المبحث الثالث: نماذج تطيبقية لمنهج الائمة في فهم النص القرآني ...98

ص: 543

الملحظ الاول : انواع التفسير عند الائمة ...98

منهج تفسير القرآن بالقرآن...99

أ - تفسير الآية بالآية ...99

ب - التفسير بالسياق ...103

2 - منهج التفسير بالجري ...107

الملحظ الثاني: تأصيل الأئمة لأصول العقيدة انطلاقاً من النص ...112

اولاً: منهج التعرف ...112

ثانياً: منهج الاثبات والبرهنة ...112

ثالثاً منهج التوصيل ...112

الفصل الثاني: موقف متكلمي الامامية من التعامل مع ظاهر النص ومتشابهه ...121

تمهيد...122

المبحث الاول: ظاهر القرآن عند متكلمي الامامية ...124

المطلب الاول: الظاهر لغةً واصطلاحاً ...125

المطلب الثاني: ظاهر القرآن وباطنه عند الامامية....129

المطلب الثالث: اسس التعامل مع ظواهر القرآن. ...133

اتجاهات المذاهب الاسلامية في الموقف من الظاهر....133

1 - الاثبات مع التكييف ...134

2 - الاثبات بلا تكييف أو تشبيه...135

3 - التفويض ...135

4 - التأويل ...136

ص: 544

منهج متكلمي الامامية في التعامل مع الظاهر ...138

اسس التعامل مع الظاهر القرآني ...139

القسم الاول: اسس تحديد المرجعيات ...140

أ- المرجعية المركزية للقرآن الكريم نفسه...141

ب- النص الوارد عن المعصوم ...142

ج - اللغة ...149

د- العقل. ..150

احتمالات دور العقل :...152

1- دور الميزان ...152

2- دور المفتاح ...152

3- دور المصباح ...153

القسم الثاني الاسس المنهجية في التعامل مع ظاهر النص ...157

1 - استحالة تناقض الظواهر القرانية ...157

2 - حجية الظاهر القراني حجية ذاتية ...159

3- حاكمية الظاهر على التأويل ...161

4- الدليل العقلي لايخالف الظاهر القراني ...161

المبحث الثاني: الموقف من قضية المحكم والمتشابه ...168

المطلب الاول : الاحكام والتشابه في النص القرآني ...168

المطلب الثاني: علم تأويل المتشابه ...172

المطلب الثالث: حكمة وجود المتشابه في القرآن ...182

ص: 545

الفصل الثالث: اسس التأويل وتطبيقات المنهج... 185

المبحث الأول: حقيقة التأويل ...186

أولاً: التأويل لغةً ...186

ثانياً: التأويل اصطلاحاً ...187

ثالثاً: التأويل في الأستعمال القرآني ...188

المبحث الثاني: أُسس التأويل عند متكلمي الإمامية...196

المبحث الثالث: نماذج تطبيقية في فهم الإمامية للنص القرآني ...212

التوحيد...213

1- وجوب النظر ...213

2- اثبات وجوده تعالى...214

3- الصفات الثبوتية ...216

ثانيا الصفات السلبية ...220

العدل ...231

النبوة ...236

الإمامة ...246

المعاد ...251

الباب الثاني منهج المعتزلة في فهم النص القرآني ...254

مدخل :المعتزلة الجذور والنشأة ...256

الفصل الأول: العقل ودوره في فهم النص القرآني ...257

المبحث الأول: مفهوم العقل ...258

ص: 546

المبحث الثاني: النبوة والعقل ...260

المبحث الثالث: ترتيب المرجعيات ...267

الفصل الثاني: المنهج المعتزلي في فهم النص القراني الاسس والاصول ...272

المبحث الأول: أسس وضوابط فهم النص والمؤثرات فيها ...273

المبحث الثاني: الأصل اللغوي وأثره في فهم النص القرآني عند المعتزلة ...277

المطلب الأول: أثر الالفاظ في فهم النص القرآني ...278

المطلب الثاني: فنون البلاغة وأثرها في فهم النص ...280

المبحث الثالث: المحكم والمتشابه وفهم النص ...289

أ - تحديد المفهومين....290

ب - امكان علم المتشابه...296

ج - توظيف المفهومين في خدمة المنهج العقلي ...301

1 -ضوابط التأويل ...301

2- مزية المحكم على المتشابه...303

3 -حكمة المتشابه وفوائده ...307

4 -حجيته في الاستدلال وكيفيته ...310

الفصل الثالث : نماذج تطبيقية في فهم المعتزلة للنص القرآني ...315

الأصل الأول: التوحيد. ...317

الأصل الثاني: العدل ...353

الأصل الثالث الوعد والوعيد ...672

ص: 547

الأصل الرابع: المنزلة بين المنزلتين ...378

الأصل الخامس: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ...380

الباب الثالث: منهج الأشعرية في فهم النص القرآني ...383

مدخل الأشعرية النشأة والجذور التاريخية والفكرية ...384

الفصل الاول علاقة العقل بالشرع وطرق الاستدلال على العقيدة... 409

المبحث الاول التحسين والتقبيح ...410

المبحث الثاني: علاقة العقل بالشرع...413

المطلب الاول: العلاقة بين العقل والشرع...414

المطلب الثاني: توزيع الادوار (اختصاص العقل والنقل) ..420

المطلب الثالث: السمات العامة للمنهج الأشعري ...424

المبحث الثالث: طرق الاستدلال على العقيدة ...429

المطلب الاول: الدليل العقلي ...431

المطلب الثاني: الدليل السمعي ...439

المطلب الثالث: الدليل اللغوي ...447

الفصل الثاني : موقف الاشعرية من المحكم والمتشابه ...449

المبحث الاول : موقف الاشعرية من ظاهر القرآن ...450

المبحث الثاني : المحكم والمتشابه... 454

ص: 548

المبحث الثالث: التأويل عند الاشعرية ...463

المطلب الاول : موقفهم من التأويل ...464

المطلب الثاني : أسس ألتاويل ...469

الفصل الثالث : نماذج تطبيقية في فهم الاشعرية للنص القرآني.... 471

الالهيات ...473

افعال الانسان ( نظرية الكسب ) ...507

التكليف بما لايطاق ...515

الخاتمة ...517

المصادر والمراجع...521

المحتويات ...543

ص: 549

هذا الكتاب

ان هذه الرسالة في دراستها للنص القرآني تعيد لهذه الامة الكريمة هيبتها وحضارتها موضوعيتها واستمداد مواقفها من النص الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه..

لكل امة تراث تراثنا في الادب العربي وتراثنا في الشعر الجاهلي وتراثنا في الثقافات الماضية.

ولكن قمة ما يبقينا ويوحدنا ويخلدنا ويجعلنا خير امة اخرجت للناس هو القرآن العظيم هذا الكتاب الذي يتهيب الطلاب دراسته اما لانحرافهم عن الخط الديني واما لصعوبة هذا النص على المستوى المعاصر.

جاءت هذه الرسالة سدا لكثير من الثغرات وعالجت موضوعا مهما بروح موضوعية.

BEENDURINNISH

http://www.iicss.iq

islamic.css@gmail.com

ص: 550

درباره مركز

بسمه تعالی
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
با اموال و جان های خود، در راه خدا جهاد نمایید، این برای شما بهتر است اگر بدانید.
(توبه : 41)
چند سالی است كه مركز تحقيقات رايانه‌ای قائمیه موفق به توليد نرم‌افزارهای تلفن همراه، كتاب‌خانه‌های ديجيتالی و عرضه آن به صورت رایگان شده است. اين مركز كاملا مردمی بوده و با هدايا و نذورات و موقوفات و تخصيص سهم مبارك امام عليه السلام پشتيباني مي‌شود. براي خدمت رسانی بيشتر شما هم می توانيد در هر كجا كه هستيد به جمع افراد خیرانديش مركز بپيونديد.
آیا می‌دانید هر پولی لایق خرج شدن در راه اهلبیت علیهم السلام نیست؟
و هر شخصی این توفیق را نخواهد داشت؟
به شما تبریک میگوییم.
شماره کارت :
6104-3388-0008-7732
شماره حساب بانک ملت :
9586839652
شماره حساب شبا :
IR390120020000009586839652
به نام : ( موسسه تحقیقات رایانه ای قائمیه)
مبالغ هدیه خود را واریز نمایید.
آدرس دفتر مرکزی:
اصفهان -خیابان عبدالرزاق - بازارچه حاج محمد جعفر آباده ای - کوچه شهید محمد حسن توکلی -پلاک 129/34- طبقه اول
وب سایت: www.ghbook.ir
ایمیل: Info@ghbook.ir
تلفن دفتر مرکزی: 03134490125
دفتر تهران: 88318722 ـ 021
بازرگانی و فروش: 09132000109
امور کاربران: 09132000109