شرح الأصول من الحلقة الثانية

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

الناشر: المؤلّف

المطبعة: ثامن الحجج

الطبعة: 3

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 463

المكتبة الإسلامية

شرح الأصول

من الحلقة الثانية

تأليف: الشيخ محمد صنقور علي البحراني

الجزء الأول

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

المقدّمة

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف خلقه ، وأكمل موجوداته أبي القاسم محمد وعلى آله الأخيار الأبرار الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا.

( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي ) .

إنّ من ألطاف اللّه جلّ وعلا أن وفقني لشرح الحلقة الثانية من حلقات السيّد الشهيد قدس سره والتي هي من أهمّ كتب الدراسات الحوزويّة ، والتي يتأهّل بها الطالب للدخول في مرحلة السطح الأعلى ، وأسأل اللّه تعالى أن يكون هدفي من كتابة هذا الشرح هو المساهمة في تيسير فهم هذا الكتاب على الطالب الكريم.

وقد بذلت جهدي في بيان مطالبه واتّخذت طريقة التقرير وسيلة لإيضاح مباحثه وعالجت موضوعاته بواسطة تصنيفه وتبويبه بطريقة رأيتها مناسبة ، وقد أكثرت فيه من الأمثلة والتطبيقات لغرض إيقاف الطالب الكريم على ثمرات هذه البحوث ، وقد جهدت أن لا أخرج عن

ص: 5

إطار المباحث التي عرضها السيّد الشهيد قدس سره في كتابه إلاّ في حالات يستدعي فيها البيان ذلك ، وقد احتفظت بالعناوين الرئيسيّة للكتاب تيسيرا للمراجعة.

أسأل اللّه تعالى أن يكون ما كتبته قربانا أتوسّل به لقضاء حاجتي وهي أن يجعل عاقبتي إلى خير ، ومنقلبي منقلبا محمودا عنده ، وأن لا يكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا وأن يحشرني في زمرة الأبرار من آل رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله .

والحمد لله ربّ العالمين

محمّد صنقور البحراني

قم المقدّسة

ص: 6

تمهيد

اشارة

تعريف علم الأصول

موضوع علم الأصول

فائدة علم الأصول

ص: 7

ص: 8

بسم اللّه الرّحمن الرّحيم

والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطاهرين.

تعريف علم الأصول :

اشارة

عرّف المشهور علم الأصول « بأنّه العلم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي » والمراد من هذا التعريف هو أنّ علم الأصول عبارة عن مجموعة من القواعد والضوابط الكلية التي تساهم في استخراج الحكم الشرعي من مصادره كالكتاب والسنّة.

فليس للفقيه أن يدخل إلى مصادر التشريع لاستنباط واستخراج الحكم الشرعي إلا عبر هذه الضوابط والقواعد التي تنقّح في علم الأصول فمثلا لو أراد الفقيه أن يستنبط حكم فعل من أفعال المكلّفين مثل ردّ التحية فهو يواجه أمامه نصا قرآنيا وهو قوله تعالى ( وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ) (1) ولا يمكن الحكم بالوجوب مثلا إلا أن ينقّح مسألتين أصوليّتين ، ألاولى : ظهور صيغة الأمر في الوجوب ، الثانية : حجيّة الظهور ، وهاتان المسألتان تبحثان في علم الأصول لغرض إثباتهما أو نفيهما فإذا تنقّح للفقيه ثبوتهما بالدليل القطعي يتشكّل عنده قياس منطقي مكوّن

ص: 9


1- النساء : 86

من صغرى وكبرى.

أمّا الصغرى : في كل صيغة أمر فهي ظاهرة في الوجوب.

وأمّا الكبرى : فهي أن كل ظهور حجّة.

فينتج ظهور الأمر في الوجوب حجة ثم يشكل الفقيه قياسا آخر يجعل نتيجة القياس الأول كبرى للقياس الثاني ، ويجعل صغراه النص القرآني هكذا.

إن كلمة ( فَحَيُّوا ) في الآية الشريفة صيغة أمر.

وظهور الأمر في الوجوب حجّة.

فينتج وجوب رد التحيّة.

فنلاحظ أن نتيجة القياس الأول وهو « ظهور صيغة الأمر في الوجوب حجّة » - الذي استفدنا صغراه وكبراه من علم الأصول - قد وقع كبرى للقياس الثاني وجعلنا الصغرى النص القرآني فأنتج وجوب رد التحيّة.

وخلاصة الكلام أن الفقيه لا يتمكّن من استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها إلاّ عن طريق علم الأصول ، ينقح فيه مجموعة من القواعد تكون بمثابة الوسائل الآلية لمعرفة الأحكام الشرعية من مصادرها.

الإشكال على التعريف :

ثم إن المصنّف أورد على التعريف بإيراد حاصله : أن الغرض من التعريف هو بيان الضابطة التي تتميّز من خلالها المسألة الأصولية من غيرها والتعريف قد جعل عنوان القواعد الممهّدة هو المميّز للمسألة الأصولية من غيرها والحال أن صلاحية المسألة للتمهيد لاستنباط الحكم

ص: 10

الشرعي فرع بحثها في علم الأصول ، فأولا نبحثها ثم نعرف أنها تمهّد لاستنباط الحكم الشرعي أو لا ، وهذا يقتضي أن نبحث كل المسائل لنرى أيّها تمهّد وأيّها لا تمهّد ، وهذا غير مراد حتما إذن فثمّة ضابطة تحدّد أيّ المسائل تبحث في علم الأصول وأيّها لا تبحث ، وهذه الضابطة لا بدّ من بيانها في التعريف وهي غير التمهيد ، إذ أن التمهيد يقع في طول معرفة المسألة الأصولية التي تحدّد أيّها يمهّد وأيّها لا يمهّد للاستنباط.

وبعبارة أخرى : لا بد أن يكون التعريف مشتملا على الضابطة التي تحدّد ما هي المسائل الداخلة في علم الأصول والمسائل الخارجة ، وجعل الضابطة « هي الممهّدة » يقتضي ان تكون أصولية المسألة منوطة بتمهيدها للإستنباط في حين أنّ معرفة المسائل الممهّدة للاستنباط متوقّفة على علم الأصول ، فتحديد القواعد الممهّدة للاستنباط متأخر عن بحثها في علم الأصول فكيف تكون هي المحدّدة لمسائل علم الأصول.

ولذا عرّف علم الأصول بتعريف آخر غير مشتمل على وصف القواعد بالممهّدة حيث عرّف « بأنّه العلم بالقواعد التي تقع في طريق الاستنباط » فكل مسألة تكون طريقا ووسيلة للوصول إلى الحكم الشرعي فهي مسألة أصولية. فمثلا ظهور صيغة النهي في الحرمة تساعد على الوصول إلى بعض الأحكام الشرعية فهي إذن مسألة أصولية وهذا بخلاف قاعدة « إن الحديد يتمدّد بالحرارة » فإنّ هذه الكبرى الكلية لا تساهم في استنباط حكم فهي إذن ليست مسألة أصولية. وهذا التعريف لا يرد عليه ما أورد على التعريف الأول ، إذ أنه واف بالغرض ، حيث إن الغرض منه معرفة المسألة الأصولية من غيرها وقد تحقق ذلك بهذا التعريف ، إذ أنّه

ص: 11

قال إن المسألة الأصولية هي التي تساهم في استنباط الحكم الشرعي فيخرج ما سوى ذلك عن علم الأصول.

الإشكال على التعريف الثاني :

إلا أن المصنّف رحمه اللّه أورد على التعريف بما حاصله : أن هذا التعريف فاقد لبعض شرائط التعريف المذكورة في علم المنطق وهو المنع من دخول الأغيار ، فلا بدّ من كون التعريف مانعا من تداخل العلوم ، وهذا التعريف غير مشتمل على هذا الشرط حيث إنه يسمح لدخول كثير من مسائل اللغة مثلا في علم الأصول ، والحال أنها خارجة عنه قطعا ، فمثلا ظهور كلمة « الصعيد » في مطلق وجه الأرض يساهم في استنباط حكم شرعي وهو صحة التيمّم بمطلق وجه الأرض في حين أن معرفة المعنى اللغوي لكلمة الصعيد أو غيرها من موضوعات أو متعلقات الأحكام خارجة عن علم الأصول قطعا. فإذن التعريف يلزم منه دخول كثير من المسائل في علم الأصول وهي ليست منه.

التعريف على مختار المصنّف رحمه اللّه :

ثم إن المصنّف طرح تعريفا آخر لعلم الأصول وهو « العلم بالعناصر المشتركة في عملية الاستنباط » وهذا التعريف يشترك مع التعريف الثاني في كون ضابطة المسألة الأصولية هي : ما يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي ، ولكن أضاف عليه المصنّف رحمه اللّه قيدا زائدا مضيّقا بذلك دائرة ما يبحث في علم الأصول ، فعلم الأصول وإن كان هو البحث عن المسائل التي تقع في طريق الاستنباط إلاّ أنّه ليس كل المسائل التي تساهم في الاستنباط ، بل هي المسائل التي يمكن الاستفادة منها في أكثر

ص: 12

أبواب الفقه حين إرادة استنباط الأحكام الشرعية من مصادرها ، فمثلا حجية خبر الثقة يمكن الاستفادة منها - إذا ثبتت - في استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة وهذا بخلاف تحرير معنى كلمة الصعيد ، فإنه لا يستفاد منها إلا في معرفة حكم أو حكمين شرعيّين ، وهكذا مسألة ظهور صيغة الأمر في الوجوب والنهي في الحرمة فإنّه يمكن الاستفادة منهما في جميع أبواب الفقه من الطهارة إلى الديّات ، ولذلك عبّر المصنّف عن مثل هذه المسائل : بالعناصر المشتركة ، حيث إنها مسائل سيّالة يحتاج إليها الفقيه لاستنباط كثير من الأحكام الشرعيّة في كثير من الأبواب الفقهيّة.

وأمّا العناصر المختصّة مثل معنى كلمة « الصعيد » أو معنى كلمة « الكر » وإن كانت نافعة في استنباط حكم شرعي إلا أنها لا تساهم إلا في استنباط حكم أو حكمين ، إذن فكل مسألة تساهم في استنباط حكم شرعي فهي مسألة أصولية ولكن بشرط أن تكون مسألة سيّالة مطّردة صالحة لأن يستفاد منها في استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة.

قوله رحمه اللّه : « إبداء الضابط الموضوعي » ، أي لا بدّ أن يكون التعريف محدّدا للموضوع الذي يكون جامعا لمسائل العلم ، وموجبا لتمييز المسائل الداخلة في هذا العلم عن المسائل الخارجة عنه ، وإلاّ لم يتحقّق الغرض من التعريف ، والذي هو تشخيص العلم المعرّف وتحديده بحيث تعرف به مسائل العلم المعرّف عن مسائل العلوم الأخرى.

موضوع علم الأصول :

اشارة

تعارف أهل كل فنّ أن يصدّروا بحثهم عن ذلك الفن ببيان تعريفه

ص: 13

وموضوعه وفائدته ، وهذا ما يعبّر عنه بالمبادئ التصوريّة للعلم والتي تعطي تصورا عن معنى العلم وما هي حدوده المانعة عن تداخله مع العلوم الأخرى وما هو الغرض منه والفائدة المترتّبة عليه.

وقبل بيان موضوع علم الأصول لا بدّ من بيان مقدّمة ، وهي :

إن الموضوع عند أهل المنطق هو الشيء الذي يحكم عليه بحكم ، فالموضوع عند المناطقة هو المسند إليه عند أهل البلاغة ، فعندما نقول « إن زيدا عالم » فزيد الذي أسند إليه العالمية هو الموضوع الذي حكم عليه بحكم وهو « عالم ». وبعد بيان ذلك نقول إن موضوع كل علم عبارة عن العنوان الجامع لموضوعات مسائل ذلك العلم.

والمراد من مسائل كل علم هي القضايا الحمليّة التي يتصدّى ذلك العلم لبيانها والاستدلال عليها. إذن العلم مجموعة من المسائل والقضايا الحمليّة يكون القاسم المشترك بين هذه المسائل هو كون موضوعاتها ترجع إلى عنوان جامع يعبّر عنه بموضوع العلم ، مثلا : علم النحو يبحث فيه عن مجموعة من المسائل مثل « الفاعل مرفوع » « المفعول منصوب » « والمبتدأ مرفوع » « والمضاف إليه مجرور » ، ولو لا حظنا جميع هذه المسائل المتكوّنة من موضوع وحكم لرأينا أن موضوعاتها ترجع إلى عنوان جامع وهو « الكلمة » ، فالكلمة المتعنونة بعنوان الفاعل حكمنا عليها بالرفع ، والكلمة المتعنونة بعنوان المفعول حكمنا عليها بالنصب وهكذا مئال موضوعات مسائل علم النحو إلى موضوع واحد ، وهو عنوان الكلمة.

إذا اتضح معنى موضوع العلم تصل النوبة لبيان موضوع علم الأصول فنقول وعلى اللّه التكلان.

ص: 14

إن الأصوليّين اختلفوا فيما هو موضوع علم الأصول ، فذكر القدماء أن موضوعه هو الأدلّة الأربعة « الكتاب الكريم ، السنة الشريفة ، الإجماع والعقل » ويقصدون من ذلك أن مدار المسائل الأصولية هو الأدلّة الأربعة ، فكل مسألة يكون موضوعها أحد الأدلّة الأربعة فهي مسألة أصولية ، مثلا حجيّة النص القرآني مسألة أصولية لأن موضوعها الكتاب الذي هو أحد الأدلّة الأربعة إذ أن النص القرآني الذي هو عبارة ثانية عن الكتاب هو الموضوع والحجية والدليليّة هو المحمول والحكم ، وهكذا حجية قول وفعل وتقرير المعصوم مسألة أصولية ؛ لأن موضوعها عبارة ثانية عن السنة الشريفة ومحمولها الحجيّة.

الإشكال على مبنى القدماء

وأورد المصنّف على هذا المبنى أنه يلزم منه خروج كثير من المسائل الأصولية التي يقطع بأصوليّتها. فإذن هذا الموضوع لا ينطبق عليه ضابطة موضوع العلم ، إذ أنه لا يجمع تحت عنوانه - وهو الأدلّة الأربعة - جميع موضوعات مسائل هذا العلم ، فمثلا موضوع الاستلزامات - التي هي عبارة عن ملازمة حكم لحكم آخر - « هو الحكم » والحكم ليس داخلا تحت عنوان الأدلّة الأربعة ، فمثلا الحكم بوجوب شيء يقتضي النهي عن ضدّه ، والحكم بحرمة شيء يقتضي الفساد ، والحكم بوجوب شيء يقتضي وجوب مقدّمته. كل هذه مسائل أصولية موضوعها الحكم ، والحكم لا يدخل تحت عنوان الأدلّة الأربعة.

وكذلك البحث عن حجيّة الأمارات الظنيّة فإنها كثيرا ما لا تؤول موضوعاتها إلى عنوان الأدلّة الأربعة ، فمثلا حجيّة الشهرة موضوعها

ص: 15

الشهرة ومحمولها الحجية ، وكذلك حجية خبر الثقة فإن موضوعها خبر الثقة ومحمولها الحجية ، ومن الواضح أن هذه الموضوعات لا تؤول إلى عنوان الأدلّة الأربعة.

وكذلك البحث عن الأصول العملية - التي تحدّد وظيفة المكلف في موارد فقدان الدليل أو إجماله - فإن موضوعها الشك ، فمثلا جريان البراءة حين الشك في حرمة شيء مع عدم وجود علم سابق بالحرمة ، فنلاحظ أنّ الموضوع لهذه المسألة هو الشك ومحمولها البراءة عن الحرمة.

وهكذا يتّضح أنّ عنوان الأدلّة الأربعة لا يصلح أن يكون موضوعا لعلم الأصول ، إذ أنّه ليس عنوانا جامعا لموضوعات مسائل هذا العلم.

القول الآخر لموضوع علم الأصول :

هو إنكار أن يكون لموضوع علم الأصول موضوع واحد جامع لجميع موضوعات مسائله ، وهذا القول تبنّاه مجموعة من الأعلام مثل السيد الخوئي رحمه اللّه ، وقالوا : إنّ ما تعارف عليه المناطقة من أن لكل علم موضوعا جامعا لجميع موضوعات مسائله لا أساس له إذ أنه يمكن أن لا يكون لبعض العلوم موضوع جامع.

ومن هنا ينشأ إشكال وهو : أنه بناء على هذا القول تتداخل العلوم ولا يمكن أن تكون هناك ضابطة تحدّد أنّ هذه المسألة من مسائل هذا العلم أو ذاك العلم ، ومن هنا تصدّى أصحاب هذا القول للجواب عن هذا الإشكال وحاصله : أنه يمكن أن يكون هناك ضابطة لتحديد مسائل كل علم تفيد فائدة الموضوع ولكنها ليست من قبيل الموضوع. وهذه الضابطة هي الغرض ، فتحديد الغرض من العلم يمنع من تداخل العلوم وبه تتحدّد

ص: 16

مسائل كل علم بحيث يكون الغرض موجبا لدخول بعض المسائل في هذا العلم مثلا وخروج مسائل أخرى عنه.

فمثلا علم الطب ليس له موضوع جامع لجميع موضوعات مسائله ، ولكن يمكن أن يكون الغرض من هذا العلم محدّدا لأيّ المسائل التي تكون داخلة في هذا العلم وأيّ المسائل تكون خارجة عنه. وهكذا علم الأصول تكون الضابطة في تحديد مسائله التي يبحث عنها هذا العلم هو الغرض ، فلو قلنا إن الغرض من هذا العلم مثلا هو البحث عن كل كبرى كلية تساهم في استنباط الحكم الشرعي لاقتضى ذلك معرفة المسائل المبحوثة في هذا العلم والمسائل الخارجة عنه.

إذن فليس الموضوع للعلم هو الضابطة الوحيدة المانعة من تداخل العلوم والموجبة لتحديد مسائل كل علم.

القول الثالث في بيان موضوع علم الأصول :

وهو ما تبنّاه المصنّف رحمه اللّه تعديلا لمبنى القدماء ومحاولة لسدّ ثغراته ، وهذا القول عبارة عن أن موضوع علم الأصول « هو الأدلة » بحذف قيد « الأربعة » ليكون الموضوع شاملا وجامعا لجميع موضوعات مسائل هذا العلم.

وبعبارة أخرى موضوع علم الأصول بحسب مبنى المصنّف هو كل دليل عام تكون له الصلاحية للاستدلال به على الحكم الشرعي. ويخرج بقولنا « عام » كل ما يصلح أن يكون دليلا على الحكم الشرعي ولكن في موارد محدودة وهو ما عبّر عنه المصنّف بالعنصر المختص.

إذن كل دليل وعنصر مشترك - لو ثبت كان صالحا للاستدلال به

ص: 17

على الحكم الشرعي - هو موضوع علم الأصول فهذا هو الموضوع الجامع لموضوعات مسائل علم الأصول ، والعناوين التي يتوخى منها الكاشفية والدليليّة على الحكم الشرعي تحدد في علم آخر غير علم الأصول ، وعلم الأصول يبحث عن دليليتها وكاشفيتها للحكم الشرعي وعدم ذلك فالشهرة والقياس والظهور وخبر الواحد عناوين يتوخى منها الدليليّة والمساهمة في الكشف عن الحكم الشرعي ، وهذه العناوين يتم تحريرها في علوم أخرى ، والذي يبحثه علم الأصول هو صلاحيتها للدليلية وعدم صلاحيتها فمثلا تحرير معنى الظهور ومعنى الشهرة ومعنى خبر الواحد ومعنى الشك يتم في علم الدراية والمنطق واللغة ، وبحث الأصولي عن هذه العناوين هي محاولة منه للبرهنة على صلاحيتها للمساهمة في الكشف عن الحكم الشرعي أو عدم ذلك وهذا معنى البحث عن دليليتها وعدمها الذي ادعينا أنه جامع لموضوعات علم الأصول.

ثم إننا لو حاولنا إرجاع هذه العناوين - الواقعة موضوعا لمسائل علم الأصول - إلى الموضوع - الذي هو كل دليل عام صالح للوقوع في طريق الاستنباط - لوجدنا أن ذلك ممكن بحيث لا يشذّ موضوع مسألة من هذه المسائل عن هذا الجامع.

فمثلا حجيّة الظهور موضوعها الظهور ومحمولها الحجيّة والدليليّة ، ومن الواضح أن الظهور من العناوين الصالحة للدليلية فهو ينضوي تحت عنوان - كل دليل عام صالح للوقوع في طريق الاستنباط - وهكذا حجية خبر الثقة والشهرة وكذلك الحكم بوجوب شيء هل يستلزم حرمة ضدّه ، فالحكم بالوجوب عنوان صالح للوقوع في طريق إثبات حرمة الضد وصالح

ص: 18

للوقوع في طريق إثبات وجوب المقدّمة وهكذا.

فمثل حرمة الضد ووجوب المقدمة محمولات لهذا الموضوع - وهو الحكم - وهو عنوان داخل تحت عنوان قولنا - كل دليل عام صالح للوقوع في طريق الاستنباط - وهكذا ينسحب الكلام إلى الأصول العملية ، فالبحث عن أنّ الشك مجرى للبراءة - مثلا - بحث عن صلاحية الشك لإثبات حكم شرعي - وهو الترخيص - وعدم صلاحيته.

وخلاصة القول إن موضوع علم الأصول هو الأدلة العامة الواقعة في طريق استنباط الحكم الشرعي.

قوله رحمه اللّه : « والبحث الأصولي يدور دائما حول دليليّتها » ، أي صلاحيّتها للدلالة على الحكم الشرعي ، أو قلّ أهليتها لإثبات الحكم الشرعي ، فالبحث الأصولي مثلا يبحث عن صلاحيّة الأدلّة الظنيّة المحرزة ، فمتى ما ثبتت لها الدليليّة ، فهذا معناه ثبوت الحجيّة والصلاحيّة للكشف عن الحكم الشرعي.

فائدة علم الأصول :

وبما بيّناه سابقا في مقام بحث تعريف وموضوع علم الأصول يتّضح مدى الفوائد المترتبة على هذا العلم ، إذ أنه تحرّر في هذا العلم وسائل المعرفة للأحكام الشرعية في كثير من الأبواب الفقهيّة فليس للفقيه طريق آخر يدخل من خلاله للفقه ومعرفة أحكام أفعال المكلفين.

نعم الفقيه في مقام تحديد الأحكام الشرعية وأن هذا حلال وهذا حرام أو واجب يحتاج إلى عناصر أخرى ليست من علم الأصول تكون

ص: 19

بمثابة المواد والصغريات للأقيسة التي يتوصل عن طريق تشكيلها للنتيجة الفقهيّة ، وهذه المواد والصغريات التي عبّر عنها بالعناصر الخاصة تتغير بتغير المطلوب الذي يريد الفقيه الوصول إليه ، فهي عناصر غير مطّردة في جميع أبواب الفقه ولا تكون الحاجة إليها إلا في موارد خاصّة وتكون موارد أخرى محتاجة إلى مواد وعناصر صغروية أخرى.

وهذا بخلاف المسائل الأصولية فإنها مطّردة ونافعة للوصول إلى كثير من النتائج الفقهيّة.

وخلاصة القول إنّ النتيجة الفقهية تتوقّف على نوعين من المقدّمات.

المقدّمة الأولى : هي العناصر الخاصّة التي ليس لها اطّراد لغير مواردها والتي عبّرنا عنها بمواد وصغريات أقيسة النتائج الفقهيّة من قبيل وجود رواية على حرمة لحم الأرنب وأنّها رواية معتبرة وأنّها ظاهرة في الحرمة وأنّها غير مبتلية بمعارض أو بمقيّد أو ما إلى ذلك.

ومن الواضح أن هذه الرواية بتمام حيثياتها لا يستفاد منها إلا في موردها وهو وقوعها صغرى لقياس يراد استنتاج حرمة لحم الأرنب منه.

المقدّمة الثانية : العناصر المشتركة وهي الأدلة العامة التي يمكن التوسّل بها للوصول إلى كثير من النتائج الفقهية المتفرقة في أبواب الفقه مثل حجيّة خبر الثقة وحجيّة الشهرة وحجيّة ظواهر الكتاب ، فإنّ هذه المسائل تقع في طريق استنباط أحكام شرعية كثيرة ومختلفة ، فيمكن الاستفادة منها في باب الطهارة والصلاة والحج والخمس والرهن والقصاص وهكذا.

إذا اتضح هذا فنقول : إن المقدمة الأولى يبحثها الفقيه في غير علم

ص: 20

الأصول وأما المقدمة الثانية فيتم تنقيحها في علم الأصول فيشكّل من مجموع المقدمتين قياسا صغراه المقدمة الأولى وكبراه المقدمة الثانية بالبيان الذي بيّنّاه في تعريف علم الأصول.

وبهذا يتّضح أنّ علم الأصول بمثابة علم المنطق لبقيّة العلوم حيث إن المنطق يساهم في إعطاء الضوابط للوصول إلى النتائج في شتى العلوم ، كذلك يصنع علم الأصول بالنسبة للفقه ، فعلاقة علم الأصول بعلم الفقه هي علاقة علم المنطق بسائر العلوم من حيث إنّه المحرّر لوسائل المعرفة والعاصم للفكر عن الخطأ في النتيجة العلمية ، وبهذا تتّضح فائدة علم الأصول.

ص: 21

ص: 22

الحكم الشرعي وتقسيمه

اشارة

الحكم من كل قضية هو ما ثبت لموضوع تلك القضية وحمل عليها ولا فرق بين الحكم الشرعي وبين غيره من الأحكام من هذه الجهة ، وإنما قيدناه بالشرعي باعتبار أن الحكم وقع في مسألة وقضية يكون إثبات حكمها لموضوعها بيد الشارع.

فكما نقول إن الرفع الثابت للفاعل حكم نحوي ، وإن عدم امتناع الصدق على كثيرين في الكلّي حكم منطقي ، وإن المعلول لا يتخلّف عن علته حكم فلسفي ، باعتبار أن إثبات هذه الأحكام لموضوعاتها يتم في علم اللغة والمنطق والفلسفة ، فكذلك المقام ، فإن وجوب الصلاة وحرمة الخمر وفساد القرض الربوي أحكام شرعية باعتبار أن إثبات هذه الأحكام لموضوعاتها إنما هو من الشارع المقدّس.

إذا اتّضح هذا ، فنقول : إن الأحكام الشرعية هي عبارة عن مجموعة من الاعتبارات المبرزة والمجعولة من قبل اللّه تعالى الناشئة عن أغراض وملاكات يراها المولى جلّ وعلا ، والتي منها تنظيم حياة الإنسان والارتقاء به إلى مستوى الكمال الروحي والاجتماعي ، قال اللّه تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (1) ، وقال تعالى : ( وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ

ص: 23


1- سورة العنكبوت : 45

يا أُولِي الْأَلْبابِ ) (1) ، هذا ما يتصل بالتنظيم الاجتماعي لحياة الإنسان ، وأما ما يتّصل بروحه وتكامله النفسي ، فمثل قوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (2) ، إذن هذه الأحكام المجعولة من قبل الشارع المقدس توجّه الإنسان وتحركه نحو ما فيه كماله ( إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ) (3).

ثم إن الأحكام الشرعيّة تنقسم إلى قسمين :

الأوّل : الأحكام التكليفيّة :

وهي عبارة عن الاعتبارات المجعولة من قبل الشارع ويكون لها اتصال بأفعال المكلّفين مباشرة وابتداء ، كاعتبار الحرمة والوجوب على عهدة المكلف ، فالوجوب يحرك المكلف ابتداء نحو الفعل ، كما أن الحرمة تحرك المكلف نحو ترك الفعل المجعول له الحرمة مباشرة وبدون واسطة ، واعتبار الوجوب على عهدة المكلف موجب للانبعاث نحو ذلك الفعل بدون انتظار شيء آخر ، فكلّ ما كان له توجيه مباشر للمكلّف فهو حكم تكليفي سواء كان ذلك التكليف إلزاميا كالوجوب أو الحرمة ، أو لم يكن إلزاميا كالاستحباب والكراهة والإباحة ، إذ أنّها جميعا تشترك في أنّها تتصل بفعل المكلف دون أن تكون منوطة بشيء آخر ، نعم إطلاق عنوان التكليفية عليها من باب تسمية الشيء باسم بعضه إذ أنّ « التكليفية » تعني جعل

ص: 24


1- سورة البقرة : 179
2- سورة البقرة : 183
3- سورة الاسراء : 9

الكلفة وجعل الذمة مشغولة به ، وهذا إنما يناسب الأحكام الإلزامية.

الثاني : الأحكام الوضعية :

وهي الاعتبارات المجعولة من قبل الشارع التي لا تكون تكليفية ، فكل حكم ليس بتكليفي فهو حكم وضعي كالحكم بالفساد والصحة والملكيّة والزوجيّة وهكذا ، وهذه كلها تشترك في أنها ليس لها اتصال مباشر بتحريك المكلف ، وإنما هي اعتبارات شرعية تكون عادة موضوعا لأحكام تكليفية ، وهي عادة ما تكون منوطة بأمر خارجي إذا اتفق حصوله ترتب الحكم الوضعي ، فمثلا إذا اتفق الغرر في البيع حكم الشارع بفساد ذلك البيع ، وإذا اتفق أن توضأ المكلف حكم الشارع بطهارته الحدثية ، وإذا ما تحقق الإيجاب من المرأة والقبول من الرجل حكم الشارع بالزوجية ، وإذا اشترط الشارع الاستقبال في الصلاة فهذا يعني الشرطية.

والأحكام الوضعية كما ذكرنا تكون موضوعا لأحكام تكليفية من وجوب وحرمة وإباحة ، فمثلا الحكم بالزوجية يكون موضوعا لوجوب النفقة على الزوج ووجوب التمكين على الزوجة ، وإباحة نظر الزوج والزوجة إلى عورة الآخر ، وحرمة زواج الأجنبي من تلك المرأة ، وكذلك الملكية فإنها موضوع لمجموعة من الأحكام التكليفية كحرمة التصرّف في أموال المالك بغير إذنه ووجوب تخميس المال المملوك إذا فضل عن المؤونة ، وإباحة مطلق التصرفات في المملوك للمالك.

ومرادنا من أنّ الأحكام الوضعية تقع موضوعا للأحكام التكليفيّة أن الحكم الوضعي يكون في رتبة الموضوع في القضايا الحملية ويكون الحكم التكليفي في رتبة المحمول والحكم ، فمثلا الزوجية تقتضي وجوب النفقة ،

ص: 25

فالزوجية - التي هي حكم وضعي - وقعت موضوعا لحكم تكليفي وهو وجوب النفقة.

مبادئ الحكم التكليفي :

وقبل بيان المراد من مبادئ الحكم التكليفي لا بدّ من تقديم مقدمتين :

الأولى : وهي أن كل فعل اختياري يصدر من فاعل مختار لا بدّ أن يمرّ عبر مراحل ذهنية قبل صدور الفعل خارجا وهذه المراحل هي :

أولا : تصوّر الفعل ثم تصوّر فائدته ثم التصديق والإذعان بتلك الفائدة ثم ينشأ عن ذلك شوق ورغبة للفعل ثم يترتب على تلك الرغبة والشوق العزم على إيجاده ، وهذا العزم يتفاوت بتفاوت مستوى الرغبة والشوق ، وبعد طيّ كل هذه المراحل تصل النوبة لإعمال القدرة على إيجاد ذلك الفعل في الخارج فيسعى نحو تحقيقه في الخارج بالوسائل التي يراها مناسبة ، فتارة يعمل قواه العضلية في سبيل تحقيق ذلك الفعل وهذا ما يعبّر عنه بالإرادة التكوينية كتحرك العطشان بنفسه لتحصيل الماء ، وتارة أخرى يصدر أمرا - بتحصيل الماء - لعبده أو ولده مثلا ويعبّر عن ذلك بالإرادة التشريعية.

الثانية : إنّ الأحكام التشريعية الصادرة عن اللّه جلّ وعلا ليست جزافيّة بل هي أحكام نشأت عن مصالح أو مفاسد في متعلقاتها ، وهذا هو ما اشتهر عن الإمامية - أن أحكام اللّه تابعة للمصالح والمفاسد - فوجوب الصلاة مثلا ناشئ عن مصلحة في متعلق ذلك الوجوب وهكذا حرمة الخمر فإنها ناشئة عن مفسدة في متعلق الحرمة وهو شرب الخمر.

إذا اتضحت هاتان المقدّمتان فنقول : إنّ الحكم الشرعي وكذلك

ص: 26

الأحكام الصادرة عن الموالي العرفيين يمرّ بمرحلتين.

المرحلة الأولى : عبّر عنها المصنّف بمرحلة الثبوت للحكم ، ويقصد بها واقع العمليّة الذهنية التي يتدرّج فيها الفكر للوصول إلى الحكم ، وهي التي بيّنّاها في المقدمة الأولى.

ولا بأس بتطبيقها على المورد ، وهو الحكم في مرحلة الثبوت.

فالمولى العرفي مثلا يتصوّر أولا الحكم الذي هو فعل من الأفعال ثم يتصور فائدته ثم يحصل له الإذعان والتصديق بتلك الفائدة والمصلحة المعبّر عنها بالملاك ، فهذه مراحل ثلاث تولّد الشوق والإرادة لتحصيل هذا الحكم ومرتبة هذا الشوق والإرادة تتفاوت قوّة وضعفا بحسب ما ادركه المولى من مستوى تلك المصلحة ، فكلما كانت المصلحة أكيدة وشديدة كانت الإرادة قوية ومتناسبة مع مستوى المصلحة المدركة ، ثم تصل النوبة إلى مرحلة الاعتبار التي هي حالة نفسانية تفترض وتعتبر ذلك الحكم على عهدة المكلّف ، وهذا الاعتبار ليس أكثر من التماس كيفية يرتبها المولى استعدادا لإبراز مطلوبه ، وهي ليست أمرا أساسيا في مرحلة الثبوت للحكم ، ولذلك لو افترض عدمه لما كان ذلك مؤثرا على سير الحكم وخروجه من مرحلة الثبوت إلى مرحلة الإثبات ، بخلاف المصلحة مثلا فإنه لو افترض عدمها لأثّر ذلك على سير الحكم وخروجه من مرحلة الثبوت إلى مرحلة الإثبات.

وخلاصة القول إن الحكم في مرحلة الثبوت يمرّ بثلاث مراحل :

الأولى : هي المصلحة المدركة « الملاك » ، وقد طويت في هذه المرحلة المراحل التي سبقتها كما اتّضح مما تقدّم.

ص: 27

الثانية : الإرادة ، والتي قلنا إنها تتفاوت بتفاوت مستوى المصلحة والملاك.

الثالثة : وهي الاعتبار ، وقد قلنا إنها حالة نفسانية تفترض وتعتبر الحكم - المشتمل على المصلحة والإرادة - على عهدة المكلّف ، وهي ليست أكثر من التماس كيفية تهي لغرض إبراز المطلوب بها ، فهي أشبه بالكلام النفسي الذي يرتّبه المتكلّم في نفسه استعدادا لإلقائه.

هذا تمام الكلام في المرحلة الأولى للحكم وهي مرحلة الثبوت.

المرحلة الثانية : وهي مرحلة الإثبات للحكم ، وهي تبدأ من حيث تنتهي المرحلة الأولى.

وهذه المرحلة عبارة عن إبراز وإظهار الحكم الناشئ عن الملاك والإرادة ، فالمولى يبيّن في هذه المرحلة النتيجة التي رست عليها نفسه في مرحلة الثبوت ويستخدم لهذا الغرض أحد الوسائل التي يتم بها الإبراز والإظهار مثل الجملة الإنشائية الطلبية كالأمر أو النهي أو الجملة الخبرية المسوقة لغرض الإنشاء والطلب.

ثم إنه قد يبرز الحكم عن طريق بيان تعلّق إرادته بفعل مباشرة كأن يقول : « أريد كذا » ، وقد يبرزه عن طريق الاعتبار ، والمراد من الاعتبار هنا هو افتراض الفعل على عهدة المكلّف وأنّه مجعول عليه ومسئول عنه كقوله تعالى : ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ) (1) ، فالمولى يقول : إنّ من حقه على الناس حجّ البيت ، ومن الواضح أنّ هذا الاعتبار يكشف عن

ص: 28


1- سورة آل عمران : 97

تعلّق إرادة المولى بذلك المعتبر ، إذ أنّه لا يمكن أن يعتبر شيئا على عهدة المكلّف جزافا وعبثا ودون إرادة ، وبعد أن يبرز المولى إرادته مباشرة أو عبر الاعتبار يكون من حقه على العبد إطاعته والجريان على وفق إرادته قضاء لحق المولوية ، وهذا من مدركات العقل العملي حيث إنّه يدرك استقلالا لزوم طاعة المولى وولي النعمة.

إذا اتضح كلّ ما ذكرناه يتّضح المراد من عنوان البحث وهو « مبادئ الحكم » وأنّه عبارة عن الملاك والإرادة ، وأمّا الاعتبار فهو نفس الحكم المأخوذ في العنوان وذلك إذا افترضنا أن الاعتبار ليس شيئا آخر غير الحكم الناشئ عن الملاك والإرادة فالملاك والإرادة هما مبدأ الحكم ومنشأ جعله والذي يكون واسطة وسببا لإيجاب العقل امتثال مرادات المولى ، وهذا يعني أن الحكم روحا هو عين الملاك والإرادة حيث إنّهما الموضوع والواسطة لثبوت إيجاب العقل للامتثال ، فحكم العقل لوجوب الامتثال موضوعه الإرادة المولويّة. وليس للاعتبار الإنشائي أيّ دخالة في إثبات الحكم العقلي - بوجوب الامتثال - لموضوعه وهي المرادات المولوية ولذلك لو لم يكن هناك اعتبار إنشائي وعرفنا من طريق آخر تعلّق إرادة المولى بإيجاد فعل ، لحكم العقل بوجوب الطاعة والامتثال.

مبادئ الأحكام التكليفيّة الخمسة :

وهذا البحث ليس بحثا عن الأحكام الخمسة وإنما هو بحث عن مناشئ هذه الأحكام ، ومن الطبيعي أن يكون هناك تناسب بين حقيقة هذه الأحكام وبين مبادئها ومناشئ جعلها.

ص: 29

والأحكام التكليفية الخمسة : هي الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة والإباحة.

أمّا الوجوب : فناشئ عن مصلحة أوجبت تولّد إرادة بحجم تلك المصلحة التي بلغت مبلغا لا يسمح معها بالترخيص في ترك متعلقها.

وأمّا الحرمة : فناشئة عن مفسدة شديدة أوجبت تولّد كراهة ومبغوضية بحجم تلك المفسدة التي بلغت مبلغا لا يسمح معها بالترخيص في فعل متعلق تلك المفسدة.

وأمّا الاستحباب : فناشئ أيضا عن مصلحة في متعلقها إلاّ أنّ هذه المصلحة ضعيفة ولذلك يتولّد عنها إرادة بحجمها توجب مطلوبية الفعل بمستوى لو لم يتصدّ المكلّف لإيجاده لما كان في ذلك بأس.

وأمّا الكراهة : فكذلك تكون ناشئة عن مفسدة في متعلقها توجب تولّد مبغوضية بقدرها أي بمستوى لا يمانع المولى من ارتكابها.

وأمّا الإباحة : فهي على قسمين :

الأولى : الإباحة بالمعنى الأخص.

والثانية : الإباحة بالمعنى الأعم.

فالإباحة بالمعنى الأخص هي القسم الخامس من الأحكام التكليفية الخمسة وهي التي يتساوى فيها الفعل والترك بنظر المولى ، فليس له أيّ ترجيح لأحدهما على الآخر ، وهذا ما يجعلها قسيما للأحكام التي سبقتها ؛ وذلك لأنّها وإن كانت تشترك معها في أنها حكم تكليفي إلا أنها لا تنطبق على أحد من تلك الأقسام ، فعلاقتها معهم علاقة التباين.

ولعلّ هذا هو منشأ التعبير عنها بالإباحة بالمعنى الأخص إذ أنها

ص: 30

مختصة بمعنى لا يتداخل مع أحد من الأقسام التي سبقته.

وتنقسم الإباحة بالمعنى الأخص إلى قسمين :
الأول : الإباحة الاقتضائية

الأول : الإباحة الاقتضائية ، وهي المشتملة على الملاك والمصلحة في متعلقها وهذا الملاك هو السعة والتسهيل على المكلفين وسمّيت بالاقتضائية لأن الحكم بالإباحة نشأ عن مقتض وسبب وهو التسهيل على المكلّفين.

الثاني : الإباحة غير الاقتضائية ، وهي الخالية عن أيّ ملاك يقتضي ترجيح الفعل أو الترك أو يقتضي جعل الإباحة ، وما ذكرناه هو التعبير الأنسب ، إذ لا يخلو تعبير المصنّف من تسامح واضح ، حيث إن الحديث عن الإباحة بالمعنى الأخص التي تكون دائما خالية عن أي ملاك يقتضي الإلزام فعلا أو تركا.

القسم الثاني : الإباحة بالمعنى الأعم.

وهي التي تعني عدم الإلزام بالفعل أو الترك ، ولذلك فهي تنطبق مع الاستحباب والكراهة والإباحة بالمعنى الأخص ، إذ أنها جميعا تنضوي تحت عنوان جامع هو عدم الإلزام.

وهذا النوع من الإباحة ليس قسيما للأحكام التكليفية الأربعة ، نعم هو قسيم للأحكام الإلزامية التي هي الوجوب والحرمة ، وسمّيت الإباحة بالمعنى الأعم لأنها تعمّ الكراهة والاستحباب بالإضافة إلى الإباحة بالمعنى الأخص.

التضاد بين الأحكام التكليفية :

التضاد : هو التنافي والتعاند والتباين الناشئ عن التغاير التام بين

ص: 31

الشيئين أو الأشياء ، فإذا كان هناك أمران وجوديان بينهما تمام التغاير فإن هذا يقتضي عدم اجتماعهما على موضوع واحد ، وإن أمكن ارتفاعهما عنه.

وبعبارة أخرى : إنّ كلّ عنوان بينه وبين عنوان آخر تمام المباينة والمغايرة بحيث لا يلتقي معه في أي فرد من أفراده فهو التضاد القاضي باستحالة الاجتماع ، فالنسبة بين المتضادين هي نسبة التباين.

والتباين كما هو واضح ينحلّ إلى سالبتين كليتين يكون أحد الضدّين موضوعا والآخر محمولا له وكذا العكس ، مثلا الأسود والأبيض بينهما تمام التنافي والتعاند ، فهما إذن ضدان ويتولّد عن النسبة بينهما سالبتان كليتان الأولى « لا شيء من الأبيض بأسود » والثانية « لا شيء من الأسود بأبيض ».

فموضوع إحدى القضيّتين محمول الأخرى.

إذن كل عنوانين يتولّد عن النسبة بينهما سالبتان كليتان فهما متضادان.

إذا اتضح هذا فنقول : نحن إذا لاحظنا العلاقة والنسبة بين الأحكام لوجدنا أنها متضادة ومتباينة بدليل أننا لو حلّلنا العلاقة بينهما لكانت كالعلاقة والنسبة بين السواد والبياض ، فمثلا الوجوب والحرمة لو حللنا النسبة بينهما لوجدناها تنحلّ إلى سالبتين كليتين الأولى « لا شيء من الوجوب بحرمة » والثانية « لا شيء من الحرمة بوجوب » ، فبينهما تمام التباين والتعاند ، وهكذا ينسحب الكلام إلى سائر الأحكام ، فالعلاقة بين الاستحباب وبين الوجوب والحرمة والإباحة والكراهة هي التباين ، وكذا العلاقة بين الكراهة وبين سائر الأحكام.

ولكن لا بدّ من الالتفات إلى شيء ، وهو : أن التنافي الواقع بين

ص: 32

الأحكام منشؤه التنافي الواقع بين ملاكات هذه الأحكام ، إذ أنه لو كانت هذه الأحكام جزافية واعتبارية محضة لما كان بينها أي تناف وتضاد.

وتوضيح ذلك : لو كان الوجوب أو الحرمة أو سائر الأحكام مجرد اعتبارات محضة ليس وراءها منشأ وسبب لما كانت متضادة ؛ وذلك لأن الاعتبار كما قيل سهل المؤونة إذ أنه ينشأ عن كيفية نفسانية تفترض ثبوت شيء لشيء دون أن يكون لذلك الافتراض واقع ومبرّر كافتراض الليل نهارا والحجر ماء فإنه لا مانع من أن أهيء نفسي تهيئة خاصة أجعلها تذعن أنّ الليل نهار والحجر ماء.

ويمكن تنظير ذلك بالأطفال عندما يلعبون مدرسة ، فإنهم يعتبرون أحدهم مدرّسا والآخر تلميذا ، ثم يعكسون ذلك الاعتبار فيعتبرون الأول تلميذا والآخر مدرّسا ؛ كلّ ذلك لأنّ الاعتبار لمّا كان افتراضا جزافيا فلا محذور في عروض اعتبارين متنافيين على موضوع واحد فيمكن اعتبار هذا الماء حارا وفي نفس الوقت نعتبره باردا.

وقديما قال الشاعر العربي :

فإذا نشوت فإنني ربّ الخورنق والسدير

وإذا صحوت فإنني ربّ الشويهة والبعير

فإنّه إذا أخذت الخمرة منه مأخذها فإنه يعتبر نفسه ملك العرب والعجم وإذا ما آب إليه رشده فهو ليس أكثر من مالك لشاة وبعير.

إذا اتضح هذا فالكلام ينسحب إلى الأحكام التكليفية ، فإنها لو كانت اعتبارية محضة لما كان هناك أيّ محذور في جعل الوجوب والحرمة على فعل واحد وفي وقت واحد ، ومنه نعرف أن دعوى التضاد بين

ص: 33

الأحكام مرجعها إلى التضاد بين مبادئ تلك الأحكام من المصالح والمفاسد والمبغوضية والمحبوبية ، فاستحالة اجتماع الوجوب والحرمة منشؤه استحالة أن يكون هذا الفعل مشتملا على مصلحة تامة ومفسدة تامة وإرادة تامة ومبغوضية تامة ، وكذلك الاستحباب والوجوب فإنه يستحيل اجتماعهما لاستحالة اجتماع مبدأيهما ، إذ لا يمكن أن يكون الفعل مرادا بالإرادة التامة الآبية عن الترخيص ومرادا بإرادة ناقصة لا تأبى الترخيص ، ولا يمكن أن يكون الفعل ذا مصلحة شديدة ويكون ذا مصلحة ضعيفة ، وهكذا سائر الأحكام في علاقاتها مع بعضها البعض.

استحالة اجتماع حكمين متسانخين على فعل واحد :

كان الكلام فيما سبق حول التضاد بين الأحكام وأنه يستحيل اجتماع حكمين متغايرين على فعل واحد ، والكلام هنا عن إمكان اجتماع حكمين متماثلين وعدم إمكانه.

فنقول : إن الأحكام لو كانت مجرّد اعتبارات محضة لما كان هناك أيّ بأس من اجتماع حكمين متماثلين على فعل واحد وذلك لما بيّنّاه سابقا ، ولكن لما كانت الأحكام اعتبارات شرعية ناشئة عن مبادئ وملاكات في متعلقات تلك المعتبرات الشرعية ، فالنتيجة تختلف عن الفرض السابق ، فيكون اجتماع حكمين متسانخين من قبيل اجتماع المثلين الذي قام الدليل العقلي على استحالته ؛ وذلك لأنّ اجتماع المثلين يؤول إلى اجتماع علّتين مستقلّتين على معلول واحد ، وهو مستحيل لاستحالة صدور الواحد عن كثيرين ، إذ الواحد لا يصدر إلا عن واحد ، فإذا قلنا إن فعلا واحدا واجب

ص: 34

بوجوبين فهذا يعني أن وجوب هذا الفعل نشأ عن مصلحتين مستقلتين وإرادتين مستقلّتين ، وهذا مستحيل.

نعم لو كانت المصلحتان متداخلتين بحيث تشكّلان بمجموعهما مصلحة واحدة وعلّة تامة ، وكذلك لو كانت الإرادتان تشكّلان بمجموعهما إرادة واحدة شديدة لأمكن ذلك ، ولكنّ هذا خروج عن الفرض ، إذ أنّ هذا يعني عدم وجود وجوبين لهذا الفعل بل هو وجوب واحد ناشئ عن مصلحة مركّبة وإرادة واحدة مؤكدة ، وهذا ما نروم إثباته إذ أنّه يمكن توارد مجموعة من المصالح تشكّل بمجموعها مصلحة واحدة تامة ، وكذلك مجموعة من الرغبات والإرادات تنتهي إلى إرادة واحدة مؤكّدة تكون هي ملاك الوجوب وتكون منتجة لوجوب واحد.

فالنتيجة هي عدم إمكان اجتماع حكمين متسانخين على فعل واحد لاستحالة اجتماع المثلين.

شمول الحكم الشرعي لجميع وقائع الحياة :

ذهب الإماميّة إلى أنّ لكلّ واقعة من وقائع الحياة حكما إلهيّا يصيبه المجتهد أو يخطئه ، وأنّه لا تخلو واقعة من حكم حتى « أرش الخدش » (1) كما

ص: 35


1- وسائل الشيعة : باب 48 من أبواب ديّات الأعضاء الحديث 1 ، وهي مرويّة عن الشيخ الكليني بسند متّصل إلى أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، والظاهر أنّ أبا بصير في الرواية هو إمّا ليث بن البختري أو يحيى الأسدي ، وذلك لقرائن منها أنّ الإمام علیه السلام قد كنّاه في الرواية بأبي محمد ، ولم تذكر هذه الكنية لأحد ممّن كنّي بأبي بصير غير ابن البختري والأسدي على أنّ من المحتمل تعيّن الأسدي ، وعلى أيّ حال فالرواية معتبرة لانحصار الراوي في أحدهما.

ورد عن أهل البيت علیهم السلام لذلك يسمّى الإمامية « بالمخطّئة » ؛ لأنّهم يقولون إنّ هناك أحكاما واقعية لكل فعل من أفعال المكلفين ، نعم المجتهد في مقام بحثه عن الحكم الواقعي قد يخطئه ولا يصيبه ، فيكون ما وصل إليه من حكم منافيا لما هو الواقع ، هذا ما عليه الإمامية ، وفي مقابل هذا القول ما ذهب إليه العامة من أنّه ليس لله تعالى في كل واقعة حكم ، بل إنّ أحكام اللّه تابعة لآراء المجتهدين فيكون كلّ مجتهد مصيبا ، إذ أنّه لا واقع لهذه الأحكام حتى يكون ما وصل إليه المجتهد مصيبا مع المطابقة ومخطئا مع عدم المطابقة لذلك يعبّر عنهم في عرف الأصوليّين بالمصوّبة.

والذي يدلّ - على ما ذهب إليه الإمامية من أنّه لا تخلو واقعة من حكم - نصوص كثيرة.

منها : قوله تعالى : ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) (1).

وفي تفسير العيّاشي عن عبد اللّه بن الوليد قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام : « قال اللّه لموسى : ( وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ) فعلمنا أنّه لم يكتب لموسى الشيء كله ، وقال اللّه لعيسى : ( لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ) ، وقال اللّه لمحمّد ( عليه وآله السلام ) : ( وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) » (2).

ص: 36


1- سورة النحل : 89.
2- تفسير العيّاشي في تفسير سورة النحل ، رقم الرواية 58 ، ج 2 ص 266.
الحكم الواقعي والحكم الظاهري :
اشارة

بعد أن اتضح المراد من الحكم الشرعي تعرّض المصنّف رحمه اللّه إلى تقسيم الحكم الشرعي وأنّه ينقسم إلى قسمين :

الأول : الحكم الواقعي :

والمراد من الحكم الواقعي هو : الحكم المجعول على موضوعه ابتداء دون أن يفترض الشك في حكم آخر لذلك الموضوع ، فالمولى حينما يلحظ فعلا من أفعال المكلّفين مشتملا على مصلحة تامة ، فإنه يجعل له الوجوب باعتبار أنّ ذلك الفعل مشتمل على تلك المصلحة التامة وليس هناك واسطة لثبوت الحكم لموضوعه غير أهليّة ذلك الموضوع لأن يجعل عليه الوجوب ، فمثلا « الصلاة واجبة » الوجوب في هذه القضية حكم واقعي ، إذ أنه يثبت لموضوعه وهي الصلاة ابتداء ودون أن يكون لثبوته واسطة هي الشك في حكم الصلاة بل إن ثبوت الوجوب للصلاة باعتبار ما للصلاة من مصلحة تامة بنظر المولى.

وبعبارة أخرى : إنّ المولى قد يجعل الأحكام لموضوعاتها ابتداء وقد يجعلها في ظرف الشك وعدم العلم بالأحكام الحقيقية المجعولة ابتداء ، فيجعل البراءة من حرمة لحم الأرنب في ظرف الشك والجهل بالحكم الواقعي لأكل لحم الأرنب ، فالأول هو ما يصطلح عليه بالحكم الواقعي.

الثاني : الحكم الظاهري :

المراد من الحكم الظاهري هو : الحكم المجعول على موضوعه مع افتراض الشك في الحكم الواقعي لذلك الموضوع ، ففي موارد الجهل بحكم

ص: 37

موضوع من الموضوعات قد يجعل المولى حكما آخر ويقول « إذا كنت جاهلا وشاكا في الحكم الواقعي لهذا الموضوع فحكم الموضوع في هذه الحالة كذا » ، فمثلا إذا كنت شاكا في حكم شرب العصير العنبي فهو لك حلال ، فثبوت الحلّية للعصير العنبي إنما يكون في ظرف الشك في الحكم الواقعي لشرب العصير العنبي ، ولم تثبت الحلّية له ابتداء.

وبهذا يتّضح أن الأصول العملية مثل أصالة الحلّ والطهارة ، وكذلك الأمارات الظنّية مثل خبر الثقة والظهور هي أحكام ظاهرية ؛ إذ أن حجيتها جعلت في ظرف الشك بالأحكام الواقعية ، فأصالة الحل مثلا حكمت بثبوت الحلية لجميع الأشياء في ظرف الشك في الحكم الواقعي لهذه الأشياء ، أمّا ما علم حكمه الواقعي فليس مشمولا لأصالة الحلّ ، وكذلك أصالة الطهارة « كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنّه قذر » (1) فإنّها حكمت بطهارة الأشياء ولكن في ظرف عدم العلم بحكمها الواقعي ، فلو علمنا مثلا أنّ الخنزير نجس وأن الماء طاهر واقعا ، فلا يكون هذا ان الموضوعان مشمولين لأصالة الطهارة ، إذ أنها إنما تجري في ظرف الشك وعدم العلم بالطهارة أو النجاسة الواقعتين ، وبهذا يتّضح أنّ الأحكام الظاهرية في طول الأحكام الواقعية ومتأخرة عنها ، ففي كل مورد يكون الحكم الواقعي معلوما لا تصل النوبة للحكم الظاهري ؛ وذلك لأن الحكم الظاهري أخذ في موضوعه - أو ما يشابه ذلك - عدم العلم بالحكم الواقعي فمع العلم بالحكم الواقعي لا

ص: 38


1- معتبرة عمّار بن موسى الساباطي عن ابي عبد اللّه علیه السلام ، وسائل الشيعة : الباب 37 من أبواب النجاسات الحديث 4

موضوع للحكم الظاهري ، ومن الواضح أن الأحكام تابعة لموضوعاتها ثبوتا وانتفاء.

وبعبارة أخرى : إنّ الموضوع بالنسبة إلى الحكم في رتبة العلة بالنسبة إلى معلولها ، فكما أن المعلول تابع لعلّته ثبوتا وانتفاء ، فكذلك الحكم تابع لموضوعه ثبوتا وانتفاء ، فإذا قلنا : أكرم الرجل العالم ، فإن العالم أخذ في موضوع الحكم بوجوب الإكرام ، فإذا ثبتت العالمية للرجل وجب إكرامه وإذا انتفت انتفى وجوب الإكرام لانتفاء موضوعه وهو العالمية ، والمقام من هذا القبيل ، فالحلية الثابتة للأشياء إنما هي ثابتة لها في ظرف الشك ، فكأنما المولى قال « الشيء المشكوك حكمه الواقعي فهو حلال » فإذا انتفى الشك وعلمنا بحكم ذلك الشيء ينتفي الحكم الظاهري تبعا لانتفاء موضوعه وهو الشك ، وكذا الكلام في خبر الثقة فإنّ قوله تعالى ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1) إثبات لحجية الخبر في ظرف الشك وعدم العلم بالحكم الواقعي ، فكأنما الشك وعدم العلم بالحكم الواقعي موضوع أو قل جزء موضوع لحجية مفاد الخبر ، وبالتالي لو كنّا نعلم بحكم واقعي في مورد وجاء خبر الثقة على خلافه أو وفقه لما كان لهذا الخبر أيّ حجية ، إذ أنّ الحجّية مجعولة له في ظرف الشك ولا شك ، في المقام بحسب الفرض.

وبما ذكرنا يتضح معنى قول المصنّف « ولو لا وجود الأحكام الواقعية لما كان هناك أحكام ظاهرية » ؛ وذلك لأنّ الأحكام الواقعية بمثابة الموضوع أو جزء الموضوع للأحكام الظاهرية ، ومن الواضح أن الأحكام

ص: 39


1- سورة الأنبياء : 7

تابعة لموضوعاتها فحينما ينعدم الموضوع أو لا يوجد لا يكون هناك حكم ، فنحن حين افترضنا أنّ الشك في الحكم الواقعي هو جزء الموضوع للحكم الظاهري ، فهذا يعني أنه لو لم يكن هناك حكم واقعي أصلا لما كان هناك حكم ظاهري ، إذ أنه واقع في رتبة المحمول والحكم ، وهذا يقتضي وجود الموضوع أولا « وهو الحكم الواقعي ».

الأمارات والأصول :
اشارة

بعد اتّضاح معنى الحكم الظاهري وأنّه الحكم المجعول في موارد الشك في الحكم الواقعي تصل النوبة إلى ما ينقسم إليه الحكم الظاهري ، فإنّه ينقسم إلى قسمين :

القسم الأوّل :

الحكم الظاهري في مورد الأمارات ، وهذا يقتضي بيان معنى الأمارات ؛ وذلك لأنّ الأمارة غير الحكم الظاهري ، إذ الحكم الظاهري هو الحجية التي تجعل للأمارة أو لا تجعل لها.

فنقول : إنّ الأمارات هي عبارة عن الأدلّة الظنيّة التي لها نحو كشف عن الواقع إلا أنّ هذا الكشف ليس تاما ، فمثلا خبر الثقة أمارة وذلك لأنّه دليل ظنّي يكشف عن الواقع كشفا ناقصا ، وقلنا بأنّه ناقص لأنه لا يعطي الإراءة التامة للواقع ولا يورث القطع بالتطابق بين مفاده والواقع بل يبقى احتمال عدم المطابقة قائما معه.

وكذا الكلام في الظهورات العرفيّة فإنّها كواشف ظنية عن مرادات المتكلمين ، إذ أنه يبقى احتمال عدم إرادة هذا المعنى الظاهر للمتكلّم قائما معه ،

ص: 40

وهكذا سائر الأمارات.

إذا اتضح هذا فنقول : إنّ الحكم الظاهري في مورد الأمارة هو الحجية المجعولة من الشارع على الأمارة لأمارتيها.

وبعبارة أخرى هو الحكم الذي يكون موضوعه الدليل الظني الذي له نحو كاشفية - عن واقع - ناقصة ، ولكن بشرط أن يكون المنشأ والملاك من جعله هو كاشفية ودليليّة موضوعه ، فجعل الحكم الظاهري - الحجية - لخبر الثقة مثلا إنّما هو لكونه دليلا وكاشفا ظنيا ، فالواسطة والعلّة الوحيدة في إثبات الحكم الظاهري والحجية للأمارة هو كونها غالبا ما تكون كاشفة عن الواقع ، نعم لا يشترط لهذا الدليل الظني المجعول له الحجية أن يفيد الظن الفعلي دائما بحيث كلمّا قام هذا الدليل أورث الظن عند جميع أهل المحاورة بل يكفي أن يكون موجبا لحصول الظن عند نوع أهل المحاورة وغالبيتهم.

القسم الثاني :

من الأحكام الظاهرية هي : ما اصطلح عليها بالأصول العملية ، وهذا النوع من الأحكام لوحظ في جعلها نوع الحكم الواقعي المشكوك ، فالبراءة مثلا لوحظ في جعلها الشك في الوجوب وعدمه ، وأصالة الحلّ لوحظ في جعلها الشك في الحليّة وعدمها ، وأصالة الطهارة لوحظ في جعلها الشك في الطهارة وعدمها.

فلمّا كانت الأحكام الواقعية في مورد هذه الأصول مجهولة للمكلّف ولا يتمكّن من تشخيصها فحتما سيقع في مخالفة الواقع لفرض جهله بالواقع ، ولمّا لم يكن هناك سبيل لرفع الجهل - وذلك لفقد الأدلّة أو إجمالها -

ص: 41

يلاحظ المولى ما هو الأهم من هذه الأحكام في نظره فيجعل الوظيفة على طبق الحكم الأهم في نظره لغرض المحافظة عليه وإن كان سيؤول إلى الوقوع في مخالفة بعض الأحكام الواقعية ولكنّ هذا حاصل على أيّ حال لفرض الجهل بالأحكام الواقعية ، فالغرض من جعل الحجية لهذا النوع من الحكم دون غيره هو أهميّته على غيره من الأحكام في نظر المولى ، فمثلا المولى حينما يجعل البراءة في موارد الشك في الوجوب وعدمه يكون قد لاحظ أهمية الترخيص والسعة وإطلاق العنان - للمكلّف - على الأحكام الوجوبية فهو وإن كان سيؤدي ذلك إلى الوقوع في مخالفة الواقع وترك بعض الواجبات ولكن ذلك أهون في نظر المولى من تفويت مصلحة الترخيص والتسهيل على العباد.

وهكذا الكلام في أصالة الطهارة وأصالة الحل.

نعم قد يلاحظ المولى في مقام جعل الأصل العملي شيئا آخر بالإضافة إلى نوع الحكم المشكوك وأهميته وهو كون هذا الأصل له نحو كشف وإن كانت هذه الكاشفية ليست هي الملاك التام لجعله بل هي بالإضافة إلى نوع الحكم المشكوك وأهميته ، ومثال ذلك قاعدة الفراغ - الحاكمة بصحة العمل المفروغ عنه في ظرف الشك في صحته - فإنّ منشأ جعلها شيئان كل واحد منهما يمثل جزء الملاك.

الأول : كاشفية الفراغ عن العمل على الإتيان به صحيحا ، إذ غالبا ما يكون المكلف ملتفتا أثناء ممارسته لعمله ، وهذا يقتضي الإتيان به على وجهه ، وهذا ما يعبّر عنه بأصالة الالتفات والأذكرية التي تشير إليها الرواية

ص: 42

الشريفة « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (1).

الثاني : كون المشكوك وهو العمل الصحيح قد تمّ الفراغ عنه ، فالصحة المشكوكة التي تم الفراغ عن متعلقها « مثل الصلاة » هي المنشأ والملاك الآخر لجعل قاعدة الفراغ إذ أن الحكم بالصحة في موارد الفراغ من العمل هو الحكم الأهم بنظر المولى وإن كان الحكم بالصحة سيؤدي للوقوع في مخالفة الواقع في بعض الأحيان إلا أن المولى قد تنازل عن ذلك لأهمية الحكم بالصحة بعد الفراغ على الحكم بالبطلان.

فإذن الملاك في جعل قاعدة الفراغ ليس هو كاشفية الفراغ عن عدم الغفلة فقط ، وإلاّ للزم التعبّد بأصالة عدم الغفلة والنسيان في غير موارد الفراغ ، مثلا الشك في الإتيان بالصلاة في الوقت لا تجري فيه أصالة عدم النسيان والغفلة بل لا بدّ من الاعتناء بهذا الشك والإتيان بالصلاة.

وبهذا يتّضح أن الأصول العملية على قسمين :

الأول : الأصول العملية غير المحرزة ، وهي التي لوحظ فيها نوع الحكم المشكوك وأهميّته مثل أصالة البراءة وأصالة الحل وأصالة الطهارة ، وسميت بغير المحرزة لعدم وجود أيّ كشف فيها وإنما هي محض وظيفة عمليّة قرّرت للمكلّف في ظرف الشك في الحكم الواقعي.

الثاني : الأصول العملية المحرزة ، وهي التي لوحظ فيها نوع الحكم وأهميته بالإضافة إلى اشتمالها على نحو من الكشف والمحرزيّة للواقع ، وهذه مثل أصالة الاستصحاب وقاعدة الفراغ وتسمّى أيضا بالأصول

ص: 43


1- معتبرة بكير بن أعين ، وسائل الشيعة : الباب 42 من أبواب الوضوء الحديث 7

التنزيلية لأنّ لسان جعلها هو تنزيل المشكوك منزلة الواقع فمثلا قول الإمام علیه السلام - في مقام جعل قاعدة التجاوز أو الفراغ - بناء على اتحادهما - « بلى قد ركعت » (1) - حينما سئل عن رجل أهوى إلى السجود فلم يدر أركع أم لا؟ فقوله : « بلى قد ركعت » تنزيل للمشكوك - وهو وقوع الركوع - منزلة الواقع وأنه قد ركع تعبّدا وتنزيلا.

وكذلك قول الإمام علیه السلام في مقام جعل الاستصحاب في مورد الشك في انتقاض الوضوء بعد اليقين به « فإنّه على يقين من وضوئه » (2) ، فإنه نزّل الوضوء المشكوك منزلة الوضوء المتيقّن.

إذن الأصول العملية التنزيلية هي ما كان لسان جعلها تنزيل المشكوك منزلة المتيقّن.

اجتماع الحكم الواقعي والظاهري :

قلنا في بحث التضاد بين الأحكام التكليفيّة إنّ العلاقة بين هذه الأحكام هي علاقة التضاد ، فلذلك يستحيل اجتماع حكمين متغايرين من هذه الأحكام على موضوع واحد ، وذلك لاستحالة اجتماع الضدّين ، وقلنا أيضا باستحالة اجتماع حكمين متسانخين على موضوع واحد كاجتماع وجوبين على فعل واحد ، وذلك لاستحالة اجتماع المثلين ، ومن هنا نواجه مشكلة في كيفيّة الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، إذ أنّ كلا

ص: 44


1- وسائل الشيعة : الباب 13 من أبواب الركوع الحديث 3 ، معتبرة الفضيل بن يسار
2- وسائل الشيعة : الباب 1 من أبواب نواقض الوضوء الحديث 1 ، معتبرة زرارة بن أعين

الحكمين يعرضان موضوعا واحدا ، فمثلا لو كان الحكم الواقعي « لأكل لحم الأرنب » هو الحليّة وكان الحكم الظاهري لأكل لحم الأرنب هو الحرمة بمقتضى خبر الثقة مثلا ، فهذا يعني اجتماع حكمين متضادين على موضوع واحد وهو أكل لحم الأرنب ، وكذلك لو كان الحكم الواقعي للعصير التمري هو الحليّة ، وكان الحكم الظاهري - بمقضى أصالة الحل - هو الحليّة أيضا ، فهذا يعني اجتماع حكمين متماثلين على موضوع واحد وهو مستحيل كما قلنا لاستحالة اجتماع المثلين.

وعلاج هذه المشكلة يتّضح بما بيّنّاه من معنى الحكم الواقعي والحكم الظاهري ، حيث قلنا هناك إنّ الحكم الظاهري إنما هو في طول الحكم الواقعي ومتأخّر عنه تأخر الحكم عن موضوعه ، فليس للحكم الظاهري وجود مع العلم بالحكم الواقعي إذ أنّ عدم العلم بالحكم الواقعي مأخوذ في موضوع الحكم الظاهري ، ومع إحراز الحكم الواقعي لا موضوع للحكم الظاهري ، وبالتالي لا وجود للحكم الظاهري ، إذ أن الأحكام كما قلنا تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما ، أما مع عدم العلم بالحكم الواقعي ، فالحكم الظاهري موجود ومتحقق لوجود موضوعه إلاّ أنّ هذا لا يلزم منه محذور اجتماع الضدين أو المثلين ؛ وذلك لأنه وإن كان هناك حكمان قد عرضا على موضوع واحد ولكن لمّا لم يكونا من طبيعة واحدة وفي عرض واحد فلا مانع من اجتماعهما بعد أن كان أحدهما واقعيّا والآخر ظاهريّا.

ويمكن تنظير ذلك - للتوضيح فقط - بالأحكام الأوليّة والأحكام الثانوية ، فأكل الميتة مثلا حرام بالحكم الأولي ولكنّه حلال بالحكم الثانوي أي في ظرف الاضطرار ، فأكل الميتة صار معروضا لحكمين وهما الحرمة

ص: 45

والحليّة وليس هذا من التضاد المستحيل ؛ وذلك لأن الحرمة من سنخ الأحكام الأولية والحلية من سنخ الأحكام الثانوية.

وبعبارة أخرى يشترط في تحقق التضاد بين الأشياء أن تكون من طبيعة وحيثيّة واحدة ، أما إذا كانت من طبائع وحيثيّات مختلفة فلا محذور في الاجتماع ولا يكون من اجتماع الضدين أو المثلين ونذكر لذلك مثالا - توضيحيّا وليس دقيقا - وهو « إن زيدا قويّ النفس وضعيف البدن » فزيد صار موضوعا لعنوانين وهما الضعف والقوة وليس في هذا محذور إذ أنه ليس من التضاد المستحيل بعد أن كان العنوانان من طبيعتين مختلفتين.

القضية الحقيقة والقضية الخارجية :

القضيّة الحمليّة هي كل موضوع ثبت له حكم ويمكن تقسيمها باعتبار طبيعة موضوعها إلى ثلاثة أقسام :

الأول : القضايا الذهنية وهي ما كان موضوعها ذهنيّا وليس لها ما بإزاء في الخارج مثل الضدين لا يجتمعان ، واجتماع النقيضين مستحيل ، فإنّ موضوع هاتين القضيتين ذهني ، وهذا خارج عن محل الكلام.

الثاني : القضايا الخارجيّة وهي ما كان موضوعها موجود في الخارج فعلا بحيث يمكن الإشارة إليه.

وبعبارة أخرى : القضايا الخارجيّة هي ما كانت موضوعاتها موجودة في الخارج حين إنشاء القضية وتأليفها وهذا يستدعي إحراز المؤلّف للقضية الخارجية للموضوع وأنّه موجود فعلا ، ومن ثمّ يجعل عليه الحكم ، ومثال ذلك أن يقال : « إنّ عدد المسلمين أقلّ من عدد الكفّار في

ص: 46

هذه الأيام » فإنّ المؤلّف لهذه القضية أحصى أولا عدد المسلمين ونسبهم إلى عدد الكفّار ثم جعل الحكم على هذا الموضوع المحقق الوجود حين تأليف القضية.

الثالث : القضايا الحقيقية ، وهي ما كانت موضوعاتها مقدّرة الوجود بمعنى أنه لا يلزم إحراز موضوع القضية الحقيقية خارجا حين تأليف القضية بل يكفي تقديره ، وهذا لا يعني كون أفراد الموضوع بأكملها مقدّرة الوجود إذ لا مانع من كون بعض الأفراد متحققا في الخارج إذ أنّ المناط في صدق القضية الحقيقية أن المؤلّف ليس له أي نظر إلى الموضوع من حيث تحققه في الخارج أو عدم تحققه ، وإنما يفترضه افتراضا ويجعل الحكم عليه ، ومثال ذلك « الفقراء يستحقون العطف » فإنّ موضوع هذه القضية « وهو الفقراء » افترض محقق الوجود ومن ثمّ جعل عليه الحكم وهو استحقاق العطف ، وهذه القضية صادقة حتى لو لم يكن هناك أيّ فقير في الخارج ، إذ أنّ الموضوع في هذه القضية هو المقدّر الموجود ، فكلّما وجد فقير في الخارج فهو مشمول للحكم وهو استحقاق العطف.

إذا اتضح هذا فنقول : إن الأحكام الشرعية قد تجعل على نهج القضية الخارجيّة وقد تجعل على نهج القضية الحقيقية ، ومثال جعل الحكم على نهج القضية الخارجية أن يلاحظ المولى جيرانه ويشخّصهم ويحصيهم ثم يأمر عبده بإكرامهم فيقول : « أكرم جيراني » ، فهذا الحكم وهو وجوب الإكرام قد جعل على موضوع متحقق الوجود خارجا ، إذ أنّ المولى بعد أن لاحظ الجيران وأحصاهم وأحرز وجودهم حكم بوجوب إكرامهم ، فهذه القضية في قوة تعداد أسماء الجيران والحكم بوجوب إكرامهم ، فكأنّما المولى

ص: 47

قال « جاري زيد أكرمه » و « جاري عمرو أكرمه » و « جاري صالح أكرمه » فهي تنحلّ إلى قضايا بعدد أفراد الجيران ، فلو كان الجيران خمسة فعندنا في الواقع خمس قضايا ، موضوع كل قضيّة فرد من أفراد الجيران ومحمولها وجوب الإكرام.

ومثال جعل الحكم على نهج القضية الحقيقية أن يقدّر المولى موضوعا مثل العلماء ثم يحكم بوجوب إكرامهم فيقول : « أكرم العلماء » ، فإنّ موضوع هذه القضية « وهو العلماء » مقدّر الوجود بغضّ النظر عن وجود بعض أفراده أو عدم وجوده ، وهذه القضية تنحلّ أيضا إلى قضايا موضوعها فرد من أفراد العلماء إلاّ أنّ هذا الفرد الذي ينحلّ إليه الموضوع العام هو الأعم من المتحقّق والمقدّر الوجود فلا يكون لهذه القضية حصر لأفراد مخصوصة بل إنّه كلّما وجد فرد من الموضوع فإنّه يشكّل قضية يكون هو موضوعها ويكون محمولها وجوب الإكرام.

إذن الثمرة المترتبة على الفرق بين القضيّتين الحقيقية والخارجية هي أنه إذا جعل الحكم على نهج القضية الحقيقية فإنّه بالإمكان ترتيب الحكم حتى على الأفراد المعدومة في زمن تأليف القضية ، فلنا أن نتمسّك بالقضية لإثبات الحكم للأفراد التي تجدّدت بعد تأليف القضية فنحكم بوجوب الإكرام لأفراد العلماء الذين وجدوا بعد هذا الخطاب ، وهذا بخلاف الحكم على نهج القضية الخارجية فإنّه لا يمكن التعدّي من أفراد موضوعها إلى أفراد أخرى تجدّدت بعد تأليف القضية الخارجية ، فلو اتّفق تحقق جار جديد في مثالنا لما أمكن أن نتمسّك بالقضية الخارجية لإثبات وجوب إكرامه إذ أنّه لم يقع موضوعا لتلك القضية.

ص: 48

تنويع البحث

والبحث في المقام عن فهرسة وتبويب المباحث الأصولية التي سيتعرّض لها المصنّف في الكتاب ، وقد طرح المصنّف هنا طريقة جديدة غير التي اعتاد عليها الأصوليّون في تبويب علم الأصول ، حيث إنهم بعد بيان المبادئ التصوّرية لهذا العلم - من بيان تعريفه وبيان موضوعه وفائدته - يشرعون في مباحث الألفاظ كبحث المشتق والأوامر والمفاهيم والعام والخاص والإطلاق والتقييد.

وبعد أن ينتهوا من بيان تمام مباحث الألفاظ يشرعون في مباحث القطع كحجية القطع وأقسامه وبحث الموافقة الالتزامية وبحث التجرّي وهكذا.

وبعد الانتهاء من هذه البحوث يشرعون في مباحث الظنون كالبحث عن حجية الظواهر وخبر الواحد والسيرة المتشرعيّة والعقلائية والإجماع المنقول بخبر الواحد.

ثم يدخلون في مباحث الشك وهي الأصول العملية ، مثل البراءة والاشتغال والاستصحاب والتخيير.

وبعد الانتهاء من كل ذلك يبحثون في الخاتمة عن تعارض الأدلة « التعادل والتراجيح » وهذا البحث يتكفّل بمعالجة الأدلّة المتعارضة مثل كيفية معالجة التعارض بين الخبرين الموثّقين.

ص: 49

إلاّ أنّ المصنّف رحمه اللّه قد عدل عن هذا التبويب ؛ لأنه إنما يناسب كون علم الأصول علما مستقلا كسائر العلوم ، في حين أن علم الأصول هو علم أصول الفقه فلا بدّ إذن من أن يساير هذا العلم الفقيه في المراحل والخطوات التي يسير على طبقها في مقام استنباطه للأحكام الشرعية من أدلتها ، فالفقيه عندما يريد أن يستنبط حكما يبحث أولا عن الأدلة التي لها كشف عن الحكم الشرعي ، فإذا تعذّر عليه الحصول على الدليل الكاشف عن الحكم الشرعي لجأ إلى الأدلة التي تحدّد الوظيفة العمليّة للجاهل بالأحكام الواقعية وهي المعبّر عنها بالأصول العملية ، وباعتبار أن هذا العلم قد جعل لغرض تبيين الوسائل التي يستفيد منها الفقيه في عملية الاستنباط للحكم الشرعي فلا بدّ من أن تبوّب هذه الوسائل بطريقة تناسب المراحل التي يمرّ عليها الفقيه في عملية الاستنباط.

فهذا هو المبرّر لابتكار تبويب جديد لعلم الأصول.

إذا اتّضح هذا فلنشرع في بيان هذا التبويب الذي اختاره المصنّف ، فنقول : إن العناصر المشتركة والأدلة العامة - التي يمكن الاستفادة منها في استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة من مختلف الأبواب الفقهيّة - يمكن تصنيفها إلى قسمين :

القسم الأوّل : هي الأدلة التي يكون منشأ جعلها الكشف عن الأحكام الشرعية وهي الأدلة الظنية المعبّر عنها بالأمارات كخبر الثقة والظهورات العرفية في بحثيها :

الصغروي : وهي التي يبحث فيها عمّا هو ظاهر وما هو غير ظاهر كالبحث عن ظهور صيغة الأمر في الوجوب وهذه هي التي يعبّر عنها علماء

ص: 50

الأصول بمباحث الألفاظ.

والكبروي : وهو البحث عن حجية هذا الظهور بعد تحقق الظهور ، فكلا هذين البحثين يبحثان تحت عنوان القسم الأوّل والذي اصطلح عليه بالأدلّة المحرزة لكونها بصغراها وكبراها مما يحرز بها الحكم ويستكشف.

القسم الثاني : وهي الأدلّة العامّة التي جعلت لغرض تحديد الوظيفة العملية في ظرف الشك والجهل بالحكم الشرعي وهي المعبّر عنها بالأصول العملية مثل البراءة والاستصحاب.

وكلا هذين القسمين يمثّلان مجموع الأدلة العامة والعناصر المشتركة ، فكلما يحتاجه الفقيه في عملية الاستنباط لا يخرج عن أحد هذين القسمين ، إلاّ أنّ الفقيه يبدأ في عملية الاستنباط بالبحث عن الأدلّة العامة من القسم الأول ، فإن وجد ما يمكن أن يعتمد عليه لإثبات الحكم الشرعي اكتفى به ولم ينظر إلى القسم الثاني ليحدّد به الوظيفة العملية إذ لا تصل النوبة إليه إلاّ بعد فقدان القسم الأوّل من الأدلة ، وهذا ما سيتم إثباته في مباحث لا حقة إن شاء اللّه.

ومن هذا يتّضح أنّ الفقيه لو لم يجد - ما يعتمد عليه في عملية الاستنباط - دليلا من القسم الأوّل يلجأ إلى الأدلّة من القسم الثاني لغرض تحديد الوظيفة العملية.

وبعد اتضاح الترتّب المرحلي في الأدلّة العامّة والعناصر المشتركة نقول : إنّ المصنّف رحمه اللّه سار على وفق هذا الترتيب في تبويبه لمباحث الأصول ، فأولا يقع البحث عن الأدلة المحرزة ، ثم عن الأصول العملية ، وبعد بحث هذين النوعين من الأدلة العامة يقع البحث عن التعارض ،

ص: 51

ومبرّر جعل هذا البحث في خاتمة المباحث الأصولية أنّ الفقيه بعد تحديد الأدلّة العامة بقسميها يواجه في بعض الأحيان مشكلة وهي تعارض هذه الأدلّة ، فلا بدّ من البحث عن كيفية علاج هذه المشكلة.

والتعارض بين هذه الأدلّة على أنحاء ، فقد يكون التعارض بين دليلين من القسم الأول كالتعارض بين خبر ثقة وظهور آية ، أو بين دليلين من القسم الثاني كالتعارض بين أصالة البراءة وأصالة الاستصحاب.

فلا بدّ للفقيه من معالجة هذه المشكلة ، ومن الواضح أن هذه المشكلة لا تواجه الفقيه إلا بعد تحديد الأدلة وتنقيحها ، لذلك جعلها المصنّف رحمه اللّه في خاتمة المباحث الأصولية.

إذن فالطريقة التي سوف يسير عليها المصنّف رحمه اللّه في عرضه لمباحث الأصول يمكن إجمالها في بحثين وخاتمة.

الأوّل : البحث عن الأدلّة المحرزة.

الثاني : البحث عن الأصول العمليّة.

والخاتمة : في علاج التعارض بين الأدلّة.

إلاّ أن المصنّف رحمه اللّه - وقبل الشروع في عرض هذه المباحث - قدّم مقدّمة بحث فيها عن حجيّة القطع ، وقبل بيان المبرّر لذلك لا بدّ من إجمال معنى حجية القطع وإن كان سيقع الحديث عنه مفصلا فيما بعد.

المراد من القطع هو : الانكشاف التام الذي لا يبقى معه أي احتمال للخلاف.

وبعبارة أخرى : القطع هو : العلم ووضوح الرؤية لمتعلقه ، فمعنى القطع بوقوع حادثة معيّنة - التي هي متعلّق القطع - أن وقوع هذه الحادثة

ص: 52

محل جزم ويقين للقاطع بها بحيث لا يحتمل - ولو بمستوى ضئيل - أنّها لم تقع.

وأما معنى الحجية فهي : المنجّزيّة والمعذّريّة.

والمراد من المنجزيّة هو : جعل المسؤولية على عهدة المكلّف تجاه المقطوع به ، بحيث يكون المكلّف ملزما بامتثاله وللمولى أن يعاقبه إذا خالف ، ويحتجّ عليه بقطعه.

وأما المراد من المعذريّة فهي : نفي المسؤولية عن المكلّف لو اتفق مخالفة قطعه للواقع ، فلو قطع بالإباحة واتفق أنّ الواقع هو الحرمة لما صحّ عقابه وإدانته وكان له أن يحتج لنفسه على المولى بكونه قاطعا بالإباحة.

إذا اتضح ما أردنا إجماله من معنى ( القطع ) ومعنى ( حجيّته ) نصل لبيان المبرّر من تصدير المصنّف رحمه اللّه هذه المباحث بالبحث حول حجية القطع.

فنقول : إن حجيّة القطع هو المرجع الذي تؤول إليه حجية الأدلّة العامة والعناصر المشتركة سواء كانت من قبيل الأدلّة المحرزة أو من قبيل الأصول العملية ، وكذلك هو المرجع في تشخيص موضوعات هذه الأدلّة إذ أنه لا بدّ من أن نحرز ونقطع أن هذا ظاهر مثلا وأن هذا خبر ثقة وأن موضوع البراءة - وهو الشك - متحقق.

وبدون القطع بحجية هذا الدليل أو ذاك لا يمكن التعويل عليه وجعله واسطة في إثبات الأحكام الشرعية إذ أنّ الدليل لا يكون حجة إلا إذا قام الدليل القطعي على حجيّته ، وكذلك الكلام في تشخيص موضوعات هذه الأدلّة فإنه لا بدّ من القطع بتحقق الموضوع لكي نتمكّن من ترتيب الحكم

ص: 53

عليه.

فإذا كان للقطع هذه الأهمية فلا بدّ من تحريره وبيان حجيّته في مرحلة سابقة عن بحث الأدلة العامة والعناصر المشتركة التي نستعملها كوسائل لإثبات الأحكام الشرعية إذ أنّ هذه الأدلّة لمّا كانت ظنية فهي تحتاج لإثبات دليليتها وحجّيتها إلى مثبت قطعي وإلاّ تعذّر إثبات دليليتها إذ أنّ الاستدلال على القضايا الظنية بما هو ظني يلزم منه التسلسل المستحيل.

وبهذا يتّضح المبرّر من تصدير المصنّف المباحث الثلاثة ببحث حجّية القطع.

ص: 54

حجّيّة القطع

اشارة

ويمكن تصنيف البحث إلى مجموعة من المباحث :

المبحث الأوّل: المراد من معنى القطع :

القطع هو عبارة عن الانكشاف التام للمقطوع - وهو متعلّق القطع - بحيث لا يبقى معه أيّ احتمال - ولو بمستوى ضئيل - للمخالفة فحينما نقطع بموت زيد فهذا يعني بأنّ موت زيد من الوضوح بحيث لا نحتمل ولو بمرتبة ضعيفة عدم تحقّقه ، فلذلك نرتب تمام الآثار ، المترتبة على موته بدون تردد.

والكاشفية الثابتة للقطع ذاتية بمعنى أنّها عين القطع ، فالقطع هو الكاشفية كما أنّ الكاشفية هي القطع وليس القطع شيئا ثبتت له الكاشفية.

ولتوضيح هذا المطلب لا بدّ من بيان معنى الذاتي.

المراد من الذاتي في المقام هو الذاتي في باب الكليّات الخمسة « الإيساغوجي » وهو عبارة عن مقوّم الماهيّة بحيث تثبت بثبوته وتنتفي بانتفائه.

وبعبارة أخرى : الذاتي من كل شيء ما يكون به قوامه بحيث يكون

ص: 55

ذلك الذاتي هو حقيقة ذلك الشيء أو هو مع غيره حقيقة لذلك الشيء ، ومثال ذلك الإنسان هو الحيوان الناطق ، فالحيوان الناطق ذاتي للإنسان إذ هو المقوّم للإنسان بحيث إذا انتفت الحيوانية الناطقية انتفت إنسانيته فهو عين الإنسان وحقيقته.

وقد يكون الذاتي جزء المقوّم لا تمام المقوّم مثل الحيوان بالنسبة للإنسان ، وكذلك الناطق بالنسبة للإنسان ، فالحيوانية والناطقية كلّ منهما يمثل الجزء المقوّم للإنسان ويكفي في انتفاء الإنسانية انتفاء الجزء المقوّم لها مثل الحيوانية.

فإذا اتضح هذا يتّضح معنى قول الأصوليّين أنّ القطع كاشف بذاته أو أنّ الكاشفية ذاتية للقطع إذ أنّ هذا الكلام يعني أنّ الكاشفية هي مقوّم القطع وحقيقته ، فإذن الكاشفية هي عين القطع لا أنّ القطع شيء ثبتت له الكاشفية ، إذ يستحيل ثبوت الشيء لنفسه وذاته فلا يقال : الإنسان شيء ثبتت له الحيوانية الناطقية ، إذ أنّ هذا يؤول إلى أنّ الإنسان غير الحيوانية الناطقية وإنّما هي شيء عارض عليه وهذا خلف ذاتية الحيوانية الناطقية للإنسان.

وبهذا يتّضح عدم إمكان جعل الكاشفية للقطع إذ أنّ جعل شيء لشيء فرع تغايرهما وقد قلنا إنهما حقيقة واحدة وإنما التغاير في التعبير ، وبه يتّضح دعوى المصنّف من أن الخصوصية الأولى للقطع - وهي الكاشفية - بديهة ، إذ أنّ ثبوت الشيء لنفسه بديهي ، فالإنسان إنسان بالبداهة فكذلك القطع قطع أي كاشف بالبداهة.

ص: 56

المبحث الثاني: محركيّة القطع :

اشارة

والمراد من محركية القطع : أن القطع يساهم في تحرّك وانبعاث القاطع نحو مقطوعه أي نحو الشيء الذي قطع به. وقلنا إنه يساهم في التحريك والبعث لأنه ليس السبب الوحيد في التحريك والبعث بل هناك سبب آخر إذا انضمّ إلى القطع يتولّد عن مجموعهما التحرّك والانبعاث ، وهذا السبب الآخر هو الغرض والحاجة فمثلا إذا قطع العطشان بوجود الماء في مكان معين فإنّه يتحرّك لتحصيل الماء ، والذي حرّكه نحو تحصيل الماء من المكان المعيّن أمران ، الأول : القطع بوجوده في ذلك المكان ، والثاني : تعلّق غرضه بتحصيله وهو الارتواء ، فلو فقد الغرض مثلا فلا يكون القطع محرّكا ، فغير العطشان لو قطع بوجود الماء في مكان معيّن فلا يكون ذلك القطع محرّكا له إذ ليس عنده داع وغرض لتحصيل الماء ، وكذلك لو كان عطشانا والماء موجود بالقرب منه ولكنه لا يعلم به فإنّ تعلّق إرادته بتحصيل الماء لا تحرّكه نحو ذلك المكان فلذلك قالوا : « إنّ الإنسان قد يموت عطشا والماء في رحله ».

ما المراد من أنّ المحركيّة أثر تكويني للقطع؟

المراد هو : أنّ المحركيّة لازم ذاتي للقطع والمقصود من اللازم الذاتي هو المحمول الخارج عن الذات اللازم لها بحيث يستحيل انفكاكه عن الذات ، واللازم الذاتي غير الذاتي في باب الكليّات الذي تقدم بيانه حيث إنّ المراد

ص: 57

منه كما تقدم المقوّم للذات أما اللازم الذاتي فهو غير الذات وليس مقوّما لها ، فلا هو جنس للذات ولا هو فصل لها ، وإنّما هو شيء خارج عنها محمول عليها ، ومثال ذلك الزوجية للأربعة والفردية للثلاثة ، فالزوجية ليست عين الأربعة ولا هي مقوّم لها وإنما هي لازم يستحيل انفكاكه عنها ، وكذلك الحرارة بالنسبة إلى النار ، فالنار غير الحرارة وإنما هي شيء متّصف بالحرارة ، والحرارة بالنسبة لها لازم ذاتي يستحيل أن يتخلّف عنها.

وبهذا يتّضح معنى كون المحركيّة أثرا تكوينيا للقطع ولازما ذاتيا له حيث إنّ طبيعة القطع أنّ له المحركية بحيث يستحيل تخلّفها عنه ، كما نقول إنّ الحرارة أثر تكويني للنار ولازم ذاتي لها ، وذلك في مقابل المحمول المفارق حيث لا يستحيل تخلّفه عن الذات كالحركة بالنسبة للفلك فإنه وإن كانت الحركة تعرض للفلك ولكنه يمكن أن تتخلّف عنه.

هل المحركيّة للقطع بديهيّة؟

والجواب : إنّ إثبات كون المحركيّة للقطع بديهية يحتاج إلى إثبات أنّها لازم ذاتي بيّن سواء بالمعنى الأخص أو بالمعنى الأعم ، إذ أن كلا النوعين للاّزم الذاتي البيّن بديهي ، وذلك في مقابل اللازم الذاتي غير البيّن فإنه نظري.

وبيان ذلك : أن اللازم الذاتي تارة يكون بيّنا وتارة يكون غير بيّن ، والبيّن ينقسم إلى قسمين :

الأوّل : اللازم الذاتي البيّن بالمعنى الأخص ، وهو ما يكفي في الإذعان والجزم به تصوّر الذات المحمول عليها ذلك اللازم ، وبعبارة أخرى : اللازم الذاتي هو ما يكون تصوّر الملزوم كافيا في تصوّر لازمه والتصديق

ص: 58

والإذعان بالملازمة بينهما ، وذلك مثل الزوجية للأربعة فالأربعة ملزوم والزوجية لازم ذاتي لها ، ومن الواضح أنّه بمجرد أن نتصوّر معنى الأربعة وندرك معناها يحصل لنا تصوّر الزوجية والإذعان بأنّها لازم ذاتي للأربعة.

الثاني : اللازم البيّن بالمعنى الأعم وهو ما يكفي في حصول الجزم والإذعان بالملازمة بين الذاتي ولازمه تصوّر معنى الذات وتصوّر معنى اللازم وتصوّر النسبة بينهما ، فإذا حصلت هذه التصوّرات الثلاثة يحصل الجزم مباشرة بالملازمة ، ومثال ذلك « الاثنين نصف الأربعة » ، فإنّ الجزم بهذه القضيّة وأنّ المحمول لازم للموضوع لا يحتاج لأكثر من تصوّر معنى الاثنين ومعنى الأربعة ومعنى النصف.

إذا اتّضح هذا يتّضح أن الجامع بين هذين القسمين هو أنّ ثبوت الملازمة فيهما والجزم بها لا يحتاج إلى أكثر من التصوّر ، وبعبارة أخرى : الجزم بالملازمة في هذين القسمين لا يحتاج إلى برهنة ودليل نظري ، وهذا بخلاف اللازم الغير البيّن فإنه لا يمكن الجزم فيه بالملازمة إلا عن طريق البرهان مثل القضايا الرياضية المعقّدة ، فإن نتائجها ومحمولاتها لازمة لموضوعاتها ولكنّها تحتاج إلى برهنة.

وبعد اتّضاح هذه المقدّمة يتّضح أنّ المحركية للقطع من قسم اللازم البيّن بالمعنى الأخص الذي هو أحد القسمين البديهيّين اللّذين لا يفتقران إلى برهنة إذ يكفي في الجزم بثبوت المحركية للقطع تصوّر القطع وإدراك معناه ، فالقاطع إذا تعلّق غرضه بالمقطوع تحرّك لا محالة لتحصيله.

إلى هنا ثبت أنّ للقطع خصوصيّتين ، الأولى : الكاشفية وهي ذاتية للقطع ، والثانية : المحركيّة وهي لازم ذاتي وأثر تكويني ، وكلا الخصوصيّتين

ص: 59

بديهيّتان إلاّ أنّهما لا تحققان الغرض الذي من أجله يبحث الأصولي مسألة القطع ، إذ أنّ الأصولي يبتغي من وراء بحث مسألة القطع إثبات الحجيّة له وهي شيء آخر غير الخصوصيّتين المذكورتين.

وبعبارة أخرى : إنّ الأصولي في بحث الأصول يبحث عن الأدلة من حيث إنها حجّة ومنجّزة للتكاليف الشرعية أو لا ، فلذلك لا بدّ من بحث مسألة القطع من هذه الحيثية لأنّها هي التي تتناسب مع الغرض الذي من أجله وضع علم الأصول.

المبحث الثالث: حول حجّية القطع :

والبحث فيه يقع في جهات :

الجهة الأولى : في معنى الحجيّة : الحجّة كما ذكر المناطقة هي المعلوم التصديقي الذي يمكن أن يحتجّ به ويكون كبرى في القياس المنطقي لغرض إثبات مجهول تصديقي أو قضية غير مسلّمة.

وبعبارة أخرى : كل قضية معلومة تصلح لإثبات قضية مجهولة أو غير مسلّمة عند الخصم فهذه القضيّة تسمّى حجّة ، ومثال ذلك قولنا : « كل حديد فهو يتمدّد بالحرارة وينكمش بالبرودة » هذه القضية والتي هي معلوم تصديقي يمكن الاحتجاج بها لغرض إثبات مجهول تصديقي - مثل أنّ الحديد الصلب هل يتمدّد بالحرارة وينكمش بالبرودة - وذلك عن طريق

ص: 60

جعلها كبرى في القياس الأرسطي هكذا.

* الحديد الصلب نوع من أنواع الحديد ( الصغرى )

* وكل حديد فهو يتمدّد بالحرارة وينكمش بالبرودة ( كبرى )

* النتيجة : إن الحديد الصلب يتمدّد بالحرارة وينكمش بالبرودة.

هذه النتيجة حصلت عن طريق جعل المعلوم التصديقي كبرى في القياس ، إذا هذه الكبرى حجّة لأنها تصلح للاحتجاج بها لإثبات النتيجة المجهولة قبل تشكيل القياس أو الغير مسلّمة لدى الخصم.

إذا اتّضحت هذه المقدّمة يتّضح معنى قولهم إنّ القطع حجّة ، أي أنّه يمكن الاحتجاج به وجعله كبرى لقياس الغرض من تشكيله إثبات قضية مجهولة أو غير مسلّمة لدى الخصم ، فمثلا قولنا : « إنّ القطع حجّة » معلوم تصديقي ، فلو أنّ أحدا يجهل حكم أكل غير المذكى فهذا مجهول تصديقي ، فيمكن أن نخرجه من الجهل إلى العلم عن طريق تشكيل قياس نجعل كبراه معلوما تصديقيا وهو أنّ القطع حجّة هكذا :

* إنّ اللحم غير المذكى ميتة والميتة حرام قطعا

* والقطع حجة* النتيجة : إنّ اللحم غير المذكى حرام.

فهذه النتيجة التي كانت مجهولة ثبتت بواسطة كبرى القياس وهو حجيّة القطع وبالتالي يستطيع المولى أن يحتجّ على عبده - عند المخالفة - بهذه النتيجة الثابتة بالقطع ومن ثم يعاقبه إذا أراد ، وهذا هو معنى المنجزيّة.

وكذلك الكلام في المعذّريّة التي هي معنى ثان للحجيّة في اصطلاح الأصوليّين إلاّ أنّ الاحتجاج هنا يكون للعبد على المولى في الموارد التي

ص: 61

يقطع العبد بحلية شيء فيرتكبه ويتّفق حرمة ذلك الشيء واقعا فإنّه يستطيع أن يحتج على المولى بالقطع بالحليّة فيكون ذلك معذّرا له عن المخالفة ومصحّحا لنفي المسؤولية عليه تجاه مولاه.

الجهة الثانية من المبحث الثالث : وهي البحث عن التلازم بين الخصوصيّتين - وهما الكاشفيّة والمحركيّة - وبين الخصوصيّة الثالثة وهي الحجيّة للقطع ، فنقول : إنّه مع اتّضاح معنى الخصوصيّات الثلاث يتّضح عدم التلازم بين الخصوصيّتين وبين الحجيّة بمعنى أنّ البحث لا ينتهي بثبوت الكاشفيّة والمحركية للقطع بحيث يكون ثبوتهما معنى آخر لثبوت الحجيّة للقطع وبه ينتهي الحديث عن حجيّة القطع ، بل لا بدّ من بحث الخصوصيّة الثالثة وأنّها ثابتة للقطع أو لا. وذلك لأنّ الخصوصيّة الأولى ليست أكثر من بيان معنى القطع ، والحجيّة ليست هي معنى القطع ولا هي جزؤها المقوّم كما اتّضح ذلك من بيان معنى القطع ومعنى الحجيّة ، وكذلك الكلام في الخصوصيّة الثانية وهي المحركية فهي ليست أكثر من بيان أثر تكويني من آثار القطع ، والمحركيّة غير الحجيّة كما اتّضح من بيان معناهما فلا يلزم من ثبوت المحركية للقطع ثبوت الحجيّة له ، نعم ثبوت المحركيّة لا يمنع من ثبوت الحجيّة إذ من الممكن جدا أن يكون للشيء الواحد مجموعة من الآثار.

والنتيجة : أنّ التسليم بالخصوصيّتين لا يعني التسليم بثبوت الحجيّة للقطع ، وبالتالي لو أنكرنا الخصوصية الثالثة « الحجيّة » مع التسليم بالخصوصيّتين لا يؤول ذلك إلى التناقض المنطقي وإنما يؤول لو كانت الحجية هي عين الكاشفية أو جزءها المقوّم أو هي عين المحركية أو جزءها المقوّم ، أما وقد ثبت التغاير بينها وبين كلّ من الخصوصيّتين فلا يكون الالتزام بهما

ص: 62

مع إنكارها تناقضا منطقيا.

وبعبارة أخرى : لو كانت الحجية معنا آخر للكاشفيّة فهذا يعني أن التسليم بالكاشفية للقطع مع إنكار الحجية للقطع تناقض إذ أنّ ذلك يؤول إلى أن الكاشفية للقطع ثابتة وغير ثابتة ، وكذلك لو كانت الحجية جزء مقوّم للكاشفية ، فالتسليم بها مع إنكار الحجيّة التي هي الجزء المقوّم لها يؤول إلى التناقض المنطقي ، فكأنما نقول إنّ الكاشفية للقطع ثابتة وغير ثابتة فكما أن القول إن الإنسان ليس بناطق يؤول إلى التناقض فكأنه قيل الإنسان ليس بإنسان ، كذلك الكلام في المحركيّة مع الحجيّة.

والمتحصّل أننا لما أثبتنا مغايرة الخصوصيّتين للخصوصيّة الثالثة ( الحجيّة ) فلا يكون تسليمنا بالخصوصيّتين مع إنكارنا للثالثة تناقضا فنحن في سعة من جهة التسليم بها وعدم التسليم.

الجهة الثالثة من المبحث الثالثة : الحجيّة هل هي ثابتة للقطع أو لا؟

المعروف بين الأصوليّين ثبوت الحجيّة للقطع بمعنى أنّها لازم ذاتي للقطع.

وقد اتّضح مما سبق معنى اللازم الذاتي وأنه المحمول الخارج عن الذات اللازم لها مثل الحرارة بالنسبة إلى النار ، فإنّها غير النار إلا أنّها لازمة للنار ، بحيث يستحيل تخلّفها عن النار.

ومع اتّضاح معنى اللازم الذاتي يتّضح معنى قولهم إن القطع بذاته يستلزم الحجيّة ، فالحجية هي المحمول الخارج عن ذات القطع اللازم له بحيث لا يمكن التخلّف لاستحالة تخلف اللازم الذاتي عن ملزومه.

ص: 63

هل أن كل قطع حجّة؟

بعد أن اتضح المراد من حجيّة القطع وأنّ الحجيّة لازم ذاتي للقطع ، يقع الكلام في أنّه هل أن مطلق القطع حجة؟ وهل أن الحجية لازم ذاتي لكل قطع؟ والجواب : إن القطع الذي تكون الحجيّة لازما ذاتيّا له هو القطع بتكليف المولى لا القطع بتكليف أيّ آمر حتى لو لم يكن مولى ، حيث إن أوامر غير المولى لا يكون العبد مسؤولا عن امتثالها. إذن القطع الذي يكون حجّة ويكون المكلّف مسؤولا عن الجريان على طبقه هو القطع بتكاليف المولى لا القطع بأيّ تكليف حتى لو كان من غير المولى.

ومن هنا لا بدّ من معرفة المراد من المولى. المولى هو : من حكم العقل بوجوب طاعته وقبح مخالفته.

وتلاحظون أنّ هذا البيان تعبير آخر عن معنى الحجيّة ، إذ أنّ الحجيّة هي عبارة عن المسؤولية التي يجعلها العقل على عهدة العبد تجاه أوامر المولى ، فالمولى هو من تجب طاعته ، والحجية هي وجوب طاعة المولى في أوامره ، وهذا يقتضي أن الحجيّة ثابتة في مرحلة سابقة على القطع حيث إنها تثبت بمجرّد وجود أوامر للمولى ، ولذلك يكون معنى قولنا إن القطع بأوامر المولى حجة هو أن القطع بأوامر من تجب طاعته تجب طاعته ، فيكون المحمول تكرارا للموضوع إذ أن الحجيّة وهي محمول القضية هي وجوب الطاعة للمولى والموضوع وهو القطع بأوامر المولى عبارة ثانية عن القطع بأوامر من تجب طاعته ، كل ذلك يوضح أنّ الحجية ليست ثابتة للقطع بما هو قطع ، بل بما هو كاشف عن أوامر المولى ، فالحجيّة إنما هي ثابتة لأوامر المولى بمقتضى مولويّته إذ هي الملاك في حكم العقل بوجوب

ص: 64

الطاعة لأوامر المولى.

والمتحصّل من هذا البيان : أن المصنّف يريد أن يثبّت أن القطع ليس هو الملاك لثبوت الحجيّة لنفسه ، وأن الحجيّة ليست هي لازما ذاتيّا للقطع بما هو قطع ، وإنما الحجيّة ثابتة للقطع باعتبار كاشفيّة القطع عن أوامر المولى.

واستدلّ المصنّف على ذلك بما يمكن أن يستوحى من عبائره المشوّشة في المقام بدليلين :

الدليل الأوّل : إنّنا بالوجدان نجد أن القطع بأوامر غير المولى ليست ملزمة ولا يجد المكلّف نفسه مسؤولا عن الجريان على طبقها.

الدليل الثاني : وهو مكوّن من مقدّمتين ، الأولى : هي أن المولى هو من حكم العقل بوجوب طاعته وهذا تعبير آخر عن الحجيّة إذ أن الحجيّة هي حكم العقل بوجوب طاعة أوامر المولى. المقدّمة الثانية : هي أن الملاك في حكم العقل بوجوب طاعة أوامر المولى هي المولويّة.

إذا تمّت هاتان المقدّمتان تعرف أن القطع ليس حجّة بما هو قطع وإنما هو حجّة باعتبار كاشفيّته عن أوامر المولى إذ لا شيء يقتضي الحجيّة سوى المولوية ، فالمولوية هي الواسطة في ثبوت الحجيّة ووجوب الطاعة لأوامر المولى لا القطع.

فالقطع واسطة في الإثبات ، والمولويّة واسطة في الثبوت.

الجهة الرابعة من المبحث الثالث : حدود حق الطاعة للمولى.

إذا اتّضح أن الحجيّة ليست ثابتة للقطع بما هو قطع وإنما الحجيّة ثابتة له باعتبار كاشفيّته عن أمر المولى ، فلزوم الجريان على طبق القطع

ص: 65

بالتكليف المولوي منشؤه حكم العقل باستحقاق المولى للطاعة.

ومن هنا لا بدّ من البحث عن حدود حقّ الطاعة للمولى ، فنقول : إن الأقوال في المقام ثلاثة :

الأول : كل قطع يكشف عن التكليف المولوي فهو ينقّح ويحقّق موضوع حق الطاعة أي أن مطلق القطع منجز دون اعتبار نوع خاص من القطع ، فالقطع سواء نشأ عن مقدّمات عقلائية أو غير عقلائية وسواء كان منشؤه الكتاب والسنّة أو كان منشؤه الأحكام العقلية ، وهذا القول تبناه أكثر الأصوليّين.

الثاني : إنه ليس كل قطع بالتكليف يحقّق موضوع حق الطاعة وإنما الذي يثبت حق الطاعة للمولى هو بعض القطوعات دون بعض ، وهذا مثل التفصيل الذي ذهب إليه بعض الأعلام بين القطع الذي نشأ عن مبررات عقلائية والقطع الذي نشأ عن مبررات غير عقلائية « قطع القطّاع » ، فالأول يثبت به حق الطاعة دون الثاني ، وكالتفصيل الذي ذهب إليه بعض الأخباريّين من أنّ القطع الناشئ عن غير الكتاب والسنّة لا يثبت به التكليف ، وليس للمولى حق الطاعة في التكليف المنكشف عن غير الكتاب والسنّة.

الثالث : من الأقوال وهو ما تبنّاه المصنّف رحمه اللّه من أنّ مطلق الانكشاف منجّز ومثبت لحق الطاعة للمولى سواء كانت مرتبة الانكشاف هي القطع الذي هو أعلى مراتب الانكشاف أو الظن الذي هو مرتبة أضعف أو الاحتمال الذي تكون مرتبة كشفه عن التكليف المولوي ضئيلة جدّا.

فهذه هي الأقوال الثلاثة في المقام ، وواضح أنها تتفاوت من حيث

ص: 66

سعة دائرة حق الطاعة للمولى وضيقها ، فالقول الثاني يضيّق دائرة حق الطاعة للمولى بحيث لا يكون للمولى حق الطاعة إلاّ في بعض موارد القطع كالقطع الناشئ مثلا عن الكتاب والسنّة الشريفة.

أما القول الأوّل فهو أوسع دائرة من القول الثاني حيث إنه يثبت حق الطاعة في تمام موارد القطع بالتكليف المولوي بغضّ النظر عن منشأ ذلك القطع.

وأما القول الثالث فقد توسّع في إثبات حق الطاعة للمولى بحيث ذهب إلى أنّ مطلق الانكشاف ينقّح موضوع حق الطاعة سواء كان هذا الانكشاف بمرتبة القطع أو بمرتبة الظن أو الاحتمال. وقلنا إن المصنّف قد اختار هذا القول ولم يستدل المصنّف على هذه الدعوى في هذا الكتاب إلا بأنّ هذا هو مقتضى ما يدركه العقل ، ولعلّه يشير إلى أن هذه الدعوى بديهيّة لا تحتاج إلى أكثر من تصوّرها ومنه يحصل الجزم بها إذ أن مولانا - سبحانه وتعالى الذي هو وليّ نعمتنا - لا يمكن أن يقاس بالموالي العرفيّين الذين لا تتّسع مولويّتهم لأكثر من موارد القطع.

وبه يتّضح أن المصنّف رحمه اللّه يذهب إلى أنّ مولويّة المولى تتّسع لمطلق موارد الانكشاف حتى وإن كانت مرتبته الاحتمال ، فكلّ انكشاف للتكليف مهما كانت مرتبته فهو منجّز ، ويكون العبد مسؤولا عن امتثاله أداء لحق المولويّة ، ومن هنا نعرف أنّ تنجيز تكاليف المولى ليس ثابتا للقطع بعنوانه بل باعتبار كونه نحوا من أنحاء الانكشاف إذ أنّ كلّ أنحاء الكشف عن التكليف المولوي منجّز إلاّ أن يرخص المولى في تركه كما هو حاصل مثلا في موارد الكشف الاحتمالي وبعض موارد الكشف الظني ، حيث إنه رخص

ص: 67

في ترك متعلّق ذلك الكشف ، فقال : « رفع عن أمتي ما لا يعلمون » (1) وقال : « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (2) ، نعم سيتّضح عدم إمكان الترخيص في موارد الانكشاف بنحو القطع.

الجهة الخامسة من المبحث الثالث : وهي أنّ المولى هل له أن يمنع عن العمل بالقطع؟ وهل يمكن التكفيك بين المنجزيّة والقطع بالتكليف بحيث يكون القطع بالتكليف موجودا ومع ذلك لا يكون منجّزا؟

والجواب : إنّنا وإن قلنا بأن المولى يمكن له أن يرخص في ترك التكليف المنكشف بالظن أو الاحتمال ولكنّ ذلك غير ممكن في موارد الكشف القطعي ، بل إنّ الانكشاف القطعي كلّما حصل فهو منجّز ولا يمكن تجريده عن المنجزية والحجية ، والدليل على ذلك : أن الأحكام الشرعيّة تنقسم كما تقدّم إلى قسمين : واقعية وظاهرية ، والترخيص المتصوّر في موارد القطع بالتكليف إنما هو في الأحكام الواقعية إذ أنّ الأحكام الظاهرية لا وجود لها في موارد القطع إذ أننا قلنا في محلّه إن الأحكام الظاهرية أخذ في موضوعها الشك في الحكم الواقعي أو أنها تثبت في موارد الشك ، ولا شك في مفروض الكلام إذ أننا نتحدّث عن الترخيص في موارد القطع ولا يتصوّر فيه الترخيص الظاهري لعدم وجود موضوعه وهو الشك والأحكام تابعة وجودا وعدما لموضوعاتها ، إذن الترخيص الذي يبحث عن إمكانه وعدم إمكانه في المقام إنما هو في الأحكام الواقعية ، إذ هي التي لم

ص: 68


1- وسائل الشيعة : الباب 56 من أبواب جهاد النفس الحديث 1
2- وسائل الشيعة : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 33

يؤخذ في موضوعها ولا في موردها الشك.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نقول : إنّ الترخيص في التكليف الثابت بواسطة القطع مستحيل لأنه يلزم منه اجتماع الضدّين وذلك لأنّ التكليف لمّا كان ثابتا بالقطع فهو واقعي فلو حكم المولى بالإباحة لذلك الشيء الذي ثبتت حرمته مثلا فهذا يعني أن المولى قد جعل حكما واقعيا آخر لنفس ذلك الشيء ، وهذا يؤول إلى ثبوت حكمين متغايرين لموضوع واحد ، الأول هو الحرمة الثابتة بالقطع ، والثاني هو الإباحة الواقعية ، وبه يثبت اجتماع الضدّين إذ أننا قلنا في محلّه أن الأحكام التكليفية متضادّة فيما بينها ، فلا يمكن اجتماع حكمين متغايرين على موضوع واحد.

وبهذا البيان يتّضح استحالة الترخيص في التكاليف الثابتة بالقطع.

وهنا لا بدّ من التنبيه على أمر وهو أنّ المراد من الترخيص الذي يستحيل في موارد القطع بالتكليف هو الترخيص مع عدم التنازل عن التكليف الثابت بالقطع ، لا الترخيص الذي هو عبارة عن تبديل المولى حكمه بنسخ مثلا ، إذ أن هذا ليس من اجتماع الضدّين بل هو من قبيل استبدال حكم بآخر.

وفرض الكلام هو القطع بعدم تبديل المولى لحكمه ، إذ أن هذا هو معنى القطع بالتكليف فكيف نصغي للترخيص ونحن نقطع بفعليّة التكليف ، وهل هذا إلاّ من اجتماع الضدّين - لا أقل في اعتقاد القاطع - أو من قيام الحكم الظاهري في موارد القطع بالحكم الواقعي.

إذا اتّضح كل ما ذكرنا يتّضح الفرق بين الانكشاف القطعي وبين الانكشاف غير القطعي ، فإنهما وإن كانا يشتركان في أن كلاّ منهما منجّز إلا

ص: 69

أن الأول - وهو الانكشاف القطعي - لا يمكن الترخيص في ترك متعلّقه بخلاف الانكشاف غير القطعي فإنه يمكن الترخيص في مورده ؛ وذلك لأن الترخيص حكم ظاهري بالإباحة والحكم الظاهري موضوعه أو مورده الشك وعدم العلم وهو حاصل في موارد الانكشاف الظني والاحتمالي.

وبهذا يتّضح معنى قول المصنّف إنّ منجزيّة القطع غير معلّقة بخلاف منجزيّة الظن والاحتمال فإنها معلّقة على عدم الترخيص ، فالظن بالتكليف مثلا منجز إلا أن يرخّص المولى في تركه وكذلك الاحتمال ، وهذا لا يقال في القطع بالتكليف ، إذ يستحيل الترخيص في متعلّقه فهو إذن غير معلّق بل هو منجز دائما وأبدا.

الجهة السادسة من المبحث الثالث : والحديث فيها عن معذّرية القطع وعن الحدود التي يكون المكلّف فيها معذورا في تركه التكليف المولوي.

أقول : إنّ تنقيح هذا المطلب يرتبط أيضا بمدى سعة أو ضيق حق الطاعة للمولى ، فالاحتمالات الثبوتيّة في المقام ثلاثة :

الأوّل : أن موضوع حق الطاعة هو التكليف في لوح الواقع وليس لانكشاف ذلك بأيّ نحو من أنحائه دخالة في الموضوع بل الموضوع لحق الطاعة هو التكليف المولوي في نفس الأمر والواقع ، فكلّما كان هناك تكليف - ولو لم يصل بأيّ نحو من أنحاء الوصول - فالمكلّف مسؤول عن امتثاله. وبناء على هذا الاحتمال لا يكون القطع بعدم التكليف معذّرا فضلا عمّا إذا كان المكلف يظنّ بالتكليف أو يحتمله ، ومن هنا لو قطع المكلّف بعدم التكليف فتركه واتفق وجوده في الواقع فإنّ للمولى أن يعاقبه على

ص: 70

تركه إذ أنّ ذلك حق له تعالى بناء على هذا الاحتمال إذ أنه يفترض أن حق الطاعة موضوعه التكليف المولوي بغضّ النظر عن قطع المكلّف بثبوته أو قطعه بعدمه أو ظنه بثبوته واحتماله لعدمه او احتماله بثبوته وظنّه بعدمه.

الثاني : أن يكون موضوع حق الطاعة هو القطع بالتكليف فليس التكليف بنفسه منجزا وموجبا للمسؤولية بل إن الموجب لطاعة المولى هو التكليف المقطوع به ، وبناء على هذا الاحتمال لا يكون للمولى حق الطاعة في غير موارد القطع بالتكليف ، فلو كان هناك تكليف في الواقع إلا أن المكلف يقطع بعدمه أو لا يقطع بوجوده - بل يظن أو يحتمل - فهو كاف في عدم مسؤوليّته عن ذلك التكليف إذ أن موضوع حق الطاعة - بناء على هذا الاحتمال - ليس هو التكليف بما هو ، وليس هو التكليف الواصل بمرتبة الظن أو الاحتمال ، بل هو التكليف الواصل بمرتبة القطع ، فلذلك يكون المكلّف معذورا حتى في موارد الظن بالتكليف أو احتماله فضلا عن القطع بعدم وجوده.

الثالث : وهو أن موضوع حق الطاعة هو التكليف الواصل بأيّ نحو من أنحاء الوصول ، أي سواء كان واصلا بالقطع أو بالظن أو بالاحتمال ، والفارق بين هذا الاحتمال والاحتمال الثاني هو : أن الثاني افترض الموضوع فيه - لحق الطاعة - التكليف الواصل بالقطع فقط ، أما هذا الاحتمال فموضوع حق الطاعة فيه هو التكليف الواصل والمنكشف بأي نحو من أنحاء الانكشاف ، والثمرة التي تظهر بين الاحتمالين الثاني والثالث هي أنه بناء على الثاني لا يكون المكلّف مسؤولا إلا في موارد القطع بالتكليف وبالتالي يكون معذورا في مخالفة التكليف الواقعي إذا كان وصوله بنحو الظن أو

ص: 71

الاحتمال فضلا عمّا إذا كان المكلّف قاطعا بعدم التكليف ، وأما بناء على الاحتمال الثالث فالمكلّف لا يكون معذورا إلا في موارد القطع بعدم التكليف أما في حالة وصول التكليف وصولا ظنيا أو احتماليا ، فالمكلّف مسؤول عن ذلك التكليف.

اذا اتّضحت هذه الاحتمالات الثبوتية نصل لبيان ما هو مقتضى مقام الإثبات وأنه أيّ الاحتمالات التي قام الدليل على صحّتها وأيّها قام الدليل على عدم صحّتها ، فنقول :

إن الاحتمال الأول - وهو الذي يفترض أنّ حق الطاعة ثابت للمولى حتى في موارد القطع بعدم التكليف - فهو باطل قطعا لاستحالة أن يحكم العقل بلزوم امتثال التكاليف التي يقطع المكلّف بعدمها إذ على أي مستند يعتمد المكلف في امتثاله للتكاليف في حين أنه يقطع بعدمها فحتى الاحتياط في مثل هذه الموارد غير معقول ، فبأيّ وسيلة يتوسّل العقل بتحريك المكلّف بعد أن كان قاطعا بعدم التكليف.

وبعبارة أخرى : ان المولى غير قادر على تحريك المكلّف نحو الامتثال بعد أن كان المكلّف قاطعا بعدمه إلا أن يلجئه أو يجبره وهو خلف الفرض ، ولا العقل قادر على ذلك بعد استحالة الاحتياط في مثل هذه الموارد.

وأما الاحتمال الثاني وهو أنّ موضوع حق الطاعة هو التكليف الواصل بالقطع دون الظن أو الاحتمال فهو ما ذهب إليه مشهور الأصوليّين لقاعدة « قبح العقاب بلا بيان » ، والظن والاحتمال ليس بيانا فلا يكون منجّزا بل إن المكلّف معذور في المخالفة لو اتفقت ، نعم لا يكون معذورا في تركه للتكليف لو كان قاطعا به.

ص: 72

وأما الاحتمال الثالث - وهو أن موضوع حق الطاعة هو التكليف الواصل بأيّ نحو من أنحاء الوصول ( القطعي والظني والاحتمالي ) - فهو ما تبنّاه المصنّف رحمه اللّه واستدلّ عليه فيما سبق بأن ذلك هو ما يدركه العقل العملي من أن مولانا سبحانه وتعالى الذي هو وليّ نعمتنا تتّسع حدود استحقاقه للطاعة حتى لموارد الظن والاحتمال.

وهكذا نصل إلى النتيجة التي هي الغاية من هذا البحث وهي معذّريّة القطع ، وأن القاطع بعدم التكليف لا يكون مسؤولا عن ذلك التكليف لو كان ثابتا في نفس الأمر والواقع خلافا للاحتمال الأول ، فالمشهور والمصنّف يتّفقون على معذّريّة القطع.

هذا تمام الكلام في المبحث الثالث بجهاته السّت ، وقد صنّفناه إلى هذه الجهات تسهيلا على الطالب الكريم.

قوله رحمه اللّه : « من يحكم العقل بوجوب امتثاله واستحقاق العقاب على مخالفته » ، الظاهر أنّ في العبارة سقط ، ولعلّ واقع العبارة هكذا : « من يحكم العقل بوجوب امتثال أمره واستحقاق العقاب على مخالفته » وعلى أي حال فهذا هو مقصود المصنّف رحمه اللّه .

قوله رحمه اللّه : « إنّ القطع بتكليف من يجب امتثاله يجب امتثاله » ، الظاهر أنّ هذه العبارة غير مستقيمة ، ولعلّه خطأ مطبعي وحق العبارة أن تكون بهذه الصياغة : « إنّ القطع بتكليف من يجب امتثال أمره يجب امتثاله » ، أي متعلّق القطع والتكليف المقطوع.

قوله رحمه اللّه : « وهذا تكرار لما هو المفترض » ، أي أنّ محمول القضية ( يجب امتثاله ) تكرار للموضوع المفترض ، وعبّر عن الموضوع بالمفترض

ص: 73

لأنّه لوحظ مقدّر الوجود وصيغ الموضوع بصورة يتناسب مع لحاظه مقدر الوجود ، حيث إنّ القضيّة التي صاغها السيد الشهيد قضيّة شرطيّة.

قوله رحمه اللّه : « والذي ندركه بعقولنا » ، هذا الإدراك من مدركات العقل العملي ، إذ أنّه يستتبع جريا عمليا.

المبحث الرابع: في التجرّي :

وقبل بيان ما هو الغرض من هذا البحث لا بدّ من شرح معنى التجرّي والفرق بينه وبين المعصية ، فنقول :

إن المعصية هي : مخالفة تكاليف المولى المعلومة مع افتراض أنها تكاليف واقعية ، فالمكلّف إذا كان يعلم أن شرب الخمر حرام ومع ذلك شرب الخمر واتّفق أن ما قطع به من حرمة شرب الخمر مطابق للواقع فهذا المكلّف عاص ، والفعل الذي ارتكبه يسمّى معصية.

إذن المعصية تتقوّم بشيئين : الأول : مخالفة التكليف المعلوم ، الثاني : مطابقة ذلك التكليف المعلوم للواقع ، فإذا تحقّق كلا القيدين فقد تحقّقت المعصية.

وأما التجرّي فهو : عبارة عن مخالفة التكاليف المعلومة مع افتراض أنّ هذه التكاليف ليست تكاليف واقعا وإنّما المكلف كان يقطع بكونها تكاليف.

ص: 74

فلو قطع المكلّف مثلا بوجوب صلاة الجمعة ومع ذلك خالف ولم يصلّ ، واتّفق أنّ قطعه كان خاطئا وأنّ صلاة الجمعة ليست واجبة فإنّ هذا المكلّف متجرّ وترك صلاة الجمعة متجرّبه.

إذن التجرّي يتقوّم بشيئين : الأوّل : مخالفة التكليف المعلوم ، والثاني : عدم مطابقة ذلك التكليف للواقع ، فإذا تحقّق كلا القيدين تحقّق عنوان التجرّي.

إذا اتّضح معنى التجرّي والفرق بينه وبين المعصية ، يصل بنا الحديث إلى ما عقد البحث لأجله وهو أنّه هل يحكم العقل باستحقاق المتجرّي للعقاب كما يحكم باستحقاق العاصي له أو لا؟

والجواب على ذلك يرتبط أيضا بتحديد موضوع حق الطاعة وأنّ العقل متى يحكم بلزوم طاعة المولى وفي المقام احتمالان ثبوتيّان :

الأول : أنّ الموضوع - الذي يحكم العقل بلزوم طاعة المولى إذا تحقّق - هو التكليف المعلوم إذا اتفق مطابقته للواقع.

الثاني : أنّ الموضوع لحق الطاعة للمولى على عباده هو التكليف المنكشف ولو لم يكن مطابقا للواقع.

وتختلف النتيجة في الاحتمالين ، فبناء على الاحتمال الأول لا يكون المكلّف مستحقا للعقاب على مخالفة الفعل المتجرى ؛ به لأن حدود مولويّة المولى لا تثبت للتكاليف غير الواقعيّة وإن كان المكلّف قاطعا بها إذ أن القطع بالتكليف بناء على هذا الاحتمال ليس هو وحده موضوع حق الطاعة بل هو مع مطابقة التكليف للواقع ، وأما بناء على الاحتمال الثاني ، فالمكلّف مستحقّ للعقاب إذا خالف التكليف المعلوم حتى وإن لم يكن ذلك التكليف

ص: 75

مطابقا للواقع ، إذ أن حدود مولويّة المولى تتّسع لتشمل هذا المورد ، إذ أننا افترضنا في الاحتمال الثاني أن موضوع حق الطاعة هو مطلق التكليف المعلوم سواء طابق الواقع أو لم يطابق ، ومن الواضح أن ارتكاب الفعل المتجرى به محقّق لموضوع حق الطاعة بناء على هذا الاحتمال.

إذا اتّضح هذان الاحتمالان الثبوتيان نصل لبيان مقام الإثبات وأنه أيّ الاحتمالين قام الدليل على صحّته.

ذكر المصنّف أنّ الصحيح من هذين الاحتمالين هو الثاني ، واستدل على ذلك بما حاصله : أنّ الملاك في حكم العقل بلزوم طاعة المولى هو حرمة المولى وقبح انتهاك حرمة المولى ومن الواضح أنه لا فرق في انتهاك حرمة المولى وصدق التعدّي على ساحة الربوبيّة بين المعصية والتجرّي ، إذ أن كلا من المعصية والتجرّي يعدّ تحدّيا وطغيانا على المولى ، إذ أن فرض الكلام أن المتجري يقطع أن المولى يريد منه هذا الفعل أو يبغض صدور هذا الفعل منه ومع ذلك تحدّى إرادة المولى - ولو في اعتقاده - ولم يبال به فأيّ قبح أشد من هذا ، وهل هذا إلا خروج عن العبوديّة.

فنتيجة البحث أن المتجرّي كالعاصي في استحقاق العقاب.

المبحث الخامس: في العلم الإجمالي :

اشارة

ويقع البحث عنه في جهتين :

الأولى : في المراد من العلم الإجمالي والفرق بينه وبين العلم التفصيلي.

ص: 76

الثانية : في منجّزيّة العلم الإجمالي وعدم منجّزيّته.

أمّا الجهة الأولى : المراد من العلم الإجمالي هو العلم بالجامع مع الشك في انطباق هذا الجامع على أحد أطرافه ، فالعلم الإجمالي يشتمل على حيثيّتين ، الأولى : هي العلم بالجامع بين الأطراف.

الثانية : الشك في أنّ أيّ الأطراف هي منطبق الجامع.

أما العلم التفصيلي فليست فيه إلا حيثيّة واحدة ، وهي حيثيّة العلم إذ أن المعلوم في العلم التفصيلي منكشف للعالم به تمام الانكشاف ومن جميع جهات المعلوم فلا يوجد أي جهة من جهات المعلوم التفصيلي غامضة بل كلّها واضحة وجليّة ، كالعلم بوجوب صلاة هي صلاة الظهر مثلا فلا شيء في المقام مشكوك.

ويمكن أن نمثّل للعلم الإجمالي بالعلم بوجوب صلاة ما في ظهر يوم الجمعة مع الشك في أنه أيّ صلاة هي واجبة ، هل هي صلاة الجمعة أو صلاة الظهر.

وكذلك لو علمنا بنجاسة أحد الإنائين أو الأواني لكننا نشك في أن أي الإنائين هو الذي وقعت فيه النجاسة ، وإذا أردنا أن نطبق تعريف العلم الإجمالي على هذين المثالين فإنّنا نجده منطبقا تمام الانطباق عليهما إذ أننا عرّفناه بالعلم بالجامع مع الشك في انطباق ذلك الجامع على أحد أطرافه ، ومن الواضح أن العلم بوجوب صلاة علم بالكلي الجامع الذي يمكن انطباقه على صلاة الظهر كما يمكن انطباقه على صلاة الجمعة ، كما أن الشك في الأطراف شك في انطباق هذا الكلي - وهو وجوب جامع الصلاة - على صلاة الجمعة وصلاة الظهر ، وهكذا الكلام في المثال الثاني ، فإن المعلوم هو

ص: 77

نجاسة أحد الأواني وهذا هو الجامع ، والمشكوك هو انطباق هذا الجامع على أحد الأواني هل هو الإناء الأول أو الثاني أو الثالث؟ هذا تمام الكلام في الجهة الأولى.

الجهة الثانية : وهي البحث عن منجزية العلم الإجمالي وعدم منجزيّته ، والكلام يقع في مقامين : مقام الثبوت ، ومقام الإثبات.

أما مقام الثبوت :

وأنّه هل يمكن الترخيص في العلم الإجمالي ، فالكلام يقع تارة عن أطراف الجامع وأخرى عن نفس الجامع.

أما الكلام عن أطراف الجامع فهي وإن كانت منجّزة والمكلّف مسؤول عن امتثالها - بناء على أن الانكشاف ولو بمرتبة الشك منجز - إلا أن المولى يمكن أن يرخص في ترك بعضها ويتنازل عن حقّه بامتثال التكاليف الواصلة بأيّ نحو من أنحاء الوصول ، فإذا رخّص المولى في ترك بعض الأطراف فهو يسقط عن المنجّزيّة ولا محذور في ذلك ؛ لأننا قلنا في محلّه أن الحجيّة الثابتة في التكاليف الواصلة بالظن والاحتمال معلّقة على عدم الترخيص والإذن في الترك.

وهذا الكلام الذي ذكرناه مختص بما إذا كان الترخيص في بعض الأطراف لا في جميعها ، إذ أن الترخيص في جميع الأطراف يؤول إلى الترخيص في ترك الجامع ، وهذا خارج عن محلّ الكلام فعلا ، إذ الكلام فعلا حول إمكان الترخيص في أطراف العلم الإجمالي الذي لا يؤول إلى الترخيص في الجامع ، وقد قلنا إنّ الترخيص فيه ممكن ولا محذور فيه.

ص: 78

الكلام في إمكان الترخيص في الجامع وعدمه.

قد يقال بعدم إمكان ذلك إذ أن الترخيص في الجامع ترخيص في مخالفة الحكم المقطوع ، وقد قلنا في محلّه إن الترخيص في متعلّق القطع مستحيل إذ أن منجّزيّته غير معلّقه ، ومن هنا قد يقال بالتفصيل بين الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي وبين الترخيص في الجامع ، فالأول ممكن والثاني مستحيل ، ومع القول باستحالته لا تصل النوبة إلى مقام الإثبات ، إذ لا نحتاج إلى الاستدلال على عدم الترخيص بعد الحكم باستحالته في مقام الثبوت ، وهذا ما ذهب إليه مشهور الأصوليّين ، إلا أن المصنّف رحمه اللّه ذهب إلى مذهب آخر وهو إمكان الترخيص في الجامع كما هو الحال في الترخيص في بعض الأطراف ، واستدلّ لذلك بما حاصله :

أنّه فرق بين التكليف الواصل بالقطع التفصيلي ، والتكليف الواصل بالقطع الإجمالي ، فإن الأول ليس فيه أيّ غموض بل هو معلوم من تمام الجهات بجنسه وفصله ، فحينما نكون عالمين بوجوب صلاة الظهر فنحن نعلم بوجوب الصلاة ، وبأن الصلاة الواجبة هي صلاة الظهر ، وهذا بخلاف العلم الإجمالي فإننا وإن كنّا نعلم بوجوب جامع الصلاة مثلا ولكننا نشك في أطراف هذا الجامع فلا ندري أن الصلاة التي نعلم بوجوبها في الجملة هل هي صلاة الظهر أو صلاة الجمعة. وباتّضاح الفرق بين العلمين نعرف السرّ في عدم إمكان الترخيص في القطع التفصيلي إذ أن الترخيص المتصوّر في المقام إما واقعي أو ظاهري ، وكلاهما مستحيل إذ أن الأول يلزم منه اجتماع حكمين متغايرين على موضوع واحد ، وهذا من اجتماع الضدّين لتضادّ الأحكام فيما بينها.

ص: 79

وإمّا ظاهري ، وهو مستحيل أيضا إذ أنّ العلم والقطع قد أخذ عدمه في موضوع الحكم الظاهري ومورده ، فلا يمكن وجود الحكم الظاهري في موارد القطع كما شرحنا ذلك مفصّلا فيما سبق.

وبتعبير آخر : إنّ الحكم الظاهري لمّا كان متأخرا في الوجود عن العلم بالحكم الواقعي فلا تصل النوبة إليه في موارد العلم ، وفرض الكلام أنّ العلم بالتكليف موجود فلا مجال لمجيء الحكم الظاهري.

ولمزيد من التوضيح راجع الجهة الرابعة من المبحث الثالث ، حيث تحدّثنا فيها عن استحالة المنع عن حجّية القطع.

أمّا العلم الإجمالي فلا يلزم من الترخيص فيه اجتماع الضدّين ولا جريان الحكم الظاهري في موارد العلم بالحكم الواقعي ؛ وذلك لأنّ الترخيص في العلم الإجمالي ترخيص في أطرافه ومن الواضح أنّ أطرافه إذا لوحظ كل واحد على حدة مشكوك فيكون موضوع الحكم الظاهري « الشك » متحقّق في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي فلا محذور في الترخيص الظاهري ولا يلزم منه قيام الحكم الظاهري في موارد الحكم الواقعي كما هو الحال في موارد العلم التفصيلي.

ولكي يتّضح المطلب أكثر ، نقول : إنّ الترخيص في أطراف الجامع الذي يؤول إلى الترخيص في الجامع لا يلزم منه أحد المحذورين المذكورين في الترخيص في العلم التفصيلي ؛ وذلك لأنّ المحذورين المذكورين هناك هما إمّا لزوم اجتماع الضدّين أو جريان الحكم الظاهري في موارد العلم بالحكم الواقعي ، وكلا المحذورين لا يردان على القول بالترخيص في أطراف العلم الإجمالي.

ص: 80

أمّا عدم ورود المحذور الأوّل وهو اجتماع الضدّين فلأننا قلنا في بحث اجتماع الحكم الواقعي والظاهري إنّه لا محذور في اجتماع حكمين متغايرين على موضوع واحد إذا كان أحدهما واقعيّا والآخر ظاهريّا ، والمقام من هذا القبيل إذ أنّ الترخيص في أطراف العلم الإجمالي معناه الترخيص في كل طرف على حدة ، والشك في كل طرف موجود. إذا الترخيص الثابت لكل طرف هو ترخيص ظاهري إذ هو ترخيص في مورد الشك والترخيص في مورد الشك حكم ظاهري لا يستحيل اجتماعه مع الحكم الواقعي.

أمّا المحذور الثاني : وهو جريان الحكم الظاهري في موارد العلم بالحكم الواقعي فقد اتّضح مما ذكرناه في المحذور الأوّل إذ أننا أثبتنا أنّ المجرى في أطراف العلم الإجمالي هو الحكم الظاهري وذلك لتحقق موضوعه وهو الشك.

وبهذا البيان يتّضح الدليل الذي استدلّ به المصنّف رحمه اللّه على إمكان الترخيص في الجامع أي إمكان الترخيص في العلم الإجمالي.

هذا هو تمام الكلام في مقام الثبوت.

المقام الثاني ، وهو مقام الإثبات :

ويبحث في هذا المقام عن الأدلّة الإثباتيّة على الترخيص في بعض أطراف العلم الإجمالي وفي الجامع ، وقد أرجأ المصنّف البحث عن هذا المقام إلى بحث الأصول العملية.

ص: 81

القطع الطريقي والقطع الموضوعي

اشارة

والبحث فيه يتمّ في جهتين :

الأولى : في بيان الفرق بين القطعين.

الثانية : في الثمرة المترتّبة على القطعين.

أمّا الجهة الأولى : في بيان الفرق بين القطعين : وقبل ذلك لا بدّ من تقديم مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : في تحديد العلاقة بين الموضوع والحكم في مطلق القضايا المنطقيّة ، فنقول : درسنا في المنطق أن القضية تتكوّن من موضوع وحكم ، والحكم يأتي في مرتبة متأخّرة عن الموضوع ، فأوّلا يتنقّح الموضوع ثم يحمل عليه الحكم ولا يمكن أن يوجد الحكم مع كون الموضوع معدوما إذ الأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما ، وبهذا يتّضح أن علاقة الحكم بالموضوع هي علاقة التابع بالمتبوع ، فالتابع هو الحكم والمتبوع هو الموضوع وهذا يعني أن الموضوع أشبه بالعلّة للحكم ، فكما أن العلّه تولّد المعلول فكذلك الموضوع يولّد الحكم ، نعم تفترق العلّة عن الموضوع أن العلة تفيض الوجود على المعلول وتخرجه من كتم العدم إلى حيّز الوجود ، والموضوع ليس كذلك دائما بل إنّه قد يكون كذلك وقد لا يكون ، إلاّ أنه دائما يكون موجودا قبل وجود الحكم ويساهم - إذا صحّ التعبير - في توليد الحكم.

وخلاصة الكلام : أن علاقة الحكم بالموضوع علاقة التابع للمتبوع ، وهذا معنى قولهم : إن الأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما.

المقدّمة الثانية : في بيان وظيفة الأدلّة الإثباتية : إن الأدلّة الإثباتيّة

ص: 82

- التي منها القطع - ليس لها دخالة في ثبوت الحكم للموضوع بل إن ثبوت الحكم للموضوع تابع لعلّته الثابتة في نفس الأمر والواقع والأدلّة الإثباتيّة إنما هي كاشفة عن ذلك الثبوت الحاصل بين الموضوع والحكم ، فلها دور الكشف عن الواقع فهي مرآة الواقع ، فكما أنّ المرآة لا تثبت الحسن لوجه زيد والقبح لوجه عمرو ، وإنما تكشف عنه ، فكذلك الأدلّة الإثباتية ، وكما أن المرآة ليس لها قدرة على تغيير الحسن عن وجه زيد والقبح عن وجه عمرو ، كذلك الأدلة الإثباتية ليس لها القدرة على نفي الحكم عن موضوعه أو جعل حكم لموضوع.

ويمكن تنظير الأدلّة الإثباتية بشيء آخر وهي عين الإنسان التي تكشف عن الحوادث الخارجية وليس لها أي دور في ثبوتها أو نفيها ، فحينما ترى العين إنسانا يحترق فإنها لم تكن السبب في احتراقه وليس لها القدرة على دفع الاحتراق عنه كما أنها لا تقدر على تغيير الواقع ونفي احتراق هذا الإنسان واقعا فإنّ كل ذلك خارج عن وظيفتها إذ أن وظيفتها مقتصرة على إحداث العلم - باحتراق ذلك الإنسان - في عقل المشاهد ، فالمشاهد علم بالحادثة عن طريق عينه ، فكذلك الأدلة الإثباتية فإنّها وسائل العلم ، فالمطّلع على الأدلّة الإثباتية يحصل له العلم بمدلولات هذه الأدلّة دون أن يكون لهذه الوسائل العلمية دخل في ثبوت هذه المدلولات واقعا.

إذا اتضحت هاتان المقدمتان نصل لبيان معنى القطع الطريقي ومعنى القطع الموضوعي.

أما القطع الطريقي : فهو الذي عبّرنا عنه في المقدّمة الثانية بالدليل

ص: 83

الإثباتي ، فالقطع الطريقي نوع من أنواع الأدلة الإثباتية وهو الذي يكشف عن متعلّقه « عن ثبوت حكم لموضوع أو نفي حكم عن موضوع » دون أن يكون مؤثرا في ثبوت وتحقق ذلك المتعلّق ، فدوره دور المرآة ودور عين الإنسان حينما تشاهد حادثة من الحوادث فكما أن المرآة وعين الإنسان لا تغيّران واقعا ولا تثبتان حكما لموضوع وإنما وظيفتهما الكشف عن الواقع الخارجي كذلك القطع الطريقي دوره دور الكاشف فهو وسيلة من وسائل العلم والمعرفة ، فمثلا حينما يقطع المكلف بأن الخمر حرام مثلا ، فهذا القطع طريقي إذ أنه كشف للمكلّف عن حرمة الخمر في الشريعة ولم يتدخل في أكثر من إثبات هذه القضية وتحقيق العلم بها للقاطع ، إذ أن ثبوت الحرمة للخمر موجود سواء حصل القطع للمكلف أو لم يحصل ، فهذا يدلّ عن أن القطع أجنبي عن هذه القضية فكما أنّ حسن وجه زيد ثابت في الواقع نظر إلى المرآة أو لم ينظر إليها كذلك القطع الطريقي ، نعم المرآة أحدثت في نفس زيد العلم بأنه حسن الوجه وقبل أن ينظر إلى المرآة لم يكن يعلم بحسن وجهه كذلك القطع الطريقي أوجب العلم بحرمة الخمر ومن قبل لم يكن المكلف يعلم بذلك.

إذن كل قطع ليس له إلا دور الكشف عن متعلّقه فهو قطع طريقي.

أما القطع الموضوعي : فهو القطع الذي جعل موضوعا أو جزء موضوع لحكم من الأحكام.

وبتعبير آخر إن القطع الموضوعي هو ما كان مؤثرا في الحكم وما يكون الحكم مترتّبا عليه « القطع » أو عليه مع غيره وهو يختلف عن القطع الطريقي في أن القطع الطريقي ليس له تأثير في ثبوت الحكم ولا الحكم

ص: 84

مترتب عليه وإنما له دور الكشف فلذلك يكون متعلّق القطع الطريقي موجودا قبل القطع الطريقي ، ولمزيد من التوضيح نقول : إن القطع الموضوعي هو ما يكون موجودا قبل الحكم فهو مؤثر في وجود الحكم ؛ وذلك لأنه موضوع الحكم وقد قلنا إن الأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما.

ويمكن أن نمثّل له بهذه القضية « الخمر المقطوع الخمرية حرام » ، فالقطع قد وقع جزءا في موضوع القضية ، وإذا أردنا أن نطبق ما ذكرناه في التعريف على المثال فأننا نستطيع أن نقول إن المقطوع الخمرية الذي وقع جزءا في الموضوع أثر في وجود الحكم وهو الحرمة إذ أن الحرمة لا يمكن أن تثبت لو لا القطع « الموضوع » وكذلك نقول إن مقطوع الخمرية تنقّح وتحقق قبل الحرمة « الحكم » وكذلك يمكن أن نقول إن الحرمة « الحكم » تابعة للخمر المقطوع كونه خمرا « الموضوع ».

والنتيجة أن الحرمة لا تثبت للخمر في المثال لو لا القطع بالخمرية إذ أن القطع بالخمرية جزء الموضوع في القضية وجزء الموضوع له تمام آثار الموضوع من المؤثرية والمقدمية والمتبوعية وهذا هو معنى قول المصنّف رحمه اللّه إن القطع الموضوعي مولّد للحكم إذ المولّد مؤثر والمؤثر متقدّم على المتأثر ولذلك يكون متبوعا والمتأثر به « الحكم » تابعا.

إذا اتضح القطع الطريقي والقطع الموضوعي والفرق بينهما يقع الكلام في الجهة الثانية.

الجهة الثانية في بيان الثمرة المترتّبة على القطعين :

أما القطع الطريقي فهو حجّة في إثبات متعلّقه بمعنى أنه واسطة في

ص: 85

إثبات التنجيز والمسؤولية - تجاه الحكم المقطوع - على المكلّف وذلك أنه كاشف عن التكليف وقد قلنا إن الكاشفيّة منجزة ، وكلما ذكرناه في بحث حجية القطع فإننا نقصد منه القطع الطريقي.

وأما القطع الموضوعي فليس بحجة بالمعنى الذي ذكرناه في القطع الطريقي ؛ وذلك لأنه مجرّد موضوع ، والموضوع ليس من آثاره الحجية إذ ليس له كاشفية ، فالقطع بالخمرية في المثال الذي ذكرناه مثل النار في قولنا « النار محرقة » فالنار لا تكشف عن الإحراق ولا تكشف عن ثبوت الإحراق لنفسها ، فلعل الموضوع كما في المثال لا يدري عن الأحكام المحمولة عليه فكيف يكون كاشفا عنها ، نعم الموضوع مؤثر في وجود الحكم إلا أن هذا لا ينفعنا في إثبات الحجية للقطع كما هو واضح.

ومن هنا لو أردنا أن نثبت الحجية لهذه القضية وهي أن الخمر المقطوع الخمرية حرام فإننا نحتاج إلى قطع طريقي يكشف عن ثبوت هذه القضية ، وبالتالي تثبت المنجزية لهذه القضية بواسطة القطع الطريقي أمّا نفس القطع بخمرية هذا السائل فلا يستطيع أن يثبت القضية المذكورة ، أي يثبت الحرمة للخمر المقطوع الخمرية.

تنبيه :

في أن القطع الطريقي قد يتحوّل إلى قطع موضوعي ولكن في قضية ثانية غير التي كشف عنها.

وبعبارة أخرى ، أن القطع الطريقي الذي كشف عن حكم يمكن أن يقع موضوعا لحكم آخر.

ص: 86

ومن هنا يتّضح أنه يمكن للمولى أن يجعل حكمين ، حكما يجعله مترتّبا على موضوع من الموضوعات ، والحكم الثاني يجعل موضوعه القطع بالحكم الأول ، فإذا قطع المكلّف بالحكم الأول ترتب الحكم الثاني لتحقق موضوعه وهو القطع بالحكم الأول مثلا لو قال المولى « إن الخمر حرام » فهذا هو الحكم الأول وموضوعه الخمر ، وهو غير متصل بالقطع ، ثم لو قال « إذا قطع المكلف بحرمة الخمر فبيعه حرام » فموضوع القضية الثانية هو القطع بالحكم الثابت في القضية الأولى إلاّ أن الحكم فيها غير الحكم في القضية الأولى ، ويمكن أن نمثل لذلك بمثال آخر وهو : أنه لو قال المولى « إن الفقّاع نجس » ثم قال « إذا قطع المكلف بنجاسة الفقّاع حرم عليه شربه » ، فنجاسة الفقاع هو الحكم الأول وموضوعه الفقاع ، وهو غير مرتبط بالقطع ، وأما الحكم الثاني وهو حرمة شرب الفقّاع فموضوعه هو القطع بالحكم الأول في القضية الأولى إلاّ أنّ حكم القضية الثانية غير الحكم في القضية الأولى وإنما القطع بثبوت القضية الأولى صار موضوعا للحكم في القضية الثانية ، فلو انكشف لنا الحكم الأول وقطعنا به ، فهذا القطع يكون طريقيا وموضوعيا أما أنه طريقي فبالنسبة للحكم الأول لأنه كشف عنه وليس له أيّ دور سوى أنه كاشف لذلك فهو قطع طريقي ، وأما أنه موضوعي فبالنسبة للحكم الثاني لأنه وقع موضوعا له في القضية الثانية.

جواز الإسناد للمولى :

ويقع البحث في جهات :

الجهة الأولى : في المراد من جواز الإسناد : المراد من جواز الإسناد

ص: 87

هو صحة نسبة الحكم المقطوع إلى المولى فكما أنّ المكلف إذا قطع بوجود حكم إلزامي ثبتت بهذا القطع المنجزيّة ، وإذا قطع بحكم ترخيصي ثبتت بهذا القطع المعذرية كذلك تثبت إضافة إلى المنجزيّة والمعذريّة صحة الإسناد أي نسبة وإضافة هذين الحكمين - الإلزامي والترخيصي - إلى المولى بأن تقول إنّ المولى حرّم هذا ورخّص في ترك هذا.

ومن هنا نستطيع أن نقول إنّ صحة الإسناد والإضافة من آثار القطع كما أنّ المنجزيّة والمعذرية من آثاره ، ويمكن إجمال ذلك في هذه العبارة المعروفة « إنّ القطع مصحح للإسناد والاستناد » فالإسناد هو نسبة وإضافة الحكم المقطوع للمولى ، والاستناد هي المعذرية والمنجزية ، إذ أنّ الاستناد إلى القطع معذر في موارد القطع بالترخيص ومنجز في موارد القطع بالإلزام.

الجهة الثانية : في حقيقة القطع المصحّح للإسناد : القطع المصحح للإسناد هو القطع الموضوعي وذلك لأنّ جواز الإسناد حكم شرعي موضوعه القطع بحكم من الأحكام ، فكأنّما المولى قال : « كلما قطع المكلّف بحكم من الأحكام فإنّه يجوز له أن يسند ذلك إليّ » ، مثلا إذا قطع المكلّف بحرمة العصير العنبي فإنّ هذا يكون موضوعا لجواز الإسناد هكذا القطع بحرمة العصير العنبي مصحح للإسناد ، فالقطع بالحرمة صار موضوعا لجواز الإسناد.

الجهة الثالثة : في الدليل على جواز الإسناد للمولى :

إذا اتضح ما ذكرناه نعرف أن المصحح للإسناد هو القطع الموضوعي وإذا كان المصحح له هو القطع الموضوعي فهذا يعني أنّه ( جواز الإسناد ) يفتقر إلى دليل إذ أنّ القطع الموضوعي لا يكشف عن الحكم وإنما يولّده ،

ص: 88

ومعرفة أنّ له صلاحية توليد حكم من الأحكام يحتاج إلى دليل إثباتي إذ أننا نجهل ذلك أي ثبوت هذا الحكم لهذا الموضوع فلعلّه ثابت ولعلّه غير ثابت ، فالذي يكشف لنا عن الثبوت هو الدليل الإثباتي ، ولذلك استدلّ المصنّف على جواز الإسناد في موارد القطع بتكليف من التكاليف بقوله « إنّ الشارع قد أذن في القول بعلم » فهو يشير إلى أنّ الحكم بجواز الإسناد قام الدليل القطعي على جوازه وإلاّ فنفس وقوع القطع بحكم من الأحكام موضوعا لا يكشف عن جواز الإسناد كما فصلنا ذلك ، وإلاّ انقلب إلى قطع طريقي.

تلخيص ومقارنة : عرفت مما تقدم في بحث حجية القطع أنّ هناك طريقين في إثبات الحجية للقطع.

الأوّل : ما سلكه المشهور وهو أنّ الحجية لازم ذاتي للقطع وأنها من خواص القطع فكل تكليف وصل إلينا بواسطة القطع فهو حجة أمّا إذا كان الوصول بغير القطع فهو ليس بحجة بل هو مجرى لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الثاني : ما ذهب إليه المصنّف رحمه اللّه من أنّ الحجية إنّما تثبت للقطع لكون القطع منقّح لموضوع حق الطاعة للمولى ففي الواقع أنّ الحجية موضوعها أوامر المولى والقطع كاشف عن ذلك الموضوع فإذا كشف القطع عن موضوع الحجية ترتّبت الحجيّة والتي هي حكم العقل بلزوم طاعة أوامر المولى.

وبهذا يتّضح أنّ الحجية ليست من خواص القطع بما هو قطع بل لأنّ القطع نحو من أنحاء الانكشاف ، فكل انكشاف - بغضّ النظر عن مرتبة

ص: 89

كشفه - منقّح لموضوع حكم العقل بلزوم طاعة المولى.

نعم ، الحجية في موارد القطع آكد منها في غير مورده وذلك لأنّه أعلى مراتب الكشف فتكون الإدانة في موارده أشد.

وخلاصة الكلام أنّ الذي أوجب ثبوت الحجية للقطع بالتكليف المولوي هو إدراك العقل لزوم حق الطاعة للمولى على عباده فلا بدّ من ملاحظة الحدود التي يحكم العقل فيها بلزوم حق الطاعة للمولى ، وإذا رجعنا إلى عقولنا نجد أنّه لا حدود لحق الطاعة للمولى على عباده بل إنّ لزوم طاعته تعالى ثابتة له مطلقا إلاّ في موارد القطع بعدم التكليف ، وبهذا يثبت التنجيز لكل تكليف وصل إلينا بأي نحو من أنحاء الوصول حتى ولو بالاحتمال ، وهذا هو معنى ما عبّر عنه المصنّف بمسلك حق الطاعة.

فالمصنّف رحمه اللّه يتّفق مع المشهور في منجزيّة القطع وإن كان يختلف معهم في كيفية الاستدلال على ذلك ويختلف مع المشهور أيضا في غير موارد القطع والعلم ، فالمشهور ذهبوا إلى جريان « قاعدة قبح العقاب بلا بيان » في كل مورد لم يقطع فيه بالتكليف المولوي ، أمّا المصنّف رحمه اللّه فقد ذهب إلى منجزيّة مطلق الانكشاف ولو كان بمرتبة الاحتمال وعبّر عن هذا المبنى بمسلك حق الطاعة.

وهذا الخلاف مؤثر في المنهجيّة التي يسير عليها الفقيه لغرض الوصول إلى النتائج وكذلك في النتائج.

ص: 90

الأدلّة

اشارة

ويقع البحث فيها عن الأدلة التي يثبت بها الحكم الشرعي الأعم من الواقعي والظاهري ، وهذه الأدلة يمكن تصنيفها إلى قسمين :

الأول : الأدلة المحرزة.

الثانية : الأصول العملية ( الأدلة العملية ).

ص: 91

ص: 92

تحديد المنهج في الأدلة والأصول

اشارة

إنّ المنهجيّة التي يسير عليها الفقيه في عملية الاستنباط للأحكام الشرعية تختلف باختلاف نوع الدليل الذي يعتمد عليه في عملية الاستنباط فتارة يكون الدليل من سنخ الأدلّة المحرزة والتي يكون لها الكشف عن الحكم الشرعي ، وأخرى يكون من سنخ الأدلّة العملية التي ليس لها الكشف عن الحكم الشرعي ودورها يقتصر على بيان الوظيفة العملية للمكلّف. والنوع الثاني من الأدلة تختلف المنهجيّة فيه أيضا باختلاف المبنى تجاه التكليف المنكشف بالظن أو الاحتمال ، فالبناء على جريان قاعدة ( قبح العقاب بلا بيان ) يؤثر على سير البحث عن الأدلة العملية بشكل يغاير سير البحث بناء على مسلك حق الطاعة.

ومن هنا لا بدّ من بيان المنهجيّة التي يسير عليها الفقيه في كلا النوعين من الأدلة ومتى يكون للفقيه الانتقال من النوع الأول من الأدلة إلى النوع الثاني منها « الأصول العملية ».

أمّا الكلام حول المنهجية التي يتعامل فيها الفقيه مع الأدلة المحرزة ، ومتى يتحوّل من دليل محرز إلى دليل محرز آخر ومنها إلى الأدلة العملية ، فخلاصته ( وسوف يأتي تفصيله في ما بعد ) : أنّ الأدلة المحرزة لمّا كانت منقسمة على نفسها إلى قسمين - بينهما طولية - أدلة قطعية وأخرى ظنيّة - قام الدليل القطعي على حجّيتها - فمن الواضح أن يكون المتقدّم في مقام

ص: 93

استنباط الأحكام الشرعية هو الدليل القطعي إذ هو الكاشف التام عن الأحكام الشرعية والنافي لموضوع الدليل الظني ؛ وذلك لأنّ موضوعه عدم الدليل القطعي فإذا وجد الدليل القطعي فلا مجال لجريان الدليل الظني لانعدام موضوعه وهذا هو معنى الطولية بينهما ، نعم إذا فقد الدليل القطعي تصل النوبة للدليل الظني لتحقق موضوعه وهو انعدام الدليل القطعي ، ثمّ إنّ الفقيه ليس له التحوّل إلى الأدلّة العملية ما دام هناك دليل محرز سواء كان قطعيا أو ظنيا معتبرا وذلك لتقدّم الأدلّة المحرزة بقسميها على الأدلة العملية على ما سيأتي تفصيله في بحث التعارض ، نعم مع فقدان الأدلة المحرزة يمكن للفقيه الرجوع إلى الأدلة العملية لغرض الوقوف على الوظيفة العملية المقرّرة للمكلّف في ظرف عدم وجود الدليل المحرز.

ومن هنا يصل بنا الكلام إلى بحث المنهجيّة التي يسير عليها الفقيه في الأدلة العملية وقد قلنا بأنها تختلف باختلاف المبنى تجاه التكليف المنكشف بالظن أو الاحتمال.

فالمنهجيّة بناء على مسلك حق الطاعة - وأنّ التكليف المنكشف بالظن أو الاحتمال منجّز - غير المنهجيّة بناء على مسلك قبح العقاب بلا بيان والتي تنفي التكليف في غير موارد القطع.

ومن هنا لا بدّ من بيان كلّ من المنهجيّتين على حدة.

المنهج بناء على مسلك حق الطاعة :

كل فقيه وقبل أن يطّلع على الأدلة المحرزة إذا أراد أن يستنبط حكما شرعيا لا بدّ من أن ينقّح في مرحلة سابقة ما هو مجرى الأصل والموقف

ص: 94

العملي لو اتفق عدم العثور على دليل محرز إذ الوقائع بأكملها لا تخلو من أصل عملي يجري في موردها في حال عدم العثور على الدليل المحرز لها وبالتالي لا بدّ من تحرير مجاري الأصول في كل واقعة من الوقائع الشرعيّة والاحتفاظ به من أجل الاستفادة منه في موارد الجهل بالدليل الشرعي أو إجماله ، والأصول في حدّ نفسها متفاوتة من حيث المرتبة والمرجعية ، فكلّما كان موضوع الأصل مشتملا على قيد زائد كلّما كان متقدّما على الأصل الفاقد لذلك القيد ، فمثلا الشبهة البدوية مجرى لأصلين ، الأول : البراءة ، والثاني : الاستصحاب ، إلاّ أنّ الاستصحاب مقدّم في مقام الاعتماد والمرجعية على البراءة ؛ وذلك لأن موضوعه ليس الشبهة البدوية بنحو مطلق بل هي مع إضافة قيد زائد وهو وجود يقين بحكم سابق ، وكذلك البراءة وقاعدة منجزيّة العلم الإجمالي فإنّ موضوعهما الشبهة إلاّ أنّ قاعدة منجزيّة العلم الإجمالي مقدّمة على البراءة وذلك لاشتمالها على قيد زائد بالإضافة إلى الشبهة وهو كون الشبهة مقرونة بالعلم الإجمالي ، وهكذا سائر الأصول في علاقاتها مع بعضها البعض.

ولذلك تقدّم الأصول العمليّة التي موضوعها مطلق في مقام البحث على الأصول التي يكون موضوعها مشتملا على قيود إضافية ، ويكون الأصل الثاني المشتمل على القيود الإضافية بمثابة المستثنى من الأصول العملية الأولية وهذا هو معنى أعميّة بعض الأصول على بعض.

إذا اتّضح هذا فنقول : إنّ المصنّف رحمه اللّه ادعى أنّ أعم الأصول هو أصالة الاشتغال والاحتياط العقلي الذي هو عبارة ثانية عن مسلك حق الطاعة وذلك في مقابل قول المشهور حيث ذهبوا إلى أنّ أعم الأصول هو

ص: 95

أصالة البراءة العقلية التي هي عبارة ثانية عن مسلك قبح العقاب بلا بيان.

وهذا يعني أنّ كل الأصول الأخرى مستثناة عن أصالة الاحتياط العقلي بناء على مبنى المصنّف وأصالة البراءة العقلية بناء على المبنى المشهور.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ المجرى العملي والمرجع العام للفقيه بناء على مسلك حق الطاعة هو الاحتياط العقلي ولا يسوغ للفقيه التنازل عنه إلاّ مع قيام دليل محرز أو أصل عملي - ناف لموضوع أصالة الاحتياط العقلي - والذي عبّرنا عنه بالأصل العملي المشتمل موضوعه على قيد زائد مضاف إلى موضوع الاحتياط العقلي - والذي هو احتمال التكليف - إذ أنّ موضوع بقية الأصول هو احتمال التكليف أيضا ولكن بإضافة قيود أخرى.

ومن هنا لا بدّ من بيان ما أجملناه إذ أننا قلنا إنّ الذي يوجب التنازل عن مرجعية الاحتياط العقلي هو إمّا الدليل المحرز وإمّا الأصل العملي - الذي موضوعه عين موضوع الاحتياط العقلي بإضافة قيد زائد - فما يوجب رفع اليد عن الاحتياط العقلي يقع في موارد :

المورد الأول : القطع بالترخيص : وهو من الأدلّة المحرزة بل هو أقوى الأدلة المحرزة وهو معذّر كما قلنا بمقتضى حكم العقل بذلك ، ومعه لا يبقى موضوع لأصالة الاحتياط العقلي حيث إنّ موضوعه الظن أو الاحتمال بالتكليف ، ومن الواضح أنّه لا وجود لذلك في موارد القطع.

المورد الثاني : القطع بالتكليف : فهنا أيضا لا مجال للتمسّك بأصالة الاحتياط العقلي وذلك لأن الذي أثبت الحجية والمنجزيّة هو القطع ، فأصالة الاحتياط وإن كانت تشترك مع القطع بالتكليف في النتيجة وهي

ص: 96

التنجيز إلاّ أنّ التنجيز لا يسند إليها بل يسند إلى القطع ، فمثلا لو نصّت آية على حرمة الميتة فإنّ ذلك يوجب القطع بالحرمة ، فلو أردنا أن نثبت للخصم حرمة الميتة فإننا لا نستدل على الحرمة بالاحتياط العقلي بل نستدل بالنص القرآني نعم اشتراكهما في النتيجة يؤكد الحكم.

المورد الثالث : قيام دليل - قام الدليل القطعي على حجّيّته - على وجود حكم ظاهري بالترخيص : فإنه لا بدّ معه من التنازل عن الاحتياط العقلي والعمل بمقتضى الدليل الظني وذلك لقيام الدليل القطعي على حجيّته فهو في قوّة القطع بالترخيص الذي هو المورد الأول حيث قلنا إنّ القطع بالترخيص ينفي موضوع الاحتياط العقلي ، فكذلك في المقام ، نعم الفرق بينه وبين الأوّل أنّ الأوّل ينفي موضوع الاحتياط العقلي حقيقة ، بخلاف المقام فإنّ موضوع الاحتياط العقلي فيه موجود بالوجدان حيث إنّ احتمال وجود تكليف واقعي باق على حاله ، نعم هو منتف تنزيلا وتعبّدا ، مثلا لو دلّ خبر الثقة على حليّة لحم الأرنب فإنّ ذلك موجب لرفع اليد عن الاحتياط العقلي ، وذلك لقيام الدليل القطعي على حجيّة خبر الثقة ، ولهذا يمكن أن نقول : إن إخبار الثقة بحليّة لحم الأرنب ناف لموضوع الاحتياط العقلي - المقتضي للحرمة - إلا أن نفي خبر الثقة لموضوع الاحتياط العقلي ليس كنفي القطع لموضوع الاحتياط العقلي إذ أن القطع ينفي الموضوع حقيقة ، أما خبر الثقة فينفيه تعبّدا إذ أننا بالوجدان نجد الموضوع للاحتياط وهو احتمال التكليف باقيا على حاله.

إذا اتّضح هذا فنقول : إن هذا المورد - وهو قيام الدليل على الترخيص الظاهري - يمكن تقسيمه إلى قسمين :

ص: 97

القسم الأوّل : قيام دليل ظني محرز على الترخيص كقيام خبر الثقة أو انعقاد إجماع منقول على الترخيص أو قيام شهرة فتوائية على ذلك ، فإنّ هذه أدلة ظنيّة تكشف عن الواقع بكشف ناقص ولكن لمّا كان هذا الكشف الناقص قد تمّمه الشارع بجعل الحجيّة له أوجب ذلك تقدّمه على الاحتياط العقلي.

القسم الثاني : قيام أصل عملي شرعي على الترخيص الظاهري فإن ذلك موجب أيضا لرفع اليد عن الاحتياط العقلي وذلك لأن هذا الأصل العملي الشرعي قد قام الدليل القطعي على حجّيّته وهذا يعني أن الشارع قد تنازل عن حقّه الثابت بحكم العقل عن الاحتياط العقلي ، ومثال ذلك أصالة البراءة الشرعيّة - وهي الترخيص الشرعي الظاهري في موارد الشك في التكليف الإلزامي - فإنها مما قام الدليل القطعي على حجّيتها وجريانها في موارد الشك في التكليف الإلزامي ، فإذا كان كذلك فهذا يعني أن المولى قد أذن في الترخيص في حالات الظن والاحتمال بالتكليف وتنازل عن حقّه المقتضي للاحتياط العقلي.

المورد الرابع : قيام دليل - قام الدليل القطعي على حجّيّته - على عدم الترخيص الظاهري وعدم الإذن في ترك التكليف الإلزامي المظنون او المحتمل.

وبعبارة أخرى : قيام دليل غير قطعي - إلا أنّه دلّ الدليل القطعي على حجّيته - على حرمة فعل من الأفعال ، فهذا المورد يتّفق مع الاحتياط العقلي موضوعا وحكما إذ أن الموضوع لكل من الدليل غير القطعي « الأمارة أو الأصل » وأصالة الاحتياط العقلي هو الظن بالتكليف أو

ص: 98

احتماله وكذلك الحكم إذ أنّ الحكم لكلّ من الدليل غير القطعي وأصالة الاحتياط العقلي هو الحرمة وذلك لأنّ خبر الثقة مثلا أخبر عن ثبوت الحرمة وأصالة الاحتياط العقلي تقتضي الحرمة وبهذا تتأكّد الحرمة.

إذا اتّضح هذا الكلام ، فنقول : إن هذا المورد يمكن تقسيمه إلى قسمين :

الأوّل : قيام دليل ظني محرز على حرمة فعل من الأفعال كظهور آية على تحريم شيء أو إخبار ثقة كذلك فإن ظهور الآية دليل ظني محرز إلا أنه قام لدليل القطعي على حجيّته ، وبهذا تتأكّد الحرمة - كما قلنا - لقيام الدليل المحرز عليها وكذلك الاحتياط العقلي.

الثاني : قيام أصل عملي شرعي على الاحتياط في موارد الشك في التكليف ، فمثلا لو قام الدليل القطعي الشرعي على أن الأصل في الدماء والفروج هو الاحتياط فإن هذا أصل عملي شرعي قام الدليل القطعي على حجّيته وهو موافق من حيث النتيجة للاحتياط العقلي ، وكذلك الكلام في الاحتياط الشرعي في الشبهات التحريمية بناء على تماميّته وبهذا تتأكّد الحرمة.

فائدة المنجّزيّة والمعذّريّة الشرعيّة :

وقد استعرضنا ذلك في مطاوي الحديث عن الموارد الأربعة ولا بأس بإعادتها بصياغة ثانية فنقول :

الكلام تارة يقع في الموردين الأول والثاني ، وتارة يقع في المورد الثالث وأخرى في المورد الرابع.

ص: 99

أمّا الموردان الأوّل والثاني فلا فائدة معهما للمنجزيّة الشرعية ؛ وذلك للقطع بالترخيص في الأول والقطع بعدم الترخيص في الثاني ، ومن الواضح أنّ القطع معذّر ومنجّز بقطع النظر عن الشارع وذلك لتمامية كشفه عن التكليف أو عدمه فمعذّريّته ومنجّزيّته ليست بحاجة إلى تتميم من الشارع ، فإثبات الحجية الشرعية للقطع تحصيل للحاصل وهذا معنى قولنا إنّه لا فائدة في الموردين للمنجزيّة الشرعية.

وأمّا المورد الثالث فإنّ الاحتياط العقلي فيه ساقط ؛ وذلك لأنّ قيام الدليل القطعي على حجية الدليل الظني المحرز « الأمارة » وعلى حجية الأصل العملي الشرعي النافيين للتكليف في حالات الظن والاحتمال يعني أنّ الشارع قد تنازل عن حقّه في الاحتياط العقلي وأسقط منجزيّة الظن والاحتمال ، وهذا ممكن لا محذور فيه إذ منجزية الظن والاحتمال معلّقة على عدم الترخيص الظاهري كما قلنا.

وأمّا المورد الرابع فللمنجّزيّة فائدة وهي تأكيد مفاد الدليل الظني والأصل العملي الشرعي - اللذين قام الدليل القطعي على حجيتهما - للاحتياط العقلي ، ومنشأ التأكيد اتحادهما موضوعا وحكما إذ أنّ موضوع الدليل الظني والأصل العملي وكذلك الاحتياط العقلي هو الظن والاحتمال بالتكليف الإلزامي - كما شرحنا ذلك في ما سبق - والحكم فيهما « الأمارة والأصل والاحتياط العقلي » هو الحرمة إذ أنّ ذلك هو مفاد الدليل الظني والأصل العملي كما هو المفترض في المورد الرابع وهو أيضا مقتضى أصالة الاحتياط العقلي إذ أنها جميعا تقتضي تنجيز التكاليف المظنونة والمحتملة وهو معنى ثان للحرمة ، وبهذا يتّضح أنّ أحدهما مؤكّد للآخر.

ص: 100

تنبيه :

لم يتّضح لنا منشأ ذكر السيد رحمه اللّه للمورد الرابع إذ أننا نتحدّث عن الموارد التي يسقط فيها الاحتياط العقلي في حين أنّه حكم في المورد الرابع بعدم سقوطه وأنه يتأكد بالدليل المثبت للتكليف في حالات الظن والاحتمال ، نعم لو حكم السيد رحمه اللّه بتقدّم الدليل الشرعي وأنه هو المستند في إثبات الحرمة لا قاعدة الاحتياط العقلي كما صنع ذلك في المورد الثاني لكان لذكر المورد الرابع مبرّر.

المنهج على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان :

وأمّا الكلام حول المنهج بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان - والمعبّر عنها بأصالة البراءة العقلية - فيختلف كلّ الاختلاف عن المنهجية والنتائج بناء على مسلك حق الطاعة إذ أننا قلنا هناك إنّ أعم الأصول هو أصالة الاحتياط العقلي « وقد شرحنا معنى الأعمية ».

وأمّا هنا وبناء على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، فأعمّ الأصول هو أصالة البراءة العقلية التي تنفي التكليف في مورد الشك ، ففي كلّ مورد من موارد الظن والاحتمال بالتكليف الإلزامي تجري قاعدة البراءة العقلية ولا مسوّغ لرفع اليد عن هذا الأصل إلاّ في موارد خاصة.

ولمعرفة الموارد التي نرفع اليد معها عن البراءة العقلية نذكر الموارد الأربعة - الآنفة الذكر - لنرى أيّها يوجب سقوط البراءة العقلية :

أمّا المورد الأول : - والذي قلنا إنّه عبارة عن القطع بعدم التكليف -

ص: 101

فأصالة البراءة العقلية لا تسقط معه بل إنها تتأكّد به وذلك لاتحادهما في النتيجة وهي نفي التكليف.

وأمّا المورد الثاني : - والذي هو عبارة عن القطع بالتكليف - فالبراءة العقلية تسقط في مورده ويكون التكليف منجّزا بالقطع ؛ وذلك لأن موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان ، والقطع بيان ، وعليه فيكون هذا القطع نافيا لموضوع البراءة العقلية حقيقة إذ أننا بالوجدان لا نشك في التكليف بل نقطع به.

وأمّا المورد الثالث : - والذي هو عبارة عن قيام دليل على الترخيص الظاهري - وقلنا إن هذا الدليل إما أن يكون من قبيل الدليل الظني المحرز « الأمارة » وإما أن يكون من قبيل الأصل العملي « البراءة الشرعية ».

والبراءة العقلية في هذا المورد لا تسقط بل تتأكّد بالدليل الذي هو الأمارة أو الأصل العملي النافيين للتكليف وذلك لاتحادهما موضوعا وحكما ، أما موضوعا فلأنّ الموضوع فيهما « الأمارة ، البراءة الشرعية والبراءة العقلية » عدم البيان ؛ وذلك لأننا بالوجدان نحتمل التكليف الواقعي في مورد الأمارة والأصل الشرعي ، وهذا هو عدم البيان الذي هو موضوع البراءة العقلية إذ المراد من عدم البيان هو عدم القطع بالتكليف الإلزامي وهو حاصل في الأمارة والأصل الشرعي كما هو في البراءة العقلية.

وأما حكما فلأن كلا من البراءة العقلية والدليل غير القطعي « الأمارة والأصل » يشتركان في نفي التكليف الإلزامي.

فالنتيجة : أن البراءة لا تسقط في موارد الدليل غير القطعي النافي

ص: 102

للتكليف بل تتأكّد به.

وأمّا المورد الرابع : والذي هو عبارة عن قيام الدليل غير القطعي على ثبوت التكليف وهو أيضا ينقسم إلى قسمين : الأوّل : الأمارة ، والثاني : هو الأصل الشرعي المثبت للتكليف مثل أصالة الاحتياط الشرعي في الشبهات التحريمية ، والبراءة العقلية في مثل هذا المورد تسقط عن المعذّريّة إذ السقوط هو الذي يبني عليه المشهور في مثل هذه الموارد حيث يقدّمون الأمارة المثبتة للتكليف ، وكذلك الاحتياط الشرعي - لو تمّ - على البراءة العقلية.

ومن الواضح أن ذلك لا يتم بناء على مسلكهم ، مسلك « قبح العقاب بلا بيان » حيث إنه لا بيان في مثل المقام فلا الأمارة توجب البيان والقطع بالتكليف ، ولا الأصل العملي.

ولذلك فهم يواجهون هذه المشكلة وحدهم إذ بناء على مسلك حق الطاعة لا ترد مثل هذه المشكلة وذلك لأن المجرى بناء على هذا المسلك هو قاعدة الاحتياط العقلي وهي متّحدة مع الأمارة والأصل العملي الشرعي المثبتين للتكليف موضوعا وحكما كما بيّنا ذلك.

ومن هنا فقد تصدّى المشهور لبيان المنشأ في تقديمهم الأمارة والأصل المثبتين للتكليف على البراءة العقلية بمجموعة من البيانات تبحث عادة تحت عنوان « قيام الأمارة والأصل مقام القطع الطريقي ».

ولمزيد من التوضيح نقول :

إن أصالة البراءة العقلية لا تسقط عن المعذريّة إلا في مورد واحد من الموارد الأربعة ، وهو المورد الثاني والذي هو القطع بالتكليف حيث إننا قلنا

ص: 103

إنّ القطع بالتكليف ينفي موضوع البراءة العقلية ، وأما المورد الأول والثالث فلا تسقط فيه البراءة العقلية بل تتأكّد ، وإنما الكلام في المورد الرابع حيث أنّ مقتضى الصناعة العلمية عدم سقوط البراءة العقلية عن المعذّريّة وذلك لأن موضوعها عدم البيان أي عدم القطع ، والأمارة والأصل العملي المنجّز « الاحتياط الشرعي » ليس فيهما بيان بل إن الشك يبقى منحفظا في موردهما ، فيا ترى ما هو المبرّر لالتزام المشهور بسقوط البراءة العقلية في مثل هذا المورد رغم بقاء الموضوع منحفظا معهما؟

والجواب : إن المبرّر لذلك هو أنّ الأمارة والأصل المثبتين للتكليف بمنزلة القطع بالتكليف وهذا هو معنى قيام الأمارة والأصل مقام القطع الطريقي.

ص: 104

الأدلّة المحرزة

1 - الدليل الشرعي

2 - الدليل العقلي

ص: 105

ص: 106

الأدلّة المحرزة

اشارة

والكلام فيها يقع في نوعين من الأدلّة التي تكشف عن الحكم الشرعي الأعم من الكشف التام أو الكشف الناقص.

والأوّل منها هو : الدليل الشرعي.

والثاني هو : الدليل العقلي.

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة :

قلنا في ما سبق إنّ ضابطة المسألة الأصولية : هي كل قضية يمكن أن تقع في طريق استنباط كثير من الأحكام الشرعية في مختلف الأبواب الفقهيّة.

وإذا لا حظنا الأدلة الإثباتيّة المحرزة نجد أنّ ضابطة المسألة الأصولية تنطبق عليها تمام الانطباق وذلك لأنّ الأدلة الإثباتية المحرزة الأعم من القطعية وغير القطعية يمكن أن يستفاد منها في استنباط كثير من الأحكام الشرعية من مختلف الأبواب الفقهيّة ، فخبر الواحد مثلا وكذلك ظواهر الكتاب العزيز لهما الصلاحية - لو تمّت حجّيتهما - لإثبات كثير من الأحكام الشرعية المتفرقة في أبواب الفقه.

ولهذا يبحث الأصولي عن دلالة هذه الأدلة وعن حجّيتها لعظم الفائدة المترتّبة على ذلك في البحث الفقهي.

ص: 107

ومع اتضاح هذه المقدمة نشرع في بيان أقسام الأدلة المحرزة والتي - كما قلنا - تكشف عن الأحكام الشرعية ، فنقول :

إنّ الأدلة المحرزة تنقسم باعتبار مقدار كشفها إلى قسمين :

القسم الأوّل : الدليل القطعي ، والذي فرغنا عن حجيته ومثبتيّته للحكم الشرعي بنفسه وبقطع النظر عن الشارع ، نعم قد يساهم الشارع في إيجاد القطع عن طريق إيجاد مقدّمات شرعية توجب القطع للمطّلع عليها ولكنّ هذا غير الحجية كما هو واضح ، إذ الحجية مترتّبة على تنقّح القطع في مرحلة سابقة والشارع لم يساهم في إيجادها وإنما ساهم في إيجاد القطع الذي هو موضوع الحجية.

القسم الثاني : هو الدليل الظني المعبّر عنه بالأمارة ، وهذا النوع من الأدلة لم نفرغ عن حجيّته ومثبتيّته للأحكام الشرعية ، والبحث الأصولي هو المتكفّل بإثبات حجيّته ، ولا بدّ في إثبات حجيّته من قيام دليل قطعي على ذلك وإلاّ للزم التسلسل ؛ إذ أنّه إذا لم يقم الدليل القطعي على حجّيته فهذا يعني قيام دليل ظني على حجّيته ، فينسحب الكلام إلى ذلك الدليل الظني الآخر ، وأنه ما هو الدليل على اعتباره؟ فإن كان الدليل الذي دلّ عليه ظنيّا أيضا تسلسل وإن كان قطعيا ثبت المطلوب ، وهو أن الدليل الظني قد قام الدليل القطعي على دليليّته وحجّيته ، وهذا هو معنى قولهم : إنّ كلّما بالعرض يرجع إلى ما بالذات ، حيث إنّ الحجّية لو ثبتت للدليل الظني فهي حجية عرضية ليست ناشئة عن مقام الذات للدليل الظني ، فلذلك يمكن أن تعرض وتثبت له الحجية ، ويمكن أن لا تثبت ، فخبر الواحد والقياس كلاهما دليل ظني ولكن الأوّل ثبتت له الحجية والآخر لم تثبت له.

ص: 108

وهذا بخلاف الدليل القطعي فإنّ الحجية له ناشئة عن مقام الذات للقطع فلذلك لا يمكن التفصيل في حجيّته بأن يقال إن القطع بالتكليف المولوي تارة يكون حجة وتارة يكون غير حجة ، إذن لا بدّ في مقام إثبات الحجية للدليل الظني من قيام دليل قطعي على ذلك.

والمتحصّل مما ذكرناه أنّ الدليل المحرز باعتبار مرتبة كشفه ينقسم إلى قسمين : الأول : الدليل القطعي ، الثاني : الدليل الظني.

تقسيم آخر للأدلة المحرزة :

ويمكن تقسيم الدليل المحرز بكلا قسميه « القطعي والظني » إلى تقسيم آخر ، ولكن بلحاظ منشئه وسبب كشفه.

فالدليل المحرز بهذا اللحاظ ينقسم إلى قسمين :

القسم الأوّل : الدليل الشرعي : وهو كل دليل دلّ على حكم شرعي بواسطة الشارع المقدّس ، وذلك مثل النص القرآني ، ومثل ظواهر الكتاب ، فإنّ النص القرآني وكذلك ظواهر الكتاب يكشفان عن الحكم الشرعي ، ومنشأ تسمية هذا الدليل بالشرعي هو أنّ هذا النوع من الأدلة جاء بها الشارع المقدّس ، فالقرآن الكريم بنصوصه وظواهره وكذلك السنّة الشريفة سواء ما وصل منها عبر التواتر أو عن طريق أخبار الثقات كلّها أدلة شرعية باعتبار انتسابها إلى الشارع المقدّس.

القسم الثاني : الدليل العقلي : وهو عبارة عن المدركات أو قل القواعد العقلية التي يمكن لها أن تساهم في إثبات حكم شرعي ، مثل قاعدة « أنّ وجوب الشيء يقتضي وجوب مقدّمته » وقاعدة « أنّ وجوب الشيء

ص: 109

يقتضي حرمة ضدّه » وكذلك قاعدة « الحسن والقبح العقليّين » ، فهذه كلّها مدركات عقلية يمكن لها « لو تمّت » أن تساهم في استنباط حكم شرعي.

وتفصيل الكلام يأتي في بحث الدليل العقلي إلاّ أننا سوف نبيّن - وبشكل إجمالي - كيفيّة مساهمة مثل هذه القضايا العقلية في إثبات حكم شرعي ، فنقول :

لو أخذنا مثلا القاعدة العقلية وهي : « أنّ وجوب الشيء يقتضي وجوب مقدّمته » ، فعندنا في المقام حكمان شرعيّان أحدهما معلوم والآخر مجهول.

أمّا الحكم المعلوم فهو وجوب شيء مثل الحج ، وأمّا الحكم المجهول فهو جوب مقدّمة الحج مثل السفر إذ أنّ المقدمة بحسب الفرض لم يقم دليل شرعي على وجوبها وإنما الذي قام عليه الدليل الشرعي هو وجوب ذي المقدّمة وهو الحج في المثال. وهنا يأتي دور القاعدة العقلية « إن وجوب شيء يقتضي وجوب مقدّمته » لغرض إثبات الحكم الشرعي وهو وجوب المقدّمة ، وذلك عن طريق إدراك العقل للملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدمة ذلك الشيء ، فالمدرك العقلي صار سببا وواسطة في إثبات وجوب المقدّمة ، وهذا هو معنى مساهمة العقل في إثبات حكم شرعي. وقلنا إنه يساهم في إثبات الحكم الشرعي لأنه ليس هو وحده الذي أثبت الوجوب بل مع شيء آخر ، وهذا ما سيأتي توضيحه في محلّه.

والمتحصّل من كل ما ذكرناه : أنّ الدليل العقلي هو المدرك العقلي الذي يقع واسطة في طريق إثبات حكم شرعي.

ص: 110

تقسيم الدليل الشرعي :

عودة إلى الدليل الشرعي لغرض تقسيمه وبيان المباحث التي تؤهّله لإثبات الأحكام الشرعيّة.

وقد عرفت مما سبق أنّ الدليل الشرعي هو الدليل المنتسبة دليليّته إلى الشارع المقدّس وذلك في مقابل الدليل العقلي الذي يرجع في دليليّته إلى المدركات العقلية.

ومن هنا لا بدّ من معرفة ما ينقسم عليه الدليل الشرعي سواء كان قطعيّا أو ظنيّا ، فنقول : إنّ الدليل الشرعي على قسمين :

القسم الأوّل : وهو ما يكون من قبيل الخطابات الصادرة عن الشارع المقدّس كالقرآن الكريم والأحاديث الواصلة إلينا عن طريق المعصومين علیهم السلام ، وهذا ما يسمّى بالدليل الشرعي اللفظي.

القسم الثاني : وهو ما يكون من قبيل السّير العقلائيّة الممضاة من الشارع ومن قبيل الروايات الحاكية عن فعل المعصوم علیه السلام وتقريره ، وهذا ما يسمّى بالدليل الشرعي غير اللفظي.

ومع اتّضاح معنى الدليل الشرعي ، وما ينقسم عليه من أدلّة لفظيّة وأخرى غير لفظية ، نصل إلى ما هو العمدة في البحث الأصولي عن الدليل الشرعي ، وهو : البحث عنه من حيث مفاده ، ومتى يتحقّق خارجا ، وما هو الدليل على حجّيّته.

وبعبارة أخرى : يمكن تصنيف المباحث التي تبحث في الدليل الشرعي إلى ثلاثة مباحث :

ص: 111

المبحث الأول : يتصدّى لشرح مدلولات الدليل الشرعي وكيفيّة الاستفادة منها ، ولتوضيح ذلك نقول :

إنّه لا يمكن الاستفادة من الدليل الشرعي ما لم نحدّد الضوابط العامّة لمدلولاته ، فالدليل الشرعي قد يثبت لنا أنّه صادر عن

الشارع المقدّس وتثبت لنا حجّيته أيضا ولكن ذلك وحده لا ينفع لإثبات الأحكام الشرعية كالوجوب والحرمة ؛ وذلك لأنّه أيّ جدوى لكلام نحرز أنه صادر عن الشارع وأنه حجة ولكننا لا نعرف معناه والمراد منه؟ ولذلك يتصدى المبحث الأول لهذه المهمّة ، فيبحث عن الضوابط العامّة التي توجب فهم الدليل الشرعي ، وقلنا الضوابط العامة للاحتراز عن مدلولات الدليل الشرعي التي لا يستفاد منها إلا في مورد أو موردين فإنّ بحث مثل هذه المدلولات من وظائف الفقه ، أمّا الأصول فهو يبحث عن الضوابط العامّة والتي هي مطّردة ونافعة في استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة ، ومثال هذه الضوابط التي يبحث عنها في علم الأصول بحث الأوامر والإطلاق والمفاهيم.

المبحث الثاني : وهو ما يبحث فيه عن صغرى الدليل الشرعي.

وتوضيح ذلك : إنّ واقع الدليل الشرعي هو النتيجة الحاصلة من قياس منطقي صغراه أنّ هذا الخطاب أو هذا الإمضاء ثابت عن الشارع وكبراه أنّ كلّ ما ثبت عن الشارع فهو حجة ، فتكون النتيجة أنّ هذا الخطاب أو هذا الإمضاء حجّة. وهذه النتيجة هي الدليل الشرعي.

إذن صغرى الدليل الشرعي هي صغرى القياس الذي تكون نتيجته الدليل الشرعي.

ص: 112

مثلا :

* القرآن الكريم صادر عن الشارع * وكلما صدر عن الشارع فهو حجّة * إذن القرآن الكريم حجّة

فنتيجة هذا القياس - وهي أنّ القرآن الكريم حجّة - هي : الدليل الشرعي. وصغرى هذه النتيجة - وهي أنّ القرآن صادر عن الشارع - صغرى الدليل الشرعي ، والبحث هنا يقع عن هذه الصغرى وأنّه متى تثبت هذه الصغرى. فقولنا : إنّ القرآن الكريم صادر عن الشارع دعوى تحتاج إلى دليل ، والذي يتصدّى لإثبات هذه الدعوى والاستدلال عليها هو هذا البحث ، وكذلك الكلام في خبر الثقة مثلا ، فقولنا : إنّ خبر الثقة صادر عن المعصوم هو صغرى لقياس نتيجته الدليل الشرعي ، وهذه الصغرى محتاجة إلى دليل والذي يتصدّى لإثبات ذلك هو هذا البحث.

وإذا أردنا أن نعمّق هذا البحث أكثر نقول : إنّ هذه الصغرى هي نتيجة لقياس آخر غير الذي شكلّناه ، صغراه تبحث في غير هذا العلم وكبراه هي التي تبحث في هذا المبحث - الذي هو المبحث الثاني من مباحث الدليل الشرعي - ونتيجته هي التي تقع صغرى في القياس الأول ، مثلا :

* إنّ هذا الخبر خبر ثقة * وكل خبر ثقة فهو صادر عن المعصوم * إذن هذا الخبر صادر عن المعصوم

تلاحظون أن صغرى هذا القياس تبحث في غير علم الأصول فإنّ إثبات أنّ هذا خبر ثقة من شؤون علم الرجال ولا صلة له بعلم الأصول.

وتلاحظون أنّ النتيجة هي الصغرى في القياس الأول ، أمّا الكبرى - وهي أنّ كل خبر ثقة فهو صادر عن المعصوم علیهم السلام - فهي التي نبحث عنها

ص: 113

هنا إذ أننا نبحث في المقام عن الدليل الذي يدلّ على أنّ كل خبر ثقة فهو صادر عن المعصوم.

إذن فنحن هنا نبحث عن الكبرى - في القياس الثاني - التي تنقّح الصغرى في القياس الأول ، فالبحث في المقام ليس عن معنى وحقيقة الصغرى في الدليل الشرعي بل البحث عن الدليل الذي يدل على ثبوت الصغرى. فلذلك قال المصنّف رحمه اللّه : « إنّ المبحث الثاني عن ثبوت صغرى الدليل الشرعي » ولم يقل عن نفس صغرى الدليل الشرعي.

والمتحصّل مما تقدّم أنّ صغرى الدليل الشرعي هي الصغرى التي تقع في قياس نتيجته الدليل الشرعي. والبحث هنا عن إثباتها وما هو الدليل عليها ، فنحن هنا نبحث عن الدليل الذي يدلّ على أنّ القرآن صادر عن اللّه عزّ وجلّ ، وعن الدليل الذي يدلّ على أنّ خبر الثقة صادر عن المعصوم وهكذا.

ولعلّك تسأل عن موقع المبحث الأول في القياس الأول الذي شكّلناه وما هو الفرق بين موقعه وموقع المبحث الثاني أليس المبحث الأول يبحث فيه أيضا عن صغرى الدليل الشرعي؟

والجواب :

هو أنّ الذي يبحث عنه في المبحث الأول هو الحدّ الأصغر لصغرى ذلك القياس.

وبتعبير آخر : أنّ الذي يبحث عنه في المبحث الأول هو الحد الأصغر الذي يقع موضوعا في نتيجة هي الدليل الشرعي.

ولتوضيح ذلك نقول : إن المبحث الأول كما قلنا هو ما يبحث فيه عن

ص: 114

مدلولات الدليل الشرعي ، وهذا يعني أن المبحث الأول يتكفل ببيان المراد من الخطاب والإمضاء الشرعيّين.

وعليه فلنرجع إلى القياس الأوّل الذي شكّلناه لنرى ما هو موقع المبحث الأول من هذا القياس :

* القرآن الكريم صادر عن الشارع * وكلما صدر عن الشارع فهو حجّة * إذن القرآن الكريم حجّة

وإذا تأمّلنا في هذا القياس نعرف أنّ ما يبحث عنه في المبحث الأول ليس هو صغرى في هذا القياس ولا هو كبرى بل هو الحد الأصغر في صغرى هذا القياس « وهو القرآن الكريم » فنحن في المبحث الأوّل نبحث عن مدلولات القرآن الكريم والذي هو أحد الخطابات الشرعية.

وبتعبير آخر : إنما ما يبحث عنه في المبحث الأول هو الحدّ الأصغر الواقع موضوعا في نتيجة هي الدليل الشرعي ، فالنتيجة في هذا القياس هي « القرآن الكريم حجّة » وهي معنى آخر للدليل الشرعي كما هو واضح ، وموضوع هذه النتيجة « هو القرآن الكريم » والمبحث الأول يبحث عن القرآن الكريم من حيث مداليله.

والمتحصّل من الفرق بين هذين المبحثين أن المبحث الثاني يبحث عن تمام القضية الواقعة في صغرى هذا القياس ، فهو يبحث عن الدليل على أن القرآن صادر من المولى عزّ وجلّ ، وأما المبحث الأول فهو يبحث عن موضوع هذه الصغرى وهو القرآن الكريم مثلا من حيث ما يدلّ عليه من مدلولات.

المبحث الثالث : - من مباحث الدليل الشرعي - هو ما يبحث فيه

ص: 115

عن حجية الدليل الشرعي وأن الخطابات والإمضاءات الصادرة عن الشارع حجة أو غير حجة؟

فنبحث مثلا عن حجية القرآن الكريم بعد الفراغ عن صدوره ، ونبحث عن حجية خبر الثقة بعد الفراغ عن صدوره ، وهكذا.

فالبحث إذن عن كبرى القياس الذي نتيجته الدليل الشرعي ، ولمزيد من التوضيح نرجع إلى القياس الأول الذي شكّلناه وهو أن :

* القرآن الكريم صادر عن الشارع * وكلما صدر عن الشارع فهو حجّة * إذن القرآن الكريم حجّة

وإذا تأمّلنا في القياس وجدنا أن كبراه هي ما يبحث عنها في المبحث الثالث « وهي كلّما صدر عن الشارع فهو حجّة » ، فنبحث عن هذه القضية من حيث ما هو الدليل عليها أي ما هو الدليل على أن القرآن - الذي ثبت صدوره عن الشارع - حجة.

ومعنى أننا نبحث عن الدليل على هذه الكبرى هو أننا نشكّل قياسا منطقيّا آخر تكون هذه الكبرى هي نتيجته ، فنقول مثلا في مقام الاستدلال على هذه الكبرى :

* إن هذا القرآن الكريم صادر عن الشارع * ومولويّة الشارع تقتضي حجية ما يصدر عنه * إذن الصادر عن الشارع حجة

وتلاحظون أن هذه النتيجة هي عين الكبرى الواقعة في القياس الأوّل والدليل ، على هذه النتيجة هي الكبرى الواقعية في هذا القياس « الثاني ».

إذن فنحن لا نبحث في المبحث الثالث عن نفس كبرى القياس الأول ، بل نبحث عن ما هو الدليل على هذه الكبرى ، فنقول مثلا : إن

ص: 116

الدليل على حجية الصادر عن الشارع هو حكم العقل بوجوب طاعة المولى ، نعم قد نستدلّ على حجية الصادر عن الشارع بأدلة إثباتية أخرى إلا أنها ترجع روحا إلى ما يحكم به العقل من وجوب طاعة المولى جلّ وعلا.

والمتحصّل من كلّ ما ذكرناه في المباحث الثلاثة هو : أن المبحث الثاني يبحث عن صغرى القياس الأول من حيث ما هو الدليل عليها ، والمبحث الثالث يبحث عن كبرى هذا القياس من حيث ما هو الدليل عليها.

وأما المبحث الأول فهو يبحث عن الحدّ الأصغر في الصغرى من نفس هذا القياس من حيث دلالته ، وما هو المراد منه ، أو قل إن المبحث الأول يبحث عن موضوع نتيجة هذا القياس أي عن موضوع الدليل الشرعي.

هذا هو روح المباحث الثلاثة وقد أطلنا في بيانها لأن فهم كثير من المطالب الآتية يتوقّف على فهمها.

إذا اتّضح كل ما ذكرناه ، فلنشرع في بيان هذه المباحث الثلاثة إلاّ أنه وقبل بيان هذه المباحث لا بدّ من طرح مجموعة من المطالب لها تأثير على سير البحث في المباحث الثلاثة.

ص: 117

المطلب الأول: الأصل عند الشك في الحجّة

والكلام في هذا المطلب يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في بيان المراد من الأصل عند الشك في الحجية.

الجهة الثانية : في بيان ما هو الأصل عند الشك في الحجية ، هل هي الحجية أو عدم الحجية؟

الجهة الأولى : - والتي هي في بيان المراد من الأصل عند الشك في الحجية - تحتاج إلى بيان أمرين :

الأول : هو بيان المراد من الأصل.

الثاني : هو بيان المراد من الشك في الحجية.

ونبدأ بالأمر الثاني - والذي هو : بيان المراد من الشك في الحجية لتوقف فهم الأول عليه - فنقول : إن المراد من الشك في الحجية هو عدم إحراز ثبوت المنجزية والمعذرية لدليل ظني من الأدلة ، مثلا الشهرة الفتوائية لو بحثنا عن دليلها فلم نجد لها دليلا يثبت لها الحجية - المنجزية والمعذرية -.

ص: 118

وبعبارة أخرى : لو بحثنا عن الدليل على الشهرة الفتوائية فلم نعثر على دليل لها يثبت على أنها صالحة للكشف عن حكم شرعي أو نفي حكم شرعي ، ففي مثل هذه الحالة نشك في حجية الشهرة الفتوائية إذ ليس عندنا ما يثبت الحجية كما أنه لا نجزم بعدم حجيتها وصلاحيتها للكشف عن الحكم الشرعي ، فنحن إذن نشك في ثبوت الحجية للشهرة وعدم ثبوتها ، وهذا هو معنى الشك في الحجية.

وأمّا الأمر الأول : - الذي هو بيان المراد من الأصل - فتوضيحه أن المقصود من الأصل في المقام هو المرجع الذي نستند إليه في موارد الشك في الحجية ، ففي المثال السابق حينما شككنا في حجية الشهرة الفتوائية ولم نعثر على دليل يثبت لها الحجية أو عدم الحجية ، نحتاج للبحث عمّا هو المرجع في مثل هذه الحالة ، وهل المرجع هو تنجّز الشهرة الفتوائية ولزوم العمل بمقتضاها ، أو أن المرجع هو عدم تنجّز الشهرة وعدم لزوم العمل بمفادها ، وبالتالي لا بدّ من الرجوع إلى الأصول العملية الجارية في المقام ، وهذا يعني عدم الالتفات إلى الشهرة الفتوائية وتنزيلها منزلة العدم.

إذن لو كان الأصل عند الشك في الحجية يقتضي الحجية ، فهذا يعني أن الشهرة الفتوائية - المشكوك في حجّيتها - حجة أي مرجع ومستند لإثبات مفادها ، فلو كان مفادها الحرمة فيجب الالتزام بالحرمة وعدم الرجوع إلى أصالة البراءة العقلية - بناء على جريانها في موارد الشك - ولو كان مفادها الإباحة فيمكننا الالتزام بالإباحة وتجاوز الاحتياط العقلي - بناء على جريانه في موارد الشك -.

أما لو كان الأصل عند الشك في الحجة يقتضي عدم الحجية ، فهذا

ص: 119

يعني أن الشهرة الفتوائية المشكوك في حجيتها ليست حجة وليست مرجعا لإثبات مفادها ، بل إن المرجع حينئذ هي الأصول العملية الجارية في موارد الشك.

وباتّضاح هذين الأمرين تتّضح الجهة الأولى من هذا المطلب وهي أنه ما المراد من الأصل عند الشك في الحجية.

الجهة الثانية : في بيان ما هو الأصل عند الشك في الحجية ، هل هو الحجية أو عدم الحجية؟

وقبل بيان ذلك لا بدّ من تحرير محل النزاع ، فنقول : إن الأدلّة - الأعم من الشرعية والعقلية - تتصوّر على أربعة أنحاء :

النحو الأول : ما نقطع بحجيته ، أي ما نحرز بأنه طريق لإثبات الأحكام الشرعية ، وذلك مثل القرآن الكريم والسنة المتواترة والأحكام العقلية القطعية كالحسن والقبح العقليّين.

وهذا النحو من الأدلة خارج من محلّ النزاع ؛ لأن محلّ النزاع هو الشك في الحجية وهنا نقطع بالحجية.

الثاني : ما نقطع بعدم حجيّته وعدم طريقيته لإثبات الأحكام الشرعية ، وذلك مثل خبر الكذّاب والنصوص الشرعية المجملة والقياس الحنيفي والاستحسان والمصالح المرسلة وسدّ الذرايع.

وهذا النحو من الأدلة خارج أيضا عن محلّ النزاع ، وذلك للقطع بعدم الحجية ومورد الكلام هو الشك في الحجية.

الثالث : ما نشك في حجّيته وصلاحيّته للكشف عن الأحكام الشرعية ، إلا أننا وجدنا في مقام البحث ما يدل على حجيّته ، وذلك مثل

ص: 120

خبر الثقة وظواهر الكتاب ، فإننا وإن كنّا بدوا نشكّ في حجّيتهما إلا أننا وجدنا ما يدلّ على حجّيتهما ، وهذا النحو من الأدلة خارج أيضا عن محلّ النزاع ، إذ محلّ النزاع هو الشك في الحجية استمرارا وهذا النحو من الأدلة وإن كنّا نشك في حجّيتها ابتداء ولكن هذا الشك قد زال بواسطة قيام الدليل القطعي على حجّيتها.

الرابع : ما نشك في حجّيته وصلاحيته للكشف عن الأحكام الشرعية ولم نعثر على دليل قطعي يثبت له الحجية أو ينفيها ويمكن التمثيل لذلك بالشهرة الفتوائية ، وبقول اللغوي وبالإجماع المنقول ، وهذا النحو من الأدلة هو محلّ النزاع في المقام.

ومع اتضاح محلّ النزاع نقول : إن الصحيح هو عدم الحجية في موارد الشك في الحجية ، فإذا شككنا في حجية دليل من الأدلّة ولم نعثر على ما يثبت الحجية له أو ينفيها عنها لا بدّ من البناء عملا على عدم الحجية وعدم ترتيب أي أثر على مفاد هذا الدليل المشكوك الحجية ، فكأنّ هذا الدليل في حيّز العدم ، فكما أننا لو قطعنا بعدم حجية دليل من الأدلة لم نرتّب أي أثر على ذلك الدليل ، فكذلك الكلام في موارد الشك في حجية دليل من الأدلة ، وهذا هو معنى قول الأصوليّين إن الشك في الحجية يساوق القطع بعدم الحجية ، فإن المراد من مساوقة الشك في الحجية للقطع بعدمها هو اتحاد الشك في الحجية مع القطع بعدمها في النتيجة ، فكما أننا في موارد القطع بعدم الحجية لا نرتّب أي أثر على الدليل المقطوع بعدم حجيّته كذلك يجب أن يكون موقفنا في موارد الشك في الحجية.

ومن هنا فالمرجع في موارد الشك في الحجية هو الأصول الجارية في

ص: 121

كل مورد بحسبه.

ويمكن الاستدلال على هذه الدعوى - وهي أن الأصل في الحجية هو عدم الحجية ، وأن المرجع في مثل هذا المورد هو الأصول العملية - بهذا الدليل وهو : أنه لا سبيل لرفع اليد عن الأصول العملية الجارية في موارد الشك في الحجية بعد قيام الدليل القطعي على منجّزيتها ومعذّريتها ، وبعد أن لم يكن هذا الدليل المشكوك الحجية صالحا لنفي موضوع الأصل العملي الجاري في مورد الدليل المشكوك.

ولمزيد من التوضيح نقول : إن الدليل المشكوك الحجية لا يخلو عن إحدى حالتين إما أن يكون مثبتا لتكليف أو نافيا لتكليف.

أما الحالة الأولى : وهي ما إذا كان مفيدا لحكم إلزامي كأن يكون مفاده حرمة العصير التمري ، ففي هذه الحالة يكون الأصل العملي الجاري في المقام هو أصالة الحل ، ولا مبرّر لرفع اليد عن هذا الأصل بعد قيام الدليل القطعي على معذّريته ، إذ أن الدليل المشكوك الحجية لا يرفع موضوع أصالة الحل - وهو الشك - إذ أننا بالوجدان نجد أن الشك باقيا على حاله دون أن يؤثر هذا الدليل المشكوك الحجية لرفع الشك ، ومع بقاء موضوع أصالة الحل تكون هي المرجع في المقام.

وأمّا الحالة الثانية : وهي ما إذا كان الدليل المشكوك الحجية نافيا للتكليف ، كأن يكون مفاده عدم وجوب صلاة الجمعة ، فهنا يكون الأصل الجاري - بناء على مسلك حق الطاعة - هو الاحتياط العقلي وهو أيضا قام الدليل القطعي على حجيّته فلا يمكن رفع اليد عن منجزيّته بالدليل المشكوك الحجيّة وذلك لعدم صلاحيته لرفع موضوع الاحتياط العقلي الذي

ص: 122

هو الظن والاحتمال بالتكليف ، إذ أننا بالوجدان نجد أن الظن أو الاحتمال باقيان على حالهما دون أن يؤثر هذا الدليل المشكوك الحجية لرفع الظن أو الاحتمال بالتكليف ، ومع بقاء موضوع الاحتياط العقلي يكون هو المرجع في مثل المقام.

هذا تمام الكلام في هذا المطلب ، ومنه اتّضح أن الشك في الحجية هو عدم الحجية ، والمرجع في مثل هذه الحالة هو الأصل العملي الجاري في كلّ مورد بحسبه.

ص: 123

المطلب الثاني: مقدار ما يثبت بالأدلّة المحرزة

ومن أجل أن يتّضح هذا المطلب لا بدّ من بيان مقدّمة.

كلّ دليل سواء كان قطعيّا أو غير قطعي ، وسواء كان محرزا أو أصلا عمليّا يمكن أن يكون له مدلول التزامي إضافة إلى مدلوله المطابقي ، ولكي تتّضح هذه الدعوى نذكر مثالا يناسب الدليل المحرز بكلا قسميه : القطعي ، وغير القطعي ، ومثالا يناسب الأدلّة العملية المعبّر عنها بالأصول العمليّة.

أما ما يناسب الدليل المحرز ، فمثاله : لو أخبر مخبر عن غرق زيد فإن هذا الخبر له مدلولان :

الأوّل : هو أن زيدا قد غرق في الماء ، وهذا ما يسمّى بالمدلول المطابقي.

الثاني : أن زيدا قد مات ، وهذا هو المدلول الالتزامي للخبر ، إذ أن الخبر وبحسب المدلول اللغوي لألفاظه لا يدل على أكثر من غرق زيد في الماء ، نعم ثبوت غرق زيد - وبواسطة مقدمة خارجية وهي أن الغرق موجب للموت - قد دلّ على موت زيد.

إذن ثبوت موت زيد نشأ عن مقدمتين الأولى إخبار المخبر بغرقه

ص: 124

والثانية هي العلم الخارجي بأن الغرق من موجبات الموت.

وأما ما يناسب الأصل العملي ، فنذكر له مثالا في الاستصحاب ، فنقول : لو كنّا على يقين سابق بحياة زيد ثم شككنا في بقائه على قيد الحياة فإن مقتضى الاستصحاب هو أنّ زيدا لا زال حيّا ، وهذا هو المدلول المطابقي للاستصحاب ، وللاستصحاب مدلول آخر وهو « أن زيدا يأكل ويشرب » وهذا هو المدلول الالتزامي للاستصحاب وهو لا يقتضيه الاستصحاب بنفسه إذ أن الاستصحاب لا يعني أكثر من إسراء الحالة السابقة المتيقّنة إلى ظرف الشك ، ومن الواضح أن كون زيد يأكل ويشرب الآن ليس مستفادا من حاق المستصحب « حياة زيد » ، نعم هو مستفاد من الاستصحاب باعتبار أنه صار واسطة في إثبات موضوع الملازمة ، فالاستصحاب أثبت حياة زيد فترتّب اللازم من حياة زيد وهو أنه يأكل ويشرب.

وبعد اتّضاح هذه المقدّمة ، يقع البحث حول الدلالة الالتزاميّة من حيث ثبوت الحجية بالإضافة إلى المدلول المطابقي وعدم ثبوت الحجيّة ، وهل أنه كلّما ثبتت الحجية لدليل فإنها تثبت لكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي أو لا؟

ويمكن تصنيف البحث إلى موارد أربعة نذكرها تباعا :

المورد الأول : ما إذا كان الدليل من قبيل الأدلة المحرزة القطعيّة ، كما لو قام الدليل القطعي على غرق زيد في الماء وفي مثل هذا المورد لا إشكال في ثبوت الحجية لكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي ؛ وذلك لأن القطع بالمدلول المطابقي قطع بالمدلول الالتزامي ، ولذلك قالوا « إن العلم بشيء

ص: 125

علم بلوازمه ».

إذن المنشأ لثبوت الحجيّة للمدلول الالتزامي هو العلم بالملازمة ، إذ هو الذي يؤدّي إلى العلم باللازم بعد العلم بتحقّق الملزوم - وهو المدلول المطابقي - وفي المثال المذكور يكون القطع بغرق زيد قطع بموته ؛ ولذا يمكن ترتيب جميع الآثار المترتّبة على موت زيد كاعتداد زوجته وتقسيم تركته.

المورد الثاني : ما إذا كان الدليل من قبيل الأدلة المحرزة الظنية ، والذي قام الدليل القطعي على حجيته بكلا مدلوليه المطابقي والالتزامي بأن كان موضوع الحجية الثابت لهذا الدليل هو كلا المدلولين ، فهنا لا إشكال أيضا في ثبوت الحجية للمدلول الالتزامي وذلك لأنه وقع موضوعا للحجية بمعنى أن الدليل المثبت للحجية قد أثبتها لكلا المدلولين على حدّ سواء.

ومثال ذلك : خبر الثقة لو استظهرنا من الأدلة التي دلّت على حجيّته أنها في مقام إثبات الحجية لكلا مدلولي الخبر المطابقي والالتزامي فإن خبر الثقة في مثل هذه الحالة يكون حجة في المدلول الالتزامي كما هو حجة في المطابقي ، فلو أخبر الثقة بغرق زيد فإن هذا الخبر يكون حجة في إثبات موت زيد.

المورد الثالث : لو كان الدليل من الأدلة المحرزة الظنية إلا أن الدليل الذي دل على حجيّته دل على حجية المدلول المطابقي دون أن تكون له دلالة على حجية المدلول الالتزامي.

ومثال ذلك : الإجماع ، فإن الدليل الذي دل على حجيّته لم يدل على أكثر من حجية معقد الاجماع - والذي هو المدلول المطابقي - فلا يكون

ص: 126

المدلول الالتزامي لمعقد الإجماع مشمولا لدليل الحجية ، فلو قام الإجماع مثلا على وجوب صلاة الجمعة فإن وجوب صلاة الجمعة هي معقد الإجماع إلا أنّ لذلك مدلولا التزاميّا وهو عدم وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة ، وهذا المدلول الالتزامي خارج عن موضوع الحجية ، إذ أن موضوع الحجية - كما قلنا - هو معقد الإجماع - والذي هو في المثال وجوب صلاة الجمعة -.

ومن هنا قد يقال بعدم حجية المدلول الالتزامي ، فلو كان له آثار فإنها لا تترتّب وذلك لأن موضوع الحجية ليس شاملا لها ، نعم من الممكن ثبوتا أن تكون الحجية شاملة للمدلول الالتزامي ، ولكنّ ذلك لا ينفع لإثبات الحجية له إذ أن إمكان ثبوت الحجية له لا يسوّغ الاعتماد عليه ما لم يقم دليل إثباتي على الحجية ، وفرض الكلام عدم شمول الحجية للمدلول الالتزامي ، وكوننا نعلم أن ثبوت المدلول المطابقي يلازم خارجا ثبوت المدلول الالتزامي لا يسوّغ أيضا ثبوت الحجية للمدلول الالتزامي ؛ وذلك لأن فرض الكلام أن الدليل المحرز دليل ظني يفتقر في ثبوت الحجية له إلى التعبّد الشرعي ، ومن الممكن جدا أن يتعبّدنا الشارع بحجية المدلول المطابقي دون أن يتعبّدنا بحجية المدلول الالتزامي ، فيقول مثلا : إن الزوج إذا كان مفقودا ولم يعرف له خبر فإنه قد مات تعبدا ولكن مع ذلك لا تنفصل عنه زوجته إلا بطلاق الحاكم الشرعي في حين أن موت الزوج يلازم شرعا عدم الحاجة إلى الطلاق.

ومن هنا ذهب السيد الخوئي رحمه اللّه إلى عدم حجية المدلول الالتزامي في هذا المورد ، وفي مقابل هذا القول ذهب المشهور إلى حجيّته وأنه لا فرق في الحجيّة بين المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي الا إذا كان المدلول المطابقي

ص: 127

من قبيل الأدلّة الظنية المحرزة « الأمارة » ، ولذلك قالوا « إن مثبتات الأمارة مطلقا حجة » أي أن المدلولات الالتزامية للأمارة مطلقا تكون حجة وهذا هو الصحيح بنظر المصنّف رحمه اللّه ، واستدلّ على ذلك بما ذكره في بحث الأمارات والأصول.

وحاصل ما ذكره هناك أن الدليل الظني المحرز - الذي قام الدليل القطعي على حجّيته - هو ما كان منشأ جعله الكاشفيّة عن متعلّقه وليس له منشأ وسبب غير كاشفيّته عن متعلّقه وبالتالي تكون حجية هذا الدليل ثابتة لكل ما كشف عنه هذا الدليل ، ومن الواضح أن كاشفية الدليل الظني المحرز على المدلول الالتزامي بمستوى كاشفيّته عن المدلول المطابقي ، فلا مبرّر للتفريق بينهما من حيث الحجية إذ أن الحجية ثابتة لكل ما كشف عنه الدليل.

ويمكن صياغة الدليل بشكل آخر ، بأن يقال : إننا فرغنا في بحث سابق عن أن السبب الوحيد في جعل الحجية للأمارة هو أن الأمارة كاشفة عن مفادها وليس للمولى أي ملاحظة لنوع الحكم الذي تكشف عنه الأمارة بل إن نظره مقتصر - في مقام جعل الحجية للأمارة - على ما للأمارة من كاشفيّة عن الواقع.

ومن هنا يمكن أن نستظهر أن المولى حينما جعل الحجية للأمارة جعلها لكل ما تكشف عنه الأمارة فلمّا كانت تكشف عن المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي معاف هذا يعني أن المولى قد جعل الحجية لكلا المدلولين إذ أن كلا منهما قد كشفت عنه الأمارة ، وبهذا يتّضح منشأ ذهاب المشهور إلى حجية المدلولات الالتزامية لمطلق الأمارات.

ص: 128

المورد الرابع : ما إذا كان الدليل من قبيل الأدلة العملية المقرّرة لوظيفة المكلّف في ظرف الشك في الحكم الواقعي. وهنا ذهب المشهور إلى عدم حجية مدلولاتها الالتزامية ، فلذلك اشتهر عنهم « أن مثبتات الأصول ليست بحجة » ويمكن أن نمثل لذلك بقاعدة الفراغ المثبتة لصحة العبادة في ظرف الشك في الصحة إذا كان الشك قد وقع بعد الفراغ عن العبادة ، فإن هذه القاعدة لا تقتضي أكثر من الحكم بصحة الصلاة مثلا المفروغ عنها إذ أن هذا هو مدلولها المطابقي ، ولقاعدة الفراغ في بعض الموارد مدلول التزامي فلو فرغ المكلف من الصلاة ثم شك في صحتها من جهة أنه هل كان متطهّرا عندما دخل في الصلاة أم لا؟ فإن مقتضى قاعدة الفراغ هو الحكم بصحّة هذه الصلاة ، وهذا هو مدلول القاعدة المطابقي وللحكم بصحة الصلاة مدلول التزامي وهو أنه كان على طهارة حين دخل الصلاة إلاّ أن هذا المدلول الالتزامي غير حجة ، فلو أراد الدخول في صلاة أخرى فإنه ملزم بالإتيان بوضوء جديد لها ولا تكون قاعدة الفراغ التي أجراها لغرض تصحيح الصلاة صالحة لإثبات طهارته الحدثية.

ويمكن الاستدلال على ذلك بأن المجعول في الأصول العملية هو الجري العملي على طبق الأصل إذ أنّ الملحوظ حين جعل الحجية للأصل هو نوع الحكم المشكوك وأهميته بنظر المولى دون أن يكون للمولى ملاحظة لكاشفية الأصل حتى لمدلوله المطابقي فضلا عن الالتزامي إذ أنّ الأصل لا يكشف عن أن مؤدّاه هو الواقع ، وقد تكون للمولى - كما في موارد الأصول المحرزة - ملاحظة لكاشفية الأصل عن الواقع إلاّ أنّ الكاشفية ليست هي الملاك التام في جعل الحجية للأصل بل إنّ الملاك هو

ص: 129

الكاشفية مع ملاحظة نوع الحكم المشكوك وأهميّته بنظر المولى وقد أوضحنا كل ذلك في بحث الأمارات والأصول.

وبهذا البيان يتّضح ما هو المنشأ لمبنى المشهور في عدم حجية المدلولات الالتزامية للأصول ، إذ أنه لمّا كانت الحجية مجعولة على الأصل العملي بوصف كونه وظيفة مقررة في ظرف الشك واهتمام المولى بهذه الوظيفة وأهميتها على سائر الوظائف دون أن يكون المنشأ لجعل هذه الوظيفة هو كاشفية الوظيفة العملية عن الواقع ، فإنه لا يمكن في مثل هذه الحالة تعدية الحجية الثابتة للوظيفة العملية لمدلولاتها الالتزامية إذ أنّه من أين لنا العلم أن الشارع جعل الحجية للمدلول الالتزامي بالإضافة إلى المدلول المطابقي؟ وهل هذا إلاّ « من حلب الدم » والتخرّص على المولى جلّ وعلا بغير علم ، نعم لو كان دليل جعل الحجية صادقا عرفا على كلا المدلولين لكان ذلك مسوغا للتمسّك بالمدلول الالتزامي كما هو الحال في بعض المدلولات الالتزامية للاستصحاب والبحث في محلّه ، وسيأتي مزيد توضيح في بحث الأصول العمليّة إن شاء اللّه تعالى.

وبهذا البيان اتّضح عدم حجية المدلولات الالتزامية للأصول العملية.

والمتحصّل من كل ما ذكرناه في الموارد الأربعة أنّ الموردين الأول والثاني تكون فيهما المدلولات الالتزاميّة حجة ، وفي المورد الثالث وقع الخلاف وذهب المشهور إلى الحجيّة ، وأمّا المورد الرابع فلا إشكال في عدم الحجيّة.

ص: 130

المطلب الثالث: تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة

لمّا أن فرغنا في البحث السابق عن حجية المدلول الالتزامي وأنه لا فرق بين المدلول المطابقي والمدلول الالتزامي من حيث ثبوت الحجية لهما ، يقع البحث عن مطلب له صلة بالبحث السابق ، وهو : أن المدلول المطابقي لو سقط عن الحجية لسبب ما فهل يسقط المدلول الالتزامي تبعا لسقوطه أم لا؟

ومن الواضح أن هذا البحث يعتمد على القول بالحجيّة للمدلول الالتزامي ، أمّا لو بنينا على عدم حجيّته ، فلا يأتي هذا البحث ، إذ أن البحث هنا عن سقوط الحجية للمدلول الالتزامي لو اتفق سقوطها عن المدلول المطابقي وسقوط الحجية فرع ثبوتها في مرحلة سابقة ، ولهذا لا يقع البحث عن المدلولات الالتزامية للأصول العملية هنا ، إذ أنه لم تثبت الحجية لها ، فالكلام في المقام خاص بالأدلّة المحرزة.

وقبل الشروع في بيان المطلب لا بأس بذكر مقدّمة لها صلة بفهمه نبيّن فيها ما ينقسم عليه المدلول الالتزامي ، فنقول :

إن المدلول الالتزامي إما أن يكون مساويا للمدلول المطابقي ، وإما أن يكون أخص منه ، أو يكون أعم منه.

ص: 131

أما ما كان منه مساويا للمدلول المطابقي فهو ما كان معلولا أو لازما أو علة يفترض انحصارهم للمدلول المطابقي ، ومثاله : الإخبار عن « أن زيدا يرى » فإن لازمه أنّ لزيد عينا يبصر بها ، إذ أن الرؤية معلول منحصر بامتلاك الرائي عينا يبصر بها.

وأما ما كان منه أخص من المدلول المطابقي فهو ما كان معلولا أو لازما مع كون المدلول المطابقي علة للوازم أخرى ، فمثاله : الإخبار عن موت زيد فإن لازمه توقف نفس زيد ، وهذا اللازم أخص من المدلول المطابقي ؛ إذ أن لموت زيد مدلولات التزامية أخرى بالإضافة إلى توقف نفسه وهي مثلا توقف قلبه عن النبض وامتناع الكلام والأكل والشرب والحركة الإراديّة عليه وهكذا.

وأما ما كان منه أعم فهو ما كان معلولا أو لازما مع إمكان أن يكون هذا اللازم ناشئا عن ملزوم أو علة أخرى ، ومثاله : الإخبار عن غرق زيد في الماء ، فإن لازمه موت زيد ، وهذا اللازم أعم من المدلول المطابقي إذ أن الغرق ليس هو الموجب الوحيد للموت بل قد يحدث الموت بموجب آخر غير الغرق مثل الاحتراق أو السقوط من شاهق وهكذا.

والمتحصّل من هذه الأقسام أن اللازم قد يكون منحصرا بالمدلول المطابقي ويكون المدلول المطابقي منحصرا به أيضا ، وهذا هو اللازم المساوي وقد يكون اللازم منحصرا بالمدلول المطابقي دون أن يكون المدلول المطابقي منحصرا به حيث يكون للمدلول المطابقي لوازم أخرى ، وهذا هو اللازم الأخص.

وقد يكون اللازم غير منحصر بالمدلول المطابقي إذ قد ينشأ عن هذا

ص: 132

المدلول المطابقي وقد ينشأ عن غيره ، وهذا هو اللازم الأعم.

إذا اتضح ما بيّناه من أقسام المدلول الالتزامي يصل بنا الكلام إلى الحديث حول تبعيّة هذه الأقسام للمدلول المطابقي من حيث السقوط بعد أن تكلّمنا عن تبعيّتها له من حيث ثبوت الحجية ، ويقع الحديث عن هذه الأقسام تباعا.

القسم الأول : وهو ما كان المدلول الالتزامي مساويا للمدلول المطابقي ، وهنا لا بدّ من سقوط المدلول الالتزامي عن الحجية لو اتفق لنا العلم بسقوط المدلول المطابقي عن الحجية ؛ وذلك لأن المدلول الالتزامي منحصر ثبوته بتحقق المدلول المطابقي ، فمع انتفائه لا شيء يوجب بقاء أو تحقق المدلول الالتزامي بعد افتراض أن تحققه منحصر بتحقق المدلول المطابقي ، فيكون العلم بسقوطه علما بسقوط المدلول الالتزامي.

فلو أخبر مخبر عن أن زيدا يرى ، فهذا - كما قلنا - يلازم امتلاك زيد لعين باصرة ، فحين العلم باشتباه المخبر أو كذبه يسقط المدلول المطابقي عن الحجية وبتبعه يسقط المدلول الالتزامي عن الحجية ؛ وذلك لأن العلم بسقوط الأول يوجب العلم بسقوط الثاني ، لافتراض انحصار وجود الثاني بتحقق الأول فلا يكون هناك موجب للمدلول الالتزامي بعد افتراض عدم المدلول المطابقي.

القسم الثاني : وهو ما إذا كان المدلول الالتزامي أخص من المدلول المطابقي فهنا أيضا لا بدّ من سقوط المدلول الالتزامي عن الحجية إذا سقط المدلول المطابقي عن الحجية ؛ وذلك لعين ما ذكرناه في القسم الأول ، إذ أنهما يشتركان في كون اللازم منحصرا بالمدلول المطابقي ، بمعنى أنه لا موجب

ص: 133

للمدلول الالتزامي غير هذا المدلول المطابقي ، نعم هما يفترقان من حيث إن القسم الأول يكون فيه المدلول المطابقي منحصرا باللازم كما أن اللازم منحصرا به ، وهذا بخلاف القسم الثاني فهو وإن كان اللازم فيه منحصرا بالمدلول المطابقي بحيث لا يوجد عن غيره إلا أن المدلول المطابقي غير منحصر باللازم فهو يوجد اللازم ويوجد غيره من اللوازم الأخرى ، إلا أن هذا الفرق لا يؤثر في النتيجة بعد افتراض كون اللازم منحصرا في كلا القسمين ، وانحصار اللازم بالمدلول المطابقي هو الذي يوجب العلم بسقوط اللازم عند سقوط المدلول المطابقي وهذا هو المبرّر للقول بتبعيّة المدلول الالتزامي للمدلول المطابقي في السقوط في كلا القسمين.

ولعلّ هذا هو السبب الذي جعل المصنّف رحمه اللّه يهمل هذا القسم أو أن المنشأ هو أن الأصوليّين يعتبرون القسمين من واد واحد كما لعلّه هو المستفاد من إهمالهم لهذا القسم.

القسم الثالث : وهو ما إذا كان المدلول الالتزامي أعم من المدلول المطابقي ، وهذا القسم هو الذي وقع فيه الكلام بين الأعلام ( رضوان اللّه عليهم ) حيث ذهب المشهور إلى التبعيّة في السقوط عن الحجية ، وذهب آخرون إلى عدم التبعيّة في السقوط وأن سقوط المدلول المطابقي عن الحجية لا يقتضي سقوط المدلول الالتزامي عن الحجية بل إن الحجية تبقى ثابتة ما لم يقم دليل على سقوطها بالخصوص.

ولنرجع إلى المثال الذي ذكرناه في بيان الأقسام ، وهو أنه لو أخبر مخبر بغرق زيد فإن لازمه موت زيد ، وبهذا الخبر ثبتت الحجية لكلا المدلولين ، إنما الكلام لو سقطت الحجية عن المدلول المطابقي لهذا الخبر كأن

ص: 134

علمنا بأن المخبر قد كذب علينا أو أنه كان مشتبها فيما أخبر به من غرق زيد فهل أن العلم بكذب المخبر أو اشتباهه فيما أخبر موجب لسقوط مدلول هذا الخبر الالتزامي تبعا لسقوط المدلول المطابقي أو لا؟

والفارق بين هذا اللازم - أي الأعم - وبين اللازم المساوي والأخص هو أنه لا يبقى أي احتمال لوجود المدلول الالتزامي في ظرف العلم بسقوط المدلول المطابقي ، وهذا بخلاف اللازم الأعم ، فان احتمال بقائه في ظرف العلم بسقوط مدلوله المطابقي موجود.

وبعبارة أخرى : إن العلم بانتفاء المدلول المطابقي وعدم وجوده لا يلازم العلم بانتفاء المدلول الالتزامي وعدم وجوده ، فالعلم بكذب الخبر وإن كان يوجب عدم ثبوت الغرق لزيد إلا أنه لا يوجب العلم بعدم موت زيد ؛ إذ لعلّه قد مات بموجب آخر كالاحتراق أو السقوط من شاهق ، فأيّ موجب لسقوط الحجية عن اللازم الأعم بعد افتراض ثبوت الحجية له في مرحلة سابقة وبعد أن كان العلم بسقوط المدلول المطابقي عن الحجية لا يوجب العلم بسقوطه وهذا هو السبب الذي اعتمد عليه بعض الأعلام في مقام الاستدلال على عدم التبعيّة.

وفي مقابل هذا القول ذهب آخرون - ومنهم المصنّف رحمه اللّه - إلى القول بالتبعيّة في السقوط وأنه كلما سقط المدلول المطابقي عن الحجية سقط بتبعه المدلول الالتزامي. وقد ذكر المصنّف في مقام الاستدلال على هذه الدعوى دليلين ردّ أحدهما ولم يعلّق على الآخر.

الدليل الأول : هو أنّه لمّا كان المدلول الالتزامي تابعا في وجوده للمدلول المطابقي فهذا يقتضي أن تكون حجيّته تابعة أيضا للمدلول

ص: 135

المطابقي ، فمتى ما ثبتت الحجية للمدلول المطابقي ثبتت للمدلول الالتزامي ، ومتى ما سقطت الحجية عن المدلول المطابقي فإنها تسقط عن المدلول الالتزامي.

وبعبارة أخرى لمّا كان اللازم الأعم - وهو موت زيد في المثال - متفرّعا في وجوده على غرق زيد فهذا يقتضي سقوط هذا اللازم عن الحجية عندما نعلم بسقوط الخبر وهو غرق زيد عن الحجية.

والجواب على هذا الدليل : أنه لم تتّضح الملازمة بين التبعيّة في مقام الوجود والتبعية في مقام الحجيّة إذ أنّ من المحتمل جدا أن تكون الحجية لكل منهما ثابتة بجعل مستقل بحيث يكون موضوع الحجية لكل واحد منهما يغاير موضوع الحجية للآخر وذلك بأن يكون الملاك في جعل الحجية للمدلول المطابقي هو كاشفيّته عن واقع متعلّقه ، وكذلك يكون هناك ملاك مستقل لجعل الحجية للمدلول الالتزامي وهو كاشفيّته عن واقع آخر - وهو متعلّقه الخاص به -.

ولنذكر لذلك مثالا لتوضيح الجواب ولرفع الاستيحاش عن المبنى القائل بعدم التبعيّة ، وهو : أنّه لو أخبر الثقة بوجوب صلاة الجمعة فإنّ لهذا الخبر مدلولان ، الأول : منهما مطابقي وهو وجوب الجمعة ، والثاني : التزامي وهو عدم استحباب صلاة الجمعة وهذا اللازم أعم لأنّه قد ينشأ عن مدلول مطابقي آخر ، فلو افترضنا أن هذا المخبر أو غيره من الثقات أخبر بحرمة صلاة الجمعة ، فهنا يتعارض الخبران وبالتالي تسقط دلالتهما المطابقيّة عن الحجية إلاّ أنّ لهذين الخبرين مدلولا إلتزاميّا وهو عدم استحباب صلاة الجمعة ، فهنا نقول : إن هذا المدلول الالتزامي وإن كان

ص: 136

ناشئا عن المدلول المطابقي لكلا الخبرين إلاّ أنّ ذلك لا يقتضي سقوطه عن الحجيّة بعد سقوط المدلول المطابقي للخبرين - بسبب التعارض - إذ أنّه من الممكن جدا أن تكون الحجية المجعولة للمدلول الالتزامي مستقلة عن الحجية المجعولة للمدلول المطابقي لكلا الخبرين بحيث يكون الملاك في جعل الحجية للمدلول الالتزامي هو كاشفيّته عن واقع متعلّقه وهو عدم استحباب صلاة الجمعة.

وبهذا البيان اتّضح عدم صحّة الدليل الأوّل على التبعيّة في السقوط.

الدليل الثاني : وحاصله أنّ المدلول الالتزامي دائما يكون مساويا للمدلول المطابقي وذلك لأن المدلول المطابقي إنما يكشف عن خصوص الحصّة الملازمة له لا أنه يكشف عن طبيعي اللازم ، فمثلا عندما يخبر المخبر عن غرق زيد فإنه وإن كان لازمه موت زيد إلاّ أن هذا اللازم بسعته ليس منكشفا ومدلولا التزاميا لهذا الخبر بل أن المدلول الالتزامي لهذا الخبر هو موت زيد عن الغرق لا موت زيد مطلقا ولو بموجب آخر كالاحتراق فإنّ ذلك خارج عن مدلول الخبر الالتزامي إذ أنّ ذلك من شؤون واقع اللازم ، حيث إن اللازم في الواقع لغرق زيد هو طبيعي الموت إلاّ أن ذلك خارج عن محل الكلام إذ أنّ محل الكلام هو المدلول الالتزامي للخبر ونحن بالوجدان نجد أنّ الإخبار بغرق زيد لم يكشف عن أكثر من موت زيد بالغرق.

وإذا تمّت دعوى التساوي بين المدلول المطابقي والالتزامي فهذا يعني أنّ العلم بسقوط الحجية عن المدلول المطابقي علم بسقوطها عن الالتزامي لعين ما ذكرناه في القسم الأوّل.

ص: 137

المطلب الرابع: وفاء الدليل بدور القطع الموضوعي

ذكرنا في بحث الدليل الشرعي أنّه ينقسم إلى أدلة محرزة وأدلة عملية وأنّ الأدلة المحرزة تارة تكون قطعية وأخرى ظنية وقلنا أيضا إنّ الأدلة القطعية الطريقية صالحة بذاتها لتنجيز أو تعذير ما تكشف عنه من أحكام.

كما ذكرنا أيضا أن الأدلة الظنية المحرزة - التي قام الدليل القطعي على حجيّتها - صالحة لإثبات مدلولاتها بمعنى أنها إذا كشفت عن حليّة شيء فإنها تكون معذّرة أي نافية لمسؤولية المكلّف تجاه ما كشفت عنه من حكم ترخيصي لو اتّفق مخالفة مفادها للواقع وبمعنى أنها مؤكدة أو منجّزة إذا كان مدلولها وجوب شيء أو حرمة شيء فهي مؤكدة بناء على مسلك حق الطاعة - والذي هو الاحتياط العقلي - ومنجزة بناء على مسلك قبح العقاب بلا بيان - والذي هو البراءة العقلية - فهي بناء على المسلك الثاني مثبتة لمسؤولية المكلّف تجاه الحكم المنكشف بها ، وأمّا بناء على مسلك الاحتياط العقلي فدور الأمارة المثبتة للتكليف ينحصر في تأكيد ما يحكم به العقل من لزوم الاحتياط.

كما ذكرنا أيضا أن الأصول العملية المقرّرة للوظيفة في ظرف الشك

ص: 138

منجّزة أو معذّرة بمعنى أنها مثبتة للتكليف على عهدة المكلّف أو نافية للمسؤولية عن التكليف.

كل ذلك ذكرناه مفصّلا في بحوث سابقة وأشرنا إليه هنا لدخالته في فهم المطلب.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نقول : إن كل هذه الأدلة التي استعرضناها تشترك في الكشف أو في إثبات الأحكام لموضوعاتها دون أن يكون لها دخالة في موضوعات هذه الأحكام ، فدور هذه الأدلّة دور الواسطة في إثبات الأحكام لموضوعاتها ، ودورها بعبارة أخرى دور الدليليّة على ثبوت الأحكام لموضوعاتها.

وهذا هو معنى طريقيّة هذه الأدلة للأحكام الشرعية غاية ما في الأمر أنّها قد تكون طريقا للكشف عن الواقع إمّا بكشف تام أو بكشف ناقص ، وهذه هي الأدلة المحرزة ، وقد تكون طريقا للتعرّف على الوظائف الشرعيّة المقرّرة في ظرف الشك ، وهذه هي الأصول العمليّة.

ومن هنا نصل إلى ما هو الغرض من عقد هذا المطلب وهو البحث عن دور آخر للأدلة ، وهذا الدور هو قيام الأدلة مقام القطع الموضوعي.

ولتوضيح هذا الدور للأدلّة نقول : إنّه إذا ثبت عن الشارع أنه جعل القطع موضوعا لحكم من الأحكام الشرعيّة فهل أنّ هذه الأدلة تصلح لتحقيق موضوع هذه الأحكام التي جعل القطع موضوعا لها أو لا؟

ونذكر لذلك مثالا ونطبّق عليه جميع أقسام الأدلة ، لو قال المولى : « المرأة المقطوع بكونها في العدة يحرم عليك الزواج منها » ، فالحكم في هذه المسألة الشرعية ( وهو الحرمة ) قد ترتّب على موضوع مكوّن من جزئين ،

ص: 139

الأول : « المرأة » والثاني : « المقطوع بكونها في العدّة » ، فالقطع بكون المرأة في العدة قد جعل جزءا في موضوع الحرمة وهذا هو القطع الموضوعي - على ما بيّناه في محلّه - فهنا نبحث عن كيفيّة تحقّق موضوع الحرمة - والذي هو القطع بكون المرأة في العدّة - إذ لا بدّ من تنقّحه وتحقّقه في رتبة سابقة على الحكم كما هو الحال في سائر موضوعات الأحكام ، فنقول :

إنّ المتصور فيما يحقّق موضوع الحرمة هو أحد أدلة ثلاثة :

الأول : الأدلة القطعية الطريقية.

الثاني : الأدلة الظنية المحرزة.

الثالث : الأدلة العملية ( الأصول العملية ).

أمّا الأول : وهو الدليل القطعي الطريقي ، فكيفيّة تحقيقه لموضوع الحرمة هو أن يحصل القطع للمكلّف بأن هذه المرأة في العدة ، وهنا لا إشكال في تحقّق موضوع الحرمة وبه يترتّب الحكم وهو حرمة الزواج من هذه المرأة ؛ وذلك لأنه لمّا كان موضوع الحرمة هو القطع بكون المرأة في العدّة فذلك يعني أنّه متى ما حصل قطع للمكلّف بكون هذه المرأة في العدّة فقد تحقّق موضوع الحرمة إذ الموضوع للحرمة هو القطع وقد حصل.

وهذا هو معنى قيام القطع الطريقي مقام القطع الموضوعي ، فكما أن القطع الطريقي صالح للكشف عن ثبوت الأحكام لموضوعاتها ، كذلك هو صالح للكشف عن تحقّق الموضوعات خارجا ، فهو صالح للكشف عن دخول الوقت الذي هو موضوع لوجوب الصلاة ، وصالح للكشف عن ثبوت هلال شهر رمضان الذي هو موضوع لوجوب الصوم ، فكذلك هو صالح للقيام مقام القطع الموضوعي الذي هو عبارة ثانية عن صلاحيّته

ص: 140

للكشف عن الموضوعات ، إذ أنه لمّا كان القطع بكون المرأة في العدّة موضوعا للحرمة ، فالقطع الطريقي صالح للكشف عن تحقق هذا الموضوع وذلك عن طريق حصول القطع للمكلّف بأنّ هذه المرأة في العدّة ، وحينما يحصل هذا القطع للمكلّف يجد نفسه مذعنة بتحقّق موضوع الحرمة خارجا.

وأمّا الثاني : وهو الدليل الظني المحرز والمعبّر عنه بالأمارات ، وكيفية تحقيقه لموضوع الحرمة - وهو القطع بكونها في العدة - هو أن تقوم بيّنة مثلا على أن هذه المرأة في العدّة ، وهنا وقع البحث عند الأعلام في صلاحيّة مثل البيّنة لتنقيح وتحقيق موضوع الحرمة - والذي هو القطع بكون المرأة في العدّة - والبيّنة لا تحقّق القطع بل أكثر ما تحقّقه هو الظن ، نعم الأدلة الظنيّة المحرزة قام الدليل القطعي على حجيتها ، إلاّ أن القدر المحرز من قيام الدليل هو حجيّتها وتنجيزها أو تعذيرها لما تكشف عنه من أحكام شرعيّة ، وهذا هو معنى قيام الأمارات مقام القطع الطريقي ، أما قيامها مقام القطع الموضوعي وتحقيقها لموضوع حكم أخذ في موضوع ذلك الحكم القطع بشيء من الأشياء ، فهذا يحتاج إلى دليل مستقل.

وهذا البحث هو المتصدّي لهذه المهمّة أي مهمة إثبات أو نفي قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي بعد الفراغ عن قيامها مقام القطع الطريقي كما بيّنّا ذلك.

فنقول : إن الأعلام « رضوان اللّه عليهم » قد اختلفوا في ذلك ومنشأ الخلاف الواقع بينهم هو الاختلاف فيما هو المراد من القطع المأخوذ موضوعا في حكم من الأحكام.

ص: 141

وبعبارة أخرى : ان الاختلاف في تحديد معنى القطع الموضوعي هو المؤثر في ما هو المبنى في المقام.

وهنا يوجد اتجاهان :

الاتجاه الأوّل : المراد من القطع المأخوذ في موضوع حكم من الأحكام هو الحجة وليس القطع إلا واحدا مما له الحجة ، وليس هو المقصود بالذات بل هو كل ما يصلح للتنجيز والتعذير ، فكما أن القطع صالح للتنجيز والتعذير كذلك الأمارة ، فتكون الأمارة محقّقة أيضا لموضوع حكم أخذ فيه القطع إذ المراد من القطع هو ما له الحجية ، والأمارة مما لها الحجية ، وما القطع الذي ذكر في موضوع الحكم إلا مثالا لما له الحجيّة.

وبناء على هذا المبنى تكون الأمارات صالحة للقيام مقام القطع الموضوعي ، ففي مثالنا - وهو أن المرأة المقطوع بكونها في العدّة يحرم الزواج منها - يمكن للأمارة أن تحقّق موضوع هذا الحكم وأن تثبت أنّ هذه المرأة في العدّة ، وذلك لما قلنا من أن القطع المأخوذ في هذا الحكم ما هو إلاّ مثال للحجية ، والحجية هي موضوع هذا الحكم واقعا ، فكأنما المولى قال : المرأة التي قامت الحجة على أنها في العدّة يحرم الزواج منها.

الاتجاه الثاني : أن المراد من القطع المأخوذ في موضوع حكم من الأحكام هو الكاشف التام عن متعلّقه.

وبعبارة أخرى : إن القطع الذي جعل موضوعا للحكم هو القطع الحقيقي والذي لا يكون معه شك ، وبناء على هذا الفهم من معنى القطع المأخوذ في الموضوع لا تكون الأمارات صالحة لتنقيح الموضوعات المأخوذ فيها القطع وذلك لأنها لا تبلغ مرتبة العلم الذي لا يكون معه

ص: 142

شك ، فهي لا تخرج عن حيّز الظن ، ففي مثالنا لا تكون البيّنة صالحة لتحقيق موضوع حرمة الزواج من هذه المرأة ، إذ أن البيّنة لا تبلغ مرتبة العلم الذي ليس معه شك في حين أن موضوع الحرمة هو العلم بكون المرأة في العدّة.

نعم لو استظهرنا من الأدلة التي دلّت على حجيّة الأمارة أنّ الأمارة منزّلة منزلة العلم تعبّدا بحيث يكون هذا التنزيل التعبّدي ملغيا لمقدار النقص في كاشفية الأمارة ، ففي هذه الحالة لا إشكال في صلوح الأمارة لتنقيح الموضوع المأخوذ فيه القطع أي قيامها مقام القطع الموضوعي في ذلك.

ومن الواضح أنّ هذا التنزيل يحتاج إلى لسان خاص ولا يكفي فيه جعل الأمارة حجة أي أن قيام الدليل القطعي على حجيّة الأمارة لا يفي بإثبات كون الأمارة منزّلة منزلة القطع ، إذ أن جعل الأمارة حجة لا يعني أكثر من كون الأمارة صالحة للتنجيز والتعذير أما أنها صالحة للقيام مقام ما أخذ القطع فيه فليس لهذه الأدلة المثبتة للحجيّة دلالة عليه ، فنحتاج لإثبات هذه الخصوصيّة الزائدة - وهي تنزيل الأمارة منزلة العلم - إلى لسان خاص يثبت التنزيل عرفا كما في تنزيل الطواف في البيت منزلة الصلاة حيث إن مبرّر هذا التنزيل هو هذه الرواية « الطواف بالبيت صلاة » (1) إذ أنّ هذه الرواية يستفاد منها التنزيل عرفا.

ص: 143


1- مستدرك الوسائل : الباب 38 من أبواب الطواف الحديث 2 ، سنن النسائي : 5 / 222 ، سنن الدارمي : 2 / 66 الحديث 1847

والمتحصّل مما ذكرنا أن قيام الأمارة مقام القطع الموضوعي مبنيّ على تحديد المراد من القطع المأخوذ في الموضوع ، فبناء على الاتجاه الأول تكون الأمارة صالحة للقيام مقام القطع الموضوعي ، وعلى الثاني لا تكون الأمارة صالحة لذلك إلاّ أن يستفاد من دليل حجّيتها التنزيل أو يستفاد من دليل آخر غير دليل الحجيّة كأن يقوم دليل آخر على تنزيل الأمارة منزلة العلم بعد الفراغ عن ثبوت الحجيّة لها.

وأمّا الثالث : وهو الأدلة العمليّة فلم يتعرّض المصنّف لها ولا بأس ببيان كيفيّة قيامها مقام القطع الموضوعي ، وذلك عن طريق الرجوع إلى المثال السابق ، فقول المولى : « المرأة المقطوع بكونها في العدّة يحرم الزواج منها » حكم شرعي ترتّب على موضوع أخذ في هذا الموضوع القطع ، فلو كنّا على يقين سابق بكون هذه المرأة في العدّة فهنا يجري الاستصحاب ، فيقع الكلام في هذا الاستصحاب هل هو كاف في تحقيق موضوع الحرمة أو لا؟ فلو كان كافيا لذلك فهذا يعني قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي ، وأما إذا لم يكن كافيا لذلك فهو يعني عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

ص: 144

المطلب الخامس: إثبات الدليل لجواز الإسناد

قلنا في بحث جواز الإسناد : إن المراد من جواز الإسناد هو جواز إضافة ونسبة الحكم المنكشف إلى المولى ، فلو كشف الدليل عن وجوب شيء أو حرمة شيء فإن جواز الإسناد يعني صحة إضافة ونسبة هذا الحكم إلى المولى بأن نقول إن المولى قد أوجب هذا وحرّم هذا.

والمتصدّي لإثبات جواز الإسناد وعدمه هو علم الفقه ؛ إذ أن البحث في هذه المسألة إنما هو عن حكم فعل من أفعال المكلّفين ، وبيان أحكام أفعال المكلّفين إنما هو من وظائف علم الفقه لا علم الأصول ، إذ قلنا إن الذي يبحث عنه في علم الأصول إنما هو الأدلة العامّة التي يمكن أن تقطع طريقا في استنباط الأحكام الشرعيّة.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة ، نقول : إن إسناد الحكم إلى الشارع يتصوّر له ثلاث حالات :

الحالة الأولى : الإسناد بغير علم ، كأن ينسب المكلّف حكما إلى الشارع دون أن يكون له أيّ مستند على ذلك.

وفي مثل هذه الحالة لا إشكال في حرمة الإسناد وقد تصدّى الفقهاء

ص: 145

( رضوان اللّه عليهم ) للاستدلال على هذا الحكم.

الحالة الثانية : الإسناد بعلم ، وهذه الحالة هي القدر المتيقّن من جواز الإسناد وقد تحدّثنا عنها في بحث سابق.

الحالة الثالثة : الإسناد اعتمادا على دليل ظنّي محرز « الأمارة » إلا أنه مما دل الدليل القطعي على حجّيته ، ويمكن التفصيل في هذه الحالة بين إسناد نفس الحجية إلى الشارع المقدّس كأن نقول إن الشارع قد جعل الحجية لخبر الثقة وبين إسناد الحكم المنكشف بهذا الدليل إلى الشارع المقدّس.

أمّا الأول : وهو إسناد نفس الحجية إلى الشارع ، فهو داخل في الحالة الثانية إذ أن إسناد الحجيّة إلى الشارع - وأنّ هذا حكم ظاهري قد جعل الشارع له الحجية - إسناد بعلم لأنّ فرض الكلام أنّ هذا الدليل الظني مما دل الدليل القطعي على حجيّته.

وأمّا الثاني : وهو إسناد الحكم المنكشف بالدليل الظني إلى الشارع ، كأن يسند حرمة العصير العنبي - التي كشفت عنها الأمارة - إلى الشارع.

وهذا المقدار هو الذي وقع فيه الكلام بين الأعلام ( رضوان اللّه تعالى عليهم ) ، فمن قال بعدم جواز الإسناد أرجع هذه الحالة إلى الحالة الأولى - وهي الإسناد بغير علم - بدعوى أنها لا تنقّح موضوع الحكم بجواز الإسناد والذي هو القطع بالحكم الذي يراد إسناده إلى المولى حيث قلنا في بحث جواز الإسناد إن موضوع جواز الإسناد هو القطع بكون الحكم صادرا عن المولى ، فالقطع قد جعل موضوعا لجواز الإسناد ، والأمارة لا تحقق هذا الموضوع ، إذ أن جعل الحجية لها لا يفيد أكثر من جواز الاستناد

ص: 146

إليها في مقام العمل ، وهذا هو معنى جعل المنجزيّة والمعذريّة للأمارة - كما قلنا ذلك في بحث جواز الإسناد -.

وفي مقابل هذا القول ، ذهب بعض الأعلام إلى جواز الإسناد اعتمادا على الأمارة ، وذلك لأن الأمارة تقوم مقام القطع الموضوعي ، إذ أن المراد من القطع المأخوذ في موضوع جواز الإسناد هو مطلق الحجّة ، وما القطع إلاّ مثال للحجّة ، فالمأخوذ واقعا في موضوع جواز الإسناد هو الحجة الأعم من الدليل القطعي أو الدليل الظني الذي دلّ الدليل القطعي على حجّيته ، أو بأن يقال بأنّ القطع المأخوذ في موضوع جواز الإسناد وإن كان هو القطع الحقيقي ولكن لمّا كان دليل الحجية للأمارة قد نزّل الأمارة منزلة العلم تعبّدا فإنّ هذا يصلح أن يكون مبرّرا لصلوح الأمارة لتنقيح وتحقيق موضوع جواز الإسناد ، فكما أنّ القطع الطريقي ينقّح موضوع جواز الإسناد فكذلك الأمارة بناء على التنزيل. وبهذا تقوم الأمارة مقام القطع الموضوعي وتكون مصحّحة لجواز الإسناد.

وهناك حالة رابعة لإسناد الحكم للشارع أهملها المصنّف رحمه اللّه وهي الإسناد اعتمادا على الأدلّة العمليّة كما لو أسند الحكم إلى الشارع اعتمادا على الاستصحاب ، وهنا يأتي التفصيل السابق أيضا بين إسناد نفس حجية الاستصحاب إلى الشارع ، وهذا لا إشكال في جوازه وذلك لأنّ إسناد نفس حجية الاستصحاب إلى الشارع إسناد بعلم لقيام الدليل القطعي على حجيّة الاستصحاب.

ويبقى الكلام في جواز إسناد نفس الحكم المستصحب إلى الشارع ، كإسناد وجوب الجمعة المستفاد من الاستصحاب إلى الشارع.

ص: 147

وهنا يأتي نفس الكلام السابق من أنّ المراد من القطع هو الحجة أو القطع الحقيقي ، فإن كان الأوّل فالاستصحاب مصحّح لجواز الإسناد ، وإن كان الثاني فالاستصحاب لا يصحّح الإسناد إلاّ إذا قلنا بأنّ دليل الحجية للاستصحاب قد نزّل الاستصحاب منزلة العلم. والبحث في محلّه.

هذا تمام الكلام في المبادئ التي أراد المصنّف إيرادها قبل بحث الأدلة المحرزة.

والمراد من المبادئ في المقام هي : المبادئ التصديقيّة لهذا العلم ، والتي هي في مقابل المبادئ التصورية ، وقد بيّنّا معنى المبادئ التصوّرية في بحث موضوع علم الأصول.

أمّا المبادئ التصديقية لكل علم فهي عبارة عن المقدّمات التي يكون تحريرها نافعا في الاستدلال على مسائل ذلك العلم ، فتكون هذه المبادئ بمثابة الأصول الموضوعية التي يرجع إليها الباحث عن ذلك العلم لتحصيل الوثوق بنتائج تلك المسائل.

وبتعبير آخر : هذه المبادئ تبحث لغرض إيقاعها بعد ذلك في كبرى أو صغرى أقيسة ذلك العلم.

وتطبيق ما ذكرنا على المقدّمات الخمس التي بحثناها يتّضح بالتأمّل ، فمثلا قاعدة أنّ الأصل عند الشك في الحجية هو عدم الحجية يمكن الاستفادة منها في بحث حجية قول اللغوي أو حجية خبر الثقة في الموضوعات ، وكذلك لو شككنا في إطلاق حجية الاستصحاب في حالات الشك في المقتضي ، وهكذا.

ص: 148

الدليل الشرعي

اشارة

ويقع البحث عنه في مباحث :

المبحث الأول : في تحديد دلالات الدليل الشرعي والذي - كما قلنا - يبحث عن الحد الأصغر لقياس نتيجته الدليل الشرعي.

المبحث الثاني : في إثبات صغرى الدليل الشرعي : وهو - كما قلنا - ما يبحث عن الأدلّة المحقّقة لصغرى قياس نتيجته الدليل الشرعي.

المبحث الثالث : في إثبات حجيّة الدلالة في الدليل الشرعي وهو - كما قلنا - البحث عن كبرى قياس نتيجته الدليل الشرعي.

ص: 149

ص: 150

المبحث الأوّل: تحديد دلالات الدليل الشرعي

اشارة

1 - الدليل الشرعي اللفظي

2 - الدليل الشرعي غير اللفظي

ص: 151

ص: 152

الدليل الشرعي اللفظي
تمهيد :

قلنا - فيما سبق - إن الدليل الشرعي اللفظي هو : عبارة عن الخطابات الصادرة عن الشارع المقدّس ، كالقرآن الكريم ، وكالأحاديث الواصلة لنا عن المعصومين علیهم السلام .

وهذا النوع من الأدلّة الشرعيّة له ارتباط وثيق باللغة العربية وبما يحكمها من ضوابط وأصول. ومنشأ هذا الارتباط هو أنّ مادة هذا الدليل الشرعي هي الألفاظ العربية إذ أنّ مدار البحث في الدليل الشرعي اللفظي هو استنطاق الآيات والروايات لغرض التعرّف على الأحكام الشرعيّة المودعة في هذه المركّبات اللفظية فلا بدّ للممارس لعملية الاستنباط أن يكون متوفّرا على آلة الدخول في هذا المعترك الشائك. وهذا ما يبرر البحث عن مجموعة من الضوابط اللغوية التي تساهم في معرفة ما للألفاظ من علاقة بالمعاني ، كما تساهم في تشخيص الظهور وعلاقة هذا الظهور باللفظ أو بمناسبات الحكم والموضوع مثلا ، كما أنها تساعد على استكشاف الخلل الذي قد يتّفق وقوعه في بعض الروايات نتيجة نقلها بالمعنى أو وقوع التصحيف الناشئ من اشتباه النسّاخ.

فالتعرّف على ضوابط اللغة العربية وبالخصوص ما سنطرحه منها مهم جدا للممارس لعملية الاستنباط.

ص: 153

الظهور التصوّري والظهور التصديقي :
اشارة

يمكن تقسيم دلالات الألفاظ على المعاني إلى ثلاث دلالات :

الأولى : الدلالة التصوّريّة :

وهي الدلالة التي توجب خطور معنى اللفظ في الذهن ، وهذا النوع من الدلالات لا يتوقّف على كون المتلفّظ بها عاقلا فضلا عن أن يكون ملتفتا ، بل إنّ هذه الدلالة تتحقّق بمجرّد صدور اللفظ من أي لافظ حتى وإن كان ببغاء ، أو كان من غير ملتفت كأن كان نائما ، أو ملتفتا ولكنه لم يقصد إخطار هذا المعنى من اللفظ بل أراد إخطار معنى آخر كما لو أراد من اللفظ غير ما وضع له كأن يقول : « زرت في هذا اليوم ثعلبا » فإنّ السامع وإن كان يعلم بأنّ اللافظ لم يرد من الثعلب معناه الحقيقي ، ولكن مع ذلك ينخطر في ذهنه معنى الثعلب.

وهذه الدلالة تسمّى أيضا بالدلالة الوضعيّة ؛ وذلك لأنّ منشأ خطور المعنى من اللفظ هو العلم بأنّ هذا اللفظ وضع لهذا المعنى ؛ فلذلك لا يحصل هذا الخطور الذهني من اللفظ ممن لا يعلم بالوضع ، فالجاهل باللغة العربية لا يحصل له تصوّر معنى « الماء » من إطلاق لفظ « الماء ».

الثانية : الدلالة التصديقيّة :

وهي التي توجب أيضا خطور معنى اللفظ في الذهن إلا أنها توجب شيئا آخر بالإضافة إلى ذلك وهو أن المتكلّم أراد إخطار هذا المعنى في ذهن السامع ، فهي إذن تضيف إلى الدلالة التصورية معنى زائدا ، وهذا هو المبرّر لاختلافها عن الدلالة التصوريّة.

ص: 154

وبهذا يتّضح أن الدلالة التصديقيّة تتوقّف على كون المتلفّظ عاقلا وملتفتا إذ أنه لا يمكن استظهار كون المتكلّم مريدا لإخطار المعنى من اللفظ ما لم يكن التفاته محرزا.

ومن هنا تعرف أن هذا النحو من الدلالة يتوقّف على مقدّمتين :

المقدّمة الأولى : هي علم السامع بالوضع ، وهذه هي جهة الاشتراك بينها وبين الدلالة التصوّرية.

المقدّمة الثانية : العلم بأنّ المتكلّم عاقل ملتفت وهذه هي جهة الافتراق عن الدلالة التصوّرية.

إذن حقيقة الدلالة التصديقيّة هو أنها دلالة حالية مستفادة من ظهور حال المتكلّم.

ومثالها أن يأتي المتكلّم الملتفت بلفظ الأسد ، فإنّ السامع حينئذ يتصوّر معنى الأسد ويعرف أنّ المتكلّم قصد إخطار معنى الأسد في ذهن السامع.

وتسمّى هذه الدلالة بالتصديقيّة الأولى ، وتسمّى أيضا بالدلالة الاستعمالية ، والتي هي بمعنى استعمال اللفظ لغرض إخطار المعنى في ذهن السامع.

الثالثة : الدلالة التصديقية الثانية :

وهي التي تكون متوفّرة على الدلالتين الأولى والثانية بالإضافة إلى دلالة ثالثة وهي قصد المتكلم الحكاية عن الواقع الأعم من الواقع الخارجي أو واقع نفسه ، فحينما يقول المتكلّم الملتفت الجاد « زيد فقير » فهو يحدث في ذهن السامع ثلاث دلالات :

ص: 155

الأولى : تصور معنى « زيد » ، وتصور معنى « فقير » وتصور النسبة بين « زيد و « فقير ».

الدلالة الثانية : هي أن المتكلم استعمل هذه الألفاظ لغرض إخطار هذه المعاني في ذهن السامع.

والدلالة الثالثة : هي أن المتكلم قاصد الحكاية عن واقع خارجي هو « فقر زيد » ، وهذه هي الدلالة التصديقية الثانية.

وقد يكون المتكلّم قاصدا الحكاية عن واقع نفسه كما في الجمل الإنشائيّة ، كأن يقول المتكلّم الملتفت الجاد « أكرموا العلماء » فإنّ هذه الجملة متوفّرة على الدلالتين الأولى والثانية ، بالإضافة إلى دلالة ثالثة وهي قصد المتكلم الحكاية عن واقع نفسه ، وهو أن له إرادة في إكرام العلماء.

وهذه الدلالة تفترق عن الدلالتين - بالإضافة إلى ما ذكرناه - بأنها لا تتعقل إلا في الجمل التركيبية التامة إذ أن قصد الحكاية عن الواقع الخارجي أو واقع النفس لا يكون إلا بجملة مشتملة على موضوع وحكم ويكون الحكم فيها منتسبا إلى الموضوع.

وهذا بخلاف الدلالة التصورية وكذلك الدلالة التصديقية الأولى فإنهما يمكن تعقلهما في الجمل التركيبية التامة وكذلك يمكن تعقلهما في المفردات اللفظية غير الواقعة في إطار جمل تركيبية تامة ، فلفظ الماء إذا صدر عن غير ملتفت فالدلالة تصورية ، وإذا صدر من ملتفت فالدلالة تصديقية أولى ، وكذلك لو قال « زيد فقير » فإذا صدرت هذه الجملة من متكلّم نائم أو غافل فهي تصورية وإن صدرت من ملتفت قاصد لإخطار هذه الجملة في ذهن السامع إلا أنه غير جاد وغير قاصد الحكاية والإخبار عن الواقع

ص: 156

بل كان هازلا أو كاذبا ، فهذه دلالة تصديقية أولى ، والمسماّة بالدلالة الاستعمالية.

وبهذا البيان يتّضح معنى الدلالة التصديقية الثانية والتي تسمّى بالدلالة الجدّية ، واتّضح أيضا أن هذه الدلالة لا تستفاد من حاق اللفظ ، بل إنها مستفادة منه ومن شيء آخر وهو العلم بحال المتكلم وأنه جاد فيما يقول وقاصد للحكاية عن الواقع.

والمتحصّل مما ذكرنا أن الدلالة التصورية دلالة لفظية ناشئة عن العلم بالأوضاع اللغوية ، والدلالة التصديقية الأولى والثانية دلالة حالية مستفادة من معرفة حال المتكلّم فإن كان المتكلّم مريدا لإخطار المعاني من الألفاظ فحسب فهي دلالة تصديقية أولى ، وإن كان مريدا - بالإضافة إلى ذلك - الحكاية عن الواقع وجادّا في حكايته فالدلالة تصديقيّة ثانية.

الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدّمة
اشارة

ذكرنا في البحث السابق أن الدلالة التصورية هي الدلالة الموجبة لتصوّر المعنى عند إطلاق اللفظ ، فاللفظ بمثابة السبب لخطور المعاني في الذهن ، وهنا نتساءل عن ما هو المنشأ لهذه السببية الواقعة بين الألفاظ ومعانيها وما هو السرّ في هذه العلاقة.

وهنا نشأت مجموعة من النظريات لغرض الكشف عن منشأ هذه العلاقة.

النظرية الأولى : السببيّة الذاتية :
اشارة

هي أن العلاقة الواقعة بين اللفظ والمعنى هي علاقة السببيّة الذاتية ،

ص: 157

فاللفظ سبب ذاتي لوجود المعنى.

وبعبارة أخرى : إن المعنى لازم ذاتي للفظ ، واللازم الذاتي - كما ذكرنا في بحث القطع - هو المحمول الخارج عن الذات اللازم لها بحيث يستحيل تخلّفه عنها ، فعلاقة اللفظ بالمعنى كعلاقة النار بالحرارة ، فكما أنّ الحرارة لازم ذاتي للنار ، كذلك المعنى لازم ذاتي للفظ ، وهذا يقتضي استحالة تخلّف انخطار المعنى عند إطلاق اللفظ لأن ذلك خلف الذاتيّة الواقعة بينهما.

والجواب على هذه النظريّة :

هو أننا بالوجدان نرى أن انخطار المعاني من الألفاظ يحتاج إلى اكتساب ، فغير العالم بالأوضاع اللغوية لا ينقدح في ذهنه المعنى عند إطلاق لفظه وما ذلك إلا لأن تصوّر المعاني عن الألفاظ مفتقر إلى دراسة الأوضاع اللغوية وهذا ما ينافي الذاتية المدعاة ، إذ أن الذاتية تقتضي كفاية تصوّر اللفظ لانقداح المعنى في الذهن ، كما هو الشأن في سائر اللوازم الذاتية بالنسبة لملزوماتها.

وبهذا اتّضح فساد هذه النظرية التي تبنّاها مجموعة من الأدباء.

النظريّة الثانية : السببية الوضعية الاعتبارية :
اشارة

إنّ العلاقة الواقعة بين اللفظ والمعنى نشأت عن الأوضاع اللغوية وذلك أن الواضع يضع لفظا بإزاء معنى من المعاني فيكون هذا الوضع سببا في نشوء هذه العلاقة وانتقال ذهن السامع إلى المعنى حين إطلاق اللفظ.

وإذا كانت العلاقة ناشئة عن الوضع فهذا يعني أن هذه العلاقة اعتباريّة وليس لها واقع وراء اعتبار الواضع.

ومع اتّضاح هذا نقول : إنّ مجموعة من الأعلام « رضوان اللّه تعالى

ص: 158

عليهم » تبنّوا هذه النظرية وأن منشأ هذه العلاقة بين اللفظ والمعنى هو اعتبار الواضع إلا أنهم اختلفوا في كيفيّة الاعتبار الذي أنشأ العلاقة ، فهل هو اعتبار السببيّة أو اعتبار الآلية أو أنه اعتبار اللفظ علامة على المعنى.

ولتوضيح هذه المسالك الثلاثة لا بدّ من إفراد كل واحد منها ببيان.

المسلك الأول :

والذي هو مسلك السببيّة وهو عبارة عن أنّ الواضع يعتبر اللفظ سببا في تصوّر المعنى ، فكأنّ اللفظ علّة لانخطار المعنى في الذهن والمعنى المتصوّر عن اللفظ معلول لها ، غايته أنها عليّة ومعلوليّة اعتباريّة.

ويمكن إيضاح ذلك ببعض الاعتبارات الشرعيّة مثل أن يقول المولى : ( إذا قالت المرأة للرجل زوّجتك نفسي ، وقال الرجل للمرأة قبلت الزواج ) فإنّ المرأة بهذا الكلام تصبح زوجة والرجل يصبح زوجا لها ، فكأنّما المولى اعتبر هذه الألفاظ سببا لتحقّق الزوجيّة ، فكذلك المقام فإنّ الواضع إذا اعتبر اللفظ سببا في تصوّر المعنى فإن ذلك يقتضي تصوّر المعنى عند إطلاق اللفظ إذ أنّ تصوّر المعنى يصبح مسبّبا عن اللفظ.

المسلك الثاني :

والذي عبّرنا عنه بمسلك الآليّة ، وهو عبارة عن اعتبار الواضع اللفظ آلة في تفهيم المعنى.

والفرق بين الآلية والسببيّة هو : أنّ الآلة ليست أكثر من الوسيلة التي يتوصّل بها إلى الغرض ، فهي كالمنشار بالنسبة للنجار ، فكما أنّ المنشار قد توجد وبإزائها الخشبة ومع ذلك فهي لا تنشر الخشبة إلاّ أن يأتي النجار فينشر الخشبة بها ، فكذلك اللفظ ليس له أن يخطر المعنى في الذهن إلاّ أن

ص: 159

يستعمله مستعمل فعند ذلك يحصل الانخطار.

وهذا بخلاف السببية فإنّ السببية تقتضي تحقّق المسبّب بمجرّد وجود سببه التام. ومن هنا فإنّ اللفظ يوجب تصوّر المعنى مطلقا بناء على السببية ولا يوجبه بغير الاستعمال بناء على الآلية.

المسلك الثالث :

والذي عبّرنا عنه بمسلك العلاميّة ، والذي هو عبارة عن اعتبار الواضع اللفظ علامة على المعنى فهو بمثابة الإشارات التي يحدثها الأخرس لغرض تفهيم مراداته وكالعلامات الموضوعة على الطرقات لبيان أنّها مغلقة أو سالكة.

وباتّضاح هذه المسالك الثلاثة ، نجد أنها وإن كانت تختلف في بيان كيفيّة الاعتبار إلاّ أنّها تشترك في أنّ المنشأ للعلاقة بين اللفظ والمعنى هو اعتبار الواضع.

والجواب على هذه النظريّة بتمام مسالكها :

إنّ هذه النظريّة تفترض أن المنشأ لحدوث العلاقة بين اللفظ والمعنى هو الاعتبار ، والاعتبار ليس له واقع إذ أنّه ليس له وجود وراء اعتبار المعتبر في حين أننا نرى وبالوجدان أنّ العلاقة بين اللفظ والمعنى علاقة واقعيّة حتى لو قطعنا النظر عن الاعتبار والمعتبر ، فلو كانت العلاقة اعتباريّة محضة فإنّ ذلك يقتضي انتهاء العلاقة بمجرّد قطع النظر عن الاعتبار إذ أنّ الاعتبار متقوّم بالالتزام به فلو ألغيناه أو تجاوزناه فإن ذلك يفضي إلى انعدام العلائق الناشئة عنه.

ومن هنا نقول : إنّ هذه النظريّة لم تقف على السر في نشوء هذه

ص: 160

العلاقة الواقعيّة بين اللفظ والمعنى ، إذ أنّ الاعتبار أقصى ما يمكن أن يفسّره هو أن الوضع نشأ عن الاعتبار ، أمّا كيف تحققّت بعد ذلك العلاقة الواقعيّة والتي لا تنتهي بانتهاء وبإلغاء الاعتبار.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّه يمكن تنظير العلاقة الواقعيّة بين اللفظ والمعنى بالماء والحرارة والذي نشأت حرارته عن النار ثم رفعناه عن النار ، فإنّ علاقة النار بالحرارة علاقة واقعيّة كما أنّه لا يمكن تفسير بقاء هذه العلاقة بالنار ، بأن نقول : إن النار هي السبب في بقاء الحرارة للماء إذ أنّ الفرض هو رفع الماء عن النار ومع ذلك بقيت الحرارة للماء على حالها ، ترى ما هو تفسير بقاء الحرارة للماء؟

هذا التفسير هو الذي نبحث عنه في علاقة اللفظ بالمعنى إذ أننا لو سلّمنا أن المنشأ في حصول العلاقة بين اللفظ والمعنى هو اعتبار الواضع إلاّ أنّ ذلك لا يفسّر لنا سرّ بقاء العلاقة على حالها حتى مع رفع اليد عن هذا الاعتبار.

إذن لا بدّ من البحث عن نظرية أخرى تفسّر لنا حقيقة هذه العلاقة الواقعيّة.

النظريّة الثالثة : التعهّد
اشارة

وهذه النظريّة تحتفظ بدعوى أنّ العلاقة بين اللفظ والمعنى نشأت عن الوضع إلاّ أنها تفسّر هذه العلاقة بما يتناسب مع واقعيّتها.

وبتعبير آخر : هذه النظرية تطرح تفسيرا للعلاقة بين اللفظ والمعنى ينسجم مع واقعية هذه العلاقة.

والمراد من التعهّد - والذي جعلته هذه النظرية مبررا للعلاقة بين

ص: 161

اللفظ والمعنى - المراد منه الالتزام والتباني النفساني من الواضع بأن لا يتلفظ بهذا اللفظ إلاّ إذا كان مريدا لتفهيم هذا المعنى ، فيكون قصد تفهيم المعنى هو المبرّر للوضع ولولاه لما نشأ الوضع ولما كان للواضع أيّ غرض في اعتبار لفظ بإزاء معنى.

وبتعبير آخر : لو لا تعلّق الغرض عند الواضع بإبراز مقاصده وحاجاته لما كان ينشأ الوضع ويعتبر ألفاظا دالّة على معان ، فكما أنّ الأخرس يحدث إشارات لتفهيم مقاصده ولو لم يكن له قصد لما أحدث هذه الإشارات فكذلك الواضع لو لا أنّه يحتاج إلى إيصال مقاصده لما أنشأ الوضع ، فهذا إذن هو السرّ في العلاقة الواقعيّة بين اللفظ والمعنى ، إذ أن هذه العلاقة مرتبطة بواقع نفس الواضع وحاجته في إيصال أغراضه ومراداته ، فإذن العلاقة بين اللفظ والمعنى بناء على هذه النظرية ليست جزافية بل لها منشأ يرتبط بواقع النفس ، وهذا الواقع لا يمكن تجاوزه كما هو الحال بناء على مسلك الاعتبار إذ أن تجاوز الاعتبار يكون عن أحد أمرين إما أن يتنازل الواضع عن غرضه في تفهيم مقاصده وهذا إن حصل فهو يعنى انتهاء العلاقة بين اللفظ والمعنى - وهذا ما يؤكد أن منشأ العلاقة هو تعلّق غرض الواضع بتفهيم مقاصده - في حين أنّنا على مسلك الاعتبار نرى بالوجدان عدم انعدام العلاقة برفع اليد عن الاعتبار مما يؤكّد أن الاعتبار ليس هو المبرّر للعلاقة.

الثاني من الأمرين اللذين يتصوّر بهما تجاوز الاعتبار هو أن يكون المتجاوز للاعتبار غير الواضع ، وهذا لا يكون على مسلك التعهّد إذ أنّ كلّ متكلّم واضع كما سيأتي ، نعم هو متصوّر بناء على مسلك الاعتبار ، إذ أنّ

ص: 162

المعتبر قد يكون غير المستعمل.

ومع اتّضاح مسلك التعهّد تتّضح الثمرة المترتّبة بينه وبين مسلك الاعتبار ، فبناء على مسلك التعهّد يكون كلّ متكلّم واضعا ؛ وذلك لأن التعهد - كما قلنا - عبارة عن التباني النفساني بأن لا يتلفّظ بهذا اللفظ إلا إذا كان قاصدا لتفهيم هذا المعنى ، وهذا التباني لا يتصوّر إلا في حالة يكون فيها كل متكلّم واضعا إذ أن المتكلّم إذا لم يكن واضعا فهذا يعني أنه غير ملتزم ومتعهّد وإنما المتعهد غيره وهو خلف الفرض.

أما بناء على مسلك الاعتبار ، فيمكن أن يكون الواضع غير المتكلّم إذ أن الواضع يعتبر اللفظ علامة على المعنى فتنشأ عن ذلك علاقة بين اللفظ والمعنى يستفيد منها كلّ متكلّم.

وهناك ثمرة أخرى مهمّة تترتّب على الفرق بين المسلكين ، وهي : أن الوضع بناء على التعهّد هو الذي ينشأ الدلالة التصديقية الأولى « الاستعمالية » إذ أن الدلالة التصديقية الأولى « كما قلنا » هي ما يكون فيها المتكلّم قاصدا لتفهيم المعنى من اللفظ ، وهذا هو معنى التعهّد المحقّق للوضع ؛ ولذلك لا تتعقّل بناء على مسلك التعهّد الدلالة التصوّرية التي هي مستفادة من حاق اللفظ إذ أن اللفظ بناء على هذا المسلك لا يكشف عن المعنى ما لم يكن المتكلّم متعهّدا باستخدام هذا اللفظ لغرض تفهيم المعنى فاللفظ وحده بناء على التعهّد غير كاف في تحقيق الدلالة ؛ فلذلك ليس عندنا بناء على هذا المسلك إلاّ دلالتان ، الأولى : هي الدلالة التصديقيّة الأولى ، والثانية : هي الدلالة التصديقيّة الثانية.

وأما بناء على مسلك الاعتبار ، فالدلالة التصديقية الأولى ليست

ص: 163

ناشئة عن الوضع بل هي ناشئة عن معرفة حال المتكلّم وأنه ملتفت وقاصد لإخطار المعنى في الذهن ، فالدلالة التصديقية الأولى بناء على هذا المسلك دلالة حالية سياقية ، والذي هو ناشئ عن الوضع بناء على هذا المسلك هو الدلالة التصوّرية حيث إن الدلالة بناء على الاعتبار نشأت عن اعتبار اللفظ مفيدا لتصور المعنى.

الإشكال على مسلك التعهّد :

أورد المصنّف رحمه اللّه على مسلك التعهّد بإيرادين :

الأول : إن مسلك التعهّد لا يستطيع تفسير الاستعمالات المجازيّة والتي يستعمها كل متكلّم إذ أن المتكلّم إذا كان بانيا على عدم الإتيان بهذا اللفظ إلا إذا كان مريدا لتفهيم هذا المعنى فهذا يعني أن استعمالاته المجازية تكون على خلاف ما تعهّد به إذ أنّه في الاستعمال المجازي يأتي باللفظ ولا يكون قاصدا لتفهيم ذلك المعنى - الذي تعهّد بأن لا يأتي بهذا اللفظ إلاّ لتفهيمه - بل يكون قاصدا لتفهيم معنى آخر.

وقد تقول إن المتكلّم وإن كان متعهّدا بألاّ يأتي بهذا اللفظ إلا إذا كان قاصدا لتفهيم هذا المعنى إلا أنه ملتزم ضمنا بأن ذلك التعهّد في غير حالات الاستعمال المجازي بأن يقول هكذا : « أنا متعهّد بأن لا آتي بهذا اللفظ إلاّ إذا كنت مريدا لتفهيم هذا المعنى ما عدا حالات الاستعمال المجازي ».

الثاني : إن مسلك التعهّد يفترض أن المتكلم وقبل أن يتكلم يتصوّر معنى ثم يضع بإزاء هذا المعنى لفظا ثم يتعهّد بينه وبين نفسه بأن لا يأتي بهذا اللفظ إلا أن يكون قاصدا لتفهيم هذا المعنى ، ويفترض أيضا أن المتكلّم حينما يريد استعمال هذا اللفظ لتفهيم هذا المعنى يرجع إلى نفسه ليرى بأيّ

ص: 164

شيء هي التزمت ، ثم يطابق بين ما التزم به وبين هذا اللفظ وهذا المعنى الذي يريد تفهيمه الآن ، فإذا رأى ذلك مطابقا لما التزم به استعمله وإلاّ لا يستعمله ، فكأنه يشكّل قياسا استثنائيا هكذا.

هذا اللفظ قد تعهّدت أن لا استعمله إلا في تفهيم هذا المعنى ، وهذا المعنى الذي أريد تفهيمه الآن مطابق للمعنى الذي تعهّدت به إذن يصح أن أستعمل هذا اللفظ لتفهيم هذا المعنى.

وفي حالات أخرى تنعكس النتيجة هكذا.

إن هذا اللفظ قد تعهّدت أن لا أستعمله إلا لتفهيم هذا المعنى ، والمعنى الذي أريد تفهيمه الآن يغاير المعنى الذي تعهدت بأن لا آتي بهذا اللفظ إلا لتفهيمه ، إذن هذا اللفظ لا أستعمله لتفهيم هذا المعنى الثاني.

إذن المتكلّم بناء على هذا المسلك حينما يضع لفظا بإزاء معنى وحينما يريد استعمال اللفظ في المعنى يحتاج إلى تشكيل أقيسة منطقيّة ويحتاج أيضا إلى إدراك معنى الملازمة ؛ لأنه في تعهّده يجعل اللفظ ملزوما والمعنى لازما كما يفترض أن يكون المتكلّم قادرا حين الاستعمال على الانتقال من الملزوم إلى اللازم.

كل ذلك يحتاجه المتكلّم بناء على مسلك التعهّد في حين أن ذلك لا يتناسب مع المتكلّم في مرحلة طفولته فإمّا أن نتنازل عن مسلك التعهّد في مرحلة الطفولة لعدم تعقّله في هذه المرحلة ، ولا نحتمل أن صاحب هذه النظرية يقبل ذلك لأنه يعنى عدم الإجابة عن منشأ العلاقة بين اللفظ والمعنى إذ أن منشأ العلاقة بين اللفظ والمعنى لا تتفاوت بتفاوت عمر الإنسان.

ص: 165

النظرية الرابعة : نظرية القرن الأكيد :

وهي التي تبنّاها المصنّف رحمه اللّه ، وهذه النظرية تقف على جذور العلاقة الواقعية بين اللفظ والمعنى ، فهي وإن كانت تقبل بأن الوضع قد ينشأ عن اختراع الواضع لفظا واعتباره دالا على معنى من المعاني ، إلاّ أنها تعتبر ذلك وسيلة من وسائل نشوء العلاقة وليس هو السبب في واقعيّة هذه العلاقة ، وإنّما السبب في واقعيّة هذه العلاقة هو الاقتران الأكيد في ذهن الإنسان بين اللفظ والمعنى إذ أنّ فكر الإنسان ركّب تكوينا على أنّه إذا ارتبط شيء في ذهنه بشيء واستوثق ذلك الارتباط فإنّ ذلك يؤدي إلى انخطار الثاني بتصوّر الأول ، مثلا حينما يصاب الإنسان بمشكلة مستعصية ويكون سبب هذه المشكلة هو زيد من الناس فهنا يحدث ذهن الإنسان - بحسب - طبعه - ربطا بين هذه المشكلة المستعصية وبين زيد من الناس ، ثم إنّ هذا الارتباط يظلّ مختزنا في ذهن هذا الإنسان بحيث لو مضى على هذه المشكلة عقود من الزمن فإنّه كلّما تذكّر المشكلة انقدحت في ذهنه صورة زيد وكذلك العكس ، وما ذلك إلاّ للإرتباط الذهني الوثيق بين المشكلة وبين زيد.

والارتباط بين الألفاظ والمعاني من هذا القبيل إذ أنّ هذا الارتباط يحدث في ذهن الإنسان نتيجة عوامل معيّنة توجب توثيق الربط بين اللفظ والمعنى ، وهذه العوامل وإن كانت تختلف في طبيعتها إلاّ أنها تشترك في إحداثها للربط الوثيق بين اللفظ والمعنى ، فقد تكون هذه العوامل اتفاقية ، وقد تكون عنائية مقصودة.

ويمكن تنظير ذلك بتعليم الطفل اللغة ، فتارة يتم تعليمه عن طريق تكرار لفظ معيّن عند مشاهدة شيء معيّن فيحصل في ذهن الطفل اقتران

ص: 166

بين هذا اللفظ وبين ذلك الشيء ، وهذا الاقتران إنما هو من مقتضيات طبع الإنسان وتكوينه ، وتارة أخرى يكون التعليم عن طريق تلقين الطفل وتفهيمه بأنّ هذا الشيء يسمّى كذا وذاك يسمّى كذا ، وبهذا التلقين ينحدث ربط واقتران في ذهنه بين اللفظ وذاك المعنى ، وهذا الربط والاقتران أيضا من مقتضيات تكوين الإنسان وطبعه الذي طبعه اللّه عزّ وجلّ عليه.

إذن يمكن إجمال هذه النظرية بأن يقال : إنّ السرّ في واقعيّة العلاقة بين اللفظ والمعنى هو ما طبع عليه ذهن الإنسان من القدرة على تشكيل علائق وروابط بين الأشياء ، وتكون طبيعة هذه العلائق بعد ذلك أنّه كلما خطر في ذهنه أحد الشيئين المقترنين ينقدح الآخر حتى ولو لم يكن مريدا لذلك.

ومع اتضاح معنى هذه النظرية يتّضح أنها تتّفق مع نظرية الاعتبار في أنّ الوضع سبب للدلالة التصورية فحسب ؛ وذلك لأنّ الاقتران لا يوجب أكثر من تصوّر المعنى عند صدور اللفظ ، أمّا أنّ الآتي باللفظ قاصد لتفهيم المعنى فهذا خارج عمّا تقتضيه نظرية القرن وعليه تكون الدلالة التصديقيّة مستفادة - بناء على هذه النظرية - من حال المتكلّم.

الوضع التعييني والتعيّني :
اشارة

ذكروا أنّ الوضع بلحاظ ما يسبّبه ويحقّقه ينقسم إلى قسمين :

الأوّل : الوضع التعييني : وهو ما يتصدّى فيه الواضع لجعل لفظ دالا على معنى بحيث يبذل عناية خاصة ومقصودة لهذه العملية كأن يقول : وضعت لفظ الأسد للحيوان المفترس.

ص: 167

الثاني : الوضع التعيّني : وهو ما يكون تحقّقه إتفاقيّا بحيث يكون ناشئا عن كثرة استعمال لفظ في معنى فينتج عن هذه الكثرة في الاستعمال أنس ذهني يوجب الانتقال من اللفظ إلى المعنى.

وهنا تظهر ثمرة - بين نظرية القرن الأكيد وبين نظريّتي الاعتبار والتعهّد - وهي أنّه بناء على نظرية القرن الأكيد يمكن تبرير القسم الثاني من قسمي الوضع ؛ وذلك لأننا قلنا إنّ القرن الأكيد هو عبارة عن ربط يحدثه ذهن الإنسان - بمقتضى طبعه وتكوينه - بين اللفظ والمعنى ، وهذا الربط الذهني يكون ناشئا عن اقتران خارجي أيّا كانت طبيعة هذا الاقتران ، فإذا كان كذلك فمن الواضح أنّ كثرة استعمال لفظ في معنى نوع اقتران خارجي بين اللفظ والمعنى ، هذا الاقتران الخارجي يوجب نشوء ارتباط في الذهن بين اللفظ والمعنى وبه تكون كثرة الاستعمال موجبة للوضع التعيّني بناء على نظريّة القرن الأكيد.

وأمّا بناء على نظريّتي الاعتبار والتعهّد فلا يتعقّل فيهما الوضع التعيّني إذ الاعتبار متقوّم ببذل العناية المخصوصة والمقصودة لغرض جعل اللفظ دالا على المعنى في حين أنّ كثرة الاستعمال عملية عفويّة لم يتصدّ أحد لإيجادها ، فلا اعتبار ولا معتبر.

وكذلك الكلام في التعهّد إذ هو متقوّم بالتباني النفساني على أن لا يأتي باللفظ إلاّ أن يقصد تفهيم المعنى ، فإذن هو متقوّم بوجود تعهّد ومتعهّد ، وكثرة الاستعمال ليست إلاّ عملية اتفاقية ، بل إنّه بناء على التعهّد لا يوجد استعمال إلاّ بتعهّد مسبق ولا يشذ عن ذلك أحد كما اتضح مما تقدّم.

ص: 168

نعم ، يمكن أن تكون كثرة الاستعمال كاشفة عن وجود اعتبار وتعهّد ، فيكون الفرق بين نظرية القرن الأكيد وبين النظريّتين أنّه بناء على القرن الأكيد تكون كثرة الاستعمال موجده للوضع ، فلذلك يكون الوضع متأخّرا عنها ، وأمّا بناء على النظريّتين - الاعتبار والتعهّد - فدور كثرة الاستعمال هو دور الكاشف عن وجود تعهّد واعتبار.

وبهذا يتّضح أنّ الوضع التعييني والتعيّني ليسا موجدين للوضع وإنما لهما دور الكشف عنه ، غاية ما في الأمر أنّ كيفيّة الكشف مختلفة ، فهي في التعيّني تكون كثرة الاستعمال كاشفة ، وأمّا في التعييني فالكاشف عن الوضع هو تصريح الواضع بأنه قد وضع اللفظ بإزاء هذا المعنى.

توقّف الوضع على تصوّر المعنى :

قلنا : إن الوضع عبارة عن جعل اللفظ دالا على معنى من المعاني ، فالوضع بهذا حكم على المعنى كما هو حكم على اللفظ ، فيكون المعنى واللفظ محكوما عليهما ، أي أن المعنى واللفظ كلا منهما يمثّل جزء موضوع لقضيّة يكون المحمول فيها الوضع ، فكأنّما الواضع يشكّل قضية هذه صورتها « اللفظ والمعنى يدلّ الأوّل منهما على الثاني » ، فاللفظ والمعنى يمثّلان موضوع القضية « ويدل الأول على الثاني » هو محمول القضية وهو عين الوضع كما هو واضح ، فإذا كان الوضع هو الحكم على اللفظ والمعنى فهذا يقتضي أن يتصوّر الحاكم اللفظ والمعنى في رتبة سابقة على جعل الحكم - أي جعل الوضع - ؛ وذلك لاستحالة جعل الأحكام قبل تقرر موضوعاتها كما ذكرنا ذلك في بحث القطع الموضوعي.

وباتّضاح هذه المقدّمة نقول : إن الوضع ينقسم إلى عدّة تقسيمات ،

ص: 169

منشأ هذه التقسيمات هو ملاحظة الوضع في كل تقسيم بلحاظ يختلف عنه في التقسيم الآخر ، فحينما نلحظ الوضع من جهة ما يسببه ويحققه ، فالوضع ينقسم إلى وضع تعييني ووضع تعيّني ، وحينما نلاحظه من جهة اللفظ الذي يراد جعله دالا على المعنى ، فالوضع ينقسم إلى وضع شخصي ووضع نوعي ، وهكذا تختلف تقسيمات الوضع باختلاف الحيثية الملحوظة فيه عند التقسيم.

وهنا نتعرّض لبيان أحد تقسيمات الوضع ، والذي هو تقسيم بلحاظ المعنى الذي يراد جعل اللفظ دالا عليه ، فهو إذن تقسيم الوضع بلحاظ موضوعه وهو المعنى ، فنقول : إن المعنى الذي يمكن تصوّره حين الوضع على نحوين :

النحو الأول : أن نتصوّر المعنى - الذي نريد جعل اللفظ دالا عليه - بنفسه بحيث نستحضره في ذهننا كاملا ومن تمام حيثيّاته وبما له من سعة أو ضيق وذلك مثل أن نستحضر ونتصوّر معنى زيد بما له من مشخّصات ، ثم نضع اللفظ بإزاء هذا المعنى المتشخّص والمحدّد ، وكذلك مثل أن نتصوّر معنى الإنسان بما له من حيثيّات تميّزه عن سائر المعاني وبما له من سعة بحيث يشمل أفراده ، ثم نضع اللفظ بإزاء هذا المعنى المحدّد.

النحو الثاني : أن نستحضر ونتصوّر المعنى ولكن ليس بنفسه وإنما بعنوانه المنطبق عليه ، فيكون هذا العنوان العام مشيرا ومنوّها بالمعنى الذي يراد جعل اللفظ دالا عليه ، وذلك مثل أن نتصوّر معنى زيد ولكن ليس بنفسه وبمشخّصاته الخاصة به وإنما بعنوان هذا العنوان صالح لأن ينطبق عليه ، وهو مثلا عنوان الإنسان أو عنوان الرجل ، فهنا نكون قد تصوّرنا

ص: 170

معنى زيد بعنوان كلّي صالح للانطباق عليه.

ومع اتّضاح هذين النحوين من تصوّر المعنى ، نكون قد توفّرنا على الشرط الذي يصحّح لنا الوضع ، إذ قلنا إن الوضع لا يمكن إلا بعد تقرّر الموضوع. والمعنى أحد جزئي الموضوع ، وإذا ما تقرّر الموضوع عندنا وتصوّرناه أمكن جعل لفظ دالا عليه.

ومن هنا يكون الوضع بلحاظ المعنى المتصوّر منقسما إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول : الوضع العام والموضوع له العام :

وهو أن يتصوّر الواضع معنى من المعاني الكلّيّة ويحدّده في ذهنه بما له من جنس وفصل ثم يجعل لفظا بإزاء هذا المعنى الكلي المحدّد ، مثل أن يتصوّر معنى الحيوان الناطق ويميّز هذا المعنى عن المعاني الكليّة الأخرى ، ثم بعد ذلك يجعل لفظا من الألفاظ دالا عليه كلفظ الإنسان فيكون لفظ الإنسان دالا على المعنى الكلّي والذي هو الحيوان الناطق.

فالموضوع له في هذا القسم هو المعنى الكلي المتصوّر في الذهن قبل الوضع ، والمراد من الموضوع له أي الذي وضع له اللفظ ، فالضمير في « له » راجع إلى اللفظ.

والمراد من الوضع العام هو هذه العملية التي يتصدّى لها الواضع والتي هي جعل اللفظ بإزاء المعنى ؛ وسمّي وضعا عاما لأن اللفظ الذي جعله الواضع بإزاء المعنى لفظ جعل دالا على معنى كلّي عام ، فاتّصاف الوضع بالعموم إنما هو بلحاظ المعنى الموضوع له اللفظ والذي هو في المثال الحيوان الناطق.

ص: 171

القسم الثاني : الوضع الخاص والموضوع له الخاص :

وهو أن يتصوّر الواضع معنى من المعاني الجزئيّة ويشخّصه ويحدّده في ذهنه ، ثم يجعل لفظا بإزاء هذا المعنى الجزئي المشخّص ، مثل أن يتصوّر الواضع فردا من أفراد الإنسان ويحدّده في ذهنه بتمام مشخّصاته الخاصّة به ، ثم يجعل لفظ زيد دالا على هذا المعنى الخاص المتصوّر في الذهن.

فالموضوع له في هذا القسم هو المعنى الجزئي المتشخّص في الذهن والذي عبّر عنه بالخاص.

وسمّي هذا الوضع خاصّا لأن اللفظ الذي جعله الواضع بإزاء المعنى لفظ جعل دالا على معنى جزئي متشخّص.

الوضع العام والموضوع له الخاص :

وهو أن يتصوّر الواضع معنى من المعاني الجزئيّة ولكن عن طريق تصوّر عنوان كلي صالح للانطباق على المعنى الجزئي ، ويكون دور العنوان الكلّي دور المشير والملفت للمعنى الجزئي المشمول لهذا العنوان الكلي.

كأن يتصوّر الواضع فردا من أفراد الإنسان إلا أن هذا التصوّر يتم عن طريق تصوّر عنوان هذا الفرد الذي يكون هذا الفرد داخلا تحته ، ثم يضع لهذا الفرد من أفراد الإنسان لفظا يدل على هذا الفرد ، ولكن بعنوانه الكلي لا بحدوده الخاصّة به ، فيقول هذا هذا الفرد - المتصوّر عن طريق تصوّر عنوانه - إنسان فلفظ الإنسان جعل دالا على الفرد المتصوّر ولكن بما هو مشمول لعنوانه العام.

فالموضوع له في هذا القسم هو المعنى الجزئي غير المتشخّص بمشخّصاته الخاصّة به ، وإنما بعنوانه الكلي الصادق عليه ، ولذلك صار

ص: 172

الموضوع له في هذا القسم خاصّا ، أي الذي وضع له اللفظ هو معنى خاص.

وسمّي الوضع هنا عامّا لأن اللفظ الذي جعله الواضع دالا جعله دالا على معنى خاص متعنون بعنوان عام.

ومع اتّضاح هذه الأقسام الثلاثة نعرف أن المناسب للقسم الأول هو وضع أسماء الأجناس ، مثل وضع لفظ الأسد دالا على معنى الحيوان المفترس ، والمناسب للقسم الثاني هو وضع الأعلام الشخصيّة ، كوضع لفظ « مكّة » بإزاء تلك البقعة المباركة.

وأما القسم الثالث فقد وقع الخلاف فيما يناسبه وهل أن وضع الحروف مما يناسب هذا القسم أو لا؟ وهذا ما سنبحثه في المعاني الحرفية إن شاء اللّه تعالى.

هذا تمام الكلام في الأقسام الممكنة في الوضع ، ويقع الكلام في قسم رابع من الوضع وهو :

الوضع الخاص والموضوع له العام :

ويفترض في هذا القسم من الوضع أن الواضع يتصوّر معنى جزئي غير صالح للانطباق إلاّ على نفسه ، ثم بعد ذلك يضع اللفظ بإزاء معنى كلي عام ، فالموضوع له اللفظ هو المعنى الكلي العام وإن كان المتصوّر حين الوضع هو المعنى الجزئي.

وتلاحظون أن هذا مستحيل إذ أنّ الوضع كما قلنا هو حكم على المعنى وهذا يقتضي أن يكون المعنى متصوّرا قبل الوضع ، وفي هذا القسم يكون المعنى المتصوّر غير المعنى المحكوم عليه ، أي غير المعنى الموضوع له

ص: 173

اللفظ ، فالمعنى الموضوع له اللفظ هو العنوان الكلي أو قل هو المفهوم الكلي ، والمعنى المتصوّر للواضع حين الوضع هو المعنى الجزئي ، ومن الواضح أن المعنى الجزئي لا يوجب تصوّر المعنى الكلّي ، فهو غير مساو للكلّي إذ أنّ هذا خلف جزئيته ، كما لا يصلح للإشارة إلى العنوان الكلّي إذ أنّ العنوان الكلّي ليس داخلا تحت الجزئي وصلوح المعنى لأن يشير إنما هو في حالة يكون المعنى المشار إليه مشمولا وداخلا تحت العنوان المشير.

ويمكن أن نمثّل لذلك بما لو تصوّر الواضع مفهوم الحيوان الناطق بما له من سعة ثم وضع لفظ زيد بإزاء ذات من أفراد هذا المفهوم العام ، فهنا يكون المعنى المتصوّر غير المعنى الموضوع له لفظ زيد إذ أن المعنى المتصوّر حين الوضع هو مفهوم الحيوان الناطق بما له من السعة والمعنى الذي وضع اللفظ بإزائه وللدلالة عليه هو ذات من أفراد هذا المفهوم الكلّي ، وهذا يعني أن الذي وضع بإزائه اللفظ هو معنى جزئي ، والمعنى الجزئي لا يصلح للإشارة إلى المعنى الكلّي لعدم مساوته له وعدم دخوله تحت عنوان جزئي كما هو واضح.

وبهذا اتّضح استحالة هذا القسم ، وهو الوضع الخاص والموضوع له العام.

توقّف الوضع على تصوّر اللفظ :

قلنا فيما سبق إنّ الوضع حكم على اللفظ والمعنى ، وهذا يقتضي تصوّر اللفظ والمعنى قبل الوضع.

وقد ذكرنا فيما سبق أقسام الوضع بلحاظ تصوّر المعنى الذي يراد

ص: 174

وضع اللفظ دالا عليه ، ويقع الكلام في المقام عن تقسيم الوضع بلحاظ تصوّر اللفظ الذي يراد جعله دالا على المعنى.

فنقول : إنّ الوضع بهذا اللحاظ ينقسم إلى قسمين :

الأول : الوضع الشخصي : وهو ما يكون اللفظ فيه متصوّرا بنفسه ، وذلك بأن يتصوّر الواضع لفظا بمادّته وهيئته ثم يضعه بإزاء معنى من المعاني ، ويمكن التمثيل لهذا القسم من الوضع بأسماء الأجناس وبأسماء الأعلام الشخصيّة ، وذلك مثلا بأن يتصوّر الواضع لفظ أسد بمادته والتي هي ( أ ، س ، د ) وبهيئته والتي هي ( فعل ) بفتح الفاء والعين ، ثم يضع هذا اللفظ بإزاء معنى كلّي وهو الحيوان المفترس ، وهذا هو وضع أسماء الأجناس ، وأما وضع أسماء الأعلام الشخصية فمثاله أن يتصوّر الواضع لفظ زيد بمادّته وهيئته ثم يضعه بإزاء معنى جزئي وهو في المثال ذات من أفراد الإنسان.

الثاني : الوضع النوعي : وهو ما يكون اللفظ فيه متصوّرا بعنوان عام ومشير ، وذلك بأن يتصوّر الواضع مادّة في هيئة من الهيئات ، تكون هذه المادة عنوانا مشيرا إلى الهيئة ، ثم يضع المادّة المتهيّئة بهيئة خاصّة بإزاء معنى كلّي وليس غرضه من الوضع سوى تحديد هيئة للمعنى الكلّي ، وإنّما جعل الهيئة في ضمن مادة لأجل الإشارة إلى الهيئة لعدم قدرة الواضع على إحصاء كل المواد المتهيّئة بهذه الهيئة ، ومثال ذلك أن يتصوّر الواضع هيئة الفعل الماضي في ضمن عنوان مشير إليها - وهو ( فعل ) « الفاء والعين واللام فتح الثلاثة » وهو إنّما احتاج في تصوّر هيئة الفعل الماضي إلى المادّة لأنّ الهيئة لا تكون إلاّ في ضمن مادة من المواد - ثم يضع هذه المادّة المتهيّئة بهذه

ص: 175

الهيئة المخصوصة بإزاء معنى كلّي عام وهو في المثال ( الحدث الذي مضى زمانه ).

فهذا هو الوضع النوعي وسمّي هذا الوضع نوعيّا لأنّ اللفظ المتصوّر حال الوضع لفظ غير مقصود بنفسه وإنّما بهيئته التي لها سريان في سائر المواد المتهيّئة بمثل هذه الهيئة.

المجاز :

يعرّف المجاز عادة : بأنّه استعمال اللفظ في غير ما وضع له ، أي : في معنى ليس ذلك اللفظ موضوعا للدلالة عليه بل إنّ اللفظ الموضوع للدلالة عليه غيره ، كاستعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع ، فإنّ الرجل الشجاع ليس موضوعا له لفظ الأسد.

والمصحّح للمجاز عادة المشابهة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، فالمعنى الذي وضع الواضع اللفظ للدلالة عليه إذا شابهه معنى آخر تكون هذه المشابهة مبرّرة لاستعمال ذلك اللفظ الذي وضع للمعنى المشابه - بفتح الباء - في المعنى المشابه - بكسر الباء - وذلك مثل استعمال لفظ السواد للتعبير عن الكراهة وعبوس الوجه ، فإن لفظ السواد لم يوضع لذلك وإنما وضع للون من الألوان ، ولكن المشابهة بين معنى لفظ السواد - وهو اللون الخاص - وبين الكراهة وعبوس الوجه سوّغ استعماله في المعنى المشابه للمعنى الموضوع له لفظ السواد ، قال اللّه تعالى : ( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى

ص: 176

ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ ) (1).

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نقول : إنّ الوضع - وبسبب القرن الأكيد - يحدث علاقة بين المعنى وبين اللفظ الذي وضع لغرض الدلالة على ذلك المعنى ، وهذه العلاقة توجب تصوّر المعنى بمجرّد إطلاق اللفظ. ولمّا كان لهذا المعنى ما يشابهه من معان أخرى - بحيث تكون هذه المشابهة نحو علاقة موجبة للتقارن في الذهن - هذه المشابهة تكون مبرّرا لاستعمال اللفظ في المعنى الآخر المشابه للمعنى الموضوع له اللفظ ، فيكون الاقتران الذهني بين المعنى الموضوع له اللفظ والمعنى المشابه له محققا للاقتران بين اللفظ المقترن بمعناه الحقيقي وبين المعنى المشابه والذي هو المعنى المجازي.

وبعبارة أخرى : المشابهة بين معنى ومعنى آخر تولّد اقترانا بين اللفظ - الذي هو للمعنى الأوّل - وبين المعنى الثاني فتكون المشابهة سببا في نشوء علاقة بين اللفظ والمعنى الثاني إلاّ أن هذه العلاقة ليست في استيثاقها واستحكامها كالعلاقة الواقعة بين اللفظ والمعنى الأول الموضوع له ذلك اللفظ ؛ فلذلك عندما يطلق اللفظ يكون المنسبق منه إلى الذهن هو المعنى الأول ، بل استحكام العلاقة بين المعنى واللفظ الموضوع لذلك المعنى توجب انسباق المعنى الأول من اللفظ حتى في موارد العلم بعدم إرادته وقد بيّنّا ذلك فيما سبق.

إذن العلاقة بين اللفظ والمعنى المجازي في طول العلاقة بينه وبين المعنى الحقيقي ، نعم عند ما نستعمل اللفظ في المعنى الثاني المجازي مع القرينة تكون

ص: 177


1- سورة النحل : آية 58

دلالة اللفظ بإضافة القرينة على المعنى المجازي دلالة فعلية يمكن الاعتماد عليها.

ثم إن الكلام في احتياج دلالة اللفظ على المعنى المجازي إلى وضع جديد ، فنقول : إن من الواضح عدم الحاجة إلى ذلك لكفاية المعنى الحقيقي في الربط بين المعنى المجازي واللفظ ، فيكون المعنى الحقيقي واسطة في ثبوت العلاقة بين اللفظ والمعنى المجازي ، وبالتالي يكون اللفظ صالحا للدلالة على المعنى المجازي ، وهذا المقدار لا إشكال فيه.

إنما الإشكال في استعمال اللفظ في المعنى المجازي بدون وضع جديد ، بأن يقال : إن صحة استعمال اللفظ في المعنى المجازي متوقّفة على إنشاء وضع جديد بين اللفظ وبين المعنى الثاني المجازي ؛ وذلك لأنّ دلالة اللفظ على المعنى المجازي غير كافية وحدها لتصحيح الاستعمال ما لم يكن هناك وضع ؛ إذ المصحح للاستعمال هو الأوضاع اللغوية ، وبهذا يكون استعمال اللفظ في المعنى المجازي - بناء على هذا القول - مفتقرا إلى الوضع.

وفي مقابل هذا القول قول بكفاية دلالة اللفظ على المعنى المجازي في تصحيح الاستعمال.

وبتعبير آخر : إن العلاقة بين المعنى الأول والذي وضع اللفظ له والمعنى الثاني كافية في تصحيح استعمال اللفظ في المعنى الثاني المجازي.

ثم إن القائلين بلا بدّيّة الوضع في الاستعمال المجازي مسؤولون عن تصوير كيفيّة هذا الوضع الجديد ، إذ أنه لا بدّ من أن يكون الوضع الجديد مشتملا على حيثيّة تحتفظ بمجازيّة الوضع الجديد ، وبأنه في طول الوضع الأول وإلا لصار استعمال اللفظ في المعنى الثاني استعمالا حقيقيّا ويكون

ص: 178

بذلك اللفظ موضوعا بوضعين كل وضع على حدة ، وهذا ما يحوّل المجاز إلى مشترك لفظي وهو خلف الفرض إذ أن الدعوى هي الاحتفاظ بمجازية المعنى المجازي بعد الوضع الجديد.

ولذلك قال بعضهم - في مقام تصوير وضع جديد يحتفظ بهذه الحيثية المذكورة - إن الواضع يضع اللفظ بإزاء المعنى المجازي ، ولكن بشرط اشتماله على القرينة ، وبهذا يحتفظ المعنى المجازي بمجازيّته وطوليّته للوضع الأول.

ومع ذلك لم يقبل المصنّف رحمه اللّه بدعوى احتياج الاستعمال المجازي إلى وضع جديد وأن دلالة اللفظ على المعنى المجازي الناشئة عن العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي كافية لتصحيح الاستعمال في المعنى المجازي ؛ وذلك لأنّه ما المراد من صحّة الاستعمال التي تمسك بها القائلون بلزوم الوضع الجديد في المعنى المجازي؟

نقول : إنّ مرادهم من صحّة الاستعمال لا يخلو عن أحد معنيين :

المعنى الأوّل : أنّ صحة الاستعمال حسنه ، فقولهم لا يصح الاستعمال بغير وضع أي لا يحسن الاستعمال بغير وضع.

المعنى الثاني : أن المراد من صحة الاستعمال أنه لا يكون هذا الاستعمال منسوبا إلى لغة إلا إذا كان واضع هذه اللغة قد وضع هذا اللفظ دالا على هذا المعنى وبه تصحّ نسبة استعمال هذا اللفظ في هذا المعنى إلى هذه اللغة. وكلا هذين المعنيين لا يقتضيان لزوم وضع جديد.

أما المعنى الأوّل : - وهو أن المراد من صحة الاستعمال حسنه وأنّه لا يحسن الاستعمال بغير وضع - فلا نسلم أنّ حسن الاستعمال متوقّف على خصوص الوضع ، إذ أن الغرض من الوضع هو إيجاد الدلالة على المعنى من

ص: 179

اللفظ الموضوع فإذا كانت الدلالة موجودة فأيّ حاجة إلى الوضع ، وهل هو إلا من تحصيل الحاصل إذ قلنا بكفاية العلاقة بين المعنى الأول الحقيقي والمعنى المجازي لتحقق الدلالة على المعنى المجازي باللفظ الموضوع للمعنى الأول الحقيقي.

وأما المعنى الثاني : - وهو أن المراد من صحة الاستعمال هو صحة انتسابه إلى لغة - فهذا غير مسلّم أيضا إذ أنّ صحة الانتساب إلى اللغة التي يتكلّم بها المتكلّم غير متوقّف على الوضع الجديد ؛ إذ أن استعمال اللفظ في المعنى المشابه - بصيغة الفاعل - للمعنى الموضوع له اللفظ مصحّح لانتساب هذا الاستعمال إلى تلك اللغة.

علامات الحقيقة والمجاز :
اشارة

لمّا لم نكن مطّلعين على كل الأوضاع اللغوية حيث تستوقفنا كثير من الألفاظ المستعملة في معان معيّنة ولا ندري أنّه استعمال فيما وضعت له هذه الألفاظ حتى يكون الاستعمال حقيقيّا أو أنّه استعمال في غير ما وضعت له هذه الألفاظ فيكون الاستعمال مجازيّا ، لمّا لم نكن مطّلعين على ذلك نشأت الحاجة إلى البحث عمّا يميّز الاستعمال الحقيقي عن الاستعمال المجازي.

وهذا البحث يتصدّى لبيان هذه العلائم التي تميّز الحقيقة عن المجاز وهي كما يلي :

الأوّل : التبادر :

والمراد منه تصوّر معنى من المعاني بمجرّد إطلاق اللفظ بحيث يكون هذا اللفظ هو المتصوّر الأول في الذهن دون بقيّة المعاني - التي يمكن أن

ص: 180

يكون هذا اللفظ دالا عليها - وهذا الانسباق والتصوّر السريع الحاصل من اللفظ يكون علامة على أنّ هذا المعنى هو الموضوع له ذلك اللفظ ، ولو لا ذلك لاحتجنا في تصوّره من اللفظ إلى قرينة خارجة عن حاق اللفظ تدل على أنّ هذا اللفظ استعمل في ذي القرينة.

الإشكال على علاميّة التبادر :

وقد أورد على هذه العلامة بأنّ جعل التبادر علامة الحقيقة يلزم منه الدور ؛ وذلك لأنّ التبادر متوقّف على العلم بالوضع ، وهنا نريد أن نحصّل العلم بالوضع عن طريق التبادر فيكون التبادر متوقّف على عين المتوقّف عليه - وهو العلم بالوضع -.

وبتعبير آخر : تنشأ العلاقة الدلاليّة بين اللفظ والمعنى عن طريق العلم بالوضع لأنّه ما لم نعلم بالوضع لا يكون اللفظ عندنا دالا على المعنى ، نعم إذا علمنا بالوضع تبادر المعنى بمجرّد إطلاق اللفظ ، وهذا يعني أن التبادر معلول للعلم بالوضع ، ونحن في مفروض البحث نجهل بالوضع ونبحث عن ما يرفع عنّا الجهل بالوضع فإذا ادّعينا أن التبادر يرفع الجهل بالوضع فهذا خلف ما ذكرناه من أنّ التبادر معلول للعلم بالوضع إذ أنّ التبادر بناء على هذه الدعوى يكون علّة لتحصيل العلم بالوضع ، وهذا مستحيل بعد افتراض كونه معلولا للعلم بالوضع إذ يلزم منه أن يكون التبادر معلولا وعلّة لشيء واحد ، فهو علّة للعلم بالوضع ومعلول للعلم بالوضع. وهذا هو معنى أن التبادر متوقّف على المتوقّف عليه إذ أنّه متوقّف على العلم بالوضع الذي هو متوقّف على التبادر ، فالتبادر متوقّف ومتوقّف عليه ، أي : معلول وعلّة لشيء واحد وهو العلم بالوضع كما أنّ العلم بالوضع معلول وعلّة لشيء واحد وهو التبادر.

ص: 181

الجواب الأوّل :

وقد أجيب عن هذا الإيراد بنفي الدور ، وذلك بأنّ المتوقّف غير المتوقّف عليه ، وبيان ذلك :

إنّ التبادر وإن كان متوقّفا على العلم بالوضع إلاّ أنّه العلم الارتكازي بالوضع والذي ينسجم مع الغفلة والذهول عن تفاصيل الوضع. والذي يحقّقه التبادر هو العلم التفصيلي بالوضع.

إذن التبادر علّة لشيء ومعلول لشيء آخر فهو علّة للعلم التفصيلي بالوضع ومعلول للعلم الارتكازي الإجمالي بالوضع. وكذلك العلم بالوضع العلّة غير العلم بالوضع المعلول إذ أنّ العلم بالوضع العلّة هو العلم الارتكازي بالوضع والعلم بالوضع المعلول هو العلم التفصيلي بالوضع.

وحتى يكون الجواب مأنوسا أكثر نقول : إنّ هناك فرقا بين العلم التفصيلي وبين العلم الارتكازي ، فالعلم التفصيلي هو ما يكون المعلوم فيه جليّا وواضحا من تمام حيثيّاته ، بحيث لا يكون على ذلك المعلوم أي غشاوة مهما رقّت.

ونمثّل على ذلك بقول اللّه تعالى حاكيا عن أحبار اليهود ورهبانهم في أنّهم يعرفون النبي محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وأنّه النبي الموعود ، قال اللّه عزّ وجلّ : ( يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ ) (1) ، فالقرآن الكريم يشير إلى أنّ أحبار اليهود يعرفون النبي محمّد صلی اللّه علیه و آله معرفة تفصيليّة لا يشوبها أدنى شكّ كما أنّ معرفتهم لأبنائهم معرفة تفصيليّة.

ص: 182


1- سورة الأنعام : آية 40

أمّا العلم الارتكازي فهو ما يكون المعلوم فيه مبتليا بالإبهام والغموض من بعض حيثيّاته بحيث يكون أصل الشيء معلوما إلاّ أنّ فيه تشويشا وإبهاما أو تكون هذه الحيثيّات المبهمة مختزنة في دفائن النفس نحتاج في إبرازها إلى منطقة الوعي إلى بعض المنبّهات.

ومثال ذلك معرفة اللّه عزّ وجلّ ، فإن كلّ أحد من الناس مفطور على معرفة اللّه جلّ وعلا ، إلاّ أنّ هذه المعرفة مكتنفة بشيء من الغموض نتيجة الحجب المكتسبة عن الشبهات والأوهام المثارة من اللذين طبع اللّه على قلوبهم ، فلذلك يكون دور الأنبياء علیهم السلام دور التنبيه على الفطرة المختزنة في كلّ نفس ، قال اللّه تعالى : ( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللّهُ ) (1) ، وقال تعالى على لسان إبراهيم علیه السلام : ( فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ ) (2) ، وما هذا القول من إبراهيم إلاّ تنبيه على ما هو مغروس في جبلّة الإنسان.

ومع اتّضاح الفرق بين العلم التفصيلي والعلم الارتكازي يتّضح الجواب على إشكال الدور ، إذ تكون مهمّة التبادر هي التنبيه على ما هو مرتكز في النفس من العلاقة بين اللفظ والمعنى ، فصحّ أن يكون التبادر علّة للعلم بالوضع ولكن التفصيلي منه وأنّه معلول للعلم بالوضع ولكنّه الارتكازي منه.

ص: 183


1- سورة لقمان : آية 25 ، سورة الزمر : آية 38
2- سورة البقرة : آية 258
الجواب الثاني على إشكال الدور :

إنّ إشكال الدور يكون له وجه لو كان الباحث عن المعنى الحقيقي هو عين الذي حصل له التبادر ، أما إذا كان الباحث عن المعنى الحقيقي للفظ هو غير الذي حصل له التبادر ، ففي مثل هذه الحالة لا يكون الدور متصوّرا إذ أن الذي حقّقه التبادر وإن كان هو الكشف عن المعنى الحقيقي ولكن لطرف ثان وهو الجاهل بأصل الوضع ، فيكون التبادر معلولا للعلم بالوضع لمن حصل له التبادر ويكون علة للعلم بالوضع بالنسبة للطرف الثاني وهو الباحث عن المعنى الحقيقي.

وهذا هو الذي يحصل للباحثين عن معاني بعض مفردات لغة من اللغات ولم يكونوا من أهل تلك اللغة ، فإنهم يرجعون إلى ما يتبادر في أذهان أهل تلك اللغة عند إطلاق هذه المفردات لغرض التعرّف على المعاني الحقيقيّة لتلك المفردات.

الجواب الثالث على إشكال الدور :

وهو يتناسب مع نظرية القرن الأكيد وحاصله : أننا ذكرنا - فيما سبق - أن الاقتران الخارجي بين اللفظ والمعنى يقتضي أن يحدث الذهن - وبحسب طبعه وتكوينه - ربطا وعلاقة بين اللفظ والمعنى هذه العلاقة توجب تصوّر المعنى بمجرّد سماع اللفظ.

إذن تصوّر المعنى من اللفظ بناء على هذه النظرية لا يتوقّف على العلم بالوضع بل هو متوقّف على نفس الوضع ، وهي تلك العلاقة التي أحدثها الذهن بحسب طبعه عندما رأى الاقتران الخارجي مستوثقا بين اللفظ والمعنى.

ص: 184

وبهذا يتّضح أن التبادر ناشئ عن نفس الوضع - وهي العلاقة الوثيقة بين اللفظ والمعنى في الذهن - فهو إذن ينشأ عن واقع العلاقة وإن لم يعلم أنها وضع كما هو الحال في الأطفال ، وكذلك الغافل عن الأوضاع اللغويّة.

والمتحصّل من الكلام : أن التبادر ينشأ عن واقع الوضع - وهي تلك العلاقة الوثيقة بين اللفظ والمعنى في الذهن - والذي يكون التبادر علّة في إيجاده هو العلم بالوضع إذ أنه قبل التبادر يكون غافلا عن كون هذا اللفظ موضوعا لهذا المعنى وإن كان يستفيد من اللفظ الدلالة على المعنى ولكنه غير متوجّه إلى أنّ هذه الاستفادة ناشئة عن الوضع والعلاقة الذهنيّة الوثيقة.

الثاني : صحّة الحمل :

والمراد من صحّة الحمل هو : أن المعنى الذي نبحث عن أنه حقيقة في هذا اللفظ أو مجاز إذا صحّ أن نجعله محمولا على اللفظ ويكون اللفظ موضوعا له فهذا يدلّ على أن اللفظ حقيقة في هذا المعنى الذي صح حمله على اللفظ ، مثلا لو كنّا نبحث عن أن لفظ الأسد هل هو حقيقة في الحيوان المفترس أو لا؟ ومن أجل معرفة الجواب لهذا السؤال نشكل قضية نجعل فيها اللفظ موضوعا والمعنى محمولا ، فإذا صحّ الحمل فهذا دليل على أن هذا اللفظ حقيقة في هذا المعنى وإلا فلا.

هكذا « الأسد حيوان مفترس ».

ثم بعد أن شكّلنا هذه القضية نرجع إلى وجداننا لنرى أن هذه القضية متناسبة أو لا؟ فإن كانت متناسبة فهذا يعني أن اللفظ الموضوع في القضية حقيقة في المعنى الذي صحّ حمله عليه وإلا فلا.

ص: 185

ثم إن الحمل تارة يكون حملا أوليّا ذاتيّا - وهو ما يكون الاتحاد فيه بين المحمول والموضوع في المفهوم - وتارة يكون الحمل حملا شايعا صناعيا - وهو ما يكون الاتحاد فيه بين المحمول والموضوع في الوجود.

فإن صحّ الحمل الأول فهذا يعني أن اللفظ حقيقة في المعنى المحمول عليه ، وإن صحّ الحمل الشايع الصناعي فهذا يعني أن معنى اللفظ مصداق للمعنى المحمول عليه.

ومثال الأول « الأسد حيوان مفترس » ، فإن الحمل فيه حمل أولي ؛ لأن الاتحاد بينهما في المفهوم ، إذ أنّ مفهوم الأسد متّحد مع مفهوم الحيوان المفترس ، ومع صحّة الحمل يكون الأسد حقيقة في الحيوان المفترس المحمول على الأسد.

ومثال الثاني « النرجسة وردة » ، فإنّ الحمل فيها حمل شايع صناعي ؛ لأن الاتحاد بينهما إنما هو في الوجود ، إذ أن مفهوم « النرجسة » غير مفهوم « الوردة » إلا أن « النرجسة » متّحدة وجودا وخارجا مع « الوردة ». ومع صحّة هذا الحمل تكون النرجسة مصداقا لعنوان الوردة المحمول على النرجسة.

إذا اتّضح هذا فنقول : إن صحّة الحمل ليس علامة على الحقيقة ، وغاية ما يكشف عنه صحّة الحمل هو صحّة استعمال اللفظ في المعنى الذي يصحّ حمله على اللفظ ، وصحة الاستعمال ناشئة عن وجود نحو دلالة للفظ على المعنى ، أمّا ما هو واقع هذه الدلالة؟ وهل هي ناشئة عن الوضع أو أنها ناشئة عن مشابهة المعنى الموضوع له اللفظ للمعنى المستعمل فيه اللفظ؟

وبهذا البيان تعرف أن صحّة الحمل لا تكشف عن أكثر من أنّ

ص: 186

المحمول عليه هو عين المعنى المحمول أو أن المحمول عليه مصداق لعنوان المحمول ، أما أن اللفظ في المحمول عليه « الموضوع » حقيقة في المعنى المحمول فهذا ما لا يمكن استكشافه من صحّة الحمل ، إذ أن الاتحاد في المفهوم لا يعني أن اللفظ في المحمول عليه حقيقة في المحمول إذ أن الاتحاد في المفهوم من شئون واقع المفهومين المتّحدين وكون اللفظ حقيقة في المعنى المحمول من شئون الأوضاع اللغوية ، وكذلك الكلام في الاتحاد في الوجود فإن ذلك من شأن الواقع ولا صلة له بالوضع والواضع.

الثالث : الاطّراد :

إذا صحّ استعمال لفظ في معنى من المعاني وكانت صحة الاستعمال ثابتة في جميع حالات المعنى بحيث لا تشذ حالة من حالاته عن ذلك ، وكذلك لو كانت للمعنى أفراد ورأينا أنّ كل فرد من هذه الأفراد يصح حمله على ذلك اللفظ فإنّ ذلك هو الاطّراد ، وبه يستكشف أنّ اللفظ الذي تطّرد دلالته على معنى يكون استعماله في ذلك المعنى حقيقيّا.

ومثال ذلك : الأسد والحيوان المفترس ، فإنّ لفظ الأسد يصح استعماله في الحيوان المفترس مطلقا صغيرا كان الحيوان المفترس أو كبيرا ، مفترسا أو مفترسا - بصيغة المفعول - ، صحيحا أو مريضا ، وكذلك أفراد الحيوان المفترس يصح استعمال لفظ الأسد فيها مطلقا فتقول : ( الأسد لبؤة ) و ( الأسد شبل ) وهكذا. وهذا بخلاف استعمال لفظ الأسد في الرجل الشجاع ، فإنّ الاستعمال لا يصحّ في تمام الحالات ، فلا يقال عن الرجل الشجاع إذا صار جبانا إنّه أسد.

ويمكن الإشكال على علاميّة الاطّراد بما حاصله :

ص: 187

ذكر علماء المعاني أنّ كلّ لفظ يصحّ استعماله في المعنى الغير الموضوع له إذا اشتمل ذلك المعنى على خصوصيّة من الخصوصيّات المذكورة عندهم والمصحّحة للاستعمال ، فما دام هو مشتملا على تلك الخصوصيّة فيصح استعماله في ذلك المعنى مطلقا ، مثلا استعمال الأسد في الرجل الشجاع يصح مطلقا ولكن في كل استعمال من هذه الاستعمالات لا بد من أن تكون هناك خصوصيّة مصحّحة لهذا الاستعمال ، فإطلاق الأسد على الرجل الشجاع في حال شجاعته صحيح باعتبار فعليّة المشابهة وفي حال انتفاء الشجاعة عنه يكون المصحّح باعتبار ما كان وفي حال عدم تلبّسه بعد يكون المصحّح بلحاظ ما يؤول وفي حالة النوم يكون المصحّح باعتبار الشأنيّة وهكذا.

إذن كما تطرد صحّة الاستعمال في المعنى الحقيقي كذلك هي في المعنى المجازي.

فالنتيجة من كل ما تقدّم أنّ الصحيح من علامات الحقيقة هو التبادر.

تحويل المجاز إلى حقيقة :

ذكر السكّاكي أنّ هناك مجازا يمكن تسميته بالمجاز العقلي ، وهذا المجاز غير المجاز في الكلمة ، إذ أنّ المجاز في الكلمة هو أنّ تستعملها في غير المعنى الموضوع لها كاستعمال لفظ الحجر في الحديد الصلب.

أمّا المجاز العقلي فهو أن نفترض أنّ المعنى المجازي مصداق حقيقي لمعنى ذلك اللفظ ، وهذا الافتراض ينشأ عن عناية نفسانيّة يعتبر فيها المفترض - بصيغة الفاعل - المعنى المجازي أحد أفراد المعنى الحقيقي للفظ ،

ص: 188

فكأنّما المعنى المجازي فرد من أفراد المعنى الحقيقي ، فالتصرّف هنا لم يقع على الكلمة وإنما هو في تطبيقها على المعنى المفترض ( المجازي ) فكأنّما يقول : « اعتبرت هذا المعنى المجازي فردا من أفراد المعنى الحقيقي » ، وهذا النوع من المجاز أبلغ في التشبيه - بين المعنى الحقيقي والمجازي - من المجاز في الكلمة.

وبتعبير آخر : إنّ المجاز العقلي هو عبارة عن تنزيل المعنى المجازي منزلة المعنى الحقيقي ، ومثال ذلك تنزيل الرجل الشجاع منزلة الفرد من الأسد.

وهذا هو معنى تحويل المجاز إلى حقيقة.

استعمال اللفظ وإرادة الخاص :

تارة نستعمل اللفظ في المعنى الذي وضع له ذلك اللفظ فهذا استعمال حقيقي ، وأخرى نستعمل اللفظ في معنى مغاير للمعنى الموضوع له اللفظ فهذا استعمال مجازي ، وثالثة نستعمل اللفظ الدال على المعنى الكلّي في معناه الكلي وهذا أيضا استعمال حقيقي ، وفي حالة أخرى نستعمل اللفظ الدال على المعنى الكلّي في فرد من أفراد ذلك الكلّي وهذا ما يحتاج إلى تفصيل بين استعمال اللفظ الدال على المعنى الكلّي في فرد من أفراده دون أن نردفه بلفظ يدل على الفرد فهذا استعمال مجازي إذ أنّ استعمال الكلّي في جزئه استعمال في غير ما وضع له اللفظ ، وبين استعمال اللفظ الدال على المعنى الكلّي في فرد من أفراده ولكن مع إضافة ما يدل على خصوص ذلك الفرد ، فهذا الاستعمال حقيقي ، غايته أنّ هنا استعمالين : الأول استعمال الكلّي في معناه الموضوع له ، والثاني استعمال اللفظ الدال على الفرد في معناه الموضوع له

ص: 189

على سبيل تعدد الدال والمدلول.

ومثال الأول : الإنسان فإنه دال على معنى كلي وهو الحيوان الناطق ، فإذا استعملت لفظ الإنسان في خصوص الذكر دون أن تأتي بلفظ الذكر بأن قلت « أكرم الإنسان » وأنت تقصد خصوص الذكر ، فهذا استعمال مجازي إذ أن الإنسان موضوع للأعم من الذكر والأنثى وأنت استعملته في خصوص الذكر ولم تأت بدالّ يدلّ عليه.

ومثال الثاني : أن تستعمل الإنسان في خصوص الذكر ولكن تأتي بما يدل على ذلك كأن تقول مثلا « أكرم الإنسان الذكر » ، فهذا الاستعمال حقيقي إذ أنك استعملت الإنسان في معناه الكلي وإنما استفدنا خصوص الذكر باعتبار وجود دالّ آخر يدل عليه وهو لفظ الذكر فنكون قد استفدنا معنيين ولكن بدالّين ، المعنى الأول هو كلي الحيوان الناطق والدال عليه هو لفظ الإنسان ، والمعنى الثاني هو حصّة خاصّة من الإنسان والدال عليه هو لفظ الذكر ، وهذا هو معنى تعدد الدال وتعدد المدلول ، فالدال المتعدد هو لفظ الإنسان ولفظ الذكر والمدلول المتعدد هو كلي الحيوان الناطق والحصة الخاصة منه.

الاشتراك والترادف :

المترادف هو : ما يكون فيه المعنى قد وضع له أكثر من لفظ لغرض الدلالة عليه ، ومثاله الحيوان المفترس فإنّ له مجموعة من الألفاظ وضعت للدلالة عليه مثل الأسد والليث والهزبر.

والمشترك اللفظي هو ما يكون فيه اللفظ قد وضع بوضعين أو أكثر

ص: 190

كل وضع يكون فيه المعنى الموضوع له اللفظ مغايرا للمعنى الموضوع له نفس اللفظ في الوضع الآخر ، ومثاله : لفظ « القرء » ، فإنه موضوع بوضعين ، فهو موضوع بالوضع الأول لمعنى الطهر ، وموضوع في الوضع الثاني لمعنى الحيض.

وبه يكون المشترك اللفظي محتاجا في مقام تعيين المراد منه إلى قرينة ، وهذا يقتضي الإجمال في المعنى المراد مع فقدان القرينة ، وهذا المقدار لا محذور فيه ؛ وذلك لأنه قد يتعلّق غرض المتكلّم بالإجمال في مراده ثم إنه يمكن أن يتحقّق الغرض من الوضع - وهو تفهيم المراد - عن طريق وضع قرينة على المراد ، نعم صاحب مسلك التعهّد يحتاج إلى تفسير لوجود المشتركات اللفظية وكذلك المترادفات في اللغة العربية وسائر اللغات.

وذلك لأن التعهّد - كما قلنا - هو التباني النفساني على ألاّ يأتي باللفظ إلاّ إذا كان قاصدا لتفهيم هذا المعنى ، وفي المشترك اللفظي لا يكون هناك التزام بهذا التعهّد ؛ وذلك لأنه إذا كان قد تعهّد بأن لا يأتي بلفظ العين إلا إذا كان قاصدا لتفهيم معنى الجارحة الباصرة فإنه متى ما جاء بالعين وقصد تفهيم الماء النابع فهذا يعني عدم الالتزام بما تعهّد به إلا أن يكون قد تعهّد بان لا يأتي بلفظ « العين » إلا أن يكون قاصدا لتفهيم كلا المعنيين وهذا لا يكون لأنه يلزم أن يكون قد تعهّد باستعمال المشترك اللفظي في أكثر من معنى في آن واحد ، وهذا إن لم يكن مستحيلا فلا أقل أنه خلاف المتعارف عند أهل المحاورة ، كما أنه مناقض لما هو الغرض من التعهّد وهو تفهيم المراد ، إذ لا يمكن تفهيم المراد بالمشترك اللفظي مع قصد كلا المعنيين.

وكذا الكلام في المترادف إذ أن المتعهّد إذا التزم بأن لا يقصد تفهيم هذا

ص: 191

المعنى إلا إذا جاء بهذا اللفظ ، فهذا يعني أن لا يكون ملتزما بتعهّده إذا جاء باللفظ الآخر المرادف وقصد تفهيم نفس المعنى ، إلا أن يكون قد التزم بالتزامين وهو أنه لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلا أن يأتي بهذا اللفظ ، ثم يلتزم التزاما آخر بأن لا يقصد تفهيم نفس المعنى إلاّ إذا جاء باللفظ الآخر ، ولا يخفي التهافت بين الالتزامين إذ أن أحد الالتزامين ينافي الآخر ، نعم يمكن أن يلتزم بأن لا يقصد تفهيم هذا المعنى إلا إذا جاء بكلا اللفظين وهذا الالتزام غير ممكن لأنه خلاف المتعارف ، إذ لا نجد أن المتكلّم يأتي بكلّ المترادفات لغرض تفهيم معنى واحد ، فلا يأتي المتكلّم بلفظ الأسد الهزبر والليث لغرض تفهيم معنى الحيوان المفترس ، مما يكشف عن أن المتكلّم غير متعهّد بذلك.

ويمكن التفصّي عن كلّ ما ذكرناه بأحد هذه الحلول :

الأول : أن يكون لكلّ تعهّد - باستعمال لفظ في أحد المعاني أو باستعمال أحد الألفاظ في المعنى - متعهّد مستقل وذلك بأن يكون المتعهّد - بأن لا يأتي بلفظ العين إلا لغرض تفهيم الجارحة الباصرة أو أن لا يقصد تفهيم معنى الحيوان المفترس إلا إذا جاء بلفظ الأسد - غير المتعهّد بأن لا يأتي بلفظ العين إلا إذا كان قاصدا لتفهيم معنى الماء النابع أو أن لا يقصد تفهيم معنى الحيوان المفترس إلا أن يأتي بلفظ الليث.

وهذا الجواب - إذا تم - فإنه يصلح لتفسير وجود المشتركات اللفظية والمترادفات في اللغة العربية وسائر اللغات بناء على مسلك التعهّد.

الثاني : الالتزام باتّحاد المتعهّد ولكن يكون التعهّد في المشترك والمترادف بهذه الكيفيّة :

ص: 192

ص: 193

ص: 194

ص: 195

ص: 196

ص: 197

ص: 198

ص: 199

ص: 200

ص: 201

ص: 202

ص: 203

ص: 204

ص: 205

ص: 206

ص: 207

ص: 208

الأمر والنهي
الأمر :
اشارة

ويقع الكلام أولا حول الأمر :

والأمر ينفهم عن طريق أسلوبين من الكلام.

الأسلوب الأول :

مادّة الأمر : فإنّ مادة الأمر مفيدة لمعنى الأمر بأيّ صيغة أنشأت ، فهي مفيدة لمعناها إذا وقعت في إطار هيئة الفعل الماضي كقوله تعالى : ( وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ ) (1) ، وكذلك إذا وقعت في إطار هيئة الفعل المضارع كقوله تعالى : ( كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ) (2) ، وهكذا إذا وقعت بصيغة فعل الأمر كقوله تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ) (3) ، غايته أنه في هذه الحالة يكون مدلول الأمر استفيد من المادّة والهيئة بخلافه في سائر الصيغ والهيئات ، فإنّ مدلول

ص: 209


1- سورة البيّنة : آية 5
2- سورة آل عمران : آية 110
3- سورة طه : آية 132

الأمر يستفاد من مادّة الأمر فحسب.

والكلام عن سائر الهيئات والصيغ عينه الكلام عن الصيغ والهيئات التي مثلنا لها والتي قلنا إنّ مادّة الأمر مفيدة لمعناها بأيّ صيغة وقعت.

الأسلوب الثاني :
اشارة

صيغة الأمر : وصيغة الأمر - وكذلك الفعل المضارع المقرون بلام الأمر - مفيدان لمعنى الأمر بأيّ مادة وقعتا ، مثلا قوله تعالى : ( وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ ) (1) فإنّ صيغة « افعل » في صلّ مفيدة لمعنى الأمر وإن كانت المادة التي وقعت الصيغة في إطارها غير مادّة الأمر ، وكذلك الكلام في الفعل المضارع المقرون بلام الأمر مثل قوله تعالى : ( وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ ) (2).

ومع اتّضاح ذلك يقع البحث أولا عن مادّة الأمر وهو في جهات :

الجهة الأولى :

فيما وضعت له مادّة الأمر : لم يقع خلاف في أنّ مادّة الأمر وضعت لحصّة خاصّة من مفهوم الطلب ، فهي تفيد معنى الطلب الخاصّ وهو الطلب التشريعي الصادر من العالي.

والمراد من الطلب التشريعي المأخوذ في تعريف مادّة الأمر يمكن توضيحه بهذا البيان : وهو أنّ كلّ أحد إذا تعلّقت إرادته التامّة بشيء فإنّه

ص: 210


1- سورة التوبة : آية 103
2- سورة البقرة : آية 282

يبادر نحو إيجاد متعلّق إرادته عن طريق وسيلتين :

الوسيلة الأولى : أن يبادر هو بنفسه لتحصيل مراده ومطلوبه ، وذلك كتحرّك العطشان نحو تحصيل الماء ، وهذا النوع من التحرّك نحو المراد والمطلوب يعبّر عنه بالطلب التكويني ، ومادّة الأمر لم توضع لإفادة هذا المعنى من الطلب ، وهذا النوع من الطلب هو المراد من قوله تعالى : ( وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ) (1) ، وقوله تعالى : ( أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً ) (2).

الوسيلة الثانية : أن يطلب من غيره تحقيق مراده ومطلوبه ، وهذا ما يعبّر عنه بالطلب التشريعي ، وهو يصدق في تمام الموارد التي يطلب فيها المريد من غيره تحصيل إرادته بقطع النظر عن كون الطالب عاليا أو مستعليا أو ملتمسا أو راجيا أو ما إلى ذلك فإنّ كل هذا يصدق عليه طلب تشريعي.

وبهذا البيان اتّضح المراد من الطلب التشريعي المأخوذ في تعريف مادّة الأمر واتّضح أنّ مادّة الأمر مشمولة للطلب التشريعي ولكنّها غير مختصّة به ، بل إنّ الطلب التشريعي يصدق عليها وعلى غيرها ، ولذلك قلنا في التعريف إنّ الأمر لا يتحقّق إلاّ بالطلب التشريعي الصادر من العالي.

الجهة الثانية :

فيما وضعت له مادّة الأمر من معان أخرى : فقد ذكر اللغويّون أنّ

ص: 211


1- سورة المؤمنون : آية 73
2- سورة الكهف : آية 41

مادة الأمر وضعت لمجموعة من المعاني :

منها : أنها وضعت لمعنى الشيء فإذا قلت : « وجدت أمرا » فهذا يعني « وجدت شيئا » ، ولعلّ منه قوله تعالى : ( وَإِلَى اللّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ ) (1) أي الأشياء.

ومنها : أنّها وضعت لمعنى الحادثة ، كأن تقول : « حصل أمر » أي حادثة ، وكانت العرب إذا فاجأها حدث غريب غير متوقّع قالت : « أمر دبّر بليل » أي حادث خطّط له بليل.

ومنها : أنها وضعت لمعنى الغرض ، كما تقول : « عندي أمر أريد تحقيقه » أي عندي غرض ، ولعلّ منه قوله تعالى : ( ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ ) (2) أي ثم لا يكن غرضكم من البغي عليّ مخفيّا.

وبهذا تكون مادّة الأمر من المشتركات اللفظيّة ، وإذا كان كذلك فهي لا تدل على الطلب الخاص إلاّ إذا قامت القرينة على تعيينه دون سائر المعاني.

الجهة الثالثة :

هل أنّ مادّة الأمر دالّة على مطلق الطلب الخاص وبذلك تشمل المستحب أو أنها دالّة على خصوص الوجوب منه؟

وقع الكلام في ذلك بين الأعلام وذهب المشهور منهم على دلالتها

ص: 212


1- سورة لقمان : آية 22
2- سورة يونس : آية 71

على الوجوب واستدلّ لذلك بمجموعة من الأدلّة :

الدليل الأول : قوله تعالى : ( فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ ) (1) ، وتقريب الاستدلال على الوجوب أنّ مطلق الأمر وقع متعلّقا للتحذير ولو كان الأمر صادقا على المستحب لما كان هناك أيّ مبرّر للتحذير عن مخالفته ؛ إذ أنّ التحذير عن المخالفة إنّما يناسب التكاليف الإلزاميّة.

وبتعبير آخر : التحذير عن المخالفة وقع على مطلق الأوامر الإلهيّة ولا معنى للتحذير عن مخالفة المستحبّات إذ أنّ ذلك خلف كونها مستحبّات مما يكشف عن أنّ الأوامر الإلهيّة خاصّة بالواجبات ، ثبت المطلوب.

الدليل الثاني : وهو قول رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله : « لو لا أن أشقّ على أمّتي لأمرتهم بالسواك » (2) ، وتقريب الاستدلال على الوجوب هو أنّ المستحبّات لا مشقّة في جعلها على المكلّف لأنّه في سعة من جهتها ، فلو كان الأمر صادقا على المستحب فلا معنى لمراعاة الرسول صلی اللّه علیه و آله للأمّة بعدم أمرها بالاستياك بعد أن كان الاستياك متوفّرا على ملاك يقتضي جعله على الأمّة ، نعم المناسب لمراعاة الرسول صلی اللّه علیه و آله في عدم إيقاع الأمّة في المشقّة من جهة الاستياك - رغم توفّره على الملاك - هو الوجوب.

وبتعبير آخر : إنّ مراعاة الرسول صلی اللّه علیه و آله للأمّة في عدم أمرها بالاستياك باعتبار أنّ الأمر فيه مشقّة على الأمّة مما يعني أنّ الأمر يقتضي الإلزام إذ أنّه لا مشقّة مع عدم الإلزام.

ص: 213


1- سورة النور : آية 63
2- وسائل الشيعة : ج 4 الباب 3 من أبواب السواك ، وقد أرسلها الشيخ الصدوق عن النبي صلی اللّه علیه و آله معبّرا ب- « قال النبي صلی اللّه علیه و آله » مما يشعر بجزمه باعتبار الرواية

الدليل الثالث : هو التبادر : وهي علامة الحقيقة بتقريب أنّ المنسبق إلى الذهن عند إطلاق المولى للأمر هو الوجوب ، والانسباق من اللفظ هو التبادر.

البحث الثاني : في صيغة الأمر :
اشارة

وهي هيئة فعل الأمر بقطع النظر عن المادّة الواقعة في إطارها ، ويقع البحث عنها في جهات :

الجهة الأولى : فيما وضعت له صيغة الأمر :

ذكروا أنّ صيغة الأمر وضعت لمجموعة من المعاني بالإضافة إلى معنى الطلب.

منها : أنّها وضعت للتمنّي ، كقوله تعالى : ( رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ ) (1).

ومنها : أنّها وضعت للترجّي ، كقوله تعالى : ( رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ ) (2).

ومنها : أنّها وضعت للتهديد ، كقوله تعالى : ( وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ) (3).

ومنها : أنّها وضعت للتعجيز ، كقوله تعالى : ( قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ

ص: 214


1- سورة المؤمنون : آية 99 و 100
2- سورة المؤمنون : آية 107
3- سورة الإسراء : آية 64

مِثْلِهِ ) (1).

إلاّ أن هذه المعاني لا يمكن أن تكون صيغة الأمر موضوعة لها ؛ وذلك لأننا حين نبحث عن وضع كلمة لمعنى إنما نبحث عن مدلولها التصوّري إذ أنه هو المدلول الوضعي ، وهذه المعاني التي ذكرت لصيغة الأمر إنما تناسب المدلول التصديقي إذ أنّ المدّعي لكونها موضوعة لهذه المعاني لاحظ وقوعها في إطار جملة تامّة ومرادة من المتكلّم بالمراد الجدّي ، وهذا إنما يناسب المدلول التصديقي الجدّي والذي هو غير مستفاد من الوضع بل إنّه مستفاد من حال المتكلّم وأنه في مقام الطلب أو التمنّي أو الترجّي أو ما إلى ذلك ، ونحن هنا نبحث عن مدلول الصيغة التصوّري الذي ينشأ عن الوضع.

فحقّ البحث أن يتّجه نحو ملاحظة الصيغة باعتبارها معنى حرفيا إذ أنّها من الهيئات وقد قلنا إن الهيئات من المعاني الحرفية ، فالبحث عن الصيغة يقع من حيثيّتين :

الحيثيّة الأولى : ملاحظة صيغة الأمر باعتبارها معنى حرفيّا والمعنى الحرفي كما ذكرنا موضوع للنسبة الربطيّة بين الطرفين غايته أن هذه النسبة تختلف باختلاف الهيئات والحروف كما اتّضح ذلك مما سبق ، وإذا لاحظنا صيغة الأمر وجدنا أنّها تدل على النسبة الربطيّة الطلبيّة بين متعلّق الصيغة وبين المطلوب منه الأمر ، فقول المولى « صلّ » تدلّ فيه هذه الصيغة على النسبة الطلبية بين متعلّق الصيغة وهو الصلاة المطلوبة وبين المأمور

ص: 215


1- سورة يونس : آية 38

بالصلاة ، أو تكون هذه الصيغة مفيدة للنسبة الإرساليّة بين المرسل « بصيغة المفعول » والمرسل إليه - بصيغة المفعول وهي الصلاة ، فعليه تكون النسبة الإرسالية أو الطلبيّة مفيدة لنحو من أنحاء الربط وهو الربط الواقع بين المأمور به والمأمور « وهو المكلّف » وكذلك متعلّق الأمر.

هذا هو المستفاد من صيغة الأمر إذ أنه هو المناسب لكون الصيغة من المعاني الحرفية.

وبهذا يتّضح أنّ صيغة الأمر ليست موضوعة لمفهوم الطلب أو الإرسال إذ أن ذلك لا يتناسب مع كونها معنا حرفيّا ، فالمعنى الحرفي لا يكون مدلوله معنى اسميّا ، نعم يمكن أن يكون للمعنى الحرفي ما يماثله في المعاني الاسميّة كما ذكرنا ذلك ، إلا أنّ هذا لا يعني أن المعنى الحرفي مرادف للمعنى الاسمي.

فكما قلنا إنّ « في » لا يرادف مفهوم الظرفيّة وإنما يماثلها ويوازيها فكذلك الكلام في صيغة الأمر فهي لا ترادف مفهوم الطلب أو الإرسال وإنما توازيه وتماثله مع الاحتفاظ بكون صيغة الأمر معنى حرفيّا مفيدا للنسبة وأنّ مفهوم الطلب معنى إسميّاً.

الحيثيّة الثانية : ملاحظة صيغة الأمر باعتبارها واقعة في إطار جملة تامّة مشتملة على فعل وهو صيغة الأمر وفاعل وهو المأمور وبهذا الاعتبار يمكن أن يكون للصيغة الواقعة في الجملة التامّة مدلول تصديقي ثان إلا أنّ هذا المدلول مستفاد من معرفة حال المتكلم وأنّه جادّ في الحكاية عن واقع نفسه ، فإذا جاء المتكلّم بصيغة الأمر في إطار جملة تامّة نبحث عن ما هو الداعي الذي دعاه لاستعمال الصيغة في الجملة التامّة وسنجد أنّ هذا الداعي

ص: 216

هو أحد المعاني التي ذكرت لصيغة الأمر.

ومن هنا لا تكون هذه المعاني موضوعة لصيغة الأمر ، وإنّما هي مستفادة من معرفة الداعي الذي دعى المتكلّم أن يستعمل صيغة الأمر في الجملة التامّة ، وهذا يعني أنها مستفادة من معرفة حال المتكلّم والذي هو منشأ المدلول التصديقي الثاني.

إذن فهذه المعاني ليست أكثر من دواع يبرزها المتكلّم عن طريق صيغة الأمر فتبقى محتفظة بمدلولها التصوّري مع اكتسابها معنى زائدا هو الطلب أو التعجيز أو التمنّي وهكذا.

هذا بناء على ما هو المعروف من أنّ الدلالة التصوّرية هي الدلالة الوضعيّة ، وأما بناء على مسلك التعهّد - النافي لكون الدلالة التصوّرية هي الدلالة الوضعية وأنّ الدلالة الوضعيّة إنما هي الدلالة التصديقيّة وأنها تكون في الجمل التامة - يكون المدلول الوضعي فيها هو المدلول الجدّي ، فهنا لا محالة تكون صيغة الأمر الواقعة في إطار الجملة التامّة موضوعة لمجموع هذه المعاني على نحو الاشتراك اللفظي ، وقد بيّنّا فيما سبق كيفيّة الوضع في الجملة التامّة بناء على مسلك التعهّد وأنها موضوعة للمدلول التصديقي الثاني فراجع.

الجهة الثانية : فيما هو الظاهر من صيغة الأمر في مرحلة المدلول التصديقي الثاني :

والظاهر من صيغة الأمر في هذه المرحلة هو الطلب ؛ وذلك لأن المدلول التصوّري لصيغة الأمر هو إما النسبة الطلبية أو النسبة الإرساليّة وكلاهما يقتضي أن تكون صيغة الأمر في مرحلة المدلول التصديقي الثاني

ص: 217

هو الطلب دون غيره من الدواعي المذكورة.

وتوضيح ذلك :

أما بناء على كون المدلول التصوّري هو النسبة الطلبيّة فلأنّ واقع الطلب فرد حقيقي للنسبة الطلبيّة بل إنّ واقع النسبة الطلبيّة ليس شيئا آخر غير مصداق الطلب ، فإرادة غير الطلب من النسبة الطلبيّة حينئذ خلاف الظاهر إذ أنّ ظاهر المتكلّم أنّه يستعمل الكلام فيما وضع له وهذا هو مدرك أصالة التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول الجدّي.

وأما بناء على أن المدلول التصوّري هو النسبة الإرساليّة ؛ فلأنّ الإرسال يعني البعث والتحريك نحو الغاية والهدف ، فإذا قلت : « أرسلت زيدا » فإن المتفاهم من هذا التعبير هو بعث زيد نحو المطلوب.

ومع اتّضاح هذا نقول : إنّ صيغة الأمر إذا كانت موضوعة للنسبة الإرساليّة فهي ظاهرة في الطلب دون سائر المعاني ؛ وذلك لأن النسبّة الإرسالية والتي هي الربط المخصوص بين المرسل - بصيغة المفعول - والمرسل إليه إنما تنشأ غالبا عن تعلّق إرادة المستعمل للصيغة بالمرسل إليه ، وهذه الغالبية هي التي تكوّن الظهور في الطلب لكلّ صيغة أمر وقعت في إطار جملة تامّة.

وإذا تم ما ذكرناه فإنّ كلّ مورد من موارد استعمال الصيغة في إطار جملة تامّة يكون ظاهرا في الطلب ما لم تقم قرينة على الخلاف.

الجهة الثالثة : ظهور صيغة الأمر في الوجوب :

اتّضح - ممّا سبق - أنّ صيغة الأمر موضوعة للنسبة الطلبيّة أو الإرساليّة ، وظاهرة في الطلب في مرحلة المدلول الجدّي إلاّ أنّ الكلام يقع

ص: 218

في أنّ هذا الطلب الذي هو المدلول الجدّي للصيغة هل هو مطلق الطلب أو خصوص الطلب الوجوبي؟

نقول : إنّ المشهور بين الأعلام ( رضوان اللّه عليهم ) هو أنّ صيغة الأمر في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي ظاهرة في خصوص الطلب اللزومي وأنّ المتكلّم الجاد حين استعمال الصيغة يريد الطلب الوجوبي واستدلّ على ذلك بما هو المتفاهم عرفا من صيغة الأمر عندما يكون المستعمل لها جادّا.

وبعبارة أخرى : إنّ المتبادر من صيغة الأمر عند أهل المحاورة هو الوجوب.

إذا اتّضح هذا فنقول : إنّه وقع الكلام في الأفعال المفيدة للطلب والتي لا تكون من قبيل فعل الأمر ، وهذه الأفعال يمكن تصنيفها إلى صنفين :

الأول : الفعل المضارع المقرون بلام الأمر : كقوله تعالى : ( وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً ) (1) ، فإنّ ( يستعفف ) في الآية الشريفة وإن كان فعلا مضارعا إلاّ أنّه مفيد للطلب ببركة اقترانه بلام الأمر ، وهذا النوع من الأفعال لم يختلف الأعلام ( رضوان اللّه عليهم ) في كونه مشمولا لتمام الأحكام الواقعة على صيغة الأمر ، فكما أنّ صيغة الأمر مثلا موضوعة للنسبة الإرساليّة أو الطلبيّة فكذلك الفعل المضارع المقرون بلام الأمر ، وكما أنّ صيغة الأمر في مرحلة المدلول الجدّي ظاهرة في الطلب الوجوبي فكذلك الفعل المضارع المقرون بلام الأمر.

ص: 219


1- سورة النور : آية 33

الثاني : الفعل المضارع المجرّد والفعل الماضي : كقوله علیه السلام : « لا تعاد الصلاة إلاّ من خمس ... » (1) ، وكذلك قوله تعالى : ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ) (2) ، هذا في الفعل المضارع ، وأمّا الفعل الماضي فيمكن أن نمثّل له بما لو سأل سائل عمّن صلّى قبل الوقت فجاء الجواب « أعاد صلاته » فإنّ هذه الجملة المشتملة على الفعل وكذلك الجمل السابقة جمل خبريّة إلاّ أنّها استعملت لغرض الإنشاء والطلب ، فهي خبريّة صورة إلاّ أنّها إنشائيّة طلبيّة روحا. وهذا النوع من الأفعال المفيدة للإنشاء والطلب وقع الكلام عنها من حيث دلالتها على الوجوب أو عدم دلالتها ، وهذا ما أرجأ المصنف بحثه إلى الحلقة الثالثة.

الجهة الرابعة : والكلام فيها عن الأوامر الإرشاديّة :

تنقسم الأوامر سواء المدلول عليها بالصيغة أو بالمادّة أو بشيء آخر إلى قسمين : أوامر مولويّة وأوامر إرشاديّة ، وهذا التقسيم إنّما هو بلحاظ ما تكشف عنه الأوامر.

أمّا الأوامر المولويّة : فهو ما يكون مدلولها حكما من الأحكام التكليفيّة الطلبيّة والتي هي الوجوب والاستحباب ، ومولويّتها ناشئة عن أنّ المولى يجعل هذه الأحكام على عهدة المكلّف بحيث يكون المكلّف مبعوثا نحو تحقيق متعلّقاتها أداء لحقّ المولويّة للمولى ، غايته أنّ المولى قد

ص: 220


1- معتبرة زرارة عن أبي جعفر علیه السلام ، وسائل الشيعة : الباب 1 من أبواب أفعال الصلاة الحديث 14
2- سورة التوبة : آية 71

يرخّص في ترك بعض متعلّقات هذه الأوامر إلاّ أنّ الترخيص لا يسقطها عن الطلب.

وأمّا الأوامر الإرشاديّة : فهي ما يكون مدلولها حكما عقليّا أو حكما شرعيّا وضعيّا.

وتوضيح ذلك : أنّ الأمر سواء المدلول عليه بالصيغة أو بالمادّة ظاهر - كما قلنا - في الوجوب أي ظاهر في الأمر المولوي إلاّ أنّه قد تقوم قرينة تصرف هذا الظهور إلى مدلول آخر تبعا للقرينة. فمن الموارد التي استعمل فيها في غير الأوامر المولويّة الوجوبيّة هو هذا المورد الذي نحن بصدد الحديث عنه ، وهو : ( الأوامر الإرشادية ) وهي التي لا يكون متعلقها مبعوثا نحوه ومطلوبا من المكلّف تحصيله ، وإذا كان فيه طلب فهو ليس من مقتضيات نفس الأمر الإرشادي ؛ إذ الأمر الإرشادي لا يبعث بنفسه نحو متعلّقه.

وبتعبير آخر : الأمر الإرشادي دوره دور الكاشف وليس له دور البعث نحو متعلّق الأمر كما في الأوامر المولويّة.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ الأوامر الإرشاديّة يمكن تقسيمها إلى قسمين :

القسم الأول : ما يكون فيه الأمر كاشفا عن مدرك من المدركات العقليّة ، أو قل عن حكم من الأحكام العقليّة والتي يكون لها تقرر وثبوت في مرحلة سابقة على صدور الأمر ويكون دور الأمر الإرشادي فيها دور المنبّه والمرشد إلى الحكم العقلي وبالتالي يكون المطلوب في مثل هذه الأوامر ليس مطلوبا مولويّا بل هو مطلوب يقتضيه العقل ، وذلك كقوله تعالى :

ص: 221

( وَأَطِيعُوا اللّهَ ) (1) ، فإنّ صيغة الأمر هنا استعملت في الأمر الإرشادي ، والذي صرف ظهور هذه الصيغة عن الأمر المولوي الوجوبي هو وجود قرينة عقليّة تمنع من هذا الظهور بل وتكوّن ظهورا آخر وهو الظهور في الإرشاديّة ، وهذه القرينة هي حكم العقل باستحالة أن يكون هذا الأمر مولويّا إذ لو كانت طاعة اللّه عزّ وجلّ مستندة إلى أمر اللّه جلّ وعلا لكنّا قد احتجنا إلى أمر يبعثنا نحو طاعة أمر اللّه الذي يقتضي طاعة اللّه.

وهكذا الكلام في هذا الأمر الأخير ، فإما أن يدور أو يتسلسل وكلاهما مستحيل ، أما إذا استندت طاعة اللّه عزّ وجلّ إلى ما يقتضيه العقل من لزوم طاعة المولى جلّ وعلا انتفى كلا المحذورين ، وهذه القرينة هي التي صرفت صيغة الأمر عن ظهورها في الوجوب وكوّنت ظهورا جديدا للأمر وهو الإرشاديّة ، فالمراد من الإرشاديّة إذن في المقام هو التنبيه على ما يحكم به العقل من لزوم طاعة المولى جلّ وعلا ، إذن الأمر الإرشادي لا يبعث بنفسه نحو متعلّقه.

القسم الثاني : - من الأوامر الإرشاديّة - ما يكون مدلوله حكما وضعيّا - وقد قلنا - إن الأحكام الوضعيّة هي مجعولات شرعيّة لا تتّصل بفعل المكلّف مباشرة أي أنها ليست حكما تكليفيّا مجعولا على عهدة المكلّف بحيث يكون المكلف مبعوثا نحوها ومطلوبا منه إيجادها ، نعم قد تكون موضوعا لحكم تكليفي - كما بيّنّا ذلك في محلّه - ، والأحكام الوضعيّة هي مثل الطهارة والنجاسة والملكية والصحة والفساد لأن هذه المجعولات

ص: 222


1- سورة التغابن : آية 12

الشرعيّة لا يكون المكلّف مسؤولا عن تحصيلها ، ولهذا لو صدر أمر وكان متعلّقه أحد هذه المجعولات الشرعيّة فإنّ هذا الأمر يكون إرشاديّا ، والقرينة على إرشاديّته هي معرفة عدم مطلوبيّته بنفسه من المكلّف ، فلو قال المولى « طهّر ثوبك من الدم بالماء » فإنّ هذا الأمر ليس ظاهرا في الوجوب وذلك لوجود قرينة صارفة عن ظهور هذا الأمر في الوجوب ، وهذه القرينة هي أنّ متعلّق الأمر وهو الطهارة ليس مطلوبا من المكلّف تحصيله إذ أن للمكلّف أن لا يطهّر الثوب عن الدم ولا يكون بذلك قد خالف أمر المولى ، إذن يكون هذا الأمر مرشدا إلى حكم وضعي وهو أنّ الدم من النجاسات وأنّ الماء من المطهّرات.

دلالات أخرى للأمر :
اشارة

والكلام عنها يقع في مباحث :

المبحث الأول : الأمر بعد الحظر أو بعد توهّم الحظر :

إذا ورد أمر بفعل من الأفعال وقد كان هذا الفعل ممنوعا عنه في مرحلة سابقة أو كان متوهّم المنع فقد وقع الكلام في احتفاظ هذا الأمر بدلالته على الوجوب أو أنّ وروده بعد الحظر أو بعد توهّم الحظر قرينة عامّة على انهدام الظهور في الوجوب.

وقبل بيان ما هو الصحيح في ذلك نمثّل لكلا الموردين حتى يكون البحث أكثر وضوحا.

أما المورد الأول : - وهو ورود الأمر بعد الحظر - فيمكن أن يمثّل له

ص: 223

بقوله تعالى : ( وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ) (1) فان الأمر بالاصطياد ورد بعد المنع عنه بقوله تعالى : ( لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ) (2) وهذا المثال وإن لم يكن دقيقا - إذ أن موضوع الحكمين مختلف - إلا أنه يصلح للتوضيح من حيث إن الأمر بالاصطياد وقع بعد المنع عنه.

المورد الثاني : - ورود الأمر بعد توهّم الحظر - ويمكن أن يمثّل له برواية يونس بن يعقوب ، قال : سألت أبا عبد اللّه علیه السلام عن الرجل يريد أن يتزوّج المرأة وأحبّ أن ينظر إليها ، قال علیه السلام : « تحتجز ثم لتقعد وليدخل فلينظر » (3) فإن الأمر بالنظر إلى المرأة قبل الزواج ورد بعد توهّم السائل الحظر والمنع عن النظر.

وإذا اتّضح هذا فنقول : إنّ الأمر الوارد بعد الحظر أو بعد توهّم الحظر تارة يلحظ من حيث مدلوله التصوّري وأخرى من حيث المراد الجدّي والمدلول التصديقي.

أمّا من حيث المدلول التصوّري فالصحيح هو عدم تبدل دلالته على النسبة الطلبيّة وذلك لأن المدلول التصوّري يبقى منحفظا حتى في موارد العلم بعدم إرادة المستعمل للمعنى الموضوع له اللفظ - كما ذكرنا ذلك فيما سبق - فلو قال المتكلّ مثلا : « رأيت أسدا يرمي » فإنّ الأسد هنا لم يرد

ص: 224


1- سورة المائدة : آية 2
2- سورة المائدة : آية 95
3- وسائل الشيعة : الباب 36 من أبواب مقدّمات النكاح الحديث 10 ، وقد رواها الشيخ في التهذيب بسنده عن علي بن الحسن بن فضال ، فيكون اعتبارها مبنيّا على تماميّة نظريّة التعويض

المتكلّم منه المعنى الموضوع له لفظ الأسد ، ومع ذلك يبقى لفظ الأسد دالا على معناه الموضوع له ، ولذلك يخطر معناه في ذهن السامع رغم العلم بعدم إرادة المتكلّم للمدلول الوضعي التصوّري.

وأمّا من حيث المدلول الجدّي التصديقي فالصحيح هو انهدام ظهور صيغة الأمر في الوجوب وتبدّله من الظهور إلى الإجمال ، فلا يكون الأمر ظاهرا في الوجوب كما لا يكون ظاهرا في خصوص نفي الحرمة ؛ وذلك لأن ورود الأمر بعد الحظر يصلح أن يكون قرينة على صرف ظهور الأمر في الوجوب كما يصلح أن يكون قرينة على خصوص نفي الحرمة ، نعم لا نحرز قرينيّة الورود بعد الحظر أو بعد توهّمه على صرف الظهور عن الوجوب أو نفي الحرمة.

وفرق بين كون الأمر بعد الحظر قرينة على صرف الظهور عن الوجوب وانعقاد الظهور في نفي الحرمة وبين أن يكون الأمر بعد الحظر صالح للقرينيّة ، فإنّ إحراز القرينيّة يوجب سلب الظهور عن الوجوب وانعقاد الظهور في الاختصاص بنفي الحرمة أما صلوح الأمر بعد الحظر أو توهّمه للقرينيّة فإن غايته إجمال المراد من الأمر ، وهل أنّ هذا الأمر ظاهر في الوجوب أو ظاهر في خصوص نفي الحرمة ، وهذا التردد في المراد من الأمر هو ما يعبّر عنه بالإجمال.

المبحث الثاني : دلالة الأمر الموقّت على لزوم القضاء :

وموضوع البحث في المقام هو أنّ توقيت الواجب بوقت محدد هل هو قرينة عامّة على لزوم القضاء في خارج الوقت فيما لو فات المكلّف امتثال

ص: 225

الواجب في وقته ، مثلا قوله تعالى : ( فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ) (1) ، فإنّ هذه الآية الشريفة تدلّ على وجوب إيقاع الصوم في شهر رمضان المبارك ، وهذا لا كلام فيه إنما الكلام في أنّ توقيت الوجوب بشهر رمضان هل يدل على لزوم قضاء هذا الواجب فيما لو فات المكلّف امتثاله في الوقت المعيّن أو لا؟

ومن أجل أن يكون الجواب واضحا نقول : إنّ الأوامر الموقّتة على نحوين :

النحو الأوّل : ما يكون الواجب فيها حصّة خاصّة من الفعل وهو الفعل الكائن في الوقت المعيّن ، وبعبارة أخرى : ما يكون الأمر دالا على مطلوب واحد وهو الفعل المقيّد بالوقت وذلك مثل صلاة الجمعة في قوله تعالى : ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ ) (2) ، فإنّ الأمر بصلاة الجمعة المستفاد من قوله تعالى : ( فَاسْعَوْا ) أمر بحصّة خاصّة من الصلاة وهي الكائنة في يوم الجمعة ، وفي مثل هذا النحو من الأوامر الموقّتة لا يكون التوقيت دالا على لزوم القضاء لو فات المكلّف امتثال المأمور به في وقته ، فعليه يكون ثبوت القضاء على المكلّف يقتضي خطابا آخر من المولى ، إذ لا يكون الخطاب الأول كافيا في ثبوت القضاء في ظرف الفوت ، هذا هو معنى عدم تبعيّة القضاء للأداء.

النحو الثاني : ما يكون مدلولها منحلا إلى أمرين على نحو تعدّد

ص: 226


1- سورة البقرة : آية 185
2- سورة الجمعة : آية 9

المطلوب ، وذلك بأن يكون الخطاب الدال على الوجوب الموقّت مشتملا على أمرين :

الأول : الأمر بالفعل على سعته ، والثاني هو : لزوم امتثاله في وقت معيّن ، ويمكن التمثيل لذلك بقوله تعالى : ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ ) (1) ، فإنّ الخطاب في هذه الآية يمكن أن يقال إنّه منحلّ إلى أمرين : الأوّل الأمر بذات الصوم ، والثاني الأمر بلزوم امتثاله في الأيام المعدودات - شهر رمضان - ، وهذا النحو من الأوامر هو محل النزاع في المسألة إذ أنّه هو الذي يمكن أن يقال فيه بأن سقوط الأمر الثاني بفواته أو معصيته لا يقتضي سقوط الأول بل يبقى الخطاب بامتثاله على حاله إذ لا مقتضي لسقوطه وزوال فعليّته ولذلك لا يكون الأمر بالقضاء محتاجا إلى خطاب جديد ، إلاّ أنّ ذلك لا يتم إلا مع قيام القرينة على تعدّد المطلوب وأن خروج الوقت لا يوجب سقوط الأمر عن الفعليّة ، وأمّا مع فقدان القرينة فالظاهر في الأوامر الموقّتة هو وحدة المطلوب إذ أنّ الظاهر من التوقيت هو أخذ الوقت في متعلّق الأمر أي أن المأمور به هو الحصّة المقيّدة بالوقت لا أنّ الحصّة المقيّدة بالوقت هي أكمل الأفراد مثلا ؛ فلذلك تكون مطلوبة لمزية فيها ويكون مطلق الفعل الشامل لهذه الحصّة مطلوبا آخر حتى تكون ثمرة ذلك هو عدم سقوط الأمر بفوات الحصّة الخاصّة.

ص: 227


1- سورة البقرة : آية 183 و 184
المبحث الثالث : الأمر بالأمر :

يقع الكلام في هذا المبحث عن أنّ الأمر بالأمر بشيء هل يدلّ على أنّ متعلّق الأمر الثاني مطلوب من المأمور الثاني بحيث يكون مسؤولا عنه ، كما لو كان قد توجّه إليه الأمر مباشرة.

وبتعبير آخر : لو أنّ المولى أمر مكلّفا بأن يأمر مكلّفا آخر بفعل شيء ، فإنّه لا كلام في تنجّز الأمر الأول على المكلّف الأوّل - أي أنّ المكلّف الأوّل مسؤول عن امتثال الأمر بالأمر - وإنّما الكلام في تنجّز متعلّق الأمر الثاني على المكلّف الثاني.

وهنا ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الأوّل : أن يكون المكلّف الثاني مسؤولا عن امتثال الأمر الثاني مطلقا.

الاحتمال الثاني : أن لا يكون المكلّف الثاني مسؤولا عن امتثال الأمر الثاني مطلقا.

الاحتمال الثالث : أن يكون المكلّف الثاني مسؤولا عن امتثال الأمر الثاني فيما لو امتثل المكلّف الأوّل الأمر الأوّل ولا يكون مسؤولا في حالة عدم الامتثال.

ومنشأ الاحتمال الأول : هو استظهار طريقيّة الأمر الأوّل للأمر الثاني ، وأنّ إرادة المولى قد تعلّقت بإيجاد المأمور به الثاني من المكلّف الثاني ، وبهذا لا يكون للأمر الأوّل والمكلّف الأوّل سوى دور الوساطة ، ولو تمّ هذا الاستظهار فإنّه ينتج مسؤولية المكلّف الثاني عن متعلّق الأمر الثاني حتى لو لم يمتثل المكلّف الأول بالأمر الأول.

ص: 228

مثلا قوله تعالى : ( وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ ) (1) ، فإنّ الخطاب هنا موجّه للمكلّف الأوّل بأن يأمر أهله ( المكلّف الثاني ) بالصلاة ، فلو كنّا نبني على الاحتمال الأوّل ، فهذا معناه تنجّز الصلاة على الأهل مطلقا سواء امتثل المكلّف الأول - وأمر أهله بالصلاة - أو لم يمتثل ، فإنّ الأهل مسؤولون عن الصلاة لو اطّلعوا على أن المولى قد أمر المكلّف الأوّل بأن يأمرهم بالصلاة.

ومنشأ الاحتمال الثاني : هو استظهار اختصاص تعلّق غرض المولى بامتثال المكلّف الأوّل للأمر الأوّل دون أن يكون له أيّ غرض بمتعلّق الأمر الثاني ، بمعنى أن يكون مصبّ الغرض المولوي هو امتثال المكلّف الأوّل للأمر الأوّل.

وهذا ما يتّفق كثيرا عند الموالي العرفيّين كأن يأمر المولى ابنه بأن يأمر العبيد بأمر معيّن ولا يكون للمولى غرض سوى تعليم ابنه طريقة الأمر والنهي.

ولو كان هذا الاستظهار هو المتعيّن فإنّ المكلّف الثاني لا يكون مسؤولا عن متعلّق الأمر الثاني سواء امتثل المكلّف الأول الأمر بالأمر أو لم يمتثل.

ومنشأ الاحتمال الثالث : هو استظهار تعلّق غرض المولى بمتعلّق الأمر الثاني ، إلاّ أنّ تعلّق غرضه بذلك منوط بامتثال المكلّف الأول للأمر بالأمر ، فيكون لامتثال المكلّف الأول موضوعيّة بمعنى أنّ التكليف المتوجّه للمكلّف الثاني رتّب على موضوع مقدّر الوجود وهو امتثال المكلّف الأوّل

ص: 229


1- سورة طه : آية 132

للأمر بالأمر.

ولو تمّ هذا الاستظهار فمعناه أنّ المكلّف الثاني لا يكون مسؤولا عن امتثال الأمر الثاني إلاّ حين يمتثل المكلّف الأول الأمر الأول.

ويترتّب على نتيجة هذا البحث ثمرات مهمّة في الفقه ، ولعلّ من أهمّها مسألة مشروعيّة عبادات الصبي ، حيث وردت مجموعة من الروايات مفادها أمر الأب أو الولي بأن يأمر الصبي بالصلاة أو الصوم. منها معتبرة الحلبي : « ... فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين » (1) ، ومنها : معتبرة الحلبي : « ... فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم » (2).

فلو كنّا نستظهر الاحتمال الأول وأنّ الأمر بالأمر يدلّ على مطلوبيّة متعلّق الأمر الثاني من المأمور الثاني فهذا يقتضي البناء على مشروعيّة عبادات الصبي إذ أنّ المأمور به الثاني وهو الصلاة أو الصوم يصبح حينئذ مطلوبا من الصبي ، وطلبه من الصبي يعني مشروعيّته كما هو واضح ، وكذلك لو كنّا نستظهر الاحتمال الثالث ، غايته أنّ فعلية الأمر الثاني تكون منوطة بامتثال الولي الأمر الأوّل.

أمّا لو كنّا نستظهر الاحتمال الثاني وأنّ الأمر بالأمر لا يدلّ على أنّ متعلّق الأمر الثاني مطلوب من المأمور الثاني ، فهذا يقتضي عدم صلاحيّة الأمر بالأمر للدلالة على مشروعيّة عبادات الصبي.

ص: 230


1- وسائل الشيعة : 4 / 19 الباب 3 من أبواب أعداد الفرائض الحديث 5
2- معتبرة الحلبي عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، الباب 29 من أبواب من يصح منه الصوم الحديث 3
النهي
اشارة

قلنا إنّ للأمر أسلوبين من الكلام ، الأوّل هو الأمر بواسطة مادّته ، والثاني هو الأمر بواسطة هيئته ، وهذا البيان يجري أيضا في النهي إذ أنّه يتم تارة عن طريق مادّة النهي وتارة بواسطة هيئة النهي.

أمّا النهي بواسطة المادّة فهو يتمّ عن طريق استعمال لفظ النهي في إطار أي هيئة من الهيئات ، وذلك مثل قوله تعالى : ( وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ) (1).

وأمّا النهي بواسطة الهيئة فهو يتمّ عن طريق استعمال الفعل المضارع المدخول ل- « لا » الناهية ، وذلك مثل قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (2).

ثم إنّ الكلام في مدلول النهي بإسلوبيه :

وفي المقام ثلاثة اتجاهات في تفسير معنى النهي :

الاتجاه الأول : هو أنّ معنى النهي طلب الترك ، أي أنّ المطلوب في النواهي هو ترك متعلّقاتها ، فلو قال المولى : لا تشرب الخمر ، فإنّ هذا

ص: 231


1- سورة النحل : آية 90
2- سورة الأنعام : آية 152 ، سورة الإسراء : آية 34

يعني طلب ترك شرب الخمر ، وبتعبير آخر : هذه الجملة تساوق أن نقول : ( اترك شرب الخمر ).

وباتّضاح هذا يتّضح أنّ متعلّق النهي من سنخ الأمور العدميّة إذ أنّ الامتثال بناء على هذا المعنى يتحقّق بمجرّد عدم ارتكاب الفعل المنهي عنه حتى لو كان عدم الارتكاب ناشئا عن مناشئ قهريّة كما لو قصد شرب الخمر وشرب سائلا باعتقاد أنّه خمر ثم اتّفق عدم خمريّة ذلك السائل فإنّه - بناء على هذا القول - لا يكون المكلّف عاصيا للنهي المولوي بل هو ممتثل للنهي إذ أنّه ليس أكثر من عدم إيقاع المكلّف المنهي عنه ، ومن الواضح أنه لم يتّفق وقوع الفعل المنهي عنه من المكلّف وإن كان عدم الوقوع نشأ عن أمر قهري.

الاتجاه الثاني : هو أنّ معنى النهي طلب الكفّ عن الفعل المنهي عنه ، والكفّ هو حالة من إعمال النفس وتوطينها وحملها على فعل شيء أو تركه ، وبهذا يكون النهي من سنخ الأمور الوجوديّة ؛ إذ أنّ امتثاله لا يتمّ إلاّ عبر هذه الحالة من التوطين النفساني على الترك ، فإنّ المكلّف إذا أراد أن يمتثل فإنّه لا يكتفي بعدم شرب الخمر ، بل لا بدّ أن يكون عدم الشرب ناشئا عن إعمال النفس.

ومع اتّضاح هذين الاتجاهين في معنى النهي يقع الكلام في الدليل على كل واحد منهما ، وقد استدلّ كلّ واحد من أصحاب هذين الاتجاهين بما يسقط الاتّجاه الآخر ، حيث استدل أصحاب الاتجاه الثاني على فساد الاتجاه الأول بما حاصله :

إنّ الترك لمّا كان من سنخ الأمور العدميّة فهو ثابت من الأزل

ص: 232

فيستحيل أن يتعلّق به الطلب ؛ إذ أنّ تعلّق الطلب به يكون من تحصيل الحاصل ، أو قل إعدام المعدوم ، فمثلا « لا تشرب الخمر » لو كان المراد منه لزوم إعدام شرب الخمر فإنّ ذلك يعني إعدام ما هو عدم من الأزل وهو مستحيل لعدم القدرة على إعدام ما هو عدم.

ولمزيد من التوضيح نقول : لو أنّ إنسانا لم يشرب الخمر منذ أن ولد إلى أن بلغ وخوطب بالنهي عن شرب الخمر فإنّه لو كان النهي عن شرب الخمر يعني مخاطبة المكلّف بإعدام شرب الخمر فإنّ ذلك ثابت للمكلّف من الأزل إلى أن ولد إلى أن بلغ وخوطب بالنهي عن شرب الخمر ، فتكليفه بإعدام شرب الخمر تكليف بغير المقدور ؛ إذ أنّ التكليف بالمنع عن شرب الخمر - بناء على هذا الاتجاه - تكليف بإعدام المعدوم إذ كيف يعدم ما هو معدوم والحال أنّه فرع الوجود للشيء الذي يراد إعدامه.

لا يقال : إنّ هذا الإشكال إنّما يتم في فرض المثال وهو عدم شرب المكلّف للخمر من الأزل إلى البلوغ ، أمّا في ظرف شرب المكلّف للخمر قبل البلوغ أو حين البلوغ مثلا لا يكون إعدامه لشرب الخمر من قبيل إعدام المعدوم.

فإنّه يقال : إنّ هذا الكلام لا يتم وعلى فرض تماميّته فإنّه يكفي في التنبيه على فساد هذا المبنى تماميّة الإشكال ولو في مثل ما افترضناه ، إذ أنّه لا يتعقّل وجود معنيين للنهي ، معنى يناسب ما افترضناه في المثال ومعنى آخر هو طلب الترك.

هذا ما استدل به أصحاب الاتجاه الثاني لإثبات مدّعاهم ، وتلاحظون أنهم استدلوا لإثبات دعواهم عن طريق إسقاط الاتجاه الأول

ص: 233

وكأنهم يرون أنّ معنى النهي لا يخلو عن أحد هذين المعنيين فإذا سقط أحدهما تعيّن الآخر.

وكيف كان فالدليل الذي استدلّوا به على إثبات مدّعاهم ليس تاما ؛ وذلك : لأنّ الترك وإن كان ثابتا من الأزل إلاّ أنّ انقطاعه مقدور للمكلّف ، وهذا هو المصحّح للتكليف بالترك - أي الاستمرار على الترك - إذ أنّه كل ما كان أحد النقيضين مقدورا كان نقيضه أيضا داخلا تحت القدرة ، فالقادر على الفعل قادر على نقيضه وهو الترك وإلاّ لما كان الفعل مقدورا له ، وفي المقام لمّا كان فعل المنهي عنه مقدورا فهذا يعني أنّ تركه أيضا مقدور لعدم إمكان تحقّق القدرة في أحد طرفي النقيضين دون الآخر ؛ وذلك لأن القدرة هي ما كان فيها كلا النقيضين داخلين تحت الاختيار.

وأمّا ما استدلّ به أصحاب الاتجاه الأول لإسقاط الاتجاه الثاني - القائل بأنّ النهي هو الكفّ وتوطين النفس على ترك الفعل المنهي عنه - فهو أنّه لا إشكال في أنّ الذي ترك الفعل لا عن توطين وإعمال من النفس على الترك - بل عن دافع آخر - لا يعدّ بنظر العرف مخالفا للمولى وعاصيا له.

الاتجاه الثالث : وهو مختار المصنّف رحمه اللّه ، وحاصله : أنّ النهي يعني الزجر عن الفعل الذي وقع متعلّقا للنهي أو قل إنّه الإمساك من قبل المولى عبده عن أن يقع في مخالفة المنهي عنه ، غايته أنّ النهي تارة يستفاد من المادة فيكون معناه الزجر والإمساك بالمعنى الاسمي وتارة يستفاد من الهيئة فيكون مفاده النسبة الزجريّة الواقعة بين المزجور - وهو المكلّف - والمزجور عنه - وهو الفعل المنهي عنه - أو النسبة الإمساكيّة الواقعة بين الممسوك والممسوك عنه - وهو متعلّق النهي -.

ص: 234

وبناء على هذا يكون متعلّق النهي هو الفعل والذي هو الانزجار والامتناع والانمساك إذ أنّ متعلّق الزجر هو الانزجار ، والامساك متعلّقه الانمساك عن الفعل ومتعلّق المنع هو الامتناع ، وكل هذه المتعلّقات من سنخ الأفعال كما هو واضح.

ظهور النهي في الحرمة :

لم يقع إشكال في ظهور النهي بمادّته وهيئته في الحرمة ، وإن وقع الخلاف في كيفيّة نشوء هذا الظهور ، وكل المناشئ المذكورة يدّعى توليدها للظهور.

وكيف كان فإنّ الحرمة هي مقتضى المتفاهم العرفي من النهي المولوي وهي المنسبقة منه عند إطلاقه ، وهذا هو التبادر.

ص: 235

الاحتراز في القيود

وقبل بيان ما هو الغرض من عقد هذا البحث نذكر مقدّمة نبيّن فيها أنحاء القيود المرتبطة بالحكم ونشرح فيها كيفيّة ارتباطها به.

فنقول : إنّ القيود التي أشار إليها المصنّف رحمه اللّه خمسة :

النحو الأول : هو متعلّق الحكم : والمراد من متعلّق الحكم هو ما يكون ناشئا عن الحكم ومترتّبا عليه ومتولّدا منه ، فمتعلّق الوجوب هو المطلوب تحصيله ومتعلّق الحرمة هو المطلوب تركه أو قل المزجور عنه ومتعلّق الإباحة هو الفعل الذي للمكلّف تركه أو ارتكابه.

ومن الواضح أنّ كلّ ذلك إنما ينشأ عن فعليّة الحكم ، فمتى ما تحققت الفعليّة صار متعلّقه - أي الفعل الذي وقع مصبا للحكم - مطلوبا أو مزجورا عنه أو موسعا على المكلّف فعله أو تركه.

ومثال ذلك لو قال المولى « صلّ » فإنّ متعلّق الأمر هو الصلاة إذ هي المطلوب بالأمر وهي التي لم تكن مطلوبة قبل الأمر ، وهكذا لو قال المولى « لا تشرب الخمر » فإنّ المزجور عنه هو شرب الخمر فهو إذن متعلّق النهي.

هذا فيما يتّصل بالأحكام التكليفيّة ، وأمّا ما يتّصل بالأحكام الوضعيّة فكذلك تجري عليه نفس الضابطة المذكورة وهي كلّ ما نشأ عن الحكم وكان مصبّا له فهو متعلّق الحكم.

ص: 236

ومثال ذلك : الإيجاب والقبول في البيع العقدي فإنّ المكلّف إذا ما أراد تحقيق البيع العقدي فإنّه ملزم بالإتيان بالإيجاب والقبول.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ متعلّق الحكم يشمل قيود الواجب إذ أنّها تنشأ عن الحكم وتكون لازمة التحصيل.

النحو الثاني : موضوع الحكم : وهو ما يكون الحكم مترتّبا عليه ومتأخرا عنه من غير فرق بين كون الموضوع متقرّرا خارجا وقبل عروض الحكم عليه وبين كونه مفترض الوجود فإنّه في كلا الحالتين يكون الحكم مترتّبا عليه.

ومثاله ما لو قال المولى « لا تشرب الخمر » فإنّ موضوع الحكم في هذه القضية هو الخمر وكذلك المكلّف المخاطب بالمنع عن شرب الخمر ، ولو أردنا أن نطبق الضابطة عليهما لوجدناها منطبقة تماما حيث إنّ المولى حينما جعل الحرمة على شرب الخمر افترض وجود الخمر والمكلّف ثم جعل الحرمة على المكلّف والخمر ، غايته أنّ نسبة الحرمة إلى المكلّف هي نسبة الزجر إلى المزجور ونسبتها إلى الخمر نسبة الزجر إلى المزجور عنه.

وبتعبير أدق وأشمل لبيان الضابطة : إنّ كلّ شيء أنيطت فعليّة الحكم به فهو موضوع الحكم ، وهذا لا يكون إلاّ في حالة يؤخذ فيها الموضوع مقدّر الوجود أي متى ما اتفق وجوده ترتّبت الفعليّة للحكم.

وبهذا تكون قيود الوجوب مشمولة للموضوع ، فالاستطاعة للحج من قيود الوجوب فهي إذن موضوع الحكم بالوجوب وكذلك البلوغ من قيود الحكم فهو إذن موضوع للحكم.

النحو الثالث : الشرط : وهو روحا عين الموضوع في القضايا

ص: 237

الحمليّة أو قل إنّ الموضوع في القضايا الحمليّة يؤول إلى الشرط فحينما تقول : أكرم العالم فكأنّك قلت : أكرم الإنسان إذا كان عالما ، وكيف كان فالموضوع والشرط يشتركان في كون الحكم مترتّبا عليهما ، والاختلاف بين الموضوع - في القضايا الحمليّة - والشرط - في القضايا الشرطيّة - إنّما هو في الصياغة.

النحو الرابع : الغاية : والمراد منها الأمد الذي تنتهي معه فعليّة الحكم ، وهي روحا جزء موضوع الحكم إذ أنّ القطعة الزمنيّة التي تبدأ مع بدايتها فعليّة الحكم وتنتهي مع نهايتها فعليّة الحكم هي الموضوع الذي افترض وجوده ثم رتّب عليه الحكم ، والغاية إنما هي الحد الأخير للموضوع الذي رتّب عليه الحكم.

النحو الخامس : الوصف : وهو القيد المضيّق لدائرة الموضوع فهو يشمل مثل النعت النحوي والحال والتمييز فإنها جميعا تشترك في كونها مضيّقة لموضوع الحكم ، مثلا : « أكرم الفقير العالم » ، و « أكرم الفقير عالما » ، و « أكرم الفقير الأكثر علما » ، كلّها تشترك في أنّها مضيّقة لموضوع الحكم وهو الفقير.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نرجع إلى ما هو الغرض من عقد هذا البحث وهو أنّ القيود المأخوذة في الأحكام في مرحلة المدلول التصوّري هل تكون مرادة في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي بحيث تكون تلك القيود المفادة بالألفاظ دخيلة في الحكم جدّا وواقعا أو أنّ هذه القيود ذكرت لغرض التوضيح أو التمثيل مثلا ، بحيث لا يكون وجودها وعدمها مؤثرا في ترتّب الحكم.

ص: 238

والصحيح أنّ ما يقتضيه الظهور العرفي والذي عليه أهل المحاورة هو التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول الجدّي ، فكلّ القيود المرتبطة بالحكم في مرحلة الدلالة الوضعية التصوّرية تكون مرادة في مرحلة الدلال التصديقية الثانية ، إذ أنّ ظاهر حال كل متكلّم أنّه مريد لكل ما يخطره من معان بواسطة الألفاظ الموضوعة لها ، فإذا أخطر المتكلم قيدا لحكم بواسطة اللفظ الموضوع له فإنّ ظاهر حاله أنّه مريد وقاصد لجعل ذلك الحكم مرتبطا بذلك القيد ، مثلا قوله تعالى : ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (1) ، فإنّ الحكم بالتيمّم ارتبط بحسب المدلول التصوّري بالصعيد الطيّب فلا يشمل بحسب هذا المدلول غير الصعيد كما لا يشمل الصعيد غير الطيّب ، وإذا كان كذلك بحسب المدلول التصوّري فهو أيضا كذلك بحسب المدلول الجدّي وذلك لأصالة التطابق بين المدلولين المستفادة من ظهور حال كل متكلّم في أنّ ما يقوله ويخطره من معان فهو يريده جدّا وواقعا. ومنشأ هذا الظهور هو أنّ كل عاقل يريد أن يؤدي مقاصده يؤديها عن طريق الوسائل المتعارفة إذ أنّه قد لا يحقق مقاصده فيما لو استعمل غير الوسائل المتعارفة ، ومن الواضح أنّ المتكلّم لو لم يكن مريدا لتقييد الحكم بقيد ومع ذلك استعمل القيد لغرض التمثيل أو التوضيح ، فهذا يعني أنّه أراد التوصل لأغراضه بغير الطريقة المتعارفة إذ أنّ الطريقة المتعارفة حين إرادة التوضيح أو التمثيل هو إبراز قرينة تدلّ على ذلك لا أن يأتي بلفظ ويريد غير معناه

ص: 239


1- سورة المائدة : آية 6

فإنّ ذلك خلاف ما تبانى عليه العقلاء من تأدية مقاصدهم بالوسائل المتعارفة.

وبما ذكرناه يتّضح المراد من قاعدة احترازيّة القيود ، وهي أنّ كل القيود المتحيّث بها الحكم في مرحلة المدلول التصوّري فهي مرادة للمتكلّم بحسب المدلول الجدّي.

وبعبارة أخرى : إنّ كلّ الألفاظ الموضوعة لإفادة تقييد الحكم بقيد فإنّ مفاداتها مرادة للمتكلّم ، فكما أنّها قيود بحسب مدلولاتها الوضعيّة فكذلك هي قيود واقعا وبحسب مراد المتكلّم.

ومنشأ هذه القاعدة كما ذكرنا هي ظهور حال كلّ متكلّم أنّ ما يقوله ويخطره من معان بواسطة الألفاظ فإنّه مريد لهذه المعاني في مقام الجدّ.

وإذا اتّضح ما ذكرناه يتّضح أنّ الحكم المرتبط بهذه القيود لا يشمل الفاقد لها وإلاّ لما كان القيد قيدا إذ أنّ طبيعة كل قيد نفي الحكم عن غير المتقيّد به فلو قال المولى مثلا « السائل الخمري نجس » فهذا يعني أنّ السائل غير المتقيّد بعنوان الخمريّة لا يكون مشمولا للحكم بالنجاسة ، نعم قد تثبت لسائل آخر النجاسبة ولكن بغير هذا الحكم المفاد بهذا الخطاب ، فشخص الحكم بالنجاسة الثابت للسائل الخمري لا يشمل غير المتقيّد بالخمريّة ، فشأن القيود وإن كان هو نفي الحكم الشخصي عن الموضوعات غير المتقيّدة بها إلاّ أنّ ذلك لا يعني أنّ هذه القيود تنفي ثبوت مثل هذا الحكم لتلك الموضوعات بقيود أخرى أو ملاكات أخرى.

وبهذا يتّضح معنى الاحترازيّة في القيود وأنّها تعني المانعيّة من شمول الحكم لغير المتقيّد بتلك القيود إلاّ أنّ المانعيّة التي توجبها القيود هي المانعيّة عن شمول شخص الحكم لغير المتقيّد بتلك القيود.

ص: 240

الإطلاق
اشارة

ويقع البحث في جهات :

الجهة الأولى : في تحديد معنى الإطلاق :

الإطلاق بحسب مدلوله اللغوي يعني الإرسال بحيث يكون المطلق في سعة وفسحة ، فحينما يقال دابّة مطلقة فهذا يعني أنّها مرسلة وغير معقولة بعقال يمنعها عن الاسترسال في الحركة ، وكذلك حينما يقال أطلق الرجل عنان دابّته أي رفع عنها القيد المانع لها عن الاسترسال.

وهذا المعنى اللغوي للإطلاق لا يختلف كثيرا عن معناه في مصطلح الأصوليّين بل إنّ كلّ التعاريف المذكورة للإطلاق تحوم في حمى المعنى اللغوي ، وهذا واضح لمن تأمّل في التعاريف التي ذكروها للإطلاق.

وكيف كان فقد عرّف المصنّف رحمه اللّه الإطلاق بما يقابل التقييد ، ولمّا أن كان المراد من التقييد هو ملاحظة موضوع الحكم أو متعلّقه مكتنفا بقيد أو قيود موجبة لتضييق دائرة الموضوع أو المتعلّق فالإطلاق هو عدم ملاحظة تلك القيود.

فموضوع الحكم مثلا في كلّ من التقييد والإطلاق واحد غايته أنّ التقييد يضيف للموضوع قيودا زائدة توجب تضيّقه ، وهذا بخلاف الإطلاق

ص: 241

حيث إنّ الموضوع معه يكون عاريا عن كل قيد حتى لحاظ عدم القيد إذ أنّ لحاظ عدم القيد قيد ، في حين أنّه قد افترضناه عاريا عن كل قيد.

وبهذا يصحّ أن يقال إنّ الإطلاق هو عدم لحاظ القيد للطبيعة الواقعة موضوعا أو متعلّقا لحكم من الأحكام ، فالحكم قد جعل في حالات الإطلاق على الطبيعة المجرّدة عن كل القيود ، وهذا هو معنى أنّ الإطلاق من سنخ الأمور العدميّة إذ أنّ معناه عدم اللحاظ للقيد فكأنّ المطلق - بصيغة الفاعل - لم يلاحظ القيود من رأس ، وإنما جعل الحكم على الطبيعة المجرّدة دون أن يكون له التفات إلى القيود حتى يثبتها أو ينفيها إذ أنّ إثبات القيد أو نفيه هو معنى التقييد ، فإنّ نفي القيد معناه أنّ الطبيعة - الواقعة موضوعا أو متعلّقا للحكم - مقيدة بعدم القيد وبه لا يكون موضوع الحكم هو الطبيعة المجرّدة ، فحينما يقول المولى : « الميتة بشرط عدم الاضطرار والإكراه حرام » فإنّ المجعول عليه الحرمة في المثال ليس هو الطبيعة المجرّدة والمرسلة بل هي الطبيعة المقيّدة بعدم هذه القيود.

وبعبارة أخرى : إن الطبيعة المجعول عليها الحرمة ليست هي الميتة بما هي بل هي حصّة خاصّة من الميتة وهي الميتة المتّصفة بعدم الاضطرار والإكراه.

والمتحصّل ممّا ذكرنا أن الإطلاق يقابل التقييد تقابل التناقض حيث قلنا أنّ التقييد هو لحاظ القيود في مقام جعل الحكم على موضوعه أو متعلّقه ، والإطلاق هو عدم لحاظ القيود بل يكون الحكم مجعولا على الطبيعة المجرّدة عن القيود.

فالتقابل بين لحاظ القيد وعدم لحاظ هو تقابل التناقض كما هو

ص: 242

واضح.

إذا اتّضح معنى الاطلاق ومعنى التقييد نقول : إنّ الإطلاق يمكن تصوّره في الموضوع كما يمكن تصوّره في المتعلّق ، وكذلك التقييد يمكن تصوّره في الموضوع والمتعلّق ، ومن أجل أن يتّضح المطلب نذكر لكل صورة من هذه الصور الأربع مثالا :

الصورة الأولى : الإطلاق في الموضوع : ومثاله قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (1) ، فالميتة هي موضوع الحرمة في الآية الشريفة ، وتلاحظون أن الحكم قد جعل على الطبيعة المرسلة والمجرّدة عن القيود إذ لم يلحظ معها أيّ قيد ، أي أنّ مصبّ النظر في الآية الشريفة مقتصر على طبيعة الميتة بما هي.

الصورة الثانية : الإطلاق في المتعلّق : ومثاله « أكرم العلماء » فإنّ الإكرام هو متعلّق الوجوب الثابت بصيغة الأمر ، وتلاحظون أن متعلّق الحكم هو طبيعة الإكرام العاري عن تمام القيود ولذلك فهي تصدّق على كل أنحاء الإكرام.

الصورة الثالثة : التقييد في الموضوع :ويمكن التمثيل له بقوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ) (2) فإن الموضوع للحرمة في الآية الشريفة هو طبيعي المال ولكن بإضافة قيد وهو اليتيم.

الصورة الرابعة : التقييد في المتعلّق : ومثاله أيضا قوله تعالى :

ص: 243


1- سورة المائدة : آية 3
2- سورة الانعام : آية 152

( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) (1) فالمتعلّق للحرمة في الآية الشريفة هي طبيعي التصرّف في مال اليتيم ولكن لوحظ مع هذه الطبيعة قيد زائد وهو المستفاد من قوله تعالى : ( إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) إذ أنّ هذا تقييد لمتعلّق الحرمة فكأنّه قال : أنهاكم عن التصرّف بغير حق ، ف- « بغير حق » قيّد به التصرّف الذي هو متعلّق النهي في الآية الشريفة.

الجهة الثانية : هل الإطلاق مستفاد من الوضع أو من دالّ آخر؟
اشارة

ويتحدّد الجواب عن هذا السؤال بتحديد ما هو الموضوع لألفاظ المفاهيم الواقعة موضوعا أو متعلّقا للأحكام ، فإذا قلنا إنّ ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع بما هي دون أن يكون الإطلاق والتقييد دخيلا فيما هو الموضوع لها فهذا يعني أنّ الإطلاق غير مستفاد من الوضع ، وإذا قلنا إنّ ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع بنحو الإطلاق فهذا يعني أنّ الإطلاق مستفاد من الوضع ، مثلا لو قلنا إنّ لفظ الإنسان أو لفظ الإكرام موضوعان لطبيعة الإنسان بما هي ولطبيعة الإكرام بما هو دون أن يلحظ مع هذه الطبيعة شيء آخر فهذا يعني أنّ الإطلاق كالتقييد يعرضان على الطبيعة وليس للفظ الإنسان أو للفظ الإكرام أيّ دلالة عليهما وإنّما يستفادان من دالّ آخر ، فحينما يقال : « أكرم الإنسان » فإنّ هنا مدلولين ، الأول طبيعة الإنسان والآخر الإطلاق ، والمدلول الأوّل مستفاد من لفظ الإنسان والمدلول الثاني مستفاد من دال آخر غير مفهوم الإنسان كما هو الحال في

ص: 244


1- سورة الانعام : آية 152

التقييد ، فحينما يقال : « أكرم الإنسان العالم » فإنّ مفهوم الإنسان أفاد معنى الطبيعة بما هي ، والعالم أفاد التقييد على نحو تعدد الدال والمدلول.

وهذا بخلاف ما لو قلنا إنّ لفظ الإنسان موضوع للطبيعة المطلقة فإنّ الإطلاق حينئذ مستفاد من نفس لفظ الإنسان ولا نحتاج إلى دالّ آخر لإفادته ، وبه يكون استعمال لفظ الإنسان في خصوص العالم استعمالا مجازيّا لأنّه استعمال في غير ما وضع له لفظ الإنسان ؛ إذ أنّه وضع للطبيعة المطلقة وقد استعمل في الطبيعة المقيّدة بالعالميّة.

الثمرة المترتّبة على ما هو الدالّ على الإطلاق :

ويترتّب على الخلاف فيما هو الدال على الإطلاق ثمرتان :

الثمرة الأولى : وقد أشرنا إليها فيما سبق ونذكرها لمزيد من التوضيح وهي أنّه بناء على أنّ ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع بما هي فهذا يعني عدم وجود أيّ تجوّز في استعمال اللفظ الدال على الطبيعة في المقيّد بنحو يكون الدالّ على القيد لفظا آخر ، فيكون لفظ المفهوم محتفظا بمعناه وهو الطبيعة بما هي والقيد مستفاد من لفظ آخر على نحو تعدّد الدالّ والمدلول.

وأمّا بناء على أنّ ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع المطلقة ، فهذا يعني أنّ استعمال ألفاظ المفاهيم وإرادة الطبايع المقيّدة استعمال مجازي إذ أنّه استعمال في غير ما وضعت له ألفاظ المفاهيم.

الثمرة الثانية : لو استعمل لفظ من ألفاظ المفاهيم في قضية من القضايا ولم ندر أنّه استعمل في الطبيعة المطلقة أو في حصة خاصة منها ، فإنّه بناء على القول الأول لا يمكن تحديد ما هو المراد من هذا اللفظ بواسطة

ص: 245

الوضع إذ أنّ الوضع بناء على هذا القول لا يدلّ على أكثر من الطبيعة بما هي ، والإطلاق والتقييد أمران يعرضان عليها فنحتاج لإثبات أحدهما إلى دالّ آخر غير اللفظ الدال على الطبيعة.

وأمّا بناء على القول الثاني فإنّه في مثل هذا الفرض نحمل اللفظ على الطبيعة المطلقة إذ أنّه هو المعنى الموضوع له لفظ المفهوم حيث قلنا إنّ الإطلاق قد أخذ في المعنى المدلول عليه بلفظ المفهوم.

وبهذا تكون الدلالة الوضعيّة التصوّرية للفظ المفهوم هي الطبيعة المطلقة ومنه نحرز أنّ المتكلّم أراد من لفظ المفهوم الطبيعة المطلقة وذلك لقاعدة احترازية القيود.

الجهة الثالثة : الصحيح من القولين بنظر المصنّف رحمه اللّه :

وقد استوجه المصنّف رحمه اللّه من هذين القولين القول الأول القاضي بكون ألفاظ المفاهيم موضوعة للطبايع بما هي دون أن يكون لهذه الألفاظ دلالة على الإطلاق.

واستدلّ على ذلك بما عليه أهل المحاورة وبما هو المتفاهم عندهم من عدم عدّ استعمال لفظ المفهوم في الحصّة الخاصّة - على سبيل تعدّد الدال والمدلول - مجازا مما يكشف عن أنّ الموضوع له لفظ المفهوم هو الطبيعة فحسب دون أن تكون له دلالة على الإطلاق بالإضافة للطبيعة.

قرينة الحكمة : وبعد أن لم يكن الوضع دالا على الإطلاق يقع الكلام عمّا هو الدالّ على الإطلاق فنقول : إنّ الإطلاق - كما ذكرنا - هو عدم لحاظ القيود في الموضوع الذي يراد جعل الحكم له وإذا كان كذلك ففي

ص: 246

كل مورد لا يذكر فيه المتكلّم أيّ قيد للموضوع المجعول عليه الحكم رغم أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام غرضه ، وليس هناك مانع يمنعه عن بيان تمام مراده ، فهذا يعني أنّ الحكم قد جعل على الموضوع المطلق والمجرّد عن تمام القيود ، ولو لم يكن كذلك لذكر القيود المضيّقة لدائرة الموضوع ، وإلاّ لكان ذلك خلف كون المتكلّم في مقام البيان لتمام غرضه والذي استفدناه من ظهور حال كلّ متكلّم وأنّه يبيّن تمام مراده.

وبهذا يتّضح أنّ الإطلاق مستفاد من ظهور حال كلّ متكلّم في أنّ ما ذكره هو تمام مراده وأنّ الذي لم يذكره في كلامه فهو غير مراد له إذ أنّه لو كان مرادا لذكره ، فعدم ذكره له كاشف عن عدم إرادته ، إذ لو كان مريدا له ولم يذكره لكان ذلك نقضا للغرض ، والحكيم لا ينقض غرضه.

وبهذا البيان - المعبّر عنه بقرينة الحكمة - ينعقد الظهور للإطلاق.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ الدالّ على الإطلاق هو قرينة الحكمة وهي تعني ظهور حال المتكلّم في عدم إرادة القيود التي لم يذكرها في كلامه.

ومنشأ هذا الظهور هو مجموعة من المقدمات ينعقد عن ترتيبها هذا الظهور الحالي السياقي وهذه المقدّمات هي :

أولا : افتراض الموضوع - الذي جعل المتكلّم له الحكم - مجرّدا عن أيّ قيد.

ثانيا : افتراض عدم وجود مانع يمنع عن بيان تمام المراد من تقيّة أو نحوها.

ثالثا : إنّ الأصل في كلّ متكلّم أن يكون في مقام بيان تمام أغراضه.

رابعا : إنّ كلّ متكلّم عاقل إذا تعلّق غرضه بشيء يسعى لتحقيق

ص: 247

غرضه.

خامسا : إنّ عدم السعي لتحقيق الغرض نقض للغرض.

سادسا : إنّ الحكيم لا ينقض غرضه ولا يسمح بفوات وتضييع مراداته.

سابعا : إنّ عدم ذكر القيد مع عدم إرادته نقض للغرض وتفويت للمصالح المرادة كما أنّه خلف كون المتكلّم في مقام بيان تمام مراده.

ولو تأمّلنا هذه المقدّمات ورتّبناها على شكل أقيسة منطقيّة لوجدنا أنّها هي التي أوجبت ظهور حال المتكلّم في عدم إرادة القيود التي لم يذكرها وهذا هو عين قرينة الحكمة الموجبة لانعقاد الظهور في الإطلاق.

وخلاصة الكلام : إنّ قرينة الحكمة التي ينعقد بها الظهور في الإطلاق لا تكون إلاّ في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي كما هو الحال في قاعدة احترازية القيود إذ أنّهما يشتركان في أنّ استفادتهما لا تتمّ إلاّ من خلال معرفة حال المتكلّم وأنّه جادّ في تفهيم مقاصده عن طريق ما جاء به من خطاب.

غاية ما في الأمر أنّ قاعدة احترازية القيود تفترق عن قرينة الحكمة في أنّ الاولى توجب انعقاد ظهور حال المتكلّم في أنّ ما ذكره من قيود في مرحلة المدلول الوضعي التصوّري هي مرادة في مرحلة المدلول التصديقي الجدّي.

أمّا قرينة الحكمة فهي توجب ظهور حال المتكلّم في أنّ الذي لم يذكره في خطابه في مرحلة المدلول الوضعي التصوّري فهو غير مراد له ، وبهذا ينعقد الظهور في الإطلاق إذ أنّ القيود التي لم يذكرها إذا لم تكن مراده

ص: 248

فهذا يعني أنّ المراد هو الطبيعة المجرّدة فحسب إذ أنّها هي التي ذكرها المتكلّم في خطابه ، فبضمّ أنما ذكره من لفظ دالّ على الطبيعة فهو مريد له ، وأنّ الذي لم يذكره من قيود للطبيعة فهو غير مراد له ينعقد الظهور في الإطلاق.

وهنا إشكال قد يرد على انعقاد الظهور في الاطلاق بواسطة قرينة الحكمة وحاصله :

إنّ قرينة الحكمة تعتمد فيما تعتمد على استظهار كون المتكلّم في مقام البيان لتمام مراده ، وهذه المقدّمة غير حاصلة ؛ وذلك لأنّ المتكلّم إذا لم يبيّن ما يدلّ على الإطلاق فهو لم يبيّن تمام مراده ، إذ غاية ما بيّنه هو جعل الحكم على الطبيعة وهي بنفسها لا تقتضي الإطلاق كما لا تقتضي التقييد ، والحال أنّه إمّا أن يكون مريدا للإطلاق أو يكون مريدا للتقييد ، فما بيّنه إذن ليس تمام مراده إذ أنّ مراده لو كان التقييد فهو لم يأت بالتقييد كما هو الفرض ، ولو كان مراده الإطلاق فأيّ شيء يدلّ على الإطلاق؟ في حين لم يأت في كلامه إلاّ بما يدلّ على الطبيعة ، والطبيعة - كما هو مقتضى هذا المبنى - لا تستبطن هذا الإطلاق.

والجواب عن هذا الإشكال يتمّ بملاحظة ما ذكرناه من أنّ الإطلاق هو عدم لحاظ القيود ، فإذا كان المتكلّم قد جعل الحكم على الطبيعة ولم يقيّد هذه الطبيعة بأيّ قيد فإنّ هذا يعني عدم إرادة هذه القيود إذ أنّه لو كان مريدا لها ولم يذكرها فقد نقض غرضه والحكيم لا ينقض غرضه ، وبهذا ينعقد الإطلاق ، إذ أنّ الإطلاق كما قلنا ليس أكثر من عدم لحاظ القيود ، وقد ثبت بالمقدّمة السابقة أنّ المتكلّم لم يلاحظ القيود حينما جعل الحكم على الطبيعة.

ص: 249

إذن فالذي هو مفتقر إلى مؤنة زائدة على ذكر الطبيعة هو التقييد إذ أنّه يعني لحاظ القيود ولا مثبت للحاظ القيود إلا ذكرها.

وهذا بخلاف الإطلاق فإنّ ذكر الطبيعة وحدها مع الظهور الحالي للمتكلّم في أنّ الذي لم يذكره لا يريده كاف في انعقاد الإطلاق.

وبعبارة أخرى : كاف في إثبات عدم إرادة القيود وهو معنى ثان للإطلاق إلا أن يقال بأنّ الإطلاق لا ينعقد إلاّ بتصريح المتكلّم بعدم إرادة القيود ، ولكن هذا القول بعيد عن الصواب وذلك لأنّه يستبطن أنّ المتكلّم لا بدّ أن يذكر كل ما يريد وكل ما لا يريد وإلاّ لا ينعقد لكلامه ظهور ، وهذا باطل حتما إذ أنّ المتفاهم العرفي من حال كلّ متكلّم أنّ الذي لم يذكره في خطابه فهو لا يريده وأنّ مقدار ما يريده هو مقدار ما بيّنه في خطابه.

وبهذا اتضح أنّ قرينة الحكمة هي الدالّ على الإطلاق ولهذا لا ينعقد للإطلاق ظهور فيما لو اختلّت بعض مقدمات قرينة الحكمة ، فلو أحرزنا من الخارج مثلا أنّ المتكلّم ليس في مقام البيان لتمام موضوع حكمه فإنّه لا ينعقد للإطلاق ظهور إذ لا يمكن في هذه الحالة استظهار أنّ الذي لم يذكره المتكلّم فهو غير مريد له إذ لعلّ بعض الذي لم يذكره مراد له ، ولا نافي لهذا الاحتمال بعد أن أحرزنا أن المتكلّم ليس في مقام البيان لتمام موضوع حكمه ، وهذا بخلاف ما لو كان الإطلاق مستفادا عن الوضع فإنّ ذكر الطبيعة وحدها كاف في انعقاد الظهور في الإطلاق حيث إن الطبيعة - بناء على هذا المبنى - تستبطن معنى الإطلاق وذلك لأنّ اللفظ الدال عليها موضوع للطبيعة المطلقة ، وبذكر اللفظ الدالّ على الطبيعة المطلقة تتنقّح الدلالة الوضعيّة التصوّرية ، وبضم هذه الدلالة إلى قاعدة احترازية القيود

ص: 250

- التي تنشأ عن أصالة التطابق بين المدلول التصوّري والمدلول الجدّي - ينعقد الظهور في الإطلاق أي أنّ المتكلّم مريد للإطلاق.

وبتعبير آخر : إنّه لمّا كان معنى احترازيّة القيود هو أنّ كلّ ما ذكره في خطابه فهو مريد له ، فهذا يعني أنه مريد للإطلاق إذ أنّ ذكر ما يدلّ على الطبيعة ذكر للإطلاق حيث إنّ اللفظ الدال عليها موضوع للطبيعة المطلقة ، وهذا بخلاف المبنى الآخر حيث إنّ اللفظ الدال على الطبيعة لا يدلّ على أكثر منها وإنّ الإطلاق إنما هو مستفاد من قرينة الحكمة ولمّا كانت بعض مقدّمات قرينة الحكمة مفقودة في المقام فلا دالّ على الإطلاق.

الجهة الرابعة : أقسام الإطلاق :
اشارة

ويمكن تقسيم الإطلاق إلى قسمين :

الأول : الإطلاق الشمولي.

الثاني : الإطلاق البدلي.

وكل واحد من هذين القسمين يمكن تقسيمه إلى قسمين فحاصل أقسام الإطلاق أربعة :

القسم الأول : الإطلاق الشمولي :

وهو ما كان الإطلاق فيه مستوعبا لتمام أفراد أو أحوال الطبيعة المطلقة بحيث يكون الحكم المجعول على الطبيعة المطلقة منحلاّ إلى أحكام بعدد أفراد أو أحوال تلك الطبيعة.

وبتعبير آخر : يكون الحكم مجعولا على كل أفراد أو أحوال الطبيعة على سبيل العطف بالواو.

وهذا القسم من الإطلاق يمكن تقسيمه إلى قسمين :

ص: 251

الأول : الإطلاق الشمولي الأفرادي : وهو ما كان مصب الحكم فيه هو أفراد الطبيعة ، فهو شمولي باعتبار استيعابه للطبيعة وأفرادي باعتبار أنّ مصبّه أفراد الطبيعة. ومثاله قوله تعالى : ( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) (1) فإنّ الحكم - وبواسطة قرينة الحكمة - مجعول على تمام أفراد الطبيعة « وهي الزور » فلذلك يمكن تحليل هذا الخطاب إلى قضايا - موضوعها فرد من أفراد الزور ومحمولها لزوم الاجتناب - بعدد أفراد الطبيعة.

الثاني : الإطلاق الشمولي الأحوالي : وهو ما كان مصبّ الحكم فيه أحوال الطبيعة الواقعة موضوعا أو متعلّقا لذلك الحكم ، فهو شمولي باعتبار استيعابه للطبيعة وأحوالي باعتبار أنّ الحكم وقع على أحوال الطبيعة ، ومثاله قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ ) (2) فإن الحكم - وبواسطة قرينة الحكمة مجعول على تمام أحوال طبيعة اليتيم أي سواء كان رضيعا أو مراهقا وسواء كان سفيها أو عاقلا غنيا أو فقيرا وهكذا.

القسم الثاني : الإطلاق البدلي : وهو ما كان الحكم واقعا على أحد أفراد أو أحوال الطبيعة على سبيل البدل بحيث يمكن تحليل الطبيعة إلى أفرادها وجعل الحكم على الأفراد بنحو العطف « بأو » ، ولذلك يتحقق الامتثال بمجرّد الإتيان بفرد من أفراده.

وهذا القسم ينقسم أيضا إلى نفس القسمين اللّذين ينقسم عليهما الإطلاق الشمولي ، غايته أنّ الإطلاق هناك شمولي وهنا بدلي ويمكن التمثيل

ص: 252


1- سورة الحج : آية 30
2- سورة الانعام : آية 152

للأول بقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ ) (1) فإنّ الإطلاق هنا بدلي أفرادي حيث إنّ الحكم قد وقع على أحد أفراد الطبيعة « وهي الصلاة » على سبيل البدل.

ويمكن التمثيل للثاني بقوله تعالى : ( وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ ... ) (2) فإنّ امتثال الأمر يتحقق ببعث حكم سواء كان عالما أو جاهلا شيخا أو كهلا.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ الطبيعة الواحدة قد يعرضها في وقت واحد إطلاق أفرادي وإطلاق أحوالي كما في الآية الشريفة حيث يمكن التمسك بإطلاقها لإثبات إجزاء أيّ فرد من أفراد الأهل كما يمكن التمسك بإطلاقها لإثبات أيّ حالة يكون عليها الحكم المبعوث. الإطلاق في المعاني الحرفية :

لا ريب في إمكان بل وقوع الإطلاق في المعاني الاسمية - والتي هي مستفادة من ألفاظها استقلالا - وذلك مثل : ( تصدّق على الفقير ) فإنّه يمكن بقرينة الحكمة أن يعرض الإطلاق طبيعة الفقير والذي هو من المعاني الاسمية إذ أنّ لفظ الفقير يدلّ على معناه استقلالا وكذلك الكلام في مثل : ( لا تكذب ) فإنّ طبيعة الكذب من المعاني الاسمية إذ هو دال على معناه استقلالا ، وهذا المقدار كما قلنا من صلاحية قرينة الحكمة لخلق الإطلاق لا ريب فيه ، إنّما الإشكال في صلاحية قرينة الحكمة لخلق الإطلاق في المعاني

ص: 253


1- سورة الإسراء : آية 78
2- سورة النساء : آية 35

الحرفية - والمستفادة من الهيئات الواقعة في إطار الجمل التامّة والناقصة وذلك مثل الحرمة المستفادة من هيئة ( لا تكذب ) فإنّ الكلام يقع فيها من حيث إمكان جريان قرينة الحكمة لإثبات الإطلاق في النسبة الزجريّة أو عدم إمكان ذلك.

وهذا ما أرجأ المصنّف البحث عنه إلى الحلقة الثالثة ، وسيتّضح هناك إمكان جريان قرينة الحكمة في المعاني الحرفيّة.

التقابل بين الإطلاق والتقييد :

وقبل البحث عن نحو التقابل بين الإطلاق والتقييد لا بدّ من بيان أقسام التقابل. وهي كما ذكر المناطقة على أربعة أقسام :

الأول : تقابل التضاد : وهو ما يكون بين الأمرين الوجوديين اللّذين يستحيل عروضهما على موضوع واحد في آن واحد ولا يكون تصوّر أحدهما مستدعيا لتصوّر الآخر. وإن حصل التداعي من تصوّر أحدهما لتصوّر الآخر فهو لأمر خارجي لا يقتضيه نفس تصوّر الضد.

ويمكن التمثيل لذلك بالحسن والقبح والحب والبغض الذكاء والغباء ، فإنّ كلاّ من الحسن والقبح أمران وجوديّان يستحيل عروضهما على موضوع واحد في آن واحد كما لا يلزم من تصوّر أحدهما تصوّر الآخر.

الثاني : تقابل التضايف : وهو يكون أيضا بين الأمرين الوجوديّين اللّذين يستحيل عروضهما على موضوع واحد ومن حيثيّة واحدة ، وجهة الافتراق بين التضاد والتضايف أنّ الأول لا يلزم من تصوّر أحدهما تصوّر الآخر بخلاف الثاني فإنّ تصوّر أحد المتضايفين يلزم منه تصوّر الآخر ، ومثاله : الأب والابن وأخوة زيد لعمرو وأخوة عمرو لزيد والقريب والبعيد

ص: 254

والصغير والكبير وهكذا.

فإنّ التقابل بين الأب والابن تقابل التضايف ؛ وذلك لأنّهما أمران وجوديّان يستحيل اجتماعهما على موضوع واحد من حيثيّة واحدة إذ أنّه لا يمكن أن يكون زيد أبا لعمرو وابنا لعمرو نفسه ، وإلى هذا المقدار يكون تقابل التضايف هو عين تقابل التضاد إلاّ أنّهما يفترقان من حيث إنّ تقابل التضايف لا يكون إلاّ في العنوانين الذين يلزم من تصوّر أحدهما تصوّر الآخر كما في مثالنا ، فإنّ تصوّر عنوان الأب يستلزم تصوّر عنوان الابن وما ذلك إلاّ لأنّ العناوين المتضايفة عناوين نسبيّة إضافية أي أنّها تنتزع من إضافة أحد العنوانين إلى الآخر.

الثالث : تقابل التناقض : وهو ما يكون بين الوجود والعدم لذلك الوجود ، واستحالة اجتماعهما يعدّ من الأوليّات التي لا تفتقر إلى برهان ، كما أنّه يستحيل ارتفاعهما إذ أنّه ليس هناك حالة ثالثة ليست وجودا وليست عدما بل الأشياء لا تخلو إمّا أن تكون موجودة أو معدومة ، ومثاله : وجود الحيوان وعدم وجوده ، ووجود الكرم وعدم وجوده ، وهكذا.

إذن يفترق التقابل بين النقيضين عن التقابل بين الضدّين والمتضايفين أنّ النقيضين يستحيل خلو الواقع عنهما معا ، وهذا بخلاف الضدّين والمتضايفين.

وهناك فارق آخر وهو أنّ تقابل التناقض يتعقّل في الجواهر كما يتعقّل في الأعراض - كما اتضح ذلك من التمثيل السابق - وهذا بخلاف تقابل التضاد والتضايف فإنّه لا يكون إلاّ من الأعراض ، ولذلك قلنا ( إنهما يعرضان على موضوع واحد ).

ص: 255

الرابع : تقابل الملكة وعدمها : وهو التقابل الواقع بين الوجود والعدم في موضوع يمكن أن يتّصف بذلك الوجود ؛ فلذلك لا يكون التقابل بين الملكة والعدم إلاّ في الأعراض إذ أنّ الملكة لا تجعل بجعل الذات بل هي تعرض على الذات أو لا تعرض ؛ وذلك لأنّ الذات تجعل بنحو الجعل البسيط والذي هو إيجاد نفس الذات ، وهذا بخلاف جعل الملكة فإنّه يكون بنحو الجعل التأليفي أي اتصاف الذات بشيء بعد تقرّر الذات في رتبة سابقة ، ومن هنا يتّضح إمكان خلوّ الواقع عن الملكة وعدمها بأن لا يكون الموضوع متّصفا بالملكة أو بعدمها إلاّ أنّ خلو الواقع منهما لا يتصوّر إلاّ في الموضوعات التي ليس لها شأنية الاتّصاف بالملكة ، أمّا في الموضوع الذي له شأنيّة الاتّصاف بالملكة فإنّه لا يمكن أن يخلو واقعه من الملكة وعدمها.

ويمكن التمثيل لهذا النوع من التقابل بالنطق وعدمه والشجاعة وعدمها ، فإنّ النطق هو الملكة وعدم النطق هو عدم الملكة ولا يمكن اجتماعهما على موضوع واحد في آن واحد ، كما أنّ عدم ملكة النطق مثلا لا يتّصف بها غير الإنسان كالنبات إذ أنّه غير متّصف بالملكة فلا يتّصف بعدمها ، وبهذا يتّضح إمكان خلوّ الواقع منهما فإنّ النبات لمّا لم يكن له شأنية الملكة فلا يتّصف بعدمها.

إذا اتّضحت أنحاء التقابل ، يقع الكلام فيما هو نوع التقابل بين الإطلاق والتقييد ، والبحث عنه تارة يقع في مقام الثبوت وأخرى في مقام الإثبات.

أمّا مقام الثبوت : فتوضيحه أنّ واقع التقابل يمكن تحديده وتضييق دائرة احتمالاته عن طريق ما ذكرناه في بيان معنى التقييد والإطلاق ، حيث

ص: 256

قلنا إنّ التقييد هو لحاظ القيد والإطلاق هو عدم لحاظ القيد ، وإذا كان كذلك فنحو التقابل بينهما لا يمكن أن يكون من قبيل تقابل الضدّين أو تقابل المتضايفين لأنّ التقابل بين الضدّين وكذلك المتضايفين لا يكون إلاّ بين الأمرين الوجوديين ، والإطلاق ليس من سنخ الأمور الوجوديّة إذ أنّه كما قلنا عبارة عن عدم لحاظ القيد ، وبذلك تنحصر دائرة الاحتمالات عن واقع التقابل بين الإطلاق والتقييد في احتمالين :

الاحتمال الأول : هو تقابل التناقض : إذ أنّه يمكن أن ينسجم مع تعريف الإطلاق والتقييد كما هو واضح ، فيكون التقييد والإطلاق من قبيل وجود زيد وعدم وجوده ، ويترتّب على هذا الاحتمال أنّه في كلّ مورد يثبت فيه التقييد فهو يعني عدم الإطلاق وكذلك العكس ؛ وذلك لأنّ الواقع لا يخلو من أحد النقيضين كما اتّضح مما سبق.

الاحتمال الثاني : هو تقابل الملكة وعدمها : وهذا الاحتمال أيضا يمكن انسجامه مع تعريف الإطلاق والتقييد بحيث يكون التقييد هو الملكة والإطلاق هو عدم الملكة ، ويترتّب على ذلك أنّ الإطلاق لا يتصوّر إلاّ في مورد يمكن فيه التقييد كما هو الحال في النطق وعدمه.

أمّا مقام الإثبات : فالمتعيّن فيه هو تقابل الملكة وعدمها ، فالتقييد هو الملكة والإطلاق عدمها ؛ وذلك لأنّ مقام الإثبات يعني مقام ما يثبت الإطلاق والتقييد في مرحلة الدلالة على مقام الثبوت ، إذ أنّ وظيفة مقام الإثبات والدلالة هي الكشف عن مقام الثبوت والواقع ، ومن الواضح أنّ الذي يكشف عن التقييد الثبوتي هو ذكر القيد في مقام الدلالة ، وأنّ الذي يكشف عن الإطلاق الثبوتي هو عدم ذكر القيد في مورد يمكن فيه التقييد

ص: 257

أي له شأنيّة أن يقيد ، ولو لم يكن المورد قابلا للتقييد لما كان عدم ذكر القيد دالا على الإطلاق الثبوتي ؛ وذلك لأننا بالوجدان نرى أنّ الموارد التي لا تقبل التقييد لا يكون عدم ذكر القيد لها كاشفا عن الإطلاق ، وهذا ما يدلّ على أنّ نحو التقابل بين الإطلاق والتقييد في مرحلة الإثبات هو تقابل العدم والملكة.

الحالات المختلفة لاسم الجنس :

وقبل بيان هذه الحالات لا بدّ من تشخيص معنى اسم الجنس فنقول :

إنّ اسم الجنس هو ما يوضع بإزاء الطبيعة التي يمكن أن تنطبق خارجا على كثرين ، باعتبارها الحقيقة المشتركة بينهم ، إلاّ أنّ هذا لا يعني أنّ اسم الجنس موضوع للطبيعة بقيد الانطباق على ما تصدق عليه من أفراد لأنّ ذلك يعني أنّ الإطلاق مأخوذ فيما وضع له اسم الجنس ، وقد قلنا إنّ الإطلاق كالتقييد يعرض على الطبيعة أو لا يعرض.

ويمكن التمثيل لاسم الجنس بكل المفاهيم المعبّر عنها في المنطق بالمفاهيم الكليّة ، والتي يكون لها مصاديق أو لا يكون لها مصاديق في الخارج كالإنسان والأسد والرجل والنار والحجر والشجر ، وهكذا فإنّ كلّ هذه العناوين مفاهيم كلّية لها مصاديق أو يمكن أن لا يكون لها مصاديق في الخارج.

وإذا اتّضح المراد من اسم الجنس ، فنقول : إنّ لاسم الجنس ثلاث حالات :

الحالة الأولى : وهي أن يكون اسم الجنس معرّفا باللاّم ، وذلك مثل

ص: 258

قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) (1) وقوله تعالى : ( أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ) (2) ، فإنّ الميتة والدم والصلاة كلّها أسماء أجناس معرّفة بالألف واللام ، وقد أضفت لام التعريف على هذه الأسماء خصوصية زائدة على ما هو الموضوع له اسم الجنس ، وهذه الخصوصية الزائدة هي التعريف إذ أنّه لا تستفاد هذه الخصوصيّة من حاقّ اسم الجنس.

ولام التعريف على أنحاء ، فتارة تفيد العهد الحضوري وتارة تفيد العهد الذكري ، وتارة تفيد العهد الذهني الخاص ، وأخرى تفيد العهد الذهني العام ويعبّر عنها في النحو الرابع بلام الجنس.

وهذه الأنحاء الأربعة للام التعريف تشترك في أنّها مفيدة للإشارة إلى ما هو متعيّن ومعهود عند المخاطب ، فدورها دور اسم الإشارة ، فكما أنّ اسم الإشارة توجّه المخاطب نحو ما هو معهود ومتعيّن عنده من معنى المشار إليه ، فكذلك لام التعريف ، فقولنا الأسد في قوّة قولنا « هذا أسد » من حيث إنّ اللام واسم الإشارة « هذا » يشيران إلى ما هو المتعيّن في الذهن عند المخاطب نيتجة ملابسات وعوامل اقتضت ذلك التعيّن والمعهوديّة ، غايته أن نوع التعيّن تختلف باختلاف أنحاء لام التعريف.

أمّا النحو الأول : للام التعريف - وهي العهديّة الحضوريّة - فتتحقّق في حالة يكون فيها اسم الجنس مذكورا في الخطاب قبل تعريفه ، فتعريف اسم الجنس بعد ذلك وفي نفس الخطاب يفيد العهد الحضوري لحضور اسم

ص: 259


1- سورة المائدة : آية 3
2- سورة الاسراء : آية 78

الجنس بنفسه في الخطاب ، وذلك مثل قوله تعالى : ( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ ) (1) فإنّ لام المصباح ولام الزجاجة هي لام العهد الحضوري ؛ وذلك لأنّ اسم الجنس وهو « مصباح وزجاجة » قد ذكر في نفس الخطاب منكّرا قبل ذكره معرّفا باللام ، فلذلك تكون اللام في المصباح والزجاجة مشيرة لما هو متعيّن ومعهود عند المخاطب من معنى مصباح وزجاجة بسبب ذكر المتكلّم لهما في خطابه قبل ذكرهما معرّفين باللاّم.

وأمّا النحو الثاني : للام التعريف - وهي اللام المفيدة للعهد الذكري - فتتحقّق في حالة يكون فيها اسم الجنس مذكورا في خطابات سابقة على الخطاب الذي عرّف فيه اسم الجنس باللام ، كأن يقول المتكلّم « رأيت أسدا » ثم يقول بعد ذلك لنفس المخاطب « إنّ الأسد كان كبيرا » فإنّ اللام في هذا الخطاب هي لام العهد الذكري ، وهي تشير إلى ما هو المتعيّن والمعهود عند المخاطب بسبب ذكر اسم الجنس مجرّدا عن لام التعريف في خطاب سابق.

وأمّا النحو الثالث : للام التعريف - وهي اللام المفيدة للعهد الذهني الخاص - فهو ما إذا كانت هناك قرائن موجبة لمعهوديّة اسم الجنس وتعيّنه في ذهن المخاطب فتكون اللام الداخلة على اسم الجنس في الخطاب مشيرة إلى ذلك المعهود والمتعيّن في ذهن المخاطب بسبب تلك القرائن ، وذلك مثل

ص: 260


1- سورة النور : آية 35

قوله تعالى : ( النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ) (1) فاللام هنا مفيدة لتعيّن ما هو معهود في ذهن المخاطب من جرّاء قرائن معيّنة من قبيل أنّه لا نبي في زمن الخطاب إلا النبي صلی اللّه علیه و آله المعهود ، وبهذا تكون اللام مشيرة إلى ما هو المتعيّن في الذهن.

وسمّي العهد الذهني بالخاص لأنّ المعهود في الذهن هو حصّة خاصّة من الطبيعي.

وأمّا النحو الرابع : للام التعريف - وهي اللام المفيدة للعهد الذهني العام - فهو ما إذا كان اسم الجنس بسعته معهودا في ذهن المخاطب نتيجة معرفة أصل وضعه مثلا أو نتيجة استعماله كثيرا عند أهل المحاورة في معناه السعيّ مما أوجب تعاهده في الذهن بهذا النحو من السعة ، وفي مثل هذه الحالة لو أدخلت لام التعريف على اسم الجنس ودلّت القرينة على أنّ هذه اللام هي لام الجنس فإنّ هذا يقتضي إفادة اللام للإشارة لما هو معهود ومتعيّن في الذهن من المعنى على سعته والناشئ عن ملابسات خاصة أوجبت تعيّنه وهي كما قلنا مثل معرفة أصل الوضع.

ويمكن التمثيل له بقوله تعالى : ( إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ) (2) ، وقوله تعالى : ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ) (3) ، فإنّ اللام في مثل الإنسان تشير إلى ما هو معهود ومتعيّن في الذهن من معنى اسم الجنس على سعته.

إذا اتّضح ما ذكرناه فنقول : إنّ اسم الجنس المدخول للام التعريف له

ص: 261


1- سورة الأحزاب : آية 6
2- سورة العاديات : آية 6
3- سورة آل عمران : آية 36

الصلاحيّة لأن يعرض عليه الإطلاق إذا اكتنف استعماله بما يوجب ظهور حال المتكلّم في إرادة الإطلاق.

والإطلاق المناسب لاسم الجنس المدخول للام التعريف هو الإطلاق الشمولي القاضي باستيعاب اسم الجنس المعرّف باللام لتمام ما يصدق عليه من أفراد.

الحالة الثانية : لاسم الجنس هي أن يكون اسم الجنس منوّنا بتنوين التنكير ، وذلك مثل قوله تعالى : ( رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ ) (1) ، وقوله تعالى : ( لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ ) (2) ، فإنّ اسم الجنس « مائدة وقبس » قد أضفي عليه معنى زائد على المعنى الموضوع له اسم الجنس بسبب تنوين التنكير ، وهذا المعنى هو قيد الوحدة فيكون اسم الجنس المنوّن بتنوين التنكير يدلّ على الطبيعة المقيّدة بالوحدة على نحو تعدّد الدالّ والمدلول ، فاسم الجنس دالّ على الطبيعة بما هي ، وتنوين التنكير دال على تقيّد الطبيعة بالوحدة ، فيكون اسم الجنس محتفظا بمعناه الموضوع له ويبقى صالحا للانطباق على أفراده ، وغاية ما يصنعه تنوين التنكير هو تقييد الطبيعة بقيد الوحدة والذي يقضي بإرادة أحد أفراد الطبيعة على نحو البدل دون أن يكون لتنوين التنكير أيّ دلالة على تعيين فرد من أفراد الطبيعة.

ومن هنا يتّضح أنّ اسم الجنس المنوّن بتنوين التنكير يصلح لأن

ص: 262


1- سورة المائدة : آية 114
2- سورة طه : آية 10

يعرض عليه الإطلاق ، إلاّ أنّ الإطلاق المناسب للعروض عليه هو خصوص الإطلاق البدلي وذلك لمكان التنوين المفيد لقيد الوحدة ، فمثلا قوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (1) فإنّ اسم الجنس ( بقرة ) وإن كان موضوعا للطبيعة الصالحة للانطباق على أفرادها إلاّ أنّ تنوين التنكير أضفى عليها معنى زائدا - وهو قيد الوحدة - فأوجب ذلك عدم صلوح اسم الجنس لأن يعرض عليه الإطلاق الشمولي ؛ وذلك لأنّ الإطلاق الشمولي يعني الاستيعاب لتمام أفراد الطبيعة في عرض واحد وهو لا يناسب قيد الوحدة المفاد بواسطة تنوين التنكير ، إذ أنّ المناسب لقيد الوحدة هو الإطلاق بنحو العطف ( بأو ) فقوله تعالى : ( إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ) (2) في قوة أن يقول : ( يأمركم أن تذبحوا هذه البقرة أو هذه أو هذه ).

الحالة الثالثة : - لاسم الجنس - أن لا يكون معرّفا ولا منوّنا بتنوين التنكير كما لو كان منوّنا بتنوين التمكين أو مضافا.

والمراد من تنوين التمكين هو ما يعرض الأسماء المعربة لغرض تشخيصها عن الأسماء المبنيّة ، وليس لهذا النوع من التنوين أيّ معنى يمكن أن يضاف إلى المعنى الموضوع له اسم الجنس ، ويمكن أن يمثّل له بقوله علیه السلام : « من تزوّج امرأة لمالها وكلّه اللّه إليه » (3) ، فإنّ التنوين في اسم الجنس ( امرأة ) هو تنوين التمكين بدليل أنّ العرف لا يفهم من اسم الجنس الواقع في

ص: 263


1- سورة البقرة : آية 67
2- سورة البقرة : آية 67
3- وسائل الشيعة : الباب 14 من أبواب مقدّمات النكاح الحديث 5

هذه الجملة إلاّ معناه الموضوع له ، وهذا يعني أنّ التنوين لم يضف معنى زائدا على المعنى الموضوع له اسم الجنس ، ولو كان هذا التنوين هو تنوين التنكير لكان هذا يقتضي إضافة قيد الوحدة لمعنى اسم الجنس ، ويمكن أن نمثّل له أيضا بقوله تعالى : ( مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ ) (1) فإنّ التنوين في اسم الجنس ( ليل ) هو تنوين التمكين بنفس التقريب السابق.

وبالجملة الذي يميّز تنوين التمكين عن تنوين التنكير هو سياق الجملة التي استعمل فيها اسم الجنس ، فإن كان التنوين في اسم الجنس مفيدا لمعنى زائد - هو قيد الوحدة - فهذا يعني أنّه تنوين التنكير وإن لم يضف أيّ معنى للمعنى الموضوع له اسم الجنس فهذا هو تنوين التمكين.

أمّا اسم الجنس العاري عن التعريف باللام وعن مطلق التنوين فإنّه لا يفيد أكثر من معناه الموضوع له كما هو الحال في المنوّن بتنوين التمكين ، ويمكن التمثيل له بقول الإمام علي علیه السلام : « من سلّ سيف البغي قتل به » (2) ، ومحلّ الشاهد في هذه الرواية هو اسم الجنس ( سيف ) حيث وقع موقع المضاف.

ومع اتضاح هذه الحالة من حالات اسم الجنس يتّضح أيضا صلاحيّته لعروض الإطلاق الشمولي عليه ويمكن التمثيل لذلك بقوله تعالى : ( وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ) (3) ، فإنّ اسم الجنس

ص: 264


1- سورة القصص : آية 72
2- وسائل الشيعة : الباب 19 من أبواب أحكام العشرة الحديث 7
3- سورة البقرة : آية 185

( مريضا ) وكذلك ( سفر ) قد عرض عليهما الإطلاق الشمولي بعد أن دلّت قرينة الحكمة على عدم إرادة القيود حيث لم تذكر.

كما يمكن التمثيل لاسم الجنس الواقع موقع المضاف بالحديث النبوي صلی اللّه علیه و آله : « نهى رسول اللّه عن بيع الغرر » (1) بنفس التقريب.

الانصراف :

وهو عبارة عن انسباق بعض أفراد الطبيعة إلى الذهن عند إطلاق ما يدلّ على الطبيعة ، وذلك نتيجة عوامل خارجة عن أصل الوضع كأن تكون هذه الأفراد أجلى مصاديق تلك الطبيعة بنظر العرف أو تكون أكثر تداولا عند المخاطب أو تكون مستعملة كثيرا في خصوص هذه الأفراد أو يكون الموجب للانصراف هو غلبة الوجود لهذه الأفراد أو انعدام بعض الأفراد عند صدور الخطاب أو ندرتها أو تكون الأفراد المنصرف إليها هي القدر المتيقّن في مقام التخاطب كما لو كانت هذه الأفراد هي مورد السؤال الذي وقع جوابه مطلقا.

هذه بعض العوامل التي قد تساهم في انسباق الذهن إلى بعض أفراد الطبيعة عند إطلاق ما يدل عليها ، وقد ذكر المصنّف عاملين من هذه العوامل لغرض البحث عن صلاحيّتهما للمنع عن انعقاد الإطلاق وعدم صلاحيّتهما لذلك.

العامل الأوّل : هو غلبة وجود بعض أفراد الطبيعة في الخارج بحيث تكون هذه الغلبة موجبة لانسباق هذه الأفراد إلى الذهن عند إطلاق ما

ص: 265


1- وسائل الشيعة : الباب 40 من أبواب آداب التجارة الحديث 3

يدلّ على الطبيعة باعتبارها القدر المتيقّن من الخارج.

ويمكن التمثيل له برواية الخصال عن الإمام الصادق عن أبيه علیهماالسلام قال : « لا تحلّ الصدقة لبني هاشم » (1) فإن المنسبق بدوا عند إطلاق عنوان بني هاشم هم أولاد علي وفاطمة علیهماالسلام ، وذلك لغلبة وجودهم خارجا بحيث أوجبت هذه الغلبة صيرورتهم القدر المتيقّن لعنوان بني هاشم ، إلاّ أنّ ذلك لا يوجب المنع عن انعقاد الظهور في الإطلاق وذلك لأنّ هذا الانصراف لم ينشأ عن علاقة بين هذه الأفراد من الطبيعة وبين اللفظ الدال على الطبيعة ، بل يبقى اللفظ محتفظا بصلاحيّته للدلالة على الطبيعة بسعتها ، وغاية ما أوجبته غلبة الوجود هو حصول الاستئناس الذهني بين واقع الطبيعة وبين بعض أفرادها دون أن يؤثّر ذلك على علاقة لفظ الطبيعة بمعناها الوسيع.

وبعبارة أخرى : لمّا كان الانصراف ناشئا عن مناسبات خاصة أوجبت تداعي معنى أفراد خاصّة من الطبيعة بمجرّد تصوّر الطبيعة ، فهذا يعني أنّ العلاقة الذهنيّة إنما هي بين هذه الأفراد وبين واقع الطبيعة وليس للّفظ أيّ مدخليّة في انقداح خصوص هذه الأفراد مما يعبّر عن أنّه لم يقع أيّ تصرّف في دلالة اللفظ على معناه ، وأنّ العلاقة الوضعيّة بينهما لا زالت صالحة للكشف عن المدلول الوضعي للفظ الطبيعة ، وإذا كان كذلك فالانصراف الحاصل حين إطلاق اللفظ إنما هو انصراف بدوي يزول بمجرّد الالتفات إلى أنّ العلاقة الوضعية بين اللفظ والطبيعة بمعناها السعي لا زالت

ص: 266


1- وسائل الشيعة : الباب 22 من أبواب المستحقّين للزكاة الحديث 7

على حالها بحيث يمكن للمتكلّم أن يعتمد عليها لو أراد الإطلاق دون الحاجة إلى التوسّل بقرائن مفيدة لنفي القيود غير قرينة الحكمة فإمكان اعتماده على صلاحية اللفظ لعروض الإطلاق عليه دليل على عدم تأثير غلبة الوجود على العلاقة الوضعية بين لفظ الطبيعة ومعناها السعي.

العامل الثاني : هو كثرة استعمال اللفظ الدال على الطبيعة في بعض أفراده على نحو تعدّد الدال والمدلول بأن يأتي بالإضافة إلى لفظ الطبيعة بما يدل على إرادة بعض الأفراد فيكون هناك دالان ومدلولان ، فالدال الأول هو لفظ الطبيعة الموضوع لإفادة معنى الطبيعة ، والدال الثاني هو القيد الموجب لإفادة بعض أفراد الطبيعة دون غيرها.

ويمكن التمثيل له بقوله تعالى : ( يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ... ) ( إلى قوله ) ( وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ ) (1) فإنّ عنوان أهل الكتاب يدلّ بحسب سعته اللفظية على كل من نزل عليهم كتاب من اللّه عزّ وجلّ ، فهو يشمل المسلمين إلا أنه كثر استعمال هذا العنوان مع القرينة - كما في الآية الشريفة - في اليهود والنصارى حتى صارت هذه الكثرة موجبة لانصراف الذهن إلى خصوص اليهود والنصارى عند إطلاق هذا العنوان حتى وإن كان مجردا عن القرينة.

إذا اتّضح هذا فنقول : إن كثرة الاستعمال الموجبة للانصراف يمكن تصنيفها إلى ثلاث مراتب.

المرتبة الأولى : أن تؤدي كثرة الاستعمال إلى نقل اللفظ من معناه

ص: 267


1- سورة آل عمران : آية 71 ، 72

الموضوع له إلى خصوص الحصّة التي كثر استعمال اللفظ فيها بحيث تكون تلك الكثرة موجبة لهجران المعنى الأول.

وفي مثل هذه الحالة تكون الكثرة في الاستعمال مانعة عن انعقاد الظهور في الإطلاق ، بل إنّ الظهور يتحوّل إلى المعنى الثاني الذي كثر استعمال اللفظ فيه.

ويمكن التمثيل لهذه المرتبة من الكثرة بالمثال السابق وهو عنوان « أهل الكتاب » فإنّ كثرة استعماله في مثل اليهود والنصارى أوجب انتقال هذا اللفظ من معناه الوسيع إلى بعض حصصه.

المرتبة الثانية : أن تؤدي كثرة الاستعمال إلى نشوء وضع ثان للّفظ فيكون من قبيل المشتركات اللفظية ، وذلك بأن تكون كثرة الاستعمال موجبة لتحقّق وضع تعيّني للّفظ يكون بإزاء بعض أفراد الطبيعة.

وإذا كانت كذلك فلا يمكن استظهار أحد المعنيين إلاّ مع قيام القرينة الخاصة على إرادة أحدهما كما هو الحال في المشتركات اللفظية ، وقرينة الحكمة غير نافعة في المقام لإثبات الإطلاق وذلك لتقوّمهما بصلاحية اللفظ لعروض الإطلاق عليه ، ومن الواضح أنّ اللفظ بحسب الفرض يحتمل أن لا يكون صالحا لعروض الإطلاق عليه كما لو كان مستعملا في المعنى الثاني وهو الحصّة الخاصّة.

ويمكن التمثيل لهذه المرتبة بلفظ الدابّة فإنّها موضوعة بحسب سعتها اللفظية لمطلق ما يدبّ على الأرض ، إلاّ أنّ كثرة استعمال لفظ الدابّة في خصوص الخيل والبغال بحيث يمكن أن يدعى أنّ تلك الكثرة أوجبت نشوء وضع تعيّني ثان للفظ الدابّة.

ص: 268

المرتبة الثالثة : وهي أن تكون كثرة الاستعمال مؤدّية إلى نشوء علاقة بين اللفظ وبين الحصّة الخاصة من معناه إلاّ أنّ هذه العلاقة لا تبلغ مرتبة النقل أو الاشتراك اللفظي ولكنّها من الوثاقة بحيث يمكن أن يعوّل عليها المتكلّم لو أراد التقييد دون الحاجة إلى إبراز قرينة على إرادة الحصّة الخاصّة.

وفي مثل هذه الحالة لا ينعقد أيضا ظهور في الإطلاق وذلك لأنّ قرينة الحكمة - كما ذكرنا - مبنيّة على إحراز عدم وجود قرينة على التقييد وفي المقام لا يمكن إحراز ذلك إذ أنّ كثرة الاستعمال وإن كنّا لا نحرز قرينيّتها على التقييد إلاّ أنها صالحة للقرينيّة فيكون ذلك موجبا لإجمال المراد وعدم انعقاد الظهور في الإطلاق أو التقييد. الإطلاق المقامي :

الإطلاق الذي تحدّثنا عنه وقلنا إنّه متقوّم بقرينة الحكمة الدالّة على أنّ القيود التي لم يذكرها المتكلّم فهو لا يريدها ، هذا الإطلاق هو الإطلاق اللفظي الحكمي.

وهناك إطلاق آخر يعبّر عنه بالإطلاق المقامي ، وهو يختلف عن الإطلاق اللفظي الحكمي ؛ وذلك لأنّ الإطلاق اللفظي متقوّم بحيثيّتين :

الحيثيّة الأولى : هي أنّ المتكلّم بصدد جعل حكم على طبيعة يمكن أن يعرض علها التقييد ويمكن أن لا يعرض لها التقييد ، ومن الواضح أنّ المتكلّم إذا كان بصدد ذلك فهو يعني أنّه قد تصوّر الطبيعة التي يريد جعل الحكم عليها وتصوّر القيود التي يمكن أن تعرض عليها فإمّا أن يأخذ هذه القيود أو بعضها في الطبيعة التي يريد جعل الحكم عليها وإمّا أن يجعل

ص: 269

الحكم على الطبيعة دون أن يقيدها بأيّ قيد من تلك القيود.

الحيثيّة الثانية : هي ظهور حال كلّ متكلّم يريد جعل حكم لموضوع أن يحدد الموضوع الذي يريد جعل الحكم له ، فكل قيد لم يذكره للموضوع في حال جعل الحكم عليه فهو يعني أنّه لا يريده ، ولو كان يريده لذكره في كلامه وإلاّ كان ناقضا لغرضه ، والحكيم لا ينقض غرضه ، وهذه هي قرينة الحكمة الموجبة لانعقاد الظهور في الإطلاق.

إذن كل متكلّم يريد جعل حكم لموضوع ، فإنّ ظاهر حاله أنّه في مقام بيان تمام موضوع حكمه ، فإذا لم يذكر أيّ قيد لذلك الموضوع فهذا يقتضي عدم إرادة أيّ قيد للموضوع الذي رتّب عليه الحكم.

فقرينة الحكمة وظيفتها نفي القيود المحتمل عروضها على الموضوع المترتّب عليه الحكم.

أمّا الإطلاق المقامي فليس من هذا القبيل إذ أنّ الغرض منه نفي موضوع مستقل عن أن يكون مشمولا لحكم من الأحكام.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ المولى قد يكون بصدد بيان مركّب من المركّبات العباديّة فيعدد أجزاء وشرائط ذلك المركّب ، فلو شككنا بعد أن انتهى المولى من تعداد تلك الأجزاء والشرائط في وجود جزء أو شرط لهذا المركّب إلاّ أنّ المولى أهمله ولم يذكره ، ففي مثل هذه الحالة ينعقد ظهور يقتضي نفي وجود شرط أو جزء زائد على ما ذكره المولى ، وهذا ما يعبّر عنه بالإطلاق المقامي.

وبهذا يتّضح أن الإطلاق المقامي ينفي موضوعا مستقلا عن أن يكون مشمولا للمركّب العبادي ، إذ لو كان هذا الموضوع - المنفي بالإطلاق

ص: 270

المقامي - ثابتا لكان موضوعا مستقلا للوجوب وذلك لأنّ المركّب العبادي ينحلّ - روحا - إلى مجموعة من الوجوبات بعدد الأجزاء والشرائط المأخوذة في ذلك المركّب ، فكل جزء أو شرط في المركّب العبادي فهو موضوع مستقل للوجوب ، وهذا بخلاف الإطلاق اللفظي ، فإنّ القيود التي ينفيها هذا الإطلاق لو كانت ثابتة لما كانت أكثر من قيد يوجب تضييق دائرة الموضوع ، فما ينفيه الإطلاق اللفظي إنّما هو قيود الموضوع الذي يجعل له الحكم ، والتي لا تصوّر لها ولا وجود لو لا وجود موضوعها.

أمّا المنفي بالإطلاق المقامي فلا صلة له بالموضوعات الأخرى التي تثبت أو لا تثبت للحكم ، فثبوت الوجوب لهذا الجزء أو عدم ثبوته لا صلة له بثبوت أو نفي الوجوب للجزء الآخر بل إنّ الحكم قد يثبت لهما معا وقد ينتفي عنهما معا ، وقد يثبت لأحدهما دون الآخر ، فإذا ثبت لأحدهما وانتفى عن الآخر ثبت لموضوع مستقل وانتفى عن موضوع آخر مستقل.

وبهذا البيان يتّضح أنّ الإطلاق المقامي ينفي وجود موضوع زائد للحكم الثابت للموضوعات المذكورة في كلام المتكلّم ، واتّضح أيضا مما ذكرناه أنّ الإطلاق المقامي لا ينعقد له ظهور إلا مع إحراز كون المتكلّم بصدد بيان تمام الموضوعات المجعول لها الحكم المذكور.

وبتعبير آخر : إذا أحرزنا أنّ المولى بصدد تعداد تمام الأجزاء والشرائط للمركّب العبادي فإنّ هذا الإحراز هو الموجب لانعقاد الظهور في نفي الأجزاء والشرائط التي لم يذكرها المولى.

ويمكن التمثيل لذلك بالوضوءات البيانيّة مثل رواية ميسر عن أبي جعفر علیه السلام قال : « ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ، ثم أخذ كفّا من

ص: 271

ماء فصبّها على وجهه ، ثم أخذ كفّا فصبّها على ذراعه ، ثم أخذ كفّا آخر فصبّها على ذراعه الأخرى ، ثم مسح رأسه وقدميه ... » (1) ، فقوله علیه السلام : ( ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله ) قرينة على أنّ الإمام علیه السلام في صدد تعداد الأجزاء لهذا المركب ، ومع إحراز ذلك ينعقد ظهور في الإطلاق المقامي القاضي بنفي وجوب جزء آخر لم يذكره الإمام علیه السلام ، فلو احتملنا وجوب غسل الأذن فإن الإطلاق المقامي ينفي ذلك الوجوب ، أو قل ينفي جزئيّة غسل الأذن لهذا المركّب؟ وذلك لأن غسل الأذن لو كان جزءا لهذا المركّب لكان على الإمام علیه السلام أن يذكره ، فعدم ذكره - مع أنه جزء للمركّب - ينافي كون الإمام في صدد تعداد جميع أجزاء هذا المركّب.

وبهذا المثال يتّضح كلّ ما ذكرناه آنفا ، حيث قلنا : إن الإطلاق المقامي ينفي موضوعا مستقلا عن الموضوعات الثابت لها الحكم في كلام المتكلّم إذ أن جزئية غسل الأذن لو كانت ثابتة لكانت موضوعا مستقلا عن بقيّة الأجزاء المذكورة في كلام الإمام علیه السلام ، فحينما نفى الإطلاق المقامي جزئيّته فقد نفى موضوعا مستقلا ولم ينف قيدا لموضوع ثبت له الحكم كما هو الحال في الإطلاق اللفظي.

وكذلك اتّضح أنّ الإطلاق المقامي إنما ينعقد له ظهور في حال وجود قرينة خاصّة على أن المتكلّم بصدد تعداد تمام الموضوعات الثابت لها الحكم المذكور في كلامه ، إذ أنّ قول الإمام علیه السلام ( ألا أحكي لكم وضوء رسول

ص: 272


1- وسائل الشيعة : الباب 15 من أبواب الوضوء الحديث 9 ، والظاهر أنّ ميسر في الرواية هو ميسر بن عبد العزيز المدائني ، وبذلك تكون الرواية معتبرة.

اللّه صلی اللّه علیه و آله ) يشكّل قرينة على أنّ الامام بصدد ذلك.

وبهذا اتّضح أن الإطلاق المقامي قوامه قرينة خاصّة على أنّ المتكلّم بصدد تعداد تمام موضوعات حكم من الأحكام ، ووظيفته نفي موضوع مستقل عن أن يكون مشمولا للحكم المذكور في كلام المتكلّم.

ولهذا فهو يختلف عن الإطلاق اللفظي اختلافا جوهريّا ، إذ أن قوام الإطلاق اللفظي هو قرينة الحكمة ووظيفته هي نفي القيود غير المذكورة عن الموضوع الثابت له الحكم في كلام المتكلّم.

بعض التطبيقات لقرينة الحكمة :
اشارة

ذكر المصنّف رحمه اللّه في المقام موردين من موارد انعقاد الظهور في الإطلاق بواسطة قرينة الحكمة.

المورد الأوّل :

وهو التمسك بقرينة الحكمة لاستظهار الوجوب من الأوامر.

وبيان ذلك : أن الأمر كما ذكرنا ظاهر في الطلب الوجوبي ، وهذا لا إشكال فيه وانّما الإشكال فيما هو المنشأ في انعقاد ظهور الأمر في الطلب الوجوبي ، فقد ذكر البعض أن منشأ ذلك هو الوضع ، وذكر آخرون أن المنشأ لظهور الأمر في الطلب الوجوبي هو الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ وذلك لأن لفظ الأمر موضوع لطبيعة الطلب ، والوجوب والاستحباب خارجان عما هو موضوع له لفظ الأمر ، نعم قد يعرض أحدهما على الطبيعة « الطلب » ولكن ذلك لا يثبت إلا بدالّ آخر غير لفظ الأمر ، وإذا كان كذلك فالدالّ على الاستحباب يتمّ بقرينة خاصة ، وأما الدالّ على الوجوب

ص: 273

فيثبت بواسطة قرينة الحكمة ؛ وذلك لأنّ الاستحباب مشتمل على مؤنة زائدة على مفهوم الطلب ، إذ أنه يعنى تقييد الطلب بقيد وهو الترخيص في الترك ، ومن الواضح أن هذا القيد يحتاج إلى بيان زائد على بيان أصل الطلب ، فإذا لم يذكر هذا القيد في الكلام رغم أن المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه فهذا يقتضي انعقاد ظهور لحال المتكلّم في عدم إرادة ذلك القيد الموجب للاستحباب.

وبذلك يتعيّن الوجوب لأنه لا يعني أكثر من أن الطبيعة غير مقيّدة بالترخيص في الترك ، وقد ثبت عدم تقيدها بذلك ببركة قرينة الحكمة.

المورد الثاني :
اشارة

التمسك بقرينة الحكمة لاستظهار النفسية التعيينيّة العينيّة للطلب.

وقبل بيان ذلك لا بدّ من بيان مقدّمة نذكر فيها ما ينقسم عليه الطلب ، فنقول :

يمكن تقسيمه إلى ثلاثة تقسيمات :

الأول : انقسامه إلى الطلب النفسي ، والطلب الغيري :

أمّا الطلب النفسي : فهو ما كان متعلّق الطلب مطلوبا لنفسه لكونه هو المشتمل على الملاك الموجب لطلبه ، وذلك مثل : ( الصلاة ) حيث إنّ منشأ طلبها هو اشتمالها على مصلحة أوجبت جعل الطلب عليها.

أمّا الطلب الغيري : فهو ما كان متعلّق الطلب غير مطلوب لنفسه لعدم اشتماله على ملاك يوجب جعل الطلب عليه استقلالا ومباشرة ، ولكن لمّا كان هذا المتعلّق صالحا للتوسّل به إلى المطلوب الأصلي فإنّ ذلك هو الذي أوجب جعل الطلب عليه ، وذلك مثل السفر لأداء مناسك الحج فإنّ

ص: 274

السفر ليس مطلوبا بنفسه للمولى لكنّه لمّا لم يكن بالإمكان أداء مناسك الحج دون السفر إلى مكّة المكرّمة فإنّ ذلك يسبّب تعلّق الإرادة والطلب بالسفر ، وإلاّ فالسفر في حدّ نفسه غير مطلوب للمولى.

الثاني : انقسامه إلى الطلب التعييني ، والطلب التخييري :

أمّا الطلب التعييني : فهو ما كان متعلّق الطلب واحدا بحيث لا يقوم شيء مقامه في تحقيق الغرض ، بل إنّ تحقق الغرض منحصر بالإتيان بهذا المتعلّق ، وذلك مثل : ( الصلاة ) حيث لا يحقّق الغرض الذي أوجب جعلها شيء آخر غير الإتيان بها.

أمّا الطلب التخييري : فهو ما كان متعلّق الطلب عدّة أشياء بحيث يكون واحد منها محقّقا للغرض من جعل الطلب.

وبعبارة أخرى هو ما كان المطلوب فيه أحد أشياء على سبيل البدل بحيث يكون امتثال أحدها كافيا في تحقق المطلوب ، ويمكن التمثيل له بخصال كفارة التخيير فإنّ المطلوب يتحقق بمجرّد إيجاد أحد خصال الكفارة.

الثالث : انقسامه إلى الطلب العيني ، والطلب الكفائي :

أمّا الطلب العيني : فهو ما كان الغرض فيه متعلّقا بامتثال نفس المكلّف بحيث لا يكون امتثال غيره موجبا لسقوطه عن المكلّف الذي تعلّق الطلب بعهدته.

وبعبارة أخرى : هو ما كان المطلوب فيه مباشرة المكلّف للامتثال بنفسه ، ولا يكون امتثال الآخرين كافيا لتحقق الغرض وسقوط الأمر المتوجّه لذلك المكلّف ، ومثاله : ( صوم شهر رمضان المبارك ) فإنّ غرض

ص: 275

المولى فيه لا يتحقّق إلا بأن يباشر المكلّف الصوم بنفسه.

وأمّا الطلب الكفائي : فهو ما كان المطلوب المولوي فيه هو تحقّق المأمور به خارجا دون أن يكون للمولى أيّ غرض في امتثال مكلّف بعينه.

وبعبارة أخرى : الطلب الكفائي هو ما كان الخطاب فيه متوجّها لكافة المكلّفين إلاّ أنّ امتثال أحدهم موجب لسقوطه عن البقيّة ، وذلك مثل : دفن الميّت المسلم ، فإنّ الأمر بدفن الميّت متوجّه لكل مكلّف إلاّ أنّ امتثال أحدهم موجب لسقوطه.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة يقع الكلام فيما هو منشأ استظهار النفسيّة والتعيينيّة والعينيّة من الطلب حين عدم القرينة على الخلاف ، فنقول :

أمّا استظهار النفسيّة فيتم بهذا التقريب ، وهو : أنّ إثبات النفسيّة للطلب لا يحتاج إلى بيان زائد على ذكر ما يدل على الطلب ، إذ أنّ طبع كل طلب أن يكون متعلّقه مطلوبا بنفسه ، وهذا بخلاف الطلب الغيري ، فإنّ إثباته يحتاج إلى بيان زائد عن ذكر الطلب ، إذ أنّ مطلوبيّته منوطة بمطلوبيّة ما وجب لأجله ، ومن هنا يحتاج الطلب الغيري إلى ذكر قيد وهو كون الواجب الذي وجب الغيريّ لأجله مطلوبا ، فإذا لم يذكر القيد رغم أنّ المتكلّم في مقام بيان تمام موضوع حكمه ، فهذا يوجب ظهور حال المتكلّم في عدم إرادة القيد ، وإذا لم يكن القيد مرادا فهذا يقتضي النفسيّة إذ أنّ ثبوتها ليس معلّقا على شيء من القيود.

وبهذا تثبت النفسيّة بواسطة الإطلاق وقرينة الحكمة.

وبتعبير آخر : لمّا كانت النفسيّة غير معلّقة على أي قيد ، وكانت

ص: 276

الغيريّة معلّقة على مطلوبيّة الغير ، فهذا يعني أنّ إرادة الغيريّة تستوجب ذكر القيد المعلّق ثبوتها عليه ، ومع عدم ذكر القيد يستكشف عدم إرادته إذ المفترض أنّ المتكلّم في مقام البيان ، ومع استظهار عدم إرادة القيد تتعيّن النفسيّة إذ أنّ هذا هو مقتضى الإطلاق الذي يعني عدم لحاظ القيد.

وأمّا استظهار التعيينيّة وكذلك العينيّة ، فيتّضح مما ذكرناه في استظهار النفسية ، وذلك أنّ الطلب التخييري يحتاج إلى بيان زائد على الطلب وهو التقييد بعدم امتثال البدل ، وكذلك الطلب الكفائي فإنّه يستوجب التقييد بعدم امتثال مكلّف آخر للطلب ، فمع عدم ذكر القيد يستظهر الإطلاق والذي يقتضي التعيينيّة العينيّة ، إذ أنّ ثبوتهما لا يحتاج إلى بيان زائد على ذكر أصل الطلب.

ص: 277

ص: 278

العموم تعريف
اشارة

العموم :

المراد من العموم هو : الاستيعاب المفاد بالوضع ، فلو قال المتكلّم ( أكرم كل عالم ) فإنّ لفظ كلّ عالم يستوعب كل فرد من أفراد طبيعة العالم ، وهذا الاستيعاب لتمام أفراد الطبيعة استفيد من وضع لفظ كل بإزاء مفهوم الاستيعاب ، فكل مفيدة لاستيعاب مدخولها بواسطة الوضع ، وهذا بخلاف الإطلاق فإنّه وإن كان يفيد الاستيعاب لجميع أفراد الطبيعة إلاّ أنّ الدال على الاستيعاب إنّما هو قرينة الحكمة ، فحينما يقول المتكلّم ( أكرم العالم ) فإنّ لفظ العالم يشمل ويستوعب جميع أفراد طبيعة العالم إلاّ أنّ هذا الاستيعاب والشمول استفيد بواسطة قرينة الحكمة والتي تعني ظهور حال المتكلّم في عدم إرادة القيد الموجب لتضييق دائرة الطبيعة.

فكلّ من الإطلاق والعموم يوجبان انحلال الحكم إلى أحكام بعدد أفراد الطبيعة المجعول لها ذلك الحكم ، إلاّ أنّ ما أوجب الانحلال في الإطلاق هو قرينة الحكمة ، وما أوجب الانحلال في العموم هو الوضع ، فحينما يقول المتكلّم ( أكرم كلّ عالم ) تنحلّ هذه القضية إلى قضايا بعدد أفراد الطبيعة المجعول لها الحكم ، فيكون موضوع كل قضية فرد من أفراد طبيعة العالم ، ويكون محمولها وجوب الإكرام ، وهذا الانحلال استفيد بواسطة وضع لفظ

ص: 279

( كل ) للاستيعاب والشمول.

وكذلك الكلام لو قال المتكلّم ( أكرم العالم ) فإن هذه القضية تنحلّ إلى قضايا بعدد أفراد طبيعة العالم ، ويكون محمول هذه القضايا هو وجوب الإكرام ، إلا أن هذا الانحلال استفيد بواسطة أنّ المتكلّم لم يذكر أيّ قيد للطبيعة في حين أنّه في مقام بيان تمام موضوع الحكم ، مما يكشف عن عدم إرادة القيد ، وبهذا تكون الطبيعة على سعتها مشمولة للحكم.

وبما ذكرناه من معنى العموم يتّضح خروج أسماء الأعداد عن العموم ، فإنّ أسماء الأعداد وإن كانت مستوعبة لوحداتها إلا أن ذلك هو مقتضى طبع اسم العدد ، فليس الاستيعاب مستفادا من وضع اسم العدد لذلك ، وإنما هو موضوع لمعناه ، والاستيعاب فيه إنما هو أثر تكويني له أو قل لازم ذاتي له ، فكما أن الزوجيّة أو الفردية أثر تكويني ولازم ذاتي لاسم العدد ، فكذلك الاستيعاب لوحداته.

ويمكن تنظير الاستيعاب لاسم العدد بالحرارة للنار ، فكما أنّ النار ليست موضوعة لإفادة معنى الحرارة وإنما الحرارة لازم ذاتي للنار فكذلك الاستيعاب بالنسبة لاسم العدد.

فمثلا العدد عشرة يدلّ على مرتبة من مراتب الأعداد ، هذه المرتبة هي المتكوّنة من مجموعة من الأعداد الفردية تساوي عشر وحدات ، هذا ما وضع له لفظ العشرة ، وأما انقسامه إلى متساويين ووقوعه بين مرتبتين من مراتب العدد ، وكذلك استحالة انقسامه على الثلاثة بدون كسر فهذا ما يقتضيه واقع العدد عشرة وليس هو من المدلولات الوضعيّة للفظ العشرة ، وبهذا يتّضح أن استيعاب اسم العدد عشرة لوحداته ليس هو من مدلولات

ص: 280

لفظ عشرة ، وإنما هو من مقتضى واقع اسم العدد عشرة ، وهذا بخلاف لفظ ( كل ) و ( جميع ) فإنها موضوعة لإفادة الاستيعاب والشمول.

أدوات العموم ونحو دلالاتها :

الكلام حول دلالة بعض الألفاظ على العموم والاستيعاب ، لم يقع محلا للإشكال حيث إنّه وبدون شكّ قد وضعت مجموعة من الألفاظ لإفادة معنى العموم والاستيعاب مثل ( كل ) ( جميع ) و ( كافة ) وهكذا.

وإنما الإشكال في أنّ شمول الحكم لكل أفراد مدخول هذه الألفاظ هل هو مستفاد من قرينة الحكمة أو هو مستفاد من نفس هذه الألفاظ الموضوعة لإفادة العموم؟

فحينما يقال ( أكرم كلّ عالم ) فإن المتفاهم العرفي منه هو استيعاب الحكم لكل أفراد الطبيعة المجعول لها ذلك الحكم إلا أنّ الإشكال فيما هو المنشأ لهذا الاستظهار والمتفاهم العرفي ، هل هو قرينة الحكمة أو هو أداة العموم؟

وقد طرح في المقام اتّجاهان :

الاتّجاه الأول : هو أن المنشأ لاستظهار شمول الحكم لتمام أفراد مدخول الأداة ( الطبيعة ) هو قرينة الحكمة ؛ وذلك لأن أداة العموم إنما وضعت لإفادة استيعاب وشمول ما يراد من الطبيعة ، وهذا يستدعي أن نستظهر أولا حدود ما يراد من الطبيعة ، ومن الواضح أن المتكفّل لبيان حدود المراد من الطبيعة هو قرينة الحكمة والتي تستفاد من عدم ذكر المتكلّم للقيد رغم أنّه في مقام بيان تمام موضوع حكمه ، فإذا استظهر من

ص: 281

حال المتكلّم - بواسطة قرينة الحكمة - أنّه لا يريد القيود فهذا يعني أن الحكم المجعول على الطبيعة مجعول على تمام أفرادها.

ومن هنا يتّضح أن المنشأ لاستيعاب الحكم لكل أفراد مدخول الأداة إنما هو قرينة الحكمة.

الاتّجاه الثاني : هو أنّ المنشأ لاستظهار شمول الحكم لكلّ أفراد مدخول ألفاظ العموم هو ما وضعت له ألفاظ العموم ، إذ أنّ ألفاظ العموم وضعت لاستيعاب كل فرد تصدق عليه الطبيعة الواقعة مدخولا لأداة العموم ، ومن هنا لا نحتاج إلى قرينة الحكمة لإفادة الشمول والاستيعاب لكل أفراد الطبيعة المدخولة للأداة ؛ وذلك لأنّ نفس أداة العموم تتكفّل بتحقيق ذلك بعد أن كانت موضوعة لاستيعاب كل أفراد الطبيعة ، نعم لو كانت موضوعة لاستيعاب ما يريده المتكلّم من أفراد الطبيعة لكان ذلك يستدعي تنقيح ما هو المراد من أفراد الطبيعة التي يريد المتكلّم جعل الحكم عليها وهذا ما تتكفّل به قرينة الحكمة.

إذن المنشأ للاتجاهين هو تحديد ما وضعت له ألفاظ العموم فإن كانت قد وضعت لاستيعاب ما هو المراد من الطبيعة المدخولة للأداة فهذا يستوجب تبني الاتجاه الأول إذ أنّ تحديد المراد من حيث عدم إرادة القيد لا يتم إلاّ عن طريق قرينة الحكمة.

وأمّا إذا كانت ألفاظ العموم قد وضعت لاستيعاب كل ما تصدق عليه الطبيعة من أفراد ، فهذا يستوجب تبنّي الاتجاه الثاني إذ أنّ الأداة تتكفّل بالدلالة على الاستيعاب والشمول ويكون تحديد أنّ هذا مما تصدق عليه الطبيعة أو لا تصدق من شؤون المكلّف إذ أنّ القضايا لا تتكفّل بتنقيح

ص: 282

موضوعاتها.

وقد تبنّى صاحب الكفاية رحمه اللّه الاتجاه الثاني (1) - بعد أن اعترف بمعقوليّة كلا الاتجاهين - وذلك لأنّه مقتضى الظهور العرفي.

ثم إنّ المصنّف رحمه اللّه بعد أن استوجه مبنى صاحب الكفاية رحمه اللّه قال : إنّه يمكن البرهنة على بطلان الاتجاه الأول فيتعيّن الاتجاه الثاني ، وحاصل ما أفاده من برهان على بطلان الاتجاه الثاني :

هو أنّ دعوى استفادة الاستيعاب من قرينة الحكمة يستوجب لغويّة ألفاظ العموم وذلك لأنّ قرينة الحكمة توجب ظهور استيعاب الحكم لأفراد الطبيعة دون الحاجة إلى أداة العموم ، بل إننا قد ذكرنا في بيان الاتجاه الأول أنّ تنقيح الظهور في الاستيعاب لأفراد الطبيعة بواسطة قرينة الحكمة لا بد أن يتم في مرحلة سابقة وقبل ملاحظة كون الطبيعة مدخولة للأداة ، إذ أنّ الأداة لا يكون لها دور الإفادة للاستيعاب إلاّ بعد أن نحدد ما هو المراد من الطبيعة والذي يتم عن طريق قرينة الحكمة ، وإذا كان كذلك فوجود الأداة لغو محض أي لا تصلح حتى للتأكيد إذ أننا بعد أن فرغنا عن تحقّق الظهور

ص: 283


1- المستظهر من عبائر صاحب الكفاية رحمه اللّه هو تبني الاتجاه الأول ، وهذا ما فهمه الأعلام ( رضوان اللّه عليهم ) كالسيد الخوئي رحمه اللّه ، نعم قد يكون مراد المصنف رحمه اللّه هو الاستدراك الذي استدركه صاحب الكفاية بعد تبنّي الاتجاه الأول حيث قال : « نعم ، لا يبعد أن يكون ظاهرا عند إطلاقها في استيعاب جميع أفرادها » فهذا الاستدراك يعبّر عن أنّ صاحب الكفاية لا يستبعد أن يكون ( لكل ) خصوصية تقتضي استظهار الاستيعاب لمدخولها حتى في موارد كون الطبيعة المدخولة ( لكل ) مهملة وغير صالحة لأن تجري قرينة الحكمة في موردها.

في الاستيعاب بواسطة قرينة الحكمة فما هو معنى مجيء أداة العموم ، وهل أنّ دورها إلاّ دور تحصيل الحاصل ، نعم لو كان استظهار الاستيعاب بواسطتهما معا وفي عرض واحد لأمكن أن يقال إنّ لها دور التأكيد ، إلاّ أنّ هذا خلف ما ذكرناه من أنّ دور قرينة الحكمة يأتي أوّلا.

دلالات الجمع المعرّف باللام :

ومن الموارد التي ذكر أنها مفيدة للعموم هي موارد الجمع المحلّى باللاّم مثل « العلماء » في قولنا « أكرم العلماء » حيث ادّعي دلالته على استيعاب الحكم - المجعول عليه - لتمام أفراد الطبيعة المستفادة من مادة الجمع.

والبحث عن دلالة الجمع المحلّى باللام يقع في مقامين :

المقام الأوّل : في تصوير كيفيّة استفادة العموم منه ، وقد ذكر لذلك عدة تصويرات وقد اختار المصنّف رحمه اللّه هذا التصوير وحاصله : إنّ ما يمكن أن يكون منشأ لدلالة الجمع المعرّف باللام على العموم والاستيعاب هو اشتماله على ثلاث دلالات من ثلاثة دوال تساهم بمجموعها في إفادة العموم.

الأول : هو مادّة الجمع : ومدلولها الطبيعة التي نبحث عن شمول الحكم لأفرادها.

الثاني : هيئة الجمع : ومدلولها الجمع المتقوّم بثلاثة أفراد أو يزيدون.

الثالث : اللاّم الداخلة على الطبيعة المتهيّئة بهيئة الجمع : ويمكن أن يكون مدلولها استيعاب وشمول الحكم لتمام أفراد الطبيعة.

فهذه الدوال الثلاث ، أو قل الدالّين الثاني والثالث هي التي يمكن أن

ص: 284

تكون مرتكز الدلالة على العموم ثبوتا.

المقام الثاني : وهو مقام الإثبات والدلالة بعد الفراغ عن صلاحيّة الجمع المعرّف باللاّم للدلالة على العموم.

وفي المقام اتجاهان لإثبات دلالة الجمع المعرّف باللاّم على العموم :

الاتجاه الأوّل : أنّ اللاّم الداخلة على الجمع قد وضعت لإفادة العموم مباشرة وابتداء ، أي دون الحاجة في استظهار العموم منها إلى قرينة الحكمة مثلا أو غيرها من القرائن ، وإذا كان كذلك ففي كلّ مورد تدخل اللاّم على الطبيعة المتهيّئة بهيئة الجمع تنشأ دلالة على العموم ، وإنّ الحكم المجعول على مادّة الجمع يستوعب كل أفراد المادّة.

ويمكن النقض على هذا الاتجاه بحالات استعمال اللاّم الداخلة على الجمع في العهد ، فإنّه في مثل هذه الحالة لا تكون اللاّم دالّة على استيعاب كل أفراد الطبيعة المدخولة لها ، إذ أنّ أقصى ما تدلّ عليه اللاّم في مثل هذه الحالة هو استيعاب الأفراد المعهودة فحسب ، فمثلا لو قال المتكلّم « أكرم العلماء » وقامت القرينة على أنّ اللاّم في هذا الاستعمال هي لام العهد الحضوري مثلا ، فإنّ اللام في مثل هذه الحالة لا تفيد أكثر من استيعاب الحكم للأفراد المعهودة من الطبيعة عند المخاطب.

ومن هنا لا بدّ - بناء على هذا الاتجاه - من الالتزام بأحد لازمين أو التنازل عن هذا الاتّجاه.

وهذان اللازمان هما : إما أن يلتزم بمجازيّة استعمال اللام في العهد ، وإما أن يلتزم بكون اللام مشتركا لفظيّا ، فتكون قد وضعت لإفادة الاستيعاب والشمول لتمام أفراد مدخولها ، ووضعت بوضع ثان - في

ص: 285

حالات العهد - لإفادة الاستيعاب لخصوص الأفراد المعهودة من الطبيعة.

وكلا هذين اللازمين لا يمكن الالتزام بهما لمنافاتهما مع ما هو مقتضى المتفاهم العرفي ، فإنّهم لا يرون أيّ تجوّز في استعمال اللاّم في العهد كما أنهم لا يرون أنّ للام الجمع معنيين ووضعين.

إذن فالوجدان العرفي قاض بوجود معنى واحد للام الجمع في تمام حالات استعمالها.

وبهذا يتّضح فساد هذا الاتّجاه.

الاتجاه الثاني : أنّ اللاّم الداخلة على الجمع وضعت للإشارة لما هو المتعيّن من مدخولها ، فاللام هنا هي نفس لام التعريف الداخلة على اسم الجنس ، ولمّا كانت لام التعريف بأنحائها الأربعة موضوعة للإشارة إلى ما هو المتعيّن من مدخولها ، فكذلك اللاّم الداخلة على الجمع ، فدور اللاّم دور اسم الإشارة وحيث إنّ اسم الإشارة يشير ويوجّه المخاطب إلى ما هو المعهود والمعروف عنده في مرحلة سابقة على الاستعمال نتيجة ملابسات وعوامل أوجبت معروفيّة ذلك الشيء عنده ، فكذلك لام التعريف سواء الداخل منها على اسم الجنس أو الجمع ، فحينما نقول « هذا أسد » و « هؤلاء علماء » فإنّ اسم الإشارة في الحالتين يوجّهان المخاطب إلى ما هو المعهود والمتعيّن عنده من معنى الأسد ومعنى العلماء ، فكذلك لام التعريف الداخلة على اسم الجنس وهيئة الجمع ، غاية ما في الأمر أنّ لام التعريف الداخلة على اسم الجنس تشير إلى ما هو المتعيّن في الذهن نتيجة أحد المناشئ المذكورة في محلّها ، أما لام التعريف الداخلة على الجمع فتشير إلى ما هو المتعيّن في الخارج من مراتب الجمع ، إذ أنّ المتعيّن من مراتب الجمع

ص: 286

وإن أمكن تصوّره في مقام الواقع إلاّ أنه غير مراد حتما في مقام الاستعمال ، إذ أنّ للجمع تعيّن في مقام الواقع والذهن عند المتكلّم ، ولكن لا سبيل إلى معرفته ما لم تقم قرينة خاصّة عليه ، وقيام القرينة الخاصّة عليه خارج عن محلّ البحث.

وبعبارة أخرى : إنّ المتعيّن من مراتب الجمع في مقام الواقع هو إمّا مرتبة الثلاثة أو الأربعة وهكذا ، ولكن هذا لا يعني تعيّنه في مقام الخارج وعند المخاطب ، إذ أنّه من أين له معرفة ما هو المراد في مقام الاستعمال من هذه المراتب ، وهذا بخلاف المرتبة الأخيرة للجمع والتي تقتضي الاستيعاب لتمام أفراد مدخول اللاّم فإنها هي المتعيّنة في مقام الاستعمال إذ أنها هي التي تنطبق على تمام المراتب ولا يكون أيّ تردد فيها إذ أنّها لو لم تكن هي المرادة لكان المخاطب متردّدا في استظهار ما هي المراتب المرادة من الجمع هل هي مرتبة الثلاثة أو الأربعة أو الخمسة؟ وهكذا ، وهذا التردد ينافي كون اللام قد وضعت للإشارة والتوجيه إلى ما هو المتعيّن والمعهود عند المخاطب إذ أنّه كيف يكون تعين ومعهودية والحال أنّ المخاطب متردد في أيّ المراتب هي المرادة من الجمع المدخول للاّم.

ومن هنا يتّضح أن اللاّم لا تدلّ مباشرة على الاستيعاب لتمام أفراد مدخولها ، بل إنها تدل عليه بواسطة أنّ التعين الذي تشير إليه اللام لا يمكن أن يكون إلاّ المرتبة الأخيرة من الجمع القاضية بإرادة تمام أفراد الطبيعة.

وبما ذكرناه تعرف فساد ما أفاده صاحب الكفاية رحمه اللّه في مقام الردّ على هذا الاتجاه ، حيث ذكر رحمه اللّه أنّ الإشارة إلى المتعيّن الذي ادّعي دلالة اللام عليه لا تقتضي المرتبة الأخيرة إذ من الممكن أن تكون اللام مشيرة

ص: 287

إلى ما هو المتعيّن من المراتب الأخرى للجمع إذ أنّ التعيّن والمعهوديّة موجودة في تمام المراتب للجمع.

وبعبارة أخرى : إنّ ذهن المخاطب يحتفظ برؤية متكاملة عن مرتبة الثلاثة مثلا من حيث عدد وحدات هذه المرتبة وموقعها بين المراتب وما هو حقيقة هذه المرتبة ، وهكذا سائر المراتب للجمع.

وأنت خبير أنّ هذا ليس هو مقصودنا من التعيّن الذي تشير إليه لام التعريف الداخلة على الجمع ، إذ أن مقصودنا هو التعيّن في مقام الاستعمال والذي هو تحديد ما هي الأفراد المشمولة للجمع وما هي الأفراد الخارجة ، ومن الواضح أنّ أيّ مرتبة من مراتب الجمع غير المرتبة الأخيرة لا تتمكّن من تحديد ذلك ؛ إذ أن التردد فيما هو المراد وما هي الأفراد المشمولة للجمع يبقى على حاله ، وهذا بخلاف المرتبة الأخيرة فإنّها إذا كانت هي المشار إليها بلام التعريف فإنّها كفيلة برفع التردد وموجبة لتحديد ما هو المراد.

وهذا هو المناسب للام التعريف بعد أن قلنا إنها موضوعة للإشارة إلى ما هو معهود ومتعيّن عند المخاطب.

ص: 288

المفاهيم
تعريف المفهوم :

عرّف المفهوم بأنّه انتفاء وانعدام سنخ الحكم وطبيعيّه بانتفاء قيده المذكور في المنطوق.

وهذا التعريف يستوجب بيان أمور :

الأمر الأوّل : إنّ المراد من المنطوق هو المدلول المطابقي للكلام بحيث تكون دلالة الكلام مستفادة من نفس الملفوظ بمواده وهيئاته التركيبيّة ، فحينما يقال ( زيد عالم ) فإن لهذه الجملة مدلولا مطابقيّا وهو ثبوت العالمية لزيد ، وهذا المدلول استفيد من نفس مواد هذه الجملة وهيئاتها التركيبيّة وليس هناك دالّ على ثبوت العالميّة لزيد غير ما نطق به من ألفاظ بهذا الترتيب الخاص.

ومع اتضاح معنى المنطوق يتّضح أنّ كلّ دلالة تستفاد في عرض هذا المدلول أو في طولها فهي ليست من المنطوق ويطلق المناطقة على مثل هذه المدلولات المدلولات الالتزاميّة.

الأمر الثاني : إنّ المراد من طبيعي الحكم هو الحكم الكلّي الجامع لأفراده والذي يكون في موقع الحقيقة المشتركة بينها فهو بمثابة اسم الجنس الصادق على أفراده صدق الكلي على مصاديقه ، فكما أنّ انتفاء طبيعي

ص: 289

الأسد يقتضي انتفاء وانعدام جميع أفراده ، فكذلك انتفاء طبيعي الحكم يقتضي انتفاء جميع أفراده.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ الأحكام حقائق متباينة ، كلّ حكم يمثّل نوعا له حدوده المانعة عن تداخله مع غيره ، فالوجوب حقيقة وطبيعة متباينة تمام التباين مع حقيقة الحرمة وهكذا سائر الأحكام ، وإذا كان كذلك فالحكم حقيقة كلّية يكون لها أفراد متسانخة ومتماثلة من حيث اشتراكها في حقيقة واحدة وإن كان كلّ فرد منها له مشخّصاته الخاصة به ، فوجوب الإكرام بملاك الفقر غير وجوب الإكرام بملاك العلم ، ووجوبه بملاك العلم غير وجوبه بملاك القرابة ، إلاّ أنّ هذه الوجوبات الشخصيّة تشترك في حقيقة واحدة هذه الحقيقة هي المعبّر عنها بطبيعي الوجوب ، فلذلك يكون الفرق بين شخصي الوجوب وبين طبيعيه هو أنّ انتفاء شخص الوجوب لا يقتضي انتفاء فرد آخر للوجوب ، فحينما ينتفي وجوب الإكرام بملاك القرابة لا يكون ذلك مقتضيا لانتفاء وجوب الإكرام بملاك الفقر ، وهذا بخلاف انتفاء طبيعي الوجوب فإنّ ذلك يقتضي انعدام الوجوب بتمام أفراده وأشخاصه ؛ لأن الطبيعي لا ينتفي إلا عند انتفاء تمام أفراده ، فإذا قام الدليل على انتفاء الطبيعي فهذا يكشف عن انتفاء تمام أفراده.

الأمر الثالث : المراد من المفهوم في المتفاهم العرفي هو مطلق المدلول المنطبع في الذهن بقطع النظر عن منشئه إذ قد يكون المنشأ هو الأوضاع اللغوية وقد يكون المنشأ هو الإشارة وقد يكون المنشأ هو الملازمات العقلية أو العادية أو الطبعية للفظ ، وقد تكون المشاهد الخارجية التي تقع تحت الحواس وقد يكون منشأ ذلك هو التصوّرات النفسانية وقد يكون

ص: 290

غير ذلك ، فمثلا قوله تعالى : ( فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ ) (1) الظاهر أن الوسيلة التي فهّم بها سليمان علیه السلام هي الوحي.

إذن المفهوم بحسب استعمال أهل المحاورة هو مطلق المداليل والمعاني المستفادة من دوالّها ، ويبدو أنّ هذا المعنى بسعته للمفهوم هو المستعمل عند أهل المعقول ، ولذلك قال الحكيم السبزواري في مقام بيان ما هو المراد من الوجود :

مفهومه من أوضح الأشياء *** وكنهه في غاية الخفاء

الأمر الرابع : المدلول الالتزامي اللفظي هو المعنى الخارج عن اللفظ اللازم له ، وهذه الملازمة بين المدلول اللفظي والمدلول الالتزامي تنشأ عن علاقة واقتران بينهما في الذهن نتيجة ملابسات خاصة من قبيل تلازمهما في الواقع الخارجي أو يكون التلازم الذهني ناشئ عن علاقة يختلقها المتكلّم عن طريق استعمال أدوات لغويّة وضعت لإفادة الربط بين المعاني ، ولمّا كانت طبيعة العلاقة - بين كل ملزوم ولازمه - هو ثبوت اللازم عند ثبوت الملزوم وانتفاء اللازم عند انتفاء الملزوم ، فهذا يعني أنّ العلاقة التلازميّة التي اختلقها المتكلّم بواسطة أدوات الربط أراد منها الربط بين المعنيين في حالات الوجود والعدم.

ويمكن التمثيل لذلك بالجمل الشرطيّة التي وضعت لإفادة التلازم بين المشروط وشرطه في الوجود والعدم ، فتكون أداة الشرط مفيدة لثبوت المشروط ( اللازم ) عند ثبوت شرطه ( الملزوم ) وانتفاء المشروط عند انتفاء

ص: 291


1- سورة الأنبياء : آية 79

شرطه.

ومع اتّضاح هذه الأمور الأربعة نصل لبيان تعريف المفهوم في مصطلح الأصوليّين ، فنقول : إنّ المفهوم عندهم لا يباين المفهوم في المتفاهم العرفي ولكنّه أخصّ منه إذ أنّ المفهوم في مصطلح الأصوليّين يعني المدلول المستفاد من دالّ خاصّ ، إذ أنّه يعني المدلول المستفاد عن الربط بين الحكم المذكور في المنطوق وبين حالة خاصة للموضوع المذكور أيضا في المنطوق ، فإنّ هذا الربط المختلق - بواسطة أدواته الموضوعة لذلك - ينشأ علاقة تلازميّة بين الحكم المذكور في المنطوق وبين موضوعه المتحيّث بحيثيّة خاصة ، ومع تحقق الملازمة بينهما فهذا يقتضي انتفاء الحكم الملزوم بانتفاء هذه الحيثيّة ، وهذا الانتفاء عند الانتفاء هو المدلول الالتزامي وهو المفهوم باصطلاح الأصوليّين.

وهنا خصوصيّة إضافيّة مأخوذة في تعريف المفهوم عندهم ، وهذه الخصوصيّة هي أنّ المفهوم لا يتحقّق إلاّ بانتفاء طبيعي الحكم بانتفاء ما أخذ في الموضوع ، أمّا إذا كان المنتفي هو شخص الحكم ، فهذا لا يسمّى مفهوما عندهم.

وبما بيّناه يتّضح أنّ المفهوم يتحدّد بمجموعة أمور :

الأوّل : أنّه مدلول التزامي لفظي ، وبهذا الحدّ يخرج المنطوق ويخرج المدلول الالتزامي غير اللفظي.

الثاني : إنّ هذا المدلول هو انتفاء الحكم المذكور في المنطوق بانتفاء قيده ، وبهذا يخرج المدلول الالتزامي الذي لا يتوقّف على انتفاء الحكم المذكور في المنطوق ، مثلا إذن المالك لشخص بالمكث في داره يلازم الإذن

ص: 292

له بدخول بيت الخلاء ، فإنّ المدلول الالتزامي في المثال لا يعني انتفاء الإذن بالمكث في الدار ، وهذا بخلاف المفهوم المبحوث عنه في المقام فإنّه يعني انتفاء الحكم المذكور في المنطوق ، مثلا لو قال المتكلّم « إذا جاء زيد فأكرمه » فإنّ المدلول الالتزامي لهذه الجملة هو انتفاء وجوب الإكرام بانتفاء مجيء زيد ، فنلاحظ أن المدلول الالتزامي في المثال هو عبارة عن انتفاء الحكم في المنطوق ، وهذا هو المبحوث عنه في المقام.

الثالث : أن يكون المنفي عند انتفاء القيد المذكور هو طبيعي الحكم إذ قد يكون المنفي عند انتفاء الموضوع ( القيد ) هو شخص الحكم وذلك بواسطة قاعدة احترازيّة القيود.

فحينما يقال « أكرم زيدا الفقير » ، فإنّ انتفاء الفقر عن زيد وإن كان يوجب انتفاء الحكم وهو وجوب الإكرام إلاّ أنّ هذا المنفي إذا كان هو شخص الوجوب فإنّ هذا لا يقتضي انتفاء شخص آخر للوجوب بملاك القرابة أو العلم ، وهذا الانتفاء لشخص الحكم إنما نشأ عن قاعدة احترازيّة القيود والتي تعني تبعيّة الحكم لقيوده ، وهذا المقدار لا يحقق المفهوم إذ أنّ المنفي في المفهوم هو طبيعي الحكم ، وهذا يستدعي وجود خصوصيّة إضافيّة للربط بين الحكم في المنطوق وبين قيوده المأخوذة في المنطوق أيضا.

وهذا ما سنبحث عنه في ضابطة المفهوم.

قوله رحمه اللّه : « تطبيقا لقاعدة احترازيّة القيود » ، والتي تقتضي انتفاء المقيد عند انتفاء قيده ، ومنشؤها أنّ القيد بمثابة الموضوع ، والأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما ، فمتى ما انتفى الموضوع ( القيد ) انتفى بتبعه الحكم

ص: 293

المجعول عليه ، فالمتكلّم حينما جعل الحكم منوطا بقيده فهذا يكشف عن أنّه أراد أن يكون القيد هو مدار وجود الحكم وانتفائه.

ضابطة المفهوم :

ولكي يكون المفهوم بحدوده متحقّقا لا بدّ أن يكون المنطوق متوفّرا على ركنين أساسيّين :

الركن الأوّل : أن يكون القيد المرتبط بالحكم في المنطوق علّة منحصرة للحكم بحيث لا يقوم شيء مقام القيد لتحقيق الحكم.

وبعبارة أخرى : لا بدّ أن تكون الجملة متهيّئة بهيئة يستظهر منها العرف كون الربط بين الحكم وقيده ربطا عليّا انحصاريّا بحيث ينفهم منها انتفاء الحكم المقيّد عند انتفاء قيده المأخوذ في المنطوق.

ومن الواضح أن انتفاء الحكم بانتفاء قيده يتقوّم بثلاث ركائز :

الأولى : وجود ملازمة بين الحكم وقيده.

الثانية : أن تكون هذه الملازمة بنحو العلّيّة.

الثالثة : أن تكون علّيّة القيد للحكم علّية انحصارية ، إذ لو لم تكن انحصاريّة لأمكن أن ينتفي القيد ولا ينتفي معه الحكم لجواز أن يكون للحكم علّة أخرى.

الركن الثاني : أن يكون الربط في المنطوق بين كلّيّ الحكم وطبيعيّه وبين القيد إذ لو كان الربط بين شخص الحكم والقيد لكان ذلك يقتضي انتفاء شخص الحكم بانتفاء قيده ، وهذا ليس من المفهوم المبحوث عنه.

وبعبارة أخرى : لا بدّ من أن تكون الجملة التي لها مفهوم ظاهرة في

ص: 294

أنّ الربط فيها إنما هو بين طبيعي الحكم وبين القيد حتى يكون انتفاء القيد مقتضيا لانتفاء طبيعي الحكم ؛ لأن هذا هو مقتضى الربط الواقع في المنطوق.

ومع توفّر هذين الركنين في أيّ جملة من الجمل يثبت المفهوم لتلك الجملة.

الإشكال على الركن الأوّل : وقد أورد المصنّف رحمه اللّه على الركن الأوّل إيرادين :

الإيراد الأول : ذكرنا في الركن الأول أنّ القيد المرتبط بالحكم لا بدّ من أن يكون علّة للحكم ، وهذا غير لازم في تحقق المفهوم ، إذ المفهوم يمكن أن يتحقّق لو كان القيد جزء علّة للحكم إذا كان جزء علّة منحصرة ، مثلا لو قال المتكلّم « إذا جاء زيد راكبا فأكرمه » فإنّ ظاهر الجملة أنّ العلّة لوجوب الإكرام مركّبة من جزءين ، الأول المجيء ، والثاني كون المجيء بهيئة الركوب ، فلو انتفى أحد الجزءين فإن هذا ينتج انتفاء الحكم ؛ وذلك لأن المنتفي هو جزء العلّة المنحصرة ، وهذا يكشف عن أنّ المنشأ لتحقق المفهوم هو انحصار تحقق الحكم بقيده سواء كان القيد الذي هو العلّة متّحدا أو متعدّدا ، وكذلك يكفي أن يكون أحد جزءي العلّة منحصرا وإن كان الجزء الآخر من قبيل جزء العلّة ذات البديل ، ففي مثالنا السابق لو استظهرنا أن الركوب جزء علّة لوجوب الإكرام ولكن بنحو جزء العلّة ذات البديل بحيث يمكن استبدالها بجزء علّة أخرى ولكنّ الجزء الآخر للعلّة وهو المجيء جزء علّة منحصرة أي لا يقوم مقامها شيء آخر فإنّ ذلك يكفي في تحقق المفهوم لهذه الجملة ، أي إذا افترضنا انتفاء جزء العلّة

ص: 295

المنحصر.

فهنا إذن معنيان للعلّة المنحصرة : الأولى : هي ما يقابل العلّة المركّبة من أجزاء متعدّدة كلّ جزء منها يمثّل جزء علّة ، الثانية : هي ما يقابل العلّة ذات البديل.

فالمعنى الأول هو عبارة عن العلّة البسيطة أي غير المركّبة من أجزاء.

المعنى الثاني : هي عبارة عن العلّة التي لا يقوم مقامها علّة أخرى في تحقيق المعلول فهي في مقابل العلّة ذات البديل وهي التي يمكن أن يقوم مقامها علّة أخرى لتحقيق نفس المعلول.

والذي يظهر من عبارة المصنّف رحمه اللّه أنّ الذي هو ليس أساسيّا في تحقق المفهوم هو المعنى الأول للعلّة المنحصرة إذ أنّه يمكن أن تكون العلّة مركّبة ولكنها إذا كانت منحصرة بالمعنى الثاني فهذا يكفي في تحقق المفهوم ، فالعبرة في تحقق المفهوم هو ألا تكون العلّة للحكم ذات بديل ، إلا أنه يمكن أن يكون المصنّف رحمه اللّه مريدا لصورة أخرى بالإضافة إلى ما ذكرنا وهو أنه لو كانت العلّة مركّبة وكان أحد أجزائها من قبيل العلّة ذات البديل فإنّ ذلك لا يضرّ في تحقق المفهوم إذا كان الجزء الآخر من قبيل العلّة المنحصرة بالمعنى الثاني ، إذ أنّ الانحصار المحقّق للمفهوم هو الانحصار بالمعنى الثاني ولو في جزء العلّة.

الإيراد الثاني : إن أصل العلّيّة غير معتبر في تحقق المفهوم ، إذ يكفي في تحقق المفهوم كون الحكم مرتبطا بالقيد ارتباطا وثيقا بحيث يكون ذلك الحكم متوقّفا على القيد توقّف اللازم على ملزومه إذ أن التوقف والتلازم

ص: 296

بين الشيئين لا يقتضي أن العلاقة بينهما علاقة العلّية دائما ، فقد تكون العلاقة بين المتلازمين ناشئة عن كونهما معلولين لعلّة ثالثة ، وقد تكون ناشئة عن تلازم علّتين في الوجود والعدم ينتجان معلولين يكون بينهما تلازم في الوجود والعدم أي كلّما أوجبت العلّة الأولى معلولها أوجبت العلة الأخرى معلولها ، وهذا ينتج التلازم بين المعلول الأول والمعلول الثاني.

ومثال الأول : التلازم بين الحرارة والإحراق رغم عدم وجود أي علّية بينهما بل إن كلاهما معلولان لعلّة واحدة هي النار.

ومثال الثاني : سقوط قرص الشمس وبروز القمر في الليالي المقمرة فإنّهما علّتان متلازمتان وجودا وعدما وينتجان معلولين متلازمين في الوجود والعدم وهما ذهاب النهار وضوء القمر.

ومن هنا قلنا إن الربط الذي تحدثه الجملة لا يستوجب أن يكون بنحو العلّية بل يكفي في هذا الربط أن يكون موجبا للتلازم بين الحكم وقيده.

بل إنّ التلازم بين الحكم وقيده غير ضروري في تحقق المفهوم إذ أنّه يكفي في تحقق المفهوم للجملة هو إفادتها توقف الحكم على قيده ولو اتفاقا ، أي ولو لم يكن بين الحكم وقيده تلازم واقعي ، إذ أن المناط في تحقق المفهوم هو استفادة التوقّف والتلازم من حاقّ المنطوق بقطع النظر عن واقع العلاقة بين الحكم وقيده ، فلو قلنا إن مجيء زيد متوقّف على مجيء عمرو دون أن يكون لذلك التوقّف أي سبب ، لكانت هذه الجملة مفيدة لانتفاء مجيء زيد عند انتفاء مجيء عمرو.

وبهذا يتّضح أن التلازم الواقعي بين الحكم وقيده وإن كان يوجب تحقق المفهوم إلا أن ذلك ليس هو المناط في تحقق المفهوم بل إن المفهوم

ص: 297

يتحقق بأقلّ من ذلك ، إذ يكفي فى تحقق المفهوم أن يكون الربط بين الحكم وقيده بنحو يكون الحكم متوقّفا على قيده ولو اتفاقا.

قوله رحمه اللّه : « ملتصقا بالشرط ومتوقّفا عليه » الواو هنا عطف تفسير ، فالتوقّف والالتصاق يعبّران عن معنى واحد وهو حالة التلازم ولو كان ذلك التلازم مختلقا ومعتبرا بواسطة الجملة وليس وراءه واقع أو ليس في الجملة ما يدل على عليّة أحدهما للآخر بنحو العليّة الانحصاريّة.

« مفهوم الشرط »
اشارة

وبعد أن اتضح ما هو المراد من المفهوم وما هي ضابطته يقع الكلام حول بعض الجمل التي ادعي دلالتها على المفهوم.

ولا بدّ أن يكون مسار البحث هو عن توفّر هذه الجمل على ضابطة المفهوم وعدم توفّرها عليها.

ونبدأ أولا بالجملة الشرطية والتي علّقت فيها قضية حمليّة على قضية حمليّة أخرى بطريقة خاصّة اقتضت انفهام التعليق عرفا ، ولذا لم يقع الإشكال في دلالة الجملة الشرطية على الربط والتعليق ، نعم وقع الكلام في ما هو الدال على الربط والتعليق فيها.

وقد ذكر المصنّف رحمه اللّه في ذلك اتجاهين :

الاتّجاه الأول : هو أن الدال على الربط بين الشرط والجزاء هو أداة الشرط ، مثلا « إذا جاء زيد فأكرمه » هذه الجملة الشرطية دلّت على ربط

ص: 298

وجوب الإكرام بنحو التعليق على مجيء زيد ، وهذا التعليق والربط بين الشرط « وهو مجيء زيد » والجزاء « وهو وجوب الإكرام » استفيد من أداة الشرط وهي « إذا » في هذه الجملة إذ وضعت لإفادة هذا النحو من الربط.

وهذا هو الاتّجاه المعروف.

الاتجاه الثاني : وهو الذي تبناه المحقق الأصفهاني رحمه اللّه ، وحاصله :

إن الدال على الربط بنحو التعليق بين الشرط والجزاء هو هيئة الجملة الشرطية حيث إنها وبهذه الكيفية الخاصة التي رتّب فيها الجزاء على الشرط مفيدة للنسبة الربطيّة التعليقيّة بين ركني الجملة وهما الشرط والجزاء ، وليس لأداة الشرط دلالة على الربط والتعليق بل إنها وضعت للدلالة على أن الشرط الذي هو مدخولها قد لوحظ مقدر الوجود وليس لمنشأ الجملة أيّ تصد لإحرازه خارجا بل إنّه افترضه افتراضا وعلّق عليه الجزاء بنحو القضية الحقيقية فأداة الشرط ليس لها دور إلا دور الدلالة على أنّ الجمل الشرطية مجعولة على نهج القضايا الحقيقيّة.

وكيف كان فالاتّجاهان متّفقان على دلالة الجملة الشرطية على الربط والتعليق ، إلاّ أنّ هذا المقدار غير كاف لإثبات المفهوم للجملة الشرطية بل لا بدّ من إثبات أنّ الجملة الشرطية متوفّرة على ضابطة المفهوم.

ومن هنا يقع البحث في الجملة الشرطية عن جهتين :

الجهة الأولى : أن الحكم المعلّق على الشرط هل هو طبيعي الحكم أو شخص الحكم؟ ولا بدّ من إثبات أن المعلّق على الشرط هو الطبيعي وإلا لم تكن الجملة دالّة على المفهوم.

ص: 299

وقد قرّبت دعوى كون المعلّق على الشرط هو الطبيعي بهذا التقريب ، وهو : أنّ مقتضى الإطلاق في الجزاء المعلّق على الشرط هو أن المعلّق طبيعي الحكم إذ لو كان المعلّق هو فرد خاص من الحكم لكان على المتكلّم أن يأتي بالقيد الدال على الحكم الخاص ، فعدم ذكر القيد - رغم أنّه في مقام بيان ما هو المعلّق على الشرط - كاشف عن عدم إرادة أي قيد في الحكم ، وهذا يقتضي إرادة طبيعي الحكم ، مثلا قول الإمام علیه السلام : « إذا زالت الشمس فقد دخل وقت الصلاتين » (1) أي صلاة الظهر وصلاة العصر ، فالإمام علیه السلام قد علّق وجوب الصلاتين على زوال الشمس ، والسؤال هو أنّ الوجوب الثابت للصلاتين هل هو طبيعي الوجوب أو شخص الوجوب بحيث يمكن أن تجب صلاة الظهر ، وكذلك العصر بموجب آخر غير زوال الشمس ، والجواب أنّ مقتضى الإطلاق وقرينة الحكمة أنّ المعلّق على زوال الشمس هو طبيعي الوجوب بحيث إذا انتفى الزوال تنتفي تمام أفراد الوجوب للصلاتين ، فلا موجب آخر لأيّ فرد من أفراد الوجوب ؛ وذلك لأنه لو كان المعلّق على الزوال هو فرد خاص من وجوب الصلاتين لكان على الإمام علیه السلام أن يذكر القيد الدالّ على ذلك ، إذ أنّ الإمام في مقام بيان ما هو المعلّق على الزوال فلمّا لم يذكر ما يدل على إرادة الفرد الخاص للوجوب كشف ذلك عن عدم إرادة القيد ، وهذا يعني إرادة طبيعي الوجوب للصلاتين.

ص: 300


1- معتبرة عبيد بن زرارة عن أبي عبد اللّه علیه السلام ، وسائل الشيعة : الباب 4 من أبواب المواقيت الحديث 21.

وبهذا البيان اتّضح توفّر الجملة الشرطية على الركن الأول للمفهوم.

الجهة الثانية : أنّ الشرط المعلّق عليه الجزاء هل يظهر منه أنه علة انحصاريّة للجزاء وأنه لا توجد علة أخرى للجزاء أو لا؟

فإن تم إثبات ظهور الشرط في العليّة الانحصارية ثبت أنّ للجملة الشرطية مفهوم.

وقد طرحت لإثبات ذلك محاولتان.

المحاولة الأولى : إنّ الدال على أنّ الشرط علّة منحصرة للجزاء هو أداة الشرط ، ومنشأ دلالتها على ذلك هو الوضع ، وإذا كان كذلك فاستعمال أداة الشرط في حالة كون الشرط علة غير منحصرة يعني أنه استعمال لها في غير ما وضعت له « الأداة » وهو يقتضي مجازيّة الاستعمال.

ومن هنا نشأ الإشكال على هذه الدعوى إذ أنّ الوجدان قاض بفسادها ، فالعرف لا يرى أيّ تسامح وتجوّز في استعمال أداة الشرط في مورد لا يكون فيه الشرط علّة منحصرة للجزاء مما يكشف عن عدم مجازية استعمال الأداة في حالات عدم كون الشرط علّة منحصرة.

المحاولة الثانية : - لإثبات أنّ الشرط علة منحصرة للجزاء - وهي أنّ إثبات العليّة الانحصاريّة للشرط تتم بثلاث دوال يشكلون بمجموعهم ظهورا في انحصار الجزاء بالشرط :

الدالّ الأول : هي أداة الشرط ومدلولها الوضعي هو التلازم بين الشرط والجزاء دون تحديد هويّة هذا التلازم ، فلو كنّا وهذا المقدار لما كان للجملة الشرطيّة أيّ دلالة على أكثر من كون الجزاء لازما للشرط ، أمّا أنّ هذا اللزوم هو لزوم علّي أو غير علّي وعلى فرض ثبوت العلّية فهل هي

ص: 301

علّية انحصاريّة أو لا؟ فهذا خارج عن مفاد الأداة.

الدالّ الثاني : هي فاء التفريع - والتي يقع الجزاء مدخولا لها - ومدلولها الوضعي هو علّية الشرط للجزاء ، إذ أنّ هذا هو مقتضى تفرّع الجزاء عن الشرط ، وتفرع شيء عن شيء يعني أن المتفرّع عنه علّة للمتفرّع ، « فالفاء » تدل على التفريع والتفريع يقتضي العلّية كما ذكرنا.

وما ذكرناه من دلالة « الفاء » وضعا على التفريع لا فرق فيه بين كون الفاء مذكورة أو مقدّرة.

الدالّ الثالث : وهو الإطلاق في الشرط فإنّه دالّ على الانحصار وعدم وجود بديل يحقّق الجزاء ؛ وذلك لأن الشرط المذكور إمّا أن يكون علّة منحصرة للجزاء وإما أن يكون العلّة للجزاء هو أو غيره ، ولمّا كان المتكلّم في مقام بيان ما يوجب الجزاء ويحقّقه فهذا يستوجب ذكر كل ما يحقق الجزاء ، فإذا لم يذكر إلاّ هذا الشرط فهذا يقتضي عدم وجود شرط آخر يمكن أن يحقق الجزاء إذ لو كان موجودا ومع ذلك لم يذكره - وهو في مقام بيان ما يوجب ويحقق الجزاء - لكان ناقضا لغرضه.

وبهذا البيان يثبت أنّه لا يوجد شرط آخر يكون بديلا عن الشرط المذكور ، وهذا هو الانحصار المطلوب إثباته.

وبهذه الدوالّ الثلاثة يثبت أن الشرط في الجملة الشرطيّة علّة منحصرة للجزاء.

ومن أجل أن يتّضح المطلب أكثر نطبّق هذه الدوال الثلاثة على هذا المثال « إذا جاء زيد فأكرمه » ، فأداة الشرط « إذا » دلّت على التلازم بين الشرط وهو « المجيء » والجزاء « وهو وجوب الإكرام ».

ص: 302

و « الفاء » التي دخلت على الجزاء دلّت على تفرّع الجزاء وهو وجوب الإكرام على الشرط وهو المجيء ، وتفرّع الوجوب على المجيء دالّ على أنّ المجيء علّة للوجوب.

ثم إن مقتضى الإطلاق في الشرط - وهو مجيء زيد - يثبت الانحصار ؛ وذلك لأنه لو كان للشرط بديل يوجب الجزاء لذكره المتكلّم إذ أنه في مقام بيان ما يحقق وجوب الإكرام ، فعدم ذكر بديل للشرط كاشف عن عدم وجوده ، وهذا هو الانحصار في الشرط الذي نروم إثباته.

وبهذا تكون الجملة الشرطيّة دالّة على المفهوم لتوفّرها على كلا الركنين المعتبرين في تحقّق المفهوم في الجمل.

الشرط المسوق لتحقق الموضوع :

يمكن تصنيف الشرط في الجملة الشرطيّة إلى قسمين :

القسم الأوّل : وهو ما يثبت لموضوع الحكم مع إمكان زواله عن الموضوع ، ومع ذلك يبقى الموضوع منحفظا.

وبتعبير آخر : يكون الشرط واسطة في ثبوت الحكم للموضوع المتقرّر في مرحلة سابقة عن عروض الشرط عليه ؛ فلذلك لا يكون للشرط دخالة في وجود الموضوع ، بل إنّه إذا اتفق عروضه على الموضوع يثبت الحكم للموضوع ، مثلا : ( إذا كان زيد فقيرا فتصدّق عليه ) فوجوب التصدّق ثبت لموضوعه وهو زيد بواسطة عروض الشرط عليه ، وهذا الموضوع متقرّر وثابت بقطع النظر عن الشرط ، فهو لا يساوي الشرط وجودا وعدما ، فقد يوجد زيد ولا يكون فقيرا ، وقد يثبت له الفقر ثم

ص: 303

يزول عنه.

فإذا كانت علاقة الشرط بموضوع الحكم من هذا القبيل فالجملة الشرطية لها مفهوم.

القسم الثاني : أن يكون الشرط مساويا لموضوع الحكم وجودا وعدما ، فحيثما وجد الشرط وجد معه الموضوع ، وحيثما انعدم الشرط انعدم معه الموضوع ، فليس للموضوع تقرر وثبوت في صورتي وجود الشرط وعدمه ، وهذا النحو من الشروط في الجمل الشرطية قد يكون غير الموضوع إلاّ أنّه مساو للموضوع في الوجود والعدم وقد يكون هو عين الموضوع ، وفي كلا الحالتين لا يكون للجملة الشرطية مفهوم ؛ وذلك لأنّ المفهوم - كما قلنا - هو انتفاء الحكم عن الموضوع عند انتفاء الشرط ، فإذا كان الموضوع منتفيا بانتفاء الشرط أو كان الشرط هو الموضوع فأيّ موضوع نبحث عن انتفاء الحكم عنه ، وهل هو إلاّ من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع؟!

وبعبارة أخرى : إنّ الثمرة التي نستفيدها من المفهوم هي أنّ الحكم في ظرف انتفاء الشرط منتف عن الموضوع فإذا لم يكن هناك موضوع في ظرف انتفاء الشرط فلا حاجة للمفهوم في إثبات انتفاء الحكم لأنّ الحكم في مثل هذه الحالة منتف حتما لتبعيّة الأحكام لموضوعاتها ثبوتا وانتفاء ، نعم لو كان للموضوع تقرر وثبوت حتى في ظرف انتفاء الشرط يكون للمفهوم فائدة إذ قد ينتفي الشرط ولا ينتفي الحكم عن الموضوع فيكون دور المفهوم هو إثبات انتفاء الحكم عن موضوعه في ظرف انتفاء الشرط.

ويمكن التمثيل للشرط المساوي للموضوع بهذا المثال : ( إن رزقت

ص: 304

ولدا فاختنه ) فإنّ الموضوع مساو للشرط المعلّق عليه الأمر بالختن وهو أن يرزق المكلّف ولدا.

فإنّ عدم رزق اللّه المكلّف للولد معناه عدم الولد أي عدم الموضوع ، وبهذا ينتفي الحكم وهو الأمر بالختن بانتفاء موضوعه وهو الولد ، وذلك لتبعيّة الأحكام لموضوعاتها وليس انتفاء الحكم بسبب المفهوم إذ أنّ المفهوم هو انتفاء الحكم عن الموضوع الموجود عند انتفاء الشرط.

« مفهوم الوصف »
اشارة

ومن الجمل التي ادعي دلالتها على المفهوم هي الجمل الوصفيّة.

والمراد منها مطلق الجمل التي قيّد موضوعها أو متعلّق الحكم فيها بقيد من القيود ، وليس للمفهوم الذي ادعي دلالة الجمل الوصفيّة عليه اختصاص بالجمل النعتية في مصطلح النحاة ، بل يشمل كل قيد موجب لتضييق دائرة الموضوع أو متعلّق الحكم ، فلذلك فهو يشمل الحال والتمييز والإضافة وغيرهما مما يوجب التضييق في موضوع الحكم أو متعلّقه.

ومثال ما فيه تضييق لموضوع الحكم قوله تعالى : ( أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ) (1) فإنّ الصيد هو موضوع الحكم في الآية الكريمة وقد ضيّقت دائرة هذا الموضوع بقيد وهو البحر ، وبه أصبح موضوع الحكم ( الحلّية ) غير شامل لصيد البر.

ص: 305


1- سورة المائدة : آية 96

ومثال ما فيه تضييق لمتعلّق الحكم قوله تعالى : ( فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) (1) فإنّ الاعتداء هو متعلق الحكم وقد ضيّقت دائرته بقوله تعالى : ( بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ ) وبه أصبح متعلّق الحكم غير شامل للاعتداء بأكثر أو بغير سنخ الاعتداء الواقع على المخاطب.

وبعد اتّضاح موضوع البحث يقع الكلام في دلالة الجمل الوصفيّة على المفهوم ، وقد ذكر لإثبات ذلك وجهان :

الوجه الأوّل : أنّ القيود المأخوذة في موضوع الحكم أو متعلّقه إما أن تكون دخيلة في ترتّب الحكم على الموضوع أو المتعلّق وإمّا ألا تكون دخيلة في ذلك ، وعدم دخالتها مناف لما هو مقتضى الظهور العرفي ، إذ أن المتفاهم من أخذ قيد في موضوع أنّ ذلك القيد دخيل في ترتّب الحكم على موضوعه ، بمعنى أن الحكم لا يثبت لو اتفق انتفاء قيد الموضوع كما هو الحال لو قدّر انتفاء أصل الموضوع ، مثلا قول الإمام الصادق علیه السلام « لا تأكل اللحوم الجلاّلة » (2) فإنّ الظاهر من أخذ القيد في موضوع الحكم « اللحوم » أنّ ذلك القيد « الجلاّلة » دخيل في ترتّب الحرمة على الموضوع.

والإشكال على هذا الوجه : هو أن هذا المقدار لا يفي بإثبات المفهوم للجمل الوصفيّة ؛ وذلك لأنّ غاية ما يثبته هذا الوجه هو انتفاء شخص

ص: 306


1- سورة البقرة : آية 194
2- معتبرة هشام بن سالم ، وسائل الشيعة : الباب 15 من أبواب النجاسات الحديث 1

الحكم بانتفاء القيد المأخوذ في الموضوع أو المتعلّق ، ولذلك يمكن أن يثبت مثل الحكم للموضوع المجرّد عن القيد.

وبعبارة أخرى : إنّ انتفاء شخص الحكم بانتفاء القيد إنما نشأ عن قاعدة احترازيّة القيود القاضية بتطابق المدلول التصوري مع المدلول التصديقي الجدّي أي أنّ كل مدلول وضعي تصوّري مستفاد مما ذكره المتكلّم فهو مراد جدّي له ، فإذا ذكر المتكلّم قيدا لموضوع حكمه ، فهذا القيد مراد جدّا أي أنّ قصد المتكلّم جعل القيد دخيلا في ترتّب الحكم ، وهذا يقتضي انتفاء الحكم بانتفاء ذلك القيد إلاّ أنّ الحكم المنتفي بانتفاء القيد هو شخص الحكم المذكور في الخطاب ؛ ولذلك يمكن أن يثبت مثل ذلك الحكم لنفس الموضوع المجرّد عن ذلك القيد سواء كان ثبوت مثل الحكم بقيد آخر أو بدون قيد أصلا ، والمفهوم الذي نبحث عن دلالة الجملة الوصفيّة عليه هو انتفاء طبيعي الحكم بانتفاء القيد ، والذي يقتضي انتفاء تمام أفراد الحكم عن الموضوع حين انتفاء القيد ، ففي المثال الذي ذكرناه وهو قول الإمام علیه السلام « لا تأكل اللحوم الجلالة » لو انتفى الجلل عن اللحم ، فهذا يقتضي انتفاء شخص الحرمة المذكورة في هذا الخطاب إلا أنّ ذلك لا يعني انتفاء الحرمة على اللحوم غير الجلالة مطلقا ، فقد تثبت الحرمة للّحم بملاك آخر وهو كون اللحم من موطوء الإنسان أو ممن تغذّى على لبن خنزيرة ، وهذا بخلاف المفهوم فإنّه يقتضي انتفاء طبيعي الحرمة عن اللحم إذا انتفى عنه قيد الجلل.

الوجه الثاني : أن ذكر القيد لو لم يكن دالا على انتفاء طبيعي الحكم بانتفائه ، لكان أخذه في الموضوع أو المتعلّق لاغيا ، وهو مناقض لما هو

ص: 307

المفترض من حكمة المتكلّم.

وحتى لا يحمل فعل المتكلّم على ما هو مناف لمقتضى الحكمة لا بد من حمل كلامه على إرادة المفهوم وأنّ المنتفي عند انتفاء القيد هو طبيعي الحكم.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّه لو كان المنتفي عند انتفاء القيد هو شخص الحكم فقط لكان ذلك يقتضي إمكان ثبوت مثل الحكم للموضوع المجرّد عن ذلك القيد ، فلو كان الموضوع المجرّد محكوما بمثل ذلك الحكم فما معنى أن يأتي المتكلّم بخطابين يثبت للموضوع المقيّد فردا من الحكم ويثبت للموضوع المجرد فردا آخر مثله ، وهل هذا إلا من قبيل الأكل من القفا! إذ كان بإمكان المتكلّم أن يأتي بخطاب واحد يدل بإطلاقه على ثبوت الحكم للموضوع الشامل للفرد المقيّد.

فلو أن وجوب الإكرام ثابت للعالم المجرّد عن العدالة فلا معنى لأن يأتي المتكلّم بخطابين يجعل في الأوّل وجوب الإكرام للعالم العادل ويجعل في الآخر وجوب الإكرام للعالم المجرّد عن العدالة ، إذ يكفيه أن يأتي بخطاب واحد يدل بنحو الإطلاق على وجوب الإكرام للعالم الشامل للعادل وغير العادل.

والجواب عن هذا الوجه :

إن هذا الوجه غير قادر أيضا على إثبات المفهوم - بالمعنى المبحوث - للجملة الوصفية إذ أنّ المفهوم الذي نبحث عن ثبوته للجملة الوصفيّة هو انتفاء طبيعي الحكم بانتفاء قيده بحيث لا يثبت مثل الحكم - ولو بنحو الموجبة الجزئيّة - للموضوع حين انتفاء قيده ، وغاية ما ينتجه هذا الوجه هو أن مثل الحكم للجمل الوصفيّة لا يثبت للموضوع مطلقا في حالات

ص: 308

انتفاء القيد ، وهذا يعني إمكان ثبوت مثل الحكم للموضوع في بعض حالات انتفاء القيد وذلك لأن عمدة ما يرتكز عليه هذا الوجه هو أنّ مثل الحكم لو كان يثبت للموضوع في حال انتفاء القيد لما كان لذكر القيد أيّ فائدة ، فإذا ما ثبت أنّ لذكر القيد فائدة - حتى مع افتراض ثبوت مثل الحكم للموضوع المجرّد عن القيد - وهي عدم ثبوت مثل الحكم في بعض حالات انتفاء القيد فإنّ هذا الوجه يكون حينئذ عاجزا عن إثبات المفهوم للجملة الوصفيّة بالمعنى المبحوث.

وبتعبير آخر : إنّ المسلّم به أن يكون لذكر القيد فائدة وإلاّ لم يؤخذ في موضوع الحكم ، إلا أنّه لا يتعيّن أن تكون فائدة القيد هو انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء القيد المذكور ، فإنّه يمكن أن تكون فائدة من ذكر القيد هي انتفاء مثل الحكم في بعض حالات انتفاء القيد عن الموضوع فلا يكون ذكر القيد وعدم ذكره سواء ، ومن الواضح أنّ هذا المقدار لا يثبت المفهوم الذي هو انتفاء طبيعي الحكم عند انتفاء القيد ، نعم بناء على هذا الوجه يكون ذكر القيد معبّرا عن أنّ مثل الحكم لا يثبت للموضوع مطلقا في حالات انتفاء القيد بل لا بدّ أن تكون هناك حالات للموضوع - عند انتفاء القيد - لا يكون مثل الحكم ثابتا لها ، وبهذا يكون ذكر القيد صالحا للدلالة على انتفاء مثل الحكم عند انتفائه لكن بنحو الانتفاء الجزئي ، ففي الرواية التي ذكرناها وهي قول الإمام علیه السلام « لا تأكل اللحوم الجلالة » تكون فائدة ذكر القيد « الجلالة » هو أنه لا يمكن أن يثبت مثل الحكم لمطلق الموضوع « اللحوم » عند انتفاء القيد ، إذ يصبح ذكر القيد عندئذ بلا فائدة ، إلا أنّ هذا الوجه عاجز عن إثبات انتفاء طبيعي الحرمة عن اللحوم عند انتفاء قيد

ص: 309

الجلل.

وبما بيّناه يتّضح أن للجملة الوصفيّة مفهوما ولكن بنحو جزئي أي أن الجملة الوصفيّة تنفي ثبوت مثل الحكم للموضوع المجرّد عن القيد في بعض حالاته ، إلا أنّ هذه الحالات لا تكون مشخصة عندنا فلذلك يكون كل مورد ثبت فيه مثل الحكم للموضوع لا يكون منافيا للمفهوم في الجملة الوصفية ، نعم في حالة واحدة يحصل التنافي بين الجملة الوصفية وبين الجملة التي ثبت فيها مثل الحكم للموضوع ، وهذه الحالة هي ما لو كان مثل الحكم ثابتا للموضوع بنحو مطلق ، أي أنه لو كانت الحرمة في المثال ثابتة لمطلق اللحوم وبدون استثناء فإنّ هذا ينافي ذكر القيد في الجملة الوصفية ، أما لو ثبت مثل الحكم للحوم التي تكون من موطوء الإنسان أو مما تتغذّى على لبن خنزيرة فإنّ ذكر القيد للجملة الوصفيّة لا يكون منافيا لذلك.

أقسام الجملة الوصفية : ثم إنّ الجملة الوصفيّة تارة يصرّح فيها بذكر الموصوف ، وهذا ما تمّ الحديث عنه ، وتارة لا يصرّح فيها بذكر الموصوف بل يقتصر على ذكر الوصف كما في قوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ) (1) فإنّ الآية الكريمة لم تصرّح بذكر الموصوف وهو النساء بل اقتصرت على ذكر الوصف وهو المطلّقات.

والوجه الأول الذي ذكرناه في مقام الاستدلال على ثبوت المفهوم للجمل يمكن تعديته لهذا القسم من الجمل الوصفيّة ، والجواب هو الجواب.

ص: 310


1- سورة البقرة : آية 228

وأما الوجه الثاني فلا يمكن الاستدلال به على هذا القسم ؛ وذلك لأن الوصف حينئذ يكون هو موضوع الحكم في الجملة ، فيكون لذكره فائدة وهي ترتّب الحكم عليه ، فيكون الموضوع الفاقد لهذا الوصف مسكوتا عنه فعلا.

ومن هنا لا يكون انتفاؤه دالا - ولو في الجملة - على انتفاء مثل الحكم للموضوع المجرّد عن الوصف ، فقوله تعالى : ( وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ ) (1) لا يقتضي انتفاء وجوب التربّص عن النساء اللاتي لم يكنّ مطلّقات فيمكن أن يتوجّه لهن خطاب بوجوب التربّص مطلقا أو حينما يوطأن وطأ شبهة مثلا.

ص: 311


1- سورة البقرة : آية 228

ص: 312

جمل الغاية والاستثناء

ومن الجمل التي ادّعي دلالتها على المفهوم الجمل الغائية والجمل الاستثنائية والبحث فيهما يقع عن انتفاء طبيعي الحكم بانتهاء الغاية التي حدّد بها الحكم ، وكذلك انتفاء طبيعي الحكم عن الموضوع المستثنى عنه الحكم.

ويمكن التمثيل للحكم المغيّى بغاية بقوله تعالى : ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ ) (1) فإنّ وجوب الصوم المستفاد من صيغة الأمر قد حدّد بغاية وهي الليل ، والبحث يقع عن أنه بعد بلوغ الغاية هل ينتفي طبيعي الوجوب للصوم عن المكلّف بحيث يكون بلوغ الغاية مقتضيا لانعدام تمام أفراد الوجوب للصوم.

ويمكن التمثيل للحكم المستثنى عن موضوع بما لو قال المولى « إن الصلاة واجبة على كل ذكر وأنثى إلاّ الصبيان » فإنّ الحكم بوجوب الصلاة مستثنى عن الصبيان ، أي أنّ أداة الاستثناء أفادت عدم شمول الحكم لمدخولها « الصبيان ».

ولمزيد من التوضيح نقول : إن المراد من الاستثناء هو إخراج بعض

ص: 313


1- سورة البقرة : آية 187

أفراد موضوع عن أن تكون مشمولة للحكم المجعول على ذلك الموضوع ، فالأفراد المستثناة مشمولة للموضوع أساسا إلا أنها خارجة عنه حكما.

فالجملة الاستثنائية مشتملة على ثلاثة أركان :

الركن الأول : المستثنى منه : وهو الموضوع الكلّي والذي يمثّل الحقيقة المشتركة لأفراده ، وهو الذي يقع موضوعا للحكم ، وهو في مثالنا الذكر والأنثى.

الركن الثاني : المستثنى : وهي بعض أفراد الموضوع المجعول له الحكم إلاّ أنّها خرجت بواسطة الاستثناء وهو في مثالنا ( الصبيان ) فهم وإن كانوا

مشمولين لموضوع الحكم إلاّ أنهم خرجوا عن الموضوع حكما.

الركن الثالث : أداة الاستثناء : وهي الأدوات الموضوعة لإفادة إخراج بعض أفراد الموضوع عن الحكم الواقع على الموضوع المستثنى منه وذلك مثل : ( إلاّ ) و ( سوى ) و ( عدا ).

ومع اتضاح هذا نقول : إنّ المنفي عن المستثنى هل هو طبيعي الحكم الثابت للمستثنى منه أو أنّ المنفي هو شخص الحكم بحيث يكون وجوب الصلاة المنفي عن الصبيان هو شخص الوجوب الثابت في هذا الخطاب ، ويمكن أن يثبت فرد آخر للوجوب يشمل الصبيان أو يخصّهم.

ومن الواضح أننا إذا أردنا أن نثبت للجمل الاستثنائيّة وكذلك الغائية مفهوما لا بدّ أن نثبت أنّ الحكم المنفي عن المستثنى وكذلك الحكم المنفي عن موضوعه بعد بلوغ الغاية هو طبيعي الحكم لا شخصه إذ أنّ انتفاء شخص الحكم عن المستثنى وعن الموضوع بعد بلوغ الغاية متحقّق حتما ، وذلك لقاعدة احترازيّة القيود والتي تعني أنّ كل ما يذكره المتكلّم يريده جدّا ،

ص: 314

وهذا يقتضي دخالة تلك القيود المذكورة في ترتّب ذلك الحكم وإذا كان كذلك فالحكم لا يترتّب إذا انتفت تلك القيود ، إلاّ أنّ الحكم الذي لا يترتّب مع عدم تلك القيود هو شخص الحكم المذكور في ذلك الخطاب إذ أنّه قد يثبت مثل ذلك الحكم بخطاب آخر ولداع آخر.

ولذلك لا يعوّل المثبتون للمفهوم في الجمل الغائية والاستثنائية على قاعدة احترازيّة القيود ، بل إنهم يستدلّون بدليل آخر وهو الوجه الثاني الذي ذكرناه في مفهوم الجمل الوصفيّة ، وحاصله : أنّه لو كان الحكم المنفي عن المستثنى وعن الموضوع بعد بلوغ الغاية هو شخص الحكم بحيث يكون مثل الحكم ثابتا للمستثنى والموضوع بعد تحقّق الغاية ولكن بخطاب آخر لكان ذلك أشبه بالعمل العبثي الذي ليس له أيّ مبرّر عقلائي ، إذ ما معنى أن تخرج بعض الأفراد عن الحكم وأن يغيّى الحكم بغاية ثم يثبت مثل ذلك الحكم للمستثنى وللموضوع بعد تحقق الغاية ، إذ كان بإمكان المتكلّم أن يجعل الحكم من البداية على الموضوع بنحو مطلق بحيث يشمل المستثنى منه والمستثنى ، وأن يجعل الحكم على الموضوع دون أن يجعل للحكم غاية ثم يجعل مثله بعد بلوغ الغاية.

وهذا الوجه وإن كان وجيها إلاّ أنّه لا يثبت المفهوم بالمعنى الذي ذكرناه إذ أنّ أقصى ما يثبته هذا الوجه هو انتفاء طبيعي الحكم عن المستثنى وعن الموضوع بعد بلوغ الغاية بنحو السالبة الجزئيّة ، أيّ أنّ طبيعي الحكم لا بدّ أن يكون منتفيا عن بعض حالات المستثنى والموضوع بعد بلوغ الغاية بحيث لا يثبت الحكم لبعض حالاتهما ولو بخطاب آخر وملاك آخر ، ولهذا يكون للاستثناء والغاية مبرّر ، ففي مثالنا الأول يكون المبرّر للغاية هو أنّ

ص: 315

طبيعي وجوب الصوم منتف عن الموضوع وهو المكلّف بعد بلوغ الغاية في بعض حالات الموضوع ، ولتكن تلك الحالة التي ينتفي فيها طبيعي الوجوب هي حالة عدم وجود ملاك خاص لوجوب الصوم بعد الغاية ، ومن الواضح أنّه لا يكون ذكر الغاية حينئذ عملا عبثيا ولغويّا بل يكون الغرض منه الاحتراز عن مثل هذه الحالة.

وكذلك الكلام في المثال الثاني فإنّ مبرّر الاستثناء هو أنّ طبيعي الوجوب للصلاة منتف عن بعض حالات المستثنى ولتكن تلك الحالة هي عدم وجود ملاك خاص يوجب الصلاة على الصبيان ، وهذا لا يقتضي أكثر من انتفاء الطبيعي عن تلك الحالة ولا يمنع من ثبوت مثل الوجوب للصلاة على الصبيان في حالات خاصّة مثل التمرين.

قوله رحمه اللّه : « لحكم مغيّى » أي رجوع الغاية إلى الحكم ، فالغاية هي الأمد أو المكان المحدّد ، والمغيّى هو المحدود بذلك الزمن أو المكان ، فحينما يقال : ( نام زيد إلى الليل ) فالليل هو الغاية والنوم هو المغيّى ، أي أنّ لنوم زيد حدّا هو الليل والنوم محدود بالليل ، وظاهر عبارة المصنّف رحمه اللّه أنّ المغيّى والمحدود بالغاية هو الحكم إلاّ أنّه جاء بمثال يتناسب مع كون المغيّى هو متعلّق الحكم حيث مثل بقوله : ( صم إلى الليل ) فالليل غاية وحد للصوم لا لوجوب الصوم إلاّ أن يقال أنّ الغاية راجعة إلى الحكم المستفاد من هيئة فعل الأمر ( صم ) فتكون الغاية راجعة إلى الحكم المستفاد من المعنى الحرفي ، وهذا مبني على إمكان تقييد المعاني الحرفيّة.

وبيان ذلك : أنّ الغاية قد ترجع إلى الموضوع وقد ترجع إلى المتعلّق وقد ترجع إلى الحكم.

ص: 316

أمّا مثال رجوع الغاية للموضوع فقوله تعالى : ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ ) (1) ، فالغاية في الآية الكريمة وهي مدخول « إلى » راجعة إلى الأيدي وهي موضوع وجوب الغسل فيكون مفاد الآية الكريمة إنّ الذي يجب غسله هو ما بين المرفق والأصابع.

وأمّا مثال رجوع الغاية إلى المتعلّق ، فقوله تعالى : ( فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (2) ، فإنّ المغيّى في هذه الآية الكريمة هو متعلّق الأمر وهو القرب ، والغاية هي الطهر.

وأوضح منه قوله تعالى : ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ) (3) ، فإنّ الغاية في هذه الآية الكريمة راجعة إلى المتعلّق في الأمر الأول والثاني وهما العفو والصفح.

وأمّا مثال رجوع الغاية إلى الحكم ، فقوله علیه السلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي » (4) ، فإنّ الغاية في هذه الرواية الشريفة راجعة إلى الحكم وهو الجواز.

ثم إنّ الذي يظهر من عبائر المصنّف رحمه اللّه في تقريرات بحثه هو أنّ رجوع الغاية إلى الحكم تارة يكون مستفادا من مفهوم اسمي كما في المثال الذي ذكرناه وتارة يكون مستفادا من الهيئة والنسبة التامّة ، وعلى هذا يمكن

ص: 317


1- سورة المائدة : آية 6
2- سورة البقرة : آية 222
3- سورة البقرة : آية 109
4- مرسلة الصدوق ، وسائل الشيعة : الباب 12 من أبواب صفات القاضي الحديث 67

أن تكون الغاية في قوله تعالى : ( وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ) (1) ، وكذلك قوله تعالى : ( فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ) (2) ، راجعة إلى الحكم المفاد بواسطة هيئة الفعل المضارع المدخول للا الناهية وهيئة فعل الأمر.

وكيف كان فالمسألة غير محسومة عند الأعلام « رضوان اللّه عليهم » وقد جرينا في الشرح على طبق ما استظهرناه من عبارة المصنّف رحمه اللّه وأنّ الغاية راجعة إلى الحكم والذي يهوّن الخطب أنّ المصنّف رحمه اللّه أراد أن يجعل الطالب في الصورة فحسب.

ص: 318


1- سورة البقرة : آية 222
2- سورة البقرة : آية 109
التطابق بين الدلالات
اشارة

ذكرنا فيما سبق أنّ هناك ثلاث دلالات للكلام ، والدلالة الأولى منها دلالة وضعيّة مستفادة من الوضع ، وهذه الدلالة تتحقّق بسماع اللفظ حتى من غير ذي الشعور وحتى مع العلم بعدم إرادة اللافظ للمعنى الموضوع له ذلك اللفظ ، وهذه الدلالة هي المعبّر عنها بالدلالة التصوّرية والتي توجب انقداح المعنى في الذهن بمجرّد إطلاق اللفظ.

وأمّا الدلالتان الثانية والثالثة فمستفادتان من الظهور الحالي السياقي للمتكلّم ؛ فلذلك لا تتعقّل هاتان الدلالتان إلاّ من المتكلّم العاقل الملتفت لما يقول ، وهاتان الدلالتان يعبّر عن الأولى منهما بالدلالة التصديقية الأولى ، وهي الموجبة لإحراز كون المتكلّم قاصدا لإخطار المعنى الموضوع له ذلك اللفظ المستعمل.

ويعبّر عن الثانية بالدلالة التصديقية الثانية ، وهي التي توجب إحراز كون المتكلّم جادّا في الحكاية عمّا أخطر من معان بواسطة ألفاظها الموضوعة لإفادتها ، وبهذا تختلف عن الدلالة التصديقية الأولى ، إذ أنّ غاية ما تثبته هذه الدلالة هو أنّ المتكلّم قاصد لإخطار المعنى من اللفظ حتّى ولو كان هازلا إذ أنّ الهازل قاصد أيضا لإخطار المعاني إلاّ أنّه ليس جادّا في الحكاية عمّا أخطره من معان.

ص: 319

ومع اتضاح الفرق بين الدلالات الثلاث نصل إلى ما هو الغرض من عقد هذا البحث ، وهو البحث عن ما هو المرجع في حالات الشك في إرادة المتكلّم وأنّه هل أراد المعنى الموضوع له اللفظ وهل قصد الحكاية عنه أو أنه أراد معنى آخر غير المعنى الحقيقي وقصد الحكاية عن معنى آخر غير المعنى الموضوع له اللفظ « الحقيقي »؟

فأولا : نبحث عمّا هو المرجع في حالات الشك في الإرادة الاستعمالية ، وهل أن المتكلّم استعمل اللفظ في معناه الحقيقي وقصد إخطار المعنى الحقيقي أو لا؟

فنقول : إن المخاطب حينما يتلقّى كلاما من متكلّم عاقل ملتفت فإنّ له ثلاث حالات ، فتارة يحرز إرادة المتكلّم لإخطار المعنى الموضوع له اللفظ ، فالاستعمال هنا حقيقي ، وتارة يحرز أنّ المتكلّم أراد معنى آخر غير المعنى الموضوع اللفظ وحينئذ يكون الاستعمال مجازيّا ، والحالة الثالثة يقع الشك في إرادة المتكلّم ، وأنّه هل أراد من اللفظ معناه الموضوع له أو أراد معنى آخر غير المعنى الموضوع له اللفظ.

وهذه الحالة لا تتصوّر إلا مع فقدان القرينة على ما هو المراد ، وعندئذ يقع البحث عمّا هو المرجع في هذه الحالة ، فهل المرجع هو أصالة الحقيقة أو أنّ الإرادة الاستعمالية تكون في مثل هذه الحالة مجملة؟

والجواب : أنّ المصنّف رحمه اللّه - وكما هو المذهب المعروف - ذهب إلى أنّ المرجع في هذه الحالة هو أصالة الحقيقة والتي تعني أصالة التطابق بين الدلالة الوضعية التصورية والدلالة التصديقية الأولى ، وأن المتكلّم حين يستعمل اللفظ ، فإنه قاصد لإخطار معناه الموضوع له ذلك اللفظ ، فإنّ

ص: 320

استعمال اللفظ في المعنى المجازي يحتاج في إثباته إلى قرينة ، ولمّا كان فرض الكلام عدم وجود قرينة على المجاز فأصالة الحقيقة هي المحكّمة في مثل هذه الحالة ، وبهذا ينعقد ظهور لحال المتكلّم بأنّه مريد لإخطار المعنى الحقيقي من اللفظ.

وإذا تنقّح الظهور في الدلالة التصديقية الأولى يقع الكلام عن استظهار الدلالة التصديقية الثانية.

والمتلقي للّفظ المستعمل هنا أيضا له ثلاث حالات ، فتارة يحرز عدم جدّية المتكلّم في الحكاية عن ما أخطره من معان بواسطة ألفاظها ، وتارة يحرز جديّته في ذلك ، والحالة الثالثة يشك في إرادته الجدّية وعدم إرادته ، وفي مثل هذه الحالة يتمسّك بأصالة ظهور حال المتكلّم في أنّه جادّ في الحكاية عما أخطره من معان ؛ وذلك لأصالة التطابق بين الدلالتين التصديقة الأولى والثانية ، إذ أنّ الظاهر عرفا من حال كل متكلّم أنه جادّ في الحكاية عن مقاصده ، وهذا هو المعبّر عنه بأصالة الظهور.

وقد ذكر المصنّف رحمه اللّه تطبيقين لأصالة الظهور :

التطبيق الأول : أصالة الظهور في العموم : فإنّه بعد تنقّح ظهور حال المتكلّم - المستعمل لأحد ألفاظ العموم - في أنّه قاصد لإخطار معنى العموم يقع البحث عن ظهور آخر وهو أنّ المتكلّم جادّ في الحكاية عما أخطره من معنى العموم ، وهذا الظهور هو الذي يمكن ترتيب الأثر عليه ، والاحتجاج به على المتكلّم ، وكذلك احتجاج المتكلّم به على المخاطب.

وهذا الظهور ينعقد بواسطة أصالة التطابق بين الدلالة التصديقية الأولى وبين الدلالة التصديقية الثانية ، وأن كلّ متكلّم جاء بلفظ العموم

ص: 321

وقصد منه إخطار معناه في ذهن المخاطب ولم ينصب قرينة على عدم الإرادة الجديّة للعموم ، فإنّ أهل المحاورة يبنون على أن المتكلّم مريد جدّا لواقع العموم ، لذلك فهم يرتبون آثار العموم حتى في موارد عدم قيام القرينة الخاصة على إرادة العموم ، ومنشأ هذا التباني هو أنّه لمّا كان ظاهر حال المتكلّم قصد إخطار معنى العموم من لفظه سبّب ذلك انعقاد ظهور آخر لحال المتكلّم في أنّه مريد جدّا لمعنى العموم ولو لم يرد ذلك لكان عليه أن ينصب قرينة على عدم التطابق بين مراده الاستعمالي ومراده الجدّي ، أمّا مع عدم نصب القرينة فالمحكّم هو أصالة التطابق والتي هي أصل عقلائي تبانى عليه أهل المحاورة في كلّ لغة ، ولو لا ذلك لما انعقد ظهور لكلام أي متكلّم إلا في موارد محدودة ، إذ أن أكثر مرادات المتكلّمين تعرف بواسطة هذا الأصل.

فلو قال المولى : « تصدّق على كل الفقراء » واستظهرنا من حاله أنّه قاصد لإخطار معنى العموم من لفظه ولم تقم قرينة على عدم جدّيّة المولى فيما أخطره فإنّ ذلك يستوجب ظهورا آخر لحال المولى هو أنّه مريد جدّا لمعنى العموم.

وهذا الظهور هو المعبّر عنه بأصالة الظهور في العموم وهو حجّة أي أنه منجّز ومعذّر على ما سيأتي إثبات ذلك في بحث حجّية الظهور إن شاء اللّه تعالى.

التطبيق الثاني : أصالة الجهة : ويستفاد من هذا الأصل العقلائي في موارد الشك في الإرادة الجديّة للمتكلّم من حيث إنّ الكلام هل صدر تقيّة أو لبيان الواقع.

ص: 322

وهذا الأصل لا يختلف عن أصالة الظهور في المراد الجدّي للمتكلّم بل هو عينه ، غاية ما في الأمر أننا تارة نستفيد منه نفي التخصيص فنعبّر عنه بأصالة الظهور في العموم وتارة نستفيد منه نفي التقييد فنعبّر عنه بأصالة الظهور في الإطلاق وتارة أخرى نستفيد منه نفي التقية فنعبّر عنه بأصالة الجهة وهكذا.

وبهذا يتّضح أنّ التقريب المذكور في أصالة الظهور في العموم جار هنا أيضا ، فلو قال المولى : ( أكرم العلماء ) وشككنا في المراد الجدّي للمولى من حيث إنّ هذا الخطاب هل صدر لبيان الحكم الواقعي أو أنّه صدر تقيّة ، فإنّ أصالة الجهة - والتي تعني أصالة التطابق بين المراد الاستعمالي والمراد الجدّي - تنفي صدور هذا الخطاب تقيّة ، وبذلك يتنقّح ظهور لحال المولى بأنّه جادّ في ما أخطره من معنى في هذا الخطاب ، وهذا الظهور حجّة يجب ترتيب الأثر عليه.

دور القرينة في هدم الدلالات الثلاث :

عرفنا - ممّا سبق - أنّ الدلالة التصوّريّة الناشئة عن الوضع تظلّ ثابتة حتّى في موارد العلم بعدم إرادة المتكلّم للمعنى الموضوع له اللفظ المستعمل ، إذ أنّ الدلالة التصوريّة لمّا كانت ناشئة عن الاقتران الأكيد بين اللفظ والمعنى فإنّ هذا الاقتران يوجب انسباق المعنى للذهن بمجرّد إطلاق اللفظ دون أن يتوقّف تصوّره على شيء آخر غير إطلاق اللفظ ، ولذلك لو قامت القرينة المتّصلة فضلا عن المنفصلة على عدم إرادة المتكلّم للمعنى الحقيقي ، فإنّ ذلك لا يؤثّر على تحقّق الدلالة التصوّرية بل إنّ الذهن يتصوّر المعنى

ص: 323

الحقيقي من لفظه وإن كان لا يترتّب على هذا التصوّر أيّ أثر من قبيل إدانة المتكلّم بما أفاده من معنى تصوّري.

وأمّا الدلالة التصديقية الأولى وكذلك الثانية فإنّه لا ينعقد لهما ظهور في حال قيام القرينة المتّصلة على عدم الإرادة الاستعمالية أو الإرادة الجديّة ، فلو قامت القرينة المتّصلة على عدم إرادة المعنى الحقيقي من اللفظ المستعمل فإنّه لا ينعقد ظهور في الإرادة الاستعمالية والتي هي الدلالة التصديقية الأولى بل إنّ الظهور ينعقد في المعنى الذي تقتضيه القرينة المتّصلة.

وكذلك الكلام لو قامت قرينة على عدم الإرادة الجدّية فإنّه لا ينعقد ظهور في الدلالة التصديقيّة الثانية ، بل إنّ الظهور يكون مع مدلول القرينة المتّصلة.

أمّا لو قامت القرينة المنفصلة على عدم الإرادة الاستعماليّة أو الإرادة الجديّة فإنّ الظهور في الدلالة التصديقية الأولى وكذلك الثانية يظلّ على حاله دون أن ينهدم بالقرينة المنفصلة.

وبهذا تكون القرينة المنفصلة منافية للظهور في الدلالتين ، فلا بدّ من الجمع بين ما هو مقتضى الظهور في الدلالتين وبين ما هو مقتضى ظهور القرينة المنفصلة ولا بدّ أن يكون الجمع متناسبا مع ما هو المتفاهم العرفي.

ولنذكر مثالا نطبّقه على ما ذكرناه من دور القرينة في هدم الدلالات الثلاث :

لو قال المتكلّم : ( رأيت أسدا يرمي ) فإنّ ( يرمي ) قرينة متّصلة على عدم إرادة المعنى الحقيقي للفظ الأسد ، إلاّ أنّ ذلك لا يؤثّر على الدلالة

ص: 324

التصورية الوضعية ، بل إنّ استعمال لفظ الأسد موجب لتصوّر معناه وإن كنّا نعلم بعدم إرادته استعمالا وجدا.

وأمّا الظهور في الإرادة الاستعمالية وكذلك الإرادة الجديّة للمعنى الموضوع له لفظ الأسد ، فإنّه لا ينعقد ، وذلك لاقتران الكلام بما يصرفه عن المعنى الحقيقي إلى ما يتناسب مع مقتضى القرينة.

ولو كانت القرينة ( يرمي ) جاءت في كلام آخر بأن قال المتكلّم أولا : ( رأيت أسدا ) ثم قال بعد ذلك ( وكان الأسد الذي رأيته يرمي ) فإنّ الظهور في الإرادة الاستعماليّه وكذلك الجدية لا ينهدم بعد انعقاده ، بل يبقى على حاله ، ولذلك يحصل نوع تناف بين ما هو مقتضى الظهور في الدلالتين ( الاستعماليّة والجديّة ) وبين ما هو مقتضى ظهور القرينة المنفصلة ، وهنا لا بدّ أن يكون الجمع بين الظهورين متناسبا مع ما هو مقتضى الفهم العرفي.

ص: 325

ص: 326

مناسبات الحكم والموضوع

إنّ الأحكام المجعولة على موضوعاتها أو متعلّقاتها تكون عادة مجعولة على حالة من حالات ذلك الموضوع أو المتعلّق أو على حيثيّة من حيّثيّاتهما ، وهذه الحيثيّة الملحوظة تارة تستوجب تعميم الحكم وتارة تستوجب التضييق من دائرته ، غاية ما في الأمر أنّه قد يصرّح في الخطاب بالحيثيّة التي انصبّ الحكم على الموضوع أو المتعلّق بلحاظها وقد لا يصرّح بذلك اتكالا على ما هو مرتكز في ذهن أهل المحاورة من تناسب بين الموضوع وبين الحكم المجعول عليه ، فنلاحظ العرف - ونتيجة لملابسات خارجيّة أو مستفادة من أجواء الخطاب أو من مناشئ أخرى - يلغي في بعض الأحيان بعض خصوصيّات الموضوع ، وفي أحيان أخرى يجزم بالخصوصيّة ، وفي حالات يعدّي الحكم من موضوعه المذكور في الخطاب إلى موضوعات أخرى ، وهكذا.

كل ذلك ناشئ عن أنّ مناسبات بين الحكم والموضوع نشأت - كما قلنا - عن ملابسات خارجيّة من قبيل عدم إمكان ثبوت الحكم للموضوع من جهة معيّنة ، ويمكن التمثيل لذلك بما روي عن أبي الحسن علیه السلام أنّ كلثم بنت مسلم ذكرت الطين عند أبي الحسن علیه السلام فقال : « أترين أنّه ليس من مصائد

ص: 327

الشيطان ، ألا إنّه لمن مصائده الكبار وأبوابه العظام » (1) ، فإنّ المستظهر من هذه الرواية هو حرمة الطين إلاّ أنّ الحيثيّة التي جعلت عليها الحرمة غير مصرّح بها في الرواية إلاّ أنّه من غير الممكن أن تكون الجهة الملحوظة في الموضوع هي وطأ الطين مثلا.

أو تكون مستفادة من أجواء الخطاب كما في قوله علیه السلام : « حرّمت الخمرة لإسكارها » (2) ، فإنّ الموضوع وهو الخمرة لها حيثيّات كثيرة من قبيل المعاوضة عليها ومن قبيل الاحتفاظ بها وهكذا ، إلا أنّ التعليل المذكور في الخطاب يناسب أن يكون الحكم مجعول على الشرب إذ هو الذي يوجب الإسكار دون بقيّة حيثيّات الموضوع.

أو تكون مستفادة عن معرفة المناطات والملاكات التي يعوّل عليها المولى في جعل الأحكام لموضوعاتها ، كقوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ) (3) ، فإنّ موضوع الحرمة له حيثيّات كثيرة ، كالنظر واللمس والتكلّم وهكذا ، إلاّ أنّ العرف لمّا كان مطّلعا على محبوبيّة الشارع للنظر إلى الأم برحمة ، ومحبوبيّة خدمتها المستلزمة للمسها والتحدّث معها وهكذا سائر الحيثيّات ، فإنّ العرف إما أن يكون مطّلعا على مطلوبيّتها أو عدم مبغوضيّتها ، أو يكون مطّلعا على مبغوضيّتها إلا أنها ليست خاصة بعنوان الأم ، كلّ ذلك أوجب استظهار أنّ الحيثيّة التي انصبّ عليها الحكم بالحرمة هي حيثيّة النكاح.

ص: 328


1- وسائل الشيعة : الباب 58 من أبواب الأطعمة المحرّمة الحديث 9
2- وسائل الشيعة : الباب 58 من أبواب الأطعمة المحرّمة الحديث 9
3- سورة النساء : آية 23

وبهذا يتّضح أن مناسبات الحكم والموضوع تنشأ عن قرائن خاصّة إلا أنها ليست من قبيل القرائن اللفظية بل هي من قبيل القرائن الحاليّة أو المقاميّة.

ولمزيد من التوضيح نذكر بعض التطبيقات :

التطبيق الأوّل : لو قال المولى « اغسل ثوبك من دم ذي النفس السائلة » ، فإنّ العرف يلغي خصوصيّة الثوب ويرى أنّ الحكم بالنجاسة ثابت لمطلق الملاقي للدم ، وإنما ذكرت الثوب لغرض التمثيل لمطلق الملاقي للدم.

وهذا التعميم المستظهر عرفا من المثال نشأ عن مناسبات الحكم والموضوع ، فإنّ المثال وإن لم يصرّح فيه بالحيثيّة الملحوظة في الموضوع حين جعل الحكم عليه إلاّ أنّ استبعاد العرف وجود خصوصيّة للموضوع المذكور في الخطاب أوجب استظهار كون الحيثيّة المذكورة في الموضوع المذكور هي التمثيل.

ومنشأ استظهار المثاليّة واستبعاد الخصوصيّة هو ظهور الخطاب في أنّ الأثر الشرعي للدم هو التنجيس وإذا كان كذلك فأيّ فرق بين الثوب وبين سائر ما يلاقيه الدم.

التطبيق الثاني : قوله تعالى : ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (1) فإنّ العرف يفهم من الحرمة الثابتة للميتة هي حرمة أكلها.

ومنشأ فهم العرف اختصاص الحرمة بالأكل هي مناسبات الحكم

ص: 329


1- سورة المائدة : آية 3

والموضوع وذلك لأن الأكل هو الفائدة الغالبة المتصوّرة من لحم الميتة.

التطبيق الثالث : قول النبي صلی اللّه علیه و آله : « رفع عن أمّتي ... ما اضطرّوا إليه » (1) ، فكل فعل صدر عن المكلّف وكان منشؤه الاضطرار فإنّ ذلك الفعل قد رفعت آثاره الشرعيّة التي لو لم يكن المكلّف مضطرّا لترتّبت تلك الآثار على فعله ، فلو شرب المكلّف الخمر فإنّ الأثر الشرعي لهذا الفعل هو إقامة الحدّ عليه وعدم قبول شهادته ، لكنّ هذه الرواية الشريفة قد رفعت هذه الآثار في حالة صدور هذا الفعل من المكلّف اضطرارا ، إلاّ أنّه وبمناسبات الحكم والموضوع يستظهر العرف عدم ارتفاع الأثر الشرعي عن البيع الذي أجراه المكلّف اضطرارا ، فإنّ الأثر الشرعي للبيع وهو تملّك البائع للثمن يكون ملغيّا لو كنّا نحن والسعة اللفظية للرواية ، إلاّ أنّه وباعتبار أن إلغاء الأثر الشرعي للبيع يكون منافيا للامتنان على الأمّة فإنّ هذا يشكّل قرينة على عدم شمول الرفع لهذا المورد باعتبار أنّ مقتضى الظهور في الرواية هو أنها في مقام الامتنان على الأمة ، وإلغاء الأثر الشرعي لبيع المضطر لا يتناسب مع الامتنان ، فإنّ المضطر حينما يبيع ما عنده يقصد رفع الاضطرار عن نفسه ، فلو كانت آثار هذا البيع ملغية فإنّ هذا نقيض الغرض من الرفع الوارد في الرواية.

وببيان أوضح : لو أن المكلّف بلغ به الجوع حدّ الاضطرار ، فباع ما عنده واشترى بثمنه طعاما ، فلو كان البيع في هذه الحالة مشمولا لحديث الرفع ، فمعناه أنّ هذا البيع لاغ ولم يترتّب عليه تملّك المضطر للثمن ، فيكون

ص: 330


1- وسائل الشيعة : الباب 56 من أبواب جهاد النفس الحديث 1

عاجزا شرعا عن تملّك الطعام ، وهذا مناف للامتنان الذي أرادته الشريعة وكشفت عنه بواسطة هذه الرواية الشريفة ، وإذا كان كذلك فالرفع غير شامل لمثل هذه الموارد.

والمتحصّل من كلّ ما ذكرناه أن العرف حينما يتلقى خطابا فإنّه يلاحظ نوعية الحكم المجعول في الخطاب ويلاحظ موضوع ذلك الحكم ثم يناسب بينهما اعتمادا على ما هو مركوز في ذهنه نتيجة ملابسات اقتضتها معرفته بملاكات الأحكام أو طبيعة الحكم المجعول أو اقتضتها أجواء الخطاب أو ما إلى ذلك.

ص: 331

ص: 332

إثبات الملاك بالدليل

ذكرنا - فيما سبق - أن الاماميّة « أعزّهم اللّه » يذهبون إلى أنّ أحكام اللّه تعالى تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها ، أي أن الأحكام الشرعية ليست أحكاما جزافيّة ، وإنما هي ناشئة عن ملاكات في متعلّقاتها ، فالحكم بحرمة شرب الخمر ناشئ عن مفسدة شديدة في متعلّق الحرمة « وهو الشرب » هذه المفسدة بلغت حدّا أنشأت مبغوضيّة بحجم تلك المفسدة ، ومن هنا نشأت الحرمة والتي تقتضي مسؤولية المكلّف عن ترك متعلّقها.

وهكذا سائر الأحكام الشرعيّة فإنّها ناشئة عن ملاكات في متعلّقاتها.

ومن هنا فالدليل الكاشف عن الحكم الشرعي كاشف بالملازمة عن ملاكه ، وهذا لا كلام فيه ، إنما الكلام لو اتّفق سقوط المدلول المطابقي في الدليل الشرعي ، أي سقط الخطاب بالحكم الشرعي بسبب تعذّر امتثاله على المكلّف مثلا أو مزاحمته بحكم أهم ملاكا منه ، فإنّ التكليف بما هو خارج عن القدرة أو التكليف بما هو مزاحم بحكم أهم ملاكا منه غير ممكن.

ومن هنا يسقط الخطاب بالحكم عن المنجّزيّة ، والكلام أنّه في حالة من هذا القبيل هل يسقط المدلول الالتزامي الكاشف عن وجود الملاك في

ص: 333

متعلّق الحكم أو أنه يظلّ ثابتا حتى في حالات سقوط الخطاب بالحكم والذي هو المدلول المطابقي للدليل.

وهذا البحث تظهر له ثمرة لو كان لوجود الملاك أثر شرعي كالقضاء مثلا.

مثلا لو قام الدليل على وجوب الصوم في نهار شهر رمضان فإنّ لهذا الدليل مدلولين ، الأول هو الحكم بالوجوب وهذا هو المدلول المطابقي للدليل ، والثاني هو اشتمال متعلّق الوجوب « الصوم » على الملاك ، فلو عجز المكلّف عن امتثال الحكم فإنّ المدلول المطابقي لهذا الدليل يكون ساقطا عن الحجيّة ، والمفروض أنه لا يتّسع لإفادة وجوب القضاء في حالة ارتفاع العجز ، إلا أنّه يقع الكلام في المدلول الالتزامي لهذا الدليل - وهو اشتمال الصوم على الملاك التام - من حيث إن سقوط المدلول المطابقي للدليل هل يوجب سقوط كاشفيّته على وجود الملاك أو أنّ سقوط المدلول المطابقي لا يستلزم سقوط المدلول الالتزامي بل يبقى الدليل الشرعي صالحا للكاشفيّة عن المدلول الالتزامي ، وبهذا لو كان لبقاء المدلول الالتزامي أثر - وهو وجوب القضاء مثلا في حالة ارتفاع العجز - لكان هذا الأثر مترتّبا ومقتضيا لثبوت القضاء على المكلّف.

والجواب في المقام يتحدّد بالنتيجة التي تبنّاها السيد الشهيد قدس سره في بحث تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة في الحجيّة ، حيث تبنّى السيد الشهيد هناك التبعيّة ، وأنّ سقوط المدلول المطابقي يستوجب سقوط المدلول الالتزامي ، وبهذا تكون كاشفيّة الدليل عن المدلول الالتزامي ساقطة عن الحجيّة ، وذلك للملازمة بين المدلولين في الثبوت والسقوط.

ص: 334

وبهذا لا تترتّب الثمرة إذ أنّ موضوعها - وهو ثبوت الملاك - غير متحقّق بناء على هذا المبنى.

وهذا بخلاف ما لو كان المبنى هو عدم التبعيّة في السقوط - وإن كان المدلول الالتزامي تابعا للمطابقي في الثبوت - فإنّه يمكن الاستفادة من بقاء المدلول الالتزامي لإثبات ترتّب الآثار الشرعيّة إن كانت هناك آثار.

واختلاف المبنى من حيث التبعيّة وعدمها مؤثّر أيضا في حالات استكشاف حكم بواسطة المدلول الالتزامي للدليل.

فلو قام الدليل على وجوب شيء فإنّ لازمه جواز ذلك الشيء ، وحينئذ لو نسخ الحكم المفاد بواسطة مدلول الدليل المطابقي فإنّه بناء على التبعيّة يسقط الحكم المستكشف بواسطة مدلول الدليل الالتزامي ، ومن هنا لا يكون ذلك الدليل صالحا لإثبات الجواز.

أما بناء على عدم التبعيّة ، فإنّ نسخ الحكم لا يستوجب سقوط دلالة الدليل على المدلول الالتزامي ، وبهذا يظلّ الحكم المستكشف بواسطة المدلول الالتزامي باقيا دون أن يؤثّر سقوط المدلول المطابقي في سقوطه.

ص: 335

ص: 336

الدليل الشرعي غير اللفظي
اشارة

ذكرنا - فيما سبق - أنّ الدليل الشرعي ينقسم إلى قسمين :

الأول : هو الدليل الشرعي اللفظي ، وهو الدليل الذي يستفاد منه الحكم الشرعي بواسطة الخطابات اللفظية ، كالقرآن الكريم ، والخطابات الصادرة عن المعصوم علیه السلام .

الثاني : هو الدليل الشرعي غير اللفظي ويمكن تصنيفه إلى قسمين :

الأول : وهو الدليل الذي يستفاد منه الحكم الشرعي بواسطة الموقف العملي الذي يمارسه المعصوم علیه السلام .

الثاني : وهو الدليل الذي يكشف عن الحكم الشرعي بواسطة تقرير المعصوم أو سكوته عن موقف عام أو خاص.

والبحث يقع عن الدليل الشرعي غير اللفظي بكلا قسميه.

القسم الأول : وهو دليليّة الموقف العملي الصادر عن المعصوم على الحكم الشرعي :

قبل بيان ما يستكشف من أحكام شرعيّة من فعل المعصوم لا بدّ من بيان مسألتين لهما دخل في دليليّة فعل المعصوم على الحكم الشرعي ، ومقدار تلك الدليليّة.

ص: 337

المسألة الأولى :

وهي أنّه قد يقال إنّ فعل المعصوم علیه السلام لا يمكن الاستدلال به على الحكم الشرعي ؛ وذلك لأنّ جميع أفعال المعصوم علیه السلام تحتمل الخصوصيّة باعتبار نبوّته أو إمامته ، وذلك الاحتمال يمنع من استكشاف الحكم الشرعي من أفعاله علیه السلام ، نعم لو قام دليل خاص على عدم اختصاص فعل من أفعاله به علیه السلام ، فإنّه في مثل هذه الحالة يمكن الاستدلال بذلك الفعل على الحكم الشرعي إلا أنّ ذلك يقتضي أنّ الحالة العامّة لفعل المعصوم هي عدم الدليليّة على الحكم الشرعي.

وبهذا تسقط دلالة فعل المعصوم علیه السلام على الحكم الشرعي إلاّ في موارد نادرة.

والجواب عن الإشكال :
اشارة

إلاّ أنّ هذا الإشكال غير تام ، وذلك لنفي الأدلّة لاحتمال الخصوصيّة في فعل المعصوم علیه السلام ، وأنّه يمارس أفعاله بما هو مكلّف من المكلّفين ، وتكون دليليّة فعله على الحكم الشرعي باعتبار كونه معصوما.

ومن الأدلّة التي استدلّ بها على نفي احتمال الخصوصيّة لفعل المعصوم علیه السلام قوله تعالى : ( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ) (1) ، فإنّ هذه الآية الشريفة تعني مطلوبيّة متابعة الرسول صلی اللّه علیه و آله في كلّ ما يصدر عنه من أفعال ، وقد دلّت روايات كثيرة على مطلوبيّة الاستنان بسنّة الرسول صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته المعصومين علیهم السلام ، وبهذه الأدلّة ينتفي احتمال

ص: 338


1- سورة الأحزاب : آية 21

الخصوصيّة لفعل المعصوم علیه السلام ، فيكون اختصاص المعصوم بفعل يحتاج إلى دليل خاص وليس العكس.

المسألة الثانية :

إنّ دليليّة فعل المعصوم علیه السلام على الحكم الشرعي تتوقّف على إحراز الظروف المكتنفة بالفعل الصادر عن المعصوم علیه السلام ، إذ لا يمكن استكشاف حكم شرعي من فعل المعصوم علیه السلام مطلقا ، وذلك لاحتمال مدخليّة الظروف المكتنفة بالفعل الصادر عنه في تقرّر الحكم الشرعي ، وهذا الاحتمال لا دافع له بعد أن لم يكن الفعل دليلا لفظيّا تعرف من خلاله سعة موضوع الحكم أو ضيقه.

وبعبارة أخرى : دليليّة الفعل على الحكم الشرعي من قبيل الأدلّة اللبيّة التي لا لسان لها ، فلا طريق لاستكشاف الإطلاق منه ، ومن هنا يكون كل قيد يحتمل دخالته في ثبوت الحكم للموضوع فإنّ ذلك القيد المحتمل لا دافع له ولا سبيل إلى نفيه ، وهذا هو معنى دلالة الأدلّة اللبيّة على القدر المتيقّن من مدلولها ، فالإجماع مثلا لمّا كان دليلا لبيّا فإنّ معقده هو مقدار دليليّته لأنّه هو القدر المتيقّن منه ، ومن هنا قلنا إنّ كل الظروف المحيطة بالفعل الصادر من المعصوم علیه السلام لمّا كنّا نحتمل دخالتها في ثبوت الحكم لموضوعه ، ولا طريق لنفي هذا الاحتمال فإنّ ذلك يقتضي إحراز وحدة الظروف المحيطة بالفعل الصادر عنه علیه السلام من أجل تقييد الحكم المستكشف بها ، ومع عدم إحراز تلك الظروف فإنّ تمام القيود المحتملة تكون معتبرة في الحكم المستكشف عن الفعل إذ أنّ ذلك هو القدر المتيقّن من دليليّة الفعل.

ص: 339

ومع اتّضاح هاتين المسألتين نصل لبيان ما يكشف عنه الفعل من أحكام شرعيّة فنقول :

إنّ الفعل الصادر عن المعصوم علیه السلام تارة يكون مكتنفا بما يدلّ على أنّ المعصوم في مقام التعليم للمكلّفين ، كقول الإمام علیه السلام : « ألا أحكي لكم وضوء رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله » (1) ، ثم أخذ في بيان الوضوء عملا ، أو كما ورد عن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله أنه قال قبل الشروع في مناسك الحج : « خذو منّي مناسككم » (2) وكقوله صلی اللّه علیه و آله : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ، وكذلك لو قامت القرينة الحاليّة على أنّ المعصوم علیه السلام في مقام التعليم العملي للمكلّفين فإنّه في حالة من هذا القبيل تكون دلالة فعل المعصوم على الحكم الشرعي تابعة لمقدار دلالة تلك القرينة اللفظية أو الحاليّة ، وهذا خارج عن محل الكلام.

إنّما الكلام عمّا يكشف عنه الفعل المجرّد عن مثل هذه القرائن ، فنقول : إنّه تارة يراد استكشاف الحكم من فعل المعصوم وأخرى يراد استكشافه من ترك الفعل ، وكل من الفعل والترك تارة يصدر عن المعصوم في مورد أو موردين وتارة يكون بنحو المداومة والالتزام ، فيمكن تقسيم الفعل وتركه إلى أربعة أقسام :

القسم الأول : صدور الفعل عن المعصوم في موارد محدودة ، وهنا لا يدلّ ذلك الفعل على أكثر من عدم حرمة ذلك الفعل الصادر عنه علیه السلام ، فإنّ

ص: 340


1- وسائل الشيعة : الباب 15 من أبواب الوضوء الحديث 9
2- مستدرك الوسائل : 9 / 420 الباب 54

هذا هو مقتضى عصمته إذ أنّ العصمة لا تتنافى مع ارتكاب المكروه في حالات نادرة كما أنّ العصمة لا تستلزم عدم صدور غير المستحب عنه ، نعم لو كان الفعل الصادر عنه فعلا عباديّا فإنّ صدوره عنه يستلزم كونه راجحا شرعا ، إذ أنّ الفعل العبادي لا يخلو عن أحد حالتين إمّا أن يكون محرّما أو يكون راجحا ، فإذا صدر عن المعصوم علیه السلام فإنّ ذلك يقتضي مشروعيّته ، ومشروعيّة الفعل العبادي هي عين راجحيّته شرعا ، ومن هنا يكون الفعل العبادي الصادر عن المعصوم يكشف عن راجحيّته ، إلاّ أنّ استكشاف الراجحيّة هنا لا تستفاد من حاقّ الفعل الصادر عنه علیه السلام إذ أنّ صدور الفعل عنه لا يكشف عن أكثر من عدم الحرمة ، غاية ما في الأمر أن عدم الحرمة هنا تستلزم الراجحيّة الشرعيّة.

وما ذكرناه من عدم دلالة الفعل على أكثر من عدم الحرمة مبني على أنّ العصمة لا تقتضي عدم صدور الفعل المرجوح في موارد محدودة ، أمّا لو بنينا على أن المعصوم لا يصدر منه ما ينافي الأولى ولو في موارد محدودة فإنّ صدور الفعل عنه حينئذ يدلّ - بالإضافة الى عدم الحرمة - على راجحيّة ذلك الفعل ، ولو لم يكن من قبيل الأفعال العباديّة.

القسم الثاني : ترك المعصوم لفعل من الأفعال في موارد محدودة ، فهنا لا يدلّ تركه علیه السلام على أكثر من عدم الوجوب ، ودلالته على ذلك هو مقتضى عصمته ، فإنّ العصمة لا تقتضي عدم ترك المستحب في حالات نادرة ، نعم بناء على أنّ العصمة تعني عدم صدور مطلق المرجوح وعدم ترك مطلق الراجح ولو في موارد محدودة ، فإنّ ذلك يقتضي دلالة ترك الفعل على عدم راجحيّته.

ص: 341

القسم الثالث : صدور الفعل منه علیه السلام بنحو المداومة والالتزام ، وهذا يتصوّر على ثلاثة أنحاء :

النحو الأوّل : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال العباديّة ، وهذا النحو من الأفعال لا إشكال في دلالتها على الرجحان إذ أن صدورها عن المعصوم علیه السلام يدلّ على عدم حرمتها ، وعدم الحرمة في الأفعال العباديّة يساوق الرجحان - كما قلنا - ، وهذا النحو من الأفعال يدلّ على الرجحان مطلقا حتى لو كان صدور الفعل منه علیه السلام في موارد محدودة.

النحو الثاني : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال التي لا يقتضي الطبع العقلائي ممارسته بنحو المداومة والالتزام ، كالتحنّك في السفر ، أو الابتداء بالقدم اليسرى عند دخول بيت الخلاء ، فإنّ المداومة على فعل من هذا القبيل يكشف عن راجحيّته بناء على منافاة العصمة للمداومة على الفعل غير الراجح ، أما بناء على عدم اقتضاء العصمة لأكثر من عدم ارتكاب المحرّم فإنّ المداومة على الفعل كعدم المداومة عليه من حيث دلالته على خصوص نفي الحرمة عن الفعل الصادر.

النحو الثالث : أن يكون الفعل من قبيل الأفعال التي يقتضي الطبع العقلائي مزاولتها بنحو المداومة ، مثل البيع أو الذهاب إلى السوق ، فهذا النحو من الأفعال يدلّ على نفي الحرمة ، وهو يدلّ على نفي المرجوحيّة أيضا بناء على اقتضاء العصمة عدم ارتكاب المعصوم علیه السلام مخالفة الأولى ، ويدلّ على الراجحيّة بناء على اقتضاء العصمة لعدم المداومة على الفعل غير الراجح.

القسم الرابع : المداومة على ترك فعل من الأفعال ، فإن ذلك يدلّ

ص: 342

على عدم وجوبه بلا إشكال ، وهو يدلّ على عدم راجحيّة الفعل بناء على اقتضاء العصمة لعدم المداومة على ترك الراجح ، وكذلك يدلّ على عدم الراجحيّة بناء على اقتضاء العصمة لعدم ترك الراجح ولو في موارد محدودة ، أمّا بناء على عدم اقتضاء العصمة لأكثر من عدم ترك الواجب فإنّ المداومة على ترك الفعل كتركه في موارد محدودة من حيث إنّهما يشتركان في الدلالة على خصوص نفي الوجوب.

وما ذكرناه من دليليّة الفعل والترك على الحكم الشرعي إنّما هو في حالة عدم قيام الدليل الخاص على اختصاص المعصوم علیه السلام بذلك الفعل أو الترك ، كصلاة الليل ، وصوم الوصال ، والزواج بأكثر من أربع ، فإن الدليل الخاص دلّ على أنها من مختصّات النبي صلی اللّه علیه و آله . القسم الثاني : دلالة السكوت والتقرير :

فإنّ المعصوم علیه السلام قد يشاهد أمامه موقفا عمليّا خاصّا أو عاما فيصرّح برأي الشريعة في ذلك الموقف ، فهنا تكون الدلالة على الحكم الشرعي من قبيل دلالة الدليل الشرعي اللفظي.

وقد يشاهد أمامه ذلك الموقف فلا يبدي تجاهه بأيّ تصريح لا سلبا ولا إيجابا بل يسكت عنه ، وهذا هو محلّ الكلام إذ يقع البحث عن دلالة سكوت الإمام علیه السلام عن ذلك الموقف على الإمضاء ، وأن ذلك الفعل يتناسب مع الغرض الشرعي أو لا ينافيه.

وقد استدلّ على ذلك بدليلين ، الأول منهما عقلي ، والآخر استظهاري :

ص: 343

أما الدليل العقلي :
اشارة

فقد ذكر له تقريبان :

التقريب الأول : هو أنّ المعصوم علیه السلام لمّا كان من سائر المكلّفين ، فهذا يقتضي مسؤوليّته عن النهي عن المنكر لو كان الفعل الذي شاهده منافيا للشريعة ، إذ أنّ النهي عن المنكر واجب على كلّ مكلّف ، والمعصوم علیه السلام لا يترك واجبا بمقتضى عصمته ، فعدم ردعه عن ذلك الفعل يستلزم عدم منافاة ذلك الفعل لما عليه الشريعة ، وهذا هو معنى دلالة السكوت عقلا على الإمضاء ، وكذلك يجب على المكلّفين تعليم الجاهل ، فلو لم يكن موافقا لما عليه الشارع المقدّس لنبّه الإمام علیه السلام على ذلك لأنّ ذلك هو مقتضى عصمته ، إذ أنّ المعصوم علیه السلام لا يترك واجبا ، فعدم تنبيه الإمام علیه السلام على منافاة الفعل الذي شاهده لما عليه الشريعة يكشف عقلا عن عدم المنافاة.

وهذا التقريب - لو تمّ - فإنّه منوط بإحراز توفّر شرائط النهي عن المنكر حين مشاهدة المعصوم علیه السلام لذلك الموقف ، ويمكن التمثيل للصورتين بمثالين :

المثال الأوّل :

إن المعصوم علیه السلام لو شاهد رجلا يشرب العصير التمري ، ومع ذلك سكت ولم يردعه ، فإن ذلك يكشف عن عدم حرمته ، وإلاّ كان على الإمام علیه السلام بمقتضى وجوب النهي عن المنكر أن يردعه ، إذ أن عصمة الإمام علیه السلام تمنع من تركه للواجب.

ص: 344

المثال الثاني :

لو شاهد مكلّفا يمسح رأسه في الوضوء نكسا ومع ذلك لم ينبّه الإمام علیه السلام ذلك المكلّف على منافاة فعله لما هو المعتبر شرعا ، فهذا يقتضي عدم منافاة المسح نكسا لما هو المعتبر شرعا في الوضوء ، وإلاّ كان على الإمام علیه السلام بمقتضى وجوب تعليم الجاهل أن ينبّه المكلّف على منافاة فعله لما هو المطلوب شرعا ، وإلاّ كان الإمام علیه السلام مخالفا لفريضة من فرائض الدين ، وهذا لا يناسب العصمة.

التقريب الثاني : إنّ المعصوم لمّا كان مشرّعا ، فإن ذلك يقتضي عقلا عدم السماح بتفويت وتضييع أغراضه ، فسكوته عن الفعل إذا كان موجبا لتفويت أغراضه بما هو شارع يعني أنّ الإمام علیه السلام ينقض غرضه ويضيّعه بنفسه ، وهذا لا يتناسب مع عقلانيّته ، إذ أنّ الحكيم لا يضيّع غرضه بل يسعى للمحافظة على أغراضه ، وهذا التقريب - إذا تم - فإنّه منوط بإحراز ناقضيّة الفعل - على افتراض منافاته للشارع - لغرض الشارع إذ أنّ الفعل قد يكون منافيا لما عليه الشارع إلاّ أنّ ارتكابه لا يؤدي إلى تفويت أغراض الشارع.

ولمزيد من التوضيح نذكر لكل من الحالتين مثالا :

ونذكر أولا مثالا على كون السكوت لا يوجب نقض الغرض في بعض الحالات ، وهذا المثال هو : أنّ المعصوم علیه السلام قد يشاهد مكلّفا يمتنع عن ارتكاب فعل بتوهّم أنه حرّم شرعا وهو في واقعه مكروه ، فإنّ هذا الامتناع من المكلّف ينافي ما عليه الشارع إلا أنّ السكوت عنه لا يعدّ نقضا للغرض ، فلا يكون السكوت في حالة من هذا القبيل كاشفا عن الإمضاء.

ص: 345

وأمّا مثال ما يكون السكوت نقضا للغرض فهو مشاهدة المعصوم علیه السلام اعتماد المكلّفين على خبر الثقة في الوصول إلى الأحكام الشرعية ، فإنّ سكوته يكشف عن الإمضاء ، إذ أنّ ذلك لو كان منافيا لما عليه الشارع لكان السكوت نقضا للغرض ، فلو كان نظر الشارع هو عدم جواز الاعتماد على أخبار الثقات ومع ذلك سكت ولم ينبّه على عدم الجواز مع أنه يشاهد المكلّفين يعوّلون على خبر الثقة في مقام التعرّف على الأحكام الشرعيّة ، فهذا من أجلى مصاديق تفويت الغرض والذي هو مستحيل على العاقل الملتفت.

وكذلك لو كان العقلاء يرتّبون الأثر على خبر الثقة في شؤونهم اليوميّة ، وكانت هذه الممارسة تنذر بالسريان إلى الشرعيّات ، فإنّ عدم تنبيه الشارع على عدم صحّة الاتّكال على خبر الثقة في معرفة الأحكام الشرعيّة يعدّ نقضا للغرض المنفي عن العاقل الملتفت.

وأمّا الدليل الاستظهاري :

على دليليّة السكوت على الإمضاء ، فهو أنّ المعصوم علیه السلام لمّا كان منصوبا من قبل اللّه عزّ وجلّ لغرض تبليغ الأحكام الشرعية وإرشاد الناس إلى الصواب في جميع سلوكيّاتهم وتقويم ما انحرف منها عن جادّة الحق اقتضى ذلك استظهار الإمضاء من سكوت المعصوم علیه السلام عن الردع عن ممارسة المكلّف لسلوك بمرأى منه علیه السلام .

ويمكن تنظير ذلك بالمشرف على عمل من الأعمال ، فإنّ العامل حينما يمارس وظيفته بمرأى من المشرف ومع ذلك يظلّ المشرف ساكتا رغم أنّه في

ص: 346

مقام تقويم الأخطاء التي يرتكبها العامل ، فإنّ العرف حينئذ يستظهر من حال المشرف الإمضاء لعمل العامل ، وإلاّ كان عليه بحكم كونه في مقام التقويم - أن ينبّه العامل على خطئه.

وإذا تم هذا الدليل الاستظهاري فهو لا يفتقر إلى إحراز شرائط النهي عن المنكر كما هو مقتضى التقريب الأول من الدليل العقلي ، كما لا يفتقر إلى إحراز ناقضيّة السكوت للغرض كما هو مقتضى التقريب الثاني من الدليل العقلي.

السيرة :

والبحث عن السيرة العقلائيّة بحث عن تنقيح أحد موضوعات دليليّة السكوت على الحكم الشرعي ، إذ أنّ المعصوم علیه السلام قد يشاهد أمامه موقفا عمليّا خاصّا فيسكت عنه ، وقد يشاهد حالة اجتماعيّة وتبانيا عقلائيا عاما ، وهذا ما يعبّر عنه بالسيرة العقلائيّة ، ودليليّتها على الحكم الشرعي ترجع إلى دليليّة السكوت ، إذ أنّ المعصوم لو ردع عن هذه السيرة لسقطعت دليليّتها على الحكم الشرعي ، فمناط دليليّة السيرة هو سكوت المعصوم علیه السلام وعدم التنبيه على منافاتها للشريعة ، وهذا هو معنى ما يقال من أن مناط حجيّة السيرة العقلائيّة هو الإمضاء إذ أنّ الإمضاء غالبا ما يكون بواسطة السكوت ، وبهذا يتّضح أنّ ما استدلّ به على دليليّة السكوت على الحكم الشرعي جار في المقام ، غاية ما في الأمر أنّ المعصوم علیه السلام قد يمضي موقفا عمليا خاصا بواسطة السكوت ، وقد يمضي سلوكا عمليّا عاما.

ص: 347

فكلا الدليلين العقلي بتقريبيه والاستظهاري ، هما دليل إمضاء السيرة العقلائيّة ، فلا يكون البحث عن السيرة العقلائيّة بحثا مستقلا عن بحث دليليّة السكوت على الحكم الشرعي ، وإفراد السيرة العقلائيّة بالبحث ناشئ عن أن تنقيح موضوعيّتها لدليليّة السكوت يحتاج إلى شيء من البيان.

ومن هنا وقع البحث عن مقدار ما يقع منها موضوعا لدليليّة السكوت ، فهل أنّ الإمضاء المستفاد من السكوت واقع على خصوص التباني العملي العقلائي ، أو هو يتّسع ليشمل النكتة التي نشأ عنها ذلك التباني.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ السيرة العقلائيّة لا تنشأ جزافا بل إنّ لها مناشئ ومبرّرات تكون هذه المناشئ هي نكتة التباني على عمل معيّن ، ولذلك يكون كل مورد متوفّر على تلك المبرّرات مؤهلا للجرى عليه من قبلهم ، ويكون عدم الجري عليه في وقت من الأوقات مسبّب عن عدم الحاجة إليه في ذلك الوقت.

ويمكن التمثيل لذلك بالسيرة العقلائيّة الجارية على تقديم قول الأعلم في موارد الاختلاف ، فإنّ هذه السيرة لم تنشأ جزافا وإنما نشأت عن مبرّر وهو أقربيّة رأي الأعلم للواقع ، ولذلك يكون كل مورد متوفّر على هذه النكتة يصلح لأن يجري العقلاء على وفقه ، فلو كان رأي المشهور متوفّرا على هذه النكتة فهذا يعني صلاحيّة رأي المشهور للجري عليه من قبل العقلاء في موارد الاختلاف فيما هو الواقع.

وهنا أمر آخر لا بدّ من التنبيه عليه ، وهو أن الإمضاء المستفاد عن

ص: 348

السكوت إذا كان واقعا على السيرة بنكتتها ، فهذا يقتضي ملاحظة النكتة ، وما تقتضيه من حكم تكليفي أو وضعي ، فلو كانت نكتة السيرة الجارية على الرجوع إلى قول الأعلم تقتضي لزوم الرجوع إلى الأعلم ، فهذا يعني أنّ الإمضاء كاشف عن حكم تكليفي إلزامي ، وهو وجوب الرجوع إلى الأعلم.

وكذلك لو كان إمضاء الشارع السيرة الجارية على الالتزام بالعقود المعاطاتيّة ، فإنّ ذلك يستوجب ملاحظة ما تقتضيه نكتة هذه السيرة ، فلو كانت النكتة هي تقبيح العقلاء مخالفة مقتضى العقود ، فإنّ ذلك يستلزم كون الإمضاء مفيدا لحكم وضعي وهو اللزوم في العقود المعاطاتيّة.

ومما ذكرناه يتّضح أنّ هناك ثمرتين تظهر من الفرق بين المبنيين :

الثمرة الأولى : أنّه إذا كان الإمضاء المستفاد عن السكوت واقعا على خصوص السيرة العمليّة بقطع النظر عن مبرّرها ، فهذا يقتضي الجمود على ما وقع التباني عليه ، ولا تكون لنكتة التباني أيّ حجيّة ، وهذا بخلاف ما لو كان الإمضاء واقعا على السيرة بمالها من مبرّرات ومناشئ ، فإنّ ذلك يعني أنّ الشارع قد أمضى كل مورد توفّر على تلك المبرّرات حتى ولو لم يكن هناك تبان فعلي جار في ذلك المورد ، مثلا : لو كان المبرّر لاعتماد العقلاء على خبر الثقة هو الوثوق ، فإنّه لمّا كان إمضاء الشارع لتلك السيرة يعني إمضاءه لكبرى هذه السيرة - وهي الوثوق - فإنّ ذلك يقتضي إمضاء كل مورد توفّر على كبرى تلك السيرة ، فخبر الضعيف لو احتفّ بقرائن موجبة للوثوق فإنّ هذا الخبر يكون ممضى لتوفره على الكبرى الكلّية وهي الوثوق ، والتي استفيد إمضاؤها من إمضاء الشارع للسيرة الجارية على

ص: 349

العمل بخبر الثقة ؛ وذلك لأنّ الإمضاء إنّما يقع على مبرّر السيرة وليست السيرة إلاّ أحد صغريات ذلك المبرّر.

الثمرة الثانية : إنّ الإمضاء لو كان واقعا على خصوص السيرة العقلائيّة بقطع النظر عن منشئها ، فإنّ ذلك لا يدلّ على أكثر من جواز العمل بمقتضى السيرة ، إذ أن الإمضاء على هذا المبنى إمضاء لموقف عملي لا لسان له فيتمسّك بالقدر المتيقّن منه وهو عدم حرمة الجري على ما تقتضيه تلك السيرة ، فمثلا لو كانت سيرة العقلاء قاضية بمسؤوليّة الزوج عن النفقة على الزوجة ، فإنّ إمضاء هذه السيرة - على هذا المبنى - لا تدلّ على أكثر من جواز العمل بمقتضى هذه السيرة ، إذ أنّ ذلك هو القدر المتيقّن من الإمضاء ، إذ أنّ سكوت الشارع عن هذه السيرة لا يكشف عن وجوب العمل بمؤدّاها أو استحبابه كما اتّضح ذلك ممّا تقدّم.

أما لو كنّا نبني على أنّ إمضاء السيرة إمضاء لمنشأ وقوعها - وهي الكبرى الكلية التي تولّدت عنها السيرة - فإنّ ذلك يقتضي ملاحظة ما تقتضيه تلك الكبرى الممضاة فقد تقتضي حكما تكليفيّا وقد تقتضي حكما وضعيّا ، كما مثّلنا لذلك فيما سبق.

ومع اتّضاح ما ذكرناه فالمبنى الذي يصحّحه المصنّف رحمه اللّه هو المبنى الثاني ، وهو أنّ الإمضاء يقع على الكبرى الكلّية للسيرة والتي هي منشأ وقوع السيرة خارجا ؛ وذلك لأنّ السيرة العقلائيّة ليست موقفا عفويّا ساذجا ، وإنّما هي حصيلة مبرّرات أوجبت نشوء ارتكاز متأصّل في أذهان العقلاء ، هذا الارتكاز المتأصّل يمكن سريانه لموارد كثيرة ، فلو كان هذا الارتكاز منافيا لما عليه الشارع المقدّس لردع عنه ، إذ أن امتداده لغير

ص: 350

مورد السيرة يهدّد أغراض الشارع ، فيكون سكوته عنه تفويتا لها ، بل إنّ السكوت في مثل هذه الحالات من أجلى مصاديق نقض الغرض.

وكذلك هو مقتضى ظهور حال المعصوم علیه السلام عند عدم المواجهة لهذا الارتكاز المتأصّل ، فإنّه لمّا كان هو المتصدّي لتبليغ أحكام الشريعة ، والمصحّح لما عليه المجتمع من أخطاء والمقوّم لما اعوجّ من طائقهم وسيرهم ، فإنّ هذه المرتكزات لو كانت منافية للشريعة لكان قد تصدّى لبيان فسادها ، إذ أنّ هذا هو مقتضى مسؤوليّته الملقاة عليه من قبل الشارع ، فيكون ظاهر حال المعصوم علیه السلام هو قبول هذه المرتكزات العقلائيّة في حال عدم الردع عنها.

وبهذا يتّضح أنّ دليل حجيّة السيرة العقلائيّة هو عين ما استدل به على دليليّة السكوت على الحكم الشرعي.

ومن هنا يتّضح فساد ما وقع من بعض الأصوليّين ، من أنّ مناط حجيّة السيرة العقلائيّة هو أنّ الشارع سيّد العقلاء ، وإذا كان كذلك فكلّ ما يتبانى عليه العقلاء فهذا يعني مشموليّة الشارع لذلك التباني ، إذ أنّه من العقلاء بل هو أولاهم به لكونه سيّدهم وملهمهم ، ولو تمّ هذا البيان لكانت السيرة العقلائيّة حجّة برأسها لا تحتاج إلى إمضاء فلا تكون من صغريات دليليّة السكوت.

إلاّ أنّ هذا البيان فاسد وذلك لأنّ افتراض الشارع سيّد العقلاء بنفسه يوجب نشوء احتمال اختصاصه بمدركات لاتصل إليها مدركات سائر العقلاء ، وبذلك تكون كلّ سيرة عقلائيّة تحتمل عدم مقبوليّتها من قبل الشارع ، لاحتمال اشتمال منشئها على بعض الثغرات المدركة من قبل الشارع

ص: 351

لافتراض تفوّقه عليهم في الإدراك ، وبهذا لا يكون الشارع راضيا عن تلك السيرة ، نعم في السيرة التي يكون منشؤها المدركات الأوليّة التي لا يشوبها أيّ غموض وهي القضايا التي تكون قياساتها معها ، هذا النوع من السيرة يمكن التمسّك بها لإثبات حكم شرعي.

وبهذا يتّضح أنّ السيرة التي يكون لها كاشفيّة عن الحكم الشرعي هي السيرة العقلائيّة المعاصرة لزمن المعصوم علیه السلام ، إذ هي التي يكون السكوت عنها كاشفا عن الإمضاء ، وهي التي يجري فيها كلا الدليلين العقلي بتقريبيه ، والاستظهاري.

والمراد من السيرة المعاصرة هي السيرة التي تكون بمرأى من المعصوم علیه السلام في زمن حضوره ، أمّا السيرة العقلائية الواقعة في زمن الغيبة فلا يكشف سكوت الإمام الغائب علیه السلام عنها عن إمضائها ، لعدم جريان كلا الدليلين في موردها ، إذ أنّ الإمام علیه السلام في ظرف منافاة السيرة للشارع ليس مكلّفا بالردع عنها بحكم غيبته.

وبهذا يسقط التقريب الأول من الدليل العقلي ، إذ أنّه يفترض المعصوم مكلّفا بالنهي عن المنكر وبوجوب تعليم الجاهل ، وكذلك التقريب الثاني ساقط إذ أنّ نقض الغرض إنّما يتحقّق في حالة يكون هناك وسيلة طبيعيّة يتمكّن فيها العاقل من المحافظة على غرضه ، أمّا إذا تعذّرت الوسائل الطبيعيّة فلا يكون السكوت نقضا للغرض ، إذ أنّه لا يكشف عن الإمضاء ، وليس الغرض بمرتبة من الأهميّة تستوجب استعمال الوسائل الإعجازيّة للمحافظة عليه.

على أنّ نفس تسبيب الناس لغيبة الإمام علیه السلام وحرمانهم من بركات

ص: 352

حضوره علیه السلام مانعا عن التمسّك بالسكوت لاستكشاف الإمضاء ، إذ أنّ العقلاء يدركون أنّ الإمام علیه السلام لمّا كان عاجزا عن المحافظة على أغراضه بالوسائل الطبيعيّة فلا يمكن الاستدلال بنقض الغرض على إمضاء سيرتهم.

كما أنّه لا يمكن الاستدلال بالدليل الاستظهاري على إمضاء السيرة في ظرف الغيبة ، وذلك لعدم تصدّيه مباشرة في ظرف الغيبة لتصحيح أخطاء المجتمع ، فلا يكون سكوته عن السيرة موجبا لانعقاد ظهور حالي للإمام علیه السلام في إمضاء تلك السيرة.

وبهذا يتّضح أنّ السيرة العقلائيّة التي يمكن أن تكون ممضاة من قبل الشارع هي السيرة المعاصرة لزمن الحضور.

قوله رحمه اللّه في بحث دلالة الفعل : « وهل يدلّ الفعل على عدم كونه مرجوحا إمّا مطلقا » أي سواء تكرّر صدور الفعل عنه أو صدر عنه في مورد أو موردين.

فالمراد من هذه الفقرة هو أنّه هل يكون لصدور الفعل عن المعصوم علیه السلام دلالة على أنه ليس مكروها ، ولو كان ذلك الفعل الصادر لم يتكرّر منه ، كما لو أكل مرّة طعاما معيّنا ولم يتكرّر منه ذلك.

قوله : « ترك الأولى » أي ترك الراجح شرعا ، وقد يطلق ترك الأولى على فعل المرجوح شرعا ؛ وذلك لأنّ ترك فعل المرجوح يكون راجحا ، فحينما يفعل المكلّف المرجوح فهذا يعني أنّه ترك الأولى ، أي لم يلتزم بالترك الراجح.

قوله : « لمّا كان دالا صامتا » يطلق الدليل الصامت على كلّ الأدلّة اللبيّة والتي هي ليست من قبيل الأدلة اللفظية التي يمكن استفادة التعميم منها بواسطة الإطلاق اللفظي أو العموم.

ص: 353

ص: 354

إثبات صغرى الدليل الشرعي

اشارة

1 - وسائل الإثبات الوجداني.

2 - وسائل الإثبات التعبّدي.

ص: 355

ص: 356

تمهيد

قلنا إنّ الدليل الشرعي هو ما يصدر عن الشارع وتكون له دلالة على الحكم الشرعي.

وقد تقدّم أنّ البحث عن الدليل الشرعي يقع في ثلاثة مباحث ، والبحث الأول منها حول دلالات الدليل الشرعي ، وقد ذكرنا فيه مجموعة من الضوابط الدلاليّة والتي تساهم في فهم ما يصدر عن الشارع المقدّس.

وهنا نتحدّث عن المبحث الثاني للدليل الشرعي ، وهو البحث عن إثبات صغرى الدليل الشرعي ، وقد بيّنّا ما هو المراد من صغرى الدليل الشرعي.

والبحث فيه يقع عن الوسائل التي يثبت بها صدور الدليل الشرعي ، وهي على نحوين :

النحو الأول : وهي الوسائل التي يحرز بها الدليل الشرعي بنحو اليقين ، وهذه الوسائل لا حصر لها ؛ إذ أنّ موجبات اليقين تتعدّد بتعدّد موادّه ومقدّماته ، ومع ذلك فهناك وسائل نوعيّة أساسية يمكن استفادة غير المعاصرين للمعصوم منها.

وقد بحث المصنّف رحمه اللّه ثلاث وسائل منها :

الأولى : الإخبارات الحسيّة التي بلغت حدا يحصل اليقين لنوع المطلعين عليها ، وهذه هي المعبّر عنها بالأخبار المتواترة.

ص: 357

الثانية : الإخبارات الحدسيّة التي هي من قبيل توافق جمع من أهل فن على رأي يتّصل بذلك الفن ، هذا التوافق قد يبلغ حدا يوجب حصول اليقين ، وهذا هو المعبّر عنه بالإجماع.

الثالثة : الاستفادة من الآثار التي تكشف بطريق الإن عن الدليل الشرعي ، كالسيرة المتشرعيّة التي توجب الانتقال منها إلى الدليل الشرعي على ما سيأتي إيضاح ذلك.

وسيقع البحث عن كل واحد من هذه الوسائل العلميّة بالترتيب المذكور.

ص: 358

الخبر المتواتر

وقد تعارف تعريفه بأنّه إخبار جماعة يبلغون من الكثرة حدا يمتنع عادة تواطؤهم على الكذب.

وقد سلك المصنّف رحمه اللّه مسلكا آخر في بيان المراد من الخبر المتواتر ، إذ أنّه جعل مناط تحقق التواتر في الخبر هو حساب الاحتمالات ، وبهذا لا تكون كثرة المخبرين هي المناط في تحقق التواتر للخبر ، ولكي يتّضح مناط التواتر للخبر نقول :

إنّ محلّ البحث في المقام هو الخبر الحسّي وهو الذي يكون متعلّقه مستفادا بواسطة المدارك الحسيّة ، واذا كان كذلك فكلّ خبر فهو محتمل للمطابقة مع الواقع ومحتمل لعدم المطابقة ، واحتمال عدم المطابقة ناشئ عن احتمال تعمّد كذب المخبر أو اشتباهه ، وهذا يعني أنّ كل خبر فيه نسبة مئويّة من احتمال عدم مطابقة الخبر للواقع المحكي ، وهذا النسبة المئويّة تتفاوت بتفاوت المخبرين من حيث الضبط والوثاقة ، وتتفاوت بتفاوت مضمون الخبر ، فقد يكون مضمون الخبر غريبا ، وقد يكون اعتياديّا ، وقد يكون المخبر به منافيا لمصلحة المخبر وقد يكون متلائما مع مصلحته ، كلّ ذلك يساهم في ارتفاع وانخفاض نسبة احتمال عدم المطابقة.

وكيف كان فتعدّد المخبرين لخبر ذي مضمون واحد يقلّل من احتمال عدم المطابقة ، وذلك ناشئ عن ضرب مستوى احتمال الكذب والاشتباه في

ص: 359

الخبر الأول مع مستوى احتمال الكذب والاشتباه في الخبر الثاني ، فإنه ينتج تضاؤل مستوى احتمال عدم المطابقة ، فلو كان احتمال الكذب والاشتباه في الخبر الأول هو 50% ، واحتمال الكذب والاشتباه في الخبر الثاني هو 50 % أيضا ، فقيمة احتمال عدم المطابقة في الخبر الأول تساوي الكسر

، وكذلك الخبر الثاني فإنّ قيمة احتماله تساوي الكسر

، فلو ضربنا قيمة كلّ من الاحتمالين في الآخر لوجدنا أنّ مستوى الاحتمال لعدم المطابقة يتضاءل هكذا

=

فإنّ نسبة الكسر

إلى الواحد أقل كما هو واضح من نسبة الكسر

إلى الواحد ، وهكذا ينخفض مستوى احتمال عدم المطابقة ويرتفع معه مستوى احتمال مطابقة الخبر للواقع ، إذ أنّ العلاقة بين الاحتمالين طرديّة.

وهكذا لو تعدّد الخبر ذو المضمون الواحد إلى أكثر من الاثنين فإنّ قيم الاحتمالات تضرب في بعضها وسنجد أنّ مستوى الاحتمال يتضاءل أكثر كلّما كان العدد أكبر ، فإذا بلغ العدد حدّا يكون احتمال عدم المطابقة فيها ضئيلا جدا بحيث لا يعتدّ العقلاء بهذا المستوى من الاحتمال لعدم المطابقة ، فهذا هو الخبر المتواتر.

إذن الخبر المتواتر هو ما يكون نسبة الاحتمال فيه لعدم المطابقة ضئيلا جدّا بحيث يحصل الاطمئنان أو القطع بمطابقة مضمون الخبر للواقع على أن تكون ضالة الاحتمال ناشئة عن حساب الاحتمالات.

وبهذا اتّضح أنه ليس هناك حدّ للعدد في الخبر المتواتر ، فقد يتحقّق التواتر للخبر بثلاثة مخبرين فيما لو كانت نسبة الاحتمال لعدم المطابقة في كلّ واحد ضئيلة.

ص: 360

وقد لا يتحقّق بالثلاثة وذلك فيما لو كانت قيمة احتمال عدم المطابقة في كلّ واحد كبيرة.

فلو كانت قيمة الاحتمال لعدم المطابقة في كلّ خبر من الأخبار الثلاثة هي قيمة الكسر

فإنّ ضرب كلّ قيمة من هذه القيمة الثلاثة في بعضها ينتج ضالة الاحتمال إلى حدّ لا يعتدّ العقلاء بمثل هذا المستوى من الاحتمال ، إذ أنّ ناتج ذلك يساوي الكسر

.

وهذا بخلاف ما لو كانت قيمة الاحتمال هي الكسر

فإنّ ضربها في مثلها ثلاث مرات يساوي الكسر

ومن الواضح أنّ مستوى الاحتمال الناتج عن الكسر

مما يعتدّ العقلاء بمثله ، فلذلك نحتاج في تكوين التواتر إلى عدد أكبر من المخبرين.

على أنّ نسب الاحتمال في كلّ خبر تخضع لمجموعة من المبرّرات تتصل بحالة كلّ مخبر ، فقد يكون المخبر ثقة وقد لا يكون كذلك ، وقد يكون ضبطا وقد لا يكون كذلك ، كما أنّ مستوى النسبة تخضع لمبرّرات تتّصل بمضمون الخبر ، فقد يكون غريبا وقد يكون متعارفا مألوفا ، فلو كان المخبر ثقة ضبطا وكان مضمون خبره مألوفا ولم يكن فيه نفع يعود على المخبر ، فإنّ العدد الذي نحتاجه في تكوين التواتر يكون قليلا ، كما أنّ سرعة الوصول إلى مرحلة اليقين أو الاطمئنان تتفاوت بتفاوت حال المخبرين ، فقد تتضاءل نسبة احتمال عدم المطابقة من خبر مخبر بمستوى أكبر من تضاءلها بخبر مخبر آخر ، فلو كان المخبر الأول ثقة ضبطا ولم يكن مضمون الخبر ملائما لغرضه فإنّ نسبة احتمال عدم المطابقة في خبره أقل بكثير من نسبة احتماله في خبر المخبر الثاني إذا لم يكن ثقة أو لم يكن ضبطا أو كان

ص: 361

مضمون الخبر ملائما لغرضه ، فلو كانت قيمة الاحتمال لعدم المطابقة في خبر المخبر الأول هي

فإنّ قيمة الاحتمال في خبر المخبر الثاني هي

ومن الواضح أنّ الأول يسرع بنا إلى الوثوق بمضمون الخبر أكثر من الثاني ، وبهذا السير السريع تارة والبطيء أخرى نصل إلى مرحلة اليقين أو الاطمئنان ، والأول عبّر عنه المصنّف بزوال الاحتمال واقعا ، والثاني بزوال الاحتمال عمليّا.

إذا اتّضح ما ذكرناه يتّضح أنّ هناك عوامل كميّة وأخرى نوعيّة تتصل بالمخبر ، تساهم في سرعة أو بطأ الوصول إلى مرتبة التواتر في الخبر ، وكذلك هناك عوامل نوعيّة تتصل بمضمون الخبر تساهم أيضا في سرعة أو بطأ الوصول إلى مرتبة التواتر في الخبر. أما العوامل الكميّة والنوعية التي تتصل بالمخبر فيمكن تصنيفها إلى ثلاثة أقسام.

الأول : عدد المخبرين ، فهو وإن كان يخضع قلة وكثرة للعوامل المضمونيّة والعوامل المتصلة بصفات المخبرين ، إلا أنّه لا بدّ في تحقق صفة التواتر في الخبر من تعدّد المخبرين.

الثاني : ويمكن التعبير عنه بالعوامل الصياغيّة إذ قد تكون الإخبارات المتعدّدة ذات صياغة لفظية واحدة ، وقد تكون ذات صياغات لفظية مختلفة إلا أن مؤداها واحد ، وقد لا تكون متّحدة لا من حيث الصياغة اللفظية ولا من حيث المضمون إلا أنّها تشترك في إمكان انتزاع معنى واحد منها ، كما ورد أن الإمام علي علیه السلام قتل الفارس الشجاع عمرو بن ود ، وورد أيضا أنه فتح حصن خيبر وقتل فارسهم « مرحب » اليهودي ، وورد أيضا أنّه

ص: 362

ضمن العشرة الذين لم يفرّوا في غزوة حنين ، وورد أيضا أن جبرئيل علیه السلام نادى بين السماء والأرض في غزوة أحد أنّه « لا سيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي علیه السلام » ، فإنّ هذه الإخبارات وإن كانت مختلفة لفظا ومضمونا ، إلاّ أنه يمكن انتزاع معنى واحد منها وهو أنّ الإمام علي علیه السلام كان شجاعا وكان فارس الإسلام.

والحالة الأولى من الإخبارات تسمّى بالتواتر اللفظي ، والثانية تسمّى بالتواتر المعنوي ، والثالثة تسمّى بالتواتر الإجمالي ، ومن الواضح أنّ التواتر اللفظي يحتاج إلى عدد من المخبرين أقل مما يحتاجه التواتر المعنوي والإجمالي ؛ وذلك لأنّ التطابق بهذا النحو من التطابق رغم تفاوت المخبرين من حيث خصائصهم الشخصية ، واستبعاد أن تتّفق مصلحتهم في المحافظة على صياغة خاصّة للخبر ، كل ذلك يكون مبعّدا آخر بالإضافة إلى المبعّدات التي يشترك فيها مع التواتر الإجمالي والمعنوي.

وكذلك الكلام في التواتر المعنوي بالنسبة إلى التواتر الإجمالي إذ أنّ التواتر المعنوي مشتمل على خصوصية يفتقر إليها التواتر الإجمالي ، وهو كون مصب الإخبارات في التواتر المعنوي واحدا ، وهذا يساهم في سرعة الوصول إلى الاطمئنان أو اليقين ، وهذا بخلاف التواتر الإجمالي إذ لا يكون المعنى الذي يراد تصيّده من كلّ خبر هو الدافع الأساسي للمخبر من إيراد الخبر وهذا يستوجب اقتناص المعنى مما وراء الخبر ، فقد يكون المعنى المتصيّد واضحا وقد يكون خفيّا.

الثالث : وهو ما يتّصل بصفات المخبرين من حيث الوثاقة والضعف ، وقوّة الحافظة والضبط ، أو كثرة النسيان والخلط ، أو ما إلى ذلك من

ص: 363

الصفات الدخيلة في تحديد نسبة احتمال عدم المطابقة ، وقد تقدّم بيان ذلك.

العوامل التي تتّصل بمضمون الخبر ، وهي على قسمين :

الأول : العوامل العامّة : وهي التي إذا توفّرت في مضمون خبر ساهمت - وبقطع النظر عن نوعيّة المضمون ، في تقليل أو رفع نسبة احتمال عدم المطابقة ، وذلك مثل أن يكون الخبر مألوفا أو غريبا ، فإنّه إذا كان مألوفا ومتوقّعا ومتناسبا مع المجريات الطبيعيّة فإنّ ذلك يساعد على سرعة الوصول إلى الاطمئنان أو اليقين وبعدد أقل ، وهذا بخلاف ما لو كان الخبر غريبا وغير متوقّع فإنّ احتمال عدم المطابقة يكون أكبر فنحتاج في الوصول إلى الاطمئنان بصدقه إلى عدد أكبر ممّا نحتاجه في الخبر المألوف.

الثاني : العوامل النسبيّة : وهي العوامل التي يلاحظ فيها المضمون بالإضافة إلى نوعية المخبر ، كما لو كان مضمون الخبر منافيا لمعتقدات المخبر ، فإنّ إخباره بما ينافي عقيدته يكون عاملا من عوامل تقليل احتمال عدم المطابقة لاستبعاد أن تكون هناك مصلحة دعت المخبر بأن يخبر بما ينافي معتقداته.

وكذلك لو كان الخبر يصب في منفعة المخبر فإنّ ذلك يساهم في رفع احتمال عدم المطابقة.

وقد يتّفق اجتماع العاملين في مورد واحد كما لو كان مضمون الخبر غريبا ويصب في مصلحة المخبر ، فإنّ مستوى احتمال عدم المطابقة يكون أكبر ممّا لو كان الخبر مشتملا على عامل واحد من العاملين.

وكذلك لو اتفق أن كان مضمون الخبر جيء به في ظرف يصعب فيه إيراد مثل ذلك الخبر ، وكان مضمونه منافيا لمصلحة المخبر ، كما لو أخبر

ص: 364

غير الإمامي بخبر يناسب مذهب أهل البيت علیهم السلام ، وكان إيراده للخبر في مجلس حضّاره من أعداء أهل البيت علیهم السلام ، فإنّه قد اجتمع في هذا الخبر عامل من العوامل النسبيّة ، وهو كون مضمون الخبر منافيا لمصلحة المخبر ، وعامل من العوامل العامّة ، وهو صعوبة الظرف الذي أورد فيه الخبر.

وفي حالة من هذا القبيل تكون نسبة احتمال عدم المطابقة أضعف ممّا لو كان مضمون الخبر مشتملا على عامل واحد من هذين العاملين.

قوله رحمه اللّه : « بل واقعيّا لضآلته » : في كلّ حالة تضرب فيها القيم الاحتماليّة في بعضها فإنّها لا تنتج بأيّ حال اليقين الرياضي مهما تكثّرت القيم الاحتمالية المضروبة في بعضها ومهما كانت ضآلة تلك القيم ، فلو كان عدد الإخبارات مئة وكانت نسبة احتمال عدم المطابقة ضئيلة جدّا ، فإنّ ضرب هذه القيم في بعضها لا ينتج اليقين الرياضي ، فيبقى احتمال عدم المطابقة موجودا إلاّ أنّ هذا الاحتمال لا يمنع من حصول اليقين ؛ إذ أنّ الذهن البشري لا يحتفظ بهذا المستوى الضئيل من الاحتمال.

ص: 365

ص: 366

الإجماع

وهو اتفاق جمع كبير من الفقهاء على رأي واحد في مسألة من المسائل الشرعيّة.

وهذا يعني أنّ الإجماع هو مجموعة من الفتاوى الصادرة عن أهلها ، وكل فتوى من هذه الفتاوى نشأت عن التأمّل في المدارك المتّصلة بها ، فهي إذن من الإخبارات الحدسيّة المستفادة بواسطة النظر في الأدلّة ، وهذا ما يميّزها عن الإخبارات الحسيّة والتي تعتمد على المشاهدة والمعاينة.

وكيف كان فالخبر الحدسي يمثّل أيضا قيمة احتمالية لواقعيّة مفاده ، فإذا ما تعدّدت الإخبارات الحدسيّة ذات المضمون الواحد فإنّ قيمة احتمال المطابقة للواقع تتصاعد ، وقيمة احتمال المخالفة تسير في التضاءل إلى أن يصل مستوى احتمال المخالفة إلى حدّ لا يعتدّ بمثله ، وهذا هو الإجماع.

إذن فالمسار الذي يسلكه الخبر الحسّي إلى أن يصل إلى مرتبة التواتر هو عينه المسار الذي يسلكه الخبر الحدسي إلى أن يصل إلى الإجماع ، غايته أنّ حركة السير في الخبر الحدسي للوصول إلى الإجماع أبطأ منها في الخبر الحسّي للوصول إلى التواتر ، وذلك لمجموعة من المبرّرات ذكر المصنّف رحمه اللّه منها خمسة :

الأوّل : إنه لما كانت نسبة الاشتباه في الأمور الحدسيّة أكبر من نسبتها في الأمور الحسيّة ، فإنّ هذا يقتضي كون مستوى الاحتمال الحاصل من

ص: 367

الأمور الحدسيّة أضعف منه في موارد الأمور الحسيّة ، ومن هنا تنشأ الحاجة إلى عدد أكبر من الإخبارات الحدسيّة لغرض الوصول إلى مستوى الاطمئنان واليقين.

الثاني : إن مناشئ الاشتباه في الإخبارات الحدسيّة كثيرة ، وهذا ما يقتضي ارتفاع مستوى احتمال الاشتباه فيها أكثر منها في الإخبارات الحسيّة والتي يكون منشأ احتمال الاشتباه فيها محدّدا وهو الغفلة أو النسيان ، وهذا ما يقتضي استبعاد وقوع جميع المخبرين في الغفلة أو النسيان ، أمّا إذا كانت المناشئ متعددة ، فلا يستبعد وقوع كل واحد منهم في الاشتباه بسبب الاعتماد على منشأ غير الذي اعتمد عليه الآخر.

فمثلا : لو اتفقت آراء جمع من الفقهاء على حرمة العصير الزبيبي وكانوا مخطئين في ذلك فإنّ منشأ الخطأ قد لا يكون متّحدا ، إذ من الممكن أن يكون المدرك لأحدهم هو رواية ضعيفة السند ، ويكون مدرك الآخر رواية ليس لها ظهور في الحرمة ، ويكون مدرك الثالث هو الاعتماد على أصالة الاحتياط في الشبهات التحريميّة ، ويكون مدرك الرابع هو الاستصحاب التعليقي ، ويكون مدرك الخامس هو الوثوق بفتوى مجموعة من الأعلام بالحرمة ، وهكذا.

ومن هنا ساغ التطابق في الرأي على الخطأ إذ لا يستبعد اتفاق أهل النظر على رأي خاطئ إذا كانت مناشئ الوقوع في الخطأ متعدّدة.

وهذا ما يجعل مستوى احتمال الاشتباه في الخبر الحدسي أكبر من مستوى احتمال الخطأ في الخبر الحسّي.

الثالث : إن من الملاحظ تأثّر أصحاب النظر ببعضهم البعض ، فحينما

ص: 368

يذهب جمع منهم إلى رأي معيّن ، أو يذهب أحد الأساطين إلى رأي فإنّ ذلك يساهم في تبنّي آخرين من أصحاب النظر لنفس ذلك الرأي ، وذلك لوثوقهم بصوابيّة ما ذهب إليه ذلك الجمع من أهل النظر ، أو انبهارهم بتلك الشخصية العلميّة المتميّزة أو تأثرهم بمبانيه نتيجة تتلمذهم عليه ، حتى قال بعض الأعاظم : إنّ اتفاق ثلاثة وهم الشيخ الأنصاري ، والسيد الكبير الشيرازي ، والميرزا محمد تقي الشيرازي رحمهم اللّه يورث القطع بواقعيّة ما اتفقوا عليه.

وهذه الحالة لا توجد في الإخبارات الحسيّة ؛ إذ أن المخبر حسّا يحكي ما وقع تحت حواسّه دون أن يكون له أي ملاحظة للمخبر الآخر عن حس.

الرابع : إن احتمال الاشتباه في الإخبارات الحسيّة غالبا ما يكون ناشئا عن احتمال طروء العارض المانع من أن يؤثر المقتضي للإصابة أثره ، وهذا بخلاف الإخبارات الحدسيّة ، فإنّ احتمال الاشتباه يمكن أن يكون منشؤه عروض المانع ، ويمكن أن يكون منشؤه عدم المقتضي.

وبيان ذلك :

إنّ مطابقة الخبر أو النظر للواقع يستوجب وجود المقتضي وانتفاء المانع ، أما مقتضي مطابقة الخبر الحسي للواقع فهو سلامة حواس المخبر المناسبة لمضمون الخبر ، فإذا كان مضمون الخبر من المرئيّات فلا بدّ من افتراض سلامة البصر ، وإذا كان من المسموعات فهذا يستوجب سلامة السمع ، وهكذا.

هذا هو المقتضي لمطابقة الخبر للواقع ، إلاّ أنّ المقتضي لا يكفي وحده

ص: 369

للمطابقة فلا بدّ من انتفاء المانع والذي هو من قبيل عدم الغفلة وعدم النسيان.

وأمّا مقتضي المطابقة في الأمور النظريّة الحدسيّة فهو أن يكون المخبر من أصحاب الفهم والتخصّص فيما أخبر عنه حدسا ، وإذا تم المقتضي فلا بدّ من انتفاء المانع ، والذي هو من قبيل الذهول والابتلاء الموجب لتشتّت الذهن.

ومع اتّضاح ذلك نقول : إنّ منشأ احتمال الاشتباه في موارد الإخبارات الحسيّة غالبا ما تكون ناشئة عن احتمال عروض المانع الموجب لعدم تأثير المقتضي لأثره ، أما المقتضي - وهو سلامة الحواس - فغالبا ما يكون محرز الوجود في المخبر عن حس.

وهذا بخلاف الإخبار عن حدس ، فإنّ احتمال الاشتباه يمكن أن يكون ناشئا عن عدم المقتضي ، أي عدم أهلية المخبر عن حدس ، ويمكن أن يكون ناشئا عن عروض المانع ، وهو ابتلاء المخبر عن حدس بتشتت الذهن أو الغفلة عن بعض المقدمات المؤثّرة في النتيجة التي وصل إليها وهكذا.

الخامس : إذا كان المركز الذي يحتمل أن يكون نشأ عنه الاشتباه واحدا فإنّ الإخبارات - سواء كانت حسيّة أو حدسيّة - لا يحصل منها القطع حتى وإن بلغت من الكثرة حدا كبيرا ، فلو أخبر عدد كبير من الناس أنّ حريقا نشب في بيت زيد ، واحتملت أن منشأ الإخبار هو رؤيتهم الدخان الكثيف المتصاعد من بيت زيد ، وكنت تعلم أنه لو كان هذا هو المنشأ للإخبارات لكان مضمون الخبر منافيا للواقع إذ أنّ في بيت زيد - ذلك اليوم - ضيوفا كثيرين ، وهو قد أشعل النار لطهي الطعام ، نعم من

ص: 370

المحتمل أنّ بيت زيد قد احترق من جرّاء ذلك إلاّ أنّه لمّا كان من المحتمل أن يكون سبب الإخبارات هو ذلك المنشأ الخاطئ فإنّ القطع لا يحصل من هذه الإخبارات ، أي أن القيم الاحتمالية الناشئة عن كلّ خبر تكون ضعيفة فيكون نموّ الاحتمال وتصاعده بطيئا ، وهذا بخلاف ما لو كان المتلقي للخبر خالي الذهن أي لا يعلم أنّ لزيد ضيوفا ، فإنّ حصول اليقين من الإخبارات يكون سريعا.

ومع اتضاح هذا نقول : إن الإخبارات الحدسيّة كثيرا ما يكون المنشأ لها ذا مركز واحد ، فإذا ما كان المنشأ المحتمل اعتمادهم عليه خاطئا ، فإنّ احتمال المطابقة الناشئ عن كل خبر يكون ضعيفا ، ومن هنا يكون مسار الاحتمال إلى مرحلة اليقين أو الاطمئنان بطيئا.

وهذا ما نشاهده في النظريّات العلميّة التي تعتمد على مقدمة هذه المقدمة إذا كانت خاطئة فإنّ اتفاق العلماء على نتيجتها لا يصيّر هذه النتيجة قطعيّة ، فلو احتملنا أنّ منشأ تبني العلماء لهذه النتيجة هو تلك المقدّمة الخاطئة فإنّ نمو الاحتمال ووصوله إلى مرتبة القطع أو الاطمئنان بالنتيجة يكون بطيئا.

ويمكن التمثيل لذلك بنظريّة العقول الطوليّة والتي تبنّاها كثير من الفلاسفة ، فإنّ هذه النظرية لمّا كان مركز نشوئها هو قاعدة أنّ الواحد لا يصدر عنه إلا واحد ، فلو كنا نعلم بخطأ هذه المقدّمة في العلل الإراديّة فإنّ اليقين بصحة نظرية العقول الطولية لا يتحقق ، ولو كنا نحتمل أنّ منشأ هذه النظرية هو تلك المقدمة الخاطئة فإنّ مسار احتمال المطابقة إلى مرحلة اليقين يكون بطيئا.

ص: 371

ولما كانت الإخبارات الحدسيّة المتطابقة كثيرا ما تنشأ عن مقدمات ذات مركز واحد ، فإنّ نمو الاحتمال بصوابيّة هذه الإخبارات يكون بطيئا ويكون اشتباه تمام الإخبارات الحدسية معقولا جدا.

وهذا بخلافه في الإخبارات الحسيّة ، فإنّها كثيرا ما لا تكون ذات مركز واحد ، بل كلّ مخبر يخبر عما شاهده بواسطة حواسّه ، فالمخبرون عن حس وإن كانوا يتفاوتون من جهة قوة وضعف مداركهم الحسية ومؤهّلاتهم الشخصية إلا أنّ اختلاف هويّاتهم وأغراضهم يوجب الوثوق بتعدّد المركز الذي نشأت عنه الإخبارات وهذا ما يجعل سير الاحتمال للمطابقة متسارعا ومتصاعدا إلى أن يصل إلى مرحلة اليقين أو الاطمئنان.

ثم إن هناك عوامل تساهم في انخفاض مستوى احتمال عدم المطابقة للواقع في الإجماع ، ذكر المصنّف منها أربعة :

العامل الأول : وهو ما يتّصل بأشخاص المجمعين ، فإذا كان المجمعون من أساطين الفقهاء وممّن لهم تميّز علمي ، وكذلك إذا كانوا قريبين من عصر النصّ كفقهاء الغيبة الصغرى ، فإنّ احتمال الاشتباه في مثلهم أضعف من احتماله في غيرهم ممن هو غير متوفّر على إحدى هاتين الصفتين أو مجموعهما ، إذ أنّ المتميّز علميا لمّا كان أكثر إحاطة بالمقدمات المؤثرة في صوابيّة النتيجة فإنّ هذا يقتضي أقربية رأيه للواقع ، وكذلك القريب من زمن المعصوم علیه السلام فإنّ احتمال إطلاعه على كثير من المدارك التي عادة ما يخفى بعضها بتمادي الأزمان موجب لارتفاع احتمال صوابية ما يتبناه من رأي.

العامل الثاني : وهو ما يتصّل بنوعيّة المسألة ، فقد تكون من

ص: 372

المسائل الابتلائيّة والّتي تتصل بأكثر المكلّفين ، فلو كان الواقع على خلاف ما تبنّاه المجمعون لشاع بين المكلّفين لافتراض كون المسألة ممّا تعم بها البلوى مع افتراض انتفاء ما يوجب خفاء الواقع كأن لم تكن المسألة - أيّا كان حكمها - منافية لمصالح من له القدرة على إخفاء الحقائق.

وذلك مثل قيام الإجماع على لزوم جعل الجانب الأيسر باتّجاه الكعبة المشرفة في الطواف ، فإنّه لو كان الحكم الواقعي منافيا لما عليه الإجماع لشاع بين المسلمين وذلك لكون المسألة ممّا تعم بها البلوى ومن البعيد جدا أن يجري جميع المسلمين على هذا الحكم دون أن يكون لهم مدرك شرعي على ذلك وليس هناك ما يوجب إخفاء الحكم الواقعي لو كان منافيا لما عليه الإجماع.

العامل الثالث : وهو ما يتّصل بالمبرز الصياغي للإجماع في مقام الاستدلال به على حكم شرعي ، إذ فرق بين إبراز الإجماع بنفي العلم بالخلاف وبين إبرازه بدعوى اتّفاق المسلمين ، فإنّ عدم الإطّلاع على المخالف ليس كإحراز تبنّي الجميع لمعقد الإجماع ، وكذلك إبراز الإجماع باتّفاق العلماء ليس كإبرازه باتّفاق الطائفة فإنّ الثاني يعبّر عن سعة دائرة المجمعين بشكل أوضح من تعبير الأوّل عن ذلك.

العامل الرابع : وهو ما يتّصل بمعقد الإجماع من حيث احتماله للمدركيّة وعدم احتماله لها ، ففي حال احتماله للمدركيّة وكون المدرك على افتراضه معتمد المجمعين غير تام يقتضي انخفاض مستوى احتمال الإصابة ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن للإجماع مدرك محتمل فإنّ احتمال كونه تعبّديا ومتلقى من الشارع قريب جدا ، فلذلك قالوا إنّ الإجماع كلما كان منافيا

ص: 373

للأصول والقواعد العامة كان أقرب للمطابقة للواقع ؛ إذ لا يحتمل له مدرك إلاّ التلقي من الشارع المقدّس بخلاف محتمل المدركيّة فإنّ احتمال كون المدرك هو معتمد المجمعين وارد جدا.

ثمّ إنّ الإجماع لمّا كان إحرازه القطعي للحكم الشرعي منوطا بحساب الاحتمالات فهذا يقتضي عدم تأثّره بوجود المخالف إذا لم يكن ذلك مضرا بمسار تضاؤل الاحتمال الناتج عن ضرب القيم الاحتماليّة والناشيء عن تكثر مفردات الإجماع وتطابقها ، وهذا يعني عدم وجود موضوعيّة للإجماع إذ أنّ الإجماع إذا كان يعني اتّفاق الجميع فهذا غير حاصل في موارد وجود المخالف ، ومع ذلك قد يتفق حصول اليقين من الإجماع الناقص إذا تضاءل الإحتمال إلى حدّ لا يعتدّ العقلاء بمثله عمليّا كما في الاطمئنان أو واقعيّا كما في اليقين ، وهذا يتفق في حالات كون المخالف ممن لا يعبأ بخلافه لبعد عصره مثلا عن زمن النص أو كونه لا يتميّز بمستوى علمي يوجب الاعتداد بخلافه.

ثمّ إنه لمّا لم تكن للإجماع موضوعيّة فهذا يوجب إمكان التوسّل بقرائن لا تتّصل بالإجماع لغرض الوصول إلى اليقين أو الاطمئنان ، ففي حالة كون الإجماع وحده غير كاف للوصول إلى اليقين فإنّه يمكن تجميع بعض القرائن وضمها إلى الإجماع للحصول على الإثبات القطعي للحكم المبحوث عنه.

ص: 374

سيرة المتشرّعة

اشارة

والفرق بين السيرة المتشرعيّة والسيرة العقلائيّة هو أن التباني على موقف في موارد السيرة المتشرعيّة يصدر عن المتشرّعة باعتبار كونهم متشرّعة وملتزمين بما يمليه عليهم الشارع المقدّس ، وهذا بخلاف السيرة العقلائيّة فهي تصدر عن العقلاء باعتبار كونهم عقلاء وملتزمين بمقتضى المرتكزات المبرّرة عقلائيا.

والذي يكشف عادة عن أنّ السيرة عقلائيّة أو متشرعيّة هو نوع الموقف الملتزم به ، فقد يكون الموقف ممّا يقتضيه الطبع العقلائي فالتباني عليه يكون سيرة عقلائية ، وهذا كالالتزام بمقتضى العقود ، وقد لا يكون الموقف الملتزم مناسبا لمقتضى الطبع العقلائي بل إنّ الالتزام به - لو لم يكن ناشئا عن الشارع - يعدّ سفهيّا كمسح الجبين وظاهر الكفين بما يعلق من تراب في التيمّم فإنّه لا يتعقل لهذا الالتزام مبرّر لو لم يكن ناشئا عن التعبّد الشرعي. وهذا النحو من الالتزام يكشف عن أنّ السيرة متشرعيّة.

ومن هنا يكون الفارق الدلالي بين السيرتين هو أنّ السيرة العقلائيّة تكون دلالتها على الحكم الشرعي منوطة بالإمضاء المنكشف عن السكوت. وأمّا السيرة المتشرعيّة فهي بنفسها كاشفة عن وجود دليل شرعي ، وهذا ما يجعلها مسانخة - بنحو ما - للإجماع ؛ إذ أنّ كلا منهما يعبّر عن وجود الدليل الشرعي بحساب الاحتمالات ، غاية ما في الأمر أنّ الإجماع

ص: 375

يتشكل عن تطابق آراء الفقهاء بسبب التأمّل والنظر في المدارك المتّصلة بالحكم المبحوث عنه.

أمّا السيرة المتشرعيّة فهي سلوك عملي لا مبرّر له غالبا إلاّ التلقي عن الشارع المقدس ، وعادة ما يكون مدرك الإجماع - خصوصا إذا لم يكن مدركيّا أو محتمل المدركيّة هو السيرة المتشرّعيّة إذ أنّ الإجماع في غالب الأحيان يكشف بنحو الإن عن وجود تبان عملي مستوحى من الشارع ، وهذا التباني العملي المتشرّعي يكشف - وبحساب الاحتمالات - عن رواية معتبرة لم تصل إلينا وإنّما وصل إلينا أثرها بواسطة ما نجده من ارتكاز متغلغل في أذهان المتشرّعة ، عبّر عن ذلك الارتكاز سلوكهم العملي.

المبرّر لكون السيرة المتشرعيّة من وسائل الإثبات الوجداني :

والذي يبرّر كون السيرة من وسائل الإثبات الوجداني هو تضاؤل الاحتمال لعدم الإصابة للواقع بواسطة ضرب القيم الاحتماليّة في بعضها الناشئة عن ترسّخ صوابية الموقف العملي في ذهن كلّ واحد من الجمع الكبير من المتشرّعة ، وهذا ما يكشف عن وجود دليل شرعي مستوحى عن الشارع فيكون احتمال الغفلة عن التعرّف على الدليل الشرعي من المعصوم أو احتمال عدم فهم الصادر عن الشارع موهوما جدا ، إذ احتمال عدم استعلام الجميع لا يعتدّ به عند العقلاء لندرة اتفاق مثل هذه الحالة حيث إنّ من محتمل وجود عدد كبير من المتشرّعة ممن هو حريص على الاستعلام وفيهم من هو جيّد الفهم.

ص: 376

الإحراز الوجداني للدليل الشرعي غير اللفظي :
اشارة

من الواضح أنّ السيرة العقلائيّة كالسيرة المتشرعيّة من حيث أهليّتها لأن يثبت بها الحكم الشرعي بنحو القطع ، وقد قلنا إنّ السيرة العقلائيّة تتأهّل للدليليّة على الحكم الشرعي بركنين أساسيّين :

الأوّل : هو إحراز معاصرة السيرة لزمن المعصوم علیه السلام .

الثاني : الإمضاء من قبل المعصوم علیه السلام المنكشف عن السكوت.

ومن هنا نواجه مشكلة ، وهي أنّه كيف يمكن التعرّف على معاصرة السيرة للمعصوم علیه السلام ، والحال أنّ الفاصلة الزمنيّة بيننا وبين المعصوم علیه السلام كبيرة ، وهذا ما دعى الأعلام لطرح مجموعة من المحاولات لإثبات معاصرة السيرة المعاشة وجدانا لزمن المعصوم علیه السلام . وهذه المحاولات إذا تمّت فإنّه يمكن الاستفادة منها لإثبات معاصرة السيرة المتشرعيّة - الموجودة فعلا - لزمن المعصوم علیه السلام . والمحاولات كما يلي :

المحاولة الأولى :

إنّه لمّا كانت السيرة العقلائيّة ناشئة عن مرتكزات عقلائيّة متأصّلة وراسخة في جبلّة العقلاء بحيث يكون كلّ عاقل مهما كان موقعه التاريخي مجبولا عليها فإنّ ذلك يقتضي استبعاد تحوّل السيرة وانقلابها إلى الضد أو ما يقاربه ، وهذا يكشف عن أنّ السيرة المعاشة وجدانا لها امتداد تاريخي يتصل بزمن المعصوم علیه السلام.

والجواب : أنّ هذه المحاولة غير تامّة ، وذلك لفساد دعوى أنّ السيرة العقلائيّة دائما تكون ناشئة عن مرتكزات تقتضيها جبلّة كلّ عاقل ، إذ أنّ

ص: 377

السيرة قد يكون بعضها ناشئا عن ذلك وقد تكون ناشئة عن مبرّرات أخرى تقتضيها طبيعة الثقافة السائدة في ذلك الزمن أو الظروف البيئيّة والاجتماعيّة أو ما إلى ذلك من المبرّرات الموجبة لانخلاق سيرة مناسبة لمبرّراتها. ومن الواضح أنّ مثل هذه المبرّرات ليس لها ثبات ، وهذا ما يقتضي تبدّل السير المتخلّقة عنها.

على أنّ التحوّل المستبعد في السير العقلائيّة إنّما هو التحوّل العشوائي والذي لا يخضع لضوابط يقتضيها نظام التركيبة الاجتماعية وما يحوطها من ظروف ، وهذا من قبيل التحوّل الفجائي إذ من المستبعد - إن لم يكن من المستحيل - انقلاب السيرة عمّا هي عليه مع انخفاظ مبرّراتها. أمّا التحوّل الناشئ عن تبدّل الظروف الاجتماعيّة والثقافيّة فهو غير مستبعد إذ من الطبيعي زوال السيرة بزوال مبرّراتها ، وهذا ما يتمّ عادة بنحو التدرّج ، إذ أنّ انسلاخ المجتمعات عن متبنياتها يحتاج إلى وقت. وبهذا يتّضح فشل هذه المحاولة.

المحاولة الثانية :

الاستعانة على إثبات معاصرة السيرة الفعليّة لزمن المعصوم علیه السلام بما هو مأثور في التاريخ سواء منه التاريخ العام - الذي يتكفّل ببيان أحوال المجتمعات الماضية والتي تتّصل بأنظمتهم وثقافتهم ومناهجهم المعتمدة في الحرب والسلم وأحوالهم الشخصيّة ومعاملاتهم اليوميّة والوسائل التي يتوسّلون بها للوصول إلى مراداتهم - أو المستفاد من المنقولات الخاصّة والتي تتّصل بالروايات الفقهيّة وما هي المسائل المثارة عند الرواة وكيفية تلقيهم لما يصدر عن الشارع المقدّس والطريقة المعتمدة عندهم في فهم

ص: 378

الخطابات الشرعيّة ، وما هو السائد عند العامة من الفتاوى وبالأخص المتّصل منها بالمعاملات إذ هي التي يمكن أن يتصيّد منها ما هو مرتكز عقلائيا في تلك الحقبة الزمنيّة.

وهذه المحاولة لو تمّت من حيث إمكان الوقوف على السيرة العقلائية السائدة في زمن المعصوم علیه السلام فهي تحتاج إلى الاطمئنان بهذه المنقولات التاريخيّة العامة ، وكذلك بما يؤثر من روايات تتصل بالفقه ؛ نعم يمكن الاكتفاء بما يؤثر من روايات بالظنّ المعتبر إلاّ أنّ ذلك يخرج السيرة عن كونها من وسائل الإثبات الوجداني.

المحاولة الثالثة :

أن يلزم من عدم تطابق السيرة في زمن المعصوم علیه السلام لما عليه التباني العملي فعلا لازم ، هذا اللازم منفي بالوجدان. مثلا : لو كان المتبانى عليه فعلا هو الاكتفاء بالسعي بين الصفا والمروة دون وضوء فإننا لو أردنا أن نثبت أنّ ذلك هو المتبانى عليه عملا في زمن المعصوم علیه السلام فإنّه يمكن التوسّل بهذه المقدمات :

المقدّمة الأولى : أنّه لو افترض أنّ الجري العملي كان كذلك أي الاكتفاء بالسعي دون وضوء لكان ذلك كاشفا عن عدم اعتبار الوضوء في السعي ، ولذلك يمكن للجاهل أن يستغني بذلك عن السؤال. ومن هنا يكون عدم وصول الأسئلة والأجوبة عن هذه المسألة مبرّرا.

المقدّمة الثانية : أنّه لو افترض أنّ سلوك المتشرّعة كان على خلاف ذلك بحيث كانوا ملتزمين بالسعي عن وضوء فإنّ هذا لا يكشف عن اعتبار الوضوء في السعي ، إذ من الممكن جدا أن يلتزم المتشرّعة بما هو

ص: 379

مستحب. ومن هنا يكون التعرّف على اعتبار الوضوء أو عدم اعتباره في السعي متوقفا على السؤال أو الوقوف على الروايات المتّصلة بهذه المسألة.

المقدّمة الثالثة : أنّه لمّا كانت هذه المسألة عامة البلوى ولا طريق للتعرّف عليها عن طريق السيرة المتشرعيّة - كما اتّضح من المقدّمة الثانية - فلا محالة تكون الأسئلة عنها كثيرة وبالتالي تكون الأجوبة كثيرة أيضا أو تكون الروايات الابتدائيّة المتصدّية لبيان حكم المسألة كثيرة.

المقدّمة الرابعة : ومع افتراض عدم وصول شيء من هذا القبيل ولو بشكل محدود رغم أنّ المقتضي للوصول موجود وليس هناك ما يستوجب عدم الوصول بعد افتراض كون المسألة أيّا كان حكمها - اعتبار الوضوء أو عدم اعتباره - لا تضرّ بمصالح من له القدرة على إخفاء الحقائق.

ومن هنا نستكشف تطابق السيرة المتشرّعيّة المنعقدة في زمن المعصوم علیه السلام لما عليه المتشرّعة فعلا من عدم الالتزام بالوضوء في السعي وإلاّ لو كانت السيرة على الالتزام بالوضوء للسعي لكثرت الأسئلة والأجوبة أو الروايات الابتدائيّة المتصدّية لبيان حكم المسألة بعد أن لم تكن تلك السيرة دالّة على اعتبار الوضوء أو عدم اعتباره وبعد أن كانت المسألة مما تعمّ بها البلوى وعدم وجود ما يقتضي اختفاؤها.

ومع اتضاح ما ذكرناه يتّضح أنّ هذه المحاولة إنّما تنفع في الكشف عن خصوص السير المتشرّعيّة لأنّها تفترض كون الجري العملي - الذي يراد استكشافه بهذه المحاولة - مما لا يقتضيه الطبع العقلائي إذ لو كانت السيرة التي يراد استكشافها هي سيرة عقلائيّة لاختلّت بعض المقدّمات كالمقدّمة الأولى والتي تفترض استكشاف عدم الوجوب من عدم الالتزام بالوضوء

ص: 380

في السعي إذ أنّ عدم التزام العقلاء لا يكشف ابتداء عن عدم الوجوب وإنّما يفتقر إلى الإمضاء المستكشف من السكوت ، وكذلك المقدّمة الثانية وهي انحصار التعرّف على الحكم الشرعي بالسؤال أو الوقوف على الروايات المتصدّية لبيان الحكم الشرعي المبحوث عنه في حين أنّ معرفة الحكم الشرعي في السير العقلائيّة لا ينحصر بذلك إذ يكفي الرجوع إلى كبرى السيرة العقلائيّة والتي هي النكتة التي برّرت نشوء تلك السيرة ، إذ أنّ السيرة العقلائيّة يمكن أن تكشف عن حكم شرعي غير الجواز بناء على أنّ الإمضاء للسيرة العقلائيّة إنّما يقع على ما هو منشأ وكبرى تلك السيرة.

وبهذا يتضح اختلال المقدّمة الثالثة أيضا ؛ إذ لا حاجة لتكثر الأسئلة والخطابات المبيّنة لحكم المسألة المبحوث عنها مع افتراض كون السيرة عقلائيّة يمكن معرفة حدودها من خلال البحث عن مبرّراتها.

المحاولة الرابعة :

أن يكون بديل السيرة الفعليّة - والتي نريد أن نستدلّ على معاصرتها للمعصوم علیه السلام - منافيا لما هو مقتضى الطبع العقلائي العام بحيث لو كان هو المتبانى عليه آنذاك لكان بديلا شاذّا ، وهذا ما يقتضي احتفاظ التاريخ به كما حفظ لنا التاريخ كثيرا من الظواهر الاجتماعيّة الشاذّة ، ولمّا لم ينقل لنا التاريخ ما هو المتبانى عليه في زمن المعصوم في الإطار المبحوث عنه فهذا يكشف عن أنّه لا يختلف عمّا هو عليه الآن إذ أنّ افتراض كون التزام العقلاء آنذاك بما هو شاذّ عن طبع العقلاء يبرّر وصول ذلك إلينا ولو بشكل محدود ، بعد أن كان المفترض أنّه هو البديل الوحيد عمّا هو ملتزم به فعلا.

ويمكن التمثيل لذلك بالسيرة العقلائيّة الفعليّة القاضية بأحقيّة الدائن

ص: 381

في الاستيثاق على أمواله المدينة برهن أو كتابة أو شهود ، وهذه السيرة هي ما يقتضيه الطبع العقلائي العام ؛ إذ أنّ الذي يخاف على أمواله من الضياع هو الدائن أما المدين فلا خوف على أمواله بعد أن كانت أمواله وأموال الدائن تحت يده.

وإذا أردنا أن نستدلّ على امتداد هذه السيرة لزمن المعصوم علیه السلام فإنّه يقال إنه لو لم تكن هذه السيرة هي الجارية في زمن المعصوم علیه السلام لكانت السيرة الجارية هي بديلها ، وبديلها الوحيد هو عدم أحقيّة الدائن في الاستيثاق على أمواله ، وهذه السيرة على افتراض وجودها تكون شاذة ؛ إذ أنّها تقتضي أن تكون أموال الدائن في مهبّ الريح وهذا يستوجب انسداد باب المداينة المقطوع بوجوده في زمن المعصوم علیه السلام ، وشذوذ هذه السيرة يستدعي احتفاظ التاريخ بها ، ونحن بالوجدان لا نجد من ذلك عينا ولا أثرا ، مما يكشف عن عدم وجود هذه الظاهرة الاجتماعيّة الشاذّة فيتعيّن تطابق ما عليه السيرة في زمن المعصوم علیه السلام مع ما عليه السيرة فعلا.

المحاولة الخامسة :

أن نسبر أغوار السيرة الفعليّة وذلك عن طريق الرجوع إلى ما هو مرتكز في أذهاننا من مرتكزات تمثل هذه المرتكزات كبرى هذه السيرة ، فإذا وجدنا أنّ هذه المرتكزات مناسبة لما هو مقتضى الطبع العقلائي والفطرة السليمة بحيث لا يكون ذلك ناشئا عن رواسب التربية أو الثقافة الاجتماعيّة السائدة والتي لا يكتب لها الثبات والاطراد لتمام المجتمعات العقلائيّة ، ففي حالة من هذا القبيل يحصل الوثوق بكون السيرة الفعليّة هي السيرة الجارية في زمن المعصوم علیه السلام ، ويمكن أن نحرز ما وصلنا إليه عبر هذا

ص: 382

التحليل الوجداني بملاحظة ما عليه المجتمعات العقلائيّة على اختلاف مشاربها ومنابع ثقافتها وظروفها ، فإذا وجدناها متفقة مع ما وصلنا إليه من نتيجة فإنّ ذلك يؤكّد أنّ ما وصلنا إليه لم يكن خاضعا لرواسب التربية والثقافة والتي قد تخلق جوا ذهنيّا خاصّا دون أن يشعر الإنسان أنّه واقع تحت هيمنة تلك التربية أو الثقافة التي نشأ في محيطها.

وهذه المحاولة وإن كانت موجبة للوثوق بتطابق السيرة المعاصرة للمعصوم علیه السلام مع ما عليه السيرة فعلا إلاّ أنّها ليست طريقة موضوعيّة يمكن التوسّل بها لإثبات المطلوب للخصم بمعنى أنّها ليست برهانية لأنّها تعتمد خطوات لا توصل إلاّ من سار عليها والبرهان ليس من هذا القبيل ؛ إذ أنّ البرهان يعتمد مقدّمات محرّرة في مرحلة سابقة يتمّ عن طريق ضمّها إثبات المطلوب.

نعم الاستدلال على المطلوب بما عليه المجتمعات العقلائيّة على اختلاف مشاربهم وثقافتهم يكون برهانيا.

وكيف كان فالوثوق بمعاصرة السيرة الفعليّة لزمن المعصوم علیه السلام لا ينهي البحث ، إذ تبقى مشكلة لا بدّ من حلّها ، وهي أنّه كيف نثبت أنّ هذه السيرة كانت ممضاة من المعصوم علیه السلام ؟ إذ لعلّه ردع عنها ولم نقف نحن على الردع ، وغاية ما يمكن أن نثبته هو عدم وجدان الردع ، إلاّ أنّ ذلك لا يكشف عن عدم وجود الردع المقتضي للإمضاء.

ويمكن حلّ هذه المشكلة بهذا البيان :

وهو ادّعاء الوثوق بعدم وجود الردع لعدم وصوله بالوجدان ، ومبرّر هذا الادّعاء هو انّ افتراض السيرة العقلائيّة المبحوث عن إمضائها متجذّرة

ص: 383

ومترسّخة في أذهان العقلاء يقتضي أن يكون مستوى الردع عنها مناسبا لما هي عليه من تأصّل وتجذّر ، وهذا هو مقتضى تحفّظ العقلاء على أغراضهم ، إذ لا يمكن إلغاء سلوك عملي عام له امتداد في أعماق كلّ واحد من أفراد ذلك المجتمع العقلائي كما له مبرّرات مترسّخة ومتوارثة كابرا عن كابر لا يمكن إلغاء مثل هذه السيرة بردع باهت يتم في مجلس محدود ، بل إنّ مثل هذه السيرة يستوجب ردعا مركّزا ومكثّفا بحيث يكون ذلك الردع مناسبا لما عليه تلك السيرة من تجذّر ، وهذا ما يستدعي عادة إثارة الرواة إذ ينساقون للاستفهام عن حيثيّات ذلك الردع ومقداره وما هو البديل عنه ، وهذا ما يقتضي تكثّر الأسئلة والأجوبة ، فإذا لم يصل إلينا شيء من ذلك لا من الردع الابتدائي ولا من الردع المستفاد من لحن الأسئلة والأجوبة رغم أنّ المقتضي للوصول - ولو بنحو مناسب لطول الفاصلة الزمنيّة بيننا وبين المعصوم علیه السلام - موجود إذ أنّ المفترض هو أنّ السيرة متأصّلة ومتجذّرة في مرتكزات العقلاء وهذا ما يثير اهتمام الناس فضلا عن المهتمين بحفظ ما يرد عن أهل البيت علیهم السلام .

كما أنّ المانع عن الوصول - ولو بشكل محدود - مفروض الانتفاء بعد أن لم يكن الردع ضارّا بمن له القدرة على الإخفاء.

ومن هنا يستكشف عدم صدور الردع عن السيرة المبحوث عنها.

وبهذا تتوفّر السيرة على كلا الركنين الأساسيّين اللّذين يؤهلانها للدليليّة ، وهما معاصرة السيرة للمعصوم علیه السلام وإمضاء المعصوم علیه السلام لها.

درجة الوثوق في وسائل الإحراز الوجداني :

إنّ الأدلّة المستكشفة بواسطة ضرب القيم الاحتماليّة في بعضها يكون

ص: 384

ناتجها إما القطع أو الاطمئنان أو الظن ، إذ أنّ ضرب القيم الاحتماليّة في بعضها قد ينتج تضاؤل احتمال عدم المطابقة إلى حدّ يكون الاحتمال موهوما جدا بحيث لا ينافي القطع بالطرف المقابل ، وقد ينتج ضرب القيم الاحتماليّة تضاؤل احتمال عدم المطابقة إلى حدّ يوجب استقرار النفس بمطابقة الطرف المقابل للواقع ، وقد ينتج تضاؤل الاحتمال الظنّ القوي بمطابقة الطرف المقابل للواقع مع الاحتفاظ بمستوى معتدّ به من احتمال عدم المطابقة للواقع.

ولا إشكال في الحالة الأولى من حيث صلاحيّة الناتج « القطع » لتنجيز المقطوع والتعذير عنه.

وأمّا الحالة الثانية فقد يقال بعدم صلاحيّته بنفسه للدليلية ، بل إنّ دليليته منوطة بقيام الدليل التعبّدي على حجيّته ، ومن هنا قيل إنّ الدليل التعبّدي على حجيّة الاطمئنان هو السيرة العقلائيّة الممضاة من المعصوم علیه السلام ، وهذا ما يقتضي القطع بمعاصرة السيرة على العمل بالاطمئنان للمعصوم علیه السلام والقطع بإمضاء الشارع لهذه السيرة ؛ إذ أنّ الاطمئنان بتحقّق هذين الركنين لا يثبت حجيّة الاطمئنان للزومه الدور المستحيل ، إذ أنّنا في مقام الاستدلال على حجيّة الاطمئنان فإذا كان دليل الحجيّة هو الاطمئنان فهذا يعني توقف حجيّة الاطمئنان على حجيّة الاطمئنان.

وفي مقابل هذا القول قد يقال بحجيّة الاطمئنان بنفسه كالقطع وذلك لأنّ حق الطاعة - أداء لحق المولويّة - موجب للجريان على وفق متعلّق الاطمئنان كما هو الحال في القطع ومعذّر عن مخالفة الواقع في موارد الاطمئنان بعدم التكليف كما هو الحال في القطع ، إلاّ أنّ المميّز للاطمئنان

ص: 385

عن القطع هو إمكان ردع المولى عن الاطمئنان وهو غير ممكن في القطع.

وأمّا الحالة الثالثة فلا إشكال في عدم صلاحيّتها لإثبات الدليليّة بنفسها إذ أنّ الأصل عدم حجيّة الظن - كما ذكرنا ذلك في بحث أنّ الشكّ في الحجيّة يساوق القطع بعدم الحجيّة - ، نعم لو قام الدليل القطعي على حجيّة ظنّ من الظنون فإنّ ذلك يكسبه الدليليّة إلاّ أنّ ذلك يصيّر هذه الوسائل في موارد الإحراز التعبّدي.

ص: 386

وسائل الإحراز التعبّدي

اشارة

وهي الأدلّة الظنيّة التي تكون دليليتها على الحكم الشرعي منوطة بقيام الدليل القطعي الشرعي على ثبوت الحجيّة والدليليّة لها.

وهذه هي المعبّر عنها عند علماء الأصول بمباحث الظنّ ، وهي كثيرة منها ظواهر الخطاب الشرعي ، ومنها قول اللّغوي ، ومنها الشهرة الفتوائيّة ، ومنها خبر الواحد ، وهو كلّ خبر لا يكون مقطوع الصدور ، وقد خصّه المصنّف رحمه اللّه بالبحث في المقام دون بقيّة الأدلّة الظنيّة لعظم فائدته لو تمّت حجيّته ؛ إذ أنّ أكثر الأحكام الشرعيّة الفرعيّة وصلتنا بواسطة خبر الواحد.

وقد تعرّض المصنّف رحمه اللّه في بحثه عن خبر الواحد للأدلّة التي استدل بها على حجيّته والأدلة النافيّة للحجيّة ثمّ بحث بعد ذلك حدود الحجيّة لخبر الواحد وشرائطها بعد افتراض تماميّة الأدلّة المثبتة للحجيّة.

أدلّة حجيّة خبر الواحد :

والبحث عنها يقع تارة في أدلّة الكتاب العزيز على الحجيّة ويقع تارة أخرى عن الأدلّة المستوحاة من السنّة الشريفة على الحجيّة. أمّا أدلّة الكتاب العزيز فآيات :

منها ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا

ص: 387

قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ ) (1).

والاستدلال بالآية الكريمة يتمّ بواسطة المفهوم ، إذ أنّ الجملة فيها شرطية ، وقد ثبت أنّ الجمل الشرطيّة ظاهرة في المفهوم وبيان ذلك :

أنّ الآية ظاهرة في تعليق طبيعي الحكم - وهو وجوب التبيّن - على الشرط والذي هو مدخول أداة الشرط « إن » والشرط هو مجيء الفاسق وموضوع الحكم هو النبأ ، وهو منحفظ في حالتي تحقق الشرط وانتفائه ، وبهذا يكون انتفاء الشرط عن الموضوع يقتضي انتفاء الحكم ؛ أي أنّ انتفاء مجيء الفاسق عن النبأ بأن يكون الآتي به غير فاسق يقتضي انتفاء وجوب التبيّن عن ذلك النبأ.

وبهذا يثبت عدم وجوب التبيّن عن نبأ العادل لانتفاء شرط وجوب التبيّن.

وهذا يقتضي حجيّة نبأ العادل إذ لا معنى لعدم وجوب التبيّن عن نبئه إلاّ ثبوت الحجيّة له وإلاّ كان مساويا لنبأ الفاسق أو أسوأ حالا منه ، وكلاهما منفيّان فيتعيّن ثبوت الحجيّة لنبئه. أمّا افتراض المساواة فمنفي بمفهوم الشرط ، وأمّا افتراض كونه أسوء حالا من الفاسق فلأنّ نبأ الفاسق يمكن أن تثبت له الحجيّة إذا تبيّن صدقه أمّا نبأ العادل - بناء على الفرض - فلا تثبت له الحجيّة وإن ثبت صدقه.

وبهذا يتضح تعيّن الحجيّة لنبأ العادل بمقتضى مفهوم الشرط.

ص: 388


1- سورة الحجرات آية 6
الإشكال على الاستدلال بالآية الكريمة :

وقد أورد على الاستدلال بالآية الكريمة بإيرادين :

الإيراد الأوّل : أنّ الجملة الشرطية في الآية الكريمة لا مفهوم لها ؛ لأنّ الشرط فيها سيق لبيان تحقّق الموضوع وفي كلّ حالة من هذا القبيل لا يثبت للقضيّة الشرطيّة مفهوم.

وبيان ذلك : أنّ الشرط وهو مجيء الفاسق هو المحقّق للموضوع « النبأ » ولا يمكن افتراضه في ظرف انتفاء الشرط ؛ إذ أنّ الشرط - وهو مجيء الفاسق بالنبأ - هو الموجد للنبأ ولولاه لما كان للنبأ وجود ، فلو أنّ للجملة مفهوم لكان مساقها هكذا « إذا لم يجيء الفاسق بالنبأ فلا يجب التبيّن عنه » وهذه قضيّة حتميّة إذ أنّها من السالبة بانتفاء الموضوع ، فمن الطبيعي أنّ الموضوع - وهو النبأ - لمّا كان منتفيا فينتفي بتبعه الحكم. وهذا بخلاف المفهوم فإنّ الموضوع يظلّ ثابتا ومن هنا يتصوّر انتفاء الحكم عنه لإمكان تصوّر ثبوت الحكم له.

فمثلا الجملة الشرطيّة التي هي من قبيل « إذا جاءك زيد فأكرمه » فإنّ الموضوع وهو زيد له تقرّر وثبوت بغض النظر عن

الشرط وهو المجيء ، ومن هنا يتعقل ثبوت المفهوم لمثل هذه القضيّة إذ أنّ الموضوع في ظرف انتفاء الشرط يتصوّر ثبات الحكم له ، ومن هنا يكون انتفاء الحكم متصوّرا أيضا.

وقد أجاب صاحب الكفاية رحمه اللّه عن هذا الإيراد بما حاصله :

إننا وإن كنّا نسلّم بتماميّة الإيراد - بناء على أن الشرط هو مجيء الفاسق

ص: 389

والموضوع هو النبأ - إلا انّه يمكن افتراض كون الموضوع هو الجائي بالنبأ والشرط هو الفسق وبالتالي لا يكون الشرط محقّقا للموضوع ؛ إذ أنّ الموضوع وهو الجائي بالنبأ فرض متقرّرا بقطع النظر عن الشرط وهو مجيء الفاسق به أو عدم ذلك ، فالموضوع ثابت سواء كان الشرط ثابتا أو منتفيا ، وحينئذ يكون مساق الآية الكريمة « إن كان الجائي بالنبأ فاسقا فتبيّنوا » ومن هنا يمكن أن يتصوّر انحفاظ الموضوع مع انتفاء الشرط هكذا : « إن لم يكن الجائي بالنبأ فاسقا فلا يجب التبيّن » وهذا يعني أنّ الجائي بالنبأ إذا كان عادلا فلا يجب التبيّن من نبئه ، وهو معنى الحجيّة لنبأ العادل.

والإشكال على صاحب الكفاية أنّه لم يشر إلى النكتة الاستظهاريّة الموجبة لتعيّن هذا الافتراض ، فهذا الافتراض وإن كان يدفع الإيراد السابق إلاّ انّه لا يحلّ الإشكال من حيث إنه لم يبيّن ما يوجب استظهار هذا الافتراض دون الافتراض الأوّل المبتلي بإشكال محقّقيّة الشرط للموضوع.

الإيراد الثاني : أنّ الآية الكريمة مذيّلة بعلّة الحكم بوجوب التبيّن من خبر الفاسق ، وهذه العلة تشمل بإطلاقها خبر العادل. ومن هنا تكون هذه العلّة قرينة أو صالحة للقرينيّة على عدم إرادة المفهوم من الآية الكريمة.

وبيان ذلك : أنّ الآية الكريمة قد علّلت وجوب التبين من خبر الفاسق بأن عدم التبيّن عمل بغير علم ، ومن الوضوح أنّ هذه العلّة لا تختص بخبر الفاسق بل هي شاملة لخبر العادل لكونه من أخبار الآحاد التي لا توجب العلم ، والعلّة كما قيل تكون معمّمة وتكون مخصّصة ، فحينما يقال « حرّمت الخمرة لإسكارها » فهذا يعني أنّ مطلق ما يوجب الإسكار

ص: 390

حرام وإن كان من غير سنخ الخمرة وذلك لعموم التعليل.

والمقام من هذا القبيل ولذلك تكون هذه العلّة المعمّمة قرينة على عدم إرادة المفهوم من الآية الكريمة أو لا أقلّ أنّها صالحة للقرينيّة ؛ إذ أنّ العلل المنصوصة - كما قلنا - صالحة لتعميم الحكم لغير موردها. وإذا كانت العلّة صالحة للقرينيّة فهذا يقتضي إجمال المراد وأنّ المولى هل أراد المفهوم من الآية الكريمة أو لا؟

الجواب عن هذا الإيراد :

وقد أجيب عن هذا الإيراد بثلاثة أجوبة :

الأوّل : إنّ الإصابة بجهالة - والتي هي علّة الحكم - تعني العمل السفهي ، فكلّ عمل لا يستند إلى الضوابط العقلائيّة يطلق عليه العرب عمل بجهالة ولذلك قال الشاعر عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل مثل جهل الجاهلينا

فأطلق على التعدّي بغير حق عنوان الجهالة ، والمقام من هذا القبيل إذ أنّ ترتيب الأثر على خبر الفاسق والذي لا يتحرّز عن الكذب ينافي ما عليه العقلاء ولذلك يكون العمل به عملا بجهالة.

ومع اتّضاح معنى الجهالة في استعمالات العرب يتّضح عدم شمول الحكم المعلّل بالجهالة لخبر العادل إذ أنّ سيرة العقلاء جاريّة على ترتيب الأثر على خبره ممّا يكشف عن أنّه متوفّر على الضوابط العقلائيّة ؛ إذ أنّ العقلاء بما هم عقلاء لا يجرون إلاّ على ما هو مناسب لمقتضى المرتكزات المبرّرة عقلائيا.

ص: 391

الثاني : إنّنا لو سلّمنا بعموم التعليل وأنّه شامل لخبر العادل إلاّ أنّ ذلك لا يوجب إلغاء المفهوم ؛ إذ أنّ علاقة المفهوم - وهو عدم وجوب التبيّن عن خبر العادل - مع عموم التعليل علاقة الإطلاق والتقييد وهو ما يقتضي حمل المطلق - والذي هو عموم التعليل - على المقيّد والذي هو المفهوم.

وبيان ذلك : أنّ عموم التعليل يشمل مطلق أخبار الآحاد ومقتضى مفاد المفهوم هو عدم وجوب التبيّن عن خبر خصوص العادل ، وهذا ما يقتضي بموجب قاعدة حمل المطلق على المقيّد حمل عموم التعليل على المفهوم.

الثالث : إنّ مفاد المفهوم هو أنّ خبر العادل بيّن بنفسه فلا يحتاج إلى التبيّن من صدقه أو كذبه ، وهذا ما يقتضي خروجه موضوعا عن عموم التعليل ؛ إذ أنّ موضوع التعليل هو عدم العلم وخبر العادل يعطي العلم ولو تعبدا ، ومع تباين الموضوعين لا يمكن تعدية الحكم المعلّل بعلّة لموضوع مباين لموضوع تلك العلّة.

وبعبارة أخرى : لمّا كان مفاد المفهوم هو علميّة مؤدى خبر العادل فهذا يعني عدم شمول الحكم المعلّل في المنطوق له ؛ وذلك لأنّ موضوع علّة الحكم في المنطوق هو عدم العلم وقد قلنا إن الشارع قد افترض مؤدى خبر العادل علما ، وهذا ما يقتضي مباينة موضوع العلّة مع موضوع مؤدّى خبر العادل.

ومنها قوله تعالى ( وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ

ص: 392

لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ) (1).

والاستدلال بالآية الكريمة على حجيّة خبر الثقة أنّ ذلك هو مقتضى إطلاق مطلوبيّة الحذر عند إنذار المنذر سواء أفاد إنذاره العلم أو لم يفد العلم ، إذ لا معنى لمطلوبية الحذر عند إنذاره إلاّ جعل الحجيّة لإنذاره.

وبيان ذلك : أنّ مفاد « لعل » هو الترجي والذي هو من أقسام الطلب ، وهذا يعني أنّ مدخول لعلّ يكون مطلوبا ، وإذا كان كذلك فالحذر لمّا وقع مدخولا ل- « لعل » فهو إذن مطلوب للمولى ، ومطلوبيّته بمقتضى سياق الآية الكريمة هو غاية الإنذار الواجب ، وبهذا يثبت أنّه كلّما تحقّق الإنذار فالحذر مطلوب ، سواء كان الإنذار موجبا للعلم بمطابقة مؤداه للواقع أو غير موجب للعلم ، وبهذا الإطلاق تثبت مطلوبيّة الحذر من إنذار المنذر الواحد ، ولا معنى لمطلوبيّة الحذر عند إنذار المنذر إلاّ صحّة التعويل على إنذاره والاحتجاج به على العبد عند المخالفة إذ أنّ الحذر إذا كان مطلوبا ومع ذلك لا يصح التعويل عليه فهذا أشبه شيء بالالتزام بالضدّين.

الإشكال على الاستدلال بالآية الكريمة :
اشارة

وقد أورد المصنّف رحمه اللّه على الاستدلال بهذه الآية الكريمة بثلاثة إيرادات :

الإيراد الأوّل :

إنّ الإنذار لمّا كان يعني الترهيب والتخويف من مخالفة ما تستتبع

ص: 393


1- سورة التوبة آية 122

مخالفته العقوبة فهذا يعني أنّ منجزيّة المنذر به افترضت متقرّرة في رتبة سابقة ، وليس الموجب لتنجز المنذر به هو نفس الإنذار وإنّما وظيفته هي التذكير - وبأسلوب وعظي - بما ثبتت منجزيّته وموجبيّته للعقاب بمثبت آخر ليس المولى في مقام بيانه.

ومن هنا لا تكون مطلوبيّة الحذر الواقعة غاية للإنذار كاشفة عن حجيّة خبر المنذر ؛ وذلك لأنّ الإنذار لا يولّد الحجيّة لمتعلقه بل إنّ متعلّقه ثابت بحجّة أخرى. فمثلا لو ثبتت حرمة الخمر ، وأنّ شربه حرام يستوجب عقاب المولى فإنّ التذكير بالحرمة وبما يترتّب على مخالفتها من عقوبة هو معنى الإنذار.

ويمكن التمثيل أيضا بالعلم الإجمالي وبالشبهات الحكميّة قبل الفحص فإنّه قد ثبت بحكم العقل منجزيّة الحكم الواقعي في هذين الموردين ، ففي حالة التذكير بهذه المنجزيّة والترهيب من مخالفة مقتضاها يكون مثل هذا التذكير إنذارا ، ومطلوبيّة الحذر حينئذ لا تعني حجيّة خبر المنذر ؛ لأنّ الإنذار لم يولّد المنجزيّة لمتعلقه إذ أنّ الكاشف عن المنجزيّة في الموردين هو العقل ، نعم لو كان الإنذار هو المحقق للمنجزيّة لمتعلقه ومؤدّاه لأمكن تتميم الاستدلال بالآية الكريمة على حجيّة خبر المنذر ، إلاّ أن ذلك خلف ما هو المستفاد من معنى الإنذار.

الإيراد الثاني :

لو تنزّلنا وقلنا إنّ الإنذار يصدق في موارد عدم تنجّز متعلقه في رتبة سابقة بحيث يكون خبر المنذر هو المولّد للتنجيز إلاّ أنّه مع ذلك لا تثبت الحجيّة لخبر المنذر بالمعنى المبحوث - والتي تعني المنجزيّة في موارد مطابقة

ص: 394

الخبر للواقع والمعذريّة في موارد مخالفة الخبر للواقع ، إذ أن أقصى ما يثبت من حجيّة لخبر المنذر هو المنجزيّة والتي تعني نفي البراءة الشرعيّة عن التكليف المحتمل. وهذا المقدار من الحجيّة ناشيء عن أنّ إخبار المنذر بالتكليف الإلزامي يولّد احتمالا بوجود تكليف إلزامي مولوي ، وبه تتحقّق صغرى الحكم العقلي القاضي بمنجزيّة التكاليف المحتملة.

وبهذا يتنقح أنّ الحجيّة الثابتة لخبر المنذر ليس منشؤها الجعل الشرعي وإنّما هو حكم العقل بمنجزيّة التكاليف المحتملة ، وهذا ما يقتضي أنّ المنجزيّة الثابتة له معلّقة على عدم الترخيص ، نعم لو كنّا نذهب إلى جريان البراءة العقليّة في موارد التكاليف المحتملة اعتمادا على قاعدة قبح العقاب بلا بيان لأمكن تتميم الاستدلال بالآية الكريمة على حجيّة خبر المنذر ؛ إذ لو لا المنجزيّة الثابتة بالآية الكريمة لجرت البراءة العقليّة عن التكليف المحتمل المفاد بواسطة خبر المنذر.

الإيراد الثالث :

إنّنا لو تنزّلنا وقلنا إنّ الآية الكريمة تثبت حجيّة إنذار المنذر بالمعنى المبحوث إلاّ أنّ هذه الحجيّة لم تثبت لإنذار المنذر باعتباره خبرا حسيّا - والذي هو محل البحث - وإنّما تثبت الحجيّة لإنذار المنذر باعتباره خبرا حدسيّا ؛ إذ أنّ الإنذار يستوجب صياغة الخبر بأسلوب وعظي مؤثر ، وهذا ما يعني أنّ المنذر حينما يتلقى الخبر لا يلقيه كما هو بل يعرضه على فهمه وعلى المقدّمات المتناسبة مع مستوى إدراكه ثمّ يستنتج من الخبر وبضمه إلى المقدمات المدركه نتائج يصوغها بأسلوب مؤثر ، وإذا كان هذا هو معنى الإنذار فالحجيّة الثابتة له أجنبيّة عن محلّ البحث ؛ إذ أنّ المبحوث عنه هو

ص: 395

حجيّة خبر الثقة الحسّي ، والحجيّة الثابتة في المقام إنّما هي للخبر الحدسي.

ومنها : قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ ) (1).

والاستدلال بالآية الكريمة على حجيّة خبر الثقة يتم بواسطة الملازمة العقلائيّة بين إطلاق حرمة الكتمان المستفاد من الآية الكريمة وبين القبول من المتلقي للخبر عند امتثال العالم حرمة الكتمان.

وبيان ذلك : أنّ المستفاد من الآية الكريمة هو حرمة كتمان الحق والهدى بنحو مطلق سواء كان بيان الحقّ موجبا للعلم عند المتلقي للخبر أو غير موجب للعلم ، وإذا كان كذلك فإمّا أن يجب القبول والتعويل على ذلك البيان أو لا يصح التعويل والقبول في حالة عدم حصول العلم ، والثاني باطل فيتعيّن الأول.

أمّا بطلان الثاني وهو عدم صحّة القبول في ظرف عدم العلم فلأنّه يلزم منه محذور لا يلتزم به العقلاء ، وهو لغويّة حرمة الكتمان ووجوب البيان في حالة عدم ترتّب العلم على البيان ؛ إذ من العبثية بمكان أن يجب البيان ومع ذلك لا يترتّب عليه أثر. ومن هنا يتعيّن الأول وهو وجوب القبول عند عدم الكتمان وبيان العالم ما عنده من البيّنات والهدى ، وبهذا يثبت المطلوب ، إذ أنّ وجوب القبول في ظرف عدم اقتضاء البيان للعلم معنى آخر للحجيّة.

ص: 396


1- سورة البقرة آية 159
الإشكال على الاستدلال بالآية الكريمة :
اشارة

وقد أورد على الاستدلال بالآية الكريمة بإيرادين :

الإيراد الأوّل :

إن المراد من الكتمان هو إخفاء الحقائق في مورد يكون بيانها موجبا لتجلّيها واتّضاحها عند المخاطب ، أمّا في الموارد التي لا يكون البيان كاشفا عن الحقائق بنحو العلم ، وذلك لانتفاء المبرّرات المساعدة على اتّضاح الرؤية بشكل تامّ للمخاطب فلا يسمّى عدم البيان - في مثل هذه الحالات - كتمانا فيكون خارجا موضوعا عن الحرمة ، وذلك لأنّ موضوع الحرمة هو الكتمان ولا كتمان في مورد عدم ترتّب العلم على البيان.

الإيراد الثاني :

لو تنزّلنا وقلنا إنّ السكوت عن بيان الحقائق في موارد عدم ترتّب العلم يعدّ كتمانا إلاّ أنّ ذلك لا يلزم منه حجيّة خبر الواحد غير الموجب للعلم ، وذلك لاحتمال أن يكون الدافع من تحريم الكتمان بنحو مطلق هو تحفّظ المولى على غرضه من عدم الكتمان في موارد ترتّب العلم ، ولمّا كان من الصعب تشخيص الموارد التي يترتّب عن البيان فيها العلم والتي لا يترتّب عنه العلم ؛ وذلك لأنّ موارد ترتّب العلم عن البيان لا تخضع لضوابط محدّدة بل إنها ترتبط بقرائن خاصة قد لا يحسن تشخيصها كلّ أحد وهي تختلف من ظرف لآخر ، وهذا ما قد يوجب تفويت غرض المولى في حالات كثيرة ، ومن هنا احتاط المولى لغرضه فحرّم الكتمان مطلقا ، وبهذا ينحفظ غرض المولى وهو عدم كتمان الحقائق في موارد ترتّب

ص: 397

العلم.

وبهذا تنتفي الملازمة المذكورة في تقريب الاستدلال بين حرمة الكتمان مطلقا وبين الحجيّة لخبر الواحد ؛ وذلك لأنّ قوام الملازمة المذكورة هو لزوم اللغويّة من تحريم الكتمان مطلقا لو لم نقل بلزوم القبول ، وهذه الملازمة لا تتمّ مع هذا الاحتمال إذ أنّه لا لغويّة لو كان الغرض من إطلاق حرمة الكتمان هو احتياط المولى لأغراضه وتحفّظه عليها ؛ إذ من القريب جدا أن يجعل المولى موضوع حكمه أوسع من مقدار الغرض وذلك بدافع التحفّظ على ذلك الغرض.

ومنها : قوله تعالى ( وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (1).

ودلالة الآية الكريمة على حجيّة خبر الثقة مستفاد من الملازمة العقلائيّة العرفيّة بين إطلاق الأمر بالسؤال ، وبين قبول الجواب وترتيب الأثر عليه ، وإلاّ فوجوب السؤال دون أن يصح التعويل على جوابه لغو لا يصدر من الحكيم. وبتعبير آخر : إنّ إطلاق إيجاب الأمر بالسؤال عند عدم العلم يقتضي عقلائيا لزوم ترتيب الأثر على جواب ذلك السؤال وإلاّ فأيّ فائدة تستوجب الأمر بالسؤال في موارد عدم ترتّب العلم من الجواب لو لا أنّ الشارع جعل الحجيّة تعبدا في حالات عدم ترتّب العلم من الجواب.

وبهذا تثبت الحجيّة لجواب العالم حتى لو لم يحصل من جوابه العلم ، ومع إلغاء خصوصيّة وقوع الخبر موقع الجواب تثبت الحجيّة لمطلق خبر

ص: 398


1- سورة النحل آية 43

الثقة ولو كان ابتدائيا.

الإشكال على الإستدلال بالآية الكريمة :
اشارة

والإيرادات السابقة التي أوردت على الإستدلال بآية الكتمان صالحة للورود على الإستدلال بهذا الآية الكريمة ، وتختص هذه الآية الكريمة بإيرادات أخرى :

الإيراد الأوّل :

انّ المتفاهم العرفي من الأمر بالسؤال في الآية الكريمة انّه نحو احتجاج على المنكرين للرسالة وانّه إرشاد لوسيلة من وسائل التعرّف على حقّانيّة نبوة النبي محمّد صلی اللّه علیه و آله ، وذلك لانّ الخطاب بالأمر بالسؤال انّما هو متوجّه إلى المنكرين للرسالة والمشكّكين في صوابيتها ، وهذا ما يقتضي كون الأمر بالسؤال سيق لغرض التنبيه والإرشاد إذ أنّ الرجوع إلى أهل الذكر يوجب خصم المنكرين واتّضاح الرؤية للمشكّكين.

وهذا هو المناسب لمساق الآية الكريمة إذ انّ المخاطب فيها - كما قلنا - هم المنكرون والمرتابون وليس من المعقول أن يحتج عليهم بجواب أهل الذكر إذا لم يكن جوابهم مفيدا للعلم ، إذ أنّ الإحتجاج بغير العلم يحتاج إلى جعل شرعي والمخاطب في الآية لمّا لم يكن متعبدا بالمجعولات الشرعيّة فهذا ما يكشف عن أنّ المولى لم يكن بصدد بعث المخاطب مولويا ، وإذا لم يكن الأمر في الآية مولويّا فلا كاشفيّة له عن حجيّة الجواب إذا لم يفد العلم ، إذ انّ ذلك يحتاج إلى جعل شرعي تعبدي وهذا ما يقتضي كون الخطاب صادرا عن المولى بما هو شارع ، وهو خلف ما استظهرناه من الآية وانّ

ص: 399

المولى في مقام التنبيه والإرشاد.

الإيراد الثاني :

انّ الفاء التي وقع الأمر مدخولا لها مفيدة لتفرّع الأمر بالسؤال على المتفرّع عنه وهو الكلام الذي سبق الفاء. وهذا ما يقتضي اختصاص متعلّق السؤال - المأمور به - بمورد المتفرّع عنه ، فليس كل ما لا يعلم يجب السؤال عنه بل الذي يجب السؤال عنه هو ما تفرّع الأمر بالسؤال عليه ، ولمّا كان المتفرّع عليه الأمر هو إرسال اللّه عزّ وجلّ للرسل بواسطة الوحي إليهم يكون مساق الآية هكذا « انّ اللّه أرسل الرسل بواسطة الوحي إليهم فإذا لم تصدقوا بذلك فاسئلوا أهل الذكر » فمتعلق الأمر بالسؤال ليس فيه إطلاق ، وعليه لا تكون الآية الكريمة دالّة على وجوب السؤال عن كل ما هو غير معلوم لكي يستكشف بالملازمة العقلائيّة العرفيّة وجوب القبول.

الإيراد الثالث :

انّه قد اتضح ممّا تقدّم انّ الآية الكريمة ترتبط باصول الدين ، ولا إشكال في عدم حجيّة خبر الواحد فيما يرتبط باصول الدين.

الإيراد الرابع :

انّ من المحتمل قريبا ان المراد من أهل الذكر هم علماء اليهود والنصارى وإذا تمّ هذا الإحتتمال فالإستدلال بالآية على حجيّة خبر الثقة ساقط إذ انّ الآية - بناء على هذا الإحتمال - تكون أجنبيّة عن محلّ البحث ، نعم لو كان المراد من أهل الذكر هم أهل العلم والرواية لأمكن تتميم الإستدلال بالآية الكريمة إلاّ أنّه لمّا كان الإحتمال الأول قريبا فإنّه يوجب إجمال المراد من أهل الذكر. وبهذا لا تكون الآية صالحة للإستدلال بها

ص: 400

على حجيّة خبر الثقة.

وأمّا السنّة الشريفة :
اشارة

والإستدلال بها على حجيّة خبر الواحد لا بدّ أن لا يتم بواسطة خبر الواحد إذ يلزم من ذلك الدور المستحيل إذ انّ الإستدلال على حجيّة خبر الواحد بخبر الواحد يعني توقف الشيء على نفسه.

ومن هنا لا بدّ من التوسّل لإثبات الحجيّة لخبر الواحد بالسنّة الشريفة بوسائل أخرى لا يلزم منها محذور الدور.

وقد استدلّ المصنّف على حجيّة خبر الثقة بالسنّة الشريفة بدليلين :

الدليل الأول : التواتر :

وتقريب الإستدلال به هو انّه قد تكثّرت الروايات التي يمكن اقتناص الحجيّة منها لخبر الواحد ، فهي وإن لم ترد بلسان واحد ومضمون واحد ولم تكن مسوقة لغرض واحد إلاّ انه يمكن استفادة جعل الحجيّة للخبر من مجموعها. ومن هنا يكون التواتر المدّعى تحقّقه في المقام هو التواتر الإجمالي والذي يقتضي التمسّك بالمقدار المشترك من مضامين هذه الروايات إذ أنّ المقدار المختص برواية أو روايتين لا يشكّل تواترا وبهذا يكون الإعتماد عليه في إثبات الحجيّة اعتمادا على خبر الواحد الذي نبحث عن حجيّته. ولهذا لو وردت بعض الروايات على حجيّة خبر الواحد بنحو مطلق ودلّت روايات أخرى على حجيّة خبر الثقة ودلّت طائفة ثالثة من الروايات على حجيّة خبر الإمامي وروايات أخرى على حجيّة خبر العدل فإنّ المقدار المشترك من مجموع هذه الروايات هو خبر الإمامي العدل ، فهذا هو الذي تثبت له

ص: 401

الحجيّة بواسطة ما يشكّله مجموع هذه الروايات من تواتر إجمالي.

وقلنا القدر المشترك ولم نقل القدر المتيقّن باعتبار أنّ القدر المشترك قد يفترق عن القدر المتيقّن وبهذا تثبت الحجيّة لما هو أوسع من القدر المتيقّن كما لو كان القدر المشترك من مجموع الروايات هو خبر الثقة كأن لم يكن هناك ما يثبت اختصاص الحجيّة بخبر العدل الإمامي أو كان المقدار الذي يمكن اقتناص حجيّة خبر الثقة منه يشكّل تواترا إجماليا فإنّ الحجيّة حينئذ تكون ثابتة لما هو أوسع من القدر المتيقّن.

الدليل الثاني : السيرة :

انعقاد السيرة على العمل بخبر الثقة ، وبيان ذلك : أنّه إذا أردنا أن نستدلّ بالسيرة على حجيّة خبر الثقة فلا بدّ أولا من إثبات معاصرتها للمعصوم علیه السلام ، وإذا كانت السيرة من سنخ السير العقلائيّة فدليليتها منوطة بإمضاء الشارع لها ، وهذا ما يحتاج إلى إثبات أيضا ، ومن هنا يتّجه البحث أولا عن أنّ هذه السيرة المدعاة هل هي معاصرة للمعصوم علیه السلام أو لا؟

ويمكن إثبات معاصرتها بهذا البيان :

وهو أنّ من المقطوع به اطّلاع المتشرّعة المعاصرين للمعصوم على روايات كثيرة جدا لا تكون موجبة للعلم بمؤداها أو الاطمئنان الشخصي من كلّ واحد من المتشرّعة بها ، بل إنّ هذا النحو من الروايات يمثّل الجزء الأكبر ممّا يصل عن أهل البيت علیهم السلام ، وذلك لشحّة الوسائل الموجبة لتحصيل العلم آنذاك ، وغالبا ما يبيّن الإمام علیه السلام الأحكام الشرعيّة في مجالس خاصة.

ومع الإذعان بهذه المقدمة يقع التساؤل عما هو الموقف العملي

ص: 402

للمتشرّعة تجاه هذه الروايات والّتي ترتبط بهم أشد ارتباط باعتبارهم متشرّعة ، فهل أنّ سيرتهم جارية على العمل بمثل هذه الروايات أو أنّ الموقف تجاه هذه الروايات كان التوقّف وعدم العمل ما لم يحصل العلم بمؤدّاها.

الظّاهر هو الأول ؛ وذلك لأنّ الثاني يلزم منه ما هو منفي بالوجدان ؛ إذ لو كان سلوكهم جاريا على عدم العمل بمثل هذه الروايات لكان ذلك ناشئا إمّا عن الردع من أهل البيت علیهم السلام عن العمل بمثل هذه الروايات ابتداء وإمّا أن يكون ذلك ناشئا عن أجوبة الاستفسارات الواردة عن المتشرّعة ؛ وذلك لمسيس الحاجة للتعرّف على موقف الشارع من هذه الروايات والتي - كما قلنا - تمثّل الجزء الأكبر ممّا يصل عن أهل البيت علیهم السلام ، والذي يعزّز ذلك أنّ عدم العمل بمثل هذه الروايات ينافي ما هو مرتكز في جبلّة المتشرعة بما هم عقلاء ؛ إذ أنّ سيرة العقلاء جارية على العمل بأخبار الثقات والتي لا تورث العلم بمطابقة مضمونها للواقع.

وكيف كان فلو أنّ الموقف من هذه الروايات هو عدم العمل بها لوصلتنا - ولو بمستوى محدود - البيانات الصادرة عن أهل البيت علیهم السلام لغرض الردع عنها أو وصلتنا مجموعة من الأسئلة والأجوبة المتضمّنة للردع في حين أنّنا لا نجد من ذلك عينا ولا أثرا ، ولو كان شيء من هذا القبيل موجودا لبلغنا ولو الشيء اليسير منه ، خصوصا وأنّ هذه المسألة على درجة كبيرة من الأهميّة وليس هناك ما يبرّر الاختفاء لو كان ، وإذا كان الواصل هو ما يؤكد الحجيّة أو يدلّ عليها فهذا موهن آخر للاحتمال الثاني.

وبهذا يثبت أنّ السيرة الجارية آنذاك للمتشرّعة هي عين ما عليه

ص: 403

الآن من العمل بأخبار الثقات.

وما ذكرناه يصلح لإثبات معاصرة السيرة العقلائيّة للمعصوم علیه السلام على العمل بأخبار الثقات لو كانت السيرة العقلائيّة الفعليّة جارية على العمل بأخبار الثقات وأردنا إثبات امتدادها لزمن المعصوم علیه السلام ، غاية ما في الأمر أنّنا نحتاج لإثبات دليليّة السيرة العقلائيّة على الحجيّة إلى أمر آخر وهو الإمضاء في حين أنّ دليليّة السيرة المتشرعيّة لا تتوقّف على إثبات الإمضاء.

وإذا أردنا في المقام أن نثبت الإمضاء للسيرة العقلائيّة فإنّه يمكن استكشاف ذلك من عدم الردع إذ أنّ الردع الذي نحتاجه لإلغاء مثل هذه السيرة لا بدّ أن يكون ردعا مركّزا ومكثفا ؛ إذ أنّ ذلك هو مقتضى ترسّخ هذه السيرة وتجذرها وهو المناسب لأهميّتها وخطورتها لو كانت منافية لأغراض الشارع المقدّس ، وهذا ما يقتضي وصول شيء من ذلك الردع إذ من المستبعد جدا صدور الردع بالنحو المناسب لمستوى تأصّل هذه السيرة ولا يصل شيء من ذلك الردع إلينا رغم عدم وجود ما يقتضي خفاء الردع لو كان ، ممّا يؤكّد عدم وجود الردع.

ومن هنا يستكشف الإمضاء.

الأدلّة التي استدلّ بها على الردع :
اشارة

أولا : الآيات الناهية عن العمل بالظنّ ، فإنّه يمكن أن يدّعى كفاية الاعتماد عليها في الردع عن مثل هذه السيرة دون الحاجة لأن يفرد لها

ص: 404

ردعا خاصا ؛ إذ أنّ مقتضى إطلاق النهي عن العمل بالظن هو أنّ الشارع لم يجعل الحجيّة لمطلق الظنّ والذي منه السيرة ، إذ أنّها لا تكشف عن الحكم الواقعي كشفا قطعيّا.

ثانيا : التمسّك بإطلاق الأدلّة التي دلّت على جريان البراءة في موارد عدم العلم ، ومن الواضح أنّ خبر الثقة لا يورث العلم بمؤدّاه.

ومن هنا تكون أدلّة البراءة صالحة للردع عن العمل بأخبار الثقات.

والجواب :

إلاّ أنه يمكن الجواب على دعوى رادعيّة هذين الأمرين للسيرة بما حاصله :

إنّه قد ثبت ممّا تقدم معاصرة السيرة المتشرعيّة - على العمل بأخبار الثقات - للمعصوم علیه السلام ، فإذا كان ما ذكر رادعا رغم انعقاد السيرة المتشرعيّة على العمل وعدم الجري على ما هو مقتضى دعوى الردع فهذا ما يوجب انقداح مجموعة من الاحتمالات :

الاحتمال الأول : أنّ المتشرعة كانوا ملتفتين إلى أنّ هذه الآيات وكذلك أدلّة البراءة الصادرة لغرض الردع عن مثل هذه السيرة إلاّ أنّهم عصوا واستمرّوا على العمل بأخبار الثقات.

الاحتمال الثاني : أنّ المتشرّعة لم يكونوا ملتفتين إلى صلاحية هذه الآيات وأدلّة البراءة إلى الردع عن السيرة وهذا سرّ استمرارهم على العمل بأخبار الثقات.

الاحتمال الثالث : أنّ هذه الأدلّة ليست بصدد الردع عن السيرة واقعا.

أمّا الاحتمال الأوّل فمستبعد جدّا ؛ وذلك لافتراضهم متشرعة وأنهم

ص: 405

يجرون على وفق ما تقتضيه أحكام الشريعة وافتراض المعصية في حقّهم خلف الفرض إذ أنّهم حينما يخرجون عن سلك الطاعة فمعناه انسلاخهم عن عنوان المتشرّعة وقد افترضنا أنّ السيرة المنعقدة في زمن المعصوم علیه السلام كانت سيرة متشرّعيّة.

وبهذا يتعيّن الاحتمال الثاني أو الثالث وكلاهما يصبّان في صالح النافين للردع ، إذ أنّ الاحتمال الثاني لو كان هو المتعيّن لكان ذلك يقتضي أنّ الردع لم يكن متناسبا مع حجم السيرة وإلاّ لما غفل عنه المتشرّعة رغم حرصهم على التعرّف على كلّ ما يصدر عن الشارع خصوصا في مثل هذه الموارد التي تبلغ من الأهميّة درجة لا يتعقّل معها غفلة المتشرّعة عن موقف الشريعة.

وأمّا الاحتمال الثالث فيثبت به المطلوب وهو أنّ هذه الأدلّة ليست رادعة واقعا عن هذه السيرة.

أدلّة نفي الحجيّة :
اشارة

ويمكن أن يستدل على عدم حجيّة أخبار الثقات بالكتاب العزيز والسنّة الشريفة :

أمّا الكتاب العزيز :

فمثل قوله تعالى : ( وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ) (1) حيث نهت هذه الآية الكريمة عن العمل بكلّ ما هو غير علمي والذي منه خبر الواحد.

ص: 406


1- سورة الإسراء آية 36

والجواب عن الاستدلال بهذه الآية الكريمة أنّ هذه الآية دلّت على النهي عن العمل بالظنّ بنحو الإطلاق ، والأدلّة التي استدل بها على حجيّة خبر الثقة صالحة لتقييد هذا الإطلاق بمقتضى قاعدة حمل المطلق على المقيد.

وتقييد هذا الإطلاق إمّا أن يكون بالأدلّة اللفظيّة الدالّة على حجيّة خبر الثقة مثل الآيات أو الروايات المتواترة. وإمّا بالدليل اللبي وهو السيرة بعد أن لم تكن هذه الآيات صالحة للردع عنها كما اتضح مما ذكرناه سابقا.

وأمّا السنّة الشريفة :

فقد ذكر المصنّف رحمه اللّه طائفتين من الروايات التي يمكن أن يستدل بها على نفي الحجيّة عن خبر الثقة :

أمّا الطائفة الأولى : فهي الروايات التي دلّت عدم حجيّة الأخبار التي لا تورث العلم.

منها : ما رواه محمّد بن إدريس في آخر السرائر نقلا عن كتاب مسائل الرجال لعلي بن محمّد علیه السلام أنّ محمّد بن علي بن عيسى كتب إليه يسأله عن العلم المنقول إلينا عن آبائك وأجدادك علیهم السلام قد اختلف علينا فيه ، فكيف العمل به على اختلافه؟ أو الرد إليك فيما اختلف فيه؟ فكتب علیه السلام « ما علمتم أنّه قولنا فالزموه وما لم تعلموا فردّوه إلينا » (1).

والذي يرد على هذه الطائفة :

أوّلا : إنّها ساقطة عن الاعتبار لضعف سندها ، فالرواية التي ذكرناها

ص: 407


1- وسائل الشيعة : الباب 9 من أبواب صفات القاضي الحديث 36

مثلا نقلها الشيخ ابن إدريس رحمه اللّه عن كتاب مسائل الرجال المنسوب إلى محمّد بن علي بن عيسى وهذا الرجل لم يذكر له توثيق ، نعم ذكر النجاشي أنّه كان وجها بقم وأميرا عليها من قبل السلطان ، وهذا لا يعبّر عن وثاقة الرجل ، كما أنّ طريق الشيخ ابن إدريس للكتاب مجهول حيث إنّ جميع الكتب التي نقل عنها في آخر كتابه السرائر لم يذكر طرقه إليها ، وبهذا تكون جميعها ساقطة عن الاعتبار لمجهولية الطرق التي اعتمد عليها للوصول إلى هذه الكتب ، فهو وإن كان يذهب إلى عدم حجيّة أخبار الآحاد مما يشعر بأن كل الروايات التي استطرفها في آخر كتابه السرائر كانت متواترة إلاّ أنّه لا سبيل إلى إثبات ذلك بعد احتمال اعتماده في الوثوق بالروايات التي نقلها على قرائن توجب بنظره الوثوق بصدور هذه الروايات ، وهي ليست حجة على غيره ، كما أنّها لو كانت متواترة فهي متواترة بنظره ؛ إذ أنّ تحديد مناط التواتر أمر حدسي تتفاوت فيه أنظار العلماء إن لم يكن كبرويا فصغرويا ، ثم إنّه من البعيد أن يكون الشيخ ابن إدريس وقف على طرق تبلغ حدّ التواتر لكتاب مسائل الرجال ، فإنّ الطرق التي وصلتنا لهذا الكتاب هي طريق النجاشي وهو ضعيف وطريق الشيخ الطوسي رحمه اللّه وهو ضعيف أيضا ، وكذلك طريق الشيخ الصدوق رحمه اللّه والذي عرفناه بواسطة الشيخ الطوسي وهو ضعيف أيضا.

وثانيا : إنّها أخبار آحاد ظنية لا تورث العلم ، فما الفرق بينها وبين ما نبحث عن حجيّته ، فهي إذن ليست حجّة في نفي الحجيّة عن خبر الثقة ؛ وذلك لأنّ حجيّتها تقتضي نفي الحجيّة عن نفسها إذ أنّها تنفي الحجيّة عن شيء هي مشمولة له ، ففي الوقت التي تنفي الحجيّة عن الخبر الظنّي لا تعدو

ص: 408

هي عن أن تكون خبرا ظنيّا فلو تمّت حجيّتها في نفي الحجيّة فهي تنفي حجيّة نفسها ، فكلّ شيء يلزم من حجيّته نفي الحجيّة عن نفسه يستحيل الاستدلال به على نفي الحجيّة ؛ إذ أن كلّ شيء يلزم من وجوده عدمه فهو مستحيل.

وأمّا الطائفة الثانية : فهي الروايات الدالّة على حرمة العمل بالخبر الذي لا شاهد عليه من كتاب اللّه عزّ وجلّ ، أي أنّ كلّ خبر لا يكون مضمونه موافقا لما في الكتاب العزيز بأن كان الكتاب ساكتا عن ذلك المضمون فهذا الخبر لا يجوز التعويل عليه والعمل بمؤدّاه.

ومن هذه الروايات ما روي عن أبي جعفر علیه السلام في حديث قال : « إذا جاءكم عنّا حديث فوجدتم عليه شاهدا أو شاهدين من كتاب اللّه فخذوا به وإلاّ فقفوا عنده ثم ردوه إلينا حتى يستبين لكم » (1).

والجواب عن هذه الطائفة هو أنّ دلالتها على نفي الحجيّة - عن الخبر الذي لا شاهد عليه من كتاب اللّه - بالإطلاق فهي تنفي الحجيّة عن الخبر الذي يتصل مضمونه بأصول الدين وتنفي بمقتضى إطلاقها الحجيّة عن الخبر الذي يكون مضمونه متصلا بالأحكام. ومن هنا يمكن تقييد إطلاق هذه الروايات بالأدلّة الدالّة على حجية خبر الثقة في الأحكام.

وبهذا اتّضح عدم تمامية الأدلّة التي استدلّ بها على نفي الحجيّة عن خبر الثقة.

ص: 409


1- الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 18
تحديد دائرة الحجيّة :

وبعد أن ثبتت الحجيّة لخبر الواحد في الجملة ، يقع الكلام حول مقدار هذه الحجيّة سعة وضيقا.

والكلام حول هذا البحث يقع في جهتين :

الأولى : في مقدار الحجيّة من جهة الراوي.

الثانية : في مقدارها من جهة المضمون.

أمّا الجهة الأولى : فلو كان دليل الحجيّة هو آية النبأ فهذا يقتضي تضييق دائرة الحجيّة واختصاصها بخبر العدل ، إذ أنّ هذا هو المقدار الذي يمكن أن يستفاد من المفهوم في آية النبأ كما اتّضح ممّا تقدّم.

أمّا لو كان المثبت للحجيّة هو الروايات والسيرة فدائرة الحجيّة تكون أوسع ؛ إذ أنّ مقتضاها هو أنّ الحجيّة ثابتة لمطلق خبر الثقة ولو كان فاسقا أي أنه يكفي في الاعتماد على الخبر أن يكون المخبر متحرّزا عن الكذب ولو لم يكن متحرّزا عن ارتكاب المعصية.

وهذا هو الذي استقرّ عليه معظم الأعلام ( رضوان اللّه عليهم ) إلاّ أنه وقع الكلام بينهم في أنّ وثاقة الراوي هل هي معتبرة بنفسها بحيث يكون المناط في حجيّة الخبر هو وثاقة الراوي - سواء أفاد خبره الوثوق أو لم يفده - أو أنّ الحجيّة الثابتة لخبر الثقة باعتبار أنّ الوثاقة غالبا ما تكون موجبة للوثوق والاطمئنان بصدور الخبر ، ولهذا لو لم يحصل الوثوق بالصدور لوجود ما يوجب وهن الخبر والتشكيك في صدوره فإنّ ذلك يوجب سقوطه عن الاعتبار وإن كان راويه ثقة.

والمبنى الأول يعني أنّ وثاقة الراوي أخذت بنحو الموضوعيّة ، أي أنّ

ص: 410

وثاقة الراوي لمّا كانت موضوعا للحجيّة فمتى ما تحقق الموضوع ترتبت عليه الحجيّة.

والمبنى الثاني يعني أنّ وثاقة الراوي أخذت بنحو الطريقيّة ، أي أنّ وثاقة الراوي لمّا كانت من أهم وسائل الوثوق فإنّ ذلك يبرّر جعل الحجيّة لها ، وإلاّ فموضوع الحجيّة - على هذا المبنى - هو الوثوق ، ووثاقة الراوي ما هي إلاّ طريق من طرق تنقيح موضوع الحجيّة ، ففي كل مورد لا تكون وثاقة الراوي طريقا للوثوق فهذا يقتضي عدم ثبوت الحجيّة للخبر في ذلك المورد.

والثمرة المترتبة على المبنيين أنّه بناء على موضوعيّة وثاقة الراوي تكون الحجيّة ثابتة بمجرّد إحراز الوثاقة دون الحاجة إلى ملاحظة الحيثيات الأخرى التي قد تساهم في التشكيك في صدور الخبر ، كما لو أعرض مشهور القدماء عن خبر ولم يعملوا به وأحرزنا - بطريقة وأخرى - أن ذلك الإعراض لم يكن ناشئا عن حدس يتّصل مثلا بمضمون الخبر بأن كانوا يرونه مجملا أو أنّ فيه إشكالا جهتيا أو أنّه معارض بما هو راجح عليه وهكذا.

وأمّا بناء على طريقيّة الوثاقة فإنّ ذلك يقتضي عدم ثبوت الحجيّة إلاّ أن يحصل الوثوق بالصدور ؛ ولهذا يكون الإعراض من القدماء موجبا لسقوط خبر الثقة عن الاعتبار والحجيّة.

ومن هنا ينجرّ البحث إلى الخبر الذي لا يكون راويه ثقة ، وهذا النحو من الأخبار له حالتان ، إذ قد يكون مكتنفا بقرائن موجبة للظن بصدوره ، وقد يكون مجرّدا عن كلّ قرينة موجبة للظن بالصدور.

أمّا الحالة الثانية فالخبر فيها ساقط عن الاعتبار والحجيّة من غير فرق بين مبنى موضوعيّة الوثاقة أو طريقيّتها ؛ وذلك لأنّه إذا كان المبنى هو

ص: 411

موضوعيّة وثاقة الراوي للحجيّة فهو مفروض العدم ، وإن كان المبنى هو طريقيّة وثاقة الراوي لموضوع الحجيّة - والذي هو الوثوق - فكذلك لا تكون مثل هذه الأخبار متوفّرة على موضوع الحجيّة ؛ إذ أنّه لا وثوق بعد أن لم يكن الراوي للخبر ثقة ولا أنّ الخبر محتفّ بما يوجب الوثوق بصدوره ، إذ أنّ الفرض في هذه الحالة هو تجرّد الخبر عن كل قرينة.

وأمّا الحالة الأولى فتارة تكون القرائن المحتفّة بالخبر موجبة للاطمئنان الشخصي بالخبر من قبل المطّلع عليها وعلى الخبر ، وهنا تثبت الحجيّة للخبر بواسطة الاطمئنان ، وذلك لحجيّة الاطمئنان كما ثبت في محلّه.

وتارة لا تحقق القرائن اطمئنانا شخصيا للمطلع عليها ، وفي حالة من هذا القبيل تكون الحجيّة منوطة بما هو المبنى في موضوع الحجيّة لخبر الثقة ، فإن كان البناء هو أنّ موضوع الحجيّة هو وثاقة الراوي على نحو يكون هو المناط الوحيد في ترتّب الحجيّة بحيث لا يعتبر معها شيء آخر - وهذا ما يعبّر عنه بأخذ الوثاقة في الحجيّة بنحو الموضوعيّة - فهذا يقتضي عدم حجيّة الخبر الذي لا يكون راويه ثقة وإن كان الخبر مشتملا على ما يوجب الوثوق النوعي بصدوره ؛ إذ أنّ ذلك لا يكفي في ثبوت الحجيّة لمثل هذا الخبر بعد افتراض انتفاء موضوعها.

وإن كان البناء هو أن موضوع الحجيّة هو الوثاقة والوثوق معا بحيث يكون المعتبر في ترتّب الحجيّة على الخبر هو وثاقة الراوي وفعليّة الوثوق.

وبتعبير آخر إن الوثاقة لمّا كانت طريقا غالبيا للوثوق فهذا يقتضي اتّفاق عدم تحقّق الوثوق في بعض الحالات ، والمعتبر في ثبوت الحجيّة

ص: 412

للخبر هو تحقّق الأمرين ، الوثاقة والتي هي السبب والوثوق والذي هو المسبب ، وتحقق الوثاقة دون الوثوق أو تحقّق الوثوق بسبب آخر غير الوثاقة يعني عدم تحقّق تمام الموضوع للحجيّة.

ومن هنا يتضح عدم ثبوت الحجيّة للخبر الذي لا يكون راويه ثقة بناء على هذا المبنى أيضا وإن كان محتفّا بما يوجب الوثوق بصدوره ؛ وذلك لاختلال أحد جزئي موضوع الحجيّة - على هذا المبنى - فهو وإن كان موثوقا بصدوره إلاّ أنّه لمّا كان الوثوق مسببا عن غير الوثاقة فهذا يقتضي انتفاء ما هو دخيل في موضوع الحجيّة وبذلك لا تثبت الحجيّة.

أما إذا كان البناء هو أن موضوع الحجيّة هو الوثوق فحسب والوثاقة المعتبرة في الحجيّة إنما هي طريق وليس لها أيّ موضوعيّة ، فهذا يقتضي الحجيّة للخبر المحتف بقرائن موجبة للوثوق بصدوره وإن كان راويه غير ثقة ؛ وذلك لأنّ وثاقة الراوي أخذت في موضوع الحجيّة بنحو الطريقيّة المحضة باعتبارها وسيلة غالبية لتحقّق الوثوق ، فإذا اتّفق أن حصل الوثوق بموجب آخر فقد تحقّق موضوع الحجيّة.

وهذه المباني الثلاثة هي منشأ الخلاف بين الأعلام في جابرية الشهرة العمليّة للخبر الضعيف وعدم جابريتها بعد الفراغ صغرويا عن أنّ شهرة العمل بالرواية الضعيفة من القدماء قرينة موجبة للوثوق بالصدور.

أمّا الجهة الثانية : - في مقدار الحجيّة من جهة المضمون - فإن الحجيّة لا تثبت لمطلق الخبر أيّا كان مضمونه ؛ إذ أنّ أدلّة الحجيّة لا تتّسع لذلك ، فهي لا تشمل الخبر الحدسي ، كما أنّها لا تشمل الخبر الحسّي الذي يكون مضمونه مخالفا لكتاب اللّه عزّ وجلّ أو السنّة القطعية.

ص: 413

أمّا عدم شمول الحجيّة للأخبار الحدسيّة فيعرف من خلال ملاحظة الأدلّة التي استدلّ بها على حجيّة خبر الثقة مثل آية النبأ ، إذ النبأ هو موضوع الحجيّة في الآية الكريمة ، وهو غير صادق على الخبر الحدسي المستفاد بواسطة الاجتهاد والنظر ، وكذلك في الروايات والسيرة فإنّ موضوعها جميعا هو الخبر الحسّي.

وأمّا عدم شمول الحجيّة للأخبار المخالفة لكتاب اللّه والسنّة فمنشؤه تكثّر الروايات الدالّة على عدم حجيّة ما خالف كتاب اللّه وسنة نبيّه صلی اللّه علیه و آله . ومن الواضح أنّ النسبة بين أدلّة الحجيّة وبين هذه الروايات هي نسبة الإطلاق والتقييد ، وبمقتضى قاعدة حمل المطلق على المقيّد نقيّد أدلّة الحجيّة بهذه الروايات النافية للحجيّة عن قسم خاص من الأخبار وهي المخالفة للكتاب والسنة القطعيّة.

ص: 414

قاعدة التسامح في أدلّة السنن

والمراد من هذه القاعدة هو أنّ ما يعتبر في ثبوت الحجيّة للخبر من وثاقة الراوي أو احتفاف الخبر بما يوجب الوثوق بصدوره غير معتبر في الأخبار المتضمّنة للمستحبات وكذلك المكروهات - على قول - ، فالمراد من التسامح هو التساهل وعدم متابعة السند للتعرّف على وثاقة الواقعين في سلسلته أو عدم وثاقتهم وكذلك التساهل في تحصيل القرائن الموجبة للوثوق.

والمراد من أدلّة السنن هي الروايات الواردة عن النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام والمتصديّة لبيان المستحبات والمكروهات.

ومدرك هذه القاعدة مجموعة من الروايات وفيها ما هو معتبر سندا كمعتبرة هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال « من سمع شيئا من الثواب على شيء فصنعه كان له أجره وإن لم يكن على ما بلغه » (1) ، وهذه الروايات يعبّر عنها بروايات من بلغ ومفادها كما اتّضح من معتبرة هشام أن كلّ من بلغه أنّ الفعل الكذائي يترتّب على الإتيان به الثواب ففعله ، فإنّ له ذلك الثواب وإن كان ما بلغه لا يطابق الواقع.

وتقريب الاستدلال بروايات من بلغ على القاعدة أنّ هذه الروايات

ص: 415


1- الوسائل باب 18 من أبواب مقدّمات العبادات ح 6

تصحّح العمل بكلّ رواية متضمّنة لحكم استحبابي. وهذا هو معنى جعل الحجيّة لأخبار السنن أيّا كان إسنادها ودرجة الوثوق بصدورها.

إلاّ أنّ الصحيح أنّ روايات ( من بلغ ) غير متعينة في المعنى المذكور ، بل إنّها محتملة لمعان يكون المعنى المذكور أحدها. وبيان ذلك :

أنّ المعاني المحتملة من روايات « من بلغ » أربعة :

المعنى الأوّل : أنّ روايات « من بلغ » متصدّية لجعل الحجيّة لمطلق الخبر الواصل إذا كان مضمون الخبر استحباب فعل. وهذه الحجيّة إنما هي مجعولة في ظرف الشك وعدم العلم بمنافاة مضمون الخبر للواقع.

وبهذا يتّضح أنّ الإستحباب الثابت للخبر بروايات « من بلغ » هو استحباب ظاهري.

المعنى الثاني : أن تكون روايات « من بلغ » متصديّة لبيان حكم واقعي وهو استحباب الفعل الذي بلغ عليه الثواب ، وهذا الحكم الواقعي المنشأ بواسطة روايات « من بلغ » هو حكم واقعي ثانوي ، أي أنّ تعنون الفعل بكونه قد بلغ عليه الثواب موجب لاستحباب ذلك الفعل واقعا وإن كان الفعل في حدّ نفسه لو لم يبلغ عليه الثواب لما كان مستحبا.

ويمكن تنظير ذلك بالفعل المنذور فإنّه في حدّ نفسه لو لم يقع متعلّقا للنذر لا يكون واجبا ولكن لوقوعه متعلّقا للنذر صار واجبا ، فالوجوب الثابت للفعل المنذور وجوب واقعي إلاّ أنه ثانوي ، والمراد من الثانوي أنّه لو خلّي ونفسه لما اقتضى عروض الوجوب عليه ، وكونه واقعيا باعتبار أنّ ثبوت الوجوب له ليس في ظرف الشك في الحكم الواقعي له بل إنّ الوجوب ثابت له دون واسطة.

ص: 416

إذن الفعل الذي بلغ عليه الثواب مستحب واقعا إلا أنّه ثانوي ، أي أنّه لو خلّي ونفسه ولم يتعنون بعنوان أنه مما بلغ عليه الثواب لما اقتضى عروض الاستحباب عليه ، إلاّ أنّه لمّا بلغ على فعله الثواب أوجب ذلك عروض الاستحباب عليه واقعا.

المعنى الثالث : أن تكون روايات « من بلغ » متصدّية للتنبيه والإرشاد إلى ما يقتضيه العقل من حسن الاحتياط والتحفّظ على مرادات المولى جلّ وعلا ، وإن كلّ من يفعل ما بلغه أنّه مطلوب للمولى - رجاء مطلوبيته واقعا - يكون مستحقّا لمثوبة المولى جلّ وعلا.

المعنى الرابع : أن تكون روايات « من بلغ » متصدّية للإخبار والكشف عن وعد إلهي لعباده وأنّه يثيب على كلّ فعل بلغهم أنّه مطلوب للمولى ، على أن يكون الغرض من هذا الوعد - المنكشف بروايات « من بلغ » - متعلّق بنفس الوعد دون أن يكون للأفعال التي بلغ عليها الثواب أي مصلحة تقتضي جعل الاستحباب لها ، نعم قد تكون المصلحة من الوعد هو الترغيب في الاحتياط إلاّ انّ ذلك لا يغيّر من واقع تلك الأفعال التي يقع عليها الثواب بحيث يثبت لها الاستحباب بسبب البلوغ.

والظاهر من هذه المعاني المحتملة هو المعنى الثالث ، وهو أنّ روايات « من بلغ » متصدّية للتنبيه والإرشاد إلى ما يقتضيه العقل من حسن الاحتياط وترتّب الثواب عليه ، وذلك لسقوط المعنى الأول والمعنى الثاني.

أمّا المعنى الأوّل فلأنّه لمّا كان منشأ استظهاره هو أنّ ترتّب الثواب على الفعل الذي بلغ عليه الثواب كاشف عن أنّ الشارع قد جعل له الاستحباب ، إذ لا معنى لترتّب الثواب على فعل إلاّ أنّ الشارع جعل له

ص: 417

الاستحباب ، ولو كان هذا الاستظهار تاما فما معنى ترتّب الثواب حتى في موارد مخالفة ما بلغ للواقع ، وهذا ما يكشف عن أنّ الثواب ليس ناشئا عن جعل الاستحباب للفعل الذي بلغ عليه ثواب ، ومنه يتّضح عدم تصدّي الإمام علیه السلام لجعل الحجيّة وإنشاء الاستحباب الظاهري لكل فعل بلغ عليه الثواب ؛ وذلك لأنّ منشأ استظهار هذا الاحتمال فاسد.

وأمّا المعنى الثاني فليس هناك ما يبرّر استظهاره من روايات « من بلغ » فيبقى احتمالا محضا لا شاهد على إرادته ، نعم قد يقال إنّ ترتّب الثواب على فعل كاشف عن مطلوبيته للمولى واقعا وهذا ما يعيّن المعنى الثاني ، إلاّ أنّ هذا القول لا يصغى إليه بعد أن لم تكن مطلوبية الفعل هي المنشأ الوحيد لترتب الثواب ؛ إذ أنّ الثواب قد ينشأ عن الاحتياط الذي يحكم العقل بحسنه ، وبهذا يتعيّن المعنى الثالث ، إلاّ أنّه تبقى مشكلة تواجه استظهار المعنى الثالث من روايات « من بلغ » ، إذ أنّ ظاهرها أنّ الثواب المترتّب على العمل بالفعل الذي بلغ عليه الثواب هو مقدار الثواب المذكور في الرواية وهذا ما لا يتكفّل المعنى الثالث لبيانه إذ أنّه لا يثبت به أكثر من ترتّب الثواب أمّا مقداره فليس له تصد لبيانه.

وعلاج هذه المشكلة يستوجب تعديل المعنى الثالث بالمعنى الرابع بأن يقال إنّ روايات « من بلغ » وإن كان ظاهرها الإرشاد لما يحكم به العقل من حسن الاحتياط إلاّ أنّها متضمّنة لوعد إلهي بترتّب نفس الثواب الموعود به.

ص: 418

إثبات حجيّة الدلالة في الدليل الشرعي

اشارة

1 - تمهيد

2 - حجية الظهور

3 - موضوع الحجيّة

4 - ظواهر الكتاب الكريم

ص: 419

ص: 420

تمهيد

ويقع الكلام فيه عن أنحاء الدلالة للدليل الشرعي ، والنتائج المترتّبة على التفاوت في أنحاء الدلالة :

النحو الأوّل : أن تكون دلالة الدليل الشرعي على الحكم الشرعي دلالة بيّنة لا يشوبها شيء من الغموض والشكّ بحيث يحصل اليقين أو الاطمئنان بتطابق المستفاد من الدليل مع ما هو المراد جدا للشارع.

وهذا النحو من الدلالة ينشأ عادة من أحد أمور ثلاثة :

الأوّل : - وهو مختص بالدليل الشرعي اللفظي - وهو أن تكون الألفاظ المستعملة في الكشف عن الحكم الشرعي واضحة ومعلوم وضعها لمعانيها وليس هناك ما يوجب صرفها عن معانيها الموضوعة لها. ومن هنا لا ينقدح أي احتمال - ولو بمستوى ضئيل - أن المعاني المستفادة من تلك الألفاظ ليست مرادة وهذا ما يعبّر عنه بالنص ، كما أنّه قد تنشأ النصوصية عن طريق احتفاف الدليل بقرائن لفظية موجبة للقطع أو الاطمئنان بالمراد.

الثاني : - وهو مختص أيضا بالدليل اللفظي - وهو أن تكون الألفاظ والصياغة المستعملة في الكشف عن الحكم الشرعي غير دالّة على الحكم الشرعي بنحو النصوصيّة بنفسها إلاّ أنّه يحصل القطع أو الاطمئنان بتطابق المستفاد مع الواقع بواسطة انضمام قرائن حاليّة أو عقلية مع الدليل الشرعي اللفظي.

الثالث : أن يكون منشأ اليقين أو الاطمئنان بالدلالة هو قرينة عقلية

ص: 421

توجب الانتقال ممّا هو محرز بالوجدان إلى الحكم الشرعي بنحو الدليل الإنّي.

ومثاله - كما اتّضح ممّا تقدّم في بحوث سابقة - ترك المعصوم علیه السلام لفعل أو ممارسة المعصوم علیه السلام لفعل ، فإنّ الأول يدلّ بلا أدنى ريب على عدم والوجوب والثاني يدلّ على عدم الحرمة.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ المناشئ الثلاثة من هذا النحو من الدلالة تشترك في ترتّب اليقين أو الاطمئنان بالمدلول. ومن هنا تثبت الحجيّة لهذا المدلول.

النحو الثاني : أن تكون دلالة الدليل محتملة لأكثر من معنى بحيث تكون المحتملات الناشئة من الدليل متساوية من حيث درجة احتمال إرادتها. وهذا النحو من الأدلّة يعبّر عنه بالدليل المجمل.

ويمكن أن يتصوّر له ثلاث حالات :

الحالة الأولى : أن تكون المحتملات الناشئة عن الدليل المجمل مشتركة في جامع قابل للتنجيز ، كما لو كان مفاد الدليل المجمل ظاهرا في الحرمة إلاّ أنّ متعلّق الحرمة مردد بين شيئين بحيث لا يمكن استظهار أحدهما من الدليل.

ففي حالة من هذا القبيل يتنجّز الجامع وهو أحدهما ، فلا يجوز ارتكابهما معا. وهذا هو معنى أنّ المجمل حجة في الجامع.

وهذا المقدار من الحجيّة هو الثابت للمجمل ، أمّا المحتملات الناشئة عن الدليل المجمل فلا حجيّة لها بعد عدم إحراز إرادتها بأحد أنحاء الإحراز كاليقين أو الاطمئنان أو الظهور.

الحالة الثانية : أن يكون أحد المحتملات الناشئة عن الدليل له ما يعيّنه

ص: 422

من الخارج كقرينة عقلية أو لفظية منفصلة ، وفي حالة من هذا القبيل يتنجّز ذلك المحتمل من غير فرق بين أن يكون للدليل المجمل جامع قابل للتنجيز أو غير قابل للتنجيز ، فإنّ المنجّز في مثل هذا الدليل هو المحتمل الذي قامت القرينة على تعيّنه.

الحالة الثالثة : أن لا يكون للمحتملات الناشئة عن الدليل المجمل جامع قابل للتنجيز كما أنّه ليس هناك ما يعيّن أحد المحتملات من قرائن خارجية. وفي مثل هذه الحالة لا يكون للدليل المجمل أيّة حجيّة.

النحو الثالث : أن تكون دلالة الدليل الشرعي تحتمل أكثر من معنى أيضا إلاّ أن أحد تلك المعاني هو المنصرف إليه من ذلك الدليل وهذا هو المعبّر عنه بالظهور. فالظهور إذن هو انسباق أحد المعاني المحتملة من الدليل بحيث ينقدح في الذهن خصوص ذلك المعنى من الدليل اللفظي ، ثمّ تستقر النفس على أنّ ذلك هو المراد الجدّي من الدليل. وهذا هو معنى قول المصنّف رحمه اللّه إنّ الظهور هو انسباق الذهن إلى أحد المعاني تصوّرا وتصديقا ، إذ أنّ الظهور قد يكون على مستوى الدلالة التصوريّة فحسب ويكون الظهور على مستوى الدلالة التصديقيّة في معنى آخر أو لا يكون هناك ظهور في مرحلة المدلول التصديقي ، فهنا إذن ثلاث حالات :

الأولى : تطابق الظهورين في مرحلتي الدلالة التصوّريّة والدلالة التصديقيّة على معنى واحد ، كما لو قال المولى « صلّ » فإنّ المدلول الوضعي التصوري لصيغة الأمر هو الوجوب ، فلو استظهرنا من حال المتكلّم أنّه جاد فيما أفاد فهذا هو التطابق بين الظهورين.

الثانية : أن يكون المنصرف من الدليل بحسب الأوضاع اللغويّة معنى معيّن إلا أنّنا نعلم أنّ المتكلّم غير مريد لذلك المعنى وإنّما يريد معنى آخر غير

ص: 423

المعنى الموضوع له اللفظ كما لو دلّت القرينة الحاليّة للمتكلم على ذلك.

فلو قال المتكلّم مثلا « رأيت أسدا » وعلمنا بواسطة القرينة الحاليّة إرادة المتكلّم للرجل الشجاع. فهنا لم يتطابق الظهور في المعنى الوضعي التصوري مع المراد الجدي للمتكلم.

الحالة الثالثة : أن تكون للدليل دلالة تصوّريّة إلاّ أنه لم ينعقد ظهور لحال المتكلم في إرادة ذلك المدلول التصوري كما لو قال المتكلم « رأيت أسدا » ولم يعلم أنّ المتكلّم كان ملتفتا أو ذاهلا واتفق عدم وجود وسيلة لتعيين أحد الاحتمالين ، فهنا لا ينعقد الظهور التصديقي رغم انعقاد الظهور التصوري.

والحالة الأولى لا إشكال في ثبوت الحجيّة لمدلول الدليل فيها وذلك لحجيّة الظهور كما سيتّضح فيما بعد.

والحالة الثانية تثبت الحجيّة لمدلول الدليل ، إلاّ أنّها إنما تثبت للظهور في المدلول التصديقي دون الظهور في المدلول التصوري ، إذ أنّ الظهور الذي دلّ الدليل على حجيّته هو الظهور المعيّن للمراد وهو إنّما يناسب المدلول التصديقي إذ هو المعيّن للمراد.

وبهذا يتّضح عدم حجيّة الدليل في الحالة الثالثة ؛ إذ لا تعيين فيه للمراد بعد أن كان الظهور في خصوص المدلول التصوري الوضعي.

وكيف كان فالحجيّة الثابتة للظهور لم تنشأ عن إفادته للعلم بمطابقة المستفاد من الدليل مع المراد الجدّي للمتكلّم ؛ إذ أنّ الظهور - كما اتّضح - لا يولّد العلم.

ومن هنا نحتاج لإثبات الحجيّة للظهور إلى دليل شرعي وهذا ما سيتمّ بحثه.

ص: 424

الاستدلال على حجيّة الظهور

اشارة

وقد استدلّ على حجيّة الظهور بالسيرة العقلائيّة والسيرة المتشرعيّة.

أما تقريب الاستدلال بالسيرة العقلائيّة :

فهو أنّه لا ريب في تباني العقلاء على التوسّل بالظهور للتعرّف على مرادات المتكلّمين والجري على مقتضياتها دون توقّف لغرض التأكد من تلك المفادات الحاصلة بواسطة الظهور ؛ ولذلك نراهم يحتجّون على المتكلّم بظاهر كلامه كما ويحتج المتكلّم بظاهر كلامه على المخاطب دون أن يعترض المتكلّم على المخاطب بأنّه لم يكن مريدا لذلك المعنى الظاهر أو يعترض المخاطب على المتكلّم بأنّه احتمل إرادة معنى آخر غير المعنى الظاهر. كلّ ذلك يعبّر عن ترسّخ هذه السيرة وتجذّرها في جبلّة العقلاء ، وبطبيعة الحال يكون ذلك موجبا لامتداد هذه السيرة للقضايا الشرعية ؛ إذ أنّ ذلك هو مقتضى تجذّر السيرة ، وإذا كان كذلك فهي تهدّد أغراض الشريعة لو لم تكن مرضيّة من قبل الشارع المقدّس ، وهذا ما يكشف عن الإمضاء في حال عدم الردع.

وقد ذكرنا في بحث دليليّة السكوت على الدليل الشرعي وجهين لإثبات تلك الدليليّة أحدهما عقلي وله تقريبان والآخر استظهاري.

ص: 425

أمّا الدليل العقلي بتقريبيه فهو صالح لتطبيقه هنا كما يتضح ذلك بالمراجعة.

وأمّا الوجه الاستظهاري فلا يمكن تطبيقه في المقام لاستلزام تطبيقه هنا للدور المستحيل ؛ لأنّنا في مقام الاستدلال على حجيّة الظهور ، فإذا كان الدليل على إمضاء السيرة العقلائية هو ظهور حال المعصوم علیه السلام في الإمضاء فهذا معناه إثبات حجيّة الظهور بالظهور.

وأمّا تقريب الاستدلال بالسيرة المتشرّعيّة :

فهو أن الفقهاء والرواة المعاصرين لزمن المعصوم كانت سيرتهم جارية على العمل بظهورات الأدلّة الشرعيّة في مقام فهم واستنباط الأحكام الشرعيّة ، وهذا ما يعبّر عن تلقيهم ذلك عن الشارع ؛ إذ أنّ ذلك هو مقتضى كونهم متشرّعة وملتزمين بمناهج الشريعة في أمورهم الشخصية فضلا عن الأمور الخطيرة التي لو تبرّعوا فيها بسلوك من عند أنفسهم لكان من المحتمل قويا أن يكون ذلك موجبا لتفويت أغراض الشريعة والحال أنّهم أحرص الناس على التحفّظ عليها.

ومن هنا نستكشف بطريق الإن أنّ سيرتهم متلقاة أو ممضاة من قبل الشارع المقدّس دون أن نحتاج إلى الاستعانة بالسكوت لإثبات الإمضاء إذ أنّ الذي يحتاج إلى ذلك هو السيرة العقلائية كما اتّضح ذلك ممّا تقدّم.

نعم نحتاج إلى إثبات وجود هذه السيرة في زمن المعصوم علیه السلام وقد ذكرنا طرقا خمسة لإثبات معاصرة السيرة للمعصوم علیه السلام .

والطريق الذي يمكن الاستفادة منه في المقام هو الطريق الرابع ، ويمكن

ص: 426

الاستفادة من غيره ، وهذا يتّضح بمراجعة تلك الطرق.

أدلّة نفي الحجيّة عن الظهور :

وقد استدل على نفي الحجيّة عن الظهور بنفس الأدلّة التي استدلّ بها على نفي الحجيّة عن خبر الواحد ، وهو أنّ السيرة لو كانت فهي مردوع عنها بالأدلّة الناهية عن العمل بالظن وكذلك بالإطلاق في أدلّة الأصول كما اتّضح ممّا تقدّم. والجواب هناك هو الجواب في المقام ، ويمكن أن يختص المقام بجواب آخر.

وهو أن الأدلّة النّاهية عن العمل بالظنّ إنّما تشمل المقام بواسطة الإطلاق ، والإطلاق أحد مصاديق الظهور ، فيكون نفيها للحجيّة عن الظهور نفيا لحجيّة نفسها ؛ إذ لا نحتمل اختصاصها بالحجيّة دون سائر الظهورات. ومن هنا يكون ثبوت الحجيّة لها في نفي الحجيّة عن الظهور نفيا لحجيّة نفسها ؛ إذ أنها تنفي الحجيّة عن الظهور ودلالتها على نفي الحجيّة إنّما هو بالظهور فإذا ثبت نفيها للحجيّة فهذا يعني أنّها تنفي الحجيّة عن نفسها.

وكلّ شيء يلزم من ثبوت حجيّته نفي الحجيّة عن نفسه يستحيل التعويل عليه ، إذ كل شيء يلزم من وجوده عدمه فهو مستحيل.

وبهذا يتّضح عدم صلاحيّة الأدلّة الناهيّة عن الظنّ للردع عن السيرة الجارية على العمل بالظهورات.

موضوع الحجيّة :

والغرض من هذا البحث هو تحديد دائرة الموضوع الذي ثبتت له الحجيّة ، وهل أنّ الحجيّة ثابتة في حال تطابق الظهورين في معنى واحد فحسب؟ أو أنّ موضوع الحجيّة هو الظهور في مرحلة المدلول التصديقي

ص: 427

سواء طابق الظهور في المدلول التصوري أو لم يطابقه؟ أو أنّ الحجيّة تتسع لتشمل الظهور التصوري ولكن في حال عدم انعقاد أيّ ظهور في المدلول التصديقي.

فهنا ثلاثة احتمالات لموضوع الحجيّة ، وقبل بيانها لا بأس بإعادة بيان الفرق بين الظهور على مستوى المدلول التصوري والظهور على مستوى المدلول التصديقي.

أمّا الظهور على مستوى المدلول التصوري :

فهو انسباق أحد المعاني المحتملة إلى الذهن من إطلاق اللفظ ، ويكون منشأ ذلك الانسباق هو الوضع ، وقد قلنا إن الظهور لا يأبى عن بقاء المحتملات الأخرى إلاّ أنّها لا تكافئ المعنى المنسبق إلى الذهن من حيث استقراره وركون النفس بتعيّنه ، إذ أنّ لانسباقه واستقراره مبرّرا وهو الوضع بخلاف سائر المحتملات إذ أن مبرّراتها لا تكون منتظمة ومطّردة.

وأما الظهور على مستوى المدلول التصديقي :

فهو لا يتّصل بالأوضاع اللغويّة وإنّما هو معنى ينسبق إلى الذهن ومنشؤه معرفة حال المتكلم ، ودوره الكشف عن مراده الجدّي ، فالظهور التصديقي إذن هو ما يكشف عن مراد المتكلّم من خلال ملاحظة حاله ، وهذا النحو من الظهور لا ينافي وجود محتملات أخرى وأنّها هي المرادة واقعا ، إلاّ أنّ هذه المحتملات لا اعتداد بها عند العقلاء بعد أن لم يكن لها مبرّر سوى أنّ الظهور لا يوجب العلم.

وبعد اتّضاح الفرق بين الظهور التصوري والظهور التصديقي نصل لبيان تحديد الموضوع الذي ثبتت له الحجيّة ، وقد قلنا إنّ فيه ثلاثة

ص: 428

احتمالات :

الاحتمال الأوّل : أنّ دائرة موضوع الحجيّة تختصّ بمورد تطابق الظهورين على معنى واحد كما لو كان مقتضى المدلول الوضعي يطابق ما هو مقتضى المدلول الجدّي للمتكلّم.

والصحيح هو عدم اختصاص الحجيّة بهذا المورد ، فهو وإن كان القدر المتيقّن من موضوع الحجيّة إلاّ أنّه لمّا كان منشأ ثبوت الحجيّة لهذا المورد هو الظهور التصديقي فهذا يقتضي عدم اختصاصه بالحجيّة.

وبيان ذلك : أنّ الحجيّة إنّما تثبت للظهور الكاشف عن مراد المتكلّم ؛ إذ هو المصحح للاحتجاج لا ما ينسبق إلى الذهن بسبب الأوضاع اللغويّة.

كما أنّ الذي يحكم العقل بوجوب تحصيله وامتثاله هو إرادة المولى ، ومن الواضح أن الذي يكشف عن إرادة المولى إنما هو الظهور التصديقي المستفاد من معرفة حال المتكلّم ، أمّا الظهور التصوري فليس أكثر من انقداح معان خاصة في الذهن بسبب استعمال ألفاظها الموضوعة لإفادتها.

ومن البديهي أنّ الألفاظ لا تكشف وحدها عن المراد ، نعم الدلالة الوضعيّة التصوريّة كثيرا ما تساهم في التعرّف على المراد الجدّي والظهور التصديقي إلاّ أنّ هذا إنّما يقتضي كون الدلالة التصوريّة وسيلة من وسائل الوصول إلى مرحلة الظهور في المدلول التصديقي. ومنشأ مساهمتها هو أصالة التطابق بين الدلالة التصوريّة الناشئة عن الأوضاع اللغويّة وبين الدلالة التصديقيّة والتي تعني أنّ ما يفيده المتكلّم بواسطة الألفاظ فهو يريده جدّا وواقعا. وقد أوضحنا ذلك فيما سبق.

الاحتمال الثاني : أنّ دائرة موضوع الحجيّة تتّسع لتشمل الظهور

ص: 429

التصديقي حتى في مورد منافاته لما هو مقتضى الظهور في المدلول التصوري.

وقد اتّضح ممّا تقدم ثبوت الحجيّة للظهور في المدلول التصديقي ، إذ أنّه هو الكاشف عن المراد ، ويبقى الظهور التصوري عاريا عن الحجيّة إذ لا كشف له عن المراد كما لا مساهمة له في تنقيح الظهور التصديقي. وهذا ما يوضح أنّ الحجيّة ثابتة للظهور التصديقي حتى في موارد عدم وجود دلالة تصوريّة لفظيّة كما هو الحال في الظهور التصديقي الناشيء عن الفعل الصامت.

الاحتمال الثالث : أن دائرة موضوع الحجيّة لا تختص بالظهور التصديقي بل لو لم يكن هناك ظهور تصديقي وكان هناك ظهور تصوري فإنّ الحجيّة تثبت له.

وهذا الاحتمال اتّضح حاله ممّا تقدّم وأنّه لا يمكن البناء على أنّ الظهور التصوري مشمول لموضوع الحجيّة ؛ وذلك لعدم كاشفيّته عن المراد فهو مجرّد تصوّر ينشأ عن الأوضاع اللغويّة ؛ ولذلك يحصل هذا الظهور من كلام متكلّم غير عاقل كما لو اتّفق صدوه من البهيمة.

ومن أجل أن يتضح هذا الاحتمال أكثر نقول :

إنّ المتكلّم قد يأتي بكلام له ظهور في مرحلة المدلول التصوري إلاّ أنّه نصب قرينة على إرادة معنى آخر غير المعنى المستفاد من الدلالة الوضعية التصوريّة ، كأن يقول « رأيت أسدا » ثم يأتي بما يدلّ على إرادة الرجل الشجاع ، وقد اتّضح الحال من هذه الصورة في الاحتمال الثاني وأنّ الحجيّة إنّما تثبت للمدلول التصديقي فحسب.

وقد يأتي بكلام له ظهور تصوري إلاّ أنّه من المحتمل أنّه نصب قرينة

ص: 430

على عدم إرادة الظهور التصوري جدا ، ومناشئ الاحتمال كثيرة ، منها إحرازنا لوقوع الغفلة عن متابعة المتكلّم إلى أن انتهى من كلامه فإنّه في مثل هذه الحالة وإن كان يمكن إجراء أصالة عدم الغفلة للمتكلّم إلاّ أنّ هذا الأصل العقلائي لا يجري في حقّنا لإحراز وقوع الغفلة منّا عن متابعة المتكلّم إلى آخر كلامه ، فلعلّه في أثناء غفلتنا نصب قرينة على إرادة معنى آخر غير المعنى المفاد بواسطة الدلالة الوضعيّة التصوريّة ، وهذا الاحتمال لا دافع له بعد إحراز الغفلة.

ومن هنا لا ينعقد ظهور تصديقي للكلام ، فلا وسيلة لنا للكشف عن مراد المتكلّم.

فتكون نتيجة هذا الاحتمال تساوق القطع بوجود القرينة المنافية لمقتضى الظهور التصوري ، وبهذا يتّضح هذا الاحتمال وأنّه هل تثبت الحجيّة للمدلول التصوري بعد أن لم يكن هناك ظهور في المدلول التصديقي. وقد عرفت عدم ثبوت الحجيّة له لعدم كاشفيّته عن مراد المتكلّم.

ص: 431

ص: 432

ظواهر الكتاب الكريم

اشارة

اتّضح ممّا تقدّم حجيّة الظهور وأنّ موضوع الحجيّة هو الظهور في مرحلة المدلول التصديقي. ومقتضى أدلّة حجيّة الظهور هو حجيّته بنحو مطلق من غير فرق بين متكلّم وآخر وبين السنّة الشريفة والقرآن الكريم ، إلاّ أنّ عددا من العلماء استثنوا ظواهر الكتاب الكريم من الحجيّة اعتمادا على أدلّة تقتضي في نظرهم حرمة التعويل على ما ينفهم من القرآن الكريم بواسطة الضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة وأن فهم القرآن الكريم مختص بمن خوطب به وهم النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام ، فلذلك تكون الوسيلة الوحيدة للتعرّف على مرادات القرآن الكريم هو ما يرد عن النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام ، أو أن تكون دلالة القرآن الكريم على المعنى بنحو النصوصيّة.

ومن الأدلّة التي ذكرت لإثبات هذه الدعوى هي :

الدليل الأوّل :

قوله تعالى ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي

ص: 433

الْعِلْمِ ) (1).

وتقريب الاستدلال لصالح النافين لحجيّة ظواهر الكتاب : هو أنّ الآية الكريمة صنّفت آيات القرآن الكريم إلى قسمين : الأوّل هو الآيات المحكمة ، وقد فسّروها بالآيات التي تكون دلالتها على المعنى بنحو النصوصيّة.

والقسم الثاني هو الآيات المتشابهة ، وهي كلّ آية لا تكون دلالتها نصا في المعنى ، وبهذا تكون الظواهر من المتشابه - الممنوع عن العمل به - ؛ وذلك لأنّ الظاهر كالمجمل من حيث إنّه يتحمّل أكثر من معنى ، وكونه يختلف عن المجمل من جهة عدم ككافؤ المحتملات الناشئة عنه لا يخرجه عن حد المتشابه ؛ إذ أنّ المتشابه هو ما يحتمل أكثر من معنى ، كلّ معنى له نحو علاقة مع اللّفظ تكون تلك العلاقة موجبة لاحتمال إرادته ، وبهذا يكون المتشابه صادق على الظاهر ؛ إذ أنّ الظاهر يكون له أكثر من معنى محتمل ، غايته أنّ أحد المعاني يكون هو المنسبق إلى الذهن إلاّ أنّه مع ذلك تبقى المعاني الأخرى محتفظة باحتمال إرادتها.

والجواب على هذا الدليل :

وقد أجاب المصنّف رحمه اللّه على هذا الدليل بثلاثة أجوبة :

الجواب الأوّل : هو نفي كون الظاهر داخلا تحت عنوان المتشابه ؛ وذلك لأنّ الظاهر وإن كان يحتمل أكثر من معنى إلا أنّ المعنى غير المنسبق من اللفظ عند إطلاقه معنى موهوم لا اعتداد له بنظر العقلاء ؛ وذلك لأنّ

ص: 434


1- سورة آل عمران آية 7

العلقة التي تربطه باللفظ ضعيفة جدا بحيث لا تؤثر على مستوى وثاقة العلاقة بين المعنى الظاهر ولفظه وهذا ما يجعل المعنى الظاهر متعيّنا وواضحا لا تشابه فيه.

وبعبارة أخرى المتشابه هو ما يكون تشابه محتملاته من حيث مستوى علاقتها باللّفظ موجبا لحيرة المخاطب أو السامع وعدم استقراره على معنى من المعاني ؛ وذلك لتساوي احتمال إرادتها.

ومن هنا يكون المراد من المتشابه هو خصوص المجمل.

الجواب الثاني : أن المتشابه حتى لو افترضنا صدقه على الظاهر إلاّ أنّ ذلك لا يثبت دعوى القوم في نفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب الكريم ؛ إذ أنّ الآية بصدد النهي عن التوسّل بالمتشابهات وفصلها عن الآيات المحكمة لغرض التعمية وإثارة الشبهات المضلّة ، فكأنّما الآية الشريفة تنهى عن التدليس في النقل والبيان ، إذ أنّ فصل كلام اللّه عن القرائن المحتفّة به أو عن بعض حيثيّاته - التي لها اتّصال بتوضيح مراده - موجب للتشويش على ما هو المراد الواقعي للمتكلّم ، وهو من أقبح مصاديق التدليس.

ومن هنا يتّضح أنّ الآية المباركة متصديّة لبيان مطلب آخر غير الذي يروم القوم إثباته.

ويمكن تأييد هذا الفهم للآية بما روي عن الإمام الرضا علیه السلام قال « من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه فقد هدي إلى صراط مستقيم » ثم قال علیه السلام « إن في أخبارنا محكما كمحكم القرآن ومتشابها كمتشابه القرآن ، فردّوا

ص: 435

متشابهها إلى محكمها ولا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا » (1).

الجواب الثالث : أنّه لو سلّمنا أنّ الظاهر من قسم المتشابه وأنّ الآية في صدد نفي الحجيّة عن المتشابه إلاّ أنّه لا يمكن التسليم بأنّ الآية المباركة نص في ذلك وبالتالي تكون دلالتها على نفي الحجيّة - على أحسن الأحوال - بنحو الظهور ، وإذا كان كذلك فيستحيل صلوحها لنفي الحجيّة ؛ إذ أنّ نفيها لحجيّة ظواهر الكتاب مستوجب لنفي الحجيّة عن نفسها بعد أن لم تكن دالّة على نفي الحجيّة بأكثر من الظهور. وكلّ شيء يلزم من حجيّته نفي الحجيّة عن نفسه يستحيل التعويل عليه في النفي والردع ؛ إذ كلّ شيء يلزم من وجوده عدمه فهو مستحيل.

الدليل الثاني :

هو ما ورد عن أهل البيت علیهم السلام من النهي عن العمل بظواهر الكتاب. وهي على ثلاث طوائف.

الطائفة الأولى : ما ورد من أن القرآن الكريم لا يفهمه إلاّ النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل بيته علیهم السلام وذلك لاشتماله على معان رفيعة لا يمكن أن تدركها عقول الرجال ، وأنّ اللّه عزّ وجلّ جعل فهمه مختصّا بالنبي صلی اللّه علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام لتشتدّ حاجة الناس إليهم.

ومن الروايات ما رواه جابر قال : قال أبو عبد اللّه علیه السلام « يا جابر إنّ للقرآن بطنا وللبطن ظهرا وليس شيء أبعد عن عقول الرجال منه ، إنّ

ص: 436


1- الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 22

الآية لينزل أوّلها في شيء وأوسطها في شيء وآخرها في شيء ، وهو كلام متصرّف على وجوه » (1).

ومنها : ما رواه إسماعيل بن جابر عن الصادق علیه السلام قال « إنّ اللّه بعث محمّدا صلی اللّه علیه و آله ... وأنزل عليه كتابا فختم به الكتب فلا كتاب بعده ... فجعله النبي صلی اللّه علیه و آله علما باقيا في أوصيائه فتركهم الناس وهم الشهداء على كلّ زمان .. ثمّ ذكر كلاما طويلا في تقسيم القرآن إلى أن قال : إن كلام الباري سبحانه لا يشبه كلام الخلق ... ولهذه العلّة وأشباهها لا يبلغ كنه معنى حقيقة تفسير كتاب اللّه تعالى إلاّ نبيّه وأوصياؤه علیهم السلام » (2).

ومنها : ما عن سعيد بن طريف عن أبي جعفر علیه السلام « .. فإنّما على الناس أن يقرؤوا القرآن كما أنزل فإذا احتاجوا إلى تفسيره فالاهتداء بنا وإلينا » (3).

ومنها : ما رواه المعلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه علیه السلام « ... ولذلك قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله إنّه ليس شيء أبعد من قلوب الرجال من تفسير القرآن ... وإنّما أراد اللّه بتعميته في ذلك ... وينتهوا في قوله إلى طاعة القوّام بكتابه والناطقين عن أمره ... » (4).

والجواب عن هذه الطائفة :

ذكر المصنّف رحمه اللّه في مقام الجواب عن هذه الطائفة وجهين :

ص: 437


1- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 74
2- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 62
3- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 64
4- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 38

الوجه الأوّل :

هو أنّ روايات هذه الطائفة غير معتبرة سندا ؛ وذلك لأنّها لا تخلو إمّا أن تكون مرسلة ، وإمّا أن يكون سندها مشتملا على رواة قد ثبت ضعفهم أو لم تثبت وثاقتهم.

وبهذا تسقط هذه الطائفة عن الحجيّة ولا يصح التعويل عليها لنفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب الكريم ، على أنّه يمكن دعوى الوثوق والاطمئنان بكذب هذه الطائفة من الروايات ، وذلك إذا ما حصل التوجه إلى مقدّمتين :

المقدّمة الأولى :

إنّ أغلب روايات هذه الطائفة مشتملة أسنادها على من ثبت ضعفه أو فساد مذهبه وميله إلى الغلوّ وسلوكه المسلك الباطني والذي كان يفهم أحكام الشريعة على أساس أنّها مجموعة من المفاهيم الغامضة التي لا يدركها إلاّ الأوحدي من الناس ، وأن كل ظواهر الشريعة ليست مرادة ، وكانوا يضعون لتلك الظواهر تفسيرات غريبة أشبه بالخرافات التي يعتقدها المعقّدون من الناس ، وكانوا يبرّرون غرابتها بأنّ فهم ذلك ليس ميسورا لكلّ أحد ، وأنّ تلك المعاني لا تدرك بالعقول ، ومن هنا لا بدّ من تلقّيها بالتسليم والقبول ؛ إذ أنّ ذلك هو مقتضى الإيمان الحقيقي ، ولهذا لا تعرض هذه المفاهيم إلا على من محض الإيمان.

ومن أصحاب هذا المسلك هو جابر بن يزيد الجعفي أو لا أقلّ أنّ أصحاب هذا المسلك قد استفادوا من بعض روايات جابر وأضافوا عليها من عند أنفسهم لغرض تشييد هذا المذهب الباطل ، ولعلّ هذا هو الذي يشير إليه النجاشي في ترجمة جابر حيث قال « روى عنه جماعة غمّز فيهم

ص: 438

ضعّفوا ، منهم عمرو بن شمر ومفضل بن صالح ومنخّل بن جميل ويوسف بن يعقوب وكان في نفسه مختلطا وكان شيخنا أبو عبد اللّه محمد بن محمد النعمان رحمه اللّه ينشد أشعارا كثيرة في معناه تدلّ على الاختلاط » (1) أي تدلّ على اختلاط جابر.

وقد ذكر الكشي في ترجمة جابر رواية وصلتنا بواسطة عمرو بن شمر أنّ جابر قال : دخلت على الإمام أبي جعفر علیه السلام وأنا شابّ ... قال : دفع إليّ كتابا .. ثم دفع إليّ كتابا آخر ثم قال علیه السلام « وهاك هذا فإنّ حدثت بشيء منه أبدا فعليك لعنتي » (2).

وذكر الكشي أيضا رواية منقولة عن أبي جميلة المفضّل بن صالح عن جابر الجعفي قال : حدّثني أبو جعفر تسعين ألف حديث لم أحدّث به أحدا قط ولا أحدّث به أحدا. قال جابر : فقلت لأبي جعفر علیه السلام جعلت فداك ، إنّك حملتني وقرا عظيما حدثتني به من سرّكم الذي لا أحدّث به أحدا فربّما جاش صدري حتى يأخذني منه شبه الجنون. قال علیه السلام : « يا جابر فإذا كان ذلك فاخرج إلى الجبال واحفر حفيرة ودلّ رأسك فيها ثم قل حدثني محمّد بن علي بكذا وكذا » (3).

ومن أصحاب هذا المسلك - المعبّر عنهم بأصحاب الأسرار - هو سعيد بن طريف أو ظريف وهو أيضا ممن يروي المناكير والغرائب وقد عبّر عنه النجاشي بأنّه « يعرف وينكر » (4) وهو الذي روى لنا في مقام تفسير قوله تعالى : ( إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ) (5) أنّ الصلاة تتكلّم وأنّ

ص: 439


1- رجال النجاشي ص 128
2- اختيار معرفة الرجال ، الشيخ الطوسي ج 2 ص 438
3- خاتمة المستدرك ج 4 ص 204
4- رجال النجاشي ص 468
5- سورة العنكبوت آية 89

الفحشاء رجل والمنكر رجل. (1)

أمثال هؤلاء هم الواقعون في أسناد هذه الطائفة من الروايات.

المقدّمة الثانية :

إنّه لو كان حقّا عدم حجيّة ظواهر الكتاب وأنّ أهل البيت علیهم السلام قد عرّفوا الناس بذلك فلماذا لم يصل إلينا نفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب إلاّ عبر أصحاب هذا المسلك الذي هو ليس محل قبول عند أصحاب الأئمّة علیهم السلام وعند فقهاء الطائفة؟ رغم أنّ هذه المسألة على درجة كبيرة من الخطورة ؛ إذ أنّه لو كان نظر الشارع هو نفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب وأنّ ظواهر الكتاب غير مرادة من قبل الشارع لكان العمل بالظواهر تضييعا لكثير من أغراض الشريعة ، وهذا يقتضي أن يكون التنبيه على نفي الحجيّة متناسبا مع مستوى ما يترتّب على عدم تعرّف الناس على ذلك من ضياع لكثير من أهداف الشريعة خصوصا وأن العمل بالظواهر هو السلوك المتعارف عند العقلاء في مقام استكشاف مرادات المتكلّمين ، وأنّ الطريقة المتّبعة عند المتشرّعة في مقام استنباط الأحكام الشرعيّة من السنّة الشريفة هي الظهور.

كلّ ذلك يؤكد اختلاق أصحاب هذا المسلك لهذه الطائفة من الروايات وإلاّ لاطّلع عليها فقهاء الرواة ، وهذا يقتضي وصولها إلينا بواسطتهم حيث إنّهم المرجع في معرفة الأحكام وهم حفظة السنّة وأوتاد الأرض - كما عبّرت عنهم الروايات المعتبرة ، أمثال زرارة بن أعين ومحمّد

ص: 440


1- اصول الكافي كتاب فضل القرآن ح 1

بن مسلم وبريد العجلي وأبان بن تغلب وابن أبي عمير وصفوان بن يحيى.

ومن المثير للانتباه أنّ أمثال هذه الروايات لا تصل إلينا إلاّ عن طريق أصحاب هذا المسلك الباطني ولا يصل عن هؤلاء من مسائل الحلال والحرام إلاّ النزر القليل. وهذا ما يشير إليه النجاشي في ترجمته لجابر بن يزيد الجعفي حيث قال « قلّ ما يورد عنه شيء في الحلال والحرام ».

والمتحصّل ممّا ذكرناه أنّه مع التوجه لكلا المقدّمتين يحصل الوثوق والاطمئنان بكذب هذه الطائفة من الروايات.

الوجه الثاني : إنّ هذه الطائفة من الروايات منافية لما هو صريح القرآن الكريم من أنّه تبيان لكلّ شيء ، قال اللّه تعالى : ( وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ ) (1).

وإذا كان كذلك فهي ساقطة عن الحجيّة لما دلّ من الروايات على أنّ ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف ، وأنّنا لم نقله ، وأن قائله أولى به.

الطائفة الثانية : والتي مفادها عدم صحّة التعويل على ما ينفهم من ظواهر الكتاب الكريم دون مراجعة النبي صلی اللّه علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام .

ومن هذه الروايات ما رواه الطبرسي في الاحتجاج عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّه قال يوم الغدير : « ... فو اللّه لن يبيّن زواجره ولا يوضح لكم عن تفسيره إلاّ الذي أنا آخذ بيده » (2).

ص: 441


1- سورة النحل آية 89
2- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 43

ومنها : ما رواه موسى بن عقبة عن الإمام الحسين علیه السلام « ... والمعوّل علينا في تفسيره لا نتظنى تأويله بل نتّبع حقائقه فأطيعونا فإنّ طاعتنا مفروضة » (1).

والجواب عن هذه الطائفة :

أنّ أقصى ما تدلّ عليه هذه الطائفة من الروايات هو أنّه لا يجوز الاعتماد على ما ينفهم من ظواهر الكتاب في مقابل ما يبيّنه أهل البيت علیهم السلام من معاني القرآن الكريم ، وغاية ما يقتضيه ذلك هو عدم صحة التعويل على ما يستظهر من آيات القرآن دون مراجعة الروايات الواردة عن أهل البيت علیهم السلام فإن كان ما استظهرناه مطابقا مع ما ورد عن أهل البيت علیهم السلام فلا كلام ، وإن كان منافيا فلا يصحّ التمسّك بما استظهرناه في مقابل ما ورد عنهم علیهم السلام ، وإن لم يكن في الروايات ما ينافي مقتضى الظهور العرفي فليس في هذه الطائفة من الروايات ما يدلّ على عدم جواز التمسّك به. وبهذا يصحّ التعويل على ما يظهر من آيات القرآن اعتمادا على أدلّة حجيّة الظهور.

الطائفة الثالثة : وهي التي منعت عن التفسير بالرأي وهي روايات كثيرة جدا.

منها : ما رواه الكليني بسند متّصل عن زيد الشحّام عن أبي جعفر علیه السلام « ... ويحك يا قتادة إن كنت إنّما فسّرت القرآن من تلقاء نفسك

ص: 442


1- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 45

فقد هلكت وأهلكت » (1).

ومنها : ما رواه في الخصال بسند متصل عن عبد الرحمن بن سمرة « ... ومن فسّر القرآن برأيه فقد افترى على اللّه الكذب » (2).

ومنها : حديث الريّان بن الصلت عن الرضا علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال :

قال اللّه عزّ وجلّ - في حديث قدسي - : « ما آمن بي من فسّر القرآن برأيه .. » (3) الحديث.

والجواب عن هذه الطائفة :

وقد أورد على الاستدلال بهذه الطائفة على نفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب بما حاصله :

إنّ فهم القرآن على أساس ما هو مقتضى الظهور العرفي لا يعدّ تفسيرا ؛ وذلك لأنّ التفسير يعني التوضيح والكشف عمّا خفي ورفع الستار عمّا أبهم من مراد ، وهذا إنّما يناسب المجمل من الألفاظ والمركبات اللّفظيّة والتي تكون المعاني المحتملة فيه متكافئة من حيث احتمال إرادتها.

أمّا فهم المعنى على أساس ما هو المتفاهم العرفي عند أهل المحاورة والذي يعتمد ضوابط مطّردة وملتزم بها عند كل من أراد أن يتكلّم بهذه اللغة فهذا ليس من التفسير في شيء ، إذ أن كل من اطّلع على تلك الضوابط وأنس بها فإنّه يفهم مرادات المتكلّمين بواسطة تلك الألفاظ والتراكيب المستعملة لغرض الكشف عمّا هو مختلج في النفس من معاني ، ولا يكون ثمّة

ص: 443


1- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 25
2- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 37
3- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 28

تردّد في ذلك الفهم إذا ما قام على أساس تلك الضوابط المتبعة عند أهل المحاورة من ذلك اللسان.

وهذا الإيراد وإن كان وجيها إلاّ أنّه ليس حاسما وذلك لعدم اطراده إذ أنّ بعض الاستظهارات تقوم على أساس نكات دقيقة وخفيّة يتطلّب دركها تأنّيا وإمعانا وتسلّطا على الضوابط المقرّرة عند أهل المحاورة ، ومن هنا يكون الكشف عن تلك النكات كشفا عمّا هو خفي وبه يكون هذا النحو من الاستظهار تفسيرا.

ولمزيد من التوضيح نقول :

إنّ بعض المركّبات اللّفظيّة تقتضي أكثر من ظهور ، وهذه الظهورات التي يقتضيها ذلك المركّب اللّفظي تنشأ عن أسباب متفاوتة كل سبب من تلك الأسباب يقتضي شأنا ظهورا خاصا. فالأوضاع اللغويّة مثلا قد تقتضي ظهورا معينا ومناسبات الحكم والموضوع تقتضي ظهورا آخر ، وقد تكون هناك قرينة داخليّة تستوحى من نفس المركّب المستعمل تقتضي ظهورا مغايرا للظهورين.

ومن هنا يكون استكشاف ما هو مقتضى الظهور الجدّي واقعا يحتاج إلى تشييد القرينة المقتضية لغلبة ما توجبه من ظهور على سائر القرائن الأخرى والمقتضية لظهورات أخرى ، ويحتاج أيضا إلى إبراز ما يوهن القرائن المقتضية شأنا للظهورات الأخرى.

وكلّ ذلك لا يكون ميسورا لكلّ أحد ، وهذا هو السرّ في اختلاف الفقهاء في فهم الأدلّة الشرعيّة فلو كان الاستظهار من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى كشف فلماذا هذا الاختلاف من الفقهاء وكذلك أهل المحاورة في

ص: 444

فهم الخطابات الصادرة عن الشارع وعن غيره من المتكلّمين.

ومن هنا يتّضح أن بعض الاستظهارات تكون من قبيل الكشف عمّا هو خفي ، وهذا هو التفسير الذي أدّعي عدم تناسبه مع الظهور.

ومع اتّضاح عدم تماميّة الإيراد السابق نحتاج إلى جواب آخر على الاستدلال بالطائفة الثالثة والتي استدلّ بها على نفي الحجيّة عن ظواهر الكتاب ، وقد ذكر المصنّف رحمه اللّه ثلاثة أجوبة لذلك :

الجواب الأوّل :

إنّ الظاهر من روايات هذه الطائفة هو التصدّي للردع عمّا كان رائجا في زمن الإمامين الباقر والصادق علیهماالسلام من اعتماد الرأي المبني على الحدس والتخمين والاستحسان والقياس والمصالح المرسلة وسد الذرايع كوسيلة لفهم النصوص الشرعيّة سواء منها النصوص القرآنية أو السنّة الشريفة.

وهذا هو المبرّر لاستظهار هذا المعنى من هذه الطائفة من الروايات ؛ إذ من المعروف الذي لا ريب فيه استيحاش أهل البيت علیهم السلام من هذه الطريقة في فهم النصوص الشرعيّة ، وتصدّيهم بشتى الوسائل لتوهين هذه المدرسة الغريبة في متبنياتها عن الإسلام ، وهذا بخلاف فهم النصوص الشرعيّة على أساس ما هو المتفاهم العرفي وما تقتضيه سليقة أهل المحاورة في كيفيّة التعرّف على مرادات المتكلّمين ، فإنّ هذه الطريقة هي المتّبعة حتّى عند أهل البيت علیهم السلام .

والذي يؤكّد ما استظهرناه من أنّ هذه الروايات بصدد الردع عن مدرسة الرأي الرائجة آنذاك هي الحوارات التي كان يجريها الإمامان الباقر والصادق علیهماالسلام مع أئمّة هذه المدرسة لغرض صرفهم عن هذا السلوك الذي

ص: 445

يهدّد أغراض الشريعة ، ولنذكر لذلك مثالين :

الأوّل : ما رواه زيد الشحام قال : دخل قتادة بن دعامة على أبي جعفر علیه السلام فقال : « يا قتادة أنت فقيه أهل البصرة؟ فقال : هكذا يزعمون ، فقال أبو جعفر علیه السلام : بلغني انّك تفسّر القرآن؟ فقال له قتادة : نعم فقال له أبو جعفر علیه السلام « فإن كنت تفسّره بعلم فأنت أنت ، أنا أسألك ( إلى أن قال ) : إن كنت تفسّر القرآن من تلقاء نفسك فقد هلكت وأهلكت وإن كنت قد فسّرته من الرجال فقد هلك وأهلكت ، ويحك يا قتادة إنّما يعرف القرآن من خوطب به » (1).

الثاني : ما رواه شبيب عن أنس عن بعض أصحاب أبي عبد اللّه علیه السلام في حديث .. إنّ أبا عبد اللّه قال لأبي حنيفة : أنت فقيه أهل العراق؟ قال : نعم ، ( إلى أن قال ) : يا أبا حنيفة إذا ورد عليك شيء ليس في كتاب اللّه ولم تأت به الآثار والسنّة كيف تصنع؟ فقال : أصلحك اللّه أقيس وأعمل برأيي. فقال علیه السلام : يا أبا حنيفة إنّ أوّل من قاس إبليس الملعون ، قاس على ربّنا تبارك وتعالى فقال : ( أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ) قال : فسكت أبو حنيفة ، فقال علیه السلام : يا أبا حنيفة أيّما أرجس البول أو الجنابة؟ فقال البول فقال : فما بال الناس يغتسلون من الجنابة ولا يغتسلون من البول؟ فسكت ، فقال : يا أبا حنيفة أيّما أفضل الصلاة أو الصوم؟ فقال : الصلاة. قال : فما بال الحائض تقضي صومها ولا تقضي صلاتها؟ فسكت » (2).

ص: 446


1- الوسائل باب 13 من أبواب صفات القاضي ح 25
2- الوسائل باب 6 من أبواب صفات القاضي ح 27
الجواب الثاني :

إنّنا لو تنزّلنا وقلنا إنّ إطلاقات هذه الطائفة من الروايات شاملة لظواهر الكتاب الكريم فإنها مع ذلك قاصرة عن إثبات الردع عن السيرة العقلائيّة باعتبار أنّ الردع لا بدّ أن يكون بمستوى تجذّر السيرة وتأصّلها في سلوك العقلاء ، ونحن لو قايسنا هذه الطائفة من الروايات مع مستوى ترسّخ هذه السيرة في جبلّة العقلاء وسلوكهم لوجدنا أنّه لا تناسب بينهما أصلا.

فمع أنّنا نجد العمل بما هو مقتضى الظهور هي الطريقة الوحيدة التي يستكشف العرف منها مرادات المتكلّم وأنّ سلوك غير هذه الطريقة يعدّ شذوذا وخروجا عمّا هو المألوف والمتعارف نجد أنّ هذه الروايات ليست من الوضوح بحيث يمكن التعويل عليها في إلغاء هذه السيرة المستحكمة.

وأمّا قصورها عن الردع عن السيرة المتشرّعيّة فلأنّه لو كان هذه الروايات متصديّة للردع لانعكس ذلك على سلوك المتشرعة في حين أنّنا لا نجد وسيلة أخرى عندهم لفهم النصوص القرآنيّة غير هذه الوسيلة ، ولو كانت هذه الروايات متصديّة للردع لأثّر ذلك ولو على بعض المتشرّعة والحال أنّنا لا نجد من ذلك عينا ولا أثرا مما يؤكّد أنّ إطلاقات هذه الروايات - لو تمت - مقيدة بالسيرة ، ولمزيد من البيان راجع ما ذكرناه في بحث حجيّة خبر الواحد في مقام الاستدلال على الحجيّة بالسيرة.

الجواب الثالث :

إنّ هناك مجموعة من الروايات يمكن التمسك بها لإثبات حجيّة ظواهر الكتاب وإذا تمّت دلالتها فهي صالحة لإسقاط الروايات النافية

ص: 447

للحجيّة عن الدليليّة أو لا أقل تكون صالحة لمعارضتها.

ويمكن تصنيف هذه الروايات إلى ثلاث طوائف :

الطائفة الأولى : هي الروايات الآمرة بالتمسّك بالقرآن وأنّه المرجع في كلّ ما يعترض المسلمين من بلايا وفتن.

وهذه الروايات من قبيل حديث الثقلين والّذي ثبت تواتره عن الفريقين.

ومن قبيل ما ورد عن النبي صلی اللّه علیه و آله أنّها إذا عرضت عليكم الفتن كقطع اللّيل المظلم فعليكم بالقرآن.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات واضح ؛ إذ أنّ الأمر بالتمسّك بالقرآن معناه الالتزام بمضامينه وما يشتمل عليه من مفاهيم وأحكام. واستكشاف هذه المضامين والمفاهيم لا يكون إلاّ بواسطة الظهور ؛ إذ أنّها الوسيلة المتعارفة في مقام التعرّف على مرادات المتكلّمين وسيتضح هذا التقريب أكثر في تقريب الاستدلال بالطائفة الثانية.

الطائفة الثانية : وهي الروايات الآمرة بعرض الشروط في العقود على القرآن فما خالف كتاب اللّه فهو مردود ، وهذا من قبيل ما ورد « من أن كلّ شرط خالف كتاب اللّه فهو باطل ».

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة من الروايات حاصله : أنّه إن كان المقصود من مخالفة الشرط للكتاب مخالفته لما هو مقتضى الإطلاق اللّفظي للقرآن فهذا يعني أنّ المخالفة لكتاب اللّه هي المخالفة لظواهر الكتاب ، إذ أنّ الإطلاق اللّفظي من مصاديق الظهور ، وبذلك يثبت المطلوب.

وإن كان المقصود من مخالفة الشرط للكتاب هو منافاة الشرط واقعا

ص: 448

فلا بدّ من وسيلة للتعرّف على واقع المضمون المراد من قبل اللّه جلّ وعلا.

والاحتمالات في المقام ثلاثة ؛ إمّا أن لا يكون هناك وسيلة للتعرّف على المضمون الواقعي. وهذا الإحتمال ساقط حتما ؛ إذ ما معنى إرجاع الشروط إلى كتاب اللّه جلّ وعلا إذا لم تكن وسيلة لمعرفة مقاصد القرآن الكريم.

وإمّا أن تكون هناك وسيلة اخترعها الشارع لغرض الوصول بها إلى مقاصده. وهذا الاحتمال ساقط أيضا ، إذ لو كان لبان كما اتّضح ذلك في بحث حجيّة الظهور.

والاحتمال الثالث أنّ الشارع لم يتصدّ لبيان الوسيلة التي يتوصّل بها إلى مقاصده ، وهذا ما يكشف عن قبوله للوسيلة المتعارفة عند المخاطبين بالقرآن.

ولمّا كانت الوسيلة المتعارفة عند المخاطبين بالقرآن - وهم العرف - هي العمل بما يقتضيه الظهور فهذا ما يثبت حجيّة ظواهر الكتاب.

وقد لا حظتم أنّنا استفدنا من الإطلاق المقامي لإثبات إمضاء الشارع لما عليه العرف في مقام استكشاف مقاصد الشريعة.

وقد أوضحنا المراد من الإطلاق المقامي في محلّه ، وقد طبقناه في المقام وقلنا إنّ المولى لو كانت له وسيلة أخرى غير المتّبعة عند العرف لكان ذلك يقتضي بيانها ، فعدم بيانها كاشف عن أنّ العمل بظواهر الكتاب لم يقع موضوعا للردع ، حيث إنّ الشارع وبحكم قيوميّته دائما يكون في مقام الرّدع عن كلّ ظاهرة اجتماعيّة غير مرضية عنده ، وحيث إنّه ردع عن مجموعة من الظواهر ، ولم يردع عن هذه الظاهرة رغم أنّه في مقام الردع

ص: 449

عن كلّ ما هو غير مرضي فهذا يكشف عن عدم كون العمل بظواهر الكتاب موضوعا للردع وهذا هو معنى ما قلنا من أنّ الإطلاق المقامي ينفي موضوعا عن أن يكون مشمولا لحكم.

الطائفة الثالثة : وهي أوضح الطوائف الثلاث ، وهي الروايات الآمرة بعرض ما يرد عن أهل البيت علیهم السلام على الكتاب ، فما خالف كتاب اللّه فهو لم يصدر عن أهل البيت علیهم السلام ، وأنّ ما خالف كتاب اللّه فهو زخرف وقائله أولى به وأنّه يرمى به عرض الجدار. وهي روايات كثيرة بل متواترة.

وتقريب الاستدلال بهذه الطائفة :

أنّ الاحتمالات المتصوّرة في فهم المراد من هذه الروايات ثلاثة :

الاحتمال الأوّل : أنّ المراد من المخالف لكتاب اللّه هو المخالف لمقاصد القرآن المستفادة بواسطة الأخبار ، أي أنّ الخبر الساقط عن الحجيّة هو الخبر المنافي لمضامين القرآن إلاّ أنّ التعرّف على المنافاة وعدم المنافاة لا يتمّ بواسطة ملاحظة القرآن الكريم مباشرة ، بل إنّ معرفة المنافاة لمضامين القرآن إنّما تستكشف بواسطة الروايات الواردة عن أهل البيت علیهم السلام .

وهذا الاحتمال ساقط حتما ؛ إذ أنّ هذه الطائفة من الروايات إنّما هي في مقام بيان ما هو المميّز للروايات المعتبرة من الروايات غير المعتبرة ، ومن الواضح أنّ كلّ الروايات بما فيها الروايات المبيّنة لمضامين الكتاب العزيز داخلة تحت هذا المميز ؛ ولهذا كيف يكون الكاشف عن الاعتبار هو الذي يراد استكشاف اعتباره؟

الاحتمال الثاني : أنّ المراد ممّا خالف كتاب اللّه جلّ وعلا هو ما خالف نصوص الكتاب فحسب ، وهذا الاحتمال ساقط أيضا ؛ وذلك لأنّ الظاهر

ص: 450

من هذه الطائفة أنّها تعالج مشكلة كانت سائدة ويمكن أن يكتب لها الدوام والاستمرار ، وهذه المشكلة هي تصدّي أصحاب الأهواء الفاسدة لوضع الحديث ونسبته إلى أهل البيت علیهم السلام ، ولم يكن هؤلاء من الغباء بحيث يلفّقون على أهل البيت علیهم السلام أحاديث منافية لصريح القرآن ، إذ أنّه لن يصدّقهم أحّد في ذلك ، وهذا ينافي غرضهم من الوضع والتدليس ، ولهذا نجد أنّ الروايات المناقضة لصريح القرآن قليلة جدّا بل لا تكاد تذكر.

الاحتمال الثالث : أن يكون المراد من المخالف لكتاب اللّه هو ما خالف نصوص القرآن وظواهره. وهذا هو المتعيّن من الاحتمالات بعد اتّضاح فساد الاحتمالين السابقين.

وبهذا تثبت حجيّة ظواهر الكتاب إذ لو لم تكن حجّة لما جعلها الشارع وسيلة لتمييز الروايات المعتبرة من غير المعتبرة وهذه الطوائف الثلاث من الروايات إمّا أن تكون موجبة لإسقاط الروايات النافية للحجيّة عن ظواهر الكتاب ، وبهذا يثبت المطلوب ، أو تكون معارضة لها وحينئذ تسقط كلّ الروايات - النافية والمثبتة - عن الحجيّة ، ويكون المرجع عند ذلك هو السيرة ، ولا تكون الروايات النافية للحجيّة صالحة للردع عنها بعد افتراض سقوطها بالتعارض.

وهذه السيرة إمّا أن تثبت حجّتها بوسائل وجدانيّة ، كأن يكون هناك إحراز لإمضائها ، أو تثبت بواسطة الاستصحاب كأن يكون الإمضاء محرزا ثمّ عرض على بقائه الشكّ.

الدليل الثالث :

أنّه قد تعلّقت إرادة المولى جلّ وعلا بأن يتّصل الناس بأهل

ص: 451

البيت علیهم السلام ويرتبطوا بهم ؛ إذ أنّ في الارتباط بهم تكون الهداية وفي الانفصال عنهم تكون الضلالة ، ومن الواضح أنّ هذه الإرادة تقتضي أن يخلق المولى مبرّرات توجب ارتباط الناس بأهل البيت علیهم السلام .

ومن هنا تعمّد المولى إجمال وإبهام آيات الكتاب حتّى تلجأ الناس لأهل البيت علیهم السلام لغرض الاستيضاح والتعرّف على مقاصد القرآن ، وهذا ما يوجب اشتداد علاقة الناس بهم علیهم السلام .

ثمّ إنّ هناك منشأ آخر لإجمال مقاصد الكتاب العزيز وهو أنّه لمّا كانت المعاني المشتمل عليها القرآن الكريم عالية ومقاصده ذات مضامين رفيعة فهذا يستوجب ألا تكون مفهومة.

فبهذين المنشأين أو بأحدهما يثبت الإجمال لآيات الكتاب ، ومن هنا تخرج آيات الكتاب العزيز عن حجيّة الظهور موضوعا وتخصّصا.

والجواب عن هذا الدليل :

والجواب يتمّ بواسطة إسقاط دليليّة المنشأين المذكورين عن إثبات الإجمال لآيات الكتاب العزيز.

أمّا المنشأ الأوّل : فجوابه أنّ من المقطوع به أنّ الغرض من إنزال القرآن الكريم هو هداية الناس ، وهذا ما يقتضي أن يكون واضحا وميسور الفهم ، ودعوى إبهامه وإجماله ينافي ما هو الغرض من إنزاله ، والحكيم لا ينقض غرضه ، ونحن وإن كنّا نسلّم أنّ المولى جلّ وعلا قد تعلّقت إرادته بأن يتمسّك الناس بأهل البيت علیهم السلام ويرتبطوا بهم أشد ارتباط ، إلاّ أنّه من أين حصل لنا العلم بتعلّق إرادة المولى بذلك؟ فإمّا أن يكون العلم بذلك حصل بواسطة القرآن الكريم أو بواسطة الرسول صلی اللّه علیه و آله وبكلّ منهما يثبت

ص: 452

المطلوب.

إذ أنّه لو كان الموجب للعلم بتعلّق إرادة المولى جلّ وعلا بلزوم الارتباط بأهل البيت علیهم السلام هو القرآن الكريم فهذا يقتضي أن يكون واضحا ومفهوما حتى يمكن استفادة ذلك منه.

وإمّا أن يكون الموجب للعلم بهذه الإرادة المولويّة هو الرسول صلی اللّه علیه و آله ، وهذا يحتاج إلى إثبات حجيّة كلام الرسول صلی اللّه علیه و آله وأنّه مبعوث من اللّه جلّ وعلا الذي هو الإله الحق.

وهذه هي أصول الدين المحتاج ثبوتها إلى معجزة ، إذ لا سبيل لإثبات الرسول والرسالة إلاّ المعجزة. والمعجزة التي أثبتت الرسالة الإسلامية وأنّ الصادع بها هو محمّد بن عبد اللّه صلی اللّه علیه و آله هي القرآن الكريم ، فإذا كان القرآن هو الحجّة في إثبات ذلك فهذا يقتضي أن يكون واضحا وجليّا وإلاّ لا يمكن أن تثبت به الأصول الاعتقاديّة.

وأمّا المنشأ الثاني : فجوابه أنّ المناسب لكون القرآن كتاب هداية أن يكون في متناول الجميع ، وهذا هو مقتضى طبع كلّ حكيم أن يتناسب فعله مع هدفه لا أن يكون فعله مفوّتا لهدفه ، فإذا كان الغرض الإلهي قد تعلّق بهداية الناس وإخراجهم من ظلمات الجهل إلى نور العلم ، فهذا يستوجب أن تكون الوسيلة التي جعلها من أجل الوصول لهذا الغرض متوفّرة على المؤهّلات الكفيلة بتحقيق الغرض المنشود على أتمّ وجه.

ولمّا كان القرآن الكريم هو الوسيلة المجعولة من اللّه جلّ وعلا لتحقيق هذا الغرض فهذا يستوجب أن يكون واضحا وبينا يمكن الاسترشاد به والخروج به من ظلمات الضلالة إلى نور الهدى ، وإلاّ لو لم يكن كذلك فأي

ص: 453

هداية يمكن أن تؤخذ عنه وهو مبهم ومجمل؟!

وكون القرآن مشتملا على مضامين عالية لا يوجب إبهامه ؛ إذ أنّ الحكيم لا يجازف بأهدافه ، ومن هنا نجد أنّ القرآن الكريم رغم اشتماله على ما لا تصل إليه عقول الرجال مجتمعة مع ذلك فهو يصبّ تلك المضامين الشامخة في قوالب لفظيّة بديعة ومفصحة عمّا هو المراد.

اللّهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد الأوصياء

الراضين المرضيّين بأفضل صلواتك ، وبارك عليهم

بأفضل بركاتك ، والسلام عليهم وعلى أرواحهم

وأجسادهم ورحمة اللّه وبركاته.

والحمد لله ربّ العالمين.

ص: 454

المحتويات

المقدّمة... 5

تعريف علم الأصول ... 9

التعريف على مختار المصنّف رحمه اللّه :... 12

موضوع علم الأصول... 13

فائدة علم الأصول... 19

الحكم الشرعي وتقسيمه... 23

الأحكام التكليفيّة... 24

الأحكام الوضعية... 25

مبادئ الحكم التكليفي ... 26

مبادئ الأحكام التكليفيّة الخمسة ... 29

التضاد بين الأحكام التكليفية :... 31

استحالة اجتماع حكمين متسانخين على فعل واحد ... 34

ص: 455

شمول الحكم الشرعي لجميع وقائع الحياة ... 35

الحكم الواقعي والحكم الظاهري ... 37

الأمارات والأصول ... 40

اجتماع الحكم الواقعي والظاهري ... 44

القضية الحقيقة والقضية الخارجية ... 46

تنويع البحث... 49

حجّيّة القطع... 55

المبحث الأوّل : المراد من معنى القطع :... 55

المبحث الثاني : محركيّة القطع :... 57

المبحث الثالث : حول حجّية القطع :... 60

الجهة الأولى : في معنى الحجيّة ... 60

الجهة الثانية : التلازم بين الحجيّة وبين الكاشفيّة والمحركيِّة ... 62

الجهة الثالثة : الحجية هل هي ثابتة للقطع أو لا؟... 63

الجهة الرابعة : حدود حق الطاعة للمولى ... 65

الجهة الخامسة : هل للمولى أن يمنع عن العمل بالقطع؟ ... 68

الجهة السادسة : معذِّرية القطع... 70

المبحث الرابع : في التجرّي ... 74

المبحث الخامس : في العلم الإجمالي... 76

القطع الطريقي والقطع الموضوعي... 82

جواز الإسناد للمولى... 87

ص: 456

تحديد المنهج في الأدلة والأصول... 93

المنهج بناء على مسلك حق الطاعة... 94

المنهج على مسلك قاعدة قبح العقاب بلا بيان... 101

الأدلّة المحرزة... 107

تقسيم البحث في الأدلّة المحرزة... 107

تقسيم آخر للأدلة المحرزة... 109

تقسيم الدليل الشرعي... 111

المطلب الأول : الأصل عند الشك في الحجّة... 118

المطلب الثاني : مقدار ما يثبت بالأدلّة المحرزة... 124

المطلب الثالث : تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للمطابقيّة... 131

المطلب الرابع : وفاء الدليل بدور القطع الموضوعي... 138

المطلب الخامس : إثبات الدليل لجواز الإسناد... 145

المبحث الأوّل : تحديد دلالات الدليل الشرعي... 151

الدليل الشرعي اللفظي - تمهيد -... 153

الظهور التصوّري والظهور التصديقي :... 154

الوضع وعلاقته بالدلالات المتقدّمة... 157

النظرية الأولى : السببيّة الذاتية :... 157

النظريّة الثانية : السببية الوضعية الاعتبارية :... 158

ص: 457

النظريّة الثالثة : التعهّد... 161

الإشكال على مسلك التعهّد... 164

النظرية الرابعة : نظرية القرن الأكيد... 166

الوضع التعييني والتعيّني... 167

توقّف الوضع على تصوّر المعنى... 169

توقّف الوضع على تصوّر اللفظ... 174

المجاز ... 176

علامات الحقيقة والمجاز... 180

تحويل المجاز إلى حقيقة... 188

استعمال اللفظ وإرادة الخاص... 189

الاشتراك والترادف... 190

تصنيف اللغة... 194

المقارنة بين الحروف والأسماء الموازية لها ... 200

تنوّع المدلول التصديقي ... 201

المقارنة بين الجمل التامّة والجمل الناقصة... 205

الأمر والنهي... 209

مادة الأمر... 209

صيغة الأمر ... 214

الأوامر الإرشاديّة... 220

ص: 458

الأمر بعد الحظر أو بعد توهّم الحظر ... 223

دلالة الأمر الموقّت على لزوم القضاء ... 225

الأمر بالأمر ... 228

النهي... 231

الاتجاهات في تفسير معنى النهي... 231

الاحتراز في القيود... 236

الإطلاق... 241

هل الإطلاق مستفاد من الوضع أو من دالّ آخر ... 244

الثمرة المترتّبة على ما هو الدالّ على الإطلاق ... 245

قرينة الحكمة... 246

أقسام الإطلاق ... 251

الإطلاق في المعاني الحرفية... 253

التقابل بين الإطلاق والتقييد ... 254

الحالات المختلفة لاسم الجنس ... 258

الانصراف ... 265

الإطلاق المقامي ... 269

بعض التطبيقات لقرينة الحكمة ... 273

التمسك بقرينة الحكمة لاستظهار الوجوب من الأوامر... 273

التمسك بقرينة الحكمة لاستظهار النفسية التعيينيّة العينيّة للطلب... 274

ص: 459

العموم... 279

تعريف العموم ... 279

أدوات العموم ونحو دلالاتها ... 281

دلالات الجمع المعرّف باللام ... 284

المفاهيم... 289

تعريف المفهوم... 289

ضابطة المفهوم... 294

مفهوم الشرط... 298

الشرط المسوق لتحقق الموضوع ... 303

مفهوم الوصف... 305

أقسام الجملة الوصفية... 310

جمل الغاية والاستثناء... 313

التطابق بين الدلالات... 319

أصالة الظهور في العموم... 321

أصالة الجهة... 322

دور القرينة في هدم الدلالات الثلاث ... 323

مناسبت الحكم والموضوع... 327

بعض التطبيقات لمناسبات الحكم والموضوع... 329

ص: 460

إثبات الملاك بالدليل... 333

الدليل الشرعي غير اللفظي... 337

دليليِّة الموقف العملي الصادر عن المعصوم على الحكم الشرعي ... 337

دلالة السكوت والتقرير ... 343

السيرة :... 347

مقدار دليليِّة السيرة العقلائية ... 348

الثمرة المترتِّبة على ما هو المبنى في دليليّة السيرة... 349

إثبات صغرى الدليل الشرعي... 355

الخبر المتواتر - تمهيد -... 359

العوامل الكميّة والنوعية التي تتصل بالمخبر... 362

العوامل التي تتصل بمضمون الخبر... 364

الإجماع... 367

مبرِّرات ارتفاع قيم الاحتمال في الخبر الحسِّي وانخفاضها في الحدسي... 367

العوامل التي تساهم في انخفاض مستوى احتمال عدم المطابقة في الاجماع... 372

ص: 461

سيرة المتشرّعة... 375

الإحراز الوجداني للدليل الشرعي غير اللفظي ... 377

طرق إثبات معاصرة السيرة الفعليّة للمعصوم علیه السلام ... 377

درجة الوثوق في وسائل الإحراز الوجداني ... 384

وسائل الإحراز التعبّدي... 387

أدلّة حجيّة خبر الواحد ... 387

الاستدلال بآية النبأ ... 387

الاستدلال بآية النفر ... 392

الاستدلال بآية الكتمان ... 396

الاستدلال بآية ( فاسألوا أهل الذكر ) ... 398

الاستدلال بالسنّة الشريفة :... 401

الدليل الأول : التواتر ... 401

الدليل الثاني : السيرة ... 402

الأدلّة التي استدلّ بها على الردع ... 404

أدلّة نفي الحجيّة ... 406

تحديد دائرة الحجيّة ... 410

قاعدة التسامح في أدلّة السنن... 415

إثبات حجيّة الدلالة في الدليل الشرعي... 419

أنحاء الدلالة للدليل الشرعي... 421

ص: 462

الاستدلال على حجيّة الظهور... 425

أدلّة نفي الحجيّة عن الظهور ... 427

موضوع الحجيّة للظهور... 427

ظواهر الكتاب الكريم... 433

أدلّة النافين الحجيِّة ظواهر الكتاب ومناقشتها... 433

المحتويات... 455

ص: 463

المجلد 2

هوية الكتاب

المؤلف: الشيخ محمّد صنقور علي البحراني

الناشر: المؤلّف

المطبعة: ثامن الحجج

الطبعة: 3

الموضوع : أصول الفقه

تاريخ النشر : 1428 ه.ق

الصفحات: 480

المكتبة الإسلامية

شرح الأصول

من الحلقة الثانية

تأليف: الشيخ محمد صنقور علي البحراني

الجزء الثاني

ص: 1

ص: 2

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

ص: 4

ص: 5

الدليل العقلي

اشارة

1 - إثبات القضايا العقلية.

2 - حجيّة الدليل العقلي.

ص: 6

تمهيد

ونبيّن في هذا التمهيد المراد من الدليل العقلي ، وكيفية إثباته للحكم الشرعي ، وأيّ الأقسام من القضايا العقلية تبحث في علم الأصول ، وأيّها التي لا تبحث في علم الأصول ، فنقول :

أمّا ما هو المراد من الدليل العقلي في اصطلاح الأصوليّين فهو كل قضية يكون إثبات محمولها لموضوعها بواسطة المدركات العقلية بحيث تتأهل تلك القضية بعد ذلك لأن تكون لها صلاحيّة إثبات حكم شرعي أو نفي حكم شرعي.

فالقضية المدركة بالعقل هي المعبّر عنها بالدليل العقلي ، فمثلا « الظلم قبيح » قضية ثبت فيها حكم لموضوع ، وهذا الثبوت نشأ عن إدراك العقل ، فهي إذن قضية عقلية ، وإنّما سميّت « دليلا » باعتبارها صالحة للكشف عن حكم شرعي أو المساهمة في الكشف عن الحكم الشرعي ، فدليلية هذه القضية العقلية باعتبار توسطها في إثبات حكم شرعي.

ومن أجل أن يتّضح ما هو المراد من الدليل العقلي أكثر لا بدّ من بيان أمور :

الأمر الأول : إنّ المراد من المدركات العقليّة في اصطلاح الأصوليّين هو ما يدركه العقل ويستقرّ عليه بنحو الجزم دون أن يكون منشأ ذلك الإدراك هو الكتاب والسنة.

ص: 7

ثم إنّه لا فرق بين مدركات العقل النظري أو مدركات العقل العملي من حيث دخولهما في المقصود وأن كل قضية أدركت بواسطة العقل النظري أو العقل العملي إذا كانت صالحة لأن يستنبط منها حكم شرعي أو نفي حكم شرعي ، فهي داخلة تحت عنوان الدليل العقلي باصطلاح الأصوليّين.

ومثال ما يثبت بواسطة العقل النظري الاستلزامات العقلية ، كاستلزام وجوب شيء لحرمة ضدّه ، واستلزام وجوب شيء لوجوب مقدّمته ، فإنّ إدراك العقل لذلك هو إدراك لواقع الملازمة دون أن يكون لهذا الإدراك تأثير عملي مباشر ، أي أنّ إدراك العقل لواقع الملازمة ليس له أيّ انعكاس واقتضاء للعمل على طبق ما يقتضيه ذلك المدرك ابتداء ، نعم قد يؤثّر هذا المدرك النظري عمليّا إذا انضمت إليه مقدمة أخرى.

فمثلا إدراك العقل النظري للملازمة بين وجوب شيء وحرمة ضدّه هو إدراك لكون الوجوب علّة لثبوت حرمة الضد واقعا ، وهذا لا يدعو ولا يستوجب موقفا عمليّا مطابقا لما هو مقتضى ذلك الإدراك ، نعم هو يساهم في التأثير العملي إذا ضممنا إليه مقدمة أخرى ، وهي قيام الدليل الشرعي على وجوب الصلاة مثلا ، فيثبت بذلك حرمة الضد للصلاة ، وهذه النتيجة تستوجب موقفا عمليّا مطابقا لها.

وتلاحظ أنّ المدرك بالعقل النظري هنا قد استوجب موقفا عمليّا ، ولكن بواسطة انضمام مقدمة أخرى إليه.

ومثال ما يثبت بواسطة العقل العملي المستقلات العقلية ، مثل إدراك العقل لقبح الظلم وحسن العدل ، فإنّ هذا الإدراك يستتبع موقفا عمليّا مطابقا لمقتضاه دون الحاجة إلى توسّط مقدمة أخرى ، كما هو الحال فيما

ص: 8

يدرك بالعقل النظري.

الأمر الثاني : إنّ المدركات العقلية التي هي محلّ البحث في علم الأصول هي المدركات التي يمكن أن يستفاد منها استكشاف حكم شرعي أو نفي حكم شرعي ، فهي إذن المدركات التي تكون في عرض الكتاب والسنة ، والتي يكون لها نفس الدور الثابت للكتاب والسنة ، وهو الدليلية والكاشفية عن الأحكام الشرعيّة ، وبهذا يتّضح خروج نحوين من المدركات العقلية عن بحث الأصول.

النحو الأول : وهو المدركات العقلية التي تثبت بها حجية الكتاب والسنة ، فإنّ هذا النحو من المدركات ليست في رتبة الكتاب والسنة ، بل هي الموجبة لحجّيتهما ، إذ أنّ ثبوت الحجيّة لهما لا يمكن أن يثبت بواسطة نفس الكتاب والسنة وإلا لزم الدور المستحيل ، كما أنّ الاعتقاد بصدق الكتاب والسنة من الأصول الاعتقادية التي لا يكتفى فيها بالظن ، فلا سبيل للعلم بحجّيتهما إلا الأدلة العقلية القطعية ، وهذه الأدلة العقلية ليست محلا للبحث ولم تقع محلا للنزاع.

النحو الثاني : وهو المدركات العقلية الواقعة في رتبة معلولات الأحكام الشرعية أي أنّها متأخّرة عن الحكم الشرعي ويكون الحكم الشرعي بمثابة العلة لوجودها ، فلولا تقرّر الحكم الشرعي في رتبة سابقة لما كان لذلك الإدراك وجود.

ومثاله إدراك العقل لحسن الطاعة وقبح المعصية ، فإنّ هذا الإدراك مترتّب على وجود أوامر للمولى ، إذ أنّ العقل لا يحكم بحسن الطاعة وقبح المعصية لو لم تكن أوامر للمولى ، فلو قطع العبد بعدم وجود تكليف إلزامي

ص: 9

تجاه فعل معيّن فهنا لا يحكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية ؛ إذ أنّ موضوع حكم العقل بذلك هو وصول التكليف الإلزامي للمكلّف وقد افترضنا عدمه.

ومع اتّضاح هذا النحو من المدركات العقليّة يتّضح خروجه عن محلّ البحث ؛ إذ أنّ البحث الأصولي مختصّ بالمدركات العقلية الواقعة في رتبة الكتاب والسنة والتي يمكن أن يستنبط منها حكم شرعي ، لا المدركات التي تثبت بعد تقرّر الحكم الشرعي.

الأمر الثالث : إنّ الدليل العقلي تارة يكون واسطة في إثبات حكم شرعي وأخرى يكون واسطة في نفي حكم شرعي دون أن تكون له صلاحيّة لإثبات حكم آخر.

ومثال الأول : إدراك العقل لملاك الحكم وأنّه المصلحة التامة المقتضية لترتّب الحكم مع افتراض عدم وجود المانع من تأثير تلك المصلحة أثرها في ترتّب الحكم ، فحينئذ يكون هذا الإدراك موجبا لثبوت الحكم الشرعي بنحو الدليل اللمي الكاشف عن ثبوت المعلول بواسطة ثبوت العلّة.

ومثال الثاني : إدراك العقل لاستحالة اجتماع الأمر والنهي ، أو إدراكه لاستحالة اجتماع حكمين متضادين ، فإنّ إدراك العقل للاستحالة يوجب إدراكه لنفي حكم شرعي يلزم من ثبوته المحال ، فلو قطع المكلف مثلا بحرمة شرب الخمر فإنّ العقل هنا ينفي الحليّة الشرعية عن شرب الخمر ، وذلك لإدراكه استحالة اجتماع حكمين متضادين على موضوع واحد.

الأمر الرابع : إنّ دليليّة الدليل العقلي منوطة بتحقق مقدّمتين تكون إحداهما صغرى والأخرى كبرى لقياس نتيجته دليليّة الدليل العقلي ،

ص: 10

وذلك بواسطة ثبوت الحد الأكبر - والذي هو الحجية - للأصغر وهو متعلّق المدرك العقلي.

فدليليّة الصغرى باعتبار وقوعها صغرى لقياس نتيجته دليليّة الدليل العقلي ، ودليليّة الكبرى باعتبار وقوعها كبرى لقياس نتيجته دليليّة الدليل العقلي.

فالصغرى وحدها ليست كافية لإثبات الدليليّة إذا لم تنضم إليها الكبرى ، وهي حجية الدليل العقلي ، كما أنّ الكبرى وحدها ليست كافية لإثبات دليليّة الدليل العقلي إذا لم تنضم إليها الصغرى ؛ وذلك لانعدام موضوع دليليّة الدليل العقلي - الذي هو نتيجة القياس - ؛ إذ الصغرى مشتملة على موضوع النتيجة - وهو الحد الأصغر - كما أنّ الكبرى مشتملة على محمول النتيجة - وهو الحد الأكبر - وهذا هو الذي يقتضي ركنيّة الصغرى والكبرى لإثبات دليليّة الدليل العقلي ، والذي هو نتيجة القياس المثبت لدليليّة الدليل العقلي ، ولتوضيح المطلب نذكر هذا المثال :

* العقل يحكم بوجوب مقدمة الواجب * وكلّ ما حكم به العقل فهو حجّة * إذن : وجوب مقدمة الواجب حجّة.

وتلاحظون أنّ الصغرى ساهمت في النتيجة كما أن الكبرى ساهمت أيضا في النتيجة ، ومن هنا عبّرنا عن القضايا العقلية الصغروية كما عبّرنا عن الكبرى بالدليل العقلي.

وتلاحظون أيضا أنّ نتيجة هذا القياس هو دليليّة الدليل العقلي ، إذ أنّ الدليلية تعبير آخر عن الحجية والتي هي محمول النتيجة والحد الأكبر

ص: 11

للكبرى ، كما أنّ الدليل العقلي تعبير آخر عن الحد الأصغر والذي هو متعلّق المدرك العقلي ، وفي المثال « وجوب مقدمة الواجب ».

ومع اتّضاح ذلك نقول إنّ البحث الصغروي بحث عن أن العقل هل حقا يدرك هذه القضية؟

وبتعبير آخر : البحث الصغروي بحث عن الأدلّة على إثبات أن العقل يدرك هذه القضية أو لا يدركها ، فمثلا نبحث في البحث الصغروي عن أن حسن العدل وقبح الظلم هل هو من مدركات العقل أو ليس هو من مدركات العقل وما هو الدليل على ذلك؟

وأما البحث الكبروي فهو متأخر عن إثبات القضايا العقلية ، وأن العقل فعلا يدرك صحة هذه القضية ، فإذا ثبت أنّ العقل يدرك صحة قضية من القضايا ، نبحث بعد ذلك عن أن ما أدركه العقل هل هو حجة أو لا؟

إذ أنّ إدراك العقل لقضية من القضايا لا ينهي البحث ولا يثبت الدليليّة لما أدركه العقل ، بل إننا نحتاج إلى إثبات حجية ما يدركه العقل ، فإذا ثبت أنّ ما يدركه العقل حجّة فحينئذ تثبت دليليّة الدليل العقلي.

انقسام القضايا العقلية إلى قسمين :

القسم الأول : القضايا العقلية التي لو تمّت لأمكن الاستفادة منها لاستنباط كثير من الأحكام الشرعية في مختلف الأبواب الفقهيّة ، وذلك مثل إدراك العقل لاستحالة التكليف بغير المقدور ، ومثل إدراك العقل للملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدّمته ، أو وجوب شيء وحرمة ضدّه ، أو إدراكه للملازمة بين ما يحكم به العقل وما يحكم به الشرع ،

ص: 12

وكذلك إدراكه لحجية المدركات العقلية القطعية ، فإنّ مثل هذه القضايا لو افترض تماميّتها لأمكن الاستفادة منها لاستنباط كثير من الأحكام الشرعية ، فمثل إدراك العقل لاستحالة التكليف بغير المقدور يمكن أن يستفاد منه لنفي كل تكليف يلزم من ثبوته التكليف بغير المقدور ، كما يمكن أن يساهم هذا المدرك العقلي في إثبات شرطية القدرة في كلّ التكاليف التي ثبت أن المكلّف مسؤول عن امتثالها.

وهذا ما يجعل مثل هذه القضايا عناصر مشتركة في الاستنباط.

القسم الثاني : القضايا العقليّة التي لو تمّت لما أمكن الاستفادة منها إلا في موردها ، فهي وإن كانت صالحة لأن يستنبط منها حكم شرعي ، إلا أنّ هذه الصلاحية غير مطّردة ، فيكون وزان هذه القضايا وزان بحث مسألة الصعيد والكر أو أنّ هذه الرواية معتبرة سندا ، فكما أنّ إثبات اعتبار رواية ما لا يساهم إلا في الكشف عن الحكم الشرعي المختص بموردها ، فكذلك هذا النحو من القضايا العقلية.

ويمكن التمثيل لهذه القضايا بما يدركه العقل من قبح ضرب اليتيم تشفيّا ، فإنّ هذه القضية وإن كانت تصلح للكشف عن حكم شرعي وهو حرمة ضرب اليتيم شرعا إلا أنها لا تصلح للكشف عن أحكام شرعية أخرى لا تتصل بموردها.

وكذلك يمكن التمثيل بما يدركه العقل من حرمة فعل اعتمادا على ما ثبت عن الشارع من ثبوت نفس ذلك الحكم لموضوع آخر.

ومنشأ ذلك الإدراك هو العلم باتحاد الموضوعين في علّة الحكم ، فلو ثبت عن الشارع حرمة أكل التراب وذلك لكونه مضرّا فإنّ العقل بذلك

ص: 13

يدرك حرمة أكل السم.

ومنشأ إدراك العقل لحرمة أكل السم هو العلم باتّحاد التراب والسم في علّة الحكم ، فما أدركه العقل من حرمة أكل السم يصلح للكشف عن حكم شرعي وهو حرمة أكل السم شرعا ، وهذا المقدار هو الذي تكشف عنه هذه القضية العقلية ، أي أنّها لا تصلح للكشف عن أكثر من موردها.

وهنا أمر لابدّ من التنبيه عليه ، وهو أنّ هذه القضية العقليّة نشأت عن قضية عقلية أخرى ، وهي قياس المساواة وليست هي المقصودة في المثال ، إذ أنّ قياس المساواة من القضايا العقلية التي يمكن الاستفادة منها في استنباط كثير من الأحكام الشرعية ، فهي إذن من العناصر المشتركة.

والمراد من قياس المساواة هي إدراك العقل بترتّب الحكم الثابت شرعا لموضوع على كل الموضوعات المشتملة على علّة ذلك الحكم ، فلو ثبت عن الشارع حرمة شرب الخمر وثبت بأي وسيلة من وسائل الإثبات أنّ علة ثبوت الحرمة للخمر هي الإسكار ، فإنّ العقل يدرك عندئذ أنّ كلّ موضوع اشتمل على نفس العلة فهو حرام.

وتلاحظون أنّ هذه القضية العقلية تصلح لأن يستنبط منها كثير من الأحكام الشرعيّة في مختلف الأبواب الفقهيّة.

وتلاحظون أيضا أنّ منشأ القضية العقلية القاضية بحرمة السم هي من صغريات قياس المساواة ، فحرمة أكل السم قضية عقلية إلا أنها عنصر مختص ، وقياس المساواة قضية عقلية إلا أنّها عنصر مشترك.

ومع اتضاح ما تنقسم عليه القضايا العقلية يتّضح ما هو الداخل منها في علم الأصول ، وما هو الخارج عن بحث علم الأصول ، فإنّه لمّا كانت

ص: 14

ضابطة المسألة الأصوليّة هي كل دليل يمكن أن يقع في طريق استنباط كثير من الأحكام الشرعية في مختلف الأبواب الفقهيّة ، فهذا يقتضي أن يكون القسم الأول من القضايا العقلية داخلا في البحث الأصولي ، غاية ما في الأمر أنّ بعض القضايا تبحث على أساس أنّها صغرى لدليلية الدليل العقلي ، والبحث الآخر - وهو حجية الدليل العقلي - تبحث على أساس أنّها كبرى لدليليّة الدليل العقلي ، فيكون مسار البحث في الصغرى هو البحث عن إدراك العقل لقضية من القضايا وعدم إدراكه وما هو المصحّح لهذا المدرك العقلي ، ويكون البحث عن الكبرى بحثا عن أن مدركات العقل هل هي حجة أو لا؟ وما هو الدليل على حجيّتها؟

فمثلا نبحث في علم الأصول عن إدراك العقل للملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع ، وما هو المصحّح لهذه القضية العقلية ، وهذا بحث صغروي ، ونبحث أيضا عن حجيّة هذه القضية العقلية ، وهل أنّها صالحة للكشف عن الحكم الشرعي ، وهذا هو البحث الكبروي.

أما القسم الثاني من القضايا العقلية ، فلمّا لم يكن عنصرا مشتركا ، فهذا يقتضي خروجه عن البحث الأصولي ، ويتم بحثه في علم الفقه نظير البحث عن مسألة الصعيد ومسألة الكر ، نعم البحث الكبروي وهو البحث عن حجية هذا النحو من القضايا العقلية داخل في البحث الأصولي ؛ وذلك لأنّ الكبرى من القضايا العقلية الصالحة لأن يستنبط منها أحكام شرعية من مختلف الأبواب الفقهيّة ، إذن البحث الكبروي بحث أصولي على أية حال.

ثم إنّ هنا أمرا لا بدّ من التنبيه عليه ، وهو أنّ القضايا المدركة بالعقل

ص: 15

تارة تكون قطعيّة وأخرى تكون ظنّيّة ، والتي نحتاج للبحث عن حجيّتها هي القضايا العقلية الظنية ، أمّا القضايا العقليّة القطعية ، فيكفي في إثبات حجّيتها ما تقدم من أنّ القطع حجة بذاته ويستحيل المنع عن حجّيته.

ولتوضيح المطلب أكثر نقول : إنّ محلّ النزاع في حجّية الدليل العقلي يمكن تصنيفه إلى موردين :

المورد الأول : في حجيّة الأدلة العقلية الظنية كحجّية القياس الظني والاستقراء الناقص والاستحسان والمصالح المرسلة ، وهذا النزاع واقع بين أبناء العامّة ومذهب الإماميّة ، فمذهب الإمامية قاطبة على عدم حجيّة هذا النحو من القضايا العقليّة ، وأكثر العامة يبنون على حجيّة هذه القضايا العقليّة.

المورد الثاني : في حجية الأدلة العقلية القطعيّة كحجيّة ما يدركه العقل من قبح الظلم ، والنزاع هنا واقع بين الإماميّة أنفسهم ، فمذهب مشهور الأصوليّين هو حجيّة هذا النحو من القضايا العقلية ؛ وذلك لحجيّة القطع بذاته سواء كان ناشئا عن الكتاب والسنة أو كان ناشئا عن مقدمات عقلية ، وأمّا مذهب الأخباريين فهو عدم حجية هذا النحو من القضايا العقلية وإن كانت موجبة للقطع ؛ إذ أنّ حجية القطع في نظرهم مختصّ بما إذا كان ناشئا عن الكتاب والسنّة.

وحيث إننا بحثنا حجية القطع وثبت لنا أن القطع حجّة بنحو مطلق فلا نحتاج لإعادة البحث عن حجيّة القضايا العقلية القطعيّة ؛ فلذلك سوف يتركّز البحث الكبروي عن حجيّة القضايا العقليّة الظنيّة ، وسيتّضح عدم حجّيتها.

ص: 16

ومن هنا سوف يقع البحث أولا عن القضايا العقلية الصغروية التي لو تمّت لكانت عنصرا مشتركا ، ويقع البحث ثانيا عن حجيّة القضايا العقليّة الظنية والتي لو تمّت لكانت كبرى لقياس نتيجته دليلية الدليل العقلي.

ص: 17

ص: 18

إثبات القضايا العقلية

تقسيمات للقضايا العقلية :
اشارة

وقد ذكر المصنّف رحمه اللّه ثلاثة تقسيمات للقضايا العقليّة :

التقسيم الأول :

هو انقسام القضايا العقلية إلى ما يعبّر عنه بالمستقلات العقلية ، وغير المستقلات العقلية.

أمّا المستقلات العقلية : فهي القضايا العقلية التي يمكن الاستفادة منها لاستنباط حكم شرعي دون الحاجة لأن تنضم معها مقدمة شرعية ، وعبّر عنها بالمستقلات لأنّ العقل فيها يستقلّ في إثبات الحكم الشرعي دون أن يستعين في ذلك على مقدمة شرعيّة ، فالاستقلاليّة بلحاظ المقدمات الشرعية ؛ إذ أنّ المستقلات العقلية قد تحتاج في مقام إثبات حكم شرعي إلى مقدمة غير شرعيّة.

ويمكن التمثيل للمستقلات العقلية بما يدركه العقل من حسن العدل وقبح الظلم ، فإنّ هذه القضية يمكن الاستفادة منها في مقام الكشف عن حرمة ضرب اليتيم تشفّيا شرعا دون أن نستعين في ذلك بمقدّمة شرعيّة.

وكذلك يمكن التمثيل للمستقلات العقليّة أيضا بما يدركه العقل من أنّ كل ما يحكم به العقل يحكم به الشرع ، فإنّ هذه القضيّة يمكن أن يستنبط

ص: 19

منها حرمة الكذب شرعا - باعتبار حكم العقل بقبحه - دون الحاجة إلى توسّط مقدّمة شرعيّة.

وأمّا غير المستقلاّت العقليّة : فهي قضايا عقليّة صالحة لأن يستنبط منها حكم شرعي ، ولكن بواسطة انضمام مقدّمة شرعيّة إليها ، فالتعبير عن مثل هذه القضايا بغير المستقلاّت ناشيء عن أنّ هذه القضايا لا يمكن الاستفادة منها في الكشف عن الحكم الشرعي دون الاستعانة بمقدّمة شرعيّة ، وهذا لا يعني أنّ نفس إدراك العقل لمثل هذه القضايا متوقّف على مقدّمة شرعيّة ، إذ أنّه لا فرق بين المستقلات وغير المستقلاّت من جهة أنّها من مدركات العقل ، وإنّما الفرق بينهما هو مقام الدليليّة على الحكم الشرعي ، وأنّه متى تتأهّل القضيّة العقليّة للكشف عن الحكم الشرعي؟

فإن كانت محتاجة في مقام الكشف عن الحكم الشرعي إلى مقدّمة شرعيّة ، فهذه القضيّة من غير المستقلاّت العقليّة ، وإلاّ فهي من المستقلاّت العقليّة.

ويمكن التمثيل لغير المستقلاّت العقليّة بما يدركه العقل ، من أنّ وجوب شيء يقتضي حرمة ضدّه ، فإنّ هذه القضيّة لا يمكن الاستفادة منها لإثبات حرمة الصلاة مثلا إلاّ إذا ثبت شرعا وجوب الإزالة.

وكذلك يمكن التمثيل بما يدركه من أنّ النهي في العبادات يقتضي الفساد ، فإنّه لا يمكن استنباط حكم شرعي وهو بطلان صوم يوم العيد مثلا إلاّ بتوسّط مقدّمة شرعيّة ، وهي النهي عن صوم يوم العيد.

التقسيم الثاني :

وهو انقسام القضايا العقليّة إلى قضايا تحليليّة وأخرى تركيبيّة :

المراد من القضايا التحليليّة : هي القضايا التي يبحث عن واقعها ،

ص: 20

والتعبير عنها بالتحليليّة باعتبار أنّ مسار البحث عنها ليس أكثر من تحليلها ، ومحاولة استكشاف كنهها وحقيقتها ، فهي قضيّة عقليّة نبحث عن كيفيّة تقرّرها واقعا ، وأيّ شيء هي في نفس الأمر والواقع؟

ويمكن التمثيل لهذا النحو من القضايا بالوجوب التخييري ، فإنّ البحث عنه بحث عن حقيقته ، وأيّ شيء هو في نفس الأمر والواقع ، فهل هو ينحلّ إلى وجوبين مشروطين؟ أو أنّ حقيقته أنّه وجوب واقع على الجامع؟

وأمّا المراد من القضايا التركيبيّة : فهي القضايا التي يكون محمولها الاستحالة أو الضرورة ، والتي تعني الوجوب المقابل للامتناع ، ويكون البحث فيها عن ثبوت الاستحالة أو عدم ثبوتها وثبوت الضرورة أو عدم ثبوتها بعد تقرّرها واتّضاح معناها في مرحلة سابقة.

ويمكن التمثيل لهذا النحو من القضايا باستحالة اجتماع الأمر والنهي ، فإنّ البحث عن هذه القضيّة العقليّة بحث عن ثبوت الاستحالة أو عدم ثبوتها بعد أن كانت هذه القضيّة محرّرة وواضحة.

وكذلك يمكن التمثيل باستلزام وضرورة وجوب المقدّمة عند وجوب ذي المقدّمة ، فإنّ البحث عنها يكون عن ثبوت هذه الملازمة وعدم ثبوتها بعد تصوّر هذه القضيّة واتّضاح معالمها.

التقسيم الثالث :

وهو تقسيم خاصّ بالمستقلات العقليّة التركيبيّة ، فلا يشمل غير المستقلاّت كما لا يشمل المستقلات إذا كانت من قبيل القضايا التحليليّة ، وهذا التقسيم إنّما هو بلحاظ ما تدلّ عليه هذه القضايا.

ص: 21

فالمستقلات العقليّة التركيبيّة تنقسم بهذا اللّحاظ إلى قسمين :

الأوّل : هو ما تكون فيه القضيّة العقليّة دالّة على نفي حكم شرعي.

والثانية : ما تكون فيه دالّة على إثبات حكم شرعي.

أمّا الأوّل : فمعنى نفيها للحكم الشرعي هو أنّه يمكن أن يستنبط منها انتفاء حكم عن أن يكون ثابتا شرعا.

ويمكن التمثيل لهذا النحو من المستقلاّت التركيبيّة بقاعدة ( استحالة التكليف بغير المقدور ) ، فإنّه يمكن أن يستنبط من هذه القاعدة نفي حكم شرعي لو ثبت للزم من ثبوته التكليف بغير المقدور ، فيكفي في استكشاف نفي الحكم لزوم المحال عند افتراض ثبوت ذلك الحكم.

وأمّا الثاني : فمعنى إثباتها لحكم شرعي هو أنّه يمكن أن يستنبط منها ثبوت حكم شرعي.

ويمكن التمثيل لهذا النحو من المستقلاّت التركيبيّة بقاعدة أنّ كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، فإنّه يمكن أن يستنبط من هذه القاعدة وجوب ردّ الأمانة شرعا ؛ وذلك لإدراك العقل حسن ردّ الأمانات إلى أهلها ، وكلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ، فهذه القاعدة قد ساهمت في استنباط حكم شرعي هو وجوب ردّ الأمانة.

تفاعل القضايا العقليّة فيما بينها :

والمراد من تفاعل القضايا العقليّة فيما بينها هو : أنّه قد يساهم بعضها في الاستدلال على قضية عقليّة أخرى ، وقد يكون البحث عن قضية عقلية يجرّ إلى البحث عن قضية عقلية أخرى ؛ وذلك لأن تحرير القضيّة العقليّة

ص: 22

الأولى منوط بثبوت أو تفسير القضيّة العقليّة الأخرى.

وقد أشار المصنّف رحمه اللّه إلى ثلاث حالات من حالات تفاعل القضايا العقليّة فيما بينها :

الحالة الأولى : مساهمة بعض القضايا العقليّة التحليليّة في البرهنة على قضايا عقليّة تحليليّة أخرى.

ومثال ذلك : تصوير تعلّق الأحكام بالطبايع ، فإنّه يساهم في تصوير الوجوب التخييري ، وكذلك تصوير تعلّق الأحكام بالأفراد ، فإنّه قد يؤدي إلى تبنّي أنّ الوجوب التخييري ينحلّ إلى وجوبات مشروطة.

الحالة الثانية : مساهمة بعض القضايا العقليّة التحليليّة في البرهنة على قضايا أخرى تركيبيّة.

ومثاله : القضية العقليّة التركيبيّة وهي إمكان أو استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس الحكم ، فإنّه برهن على دعوى الإمكان بواسطة تصوير مرتبتين للحكم وهي مرتبة الجعل ومرتبة المجعول.

الحالة الثالثة : مساهمة قضية عقليّة تركيبيّة في البرهنة على قضية عقليّة تركيبيّة.

ومثال ذلك : قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور إذا كان المراد منها استحالة المؤاخذة والإدانة على ترك التكليف غير المقدور ، فإنّ مدرك هذه القاعدة العقلية التركيبيّة هو ما يدركه العقل من قبح الظلم واستحالة صدوره عن المولى جلّ وعلا.

وملاحظة البحوث الآتية يوضّح كيفيّة تفاعل القضايا العقليّة فيما بينها أكثر.

ص: 23

ص: 24

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور

اشارة

لا إشكال في إدراك العقل لاستحالة التكليف بغير المقدور ؛ لأنّه إذا كان الغرض من التكليف هو جعل العهدة والمسئوليّة على المكلّف بحيث يكون متعلّق الإرادة روحا هو مؤاخذة المكلّف العاجز ومعاقبته وليس له غرض البعث والتحريك نحو امتثال التكليف ؛ وذلك لعلمه بعدم إمكان أن يتحرّك المكلّف عن التكليف بعد افتراض عدم قدرته على ذلك ، فهذا من أجلى صور الظلم ، والذي لا ريب في إدراك العقل لقبحه ، ولمّا كان المولى جلّ وعلا منزّه عن الظلم فهذا يستوجب استحالة أن يصدر عنه ما يلزم منه الظلم.

وأما إذا كان الغرض من التكليف هو بعث المكلّف نحو امتثال التكليف غير المقدور ، فهذا يقتضي إمّا أن لا يكون المولى ملتفتا إلى عدم إمكان أن يتحرّك المكلّف نحو امتثال التكليف ، وإمّا أن يكون ملتفتا ، وكلاهما مستحيل على المولى جلّ وعلا ، أمّا الأول فواضح ، وأمّا الثاني فلامتناع أن يكون العاقل ملتفتا إلى عدم قدرة المكلّف على التحرّك والانبعاث ، ومع ذلك يكون جادّا في بعثه وتحريكه ، فافتراض الالتفات من العاقل حين بعثه نحو غير المقدور لا يخلو عن أحد حالتين :

إما أن يكون العاقل الملتفت عابثا ، وإمّا أن يكون جادّا ، والأول

ص: 25

مستحيل على المولى جلّ وعلا ، لتنزّهه عن اللغو والعبث ، والثاني أيضا مستحيل ، إذ أنّ افتراض الجدّ مع الالتفات إلى عدم إمكان أن يتحرّك العبد عن تحريكه وبعثه غير متصوّر أصلا.

وكيف كان فالاستحالة إنّما تثبت في خصوص الموارد التي يلزم منها أحد اللوازم الباطلة ، وهذا ما يستوجب تحرير القاعدة وبيان حدود جريانها فنقول :

إنّ المراد من هذه القاعدة لا يخلو عن أحد معنيين :

المعنى الأوّل : هو أنّ استحالة التكليف بغير المقدور تعني استحالة أن يؤاخذ المولى ويعاقب المكلّف على ترك تكليف خارج عن حدود القدرة ، كمؤاخذة المكلّف على ترك الصلاة في وقتها رغم أنّه كان مغمى عليه في تمام الوقت ، وهذا المقدار من الاستحالة مسلّم ، إذ أنّ المؤاخذة على ترك التكليف غير المقدور من أجلى صور الظلم والذي هو قبيح عقلا ، والمولى منزّه عن ارتكاب القبيح.

ومن هنا يتّضح خروج التكليف بغير المقدور عن حدود حقّ الطاعة للمولى ، لاستلزام ذلك للظلم المستحيل على المولى جلّ وعلا.

المعنى الثاني : أنّ الاستحالة ثابتة لأصل التكليف بغير المقدور حتى مع عدم ترتّب المؤاخذة على ترك المكلّف لمتعلّق التكليف ، فلو كان متعلّق التكليف خارجا عن قدرة المكلّف فإنّ ذلك وحده يستوجب استحالة أن يجعل المولى متعلّق التكليف على عهدة المكلّف حتى مع افتراض عدم المؤاخذة على الترك ، وهذا يعني توسيع دائرة الاستحالة لتشمل أصل التشريع للتكاليف غير المقدورة.

ص: 26

وبهذا يتّضح أنّ مصبّ الاستحالة بناء على المعنى الأوّل هو المؤاخذة والإدانة على ترك التكليف غير المقدور ، ولا تعرض له لأصل صدور التكليف بغير المقدور ، وأنّه مستحيل أيضا أم لا. وأمّا موضوع الاستحالة بناء على المعنى الثاني ، فهو أصل صدور التكليف بغير المقدور ، حتى مع افتراض عدم المؤاخذة ، وهذا ما يقتضي توسيع دائرة الاستحالة ، بحيث نستطيع أن نقول إنّ كل فعل خارج عن القدرة يستحيل أن يكون متعلّقا للتكليف المولوي.

ومن هنا سوف يقع البحث عن المعنى الثاني ، إذ هو الذي يحتاج إلى بيان لاستكشاف تماميّته أو عدم تماميّته ، فنقول : إنّ واقع الحكم التكليفي يمرّ بثلاث مراحل - كما أوضحنا ذلك في محلّه - ويكفي في انتفاء التكليف أن يكون أحد هذه المراحل متعذّر الوقوع.

المرحلة الأولى : من مراحل التكليف هو اشتمال الفعل الذي يراد جعل الحكم عليه - على المصلحة أو المفسدة ، وهذا ما يعبّر عنه بالملاك ، إذ لا يمكن أن يكون الفعل مطلوبا فعله أو مطلوبا تركه دون أن يكون مشتملا على المصلحة أو المفسدة ، إذ الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها.

ومن هنا نتساءل هل يمكن أن يكون الفعل مشتملا على الملاك مع افتراض خروجه عن قدرة المكلّف؟

والجواب بالإيجاب ، إذ أنّ اشتمال الفعل على المصلحة أو المفسدة غير منوط بقدرة المكلّف على تحقيقه خارجا بل منوط بواقع الفعل وما يترتّب عليه من فوائد ومضار ، وهذا أمر وجداني لا يحتاج الإذعان به إلى أكثر من تصوره ، فمفسدة شرب الخمر منحفظة حتّى في موارد إلجاء الغير

ص: 27

المكلّف على شربه ، كما أنّ إنقاذ المؤمن حسن وذو مصلحة حتى مع عجز المكلّف عن إنقاذه. إذن لا استحالة بأن يتعلّق الملاك بغير المقدور.

المرحلة الثانية : من مراحل التكليف هو تعلّق الإرادة بالفعل أو المبغوضيّة ، وهذا أيضا غير منوط بقدرة المكلّف على تحقيقه خارجا ؛ إذ أنّ الإرادة ليست أكثر من محبوبيّة الفعل أو الترك ، وهذا لا ارتباط له بقدرة المكلّف وعدم قدرته ، وإنّما هو منوط بتصوّر الفعل وتصوّر ما يترتّب عليه من فوائد متّصلة باهتمامات المولى ، ثم الإذعان والتصديق بترتّب تلك الفوائد على ذلك الفعل ، فمع تحقّق مناط الإرادة فإنّ الفعل عندئذ يكون مرادا ومحبوبا ، وإن كان متعذّر الوقوع خارجا فضلا عمّا إذا كان ممكن الوقوع وكان امتناعه ناشئا عن موانع عارضة. فالإتيان بالصلاة يمكن أن يكون محبوبا للمولى في مورد يكون المكلّف فاقدا للاختيار لعارض الإغماء مثلا. وبهذا يتّضح إمكان تعلّق الإرادة بغير المقدور.

المرحلة الثالثة : من مراحل التكليف هي الاعتبار ، ويمكن تعلّقه بغير المقدور لو كان المراد من الاعتبار هو تكييف النفس بكيفيّة تكون تلك الكيفيّة مسوّغة - ولو اعتباطا - لجعل شيء لشيء ، إذ أنّ الاعتبار كما قيل سهل المؤنة ، إلاّ أنّه مستحيل على المولى مع افتراض عبثيّة الاعتبار ، أمّا لو افترضنا أنّ تلك الكيفيّة النفسانيّة نشأت عن مبرّر ، وهو الكشف عن الملاك والإرادة - فالمعتبر لا يراد منه إلا الكشف عن أن الفعل متوفّر على المصلحة والمحبوبيّة - فهنا أيضا لا إشكال في إمكان تعلّق الاعتبار - بهذا المعنى - بالفعل غير المقدور ، إذ أنّه لمّا كان له مبرّر عقلائي فوقوعه من المولى ممكن جدّا ، فنحن نجد أنّ المقنّنين يجعلون بعض التكاليف على أنّها

ص: 28

تكاليف اقتضائيّة ، ولا يقصدون من جعلها إلا الكشف عن اشتمال متعلّقاتها على مبادئ الحكم ، والوقوع أقوى شاهد على الإمكان.

إنّما الكلام في الاعتبار الذي يكون منشؤه داعي البعث والتحريك نحو متعلّق التكليف المعتبر والذي يكون خارجا عن قدرة المكلّف ، فإنّ هذا النحو من الاعتبار يستحيل وقوعه من المولى لأنّه لا يخلو عن أن يكون المولى حين الاعتبار إمّا ملتفتا إلى عجز المكلّف عن تحقيق متعلّق التكليف وإمّا أن يكون غير ملتفت ، وكلاهما مستحيل على المولى ، أما الثاني فواضح ، وأمّا الأول فلأنّه يستحيل على العاقل أن يكون ملتفتا إلى عجز المأمور عن تحقيق المأمور به ، ومع ذلك يكون جادّا في بعثه وتحريكه ، إذ أنّ افتراض جدّيّة البعث والتحريك ينافي الالتفات إلى استحالة الانبعاث والتحرّك.

وبهذا اتّضح استحالة الاعتبار إذا كان بداعي البعث والتحريك نحو غير المقدور. ولمّا كان ظهور حال المولى حين جعل الأحكام واعتبارها على المكلّفين هو البعث والتحريك ، فهذا يقتضي تقيّدها بالقدرة على متعلّقها.

وبتعبير آخر : إنّ الظاهر من الأوامر والنواهي الصادرة عن الشارع المقدّس هو أنّ هذه الأوامر والنواهي يراد امتثالها والتحرّك عنها ، واحتمال كون الغرض من هذه الأوامر هو الكشف عن اشتمال متعلّقاتها على مبادئ الحكم وإن كان ممكنا إلاّ أنّه خلاف الظاهر ، إذ أنّ الظاهر من كلّ مولى حينما يصدر أوامر ونواهي لعبيده هو إرادة بعثهم نحو متعلّقات تلك الأوامر ، وزجرهم عن متعلّقات تلك النواهي ، وتماميّة هذا الاستظهار

ص: 29

تستوجب البناء على تقيّد كل تلك التكاليف بالقدرة على متعلّقاتها.

وهذا لا يختصّ بالتكاليف الإلزاميّة بل هو شامل للتكاليف غير الإلزاميّة أيضا وهي الاستحباب والكراهة ، فكما يستحيل جعل الوجوب على فعل غير مقدور أو جعل الحرمة على ارتكاب فعل يتعذّر على المكلّف تركه ، فكذلك يستحيل البعث الاستحبابي نحو فعل خارج عن القدرة أو الزجر الكراهتي عن فعل يكون تركه خارجا عن قدرة المكلّف ، وكذلك يستحيل التكليف بغير المقدور مطلقا ، حتى في موارد كون التكليف مقيدا بقيد داخل تحت اختيار المكلّف ، كما لو قال الآمر إن اشتريت حيوانا فيجب عليك أن تجعله قارئا للقرآن ، فإنّ القيد الذي علّق عليه التكليف غير المقدور وإن كان اختياريّا ، إلا أنّ ذلك لا يرفع استحالة التكليف بغير المقدور ، لعين ما ذكرناه في منشأ الاستحالة.

وبهذا البيان اتّضح أنّ الاستحالة لا تختص بالإدانة والمؤاخذة ، بل إنّ أصل التكليف بغير المقدور مستحيل أيضا ، وذلك لاستحالة البعث والتحريك نحو غير المقدور ، وقد قلنا إنّه يكفي في استحالة أصل التكليف هو تعذّر وقوع أحد مراحله الثلاث ، وقد ثبت ممّا تقدّم أنّ المرحلة الثالثة وهي الاعتبار بداعي البعث متعذّرة الوقوع.

ومن هنا قلنا إنّ أصل التكليف بغير المقدور مستحيل وإنّ كل تكليف فهو مشروط بالقدرة ، نعم مبادئ الحكم والتي هي الملاك والإرادة لا يلزم من تعلّقها بالأفعال كون تلك الأفعال مقدورة كما اتّضح ممّا تقدّم.

إلاّ أنّه من الممكن أن تكون مبادئ الحكم مشروطة بالقدرة بحيث

ص: 30

تنتفي المصلحة والإرادة عن الفعل حين افتراض عدم القدرة على تحقيقه.

ومن هنا يمكن أن يقال إنّ مبادئ الحكم بلحاظ القدرة لها حالتان :

الحالة الأولى : هو عدم كونها مشروطة بالقدرة ، فالمصلحة والمحبوبيّة للفعل ثابتة مطلقا ، أي سواء كان ذلك الفعل داخلا تحت القدرة أو خارجا عنها. وكذلك المفسدة والمبغوضيّة للفعل ثابتة مطلقا سواء كان ترك ذلك مقدورا للمكلّف أو أنّ تركه غير مقدور.

ويمكن أن يمثّل لذلك بالصلاة فإنها متوفّرة على الملاك والإرادة مطلقا حتى في ظرف عدم القدرة عليها كما في حال الإغماء ، وكذلك قتل النفس المحترمة فإنّه مشتمل على المفسدة والمبغوضيّة حتى في ظرف كون القتل عن غير اختيار.

الحالة الثانية : أنّ المصلحة والمفسدة في الفعل منحصرة بظرف القدرة بحيث لا يكون الفعل ذا مصلحة أو ذا مفسدة ما لم يكن مقدورا.

ويمكن التمثيل لذلك بأكل الميتة فإنّ مبغوضيّته منوطة بالقدرة على ترك أكلها. وبهذا يكون انتفاء الحرمة عن أكل الميتة ناشئا عن انتفاء المقتضي للحرمة وهي المفسدة والمبغوضيّة لا أنّ المنشأ للحرمة هو المانع والذي هو استحالة التكليف بغير المقدور وإنّ التكليف في واقعه متوفّر على مبادئه وهي الملاك والمبغوضيّة.

وفي الحالة الأولى - والتي لا يكون الملاك فيها منوطا بالقدرة - يكون اشتراط التكليف بالقدرة شرطا عقليا ، ويعبّر عن القدرة التي يكون التكليف منوطا بها « بالقدرة العقليّة » ، إذ لا منشأ لاشتراط التكليف

ص: 31

بالقدرة حينئذ إلاّ ما يدركه العقل من استحالة التكليف بغير المقدور ، إذ أننا افترضنا في هذه الحالة أنّ الملاك والإرادة مطلقان وغير منوطين بالقدرة.

وهذا بخلاف الحالة الثانية فإنّ الملاك والإرادة لا وجود لهما في ظرف عدم القدرة ، وهذا يعني أنّه مع افتراض عدم القدرة لا مقتضي للتكليف لا أنّ مقتضي التكليف موجود إلا أنّ المانع عنه هو الاستحالة العقليّة كما في الحالة الأولى ؛ ولذلك يعبّر عن شرط القدرة - في التكاليف التي تكون مبادؤها مختصة بحال القدرة - بالشرط الشرعي ، ويعبّر عن القدرة في هذه الحالة بالقدرة الشرعية.

إذن التكليف الذي تكون مبادؤه مطلقة يعبّر عن شرط القدرة فيه بالشرط العقلي ، وعن القدرة التي يكون التكليف مشروطا بها بالقدرة العقليّة.

أمّا التكليف الذي تكون مبادؤه مختصة بحال القدرة يعبّر عن شرط القدرة في مثل هذا التكليف بالشرط الشرعي كما يعبّر عن نفس القدرة « بالقدرة الشرعيّة ».

الثمرة المترتّبة على المعنيين :

أمّا الثمرة بناء على المعنى الأول - وهو أنّ مصب الاستحالة هو المؤاخذة والإدانة على ترك التكليف غير المقدور - فظاهرة وهي أنّ المكلّف ليس مسؤولا عن ترك التكليف غير المقدور ولا يعدّ عاصيا ومتعدّيا على مقام الربوبيّة.

وأما المعنى الثاني والذي يقتضي شمول الاستحالة لأصل التكليف غير المقدور فقد يقال بأنّه لا ثمرة مترتّبة عليه بعد إن لم يكن المكلّف مسؤولا

ص: 32

عن ترك التكليف غير المقدور فسواء قلنا إنّ أصل التكليف بغير المقدور ممكن أو مستحيل فالمكلّف غير مؤاخذ على ترك ذلك التكليف ، فلو افترضنا أنّ التكليف بغير المقدور ممكن فما هو الأثر المترتّب على ذلك بعد إن لم يكن المكلّف مؤاخذا على تركه ، إلاّ أنه يمكن إبراز ثمرة للمعنى الثاني وهي عدم القضاء مثلا لو كنّا نبني على استحالة أصل التكليف بغير المقدور ، وثبوت القضاء لو كنّا نبني على عدم استحالة أصل التكليف بغير المقدور.

وبيان ذلك :

إنّ الملاك لمّا لم يكن معلقا على القدرة فقد يكون الفعل متوفّرا على الملاك ويكون المانع عن التكليف به هو عدم قدرة المكلّف على امتثاله ، وهذا ما يقتضي القضاء لو افترض زوال العجز ، وهذا بخلاف ما لو لم يكن الفعل واجدا للملاك في ظرف العجز فإنّ زوال العجز عن المكلّف بعد ذلك لا يستوجب القضاء إذ أنّ الملاك لم يكن حتى يجب تداركه بعد زوال العجز.

ومن هنا تظهر الثمرة بناء على القول باستحالة أصل التكليف بغير المقدور ، إذ بناء عليها يستكشف من الخطاب الشرعي عدم واجدية التكليف غير المقدور للملاك حتى لو لم يقيد التكليف بالقدرة ، إذ أنّ نفس الاستحالة كاشفة عن أن التكليف مشروط بالقدرة ، وهذا يعني عدم فعليّة الملاك في ظرف العجز أو لا أقل عدم وجود ما يكشف عن أنّ الملاك موجود في ظرف العجز وهذا ما يقتضي عدم وجوب القضاء لو زال العذر ، إذ لا كاشف عن فوات الملاك حتى يجب تداركه ؛ إذ أنّ الملاك كما اتضح من بحوث سابقة مدلول التزامي للدليل ومع سقوط الدلالة المطابقيّة للدليل

ص: 33

تسقط بتبعها الدلالة الالتزاميّة. والدليل المطابقي الكاشف عن المدلول الالتزامي في المقام هو الخطاب الشرعي المطلق والمثبت للتكليف والذي يستلزم ثبوت الملاك للتكليف ، فإذا قامت القرينة العقليّة - وهي استحالة التكليف بغير المقدور - على سقوط التكليف في ظرف العجز فالدلالة الالتزامية تسقط أيضا بناء على ما ذهب إليه المصنّف من تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة في الثبوت والانتفاء.

وهذا بخلاف ما لو بنينا على عدم استحالة أصل التكليف بغير المقدور ، فإنه لو كان الخطاب الشرعي مطلقا فإنّه يمكن التمسّك به لإثبات أنّ التكليف شامل للعاجز ، وهذا يقتضي أنّ الفعل واجد للملاك في ظرف العجز ، إذ أن هذا هو المدلول الالتزامي ، ولمّا لم يكن هناك ما يوجب سقوط المدلول المطابقي فهذا يقتضي كاشفيّته عن المدلول الالتزامي وهو وجود الملاك في ظرف العجز ، إذ أنّ فرض الكلام أنّه لا استحالة في أصل التكليف بغير المقدور.

ومن هنا يمكن إثبات القضاء بعد زوال العجز ؛ وذلك لتدارك ما فات من الملاك.

ولمزيد من التوضيح نقول :

إنّه قد اتّضح ممّا تقدّم أنّ مبادئ الحكم من الملاك والإرادة ليست منوطة بالقدرة ، فقد يكون الفعل واجدا للمصلحة والمحبوبيّة مع أنّه خارج عن قدرة المكلّف ، وفي مثل هذه الحالة يكون المقتضي للتكليف موجودا.

فهنا نقول إنّه لو بنينا على استحالة أصل التكليف بغير المقدور فكلّ

ص: 34

الخطابات الشرعيّة الكاشفة عن التكاليف تكون مقيّدة بالقدرة حتى مع عدم النصّ على التقييد ، إذ أنّ نفس قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور كاشفة عن عدم شمول التكليف للعاجز وأنّ الإطلاق ليس مرادا جديّا من الخطاب ، وبسقوط التكليف عن العاجز تسقط الدلالة الالتزاميّة للخطاب الشرعي الكاشفة عن ثبوت الملاك للفعل المكلّف به مطلقا ، والذي يسقط من الدلالة الالتزاميّة هو مقدار ما سقط من الدلالة المطابقيّة ، فالدلالة المطابقيّة التي دلّت على تكليف العاجز هي التي تسقط بواسطة القرينة العقليّة فيكون الساقط من الدلالة الالتزاميّة هو ثبوت الملاك للفعل في ظرف العجز ، ومنشأ سقوط الدلالة الالتزاميّة هو قاعدة تبعيّة الدلالة الالتزاميّة للدلالة المطابقيّة في الثبوت والانتفاء.

ومن هنا يتعذّر إثبات واجديّة الفعل للملاك في ظرف العجز ؛ إذ الكاشف عنه هو المدلول المطابقي المثبت للتكليف في ظرف العجز وقد افترضنا سقوطه بواسطة القرينة العقلية.

وإذا تمّ ما ذكرناه من عدم وجود الدليل على ثبوت الملاك في ظرف العجز فهذا يقتضي عدم وجوب القضاء بعد زوال العجز ؛ وذلك لأنّ القضاء إنّما هو لتدارك الملاك الفائت ولا دليل على فواته بعد أن كان المثبت للملاك قد سقط.

وبهذا تكون الثمرة المترتّبة على القول باستحالة أصل التكليف بغير المقدور هو سقوط المدلول الالتزامي المثبت للملاك في ظرف العجز ، وينتج عن ذلك عدم وجوب القضاء بعد زوال العجز.

وأمّا لو بنينا على عدم استحالة أصل التكليف بغير المقدور فلا

ص: 35

موجب لتقييد الإطلاقات المثبتة للتكاليف ، وبهذا يكون مقتضى الإطلاق هو ثبوت التكليف في ظرف العجز ، وهذا يقتضي ثبوت الملاك في ظرف العجز إذ هو المدلول الالتزامي لثبوت التكليف ، وهذا ما ينتج وجوب القضاء بعد زوال العجز ؛ وذلك لتدارك الملاك الفائت بسبب العجز.

ص: 36

قاعدة إمكان التكليف المشروط

اشارة

ويقع البحث في المقام عن إمكان أن يكون الحكم مشروطا ، إذ قد يقال باستحالة أن يكون الحكم معلقا ؛ وذلك لأنّ الحكم إما أن يجعل على المكلف وإمّا ألا يجعل ، ولا واسطة بين الحالتين ، فافتراض وجود الحكم يعني افتراض عدم كونه معلّقا ؛ وذلك لأنّ تعليقه على الشرط يعني عدم وجوده.

وبتعبير آخر : إنّ جعل الحكم على المكلّف يعني أنّ المولى قد أعمل مولويّته وأوجد حكما وهذا يقتضي عدم كونه مشروطا ، إذ أنّ افتراض كونه مشروطا يساوق عدم الحكم ؛ لأنّ كل شيء علّق على شرط فهو عدم ما لم يتحقّق شرطه ، وهذا ينافي افتراض إيجاد المولى للحكم. ومن هنا يدّعى استحالة التكليف المشروط.

ومن أجل أن يتّضح ما هو الحق في المقام لا بدّ من بيان مقدّمة :

إنّ جعل الأحكام غالبا ما يكون على نهج القضيّة الحقيقيّة ، والمراد من القضيّة الحقيقيّة هي ما يكون الموضوع فيها مقدر الوجود ، وهذا يعني ملاحظة الموضوع مع كلّ ما يكون دخيلا في ترتّب الحكم ثم جعل الحكم معلقا على تحقق الموضوع المفترض مع جميع القيود المأخوذة معه.

فالجائي بالقضيّة الحقيقيّة يكون قد تصوّر الموضوع وتصوّر معه

ص: 37

الحيثيات الدخلية في ترتّب الحكم ثم أناط الحكم بذلك الموضوع المتصوّر هو مع حيثياته.

مثلا لو قال المولى : « إذا كان للمكلّف أموال وكانت بقدر النصاب وحال عليها الحول وهي تحت يده وجبت عليه الزكاة » فإنّ المولى هنا قد تصوّر الموضوع مع تمام الحيثيّات الدخيلة في ترتّب الحكم وهو وجوب الزكاة ثمّ جعل الحكم معلّقا على الموضوع المفترض مع حيثيّاته المفترضة والمقدرة ، ومن هنا قالوا بأن القضايا الحقيقيّة في قوّة القضايا الشرطيّة حتى وإن كانت القضيّة الحقيقيّة بهيئة القضيّة الحمليّة ؛ وذلك لأن القضايا الشرطية يكون الحكم فيها معلقا على شرطه فمتى ما تحقق الشرط ترتّب الحكم المعلّق عليه.

ومع اتّضاح هذه المقدمة نقول :

إنّ فعلية الحكم منوطة بتحقّق موضوعه خارجا ، فما لم يتحقّق الموضوع مع تمام الحيثيّات المأخوذة في ترتّب الحكم لا يكون المكلّف مسؤولا عن امتثال ذلك الحكم ؛ وذلك لأنّ جعل الحكم معلقا على تحقّق موضوعه يعني أنّه بمثابة المعلول لموضوعه ، وإذا كان كذلك فلابدّ من تحقق الموضوع مع حيثياته ، وبعد ذلك يوجد الحكم - أي يكون فعليّا - ويكون المكلّف مسؤولا عنه.

إلاّ أنّه قد يقال : إذا كان الحكم منوطا بتحقق موضوعه خارجا فأيّ حكم نشأ بواسطة القضية الحقيقيّة؟ فإمّا أن تلتزم أن الحكم ينشأ بواسطة القضيّة الحقيقيّة ، وهذا ما يقتضي وجوده وفعليته بمجرّد وجود منشأ جعله وهي القضيّة الحقيقيّة ، وإمّا أن تلتزم بإناطة وجود الحكم بوجود موضوعه ،

ص: 38

وهذا يقتضي أن لا يكون هناك حكم نشأ عن القضيّة الحقيقيّة ، وهذا ينافي كون المولى - حين أنشأ القضيّة الحقيقيّة - أعمل مولويته وجعل الحكم على المكلّف.

والجواب عن هذا الإشكال :

هو أنّ الذي نشأ بواسطة القضية الحقيقيّة هو الجعل والذي ينشأ بواسطة تحقّق الموضوع خارجا هو المجعول. وبيان ذلك :

أنّ المولى حينما رتّب حكما على موضوع مقدّر يكون قد أوجد حكما بالفعل ، وذلك في مقابل من تصوّر موضوعا مع مجموعة من الحيثيّات إلاّ أنّه تردّد في إثبات حكم لهذا الموضوع مع حيثيّاته ، فلو قدّر لهذا الموضوع بحيثيّاته الوجود في هذه الحالة لا وجود للحكم أصلا ، أمّا في فرض الكلام وهو جعل حكم على نهج القضيّة الحقيقيّة فالحكم موجود ؛ ولذلك يمكن أن يقال إنّ المولى قد حكم بهذا الحكم على ذلك الموضوع.

إذ أنّ الحكم الناشئ عن القضيّة الحقيقيّة هو المعبّر عنه بالجعل والحكم فيه يكون موضوعه مقدر الوجود ، فقوام الحكم الذي هو الجعل هو تصوّر الموضوع مع تصوّر ما له دخل في ترتب الحكم ، فالصورة الذهنيّة للموضوع هي قوام الجعل.

وأمّا ما ينشأ بواسطة تحقّق الموضوع خارجا فهو فعليّة الحكم ، أي أنّ المكلّف يكون مسؤولا عن امتثال الحكم حين تحقق الموضوع خارجا ، فتحقق الموضوع علّة لفعليّة الحكم. وهذا هو المعبّر عنه بالحكم المجعول.

وبتعبير آخر : إنّ الحكم له مرتبتان : الأولى هي مرتبة الجعل والثانية هي مرتبة المجعول ، فما ينشأ بواسطة القضيّة الحقيقيّة هو الحكم بمرتبة

ص: 39

الجعل وما ينشأ بواسطة تحقّق الموضوع خارجا هو مرتبة المجعول.

فحينما يقول المولى : « إذا كان للمكلّف أموال وكانت بقدر النصاب وحال عليها الحول وهي تحت يده وجبت عليه الزكاة » ، فإنّ هنا حكم بوجوب الزكاة إلاّ أنّه حكم إنشائي يعبّر عنه بالحكم في مرتبة الجعل ؛ وذلك لأنّ موضوعه مقدّر الوجود فإذا تحقّق الموضوع بأن وجد مكلّف له أموال بقدر النصاب وقد حال عليها الحول وهي تحت يده فإنّ الحكم الذي كان بمرتبة الجعل يصير فعليا على المكلّف ويكون مسؤولا عن امتثاله ، وهذا هو الحكم بمرتبة المجعول.

فالحكم بمرتبة الجعل يكون متحقّقا من حين إنشاء القضيّة الحقيقيّة ، إذ أنّ موضوعه مقدر الوجود وهذا متصوّر حين جعل الحكم ، وهذا هو مبرّر استحالة أن يكون الحكم بمرتبة الجعل مشروطا ؛ إذ أن مشروطيّته تعني عدم وجوده إلاّ بعد تحقّق شرطه والحال أنّه موجود من حين إنشاء القضيّة الحقيقيّة ؛ إذ أنّ المولى حين إنشاء القضيّة الحقيقيّة متصد لإيجاد الحكم وهذا ما يمنع كونه معلقا ومشروطا.

أمّا الحكم بمرتبة المجعول فإنّه معلّق ومشروط بتحقّق موضوعه خارجا فهو لا يوجد بوجود القضيّة الحقيقيّة وإنما يوجد حين تقرّر الموضوع خارجا.

وبهذا البيان يتّضح إمكان الحكم المشروط ، فالحكم المشروط هو الحكم بمرتبة المجعول « الفعليّة » بل إنّ الحكم المجعول دائما يكون مشروطا وذلك لتوقفه على تحقّقق موضوعه خارجا.

فالمراد من الحكم الذي يمكن أن يكون مشروطا هو الحكم المجعول

ص: 40

من غير فرق بين أن يكون الحكم من سنخ الأحكام التكليفيّة كما في مثال وجوب الزكاة ، أو من سنخ الأحكام الوضعيّة كما لو قال المولى « إذا قال الزوج لزوجته في حال وعيه أنت طالق وكانت في طهر لم يواقعها فيه فقد وقع الطلاق » ، فالحكم بالطلاق من سنخ الأحكام الوضعيّة وقد رتّب هذا الحكم على تحقّق الموضوع بحيثيّاته خارجا ، فالطلاق الفعلي « المجعول » منوط بتحقّق موضوعه خارجا ، وأمّا الحكم بالطلاق في مرتبة الجعل فموضوعه ما لاحظه المولى حين جعل الطلاق على نهج القضيّة الحقيقيّة.

ص: 41

ص: 42

قاعدة تنوّع القيود وأحكامها

تنوّع القيود :

القيد في كل شيء ما يوجب تضييق دائرة المقيّد به ، فلا تكون الطبيعة معه مرادة على سعتها بل المراد منها حين تقيّدها هو الحصة الخاصة والتي هي الواجدة للقيد.

والقيود تارة ترجع إلى الحكم وأخرى إلى متعلق الحكم ، وفي الحالتين تكون القيود موجبة لتضييق دائرة الطبيعة « الحكم أو متعلق الحكم » التي تقيدت بها ، غايته أنّ قيود الحكم ينتج عدم فعلية الحكم ما لم تتحقق القيود المعتبرة في ترتّبه. فلا يكون المكلّف مسؤولا عن امتثال الحكم إلاّ أن تتحقق قيوده وتوجد ، فقيود الحكم تكون بمثابة العلل الموجدة للحكم أي لفعليته.

وهذا بخلاف القيود الراجعة لمتعلّق الحكم فإنّ فعليّة الحكم لا تكون منوطة بتحقق تلك القيود ، فسواء تحققت أو لم تتحقّق ففعليّة الحكم - إذا تحقّقت قيوده الراجعة إليه - ثابتة ويكون المكلّف مسؤولا عن امتثال الحكم بقطع النظر عن تحقق قيود المتعلّق أو عدم تحققها.

ومن هنا تكون قيود المتعلّق داخلة فيما يجب امتثاله إذا تحققت فعليّة الحكم.

ص: 43

ويمكن التمثيل لقيود الحكم وقيود متعلّق الحكم بما لو قال المولى : « إذا زالت الشمس صلّ متطهرا » ، فإنّ الزوال في المثال من قيود الحكم « الوجوب » وهذا يقتضي إناطة فعلية الوجوب بتحقق الزوال فلا يكون المكلّف مخاطبا بامتثال الوجوب ما لم تزل الشمس. وأما الكون على طهارة فهو من قيود متعلق الحكم « الواجب » وهو الصلاة ولذلك لا تكون فعلية الحكم متوقفة عليه فسواء تطهر المكلّف أو لم يتطهر فهو مخاطب بامتثال الوجوب والإتيان بالصلاة إذا ما تحقق الزوال خارجا ، وهذا يقتضي دخول قيود متعلق الحكم « الطهارة » فيما يجب امتثاله ، إذ أنّ معنى تقييد المتعلّق « الصلاة » هو أنّ طبيعة الصلاة على سعتها ليست مرادة وإنّما المراد منها خصوص الحصة المتقيدة بالطهارة.

ومن هنا تكون الحصة الواقعة متعلقا للحكم مشتملة على شيء زائد على الطبيعة وهو الذي أوجب تحصيص الطبيعة بتلك الحصة أي الواجدة لذلك القيد ، فالواجب والذي هو متعلّق الحكم هو طبيعة الصلاة مع تقيّدها بالطهارة ، فالطهارة خارجة عن متعلّق الحكم أي أنّها ليست واجبة إلاّ أنّ تقيّد الصلاة بالطهارة داخل في متعلّق الحكم أي أن التقيّد بالطهارة داخل في الواجب.

والمراد من أن القيد « الطهارة » خارج عن الواجب وأن التقيّد بالطهارة داخل في الواجب - المراد من ذلك - أنّه ليس الواجب هو طبيعة الصلاة والطهارة ، ولذلك لو جيء بكل واحد منهما على حدة لما تحقق الامتثال ، فالواجب هو طبيعة الصلاة المتقيدة بالطهارة ، وهذا يعني أن الواجب هو الحصة الخاصة من طبيعة الصلاة وهي الحصة الواجدة للقيد ، إذ أنّ الطبيعة

ص: 44

قد تكون واجدة للقيد وقد تكون فاقدة له والذي وقع متعلّقا للحكم هو الطبيعة الواجدة للقيد وهذا هو معنى أنّ التقيّد داخل في الواجب.

ومن هنا يتضح أنّ الإتيان بالطهارة ليس واجبا ، نعم الإتيان بالطهارة يكون مقدمة وعلّة لحصول التقيّد الواجب ، إذ أنّه لا يمكن تحقق التقيّد بالطهارة ما لم يأت المكلّف بالطهارة ، فإذا ما أتى بالطهارة أمكن الامتثال وهو الإتيان بالحصة الخاصة والتي هي الصلاة المتقيدة بالطهارة.

فعلاقة القيد بالتقيّد علاقة العلة بالمعلول ، فالقيد علة والتقيّد معلول له ؛ وذلك لأنّ معنى التقيّد هو اقتران الطبيعة بالقيد ، ومن الواضح أنّ الاقتران لا يمكن تحققه خارجا ما لم يوجد القيد ، فما لم تتحقّق الطهارة لا يمكن تحقّق إقتران الصلاة بالطهارة.

وعلاقة العليّة بين القيد والتقيّد لا تسري إلى نفس الطبيعة ؛ فالقيد ليس علّة للطبيعة ولا هو جزء علة لها.

ويمكن أن نستنتج مما ذكرناه أنّ قيود المتعلّق « الواجب » تقتضي أمورا ثلاثة :

الأول : هو تحصيص طبيعة المتعلّق بالحصّة الواجدة للقيد فلا تكون الحصة الفاقدة للقيد مشمولة للمتعلّق ، فطبيعة الصلاة على سعتها ليست واجبة وإنما الواجب منها هو حصة خاصة وهي الواجدة للطهارة.

الثاني : أنّ تقيّد المتعلّق يعني أنّ الواجب هو ذات الطبيعة والتقيّد بالقيد ويكون نفس القيد خارجا عن المتعلّق « الواجب ».

الثالث : أنّ العلاقة بين القيد والتقيّد علاقة العلة والمعلول فالقيد علّة والتقيّد معلول ، إذ أنه لا يمكن أن يتحقق التقيّد ما لم يتحقق القيد ، وهذا

ص: 45

بخلاف علاقة نفس الطبيعة بالقيد ، فإنّ القيد ليس علة لها ولا هو جزء علّة لها.

القيود الراجعة للحكم ومتعلقه :

اتّضح مما ذكرناه أنّ القيود تارة ترجع إلى الحكم « الوجوب » وأخرى ترجع إلى المتعلّق « الواجب » ، وقد يتفق أن القيد يكون راجعا إلى الحكم وفي نفس الوقت يكون راجعا إلى المتعلّق.

ومقتضى رجوع القيد للحكم هو توقف فعلية الحكم على تحقق القيد كما أنّ مقتضى رجوعه إلى المتعلّق هو اختصاص المتعلّق بالطبيعة الواجدة للقيد ، أي أنّ الواجب هو الطبيعة مع التقيّد بالقيد.

ويمكن أن نمثّل لذلك بالزوال بالنسبة لصلاة الظهر.

فالزوال قيد لوجوب صلاة الظهر ، أي قيد للحكم ، وفي نفس الوقت هو قيد للواجب « المتعلّق » وهي الصلاة ، أي أنّ الواجب ليس هو الصلاة على إطلاقها بل إن الواجب هو حصة خاصة من الصلاة وهي الصلاة المقترنة بالزوال.

ومقتضى كون الزوال قيدا للوجوب هو أنّ المكلف لا يكون مخاطبا بالوجوب ولا مسؤولا عن الامتثال ما لم يتحقق الزوال خارجا.

كما أنّ مقتضى كون الزوال قيدا للواجب هو أنّ الواجب ليس هو طبيعة الصلاة على سعتها بل هي الحصة الخاصة وهي المتقيدة بالزوال.

أحكام القيود المتنوعة :

ص: 46

ويقع البحث هنا عن أحكام القيود واختلافها باختلاف أنحاء القيود ، وما هو الضابط في اختلاف أحكام القيود ، فنقول :

إنّ القيود تارة لا يجب تحصيلها ولا يكون المكلّف مسؤولا عن امتثالها بل إنّها تؤخذ مفروضة التحقّق ، فمتى ما اتفق تحقق هذا النحو من القيود خارجا ترتب المقيد بها وأصبح المكلف مسؤولا عن امتثاله. ويمكن التمثيل لذلك بالاستطاعة للحج ، فالاستطاعة هي القيد ووجوب الحج هو المقيد بها ، فهذا القيد قد أخذ مفروض التحقق ، فمتى ما تحقق خارجا ترتب المقيد وهو وجوب الحج ، وهذا معناه عدم وجوب تحصيل القيد « الاستطاعة » على المكلّف ، نعم لو اتفق حصول الاستطاعة « القيد » خارجا ترتّب المقيد وهو وجوب الحج ، وأصبح المكلّف مسؤولا عن امتثاله.

وهناك قيود يجب على المكلّف تحصيلها بحيث لو لم يحصّلها وجاء بذات المقيّد فإنّه لا يكون ممتثلا للمقيّد ويبقى مخاطبا بامتثال ذات المقيّد مقترنا بقيده.

ومثال هذه القيود الطهارة والاستقبال والساتر بالنسبة للصلاة ، فإن هذه القيود من سنخ القيود التي يجب تحصيلها والصلاة مقيدة بتلك القيود ، ولا يكون المكلّف ممتثلا لذات المقيد « الصلاة » ما لم يأت بالقيود ، فالواجب على المكلّف في مثل هذه الحالة هو امتثال المقيّد مقترنا بقيوده.

الضابط لتشخيص حكم القيد :

عرفنا أنّ القيود منها ما يجب تحصيله ومنها ما لا يجب تحصيله ،

ص: 47

والذي يميّز القيود الواجبة التحصيل عن القيود التي لا يجب تحصيلها هو ذات المقيّد ، فحينما تكون القيود راجعة إلى متعلق الحكم « الواجب » فهذه من القيود الواجبة التحصيل وهي المعبّر بمقدّمات الواجب ، ومعنى وجوب تحصيل هذه المقدمات هو أنّ الواجب - روحا - ذات المقيد « المتعلق » مقترنا بالقيد.

وبعبارة أخرى : إنّ الواجب ليس هو الطبيعة على سعتها بل هو الحصة الخاصة من الطبيعة وهي ذات الواجب مقترنا بالقيد ، فالواجب ليس هو الصلاة كيفما اتفقت وإنّما هو ذات الصلاة المتقيّد بالطهارة.

فإذن القيود التي يجب تحصيلها ويكون المكلّف مخاطبا بامتثالها هي القيود الراجعة إلى الواجب أي متعلّق الحكم ؛ ولهذا لا يتحقّق امتثال متعلّق الحكم ما لم يمتثل المكلف الحصّة الخاصّة من المتعلّق وهي الحصّة المقترنة بالقيود المأخوذة فيه.

وأمّا القيود التي لا يجب تحصيلها فهي القيود الراجعة إلى الحكم « الوجوب » وهي المعبّر عنها بمقدمات الوجوب ، فمقدمات الوجوب تؤخذ مفروضة التحقق ، أي متى ما اتفق تحقّقها فإنّ المكلّف بعد ذلك يكون مسؤولا عن امتثال الحكم.

ومن هنا لا تكون هذه المقدمات واجبة التحصيل ، إذ أنّ وجوب تحصيلها يقتضي أن يكون الحكم المقيّد بها فعليّا قبل تحقّق قيوده ، وهذا خلف كون هذه القيود هي الموجبة لتحقق الفعلية للحكم ؛ إذ أنّ هذه المقدمات واقعة في رتبة العلة لفعليّة الحكم فلا يعقل أن يترشح الوجوب من الحكم إليها إذ أنّ هذا يعني أنّ الحكم « الوجوب » فعلي قبل تحقّق

ص: 48

مقدّماته خارجا ، وهذا خلف الفرض والذي هو توقف فعليته « المجعول » على وجود مقدّماته خارجا.

وهناك حالة ثالثة تكون فيها القيود راجعة إلى الحكم وإلى متعلّق الحكم ، أي أنّ هذه القيود في الوقت التي تكون قيودا للوجوب هي قيود للواجب. وهنا أيضا لا يكون المكلّف مطالبا بتحصيل هذه القيود ؛ وذلك لعدم فعلية الوجوب قبل تحقّق القيود ، فلا يترشّح عن الوجوب ما يقتضي وجوب مقدماته.

وبعبارة أخرى : لمّا كانت فعليّة الوجوب منوطة بتحقّق مقدّماته فهذا يقتضي عدم وجود الفعليّة قبل وجود المقدّمات ، ولو اتّفق حصول المقدّمات فإنّ الوجوب وإن أصبح فعليّا إلاّ أنّه لا يمكن أن يترشّح عنه وجوب للمقدّمات أيضا ؛ وذلك لأنّه تحصيل للحاصل ، نعم في مثل هذا الفرض - وهو تحقّق الفعليّة للوجوب بعد تحقّق مقدّماته - يكون المكلّف مخاطبا ومطالبا بالإتيان بالواجب مقترنا بالقيد ، أي أنّه متى ما تحقق الوجوب لتحقّق قيده يكون المكلّف ملزما بتحصيل الواجب وهو الحصة الواجدة للقيد.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ للقيود ثلاثة أنحاء كل نحو يقتضي حكما خاصّا :

النحو الأوّل : هو رجوع القيد للحكم « الوجوب » وهذا يقتضي عدم مسؤولية المكلّف عن تحصيل القيد.

النحو الثاني : هو رجوع القيد لمتعلّق الحكم « الواجب » وهذا يقتضي مسؤوليّة المكلّف عن تحصيل القيد.

ص: 49

النحو الثالث : هو رجوع القيد للحكم والمتعلّق وهذا يقتضي عدم مسؤوليّة المكلّف عن تحصيل القيد إلاّ أنّه حينما يصبح الحكم فعليّا يكون المكلّف مسؤولا عن تحقيق التقيّد بعد افتراض تحقّق القيد ، أي أنّ المكلّف لا يكون ممتثلا - بعد فعليّة الحكم بتحقّق قيده - إلا أن يأتي بالواجب مقترنا بالقيد ، فلو نذر المكلّف أن يصوم الجمعة واتفق حصول يوم الجمعة فإنّ وجوب صوم يوم الجمعة يصبح فعليّا وذلك لتحقق قيده وهو يوم الجمعة وبهذا يكون المكلّف مسؤولا عن التقيّد ، أي أنّه لا يكون ممتثلا إلاّ أن يأتي بالصوم مقترنا بيوم الجمعة ، وهذا بخلاف ما لو كان القيد راجعا للحكم فحسب فإنّه بتحقّق القيد يكون المكلّف مطالبا بالإتيان بمتعلّق الحكم كيفما اتّفق وليس المطلوب منه حصّة خاصّة وهي المتقيّدة بالقيد.

ومع اتّضاح ما هو الضابط لتشخيص حكم القيد يتّضح أنّ قيود الوجوب لا يلزم أن تكون مقدورة للمكلّف ؛ وذلك لعدم مسؤوليّة المكلّف عن تحصيلها ، إذ أنّها أخذت مفروضة التحقّق ، فلا يلزم من عدم اختياريّة القيود أي محذور بعد أن لم يكن المكلّف مطالبا بإيجادها ؛ ولذلك نلاحظ أنّ من قيود الوجوب ما هو اختياري مثل الاستطاعة ومنها ما هو خارج عن الاختيار والقدرة مثل هلال شهر رمضان بالنسبة لوجوب الصوم والزوال بالنسبة لوجوب الصلاة.

وأمّا قيود الواجب فيلزم أن تكون مقدورة للمكلّف ؛ وذلك لأنّ هذه القيود واجبة التحصيل ويكون المكلّف عاصيا بتفويتها ، فلو كانت خارجة عن قدرة المكلّف واختياره لكان التكليف بها تكليفا بغير المقدور ، وقد اتّضح ممّا سبق استحالة التكليف بغير المقدور من غير فرق بين أن التكليف

ص: 50

بمعنى المؤاخذة والإدانة أو أن يكون المراد من التكليف هو أصل التشريع فإنّ كلا منهما مستحيل في ظرف عدم قدرة المكلّف على الامتثال.

قد يقال إنّ الزوال مثلا قد افترض من قيود الواجب وهو خارج عن اختيار المكلّف ، فإذا كانت قيود الواجب واجبة التحصيل لزم من ذلك التكليف بغير المقدور.

وبالتأمّل فيما ذكرناه سابقا يتّضح جواب هذا الإشكال ، حيث قلنا إنّ الذي يجب تحصيله هو التقيّد والذي هو امتثال المتعلّق مقترنا بالقيد ، وهذا ليس خارجا عن اختيار المكلّف كما هو واضح ، ففي الزوال مثلا لا يكون مسؤولا عن تحصيل الزوال حتى يلزم من ذلك التكليف بغير المقدور ، بل إنّ الذي يجب على المكلّف تحصيله هو الصلاة المتقيّدة بالزوال ، أي أنّ الواجب ليس هو طبيعي الصلاة بل الحصة التي تكون فيها الصلاة مقترنة مع الزوال.

قيود الواجب على قسمين :

يمكن تصنيف قيود الواجب إلى قسمين :

القسم الأوّل : وهو ما يعبّر عنه بالقيود أو المقدّمات الشرعيّة ، وهي قيود الواجب المستفادة بواسطة الشارع المقدّس ، وذلك بأن يجعل الشارع امتثال الواجب معلّقا على قيد من القيود ، وبهذا التعليق يصبح الواجب هو الحصة المقترنة بذلك القيد.

ويمكن التمثيل لذلك بالطهارة والاستقبال والساتر للصلاة ، فإنّ هذه القيود شرعيّة باعتبار أنّها تثبت عن الشريعة ، وهذا الاعتبار الشرعي

ص: 51

أوجب تحصيص الصلاة الواجبة بالحصة المشتملة والمقترنة بهذه القيود والمقدّمات.

وهذه المقدّمات لا تكون واجبة التحصيل إلاّ بعد افتراض تحقق الفعلية للوجوب ؛ إذ أنّ أصل الواجب « متعلّق الوجوب » لا يكون المكلّف مسؤولا عن إيجاده ما لم تتحقّق فعليّة الوجوب ، ومن الواضح أنّ مقدّمات الواجب إنّما يؤتى بها باعتبار توقف امتثال الواجب عليها ، إذ أنّ الواجب ليس هو طبيعي المتعلّق كيفما اتّفق بل هو الحصّة المقترنة بالقيود.

وإذا كان كذلك فوجوب تحصيلها إنّما يثبت بعد تقرّر فعليّة الوجوب للواجب ، فما لم تتحقّق فعليّة الوجوب فلا موجب عقلا لوجوب تحصيل المقدّمات.

وبتعبير آخر : إنّ العلّة في وجوب تحصيل المقدّمات هو فعليّة الوجوب « المجعول » وهذا يقتضي عقلا تأخّر المسؤوليّة عن تحصيل المقدّمات حتى تتحقّق الفعليّة للوجوب.

فالطهارة مثلا لا تكون واجبة التحصيل ما لم تتحقّق فعليّة الوجوب للصلاة ، إذ أنّه قبل تحقّق فعليّة الوجوب للصلاة لا مبرّر لثبوت المسؤوليّة على المكلّف تجاه الطهارة ، إذ أنّ وجوب المقدّمة مترشح عن وجوب ذي المقدّمة.

القسم الثاني : هو ما يعبّر عنه بالقيود العقليّة للواجب ، وهي قيود الواجب التي يتوقّف عقلا تحقّق الواجب عليها ، أي أنّها القيود التي لولاها لما أمكن تكوينا تحقّق الواجب وذلك مثل السفر للحج بالنسبة للآفاقي ، فإنّ الآفاقي لا يمكنه تكوينا أداء فريضة الحجّ ما لم يسافر إلى مكّة

ص: 52

المكرّمة.

ومن هنا لو ثبت وجوب الحج في حقّ مكلّف فإنّه يكون مسؤولا عقلا عن تحصيل السفر ؛ وذلك لأنّه مطالب بامتثال الوجوب وهذا غير ممكن ما لم يسافر ، نعم لا يكون المكلّف مسؤولا عن السفر ما لم تثبت فعليّة الوجوب للحج لعين ما ذكرناه في المقدّمات الشرعيّة ، حيث قلنا إنّ وجوب المقدّمة مترشّح عن وجوب ذي المقدّمة ، فافتراض عدم فعليّة وجوب ذي المقدّمة يساوق عدم وجوب المقدّمة المترشّحة عنها ، أمّا في حالة وجوب ذي المقدّمة فحيث إنّ امتثال الوجوب متوقّف تكوينا على تحصيل المقدّمة فالعقل يحكم بلزوم تحصيل المقدّمة.

نعم لو كانت المقدّمة العقليّة من قبيل مقدّمات الوجوب - أي من قيود الحكم - فلا يكون المكلّف مطالبا بإيجادها بعد أن لم يكن هناك موجب لتحصيلها ؛ إذ أنّ الوجوب إنّما هو متأخر عنها.

ويمكن التمثيل لمقدمات الوجوب العقليّة بالعلم بوقوع المنكر ، فهو مقدّمة لوجوب النهي عن المنكر ، إذ من الواضح أنّ وجوب النهي عن المنكر متوقف عقلا على العلم بوقوع المنكر فمع عدم العلم بوقوع المنكر لا يكون هناك فعليّة لوجوب النهي عن المنكر ، ومن هنا لا يجب تحصيل مقدّمة الوجوب وهي العلم بوقوع المنكر ؛ وذلك لتأخّر فعليّة الوجوب عنها وكونها العلّة لتحقّق الفعليّة.

المسؤوليّة قبل الوجوب :

اتّضح ممّا تقدّم أنّه لا مسؤوليّة على المكلّف عن تحصيل مقدّمات

ص: 53

الواجب ما لم تتحقّق فعليّة الوجوب ، إلاّ أنّه قد يتفق العلم بعدم التمكّن من تحصيل المقدّمات بعد تحقّق فعليّة وجوب ذيها وكان المكلّف قبل تحقّق الفعليّة للوجوب قادرا على تحصيل تلك المقدّمات ، فهل يلزمه في مثل هذا الفرض أن يأتي بالمقدّمات قبل تحقّق الفعليّة للوجوب أو أنّه لا يلزمه ذلك؟

وبتعبير آخر : إنّ هناك بعض التكاليف يعلم المكلّف بتحقّق فعليّتها فيما يستقبل من الزمان ، وهذه التكاليف لو اتّفقت فعليّتها فإنّ امتثالها يكون متوقفا على مقدّمات شرعيّة ، فلو علم المكلّف أنّ هذه المقدّمات لا يمكن إيجادها عند تحقّق زمان فعليّة الوجوب إلاّ أنّها متيسّرة قبل زمان الفعليّة فهل أن المكلّف في مثل هذا الفرض أيضا لا يكون مسؤولا عن تحصيل المقدّمات أو أنّ العقل في مثل هذا الفرض يحكم بلزوم تحصيل هذه المقدّمات؟ وذلك لأنّ عدم الإتيان بها قبل زمان الفعليّة يقتضي فوات الواجب في حينه ، ومن هنا سمّيت مثل هذه المقدّمات بالمقدمات المفوتة ، ويمكن التمثيل للمقدمات الشرعية المفوتة بالطهارة في فرض عدم القدرة على تحصيلها بعد تحقّق زمان فعليّة الوجوب للصلاة في حين أنّها مقدورة قبل زمان الفعليّة.

ومثال المقدّمات العقليّة المفوتة السفر ، فلو كان البناء على أنّ زمان فعليّة الوجوب للحج يبدأ بهلال شوال - أول أشهر الحج - وعلمنا بعدم إمكان السفر في أشهر الحج إلاّ أنّه ممكن قبل أشهر الحج أي قبل تحقّق فعليّة الوجوب للحجّ.

فهنا نقول : إنّه هل يلزم المكلّف الإتيان بالطهارة في المثال الأوّل

ص: 54

والسفر في المثال الثاني قبل تحقّق زمان الفعليّة للوجوب باعتبار ما يحكم به العقل من لزوم التحفّظ على امتثال الواجب في حينه وعدم تفويته بترك المقدّمات التي يتوقف امتثال الواجب في حينه عليها؟ أو أنّ المكلّف غير مطالب بتحصيل المقدّمات ما لم تتحقّق فعليّة الوجوب وإن لزم من عدم تحصيلها قبل زمان الفعليّة فوات الواجب في حينه؟

والتحقيق أنّ ما تقتضيه القاعدة العقليّة هو عدم وجوب تحصيل مقدّمات الواجب في مثل هذا الفرض ؛ وذلك لأنّه قبل تحقّق زمان الفعليّة لا وجوب حتى يترشّح عنه وجوب لتحصيل المقدّمات ، وبعد تحقّق الزمان الذي يفترض أن يكون الوجوب فيه فعليّا لا يكون هناك فعليّة للوجوب ؛ وذلك لتعذّر امتثال الواجب في حينه فيكون التكليف به تكليفا بغير المقدور وهو منفيّ عقلا. وبيان ذلك :

إنّ وجوب تحصيل مقدّمات الواجب العقليّة والشرعيّة مترشّح عن تحقّق الفعليّة لوجوب الواجب وقبل تحقّق زمان الفعليّة لا وجوب حتى يكون المكلّف مسؤولا عن إيجاد مقدّماته وبعد تحقّق زمان الفعليّة يكون الامتثال خارجا عن القدرة ، وذلك لتعذّر تحصيل المقدّمات المتوقّف تحصيل الواجب عليها - كما هو مقتضى الفرض - وقد ثبت استحالة التكليف بغير المقدور فلا تكليف حتى يترتّب عليه وجوب المقدّمات.

فالطهارة قبل الزوال والسفر قبل أشهر الحج ليسا واجبي التحصيل لعدم فعليّة وجوب الصلاة قبل الزوال والحج قبل أشهر الحج ، وبعد تحقّق الزوال وابتداء أشهر الحج لا يكون وجوب الصلاة والحج فعليّا أيضا ، وذلك لعدم القدرة على امتثال وجوب الصلاة والحج ، إذ أنّ امتثال

ص: 55

الوجوب - والذي يقتضي الإتيان بالصلاة والحج - يكون متعذرا بعد تعذّر المقدّمات المتوقّف الامتثال عليها فيكون التكليف بهما تكليفا بغير المقدور وهو مستحيل.

والخلاصة أنّ مقدّمات الواجب المفوتة غير واجبة التحصيل كما هو الحال في سائر مقدّمات الواجب قبل تحقّق فعليّة الوجوب.

إلاّ أنّه تبقى مشكلة تحتاج إلى علاج ، وهي أنّ بعض مقدّمات الواجب لا تكون إلاّ من قبيل المقدّمات المفوّتة أي أنّه يتعذّر دائما تحصيلها بعد زمان فعليّة الوجوب ويلزم دائما من تأخير إيجادها إلى زمان الفعليّة فوات الواجب في حينه ، ونجد الفقهاء في مثل هذه الحالة يفتون بلزوم تحصيل هذه المقدّمات المفوّتة.

فمثلا الطهارة من الحدث الأكبر « الجنابة » من مقدّمات الواجب وهو الصوم في شهر رمضان ، إذ أنّ من الثابت فقهيّا أنّه لا يمكن امتثال التكليف بوجوب الصوم إلاّ أن يكون الصوم الممتثل مقترنا بالطهارة من الحدث الأكبر.

ونلاحظ أنّ زمان فعليّة الوجوب للصوم هو الفجر ومقتضى القاعدة أنّ الكون على الطهارة من الحدث الأكبر إنّما يجب تحصيله بعد تحقّق زمان فعليّة الوجوب للصوم « الفجر » إلاّ أنّ تأخير التطهر من الحدث الأكبر إلى ما بعد تحقّق زمان الفعليّة « الفجر » يقتضي دائما العجز عن الإتيان بالواجب « الصوم » مقترنا بالطهارة من الحدث الأكبر ، إذ أنّ الوقت الذي يؤتى فيه بالطهارة لا يكون الصوم مقترنا بالطهارة.

ومن هنا تكون الطهارة من الحدث الأكبر من المقدّمات المفوتة ، ومع

ص: 56

ذلك نجد الفقهاء يفتون بلزوم التطهر من الحدث الأكبر قبل طلوع الفجر أي قبل زمان فعليّة الوجوب للصوم.

ويمكن التمثيل لمقدّمات الواجب المفوتة بمثال آخر يناسب مقدّمات الواجب العقليّة ، وهو السفر لعرفات فإنّه مقدّمة للوقوف بعرفات الواجب ، ومقدار الوقوف الواجب يبدأ من زوال الشمس ليوم عرفة ، فإذا كانت فعليّة الوجوب للوقوف متوقّفة أيضا على تحقّق الزوال من يوم عرفة فهذا يقتضي عدم مسؤوليّة المكلّف عن السفر لأرض عرفات قبل زوال يوم عرفة ، في حين أنّ تأخير السفر إلى ما بعد تحقّق الفعليّة يقتضي دائما عجز المكلّف عن الإتيان بالواجب في حينه.

وبهذا اتّضح أنّ السفر إلى عرفات من المقدّمات العقليّة المفوّتة ، والفقهاء ملتزمون بوجوب تحصيل هذه المقدّمة قبل تحقّق زمان فعليّة الوجوب للوقوف.

ومن هنا فقد تصدّى الأصوليّون لبيان ما هو المنشأ للحكم بلزوم تحصيل المقدّمات المفوّتة التي يقتضي تأخيرها إلى زمان فعليّة الوجوب عجز المكلّف عن الإتيان بالواجب في حينه ، وقد ذكروا لذلك مجموعة من التوجيهات أرجأ المصنّف رحمه اللّه البحث عنها أو عن بعضها إلى الحلقة الثالثة.

ص: 57

ص: 58

القيود المتأخّرة زمانا عن المقيّد

القيود سواء كانت راجعة إلى الوجوب « الحكم » أو كانت راجعة إلى الواجب « متعلّق الحكم » يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أقسام :

القسم الأول : القيود المقارنة : ويعبّر عنها بالشرط المقارن ، وهي القيود المأخوذة على نحو تكون متحدة زمانا مع المقيد ، فالقيود الراجعة للوجوب هي القيود الموجب تحقّقها تحقّق فعليّة الوجوب بحيث لا تكون هناك فاصلة زمنيّة بين تحقّق القيود خارجا وبين ترتّب الفعليّة للوجوب ، فمتى ما تحققت القيود تحقّقت معها الفعليّة.

ويمكن التمثيل لذلك بالزوال بالنسبة لفعليّة الوجوب للصلاة ، إذ أنّ فعليّة الوجوب للصلاة مقارنة زمانا لتحقق الزوال خارجا.

وأمّا القيود المقارنة للواجب فهي القيود المأخوذة على نحو يكون امتثال الواجب منوطا بتواجدها في تمام زمان الامتثال بحيث لا يكون الواجب حين امتثاله فاقدا لذلك القيد.

ويمكن التمثيل لذلك بالاستقبال والساتر والكون على طهارة ، فإنّ كل هذه الشروط من الشروط المقارنة للصلاة فلا يكون المكلّف ممتثلا ما لم تكن هذه القيود مقترنة بالصلاة حين امتثالها.

القسم الثاني : القيود المتقدّمة : ويعبّر عنها بالشرط المتقدّم ،

ص: 59

وهي القيود التي أخذت متقدّمة على المقيّد بها ، أي يلزم أن يكون وجودها قبل وجود المقيّد بها.

فالقيود المتقدّمة الراجعة للحكم هي القيود التي افترضت على نحو تكون فعليّة الوجوب متأخرة عنها وتكون هي متقدّمة على الفعليّة ، ومثاله الاستطاعة بناء على أنّ الفعليّة لوجوب الحج إنّما تكون بعد تحقّق أشهر الحج.

وأمّا القيود المتقدّمة للواجب فهي القيود التي أخذت على نحو تكون متقدّمة على امتثال الواجب بحيث لا يكون المكلّف ممتثلا ما لم يتحقّق القيد أولا.

ويمكن التمثيل لذلك بالوضوء والغسل والتيمّم للصلاة فإنّ هذه القيود أخذت على نحو يكون تحصيلها قبل الإتيان بالواجب « الصلاة ».

القسم الثالث : القيود المتأخّرة : ويعبّر عنها بالشرط المتأخر ، وهي القيود التي أخذت على نحو تكون متأخرة عن زمان المقيّد.

فالقيود المتأخّرة الراجعة للحكم هي القيود المتأخّرة عن الحكم زمانا والموجبة لفعليّته من حين وقوع متعلّقه.

ويمكن التمثيل لذلك بعقد الفضولي بناء على الكشف ؛ وذلك لأنّه بناء على الكشف تكون إجازة المالك موجبة لنفوذ العقد من حين وقوعه فتكون الإجازة المتأخّرة شرطا في نفوذ ما وقع من عقد في زمن متقدّم.

وبيان ذلك :

لو باع شخص ما لا يملك دون إذن المالك فإنّ هذا البيع يكون

ص: 60

فضوليّا ؛ ولهذا يتوقّف نفوذه على إجازة المالك ، فلو وقعت الإجازة من المالك بعد يومين من وقوع العقد الفضولي ، فإنّ هذه الإجازة - بناء على الكشف - تكون موجبة لنفوذ العقد وحصول النقل والانتقال من حين وقوع العقد أي قبل يومين من تحقّق إجازة المالك. فالإجازة المتأخّرة عن العقد أوجبت صحّة العقد « الحكم » المتقدّم عليها زمانا.

وأمّا القيود المتأخّرة الراجعة لمتعلّق الحكم « الواجب » فهي القيود التي أخذت على نحو تكون صحّة ما جاء به المكلّف من واجب منوطا بتحقّق ذلك القيد المتأخّر زمانا عن تحقّق الواجب.

ويمكن التمثيل لذلك بغسل المستحاضة في الليل ، فإنّه شرط في صحّة الصوم الواقع في النهار المتقدّم ، كما لو صامت المستحاضة في يوم السبت ، فإنّ صحّة صومها الواقع في يوم السبت منوط بشرط متأخّر وهو تحقّق الغسل منها في ليلة الأحد.

ومع اتّضاح الأقسام الثلاثة للقيود نقول : إنّه غالبا ما تكون القيود من سنخ القيود المقارنة أو المتقدّمة ، وأمّا القيود المتأخرة فقد يدّعى أنّها مستحيلة ؛ وذلك لأنّ القيود دائما تكون في رتبة العلل للمقيد بها ، وإذا كان كذلك فيستحيل تأخرها عن المقيّد لاستحالة تأخر العلة عن معلولها.

إلاّ أنّه في مقابل دعوى الاستحالة هناك دعوى بالإمكان وأنّه لا محذور عقلا في تأخر القيود عن المقيّد بها زمانا ؛ إذ أنّ دعوى الاستحالة نشأت عن توهّم كون القيود في رتبة العلل للمقيّد بها وهذا غير صحيح ، وذلك لأنّ قيود الواجب الشرعيّة لا تعني أكثر من أنّ الواجب ليس هو

ص: 61

الطبيعة على سعتها بل هو الحصّة الخاصّة من الطبيعة وهي الواجدة للقيد ، إذ أنّ المولى حينما يأخذ قيدا في الواجب فإنّه يضيّق من دائرة المطلوب ويجعل الواجب حصّة خاصّة من الطبيعة وهي المتقيّدة بالقيد ، وهذا التضييق لدائرة المطلوب قد يتمّ بواسطة جعل المطلوب هو الحصّة التي يسبقها القيد ، وقد يتم بواسطة جعل المطلوب هو الحصّة التي يقترن معها القيد ، وقد يتمّ بواسطة جعل المطلوب هو الحصّة التي يتعقّبها القيد ، وكلّ هذه الحالات يكون المولى قد ضيّق من دائرة المطلوب وحصّصه بحصة خاصة ، وليس في حالة من هذه الحالات يكون فيها ذات الواجب متوقفا على قيده بل إنّ هذه القيود لا تعني أكثر من تعيين ما هو المطلوب للمولى.

وبهذا لا تكون قيود الواجب بمثابة العلل للمقيّد بها ، فلا محذور حينئذ في أن يكون القيد متقدّما أو متأخّرا.

ففي مثالنا وهو اشتراط صحّة الصوم السابق بالغسل في الليلة اللاحقة لا يعني هذا الشرط أكثر من أنّ المطلوب للمولى هو الحصّة الخاصة من الصوم وهي الصوم الذي يتعقّبه غسل الاستحاضة.

وكذلك لا محذور في افتراض تأخر قيود الحكم عن الحكم ؛ وذلك لأنّ الحكم بمرتبة الجعل يجعل على نحو القضيّة الحقيقيّة والتي يكون موضوعها مقدر الوجود ، وهذا يعني أنّ القيود المأخوذة في الحكم بمرتبة الجعل هي قيود افتراضيّة ذهنيّة يلحظها المولى ثمّ يجعل الحكم عليها معلقا على ما لا حظه وقدّره من موضوع وقيود ، وإذا كان كذلك فالحكم بمرتبة الجعل يكون موجودا بمجرّد إنشاء المولى للقضيّة الحقيقيّة ؛ وذلك لأنّ الحكم لمّا كان معلقا على ما هو ملحوظ في الذهن فحتما يكون موجودا حين إنشاء

ص: 62

القضيّة الحقيقيّة ، إذ أنّ القضيّة الحقيقيّة متقوّمة بتقدير الموضوع وتصوّره في الذهن وهو « الموضوع المقدّر » حاصل حين إنشاء الحكم حتما ، إذ أنّ هذا هو مقتضى جعل الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة.

وبتعبير آخر : إنّ افتراض جعل الحكم على نهج القضيّة الحقيقيّة يقتضي كون الموضوع مقدرا ومتصورا حال إنشاء الحكم وجعله ، وإذا كان كذلك فالحكم بمرتبة الجعل لا يكون معلّقا على واقع القيود بل هو معلّق على القيود المفترضة وهي متحقّقة حين إنشاء وجعل الحكم على الموضوع أي أن قيود الحكم بمرتبة الجعل تكون دائما مقارنة للحكم ، وإذا كانت قيود الحكم بمرتبة الجعل مقارنة دائما للحكم فلا يضرّ أن تكون متأخرة خارجا عن الحكم ، إذ أنّ القيود الخارجيّة ليست قيودا للحكم بمرتبة الجعل ، فالقيود التي تكون خارجا متأخّرة عن الحكم هي مقارنة للحكم في مقام التصوّر والتقدير ؛ وذلك لأنّ موضوع الحكم هي القيود المقدّرة وهي حاصلة حين ترتيب الحكم عليها ، وهذا هو معنى مقارنة قيود الحكم بمرتبة الجعل للحكم.

وأمّا الحكم المجعول - والذي يعني تحقّق الفعليّة - فهو محض اعتبار ، أي أنّ المولى يعتبر ويفترض الحكم فعليّا متى ما تحقّقت قيوده خارجا ، فهو إذن ليس من سنخ الوجودات الحقيقيّة الخارجيّة.

وبهذا يتّضح بأنّه لا مانع من تعليق الحكم المجعول على قيد متأخر بعد أن كان الحكم المجعول وجودا اعتباريّا تابعا للمعتبر فإذا كان المعتبر قد جعل الفعليّة للحكم معلّقة على شرط متأخّر فإنّ هذا لا يعني أكثر من أن الاعتبار قد كيّف بهذه الكيفيّة ، فأي فرق بين اعتبار الفعليّة منوطة

ص: 63

بشرط متقدّم أو بشرط متأخّر بعد أن كان الاعتبار بيد المعتبر يكيّفه كيف يشاء.

فتعليق نفوذ العقد الفضولي على الإجازة المتأخّرة لا يعني أكثر من أنّ المولى قد اعتبر العقد الفضولي نافذا من حينه إذ تعقبته الإجازة.

ص: 64

زمان الوجوب والواجب

اشارة

ويقع البحث هنا عن إمكان الواجب المعلّق أو استحالته.

وقبل بيان المراد من الواجب المعلّق وهل هو ممكن أو مستحيل لا بدّ من تقديم مقدّمة :

وهي أنّ العلاقة بين الزمن الذي تتحقّق فيه الفعلية للوجوب « المجعول » والزمن الذي أنيط به امتثال الواجب « متعلّق الحكم » يمكن أن تتصوّر لها ثلاث حالات :

الحالة الأولى : وهي أن يتّحد زمان الوجوب مع زمان الواجب ابتداء وبقاء ، وهذه هي الحالة الغالبة.

ويمكن التمثيل لها بالزمان الذي تتحقّق فيه فعليّة الوجوب لصلاة الظهر وزمان الواجب « متعلّق الوجوب » ، فإنّ زمانهما متحد ابتداء - وهو زوال الشمس - وبقاء - وهو زوال الحمرة المشرقيّة - ، فإنّ فعليّة الوجوب لا تتحقّق إلاّ حين تزول الشمس وكذلك امتثال الواجب يكون منوطا بتحقّق الزوال ، وتستمر الفعليّة إلى حين زوال الحمرة المشرقيّة وكذلك زمان امتثال الواجب.

الحالة الثانية : وهي افتراض تقدّم تمام زمان الوجوب على زمان الواجب بحيث يكون ابتداء زمان الواجب بعد انتهاء زمان الوجوب.

ص: 65

وهذه الحالة مستحيلة التحقّق ؛ وذلك لأنّه بعد انتهاء أمد الفعليّة للوجوب لا يكون هناك موجب لمسؤوليّة المكلّف عن الإتيان بالواجب ، إذ أنّ مسؤوليّته عن الواجب إنّما تنشأ عن الوجوب ؛ ومع افتراض انتهاء أمد الوجوب لا يكون هناك منشأ يوجب الإتيان بالواجب.

الحالة الثالثة : أن يكون زمان الوجوب متقدّما على زمان الواجب إلاّ أنّ زمان الواجب يبدأ قبل انتهاء زمان الوجوب ويتحد بعد ذلك زمان الواجب مع زمان الوجوب ويكون انتهاء زمنيهما في آن واحد.

ويمكن التمثيل لذلك بوجوب صيام شهر رمضان ، فإنّ زمان وجوبه يبدأ برؤية الهلال أما زمان الواجب فيبدأ عند طلوع الفجر ، فزمان الوجوب تقدّم على زمان الواجب إلاّ أن زمان الإتيان بالواجب « الصوم » بدأ قبل انتهاء فعليّة الوجوب للصوم وبقيا متحدين إلى حين انتهاء أمديهما معا.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة نقول : إنّ الحالة الثالثة هي التي يعبّر فيها عن الواجب بالمعلّق ، فالمراد من الواجب المعلّق هو ما يكون زمان الواجب متأخرا عن زمان تحقّق الفعليّة للوجوب بحيث لا يكون المكلّف ممتثلا للمأمور به إلاّ في حال وقوع الواجب في الزمن المحدّد والذي يكون متأخرا عن زمان الفعليّة للوجوب.

هل الواجب المعلّق ممكن أو مستحيل؟

ذهب المصنّف رحمه اللّه إلى استحالة أن يكون الواجب معلقا ؛ وذلك لأنّ معنى أن يكون الواجب معلقا هو أن يكون مقيدا بزمن ، والزمن ليس من القيود الاختياريّة ، وقد ذكرنا أنّ قيود الواجب يستحيل أن تكون غير

ص: 66

اختياريّة ، إذ أنّ المكلّف مسؤول عن تحصيلها وإيجادها ولا يمكن أن يكون المكلّف مسؤولا عمّا هو خارج عن قدرته لاستحالة التكليف بغير المقدور ، نعم يمكن تقييد الوجوب والواجب معا بقيد غير اختياري لأنه في مثل هذه الحالة لا يكون المكلّف مطالبا بتحصيل القيد - كما اتّضح ذلك مما سبق - ، وأمّا أن نقيّد الواجب وحده بقيد غير اختياري فهذا مستحيل ، ومن هنا لا بدّ من أن يكون زمان الواجب قيدا للوجوب أي أن فعليّة الوجوب تبدأ حين يتحقّق زمان الواجب ، وهذا يعني عدم تأخر زمان الواجب عن زمان الفعليّة.

وخلاصة الكلام أنّ الزمان لمّا كان من القيود غير الاختياريّة فيستحيل تقييد الواجب وحده به ، فلابدّ أن يكون القيد راجعا إلى الوجوب ، فإذا كانت فعليّة الوجوب مقيّدة بتحقّق زمان الواجب فهذا يقتضي عدم تحقّقها إلى حين تحقّق زمان الواجب ، وهذا يعني عدم تقدّم زمان الفعليّة على زمان الواجب وعدم تأخّر زمان الواجب عن زمان الفعليّة ، وبهذا تثبت استحالة الواجب المعلّق.

وفي مقابل القول بالاستحالة ذهب جماعة من الأصوليّين إلى إمكان الواجب المعلّق ، إذ أنّه أيّ محذور في أن يكون الوجوب فعليّا وتكون المسؤوليّة عن الإتيان بالواجب معلّقة على زمن متأخر.

الثمرة المترتّبة على القولين :

أمّا الثمرة المترتّبة على القول بإمكان الواجب المعلّق فهو وجوب المقدّمات المفوتة.

وبيان ذلك : إنّ دعوى استحالة وجوب المقدّمات المفوتة نشأت عن أنّ

ص: 67

زمان الواجب متحد مع زمان فعليّة الوجوب وأنّ الفعليّة لا تتحقّق إلاّ في زمان الواجب ، إذ أنّ هذا هو مقتضى اشتراط الفعليّة بزمان الواجب ، وفي مثل هذه الحالة لا يكون المكلّف مسؤولا عن مقدّمات الواجب قبل تحقّق الفعليّة للوجوب ومع تحقّق الفعليّة للوجوب يكون المكلّف عاجزا عن تحصيل مقدّمات الواجب كما هو مقتضى الفرض.

وبتعبير أوضح : إنّ مقدّمات الواجب لا يكون المكلّف مسؤولا عن تحصيلها إلاّ بعد تحقّق الفعليّة للوجوب ، فلو افترضنا المكلّف يعلم بعدم قدرته على تحصيل مقدّمات الواجب في حينه إلا أنه قادر قبل ذلك على تحصيل المقدّمات ، فإنه في مثل هذه الحالة لا يكون مسؤولا عن تحصيل المقدّمات وإن كان قادرا على تحصيلها ؛ وذلك لان وجوب تحصيل مقدمات الواجب منوط بتحقّق الفعليّة للوجوب والفعليّة منوطة بتحقّق زمان الواجب وفي حال تحقّق زمان الواجب يكون المكلّف عاجزا عن تحصيل المقدّمات ، ومن هنا لا تكون المقدّمات المفوتة واجبة التحصيل.

أمّا لو افترضنا أن زمان الوجوب يمكن أن ينفك عن زمان الواجب ويتقدّم عليه ، فإنّه بتحقق الفعليّة للوجوب يكون المكلّف مسؤولا عن تحصيل المقدّمات ومنها المقدّمات المفوتة ؛ إذ أن وجوب مقدّمات الواجب مترشّح عن فعليّة الوجوب وهو حاصل بناء على إمكان الواجب المعلّق ، فالمكلّف وإن كان غير قادر على الاغتسال من الجنابة في زمان الواجب « الفجر » إلاّ أنّه قادر عليه ليلا ولمّا كان زمان الوجوب يبدأ من حين رؤية الهلال فهذا يقتضي مسؤوليّة المكلّف عن تحصيل كلّ المقدّمات التي يتوقف عليها امتثال الواجب « الصوم » والتي منها الاغتسال عن الجنابة.

وأمّا الثمرة المترتبة على القول باستحالة الواجب المعلّق فبناء على

ص: 68

استحالة الشرط المتأخّر تكون فعليّة الوجوب منوطة بتحقّق زمان الواجب ولا يمكن أن تتقدّم الفعليّة على تحقّق زمان الواجب. وبيان ذلك : أنّه إذا بنينا على استحالة تعلّق فعليّة الحكم « الوجوب » على شرط متأخر فهذا يعني استحالة كون زمان الواجب شرطا متأخرا لفعليّة الوجوب. ومن هنا لا بدّ أن يكون شرطا مقارنا للوجوب فمتى ما تحقّق زمان الواجب تحقّقت الفعليّة وقبل ذلك لا تكون هناك فعليّة للوجوب ، إذ أنّ تحقّق الفعليّة قبل تحقّق زمان الواجب يعني إمكان أن يكون الحكم « الوجوب » معلقا على شرط متأخّر وقد افترضنا استحالته ، ومن هنا لا يكون هناك ما يبرّر وجوب تحصيل المقدّمات المفوتة لأنّه قبل تحقق زمان الواجب لا يكون الوجوب فعليّا فلا موجب حينئذ لتحصيل مقدّمات الواجب وبعد تحقّق زمان الفعليّة بتحقّق زمان الواجب يكون المكلّف عاجزا عن تحصيل المقدّمات.

وأمّا بناء على إمكان الشرط المتأخر فلا محذور في إناطة الحكم بشرط متأخر وهو زمان الواجب.

وتلاحظون هنا أنّ فعليّة الوجوب تبقى منوطة بتحقّق زمان الواجب ، غاية ما في الأمر أنّ زمان الواجب يكون شرطا متأخرا ، وهذا لا يسوّغ إمكان الواجب المعلّق ؛ إذ أنّ فعليّة الحكم تبقى معلقة على زمان الواجب ، نعم المقدّمات المفوتة بناء على هذا الفرض واجبة التحصيل لو اتّفق تحقّق زمان الواجب بعد ذلك ، أمّا لو لم يتحقّق زمان الواجب فإنّ ذلك يكشف عن عدم وجوب المقدّمات المفوتة ؛ وذلك لأن عدم تحقّق زمان الواجب يعني عدم تحقّقق الفعليّة للوجوب من أوّل الأمر فلا موجب لتحصيل مقدّمات الواجب ، إذ أنها مترشحة عن فعليّة الوجوب وهي غير

ص: 69

حاصلة لو اتّفق عدم تحقّق زمان الواجب.

وهذا بخلاف ما لو قلنا بإمكان الواجب المعلّق ، فإنّ المقدّمات المفوتة تكون واجبة التحصيل على أية حال سواء تحقّق زمان الواجب بعد ذلك أو لم يتحقّق ، إذ أنّ مقدّمات الواجب التي منها المفوتة مترشحة عن فعليّة الوجوب وهي غير منوطة بزمان الواجب ، فسواء اتّفق حصول زمان الواجب أو لم يتّفق حصوله فالفعليّة للوجوب ثابتة.

وخلاصة الكلام : أنّه بناء على القول باستحالة الواجب المعلّق وإمكان الشرط المتأخر يمكن أن يناط الوجوب « المجعول » بتحقّق زمان الواجب فيكون زمان الواجب من شرائط الوجوب ، ففي المثال الذي ذكرناه وهو وجوب الصوم في شهر رمضان يكون منوطا بشرطين :

الأوّل : هو رؤية الهلال ، وهذا الشرط يوجب تحقّق فعليّة وجوب الصوم بمجرّد تحقّقه فيكون وجوب الصوم مزامنا لتحقّق الرؤية للهلال.

الثاني : هو طلوع الفجر ، فالمكلّف الذي رأى هلال شهر رمضان وكان ممّن سيطلع عليه الفجر وهو قادر على الصيام فوجوب الصوم يكون عليه فعليا ، وبهذا يكون مسؤولا عن المقدّمات المفوّتة من قبيل الغسل عن الجنابة.

أما من رأى الهلال إلا أنه في علم اللّه لن يوفق لإدراك الفجر أو يدركه وهو عاجز عن الصوم فهذا ممّن لا تجب عليه المقدّمات المفوّتة واقعا ؛ إذ أن عدم إدراك الفجر يكشف عن عدم تحقّق فعليّة الوجوب للصوم من أوّل الأمر ، وهذا يعني عدم وجوب المقدّمات المفوتة ، إذ أنّها فرع تحقّقق الفعليّة لوجوب الصوم.

ص: 70

متى يجوز عقلا التعجيز؟

والغرض من عقد هذا البحث هو بيان الموارد التي يحكم العقل فيها بجواز تعجيز النفس عن إيجاد الواجب والموارد التي يحكم العقل فيها بعدم جواز التعجيز.

والمراد من تعجيز النفس هو أن يوجد المكلّف ما يوجب انسلاب قدرته عن الإتيان بالمأمور به. والمراد من القدرة الأعم من القدرة التكوينيّة كأن يؤخر الآفاقي سفره إلى مكة المكرّمة إلى حد لا يمكن معه أداء مناسك الحج في وقتها ، إذ أنّ أداء مناسك الحج في ذي الحجة متوقف تكوينا بالنسبة للآفاقي على السفر إلى مكّة المكرّمة قبل وقت أداء المناسك.

أو القدرة الشرعيّة والتي تعني القدرة على الإتيان بالواجب مقترنا بالقيد الشرعي ، ويمكن التمثيل له بمن يشرب عمدا ما يوجب التقيّء في نهار شهر رمضان ، أو يفعل ما يوجب فقدان الوعي في تمام وقت الصلاة.

وباتّضاح ما ذكرناه نقول : إنّ تعجيز المكلّف نفسه عن إيجاد الواجب يمكن تصويره في موردين :

المورد الأوّل : أن يوجد المكلّف ما يوجب تعجيز نفسه عن إيجاد الواجب بعد تحقّق الفعليّة للوجوب ، وفي مثل هذه الحالة لا إشكال في عدم جواز تعجيز النفس عقلا ؛ وذلك لأنّ المكلّف لمّا كان مسؤولا عن الإتيان بالواجب فإن تعجيز النفس يساوق ترك الواجب اختيارا ، وهذا هو معنى المعصية والتي يحكم العقل بقبح صدورها من العبد.

ص: 71

ومثال ذلك أن يشرب المكلّف ما يوجب انسلاب وعيه في حالة يكون فيها وجوب الصلاة فعليّا كأن يشربه بعد الزوال ويكون مفعوله مستمرا إلى حين زوال الحمرة المشرقيّة. أو أن يؤخر الآفاقي المستطيع سفره إلى مكّة المكرّمة إلى أن يتضيّق وقت أداء فريضة الحج بحيث لا يتمكن تكوينا من أداء فريضة الحج.

المورد الثاني : أن يعجّز المكلّف نفسه عن أداء الواجب ولكن قبل تحقّق فعليّة الوجوب ، كما لو أحدث بالجنابة اختيارا قبل طلوع الفجر وهو يعلم بعدم قدرته على الاغتسال إلى حين طلوع الشمس.

وفي هذا المورد ذهب المصنّف رحمه اللّه إلى جواز تعجيز النفس وذلك لعدم وجود ما يوجب التحفّظ على القدرة بعد افتراض عدم فعليّة الوجوب ، وأمّا بعد تحقّق زمان الفعليّة للوجوب يكون المكلّف عاجزا عن إيجاد الواجب ومع عجزه يستحيل تكليفه لاستلزامه التكليف بغير المقدور.

وتطبيق ما ذكرناه على المثال أنّ المكلّف حينما أحدث بالجنابة لم يكن هناك تكليف بالصلاة عن طهارة مائية ؛ وذلك لأنه أحدث بالجنابة قبل طلوع الفجر أي قبل مخاطبته بالصلاة ، وبعد أن طلع الفجر لم يكن قادرا على الإتيان بالصلاة عن طهارة مائية ، وهذا ما يستوجب عدم إمكان تكليفه بالصلاة عن طهارة مائية لاستحالة تكليف العاجز ، فالمكلّف وإن كان هو الذي منع عن تحقّق الفعليّة للوجوب إلاّ أنّ ذلك غير ضائر بعد أن كانت الفعليّة منوطة بزمان لم يكن متحقّقا حين التعجيز فلم تصدر من المكلّف معصية ، إذ أنّ المعصية هي مخالفة التكليف ولم يكن تكليف حينما عجّز نفسه.

وبهذا اتّضح جواز تعجيز النفس عن إيجاد الواجب إذا لم تكن الفعليّة

ص: 72

قد تحقّقت ، إلاّ أنه يمكن أن يقال في مثل هذا المورد بالتفصيل بين التكليف الذي تكون مبادؤه مختصّة بظرف القدرة - أي أنّ القدرة شرط شرعي له - ، وبين التكليف الذي لا تكون مبادؤه مختصة بظرف القدرة - أي أنّ القدرة شرط عقلي له - ، فإنه في الأول يجوز تعجيز النفس عن إيجاد الواجب قبل تحقّق الفعليّة وفي الثاني لا يجوز. وبيان ذلك :

إننا ذكرنا في بحث استحالة التكليف بغير المقدور أن مبادئ التكليف لا تكون دائما منوطة بالقدرة فقد تكون المصلحة والمحبوبيّة ثابتة للفعل حتى في ظرف عدم القدرة كما في إنقاذ المؤمن من الغرق فإنّه واجد للمصلحة والمحبوبيّة حتى وإن كان المكلّف عاجزا عن إنقاذه ، وفي مثل هذه الحالة تكون القدرّة - المعتبرة في تحقّق الفعليّة للتكليف - عقليّة ، إذ أنّ المقتضي لتحقّق الفعليّة للتكليف موجود « الملاك والإرادة » إلاّ أن الذي سبّب المنع عن تحقّق الفعليّة هو عجز المكلّف والذي هو موضوع لحكم العقل باستحالة التكليف.

وفي الحالة الثانية تكون فيها المصلحة والمحبوبيّة منوطة بالقدرة فلا مصلحة ولا محبوبيّة للفعل في ظرف عدم القدرة ، وفي مثل هذه الحالة تكون القدرة - المعتبرة في تحقّق الفعليّة للتكليف - شرعيّة ؛ وذلك لأنّ المقتضي للتكليف في ظرف عدم القدرة منتف ، وهذا ما أوجب التعبير عن القدرة المعتبرة في فعليّة التكليف بالقدرة الشرعيّة لتتميّز عن القدرة المعبّر عنها بالعقليّة. ومع اتضاح هذه المقدّمة نقول :

إنّه يجوز للمكلّف أن يعجّز نفسه عن إيجاد الواجب قبل تحقّق الفعليّة للوجوب إذا كان الوجوب منوطا بالقدرة الشرعيّة ، إذ أنّه في مثل هذه الحالة لا تكون هناك مصلحة فائتة ؛ وذلك لأنّ المصلحة في هذا الفرض

ص: 73

منوطة بالقدرة ، وبتعجيز المكلّف نفسه تكون المصلحة منتفية عن الفعل فلا يلزم من منع المكلّف عن تحقّق الفعليّة للتكليف تفويت المصلحة على المولى.

وهذا بخلاف ما إذا كان الوجوب منوطا بالقدرة العقليّة فإنّه لا يجوز للمكلّف تعجيز نفسه عن إيجاد الواجب ، إذ أنّ المصلحة تبقى منحفظة في ظرف عدم القدرة ، وهذا يعني أنّ المصلحة تفوت بتعجيز المكلّف لنفسه ، والعقل يحكم بقبح تفويت ملاكات المولى.

وبتعبير آخر : إنّ مبادئ الحكم إذا كانت ثابتة في حال عدم القدرة فإنّ ذلك يقتضي فواتها بسبب استحالة التكليف بغير المقدور ، فإذا كان العجز ناشئا عن ظروف قاهرة فالمكلّف معذور في عدم تحصيل مبادئ الحكم والمحافظة على ملاكات المولى ، أمّا إذا كان منشأ العجز هو المكلّف نفسه فهذا يعني أنّه سبّبب في فوات ملاكات المولى وهو قبيح عقلا.

وبهذا يثبت عدم جواز تعجيز النفس عن إيجاد الواجب قبل تحقّق الفعليّة للوجوب إذا كان الوجوب مشروطا بالقدرة العقليّة أي إذا كانت المصلحة ثابتة حتى في ظرف عدم القدرّة ، ويترتّب على هذا التفصيل وجوب المقدّمات المفوتة إذا كان التكليف الموجب لها من قبيل التكاليف المشروطة بالقدرة العقليّة بخلاف ما لو كان التكليف من قبيل التكاليف المشروطة بالقدرة الشرعيّة.

وذلك لأن التكاليف المشروطة بالقدرة العقليّة تكون المبادئ فيها محفوظة حتى في ظرف عدم القدرة ، فعدم تحصيل المقدّمات المفوتة يعني التسبيب في فوات تلك المبادئ والذي هو قبيح عقلا ، أمّا التكاليف المشروطة بالقدرة الشرعيّة فلمّا لم تكن مبادؤها ثابتة في ظرف العجز ، فعدم تحصيل المقدّمات المفوّتة لا يلزم منه تفويت ملاكات المولى لعدمها في ظرف العجز.

ص: 74

أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم

استحالة اختصاص الحكم بالعالم به :

ذكرنا في بحث القطع الطريقي والقطع الموضوعي أنّ موضوع كلّ حكم يقع دائما في رتبة متقدّمة على ترتّب الحكم ، فما لم يتنقح الموضوع ويتقرّر يكون ترتّب الحكم مستحيلا ، وبهذا يكون الموضوع مولّدا للحكم.

وذكرنا أيضا أنّ الموضوع ليس له دور الكشف عن الحكم وإنّما الكاشف عن الحكم هو الأدلّة الإثباتيّة فهي التي تكشف عن ثبوت الحكم لموضوعه وبهذا تكون الأدلّة الإثباتيّة متأخرة عن ثبوت الحكم لموضوعه في نفس الأمر والواقع ، فما لم يكن هناك منكشف فأيّ شيء تكشف عنه الأدلّة الإثباتية؟

وباتّضاح هذه المقدّمة نقول : إنّه وقع البحث عن إمكان أو استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم أي جعل العلم بالحكم جزءا لموضوع نفس ذلك الحكم ، وذلك بأن يجعل المولى حكما على نهج القضيّة الحقيقيّة ويكون موضوع تلك القضيّة المقدّر مشتملا على العلم بنفس الحكم المنشأ في القضيّة نفسها ، مثلا لو قال المولى « الخمر حين العلم بحرمته حرام » فالحكم المنشأ بواسطة هذه القضيّة هو « الحرمة » وموضوع هذا الحكم مركّب من جزءين ، الأول هو الخمر والثاني هو العلم

ص: 75

بحرمته أي العلم بحكم الخمر ، وبهذا يكون العلم بالحرمة المأخوذ في موضوع القضيّة قيدا من قيود الحكم « الحرمة » ومن هنا ادّعي استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم ؛ وذلك لاستلزامه الدور المحال ، إذ أنّ الحكم في هذه القضيّة قد توقف على نفسه.

وبيان ذلك :

إننا قد ذكرنا فيما سبق أنّ فعليّة الحكم « المجعول » منوطة بتحقّق قيوده خارجا ، فقيود الحكم تقع في رتبة العلّة لفعليّة الحكم ، وإذا كان كذلك فلابدّ من تقدمها على الحكم ويكون الحكم متأخرا عنها تأخر المعلول عن علّته.

فإذا افترضنا أن العلم بالحكم هو من قيود الحكم فهذا يقتضي توقّف الحكم على تحقّق العلم بالحكم خارجا كما هو الحال في سائر قيود الحكم.

ومن الواضح أنّ العلم بالحكم مستحيل ما لم يكن الحكم ثابتا في مرتبة سابقة ؛ وذلك لأنّ العلم كاشف فهو متفرع عن وجود المنكشف « الحكم » ، فالعلم بالحكم في الوقت الذي يكون فيه قيدا وعلة لثبوت الحكم يكون معلولا لثبوت الحكم.

إذن فالحكم علّة العلم بالحكم - إذ لولاه لتعذّر العلم - والعلم بالحكم علّة لتحقّق الحكم ، وبهذا يكون الحكم علّة لثبوت نفسه ومعلولا لنفسه.

أمّا أنّه علّة لثبوت نفسه فلأنه علّة للعلم الذي هو علة لثبوت الحكم ، وأمّا أنه معلول لنفسه فلأنّه معلول للعلم بالحكم ، وإذا كان معلولا للعلم بالحكم فهو معلول للحكم ، إذ أنّ العلم بالحكم « الكاشف » معلول للحكم « المنكشف ».

ص: 76

ولمزيد من التوضيح نطبّق ما ذكرناه على المثال السابق : إنّ أخذ العلم بحرمة الخمر في موضوع حرمة الخمر يعني أنّ العلم بحرمة الخمر قيد لحرمة الخمر وإذا كان كذلك فتحقّق فعليّة الحرمة للخمر منوط بتحقّق العلم بحرمة الخمر ؛ إذ أنّ هذا هو مقتضى قيديّة العلم بالحرمة للحكم « الحرمة » ، فثبوت الفعليّة لحرمة الخمر إذن متوقفة على تحقّقق العلم بحرمة الخمر ولمّا كان العلم بالحرمة متوقفا على تقرّر الحرمة وثبوتها في مرحلة سابقة فهذا يقتضي أنّ ثبوت الحرمة متوقف على العلم بالحرمة والعلم بالحرمة متوقف على ثبوت الحرمة ، وهذا يعني توقّف حرمة الخمر على حرمة الخمر.

إذ أنّ الحرمة للخمر متوقفة على العلم بالحرمة لأنها أخذت قيدا للحرمة ولمّا كان العلم بالحرمة منوطا بثبوت الحرمة فهذا يعني توقف العلم بالحرمة على الحرمة المتوقّفة على العلم بها.

وبهذا يثبت أنّ أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم يلزم منه الدور المحال.

الجواب على دعوى الدور :
اشارة

ذكر المصنّف رحمه اللّه جوابين على دعوى الدور :

الجواب الأوّل :

إنّه وإن كنّا نسلّم بتوقف فعلية الحكم على تحقّق قيوده خارجا وبالتالي تكون فعليّة الحكم متوقفة على العلم بالحكم إلاّ أنّه لا نسلّم بتوقف العلم بالحكم على الحكم ؛ وذلك لأنّ العلم بالحكم ليس معلولا للحكم بل إنّه معلول لما يحضر من صورة المعلوم في ذهن العالم به.

وبتعبير آخر : إنّ علّة العلم ليس هو الثابت في نفس الأمر والواقع

ص: 77

وإلاّ لكان كلّ علم مطابقا للواقع ، إذ أنّه إذا كان علة العلم هو الثابت في الواقع فهذا يقتضي أن لا علم في ظرف عدم الثبوت في الواقع ؛ وذلك لأنّ انتفاء الثبوت يعني انتفاء علة العلم ، وكيف يكون هناك معلول « العلم » مع انتفاء علّته؟!

وهذا خلاف ما نجده من أن العلم قد يكون موجودا ولا يكون معلومه ثابتا في الواقع ممّا يعبّر عن أنّ العلم ليس معلولا لما هو الثابت واقعا وإلاّ لزم أن ينشأ المعلول عن غير علته أو من غير علّة وهو محال كما هو واضح.

وبهذا يثبت عدم توقف العلم بالحكم على الحكم نفسه ، وإنّما هو متوقّف على الصورة الحاضرة في الذهن وهي المعلوم بالذات ، ومنشأ كون المدرك الذهني هو المعلوم بالذات أن العلم هو الرؤية ، والمرئي للعالم حقيقة هو الصورة الذهنيّة.

والمقصود من كون المدرك الذهني هو المعلوم بالذات يتّضح من هذا البيان :

وهو أنّ العلم عبارة ثانية عن رؤية المعلوم ، فالمرئي للعالم حقيقة هو الصورة الذهنيّة الحاضرة في نفس العالم بها ، فحينما ندرك معنى النار لا يكون واقع النار هو الحاضر في الذهن وإنّما الذي يحضر في الذهن هو صورة النار فهي المعلوم أولا وبالذات لأنّها هي عين المدرك في الذهن ، فتكون النار الخارجيّة معلومة لنا بالتبع أي بواسطة الصورة الذهنيّة والتي هي عين المعلوم.

ويمكن تنظير ذلك بالمرآة ، إذ أنّ المرئي بواسطة المرآة هي الصورة

ص: 78

وليس هو الوجود الخارجي ، نعم الصورة المرئيّة بواسطة المرآة تكون كاشفة عن الوجود الخارجي ، فصورة وجه زيد هي المرئية بواسطة المرآة أولا وبالذات ووجه زيد الخارجي إنّما انكشف لنا بواسطة الصورة ، وهذا يعني أنّ المرآة كشفت عن وجه زيد الخارجي بالتبع وبالعرض.

وبهذا يتّضح أنّ العلم بالحكم معلول للصورة الذهنيّة للحكم وليس هو معلولا لواقع الحكم ، فقد لا يكون هناك حكم في الواقع فكيف يكون علّة وهو عدم ، وهذا بخلاف الصورة الذهنيّة فإنّها تكون ثابتة في ظرف العلم ، وبهذا تسقط دعوى الدور لبطلان دعوى توقف العلم بالحكم على نفس الحكم أي واقع الحكم.

والإشكال على هذا الجواب : هو أنّه وإن كانت كبراه مسلّمة إلاّ أنّه لا ينفع في دفع غائلة الدور ؛ وذلك لأنّه لا ريب في أنّ العلم ليس له إلاّ دور الكاشفيّة عن متعلقه « المعلوم » وأخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم يعني أنّ العلم صار له دور توليد الحكم ، إذ أنّ الموضوع - كما قلنا - يولّد الحكم.

وبعبارة أخرى : إنّه لمّا كان العلم بالحكم جزءا لموضوع نفس الحكم فهذا يعني أنّ العلم بالحكم ساهم في إيجاد الحكم ، والحال أنّ العلم ليس له إلاّ دور الكشف عن الحكم وهذا ما يقتضي تأخّره عن الحكم الذي يكشف عنه ، فما ينبغي أن يكون متأخرا صار متقدّما ومولّدا وهذا غير معقول ، إذ كيف يكون الكاشف مولّدا لمنكشفه الذي من المفترض أن يكون متقدما في وجوده عليه؟ فهل من المعقول أنّ المرآة توجد ما تكشف عنه والحال أنّ كاشفيّتها عنه تقتضي تقرّر المنكشف في رتبة سابقة على الكاشفيّة؟!

ص: 79

الجواب الثاني :

إنّ استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم إنّما هي في حالة كون الحكم في رتبة الموضوع هو عين الحكم في رتبة المحمول ، أمّا لو كان الحكم في الموضوع مغايرا للحكم في رتبة المحمول فلا استحالة إذ لا دور. وبيان ذلك :

إنّ الحكم المأخوذ في الموضوع هو الحكم الإنشائي « الجعل » والحكم المنوط بالعلم بالحكم هو الحكم المجعول ، والذي يعني الفعليّة للحكم ، ولا يلزم من ذلك الدور ، إذ أنّ الذي توقف عليه الحكم المجعول هو الحكم الإنشائي والذي هو الجعل فالمتوقّف غير المتوقّف عليه.

وبتعبير آخر : إنّه يمكن التفصّي عن إشكال الدور بدعوى أنّ الذي وقع قيدا لفعليّة الحكم هو الحكم الإنشائي ، فالقيد هو العلم بالحكم الإنشائي والمقيّد هو الحكم الفعلي « المجعول » ، ومن الواضح أنّ العلم بالحكم الإنشائي « الجعل » لا يتوقف على تحقّق الفعليّة للحكم ، فكأنّما المولى قال « إذا علمت أنّ الخمر قد جعلت له الحرمة فإنّ الحرمة تكون بذلك فعليّة » فكما أن تحقّق الزوال والاستطاعة موجب لتحقّق فعليّة الوجوب للصلاة والحجّ فكذلك عندما يتحقّق العلم بجعل الحرمة على الخمر فإنّ ذلك موجب لتحقّق الفعليّة للحرمة. وليس في ذلك دور ؛ إذ أنّ المقيد وهو الحكم المجعول غير القيد « الجعل ».

الثمرة المترتّبة على القول بالاستحالة :

والثمرة المترتّبة على القول باستحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع

ص: 80

نفس العلم مرتبطة بما هو المبنى في نحو العلاقة بين الإطلاق والتقييد ، فبناء على القول بأن العلاقة بينهما - في نفس الأمر والواقع - هي علاقة التناقض وأن التقييد هو لحاظ القيد والإطلاق هو عدم لحاظ القيد. فالإطلاق في حالة يكون التقييد مستحيلا هو المتعيّن ، فحيث إنّ أخذ العلم بالحكم قيدا للحكم مستحيل فهذا يقتضي إطلاق الحكم وعدم تقيّده بهذا القيد الذي يستحيل اعتباره.

وأمّا بناء على القول بأن نحو العلاقة بين الإطلاق والتقييد هي علاقة العدم والملكة - فالإطلاق هو عدم التقييد في مورد يمكن فيه التقييد والملكة هي التقييد - فإنّ تحقّق الإطلاق في حالة يكون التقييد مستحيلا متعذّر.

وبعبارة أخرى : إنّه لمّا كان البناء على أنّ الإطلاق هو عدم التقييد في حالة يمكن فيها التقييد فهذا يقتضي استحالة الإطلاق في موارد استحالة التقييد كما هو شأن كل مفهومين بينهما علاقة العدم والملكة.

وبهذا اتّضح أنّ الإطلاق - من جهة أخذ العلم بالحكم قيدا لنفس الحكم - مستحيل كما هو التقييد ، فتكون الأحكام من هذه الجهة مهملة أي ساكتة عن إفادة الإطلاق كما هي كذلك من جهة التقييد ، فهي في قوّة الجزئيّة والتي تعني ثبوت الحكم لبعض أفراد الطبيعة الواقعة موضوعا للحكم. وبهذا يمكن إجراء الأصول العمليّة في غير الأفراد المتيقّنة.

أخذ العلم بالحكم في موضوع حكم آخر :

ويقع البحث في المقام عن إمكان اعتبار العلم بحكم موضوعا أو جزء موضوع لحكم آخر ، كأن يؤخذ العلم بحرمة شيء موضوعاً لوجوب

ص: 81

شيء آخر.

وهنا ثلاث حالات متصوّرة لأخذ العلم بحكم في موضوع حكم آخر :

الحالة الأولى : هي أخذ العلم بحكم موضوعا لحكم آخر مغاير للحكم المأخوذ في الموضوع.

ومثال ذلك « إذا علمت بنجاسة الفقّاع فلا تشربه » فهنا أخذ العلم بنجاسة الفقّاع موضوعا لحرمة الشرب ، فالعلم بنجاسة الفقاع قطع موضوعي لحرمة الشرب ؛ وذلك لوقوعه في رتبة الموضوع للحرمة فهو المولّد للحرمة كما هو شأن سائر الموضوعات بالنسبة للأحكام المترتّبة عليها.

كما أنّ العلم بنجاسة الفقّاع قطع طريقي بالنسبة لثبوت الحكم بالنجاسة للفقاع ، وطريقيته باعتبار أنّ دوره بالنسبة لهذه القضيّة « الفقّاع نجس » دور الكاشف عنها.

إذن هو طريقي بالنسبة للحكم الأول وموضوعي بالنسبة للحكم الثاني. ومع اتّضاح هذه الحالة يتّضح إمكانها ، إذ لا محذور عقلا في جعل العلم ببعض الأحكام موضوعا لأحكام أخرى.

الحالة الثانية : أخذ العلم بحكم موضوعا لحكم آخر مضاد للحكم المأخوذ في الموضوع ، بمعنى أنّ الحكم المنكشف بالعلم الواقع في رتبة الموضوع مناف للحكم المجعول في رتبة المحمول ، ومنشأ المنافاة هو اتّحاد موضوع الحكمين المتنافيين الحكم المعلوم « الموضوع » والحكم المترتّب على العلم بالحكم الأول.

ص: 82

ومثال ذلك أن يقول « إذا علمت بنجاسة الفقّاع فهو لك طاهر » فمنشأ المنافاة هنا هو أنّ موضوع الحكم بالطهارة وموضوع الحكم بالنجاسة واحد وهو الفقّاع ، غاية ما في الأمر أن العلم قد أخذ في موضوع الحكم بالطهارة إلاّ أنّ ذلك لا يرفع التنافي بين الحكمين ؛ وذلك لأنّ العلم بالحكم بالنجاسة لمّا كان من قيود الحكم بالطهارة فهذا يقتضي أنّ الطهارة ثابتة للفقّاع في ظرف ثبوت النجاسة للفقاع إذ أنّ القطع طريق لثبوت النجاسة للفقاع فتثبت النجاسة للفقّاع بواسطة القطع وبه يتولّد ثبوت الطهارة للفقّاع. فالفقّاع طاهر في حال نجاسته ، وهل شيء أوضح من هذا التنافي؟!

ومع اتضاح هذه الحالة تتضح استحالتها ؛ وذلك لأننا ذكرنا أنّ الأحكام التكليفيّة متضادة فيما بينها وإذا كان كذلك فيستحيل اجتماعها.

وبتعبير آخر : إنّ أخذ العلم بالحكم موضوعا لحكم آخر مضاد للحكم المأخوذ في الموضوع يلزم منه اجتماع الضدّين ولو في اعتقاد القاطع بالحكم الأول ، إذ أنّ المكلّف إذا كان قاطعا بثبوت حكم لموضوع فهذا يقتضي أن يقطع بعدم صوابيّة أي حكم آخر لنفس ذلك الموضوع وإلاّ لزم تبدّل قطعه وهو خلف الفرض.

الحالة الثالثة : أخذ العلم بحكم موضوعا لحكم آخر مماثل للحكم المأخوذ في الموضوع أي أن يجعل العلم بحكم قيدا لحكم آخر إلاّ أنّه مسانخ ومماثل للحكم الأول الواقع في رتبة الموضوع ، وبهذا يكون موضوع الحكمين واحد روحا كما بينا ذلك في الحالة الثانية.

ومثال ذلك « إذا علمت بحرمة الخمر حرم عليك » فالعلم بحرمة

ص: 83

الخمر ترتبت عليه حرمة أخرى للخمر فيكون للخمر حكمان شخصيان من سنخ واحد.

وهذه الحالة ادّعي استحالتها ؛ وذلك لاستلزامها اجتماع حكمين متماثلين على موضوع واحد ، وهو مستحيل كما ثبت ممّا سبق.

ودعوى أنّ موضوع الحكمين مختلف غير مسموعة ؛ وذلك لأنّ القطع في نظر القاطع ليس أكثر من طريق لثبوت الحرمة الأولى للخمر ، ومع ثبوت الحرمة الأولى للخمر تثبت الحرمة الثانية باعتبار أنّ ثبوت الحرمة الأولى وقع قيدا للحرمة الثانية ، وهذا يقتضي أن تجتمع الحرمتان في آن واحد على موضوع واحد في نظر القاطع.

ص: 84

أخذ قصد امتثال الأمر في متعلّقه

اشارة

ويقع البحث في المقام عن إمكان تقييد متعلق الأمر « الواجب » بقصد امتثال الأمر ، وقبل بيان ذلك لابدّ من ذكر مقدّمة :

وهي أنّ الواجب تارة يكون توصليّا وأخرى يكون تعبديّا.

أمّا الواجب التوصلي : فهو ما كان المطلوب فيه إيجاد الفعل الواجب من المكلّف دون أن يكون للمولى غرض في أن يؤتى بالفعل الواجب على وجه قربي. فالمكلّف يكون ممتثلا متى ما أوجد الفعل الواجب.

ومثال ذلك : دفن الميت وإنقاذ النفس المحترمة من الموت والنفقة على الزوجة وهكذا. فإنّ المكلّف في مثل هذه الواجبات لا يكون مطالبا بأكثر من إيجاد الفعل الواجب.

وأمّا الواجب التعبدي : فهو ما كان المطلوب فيه إيجاد الفعل الواجب بقصد الامتثال بحيث يكون غرض المولى قد تعلّق بإيجاد حصّة خاصّة من الطبيعة وهي الحصّة المقترنة بقصد امتثال الأمر ، فلذلك لو جاء المكلّف بالفعل الواجب دون أن يقصد حينذاك امتثال الأمر لا يعدّ ممتثلا ومحقّقا للغرض المولوي.

ومثال ذلك الصلاة والصوم والحج فإنّ المكلّف في مثل هذه الواجبات

ص: 85

يكون مطالبا بإيجادها عن أمر المولى أي بقصد امتثال أمر المولى.

باتضاح هذه المقدمة يقع الكلام في إمكان أخذ قصد الأمر في الواجب بحيث يكون قصد الأمر من قيود الواجب.

وبتعبير آخر : إنّ المولى حينما يجعل الوجوب على فعل قد يجعله على مطلق الفعل وقد يجعله على حصّة خاصّة من الفعل وذلك بواسطة تقييد الفعل « متعلّق الوجوب » بقيد من قبيل تقييد الصلاة بالطهارة والاستقبال ، وهذا لا كلام فيه ، إنّما الكلام في إمكان أن يجعل المولى قيد الواجب هو قصد امتثال الأمر بالصلاة مثلا ، كأن يقول « صلّ بقصد امتثال الأمر « صلّ » فهل أنّ هذا القيد المأخوذ في متعلّق الأمر ممكن أو مستحيل؟

قد يقال بالاستحالة ؛ وذلك لأنّ قصد الأمر لمّا كان من قيود الواجب - بسبب أخذه في متعلّق الوجوب - فهذا يقتضي أن الأمر أيضا من قيود الواجب ، إذ القصد قد أضيف إلى الأمر فيكون المضاف - وهو القصد - والمضاف إليه - وهو الأمر - من قيود الواجب ، والقصد في حدّ ذاته وإن كان من الأمور الاختياريّة إلاّ أنّ الأمر « التكليف » ليس كذلك ، إذ هو من فعل المولى فهو الذي يأمر أو لا يأمر ، وهذا يعني أنّ الأمر خارج عن اختيار وقدرة المكلّف ، وإذا كان كذلك فيستحيل أخذه في قيود الواجب فحسب ؛ وذلك لأنّنا ذكرنا أنّ قيود الواجب إذا لم تكن قيودا للوجوب أيضا فيستحيل أن تكون غير اختياريّة أي يستحيل أن تكون خارجة عن قدرة المكلّف ؛ وذلك لأنّ قيود الواجب واجبة التحصيل ، وهذا يقتضي اختياريتها وإلاّ لزم التكليف بغير المقدور.

وبهذا يثبت أنّ قصد الأمر حال أخذه في متعلق الأمر « الواجب »

ص: 86

لا بدّ أن يكون قيدا أيضا في الوجوب فيكون من قيود الواجب والوجوب.

وكون الأمر من قيود الوجوب مستحيل وذلك لأنّه يفضي إلى تقييد الأمر بالأمر فيكون الأمر قيدا للأمر كما يكون مقيدا بالأمر وهذا هو الدور المحال ، وذلك لأنّ افتراض الأمر قيدا للأمر يعني افتراضه علّة للأمر وافتراضه مقيدا بالأمر يعني افتراض الأمر معلولا للأمر.

وبتعبير آخر : لمّا كان الوجوب « الأمر » متوقفا على تحقّق قيوده خارجا فهذا يعني أنّ القيود بمثابة علّة الوجوب « الأمر » فيكون الأمر - والذي افترضناه قيدا للوجوب - علة للوجوب ومتقدما على الوجوب « الأمر » فيكون الوجوب ناشئا عن الوجوب كما يكون الوجوب منشئا ومحقّقا للوجوب.

أمّا أنّه ناشئا عن الوجوب فلأنّ الوجوب مقيّد به ، وأمّا أنّه منشئا ومحقّقا للوجوب فلأنّه قيد الوجوب ، فالأمر « الوجوب » في رتبة المعلول لا يتحقّق إلاّ بتحقّق الأمر في رتبة العلّة « القيد » كما أنّ الأمر في رتبة العلّة « القيد » لا يتحقّق إلاّ بتحقّق الأمر في رتبة المعلول « المقيّد ». وبهذا تثبت استحالة أخذ الأمر في متعلّق نفس الأمر.

الثمرة المترتّبة على القول بالاستحالة :

والثمرة المترتّبة على استحالة أخذ قصد الأمر في متعلّق الأمر هي عدم إمكان التمسّك بالإطلاق لنفي قيد قصد الأمر في حال الشك في أخذه قيدا أو عدم أخذه قيدا في الواجب ، وبهذا لا يمكن إثبات التوصلية في الواجبات في ظرف الشك في تعبديتها أو توصليتها.

ص: 87

وبيان ذلك : إذا أمر المولى بإيجاد فعل ما وشككنا في أن الفعل الواجب إيجاده هل هو مشروط بقيد خاص أو هو مطلق من جهة هذا القيد ، مثلا إذا قال المولى « صلّ » وشككنا في اعتبار الجماعة في الصلاة المأمور بها أو عدم اعتبارها فإنّ بالإمكان التمسّك بإطلاق قول المولى « صلّ » لنفي اعتبار هذا القيد « الجماعة » وبهذا يكون الواجب مطلقا من هذه الجهة ، وبنفي القيد عن الواجب بواسطة التمسّك بالإطلاق يمكن إثبات نفي تعلّق غرض المولى بهذا القيد ، إذ أنّ غرض المولى لو كان متعلقا بإيجاد هذا القيد لكان قد كشف عن هذا الغرض بواسطة التقييد ، إذ لا محذور في التقييد بحسب الفرض ، إلاّ أنّ التمسّك بالإطلاق لنفي اعتبار قيد قصد الأمر غير ممكن بعد أن كان التقييد بقصد الأمر مستحيلا.

فعدم أخذ قصد الأمر قيدا في الواجب وإن كان محرزا - حيث إنّ المولى لم يذكره - إلاّ أننا وبواسطة علمنا باستحالة التقييد بهذا القيد نعلم بعدم أخذه قيدا للواجب من أول الأمر وقبل مراجعة كلام المولى ، ومع أنّنا نحرز بعدم أخذه في الواجب إلا أنّه لا يمكن استكشاف عدم إرادته ؛ وذلك لعدم إمكان أخذه قيدا في الواجب ، فيمكن أن يكون غرض المولى متعلقا بأخذ قصد الأمر قيدا في الواجب ويمكن أن لا يكون غرضه متعلقا بذلك ، ولا سبيل لنا للتعرّف على ما هو الغرض الواقعي للمولى تجاه هذا القيد.

وبهذا لا يمكن التمسّك بالإطلاق لإثبات عدم إرادة القيد أي لا يمكن إثبات توصليّة ذلك الواجب ونفي كونه تعبديّا.

وبنفس هذا البيان يمكن أن نثبت عدم إمكان التمسّك بالإطلاق في مورد الشك في اعتبار قيد العلم بالحكم لنفس ذلك الحكم ، حيث إنّه لمّا

ص: 88

كان أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم مستحيلا فلا يمكن استكشاف عدم إرادته بواسطة عدم ذكر المولى له في كلامه ، إذ لعلّة كان مريدا وكان المانع من عدم ذكره هو استحالة أخذه قيدا.

وبهذا لا يمكن إثبات اشتراك الأحكام بين العالم والجاهل بواسطة التمسّك بالإطلاق وعدم ذكر تقيّد الحكم بالعلم بنفس الحكم. فلعلّ هذا القيد وهو اختصاص الأحكام بالعالم داخل في غرض المولى إلاّ أنّه لم يذكره لاستحالة ذكره.

ص: 89

ص: 90

اشتراط التكليف بالقدرة بمعنى آخر

اشارة

كنّا قد ذكرنا في بحث استحالة التكليف بغير المقدور أن كلّ تكليف فهو مشروط بالقدرة على إيجاد متعلّقه. وكان المقصود من القدرة هناك هو تمكّن المكلّف تكوينا من امتثال التكليف لو خلّي ونفسه بقطع النظر عن عجزه بسبب امتثال تكليف آخر.

والقدرة المقصودة في المقام هي عدم العجز عن امتثال التكليف بسبب الاشتغال بامتثال تكليف آخر ، فالمكلّف قد لا يكون عاجزا عن الإتيان بأصل الفعل الواجب إلاّ أنّه بسبب اشتغاله بامتثال تكليف يصبح من المتعذّر عليه امتثال التكليف الآخر.

مثلا لو أمر المولى المكلّف بالكون في عرفات يوم التاسع من ذي الحجّة فإنّ امتثال هذا الأمر يوجب عجز المكلّف عن امتثال التكليف بالكون في كربلاء يوم التاسع من ذي الحجّة فالتكليفان وإن كانا مقدورين للمكلّف بالمعنى الأول إلا أنّ القدرة بالمعنى الثاني غير متحقّقة ؛ وذلك لعجز المكلّف عن الجمع بين الامتثالين.

ومن هنا يكون التكليف مشروطا بشرط آخر غير القدرة بالمعنى الأول ، وهو عدم الاشتغال بتكليف آخر يناظره في الأهميّة أو يزيد في الأهميّة عليه.

ص: 91

ويمكن أن يصطلح على اشتراط القدرة في التكليف بالمعنى الأول القدرة بالمعنى الأخص ، ويصطلح على القدرة بالمعنى الثاني القدرة بالمعنى الأعم ، ومنشأ التعبير عنها بالمعنى الأعم هو أنّ كلّ تكليف مشروط بالقدرة بالمعنى الثاني يكون مشروطا بالقدرة بالمعنى الأول بخلاف اشتراط التكليف بالقدرة بالمعنى الأوّل فقد لا يكون مشروطا بالقدرة بالمعنى الثاني ، فمثلا حينما يكون أحد التكليفين أكثر أهميّة من الآخر فإنّه لا يكون مشروطا بعدم امتثال التكليف الأقل أهميّة ؛ لأن التكليف الأقل أهميّة لا يزاحم الأكثر أهميّة فلا يكون امتثال الأهم مشروطا بعدم امتثال المهم بخلاف العكس ، فإنّ امتثال التكليف الأقل أهميّة مشروط بعدم امتثال التكليف الأهم.

الدليل على اشتراط التكليف بالقدرة بالمعنى الأعم :

وحاصل هذا الدليل : أنّ التكليف إذا كان مطلقا من جهة القدرة بالمعنى الأعم - أي أنه لا يشترط في التكليف عدم الاشتغال بتكليف آخر مضاد له - فإنّ ذلك يلزم منه أحد لازمين باطلين على سبيل مانعة الخلو :

الأول : هو أنّ المكلّف مسؤول عن امتثال كلا التكليفين المتضادين فهو في الوقت الذي يكون مسؤولا عن الكون في عرفات يوم التاسع من ذي الحجة هو مسؤول أيضا عن الكون في كربلاء يوم التاسع من ذي الحجة ، وهذا هو مقتضى الإطلاق للتكليف من جهة اشتراط القدرة بالمعنى الأعم ، إذ أنّ معنى إطلاق التكليف من هذه الجهة هو أنّ الكون في عرفات في يوم عرفة واجب سواء كان المكلّف غير مشتغل بامتثال التكليف

ص: 92

بالكون في كربلاء أو كان مشتغلا بذلك ، وكذلك الكلام في مقتضى إطلاق التكليف بالكون في كربلاء.

وهذا اللازم - وهو مسؤوليّة المكلّف عن تكليفين متضادّين في آن واحد - لا يمكن الالتزام به لاستلزامه التكليف بغير المقدور.

الثاني : أنّ التكليف المطلق يراد منه بعث المكلّف نحو امتثاله وصرفه عن امتثال التكليف الآخر المضاد له ، وهذا اللازم لا يمكن الالتزام به أيضا ؛ وذلك لاستلزامه إما الترجيح بلا مرجّح أو ترجيح المرجوح ؛ لأنّه إن كان التكليف الذي يراد صرف المكلّف عن امتثاله يناظر التكليف الآخر في الأهميّة فهذا ترجيح بلا مرجّح ، وإن كان يفوقه أهميّة فهذا من ترجيح المرجوح.

ومع عدم إمكان الالتزام بأحد هذين اللازمين يتعيّن تقييد كل تكليف بعدم الاشتغال بامتثال تكليف آخر مضاد له ومناظر له في الأهميّة أو يفوقه أهميّة.

حالات التزاحم :

والمراد من التزاحم هو تنافي التكليفين أو التكاليف في مقام الامتثال بحيث يكون المكلّف عاجزا عن الجمع بينها في مقام الامتثال كما لو توجّه أمر للمكلف بإنقاذ غريق ونهي عن دخول الأرض المغصوبة ، وكان إنقاذ الغريق لا يتمّ إلاّ بواسطة العبور في الأرض المغصوبة ، فهنا يتزاحم التكليفان ، أي أنّ المكلّف عاجز عن امتثالهما معا ، فإمّا أن يمتثل وجوب الإنقاذ - وهذا يستوجب عدم امتثال حرمة دخول الأرض المغصوبة - وإمّا أن يمتثل الحرمة فيجتنب عبور الأرض المغصوبة ، وهذا يستوجب عدم امتثال

ص: 93

وجوب الإنقاذ.

وفي حالات من هذا القبيل يستحيل أن يكون المكلّف مسؤولا عن امتثال كلا التكليفين إذ أنّه تكليف بغير المقدور ، كما يستحيل أن يكون المكلّف مسؤولا عن امتثال أحدهما دون الآخر بنحو مطلق لأنّه ترجيح بلا مرجّح لو افترض تساويهما في الأهميّة ، نعم لو كان أحدهما أهم ملاكا من الآخر لكان هو المتعيّن ولا يكون هذا التكليف الأهم مشروطا بعدم امتثال المهم على العكس من التكليف الأقل أهميّة فإنّه مشروط بعدم امتثال الأهمّ ملاكا.

ومن هنا يتّضح أنّ التزاحم يقتضي نفي امتثال أحد التكليفين لموضوع التكليف الآخر ؛ إذ أنّ امتثال أحد التكليفين المتساويين موجب لعدم تحقّق شرط الآخر ؛ وذلك لأنّ كلّ تكليف فهو مشروط بعدم الاشتغال بالتكليف الآخر المضاد وما دام المكلّف قد اشتغل بأحد التكليفين فهذا يعني أنّ التكليف الآخر لم يتحقّق شرطه وهو عدم الاشتغال بالتكليف المضاد ، وبهذا تنتفي فعليّة التكليف الآخر ومحركيته. وهذا الكلام لو كان أحد التكليفين أهم من الآخر فإنّ امتثال الأهم ناف لموضوع المهم ، إذ أنّ المهم مشروط بعدم امتثال الأهم.

وبما ذكرناه يتّضح معنى قول الأصوليين « إن الأمر بالضدين لا يكون إلاّ على وجه الترتّب » أي أنّ الأمر بتكليفين متضادّين ومتنافيين في مقام الامتثال لا يكون إلاّ على وجه يكون كلّ منهما مشروطا بعدم امتثال الآخر أو يكون التكليف المهم مشروطا بعدم امتثال التكليف الأهم.

والمصحّح للترتب بين التكليفين المتضادين هو ما ذكرناه من حكم

ص: 94

العقل باستحالة تكليف العاجز أو استحالة الترجيح بلا مرجّح واستحالة ترجيح المرجوح.

إذا عرفت ما ذكرناه فحالات التزاحم الموجبة للترتّب يمكن إجمالها في هذا البيان ، وهو أنّه لو افترضنا وجود تكليفين مقدورين للمكلّف بالمعنى الأخص ، أي أنّ المكلّف قادر تكوينا على إيجاد كلّ واحد منهما لو خلّي ونفسه إلاّ انه عاجز عن امتثالهما معا ، فهنا تارة يفترض تساوي التكليفين في الأهمية وتارة يفترض أنّ أحد التكليفين أكثر أهميّة من التكليف الآخر ، وقد اتّضح ممّا سبق أنّ الحالة الأولى يكون كلّ واحد من التكليفين مشروطا بعدم امتثال الآخر ، وأنّ الحالة الثانية يكون التكليف الأهم مطلقا ويكون التكليف الأقل أهميّة مشروطا بعدم امتثال التكليف الأهم.

الإشكال على الترتّب :

إنّ دعوى الترتّب بين التكليفين المتضادين - وأنّ كل واحد مشروط بعدم امتثال الآخر - تؤول إلى التكليف بغير المقدور وهو محال.

وبيان ذلك :

إنّ التكليف إذا كان مشروطا بعدم امتثال الآخر فهذا يعني تحقّق فعليّة التكليف في حال عدم امتثال التكليف الآخر ، فلو افترضنا أنّ المكلّف لم يمتثل التكليفين معا فهذا يقتضي تحقّق الفعليّة لكلا التكليفين ؛ لأنّ كل واحد منهما يصبح واجدا لشرطه وهو عدم امتثال الآخر ، وهذا يعني مسؤوليّة المكلّف عن كلا التكليفين المتضادين ، فهو مسؤول عن الأوّل لتحقّق شرطه وهو عدم امتثال الثاني ومسؤول عن الثاني لتحقق شرطه وهو عدم امتثال الأول ، فيكون المكلّف في مثل هذه الحالة مخاطبا بامتثال

ص: 95

كلا التكليفين وهو محال لأنّه تكليف بغير المقدور.

والجواب عن هذا الإشكال :

إنّ فعليّة كلا التكليفين لا محذور فيه بعد أن كان امتثال أحدهما يوجب سقوط الآخر عن الفعليّة ، حيث قلنا إنّ مؤدى الترتّب هو نفي أحد التكليفين عند امتثاله لموضوع الآخر ، وذلك لعدم تحقّق شرطه.

ومن هنا لا تكون فعليّة كلا التكليفين في الحالة المفترضة موجبة للتكليف بغير المقدور ؛ إذ أنّه بمجرّد أن يحرّكه التكليفان للامتثال فإنّه سيبدأ بأحدهما لا محالة وبامتثال أحدهما تسقط فعليّة الآخر لانتفاء شرطه فلا تكون فعليّة التكليفين إذن موجبة لمسؤوليّة المكلّف عن الجمع بين التكليفين المتضادّين ، فالفعليّة في مثل المقام لا تعني أنّ كلا التكليفين مطلوبان للمولى ، ولهذا لو اتّفق محالا أنّ المكلّف أتى بكلا التكليفين المتضادّين لما كان ذلك يعني أنّ كليهما كان مطلوبا للمولى ؛ إذ أنّ غير المقدور يستحيل أن يكون مطلوبا للمولى.

وبهذا اتّضح عدم وجود محذور في الالتزام بإمكان الأمر بالضدّين ولكن بنحو يكون كلّ منهما مقيّدا بعدم امتثال الآخر ، أي يكون الأمر بالضدّين بنحو الترتّب.

ص: 96

التخيير والكفائيّة في الواجب

اشارة

إنّ استفادة التخيير من الخطاب الشرعي يتم بواسطة أحد أمرين :

الأمر الأول : القرينة العقليّة ، وذلك بأن يجعل المولى الوجوب على الطبيعة دون أن يقيّدها بحصّة خاصّة ، وفي حالة من هذا القبيل يمكن التمسّك بالإطلاق بواسطة قرينة الحكمة وأن عدم تقييد الطبيعة كاشف عن عدم إرادته.

وهذا الإطلاق ينتج التخيير بين أفراد الطبيعة على نحو البدل بحيث يكون المكلّف في سعة من جهة اختيار أي فرد من أفراد الطبيعة في مقام امتثاله للتكليف.

وهذا النحو من التخيير يسمّى بالتخيير العقلي ؛ وذلك لأن القاضي به هو العقل حيث يدرك أنّ المولى لمّا جاء بالطبيعة القابلة للتقييد ولم يذكر القيد رغم أنّه في مقام البيان ، فلو كان مريدا للقيد ومع ذلك لم يذكره لكان ناقضا لغرضه والحكيم لا ينقض غرضه ، وبهذه القرينة العقليّة يفهم العرف إرادة المولى للإطلاق البدلي والذي هو عبارة ثانية عن التخيير بين أفراد الطبيعة وأن للمكلّف أن يختار في مقام الامتثال أحد أفراد الطبيعة ليجعله واسطة في سقوط التكليف عنه.

مثلا لو قال المولى « أكرم فقيرا » فإنّ الواجب هنا طبيعي الإكرام كما

ص: 97

أنّ الموضوع هو طبيعي الفقير ، وبهذا يمكن إجراء قرينة الحكمة العقليّة لإثبات الإطلاق البدلي في المتعلّق « الإكرام » وفي الموضوع « الفقير » وبه يثبت التخيير العقلي ، فيكون المكلّف في سعة من جهة اختيار أي فرد من أفراد طبيعة المتعلّق « الإكرام » فله أن يعطي الفقير هدية كما له أن يدعوه على طعام ، وهكذا يكون للمكلّف الخيار في تطبيق طبيعة الموضوع على أيّ فرد من أفراد الفقير.

الأمر الثاني : تصريح الشارع في مقام جعل التكليف بالتخيير وأنّ الواجب أحد شيئين أو أشياء.

مثلا قوله تعالى : ( فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ .. ) (1) ، فإنّ استفادة التخيير هنا بين خصال الكفارة تمّ بواسطة بيان الشارع لذلك.

وهذا النحو من التخيير يعبّر عنه بالتخيير الشرعي باعتبار أنّ استفادته تمّت بواسطة الخطاب الشرعي.

التخيير الشرعي في الواجب :

اتّضح ممّا تقدّم أنّ التخيير الشرعي هو ما كانت استفادته بواسطة الشارع ابتداء ودون توسط قرينة عقليّة وهذا لا كلام فيه ، كما لا كلام في وقوع الوجوبات التخييريّة في الشرع وعند العقلاء ، وبهذا لا يصغى إلى دعوى استحالة الوجوب التخييري بزعم أنّ الوجوب التخييري يستلزم

ص: 98


1- سورة المائدة : آية 89.

اجتماع النقيضين بتقريب أنّ الواجب هو ما يكون المكلّف مسؤولا عن إيجاده ويعدّ عاصيا بتركه ، فإذا جاز ترك الفعل الواجب فهذا يقتضي إمّا انتفاء كونه واجبا وهذا يعني انسلاخ الفعل عن عنوان الواجب ، وإمّا أن يكون الواجب غير واجب التحصيل ، أي لا يلزم المكلّف إيجاده ولا يعدّ عاصيا بتركه.

أمّا الشقّ الأول فهو خلف الفرض ؛ إذ الكلام عن الفعل الواجب الذي يجوز تركه مع احتفاظه بعنوان الواجب ، وأمّا الشقّ الثاني فهو المتعيّن ولا يمكن الالتزام به لاستلزامه الجمع بين النقيضين ؛ وذلك لأنّ جواز ترك الفعل الواجب يناقض لزوم تحصيل الفعل الواجب ، فالفعل الواجب واجب التحصيل - بمقتضى كونه واجبا - وغير واجب التحصيل - كما هو مقتضى الفرض - ، وهذا من الجمع بين النقيضين وهو ما يؤول إليه الوجوب التخييري ؛ وذلك لأنّ الواجب في الوجوب التخييري يجوز تركه إلى بدل.

وقد قلنا إنّ هذه الدعوى لا يصغى إليها لعدم الإشكال في وقوع الوجوب التخييري في الشرع وعند العقلاء ، والوقوع أقوى شاهد على الإمكان ، إلاّ أنّه مع ذلك لابدّ من بيان حقيقة الوجوب التخييري ليتّضح عدم تأتّي هذا الإشكال وأن الوجوب التخييري ممكن. فنقول إنّه ذكر للوجوب التخييري عدّة تفسيرات ذكر المصنّف منها تفسيرين :

التفسير الأول : ويمكن تقريره بهذا البيان وهو أنّه قد يكون هناك ملاك يمكن استيفاؤه بواسطة أحد شيئين أو أكثر على نحو البدل ، ويمكن التمثيل لذلك بما لو تعلّق غرض المولى بإكرام زيد فيقول لعبده « اكس زيدا حلّة أو أعطه دابّة أو التمس له جارية » فإنّ واحدا من هذه البدائل يفي

ص: 99

بالملاك ، ومن هنا فهذه الوجوبات المتعدّدة ترجع روحا إلى وجوب واحد متعلقه هو الجامع بين هذه البدائل التي يفي كلّ واحد منها بملاك الوجوب ، غايته أنّ المولى بدل أن يجعل الوجوب على المتعلّق الكلّي « الجامع » جعله على أفراد الجامع ابتداء.

ثمّ إنّ الجامع - الذي هو متعلّق الوجوب روحا - قد يكون من قبيل العناوين المتأصّلة التي لها تقرّر وثبات في الواقع ولا تكون مخترعة ، وذلك مثل عنوان الفقير والإنسان وهكذا. وقد يكون الجامع من قبيل العناوين الانتزاعية والتي ينتزعها الذهن بواسطة نسبة شيء إلى آخر كعنوان أحدهما أو عنوان الأصغر أو الأكبر أو الكثير أو القليل وهكذا ، فإنّ هذه العناوين ليس لها تقرّر في الواقع وإنّما هي عناوين يدركها الذهن بواسطة إضافة عنوان أصيل مثلا إلى عنوان أصيل آخر. كما لو نسبنا حجم الشمس إلى حجم القمر فإنّ الذهن ينتزع من هذه النسبة والإضافة عنوان الأكبر للشمس وعنوان الأصغر للقمر ، وهكذا الحال في المقام فلو كان هناك شيئان بينهما تمام التباين إلاّ أنّ كلّ واحد منهما قابل لأن يفي بغرض المولى فإنّ الذهن وبواسطة ملاحظتهما من جهة اشتراكهما في الوفاء بالغرض ينتزع عنوان « أحدهما ».

وبهذا تمّ بيان التفسير الأول للوجوب التخييري الشرعي وهو يرجع روحا إلى التخيير العقلي ؛ وذلك لأنّنا ذكرنا أنّ التخيير العقلي هو عبارة عن وجوب واحد متعلّق بالجامع الكلي ويكون المكلّف في سعة من جهة اختيار أي فرد من أفراد الجامع في مقام امتثال التكليف ، غاية ما في الأمر أن الوجوب التخييري العقلي لا يتصدّى فيه المولى لبيان أفراد الجامع وإنّما

ص: 100

يكتفى ببيان الجامع والعقل هو الذي يدرك التخيير بين أفراد الجامع ، وأمّا الوجوب التخييري الشرعي فهو وإن كان متعلّقه الجامع أيضا إلاّ أنّ الشارع هو الذي يتصدّى لبيان أفراد الجامع.

فالتخيير العقلي والتخيير الشرعي يشتركان في أنّه ليس لأيّ واحد من أفراد الجامع فيهما خصوصيّة موجبة لأن يكون هو متعلّق الوجوب ، بل إنّ متعلّق الوجوب هو الجامع وهو محطّ غرض المولى.

التفسير الثاني : ويمكن تقريره بهذا البيان : وهو أنّه قد يكون هناك ملاكان مختلفان كلّ واحد منهما كاف لأن يوجب تكليفا مستقلا إلاّ أنّه وبسبب علم المولى بعدم قدرة المكلّف على تحصيل كل من الملاكين يجعل للمكلّف الخيار في تحصيل واحد منهما غير المعين ولا يأذن في تفويت كلا الملاكين ؛ ولهذا يجعل على المكلّف وجوبين كلّ واحد منهما يفي بأحد الملاكين إلاّ أنّه يقيّد كلّ وجوب بعدم امتثال الآخر ، فترك أحد الوجوبين يحقّق الفعلية للوجوب الآخر ويكون المكلّف عند ذلك مسؤولا عن تحصيل الوجوب الآخر.

وبهذا يكون الوجوب التخييري منحلا روحا إلى وجوبين كلّ واحد منهما مقيّد بعدم امتثال الآخر.

والسبب لجعل المولى وجوبين هو وجود ملاكين للمولى يكفي كلّ واحد من الملاكين لجعل وجوب مستقل ، وأمّا سبب تقييد كلّ وجوب بعدم امتثال الآخر فهو عجز المكلّف عن امتثال كلا الوجوبين ، أي عجزه عن تحصيل كلا الملاكين.

ويمكن توضيح هذا التفسير للوجوب التخييري بهذا المثال ، وهو أنّه

ص: 101

لو كان المولى جائعا وعطشانا ، فإنّ كلّ واحد من هذين الملاكين كاف في إلزام العبد بتحصيله ، ولمّا كان تحصيل الملاك الأول لا يفي بالملاك الثاني ولا الثاني يفي بالملاك الأول ؛ إذ أنّ الطعام لا يرفع الظمأ كما أنّ الماء لا يسدّ الجوع ، فإنّ المولى في هذه الحالة يلزم العبد بإلزامين ، الأول يفي بالملاك الأول والثاني يفي بالملاك الثاني ، فإذا كان المولى يعلم بعدم قدرة العبد على تحصيلهما معا فإنه يجعل كلّ واحد من الإلزامين مقيدا بعدم الالتزام بالآخر ، فيقول « اسقني ماء أو التمس لي طعاما » ، أي أنّك إن التزمت بالأوّل سقط الثاني عن الفعليّة وهكذا العكس.

الإشكال على التفسير الثاني :

وقد أورد على هذا التفسير بإيرادين :

الإيراد الأوّل : لمّا كان كل وجوب تستلزم مخالفته العقوبة فالمكلّف حينما لا يمتثل كلا شقي الوجوب التخييري يكون مستحقا لعقوبتين ؛ وذلك لأنّ الوجوب التخييري - بناء على هذا التفسير - ينحلّ إلى وجوبين مستقلّين ، وباعتبار أن فعليّة كلّ واحد منهما منوطة بعدم امتثال الآخر فحينما لا يمتثل كلا الوجوبين تكون فعليّة كلّ وجوب متحقّقة لتحقّق شرطها. وهذا الإشكال قد ذكرناه في حالات التزاحم بين الواجبين لو افترض عدم امتثال المكلّف لكلا الوجوبين المتزاحمين.

والجواب :

إنّ المنشأ في عدم إيجاب التكليفين بنحو مطلق - وأنّ أحدهما مقيّد بالآخر - هو عجز المكلّف عن الجمع بينهما ، وهذا يعني أنّ ترك أحدهما ضروري على أيّ حال ، وإذا كان كذلك فلا يصحّ أن ينسب تفويت كلا الملاكين إلى

ص: 102

المكلّف لأنّ أحدهما متعذّر الوقوع لا محالة ؛ ولهذا لا يكون المكلّف مرتكبا لمعصيتين حتى يكون مستحقّا لعقوبتين.

وبعبارة أخرى : إنّ استحقاق المكلّف لعقوبة المولى ينشأ عن تفويته لغرض المولى بواسطة تركه للتكليف المحقّق للغرض المولوي ، فإذا فوّت المكلّف غرضا للمولى بمحض اختياره فهو مستحق للعقوبة ، أمّا إذا كان فوات الغرض خارجا عن قدرة المكلّف فيستحيل مؤاخذته على ذلك لاستحالة التكليف بغير المقدور.

ودعوى استحقاق المكلّف للعقوبة الثانية عند تركه لكلا شقي الوجوب التخييري تعني مؤاخذة المكلّف على ما هو خارج عن قدرته ؛ وذلك لأنّ أحد الوجوبين متعذّر الوقوع فلا يمكن ان ينسب تفويت الملاك الثاني غير المعين إلى المكلّف لاستحالة وقوعه على أيّ حال.

الإيراد الثاني : هو أنّه لمّا كانت فعليّة كلّ واحد من شقي الوجوب التخييري منوطة بعدم امتثال الآخر فهذا يقتضي عدم فعليتهما لو اتّفق إيجاد المكلّف لهما معا ، وهذا يعني عدم تحقّق الامتثال من المكلّف في ظرف إيجاد المكلّف لكلا شقّي الوجوب التخييري ، إذ أنّ كلّ واحد منهما ليس مأمورا به لعدم تحقّق شرط الفعليّة والمسؤوليّة ، ومن الواضح أنّ الإتيان بالتكليف قبل تحقّق شرط الفعليّة لا يعدّ امتثالا ؛ ولهذا لو تحقّقت الفعليّة بعد ذلك يكون المكلّف مطالبا بامتثال التكليف ، فلو حجّ المكلّف قبل الاستطاعة لا يكون ذلك مجزيا بل إنّه يكون مسؤولا عن امتثال وجوب الحج لو حصلت له الاستطاعة بعد ذلك. وهكذا الكلام في المقام فلو توجّه للمكلّف وجوب بعتق رقبة أو الإطعام إلاّ أنّ أحدهما منوط بعدم امتثال الآخر ، فلو أعتق

ص: 103

المكلّف رقبة فهذا يعني عدم فعليّة وجوب الإطعام ؛ وذلك لعدم تحقّق شرط الفعليّة له ، وهي عدم إعتاق الرقبة ، وكذلك لو امتثل وجوب الإطعام فإنّ فعليّة وجوب الإعتاق لا تكون متحقّقة لانتفاء شرط الفعليّة لوجوب الإعتاق.

والجواب عن هذا الإيراد :

إنّ الإتيان بكلا شقي الوجوب التخييري له صورتان :

الصورة الأولى : أن يأتي بأحد التكليفين ثمّ يأتي بالتكليف الآخر ، وهنا لا إشكال في فعليّة الوجوب الأوّل لتحقّق شرطه وهو عدم الإتيان بالثاني ، ويكون الإتيان بالثاني بعد ذلك لاغيا لاستحالة تحقّق شرط الفعليّة له ، إلاّ أنّ هذا مبني على أنّ شرط الفعليّة هو عدم الإتيان بالتكليف الثاني مثلا حين الاشتغال بالتكليف الأوّل ، أمّا إذا كان الشرط هو عدم الإتيان بالثاني في عمود الزمان - وإلى الأبد - فهذا الجواب غير نافع.

الصورة الثانية : أن يأتي بكلا شقي الوجوب التخييري في عرض واحد ، وهذه الصورة منافية لما هو مقتضى الفرض من عجز المكلّف عن الجمع بين التكليفين أو عجزه عن تحصيل كلا الملاكين ، ومع ذلك لو اتّفقت هذه الصورة لكان كلا التكليفين فعليا لو كان شرط الفعليّة هو عدم الإتيان بالتكليف الآخر لا عدم مقارنته بالتكليف الآخر.

وهذا الجواب يحتاج إلى تعميق لا يسعه هذا الكتاب.

وباتّضاح ما ذكرناه يتّضح أنّ هناك مجموعة من النتائج مترتّبة على الوجوب التخييري بكلا تفسيريه.

الأولى : أنّ امتثال الوجوب التخييري يتحقّق عند إيجاد أحد شقّي

ص: 104

الوجوب التخييري غير المعيّن.

الثانية : أنّ معصيّة الوجوب التخييري لا تكون إلاّ حين يترك المكلّف كلا شقي الوجوب التخييري.

الثالثة : أنّ العقوبة المترتّبة على ترك الوجوب التخييري بتمام شقوقه هي عقوبة واحدة.

الرابعة : أنّ إيجاد كلّ شقوق الوجوب التخييري يعدّ امتثالا للوجوب التخييري.

الثمرة المترتّبة على تفسيري الوجوب التخييري :

إنّه لمّا كان متعلّق الوجوب التخييري - بناء على التفسير الأول - هو الجامع فهذا يقتضي أنّ التقرّب يكون بالجامع ، فلذلك لو تقرّب المكلّف بأحد شقي الوجوب التخييري يكون قد تقرّب للمولى بغير المأمور به ، إذ أنّ كلا شقي الوجوب التخييري ليس مأمورا بهما لأنّهما ليسا متعلقا للوجوب ، نعم الوجوب التخييري يسقط بالإتيان بأحدهما إلاّ أنّ ذلك بسبب أنّ كلّ واحد من شقي الوجوب مشتمل على الجامع الذي هو متعلّق التكليف روحا وواقعا.

وبعبارة ثانية : إنّ التفسير الأول للوجوب التخييري لمّا كان مرجعه إلى التخيير العقلي فهذا يقتضي أن يكون المأمور به هو الجامع ، والتقرّب للمولى إنّما يكون بالمأمور به وغير الجامع ليس مأمورا به.

وأمّا بناء على التفسير الثاني فكلّ واحد من شقي الوجوب التخييري يكون متعلّقا للتكليف ، وهذا يقتضي صحّة التقرّب بأي واحد منهما عند

ص: 105

الإتيان به ، وأنّ كلا منهما يكون مأمورا به.

الوجوب التخييري بين الأقلّ والأكثر :

إنّ ما ذكرناه من إمكان الوجوب التخييري بل وقوعه في الشرع وعند العقلاء إنّما هو التخيير بين المتباينين أي بين العنوانين الذين لا تكون بينهما علاقة العموم والخصوص المطلق كالإطعام والصيام والفقير والهاشمي.

والكلام في المقام عن إمكان التخيير بين الأقل والأكثر بحيث يكون أحد طرفي الوجوب مستوعبا للطرف الآخر وزيادة ، كأن يأمر المولى عبده بأن يطعم عشرة مساكين أو تسعة تدريجا.

ولكي يتحرّر محل النزاع نذكر للأقل والأكثر ثلاث صور :

الصورة الأولى : ما إذا كان وجود الأقل مباينا لوجود الأكثر بمعنى عدم التداخل بينهما فلا يكون الأقل مشمولا للأكثر كالخطين المستقيمين الذين يكون أحدهما طويلا والآخر قصيرا ، فإن الخط القصير له وجود مستقل عن وجود الخط الطويل ؛ وذلك لأن الخط القصير له وحدة اتّصالية تقتضي أن يكون للخط القصير حدود عدمية مانعة عن أن يدخل وجوده في إطار الوجودات الأخرى والتي منها الخط الطويل ، وكذلك الحال في الخط الطويل فإنّ له وحدة اتصالية تقتضي حدودا عدميّة مانعة من دخول وجوده في الوجودات الأخرى ، ولهذا لا يقال إن الخطّ الطويل هو المشتمل على خطين قصيرين بل إنّه وجود واحد ذو ماهيّة واحدة.

وهذه الصورة خارجة عن محلّ النزاع بلا ريب ؛ وذلك لأنّ التخيير بين الأقل والأكثر فيها تخيير بين المتباينين ، فيمكن تطبيق كلا تفسيري الوجوب التخييري عليها ، فيقال إنّ الوجوب التخييري متعلقه الجامع بين

ص: 106

الأقل والأكثر وهو في المثال الخط المستقيم ، كما يمكن أن يقال إنّ الوجوب التخييري منحلّ إلى وجوبين يكون متعلّق كلّ واحد من الوجوبين أحد طرفي الوجوب التخييري ، إذ من الممكن جدا أن يتعلّق غرض بإيجاد خطّين مستقيمين أحدهما قصير والآخر طويل إلاّ أنّه وبسبب علمه بعدم قدرة المكلّف على تحصيل كلا الغرضين والملاكين يأمر بهما على نحو يكون كلّ واحد منوطا بعدم الإتيان بالآخر.

الصورة الثانية : ما إذا كان وجود الأقلّ قابلا لأن يكون مشمولا للأكثر ، أي قابلا للدخول في إطار الأكثر إلاّ أنّه قد أخذ في الأقل عدم الزيادة ، وبهذا القيد يمتنع التداخل ويكون التخيير بين الأقل والأكثر تخييرا بين المتباينين.

وبهذا تخرج هذه الصورة أيضا عن محلّ النزاع ، إذ أنّ التخيير بين المتباينين لا إشكال في إمكانه بل في وقوعه كما تقدّم.

ومثال هذه الصورة التخيير في المواطن الأربعة بين القصر والتمام فإن القصر قد أخذ فيه عدم الزيادة ، ولهذا لو أضاف المكلّف على الركعتين ركعة لما عدّ ممتثلا رغم أن الركعتين قد جيء بهما في ضمن الثلاث ، إلاّ أنّ الركعتين لمّا أن كان قد أخذ فيهما عدم الزيادة فهذا يقتضي ألا يكون المكلّف ممتثلا حينما يأتي بالثلاث ؛ وذلك لأنّ الركعتين في إطار الثلاث ليست متوفّرة على القيد المطلوب تحصيله وهو عدم الزيادة ، فعدم الزيادة هو الذي أوجب بينونة الأقل عن الأكثر.

ومن هنا يمكن تطبيق كلا تفسيري الوجوب التخييري على هذه الصورة بنفس التقريب السابق.

ص: 107

الصورة الثالثة : هي عين الصورة الثانية إلاّ أنّه لم يؤخذ في الأقل شرط عدم الزيادة ، فالأقل لا بشرط من جهة الزيادة وعدمها.

وهذه الصورة هي محلّ النزاع حيث ذهب البعض إلى إمكان التخيير فيها بين الأقل والأكثر وذهب البعض إلى استحالتها ومنهم المصنّف رحمه اللّه .

ومنشأ دعوى الاستحالة أنّ المكلّف إذا جاء بالأقل فقد جاء بالمأمور به ولا يوجد حالة يؤتى فيها بالأكثر إلاّ وقد جيء قبله بالأقلّ فيكون الإتيان بالأكثر عندئذ بلا مبرّر بعد أن سقط الأمر بامتثال الأقلّ ، ومن هنا لا يمكن أن تكون هناك حالة يكون فيها الأكثر مصداقا للواجب.

وبتعبير آخر : إنّه لمّا كان الأقل لا بشرط من جهة الزيادة وعدمها فهذا يعني أنّه بمجرّد أن يؤتى بالأقل يكون المكلّف قد امتثل الوجوب ، ولمّا كان تحقّق الأكثر متقوّما بتحقّق الأقل فهذا يعني أنّ الأكثر لا يؤتى به إلاّ بعد سقوط التكليف ، ومن هنا جاز تركه دون بديل ، وكل فعل يجوز تركه دون بديل فهو غير واجب وإلاّ للزم الإتيان به أو ببديله.

وبهذا اتّضح استحالة جعل الأكثر عدلا للأقل ؛ إذ أنّ عدل الواجب ينبغي أن يكون مباينا للواجب حتى يصدق أنّه ترك الأولى وأتى بالثاني ، أمّا إذا كان الإتيان بالثاني لا يكون إلاّ عبر الإتيان بالأول فهذا لا يصلح أن يكون عدلا للأول.

الوجوب الكفائي :

ويتّضح المراد من الوجوب الكفائي بهذا البيان :

إنّ بعض الأفعال التي تتعلّق إرادة المولى بصدورها من المكلّف قد لا يكون لشخص المكلّف وهويته أي دخالة في إرادة المولى بل إنّ إرادته قد

ص: 108

تعلّقت بأن يصدر الفعل عن طبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود بمعنى عدم ملاحظة خصوصيّات المكلّف الذي يصدر عنه الفعل المراد فمتى ما تحقّق الفعل من أيّ مكلّف كان فإنّ إرادة المولى بذلك تكون قد تحقّقت وبذلك يسقط التكليف.

ومنشأ سقوط التكليف هو صدور الفعل المأمور به من أهله وهو أحد أفراد طبيعي المكلّف الذي وقع موضوعا للتكليف.

وبهذا البيان يتّضح أنّ غرض المولى كما يمكن أن يتعلّق بطبيعي الفعل بنحو صرف الوجود يمكن أن يتعلّق بطبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود.

مثلا حينما يقول المولى للمكلّف « صلّ » فإنّ غرضه قد تعلّق بطبيعي الصلاة دون الاعتناء بمشخّصات وخصوصيّات أفراد الطبيعة ، فكلّ فرد من الطبيعة مهما كانت هويّته فإنّه محقّق لغرض المولى ، وهذا ما يقتضي التخيير بين أفراد الطبيعة.

فحينما يقول المولى « إنّ مكلفا مسؤول عن دفن الميّت » فإنّ غرضه قد تعلّق بصدور الفعل وهو « الدفن » من طبيعي المكلّف بنحو صرف الوجود بمعنى أنّه أراد من واحد من طبيعي المكلّف - دون ملاحظة من هو ذلك المكلّف - أن يقوم بذلك الفعل ، فأيّ مكلّف مهما كانت هويّته يأتي بالفعل المطلوب فإنّ غرض المولى يكون بذلك متحقّقا وهذا هو الوجوب الكفائي المناسب للوجوب التخييري العقلي.

وفي مقابل الوجوب الكفائي يكون الوجوب العيني ، وهو الذي يكون فيه الغرض المولوي متعلقا بصدور الفعل من كلّ فرد من أفراد المكلّفين على نحو مطلق الوجود بمعنى أن شخص المكلّف دخيل في غرض

ص: 109

المولى ، وبهذا لا يكون غرض المولى متحقّقا حينما يقوم مكلّف ما بالفعل المطلوب من جهة المكلّف الآخر ، بل يبقى غرض المولى متعلّقا بأن يصدر الفعل المطلوب من المكلّف الآخر.

وبتعبير آخر : إنّ التكليف بنحو مطلق الوجود من جهة المكلّف يعني أنّ هناك تكاليف متعدّدة بعدد أفراد المكلّفين ، فكلّ مكلّف يكون قد تعلّق الغرض المولوي بأن يصدر عنه الفعل المطلوب ، فيكون لخصوصيّة الفرد دخل في غرض المولى وبالتالي دخل في سقوط التكليف.

وبهذا البيان اتّضح المراد من الوجوب الكفائي واتّضحت الجهة التي يشابه فيها الوجوب التخييري ، إلاّ أنّ هذا البيان إنّما يوضح الوجوب الكفائي المناسب للوجوب التخييري بنحو التفسير الأوّل وهو الوجوب التخييري العقلي.

ونحتاج إلى بيان ثان للوجوب الكفائي يناسب الوجوب التخييري بنحو التفسير الثاني والذي يعني رجوع الوجوب التخييري إلى وجوبات مشروط كلّ منها بعدم امتثال الآخر فنقول :

إنّه قد يتعلّق غرض المولى بأن يصدر الفعل من كلّ مكلّف إلاّ أنّ ذلك الغرض متحيّث بحيثية توجب سقوط التكليف عندما يصدر الفعل المطلوب من مكلف ما.

مثلا : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ممّا تعلّق غرض المولى بأن يصدر عن كلّ مكلّف بحيث يكون كلّ مكلّف بخصوصياته قد تعلّق الغرض المولوي بأن يصدر الأمر بالمعروف عنه ، إلاّ أنّ هذا الغرض يرتفع في حال صدور الأمر بالمعروف عن أحد المكلّفين فيكون ما صدر عن هذا

ص: 110

المكلّف المعيّن قد صدر عن المكلّف الذي تعلّق الغرض بأن يصدر عنه الفعل بخصوصه إلاّ أنّه وببركة صدور الفعل عن المكلّف المطلوب منه بخصوصه أن يصدر عنه الفعل تسقط سائر الأغراض المتعلّقة بكل مكلّف بخصوصه ، وذلك لتحيّثه من أوّل الأمر بذلك ، وهذا ما برّر تقييد فعليّة كلّ تكليف - من التكاليف المتعدّدة بتعدّد المكلّفين - بعدم امتثال المكلّف الآخر له.

وهذا النحو من التكليف له ما يناظره في حياة العقلاء فقد يتعلّق غرض المولى العرفي بأن يهيّىء له عبيده الطعام بحيث يكون كلّ واحد منهم بخصوصه مسؤولا عن تهيئة الطعام إلاّ أنّ طبع هذا الغرض يقتضي ارتفاعه حينما يقوم أحد العبيد بإيجاده.

ومن هنا يتّضح الفرق بين هذا التقريب للوجوب الكفائي وبين التقريب الأول ، فإنّ موضوع التكليف بناء على التقريب الأول هو جامع المكلّفين ويكون الفرد الذي يصدر عنه التكليف هو منطبق الموضوع « الجامع » لا أنّه موضوع التكليف ، وأمّا بناء على التقريب الثاني فإن موضوع التكليف فيه هو كلّ مكلّف بخصوصيّاته.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ الوجوب الكفائي يقتضي - وبناء على التفسيرين - أن يكون الثواب لمن يصدر عنه التكليف ؛ وذلك لأنّ الثواب مترتّب على من يحقّق غرض المولى فعلا ، ومن الواضح أنّ الذي لم يصدر عنه التكليف لم يكن قد حقّق غرض المولى وإن كان ذلك ناشئا عن عدم قدرته لتحقيق غرض المولى بسبب ارتفاع الغرض ، نعم لا يكون المكلّف مثابا على صدور التكليف عنه إلاّ في حالة يكون ذلك المكلّف ممّن يشمله

ص: 111

التكليف ، وهذا حاصل في الوجوب الكفائي - على التفسيرين - فبناء على التفسير الأول يكون المكلّف الذي صدر عنه التكليف منطبق الجامع - الذي هو موضوع التكليف - فيكون التكليف قد صدر عن الجامع بواسطته.

وأمّا بناء على التفسير الثاني فالأمر أوضح ؛ إذ أنّ المكلّف الذي صدر عنه التكليف هو موضوع التكليف.

وكذلك يقتضي الوجوب الكفائي - وبناء على التفسيرين - استحقاق جميع المكلّفين للعقوبة لو اتّفق عدم صدور التكليف عن واحد منهم ؛ وذلك لأن العقوبة مترتّبة على تضييع الغرض المولوي اختيارا ولكن بحيث يكون تضييع الغرض ممّن تعلّق بأن يصدر الفعل المراد عنه ، وهذا حاصل في الوجوب الكفائي على التفسيرين ، إذ أنّه بناء على التفسير الأول يكون الغرض والتكليف واقعا على جامع المكلّف فيكون كلّ فرد من أفراد الجامع مشمولا للغرض والتكليف ، وبناء على التفسير الثاني يكون أوضح لأنّ كلّ مكلّف بخصوصه يكون موضوعا للتكليف ، وبهذا تكون المسؤوليّة عن تحقيق الغرض ثابتة على عهدة كلّ مكلّف ، فيكون تفويت الغرض منهم جميعا موجبا لمعاقبتهم جميعا.

ويمكن إجمال ما ذكرناه في الوجوب الكفائي في نقاط :

الأولى : إنّ الوجوب الكفائي يشابه - إلى حد ما - الوجوب التخييري ، فكما يمكن تصوير الوجوب التخييري على أساس أنّه متعلق بالجامع بنحو صرف الوجود فكذلك الوجوب الكفائي ، وكما يمكن تصوير الوجوب الوجوب التخييري على أساس أنّه مجموعة من الوجوبات مشروط كلّ

ص: 112

واحد منها بعدم امتثال الآخر فكذلك الوجوب الكفائي.

الثانية : إنّ الوجوب الكفائي يفترق عن الوجوب التخييري في أنّ التخيير فيه بلحاظ الموضوع « المكلّف » والوجوب التخييري يكون التخيير فيه بلحاظ المتعلّق ، فحينما نقول : الوجوب الكفائي متعلّق بالجامع فإنّنا نقصد أنّ موضوع الوجوب الكفائي هو الجامع أي طبيعي المكلّف ، وهذا بخلاف الوجوب التخييري فإنّ تعلّقه بالجامع بمعنى أن متعلّقه هو الجامع والذي هو طبيعي الفعل الواجب كالصلاة والصوم.

وحينما نقول : إنّ الوجوب الكفائي يرجع إلى وجوبات مشروطة فإنّ معناه أنّ الوجوبات متعدّدة بتعدّد المكلّفين أي بتعدّد الموضوعات ، فكلّ مكلّف يكون موضوعا لتكليف ، أمّا الوجوب التخييري فإن تعدّد الوجوبات فيه تكون بلحاظ أفراد المتعلّق أي الفعل الواجب ، فتكون هناك وجوبات مشروطة بعدد أفراد المتعلّق « الواجب ».

الثالثة : إنّ الوجوب الكفائي بتفسيريه يقتضي أن تكون المثوبة لمن يصدر عنه الفعل الواجب كما يقتضي عدم ترتّب العقوبة على ترك التكليف إذا صدر التكليف عن واحد من المكلّفين.

ويقتضي أيضا استحقاق جميع المكلّفين للعقوبة لو اتّفق عدم صدور الفعل الواجب منهم جميعا.

أمّا الوجوب التخييري فيقتضي استحقاق المكلّف للثواب إذا أتى بالواجب على التفسير الثاني أو جاء بفرد من أفراد طبيعي الواجب بناء على التفسير الأول ، كما يقتضي عدم استحقاق المكلّف للعقوبة على ترك الوجوبات الأخرى بناء على التفسير الثاني أو ترك بقيّة أفراد طبيعي

ص: 113

الواجب بناء على التفسير الأول ، إلاّ أنّ المكلّف لا يكون معاقبا إلاّ عقابا واحدا لو اتّفق تركه لطبيعي الواجب بتمام أفراده بناء على التفسير الأول أو ترك امتثال جميع الوجوبات بناء على التفسير الثاني ، وقد ذكرنا منشأ ذلك فيما سبق.

التخيير العقلي في الواجب :

عرفنا أنّ الوجوب التخييري العقلي هو ما كان متعلّقه الجامع وأنّ التخيير والإطلاق البدلي فيه إنّما يكون مستفادا بواسطة القرينة العقليّة ، إذ أنّ المولى حينما يجعل التكليف على صرف الوجود للفعل فإنّ ذلك يعني عدم وجود خصوصيّة لأحد أفراد طبيعي المتعلّق وإلاّ كان على المولى أن ينبّه على ذلك وإلاّ كان ناقضا لغرضه ، إذ أنّ إرادة شيء مع إهمال بيانه يكون نقضا للغرض كما هو واضح ، ولمّا كان الحكيم لا ينقض غرضه عرفنا أنّ المولى ليس له اعتناء بخصوصيّة الفرد ، وهذا ما يبرّر الإطلاق البدلي وأنّ المكلّف له اختيار تطبيق الجامع على أي فرد من أفراده.

إذن جعل التكليف على صرف الوجود للمتعلّق « الفعل الواجب » يقتضي الإطلاق البدلي ، والمراد من صرف الوجود للمتعلّق هو وجود المتعلّق بقطع النظر عن تمام الحيثيّات المشخّصة لأفراده ، فوجود المتعلّق بما هو يكون هو متعلّق الغرض ومتعلّق التكليف ، وهذا في مقابل جعل الوجوب على مطلق الوجود ؛ إذ أنّ هذا يعني السريان والإطلاق الشمولي ، فكلّ فرد يكون متعلّقا للتكليف وهذا ما يقتضي انحلال التكليف إلى تكاليف متعدّد بعدد الأفراد ، وجعل الطبيعة هي متعلّق التكليف إنّما هو لغرض الإشارة إلى أفرادها لا أنّها متعلّق التكليف ، ففرق بين أن يقول

ص: 114

المولى « أكرم زيدا » وبين أن يقول « أكرم زيدا بكلّ أنحاء الإكرام » ؛ إذ أنّ متعلّق التكليف الأول هو صرف الوجود ، وهذا ما يقتضي الإطلاق البدلي ومتعلّق الثاني هو مطلق الوجود وهذا ما يقتضي الإطلاق الشمولي.

فالأوّل يكون المكلّف فيه مخيّرا بين أفراد طبيعة المتعلّق أمّا الثاني فالمكلّف فيه مسؤول عن جميع أفراد الطبيعة ويكون كلّ فرد من أفرادها متعلّقا لتكليف مستقل فلذلك يكون معاقبا على ترك كلّ فرد من أفراد الطبيعة ومثابا على فعل كلّ فرد من أفراد الطبيعة ، فيمكن أن يكون مثابا ومعاقبا في آن واحد ، فهو مثاب على امتثال الأوّل ومعاقب على عصيان الثاني.

والمتحصّل أنّ التخيير العقلي لمّا كان متعلّقه الجامع - وهو طبيعي الفعل المأمور به بنحو صرف الوجود - فهذا يقتضي عدم سريان الوجوب من الجامع إلى أفراده ؛ وذلك لأنّ الوجوب إنّما جعل على الجامع فلا مبرّر للتحوّل منه إلى أفراده.

ومن هنا لو اختار المكلّف أحد أفراد الجامع فلا يعني ذلك أنّ الفرد المختار أصبح هو متعلّق الوجوب بل يبقى الجامع هو متعلّق الوجوب ، غايته أنّ الفرد المختار هو منطبق الجامع ومصداقه ، والذي ينبّه على ذلك أنّ المكلّف لو اختار فردا آخر للجامع غير الذي اختاره لكان الفرد الآخر هو منطبق الجامع ولتمّ امتثال الجامع بواسطته وهكذا الحال في سائر أفراد الجامع.

وبهذا يتّضح أنّ الإتيان بأحد أفراد الجامع لا يكون امتثالا للمأمور به ؛ وذلك لأنّ المأمور به هو طبيعي الفعل - والذي هو الجامع بنحو صرف

ص: 115

الوجود - وقد قلنا إنّ الوجوب لا ينتقل من الجامع إلى أفراده ، نعم يكون الفرد المأتي به مصداقا للجامع وموجبا لسقوط التكليف بالجامع أو قل إنّ الإتيان بالفرد يكون واسطة لامتثال التكليف بالجامع لا أنّه امتثال للتكليف بنحو مباشر ، إذ لا يعقل أن يتمّ الامتثال بغير المأمور به.

ثمّ إنّ ما ذكرناه من أنّ الوجوب التخييري يكون متعلّقه الجامع - فلا يسري الحكم من الجامع إلى أفراده - إنّما يناسب المبنى القائل إن الأوامر متعلّقة بالطبايع لا بالأفراد ، وفي مقابل هذا المبنى يوجد مبنى آخر يرى أنّ الأوامر متعلّقة بالأفراد لا بالطبايع وهذا المبنى هو المناسب للتفسير الثاني للوجوب التخييري وحاصله :

إنّ الوجوب الذي يكون متعلّقه طبيعي الفعل الواجب يؤول روحا إلى وجوبات بعدد أفراد طبيعي الفعل « الجامع » فيكون كلّ فرد من أفراد طبيعي الفعل الواجب متعلّق لوجوب مستقل ، غايته أنّ فعليّة كل وجوب مقيّدة بعدم امتثال الوجوبات الأخرى ، وبناء على هذا المبنى يكون الإتيان بأحد أفراد طبيعي الفعل امتثالا للمأمور به وتنتفي به سائر الوجوبات المتعلّقة بالأفراد الأخرى.

ص: 116

امتناع اجتماع الأمر والنهي

اشارة

ذكرنا - فيما سبق - أنّ الأحكام التكليفيّة متنافية ذاتا فيما بينها ، أي أنّ الوجوب مثلا في حدّ ذاته وبما له من مبادئ ينافي الحرمة والاستحباب وهكذا ؛ ولهذا يستحيل الاجتماع بين حكمين تكليفيّين لاستحالة اجتماع الضدّين ، نعم استحالة اجتماع الحكمين المتضادّين إنّما يكون في ظرف اتّحادهما في المتعلّق فما لم يكن متعلّق الحكمين واحدا فإنّ الاستحالة لا تكون ثابتة فلا محذور في أن يكون عمل الصور حراما ويكون اقتناؤها مباحا ولهذا لو اجتمع ضرب اليتيم تشفيا مع الصوم الواجب أو مع الطواف الواجب لما كان في ذلك محذور ؛ وذلك لأنّ متعلّق الحرمة - وهو ضرب اليتيم - مغاير لمتعلّق الوجوب - وهو الصوم أو الطواف -. وهذا بخلاف ما لو كان متعلّق الوجوب هو عين متعلّق الحرمة كما لو كان متعلّق الوجوب هو صلاة الجمعة ومتعلّق الحرمة هو صلاة الجمعة أيضا فإنّه لا إشكال في استحالة ذلك لاستلزامه اجتماع الحكمين المتضادّين على متعلّق واحد.

إذن الاستحالة في ظرف اتّحاد المتعلّق والإمكان في ظرف التعدّد لا إشكال فيه كبرويا.

وإنّما الإشكال في بعض الموارد وهل هي من قبيل اتّحاد المتعلّق حتى يكون اجتماع الحكمين المتنافيين في موردها مستحيلا أو أنّها من قبيل تعدّد

ص: 117

المتعلّق فيكون الاجتماع ممكنا؟ وهذا ما يقتضي كون البحث عن امتناع أو إمكان اجتماع الأمر والنهي بحثا صغرويا.

والبحث فيه عادة ما يقع في موردين :

المورد الأوّل :

وهو افتراض أن يكون المتعلّق في الوجوب هو طبيعي الفعل بنحو صرف الوجود ويكون متعلّق الحرمة فردا من أفراد ذلك الطبيعي ، فقد يقال في مثل هذه الحالة باتّحاد المتعلّق في الحكمين « الوجوب والحرمة » ؛ وذلك لأنّ وجود الفرد وجود للطبيعي ، إذ أنّ الطبيعي إنّما يوجد بفرده ولا يتعقل أن يكون هناك وجودان أحدهما للطبيعي والآخر لفرده ، إذ الوجود ما لم يتشخّص لا يوجد ، فالطبيعي ما لم يكن في فرده فيستحيل وجوده خارجا ، فالفرد هو الطبيعي ذاته إلاّ أنّه متلبّس ببعض المشخّصات الموجبة لتميّزه عن سائر أفراد الطبيعي.

وقد يقال بتعدّد المتعلّق في الحكمين « الوجوب والحرمة » ؛ وذلك لافتراض أنّ متعلّق الوجوب مطلق ومتعلّق الحرمة مقيّد ، وهذا المقدار كاف في التغاير بين متعلقي الوجوب والحرمة حيث إنّ افتراض كون متعلّق الوجوب مطلقا يعني أنّ الطبيعي بسعته هو متعلّق الوجوب ، وهذا بخلاف افتراض المتعلّق مقيدا فإنّه يعني أنّ المتعلّق متحصّص بما يوجب المنع عن دخول سائر أفراد الطبيعي في المتعلّق.

ويمكن التمثيل لهذا المورد بإيجاب الصلاة بنحو صرف الوجود - أي بنحو التخيير العقلي - والمنع عن حصّة من طبيعي الصلاة وهي الصلاة في الحمام مثلا ، فإنّه قد يقال باستحالة ذلك لاتّحاد متعلّقي الوجوب والحرمة

ص: 118

بالتقريب السابق.

وقد يقال بإمكان ذلك لتعدد متعلقي الوجوب والحرمة بالتقريب السابق.

والصحيح أنّ المسألة تختلف نتيجتها باختلاف المبنى في التخيير العقلي وهما مبنيان والمبنى الثاني ينقسم على نفسه إلى قسمين :

فالمباني في التخيير العقلي ثلاثة :

المبنى الأول : أنّ الوجوب إذا كان متعلّقه طبيعي الفعل فهذا يعني انحلال الوجوب إلى وجوبات متعدّدة بعدد أفراد الطبيعي غير أنّ كلّ واحد منها مقيّد بعدم امتثال الآخر ، فالوجوب الأول متعلّقه الفرد الأول والوجوب الثاني متعلّقه الفرد الثاني وهكذا ، غايته أنّ فعليّة الوجوب الأول - والذي متعلّقه الفرد الأول - يكون منوطا بترك سائر الوجوبات الأخرى الواقعة على الأفراد الأخرى للطبيعي.

وبناء على هذا المبنى يكون متعلّق الوجوب والحرمة واحدا فتثبت الاستحالة في موردهما ؛ وذلك لأنّ الفرد الذي وقع متعلقا للحرمة هو متعلّق لوجوب من الوجوبات المنحلّة عن الوجوب التخييري العقلي.

فالصلاة في الحمام - والذي هو متعلّق الحرمة - هو متعلّق الوجوب أيضا ؛ وذلك لأنّه فرد من أفراد الطبيعي وقد قلنا إنه بناء على هذا المبنى يكون كلّ فرد متعلّقا لوجوب مستقل مشروط ، فالوجوب والحرمة عرضا على متعلّق واحد وهو الصلاة في الحمّام وهذا ما يقتضي الاستحالة لاستلزام ذلك اجتماع حكمين متضادّين على متعلّق واحد حقيقة.

المبنى الثاني : أنّ الوجوب إذا كان متعلّقه طبيعي الفعل فهذا لا يعني

ص: 119

أكثر من انّ هناك وجوبا واحدا واقعا على متعلّق واحد وهو الجامع ، نعم لو اختار المكلّف فردا من أفراد الجامع وطبّقه على الجامع بحيث جعله مصداق المتعلّق للوجوب فإنّ ذلك يقتضي سراية الوجوب من الجامع إلى ذلك الفرد ، فإنّ الوجوب وإن كان متعلّقه الجامع إلاّ أنّه لا يبقى إلى الأبد كذلك بل إنّه يتحوّل إلى الفرد الذي يأتي به المكلّف امتثالا للوجوب ويجعله منطبق الجامع ، أو نفترض أنّ الوجوب لا يسري من الجامع إلى الفرد المختار إلاّ أنّ الإرادة والمحبوبيّة المتعلّقة بالجامع تسري إلى الفرد المختار فيكون الفرد المختار مرادا ومحبوبا للمولى تبعا لإرادة الجامع ومحبوبيّته.

وبناء على هذا المبنى يلزم اتحاد متعلّق الوجوب والحرمة لو اختار المكلّف الفرد الذي وقع متعلّقا للحرمة ؛ وذلك لأنّ اختياره لذلك الفرد أوجب سراية الوجوب من الجامع إلى ذلك الفرد ، فإذا كان هذا الفرد متعلّقا للحرمة لزم اجتماع الحكمين المتضادّين على متعلّق واحد ، وكذلك إذا افترضنا أنّ السراية إنّما تكون من مبادئ الحكم « الإرادة » - المتعلّقة بالجامع - إلى الفرد فإنّ ذلك يلزم أن يكون الفرد المختار محبوبا وذلك لسراية المحبوبيّة من الجامع إليه ومبغوضا لكونه متعلقا للحرمة.

المبنى الثالث : أنّ الوجوب إذا كان متعلّقه طبيعي الفعل فإنّ الوجوب يبقى واحدا ولا ينحلّ إلى وجوبات بعدد أفراد الطبيعي كما أنّ الوجوب لا يسري من طبيعي المتعلّق « الجامع » إلى الفرد المختار ولا مبادئ الوجوب تسري من الطبيعي إلى الفرد المختار ، غايته أن الفرد المختار يكون منطبق الجامع ومصداقه الموجب لسقوط التكليف بالجامع ، فاختيار الصلاة في الحمّام لا يكون واجبا أي متعلّقا للوجوب ولا يكون محبوبا ، بل تبقى طبيعة

ص: 120

الصلاة هي الواجبة وهي المحبوبة.

وبناء على هذا المبنى لا يكون متعلّق الوجوب والحرمة متحدا بل يكون الفرد المختار متعلّق الحرمة فحسب ، نعم هو مصداق متعلّق الوجوب إلاّ أنّ ذلك لا يقتضي اتّحاد متعلّق الوجوب والحرمة بل يبقى متعلّق الوجوب هو الطبيعي ولا يسري الوجوب والمحبوبيّة منه إلى الفرد المختار الواقع متعلّقا للحرمة.

والنتيجة أنّ المورد الأول يكون مستحيلا بناء على المبنى الأول والثاني وممكنا بناء على المبنى الثالث.

المورد الثاني :

افتراض متعلّق الوجوب هو الطبيعي أيضا بنحو صرف الوجود وافتراض متعلّق الحرمة هو الطبيعي ولكن بنحو مطلق الوجود - وهذا ما يقتضي انحلال الحرمة إلى حرمات بعدد أفراد طبيعي المتعلّق - ويكون عنوان متعلّق الوجوب مغايرا لعنوان متعلّق الحرمة إلاّ أنّ العنوانين يتصادقان خارجا على فرد واحد.

وهذا المورد لا إشكال في استحالته بناء على المبنى الأول والمبنى الثاني ، وأمّا بناء على المبنى الثالث فهو ممكن كما هو الحال في المورد الأوّل ؛ وذلك لأن الفرد الذي أصبح مجمعا للعنوانين ليس متعلّق الوجوب ولا يسري الوجوب أو مبادؤه من طبيعي المتعلّق إليه ، إلاّ أنّه لو تنزلنا وقلنا بالاستحالة حتى بناء على المبنى الثالث فهل أنّ تعدّد العنوان - والذي هو مفترض هذا المورد - يصلح لرفع الاستحالة؟

وبعبارة أخرى : إنّ المورد الأول لا يختلف عن المورد الثاني إلاّ من

ص: 121

حيث إنّ متعلّقي الوجوب والحرمة متغايران عنوانا في المورد الثاني ، فلو افترضنا أنّ المورد الأوّل مستحيلا على جميع المباني فهل انّ تعدّد العنوان في متعلّقي الوجوب والحرمة مسوّغ لإمكان الاجتماع أو لا؟

مثلا لو كان متعلّق الوجوب هو الصلاة بنحو صرف الوجود - المقتضي للتخيير العقلي - وكان متعلّق الحرمة هو الغصب بنحو مطلق الوجود - والمقتضي للإطلاق الشمولي وكون كلّ فرد من أفراد الحرمة متعلّقا لحرمة مستقلّة - فلو صلّى المكلّف في الأرض المغصوبة فإنّ هذا الفعل صار مجمعا لعنوانين أحدهما متعلّق الوجوب والآخر متعلّق الحرمة ، فهو متعلّق الوجوب بلحاظ كونه صلاة ومتعلّق الحرمة بلحاظ كونه غصبا ، فهنا نقول : إنّ تعدّد العنوانين هل يصلح لرفع الاستحالة وأنّ الوجوب والحرمة لم يقعا على متعلّق واحد؟

والجواب أنّ في المقام ثلاثة مبان ، اثنان منها يقتضيان ارتفاع الاستحالة والثالث يقتضي الاستحالة.

المبنى الأوّل : أنّ متعلّق الأحكام دائما هي العناوين ، وهذا ما يقتضي تعدّد متعلّق الوجوب والحرمة في مفترض هذا المورد ، إذ أنّ متعلّق الوجوب هو عنوان الصلاة ومتعلّق الحرمة هو عنوان الغصب فالاجتماع في عالم العناوين ليس متحقّقا ، نعم هما متصادقان خارجا إلاّ أنّ ذلك لا يضرّ بعد أن لم يكن الخارج هو متعلّق الوجوب ولا متعلّق الحرمة ، فنحن وإن كنا نسلّم باتحاد العنوانين حقيقة في الخارج إلاّ أنّ الخارج لمّا لم يكن هو متعلّق الوجوب ولا هو متعلّق الحرمة فهذا يعني أنّ التعدّد في متعلّق الوجوب والحرمة يبقى ثابتا ، وبه يخرج هذا المورد موضوعا عن اجتماع

ص: 122

الأمر والنهي.

المبنى الثاني : وهو يفترض أيضا أنّ متعلّق الأحكام هي العناوين إلاّ أنّه يبني على أنّ تعدّد العنوان يكشف عن تعدّد المعنون ، فحينما يكون متعلّق الوجوب هو الصلاة ومتعلّق الحرمة هي الغصب فهذا يعني عدم تصادقهما حتى خارجا وما يتراءى من اتّحاد العنوانين خارجا فهو ليس اتحادا حقيقيّا بل هو اتّحاد انضمامي ، أمّا واقعا فهما شيئان متغايران ، أحدهما مصداق لعنوان الصلاة والآخر مصداق لعنوان الغصب.

وبناء على هذا المبنى يكون خروج هذا المورد عن موضوع اجتماع الأمر والنهي أوضح ؛ وذلك لتعدّد العنوانين وتعدّد المعنونين.

المبنى الثالث : أنّ الأحكام متعلّقة روحا بالمعنونات أي بالوجودات الخارجيّة ، والعناوين إنّما تكون طريقا وواسطة في الكشف عمّا هو متعلّق الأحكام واقعا ؛ وذلك لأنّ العناوين ليست أكثر من مفاهيم ذهنيّة مر تسمة عن الخارج ، كما أنّ تعدّد العنوان لا يكشف عن تعدّد المعنون ؛ وذلك لأنّ الشيء الواحد قد تنتزع منه مجموعة من العناوين باعتبار اختلاف اللحاظ ، فزيد مثلا بلحاظ علاقته الزوجيّة بهذه المرأة يكون زوجا وبلحاظ أنّه ولد لعمرو يكون ابنا وباعتباره أنّ عمره جاوز الأربعين يكون كهلا وهكذا.

فهذا المبنى إذن ينكر تعلّق الأحكام بالعناوين ويبني على أنّها متعلّقة بالمعنونات كما ينكر كاشفيّة تعدّد العنوان عن تعدّد المعنون.

وعلى هذا المبنى تثبت الاستحالة لهذا المورد ؛ وذلك لأنّ متعلّق الوجوب هي الصلاة الخارجيّة كما أنّ متعلّق الحرمة هو الحرمة خارجا ، فإذا افترضنا أنّ المكلّف صلّى في الأرض المغصوبة فهذا يعني أنّ فعلا واحدا

ص: 123

صار متعلّقا لحكمين متنافيين وهو مستحيل.

الثمرة المترتّبة على استحالة الاجتماع وإمكانه :

أما بناء على استحالة اجتماع الأمر والنهي فإنّه لا إشكال في تحقّق التعارض المستحكم بين دليل الوجوب ودليل الحرمة في مورد الاجتماع ، إذ لا يمكن العمل بإطلاق دليل الوجوب ودليل الحرمة ؛ وذلك لأنّ مقتضى إطلاق دليل الوجوب هو وجوب الصلاة الواقعة في الأرض المغصوبة ونفي الحرمة عنها ، كما أنّ إطلاق دليل الحرمة هو حرمة الصلاة في الأرض المغصوبة ونفي الوجوب عنها ، فتكون الصلاة واجبة بحكم الدليل الأوّل وحراما بحكم الدليل الثاني ، وهذا يعني التناقض والتكاذب بين الدليلين وهو معنى التعارض.

ومن هنا يجب معالجة هذه المسألة طبقا للضوابط المذكورة في باب التعارض.

وأمّا بناء على إمكان اجتماع الأمر والنهي يمكن العمل بمقتضى إطلاق دليل الوجوب والحرمة دون أن يلزم من ذلك اجتماع حكمين متنافيين على متعلّق واحد ، إمّا لتغاير العنوانين أو لتغاير العنوانين والمعنونين معا.

ص: 124

الوجوب الغيري لمقدّمات الواجب

اشارة

ذكرنا - فيما سبق - أنّ المقدّمات على نحوين فتارة تكون مقدّمات للحكم وأخرى تكون مقدّمات لمتعلّق الحكم.

والأولى : يعبّر عنها بمقدّمات الوجوب ، ولا إشكال في عدم وجوبها ؛ لأنّها أخذت مقدرة الوجود ، فإذا اتّفق تحقّقها خارجا أصبح الحكم فعليّا ، وهذا يقتضي وقوعها في رتبة العلّة للحكم ومن هنا يستحيل ترشح الوجوب من الحكم عليها. ومثال المقدّمات الوجوبيّة هو الاستطاعة بالنسبة لوجوب الحج والزوال بالنسبة لوجوب صلاة الظهر.

والثانية : يعبّر عنها بمقدّمات الواجب أو بالمقدّمات الوجوديّة ، إذ أنّ وجود الواجب متوقّف على تحقّقها.

وهي محلّ البحث في المقام حيث يبحث عن وجوب المقدّمات الوجوديّة شرعا بعد الفراغ عن لزوم تحصيلها عقلا ؛ وذلك لأنّ المتعلّق « الواجب » لمّا كان لازم التحصيل فإنّ كلّ ما يتوقّف تحصيل الواجب « المتعلّق » عليه يحكم العقل بلزوم تحصيله وإلاّ لو لم يحصّل المكلّف مقدمات الواجب لما كان متمكنا من تحصيل الواجب ؛ وذلك لافتراض أنّ الواجب منوط تحصيله بتوفير تلك المقدّمات ، ومثال ذلك السفر للحج بعد تحقّق فعليّة الوجوب للحج والوضوء للصلاة بعد افتراض تحقّق فعليّة

ص: 125

الوجوب للصلاة بتحقّق الزوال ، فإنّ المولى حينما قيّد الواجب « الصلاة » بالوضوء فإنّ الواجب يصبح متحصصا بخصوص هذه الحصة ، وهذا يقتضي توقّف امتثال هذه الحصّة على الإتيان بالوضوء.

إذن فلزوم تحصيل مقدّمات الواجب عقلا ليست محلاّ للنزاع ، وإنّما النزاع وقع في وجوب هذه المقدّمات شرعا.

وإذا ثبت أنّ هذه المقدّمات واجبة شرعا فهي واجبة بالوجوب الغيري أي أنّ الوجوب إنّما ثبت لها بواسطة وجوب ذيها وهو الواجب النفسي مثل الصلاة ، فوجوبها إذن تابع لوجوب ذي المقدّمة فهي ليست مصبا للحكم وليست متعلقا للغرض أصلا بل تبعا ، ولهذا تكون إرادتها مترشّحة عن إرادة الواجب ووجوبها معلول لوجوب الواجب.

وكيف كان فهناك ثلاثة أقوال في مقدّمات الواجب من حيث وجوبها وعدم وجوبها شرعا :

القول الأوّل : هو وجوب مقدّمات الواجب شرعا ؛ وذلك للملازمة بين وجوب الشيء ووجوب ما يتوقّف إيجاد ذلك الشيء الواجب عليه ، ولمّا كانت مقدّمات الواجب كالسفر والوضوء ممّا يتوقّف الواجب النفسي « الحج والصلاة » عليها فهذا يقتضي أن يترشّح وجوب من الواجب النفسي « ذي المقدّمة » إلى مقدماته ، وكذلك تكون إرادة شيء مقتضيه لإرادة مقدماته المتوقّف إيجاد ذلك الشيء عليها.

وهذه الملازمة - المدركة بالعقل - بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته وبين إرادة الشيء وإرادة مقدّماته هي الموجبة لثبوت الإيجاب الشرعي لمقدّمات الواجب.

ص: 126

إذن فوجوب مقدّمات الواجب تكون معلولة للوجوب النفسي للواجب فما لم يتحقّق وجوب الواجب النفسي فلا تكون مقدّمات الواجب واجبة بالوجوب الغيري ، والوجوب النفسي كما عرفت سابقا يكون منوطا بمقدّمات الوجوب ، وهذا ما يعني تأخّر الوجوب الغيري عن مقدّمات الوجوب أيضا ؛ إذ أنّ الوجوب الغيري معلول للوجوب النفسي ولمّا كان الوجوب النفسي - والذي هو علّة الوجوب الغيري - متأخرا عن مقدّمات الوجوب فمن الطبيعي أن يكون الوجوب الغيري متأخرا عن مقدّمات الوجوب.

وبتعبير آخر : إنّ مقدّمات الوجوب علّة الوجوب النفسي والوجوب النفسي علّة لإيجاب مقدّمات الواجب.

القول الثاني : هو عدم وجوب مقدّمات الواجب شرعا وعدم إرادتها شرعا أيضا فلا يكون توقّف إيجاد الواجب النفسي على مقدّمات موجبا لوجوب المقدّمات شرعا ، ولا تكون الإرادة الشرعيّة لإيجاد الواجب مستلزمة لإرادة شرعية متعلقة بتحصيل المقدّمات الوجودية للواجب.

القول الثالث : هو إنكار الملازمة بين وجوب الشيء ووجوب مقدّماته شرعا مع التسليم بالملازمة بين إرادة شيء وإرادة مقدّماته ، بمعنى أنّ المحبوبيّة الثابتة لذي المقدّمة تثبت بالتبع للمقدّمات التي يتوقّف إيجاد ذي المقدّمة عليها.

والصحيح من هذه الأقوال بنظر المصنّف رحمه اللّه هو القول الثالث. أمّا بالنسبة لإنكار الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّماته فلأنّ الملازمة تعني ضرورة ثبوت الوجوب للمقدّمات حين إيجاب ذي المقدّمة ، وهذا لا

ص: 127

يناسب كون الإيجاب من الأفعال الاختياريّة الخاضعة لإرادة الجاعل للوجوب.

وبتعبير آخر : إنّ افتراض الملازمة بين إيجاب شيء وإيجاب مقدّماته يعني لابدّيّة إيجاب مقدّمات الواجب وهذا خلف كونها إرادية للمولى ، فقد يكون الفعل واجدا للملاك والإرادة ومع ذلك يكون للمولى الاختيار في أن يجعل الوجوب على ذلك الفعل وله أن لا يجعل عليه الوجوب ، فجعل الوجوب دائما يكون تابعا لاختيار المولى ، ومن أين لنا العلم أنّ المولى قد اختار الوجوب بعد أن لم تكن إرادته للفعل هي العلّة التامة لجعل الوجوب على الفعل؟!

وأمّا بالنسبة لثبوت الملازمة بين إرادة ذي المقدّمة وإرادة مقدّماتها المتوقف إيجاد ذي المقدّمة عليها فالحاكم بهذه الملازمة هو الوجدان ، إذ أنّنا نجد أنّ محبوبيّة شيء تقتضي محبوبيّة ما يتوقّف تحقّق المحبوب أصالة عليه ، فحينما تكون لنا إرادة لشرب الماء فإنّنا نجد أنّ هذه الإرادة يترشّح عنها إرادة أخرى لتحصيل الماء.

إذن الوجدان هو الحاكم بثبوت الملازمة بين إرادة شيء وإرادة مقدّماته الوجوديّة ، وليس في المقام برهان يمكن الاستدلال به على ثبوت أو نفي الملازمة بين إرادة شيء وإرادة مقدّماته.

خصائص الوجوب الغيري :

إنّه بناء على القول بوجوب مقدّمات الواجب شرعا فإنّه - كما قلنا - يكون وجوبا غيريا ، والوجوب الغيري له مجموعة من الخصائص يتميّز بها عن الوجوب النفسي ، وقد ذكر المصنّف خصوصيّتين منها :

ص: 128

الأولى : هو عدم ترتّب المؤاخذة على تركه بصورة منفصلة عمّا يترتّب من مؤاخذة على ترك أصل الواجب فلا تكون هناك مؤاخذتان وعقوبتان وإلاّ لكان على المكلّف مجموعة من المؤاخذات والعقوبات لو كان للواجب عدّة مقدّمات ، وهذا واضح الفساد.

الثانية : أنّ الوجوب الغيري لمّا كان تابعا للوجوب النفسي فهذا يقتضي عدم إمكان التحرّك والانبعاث نحو امتثاله ما لم يكن الباعث على التحرّك والانبعاث هو الوجوب النفسي ، إذ لا يمكن أن يكون المكلّف قاصدا لامتثال الوجوب الغيري ومع ذلك لا يكون عازما على امتثال الوجوب النفسي ، إذ أنّ التحرّك عن الوجوب الغيري يعني أنّه في طريق الانقياد لإرادة المولى ، ولمّا كانت إرادة المولى للوجوب الغيري إنّما هي باعتبار إرادته للوجوب النفسي فهذا يقتضي قصد الوجوب النفسي والعزم على امتثاله حتى يكون التحرّك عن الوجوب الغيري مطابقا لإرادة المولى.

وبتعبير آخر : إنّه يستحيل أن يتحقّق العزم على إطاعة المولى بامتثال الوجوب الغيري إذا كان المكلّف عازما على ترك الوجوب النفسي أو لم يكن عازما على امتثاله ؛ وذلك لأنّ قصد امتثال الوجوب الغيري يعني أنّ المكلّف إنّما هو بصدد تحقيق إرادة المولى ، ومن الواضح أنّ إرادة المولى للوجوب الغيري إنّما هو تبع لإرادته للوجوب النفسي فهو لا يريد الوجوب الغيري حينما لا يمتثل الوجوب النفسي ؛ إذ أنّ إرادته للوجوب الغيري هي إرادة تكوينيّة ، أي أنّها ناشئة عن إدراك عدم إمكان تحقيق الإرادة التشريعيّة المتمثّلة في إيجاد الواجب النفسي إلاّ بواسطة امتثال الوجوب الغيري ، فحينما يريد المكلّف أن يحقّق إرادة المولى فلابدّ أن يكون

ص: 129

قصده من الإتيان بالوجوب الغيري هو العبور به إلى امتثال الوجوب النفسي وإلاّ لا يكون قاصدا لتحقيق إرادة المولى ، مثلا حينما يأتي المكلّف بسفر الحج فإنّه لا يمكن أن يكون قاصدا لامتثال الوجوب الغيري ما لم يكن عازما على امتثال وجوب الحج.

ثمّ إنّه وبناء على القول بالملازمة أيضا وقع البحث فيما هو الواجب من المقدّمات هل هو خصوص المقدّمات الموصلة أو الأعم؟

والمراد من المقدّمات الموصلة هي ما يتّفق ترتّب الواجب النفسي عليها خارجا ، فحينما يأتي المكلّف بالسفر أو بالوضوء ثمّ يأتي بالحج أو بالصلاة فالسفر حينئذ يكون مقدّمة موصلة وكذلك الوضوء.

أمّا لو افترض عدم تحقق ذي المقدّمة « الواجب » بعد الإتيان بالمقدّمة سواء كان ذلك عن اختيار المكلّف أو عن غير اختياره فإنّ المقدّمة التي جاء بها لا تكون مقدّمة موصلة ، وبهذا لا تكون واجبة بالوجوب الغيري بناء على اختصاص الوجوب بالمقدمات الموصلة ، نعم بناء على أنّ الوجوب الغيري ثابت لمطلق المقدّمة - سواء كانت موصلة أو غير موصلة - يتحقّق بما جاء به امتثال الوجوب الغيري.

الثمرة المترتّبة على القول بوجوب مقدّمة الواجب شرعا :

قد يقال بعدم ترتّب أي ثمرة على القول بوجوب المقدّمة شرعا ؛ وذلك لأنّ الوجوب الغيري للمقدّمة لا يستتبع مؤاخذة وعقابا وإنّما العقاب والمؤاخذة تأتي من جهة ترك الواجب النفسي ، وعلى هذا لا يتميّز القول بوجوب المقدّمات شرعا ؛ إذ أنّ التميّز المنتظر من القول بوجوب المقدّمات

ص: 130

شرعا هو ترتّب العقاب على مخالفته فإذا كان ذلك منتفيا فلا فرق بين القول به والقول بعدمه من هذه الجهة.

وأمّا تحريك المكلّف نحو الإتيان بالمقدّمات فهو لا ينشأ عن الوجوب الشرعي لها وإنّما يكون ناشئا عن وجوب ذي المقدّمة ، فوجوب ذي المقدّمة هو المنقّح لإدراك العقل لثبوت المسؤوليّة تجاه تحصيل المقدّمات التي يتوقّف امتثال وجوب الواجب النفسي عليها.

إلاّ أنّه مع ذلك يمكن أن تكون هناك ثمرات مترتّبة على القول بوجوب المقدّمات شرعا.

منها ما يقال في المقدّمة المحرّمة لو افترض كون ذي المقدّمة أهمّ ملاكا منها فإنّ الثمرة تظهر في مثل هذا الفرض لو اتّفق عدم ترتّب ذي المقدّمة على المقدّمة ، أي أنّه بعد ما جاء بالمقدّمة المحرمة لم يأت بذي المقدّمة فإنّه بناء على وجوب المقدّمة شرعا وأنّ الواجب هو الأعم من الموصلة وغير الموصلة تكون الحرمة منتفية عن هذه المقدّمة بل وتتعنون بعنوان الواجب ؛ إذ أنّ افتراض أهميّة ذي المقدّمة وتوقفها على المقدّمة المحرّمة أوجب سقوط فعليّة الحرمة عن المقدّمة لاستحالة أن تكون الحرمة باقية وثابتة للمقدّمة ومع ذلك يعرض الوجوب عليها.

أمّا لو كان البناء هو عدم وجوب المقدّمة شرعا أو كنّا نبني على الوجوب ولكن في خصوص المقدّمات الموصلة فإنّ الحرمة تظلّ ثابتة للمقدّمة ولا يكون هناك ما يقتضي سقوطها ؛ لأنّ المقتضي لسقوط الحرمة هو مزاحمة الواجب الأهم لها وهو مفروض العدم لافتراض عدم تحقّق الواجب خارجا وهذا يقتضي عدم مزاحمته لفعليّة الحرمة ، نعم لو اتّفق

ص: 131

تحقّق الواجب لكانت الحرمة ساقطة بناء على وجوب المقدمات الموصلة شرعا.

ويمكن التمثيل لذلك بما لو توقف إنقاذ الغريق الواجب على عبور الأرض المغصوبة ، فإنّ عبور الأرض المغصوبة يكون مقدّمة لإنقاذ الغريق الواجب فلو اتّفق أن عبر المكلّف الأرض المغصوبة إلاّ أنّه لم ينقذ الغريق فإنّ هذا العبور يكون واجبا ومقتضيا لسقوط الحرمة بناء على القول بوجوب مقدّمة الواجب شرعا لو كنّا نبني على أنّ الوجوب لا يختص بالمقدّمة الموصلة ، وبعكس ذلك لو كنّا نبني على عدم وجوب المقدّمة شرعا أو أنّ الوجوب مختص بالمقدّمة الموصلة فإنّ فعليّة الحرمة لعبور الأرض المغصوبة تظلّ ثابتة في هذا الفرض ، نعم لو ترتّب على العبور إنقاذ الغريق لكان ذلك مقتضيا لسقوط الفعليّة عن حرمة العبور من أوّل الأمر.

ص: 132

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضده

اشارة

والمراد من العنوان أنّه لو ثبت لفعل الوجوب فهل أنّ ثبوت الوجوب له يقتضي - بنحو من أنحاء الاقتضاء - تحريم ما يضاده ويعانده ، مثلا لو ثبت أنّ إنقاذ الغريق واجب فهل أنّ ذلك يستوجب حرمة ترك الإنقاذ ويستوجب أيضا حرمة النوم أو السفر الذي يزاحم الإنقاذ ويمنع تكوينا من امتثاله؟

فالضد المذكور في العنوان يراد منه الأعم من الضدّ المنطقي وذلك لشموله للنقيض ، ويعبّر عن الضد الذي بمعنى النقيض بالضد العام وعن الضدّ المنطقي بالضدّ الخاص.

أمّا الضدّ العام : فهو عبارة عن عدم الفعل الذي ثبت له الوجوب ، والبحث فيه يقع عن أنّ عدم الفعل الذي ثبت له الوجوب هل هو حرام أو لا؟

مثلا حينما يثبت الوجوب للصلاة فهل أنّ ثبوت الوجوب لها يقتضي ثبوت الحرمة لعدمها والذي هو نقيض الصلاة؟

وأمّا الضدّ الخاص : فهو عبارة عن الفعل الوجودي الذي يعاند وجوده وجود الفعل الواجب ويزاحمه بحيث يستحيل اجتماعهما أي يستحيل صدورهما عن المكلّف ، فحينما يأتي المكلّف بالفعل الوجودي المضاد فإن ذلك يستوجب العجز عن الإتيان بالفعل الواجب.

ص: 133

مثلا حينما يكون إنقاذ الغريق واجبا فإنّ الاشتغال عنه بالنوم أو السفر يستوجب فوات القدرة على الإنقاذ ؛ وذلك لسقوط موضوع التكليف بالإنقاذ حيث يموت الغريق ، فهل أنّ ذلك يقتضي حرمة الفعل الوجودي المضاد ، وهو السفر والنوم أو لا؟.

وكذلك لو كانت إزالة النجاسة عن المسجد واجبة فورا فإنّ الاشتغال عنها بالصلاة يستوجب فوات القدرة على تحصيل شرط الفوريّة ، فهل أنّ ذلك يقتضي حرمة الصلاة أو لا؟

فالبحث إذن يقع في مقامين :

المقام الأول : في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه العام :

ولم يقع خلاف يذكر بين الأعلام « رضوان اللّه عليهم » في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه العام ، نعم وقع البحث عن نحو هذا الاقتضاء أي عن منشأ استفادة حرمة الضد العام من وجوب الشيء ، فهل أنّ منشأ ذلك هو عينيّة إيجاب الشيء لتحريم ضدّه العام؟ أو أنّ إيجاب الشيء يتضمّن النهي عن ضدّه العام؟ أو يلازمه؟

وبيان ذلك : إنّ الأقوال في نحو الاقتضاء ثلاثة :

الأوّل : إنّ اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه العام باعتبار أنّ وجوب الشيء هو عين النهي عن ضدّه العام ، بمعنى أنّهما تعبيران يصبّان في معنى واحد فلا فرق بين أن يقال تجب عليك الصلاة أو يحرم عليك ترك الصلاة.

أو يكون المراد من العينيّة هو أنّه لمّا كان وجوب شيء يعني طلب ترك نقيض الشيء فهذا يعني اتّحاده مع حرمة ترك الشيء لأنّه يعني طلب

ص: 134

نقيض ترك الشيء.

مثلا : وجوب الصلاة معناه طلب ترك نقيض الصلاة وترك نقيض الصلاة هي الصلاة ، إذ أنّ نفي النفي إثبات ، وحرمة ترك الصلاة يعني طلب نقيض ترك الصلاة ، ونقيض ترك الصلاة هي الصلاة.

أو يكون المراد من العينيّة هو أنّ وجوب الشيء يعني أنّ فعله ذو مصلحة وتركه ذو مفسدة وأن فعله مراد وتركه مبغوض ، وكذلك حرمة ترك الشيء فإنّ ترك فعل الشيء ذو مفسدة ومبغوض وفعله ذو مصلحة ومحبوب ، فالعينيّة إذن بناء على هذا المعنى تكون في مرحلة المبادئ ، ويمكن تصوير العينيّة بشكل آخر وهو أنّ وجوب الشيء والنهي عن تركه ينتجان نتيجة واحدة وهي لزوم الإتيان بالفعل الواجب فعله والمنهي عن تركه.

الثاني : إنّ اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه العام باعتبار أنّ وجوب الشيء يتضمّن النهي عن ضدّه ؛ وذلك لأنّ مفهوم الوجوب هو طلب الفعل مع النهي عن الترك ، فالنهي عن الترك - والذي هو حرمة الضدّ - مأخوذ في مفهوم الوجوب ، فالوجوب يدلّ على حرمة الضدّ العام بالدلالة التضمنيّة ، فحينما يقال إنّ مفهوم الإنسان هو الحيوان الناطق فإنّ مفهوم الإنسان يدل بالدلالة التضمنيّة على الناطقيّة ، وهذا هو مبرّر أنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام ، أي أنّ النهي عن الضدّ العام مدلول تضمني لوجوب الشيء.

الثالث : إنّ اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه العام باعتبار أنّ وجوب الشيء يلازم النهي عن ضدّه العام ، والمراد من اللازم هو المحمول الخارج عن الموضوع اللازم له إمّا بنحو اللازم بالمعنى الأخصّ أو اللازم بالمعنى الأعم - وقد بينّا ذلك في مباحث القطع - ، فحرمة الضدّ العام غير

ص: 135

وجوب الشيء إلاّ أنّه لازم له كما أنّ الزوجيّة غير الأربعة إلاّ أنّها لازمة للأربعة. فالمبرّر لاقتضاء وجوب الشيء للنهي عن ضدّه هو التلازم بين وجوب الشيء والنهي عن ضدّه العام.

وكيف كان فوجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام سواء كان منشأ الاقتضاء هو العينيّة أو التضمنيّة أو التلازم.

المقام الثاني : في اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه الخاص :

وقد ذهب البعض لاقتضاء الوجوب لذلك خلافا لآخرين ، وقد استدلّ لصالح القائلين باقتضاء وجوب الشيء للنهي عن ضدّه الخاص بما حاصله :

أنّ أحد الضدّين يكون تركه مقدّمة لفعل الضدّ الآخر ؛ وذلك لاستحالة أن يجتمع الضدّان فلابدّ أن ينعدم أحّدهما حتى يوجد الآخر ، وإذا كان كذلك فعدم الضدّ الأوّل - مثلا - يكون مقدمة لتحصيل الضدّ الآخر ؛ وذلك لتوقف تحصيل الضدّ الآخر على انعدام الضدّ الأوّل فيكون عدم الضدّ الأوّل من مقدّمات الضدّ الواجب « الضدّ الآخر » ، وبهذا يكون واجبا بالوجوب الغيري ، وإذا كان عدم الضدّ واجبا ففعله حرام ؛ لأنّ وجوب الشيء يقتضي حرمة نقيضه « الضدّ العام » ، وبهذا تتّضح حرمة الضدّ الأوّل مثلا.

وهذا هو مبرّر أنّ وجوب الشيء « الضدّ الآخر » يقتضي حرمة ضدّه الخاص « الأوّل ».

ولمزيد من التوضيح نطبق ما ذكرناه على مثال :

إنّ إنقاذ الغريق والصلاة أمران وجوديان متضادّان ؛ إذ أنّ وجود

ص: 136

أحدهما يعاند وجود الآخر ويجعل المكلّف عاجزا عن تحصيله ، فمتى ما صلّى المكلّف فإنّه عاجز عن الإنقاذ وإذا ما أنقذ الغريق فإنّه يتعذّر عليه الإتيان بالصلاة حين الإنقاذ ، ومن هنا يكون عدم أحدهما مقدّمة لفعل الآخر ، فعدم الصلاة مقدّمة لإنقاذ الغريق ، وإذا كان كذلك فعدم الصلاة يكون من مقدّمات الواجب « الإنقاذ » حيث يتوقّف تحصيل الإنقاذ عليه - أي على عدم الصلاة - وبهذا يثبت أنّ عدم الصلاة واجب بالوجوب الغيري ، فإذا كان عدم الصلاة واجبا ففعله حرام ؛ لأنّ وجوب الشيء يقتضي حرمة نقيضه ، ولمّا كان عدم الصلاة واجبا فنقيضه حرام وهي الصلاة كما ثبت ذلك في المقام الأول.

والجواب عن هذا الدليل :

وقد أجاب المصنّف رحمه اللّه على هذا الدليل بجوابين أحّدهما حلّي والآخر نقضي.

أمّا الجواب الحلّي :

فحاصله : هو إنكار المقدمية بين ترك أحد الضدّين لفعل الضدّ الآخر ؛ وذلك لأنّ المقدّمة قد افترضت علّة أو جزء علّة لفعل الضد الآخر والحال أنّ علّة فعل الضدّ هو اختيار المكلّف ، فقد يترك أحد الضدّين ومع ذلك لا يتحقّق الضد الآخر ؛ وذلك لعدم اختيار المكلّف لفعل ذلك الضد ، فوجود الضدّ وعدم وجوده منوط باختيار المكلّف كما هو أوضح من أن يخفى ، فلا فعل الضدّ معلول لترك الضدّ الآخر ولا ترك الضدّ الآخر معلول لفعل الضدّ الأوّل ، بل إنّ الفعل والترك معلولان معا لاختيار المكلّف.

مثلا حينما ينقذ المكلّف الغريق لا يكون هذا الإنقاذ معلولا لترك الصلاة كما لا يكون ترك الصلاة معلولا للإنقاذ ، بل إنّهما معلولان معا

ص: 137

لاختيار المكلّف ، فمتى ما تحقّقت الإرادة التامّة للمكلّف حرك عضلاته تجاه الإنقاذ مثلا.

وأمّا الجواب النقضي :

إنّ دعوى مقدمية ترك أحّد الضدّين لفعل الضدّ الآخر يلزم منه الدور المحال ؛ وذلك لأنّ افتراض ترك أحّد الضدّين مقدّمة يعني كما تقدّم أنّه علّة أو جزء علّة لفعل الضدّ الآخر « المعلول » ، وهذا يعني أنّ نقيض عدم الضدّ الأوّل علّة لنقيض الضدّ الآخر « المعلول » ؛ وذلك لأنّ نقيض كلّ علّة يكون علّة لنقيض المعلول ، فإذا افترضنا أنّ عدم الليل علّة لوجود النهار فهذا يعني أنّ نقيض العلّة وهو الليل علّة لنقيض المعلول « عدم النهار ». فعدم الليل علّة لوجود النهار والليل علّة لعدم النهار.

فإذا ثبت أنّ عدم الضدّ علّة لفعل الضدّ الآخر فهذا يعني أنّ فعل الضدّ الأوّل علّة لعدم الضد الآخر ، وإذا كان عدم الضدّ الآخر علّة أيضا لفعل الضد الأول فهذا يعني أنّ فعل الضد الآخر علّة لعدم الضدّ الأول ، فيكون عدم الضدّ الأوّل علّة ومعلولا لشيء واحد وهو فعل الضدّ الآخر.

أمّا أنّه علّة فلأنّنا افترضناه مقدّمة وعلّة لفعل الضدّ الآخر.

وأمّا أنّه معلول فلأنّنا قلنا إنّ فعل الضدّ الآخر علّة لعدم الضدّ الأوّل ، فيكون عدم الضدّ الأوّل معلولا لفضل الضدّ الآخر ؛ إذ أنّ عدم الضدّ الآخر علّة لفعل الضدّ الأوّل فيكون نقيض عدم الضدّ الآخر علّة لنقيض الضدّ الأول ، وهذا يعني أنّ عدم الضدّ الأول معلول لفعل الضدّ الآخر ، وقد افترضناه علّة لفعل الضدّ الآخر ، وهذا هو معنى أنّ عدم الضدّ علّة ومعلول لشيء واحد ، وهو الدور المحال.

ولمزيد من التوضيح نطبّق ما ذكرناه على مثال إنقاذ الغريق والصلاة

ص: 138

فنقول :

إنّ دعوى مقدميّة ترك الصلاة للإنقاذ تعني أنّ ترك الصلاة علّة لفعل الإنقاذ ، وإذا كان ترك الصلاة علّة لفعل الإنقاذ فهذا يعني أنّ فعل الصلاة علّة لعدم الإنقاذ.

وإذا افترضنا أيضا أنّ ترك الإنقاذ مقدّمة وعلّة لفعل الصلاة فهذا يقتضي أنّ الإنقاذ علّة لترك الصلاة ، وبهذا يكون ترك الصلاة علّة ومعلولا لشيء واحد وهو الإنقاذ.

أمّا أنّه علّة لفعل الإنقاذ فهو مقتضى كون ترك الصلاة مقدمة للإنقاذ ، وأمّا أنّ ترك الصلاة معلول للإنقاذ فلأنّنا قلنا إنّ الإنقاذ علّة لترك الصلاة فيكون ترك الصلاة معلولا للإنقاذ ؛ وذلك لأنّ نقيض الإنقاذ لمّا كان علّة للصلاة فيكون فعل الإنقاذ علّة لنقيض الصلاة ، ونقيض الصلاة هو ترك الصلاة ، فترك الصلاة في الوقت الذي هو علّة لفعل الإنقاذ هو معلول لفعل الإنقاذ ، وهذا هو الدور المحال.

محاولة أخرى لإثبات مقدمية أحد الضدّين لفعل الضدّ الآخر :

وإيضاحها يحتاج إلى تقديم مقدمة :

وهي أنّ العلّة التامّة المنتجة للمعلول تتقوّم بثلاثة أركان كلّ واحد منها يعبّر عنه بجزء العلّة :

الأوّل : المقتضي : وهو الركن الأساسي في العلّة التامّة ، والمراد منه المؤثر والسبب في ترتّب الأثر والمعلول عنه بحيث تكون مؤثريّته وسببيّته في ترتّب المعلول عنه ذاتيّة ، أي ناشئة عن مقام ذاته ، أي أنّ ذات المقتضي بنفسها موجبة للتأثير في المعلول.

ص: 139

ومثال ذلك النار ، فإنها بذاتها مقتضية للإحراق.

الثاني : الشرط : وهو الذي ينقل المقتضي من مرحلة الشأنيّة إلى مرحلة الفعليّة ، فما لم يكن الشرط متحقّقا فإنّ المقتضي لا يمكن أن يؤثّر فعلا بمعنى أنّ المقتضي تبقى له شأنيّة التأثير إلى أن يتحقّق شرط التأثير ، فإذا ما تحقّق أثّر المقتضي أثره وهو إنتاج المعلول ، فالنار وإن كانت مقتضية للإحراق إلاّ أنّ ذلك لا يعني أكثر من قابليتها لأن تحرق ، أمّا فعليّة الإحراق فيتوقّف على تقريب جسم لها يقبل الاحتراق.

الثالث : عدم المانع : وهو عدم وجود ما يمنع من أن يؤثر المقتضي الفاعل أثره ، إذ أنّ المقتضي قد يكون موجودا وشرط فعليّته متحقّق إلاّ أنّ وجود ما يمنع من تأثير المقتضي لأثره يجعل وجود المعلول مستحيلا.

ومن هنا لا بدّ من إعدام ذلك المانع حتى ينتج المقتضي معلوله ، فالنار المقتضية للإحراق لو قرّب لها الجسم القابل للاحتراق فإنّ من المستحيل احتراقه لو افترض وجود رطوبة على الجسم ، فلابدّ من عدم الرطوبة لكي يتحقّق الاحتراق عن النار.

وباتّضاح هذه المقدّمة يتّضح أنّ عدم المانع من أجزاء العلّة وإذا كان كذلك فترك أحّد الضدّين من أجزاء علّة الضدّ الآخر ، إذ أنّه يستحيل وجود الضدّ الآخر لو كان الضدّ الأوّل موجودا فالضدّ الأوّل إذن مانع عن وجود الضدّ الآخر فيثبت كون عدمه جزء علّة للضدّ الآخر.

وبهذا تثبت مقدميّته للضدّ الآخر فيكون واجبا بالوجوب الغيري ، وإذا وجب عدم الضدّ الأول فنقيضه وهو نفس الضدّ الأول حرام ؛ لأنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه العام.

ص: 140

والجواب عن هذه المحاولة :

إنّ المانع الذي يكون عدمه جزء العلّة هو المانع الذي يمكن أن يجامع المقتضي - كما اتضح ممّا سبق - فالرطوبة التي افترضناها مانعا عن أن يؤثر المقتضي أثره يمكن افتراضها متحقّقة في وقت تحقّق المقتضي ، فالنار موجودة والرطوبة أيضا موجودة معها.

وهذا النحو من المانع لا يمكن افتراضه في المقام ؛ وذلك لأنّ المانع من الضدّ الآخر هو الضدّ الأول ومن المستحيل أن يجتمع الضدّان الأول والآخر ، فالضدّ الأوّل بالنسبة للضدّ الآخر ليس كالرطوبة التي يمكن أن تجتمع مع النار ، إذ أنّ الضدّ الأوّل افترضناه معاندا ومنافيا للضد الثاني فكيف يجتمع معه.

إذن الصلاة وان كانت مانعة عن الإنقاذ إلاّ أنّ عدمها ليس من أجزاء علّة الإنقاذ ؛ وذلك لأنّ المانع الذي يكون عدمه من أجزاء العلّة هو المانع الذي يمكن اجتماعه مع المقتضي والصلاة بالنسبة للإنقاذ ليس من هذا القبيل ، إذ أنّ من المستحيل أن يجتمع الإنقاذ والصلاة كما هو مقتضى الفرض.

ثمرة الخلاف في الضدّ الخاص :

وتظهر الثمرة لو كان أحّد الضدّين واجبا وكان أهمّ ملاكا من الضدّ الآخر فإنّه بناء على أنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاص فإنّ الضدّ الآخر يكون حراما ، وبهذا يستحيل أن يثبت له وجوب ؛ لاستحالة اجتماع حكمين متضادّين على متعلّق واحد ، فالضدّ الآخر لمّا كان حراما فيستحيل أن يكون واجبا.

أمّا لو بنينا على أنّ وجوب الشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاصّ

ص: 141

فوجوب الضدّ الأوّل مثلا لا يكون مانعا عن وجوب الضدّ الآخر ، ولمّا كان من المستحيل امتثالهما معا فهذا يقتضي أنّ وجوب الضدّ الآخر يكون مقيّدا بترك الضدّ الأوّل فتكون فعلية الوجوب الثاني منوطة بترك الضد الأول ، وبهذا يكون الضدّ الآخر واجبا ولكن بنحو الترتّب ، فلو عصى المكلّف الضدّ الأول فإنّه ملزم بالإتيان بالضد الآخر ، فيكون بذلك ممتثلا لإتيانه بالضدّ الثاني وعاصيا لتركه الضدّ الأوّل الأهمّ ملاكا والذي تكون فعليّة الضدّ الآخر منوطة بترك الضدّ الأوّل.

وإذا أردنا أن نطبّق ما ذكرناه على مثال الإنقاذ والصلاة نقول : إنّه لو افترضنا أنّ الإنقاذ واجب وأنّه أهمّ ملاكا من الصلاة فإنّه بناء على أنّ وجوب الشيء يقتضي النهي عن ضدّه الخاص فإنّ الصلاة تكون محرمة لأنّها الضدّ الخاص لفعل الإنقاذ ، ومع كونها محرمة فلا تكون واجبة لاستحالة اجتماع حكمين متضادّين على متعلّق واحد ، فلو أنّ المكلّف عصى ولم يأت بالإنقاذ وجاء بالصلاة فإنّ هذه الحصّة من الصلاة - وباعتبارها محرمة لمانعيّة وجودها من وجود الضدّ الواجب - لا تكون مجزية عن الأمر بطبيعي الصلاة لأنّ الحصّة المحرّمة لا تكون مصداقا للواجب.

وأمّا بناء على أنّ الأمر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضدّه الخاص فوجوب الإنقاذ لا يكون مانعا عن شمول وجوب الصلاة للحصّة المضادّة للإنقاذ ، ولمّا كان من المستحيل امتثالهما معا لعجز المكلّف عن الجمع بينهما ، فهذا يقتضي تقيّد شمول وجوب الصلاة للحصّة المضادة للإنقاذ بعدم الإتيان بالإنقاذ فيكون ثبوت الوجوب لهما على نحو الترتّب ، فلو لم يمتثل المكلّف وجوب الإنقاذ تكون الحصّة من الصلاة المضادة للإنقاذ مشمولة لوجوب الصلاة ، وبهذا يكون الإتيان بها مجزيا عن المأمور به.

ص: 142

اقتضاء الحرمة للبطلان

اشارة

ذكرنا فيما سبق أنّ الأحكام على قسمين أحكام تكليفيّة وأحكام وضعيّة ، وقلنا إنّ الأحكام التكليفيّة هي ما يكون لها اتّصال مباشر بأفعال المكلّفين ، فهي إمّا أن تبعث المكلّف نحو الفعل وإمّا أن تكون زاجرة له عن القيام بفعل وإمّا أن تكون مؤمّنة للمكلّف بحيث لا يكون المكلّف معها محجورا وممنوعا من فعلها أو من تركها بل هو في سعة من جهة فعلها أو تركها ، وهذه الأحكام كما تلاحظون متّصلة بفعل المكلّف مباشرة.

وأمّا الأحكام الوضعيّة فهي ما سوى ذلك ، فهي مجعولات شرعيّة تكشف عن رأي الشارع فيما يتّفق صدوره من المكلّف أو غير المكلّف كالبطلان والضمان والملكيّة والزوجيّة والشرطيّة ، وعادة ما تكون هذه الأحكام موضوعات لأحكام تكليفيّة ، فالملكيّة تكون موضوعا لجواز تصرّف المالك في المملوك وحرمة التصرّف في المملوك دون إذن المالك.

ومع اتّضاح هذه المقدّمة يقع البحث في مقامين :

المقام الأول : في اقتضاء الحرمة في العبادات للفساد :

ولأجل أن يتّضح العنوان نقول :

ص: 143

إنّ الحرمة وباعتبار كونها من سنخ الأحكام التي لها اتّصال مباشر بأفعال المكلّفين فهي إذن من الأحكام التكليفيّة والمقتضية لحجر المكلّف ومنعه عن متعلّقها.

والمراد من العبادات هنا الأعم من الواجبات والمستحبات التي اعتبر فيها قصد القربة وقصد امتثال الأمر ، فكلّ فعل وقع متعلّقا للأمر الأعم من الأمر اللزومي أو الأمر الاستحبابي إذا كان عباديا فهو داخل في محلّ البحث.

وأمّا المراد من الفساد المرادف للبطلان فهو حكم وضعي باعتباره لا يتّصل بفعل المكلّف واختياره ، نعم يكون مختارا للمكلّف باعتبار القدرة على إيجاد سببه.

والبطلان في مقابل الصحّة والتي تعني التماميّة ، فالبطلان يعني دائما عدم التماميّة ، غايته أنّ ما يقتضيه البطلان يختلف باختلاف متعلّقه ، فإن كان متعلّقه فعلا عباديا فبطلانه يقتضي عدم كفايته وعدم إجزائه عن المأمور به ، وهذا ما يستوجب الإعادة أو القضاء لو كان الفعل العبادي ممّا تجب فيه الإعادة أو القضاء فيكون الحكم بالبطلان منقحا لموضوع وجوب الإعادة أو القضاء.

وأمّا إذا كان متعلّق الحكم بالبطلان من سنخ المعاملات فالبطلان فيها يقتضي عدم ترتّب الأثر على المعاملة ، أي أنّ البطلان يكشف عن أنّ الشارع يعتبر هذه المعاملة كالعدم ، فحينما يحكم الشارع ببطلان بيع الغرر فهذا يعني أنّ البيع الغرري لا يترتّب عليه أثر البيع - والذي هو النقل والانتقال - فكأن البيع لم يكن.

ص: 144

إذا اتّضح ما ذكرناه فالبحث يقع عن أنّ ثبوت الحرمة للفعل العبادي هل يكون موجبا للبطلان؟

والجواب بالإيجاب ، أي أنّ الحرمة مقتضية لفساد العبادة ، ويمكن الاستدلال على ذلك بدليلين :

الدليل الأوّل : وهذا الدليل - لو تمّ - فإنّه لا يختص بالعبادات بل يشمل مطلق الأوامر حتى التوصليّة منها ، فكلّ حصّة من المأمور به إذا كانت محرّمة فهي مقتضية للبطلان أي لا يصحّ الاكتفاء والاجتزاء بها في مقام امتثال المأمور به.

وحاصل هذا الدليل : أنّ افتراض حرمة حصّة من طبيعي المأمور به يقتضي عدم كونها مشمولة للأمر الواقع على الطبيعة ؛ إذ أنّ افتراض شمول الأمر لهذه الحصّة - رغم تحريمها - يفضي للقول بجواز اجتماع الأمر والنهي ، وقد قلنا بامتناع اجتماع الأمر والنهي على متعلّق واحد.

وبيان ذلك : إنّ الصلاة في الأرض المغصوبة لمّا كان محرّما فهذا يقتضي عدم مشموليّة هذه الحصّة للأمر بطبيعي الصلاة وإلاّ للزم أن تكون هذه الحصّة في الوقت التي تكون منهيّا عنها تكون مأمورا بها ، وهذا مستحيل لاستحالة اجتماع الأمر والنهي. فإذا ثبت عدم شمول الأمر لهذه الحصّة فلا تكون مجزية عن المأمور به ؛ إذ أنّ غير المأمور به لا يكون مجزيا عن المأمور به فيكون المكلّف مسؤولا عن إيجاد حصّة أخرى من الصلاة ؛ لأنّ ما جاء به ليس مأمورا به وما هو مأمور به لم يأت به.

ودعوى أنّ سقوط الأمر عن الحصّة لا يقتضي سقوط الملاك عنها فقد يكون الملاك موجودا ، وإذا كانت الحصّة متوفّرة على ملاك الأمر فهذا

ص: 145

كاف في صلاحيتها لأن تكون مصداقا للمأمور به ، وهذا ما يقتضي إجزائها عن المأمور به.

فنقول إنّ هذه الدعوى غير مسموعة ؛ وذلك لأنّ الكاشف عن ثبوت الملاك في فعل هو وقوعه متعلقا للأمر ولا طريق آخر للتعرّف على ثبوت الملاك ، وبسقوط الأمر عن الفعل أو بعدم شمول الأمر له لا وسيلة لنا لاستكشاف توفّر الفعل على الملاك.

الدليل الثاني : وهذا الدليل - لو تمّ - فإنّه لا يشمل التوصليّات ، وحاصله : إنّه لا يمكن التقرّب بما هو محرّم ؛ لأنّ كلّ محرّم فهو مبغوض للمولى ، والتقرّب للمولى يعني إيجاد ما يوجب القرب منه جلّ وعلا ، وما يوجب القرب هو إيجاد ما هو محبوب لا ما هو مبغوض ومكروه ، وعليه حتى لو كان الفعل واجدا لملاك الأمر فيستحيل قصد القربة بإتيانه ، والفعل العبادي إذا لم يكن مقصودا من فعله القربة لا يكون مجزيا عن المأمور به.

وبهذا اتّضح أنّ النهي في العبادات يقتضي الفساد والبطلان.

المقام الثاني : في اقتضاء الحرمة في المعاملات للفساد :

والبحث عنه يقع في جهتين :

الجهة الأولى : أن يكون مصبّ الحرمة في المعاملة هو السبب ، أي ما يسبّب ويقتضي بحدّ ذاته - وبقطع النظر عن الموانع - ترتّب الأثر ، كالإيجاب والقبول بالنسبة للعقود وكالإيقاع في مثل الطلاق والظهار والعتق ، وهذا الفرض معقول جدا ؛ إذ أنّ الايجاب والقبول وكذلك الإيقاع

ص: 146

لمّا كان من أفعال المكلّفين فلابدّ من أن يقع متعلّقا لحكم من الأحكام الشرعيّة ، إذ لا تخلو واقعة من حكم.

وكيف كان فعروض التحريم على السبب لا يستوجب فساد المعاملة وصيرورتها كالعدم من حيث عدم ترتّب الأثر عليها ، نعم التحريم لا يستوجب الصحّة أيضا كما توهّم البعض ، فالعقل يدرك إمكان التفكيك بين تحريم إجراء المعاملة وبين ترتيب الأثر عليها إذا اتّفق وقوعها خارجا ، فمبغوضيّة المولى للمعاملة لا تعبّر دائما عن إلغاء المولى لأثر المعاملة واعتبارها كالعدم.

ونقرّب هذه الدعوى بمثال وهو أنّه قد يكره الأب استقلال ابنه في التزويج إلاّ أنّه لو عصى واستقلّ في تزويج نفسه فإنّ الأب قد يقبل بذلك الزواج رغم كراهيته لاستقلال ابنه في تزويج نفسه ؛ إذ أنّ كراهيّته لذلك قد تكون ناشئة عن عدم ثقة الأب بنضوج ابنه وأهليّته للاختيار المناسب فإذا ما اطّلع على اتّفاق حسن اختياره فإنّه يقبل بذلك أو أنّه يقبل لاعتبارات أخرى يراها أهم ملاكا من الرفض.

وكذلك الحال في المقام ، إذ من المحتمل أن يكون هناك ملاك أهمّ بنظر الشارع المقدّس يقتضي إمضاء المعاملة التي حكم بحرمة إجرائها ، وما دام الاحتمال موجودا فالملازمة بين تحريم إجراء المعاملة وبطلانها منتفية.

ويمثّل عادة - لغرض رفع الاستيحاش - على ترتيب الأثر شرعا على المعاملة رغم تحريم إجرائها بإيقاع الظهار ، فإنّه لا إشكال في حرمته ، قال

ص: 147

اللّه تعالى ( وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً ) (1) ومع ذلك فقد رتّب الشارع أثرا على ذلك وهو مذكور في كتب الفقه.

ويمكن أن يمثّل لذلك أيضا بحرمة البيع وقت النداء قال اللّه تعالى ( إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ) (2) ومع ذلك فإنّ البيع يقع صحيحا ويترتّب عليه النقل والانتقال.

والمتحصّل ممّا ذكرناه أنّه لا ملازمة بين حرمة إجراء المعاملة وبين بطلانها.

الجهة الثانية : أن يكون التحريم واقعا على أثر المعاملة والذي هو المسبّب عن إجراء المعاملة ، فقد لا يكون إجراء المعاملة « السبب » في حدّ نفسه مبغوضا إلاّ أنّ ما يترتّب عليه من آثار تكون مبغوضة للمولى.

ويمكن أن يمثل لذلك بقوله تعالى ( وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ ) (3) فإن المستظهر من الآية الكريمة هو مبغوضيّة نفس الزوجيّة الواقعة بين المسلم والكافرة ، وليس لها تصد من جهة إجراء صيغة العقد ، فقد لا يكون إجراء الصيغة في حدّ ذاته مبغوضا للمولى.

ويمكن التمثيل لذلك أيضا بقوله علیه السلام « ثمن العذرة من السحت » (4) فإنّ الرواية الشريفة متصدّية لبيان حكم أثر البيع وهو انتقال الثمن للبائع

ص: 148


1- سورة المجادلة آية 2.
2- سورة الجمعة آية 9.
3- سورة الممتحنة آية 10.
4- الوسائل الباب 40 من أبواب ما يكتسب ح 1.

وساكته عن حكم إجراء المعاملة على العذرة.

وهنا يمكن أن يقال بأن التحريم كاشف عن إمضاء الشارع لمضمون المعاملة ؛ وذلك لأنّ مضمون المعاملة لو لم يكن صحيحا فإن توجيه الخطاب بالنهي عن أثر المعاملة لا معنى له ؛ إذ أنّ المكلّف غير قادر على إيجاد مضمون المعاملة لو لم تكن المعاملة صحيحة ، فبأي وسيلة يتوسّل لتحقيق مضمون المعاملة بعد أن كان تحقّق مضمون المعاملة - وهو النقل والانتقال مثلا - منوطا بإمضاء الشارع؟ ومن الواضح أنّ إمضاء الشارع ليس اختياريا للمكلّف ، بل هو بيد الشارع فإن شاء أمضى المعاملة وإن شاء لم يمضها ، ومن هنا لا يمكن أن يتعقّل النهي عن مضمون المعاملة إلاّ أن تكون صحيحة ، وحينئذ يكون المكلّف قادرا على إيجاد مضمون المعاملة بواسطة إيجاد السبب ، فحينما يكون الزواج من المخالفة صحيحا بنظر الشارع فإنّه يمكن للشارع أن ينهى عن إيجاده ؛ إذ أنّ إيجاده مقدور للمكلّف لقدرته على سببه وهو الإيجاب والقبول ، وأمّا لو كان الزواج من المخالفة باطلا بنظر الشارع فالمكلّف غير قادر على إيجاد النكاح الصحيح.

والمتحصّل ممّا ذكرناه في هذه الجهة أنّ التحريم الواقع على المسبّب - والذي هو أثر المعاملة - يستوجب الصحّة وإلاّ كان التحريم تكليفا بغير المقدور ؛ وذلك لأنّ إمضاء أثر المعاملة من شؤون الشارع ، فإذا لم تكن ممضاة فإنّ المكلّف لا يكون قادرا على تحصيلها فلا يتعقّل النهي عن ايجادها لأنّه طلب لإعدام المعدوم.

والقول بقدرته على إيجاد السبب فيتعقّل النهي حينئذ خروج عن الفرض ، إذ الكلام إنّما هو في النهي عن المسبّب ، نعم لو كان المسبّب

ص: 149

ممضى من قبل الشارع فإنّ المكلّف قادر على إيجاده بواسطة السبب فيتعقّل النهي عن إيجاده ، فيقال يحرم عليك نكاح المخالفة ، فإنّ نكاح المخالفة يكون صحيحا ، غايته أن يكون مبغوضا للمولى ويكون المكلّف عاصيا بإيجاده.

النهي الإرشادي :

كان الكلام عن أنّ النهي المولوي في العبادات أو في المعاملات هل يقتضي الفساد؟ والبحث في المقام عن أنّ النهي الإرشادي في العبادات أو المعاملات هل يقتضي الفساد أو لا؟

وهو بحث مختلف تماما عن البحث الأوّل لأنّ النهي الإرشادي ليس من سنخ الأحكام التكليفيّة والتي يترتّب على مخالفتها - لو كانت إلزاميّة - استحقاق الإدانة والعقوبة وإنّما هو نهي يكون الغرض منه الكشف عن حكم وضعي وهو مثلا مانعية متعلّق النهي للمركّب العبادي أو المعاملي أو الكشف عن جزئية أو شرطيّة نقيض متعلّق النهي.

ومثال النهي الكاشف عن مانعيّة متعلّقه للمركب العبادي هو قوله تعالى ( لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى ) (1) فإنّ متعلّق النهي في الآية الكريمة هو الإتيان بالصلاة حال السكر وقد كشف النهي عن مانعيّة ذلك لصحّة المركّب العبادي « الصلاة ».

ومثال النهي الكاشف عن مانعيّة متعلّقه للمركب المعاملي ما ورد أنّ

ص: 150


1- سورة النساء آية 43.

النبي صلی اللّه علیه و آله « نهى عن بيع الغرر » (1) ، فإنّ متعلّق النهي الإرشادي هو بيع الغرر وقد كشف هذا النهي عن مانعيّة الغرر لصحّة البيع والذي هو من المركّبات المعاملاتيّة.

ومثال ما يكون النهي الإرشادي كاشفا عن جزئيّة نقيض متعلّقه « لا تصلّ بغير فاتحة الكتاب » فإنّ متعلّق النهي هنا هو الصلاة بغير فاتحة الكتاب ، وقد كشف النهي عن أنّ نقيض متعلّقه جزء في المركب العبادي ، حيث إنّ نقيض الصلاة بغير فاتحة الكتاب هو الصلاة بفاتحة الكتاب.

ومثال ما يكون النهي الإرشادي كاشفا عن شرطيّة نقيض متعلّقه ما ورد عن النبي صلی اللّه علیه و آله « لا تبع ما ليس عندك » (2) ، فإنّ متعلّق النهي هو بيع غير المملوك وهذا يكشف عن اشتراط الملكيّة في المبيع كما هو مقتضى فهم البعض من الرواية الشريفة.

إذا اتّضح ما ذكرناه يتّضح أنّ النهي الإرشادي في المركّبات يكشف دائما عن البطلان ؛ وذلك لأنّ عدم الالتزام بما هو مقتضى النهي الإرشادي يعني أنّ المركّب مشتملا على المانع أو فاقدا للشرط أو الجزء ، وهذا ما يقتضي فساد المركّب ، فإن كان من سنخ المركّبات العباديّة فيكون المركّب الفاقد للجزء أو الشرط أو الواجد للمانع غير مأور به ، وغير المأمور به لا يجزي عن المأمور به ، وأمّا إذا كان من سنخ المركّبات المعاملاتيّة فالفاقد للشرط أو الجزء أو المشتمل على المانع لم يقع متعلقا للإمضاء الشرعي ،

ص: 151


1- الوسائل باب 40 من أبواب آداب التجارة ح 3.
2- سنن البيهقي 5 : 267.

فحينما يقول النبي صلی اللّه علیه و آله « لا تبع ما ليس عندك » فهذا يعني عدم إمضاء الشارع لبيع ما لا يملك.

وبتعبير آخر : إنّ عدم الالتزام بالأجزاء والشروط المأخوذة في المركّب وعدم الالتزام بإعدام الموانع يعني أنّ المركّب المأتي به إمّا أن يكون غير مأمور به أو يكون غير ممضى من الشارع ، وهذا هو معنى فساد المركّب عند عدم الالتزام بمقتضى النهي الإرشادي.

ص: 152

مسقطات الحكم

اشارة

إنّ سقوط الحكم على أنحاء ، فتارة يسقط الحكم بسبب استيفاء غرضه ، وهذا يتمّ إنّما بواسطة الإتيان بمتعلّق الحكم وإمّا عن طريق إيجاد ما يعادل متعلّق الحكم في الوفاء بالغرض وقد يتمّ بواسطة شيء آخر. وإمّا بواسطة إيجاد ما يفي بالجزء الأكبر من الغرض ويكون الباقي بعد ذلك متعذّر الاستيفاء ، وقد يسقط الحكم بسبب سقوط موضوعه وهذا قد يجتمع مع عصيان المكلّف وقد لا يجتمع مع العصيان.

وبيان ذلك :

إنّ الحكم الذي هو الجعل الشرعي إذا بلغ مرحلة الفعليّة فإنّ سقوطه يتمّ بأحد أمور :

منها : الإتيان بمتعلّق الحكم ، فحينما يكون الحكم هو وجوب الصلاة مثلا فإنّ الإتيان بمتعلّق الوجوب يكون موجبا لسقوط الحكم بالوجوب ، وكذلك لو كان الحكم هو استحباب الصلاة فإنّ الإتيان بالصلاة يكون موجبا لسقوط الحكم بالاستحباب ، وهكذا لو كان الحكم هو حرمة شرب الخمر فإن ترك متعلّق الحرمة وهو شرب السائل الخمري موجب لسقوط شخص هذه الحرمة.

ومنها : الإتيان بما يعادل متعلّق الحكم في الوفاء بملاك الحكم.

ص: 153

والتعرّف على ما يعادل متعلّق الحكم لا يكون إلاّ بواسطة الشارع المقدّس. ويمكن التمثيل لذلك بخصال الكفّارة التخييريّة بناء على أنّ الوجوب التخييري ينحلّ إلى وجوبات مشروطة ، فإنّ وجوب العتق يكون متعلّقه إعتاق الرقبة إلاّ انّ العتق له ما يعادله في الوفاء بملاك الحكم بوجوب الإعتاق وهو الإطعام ، وبالإتيان بالإطعام يسقط الحكم بوجوب العتق.

وهكذا الحال لو ثبت أنّ التصدّق على الفقير يجزي عن صلاة الليل أي يقوم مقام صلاة الليل - والتي هي متعلّق الاستحباب - من جهة استيفاء التصدّق لملاك استحباب صلاة الليل.

وبتعبير آخر : إنّ من موجبات سقوط الحكم هو الإتيان بفعل جعله الشارع قيدا في سقوط فعليّة الحكم في ظرف عدم الإتيان بمتعلّق الحكم أو الإتيان بالفعل الذي قيّد الشارع بقاء فعليّة الحكم بعدم إيجاده في ظرف عدم الإتيان بمتعلّق الحكم. فسقوط وجوب العتق في مثالنا مقيّد بالإتيان بالإطعام في ظرف عدم الإتيان بالعتق ، أو أنّ الشارع جعل عدم الإتيان بالإطعام - في ظرف عدم الإتيان بالعتق - قيدا في بقاء فعليّة وجوب العتق.

ومن الواضح أنّ المكلّف إذا أتى بالإطعام فقد حقّق قيد سقوط فعليّة الوجوب ، وهذا ما يقتضي سقوط الوجوب للعتق ، وكذلك حينما يأتي بالإطعام فإنّه نفى قيد بقاء الفعليّة لوجوب العتق ، حيث إنّ قيد بقاء الفعليّة هو عدم الإطعام ، وبإتيانه للإطعام ينتفي بقاء الفعليّة للوجوب لانتفاء قيده.

ومنها : إيجاد ما يفي بالجزء الأكبر من ملاك الحكم ، وذلك لتعذّر استيفاء تمام الملاك للحكم ، ومثاله الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري

ص: 154

عن الأمر الأولي. وهذا ما سيأتي الحديث عنه.

والجامع بين هذه الأنحاء الثلاثة من مسقطات الحكم هو أنّ منشأ السقوط فيها استيفاء ملاك الحكم.

ومنها : عصيان التكليف إلى حين سقوط موضوعه ، فإنّ ترك الصلاة اختيارا إلى حين انتهاء وقتها يوجب سقوط الوجوب لأداء الصلاة ؛ لأنّ الوقت أخذ في موضوع فعليّة الوجوب فإذا ما انتهى الوقت انتهت معه الفعليّة ، فالإتيان بالصلاة في خارج الوقت إتيان بغير المأمور به ، وكذلك الحال في ترك المكلّف الصيام في شهر رمضان فإنّه يوجب سقوط فعليّة الوجوب لصيام شهر رمضان ، وهكذا لو شرب المكلّف الخمر فإنّ التكليف بشخص الحرمة المتعلّقة بالسائل الخمري الذي شربه لا معنى له لعدم قدرته على الامتثال بعد أن كان متعلّقه ضروري الوقوع ؛ ولهذا يسقط شخص الحكم بالحرمة المتعلّقة بشرب الخمر الذي وقع من المكلّف.

والمراد من سقوط الحكم هنا - وكذلك في فرض الإتيان بمتعلّق الوجوب - هو انتهاء محركيّة الحكم ؛ وذلك لعدم صلوحه للتحريك بعد العصيان وسقوط الموضوع أو بعد الإتيان بالمتعلّق.

أمّا بعد العصيان فقد اتّضح وجهه ، وأمّا بالإتيان بالمتعلّق فلاستيفاء الغرض من الحكم ؛ ولأنّ التكليف بالجامع بعد أن أتى المكلّف بمنطبق الجامع تحصيل للحاصل إلاّ أن يأمر المولى بإيجاد فرد آخر للجامع وهذا خروج عن الفرض ؛ لأنّ الإتيان بالفرد الآخر يكون بأمر وحكم جديد غير الحكم الذي سقط بواسطة الامتثال الأول.

إذن المراد من سقوط التكليف هو سقوط فاعليّته ومحركيّته لا سقوط

ص: 155

أصل الحكم ، فإنّ وجوب الصلاة واستحباب التصدّق وحرمة شرب الخمر تبقى ثابتة حتى بعد الامتثال أو العصيان.

إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الأولي :

لا إشكال في إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الأولي في الجملة.

وبيان ذلك :

إنّ قيام المأمور به بالأمر الاضطراري مقام المأمور به بالأمر الأولي يكون تابعا للسان دليل الأمر الاضطراري ، وسنذكر احتمالين ثبوتيين لما يمكن أن يدل عليه دليل الأمر الاضطراري :

الاحتمال الأول : أن يكون الأمر الاضطراري دالا على صحّة العمل بمقتضاه في ظرف استمرار الاضطرار إلى حين انتهاء الوقت ، كأن يكون مفاد الدليل هكذا « إذا عجز المكلّف عن الطهارة المائية وكان عجزه مستوعبا للوقت صحّ له الانتقال إلى الطهارة الترابيّة ».

فهنا يكون العجز عن الطهارة المائية - والتي هي الحكم الأولي - مصححا للانتقال إلى الطهارة الترابية - والتي هي الحكم الاضطراري - إلاّ أنّ صحّة الانتقال إلى الطهارة الترابية إنّما هو في ظرف استمرار العجز واستيعابه لتمام الوقت ، وهذا يعني عدم شمول دليل الأمر الاضطراري لحالة ارتفاع العجز في أثناء الوقت.

فإذا كان هذا هو مفاد دليل الأمر الاضطراري فإنّ الإتيان بالطهارة الترابية يكون في حالة موجبا لسقوط الأمر الأولي وفي حالة لا يكون موجبا للسقوط.

ص: 156

أمّا الحالة الأولى فهي ما لو كان عجز المكلّف عن الطهارة المائيّة مستوعبا لتمام الوقت ، إذ أنّ هذا هو مقتضى مفاد دليل الأمر الاضطراري - كما هو الفرض - وعليه لا يكون المكلّف مسؤولا عن القضاء لو كان المأمور به بالأمر الأولي مما يوجب فواته القضاء ؛ وذلك لإجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري عنه.

وأمّا الحالة الثانية فهي ما لو كان عجز المكلّف غير مستوعب للوقت بل إنّه يزول في أثناء الوقت ، وعدم السقوط ناشئ عن أن مفاد الدليل هو اختصاص الإجزاء بحالة استمرار العجز فلا يكون شاملا لمثل هذه الحالة ، وعليه لو جاء المكلّف بالطهارة الترابية ثم ارتفع عجزه قبل انتهاء الوقت فإنّه ملزم بالطهارة المائيّة ويكون إتيانه بالطهارة الترابيّة كالعدم ، إذ لا مبرّر لسقوط الأمر الأولي بعد عدم شمول الأمر الاضطراري لهذه الحالة ، وبعد أن كان دليل الأمر الأولي شاملا لمثل هذه الحالة.

الاحتمال الثاني : أن يكون الأمر الاضطراري دالا على صحة العمل بمقتضاه في ظرف العجز مطلقا ، أي سواء كان العجز مستوعبا للوقت أو لم يكن مستوعبا للوقت ، وذلك كأن يكون مفاد دليل الأمر الاضطراري هكذا « إذا عجز المكلّف عن الطهارة المائيّة صحّ له الانتقال إلى الطهارة الترابيّة ».

وهنا يمكن تصنيف حالة المكلّف إلى حالتين :

الحالة الأولى : أن يفترض استيعاب عجزه للوقت ، وهنا لا إشكال في الإجزاء وسقوط الأمر الأولي بالإتيان بالمأمور به بالأمر الاضطراري ؛ وذلك لأنّه القدر المتيقّن من إطلاق دليل إجزاء المأمور بالأمر الاضطراري

ص: 157

عن الأمر الأولي.

الحالة الثانية : أن يفترض عدم استيعاب العجز للوقت ، وهنا نقول :

إنّ المكلّف لو جاء بالطهارة الترابيّة ثم ارتفع عجزه وصار قادرا على الإتيان بالطهارة المائيّة فهل يكون ملزما بها؟ أو أنّ إتيانه بالطهارة الترابيّة قد أسقط وجوب الطهارة المائيّة « الحكم الأولي »؟

والجواب هو الإجزاء وسقوط الأمر الأولي ؛ وذلك لأنّ الإتيان بالطهارة الترابية كان مأمورا به - كما هو مقتضى الفرض - إذ قلنا بأن دليل الأمر الاضطراري شامل لحالتي استيعاب العجز وعدم استيعابه للوقت ، ولهذا كان الإتيان بالطهارة الترابيّة في هذه الحالة مشمولا لما هو المأمور به وهذا ما برّر الإجزاء وسقوط الأمر الأولي.

وهنا لا بدّ من التنبّه لأمر وهو أنّ الإتيان بالطهارة الترابيّة حال العجز - وقبل ارتفاعه - ليس متعينا على المكلّف بل له أن ينتظر إلى حين ارتفاع العجز ويأتي بعد ذلك بالطهارة المائيّة ، فالإتيان بالطهارة الترابيّة إذن واجب تخييري لا تعييني ، وطرفا التخيير هما الطهارة الترابيّة حين العجز أو الطهارة المائيّة حين ارتفاع العجز في الوقت.

وهذا الوجوب التخييري استفدناه من الجمع بين دليل الأمر الاضطراري ودليل الأمر الأولي ، إذ أنّ مقتضى دليل الأمر الاضطراري هو كفاية الإتيان بالطهارة الترابيّة حين العجز ومقتضى إطلاق دليل الأمر الأولي هو لزوم الإتيان بالطهارة المائيّة حين ارتفاع العجز فينتج عن ذلك أنّ المكلّف مخيّر بين الطهارة الترابيّة - ولكن في ظرف العجز - وبين الطهارة المائيّة حين ارتفاع العجز.

ص: 158

أمّا لو قلنا بعدم كفاية المأمور به بالأمر الاضطراري في ظرف العجز ، وإن المكلّف ملزم بالإتيان بالطهارة المائيّة بعد ارتفاع العجز لكان ذلك موجبا للتخيير بين الإتيان بالطهارة الترابيّة في ظرف العجز والإتيان بالطهارة المائيّة حين ارتفاع العجز وبين الإتيان بالطهارة المائيّة حين ارتفاع العجز ، أي أنّ المكلّف مخيّر بين أن يبادر حين العجز ويأتي بالطهارة الترابيّة ثمّ يأتي بالطهارة المائيّة حين ارتفاع العجز - لعدم كفاية الطهارة الترابيّة وحدها - ، وإمّا أن يأتي بالطهارة المائيّة وحدها حين ارتفاع العجز.

وهذا من التخيير بين الأقلّ والأكثر والذي قلنا باستحالته.

ومنشأ الملازمة بين القول بإعادة الطهارة وعدم كفاية الطهارة الترابيّة وبين الوجوب التخييري بين الأقل والأكثر هو أنّ مقتضى دليل الأمر الاضطراري في الاحتمال الثاني هو تصحيح الإتيان بالمأمور به بالأمر الاضراري في ظرف العجز فإذا لم يكن المأمور به بالأمر الاضطراري مجزيا عن المأمور به بالأمر الأولي ويلزم الإتيان به بعد ارتفاع العجز مع أنّ له أن ينتظر حتى يرتفع العجز ويأتي بالمأمور به بالأمر الأولي وحده ، فهذا يعني أنّه مخيّر بين الجمع بين المأمور به بالأمر الاضطراري والمأمور به بالأمر الأولي وبين انتظار ارتفاع العجز والإتيان بالمأمور به بالأمر الأولي وحده ، ولمّا كان التخيير بين الأقلّ والأكثر مستحيلا فهذا يكشف عن أنّ المأمور به بالأمر الاضطراري كافيا في سقوط الأمر الأولي ومجزيا عنه ، إذ أنّ دليل الأمر الاضطراري لمّا كان مصححا للإتيان بالطهارة الترابيّة فهذا يستلزم إمّا الإجزاء وسقوط الأمر الأولي وإمّا الجمع بينه وبين امتثال الأمر الأولي وهذا يقتضي التخيير بين الأقل والأكثر - إذ لا إشكال في كفاية الاقتصار

ص: 159

على امتثال الأمر الأولي حين ارتفاع العجز -.

والثاني مستحيل لاستحالة التخيير بين الأقل والأكثر فيتعيّن الأول وهو سقوط الأمر الأولي بامتثال الأمر الاضطراري.

وبهذا تظهر ثمرة القول باستحالة التخيير بين الأقلّ والأكثر ، إذ أنّ القول باستحالة التخيير بين الأقل والأكثر أوجب تعيّن الإجزاء وسقوط الأمر الأولي بامتثال الأمر الاضطراري.

ص: 160

إمكان النسخ وتصويره

والبحث عن إمكان النسخ يقع في مقامين :

المقام الأوّل : إمكان النسخ في مرحلة مبادئ الحكم.

المقام الثاني : إمكان النسخ في مرحلة الجعل والاعتبار.

أمّا المقام الأوّل : إنّه لمّا كانت الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد في متعلّقاتها فهذا يقتضي أن يدور الحكم مدار المصلحة والمفسدة وجودا وعدما ، فمتى ما كانت المصلحة دائمة كان الحكم معها دائميا ومتى ما كانت مؤقتة كان الحكم مؤقتا ، وإذا افترض أنّ المصلحة معلّقة على قيد كان الحكم كذلك.

وهذا هو سرّ دائميّة بعض الأحكام وتوقيت بعض آخر منها ، إذ أنّ المولى ولإحاطته بأوجه المصالح والمفاسد يعلم أنّ هذا الفعل مثلا يظلّ واجدا للمصلحة التامّة إلى الأبد فلذلك يجعل الحكم عليه دائميا ، وفي حالات أخرى يعلم أنّ هذا الفعل وإن كان واجدا للمصلحة فعلا إلاّ أنّها تزول بعد زمن محدّد فلذلك يجعل الحكم على الفعل مغيّى بانتهاء ذلك الزمن المحدّد.

ويستحيل في حقّه تعالى أن يرى للفعل مصلحة تامّة ودائمة فيجعل على الفعل ذي المصلحة حكما دائميا ثمّ ينكشف له بعد ذلك أنّ المصلحة

ص: 161

مؤقّتة أو أنّ المصلحة ليست تامّة بل مزاحمة بما هو أقوى منها ملاكا أو أنّه لا مصلحة في الفعل أصلا وإنّما هي وهم ليس له واقع.

واستحالة ذلك ناشئ عن استحالة الجهل على اللّه جلّ وعلا كما هو مقتضى البراهين العقليّة القطعيّة ، فهو جلّ وعلا محيط بكلّ شيء ولا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء ولا يحدّه زمان ولا يحيط به مكان.

ومن هنا ينشأ سؤال وهو ما هو إذن مبرّر النسخ في الشرايع السماويّة والشريعة الإسلاميّة والذي لا يمكن إنكار وقوعه فيها؟

والجواب أنّ النسخ إذا كان بمعنى انكشاف منافاة ما كان يرى المولى جلّ وعلا واقعيّته للواقع وأنّه لم يكن أكثر من وهم فهذا مستحيل على اللّه سبحانه وتعالى فلو كان يرى أنّ المصلحة أو المفسدة في فعل أنّها دائميّة وعليه كانت له إرادة أو مبغوضيّة لهذا الفعل دائميّة فمن المستحيل أن يكون علمه منافيا للواقع وأنّ المصلحة أو المفسدة في الفعل ليست دائميّة بل هي مؤقتة واقعا.

وهذا النحو من النسخ ليست مقبولا عند أحد من المسلمين.

نعم هو ممكن في حقّ سائر المشرعين والمقنّنين والذين ليست لهم إحاطة بأوجه المصالح والمفاسد ، فيرون لفعل مصلحة تامّة وفي الواقع ليست له أي مصلحة بل لعلّه مشتمل على مفسدة تامّة ، أو يرون لفعل مصلحة دائميّة وفي الواقع أنّها مؤقتة ، فتكون إرادتهم لإيجاد الفعل ناشئة عن أوهام ليس لها حظ من الواقع ثمّ بعد ذلك ينكشف لهم الواقع وأنّهم كانوا مخطئين فتنقلب إرادتهم إلى ما يناسب الواقع المنكشف ، فإذا كان هذا هو معنى النسخ الحقيقي في عالم المبادئ فهو مستحيل على اللّه سبحانه وتعالى.

ص: 162

وواقع النسخ في الشريعة الإسلاميّة وسائر الشرايع السماويّة هي أنّ المولى جلّ وعلا حينما لا حظ الفعل ولا حظ اشتماله على المصلحة وأنّها ليست دائميّة بل إنّها مؤقّتة ، أو أنّ المصلحة مرتبطة بحيثيّات خاصّة فتعلّقت له إرادة متناسبة من أول الأمر مع حدود المصلحة المتعلّقة بالفعل فهي إرادة مؤقّتة ومحدّدة بحدود المصلحة المتعلّقة بالفعل ، وهذا ما يقتضي زوال الإرادة بزوال مصلحة الفعل وانتفاء الإرادة بانتفاء الحيثيّات الدخلية في اشتمال الفعل على المصلحة ، فالنسخ بهذا المعنى ممكن على اللّه سبحانه وتعالى ؛ إذ أنّه لا يتنافى مع علمه وإحاطته بأوجه المصالح والمفاسد.

فالنسخ إذن في عالم المبادئ هو انتهاء أمد الحكم - المعلوم من حين تشريعه - بانتهاء المصلحة عن الفعل الواقع متعلقا للحكم ، وليكن هذا المعنى للنسخ معنى مجازيا ، واستعمال القرآن الكريم والسنّة الشريفة للنسخ بهذا المعنى ليس فيه محذور ، إذ أنّه استعمال مجازي قرينته البرهان العقلي.

المقام الثاني : في إمكان النسخ في مرحلة الجعل والاعتبار :

بعد أن اتّضح عدم إمكان النسخ الحقيقي على اللّه جلّ وعلا في عالم المبادئ والملاكات وإنّما الممكن في حقّه تعالى هو النسخ بالمعنى المجازي والذي لا يتنافى مع علمه وإحاطته بكلّ شيء.

بعد أن اتّضح ذلك نصل للبحث عن إمكان تصوير النسخ في مرحلة الجعل والاعتبار والتي هي مرحلة إبراز الحكم وجعله.

ومرادنا من الحكم الأعم من الحكم التكليفي والحكم الوضعي فنقول :

إنّ النسخ بالمعنى الحقيقي في مرحلة الجعل والاعتبار يعني أنّ الحكم المجعول يكون مطلقا من حيث الزمان فلا يختص بزمان دون زمان ثمّ يرفع ذلك

ص: 163

الحكم ، والنسخ بهذا المعنى ممكن في الشريعة ، وذلك بأن يجعل المولى حكما ولا يقيّده بزمن خاص رغم علمه بأن مبادئ هذا الحكم مؤقّتة بزمن خاص ، ورغم أنّ إرادته لإيجاد متعلّق الحكم مؤقّتة ومحدّدة بحدود المصلحة الموجودة في متعلّق الحكم إلاّ أنّ المولى ترك ذكر القيد الزماني لحكمة اقتضت ذلك أو لعدم وجود فائدة من ذكر القيد حين تشريع الحكم ، فإنّ المكلّف لمّا كان مسؤولا فعلا عن إيجاد متعلّق الحكم فإنّ اللازم هو بيان تشريع الحكم والحدود الدخيلة فعلا في تشريع وفعليّة الحكم ومتعلّقه وموضوعه ، وأمّا القيود التي ليس لها دخل فعلي في ذلك فلا يلزم بيانها.

وأمّا النسخ بالمعنى المجازي فهو يعني انتهاء أمد الحكم بانتهاء وقته المبيّن في لسان دليله ، فإنّ النسخ بهذا المعنى ممكن جدّا ، والمبرّر لارتفاع الحكم هو ارتفاع موضوعه إذ أنّ الأحكام تابعة لموضوعاتها وجودا وعدما ، ولمّا كان قد أخذ في موضوع الحكم وقتا خاصا فهذا يعني أنّ الوقت جزء الموضوع للحكم ، ومن الواضح أنّ انتفاء موضوع أو جزء موضوع الحكم يقتضي انتفاء الحكم.

ومثال ذلك أن يجعل المولى حكما ويصرّح في لسان الدليل أنّ أمد هذا الحكم ينتهي بعد شهر فإنّه بعد انتهاء الشهر ينتهي أمد الحكم.

والمعنى الأوّل هو المتداول استعماله إذ أنّه غالبا لا يطلق النسخ على الحكم المقيّد بزمان مذكور في لسان دليل الحكم.

ص: 164

الملازمة بين الحسن والقبح والأمر والنهي

ويقع البحث في المقام عن ثبوت الملازمة بين ما يحكم به العقل من ثبوت الحسن لفعل أو القبح لآخر وبين الوجوب للأوّل والحرمة للثاني ، فهل أنّ إدراك العقل لحسن فعل يلازم حكم الشارع بوجوبه وأنّ إدراكه لقبح فعل يلازم حكم الشارع بحرمته؟ أو أنّه لا ملازمة بين ما يدركه العقل وبين الحكم الشرعي؟

وقبل البحث عن ثبوت الملازمة وعدم ثبوتها لا بدّ من بيان المراد من معنى الحسن والقبح العقليّين ، فنقول :

إنّ الحسن والقبح من المدركات العقليّة الواقعيّة ، فإدراك العقل لهما كإدراكه لاستحالة اجتماع النقيضين واستحالة وجود المعلول عن غير علّة ، فالحسن والقبح إذن من الصفات الواقعيّة وثبوت الحسن والقبح لمتعلّقاتهما ذاتي ، فالفعل الحسن هو الذي يقتضي بذاته الحسن أي أنّ الحسن ناشئ عن مقام ذاته وكذلك الفعل القبيح ، فكما أنّ اتّصاف كلّ فعل باستحالة اجتماعه مع نقيضه ذاتي فكذلك اتّصاف الفعل بالحسن أو القبح ، فإن اتّصاف الفعل بالحسن أو القبح ليس ناشئا عن المصالح أو المفاسد أو عن ملائمة الفعل للطبع أو عدم ملائمته ، فإنّنا بالوجدان نجد انّ بعض الافعال متّصفة بالحسن ولا يكون اتّصافها بالحسن عن مصلحة فيها ونجد أنّ بعض

ص: 165

الأفعال مشتملة على مصلحة ومع ذلك لا يحكم العقل بحسنها بل قد يحكم بقبحها.

ودعوى أنّ الحسن ناشئ عن ملائمة الفعل للطبع منقوض ببعض الأفعال التي لا تكون منسجمة مع الطبع ومع ذلك تكون متّصفة بالحسن وببعض الأفعال التي تكون منسجمة مع الطبع ومع ذلك تكون مستقبحة.

كلّ ذلك يعبّر عن أنّ اتّصاف الأفعال بالحسن أو القبح ذاتي ، والذاتي لا يعلّل ، كما أنّ الذاتي لا ينقلب عمّا هو عليه ، فالفعل الحسن لا ينقلب إلى القبح وكذلك العكس.

والمتحصّل ممّا ذكرناه أنّ الحسن والقبح من الصفات الواقعيّة وأنّ اتّصاف الأفعال بهما ذاتي وأنّهما من المدركات العقليّة الأوليّة فهما لا يختلفان عمّا يدركه العقل من استحالة اجتماع النقيضين فكلا الحكمين من مدركات العقل الأوليّة ، غايته أنّ الحسن والقبح من مدركات العقل العملي أي أنّهما بذاتيهما يستتبعان أثرا عمليّا أي يستوجبان التحرّك والانبعاث نحو متعلّقيهما ، فالفعل الحسن يدرك العقل أنّه ينبغي فعله والفعل القبيح يدرك العقل أنّه لا ينبغي فعله.

وهذا الأثر لصفتي الحسن والقبح لازم ذاتي لهما ، أي أنّه ناشئ عن مقام الذات لصفتي الحسن والقبح ، ووظيفة العقل ليست أكثر من إدراك هذا اللازم إلاّ أنّه قد يطلق على هذا المدرك العقلي عنوان الحكم العقلي تجوّزا.

ومع ثبوت إدراك العقل أنّ الحسن ينبغي فعله وأنّ القبيح لا ينبغي فعله يصل بنا البحث عن ثبوت الملازمة بين ما يحكم به العقل وبين الحكم الشرعي ، فقد ذهب مشهور الأصوليّين إلى ثبوت الملازمة بينهما

ص: 166

وأنّه إذا حكم العقل بحسن شيء وانبغاء فعله حكم الشرع بوجوب ذلك الشيء ومتى ما حكم العقل بقبح شيء وانبغاء تركه حكم الشرع بحرمة ذلك الشيء.

ومدرك هذه الدعوى أنّ الشارع سيّد العقلاء ومن غير الممكن أن يتطابق العقلاء بما هم عقلاء على حكم ولا يكون ذلك الحكم موافقا لما عليه الشرع.

وقد نفى بعض المحقّقين ثبوت الملازمة بشكل مطلق ، وبيان ذلك :

إنّ الحسن والقبح تارة يقع في مرتبة المعلول للحكم الشرعي وتارة يكون إدراك الحسن والقبح لا يتّصل بالحكم الشرعي أي أنّه لا يقع في رتبة المعلول للحكم الشرعي كحسن العدل وقبح الظلم فإنّ إدراكه لا يكون متأخّرا ولا مترتّبا على ثبوت حكم شرعي بل إنّ إدراكه يكون مستقلا عن الحكم الشرعي.

والنحو الأوّل من إدراك العقل للحسن والقبح يستحيل ثبوت الملازمة في مورده ؛ وذلك لاستلزامه التسلسل المحال ، إذ أنّ معنى وقوع المدرك العقلي للحسن والقبح في رتبة المعلول للحكم الشرعي هو ما يدركه العقل من حسن طاعة الأمر المولوي وقبح عصيان الأمر المولوي ، ومن الواضح أنّه لا يحكم العقل بحسن طاعة أمر المولى إلاّ أن يكون هناك أمر مولوي كما لا يحكم بقبح معصية المولى إلاّ أن يكون هناك أمر مولوي ، فموضوع إدراك العقل لحسن الطاعة وقبح المعصية هو الأمر المولوي الشرعي ، أما لو لم يكن أمر فعلى أي شيء تقع الطاعة والمعصية حتى يدرك

ص: 167

العقل حسن الأول وقبح الثاني؟

ومن هنا صار الحكم الشرعي في رتبة العلّة للحكم العقلي بالحسن والقبح ، فمتى ما حكم الشارع بوجوب الصلاة حكم العقل بحسن طاعة أمر المولى بالصلاة ، ومتى ما حكم العقل بحرمة شرب الخمر حكم العقل بقبح معصية نهي المولى.

فلو كان يلزم من إدراك العقل لحسن الطاعة وقبح المعصية حكم شرعي بوجوب الطاعة وحرمة المعصية لكان هذا الحكم الشرعي الذي استفدناه بواسطة الملازمة مولّدا لحكم عقلي بحسن الطاعة وقبح المعصية ، وهذا الحكم العقلي يلازم حكما شرعيا آخر بوجوب الطاعة وحرمة المعصية ، ويكون هذا الحكم الشرعي مولّدا لحكم عقلي وهكذا إلى ما لا نهاية.

وأمّا النحو الثاني من إدراك العقل للحسن والقبح والذي لا يكون في مرتبة المعلول للحكم الشرعي كحسن العدل وقبح الظلم فدعوى الملازمة بينه وبين الحكم الشرعي تامّة.

ص: 168

الاستقراء والقياس

اشارة

إنّ التعرّف على الأحكام الشرعيّة بواسطة الاستقراء والقياس لا يكون ممكنا إلاّ بعد الإيمان بمقدّمة مطوية وهي أنّ أحكام اللّه جلّ وعلا ليست جزافية واعتباطيّة وإنّما هي ناشئة عن ملاكات في متعلّقاتها ، فالوجوب لا يكون إلاّ عن مصلحة تامّة في متعلّقة والحرمة لا تكون إلاّ عن مفسدة تامّة في متعلّقها وهكذا سائر الأحكام والجعولات الشرعيّة فإنّها لا بدّ أن تكون ناشئة عن علل موجبة لجعلها.

فإذا ما سلّمنا بهذه المقدمة أمكنت الاستفادة من القياس أو الاستقراء في مقام التعرّف على الحكم الشرعي ، إذ أنّ الحكم الشرعي بلحاظ جعله واعتباره لا يمكن استكشافه بواسطة القياس أو الاستقراء وإنّما الذي يمكن استفادته بواسطة القياس أو الاستقراء إنّما هي علل الأحكام ، وحينما نتعرّف على علّة الحكم نتمكّن من الوصول إلى الحكم عن طريق هذه المقدّمة وهي تبعيّة الأحكام لعللها وملاكاتها.

وبعد اتّضاح هذه المقدّمة يصل بناء الحديث إلى البحث عن كيفيّة التعرّف على ملاكات الأحكام بواسطة الاستقراء والقياس.

أمّا الاستقراء :

فهو يعني متابعة مجموعة من القضايا الجزئية المعلومة الحكم لغرض

ص: 169

الوصول إلى مجهول تصديقي تتحد فيه جميع موضوعات تلك القضايا الجزئيّة تحت حكم واحد بحيث يمكن انتزاع موضوع كلّي من مجموع موضوعات تلك القضايا الجزئيّة فيكون الحكم كلّي لكليّة موضوعه.

ومثاله أن يلاحظ المتتبّع والمستقرء أنّ الأسد ذا المخلب يفترس ، وأنّ الثعلب ذا المخلب يفترس ، وأنّ الذئب ذا المخلب يفترس ، وهكذا فيستنتج من هذا التتبع لهذه القضايا الجزئية قضيّة كليّة لم تكن معلومة ، وهي أنّ كلّ ذي مخلب فهو مفترس ، وهذه القضيّة الكليّة المستنتجة متّحدة الحكم مع القضايا الجزئيّة الملاحظة حين التتبّع وإنّما الاختلاف بين النتيجة ومقدماتها هو أنّ موضوع النتيجة كلّي ، أمّا موضوعات القضايا الملاحظة حين الاستقراء فهي جزئيّة ، والذي أفاده الاستقراء هو انتزاع عنوان كلّي جامع لموضوعات القضايا الجزئيّة ، وهذا هو منشأ كليّة وعموم الحكم في نتيجة الاستقراء ، إذ أنّ عموم الحكم أو جزئيّته تابع لعموم موضوعه أو جزئيّته ، ولمّا كان موضوع الحكم في نتيجة الاستقراء عاما فالحكم بتبعه يكون عاما ، وبهذا يكون الاستقراء منتجا لمعلوم تصديقي كان مجهولا قبل الاستقراء ، إذ أنّ المعلوم قبل الاستقراء هو مجموعة من القضايا الجزئيّة ، أمّا بعد الاستقراء فهناك قضيّة كليّة استفيدت بواسطته ، ويمكن الاستفادة من هذه القضيّة - لو كان الاستقراء ناقصا - في معرفة حكم الموضوعات التي لم تدخل تحت الملاحظة حين الاستقراء إذا كانت تلك الموضوعات داخلة تحت عموم موضوع النتيجة للاستقراء.

ومع اتّضاح معنى الاستقراء تتّضح كيفيّة استنباط ملاكات الأحكام عن طريق الاستقراء ، فإنّ الفقيه حينما يلاحظ أنّ الشارع لم يجعل العدّة على

ص: 170

المطلّقة الصغيرة ويلاحظ أنّ المطلّقة اليائس - التي ليس لها قابليّة للحمل - ليس عليها عدّة ، وأنّ غير المدخول بها - والتي لا يمكن أن تحبل عن زوجها - ليس عليها عدّة ، فإنّه يستنتج من هذا الاستقراء والتتبّع أنّ كلّ من ليس لها قابليّة لأن تحبل من زوجها فليس عليها عدّة ، فالتي استؤصل رحمها ليس عليها عدّة باعتبارها غير قابلة لأن تحبل.

فالاستقراء هنا قد كشف لنا عن علّة وجوب العدّة على المطلّقة وبواسطته عرفنا أنّ الشارع حكم بانتفاء العدّة عن كلّ من ليس لها قابليّة لأن تحبل.

والغالب في نتيجة الاستقراء أنّها ظنيّة ؛ وذلك لأنّ الاستقراء غالبا ما يكون ناقصا ، والاستقراء الناقص لا ينتج اليقين ، ومن هنا نحتاج إلى ما يثبت حجيّة الظنّ الناشئ عن الاستقراء ، إذ أنّ حجيّة الظنّ ليست ذاتيّة فلابدّ من دليل قطعي يثبت له الحجيّة ؛ إذ أنّ كلّ ما بالعرض لا بدّ وأن يرجع إلى ما بالذات ، ولمّا كانت الحجيّة عرضيّة بالنسبة للظنّ فهي محتاجة إلى دليل قطعي ؛ وذلك لكون الحجيّة للقطع ذاتيّة.

وأمّا القياس :

وقد ذكرت للقياس باصطلاح الأصوليّين مجموعة من الطرق ذكر المصنّف رحمه اللّه منها واحدا ، وسوف نقتصر على بيان الطريقة التي تعرّض لها المصنّف رحمه اللّه وهي قياس السبر والتقسيم والمشابه في اصطلاح المناطقة للتمثيل.

والغرض من هذا النحو من القياس هو التعدّي من حكم موضوع جزئي معلوم إلى موضوع جزئي آخر مجهول الحكم لإثبات نفس ذلك

ص: 171

الحكم - الثابت للموضوع الجزئي الأوّل - للموضوع الجزئي الآخر المجهول الحكم.

والمراد من قياس السبر والتقسيم هو البحث عن الجهة المشتركة بين الموضوعين - الموضوع المعلوم الحكم والموضوع المجهول الحكم - والتي يحتمل أو يطمأنّ أن تكون هي علّة ثبوت الحكم للموضوع الأوّل ، والغرض من البحث عن العلّة هو تعدية الحكم المعلّل بها لكلّ موضوع مشتمل على تلك العلّة المشتركة والمستنبطة بواسطة العقل أو الاستحسان أو معرفة ذوق الشريعة أو ما إلى ذلك.

وعبّر عنه بقياس السبر باعتبار أنّ السبر يعني الفحص والتنقيب ، والمجتهد في المقام يفحص وينقّب عن العلّة بواسطة الوسائل المعتمدة عنده كالاستحسان أو معرفة ذوق الشريعة.

وعبّر عنه بقياس التقسيم باعتبار أنّ المجتهد في مقام الفحص عن العلّة يتناول الموضوع المعلوم الحكم بالتصنيف ، فيلاحظه تارة من جهة هذه الصفة المشتمل عليها وتارة يلاحظه من جهة صفة أخرى هو مشتمل عليها حتى يحصي تمام صفاته التي يمكن أن تكون هي منشأ ثبوت الحكم للموضوع.

وبهذا البيان اتّضح أنّ قياس السبر والتقسيم يتقوّم بأمور ثلاثة :

الأوّل : الأصل وهو الموضوع المعلوم الحكم ، ويعبّر عنه بالمقيس عليه.

الثاني : الفرع وهو الموضوع المجهول الحكم والذي يراد تعدية الحكم الثابت للموضوع الأول له ، ويعبّر عنه بالمقيس.

ص: 172

الثالث : العلّة المستنبطة والتي تكون واسطة في تعدية الحكم من الموضوع الأول إلى الموضوع المجهول الحكم باعتبار أنّ الموضوع الثاني إذا كان واجدا لنفس علّة ثبوت الحكم للموضوع الأوّل فهذا يقتضي اشتراكهما في الحكم.

ولكي يتّضح المطلب أكثر نذكر هذا المثال :

لو أردنا أن نبحث عن مطهريّة مادة الكحول « السبرتو » للخبث فإنّه بالإمكان التعرّف على مطهريتها أو عدم المطهريّة بواسطة قياس السبر والتقسيم ؛ إذ أنّه سيكشف عن علّة مطهريّة الماء للخبث ، فإذا ما وجدنا أنّ مادة الكحول مشتملة على علّة المطهريّة فإنّه يمكن حينئذ تعدية حكم التطهير من الماء إلى مادة الكحول.

ونبدأ بتناول الماء - والذي هو الموضوع المعلوم الحكم - بالتصنيف لصفاته التي يحتمل أن تكون هي المنشأ في ثبوت حكم المطهريّة له فنقول :

أولا : إنّ الماء سائل : فيحتمل أن يكون منشأ مطهريّته هو سيولته ، وهذا الاحتمال بعيد ، لسيولة كثير من المواد رغم عدم مطهريّتها ، فهذا الاحتمال ساقط إذن.

ثانيا : إنّ الماء بارد بالطبع ، فيحتمل أنّه العلّة في ثبوت المطهريّة له ، إلاّ أنّ هذا الاحتمال بعيد أيضا ، وذلك لأنّ الاعتبار العقلائي لا يستسيغ أن تكون البرودة مطهّرة للخبث خصوصا وأنّ البرودة بنفسها لا تزيل عين النجاسة ومن البعيد أنّ الشارع اعتبر البرودة مطهّرة تعبدا ؛ لأنّ التعبديّات لا بدّ وأن تكون مناسبة للاعتبارات العقلائيّة.

ثالثا : إنّ الماء لا لون له ، واحتمال أن يكون هذا هو علّة المطهريّة للماء بعيد جدّا.

ص: 173

وهكذا نستعرض صفات الماء التي من المحتمل أن تكون هي العلّة في ثبوت المطهريّة له إلى أن نظفر بما يصحّ لأن يكون علّة ومناطا في ثبوت المطهريّة للماء ، فإن كانت تلك العلّة موجودة في الموضوع المجهول الحكم أثبتنا له الحكم وإلاّ نفيناه.

وفي مثالنا هناك احتمال قريب إذا تمكنّا من تشييده بالوسائل المعتمدة فإنّه يكون علّة الحكم لمطهرية الماء.

وهو أنّ الماء مزيل للأوساخ والقاذورات ، وهذه الصفة هي التي تميّزه عن سائر السوائل والمواد الأخرى ، والاعتبار العقلائي يساعد على انّ هذه الصفة هي العلّة للمطهريّة ، إذ أنّ الأعراف العقلائيّة على اختلاف مشاربهم يرون للماء هذه الصلاحية ومن البعيد أن يكون منشأ إثبات الشارع المطهريّة للماء غير المنشأ عندهم كما أنّ استبعاد أن تكون الصفات الأخرى هي مناط ثبوت المطهريّة يساهم في نشوء وترسّخ الاطمئنان بكون المناط لثبوت المطهريّة للماء هو إزالته للأوساخ والقاذورات.

فإذا ثبت أنّ هذا هو المناط فحينئذ نعرض هذه الصفة على مادة الكحول ، فإن وجدنا أنّ هذه المادة متوفّرة على هذه الصفة فإنّنا نعدّي الحكم الثابت للماء إلى هذه المادّة ، وبنظرة فاحصة إلى مادة الكحول نجد أنّ هذه الصفة من أبرز سماتها.

وبهذا تثبت المطهريّة الشرعيّة لمادّة الكحول ، هكذا يعرف دين اللّه جلّ وعلا!!!

وتلاحظون أنّ هذا النحو من القياس يقوم على أساس الحدس والاستحسان ، وهو لا ينتج إلاّ الظن ، فلا تثبت له الحجيّة إلاّ مع قيام دليل قطعي على حجيّته ، « ودونه خرط القتاد ».

ص: 174

حجيّة الدليل العقلي

اشارة

كان الكلام - فيما سبق - حول إثبات صغرى الدليل العقلي أي كنّا نبحث عن إثبات وجود المدركات العقليّة التي يمكن أن تقع في طريق استنباط كثير من الأحكام الشرعيّة من مختلف الأبواب الفقهيّة.

وثبوت صغريات الدليل العقلي لا ينهي البحث كما هو واضح ، إذ لا بدّ من إثبات حجيّة هذه المدركات وأنّها صالحة للدليليّة على الحكم الشرعي ، وهذا ما يعبّر عنه بكبرى الدليل العقلي ، فلو تمّ إثبات الحجيّة للدليل العقلي فإنّه يمكن حينئذ تشكيل قياس منطقي ، صغراه تكون إحدى القضايا العقليّة التي تمّ إثبات صحتها وكبراه هي حجيّة ما يدركه العقل.

وبهذا تكون النتيجة هي صلاحيّة الدليل العقلي للكشف عن الحكم الشرعي.

ويمكن تقسيم البحث عن حجيّة الدليل العقلي إلى قسمين :

الأوّل : هو البحث عن حجيّة الدليل العقلي القطعي.

الثاني : هو البحث عن حجيّة الدليل العقلي الظنّي.

أمّا ما يتّصل بحجيّة الدليل العقلي القطعي فباعتبار أنّ الدليل العقلي القطعي منتج لليقين بالحكم الشرعي فالدليل العقلي بهذا يكون حجّة ؛ وذلك لحجيّة القطع بذاته من غير فرق بين أن يكون منشؤه الشرع أو

ص: 175

العقل أو مناشئ أخرى ، وهذا ما تمّ إثباته في مباحث القطع.

إلاّ أنّه ينسب إلى بعض الأخباريّين التفصيل في حجيّة القطع ، فما يكون منه ناشئا عن الشرع فهو حجّة وما يكون منه ناشئا عن العقل فهو ليس بحجّة.

وقد وجّه هذا التفصيل بما لا ينافي البناء على حجيّة القطع مطلقا ، وذلك عن طريق تحويل القطع بالحكم الشرعي المستفاد من الدليل العقلي إلى قطع موضوعي ، وهذا ممكن كما ذكرنا ذلك في مباحث القطع ، وذلك بأن يؤخذ عدم القطع بالحكم الشرعي - الناشئ عن الدليل العقلي - قيدا في فعليّة الحكم الشرعي.

وبهذا يكون كلّ حكم شرعي فهو مقيّد بعدم نشوئه عن القطع العقلي بالحكم الشرعي ، وهذا ما يجعل عدم القطع العقلي موضوعا لفعليّة الحكم الشرعي.

ومثال ذلك أن يقال إنّ وجوب المقدّمة مقيّد بعدم ثبوته بواسطة العقل ، وهذا يعني انّ وجوب المقدّمة لا تكون معه واجبة ، نعم لو ثبت وجوب المقدّمة بواسطة الدليل الشرعي فإنّ المقدّمة حينئذ تكون واجبة ؛ وذلك لتحقّق قيدها وهو عدم الثبوت بواسطة الدليل العقلي.

وبتعبير آخر : إنّ وجوب المقدّمة يمكن أن يكون ثابتا شرعا بنحو مطلق ويمكن أن يكون مقيّدا وحينئذ يكون الوجوب منوطا بتحقّق القيد ، فلو قام الدليل على أنّ الوجوب الشرعي للمقدّمة مقيّد بعدم القطع بالوجوب للمقدّمة بواسطة العقل فهذا يقتضي أنّ الوجوب لا يثبت في حالات القطع به عن طريق العقل ، وهذا لا محذور فيه بعد أن كان منشأ

ص: 176

عدم الثبوت هو انتفاء قيد الوجوب الشرعي والذي هو عدم القطع العقلي بالوجوب ، فالقطع العقلي لمّا أخذ عدمه موضوعا في ثبوت الفعليّة للوجوب فهذا يعني انقلابه من قطع طريقي كاشف عن متعلّقه إلى قطع موضوعي ، والقطع الموضوعي كسائر القيود والموضوعات تابعة لاعتبار المعتبر ، فأي قيد أو موضوع - مهما كانت هويته - إذا اعتبره المعتبر دخيلا في ترتّب الحكم فإنّ الحكم عندئذ يكون منوطا به ويكون منتفيا حين لا يكون متوفّرا ، وبهذا لو قطع المكلّف عقلا بوجوب المقدّمة ولم يكن دليل شرعي على وجوب المقدّمة فإنّ الوجوب للمقدّمة يكون منتفيا لانتفاء قيد الفعليّة للوجوب.

وبهذا البيان يندفع ما قد يقال من أنّ هذا يؤول إلى المنع عن حجيّة القطع الطريقي ؛ وذلك لأنّه إذا كان المكلّف قاطعا بالحكم الشرعي ولو بواسطة العقل ، فإنّه من المستحيل أن يكون قطعه بالحكم الشرعي نافيا للحكم الشرعي ، فإنّ قطعه بالحكم الشرعي يورثه القطع بعدم صحّة هذا القيد ، كما أنّه قد ذكرنا في مباحث القطع أنّ المنع عن حجيّة القطع مستحيل حتى بغضّ النظر عن اعتقاد القاطع أيضا.

إلاّ أنّ هذا الإشكال غير وارد - كما اتّضح ممّا ذكرناه - إذ أنّ المقيّد بعدم القطع العقلي ليس هو الحكم الشرعي بمرتبة الجعل وإنّما المقيّد هو فعليّة الحكم الشرعي أي الحكم بمرتبة المجعول.

فإذا قطع المكلّف بالجعل الشرعي بواسطة العقل فإنّ الحكم الشرعي لا يكون فعليا ؛ وذلك لأنّ الذي أخذ عدم القطع العقلي به في فعليّة الحكم الشرعي هو الجعل الشرعي ، فمتى لم يقطع المكلّف بالجعل الشرعي بواسطة

ص: 177

العقل وإنّما قطع به بواسطة الشرع فإنّ قيد الفعليّة للحكم الشرعي يكون متحقّقا ، ومتى ما تحقّق القطع بواسطة العقل فإنّ فعليّة الحكم تكون منتفية لانتفاء قيدها.

وبهذا يثبت إمكان تحويل القطع الطريقي بالحكم الشرعي بواسطة العقل إلى قطع موضوعي بواسطة اعتبار عدمه قيدا في فعليّة الوجوب.

إلاّ أنّ هذا المقدار لا يثبت الدعوى بالتفصيل ؛ إذ أنّ الإمكان ثبوتا لا يستلزم التقييد إثباتا ، أي أنّ هذه الدعوى وهي تقييد الأحكام الشرعيّة بعدم القطع العقلي بالحكم الشرعي تحتاج إلى دليل إثباتي وهو مفقود.

حجيّة الدليل العقلي الظنّي :

والمراد من الدليل العقلي الظنّي هو كلّ قضيّة يمكن أن تكون عقليّة - لو تمّت - إلاّ أنّه لم يقم البرهان على ثبوتها أي لم يثبت صحّة إدراك العقل لها ، فيكون كشفها عن متعلّقها ليس قطعيّا ، وبهذا لا تكون مثل هذه القضايا من المدركات العقليّة ، إذ أنّ المدركات العقليّة لا تكون إلاّ قطعيّة ، فهي عقليّة استعدادا أو قل توهما.

وذلك مثل قياس السبر والتقسيم الذي يقوم على أساس استنباط العلّة بواسطة الحدس.

والجزم بالنتيجة من مثل هذا القياس يكون من قطع القطاع.

وكذلك الاستقراء الناقص الذي تبتني نتيجته على أساس تتبّع بعض القضايا الجزئيّة المعلومة الحكم ، فإنّ نشوء القطع بالحكم الشرعي عن هذا الطريق يكون من القطع الناشئ عن مقدّمات شخصيّة ؛ إذ أنّ نوع العقلاء لا يكون مثل الاستقراء الناقص مورثا لهم القطع.

ص: 178

وكيف كان فإن حصل القطع بواسطة هذه الوسائل فإنّه يكون حجّة على القاطع به ، وأمّا إذا لم يورث إلاّ الظنّ فهو ليس بحجّة لعدم قيام الدليل القطعي على حجيّة مثل هذه الظنون.

والظنّ بنفسه ليس بحجّة فحينئذ لا يكون إلاّ الشكّ في الحجيّة وهو يساوق القطع بعدمها - كما اتّضح ممّا تقدّم - على أنّه قد قام الدليل القطعي على عدم حجيّة مثل هذه الظنون ، فإن الروايات المانعة عن الاعتماد على مثل هذه الظنون بالغة حدّ التواتر.

ص: 179

ص: 180

الأصول العمليّة

اشارة

1 - القاعدة العمليّة الأوليّة في حالة الشك

2 - القاعدة العمليّة الثانويّة في حالة الشك

3 - الاستصحاب

ص: 181

ص: 182

الأصول العمليّة

وهي الأدلّة المقرّرة لوظيفة المكلّف في ظرف الشكّ في الحكم الشرعي ، فإنّ المكلّف إذا فقد الدليل الكاشف عن الحكم الشرعي الواقعي ، فإنّ ذلك لا يعني انتفاء مسؤوليّته عن البحث عمّا يلزمه تجاه مولاه ؛ إذ أنّ المكلّف وبحكم عبوديّته ملزم بأن تكون كلّ أفعاله جارية على وفق الضوابط الشرعيّة.

ومن هنا تصدى الفقهاء « رضوان اللّه عليهم » للبحث عمّا هي الوظيفة المقرّرة للمكلّف في حال فقدان الدليل المحرز الكاشف عن الحكم الشرعي ، ومن الطبيعي أن تكون للشارع أحكام خاصة بمثل هذه الحالة لما ثبت بالدليل القطعي من أنّه لا تخلو واقعة من حكم ولا تخلو حالة - من حالات المكلّف - من حكم شرعي.

والذي يحدّد الحكم الشرعي للمكلّف في مثل هذه الحالة هو ما يعبّر عنه بالأصل العملي أو بالدليل العملي ، وهذا ما سيتمّ بحثه في هذا الباب إن شاء اللّه تعالى.

ص: 183

ص: 184

القاعدة العمليّة الأوليّة في حالة الشك

اشارة

ذكرنا فيما سبق أنّ الأصول العمليّة لا يلجأ إليها إلاّ حين افتقاد الدليل المحرز أو إجماله ، إذ أنّ موضوع الأصول العمليّة هو الشك في الحكم الشرعي الواقعي ، وهذا الموضوع لا يتنقّح إلا حين فقدان الدليل المحرز أو عدم إمكان الاستفادة منه بسبب إجماله.

وذكرنا أيضا أنّ الأصول العمليّة مترتّبة في المرجعيّة ، فالأصول التي موضوعها الشكّ مع إضافة قيد زائد تكون متقدّمة في مقام المرجعيّة على الأصول الفاقدة لذلك القيد ، فالمبرّر لتقدّم الاستصحاب مثلا على البراءة العقليّة والاحتياط العقلي هو اشتمال موضوعه على قيد زائد وهو اليقين السابق.

ومن هنا يتّضح المراد من الأصل العملي الأولي ، إذ المراد منه المرجع العام حين فقدان الأدلّة المحرزة والأصول العمليّة ذات القيد الإضافي.

وبعبارة أخرى : الأصل العملي الأولي هو الذي يكون موضوعه الشكّ أو قل عدم العلم فحسب دون إضافة قيد زائد ، وبهذا يخرج الاستصحاب مثلا لأنّ موضوعه الشك المسبوق باليقين ، وتخرج أيضا قاعدة منجزيّة العلم الإجمالي لأنّ موضوعها الشكّ المقرون بالعلم الإجمالي وهكذا.

والبحث في المقام يقع عن الأصل العملي الأولي ، وهل هو البراءة

ص: 185

العقليّة أو هو الاحتياط العقلي؟

فهنا اتّجاهان ، اتّجاه يبني على أنّ الأصل العملي الأولي هو البراءة العقليّة والتي تعني أنّ المكلّف في سعة من جهة التكاليف الإلزاميّة الواقعيّة في حال عدم العلم بها.

ومبرّر هذه الدعوى هو ما يحكم به العقل من قبح العقاب بلا بيان ، وهذا يقتضي أنّ حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا مختص بحال العلم بالتكليف الإلزامي ، فما لم يكن المكلّف عالما بالتكليف فإنّه ليس للمولى أن يطالبه بامتثال ذلك التكليف ، فالمكلّف في سعة من جهة ذلك التكليف أي أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان تؤمن المكلّف من العقاب لو اتّفق مخالفته للحكم الواقعي الإلزامي المجهول ؛ وذلك لعدم اتّساع دائرة حقّ الطاعة للمولى لحالات الجهل المجامع للظنّ أو الاحتمال.

الاتّجاه الثاني :

وهو الذي يبني على أنّ الأصل العملي الأولي هو الاحتياط والاشتغال العقلي ، أي انّ المكلّف ملزم عقلا بالاحتياط في حالات الظنّ والاحتمال بالتكليف الإلزامي وأنّه لا يعذر في ترك التكليف الواقعي وإن كان ذلك التكليف مجهولا ، إذ يكفي في منجّزية التكليف الواقعي احتماله أو الظنّ بوجوده ، فالظنّ والاحتمال منجّزان للتكليف الواقعي عقلا ، نعم لا يكون المكلّف مسؤولا عن التكليف الواقعي لو كان يقطع بعدم وجود التكليف ؛ لأنّ القطع معذّر بذاته - كما تقدّم -.

وهذا الاتّجاه هو المعبّر عنه بمسلك حقّ الطاعة ، وهو يعني اتّساع دائرة حقّ الطاعة لحالات الظنّ والاحتمال ، فالمكلّف لا يكون مسؤولا عن التكاليف المعلومة فحسب بل عنها وعن التكاليف المحتملة والمظنونة ، نعم

ص: 186

لو أذن المولى في ترك التكاليف المظنونة والمحتملة فإنّ المكلّف حينئذ يكون في سعة من جهتها ، إلاّ أنّ هذا لا يعني عدم استحقاقه بل يعني التنازل عن حقّه جلّ وعلا.

وقد ذكرنا فيما سبق أنّ منجزيّة التكاليف المظنونة والمحتملة معلّقة على عدم الترخيص ، وهذا بخلاف التكاليف المعلومة فإنّ الترخيص في تركها يعني المنع عن حجيّة القطع وقد قلنا باستحالته.

وكيف كان فقد استدلّ المحقّق النائيني رحمه اللّه - كما يستفاد من كلماته - على صحّة الاتّجاه الأوّل « البراءة العقليّة » بدليلين :

الدليل الأوّل : إنّ التكليف الإلزامي ما دام مجهولا فلا مقتضي للانبعاث نحو امتثاله ؛ إذ الباعث نحو امتثال التكليف إنّما هو العلم بوجوده ، أمّا وجوده في نفس الأمر والواقع فلا يستوجب البعث والتحريك عينا كسائر الأخطار فإنّها إنّما توجب الفرار والتجنّب عنها إذا كانت معلومة ، أمّا إذا كان الخطر موجودا إلاّ أنّه غير معلوم فإنّه لا يكون حينئذ دافع للإنسان نحو الفرار منه ، بل قد يقع في الخطر عن محض اختيار بتوهّم صلاحه وفائدته ، وهذا ما يكشف عن أنّ الوجود الواقعي للخطر ليس موجبا للتحرّك نحو الفرار عنه وإنّما الموجب لذلك هو العلم به ؛ فلذلك ترى الطفل يداعب الثعبان لعدم إدراكه بخطورته وقد يفرّ من الإنسان الوديع ذي الوجه القبيح لتوهّمه بخطورته ، وقد تجد الإنسان واقفا لا يحرّك ساكنا والذئب من ورائه وما ذلك إلاّ لعدم علمه بوجوده ، كلّ ذلك يعبّر عن أنّ الباعث والمحرّك إنّما هو العلم وليس الوجود الواقعي ، وإذا كان كذلك فالتكليف لمّا كان مجهولا فلا شيء يقتضي التحرّك والانبعاث نحو امتثاله ، وإدانة المكلّف بعد ذلك على عدم الانبعاث نحو امتثال التكليف يكون قبيحا بعد أن لم يكن

ص: 187

هناك موجب للتحرّك والانبعاث.

فكما لا يلوم العقلاء من وقع ضحيّة للذئب لغفلته أو جهله بوجوده ويرون معاتبته والسخريّة منه قبيحة فكذلك المقام ، إذ لو اتّفق وقوعه في مخالفة التكليف الواقعي فإنّه لا يكون مسؤولا عن ذلك التكليف لأنّ جعل المسؤوليّة عليه رغم جهله قبيح بنظر العقلاء.

والجواب عن هذا الدليل :

إنّه لا نسلّم أنّ الباعث للمكلّف نحو امتثال التكليف هو العلم بوجود تكليف مولوي إلزامي بل إنّ ذلك مرتبط بحدود حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا ، فلو كان حقّ الطاعة شاملا للتكاليف المحتملة لكان الاحتمال وحده كافيا في البعث نحو امتثال التكاليف المحتملة.

وبعبارة أخرى : إنّ الموجب للانبعاث نحو تحصيل مرادات المولى جلّ وعلا يتحدّد بتحديد دائرة حقّ الطاعة للمولى فإذا ثبت أنّ دائرة حقّ الطاعة للمولى تتّسع لتشمل التكاليف المحتملة والمظنونة فإن مجرّد الظن والاحتمال بوجود التكليف يكون موجبا للتحرّك نحو الامتثال والخروج عن عهدة الحقّ المفروض عليه بحكم عبوديّته للمولى جلّ وعلا. إذن لا بدّ أولا من تحديد دائرة حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا ، فادعاء أنّ المكلّف لا يكون مسؤولا عن غير التكاليف المعلومة يكون مصادرة على الدعوى ، إذ أنّ ذلك هو محلّ النزاع والذي نطالب بالبرهان عليه ، فنحن نبحث عن حدود حقّ الطاعة فإذا قلت انّ المكلّف مسؤول عن التكاليف المعلومة فحسب وانّه غير مسؤول في حالات الظنّ والاحتمال بالتكليف فهذا هو عين ما نبحث عن دليله أي أنّ هذا الدليل هو عين الدعوى التي نبحث عن صحّتها أو فسادها.

ص: 188

نعم لو قلت إنّنا قبل هذا الدليل كنّا نبحث عن حدود حقّ الطاعة وبهذا الدليل ثبت أنّ حدودها مختصّ بحالات العلم بالتكاليف ؛ إذ أنّ العلم هو الموجب الوحيد للانبعاث نحو امتثال تكاليف المولى جلّ وعلا.

كان الجواب أنّ ذلك ليس هو الموجب الوحيد للتحرّك والانبعاث ، فالاحتمال والظنّ بالتكليف أيضا باعثان ومحرّكان للطاعة وامتثال التكاليف المولويّة ؛ وذلك لأنّنا ندّعي اتّساع حقّ الطاعة لحالات الظنّ والاحتمال ، ومع التوجّه لسعة حدود حقّ الطاعة يكون ذلك موجبا لأن يتحرّك المكلّف لغرض الخروج عن عهدة الحقّ المفروض عليه.

والعقلاء لا يأبون ذلك ، فلو أنّ المولى العرفي قال لعبيده متى ما احتملتم تعلّق إرادتي بإيجاد فعل فإنّه يلزمكم الإتيان به فإنّه لو عاقب المولى بعد ذلك عبيده في حال عدم التحرّك عن الاحتمال فإنّه لا يكون ملاما من العقلاء ؛ وذلك لإدراكهم بأنّ الاحتمال صار موضوعا لتنجّز الحق للمولى على عبيده.

الدليل الثاني : - على الاتجاه الأول - هو أنّ المتبانى العقلائي قاض بقبح معاقبة السيّد عبيده على مخالفة أوامره في حال جهلهم بها ، فالعقلاء لا يرون لهذا السيّد حقّا في أن تمتثل أوامره ولا يرون له الحقّ في معاقبة عبيده على ترك امتثال تلك الأوامر المجهولة ؛ فلذلك تجد أنّ السيرة العقلائيّة جارية على عدم محاسبة الجاهل للقوانين لو اتّفق مخالفته لها ويستبشعون معاقبته على المخالفة.

والجواب عن هذا الدليل :

أنّ السيرة العقلائيّة الجارية على اختصاص حقّ الطاعة للمولى العرفي بالأوامر المعلومة مسلّم ولا إشكال فيه ، إلاّ أنّ هذا التحديد لحقّ

ص: 189

الطاعة للمولى العرفي إنّما نشأ عن الاعتبار العقلائي ؛ ولذلك تكون حدود هذا الحقّ تابعة لحدود الاعتبار ، فلو كان المعتبر أوسع من هذه الدائرة لكان ذلك يقتضي اتّساع حدود الحقّ ولو كان أضيق لاقتضى ذلك ضيق دائرة الحقّ ، فضيق أوسعة دائرة حقّ الطاعة للمولى العرفي تابع لاعتبار من له حقّ الاعتبار وهم العقلاء مثلا أو من يحترم العقلاء اعتباره ، فتبانيهم إذن على أنّ الحقّ الثابت للمولى العرفي مختصّ بحالات العلم نشأ عن ضيق دائرة الاعتبار العقلائي.

والمقام ليس من هذا القبيل ؛ وذلك لأنّ حقّ الطاعة لله جلّ وعلا ليس تابعا للجعل والاعتبار العقلائي حتّى تتحدّد بحدود الاعتبار العقلائي وإنّما هو مدرك عقلي قطعي وليس خاضعا للجعل والاعتبار ، فالعقل يدرك أنّ حقّ الطاعة للمولى من اللوازم الذاتيّة لمولويّة المولى جلّ وعلا ، فكما أنّ النار تستلزم بذاتها الحرارة فكذلك مولويّة المولى الحقيقي تستلزم استحقاقه للطاعة ، إذن فباعتبار أنّ حقّ الطاعة من مدركات العقل فلابدّ أن يكون تحديد حقّ الطاعة - وأنّها خاصّة بالتكاليف المعلومة أو أنّها تشمل التكاليف المظنونة والمحتملة - من شؤون المدرك العقلي ، وإذا رجعنا إلى عقولنا نجد انّ حدود حقّ الطاعة للمولى جلّ وعلا شاملة لحالات الظنّ والاحتمال بالتكليف.

والمتحصّل أن مدركات العقل العملي قاضية باتّساع حقّ الطاعة لمطلق التكاليف الواصلة ولو بنحو الاحتمال ، والشاهد على ذلك هو الوجدان.

وبهذا يثبت أنّ الأصل العملي الأولي هو الاحتياط العقلي أي تنجّز التكاليف الواصلة ولو بنحو الاحتمال إلاّ أنّ يتنازل المولى عن حقّه فيرخّص في ترك التكاليف المظنونة والمحتملة.

ص: 190

القاعدة العمليّة الثانويّة في حال الشكّ

اشارة

قلنا فيما سبق إنّ العقل يحكم بلزوم الاحتياط في موارد الظنّ والاحتمال بالتكليف وإنّ ذلك هو الأصل العملي الأولي.

وذكرنا أيضا أنّ هذا الأصل وإن كان من مقتضيات حقّ الطاعة للمولى إلاّ أنّ للمولى أن يتنازل عن هذا الحقّ فيرخص في ترك التكاليف المنكشفة بنحو الظنّ أو الاحتمال ، فعليه يكون الاحتياط العقلي معلّقا على عدم الترخيص الشرعي في حالات الظنّ والاحتمال ، فلو جاء ما يدلّ على ترخيص المولى في ترك التكاليف المظنونة والمحتملة فإنّ ذلك يكون نافيا لموضوع الاحتياط العقلي ؛ إذ أنّ موضوعه هو الشكّ مع عدم الترخيص فمع تحقّق الترخيص ينتفي لزوم الاحتياط لانتفاء موضوعه - وهو عدم الترخيص -.

وبتعبير آخر : إنّ لزوم الاحتياط العقلي لمّا كان مقيّدا بعدم الترخيص الشرعي فهذا يقتضي انتفاء قيد الاحتياط العقلي ، إذ أنّ قيده هو عدم الترخيص وفرض الكلام هو تحقّق الترخيص.

وبهذا البيان يتّضح أنّه لا مانع ثبوتا من الترخيص الشرعي في ترك الاحتياط العقلي ، وإنّما الكلام في إثبات وجود ترخيص شرعي لترك

ص: 191

الاحتياط العقلي وأنّ المولى قد وسّع على عباده تفضلا وأمّنهم عقوبة المخالفة لما يقتضيه الاحتياط العقلي.

ولهذا تصدّى علماء الأصول للبحث عن الأدلّة الإثباتيّة على الترخيص الشرعي والمعبّر عنه بالبراءة الشرعية.

ويمكن تصنيف الأدلّة التي استدلّ بها على البراءة الشرعيّة إلى قسمين :

الأوّل : هو القرآن الكريم.

الثاني : هو السنّة الشريفة.

أمّا الاستدلال بالقرآن الكريم :

فقد استدلّ بمجموعة من الآيات :

منها : قوله سبحانه وتعالى : ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (1) ولكي يتّضح تقريب الاستدلال نذكر تمام الآية الكريمة ( لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللّهُ لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً ) (2).

وتقريب الاستدلال بهذه الآية الكريمة :

إنّ الاسم الموصول في الآية الكريمة « ما » له أربعة احتمالات والاحتمال الثالث أو الرابع هو المطلوب إثباته حتّى تكون الآية صالحة للاستدلال.

ص: 192


1- سورة الطلاق آية 7.
2- سورة الطلاق آية 7.

الاحتمال الأوّل : أن يكون المراد من الاسم الموصول هو المال ، فيكون معنى الآية بناء على هذا الاحتمال أنّه لا يكلّف اللّه أحدا مالا « أي إنفاق مال » إلاّ بالمقدار الذي يملكه ، أمّا إذا لم يكن مالكا للمال فلا تجب عليه النفقة.

الاحتمال الثاني : أن يكون المراد من الاسم الموصول هو الفعل ، فيكون معنى الآية بناء على هذا الاحتمال هو أنّ اللّه تعالى لا يكلّف أحدا فعلا من الأفعال إلاّ أن يكون قد أقدره على ذلك الفعل ، أي أنّ المكلّف لا يسأل عن امتثال فعل لا يطيقه.

الاحتمال الثالث : أن يكون المراد من الاسم الموصول هو التكليف فيكون معنى الآية الكريمة - بناء على هذا الاحتمال - هو أنّ اللّه عزّ وجل لا يسأل عن تكليف إلاّ أن يكون قد أوصله إلى المكلّف ، أي : إلاّ أن يكون ذلك التكليف معلوما للمكلّف ، وهذا يعني عدم التكليف في ظرف عدم العلم ، ولو كان هذا الاحتمال هو المتعيّن من الآية الكريمة لكانت دالّة على المطلوب ، إذ به تثبت عدم مسؤوليّة المكلّف عن التكاليف غير المعلومة وهو معنى البراءة الشرعيّة.

الاحتمال الرابع : هو أن يكون المراد من الاسم الموصول هو الجامع بين هذه الأمور الثلاثة ، فيكون التكليف بكلّ واحد من هذه

الثلاثة بحسبه ، أي بما يتناسب معه.

أمّا الاحتمال الأول فهو القدر المتيقّن من الآية الكريمة ؛ وذلك لأنّ مساق الآية الكريمة هو النفقة على الزوجة المطلّقة ما دامت في العدّة ، وهذا ما يناسب أن يكون الاسم الموصول « ما » هو المال ؛ وذلك لاستبعاد أن

ص: 193

يكون المورد غير مراد ويكون غيره هو المراد.

وأمّا الاحتمال الثاني والثالث فلا يمكن أن يكون أحدهما أو كلاهما مرادا بعينه بحيث لا يكون الاحتمال الأول مرادا معهما ؛ وذلك لأنّ الاحتمال الأوّل هو مورد الآية الكريمة بقرينة السياق ، كما أنّه لا قرينة على تعيّن أحد الاحتمالين الثاني والثالث أو تعينهما معا.

وأمّا الاحتمال الرابع - وهو أن يكون المراد من الاسم الموصول هو الجامع الشامل للمعاني الثلاثة - فهو المستظهر من الآية الكريمة ، ومبرّر هذا الاستظهار هو الإطلاق وقرينة الحكمة ؛ وذلك لأنّ الظاهر من الآية هو أنّها في مقام تأسيس كبرى كليّة مفادها أنّ اللّه جلّ وعلا لا يكلّف بتكليف إلاّ أن يكون ذلك التكليف قد هيّأ مبرّرات امتثاله ؛ إذ مع عدم وجود المال لا يتهيّأ للمكلّف الإنفاق ومع عدم القدرة لا يتهيأ للمكلّف الإتيان بالمأمور به ، ومع عدم وصول التكليف لا يكون هناك دافع للتحرّك نحو امتثاله.

فالآية الكريمة وان كان موردها النفقة إلاّ أنّ ذلك لا يعني عدم انعقاد الإطلاق لها ؛ وذلك لعدم صلاحيّة المورد للقرينيّة على الاختصاص ، إذ أنّنا لا نقول إنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب صالح لهدم الإطلاق أو عدم انعقاده.

فلو كان المولى مريدا لخصوص المال لكان عليه أن يبرز قرينة على ذلك ، فعدم ذكر القرينة على إرادة خصوص المال رغم أنّه في مقام البيان كاشف عن عدم إرادة المال بالخصوص ، وهذا ما ينتج الإطلاق ، وبهذا يثبت - وبمقتضى الإطلاق أنّ التكليف غير المعلوم لا يسأل اللّه المكلّف عنه وهذا هو معنى البراءة الشرعيّة.

ص: 194

الإشكال على الاستدلال بالآية الكريمة :

وقد أورد الشيخ الأنصاري رحمه اللّه على هذا التقريب للاستدلال بما حاصله :

إنّ إرادة المال من الاسم الموصول تعني أنّ الاسم الموصول « ما » مفعول به للفعل المضارع « يكلّف » وهذا ما يقتضي مغايرة الفعل « يكلّف » لمفعوله « ما » ؛ وذلك لأنّ الفعل دائما يغاير - من حيث المادة - مفعوله ، والتغاير في المادّة يقتضي التغاير في المفهوم أي أنّ مفهوم مادّة الفعل تختلف دائما عن مفهوم مادة المفعول به ، وبهذا تكون نسبة الفعل لمفعوله نسبة المغاير لمغايره ، فالنسبة بين « الضرب » و « عمرو » في قولنا « ضرب زيد عمروا » هي نسبة المفهومين المتباينين ؛ إذ أنّ معنى الضرب من « ضرب » مباين لمعنى « عمرو » والذي هو المفعول به.

وكذلك الكلام في المقام لو بنينا على أنّ الاسم الموصول هو « المال » ؛ إذ العلاقة حينئذ تكون علاقة المفهومين المتغايرين ؛ وذلك لأنّ « المال » في الآية موقعه موقع المفعول به للفعل المضارع « يكلّف ».

ولو كان المراد من الاسم الموصول هو التكليف لكان الاسم الموصول في موقع المفعول المطلق للفعل « يكلّف » هكذا « لا يكلّف اللّه إلاّ تكليفا » وهذا يقتضي أن تكون العلاقة بين الفعل والاسم الموصول علاقة الحدث بحالة من حالاته ؛ وذلك لأنّ المفعول المطلق دائما يكون مسانخا لفعله ، غايته أنّه يضفي عليه توضيحا قد لا ينفهم من الفعل بمجرده ، فالمفعول المطلق إمّا أن يؤكّد فعله أو يبيّن نوعه أو يحدّد عدده ، ومن الواضح أن

ص: 195

تأكيد الفعل لا يعبّر إلاّ عن اشتداد الحدث ، والاشتداد لا يغاير الحدث وإنّما يكشف عن أنّ مرتبة الحدث كانت شديدة ، فالاشتداد والضعف في الحدث هما من سنخ الحدث وليسا شيئا عارضا على الحدث ، فالحدث إمّا أن يكون شديدا أو ضعيفا ، ويمكن توضيح ذلك بالمفاهيم المشكّكة ، فإنّ صدق النور على الشمس كصدقه على المصباح وإن كانا يتفاوتان شدّة وضعفا.

« فالضرب » في قولنا « ضرب زيد عمروا » هو عينه « الضرب » في قولنا « ضربه ضربا » ، غايته أنّ المفعول المطلق في المثال الثاني كشف عن أنّ مرتبة الضرب كانت شديدة.

ولو كان المفعول المطلق مبينا للنوع فهذا أيضا لا يعبّر عن التغاير بين الفعل ومفعوله المطلق ؛ وذلك لأنّ بيان النوع بيان لواقع الحدث ، إذ انّ صدق الحدث على أنواعه يكون بمستوى واحد ، فالحدث بمثابة الجنس والذي هو الحقيقة المشتركة الجامعة لتمام أنواعها ، ولا يتفاوت صدق الجنس على أنواعه ، فلا يكون النوع معنى مباينا لجنسه بل هو مسانخ له تمام التسانخ ، غايته أنّ لكلّ نوع ما يميّزه عن سائر الأنواع التي يشترك معها في الانضواء تحت الجنس.

والمفعول المطلق يبين أحد هذه الأنواع والتي تعبّر عن حالة من حالات الجنس « الحدث » ، فحينما يقال « جلست جلسة زيد » فإنّ المفعول المطلق « جلسة » هو عين الحدث « جلست » غايته أنّ المفعول المطلق قد أضفى على الحدث توضيحا - وهو بيان نوعه - وإلاّ فالحدث في واقعه لا بدّ أن يكون متنوعا بأحد أنواعه إذ لا يمكن أن يوجد الحدث إلاّ في إطار أحد أنواعه ، وعليه فيكون دور المفعول المطلق دور الكاشف عن

ص: 196

ذلك النوع الذي وقع الحدث في إطاره.

وبهذا اتّضح أن المفعول المطلق المبين لنوع الحدث ليس شيئا مغايرا للحدث وإنّما هو حالة من حالاته ، فالجنس والذي هو الحدث يتحوّل من حال إلى حال تبعا لوقوعه في إطار أنواعه.

ولو كان المفعول المطلق محددا للعدد فهذا أيضا لا يقتضي التغاير بين الفعل ومفعوله المطلق ؛ إذ أنّ المفعول المطلق حينئذ لا يقتضي أكثر من ترامي الحدث واستمراره بمقدار العدد ، فحينما يقال « خطوت خطوتين » فهذا يعني استمرار الحدث بمقدار خطوتين ، فالمفعول المطلق هنا يعبّر أيضا عن حالة من حالات الحدث.

وبهذا البيان اتّضح أنّ العلاقة بين الفعل والمفعول به تختلف عن العلاقة بين الفعل والمفعول المطلق ، وهذا يعني عدم وجود جامع بينهما ، فإمّا أن يكون الاسم الموصول مفعولا به للفعل « يكلّف » وإمّا أن يكون مفعولا مطلقا ويستحيل أن يكون المراد هو الجامع بينهما لتباين علاقة كلّ واحد بالفعل ، وإذا كانا متباينين فلا يمكن أن يكون بينهما جامع ؛ وذلك لأنّ مقتضى أنّ المراد من الاسم الموصول الجامع هو إرادة معنيين متباينين في عرض واحد ؛ وذلك لأنّ العلاقة بين الفعل ومفعوله تباين العلاقة بين الفعل ومفعوله المطلق ففي الوقت الذي يكون المراد هو العلاقة الأولى يكون المراد هو العلاقة الثانية - المباينة للأولى - ، وهو مستحيل لاستحالة استعمال اللفظ في معنيين متباينين في عرض واحد ؛ لأنّه يؤول إلى وجود لحاظين متباينين على ملحوظ واحد وهو مستحيل.

فمثلا لفظ العين يمكن استعماله وإرادة العين الباصرة ويمكن استعماله

ص: 197

استعمالا آخر وإرادة العين الجارية ، أمّا أن نستعمله استعمالا واحدا ونريد منه الباصرة والجارية فهذا مستحيل ؛ لأنّ ذلك يقتضي أن تلحظ العين بلحاظين متباينين في عرض واحد ، وذلك لأنّه حينما يستعمل لفظ في معنى فإنّه لا بدّ من تصوّر المعنى أولا وتصوّر اللفظ الذي يراد استعماله لإفادة المعنى ، وحينما يكون الإنسان متصورا لذلك المعنى فإنّ ذهنه لا يمكن أن يكون مشتغلا بمعنى آخر ؛ إذ أنّ صفحة الذهن تكون مشغولة بالمعنى الأول ومن الواضح أنّ المشغول لا يشغل إلاّ أن تخلو صفحة الذهن عن المعنى الأوّل فإنّه بالإمكان حينئذ أن يحلّ المعنى الثاني محلّ المعنى الأول ، وهذا يقتضي الترتّب بينهما وبهذا تثبت استحالة اجتماع معنيين في صفحة الذهن في عرض واحد.

وإذا كان ذلك مستحيلا فإنّ إرادة الجامع من الاسم الموصول يكون مستحيلا ؛ لأنّه يؤول إلى استعمال لفظ واحد وإرادة معنيين متباينين.

ومنها : قوله تعالى ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1).

تقريب الاستدلال بالآية الكريمة :

إنّ الرسول في الآية الكريمة جيء به للتعبير عن البيان ، إذ أنّ الرسول مصداق لوسيلة الكشف عن الأحكام الشرعيّة ، وبهذا تكون الآية الكريمة دالّة على نفي العقاب والإدانة في حالة عدم البيان ، فمعنى أنّ اللّه لا يعذّب إلاّ في حالة بعث الرسول هو أنّ اللّه عزّ وجل لا يعاقب على ترك التكاليف الواقعيّة ما لم يبينها ، ومن الواضح أنّه مع الجهل بالتكليف الواقعي يكون

ص: 198


1- سورة الإسراء آية 15.

ذلك التكليف غير مبيّن فيكون تركه حينئذ غير مستتبع للعقاب ، وهذا هو معنى البراءة الشرعيّة ، إذ أنّها تؤمّن من العقاب على مخالفة التكليف الواقعي في ظرف الجهل وعدم البيان.

والجواب على الاستدلال بالآية الكريمة :

إنّ صلاحيّة الآية الكريمة للدلالة على البراءة الشرعيّة ينشأ عن كون الرسول مثالا للبيان ، فيكون معنى الآية كما ذكرنا أنّ اللّه لا يعذّب على مخالفة تكليف غير مبيّن ، أما لو لم نسلّم بأن عنوان الرسول مثال للبيان وإنّما هو مثال لصدور البيان فهنا لا تكون الآية دالّة على البراءة الشرعيّة ؛ وذلك لأنّ معنى الآية بناء على هذا الاحتمال هو أنّ اللّه لا يعذّب أحدا إلاّ بعد صدور البيان عنه جلّ وعلا ، ومن الواضح أنّ صدور البيان لا يلازم وصوله ، وهذا يعني سكوت الآية عن نفي العقاب في حال عدم وصوله ؛ لأنّها لمّا كانت متصدّية لخصوص نفي العقاب في حال عدم صدور البيان وقلنا بعدم الملازمة بين الصدور والوصول ، فقد يصدر البيان ولا يصل ، في هذه الحالة لا تكون الآية مؤمّنة عن العقاب ، إذ أنّها أمّنت من العقاب في حال عدم الصدور ، وهنا الصدور متحقّق - كما هو المفترض - وإن كان وصول البيان غير متحقّق.

والاحتمال الثاني هو المستظهر من الآية الكريمة ؛ وذلك لأنّ المناسب لعنوان الرسول هو صدور البيان لا وصوله ، إذ أنّ بعث الرسول لا يساوق وصول الأحكام الإلهيّة لكلّ أحد إلاّ أنّه يساوق صدور الأحكام عن اللّه جلّ وعلا بواسطة الرسول.

وإذا كان المستظهر من الآية هو المعنى الثاني فلا تكون صالحة لأن

ص: 199

يستدل بها على البراءة الشرعية.

ومنها : قوله تعالى ( قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) (1).

وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة :

إنّ الآية في مقام بيان ما يحتج به على الذين يلتزمون بالتزامات يزعمون أنّها عن اللّه جلّ وعلا ، فالآية الكريمة ترشد إلى أنّ الاحتجاج يكون بهذا البيان وهو أنّ ما تزعمون أنّه حرام شرعي لا نجد عليه دليلا من الوحي الإلهي ، وهذا النحو من الاحتجاج يعبّر عن أنّ عدم وجدان ما يدلّ على حرمة شيء من الوحي الإلهي يقتضي عدم لزوم الالتزام بتركه ، وهو يعني جواز ارتكاب ما يحتمل حرمته إذا لم يكن دليل من الوحي الإلهي.

وهذا هو معنى البراءة الشرعيّة التي يكون موضوعها عدم وجدان الدليل على التكليف الإلزامي.

والجواب عن الاستدلال بالآية الكريمة :

إنّ الآية الكريمة وإن كانت بصدد بيان ما يحتج به على من يلتزم بالتزامات يزعم أنّها عن اللّه جلّ وعلا إلاّ أنّ من الواضح أنّ هذا النحو من الاحتجاج لا يصلح لأن يحتج به كلّ أحد ؛ لأنّه متقوم بالاطلاع التام على الوحي الإلهي ، وهذا لا يكون إلاّ لمثل الرسول الكريم صلی اللّه علیه و آله فهو الذي

ص: 200


1- سورة الأنعام آية 145.

يتسطيع أن يقول لم أجد فيما أوحي إليّ ، وعدم وجدانه لحرمة ما يزعمون أنّه حرام يلازم عدم وجود الحرمة.

ومن هنا يتّضح عدم صلاحيّة الآية الكريمة للاستدلال بها على البراءة الشرعيّة ؛ وذلك لأنّ دلالتها على البراءة متوقف على استظهار الملازمة بين عدم وجدان ما يدلّ على الحرمة وعدم وجود الحرمة واقعا أي عدم لزوم الالتزام بحرمة لم يجد عليها دليل ، وهذا الاستظهار غير تام لعدم الملازمة واقعا بين عدم الوجدان وعدم الوجود ؛ إذ لعلّ الحرمة تكون موجودة ومع ذلك لم يطّلع عليها المكلّف.

وإذا لم تكن الملازمة تامة فلا سبيل لاستظهار عدم لزوم الالتزام بالحرمة في حال عدم وجدان دليل على الحرمة.

ومنها : قوله تعالى ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) (1).

وتقريب الاستدلال بالآية الكريمة :

إنّه لا إشكال ولا ريب أنّ نسبة الإضلال إلى اللّه جلّ وعلا يستبطن معنى العقوبة ، وإذا كان كذلك فنفيها في حال عدم البيان يساوق نفي العقوبة في حال عدم البيان ، ولمّا كان البيان في الآية الكريمة قد أضيف إلى المكلفين « يبين لهم » فهذا يعبّر عن أنّ مساق الآية إنّما هو البيان الواصل.

وبتماميّة هذه المقدّمات الثلاث يتمّ الاستدلال بالآية الكريمة على البراءة الشرعيّة ، إذ يكون معنى الآية حينئذ هو أنّ اللّه جلّ وعلا لا يعاقب

ص: 201


1- سورة التوبة آية 115.

في حال عدم إيصال البيان للمكلّفين ، وهو معنى البراءة الشرعية. وأمّا الاستدلال بالسنّة الشريفة :

فقد استدلّ بمجموعة من الروايات :

منها : ما روي عن الإمام الصادق علیه السلام « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » (1) ، والذي يرتكز عليه الاستدلال بالرواية الشريفة هو استظهار معنى السعة وإطلاق العنان من قوله « كلّ شيء مطلق » ، واستظهار معنى الوصول من قوله « حتى يرد » ، فلو كان المراد - من قوله صلی اللّه علیه و آله « كلّ شيء مطلق حتى يرد فيه نهي » هو أنّ كلّ تكليف فهو غير ملزم ما لم يصل بيان من الشارع ينهى عن تركه أو ينهى عن فعله - لكان الاستدلال بالرواية الشريفة على البراءة الشرعيّة تامّ.

ويمكن دعوى أن هذا الاستظهار هو المتعيّن من الرواية الشريفة ؛ وذلك لأنّه لا ريب أنّ معنى الإطلاق يقابل التقييد والتضييق ، فدابّة مطلقة أي أنّ لها حرية الحركة ولا يعوقها عن الحركة عائق وذلك في مقابل الدابة المقيّدة حيث لا يكون لها حريّة التحرّك ، إذ أنّ القيد يمنعها عن الحركة الاختيارية ، فكذلك المكلّف مطلق العنان فإنّ له أن يفعل وله أن لا يفعل ، وهذا يعني أنّه في سعة من جهة القيام بالفعل أو عدم القيام بالفعل.

وكذلك معنى الورود فإنّ المتفاهم عرفا من معنى الورود هو الوصول ، فحينما يقال وردت الإبل الماء أي وصلت للماء ، وبهذا تكون

ص: 202


1- الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 67 ، وهي مرسلة الصدوق وقد عبّر عنها « بقال الصادق » ممّا يشعر بجزمه باعتبار الرواية.

الرواية دالّة على المطلوب.

والجواب عن الاستدلال بالرواية الشريفة :

إنّه وإن كنّا نسلّم بأن الإطلاق يعني السعة وإطلاق العنان إلاّ أنّنا لا نسلّم بكون المتعيّن من معنى الورود هو الوصول ، إذ قد يطلق الورود ويراد منه الصدور ، وبناء على هذا الاحتمال لا تكون الرواية دالّة على المطلوب ؛ وذلك لأنّ الصدور أعمّ من الوصول فقد يصدر التكليف من الشارع إلاّ أنّه لا يصل إلى المكلّف ، والإطلاق إنّما علّق - بناء على هذا الاحتمال - على الصدور فيكون مفاد الرواية أنّ المكلّف مطلق العنان حال عدم صدور التكليف ، ومن أين للمكلّف إحراز عدم الصدور في حال عدم الوصول بعد إن لم تكن هناك ملازمة بينهما؟!

فلو كان المتعيّن من الرواية هو الاحتمال الثاني فهي ساقطة عن الاستدلال بلا إشكال ، أما لو لم يكن المعنى الثاني متعيّنا فلا أقلّ من احتماله واحتمال المعنى الأول ، وبذلك تكون الرواية مجملة ، فلا تصلح للاستدلال.

ودعوى أنّ المعنى الأوّل هو المتعين وهو المستظهر من الرواية الشريفة - وذلك لأنّ الورود يستلزم معنى الوفود والوصول ولا يأتي بمعنى الصدور غير المتحيّث بحيثيّة الوصول - لا يثبت المطلوب ؛ وذلك لأنّه لو سلّمنا بذلك فهو لا يعني أكثر من وصول ووفود النهي على شيء ، وهذا الشيء إمّا المكلّف وإمّا المنهي عنه.

ووصول النهي للمكلّف هو الذي يثبت المطلوب « البراءة » إلاّ أنّه غير متعيّن لاحتمال إرادة الثاني وهو وصول ووفود النهي على المنهي عنه والذي لا يستلزم الوصول للمكلّف.

ص: 203

ولمزيد من التوضيح نقول :

حينما يقال « ورد النهي » فهنا وارد ومورود ، فلو سلّمنا أنّ الوارد بمعنى الوافد والواصل إلاّ أنّ ذلك وحده لا يثبت المطلوب ، والذي يثبت المطلوب هو كون المورد - أي الذي ورد ووصل ووفد عليه النهي - هو المكلّف ، إذ به يكون معنى الرواية « كلّ فعل لم يصل للمكلّف فيه نهي فهو مطلق ، أمّا لو كان المورود هو متعلّق النهي - أي المنهي عنه - فإنّ الرواية حينئذ لا تكون دالة على المطلوب ، إذ يكون معنى الرواية على هذا الاحتمال هو « كلّ فعل لم يصل له نهي ولم يفد عليه نهي فهو مطلق. فشرب الماء لم يفد ولم يصل له نهي - أي لم يجعل عليه نهي - فهو إذن مطلق.

وهناك ما يوجب استظهار تعيّن المعنى الثاني من الرواية ، وذلك بقرينة عود الضمير في الظرف « فيه » إلى الشيء ، وهذا ما يناسب كون المورود عليه هو المنهي عنه أي متعلّق النهي.

فحينما يقال وردت الحرمة في شرب الخمر فهذا يعني أنّ المورود عليه الحرمة والنهي هو شرب الخمر ، فالورود وإن كان بمعنى الوصول والوفود ولكنّ الواصل له والوافد عليه النهي هو المنهي عنه أي مادة النهي في قولنا « لا تشرب الخمر ».

فمادة النهي هنا هي شرب الخمر ، والمورود عنه النهي هو الشارع المقدّس ، والوارد هو النهي نفسه.

وخلاصة الكلام أنّ المورود عليه هو المنهي عنه أي مادة النهي والوارد هو النهي والمورود عنه أي الذي ورد عنه النهي هو الشارع المقدّس.

ص: 204

ومن الواضح أنّه بناء على هذا الاحتمال لا يكون للورود دلالة على وصول النهي للمكلّف ؛ إذ يكون معنى الرواية هو أنّ كلّ شيء فهو مطلق ما لم يجعل الشارع عليه النهي ، أي ما لم يصدر عن الشارع فيه نهي ، وهذا لا صلة له بوصول النهي للمكلّف ، ولمّا كان المستظهر من الرواية هو هذا المعنى فلا يكون للرواية حينئذ دلالة على المطلوب ؛ إذ المطلوب إثباته من الرواية الشريفة هو ثبوت السعة وإطلاق العنان حينما لا يصل النهي للمكلّف ، وهذا غير ظاهر من الرواية.

ومنها : حديث الرفع المروي عن النبي صلی اللّه علیه و آله « رفع عن أمّتي تسعة الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون ، وما لا يطيقون ، وما اضطرّوا إليه ، والحسد ، والطيرة ، والتفكّر في الوسوسة في الخلق ما لم ينطق بشفة » (1).

وفقرة الاستدلال بالرواية الشريفة هي قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع عن أمتي ... ما لا يعلمون ».

وتماميّة الاستدلال بهذه الرواية الشريفة على البراءة الشرعيّة

ص: 205


1- الوسائل باب 56 من أبواب جهاد النفس ح 1 ، وقد رواها الشيخ الصدوق رحمه اللّه في الخصال والتوحيد ، وليس فيها إشكال سندي إلاّ من جهة شيخه أحمد بن محمّد بن يحيى العطّار ، فإنّه لم يثبت له توثيق صريح ، نعم يمكن توثيقه ببعض الوجوه الاجتهاديّة والتي لا تتّصل بالحسّ ، كأن نستكشف وثاقته باعتباره من المعاريف أو أنّه من مشايخ الإجازة أو وقوعه في الطريق المعتبر إلى كتب الحسين بن سعيد الأهوازي والذي صرّح أبو العباس السيرافي بأن ذلك الطريق معوّل عليه عند الأصحاب. فإن تمّت هذه الوجوه فالرواية معتبرة ، أمّا لو لم تثبت وثاقة أحمد بن محمّد بن يحيى فطريق الصدوق إلى الرواية ضعيف إلاّ إذا تمّت نظريّة التعويض كبرى وصغرى.

يستوجب استظهار أنّ الرفع في الرواية رفع ظاهري وأنّ المرفوع هو مطلق ما لا يعلمون ؛ إذ أنّه لو كان الرفع واقعيا لأنتج ذلك تقييد الأحكام الشرعيّة بالعالم بها وهذا يعني اختصاص الأحكام الشرعيّة بالعالمين بها وهو شيء آخر غير البراءة الشرعيّة.

ولو كان المرفوع هو الشبهات الموضوعيّة فحسب أو الشبهات الحكميّة فحسب فهذا يقتضي أن تكون الرواية أخصّ من المدعى ؛ إذ أنّ المدّعى هو ثبوت البراءة الشرعيّة في مطلق الشبهات الأعمّ من الموضوعيّة والحكميّة.

ومن هنا سوف يكون البحث عن دلالة الرواية الشريفة على البراءة الشرعيّة في جهتين :

الجهة الأولى : في إثبات أنّ الرفع في الرواية ظاهري :

إنّ الرفع في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » يحتمل أحد معنيين :

المعنى الأوّل : هو أنّ الرفع جيء به لغرض تقييد الأحكام الواقعيّة بالعلم بها ، أي أنّ كلّ الأحكام الصادرة واقعا عن الشارع مقيّدة بعلم المكلّف بها ، فما لم يكن المكلّف عالما بالحكم الشرعي الواقعي فإنّه ليس مكلفا واقعا بذلك الحكم ، لا أنّه مكلّف واقعا بذلك الحكم إلاّ أنّه يكون معذورا باعتبار جهله ، فحرمة شرب الخمر مثلا ليست ثابتة لكلّ أحّد - بناء على هذا الاحتمال - بل هي مختصّة بمن يعلم بحرمة شرب الخمر ، أمّا من لا يعلم بالحرمة فإنّ شرب الخمر لا يكون عليه حرام ، فلو شربه لم يكن مرتكبا للحرمة واقعا لا أنّه ارتكب الحرمة إلاّ أنّه معذور.

وبناء على هذا الاحتمال لا تكون الرواية صالحة للدلالة على البراءة

ص: 206

الشرعيّة ؛ وذلك لأنّ البراءة الشرعيّة تعني نفي المسؤوليّة عن التكليف الواقعي في ظرف الشكّ وعدم العلم بالحكم الواقعي فهي تفترض ثبوت الحكم الواقعي على الجاهل إلاّ أنّها تنفي مسؤوليّته عن ذلك الحكم ، أي تثبت المعذوريّة للمكلّف لو اتفق مخالفته للحكم الواقعي الإلزامي ، وهذا يعني أنّ البراءة من الأحكام الظاهريّة التي أخذ في موضوعها الشك في الحكم الواقعي ، في حين أنّ الرفع بناء على هذا ليس حكما ظاهريا بل هو تقييد لأحكام اللّه الواقعيّة ، فهذا المعنى وإن كان يشترك مع البراءة الشرعيّة في كون المكلّف مطلق العنان في ظرف الجهل بالحكم الشرعي الواقعي إلاّ أنّه يختلف عن البراءة الشرعيّة التي يراد إثباتها.

والجواب عن استظهار هذا المعنى من الرواية :

هو أنّه يلزم منه أخذ العلم بالحكم في موضوع نفس ذلك الحكم أي يلزم منه تقييد الحكم بالعلم به وهو مستحيل للزومه الدور المحال كما بينا ذلك في محلّه.

فإن قلت : إنّ تقييد الحكم المجعول بالعلم بالجعل ليس مستحيلا لعدم لزومه الدور كما تقدّم بيان ذلك.

كان الجواب : إنّ تقييد الحكم المجعول بالعلم بالجعل وإن كان ممكنا إلاّ أنّه غير ظاهر من الرواية ؛ وذلك لأنّ الظاهر من الرواية هو اتّحاد المرفوع والمعلوم ، أي أنّ المرفوع بقوله « رفع » هو نفس غير المعلوم لا أنّ المرفوع شيء وغير المعلوم شيء آخر ، فقوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » - بناء على هذا المعنى - معناه مثلا أنّ فعليّة الحرمة غير المعلومة مرفوعة ، فالمرفوع هو نفس فعليّة الحرمة غير المعلومة لا أنّ المرفوع هو فعليّة

ص: 207

الحرمة في ظرف عدم العلم بجعل الحرمة حتى يكون مآل ذلك إلى أخذ العلم بالجعل في الحكم المجعول ؛ لأنّه إذا كان عدم العلم بالجعل قيدا في رفع الحكم المجعول فالعلم بالجعل يكون قيدا لثبوت الحكم المجعول.

وببيان آخر : إنّ معنى قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » هو أنّ الحكم غير المعلوم قد رفع عن هذه الأمّة ، وهذا يقتضي أنّ الذي رفع هو نفس الحكم غير المعلوم ، فإذا كان الحكم غير المعلوم هو فعليّة الحرمة فالمرفوع هو فعليّة الحرمة ، في حين أنّ دعوى كون المرفوع هو الحكم المجعول وغير الملوم هو الجعل يقتضي أن يكون المرفوع ليس هو عين غير المعلوم ، حيث إنّ الجعل يعني الحكم الإنشائي والمجعول يعني وصول الحكم لمرحلة الفعليّة ، والأوّل غير الآخر كما بينا ذلك في محلّه.

ومع استظهار اتّحاد الحكم المرفوع مع الحكم غير المعلوم يسقط المعنى الأوّل لاستلزامه للدور المحال ؛ إذ أنّه يقتضي أخذ العلم بالمجعول في موضوع الحكم المجعول ، أي أنّ فعليّة الحكم منوطة بالعلم بالفعليّة ؛ وذلك لأنّه إذا كان عدم العلم بالحكم المجعول قيدا في رفع الحكم المجعول فهذا يؤول إلى أنّ العلم بالحكم المجعول أخذ قيدا في ثبوت الحكم المجعول.

وإنّما قلنا باستلزامه لأخذ العلم بالحكم المجعول قيدا في الحكم المجعول ولم نقل أخذ العلم بالجعل قيدا في الجعل لأنّ المناسب للرفع هو الفعليّة والتي تقتضي التنجيز ، أمّا الحكم بمرتبة الجعل فلا يقتضي التنجيز ، فلا يكون رفعه امتنانا على الأمّة.

المعنى الثاني : إنّ المراد من الرفع هو نفي المسؤوليّة عن المكلّف تجاه التكاليف الواقعيّة في ظرف الجهل بها ، فيكون الرفع بهذا المعنى رفعا

ص: 208

ظاهريا ، وتكون الرواية - بناء على هذا المعنى - مثبتة للترخيص الظاهري ، أي كلّ حكم واقعي إلزامي افترض جهل المكلّف به فهو في سعة من جهة ذلك الحكم فلا يلزمه الاحتياط لغرض التحفّظ على التكليف الواقعي المحتمل ؛ إذ أنّ المولى - بناء على هذا المعنى - قد رفع الاحتياط عن المكلّف وأمّنه من العقاب لو اتّفق وقوعه في مخالفة التكليف الواقعي ، وهذا بخلاف ما لو وضع عليه التكليف في ظرف الشك ، فإنّ ذلك يقتضي الاحتياط الشرعي والذي يعني ثبوت المسؤوليّة على المكلّف تجاه التكاليف المشكوكة ، وإذا كان مسؤولا عن التكاليف المشكوكة فإنّه لا يخرج عن عهدة هذه التكاليف إلاّ بواسطة الاحتياط ؛ لأنّه هو الذي يوجب العلم بالخروج عن عهدة التكليف المشكوك.

وعلى أي حال فهذا المعنى للرفع هو المتعيّن من الرواية ؛ وذلك لاستحالة المعنى الأول ، وبهذا تثبت الجهة الأولى وهي استظهار الرفع الظاهري من قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون ».

الجهة الثانية : إثبات أنّ المرفوع هو مطلق ما لا يعلمون :

وقبل البحث عن ذلك نقدم مقدّمة نبيّن فيها الفرق بين الشبهة الموضوعيّة والشبهة الحكمية :

أمّا الشبهة الموضوعيّة :

فهي عبارة عن الشكّ في الموضوع الخارجي وأنّه هو الموضوع للحكم المعلوم أو لا؟

فالشبهة الموضوعيّة يفترض فيها العلم بالحكم والعلم بالموضوع المجعول عليه الحكم إلاّ أنّ الشك يقع في أنّ هذا الشيء الخارجي هل هو

ص: 209

مصداق لموضوع الحكم المعلوم أو لا؟

ونذكر لذلك مثالين ، مثالا للشبهة الموضوعيّة التحريميّة ومثالا للشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة.

أمّا مثال الشبهة الموضوعيّة التحريميّة فهو ما لو علم المكلّف بحرمة شرب الخمر ، فالحكم هنا معلوم وهو الحرمة وعنوان الموضوع أيضا معلوم وهو « الخمر ».

وإنّما الشك في المصداق الخارجي لموضوع الحرمة فلو شكّ المكلّف في خمريّة سائل فهذا الشك هو المعبّر عنه بالشبهة الموضوعيّة التحريميّة ، حيث إنّ متعلّق الشك فيها هو مصداقيّة هذا السائل لموضوع الحرمة.

وأمّا مثال الشبهة الموضوعيّة الوجوبيّة ، فهو ما لو علم المكلّف بوجوب إكرام كل عالم وشكّ في مصداقيّة زيد لموضوع الوجوب.

كما أنّ الجدير بالإشارة في المقام هو أنّ الشبهات الموضوعيّة لا تختص بموضوعات الحرمة والوجوب بل هي متصورة في موضوعات سائر الأحكام ، كما لو علم المكلّف باستحباب التصدّق على الفقير وشكّ في مصداقيّة زيد لعنوان الفقير ، وكذلك لو علم المكلّف بنجاسة الدم المسفوح وشك في أنّ الدم الواقع على ثوبه هل هو من الدم المسفوح أو لا؟ وهكذا.

وأمّا الشبهة الحكميّة :

وهي ما لو كان متعلّق الشك هو الحكم كالوجوب والحرمة وكذلك سائر الأحكام ، فالمشكوك هو ثبوت حكم لموضوع أو عدم ثبوته.

ونذكر لذلك مثالين ، مثالا للشبهة الحكميّة الوجوبيّة ومثالا للشبهة الحكميّة التحريميّة :

ص: 210

أمّا مثال الشبهة الحكميّة الوجوبيّة فهو ما لو وقع الشك في وجوب صلاة الجمعة أو عدم وجوبها ، فإنّ متعلّق الشك في المثال هو الحكم والذي هو الوجوب.

وأمّا مثال الشبهة الحكميّة التحريميّة فهو ما لو وقع الشك في حرمة العصير العنبي أو عدم حرمته ، فإنّ متعلّق الشكّ هو الحكم والذي هو الحرمة ، ومن هنا تكون الشبهة حكميّة تحريميّة.

ومع اتّضاح الفرق بين الشبهات الموضوعيّة والشبهات الحكميّة يقع الكلام فيما هو المستظهر من قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » ، وهل أنّ الرفع خاصّ بالشبهات الموضوعيّة؟ أو هو خاص بالشبهات الحكميّة؟ أو هو شامل لكلا الشبهتين؟

وبعبارة أخرى : هل أنّ مجرى البراءة الشرعيّة بمقتضى هذا الرفع الظاهري خاص بحالات الشك في الموضوع أو هو خاص بحالات الشك في الحكم أو هو شامل لهما معا؟

فالمحتملات في المقام ثلاثة :

الاحتمال الأول : وهو اختصاص الرفع بموارد الشك في الموضوع أي بالشبهات الموضوعيّة ، ويمكن استظهار هذا الإحتمال من الرواية بقرينة وحدة السياق.

وبيان ذلك : إنّ قوله صلی اللّه علیه و آله « ما لا يعلمون » وقع في إطار فقرات متحدة من حيث التعبير عن المرفوع فيها بالاسم الموصول « ما » وهذا يعبّر عن اتّحاد معنى الاسم الموصول في تمام الفقرات والتي منها الاسم الموصول في قوله « ما لا يعلمون » ، ولمّا كان المعنى من الاسم الموصول في

ص: 211

سائر الفقرات هو الموضوع الخارجي ناسب أن يكون المعنى من الاسم الموصول في فقرة الاستدلال هو الموضوع الخارجي أيضا وإلاّ لاختلّت وحدة السياق بين الفقرات وهو خلاف الظاهر.

وبتعبير آخر : إنّ المرفوع في سائر الفقرات لا يمكن أن يكون إلاّ الموضوع الخارجي ، وهذا بخلاف « ما لا يعلمون » فإنّه يمكن أن يكون المرفوع فيها الحكم غير المعلوم إلاّ أنّه لو كان المرفوع هو الحكم لأوجب ذلك اختلال السياق ، ومن هنا يتعيّن كون المراد من المرفوع في فقرة الاستدلال هو الموضوع الخارجي ؛ إذ به تكون وحدة السياق منحفظة.

وأمّا أنّه كيف تعيّن كون المرفوع في سائر الفقرات هو الموضوع الخارجي فهذا ما يتّضح بالتأمّل ، إذ أنّ رفع ما أكرهوا عليه لا يمكن أن يكون الحكم فلا يكون المراد من « رفع ما أكرهوا عليه » هو الحكم الذي أكرهوا عليه أو يكون المراد من رفع ما اضطرّوا إليه هو رفع الحكم الذي اضطروا إليه ؛ إذ لا معنى لاضطرار المكلّف للحرمة أو اضطراره للوجوب ، إذ الوجوب والحرمة ليسا من شؤون المكلّف حتى يكون مضطرا إليهما في بعض الحالات ومختارا لهما في حالات أخرى ، نعم هو يضطرّ إلى الأفعال التي ثبت لها الحرمة فهو يضطرّ لأكل الميتة ، وكذلك الكلام فيما « أكرهوا عليه » فهو إنّما يكره على الفعل الخارجي كالزنا مثلا أو شرب الخمر وهكذا الكلام فيما لا يطيقون ، فهو لا يطيق الصوم أو لا يطيق النفقة على الزوجة لا أنّه لا يطيق وجوب الصوم أو وجوب النفقة ؛ إذ أنّ ذلك ليس من شؤونه كما هو واضح.

ومن هنا يتّضح تعيّن الاسم الموصول في سائر فقرات الرواية في

ص: 212

الموضوع الخارجي وبوحدة السياق يستظهر إرادة الموضوع الخارجي في فقرة « ما لا يعلمون » فيكون المرفوع هو موضوع الحرمة غير المعلوم ، فالسائل الخمري المجهولة خمريّته قد رفعت عنه الحرمة.

وبهذا لا يكون الرفع شاملا لموارد الشبهات الحكميّة والتي يكون متعلّق الشكّ فيها هو أصل الحكم.

والجواب عن استظهار هذا الاحتمال :

إنّ إرادة الشبهات الحكميّة من الاسم الموصول في فقرة « ما لا يعلمون » أو إرادة الأعم منها ومن الشبهات الموضوعيّة لا يوجب اختلال وحدة السياق لو كانت الإرادة الاستعماليّة للاسم الموصول هو المعنى المبهم كمعنى الشيء ، فلو كان المراد من الاسم الموصول في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما أكرهوا عليه ورفع ما لا يعلمون » هو الشيء لكان وزان هاتين الفقرتين هو « رفع الشيء المكره عليه ورفع الشيء غير المعلوم » فتكون وحدة السياق منحفظة ؛ إذ أنّ المعنى من الاسم الموصول في كلا الفقرتين واحد وهو « الشيء » ، غايته أنّ مصداق معنى الشيء أو قل مصداق الاسم الموصول يتفاوت باعتبار ما يتعلّق به ، فحينما يقال : « رأيت شيئا » فإنّ المناسب لمعنى الشيء - باعتبار تعلّقه بالرؤية - هو أن يكون مصداقه من الأمور المرئيّة إلاّ أنّ ذلك لا يعني أن الشيء الذي استعمل في هذه الجملة يختلف عن معنى الشيء في جملة « حدث لي شيء » ، نعم مصداق الشيء في الجملة الأولى يختلف عن مصداق الشيء في الجملة الثانية ، وهذا لا يوجب تفاوتا في معنى الشيء في الجملتين.

وبهذا يتّضح أنّ معنى الاسم الموصول في تمام الفقرات واحد والتفاوت

ص: 213

إنّما هو في المصاديق وهذا لا يوجب اختلالا في وحدة السياق لأنّ الذي يوجب الاختلال هو أن يكون المراد الاستعمالي للاسم الموصول في أحد الفقرات مختلفا عن المراد الاستعمالي في سائر الفقرات.

وقلنا الإرادة الاستعماليّة ولم نقل الإرادة الجديّة لأنّ الموجب لكون الاستعمال حقيقيّا أو مجازيا هو الإرادة الاستعمالية والتي هي الدلالة التصديقيّة الأولى ، فإذا كان المدلول التصديقي الأول للاسم الموصول واحدا في تمام الفقرات فهذا يكفي لتحقّق وحدة السياق حتى وإن كان المراد الجدّي من الاسم الموصول في أحد الفقرات مغايرا لما هو المراد الجدّي في سائر الفقرات ، فإنّ ذلك لا يوجب اختلال وحدة السياق بعد أن كان الاسم الموصول قد استعمل في تمام الفقرات في معنى واحد.

الاحتمال الثاني : هو اختصاص الرفع بموارد الشك في الحكم أي بالشبهات الحكميّة ، ويمكن استظهار ذلك بهذا البيان :

وهو أنّ المرفوع في قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » هو الاسم الموصول المتّصف بعدم العلم ، فلو كان الاسم الموصول هو الموضوع لما كان متّصفا بعدم العلم لأنّ الموضوع الخارجي يكون معلوما ، فالسائل الخارجي يكون معلوما ومشخصا ، غايته أنّنا نشك في اتّصافه بالخمرية أو عدم اتّصافه ، وبهذا لا يكون الاسم الموصول - لو كان هو الموضوع الخارجي - مجهولا وغير معلوم بنفسه ، وعليه لا يمكن وصف الموضوع الخارجي بعدم العلم ، فلابدّ إذن من أن يكون الاسم الموصول مجهولا بنفسه حتى يمكن اتّصافه بعدم العلم ، وهذا إنّما يناسب الحكم ؛ إذ أنّه يمكن أن يكون مجهولا فلا تكون هويّة الحكم معلومة ، وبهذا يتعيّن كون المراد من الاسم

ص: 214

الموصول هو الحكم الغير المعلوم فيختصّ الرفع بالشبهات الحكميّة.

وبعبارة أخرى : إنّ المعنى الذي استعمل لفظ الاسم الموصول لغرض الدلالة عليه هو معنى متّصف بعدم العلم ، أي أنّ مدلول الاسم الموصول هو الشيء غير المعلوم ، وهذا يقتضي ألا يكون الموضوع الخارجي مدلولا للاسم الموصول ؛ إذ الشك في الموضوع الخارجي لا يكون إلاّ من جهة مصداقيّته للموضوع المجعول عليه الحكم فهو بنفسه مشخص ولا شكّ فيه ، ومن هنا يكون وصف الموضوع الخارجي بأنّه غير معلوم لا يكون إلاّ بنحو العناية والتجوّز.

فلو كنا مثلا نعرف زيدا وأنّه ابن بكر إلاّ أنّنا نشك في عدالته ، فإنّ وصفه في مثل هذه الحالة بأنّه غير معلوم ليس صحيحا ؛ وذلك لكون زيد معلوما ومشخصا عندنا ، غايته أنّنا لا نعلم بكونه مصداقا لعنوان العدالة إلاّ أنّ هذا لا يصحّح وصفه بغير المعلوم إلاّ بنحو التجوّز وهو محتاج إلى قرينة.

وبهذا يتّضح أنّ وصف الموضوع الخارجي بغير المعلوم لا يكون مدلولا للاسم الموصول وإنّما هو مدلول للقرينة المفقودة في المقام ومدلول الاسم الموصول هو غير المعلوم حقيقة ، فعليه لو كان المراد منه الموضوع الخارجي لكان ذلك خلاف الظاهر ؛ وذلك لأنّ الظاهر من الاسم الموصول في الرواية هو الشيء المتّصف بغير المعلوم حقيقة وواقعا وهذا ما يناسب الحكم المجهول في نفسه.

وبهذا يثبت اختصاص الرفع بالشبهات الحكميّة.

والجواب عن استظهار هذا الاحتمال :

ص: 215

أولا : أنّه لو جعلنا مدلول الاسم الموصول هو عنوان الخمريّة للمائع مثلا أو عنوان العدالة لزيد لكان اتّصاف هذا العنوان بغير المعلوم حقيقيّا وليس فيه أي عناية وتجوّز فلا فرق بين عنوان الخمر في المثال وبين الحكم في أنّ كلا منهما غير معلوم حقيقة ، فتكون دلالة الاسم الموصول عليهما بنحو واحد ؛ إذ أنّ مدلول الاسم الموصول هو الشيء غير المعلوم وعنوان الخمريّة لهذا المائع شيء غير معلوم واقعا وبهذا يكون مستفادا من حاق لفظ الاسم الموصول.

وأمّا كيف أنّ عنوان الخمريّة غير معلوم حقيقة فذلك إذا ما جعلنا متعلّق الشك هو خمريّة المائع ، فالمشكوك هو الخمريّة وليس المائع حتى يكون اتّصافه بالشك وعدم العلم مجازيا.

وبتعبير أوضح : تارة نصف المائع الخارجي بأنّه غير معلوم ، وهذا الاتّصاف لا إشكال في مجازيته ؛ إذ أنّ المائع الخارجي معلوم في نفسه والشك إنّما هو في مصداقيته لعنوان الخمر ؛ ولذلك لا يمكن أن يكون المائع الخارجي مدلولا للاسم الموصول ؛ إذ أنّ مدلول الاسم الموصول هو غير المعلوم حقيقة ، فلو كان المراد منه هو المائع الخارجي لما أمكن التعرّف على المراد بواسطة لفظ الاسم الموصول بل لابدّ من نصب قرينة على ذلك المراد.

وتارة نصف خمريّة المائع بغير المعلوم فيكون الوصف حقيقيا ، إذ الموصوف بغير المعلوم هو الخمريّة ، والخمريّة للمائع غير معلومة ، نعم المائع معلوم إلاّ أنّ المائع ليس هو الموصوف في هذا الفرض.

وكذلك الكلام في عنوان العدالة لزيد ، فإنّ وصف عدالة زيد بأنها

ص: 216

غير معلومة ليس فيه تجوّز بل هو إسناد حقيقي ، فحينما نقول عدالة زيد غير معلومة لا يكون في هذا الإسناد أيّ تسامح ، نعم لو قلنا زيد غير معلوم لكان هذا الإسناد مجازيّا.

وبهذا تندفع دعوى تعيّن الاسم الموصول في الحكم باعتباره هو غير المعلوم حقيقة ؛ إذ أن إسناد ووصف عنوان الموضوع الخارجي بغير المعلوم حقيقي ، وبهذا يصلح أن يكون مدلولا للاسم الموصول.

ثانيا : يمكن تحويل الشك في الموضوع إلى الشك في الحكم ؛ وذلك لأنّ المكلّف حينما يشك في الموضوع فإنّه يشكّ واقعا في فعليّة الحكم ، إذ أنّ فعليّة الأحكام تابعة لتنقّح موضوعاتها ، فإذا كان موضوع الحكم محرز العدم فإنّه لا شك في فعليّة الحكم بل هناك قطع بعدم الفعليّة للحكم ، أمّا لو وقع الشك في أنّ الموضوع الخارجي هل هو موضوع الحكم أو لا؟ فإنّ ذلك يساوق الشك في فعليّة الحكم.

فلو وقع الشكّ في أنّ هذا المائع الخارجي خمر أو لا فإنّ ذلك يعني الشك في فعليّة الحرمة للخمر.

ومن هنا لو ادّعي اختصاص الاسم الموصول بالشك في الحكم فإنّ ذلك يكون شاملا للشبهات الموضوعيّة ؛ إذ أنّ الشك سواء كان في الشبهات الحكميّة أو الموضوعيّة إنّما هو شك في فعليّة الحكم على المكلّف.

الاحتمال الثالث : شمول الرفع لموارد الشك في الحكم والشك في الموضوع ، أي أنّ المرفوع بحديث الرفع هو الأعم من الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة.

واستظهار هذا الاحتمال يستوجب تصوير جامع بين الشبهة في

ص: 217

الموضوع والشبهة في الحكم ويكون ذلك الجامع صالحا لأن يكون مدلولا للاسم الموصول.

ومن هنا فقد ذكر للجامع تصويران :

التصوير الأوّل للجامع : هو دعوى أنّ مدلول الاسم الموصول هو معنى الشيء ، فيكون الاسم الموصول - بناء على هذا التصوير صادقا على التكليف المشكوك والموضوع المشكوك ؛ إذ أنّ كلا منهما مصداق لمعنى الشيء.

الإشكال على هذا التصوير :

هو أنّه يلزم منه الجمع بين إسنادين متباينين في استعمال واحد ، وهو في الاستحالة كاستعمال لفظ واحد في معنيين متباينين ، فكما أنّ الثاني يلزم منه اجتماع لحاظين متباينين على ملحوظ واحد كذلك الأوّل.

وبيان ذلك :

إنّ قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع ما لا يعلمون » أسند الرفع فيه للاسم الموصول ، فهنا مسند ومسند إليه ، فالمسند هو الفعل المبني للمفعول « المجهول » والمسند إليه هو الاسم الموصول ، وأمّا الإسناد فهي نسبة الرفع إلى ما لا يعلمون.

والإسناد تارة يكون حقيقيا وأخرى يكون مجازيا :

أمّا الإسناد الحقيقي : فهو ما كان المسند فيه منتسبا إلى المسند إليه حقيقة أي بلا واسطة مصححة للإسناد والانتساب ، كإسناد الفعل المبنى للفاعل إلى من صدر عنه الفعل حقيقة أو إسناد الفعل المبني للمفعول إلى من وقع عليه الفعل حقيقة.

ص: 218

فالأول : كقوله تعالى ( اللّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها ) (1) فالفعل « يتوفّى » قد أسند إلى فاعله الحقيقي وهو اللّه جلّ وعلا ، إذ هو سبحانه الذي صدر عنه التوفي حقيقة.

والثاني : كقوله تعالى ( وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ) (2) فالفعل المبني للمفعول قد أسند إلى من وقع عليه الفعل حقيقة وهو القرآن ؛ إذ أنّ انتساب المقروئيّة إلى القرآن حقيقي.

وأمّا الإسناد المجازي : فهو ما يكون فيه المسند منتسبا إلى المسند إليه بواسطة مصحّحة للإسناد وإلاّ فهو بنفسه لا يصلح لأن ينتسب إلى المسند إليه بهذا النحو من الانتساب.

ومثاله قول أبي الطيّب المتنبّي :

ربما تحسن الصنيع لياليه *** ولكن تكدّر الإحسانا

فهنا أسند الشاعر الفعل « تحسن » إلى الليالي « المسند إليه » ، والمصحّح لهذا الإسناد هو علاقة الظرفيّة ، أي باعتبار أنّ الليالي وقعت ظرفا لإحسان المحسن الحقيقي صحّح ذلك إسناد الفعل إليها.

وبهذا يتّضح أنّ الإسناد الحقيقي مباين للإسناد المجازي ، وإذا كان كذلك فلابدّ أن يكون إسناد الرفع إلى ما لا يعلمون إمّا إسناد حقيقي أو إسناد مجازي ، ودعوى أنّ الرفع مسند إلى الحكم وإلى الموضوع يقتضي أن يكون الإسناد حقيقيا ومجازيا ، فهو حقيقي بالنسبة إلى الحكم ومجازي

ص: 219


1- سورة الزمر آية 42.
2- سورة الاعراف آية 204.

بالنسبة إلى الموضوع.

وبيان ذلك : إنّه حينما يدعى أنّ المراد من الاسم الموصول - والذي هو المسند إليه في الرواية - هو معنى الشيء القابل للصدق على الحكم والموضوع فهذا يقتضي أن يكون المراد من الاسم الموصول هو الحكم وهو الموضوع ، وهذا لا محذور فيه لو كان إسناد الرفع للحكم كإسناد الرفع للموضوع ، أي بحيث يكون كلا الإسنادين حقيقيّا أو مجازيا ، كما لو قلنا « جاء القوم » ، أي جاء زيد وبكر وخالد ، فإنّ إسناد المجيء إلى الجامع « القوم » لا إشكال فيه باعتبار أنّ إسناد المجيء إلى جميع أفراد الجامع حقيقي.

أمّا لو كان إسناد الفعل مثلا إلى بعض أفراد الجامع حقيقيّا والإسناد إلى البعض الآخر مجازي فهو غير ممكن ، كما لو قيل « سافر الصحب » وكان المراد من إسناد السفر إلى بعض الأصحاب حقيقيا بأن كانوا قد سافروا حقيقة إلاّ أنّ إسناد السفر إلى البعض الآخر مجازي كأن كان المقصود من سفرهم موتهم ، فهذا مستحيل لاستلزامه اجتماع لحاظين متباينين في آن واحد - وهما لحاظ إسناد الفعل مثلا إلى ما هو له ولحاظ إسناد الفعل إلى غير ما هو له - على ملحوظ واحد وهي الجملة المستعملة لغرض إفادة الإسناد.

والمقام من هذا القبيل ، إذ أنّ دعوى كون المدلول للاسم الموصول هو « الشيء » الجامع بين الحكم والموضوع يؤول إلى إسناد الرفع إلى الحكم وإلى الموضوع في عرض واحد ، وهو غير ممكن لأنّ إسناد الرفع إلى الحكم حقيقي لقابليّته لأن يرفع حقيقة ، أي أنّ إسناد الرفع إليه لا يحتاج إلى مصحّح وواسطة ، وباعتبار أنّ الحكم شرعي فإنّ للمولى أن يرفعه كما له أن يضعه.

ص: 220

وأمّا إسناد الرفع إلى الموضوع فمجازي ؛ وذلك لأنّ صحّة إسناد الرفع إلى الموضوع لا يكون إلاّ بواسطة الحكم.

فحينما يقال رفع السائل المشكوك الخمريّة فإنّ هذا الإسناد يكون مجازيا باعتبار أنّ الرفع فيه قد أسند إلى غير ما هو له ، أي أنّ الرفع لم يسند إلى السائل حقيقة كما هو واضح ، نعم المصحّح لإسناد الرفع إلى السائل هو الحرمة مثلا ، فكأنّه قال « رفعت الحرمة عن السائل المشكوك الخمريّة ».

وبهذا لا يصلح أن يكون معنى الشيء هو الجامع المدلول للاسم الموصول.

الجواب عن هذا الإيراد :

والجواب أنّ إسناد الرفع لكلّ من الحكم والموضوع مجازي ؛ وذلك لأنّ الحكم المرفوع إنّما هو الحكم الظاهري وليس الحكم الواقعي كما اتّضح ذلك من بحث الجهة الأولى.

وإذا كان المرفوع هو الحكم الظاهري فإسناد الرفع إلى الحكم مجازي ؛ وذلك لأنّ الحكم يظلّ ثابتا على المكلّف في ظرف الجهل وعدم العلم ، إذ أنّ أحكام اللّه مشتركة بين العالم والجاهل ، فالمرفوع عن المكلّف إنّما هو المسؤوليّة تجاه ذلك الحكم وليس الحكم نفسه.

وبهذا يكون إسناد الرفع إلى الحكم مجازي ، وإذا كان كذلك فلا يلزم من إسناد الرفع إلى الجامع الجمع بين إسنادين متباينين في استعمال واحد.

التصوير الثاني للجامع : هو دعوى أنّ مدلول الاسم الموصول هو الحكم المجعول ، أي أنّ المرفوع هو فعليّة الحكم من غير فرق بين أن يكون الشك في فعليّة الحكم ناشئا عن الشك في أصل الجعل - أي في وجود

ص: 221

حكم أو عدم وجوده - أو يكون ناشئا عن الشكّ في مصداقيّة الموضوع الخارجي لموضوع الحكم المعلوم جعله.

وببيان آخر : إنّ الشك في الحرمة للعصير العنبي مثلا قد يكون ناشئا عن عدم العلم بثبوت حرمة شرعيّة للعصير العنبي وهذه شبهة حكمية ، وقد يكون الشك في فعليّة الحرمة للعصير العنبي ناشئا عن الشك في كون هذا السائل مصداقا للعصير العنبي المعلوم الحرمة أو لا وهذه شبهة موضوعيّة.

والمرفوع في حديث الرفع هو فعليّة الحكم في ظرف الشك بقطع النظر عن منشأ الشك في الفعليّة للحكم.

وإذا كان هذا التصوير للجامع ممكنا فإنّه يمكن إثبات إرادته بواسطة الإطلاق ، وذلك لأنّ إثبات الإطلاق متوقف على قابلية الموضوع لأن يعرض عليه الإطلاق كما بينا ذلك في محله.

وأمّا كيفيّة إثبات إرادة هذا بواسطة الإطلاق فتقريبه :

إنّ مدلول الاسم الموصول لمّا كان يقبل الإطلاق والتقييد - باعتبار أنّ مدلوله هو فعلية الحكم - فهذا يقتضي ذكر ما يدلّ على التقييد لو كان مرادا ، فعدم ذكر القيد - مع أنّ النبي صلی اللّه علیه و آله في مقام بيان ما يرفع عن المكلّف في ظرف عدم العلم - كاشف عن عدم إرادته للتقييد وإلاّ كان ناقضا لغرضه. وبهذا يثبت الإطلاق وأنّ المرفوع هو مطلق الحكم المجعول بقطع النظر عن منشئه.

ومع تماميّة الإطلاق تثبت البراءة الشرعيّة النافية للمسؤوليّة عن المكلّف في الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة.

ومنها : رواية زكريا بن يحيى عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « ما

ص: 222

حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (1).

وتقريب الاستدلال بهذه الرواية الشريفة :

هو أنّ تعدية الوضع لمعموله « بعن » يعطي نفس المعنى المفاد من كلمة الرفع المتعدية لمعمولها « بعن » ، فلا فرق بين أن يقال : « رفع عن المكلّف » أو يقال : « وضع عن المكلّف » ، وباعتبار أنّ الوضع في الرواية قد تعدّى لمعموله « بعن » فإن تقريب الاستدلال بها على البراءة الشرعيّة يكون بنفس التقريب المذكور في حديث الرفع.

الإشكال على تقريب الاستدلال :

وقد أورد على تقريب الاستدلال بهذه الرواية بإيرادين :

ص: 223


1- الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 33 ، والرواية مشتملة على إشكالين سنديّين : الأوّل : من جهة اشتمالها على أحمد بن محمّد بن يحيى العطار ، وقد قلنا - في حديث الرفع - إنّه ليس له توثيق صريح في كتب الرجال ، نعم يمكن توثيقه ببعض الوجوه الاجتهاديّة ، فإذا تمّت هذه الوجوه أو بعضها فلا يبقى إشكال في الرواية إلاّ من جهة الراوي المباشر عن الإمام عليه السلام وهو زكريا بن يحيى ، فإنّ صاحب الوسائل رحمه اللّه قد نقل أنّ كنية زكريا بن يحيى - راوي الحديث - هي أبو الحسن وهذه الكنية موجبة للمنع عن انصرافه إلى زكريا بن يحيى الواسطي المشهور أو زكريا بن يحيى التميمي المشهور أيضا - والذين قد صرّح بوثاقتهما - خصوصا أنّ زكريا بن يحيى الواسطي قد ذكر النجاشي أنّ كنيته أبو يحيى ، وبهذا تكون الرواية ساقطة عن الاعتبار وذلك لعدم العلم بكونه الواسطي أو التميمي ، فيكون الراوي مجهول الحال ، نعم يظهر من جامع الرواة أنّ أبا الحسن زكريا بن يحيى هو الواسطي إلاّ أنّه لم يبرز قرينة على ذلك فلعله اعتمد على الانصراف والذي قلنا إنّه ممنوع باعتبار أنّ كنية أبي الحسن لم يذكر أنّها كنية للواسطي. كما أنّ الإشكال في كبرى الانصراف أيضاً.
الإيراد الأوّل :

إنّ ظاهر الرواية هو أنّ الأحكام الموضوعة عن المكلّفين هو ما كان خفاؤها ناشئا عن تعمّد الشارع لإخفائها ؛ وذلك لإسناد الحجب إلى اللّه جلّ وعلا ، فعليه لا تكون الرواية شاملة للأحكام التي نشأ عدم العلم بها عن ضياع النصوص مثلا أو التدليس فيها بحيث يخفى معه الواقع أو نشأ عن إخفاء من له مصلحة في الإخفاء وكانت الأسباب تجري على وفق إرادته ، فتكون الرواية أخصّ من المدعى ؛ إذ أنّ المدعى هو جريان البراءة الشرعيّة عند عدم العلم مطلقا بقطع النظر عمّا هو المنشأ لعدم العلم.

والجواب عن هذا الإيراد :

إنّ نسبة الحجب إلى اللّه تعالى لا ينافي انتساب الحجب أيضا إلى تطاول الزمن وضياع النصوص وتدخّل أصحاب النفوس الشرّيرة في إخفاء ما ينافي أغراضهم وطموحاتهم ، فإنّ كلّ ما في الكون من خطير وحقير فهو من تدبير اللّه جلّ وعلا وخاضع لقيّوميّته تعالى ، فانتساب كلّ شيء في هذا الكون إلى اللّه سبحانه وتعالى لا يكون فيه أيّ عناية وتجوّز حتى يكون المستظهر خلافه ، فحينما يقال : « حجب اللّه علمه عن العباد » فإنّ هذا الإسناد كما يصدق على الحجب الناشئ عن اللّه تعالى بلا واسطة يصدق كذلك على الحجب الناشئ عن الأسباب الطبيعيّة كتطاول الزمن وضياع النصوص.

وبهذا لا يكون إسناد الحجب إلى اللّه تعالى دالا على اختصاص الرواية بالأحكام التي نشأ عدم العلم بها عن اللّه تعالى بلا واسطة ؛ وذلك لأنّ إسناد الحجب إلى اللّه تعالى باعتباره القيّوم والمدبّر لشؤون الكون كلّه ،

ص: 224

نعم لو أسند الحجب إلى الشارع أي إلى اللّه تعالى باعتباره المشرّع لكان لهذا الإيراد وجه.

الإيراد الثاني :

إنّ ظاهر الرواية هو أنّ الأحكام الموضوعة عن العباد هي الأحكام المحجوبة عن كلّ العباد بحيث لا يكون خفاء هذه الأحكام مختص بمكلّف دون آخر ، فموضوع الوضع ونفي المسؤوليّة هو مجموع العباد ، فلو اتّفق أنّ حكما من الأحكام لم يكن معلوما لكلّ أحد من خلق اللّه جلّ وعلا فإنّ هذا الحكم هو الموضوع عن العباد وهو الحكم الذي لا يسأل اللّه عباده عنه ، أمّا الأحكام التي تكون معلومة لبعض المكلّفين ومجهولة لآخرين فغير مشمولة لموضوع القضيّة وهي الحجب عن العباد ، أي لا دلالة للرواية على عدم المسؤوليّة عن مثل هذه الأحكام.

والجواب عن هذا الإيراد :

الظاهر من قوله علیه السلام « ما حجب اللّه علمه عن العباد » هو ما حجبه عن كلّ عبد من العباد ، فكلّ عبد خفي عليه حكم يكون موضوعا لقوله فهو موضوع عنهم ، فالعموم المستفاد من الجمع المعرّف باللام عموم استغراقي ، أي لوحظ باعتباره عنوانا مشيرا إلى أفراده.

والعموم الاستغراقي يقتضي انحلال الحكم إلى أحكام بعدد أفراد الموضوع ، مثلا لو قال المولى « أكرم العلماء » فإنّ العلماء عموم استغراقي ، أي أنّ كلّ فرد من أفراد العلماء موضوع لوجوب الإكرام ، وعنوان العلماء إنّما جيء به لغرض الإشارة إلى أفراده ؛ ولهذا ينحلّ وجوب الإكرام إلى وجوبات بعدد أفراد العلماء فيكون لكلّ وجوب من هذه الوجوبات طاعة

ص: 225

ومعصية مستقلّة ، فحينما يكرم عالما ولا يكرم آخر يكون مطيعا وعاصيا ، فهو مطيع لإكرامه العالم الأول وعاص لعدم إكرامه الثاني.

أمّا لو كان العموم مجموعيا فالأمر يختلف تماما ، فلو كان عنوان العلماء في المثال لوحظ بنحو العموم المجموعي فإن الحكم لا ينحلّ بعدد أفراد الموضوع ؛ وذلك لأنّ المجموع بما هو مجموع موضوع للحكم ، فلا يوجد إلاّ موضوع واحد وحكم واحد ، ولهذا لا يوجد إلاّ طاعة واحدة ومعصية واحدة ، أي أنّ المكلّف إن أكرم جميع العلماء دون استثناء فهو ممتثل ومطيع وإن أكرم بعضهم ولم يكرم البعض الآخر فهو عاص ، أي كأنّه لم يكرم أحدا ؛ إذ أنّ موضوع الوجوب هو المجموع فلا يتحقّق الامتثال إلاّ بإكرام المجموع.

وباتّضاح الفرق بين العموم الاستغراقي والعموم المجموعي يتّضح ما ذكرناه من أنّ العموم في « العباد » عموم استغراقي فيكون الحكم في الرواية - والذي هو الوضع عن المكلّفين - منحلا بعدد أفراد العباد الذين يتّفق اختفاء حكم عنهم.

ومنها : رواية عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه » (1).

ص: 226


1- الوسائل باب 4 من أبواب ما يكتسب به ح 1 ، والرواية معتبرة لاعتبار بعض طرقها مثل طريق الشيخ الطوسي رحمه اللّه ، أمّا طريق الشيخ الصدوق رحمه اللّه فيمكن الخدشة فيه ؛ وذلك لأن طريقه إلى الحسن بن محبوب تمّ بواسطة شيخه محمّد بن موسى بن المتوكّل إلاّ أنّه يمكن توثيقه بدعوى ابن طاووس الاتفاق على وثاقته.
وتقريب الاستدلال بالرواية :

هو أنّ جعل غاية الحليّة معرفة الحرمة يكشف عن أنّ موضوع الحليّة هو عدم المعرفة ، وبهذا المقدار تثبت الحليّة في ظرف عدم المعرفة والعلم بالحرمة ، ويبقى الكلام في أنّ هذه الحليّة هل هي حليّة واقعيّة أو هي حليّة ظاهريّة؟ فإن كانت واقعيّة فهي لا تتّصل بمحلّ البحث ؛ إذ أنّ محلّ البحث هو البراءة الشرعيّة والترخيص الظاهري.

والذي يظهر من قوله علیه السلام « فيه حلال وحرام » أن المجعول في قوله علیه السلام « فهو لك حلال » هو الحليّة الظاهريّة ؛ وذلك لوضوح أنّ الحلال والحرام في صدر الرواية هما الحلال والحرام الواقعيّين ، إذ هو مقتضى ترتيب الحليّة على الجهل بهما.

وببيان آخر :

إنّ الحرام الذي ينتهي به أمد الحليّة هو الحرام الواقعي وهو عينه الحرام في صدر الرواية ، وإذا كانت الحليّة مغيّاة بمعرفة الحرام الواقعي فهذا تعبير آخر عن أنّ موضوع الحليّة المجعولة هو عدم معرفة الحرام ، والحكم الذي يكون موضوعه عدم المعرفة حكم ظاهري كما هو واضح.

وبهذا تكون الرواية صالحة للاستدلال بها على البراءة الشرعيّة.

إلاّ أنّ الإشكال ينشأ عن دعوى ظهورها في الاختصاص بالشبهات الموضوعيّة ، فقد ذكر ذلك جمع من الأعلام وأبرزوا لذلك قرينتين :

القرينة الأولى :

وهي أنّ المناسب لتقسيم الشيء الواحد إلى الحلال والحرام هو أنّ ذلك الشيء من الطبايع التي لها أفراد مختلفة الحكم ، وهذا الذي يسبّب

ص: 227

الشبهة والشك لأنّ تعدّد الأفراد واختلاف الحكم فيها من حيث الحليّة والحرمة يوجب عادة وقوع المكلّف في الاشتباه وأنّه ما هو الحلال وما هو الحرام؟ فالجبن مثلا من الطبايع التي يختلف الحكم في أفرادها فمنها ما هو محرّم ومنها ما هو محلّل ، وهذا ما يوجب وقوع المكلّف في الحيرة والاشتباه ، وإذا تمّ هذا فالرواية مختصّة بالشبهات الموضوعيّة ؛ وذلك لأنّه مع استظهار أنّ المنشأ للشكّ هو تعدّد أفراد الطبيعة واختلاف الحكم فيها يكون المناسب لذلك هو الشبهات الموضوعيّة ؛ إذ أنّ الشبهات الحكمية لا ينشأ الشكّ فيها عن ذلك بل عن عدم العلم بأصل الحكم ، فحينما يكون المكلّف شاكا في حرمة العصير العنبي فإن هذا الشك يكون منشؤه عدم العثور على نصّ يدلّ على الحرمة أو ابتلاء النصّ الدالّ على الحرمة بالمعارض.

وهذا بخلاف الشبهات الموضوعيّة فإنّها هي التي قد تنشأ عن اختلاف أفراد الطبيعة الواحدة في الحكم.

القرينة الثانية :

إنّ لفظ « بعينه » في الرواية الشريفة لا يكون له مبرّر عرفا إلاّ إذا كانت الشبهة موضوعيّة ؛ وذلك لأنّ معرفة الحرام بعينه يكون حينئذ احتراز عن معرفة الحرام إجمالا ، وهذا ما يناسب الشبهات الموضوعيّة ، إذ هي التي يكون الاشتباه فيها عادة بنحو الشبهة الإجماليّة ، فالمكلّف حينما يكون عالما بأصل الحرمة يكون عالما أيضا بثبوت الحرمة لأفراد غير معيّنين بنحو العلم الإجمالي ، فالرواية تقول إنّ هذا المقدار من العلم ليس هو غاية الحليّة بل إنّ غاية الحليّة هو معرفة الحرام بعينه ، أي بنحو العلم التفصيلي فيكون لفظ « بعينه » في الرواية احترازا عن العلم الإجمالي

ص: 228

بالحرمة.

وهذا بخلاف ما لو حملنا الرواية على الشبهات الحكميّة فإنّه لا مبرّر عرفا لكلمة « بعينه » ؛ إذ أنّ معرفة الحرام في الشبهات الحكميّة يعني عادة العلم التفصيلي بالحرام ، فحينما يكون المكلّف جاهلا بحكم لحم الأرنب فإنّ معرفة حكم لحم الأرنب بعد ذلك لا يكون إلاّ بنحو العلم التفصيلي ، فلا تكون المعرفة للحكم هي معرفة أنّ لحم الأرنب إمّا حرام أو حلال أو تكون المعرفة بنحو يكون لحم الأرنب إمّا هو الحرام أو العصير العنبي هو الحرام.

والمتحصّل أنّ المعرفة للحرمة بعد الشبهة الحكميّة لا تكون إلاّ معرفة تفصيليّة فلا تكون لكلمة بعينه فائدة إلاّ التأكيد وهو خلاف الظاهر خصوصا في مثل المقام الذي يكون فيه المؤكّد - وهو العلم التفصيلي - متعيّنا.

وهذا بخلاف الشبهة الموضوعيّة فإنّ المعرفة بنحو الإجمال عادة ما تكون موجودة بعد افتراض أنّ أصل الحكم معلوم للمكلّف.

فكلّ مكلّف يعلم بحرمة الشراب النجس يعلم أيضا بوجود شراب نجس في الخارج إلاّ أنّه غير متشخّص ، فهل أنّ هذه المعرفة هي غاية الحليّة أو أنّ غاية الحليّة هي المعرفة التفصيليّة للحرام؟ وهذا ما تجيب عليه كلمة « بعينه » فإنّها تقيد أنّ غاية الحليّة هي معرفة الحرام بعينه أي بنحو العلم التفصيلي فيكون لذكر كلمة « بعينه » فائدة مهمّة في الرواية لو كانت الرواية متصدّية لبيان حكم الشبهة الموضوعيّة.

وبهذه الرواية تمّ الكلام حول أدلّة البراءة الشرعيّة من الكتاب

ص: 229

والسنّة.

الاستدلال على البراءة بعموم دليل الاستصحاب :

وذلك بواسطة التمسّك بما دلّ على حجيّة الاستصحاب مطلقا ، فكلّ مورد يكون فيه موضوع الاستصحاب متنقحا فإنّ الاستصحاب يجري في ذلك المورد.

وقد قرّب استصحاب نفي التكليف في حالات الشك بتقريبين :

التقريب الأوّل :

هو استصحاب عدم جعل التكليف والذي هو متيقّن حينما كانت الشريعة في أيّامها الأولى.

فعندنا يقين سابق بعدم جعل هذا التكليف ، ومبرّر هذا اليقين هو أنّ أحكام اللّه جلّ وعلا لم تشرّع في عرض واحد بل شرّعت بنحو التدرّج ، ولمّا كنا نشك فعلا بجعل التكليف بعد ذلك فإنّه يمكن بذلك إجراء الاستصحاب لنفي جعل التكليف ، وهذا ما ينتج نتيجة البراءة الشرعيّة.

التقريب الثاني :

استصحاب عدم فعليّة التكليف والذي هو متيقّن قبل البلوغ مثلا ، فهنا يقين سابق بعدم فعليّة التكليف في حال عدم البلوغ وشكّ فعلي بثبوت التكليف بعد ذلك فنجري استصحاب عدم فعليّة التكليف وهو ينتج نتيجة البراءة الشرعيّة.

إشكال المحقّق النائيني على تقريبي الاستصحاب :

وقد أورد المحقّق النائيني رحمه اللّه على كلا التقريبين بما حاصله :

إنّ إجراء استصحاب عدم حدوث التكليف لغرض نفي التكليف

ص: 230

تحصيل للحاصل ؛ وذلك لأنّ الشكّ في حدوث التكليف بنفسه يكون موضوعا لنفي التكليف ، إذ أنّ الشك في حدوث التكليف يكون موضوعا لقاعدة قبح العقاب بلا بيان والتي تعني أو تقتضي نفي التكليف في موارد الشكّ فيه.

فانتفاء التكليف ثابت بالوجدان ، فلا معنى للتعبّد بنفيه عن طريق إجراء استصحاب عدم حدوث التكليف ، إذ أنّ غاية ما سينتجه الاستصحاب هو نفي التكليف المشكوك وهو حاصل ببركة قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وبتعبير آخر : إنّ مجرى الاستصحاب هو ما لو كان الأثر المراد تحصيله متوقفا على عدم الحدوث ، فإنّ إجراء الاستصحاب ينفع في إثبات عدم الحدوث تعبدا.

ومثال ذلك ما لو وقع الشكّ في جواز التزوّج من امرأة بسبب الشك في كونها متزوّجة ، فإنّ الذي يصحّح الزواج من هذه المرأة هو إحراز عدم تزوجها ، فلو أجرينا استصحاب عدم تزوّجها فإن ذلك ينتج صحّة الزواج منها ، فالاستصحاب هنا قد تعبدنا بعدم تزوّجها وبهذا تنقّح موضوع صحّة الزواج منها ، إذ أنّ صحّة الزواج منها منوط بإحراز عدم تزوّجها وهذا ما حقّقه لنا الاستصحاب وبه تحقّق جواز الزواج من هذه المرأة تعبدا.

أمّا لو كان نفس الشك بعدم الحدوث موضوعا للأثر المطلوب فعندئد لا يكون للاستصحاب فائدة ؛ لأنّ أقصى ما سينتجه الاستصحاب هو نفي الحدوث ، وهذا لا نحتاجه ؛ وذلك لأنّ الشك في الحدوث كاف في ترتّب الأثر المطلوب فيكون إجراء الاستصحاب تحصيلا للحاصل.

ص: 231

والمقام من هذا القبيل ؛ إذ أنّ الأثر المطلوب تحصيله من الاستصحاب هو نفي التكليف ، ونفي التكليف يكفي فيه الشكّ في حدوث التكليف ؛ وذلك لقاعدة قبح العقاب بلا بيان فعليه يكون إجراء الاستصحاب بلا فائدة ، لأنّ الذي سينتجه الاستصحاب هو عدم حدوث التكليف وبذلك تنتفي المسؤولية عن التكليف ، وهذا المقدار لا نحتاجه لإثبات نفي التكليف ، إذ أنّ إثبات نفي التكليف يحصل بمجرّد الشك في حدوثه إذ هو موضوع نفي التكليف الناشئ عن قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

الجواب على إشكال المحقّق النائيني :

وقد أجاب المصنّف رحمه اللّه عن هذا الإشكال بجوابين :

إنّ ما أفاده المحقّق النائيني رحمه اللّه - لو تمّ - فهو يتمّ بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان وإلاّ فبناء على مسلك حقّ الطاعة لا يكون الاستصحاب تحصيلا للحاصل ؛ وذلك لأنّ موضوع الأثر المطلوب - وهو نفي التكليف - ليس هو الشك في حدوث تكليف بل إنّ موضوعه هو عدم حدوث تكليف ، وهذا الموضوع لا يمكن تحصيله وتنقيحه إلاّ بواسطة الاستصحاب ، فالاستصحاب يعبدنا بعدم حدوث التكليف وبه يتحقّق الأثر المطلوب وهو نفي التكليف.

الجواب الثاني :

إنّ الاستصحاب لا يكون تحصيلا للحاصل حتى بناء على قاعدة قبح العقاب بلا بيان ؛ وذلك لوضوح أنّ مرتبة القبح للعقاب بلا بيان متفاوتة في حالات عدم البيان مع الإذن من الشارع في الترك يكون قبح العقاب أشدّ من حالات عدم البيان المجرّد عن الإذن الشرعي ، ومن هنا يكون

ص: 232

الاستصحاب مفيدا لإثبات المرتبة الشديدة من قبح العقاب.

وبيان ذلك : إنّه لو وقع الشكّ في وجود تكليف إلزامي ولم يكن بالإمكان إجراء الاستصحاب لنفي التكليف فإنّه مع ذلك لو ترك المكلّف ذلك التكليف المشكوك فإنّه لا يعاقب - لو اتّفق أنّ ذلك التكليف ثابت واقعا - وذلك لقبح مخالفته مع افتراض جهله وعدم علمه.

ولو كان ذلك التكليف الإلزامي المشكوك ممّا يمكن إجراء الاستصحاب في مورده فحينئذ لو أجرى المكلّف الاستصحاب وترك التكليف المشكوك واتّفق ثبوت التكليف واقعا فإنّه لا يعاقب ؛ وذلك لقبح معاقبته إلاّ أنّ القبح في مثل هذه الحالة أشدّ ، وذلك لأنّ التكليف - بالإضافة إلى أنّه غير معلوم للمكلّف - هو مأذون في تركه شرعا.

إذن فجريان الاستصحاب تكون له فائدة وهي إثبات المرتبة الشديدة من القبح.

ص: 233

ص: 234

الاعتراضات على أدلّة البراءة

اشارة

وقد ذكر المصنّف اعتراضين منها :

الأوّل : إنّ أقصى ما يمكن استفادته من أدلّة البراءة الشرعيّة هو أنّ مورد جريانها يختصّ بالشبهات البدويّة أمّا الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي فلا تجري البراءة الشرعيّة عنها ، وإذا كان كذلك فلا يكون للبراءة الشرعيّة فائدة مهمّة ؛ وذلك لأنّ الشبهات الحكميّة مثلا غالبا ما تكون واقعة في إطار علم إجمالي ؛ وذلك لأنّه لو لاحظناها لحاظا مجموعيا لوجدنا أنفسنا قاطعين بواقعيّة عدد كبير من مجموع التكاليف المشكوكة.

وبعبارة أخرى : إنّ كلّ شبهة حكميّة فهي طرف في علم إجمالي كبير فلا يمكن إجراء البراءة عنها لعدم جريان البراءة في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

وتقريب ذلك : إنّه وإن كنّا نشك في حرمة العصير العنبي مثلا ونشكّ في حرمة لحم الأرنب وفي حرمة ذبيحة الكتابي وهكذا إلاّ أنّه حينما نلاحظ هذه التكاليف المشكوكة لحاظا مجموعيا يحصل لنا القطع بثبوت الحرمة لبعضها غير المعين ، فيكون كلّ واحد من هذه التكاليف المشكوكة طرفا للعلم الإجمالي.

والجواب عن هذا الاعتراض :

إنّ العلم الإجمالي إنّما يكون منجّزا ويجب الاحتياط في تمام أطرافه لو

ص: 235

افترض عدم انحلاله إلى علم تفصيلي ببعض الأطراف وشك بدوي في بقيّة الأطراف ، أمّا لو افترض انحلاله إلى ذلك فإنّه لا يكون حينئذ منجّزا ؛ وذلك لأنّ افتراض انحلاله يعني افتراض صيرورته علما تفصيليا منجّزا لمتعلّقه وشكا بدويّا مجرى لأصالة البراءة الشرعيّة ، فلو كنّا نعلم إجمالا بوجوب صلاة في ظهر يوم الجمعة إلاّ أنّه وقع الشك فيما هو الواجب هل هو صلاة الظهر أو هو صلاة الجمعة؟ فحينئذ يكون العلم الإجمالي مقتضيا لتنجّز كلا الطرفين إلاّ أن لو اتّفق أنّ علمنا بتعيّن الوجوب في صلاة الظهر فإنّ العلم الإجمالي عندئذ ينحلّ إلى علم تفصيلي بوجوب صلاة الظهر فلو كنّا نحتمل في مثل هذه الحالة بوجوب صلاة الجمعة أيضا لاحتمال وجوب صلاتين يوم الجمعة فإنّ هذا الاحتمال يكون شكا بدويّا ؛ وذلك لأنّ الطرف المقابل له أصبح معلوما تفصيلا ، ومن هنا يمكن جريان البراءة عن وجوب صلاة الجمعة.

والمقام من هذا القبيل فإنّه وإن كنّا نسلّم بوجود علم إجمالي بواقعيّة بعض التكاليف المشكوكة إلاّ أنّ هذا العلم الإجمالي منحلّ إلى علم تفصيلي ببعض الأطراف وشك بدوي في الأطراف الأخرى ؛ وذلك لأنّنا لو لاحظنا مقدار ما هو معلوم إجمالا وافترضناه مئة تكليف من مجموع التكاليف المشكوكة الألف ، ثمّ لاحظنا أنّ ما علمنا بثبوته بواسطة المراجعة للأدلّة لوجدنا أنّ ما علمنا بثبوته هو بمقدار المعلوم بالإجمال أو يزيد عنه وهذا يقتضي انحلال العلم الإجمالي - والذي أطرافه الألف - إلى علم تفصيلي بمقدار ما توصّلنا إلى ثبوته بواسطة الاستنباط وشك بدوي في بقيّة الأطراف ، ومن هنا يمكن إجراء البراءة عن هذه الأطراف ويبقى وجوب الامتثال خاصا بالموارد المعلومة بواسطة الرجوع إلى الأدلّة.

ص: 236

وهذا نظير ما لو كان عندنا قطيع من الغنم نعلم بأن عشرا منها موطوءة للإنسان فإنّه في مثل هذه الحالة لا يجوز أكل لحم واحدة منها ، إلاّ أنّه لو افترضنا قيام الدليل بعد ذلك على أنّ عشرة بعينها من هذه الأغنام هي موطوءة الإنسان فإنّ العلم الإجمالي عندئذ ينحلّ إلى علم تفصيلي وشك بدوي ، فتكون الأغنام العشرة التي علم بكونها موطوءة للإنسان محرّمة وتبقى الأطراف الأخرى مشكوكة بنحو الشك البدوي فتجري عنها البراءة الشرعيّة.

وأمّا دليل الانحلال فله محلّ آخر.

الاعتراض الثاني :

إنّه لو سلّمنا تماميّة أدلّة البراءة الشرعيّة إلاّ أنّها مبتلية بما يعارضها من أدلّة شرعيّة على وجوب الاحتياط في موارد الشك في التكليف ، وهذه الأدلّة المثبتة لوجوب الاحتياط إمّا أن تكون مقتضية لارتفاع موضوع البراءة الشرعيّة وإمّا ألا تكون كذلك ولكنّها متّحدة معها في الموضوع ، أي أنّ موضوع أدلّة البراءة الشرعيّة هو عينه موضوع أدلّة الاحتياط الشرعي إلاّ أنّ أدلّة البراءة تنفي المسؤولية عن التكليف المشكوك وأدلّة الاحتياط تثبتها ، وفي كلا الحالتين تكون أدلّة البراءة الشرعيّة ساقطة.

وبيان ذلك : إنّ أدلّة البراءة الشرعيّة إن كان مفادها هو أنّ موضوع البراءة هو عدم البيان مطلقا أي أنّ مجرى البراءة هو عدم وجود ما يثبت العهدة والمسؤوليّة على المكلّف سواء كان ثبوت العهدة ناشئا عن ثبوت التكليف الواقعي أو ثبوت الاحتياط الشرعي ، فلو كان موضوع البراءة هو عدم ثبوت أحدهما فإنّه - بناء على هذا الفرض - ينتفي موضوع البراءة ؛ وذلك لثبوت الاحتياط الشرعي والذي أخذ عدمه في موضوع البراءة ،

ص: 237

فموضوع البراءة - على هذا الفرض - هو عدم ثبوت الاحتياط الشرعي ومع قيام الدليل على ثبوت الاحتياط الشرعي ينتفي موضوع البراءة.

وبتعبير آخر : إذا كان موضوع البراءة هو عدم العلم بالتكليف الواقعي وعدم العلم بلزوم الاحتياط الشرعي فإنّه لا بدّ في إجراء البراءة حينئذ من ألا يكون علم بالتكليف الواقعي ولا يكون علم بوجوب الاحتياط الشرعي ، إذ أنّه مع العلم بأحدهما لا يكون موضوع البراءة متحقّقا ؛ لأنّ عدمهما مأخوذ في موضوع البراءة ، فعليه لا تجري البراءة الشرعيّة باعتبار ثبوت لزوم الاحتياط الشرعي.

وأمّا لو كان مفاد أدلّة البراءة هو أنّ موضوعها عدم العلم بالتكليف الواقعي فحسب فإنّه - بناء على هذا الفرض - تكون أدلّة البراءة معارضة بأدلّة الاحتياط الشرعي بنحو التعارض المستقر ؛ وذلك لاتّحاد موضوعهما ، إذ أنّ موضوع الاحتياط هو عدم العلم بالتكليف الواقعي كذلك ، وإذا كان موضوع البراءة والاحتياط واحدا فإنّ دليل كل منهما يعارض الآخر ، إذ أنّ دليل البراءة يقول إنّ البراءة هي الجارية في موارد الشك في التكليف الواقعي ودليل الاحتياط يقتضي أنّ الجاري في موارد الشك في التكليف الواقعي هو الاحتياط الشرعي.

ويمكن إثبات دعوى أنّ موضوع البراءة هو عدم العلم مطلقا - أي الأعم من العلم بالتكليف الواقعي والاحتياط الشرعي - بقوله تعالى ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1) ؛ وذلك لأنّ عنوان الرسول - كما قلنا - ليس له موضوعيّة بل إنّ نفي العذاب يكون في تمام موارد عدم العلم وعدم

ص: 238


1- سورة الإسراء آية 15.

وجود ما يصلح للاحتجاج به على العباد ، ولمّا كانت أدلّة الاحتياط صالحة لأن يحتجّ بها على العباد فإنّ نفي العذاب لا يكون موضوعه متحقّقا في مورد الاحتياط الشرعي ، وهذا يعني أنّ ثبوت الاحتياط الشرعي ناف لموضوع البراءة الشرعيّة ؛ وذلك لأنّ موضوعها عدم البيان وعدم الحجّة ، والاحتياط حجّة كما هو مقتضى دليله.

ويمكن إثبات دعوى أنّ موضوع البراءة هو عدم العلم بالتكليف الواقعي فحسب - أي أنّ موضوع البراءة متحقّق في ظرف ثبوت الاحتياط الشرعي أيضا - بمثل حديث الرفع وحديث الحجب فإنّ موضوع الرفع والوضع فيهما رتّب على عدم العلم بالتكليف الواقعي ، فالرفع فيهما ظاهري - كما استظهرنا ذلك - فهو ينفي مطلق المسؤوليّة تجاه التكليف الواقعي ، ومن الواضح أنّ الاحتياط يثبت المسؤوليّة تجاه التكليف الواقعي المشكوك فيكون حديث الرفع نافيا له ، فلو دلّت أدلّة الاحتياط على ثبوت المسؤوليّة تجاه التكليف الواقعي فهذا يعني تعارضها مع أدلّة البراءة ؛ وذلك لأنّ الأولى مثبتة للعهدة في ظرف الشكّ في التكليف الواقعي والثانية نافية لها في ظرف الشك في التكليف الواقعي وهذا من التعارض المستقر.

ومن هنا لا بدّ من استعراض روايات الاحتياط الشرعي لغرض التعرّف على صلاحيّتها لرفع موضوع البراءة الشرعيّة أو معارضتها لأدلّة البراءة الشرعيّة أو عدم صلاحيتها لذلك :

فمنها : المرسل عن الصادق علیه السلام « من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه » (1).

ص: 239


1- الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 64 ، وهي مرسلة الشهيد الثاني في الذكرى وقد أرسلها عن النبي صلی اللّه علیه و آله ، وقيل إنّها في جامع أحاديث الشيعة مرسلة عن الإمام الصادق علیه السلام .

وواضح أنّ هذه الرواية ليست صالحة لإثبات وجوب الاحتياط ؛ وذلك لظهورها في محبوبيّة التجنّب عن الشبهات.

والذي يبرّر هذا الاستظهار هو أنّ سياقها التحفيز على التقوى بقرينة التعليل المصاغ بصيغة النتيجة ، فلا دلالة فيها على لزوم تحصيل هذه النتيجة ؛ إذ الاستبراء للدين لا يعني أكثر من التحفّظ على أغراض الشريعة المجهولة ، وهذا ما نبحث عن لزومه ووجوبه إذ لعلّه غير لازم واللازم هو التحفظ على الغرض الشرعي المعلوم.

ومنها : ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال لكميل « يا كميل أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت » (1).

وهذه الرواية أيضا لا دلالة فيها على لزوم الاحتياط ، وذلك بقرينة تعليق الأمر بالاحتياط على المشيئة ، ومن الواضح أنّ تعليق الأمر على المشيئة والاختيار يوجب عدم انعقاد ظهور للأمر في الوجوب.

وبهذا لا تكون للأمر دلالة على أكثر من محبوبية الاحتياط.

ومنها : ما عن أبي عبد اللّه علیه السلام « أورع الناس من وقف عند الشبهة » (2).

ص: 240


1- الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 46 ، وهي مرويّة عن أمالي الشيخ حسن بن الشيخ أبي جعفر الطوسي رحمهما اللّه بسند متصل إلى الإمام الرضا علیه السلام ، وليس فيها إشكال إلاّ من جهة علي بن محمّد الكاتب ، إذ لم نجد له توثيق في كتب الرجال.
2- الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 38 ، وقد رواها الشيخ الصدوق في الخصال بسند متّصل إلى أبي شعيب ثمّ رفعها أبو شعيب إلى أبي عبد اللّه علیه السلام .

وهذه الرواية كالرواية الأولى ، إذ أنّها رتبت الأورعية على الوقوف عند الشبهة ، فلو كانت الأورعية واجبة للزم تحصيلها بواسطة الوقوف عند الشبهة إلاّ أنّ الكلام في وجوب الأورعيّة وما هو الدليل عليه.

ومنها : خبر حمزة بن طيار أنّه عرض على أبي عبد اللّه علیه السلام بعض خطب أبيه حتى إذا بلغ موضعا منها قال له : كفّ واسكت ، ثمّ قال علیه السلام :

« لا يسعكم فيما ينزل بكم ممّا لا تعلمون إلاّ الكفّ عنه والتثبت والرد إلى أئمّة الهدى حتى يحملوكم فيه على الحقّ ويجلوا عنكم فيه العمى ويعرفوكم فيه الحق ، قال اللّه تعالى : ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) » (1).

وهذه الرواية وإن كانت تامّة الدلالة من حيث لزوم الكفّ والتثبّت عند عدم العلم وأنّه لا يسع المكلّف غير ذلك إلاّ أنّ دلالتها على لزوم الكفّ إنّما هو في حالة عدم مراجعة المعصوم علیه السلام ، وأمّا بعد المراجعة وعدم العثور على ما يوجب رفع الجهل فإنّ الرواية ساكتة عن بيان حكم هذه الحالة ، وهذه الحالة الثانية هي التي يدعي القائلون بالبراءة جريان البراءة الشرعيّة فيها ، إذ أنّهم يشترطون في صحّة جريان البراءة الفحص عن الحكم الواقعي من الأدلّة ، ولا بدّ أن يكون الفحص تاما ومستقصيا لتمام الموارد التي يحتمل العثور فيها على دليل كاشف عن التكليف الواقعي ، أمّا قبل الفحص فيجب التثبت والكف عن الوقوع في الشبهة.

ص: 241


1- الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 3 ، وليس فيها إشكال إلاّ من جهة راوي الحديث ، وهو معتمد لورود روايات تدلّ على رضا الإمام الصادق علیه السلام عنه - وفيها ما هو معتبر - فقد ورد في معتبرة هشام بن سالم أنّ الإمام علیه السلام قال عنه بعد موته « رحمه اللّه ولقّاه نضرة وسرورا فقد كان شديد الخصومة عنّا أهل البيت ».

ومنها : رواية أبي سعيد الزهري عن أبي جعفر علیه السلام قال : « الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة » (1).

وما يمكن أن يقرّب به الاستدلال لصالح القائلين بالاحتياط هو أنّ المكلّف في موارد الشبهة لا يخلو عن أحد حالتين ، إمّا أن يقف عند الشبهة وهو معنى آخر للاحتياط وإمّا أن لا يعتني بالشبهة فيقع في الهلكة ، ومن الواضح أنّ الوقوع في الهلكة عبارة أخرى عن استحقاقه للعقاب وهذا ما يعني مسؤوليته عن التكاليف الواقعيّة المشكوكة والمشتبهة ، ولا يخرج عن هذه المسؤوليّة إلاّ بالالتزام بالحالة الأولى وهي الوقوف عند الشبهة ، وهو معنى آخر للزوم الاحتياط وعدم صحّة إجراء البراءة في موارد الشبهة.

والجواب عن تقريب الاستدلال بالرواية :

إنّ هذه الرواية إمّا مجملة وإمّا ظاهرة في الردع عن الوقوع في الشبهات الاعتقاديّة التي يثيرها أهل الضلال وبيان ذلك :

أنّ الشبهة في اللغة تعني المماثلة والمشاكلة ، وقد شابه زيد عمروا في سمته أي حاكاه وماثله ، وهذا الشيء شبيه لذلك الشيء أي مثله وعلى شاكلته قال اللّه تعالى على لسان بني إسرائيل : ( إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا ) (2).

وتطلق الشبهة عادة في ألسنة الروايات على ما يقابل الحقّ ، وإطلاق عنوان الشبهة على ذلك باعتبار أنّها تتصوّر بصورة الحق وتأخذ بعض سماته الصوريّة فيوجب ذلك المشابهة والمماثلة في نظر أصحاب العقول

ص: 242


1- الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 2 ، والرواية ساقطة عن الاعتبار ، إذ لم نجد لأبي سعيد الزهري ذكرا في كتب الرجال ، فهو مهمل.
2- سورة البقرة آية 70.

الضعيفة والتي لم تقف على كنه الحقّ ، فتحسب الباطل حقا لتلبّسه بصورة الحقّ ؛ وما ذلك إلاّ لأنّ أهل الضلال أضفوا على باطلهم حجابا ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب.

والذي يؤيد ما ذكرناه من معنى الشبهة هو ما روي عن أمير المؤمنين علیه السلام أنّه قال لابنه الإمام الحسن علیه السلام « وإنّما سمّيت الشبهة شبهة لأنّها تشبه الحق ، فأمّا أولياء اللّه فضياؤهم فيها اليقين ودليلهم سمت الهدى ، وأمّا أعداء اللّه فدعاؤهم فيها الضلال ودليلهم العمى » (1).

ومن هنا يكون ظاهر الرواية هو التصدّي للردع عن الوقوع في شبهات أهل الضلال وأنّ الوقوع في الشبهات يوجب الهلكة والتي تعني السخط الإلهي ، فتكون الرواية - بناء على هذا الاستظهار - أجنبيّة عن محلّ البحث.

وأمّا مع عدم قبول هذا الاستظهار فاستظهار المعنى الأول غير ممكن ؛ وذلك لأنّ الشبهة وإن كانت تطلق على الشك باعتبار أنّ الشك يؤول إلى التحيّر ، والشبهة كثيرا ما توجب التحيّر ، فالشبهة إذن توجب في أحيان كثيرة الشك إلاّ أنّه مع ذلك لا معيّن لإرادة الشك من الشبهة في الرواية الشريفة وهذا ما يقتضي الإجمال في الرواية ، وبه يسقط الاستدلال بها على لزوم الاحتياط في موارد الشك في التكليف الواقعي.

وقد أجاب جمع من الأعلام على الاستدلال بهذه الرواية بجواب آخر ، وحاصله :

أنّ ظاهر الرواية هو وجود تكاليف منجّزة في مرحلة سابقة عن هذا

ص: 243


1- الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 24.

التحذير ، وذلك بقرينة التعبير بالوقوع في الهلكة ، والذي يستبطن وجود محاذير متقرّرة يكون تجاوزها موجبا للوقوع في الهلكة ، فهي نظير ما لو أمر المولى عبده بإنجاز بعض الأعمال على نحو اللزوم ثمّ في خطاب آخر حذّره من مخالفة أمره ، فهنا التحذير إنّما هو عن تكليف متنجّز بمنجّز آخر سابق على هذا التحذير.

وإذا كان هذا هو ظاهر الرواية فهي غير صالحة للاستدلال بها على وجوب الاحتياط الذي نبحث عنه ؛ وذلك لأنّ الاحتياط المبحوث عنه هو الاحتياط الرافع بنفسه لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان ، إذ أنّ مفاد هذه القاعدة هو أنّ العقل يدرك أو يحكم بكون المكلّف في سعة من جهة التكاليف المشكوكة ما لم يقم دليل شرعي على تنجيز التكاليف المشكوكة ، فلو دلّت أدلة الاحتياط على تنجّز التكاليف غير المعلومة فلابدّ حينئذ من رفع اليد عن هذه القاعدة العقليّة ، وبناء على ذلك تكون أدلّة الاحتياط بنفسها موجبة لتنجيز التكليف غير المعلوم لا أنّ التكليف غير المعلوم يكون منجّزا بمنجّز آخر سابق على الاحتياط الشرعي.

وما هو ظاهر الرواية - كما ذكرنا - هو أنّ التكليف المشكوك منجّز في مرحلة سابقة على الاحتياط فلا تكون الرواية من أدلّة الاحتياط الشرعي والذي ينجّز التكاليف المجهولة بنفسه ويقتضي بنفسه انتفاء موضوع القاعدة العقليّة ، وبهذا يتّضح أنّ التحذير في الرواية إنّما هو عن مخالفة التكاليف المتنجّزة بمنجّزات سابقة كالعلم الإجمالي مثلا.

وبما ذكرناه يتّضح أنّ هذا الجواب مبني على الإيمان بقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

ومنها : رواية جميل بن صالح عن أبي عبد اللّه علیه السلام عن آبائه علیهم السلام قال :

ص: 244

قال رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله « الأمور ثلاثة ، أمر بيّن لك رشده فاتبعه ، وأمر بيّن لك غيّه فاجتنبه ، وأمر اختلف فيه فردّه إلى اللّه » (1).

وتقريب الاستدلال بالرواية :

إنّ الرواية ظاهرة في انحصار الأشياء في هذه الأمور الثلاثة ، ولا ريب أنّ الشبهات الحكميّة ليست من الأول ولا من الثاني فيتعيّن أنّها من القسم الثالث.

ومن هنا يجب ردّها إلى اللّه جلّ وعلا ، والردّ إلى اللّه تعالى لا يكون إلاّ بالتحرّز عمّا يحتمل مخالفته لأوامر اللّه عزّ وجل الواقعيّة وإلاّ فلا سبيل غير ذلك للتعرّف على حكم اللّه تعالى بعد افتراض أنّها شبهة حكمية.

وبهذا تكون الرواية من أدلّة الاحتياط الشرعي.

والجواب عن الاستدلال بهذه الرواية :

وقد أجاب المصنّف رحمه اللّه عن الاستدلال بهذه الرواية بجوابين :

ص: 245


1- الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 28 ، والإشكال في الرواية من جهة الحارث بن محمد بن النعمان الأحول حيث لم يرد فيه توثيق ، وقد نقل عن الوحيد البهبهاني توثيقه برواية ابن أبي عمير عنه إلاّ أنّ ذلك لم يثبت ، نعم روى ابن أبي عمير عن الحارث بواسطة الحسن بن محبوب ، ولعلّ هذا هو مقصود الوحيد رحمه اللّه إلاّ أنّ الإشكال على ذلك هو أنّه لا دليل على أنّ كلّ من وقعوا في طريق ابن أبي عمير إلى الإمام علیه السلام فهم ثقات ؛ إذ أنّ كلام الشيخ الطوسي رحمه اللّه في العدّة لا يدلّ على أكثر من وثاقة مشايخ ابن أبي عمير المباشرين ، على أنّ الطريق الوحيد الذي يمكن الاستدلال به على رواية ابن أبي عمير عن الحارث الأحول بواسطة ابن محبوب هو طريق الشيخ رحمه اللّه في ترجمة ابن الأحول وهو ضعيف بأبي المفضّل الشيباني ، فلم يثبت أنّ ابن أبي عمير قد روى عن الحارث بواسطة ابن محبوب ، وبهذا تسقط الرواية عن الاعتبار.
الجواب الأول :

إنّ من المحتمل قويا أن يكون المراد من الردّ إلى اللّه تعالى هو الرجوع إلى كتاب اللّه جلّ وعلا وسنة نبيّه صلی اللّه علیه و آله ؛ وذلك لأنّهما الوسيلة للتعرّف على حكم اللّه تعالى ، فيكون الرد بمعنى استنطاق آيات الكتاب العزيز وما ورد عن النبي والمعصومين علیهم السلام .

وعلى هذا فيكون معنى الرواية هو أنّ الأمور تارة تكون واضحة الرشد أو واضحة الفساد وهذه لا تحتاج إلى تبيّن ، وهناك أمور خفيّة ومثار للخلاف ، فهذه يجب ردّها إلى اللّه جلّ وعلا ، والردّ إلى اللّه تعالى لا يكون إلاّ بواسطة الوسائل التي جعلها اللّه طريقا لمعرفة أحكامه فلا يجوز الاعتماد على الحدس والظنون والتي هي موجبة لمحقّ الدين كما ورد في روايات أخرى ، وبهذا لا تكون الرواية متّصلة بمحل البحث.

والجواب الثاني :

هو أنّ الشبهات الحكميّة بعد قيام الدليل القطعي على جريان البراءة الشرعيّة فيها لا تكون من الأمور المختلف فيها والتي يجب الاحتياط في موردها بل هي من الأمور البيّنة الرشد ، أي أنّ حكمها وهو البراءة بيّن الرشد ، فلا يتمّ الاستدلال بالرواية حتى بناء على أنّ الردّ هو الاحتياط.

وكيف كان فلا يوجد من الروايات ما يصلح أن يكون دليلا على وجوب الاحتياط في موارد الشك في التكليف الواقعي.

ومن هنا فلا تصلح هذه الأدلّة وما يماثلها - ممّا لم نذكره - أن تعارض أدلّة البراءة الشرعيّة ، ومع افتراض تحقّق التعارض بين أدلّة البراءة وأدلّة الاحتياط فإن الترجيح يكون مع أدلّة البراءة ؛ وذلك أولا لأنّ البراءة مستفادة من القرآن كقوله تعالى : ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ

ص: 246

حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (1) ، وأمّا وجوب الاحتياط فهو مستفاد من أخبار آحاد وقد ثبت في بحث التعارض أنّ الدليل القرآني إذا عارضه خبر الواحد فإنّ الدليل القرآني هو المقدّم ، وبذلك تسقط الحجيّة عن خبر الواحد فلا يكون صالحا لإثبات مؤداه.

وثانيا : إنّ العلاقة بين دليل الاحتياط ودليل البراءة هي علاقة العام والخاص ؛ وذلك لأنّ دليل الاحتياط يأمر بالاحتياط في موارد الشبهات البدويّة والشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، وأمّا دليل البراءة فمؤداه هو جريان البراءة في خصوص موارد الشبهات البدويّة.

ومن هنا يمكن الجمع العرفي بينهما ، وذلك بواسطة حمل العام وهو دليل الاحتياط على الخاص وهو دليل البراءة وهذا يعني تقديم أدلّة البراءة على الاحتياط في موارد الشبهات البدويّة وتبقى أدلّة الاحتياط مثبة لوجوب الاحتياط في موارد الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي.

وثالثا : لو سلمنا باستحكام التعارض بين دليلي الاحتياط والبراءة - وعدم وجود ما يقتضي تقديم أدلّة البراءة - وترتّب على ذلك سقوط الدليلين عن الحجيّة فإن بالإمكان الرجوع إلى أدلّة الاستصحاب والتي هي أعم من دليلي البراءة والاحتياط ، ومن الواضح أنّ الاستصحاب - كما تقدّم - يقتضي عدم حدوث التكليف المشكوك ، وبهذا تكون نتيجته كنتيجة البراءة.

وبيان ذلك : إنّ دليل الاستصحاب أعم من دليل الاحتياط ؛ وذلك لأنّ دليل الاستصحاب - مثل قول أبي عبد اللّه علیه السلام في صحيحة زرارة « ولا

ص: 247


1- سورة التوبة آية 115.

ينقض اليقين أبدا بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر » (1) - يشمل مثل موارد الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة ، وأمّا الاحتياط فهو مختص بموارد الشبهات الحكميّة ، وإذا كان كذلك فالمقدّم هو دليل الاحتياط في موارد الشبهات الحكميّة حملا للعام على الخاص ، إلاّ أنّ دليل الخاص « الاحتياط لمّا كان مبتليا بما يعارضه وهو دليل البراءة فحينئذ لا يصلح لتخصيص دليل الاستصحاب ؛ وذلك لسقوطه مع دليل البراءة بالتعارض ، فيبقى عموم دليل الاستصحاب على حاله ، وباعتبار أنّ دليل الاستصحاب يثبت عدم حدوث التكليف المشكوك فهذا يعني أنّه ينتج نتيجة البراءة الشرعيّة وهو التأمين عن التكليف المشكوك.

ولغرض توضيح المطلب أكثر نذكر هذا المثال :

لو ورد دليل مفاده « أكرم كلّ العلماء » ثمّ ورد مخصّص لهذا الدليل مفاده « لا تكرم فسّاق العلماء » فإن هذا الدليل المخصّص يقتضي تخصيص عموم العام فتكون النتيجة هي وجوب إكرام العلماء العدول إلاّ أنّه لو ورد ما يعارض دليل المخصّص مثلا « فساق العلماء يجب إكرامهم » فإنّ المخصّص وهو « لا تكرم فسّاق العلماء » يسقط عن الحجيّة بسبب ورود ما يعارضه ، وبهذا لا يكون صالحا لتخصيص العام ، فيبقى عموم العام على حاله فيكون الواجب هو إكرام جميع العلماء.

والمقام من هذا القبيل ؛ وذلك لأنّ المخصص لدليل الاستصحاب العام سقط بسبب ابتلائه بالمعارض وهو دليل البراءة فيبقى دليل العام صالحا لنفي التكليف المشكوك بواسطة استصحاب عدم حدوثه.

ص: 248


1- الوسائل باب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 1.

تحديد مفاد البراءة

اشارة

ويقع البحث في المقام عن بيان حدود مجرى هذا الأصل بعد أن ثبتت حجيّته في الجملة وأنه رافع لموضوع الاحتياط العقلي.

والبحث عن حدود مجرى هذا الأصل يقع في جهات :

الجهة الأولى : البراءة مشروطة بالفحص :

والبحث في هذه الجهة عن أن جريان البراءة هل هو مشروط بالفحص في الأدلّة التي يحتمل العثور فيها على ما يرفع الشك أو أنّ مجرى هذا الأصل هو عدم العلم مطلقا؟ فبمجرّد أن يكون المكلّف جاهلا بالتكليف فإنّ له أن يجري أصل البراءة عن ذلك التكليف دون الحاجة إلى أن يتعب نفسه ويكلّفها مؤنة البحث والتنقيب في الأدلّة التي يحتمل العثور فيها على ما يثبت التكليف المشكوك.

قد يقال ذلك باعتبار أنّ بعض أدلّة البراءة مطلقة من هذه الجهة ، وذلك كحديث الرفع حيث رتّب فيه الرفع على عدم العلم دون التقييد بالفحص ، وهذا ما يقتضي صحّة إجراء البراءة قبل الفحص.

إلاّ أنّه يجاب عن هذه الدعوى بأنّ الإطلاق غير مقصود حتما ؛ وذلك لدلالة بعض أدلّة البراءة على لزوم الفحص قبل إجراء البراءة فلابدّ

ص: 249

من تقييد إطلاق حديث الرفع لو تمّ له إطلاق.

وبيان ذلك :

إنّ المستفاد من قوله تعالى ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1) أنّ البراءة تجري في حالات عدم البيان ؛ وذلك لأنّ عنوان الرسول في الآية ذكر كمثال للبيان ، ومن الواضح أنّ البيان لا يعني حصول العلم الاتفاقي بالتكليف بل هو يعني توفير ما يقتضي العلم بالتكليف ، فإذا هيّأ اللّه تعالى أسباب العلم بالتكاليف فإنّ له الحجّة على عباده وله أن يعاقبهم على ترك التكاليف ؛ وذلك لأنّه تعالى بيّن لهم تلك التكاليف عن طريق بعث الرسول صلی اللّه علیه و آله ونصب الأئمة المعصومين علیهم السلام أو إيصال آثارهم ومأثوراتهم وجعل الحجيّة والدليليّة لتلك الآثار قال اللّه تعالى ( لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (2).

ومن الواضح أنّ الرسل علیهم السلام لا يطرقون باب كلّ مكلّف ليعلّموه أحكام اللّه جلّ وعلا بل إنّ نفس بعثهم وتصديهم للتبليغ كاف في صدق البيان والإيصال للأحكام.

وبهذا الإيصال تكون الغاية التي علّق عليها نفي العذاب منتفية ؛ إذ أنّ نفي العذاب في الآية المباركة علّق على عدم البيان فمع وجود البيان لا دليل على انتفاء استحقاق العذاب بل بمقتضى مفهوم الغاية يثبت استحقاق العذاب مع البيان ، نعم لو فحص المكلّف في المواطن التي يحتمل العثور فيها

ص: 250


1- سورة الإسراء آية 15.
2- سورة النساء آية 165.

على ما يثبت التكليف فلم يجد ما يثبت التكليف فإنّه يكون من مصاديق منطوق الجملة الغائيّة في الآية المباركة ، أمّا مع عدم الفحص رغم وجود وسائل العلم التي يمكن أن يصل عن طريقها إلى العلم بثبوت التكليف لا يحرز المكلّف - في مثل هذه الحالة - أنّه من مصاديق منطوق الآية وهي أنّ اللّه لا يعذبه لأنّه لم يبيّن له بل يحتمل أنّه ممن بيّن له التكليف ، وبذلك يكون مستحقا للعذاب عند المخالفة ، ومن هنا لا بدّ من الفحص لإحراز التأمين من العذاب.

وهكذا الكلام في قوله تعالى ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (1) بنفس التقريب السابق وأنّ البيان الذي علّق على عدمه نفي الإضلال إنّما هو إيجاد أسباب العلم فما لم توجد فلا إضلال ولا عذاب ، ومتى ما كانت أسباب العلم موجودة فإنّ الغاية - وهي البيان - قد تحقّقت ، وبها يكون المكلّف مستحقا للإضلال والعذاب.

ولكي يحرز المكلّف التأمين من العذاب وأنّه لم يبيّن له لا بدّ من الفحص قبل إجراء البراءة ، وبهذا اتّضح عدم إمكان التمسّك بإطلاق حديث الرفع لنفي لزوم الفحص قبل إجراء البراءة الشرعيّة.

ويمكن أن يستدل على لزوم الفحص قبل إجراء البراءة بالإضافة إلى ما ذكرناه بدليلين :

الأوّل : إنّه قد ذكرنا في الاعتراض الأوّل على أدلّة البراءة أنّ المكلّف لو لاحظ الشبهات الحكميّة لحاظ مجموعيّا لوجد نفسه قاطعا بواقعيّة عدد

ص: 251


1- سورة التوبة آية 115.

كبير من هذه التكاليف المشكوكة ، وهذا يعني وجود علم إجمالي أطرافه هي جميع الشبهات الحكميّة ، وذكرنا أنّ المخرج من هذه المشكلة إنّما هو مراجعة الأدلّة والخروج منها بما يثبت عددا من التكاليف تكون بمقدار المعلوم بالإجمال ، وبذلك ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي - بتلك التكاليف الثابتة بواسطة الاستنباط والمراجعة للأدلّة - وشك بدوي في بقيّة الشبهات الحكمية.

ومن الواضح أنّ هذا الانحلال لا يتمّ إلاّ بواسطة الفحص والتنقيب في الأدلّة عمّا يرفع الشبهة ، أمّا مع عدم الفحص فيبقى العلم الإجمالي منجّزا وموجبا للاحتياط في تمام أطرافه.

الثاني : الروايات الآمرة بالتعلّم وأنّ عدم العلم وحده ليس معذّرا ما لم يسع الإنسان لتحصيل العلم.

ومن هذه الروايات ما ورد في أمالي الشيخ بإسناده عن مسعدة بن زياد قال : سمعت جعفر بن محمد علیه السلام وقد سئل عن قوله تعالى ( فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (1) فقال علیه السلام : « إنّ اللّه تعالى يقول لعبده يوم القيامة : عبدي كنت عالما؟ فإن قال : نعم. قال له : أفلا عملت بما علمت؟! وإن قال : كنت جاهلا. قال : أفلا تعلّمت حتى تعمل؟! فيخصمه ، فتلك الحجّة البالغة » (2).

ومن هنا تكون مثل هذه الروايات الشريفة صالحة لتقييد إطلاق ما دلّ على صحّة إجراء البراءة في موارد عدم العلم ، فتكون أدلّة البراءة نافية

ص: 252


1- سورة الأنعام آية 149.
2- أمالي الشيخ أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي رحمه اللّه 1 / 8 - باب 1 ح 10.

للمسؤولية تجاه التكليف في خصوص حالات عدم العلم الذي لم ينشأ عن عدم التعلّم.

ومبرّر هذا التقييد هو أنّ أدلّة البراءة تنفي المسؤوليّة عن المكلّف في حالات عدم العلم مطلقا أي سواء كان عدم العلم ناشئا عن عدم القدرة على تحصيل العلم أو ناشئا عن التقصير في تحصيل العلم.

ورواية مسعدة بن زياد التي ذكرناها تثبت المسؤولية في حالات عدم العلم الناشئ عن التقصير في تحصيل العلم ، فالعلاقة إذن بين أدلّة البراءة ورواية مسعدة هي علاقة الإطلاق والتقييد.

ومن هنا يمكن الجمع العرفي بينهما وهو أن نقيّد إطلاق أدلّة البراءة بمثل رواية مسعدة ، وبذلك تكون أدلّة البراءة خاصة بموارد عدم العلم بعد الفحص لا عدم العلم مطلقا.

الجهة الثانية : التمييز بين الشك في التكليف والشك في المكلّف به :

ذكرنا فيما سبق أنّ مجرى البراءة هو الشك في التكليف بمعنى أنّ المكلّف إذا كان يشك في فعليّة تكليف - سواء كان منشأ الشك هو عدم العلم بأصل الجعل أو كان المنشأ هو عدم العلم بمصداقيّة الموضوع الخارجي للتكليف المعلوم - فإنّه في سعة من جهة ذلك التكليف ، أي أنّ البراءة الشرعيّة والعقليّة تجريان في هذا المورد - بناء على مسلك قبح العقاب بلا بيان - وأمّا بناء على مسلك حق الطاعة فما يجري في مثل هذا المورد هو البراءة الشرعيّة - كما ذكرنا ذلك مفصلا.

أمّا لو كان الشك في المكلّف به - أي في متعلّق التكليف - كأن كان يعلم

ص: 253

بوجوب التصدّق على الفقير إلاّ أنّه يشك في تحقّق الامتثال وعدمه فهنا لا تجري البراءة الشرعيّة ولا العقليّة بل الجاري في مثل هذه الموارد هو أصالة الاشتغال العقلي ؛ وذلك للعلم بالتكليف ، غايته أنّ الشك في تحقّق امتثال التكليف وهو لا يصحّح إجراء البراءة ، إذ أنّ موضوع البراءة هو الشك في التكليف لا الشك في امتثال متعلّق التكليف.

ومن هنا لم يختلف أحّد من الفقهاء في جريان أصالة الاشتغال العقلي والتي تقتضي بقاء ذمّة المكلّف مشغولة بذلك التكليف المعلوم حتى يحرز الخروج عن عهدة ذلك التكليف.

وإحراز الخروج عن عهدة التكليف يتفاوت بتفاوت نوع المتعلّق للتكليف ، فتارة يكون إحراز الفراغ بإعادة المتعلّق ، كما لو صلّى وشك في واجديّة صلاته للشروط المأخوذة في صحتها - مع افتراض عدم جريان قاعدة الفراغ في ذلك المورد - وتارة يكون إحراز فراغ الذمّة باختيار المصداق المتيقّن مصداقيّته لمتعلّق التكليف ، كما في حالة الشك في فقر زيد والعلم بفقر عمرو فإنّ مقتضى قاعدة الاشتغال هو إعطاء زكاة الفطرة مثلا لعمرو وهكذا ، وهذا التفاوت في كيفيّة إحراز الفراغ عن التكليف المعلوم لا يمثّل تفاوتا واقعيّا بل كلّ الكيفيّات ترجع روحا إلى أمر واحد ، وإنّما ذكرنا ذلك لرفع اللبس عن الطالب ، وبالتأمّل يتّضح ما ذكرناه.

وكيف كان فلا إشكال كبرويا في جريان أصالة الاشتغال العقلي في موارد الشكّ في المكلّف به ، وإنّما الإشكال يقع في تمييز موارد الشك في المكلّف به ، فقد يقع الخلط بين الشك في المكلّف به والشك في التكليف ، ومن هنا لا بدّ من التروّي قبل إجراء أحد الأصلين « البراءة أو الاشتغال »

ص: 254

وأن المورد هل هو من موارد الشك في التكليف أو الشك في المكلّف به.

التمييز بين مجرى الأصلين في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة :

أمّا التمييز في موارد الشبهات الحكميّة فيتم بواسطة ملاحظة متعلّق الشك « المشكوك » ، فتارة يكون الشك في أصل ثبوت التكليف ، وتارة يكون الشكّ في امتثال التكليف المعلوم أي الشك في امتثال متعلّق التكليف ، والأول هو مجرى أصالة البراءة ؛ لأنّ موضوعها الشك في التكليف وهو كذلك ، ومثاله الشك في حرمة العصير العنبي أو الشك في حرمة ذبيحة الكتابي.

والثاني - وهو الشك في امتثال التكليف - مجرى لأصالة الاشتغال ، ومثاله أن يعلم المكلّف بتعلّق ذمته بدين ويشك في أدائه فإن اللازم عليه هو أداء الدين خروجا عن عهدة التكليف المعلوم.

وأمّا التمييز في موارد الشبهات الموضوعيّة فهو الذي يحتاج إلى مزيد تأمّل ، وأن المورد هل هو من موارد الشك في فعليّة التكليف حتى تجري البراءة أو هو من موارد الشك في المكلّف به حتى يكون المجرى هو أصالة الاشتغال العقلي؟

ونذكر هنا إشكالا قد يخطر في الذهن : وهو أن الشك في الموضوع لا تجري عنه البراءة ؛ وذلك لأنّ التكليف معلوم دائما في حالات الشك في الموضوع ، فالمكلّف حينما يشك في خمريّة هذا السائل إنّما يشك في مصداقيّة هذا السائل للخمر المعلوم الحرمة ، فلا شك في الحرمة ، وإنّما الشك في الموضوع الخارجي ، ومن هنا كيف نصحّح جريان البراءة والحال أنّ موضوعها هو الشك في التكليف؟

ص: 255

والجواب عن هذا الإشكال قد اتّضح ممّا ذكرناه مرارا من أنّ الشك في الموضوع قد يؤول إلى الشكّ في فعليّة الحكم ؛ وذلك لأنّ المكلّف في موارد الشك في الموضوع وإن كان يعلم بالحكم إلاّ أنّه يعلم بأصل جعله أمّا فعليته فهي مشكوكة ، إذ أنّه حينما يشك في مصداقيّة هذا السائل للخمر فهذا يعني أنّه يشكّ في تحقّق موضوع الحرمة ، ومن الواضح أنّ فعليّة الحرمة تابع لتقرّر موضوعها وإحرازه ، فالشك في تحقّق الموضوع يساوق الشك في فعليّة الحرمة لذلك الموضوع.

وإنّما قلنا إنّ الشك في الموضوع قد يؤول إلى الشك في فعليّة الحكم لأنّ الشك في الموضوع قد لا يؤول إلى ذلك.

وتمييز الحالات التي يؤول فيها الشك في الموضوع إلى الشك في فعليّة الحكم عن حالات الشك في الموضوع التي لا تكون كذلك هو الذي يحدّد مجرى أصالة البراءة وأصالة الاشتغال العقلي ، فالحالات التي يؤول فيها الشك في الموضوع إلى الشك في فعليّة الحكم هي مجرى أصالة البراءة والحالات الأخرى مجرى لأصالة الاشتغال العقلي.

وبتعبير آخر : إنّ فعليّة كلّ حكم مقيدة بتحقّق موضوعها خارجا ، والشك في الموضوع عبارة ثانية عن الشك في تحقّق قيد الفعليّة للحكم.

ومن هنا لا بدّ من بيان أنحاء الشك في الموضوع أو قل أنحاء الشك في قيد الفعليّة للحكم :

النحو الأوّل : أن يكون الشك في وجود قيد الفعليّة للحكم خارجا مع العلم بأصل وجود الحكم « الجعل » وأنّه مقيد بذلك القيد.

ومثاله وجوب صوم شهر رمضان المبارك ، فإن وجوب الصوم

ص: 256

معلوم وإنّ فعليته منوطة بحلول شهر رمضان معلومة أيضا إلاّ أنّ الشك يقع في حلول شهر رمضان وعدم حلوله ، أي أنّ الشك في تحقّق قيد الفعليّة خارجا.

وهنا لا إشكال في جريان البراءة الشرعيّة وعدم وجوب الصوم في ذلك اليوم الذي وقع فيه الشك من جهة أنّه من أيّام شهر رمضان أو لا ؛ لأنّ هذا النحو من الشك يؤول إلى الشك في فعليّة التكليف بوجوب الصوم في ذلك اليوم ، وهو موضوع البراءة.

النحو الثاني : أن يكون قيد الحكم معلوم الوجود خارجا في بعض الأفراد ومشكوك الوجود في البعض الآخر ، وهذا النحو على قسمين :

القسم الأوّل : أن يكون الحكم شموليّا أي أنّه منحلّ إلى أحكام بعدد أفراد الطبيعة المجعول عليها الحكم ، وذلك مثل قوله تعالى ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى ) (1) فإنّ الحرمة للزنا شموليّة ، أي أنّها منحلّة إلى حرمات بعدد أفراد طبيعة الزنا.

فتارة يعلم المكلّف أنّ وطأ هذه المرأة زنا ، ويشك في صدق الزنا على وطأ المرأة الثانية ، والشك في صدق الزنا على وطأ الثانية يساوق الشك في فعليّة حرمة وطأ هذه المرأة فتجري البراءة عن ذلك ؛ لأنّه شك في التكليف الزائد أي أنّه يعلم بثبوت حرمات بعدد أفراد طبيعة الزنا ويشك أنّ هذا الفرد ممّا ثبتت له حرمة بالإضافة إلى الحرمات الأخرى المعلوم ثبوتها ، فهو إذن شك في تكليف زائد فيكون مجرى لأصالة البراءة ،

ص: 257


1- سورة الإسراء آية 32.

إلاّ انّ جريان أصالة البراءة إنّما هو بقطع النظر عن سائر الأصول الأخرى التي قد تكون مقدّمة على هذا الأصل ، وإنّما قلنا بجريان أصالة البراءة في مقابل أصالة الاشتغال.

ولمزيد من التوضيح نذكر مثالا آخر.

لو قال المولى « أكرم العلماء » فلو أنّ المكلّف يعلم باتصاف بعض بعض الأفراد بصفة العالميّة إلاّ أنّه يشك في أنّ زيدا هل هو متوفّر على صفة العالميّة أو لا ، في مثل هذه الحالة هل يجب إكرام زيد أو لا.

نقول إنّ الوجوب لمّا كان شموليا فهو ينحلّ إلى وجوبات بعدد أفراد المتّصفين بالعالميّة ، فما هو معلوم مصداقيّته لعنوان العالم فإنّه يكون موضوعا لوجوب الإكرام وإنّما الكلام في من يشك في عالميّته هل يجب إكرامه؟

والجواب هو أنّه لا يجب إكرامه بل تجري البراءة عن وجوب إكرامه ؛ لأنّ الشك في عالميّته يساوق الشك في فعليّة وجوب إكرامه فيكون شكا في تكليف زائد على التكاليف المتعدّدة بعدد أفراد طبيعة العلماء ، والشك في التكليف الزائد مجرى لأصالة البراءة.

القسم الثاني : أن يكون الحكم بدليّا أي أنّ المطلوب هو صرف الوجود ، وصرف الوجود يتحقّق بفرد من أفراد الطبيعة المجعول عليها الحكم ، فالمكلّف في سعة من جهة اختيار أي فرد من أفراد تلك الطبيعة.

ومثاله قوله تعالى ( فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ) (1) فإنّ الأمر هنا بدلي ،

ص: 258


1- سورة النساء آية 43.

أي أنّ المطلوب هو صرف الوجود من طبيعة التيمّم وهو يتحقّق بفرد من أفراد التيمّم ، فلو كان المكلّف يعلم بمصداقيّة هذه الكيفيّة للتيمّم ويشك في أنّ الكيفيّة الثانية - مثل الضرب مرة واحدة أو التي لا يكون معها علوق - هل هي فرد من أفراد طبيعة التيمّم أو لا فإنّ هذا الشك لا يساوق الشك في فعليّة التكليف الزائد ، و

هذا هو المميّز بين هذا القسم والقسم الأوّل.

فحينما يقع الشك في مصداقيّة هذه الكيفيّة للتيمّم فإنّه لا يكون شكا في التكليف الزائد ؛ وذلك لأنّه لو كان هذا الفرد واقعا من أفراد التيمّم لما كان ذلك مستوجبا لثبوت تكليف زائد ؛ لأنّ الوجوب لمّا كان بدليّا فإنّ الواجب حينئذ يكون صرف الوجود.

ومن هنا لا بدّ أن يكون الفرد المأتي به ممّا يحرز أنّه من أفراد الطبيعة المجعول عليها الحكم وإلاّ لا يحرز امتثال المأمور به ، ومع عدم إحراز الامتثال تجري أصالة الاشتغال العقلي.

النحو الثالث : هو الشك في تحقّق متعلّق الوجوب خارجا ، كما لو شكّ في أنّه صلّى صلاة الظهر المعلوم وجوبها أو لم يصلّ ، فالشك هنا متمحّض في تحقّق متعلّق الأمر خارجا ، وبهذا لا يكون محرزا للخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، ومن هنا تجري أصالة الاشتغال.

النحو الرابع : الشك في وجود مسقط شرعي للتكليف ، وقد قلنا - في بحث مسقطات التكليف - إنّ المسقط الشرعي هو الفعل الذي كشف الشارع عن توفّره على ملاك التكليف ، ومن الواضح أنّه إذا كان وافيا بملاك التكليف فإنّ استيفاء ذلك الملاك يكون مقتضيا لسقوط التكليف.

فلو أنّ المولى أمر عبده بأن يأتيه بماء ليشربه ، وكان غرضه الارتواء

ص: 259

فلو علم العبد بعد ذلك عن طريق المولى أنّ الإتيان بالشراب الكذائي موجب لسقوط الأمر بالإتيان بالماء فإنّ الإتيان حينئذ بذلك الشراب يكون وافيا بملاك الأمر وموجبا لسقوطه عن العهدة.

وقد ذكر للمسقطيّة معنيان :

المعنى الأوّل : أخذ عدم المسقط قيدا في الأمر بمعنى إناطة فعليّة الأمر بعدم الإتيان بالمسقط ، كأن يقول المولى هكذا : « يجب عليك الإتيان بالماء إذا لم تأت بالشراب الكذائي » ، ففعليّة الأمر بالماء مقيّدة بعدم الإتيان بالشراب الكذائي.

وحينئذ فلو علم المكلّف بالمسقطيّة فلا كلام إنّما الكلام في حالة الشك في المسقطيّة ، وهذا الشك له صورتان :

الصورة الأولى : أن يكون الشك في أصل ثبوت المسقطيّة شرعا كأن يقع الشك في أن الشارع هل جعل الهدي في الحج موجبا لسقوط الأمر بالعقيقة أو لا؟

والشك هنا بنحو الشبهة الحكميّة ؛ وذلك لأنّه يؤول إلى الشك في أصل ثبوت الجعل الشرعي.

الصورة الثانية : أن يكون الشك في تحقّق المسقطيّة خارجا مع العلم بأصل جعل المسقطيّة شرعا ، كأن يشك في أنّه هل ذبح هديا في الحج أم لا؟ مع علمه بأن ذبح الهدي موجب لسقوط الأمر بالعقيقة. وفي كلا الصورتين تجري البراءة عن التكليف لو كان الشك في تقيّد التكليف بعدم المسقط ؛ وذلك لأنّه حينئذ يكون شكا في فعليّة التكليف.

وبيان ذلك :

ص: 260

أمّا بنحو الشبهة الحكميّة فلأن الشك في أصل مسقطيّة الهدي للأمر بالعقيقة - بنحو يكون الأمر بالعقيقة مقيدا بعدم ذبح الهدى - يعني الشك في فعليّة الأمر بالعقيقة مع تحقّق الذبح خارجا.

وذلك مثل ما لو شككنا بتقيّد وجوب الحج بعدم وجوب أداء الدين ، فلو وجب أداء الدين على المكلّف فإنّه عندئذ يشك في حدوث الفعليّة لوجوب الحج عليه ، والشك في فعليّة التكليف مجرى لأصالة البراءة.

والحاصل أنّ الشك في ثبوت المسقط شرعا يساوق الشكّ في فعليّة التكليف لو اتّفق تحقّق ما يشك في مسقطيته شرعا.

وأمّا بنحو الشبهة الموضوعيّة فلأن الشك في مجيئه بما يسقط الوجوب شرعا يعني الشك في حدوث الفعليّة للوجوب ، إذ أنّ المسقط قد أخذ عدمه في تحقّق الفعليّة للوجوب ، فإذا شك في تحقّق المسقط خارجا فهذا يعني أنّه يشك في حدوث الفعليّة للوجوب.

وذلك مثل ما لو علمنا بأن وجوب الصلاة مقيّد بعدم الحيض ، فلو شكت المرأة بعد ذلك في حدوث الحيض لها قبل ابتداء الوقت فإنّ هذا يساوق الشك في تحقّق الفعليّة لوجوب الصلاة ؛ وذلك لأنّ وجوب الصلاة قد أخذ عدم الحيض قيدا في وجوبها ، فالشك في تحقّق المانع عن الفعليّة يؤول إلى الشك في تحقّق الفعليّة للوجوب فيكون مجرى لأصالة البراءة.

وهكذا المقام فإنّ الشك في تحقّق ما يعلم بمسقطيّته للتكليف يساوق الشك في حدوث الفعليّة للتكليف ، وذلك لاحتمال تحقّق المسقط خارجا.

المعنى الثاني : هو أنّ المسقطيّة تعني إناطة بقاء الوجوب بعدم المسقط ، فالوجوب معلوم الحدوث إلاّ أنّ الشك في رافعيّة المسقط - لو

ص: 261

حدث - للوجوب ، وذلك كأن يقول المولى « تجب العقيقة على كلّ مكلّف إلاّ إذا ذبح هديا في الحج ، فإن وجوب العقيقة يسقط عنه » فيكون حينئذ عدم ذبح الهدي قيدا في بقاء الوجوب للعقيقة.

ويمكن التنظير لهذه الحالة بما لو اعتبرنا السفر رافعا لوجوب الصوم في نهار شهر رمضان ، فوجوب الصوم معلوم الحدوث في أوّل النهار إلاّ أنّه لو اتّفق أن سافر المكلّف قبل الزوال فإنّ وجوب الصوم يرتفع ؛ وذلك لأنّ عدم السفر أخذ قيدا في بقاء الفعليّة لوجوب الصوم ، ومن هنا لو شكّ المكلّف في تحقّق السفر منه فإنّ ذلك يساوق الشك في بقاء وجوب الصوم.

وكيف كان فقد ذهب المشهور إلى جريان أصالة الاشتغال عند الشك في تحقّق المسقط ؛ وذلك لكون التكليف معلوم الحدوث ، فلابدّ من إحراز الخروج عن عهدة ذلك التكليف المعلوم ، فهو نظير الشك في الامتثال بعد العلم بتنجّز التكليف ، فإنّه لا إشكال في جريان أصالة الاشتغال ؛ وذلك لأنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

فالمكلّف حينما يكون عالما بوجوب العقيقة ويشك بعد ذلك في حدوث المسقط - وهو ذبح الهدي - فإنّ ذلك لا يبرّر سقوط الوجوب بعد ما علم بمسؤوليته عن امتثاله ، نعم لو أحرز وجود المسقط فإنّ ذلك يوجب سقوط الوجوب عن العقيقة أمّا مع عدم العلم بتحقّق ذبح الهدي منه فإنّ الشغل اليقيني بوجوب العقيقة يستوجب إفراغ الذمّة عن ذلك الوجوب يقينا.

إلاّ أنّ المصنّف رحمه اللّه خالف المشهور في هذا المورد وذهب إلى جريان البراءة ؛ وذلك لأنّ الشك في وجود المسقط يساوق الشك في بقاء الوجوب

ص: 262

وهو معنى آخر عن الشك في فعليّة الوجوب ، وهذا هو موضوع البراءة إلاّ أنّ موضوع الاستصحاب متحقّق في المقام أيضا ؛ وذلك للعلم بحدوث التكليف والشك في بقائه ، ومن هنا فالجاري في المقام هو أصالة الاستصحاب ؛ وذلك لتقدمه على البراءة كما سيأتي ذلك في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

الجهة الثالثة : البراءة عن الاستحباب :

ويقع البحث في المقام عن حدود مجرى أصالة البراءة ، وهل أنّها تسع موارد الشك في التكاليف غير الإلزاميّة - وهي الاستحباب والكراهة - أو أنّها مختصة بموارد الشك في التكاليف الإلزاميّة؟

ويعرف الجواب عن ذلك بمراجعة أدلّة البراءة ، وقد صنّف المصنّف رحمه اللّه الأدلّة إلى طائفتين :

الطائفة الأولى : وهي الآيات والروايات التي تقتضي السعة ونفي الضيق من جهة التكاليف المشكوكة وتقتضي كذلك التأمين من استتباع ترك التكاليف المشكوكة للعقاب والإدانة ، وذلك مثل قوله علیه السلام « الناس في سعة ما لا يعلمون » (1) وقوله تعالى ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها ) (2)

ص: 263


1- هكذا تعارف نقل الرواية في كتب الأصول ، والظاهر عدم وجود هذا اللسان في كتب الأخبار ، نعم ورد ما يقارب هذا اللسان في رواية السفرة ، حيث ورد في ذيلها « هم في سعة حتى يعلموا ». والإشكال في سند الرواية من جهة النوفلي ، ولا يبعد صحة الاعتماد على الرواية الوسائل باب 50 من أبواب النجاسات ح 11.
2- سورة الطلاق آية 7.

وقوله تعالى ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1) ، وهذه الطائفة من الأدلّة لا تشمل موارد التكاليف غير الإلزاميّة جزما ؛ وذلك لأنّ المكلّف في سعة من جهتها لو ثبتت فضلا عمّا لو لم تثبت ، فليس في إجراء البراءة عنها توسعة زائدة على المكلّف ، كما أنّ مقتضى كونها غير إلزاميّة عدم استتباع العقاب والإدانة على تركها فلا نحتاج في التأمين عن تركها في موارد الشك إلى إجراء أصالة البراءة.

الطائفة الثانية : وهي الروايات التي رتبت رفع المنجّزية عن التكليف في حالات عدم العلم ، وذلك مثل قوله صلی اللّه علیه و آله « رفع عن أمتي ما لا يعلمون » (2) ، وقوله علیه السلام « ما حجب اللّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم » (3).

وهذه الطائفة من الروايات لم تخصّص رفع التكليف بحالات لو كان التكليف فيها ثابتا لكان تركه موجبا للعقاب والإدانة حتى تكون مختصة بالتكاليف الإلزامية بل إنّها أفادت رفع التكليف المشكوك في ظرف عدم العلم ، وهذا يشمل التكاليف غير الإلزامية.

ولكنّه مع ذلك لا يمكن القول بجريان البراءة في موارد التكاليف غير الإلزاميّة لأنّ إجراء البراءة عنها لا يخلو عن أحد معنيين :

إمّا أن يكون المراد من جريان البراءة عن التكاليف غير الإلزاميّة هو الترخيص في تركها وهذا أشبه شيء بتحصيل الحاصل ، إذ أنّ

ص: 264


1- سورة الإسراء آية 15.
2- الوسائل باب 56 من أبواب جهاد النفس ح 1.
3- الوسائل باب 12 من أبواب صفات القاضي ح 33.

الترخيص في الترك هو مقوّم التكاليف غير الإلزامية.

وإمّا أن يكون المراد من جريان البراءة عنها هو أنّه في حالات الشك في التكليف غير الإلزامي يكون الاحتياط مرجوحا وغير مطلوب شرعا ، وهذا لا يمكن المصير إليه للقطع برجحان الاحتياط عقلا وشرعا بنحو مطلق.

ولكي يكون المطلب مأنوسا أكثر نذكر هذه الأمثلة :

الأوّل : لو شكّ المكلّف في استحباب صلاة الغفيلة ولم يعثر على دليل معتبر يثبت استحبابها ، فإنّه لو قلنا بجريان البراءة عن الاستحباب المشكوك فإنّ ذلك ينتج نفي استحباب الاحتياط ؛ وذلك لأنّ البراءة في التكاليف الإلزاميّة تنفي وجوب الاحتياط فهي في التكاليف غير الإلزاميّة تنفي استحباب الاحتياط.

وأما لو قلنا بعدم جريان البراءة عن الاستحباب المشكوك فإنّ ذلك يقتضي عدم وجود ما ينفي استحباب الاحتياط.

الثاني : لو شك في كراهة النوم بين الطلوعين ولم يعثر على دليل معتبر على ثبوت حكم الكراهة ، فإنّه لو قلنا بجريان البراءة عن الكراهة المشكوكة فإنّ ذلك يقتضي نفي استحباب الاحتياط ، وهو يعني أن الاحتياط بترك النوم بين الطلوعين ليس مطلوبا شرعا.

أما لو قلنا بعدم جريان البراءة فلا موجب لنفي استحباب الاحتياط بترك النوم بين الطلوعين.

الثالث : لو شك في شرطيّة أو جزئيّة شيء في مركب عبادي مستحب ، كما لو شك في جزئيّة السورة في النافلة أو شك في شرطية تكرار

ص: 265

اللعن في زيارة عاشوراء.

فإن قلنا بجريان البراءة فإنّ ذلك يقتضي نفي جزئية ذلك الجزء للمركّب العبادي ، ونفي اشتراط استحباب المركّب العبادي بذلك الشرط المشكوك.

أمّا مع القول بعدم الجريان فإنّ استحباب الاحتياط - بإتيان ما يشك في جزئيته وإيجاد ما يشك في شرطيّته - باق على حاله لعدم وجود ما يوجب رفعه.

ص: 266

قاعدة منجّزية العلم الإجمالي

اشارة

1 - منجزية العلم الإجمالي عقلا

2 - جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي

3 - تحديد أركان القاعدة

4 - دوران الأمر بين الأقل والأكثر

5 - دوران الأمر بين التعيين والتخيير

ص: 267

ص: 268

قاعدة منجّزية العلم الإجمالي

ذكرنا في مباحث القطع أنّ المراد من العلم الإجمالي هو العلم بالجامع مع الشك في انطباق الجامع على أحد أطرافه.

فالعلم الإجمالي مشتمل على حيثيّتين :

الحيثيّة الأولى : هي العلم بالجامع بين الأطراف.

الحيثيّة الثانية : هي الشك في أنّ أيّ الأطراف هي منطبق الجامع.

والمراد من الجامع هو الكلّي المعلوم القابل للانطباق على كلّ واحد من أطرافه.

وأمّا المراد من أطراف الجامع فهي الأفراد التي لو لوحظ كلّ واحد منها على حدة لكان من المحتمل انطباق الجامع عليه ، أمّا لو لوحظت بنحو المجموع لكان من الممكن إحراز عدم كونها جميعا منطبقا للجامع ، وذلك لو كنّا نحرز أنّ المعلوم بالإجمال أقل من أطراف العلم الإجمالي.

وهناك واقع متقرّر في نفسه ومتشخّص في حدّ ذاته إلاّ أنّه مشكوك عند المكلّف ، أي أنّ المكلّف يجهل موضع استقراره وهل هو الطرف الأول أو الثاني أو الثالث وهكذا ، وهذا هو المعبّر عنه بالمعلوم بالإجمال ، وهو غير الجامع ، إذ أنّ الجامع معلوم تفصيلا.

فالمعلوم بالإجمال هو متعلّق الجامع ، أمّا أنّه معلوم فلأنّنا نقطع

ص: 269

بوجوده ، وأمّا أنه معلوم بالإجمال فلأنّنا نجهل موضع استقراره ، فجهة الغموض في المعلوم بالإجمال هي مشخصاته الثابتة في نفس الأمر والواقع والمجهولة عند المكلّف.

ولأجل أن يتضح ما ذكرناه نطبقه على هذا المثال :

لو قطعنا بوقوع نجاسة في أحد الأواني الثلاثة ، فالجامع الصالح للانطباق على تمام هذه الأطراف الثلاثة هو عنوان « أحد الأواني الثلاثة » ، وهذا الجامع معلوم تفصيلا ؛ وذلك لأنّ العلم بالجامع يعني العلم بوجود الكلّي الطبيعي والذي يتحقّق بوجود أحد أفراده ، فإذا علمنا بوجود فرد للكلّي فهذا يعني العلم بوجود الكلّي ، وفرض الكلام أننا نعلم بوجود فرد للكلّي ، غايته أنّ الفرد غير متشخّص إلا أنّ ذلك لا يوجب غموضا من ناحية وجود الكلّي ، مثلا لو كنّا نعلم بوجود فرد من الإنسان فإنّ هذا يساوق العلم بوجود كلّي الإنسان ؛ ولذلك نستطيع أن نقول إننا عالمون بوجود الإنسان في الخارج ، غايته أننا نشك في هوية ذلك الفرد إلاّ أنّه غير الشك في الكلّي كما هو أوضح من أن يخفى.

وأمّا أطراف الجامع فهي الأواني الثلاثة التي نحتمل انطباق الجامع على كل واحد منها.

وأمّا المعلوم بالإجمال فهو الإناء الذي وقعت فيه النجاسة واقعا فهو متقرّر ومتشخص في نفس الأمر والواقع ، إذ أنّ الشيء ما لم يتشخص لا يوجد ، غايته أنّنا نجهل بمشخصاته ، وهذا ما سبّب اتّصافه بالإجمال ، فالإجمال من ناحيتها لا من ناحيته.

ومع اتّضاح المراد من العلم الإجمالي يقع الكلام عن أيّ الأصول

ص: 270

الجارية في مورده ، فنقول :

إنّ البحث الذي فرغنا عنه هو البحث عن مجرى الأصل في موارد الشك البدوي ، وقد انتهينا إلى جريان البراءة الشرعية في مورده ، ويقع الكلام في المقام عمّا هو الأصل الجاري في موارد الشك المقرون بالعلم الإجمالي أي ما هي الوظيفة العملية تجاه أطراف العلم الإجمالي ، والبحث يقع في جهتين :

الجهة الأولى : فيما هو مقتضى الحكم العقلي.

الجهة الثانية : ما تقتضيه الأصول العملية الشرعية.

ص: 271

الجهة الأولى: منجّزيّة العلم الإجمالي عقلا :

اشارة

والبحث في هذه الجهة عن حدود منجّزية العلم الإجمالي بعد الفراغ عن منجّزيّته للجامع لكونه معلوما أي لأنّه متعلّق العلم الإجمالي ، والعلم حجّة بذاته فينجّز معلومه بلا ريب.

إنّما الكلام في حدود هذا التنجيز وهنا ثلاثة احتمالات ثبوتية :

الاحتمال الأول :

أنّ المنجّز بالعلم الإجمالي هو الواقع بمعنى أنّ الجامع المعلوم لمّا كان له منطبق واقعا وفي نفس الأمر - وهو متعلّق الجامع واقعا - فيكون هو المنجّز بالعلم.

وبعبارة أخرى : إنّ العلم يعني الصورة الذهنيّة الحاضرة بنفسها في الذهن ، وهذه الصورة الذهنية تحكي عن متعلّقها وهو المعلوم ، ولو تأمّلنا في موارد العلم الإجمالي لرأينا أنّ الصورة الذهنيّة تحكي عن الواقع الشخصي لمعلومها ومتعلقّها ؛ وذلك لأنّه متى ما تعلّق العلم بالواقع الخارجي فإنّ العلم - وهو الصورة الذهنيّة - تكون مسانخة لمعلومها ، ولمّا كان معلومها متشخصا في نفس الأمر والواقع باعتبار العلم بالوجود الخارجي - والشيء ما لم يتشخص لا يوجد - فهذا يقتضي أنّ المعلوم

ص: 272

الخارجي والذي نحرز وجوده متشخص في نفسه ، ولهذا - وبمقتضى التسانخ بين العلم والمعلوم - تكون الصورة الذهنيّة - الحاكية عن معلومها - في موارد العلم الإجمالي شخصية تبعا لشخصية متعلقها ومعلومها.

فمتعلّق العلم الإجمالي إذن هو الواقع المتشخّص في نفسه والمتميّز في واقعه ، فإذا كان العلم الإجمالي هو نجاسة أحد الإنائين فمتعلّق هذا العلم هو الإناء الذي وقعت فيه النجاسة واقعا ، فلو كان هو الإناء الأول فمتعلّق العلم هو الإناء الأول ، فهذا عين ما لو كنّا نعلم علما تفصيليا بوجود زيد فمتعلّق العلم هو وجود زيد ، غايته أنّه في موارد العلم الإجمالي تكون في الصورة الذهنيّة الحاكية عن متعلّقها ضبابيّة وهذه الضبابيّة هي التي جعلت من العلم إجماليّا بمعنى أنّ واقع متعلّق العلم ليس فيه تشويش بل هو متعيّن ، والعالم إجمالا يعرف ذلك إلا أنّ الصورة الذهنية في موارد العلم الإجمالي تكون حكايتها وكاشفيتها عن المعلوم المحدد واقعا مشوشة وليست صافية.

ويمكن تنظير ذلك بالمرآة المتكدرة ، فإنّ الصورة المنطبعة في المرآة ليست هي الجامع بحدّه الوسيع بل هي منطبق الجامع ، وهي الذات المتشخّصة في نفسها الواقفة أمام المرآة ، غايته أنّ المرآة لمّا كانت متكدّرة فإنّها لا تكشف عن تمام معالم الذات الواقفة أمام المرآة ، نعم المنكشف بواسطة المرآة هو رجل مثلا.

وباتّضاح معنى أنّ متعلّق العلم الإجمالي هو الواقع يتّضح منشأ دعوى أنّ المنجّز بالعلم الإجمالي هو الواقع ، إذ أنّ العلم إنّما ينجّز معلومه باعتبار كشفه عنه ولا منكشف في موارد العلم الإجمالي إلا ذلك الفرد المتعيّن في حدّ ذاته والذي هو الإناء الأول في مثالنا ، إذ هو الإناء الذي عرضته النجاسة

ص: 273

واقعا ، فهو المنجّز بالعلم الإجمالي إذن ، إلا أنّه باعتبار عدم تشخص ذلك الواقع للمكلّف يحكم العقل بلزوم الإتيان بتمام أطراف العلم الإجمالي ليحرز بذلك امتثال الواقع ، فيكون الإتيان بسائر الأطراف مقدمة علميّة لإحراز الخروج عن عهدة الواقع المتنجّز بالعلم الإجمالي.

فلو كان للمكلّف علم إجمالي بوجوب قضاء أحد صلاتين إمّا الظهر وإمّا المغرب فإنّه - بناء على هذا الاحتمال - يكون ملزما بالإتيان بكلا الصلاتين ، وذلك لإحراز امتثال الواقع المتنجّز.

وبعبارة أخرى : يكون ملزما بالموافقة القطعيّة والتي هي عبارة عن الإتيان بتمام أطراف العلم الإجمالي ، وذلك يوجب القطع بالخروج عن عهدة التكليف الواقعي المتنجّز.

الاحتمال الثاني :

أنّ المنجّز بالعلم الإجمالي هو كلّ الأطراف الواقعة في دائرة العلم الإجمالي ؛ وذلك لأن متعلّق العلم الإجمالي هو الجامع ، ولمّا كانت نسبة الجامع إلى كلّ واحد من أطرافه على حدّ النسبة بينه وبين الطرف الآخر ، فهذا يقتضي أن يكون العلم بالجامع منجّزا لتمام الأطراف.

وقد تقول إنّ واقع الجامع هو أحد الأطراف لا كلّ الأطراف فلماذا تكون تمام الأطراف منجزة؟

قلنا إنّ ذلك لا يبرّر انطباق الجامع على الطرف الواقعي بعد أن كانت نسبته إلى بقية الأطراف كنسبته إلى الطرف الواقعي.

وبعبارة أخرى : إن العلم ينجّز معلومه ، والطرف الواقعي ليس معلوما بنفسه وإنّما المعلوم هو الجامع ، ولمّا كانت نسبته إلى أطرافه واحدة

ص: 274

فهذا يقتضي تنجّز الجميع بذلك.

وبهذا تكون الموافقة القطعية - بناء على هذا الاحتمال - واجبة بنفسها لا باعتبارها مقدمة علمية لإحراز الامتثال بل لأنّ المعلوم هو الجامع فيكون متنجّزا وهذا التنجّز يسري إلى تمام أطرافه.

الاحتمال الثالث :

أنّ المتنجّز بالعلم الإجمالي هو الجامع ولكن يكون التنجيز بمستوى ذلك الجامع ، فلو كان الجامع هو أحد الطرفين فإنّ المتنجّز هو أحدهما فحسب ، وإن كان الجامع هو ثلاثة من مجموع الأطراف العشرة فإن المتنجّز هو ثلاثة لا بعينها.

مثلا لو كان العلم الإجمالي هو نجاسة أحد الإنائين لكان الواجب اجتناب واحد من الإنائين لا بعينه ، ولو كان العلم الإجمالي هو نجاسة ثلاثة من الأواني العشرة فالجامع هو الثلاثة من العشرة وبالتالي يكون الواجب هو اجتناب ثلاثة من الأواني لا بعينها ، إذ هو مستوى ومقدار المعلوم فلا يثبت التنجّز لأكثر من ذلك ؛ لانّه بناء على هذا الاحتمال لا يسري التنجّز من الجامع إلى أطرافه بل يقف التنجّز عند حدود الجامع.

وبتعبير آخر : إنّ العلم من المفاهيم ذات الإضافة وهذا يقتضي استحالة أن يكون هناك علم بلا معلوم كما يستحيل أن تكون قدرة بلا مقدور ، فلا يقال إنّ زيدا قادرا إلا أن يكون هناك شيء مقدور له ، وهكذا العلم والذي هو بمعنى الرؤية فلابدّ من مرئي يكون متعلّق الرؤية.

وإذا تمّت هذه المقدمة يثبت أنّ متعلّق العلم الإجمالي هو مقدار المعلوم بالإجمال وإلا لكان العلم أوسع من متعلقه وهذا ينافي كون العلم من

ص: 275

المفاهيم ذات الإضافة.

وبهذا يتضح عدم سريان الجامع إلى أطرافه وإلا لكان علما تفصيليّا ، أي أنّ العالم بالإجمال يبقى عالما بالمقدار المعلوم بالإجمال وجاهلا بموضع استقراره ، وافتراض سريان الجامع إلى الأطراف يقتضي تحوّل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي ، وإذا كان العلم بالجامع لا يسري إلى أطرافه فالتنجّز أيضا الثابت للجامع لا يسري إلى أطرافه.

ومن هنا فالمتنجّز هو مقدار الجامع ومع الالتزام بمقدار الجامع تنتفي المخالفة القطعية ؛ وذلك لأنّ المخالفة القطعيّة لا تكون إلاّ بترك امتثال مقدار الجامع المعلوم.

فلو كان يعلم بنجاسة ثلاثة من عشرة أواني فإن المخالفة القطعية تحصل بأحد أمرين ، إمّا أن يستعمل كل الأطراف العشرة وإمّا أن يستعمل مقدارا يتجاوز مقدار الجامع كأن يستعمل ثمانية من تلك الأواني أو تسعة.

أو كان يعلم بوجوب صلاتين من ثلاث صلوات « الظهر والمغرب والصبح » فلو ترك تمام الصلوات الثلاث فهو مخالف قطعا للتكليف المعلوم بالإجمال وكذلك لو جاء بصلاة وترك صلاتين فإنه يقطع بالمخالفة ؛ إذ أنّ مقدار الجامع صلاتان وما جاء به إنما هي صلاة واحدة.

إذن المخالفة القطعية - بناء على هذا الاحتمال - غير جائزة ؛ وذلك لأنّها تستوجب القطع بمعصية المولى جلّ وعلا ، نعم المخالفة الاحتمالية لا ضير فيها بناء على هذا المبنى ؛ وذلك لأنّ الواجب هو الإتيان بمقدار الجامع - كما قلنا - وهو يتحقّق بالإتيان بمقدار ما هو المعلوم بالإجمال ، وبه تتحقق الموافقة الاحتمالية والتي تعني احتمال مطابقة ما جاء به للمعلوم بالإجمال.

ص: 276

وهذا الاحتمال - والذي يبني على أنّ المتنجّز بالعلم الإجمالي هو مقدار الجامع - هو ما تبناه المصنّف رحمه اللّه إلا أنّه التزم بوجوب الموافقة القطعية في موارد العلم الإجمالي وذلك لمنجزية الاحتمال كما هو مقتضى مسلك حق الطاعة ، فمنجزيّة الزائد عن مقدار الجامع لم تنشأ عن العلم الإجمالي وإنّما نشأت عن مبناه في حدود حق الطاعة وأن دائرته تتسع لمطلق الانكشاف الشامل للانكشاف بمرتبة الاحتمال.

ولمّا كانت الأطراف الأخرى الزائدة عن مقدار الجامع محتملة المطابقة للواقع فهذا الاحتمال منجّز ، وبه يلزم المكلّف الاحتياط في مورده ما لم يكن مؤمّن عنه ، وفي المقام لا مؤمّن كما هو واضح لعدم جريان البراءة الشرعية في موارد الشك المقرون بالعلم الإجمالي.

وأمّا بناء على مسلك المشهور من جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في موارد الشك والاحتمال فإنّه لا يكون المكلّف ملزما في حالات العلم الإجمالي بالموافقة القطعية ، بل اللازم امتثاله هو مقدار الجامع ؛ لأنّه هو المعلوم وبالتالي يكون خارجا موضوعا عن القاعدة ، وأمّا الأطراف الزائدة عن مقدار الجامع فموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان متحقق في موردها ، ومن هنا تجري البراءة العقليّة عنها.

والنتيجة أنّه - بناء على مسلك حق الطاعة - تحرم المخالفة القطعيّة وتجب الموافقة القطعية.

أمّا حرمة المخالفة القطعية - والتي تعني عدم الالتزام بمقدار الجامع - فمنشؤها العلم الإجمالي ، وأمّا وجوب الموافقة القطعية - والتي تقتضي الالتزام بالأطراف الزائدة عن مقدار الجامع - فمنشؤها هو منجزيّة

ص: 277

الاحتمال.

وأمّا بناء على مسلك المشهور فتحرم المخالفة القطعيّة ولا تجب الموافقة القطعيّة ؛ لجريان البراءة العقليّة في الأطراف الزائدة عن مقدار الجامع.

ص: 278

الجهة الثانية: جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي :

اشارة

ويقع البحث عن هذه الجهة في ما هو مقتضى أدلّة الأصول الشرعية المؤمّنة ، وهل أنّها تجري في موارد الشك المقرون بالعلم الإجمالي أو لا؟

والبحث في مقامين :

المقام الأول : هو مقام الثبوت :

وهل أنّه يمكن جريان الأصول الشرعيّة المؤمّنة في تمام أطراف العلم الإجمالي؟

ذهب المشهور إلى عدم إمكان ذلك واستدلوا على ذلك بدليلين :

الدليل الأول : هو أنّ إجراء الأصول المؤمّنة في تمام أطراف العلم الإجمالي يلزم منه المنع عن حجيّة القطع ؛ وذلك لأنّ التأمين عن تمام الأطراف يعني الإذن في المخالفة القطعيّة للحكم المقطوع بتنجّزه بحكم العقل ، وهذا يعني الإذن في المعصية والذي يحكم العقل بقبحه.

والجواب : إنّ هذا الدليل أشبه شيء بالمصادرة ، إذ أنّ البحث عن إمكان الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي معناه البحث عن أنّ منجّزيّة العلم الإجمالي هل هي مطلقة أو معلّقة على عدم الترخيص الظاهري؟ فإذا قلنا باستحالة الترخيص لتمام الأطراف فهذا هو عين الدعوى التي نبحث عن دليلها ، إذ أنّ معنى استحالة الترخيص هو أنّ منجزيّة العلم الإجمالي

ص: 279

مطلقة وليست معلّقة ، حيث إنّ من الواضح أنّ المنجّزية لو كانت معلّقة على عدم الترخيص لما كان الترخيص في تمام الأطراف مستحيلا وذلك لأنّه في مثل هذا الفرض لا يكون الترخيص منافيا لمنجزية العلم الإجمالي ؛ إذ أنّ المنجّزية مقيدة بعدم الترخيص فإذا ورد الترخيص انتفى قيد المنجّزيّة فيكون الترخيص - بتعبير آخر - رافعا لموضوع المنجّزية ، إذ أنّ موضوعها عدم الترخيص فيكون ثبوت الترخيص - معدما لموضوعها ، وبهذا يتضح أنّ هذا الدليل ليس إلاّ مصادرة.

الدليل الثاني : هو استحالة عروض اللزوم والترخيص على موضوع واحد حيث يلزم منه اجتماع حكمين متضادين على موضوع واحد.

وأمّا كيف يلزم من القول بإمكان الترخيص في تمام الأطراف اجتماع حكمين متنافيين على موضوع واحد؟ فهو لأنّ العلم الإجمالي يعني القطع بوجوب المعلوم بالإجمال فإذا رخّص المولى في ترك تمام الأطراف فهذا يعني الترخيص في ترك امتثال الوجوب لمتعلّق المعلوم بالإجمال ، ومؤدى ذلك هو اجتماع الوجوب - والذي هو إلزامي - مع الترخيص على موضوع واحد وهو المعلوم بالإجمال.

وهذا الدليل يختلف عن الدليل الأول من جهة أنّ الدليل الأول متكىء على تقبيح العقل للترخيص في المعصية.

وأمّا الدليل الثاني فمنشؤه هو حكم العقل باستحالة اجتماع الضدين ، فالأول إذن من مدركات العقل العملي والثاني من مدركات العقل النظري.

والجواب : هو أنّ هذا الدليل إنّما يتم لو كان الحكم بوجوب المعلوم بالإجمال والترخيص في ترك تمام الأطراف متواردين على موضوع واحد ،

ص: 280

أمّا لو كان أحدهما واقعيا والآخر ظاهريا فهذا يعني أنّ بينهما طولية ، فلا يلزم من اجتماعهما اجتماع للضدين - كما بيّنا ذلك في بحث اجتماع الحكم الواقعي والظاهري - والمقام من هذا القبيل حيث إنّنا لا ندعي أنّ الترخيص الممكن في ترك تمام الأطراف - والتي منها المعلوم بالإجمال - هو ترخيص واقعي بل هو ترخيص ظاهري متقوّم بالشك في الحكم الواقعي ، وذلك بأن يلاحظ كلّ طرف من أطراف العلم الإجمالي على حدة ، وحينئذ سنجد أنّ كلّ طرف مشكوك المطابقة للمعلوم بالإجمال ، وهذا ما يسوّغ إمكان الترخيص الظاهري في مورده ، إذ أن الترخيص الظاهري هو ما أخذ في موضوعه أو مورده الشك في الحكم الواقعي ونحن هنا حينما نلاحظ كل طرف على حدة نجده مشكوكا من جهة أنّه متعلّق للحكم الواقعي أو لا وهذا ما يجعله متوفرا على موضوع الحكم الظاهري ، ومن هنا أمكن الترخيص في مورده.

والمتحصّل هو إمكان الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي لعدم لزوم أيّ محذور من ذلك وقد بينا في مباحث القطع في مبحث العلم الإجمالي ما يتصل بهذا المطلب فراجع.

المقام الثاني : هو مقام الإثبات :

ويمكن أن يتمسك بإطلاق أدلة البراءة الشرعية لإثبات الأصل المؤمّن في كل طرف من أطراف العلم الإجمالي ، وبذلك تكون المخالفة القطعية جائزة ولا محذور فيها ؛ لأنّ المقتضي للجريان - وهو إطلاق أدلة البراءة الإثباتية - موجود والمانع عن الجريان وهو الاستحالة قد ثبت بطلانه فيكون المانع منتفيا ، وعندئذ يمكن ارتكاب تمام الأطراف.

ص: 281

أمّا لو قلنا باستحالة جريان الأصول المؤمّنة لتمام الأطراف فهذا يشكّل قرينة على عدم الإرادة الجدّية للإطلاق فتكون أدلة البراءة مختصة بغير مقدار ما هو معلوم بالإجمال ؛ لأنه هو الذي قلنا باستحالة إجراء الأصل المؤمّن في مورده ، إذ هو الذي يلزم من إمكانه الترخيص في المعصية أو اجتماع الحكمين المتضادين.

وحينئذ كيف نحدّد الممنوع من إجراء الأصل المؤمّن في مورده ، ومن الواضح أنّه لا طريق للتعرّف على الطرف الذي هو منطبق الجامع والذي لا يجري الأصل المؤمّن عنه. ومقتضى ذلك هو جريان الأصل في كل طرف على حدة؟ لأنّ كلّ طرف مشتمل على موضوع الأصل المؤمّن وهو الشك في مطابقته للواقع وبالتالي تتعارض الأصول فيما بينها ؛ لأنّ إجراء الأصل في الطرف الأول يعارضه إجراء الأصل في الطرف الثاني ، وهذا ما يقتضي تساقط الأصول المؤمّنة.

وتصوير التعارض : هو أنّ إجراء الأصل المؤمّن في كل الأطراف يلزم منه الترخيص في المخالفة القطعيّة - والذي قلنا باستحالته - وإجراء الأصل في طرف دون آخر ترجيح بلا مرجّح ، ومن هنا يتعارض الأصلان ؛ لأنّ موضوع الأصل المؤمّن متحقّق في كل طرف فيكون مشمولا لدليل الأصل ، ولمّا كان من المستحيل جريان الأصل المؤمّن فيهما معا يسقط كلا الأصلين فلا تصلح البراءة الشرعيّة للتأمين عن هذا الطرف ولا عن ذاك.

وهنا نحتاج إلى الرجوع إلى الأصل العملي الأولي ، فبناء على أنّ الأصل العملي الأولي هو الاحتياط العقلي تجب الموافقة القطعيّة ؛ لأنّ كل طرف في حدّ نفسه يحتمل مطابقته للواقع فيتنجز بالاحتمال ، ولا رافع لهذا

ص: 282

التنجّز بعد سقوط الأصول المؤمّنة بالتعارض.

فتكون الموافقة القطعية واجبة ، غايته أنّ منشأ تنجّز مقدار الجامع هو العلم الإجمالي ومنشأ تنجّز المقدار الزائد عن الجامع هو أصالة الاحتياط العقلي القاضية بمنجزية مطلق الانكشاف.

وأمّا بناء على كون الأصل العملي الأولي هو البراءة العقلية فالمتنجّز بالعلم الإجمالي هو مقدار المعلوم بالإجمال ، وهذا يختلف باختلاف الاحتمالات الثلاثة التي ذكرناها في الجهة الأولى.

فبناء على الاحتمال الأول يلزم المكلّف الإتيان بتمام الأطراف ليتمكن من إحراز الواقع والذي هو متعلّق العلم الإجمالي ، وكذلك بناء على الاحتمال الثاني ؛ وذلك لأنّ المعلوم وإن كان هو الجامع إلاّ أنّ نسبته إلى كل الأطراف على حدّ سواء فيسري التنجيز من الجامع إلى كلّ الأطراف ، وأمّا بناء على الاحتمال الثالث فتجري البراءة العقليّة عن المقدار الزائد عن المعلوم بالإجمال ؛ وذلك لعدم سراية المنجزية من الجامع إلى أطرافه.

هذا كلّه بناء على استحالة الترخيص في تمام الأطراف ، وأمّا بناء على إمكانه فلا مانع من التمسّك بإطلاق أدلّة البراءة وبه تجري البراءة في كل طرف على حدة ومقتضى ذلك هو جواز المخالفة القطعية ، إلاّ أنّ هذا غير تام ، فإنّه وإن كنّا قد بنينا على إمكان الترخيص في تمام أطراف العلم الإجمالي إلاّ أنا لا نسلّم بتمامية الإطلاق في أدلة البراءة ، وعليه لا تكون شاملة لمورد يلزم من إجرائها الترخيص في المخالفة القطعيّة.

ويمكن إثبات هذه الدعوى بأمرين :

الأمر الأوّل : أنّ السعة اللفظية في أدلة البراءة لا تعبّر عن الإرادة

ص: 283

الجدّية للإطلاق ؛ وذلك لمنافاة الإطلاق لما هو المركوز عقلائيا من استبعاد إجراء البراءة في مورد يلزم من إجرائها الترخيص في المخالفة القطعية ، فالترخيص الظاهري في حالة من هذا القبيل وإن كان ممكنا ثبوتا إلاّ أنّه غير متعارف ، كما هو ملاحظ بوضوح في علاقات من لهم النظارة على مجتمعاتهم مع رعاياهم ، كما أنّ هذا النحو من الترخيص مستهجن عقلائيا ، فهم لا يرون أيّ مسوّغ لمثل هذه الاعتبارات ، وهذا ما يشكّل قرينة على عدم الإرادة الجدّية للإطلاق.

بل يمكن أن يقال إنّ الشارع لو كان مريدا للإطلاق لكان عليه أن يصرّح بإرادة الإطلاق في مثل هذه الموارد لا أن يعوّل على قرينة الحكمة ؛ وذلك لأنّ مثل هذا الارتكاز العقلائي المتأصّل يمنع ابتداء من انعقاد الظهور في الإطلاق ، فلو أراد الشارع تجاوز ما هو مرتكز عقلائيا - وهو ممكن - لما صحّ التعويل على عدم ذكر القيد وقرينة الحكمة لعدم تمامية مقدماتها ؛ وذلك لأنّ من مقدمات قرينة الحكمة عدم وجود ما يصلح للقرينة على التقييد ولا إشكال ولا ريب في صلوح هذا الارتكاز للقرينية.

ومن هنا قد ينعكس المطلب فنقول إنّ المولى مريد للتقييد إلاّ أنّه لم يصرّح به اعتمادا على ما هو مركوز عقلائيا من استهجان الترخيص المؤدي إلى الإذن في المخالفة القطعيّة ، وإذا لم تقبلوا ذلك فلا أقل من عدم إحراز الإرادة الجدّيّة للإطلاق لاحتفاف الكلام بما يصلح للقرينيّة.

الأمر الثاني : هو خروج المقام تخصصا وموضوعا عن دليل البراءة الشرعية ؛ وذلك للعلم بالجامع ، فيكون البيان متحققا في مورده وهو ما ينفي موضوع البراءة الشرعية ، إذ أنّ موضوعها عدم البيان والعلم بالجامع

ص: 284

بيان ، فيكون مصداقا لمفهوم الغاية في الآية المباركة ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (1) وكذلك قوله تعالى ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ ) (2) ، فإنّ منطوق الآيتين هو نفي العذاب إلى أن يتحقق البيان ، فمفهومهما هو ثبوت العذاب حالة وجود البيان ، ولمّا كان العلم بالجامع بيان فهذا يقتضي كونه من مصاديق المفهوم لا المنطوق وبالتالي يخرج المورد عن موضوع البراءة ، إذ أن افتراض الترخيص في المخالفة القطعيّة يعني التوسعة في موضوع البراءة الشرعيّة ، إذ أنّ موضوعها حينئذ هو الأعم من البيان وعدم البيان ، وهذا ما لا يمكن الالتزام به ، وبذلك لو كان هناك إطلاق في بعض أدلّة البراءة فلابدّ من التصرّف فيه.

ومن هنا يكون المتعيّن هو ما ذكرناه في مقام الثبوت بناء على الاستحالة وهو مبنى المشهور ، إذ أنّنا توصّلنا - هنا في مقام الإثبات - إلى المنع من الترخيص في المخالفة القطعيّة بواسطة القرينة العقلائيّة وكذلك التقريب الثاني وهو خروج محل الكلام عن موضوع أدلّة البراءة ، وحينئذ لا تجري البراءة إلاّ في المقدار الزائد عن الجامع ، ولمّا لم يكن منطبق الجامع متشخصا يكون إجراء البراءة في أحد الأطراف دون الآخر من الترجيح بلا مرجّح بعد أن كان دليل الأصل المؤمّن شاملا لكل واحد بخصوصه على حدّ شموله للآخر ، وهذا ما يستوجب سقوط الأصل عن كلّ الأطراف.

وبهذا يسقط التأمين الشرعي عن المقدار الزائد عن الجامع أيضا ،

ص: 285


1- سورة الإسراء آية 15.
2- سورة اللتوبة آية 115.

فلو كنّا نبني على مسلك حق الطاعة فلابدّ من إجراء أصالة الاحتياط العقلي في المقدار الزائد على الجامع ، وبه تكون الموافقة القطعيّة واجبة والمخالفة القطعيّة محرمة.

وأمّا لو بنينا على جريان البراءة العقليّة فالعلم بالجامع لا يقتضي أكثر من لزوم التحفّظ على مقدار الجامع ، وهذا يعني حرمة المخالفة القطعيّة وأمّا المقدار الزائد فتجري عنه البراءة العقليّة.

وبهذا يتضح أنّ الأصل العملي الثانوي بعد سقوط البراءة الشرعية هو الاشتغال العقلي بناء على مسلك حق الطاعة ، وهذا الأصل ينتج نتيجة الأصل العملي الأولي وهو أصالة الاحتياط أو الاشتغال العقلي ، ويعبّر عن الأصل العملي الثانوي المناظر للأصل العملي الأولي بقاعدة منجزية العلم الإجمالي.

ص: 286

تحديد أركان هذه القاعدة

اشارة

ونبحث في المقام أركان العلم الإجمالي والتي إذا ما توفرت فإن العلم الإجمالي يكون منجزا وإذا ما اختلّ واحد منها سقط العلم الإجمالي عن المنجزية ، وهذه الأركان التي سنستعرضها مستفادة من مجموع ما ذكرناه في الجهتين :

الركن الأول : هو وجود العلم بالجامع والذي هو الكلّي المعلوم القابل للانطباق على كلّ طرف من أطرافه.

ومنشأ ركنية هذا الركن هو أنّ انتفاءه يعني انتفاء العلم الإجمالي ، وبهذا تكون الأطراف حينئذ مشكوكة بالشك البدوي فتجري عنها البراءة الشرعيّة.

فلو كنّا نشك في نجاسة الإناء الأول ونشك في نجاسة الإناء الثاني وكذلك الثالث فهنا لا يوجد علم إجمالي ؛ وذلك لأنّ ملاحظة هذه الأواني الثلاثة متفرقة أو مجتمعة سواء ، إذ أنّه في كلا الحالتين يبقى الشك بدويا وما ذلك إلاّ لعدم العلم بالجامع.

وهذا بخلاف ما لو علمنا بوقوع نجاسة في أحد الأواني الثلاثة فإنّ ملاحظة هذه الأواني متفرقة يختلف عن ملاحظتها مجتمعة ، حيث إنّ اللحاظ الأول ينتج الشك في كل طرف على حدة وأمّا اللحاظ الثاني فينتج

ص: 287

العلم بأنّ أحد الأواني الثلاث نجس وهذا هو العلم بالجامع.

الركن الثاني : عدم سراية العلم من الجامع إلى أحد أطرافه بمعنى عدم تحوّل العلم بالجامع إلى العلم بطرف خاص من أطرافه ؛ وذلك لأنّ افتراض السراية يعني تحوّل العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالطرف الذي علمنا سراية الجامع إليه ، فكلّ حالة من حالات العلم الإجمالي إذا اتفق فيها سريان الجامع إلى أحد أطرافه ينتفي العلم الإجمالي ويتحوّل إلى علم تفصيلي.

مثلا : لو كنا نعلم بوجوب صلاة ما في ظهر يوم الجمعة هي إمّا صلاة الظهر وإمّا صلاة الجمعة ، فالمنجزية هنا تثبت للعلم الإجمالي لوقوف الجامع وعدم سرايته إلى أحد طرفيه وتبقى المنجزية على حالها ما دام لم يسر الجامع إلى أحد طرفيه ، فلو اتفق أن علمنا أنّ منطبق الجامع هو صلاة الظهر فعندئذ يتحقّق سريان الجامع إلى أحد طرفيه ، ولو لاحظنا أنفسنا عند ذلك لوجدنا أنّ العلم الإجمالي قد انتفى وتحوّل إلى علم تفصيلي بوجوب صلاة الظهر ، ومن هنا لا يكون الطرف الآخر متنجّزا ؛ لأنّ منجّزيته نشأت عن العلم الإجمالي وهو منتف في مفروض المثال.

الركن الثالث : أن تكون تمام الأطراف مجرى لأصالة البراءة لولا المعارضة.

ولكي يتضح هذا الركن نذكر هذا المثال.

لو كنّا نعلم بنجاسة أحد الإنائين ولم نكن نعلم أنّ أحدهما كان متنجّسا ، فهنا يكون أصل البراءة من حرمة شرب كلّ طرف جارية لولا ابتلاء أصل البراءة الأول بالتعارض مع أصل البراءة الثاني ، وهذا ما

ص: 288

يقتضي تنجّز كلا الطرفين. أمّا لو كنّا نعلم بأن الطرف الثاني كان مسبوقا بالنجاسة فإنّ استصحاب النجاسة في مورده يمنع من إجراء أصل البراءة عنه.

وبهذا لا يكون كلا الأصلين المؤمّنين جاريين لولا المعارضة ، فإنّه حتى لو افترض عدم التعارض فإنّ أصل البراءة لا يجري في الطرف الثاني لأنّه منجّز بالاستصحاب.

ومنشأ ركنية هذا الركن هو عدم إمكان جريان البراءة عن الطرفين بسبب التعارض ، فإذا كانت البراءة لا تجري عن أحد الطرفين يكون إجراء البراءة عن الطرف الآخر بلا معارض ، ولمّا لم يكن إجراء البراءة عن الطرف الأول مستلزما للمخالفة القطعيّة - لاحتمال وقوع النجاسة في الطرف المنجّز بالاستصحاب - صحّ إجراؤها ؛ لأنّ أقصى ما سيحدث نتيجة إجراء البراءة عن الطرف الأول هو عدم الموافقة القطعية وهي غير واجبة التحصيل ، إذ أنّ وجوبها إنّما نشأ عن تساقط الأصول المؤمّنة والرجوع بعد ذلك إلى أصالة الاحتياط العقلي وفي المقام لا تكون الأصول الشرعية المؤمّنة ساقطة عن الطرف الأول.

ونذكر مثالا آخر ليتّضح المطلب أكثر.

لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين ثم قامت البينة على نجاسة الطرف الثاني ، فإنّ هنا يجري الأصل المؤمّن عن الطرف الأول بلا معارض ؛ وذلك لعدم جريان الأصل المؤمّن في الطرف الثاني بسبب تنجّزه بالبينة ، ومن الواضح أنّ الأصول لا تجري في موارد الأمارات ، فيأتي عندئذ نفس البيان السابق.

ص: 289

الركن الرابع : أن يلزم من إجراء الأصول المؤمّنة في تمام الأطراف الإذن في المخالفة القطعيّة العمليّة ، كما لو أجرينا الأصل المؤمّن عن الصلاتين الظهر والجمعة ، فإنّ إجراءه في مثل هذه الحالة يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة العمليّة وهي ترك كلا الصلاتين المعلوم وجوب أحدهما ، وهذا بخلاف ما لو كان إجراء الأصل في كلّ الأطراف غير مستوجب عملا للمخالفة القطعية ، كما لو علمنا إجمالا بحرمة أحد الطعامين إمّا الطعام الذي هو في متناول أيدينا وواقع في محل إبتلائنا أو الطعام الذي يتعذّر تناوله والتصرّف فيه كما لو كان الطعام الآخر في بلاد نائية يتعذّر على المكلّف الوصول إليها ، فإنّ إجراء الأصل - في مثل الفرض - عن كلا الطرفين لا يستوجب المخالفة القطعيّة العمليّة ؛ إذ أنّ الطرف المتعذّر لا يتفق ارتكابه فلا يكون الإذن في المخالفة القطعيّة مستحيلا عقلا أو مستهجنا عقلائيا.

سقوط المنجّزيّة عن العلم الإجمالي :
اشارة

وبعد أن اتضحت أركان العلم الإجمالي الأربعة يقع البحث عن الحالات التي يسقط فيها العلم الإجمالي عن المنجّزية ، وسنجد أنّ مناشئ السقوط عنها ترجع إلى اختلال أحد أركان العلم الإجمالي.

أولا : سقوط المنجّزيّة بسبب اختلال الركن الأول :

والذي هو العلم بالجامع ، وقد ذكر المصنّف رحمه اللّه أربع حالات للسقوط :

الحالة الأولى : وهي ما لو تبين أنّ العلم بالجامع كان وهما وأنّ الواقع

ص: 290

على خلافه.

ومثاله : ما لو كان يعلم بغصبية أحد الثوبين ثم تبين له عدم مغصوبيتهما معا وأنّ الواقع هو إذن المالك في التصرّف فيهما أو أن المغصوب هو ثوب أخرى غير الثوبين ، ومن هنا تسقط المنجّزية عن العلم الإجمالي بسبب اختلال الركن الأول ، إذ لا علم بالجامع بعد تبيّن الاشتباه.

الحالة الثانية : تحوّل العلم بالجامع إلى الشك أو الظن غير المعتبر.

ومثاله : لو علم المكلّف باشتغال ذمته بدين إمّا لزيد أو لبكر ثم زال ذلك العلم وتحوّل إلى شك بتعلّق ذمته بدين لأحد الطرفين ، فهنا أيضا تسقط المنجّزية عن العلم الإجمالي ، وذلك بسبب سقوط العلم وتحوّله إلى شك وهو معنى ثان لاختلال الركن الأول.

الحالة الثالثة : ما لو كان أحد أطراف العلم الإجمالي ساقطا عن التنجيز لو اتفق أنه هو الواقع.

وبعبارة أخرى : لو كان أحد الأطراف مباحا حتى وإن كان معلوما بنحو التفصيل فضلا عن الإجمال ، كما لو كان المكلّف يعلم بأن أحد الطعامين مشتمل على لحم الميتة إلاّ أنّه كان مضطرا إلى الطعام الأول ، فإنّه في مثل هذه الحالة يكون الطرف الأول مباحا على أيّ حال سواء كان هو المشتمل على الميتة واقعا أو أنّ المشتمل على الميتة هو الطرف الثاني ، وفي مثل هذه الحالة تسقط المنجّزية عن العلم الإجمالي ، أي أنّه يجوز ارتكاب الثاني أيضا.

ومنشأ سقوط المنجزيّة هو عدم وجود علم إجمالي من رأس ؛ وذلك لعدم العلم بالجامع فهو لا يعلم بحرمة أحد الطعامين بل يعلم بحليّة أحدهما

ص: 291

ويشك في حرمة الآخر ؛ وذلك لأن الأول وإن كان يحتمل اشتماله على الميتة إلاّ أنّه وبسبب اضطراره إليه لا يكون محرما عليه فهو معلوم الحليّة على أيّ حال ، وأمّا الطرف الآخر فلا يجزم باشتماله على الميتة - وإن كان لو جزم لتنجّزت الحرمة عليه - ومنشأ عدم الجزم هو احتمال أن تكون الميتة في الطعام الأول المحلل ، فعليه يكون الشك في مورد الطرف الثاني بدويّا تجري عنه البراءة الشرعية.

الحالة الرابعة : أن يكون أحد الطرفين غير واجب التحصيل بعد قيام العلم الإجمالي.

وذلك كما لو نشأ علم إجمالي بوجوب دفن هذا الميت أو التصدّق على الفقير بعد أن كان المكلّف قد دفن الميت ، وهنا يسقط العلم الإجمالي عن المنجّزية لعدم العلم بالجامع ، إذ أنّ دفن الميت لو كان هو الواجب واقعا فقد سقط موضوعه وهذا يعني إحراز عدم وجوبه لو كان هو الواجب واقعا فيكون الطرف الآخر مشكوك الوجوب فتسقط عنه المنجّزية أي لا يلزم امتثاله.

ثانيا : سقوط المنجّزيّة بسبب اختلال الركن الثاني :

والذي هو عدم سراية العلم بالجامع إلى أحد أطرافه ، وقد ذكر المصنّف لذلك حالتين :

الحالة الأولى : هي سريان العلم من الجامع إلى أحد الأطراف بعينه ، وذلك مثل ما لو علم المكلّف بغصبية أحدى الثوبين ثمّ علم أنّ المغصوب منهما هي الثوب البيضاء ، فإنّه في مثل هذه الحالة ينتقل العلم

ص: 292

الإجمالي من الجامع - وهو أحد الثوبين - إلى الثوب البيضاء ، وبهذا ينحلّ العلم الإجمالي إلى علم تفصيلي بالطرف الأول وشك بدوي في الطرف الآخر ، وبهذا لا يكون العلم الإجمالي منجّزا لكلا الطرفين.

أما الطرف الأول فلأنّ التنجيز إنّما نشأ عن العلم التفصيلي.

وأما الطرف الثاني فتجري عنه أصالة البراءة لصيرورة الشك فيه شكا بدويا.

الحالة الثانية : سريان العلم من الجامع إلى جامع آخر أضيق دائرة منه ، وذلك في موارد انحلال العلم الإجمالي الكبير بالعلم الإجمالي الصغير ، فإنّ الركن الثاني للعلم الإجمالي الأول الكبير يختل ؛ وذلك لأن الجامع فيه لم يقف على حده كما هو مقتضى الركن الثاني بل انتقل إلى جامع آخر ، وبالتالي تسقط المنجّزية عنه ، وأمّا بعض أطرافه التي تحوّلت إلى العلم الإجمالي الصغير يكون منجّزها هو العلم الإجمالي الثاني الصغير والأطراف الباقية يكون الشك فيها بدويّا لعدم شمول الجامع الصغير لها وانعدام العلم الإجمالي الأول.

ومثال ذلك : ما لو علمنا أولا أنّ خمسا من شياه - في قطيع يساوي عشرين شاة - قد تغذّت على لبن خنزيرة ، فجامع العلم الإجمالي في هذا المثال هو خمس شياه من عشرين ، فلو تحوّل العلم بعد ذلك إلى علم بتغذّي خمس شياه من عشر من القطيع فإنّ العلم الإجمالي حينئذ ينحلّ إلى علم إجماليّ آخر بحرمة خمس شياه من عشرة وشك بدوي في العشرة الباقية والتي ليست طرفا للعلم الإجمالي الجديد.

ومنشأ الانحلال هو سراية الجامع من العلم الإجمالي الأول إلى جامع

ص: 293

آخر أضيق منه دائرة ، فتكون الأطراف الباقية خارجة عن إطار الجامع الثاني ؛ ولهذا يكون الشك فيها بدويّا فتجري في موردها الأصول المؤمّنة بعد أن لم تكن طرفا للعلم الإجمالي لخروجها عن دائرة الجامع الثاني.

وتلاحظون أنّ هذا الانحلال نشأ عن أمرين :

الأمر الأوّل : أن أطراف الجامع الثاني هي بعض أطراف الجامع الأول ، غايته أنّ بعض الأطراف التي كانت للجامع الأول قد خرجت عن دائرة الجامع الثاني ، فالعشرة التي هي سعة دائرة الجامع الثاني هي بعض العشرين التي كانت تمثل دائرة الجامع الأول الكبير ، فلو كانت العشرة من غير دائرة العشرين لم ينحل العلم الإجمالي الأول ، كما لو كانت العشرة من قطيع آخر غير القطيع الذي نعلم إجمالا بحرمة خمس شياه منه.

الأمر الثاني : أنّ مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير نفس مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير الأول ، وهذا ما ساهم في تحقّق الانحلال ، إذ لو كان مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير أقل من مقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير لما انحلّ العلم الإجمالي الكبير ؛ وذلك لبقاء مقدار من المعلوم بالإجمال الأول في دائرة العلم الإجمالي الكبير وهذا يعني وجود علم إجمالي دائرته العشرين والمعلوم بالإجمال فيه هو المقدار المتبقي.

فلو علمنا أنّ أربعا من الشياه الخمس في العشرة الأولى من العشرين فإنّ العلم الإجمالي الكبير لا ينحل ؛ وذلك لبقاء واحدة نعلم إجمالا بوجودها في ضمن العشرين من القطيع ، وبهذا يتضح اعتماد الانحلال على هذين الأمرين.

ص: 294

ثالثا : سقوط المنجّزيّة بسبب اختلال الركن الثالث :

والذي هو جريان الأصل المؤمّن في تمام الأطراف لولا المعارضة ، وقد ذكر المصنّف لذلك حالتين :

الحالة الأولى : وهي ما لو كان أحد طرفي العلم الإجمالي منجّزا بمنجّز غير العلم الإجمالي كما لو كان أحد الطرفين مجرى لأصالة الاستصحاب المثبت للتكليف لا الاستصحاب النافي للتكليف فإنّه خارج عن محل الكلام.

مثلا : لو علمنا بتعلّق حرمة إما بهذا اللحم أو بهذا الشراب إلا أنّ اللحم لمّا كان مجرى لاستصحاب عدم التذكية - إذ أننا نعلم سابقا أنّه لم يكن مذكى ونشك فعلا في تذكيته - فإنّه لا تجري البراءة في مورده لافتراض تنجّزه بالاستصحاب فنجري البراءة عن الطرف الآخر بدون معارض ، وهذا يعني سقوط المنجزية عن العلم الإجمالي ؛ إذ أنّ الأول لم يتنجّز بالعلم الإجمالي وإنّما تنجّز بالاستصحاب والثاني مؤمّن عنه لعدم وجود ما يمنع عن جريان الأصل المؤمّن في مورده.

والمتحصل أنّ منشأ سقوط هذا العلم عن المنجّزية هو عدم جريان الأصل المؤمّن في تمام الأطراف وإلا لو كانت جميعها مجرى لأصالة البراءة مثلا لأوجب ذلك التعارض وعندئذ تسقط الأصول جميعا عن التأمين.

وهذا النحو من الانحلال يعبّر عنه بالانحلال الحكمي ؛ إذ أنّ العلم الإجمالي لا ينحلّ حقيقة ؛ وذلك لأنّنا بالوجدان نجد أنّ العلم باق على حاله ، نعم هو منحلّ حكما لأنّه لا يترتب على هذا العلم أي أثر عملي ،

ص: 295

وذلك لما قلنا من أنّ الطرف الأول منجّز بالاستصحاب والثاني مؤمّن عنه ، فوجود العلم في هذه الصورة وعدمه سواء من جهة الأثر العملي ، وهذا بخلاف الانحلال الحقيقي فإنّ العلم يزول في مورده حقيقة.

الحالة الثانية : ما لو كان أحد طرفي العلم الإجمالي خارجا عن ابتلاء المكلّف بمعنى استبعاد وقوعه من المكلّف حتى لو افترض جوازه ، وذلك لعدم قدرته عادة على إيقاعه ، فهو وإن لم يكن متعذّرا إلاّ أنّه متعسّر.

ومثاله ما لو علم المكلّف بنجاسة أحد المائعين إمّا الذي تحت يده وقدرته أو المائع الموجود في بلاد نائية من المتعسّر على ذلك المكلّف الوصول إليها ، فهو وإن كان من الممكن أن يقع ذلك المائع تحت قدرته إلاّ أنّه مستبعد عرفا.

ومن هنا لا تجري البراءة عن مثل هذا الطرف ؛ إذ لا معنى لجريان البراءة إلاّ في مورد لو كان منجّزا لكان المكلّف عرفا قادرا على مخالفته ، أمّا لو كان عدم المخالفة مضمونا لعدم القدرة عليها فلا معنى لجعل البراءة في مثل هذا المورد لأن جعلها وعدمه سواء ، ومن هنا يجري الأصل المؤمّن عن الطرف الآخر دون معارض ؛ لأنّ الذي يفترض أن يكون معارضا لم تجعل له البراءة.

ومن هنا يجوز استعمال المائع الذي تحت يده وإن كان مبتليا بالوقوع طرفا للعلم الإجمالي.

وبهذا يتضح معنى قول الأصوليين من أنّ منجزية العلم الإجمالي مشروطة بوقوع كلا طرفي العلم محلا للابتلاء.

ص: 296

رابعا : سقوط المنجّزيّة بسبب اختلال الركن الرابع :

وهو استلزام الإذن في تمام الأطراف للترخيص في المخالفة القطعية.

وقد ذكر المصنّف لذلك حالتين :

الحالة الأولى : هو أن يكون طرفا العلم الإجمالي حكمين تنجيزيين إلاّ أنّ تنجيز أحدهما يقتضي الفعل وتنجيز الآخر يقتضي الترك كما هي حالات العلم الإجمالي بوجوب الفعل أو حرمته وهي المعبّر عنها عادة بدوران الأمر بين المحذورين ، وهذا النحو من العلم الإجمالي لو أجرينا البراءة عن كلا طرفيه لم يلزم من ذلك الترخيص في المخالفة القطعيّة العمليّة ؛ وذلك لاستحالة ترك امتثال التكليفين أي استحالة المخالفة القطعيّة ، إذ لا يمكن إيجاد الفعل وامتثال الترك في عرض واحد فهو إن صدر عنه الفعل لم يمتثل الحرمة والتي تقتضي الترك ، وإن امتثل الحرمة أي ترك الفعل يتعذّر عليه امتثال الوجوب أي إيجاد الفعل فأحد الامتثالين لا يقع حتما.

وإذا كان كذلك فالمخالفة القطعيّة متعذّرة لأنّه حينما يأتي بالفعل يحتمل أنه منطبق الجامع فيكون ممتثلا ، وحينما يترك الفعل يحتمل أنّ الحرمة هي منطبق الجامع ، فالموافقة الاحتمالية حتمية الوقوع كما أن المخالفة الاحتمالية كذلك ، وبهذا تكون المخالفة القطعية غير ممكنة وكذلك الموافقة القطعيّة وبالتالي لا يكون الترخيص في تمام الأطراف موجبا للترخيص في المخالفة القطعيّة ، ومن هنا يختلّ الركن الرابع.

الحالة الثانية : أن تكون دائرة العلم الإجمالي واسعة جدّا بحيث يتعذّر على المكلّف عادة ارتكاب تمام الأطراف ، وهذا ما يعبّر عنه بالشبهة

ص: 297

غير المحصورة.

وبتعبير آخر : لو كانت أطراف العلم الإجمالي من السعة بحيث يكون من المستبعد جدا المخالفة القطعية فهنا لا يكون إجراء البراءة عن تمام الأطراف موجبا للترخيص في المخالفة القطعية للمعلوم بالإجمال.

ويمكن التمثيل لذلك بما لو علم المكلّف بعدم تذكية واحدة من الذبائح الكثيرة والمتوزعة على أسواق البلاد الكبيرة ، فهنا لو جرت البراءة عن حرمة مجموع الذبائح لم يكن ذلك مستوجبا للترخيص في المخالفة القطعيّة العمليّة لعدم إمكان تناول المكلّف من تمام تلك الذبائح عادة.

ثم إنّ هناك حالات وقع البحث عن أنّها من موارد البراءة الشرعيّة أو أنّها من موارد قاعدة منجزية العلم الإجمالي؟ وقد ذكر المصنّف رحمه اللّه من هذه الحالات ثلاث :

حالة تردد الواجب بين الأقل والأكثر :

وبيان هذه الحالة هي أنّه لو علم المكلّف بجامع التكليف إلاّ أنّه تردد في متعلّقه وهل هو الأقل أو الأكثر؟ وهذه الحالة لها صورتان :

الصورة الأولى : ما لو كان التردد بين متعلّقين استقلاليين. ومثاله ما لو علم بتعلّق ذمته بدين لزيد إلاّ أنّه تردد في مقدار ذلك الدين ، وهل هو درهم أو عشرة؟ وهذه الحالة هي المعبّر عنها بدوران الأمر بين الأقل والأكثر الإستقلاليين ، إذ أنّ وجوب الدرهم ليس له ارتباط بوجوب العشرة لأنّ العشرة لو كانت واجبة فهي روحا منحلّة إلى وجوبات بعدد الدراهم العشرة كل وجوب لا ارتباط له بالآخر بل إنّ لكلّ وجوب طاعة ومعصية مستقلة عن الطاعة والمعصية في الوجوب الآخر ؛ ولذلك لو قضى

ص: 298

جزءا من الدين المعلوم وجحد الجزء الآخر لكان مطيعا وعاصيا.

ومن هنا لم يستشكل أحد في هذه الصورة بل جزموا بجريان البراءة عن المقدار الزائد عن الأقل ، فالواجب في المثال هو أداء الدين لزيد بمقدار الدرهم وأمّا التسعة فهي مجرى لأصالة البراءة الشرعية ؛ وذلك لأنّه من الشك في التكليف الزائد أو قل هو شك في تكاليف أخرى فتجري عنها البراءة بلا ريب.

الصورة الثانية : وهي محلّ البحث في المقام ، وهي ما لو كان التردد بين الأقل والأكثر في مركب واحد ، وهذا هو المعبّر عنه بدوران الأمر بين الأقل والأكثر الإرتباطيين ، إذ الأكثر لو كان واجبا فإنّ التكليف لا يسقط بالأقل.

وبتعبير آخر : إنّ التكليف إذا كان متعلّقه مركبا فإن له طاعة واحدة ومعصية واحدة فإن جاء بمتعلّق التكليف كاملا فهو مطيع وإلاّ فهو عاص ، وهذا هو مبرّر التعبير بالارتباطية.

ومثال ذلك ما لو علم المكلّف بجامع التكليف وهو وجوب الصلاة إلاّ أنّ الشك وقع في مقدار متعلّق التكليف وهل أنّ مقداره تسعة أجزاء أو أنّ مقداره عشرة أجزاء؟ هذا في المركبات العبادية.

وأمّا في المركبات المعاملاتية فمثاله علم المكلّف بصحة الزواج المنقطع إلاّ أنّه تردد من جهة تقومه بذكر الأجل أو عدم تقومه بذلك ، فهذا شك بين الأقل والأكثر الارتباطيين ؛ إذ أنّ الأمر يدور بين تقوّم هذا العقد بالإيجاب والقبول فحسب أو هما بإضافة ذكر الأجل ، والارتباطية نشأت من أنّ العقد مركب معاملاتي فإمّا أن يقع وإمّا ألا يقع.

ص: 299

ومع اتّضاح هذه الصورة نقول : إنّه قد وقع البحث والنزاع في أنّها من مجاري أصالة البراءة أو أنّها من موارد جريان قاعدة المنجزيّة للعلم الإجمالي؟

وبتعبير آخر : هل أنّ الشك في الأكثر شك بدوي حتى تجري عنه البراءة أو هو شك مقترن بالعلم الإجمالي فتجري في مورده قاعدة المنجّزية للعلم الإجمالي؟

والصحيح بنظر المصنّف رحمه اللّه هو أنّ الشك في الأكثر من موارد الشك البدوي فتجري عنه أصالة البراءة ؛ وذلك لأنّ العلم الإجمالي لا يكون إلاّ بين طرفين متباينين أي متغايرين بحيث لا يكون بينهما تداخل في الوجود ، فأحدهما لا يتصادق مع الآخر ولو بنحو الموجبة الجزئية ، وذلك مثل دوران النجاسة بين الطرف الأول والطرف الثاني ، وكذلك لو دار الأمر بين وجوب شيء أو حرمة آخر أو دار الأمر بين وجوب شيء أو وجوب شيء آخر بحيث يكون معروض الوجوب الأول مغايرا تماما لمعروض الوجوب الثاني.

ومنشأ تقوّم العلم الإجمالي بتباين طرفيه هو أنّ الجامع المعلوم لا يكون منطبقه مرددا إلاّ في حالة لا يعلم بوجوده في أحد الطرفين على أيّ حال ، إذ لو علم بانطباق الجامع على أحد الطرفين على أي حال سواء كان الطرف الآخر هو الواقع أو أنّ الواقع هو الطرف الأول - المعلوم وجود الجامع فيه - لكان ذلك يعني وجود علم تفصيلي بواقعية الطرف الذي هو منطبق الجامع وهو خلف الفرض ؛ إذ أنّ الفرض هو وجود علم إجمالي.

إذن العلم الإجمالي لا يكون إلاّ في حالة لا يعلم فيها بانطباق الجامع

ص: 300

المعلوم على أحد الأطراف على أيّ حال ، وإذا تمّ هذا فمحلّ الكلام خارج عن موضوع العلم الإجمالي ؛ وذلك للعلم بوجوب الأقل على أيّ حال ، فلو كان الواجب واقعا هو الأقل فهذا واضح ، ولو كان الواجب هو الأكثر فالأقلّ أيضا يكون واجبا إلاّ أنّه واجب في ضمن الأكثر ، فالأقلّ إذن معلوم الوجوب على أيّ حال.

وبعبارة أخرى : إنّ الجامع معلوم الإنطباق على الأقل ، وهذا ما يجعل الأكثر موردا لأصالة البراءة ؛ إذ أنّ الشك فيه حينئذ بدويّ.

وبهذا يتضح الشك في مقدار متعلّق الصلاة الواجبة وأنّه التسعة أو العشرة ، فإنّ الجزء العاشر يكون مجرى لأصالة البراءة ، إذ أنّ هذه الحالة تؤول إلى علم تفصيلي بوجوب التسعة وشك بدوي في وجوب الجزء العاشر وهذا ما برّر جريان البراءة عنه.

ودعوى أنّ دوران الأمر بين الأقل والأكثر من دوران الأمر بين المتباينين لأنّ التسعة مباينة للعشرة دعوى غير مبررة وذلك لوضوح عدم التباين بينهما في مقام الوجود ، إذ أنّ العشرة متقوّمة بالتسعة ، فلا تكون عشرة ما لم تتحقّق الأجزاء التسعة قبلها.

واتّضح - وسيتّضح - أنّ أساس البناء على جريان البراءة أو المنجزيّة للعلم الإجمالي هو تحرير واقع دوران الأمر بين الأقل والأكثر ، فالبحث من هذه الجهة صغروي ، فمن تقرّر عنده أنّ واقع الدوران بين الأقل والأكثر هو الدوران بين الأمرين المتداخلين بنى على جريان البراءة عن الأكثر ، ومن تقرّر عنده أنّ الدوران بينهما من الدوران بين المتباينين بنى على المنجزية ولزوم امتثال الأكثر.

ص: 301

وقد عرفنا أنّ المصنّف رحمه اللّه بنى على أنّه من قبيل الأول ، وقد بنى بعض الأعلام على الثاني وقرّب ذلك بما حاصله :

إنّ واقع الدوران بين الأقلّ والأكثر هو الدوران بين الأقل المطلق أو الأقل المقيّد بالأكثر ، والإطلاق والتقييد لمّا كانا متباينين فهذا يؤدي إلى تباين معروضيهما ، فتكون التسعة المقيدة مباينة للتسعة المطلقة فيكون شرط العلم الإجمالي وهو تباين أطرافه متحقّق في المقام ، ومع تقرّره تثبت له المنجزية.

وأمّا دعوى أنّ العلم الإجمالي منحلّ إلى علم تفصيلي بوجوب الأقل وشك بدوي في الأكثر لكون الأقل معلوما على كلا التقديرين ليست تامة ؛ وذلك لأنّه لمّا كان الدوران بين الأقلّ المقيّد والأقلّ المطلق فهذا يقتضي أنّ الأول غير الثاني وأنّ بينهما تمام التباين ، فالأقل المطلق لا يصدق بحال على الأقل المقيد لأن صدقه يعني انتفاء هويته.

وبتعبير آخر : إنّ الأقل المطلق يعني الأقل بنحو اللابشرط الزيادة والأقل المقيّد يعني الأقل بشرط شيء أي الزيادة ، واللابشرط والبشرط شيء من اعتبارات الماهيّة والتي هي متباينة في نفسها ، وكل منها قسيم للآخر وهو دليل المباينة.

إذن المقام من دوران الأمر بين المتباينين ، وجامع هذا العلم لا يحرز انطباقه على أحّد الطرفين بل إنّه مردّد بين الانطباق على الأقل المطلق أو الأقل المقيّد ؛ وذلك لأنّ جامع هذا العلم هو وجوب التسعة وأطرافه هي المقيّدة أو المطلقة ، وإذا كان كذلك فلا ينحل العلم الإجمالي بالأقل ؛ إذ هو نفسه جامع التكليف ، وإذا كان انحلال فلابدّ من أن يكون

ص: 302

لأحد الطرفين وهما الأقل المطلق أو الأقلّ المقيّد.

والجواب عن هذا التقريب :

أن تصوير العلم الإجمالي بهذه الكيفيّة غير تام ؛ وذلك لأنّ التردّد بين الإطلاق والتقييد وإن كان من قبيل التردّد بين المتباينين إلاّ أنّ هذا ليس له اتصال بالمكلّف ، والذي له اتّصال بالمكلّف هو التردّد الموجب للتنجيز.

ومن الواضح أنّ الإطلاق والتقييد ليس أكثر من الكيفيّة التي لاحظها المولى حين جعل الوجوب على الأقل والأكثر ، فلو كان واقعا لاحظ الإطلاق حين جعل الوجوب على الأقلّ فهذا لا يعني أنّ الواجب هو الأقل مع الإطلاق بل يعني أنّ الواجب هو الأقل وليس معه شيء آخر يكون متعلقا لنفس الوجوب ، ولو كان واقعا قد لاحظ التقييد حين إيجاب الأقل فهذا لا يعني وجوب الأقل مع القيد بل إنّ الواجب حينئذ هو الأقل بإضافة الجزء.

ومن هنا يتّضح أنّ الإطلاق والتقييد إنّما هو كيفيّة اللحاظ الذي لاحظه المولى حين جعل الوجوب على متعلقه ، وهذا لا يتصل بالمكلّف وما يتصل بالمكلّف إنّما هو نفس الإيجاب المجعول من المولى ، إذ هو المحرّك للمكلّف نحو الإتيان بالمتعلّق والتردد عند المكلّف حينما يريد التعرّف على مقدار متعلّق الإيجاب هو تردد بين الأقلّ والأكثر ؛ إذ أنّ الوجوب لو كان ملحوظا فيه الإطلاق فالواجب هو الأقلّ ولو كان ملحوظا فيه التقييد لكان الواجب هو الأقلّ مع إضافة الجزء ، وهذا يعني أنّ التردّد عند المكلّف إنّما هو بين الأقل والأكثر فلا علم إجمالي في المقام وإنّما هو علم بوجوب الأقل إمّا باستقلاله أو في ضمن الأكثر.

ص: 303

ومن هنا يكون الشك في الأكثر شكا بدويا فتجري عنه البراءة.

العلم بوجوب الأكثر مع الشك في إطلاقه :

كان الكلام فيما سبق حول دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر في حالة يكون الشك في أصل جعل الأكثر أي الشك في جعل المولى الوجوب للأقل أو جعله للأكثر ، كما لو وقع الشك في أصل جعل الوجوب للسورة في الصلاة.

وقد قلنا إنّ الأكثر يكون حينئذ مجرى لأصالة البراءة فلا يجب الالتزام به.

والكلام في المقام حول دوران الأمر بين الأقل والأكثر من حيث الشك في إطلاق وجوب الأكثر وهل أنّ وجوبه مطّرد في تمام الحالات أو أنّه مختص بحالات دون حالات؟ فوجوب الأكثر معلوم وإنّما الشك في إطلاقه.

مثلا : لو كنّا نعلم أنّ خطبتي صلاة الجمعة جزء من الصلاة إلاّ أننا نشك في أنّ هذه الجزئيّة ثابتة في موارد العجز أو أنّها غير ثابتة ، فالشك إذن في إطلاق الوجوب لا في أصل الوجوب.

والأصل الجاري في المقام هو البراءة أيضا ؛ لأنّ الشك فيه شك بين الأقل والأكثر ، وذلك لأنّ العاجز يشك في أنّ الواجب المتعلّقة ذمته به هل هو الصلاة دون الخطبتين أو هي مع الخطبتين؟

فالأقل - وهي الصلاة - محرز الوجوب على أيّ حال والأكثر - وهي الخطبتين - مشكوك الوجوب ، فتجري عنه أصالة البراءة.

وهذا المقدار لا إشكال فيه ، نعم وقع الإشكال في مورد واحد من

ص: 304

موارد الشك في إطلاق الأكثر ، وهو ما لو وقع الشك في إطلاق الجزئية لحالات النسيان مع إحراز الجزئية في حالات التذكر.

ويمكن التمثيل لذلك بصلاة الطواف بناء على أنّها ليست نسكا مستقلا وإنّما هي جزء من المركب العبادي وهو الطواف ، فلو كنّا نحرز جزئيّتها لحالات التذكر ونشك في إطلاق الجزئية لحالات النسيان ، فهل تجري البراءة عن وجوب صلاة الطواف بالنسبة للناسي - وذلك لأنّ الشك في حالة النسيان يؤول إلى الشك بين الأقل والأكثر بالنسبة للناسي - أو أن الجاري هو أصل آخر لخصوصيّة في هذا المورد؟

قد يقال بالأول باعتبار أنّ هذا المورد لا يختلف عن موارد الشك في الإطلاق والذي قلنا إنّه مجرى لأصالة البراءة.

إلاّ أنّه في مقابل ذلك قد يقال بعدم جريان أصالة البراءة في الجزء المشكوك في إطلاق الوجوب له في هذا المورد لخصوصية فيه ، وهي تعذّر مخاطبة الناسي بالتكليف ، وبيان ذلك :

إنّ توجيه الخطاب للناسي غير ممكن لو كان التكليف خاصا به ؛ إذ أنّ الناسي حال نسيانه لا يتوجّه إلى أنّه في حالة نسيان بل يرى نفسه متذكرا وهذا ما يجعله غير ملتفت إلى الخطابات الموجهة للناسي لأنّه لا يرى شمولها له ، نعم لو كان الخطاب بالتكليف متوجّها للأعم من الناسي والمتذكر لأمكن ذلك ؛ إذ لا محذور حينئذ في توجيه الخطاب باعتبار وجود من يمكن مخاطبته وهو المتذكر وهو كاف في رفع استحالة توجيه الخطاب للناسي.

ومع اتضاح هذه المقدمة نقول : إنّه لو أجرينا البراءة عن الأكثر في

ص: 305

حق الناسي فهذا يعني أنّ الخطاب بالأقل كان مختصا به ، إذ افترضنا أنّ المتذكّر يجب عليه الأكثر ، ولمّا لم يكن من الممكن توجيه خطاب خاص بالناسي لافتراضه ناسيا وغير ملتفت إلى أنّه ناس فلا يمكن أن يتحرك عن هذا التكليف الخاص به ، فحينئذ يقع الشك في أنّ ما جاء به من الأقل هل هو مسقط للتكليف الشامل له - وهو التكليف بالأكثر - أو لا؟

وبتعبير آخر : إنّ استحالة توجيه الخطاب للناسي يقتضي إمّا عدم تكليفه من الأساس وهذا لا يمكن قبوله لإحرازه بتعلّق ذمته بالوجوب ، وإمّا أن يكون الواجب عليه هو الأكثر كما هو الحال بالنسبة للمتذكر ، وحينئذ لمّا كان قد جاء بالأقل نسيانا فإنّ ذلك يوجب الشك في سقوط التكليف عنه ، والشك في المسقط يؤول - كما ذكرنا - إلى الشك في الخروج عن عهدة التكليف المعلوم ، وهو يقتضي إحراز الخروج عن عهدة التكليف ؛ إذ أنّ الشغل اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

حالة احتمال الشرطية :

كان الكلام حول دوران أجزاء الواجب بين الأقل والأكثر ، والبحث في المقام عن حالات الشك في الشرط ، كما لو شككنا في شرطية الطهارة في السعي أو شرطية القدرة على التسليم في عقد البيع أو شرطية استقبال الذابح والذبيحة في التذكية.

وفي تمام هذه الحالات تجري البراءة عن الشرط المشكوك في شرطيته ؛ وذلك لرجوع الشك فيه إلى الشك بين الأقل والأكثر ، وبيان ذلك :

إنّ مردّ الشرط هو تحصيص متعلّق الحكم بحصة خاصة وهي الحصة

ص: 306

الواجدة للقيد - كما بينا ذلك في محلّه - ومعنى ذلك أنّ المتعلّق للحكم هو ذات الفعل مع التقيّد ، فالتقيّد شيء زائد على ذات المقيّد « الفعل » ، فحينما نشك في الشرطية فمعناه الشك في شيء زائد فيكون المقام من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر فتجري البراءة عن الأكثر لعين ما ذكرناه في البحث السابق ، وليس المقام من موارد دوران الأمر بين المتباينين لتجري قاعدة منجّزية العلم الإجمالي ؛ وذلك لأنّ ذات المتعلّق معلوم على أيّ تقدير ، فهو إمّا مجعول باستقلاله أو أنّه مجعول بالإضافة إلى التقيّد.

وهذا البيان يمكن تطبيقه على تمام الأمثلة المذكورة والتي يتصل بعضها بالحكم التكليفي وبعضها بالحكم الوضعي.

ففي امتثال الأول يقع الشك في أنّ متعلق الواجب هل هو السعي وحده أو هو مع إضافة تقيّده بالطهارة ، فيكون الواجب مرددا بين الأقل والأكثر؟ ولمّا كان الأقل - وهو السعي بمفرده - محرز الوجوب على أيّ تقدير فهذا يعني العلم به تفصيلا والأكثر - وهو التقيّد - يكون الشك فيه بدويا ، وأمّا المثال الثاني فيقع الشك في متعلّق الصحة المجعولة شرعا وهل أنّ متعلّق الصحة هو الإيجاب والقبول فحسب أو هو مع التقيّد بالقدرة على التسليم؟ وهكذا الكلام في المثال الثالث.

التفصيل بين الشرط الراجع للمتعلّق والشرط الراجع للقيد :

اتّضح ممّا تقدّم أنّ الشك في الشرطية مآله إلى دوران الأمر بين الأقل والأكثر إلاّ أنّه قد يقال بالتفصيل بين الشروط الراجعة إلى متعلّق الحكم والشروط الراجعة إلى موضوع الحكم ، فتجري البراءة عن الأول ويكون الثاني مجرى لأصالة الاشتغال ، وبيان ذلك :

ص: 307

إنّ الشروط قد ترتبط بمتعلّق الحكم مثل قوله علیه السلام « لا صلاة إلاّ بطهور » (1) فإنّ الطهارة قيد وشرط لنفس الصلاة والتي هي متعلّق الأمر بالصلاة ، وهذا النحو من الشروط هي التي تكون مجرى لأصالة البراءة في حال الشك في شرطيتها ؛ لأنّ مآل الشرط فيها إلى تحصيص الواجب بحصة خاصة وهي الواجدة للشرط فيكون الواجب هو ذات المشروط مع التقيّد بالشرط.

ومن الواضح أنّه في حالات الشك في شرطيّة الطهارة يكون لنا علم تفصيلي بوجوب ذات المشروط - وهي الصلاة - وشك بدوي في وجوب الأكثر - وهو التقيّد بالطهارة - فتجري البراءة عنه.

وهناك شروط ترتبط بموضوع الحكم كقوله علیه السلام « اشتر فحلا سمينا للمتعة » (2) فإنّ موضوع الحكم بوجوب الهدي هو الفحل ، وقد اشترط في الفحل أن يكون سمينا ، فهذا قيد راجع إلى موضوع الحكم ، فلو شك في شرطية ذلك فما هو الأصل الجاري في مثل هذه الحالة؟

قد يقال بعدم جريان البراءة؟ وذلك لأنّ تقييد الموضوع بقيد لا يؤول إلى الأمر بالتقيّد ، إذ أنّ اتصاف الموضوع بالقيد ليس من المأمور به ، إذ أنّ المأمور به هو متعلّق الحكم لا موضوعه بل قد لا تكون قيود الموضوع مختارة للمكلّف كما لو قال المولى : « أعتق رقبة مؤمنة » ، فإنّ اتّصاف الرقبة بالإيمان ليس اختياريا للمكلف ، نعم الإعتاق اختياري إلاّ

ص: 308


1- الوسائل باب 12 من أبواب الوضوء ح 3.
2- معتبرة معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه علیه السلام الوسائل باب 12 من أبواب الذبح ح 7.

أنّه ليس موضوع الحكم وإنّما هو متعلّق الحكم.

والمقام من هذا القبيل فإنّ اتّصاف الهدي بالسمانة ليس من المأمور به وإنّما المأمور به هو شراء الهدي في المثال ، فهذا الذي يجب تحصيله ، وليس موضوعات الأحكام وشروطها مما يجب تحصيله ، نعم لو اتّفق وجودها ترتّب الحكم ، كما هو شأن علاقة الموضوعات بأحكامها ، فما لم يكن الموضوع متقررا فإن الحكم لا يترتّب.

ومع اتضاح هذا يتّضح أنّ الشك في ثبوت شرط لموضوع الحكم لا يكون من الشك في وجوب شيء زائد على ذات المتعلّق « الواجب » ، ومن هنا لا تجري البراءة عنه بل الجاري هو أصالة الاشتغال ؛ لأنّ المكلّف لو طبق المأمور به على الموضوع الفاقد للشرط فإنّه لا يحصل له الجزم بالخروج عن عهدة التكليف المعلوم.

والجواب :

أنّ القيود الراجعة إلى الموضوع يمكن إرجاعها إلى قيود متعلّق الحكم ؛ وذلك لأنّ تقييد موضوع الحكم يعني أنّ المتعلّق المأمور به هو الحصة الخاصة وهي المتصفة بالموضوع المقيّد ، أي أنّ المأمور به هو المتعلّق مع متعلقاته ، فالفحل السمين هو متعلّق الشراء المأمور به ، إذ أنّ الشراء تارة يكون متعلّقه الفحل السمين وتارة الفحل الهزيل وتارة يكون غير الفحل ، فالمطلوب هو الشراء المتعلق بالفحل السمين ، وواضح اختيارية هذا النحو من التقييد فلا محذور إذن في أن يتعلّق به وجوب.

ومن هنا لو وقع الشك في تقييد الموضوع بقيد فإنّ ذلك يعني الشك في قيود المتعلّق للحكم وأيّ الحصص من طبيعة المتعلّق هي المطلوبة ، هل

ص: 309

هي الحصة المتقيّدة بالموضوع المقيّد أو هي الحصّة المتقيدة بمطلق الموضوع؟

فلو وقع الشك - مثلا - في اشتراط أن يكون الفحل سمينا - والذي هو موضوع الوجوب - فإنّ ذلك يعني الشك في تقييد متعلّق الحكم ، أي الشك في أنّ متعلق الحكم هل هو الطبيعي أو هو الحصة من الطبيعة وهي المتقيّدة بكون متعلّقها هو الفحل السمين؟ فالشراء الذي هو متعلّق الوجوب نشك في حدوده ، والمقدار المحرز منه هو شراء الفحل وهذا يعني وجود علم تفصيلي بوجوب شراء الفحل وشك بدوي في الوجوب الزائد - وهو التقييد بكون الفحل سمينا - فتجري البراءة عنه.

فلا فرق إذن بين القيود الراجعة للمتعلّق أو القيود الراجعة للموضوع من جهة أنّ الشك فيها يكون من الشك بين الأقل والأكثر.

ص: 310

حالات دوران الواجب بين التعيين والتخيير

الواجب التعييني هو الذي لا يجزي عنه غيره في مقام امتثال الوجوب ، فالصلاة حينما تكون واجبة تعيينا فذلك يعني عدم إجزاء شيء آخر - كالصدقة أو الصوم - عنها.

والواجب التخييري هو ما يمكن الاستعاضة عنه في مقام الامتثال بواجب آخر ، كما لو ثبت أنّ الواجب على المكلّف الحاج إمّا الحلق أو التقصير ، فالحلق واجب تخييري ولهذا يمكن للمكلّف التعويض عنه بالتقصير الواجب وبه يسقط التكليف عن الحلق.

والبحث في المقام عن دوران الواجب بين التعيين والتخيير ، كما لو وقع الشك في أنّ الصرورة هل يجب عليه الحلق تعيينا فلا يجزي عنه التقصير أو أنّ الواجب هو إمّا الحلق أو التقصير فيكون أحدهما مجزيا عن الآخر؟

والبحث في المقام يعمّ التخيير العقلي والذي يكون فيه الوجوب مجعولا على الطبيعة دون تقييدها بحصة خاصة فيدرك العقل حينئذ أنّ المكلّف مخير في مقام الامتثال بين تمام أفراد حصص الطبيعة.

ومثاله ما لو قال المولى « صلّ » ولم يقيّد الصلاة بحصة خاصة ، فإنّ العقل حينئذ يحكم بالتخيير - للمكلف - بين أفراد طبيعة الصلاة ، فهو مخير بين الصلاة في المسجد أو في البيت وهكذا ، فلو وقع الشك في الواجب

ص: 311

« الصلاة » من جهة أنّ المطلوب هل هو الحصة الخاصة من الصلاة - وهي الصلاة في المسجد - أو أنّ المطلوب هو مطلق الطبيعة الشامل للصلاة في المسجد؟ فالشك هنا شك بين التعيين - وهي الحصة الخاصة من الطبيعة والتي هي الصلاة في المسجد - أو التخيير بين حصص الطبيعة ، فتكون الصلاة في المسجد واجبا تخييريا يمكن التعويض عنها بالصلاة في البيت.

كما يشمل هذا البحث التخيير الشرعي وهو التخيير المستفاد من لسان الدليل ابتداء ، ويمكن التمثيل لذلك بالتخيير بين قراءة فاتحة الكتاب أو التسبيح في الركعتين الأخيرتين ، فإنّه قد ورد في بعض الأدلة التصريح بالتخيير كما في رواية علي بن حنظلة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الركعتين الأخيرتين ما أصنع فيهما؟ فقال علیه السلام : « إن شئت فاقرأ فاتحة الكتاب وإن شئت فاذكر اللّه فهو سواء » قال : فقلت فأيّ ذلك أفضل؟

فقال علیه السلام : « هما واللّه سواء إن شئت سبّحت وإن شئت قرأت » (1) ، فحينئذ لو جاء المكلّف بأحد طرفي التخيير فإنّ هذا يكفيه عن الإتيان بالآخر.

والبحث هنا عمّا لو وقع الشك في أنّ الواجب هل هو قراءة الفاتحة تعيينا بحيث لا يجزي عنها غيرها أو أنّ الواجب هو إمّا قراءة الفاتحة أو التسبيح؟ وهنا يكون الشك بين التعيين - والذي هو وجوب قراءة الفاتحة دون غيرها - أو التخيير بينها وبين التسبيح.

وبعد أن تحرّر محلّ البحث نصل لبيان ما هو الأصل الجاري في موارد الشك بين التعيين والتخيير.

ص: 312


1- الوسائل باب 42 من أبواب القراءة في الصلاة ح 3 والرواية ساقطة عن الاعتبار بسبب علي ابن حنظلة حيث لم يرد فيه توثيق.

ومعرفة ما هو الأصل الجاري في المقام يرتكز على تحديد هوية هذا النحو من الشك ، وهل هو من موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر حتى تجري البراءة عن الأكثر أو أنّ المقام من موارد دوران الأمر بين المتباينين فلا تجري البراءة ويكون الجاري هو قاعدة منجّزية العلم الإجمالي لو تمت أركانه؟

والجواب : أنّه قد ثبت في محلّه أنّ الأحكام متعلّقة بالطبايع لا بالأفراد فحينما تجب الصلاة فالواجب هو الطبيعي والذي هو طبيعة الصلاة بمفهومها السّعي ، غايته أنّ هذا الطبيعي الذي وقع متعلّقا للأمر يمكن تطبيقه على أحد مصاديقه.

وإذا كان كذلك فالدوران في المقام إنّما هو بين المتباينين ؛ وذلك لأنّ الشك إنّما هو - مثلا - بين الحلق تعيينا أو الأعم منه ومن التقصير ، وهذا يعني أنّ الواجب هو إمّا طبيعي الحلق أو طبيعي الجامع بين الحلق والتقصير ، نعم هما متصادقان في أفرادهما خارجا ؛ وذلك لأنّ عنوان الجامع يصدق على أفراد عنوان الحلق إلاّ أنّ ذلك لا يوجب كون الدوران بينهما من الدوران بين الأقل والأكثر ؛ لأنّ الضابطة في تحديد هوية التردد وأنّه بين الأقل والأكثر أو بين المتباينين إنما هو متعلّق التكليف وهو الطبيعي ، ومتعلّق التكليف في المقام مردد بين طبيعي الحلق وطبيعي الجامع بين الحلق والتقصير ، ومن الواضح أنّهما متباينان في عالم المفاهيم ، فأحدهما غير متحد مع الآخر ولو في الجملة.

وإذا كان الدوران بينهما من الدوران بين المتباينين فهذا يعني وجود علم إجمالي طرفاه هما عنوان الحلق وعنوان الجامع بين الحلق والتقصير ، وجامع هذا العلم هو وجوب أحد العنوانين إلاّ أنّه مع ذلك لا يكون مثل

ص: 313

هذا العلم الإجمالي منجّزا ؛ وذلك لاختلال الركن الثالث منه - وهو صحة جريان الأصول المؤمّنة في تمام الأطراف لولا المعارضة - إذ أنّه لا يمكن إجراء الأصل المؤمّن عن عنوان الجامع بين الحلق والتقصير حيث إنّ إجراءه يؤدي إلى الترخيص في المخالفة القطعيّة.

وبيان ذلك :

إنّ إجراء البراءة عن عنوان الجامع معناه الإذن في ترك الوجوب التخييري دون التعييني ، وهذا لا محصّل له ؛ لأنّه إذا كان معنى ترك الوجوب التخييري هو ترك كل من الحلق والتقصير فهو إذن في ترك التكليف المعلوم وهو يؤدي إلى الإذن في المخالفة القطعيّة.

وبتعبير آخر : إنّ الإذن في ترك الوجوب التخييري - والذي متعلّقه جامع العنوانين - يعني التأمين عمّا هو مقطوع بوجوبه ، فالوجوب التخييري وإن لم يكن معلوما إلاّ أنّ تركه يؤدي إلى ترك جامع العلم الإجمالي وهو وجوب أحد العنوانين.

وكلّ حالة يلزم من الترخيص في أحد الطرفين الترخيص في ترك جامع التكليف فإنّ البراءة لا تجري عن ذلك الطرف ، وبهذا يختلّ الركن الثالث من أركان منجزية العلم الإجمالي ، فيكون إجراء البراءة عن التعيين بلا معارض ، وإذا كان التعيين غير لازم لجريان البراءة عنه فالمكلّف في سعة من جهة اختيار أحد العنوانين إمّا الحلق أو التقصير.

وهذا بخلاف ما لو قلنا بأنّ العلم الإجمالي منجّز فإنّ المكلّف يكون ملزما بالواجب التعييني ، إذ هو الذي يحصل بامتثاله الخروج عن عهدة التكليف ، فإن كان الواقع هو التعيين فقد جاء به وإن كان الواجب واقعا هو التخيير فما جاء به هو أحد طرفي الواجب التخييري.

ص: 314

الاستصحاب

اشارة

1 - تعريف الاستصحاب

2 - أدلة الاستصحاب

3 - أركان الاستصحاب

4 - مقدار ما يثبت بالاستصحاب

5 - عموم جريان الاستصحاب

6 - تطبيقات خمسة

ص: 315

ص: 316

الاستصحاب

تعريف الاستصحاب :

اشارة

وقبل بيان تعريف الاستصحاب لا بدّ من تقديم مقدمتين :

المقدّمة الأولى : في بيان مجرى الاستصحاب بنحو مجمل فنقول : إنّ الاستصحاب لمّا كان مورده الحكم الظاهري فهذا يقتضي عدم جريانه إلاّ في حالات الشك في الحكم الواقعي ؛ وذلك لأنّ الحكم الظاهري أخذ في موضوعه الشك في الحكم الواقعي.

وهذا البيان لا يختص بالاستصحاب بل هو شامل لكلّ مثبت للحكم في ظرف الشك سواء كان من قبيل الأمارات أو من قبيل الأصول العمليّة.

والذي يختص به الاستصحاب دون سائر الأدلة هو أنّه متقوّم بالشك المسبوق باليقين ، فمتى ما كان المكلّف على يقين بشيء ثم وقع الشك في بقاء ذلك الشيء المتيقّن فإنّ الاستصحاب يقتضي تسرية آثار اليقين إلى ظرف الشك ، فكما أننا لو كنّا على يقين بذلك الشيء فإنّنا نرتّب آثار ذلك اليقين فكذلك لو شككنا بعد ذلك في بقاء ذلك الشيء فإننا نتعامل كما لو كنّا على يقين من جهته.

مثلا : لو كنّا على يقين بوجوب صلاة الجمعة في زمن الحضور ثمّ في عصر الغيبة وقع الشك في استمرار ذلك الوجوب فإنّ الاستصحاب يقتضي

ص: 317

في مثل هذه الحالة بقاء الوجوب الثابت في زمن الحضور ، فكما أنّ الوجوب المتيقن يقتضي التحرّك والانبعاث عنه كذلك الوجوب المشكوك إذا كانت حالته السابقة هي اليقين بالوجوب.

المقدّمة الثانية : إنّه وإن كان من المسلّم أنّ المجعول في مورد الاستصحاب هو الحكم الظاهري إلاّ أنّه وقع النزاع في أنّ الاستصحاب كاشف عن الحكم الظاهري أو هو بنفسه حكم ظاهري ، أي أنّ الاستصحاب هل هو من الأمارات - والتي شأنها الكشف عن الحكم الواقعي - أو هو من قبيل الأصول العمليّة المقرّرة لوظيفة المكلّف في ظرف الشك في الحكم الواقعي؟

ومن الواضح أنّه بناء على الأول يكون دور الاستصحاب دور الكشف عن الحكم الواقعي ، وأما بناء على الثاني فالاستصحاب بنفسه حكم ظاهري ، فجعل الاستصحاب يعني جعل الوجوب الظاهري أو جعل الحرمة الظاهرية أو الشرطية الظاهرية وهكذا.

كما أنّه وقع النزاع بينهم فيما هو دليل الاستصحاب وهل هو من مدركات العقل أي أنّ العقل يدرك بقاء المتيقن على ما هو عليه في ظرف الشك فيكون الدليل على حجية الاستصحاب هو الحكم العقلي القطعي أو الظني؟ أو أنّ مدرك الحجيّة للاستصحاب هو السيرة العقلائية الجارية على اعتبار المشكوك - لو كان مسبوقا باليقين - متيقنا وترتيب آثار اليقين على حالات الشك؟ أو أنّ مدركه هو الروايات القاضية بحرمة نقض اليقين بالشك؟ وهذا ما سيأتي تفصيله في دليل الاستصحاب.

ومع اتضاح هاتين المقدمتين نصل لبيان تعريف الاستصحاب :

ص: 318

فقد ذكر الشيخ مرتضى الأنصاري بما معناه - ووافقه صاحب الكفاية مع تعديل طفيف يرجع إلى الصياغة - أنّ أسدّ التعاريف وأخصرها للاستصحاب هو أنّه « الحكم ببقاء ما كان ».

إلاّ أنّ السيد الخوئي رحمه اللّه أورد على هذا التعريف بإيراد حاصله :

أنّه لا يتناسب مع تمام المباني المختلفة في تحديد واقع الاستصحاب وما هو الدليل عليه ، وإنّما يتناسب مع البناء على أنّ الاستصحاب من الأصول العمليّة ، إذ أنّه بناء على أنّ الاستصحاب من الأمارات ينبغي أن يعبّر التعريف عن أهلية الاستصحاب للكشف عن الحكم الشرعي ، ولهذا يمكن أن يقال إنّه ليس للاستصحاب تعريفا يمكن أن يكون معبّرا عن تمام المباني المتباينة من جهة تحديد هوية الاستصحاب ونحو دليليّته وما هو دليل حجيّته.

ومن أجل أن يتّضح إشكال السيد الخوئي رحمه اللّه على التعريف لا بدّ من بيان معنى التعريف وما هو منشأ عدم صلوحه لتعريف الاستصحاب بناء على أماريته فنقول :

إنّ المراد من تعريف الاستصحاب بأنّه « الحكم ببقاء ما كان » هو حكم الشارع باستمرار الحالة المتيقنة في ظرف الشك في استمرارها فما كان متيقنا حقيقة هو متيقن عملا في ظرف الشك في البقاء ، ومن الواضح أنّ هذا التعريف إنّما يتناسب مع كون الاستصحاب أصلا عمليّا ؛ وذلك لأنّ الأمارة ليست حكما شرعيا وإنّما هي كاشف ظني نوعي ، أي أنّ الأمارة هي ما يكون العلم بها موجبا للظن بمؤداها عند نوع العقلاء ، فالاستصحاب لو كان أمارة لما كان بنفسه حكما شرعيا ، نعم يكون كاشفا ظنيا عن الحكم

ص: 319

الشرعي ، وهذا بخلاف الأصل العملي فإنّه من الأحكام الشرعيّة المجعولة على المكلّف حين تحقق موضوعاتها ، فجعل البراءة في ظرف الشك مثل جعل الوجوب للصلاة عند الزوال ، فكما أنّ الوجوب للصلاة مجعول شرعي موضوعه الزوال فكذلك البراءة مجعول شرعي موضوعه الشك في الحكم الواقعي.

وهكذا الكلام في الاستصحاب - لو كان أصلا عمليّا - ، إذ أنّ الاستصحاب لا يعني أكثر من الوجوب والحرمة والإباحة وهكذا ، فلو كانت الحالة السابقة المتيقنة هي الوجوب فمعنى استصحاب الوجوب هو أنّ الشارع قد جعل الوجوب على المكلّف في ظرف الشك في استمرار الوجوب أو انتفائه وهكذا استصحاب الحرمة فإنّ معناه هو حكم الشارع بالحرمة في ظرف الشك في استمرارها.

وبهذا اتضح أنّ التعريف لا يتناسب إلاّ مع كون الاستصحاب أصلا عمليّا ، ومن هنا عدل السيد الخوئي رحمه اللّه عن هذا التعريف ؛ وذلك لأنّه لا يرى أنّ الاستصحاب من الأصول العمليّة بل هو من الأمارات التي شأنها الكشف عن الحكم الشرعي ، فلابدّ أن يكون التعريف معبّرا عمّا للاستصحاب من أماريّة وطريقيّة ؛ ولذا فالصحيح في تعريف الاستصحاب هو : « اليقين بالحدوث » ، إذ أنّ هذا التعريف هو المتناسب مع كون الاستصحاب أمارة ؛ وذلك لأنّ تعريف الاستصحاب باليقين بالحدوث تعريف له بمنشأ كاشفيته ، إذ أنّ اليقين بالحدوث هو الكاشف الظنّي النوعي عن بقاء ما كان ، فحينما نكون على يقين بوجوب صلاة الجمعة في زمن الحضور فإنّ هذا يكشف عن بقاء الوجوب في زمن الغيبة لو وقع الشك

ص: 320

حينذاك في بقاء الوجوب.

ومن هنا يتضح أن تعريف الاستصحاب لا بدّ وأن يختلف باختلاف المبنى فيما هو حقيقة الاستصحاب وهل أنّه أمارة أو أصل ؛ وذلك لعدم وجود تعريف جامع يتناسب مع كون الاستصحاب أمارة وأصلا عمليّا.

وقد أورد المصنّف رحمه اللّه على ما أفاده السيد الخوئي رحمه اللّه ثلاثة إيرادات :

الإيراد الأول :

أنّه لو كان البناء هو تعريف الاستصحاب بما يتناسب مع كونه أمارة لما صح أن يعرّف « باليقين بالحدوث » ؛ وذلك لأنّ منشأ أمارية الاستصحاب ليس هو اليقين بالحدوث بل هو نفس الحدوث ؛ إذ أنّ طبع كل حادث أنّه يبقى ، فطبيعة الحادث بنفسها تكشف عن البقاء والاستمرار ، فحينما يتحقق الوجوب فإنّ تحققه وتقرّره يقتضي بقاءه وكذلك حينما يكون الشيء نجسا فإن ذلك يقتضي بقاء نجاسته.

وهذا الاقتضاء يكشف كشفا ظنيا عن البقاء ، فليس لليقين دور في أمارية الحدوث على البقاء ، نعم اليقين له دور الكاشفية عن تحقّق الأمارة ، فاليقين بالحدوث يكشف عن تحقق الحدوث والحدوث أمارة على البقاء ، وهذا مثل خبر الثقة في الأحكام والبينة في الموضوعات ، فإنّه حينما نعلم بالوجدان قيام البينة على وقوع شيء فإنّ العلم الوجداني لا يكون هو المبرّر لكاشفية البينة عن وقوع ذلك الشيء وإنما يكون دور العلم الوجداني هو الكشف عن قيام البينة ويكون دور البينة هو الكشف الظني عن وقوع ذلك الشيء الذي دلّت البينة على وقوعه ، فالبينة بنفسها أمارة وكاشفة عن مؤدّاها حتى لو لم يكن علم وجداني بتحققها ، وهكذا الكلام في اليقين

ص: 321

بالحدوث ، فإنّ الحدوث أمارة على البقاء بقطع النظر عن اليقين به ، غايته أنّ اليقين يثبت أنّ الحدوث قد وقع خارجا.

فالصحيح أن يعرّف الاستصحاب - لو كنّا نبني على أماريته - بالحدوث ، أي أنّ الاستصحاب هو أمارية الحدوث على البقاء.

الإيراد الثاني :

إنّ الاستصحاب بناء على كونه أمارة أو بناء على كونه أصلا عمليّا لا ينتج إلا حكما ظاهريا ، إذ أنّ حجيته على المبنيين إنّما هي في طول العلم بالحكم الواقعي ، وإذا كان كذلك فيمكن تعريف الاستصحاب بما يتناسب مع أماريته وبما يتناسب مع اعتباره أصلا ، وذلك بأن يكون التعريف مشتملا على الحيثية المشتركة وهي منتجيته للحكم الظاهري ، فهو بناء على كونه أمارة فهو يكشف عن الحكم الشرعي الظاهري وبناء على كونه أصلا عمليّا فهو يحدّد وظيفة المكلّف في ظرف الشك المسبوق بالعلم ، وهذه الوظيفة من الأحكام الظاهرية كما هو واضح.

وبهذا اتّضح أنّ الحيثية المشتركة بين المبنيين وهي المنتجية للحكم الظاهري صالحة لأن تكون مركزا في تعريف الاستصحاب على المبنيين ولا يلزم أن يؤخذ في تعريف الاستصحاب حيثية الكشف أو حيثية الوظيفة المحضة.

الإيراد الثالث :

إنّه لا نقبل دعوى عدم وجود تعريف جامع لتمام المباني المختلفة في تحديد هوية الاستصحاب ، فإنّه بالإمكان تعريفه « بمرجعية الحالة السابقة بقاء » بمعنى أنّ المكلّف إذا كان على يقين بالحدوث فإنّه يمكن أن يعوّل على

ص: 322

ذلك اليقين بالحدوث ويعتمد عليه باعتباره كاشفا عن الحكم الشرعي أو مثبتا للتنجيز والتعذير أو أنّه مثبت لجعل حكم شرعي مطابق لما هو متيقن الحدوث.

فتعريف الاستصحاب بمرجعية الحالة السابقة يتناسب مع تمام المباني في تحديد هوية الاستصحاب ، فهو يتناسب مع كون الاستصحاب أمارة ؛ وذلك لأنّ أمارية الاستصحاب تعني أنّ الحالة السابقة المتيقنة يمكن التعويل عليها في مقام استكشاف الحكم الشرعي أو استكشاف الموضوع ذي الأثر الشرعي.

كما يتناسب مع كون المجعول في الاستصحاب هو المنجزية والمعذريّة ؛ وذلك لأنّ مرجعية الحالة السابقة حينئذ تعني إمكان الاستناد إليها في مقام إثبات المنجزيّة والمعذريّة للحكم المشكوك.

كما يتناسب هذا التعريف مع كون الاستصحاب هو الحكم ببقاء المتيقن في ظرف الشك في بقائه - والذي هو الأصل العملي - وذلك لأنّ الحالة السابقة هي الموضوع المنقّح لجريان الاستصحاب.

التمييز بين الاستصحاب وغيره :

ومن أجل أن يتحرّر معنى الاستصحاب أكثر لا بدّ من بيان تميّزه عن بعض القواعد التي يتوهم بدوا أنها عين الاستصحاب أو متداخلة معه ، وهذه القواعد هي قاعدة اليقين وقاعدة المقتضي والمانع.

أمّا قاعدة اليقين :

فهي كما قالوا عبارة عن الشك الساري لليقين أي العادم لليقين أو قل إنّه الشك الذي يطرد اليقين ويحلّ محلّه.

ص: 323

وبتعبير أوضح : إنّ قاعدة اليقين هي عبارة عن تحوّل اليقين بشيء إلى الشك فيه بحيث يتضح للمتيقّن أنّه كان مخطئا في يقينه وأنّه لم يكن ثمة موجب لليقين فتستقر نفسه على الشك وتستقرّ على أنّ يقينه كان محض وهم ، وهذا بخلاف الاستصحاب فإنّ اليقين في مورده يظلّ ثابتا في النفس ، غايته أنّ الشك يكون في بقائه.

والمتحصّل أنّ اليقين والشك - في قاعدة اليقين - يتواردان على متعلّق واحد أما قاعدة الاستصحاب فمتعلق اليقين فيه غير متعلّق الشك ؛ إذ أنّ متعلّق اليقين هو الحدوث ومتعلّق الشك هو بقاء الحادث.

مثلا : لو كنت على يقين بعدالة زيد في السنة الماضية ثم شككت في عدالته ، فتارة يكون الشك في عدالته من حيث وجودها واقعا في السنة الماضية بمعنى أنني أشك بأنّ عدالته لم تكن وأن يقيني لم يكن في محلّه ، فهذا هو الشك الساري وهو قوام قاعدة اليقين.

وتلاحظون أنّ متعلّق الشك ومتعلّق اليقين - في قاعدة اليقين - واحد وهو عدالة زيد ، فعدالة زيد هي المتيقنة وهي المشكوكة كما أنّ زمن اليقين بالعدالة هو زمن الشك في العدالة وهي السنة الماضية في المثال ، غايته أن حالة الشك تأخرت عن حالة اليقين إلاّ أنّهما قد تبادلا على موضوع واحد في زمن واحد.

أما لو كان الشك في عدالة زيد شكا في استمرار العدالة - والتي لا زال اليقين بحدوثها على حاله - فهذا هو موضوع الاستصحاب.

وتلاحظون أنّ الشك في مورد الاستصحاب لا يطرد اليقين ولا يعدمه ؛ إذ أنّ متعلّق أحدهما غير متعلّق الآخر ، فمتعلّق اليقين هو وجود

ص: 324

العدالة في السنة الماضية ومتعلّق الشك هو استمرار العدالة إلى ما بعد السنة الماضية ؛ ولذلك لا يتنافى اليقين والشك في قاعدة الاستصحاب فيمكن أن يجتمعا في نفس واحدة ، وهذا بخلاف قاعدة اليقين فإنّ الشك لا يمكن أن يجتمع مع اليقين فمتى ما تحقق الشك انعدم اليقين.

ومن أجل أن يتضح الفرق أكثر نذكر هذا التطبيق : لو أوقع المكلّف الطلاق بمحضر زيد معتقدا عدالته ثم بعد ذلك شك في عدالته ، فتارة يكون شكه من نحو الشك الساري بمعنى تحوّل يقينه بعدالة زيد في وقت إيقاع الطلاق إلى شك في عدالته.

وهنا لا يكون الطلاق الذي أوقعه صحيحا لاشتراط العدالة الواقعية في شاهد الطلاق ، ولمّا لم تكن عدالة الشاهد - وهو زيد - محرزة فالطلاق بمحضره لا يكون محرز النفوذ.

أما لو كان الشك في عدالة زيد من جهة بقاء اتصافه بالعدالة لا من جهة وجودها حين إيقاع الطلاق فإنّ الاعتقاد بعدالته حين إيقاع الطلاق لم يطرأ عليه شك ، فهذا النحو من الشك هو المقوّم لقاعدة الاستصحاب إذ أنّ الشك في هذه الصورة لا ينافي اليقين ، ومن هنا يكون ما أوقعه من طلاق في محضر زيد صحيحا ونافذا لتوفره على شرط الصحة وهو إحراز عدالة الشاهد على الطلاق.

وبهذا اتضح أن قاعدة اليقين وقاعدة الاستصحاب وإن كانا يتقومان بالشك واليقين إلاّ أنّ حيثية الشك في قاعدة اليقين تختلف عن حيثيته في قاعدة الاستصحاب ، فالأول يكون الشك نافيا لليقين والثاني لا يكون كذلك.

ص: 325

وبتعبير آخر : إنّ نقض الشك لليقين في قاعدة اليقين تكويني وحقيقي ، أمّا في قاعدة الاستصحاب ، فناقضية الشك لليقين ليست بمعنى امتناع اجتماعهما بل بمعنى انتهاء أمد اليقين وابتداء مرحلة جديدة هي الشك في الموضوع الذي تعلّق به اليقين سابقا ، على أنّه يمكن دعوى عدم تقوّم الاستصحاب بالشك في البقاء ؛ وذلك لأنّ الشك في البقاء ليس مطرّدا في تمام حالات جريان الاستصحاب.

ومثال ذلك ما لو علمنا بوقوع النجاسة في مائع معين إلاّ أننا لا ندري متى وقعت النجاسة هل هي في الساعة الواحدة أو الساعة الثانية ظهرا؟ ثم بعد ذلك وقع الشك في ارتفاع النجاسة ، فإن بالإمكان إجراء استصحاب النجاسة إلى الساعة الثانية رغم أنّ الساعة الثانية لا يحرز أنّها بقاء للنجاسة ، إذ لعلها وقعت في الساعة الثانية فتكون الساعة الثانية هي زمن الحدوث لا زمن البقاء ، فلو كان الاستصحاب متقوّما بالشك في البقاء لما كان جاريا في المقام ؛ إذ أننا لا نحرز أن الشك في الساعة الثانية شك في البقاء ، نعم نحن نشك في وجود النجاسة في الساعة الثانية إلاّ أنّ اتّصافه بأنّه شك في البقاء محلّ تردد ، إذ لو كان زمان الحدوث للنجاسة - المعلوم وقوعها - هو الساعة الثانية لما كان الشك حينئذ شكا في البقاء بل هو شك في وجود النجاسة المحرز وقوعها على أيّ حال ، فالشك في البقاء إذن ليس مقوّما للاستصحاب بل إنّ مقوّم الاستصحاب هو الشك فحسب.

ومن هنا يمكن أن يقال بكفاية إحراز وجود الحادث لإجراء الاستصحاب لو أردنا إثبات المستصحب « الحادث » حين الشك.

وأما قاعدة المقتضي والمانع :

فالمراد منها هو ترتيب آثار وجود المعلول عند اليقين بوجود

ص: 326

المقتضي - والذي هو الركن الأساسي في عليّة العلة - مع عدم إحراز انتفاء المانع والذي هو الجزء الآخر لعليّة العلّة.

وتوضيح ذلك :

إنّه تارة نحرز تحقق المقتضي للمعلول ونحرز عدم وجود ما يمنع عن تأثير المقتضي أثره فهنا لا ريب في تحقق المعلول ؛ وذلك لتمامية علته.

ومثال ذلك أن نحرز وجود النار المقتضية لإحراق الخشب ونحرز عدم وجود ما يمنع النار عن إحراق الخشب ، وهنا لا ريب في تحقّق المعلول وهو احتراق الخشب.

وفي حالة أخرى نحرز وجود المقتضي إلاّ أنّنا نشك في انتفاء المانع فلعلّه منتف ولعلّه موجود ، وهنا يكون مجرى قاعدة المقتضي والمانع ، ومفادها هو البناء على عدم المانع وبالتالي يكون المقتضي أثّر أثره وأوجد معلوله - والذي يعبّر عنه بالمقتضى بصيغة المفعول -.

ومثاله أن نحرز وجود النار في الخشب إلا أنّنا لا نعلم بما إذا كان هناك مانع من تأثير النار أثرها وهو إحراق الخشب ، فهنا نبني - بمقتضي هذه القاعدة - على عدم وجود المانع وأن المقتضي وهو النار قد أحرقت الخشب.

وتلاحظون أنّ هذه القاعدة تتفق مع قاعدة الاستصحاب من جهة أنها متقومة بالشك واليقين إلاّ أنها تختلف عن الاستصحاب من جهة أنّ مورد الشك فيها مباين ذاتا لمورد اليقين ، فمتعلّق اليقين فيها هو وجود المقتضي ومتعلّق الشك هو وجود المانع ، أما قاعدة الاستصحاب فالمتيقن هو المشكوك ، غايته أنّ حيثية الشك تختلف عن حيثية اليقين ، فمتعلّق اليقين والشك هي نجاسة المائع - مثلا - إلاّ أن جهة اليقين هي الحدوث وجهة

ص: 327

الشك هي البقاء.

وبهذا البيان اتّضح الفرق بين القاعدتين ، واتّضح أيضا أنّ القواعد الثلاث لا تتصل إحداها بالأخرى ، ثم إنّ هناك فارقا آخر بين القواعد الثلاث يتصل بمنشأ كاشفية هذه القواعد عن الواقع.

فقاعدة الاستصحاب إنّما تكشف عن بقاء الحادث واستمراره باعتبار أنّ من طبع الحادث إذا حدث أن يستمر ويبقى.

وأما قاعدة اليقين فهي تكشف عن واقعيّة المتيقن باعتبار ندرة وقوع الخطأ في حالات اليقين ؛ فلذلك يكون الشك في متعلّق اليقين لا اعتداد به وأنّ اليقين أقرب للصواب منه إلى الخطأ.

وأما قاعدة المقتضي والمانع فهي تكشف عن انتفاء المانع وتأثير المقتضي أثره باعتبار أنّ الحالة الغالبة عند وجود المقتضي هي عدم وجود ما يزاحمه ويمنع عن تأثيره.

إذن فمنشأ الكشف الظني في كل قاعدة يختلف عنه في القاعدة الأخرى ، وهذا ما يبرّر عدّه في ضمن الفوارق بين هذه القواعد الثلاث.

ص: 328

أدلّة الاستصحاب

اشارة

وقد استدل لحجيّة الاستصحاب بثلاثة أنحاء من الأدلة :

النحو الأول : هو الاستدلال على الاستصحاب باعتبار أنّ ركنه المقوّم - وهو اليقين بالحدوث أو قل الحدوث نفسه - موجب للظن النوعي بالبقاء ؛ وذلك لأنّ الحالة الغالبة هي بقاء الحادث بعد حدوثه ، وهذه الغلبة في بقاء الحادث هي الموجبة للظن النوعي باستمرار الحادث ، وكل ما كان هناك ظن نوعي فإنّ له الدليليّة والحجيّة ، أي أنّ الظن النوعي موجب للجريان على وفقه شرعا.

ويمكن أن تؤيد دعوى إيجاب اليقين بالحدوث للظن النوعي بالبقاء بما جرت عليه سيرة العقلاء من البناء على بقاء الحادث وترتيب آثار البقاء بمجرّد أنه محرز الوقوع والحدوث ، فإذا كان البناء العقلائي على ذلك مع الالتفات إلى أن العقلاء لا يعتمدون في مقام استكشاف الواقعيات إلاّ على ما يوجب الاطمئنان أو الظن النوعي فإذا لم يكن الاستصحاب موجبا للاطمئنان فهو لا أقل موجب للظن النوعي في نظرهم ، وهذا ما يعزز كون الحدوث أمارة البقاء.

والجواب عن هذا الدليل : أنه موهون في صغراه ومؤيدها وكذلك كبراه.

ص: 329

أما الصغرى : فلا نسلّم أنّ الحدوث بنفسه موجب للظن النوعي بالبقاء ، نعم قد ينشأ الظن بالبقاء عند إحراز وجود الحادث إلاّ أنّه لا لاقتضاء الحادث نفسه للظن في البقاء ، إذ أننا وبالوجدان نجد أنّ إحراز وجود الحادث لا يقتضي في حالات كثيرة البقاء مما يعبّر عن أنّ هناك منشأ آخر للظن بالبقاء وليكن هو طبيعة الحادث المقتضية للبقاء إلى حين زمان الشك ، كما لو علمنا بتولّد إنسان صحيح البدن وشككنا بعد سنة في بقائه ، فإنّه لو رجعنا إلى أنفسنا لوجدناها ترجّح جانب البقاء إلا أنّ هذا الترجيح - والذي هو الظن بالبقاء - لم ينشأ عن العلم بتولّد هذا الإنسان وإنّما نشأ عن معرفة طبيعة هذا الحادث وأنّه حينما يحدث يبقى لأكثر من سنة ؛ ولذلك لو علمنا - مثلا - أنّ خطيبا قد بدأ خطبته ثم وقع الشك بعد ساعتين في استمراره في خطابه فإنّه لا يحصل الظن بالاستمرار وما ذلك إلاّ لعدم اقتضاء هذا النحو من الحادث للبقاء إلى هذه الفترة الزمنيّة.

وأما المؤيد : فهو لا يصلح للتأييد ؛ وذلك لاحتمال أن يكون منشأ التباني هو الجريان على مقتضى الألفة والعادة كما هو الحال في الحيوانات أو يكون المنشأ - ولو في بعض الحالات - هو رجاء البقاء ، أو أنّ المنشأ هو قوة المحتمل ، مثلا قد يتحرك العطشان نحو المحل الذي كان يقطع بوجود الماء فيه لا لأنه يظن ببقاء الماء بل لشدة اهتمامه بالمطلوب ، فلعلّ احتمال بقاء الماء في ذلك المحل ضئيل جدا ومع ذلك يتحرّك نحوه لعله يجده ، وما هذا إلا لقوة المحتمل والذي هو المطلوب.

وأمّا الكبرى : فلأنّ الظن ليس حجة بذاته ، فلابدّ لإثبات الحجيّة له من قيام دليل قطعي على الحجيّة ولمّا لم يكن دليل على حجيّة هذا الظن

ص: 330

فهو ساقط عن الاعتبار.

النحو الثاني : وهو الاستدلال بالسيرة العقلائية القاضية بالبناء على الحالة السابقة وترتيب آثار البقاء بمجرّد إحراز الحدوث.

والجواب : أنّ هذه السيرة لا يمكن الاستدلال بها على الاستصحاب لأنّ مجرّد البناء على الحالة السابقة لا يعبّر عن وجود اعتبار عقلائي قاض بترتيب آثار البقاء عند إحراز الحدوث ، فإنّ كثيرا من السير منشؤها التسامح خصوصا في السلوك الذي لا يشكّل الجريان عليه خطورة وتهديدا للصالح العام في المجتمع العقلائي ، فلعلّ هذه السيرة من ضمن تلك السير التي تكون مبتنية على ما تقتضيه حالة التسامح من الاسترسال مع مقتضيات الألفة والعادة والتي لا تنفك عادة عن الغفلة والذهول ؛ ولذلك لا يمكن استكشاف الإمضاء لهذا النحو من السير خصوصا إذا لم تكن منافية لأغراض الشارع ، على أنّه يمكن القول بأنّ البناء على الحالة السابقة ناشئة في كثير من الأحيان عن الاطمئنان بالبقاء أو ناشئة - كما قلنا - عن رجاء بقاء المطلوب أو عن قوة المحتمل.

النحو الثالث : هو الاستدلال بالروايات وهي المستند في إثبات الحجيّة للاستصحاب.

ومن هذه الروايات صحيحة زرارة ، قال : « قلت له الرجل ينام وهو على وضوء أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ فقال : يا زرارة قد تنام العين ولا ينام القلب والأذن ، فإذا نامت العين والأذن والقلب وجب الوضوء ، قلت : فإن حرّك في جنبه شيء ولم يعلم به؟ قال : لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بيّن وإلا فإنّه على يقين من

ص: 331

وضوئه ولا تنقض اليقين أبدا بالشك ولكن انقضه بيقين آخر » (1).

ويمكن صياغة الرواية بأسلوب أوضح :

إن زرارة رحمه اللّه كان يحرز أن النوم من نواقض الوضوء إلاّ أنّه كان يسأل عن حالة الشك في تحقق هذا الناقض وعن أنّ الخفقة والخفقتين مما يوجب تحقق الناقض أو لا؟ فأجابه الإمام علیه السلام بأن المناط في تحقق الناقض هو نوم العين والأذن والقلب معا ، فما لم يتحقق نوم المجموع فإنّه لا يتحقق النوم الناقض للوضوء ، ثم سأل زرارة عن أمارية الحركة القريبة مع عدم الإلتفات إليها على تحقق النوم الناقض أو أنّ ذلك ليس أمارة؟ فأجابه الإمام علیه السلام أنّ ذلك غير موجب لإحراز الناقض بل غاية ما ينتجه ذلك هو الشك وهو غير معتبر في ثبوت الناقضية بعد أن كان المكلّف متيقنا بالطهارة من الحدث ولا يرفع اليد عن اليقين بالطهارة بالشك فيها ، نعم الموجب لرفع اليد عن الطهارة المتيقنة هو إحراز حدوث الناقض ، ثم ذيّل الإمام عليه السّلام كلامه بكبرى كليّة نهى فيها عن نقض اليقين بالشك.

ثم إنّ الكلام في الرواية يقع في جهات :

الجهة الأولى :

والبحث فيها عن فقه هذه الفقرة من الرواية وهي قوله علیه السلام « وإلاّ فإنّه على يقين من وضوئه ولا ينقض اليقين بالشك ». وهو من ناحيتين :

ص: 332


1- الوسائل باب 1 من أبواب نواقض الوضوء ح 1 ، والرواية مضمرة حيث لم يصرّح زرارة رحمه اللّه باسم المسؤول إلا أنّ ذلك لا يخرجها عن الاعتبار بعد أن كان من المطمأن به أن زرارة رحمه اللّه لا يسأل غير الإمام علیه السلام ، وذلك يتّضح بملاحظة أجواء الرواية مع الالتفات إلى مكانة زرارة العلميّة.

الناحية الأولى : هي أنّ الرواية عبّرت عن الشك في البقاء أنّه نقض لليقين رغم أنّه لا تنافي بين اليقين بالحدوث والشك في البقاء ؛ وذلك لعدم اتحاد المتعلّق في كل من اليقين والشك ، حيث إنّ متعلّق اليقين هو نفس الحدوث ومتعلّق الشك هو بقاء الحادث ، ومع عدم اتحاد متعلّقي اليقين والشك كيف يكون الشك نقضا لليقين؟! وقد ذكرنا في بحث التمييز بين الاستصحاب وقاعدة اليقين أن الشك في قاعدة اليقين هو الموجب لنقض اليقين ؛ وذلك لأن الشك يسري إلى نفس متعلّق اليقين ويوجب تحوّل اليقين بالحدوث إلى الشك في نفس الحدوث ، فالنقض هنا تكويني ، إذ من المستحيل أن يكون الشيء الواحد هو متيقن الحدوث وهو مشكوك الحدوث ؛ ذلك لأن اليقين يعني الاستقرار النفسي نتيجة وضوح الرؤية للمتعلّق ، وهذا بخلاف الشك فإنّه يعني تردد النفس واضطرابها نتيجة الضبابية المكتنفة بالمتعلّق.

فطبيعة هاتين الحالتين تقتضي عدم اجتماعها فلذلك حينما يأتي الشك ينعدم اليقين وحينما يأتي اليقين ينعدم معه الشك ، وهذا هو معنى ناقضية أحدهما للآخر تكوينا.

وهذا النحو من ناقضية الشك لليقين لا تحصل في موارد الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ المرئي والمتيقن إنّما هو أصل الحدوث ، ومورد التردد إنّما هو استمرار الحدث ، ومن الواضح أنّ استمرار الحدث غير الحدث ، فالشيء قد يحدث إلاّ أنّه يرتفع وينتفي بعد ذلك.

إلاّ أنه مع ذلك قد يطلق على الشك في البقاء أنّه ناقض لليقين تجوّزا وتسامحا ومجاراة مع الاستعمالات العرفية التي تتسامح كثيرا في تحديد الموضوعات ، فنشاهدهم يعتبرون الموضوعات المتباينة دقة ذات مفهوم

ص: 333

واحد لمجرّد وجود تشابه نسبي بينهما ، وهذا النحو من التسامح يكثر في تحديد الأوزان والكميات والمسافات والأزمنة.

ومن هنا صحّ إطلاق النقض لليقين على الشك في البقاء رغم تباين موردي اليقين والشك ، وما ذلك إلاّ لإلغاء حيثية الزمن بين متعلّقي اليقين والشك واعتبار الحدوث واستمراره شيئا واحدا. وبهذا الإلغاء يتحد المتعلّقان ويصير مورد الشك هو مورد اليقين ، ولمّا كان الشك واليقين لا يجتمعان على متعلّق واحد فيكون مجيء الشك بعد اليقين موجبا لانتقاض اليقين ، وهذا هو مبرّر إطلاق الإمام علیه السلام عنوان النقض لليقين على الشك في البقاء فيكون المتفاهم العرفي من الرواية هو عدم اعتناء الشاك في البقاء بشكه وأن الشارع لا يأذن في رفع اليد عن اليقين بالحدوث بمجرّد الشك في البقاء ، فهو وإن كان ناقضا بنظر العرف إلا أنّ الشارع لم يرتّب الأثر على هذا النحو من النقض ، ولم يسمح بنقض اليقين إلاّ بيقين مثله والذي هو ليس نقضا حقيقيا أيضا ؛ وذلك لعدم اتحاد مورديهما كما بينا ذلك.

الناحية الثانية : والكلام فيها يتصل بهذه الفقرة من الرواية « لا حتى يستيقن أنّه قد نام حتى يجيء من ذلك أمر بيّن وإلا فهو على يقين من وضوئه » فإنّ الظاهر من هذه الفقرة أنّها جملة شرطية وأنّ قوله علیه السلام « لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام » هو شرط هذه الجملة فكأنّه قال : « إن لم يستيقن أنّه قد نام » فهذا على غرار قوله تعالى : ( لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ ) (1) أي إن لم يلج الجمل في سم الخياط فلا يدخلون الجنة ، وهذا المقدار لا إشكال فيه ، إنّما الكلام في تحديد جزاء هذا الشرط ، وهنا

ص: 334


1- سورة الأعراف آية 40.

ثلاثة احتمالات :

الاحتمال الأول : أنّ الجزاء ليس مذكورا في الجملة وإنّما هو مقدّر ، وتقديره « لا يجب الوضوء » فيكون مساق الجملة هكذا : « إن لم يستيقن أنّه قد نام فلا يجب الوضوء ». ومن هنا يكون قوله علیه السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » بيان لعلّة عدم وجوب الوضوء لمن لم يستيقن النوم.

والإشكال على إرادة هذا الاحتمال من الرواية هو أنّ الأصل عدم التقدير خصوصا إذا كان الكلام يتم بدونه ، إذ لا يلجأ إلى التقدير إلاّ في حالات عدم استقامة الكلام بدونه ، على أنّه لا بدّ من إبراز قرينة على المحذوف المقدّر وإلا فلا مسوّغ لتعيّن ذلك المقدّر فلعلّه أراد غيره ، هذا أولا.

وثانيا : إنّه يلزم من تقدير عدم وجوب الوضوء تكرار الحكم ، لأنه علیه السلام قد بيّن عدم وجوب الوضوء في حالات عدم استيقان النوم بقوله « لا » عندما سأله زرارة « فإن حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم » والتكرار خلاف الأصل أيضا لأنّ الأصل في الكلام أن يكون تأسيسيّا ، وهذا ما يوجب استبعاد هذا الاحتمال ؛ إذ أنّ الإتيان بالحكم مرتين بلا موجب.

ويمكن أن ينتصر لهذا الاحتمال بدفع الإشكالين :

أما الأول : إنّ التقدير الذي يكون على خلاف الأصل إنما هو التقدير المجرّد عن القرينة أمّا إذا كان مشتملا على قرينة توجب تحديد المقدّر فإن ذلك لا يكون على خلاف الأصل بل هو متعارف ومتناسب مع مقتضيات الكلام الفصيح ، والمقام من هذا القبيل ، إذ أنّ الحكم المقدّر قد بيّن قبل ذكر الشرط الذي نبحث عن جزائه ، وهذا الحكم هو المفاد بقوله علیه السلام « لا » بعد

ص: 335

سؤال زرارة له عن الحكم عند عدم استيقان النوم.

وأما الثاني : إنّ التكرار المخل للكلام - والذي لا يستسيغه أهل البيان - إنّما هو التكرار الفعلي والذي يعني إعادة الكلام إمّا بلفظه أو بمعناه ، أمّا إعادة الكلام بطريقة التقدير بأن يكون المعنى الواحد في الكلام الواحد مذكورا تارة ومقدّرا أخرى فهذا ما لا سبيل إلى استهجانه وبالتالي استبعاد احتمال إرادته باعتبار أنّ المتكلم من أهل الفصاحة والبلاغة.

ومن هنا لا يكون هذا الاحتمال مستبعدا لعدم ورود كلا الإشكالين.

الاحتمال الثاني : هو أنّ جزاء هذه الجملة هو قوله علیه السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » ولهذا لا يرد الإشكال الوارد على الاحتمال الأول ؛ إذ أنّ الجزاء بناء على هذا الاحتمال غير مقدّر بل هو مذكور ، فيكون مساق الرواية - بناء على هذا المعنى - « إن لم يستيقن أنه قد نام فإنّه على يقين من وضوئه ».

والإشكال على هذا الاحتمال :

إنّه لا معنى لترتّب اليقين بالوضوء على عدم استيقان النوم ، إذ أنّ اليقين بحدوث الوضوء موجود بقطع النظر عن عدم استيقان النوم ، وإنّ منشأ يقينه بالوضوء إنّما هو استحضاره للحالة التي مارسها والتي هي أفعال الوضوء ، فسواء استيقن أنه قد نام أو لم يستيقن فإنّ يقينه بالوضوء مستقر في نفسه.

ومن هنا لا يمكن قبول هذا الاحتمال لاستلزامه إناطة شيء غير مرتبط تكوينا بالمناط به ، إلا أنّه مع ذلك يمكن إجراء بعض التعديل على هذا الاحتمال ليكون معقولا ، وذلك بأن نعتبر جملة الجزاء - والتي هي جملة خبرية - أنّها جملة إنشائية في صورة الجملة الخبريّة ، أي أنّها خبر أريد به

ص: 336

الإنشاء فهي على غرار قوله تعالى ( وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ ) (1) فإنّ الجزاء في هذه الآية الشريفة هو قوله تعالى « يغلبوا ألفين » وهي جملة خبرية أريد منها الإنشاء ؛ ولهذا لا يجوز الفرار من الزحف عندما يكون عدد المسلمين ألفا ويكون عدد الكفار ألفين ، والكلام في المقام من هذا القبيل فقوله علیه السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » لا يراد منه الإخبار وإنّما يراد منه إنشاء حكم شرعي مفاده أن الذي يشك في بقاء وضوئه فحكمه البناء على بقاء الوضوء ، فكما أنّه لو كان على يقين من الوضوء يرتّب آثار الطهارة الحدثية - من قبيل دخوله في الصلاة ومس كتابة القرآن الكريم - كذلك عندما يشك في بقاء وضوئه ، فالرواية ليست في صدد الإخبار عن صدور الوضوء منه حتى يرد الإشكال وإنّما هي في صدد إنشاء حكم تعبدي ببقاء الوضوء عند الشك في البقاء ، وهذا ممكن جدا فإنّ الشارع له أن يتعبّد المكلّف ببقاء وضوئه ويرتّب هذا التعبّد على عدم الاستيقان بالنوم ، إلا أنّه مع ذلك لا يمكن قبول هذا الاحتمال ؛ إذ أنّ حمل الجملة الخبريّة على أنّها إنشائية خلاف المتعارف عند أهل اللسان ، فهذه العناية تحتاج إلى مبرّر لم يبرزه مدّعي هذا الاحتمال.

الاحتمال الثالث : هو أنّ الجزاء في هذه الجملة هو قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » ويكون قوله علیه السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » توطئة لهذا الجزاء فيكون مساق الرواية هكذا : « فإن لم يستيقن أنه قد نام ولأنه على يقين من وضوئه فلا ينقض اليقين بالشك ».

ص: 337


1- سورة الأنفال آية 66.
والإشكال على هذا الاحتمال :

واضح ، فإنّ تصدير الجزاء بالواو خطأ لا يحمل كلام الإمام علیه السلام عليه ، على أنّ جعل الموطىء - بصيغة الفاعل - للجزاء مصدّرا بالفاء غير متعارف ؛ إذ أنّ التوطئة ينبغي أن تكون بصياغة تتناسب مع التعليل ؛ وذلك لأنّ التوطئة تعني التعليل وبيان الملاك للجزاء ، فالذي يناسبها هو باء السببية أو لام التعليل أو « لأن » أو ما إلى ذلك ، ولعلّ من ذلك قوله تعالى : ( وَلَوْ يُؤاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ ) (1) ، فإنّ جملة الشرط في الآية هي « لو يؤاخذ » والجزاء « ما ترك على ظهرها » أمّا قوله تعالى « بما كسبوا » فإنه توطئة للجزاء ، وتلاحظون أنها اشتملت على ما يناسب التعليل وهي باء السببيّة ، وبهذا يتضح أن أضعف الاحتمالات هو الاحتمال الثالث.

مختار المصنّف من هذه الاحتمالات :

وقد اختار المصنّف رحمه اللّه الاحتمال الأول واعتبره أقوى الاحتمالات ؛ وذلك لعدم تمامية ما أورد عليه.

ثم أضاف أنّ قوله علیه السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » جملة خبريّة أريد منها الإنشاء ؛ وذلك لظهور الرواية في فعليّة اليقين بالوضوء ، وهذا لا يتناسب مع شكه الفعلي بالوضوء نتيجة احتماله بحدوث الناقض وهو النوم ، ولو كان المراد من اليقين هو اليقين السابق بصدور الوضوء لكان المناسب أن يعبّر بهذا التعبير « فإنّه كان على يقين من وضوئه » فحيث لم يعبّر بهذا التعبير والحال أنّ اليقين الحقيقي لا يتناسب مع الشك الفعلي فيتعين أن

ص: 338


1- سورة فاطر آية 45.

يكون المراد من اليقين هو اليقين التعبدي ، فيكون مفاد هذه الفقرة - كما ذكرنا في الاحتمال الثاني - هو أنّ الشارع قد حكم بالبناء على بقاء الوضوء في ظرف الشك في بقائه بسبب الشك في طروء الناقض ، فكأن الشاك في انتقاض وضوئه متيقن بعدم الانتقاض ، فكما أنّ المتيقن بوضوئه يرتّب آثار الطهارة من الحدث فكذلك الشاك في انتقاض الوضوء يترتّب آثار الطهارة.

وبتعبير آخر : إنّ المراد من قوله علیه السلام « فإنه على يقين » تحتمل ثلاثة احتمالات :

الأول : هو اليقين الحقيقي ، وهذا الاحتمال ساقط ؛ وذلك لعدم وجود يقين حقيقي فعلي في ظرف الشك في انتقاض الوضوء بالنوم.

الثاني : أنّ المراد من اليقين هو اليقين بصدور الوضوء في مرحلة سابقة ، وهذا الاحتمال يعني أنّ اليقين في الرواية ليس فعليّا وهو خلاف الظهور ، إذ لو كان المراد من اليقين هو اليقين السابق لكان عليه أن يصدّر الفقرة بالفعل الماضي « كان » بأن يقول « فإنّه كان على يقين من وضوئه » فلمّا لم يأت بما يدلّ على إرادة اليقين السابق فإنّ احتمال إرادته يكون ساقطا.

وبهذا يتعيّن الاحتمال الثالث وهو التحفّظ على فعليّة اليقين إلا أنّه اليقين التعبدي والذي يعني أنّ الشارع اعتبر الشاك في انتقاض وضوئه متيقنا ببقائه تعبدا.

قد يقال إنّ المكلّف حتى بعد الشك في انتقاض الوضوء فإنّ يقينه بصدور الوضوء عنه فعلي ، إذ أنّ اليقين بصدور الوضوء يظلّ ثابتا حتى بعد طروء حالة الشك ، إذ أنّها لا تنفيه بعد أن كان متعلقها غير متعلّق اليقين.

ومن هنا لا يكون حمل اليقين في الرواية على اليقين الحقيقي منافيا لظهور الرواية في فعلية اليقين ؛ إذ أنّ اليقين الحقيقي فعلي فلا مانع من حمل قوله علیه السلام

ص: 339

« فإنه على يقين من وضوئه » على اليقين الحقيقي.

والجواب : إنّ هناك قرينة تدلّ على أنّ اليقين لو كان الحقيقي لكان منتقضا وغير فعلي ، وهذه القرينة هي قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » إذ أنّ المبرّر - كما قلنا - في اتّصاف الشك في البقاء بالناقض لليقين هو إلغاء زمن الحدوث وزمن البقاء ، وبهذا يصبح متعلّق اليقين ومتعلّق الشك واحدا.

ومن الواضح أنّه إذا كان متعلّقهما واحدا فإنّه يستحيل اجتماعهما ، وبهذا يكون حدوث الشك موجبا لطرد اليقين ونفيه ، ومن هنا لا يكون اليقين فعليّا حين الشك في انتقاض الوضوء ، وعليه لا بدّ من حمل اليقين في الرواية على اليقين التعبدي حتى يتناسب مع ظهور الرواية في الفعلية ، إذ أنّه بناء على حمل اليقين على اليقين التعبدي فهذا يعني أنّ الشارع قد تعبدنا في حالات الشك في انتقاض الوضوء بالبناء على عدم انتقاضه فكأننا على يقين بالوضوء ، فيكون الشارع قد اعتبر الشك في انتقاض الوضوء موضوعا لليقين التعبدي كما بينا ذلك.

إلاّ أنّه مع ذلك يكون الالتزام بحمل اليقين على اليقين التعبدي يستوجب صرف قوله علیه السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » عن ظهوره في الإخبار إلى الإنشاء ، فنكون بين محذورين حيث إنّه إن حملنا اليقين على الحقيقي لزم من ذلك ألا يكون هناك مبرّر لإطلاق عنوان الناقضية على الشك في انتقاض الوضوء وإن كان ذلك يتناسب مع ظهور الفقرة في الإخبار.

وإن حملنا اليقين في الرواية على اليقين التعبدي لزم من ذلك صرف ظهور الفقرة في الإخبار إلى الإنشاء وإن كان ذلك يتناسب مع إطلاق

ص: 340

الناقضية لليقين على الشك في انتقاض الوضوء.

ومن هنا لا بدّ من ترجيح أحد الاحتمالين ، والظاهر أنّ الاحتمال الأقوى هو الاحتمال الأول والذي يتحفّظ على ظهور قوله علیه السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » في الإخبار.

وبهذا يكون معنى الرواية - بناء على هذا الاحتمال - هو أنّه إذا شك المكلّف في انتقاض الوضوء بالنوم فلا يلزمه إعادة الوضوء ؛ وذلك لأنّه كان على يقين من وضوئه ، ولا يرفع اليد عن اليقين بالحدوث بالشك في البقاء.

الجهة الثانية :

ويقع الكلام في هذه الجهة عن أنّ عدم وجوب الوضوء في الرواية هل نشأ عن قاعدة المقتضي والمانع أو عن قاعدة الاستصحاب؟

قد يقال إنّ عدم إيجاب الوضوء حين الشك في انتقاضه بالنوم نشأ عن قاعدة المقتضي والمانع ، فيكون اليقين بصدور الوضوء عنه هو المقتضي إلاّ أنّ الشك يقع في تأثير هذا المقتضي أثره نتيجة عدم إحراز انتفاء المانع من تأثير المقتضي لأثره - وهو النوم - إذ لو حدث النوم فإن المقتضي - وهو الوضوء - لا يؤثر أثره - وهو الطهارة - إلاّ أنه لمّا كان الشك في وجود هذا المانع فإنّ مقتضى قاعدة المقتضي والمانع هو البناء على عدم وجود المانع فيكون منشأ عدم إيجاب الوضوء هو هذه القاعدة.

ويمكن أن يبرّر لهذه الدعوى بأن قاعدة الاستصحاب ليست جارية في المقام فيتعين جريان قاعدة المقتضي ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب يقوم على أساس الشك في بقاء المتيقن فإذا لم يكن للمتيقن بقاء فلا يجري الاستصحاب لانتفاء ركنه ، وبيان ذلك :

إنّ المتيقن في مورد الرواية هو الوضوء ، ومن الواضح أن الوضوء

ص: 341

ليس له بقاء فهو يحدث وينتهي حين حدوثه ، فبمسح القدمين يتحقق الوضوء وينتهي ، فلا بقاء للوضوء حتى يفترض الشك فيه ، نعم إذا حدث الوضوء فإنّ له أثر وهو الطهارة ، فنحن حينما حدث الوضوء لا نشك في بقائه لأنّه لا ريب في عدم بقائه وإنّما نشك في تأثيره لأثره ، ومنشأ الشك هو عدم إحراز انتفاء المانع أي الشك في وجود المانع - وهو النوم - وهذا الشك يستوجب الشك في تأثير المقتضي المعلوم لأثره.

والجواب عن هذه الدعوى أنّه لمّا كانت مبتنية على توهم أنّ الوضوء ليس له بقاء فبانتفاء ذلك تسقط الدعوى ، وبأدنى تأمل في الاستعمالات الشرعية لعنوان الوضوء يتضح أنّ الشارع قد اعتبر الوضوء حالة استمرارية يكون المكلّف متصفا بها متى ما جاء بأفعال الوضوء ولا يرتفع هذا الاتصاف عنه حتى ينتقض هذا الوضوء بأحد النواقض المعروفة.

ويمكن الاستشهاد على ذلك بمعتبرة عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : « سمعته يقول : من طلب حاجة وهو على غير وضوء فلم تقضى فلا يلومنّ إلاّ نفسه » (1) ، فهذه الرواية واضحة الدلالة على اعتبار الوضوء حالة استمرارية ، كما أنّ التعبير في روايات كثيرة بنقض الوضوء يعبّر أيضا عن أنّ الوضوء وصف له الاستمرار ما لم يمنع عن استمراره مانع ، ومن تلك الروايات معتبرة زرارة عن أحدهما علیهماالسلام قال « لا ينقض الوضوء إلاّ ما خرج من طرفيك أو النوم » (2).

وبسقوط الدعوى وثبوت أن الوضوء له بقاء يتعقل حينئذ الشك في

ص: 342


1- الوسائل باب 6 من أبواب الوضوء ح 1.
2- الوسائل باب 2 من أبواب نواقض الوضوء ح 1.

البقاء ، فلا يكون مانع من جريان الاستصحاب ، ويبقى الكلام في كيفية استظهار ذلك من الرواية ، وقد اتضح ذلك مما سبق ، إذ قلنا إنّ قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » ظاهر في إلغاء الزمن واعتبار متعلّقي اليقين والشك متعلقا واحدا ، ومن هنا صح إطلاق عنوان نقض اليقين على الشك في البقاء وإلاّ فلا مسوّغ لوصف الشك في البقاء بالناقض لليقين ؛ إذ لا يكون ناقضا ونافيا لليقين ما لم يكن متعلقهما واحدا وزمانهما واحدا.

وبثبوت هذا يتعيّن ظهور الرواية في الاستصحاب ، حيث إنها نهت عن نقض اليقين بالوضوء بالشك في بقائه.

الجهة الثالثة :

يقع البحث في هذه الجهة عن إفادة الرواية لكبرى حجية الاستصحاب في تمام موارد الشك في البقاء بعد اليقين بالحدوث ، فقد يقال بظهورها في ذلك ، إذ أنّ قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » ظاهر في أنّها كبرى كليّة مركوزة أراد الإمام علیه السلام التنبيه عليها وإمضائها.

إلاّ أنّه في مقابل ذلك يمكن دعوى الإجمال في هذه الفقرة ، ومنشأ دعوى الإجمال هو عدم وضوح المراد من اللام الداخلة على اليقين في قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين » ، إذ يحتمل أنّها لام الجنس فتكون مفيدة للإطلاق حيث إنّ اليقين معها - يعني طبيعة اليقين - فلا يختص بيقين دون يقين ، فيكون مساق الرواية بناء على ذلك أنّ مطلق اليقين بالحدوث لا يصح نقضه بالشك في البقاء إلاّ أنّ هذا غير متعين لاحتمال إرادة لام العهد من اللام الداخلة على اليقين ، فيكون مفاد الرواية حينئذ « ولا ينقض اليقين بالوضوء بالشك في بقائه » ، وعلى هذا تكون الرواية مختصة بباب الوضوء ولا يكون لها إطلاق لتمام حالات اليقين بالحدوث والشك في البقاء ، ولمّا لم

ص: 343

يكن هناك ما يعيّن أحد الاحتمالين تكون الرواية مجملة ، والقدر المتيقن منها هو اليقين بالوضوء.

ويمكن أن يجاب عن دعوى الإجمال بجوابين :

الجواب الأول :

إنّ هناك ما يوجب تعيّن الاحتمال الأول - وهو أنّ اللام الداخلة على اليقين في الفقرة المذكورة هي لام الجنس - وهذا الموجب لتعيّن الاحتمال الأول هو ظهور الفقرة التي سبقتها في التعليل ، حيث إن قوله علیه السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » ظاهر في بيان علّة وملاك الحكم بعدم وجوب الوضوء والذي هو مقدّر - كما قلنا - ، وعادة ما يكون التعليل بأمر واضح وجلي وإلاّ فما معنى أن يعلّل الشيء بعلّة غير مسلمة أو غير واضحة.

وهذا ما يوجب ظهور التعليل - في الفقرة التي سبقت فقرة الاستدلال - بما هو واضح ومتبانى عليه عند العقلاء وهو أن اليقين بالشيء لا ترفع اليد عنه بالشك في بقائه ، فتكون الرواية منقحة لموضوع الكبرى المستفادة من فقرة الاستدلال.

ومساق الرواية حينئذ هكذا : إنّ المكلف لمّا لم يكن متيقنا بطروء النوم فلا يجب عليه الوضوء لأنّه كان على يقين من وضوئه ، فتكون حالته موردا وموضوعا للقاعدة الكلية وهي قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » ، فكأنّ الإمام علیه السلام قد شكّل قياسا منطقيا صغراه أنّه على يقين من وضوئه وكبراه هو القضية الكلية المركوزة في أذهان العقلاء وهي أنه لا ينقض اليقين أبدا بالشك ، وهذا هو المنسجم مع المتفاهم العرفي.

فالنتيجة أن مقتضى مناسبات الحكم والموضوع هو إلغاء خصوصية الوضوء لأنّه لا معنى لتعليل حكم خاص ، إذ أنّ الإمام علیه السلام يمكن أن يكتفي

ص: 344

في مثل هذه الحالة بالتعليل بأن ذلك الحكم هو مقتضى التعبد الشرعي.

وبهذا يتضح تعيّن الاحتمال الأول وسقوط دعوى الإجمال.

الجواب الثاني :

إنّه لو سلّم أن اللام في فقرة الاستدلال عهدية فإن ذلك لا يستوجب الاختصاص ؛ وذلك لأن اليقين المشار إليه بلام العهد استعمل في طبيعة اليقين لا في اليقين المختص بالوضوء ، وإذا كان كذلك فيكون مدخول اللام فى الفقرة الثانية هو طبيعي اليقين أيضا إذ أن لام العهد تشير إلى نفس المعهود ، فإن كان جزئيا فالمعهود جزئي وإن كان كليّا فالمعهود يكون كليّا.

وبيان ذلك : قوله تعالى ( كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ ) (1) فإنّ « رسولا » في الفقرة الأولى من الآية الشريفة لمّا كان جزئيا - كما هو واضح - فإنّ المشار إليه بلام العهد في الفقرة الثانية يكون جزئيا أيضا.

وهذا بخلاف قوله تعالى ( كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ) (2) فإنّ الظاهر من كلمة مصباح في الفقرة الأولى هو طبيعي المصباح ، وبذلك يكون المشار إليه في الفقرة الثانية هو طبيعي المصباح أيضا.

وباتضاح هذا نقول : إن كلمة يقين في قوله علیه السلام « فإنّه على يقين من وضوئه » أريد منها طبيعة اليقين ، وذلك بقرينة عدم تعارف تعدية اليقين إلى معموله بحرف « من » ، فلا يقال « تيقنت من الحدث » وإنّما يقال

ص: 345


1- سورة المزمل آية 15 ، 16.
2- سورة النور آية 35.

« تيقنت بالحدث » ، قال اللّه تعالى : ( وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ ) (1) أي : كانوا يوقنون بآياتنا. وإذا كان كذلك فإنّ قوله علیه السلام « من وضوئه » ليس متعلّقا لليقين فلا يصلح لتقييده ؛ إذ أنّ الذي يصلح لتقييد العامل إنّما هو متعلّقه « معموله » ، وحيث إنّه ليس متعلّقا له فلا يكون مقيدا له بل إنّ « من » في الواقع قيد للظرف والذي هو محذوف ، والتقدير « من جهة وضوئه » فحذف المضاف فدخلت « من » على المضاف إليه وإلا فواقع العبارة هكذا : « فإنه على يقين من جهة وضوئه » فيكون المقيد هو مدخول « من » وهو الظرف ، وبثبوت عدم تقيّد اليقين بحرف الجر ومدخوله يثبت أنّ اليقين قد استعمل في معناه الوسيع ، إذ لا موجب لتقيده بحصة خاصة وهي اليقين بالوضوء بعد أن لم يكن « من وضوئه » متعلّقا لليقين ، وإذا كان كذلك فاليقين الذي هو مدخول لام العهد هو طبيعي اليقين ، وبهذا يثبت أنّ قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك هو قاعدة كليّة أراد الإمام علیه السلام من ذكرها التنبيه على ما هو مركوز في أذهان العقلاء ، فتثبت بهذه الرواية حجيّة الاستصحاب مطلقا.

ثمّ إنّ هناك روايات صالحة للاستدال بها على حجية الاستصحاب لم يتعرض لها المصنّف رحمه اللّه وفيها ما هو تام سندا ودلالة.

ص: 346


1- سورة السجدة آية 24.

أركان الاستصحاب

اشارة

ويقع البحث في المقام عن أركان الاستصحاب والتي إذا توفرت بتمامها أمكن إجراء الاستصحاب وإلا فإن اختلّ أحد الأركان فإن الاستصحاب لا يجري ، وهذه الأركان مستفادة من نفس دليل الاستصحاب ، وهي أربعة أركان :

الركن الأول : اليقين بالحدوث :

وهو يعني أنّ الاستصحاب لا يجري إلا في حالة يكون المكلّف قاطعا بحدوث المستصحب - أي الحدث الذي يراد استصحابه - فما لم يكن قاطعا لا يجري الاستصحاب ، ومعنى ذلك أنّ الشك وحده لا يسوّغ جريان الاستصحاب ، فلو كان المكلّف يشك في وجوب شيء ولم يكن على علم بوجوبه سابقا فإنّ ذلك مجرى لأصالة البراءة لا الاستصحاب ، كما أنّ أخذ اليقين في موضوع الاستصحاب يعني أنّ الحدوث في نفس الأمر والواقع لا يكون مبرّرا لإجراء الاستصحاب بل لا بدّ أن يكون الحدث متيقنا من قبل المكلّف.

والدليل على ركنية هذا الركن هو قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين بالشك » فإنه ظاهر في أخذ اليقين بالحدوث في موضوع الاستصحاب.

ص: 347

ومن هنا ينشأ إشكال وهو أنّه لو اتّفق ثبوت الحدث بواسطة الأمارة ثم وقع بعد ذلك الشك فإن الاستصحاب لا يجري ؛ وذلك لأنّ الأمارة لا تنتج العلم والحال أن المتسالم عليه فقهيا هو جريان الاستصحاب في حالات قيام دليل ظني معتبر على ثبوت شيء ثم عروض الشك في بقاء مؤداه.

مثلا لو دلّت الأمارة على وجوب شيء ثم وقع الشك في بقاء ذلك الوجوب فإنّ الاستصحاب يجري في مثل هذه الحالة رغم عدم اليقين بالحدوث.

ومن هنا تصدى الأعلام « رضوان اللّه عليهم » لمعالجة هذه المشكلة صناعيا وإلاّ فهي مسلمة عمليّا.

المحاولة الأولى : وهي محاولة المحقق النائيني رحمه اللّه وحاصلها : إنّه لما ثبت أنّ الأمارات تقوم مقام القطع الموضوعي فإنّ قيام الأمارة على ثبوت الحدث يكون محققا لموضوع الاستصحاب ؛ إذ أنّ موضوع الاستصحاب هو اليقين بالحدوث والأمارة تقوم مقام اليقين ، وهذا يعني أنه متى ما تحققت الأمارة فقد تحقق موضوع الاستصحاب ، فكما لو قال المولى :

« المرأة المقطوع بكونها في العدة يحرم الزواج منها » يكفي في تنجّز الحرمة قيام الأمارة على كون المرأة في العدة كذلك المقام ، فإن قيام الأمارة على وقوع الحدث كاف في تحقق موضوع الاستصحاب ، وقد بينا كيفية قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي وما هو منشأ دعوى قيامها مقامه.

المحاولة الثانية : هي إلغاء ركنية اليقين من رأس وأن موضوع الاستصحاب هو نفس وقوع الحدث في نفس الأمر ، ومبرّر التعبير في

ص: 348

الرواية باليقين بالحدث هو أنّ اليقين وسيلة من وسائل انكشاف وقوع الحدث وإلا فليس له موضوعية ، ومن هنا يجري الاستصحاب متى ما تحقق الحدث ، غايته أنّ التعرّف على وقوع الحدث لا يكون إلاّ بواسطة وسيلة من وسائل الكشف ، ومن الواضح أنّ الدليل المحرز المعتبر هو أحد وسائل الكشف فيثبت بواسطته موضوع الاستصحاب.

الركن الثاني : الشك في البقاء :

وهو يعني أنّ المكلّف بعدما كان على يقين من الحدث يحصل له التردد بعد ذلك في بقاء الحدث أو ارتفاعه ، وليس المقصود من الشك - الذي هو موضوع الاستصحاب - هو خصوص الشك المنطقي والذي يعني عدم ترجّح أحد كفتي الثبوت وعدمه بل المراد من الشك هو عدم اليقين فيشمل حالات الظن والاحتمال ، فلو كان المكلّف على يقين من الحدث ثم ظن بارتفاعه أو ظن بعدم ارتفاعه فإنّ عليه أن يجري الاستصحاب ؛ وذلك لتنقّح موضوعه.

ودليل هذه الدعوى هو قوله علیه السلام « ولكن انقضه بيقين آخر » ، فإنّ هذا يعني أنّه لا يجوز رفع اليد عن اليقين السابق إلاّ بيقين آخر ، فمطلق عدم اليقين لا يبرّر رفع اليد عن اليقين السابق. ثم إنّ الشك على نحوين :

النحو الأوّل : هو الشك الفعلي ، والذي يعني فعليّة التردد في ارتفاع الحدث وتبدّل استقرار النفس ووضوح الرؤية إلى التزلزل وتشوش الرؤية بحيث يكون التردد والشك حاضرا في نفسه.

وهذا هو القدر المتيقن من موضوع الاستصحاب ، إذ أنّه الفرد الجلي

ص: 349

من أفراد الشك المأخوذ في موضوع الاستصحاب ؛ وذلك لظهور الشك في الفعليّة.

النحو الثاني : وهو الشك التقديري : وهو الشك الذي يجتمع مع الغفلة والذهول عن مرتبة رؤيته للحدث ولو قدّر له أن يلتفت لشك في بقاء الحدث ولكن لذهوله وعدم التفاته لا يحضر الشك في نفسه.

وهذا النحو من الشك قد وقع النزاع في موضوعيته للاستصحاب أو أنّ موضوع الاستصحاب هو الشك الفعلي فحسب.

ويترتب على الخلاف أنّه لو كان موضوع الاستصحاب هو مطلق الشك لكان المكلّف مسؤولا عن ترتيب الآثار الشرعية للاستصحاب الذي كان جاريا حين ذهوله وغفلته ، فلو أنّ المكلّف صلّى غافلا عن شكه في إيقاع الطهارة وبعد أن فرغ من الصلاة عرف أنّه لو كان قد التفت أثناء الصلاة أو قبلها لشك في إيقاع الطهارة ، وهنا يجب عليه إعادة الصلاة لجريان الاستصحاب في حقه أثناء الصلاة أو قبل الدخول فيها.

أما لو كان موضوع الاستصحاب هو الشك الفعلي فهنا لا بدّ من التفصيل ، فإن كان المكلّف متوجها إلى شكه لزمه ترتيب آثاره ومع عدم ترتيبها يترتب على ذلك فساد الفعل العبادي المنوطة صحته بالطهارة مثلا ، فلو أنّ المكلّف وقبل شروعه في الطواف أو أثناء أدائه لنسك الطواف شك في إيقاع الطهارة شكا فعليّا فإنّه ملزم بإجراء الاستصحاب ، فيكون ما جاء به من طواف محكوما بالبطلان وتلزمه عندئذ الإعادة وليس له أن يجري قاعدة الفراغ عند الفراغ من الطواف ، إذ أن الحكم بفساد الطواف كان معلوما قبل الفراغ ، فالاستصحاب حينما كان جاريا لم يتحقق

ص: 350

موضوع قاعدة الفراغ لأنه لم يكن قد فرغ من طوافه ، ومن الواضح أنّ قاعدة الفراغ لا تجري في حالة يكون فيها الفعل فاسدا قبل جريان القاعدة.

أمّا لو كان المكلّف ذاهلا أثناء طوافه عن شكه في إيقاع الطهارة وبعد أن فرغ من الطواف توجّه إلى أنّه لو كان ملتفتا لشك في إيقاع الطهارة ، فهنا قد يقال بجريان قاعدة الفراغ لنفي الفساد عن الطواف ، إذ أنّ موضوع الاستصحاب غير متحقق حين الأداء ، نعم موضوع الاستصحاب - وهو الشك الفعلي - قد تحقق بعد انتهاء الطواف وبعد أن تحقق موضوع قاعدة الفراغ فيكون موضوع الاستصحاب وموضوع قاعدة الفراغ قد تحققا بعد الفراغ.

وقد ثبت في محلّه أنّ الاستصحاب لا يجري في موارد جريان قاعدة الفراغ وإلاّ لم يكن لقاعدة الفراغ مورد تجري فيه فتصبح قاعدة الفراغ لاغية ، ومن هنا تكون متقدمة على قاعدة الاستصحاب ، نعم يجري استصحاب عدم الطهارة بالنسبة لصلاة الطواف ، أي يلزم المكلّف أن يأتي بالطهارة لصلاة الطواف لعدم حجيّة قاعدة الفراغ في مثبتاتها ولوازمها كما بينّا ذلك فيما سبق.

الإشكال على هذه الثمرة :

إننا وإن كنّا نسلّم بعدم جريان الاستصحاب أثناء الطواف - بناء على أنّ موضوع الاستصحاب هو الشك الفعلي - إلاّ أنّه مع ذلك لا تجري قاعدة الفراغ بعد الفراغ من الطواف ؛ وذلك لأن قاعدة الفراغ منوطة بعدم إحراز الذهول والغفلة أثناء العمل.

ص: 351

فحينما يكون المكلّف بعد العمل شاكا في إيقاع الفعل على وجهه ولا يحرز بأنّه كان ذاهلا أثناء أدائه للعمل بل يحتمل الالتفات وأنّه قد جاء بالفعل تاما ومتوفّرا على تمام أجزائه وشرائطه فهنا تجري قاعدة الفراغ لأصالة الأذكرية والذي هو أصل عقلائي قاض بأنّ الممارس للفعل يكون ملتفتا إلى أنّه يأتي به مراعيا ضوابطه الموجبة لتحققه تاما كاملا ، وهذا ما يشير إليه الإمام علیه السلام « هو حين يتوضأ أذكر منه حين يشك » (1).

أمّا لو كان محرزا للغفلة فإن قاعدة الفراغ لا تجري لأنّها مرتكزة على أصالة الأذكرية وهي محرزة العدم في مفروض الكلام ، وإذا تمّ ذلك فإنّ المقام من هذا القبيل إذ أنّ المكلّف محرز لغفلته في الطواف.

وبهذا يتضح عدم تمامية الثمرة المذكورة وأنّه سواء قلنا بأن موضوع الاستصحاب هو الشك الفعلي أو الأعم منه ومن التقديري فإنّ الطواف يكون فاسدا ، نعم بناء على أنّ قاعدة الفراغ غير منوطة بعدم إحراز الغفلة - كما لعلّه المشهور - فإنّ الثمرة تكون تامة ؛ وذلك لصحة التمسّك بقاعدة الفراغ حتى في موارد غفلة المكلّف عن الشك أثناء الطواف.

الركن الثالث : وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة :

والمراد من هذا الركن أنّ الاستصحاب لا يجري إلاّ في حالة يكون فيها موضوع اليقين وموضوع الشك واحدا ، أي أنّ الذي وقع موردا لليقين هو الذي وقع موردا للشك.

ص: 352


1- معتبرة بكير بن أعين ، الوسائل باب 42 من أبواب الوضوء ح 7.

فالوضوء المتيقن الوقوع هو عينه الوضوء المشكوك في بقائه أمّا لو كان الوضوء الذي وقع متعلّقا لليقين قد ارتفع يقينا والشك إنّما هو متعلّق بوضوء آخر فإنّ الاستصحاب لا يجري لافتراض التغاير بين متعلقي اليقين والشك ، وحينئذ لو كانت ثمرة مترتبة على الوضوء المتأخر فإنّها لا تترتب إذ لا استصحاب في مورد الوضوء الثاني.

ومرادنا من وحدة القضية القضية المتيقنة والمشكوكة هو وحدة الموضوع بقطع النظر عن اختلافهما من حيث الزمن ، فلو كان زمان اليقين بالحدوث سابقا - كما هو العادة - عن زمان الشك فإنّ ذلك لا يمنع من جريان الاستصحاب لكفاية وحدة متعلّق اليقين والشك في تحقّق موضوع الاستصحاب ، إذ أنّ الذي برّر ركنية هذا الركن هو صدق النقض في حالة عدم الاعتناء باليقين السابق ، ومن الواضح أنّ النقض كما يصدق في حالات عدم اتحاد المتعلّقين ذاتا وزمانا يصدق في حالات اتحادهما ذاتا فحسب ؛ وذلك لما ذكرناه من أنّ الزمان يكون ملغيا عرفا فكأن مورد الشك ومورد اليقين واحد ، ومن هنا يكون الشك ناقضا لليقين.

وبتعبير أوضح : إنّ لوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة حالتين.

الحالة الأولى : هو أن لا يحرز كون زمان الشك في بقاء الحادث متأخرا عن زمان اليقين بالحدوث ، وهنا لا إشكال في صدق ناقضية اليقين للشك ، وقد بينا ذلك في بحث تمييز الاستصحاب عن قاعدة اليقين.

الحالة الثانية : هو أن يكون زمان الشك في بقاء الحدث متأخرا عن زمان اليقين بالحدوث ، وهنا قد يقال بعدم صدق ناقضية الشك في البقاء لليقين بالحدوث إلاّ أننا قد ذكرنا أنّ الناقضية تصدق ؛ وذلك لإلغاء

ص: 353

العرف الحيثية الزمنيّة واعتبار المتيقن والمشكوك شيئا واحدا ، وهذا ما سوّغ صدق النقض على الشك في البقاء ، ومع صدقه يثبت أنّ هذه الحالة متوفّرة على الركن الثالث.

الإشكال الذي ينشأ عن ركنيّة هذا الركن :

وحاصله أنّه لا ريب - بناء على ركنية هذا الركن - في جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية ؛ وذلك لتعقّل وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة في موردها ، فالمكلّف قد يتيقن بنجاسة ثوبه ثم يشك في ارتفاع النجاسة لاحتمال أنّه قد طهرها أو أنّ غيره قد طهرها فيجري استصحاب النجاسة لأنّ المتيقن والمشكوك واحد وهو نجاسة الثوب ، إنّما الإشكال في الشبهات الحكميّة ، فإنّه لا يتفق اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة في موردها ؛ وذلك لأنّ فعلية الحكم تكون منوطة بتحقّق موضوع الحكم وقيوده فمتى ما كانت متحققة فإنّ الحكم يكون معها فعليّا ومتى ما انتفت هذه القيود أو بعضها فإنّ فعلية الحكم تنتفي تبعا لانتفاء قيوده أو بعضها ، ومن هنا لا يقع الشك في بقاء الفعليّة بل تكون فعليّة الحكم محرزة الانتفاء بعد أن انتفت بعض قيودها ، وحينما تكون القيود موجودة لا يقع الشك في فعليّة الحكم لعدم وجود موجب للشك بعد أن كانت القيود محرزة البقاء.

وبتعبير آخر : عندما تكون القيود موجودة فلا شك في الحكم المجعول وعندما تنتفي بعض القيود فلا شك في البقاء بل هو يقين بانتفاء الفعليّة عن الحكم ، نعم هناك حالة واحدة يمكن أن يتعقل فيها الشك في البقاء وهي ما لو كان المكلّف على يقين من تواجد تمام قيود الحكم وبالتالي يكون على يقين بتحقّق الفعليّة للحكم ، ثم لو أحرز المكلّف بعد ذلك انتفاء

ص: 354

بعض الخصوصيات التي يحتمل دخالتها في فعليّة الحكم فإنه يقع الشك حينئذ في بقاء الفعليّة للحكم ؛ وذلك لاحتمال أنّ تلك الخصوصية المفقودة من القيود التي رتبت عليها فعليّة الحكم.

ومثال ذلك جواز النظر إلى الزوجة بعد موتها ، فإنّه لا ريب في جواز النظر إلى الزوجة حال حياتها ؛ وذلك لتحقق قيود الفعليّة للجواز وهي العقد التام المتوفّر على شرائط الصحة وإنّما وقع الشك في الجواز بعد الوفاة لاحتمال أنّ خصوصية الحياة من قيود الفعليّة لجواز النظر إلاّ أنّه في مثل هذه الحالة لا تكون القضية المتيقنة والمشكوكة متحدة ؛ وذلك لأنّ متعلّق اليقين هو الزوجة الموجودة ومتعلّق الشك هو الزوجة الميتة فلا اتحاد إذن بين القضيتين ، ومن هنا يصعب جريان الاستصحاب بناء على ركنية هذا الركن.

وقد تصدى الأعلام « رضوان اللّه عليهم » لعلاج هذه المشكلة ببيان حاصله :

أنّ الوحدة المأخوذة في موضوع الاستصحاب هي الوحدة العرفية والتي لا تعني أكثر من اتحاد متعلّق اليقين ومتعلّق الشك بنظر العرف ، أما الوحدة بحسب التحليل العقلي فليست مشروطة في صحة جريان الاستصحاب ، وهذا يعني أنّ الحالات التي لا تعتبر مقومة بنظر العرف لا تكون مخلّة في حال انتفائها لوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة.

ولمزيد من التوضيح نقول : إنّ الخصوصيات المتصور انتفاؤها بعد وجودها على قسمين :

الأول : أن تكون تلك الخصوصيات من الحالات العارضة والتي لا

ص: 355

تلحظ عادة حين جعل الحكم على الموضوع ولا يكون انتفاؤها مقتضيا لتبدل الموضوع بنظر العرف.

وهذا النحو من الحالات لا يؤثر على وحدة الموضوع لو اتفق انتفاؤها ، والذي يكشف عن هوية هذه الحالات هي مناسبات الحكم والموضوع ، ومثال ذلك أنه لو أحرزنا نجاسة جذع النخلة والتي كانت حين إحراز نجاستها ثابتة في الأرض ثمّ بعد ذلك قطعت تلك النخلة وأصبحت جذعا خاويا ، فإنه يقع الشك في بقاء فعلية الحكم بالنجاسة لاحتمال أنّ تغيّر حالها من نخلة نامية إلى جذع خاو موجب لانتفاء قيد الفعليّة عنها.

وفي مثل هذا الفرض لا يقال إنّ القضية المتيقنة غير القضيّة المشكوكة ؛ إذ أنّ الخصوصية التي انتفت ليست من الخصوصيات المقوّمة لموضوع الفعلية للحكم ، ولهذا لو حكم المولى بنجاسة الجذع في مثل هذه الحالة لما كان حكما جديدا مجعولا على موضوع مباين للموضوع المجعول عليه النجاسة الأولى ، بل إنّ العرف يرى أنّ ذلك استمرار وبقاء للنجاسة الثابتة للنخلة حال حياتها.

ومن هنا أمكن تصوير الشك في البقاء في موارد الشبهات الحكمية مع الاحتفاط بوحدة القضية المتيقنة والمشكوكة.

ويمكن أن يعبّر عن مثل هذه الحالات - والتي قلنا إنّ انتفاءها يوجب الشك في البقاء دون أن تنهدم وحدة المتعلقين - بالحيثيات التعليليّة ؛ وذلك لأنّ الحيثيّة التعليليّة لا تكون مأخوذة في موضوع الحكم ، أي لا يكون لها دخل في ترتّب الحكم على الموضوع ، نعم هي تساهم في جعل الحكم على الموضوع إلاّ أنّهم يتوسعون فيطلقونها على كل خصوصية لا تكون

ص: 356

مأخوذة في موضوع الحكم ، أي لا تكون قيدا للحكم وإن لم يكن لها مساهمة في جعل الحكم على الموضوع ، وذلك لغرض تمييزها عن الحيثيات التقييديّة.

الثاني : وهي الخصوصيات المقوّمة والمصنّفة للموضوع والتي يعدّ انتفاؤها تبدّلا للموضوع المجعول عليه الحكم ، كما لو تغيرت الصورة النوعيّة للموضوع لدى العرف والذي يعبّر عنه بالاستحالة أو الانقلاب.

ومثال الأول : استحالة الماء إلى بخار ، ومثال الثاني انقلاب الخمر خلاّ ، فإنّه في كلا الحالتين تتبدّل الصورة النوعية بنظر العرف ويعتبرون الموضوع الأول مباينا للثاني ، وفي مثل هذه الحالة لا يجري الاستصحاب وذلك لعدم وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة.

فلو وضع كلب في مملحة وتحلل جسمه وأصبح ملحا. فشككنا في نجاسته فإنّه لا يمكن إجراء الاستصحاب في مثل هذا الفرض وذلك لأن الموضوع الذي كنا على يقين بنجاسته هو الكلب والموضوع الذي نشك في نجاسته فعلا هو الملح الذي استحال عن الكلب ، ولذلك لو حكم المولى بنجاسة هذا الملح لكان حكما آخر ثابتا لموضوع مباين للموضوع الأول.

وهذا بخلاف العلم بنجاسة الطحين الذي صار خبزا فإنّ العرف لا يرى أنّ موضوع النجاسة قد تبدّل ؛ وذلك لأنّه لا يرى أنّ حالة التناثر والتفكك في أجزاء الطحين من الحالات المقوّمة والمصنفة لموضوع الطحين ، ومن هنا تكون حالة التماسك في الطحين لا تمثّل تبدلا للصورة النوعية ، غايته أنّ من المحتمل انتفاء الحكم بالنجاسة ، فلو حكم المولى بنجاسة الخبز لفهم العرف أنّ ذلك إنّما هو استمرار للحكم الأول ، ومن هنا يجري

ص: 357

الاستصحاب.

ويمكن أن يعبّر عن مثل هذه الخصوصيات بالحيثيات التقييديّة ؛ وذلك لتقوّم الموضوع بها وإناطة صدقة بوجودها ، ومن هنا لو جعل حكم على ذلك الموضوع لكانت تلك الخصوصيات مأخوذة في ترتّب الحكم على ذلك الموضوع.

الركن الرابع : أن يكون لاستصحاب الحالة السابقة أثر عملي :

وذلك بأن يكون الاستصحاب موجبا للتنجيز أو التعذير كما سيتضح إن شاء اللّه تعالى.

والكلام عن هذا الركن يقع في جهتين :

الجهة الأولى : في بيان ما هي الصيغة المناسبة لهذا الركن.

الجهة الثانية : في بيان دليل ركنية هذا الركن.

أمّا الكلام في الجهة الأولى : فنقول : إنه قد ذكرت لهذا الركن صياغتان :

الصياغة الأولى : إنّه لمّا كان الاستصحاب من الاعتبارات الشرعية فلابدّ أن تكون مجاريه مما تتصل بالشارع بما هو شارع.

وبتعبير آخر : الاستصحاب من الأحكام التعبديّة ، وهذا يقتضي أن يكون المستصحب مما يتصل بالتعبد الشرعي ، إذ أنّ غيره يكون خارجا عن نطاق الشارع ، ومن هنا يكون مجرى الاستصحاب هو الحكم الشرعي أو موضوعه ، وما سواه يكون خارجا عن إطار التعبد بالاستصحاب فلا يطاله التعبد الشرعي لعدم صلاحيته بما هو شارع لذلك.

ص: 358

والمراد من موضوع الحكم هو ما يكون دخيلا في تحقّق الفعليّة للحكم بحيث لو اتفق عدمه أو انتفاؤه بعد وجوده لكان ذلك يقتضي انتفاء فعلية الحكم ، ومن هنا تكون جميع القيود الوجوبيّة مجرى لأصالة الاستصحاب كالاستطاعة للحج والنصاب للزكاة وهلال شوال لزكاة الفطرة والفائدة للخمس والزوجيّة لوجوب النفقة ، وكذلك المقدمات التي تكون قيودا للوجوب والواجب معا كالزوال لصلاة الظهر ويوم عرفة لوجوب الموقف بناء على استحالة الواجب المعلّق.

ويمكن التعرّف على ذلك - كما ذكرناه فيما سبق - بملاحظة نحو علاقة القيود بالحكم وهل أنّها أخذت مقدرة الوجود أو لا؟ فإن أخذت مقدرة الوجود - أي متى ما اتفق وجودها ترتب عن وجودها فعليّة الحكم - فهي من موضوعات الحكم ، فتكون مجرى لأصالة الاستصحاب بناء على هذه الصياغة.

والضابطة العامة هي أنّ كل حكم أنيطت فعليته بشيء فإنّ ذلك الشيء يكون موضوعا للحكم فيكون مجرى لأصالة الاستصحاب.

والإشكال على هذه الصياغة :

وقد واجهت هذه الصياغة مجموعة من الإشكالات ذكر المصنّف رحمه اللّه منها إشكالين :

الإشكال الأول : إنّه بناء على هذه الصياغة لا يجري الاستصحاب في موارد الشك في استمرار عدم الحكم بعد إحراز عدمه في مرحلة سابقة ؛ وذلك لأنّ عدم الحكم ليس حكما ولا موضوعا لحكم.

ومثاله ما لو كنا نعلم بعدم حرمة العصير التمري ثم وقع الشك في

ص: 359

استمرار انتفاء الحرمة فإنّه لا إشكال فقهيا في جريان استصحاب عدم الحرمة ، وكذلك لو علمنا أنّ الشارع لم يجعل خيارا للمكلّف غير الخيارات المنصوصة فإنه لا إشكال في إمكان التمسّك باستصحاب عدم جعل الخيار فيما لو وقع الشك بعد ذلك.

الإشكال الثاني : إنّه بناء على هذه الصياغة لا يجري الاستصحاب في موارد الشك في قيود الواجب كالطهارة والاستقبال والساتر للصلاة ؛ وذلك لأن قيد الواجب ليس حكما كما هو واضح ولا هو موضوع لحكم شرعي ، إذ أنّ موضوع الحكم هو ما أنيطت فعليّة الحكم به ، وقيود الواجب ليست كذلك بل هي ناشئة عنه وبعده ، ومن هنا تكون واجبة التحصيل كما بينا ذلك في محلّه.

وببيان أشمل : قيود الواجب هي القيود المأخوذة في متعلقات الأحكام والتي يكون المكلّف مسؤولا عن تحصيلها.

وهذا النحو من القيود لا ريب في جريان الاستصحاب في مورده حتى عند القائلين بهذه الصياغة ، بل إنّ مورد الرواية - التي ذكرناها للاستدلال على حجية الاستصحاب - قيد من قيود الواجب والذي هو الوضوء أو قل الطهارة الحدثية ، فإنّ الطهارة من قيود الواجب وهي الصلاة.

ولمزيد من التوضيح نذكر مثالين لكيفية إجراء الاستصحاب في قيود الواجب حتى يتضح الإشكال على هذه الصياغة.

المثال الأول : هو أنّه لو كان المكلّف يعلم باشتماله على الساتر حين الصلاة ثم شك في ارتفاع ذلك الساتر فإنّ له أن يجري الاستصحاب لإثبات

ص: 360

اشتماله على الساتر.

المثال الثاني : هو أنه لو كان المكلّف يعلم أنّ مال الغير الذي أتلفه هو من سنخ المال القيمي ثم شك في ذلك نتيجة أن هذا المال وبواسطة التقنيّة الحديثة أصبح له ما يماثله ، فإنّ الشك في المقام إنّما هو شك في قيود الواجب ، إذ أنّ المثلية والقيميّة من القيود الواجبة التحصيل بعد مخاطبة المكلّف بضمان المال الذي أتلفه ، ومن هنا يمكن للمكلّف استصحاب القيميّة للمال التالف بواسطته.

وبهذا البيان اتضح عدم تمامية الصياغة الأولى للركن الرابع.

الصياغة الثانية : أن يكون لاستصحاب الحالة السابقة أثر عملي ، أي أن يكون الاستصحاب مؤثرا ومقتضيا لترتب الأثر العملي أي مقتضيا للتنجيز أو التعذير.

فكل حالة سابقة يكون استصحابها حين الشك مؤثرا في تحقق التنجيز أو التعذير فإنها موردا لجريان الاستصحاب ، وهذه الصياغة لا يرد عليها كلا الإشكالين الواردين على الصياغة الأولى ؛ وذلك لأن هذه الصياغه بالإضافة إلى شمولها للحكم وموضوع الحكم فهي تشمل حالات الشك في استمرار انتفاء الحكم بعد العلم بانتفائه كما تشمل حالات الشك في قيود الواجب.

أما شمولها لحالات الشك في استمرار انتفاء الحكم بعد العلم بعدمه فإنّ الاستصحاب هنا يوجب التعذير والتأمين عن ذلك الحكم المشكوك.

ومثال ذلك : لو مات والد المكلّف قبل بلوغه وكان على والده صلوات فائتة ، فكان المكلّف قبل بلوغه يعلم بعدم مخاطبته بقضاء تلك

ص: 361

الفوائت ثم حين بلغ شك في استمرار عدم التكليف بالقضاء ، فإجراء استصحاب عدم التكليف يكون معذّرا.

وأمّا شمولها لحالات الشك في قيود الواجب فلأنّ المكلّف لو استصحب بقاء القيد المعلوم فإن ذلك يكون له معذرا عن الإعادة مثلا ولو استصحب عدم وجود القيد لكان الاستصحاب منجّزا ومثبتا لمسؤولية المكلّف عن الإعادة مثلا.

ويمكن التمثيل لاستصحاب القيد المعذّر بما لو كان المكلّف يعلم حين شروعه في الطواف أنّه على طهارة ثم شك في الأثناء في ارتفاعها فإنّ استصحابه للطهارة يكون معذرا له عن لزوم استئنافها ونافيا لوجوب إعادة ما جاء به من أشواط.

ويمكن التمثيل لاستصحاب عدم القيد المنجّز بما لو كان يعلم بعدم إزالته للنجاسة الخبثية عن ثوبه ثم شك في أثناء الصلاة في إزالته للنجاسة عن ثوبه ، فإنّ استصحاب عدم الإزالة منجّزا وموجبا لاستئناف الصلاة.

ويمكن التمثيل لاستصحاب عدم القيد المعذّر بما لو كان المكلّف يعلم بأنّ لباسه ليس مشتملا على فضلات الحيوان غير مأكول اللحكم ثم شك في عروض ذلك على لباسه فإنّ له أن يستصحب عدمه فيكون ذلك الاستصحاب معذرا أي نافيا لوجوب تحصيل العدم وهو الكون على لباس ليس مشتملا على فضلة الحيوان المحرم ، إذ أن الكون على اللباس المشتمل على فضلات الحيوان المحرم قد أخذ عدمه قيدا في متعلّق الحكم وهي الصلاة.

والمتحصل أنّ هذه الصياغة لا يرد عليها ما أورد على الصياغة

ص: 362

الأولى ؛ ولذلك اختارها المصنّف رحمه اللّه .

الجهة الثانية : في بيان دليل ركنية هذا الركن :

وقد ذكرنا دليل الصياغة الأولى في سياق تقريرها وأما دليل الصياغة الثانية فقد ذكر المصنّف رحمه اللّه لها دليلين :

الدليل الأول : هو أنّ جعل الاستصحاب في مورد لا يكون فيها الاستصحاب منجّزا أو معذّرا يكون أشبه شيء بالعبث ولا يتفق صدوره من العقلاء بما هم عقلاء فضلا عن الشارع المقدس.

وبتعبير آخر : إنّ الاستصحاب لمّا كان اعتبارا شرعيا وحكما تعبديّا فلابدّ أن يكون المتعبّد به مما له أثر في مقام التعبّد ، فاستصحاب حياة آدم علیه السلام إلى حين موت حواء ليس له أثر عملي حتى يصلح أن يكون موردا للتعبد الشرعي ، وهذا ما أوجب تقييد مجرى الاستصحاب بما إذا كان منتجا للتنجيز أو التعذير.

الدليل الثاني : إن ركنية هذا الركن بحدوده المذكورة هي مقتضى ظهور أدلة الاستصحاب ، فإنّ ظاهر قوله علیه السلام « لا تنقض اليقين بالشك » ليس نهيا عن نقض اليقين حقيقة لأن ذلك خارج عن القدرة ، إذ أنّ الشك متى ما تحقق انتفى معه اليقين لامتناع استقرار اليقين في النفس مع عروض الشك على نفس متعلّق اليقين ، وهذا ما يستوجب انصراف ظهور النهي عن نقض اليقين بالشك عن النقض الحقيقي فيتعيّن أن يكون المراد من النهي عن نقض اليقين بالشك هو النهي عن رفع اليد عن آثار اليقين ، أي أنّ المكلّف في حالات عروض الشك بعد اليقين لا يعتني بذلك الشك عملا ويبقى مرتبا لآثار اليقين وكأنّ اليقين لا زال ثابتا في النفس ، ومن الواضح

ص: 363

أنّ اليقين لو كتب له البقاء والاستقرار لكان موجبا للتنجيز والتعذير ، فإذن يكون التعبير ببقاء اليقين يساوق التعبد ببقاء آثاره والتي هي التنجيز والتعذير ، إذ أنّه لا يبقى معنى محصلا من النهي عن نقض اليقين إلاّ ذلك بعد أن كان النهي عن نقض اليقين الحقيقي مستحيلا.

ثم إنّه إذا كان المنهي عنه هو رفع اليد عن آثار اليقين والتي هي التنجيز والتعذير فهذا يقتضي عدم شمول التعبد بالاستصحاب للحالات التي لا يكون الاستصحاب فيها مقتضيا للتنجيز أو التعذير.

وبهذا يتضح ما هو المبرّر لركنية هذا الركن وكيف أنّ الاستصحاب يجري في تمام الحالات التي يكون فيها الاستصحاب موجبا للتنجيز أو التعذير كاستصحاب الحكم أو عدم الحكم أو استصحاب الموضوع أو المتعلّق أو قيود الحكم أو قيود المتعلق « الواجب ».

ثم إن هنا أمرا لا بدّ من التنبيه عليه : وهو أنّ مرادنا من لزوم كون الاستصحاب موجبا للتنجيز أو التعذير إنما هو بلحاظ البقاء لا بلحاظ الحدوث ، فإذا كان استصحاب بقاء المتيقن موجبا للتنجيز أو التعذير فإنّ هذا كاف في تصحيح جريان الاستصحاب.

وبيان ذلك :

إنّ المتيقن الذي يراد استصحابه في ظرف الشك في بقائه له أربع حالات :

الحالة الأولى : أن يكون لحدوثه أثر عملي ولبقائه أثر عملي ، ومثاله ابتداء النهار من أيام شهر رمضان ، فإن لابتداء النهار - وهو الحدوث - أثر عملي وهو تنجّز الصوم على المكلّف ولبقائه أثر عملي وهو وجوب

ص: 364

الاستمرار على الصوم ، وفي مثل هذه الحالة لا ريب في جريان الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ حدوث المستصحب وبقاءه مما يترتب عليه التنجيز.

الحالة الثانية : ألا يكون للحدوث أثر عملي ولا يكون للبقاء أثر عملي ، وفي مثل هذه الحالة لا ريب في عدم جريان الاستصحاب - كما بينا ذلك فيما سبق - ، ومثاله ما لو كنا نعلم بحياة ملك من الملائكة ثم شككنا في بقائه ، فهنا لا يجري الاستصحاب لعدم ترتب أي أثر على العلم بالحياة وهكذا استمرار الحياة ليس له أثر كذلك.

الحالة الثالثة : أن يكون لحدوثه أثر عملي إلاّ أنّ بقاءه ليس ذا أثر عملي ، ومثاله العلم بتنجس هذا الطعام مع عدم اضطراره إليه وبذلك تتنجّز عليه الحرمة فلو شك بعد ذلك في ارتفاع النجاسة عن هذا الطعام إلاّ أنه كان حينها مضطرا إلى تناوله فهنا لا يكون للبقاء أثر عملي ، إذ أنّه على أي حال لا يحرم عليه تناول هذا الطعام لافتراضه مضطرا إليه ، ومن هنا لا يجري الاستصحاب في هذه الحالة لأن البقاء ليس له أثر عملي على أيّ حال.

الحالة الرابعة : ألا يكون للحدوث أثر عملي إلاّ أنّ البقاء ذو أثر عملي ، ومثاله العلم بحياة الابن فإنّه ليس للعلم بحياته أثر عملي إلاّ أنه وقع الشك بعد ذلك في بقائه على قيد الحياة إلى هذه السنة وكان لبقائه إلى هذه السنة أثر عملي وهو استحقاقه للإرث ، حيث إنّ أباه قد مات في هذه السنة ، وهنا يجري الاستصحاب ؛ وذلك لتوفّره على الركن الرابع - وهو أنّ لاستصحاب الحالة السابقة أثر عملي - ولا يكون عدم الأثر للمستصحب

ص: 365

حين حدوثه مانعا من جريان الاستصحاب ، إذ أن الأثر العملي الذي أنيط به التعبد الشرعي بالاستصحاب إنّما هو الأثر حين إجراء الاستصحاب ، وهذا متحقق في مفروض المثال.

ص: 366

مقدار ما يثبت بالاستصحاب

ويقع البحث في المقام عن شمول التعبّد بالاستصحاب للأحكام الشرعية المترتبة على الآثار العقلية والعادية للمستصحب. وقد تعارف إطلاق عنوان حجيّة الأصل المثبت على هذا البحث ، ويمكن تصنيفه إلى جهتين :

الجهة الأولى : في بيان موضوع البحث.

الجهة الثانية : في الدليل على عدم حجيّة الأصل المثبت.

أما الجهة الأولى :

إنّ المستصحب - والذي هو متعلّق اليقين والذي يراد إسراؤه لحالة الشك في بقائه - تارة يكون حكما شرعيا فاستصحابه يكون موجبا للتنجيز أو التعذير دون واسطة ، وتارة يكون موضوعا لحكم شرعي أو متعلّقا لحكم شرعي أو قيدا لحكم أو قيدا لمتعلّق حكم شرعي فهنا يكون إجراء الاستصحاب منقحا للموضوع فيترتب بواسطة ذلك الحكم أو يكون مثبتا لتحقق متعلّق الحكم فيثبت بواسطة استصحاب المتعلّق التعذير مثلا ، وهكذا الكلام في قيود الوجوب والواجب.

وتارة يكون المستصحب حكما شرعيا وفي نفس الوقت هو موضوع لحكم شرعي آخر ، فهنا يكون استصحاب الحكم المعلوم سابقا منقّحا

ص: 367

لموضوع الحكم الثاني وموجبا للتنجيز أو التعذير ، أي أنّ ثبوت الحكم الثاني تم بواسطة استصحاب الحكم الأول المعلوم سابقا والذي هو موضوع للحكم الثاني.

ومثاله : ما لو علم مكلّف بنجاسة مائع إلاّ أنّ تناوله كان خارجا عن القدرة ثم شك بعد ذلك في بقاء نجاسته بعد أن صار مقدورا على تناوله ، فإنّ استصحاب الحكم بالنجاسة يستوجب التعبّد بالنجاسة أولا ويتنقح بواسطته موضوع الحكم بحرمة شربه ؛ وذلك لأنّ النجاسة موضوع لحرمة الشرب.

والغرض من افتراض كون المائع حين العلم بالنجاسة غير مقدور على تناوله هو أنّه لو لم يكن كذلك لكان العلم بالنجاسة يساوق العلم بالحرمة فيمكن حينئذ إجراء استصحاب الحكم بالحرمة بنفسه ؛ وذلك لأنّ له حالة سابقة متيقنة ، أمّا في حالة عدم القدرة على تناول المائع حين العلم بنجاسته فإنّ العلم حينئذ بالنجاسة لا يساوق العلم بالحرمة.

وبهذا يكون استصحاب النجاسة هو الواسطة في تنقّح موضوع الحرمة لشرب المائع.

وكيف كان فتمام الحالات التي ذكرناها يكون بقاء المستصحب بنفسه موجبا للتنجيز والتعذير.

وهناك حالة أخرى غير الحالات التي ذكرناها لا يكون المستصحب بنفسه موجبا للتنجيز وإنّما الموجب للتنجيز هو لوازمه العقليّة أو العاديّة.

ومثاله ما لو كان استحقاق الطفل للميراث منوطا بتولده حيا ، فلو كنّا نعلم بحياة الجنين حينما كان حملا ثم شككنا في استمرار حياته إلى حين

ص: 368

التولّد فإن استصحاب الحياة إلى حين التولّد يلازم عقلا تولّده حيا وبه يتنقّح موضوع الأثر الشرعي وهو الاستحقاق للميراث.

والملاحظ في هذه الحالة المفترضة أنّ المستصحب ليس هو بنفسه موضوع الأثر الشرعي ؛ وذلك لأن استصحاب الحياة إلى حين الولادة لا ينتج وحده تنقّح موضوع الاستحقاق للميراث ؛ إذ أنّ الحياة كما هو المفترض ليس موضوعا للاستحقاق وإنما هو تولّد الطفل حيا ، وهذا غير المستصحب ، إذ ليس هو المتيقن سابقا ، وإنما المتيقن هو الحياة فحسب وهو ليس موضوعا للأثر الشرعي ، نعم استصحاب الحياة إلى حين التولّد يلازم عقلا تولّد الطفل حيّا. فإذن الأثر الشرعي موضوعه اللازم العقلي للمستصحب وليس هو المستصحب نفسه ، وهذا بخلاف استصحاب النجاسة في المثال السابق فإنّه بنفسه موضوع للحرمة.

وبتعبير مختصر : إنّ مفروض هذه الحالة هو ترتّب الأثر الشرعي على لازم المستصحب لا أن الأثر الشرعي مترتب على المستصحب نفسه.

وهذه الحالة هي محلّ الكلام من حيث إنّ الاستصحاب هل يجري في مثل هذه الحالة أو لا؟

وأمّا الجهة الثانية : - والتي هي في الدليل على عدم حجيّة الأصل المثبت - فنقول : إنّه بعد اتّضاح المراد من الأصل المثبت وأنّه عبارة عن التعبّد بوجود اللازم العقلي للمستصحب ومنه تترتب الآثار الشرعية على ذلك اللازم فيكون دور المستصحب دور الواسطة في إثبات لازمه العقلي ثم إن ثبوت اللازم العقلي بعد ذلك يستوجب ترتّب آثاره الشرعية ، بعد اتّضاح ذلك يقع البحث في أنّ دليل الاستصحاب هل يتسع لذلك أو لا؟

ص: 369

والوصول إلى نتيجة في هذا البحث يستوجب ملاحظة دليل الاستصحاب فنقول : إنّ أدلة الاستصحاب نهت عن نقض اليقين بالشك وقد قلنا إنّه لا يمكن أن يكون المراد - من النهي عن النقض - النقض الحقيقي ، فيتعيّن أن يكون المراد منه هو النقض العملي والذي يعني رفع اليد عمّا يقتضيه اليقين لو قدّر له البقاء ، وبهذا يثبت - في حالات الشك في بقاء المتيقن - ما للمتيقن من منجّزيّة ومعذرية ، وهذا هو معنى استظهار التنزيل من دليل الاستصحاب والذي هو تنزيل مشكوك البقاء منزلة الباقي.

وبهذا يتضح أنّ النهي عن النقض ليس نهيا مولويا يقتضي التحريم وإنّما هو نهي إرشادي ، أي أنّه يرشد إلى أنّ المولى قد نزّل مشكوك البقاء منزلة الباقي أو قل نزّل المشكوك منزلة المتيقن في مقام العمل ، فكأنّما المولى اعتبر المكلّف الشاك - فيما كان متيقنا به - أنّه لا زال على يقين بالمشكوك الفعلي.

وعلى هذا يكون المنزّل منزلة المتيقن هو المشكوك ، أي أنّ المتعبّد بتنزيله منزلة المتيقّن هو نفس المشكوك ، وإذا كان كذلك فمن الصعب تعدية هذا التنزيل وهذا التعبّد إلى آثار المشكوك « المستصحب » العقلية أو العاديّة ؛ وذلك لأنّ التنزيل نحو من الاعتبار وهذا يقتضي لزوم التعرّف على هوية المعتبر وذلك لمعرفة جهة الاعتبار والتنزيل ، ولمّا كان المعتبر في المقام هو الشارع فهذا يقتضي أن تكون جهة التنزيل متصلة بالشارع المقدس وحينئذ يكون تنزيل المشكوك منزلة المتيقن أو قل التعبّد ببقاء المستصحب إنّما هو من جهة آثاره المتصلة بالشارع لا الآثار المتصلة بالجهات الأخرى.

ص: 370

ولغرض أن تتضح هذه الفقرة من الدليل - والتي هي أهم حلقات هذا الدليل - نذكر هذا المثال.

عندما يقال : « إنّ المخدّر خمر » فإن العرف يفهم أنّ هنا تنزيلا للمخدّر منزلة الخمر وذلك لاطلاعه على أنّ طبيعة المخدّر التكوينية تختلف عن طبيعة الخمر ، إلا أنّه لا يفهم لهذا التنزيل معنى محصّل حتى يعرف المنزّل الذي نزّل مادة المخدّر منزلة الخمر فإذا ما عرف المنزّل عرفت جهة التنزيل ، فلو كان طبيبا عرفنا أن جهة التنزيل هي الآثار التكوينية وأنّه أراد من هذا التنزيل اعتبار المضاعفات المترتبة على تناول المخدّر هي عينها المترتبة عن شرب الخمر ، ولو كان المنزّل هو المقنّن ومن له السلطنة على الناس لكانت جهة التنزيل هي العقوبة ، فكما أنّ عقوبة شارب الخمر هي السجن مثلا فكذلك عقوبة المتعاطي للمخدّر ، وإذا كان المنزّل هو شارب الخمر يفهم العرف أنّ جهة التنزيل هي الانعكاسات النفسية المترتبة على شرب الخمر فكأنه قال : إنّ الانعكاسات النفسية المترتبة على تناول المخدّر هي عينها المترتبة على شرب الخمر.

أمّا لو كان المنزّل هو الشارع المقدس فحينئذ ينفهم من هذا التنزيل أن جهته هي الآثار الشرعية ، فكما أنّ الخمر حرام فكذلك المخدّر.

ومن هنا يتضح ما نروم إثباته وهو أن تنزيل المشكوك منزلة المتيقن يعني أن جهة التنزيل إنّما هي الآثار الشرعيّة المترتبة على بقاء المتيقن نفسه وأمّا آثاره التكوينية فلا يطالها ذلك التنزيل ، إذ أنها ليست متصلة بالشارع بما هو شارع ، فيكون التعبّد ببقاء المستصحب إنّما هو تعبّد ببقاء آثاره الشرعية.

فعليه لو كان للمستصحب أثر تكويني وهذا الأثر التكويني موضوع

ص: 371

لحكم شرعي فإن ذلك الحكم الشرعي لا يثبت بواسطة الاستصحاب ؛ وذلك لأن ثبوت الحكم الشرعي منوط بالتعبّد بوجود الأثر التكويني للمستصحب وهذا ما لا يتسع له التعبّد ببقاء المستصحب ؛ ولهذا لا يكون الحكم الشرعي المترتب على اللازم التكويني متحققا ، إذ أنّ موضوعه وهو اللازم التكويني غير محرز التحقق.

مثلا : لو كان وجوب النهي عن المنكر مترتبا على بقاء الفاسق على المعصية فلو لم أكن أعلم بذلك ولكن كنت أعلم بعدم توبته ، واللازم العادي لعدم التوبة هو الاستمرار على المعصية ، فهنا لو استصحبت عدم التوبة - وكان استصحاب الملزوم يعني ثبوت اللازم - لكان ذلك يقتضي تنقّح موضوع وجوب النهي عن المنكر ، إلا أنّه لمّا لم يكن التعبّد ببقاء المستصحب « وهو عدم التوبة » تعبدا بتحقق لوازمه العاديّة فهذا يقتضي عدم تحقق موضوع وجوب النهي عن المنكر ؛ إذ أن موضوعه - كما هو المفترض - هو اللازم العادي لعدم التوبة ولا سبيل لإثباته بواسطة التعبّد ببقاء المستصحب كما بينا ذلك.

قد يقال إننا لا نحتاج إلى التعبّد بوجود اللازم « وهو الاستمرار على المعصية » بل يكفي التعبّد ببقاء المستصحب لتحقق وجوب النهي عن المنكر.

إلاّ أنّه يقال إنّ ذلك خلف الفرض وهو أنّ موضوع وجوب النهي عن المنكر إنّما هو الاستمرار عن المعصية وهذا غير ثابت ؛ إذ أنّ فعلية الأحكام تابعة لتقرّر موضوعاتها خارجا.

وبهذا يتضح عدم حجيّة الأصل المثبت وعدم صلاحيته لتنقيح موضوع الأثر الشرعي كما هو مذهب المشهور.

ص: 372

عموم جريان الاستصحاب

اشارة

ويقع البحث في المقام عن صلاحية دليل الاستصحاب لإثبات التعبّد بالاستصحاب مطلقا وفي تمام موارد الشك المسبوق بالعلم.

وهذا هو مقتضى إطلاق قوله علیه السلام « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » ، إلا أنّه في مقابل دعوى العموم هناك من ذهب إلى التفصيل ، كما أنّ القائلين بالتفصيل قد اختلفوا في جهة التفصيل ، فهناك من ذهب إلى التفصيل بين المستصحب الثابت بواسطة الدليل الشرعي وبين ما هو ثابت بالدليل العقلي ، كما أنّ هناك قولا آخر بالتفصيل بين الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعية ، فالاستصحاب جار في الثانية دون الأولى.

والتفصيل الذي بحثه المصنّف رحمه اللّه في المقام هو التفصيل بين الشك في الرافع فيجري الاستصحاب في مورده وبين الشك في المقتضي فلا يجري الاستصحاب في مورده ، وهذا التفصيل قد تبناه الشيخ الأنصاري رحمه اللّه وتبعه في ذلك المحقق النائيني رحمه اللّه .

وحاصل هذا التفصيل : هو أنّ متعلّق اليقين ليس ذا طبيعة واحدة بل إنها متفاوتة من متعلّق إلى آخر ، فقد يكون متعلّق اليقين « المتيقن » مما له شأنية البقاء والاستمرار لو اتفق له الوجود ، وهذا يعني أنه متى ما وجد فإنّه يبقى إلا أن يطرأ ما يوجب انقطاع استمراره ، فلو وقع الشك في طروء

ص: 373

هذا القاطع والذي ينهي حالة الاستمرار للمتيقّن ، فإنّ الاستصحاب يقتضي نفي الانقطاع واستمرار بقاء المتيقن ، وهذه الحالة هي التي يجري فيها الاستصحاب.

ومثاله الزوجية فإنها متى ما تحققت فإنها تبقى ، غايته أنه قد يطرأ عليها ما يوجب انقطاعها وانتفاءها كطروء بعض العيوب الموجبة للفسخ أو الطلاق أو الارتداد أو ما إلى ذلك.

وفي مثل هذه الحالة يكون الشك في بقاء الزوجية يساوق الشك في طروء الرافع ولا معنى للشك من جهة أخرى بعد العلم بتحقق الزوجية ، هذه هي الحالة الأولى للمتيقن.

والحالة الثانية : للمتيقن هي عدم اقتضاء طبيعته للبقاء والاستمرار إلى أن يطرأ الرافع بل إنّها تقتضي البقاء لأمد محدّد ثم تنتفي بنفسها ومن دون عروض أي طارئ موجب لارتفاع حالة البقاء ، نعم قد يعرض للمتيقن الانقطاع بسبب طارئ موجب لإعدام وجوده الذي لو لا عروض هذا القاطع لاستمرّ هذا الوجود حتى ينتهي أمده ، ومن هنا يتضح أنّ مراد القائلين بعدم جريان الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي إنّما يقصدون حالات الشك الناشئة عن احتمال انتهاء أمد المتيقن لا حالات الشك في طروء الرافع له ، فإنّه حتى وإن كان المتيقن من قبيل الحالة الثانية فإنّ الاستصحاب يجري في مورده لو كان منشأ الشك هو طروء الرافع ، كما لو كانت طبيعة المتيقن البقاء إلى ساعة من حين حدوثه ووقع الشك في ارتفاعه لعارض قبل تمام الساعة فإنّ الاستصحاب جار في مثل هذا الفرض ولا يقصدون أنّ مطلق الطبائع التي لا تقتضي البقاء الأبدي إذا وقع

ص: 374

الشك في بقائها فإنّ الاستصحاب لا يجري في موردها ، بل إنّ الاستصحاب الذي لا يجري في موردها هو ما كان منشؤه الشك في اقتضاء المتيقن للبقاء إلى هذه المرحلة الزمنية ، فلا تغفل.

ويمكن التمثيل لهذه الحالة من حالات المتيقن بما لو وقع الشك في بقاء نهار شهر رمضان ، وكان منشؤه الشك في اقتضاء النهار للبقاء إلى هذه المرحلة الزمنية ، إذ أنّ طبيعة النهار لا تقتضي الاستمرار إلى الأبد ما لم يطرأ الرافع بل إنّ لها أمدا تنتهي بانتهائه ، وفي مثل هذه الحالة لا يجري الاستصحاب بناء على مبنى التفصيل.

وبعد اتضاح مبنى التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع يقع الكلام عمّا هو الدليل على هذا التفصيل ، وما هو المبرّر لرفع اليد عمّا يتراءى من إطلاق لدليل الاستصحاب ، وقد ذكروا أنّ المبرّر لذلك هو التعبير بالنقض في لسان الدليل فهو الموجب لدعوى التفصيل ، وذلك يتضح بتقريبين :

التقريب الأول :

إنّ أدلة الاستصحاب قد نهت عن نقض اليقين بالشك ، والمتفاهم العرفي من معنى النقض هو حلّ ما هو مستوثق ومتماسك ، وهذا هو ما تقتضيه الاستعمالات العرفيّة لكلمة النقض قال اللّه تعالى : ( وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً ) (1) فالغزل هنا بمعنى المغزول أي ما غزلته ، والمغزول هيئة محكمة ومترابطة ، وقد أكدت الآية الشريفة حالة

ص: 375


1- سورة النحل آية 92.

الإحكام والاستيثاق في المغزول بالظرف الذي تلاه وهو « من بعد قوة » ثم فسّرت النقض بالحال وهي « أنكاثا » فالنقض بمعنى النكث ، والنكث بمعنى الفتل ، والفتل لا يكون إلاّ فيما هو مستحكم ومستوثق.

وهكذا قوله تعالى ( فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ ) (1) فإنّ النقض في الآية الشريفة قد عرض على الميثاق ، والميثاق هو الالتزام للطرف المقابل بأمر على نحو البت ، فكأنّه معقود وموثوق بذلك الأمر بحيث لا يسعه التنصّل عنه ، ومتى ما تنصّل يكون قد نقض ذلك الوثاق وحلّه عن يده المكبّلة به ، ومن هنا لا يقال لمن لم يلتزم بأمر - وإنّما كان من المرجو أن يفعله - أنّه ناقض لالتزامه ، كما لا يقال لمن نكت في التراب أنّه نقض التراب وما ذلك إلاّ لعدم استحكامه في نفسه.

وباتضاح هذا يتضح معنى النقض في أدلة الاستصحاب وأنّها تعني رفع اليد عمّا له اقتضاء الدوام والاستمرار ، إذ هو الذي يناسبه عنوان النقض ، بخلاف المتيقن الذي ليس له اقتضاء الدوام فليس له حالة استحكام حتى يكون رفع اليد عنه يعدّ من النقض ، وبهذا يتضح وجه التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع.

والجواب عن هذا التقريب : أنّ ما ذكر من أن النقض لا يكون إلا في حالة يكون فيها المنقوض مستوثقا مسلّم إلا أنّ ذلك لا يقتضي التفصيل ، إذ أنّ متعلّق النهي عن النقض في أدلة الاستصحاب هو اليقين وليس المتيقن حتى يقال بالتفصيل ، ومن الواضح أنّ رفع اليد عن اليقين يعدّ نقضا عرفا ،

ص: 376


1- سورة المائدة آية 13.

وذلك لأن اليقين من الحالات المستحكمة في النفس بحيث يكون عدم الاعتناء به نقضا لما هو متأصل ومستوثق.

التقريب الثاني :

إنّ أدلة الاستصحاب نهت عن نقض اليقين بالشك ، ومن والواضح أنّه من غير المناسب وصف الشك بالناقض لو كان متعلّق الشك مغايرا لمتعلق اليقين ، نعم يصح إطلاق عنوان النقض لو كان المتعلّق في الشك واليقين واحدا كما هو الحال في قاعدة اليقين فإنّ الشك يتعلّق في موردها بعين ما تعلّق به اليقين كما أوضحنا ذلك ، فهنا يكون النقض حقيقيا.

ويصح إطلاق عنوان الناقض أيضا فيما لو كان الشك متعلقا بحالة البقاء للحادث المتيقن إلاّ أنّه بنحو العناية المقبولة عرفا ، إذ أنّ الشك في البقاء لو اعتني به مع قابلية الحادث للبقاء فإنّ هذا الاعتناء يعدّ بنظر العرف نقضا لليقين بالشك ، إذ أنّ قابليّة الحادث للبقاء تجعل من الشك في البقاء كأنّه شك في الحدوث ، فمتعلّق اليقين وإن كان مغايرا - بحسب الدقة العقليّة - لمتعلّق الشك إلا أنّ قابليّة المتيقن للبقاء والاستمرار هي التي سوّغت اعتبار المتعلّقين متعلّقا واحدا.

ومن هنا يكون رفع اليد عن المتيقن بسبب الشك نقضا لليقين بالشك ، فهو وإن كان نقضا عنائيا إلا أنّه مقبول ومستساغ عرفا ، وهذا بخلاف ما لو كانت طبيعة الحادث لا تقتضي البقاء والاستمرار ، فإنّ الشك حينئذ في البقاء يبقى شكا في متعلّق مباين لمتعلّق اليقين ولا يكون الشك في البقاء مصححا عرفا لاتحاد المتعلّقين حتى يكون رفع اليد عن اليقين بالشك نقضا لليقين بالشك.

وهذا ما أوجب استظهار التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في

ص: 377

الرافع.

وبتعبير آخر : إن طبيعة المتيقن إذا كانت مقتضية للبقاء والاستمرار فإنّ اتفاق وجودها يعني استمرارها وهذا يقتضي أنّ الشك في الاستمرار بعد العلم بالوجود والحدوث شك - بنحو العناية - في أصل الوجود والحدوث ؛ وذلك لأن اليقين بالحدوث في مثل هذه الطبايع يقين بالاستمرار عناية ، فلو وقع الشك في الاستمرار فكأنّه شك في أصل الحدوث ، وهذا هو معنى اتحاد متعلقي الشك واليقين عناية ، وبهذا يكون رفع اليد عن اليقين السابق نقضا لليقين بالشك وأدلة الاستصحاب تنهى عن ذلك.

أما لو كانت طبيعة المتيقن غير مقتضية للبقاء بل إنّها تزول بنفسها بعد الحدوث حتى لو لم يطرأ عليها ما يوجب إعدام وجودها ففي مثل هذه الحالة لا يكون الشك في البقاء مساوقا عرفا للشك في الحدوث المتيقن ؛ وذلك لتغاير متعلّقيهما حتى بنظر العرف ، ومن هنا لا يكون عدم الاعتناء بذلك اليقين السابق من نقض اليقين بالشك.

والجواب عن هذا التقريب : إنّنا وإن كنّا نسلّم أن إسناد نقض اليقين إلى الشك لا يكون إلاّ في حالة يكون فيها متعلّق اليقين ومتعلّق الشك واحدا إلاّ أنّنا قلنا إنّ المصحح للإسناد هو إلغاء الزمن عن متعلّقي اليقين والشك ، وبهذا الإلغاء يكون المتعلّق للحالتين واحدا ، فإذا صحّ هذا الإلغاء في حالة يكون فيها المتيقن مما له البقاء والاستمرار فإنّه يصحّ في حالات عدم اقتضاء المتيقن للبقاء والاستمرار.

وبهذا اتّضح سقوط كلا التقريبين عن الصلاحيّة لصرف إطلاق أدلة الاستصحاب عن حالات الشك في المقتضي.

ص: 378

تطبيقات

1 - استصحاب الحكم المعلّق :

ويقع البحث في المقام عن أنّ الحكم المعلّق هل يجري في مورده الاستصحاب أو لا يجري؟ وقبل بيان ذلك لا بدّ من تحرير موضوع البحث ، فنقول :

إنّ الشك في الحكم ينشأ عن أحد ثلاثة مناشئ :

المنشأ الأول : هو احتمال نسخ الحكم ، والشك في مثل هذه الحالة يعرض نفس الجعل ولا صلة له بالحكم المجعول.

ومثاله : هو أنّه حينما يكون المكلّف عالما بأنّ اللّه جلّ وعلا قد جعل الحرمة على أكل لحكم الميتة ثم وقع الشك في بقاء الحكم بالحرمة وعدمه ، فإنّ هذا الشك يكون ناشئا عن احتمال النسخ ، ولا مبرّر للشك في البقاء إلا ذلك.

وفي مثل هذه الحالة يجري استصحاب الحكم أي استصحاب بقاء الجعل وأن الحرمة لم تنسخ.

المنشأ الثاني : هو انتفاء بعض الخصوصيّات بعد أن كانت موجودة ، والتي نحتمل دخالتها في بقاء فعليّة الحكم ، فانتفاء تلك الخصوصية أوجب الشك في بقاء فعليّة الحكم ، والشك هنا لا يكون إلاّ في

ص: 379

بقاء الفعليّة للحكم ولا صلة له بأصل الجعل ، فقد يكون المكلّف على يقين من بقاء الجعل ومع ذلك يشك في بقاء الفعليّة لذلك الحكم.

ومثاله العلم بحرمة وطء الحائض المضطربة العادة باعتبار أنّ الدم الذي تراه واجد لصفات الحيض ، فلو فقد هذا الدم صفات الحيض بعد ذلك فإنّ انتفاء هذه الخصوصية يوجب الشك في بقاء فعلية الحكم بحرمة الوطء ، وهنا يجري استصحاب بقاء فعليّة الحكم بالحرمة - كما ذكرنا ذلك فيما سبق - وهذا النحو من الاستصحاب يسمّى باستصحاب الحكم المجعول ، كما أنّ الحكم في مثل هذه الموارد - والذي كنّا نعلم بتحقّق فعليّته - يعبّر عنه بالحكم التنجيزي.

وضابطته هي كل حكم تقرّر موضوعه خارجا بتمام حيثياته ، وعبّر عنه بالحكم التنجيزي لبلوغه مرحلة الفعليّة والتنجّز بحيث يكون المكلّف في مورده مسؤولا عن الامتثال لو كان الحكم مثبتا للتكليف ، ويكون في سعة لو كان الحكم نافيا للإلزام.

المنشأ الثالث : هو انتفاء خصوصية للموضوع كانت موجودة لو قدر لها البقاء لكان الحكم فعليّا باعتبار أنّ الخصوصية التي كانت مفقودة قد وجدت فعلا ، وهنا يكون الشك أيضا في فعلية الحكم لا في أصل الجعل بل نبقى في مثل هذه الحالة محرزين لبقاء الجعل وإن كنّا نشك في فعليته.

ومثاله : العلم بأصل جعل الحرمة على وطء الحائض ، فلو علمنا أنّ هذا هو وقت طروء الحيض على هذه المرأة ذات العادة المنتظمة وقتا إلاّ أنّه لم يطرقها الحيض بعد ، وهنا نستطيع أن نقول إنّ هذه المرأة لو طرقها الحيض في هذا الوقت لحرم وطؤها ، فلو تأخر طروء الحيض عنها إلى ما

ص: 380

بعد الوقت المعتاد كأن طرقها الحيض بعد خمسة أيام من وقتها المعتاد ، فهنا يقع الشك في حرمة وطء هذه المرأة.

ومنشأ الشك هو انتفاء خصوصية الوقت الذي نحتمل أنّه جزء لموضوع الحرمة ، فهل يجري استصحاب الحرمة في هذه الحالة أو لا؟

وهذا النحو من الاستصحاب الذي نبحث عن جريانه أو عدم جريانه هو المعبّر عنه بالاستصحاب التعليقي ، كما أن الحكم الذي يراد استصحابه يعبّر عنه بالحكم التعليقي.

وتلاحظون أنّ الشك في المقام ليس في بقاء أصل الجعل ، بل إنّ الجعل وهو حرمة وطء الحائض لا زال محرزا ، كما أنّ الشك ليس في بقاء فعليّة الحكم بحرمة وطء الحائض ، إذ لم تكن الفعليّة معلومة حتى يقع الشك في بقائها ، إذن فما هو مورد الشك في مثل هذه الحالة؟

والجواب هو أنّ مورد الشك في مثل هذه الحالة هو الحكم التعليقي - الذي لم يكن قد بلغ مرحلة الفعليّة - وهو تلك القضية الشرطية التي صغناها والتي هي « إنّ هذه المرأة لو طرقها الحيض في هذا الوقت لحرم وطؤها » فهذه هي مورد الشك في المقام ، حيث إنّنا نشك في أنّ هذه المرأة التي علّق الحكم بحرمة وطئها على طروء الحيض في ذلك الوقت هل لا زال كذلك أم لا؟

فلو كنّا نقول بجريان الاستصحاب في الحكم التعليقي فإن بالإمكان استصحاب تلك القضيّة المعلومة سابقا إلى زمان الشك ، وبهذا الاستصحاب يصل الحكم إلى مرحلة الفعليّة حيث افترضنا أنّ المرأة قد طرقها الحيض.

ص: 381

وبما ذكرناه يتضح معنى قول المصنّف رحمه اللّه من أنّ الشك في موارد استصحاب الحكم التعليقي لا هو شك في الجعل ولا هو شك في المجعول بل هو حالة وسطى ما بين الشك في الجعل والشك في المجعول.

وبرزخيّة هذا الشك نشأت عن أنّ أصل الجعل يبقى محرزا في مورد هذا الشك كما أنّ فعليّة الحكم كانت متيقنة العدم فلا شك في بقائها ، نعم هناك شك في حدوثها.

واتضح أيضا مما ذكرناه أنّ مجرى الاستصحاب التعليقي إنّما هو القضية الشرطية التي كانت معلومة أو قل إنّ مجرى الاستصحاب هو الحكم المعلّق.

وبهذا نكون قد حررنا معنى الاستصحاب التعليقي وبه نصل إلى البحث عن دليل جريانه أو عدم جريانه.

أمّا دليل جريان مثل هذا الاستصحاب فهو أنّ أركان الاستصحاب في مورده تامة ، حيث إنّ الحكم المعلّق كان محرزا ثم وقع الشك في بقائه فنستصحب الحالة السابقة إلى ظرف الشك في البقاء ، وباستصحاب الحكم المعلّق يصل الحكم إلى مرحلة الفعليّة لو افترضنا تحقق الخصوصية المفقودة في ظرف العلم كما لو أنّ المرأة - في المثال - قد طرقها الحيض فعلا ، أما لو لم يطرقها الحيض فالاستصحاب التعليقي لا ينتج إلاّ التعبّد ببقاء القضية الشرطية وهي أنه متى ما طرقها الحيض فإنّ وطأها يكون محرما.

وفي مقابل دعوى جريان الاستصحاب التعليقي ذهب المحقق النائيني رحمه اللّه إلى عدم إمكان جريان استصحاب الحكم المعلّق واستدلّ على ذلك بما حاصله :

ص: 382

إنّ الحالة البرزخيّة في مورد استصحاب الحكم المعلّق ليس لها معنى محصل ، فالأحكام الشرعية أما هي بمرتبة الجعل أو بمرتبة المجعول والفعلية ، فالشك إمّا أن يقع في بقاء أصل الجعل وإمّا في بقاء فعلية الحكم المعبّر عنه بالمجعول ، وإذا كان كذلك فأركان الاستصحاب ليست تامة في مورد الشك في الحكم المعلّق ؛ وذلك لأنّ الحكم بمرتبة الجعل محرز البقاء فالركن الثاني للاستصحاب وهو الشك في البقاء منتف في هذه الصورة ، وأما الحكم بمرتبة المجعول والفعليّة فليس له حالة سابقة معلومة وبهذا يكون الركن الأول للاستصحاب وهو اليقين بالحدوث منتفيا ، نعم هناك علم بالقضية الشرطية أو قل الحكم المعلّق وشك في بقائه إلاّ أن ذلك لا يبرّر جريان الاستصحاب ، إذ ليس عندنا في الشريعة قسم ثالث للأحكام الشرعية ، فيتعين أن يكون الشك في مثل هذه الحالة شكا في فعلية الحكم ، ولمّا لم يكن للفعليّة حالة سابقة فلا يجري حينئذ الاستصحاب.

استصحاب التدريجيّات :

ومورد البحث في المقام هو الوجودات التي ليس لها قرار والتي يكون الوجود الآخر المسانخ لها منوطا بتصرمها وانعدامها ، ويمكن أن نعبّر عن هذا النحو من الوجودات بالوجودات السيّالة والتي طبعها عدم القرار وهي المعبّر عنها بالزمانيات عند الحكماء.

ومثالها ما لو وقفت على نقطة من نهر جار فإنّه يبدو بالنظرة السطحية أنّ الماء الذي وقع نظرك عليه لحظة وقوفك عند تلك النقطة هو عين الماء الذي تراه بعد فترة من الزمن عند تلك النقطة والحال أنّ الواقع

ص: 383

ليس كذلك ، ومنشأ هذا التصور هو الحالة الاتصالية للوجودات المتعاقبة على تلك النقطة.

وهذا النحو من الوجودات هو مورد البحث في المقام ، وتصوير جريان الاستصحاب في مثل هذه الموارد هو أنّه لو أحرزنا تحقق وجود من قبيل هذا النحو من الوجودات الزمانية ثم وقع الشك في انقطاع هذا الوجود فهل يصح إجراء الاستصحاب أو لا؟

ومثاله ما لو علمنا بشروع زيد في قراءة القرآن والتي هي موضوع لوجوب الإنصات ثم شككنا بعد ذلك في انقطاعه عن القراءة فهل يجري استصحاب استمراره في القراءة أم لا؟

ومن الواضح أنّ القراءة من الوجودات الزمانية السيّالة والتي من طبعها عدم القرار ، فالقارئ لا يصل إلى الحرف الثاني إلاّ بعد تصرّم الحرف الأول وهكذا.

ومن هنا قيل بعدم جريان استصحاب التدريجيات أي بعدم جريان استصحاب الوجودات المتعاقبة والتي لها وحدة اتصالية بالنظرة العرفية وإلا فهي بالنظرة الدقيّة ليس لها اتصال ؛ إذ أنّ الوجود لا يتصل بالعدم ، ولمّا كان الحرف الأول قد انعدم فكيف يقال بأنّه متصل بالوجود للحرف الثاني؟!

ومنشأ القول بعدم جريان استصحاب التدريجيات واضح ، إذ أنّ المعلوم حدوثه قد انصرم وانعدم قطعا وهذا يعني أنّه لا شك في بقائه ، وبهذا يكون الركن الثاني مختلا ، كما أنّ الركن الأول لا يتفق تحققه في مورد استصحاب التدريجيات ؛ إذ أنّ الركن الأول هو اليقين بالحدوث ومن الواضح أنّه لا علم لنا بالحدوث الثاني ، والذي نعلم بحدوثه قد انصدم

ص: 384

قطعا فعندنا شك بالحدوث الثاني ويقين بانقطاع الحدوث الأول وفي مثل هذه الحالة كيف يجري الاستصحاب؟!

إلا أنّه لا محصل لهذا الإشكال ؛ وذلك لأنّ الخطابات الشرعية ليست مبنيّة على المداقة العقليّة ، ولذلك لا بدّ من فهم الخطابات الشرعيّة بالشكل الذي يتناسب مع المتفاهم العرفي ، ومن هنا يمكن القول بشمول أدلة الاستصحاب لهذا المورد ؛ وذلك لأنّ العرف يعتبر هذه الوجودات المتعاقبة وجودا واحدا استمراريا فحينما يعلم بأصل الوجود ثم يشك في الانقطاع فإنّ هذا الشك يساوق الشك في البقاء والاستمرار لذلك الوجود ، فإنّ ذلك الوجود المعلوم وإن كان بحسب الدقة العقليّة قد انصرم إلا أنّه وبحسب النظرة العرفيّة لا يحرز انقطاعه ؛ وذلك لأن الوحدة الاتصالية بين الوجودات المتعاقبة أوجبت اعتبار تلك الوجودات وجودا واحدا ، وإذا كان كذلك فالشك حينئذ لا يكون شكا في الحدوث الجديد وإنّما هو شك في بقاء ما هو معلوم الحدوث.

فحينما يعلم المكلّف بشروعه في الصلاة - والذي هو موضوع لحرمة القطع - ثم يقع الشك منه في البقاء على الصلاة فإن هذا الشك ليس شكا في الحدوث ؛ وذلك لأن الصلاة وإن كانت وجودات متعاقبة ووجود الثاني فيها منوط بتصرّم الأول إلاّ أنّ الوحدة الاتصالية بين وجودات الصلاة صيّرت من الصلاة وجودا واحدا ، وهذا ما أوجب اعتبار الشك في حدوث الجزء الأخير شكا في بقاء الصلاة ، ومن هنا أمكن جريان الاستصحاب.

ص: 385

استصحاب الكلّي :

وضابطة التعرّف على الفرق بين الاستصحاب الكلّي والاستصحاب الجزئي هو ملاحظة المستصحب ، فإذا كان المستصحب جزئيا فالاستصحاب في مورده جزئي وإن كان المستصحب كليّا فالاستصحاب في مورده كلي.

وقد تجتمع في المستصحب كلا الخصوصيتين ولكن بلحاظين مختلفين ، فحينما تكون الخصوصية الملحوظة في المستصحب هي حدوده الشخصيّة والتي لا تصدق على غيره فالاستصحاب في مورد هذا المستصحب يكون جزئيا ، وحينما تكون الخصوصية الملحوظة في المستصحب هي الجهة الكلية والناشئة عن وقوعه في إطار حقيقة نوعيّة فالاستصحاب في مورد هذا المستصحب يكون كليّا.

وباتضاح المراد من الاستصحاب الكلّي يقع الكلام في أقسامه ، وتقسيم الاستصحاب الكلي إنّما هو باعتبار اتحاده واختلافه مع فرده من حيث التوفّر على ركني الاستصحاب وهما اليقين والشك ، فإذا ما توفّر كلا الركنين في المستصحب بعنوانه الشخصي وعنوانه الكلّي فالاستصحاب في هذا المورد يعبّر عنه بالقسم الأول من الاستصحاب الكلّي ، وإذا ما توفّر كلا الركنين في المستصحب بعنوانه الكلي دون المستصحب بعنوانه الشخصي فاستصحاب الكلي يكون من القسم الثاني ، وإذا كان أحد الركنين مختلا في المستصحب بعنوانه الشخصي والركن الآخر مختل في المستصحب بعنوانه الكلي فالاستصحاب الكلي في هذا المورد من القسم الثالث فأقسام

ص: 386

الاستصحاب الكلي ثلاثة :

القسم الأوّل : أن يكون المستصحب بعنوانه الشخصي وبعنوانه الكلّي معلوم الحدوث ومشكوك البقاء.

ومثاله ما لو علمت بأني قد رزقت ولدا ذكرا فهنا أكون قد علمت أيضا بوجود جامع الولد ، فلو شككت بعد ذلك في بقاء ذلك الولد الذكر وشككت معه أيضا في بقاء جامع الولد لي ، فلو كان الأثر الشرعي الذي أبحث عن ترتّبه هو وجوب ختن الولد فالاستصحاب إنّما يكون للفرد ؛ وذلك لأنّ الأثر الشرعي وهو وجوب الختن مترتب على وجود الولد الذكر الذي كان محرز الوجود ولا يجري استصحاب الكلّي ؛ لأنّ الاستصحاب لا يجري إلاّ في حالة يكون للمستصحب على فرض بقائه إلى حين ظرف الشك أثر عملي من تنجيز أو تعذير وبقاء الكلّي في المقام لا يترتب عليه الأثر كما هو واضح ، إذ أنّ وجوب الختن لا يترتب على وجود جامع الولد بعنوانه السّعي بل هو مترتّب على وجود المستصحب بحدوده الشخصية إذ قد يكون الكلّي موجود في ضمن البنت.

أما لو كان الأثر العملي الذي نبحث عن ترتّبه هو وجوب النفقة على الولد فإنّ الاستصحاب الشخصي لا يجري في المقام لعين ما ذكرناه في الفرض الأول ، والذي يجري في هذا الفرض هو استصحاب بقاء كلّي الولد ، إذ هو موضوع وجوب النفقة.

القسم الثاني : أن يكون المستصحب بعنوانه الشخصي وبعنوانه الكلّي محرز الوجود إلاّ أنّ المستصحب بعنوانه الشخصي نقطع بعد ذلك بانتفائه ويكون المستصحب بعنوانه الكلّي مشكوك البقاء.

ص: 387

فهنا لا يجري الاستصحاب الشخصي قطعا ؛ وذلك لانتفاء الركن الثاني في مورده وهو الشك في البقاء إذ أنّ الفرض هو القطع بانتفاء الوجود الشخصي للمستصحب ، ويبقى الكلام في المستصحب الكلي هل يجري فيه الاستصحاب لو كان هناك أثر عملي مترتّب على جريانه أو أنّه لا يجري؟

ومثاله ما لو علم المكلّف بعروض حدث إلا أنّه لا يعلم بهوية ذلك الحدث فلعلّه بول ولعلّه جنابة ، فلو توضأ هذا المكلّف بعد ذلك ، فهنا لو كان الحدث الذي عرض عليه هو حدث البول فهذا يعني أنّه ارتفع قطعا أما لو كان الحدث هو الجنابة فهذا يعني أنه لا زال باقيا على الحدث.

فاستصحاب الحدث الأصغر غير ممكن ، وذلك لاختلال الركن الثاني في مورده وهو الشك في البقاء ، إذ لا شك في البقاء بحسب الفرض بل هو قطع بالارتفاع ، وكذلك لا يمكن استصحاب الحدث الأكبر وذلك لاختلال الركن الأول في مورده إذ أنّه لا علم بأصل وجوده حتى يكون الشك فيه شكا في البقاء ، فلو كان هناك أثر شرعي مترتب على خصوصية الحدث الأكبر « الجنابة » لما أمكن ترتيبها.

ومن هنا قد يقال بعدم جريان الاستصحاب الكلّي من القسم الثاني ؛ وذلك لأن الفرد المردد المحرز الوجود سابقا إن كان هو الأول وهو الحدث الأصغر فهو محرز الانتفاء وإن كان هو الثاني وهو الحدث الأكبر فهو مشكوك الحدوث.

إلاّ أنّ الصحيح هو جريان الاستصحاب في هذا القسم ؛ وذلك لتمامية أركانه لو قطع النظر عن الحدود الشخصية لأفراده ، فطبيعي الحدث كان محرز الوجود ثم بعد أن توضأ المكلّف شك في ارتفاع طبيعي الحدث ،

ص: 388

فيجري استصحاب طبيعي الحدث لوجود ركني الاستصحاب في مورده ، نعم جريان استصحاب الكلّي منوط - كما ذكرنا مرارا - بوجود أثر عملي مترتّب على بقاء الكلي بعنوانه السعي أما لو لم يكن أثر عملي مترتّب على بقاء الكلّي فالاستصحاب لا يجري.

وفي المثال الذي فرضناه يمكن إجراء استصحاب الكلّي ؛ وذلك لوجود أثر عملي على بقاء الكلي بعنوانه ، وذلك مثل حرمة مس كتابة القرآن والدخول في الصلاة ، أمّا الآثار الشرعية المترتبة على خصوص حدث الجنابة فلا يصلح استصحاب الكلّي لتنقيح موضوعها ، وذلك مثل المكث في المسجد أو عبور أحد المسجدين المقدسين « المسجد النبوي صلی اللّه علیه و آله والمسجد الحرام زادهما اللّه شرفا ومنعة » ، إذ أنّ حرمة المكث في المسجد وكذلك عبور المسجدين الشريفين موضوعها الجنابة لا جامع الحدث كما هو واضح.

القسم الثالث : أن يكون المستصحب بعنوانه الشخصي محرز الوجود وهذا يعني أنّه بعنوانه الكلّي كذلك إلاّ أنّ الكلّي المعلوم هو الكلّي الذي في ضمن المستصحب الشخصي ، ثم بعد ذلك نقطع بانتفاء المستصحب بعنوانه الشخصي إلاّ أنّه نحتمل وجود الكلّي في ضمن فرد آخر قبل انتفاء وجود الفرد « المستصحب الشخصي » المحرز سابقا أو نحتمل وجود الفرد الآخر ساعة انتفاء وجود الفرد الأوّل.

ومثاله ما لو علم المكلّف بوقوع دم على ثوبه فهذا يقتضي أن يكون قد علم بوقوع نجاسة خبثية على ثوبه ، فلو قطع المكلّف بعد ذلك بزوال الدم عن ثوبه إلاّ أنّه احتمل وقوع بول مثلا على ثوبه قبل إزالة الدم أو

ص: 389

حين إزالته بحيث لم تخل الثوب عن جامع النجاسة أو قل لم يتخلل وقت كانت فيه الثوب طاهرة تماما.

فهنا لا إشكال في عدم جريان الاستصحاب الشخصي والذي هو استصحاب بقاء الدم في الثوب ؛ وذلك للقطع بزواله ، وكذلك لا يمكن استصحاب بقاء البول بعنوانه الشخصي في الثوب لعدم العلم بوقوعه فالركن الأول منتف ، نعم قد يقال بجريان استصحاب الكلّي والذي هو محرز الوجود سابقا - نتيجة العلم بوقوع الدم على الثوب - ومشكوك البقاء فعلا لاحتمال أنّه ارتفع بإزالة الدم ولاحتمال عدم ارتفاعه لوقوع البول على الثوب قبل إزالة الدم أو حين إزالته.

إلاّ أنّ الصحيح بنظر المصنّف رحمه اللّه هو عدم جريان استصحاب الكلي من القسم الثالث ؛ وذلك لعدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة في مورده ، فإنّ القضيّة المتيقنة هي كلّي النجاسة في ضمن الدم والقضية المشكوكة هي كلّي النجاسة في ضمن البول ، فالكلّي المعلوم محرز الانتفاء والكلّي المشكوك غير محرز الحدوث فلو كان الكلّيّ موجودا فعلا لكان غير الكلّي المعلوم سابقا.

هذا هو المبرّر لعدم جريان استصحاب الكلّي من القسم الثالث ، وهذا بخلاف القسم الثاني فإن الكلّي الذي علمنا بوجوده حين وجود الفرد يكون هو المشكوك بقاء حين انتفاء الفرد ؛ وذلك لأنّنا افترضنا هناك أنّ الفرد كان مرددا من أول الأمر فلم نكن نعلم بهوية الحدث الذي صدر من المكلّف هل هو حدث البول أو حدث الجنابة؟

أما في المقام فنحن نعلم بهوية الفرد الذي علمنا بوجوده وهو في

ص: 390

المثال وقوع الدم على الثوب ومنشأ الشك في بقاء الكلّي هو فرد آخر وهو في مثالنا وقوع البول على الثوب ، ومن هنا قلنا بعدم اتحاد القضية المتيقنة والمشكوكة.

وبتعبير آخر : إنّ الكلّي الذي أحرزنا وجوده أحرزنا بعد ذلك انتفاءه ، نعم يحتمل أنّه قد تولّد كلي آخر إلا أنّه غير الكلّي الأول ؛ وذلك لأنه بعد أن انتفى الكلّي الأول كيف يكون هو عينه الكلّي المشكوك البقاء.

فالنتيجة أنّ المتيقن لمّا كان غير المشكوك فلا يجري الاستصحاب.

الاستصحاب في حالات التقدم والتأخر :

لا ريب في جريان الاستصحاب في حالة يكون المكلّف عالما بالحدوث ثم بعد ذلك شك في بقاء ذلك الحادث ، فإنّ الاستصحاب في هذا الفرض يقتضي ترتيب آثار بقاء الحادث.

كما لا ريب في جريان الاستصحاب في حالة يقطع فيها المكلّف بعدم الحدوث ثم بعد ذلك يشك في ارتفاع العدم بأن احتمل تحقّق وجود الحادث المعلوم العدم سابقا ، فهنا يجري استصحاب عدم الحادث.

ومثاله استصحاب عدم التذكية ؛ وذلك للعلم بعدم تحقق التذكية حال حياة تلك الشاة ثم لمّا أن ماتت احتملنا أن موتها كان عن تذكية فيجري استصحاب عدم التذكية المعلوم سابقا.

فكلا الصورتين المذكورتين يجري الاستصحاب في مورديهما بوضوح ، إذ ليس فيهما ما يوجب الغموض في كيفية تطبيق أصالة الاستصحاب ، ومن هنا لم يقعا محلا للبحث في المقام.

ص: 391

وما هو محل البحث هو موارد العلم بالحدوث والعلم بالارتفاع والجهل بتاريخ الارتفاع أو تاريخ الحدوث أو تاريخيهما معا.

والكلام أولا عن الحالات التي يكون فيها العلم بالارتفاع مجهول التاريخ ويكون العلم بالحدوث معلوم التاريخ ، وهنا حالتان ، كل حالة لها فرضان :

الفرض الأول : أن يكون هناك علم بالحدوث ويكون بعد ذلك علم بانتفاء الحادث إلاّ أنّ الشك في زمان انتفاء الحادث بحيث يدور زمان انتفاء الحادث بين التقدم والتأخر ، أو بعبارة أخرى بين الزمان الأول والزمان الثاني ، وهذا يعني أنّ الزمان الأول هو زمان توفّر الركن الثاني ؛ وذلك لأنّ دوران انتفاء الحادث بين الزمان الأول والزمان الثاني لا يرفع الشك في البقاء عن الزمان الأول بل نبقى نحتمل أنّ انتفاء الحادث إنما هو في الزمان الثاني ، وهذا يعني أنّ الزمان الثاني هو الزمان الذي يكون فيه الحادث منتفيا قطعا بخلافه في الزمان الأول فإنّ الحادث يحتمل أن يكون باقيا على حاله.

وتلاحظون أنّ الموضوع الذي كنا على يقين بحدوثه هو تمام الموضوع الذي يراد استصحابه في الزمان الأول لا أن الذي يراد استصحابه هو جزء الموضوع والجزء الآخر ثابت بالوجدان فإنّ هذا خارج عن الفرض.

ومثال ذلك ما لو علمت المرأة بطروء حدث الحيض عليها ثم بعد ذلك تيقنت بارتفاع حدث الحيض إلاّ أنّ زمان انقطاع الحيض مردد بين أول الفجر أو بعد طلوع الشمس فهنا نقول : إنّه لا إشكال في انتفاء آثار حدث الحيض بعد طلوع الشمس ؛ وذلك لليقين بارتفاع الحدث ، إنما الكلام في

ص: 392

الزمان الأول وهل أنّ احتمال كونه زمان انقطاع حدث الحيض موجب لانتفاء آثار الحيض في ظرفه « الفجر » أو لا؟

والصحيح أنّ احتمال كونه زمانا للانقطاع لا يبرّر انتفاء آثار الحيض في ظرفه ؛ وذلك لأن هذا التردد يساوق الشك في البقاء على حدث الحيض ، وإذا كان كذلك فيجري الاستصحاب في الزمان الأول إلى حين تحقق الزمان الثاني « طلوع الشمس » ، إلاّ أنّ جريان استصحاب بقاء حدث الحيض في الزمان الأول منوط بوجود أثر شرعي مترتّب على بقاء حدث الحيض كعدم وجوب قضاء صلاة الصبح فإنّ موضوع عدم الوجوب هو نفس بقاء حدث الحيض ، وبهذا يجري استصحاب حدث الحيض إلى الفجر.

الفرض الثاني : هو نفس الفرض الأول إلا أنّه يختلف من حيث إنّ الأثر الشرعي لا يترتب على نفس المستصحب وإنّما يترتب على لازمه العقلي أو العادي ، وفي مثل هذه الحالة لا يجري الاستصحاب ؛ لأنّ إجراءه مبني على القول بحجيّة الأصل المثبت وقد اتضح مما سبق عدم ثبوت الحجيّة له.

ومثال ذلك ما لو افترضنا بأن موضوع جواز وطء المرأة - في المثال السابق - هو النقاء والطهر بعد الزمان الثاني « طلوع الشمس » فإن هذا الأثر لا يترتّب بواسطة استصحاب بقاء حدث الحيض إلى الزمان الأول ؛ وذلك لأن انقطاع الحدث وحصول النقاء بعد طلوع الشمس إنما هو لازم عقلي لعدم انقطاعه عند الفجر ، إذ أنّه لمّا كان الانقطاع دائرا بين الفجر وطلوع الشمس فإنّ جريان استصحاب عدم الانقطاع عند الفجر يقتضي

ص: 393

تعيّن الانقطاع والنقاء عند طلوع الشمس.

وتلاحظون أنّ ذلك لم يترتّب على نفس المستصحب وإنّما هو مترتّب على لازم المستصحب ، وأدلة الاستصحاب قاصرة عن إثبات التعبّد بلوازم المستصحب ، نعم يمكن إثبات تحقق موضوع جواز الوطء بواسطة العلم بالنقاء عند طلوع الشمس.

والحالة التي ذكرناها بفرضيها إنّما تناسب حالة العلم بالحدوث والشك في الانتفاء والارتفاع في الزمان الأول ، إذ أننا نعلم بحدوث الحيض ونشك في الزمان الأول في الانقطاع.

وهناك حالة أخرى وهي ما لو كنا نعلم بعدم الحدوث ونشك في الزمان الأول بتحقق الحدوث وانتفاء العدم.

ومثاله ما لو كنا نعلم بعدم الطهارة من الحدث ثم علمنا بتحقق الطهارة الحدثيّة إلا أنّه وقع التردد في زمان تحقق الطهارة وانتفاء عدمها وهل أنها وقعت بعد الفجر أو بعد طلوع الشمس؟ وهنا يأتي نفس الكلام الذي ذكرناه في الفرضين من الحالة الأولى فتأمل.

والكلام ثانيا : عن الحالات التي يكون فيها الحدوث محرز التاريخ إلا أنّ الإرتفاع مجهول التاريخ مع افتراض أن مورد الاستصحاب هو جزء الموضوع الذي يترتّب عليه الأثر الشرعي مع كون الجزء الآخر محرز الوجود.

الحالة الأولى : وهي ما لو كان موضوع الأثر الشرعي مركبا من جزءين ، أحد الجزءين محرز الوجود فعلا والآخر محرز الانتفاء فعلا إلا أنّه كان محرز الوجود في حالة سابقة والشك إنّما هو في زمن انتفاء تلك الحالة

ص: 394

وهل هو الزمان الأول أو هو الزمان الثاني؟

ومثاله ما لو كان الأثر الشرعي - وهو استحقاق الحفيد لميراث جده - منوطا بتحقق موضوع مركّب من جزءين ، الأول هو موت الجد والثاني هو عدم إسلام الولد المباشر إلى حين موت جد الحفيد ، فلو كان أحد الجزءين محرز الوجود وهو مثلا موت الجد في يوم الجمعة وكان الجزء الآخر لموضوع الأثر الشرعي محرز العدم فعلا إذ أنّ الولد المباشر مسلم فعلا أي ارتفعت حالته السابقة وهي عدم الإسلام إلاّ أنّ الشك في زمن ارتفاع حالة الكفر وعدم الإسلام ، فلو كان تحقق الإسلام قبل موت جد الحفيد فهذا يعني أن موضوع الأثر الشرعي وهو استحقاق الحفيد لميراث الجد غير متحقق بتمامه ، فهو وإن كان الجزء الأول لموضوع الأثر متحققا قطعا - إذ أننا بحسب الفرض نعلم بموت الجد - إلا أنّ الجزء الآخر غير متحقق وهو عدم إسلام الولد إلى حين موت الأب ، حيث إنّه - بحسب الفرض - قد أسلم الولد قبل موت أبيه « جد الحفيد » ، ومن هنا لا يترتب الأثر الشرعي فلا يستحق الحفيد ميراث جده.

وأمّا لو وقع التردد في الزمن الذي تحقق فيه إسلام الولد وهل هو الزمن الأول والذي هو قبل زمان موت الأب « جد الحفيد » أو هو الزمن الثاني والذي هو بعد زمان موت الأب؟ ففي هذه الحالة يكون الزمن الأول ظرفا للشك في بقاء الولد المباشر على الكفر ، وهنا يمكن إجراء استصحاب كفر الولد المباشر إلى حين موت الجد وبضم مؤدى الاستصحاب إلى ما هو محرز بالوجدان يتنقّح موضوع الأثر الشرعي ويكون الحفيد بذلك مستحقا لميراث جده.

ص: 395

وتلاحظون أنّ فرض المسألة هو كون الأثر الشرعي مترتّب على نفس الموضوع المركّب غايته أنّ تنقّح الموضوع نتج عن ضم ما بالوجدان إلى ما بالتعبّد.

ولنذكر مثالا آخر ليكون المطلب أكثر وضوحا : لو كان وجوب قضاء فوائت الأب على البنت منوطا بموضوع مركّب من جزءين ، الأول هو موت الأب والثاني هو عدم وجود ولد له حين موته ، فلو كان موت الأب محرزا بالوجدان والجزء الثاني محرز الانتفاء فعلا ، إذ أنّنا نحرز وجود الولد فعلا إلا أنّه لا ندري هل أنّ وجود الولد قد تحقق قبل موت الأب فينتفي وجوب القضاء عن البنت أو أنّ وجود الولد حدث بعد وفاة الأب ، أي أنّ وجود الولد هل تحقق في الزمان الأول أو الثاني ، فهنا يكون الزمان الأول ظرفا للشك في استمرار العدم للولد ، ومن هنا يمكن استصحاب عدم الولد إلى حين موت الأب وبضمه إلى الجزء الآخر المحرز بالوجدان - وهو موت الأب - يتنقح موضوع الأثر الشرعي وهو وجوب القضاء عن الأب على البنت.

وتلاحظون أننا في المثالين قد أجرينا استصحاب بقاء الجزء الثاني رغم العلم بانتفائه حين إجراء الاستصحاب ؛ وما ذلك إلا لأنّ المناط في جريان الاستصحاب هو توفّر أركانه في الوقت الذي يراد إجراء الاستصحاب بلحاظه.

الحالة الثانية : المفروض في الحالة الأولى هو ما لو كان موضوع الأثر المركّب هو تواجد كلا الجزءين من دون أن يؤخذ فيه قيد الاقتران والاجتماع ، ومن هنا قلنا إنّ إجراء استصحاب الجزء الآخر يحقق الموضوع

ص: 396

المركب وبذلك يترتب الأثر الشرعي.

أما الحالة الثانية فنفترض فيها أن الموضوع المركّب من الجزءين أخذ فيه قيد الاقتران بين الجزءين ، وفي هذه الحالة لا ينتج الاستصحاب ترتّب الأثر الشرعي إلاّ بناء على القول بالأصل المثبت ؛ وذلك لأنّ استصحاب الجزء الآخر لا يثبت بنفسه حالة الاقتران والتي هي مأخوذة في موضوع الأثر الشرعي ، نعم الاقتران هو لازم وجود المستصحب إلا أنّه قد ذكرنا أنّ أدلة الاستصحاب قاصرة عن إثبات التعبّد بلوازم المستصحب.

مثلا : لو أضفنا على موضوع الأثر في المثالين السابقين قيد الاقتران لكان الاستصحاب غير منتج للأثر الشرعي ، ففي المثال الأول لو كان موضوع استحقاق الحفيد لميراث الجد هو اقتران موت الجد مع كفر الولد المباشر فإنّ بالإمكان استصحاب كفر الولد إلى حين موت الجد إلاّ أنّه لا يمكن إثبات اقتران الموت مع كفر الولد ؛ وذلك لأن المستصحب المعلوم سابقا هو كفر الولد وهو الذي تعبدنا الشارع باستصحابه ، وأما الاقتران فهو غير المستصحب ، نعم لازم بقاء المستصحب إلى حين موت الجد هو اقتران المستصحب وهو الكفر مع موت الجد إلاّ أنّ ذلك لا ينفع ، إذ لا سبيل لإثباته لا بالوجدان كما هو مقتضى الفرض ولا بالتعبد لقصور أدلة الاستصحاب عن شمول لوازم المستصحب.

الحالة الثالثة : وهي نفس الحالة الأولى إلا أنها تفترض أنّ الاستصحاب يكون ناتجه نفي الأثر الشرعي ، وذلك بافتراض أنّ الجزء الآخر للموضوع المركّب منفي بالاستصحاب ولهذا لا يكون موضوع الأثر الشرعي تاما وعليه لا يترتب ذلك الأثر.

ص: 397

ففي المثال الأول افترضنا أنّ موضوع استحقاق الحفيد للميراث هو موت الجد وكفر الولد المباشر إلى حين موت الجد للحفيد ، والجزء الأول في مفروض هذه الحالة متحقق ، فلو افترضنا أنّ الولد كان مسلما ثم كفر ووقع التردد في زمان كفره وهل الزمان الأول أي قبل موت الأب « جد الحفيد » فيتحقق موضوع الأثر الشرعي ويكون الحفيد مستحقا لميراث الجد أو هو الزمان الثاني وهو ما بعد وفاة الجد للحفيد؟ وهنا يمكن استصحاب بقاء الولد على الإسلام إلى حين موت الجد للحفيد وبه ينتفي استحقاق الحفيد لميراث الجد.

وفي المثال الثاني والذي قلنا فيه إن موضوع وجوب قضاء فوائت الأب على البنت مترتّب على موضوع مركب وهو موت الأب وعدم وجود الولد ، فلو كنا نعلم بوجود الولد سابقا ثم أحرزنا موته إلا أنّه وقع الشك في زمان موت الولد وهل هو قبل موت الأب فيثبت وجوب القضاء على البنت أو هو بعد زمان موت الأب فينتفي وجوب القضاء على البنت؟ فإنّ لنا أن نستصحب بقاء الولد إلى حين موت الأب فينتفي بذلك وجوب القضاء على البنت.

حالات مجهولي التاريخ :

لو افترضنا أنّ حكما من الأحكام الشرعية مترتّب على موضوع مركب من جزءين فهنا تارة يعلم بوجود الجزءين فلا كلام ، وتارة يعلم بوجود الجزء الأول ويشك في الثاني والشك في الثاني تارة يكون شكا في البقاء فيستصحب البقاء ويترتّب بذلك الحكم الشرعي وتارة يكون شكا

ص: 398

في الحدوث فيستصحب عدم الحدوث ، فلا يكون موضوع الأثر موجودا فينتفي الأثر الشرعي المرتّب على الموضوع المركب ، وكلّ ذلك خارج عن محلّ الكلام.

وهناك حالة يكون فيها أحد الجزءين محرز الثبوت ابتداء ثم أصبح محرز العدم والجزء الآخر كان محرز العدم ثم أصبح محرز الوجود ، وفي مثل هذه الحالة تارة يعلم أنّ زمان الوجود للجزء الأوّل قد اجتمع مع زمان الوجود للجزء الثاني وهنا لا كلام ، ومثاله ما لو افترضنا أنّ استحقاق الولد للميراث مرتّب على إسلام الولد وموت الأب حين إسلام الولد ، فلو كنّا نعلم بإسلام الولد ثم علمنا بكفره ونعلم بحياة الأب ثم علمنا بموته إلاّ أنّنا نعلم أيضا بأن إسلام الولد - والذي هو الجزء الأول لموضوع الأثر - هو متحقق في زمن موت الأب فهنا لا كلام في ترتّب الأثر الشرعي وهو استحقاق الولد لميراث أبيه ، وذلك ليس ناشئا عن الاستصحاب وإنّما هو ناشئ عن العلم بتحقق موضوع الأثر الشرعي ، وكذلك الكلام لو علمنا بعدم اجتماع الجزئين في زمن واحد فإنّ الأثر الشرعي محرز الانتفاء لإحراز انتفاء موضوعه.

وتارة نشك في اجتماع زمان الوجود للجزء الأول مع زمان الوجود للجزء الثاني بأن نحتمل انتفاء الجزء الأول قبل تحقق الجزء الثاني أو قل عدم الجزء الثاني حين وجود الجزء الأول.

ومثاله : لو كان الأثر الشرعي - وهو استحقاق الولد للميراث - مرتب على موضوع مركّب - وهو حياة الولد وموت الأب حين حياة الولد - ، فلو علمنا بحياة الولد - وهو الجزء الأول - ثم علمنا بوفاته ولكنا لا ندري متى

ص: 399

توفي الولد ، ولو علمنا كذلك بحياة الأب ثم علمنا بوفاته إلاّ أنّه لا نعلم متى توفي الأب ، فهنا نقول : لو كنّا نعلم بوقت وفاة الأب وأنه يوم الجمعة مثلا إلا أنّه نشك في زمان وفاة الولد لكان بالإمكان استصحاب حياة الولد إلى حين موت الأب ، وبهذا يستحق الولد الميراث ، ولو افترضنا العلم بزمان وفاة الولد وأنه يوم الجمعة مثلا إلاّ أنّه وقع الشك في زمان وفاة الأب لكان بالإمكان استصحاب حياة الأب إلى حين موت الولد وبذلك يثبت عدم استحقاق الولد للميراث ، إلاّ أنّ فرض الكلام هو عدم العلم بوقت وفاة الأب وعدم العلم بوقت وفاة الولد ، وهذه هي مسألة ميراث الغرقى والمهدوم عليهم ، فهنا نقول : إنّ استصحاب حياة الأب إلى حين وفاة الولد ينتج - كما قلنا - عدم استحقاق الولد للميراث ، واستصحاب حياة الولد إلى حين وفاة الأب ينتج استحقاق الولد للميراث ، فيكون مؤدى الاستصحاب الأول هو عدم الاستحقاق ومؤدى الاستصحاب الثاني هو الاستحقاق ، فيتعارض الاستصحابان فيسقطان جميعا عن الحجيّة لعدم ترجّح أحدهما على الآخر.

ولمزيد من التوضيح نذكر مثالا آخر : لو كان موضوع الحرمة الأبدية للنكاح مرتبا على موضوع مركب من عدم إيقاع العقد وكون المرأة في العدة ، فلو علمنا بكون المرأة في العدة ثم علمنا بانتهاء عدتها إلاّ أنّه لا نعلم متى انتهت عدتها ، فهنا يمكن

استصحاب بقائها في العدة إلى حين وقوع العقد ؛ وذلك لعلمنا سابقا بكونها في العدة ثم حصول الشك في بقائها حين وقوع العقد فنستصحب بقاء المرأة في العدة إلى زمن وقوع العقد وهذا ينتج الحرمة الأبديّة ، ولو علمنا بعدم وقوع العقد ثم علمنا بوقوعه ولا نعلم متى

ص: 400

وقع العقد فإنّ بالإمكان استصحاب عدم وقوع العقد إلى ما بعد انتهاء العدة ؛ وذلك لأنّه كنا نعلم بعدم العقد ثم شككنا في وقوعه بعد العدة أو قبلها فنستصحب عدم العقد إلى ما بعد انتهاء العدة وهذا ينتج عدم الحرمة الأبديّة فيتعارض الاستصحابان فيسقطان عن الحجية وباتضاح معنى استصحاب مجهولي التاريخ نقول : إنّ له ثلاث صور :

الصورة الأولى : أن يكون زمان انتفاء الجزء الأول المعلوم حدوثه سابقا مجهولا ويكون زمان حدوث الجزء الثاني المعلوم انتفاؤه سابقا مجهولا ، وفي هذه الصورة يجري الاستصحابان في نفسيهما إلا أنّه - وبسبب التعارض - يسقطان عن الحجيّة ؛ وذلك لعدم ترجّح أحدهما على الآخر.

وهذه الصورة هي مورد المثالين السابقين ، إذ أنّ زمان انتفاء حياة الولد - المعلومة حياته سابقا - مجهول كما هو الفرض ، وزمان حدوث موت الأب والذي هو الجزء الآخر من موضوع الأثر الشرعي مجهول أيضا.

فاستصحاب حياة الولد إلى حين حدوث موت الأب يعارضه استصحاب عدم موت الأب إلى حين انتفاء حياة الولد.

الصورة الثانية : وهي أن نفرض أنّ زمان انتفاء الجزء الأول معلوم ويكون زمان حدوث الجزء الثاني مجهولا ، وذلك مثل ما لو علمنا بحياة الولد ثم علمنا بموته يوم الجمعة إلا أننا نفترض أنّ الجزء الآخر لموضوع الأثر - والذي هو معلوم الانتفاء سابقا ومعلوم الحدوث لاحقا - نفترض زمان حدوثه مجهولا ، أي أنّ حدوث موت الأب بعد أن كان حيا مجهول ، وفي مثل هذه الصورة قد يقال بعدم جريان الاستصحاب في الجزء الأوّل فيكون استصحاب الجزء الثاني بلا معارض ؛ وذلك لأنّ الجزء الأول

ص: 401

نعلم بزمان انتفائه وهو يوم الجمعة في المثال فهو قبل يوم الجمعة معلوم البقاء وبعد يوم الجمعة معلوم الانتفاء فلا يجري الاستصحاب في مورده ؛ وذلك لاختلال الركن الثاني وهو الشك في البقاء إذ لا شك في بقائه بل هو علم بالبقاء قبل يوم الجمعة وعلم بالانتفاء بعد الجمعة.

وأمّا الجزء الآخر فهو معلوم الانتفاء ومشكوك الحدوث حين ارتفاع وانتفاء الجزء الأول فنستصحب عدمه إلى حين ارتفاع الجزء الأول.

وبتعبير آخر : إننا نعلم بعدم موت الأب ثم شككنا في بقائه إلى حين انتفاء حياة الولد فنستصحب عدم موت الأب إلى حين انتفاء حياة الولد.

الصورة الثالثة : وهي عكس الصورة الثانية ، وذلك بأن نفترض أنّ زمان انتفاء الجزء الأول مجهول وزمان حدوث الجزء الثاني معلوم ، وذلك مثل ما لو علمنا بانتفاء حياة الولد بعد العلم بحياته إلاّ أنّه لا ندري متى انتفت حياة الولد وهل هو قبل يوم الجمعة أو بعدها؟ ولو افترضنا أن حدوث موت الأب قد وقع يوم الجمعة ، فهنا يمكن أن يقال بجريان استصحاب حياة الولد إلى حين حدوث موت الأب أي نستصحب عدم انتفاء حياة الولد إلى حين حدوث موت الأب وهو يوم الجمعة ولا يوجد ما يعارض هذا الاستصحاب ؛ وذلك لأنّ حدوث موت الأب معلوم وأنّه يوم الجمعة فلا استصحاب في مورده لأنّه قبل يوم الجمعة نعلم بعدم موته وبعد يوم الجمعة نعلم بحدوث موته.

وبهذا يجري الاستصحاب الأول بلا معارض ويستحق الولد بذلك ميراث أبيه.

الإشكال على نتيجة الصورة الثانية والثالثة :

وقد أورد على عدم جريان الاستصحاب في الجزء المعلوم تاريخ

ص: 402

حدوثه أو ارتفاعه بما حاصله : أنّ العلم بزمان الحدوث أو الارتفاع وإن كان متحققا إلاّ أنّه لا يمنع من جريان الاستصحاب في مورده ؛ وذلك لأن الاستصحاب الذي نريد إجراءه في مورده إنّما بلحاظ الجزء الآخر المجهول التاريخ حدوثا أو انتفاء ، ومن الواضح أنّه إذا نسبنا زمان الحدوث أو الارتفاع إلى الجزء المجهول زمان حدوثه أو ارتفاعه فإنّنا لا نحرز أنّه وقع قبل حدوث أو ارتفاع الجزء المجهول أو بعد زمان حدوثه أو ارتفاعه ، وهذا ما يجعل أركان الاستصحاب في المعلوم التاريخ متواجدة ؛ وذلك لأننا نعلم أولا بعدم الارتفاع أو بعدم الحدوث ثم نشك في الارتفاع أو الحدوث قبل حدوث أو ارتفاع الجزء الآخر أو بعده ، ومن هنا يجري الاستصحاب في مورده فيتعارضان.

ولنرجع إلى مثالي الصورتين ونطبق الإشكال عليهما أما مثال الصورة الثانية : فقد قلنا إنّ المكلّف يعلم بزمان انتفاء الجزء الأول أي يعلم بزمان انتفاء حياة الولد وهو يوم الجمعة ويكون زمان حدوث الجزء الآخر مجهولا أي أنّ زمان موت الأب مجهول.

فهنا وإن كنّا نعلم بزمان انتفاء حياة الولد إلاّ أنّه لا ندري هل هو قبل حدوث موت الأب أو بعد حدوث موت الأب؟ فيجري استصحاب عدم انتفاء حياة الولد إلى حين حدوث موت الأب لتواجد أركانه وهو العلم بعدم الانتفاء والشك في قبلية أو بعدية الانتفاء للحياة.

وأما المثال في الصورة الثالثة : فقد قلنا إنّ المكلّف يعلم بزمان حدوث موت الأب وأنه يوم الجمعة ويكون زمان انتفاء حياة الولد مجهولا ، فإنّه وإن كان زمان الحدوث معلوما من حيث الوقت إلاّ أنّه مجهول من حيث

ص: 403

وقوعه قبل زمان انتفاء حياة الولد أو بعد انتفاء حياته وهذا ما يبرّر استصحابه من هذه الجهة.

توارد الحالتين :

ويقصدون من توارد الحالتين هو عروض حالتين على المكلّف يجهل المتقدّم منهما من المتأخر مع افتراض أنّ كلّ واحدة من الحالتين موضوع لحكم شرعي مضاد للحكم الشرعي الذي تقتضيه الحالة الأخرى.

وتوضيح ذلك : أنّ المكلّف قد يعرضه حدث النوم ثم يشك في ارتفاعه لاحتمال أنّه قد توضأ وقد يعلم بكونه على طهارة ولكنّه يشك بعد ذلك في انتقاضها لاحتمال عروض الحدث.

ففي هاتين الصورتين لا إشكال في استصحاب الحالة السابقة ويترتب عن ذلك الأثر الشرعي.

وهناك صورة ثالثة وهي أن يعلم المكلّف بعروض الحدث عليه ويعلم بأنّه كان على طهارة من الحدث إلاّ أنّه يشك في أنّ المتأخر هل هو الحدث فيترتب أثره أو أنّ المتأخر هو الطهارة فيترتب أثرها؟

فهنا يجري استصحاب الحدث إلى ما بعد حدوث الطهارة وهذا يقتضي ترتيب آثار الحدث ، ويجري استصحاب الطهارة إلى ما بعد الحدث وهذا يقتضي ترتيب آثار الطهارة ، فيكون مؤدى الاستصحاب الأول منافيا لمؤدى الاستصحاب الثاني وذلك لاقتضاء الأول حكما مضادا للحكم الذي يقتضيه الاستصحاب الثاني ، وبهذا يسقطان عن الحجية.

ونذكر مثالا آخر ليكون المطلب أكثر وضوحا : لو فاتت المكلّف

ص: 404

صلاة رباعية فإنّه يجب قضاؤها ، فلو علم أنّه في وقت تلك الصلاة قد عرضت عليه حالتا السفر والحضر إلاّ أنّه شك في المتأخر من الحالتين من المتقدم ، فلو كان المتأخر هو السفر فهذا يقتضي وجوب قضاء الصلاة قصرا ، ولو كان المتأخر هو الحضر فهذا يقتضي التمام ، فهنا يكون استصحاب الحضر إلى حين فوات الوقت ينتج وجوب التمام واستصحابان السفر إلى حين فوات الوقت ينتج وجوب القصر ، فيكون الاستصحابان متعارضين فيسقطان عن الحجيّة.

الاستصحاب في حالات الشك السببي والمسبّبي :

والمراد من الاستصحاب السببي هو الاستصحاب الواقع في رتبة الموضوع لحكم آخر.

والاستصحاب المسببي يقع في رتبة الحكم أي أنّه - على فرض جريانه - ينتج حكما شرعيا ، ومن هنا عبّر عن الأول بالأصل الموضوعي للحكم المرتب عليه ، ومنشأ تسميته بالسببي هو أنّ الموضوعات تكون في رتبة السبب ويترتب عنها الحكم ، فالموضوع متى ما تقرّر سبّب ذلك ترتّب الحكم.

وهذا بخلاف الاستصحاب المسبّبي فإنّه لمّا كان واقعا في رتبة الحكم فإنّ ذلك يقتضي عدم تنقيحه لموضوع فهو دائما يقع في طول الموضوع.

ثم لا يخفى عليك أنّه ليس المقصود من الأصل الموضوعي « السببي » هو الموضوعات التي لا تكون حكما شرعيا بل المقصود من الموضوع والسبب في الأصل الموضوعي السببي هو مطلق ما يكون موضوعا لحكم

ص: 405

شرعي وإن كان هو حكما شرعيا بنفسه ، إذ أنّه قد تكون بعض الأحكام موضوعا لأحكام أخرى.

وبهذا يتضح أنّ المقصود من الموضوع في المقام شامل للموضوع الذي ليس هو حكما شرعيا وللموضوع الذي يكون حكما شرعيا وللموضوع الذي هو عدم حكم شرعي.

ومثال الموضوع الذي لا يكون من قبيل الأحكام ولا عدمها هو السفر ، واستصحاب السفر استصحاب موضوعي لأنّه واقع في رتبة الموضوع والسبب لحكم وهو وجوب القصر.

ومثال الحكم الذي يقع في رتبة الموضوع لحكم آخر هو الطهارة والتي هي حكم وضعي فإنها لو استصحبت لتنقّح بذلك حكم شرعي هو جواز الدخول في الصلاة وجواز مس كتابة القرآن الكريم.

ومثال الموضوع الذي يكون من قبيل عدم الحكم هو عدم التذكية فإن التذكية حكم وضعي ، فإنّه لو علم عدم جعل التذكية على السباع مثلا لتنقّح بذلك حكم شرعي وهو نجاسة السباع بعد فري أوداجها.

ولكي يتضح معنى الاستصحاب السببي والاستصحاب المسببي نذكر هذا التطبيق :

لو علم المكلّف بكون هذه المرأة في العدة ثم شك في بقائها في العدة أو عدم بقائها فإنّ الاستصحاب يقتضي التعبّد ببقائها في العدة ، وهذا الاستصحاب ينقّح موضوعا لحكم شرعي هو حرمة الزواج من هذه المرأة فالاستصحاب ببقاء العدة صار سببا لترتب حكم شرعي هو الحرمة.

وبتعبير آخر : لمّا كانت الحرمة أثرا شرعيا لبقاء المرأة في العدة فإنّ

ص: 406

استصحاب بقائها في العدة يحقق موضوع الأثر الشرعي ويكون أصلا موضوعيا له.

ولو جعلنا متعلّق اليقين والشك هو حرمة الزواج من هذه المرأة لكانت النتيجة هي استصحاب الحرمة ؛ وذلك لأنّ المكلّف حينما كان يعلم بكون المرأة في العدة فهو يعلم بحرمة الزواج منها وحينما شك في بقائها في العدة فهذا يساوق الشك في بقاء حرمة الزواج منها فالاستصحاب ينتج حرمة الزواج من هذه المرأة ، فما يقتضيه الاستصحابان واحد وهو حرمة الزواج من هذه المرأة.

إلاّ أن الأول يعبّر عنه بالاستصحاب السببي والآخر يعبّر عنه بالاستصحاب المسببي ، ترى ما هو منشأ ذلك؟

والجواب أنّ المنشأ لذلك هو أنّ الاستصحاب الأول حين جريانه يقتضي ترتّب الحكم الشرعي ، والحكم لا يترتب ما لم يتنقح موضوعه ، ولمّا كان موضوع الحكم الشرعي غير محرز وجدانا فإنّ وظيفة الاستصحاب هي إحرازه تعبدا ، فمتى ما جرى استصحاب الموضوع حكم الشارع بوجود الموضوع تعبدا ، فالاستصحاب يكون واسطة في إحراز الموضوع وبإحراز الموضوع يترتّب الحكم ، فالاستصحاب إذن يكون سببا في ترتب الحكم ، وهذا هو معنى أنّ الحكم بحرمة الزواج من هذه المرأة هو من آثار الاستصحاب السببي أي استصحاب بقاء المرأة في العدة.

وأمّا استصحاب الحكم نفسه فإنّه لا يكون سببا لتنقح الموضوع ، إذ أنّ ترتب الموضوع ليس من آثار ذلك الحكم ، ففي مثالنا لا يكون استصحاب حرمة الزواج من هذه المرأة موجبا لترتب الموضوع وهو كونها

ص: 407

في العدة ، إذ أنّ الشارع لم يجعل الحرمة موضوعا لثبوت العدة للمرأة بل العكس من ذلك حيث جعل ثبوت العدة موضوعا لترتب الحرمة.

وهذا هو سرّ تسمية استصحاب الحكم في المقام بالاستصحاب المسبّبي ، إذ أنّ استصحاب الحكم لا ينتج إلاّ الحكم المستصحب ، وهذا بخلاف استصحاب الموضوع في المقام ، فإنّه ينقح موضوع الحكم وبالتالي يترتب الحكم لأن الشارع قد جعل الحكم من آثار هذا الموضوع ؛ ولهذا سمّي استصحاب هذا الموضوع بالاستصحاب السببي.

وبما ذكرناه تتضح الطوليّة بين الاستصحابين ، إذ أنّ الاستصحاب الأول لمّا كان واقعا في رتبة الموضوع لذلك الحكم فهو متقدم على الحكم ، واستصحاب نفس الحكم لمّا لم يكن نافعا في إثبات الموضوع ويقتصر نفعه على إثبات الحكم فهو لا يتقدم على الموضوع ، وهذا هو سرّ التعبير عن علاقة الاستصحابين بالطوليّة ولا يقصدون من الطولية تأخر استصحاب الحكم دائما عن استصحاب الموضوع ، بل يقصدون أنّ الحكم إذا أريد استفادته بواسطة الموضوع فإنّه يكون متأخرا عنه ومترتبا عليه.

ثم إنه هل يمكن جريان استصحاب الحكم في حالة يكون جريان استصحاب الموضوع ممكنا إذا كانت نتيجة الاستصحابين واحدة أو أنّه لا يجري استصحاب الحكم ويكون الجاري هو استصحاب الموضوع فحسب وتكون وظيفة استصحاب الموضوع تنقيح موضوع الحكم ومنه يترتّب الحكم الشرعي؟

ذهب المشهور إلى عدم جريان استصحاب الحكم عند إمكان جريان استصحاب الموضوع المترتب عليه نفس الحكم ؛ وذلك لحكومة

ص: 408

استصحاب الموضوع على استصحاب الحكم.

وبيان ذلك : إنّ المقصود من الحكومة في المقام هو نفي موضوع المحكوم ، فمثلا عندما يكون موضوع البراءة العقلية هو عدم البيان ، فلو قام الدليل على أنّ خبر الثقة - والذي هو دليل ظني - بيان ، فإنّ خبر الثقة يكون حينئذ حاكما على أصل البراءة العقلية ؛ وذلك لأنّه ينفي ويلغي موضوعها ، فموضوعها عدم البيان ودليل حجية خبر الثقة مفاده أن خبر الثقة بيان فلا موضوع لجريان البراءة العقلية حينئذ ، وهنا لا يختلف الحال بين اتحاد مؤدى الخبر ومقتضي البراءة وبين منافاة مؤداه لما تقتضيه البراءة العقليّة ، فإنه في كلا الحالتين يكون خبر الثقة نافيا لموضوع البراءة فلا معنى بعد ذلك لجريانها.

والمقام من هذا القبيل فإن إجراء استصحاب الموضوع يتعبدنا بوجود الحكم فلا معنى لاستصحابه حينئذ ، إذ أنّ موضوع استصحاب الحكم هو الشك في بقائه وحينما نستصحب الموضوع « العدة » لا نشك في وجود الحكم فلا معنى لاستصحابه بل لا يصح الاستصحاب لاختلال ركنه الثاني وهو الشك في البقاء فإنّه لا شك في بقاء الحكم بل هناك علم تعبدا ببقاء الحكم ، ومن هنا اتضح أنّ استصحاب الحكم يكون في طول استصحاب الموضوع إذ المراد من ذلك هنا هو أنّ استصحاب الحكم لا تصل إليه النوبة عندما يجري استصحاب الموضوع.

إلى هنا كان الكلام عن استصحاب السببي والمسبّبي الّذين تكون نتيجة كل واحد منهما غير منافية لنتيجة الآخر ، ثم إنّه يقع الكلام عن الاستصحاب السببي والمسبّبي الّذين يقتضي كل واحد منهما حكما منافيا

ص: 409

لما يقتضيه الاستصحاب الآخر ، ولا يختلف الحال فيهما عمّا ذكرناه في الاستصحاب السببي والمسبّبي الّذين يقتضيان نتيجة واحدة ، نعم في هذا الفرض لم يختلف أحد في تقدّم الاستصحاب السببي على المسبّبي بخلاف الفرض الأول فإنّه وقع الخلاف في إمكان جريان الاستصحاب المسببي في مورد جريان السببي أو عدم إمكان ذلك وإن كان المشهور ذهبوا إلى عدم جريانه.

وكيف كان فلكي تتضح معالم هذا الفرض نذكر هذا التطبيق : لو كان المكلّف على يقين من طهارة الماء ثم شك في طهارته فإنّ له أن يستصحب بقاء الطهارة ، ومن آثار هذا الاستصحاب هو صحة الغسل به ، ومن هنا يكون هذا الاستصحاب منقّحا لموضوع الأثر الشرعي وهو صحة الاغتسال بهذا الماء ؛ وذلك لأنّه في رتبة الموضوع بالنسبة لهذا الأثر الشرعي ، فلو اغتسل المكلّف بذلك الماء فإنّه يشك في ارتفاع حدث الجنابة عنه بعد أن كان على يقين به ، ومنشأ هذا الشك هو عدم إحراز طهارة الماء حقيقة ، إذ لعلّ نتيجة استصحاب الطهارة منافية للواقع ، ومن هنا تكون أركان الاستصحاب الثاني تامة ؛ وذلك لعلمه سابقا بحدث الجنابة ويشك بعد ذلك في ارتفاعه بسبب الشك في طهارة الماء الذي اغتسل به.

وتلاحظون أن نتيجة هذا الاستصحاب منافية لنتيجة الاستصحاب الأول ، إذ أنّه لمّا كانت نتيجة الاستصحاب الأول هي الطهارة فهذا يقتضي صحة الاغتسال بالماء المستصحبة طهارته وبالتالي ارتفاع حدث الجنابة بذلك الغسل ، أمّا نتيجة الاستصحاب الثاني فهو بقاء حدث الجنابة على حاله.

ص: 410

والاستصحاب الأول هو السببي ؛ وذلك لأنّه في رتبة الموضوع للاستصحاب الثاني ، إذ أنّ الشارع قد جعل طهارة الماء موضوعا للأثر الشرعي وهو ارتفاع حدث الجنابة بالاغتسال به ، وإذا كان كذلك فاستصحاب طهارة الماء يتعبدنا بارتفاع حدث الجنابة.

وهذا بخلاف الاستصحاب الثاني فليس من آثاره عدم الطهارة ، إذ أنّ البقاء على حدث الجنابة لم يجعله الشارع موضوعا لعدم طهارة الماء فالاستصحاب المسبّبي لو كان جاريا فإنّ نتيجته هي البقاء على حدث الجنابة فحسب.

وبما ذكرناه اتضح المنشأ في تقدم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي ، حيث اتضح أنّ الأول يحرز به موضوع الحكم فلا مسوّغ حينئذ لجريان الاستصحاب المسبّبي بعد انهدام ركنه الثاني وهو الشك في البقاء.

وبتعبير آخر : إنّ الاستصحاب السببي حاكم على الاستصحاب المسبّبي ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب السببي - كما ذكرنا - ينفي موضوع الاستصحاب المسببي ، إذ أنّ موضوع الاستصحاب المسببي مثلا هو الشك في البقاء على حدث الجنابة ومقتضى جريان الاستصحاب السببي هو نفي الشك تعبدا عن بقاء الجنابة ؛ وذلك لأنّ الاستصحاب السببي حينما أنتج طهارة الماء تنقح به موضوع الأثر الشرعي وهو ارتفاع حدث الجنابة بالاغتسال به ، فهذا هو منشأ القاعدة القائلة بتقدم الاستصحاب السببي على المسبّبي.

ص: 411

ص: 412

تعارض الأدلة

اشارة

1 - التعارض بين الأدلة المحرزة

2 - التعارض بين الأصول العمليّة

3 - التعارض بين الأدلة المحرزة والأصول العملية

ص: 413

ص: 414

تعارض الأدلة

اتضح مما تقدم أنّ الأدلة التي تكون طريقا للتعرّف على الحكم الشرعي الأعم من الواقعي والظاهري على نحوين :

النحو الأول : هو الأدلة المحرزة والتي يكون منشأ جعلها هو كاشفيتها عن الحكم الشرعي الواقعي ، وهي تشمل الأدلة القطعيّة والأدلّة الظنيّة المعتبرة أي التي قام الدليل القطعي على حجيتها.

النحو الثاني : هو الأدلة العمليّة والتي يلجأ إليها الفقيه في حالات فقدان الأدلة المحرزة أو إجمالها ، ومهمة هذا النحو من الأدلة هي تحديد الوظيفة العملية المقررة في ظرف الشك في الحكم الواقعي.

فالكلام إذن يقع حول حالات التعارض بين هذه الأدلّة ، فتارة يكون التعارض بين دليلين من الأدلة المحرزة ، وتارة يكون بين دليلين من الأدلة العمليّة وأخرى يكون بين دليل محرز ودليل عملي.

فالبحث عن تعارض الأدلة يقع في ثلاثة فصول إن شاء اللّه تعالى.

ص: 415

ص: 416

التعارض بين الأدلة المحرزة

اشارة

والمراد من التعارض - إجمالا وسيأتي إيضاحه - هو التنافي بين مدلولي الدليلين بنحو يعلم بعدم واقعية أحدهما.

وقد اتّضح مما تقدم أنّ الأدلة المحرزة على أنحاء فهناك دليل شرعي لفظي وآخر غير لفظي كالسيرة العقلائية ، وهناك دليل عقلي وهو تارة يكون قطعيا وأخرى يكون ظنيا ، وقد اتضح مما مضى حجية الدليل العقلي القطعي ؛ وذلك لحجية القطع والذي لا يختلف الحال فيه بين أن يكون منشأ القطع هو العقل أو شيء آخر ، وأمّا الدليل الظني فلم تثبت له حجيّة ومن هنا لا يكون صالحا لأن يعارض دليلا معتبرا ؛ وذلك لأنّ التعارض فرع التكافؤ ، والتكافؤ لا يكون إلاّ مع حجيّة كلا الدليلين المتعارضين في نفسيهما.

تعارض الدليل العقلي القطعي مع سائر الأدلّة :

لو كان مؤدى الدليل الظني المعتبر في نفسه منافيا لمقتضى الدليل العقلي القطعي ، فهل يقدم الدليل الظني على ما هو مقتضى الدليل العقلي أو العكس؟

والجواب أنّ المقدم في مثل هذا الفرض هو الدليل العقلي القطعي - لو اتفق - ، وذلك لأنّ الدليل العقلي القطعي يقتضي القطع بخطأ كل دليل مناف

ص: 417

له ، فحينما يقطع المكلّف بحكم فإنّه يقطع بخطأ ما ينافيه.

وبتعبير آخر : إنّ القطع بحكم يلازم القطع بفساد كل حكم مناف لمتعلق الحكم المقطوع ، وإذا كان الحكم المنافي للحكم القطعي العقلي مقطوعا بفساده فهو ساقط عن الحجيّة.

ومثال ذلك لو قطع المكلّف - وبمقتضى ما يدركه العقل من قبح الظلم - بحرمة قتل اليتيم والذي لم يرتكب جناية إلا أنّه قام دليل ظني متوفر على شرائط الحجيّة وكان مؤداه جواز قتل الطفل اليتيم لو كان متولّدا عن زنا أو الطفل الذي هو مبتلى بمرض معد ، فإنّ هنا لا إشكال في سقوط هذا الدليل عن الحجية للقطع بخطئه.

ثم لا يخفى عليك أنّ التعارض بين الدليل العقلي القطعي ودليل قطعي آخر غير متصوّر ، وذلك لاستحالة القطع بالمتنافيين.

التعارض بين الأدلة الشرعية :

قلنا إنّ الأدلة الشرعية على نحوين : الأدلة الشرعية اللفظية ، الأدلّة الشرعية غير اللفظية ، والتعارض بين هذه الأدلة يتصوّر له ثلاث حالات فتارة يقع التعارض بين دليلين لفظيين وأخرى يقع بين دليلين غير لفظيين وفي حالة ثالثة يكون التعارض بين دليل شرعي لفظي ودليل شرعي غير لفظي.

ولمّا كان التعارض بين الأدلة الشرعيّة اللفظيّة هو الأكثر وقوعا في الفقه فإنّه سوف يتركّز البحث عن هذا النحو من التعارض إلا أنّه لا بأس بذكر مثال لكلّ حالة من الحالتين الأخريين.

الأولى : هي حالة التعارض بين الأدلة الشرعية غير اللفظية ، ومثاله

ص: 418

ما لو وقع التعارض بين إجماع منقول وإجماع آخر منقول ، أو بين سيرة وإجماع منقول او بين سيرة عقلائية وسيرة أخرى عقلائية وهكذا ، فلو ادعي قيام إجماع على حرمة صلاة الجمعة في عصر الغيبة وقام إجماع آخر على وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة فهنا يكون معقد الإجماع الأول منافيا لمعقد الإجماع الثاني فلابدّ حينئذ من معالجة هذا التنافي والتعارض.

الثانية : هي حالة التعارض بين دليل شرعي لفظي وآخر غير لفظي ، وذلك كما لو وقع التعارض بين خبر ثقة وبين إجماع أو سيرة أو شهرة فتوائية ، فلو ادّعي قيام إجماع على حرمة قطع الصلاة من غير عذر إلاّ أنّه في مقابل ذلك دلّت الرواية المعتبرة على عدم وجود البأس في ذلك ، فإنّ هذا نحو تناف بين الدليلين فلابدّ من معالجته.

التعارض بين الأدلّة الشرعيّة اللفظية :

والمراد من التعارض هو التنافي بين مؤدى كل من الدليلين بحيث تحرز عدم واقعية أحدهما ؛ وذلك للتكاذب الواقع بينهما ، فمؤدى الدليل الأول يثبت نفسه وينفي الآخر كما أنّ مؤدى الدليل الثاني هو إثبات نفسه ونفي مؤدى الدليل الآخر ، وهذا التكاذب الواقع بين مؤدى كل من الدليلين ينشأ عمّا ذكرناه من أنّ الأحكام الشرعية متضادة فيما بينها ، ومن هنا فالتعارض يقع حتى في الحالات التي يكون فيها مؤدى أحد الدليلين حكما إلزاميا ويكون مؤدى الآخر حكما غير إلزامي ، فلو نص الدليل الأول على وجوب شيء ونص الآخر على استحبابه فإنّ مؤدى كل من الدليلين يكون معارضا لمؤدى الدليل الآخر.

ثم إنّ مركز التعارض الذي هو محل البحث في المقام هو التعارض

ص: 419

الذي يؤول إلى جعل حكمين متنافيين على موضوع واحد ، فإنّ ذلك لمّا كان مستحيلا اقتضى العلم بكذب أحد الدليلين وإلاّ لو لم تكن الأحكام متنافية ومتضادة فيما بينها لا يكون هناك موجب لتكذيب أحدهما غير المعين ؛ لأنّه من الممكن حينئذ جعل حكمين متضادين على موضوع واحد.

ومن هنا لا بدّ من تمييز الحالات التي يكون فيها الدليلان مقتضيين لحكمين متنافيين عن الحالات التي لا يقتضي فيها الدليلان ذلك.

وهذا ما يستوجب تمييز حالات التنافي في مرحلة الجعل عن حالات التنافي في مرحلة المجعول وعن حالات التنافي في مرحلة الامتثال.

أمّا حالات التنافي في مرحلة الجعل :

الحكم بمرتبة الجعل هو ما يعبّر عنه بالحكم الإنشائي وهو الحكم الذي يجعل على موضوعه المقدّر الوجود أو قل هو الحكم المجعول على موضوعه بنحو القضية الحقيقية ، والأحكام بمرتبة الجعل تنشأ - كما ذكرنا مرارا - عن ملاكات في متعلّقاتها تستوجب جعل حكم عليها متناسب مع نحو الملاك ومرتبته.

ومن هنا نشأ التنافي بين الأحكام حيث إن ملاكتها لها تقرّر في نفس الأمر والواقع مما يقتضي عدم تناسبها ، فلا يمكن أن يكون المتعلّق الواحد واجدا للمصلحة التامّة والمفسدة التامّة ، ومن هنا يكون الحكم المجعول على المتعلّق هو الحكم المتعيّن واقعا والذي يستحيل أن يثبت غيره لذلك المتعلّق ، وهذا هو معنى أنّ أحكام اللّه تعالى ليست جزافية.

وإذا كان كذلك في مقام الثبوت والواقع فمقام الإثبات والدلالة لا بدّ أن يكون متناسبا مع مقام الثبوت ، فحينما تكون الأدلة مقتضية لثبوت حكمين

ص: 420

متغايرين لمتعلّق واحد فإنّه يحصل الجزم بعدم واقعية أحدهما ، ولمّا لم نكن مطلعين على الملاك المناسب للمتعلّق يحصل التردد فيما هو الحكم الواقعي لهذا المتعلّق.

ومن هنا يتضح أنّ التعارض والتنافي إنّما يكون في مرحلة جعل الأحكام لموضوعاتها ، فالأدلة الإثباتية المتصدية للكشف عن جعل الأحكام لمتعلقاتها إذا اقتضت ثبوت حكمين إنشائيين متنافيين على متعلق واحد على موضوع واحد فهذا هو التعارض الذي هو محلّ البحث في المقام ، وهذا لا يختلف الحال فيه بين أن تكون موضوعات الأحكام متقرّرة في الخارج أو لم يكن لها تقرّر وثبوت بعد ، فإنّه في الحالتين يقع التنافي في مرحلة الجعل ؛ وذلك لما ذكرناه من أنّ التنافي إنّما يكون بين الأحكام باعتبارها ناشئة عن ملاكات في متعلقاتها ، وحينئذ لا يكون لوجود الموضوع وعدم وجوده أيّ أثر من هذه الجهة ، نعم وجود الموضوع خارجا ينقل الحكم إلى مرحلة الفعليّة.

وبما بيناه اتضح معنى قولنا سابقا إنّ التعارض هو التنافي الواقع بين مؤدى كل من الدليلين ، إذ أنّ مؤدى الأدلة الظنيّة هو الكشف عن ثبوت الأحكام الإنشائية لمتعلّقاتها على موضوعاتها ، فهي لو كانت مقتضية لثبوت حكمين متنافيين فإنّ هذا يعني - لو كانت صادقة - أنّ الواقع هو ثبوت حكمين متنافيين ولمّا كان هذا مستحيلا علمنا بكذب أحد الدليلين.

مثلا : لو دلّ خبر ثقة على حرمة شرب العصير العنبي ودلّ خبر ثقة آخر على حليّة شربه فهنا يقع التعارض بين مؤدى كل من الدليلين ؛ وذلك لأنّ كل واحد منهما يقتضي حكما منافيا للحكم الآخر مع كون متعلق

ص: 421

الحكم واحدا وموضوع الحكم واحدا.

وتلاحظون أنّ الدليلين متصديان للكشف عن الحكم بمرتبة الجعل وليس للدليلين نظر إلى وجود الموضوع المجعول عليه الحكم ، إذ أنّ مساق الدليلين هو افتراض الموضوع وتقديره ثم جعل الحكم عليه ، ومع ذلك وقع التنافي بين الدليلين ، وما ذلك إلاّ لما ذكرناه من أنّ الأحكام متضادة فيما بينها باعتبارها ناشئة عن ملاكات في متعلّقاتها وهذا ما أوجب الجزم باستحالة أن يكون المتعلق الواحد معروضا لحكمين متنافيين.

ومن هنا لو اختلف المتعلّق للحكمين لما كان هناك تناف بين الدليلين ، فلو كان متعلّق الحرمة هو شرب العصير العنبي ومتعلّق الحليّة هو بيع العصير العنبي لما كان بين الدليلين تعارض ، وكذلك لو كان موضوع كل من الدليلين غير الموضوع في الدليل الآخر فإنّ التنافي لا يتحقق أيضا فلو كان موضوع الحرمة هو العصير العنبي وموضوع الحليّة هو العصير التمري فإنّ ذلك لا يقتضي التنافي بين الدليلين.

إذا اتّضح ما ذكرناه نقول إنّ التنافي بين الأدلة - الكاشفة عن الأحكام الإنشائية - قد لا يكون ذاتيا كما لو كان مؤدى الدليل الأوّل هو ثبوت حكم وكان مؤدى الدليل الثاني هو ثبوت حكم آخر لمتعلّق آخر إلاّ أنّ هناك علما من الخارج يمنع عن واقعية مؤدى أحد الدليلين غير المعين ، فهذا النحو من التعارض غير الذي كنا نتحدث عنه حيث كنا نتحدّث عن التعارض الذاتي والذي يكون فيه الحكمان المتنافيان عارضين على متعلّق واحد وموضوع واحد.

أما هذا الفرض فليس كذلك إذ أنّ متعلق كل من الحكمين مختلف عن

ص: 422

الآخر إلاّ أنّه لمّا كنا نعلم من الخارج بعدم واقعية أحدهما غير المعيّن أوجب ذلك التنافي بينهما ، فالتعارض في هذا الفرض عرضي وفي الفرض الأوّل ذاتي.

ومثال التعارض العرضي ما لو دلّ خبر الثقة على وجوب صلاة الجمعة في ظهر يوم الجمعة ودلّ خبر الثقة الآخر على وجوب صلاة الظهر في يوم الجمعة.

فمتعلّق الحكم في الدليل الأول هو صلاة الجمعة ومتعلّقه في الدليل الثاني هو صلاة الظهر إلاّ أنّه لمّا كنا نعلم بعدم وجوب صلاتين في ظهر يوم الجمعة أوجب ذلك التنافي بين الدليلين ، إذ أنّه حينما نلحظ الدليلين مع ملاحظة العلم الخارجي نجد أنّ كلّ واحد منهما ينفي الآخر ، فالدليل الأول يدلّ بالمطابقة على ثبوت مؤداه ويدلّ بالالتزام على نفي مؤدى الآخر وهكذا العكس.

أمّا لو قطعنا النظر عن العلم الخارجي فإنّه لا يكون بين الدليلين أيّ تناف ، إذ من الممكن جدا أن يكون كلّ من الصلاتين واجبا في يوم الجمعة.

والمتحصل مما ذكرناه أنّ التعارض بين الأدلة ينشأ عن أنّها تكشف عن الأحكام بمرتبة الجعل والتنافي إنّما يكون بين الأحكام بمرتبة الجعل والإنشاء.

واتضح أن التنافي بين الأدلة تارة يكون ذاتيا وأخرى يكون عرضيا.

حالات التنافي في مرتبة المجعول :

ذكرنا مرارا أنّ الحكم بمرتبة المجعول هو عبارة عن بلوغ الحكم

ص: 423

الشرعي مرحلة الفعليّة ، وذكرنا أيضا أنّ وصول الحكم مرحلة الفعليّة منوط بتحقّق موضوعه خارجا.

واتّضح أيضا ممّا تقدّم أنّ الذي يتصدّى الدليل الشرعي لبيانه إنّما هو الحكم الإنشائي ولا صلة للأدلّة الشرعيّة بمرحلة المجعول ، إذ أنّ ذلك إنّما هو منوط بتحقق الموضوع خارجا.

ومن هنا يتّضح أنّ التعارض بين الحكمين المجعولين لا صلة له بالتعارض المبحوث عنه في المقام والذي قلنا إنّه التنافي بين مؤدى كل من الدليلين ، ولمّا كان الدليلان ليسا متصديين لبيان الحكم المجعول بل إنّ وظيفتهما بيان الحكم الإنشائي فحسب فهذا يعني أنّ التعارض لا يتصل بمرحلة المجعول.

وبهذا اتضح خروج التنافي في مرحلة المجعول عن بحث التعارض بين الأدلّة.

ثمّ إنّ الكلام يقع عن تصوير التنافي بين الأحكام بمرتبة المجعول ، وقد اتضح مما تقدم أنّ التنافي بينهما غير متصوّر ؛ وذلك لأن الحكم في مرحلة المجعول لا يعني أكثر من الفعليّة ، والفعلية منوطة بتواجد الموضوع الذي علّق عليه الحكم في مقام الإنشاء ، وهذا الموضوع إمّا أن يوجد فيترتب الحكم المجعول تبعا لتحقق موضوعه وإمّا أن لا يوجد فلا يكون للحكم المجعول وجود حينئذ ، فعليه لا يكون التنافي في الحكم المجعول متصورا.

فحينما يجعل المولى في مقام الإنشاء وجوب الصوم على القادر ويجعل وجوب الفدية على العاجز المستمر عجزه فإنّ هذا يعني أنّ فعلية وجوب الصوم منوطة بتوفّر المكلّف على شرط القدرة فلو كان واجدا للقدرة فهذا

ص: 424

يقتضي عدم فعلية وجوب الفدية ، كما أنّه لو كان عاجزا فإنّ وجوب الصوم لا يكون فعليا في حقه ، ومن هنا اتّضح عدم إمكان تحقق الفعليتين على المكلّف في ظرف واحد ، نعم لو كان المراد من التنافي في مرحلة المجعول هو نفي فعلية أحد الحكمين لفعليّة الحكم الآخر فهذا صحيح إلاّ أنّه لا يوجب التصادم بين الحكمين في مرحلة الفعلية ، وذلك لأنّ معنى نفي فعليّة أحد الحكمين لفعلية الحكم الآخر هو نفي أحد الحكمين بمرحلة المجعول لموضوع الحكم الآخر وهذا ما يطلق عليه في المصطلح الأصولي « الورود » ويكون دليل الحكم الفعلي النافي لموضوع الحكم الآخر واردا ، كما يكون دليل الحكم المنتفية فعليته لنفي موضوعه « مورودا ».

وبيان ذلك : إن الأدلة والتي تتكفل ببيان الحكم الإنشائي قد لا تكون متنافية بالمعنى الذي ذكرناه إلاّ أنّه قد يتفق أن يكون أحد الدليلين نافيا لموضوع الحكم في الدليل الآخر وهذا لا يوجب تنافيا بين الدليلين إذ أنّ التنافي لا يكون إلاّ في مرحلة الجعل وفرض الكلام أن الحكمين بمرتبة الجعل ليسا متنافيين ، نعم الفرض أنّ أحد الدليلين ينفي موضوع الحكم في الدليل الآخر وهذا كما هو واضح لا يتّصل بالحكم في مرحلة الجعل.

ومن هنا يكون نفي أحد الدليلين لموضوع الحكم في الدليل الآخر متصلا بمرحلة المجعول ، ومتى ما اتّفقت هذه الحالة فإنّ الحكم المتضمن للدليل النافي يكون مقدما على الحكم المنفية ففعليته ، وتسمى هذه الحالة بالورود وبيان معنى الورود هو أن يكون أحد الدليلين نافيا لموضوع الحكم في الدليل الآخر أو يكون أحد الدليلين مثبتا لموضوع الحكم في الدليل الآخر ، وهذا النفي أو الإثبات يكون حقيقيا ويتم بواسطة التعبّد الشرعي.

ص: 425

ومثال الأوّل : قوله تعالى ( لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ) (1) فإنّ ظاهر هذه الآية المباركة هو حرمة أكل المال بغير حق ، فلو نسبنا هذا الدليل إلى دليل آخر وهو قوله تعالى ( ... أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ - إلى قوله - أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ - إلى قوله - لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ ) (2) فلو فهمنا من هذه الآية المباركة أن أكل مال الغير إذا كان أبا أو صديقا ليس من أكل المال بالباطل ، فإنّ هذا الدليل حينئذ يكون نافيا لموضوع الحكم في الدليل الآخر ، فإنّ الحكم في الدليل الأول هو الحرمة وموضوعه أكل المال بالباطل ولمّا كان مفاد الدليل الثاني هو نفي عنوان الباطل عن الأكل من بيت الصديق فهذا يعني نفي موضوع الحرمة في الدليل الأول وبالتالي تكون فعلية الحرمة منتفية.

وتلاحظون أنّ النفي هنا حقيقي وليس نفيا تنزيليا مقتضيا لتضييق دائرة موضوع الحرمة كما هو الحال في الحكومة بل إنّ الأكل من بيت الصديق ليس من الأكل بالباطل حقيقة ، غايته أنّ النفي هنا تم بواسطة التعبّد الشرعي وهذا هو الفارق بينه وبين التخصّص.

فالورود والتخصّص يشتركان في أنّ الخروج عن الموضوع حقيقي إلاّ أنّ الخروج تخصصا لا يتم بواسطة التعبّد الشرعي وإنّما هو بواسطة العلم الخارجي وأمّا الورود فالخروج عن الموضوع يتم بواسطة التعبّد الشرعي.

فحينما يقول المولى يحرم سماع الغناء فإنّ هذه الحرمة لا تثبت للحداء

ص: 426


1- سورة النساء آية 29.
2- سورة النور آية 61.

وذلك لخروج الحداء عن موضوع الحرمة تخصصا ، وهذا الخروج الحقيقي نشأ عن العلم الخارجي بموضوع الغناء ، وهذا بخلاف المقام فإنّ نفي الأكل بالباطل عن الأكل من بيت الصديق ثبت بواسطة التعبّد الشرعي ، فالخروج عن موضوع الدليل الأول حقيقي إلاّ أنّ ذلك ثبت عن طريق التعبّد.

ومثال الثاني : لو قال المولى يجوز الإسناد إلى اللّه تعالى بعلم وفهمنا من هذا الدليل أنه يجوز الإسناد إلى اللّه جلّ وعلا عند قيام الحجّة ، ثم لو دلّ دليل آخر على أنّ خبر الثقة حجة فإنّ هذا الدليل الثاني يكون واردا على الدليل الأول بمعنى أنّه مثبت لتنقّح موضوع الدليل الأول حقيقة ؛ وذلك لأنّ الدليل الثاني محقّق لفرد من أفراد الحجه حقيقة ، غايته أنّ هذا الفرد من الحجة تمّ بواسطة التعبّد الشرعي ، وهذا غير الحكومة الموسّعة لدائرة الموضوع تعبّدا وتنزيلا كما في قوله علیه السلام « الفقاع خمرة استصغرها الناس » (1) فإنّ الفقّاع ليس من الخمرة حقيقة إلاّ أنّ الشارع وسّع من دائرة موضوع الخمرة وجعل الفقّاع فردا من أفرادها والبحث في محلّه.

وبما بيناه اتضح معنى الورود وأنّه الخروج عن موضوع الدليل المورود حقيقة أو الدخول في موضوع الدليل المورود حقيقة على أن يكون ذلك ناشئا عن التعبّد الشرعي.

ومع اتّضاح هذا يتّضح عدم التنافي بين الدليل الوارد وبين الدليل المورود ؛ وذلك لأنّ الدليل الوارد حينما ينفي موضوع الدليل المورود فهو

ص: 427


1- الوسائل باب 28 من أبواب الأشربة المحرمة ح 1.

ينفي فعليته فلا تكون للدليل المورود فعلية في حالة يكون الموضوع المتحقق خارجا عن موضوع الحكم في الدليل الأوّل المورود ، فحينما لا يكون الأكل من بيت الصديق من الأكل بالباطل لا يكون الحكم بالحرمة المفاد بالآية الأولى فعليا لعدم تحقّق موضوعه خارجا إذ أنّ الأكل من بيت الصديق المتحقّق خارجا ليس موضوعا للحرمة كما هو مقتضى الدليل الوارد.

وهكذا الكلام في الدليل الوارد المثبت لوجود موضوع الحكم في الدليل المورود فإنّه مثبت لتحقق الفعلية للحكم في الدليل الوارد فلا تنافي بين الدليلين أصلا ، فإنّه عندما يدلّ خبر الثقة على شيء فإنّ ذلك يكون موجبا لتحقق فعلية جواز الإسناد إلى اللّه جلّ وعلا.

حالات التنافي في مرحلة الامتثال :

وهي الحالات التي تضيق فيها قدرة المكلّف عن امتثال تكليفين وهذه الحالة خارجة أيضا عن باب التعارض ؛ وذلك لأنّها لا تتصل بالتنافي بين مؤدى كل من الدليلين ، إذ قد يكون الدليلان متكفلين لبيان حكمين لمتعلقين متغايرين لا صلة لأحدهما بالآخر ومع ذلك تضيق قدرة المكلّف عن امتثالهما أما من حيث إنّ الجمع بينهما متعذر كما لو أمر المولى بالوقوف بعرفة يوم التاسع من ذي الحجة وزيارة أبي عبد اللّه الحسين علیه السلام في كربلاء يوم التاسع من ذي الحجة ، فإنّ هنا لا تنافي بن مؤدى الدليلين وإنما التنافي في مقام الامتثال ، وقد يكون منشأ العجز عن امتثال كلا التكليفين هو عجزه الشخصي عن امتثالهما معا كما لو كانت قدرة المكلّف دائرة بين امتثال الركوع عن قيام أو السجود بحيث يكون امتثال أحدهما

ص: 428

معجّزا عن امتثال الآخر.

ومن الواضح أنّ مثل هذه الحالات لا تكون موجبة للتنافي بين مؤدى كل من الدليلين ، نعم قد يتفق - بل هو الغالب - أن تكون حالات التنافي في مقام الامتثال موجبة لسقوط الفعليّة عن أحد التكليفين أو عدم نشوئها من الأساس ، وهذه الحالات هي المعبّر عنها بحالات التزاحم والمقتضية لتقديم الأهم من التكليفين على الآخر.

كما أنّه يمكن أن يكون كلا التكليفين الّذين تضيق قدرة المكلّف عن الجمع بينهما فعليين كما في حالات الأمر بالضدين في خطابين منفصلين ، كما لو أمر المولى بالوقوف في يوم عرفة بأرض عرفات وأمره في خطاب آخر بزيارة الإمام الحسين علیه السلام في كربلاء يوم عرفة أيضا على نحو الترتّب بحيث يكون ترك أحدهما موجبا لفعلية الآخر ، فلو ترك المكلّف امتثال كلا التكليفين فإن كلاهما يكون حينئذ فعليا وذلك لتحقق موضوعه وهو ترك الآخر ، وهذا ما يوضح أنّ التنافي في مرحلة الامتثال قد يجتمع مع فعليّة كلا التكليفين.

وبما بيّناه اتضح خروج حالات التنافي في مرحلة المجعول وفي مرحلة الامتثال عن التعارض المبحوث عنه في المقام وأن الذي يكون موردا للتعارض هو التنافي بين مدلولي الدليلين.

وبعد كل ذلك يقع البحث عن كيفية معالجة التعارض بين الأدلّة.

ص: 429

ص: 430

قاعدة الجمع العرفي

اشارة

ومورد هذه القاعدة هو حالات التنافي بين الأدلة إذا لم يكن لذلك التنافي استقرار بنظر العرف بحيث يرى أنّ من الممكن بل من المتعين حمل أحدد الدليلين على الآخر بحيث يكون بينهما عند ذاك تمام المواءمة والتناسب وهذا في مقابل التعارض المستقر بين الدليلين والذي يرى العرف تهافتهما وعدم إمكان الجمع بينهما على نحو يكون ذلك الجمع متناسبا مع مقتضيات الضوابط التي يجري على وفقها العقلاء وكذلك أهل المحاورة.

فالجمع العرفي إذن لا يكون إلاّ في الحالات التي يكون فيها الجمع متناسبا مع المتفاهم العرفي بحيث يكون أحد الدليلين بمثابة القرينة المفسّرة للمراد من الدليل الآخر ، ومن هنا لا بدّ أن يكون الجمع جاريا على وفق ما يقتضيه الدليل الواقع موقع القرينة.

ومبرّر هذه القاعدة هو أنّه إذا أردنا التعرّف على مراد المتكلّم فإنّه لا بدّ من الإحاطة بتمام كلامه سواء المتصل منه أو المتفرق على مواقع متعدّدة ، فإنّه لا ينبغي أن يؤخذ بجزء من كلام المتكلّم ويقطع النظر عن سائر كلامه أو أن يلحظ الكلام الأول منفصلا عن الكلام الآخر ثم يلحظ الكلام الآخر منفصلا عن الكلام الأول فإنّه حينئذ قد يبدو التنافي بين الكلامين.

ص: 431

كما لو قال المتكلم في مجلس : « أكرم كل العلماء » وقال في مجلس آخر : « لا تكرم فساق العلماء » ، فإنّه لو لاحظنا كلا من الكلامين على حدة لوجدنا أنّ بينهما تنافيا إلا أنّه حين يلاحظ مجموع الكلامين فإنّ ذلك التنافي البدوي يزول وما ذلك إلاّ لأن الكلامين يعبّران عن مراد جديّ واحد ، غايته أنّ وجود بعض المبرّرات الشخصية أو النوعية اقتضت فصل الكلامين وإلاّ فهما يعبّران روحا عن مراد واحد ، إذ أنّ العاقل لا ينقض كلامه ، نعم قد يتنازل عن كلامه الأول وهذا خلف الفرض ، إذ أنّه حين يكون متنازلا عن كلامه الأول فإنّ مقتضى حرص العقلاء على أغراضهم وعدم السماح بتفويتها يقتضي التصريح بتنازله عن كلامه الأول حتى لا يتنافى ذلك مع غرضه الفعلي.

وكيف كان فإنّ المتكلم إذا لم يبيّن مراده كاملا فإنّه يتصدى في كلام ثان لبيان تمام ذلك المراد أو بعضه ، وهناك مجموعة من الوسائل يتوسّل بها المتكلّم لتبيين مراده من الكلام الأول :

منها : ما عبّر عنه المصنّف رحمه اللّه بالإعداد الشخصي ، والمقصود من الإعداد الشخصي هو أن يتصدى شخص المتكلم لبيان مراده بوسيلة من وسائل الشرح والتفسير المقررة عند أهل المحاورة ، وضابطة الوسائل الداخلة تحت عنوان الإعداد الشخصي هي كل وسيلة ليس لغير المتكلم استعمالها بمعنى أنّه لو لم يتصدّ المتكلم بنفسه لاستعمالها لما أمكن لأحد غيره أن يستعملها لغرض الكشف عن مراد المتكلم ، وهذا بخلاف الإعداد النوعي فإنه يمكن للغير أن يجمع بين كلامي المتكلم ويناسب بينهما ثم يخرج بنتيجة هي مراد المتكلم جدا.

ص: 432

وباتّضاح المراد من الإعداد الشخصي نقول : إنّه يتم بواسطة الحكومة ، والمراد من الحكومة هي النظر إلى الدليل الأول لغرض شرحه وتفسيره ، فقوام الحكومة هو وجود ما يثبت أنّ المتكلم ناظر إلى كلامه الأول وقاصد لشرحه وبيانه ، وهذا له صورتان :

الصورة الأولى : أن يصرّح في كلامه الثاني بمراده الجدّي من الكلام الأول ، وذلك عن طريق استعمال أدوات الشرح والتفسير مثل كلمة « أي أو أعني وأقصد » وهكذا.

ويمكن التمثيل لهذه الصورة برواية أبي خديجة عن أبي عبد اللّه علیه السلام « لعن رسول اللّه صلی اللّه علیه و آله المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبّهات من النساء بالرجال ، وهم المخنثون ، واللائي ينكحن بعضهن بعضا » (1) فإنّ كلمة « وهم » وكذلك كلمة « اللائي » جيء بهما لغرض الشرح والتفسير ، نعم قد يقال إنّ المتصدي للشرح هو غير المتكلم إلاّ أنّ هذا يندفع بما ثبت من أنّ كلام الرسول صلی اللّه علیه و آله وأهل البيت علیهم السلام واحد.

الصورة الثانية : أن يستفيد المتكلم من قرائن صياغية أو غيرها لإثبات أنّه في مقام النظر إلى الكلام الأوّل وأنّه متصد لشرحه وبيانه على ألا تكون تلك القرائن موجبة لأكثر من ظهور حال المتكلّم في أنّه في مقام الشرح والتفسير لكلامه الأول.

ثمّ إنّ هنا وسيلتين يستعملهما المتكلم لغرض بيان المراد الجدّي من كلامه الأول :

ص: 433


1- الوسائل باب 24 من أبواب النكاح المحرّم ح 6.

الوسيلة الأولى : وهي ما يعبّر عنها بالنظر في عقد الوضع ، والمقصود منها أنّ المتكلم يتصدى لشرح كلامه الأول عن طريق التصرّف في موضوع الحكم في الدليل الأول إما بنحو التضييق أو بنحو التوسيع ويكون غرض المتكلم من ذلك تضييق الحكم أو تعميمه ، غايته أنه نفى الحكم عن طريق نفي الموضوع أو أثبت الحكم بواسطة إثبات الموضوع ، وتسمّى الحالة الأولى بالحكومة المضيّقة وتسمّى الحالة الثانية بالحكومة الموسّعة.

أمّا مثال الحكومة المضيّقة :

ما لو قال المولى من شك بين الثلاث والأربع بنى على الأربع وتشهد وسلم ثم قام فجاء بركعة بفاتحة الكتاب وتشهد بعدها وسلّم ، ثم قال في كلام آخر : « لا شك لكثير الشك » ، فإنّ الكلام الثاني ناظر إلى الكلام الأول - كما هو واضح - وذلك بقرينة أنّ الكلام الثاني لا يكون له معنى محصل لولا وجود كلام سابق يكون هذا الكلام مفسّرا له ومبينا لحدوده ، إذ ما معنى أن يقال ابتداء « لا شك لكثير الشك ». فإذا ثبت أنّ المتكلّم ناظر لكلامه الأول فقد تحققت الحكومة للكلام الثاني على الكلام الأول.

وأمّا أنه كيف يكون الكلام الثاني في المثال متصرفا في موضوع الحكم في الكلام الأول؟ فلأنّ المتكلم استعمل الموضوع كوسيلة لشرح وبيان حدود الحكم ، فنفي بعض أفراد الموضوع عن أن تكون مشمولة للموضوع المجعول عليه الحكم نفي للحكم بلسان نفي الموضوع وتصرّف في الموضوع بنحو التضييق لغرض تضييق دائرة الحكم.

وهذا النفي ليس نفيا حقيقيا وإنّما هو نفي عنائي تنزيلي الغرض منه نفي ذلك الفرد عن أن يكون مشمولا للحكم في الدليل الأول ، فليس

ص: 434

غرض المولى من قوله « لا شك لكثير الشك » أنّ الشك الواقع عن كثير الشك ليس شكا حقيقة وواقعا بل غرضه هو أنّ الشك من كثير الشك لا يترتب عليه الحكم المذكور في الدليل الأول فهو نفي للحكم بلسان نفي الموضوع أي نفي للحكم عن أن يكون شاملا لهذا الفرض إلاّ أنّ هذا النفي تمّ عن طريق نفي فرديّة هذا الفرد عن موضوع الحكم ، إذ أنّه متى ما انتفت فرديّته عن الموضوع لم يكن الحكم شاملا له ؛ وذلك لأنّ الحكم إنّما هو مجعول على ذلك الموضوع فلما كان ذلك الفرد من غير أفراد الموضوع - بمقتضى الدليل الحاكم - فلا يشمله الحكم.

وبما ذكرناه اتضح أن نحو الحكومة في هذا المثال هو الحكومة المضيقة ، إذ أنّ الدليل الحاكم « الثاني » قد ضيّق من دائرة موضوع الحكم في الدليل المحكوم « الأول ».

وأمّا مثال الحكومة الموسّعة :

فهو ما لو قال المولى : « الخمر حرام » ثم قال في كلام آخر : « الفقاع خمرة استصغرها الناس » فهنا أيضا وقع التصرّف في عقد الوضع ، أي في موضوع الدليل المحكوم إلاّ أنّ التصرّف في المثال تصرّف بنحو التوسيع من دائرة موضوع الحكم في الدليل المحكوم ، وهو توسيع عنائي الغرض منه تعميم الحكم في الدليل المحكوم للفرد الذي أدخل في موضوع الدليل المحكوم بنحو العناية ، فهنا إثبات للحكم بحرمة الفقّاع بلسان إثبات فرديته لموضوع الحكم « الخمر » في الدليل المحكوم.

الوسيلة الثانية : وهي ما يعبّر عنها بالنظر في عقد الحمل ، وهنا يتوسل المتكلّم في مقام شرحه لكلامه الأول بالتصرّف في محمول القضية في

ص: 435

الكلام الأول أي التصرّف في نفس الحكم ابتداء - لغرض تعميمه أو تضييقه - ودون توسيط الموضوع في ذلك كما هو في الوسيلة الأولى.

ومثال ذلك :

قوله صلی اللّه علیه و آله : « لا ضرر ولا ضرار في الاسلام » (1) وقوله تعالى : ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (2) فإنّ هذين الدليلين ناظران إلى الأحكام الشرعية الثابتة بالأدلّة الأخرى حيث إنّ مقتضى تلك الأدلّة هو ثبوت الأحكام بنحو مطلق سواء كانت ضررية وحرجية لبعض الأفراد أو لم تكن.

فإنّه لو فهمنا من الرواية أنّه لم يجعل اللّه تعالى حكما ضرريا وفهمنا من الآية المباركة أنّ اللّه تعالى لم يجعل حكما حرجيّا فإنّ هذين الدليلين يكونان حاكمين على أدلة الأحكام الشرعية وموجبين لتضييق دائرة تلك الأحكام وأنّ ما يتوهم من الأدلّة الأولية من ثبوت الأحكام في حالات الضرر والحرج ليس صحيحا.

وتلاحظون أنّ هذين الدليلين تصرّفا في نفس الحكم في الأدلّة المحكومة ، حيث إنّ المنفي في هذين الدليلين هو الحكم فقوله لا ضرر أي لا

ص: 436


1- الفقيه باب ميراث الملل ح 2 ، والرواية معتبرة لاعتبار بعض طرقها وهو الطريق الوارد في الكافي والفقيه عن ابن بكير عن زرارة ، إلا أنّه لم يرد في الرواية بهذا الطريق فقرة « في الإسلام » على أنّه يمكن دعوى استفاضة الرواية حيث وردت بطرق متعدّدة وفي موارد مختلفة ، نعم دعوى الاستفاضة مختصّة بهذه الفقرة وهي قوله صلی اللّه علیه و آله « لا ضرر ولا ضرار ».
2- سورة الحج آية 78.

حكم ضرري في الإسلام وقوله لا حرج أي لا حكم حرجي مجعول من المولى جلّ وعلا ، ومن هنا صارت هذه الحكومة متصرفة في عقد الحمل ، وأمّا أنّها مضيقة فواضح ، إذ أنها تقتضي نفي الحكم في حالات الضرر والحرج.

الفرق بين الورود والحكومة :

الورود والحكومة المتصرفة في عقد الوضع يشتركان في أنّ كلا منهما ينفي موضوع الحكم في الدليل الأول أو يثبت موضوعا للحكم في الدليل الأول ، وهذا ما قد يوجب الخلط بينهما إلاّ أنّه مع التأمل يتضح أن بينهما اختلافا جوهريا ؛ وذلك لأنّ الورود كما قلنا ينفي موضوع الحكم في الدليل المورود نفيا حقيقيا ، وكذلك يثبت موضوعا للحكم في الدليل المورود إثباتا حقيقيا ، غايته أنّ الواسطة في النفي أو الإثبات هو التعبّد الشرعي ، فحينما ينفي المولى عنوان الباطل عن الأكل من بيت الصديق - في مثال الورود الذي ذكرناه في بحث حالات التنافي في مرحلة المجعول - فإنّ هذا النفي ليس عنائيا وإنّما هو نفي حقيقي ولذلك يكون خروج الأكل من بيت الصديق عن عنوان الباطل - المجعول عليه الحرمة في الدليل المورود - خروجا حقيقيا كخروج عنوان الحداء عن موضوع الغناء ، غاية ما في الأمر أنّ الخروج في حالات الورود يتم بواسطة التعبّد الشرعي والخروج في حالات التخصص يعرف بواسطة العلم الخارجي.

وكذلك الكلام بالنسبة لخبر الثقة فإنّ الدليل الوارد حينما يجعل الحجية لخبر الثقة لا تكون الحجية الثابتة لخبر الثقة بواسطة الدليل الوارد حجية عنائية بل إنّ خبر الثقة حجة حقيقة ، ومن هنا تكون محققيته

ص: 437

لموضوع جواز الإسناد حقيقية ؛ وذلك لأن موضوع جواز الإسناد هو قيام الحجّة على الحكم الشرعي وخبر الثقة حجّة حقيقة وواقعا ، نعم الفرق بين خبر الثقة وبين القطع الطريقي هو أنّ القطع الطريقي لا تكون مثبتيته لموضوع جواز الإسناد محتاجة إلى التعبّد الشرعي وإلاّ فكل منهما يحقق فردا حقيقيا لموضوع جواز الإسناد.

ومما بيناه يتضح أنّ الورود ليس منوطا بنظر الدليل الوارد إلى الدليل المورود ولذلك يمكن تحقّق الورود في حالات تأخر الدليل المورود عن الدليل الوارد ، فلو كان دليل جواز الإسناد بعلم أي بحجة متأخرا عن دليل حجية خبر الثقة لكان خبر الثقة - مع ذلك - صالحا للورود على دليل جواز الإسناد بعلم.

ومع اتّضاح معنى الورود يتضح الفرق الجوهري بينه وبين الحكومة ، إذ أنّ الحكومة وإن كانت تنفي موضوع الدليل المحكوم أو تثبته إلاّ أنّ ذلك لا يكون نفيا أو إثباتا حقيقيا بل هو نفي أو إثبات عنائيان ، أي أنّ المولى اعتبر الموضوع الثابت منفيا واعتبر الموضوع المنفي ثابتا ويكون غرضه من النفي أو الإثبات هو تعميم الحكم أو تضييقه فيكون نفي الحكم بلسان نفي الموضوع ويكون إثبات الحكم بلسان إثبات الموضوع ، ومنه يتضح أنّ الحكومة متقومة بالنظر في الدليل المحكوم وهذا ما يقتضي تأخر الدليل الحاكم عن الدليل المحكوم ، إذ لا يصح أن يكون الدليل الحاكم ناظرا إلاّ أن يكون متأخرا.

ثم إنّ الحكومة روحا تكون عبارة عن صياغة خاصة للدليل الحاكم ، هذه الصياغة تكون هي القرينة على النظر والتصرّف ولولا ذلك لما

ص: 438

كان هناك ما يوجب استظهار نظر الدليل الحاكم إلى الدليل المحكوم ، فالمولى حينما يريد أن يشرح مقصوده يتوسل بهذا النحو من الصياغة لغرض الكشف عن أنّه في مقام الشرح والتفسير للدليل الأول ، وهذا هو الفارق الجوهري بين التخصيص والحكومة ، إذ أنّ التخصيص كالحكومة من حيث تضييق دائرة الحكم في الدليل الآخر إلاّ أنّ المولى تارة يستعمل صياغة خاصة وهي تنزيل الموضوع المنفي منزلة الموجود أو تنزيل الموضوع الموجود منزلة المنفي وغرضه من هذه الصياغة هو تعميم الحكم أو تضييقه بلسان التصرّف والتنزيل ، وأمّا التخصيص فليس كذلك بل هو إخراج بعض أفراد الموضوع عن الحكم ابتداء مع التحفظ على فرديّة الخارج عن الحكم للموضوع.

وسيلة أخرى من وسائل الجمع العرفي :

ومن الوسائل التي يتوسل بها المتكلّم لبيان مراده الجدّي من الدليل الآخر هو ما عبّر عنه المصنّف رحمه اللّه بالإعداد النوعي

العرفي والمقصود من الإعداد النوعي هو أنّ المتكلم يستفيد من الضوابط العامة عند العرف في بيان مراده ومقصوده من كلامه الآخر ، ويمكن صرف الكلام إلى المتلقي للأدلّة أو للكلامين ، فالمتلقي حينما يعلم أنّ المتكلم يسير على وفق الطريقة العرفية النوعية في تفهيم مقاصده ، فإنّه حينما يقف على كلامين لمتكلم واحد فإنّه يناسب بينهما بحسب الضوابط العرفية التي يجري عليها أهل المحاورة من ذلك اللسان.

والطريقة الأساسية التي يعوّل عليها العرف في مقام التعرّف على وجه الجمع بين الكلامين للمتكلم العرفي هي اعتبار الكلامين كلاما واحدا

ص: 439

متصلا ، وهذا ما يستوجب استقرار الظهور مع ذي القرينة ، إذ أنّ العرف حينما يضمّ الكلامين بعضهما إلى الآخر ويرى أن أحدهما يشكّل قرينة على المراد من الكلام الآخر فإنّه لا محالة يستقرّ فهمه مع الكلام ذي القرينة ، إذ هو المعبّر واقعا عن المراد الجدّي.

فمناط تقديم الخاص على العام والمقيّد على المطلق مثلا هو أنّ الخاص قرينة على العام وكذلك المقيد بالنسبة للمطلق هذا هو الذي يقتضيه الفهم العرفي ؛ وذلك لأنّ العرف لا يرى بين الدليل العام والدليل الخاص أيّ تناف ، إذ أنّ العام يقتضي بدوا ثبوت الحكم للطبيعة بتمام أفرادها ، فحينما يكون الخاص نافيا لذلك الحكم عن فرد من أفراد الطبيعة لا يكون في ذلك تناف بل هو بيان للمراد الجدّي من العام وأنّ الحكم في الدليل العام لا يشمل ذلك الفرد.

وهذه القرينية تبلورت حينما ناسب العرف بين الدليلين فكأنما العلاقة بين الدليلين علاقة المستثنى منه مع المستثنى ، ومن الواضح أنّ المستثنى يكون قرينة على تحديد سعة دائرة المستثنى منه وأنّ دائرته لا تتسع لهذا الفرد فلا يشمله حكم المستثنى منه.

وهكذا الكلام في كلّ دليل له ظهور ويكون الدليل الآخر أظهر منه فإنّ الأظهر يشكل قرينة على المراد الجدّي من الدليل الأول.

والمتحصّل ممّا ذكرناه أنّ موارد الجمع العرفي يكون فيها التنافي والتعارض بدويا أي ليس له استقرار ، فلذلك يزول بمجرّد الرجوع إلى المرتكزات والضوابط التي يجري عليها أهل المحاورة من ذلك اللسان.

ص: 440

قاعدة تساقط المتعارضين

اشارة

والبحث في المقام يقع عمّا هو مصير الدليلين المتنافيين فيما بينهما بعد تعذّر الجمع العرفي بينهما ، فهل أنّ القاعدة تقتضي سقوطهما معا عن الحجيّة أو سقوط أحدهما دون الآخر على نحو التخيير أو التعيين أو تكون الحجيّة ثابتة لهما معا؟

ويتحدد الجواب عن ذلك بملاحظة دليل الحجيّة والذي استفدنا منه حجية خبر الثقة مثلا ، وهل أنّ دليل الحجيّة يتسع لإثبات الحجيّة في حالات التعارض؟ وإذا كان كذلك فبأي مقدار تكون الحجيّة ثابتة لهما؟

وهذا ما سيتم البحث عنه في المقام إلاّ أنّه لا بدّ من التنبيه على أنّ البحث عن شمول الحجيّة للدليلين المتعارضين إنّما هو بقطع النظر عن الأدلّة التي تصدّت لعلاج التعارض بين الأدلّة ، على أنّه لا بدّ من الالتفات إلى أمر آخر وهو أنّ التعارض لا يكون إلاّ بين الدليلين المتكافئين من حيث الأهلية لثبوت الحجيّة لهما لولا التعارض ، أما الدليل الذي لا تشمله الحجيّة من أول الأمر فإنّه لا يصلح لأن يعارض الدليل المتوفّر على شرائط الحجيّة ؛ وذلك لسقوطه عن الحجيّة من أول الأمر فحتى لو لم يكن ما يعارضه فإنّه لا اعتبار به ولا يصلح لإثبات مؤداه.

وكيف كان فالبحث أولا يقع في مقام الثبوت وأي الافتراضات التي

ص: 441

تكون ممكنة من حيث إمكان اتساع الحجيّة لها وأيّ الافتراضات التي لا تكون ممكنة ، والبحث الإثباتي سوف يكون مقتصرا على خصوص الافتراضات الممكنة في مقام الثبوت أمّا الافتراضات غير الممكنة فإنّ عدم إمكانها كاف في عدم صلاحيتها لأن تبحث في مقام الإثبات بعد أن كان المفترض فيها غير مؤهل لأن تثبت له الحجيّة.

والافتراضات المتصورة في مقام الثبوت خمسة :

الافتراض الأول : هو شمول الحجيّة للدليلين المتعارضين بحيث يكون المكلّف مسؤولا عنهما معا وفي عرض واحد ولا يعذر في مخالفة أيّ واحد منهما.

وهذا الافتراض مستحيل غايته ؛ وذلك لاستحالة التصديق بالمتكاذبين فحينما يطلب منّا المولى التصديق بكلا المتعارضين فإنّه يطلب المستحيل.

ودعوى أنّ الحجيّة لا تستوجب التصديق والإذعان بمؤدى الدليلين المجعول لهما الحجيّة بل غاية ما توجبه الحجيّة هو الجريان على طبق مؤدى الدليلين المتعارضين ، وأين هذا من طلب المستحيل؟!

هذه الدعوى غير قادرة على إثبات إمكان جعل الحجيّة للدليلين المتعارضين ، إذ أنّ الجريان على طبق مؤدى الدليلين المتعارضين أيضا مستحيل ؛ وذلك لأن الدليل الأول إذا كان مقتضيا للحرمة فإنّ الجريان على وفقه يقتضي التجنّب عن متعلّق الحرمة فإذا كان الدليل الآخر مقتضيا للإباحة فالجريان على وفقه يقتضي السعة من جهة ترك متعلقه أو فعله فإذا التزم المكلّف بالثاني فهذا يعني عدم الجريان على وفق مؤدى الدليل

ص: 442

الأول ومع التزامه بالأول يكون قد ناقض الثاني والذي يقتضي السعة ، ويكون الأمر أوضح في حالات اقتضاء الدليلين لحكمين إلزاميين متنافيين كما لو كان الأول يقتضي الوجوب والثاني يقتضي الحرمة فإنّه من المستحيل تنجّز كلا الدليلين كما هو أوضح من أن يخفى ، وبهذا اتضح سقوط الافتراض الأوّل.

الافتراض الثاني : أن تكون الحجيّة ثابتة للمتعارضين على نحو يكون الالتزام بأحدهما موجبا لسقوط الحجيّة عن الآخر ، فثبوت الحجيّة لأحد الدليلين منوط بعدم الالتزام بمؤدى الدليل الآخر.

والإشكال على هذا الافتراض هو أنّ المكلّف لو أهمل كلا الدليلين ولم يلتزم بهما معا فإنّ حجيّة كل واحد منهما تكون فعلية لتنقح موضوعها ، إذ أنّ موضوع الحجيّة - كما هو الفرض - للدليل الأول هو عدم الالتزام بالثاني وهو غير ملتزم بالثاني - بحسب الفرض - وموضوع الحجيّة للدليل الثاني منوط بعدم الالتزام بالأول وهو غير ملتزم به أيضا فيكون كلا الدليلين متوفّر على شرط الحجيّة فتتنجّز حجيّة المتكاذبين في عرض واحد وهذا يؤول إلى الافتراض الأول ، وبهذا يسقط الافتراض الثاني لاستحالته وعدم إمكانه.

الافتراض الثالث : أن تكون الحجيّة ثابتة لأحد المتعارضين تعيينا بأن يختار المولى نفسه أحد الدليلين ويجعل له الحجيّة ويسقطها عن الآخر ، وذلك لملاك يقتضي التعيين ، وهذا الافتراض لا محذور فيه ثبوتا.

الافتراض الرابع : أن تكون الحجيّة مجعولة لكلا الدليلين ولكن بنحو التخيير ، وهذا يقتضي ألا يكون المكلّف في سعة من جهة كلا الدليلين

ص: 443

معا بل هو ملزم بأحدهما غير المعيّن ، نعم متى ما التزم بأحدهما فإنّ الآخر لا يكون منجّزا عليه ، فلو كان مؤدى أحد الدليلين هو الحرمة والآخر الإباحة فإنّ المكلّف في سعة من جهة اختيار أحدهما غير المعيّن ، فمتى ما التزم بمؤدى الدليل الأول فإنه يكون مسؤولا حينئذ عن امتثال مؤداه وهو الحرمة ومتى ما التزم بالآخر فإنّه يكون في سعة من جهة مؤدى الدليل الأول ويكون الدليل الآخر صالحا لتأمينه عن مخالفة الدليل الأول ، وهكذا الكلام لو كان أحد الدليلين الوجوب والآخر الحرمة ، وهذا الافتراض لا محذور فيه أيضا ؛ إذ لا مانع عقلا في أن يجعل المولى الحجيّة للدليلين المتعارضين بنحو التخيير.

الافتراض الخامس : ألا تكون الحجيّة ثابتة للدليلين المتعارضين ، بمعنى أنّ المولى لم يجعل الحجيّة للدليل الذي له معارض ، فكلّ دليل وإن كان واجدا لشرائط الحجيّة في نفسة إلاّ أنّه إذا كان مبتليا بمعارض فهو غير مشمول لأدلّة الحجيّة ، وهذا الافتراض ممكن ولا محذور فيه.

وأمّا مقام الإثبات :

والبحث في هذا المقام عن أيّ الافتراضات التي تتناسب مع دليل الحجيّة.

أمّا الافتراض الأول والثاني : فلا مجال للبحث عنهما في مقام الإثبات ؛ وذلك لاستحالتهما في نفسيهما ، وإذا كان كذلك فهما غير مرادين من دليل الحجيّة قطعا فلا نحتاج لعرضهما على دليل الحجيّة.

وأما الافتراض الثالث : - وهو ثبوت الحجيّة لأحد المتعارضين تعيينا فإنّ أدلّة الحجيّة لا تساعد عليه ؛ وذلك لعدم وجود ما يقتضي ترجّح أحد

ص: 444

الدليلين على الآخر بعد أن كان كلاهما واجدا لشرائط الحجيّة لولا التعارض ، فافتراض أحدهما المعين حجّة دون الآخر بلا مبرّر ، وهذا ما يوجب استظهار عدم إرادة هذا الافتراض من دليل الحجيّة.

وأمّا الافتراض الرابع : - وهو ثبوت الحجيّة للمتعارضين بنحو التخيير - فهو أيضا مخالف لمقتضى الظهور في دليل الحجيّة ، إذ أنّ دليل الحجيّة يثبت الحجيّة للأدلّة بنحو التعيين بمعنى أنّ كلّ دليل واجد لشرائط الحجيّة فهو حجّة تعيينا ويكون المكلّف مسؤولا عن الجريان على طبقة لا المسؤولية عنه أو عن غيره فإنّ ذلك خلاف ما هو المستظهر من دليل الحجيّة فلا مصحح لهذا الافتراض ما لم يبرز مدّعي هذا الافتراض قرينة في دليل الحجيّة توجب استظهار هذا الافتراض ، وملاحظة أدلّة الحجيّة يمنع من وجود هذه القرينة ، وبهذا يسقط هذا الافتراض أيضا.

وأمّا الافتراض الخامس : - وهو سقوط الحجيّة عن كلا المتعارضين - فهو المتعيّن ، إذ لا دليل على حجيّة المتعارضين ، ومع عدم الدليل على الحجيّة لا سبيل لإثباتها ، فلا أقل من الشك في الحجيّة وهو مساوق للقطع بعدمها.

مقدار ما يسقط عن الحجيّة في حال التعارض :

بعد أن اتّضح أنّ القاعدة في حالات التعارض هي التساقط يقع البحث عن مقدار ما يسقط بالتعارض.

وبيان ذلك : إنّ الدليلين المتعارضين على نحوين :

النحو الأول : ألا يكون لهما مدلول التزامي أو أن المدلول التزامي لأحد المتعارضين مناف للمدلول الالتزامي للدليل الآخر ، فهنا لا إشكال

ص: 445

في أنّ وجودهما كالعدم من جهة الحجيّة.

مثلا لو كان مفاد الدليل الأول هو صحة بيع الغرر وكان مؤدى الدليل الثاني هو فساد بيع الغرر فهنا لا يكون للدليلين المتعارضين مدلول التزامي يتفقان على نفيه ، فهو وإن كان للدليل الأول مدلول التزامي إلاّ أنّه مناف للمدلول الالتزامي للدليل الآخر.

فالمدلول الالتزامي لفساد بيع الغرر هو حرمة التصرّف في الثمن المنتقل عن بيع الغرر وهذا بخلاف المدلول الالتزامي لصحة بيع الغرر ، ومن هنا قلنا إنّ هذا النحو من الأدلّة المتعارضة يكون وجودها كالعدم من جهة الحجيّة.

النحو الثاني : أن يكون للدليلين المتعارضين مدلول التزامي يتفقان عليه.

ويمكن التمثيل لذلك بما لو كان مؤدى الدليل هو وجوب صلاة الجمعة ومؤدى الدليل الآخر هو حرمة صلاة الجمعة فإنهما وإن كانا بحسب المدلول المطابقي متنافيين إلاّ أنّهما يشتركان في نفي الاستحباب مثلا عن صلاة الجمعة إذ أن لازم الحرمة هو عدم الاستحباب كما أنّ لازم الوجوب هو عدم الاستحباب لأن الأحكام متنافية فيما بينها فيستحيل اجتماع حكمين متغايرين على متعلّق واحد ، وهذا هو منشأ المدلول الالتزامي ، فكل دليل يثبت حكما لموضوع فإنّه ينفي الأحكام الأخرى عن ذلك الموضوع.

وهذا النحو من الأدلّة المتعارضة هو محل البحث ، إذ يقع الكلام في أنّ سقوط الحجيّة عن الدليلين المتعارضين هل هو خاص بمدلوليهما المطابقي حيث إنّهما مركز التنافي أو أنّ السقوط عن الحجيّة يشمل المدلول الالتزامي

ص: 446

لكلا الدليلين رغم أنّ المدلول الالتزامي لكلا الدليلين واحد؟

ويتحدّد الجواب عن ذلك بنتيجة بحث تبعية الدلالة الالتزامية للدلالة المطابقية في السقوط عن الحجيّة والتي تقدم البحث عنها.

فإن كنّا نبني على التبعية في السقوط فالمدلول الالتزامي للدليلين المتعارضين ساقط عن الحجيّة تبعا لسقوط المدلول المطابقي في كل من الدليلين المتعارضين.

وإن كنا نبني هناك على عدم التبعية في السقوط فإنّه لا مانع من ثبوت الحجيّة للمدلول الالتزامي رغم سقوط المدلول المطابقي لكل من الدليلين.

ص: 447

ص: 448

قاعدة الترجيح للروايات الخاصّة

اشارة

ما ذكرناه من أنّ القاعدة في حالات التعارض هي التساقط إنّما هو في حالات عدم وجود دليل شرعي يقتضي ثبوت الحجيّة لأحد الدليلين المتعارضين ، وأمّا مع وجود دليل على ثبوت الحجيّة لأحد المتعارضين فإنّه لا يصح التمسك بقاعدة التساقط ؛ وذلك لأن التساقط منشؤه عدم شمول دليل الحجيّة لكلا الدليلين المتعارضين فإذا ثبت أنّ الدليل الشرعي يجعل الحجيّة لأحّد الدليلين الواجد لأحّد المرجّحات الموجبة للترجيح بمقتضى الدليل الشرعي فلا مبرّر حينئذ للتمسّك بقاعدة التساقط في ذلك المورد.

ومن هنا ذهب مشهور الفقهاء « رضوان اللّه عليهم » إلى أنّ قاعدة التساقط لا تجري في حالات التعارض بين الروايات الواردة عن أهل البيت علیهم السلام ؛ وذلك لقيام الدليل الخاص على ثبوت الحجيّة للخبر الواجد لبعض المرجّحات ، نعم إذا انتفت تمام المرجّحات المذكورة عن كلا الخبرين المتعارضين فإن الملجأ حينئذ هي قاعدة التساقط.

وقد ذكر المصنّف رحمه اللّه من هذه الأدلّة - التي استدلّ بها على قاعدة الترجيح في الأخبار - معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال : قال الصادق علیه السلام « إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب اللّه ، فما وافق كتاب اللّه فخذوه وما خالف كتاب اللّه فردوه ، فإن لم تجدوهما في

ص: 449

كتاب اللّه فاعرضوهما على أخبار العامّة فما وافق أخبارهم فذروه وما خالف أخبارهم فخذوه » (1).

وقد طرحت هذه الرواية الشريفة مرجحين رتبت بينهما في مقام الترجيح أي جعلت المرجح الثاني منوطا بفقدان المرجح الأول ، ومن هنا لا يلجأ إلى المرجح الثاني إذا ما كان المرجح الأول موجودا كما لا يلجأ إلى قاعدة التساقط إذا كان المرجح الثاني موجودا.

وهنا لا بدّ من بيان المراد من المرجحين :

أمّا المرجّح الأول :

وهو تقديم الخبر الموافق لكتاب اللّه عز وجل على الخبر المخالف لكتاب اللّه تعالى ، وهو يستوجب بيان معنى الموافقة لكتاب اللّه تعالى ومعنى المخالفة للكتاب.

أمّا المراد من الموافقة : فالذي ينسبق إليه الذهن بدوا من معنى الموافقة هو مطابقة مفاد الخبر لمفاد النص القرآني إلاّ أنّه مع الالتفات إلى أنّ القرآن الكريم لم يتصدّ لبيان تفاصيل الأحكام وغاية ما هو موجود في القرآن الكريم هو مجموعة من العمومات والإطلاقات ، وهذا يقتضي أن تكون موارد الاستفادة من المرجح الأول محدودة جدا لو كان المراد من الموافقة هو مطابقة مفاد الخبر للنص القرآني ، وهذه المحدودية والندرة تبعّد استظهار هذا المعنى ، إذ مع الالتفات إلى أنّ القرآن الكريم لم يتعرّض إلاّ لبيان العمومات وأنّ الأخبار المتعارضة غالبا ما تكون متصدّية لبيان

ص: 450


1- الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 29.

تفاصيل الأحكام يحصل الاطمئنان بعدم إرادة المعنى المذكور ، وبهذا يتعيّن أن يكون المراد من الموافقة هو عدم المخالفة لكتاب اللّه جلّ وعلا.

وأمّا المراد من المخالفة لكتاب اللّه جلّ وعلا :

فهي محتملة لمعنيين :

المعنى الأول : المخالفة لكتاب اللّه تعالى بنحو التباين بحيث لا يمكن الجمع العرفي بين مؤدى الخبر وبين النص القرآني ، كما لو كان مؤدى الخبر هو حليّة شرب الخمر.

وهذا المعنى غير مراد حتما ، إذ أنّ فرض الكلام هو واجديّة الخبر لشرائط الحجيّة لولا التعارض وتكون المخالفة لكتاب اللّه تعالى هي الوسيلة للتعرّف على الخبر الحجة في حالات التعارض ومع افتراض كون المخالفة بمعنى التباين التام بين مؤدى الخبر ومؤدى النص القرآني لا يكون الخبر واجدا للحجيّة من أول الأمر ، إذ أنّ شرط الحجيّة للخبر هو عدم منافاته للنص القرآني ، فكلّ خبر حتى ولو لم يكن له معارض إذا كان مخالفا لكتاب اللّه عزّ وجلّ بهذا النحو من المخالفة يكون ساقطا عن الحجيّة فلا يكون مكافئا للخبر الآخر حتى يتحقق التعارض.

المعنى الثاني : أن يكون المراد من المخالفة هي المخالفة التي يمكن معها الجمع العرفي كما لو كان النص القرآني عاما وكان خبر الثقة خاصا أو كان النص القرآني محكوما أو مورودا وكان خبر الثقة حاكما أو واردا.

ومن الواضح أنّه لولا التعارض بين الخبر المخالف بهذا النحو من المخالفة وبين الخبر الآخر لكان الخبر المخالف تام الحجية فيصلح لتقييد وتخصيص عمومات الكتاب ويصلح أن يكون قرينة على المراد الجدّي من

ص: 451

النص القرآني.

وهذا النحو من المخالفة هو الظاهر من الرواية الشريفة ، إذ هو الذي يتناسب مع صلاحيّة هذا الخبر لأن يعارض ، فإذا كان معنى المخالفة لكتاب اللّه تعالى هي المخالفة بنحو الإطلاق والتقييد والقرينة مع ذي القرينة فهذا يقتضي أنّه في كل مورد تعارض فيه خبران فإنّ المقدّم هو الخبر الذي لا يخالف كتاب اللّه بهذا النحو من المخالفة التي لو كان هذا الخبر غير مبتل بالمعارضة لكان واجدا للحجية وصالحا لتقييد إطلاقات الكتاب وصالحا لصرف ظهورات الكتاب إلى النحو الذي يتناسب مع ظهوره.

والمتحصّل ممّا ذكرناه أنّ المرجح الأول هو مخالفة أحد الخبرين للكتاب فإنّ ذلك يقتضي ترجيح الآخر ، وأمّا الموافقة بمعنى التطابق التام بين مؤدى الخبر والنص القرآني فليس مرجحا ، إذ ليست هي المقصود من الرواية الشريفة.

وأمّا المرجّح الثاني :

وهو الترجيح بما خالف أخبار العامّة فهو يأتي في المرتبة الثانية من المرجّح الأوّل ، وهذا يقتضي عدم صحة التعويل عليه في حالات تواجد المرجّح الأول.

وكيف كان فمفاد الرواية الشريفة هو أنّ المرجح الثاني هو مخالفة أخبار العامة فمتى ما كان أحد الخبرين موافقا لأخبارهم وكان الآخر مخالفا لأخبارهم فإنّ مقتضى مفاد الرواية الشريفة هو سقوط الخبر الموافق عن الحجيّة ، ومنه ينقدح هذا الاستفهام وهو أنّ المرجح هل هو خصوص الموافق لأخبار العامة فلا يشمل الموافق لفتاواهم لو لم يكن مستندها

ص: 452

أخبارهم أو انّ المرجّح هو مطلق ما عليه العامّة من آراء ومتبنيات ولو كانت مستندة إلى غير الأخبار كالقياس والاستحسان؟

والجواب : أنّ المرجّح هو مطلق ما عليه العامة من آراء وفتاوى ، إذ أنّ هذا هو مقتضى مناسبات الحكم والموضوع فإنّه مع الالتفات إلى أنّ هذا المرجح ليس مرجحا تعبديا صرفا بل هو مبتن على الظروف التي كانت تقتضي التقية الداعية لصدور بعض الأحكام على نحو لا تكون مرادة جدا وواقعا ، بل إنّ الغرض منها التحاشي عن مخالفة العامة ومصادمتهم لما يترتّب عن مخالفتهم آنذاك من مضاعفات تعود بالضرر على أهل البيت علیهم السلام وشيعتهم « أعزهم اللّه تعالى » وإذا كان هذا هو المبرّر لهذا المرجح الجهتي فمن الواضح أنّه لا يختلف الحال فيه بين الموافقة للأخبار أو للفتاوى الغير المستندة إلى الأخبار وهذا ما يستوجب استظهار المثالية لعنوان أخبار العامة في الرواية الشريفة ، ويمكن تأييد ما ذكرناه بما روي عن أبي عبد اللّه علیه السلام أنّه قال : « أتدري لم أمرتم بالأخذ بخلاف ما تقول العامّة؟ فقلت : لا أدري ، فقال : إنّ عليا علیه السلام لم يكن يدين اللّه بدين إلاّ خالفت عليه الأمّة إلى غيره ، وكانوا يسألون أمير المؤمنين علیه السلام عن الشيء الذي لا يعلمونه فإذا أفتاهم ، جعلوا له ضدا من عندهم ليلبسوا على الناس » (1).

ص: 453


1- الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 24.

ص: 454

قاعدة التخيير للروايات الخاصّة

اشارة

كنا قد خرجنا عن قاعدة التساقط في خصوص الروايات المتعارضة ؛ وذلك لوجود الدليل الخاص على تقديم الخبر المشتمل على بعض المرجحات المنصوصة وقلنا إنّه في حالات عدم وجود المرجّح لأحد الخبرين المتعارضين فإنّ المرجع حينئذ هو قاعدة التساقط إلاّ انّه قد يدعى انّ قاعدة التساقط لا تجري مطلقا في الأخبار المتعارضة حتى في حالات فقد المرجحات المنصوصة ؛ وذلك لوجود أدلّة خاصة تدلّ على انّ الوظيفة في حالات فقد المرجّح المنصوص هو التخيير أي أنّ المكلّف في سعة من جهة اختيار أحد الخبرين المتعارضين ، فتكون هذه الروايات الخاصة قد كشفت عن جعل الشارع الحجيّة للأخبار المتعارضة ، ولكن بنحو تكون هذه الحجيّة مجعولة للخبرين المتعارضين على نحو التخيير بنفس التقريب الذي ذكرناه في الافتراض الرابع ، فنحن وإنّ قلنا هناك انّ أدلّة الحجيّة قاصرة عن إثبات الافتراض الرابع إلاّ أنّه كنّا نقصد من ذلك قصور أدلّة الحجيّة العامة فإذا كان هناك دليل يثبت جعل الحجيّة التخييريّة في حالات التعارض بين الخبرين فلا مانع من الالتزام به بعد إمكانه ثبوتا كما اتضح مما تقدم.

وكيف كان فلابدّ من ملاحظة هذه الأدلة الخاصة لنرى أنّها صالحة

ص: 455

لإثبات هذه الدعوى وأنّ المرجع في حالات التعارض بين الأخبار وعدم وجود المرجح هو التخيير وليس هو قاعدة التساقط أو أنّ هذه الأخبار الخاصة لا تنهض لإثبات هذه الدعوى.

وعمدة هذه الأدلّة هي معتبرة سماعة عن أبي عبد اللّه علیه السلام قال : سألته عن الرجل اختلف عليه رجلان من أهل دينه في أمر كلاهما يرويه أحدهما يأمر بأخذه والآخر ينهاه عنه كيف يصنع؟ فقال علیه السلام : « يرجئه حتى يلقى من يخبره فهو في سعة حتى يلقاه » (1).

وتقريب الاستدلال :

هو أنّ الإمام علیه السلام قد جعل المكلّف في سعة من جهة الخبرين المتعارضين وهذا يساوق معنى التخيير ، إذ لو كان الخبران ساقطين عن الحجيّة لما كان المكلّف في سعة من جهة الأخذ بأي الخبرين بل يلزمه عدم التعويل عليهما والرجوع في ذلك إلى ما تقتضيه الأدلّة العامّة أو الرجوع إلى الأصول العمليّة التي قد تقتضي التنجيز في بعض الحالات وهو ما ينافي السعة ، فلا محيص عن فهم التخيير من هذه الرواية الشريفة ، وبهذا يثبت المطلوب.

والإشكال على تقريب الاستدلال :

هو أنّ هذا الفهم غير متعيّن من الرواية ؛ إذ من المحتمل قويا أن يكون المراد من السعة في الرواية هو السعة من حيث لزوم الفحص عمّا هو الواقع والذي يستوجب مؤنة زائدة وهي تحرّي وجود الإمام علیه السلام والسفر إليه

ص: 456


1- الوسائل باب 9 من أبواب صفات القاضي ح 5.

لغرض سؤاله عن الواقع ، فهو في سعة من هذه المؤنة ، نعم لو اتفق أن التقى بالإمام علیه السلام فإنه ملزم بسؤاله عن الواقع ، ويبقى الكلام عن الوظيفة المتوجّهة للمكلّف في مثل هذه الحالة وهذه الجهة لم تتصدّ الرواية لبيانها فيكون المرجع حينئذ - وبمقتضى الإطلاق المقامي - هو البناء على الضوابط العامة أي الجريان على وفقها وكأنّه لم يرد عليه هذان الخبران المتعارضان ، فإن كان هناك عمومات أو إطلاقات فهي المرجع وإلاّ فالمرجع هو الأصول العملية بحسب ترتبها في الحجيّة.

وأمّا كيف يكون ذلك هو مقتضى الإطلاق المقامي فلأنّ الإمام علیه السلام لمّا كان في مقام البيان من جهة تحديد الوظيفة المتوجهة للمكلّف في الحالة المفترضة فكلّ شيء من المحتمل أن يكون المكلّف مسؤولا عنه ومع ذلك لم يذكره الإمام علیه السلام فهو يكشف عن عدم مسؤوليّة المكلّف عن ذلك الشيء.

وبعبارة أخرى : قد ذكرنا أنّ الإطلاق المقامي ينشأ عن استظهار أنّ المولى في مقام تعداد موضوعات الحكم المذكور في كلامه فلو كان في مقام بيان أجزاء المركب الواجب ولم يذكر أحد الأجزاء التي من المحتمل جزئيتها للمركب فهذا يكشف عن عدم كونها جزء لذلك المركب ، أو كان المولى مثلا في مقام تعداد مفطرات الصائم فإنّ الذي لم يذكره لا يكون من المفطرات بمقتضى الإطلاق المقامي.

والمقام من هذا القبيل ، إذ أنّ الإمام في مقام بيان الوظيفة تجاه حالة التعارض بين الخبرين فإذا جعل السعة من جهة الخبرين فحسب ولم يذكر أنّ المكلّف في سعة أيضا من جهة العمومات والإطلاق الخارجة عن أطراف المعارضة وكذلك لم يذكر أنّ المكلّف في سعة من جهة الأصول

ص: 457

العمليّة فعدم ذكره كاشف عن عدم شمول السعة للعمومات والأصول العمليّة.

والمتحصّل أنّ من المحتمل قويّا أن يكون المراد من السعة في الرواية الشريفة هو السعة من حيث لزوم الفحص المستوجب للمؤنة الزائدة ، وإذا كان كذلك فالرواية مجملة فلا يمكن استظهار المعنى الأول منها.

وبهذا لا تكون صالحة للاستدلال بها على جعل الحجيّة بنحو التخيير للخبرين المتعارضين.

ص: 458

التعارض بين الأصول العمليّة

وكيفية تصوير التعارض في الأصول العمليّة هو أن يفترض عروض أصلين عمليين على موضوع واحد يكون أحدهما مقتضيا لثبوت المنجزيّة ويكون الآخر مقتضيا لنفيها أو يكون أحدهما مقتضيا لأثر شرعي ويكون مقتضى الآخر أثرا شرعيا منافيا للأثر الشرعي الأول كما في حالات استصحاب مجهولي التاريخ.

وحالات التعارض المستحكمة تجري فيها قاعدة التساقط ، وقد لا يكون التعارض بين الأصول مستحكما ، كالتعارض البدوي الواقع بين أصالة الاحتياط العقلي وبين أصالة البراءة الشرعيّة فالتعارض في هذا المورد غير مستقر ؛ وذلك لأن العلاقة بينهما علاقة الوارد والمورود فأصالة البراءة واردة على أصالة الاحتياط العقلي.

وتقريب ذلك : أنّ أصالة البراءة الشرعيّة تنفي موضوع أصالة الاحتياط العقلي حقيقيّة ؛ وذلك لأنّ موضوع أصالة الاحتياط العقلي هو احتمال التكليف مع عدم الترخيص الشرعي ، * وأصالة البراءة الشرعيّة تنفي عدم الترخيص ، إذ أنّها ترخيص في الترك حقيقة ، غايته أنّ الترخيص تمّ بواسطة التعبّد الشرعي وهذا هو معنى الورود كما بينا ذلك.

وقد لا تكون العلاقة بين الأصلين علاقة الوارد والمورود كما في

ص: 459

حالات التعارض البدوي بين البراءة والاستصحاب ، ومثاله ما لو كان المكلّف يعلم بحرمة العصير العنبي ثمّ إنّه لمّا ذهب ثلثاه بواسطة الشمس شك في بقاء الحرمة فإنّ مقتضى أصالة الاستصحاب هو الحرمة ومقتضى أصالة البراءة هو عدم الحرمة.

وهنا ذهب مشهور الفقهاء « رضوان اللّه عليهم » إلى أنّ المقدم في مثل هذه الحالات هو أصالة الاستصحاب واستدلوا على ذلك بدليلين :

الدليل الأوّل : هو حكومة أصالة الاستصحاب على أصالة البراءة ؛ وذلك لأنّ دليل الاستصحاب ناظر إلى دليل البراءة وناف لموضوعها تعبدا وتنزيلا ، إذ أنّ موضوع أصالة البراءة هو عدم العلم بالحرمة وأصالة الاستصحاب قد نزّلت مشكوك الحرمة المعلومة سابقا منزلة اليقين ببقائها ، وهذا اللسان قرينة على النظر - كما بيّنا ذلك - وبالتالي يكون أصل الاستصحاب حاكما على أصالة البراءة لأنّه ينفي موضوعها تنزيلا ويعتبر الشك في الحرمة المسبوقة بالعلم علما ، فكأنّ الاستصحاب يلغي موضوع البراءة وهو الشك ويجعله علما عملا وفي مقابل ذلك لانجد أنّ دليل أصالة البراءة يعتبر عدم العلم بالحرمة علما بعدم الحرمة ، بل إنّ غاية ما يثبته دليل البراءة هو أنّه متى ما تحقّق الشك فإنّ المكلّف في سعة من جهة التكليف المشكوك ، ومن هنا لا يكون لدليل البراءة نظر لأيّ دليل آخر.

وممّا ذكرناه يتّضح أنّ كل مورد يكون مجرى للأصلين فإنّ أصالة الاستصحاب تكون متقدّمة باعتبار حاكميتها على أصالة البراءة.

الدليل الثاني : أظهرية دليل الاستصحاب على دليل البراءة فيقدم دليليه على دليل البراءة لقاعدة تقديم الأظهر على الظاهر والتي منشؤها

ص: 460

قرينية الأظهرية على المراد الجدّي من الظاهر.

وتقريب ذلك : هو أنّ بعض أدلّة الاستصحاب نهت عن نقض اليقين بالشك بنحو التأبيد كما في معتبرة زرارة « ولا ينقض اليقين أبدا بالشك » وهذا ما يجعل دليل الاستصحاب أوضح في الشمول لموارده من دليل البراءة والتي اتضح أنّ دليلها على الشمول لمواردها هو الإطلاق.

ومن الموارد التي يكون فيها أحد الأصلين مقدّما على الآخر هو موارد الاستصحاب السببي والاستصحاب المسببي ، وقد بينا في بحث الاستصحاب منشأ تقدم الاستصحاب السببي على المسببي وقلنا إنّ منشأ ذلك هو حاكمية الأصل السببي على المسببي.

ص: 461

ص: 462

التعارض بين الأدلّة المحرزة

اشارة

والأصول العمليّة

والكلام تارة يقع عن حالات التعارض بين الأدلّة المحرزة القطعيّة مع الأصول العمليّة ، وتارة عن حالات التعارض بين الأدلّة المحرزة الظنيّة المعتبرة مع الأصول العمليّة.

أمّا حالات التعارض بين الأدلة القطعية والأصول العمليّة :

فلم يقع الإشكال في تقدّم الأدلّة المحرزة القطعيّة على الأصول العمليّة في موارد اتحادهما في الموضوع واختلافهما في النتيجة ، كما لو كان مؤدى الدليل القطعي الحرمة ومؤدى الأصل العملي عدم الحرمة.

ومنشأ تقدم الأدلّة المحرزة القطعيّة على الأصول هو أنّ الأدلّة المحرزة واردة على أدلّة الأصول ونافية لموضوعها حقيقة ، حيث إنّ موضوع الأصل العملي هو الشك في الحكم الواقعي فعندما يكون هناك دليل قطعي فإنّ موضوع الأصل ينتفي إذ لا شك في حالات قيام الدليل القطعي ، فمع عدم الشك يكون موضوع الأصل العملي منتفيا حقيقة وواقعا ، وهذا هو معنى الورود.

مثلا : لو كنّا نشك في حرمة الميتة فإنّ دليل البراءة الشرعية يقتضي

ص: 463

عدم الحرمة. ثم لو نصّ القرآن الكريم على حرمة الميتة - كما هو كذلك - ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ) (1) فإنّ الآية الشريفة وبمقتضى نصوصيتها تكون واردة على دليل البراءة أي أنّها تنفي موضوع الحكم في دليل البراءة وهذا النفي يكون حقيقيا ؛ وذلك لأنّ موضوع البراءة هو الشك في الحرمة ومع نص القرآن الكريم على الحرمة ينتفي الشك في الحرمة ويكون النص القرآني موجبا للعلم بالحرمة ، فموضوع البراءة قد انتفى حقيقة بواسطة الدليل الوارد.

وأمّا حالات التعارض بين الأمارات المعتبرة والأصول :

فإنّ الذي عليه العمل عندهم هو تقديم الأمارات على الأصول العمليّة ، فلو كان مؤدى خبر الثقة مثلا هو الحرمة ومقتضى البراءة الشرعية هو عدم الحرمة فإنّ المقدم هو خبر الثقة رغم اتحاد موضوعهما والذي هو الشك في الحكم الواقعي ، وهذا كما قلنا ليس محلا للإشكال عملا وإنّما وقع البحث عن التخريج الصناعي لهذا التقديم ، وهنا ذكرت مجموعة من المحاولات ذكر المصنّف رحمه اللّه منها محاولتين :

المحاولة الأولى : هي دعوى ورود أدلّة الأمارات على أدلّة الأصول العمليّة ، وقد يبدو بالنظرة الأولى فساد هذه الدعوى ؛ وذلك لأنّ قوام الورود هو نفي الدليل الوارد لموضوع الحكم في الدليل المورود حقيقة وهذا غير حاصل في المقام لأنّ موضوع الأصل العملي هو عدم العلم وحين قيام الأمارة لا ينتفي موضوع الأصل ، إذ أنّ الأمارة لا تنتج العلم بل غاية ما تنتجه هو الظن فيظلّ موضوع البراءة منحفظا في موارد قيام الأمارات.

ص: 464


1- سورة المائدة آية 3.

مثلا لو وقع الشك في حرمة شرب المائع المتنجّس فإنّ مقتضى أصل البراءة الشرعية هو عدم الحرمة وذلك لأنّ موضوعها عدم العلم وفرض المثال أنّ المكلّف غير عالم بالحرمة ، فلو أخبر الثقة بعد ذلك عن ثبوت الحرمة شرعا للمائع المتنجس فإنّ هذا الخبر لا يلغي موضوع أصل البراءة والذي هو عدم العلم ، إذ يبقى المكلّف غير عالم بثبوت الحرمة شرعا ، وهذا يعني أنّ الأمارة لا تنفي موضوع الأصل حقيقة ، إذ أنّ انتفاء موضوع الأصل لا يكون إلاّ في حالة إيجاب الأمارة للعلم وهذا ما لا يسع الأمارة تحقيقه ، وإذا كان كذلك فلا تصلح أن تكون واردة على الأصل العملي لعدم نفيها الحقيقي لموضوع الأصل.

إلاّ أنّ أصحاب هذه المحاولة اتخذوا طريقا آخر لإثبات دعوى الورود ، وحاصله :

إنكار أن يكون موضوع الأصل هو عدم العلم الحقيقي والذي نقيضه القطع والانكشاف التام ، وقالوا إنّ موضوع الأصل العملي هو عدم الحجّة ، فمجرى الأصل العملي إنّما يكون في موارد عدم قيام الحجّة ، ومن الواضح أنّه بناء على هذه الدعوى تكون أدلّة الأمارات واردة على أدلة الأصول ؛ وذلك لأنّ أدلّة الحجيّة قد أثبتت الحجيّة للأمارات وحينئذ تكون الأمارة حجّة حقيقة وبقيامها في مورد من الموارد ينتفي موضوع الأصل العملي حقيقة ؛ وذلك لأنّ موضوع الأصل هو عدم الحجّة وأدلّة الحجيّة للأمارة تثبت فردا حقيقيا للحجة فعندما تكون الأمارة دالة على حكم فهذا يعني قيام الحجة على ذلك الحكم وقيام الحجة ينفي عدم الحجة حقيقة ، غايته أنّ ثبوت الحجيّة للأمارة إنّما تم بواسطة التعبّد الشرعي.

فقيام الأمارة على حرمة شرب السائل المتنجس معناه نفي عدم

ص: 465

الحجة عن حرمة شرب السائل المتنجّس. وعندما ينتفي عدم الحجّة والذي هو موضوع البراءة لا تكون البراءة جارية.

وبهذا تمّ إثبات ورود الأمارات على الأصل العملي وثبت بذلك المبرّر للتقديم.

المحاولة الثانية : وهي دعوى حكومة أدلّة الأمارات على أدلّة الأصول العمليّة ، وذلك مع التحفظ على أنّ موضوع الأصل العملي هو عدم العلم والذي نقيضه القطع والانكشاف التام ، فموضوع الأصل بناء على هذا ليس عدم الحجّة حتى تكون الأمارات واردة بل هو عدم العلم ، ومع ذلك تقدم الأمارات والتي لا تفيد العلم الحقيقي على الأصل العملي ؛ وذلك لحكومة أدلّة الأمارات على أدلّة الأصول العمليّة.

وبيان ذلك : إنّ أدلّة الأمارات قد نزّلت الأمارات منزلة العلم أو قل بتعبير أدق إنّ المجعول في الأمارات هو العلميّة ، فالأمارة علم تعبّدا ، فهي وإن كانت لا تفيد العلم واقعا إلاّ أنّ الشارع قد وسّع من دائرة العلم وجعل الأمارة فردا من أفرادها على سبيل المجاز العقلي السكاكي ، وإذا كان كذلك ففي كل مورد تقوم الأمارة على شيء فهذا يعني قيام العلم التعبدي ، ولمّا كان موضوع الأصل هو عدم العلم فإنّ الأمارة تنفي موضوع الأصل تعبدا إذ أنّها تحقّق العلم فموضوع الأصل كما ينتفي في حالات العلم الحقيقي ينتفي كذلك في حالات العلم التعبدي ببركة التنزيل الثابت بأدلة الحجيّة للأمارة ، وهذا هو معنى حكومة أدلّة الأمارة على أدلّة الأصول ، حيث إنّ الحكومة تعني النظر في الدليل المحكوم لغرض شرحه وتفسيره ، فأدلّة الأصول العمليّة « المحكومة » جعلت البراءة مثلا في حالات عدم العلم وجاءت أدلّة الأمارات « الحاكمة » وشرحت المراد من موضوع البراءة الوارد في دليلها

ص: 466

وأفادت أنّ المراد من عدم العلم هو عدم العلم الأعم من الحقيقي والتعبّدي.

وحنيئذ فقيام الأمارة ينفي موضوع الأصل إذ أنّ موضوع الأصل هو عدم العلم والأمارة علم ، وهذا هو منشأ دعوى قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي عند أصحاب هذه المحاولة.

وتطبيق ذلك على المورد هو أنّ الأصل العملي أخذ في موضوعه عدم العلم ، وهذا يعني أنّ العلم جزء في موضوع الأصل فيكون الأصل العملي منوطا بالقطع الموضوعي ، إذ كل حكم أخذ في موضوعه القطع والعلم أو عدم العلم يكون حكما معلّقا على القطع الموضوعي ، وإذا كان كذلك فالحكم وهو البراءة مثلا لا تتحقّق إلاّ مع انتفاء العلم ولا تنتفي إلاّ في حالات العلم والقطع بالحكم ، فحينما يقطع المكلّف بالحكم الشرعي تكون البراءة منتفية في مورده بلا ريب ؛ لأنّه لمّا كان موضوع البراءة عدم العلم فالحكم بالبراءة يكون منتفيا عند العلم.

وعندما لا يكون المكلّف عالما بالحكم - حتى وان كان يظن به - فإنّ البراءة تجري في حقه وذلك لأنّ القطع قد أخذ عدمه موضوعا في جريان البراءة وهذا متحقّق في حالات الظن بالحكم ، ومن هنا تجري البراءة في موارد الظن بالحكم إلاّ أنّه لما كانت الأمارات علما تعبدا بمقتضى دليل حجيتها فإنها تقوم مقام العلم وحينئذ يكون تحققها موجبا لانتفاء موضوع البراءة.

وحتى يتضح المطلب أكثر ننظّر لهذا المورد بهذا المثال : لو قال المولى المرأة التي لا يعلم بكونها ذات بعل يجوز الزواج منها فالعلم في المثال قطع موضوعي وذلك لأنّ عدمه أخذ في موضوع الجواز ، وعليه يجوز للمكلّف الزواج من كلّ امرأة لا يعلم بكونها ذات بعل ، والذي ينفي الحكم بالجواز

ص: 467

هو العلم بكون المرأة ذات بعل وذلك لانتفاء موضوعه ، ولا شيء يوجب انتفاء الحكم بالجواز إلاّ هذه الحالة أي حالة العلم بكون المرأة ذات بعل.

ومن هنا لو قامت البينة على أنّ هذه المرأة ذات بعل فإنّ ذلك لا يمنع من جواز الزواج منها - لو كنّا نبني على أنّ البينة ليست علما - إلاّ أنّه لمّا كانت أدلّة الحجيّة للبينة قد جعلت البينة علما فهذا يعني صلاحية البينة لنفي موضوع الجواز حيث إنّ موضوعه عدم العلم والأمارة علم ، وهذا هو معنى قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي ، أي أنّ الدور الذي يقوم به القطع الموضوعي في تنقيح موضوع الحكم تقوم به الأمارات باعتبار أنّ دليل الحجيّة قد أهّلها لهذا الدور.

وباتضاح هذا المثال يتّضح كيفيّة قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي في نفي موضوع أصالة البراءة ، إذ أنّ الذي ينفي موضوع البراءة هو العلم والأمارة علم تعبدا وتنزيلا.

اللّهم صلّ على محمّد عبدك ورسولك وصلّ على العبد الصالح والسيّد الأكبر عليّ بن أبي طالب علیه السلام وصلّ على آل محمّد الأبرار الأخيار الّذين أذهب اللّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، والحمد لله ربّ العالمين.

قد تمّ الشروع - بتوفيق اللّه تعالى - في تأليف هذا الكتاب ليلة الجمعة في الثالث من ربيع الأول سنة 1420 ه ، وقد تمّ بحمد اللّه ومنّه الفراغ منه في ليلة الجمعة الموافق للسادس والعشرين من جمادى الثانية سنة 1420 هجرية على مهاجرها ألف سلام وتحيّة.

ص: 468

المحتويات

المقدّمة... 5

الدليل العقلي... 5

المراد من الدليل العقلي... 7

انقسام القضايا العقليّة... 12

تحرير محل النزاع في حجيّة الدليل العقلي... 16

إثبات القضايا العقلية... 19

المستقلات العقلية... 19

غير المستقلات العقلية... 20

القضايا التحليليّة والقضايا التركيبيّة... 20

القضايا العقلية النافية للحكم الشرعي والقضايا المثبتة له... 22

تفاعل القضايا العقلية فيما بينها... 22

قاعدة استحالة التكليف بغير المقدور... 25

المعنى الأول للقاعدة... 26

ص: 469

المعنى الثاني للقاعدة... 26

الثمرة المترتبة على المعنيين... 32

قاعدة إمكان التكليف المشروط... 37

الإشكال على إمكان التكليف المشروط... 38

الجواب عن الإشكال... 39

قاعدة تنوّع القيود وأحكامها... 43

تنوّع القيود... 43

القيود الراجعة للحكم ومتعلّقه... 46

أحكام القيود المتنوعة... 47

الضابط لتشخيص حكم القيد... 48

قيود الواجب على قسمين... 51

المسؤوليّة قبل الوجوب... 54

القيود المتأخرة زمانا عن المقيّد... 59

القيود المقارنة... 59

القيود المتقدمة... 59

القيود المتأخرة... 60

دعوى استحالة الشرط المتأخر والجواب عليها... 61

زمان الوجوب والواجب... 65

هل الواجب المعلّق ممكن أو مستحيل؟... 66

ص: 470

الثمرة المترتبة على القولين... 67

متى يجوز عقلا التعجيز... 71

تعجيز النفس بعد زمان الفعليّة... 71

تعجيز النفس قبل زمان الفعلية... 72

أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم... 75

استحالة اختصاص الحكم بالعلم به... 75

الجواب على دعوى الدور... 77

الثمرة المترتبة على القول بالاستحالة... 80

أخذ العلم بالحكم في موضوع حكم آخر... 81

أخذ قصد امتثال في متعلّقه... 85

المراد من الواجب التوصّلي والواجب التعبّدي... 85

إمكان أخذ قصد الأمر في الواجب... 86

الثمرة على القول بالاستحالة... 87

اشتراط التكليف بالقدرة بمعنى آخر... 91

الدليل على اشتراط التكليف بالقدرة بالمعنى الأعم... 92

حالات التزاحم... 93

الإشكال على الترتّب والجواب عليه... 95

التخيير والكفائية في الواجب... 97

أقسام الواجب التخييري... 97

ص: 471

التخيير الشرعي في الواجب... 98

التفسير الأول للتخيير الشرعي... 99

التفسير الثاني للتخير الشرعي... 101

الإشكال على التفسير الثاني... 102

الثمرة المترتبة على تفسيري الوجوب التخييري... 105

الوجوب التخييري بين الأقل والأكثر... 106

الوجوب الكفائي... 108

التخيير العقلي في الواجب... 114

امتناع اجتماع الأمر والنهي... 117

المورد الأول... 118

المورد الثاني... 121

الثمرة المترتبة على استحالة الاجتماع وإمكانه... 124

الوجوب الغيري لمقدمات الواجب... 125

خصائص الوجوب الغيري... 128

الثمرة المترتّبة على القول بوجوب مقدمة الواجب شرعا... 130

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه... 133

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه العام... 134

الأقوال في نحو الاقتضاء... 134

اقتضاء وجوب الشيء لحرمة ضدّه الخاص... 136

الدليل على الاقتضاء... 136

ص: 472

الجواب الحلّي على الدليل... 137

الجواب النقضي على الدليل... 138

محاولة أخرى لإثبات مقدمية أحد الضدين لفعل الضد الآخر... 139

الجواب عن هذه المحاولة... 141

ثمرة الخلاف في الضد الخاص... 141

اقتضاء الحرمة للبطلان... 143

اقتضاء الحرمة في العبادات للفساد... 143

اقتضاء الحرمة في المعاملات للفساد... 146

النهي الإرشادي... 150

مسقطات الحكم... 153

إجزاء المأمور به بالأمر الاضطراري عن المأمور به بالأمر الأولي... 156

إمكان النسخ وتصويره... 161

إمكان النسخ في مرحلة مبادئ الحكم... 161

إمكان النسخ في مرحلة الجعل والاعتبار... 163

الملازمة بين الحسن والقبح والأمر والنهي... 165

المراد من معنى الحسن والقبح العقليين... 165

الملازمة بين الحكم العقلي والحكم الشرعي... 166

تفصيل بعض المحققين... 167

ص: 473

الاستقراء والقياس... 169

متى يمكن الاستفادة من الاستقراء والقياس... 169

المراد من الاستقراء وكيفية الاستفادة منه... 169

المراد من القياس وكيفية الاستفادة منه... 171

حجيّة الدليل العقلي... 175

حجيّة الدليل العقلي القطعي... 175

الانتصار للأخباريين... 176

حجية الدليل العقلي الظني... 178

الأصول العملية... 181

القاعدة العملية الأولية في حالة الشك... 185

الدليل على البراءة العقلية والجوابه عليه... 187

البراءة الشرعية... 192

أدلة البراءة الشرعية... 192

الاستدلال بآية ( لا يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً ... ) ... 192

إشكال الشيخ الأنصاري على الاستدلال بالآية... 195

الاستدلال بآية ( وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ ... ) ... 198

الجواب على الاستدلال بالآية المباركة... 199

الاستدلال بآية ( قُلْ لا أَجِدُ .. ) ... 200

الجواب على الاستدلال بالآية... 200

الاستدلال بآية ( وَما كانَ اللّهُ لِيُضِلَ ... ) ... 201

ص: 474

الاستدلال بالسنة الشريفة... 202

الإستدلال برواية « كل شيء مطلق .. »... 202

الجواب على الاستدلال بالرواية... 203

الاستدلال بحديث الرفع... 205

إثبات أنّ الرفع في الرواية ظاهري... 206

إثبات أنّ المرفوع هو مطلق ما لا يعلمون... 209

اختصاص الرفع بالشبهات الموضوعية... 211

اختصاص الرفع بالشبهات الحكمية... 214

شمول الرفع لموارد الشك في الموضوع والشك في الحكم... 217

تصويران للجامع... 218

الاستدلال بحديث الحجب... 222

الإشكال على تقريب الاستدلال... 223

الاستدلال برواية « كل شيء فيه حلال ... »... 226

اختصاص الرواية بالشبهات الموضوعية... 227

الاستدلال على البراءة بعموم دليل الاستصحاب... 230

التقريب الأول والثاني لاستصحاب نفي التكليف... 230

إشكال المحقق النائيني على تقريبي الاستصحاب... 230

الجواب على إشكال المحقق النائيني... 232

الاعتراضات على أدلة البراءة... 235

الاعتراض الأول والجواب عليه... 235

الاعتراض الثاني والجواب عليه... 237

ص: 475

تحديد مفاد البراءة... 249

البراءة مشروطة بالفحص... 249

التمييز بين الشك في التكليف والشك في المكلّف به... 253

التميز بين مجرى الأصلين في الشبهات الحكمية والموضوعية... 255

البراءة عن الاستصحباب... 263

قاعدة منجّزية العلم الإجمالي... 267

منجّزية العلم الإجمالي عقلا... 273

جريان الأصول في أطراف العلم الإجمالي... 279

دليل المشهور على استحالة جريان الأصول في تمام الأطراف... 279

الدليل الإثباتي على عدم جريان الأصول في تمام الأطراف... 283

تحديد أركان القاعدة... 287

الركن الأول : وجود العلم بالجامع... 287

الركن الثاني : عدم سراية الجامع إلى أحد أطرافه... 288

الركن الثالث : جريان الأصول المؤمّنة في تمام الأطراف لولا المعارضة... 288

الركن الرابع : أن يلزم من إجراء الأصول المخالفة القطعية... 290

سقوط المنجّزية عن العلم الإجمالي... 290

سقوط المنجّزيّة بسبب اختلال الركن الأوّل... 290

سقوط المنجّزيّة بسبب اختلال الركن الثاني... 292

ص: 476

سقوط المنجّزيّة بسبب اختلال الركن الثالث... 295

سقوط المنجّزيّة بسبب اختلال الركن الرابع... 297

حالة تردد الواجب بين الأقل والأكثر... 298

العلم بوجوب الأكثر مع الشك في إطلاقه... 304

حالة احتمال الشرطية... 306

التفصيل بين الشرط الراجع للمتعلّق والشرط الراجع للقيد... 307

حالات دوران الواجب بين التعيين والتخيير... 311

الاستصحاب... 315

تعريف الاستصحاب... 317

إشكال السيد الخوئي رحمه اللّه ... 319

الجواب على إشكال السيد الخوئي رحمه اللّه ... 321

التمييز بين الاستصحاب وغيره... 323

قاعدة اليقين... 323

قاعدة المقتضي والمانع... 326

أدلة الاستصحاب... 329

الدليل العقلي والجواب عليه... 329

السيرة العقلائية والجواب عليها... 331

الاستدلال بالروايات... 331

الجهة الأولى : في فقه هذه الفقرة « وإلا فإنه عليه يقين ... »... 332

الجهة الثانية : في أنّ عدم وجوب الوضوء هل نشأ من قاعدة المقتضى أو الاستصحاب 341

ص: 477

الجهة الثالثة : عن إفادة الرواية لكبرى حجية الاستصحاب... 343

أركان الاستصحاب... 347

الركن الأول : اليقين بالحدوث... 347

المشكلة الناشئة عن ركنية هذا الركن وعلاجها... 348

الركن الثاني : الشك في البقاء... 349

شمول الاستصحاب لحالات الشك التقديري... 350

الثمرة المترتبة على ذلك والإشكال عليها... 350

الركن الثالث : وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة... 352

الإشكال الذي ينشأ عن ركنية هذا الركن... 354

معالجة الإشكال... 355

الركن الرابع : أن لاستصحاب الحالة السابقة أثر عملي... 358

الصياغة الأولى والجواب عليها... 358

الصياغة الثانية... 361

بيان دليل ركنية هذا الركن... 363

مقدار ما يثبت بالاستصحاب... 367

بيان موضوع البحث... 367

الدليل على عدم حجية الأصل المثبت... 369

عموم جريان الاستصحاب... 373

التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع... 373

الدليل على التفصيل والجواب عليه... 375

ص: 478

تطبيقات... 379

الأوّل : استصحاب الحكم المعلّق... 379

الثاني : استصحاب التدريجيّات... 383

الثالث : استصحاب الكلّي... 386

الرابع : الاستصحاب في حالات التقدم والتأخر... 391

حالات مجهولي التاريخ... 398

توارد الحالتين... 404

الخامس : الاستصحاب في حالات الشك السببي والمسبّبي... 405

تعارض الأدلّة... 413

التعارض بين الأدلة المحرزة... 415

التعارض بين الدليل العقلي القطعي وسائر الأدلة... 417

التعارض بين الأدلة الشرعيّة... 418

التعارض بين الأدلة الشرعية اللفظيّة... 419

حالات التنافي في مرحلة الجعل... 420

حالات التنافي في مرحلة المجعول... 423

بيان المراد من الورود... 425

حالات التنافي في مرحلة الامتثال... 428

قاعدة الجمع العرفي... 431

الإعداد الشخصي... 432

المراد من الحكومة... 433

الفرق بين الورود والحكومة... 437

ص: 479

الإعداد النوعي... 439

قاعدة تساقط المتعارضين... 441

الافتراضات المتصورة في مقام الثبوت... 442

مقدار ما يسقط عن الحجيّة في حال التعارض... 445

قاعدة الترجيح للروايات الخاصة... 449

المرجّح الأول والمراد منه... 450

المرجّح الثاني والمراد منه... 452

قاعدة التخيير للروايات الخاصة... 455

معتبرة سماعة وتقريب الاستدلال بها... 456

الإشكال على تقريب الاستدلال... 456

التعارض بين الأصول العملية... 459

حكومة الاستصحاب على أصالة البراءة... 460

التعارض بين الأدلة المحرزة والأصول العمليّة... 463

التعارض بين الأدلة القطعية والأصول العمليّة... 463

حالات التعارض بين الأمارات المعتبرة والأصول... 464

المحتويات... 469

ص: 480

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.