هذه فاطمة صلوات الله عليها المجلد 7

هوية الكتاب

اسم الكتاب: هذه فاطمة صلوات الله عليها

اسم المؤلف: السيد نبيل الحسني

التنضيد: محمد رزاق السعدي

الإخراج الفني: احمد محسن المؤذن

التدقيق اللغوي: أ. خالد جواد العلواني

المتابعة الطباعية والتوزيع: إحسان خضير عباس

إصدار شعبة الدراسات الإسلامية في قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد لسنة 2012-2805

الرقم الدولي ISBN : 9789933489519

الحسني، نبيل، 1965 - م.

هذه فاطمة صلوات الله وسلامه عليها: وهي قلبي وروحي التي بين جنبي (النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم): دراسة وتحليل نبيل الحسني. ط 1 - كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. شعبة الدراسات والبحوث الإسلامية، 1434 ق. = 2013 م.

8 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 100).

المصادر.

1. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. السيرة. 2. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - فضائل. 3. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - في القرآن. 4. واقعة إحراق باب دار فاطمة الزهراء (س)، 11 ق. 5. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. إيذاء وتعقيب. 6. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - الشهادة. 7. الشيعة - أحاديث.

تمت الفهرسة في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة قبل النشر

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: هذه فاطمة صلوات الله و سلامه عليها و هی قلبي و روحي التي بین جنبي

کاتب:نبیل حسنی

المنتج: العتبة الحسینیة المقدسة. قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة. شعبة الدراسات و البحوث الإسلامیة

عدد المجلدات :8 ج

لسان: العربي

الناشر:العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة - کربلای معلی عراق

سنة النشر: 1434 هجری قمری|2013 میلادی

قانون الكونجرس:/ح5ھ4 27/2 BP

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الفصل الاول: النبى صلى الله عليه وآله وسلم يهيئ اهل بيته لتلقى المصائب والمحن

اشارة

ص: 5

ص: 6

توطئة

قد يبدو العنوان فيه نوع من الغرابة أو الاستفهام لدى القراء الكرام الذين لم يتخذوا من المدرسة الإمامية وفكرها مذهباً عقدياً وتعبدياً يتقربون به إلى الله تعالى ويقبلون به إليه في يوم الحشر:

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولٰئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتٰابَهُمْ وَ لاٰ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)(1).

وذلك أن هذه الشخصية قد منحها الله تعالى من الكرامات والخصائص ما لم تحظَ به امرأة من العالمين من أمها حواء عليها السلام وإلى آخر امرأة يحشرها الله تعالى.

فهي مع ما اختصت به ذاتها المباركة، ابنة سيد الأنبياء والمرسلين الوحيدة(2)؛

ص: 7


1- سورة الإسراء، الآية: 71.
2- إن حقيقة انجاب أم المؤمنين خديجة بنت خويلد عليها السلام لأربع بنات وهنّ: زينب، وأم كلثوم، ورقية، وفاطمة عليها السلام لم تثبت عند كثير من الباحثين والمحققين على الرغم من شهرة هذه المسألة وثبوتها عند الكثيرين من أتباع أهل الجماعة، أو عند الإمامية، ولقد وفقنا الله تعالى إلى البحث

وزوجة سيد الوصيين وأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، وأم الحسن والحسين سبطي هذه الأمة وريحانتي النبي من الدنيا وسيدي شباب أهل الجنة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

فضلاً عن ذلك فقد عاشت في زمنٍ هو خير الأزمان، وفي قرن هو خير القرون(1)، وبين البدريين وأهل حنين فكيف يكون لها مصائب ومحن؛ وهي لم تبقَ بعد أبيها إلاّ أياماً قليلة، أربعين أو خمسة وسبعين.

أفتخون الدنيا بتلك السرعة بعباد الله المخلصين، أم تجور الأيام على الصالحين وأركان الدين؟!

إنها تساؤلات كثيرة، واستفهامات عديدة سنقف عندها في هذا الجزء بعون الله ولطفه وسابق عنايته ورحمته وما توفيق إلاّ بالله.

ص: 8


1- صحيح البخاري، كتاب الشهادات: ج 3، ص 151؛ والحديث غريب مع الواقع الذي عاشه المسلمون بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد انتهكت حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأوذي أشد الأذى في عترته وذريته، فضلاً عن اختلاف الصحابة، وتقاتلهم، وتكفير بعضهم لبعض كما يشهد التاريخ والسيرة ومصنفوها.

المبحث الأول: إخبار النبي صلى الله عليه وآله فاطمة وبعلها وبنيها عليهم السلام بما يجري عليهم من بعده

اشارة

تعد مسألة إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالغيبيات من المسائل التي زخرت بها كتب الحديث الشريف حتى باتت من المسائل البديهية والعناوين الأساسية في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لاسيما وأنها أحد الدلالات النبوية في اختصاصه صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة؛ فمنها على سبيل الاستشهاد.

1 - أخرج مسلم في الصحيح عن أم سلمة وأحمد في المسند عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم قال لعمار:

«تقتلك الفئة الباغية»(1).

وفي لفظ أحمد: (ويحك ابن سمية تقتلك الفئة الباغية)(2).

ولقد استشهد عمار بن ياسر في معركة صفين حينما كان يقاتل مع أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في حربه لزعيم الفئة الباغية معاوية بن أبي سفيان.

ص: 9


1- صحيح مسلم، باب تقوم الساعة حتى يمر الرجل: ج 8، ص 186.
2- مسند أحمد: ج 3، ص 5، من حديث أبي سعيد الخدري.

2 - أخرج أبن أبي شيبة في المصنف عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أيتكم صاحبة الجمل الأدبب، يقتل حولها قتلى كثيرة تنجو بعد ما كادت»(1).

ولقد خرجت عائشة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام لقتال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام في البصرة في واقعة سميت بوقعة الجمل.

3 - أخرج الحاكم في المستدرك عن عوف بن مالك قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«ستفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة»(2).

وفي لفظ:

«ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة»(3).

وغيرها من الشواهد التي تحدث فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الغيبيات فكان من بينها حديثه صلى الله عليه وآله وسلم مع أهل بيته وعترته فاطمة وعلي والحسن والحسين عما ينزل عليهم من البلايا والمصائب وتكالب القوم عليهم قتلاً ونهباً وتشريداً.

فكان منها، أي من هذه الأحاديث ما هو على وجه العموم حينما يجتمعون

ص: 10


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي، في مسيرة عائشة: ج 8، ص 711؛ فتح الباري لابن حجر: ج 13، ص 46؛ مسند ابن راهويه: ج 2، ص 33.
2- مستدرك الحاكم: ج 4، ص 430؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 10، ص 208.
3- مسند أحمد: ج 2، ص 333؛ سنن ابن ماجه: ج 2، ص 1321؛ سنن أبي داود: ج 2، ص 390.

مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما سيمر بيانه، ومنها ما كان على وجه الخصوص وكشفه صلى الله عليه وآله وسلم لبضعته وقلبه فاطمة عليها السلام.

المسألة الأولى: إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عترته بما يجري عليهم من بعده

تكشف الروايات عن اجتماع النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع عترته (علي وفاطمة وولديهما الحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم) وإخبارهم بما يجري عليهم من بعده من البلايا والمحن والمصائب، فكانت كالآتي:

1 - أخرج الشيخ جعفر بن محمد بن قولويه، عن عقيلة الهاشميين، زينب ابنة علي عليهما السلام، أنها قالت:

(حدثتني أم أيمن أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زار منزل فاطمة عليها السلام في يوم من الأيام، فعملت له حريرة وأتاه علي عليه السلام بطبق فيه تمر، ثم قالت أم أيمن: أفأتيتهم بعش فيه لبن وزبد، فأكل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام من تلك الحريرة، وشرب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشربوا من ذلك اللبن، ثم أكل وأكلوا من ذلك التمر والزبد ثم نظر إلى علي وفاطمة والحسن والحسين نظراً عرفنا السرور في وجهه، ثم رمق بطرفه نحو السماء ملياً، ثم وجه وجهه نحو القبلة وبسط يديه ودعا، ثم خر ساجداً وهو ينشج فأطال النشوج وعلا نحيبه وجرت دموعه، ثم رفع رأسه وأطرق إلى الأرض ودموعه تقطر كأنها صوب المطر، فحزنت فاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام وحزنت معهم لما رأينا من رسول الله صلى الله عليه وآله

ص: 11

وسلم وهبناه أن نسأله حتى إذا طال ذلك قال له علي وقالت له فاطمة عليها السلام:

«ما يبكيك يا رسول الله لا أبكى الله عينيك، فقد أقرح قلوبنا ما نرى من حالك؟».

فقال:

«يا أخي سررت بكم سرورا ما سررت مثله قط وأني لأنظر إليكم وأحمد الله على نعمته فيكم، إذ هبط عليّ جبرائيل عليه السلام فقال: يا محمد إن الله تعالى اطلع على ما عني نفسك وعرف سرورك بأخيك وابنتك وسبطيك فأكمل لك النعمة وهنأك العطية، بأن جعلهم وذرياتهم ومحبيهم وشيعتهم معك في الجنة لا يفرق بينك وبينهم، يحيون كما تحيا، ويعطون كما تعطى، حتى ترضى وفوق الرضا على بلوى كثيرة تنالهم في الدنيا ومكاره تصيبهم بأيدي الناس ينتحلون ملتك ويزعمون أنهم من أمتك براءً من الله ومنك خبطاً خبطا، وقتلاً قتلا، شتى مصارعهم، نائية قبورهم، خيرة من الله لهم ولك فيهم، فاحمد الله عزّ وجل على خيرته وأرض بقضائه، فحمدت الله ورضيت بما اختاره لكم»)(1).

2 - أخرج الشيخ الصدوق رحمه الله عن الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، قال:

«قال بينا أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ التفت إلينا فبكى فقلت: ما يبكيك يا رسول الله؟

ص: 12


1- كامل الزيارات، الهامش: ص 444؛ مستدرك الوسائل: ج 5، ص 153؛ البحار: ج 28، ص 57؛ وج 45، ص 180؛ وفاء الوفاء للسمهودي: ج 2، ص 469، ط دار إحياء التراث.

فقال: أبكي مما يصنع بكم بعدي، فقلت: وما ذاك يا رسول الله؟ قال: أبكي من ضربتك على القرن، ولطم فاطمة خدها، وطعنة الحسن، في الفخذ والسم الذي يسقى، وقتل الحسين.

قال: فبكى أهل البيت جميعاً، فقلت: يا رسول الله ما خلقنا ربنا إلا للبلاء، قال: أبشر يا علي، فإن الله عزّ وجل قد عهد إليّ أنه لا يحبك إلاّ مؤمن ولا يبغضك إلا منافق»(1).

3 - روى العلامة المجلسي والمحدث النوري، قال:

(روي أنه دخل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يوماً إلى فاطمة عليها السلام فهيّأت له طعاماً من تمر وقرص وسمن فاجتمعوا على الأكل هو وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فلما أكلوا سجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأطال سجوده ثم بكى ثم ضحك وجلس وكان أجرأهم في الكلام علي عليه السلام فقال:

«يا رسول الله رأينا فيك اليوم ما لم نره قبل ذلك».

فقال:

«إني لما أكلت معكم فرحت وسررت بسلامتكم فسجدت لله تعالى شكراً، فهبط جبرئيل يقول سجدت شكراً لفرحك بأهلك؟ فقلت نعم، فقال: ألا أخبرك بما يجري عليهم بعدك؟ فقلت: بلى يا أخي جبرئيل؛ فقال: أما ابنتك فهي أول أهلك لحوقا بك بعد أن تظلم، ويؤخذ حقها، وتمنع إرثها،

ص: 13


1- الأمالي للصدوق: ص 134.

تظلم ويظلم بعلها، ويكسر ضلعها؛ وأما ابن عمك فيظلم ويمنع حقه ويقتل؛ وأما الحسن فإنه يظلم ويمنع حقه ويقتل بالسم؛ وأما الحسين فإنه يظلم ويمنع حقه، وتطؤه الخيول، وينهب رحله، وتسبى نساؤه وذراريه، ويدفن مرملاً بدمه، ويدفنه الغرباء».

فبكيت وقلت:

«هل يزوره أحد؟».

قال:

«يزوره الغرباء».

قلت:

«فما لمن زاره من الثواب؟».

قال:

«يكتب له ثواب ألف حجة وألف عمرة كلها معك فضحكت»)(1).

وهذه الأحاديث تنص على تضافر القوم على انتهاك حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرمة أهل بيته، فكان كما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لهم.

وأما ما كان يخص فاطمة عليها السلام من تعدد المحن والمصائب عليها بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهو ما سنعرض له في المسألة القادمة.

ص: 14


1- البحار: ج 98، ص 44؛ مستدرك الوسائل: ج 10، ص 275؛ جامع أحاديث الشيعة للبروجردي: ج 12، ص 399؛ نهج الحق: ص 432.

المسألة الثانية: إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام بما يجري عليها من بعده

سنتناول في هذه المسألة - إن شاء الله - بعض الأحاديث النبوية الشريفة التي يكشف من خلالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يجري على فاطمة صلوات الله عليها من المصائب بعد وفاته على الرغم من أن المدّة التي عاشتها فاطمة عليها السلام وكما أسلفنا كانت في غاية القصر.

ومن ثم سنعرج في المباحث القادمة إلى تفاصيل هذه الأحداث والمحن والرزايا التي ألمت ببضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقلبه وروحه التي بين جنبيه من خلال الرجوع إلى كتب الحديث والتاريخ والتراجم. أما هذه الأحاديث فهي كالآتي:

1 - روى الطبري (الشيعي) عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام عن فاطمة الصغرى عن أبيها عن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنها قالت:

«قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يدفن من ولدي سبعة بشاطئ الفرات لم يسبقهم الأولون، ولم يدركهم الآخرون»(1).

2 - روى فرات الكوفي عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

«كان الحسين مع أمه عليهما السلام تحمله فأخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال: لعن الله قاتلك، ولعن الله سالبك، وأهلك الله المتوازرين عليك، وحكم الله بيني وبين من أعان عليك».

ص: 15


1- دلائل الإمامة: ص 5.

قالت فاطمة الزهراء عليها السلام:

«يا أبه أي شيء تقول؟».

قال:

«يا بنتاه ذكرت ما يصيبه بعدي وبعدك من الأذى والظلم والغدر، والبغي، وهو يومئذ في عصبة كأنهم نجوم السماء يتهادون إلى القتل وكأني أنظر إلى معسكرهم وإلى موضع رحالهم وتربتهم».

قالت:

«يا أبه وأنى، وأين هذا الموضع الذي تصف؟».

قال:

«موضع يقال له كربلاء، وهي دار كرب وبلاء علينا وعلى الأمة، يخرج عليهم شرار أمتي ولو أن أحدهم يشفع له من في السماوات والأرضين ما شفعوا فيه وهم المخلدون في النار».

قالت:

«يا أبه فيقتل؟».

قال:

«نعم يا بنتاه وما قتل قتلته أحد كان قبله، وتبكيه السماوات والأرضون والملائكة والوحش والنباتات والبحار والجبال، ولو يؤذن لها ما بقي على الأرض متنفس، ويأتيه قوم من محبينا ليس في الأرض أعلم بالله ولا أقوم بحقنا منهم، وليس على ظهر الأرض أحد يلتفت إليه غيرهم، أولئك مصابيح في ظلمات الجور، وهم الشفعاء،

ص: 16

وهم واردون حوضي غدا، أعرفهم إذا وردوا علي بسيماهم، وكل أهل دين يطلبون أئمتهم، وهم يطلبونا لا يطلبون غيرنا، وهم قوام الأرض، وبهم ينزل الغيث».

فقالت فاطمة الزهراء عليها السلام:

«يا أبه إنا لله».

وبكت، فقال لها:

«يا بنتاه إن أهل الجنان هم الشهداء في الدنيا بذلوا:

(أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا)(1).

فما عند الله خير من الدنيا وما فيها، قتلة أهون من ميتة، من كتب عليه القتل خرج إلى مضجعه، ومن لم يقتل فسوف يموت.

يا فاطمة بنت محمد! أما تحبين أن تأمري غدا بأمر فتطاعي في هذا الخلق عند الحساب، أما ترضين أن يكون ابنك من حملة العرش، أما ترضين أن يكون أبوك يأتونه يسألونه الشفاعة، أما ترضين أن يكون بعلك يذود الخلق يوم العطش عن الحوض فيسقي منه أولياءه ويذود عنه أعداءه، أما ترضين أن يكون بعلك قسيم النار والجنة يأمر النار فتطيعه يخرج منها من يشاء ويترك من يشاء، أما ترضين أن تنظري إلى الملائكة على أرجاء السماء ينظرون إليك وإلى ما تأمرين به وينظرون إلى بعلك قد حضر الخلائق وهو يخاصمهم عند الله فما ترين الله صانعاً بقاتل ولدك وقاتليك إذا أفلحت حجته على الخلائق وأمرت النار أن تطيعه، أما ترضين أن تكون الملائكة تبكي

ص: 17


1- سورة التوبة، الآية: 111.

لابنك ويأسف عليه كل شيء، أما ترضين أن يكون من أتاه زائرا في ضمان الله ويكون من أتاه بمنزلة من حج إلى بيت الله الحرام، واعتمر و لم يخلُ من الرحمة طرفة عين وإذا مات مات شهيدا وإن بقي لم تزل الحفظة تدعو له ما بقي ولم يزل في حفظ الله وأمنه حتى يفارق الدنيا».

قالت:

«يا أبه سلمت ورضيت وتوكلت على الله».

فمسح على قلبها ومسح على عينيها فقال:

«إني أنا وبعلك وأنت وابناك في مكان تقر عيناك ويفرح قلبك».

(يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ كُونُوا مَعَ اَلصّٰادِقِينَ)(1) (2).

3 - روى ابن قولويه (عن المعلى بن خنيس، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أصبح صباحاً فرأته فاطمة عليها السلام باكياً حزيناً، فقالت:

«ما لك يا رسول الله؟».

فأبى أن يخبرها، فقالت:

«لا آكل ولا أشرب حتى تخبرني».

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن جبرائيل عليه السلام أتاني بالتربة التي يقتل عليها غلام لم يحمل به بعد وهذه تربته»)(3).

ص: 18


1- سورة التوبة، الآية: 119.
2- تفسير فرات الكوفي: ص 55؛ البحار للمجلسي: ج 44، ص 264.
3- كامل الزيارات: ص 62، ح 349.

4 - روى السيد ابن طاووس رحمه الله بسنده (عن جابر بن عبد الله الأنصاري، عن سلمان الفارسي قال: قلنا يوما: يا رسول الله من الخليفة بعدك حتى نعلمه، قال لي:

«يا سلمان، أدخل عليّ أبا ذر والمقداد وأبا أيوب الأنصاري وأم سلمة زوجة النبي من وراء الباب».

ثم قال:

«اشهدوا وافهموا عني، أن علي بن أبي طالب عليه السلام وصيي ووارثي وقاضي ديني، وعدتي، وهو الفاروق بين الحق والباطل، وهو يعسوب المسلمين، وإمام المتقين، وقائد الغر المحجلين، والحامل غدا لواء رب العالمين، هو وولده من بعده، ثم من الحسين ابني أئمة تسعة هداة مهديون إلى يوم القيامة، أشكو إلى الله جحود أمتي لأخي وتظاهرهم عليه، وظلمهم له وأخذهم حقه».

قال: فقلنا له: يا رسول الله ويكون ذلك؟

قال:

«نعم، يقتل مظلوما من بعد أن يملأ غيظا ويوجد عند ذلك صابرا».

قال: فلما سمعت ذلك فاطمة عليها السلام أقبلت حتى دخلت من وراء الحجاب وهي باكية فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما يبكيك يا بنية؟».

قالت:

«سمعتك تقول في ابن عمك وولدي ما تقول».

ص: 19

قال:

«وأنت تظلمين وعن حقك تدفعين، وأنت أول أهل بيتي لحوقاً بي بعد أربعين، يا فاطمة أنا سلم لمن سالمك وحرب لمن حاربك، أستودعك الله تعالى، وجبرئيل، وصالح المؤمنين».

قال، قلت: يا رسول الله من صالح المؤمنين، قال:

«علي بن أبي طالب»)(1).

5 - أخرج الشيخ الطوسي رحمه الله بسنده إلى أبان بن عثمان، (عن عكرمة، عن عبد الله بن عباس، قال: لما حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوفاة بكى حتى بلت دموعه لحيته، فقيل له يا رسول الله، ما يبكيك فقال:

«أبكي لذريتي، وما تصنع بهم شرار أمتي من بعدي، كأني بفاطمة ابنتي وقد ظلمت بعدي وهي تنادي يا أبتاه يا أبتاه، فلا يعينها أحد من أمتي».

فسمعت ذلك فاطمة عليها السلام فبكت، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا تبكين، يا بنية».

فقالت:

«لست أبكي لما يصنع بي من بعدك، ولكن أبكي لفراقك، يا رسول الله».

ص: 20


1- اليقين لابن طاووس: ص 488؛ البحار للمجلسي: ج 36، ص 265؛ شرح العينية الحميرية للفاضل الهندي: ص 273؛ نفس الرحمن للطبرسي: ص 423؛ قادتنا كيف نعرفهم للسيد الميلاني: ج 1، ص 380.

فقال لها:

«أبشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي، فإنك أول من يلحق بي من أهل بيتي»)(1).

6 - أخرج الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده إلى سعيد بن جبير (عن ابن عباس قال:

إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن عليه السلام فلما رآه بكى، ثم قال:

«إليّ يا بنيّ».

فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى، ثم أقبل الحسين عليه السلام فلما رآه بكى، ثم قال:

«إليّ يا بني».

فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى، ثم أقبلت فاطمة عليها السلام فلما رآها بكى، ثم قال:

«إليّ إليّ يا بنية».

فأجلسها بين يديه، ثم أقبل أمير المؤمنين عليه السلام فلما رآه بكى، ثم قال:

«إليّ إليّ يا أخي».

ص: 21


1- الأمالي للطوسي: ص 88؛ البحار: ج 28، ص 41.

فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه الأيمن؛ فقال له أصحابه: يا رسول الله ما ترى واحداً من هؤلاء إلاّ بكيت، أوما فيهم من تسر برؤيته؟

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«والذي بعثني بالنبوة، واصطفاني على جميع البرية، إني وإياهم لأكرم الخلق على الله عزّ وجل وما على وجه الأرض نسمة أحب إليّ منهم.

أما علي بن أبي طالب عليه السلام فإنه أخي وشقيقي وصاحب الأمر بعدي، وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولى كل مسلم، وإمام كل مؤمن، وقائد كل تقي، وهو وصيي وخليفتي على أهلي وأمتي في حياتي وبعد موتي، محبه محبي ومبغضه مبغضي، وبولايته صارت أمتي مرحومة، وبعداوته صارت المخالفة له منها ملعونة.

وإني بكيت حين أقبل لأني ذكرت غدر الأمة بعدي حتى إنه ليزال عن مقعدي وقد جعله الله له بعدي، ثم لا يزال الأمر به حتى يضرب على قرنه ضربة تخضب منها لحيته في أفضل الشهور شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

وأما ابنتي فاطمة فإنها سيدة نساء العالمين والأولين والآخرين وهي بضعة مني وهي، نور عيني وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي، وهي الحوراء الإنسية متى قامت في محرابها بين يدي ربها جل جلاله ظهر نورها لملائكة السماء كما يظهر نور الكواكب لأهل الأرض، ويقول الله عزّ وجل لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى أمتي فاطمة سيدة إمائي قائمة بين يدي ترتعد فرائصها من خيفتي وقد أقبلت بقلبها على عبادتي أشهدكم أني قد أمنت شيعتها من النار.

ص: 22

وأني لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي؛ كأني بها وقد دخل الذل بيتها، وانتهكت حرمتها، وغصبت حقها، ومنعت إرثها، وكسر جنبها (وكسرت جنبتها)، وأسقطت جنينها، وهي تنادي يا محمداه فلا تجاب، وتستغيث فلا تغاث، فلا تزال بعدي محزونة مكروبة باكية تتذكر انقطاع الوحي عن بيتها مرة، وتتذكر فراقي أخرى، وتستوحش إذا جنها الليل لفقد صوتي الذي كانت تستمع إليه إذا تهجدت بالقرآن.

ثم ترى نفسها ذليلة بعد أن كانت في أيام أبيها عزيزة فعند ذلك يؤنسها الله تعالى ذكره بالملائكة، فنادتها بما نادت به مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين، يا فاطمة اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين.

ثم يبتدئ بها الوجع فتمرض فيبعث الله عزّ وجل إليها مريم بنت عمران تمرضها وتؤنسها في علتها؛ فتقول عند ذلك: يا رب إني قد سئمت الحياة وتبرمت بأهل الدنيا فألحقني بأبي؛ فيلحقها الله عزّ وجل بي فتكون أول من يلحقني من أهل بيتي، فتقدم عليّ محزونة مكروبة مغمومة مغصوبة مقتولة، فأقول عند ذلك: اللهم العن من ظلمها وعاقب من غصبها وذلل من أذلها وخلد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها، فتقول الملائكة عند ذلك: آمين»)(1).

ونحن نقول كما قالت الملائكة: آمين إلى قيام يوم الدين.

ص: 23


1- الأمالي للصدوق: ص 112-115؛ الفضائل لابن شاذان القمي: ص 10؛ الدر النظيم لابن أبي حاتم العاملي: ص 378؛ المحتضر لحسن بن سليمان الحلي: ص 197؛ البحار للمجلسي: ج 28، ص 38؛ إرشاد القلوب للديلمي: ج 2، ص 299؛ بشارة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لأبي قاسم الطبري: ص 307.

فهذه الأحاديث الشريفة فيما أخبر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام، وأما ما ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام في بيان ما جرى عليها من المصائب فسنعرض له في مواضعه إن شاء الله.

أما ما نحن بصدده أن تلك المصائب هي حقيقة ثابتة أخبر بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبل وفاته، وجرت أحداثها بعد مماته صلى الله عليه وآله وسلم، وأن خير القرون لم يكن إلاّ دعوة لم تصمد أمام تلك المآسي التي وقعت في الأمة، وأنها تكشف عن أن الذين تقولوا هذا الحديث إنما أرادوا التستر على تلك الفجائع والجرائم التي انتهكت فيها حرمة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأنزل فيها من الأذى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم ينزل بأحد من الأنبياء والمرسلين.

وقولنا في ذلك ما نطق به القرآن الكريم:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً)(1).

أما أول المصائب التي نزلت بفاطمة عليها السلام فهي وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي سنمر عليها بحسب ما يقتضيه البحث فقد نتوقف مع الحدث هنا أو نسرع هناك فإن ذلك منوط بحسب الحدث الذي مرت به فاطمة صلوات الله عليها في أثناء وفاة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 24


1- سورة الأحزاب، الآية: 57.

المبحث الثاني: وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى المصائب

اشارة

تتناقل الأحداث في كتب الحديث والسيرة والتأريخ وتتابع في تلك الحقبة الزمنية التي شهدت وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلاّ أن هذه المصادر لم تجمع لنا هذه الأحداث بشكلها الوقوعي حتى بات القارئ لم يتصور الحدث بتسلسله الزمني؛ فضلاً عن إغفال البعض من الرواة لحقائق مرة خشية المساس ببعض الرموز التي شهدت هذه المرحلة الزمنية من حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن هنا:

لم نشأ أن نتتبع تلك الأحداث ونتوقف عندها ونعرضها للتحقيق والبحث فإن ذلك سيأخذ مساحة واسعة من الكتاب ومن ثم لا يتسق مع منهج البحث فأرجأنا البحث والتحقيق في وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره وروضته ضمن كتاب مستقل ولقد وفقنا الله تعالى لإتمامه.

ص: 25

وعليه:

سنمر هنا بما لفاطمة عليها السلام من ظهور في هذه الأيام التي شهدت مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووفاته، ومن ثم نعرّج إلى تلك المحن والمصائب والخطوب العظيمة التي أصابت فاطمة وبعلها وولديها صلوات الله عليهم أجمعين.

المسألة الأولى: ابتداء المرض برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

أشارت الروايات التاريخية إلى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (لما قدم المدينة من حجة الوداع عقد لأسامة بن زيد الإمرة وأمره أن يقصد حيث قتل أبوه، وقال له:

«أوطئ الخيل أواخر الشام من أوائل الروم»(1).

(ولما أحس النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالمرض الذي اعتراه وذلك يوم السبت أو الأحد لليال بقين من صفر أخذ بيد علي عليه السلام وتبعه جماعة من أصحابه وتوجه إلى البقيع ثم قال:

«السلام عليكم أهل القبور، ليهنئكم ما أصبحتم فيه مما فيه الناس، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها».

ثم قال:

«إن جبرئيل، كان يعرض عليّ القرآن كل سنة مرة وقد عرضه عليّ العام

ص: 26


1- أعلام الورى للطبرسي: ج 1، ص 263.

مرتين ولا أراه إلا لحضور أجلي»(1).

ثم قال:

«يا علي إني خيرت بين خزائن الدنيا والخلود فيها أو الجنة فاخترت لقاء ربي والجنة، فإذا أنا مت فغسلني واستر عورتي فإنه لا يراه أحد إلا كمه».

ثم عاد إلى منزله فمكث ثلاثة أيام موعوكاً)(2).

وقد اختلف المحدثون في عدد الأيام التي لبث فيها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم مريضاً فهي بين ثلاثة عشر يوما إلى تسعة أيام.

فكانت الأيام الثلاثة الأولى ينتقل فيها إلى بيوت أزواجه، وقد خرج في اليوم الثالث إلى المسجد وهو معصوب الرأس من شدة الوجع متكئاً على علي بيمنى يديه وعلى الفضل بن عباس باليد الأخرى(3)، فجلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال:

«أما بعد أيها الناس إنه قد حان مني خفوق من بين أظهركم فمن كانت له عندي عدة فليسألني أعطه إياها ومن كان له عندي دين فليخبرني به؟».

فقام رجل فقال: يا رسول الله لي عندك عدة إني تزوجت فوعدتني بثلاثة أواق، فقال:

«انحلها إياه يا فضل»(4).

ص: 27


1- قريب من هذا اللفظ أخرج أحمد في المسند: ج 3، ص 389.
2- إعلام الورى: ج 1، ص 264.
3- مسند أحمد: ج 6، ص 228.
4- المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 202؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 10، ص 184.

فلبث الأربعاء والخميس ولما كان يوم الجمعة جلس على المنبر فخطب ثم قال:

«أيها الناس إنه ليس بين الله وبين أحد شيء يعطيه به خيراً أو يصرف به عنه شراً إلاّ العمل الصالح، أيّها الناس لا يدع مدّع ولا يتمنّ متمن، والذي بعثني بالحق لا ينجي إلاّ العمل مع رحمة الله، ولو عصيت لهويت، اللهم بلغت ثلاثاً».

ثم نزل فصلى بالناس ثم دخل بيته، وكان إذ ذاك في بيت أم سلمة فأقام بها يوماً أو يومين(1).

وفي هذه الأيام التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مريضاً كانت فاطمة صلوات الله عليها تتعاهد زيارته حيث كان يوجد بأبي وأمي عند بيوت أزواجه، فقد كان يتنقل بينهن وهو على هذه الحالة حرصاً منه على العدل بينهنّ، فكانت فاطمة عليها السلام تتبعه في تنقله ولها معه حالات في هذا الدخول أو ذاك، وهي كالآتي:

أولاً: فاطمة عليها السلام ترقي أباها صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه

روى العجلوني عن أنس بن مالك، أنه قال: (كانت فاطمة - عليها السلام - ترقي أباها صلى الله عليه وآله وسلم إذا وجد تكسراً في عطفه أو فترة - فتقول -:

«بسم الله وبالله أذهب البأس رب الناس وأشف أنت الشافي لا شفاء إلاّ شفاؤك، شفاء لا يغادر سقماً يا أرحم الراحمين»(2).

ص: 28


1- الإرشاد للمفيد: ج 1، ص 182.
2- كشف الخفاء للعجلوني: ج 1، ص 115، ح 306.
ثانياً: بكاؤها لما ترى عليه حال أبيها وما أصابه من المرض والضعف

وكانت عليها السلام في هذا التنقل الذي تتبع فيه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتدخل عليه في أحد بيوته عند أزواجه لا تحتمل أن تراه على تلك الحالة من الضعف والألم فكانت دموعها تسبقها قبل الحديث معه لاسيما والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يمثل لها الإيمان والنبوة والجاه والمعين والرؤوف الرحيم فكيف لا يزداد بكاؤها مع ما تراه من حال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهذا الذي كشفته الروايات الشريفة، وهي كالآتي:

1 - روى الشيخ الطوسي رحمه الله بسنده إلى أبي أيوب الأنصاري، أنه قال:

(مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأتته فاطمة عليها السلام تعوده، فلما رأت ما برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المرض والجهد استعبرت وبكت حتى سالت دموعها على خديها؛ فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«يا فاطمة، إني لكرامة الله إياك زوجتك أقدمهم سلما، وأكثرهم علما، وأعظمهم حلماً، إن الله تعالى اطلع إلى أهل الأرض اطلاعة فاختارني منها فبعثني نبياً، واطلع إليها ثانية فاختار بعلك فجعله وصيا».

فسرت فاطمة عليها السلام فاستبشرت، فأراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يزيدها مزيد الخير، فقال يا فاطمة:

«إنا أهل بيت أعطينا سبعاً لم يعطها أحد قبلنا ولا يعطاها أحد بعدنا، نبينا أفضل

ص: 29

الأنبياء وهو أبوك، ووصينا أفضل الأوصياء وهو بعلك، وشهيدنا أفضل الشهداء وهو عمك، ومنا من جعل الله له جناحين يطير بهما مع الملائكة وهو ابن عمك، ومنا سبطا هذه الأمة وهما ابناك، والذي نفسي بيده لابد لهذه الأمة من مهدي، وهو والله من ولدك»)(1).

2 - روى الديلمي رحمه الله، يرفعه إلى سلمان الفارسي، أنه قال:

(كنت جالساً بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي قبض فيه، فدخلت فاطمة عليها السلام فلما رأت ما بأبيها من الضعف بكت حتى جرت دموعها على خديها، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما يبكيك يا فاطمة؟».

قالت:

«يا رسول الله أخشى الضيعة على نفسي وولدي بعدك».

فاغرورقت عيناه ثم قال:

«يا فاطمة أما علمت أنا أهل البيت اختار الله لنا الآخرة على الدنيا وأنه حتم الفناء على جميع خلقه، وأن الله تبارك وتعالى اطلع على الأرض اطلاعة فاختار منها أباك ثم اطلع اطلاعة فاختار منها زوجك فأوحى إليّ أن أزوجه إياك وأن أتخذه وليا ووزيرا وأن أجعله خليفتي في أمتي، فأبوك خير أنبياء الله، وبعلك خير الأوصياء، وأنت أول من يلحق بي من أهل بيتي.

ثم اطلع اطلاعة ثالثة فاختارك واختار ولدك، فأنت سيدة نساء العالم وأهل الجنة،

ص: 30


1- الأمالي للطوسي: 154-155.

وابناك الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وأبناء بعلك أوصيائي إلى يوم القيامة كلهم هادون مهتدون.

فالأوصياء بعدي أخي علي، ثم الحسن، ثم الحسين، ثم الأئمة من ولد الحسين في درجتي وليس في الجنة درجة أقرب إلى الله تعالى من درجة أبي إبراهيم.

أما تعلمين يا بنية أن من كرامة الله عزّ وجل إياك أن زوجك بخير أمتي وخير أهل بيتي أقدمهم سلما وأعظمهم حلما وأكثرهم علما».

فاستبشرت فاطمة وفرحت بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ثم قال:

«يا بنية إن لبعلك مناقب، إيمانه بالله ورسوله قبل كل أحد، لم يسبقه إلى ذلك أحد من أمتي؛ وعلمه بكتاب الله وسنتي، وليس أحد من أمتي يعلم جميع علمي غير علي عليه السلام؛ فإن الله عزّ وجل علمني علماً لا يعلمه غيري، وعلم ملائكته ورسله علما؛ فكلما علم ملائكته ورسله فأنه أعلمني، وأمرني ربي عزّ وجل أن أعلمه إياه، ففعلت، فليس أحد من أمتي يعلم علمي وفهمي وحكمي غيره؛ وإنك يا بنية زوجته، وابنيه سبطاي الحسن والحسين عليهما السلام، أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وإن الله تعالى آتاه الحكمة وفصل الخطاب.

ويا بنية:

إنا أهل بيت أعطانا الله تبارك وتعالى ست خصال لم يعطها أحداً من الأولين كان قبلكم، ولم يعطها أحداً من الآخرين غيرنا؛ نبينا خير الأنبياء والمرسلين وهو أبوك، ووصينا خير الأوصياء وهو بعلك، وشهيدنا خير الشهداء وهو حمزة بن

ص: 31

عبد المطلب عم أبيك».

قالت:

«يا رسول الله هو سيد شهداء الذين قتلوا معه؟».

قال:

«لا بل سيد شهداء الأولين والآخرين ما خلا الأنبياء والأوصياء؛ وجعفر بن أبي طالب ذو الجناحين الطائر في الجنة مع الملائكة؛ وابناي الحسن والحسين سبطاي وسيدا شباب أهل الجنة منا؛ والذي نفسي بيده منا مهدي الأمة الذي يملأ الارض به قسطا وعدلا كما ملئت ظلماً وجورا»)(1).

والملاحظ في هذا الحديث مع الحديث السابق:

ألف: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يسأل فاطمة عن سبب بكائها، بينما سألها عن سبب بكائها في الحديث الذي يرويه سلمان الفارسي.

باء: إن فاطمة في هذه الرواية تكشف عن سبب بكائها، وهو تخوفها من أنها ستضيع مع أولادها بين القوم الذين أخبرها عنهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم من قبل وماذا سيفعلون بها من بعده.

لاسيما وأنها شاهدت كثيراً من الأفعال التي تكشف عن بدء البلاء والمصائب كتخلفهم عن التوجه إلى سرية أسامة، وسماعها لهمسات بعض أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما تدخل عليه تعوده.

ولعلها قد رأت وسمعت ما أظهر الشماتة بها فدخلت على أبيها باكية تشكو

ص: 32


1- إرشاد القلوب للديلمي: ج 2، ص 419-420؛ البحار للمجلسي: ج 28، ص 52.

إليه تخوفها ولكونه مريضاً لم تشأ أن تخبره بالأسباب التي أنشأت هذا الخوف في قلبها.

جيم: من هنا: كان حديثه صلى الله عليه وآله وسلم معها يدور حول المنازل الرفيعة التي خصها الله بها وأبيها وبعلها وبنيها.

3 - روى الشيخ الطوسي رحمه الله عن واثلة، قال: حدثني سلمان الفارسي، قال:

(دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي قبض فيه، فجلست بين يديه وسألته عما يجد، وقمت لأخرج، فقال لي:

«أجلس يا سلمان، فسيشهدك الله عزّ وجل أمراً، إنه لمن خير الأمور».

فجلست فبينا أنا كذلك إذ دخل رجل من أهل بيته، ورجال من أصحابه، ودخلت فاطمة عليها السلام ابنته فيمن دخل، فلمّا رأت ما برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الضعف خنقتها العبرة حتى فاض دمعها على خدها، فأبصر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«ما يبكيك يا بنية، أقر الله عينك، ولا أبكاها؟».

قالت:

«كيف لا أبكي، وأنا أرى ما بك من الضعف».

قال لها:

«يا فاطمة، توكلي على الله، واصبري كما صبر آباؤك من الأنبياء، وأمهاتك من أزواجهم، ألا أبشرك يا فاطمة؟».

ص: 33

قالت:

«بلى يا نبي الله».

أو قالت:

«يا أبت».

قال:

«أما علمت أن الله تعالى اختار أباك فجعله نبياً، وبعثه إلى كافة الخلق رسولاً، ثم اختار علياً فأمرني فزوجتك إياه واتخذته بأمر ربي وزيراً ووصياً.

يا فاطمة، إن عليا أعظم المسلمين على المسلمين بعدي حقا، وأقدمهم سلما، وأعلمهم علما، وأحلمهم حلما، وأثبتهم في الميزان قدرا».

فاستبشرت فاطمة عليها السلام، فأقبل عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«هل سررتك يا فاطمة؟».

قالت:

«نعم يا أبت».

قال:

«أفلا أزيدك في بعلك وابن عمك من مزيد الخير وفواضله؟».

قالت:

«بلى يا نبي الله».

قال:

ص: 34

«عليٌّ أول من آمن بالله عزّ وجل ورسوله من هذه الأمة، هو وخديجة أمك، وأول من وازرني على ما جئت، يا فاطمة، إن عليا أخي وصفيي، وأبو ولدي، إن عليا أعطي خصالاً من الخير لم يعطها أحد قبله ولا يعطاها أحد بعده، فأحسني عزاك، واعلمي أن أباك لاحق بالله عزّ وجل».

قالت:

«يا أبتاه فرحتني وأحزنتني!».

قال:

«كذلك يا بنية أمور الدنيا، يشوب سرورها حزنها، وصفوها كدرها، أفلا أزيدك يا بنية؟».

قالت:

«بلى يا رسول الله».

قال:

«إن الله تعالى خلق الخلق فجعلهم قسمين، فجعلني وعليا في خيرهما قسما، وذلك قوله عزّ وجل:

(وَ أَصْحٰابُ اَلْيَمِينِ مٰا أَصْحٰابُ اَلْيَمِينِ)(1).

ثم جعل القسمين قبائل، فجعلنا في خيرها قبيلة، وذلك قوله عزّ وجل:

(وَ جَعَلْنٰاكُمْ شُعُوباً وَ قَبٰائِلَ لِتَعٰارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ (...(2).

ص: 35


1- سورة الواقعة، الآية: 27.
2- سورة الحجرات، الآية: 13.

ثم جعل القبائل بيوتا، فجعلنا في خيرها بيتا في قوله سبحانه:

(إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً(1).

ثم إن الله تعالى اختارني من أهل بيتي، واختار علياً والحسن والحسين واختارك، فأنا سيد ولد آدم، وعلي سيد العرب، وأنت سيدة النساء، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، ومن ذريتكما المهدي، يملأ الله عزّ وجل به الأرض عدلاً كما ملئت من قبله جورا»)(2).

وهذا الحديث يكشف عن جملة من الأمور، وهي كالآتي:

1 - إن هذا الحديث يكشف عن أن دخول فاطمة صلوات الله عليها كان متكرراً وفي كل دخول كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتحفها ويسلي همومها بمزيد من البيان لما أخص الله به أهل البيت من الشرف والمنزلة والكرامة.

2 - إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما طلب من سلمان الجلوس وعدم الخروج كي يكون شاهداً على ما سيسمعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في محضر أصحابه وأهل بيته لأنه - بأبي وأمي - قد أخبره الوحي بما تؤول إليه الأمة من الانقلاب بعد وفاته؛ ولذا قال لسلمان:

«أجلس يا سلمان، فسيشهدك الله عزّ وجل أمراً، إنه لمن خير الأمور».

3 - هنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم يسأل فاطمة عن بكائها فتخبره، أن

ص: 36


1- سورة الأحزاب، الآية: 33.
2- الأمالي للطوسي: ص 606-608؛ تفسير فرات الكوفي: ص 464-465.

السبب: لما ترى في النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الضعف في حين كان السبب في الرواية السابقة: أنها تخشى الضيعة وأولادها بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولما سيجري عليها من المصائب والمحن.

4 - حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم على إزالة هموم فاطمة وإدخال السرور على قلبها، وهذا يكشف عن عمق حبه لها وتعلقه بها، ولا يخفى أن حبه صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن نابعاً عن الغريزة الأبوية فقط وإنما هو لعلمه ما لفاطمة من الدرجة والمنزلة الرفيعة عند الله تعالى فهي:

«من يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها».

5 - إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا اللقاء وفي بقية اللقاءات التي جمعته بفاطمة في أيام مرضه كان يخبرها بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف وأنه من ولدها، وهو الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، وهذا بيان لها بأنه سيأخذ لها حقها وحق بعلها وأبنائها ممن ظلمها وسن ظلمها.

4 - روى الشيخ المفيد وابن حجر وغيره عن زينب بنت أبي رافع، قالت:

(أتت فاطمة بابنيها الحسن والحسين إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في شكواه الذي توفي فيه فقالت:

«هذان ابناك فورثهما شيئا».

فقال:

«أما الحسن فإن له هيبتي وسؤددي، وأما الحسين فإن له جودي وشجاعتي»)(1).

ص: 37


1- الإرشاد للمفيد: ج 2، ص 7؛ الخصال للصدوق: ص 77؛ الإصابة لابن حجر: ج 8، ص 158؛ الآحاد والمثاني للضحاك: ج 1، ص 299؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 185؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 16، ص 10؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 13، ص 230.

والحديث يكشف عن أن فاطمة عليها السلام إنما أرادت بجلبها الحسن والحسين عليهما السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه لتطلب منه أن يورثهما إنما كان لحكمة خاصة، وهي:

ألف: أرادت أن تبيّن للذين كانوا حول النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن هذين هما الوريثان للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فهو أبوهما وإن كانا من صلب علي بن أبي طالب عليه السلام ولذا:

قالت عليها السلام:

«هذان ابناك فورثهما».

والابن لا يرث إلا من أبيه.

2 - إجابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقولها فورثهما تأكيداً وتشريعاً أنهما ابناه ولهما حق الإرث.

3 - نوعية الإرث لهما فيه خصوصية خاصة وهو محصور في الأنبياء بمعنى: لا يورث الأب أبناءه الكمالات الأخلاقية المحدودة بإرادته.

بمعنى آخر: إن للعامل الوراثي الطبيعي مدخلية في نقل الصفات الوراثية من الآباء والأجداد إلى الأبناء والأحفاد ولكن لا يكون للإنسان مدخلية في تحديد هذه الصفات أو الجينات الوراثية وإنما يكون الأمر خاضعاً لإرادة الله تعالى ولما أودعه من سننه سبحانه في الأشياء على هذه الأرض وفي خلقه أجمعين.

ص: 38

أما أن يحدد النبي لكل منهما نوعين من هذه الكمالات الخاصة به صلى الله عليه وآله وسلم فهذا خاص به وبولديه الحسن والحسين عليهما السلام وهذا أعظم أثراً من الدينار والدرهم والعقار الذي يورثه الآباء للأبناء.

وذلك: أن النبي أراد بيان حقهما في الإرث لكونهما ولديه من جهة؛ ومن جهة أخرى إنما ورثة النبوة والرسالة بما أراده الله تعالى فسبحان من يعلم أين يضع رسالته.

ثالثا: فاطمة عليها السلام تطلب من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن ينقل إلى حجرته كي تقوم بتمريضه هي وعلي عليهما السلام

تناولنا فيما مضى أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بدأ به المرض في يوم الأربعاء ليستمر معه إلى عشرة أيام وفي هذا اليوم، أي الجمعة بعد أن ألقى خطبته في المسجد وقد خرج متكئاً على علي بن أبي طالب عليه السلام والفضل بن العباس، دخل على أم سلمة فلبث عندها يوماً أو يومين.

وهنا: تفيد الروايات بأن عائشة جاءت إليه فسألته أن ينتقل إلى بيتها لتتولى تعليله فأذن لها فانتقل إلى البيت الذي تسكنه عائشة واستمر المرض به أياماً وثقل من المرض بأبي وأمي(1).

وفي هذه الأيام وقبل وفاته تم لده صلى الله عليه وآله وسلم كما صرح بذلك البخاري ومسلم وغيرهما ونحن نعتقد أنها محاولة لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم بل إن عملية اللد هي مما عجل بوفاته صلى الله عليه وآله وسلم كما أثبتنا

ص: 39


1- الإرشاد للمفيد: ج 1، ص 182.

ذلك في موضعه(1).

وأثبتنا أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتقل إلى حجرته كي تمرضه فاطمة وعلي عليهما السلام، وقد روى ابن سعد قائلاً: (لما مرض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مرضه الذي توفي فيه طافت فاطمة على نسائه تقول:

«إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشق عليه أن يطوف عليكن»)(2).

فكان فاطمة وعلي عليهما السلام يقومان بتمريضه، وفي ذلك يقول ابن أبي الحديد المعتزلي عن سلمان الفارسي، إنه قال: (دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صبيحة يوم قبل اليوم الذي توفي فيه، فقال لي:

«يا سلمان ألا تسأل عما كابدته الليلة من الألم والسهر أنا وعلي عليه السلام».

فقلت: يا رسول الله ألا أسهر الليلة معك بدله؟ فقال:

«لا، هو أحقّ بذلك منك»)(3).

والحديث يدل على أن أمر تعليل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتمريضه والسهر معه كان موكلاً إلى علي عليه السلام وفاطمة صلوات الله وسلامه عليها وليس إلى أزواجه لاسيما فيما يروى من أنه كان في أيام مرضه في حجرة عائشة، وهو خلاف الواقع، وذلك:

ص: 40


1- للمزيد، ينظر: كتابنا الموسوم (وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره وروضته بين اختلاف أصحابه واستملاك أزواجه).
2- الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 168، ط دار صادر؛ امتاع الأسماع للمقريزي: ج 2، ص 130.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 10، ص 266.

1 - تجنباً لوقوع الغيرة بينهن لاسيما بما عرفت به عائشة من كثرة غيرتها من خديجة عليها السلام.

2 - إن فاطمة وعليّاً هما أحق بتمريض النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلمان الفارسي.

3 - منعاً لوقوع التنازع والتخاصم فيما بين أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذويهن من التفاخر في تمريض النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الأيام الأخيرة له في الحياة.

4 - إن المرء يحتاج إلى أبنائه وإخوانه في أيام مرضه أكثر مما يحتاج إلى أزواجه لاسيما إذا كان عددهن تسع نساء، نعم لو كانت واحدة وهي تتصف بصفات حسن التبعل لاحتاج الزوج إلى وجودها، بل إنها لحسن تبعلها تلازمه.

5 - إن فاطمة مع ما لها من الخصوصية عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحب العميق فهي واحدته التي ليس لديه غيرها فضلاً عن أنها ابنة خديجة عليها السلام التي لم يتزوج عليها حتى ماتت إجلالاً لقدرها، ومن بعد خديجة كل ذلك يدفع إلى الاعتقاد بأن عائشة لم تمرضه، بل هي فاطمة وعلي عليهما السلام.

إذن:

كان فاطمة وعلي عليهما السلام هما من كانا يمرضان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أيامه الأخيرة.

ص: 41

المسألة الثانية: تخلف الصحابة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله في الالتحاق بسرية أسامة وقول عمر بن الخطاب: إنه ليهجر

إن الأحداث التي وقعت في اليوم ما قبل الأخير كانت أحداث سريعة فقد ثقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم واشتد به المرض (فجاء بلال عند صلاة الصبح ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغمور بالمرض فنادى الصلاة رحمكم الله، فقال:

«يصلي بالناس بعضهم».

فقالت عائشة: مروا أبا بكر ليصلي بالناس وقالت حفصة: مروا عمر، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«أكففن فإنكن صويحبات يوسف».

ثم قام وهو لا يستقل على الأرض من الضعف وقد كان عنده أنهما خرجا إلى أسامة فأخذ بيد علي بن أبي طالب والفضل بن عباس - وهو الخروج الثاني له والأخير مع علي بن أبي طالب والفضل بن العباس - فاعتمدهما ورجلاه تخطان الأرض من الضعف فلما خرج إلى المسجد وجد أبا بكر قد سبق إلى المحراب فأومأ إليه بيده فتأخر أبو بكر وقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكبر وابتدأ بالصلاة فلما سلم وانصرف إلى منزله استدعى أبا بكر وعمر وجماعة ممن حضر المسجد، ثم قال:

«ألم آمركم أن تنفذوا جيش أسامة».

فقال أبو بكر: إني كنت خرجت ثم عدت لأحدث بك عهداً، وقال عمر:

ص: 42

إني لم أخرج لأنني لم أحب أن اسأل عنك الركب، فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«نفذوا جيش أسامة»(1).

يكررها ثلاث مرات.

وكان النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم قد أخرج جل الصحابة من المهاجرين والأنصار وأمرهم بالالتحاق بجيش أسامة وشدد عليهم القول حتى قال:

«لعن الله من تخلف عن جيش أسامة»(2).

وكان ممن أمرهم بالخروج والالتحاق (أبو بكر وعمر بن الخطاب وغيرهما).

بل: ورد عن ابن سعد في الطبقات: (فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين الأولين والأنصار إلا انتدب في تلك الغزوة، فيهم أبو بكر، وعمر بن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وقتادة بن النعمان وسلمة بن أسلم وابن حريش)(3).

ولذا: نجده صلى الله عليه وآله وسلم قد تعجب من مخالفتهم الصريحة وتجرئهم على الله تعالى وعلى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فبدأوا يعتذرون

ص: 43


1- الإرشاد للمفيد: ج 1، ص 184.
2- الفوائد الطوسية للحر العاملي: ص 265؛ وصول الأخيار إلى أصول الأخبار، والد البهائي العاملي: ص 68؛ بحار الأنوار: ج 30، ص 432.
3- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 2، ص 190؛ فتح الباري: ج 8، ص 116؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 2، ص 714.

عن الخروج والتخلف وعدم الالتحاق بتلك الأعذار التي مرّ ذكرها.

(ثم أغمي عليه من التعب الذي لحقه فمكث هنيئة وبكى المسلمون وارتفع النحيب من أزواجه وأهل بيته ومن حضره، فأفاق، فقال:

«ائتوني بدواة وكتف اكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعده أبداً».

ثم أغمي عليه فقام بعض من حضر من أصحابه ليلتمس دواة وكتفا فقال له عمر: (ارجع فإنه يهجر)(1).

فلما أفاق قال بعضهم: ألا نأتيك يا رسول الله بكتف ودواة؟

فقال:

«أبعد الذي قلتم، لا، ولكن (أحفظوني في أهل بيتي واستوصوا بأهل الذمة خيراً وأطعموا المساكين والصلاة وما ملكت أيمانكم)».

فلم يزل يردد ذلك حتى أعرض عن القوم بوجهه فنهضوا وبقي عنده العباس والفضل وعلي وأهل بيته خاصة)(2).

(ويروي سليم بن قيس الهلالي، قال سمعت سلمان يقول: سمعت علياً عليه السلام يقول بعد ما قال ذلك الرجل ما قال وغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودفع الكتف ألا نسأل رسول الله عن الذي كان أراد أن يكتب في الكتف مما لو كتبه لم يضل أحد ولم يختلف اثنان فسكت حتى إذا قام من في البيت

ص: 44


1- الإرشاد للمفيد: ج 1، ص 184؛ صحيح البخاري: ج 4، ص 31، باب: دعاء النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم إلى الإسلام.
2- الإرشاد للمفيد: ج 1، ص 185.

وبقي علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وذهبنا نقوم أنا وصاحبي أبو ذر والمقداد، قال لنا علي عليه السلام:

«اجلسوا».

فأراد أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونحن نسمعه، فابتدأه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«يا أخي، أما سمعت ما قال عدو الله أتاني جبرئيل قبل فأخبرني أنه سامري هذه الأمة وأن صاحبه عجلها، وأن الله قد قضى الفرقة والاختلاف على أمتي من بعدي، فأمرني أن أكتب ذلك الكتاب الذي أردت أن أكتبه في الكتف لك، وأشهد هؤلاء الثلاثة عليه، ادع لي بصحيفة».

فأتى بها، فأملى عليه أسماء الأئمة الهداة من بعده رجلاً رجلا وعلي عليه السلام يخطه بيده، وقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«إني أشهدكم أن أخي ووزيري ووارثي وخليفتي في أمتي علي بن أبي طالب، ثم الحسن ثم الحسين ثم من بعدهم تسعة من ولد الحسين».

ثم لم أحفظ منهم غير رجلين علي ومحمد، ثم اشتبه الآخرون في أسماء الأئمة عليهم السلام، غير أني سمعت صفة المهدي وعدله وعمله وأن الله يملأ الأرض عدلاً كما ملئت ظلماً وجورا، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«إني أردت أن أكتب هذا ثم أخرج به إلى المسجد ثم أدعو العامة فأقرأه عليهم وأشهدهم عليه، فأبى الله وقضى ما أراد».

ثم قال سليم: فلقيت أبا ذر والمقداد في إمارة عثمان فحدثاني، ثم لقيت

ص: 45

علياً عليه السلام بالكوفة والحسن والحسين عليهما السلام فحدثاني به سراً ما زادوا ولا نقصوا كأنما ينطقون بلسان واحد)(1).

ولما خرجوا من عنده صلى الله عليه وآله وسلم بقي عنده العباس بن عبد المطلب وولده الفضل بن العباس، والإمام علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام؛ فقال العباس:

يا رسول الله إن يكن هذا الأمر فينا مستقراً من بعدك فبشرنا وإن كنت تعلم أنا نغلب عليه فأوص بنا.

فقال:

«أنتم المستضعفون من بعدي».

وصمت، ونهض القوم، وهم يبكون خرجوا من عنده، قال:

«ردوا عليّ أخي علي بن أبي طالب وعمّي».

فحضرا فلما استقر بهما المجلس قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«يا عباس، يا عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تقبل وصيتي وتنجز عدتي وتقضي ديني؟».

فقال العباس يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عمك شيخ كبير ذو عيال كثير وأنت تباري الريح سخاء وكرما وعليك وعد لا ينهض به عمك، فأقبل على علي فقال:

«نعم يا رسول الله صلى الله عليك وآلك».

ص: 46


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ص 877.

فقال:

«أدن مني».

فدنا منه فضمه ونزع خاتمه من يده فقال له:

«خذه فضعه في يدك».

ودعا بسيفه ودرعه، ويروى أن جبرئيل نزل بها من السماء فجيء بها إليه فدفعها إلى أمير المؤمنين عليه السلام وقال له:

«أقبض هذا في حياتي».

ودفع إليه بغلته وسرجها وقال:

«امض على اسم الله إلى منزلك».

ودفع إليه الحيزوم، وهو فرس جبرائيل الذي نزل عليه يوم بدر وأحد يقاتل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن أمير المؤمنين علي عليه السلام انتقل إلى ولده الحسن، ثم إلى سيد الشهداء الإمام الحسين عليهما السلام، فخرج يقاتل عليه في يوم عاشوراء وهو الذي عاد إلى المخيم يصهل عالياً ويقول:

(الظليمة الظليمة من أمة قتلت ابن بنت نبيها)(1).

أما ما جرى مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك:

فقد حجب الناس عنه وثقل في مرضه صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

ص: 47


1- للمزيد: ينظر كتاب: اليحموم فرس جبرائيل في عاشوراء للمؤلف.
2- إعلام الورى: ج 1، ص 269-270.

المسألة الثالثة: احتضار النبي صلى الله عليه وآله وتفرده بأهل بيته عليهم السلام

وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول في مرضه:

«رب سلم أمة محمد من النار ويسّر عليهم الحساب».

فقالت أم سلمة: يا رسول الله ما لي أراك مغموماً متغير اللون، فقال:

«نعيت إليّ نفسي هذه الساعة فسلام لك في الدنيا فلا تسمعين بعد هذا اليوم صوت محمد أبداً».

فقالت أم سلمة واحزناه، حزناً لا تدركه الندامة عليك يا محمداه؛ ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«أدع لي حبيبة قلبي وقرة عيني فاطمة تجيء»(1).

(قال أبو ذر الغفاري: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه الذي توفي فيه، فقال:

«يا أباذر ائتني بابنتي فاطمة».

قال: فقمت ودخلت عليها وقلت: يا سيدة النسوان أجيبي أباك.

قال: فلبست جلبابها، وخرجت حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلما رأت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم انكبت عليه(2) وبكت، وهي تقول:

«نفسي لنفسك الفداء ووجهي لوجهك الوقاء، يا أبتاه ألا تكلمني كلمة فإني

ص: 48


1- الأمالي للصدوق: ص 636.
2- كفاية الأثر: ص 5.

أنظر إليك وأراك مفارق الدنيا، وأرى عساكر الموت تغشاك شديداً».

فقال لها:

«يا بنيتي إني مفارقك فسلام عليك مني»(1).

وبكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبكائها، وضمها إليه، ثم قال:

«يا فاطمة لا تبكي فداك أبوك، فأنت أول من تلحقين بي، مظلومة، مغصوبة، وسوف تظهر بعدي حسيكة النفاق، ويسمل جلباب الدين، أنت أول من يرد عليّ الحوض».

قالت:

«يا أبت، أين ألقاك؟».

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«تلقيني عند الحوض، وأنا أسقي شيعتك ومحبيك، وأطرد أعداءك ومبغضيك».

قالت:

«يا رسول الله فإن لم ألقك عند الحوض».

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«تلقيني عند الميزان».

قالت:

«يا أبت فإن لم ألقك عند الميزان؟».

ص: 49


1- الأمالي للصدوق: ص 636.

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«تلقيني عند الصراط، وأنا أقول: يا رب سلم سلم شيعة علي، جبرائيل عن يميني وميكائيل عن يساري والملائكة من خلفي ينادون: رب سلّم أمة محمد من النار ويسر عليهم الحساب».

فقالت فاطمة عليها السلام:

«فأين والدتي خديجة».

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«في قصر له أربعة آلاف باب إلى الجنة»)(1).

قال أبو ذر: فسكن قلبها، ثم التفت إليّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«يا أبا ذر إنها بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني، ألا إنها سيدة نساء العالمين، وبعلها سيد الوصيين، وابنيها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وإنهما إمامان قاما أو قعداً، وأبوهما خير منهما وسوف يخرج من صلب الحسين تسعة من الأئمة، قوامون بالقسط، ومنا مهدي هذه الأمة».

قال: قلت: يا رسول الله، فكم الأئمة بعدك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«عدد نقباء بني إسرائيل»(2).

ص: 50


1- المصدر السابق.
2- كفاية الأثير: ص 5؛ البحار للمجلسي: ج 36، ص 288.

وروي عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام أنه قال:

«قلت لأبي عليه السلام فما كان بعد خروج الملائكة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

قال عليه السلام: ثم دعا علياً وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وقال لمن في بيته أخرجوا عني.

وقال لأم سلمة: كوني على الباب، فلا يقربه أحد، ففعلت.

ثم قال: يا علي! ادن مني، فدنا منه، فأخذ بيد فاطمة عليها السلام، فوضعها على صدره طويلا، وأخذ بيد علي عليه السلام بيده الأخرى، فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكلام غلبته عبرته فلم يقدر على الكلام، فبكت فاطمة عليها السلام بكاء شديدا وبكى علي، والحسن، والحسين، لبكاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقالت فاطمة عليها السلام: يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم! قد قطعت قلبي، وأحرقت كبدي، لبكائك يا سيد النبيين من الأولين والآخرين، ويا أمين ربه! ورسوله! ويا حبيبه! ونبيّه! من لولدي بعدك؟ ولذل ينزل بي بعدك، من لعلي أخيك، وناصر الدين؟ من لوحي الله وأمره؟ ثم بكت وأكبت على وجهه فقبلته، وأكب عليه علي، والحسن والحسين صلوات الله عليهم.

فرفع رأسه صلى الله عليه وآله وسلم إليهم، ويدها في يده، فوضعها في يد علي عليه السلام وقال له: يا أبا الحسن! هذه وديعة الله، ووديعة رسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم عندك، فاحفظ الله واحفظني فيها، وإنك لفاعله، يا علي! هذه والله سيدة نساء أهل الجنة من الأولين والآخرين، هذه والله مريم الكبرى، أما والله ما

ص: 51

بلغت نفسي هذا الموضع حتى سألت الله لها ولكم، فأعطاني ما سألته، يا علي! انفذ لما أمرتك به فاطمة عليها السلام، فقد أمرتها بأشياء أمر بها جبرئيل عليه السلام، واعلم يا علي! إني راض عمن رضيت عنه ابنتي فاطمة عليها السلام، وكذلك ربي وملائكته.

يا علي! ويل لمن ظلمها، وويل لمن ابتزها حقها، وويل لمن هتك حرمتها، وويل لمن أحرق بابها، وويل لمن آذى خليلها، وويل لمن شاقها وبارزها، اللهم! إني منهم بريء، وهم مني برآء، ثم سماهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وضم فاطمة إليه، وعليا، والحسن، والحسين عليهم السلام.

وقال: اللهم إني لهم ولمن شايعهم سلم، وزعيم: بأنهم يدخلون الجنة، وعدو وحرب لمن عاداهم وظلمهم وتقدمهم أو تأخر عنهم وعن شيعتهم، زعيم: بأنهم يدخلون النار، ثم والله يا فاطمة! لا أرضى حتى ترضي ثم لا والله لا أرضى حتى ترضي، ثم لا والله لا أرضى حتى ترضي....»(1).

(ثم خرج علي والحسن والحسين عليهم السلام وخلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بابنته فاطمة وأغلق الباب، فلما خرج علي والحسنان عليهم السلام - استقبلت عائشة الإمام عليّاً عليه السلام فقالت له:

لأمر أخرجك وخلا بابنته دونك؟ فقال عليه السلام:

«عرفت الذي خلا بها له، وهو بعض الذي كنت فيه وأبوك وصاحباه».

فوجمت أن ترد عليه كلمة؛ فما لبث أن نادته فاطمة فدخل والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يبكي ويقول:

ص: 52


1- مسند فاطمة الزهراء عليها السلام: ص 419-420، ح 5/365.

«بكائي وغمي عليك وعلى هذه أن تضيع بعدي فقد أجمع القوم على ظلمكم»)(1).

(ثم دعا بعلي عليه السلام فساره طويلاً، ثم قال:

«يا علي أنت وصيي ووارثي فقد أعطاك الله علمي وفهمي فإذا مت ظهرت لك ضغائن في صدور قوم وغضب على حقد، فبكت فاطمة وبكى الحسن والحسين عليهم السلام»)(2).

(ثم أذن لنسائه فدخلن عليه فقال لابنته:

«أدني مني يا فاطمة».

فأكبت عليه، فناجاها، فرفعت رأسها، وعيناها تهملان دموعاً، فقال لها:

«أدني مني».

فدنت منه فأكبت عليه فناجاها فرفعت رأسها وهي تضحك، فتعجبنا، لما رأينا فسألناها فأخبرتنا:

«أنه نعى إلينا نفسه فبكيت».

فقال:

«يا بنية لا تجزعي فإني سألت ربي أن يجعلك أول أهل بيتي لحاقاً بي، فأخبرني أنه قد استجاب لي، فضحكت»)(3).

ص: 53


1- الصراط المستقيم لابن طاووس: ج 2، ص 92-93.
2- كفاية الأثر: ص 124؛ وانظر في أن عليّاً كان أقرب الناس عهداً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ مستدرك الحاكم: ج 3، ص 149، برقم 4671.
3- بحار الأنوار: ج 22، ص 532.

(ثم قال لها:

«يا بنية أنت المظلومة بعدي، وأنت المستضعفة، فمن آذاك فقد آذاني، ومن غاظك فقد غاظني، ومن جفاك فقد جفاني، ومن قطعك فقد قطعني، ومن ظلمك فقد ظلمني، ومن سرك فقد سرني، ومن وصلك فقد وصلني، لأنك مني وأنا منك، وأنت بضعة مني، وروحي التي بين جنبي، إلى الله أشكو ظالميك من أمتي، وكأني بك يا بنية تستغيثين، فلا يغيثك أحد من أمتي».

فبكت فاطمة.

فقال لها:

«لا تبكي يا بنية».

قالت:

«لست أبكي لما يصنع بي، ولكني أبكي لفراقك يا رسول الله».

فقال لها صلى الله عليه وآله وسلم:

«ابشري يا بنت محمد بسرعة اللحاق بي، فإنك أول من يلحق بي من أهل بيتي»)(1).

(ثم التفت إلى علي عليه السلام فقال:

«يا علي لا يلي غسلي وتكفيني غيرك».

فقال علي عليه السلام:

«يا رسول الله من يناولني الماء؟».

ص: 54


1- كشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 120؛ الأمالي للطوسي: ص 188؛ البحار: ج 43، ص 156.

فقال:

«إن جبرائيل معك والفضل يناولك الماء وليغط عينيه فإنه لا يرى أحد عورتي إلا انفقأت عيناه»)(1).

فرفع رأسه صلى الله عليه وآله وسلم وقال:

«لا كرب على أبيك بعد اليوم يا فاطمة»(2).

ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة:

«إذا أنامت فلا تخمشي عليّ وجها ولا ترخي عليّ شعراً ولاتنادي بالويل ولا تقيمي عليّ نائحة»(3).

المسألة الرابعة: استئذان ملك الموت في قبض روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستقبال فاطمة عليها السلام له

وتفيد الروايات بأن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن خلا بأهل بيته وأوصاهم بوصاياه أغمي عليه من شدة الجهد، أي: أخذ لا يكلمهم بأية كلمة لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام عليه السلام لا يفقده المرض أو الجهد القدرة على الوعي، بمعنى أن المعصوم عليه السلام لا يفقد الوعي سواء بالنوم أو الإغماء وذلك لاتصاله بالفيض الأقدس ولتكليفه الشرعي في التوسط بين الخلق والخالق جل شأنه.

ص: 55


1- كفاية الأثر: ص 126.
2- صحيح ابن حبان: ج 14، ص 592، برقم 6622؛ مستدرك الحاكم: ج 1، ص 537، برقم 1408.
3- مستدرك الوسائل: ص 451.

ولذا: يقول صلى الله عليه وآله وسلم:

«تنام عيني ولا ينام بصري»(1).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إني لست كأحدكم إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني»(2).

ومن هنا: فالمراد من معنى الإغماء هو عدم التكلم، ومما يدل عليه:

مجيء ملك الموت لقبض روح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء مستأذناً وأخذ يدق الباب قبل الدخول، ونحن نعلم من الناحية الطبية أن المغمى عليه لا يفيق بواسطة الحديث معه وإنما حسبما تقتضيه التأثيرات الدماغية على المغمى عليه.

وهنا: نلاحظ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسمع كلام ملك الموت الذي جاء بعنوان غريب يدق الباب ويستأذن في الدخول على النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما تحدثنا الرواية بسماع حوار فاطمة معه، ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حالة الإغماء لما علم بما يجري من حوله.

إذن: هو التوقف عن الكلام وذلك لانشغاله بالتجليات والتشريفات الملكوتية في هذا الانشغال الذي تشهده الملائكة لأشرف ما خلق الله تعالى وخير خلقه وأعبدهم.

ص: 56


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 124. صحيح البخاري، باب: علامات النبوة: ج 4، ص 168.
2- من لا يحضره الفقيه: ج 2، ص 172. مسند احمد: ج 2، ص 253. المصنف لابن ابي شيبه: ج 2، ص 495.

فلابد أن تكون هناك تشريفات ملكوتية وقدسية تشهدها الملائكة وأرواح الأنبياء والمرسلين لعروج روح حبيب رب العالمين وانتقالها إلى البرزخ.

ولا شك أن ذلك المقام له من المقال ما يوازي شأنيته وشرافته ومنزلته عند الله تعالى؛ ونحن قد مرّ علينا بيان بعض التشريفات الملكوتية الخاصة بفاطمة صلوات الله عليها في يوم القيامة وما ذاك إلاّ لبيان قدرها ومنزلتها وجاهها عند الله تعالى.

وإذا كان عيسى بن مريم يسلم الله عليه في المواضع البرزخية الثلاثة وتشهد الملائكة هذا السلام وترده عليه فكيف بسيد الخلق أجمعين وقد صلى عليه رب العرش العظيم فقال سبحانه:

(إِنَّ اَللّٰهَ وَ مَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً)(1).

والفارق لا يمكن أن يقاس بين أن يسلم على نفسه المرء وبين أن يصلي عليه رب العرش العظيم فقال سبحانه عن لسان نبيه عيسى عليه السلام:

(وَ سَلاٰمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا)(2).

وقوله:

(وَ اَلسَّلاٰمُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا)(3).

ص: 57


1- سورة الأحزاب، الآية: 56.
2- سورة مريم، الآية: 15.
3- سورة مريم، الآية: 33.

في حين كانت الصلاة والسلام من الله تعالى على النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقة منذ أن خلقه الله تعالى وإلى أبد الآبدين، فكيف لا تكون هذه الصلاة الإلهية والسلام الرباني في تلك المواضع البرزخية الثلاثة: (من الرحم إلى الدنيا، ومن الدنيا إلى الآخرة، ومن القبر إلى القيامة، أي الولادة، والموت، والبعث)، فيسلم على عيسى بن مريم فيها ويستثني النبي الأعظم منها؟!

إذن:

النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن في غيبوبة وفاقداً للوعي وإنما هي تجليات الفيض الأقدس، وتهيئة الملائكة وانشغالها واستعدادها لاستقبال أعظم شيء عند الله تعالى وأكبرهم حظوة وأكثرهم شأناً فصلى الله وملائكته وأنبياؤه ورسله وجميع عباده الصالحين على محمد وعلى آله الطاهرين.

الذي خصّه الله بما لم يخص به أحداً من العالمين، فها هو ملك الموت يستأذن في الدخول على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى يقبض روحه.

فقد روى ابن شهر آشوب عن ابن عباس أنه قال:

(أغمي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه فدق بابه فقالت فاطمة عليها السلام:

«من ذا؟».

قال: أنا رجل غريب أتيت أسأل رسول الله، أتأذنون لي في الدخول عليه؟ فأجابت:

«امض رحمك الله لحاجتك فرسول الله عنك مشغول».

ص: 58

فمضى ثم رجع فدق الباب وقال: غريب يستأذن على رسول الله، أتأذنون للغرباء؟ فأفاق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من غشيته فقال:

«يا فاطمة أتدرين من هذا؟».

قالت:

«لا يا رسول الله».

قال:

«هذا مفرق الجماعات، ومنغص اللذات، هذا ملك الموت، ما استأذن والله على أحد قبلي، ولا يستأذن لأحد من بعدي، استأذن عليّ لكرامتي على الله، ائذني له».

فقالت:

«أدخل رحمك الله».

فدخل كريح هفهافة، وقال: السلام على أهل بيت رسول الله.

فأوصى النبي إلى علي بالصبر عن الدنيا وبحفظ فاطمة وبجمع القرآن وبقضاء دينه وبغسله وأن يعمل حول قبره حائطاً ويحفظ الحسن والحسين)(1).

ثم (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«إن ملك الموت خيرني فاستنظرته إلى نزول جبرائيل عليه السلام».

فتجلى ابنته فاطمة الغشي، فقال لها:

ص: 59


1- المناقب لابن شهر: ج 3، ص 336.

«يا ابنتي احفظي عليك، فإنك وبعلك وابنيك معي في الجنة»(1).

وروي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام:

«لما حضر النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل يغمى عليه، فقالت فاطمة عليها السلام: وا كرباه لكربك يا أبتاه، ففتح عينيه، وقال: لا كرب على أبيك بعد اليوم»(2).

وروي أنه قال:

«قد حضر من أبيك، ما الله تبارك وتعالى بتارك أحداً».

وفي لفظ:

«ما ليس بناج منه أحد، الموافاة يوم القيامة»(3).

وفي رواية عن الإمام الباقر عليه السلام قال:

«إنه قال لفاطمة عليها السلام: لا كرب على ابيك بعد اليوم يا فاطمة إن النبي لا يشق عليه الجيب، ولا يخمش عليه الوجه، ولا يدعى عليه بالويل، ولكن قولي كما قال أبوك على إبراهيم: تدمع العينان وقد يوجع القلب، ولا نقول ما يسخط الرب وأنا بك يا إبراهيم لمحزون»(4).

وروى ابن سعد: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

ص: 60


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 134؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 38؛ إمتاع الأسماء للمقريزي: ج 14، ص 504.
2- البحار للمجلسي: ج 22، ص 531.
3- مسند فاطمة للسيوطي: ص 29.
4- تفسير فرات الكوفي: ص 220؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 22، ص 458.

«ادعوا لي أخي».

فأتيته، فقال:

«أدن مني».

فدنوت منه، فاستند إليّ فلم يزل مستنداً، وأنه ليكلمني حتى إن بعض ريقه ليصيبني، ثم نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

وعن علي عليه السلام، أنه قال:

«لما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كانت فاطمة تقول: وا أبتاه من ربه ما أدناه، وا أبتاه جنان الخلد مأواه، وا أبتاه ربه يكرمه إذا أدناه، الرب والرسل يسلم عليه حين يلقاه»(2).

وعن أنس أنه قال: لما مات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قالت فاطمة:

«يا أبتاه، أجاب ربا دعاه، يا أبتاه، من جنة الفردوس مأواه، يا أبتاه، إلى جبرائيل ننعاه»(3).

ص: 61


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: القسم الثاني من الجزء الثاني، باب: توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو في حجر علي؛ كنز العمال: برقم 1107.
2- مسند فاطمة للسيوطي: ص 29.
3- صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، باب: مرض النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ المعجم الصغير للطبراني: ج 1، ص 232، برقم 1082؛ مسند الطيالسي: ج 1، ص 197، برقم 1374؛ مسند الموصلي: ج 5، ص 156، برقم 2769؛ سنن الدارمي: ج 1، ص 54، برقم 87؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 4، ص 71، برقم 6954؛ كتاب الزهد لابن أبي عاصم: ص 16؛ البيان والتعريف للحسيني: ج 2، ص 177، ط دار الكتاب؛ فيض القدير: ج 5، ص 70؛ صحيح ابن حبان: ج 14،

المسألة الخامسة: رثاؤها لأبيها صلى الله عليه وآله وسلم وحزنها عليه

اشارة

تشير الروايات إلى أن فاطمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أظهرت من الأحزان عليه ما يدفع بالباحث والقارئ إلى الوقوف طويلاً عند هذا الحزن الفاطمي ليتأسى بهذه السنة في إظهار تلك الطريقة والأسلوب في التعامل مع المصائب العظيمة التي تصيب المسلم في أقدس مقدساته، وهم: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته عليهم السلام.

1 - روى الكليني عن الصادق عليه السلام، أنه قال:

«عاشت فاطمة عليها السلام بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسة وسبعين يوماً لم تر كاشرة ولا ضاحكة، تأتي قبور الشهداء في كل جمعة مرتين الإثنين والخميس فتقول:

ها هنا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وها هنا كان المشركون»(1).

2 - وروى أيضا عن الصادق عليه السلام أنه قال:

«إن فاطمة مكثت بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خمسة وسبعين يوماً وكان دخلها حزن شديد على أبيها، وكان يأتيها جبرائيل عليه السلام

ص: 62


1- الكافي للكليني: ج 4، ص 561؛ وسائل الشيعة: ج 14، ص 356.

فيحسن عزاءها على أبيها ويطيب نفسها ويخبرها عن أبيها ومكانه ويخبرها بما يكون بعدها في ذريتها وكان علي عليه السلام يكتب ذلك»(1).

أولاً: تعزية جبرائيل والخضر عليهما السلام لآل البيت عليهم السلام بوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

1 - إن أول من رثى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونعاه جبرائيل عليه السلام، (فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءهم جبرائيل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم مسجى، وفي البيت علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال:

السلام عليكم يا أهل بيت الرحمة:

(كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ إِنَّمٰا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّٰارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فٰازَ وَ مَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا إِلاّٰ مَتٰاعُ اَلْغُرُورِ)(2).

إن في الله عزاء كل مصيبة، ودركار من كل ما فات، وخلفا من كل هالك، وبالله فثقوا, وإياه فارجوا إنما المصاب من حرم الثواب، هذا آخر وطيي من الدنيا».

قال:

«قالوا: فسمعنا صوتا فلم نر شخصا»)(3).

ص: 63


1- الكافي: ج 1، ص 458.
2- سورة آل عمران، الآية: 185.
3- تفسير العياشي: ج 1، ص 209.

2 - وفي لفظ مقارب رواه الشيخ الكليني، عن الإمام الباقر عليه السلام يروي مجيء الخضر عليه السلام يعزي أهل البيت عليهم السلام بوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعن أبي جعفر عليه السلام قال:

«لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتاهم آت فوقف بباب البيت فسلم عليهم ثم قال: السلام عليكم يا آل محمد:

(كُلُّ نَفْسٍ ذٰائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ إِنَّمٰا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّٰارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فٰازَ وَ مَا اَلْحَيٰاةُ اَلدُّنْيٰا إِلاّٰ مَتٰاعُ اَلْغُرُورِ).

في الله عزّ وجل خلف من كل هالك وعزاء من كل مصيبة ومدرك لما فات فبالله فثقوا وعليه فتوكلوا وبنصره لكم عند المصيبة فارضوا فإنما المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

ولم يروا أحدا فقال بعض من في البيت: هذا ملك من السماء بعثه الله عزّ وجل إليكم ليعزيكم وقال بعضهم هذا الخضر عليه السلام جاءكم يعزيكم بنبيكم صلى الله عليه وآله وسلم»(1).

3 - وعن زيد الشحام، (عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

«قال لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءت التعزية أتاهم آت يسمعون حسّه ولا يرون شخصه، فقال: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته، كل نفس ذائقة الموت وإنما توفون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلاّ متاع الغرور في الله عزّ وجل عزاء من كل

ص: 64


1- الكافي للكليني: ج 3، ص 222؛ مستدرك الوسائل: ج 2، ص 355.

مصيبة وخلف من كل هالك ودرك لما فات فبالله فثقوا وإياه فارجوا فإن المحروم من حرم الثواب والسلام عليكم»(1).

ثانياً: مناداتها لعلي عليه السلام وهو يغسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم

وبادر الإمام علي عليه السلام إلى تنفيذ وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقام بتغسيله هو والفضل بن العباس الذي كان يسكب له الماء، وهو معصوب العينين، ولم يجرده عن ثيابه بل غسله بهذه الثياب وجبرائيل كان يعينه والملائكة من حوله كما أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بذلك وبيّن لعلي عليه السلام.

وبينما هو يغسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وقيل لما أراد أن يشرع بتغسيله صلى الله عليه وآله وسلم أصبحت فاطمة عليها السلام وهي تنادي:

«وا سوءً صباحاه».

فسمعها أبو بكر فقال لها: (إن صباحك لصباح سوء)(2).

ولا يخفى أن هذه الكلمة كانت قاسية على قلب الزهراء عليها السلام وآلمتها كثيراً فقد كشفت عن الشماتة في إصابتها بهذا المصاب كما هو متعارف بين الناس حينما يصاب أحدهم بعزيز أن يقال له بكلمات التعزية والتصبير وإبداء الحزن لما نزل به من الألم والأحزان لا أن يقال له: (إن صباحكم صباح سوء)، كما قال أبو بكر لفاطمة عليها السلام.

ص: 65


1- المصدر السابق.
2- الإرشاد للمفيد: ج 1، ص 189؛ البحار: ج 22، ص 519.
ثالثاً: فاطمة عليها السلام وقميص النبي صلى الله عليه وآله وسلم
اشارة

ومما يروى في بيان مقدار حزن فاطمة عليها السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما رواه ابن مردويه الاصفهاني (المتوفى سنة 410 ه -) عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنه قال:

«غسلت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قميصه، فكانت فاطمة تقول: أرني القميص، فإذا شمته غشي عليها، فلما رأيت ذلك غيبته»(1).

والمستفاد من الحديث جملة من الأمور، وهي كالآتي:

ألف: استحباب الجزع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

لقد مرّ علينا في الفقرة أولاً من هذه المسألة: أن أول المعزين والمحزنين على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جبرائيل عليه السلام ثم الأنبياء عليهم السلام ولاسيما نبي الله الخضر الذي كان حاضراً يشهد هذه المجريات في الأمة.

ولعل الرجوع إلى القرآن الكريم يغني الباحث أو القارئ عن التتبع في مشروعية الجزع على الأنبياء عليهم السلام كما هو حال نبي الله يعقوب وبكائه على ولده نبي الله يوسف، فقال سبحانه:

(وَ تَوَلّٰى عَنْهُمْ وَ قٰالَ يٰا أَسَفىٰ عَلىٰ يُوسُفَ وَ اِبْيَضَّتْ عَيْنٰاهُ مِنَ اَلْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)(2).

ص: 66


1- مناقب أمير المؤمنين عليه السلام لابن مردويه: ص 196؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 157؛ إحقاق الحق: ج 10، ص 436.
2- سورة يوسف، الآية: 84.

أو كحال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حزنه على ولده إبراهيم عليه السلام الذي يصف حاله الإمام الصادق عليه السلام فقال:

«فلما مات إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هملت عين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالدموع ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنّا بك يا إبراهيم لمحزونون»(1).

ومن ثم فليس من المستغرب أن يكون حال الزهراء عليها السلام على فقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصورة التي تتحدث عنها الرواية: من إغمائها حينما تشم قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فهذا كاشف عن مستوى إيمانها الذي كان مصداقه الخارجي هو حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإظهار هذا الحب وتعظيمه لأنه يدل على غاية الحزن والتألم وهو المراد به الجزع الشرعي الذي يثاب عليه الإنسان وذلك لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين».

فكيف يكون حال من أصيب في آن واحد بنفسه وماله وولده والناس أجمعين وكيف له لا يجزع من الحياة والبقاء بعد هذه الإصابة وهل له غير الله معينٌ على هذه المصيبة.

ص: 67


1- الكافي للكليني: ج 3، ص 263؛ وأورد الحديث البخاري في صحيحه في باب الجنائز: ج 2، ص 85.

إذن:

فقد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعني أن يفقد الإنسان نفسه وماله وولده والناس أجمعين فأي خسارة أعظم من هذه الخسارة ومن هنا: كانت فاطمة عليها السلام يغشى عليها حينما تشم قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد وفاته فوجد الإمام علي عليه السلام أن من الشفقة عليها كي لا تهلك من الحزن على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقام فغيب القميص عنها.

لكنها هل هدأت واستقرت آلامها وتكشفت همومها وانجلت أحزانها، كلا.

بل لم تزل حزينة باكية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى لحقت به في دار الآخرة - كما سيمر بيانه لاحقاً -.

باء: ما المراد بقميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

تناولنا فيما مرّ سابقاً بأن الإمام عليّاً عليه السلام قد غسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يجرده من ثيابه وكان الفضل يسكب له الماء وعيناه معصوبتان، ومن ثم لم يقُم الإمام علي عليه السلام حينها بتجريده من قميصه في حين أن الرواية تنص على أن فاطمة عليها السلام كانت تسأل عن قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي غسّل به؟

وجوابه:

قد تناول الفقهاء في أحكام غسل الميت، أنه (ينزع القميص عن رأسه إلى موضع عورته، ويغطى به ولا يكشف عن العورة، ثم يغسل)(1).

ص: 68


1- المقنعة للشيخ الصدوق: ص 57.

على ما هو مذكور في كتب الفقهاء (ثم يكفن في قميص، يجعل القميص غير مزرور ولا مكفوف، وإزار يلف على جسده بعد القميص، ثم يلف في حبر يماني حبري.... الخ)(1).

فضلاً عن ذلك فقد روى سليم بن قيس الهلالي في تغسيل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

(فأدخل يده تحت القميص فغسله، ثم خطه وكفنه، ثم نزع القميص عند تكفينه وتحنيطه)(2).

وعليه:

فالقميص الذي غسل به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رفعه عنه الإمام أمير المؤمنين بعد أن أكمل غسله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قام بتكفينه، ومن ثم فإن قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي غسل به هو من تراث آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولا ريب أن قميص سيد الأنبياء والمرسلين وأشرف ما خلق الله تعالى هو أشرف عند الله تعالى من قميص يوسف الذي أرسله مع أخوته إلى أبيه يعقوب:

(فَلَمّٰا أَنْ جٰاءَ اَلْبَشِيرُ أَلْقٰاهُ عَلىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قٰالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اَللّٰهِ مٰا لاٰ تَعْلَمُونَ)(3).

ص: 69


1- المصدر السابق.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي الكوفي: ص 138؛ البحار للمجلسي: ج 28، ص 285.
3- سورة يوسف، الآية: 96.

ولا ريب أن لقميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خصائص أعظم أثراً من قميص يوسف عليه السلام.

رابعاً: وقوفها على القبر النبوي الشريف وتعاهدها بزيارته

لم تستطع فاطمة الزهراء عليها السلام بعد هذا الحب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ترك قبره دون أن تتعاهده بالزيارة والمكوث عنده تخاطبه وتشكو إليه ما بها من الآلام والأحزان وتبثّ لوعتها بفراقه حتى أصبح حالها مشهوداً من الجميع يتناقله أهل المدينة، ويرويه الرواة ويحدثون به.

ومما جاء في ذلك ما يأتي:

1 - روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، أنه قال:

«لما رمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءت فاطمة عليها السلام فوقفت على قبره صلى الله عليه وآله وسلم وأخذت قبضة من تراب القبر ووضعتها على عينيها، وبكت وأنشأت تقول:

ماذا على من شم تربة أحمد

أن لا يشم مدى الزمان غواليا

صبت عليّ مصائب لو أنها

صبّت على الأيام صرن لياليا(1)

2 - روي، أن فاطمة عليها السلام رجعت بعد دفن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى بيتها واجتمعت إليها النساء فقالت فاطمة عليها السلام:

ص: 70


1- أثارة الترغيب والتشويق للخوارزمي: ص 353، ط دار الكتب؛ المغني لابن قدامة: ج 2، ص 409؛ تفسير الآلوسي: ج 14، ص 397؛ سلوة الحزين: ص 73؛ فنون الأدب للنويري: ج 5، ص 173؛ أخبار الدول للقرماني: ج 1، ص 271.

«انقطع عنا خبر السماء».

ثم قالت راثية:

أغبر آفاق البلاد وكورت

شمس النهار، وأظلم العصران

والأرض من بعد النبي خريبة

أسفا عليه كثيرة الرجفان

فليبكه شرق البلاد وغربه

وليبكه مصر وكل يمان

نفسي فداك ذاك لديك مايلا

ما وسدوك وسادة الورشان(1)

3 - وقالت عليها السلام:

إذا اشتد شوقي زرت قبرك باكيا

أنوح وأشكو لا أراك مجاوبي

فيا ساكن الصحراء علمتني البكاء

وذكرك أنساني جميع المصائب

فإن كنت عني في التراب مغيباً

فما كنت عن قلب الحزين بغائب(2)

4 - وقالت عليها السلام:

(وقد رزئنا به محضاً خليقته

صافي الضرائب والأعراق والنسب

وكنت بدراً ونورا يستضاء به

عليك تنزل من ذي العزة الكتب

وكان جبريل روح القدس زائرنا

فقد فقدت فكلّ الخير محتجب

فليت قبلك كان الموتُ صادفنا

لما مضيت وحالت دونك الحجب

إنا رزئنا بما لم يرز ذو شجن

من البرية لا عجم ولا عرب

ص: 71


1- ينابيع المودة: ص 265.
2- ناسخ التواريخ: ص 87؛ البحار للمجلسي: ج 22، ص 547.

ضاقت عليّ بلاد بعد ما رحبت

وسيم سبطاك خسفا فيه لي نصب

فأنت والله خير الخلق كلهم

وأصدق الناس حيث الصدق والكذب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت

منا العيون بتهمال لها سكب)(1)

(إذا مات يوما ميت قل ذكره

وذكر أبي مذ مات والله أزيد

تذكّرت لما فرق الموت بيننا

فعزيت نفسي بالنبي محمد

فقلت لها: إن الممات سبيلنا

ومن لم يمت في يومه مات في غد(2)

5 - وروى العلامة المجلسي عن ورقة بن عبد الله، عن فضة جارية الزهراء عليها السلام إنها قالت:

(لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتجع له الصغير والكبير، وكثر عليه البكاء، وقل العزاء وعظم رزؤه على الأقرباء والأصحاب والأولياء والأحباب والغرباء والأنساب، ولم تلق إلا كل باك وباكية، ونادب ونادبة، ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب، والأقرباء والأحباب، أشد حزنا وأعظم بكاء وانتحابا من مولاتي فاطمة الزهراء عليها السلام، وكان حزنها يتجدد ويزيد، وبكاؤها يشتد.

فجلست سبعة أيام لا يهدأ لها أنين، ولا يسكن منها الحنين، كل يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأول، فلما كان في اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن، فلم تطق صبرا إذ خرجت وصرخت، فكأنها من فم رسول الله صلى الله

ص: 72


1- مناقب آل ابي طالب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 136.
2- البحار للمجلسي: ج 22، ص 523.

عليه وآله وسلم تنطق، فتبادرت النسوان، وخرجت الولائد والولدان، وضج الناس بالبكاء والنحيب وجاء الناس من كل مكان، وأطفئت المصابيح لكيلا تتبين صفحات النساء وخيل إلى النسوان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قام من قبره، وصارت الناس في دهشة وحيرة لما قد رهقهم، وهي عليها السلام تنادي وتندب أباه:

«وا أبتاه، وا صفياه، وا محمداه! وا أبا القاسماه، وا ربيع الأرامل واليتامى، من للقبلة والمصلى، ومن لابنتك الوالهة الثكلى».

ثم أقبلت تعثر في أذيالها، وهي لا تبصر شيئا من عبرتها، ومن تواتر دمعتها حتى دنت من قبر أبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فلما نظرت إلى الحجرة وقع طرفها على المأذنة فقصرت خطاها، ودام نحيبها وبكاها، إلى أن أغمي عليها، فتبادرت النسوان إليها فنضحن الماء عليها وعلى صدرها وجبينها حتى أفاقت، فلما أفاقت من غشيتها قامت وهي تقول:

«رفعت قوتي، وخانني جلدي، وشمت بي عدوي، والكمد قاتلي، يا أبتاه بقيت والهة وحيدة، وحيرانة فريدة، فقد انخمد صوتي، وانقطع ظهري، وتنغص عيشي، وتكدر دهري، فما أجد يا أبتاه بعدك أنيسا لوحشتي، ولا رادا لدمعتي ولا معينا لضعفي، فقد فني بعدك محكم التنزيل، ومهبط جبرئيل، ومحل ميكائيل انقلبت بعدك يا أبتاه الأسباب، وتغلقت دوني الأبواب، فأنا للدنيا بعدك قالية وعليك ما ترددت أنفاسي باكية، لا ينفد شوقي إليك، ولا حزني عليك».

ثم نادت:

«يا أبتاه والباه».

ص: 73

ثم قالت:

إن حزني عليك حزن جديد

وفؤادي والله صب عنيد

كل يوم يزيد فيه شجوني

واكتيابي عليك ليس يبيد

جل خطبي فبان عني عزائي

فبكائي كل وقت جديد

إن قلبا عليك يألف صبراً

أو عزاء فإنه لجليد

ثم نادت:

«يا أبتاه انقطعت بك الدنيا بأنوارها، وزوت زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة، فقد أسود نهارها، فصار يحكي حنادسها رطبها ويابسها، يا أبتاه لا زلت آسفة عليك إلى التلاق، يا أبتاه زال غمضي منذ حق الفراق، يا أبتاه من للأرامل والمساكين، ومن للأمة إلى يوم الدين، يا أبتاه أمسينا بعدك من المستضعفين يا أبتاه أصبحت الناس عنا معرضين، ولقد كنا بك معظمين في الناس غير مستضعفين فأي دمعة لفراقك لا تنهمل، وأي حزن بعدك عليك لا يتصل، وأي جفن بعدك بالنوم يكتحل، وأنت ربيع الدين، ونور النبيين، فكيف للجبال لا تمور، وللبحار بعدك لا تغور، والأرض كيف لم تتزلزل.

رميت يا أبتاه بالخطب الجليل، ولم تكن الرزية بالقليل، وطرقت يا أبتاه بالمصاب العظيم، وبالفادح المهول.

بكتك يا أبتاه الاملاك، ووقفت الأفلاك، فمنبرك بعدك مستوحش، ومحرابك خال من مناجاتك، وقبرك فرح بمواراتك، والجنة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك.

ص: 74

يا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك، فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عاجلا عليك وأثكل أبو الحسن المؤتمن أبو ولديك، الحسن والحسين، وأخوك ووليك وحبيبك ومن ربيته صغيرا، وواخيته كبيرا، وأحلى أحبابك وأصحابك إليك من كان منهم سابقا ومهاجرا وناصرا، والثكل شاملنا، والبكاء قاتلنا، والأسى لازمنا».

ثم زفرت زفرة وأنت أنة كادت روحها أن تخرج ثم قالت:

قل صبري وبان عني عزائي

بعد فقدي لخاتم الأنبياء

عين يا عين أسكبي الدمع سحا

ويك لا تبخلي بفيض الدماء

يا رسول الإله يا خيرة الله

وكهف الأيتام والضعفاء

قد بكتك الجبال والوحش جمعا

والطير والأرض بعد بكي السماء

وبكاك الجون والركن

والمشعر يا سيدي مع البطحاء

وبكاك المحراب والدرس للقرآن

في الصبح معلنا والمساء

وبكاك الإسلام إذ صار

في الناس غريبا من سائر الغرباء

لو ترى المنبر الذي كنت تعلوه

علاه الظلام بعد الضياء

يا إلهي عجل وفاتي سريعا فلقد

تنغصت الحياة يا مولائي

قالت:

ثم رجعت إلى منزلها وأخذت بالبكاء والعويل ليلها ونهارها، وهي لا ترقأ دمعتها، ولا تهدأ زفرتها)(1).

ص: 75


1- بحار الأنوار للمجلسي: ج 43، ص 174-175.
خامساً: غشيتها حينما سمعت بلالاً يؤذن

ولم يقتصر إظهار حزنها عليها السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الوقوف على قبره والبكاء على فقده وإنما كانت عليها السلام تحن إلى كل ما له علاقة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كالأذان الذي أوكل إلى بلال مؤذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فقد روى الشيخ الصدوق رحمه الله: (إنه لما قبض النبي صلى الله عليه وآله وسلم امتنع بلال من الأذان، قال: لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وإن فاطمة عليها السلام قالت ذات يوم:

«إني أشتهي أن أسمع صوت مؤذن أبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأذان».

فبلغ ذلك بلالاً، فأخذ في الأذان، فلما قال: الله أكبر، الله أكبر، ذكرت عليها السلام أباها صلى الله عليه وآله وسلم وأيامه، فلم تتمالك من البكاء.

فلما بلغ إلى قوله: أشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شهقت فاطمة عليها السلام، وسقطت لوجهها وغشي عليها.

فقال الناس لبلال: أمسك يا بلال! فقد فارقت ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدنيا، وظنّوا أنّها قد ماتت، فقطع أذانه لم يتمه.

فأفاقت فاطمة عليها السلام وسألته أن يتم الأذان، فلم يفعل، وقال لها: يا سيدة النسوان! إنّي أخشى عليك ما تنزلينه بنفسك إذا سمعت صوتي بالأذان، فأعفته عن ذلك)(1).

ص: 76


1- من لا يحضره الفقيه، باب: الأذان: ج 1، ص 297، ح 44؛ مسند فاطمة عليها السلام للسيد حسين شيخ الإسلامي: ص 435.

المبحث الثالث: ما جرى في السقيفة وخروج الإمام علي بفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام إلى بيوت المهاجرين والأنصار لتذكيرهم ببيعة الغدير

اشارة

إن من المصائب العظيمة التي كانت سبباً رئيسياً في تفرق المسلمين ووقوع الفتن وسفك الدماء، وظهور البدع وتغيير سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي اجتماع الصحابة في سقيفة بني ساعدة ونبذهم لبيعة الغدير التي بايعوا فيها علي بن أبي طالب عليه السلام بأمر من الله تعالى في حجة البلاغ الذي بلغ فيها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الخليفة والوصي له في الأمة من بعده.

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«ألست أولى بكم من أنفسكم؟».

قالوا: بلى، قال:

«من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه»(1).

ولعل هذا الحديث هو من أشهر الأحاديث وأكثرها طرقاً وتواتراً فيما بين رواة المسلمين.

ص: 77


1- مسند احمد بن حنبل: ج 1، ص 118. فضائل الصحابة للنسائي: ص 15.

وعليه:

فمن البديهي أن تكون التبعات التي تمخضت عن جحد بيعة الغدير وانقلاب كثير من الصحابة على ما أخذه النبي صلى الله عليه وآله وسلم منهم من البيعة لعلي وتراجعهم القهقرى عنها إلى بيعة السقيفة التي أحدثوها والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ما زال مسجى على سريره لم يبرد بدنه بعد، أن تكون تلك التبعات والدماء والفتن في وزر من سنَّ تلك السنة ومن عمل بها إلى يوم القيامة.

من هنا:

كان لزاما على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أن يدور على بيوت المهاجرين والأنصار حاملاً معه بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وولديها الحسن والحسين عليهما السلام للمطالبة بحقه وتذكيرهم بما انعقد في أعناقهم من بيعة له يوم غدير خم، فكان محله فيهم كمحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنزلته في الأمة كمنزلة هارون في أمة موسى الكليم.

ولكن: لعل من يسأل عن تلك المجريات التي وقعت في السقيفة وكيف أحدثوا البيعة فيها وبأي طريقة أخذوها من المسلمين وكيف جمعوا الناس إليها ليتضح بذلك أحد أسباب تخلف معظم الصحابة، عن الرجوع عن بيعتهم لأبي بكر واعتذارهم إلى علي عليه السلام الذي لم يدع أحداً منهم إلا وقد ذكره بغدير خم، فلم يجد إجابة منهم سوى أربعة نفرٍ أقروا بما له في أعناقهم من عهد وبيعة على الرغم مما رأوه وسمعوه في جمع الناس إلى البيعة فما الذي حصل حتى اعتذر الصحابة من علي عليه السلام فلم يجيبوه؟!

ص: 78

المسألة الأولى: كيف جرت البيعة في السقيفة وكيف جاء الناس إلى المسجد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدفن بعد؟

ما وقع في السقيفة من أحداث، دعا الكثيرين من الرواة وحفاظ الحديث إلى تناقله وتدوينه في مؤلفاتهم.

ولكن ربما اختصر البعض في نقل مجريات الحدث.. وربما رأى البعض الآخر ضرورة في نقله كاملاً.. بينما فضل القسم الآخر لزوم الصمت ظناً منه أنه يغطي على أمرٍ أبى الله إلا حفظه في صدور الناقلين.

وبين هذا وذاك ولاسيما رواة أهل البيت أصحاب المصيبة العظمى والفاجعة الكبرى حاولنا الوقوف عند تسلسل الحدث.

فضلاً عن أن أصحاب الصحاح وشيخهم البخاري قد نقلوا مجريات السقيفة وعلى لسان صاحب الصولة فيها عمر بن الخطاب.

إذن: فلنرَ ما حدث في السقيفة.

يروي البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال:

(وإنه كان من خبرنا حين توفى الله نبيه صلى الله عليه - وآله - وسلم أن الأنصار خالفونا، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة وخالف عنا علي والزبير ومن معهما)(1).

فلما وصل الخبر إلى أبي بكر وعمر بهذا الاجتماع قال عمر: فقلت لأبي

ص: 79


1- صحيح البخاري: كتاب الحدود، باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت: ج 8، ص 26، ط دار الفكر، أوفسيت.

بكر انطلق بنا إلى إخواننا لننظر ما هم عليه(1).

فانطلق الاثنان وفي الطريق إلى السقيفة اصطحبا أبا عبيدة بن الجراح حتى جاءوا سقيفة بني ساعدة، وسعد بن عبادة(2) على طنّفسة(3) متكئاً على وسادة، وبه الحُمّى.

فقال له أبو بكر: ماذا ترى أبا ثابت؟

قال: أنا رجل منكم!

فقال حُباب بن المنذر(4): منا أمير ومنكم أمير، فإن عمل المهاجري في الأنصاري شيئاً ردّ عليه، وإن عمل الأنصاري في المهاجري شيئاً ردّ عليه، وإن لم تفعلوا: فانا جذيلها المحُكك وعُذَيقها المُرجّب(5)، أنا أبو شبل في عرينه الأسد، والله لأن شأتهم لنعيدنّها جَذَعة!!؟(6).

ص: 80


1- سمط النجوم العوالي: ج 2، ص 244، ط المكتبة السلفية؛ تاريخ عمر بن الخطاب لابن الجوزي: ص 67، ط مكتبة المؤيد.
2- سعد بن عبادة، هو: أبو ثابت، كان من أهل بيعة العقبة، ومن أهل بدر وغيرها من المشاهد، وكان سيد الخزرج ونقيبهم، وجواد الأنصار وزعيمهم.
3- الطنفسة: البساط من الصوف ونحوه (الزولية)؛ انظر: المصطلحات إعداد مركز المعجم الفقهي: ص 1273.
4- حباب بن المنذر، من سادة الأنصار وأبطالهم بدرياً، أحدياً، ذا مناقب عديدة.
5- قال الخلال سمعت أحمد بن يحيى النحوي قد سئل عن قوله: (أنا جذيلها المحكك)، قال: الخشبة تنصب للإبل تحك بها، و (أنا عذيقها المرجب * عذق النخلة يحوط حولها، ومراده: أنا جذيلها: أنا أشفي داءكم، وأنا عذيقها، أنا كريم؛ السنة للخلال: ج 2، ص 309، ط دار الراية.
6- العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي: ج 4، ص 257، ط دار الكتاب العربي؛ مروج الذهب: ج 2، ص 312، ط دار القلم؛ الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1، ص 5-6؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي:

قال عمر: فأردت أن أتكلم، وكنت زورت كلاماً في نفسي!؟ فقال أبو بكر: على رسلك يا عمر، فما ترك كلمة كنت زوَّرتها في نفسي إلا تكلم بها!

وقال: نحن المهاجرون، أول الناس إسلاماً، وأكرمهم أحساباً، وأوسطهم داراً وأحسنهم وجوهاً، وأمسهم برسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم رَحِماً، وأنتم إخواننا في الإسلام، وشركاؤنا في الدين، نصرتم وواسيتم، فجزاكم الله خيراً، فنحن الأمراء وأنتم الوزراء! فقد قال رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«الأئمة من قريش».

وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين - يعني: عمر بن الخطاب وأبا عبيدة ابن الجراح -.

فقال عمر: يكون هذا وأنت حيّ! ما كان أحد ليؤخرك عن مقامك الذي أقامك فيه رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم!(1) ثم مد يده ليبايع أبا بكر فبادره رجل من الأنصار فضرب على يد أبي بكر فبايعه قبل عمر فكان أول من بايع(2)، ثم ضرب عمر على يده فبايعه(3).

ص: 81


1- أراد بذلك المقام: هو الصلاة التي صلاها أبو بكر بالمسلمين في صبيحة يوم الاثنين، وهو اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وفيه كان خروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لتعطيل هذه الصلاة كما سيمر علينا بيانه مشفوعاً بالأدلة والمصادر.
2- مصنف ابن أبي شيبة: ج 7، ص 432، برقم 3743.
3- العقد الفريد لابن عبد ربه: ج 4، ص 257، ط دار الكتاب العربي.

فلما رأى سعد بن عبادة ذلك أراد أن يكسب الجولة لصالحه بطلب البيعة لنفسه، ظناً منه أن الأنصار ستبايعه وهم الذين جاءوا إلى منزله من أجل هذا الغرض (فقام فبايع، فقال له أبو بكر: لئن اجتمع إليك مثلها رجلان لقتلناك)(1)

فكان هذا التهديد بالقتل لسعد بن عبادة وهو: (سيد الأنصار) ونقيب الأوس والخزرج وهو في منزله وأمام قومه كفيل بانقلاب الأمر؟!!

(فتخلى الأوس عن معاضدة سعد بن عبادة خوفاً أن يفوز بها الخزرج)(2).

فهبوا كرجل واحد (وازدحموا على أبي بكر، فقالت الأنصار:

قتلتم سعداً.

فقال عمر:

اقتلوه، قتله الله، فإنه صاحب فتنة)(3).

ف -: (بويع لأبي بكر في اليوم الذي توفي فيه رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وهو يوم الاثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول)(4)

وقد اقتصرت هذه البيعة على أكثر من حضر السقيفة في هذا اليوم.

ص: 82


1- المنتظم لابن الجوزي: ج 4، ص 68، ط دار الكتب العلمية.
2- مروج الذهب للمسعودي: ج 2، ص 312، ط دار القلم.
3- العقد الفريد لابن عبد ربه: ج 4، ص 257، ط دار الكتاب العربي.
4- السيرة النبوية لابن كثير: ج 2، ص 260؛ التنبيه والأشراف للمسعودي: ص 284، ط مكتبة خياط؛ تاريخ الخلافة الراشدة: ص 12؛ تاريخ القضاعي: ص 172؛ مروج الذهب: ج 2، ص 309، ط دار القلم؛ سمط النجوم العوالي للعاصمي: ج 2، ص 245-246، ط السلفية.

المسألة الثانية: ماذا حدث في اليوم الثاني لوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وهو لم يدفن بعد؟!

اشارة

بعد أن تمت البيعة لأبي بكر في يوم وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عزم هو وعمر بن الخطاب في اليوم الثاني للوفاة - وهو يوم الثلاثاء - على أخذ البيعة العامة من الناس، وكونها عامة فهذا يتطلب أن تجرى في المسجد النبوي.

فكيف كان مجيء الناس إلى المسجد وهم قد فجعوا بوفاة رسول الله؟!. وكيف تطيب لهم نفسٌ بالقدوم للبيعة، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يوارَ الثرى؟! ولم يصلَّ عليه بعد؟؟! ولقد كان الناس خلال هذين اليومين إذا سمعوا بلالاً يؤذن ينتحبون عند قوله:

«أشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»(1).

فما الذي حدث؟ وكيف أخذت البيعة لأبي بكر من الناس.. والناس هذه حالهم؟!

فلنرَ هذه الصورة من خلال لسان البرّاء بن عازب، وزائدة بن قدامة.

أولاً: سوق الناس الى البيعة العامة بطريقة لم تحدث في امة من الأمم

يقول البرّاء بن عازب: (فلما صنع الناس ما صنعوا من بيعة أبي بكر - في السقيفة - أخذني ما يأخذ الواله الثكول مع ما بي من الحزن لوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجعلت أتردد وأرمق وجوه الناس، وقد خلا الهاشميون برسول الله لغسله وتحنيطه، وقد بلغني الذي كان من قول سعد بن عبادة ومن اتبعه

ص: 83


1- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 3، ص 237، ط دار صادر بيروت.

من جملة أصحابه فلم أحفل بهم وعلمت أنه لا يؤول إلى شيء(1).

فجعلت أتردد بينهم وبين المسجد وأتفقد وجوه قريش، فإني لكذلك إذ فقدت أبا بكر وعمر)(2).

وصادف في هذا الوقت - والقول لزائدة بن قدامة -: (أن جماعة من الأعراب قد دخلوا المدينة ليتماروا منها - أي: يشتروا التمر - فشغل الناس عنهم بموت رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم فشهدوا البيعة وحضروا الأمر، فأنفذ إليهم عمر واستدعاهم وقال لهم: خذوا بالحظ من المعونة على بيعة خليفة رسول الله واخرجوا إلى الناس واحشروهم ليبايعوا، فمن امتنع فاضربوا رأسه وجبينه).

قال البرّاء: (ثم لم ألبث حتى إذا أنا بأبي بكر وعمر وأبي عبيدة قد أقبلوا في أهل السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية)(3).

يقول زائدة: (والله لقد رأيت الأعراب تخرموا واتشحوا بالأزر الصنعانية(4) وأخذوا بأيديهم الخشب، وخرجوا حتى خبطوا الناس خبطاً، وجاءوا بهم مكرهين إلى البيعة).

ص: 84


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 1، ص 73، وج 2، ص 132، ط مصر؛ كتاب سليم بن قيس: ص 25، ط مؤسسة البعثة.
2- كتاب سليم بن قيس: ص 25، ط مؤسسة البعثة؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 1، ص 73، و ج 2، ص 132، ط مصر.
3- سليم بن قيس: ص 25؛ شرح النهج للمعتزلي: ج 1، ص 73، و ج 2، ص 132.
4- الأزر الصنعانية: وهي التي صنعت في اليمن في مدينة صنعاء.

قال البرّاء: ف - (لا يمر بهم أحد إلا خبطوه فأنكرت عند ذلك عقلي جزعاً منه مع المصيبة برسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم)!!

فخرجت مسرعاً حتى أتيت بني هاشم والباب مغلق دونهم فضربت الباب ضرباً عنيفاً، وقلت: يا أهل البيت، فخرج إليّ الفضل بن العباس فقلت: قد بايع الناس أبا بكر(1)؟ (فسمع العباس وعلي التكبير في المسجد ولم يفرغوا من غسل رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم؟! فقال علي:

ما هذا؟!

قال العباس: ما رؤي مثل هذا قط؟! أما قلت لك(2) فقد تربت أيديكم منها إلى آخر الدهر، أما إني قد أمرتكم فعصيتموني)(3).

إذن: هكذا يتم البرّاء بن عازب المشهد الذي رآه في يوم الثلاثاء وهو اليوم التالي لوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(4)!!

وبهذه الطريقة جمع الناس للبيعة.. فإن شئت سمها إرهاباً!.. وإن شئت سمها اجتهاداً.. ولكن مما لا يختلف فيه اثنان أن هذه الطريقة قد أرعبت أهل المدينة، وأدخلت في قلوبهم الذعر والخوف)(5).

ص: 85


1- كتاب سليم بن قيس: ص 25-26، ط مؤسسة البعثة.
2- العقد الفريد لابن عبد ربه: ج 4، ص 257-258، ط دار الكتاب العربي؛ عيون الأخبار لابن قتيبة: ج 2، ص 165.
3- كتاب سليم بن قيس: ص 29، ط مؤسسة البعثة.
4- سمط النجوم: ج 2 ص 245-246 ط السلفية، مروج الذهب: ج 3 ط دار القلم.
5- وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره وروضته بين إختلاف أصحابه واستملاك أزواجه للمؤلف: ص 28-34.

المسألة الثالثة: خروج الإمام علي بفاطمة وولديها عليهم السلام إلى بيوت الأنصار والمهاجرين لتذكيرهم ببيعة غدير خم

إن الناظر إلى سيرة علي عليه السلام ويقرأ تفاصيلها ثم يقارنها مع سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليجد تطابقاً عظيماً بينهما يوصل الباحث إلى القطع بسنخيتهما وأنهما من جنس واحد ومن منهل واحد وهو القرآن.

فهذا الخروج بفاطمة والحسن والحسين هو صورة حية ومتجددة لخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بفاطمة وولديها إلى مباهلة نصارى نجران؛ ولأن عليّاً عليه السلام هو نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تلك المباهلة، فإن هذا الخروج إلى بيوت المهاجرين والأنصار يحمل نفس الأهداف والغايات والنتائج.

1 - إذ ترتكز المباهلة مع النصارى على إثبات نبوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهنا ترتكز على إثبات إمامة علي عليه السلام.

2 - وهناك كانت الدعوة لإظهار صدق المدعى وهو النبوة، وهنا أيضاً لإظهار صدق دعوى علي عليه السلام.

3 - وهناك كان الخروج بإظهار الطرف الكاذب، ونزول اللعنة عليه وهنا أراد علي عليه السلام إظهار الطرف الكاذب، واستحقاقه للعن لقوله تعالى:

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ)(1).

ص: 86


1- سورة آل عمران، الآية: 61.

4 - وهناك دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمّن على دعائه أهل بيته، وهنا دعا علي على الظالمين في انتهاك حقه وأمّن أهل بيته على دعائه.

5 - وهناك أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إظهار شأن فاطمة وعلي وولديها، وهنا أراد الإمام علي عليه السلام إظهار شأن بضعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وريحانتيه.

وغيرها من الأسباب والدواعي والنتائج فيما بين خروج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لمباهلة النصارى وبين خروج علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام للدفاع عن الحكم الشرعي وحفظ الأمة من الضلال والفتن.

ولكن:

كيف كان رد هؤلاء لعلي وهم ينظرون إلى تلك الوجوه التي خرج بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم والتي أثرت في أسقف النصارى فقال: إني أرى وجوهاً لو أنها أقسمت على الله أن يزيل جبلاً من مكانه لأزاله(1)؛ لكنها عند قلوب هؤلاء لم تؤثر فقد قست هذه القلوب فهي كالحجارة، بل أشد قسوة لنقضهم عهد الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم الذي أعطوه لعلي عليه السلام في غدير خم فكان مما استحقوا بهذا النقض، أن لعنهم الله فجعل قلوبهم قاسية فهي كالحجارة أو أشد قسوة.

قال تعالى:

(فَبِمٰا نَقْضِهِمْ مِيثٰاقَهُمْ لَعَنّٰاهُمْ وَ جَعَلْنٰا قُلُوبَهُمْ قٰاسِيَةً يُحَرِّفُونَ

ص: 87


1- تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي: ج 1، ص 186. تفسير الثعلبي: ج 3، ص 85.

اَلْكَلِمَ عَنْ مَوٰاضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّٰا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لاٰ تَزٰالُ تَطَّلِعُ عَلىٰ خٰائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّٰ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ إِنَّ اَللّٰهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ)(1).

ويروي الطبرسي وسليم بن قيس وغيرهما هذا الخروج كالآتي:

1 - فعن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال:

«فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اشتغلت بغسله وتكفينه والفراغ من شأنه ثم آليت على نفسي يمينا أن لا أرتدي برداء إلا للصلاة حتى أجمع القرآن ففعلت ثم أخذت بيد فاطمة وابني الحسن والحسين فدرت على أهل بدر وأهل السابقة فناشدتهم حقي ودعوتهم إلى نصرتي فما أجابني منهم إلاّ أربعة رهط سلمان وعمار وأبو ذر والمقداد ولقد راودت في ذلك بقية أهل بيتي فأبوا عليّ إلا السكوت لما علموا من وغارة صدور القوم وبغضهم لله ورسوله ولأهل بيت نبيه»(2).

2 - وروى ابن أبي الحديد عن الإمام الباقر عليه السلام جواب هؤلاء القوم إلى فاطمة عليها السلام حينما كانت تطلب منهم نصر علي بن أبي طالب عليه السلام، فقال:

«إنّ عليّاً حمل فاطمة عليها السلام وسار بها ليلاً إلى بيوت الأنصار يسألهم النصرة وتسألهم فاطمة الانتصار له فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، لو كان ابن عمك سبق إلينا أبا بكر ما عدلنا به.

ص: 88


1- سورة المائدة، ألآية: 13.
2- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 98؛ سليم بن قيس الهلالي: ص 211؛ نهج الإيمان لابن حجر: ص 579؛ مستدرك الوسائل: ج 11، ص 74.

فقال علي: أكنت أترك رسول الله ميتاً في بيته لا أجهزه وأخرج إلى الناس أنازعهم في سلطانه؟

وقالت فاطمة: ما صنع أبو حسن إلاّ ما كان ينبغي له، وصنعوا هم ما الله حسيبهم عليه»(1).

وفي لفظ آخر قالت:

«ما الله حسيبهم وطالبهم»(2).

3 - وقد روى سليم بن قيس الهلالي عن سلمان الفارسي أن أمير المؤمنين علياً عليه السلام قد ناشدهم النصرة في ثلاث ليال، فكان يأتي يدور على بيوتهم في كل ليلة فيناشدهم فيقولون: (نصبحك بكرة) فما منهم أحد أتاه إلا هؤلاء الأربعة، وهم سلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري وعمار بن ياسر والمقداد بن الأسود(3).

فلما رأى غدرهم وقلة وفائهم له لزم بيته وأقبل على القرآن يؤلفه ويجمعه، فلم يخرج من بيته حتى جمعه وكان في الصحف والشظاظ والأسبار والرقاع فلما جمعه كله وكتبه بيده على تنزيله وتأويله والناسخ منه والمنسوخ، بعث إليه أبو بكر أن اخرج فبايع.

فبعث إليه علي عليه السلام:

ص: 89


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6، ص 13؛ السقيفة وفدك للجوهري: ص 64؛ البحار للمجلسي: ج 28، ص 187.
2- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري: ج 1، ص 19.
3- سليم بن قيس الهلالي: ص 146.

«إني لمشغول وقد آليت نفسي يمينا أن لا أرتدي رداء إلا للصلاة حتى أؤلف القرآن وأجمعه».

فسكتوا عنه أياما فجمعه في ثوب واحد وختمه، ثم خرج إلى الناس وهم مجتمعون مع أبي بكر في مسجد رسول الله، فنادى علي عليه السلام بأعلى صوته:

«يا أيها الناس، إني لم أزل منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله مشغولا بغسله ثم بالقرآن حتى جمعته كله في هذا الثوب الواحد، فلم ينزل الله تعالى على رسول الله صلى الله عليه وآله آية إلا وقد جمعتها، وليست منه آية إلا وقد جمعتها وليست منه آية إلا وقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وآله وعلمني تأويلها».

ثم قال لهم علي عليه السلام:

«لئلا تقولوا غدا:

(إِنّٰا كُنّٰا عَنْ هٰذٰا غٰافِلِينَ)(1).

ثم قال لهم علي عليه السلام:

«لئلا تقولوا يوم القيامة إني لم أدعكم إلى نصرتي ولم أذكركم حقي، ولم أدعكم إلى كتاب الله من فاتحته إلى خاتمته».

فقال عمر: ما أغنانا ما معنا من القرآن عما تدعونا إليه ثم دخل علي عليه السلام بيته)(2).

ص: 90


1- سورة الأعراف، الآية: 172.
2- سليم بن قيس الهلالي: ص 146-147.

الفصل الثاني: الحرب المفتوحة على عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

ص: 91

ص: 92

المبحث الأول: البدء بمرحلة الحرب المفتوحة على بيت فاطمة عليها السلام

اشارة

بعد هذه الحجة التي ألقاها الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام على المهاجرين والأنصار حاملاً معه في دورانه على بيوتهم فاطمة والحسن والحسين وسؤاله النصرة له بما اغتصب من حقه الشرعي في مبايعتهم إياه في غدير خم.

وسؤال فاطمة عليها السلام لهم في ذلك فأبوا الخروج ولزموا دورهم وتخلوا عن واجبهم الشرعي والأخلاقي والاجتماعي؛ فلو كان هذا التعاهد والمبايعة مما قد جرت مع غير المسلم من العرب بما تفرضه القوانين والأعراف العشائرية من الالتزام بالعهد فكيف إذا كان الأمر أساسه الإسلام والأمر الإلهي؛ إلاّ أن هؤلاء الذين تخلفوا عن تلك البيعة وقدموا الخذلان لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولم ينصروه سيتحملون نتائج هذا العمل في الدنيا والآخرة.

ولكن السؤال المطروح: أكان أصحاب السقيفة وعلى رأسهم أبو بكر وعمر في غفلة عن هذا التحرك لآل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في خروج علي ببضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وريحانتيه إلى بيوت المهاجرين

ص: 93

والأنصار ولثلاث ليالٍ، والقرآن يصف حال أهل المدينة، فيقول سبحانه:

(وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ اَلْأَعْرٰابِ مُنٰافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى اَلنِّفٰاقِ لاٰ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلىٰ عَذٰابٍ عَظِيمٍ)(1).

وقال تعالى:

(لَقَدِ اِبْتَغَوُا اَلْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ اَلْأُمُورَ حَتّٰى جٰاءَ اَلْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اَللّٰهِ وَ هُمْ كٰارِهُونَ)(2).

وعليه:

فواقع الحال الذي كان عليه المسلمون يكشف عن أن هذا التحرك الذي قام به أمير المؤمنين علي عليه السلام هو واضح لدى أصحاب السقيفة فهم يعلمون به، فضلاً عن ما يفرضه الحال الذي عليه أصحاب السقيفة من زرع عيون لهم في المدينة تراقب تحركات المعارضين لانقلاب السقيفة، مما يعطي صورة لدى الباحث والقارئ مفادها:

أن هذا التحرك الذي قام به علي عليه السلام بما لديه من ثقل نبوي عند الكثيرين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو أخو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابن عمه وزوج بضعته وأبو ريحانتيه.

لاسيما وهو الآن يحمل معه بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسيدي شباب أهل الجنة مما يدل على أنهم على مبدأ واحد وأنهم الشهود عليهم يوم

ص: 94


1- سورة التوبة، الآية: 101.
2- سورة التوبة، الآية: 48.

القيامة فقد سمعوا وشهدوا ما دار بين علي وبين الصحابة خلال ثلاث ليال ومن ثم قد يكسب علي عليه السلام الجولة حينما يجد المناصر له فيعيد الأمر إلى موضعه الصحيح ومن ثم سيخسر هؤلاء الدنيا مع علمهم ويقينهم بأنهم خسروا الآخرة.

ولذا:

فلتكن إحدى الدارين قد ذهبت ولكن فلتبقَ الأولى وهي الدنيا التي كانت أكبر همهم وهي التي كان ثمنها الآخرة فكيف يتركون عليّاً يكسب الجولة في هذه الحرب.

وعليه:

بادروا إلى تحرك سريع إتجاه رأس المعارضة لانقلاب السقيفة وصاحب الحق في الخلافة ومواجهته بحرب مفتوحة وبمختلف الوسائل، وعلى جميع الأصعدة سواء كانت نفسية أو عسكرية أو اقتصادية، أو اجتماعية، أو عقائدية.

فضلاً عن:

كسر حاجز القداسة عن أهل هذا البيت ونسف حدود الحرمة التي لديه والتي أثبتها القرآن والسنة منذ أن وطئت أقدام النبي صلى الله عليه وآله وسلم أرض المدينة.

وبهذا يكون أقطاب السقيفة قد حققوا بهذه الحرب المفتوحة أكثر من هدف فضلاً عن تحقيقها للهدف الأسمى وهو الجلوس على كرسي الحكم ومسك زمام السلطة، وسيادة العرب التي كان يحلم بها زعماء العرب وشيوخ قبائلها فكيف الآن وقد جمعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تحت

ص: 95

راية واحدة وإن كانت راية دينية تختلف عما كان عليه العرب من معتقدات وديانات قبل الإسلام.

أي إن تجمعهم على دين واحد أفضل من تفرقهم على أديان متعددة ولذا اختاروا من الإسلام اسمه ومن القرآن رسمه ونهضوا بأيدلوجية جديدة؛ في مظهرها الخارجي درء الفتنة في اختيار الخليفة لأنهم تركوا بدون خليفة كما روجوا للأمر؛ وفي باطنها ملك عضوض وسلطان عقيم وإمارة ولو على حجارة(1).

إذن:

بدأت ساعة الصفر في عمر العهد الجديد فكانت الحرب المفتوحة على بيت فاطمة وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين وبتحرك سريع مقابل ذلك التحرك الذي قام أهل هذا البيت عليهم السلام فكان عقابهم واحداً، ومصيرهم واحداً، وهو القتل حرقاً.

المسألة الأولى: جمع الحطب حول بيت فاطمة عليها السلام وإضرام النار فيه لإحراق البيت بمن فيه

اشارة

ذكرنا فيما مرّ سابقاً في الجزء الثالث من الكتاب في انتقال فاطمة عليها السلام إلى المدينة وقيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببناء المسجد وبناء حجر

ص: 96


1- ذكر الخرائطي: عن عمران بن موسى يقول: يروى عن كعب الأحبار: أنه دخل على عمر بن الخطاب وهو جالس على فراشه، وتحت الفراش حصير، وعن يمينه وشماله وسادتان، فقال له عمر: اجلس يا أبا إسحاق وأشار إلى الوسادة، فنحاها كعب وجلس دونها، ثم قال: إن فيما أوصى به سليمان بن داود عليه السلام: أن لا تغش السلطان حتى يملك، ولا تقعد عنه حتى ينساك...)؛ ولا يخفى أن الذي أراده كعب الأحبار من بيان لحال عمر وسلطانه لجلي على أهل المعرفة؛ (الملتقى من كتاب مكارم الأخلاق للخرائطي: ج 2، ص 234، ح 689).

من حوله كانت إحداها لفاطمة صلوات الله عليها فجعلها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في داخل المسجد وجعل لبيتها باباً؛ ومن ثم فبيت فاطمة هو داخل المسجد - كما مرّ بيانه سابقاً في مبحث تحديد موقع بيت فاطمة الجغرافي -(1).

وعليه:

فبيت فاطمة وعلي صلوات الله عليهما هو في داخل المسجد، ولا يبتعد عن القبر النبوي الشريف سوى بضع سنتمترات، فضلاً عن أنه من ضمن الروضة التي بين بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين المنبر، مما يكشف عن أن هذا البيت له من الحرمة ما للمسجد، والروضة، والقبر النبوي الشريف.

فضلاً عما لأهله من الحرمة والقداسة والشأنية عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم والذي لم يزل يظهرها للناس قولاً وفعلاً فقد حدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما لهذا البيت من الحدود الشرعية وفرضها على الأمة من خلال كيفية التعامل مع أهل بيته منذ أن جمع تحت سقفه عليّاً وفاطمة عليهما السلام.

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي إلى هذا البيت ويقف عند بابه في كل صباح فيقول:

«أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم»(2).

ص: 97


1- لمزيد من الاطلاع والمعرفة: أنظر كتابنا (باب فاطمة عليها السلام بين سلطة الشريعة وشريعة السلطة)، وكتابنا: (وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وموضع قبره وروضته بين اختلاف أصحابه واستملاك أزواجه).
2- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 3، ص 208؛ تفسير فرات الكوفي: ص 340؛ تهذيب الأحكام

وبلفظ:

«أنا حرب لمن حاربتم، وسلم لمن سالمتم»(1).

وبلفظ:

«أنا حرب لمن حاربكم، وسلم لمن سالمكم»(2).

ومن ثم فقد رسم النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم تلك الحدود الشرعية لأهل هذا البيت وأظهر التكاليف التي فرضت على الأمة في التعامل مع عترته عليهم السلام.

ولذا:

فإن هؤلاء الذين أعلنوا الحرب على هذا البيت وأهله فقد أعلنوا الحرب على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا من جانب، ومن جانب آخر كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبر فاطمة وعليّاً وولديه الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين بما يجري عليهم من بعده ولقد ذكرنا في بداية هذا الجزء بعض الأحاديث النبوية الشريفة التي أظهرت بيان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الابتلاءات التي سيبتلى بها أهل بيته.

ص: 98


1- مسند أحمد: ج 2، ص 442؛ مستدرك الصحيحين: ج 3، ص 149؛ المصنف لابن أبي شيبة الكوفي، صحيح ابن حبان: ج 15، ص 435.
2- سنن الترمذي: ج 5، ص 360؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 149؛ سنن ابن ماجة: ج 1، ص 52؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 3، ص 40؛ أحكام القرآن للجصاص: ج 1، ص 571؛ تفسير الثعلبي: ج 8، ص 312.

بل:

إن الملاحظ في تلك السيرة النبوية في هذا الخصوص: متابعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لبيان هذه الأحداث وما سيلقى أهل بيته من بعده كي يهيئهم لتلقيّ البلاء، فمما جاء عنه صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال:

1 - «إن أهل بيتي هؤلاء سيلقون من بعدي تشريداً وتطريداً....»(1).

2 - «وروى المعتزلي في شرح النهج عن أبي جعفر الإسكافي أنه قال:

(إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل على فاطمة عليها السلام فوجد عليا نائماً فذهبت تنبهه فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«دعيه فرب سهر له بعدي طويل، ورب جفوة لأهل بيتي من أجله شديدة».

فبكت فقال:

«لا تبكي فإنكما معي وفي موقف الكرامة عندي»)(2).

إلاّ أنّ كل هذا الكم من الأحاديث والنهي والتحذير لم تكن بمانعة (أصحاب السقيفة وأشياعهم) من المضي في حرب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وتحت غطاء شرعي فقد هبوا لدرء الفتنة، ولكن هيهات فقد قال سبحانه:

(وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ اِئْذَنْ لِي وَ لاٰ تَفْتِنِّي أَلاٰ فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكٰافِرِينَ)(3).

ص: 99


1- مسند الشاشي: ج 1، ص 409، ح 337.
2- شرح نهج البلاغة: ج 4، ص 107.
3- سورة التوبة، الآية: 49.
أولاً: كيف جرت الحادثة وما هي المرحلة الأولى من جريمة قتل فاطمة عليها السلام
اشارة

إنّ من البداهة بمكان أن يتم التعتيم على حادثة جمع الحطب حول بيت فاطمة وعلي والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين وإحراقه ومن ثم اقتحامه بشتى الطرق، وذلك أن حادثة بمثل هذا التجري على الله تعالى لا تختلف من حيث الجرم عن قتل الأنبياء عليهم السلام لاسيما والقرآن الكريم يستعرض في بيانه لتعظيم حرمة الأنبياء وحلول نقمته على الظالمين في حادثة قتل ناقة صالح وفصيلها؛ فكيف يكون غضب الله في تلك الجريمة التي هتكت فيها حرمة الله وحرمة سيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم، وقتلت فيها فاطمة وابنها المحسن، فمضت إلى ربها وأبيها شهيدة(1)، وهو القائل لها:

«إنك أول من يلحقني من أهل بيتي، وأنت سيدة نساء أهل الجنة، وسترين بعدي ظلماً وغيظاً، حتى تضربي، ويكسر ضلع من أضلاعك، لعن الله قاتلك»(2).

من هنا:

لم تأتِ الحادثة ضمن تفاصيلها الدقيقة في كتب أهل العامة من المخالفين لمدرسة عترة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وإنما وردت ضمن إشارات قليلة فيما لو قورنت مع روايات أهل البيت عليهم السلام؛ إلاّ أن هذه الإشارات على قلتها إلاّ أنها دقيقة وفيها الكفاية لثبوت هذه الجريمة في هتك حرمة الله وحرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصبحت من المسلمات في الفكر

ص: 100


1- قال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام: «إن فاطمة صديقة شهيدة»، أنظر: الكافي للكليني: ج 1، ص 458؛ عوالم العلوم: ج 11، ص 260.
2- كتاب سليم بن قيس الهلالي (بتحقيق الأنصاري): ج 2، ص 907.

الإسلامي وإن اختلفت في الحادثة الأقوال بين محب ومبررٍ لما فعله أبو بكر وعمر بن الخطاب ومن تشيع لهما، وبين متبرّئ منهم ومما فعلوا.

ولكن: بين هذه الأقوال سنورد تلك النصوص والشواهد على وقوع هذه الجريمة ونتوقف إن أسعفنا الشاهد عند تسلسل الحدث وتداعياته، فمما كان في مقدمات الحادثة ما يأتي:

1 - ذكرنا فيما مضى آنفاً أن القوم تركوا جسد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو لم يبرد بعد وتسارعوا للاجتماع في السقيفة، وبعد أن جرت فيها المناورات في كسب الجولة والفوز بكرسي الرياسة في اليوم الأول فسيق الناس إلى بيعة أبي بكر في اليوم التالي بعد أن كان صاحب الصولة في سقيفة الانقلاب عمر ابن الخطاب الذي نال من الخلافة بعد صاحبه الحظ الأوفر.

2 - وقد رأينا فيما رسمته لنا النصوص من تفرغ أمير المؤمنين علي عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وبعض وجوه بني هاشم وعمار وسلمان وأبي ذر في تجهيز رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومواراته في روضته المقدسة.

ولم يحضروا تلك الحلبة التي بايع فيها عمر بن الخطاب والأوس لأبي بكر ومن ثم بايع المهاجرون كي لا يفوتهم نصيب من كعكة الخلافة.

ومن ثم أصبح هناك مجموعة من المعارضة التي برزت بشكل واضح من خلال خروج أمير المؤمنين عليه السلام حاملاً الزهراء وولديها وهو يطلب النصرة من المهاجرين والأنصار على أقطاب السقيفة ومن شايعهم من الأعراب والمنافقين الذين نكثوا بيعة الله في غدير خم.

ص: 101

وعليه:

كان هذا الرد السريع من أقطاب السقيفة ورموزها في قمع الاحتجاجات ورأسها وهم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لاسيما وهم ينظرون إلى اختلاف ورود بعض الصحابة إلى دار فاطمة عليها السلام يدخلون على علي عليه السلام يتشاورون فيما حدث وكيف لهم المخرج منه في إرجاع الحق إلى أهله الذين اختصبه هؤلاء النفر وساقوا الناس عنوة إلى بيعة أبي بكر في المسجد.

3 - إن بيت فاطمة عليها السلام حينما بناه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند قدومه للمدينة وشروعه ببناء مسجده بنى من حوله حجرات ثلاث وذلك قبل أن تنتقل إليه عائشة، فكان منها، أي من هذه البيوت، بيت فاطمة عليها السلام الذي بناه داخل المسجد بين المنبر والحجرة التي دفن فيها صلى الله عليه وآله وسلم(1)، أي إنه كان من ضمن حدود الروضة، وهو أشرف موضع فيها كما في الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام حينما سئل عن الصلاة في بيت فاطمة عليها السلام أفضل أم في الروضة، فقال:

«في بيت فاطمة»(2).

وعليه:

يكون دخول بعض الصحابة المعارضين لانقلاب السقيفة إلى بيت فاطمة

ص: 102


1- لمزيد من الاطلاع، أنظر: وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين اختلاف أصحابه واستملاك أزواجه للمؤلف.
2- وسائل الشيعة: ج 3، ص 547.

عليها السلام واضحاً بيناً لأبي بكر وعمر؛ بل: إن موقع بيت الزهراء عليها السلام في المسجد يجعل جميع تحركات أهل هذا البيت ظاهرة وأمام نظر أبي بكر وعمر؛ ومن ثم فقد شهد دخول هؤلاء واجتماعهم مع علي عليه السلام.

ولذا:

قرر البدء في المعركة مع أهل هذا البيت علانية وبمختلف الوسائل لأنهم يشكلون الخطر العظيم على الخلافة والسلطة.

وفي ذلك يروي سليم بن قيس الهلالي الكوفي الشيعي بعض أجزاء هذا التحرك الحربي على بيت فاطمة عليها السلام ومن ثم نورد ما رواه أهل السنة والجماعة من إشارات لهذه الحرب التي قادها أبو بكر ونفذها عمر بن الخطاب مع مجموعة من أشياعه.

ألف: ما روته أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام في جمع الحطب حول بيت فاطمة عليها السلام

1 - روى سليم بن قيس الهلالي (المتوفى في القرن الأول للهجرة) قائلاً:

(فلما رأى علي عليه السلام خذلان الناس إياه وتركهم نصرته واجتماع كلمتهم مع أبي بكر وطاعتهم له وتعظيمهم إياه لزم بيته.

فقال عمر لأبي بكر: ما يمنعك أن تبعث إليه فيبايع، فإنه لم يبق أحد إلا وقد بايع غيره وغير هؤلاء الأربعة.

وكان أبو بكر أرق الرجلين وأرفقهما وأدهاهما وأبعدهما غورا، والآخر أفضّهما وأغلظهما وأجفاهما.

ص: 103

فقال أبو بكر: من نرسل إليه؟ فقال عمر: نرسل إليه قنفذا، وهو رجل فض غليظ جاف من الطلقاء أحد بني عدي بن كعب.

فأرسله إليه وأرسل معه أعوانا وانطلق فاستأذن على علي عليه السلام، فأبى أن يأذن لهم.

فرجع أصحاب قنفذ إلى أبي بكر وعمر - وهما جالسان في المسجد والناس حولهما - فقالوا: لم يؤذن لنا، فقال عمر: اذهبوا، فإن أذن لكم وإلا فادخلوا عليه بغير إذن فانطلقوا فاستأذنوا، فقالت فاطمة عليها السلام:

«أحرج عليكم أن تدخلوا علي بيتي بغير إذن».

فرجعوا وثبت قنفذ الملعون، فقالوا: إن فاطمة قالت كذا وكذا فتحرجنا أن ندخل بيتها بغير إذن، فغضب عمر وقال: ما لنا وللنساء، ثم أمر أناسا حوله أن يحملوا الحطب فحملوا الحطب وحمل معهم عمر، فجعلوه حول منزل علي وفاطمة وابنيهما عليهم السلام، ثم نادى عمر حتى أسمع عليا وفاطمة عليهما السلام: (والله لتخرجن يا علي ولتبايعن خليفة رسول الله وإلا أضرمت عليك بيتك النار).

فقالت فاطمة عليها السلام:

«يا عمر، ما لنا ولك؟».

فقال: افتحي الباب وإلا أحرقنا عليكم بيتكم، فقالت:

«يا عمر، أما تتقي الله تدخل علي بيتي؟».

ص: 104

فأبى أن ينصرف)(1).

2 - روى الطبرسي (المتوفى سنة 548 ه -)، فقال:

(وعن عبد الله بن عبد الرحمن قال: ثم إن عمر احتزم بإزاره وجعل يطوف بالمدينة وينادي ألا إن أبا بكر قد بويع له فهلموا إلى البيعة فينثال الناس يبايعون فعرف أن جماعة في بيوت مستترون فكان يقصدهم في جمع كثير ويكسبهم ويحضرهم المسجد فيبايعون حتى إذا مضت أيام أقبل في جمع كثير إلى منزل علي عليه السلام فطالبه بالخروج فأبى، (فدعا عمر بحطب ونار، وقال: والذي نفس عمر بيده ليخرجن أو لأحرقنه على ما فيه).

فقيل له: إن فاطمة بنت رسول الله، وولد رسول الله، وآثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيه؛ وأنكر الناس ذلك من قوله)(2).

3 - وروى ابن طاووس (المتوفى سنة 664 ه -) فقال: (وذكر ابن جيرانة في غرره (قال زيد بن أسلم: كنت ممن حمل الحطب مع عمر) إلى باب فاطمة حين امتنع علي وأصحابه عن البيعة أن يبايعوا،

(فقال عمر لفاطمة: أخرجي من في البيت وإلاّ أحرقته ومن فيه)،

قال: وفي البيت علي والحسن والحسين، وجماعة من أصحاب النبي فقالت فاطمة:

«أفتحرق علي ولدي».

ص: 105


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ص 149-150.
2- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 80؛ البحار للمجلسي: ج 28، ص 204.

فقال: إي والله أو ليخرجن وليبايعن)(1).

باء: ما روته أبناء العامة في جمع الحطب حول بيت فاطمة عليها السلام والتهديد بالحرق

أما ما ورد في كتب أهل السنة والجماعة في بيان حادثة الهجوم على بيت النبوة وحرقه فقد جاء بالكيفية الآتية التي تظهر استخدام الراوي أسلوب التلطيف في الحدث والتخفيف من بشاعته وذلك من خلال تحسين صورة عمر بن الخطاب ببعض الملامح التي قد تساعد على قبول الحدث، أو على الأقل التماس العذر لوقوع الجريمة، فكان بالكيفية الآتية:

1 - فقد روى ابن أبي شيبة الكوفي، وابن عبد البر، وابن أبي عاصم وإمام الحنابلة وغيرهم (عن زيد بن أسلم عن أبيه أسلم أنه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال: يا بنت رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم ما من أحد أحب إلينا من أبيك وما من أحد أحب إلينا بعد أبيك منك وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك إن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت، قال فلما خرج عمر جاؤوها فقالت:

ص: 106


1- الطرائف لابن طاووس: ص 239؛ نهج الحق للعلامة الحلي: ص 271؛ الشهاب الثاقب للمحقق البحراني: ص 231.

«تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت وأيم الله ليمضين لما حلف عليه فانصرفوا راشدين فروا رأيكم ولا ترجعوا إليّ».

فانصرفوا عنها فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر)(1).

2 - روى الطبري، والجوهري، وابن أبي الحديد المعتزلي، عن زياد بن كليب، (قال: أتى عمر بن الخطاب إلى منزل علي وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال والله (لأحرقن عليكم أو لتخرجن إلى البيعة)، فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف فعثر فسقط السيف من يده فوثبوا عليه فأخذوه)(2).

3 - روى ابن قتيبة الدينوري في الإمامة فقال:

(وإن أبا بكر تفقد قوماً تخلفوا عن بيعته عند علي - عليه السلام -، فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار علي، (فأبوا أن يخرجوا فدعا بالحطب) وقال: والذي نفس عمر بيده، لتخرجن (أو لأحرقنها على من فيها)، فقيل له يا أبا حفص، (إن فيها فاطمة؟)، فقال: وإن)(3).

ص: 107


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8، ص 572؛ المذكر والتذكير لابن أبي عاصم: ص 91؛ الاستيعاب: ج 3، ص 975؛ فضائل الصحابة لابن حنبل: ج 1، ص 364، ط مؤسسة الرسالة؛ الوافي بالوفيات للصفدي: ج 17، ص 167؛ نهاية الأرب للنويري: ج 19، ص 40؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 2، ص 45؛ السقيفة وفدك للجوهري: ص 41؛ كنز العمال للهندي: ج 5، ص 652.
2- تاريخ الطبري: ج 2، ص 443؛ السقيفة وفدك للجوهري: ص 53؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 2، ص 56؛ الإمامة وأهل البيت لمحمد بيومي: ج 1، ص 345.
3- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1، ص 19؛ مسند فاطمة للسيوطي: ح 31؛ البحار للمجلسي: ج 28، ص 356.
جيم: قراءة الحديث في جمع الحطب وتحليله

إن قراءة الحديث الذي أوردته كتب الفريقين ودراسته وتحليله ترسم لنا صورة واضحة عن مجريات هذه الجريمة العظمى في الإسلام وبيان تفاصيل وقوعها.

لاسيما وكما أسلفنا أن القوم قد حاولوا التضليل والتغيير والتعتيم على هذه الحادثة بشتى الصور ولذا وردت بصورة مختلفة عن الواقع فضلاً عن حذف كثيرٍ من التفاصيل حتى في المرحلة الواحدة من مراحل وقوع جريمة الهجوم على بيت النبوة وموضع الرسالة ومهبط الوحي ونزول القرآن.

وعليه:

فهذه المرحلة الأولى وهي (جمع الحطب حول بيت فاطمة وعلي وولديهما) جرت ضمن اختصارات كثيرة في روايات أهل السنة والجماعة يمكن ملاحظتها، أي هذه الاختصارات من خلال المقارنة فيما بينها وبين الروايات الواردة في مدرسة العترة النبوية من جهة، ومن جهة أخرى مقارنتها فيما بينها أيضاً، أي: مقارنة هذه الروايات في نفس مصادر أهل السنة والجماعة لاسيما الحديث الأول فقد اتضح من خلال دراسته وتحليله ما يأتي:

1 - أورده ابن أبي شيبة الكوفي في مصنفه وابن أبي الحديد المعتزلي بصورة كاملة في حين حذف منه التهديد بحرق البيت بمن فيه كلٌّ من ابن عبد البر، والصفدي، والنويري، فبدلا قول عمر بن الخطاب لفاطمة صلوات الله وسلامه عليها:

ص: 108

(وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك إن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت)(1).

إلى قول آخر نسبوه لعمر بن الخطاب وهو: (ولإن بلغني أن هؤلاء من النفر يدخلون عليك، ولإن بلغني لأفعلن وأفعلن)(2)!!

واستبدلوا قول فاطمة عليها السلام الذي أخرجه ابن أبي شيبة، وابن أبي عاصم، والمعتزلي لهؤلاء الصحابة الذين التجؤوا إلى دارها من قولها لهم:

«تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لإن عدتم ليحرقن عليكم البيت وأيم الله ليمضين لما حلف عليه، فانصرفوا راشدين»(3).

إلى قول آخر، فقالت لهم:

«إن عمر قد جاءني وحلف لان عدتم ليفعلنّ، وأيم الله ليفعلنّ بها، فانظروا في أمركم»(4).

في حين قام الخطيب البغدادي بحذف جميع الحادثة في تهديد عمر لفاطمة عليها السلام بحرق بيتها بمن فيه وجوابها له، فقال مختصراً الأمر ومظهراً له بحلة

ص: 109


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8، ص 57، ح 4؛ المذكر والتذكير لابن أبي عاصم: ص 91؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 2، ص 45.
2- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 975؛ الوافي بالوفيات للصفدي: ج 17، ص 167؛ نهاية الأرب للنويري: ج 19، ص 41.
3- المصنف لابن أبي شيبة: ج 8، ص 57؛ المذكر والتذكير لابن أبي عاصم: ص 91؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 45.
4- الاستيعاب لابن عبد البر: ج 3، ص 975؛ الوافي بالوفيات: ج 17، ص 167؛ نهاية الأرب للنويري: ج 19، ص 41.

جديدة، فقال: قال عمر بن الخطاب لفاطمة: يا بنت رسول الله ما كان أحد أحب من الناس إلينا من أبيك، وما أحد بعد أبيك أحب إلينا منك)(1).

ولا ريب أن القارئ لهذا الحديث يجد صورة جميلة جداً عن إيمان عمر بن الخطاب وذلك لمقدار حبه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابنته من بعده، ومن ثم لا وجود لحادثة حرق بيت فاطمة بيد عمر بن الخطاب ولا أثر لخروج عمر ابن الخطاب عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فالنبي هو أحب الناس إليه وهو أكثر الصحابة وبفضل جهود الخطيب البغدادي اتباعاً لهذه السنة فقد صان عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعده، ومن ثم يخرج القارئ لا يعلم شيئاً عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أو أنه يجد سنة متضاربة ومتناقضة، وذلك بفضل تلك الجهود التي بذلها أولئك في إخراج المرويات بحسب المقاسات التي ترتضيها الساسة والدراهم والدنانير.

2 - إن مما لا شك ولا ريب ولا شبهة فيه أن هذا الخطاب الذي توجه به عمر ابن الخطاب لبضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سواء بالكيفية التي أخرجها ابن أبي شيبة، وابن أبي عاصم من التهديد الصريح بحرق دارها بمن فيه، وفيه فاطمة وعلي والحسن والحسين وبعض من المهاجرين والأنصار.

أو سواء بالكيفية التي أخرجها ابن عبد البر، أو الصفدي؛ ففي كلتا الكيفيتين فإن عمر بن الخطاب قد أرعب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 110


1- تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: ج 5، ص 168.

وولديها الحسن والحسين واذاهما اشد الأذى وأرعب الصحابة من المهاجرين والأنصار وأدخل عليهم الذعر والخوف، وأنه آلم بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو بهذا الصنيع يكون قد ارتكب مجموعة من الجرائم وهي كالآتي:

أ: إنه آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

1 - لقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها»(1).

2 - وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«فمن آذاها فقد آذاني...»(2).

والله تعالى يقول في محكم كتابه الكريم في بيان جريمة من يؤذي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ شأنه ومنزلته وعقابه اللعن في الحياة الدنيا وفي الآخرة كذاك تكون عقوبته اللعن والعذاب المهين كما هو واضح وصريح في الآية المباركة:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً)(3).

ب: إن عقوبة من يرعب أهل المدينة أو يحدث فيها حدثاً أو يخيف أهلها قد أظهره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للناس، وقد أخرجه أئمة الحديث في صحاحهم، فمنها:

ص: 111


1- صحيح البخاري، كتاب النكاح: ج 6، ص 158.
2- المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 159؛ فتح الباري: ج 9، ص 287.
3- سورة الأحزاب، الآية: 57.

1 - أخرج البخاري ومسلم، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال:

«المدينة حرم ما بين عير إلى ثور؛ فمن أحدث فيها حدثاً، أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً»(1).

2 - أخرج أبو داود في السنن، من حديث علي بن أبي طالب عليه السلام، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«المدينة حرام ما بين عافر إلى ثور؛ فمن أحدث حدثاً أو آوى محدثاً، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين؛ لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، لا يختلي خلالها، ولا ينفر صيدها، ولا تلفظ لفظها إلاّ لمن أنشد بها، ولا يصلح لرجل أن يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يصلح أن يقطع منها شجرة إلا أن يعلف رجلاً بعيره»(2).

3 - ذكر إمام المذهب الحنبلي في مسنده، عن ابن صعصعة، عن عطاء بن يسار، عن السائب بن خلاد، إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال:

«من أخاف أهل المدينة ظلماً، أخافه الله، وعليه لعنة الله والملائكة أجمعين؛ لا يقبل الله منه يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً»(3) أي لا نفلاً ولا فرضاً»(4).

ص: 112


1- صحيح البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب: حرم المدينة برقم (1870)، صحيح مسلم، كتاب الحج، باب: فضل المدينة حديث (1366).
2- سنن أبي داود، باب تحريم المدينة، حديث (2034) ج 2 ص 529، مشير العزم الساكن لابن الجوزي: ص 235 مكتبة الصحابة بجدة.
3- مسند أحمد: ج 4 ص 55، حديث (16622).
4- الدرة الثمينة لابن النجار: ص 46 ط دار الأرقم.

4 - أخرج العباسي والجنيدي عن جابر بن عبد الله، قال: أشهد لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول:

«من أخاف أهل المدينة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»(1).

وعليه:

لا يمكن تغيير الحقائق أو تحسين الجرائم أو تبرير الآثام لاسيما وأن الأمر متعلق بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فكيف يمكنهم أن يطفئوا نور الله:

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللّٰهِ بِأَفْوٰاهِهِمْ وَ يَأْبَى اَللّٰهُ إِلاّٰ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكٰافِرُونَ)(2).

3 - من الذي أعطى لعمر بن الخطاب الحق في منع الناس من التصرف في بيوتهم فيحدد لهم من يدخل إليهم ومن يخرج، فيمنع من يشاء ويسمح لمن يشاء؛ أليس هذا الفعل تدخلاً سافراً في حقوق الناس؟

أليس هذا الفعل لو حدث اليوم مع أحد في المجتمعات المدنية لقيل لصاحب هذا الفعل دكتاتور إن كان في هرم السلطة ولو كان فرداً في المجتمع لألقي في السجن أو لقيل عنه ما يناسبه من الألفاظ.

إذن:

قدوم عمر إلى بيت النبوة وفيه بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

ص: 113


1- عمدة الأخبار في مدينة المختار للعباسي: ص 90-91 ط أسعد الحسيني، فضائل المدينة للجنيدي المكي: ص 30 ط دار الفكر.
2- سورة التوبة، الآية: 32.

التي يؤلمه ما يؤلمها، والتي يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها، وتهديدها بحرق بيتها بمن فيه، وجمع الحطب من حوله لسبب واحد وهو أن علي بن أبي طالب، وبعض المهاجرين والأنصار لم يبايعوا أبا بكر ليكون من حيث التسلسل الحدثي لجريمة قتل بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو المرحلة الأولى من الجريمة.

ثانياً: المرحلة الثانية من جريمة قتل فاطمة عليها السلام (حرق بيتها بمن فيه)
اشارة

بعد أن قام عمر وعصابته بجمع الحطب حول بيت علي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وبعد تهديده لهم بحرق البيت بمن فيه إن لم يخرجوا ليبايعوا أبا بكر وبعد أن رأى امتناعهم ومواجهة بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم له عله يستحي ومن معه فيكفون بأسهم وغيهم عنها ولو من قبيل أنها امرأة لا حول لها ولا قوة وأنها أم لأربعة أولاد ومن حقها أن تدافع عنهم؛ إلاّ أنهم مع كل هذه الموانع الإنسانية والتي تتقاطع مع الشيم والأعراف العشائرية فضلاً عن شينها لصفة الرجولة وخزيها لمن كان في أصله حراً يأبى على نفسه الاستذلال فيقاتل امرأة وأطفالها مع كل هذه الموانع والحواجز وبغض النظر عن الحرمات والقيم الأخلاقية والإنسانية إلاّ أن عمر بن الخطاب وعصابته يقدمون على إضرام النار في هذا الحطب ومن ثم يقومون بالهجوم على بيت فاطمة وأطفالها يقاتلونهم على كرسي الخلافة.

ولكن كيف أضرموا النار في الحطب؟

ص: 114

ألف: ما ورد في مدرسة العترة النبوية في إضرام عمر بن الخطاب النار في الحطب لحرق بيت فاطمة بمن فيه

1 - روى سليم بن قيس الهلالي الكوفي الكيفية التي جمع فيها الحطب ووضعه حول بيت فاطمة عليها السلام ومناداته لفاطمة وعلي ومن كان في دارهما من الصحابة وتهديده لهم بالحرق إذا لم يخرجوا لبيعة أبي بكر فلم يخرج أحد منهم وأبوا البيعة لأبي بكر، فقال:

(ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب)(1).

2 - روى الشيخ المفيد في إضرام عمر النار في الحطب حول بيت فاطمة عليها السلام فقال:

(لما بايع الناس أبا بكر دخل علي عليه السلام والزبير والمقداد بيت فاطمة وأبوا أن يخرجوا، فقال عمر بن الخطاب أضرموا عليهم البيت نارا)(2)!!

3 - روى الديلمي في الإرشاد عن أمير المؤمنين عليه السلام في بيان اقتصاص الإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف من أبي بكر وعمر وعصابتهما التي اقتحمت دار فاطمة عليها السلام فيقول:

«ثم يؤمر بالنار التي أضرمتموها على باب داري لتحرقوني وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وابني الحسن والحسين وابنتي زينب وأم كلثوم، حتى تحرقا بها، ويرسل عليكما ريح مرة فتنسفكما في اليم نسفا....»(3).

ص: 115


1- كتاب سيلم بن قيس الهلالي: ص 15؛ البحار للمجلسي: ج 28، ص 269.
2- أمالي المفيد: ص 56، وص 30؛ البحار: ج 28، ص 232.
3- إرشاد القلوب للديلمي: ج 2، ص 286.
باء: ما ورد في كتب العامة من إضرام النار في الحطب الذي وضع حول بيت فاطمة عليها السلام

إن المرحلة الثانية من جريمة قتل فاطمة صلوات الله عليها وهي إضرام النار في الحطب الذي جمع حول بيت الزهراء عليها السلام جاءت في كتب العامة بتعتيم شديد خوفاً من إظهار حجم الجرأة على الله ورسوله في إحراق بيت النبوة من جهة، ومن جهة أخرى محاولة تلميع صورة تلك الرموز التي قادت هذا الهجوم وارتكبت الجريمة.

ولا يخفى على أهل الاختصاص في علم القانون ومكافحة الجريمة وعلم النفس أن التهديد بالقتل أخف حكما وعقوبة من الشروع في التهديد وتنفيذ الفعل وذلك لأنه يكشف - أي الإقدام على تنفيذ التهديد - رسوخ الجريمة وانحراف الفاعل وترديه واتصافه بالجرم.

في حين أننا نجد القرآن الكريم والسنة النبوية تجعل إثم المؤسس لكل عمل سيّئ أعظم إثماً من نفس الفعل وذلك منعا لحدوث الانحرافات أو التهاون في الآثام لما يترتب عليها من التهاون والتغافل والاستقلال في حجم الجريمة فتعد صغيرة وهي عظيمة.

من هنا:

تجنبت مصادر أبناء العامة من إيراد حرق باب فاطمة عليها السلام الذي تولاه عمر بن الخطاب بيده حينما حمل قبساً من النار وأخذ ينادي في أهل بيت النبوة وقد جلس أبو بكر على المنبر يشرف بنفسه على هذه الحرب التي تشن على بيت فاطمة وعلي عليهما السلام وذلك أن بيت فاطمة في الروضة لا يفصل بينه

ص: 116

وبين المنبر سوى أمتار قليلة.

فلا المسجد له حرمة، ولا الروضة، ولا القبر النبوي، ولا صاحبه، وذلك أن لا حرمة لله وشريعته من الأساس في معتقدات هؤلاء الذين جاءوا بالحطب والنار ليحرقوا بيت فاطمة عليها السلام بمن فيه.

1 - روى أبو الفداء في تاريخه قائلاً:

(ثم إن أبا بكر بعث عمر بن الخطاب إلى علي ومن معه ليخرجهم من بيت فاطمة - رضي الله عنها -، وقال: إن أبوا عليك فقاتلهم!!!

فأقبل عمر بشيء من نار على أن يضرم الدار، فلقيته فاطمة - رضي الله عنها - وقالت:

«إلى أين يا بن الخطاب؟ أجئت لتحرق دارنا؟!».

قال: نعم،....)(1).

2 - روى ابن عبد ربه الأندلسي في حادثة حرق بيت فاطمة عليها السلام أنه قال:

(الذين تخلفوا عن بيعة أبي بكر علي والعباس والزبير وسعد بن عُبادة، فأما علي والعباس والزبير، فقعدوا في بيت فاطمة حتى بعث إليهم أبو بكر عمر بن الخطاب ليخرجهم من بيت فاطمة، وقال له: إن أبوا فقاتلهم.

فأقبل بقَبس من نار على أن يُضرم عليهم الدار، فلقيته فاطمة، فقالت:

ص: 117


1- تاريخ أبي الفداء: ج 1، ص 107.

«يا بن الخطاب، أجئت لتُحرق دارنا؟».

قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمة)(1).

والمستفاد من قراءة الحدث بالكيفية التي نقله رواة مدرسة أهل السنة والجماعة بأن الحادثة بمجرياتها ومراحلها كانت تتداول فيما بين الرواة والمصنفين، وفي المجالس شفاهة لا كتابة وتدوينا إلى الحد الذي أصبحت هذه الحادثة متواترة عند أبناء العامة لاسيما تلك الطبقة التي اشتغلت في الكتابة والرواية والتصنيف في مختلف التخصصات كالحديثية والتأريخية والفقهية والأدبية.

حتى تناولها شاعر النيل المعاصر والمتأخر عن الحادثة بأربعة عشر قرناً إلاّ أن تلك القرون الماضية لم تجعله في غفلة عن حادثة قتل الزهراء عليها السلام وحرق دارها بيد عمر بن الخطاب مما يكشف عن أن الحادثة متواترة شفاهة لا كتابة وتدويناً وأنها مشهورة عند القوم تتناقلها الألسن في العراق والشام وأرض مصر إلى الأندلس.

ولذا: يقول شاعر النيل في قصيدته العمرية:

وقولة لعلي قالها عمر

أكرم بسامعها أعظم بملقيها

حرقت دارك لا أبقي عليك بها

إن لم تبايع وبنت المصطفى فيها

ما كان غير أبي حفص يفوه بها

أمام فارس عدنان وحاميها(2)

وإن كان حافظ إبراهيم يتغزل بعمره وإمامه ويتفاخر به، إلاّ أن المقايسة هنا

ص: 118


1- العقد الفريد لابن عبد البر: ج 2، ص 73.
2- ديوان حافظ إبراهيم: ج 1، ص 75، تحت عنوان (عمر وعلي) طبع دار الكتب المصرية بالقاهرة.

باطلة مما أعطت أبياتاً موزونة لكنها مختلفة ومضطربة في الحس الجمالي فضلاً عن العقدي.

فهنا لم تكن المقايسة بين من يستطيع أن يهدد فارس عدنان وحاميها فمن قبل خرج له صناديد العرب في بدر وأحد والأحزاب، وبرز له أسطورة اليهود في خيبر وغيرها؛ فهنا تصح المقايسة في مواجهة الفرسان.

لكنها هنا عند حافظ إبراهيم فالمقايسة سمجة ولزجة كلزوجة ماء فم المحتضر؛ وذلك أن المحل في هذه المقولة محل تجرٍ على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن أعظم من أبي حفص جرأة على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم في حرق بيته وقتل ابنته وريحانتيه وحرقهم بالنار؟!

وعليه:

لو أدرك أدباء مصر والمشتغلون به آنذاك (كأحمد أمين، وأحمد الزين، وإبراهيم الابياري، وعلي جارم، وعلي أمين، وخليل مطران، ومصطفى الدمياطي بك، وغيرهم)(1)، لما اعتنوا بنشر هذه الأبيات والتفاخر بها.

لكنها رب ضارة نافعة، إذ لو كان هؤلاء قد أدركوا سماجة هذه الأبيات وتجريها على الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لما قاموا بنشرها ولضاع بيان الصورة التأريخية التي تنطق بها الأبيات: بأن أبا حفص أشد الناس أذى لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ أفهناك أذى أكبر من حرق بيت بنت المصطفى على قلب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم؟!

ص: 119


1- الغدير للعلامة الشيخ عبد الحسين الأميني: ج 7، ص 86.

المسألة الثانية: هجوم عمر بن الخطاب وعصابته على بيت فاطمة عليها السلام واقتحامه وما وقع عليها من الأضرار

اشارة

قبل المضي في بيان مجريات الحدث فقد أفردت لهذه المرحلة من قتل فاطمة عليها السلام مسألة مستقلة وذلك لتفرع الحدث وما لحقه من تبعات ونتائج.

إذ إن مرحلة الهجوم على بيت فاطمة عليها السلام واقتحامه والدخول إلى بيتها هو من أكثر المراحل دموية؛ وذلك أن المرحلتين السابقتين وهما جمع الحطب حول بيت الزهراء عليها السلام، وإضرام النار فيه؛ إنما كانتا مقدمة للقضاء على بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وولديها وزوجها، ليتم بذلك إنهاء كل ما له علاقة بالعهد القديم، عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرق جميع آثاره.

لاسيما وأن التأريخ يحدثنا عن تلك الخطة والهدف المنشود من هذه العصابة وهو القضاء على كل ما يمت بصلة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبدء بعهد جديد اسمه سنة الشيخين بعد أن تهيّأت لهما الفرصة في جمع العرب تحت لواء واحد بعد تفرق وشتات ليشكلا بذلك أكبر دولة في الجزيرة العربية وليعيدا بذلك ما كانا يسمعانه من أمجاد دولة النعمان بن المنذر ملك العرب، أو فخامة سلطان الفرس، أو إمبراطورية الروم وثراء قصورها.

وعليه:

1 - كانت هذه الخطة أن تبدأ بحرق هذا البيت بمن فيه بحجة الدخول فيما دخلت فيه الأمة من الانقياد للسلطة الجديدة وقياداتها وحكامها الجدد.

ص: 120

2 - حرق أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما فعل أبو بكر وهو ما تحدثت به عائشة (أنها قالت: جمع أبي الحديث عن رسول الله وكانت خمس مائة حديث، فبات ليلته يتقلب كثيرا، قالت تغمني، فقلت: أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟

فلما أصبح، قال:

«أي بنية، هلمي الأحاديث التي عندك».

فجئته بها، فدعا بنار فحرقها.

فقلت: لم أحرقتها؟!

قال:

««خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عن رجل قد ائتمنته ووثقت (به) ولم يكن كما حدثني فأكون قد تقلدت ذلك»)(1).

وهي حجة أخرى تتماشى مع حجة حرق بيت النبي بمن فيه.

وذلك: (كي يدخلوا فيما دخلت فيه الأمة) في الحكومة الجديدة.

3 - منع رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتحدث به وهو ما قام به أبو بكر أيضاً؛ فعن أبي مليكة (قال: إن أبا بكر جمع الناس بعد وفاة نبيهم، فقال: إنكم تحدثون عن رسول الله أحاديث تختلفون فيها والناس بعدكم أشد اختلافا، فلا تحدثوا عن رسول الله شيئاً! فمن سألكم فقولوا بيننا وبينكم

ص: 121


1- الشيعة والسيرة النبوية بين التدوين والاضطهاد للمؤلف: ص 117، ح 1؛ تذكرة الحفاظ للذهبي: ج 1، ص 5؛ الرياض النضرة للمحب الطبري: ج 1، ص 200؛ كنز العمال: ج 10، ص 285.

كتاب الله، فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه)(1).

4 - إمحاء أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فعن يحيى بن جعدة: أن عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنة، ثم بدا له أن لا يكتبها، ثم كتب في الأمصار: من كان عنده شيء فليمحه)(2).

5 - معاقبة من يتحدث بحديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومما يدل عليه ما أخرجه الدارمي في سننه عن سليمان بن يسار: (إن رجلاً قدم المدينة يقال له ضبيع - وهو من أهل البصرة - فجعل يسأل عن تشابه القرآن، فأرسل إليه عمر - بن الخطاب - فأعد له عراجين النخل، فقال: من أنت؟

قال: أنا عبد الله، ضبيع.

قال: وأنا عبد الله، عمر.

فضربه حتى دمى رأسه، فقال - ضبيع -: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد ذهب الذي كنت أجده في رأسي، ثم نفاه إلى البصرة)(3).

وعن سعيد بن المسيب: (فأمر به عمر فضرب مائة سوط، فلما برئ دعاه

ص: 122


1- الشيعة والسيرة النبوية بين التدوين والاضطهاد للمؤلف: ص 118، ح 2؛ تذكرة الحفاظ للذهبي: ج 1، ص 32.
2- تقييد العلم: ص 53؛ حجية السنة: ص 395؛ من حياة الخليفة عمر بن الخطاب للبكري: ص 274.
3- الشيعة والسيرة النبوية بين التدوين والاضطهاد للمؤلف: ص 118، ح 2؛ سنن الدارمي: ج 1، ص 54؛ نصب الراية للزيلعي: ج 3، ص 118؛ الدراية لابن حجر: ج 2، ص 98؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 2، ص 7؛ فتح القدير للشوكاني: ج 1، ص 319؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 23، ص 411.

فضربه مائة أخرى، ثم حمله على قتب، وكتب إلى أبي موسى: حرّم على الناس مجالسته)(1).

وذكر السائب بن يزيد: (وكتب - عمر - إلى أبي موسى، يأمره أن يحرم على الناس مجالسته، وإن يقوم في الناس خطيباً، ثم يقول: إن ضبيعاً قد ابتغى العلم فأخطأه.

فلم يزل - الرجل - وضيعا في قومه حتى هلك)(2)!

6 - حبس الصحابة ومنعهم من الخروج من المدينة كي لا يتحدث الناس بما فعله قادة العهد الجديد فضلاً عن منع الرواة من تحديث الناس بسيرة رسول الله وسننه.

ولذا: بدأ عهد جديد وسنة جديدة لم تحمل من الإسلام إلا اسمه مما دعا بعلي عليه السلام أن يرفض البيعة والخلافة على شرط السير بسنة الشيخين(3)؛ وقبلها عثمان الذي عمل بسنة جديدة مما دفع الصحابة على محاربته والاعتراض عليه ومجابهته(4).

وعليه:

ص: 123


1- الإصابة لابن حجر: ج 3، ص 371.
2- كنز العمال للمتقي الهندي: ج 2، ص 334؛ الغدير للأميني: ج 6، ص 292.
3- لما دفن عمر بن الخطاب جاء أبو عبيدة إلى علي بن أبي طالب عليه السلام فقال له: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه وسنة الشيخين؟ قال عليه السلام: «أما كتاب الله وسنة نبيه فنعم؛ وأما سنة الشيخين فأجتهد رأيي؛ (تاريخ مختصر الدول لابن العبري: ج 1، ص 54.
4- تاريخ المدينة لابن شبة النميري: ج 3، ص 1093.

لم يكن الهجوم على بيت الله، بيت النبوة والرسالة، بيت علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، هو نقطة النهاية بل هو نقطة البداية من القضاء على الإسلام ومحوه؛ إلاّ أن الفارق بين جميع هذه المراحل لمحو الإسلام هو اقتحام بيت النبوة والرسالة، بيت علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فكان كالآتي:

أولاً: ما ورد في كتب مدرسة أهل البيت عليهم السلام حول اقتحام بيت فاطمة عليها السلام

وردت روايات كثيرة في كتب مدرسة أهل البيت عليهم السلام حول اقتحام بيت فاطمة عليها السلام، فمنها:

1 - ما كان بلسان عمر بن الخطاب في رسالة بعث بها إلى معاوية ونقلها المجلسي عن الطبري فقال:

(بسم الله الرحمن الرحيم من عمر إلى معاوية..... إلى قوله: فخرجت فاطمة فوقفت من وراء الباب، فقالت:

«أيّها الضالون المكذبون! ماذا تقولون؟ وأي شيء تريدون وما تشاء يا عمر؟»

قلت: ما بال ابن عمك قد أوردك للجواب، وجلس من وراء الحجاب؟ فقالت:

«طغيانك يا شقيّ! أخرجني، وألزمك الحجة، وكل ضال غويّ».

فقلت: دعي عنك الأباطيل وأساطير النساء، وقولي لعلي يخرج، فقالت:

«لا حبّ ولا كرامة، أبحزب الشيطان تخوّفني يا عمر؟! وكان كيد

ص: 124

الشيطان ضعيفاً».

فقلت: إن لم يخرج جئت بالحطب الجزل، وأضرمتها ناراً على أهل هذا البيت، وأحرق من فيه، أو يقاد إلى البيعة، وضربت وأخذت سوط قنفذ، وقلت لخالد بن الوليد: أنت ورجالنا هلموا في جمع الحطب، فقلت: إني مضرمها. فقالت:

«يا عدوّ الله، وعدوّ رسوله، وعدوّ أمير المؤمنين».

فضربت فاطمة يديها من الباب تمنعني من فتحه، فرمته، فتصعّب عليّ، فضربت كفّيها بالسوط، فألّمها، فسمعت لها زفيرا وبكاء، فكدت أن ألين وانقلب عن الباب، فذكرت أحقاد علي، وولوعه في دماء صناديد العرب، وكيد محمد وسحره، فركلت الباب وقد ألصقت أحشاءها بالباب تترسه، وسمعتها قد صرخت صرخة حسبتها قد جعلت أعلى المدينة أسفلها.

وقالت:

«يا أبتاه! يا رسول الله، هكذا يفعل بحبيبتك وابنتك، آه يا فضة، إليك، فخذيني، فقد والله قتل ما في أحشائي من حمل».

وسمعتها تمخض وهي مستندة إلى الجدار فدفعت الباب ودخلت، فأقبلت إليّ بوجه أغشى بصري، فصفقت صفقة على خدّيها من ظاهر الخمار، فانقطع قرطها، وتناثرت إلى الأرض، وخرج علي فلما أحسست به، أسرعت إلى خارج الدار، وقلت لخالد وقنفذ ومن معهما: نجوت من أمر عظيم)(1).

ص: 125


1- البحار للمجلسي: ج 30، ص 293؛ مجمع النورين للمرندي: ص 110؛ بيت الأحزان للشيخ عباس القمي: ص 120؛ مسند فاطمة الزهراء عليها السلام للسيد حسين شيخ الاسلامي: ص 439-440، برقم 3/399.

2 - روى سليم بن قيس الهلالي الكوفي، قال: (كنت عند عبد الله بن عباس في بيته ومعنا جماعة من شيعة علي عليه السلام فحدثنا فكان فيما حدثنا أن قال: يا إخوتي توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم توفي فلم يوضع في حفرته حتى نكث الناس وارتدوا وأجمعوا على الخلاف واشتغل علي بن أبي طالب عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى فرغ من غسله وتكفينه وتحنيطه ووضعه في حفرته ثم أقبل على تأليف القرآن وشغل عنهم بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يكن همته الملك لما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخبره عن القوم فلما افتتن الناس بالذي افتتنوا به من الرجلين فلم يبق إلا علي وبنو هاشم وأبو ذر والمقداد وسلمان في أناس معهم يسير.

قال عمر لأبي بكر: يا هذا إن الناس أجمعين قد بايعوك ما خلا هذا الرجل وأهل بيته وهؤلاء النفر فابعث إليه، فبعث (إليه) ابن عم لعمر يقال له قنفذ فقال (له يا قنفذ) انطلق إلى علي فقل له أجب خليفة رسول الله، فانطلق فأبلغه.

فقال علي عليه السلام:

«ما أسرع ما كذبتم على رسول الله (نكثتم) وارتددتم والله ما استخلف رسول الله غيري، فارجع يا قنفذ فإنما أنت رسول فقل له: قال لك علي: والله ما استخلفك رسول الله، وإنك لتعلم من خليفة رسول الله».

فأقبل قنفذ إلى ابي بكر فبلغه الرسالة، فقال أبو بكر: صدق علي ما

ص: 126

استخلفني رسول الله، فغضب عمر ووثب (وقام) فقال أبو بكر: اجلس، ثم قال لقنفذ اذهب إليه فقل له أجب أمير المؤمنين أبا بكر، فأقبل قنفذ حتى دخل على علي عليه السلام فأبلغه الرسالة فقال عليه السلام:

«كذب والله، انطلق إليه فقل له: (والله) لقد تسميت باسم ليس لك فقد علمت أن أمير المؤمنين غيرك».

فرجع قنفذ فأخبرهما فوثب عمر غضبان فقال: والله إني لعارف بسخفه وضعف رأيه وإنه لا يستقيم لنا أمر حتى نقتله فخلني آتك برأسه.

فقال أبو بكر: اجلس، فأبى؛ فأقسم عليه، فجلس، ثم قال: يا قنفذ، انطلق فقل له: أجب أبا بكر فأقبل قنفذ فقال يا علي: أجب أبا بكر، فقال علي:

«إني لفي شغل عنه، وما كنت بالذي أترك وصية خليلي وأخي، وأنطلق إلى ابي بكر وما اجتمعتم عليه من الجور».

فانطلق قنفذ فأخبر أبا بكر فوثب عمر غضبان فنادى خالد بن الوليد وقنفذاً فأمرهما أن يحملا حطبا ونارا، ثم أقبل حتى انتهى إلى باب علي عليه السلام وفاطمة عليها السلام قاعدة خلف الباب قد عصبت رأسها ونحل جسمها في وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأقبل عمر حتى ضرب الباب ثم نادى يا ابن أبي طالب (افتح الباب) فقالت فاطمة:

«يا عمر ما لنا ولك لا تدعنا وما نحن فيه».

قال: افتحي الباب وإلاّ أحرقناه عليكم، فقالت:

«يا عمر، أما تتقي الله عزّ وجل تدخل على بيتي وتهجم على داري».

ص: 127

فأبى أن ينصرف، ثم دعا عمر بالنار فأضرمها في الباب فأحرق الباب، ثم دفعه عمر فاستقبلته فاطمة عليها السلام وصاحت:

«يا أبتاه يا رسول الله».

فرفع السيف وهو في غمده فوجأ به جنبها، فصرخت، فرفع السوط فضرب به ذراعها، فصاحت:

«يا أبتاه».

فوثب علي بن أبي طالب عليه السلام فأخذ بتلابيب عمر ثم هزه فصرعه ووجأ أنفه ورقبته وهم بقتله فذكر قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما أوصى به من الصبر والطاعة فقال:

«والذي كرم محمداً بالنبوة يا ابن صهاك لو لا كتاب من الله سبق لعلمت أنك لا تدخل بيتي».

فأرسل عمر يستغيث فأقبل الناس حتى دخلوا الدار وسل خالد بن الوليد السيف ليضرب فاطمة عليها السلام فحمل عليه بسيفه فأقسم على علي عليه السلام فكف وأقبل المقداد وسلمان وأبو ذر وعمار وبريدة الأسلمي حتى دخلوا الدار أعوانا لعلي عليه السلام حتى كادت تقع فتنة فأخرج علي عليه السلام واتبعه الناس واتبعه سلمان وأبو ذر والمقداد وعمار وبريدة (الأسلمي رحمهم الله) وهم يقولون: ما أسرع ما خنتم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأخرجتم الضغائن التي في صدوركم.

وقال بريدة بن الخصيب الأسلمي: يا عمر أتثب على أخي رسول الله

ص: 128

ووصيه وعلى ابنته فتضربها وأنت الذي يعرفك قريش بما يعرفك به فرفع خالد بن الوليد السيف ليضرب به بريدة وهو في غمده فتعلق به عمر ومنعه (من ذلك) فانتهوا بعلي إلى أبي بكر ملبياً فلما بصر به أبو بكر صاح خلوا سبيله فقال (علي) عليه السلام:

«ما أسرع ما توثبتم على أهل بيت نبيكم، يا أبا بكر بأي حق وبأي ميراث وبأي سابقة تحث الناس إلى بيعتك ألم تبايعني بالأمس بأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

فقال عمر: دع (عنك) هذا يا علي فو الله إن لم تبايع لنقتلنك فقال علي عليه السلام:

«إذا والله أكون عبد الله وأخا رسول الله المقتول».

فقال (عمر) أما عبد الله المقتول فنعم، وأما أخو رسول الله فلا، فقال عليه السلام:

«أما والله لولا قضاء من الله سبق وعهد عهده إليّ خليلي لست أجوزه لعلمت أينا أضعف ناصراً وأقل عدداً».

وأبو بكر ساكت لا يتكلم فقام بريدة فقال: يا عمر ألستما اللذين قال لكما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

انطلقا إلى علي فسلما عليه بإمرة المؤمنين».

فقلتما أعن أمر الله وأمر رسوله فقال:

«نعم».

ص: 129

فقال أبو بكر: قد كان ذلك يا بريدة ولكنك غبت وشهدنا والأمر يحدث بعده الأمر فقال عمر: وما أنت وهذا يا بريدة وما يدخلك في هذا؟ فقال بريدة: والله لا سكنت في بلدة أنتم فيها أمراء، فأمر به عمر فضرب وأخرج.

ثم قال سلمان: يا أبا بكر اتق الله وقم عن هذا المجلس ودعه لأهله يأكلوا به رغدا إلى يوم القيامة لا يختلف على هذه الأمة سيفان، فلم يجبه أبو بكر فأعاد سلمان (فقال): مثلها فانتهره عمر وقال: ما لك ولهذا الأمر وما يدخلك فيما ها هنا فقال: مهلا يا عمر قم يا أبا بكر عن هذا المجلس ودعه لأهله يأكلوا به والله خضرا إلى يوم القيامة، وإن أبيتم لتحلبن به دما، وليطمعن فيه الطلقاء والطرداء والمنافقون والله لو أعلم أني أدفع ضيما أو أعز لله دينا لوضعت سيفي على عاتقي ثم ضربت به قدما، أتثبون على وصي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأبشروا بالبلاء واقنطوا من الرخاء ثم قام أبو ذر والمقداد وعمار فقالوا لعلي عليه السلام: ما تأمر والله إن أمرتنا لنضربن بالسيف حتى نقتل؛ فقال علي عليه السلام:

«كفوا رحمكم الله واذكروا عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما أوصاكم به».

فكفوا؛ فقال عمر لأبي بكر وهو جالس فوق المنبر: ما يجلسك فوق المنبر وهذا جالس محارب لا يقوم (فينا) فيبايعك، أو تأمر به فيضرب عنقه والحسن والحسين - عليهم السلام - قائمان على رأس علي - عليه السلام - فلما سمعا مقالة عمر بكيا ورفعا اصواتهما:

ص: 130

«يا جداه يا رسول الله».

فضمهما علي إلى صدره وقال:

«لا تبكيا فو الله لا يقدران على قتل أبيكم هما (أقل) وأذل وأدخر من ذلك».

وأقبلت أم أيمن النوبية حاضنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأم سلمة فقالتا: يا عتيق ما أسرع ما أبديتم حسدكم لآل محمد؛ فأمر بهما عمر أن تخرجا من المسجد وقال: ما لنا وللنساء، ثم قال يا علي قم بايع، فقال علي:

«إن لم أفعل».

قال: إذا والله نضرب عنقك، قال عليه السلام:

«كذبت والله يا ابن صهاك لا تقدر على ذلك أنت ألأم وأضعف من ذلك».

فوثب خالد بن الوليد واخترط سيفه وقال: والله إن لم تفعل لأقتلنك فقام إليه علي عليه السلام وأخذ بمجامع ثوبه ثم دفعه حتى ألقاه على قفاه ووقع السيف من يده فقال عمر: قم يا علي بن أبي طالب فبايع، قال عليه السلام:

«فإن لم أفعل».

قال: والله نقتلك واحتج عليهم علي عليه السلام ثلاث مرات ثم مد يده من غير أن يفتح كفه فضرب عليها أبو بكر ورضي (منه) بذلك ثم توجه إلى منزله وتبعه الناس)(1).

ص: 131


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ص 862-868.

2 - روى الطبرسي في حادثة اقتحام بيت فاطمة صلوات الله عليها بعد أن ذكر مجريات الحادثة من جمع الحطب وإضرام النار فيه فقال:

(فانطلق قنفذ فاقتحم هو وأصحابه بغير إذن، وبادر علي إلى سيفه ليأخذه فسبقوه إليه فتناول بعض سيوفهم، فكثروا عليه فضبطوه وألقوا على عنقه حبلاً أسود، وحالت فاطمة عليها السلام بين زوجها وبينهم عند باب البيت فضربها قنفذ بالسوط على عضدها فبقي أثره في عضدها من ذلك مثل الدملوج من ضرب قنفذ إياها فأرسل أبو بكر إلى قنفذ أضربها فألجأها إلى عضادة بيتها فدفعها - أي الباب - فكسر ضلعها من جنبها وألقت جنيناً من بطنها، فلم تزل صاحبة فراش حتى ماتت من ذلك شهيدة)(1).

3 - وروى العياشي في تفسيره عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن جده ما أتى علي يوم قط أعظم من يومين أتيا علي، فأما اليوم الأول فيوم قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأما اليوم الثاني فو الله إني لجالس في سقيفة بني ساعدة عن يمين أبي بكر والناس يبايعونه، إذ قال له عمر يا هذا ليس في يديك شيء مهما لم يبايعك علي، فابعث إليه حتى يأتيك يبايعك، فإنما هؤلاء رعاع فبعث إليه قنفذ فقال له اذهب فقل لعلي أجب خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فذهب قنفذ فما لبث أن رجع فقال لأبي بكر: قال لك ما خلف رسول الله أحداً غيري.

قال: ارجع إليه فقل أجب فإن الناس قد أجمعوا على بيعتهم إياه، وهؤلاء

ص: 132


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 82.

المهاجرون والأنصار يبايعونه وقريش، وإنما أنت رجل من المسلمين لك ما لهم وعليك ما عليهم، فذهب إليه قنفذ فما لبث أن رجع فقال: قال لك إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لي وأوصاني أن إذا واريته في حفرته لا أخرج من بيتي حتى أؤلف كتاب الله، فإنه في جرائد النخل وفي أكتاف الإبل، قال عمر: قوموا بنا إليه، فقام أبو بكر، وعمر، وعثمان وخالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة، وأبو عبيدة بن الجراح، وسالم مولى أبي حذيفة، وقنفذ، وقمت معهم، فلما انتهينا إلى الباب فرأتهم فاطمة عليها السلام أغلقت الباب في وجوههم، وهي لا تشك أن لا يدخل عليها إلا بإذنها، فضرب عمر الباب برجله فكسره وكان من سعف ثم دخلوا فأخرجوا علياً ملببا فخرجت فاطمة فقالت:

«يا أبا بكر أتريد أن ترملني من زوجي والله لئن لم تكف عنه لأنشرن شعري ولأشقن جيبي ولآتين قبر أبي ولأصيحن إلى ربي».

فأخذت بيد الحسن والحسين، وخرجت تريد قبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال علي عليه السلام لسلمان:

«أدرك ابنة محمد فإني ارى جنبتي المدينة تكفيان، والله إن نشرت شعرها وشقت جيبها وأتت قبر أبيها وصاحت على ربها لا يناظر بالمدينة أن يخسف بها (وبمن فيها)».

فأدركها سلمان رضي الله عنه، فقال: يا بنت محمد، إن الله إنما بعث أباك رحمة فارجعي، فقالت:

«يا سلمان يريدون قتل علي، ما على علي صبر، فدعني حتى آتي قبر أبي فأنشر شعري وأشق جيبي وأصيح إلى ربي».

ص: 133

فقال سلمان: إني أخاف أن تخسف بالمدينة، وعلي بعثني إليك ويأمرك أن ترجعي إلى بيتك وتنصرفي، فقالت:

«إذا أرجع وأصبر وأسمع له وأطيع»)(1).

4 - روى الشيخ عباس القمي في بيت الأحزان عن فاطمة عليها السلام، أنها قالت:

«فجمعوا الحطب الجزل على بابي، وأتوا بالنار ليحرقوه، ويحرقونا، فوقفت و (أخذت) بعضادة الباب، وناشدتهم الله: بالله وبأبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يكفوا عنا وينصرونا، فأخذ عمر السوط من يد قنفذ - مولى أبي بكر -، فضرب به على عضدي، (فالتوى السوط على عضدي) حتى صار كالدملج، وركل الباب برجله، فرده عليّ وأنا حامل، فسقطت لوجهي، والنار تسعر وتسقع في وجهي، فضربني بيده حتى انتشر قرطي من أذني، وجاءني المخاض، فأسقطت محسناً قتيلاً بغير جرم»(2).

5 - روى الكليني (عن أبان بن تغلب عن ابي هاشم قال: لما أخرج بعلي عليه السلام خرجت فاطمة عليها السلام واضعة قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأسها آخذة بيدي ابنيها فقالت:

«ما لي وما لك يا أبا بكر، تريد أن تؤتم ابني وترملني من زوجي، والله لولا أن تكون سيئة لنشرت شعري ولصرخت إلى ربي».

ص: 134


1- تفسير العياشي: ج 2، ص 66-68.
2- مسند فاطمة الزهراء عليها السلام للسيد حسين شيخ الإسلام: ص 443-444، برقم 11/407؛ بيت الأحزان للشيخ عباس القمي: ص 173.

فقال رجل من القوم: ما تريد إلى هذا ثم أخذت بيده فانطلقت به)(1).

6 - روى أبو جعفر الطوسي (عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، وعن سلمان، أن قالا: لما أخرج أمير المؤمنين من منزله خرجت فاطمة حتى انتهت إلى القبر، فقالت:

«خلوا عن ابن عمي، فو الذي بعث محمدا بالحق، لئن لم تخلوا عنه لانشرن شعري، ولأضعن قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على رأسي، ولأصرخن إلى الله، فما ناقة صالح بأكرم على الله مني، ولا الفصيل بأكرم على الله من ولدي».

قال سلمان: فرأيت والله أساس حيطان المسجد تقلّعت من أسفلها، حتّى لو أراد رجل أن ينفذ من تحتها لنفذ، فدنوت منها، وقلت: يا سيدتي! ومولاتي، إن الله تبارك وتعالى بعث أباك رحمة، فلا تكوني نقمة.

فرجعت الحيطان حتى سطعت الغبرة من أسفلها، فدخلت في خياشيمنا)(2).

ثانياً: ما ورد في كتب أهل السنة والجماعة في اقتحام عمر بن الخطاب لبيت فاطمة عليها السلام

وكما هي العادة في روايات أهل السنة والجماعة وكما مرّ علينا في حديث جمع الحطب حول بيت فاطمة عليها السلام ودخول عمر عليها يهددها بالإحراق إن اجتمع بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند علي عليه

ص: 135


1- الكافي للكليني: ج 8، ص 237-238.
2- مسند فاطمة للسيد حسين شيخ الإسلامي: ص 444-445؛ برقم 13/409.

السلام ليحرقن عمر بيت فاطمة بمن فيه وكيف أن القوم حذفوا قول عمر في التهديد والإحراق.

وهنا ليس الأمر ببعيد عن ذلك المنهج الذي اعتمدوه لاسيما وأن مرحلة الاقتحام هي من أكثر المراحل خطورة لأنها تكشف عن دموية الحدث فضلاً عن حجم الفتنة الذي أقدم عليها أبو بكر وعمر في إرعاب فاطمة وولديها وإرعاب أهل المدينة وما تبعها من قتل لفاطمة عليها السلام.

فكيف بهم وأنى لهم أن يرووا تلك الجريمة كما وقعت.

ولذلك: نجد القوم قد أشاروا إليها إشارة خفيفة هنا وهناك علهم بذلك يستطيعون أن يخفوا هذه الجريمة ويمحوا آثارها من أذهان الناس، ويأبى الله تعالى إلا أن يظهر الحق، وعليه فلنرَ كيف أشار إليها القوم.

1 - روى اليعقوبي (المتوفى سنة 248 ه -) في تاريخه فقال:

(وبلغ أبا بكر وعمر أن جماعة من المهاجرين والأنصار قد اجتمعوا مع علي ابن أبي طالب في منزل فاطمة بنت رسول الله، فأتوا في جماعة حتى هجموا الدار، وخرج علي ومعه السيف، فلقيه عمر، فصارعه عمر فصرعه، وكسر سيفه، ودخلوا الدار فخرجت فاطمة فقالت:

«والله لتخرجن أو لأكشفن شعري ولأعجن إلى الله!».

فخرجوا وخرج من كان في الدار وأقام القوم أياماً، ثم جعل الواحد بعد الواحد يبايع، ولم يبايع علي إلاّ بعد ستة اشهر وقيل أربعين يوماً)(1).

ص: 136


1- تاريخ اليعقوبي: ج 2، ص 126، ط دار صادر؛ ج 2، ص 11، ط الأعلمي.

2 - روى الجوهري (المتوفى سنة 323 ه -) فقال:

(حدثني أبو زيد عمر بن شبة عن رجاله قال: جاء عمر إلى بيت فاطمة في رجال من الأنصار ونفر قليل من المهاجرين فقال: والذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم فخرج إليه الزبير مصلتا بالسيف فاعتنقه زياد بن لبيد الأنصاري ورجل آخر فندر السيف من يده فضرب به عمر الحجر فكسره؛ ثم أخرجهم بتلابيبهم يساقون سوقا عنيفا حتى بايعوا أبا بكر.

قال أبو زيد وروى النضر بن شميل، قال: حمل سيف الزبير لما ندر من يده إلى أبي بكر وهو على المنبر يخطب فقال: اضربوا به الحجر، قال أبو عمرو بن حماس: ولقد رأيت الحجر وفيه تلك الضربة والناس يقولون هذا أثر ضربة سيف الزبير.

قال أبو بكر، وأخبرني أبو بكر الباهلي، عن إسماعيل بن مجالد، عن الشعبي قال: قال أبو بكر: يا عمر، أين خالد بن الوليد؟ قال: هو هذا، فقال: انطلقا إليهما، يعني عليا والزبير فأتياني بهما؛ فانطلقا فدخل عمر ووقف خالد على الباب من خارج، فقال عمر للزبير: ما هذا السيف؟ قال: أعددته لأبايع عليا، قال: وكان في البيت ناس كثير منهم المقداد بن الأسود، وجمهور الهاشميين، فاخترط عمر السيف فضرب به صخرة في البيت فكسره.

ثم أخذ بيد الزبير فأقامه، ثم دفعه فأخرجه، وقال: يا خالد دونك هذا؛ فأمسكه خالد، وكان خارج البيت مع خالد جمع كثير من الناس أرسلهم أبو بكر رداءً لهما.

ص: 137

ثم دخل عمر فقال لعلي: قم فبايع فتلكأ واحتبس، فأخذ بيده وقال: نعم؛ فأبى أن يقوم فحمله ودفعه كما دفع الزبير، ثم أمسكهما خالد، وساقهما عمر ومن معه سوقاً عنيفا، واجتمع الناس ينظرون، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال.

ورأت فاطمة ما صنع عمر فصرخت وولولت، واجتمع معها نساء كثير من الهاشميات وغيرهن، فخرجت على باب حجرتها ونادت:

«يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله»)(1).

3 - وورد ذكر الحادثة كذلك في أبحاث بعض المعاصرين، فمما جاء في ذلك أن قال بعضهم:

(أما علي بن أبي طالب فقد امتنع عن مبايعة أبي بكر هو وجماعة من الهاشميين والزبير بن العوام، وتخلفوا في بيت فاطمة، فخرج إليهم عمر بن الخطاب في جماعة من الصحابة، وأرغموا بني هاشم والزبير على مبايعة أبي بكر، ثم استقدم علي إلى أبي بكر وطلب منه أن يبايع، فامتنع بحجة أن أبا بكر اغتصب حقه في خلافة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.....

ولم يبايع علي أبا بكر بالخلافة إلا بعد أن توفيت فاطمة، أي بعد ستة أشهر من وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

ص: 138


1- السقيفة وفدك للجوهري: ص 73-74؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 6، ص 48-49؛ غاية المرام للسيد هاشم البحراني: ص 326.
2- تاريخ الدولة العربية للدكتور عبد العزيز سالم: ص 431-432، ط دار النهضة العربية بيروت؛ وقريب منه أورده محمد عزه في تاريخ الجنس العربي: ج 7، ص 8-25، ط المكتبة العصرية لبنان.

المسألة الثالثة: الآثار التي خلفها اقتحام بيت فاطمة عليها السلام على الإسلام وما لحق فاطمة من الأضرار

اشارة

إن المتتبع لمجريات الأحداث الإسلامية منذ أن توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يدرك بشكل يقيني أن الاختلافات التي وقعت في الأمة إنما كانت لها جذورها التي انتشت عليها سيقان الفرقة والاختلاف في الأمة حتى باتت أكثر الأمم تفرقاً فقد افترقت على ثلاث وسبعين فرقة(1).

وهذا لم يأت من فراغ، بل من واقع، وواقع مرير؛ ولعل حال المسلمين اليوم لم يكن بأفضل من أمسهم، ولا غدهم بأفضل من يومهم فمازالوا من سيئ إلى أسوأ في حياتهم الدنيوية، وأما في الآخرة فأمر وأدهى.

لقوله صلى الله عليه وآله وسلم عن هذه الفرق:

«كلها في النار إلا واحدة»(2).

لكن الذي نحن بصدده تلك الآثار التي خلفها اقتحام بيت الزهراء عليها السلام وما لحق بفاطمة عليها السلام من أضرار بالغة.

وهي كالآتي:

ص: 139


1- سنن الترمذي، باب: ما جاء في افتراق هذه الأمة: ج 5، ص 25، ح 2640؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 19، ص 277؛ السنة لابن أبي عاصم: ج 1، ص 23؛ صحيح ابن حبان: ج 14، ص 140؛ المستدرك للحاكم: ج 1، ص 47؛ سنن أبي داود: ج 4، ص 197، ح 4596.
2- سنن الترمذي: ج 5، ص 26، باب: ما جاء في افتراق الأمة؛ المستدرك للحاكم: ج 7، ص 332؛ كشف الخفاء للعجلوني: ج 1، ص 169.
أولاً: التأسيس لظلم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاك حرمتهم

إن من الأمور البديهية التي أصبحت ضمن معطيات المسلم الثقافية أن ما نزل بآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الظلم الممنهج من القتل، والسلب، والتهجير، والتكفير، ومصادرة الأموال، وغيرها مما لا حصر له، وقد ملئت به كتب التاريخ، وصنفت فيه بعض الكتب والمقاتل، كمقاتل الطالبيين، لم يكن إلاّ لكثرة ما نزل بآل أبي طالب، وابناء علي وفاطمة من القتل؛ حتى احتاجوا إلى إفراد كتاب خاص بمقاتلهم.

وهذا جميعه ثمرة من ثمار من أسس لظلم فاطمة وبنيها حينما جمع الحطب على بابها ومن حول دارها على الرغم من تضافر الآيات والأحاديث النبوية في تعظيم هذا البيت وأهله.

فكان أبو بكر وعمر ومن جاء معه للهجوم على دار فاطمة وولديها هم أول من أسس الظلم لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فتبعه بعد ذلك من مأساة قتل علي في محراب مسجد الكوفة، وسم ولدها الحسن في المدينة، ورمي نعشه بالسهام، ومنعه من أن يدفن إلى جنب جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليصل بنا الأمر إلى قتل الحسين بن علي صلوات الله عليه وسبعة عشر نفساً من أحفاد أبي طالب، حتى بدت بيوتهم في المدينة خالية من الرجال، فبين يتيم صارخ، ومعولة ثكلى مذهولة لما نزل بها في كربلاء.

فأي أذى أعظم مما نزل برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن اقتحم دار ابنته فاطمة ليحرق بالنار، فيكون اساساً لحرق بيوت بناته وأحفاده في كربلاء،

ص: 140

فهذه النار في المدينة طار شررها إلى كربلاء فأحرق بيوت النساء والأطفال وأرعبتهم أشد الرعب.

وعليه:

فكل ما لحق بآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من الظلم إلى يوم خروج المهدي ابن فاطمة عليهما السلام، هو في وزر من أسس أساس الظلم والجور على أهل البيت عليهم السلام.

ثانياً: كسر ضلع فاطمة عليها السلام أثناء اقتحام عمر بن الخطاب وعصابته بيتها بعد حرقه

ذكرنا خلال هذا المبحث أن الرواة جهدوا جهدهم في التعتيم على هذ الجريمة بشتى الصور، وبمختلف الأساليب، فكان منها تكذيب كل من يتحدث ولو من قبيل الإشارة أو التلميح إلى وجود هذه الجريمة العظمى؛ فضلاً عن اتهامه بالرفض، وعد كلامه من المثالب التي تقدح بسيرة عمر بن الخطاب؛ وذلك لقطع الطريق على المتكلم والباحث، حتى ولو جاء برواية صحيحة تنص على إحراق بيت فاطمة عليها السلام.

وعليه:

كيف يمكن أن يجد الباحث أو القارئ تفاصيل دقيقة في كتب أهل الجماعة وهم يعتقدون بعدالة وأفضلية عمر بن الخطاب على الأمة؛ فضلاً عن أن الكتّاب ومن قبلهم الرواة يعدون ذلك من الجرائم العظمى التي توجب النقمة.

ولذا:

نحن أمام حالتين:

ص: 141

1 - لابد من الرجوع إلى مدرسة أهل البيت عليهم السلام فأهل مكة أدرى بشعابها.

2 - السعي خلف تلك الشذرات المتناثرة هنا وهناك في كتب أهل الجماعة، علّنا من خلال الجمع لهذه القطرات المتناثرة نحصل على شربة ماء نبل بها ظمأ الباحث أو القراء، فكان من هذه الشذرات أو القطرات ما يأتي:

أ. ذكر أبو الفتح محمد بن كريم الشهرستاني، والخطيب البغدادي، والصفدي، في بيان مقالات النظام(1) فقال:

(إن عمر ضرب بطن فاطمة يوم البيعة حتى ألقت الجنين من بطنها وكان يصيح: أحرقوا دارها بمن فيها، وما كان في الدار غير علي وفاطمة والحسن والحسين)(2)، (صلوات الله وسلام عليهم أجمعين).

ب. ذكر الحافظ الذهبي وابن حجر العسقلاني في ترجمة أحمد بن محمد بن السري بن أبي دارم المحدث الكوفي (الذي نعته، أي الذهبي ب - (الكذاب، الرافضي) وذلك لكونه ممن قال في ظلامة فاطمة ورواية ما نزل بها على يد عمر بن الخطاب وعصابته الذين اقتحموا عليها دارها، فلاحظ قول الذهبي:

ألف: روى عنه الحاكم وقال ثقة.

ص: 142


1- أبو إسحاق إبراهيم النظام (توفي سنة 231 ه -) وهو شيخ الجاحظ، ومن شيوخ المعتزلة.
2- الملل والنحل للشهرستاني: ج 1، ص 15؛ الوافي بالوفيات للصفدي: ج 6، ص 15؛ المراجعات للسيد عبد الحسين شرف الدين رحمه الله، المراجعة (30) بتحقيق الشيخ حسين الراضي؛ فاطمة عليها السلام لتوفيق أبو علم: ص 55؛ فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم: لعمر أبو النصر، ط المكتبة الأهلية بمصر لسنة 1935 م.

باء: قال محمد بن أحمد بن حماد الكوفي الحافظ بعد أن أرخ موته كان مستقيم الأمر عامة دهره ثم في آخر أيامه كان أكثر ما يقرأ عليه المثالب، حضرته ورجل يقرأ عليه أن عمر رفس فاطمة حتى أسقطت بمحسن(1).

ولا يخفى أن استخدام الذهبي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهما لهذا المنهج في تسقيط من يقول بتلك الجريمة بشكل خاص، وبالمثالب بشكل عام، هو لغرض منع القارئ أو الباحث من الأخذ بهذه الأقوال أو التصديق بها ونشرها، ومن ثم فهم يمنعون ما أنزل الله من التكاليف في انصاف المظلوم، وفضح الظالم، فهم هنا شركاء في هذه الجريمة.

ثالثا: إسقاط جنينها المسمى ب - (المحسن) بفعل هجوم عمر بن الخطاب وعصابته على بيت فاطمة عليها السلام

نورد هنا ما جمعه سماحة السيد محمد مهدي الخرسان في كتابه الموسوم (المحسن السبط، مولود أم سقط) لمجموعة من المؤرخين والنسابة والمتكلمين، فقد وجدنا فيها الكفاية والفائدة الكبيرة، وهي كالآتي:

1 - ابن قتيبة الدينوري (توفي سنة 276 ه -) حكى عنه الحافظ السروري المعروف بابن شهر آشوب (ت 588 ه -) في كتابة مناقب آل أبي طالب، قال:

(وأولادها: الحسن والحسين والمحسن سقط، وفي معارف القتيبي: (إنّ محسناً فسد من زخم قنفذ العروي).

ص: 143


1- ميزان الاعتدال للذهبي: ج 1، ص 283، برقم 551؛ لسان الميزان لابن حجر: ج 1، ص 268، برقم 824.

وعند مراجعة كتاب المعارف المطبوع لم نجد ذلك فيه، ولمّا كان الحافظ الكنجي الشافعي (ت 658 ه -) قد أكّد حكاية ابن شهرآشوب لذلك عن ابن قتيبة بعد أن ذكر أنّ فاطمة عليها السّلام أسقطت بعد النبي ذكراً كان سماه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم محسناً، فقال الكنجي: وهذا شيء لم يوجد عند أحد من أهل النقل إلا عند ابن قتيبة.

2 - النسابة الشيخ أبو الحسن العمري وكان حياً (سنة 425 ه -) قال في كتابه المجدي؛ بعد ذكر اختلاف النسابين في المحسن: ولم يحتسبوا بمحسن لأنّه ولد ميتاً، وقد روت الشيعة خبر المحسن والرفسة، ووجدت بعض كتب أهل النسب يحتوي على ذكر المحسن، ولم يذكر الرفسة من جهة أعوّل عليها.

3 - النسابة محمد بن أسعد بن علي الحسيني الجواني (ت 588 ه -) ذكر المحسن في الشجرة المحمدية والنسبة الهاشمية وقال: أسقط، وقيل: درج صغيراً، والصحيح أنّ فاطمة عليها السّلام أسقطت جنيناً.

4 - كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي (ت 652 ه -) قال في مطالب السؤول عند ذكر أولاد الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام:

(اعلم أيّدك الله بروح منه، أنّ أقوال الناس اختلفت في عدد أولاده) ذكوراً وإناثاً، فمنهم من أكثر فعدّ فيهم السقط، ولم يسقط ذكر نسبه، ومنهم من أسقطه ولم ير أن يحتسب في العدة، فجاء قول كل واحد بمقتضى ما اعتمده في ذلك وبحسبه ثم نقل عن صفة الصفوة وغيرها ذكرهم إلى أن قال: وذكر قوم آخرون زيادة على ذلك، وذكروا فيهم محسناً شقيقاً للحسن والحسين عليهما السّلام وكان سقطاً).

ص: 144

5 - الحافظ محمد بن يوسف الكنجي الشافعي (ت 658 ه -)، حكى في كتابه كفاية الطالب عند ذكر أولاد الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام قول المفيد في عددهم، ثم قال: وزاد الجمهور وقال: إنّ فاطمة عليها السّلام أسقطت بعد النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكراً كان سمّاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم محسناً، وهذا شيء لم يوجد عند أحد من أهل النقل إلاّ عند ابن قتيبة.

6 - الحمويني (ت 730 ه -)، ذكر باسناده في فرائد السمطين حديثاً عن ابن عباس أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن عليه السّلام فلمّا رآه بكى، ثم قال:

«إليّ إليّ يا بني».

فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى، ثم أقبل الحسين عليه السّلام فلما رآه بكى ثم قال:

«إليّ إليّ يا بُني».

فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى، ثم أقبلت فاطمة عليها السّلام، فلما رآها بكى ثم قال:

«إليّ إليّ يا بنية فاطمة».

فأجلسها بين يديه.

ثم أقبل أمير المؤمنين علي عليه السّلام، فلما رآه بكى ثم قال:

«إليّ إليّ يا أخي».

فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه الأيمن، فقال له أصحابه: يا رسول الله

ص: 145

ما ترى واحداً من هؤلاء إلا بكيت، أوما فيهم مَن تسرّ برؤيته؟ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم:

«والذي بعثني بالنبوة واصطفاني على جميع البرية، إنّي وإياهم لأكرم الخلائق على الله عزّ وجلّ، وما على وجه الأرض نسمة أحبّ إليّ منهم أما علي بن أبي طالب...».

وذكر فضله وما خصّه الله به.

«.... وأما ابنتي فاطمة فإنّها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة منّي وهي...، وإنّي لما رأيتها ذكرت ما يصنع بها بعدي، كأنّي بها وقد دخل الذلّ بيتها، وانتهكت حرمتها، وغُصب حقها، ومُنعت إرثها، وكُسر جنبها، وأُسقطت جنينها».

إلى أن قال: يقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

«اللّهم العن من ظلمها، وعاقب من غصبها، وذلّل كذا والصواب فأذل من أذلّها، وخلّد في نارك من ضرب جنبها حتى ألقت ولدها».

فتقول الملائكة عند ذلك: آمين.

7 - الحافظ جمال الدين المزي (ت 742 ه -)، قال في كتابه تهذيب الكمال: كان لعلي من الولد الذكور... والذين لم يعقبوا محسن درج سقطاً.....

أقول: ونقل ذلك عنه الفاسي في العقد الثمين أيضاً.

8 - الشيخ الإمام سعيد بن محمد بن مسعود الكازروني (ت 758 ه -)، جاء في كتابه مطالع الأنوار المصطفوية في شرح مشارق الأنوار النبوية للصغاني الحنفي

ص: 146

(ت 650 ه -)، عند ذكره رواة الكتاب على ترتيب حروف المعجم، فقال في حرف الفاء:

فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، كان من حقها أن تذكر في أول الأسامي لكن ترتيب الكتاب اقتضى هذا التنسيق... إلى أن قال بعد ذكر شيء من ترجمتها: وولدت لعلي الحسن والحسين والمحسن، وقيل: سقط المحسن من بطنها ميتاً بسبب أنّ عمر بن الخطاب دقّ الباب على بطنها حين جاء لعلي أن يروح به إلى عند أبي بكر لأخذ البيعة.

9 - الصلاح الصفدي (ت 764 ه -)، قال في الوافي بالوفيات: والمحسن طرح، وحكى ذلك من كتاب شيخه الذهبي (فتح المطالب في فضل علي بن أبي طالب) ولمّا لم نقف على كتاب شيخه فاكتفينا بنقله عنه، وعددنا شيخه ممّن قال بأنّ المحسن سقط.

10 - التقي الفاسي الحسني المكي (ت 832 ه -)، ذكر في كتابه العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين في ترجمة الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام أولاد الإمام، فحكى قول ابن قتيبة: (ولعلي رضي الله عنه من الولد الحسن والحسين ومحسن...) فعلق المحقق فؤاد سيد على اسم المحسن فقال: تكملة من المعارف.

أقول: ولا ندري هل عدم ذكره (كان سقطاً) من سهو القلم، أم هو من الاسقاط المتعمد؟ ثم انّ الفاسي حكى أيضاً في كتابه قول الحافظ المزي في تهذيب الكمال: (ومحسن درج سقطاً) ولم يعقب عليه بشيء، فهو إمضاء منه لقوله.

وذكر الفاسي أيضاً في كتابه في ترجمة الزهراء عليها السّلام قول أبي عمر:

ص: 147

(فولدت له الحسن والحسين وأم كلثوم وزينب...).

فعلق المحقق على ذلك في الهامش فقال: (ومحسناً) كما في سير أعلام النبلاء حكاية عن ابن عبد البر.

أقول: وما ذكره الطناحي صحيح، فهو موجود في سير أعلام النبلاء، لكن إذا رجعنا إلى الاستيعاب وهو كتاب أبي عمر وهو ابن عبد البر، فلا نجد ذلك النص جملة وتفصيلاً، وبين يدي ثلاث طبعات من الاستيعاب.

- طبعة حيدر آباد سنة 1326 ه -.

- طبعة مصطفى محمد سنة 1339 بهامش الإصابة.

- طبعة محققة بتحقيق علي محمد البجاوي بمطبعة نهضة مصر.

وقد راجعت ترجمتي الإمام أمير المؤمنين والزهراء عليهما السّلام، فلم أجد النص المذكور، فيا ترى من الذي غصّ بذكر المحسن، فابتلعه على مضض ليضيع ذكره كما خفي قبره، وعلى سنن الماضين جاء سير الخالفين، وهكذا أضاع الخلف ما يدين السلف طمساً للحقائق، فالله حسيبهم.

11 - إبراهيم بن عبد الرحمن الحنفي الطرابلسي، (كان حيّاً سنة 841 ه -)، قال في المشجرة التي صنعت للخليفة الناصر وكتبت لخزانة صلاح الدين ص 9: محسن بن فاطمة أسقط، وقيل درج صغيراً، والصحيح أن فاطمة أسقطت جنينها.

12 - ابن الصباغ المالكي الصفاقسي (ت 855 ه -)، قال في الفصول المهمة في ذكر أولاد الإمام: وذكروا أنّ فيهم محسناً شقيقاً للحسن والحسين، ذكرته الشيعة وأنّه كان سقطاً.

ص: 148

أقول: ولم يعقب على ذلك بشيء، فهو إمضاء منه لما قالته الشيعة، ولو لم يكن كذلك لردّ عليهم بشيء.

13 - أبو الفضيل محمد الكاظم بن أبي الفتوح، قال في كتابه (النفحة العنبرية في أنساب خير البرية) الذي ألّفه سنة 891 ه -: (والمحسن وأخوه ولدا ميتين من الزهراء).

14 - الصفوري الشافعي (ت 894 ه -)، قال في نزهة المجالس: (كان الحسن أول أولاد فاطمة الخمسة: الحسن، والحسين، والمحسن كان سقطاً، وزينب الكبرى، وزينب الصغرى) وقال في كتابه الآخر: (المحاسن المجتمعة في الخلفاء الأربعة) من كتاب الاستيعاب لابن عبد البر قال: وأسقطت فاطمة سقطاً سمّاه علي محسناً.

أقول: وهذا ليس في الاستيعاب المطبوع فلاحظ.

15 - الشيخ جمال الدين يوسف المقدسي (ت 909 ه -)، في الشجرة النبوية في نسب خير البرية قال: (محسن، قيل: سقط، وقيل: بل درج صغيراً، والصحيح أنّ فاطمة أسقطت جنيناً).

16 - النسابة عميد الدين كان حياً سنة 929 ه - ذكره في المشجر الكشاف فقال: (والمحسن الذي أسقط).

17 - السيد مرتضى الزبيدي المتوفى 1205 ه -، قال في تاج العروس (شبر): (المحسّن بتشديد السين، ذهب أكثر الإمامية من أنه كان حملاً فأسقطته فاطمة الزهراء لستة أشهر، وذلك بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم).

ص: 149

أقول: ولمّا لم يعقب على قول الإمامية برد عليه، فذلك السكوت رضىً به.

18 - الشيخ محمود بن وهيب الحنفي القراغولي قال في جوهرة الكلام في مدح السادة الأعلام: (وأما محسّن فأدرج سقطاً).

19 - الشيخ محمد الصبان الشافعي (ت 1206 ه -)، قال في كتابه اسعاف الراغبين بهامش مشارق الأنوار للحمزاوي: (فأما محسن فأدرج سقطاً).

20 - الشيخ حسن الحمزاوي المالكي قال في كتابه مشارق الأنوار الذي فرغ من تأليفه (سنة 1264 ه -) كما في آخره.

قال: (وأما محسن فأدرج سقطاً).

21 - محمد بن محمد رفيع ملك الكتاب من علماء أواخر القرن الثالث عشر قال في كتابه رياض الأنساب ما تعريبه: (وولد آخر معدود في أولاده يعني الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام كانت الزهراء عليها السّلام حاملاً به، فأسقطته قبل استكمال مدة الحمل، لأنّ قنفذاً ضربها وزحمها خلف الباب).

22 - المؤرّخ الفارسي الشهير س في كتابه ناسخ التواريخ في الجزء المختص بالزهراء قال ما تعريبه: ذكر أنّ المحسن الذي سماه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مات سقطاً، لأنّ قنفذاً والمغيرة بن شعبة مع غيرهما ضربوا الزهراء فأسقطوا جنينها)(1).

فهذه بعض مصادر أهل الجماعة التي تنص على قتل المحسن ابن فاطمة صلوات الله عليها دون أن تذكر كثير منها العلة التي أدت إلى قتل هذا الجنين

ص: 150


1- المحسن السبط مولود أم سقط للسيد محمد مهدي الخرسان: ص 120-125.

وكأنهن يدركون أن البيان للقاتل لا يجدي نفعاً في الحياة الدنيا وذلك أن الله تعالى سيسأل المحسن عن قتلته يوم القيامة وهو القائل سبحانه:

(وَ إِذَا اَلْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ)(1).

رابعاً: أسماء الذين اقتحموا بيت فاطمة عليها السلام حجة على منكري استشهاد فاطمة وقتلها

تناولت بعض المصادر التأريخية وغيرها أسماء الذين انطووا تحت راية عمر ابن الخطاب فقادهم للهجوم على بيت فاطمة صلوات الله عليها وهذه الأسماء وإن كانت لم تتحدث عن مجريات الجريمة وتفاصيلها إلاّ أنها حجة دامغة على من أنكر قيام عمر بن الخطاب بهذه الجريمة البشعة في حق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبضعته وقلبه وروحه التي بين جنبيه.

ولعل قائلاً يقول لا دليل على قيام عمر وعصابته بهذه الجريمة، قلنا: فما الذي جاء بعمر وعصابته لبيت فاطمة فيقتحمونه بعد أن جمعوا الحطب من حوله وأضرموا فيه النار؛ أتراهم جاءوا لوليمة دعاهم إليها علي عليه السلام، أم لعيادة مريض في بيت فاطمة عليها السلام، أم لتقديم التعازي بوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم أهله، وذووه، وخاصته، وحامته، لحمهم لحمه، ودمهم دمه، يؤلمه ما يؤلمهم، ويبسطه ما يبسطهم، فجاءوا - لأجل ذلك - بالحطب والنار والسياط والسيوف؟!

وعليه:

فإننا نورد بعض المصادر التي أوردت أسماء هذه العصابة التي اقتحمت بيت

ص: 151


1- سورة التكوير، الآيتان: 8 و 9.

الزهراء عليها السلام وأخرجت منه بعض الصحابة الذين أنكروا بيعة أبي بكر، فكانت كالآتي:

1 - أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب السنة في باب بيعة أبي بكر عن ابن شهاب الزهري قال: (وغضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر منهم علي بن أبي طالب والزبير بن العوام فدخلا بيت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعهما السلاح فجاءهم عمر، في عصابة من المسلمين فيهم: أسيد بن حضير، وسلمة بن وقش، وهما من بني عبد الأشهل، ويقال فيهم، ثابت ابن قيس بن شماس أخو بني الحارث من بني الخزرج، فأخذ أحدهم سيف الزبير فضرب الحجر حتى كسره.

قال موسى بن عقبة، قال سعيد بن إبراهيم، حدثني إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عوف: أن عبد الرحمن بن عوف، ومحمد بن سلمة كانا مع عمر يومئذ، وإن محمد بن سلمة هو الذي كسر سيف الزبير)(1).

2 - ابن قتيبة الدينوري (المتوفى سنة 276 ه -) في الإمامة والسياسة(2).

3 - وأخرجه الجوهري المعتزلي (المتوفى سنة 323 ه -) في كتاب السقيفة(3).

4 - روى الكلاعي (المتوفى سنة 634 ه -) هذا الحديث بلفظ فيه اختلاف يسير، في الاكتفاء(4).

ص: 152


1- كتاب السنة لعبد الله بن أحمد بن حنبل، باب: بيعة أبي بكر، حديث 91، ج 2، ص 554.
2- الإمامة والسياسة لابن قتيبة: ج 1، ص 18 و ص 28.
3- السقيفة وفدك: ص 46.
4- الاكتفاء بما تضمنه من مغازي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ج 2، ص 57.

5 - ابن أبي الحديد المعتزلي (المتوفى سنة 656 ه -) في شرحه لنهج البلاغة(1).

6 - ورواه المحب الطبري (المتوفى سنة 694 ه -) في الرياض النضرة(2).

7 - ورواه الصالحي الشامي (المتوفى 942 ه -) في سبل الهدى والرشاد(3).

8 - العاصمي في سمط النجوم العوالي(4).

وعليه:

يتضح من خلال سياق الرواية التي أوردها هؤلاء الحفاظ في مصنفاتهم أن العصابة التي جاء بها عمر بن الخطاب لاقتحام بيت الزهراء عليها السلام كانوا كالآتي:

1 - عمر بن الخطاب وهو قائد هذه العصابة.

2 - أسيد بن حضير.

3 - سلمة بن وقش وهما من بني عبد الأشهل.

4 - ثابت بن قيس بن شماس أخو بني الحارث من بني الخزرج.

5 - عبد الرحمن بن عوف.

في حين جاءت الروايات في بيان أسماء أخرى ك -:

ص: 153


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 50.
2- الرياض النضرة: ج 2، ص 213، ط دار القرب الإسلامي.
3- سبل الهدى والرشاد: ج 12، ص 317.
4- سمط النجوم العوالي: ج 1، ص 375.

6 - قنفذ العروي.

9 - خالد بن الوليد(1).

10 - عثمان بن عفان.

11 - المغيرة بن شعبة.

12 - مولى أبي حذيفة وقد نص عليها الشيخ المفيد(2).

ولا شك أن العدد الذي جاء به عمر بن الخطاب للهجوم على بيت فاطمة أكثر بكثير وذلك أن عدد الذين كانوا داخل بيت علي بن أبي طالب عليه السلام أكثر فقد قيل في عددهم.

1 - جماعة من بني هاشم ولم تذكر الروايات عددهم.

2 - الزبير بن العوام خال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

3 - عتبة بن أبي لهب.

4 - المقداد بن الأسود.

5 - سلمان الفارسي.

6 - أبو ذر الغفاري.

7 - عمار بن ياسر.

8 - البراء بن عازب.

ص: 154


1- تاج العروس للزبيدي: ج 16، ص 240.
2- كتاب الجمل للمفيد: ص 117.

9 - أبي بن كعب.

10 - العباس بن عبد المطلب.

11 - خالد بن سعيد بن العاص، وهو الوحيد من بني أمية.

12 - طلحة بن عبيد الله.

13 - أبو سعيد الخدري.

14 - وجماعة آخرون لم يذكروا أسماءهم(1).

ولا شك أن القوة التي تستخدم في الهجوم تلزم أن تكون أكثر عدداً من القوة المدافعة وذلك لغرض تحقيق الحسم والانتصار وهو ما قام به عمر بن الخطاب فبعد أن بايع أكثر المهاجرين وانحاز الأنصار إلى هذه البيعة فضلاً عن استخدام الأعراب كأداة ضاربة في هذا الهجوم وهم المرتزقة الذين جندهم ابن الخطاب لتثبيت البيعة لأبي بكر وقد جاءوا إلى المدينة بحجة شراء التمر مما يكشف عن الإعداد المسبق لهذا الانقلاب الذي أخبر عنه القرآن والنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

1 - قال تعالى:

(وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّٰهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّٰهُ اَلشّٰاكِرِينَ)(2).

ص: 155


1- سمط النجوم العوالي للعاصمي: ج 1، ص 374؛ وفيات الأعيان: ص 16، 25، 35، 38، 40.
2- سورة آل عمران، الآية: 144.

2 - وقال صلى الله عليه وآله وسلم، (وقد أورده البخاري:

«بينما أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم».

فقال: هَلُمّ، فقلت:

«أين؟».

قال: إلى النار والله، فقلت:

«وما شأنهم؟».

قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري.

«ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم».

فقال: هلم، قلت:

«أين؟».

قال: إلى النار والله، قلت:

«ما شأنهم؟».

قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلاّ مثل همل النعم)(1).

أي: القليل جداً.

3 - وأخرج مسلم في صحيحه عن عائشة، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقول وهو بين ظهراني أصحابه:

ص: 156


1- صحيح البخاري، كتاب الرقاق: ج 7، ص 209.

«إني على الحوض أنتظر من يرد عليّ منكم، فو الله ليقطعن دوني رجال فلأقولن: أي رب مني ومن أمتي؟».

فيقول:

«إنك لا تدري ماعملوا بعدك، ما زالوا يرجعون على أعقابهم»).

4 - وأخرج الدارقطني عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، (إن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم قال:

«يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي فيجلون عن الحوض، فأقول: يا رب أصحابي فيقول: إنك لا علم لك بما أحدثوا بعدك أنهم ارتدوا على أعقابهم القهقري»)(1).

خامساً: محاولات يائسة من ابن أبي الحديد المعتزلي وغيره في دفع جريمة قتل فاطمة عليها السلام وإحراق بيتها عن أبي بكر وعمر وغيرهما

إن المتتبع لأقوال ابن أبي الحديد المعتزلي في جريمة قتل فاطمة صلوات الله عليها بعد أن حرق بيتها بيد عمر بن الخطاب وعصابته، يوقن ببعض الحقائق وهي كالآتي:

1 - إن هذا التردد بين تصويب الحادثة والإقرار بوقوع الجريمة في حرق بيت فاطمة عليها السلام وما تبعه من آثار أدت إلى استشهادها وبين نفي هذه الحادثة أو تكذيبها أو الإقرار ببعض جزئياتها سببه وجود روايات صحيحة، وأقوال صريحة

ص: 157


1- الالزامات والتتبع للدارقطني: ص 122، ط دار الكتب العلمية؛ فتح الباري لابن حجر: ج 11، ص 464، ح 6586.

لأئمة أهل السنة والجماعة.

إلاّ أن ثقل الحديث وتأثيره على المسلم وصعوبة استيعاب أن يقدم مجموعة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هتك حرمته والتجري على الله بمثل هذا المستوى من الأفعال التي لا يقدم عليها يهودي أيقن أن لأهل هذا البيت حرمة كما لموسى عليه السلام وغيره، فكيف بمسلم يؤمن بالله وبمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، أن يقدم على حرق بيت نبيه وقتل ابنته وجنينها؟!

2 - إن هذا التردد لم يقتصر فقط على ابن أبي الحديد المعتزلي وحسب بل كل من أراد الانصاف عند قراءته التاريخ والوقوف عند حوادثه وأحداثه التي عصفت بالأمة منذ أن سجلت أقلام المؤرخين تاريخ الإسلام ورسوله المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

3 - إنّ هذا التردد بين الإقرار بوقوع هذه الجريمة واستشهاد فاطمة على يد عمر بن الخطاب وعصابته وبين نفي الحادثة وتكذيبها وتكفير القائل بها لم يكن ليغير من الواقع شيئاً فالحادثة واقعة كما وقع بعث النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فقام يدعو إلى الإسلام فآمن به من آمن وكفر به من كفر؛ ومن ثم فإنكار وجود رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع هذا الانتشار للإسلام لا يغير من الواقع شيئاً ولا يضر إلاّ بالناكر له، وكذاك كان مقتل فاطمة وجنينها وحرق بيتها، فإنه لا يضر إلا الناكر له لقوله تعالى:

(وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ)(1).

ص: 158


1- سورة الصافات، الآية: 24.

4 - إن هذا التحزب للحق أو الباطل هو من السنن الكونية التي أوجدها الله تعالى ومن ثم لا تنتهي بقول ابن أبي الحديد ومن قبله الشريف الرضي أو الشيخ الطوسي أو ابن تيمية أو الألباني أو قولنا في هذا البحث.

وإنما ليهلك من هلك عن بينة وليحيا من يحيا عن بينة، وعسى أن يهدي الله بهذا العمل امرءً واحداً فهو خير مما طلعت عليه الشمس كما ورد في الحديث الشريف عنه صلى الله عليه وآله وسلم(1).

وعليه:

أوردنا تردد ابن أبي الحديد ومحاولاته دفع الجرم عن المجرم إنما كان تبعاً لما يخالط النفس من الإقرار للحق والإذعان إليه وبين التمرد عليه والانزلاق إلى الباطل، فكان مما قال:

1 - جاء في الجزء الثاني من شرح نهج البلاغة قوله:

(وقد قال قوم من المحدثين بعضه ورووا كثيراً منه: أن علياً امتنع من البيعة إلى أن يقول: ولم يتخلف إلا علي عليه السلام وحده فإنه اعتصم ببيت فاطمة فتحاموا إخراجه قسراً وقامت فاطمة إلى باب البيت فأسمعت من جاء يطلبه فتفرقوا وعلموا أنه بمفرده لا يضر شيئاً فتركوه، وقيل أخرجوه فيمن أخرج وحمل إلى أبي بكر فبايعه.

ثم يقول: فأما حديث التحريق، وما جرى مجراه من الأمور الفظيعة، وقول

ص: 159


1- قال صلى الله عليه وآله وسلم للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام: «يا علي لئن يهدِ الله بك رجلاً واحداً لخير لك مما طلعت عليه الشمس».

من قال: إنهم أخذوا علياً يقاد بعمامته والناس حوله؛ فأمر بعيد، والشيعة تنفرد به.

على أن جماعة من أهل الحديث قد رووا نحوه وسنذكر ذلك)(1).

والملاحظ في هذا النص ما أشرنا إليه آنفاً من وجود حالة من التردد والتناقض بين الإقرار بالحدث ونفيه وبين أن الشيعة قد تفردوا به، وبين أن جماعة من أهل الحديث قد رووا نحوه، والسبب في ذلك هو إقراره بأن حديث التحريق وما جرى مجراه من الأمور الفظيعة لا يحتمله قلب كل مسلم يخاف يوم الحساب فكيف له أن يسلّم بها.

2 - قال في الجزء السابع عشر من شرحه لنهج البلاغة:

(وأما حديث الهجوم على بيت فاطمة عليها السلام فقد تقدم الكلام فيه، والظاهر عندي: صحة ما يرويه المرتضى والشيعة، ولكن لا كل ما يزعمونه؛ بل كان بعض ذلك؛ وحق لأبي بكر أن يندم ويتأسف على ذلك، وهذا يدل على قوة دينه وخوفه من الله تعالى)(2).

أقول:

1 - وهذا النص أوضح من السابق في حالة التردد التي كان يمر بها ابن أبي الحديد المعتزلي فهو بين ثبوت صحة ما وقع من جريمة تحريق بيت فاطمة وقتلها وجنينها فهذا الذي يرويه المرتضى والشيعة فضلاً عن كسر ضلعها ولطم خدها

ص: 160


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 2، ص 21-22، بتحقيق أبو الفضل إبراهيم.
2- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 17، ص 168.

وضربها بالسوط؛ يعود ابن أبي الحديد فيحاول التنصل مما ثبت عنده من صحة هذه الأحداث فيقول:

(ولكن لا كل ما يزعمونه، بل كان بعض ذلك)، ولم يفصح لنا المعتزلي عن الكل الذي روته الشيعة وعن البعض الذي وجده من هذا الكل صحيحاً؟

2 - لقد بدا واضحاً لدينا أن أحد أهم الأسباب التي جعلت ابن أبي الحديد يعتقد بصحة ما يرويه الشريف المرتضى والشيعة في قتل فاطمة وإحراق بيتها هو اعتراف رأس هذه العصابة والموجه والمخطط لها، أي أبو بكر بن أبي قحافة وذلك من خلال ندمه وتأسفه على ما فعل في كشف بيت فاطمة وإحراقه والهجوم عليه.

إلاّ أن المعتزلي كعادته يضع القارئ في حيرة ولم يلمس منه أي الأحداث ثبت لديه واعتقد بصحته، هل ندم أبو بكر وتأسفه على ما اقترفت يداه في هذه الفظائع؛ أم (قوة دينه وخوفه من الله تعالى - كما يزعم ابن أبي الحديد -) هو الذي دفعه لهذا الندم والتأسف.

والسؤال المطروح متى كان أبو بكر خائفاً من الله تعالى، هل كان خائفاً قبل اعطائه الأمر لعمر بن الخطاب:

(إن أبوا فقاتلهم)؛ أم بعد الهجوم على عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرق البيت بمن فيه؟!

فإن كان خائفاً من الله قبل حرق بيت فاطمة وقتلها، فكيف يخاف الله من هتك أعظم حرمات الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؟

وإن كان بعد قتل فاطمة وجنينها وإرعاب الحسن والحسين عليهم السلام

ص: 161

فهو ليس خوفاً من الله، بل من نار الله التي أعدها لمن آذى رسوله فقال سبحانه:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً)(1).

ومن يلعنه الله تعالى لا تدركه الرحمة فحاله في ذاك حال إبليس الذي استحق العذاب والخلود في النار:

(وَعْدَ اَللّٰهِ لاٰ يُخْلِفُ اَللّٰهُ وَعْدَهُ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّٰاسِ لاٰ يَعْلَمُونَ)(2).

3 - قال في الجزء العشرين من شرحه للنهج:

(وأما ما ذكره - أي الشريف المرتضى رحمه الله - من الهجوم على دار فاطمة عليها السلام وجمع الحطب لتحريقها فهو خبر واحد غير موثوق به ولا معول عليه في حق الصحابة، بل ولا في حق أحد من المسلمين ممن ظهرت عدالته).

وأقول:

1 - نعم، فمن ظهرت عدالته من المسلمين لا يقدم على أمر شنيع كهذا وأي ذنب أشنع من جمع الحطب حول دار فاطمة وإضرام النار فيه والهجوم على أهله، ومن هم أهله؟!!

أهل محمد سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، فضلاً عما نزل فيهم من الذكر الحكيم.

2 - أما كونه غير معوّل عليه في حق الصحابة؛ فهذا خلاف القرآن والسنة،

ص: 162


1- سورة الأحزاب، الآية: 57.
2- سورة الروم، الآية: 6.

وذلك لما يأتي:

ألف: أما القرآن فقد نزلت سورة كاملة في بيان صفات المنافقين، وقد ثبت عند أئمة الحديث والرجال: أن الصحابي: هو من شاهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسمع منه حديثاً؛ ولولا وجود المنافقين فيما بين الصحابة لما احتاج أهل السنة والجماعة إلى علم الجرح والتعديل، كما لما كانوا قد احتاجوا إلى إفراد الأحاديث بين الصحيح والضعيف والمكذوب والمرسل فكانت الصحاح الستة والمستدركات ولجمعت أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلها دون تمييز وتمحيص.

وعليه:

فإن وجود المنافقين والكذابين والمدلسين فيما بين الصحابة ينفي تحقق العدالة فيهم جميعاً على حد سواء، إلاّ من ثبتت عدالته بالدليل القاطع؛ وإلاّ كان المعتقد بعدالة جميع الصحابة لكونهم شاهدوا أو سمعوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معترضاً ومنكراً عمداً لكتاب الله تعالى وأحكامه.

باء: وأما ما ورد في السنة فقد ذكر فيما مضى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي أخرجها البخاري ومسلم وغيرهما، وهي تنص على انقلاب الصحابة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنهم أحدثوا من بعده ورجعوا على أعقابهم رجوعاً قهقرياً حتى لا يخلص ولا ينجو منهم إلاّ القليل، وإن هؤلاء الذين انقلبوا من بعده وأحدثوا الفتنة في الأمة يقادون بسياط من نار إلى جهنم وبئس المصير.

ص: 163

من هنا:

فقول ابن أبي الحديد المعتزلي: إن جمع الحطب لتحريق بيت فاطمة عليها السلام غير معول عليه في حق الصحابة، كلام سخيف ومخالف للقرآن والسنة.

3 - أما قوله، إن (الهجوم على دار فاطمة وجمع الحطب لتحريقها فهو خبر واحد وغير موثوق به)، فنقول:

ألف: لم يكن هذا الحديث من الآحاد، بل ذكره أئمة الحديث بسند صحيح وعليه: فهو مما يوثق به.

باء: تناولنا في مسألة إحراق بيت فاطمة عليها السلام بعض المصادر التي اعتمد وثوقها أهل السنة والجماعة والتي أثبتت صحة حديث التحريق لبيت فاطمة صلوات الله عليها بيد عمر بن الخطاب وعصابته الذين اقتحموا بيت فاطمة عليها السلام مما أدى إلى قتلها وقتل جنينها المحسن وغير ذلك من الفظائع؛ ونحن إذ نوردها هنا أي هذه الأحاديث تسهيلاً للقارئ وقطعاً للطريق على المعترض والمعاند والمدلس(1).

ص: 164


1- أنظر في ظاهرة التدليس التي تضحك الثكلى ما ذكره علي محمد الصلابي في كتابه الحسن بن علي في تعليقه على حديث دخول عمر إلى بيت فاطمة عليها السلام بعد أن أورد الحديث المبتور الذي بتر منه تصريح عمر بن الخطاب وتهديده لفاطمة بحرق بيتها بمن فيه إن عاد بعض الصحابة إلى بيتها، ثم يرشد القارئ إلى أنه هو الحديث الصحيح؛ والأعجب من ذلك إيراده في هامش الكتاب تحت الرقم واحد الذي وضعه عند قوله: وهذا هو الثابت الصحيح: فيرجعه إلى: أخرجه ابن أبي شيبة: 567/14، إسناده صحيح؛ ظنّاً منه أنه بهذا التدليس على القارئ لا يعود إلى مصنف ابن ابي شيبة فيكتشف كذبه وتدليسه، فقد أورد ابن أبي شيبة في مصنفه حديث التحريق وتهديد عمر لفاطمة وحرق بيتها بمن فيه بسند صحيح.

1 - أخرج ابن أبي شيبة الكوفي (المتوفى سنة 235 ه -).

(حدثنا محمد بن بشر، نا عبيد الله بن عمر، حدثنا زيد بن أسلم، عن أبيه أسلم، أنه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم كان علي والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطاب خرج حتى دخل على فاطمة فقال:

يا بنت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - والله ما من أحد أحب إلينا من أبيك، وما من أحد أحب إلينا من بعد أبيك منك، وأيم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك، أن أمرتهم أن يحرق عليهم البيت.

قال: فلما خرج عمر جاؤوها فقالت:

«تعلمون أن عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرقن عليكم البيت، وأيم الله ليمضين لما حلف عليه، فانصرفوا راشدين، فروا رأيكم ولا ترجعوا إليّ».

فانصرفوا عنها فلم يرجعوا إليها حتى بايعوا لأبي بكر)(1).

2 - ورواه ابن ابي عاصم عن ابن أبي شيبة بسنده وساق الحديث(2).

3 - ورواه المعتزلي في شرح النهج(3).

ص: 165


1- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8، ص 572، بتحقيق سعيد اللحام.
2- المذكر والتذكير لابن أبي عاصم: ج 92.
3- شرح نهج البلاغة: ج 2، ص 45.

في المقابل نجد أن بعض الحفاظ اتبعوا في ذلك ما كان عليه ابن أبي الحديد فقد رواه إمام الحنابلة في فضائل الصحابة وقد حذف تهديد عمر لفاطمة بتحريق بيتها بمن فيه(1).

4 - أخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرك(2).

5 - الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي(3).

وقد أخرجه ابن عبد البر بدون ذكر تهديد التحريق بالنار وإنما كان مطلق التهديد(4).

وهذا يكشف عن وقوع هذه الفظائع ابتداءً من جمع الحطب والتحريق وقتل فاطمة وجنينها، وإن أولائك المدافعين عن الباطل سيلقون مصير الظالمين لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 166


1- فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: ج 2، ص 17، برقم 532.
2- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 169، برقم 4736.
3- الصواعق المحرقة: ج 2، ص 520، ط دار الرسالة بيروت.
4- الاستيعاب: ج 3، ص 975.

المبحث الثاني: الحرب الاقتصادية على فاطمة عليها السلام

اشارة

بعد أن جرت الأحداث الفظيعة على فاطمة عليها السلام كما مرّ في المبحث السابق لم تكتف تلك السلطة الحاكمة بهذه الأضرار الجسدية والنفسية التي أفرزها اقتحام بيت فاطمة عليها السلام وإرهاب أطفالها وترويعهم.

وإنما تحول القوم، أي أبو بكر وعمر بن الخطاب ومن التف حولهم من الحرب العسكرية وحرب العصابات المسلحة إلى الحرب الاقتصادية ومحاصرة فاطمة وعلي وولديهما من جميع حقوقهما الشرعية التي فرضتها الشريعة الإسلامية وخصصها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهي:

1 - إرثها من أبيها صلى الله عليه وآله وسلم ممثلاً بمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المعروف بالحوائط السبعة والعوالي.

2 - نحلتها التي نحلها إياها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممثلاً بذلك بأرض فدك.

3 - خمس خيبر.

ص: 167

وبذلك تكون فاطمة وبعلها وولداها قد منعوا من جميع المصادر المالية كي لا تقوم لأهل هذا البيت قائمة بعد رحيل سيد هذا البيت وعموده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فكيف جرت هذه الحرب الاقتصادية على فاطمة وبعلها وولديها صلوات الله عليهم أجمعين؟

المسألة الأولى: قيام السلطة الحاكمة بحبس أموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنع فاطمة من إرثها

اشارة

قبل التعرف على ما ترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من أموال منقولة ينبغي الرجوع أولاً إلى حقيقة قيام السلطة الحاكمة بحبس أموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنع فاطمة عليها السلام من إرثها.

1 - عن عائشة، أنها قالت: (إن فاطمة عليها السلام أرسلت إلى أبي بكر تسأله عن ميراثها من رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم، وهي حينئذ تطلب ما كان لرسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم بالمدينة، وفدك، وما بقي من خمس خيبر.

فقال أبو بكر:

إن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - قال:

«لا نورث ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال».

وإني والله لا أغيّر شيئاً من صدقات رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -.

ص: 168

فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئاً، فوجدت من ذلك على أبي بكر وهجرته فلم تكلمه حتى توفيت)(1).

دلالات الرواية:

1 - إن أموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

ألف: أمواله في المدينة.

باء: أرض فدك.

جيم: خمس خيبر.

وهذه الأموال جاءت فاطمة عليها السلام تطالب بها السلطة الحاكمة وذلك بعد حبسها ومصادرتها وجعلها من ضمن أموال السلطة، والدليل على ذلك: هو مطالبة فاطمة عليها السلام فلو لم يصادرها أبو بكر ويحبسها عن فاطمة بكونها الوريث الوحيد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما جاءت تطالب بحقها منه.

2 - إطلاق اسم جديد على هذه الأموال وعنوان فقهي تشريعي يمكن السلطة من مصادرة هذه الأموال لحسابه كي يتصرف فيها ما يشاء، فسميت ب - (صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) أي: نفي الملكية الخاصة عن هذه الأموال إلى الملكية العامة فتنفق بحسب ما تراه السلطة التي وضعت يدها على هذه الأموال.

ولذلك: نجد في كتب التاريخ والسيرة وغيرها أن هذه الأموال تسمى بصدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كي يضيع معها أي حق لفاطمة

ص: 169


1- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين: ج 4، ص 210.

عليها السلام يمكن أن يلتفت إليه المسلمون فيما بعد وعلى مرور الزمن.

3 - إن أبا بكر كان يدرك جيداً أن هذه الأموال هي مما يستعين به آل محمد على مؤونتهم وذلك أن الله تعالى كان قد حرم عليهم الصدقة وأباح لهم الخمس وما ورثته فاطمة من أموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما أفاء الله تعالى عليه - كما سيمر بيانه -.

وعليه:

أصبح آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم بين مطرقة حرمة الصدقات فلا يجوز لهم أكل الصدقة وبين حبس الخمس فمن أين يأكلون؟! ولذا: كان حصاراً بعنوان شرعي حتى يتم القضاء على أهل بيت فاطمة عليها السلام.

4 - إن فاطمة عليها السلام بحرمانها من حقها ومصادرة أموالها التي ورثتها ومنع الخمس عنها، نتج عنه غضبها على أبي بكر فلم تكلمه حتى انتقلت إلى بارئها لتشكو إليه ما نزل بها من الظلم، وقد ثبت في الصحاح عنه صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن الله يرضى لرضا فاطمة - عليها السلام - ويغضب لغضبها».

ولكن ما هي أموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة، وفدك، وخمس خيبر؟!

أولاً: ما حجم أموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة؟
اشارة

كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أموال كثيرة في المدينة المنورة وقد جاءت إليه هدية خالصة لنفسه وهي كالآتي:

ص: 170

ألف: الحوائط السبعة؛ أو أرض العوالي التي كانت لمخيريق اليهودي

وهذه الأرض مكونة من سبعة بساتين عامرة ومليئة بالنخيل والأشجار، فضلاً عن زراعتها بكثير من الحاصلات الأرضية كالخضار.

وقد جاءت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتقلت إليه من خلال وصية أوصى بها المالك لهذه الحوائط السبعة أي البساتين - (مخيريق اليهودي) وقد نص على انتقالها أهل السير، فمما قالوا:

1 - قال ابن إسحاق (المتوفى سنة 150 ه -) وهو أول من صنف السيرة النبوية:

(وكان من حديث مخريق، وكان حبراً عالماً، وكان رجلاً غنياً كثير الأموال من النخل وكان يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم بصفته، وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك، حتى إذا كان يوم أحد، وكان يوم أحد يوم السبت، قال: يا معشر يهود، والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق، قالوا: إن اليوم يوم السبت، قال: لا سبت لكم، ثم أخذ سلاحه، فخرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم (وأصحابه) بأحد، وعهد إلى من وراءه من قومه: إن قتلت هذا اليوم، فأموالي لمحمد (صلى الله عليه - وآله - وسلم) يصنع فيها ما أراه الله، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم - فيما بلغني - يقول:

«مخيريق خير يهود».

وقبض رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم أمواله، فعامة صدقات

ص: 171

رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم بالمدينة منها)(1).

2 - وروى ابن أبي شبة النميري في تاريخ المدينة أسماء هذه الحوائط السبعة وسبب تسميتها بهذه الأسماء فقال: (عن ابن شهاب الزهري، قال: كانت صدقات رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم أموالاً لمخيريق اليهودي، قال عبد العزيز بلغني أنه كان - أي مخريق من بقايا بني قينقاع - وأوصى مخريق بأمواله للنبي صلى الله عليه - وآله - وسلم، وشهد أحداً فقتل بها، فقال رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«مخيريق سابق اليهود، وسلمان سابق الفرس، وبلال سابق الحبشة».

وأسماء أموال مخيريق التي صارت للنبي صلى الله عليه - وآله - وسلم: الدلال، وبرقة، والأعواف، والصافية، والمشيب، وحسنى، ومشربة أم إبراهيم.

فأما الصافية والبرقة والدلال والمنيب، فمجاورات بأعلى السورين من خلف قصر مروان بن الحكم، فيسقيها مهزور.

وأما مشربة أم إبراهيم فيسقيها مهزور، فإذا خلفت بيت مدراس اليهود، فحيث مال أبي عبيدة بن عبد الله بن زمعة الأسدي، فمشربة أم إبراهيم إلى جنبه، وإنما سميت (مشربة أم إبراهيم) لان أم إبراهيم من رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم ولدته فيها، وتعلقت حين ضربها المخاض بخشبة من خشب تلك المشربة، فتلك الخشبة اليوم معروفة في المشربة.

ص: 172


1- السيرة النبوية لابن هشام: ج 2، ص 362؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 1، ص 501؛ تاريخ المدينة لابن شبة: ج 1، ص 173؛ الأحكام السلطانية للماوردي: ص 169.

وأما حسنى فيسقيها مهزور وهي من ناحية القف.

وأما الأعواف فيسقيها أيضا مهزور، وهي أموال بني محمم.

- قال أبو غسان: وقد اختلف في الصدقات، فقال: بعض الناس هي أموال قريظة والنضير.

- فحدثني عبد العزيز بن عمران، عن أبان بن محمد البجلي، عن جعفر بن محمد، عن أبيه قال: كانت (الدلال) لامرأة من بني النضير، وكان لها سلمان الفارسي، فكاتبته على أن يحييها لها ثم هو حر، فأعلم ذلك النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم، فخرج إليها فجلس على فقير، ثم جعل يحمل إليه الودي فيضعه بيده، فما عدت منها ودية أن أطلعت. قال: ثم أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه - وآله - وسلم.

قال: والذي تظاهر عندنا أنها من أموال النضير، ومما يدل على ذلك أن مهزورا يسقيها، ولم يزل يسمع أنه لا يسقي إلا أموال بني النضير.

- قال: وقد سمعنا بعض أهل العلم يقول: إن برقة والميثب للزبير بن باطا، وهما اللتان غرس سلمان، وهما مما أفاء الله من أموال بني قريظة ويقال: كانت (الدلال) من أموال بني ثعلبة من اليهود، و (حسنى) من أموالهم، و (مشربة أم إبراهيم) من أموال بني قريظة، و (الأعواف) كانت لخنافة اليهودي من

بني قريظة، والله أعلم أي ذلك الحق، وقد كتبناه على وجهه كما سمعنا)(1).

ص: 173


1- تاريخ المدينة لابن شبة النميري: ج 1، ص 173-175؛ أنساب الأشراف للبلاذري: ج 1، ص 518.
باء: أرضه من أموال بني النضير

قال الماوردي:

(وهي أول أرض أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فأجلاهم عنها وكف عن دمائهم وجعل ما حملته الإبل من أموالهم إلاّ السلاح، فخرجوا بما استقلت أبلهم إلى خيبر والشام وخلصت أرضهم كلها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ ما كان ليمين بن عمير وأبي سعد بن وهب فإنهما أسلما قبل الظفر، فأحرز لهما إسلامهما ثم قسم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما سوى الأرضين من أموالهم على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلاّ سهل بن حنيف وأبا دجانة سماك بن خرشة فإنهما ذكرا فقرا فأعطاهما وحبس الأرضين على نفسه فكانت من صدقاته حيث يشاء وينفق منها على أزواجه، ثم سلمها عمر ابن الخطاب إلى العباس بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب عليه السلام)(1).

جيم: ثلاثة حصون من خيبر

كانت خيبر من الأماكن التي استملكها اليهود وبنوا فيها مجموعة من الحصون بلغ عددها ثمانية حصون كانوا يتحصنون بها من كل عدو.

ولما فتح الله تعالى عليه خيبر جاءته ثلاثة منها سلماً وصلحاً، وفي ذلك يقول الماوردي (وَكَانَتْ ثَمَانِيَةَ حُصُونٍ: نَاعِمَ وَالْقُمُوصَ وَشَقَّ وَالنَّطَاةَ وَالْكَتِيبَةَ وَالْوَطيحَ وَالسَّلالِمَ وَحِصْنَ الصَّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ، وَكَانَ أَوَّلَ حِصْنٍ فَتَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ - وآله - وَسَلَّمَ مِنْهَا نَاعِمٌ وَعَنْهُ قُتِلَ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ

ص: 174


1- الأحكام السلطانية للماوردي: ص 169.

وَالثَّانِي الْقُمُوصُ وَهُوَ حِصْنُ ابْنِ أَبِي الْحَقِيقِ، وَمِنْ سَبْيِهِ

(اصْطَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ - وآله - وَسَلَّمَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَكَانَتْ عِنْدَ كِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحَقِيقِ فَأَعْتَقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ - وآله - وَسَلَّمَ وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقَهَا).

ثُمَّ حِصْنَ الصَّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ وَكَانَ أَعْظَمَ حُصُونِ خَيْبَرَ وَأَكْثَرَهَا مَالاً وَطَعَامًا وَحَيَوَانًا، ثُمَّ شَقَّ وَالنَّطَاةَ وَالْكَتِيبَةَ فَهَذِهِ الْحُصُونُ السِّتَّةُ فُتِحَتْ عَنْوَةً، ثُمَّ افْتَتَحَ الْوَطْيحَ وَالسَّلالِمَ وَهِيَ آخِرُ فُتُوحِ خَيْبَرَ صُلْحًا بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُمْ بِضْعَ عَشْرَة لَيْلَةَ فَسَأَلُوهُ أَنْ يَسِيرَ بِهِمْ وَيَحْقِنَ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ، وَمَلَكَ مِنْ هَذِهِ الْحُصُونِ الثَّمَانِيَةِ ثَلاثَةَ حُصُونٍ الْكَتِيبَةَ وَالْوَطيحَ وَالسَّلالِمَ: أَمَّا الْكَتِيبَةُ فَأَخَذَهَا بِخُمُسِ الْغَنِيمَةِ.

وَأَمَّا الْوَطيحُ وَالسَّلالِمُ فَهُمَا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ لأنهُ فَتَحَهَا صُلْحًا، فَصَارَتْ هَذِهِ الْحُصُونُ الثَّلاثَةُ بِالْفَيْ ءِ وَالْخُمُسِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ - وآله - وَسَلَّمَ فَتَصَدَّقَ بِهَا وَكَانَتْ مِنْ صَدَقَاتِهِ.

وَقَسَّمَ الْخَمْسَةَ الْبَاقِيَةَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَفِي جُمْلَتِهَا وَادِي خَيْبَرَ وَوَادِي السَّرِيرِ وَوَادِي حَاضِرٍ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا، وَكَانَتْ عِدَّةُ مَنْ قُسِمَتْ عَلَيْهِ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَهُمْ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ خَيْبَرَ وَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَلَمْ يَغِبْ عَنْهَا إلاّ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَسَمَ لَهُ كَسَهْمِ مَنْ حَضَرَهَا، وَكَانَ فِيهِمْ مِائَتَا فَارِسٍ أَعْطَاهُمْ سِتَّمِائَةِ سَهْمٍ، وَأَلْفٌ وَمِائَتَا سَهْمٍ لألفٍ وَمِائَتَيْ رَجُلٍ، فَكَانَتْ سِهَامُ جَمِيعِهِمْ أَلْفًا وَثَمَانِمِائَةِ سَهْمٍ، أَعْطَى لِكُلِّ مِائَةٍ سَهْمًا فَلِذَلِكَ صَارَتْ خَيْبَرُ مَقْسُومَةً عَلَى ثَمَانِيَةَ

ص: 175

عَشَرَ سَهْمًا)(1).

دال: أرض فدك

(كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما فتح خيبر جاءه أهل فدك فصالحوه بسفارة محيصة بن مسعود على أن لهم نصف أرضهم ونخلهم يعاملهم عليه ولهم النصف الآخر، فصار النصف منها من صدقاته معاملة مع أهلها بالنصف من ثمرتها والنصف الآخر خالصاً لهم إلى أن أجلاهم عمر بن الخطاب فيمن أجلاه من أهل الذمة عن الحجاز فقوم فدك ودفع إليهم نصف القيمة فبلغ ذلك ستين ألف درهم، وكان الذي قوّمها مالك بن التيهان وسهل بن أبي حتمة وزيد بن ثابت، فصار نصفها من صدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ونصفها الآخر لكافة المسلمين، ومصرف النصفين الآن سواء)(2).

وقد نحل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الأرض لفاطمة عليها السلام قبل وفاته بأمر من الله تعالى كما سيمر بيانه في المسألة القادمة.

هاء: الثلث من أرض وادي القرى

وهو وادٍ بين المدينة والشام، ما بين تيماء وخيبر؛ وسمي بوادي القرى: لأن الوادي من أوله إلى آخره مكون من عدة قرى، يقع قسمٌ منها على طريق حاج الشام وكان يسكنها اليهود.

وهذه الأرض كانت مقسمة إلى ثلاثة أثلاث فثلثها الأول كان لبني عذرة،

ص: 176


1- الأحكام السلطانية: ص 170.
2- الأحكام السلطانية: ص 170؛ تركة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لحماد بن إسحاق: ص 79.

وثلثها الثاني والثالث كان لليهود، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على نصفه، فصارت أثلاثاً: ثلثها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو من صدقاته، وثلثها لبني عذرة، إلى أن أجلاهم عمر بن الخطاب، وقومت في زمانه فكانت قيمتها تسعين ألف دينار)(1).

واو: موضع سوق بالمدينة يقال له: مهروذ أو مهروز

واو: موضع سوق بالمدينة يقال له: مهروذ أو مهروز(2)

فهذا حجم أموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير المنقولة وجميعها كانت في المدينة وقد قام أبو بكر بحبسها ومصادرتها وجعلها في ميزانية الحكومة الجديدة وجميعها من حق فاطمة عليها السلام تحت عنوان إرثها من أبيها صلى الله عليه وآله وسلم فجعلها أبو بكر وعمر صدقة كي تخرج من يدي بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

سعياً منهم بسد المنافذ على علي وفاطمة من التمكن في إنفاق درهم واحد في المطالبة بحق علي عليه السلام في خلافة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيستعين به كما استعان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بمال خديجة في قيام الإسلام.

ثانيا: أموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير المنقولة

وسوى هذه الأموال من الأراضي والبساتين كان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أموال أخرى وهي منقولة فكانت كالآتي:

ص: 177


1- الأحكام السلطانية: ص 170.
2- المصدر السابق.

1 - قال الحسن بن الوشاء: سألت مولانا أبا الحسن علي بن موسى الرضا عليه السلام: هل خلف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير فدك شيئاً؟ فقال أبو الحسن عليه السلام:

«إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خلف حيطاناً بالمدينة صدقة(1)، وخلف ستة أفراس، وثلاث نوق (العضباء، والصهباء، والديباج، وبغلتين: الشهباء والدلدل، وحماره اليعفور، وشاتين حلوبتين وأربعين ناقة حلوباً، وسيفه ذا الفقار، ودرعه ذات الفضول، وعمامته السحاب، وحبرتين يمانيتين وخاتمه الفاضل، وقضيبه الممشوق، وفراشاً من ليف، وعباءتين قطونتين، ومخاداً من أدم.

فصار ذلك إلى فاطمة عليها السلام ما خلا درعه وسيفه وعمامته وخاتمه فإنه جعلها لأمير المؤمنين عليه السلام»)(2).

2 - روى الشيخ الكليني والصدوق رحمهما الله تعالى عن أبان بن عثمان عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:

(لما حضرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الوفاة دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين عليه السلام فقال للعباس:

«يا عم محمد تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته؟».

ص: 178


1- أطلق الإمام الرضا عليه السلام على هذه الحوائط السبعة ب - (الصدقة) وذلك لأنها عرفت فيما بين الناس بصدقات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولذا أسماها للوشاء بما اشتهرت به وعرفت وهو لا يدل على كونها من الأصل كانت صدقة، لأن ذلك مخالف لما هو ثابت في العقيدة الإسلامية من عدم تصدق رسول الله منها على المسلمين فهي ماله الذي انتقل إلى ابنته فاطمة.
2- وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 26، ص 103.

فرد عليه فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني شيخ كثير العيال قليل المال من يطيقك وأنت تباري الريح، قال: فأطرق صلى الله عليه وآله هنيئة ثم قال:

«يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه؟».

فقال: بأبي أنت وأمي شيخ كثير العيال قليل المال وأنت تباري الريح، قال: أما إني سأعطيها من يأخذها بحقها ثم قال:

«يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه؟».

فقال:

«نعم بأبي أنت وأمي ذاك علي ولي».

قال: فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من أصبعه فقال:

«تختم بهذا في حياتي».

قال:

«فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في أصبعي فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم».

ثم صاح:

«يا بلال علي بالمغفر والدرع والراية والقميص وذي الفقار والسحاب والبرد والأبرقة والقضيب».

قال:

«فوالله ما رأيتها غير ساعتي تلك - يعني الأبرقة - فجيء بشقة كادت تخطف الابصار فإذا هي من أبرق الجنة».

فقال:

ص: 179

«يا علي إن جبرئيل أتاني بها وقال: يا محمد اجعلها في حلقة الدرع واستدفر بها مكان المنطقة».

ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعا أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف والقميصين: القميص الذي أسري به فيه والقميص الذي خرج فيه يوم أحد، والقلانس الثلاث: قلنسوة السفر وقلنسوة العيدين والجمع، وقلنسوة كان يلبسها ويقعد مع أصحابه، ثم قال:

«يا بلال علي بالبغلتين: الشهباء والدلدل، والناقتين: العضباء والقصوى والفرسين: الجناح».

كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله صلى الله عليه وآله يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله صلى الله عليه وآله وحيزوم وهو الذي كان يقول:

«أقدم حيزوم والحمار عفير».

فقال:

«أقبضها في حياتي».

فذكر أمير المؤمنين عليه السلام:

«أن أول شيء من الدواب توفي عفير ساعة قبض رسول الله صلى الله عليه وآله قطع خطامه ثم مر يركض حتى أتى بئر بني خطمة بقباء فرمى بنفسه فيها فكانت قبره».

وروي أن أمير المؤمنين عليه السلام قال:

ص: 180

«إن ذلك الحمار كلم رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: بأبي أنت وأمي إن أبي حدثني، عن أبيه، عن جده، عن أبيه أنه كان مع نوح في السفينة فقام إليه نوح فمسح على كفله ثم قال: يخرج من صلب هذا الحمار حمار يركبه سيد النبيين وخاتمهم، فالحمد لله الذي جعلني ذلك الحمار»)(1).

فهذه أملاك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المنقولة وغير المنقولة والتي جاءته من خلال الخمس، والهبة، والفيء، والغنيمة وقد انتقلت ملكيتها إلى الزهراء صلوات الله عليها فبعضها انتقل إليها من عنوان الهبة والنحل، وبعضها كان بالإرث وقد حبسها جميعاً أبو بكر وعمر وصادراها، لاسيما أرض فدك التي كانت أعظم هذه الأموال وأكثرها أثراً على المستوى المالي والجباية وعلى المستوى الاستراتيجي والسياسي والعقائدي وذلك لكونها جاءتها أثناء حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبأمر من الله تعالى وكانت تقبض إيرادها المالي وتنظر في إصلاحها وشؤونها أثناء حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

مما أكسبها أي هذه الأرض خصوصية وشأنية لأنها تحمل معها عنوان الشأنية والعناية الإلهية بفاطمة وذريتها ومن ثم أراد الحاكم الجديد قطع جذور هذه الحرمة والشأنية التي لفاطمة عند الله تعالى وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن الجانب المالي الذي كان لهذه الأرض.

وقد جاءت فاطمة عليها السلام تطالب بجميع هذه الأموال كما أسلفنا في حديث عائشة.

ص: 181


1- الكافي للشيخ الكليني: ج 1، ص 237، ح 9؛ علل الشرايع: ج 1، ص 167؛ البحار: ج 1، ص 167.

المسألة الثانية: مصادرة السلطة الحاكمة لأرض فدك وتضييق الخناق على فاطمة عليها السلام وأبعادها السياسية والعقائدية

أولاً: هوية فدك

1 - فدك: بالتحريك: وآخره كاف؛ قال ابن دريد: فدكت القطن تفديكا إذا نفشته؛ وفدك: قرية بالحجاز بينها وبين المدينة يومان، وقيل: ثلاثة(1)، أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في سنة سبع صلحاً(2).

2 - وقال ابن منظور: فدك قرية بخيبر، وقيل بناحية الحجاز فيها عين ونخل أفاءها الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم(3).

3 - وقال الطريحي: فدك، بفتحتين، قرية من قرى اليهود بينها وبين مدينة النبي صلى الله عليه وآله وسلم يومان وبينها وبين خيبر دون مرحلة(4).

4 - وجاء في المنجد قوله: فدك، واحة في الحجاز قرب خيبر، كان أهلها من المزارعين اليهود اشتهرت بتمرها وقمحها، أرسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم علياً لمحاربتهم ثم صالحهم على نصف أملاكهم سنة 7 ه - / 628 م(5).

5 - قال عبدا لله بن خميس: (إن ارض فدك وردت ضمن الأماكن التي أحتلها الملك البابلي نيوبثد الذي حكم في القرن السادس قبل الميلاد من عام 556

ص: 182


1- أي ما يقارب مائة وأربعين كيلومترا عن المدينة.
2- معجم البلدان للحموي: ج 4، ص 238.
3- لسان العرب: مادة (فدك)، ج 10، 473.
4- مجمع البحرين للطريحي: ج 5، ص 283، بتحقيق أحمد الحسيني.
5- المنجد في الاعلام: ص 407، الطبعة الحادية والعشرون.

إلى عام 539(1).

6 - وتعرف حالياً ضمن المخطط البلدي لمحافظة الحناكية في السعودية ضمن أودية المحرّة الشرقية، أودية الحويط (يديع) والحائط وهو الإسم الجديد الذي سميت به فدك في الوقت المعاصر(2).

ثانياً: قيمتها الاقتصادية

تكشف الأقوال السابقة بأن أرض فدك كانت مكونة من قرية كبيرة قديماً وحديثاً وأنها عرفت بخصوبة أرضها وعذوبة مائها وذلك لوجود عين ماء فورة فيها مما أكسبها هذه الخصوبة والجودة في المحصول الزراعي المتمثل بأهم مادتين غذائيتين وهما التمر والحنطة.

ولقد قدر عدد نخيل فدك بعدد نخيل الكوفة في القرن السادس عشر(3)، وقدر عدد نخيلها قبل ستين عاماً بعشرين ألف نخلة(4).

أما مقدار قيمتها الاقتصادية في زمن عمر بن الخطاب فقد قيمها مالك بن التيهان وسهل بن أبي حثمة وزيد بن ثابت ب - (ستين ألف درهم)(5)، في حين كان مقدار واردها الزراعي في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ب - (مائة ألف

ص: 183


1- معجم أودية الجزيرة لعبد الله بن خميس: ج 2، ص 316.
2- فدك في الماضي والحاضر لعبد الله اليوسف: ص 14.
3- نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 16، ص 210.
4- معجم معالم الحجاز لعاتق البلادي: ج 2، ص 206، ط دار مكة المكرمة، الطبعة الأولى.
5- الأحكام السلطانية للماوردي: ص 170.

درهم)(1).

مما يعطيها ثقلاً استراتيجيا ممثلاً في قيمتها الانتاجية وقوتها الدفاعية لمن يمتلكها في مواجهة خصومه.

وعليه: فكيف لا تندفع السلطة الجديدة بحبسها ومنعها من أن تكون بيد فاطمة وعلي عليهما السلام وهم الخصوم الأساسيون لهذه السلطة كما يعتقد أهلها.

ثالثاً: كيف انتقلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟

ذكر المؤرخون وغيرهم: (إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاصر أهل خيبر في حصنيهم: الوطيح والسلالم، فلما أيقنوا بالهلكة، سألوه أن يسيرهم ويحقن دماءهم، ففعل، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد حاز الأموال كلها، الشق والنطاة، والكتيبة، وجميع حصونهم، إلاّ ما كان من هذين الحصنين، فلما سمع أهل فدك ما صنعوا، بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه, آله وسلم، فسألوه أن يسيرهم ويحقن دماءهم، ويخلوا له الأموال، ففعل، وكان فيمن مشى بينه وبينهم محيصة بن مسعود(2).

2 - وروي أيضا إن فدك أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم في سنة سبع صلحاً وذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما نزل خيبر وفتح

ص: 184


1- لسان العرب لابن منظور: ج 10، ص 473؛ معجم مااستعجم: ج 4، ص 239.
2- السيرة النبوية لابن هشام: ج 3، ص 301؛ الخراج ليحيى بن آدم: ج 1، ص 83، ح 103؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 302.

حصونها ولم يبق إلا ثلث واشتد بهم الحصار راسلوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يسألونه أن ينزلهم على الجلاء وفعل وبلغ ذلك أهل فدك فراسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يصالحهم على النصف من ثمارهم وأموالهم فأجابهم إلى ذلك فهي مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب فكانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيها عين فوارة ونخيل كثيرة(1).

3 - وروى الراوندي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال:

«إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خرج في غزاة فلما انصرف راجعاً نزل في بعض الطريق فبينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يطعم والناس معه إذ أتاه جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد قم فاركب فقام النبي صلى الله عليه وآله وسلم فركب وجبرئيل فطويت له الأرض كطي الثوب حتى انتهى إلى فدك فلما سمع أهل فدك وقع الخيل ظنوا أن عدوهم قد جاءهم فغلقوا أبواب المدينة ودفعوا المفاتيح إلى عجوم لهم في بيت لهم خارج المدينة وحلقوا برؤوس الجبال فأتى جبرئيل العجوز حتى أخذ المفاتيح ثم فتح أبواب المدينة ودار النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيوتها وقرأها، فقال جبرئيل:

يا محمد هذا ما خصك الله به وأعطاك دون الناس وهو قوله:

ص: 185


1- معجم البلدان لياقوت الحموي: ج 4، ص 238، ط دار الفكر؛ التفسير الكبير للفخر الرازي: ج 29، ص 284؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 16، ص 210؛ فتح الباري لابن حجر: ج 6، ص 140؛ وفاء الوفاء للسمهودي: ص 1280؛ كتاب الأموال لأبي عبيد: ص 16، ط مطبعة الأزهر؛ عمدة الأخبار في مدينة المختار لأحمد بن عبد الحميد العباسي: ص 387، ط المدينة المنورة؛ فتوح البلدان لياقوت الحموي: ص 51.

(مٰا أَفٰاءَ اَللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ...)(1).

وذلك في قوله:

(... فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لاٰ رِكٰابٍ وَ لٰكِنَّ اَللّٰهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ...)(2).

ولم يغزُ المسلمون ولم يطأوها ولكن الله أفاءها على رسوله وطوف به جبرئيل في دورها وحيطانها وغلق الباب ودفع المفاتيح إليه فجعلها رسول الله في غلاف سيفه وهو معلق بالرحل ثم ركب وطويت له الأرض كطي الثوب فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم على مجالسهم لم يتفرقوا ولم يبرحوا فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للناس:

قد انتهيت إلى فدك وإني قد أفاءها الله عليّ فغمز المنافقون بعضهم بعضاً فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه مفاتيح فدك ثم أخرجها من غلاف سيفه ثم ركب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وركب معه الناس فلما دخل على فاطمة عليها السلام فقال: يا بنية إن الله قد أفاء على أبيك بفدك واختصه بها فهي لي خاصة دون المسلمين أفعل بها ما أشاء وإنه قد كان لأمك خديجة على أبيك مهر وإن أباك قد جعلها لك بذلك ونحلتكها تكون لك ولولدك بعدك، قال فدعا بأديم عكاظي ودعا علي بن أبي طالب عليه السلام فقال: أكتب لفاطمة بفدك نحلة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشهد على ذلك علي بن أبي طالب ومولى لرسول الله وأم أيمن

ص: 186


1- سورة الحشر، الآية: 7.
2- سورة الحشر، الآية: 6.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إن أم أيمن امرأة من أهل الجنة وجاء أهل فدك إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقاطعهم على أربعة وعشرين ألف دينار في كل سنة»(1).

وتتفق هذه الشواهد التاريخية التي أوردها المؤرخون مع أقوال المفسرين عند أهل الجماعة في تفسير آية الفيء في سورة الحشر.

1 - (فقد جاء في التفسير الكبير للفخر الرازي أن الصحابة طلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقسّم الفيء بينهم كما قسّم الغنيمة بينهم، فذكر الله تعالى الفرق بين الأمرين، وهو أن الغنيمة ما أتعبتم أنفسكم في تحصيلها وأوجفتم عليها الخيل والركاب، بخلاف الفيء فإنكم ما تحملتم في تحصيله تعباً فكان الأمر فيه مفوّضا للرسول صلى الله عليه وآله وسلم يضعه حيث يشاء.

ثم يذكر وجهين لتفسير الآية:

الأول: أن الآية نزلت في يهود بني النضير وقراهم وليست للمسلمين يومئذٍ كثير خيل ولا ركاب ولم يقطعوا إليها مسافة كثيرة ولم يركب إلا رسول الله فلما كانت المقاتلة قليلة والخيل والركب غير حاصل، أجراه الله مجرى ما لم يحصل فيها المقاتلة أصلاً فخصّ رسول الله بتلك الأموال وجعلها من الفيء.

الثاني: أنها نزلت في يهود فدك لأن أهل فدك انجلوا عنها فصارت تلك القرى والأموال بيد رسول الله من غير حرب فكان يأخذ من غلة فدك نفقته ونفقة من يعوله(2).

ص: 187


1- الخرائج والجرائح للراوندي: ج 1، ص 112-113.
2- التفسير الكبير: ج 1، ص 506.

2 - وذكر القرطبي في تفسير قوله تعالى:

(مٰا أَفٰاءَ اَللّٰهُ...).

يعني ما ردّ الله تعالى على رسوله من أموال بني النضير، فقال:

(... فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ...).

أو صنعتم عليه، يقول: لم تقطعوا إليها مشقة ولا لقيتم بها حرباً ولامشقة، وإنما كانت من المدينة على ميلين قاله الفرّاء، فمشوا إليها مشياً ولم يركبوا خيلاً ولا إبلاً، إلاّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإنه ركب جملاً فافتتحها صلحاً وأجلاهم وأخذ أموالهم، فسأل المسلمون النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقسّم لهم فنزلت:

(وَ مٰا أَفٰاءَ اَللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ...).

فجعل أموال بني النضير للنبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة يضعها حيث يشاء وفي صحيح مسلم عن عمر كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل ولا ركاب وكانت للنبي خاصة(1).

3 - ويذكر الطبري في تأويل قوله تعالى:

(وَ مٰا أَفٰاءَ اَللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ...).

يقول تعالى ذكره: والذي ردّه الله على رسوله منهم، يعني من أموال بني النضير.. يقول فما أوضعتم فيه من خيل ولا إبل وهي الركاب، وإنما وصف جلّ

ص: 188


1- الجامع لأحكام القرآن: ج 18، ص 10-11.

ثناؤه الذي أفاءه على رسوله منهم بأنه لم يوجف عليه بخيل من أجل أن المسلمين لم يلقوا في ذلك حرباً، ولا كلفوا فيه مؤونة، وإنما كان القوم معهم، وفي بلدهم، فلم يكن فيه إيجاف خيل ولا ركاب وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل(1).

4 - وذهب ابن كثير في تفسير الآية إلى أنّ الفيء كل مال أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، كأموال بني النضير هذه فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، أي لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم من هيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأفاءه على رسوله، ولهذا تصرّف فيه كما يشاء، فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح التي ذكرها الله عزّ وجل في هذه الآيات فقال تعالى:

(وَ مٰا أَفٰاءَ اَللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ...).

أي من بني النضير.

(... فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لاٰ رِكٰابٍ...).

ثم قال تعالى:

(مٰا أَفٰاءَ اَللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرىٰ...).

أي جميع البلدان التي تفتح هكذا فحكمها حكم أموال بني النضير، ولهذا قال تعالى:

(... فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ...).

ص: 189


1- جامع البيان في تفسير القرآن: مج 12، ج 28، ص 24.

إلى آخرها والتي بعدها فهذه مصارف أموال الفيء ووجوهه(1).

5 - وجاء في الدر المنثور في التفسير بالمأثور أنه قال: أخرج عبد الحميد عن قتادة قال في تفسير قوله تعالى:

(وَ مٰا أَفٰاءَ...).

الآية قال: ما قطعتكم إليها وادياً ولا سيّرتم إليها دابة ولا بعيراً إنما كانت حوائط لبني النضير أطعمها الله رسوله.

6 - وأخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن منذر عن عمر بن الخطاب قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله فكانت لرسول الله خاصة(2).

ثم يذكر عدة روايات من مصادر مختلفة تدور حول نفس الموضوع.

7 - وقد ذهب إلى مثل هذا القول غالب مفسري العامة، كالآلوسي البغدادي في روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني، وتفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل، لصاحبه علاّمة الشام محمد جمال الدين القاسمي.

وبناءً على هذا يمكن القول: بأن البلدان والأماكن التي يفتحها المسلمون، إما أن تفتح بواسطة القتال وركوب الخيل وسفك الدماء، وهي المسماة (مفتوح العنوة) وهذه نطبّق عليها أحكام الغنيمة يقول تعالى:

(وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ

ص: 190


1- تفسير القرآن العظيم: ج 16، ص 601-602.
2- الدر المنثور في التفسير بالمأثور: ج 6، ص 31.

وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ...)(1).

وإما أن يسيطر عليها المسلمون بغير قتال وبدون خيل وسفك دماء فينجلي عنها أهلها، أو يسلّموها إلى المسلمين بطريق آخر كالصلح ونحوه، وهي المسماة (غير مفتوح العنوة)، وهي ما أطلق عليها في القرآن الكريم والنصوص (الفيء) في الآية السادسة من سورة الحشر، وحكم هذه الأراضي أنها لرسول الله خاصة ولا توزع على المسلمين كما يجري في الغنائم عادة)(2).

رابعاً: كيف انتقلت ملكيتها إلى فاطمة عليها السلام

يمكن لنا معرفة الكيفية التي انتقلت فيها قرية فدك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى فاطمة عليها السلام وذلك من خلال الرجوع إلى الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم السلام، وهي كالآتي:

1 - روى الشيخ الصدوق رحمه الله قال:

(لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ...)(3).

قال:

«أدعوا لي فاطمة».

فدعيت له، فقال:

ص: 191


1- سورة الأنفال، الآية: 41.
2- فدك هبة النبوة للشيخ حسن أحمد العاملي: ص 53-56.
3- سورة الإسراء، الآية: 26.

«يا فاطمة».

قالت:

«لبيك يا رسول الله».

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«هذه فدك، مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، وهي لي خاصة دون المسلمين، وقد جعلتها لك لما أمرني الله به، فخذيها لك ولولدك»(1).

2 - روى الشيخ الكليني عن الإمام أبي الحسن الرضا عليه السلام، أنه قال:

«إن الله تبارك وتعالى لما فتح على نبيّه صلى الله عليه وآله وسلم:

(وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ...).

فلم يدر رسول الله من هم فراجع في ذلك جبرائيل وراجع جبرائيل ربه فأوحى الله تعالى إليه أن أدفع فدك إلى فاطمة عليه السلام فدعاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها:

يا فاطمة إن الله أمرني أن أدفع إليك فدك؛ فقالت: قد قبلت يا رسول الله من الله ومنك؛ فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»(2).

3 - روى محمد بن سليمان الكوفي المتوفى سنة (300 ه -) عن الإمام جعفر بن

ص: 192


1- الأمالي للصدوق: ص 619.
2- الكافي للكليني: ج 1، ص 543؛ تهذيب الأحكام للطوسي: ج 4، ص 148؛ وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 9، ص 525.

محمد الصادق عليه السلام قال:

«لما نزلت:

(وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ...).

أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة وإبنيها بفدك فقالوا: يا رسول الله أمرت لهم بفدك؟ فقال: والله ما أمرت لهم بها ولكن الله أمر لهم بها ثم تلا هذه الآية:

(وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ...)»(1).

4 - وروى أبو يعلى الموصلي والقاضي المغربي عن أبي سعيد الخدري:

(إن الله عزّ وجل لما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ...).

دعا فاطمة عليها السلام فأعطاها فدك)(2).

5 - روى فرات الكوفي (عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:

«لما نزلت هذه الآية:

(وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ...).

ص: 193


1- مناقب أمير المؤمنين لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 1، ص 159.
2- مسند أبو يعلى الموصلي: ج 2، ص 334؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 3، ص 27؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 7، ص 49؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 16، ص 268؛ شواهد التنزيل للحسكاني: ج 1، ص 439.

أعطى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة فدك.

فقال أبان بن تغلب: رسول الله أعطاها؟ فغضب الإمام جعفر الصادق عليه السلام وقال:

«الله أعطاها»)(1).

فهذه الروايات الشريفة تظهر أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أعطى فدكا لفاطمة في حياته بأمر من الله تعالى حينما نزل قوله سبحانه:

(وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ...).

وإنها كانت تتصرف بها وتقبض غلتها وتنفقها على الفقراء والمساكين وابن السبيل في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولقد مرّت علينا سابقاً في مبحث كرامتها ومعاجزها كيف أن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كان حينما يأتيه سائل ولم يكن عنده ما يعطيه لهذا السائل كان يبعثه إلى فاطمة صلوات الله وسلامه عليها والسبب في ذلك هو أن فاطمة كانت بيديها فدك لكنها لم تنل من فدك شيئاً فلقد كانت تحب من هذه الدنيا الإنفاق في سبيل الله فكانت تنفق ما يأتيها من خير فدك في سبيل الله.

ولأنها في جميع أمورها تقدم الله تعالى فقد كان الله سبحانه يتحفها من خيره فينزل عليها جفنة من الجنة أو ثماراً أو خاتما كما مرّ علينا بيانه سابقاً.

لكن السلطة الجديدة التي جلست في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدون وجه شرعي صادرت هذه القرية وحبست مالها وثمارها لصالحها تنفق

ص: 194


1- تفسير فرات الكوفي: ص 239.

هذا المال في تدعيم سلطانها الجديد وتجهيز جيش خالد بن الوليد الذي خرج لبسط البيعة على القبائل العربية بعد أن أخذت البيعة عنوة وإرهاباً في المدينة.

فكذاك اليوم يأخذها خالد بن الوليد وتحت عنوان جديد اسمه (حروب الردة) فقد امتنع هؤلاء الذين قاتلهم خالد بن الوليد من تسليم الزكاة إلى السلطة الجديدة لكونها لم تكن شرعية بل غصبية غصبت الخلافة من علي بن أبي طالب الذي تمت منهم له البيعة في يوم الغدير في حجة الوداع حينما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بما أمره الله تعالى من إعلان الولي والوصي والخليفة في هذه الأمة فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«ألست أولى بكم من أنفسكم؟».

قالوا: بلى، قال:

«فمن كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه»(1).

إلاّ أن بضعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لم تكن لتهادن أو تماطل أو تتقاعس عن الدفاع عن شريعة الله تعالى وأحكامه فهذه الهبة الإلهية التي أعطاها الله تعالى لفاطمة عليها السلام لم تكن ابنة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم لتتركها لقمة سهلة يتلاقفها الظالمون، بل انتفضت على هذا الظلم والجور ودكت أركان السلطة بفصيح لسان النبوة وصولة الرسالة في مسجد أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو ما سنعرض له في المسألة القادمة.

ص: 195


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 118-119، وج 4، ص 281، وص 372، وج 5، ص 370؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 297؛ فضائل الصحابة للنسائي: ص 14؛ مستدرك الحاكم: ج 3، 111.

المسألة الثالثة: تصدي فاطمة عليها السلام للسلطة في جورها على شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

لم ينحصر خروج فاطمة ثائرة على السلطة الجديدة على المطالبة بحقها في قرية فدك وإنما كان لهذا الحراك الثوري أهداف أخرى كشفت عنها ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في خطبتها التي حاججت فيها رأس الهرم في السلطة الجديدة.

ففاطمة فضلاً عن مطالبتها بأرضها فقد طالبت بميراثها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في أمواله التي مرّ بيانها والتي تمت مصادرتها بيد السلطة الحاكمة، كما طالبت فاطمة عليها السلام بالخمس الذي عطله أبو بكر ومنعه عن بني فاطمة صلوات الله عليهم أجمعين.

فهذه المطالب الشرعية كانت بكفة في هذه الانتفاضة الفاطمية وبكفة ثانية الدفاع عن أهم أصل من الأصول في الإسلام وهو إمامة علي بن أبي طالب عليه السلام الذي به أي بهذه الإمامة في علي وولده الأحد عشر تأمن الأمة من الضلال، ومن الوقوع في الفتن وتحفظ بها شريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم من رموز الظلم وأئمة الجور والضلال.

وعليه: كان هذا الخروج الفاطمي النبوي للتصدي للسلطة التي عطلت الحدود وأدارت دفة الأمة إلى الضلال والتردي لتفترق بهذا التأسيس والقيادة إلى اثنتين وسبعين فرقة هالكة.

أما الكيفية التي خرجت بها فاطمة عليها السلام للتصدي للسلطة الحاكمة والوقوف بوجه هذا الجور فكانت كالآتي:

ص: 196

1 - أخرج البخاري وغيره عن عروة عن عائشة:

(أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم أرسلت إلى ابي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم مما أفاء الله عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم قال:

«لا نورث، ما تركناه صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال».

وإني والله لا أغير شيئاً من صدقة رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم عن حالها التي كانت عليها في عهد رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم ولأعملن فيها بما عمل به رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة عليها السلام منها شيئاً، فوجدت فاطمة على ابي بكر في ذلك فهجرته، فلم تكلمه حتى توفيت وعاشت بعد النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم ستة أشهر، فلما توفيت دفنها زوجها علي - عليه السلام - ليلاً، ولم يؤذن بها أبا بكر وصلى عليها علي - عليه السلام -)(1).

والحديث ينص على مصادرة أبي بكر لأرض فدك وأموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة مما أفاء الله تعالى عليه، وسهم خيبر من الخمس.

2 - وقد أخرج أحمد في المسند في بيان مطالبة فاطمة عليها السلام أبا بكر بإرثها؛ (فعن أبي سلمة قال:

إن فاطمة - عليها السلام - قالت لأبي بكر:

ص: 197


1- صحيح البخاري، باب مناقب المهاجرين: ج 4، ص 209؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 9.

«من يرثك إذا مت؟».

قال: ولدي وأهلي، قالت:

«فما لنا لا نرث النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم».

قال: سمعت النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم يقول:

«إن النبي لا يورث»)(1).

3 - روى علي بن إبراهيم القمي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام، أنه قال:

«لما بويع لأبي بكر واستقام له الأمر على جميع المهاجرين والأنصار بعث إلى فدك فأخرج وكيل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منها فجاءت فاطمة عليها السلام إلى أبي بكر فقالت:

يا أبا بكر منعتني عن ميراثي من رسول الله وأخرجت وكيلي من فدك فقد جعلها لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الله، فقال لها:

هاتي على ذلك شهودا؛ فجاءت بأم أيمن، فقالت: لا أشهد حتى أحتج يا أبا بكر عليك بما قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقالت أنشدك الله، ألست تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن أم أيمن من أهل الجنة؟ قال: بلى، قالت فأشهد أن الله أوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

(فَآتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ...)(2).

ص: 198


1- مسند أحمد: ج 1، ص 10؛ فتوح البلدان للبلاذري: ج 1، ص 35-36، ح 115، بلفظ آخر.
2- سورة الروم، الآية: 38.

فجعل فدك لفاطمة بأمر الله وجاء علي عليه السلام فشهد بمثل ذلك فكتب لها كتاباً بفدك ودفعه إليها فدخل عمر فقال: ما هذا الكتاب؟ فقال أبو بكر: إن فاطمة ادّعت في فدك وشهدت لها أم أيمن وعلي فاكتبت لها بفدك، فأخذ عمر الكتاب من فاطمة فمزقه وقال:

هذا فيء المسلمين؛ وقال: أوس بن الحدثان وعائشة وحفصة يشهدون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه قال إنا معاشر الأنبياء لا نورث ماتركناه صدقة، فإن عليا زوجها يجر إلى نفسه وأم أيمن فهي امرأة صالحة لو كان معها غيرها لنظرنا فيه(1).

فخرجت فاطمة عليها السلام من عندهما باكية حزينة فلما كان بعد هذا جاء علي عليه السلام إلى ابي بكر وهو في المسجد وحوله المهاجرون والأنصار، فقال: يا أبا بكر لم منعت فاطمة ميراثها من رسول الله وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال أبو بكر: هذا فيء المسلمين فإن أقامت شهوداً أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعله لها وإلا فلا حق لها فيه، فقال أمير المؤمنين عليه السلام:

يا أبا بكر تحكم فينا بخلاف حكم الله في المسلمين، قال: لا قال: فإن كان في يد المسلمين شيء يملكونه ادعيت أنا فيه من تسأل البينة قال إياك كنت أسأل البينة على ما تدعيه على المسلمين، قال: فإذا كان في يدي شيء وادعى فيه المسلمون فتسألني البينة على ما في يدي وقد ملكته في حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبعده ولم تسأل المسلمين البينة على ما ادعوا عليّ شهوداً

ص: 199


1- ذكر البلاذري وغيره رد أبو بكر شهادة علي وأم أيمن: فتوح البلدان: ص 527.

كما سألتني على ما ادعيت عليهم.

فسكت أبو بكر ثم قال عمر: يا علي دعنا من كلامك فإنا لا نقوى على حججك فإن أتيت بشهود عدول وإلا فهو فيء المسلمين لا حق لك ولا لفاطمة فيه.

فقال أمير المؤمنين عليه السلام: يا أبا بكر تقرأ كتاب الله؟ قال: نعم، قال: فأخبرني عن قول الله تعالى:

(... إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1).

فيمن نزلت: أفينا أم في غيرنا؟ قال: بل فيكم، قال: فلو أن شاهدين شهدا على فاطمة بفاحشة ما كنت صانعا؟ قال: كنت أقيم عليها الحد كما أقيم على سائر المسلمين قال: كنت إذا عند الله من الكافرين، قال: ولم؟

قال: لأنك رددت شهادة الله لها بالطهارة وقبلت شهادة الناس عليها، كما رددت حكم الله وحكم رسوله أن جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لها فدك وقبضته في حياته، ثم قبلت شهادة أعرابي بائل على عقبه عليها فأخذت منها فدك وزعمت أنه فيء المسلمين، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: البينة على من ادعى واليمين على من ادعى عليه.

قال: فدمدم الناس وبكى بعضهم فقالوا: صدق والله علي ورجع علي عليه السلام إلى منزله، قال: ودخلت فاطمة إلى المسجد، وطافت بقبر أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وهي تبكي وتقول:

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها *** واختل قومك فاشهدهم ولا تغب

ص: 200


1- سورة الأحزاب، الآية: 33.

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

قد كان جبريل بالآيات يؤنسنا

فغاب عنا وكل الخير محتجب

وكنت بدرا ونورا يستضاء به

عليك تنزل من ذي العزة الكتب

فقمصتنا رجال واستخف بنا

إذ غبت عنا فنحن اليوم نغتصب

فكل أهل له قرب ومنزلة

عند الإله على الأدنين يقترب

أبدت رجال لنا فحوى صدورهم

لما مضيت وحالت دونك الكثب

فقد رزينا بما لم يرزَهُ أحد

من البرية لا عجم ولا عرب

وقد رزينا به محضا خليقته

صاي الضرائب والأعراق والنسب

فأنت خير عباد الله كلهم

وأصدق الناس حين الصدق والكذب

فسوف نبكيك ما عشنا وما بقيت

منا العيون بهمال لها سكب

سيعلم المتولي ظلم خامتنا

يوم القيامة إني كيف ينقلب»(1)

وهذه الروايات تكشف عن تحرك علي وفاطمة عليهما السلام للدفاع عن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي عطلها أبو بكر؛ فضلاً عن تعطيل شريعة الله تعالى، فهذا المال الذي جعله الله خاصة لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم يفعل فيه ما يشاء، كيف لأبي بكر أن يجمده ويصادره، وكأنه سلطان قد انقلب على سلطان آخر وغلب عليه فوضع يده على ماله يتصرف فيه ما يشاء وليس نبياً ورسولاً منحه الله تعالى ما يشاء من فضله؟!

والعجيب في هذه التشريعات الجديدة للسلطة الحاكمة أن تبيح بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأزواجه فيسكُنَّ فيها ولا يطالبن بالشهود ولا البنية

ص: 201


1- تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2، ص 155-157.

ولا كونهن تزوجن من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ومن ثم فالأنبياء لا تورث! وكأنّ هذا القانون لا يسري إلاّ على فاطمة عليها السلام من دون أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وكيف لأبي بكر أن يعطل شهادة أحد الزوجين للآخر ويردها وها هو النووي المدافع عن سنة الشيخين يقول:

(وتقبل شهادة أحد الزوجين للآخر لأن النكاح سبب لا يعتق به أحدهما على الآخر بالملك فلم يمنع شهادة أحدهما للآخر)(1).

ولا ندري بأي شريعة حكم أبو بكر في رد شهادة علي على فرض أن لأبي بكر الحق في المطالبة بإحضار الشهود على تملك فاطمة عليها السلام لفدك وهي صاحبة اليد؛ ولذلك كان مجيئها بأم أيمن وعلي عليه السلام يكشف عن إلزام الجائر بما جار به على الشريعة؛ فضلاً عن قلة الناصر وخذلان الصديق فهل من أحد كان لا يعلم أن فاطمة قد قبضت من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدك لما نزل قوله تعالى:

(وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ...).

وهم بمسمع ومرأى من فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقوله؛ أم أنهم من ملة أخرى؟! فلم يروا ولم يسمعوا؛ أم إنهم يكتمون ما أنزل الله تعالى من شريعة؟!

ولذلك: لما لم تجد فاطمة صلوات الله عليها من ناصر أو خائف من الله

ص: 202


1- المجموع للحافظ النووي: ج 20، ص 235.

واليوم الآخر، عزمت على التصدي لهذه السلطة بحراك نبوي ورسالي وتوجهت إلى المسجد النبوي لتحاجج القوم جميعاً فقد أصبح الجميع شركاء في هذا الظلم والجور الذي أنزلوه في شريعة أبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم فكيف كانت هذه الثورة المحمدية الفاطمية؟

أولاً: الانتفاضة لحق الإمامة ورمزية فدك الثورة

حينما رأت ابنة الهادي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم أن شريعة أبيها انتهكت وأن الحدود عطلت وأن السنة أميتت والبدعة أحييت وأن القوم اتفقت كلمتهم على تغيير مسار الإسلام، عزمت على تصحيح هذا المسار وصعق الأمة بصعقة محمدية فاطمية تعيد إليها توازنها وآلية تفكيرها وتحديد مسارها، إلقاءً للحجة وبياناً للنذارة كي تسقط حجج القوم في الاعتذار وعدم معرفة عواقب الانجرار خلف الظالمين ومن بدلوا شريعة رب العالمين.

فخرجت ابنة الهادي الأمين صلى الله عليه وآله وسلم إلى المسجد، ولكن بأي كيفية؟ تقول ابنتها عقيلة الهاشميين:

(لما أجمع أبوبكر وعمر على منع فاطمة عليها السلام فدكاً، وبلغها ذلك لاثت خمارها(1) على رأسها، واشتملت بجلبابها(2)، وأقبلت في لمة(3) من حفدتها

ص: 203


1- اللوث: الطي والجمع، ولاث العمامة شدها وربطها، ولاثت خمارها لفته والخمار بالكسر: المقنعة، سميت بذلك لأن الرأس يخمر بها أي يغطى.
2- الاشتمال بالشيء: جعله شاملاً ومحيطاً لنفسه؛ والجلباب: الرداء والإزار.
3- في لمة، أي: جماعة وفي بعض النسخ في لميمة بصيغة التصغير أي: في جماعة قليلة، والحفدة بالتحريك: الأعوان والخدم.

ونساء قومها تطأ ذيولها(1)، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم(2)، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم(3) فنيطت دونها ملاءة(4) فجلست ثم أنَّت أنة أجهش(5) القوم لها بالبكاء، فارتج المجلس، ثم أمهلت هنيئة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت فورتهم، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسوله، فعاد القوم في بكائهم، فلما أمسكوا عادت في كلامها، فقالت عليها السلام:

«الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها، جم عن الاحصاء عددها، ونأى عن الجزاء أمدها، وتفاوت عن الإدراك أبدها، وندبهم لاستزادتها بالشكر لاتصالها واستحمد إلى الخلائق بإجزالها، وثنى بالندب إلى أمثالها.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكر معقولها، الممتنع من الأبصار رؤيته، ومن الألسن صفته، ومن الأوهام كيفيته.

ابتدع الأشياء لا من شيء كان قبلها، وأنشأها بلا احتذاء أمثلة امتثلها كونها بقدرته، وذرأها بمشيته، من غير حاجة منه إلى تكوينها، ولا فائدة له في تصويرها، إلا

ص: 204


1- أي: إن أثوابها كانت طويلة تستر قدميها، فكانت تطأها عند المشي، وفي بعض النسخ تجر أدراعها والمعنى واحد.
2- الخرم بضم الخاء وسكون الراء: الترك، والنقص، والعدول.
3- الحشد: الجماعة.
4- نيطت: علقت وناط الشيء، علقه: والملاءة الإزار.
5- أجهش القوم: تهيئوا.

تثبيتا لحكمته، وتنبيها على طاعته، وإظهارا لقدرته، وتعبدا لبريته وإعزازا لدعوته.

ثم جعل الثواب على طاعته، ووضع العقاب على معصيته، زيادة لعباده من نقمته، وحياشة(1) لهم إلى جنته، وأشهد أن أبي محمدا عبده ورسوله اختاره قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة علما من الله تعالى بما يلي الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع الأمور ابتعثه الله إتماما لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنفاذا لمقادير حتمه، فرأى الأمم فرقا في أديانها، عكفا على نيرانها، عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها فأنار الله بأبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ظلمها، وكشف عن القلوب بهمها(2)، وجلى عن الأبصار غممها(3)، وقام في الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم.

ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار، ورغبة وإيثار، فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم من تعب هذه الدار في راحة، قد حف بالملائكة الأبرار، ورضوان الرب الغفار، ومجاورة الملك الجبار، صلى الله على أبي نبيه، وأمينه، وخيرته من الخلق وصفيه، والسلام عليه ورحمة الله وبركاته».

ثم التفتت إلى أهل المجلس وقالت:

«أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه، وحملة دينه ووحيه، وأمناء الله على أنفسكم،

ص: 205


1- حاش الإبل: جمعها وساقها.
2- بهمها: أي مبهماتها وهي المشكلات من الأمور.
3- الغمم: جمع غمة وهي: المبهم والملتبس، وفي بعض النسخ (عماها).

وبلغائه إلى الأمم، زعيم حق له فيكم، وعهد قدمه إليكم، وبقية استخلفها عليكم: كتاب الله الناطق، والقرآن الصادق، والنور الساطع، والضياء اللامع، بينة بصائره، منكشفة سرائره، منجلية ظواهره، مغتبطة به أشياعه، قائدا إلى الرضوان أتباعه، مؤد إلى النجاة استماعه، به تنال حجج الله المنورة، وعزائمه المفسرة، ومحارمه المحذرة، وبيناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة، ورخصه الموهوبة، وشرائعه المكتوبة، فجعل الله الإيمان: تطهيرا لكم من الشرك، والصلاة: تنزيها لكم عن الكبر، والزكاة: تزكية للنفس، ونماء في الرزق، والصيام: تثبيتا للإخلاص، والحج: تشييدا للدين، والعدل: تنسيقا للقلوب، وطاعتنا: نظاما للملة، وإمامتنا: أمانا للفرقة، والجهاد: عزا للإسلام، والصبر: معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف: مصلحة للعامة، وبر الوالدين: وقاية من السخط، وصلة الأرحام: منساة في العمر(1) ومنماة للعدد، والقصاص: حقنا للدماء، والوفاء بالنذر: تعريضا للمغفرة، وتوفية المكائيل والموازين: تغييرا للبخس، والنهي عن شرب الخمر: تنزيها عن الرجس، واجتناب القذف: حجابا عن اللعنة، وترك السرقة: إيجابا بالعفة، وحرم الله الشرك إخلاصا له بالربوبية، فاتقوا الله حق تقاته، ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، وأطيعوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فإنه إنما يخشى الله من عباده العلماء».

ثم قالت:

«أيها الناس اعلموا: أني فاطمة وأبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم أقول عودا وبدوا، ولا أقول ما أقول غلطا، ولا أفعل ما أفعل شططا(2)، لقد جاءكم رسول من

ص: 206


1- منساة للعمر: مؤخرة.
2- شططا: الشطط بالتحريك: هو البعد عن الحق ومجاوزة الحد في كل شيء.

أنفسكم عزيز عليه ما عنتم(1)، حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم.

فإن تعزوه(2) وتعرفوه: تجدوه أبي دون نسائكم، وأخا ابن عمي دون رجالكم، ولنعم المعزى إليه صلى الله عليه وآله وسلم، فبلغ الرسالة، صادعا بالنذارة(3)، مائلا عن مدرجة المشركين(4)، ضاربا ثبجهم(5)، آخذا بأكظامهم(6)، داعيا إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، يجف الأصنام(7)، وينكث الهام، حتى انهزم الجمع وولوا الدبر، حتى تفرى الليل عن صبحه(8)، وأسفر الحق عن محضه، ونطق زعيم الدين، وخرست شقاشق الشياطين(9)، وطاح وشيظ النفاق(10)، وانحلت عقد الكفر والشقاق، وفهتم بكلمة الإخلاص(11)، في نفر من البيض الخماص(12)، وكنتم على شفا حفرة من النار، مذقة الشارب(13)، ونهزة الطامع(14)، وقبسة العجلان،

ص: 207


1- عنتم: أنكرتم وجحدتم.
2- تعزوه: تنسبوه.
3- صادعاً: الصدع هو الإظهار: والنذارة بالكسر الإنذار وهو الإعلام على وجه التخويف.
4- المدرجة: هي المذهب والمسلك.
5- ثبجهم: الثبج بالتحريك: وسط الشيء ومعظمه.
6- أكظامهم: الكظم بالتحريك: مخرج النفس من الحلق.
7- يجف الأصنام: في بعض النسخ (يكسر الأصنام) وفي بعضها (يجذ الأصنام) أي يكسر.
8- تفرى الليل عن صبحه: أي انشق حتى ظهر وجه الصباح
9- شقاشق الشياطين: الشقاشق: جمع شقشقة بالكسر وهي: شيء كالربة يخرجها البعير من فيه إذا هاج.
10- طاح: هلك، والوشيظ السفلة والرذل من الناس.
11- كلمة الإخلاص: كلمة التوحيد.
12- البيض الخماص: المراد بهم أهل البيت عليهم السلام.
13- مذقة الشارب: شربته.
14- نهزة الطامع: بالضم - الفرصة أي: محل نهزته.

وموطئ الأقدام(1)، تشربون الطرق(2)، وتقتاتون القد(3)، أذلة خاسئين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، وبعد أن مني ببهم(4) الرجال وذؤبان العرب، ومردة أهل الكتاب، كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله، أو نجم قرن الشيطان(5)، أو فغرت فاغرة من المشركين(6)، قذف أخاه في لهواتها(7)، فلا ينكفئ حتى يطأ جناحها بأخمصه(8)، ويخمد لهبها بسيفه، مكدودا في ذات الله، مجتهدا في أمر الله، قريبا من رسول الله، سيدا في أولياء الله، مشمرا ناصحا، مجدا، كادحا، لا تأخذه في الله لومة لائم، وأنتم في رفاهية من العيش، وادعون(9) فاكهون(10) آمنون، تتربصون بنا الدوائر(11)، وتتوكفون الأخبار(12)، وتنكصون عند النزال، وتفرون من القتال، فلما اختار الله لنبيه

ص: 208


1- قبسة العجلان: مثل في الاستعجال؛ موطئ الأقدام: مثل مشهور في المغلوبية والمذلة.
2- الطرق: بالفتح، ماء السماء الذي تبول فيه الإبل وتبعر.
3- القد: بكسر القاف وتشديد الدال - سير بقد من جلد غير مدبوغ.
4- بهم الرجال: شجعانهم.
5- نجم: ظهر؛ وقرن الشيطان: أمته وتابعوه.
6- فغرفاه: أي فتحه؛ والفاغرة من المشركين: الطائفة منهم.
7- قذف: رمى؛ واللهوات بالتحريك: - جمع لهاة -: وهي اللحمة في أقصى شفة الفم.
8- ينكفئ: يرجع؛ والأخمص: ما لا يصيب الأرض من باطن القدم.
9- وادعون: ساكنون.
10- فاكهون: ناعمون.
11- الدوائر: صروف الزمان، أي: كنتم تنظرون نزول البلايا علينا.
12- تتوقعون أخبار المصائب والفتن النازلة بنا.

دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسكة النفاق(1)، وسمل جلباب الدين(2)، ونطق كاظم الغاوين(3)، ونبغ خامل الأقلين(4)، وهدر فنيق المبطلين(5)، فخطر في عرصاتكم(6)، واطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفا بكم(7)، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللعزة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافا، وأحشمكم فألفاكم غضابا(8)، فوسمتم غير إبلكم(9)، ووردتم غير مشربكم(10)، هذا والعهد قريب والكلم رحيب(11)، والجرح لما يندمل(12)، والرسول لما يقبر، ابتدارا، زعمتم خوف الفتنة ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين، فهيهات منكم، وكيف بكم، وأنى تؤفكون، وكتاب الله بين أظهركم، أموره ظاهرة، وأحكامه زاهرة وأعلامه باهرة، وزواجره لايحة، وأوامره واضحة، وقد خلفتموه وراء ظهوركم

ص: 209


1- في بعض النسخ (حسيكة)
2- وسمل جلباب الدين: سمل صار خلقا، والجلباب الإزار.
3- الكظوم: السكوت.
4- الخامل: من خفي ذكره وكان ساقطاً لا نباهة له.
5- الهدير: ترديد البعير صوته في حنجرته، والفنيق: الفحل المكرم من الإبل الذي لا يركب ولا يهان.
6- خطر البعير بذنبه إذا رفعه مرة بعد مرة وضرب به فخذيه.
7- مغرزة: أي ما يختفي فيه، تشبيها له بالقنفذ فإنه يطلع رأسه بعد زوال الخوف.
8- أي حملكم على الغضب فوجدكم مغضبين لغضبه.
9- الوسم: أثر الكي.
10- الورود: حضور الماء للشرب.
11- الكلم بالضم: الجرح، الرحب بالضم: السعة.
12- أي: لم يصلح بعد.

أرغبة عنه تريدون(1)؟ أم بغيره تحكمون؟ بئس للظالمين بدلا، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين، ثم لم تلبثوا إلا ريث أن تسكن نفرتها(2)، ويسلس قيادها(3)، ثم أخذتم تورون وقدتها(4)، وتهيجون جمرتها، وتستجيبون لهتاف الشيطان الغوي، وإطفاء أنوار الدين الجلي وإهمال سنن النبي الصفي، تشربون حسوا في ارتغاء(5)، وتمشون لأهله وولده في الخمرة والضراء(6)، ويصير(7) منكم على مثل حز المدى(8)، ووخز السنان في الحشاء، وأنتم الآن تزعمون: أن لا إرث لنا، أفحكم الجاهلية تبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟! أفلا تعلمون؟ بلى قد تجلى لكم كالشمس الضاحية: أني ابنته.

أيها المسلمون أغلب على إرثي(9)؟ يا بن أبي قحافة أفي كتاب الله ترث أباك ولا أرث أبي؟ لقد جئت شيئا فريا! أفعلى عمد تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم؟

ص: 210


1- في بعض النسخ (تدبرون).
2- نفرتها: نفرت الدابة جزعت وتباعدت.
3- يسلس: يسهل.
4- أي: لهبها.
5- الحصو: هو الشرب شيئا فشيئا، والارتغاء: هو شرب الرغوة وهي اللبن المشوب بالماء، وحسوا في ارتغاء: مثل يضرب لمن يظهر ويريد غيره.
6- الخمر بالفتح: ما واراك من شجر وغيره، والضراء بالفتح: الشجر الملتف بالوادي.
7- وفي بعض النسخ (يصير).
8- الحز: القطع، والمدى: السكاكين.
9- في بعض النسخ (إرثه).

إذ يقول:

(وَ وَرِثَ سُلَيْمٰانُ دٰاوُدَ...(1).

وقال: فيما اقتص من خبر يحيى بن زكريا إذ قال:

(فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (2) يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ...(3).

وقال:

(... وَ أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ...)(4).

وقال:

(يُوصِيكُمُ اَللّٰهُ فِي أَوْلاٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ...)(5).

وقال:

(... إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوٰالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ...)(5).

وزعمتم: أن لا حظوة(6) لي ولا إرث من أبي، ولا رحم بيننا، أفخصكم الله بآية أخرج أبي منها؟ أم هل تقولون: إن أهل ملتين لا يتوارثان؟ أو لست أنا وأبي من أهل ملة واحدة؟ أم أنتم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من أبي وابن عمي؟ فدونكها مخطومة مرحولة(7)، تلقاك يوم حشرك، فنعم الحكم الله، والزعيم

ص: 211


1- سورة النمل، الآية: 16.
2- سورة البقرة، الآية: 180.
3- سورة مريم، الآية: 6.
4- سورة الأنفال، الآية: 75.
5- سورة النساء، الآية: 11.
6- الحظوة: المكانة.
7- مخطومة: من الخطام بالكسر، وهو: كل ما يدخل في أنف البعير ليقاد به، والرحل بالفتح: هو للناقة كالسرج للفرس.

محمد، والموعد القيامة، وعند الساعة يخسر المبطلون، ولا ينفعكم إذ تندمون، ولكل نبأ مستقر وسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم».

ثم رمت(1) بطرفها نحو الأنصار فقالت:

«يا معشر النقيبة وأعضاد الملة،(2) وحضنة الإسلام، ما هذه الغميزة في حقي(3)، والسنة عن ظلامتي(4)؟ أما كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبي يقول (المرء يحفظ في ولده)؟

سرعان ما أحدثتم، وعجلان ذا إهالة(5)، ولكم طاقة بما أحاول، وقوة على ما أطلب وأزاول، أتقولون مات محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟ فخطب جليل: استوسع وهنه واستنهر فتقه(6) وانفتق رتقه، واظلمت الأرض لغيبته، وكسفت الشمس والقمر، وانتثرت النجوم لمصيبته، وأكدت(7) الآمال، وخشعت الجبال، وأضيع الحريم، وأزيلت الحرمة عند مماته، فتلك والله النازلة الكبرى، والمصيبة العظمى، لا مثلها نازلة، ولا بائقة(8) عاجلة، أعلن بها كتاب الله جل ثناؤه، في

ص: 212


1- في بعض النسخ (رنت).
2- النقيبة: الفتية.
3- الغميزة: - بفتح الغين المعجمة والزاي - ضعفة في العمل.
4- السنة بالكسر: النوم الخفيف.
5- إهالة: بكسر الهمزة الدسم؛ وسرعان ذا إهالة مثل يضرب لمن يخبر بكينونة الشيء قبل وقته.
6- وهنة الوهن: الخرق، واستنهر: اتسع.
7- أكدت: قل خيرها.
8- بائقة: داهية.

أفنيتكم، وفي ممساكم، ومصبحكم، يهتف في أفنيتكم هتافا، وصراخا، وتلاوة، وألحانا، ولقبله ماحل بأنبياء الله ورسله، حكم فصل، وقضاء حتم:

(وَ مٰا مُحَمَّدٌ إِلاّٰ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلىٰ عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّٰهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّٰهُ اَلشّٰاكِرِينَ)(1).

أيها بني قيلة(2)، أأهضم تراث أبي؟ وأنتم بمرأى مني ومسمع، ومنتدى(3) ومجمع تلبسكم الدعوة، وتشملكم الخبرة، وأنتم ذوو العدد والعدة، والأداة والقوة وعندكم السلاح والجنة(4)، توافيكم الدعوة فلا تجيبون، وتأتيكم الصرخة فلا تغيثون، وأنتم موصوفون بالكفاح، معروفون بالخير والصلاح، والنخبة التي انتخبت، والخيرة التي اختيرت لنا أهل البيت، قاتلتم العرب، وتحملتم الكد والتعب، وناطحتم الأمم، وكافحتم(5) البهم، لا نبرح أو تبرحون(6)، نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام، ودر حلب الأيام، وخضعت ثغرة الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج، واستوسق نظام الدين(7).

ص: 213


1- سورة آل عمران، الآية: 144.
2- بنو قيلة: قبيلتا الأنصار: الأوس والخزرج.
3- المنتدى المجلس.
4- الجنة بالضم: ما استترت به من السلاح.
5- في بعض النسخ (كالحتم).
6- لا نبرح: لا نزال.
7- استوسق: اجتمع.

فأنى حزتم بعد البيان؟ وأسررتم بعد الإعلان؟ ونكصتم بعد الإقدام؟ وأشركتم بعد الإيمان؟

بؤسا لقوم نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم، وهموا بإخراج الرسول، وهم بدؤوكم أول مرة، أتخشونهم فالله أحق أن تخشوه إن كنتم مؤمنين، ألا وقد أرى أن قد أخلدتم إلى الخفض(1)، وأبعدتم من هو أحق بالبسط والقبض، وخلوتم بالدعة(2)، ونجوتم بالضيق من السعة، فمججتم ما وعيتم، ودسعتم الذي تسوغتم(3)، فإن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد.

ألا وقد قلت ما قلت هذا على معرفة مني بالجذلة التي خامرتكم(4)، والغدرة التي استشعرتها قلوبكم، ولكنها فيضة النفس، ونفثة الغيظ، وخور القناة(5)، وبثة الصدر، وتقدمة الحجة، فدونكموها فاحتقبوها دبرة(6) الظهر نقبة الخف(7) باقية العار، موسومة بغضب الجبار، وشنار الأبد، موصولة بنار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة، فبعين الله ما تفعلون،

(... وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ)(8).

ص: 214


1- أخلدتم: ملتم، والخفض: السعة والخصب واللين.
2- الدعة: الراحة والسكون.
3- الدسع: القيء، وتسوغ الشراب شربه بسهولة.
4- الجذلة: ترك النصر، خامرتكم: خالطتكم.
5- الخور: الضعف، والقناة: الرمح؛ والمراد من ضعف القناة هنا ضعف النفس عن الصبر على الشدة.
6- فاحتقبوها: أي احملوها على ظهوركم ودبر البعير أصابته الدبرة بالتحريك وهي جراحة تحدث من الرحل.
7- نقب خف البعير رق وتثقب.
8- سورة الشعراء، الآية: 227.

وأنا ابنة نذير لكم بين يدي عذاب شديد فاعملوا إنا عاملون، وانتظروا إنا منتظرون».

فأجابها أبو بكر عبد الله بن عثمان، وقال: يا بنت رسول الله لقد كان أبوك بالمؤمنين عطوفا كريما، رؤوفا رحيما، وعلى الكافرين عذابا أليما، وعقابا عظيما، إن عزوناه وجدناه أباك دون النساء، وأخا إلفك دون الأخلاء(1) آثر على كل حميم، وساعده في كل أمر جسيم، لا يحبكم إلا سعيد، ولا يبغضكم إلا شقي(2) بعيد فأنتم عترة رسول الله الطيبون، الخيرة المنتجبون، على الخير أدلتنا، وإلى الجنة مسالكنا، وأنت يا خيرة النساء، وابنة خير الأنبياء، صادقة في قولك، سابقة في وفور عقلك، غير مردودة عن حقك، ولا مصدودة عن صدقك، والله ما عدوت رأي رسول الله، ولا عملت إلا بإذنه، والرائد لا يكذب أهله، وأني أشهد الله وكفى به شهيدا، أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

«نحن معاشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا دارا ولا عقارا وإنما نورث الكتاب والحكمة والعلم والنبوة وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر بعدنا أن يحكم فيه بحكمه»(3).

ص: 215


1- الألف: هو الأليف بمعنى المألوف والمراد به هنا الزوج لأنه إلف الزوجة وفي بعض النسخ (ابن عمك).
2- في ذخائر العقبى: - لمحب الدين الطبري - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يحبنا أهل البيت إلا مؤمن تقي، ولا يبغضنا إلا منافق شقي»، أخرجه الملا.
3- نقل الإمام المجاهد السيد عبد الحسين شرف الدين (قدس سره) في كتابه الجليل (النص والاجتهاد) عن الأستاذ المصري المعاصر محمود أبو رية ما يلي: قال: (بقي أمر لابد أن نقول فيه كلمة صريحة، ذلك هو موقف أبي بكر من فاطمة - عليها السلام - بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما فعل معها في ميراث أبيها، لأنا إذا سلمنا بأن خبر الآحاد الظني يخصص الكتاب القطعي، وأنه قد ثبت أن النبي صلى

وقد جعلنا ما حاولته في الكراع والسلاح يقاتل بها المسلمون ويجاهدون الكفار، ويجالدون المردة الفجار، وذلك بإجماع من المسلمين، لم انفرد به وحدي، ولم استبد بما كان الرأي عندي(1)، وهذه حالي ومالي، هي لك وبين يديك، لا

ص: 216


1- خطر ببالي وأنا أفكر في قول الخليفة: (وذلك بإجماع المسلمين لم أنفرد به)، وقوله في آخر الحديث الذي تفرد بنقله عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، (وما كان لنا من طعمة فلولي الأمر أن يحكم فيه بحكمه)، نعم خطر ببالي وأنا أفكر في هاتين الفقرتين وما إذا كانت فدك من حق المسلمين حتى يؤخذ رأيهم فيه أم من حقه الخاص حتى يحكم فيه بحكمه كما جاء في ذيل الحديث الذي استنكرته الصديقة الطاهرة عليها السلام وعدّته كذبا وزورا وافتراء على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم اعتلالا منهم لما أجمعوا على الغدر بذريته كما عدّته طعنا في عصمته صلى الله عليه وآله وسلم لو صدر ذلك منه. وأسمع ذلك كله في جوابها لأبي بكر: «سبحان الله، ما كان أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كتاب الله صادفا، ولا لأحكامه مخالفاً، بل كان يتبع أثره، ويقفو سوره، أفتجمعون إلى الغدر اعتلالا عليه بالزور، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائل في حياته»، ثم إن كان من حقه الخاص فلماذا لم يعطها سيدة النساء وبنت سيد الأنبياء إكراماً لمقام أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وإذا كان من حق المسلمين لماذا لم يؤخذ رأيهم أولاً في إعطائها إياها.

تزوى عنك، ولا ندخر دونك، وأنك وأنت سيدة أمة أبيك، والشجرة الطيبة لبنيك، لاندفع مالك من فضلك، ولا يوضع في فرعك وأصلك، حكمك نافذ فيما ملكت يداي فهل ترين أن أخالف في ذلك أباك صلى الله عليه وآله فقالت عليها السلام:

«سبحان الله ما كان أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن كتاب الله صادفا(1)، ولا لأحكامه مخالفا! بل كان يتبع أثره، ويقفو سوره، أفتجمعون إلى

ص: 217


1- صادفا: معرضا.

الغدر اعتلالا عليه بالزور، وهذا بعد وفاته شبيه بما بغى له من الغوائل(1) في حياته هذا كتاب الله حكما عدلا، وناطقا فصلا يقول:

(يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ...)(2).

ويقول:

(وَ وَرِثَ سُلَيْمٰانُ دٰاوُدَ...)(3).

وبيّن عزّ وجل فيما وزع من الأقساط، وشرع من الفرائض والميراث، وأباح من حظ الذكران والإناث، ما أزاح به علة المبطلين، وأزال التظني والشبهات في الغابرين، كلا بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون».

فقال أبو بكر: صدق الله ورسوله، وصدقت ابنته، أنت معدن الحكمة وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة، لا أبعد صوابك، ولا أنكر خطابك هؤلاء المسلمون بيني وبينك، قلدوني ما تقلدت، وباتفاق منهم أخذت ما أخذت غير مكابر ولا مستبد، ولا مستأثر، وهم بذلك شهود.

فالتفتت فاطمة عليها السلام إلى الناس وقالت:

«معاشر المسلمين المسرعة إلى قيل الباطل(4)، المغضية على الفعل القبيح الخاسر، أفلا تتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ كلا بل ران على قلوبكم ما أسأتم

ص: 218


1- الغوائل: المهالك.
2- سورة مريم، الآية: 6.
3- سورة النمل، الآية: 16.
4- في بعض النسخ (قبول الباطل).

من أعمالكم، فأخذ بسمعكم وأبصاركم، ولبئس ما تأولتم، وساء ما به أشرتم، وشر ما منه اغتصبتم لتجدن والله محمله ثقيلا، وغبه وبيلا، إذا كشف لكم الغطاء وبان بأورائه الضراء، وبدا لكم من ربكم ما لم تكونوا تحتسبون، وخسر هنالك المبطلون».

ثم عطفت على قبر النبي صلى الله عليه وآله وقالت:

قد كان بعدك أنباء وهنبثة

لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب

إنا فقدناك فقد الأرض وابلها

واختل قومك فاشهدهم ولا تغب

وكل أهل له قربى ومنزلة

عند الإله على الأدنين مقترب

أبدت رجال لنا نجوى صدورهم(1)

لما مضيت وحالت دونك الترب

تجهمتنا رجال واستخف بنا

لما فقدت وكل الأرض مغتصب

وكنت بدرا ونورا يستضاء به

عليك ينزل من ذي العزة الكتب

وكان جبريل بالآيات يونسنا

فقد فقدت وكل الخير محتجب

فليت قبلك كان الموت صادفنا

لما مضيت وحالت دونك الكثب(2)

ثم انكفأت عليها السلام، وأمير المؤمنين عليه السلام يتوقع رجوعها إليه، ويتطلع طلوعها عليه، فلما استقرت بها الدار، قالت لأمير المؤمنين عليه السلام:

«يا بن أبي طالب، اشتملت شملة الجنين، وقعدت حجرة الظنين، نقضت قادمة

ص: 219


1- النجوى: السر.
2- الكثب - بضمتين -: جمع الكثيب وهو: الرمل.

الأجدل(1)، فخانك ريش الأعزل(2)، هذا ابن أبي قحافة يبتزني نحلة أبي وبلغة(3) ابني! لقد أجهد(4) في خصامي، وألفيته ألد في كلامي(5) حتى حبستني قيلة نصرها والمهاجرة وصلها، وغضت الجماعة دوني طرفها، فلا دافع ولا مانع، خرجت كاظمة، وعدت راغمة، أضرعت خدك(6) يوم أضعت حدك افترست الذئاب، وافترشت التراب، ما كففت قائلا، ولا أغنيت طائلا(7) ولا خيار لي، ليتني مت قبل هنيئتي، ودون ذلتي عذيري الله منه عاديا(8) ومنك حاميا، ويلاي في كل شارق! ويلاي في كل غارب! مات العمد، ووهن العضد(9)، شكواي إلى أبي! وعدواي(10) إلى ربي! اللهم إنك أشد منهم قوة وحولا، وأشد بأسا وتنكيلا».

فقال أمير المؤمنين عليه السلام:

«لا ويل لك بل الويل لشانئك(11)، ثم نهنهي عن وجدك(12) يا ابنة الصفوة، وبقية

ص: 220


1- قوادم الطير: مقادم ريشه وهي عشرة - والأجدل: الصقر.
2- الأعزل من الطير: ما لا يقدر على الطيران.
3- يبتزني: يسلبني، والبلغة: ما يتبلغ به من العيش.
4- في بعض النسخ (أجهر).
5- ألفيته: وجدته، والألد: شديد الخصومة.
6- ضرع: خضع وذل.
7- أي ما فعلت شيئاً نافعاً، وفي بعض النسخ (ولا أغنيت باطلا): أي كففته.
8- العذير بمعنى العاذر أي: الله قابل عذري، وعاديا، متجاوزا.
9- الوهن: الضعف في العمل أو الأمر أو البدن.
10- العدوي: طلبك إلى وال لينتقم لك من عدوك.
11- الشانئ: المبغض.
12- أي كفي: عن حزنك وخففي عن غضبك.

النبوة، فما ونيت(1) عن ديني، ولا أخطأت مقدوري(2) فإن كنت تريدين البلغة، فرزقك مضمون، وكفيلك مأمون، وما أعد لك أفضل مما قطع عنك، فاحتسبي الله».

فقالت:

«حسبي الله وأمسكت»)(3).

ثانياً: رمزية فدك الثورة

منذ أن عزمت السلطة التي جلست في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على إصدار تشريعاتها الجديدة؛ ومنذ أن صادرت هذه السلطة أموال آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فاستولت على حقوقهم؛ ومنذ أن اقتحمت دارهم وأحرقت بابهم وقتلت ابنهم المحسن، فمنذ ذلك الوقت وإلى يومنا هذا أصبحت فدك رمزاً من رموز النضال والجهاد والتضحية والحرية التي أطلقت النسيم للأحرار الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر في تجدد الحياة والإباء ضد الظلم والجور.

ص: 221


1- ما كللت ولا ضعفت ولا عييت.
2- ما تركت ما دخل تحت قدرتي أي لست قادراً على الانتصاف لك لما أوصاني به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.
3- السقيفة وفدك للجوهري: ص 139-147، بتحقيق د. محمد هادي الأميني؛ بلاغات النساء لابن طيفور: ص 14-20؛ منال الطالب في شرح طوال الغرائب لابن الأثير: ج 2، ص 507، بتحقيق محمود الطحاني؛ الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 132، تعليق السيد محمد باقر الخرسان؛ شرح الأخبار للقاضي النعمان المغربي: ج 3، ص 34؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 16، ص 249؛ التذكرة الحمدونية: ج 6، ص 256؛ جواهر المطالب للدمشقي الباعواني: ج 1، ص 157؛ الشافي في الإمامة للشريف المرتضى: ج 4، ص 71؛ أعلام النساء لرضا كحالة: ج 3، ص 1208.

هكذا هي فدك رمزية الثورة وعنوان التصدي للظلم ومنطلق الحراك من أجل الشريعة المحمدية، فكان أول من انتفض لأجلها، أي الشريعة، ابنة صاحب الشريعة وحجة الله على الحجج عليهم السلام أم الأئمة ومشكاة الأنوار الإلهية.

ولو أردنا الوقوف عند كلماتها في المسجد لاحتجنا إلى كتاب مستقل كما دأب على ذلك كثير من الفضلاء والباحثين والمحققين إلاّ أننا ارتأينا هنا أن نورد بعض الشواهد على رمزية فدك الثورة منذ أن اتخذتها كذاك بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم تبعها أمير المؤمنين علي عليه السلام فها هو في مسجد الكوفة يكشف للتأريخ تعمد الخلفاء من قبله والذين جلسوا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفتون الأمة بسنة جديدة عرفها الناس بسنة الشيخين وألحقوها ظلما وعدواناً بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأحدثوا حدثاً أماتوا فيه سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحيوا فيه البدعة التي سموها بالبدعة الحسنة.

وفي هذا التظلم يقول أمير المؤمنين عليه السلام:

«سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

كيف أنتم إذا لبستم الفتنة، ينشؤ فيها الوليد، ويهرم فيها الكبير، ويجري الناس عليها حتى يتخذوها سنة، فإذا غير منها شيء قيل أتى الناس بمنكر، غيرت السنة، ثم تشتد البلية، وتنشؤ فيها الذرية وتدقهم الفتن كما تدق النار الحطب، وكما تدق الرحا بثقالها، يتفقه الناس لغير الدين، ويتعلمون لغير العمل، ويطلبون الدنيا بعمل الآخرة».

ص: 222

ثم أقبل أمير المؤمنين عليه السلام ومعه ناس من أهل بيته، وخاصة من شيعته، فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي صلى الله عليه وآله ثم قال:

«لقد عمل الولاة قبلي بأمور عظيمة خالفوا فيها رسول الله متعمدين لذلك، ولو حملت الناس على تركها وحولتها إلى مواضعها التي كانت عليها على عهد رسول الله لتفرق عني جندي، حتى أبقى وحدي إلا قليلا من شيعتي، الذين عرفوا فضلي وإمامتي من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، أرأيتم لو أمرت بمقام إبراهيم عليه السلام فرددته إلى المكان الذي وضعه فيه رسول الله، ورددت فدك إلى ورثة فاطمة سلام الله عليها، ورددت صاع رسول الله ومده إلى ما كان، وأمضيت إلى قطايع كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقطعها للناس سنين، ورددت دار جعفر بن أبي طالب إلى ورثته، وهدمتها وأخرجتها من المسجد، ورددت الخمس إلى أهله، ورددت قضاء كل من قضى بجور، ورددت سبي ذراري بني تغلب، ورددت ما قسم من أرض خيبر، ومحوت ديوان العطاء، وأعطيت كما كان يعطي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم أجعلها دولة بين الأغنياء.

والله لقد أمرت الناس: أن لا يجمعوا في شهر رمضان إلا في فريضة، فنادى بعض أهل عسكري ممن يقاتل وسيفه معي: (أنعى الإسلام وأهله غيرت سنة عمر)، ونهى أن يصلى في شهر رمضان في جماعة، حتى خفت أن يثور في ناحية عسكري على ما لقيت، ولقيت هذه الأمة من أئمة الضلالة، والدعاة إلى النار.

وأعظم من ذلك سهم ذوي القربى، الذي قال الله تبارك وتعالى فيه:

ص: 223

(وَ اِعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبىٰ وَ اَلْيَتٰامىٰ وَ اَلْمَسٰاكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ...)(1).

وذلك لنا خاصة إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان، نحن والله عنى بذوي القربى، الذين قرنهم الله بنفسه ونبيه، ولم يجعل لنا في الصدقة نصيبا، أكرم الله سبحانه وتعالى نبيه وأكرمنا أن يطعمنا أوساخ أيدي الناس»)(2).

والخطبة مليئة بالدلالات على ظلم السلطة الحاكمة لشريعة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أن الذي نحن بصدده:

1 - رمزية فدك الثورة وعنوان ظلامة آل محمد.

2 - سهم ذوي القربى، أي الخمس الذي أظهر في ذكره الإمام أمير المؤمنين عليه السلام الحكمة في اختصاصه بهم.

لكن التشريعات الجديدة لسلطة الشيخين جعلتها عامة للمسلمين فأكلوا ما ليس لهم وفي ذلك يقول إمام المذهب الشافعي:

(إن الذين أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الخمس هم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم آل محمد الذين أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالصلاة عليهم معه، والذين اصطفاهم من خلقه بعد نبيه فإنه يقول:

ص: 224


1- سورة الأنفال، الآية: 41.
2- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 393؛ كتاب سليم بن قيس الهلالي: ص 263؛ الكافي للكليني: ج 8، ص 59؛ البحار للمجلسي: ج 34، ص 168.

(إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهٰا مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(1).

فاعلم أنه اصطفى الأنبياء وآلهم)(2).

3 - إن الله تعالى لم يكن ليضيع حق آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم في الفيء ومال رسول الله مما أفاء الله تعالى عليه وكذاك قرية فدك.

ولقد بقيت فدك تحمل في معناها ودلالاتها على كرور الليالي والأيام عنوان الثورة والظلم الذي أنزله حكام المسلمين الذين جلسوا مجلس خلافة النبوة، فكانت منها أي من هذه الدلالات على حقيقة امتلاك فاطمة لهذه الأرض وما عليها ومصادرتها بفعل تشريعات سنة الشيخين ما يأتي:

ألف: إبقاء أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيوت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يطالب أبو بكر وعمر منهنّ أن تأتي إحداهن ببينة أو شهود على تمليك النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهن هذه البيوت، ولا حتى أوصى لهن بالسكن فيها، ولم يجعلها من النفقة الواجبة ولا المستحبة عليهن إذا المرأة فارقت الرجل بالوفاة أو الطلاق ما لم تكن حاملاً أو لها حق الحضانة بالنفقة على الزوج؛ ومن ثم بأي شريعة إلهية سكنت أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيوته، وتمنع الزهراء من مال أبيها صلى الله عليه وآله وسلم خاصة دون غيرها؟!!

ص: 225


1- سورة آل عمران، الآية: 34.
2- أحكام القرآن للشافعي: ج 1، ص 77.

باء: إن يهود فدك كانوا أحد الشهود على أحقية فاطمة عليها السلام بها وذلك أن عمر بن الخطاب لما أراد إجلاءهم من أرضهم وإخراجهم احتجوا عليه بما قسم فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصالحهم عليه من نصف الارض وثمارها.

في حين كان أبو بكر يأخذ جميع خراج هذه الأرض بعد أن صادرها من فاطمة وذلك بعد تركه اليهود فيها فسكتوا لأنهم علموا حالها مع أبي بكر وأخذها من فاطمة فقد انتقلت بفعل السلطة الجديدة إلى الحاكم الجديد ومن ثم فإن المعاهدات السابقة قد سقطت بوجود السلطة الجديدة.

وفي ذلك أورد ابن سلام في كتاب الأموال، قال أبو عبيد:

(أجلى عمر بن الخاب يهود خيبر، فخرجوا منها ليس لهم من الثمر والأرض شيء، فأما يهود فدك فكان لهم نصف الأرض، لأن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم كان صالحهم على ذلك، فأقام لهم عمر نصف الثمر ونصف الأرض لأن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم كان صالحهم من ذهب وورق وإبل وأقتاب، ثم أعطاهم القيمة وأجلاهم.

قال أبو عبيد: إنما صار أهل خيبر لا حظ لهم في الأرض والثمر لأن خيبر أخذت عنوة فكانت للمسلمين، لا شيء لليهود فيها، وأما فدك فكانت على ما جاء فيها من الصلح، فلما أخذوا قيمة بقية أرضهم خلصت كلها لرسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم، ولهذا تكلم العباس وعلي عليهما السلام)(1).

ص: 226


1- الأموال لابن سلام: ج 1، ص 25، ح 22.

وقال أيضا: (كان أهل فدك قد أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم فبايعوه على أن لهم رقابهم ونصف أراضيهم ونخلهم، ولرسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم أراضيهم ونخلهم فلما أجلاهم عمر بعث معهم من أقام لهم حظهم من الأرض والنخل، فأداه إليهم)(1).

في حين أن مطالبة الإمام علي عليه السلام والعباس بأرض فدك ورجوعهما إلى عمر بن الخطاب ليس لاختلافهما فيما بينهما كما يروج لذلك رواة الشيخين أبي بكر وعمر، وإنما لأنهما جاءوا يطالبون الحاكم الجديد الذي لم يستطع أن يرد على اليهود بما كان بينهن وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من معاهدة، وإن هذه الأرض تختلف من حيث الحكم عن أرض خيبر، ففدك مما لم يوجف عليها بخيل أو قتال وإنما جاءت صلحاً للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فهي مما أفاء الله تعالى على نبيه خالصة له.

ولو أنكر عمر بن الخطاب هذه المعاهدة لكان هؤلاء شهوداً أمام الناس يأججون عليه اغتصاب أبي بكر لفدك من فاطمة مما يثير الفوضى واحتجاج بني هاشم والمتعاطفين معهم.

ولذا:

وجد عمر أن الأسلم أن يبقي على المعاهدة فيما بينهم وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ثم فلا يحرك ساكن ثورة فدك الذي ظهر في مجيء علي والعباس إليه يحاججانه في أرض فدك.

ص: 227


1- المصدر السابق.

أي ليلزموا عمر بن الخطاب بما ألزم به نفسه مع اليهود فأما أنه يقر بأن صاحبه أبا بكر قد اغتصبها من فاطمة وأنها كانت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولذا عمل بهذا مع اليهود؛ وأما أن يرجعها إليهما، فوجد أن إرجاع فدك إلى علي والعباس أسلم من تحرك ثورة فدك وإثبات ظلامة فاطمة عليها السلام وحسب تصرفه اجتهاداً عند أشياع الشيخين.

جيم: تكذيب حديث (لا نورث) بلسان عثمان بن عفان وذلك بعد أن جاءته عائشة مطالبة بما كان يفرضه لها عمر بن الخطاب مع العطاء فما كان من عثمان إلاّ أن يجد رأيه في هذا العطاء ويعمل باجتهاده فمنع عنها ما كان يبذله لها عمر بن الخطاب فكان سبب نقمتها عليه.

وفي ذلك يروي الشيخ المفيد (عن الإمام أبي جعفر محمد الباقر عليه السلام، أنه قال:

«جاءت عائشة إلى عثمان فقالت له: أعطني ما كان يعطيني أبي، وعمر بن الخطاب، فقال لها: لا أجد لك موضعا في الكتاب ولا في السنة، وإنما كان أبوك وعمر بن الخطاب يعطيانك بطيبة من أنفسهما وأنا لا أفعل.

قالت له: فأعطني ميراثي من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ فقال لها: أو لم تجيئيني أنت ومالك بن أوس النصري فشهدتما أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يورث حتى منعتما فاطمة ميراثها وأبطلتما حقها، فكيف تطلبين اليوم ميراثاً من النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟

فتركته وانصرفت؛ وكان عثمان إذا خرج إلى الصلاة أخذت قميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على قصبة فرفعته عليها ثم قالت: إن عثمان قد

ص: 228

خالف صاحب هذا القميص وترك سنته»)(1).

دال: كشف الإمام الكاظم عليه السلام لهذه الظلامة وبيان رمزية فدك الثورة والانتفاضة على ظلم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهذه المعاني جاءت واضحة في مخاطبة الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام للخليفة العباسي المهدي، حينما وجده يرد المظالم، (فقال له:

«ما بال مظلمتنا لا ترد».

فقال له: وما هي يا أبا الحسن؟ فقال - عليه السلام -:

«إنّ الله عزّ وجل لما فتح على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم فدكاً وما والاها ولم يوجف عليها بخيل ولا ركاب فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم:

(وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ...(2).

فلم يدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من هم، فراجع في ذلك جبرئيل عليه السلام فسأل الله عزّ وجل فأوحى الله إليه أن ادفع فدكا إلى فاطمة عليها السلام فدعاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال لها:

يا فاطمة إنّ الله تعالى أمرني أن أدفع إليك فدكا، فقالت: قد قبلت يا رسول الله، من الله، ومنك».

فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فلما ولي أبو بكر أخرج عنها ولكاءها، فأتته فسألته أن يردها عليها، فقال لها: ائتيني بأسود

ص: 229


1- الأمالي للشيخ المفيد: ص 125.
2- سورة الإسراء، الآية: 26.

أو أحمر يشهد لك بذلك، فجاءت بأمير المؤمنين وأم أيمن(1)، فشهدا لها فكتب

ص: 230


1- قال ابن عبد البر في ترجمة أم أيمن: بكرة بنت ثعلبة، بن عمرو، بن حصن، بن مالك، بن سلمة، بن عمرو، بن النعمان، وهي أم أيمن، غلبت عليها كنيتها فكنيت بابنها أيمن بن عبيد، وهي بعد أم أسامة ابن زيد، تزوجها زيد بن حارثة بعد عبيد الحبشي، فولدت له أسامة، يقال لها مولاة رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم، وخادم رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم بأم الظباء، هاجرت الهجرتين إلى أرض الحبشة وإلى المدينة جميعا؛ وكانت لعبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم، وصارت للنبي صلى الله عليه - وآله - وسلم. وكانت بمنزلة الأم لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «أم أيمن أمي بعد أمي»؛ (الاستيعاب لابن عبد البر: ج 2، ص 78). وروى المازندراني عن علي بن معمر قال: خرجت أم أيمن إلى مكة لما توفيت فاطمة وقالت لا ارى المدينة بعدها فأصابها عطش شديد في الجحفة حتى خافت على نفسها، قال: فكسرت عينيها نحو السماء ثم قالت: يا رب أتعطشني وأنا خادمة بنت نبيك، قال فنزل إليها دلو من ماء الجنة فشربت، ولم تجع ولم تطعم سنين؛ (مناقب آل أبي طالب: ج 3، ص 338؛ الخرائج للراوندي: ج 2، ص 530؛ الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 224). وقال ابن سعد: وقد حضرت أم أيمن أحداً وكانت تسقي الماء وتداوي الجرحى، وشهدت خيبر مع رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم. وقال أبو نعيم قيل: كانت لأخت خديجة فوهبتها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وقال ابن سعد: قالوا: كان ورثها عن أمه فأعتق رسول الله أم أيمن حين تزوج خديجة، وكان زيد بن حارثة لخديجة فوهبته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأعتقه وزوجه أم أيمن بعد النبوة فولد له أسامة. وأسند عن الواقدي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول لأم أيمن: «يا أمه» وكان إذا نظر إليها يقول: «هذه بقية أهلي». وقال ابن سعد: لما هاجرت أم أيمن أمست بالمنصرف ودون الروحاء فعطشت وليس معها ماء وهي صائمة، فأجهدها العطش، فدلّي عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض، فأخذته فشربته حتى رويت فكانت تقول: ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضت للعطش بالصوم في الهواجر، فما عطشت. وأخرج ابن سعد عن سفيان بن عيينة قال: كانت أم أيمن تُلطف النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم وتقدّم

لها بترك التعرض، فخرجت والكتاب معها فلقيها عمر فقال: ما هذا معك يا بنت محمد؟ قالت: كتاب كتبه لي ابن أبي قحافة.

قال: أرنيه؛ فأبت، فانتزعه من يدها ونظر فيه، ثم تفل فيه ومحاه وخرقه.

فقال له المهدي: يا أبا الحسن حدها لي؟ فقال:

«حد منها جبل أحد، وحد منها عريش مصر، وحد منها سيف البحر، وحد منها دومة الجندل».

فقال له: كل هذا؟! قال:

«نعم يا أمير المؤمنين هذا كله، إن هذا كله مما لم يوجف على أهله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بخيل ولا ركاب».

فقال: كثير، وأنظر فيه)(1).

والحديث الشريف يكشف عن جملة من الحقائق وهي كالآتي:

ص: 231


1- الكافي للكليني: ج 1، ص 543؛ التهذيب للطوسي: ج 4، ص 148؛ وسائل الشيعة: ج 9، ص 525؛ عوالي اللآلي لابن أبي الجمهور الاحسائي: ج 2، ص 78؛ البحار للمجلسي: ج 48، ص 157؛ جامع أحاديث الشيعة للسيد البروجردي: ج 8، ص 580؛ تفسير القرآن المجيد للشيخ المفيد: ص 326؛ فقه القرآن للراوندي: ج 1، ص 248؛ التفسير الصافي للفيض الكاشاني: ج 3، ص 186.

1 - ثبوت انتقال ملكية فدك من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أفاءها الله تعالى عليه إلى فاطمة عليها السلام بأمر من الله تعالى.

2 - النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجري عقداً بينه وبين فاطمة في العرض والقبول فقد قبضت منه بهذا العقد، فقالت: قد قبلت يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الله ومنك؛ وذلك توكيداً وتوثيقاً لانتقال ملكيتها من الله تعالى فهو سبحانه المالك وله ما في السماوات وما في الأرض وهو الذي منّ على رسوله فملكه هذه الأرض وغيرها فكانت من الفيء، وهو عزّ وجل نقل ملكيتها من رسوله صلى الله عليه وآله وسلم إلى فاطمة عليها السلام.

3 - تصرفها عليها السلام في هذه الأرض بعد أن تملكتها فقد جعلت فيها وكلاء ينظرون ويديرون شؤونها الزراعية والتسويقية وغير ذلك، وينفقون بأمرها في أوجه البر الكثيرة قربة إلى الله تعالى.

4 - مطالبتها عليها السلام من أبي بكر بأن يرد عليها أرض فدك كان في المرحلة الأولى لإلقاء الحجة عليه ولتنظر ما هو الوجه الشرعي الذي استند إليه أبو بكر في مصادرة أرض فدك وإخراج وكلائها منها.

أما في المرحلة الثانية من المطالبة بحقها فكان التوجة إلى المسجد وإظهار المحاربة العلنية في محفل المهاجرين والأنصار، وذلك بعد أن جاءت إلى أبي بكر بالشهود وإلزامه بما ألزم به نفسه فقد طلب شهوداً فجاءته بما طلب، ولقد نزلت عند هذا الطلب كي تقطع الطريق عليه في التشريع الذي شرعه لنفسه ومخالفته الصريحة لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وشريعة الإسلام.

ص: 232

5 - إن السبب الذي دفع أبا بكر بالمطالبة بالشهود إلى المستوى الذي كان فيه واثقا من عدم قدرة فاطمة على أن تأتي إليه بأحد فقال بصيغة المجاز: (ائتيني بأسود أو أحمر) ولم يحدد في ذلك المهاجرين والأنصار وإنما ذهب إلى استخدام الأعراق للدلالة على استحالة أن يأتي مع فاطمة عليها السلام من يشهد لها بامتلاكها لهذه الأرض والسبب في هذه الثقة عند أبي بكر:

ألف: الآثار التي خلفها حرق بيت فاطمة صلوات الله وسلامه عليها واقتحامه وإخراج أمير المؤمنين عليه السلام يقاد مع عمار وسلمان وأبي ذر والمقداد وغيرهم إلى البيعة إرهاباً وكرهاً وتعسفاً.

باء: قلة الناصر وخذلان المهاجرين والأنصار لعلي ولها ولولديها حينما كان يدور عليهم علي مع بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وولديه فلم يجد ناصراً مما أعطى هذا التخاذل من المهاجرين والأنصار كل هذا الزخم النفسي لأبي بكر.

جيم: إن من يتخاذل عن نصرة بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وولديها وهي تستغيث فلا تغاث وتنتهك حرمة رسول الله في اقتحام بيت النبوة وحرقه، كيف له أن يحيا ضميره في لمحة من البصر فيأتي أمام محضر سلطان أبي بكر ليشهد لفاطمة عليها السلام بأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ملكها أرض فدك، وهل هذا الأمر يحتاج إلى شهود والنبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءته فدك في السنة السابعة، أي إن هذه الأرض بقيت ثلاث سنوات بيد فاطمة، وأن وكلاءها يعملون بها أمام المهاجرين والأنصار واليهود والنصارى.

فلماذا يطلب من فاطمة أن تأتي بالشهود؟ إلا لأن الأمر أصبح أشبه

ص: 233

بالمستحيل، فمن يشهد مع فاطمة بعد جريمة حرق بيت فاطمة عليها السلام.

ولذلك: لم يأتِ معها ليشهد لها على ظلامتها واغتصابها حقها غير أمير المؤمنين عليه السلام ومولاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أم أيمن؛ وهذا يكشف عن حجم الظلم الذي نزل بها عليها السلام فلا من أحد، لا من المهاجرين، ولا الأنصار، ولا من بني هاشم، ولا زوجة من أزواج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، سوى علي عليه السلام وأم أيمن.

فمن يجرؤ على المجيء وقد هتكت حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذا المستوى الذي فعله الشيخان وعصابة من الصحابة الذين خجل من بيانهم المؤرخون فقالوا: (جاء عمر بعصابة من المسلمين)، وكأننا في زمن آخر ليس بزمن الصحابة.

5 - لما جاءته عليها السلام بما طلب، وجد نفسه ملزماً برد فدك، وذلك أن عدم الركون لهذا الطلب يكشف إصراره على ظلم فاطمة بشكل خاص، فإن كان دخوله لبيتها وحرقه بدافع جمع الصحابة على بيعة رجل واحد ومنعاً - كما يقولون - من شق عصا الأمة وتفرقها الذي أصبح واقع حال، وثمرة من ثمرات السقيفة.

فإن عدم تسليمه لأرض فدك بعد شهادة الشهود ليس له توجيه سوى التجاهر بحرب فاطمة عليها السلام، وعندها قد ينهض معها من ينهض ولو باحتمالية ضعيفة جدا.

فضلاً عن احتدام المواجهة من جديد لاسيما وقد استقر له الأمر وبايعه

ص: 234

الناس واستقر مجلسه في السلطان الجديد.

6 - لا أجد كلمات مناسبة تصف هذا الفعل الذي قام به عمر بن الخطاب حينما اعترض بضعة النبوة وروح المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فأرهبها وسلبها الكتاب، ثم ليتفل فيه ويمحوه ويمزقه ولعل الأمر لو كان مسجلاً بعدسة مصورٍ لكتب في أسفل الصورة (بدون تعليق) إذ يترك الكلام فيها للناظر.

7 - إن تلك الحدود التي ذكرها الإمام أبو الحسن موسى الكاظم عليه السلام إنما هي الحدود الشرعية بحسب قانون الفيء الذي جعله الله خاصة من خصائص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن ثم فكل ما هو داخل تحت هذا العنوان فهو من حق فاطمة وأبنائها فهم الورثة الشرعيون لمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وإن من انتفع من هذه الأموال بدون إذن منها أو منهم من بعدها فهو غاصب لمال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ومال آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ولذلك قال له المهدي: (كثير) أي إن ما ذكرت من الحدود فهو كثير:

وذلك: إن رمزية فدك كانت منطلقاً للثورة ورفع الظلم عن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

8 - إن إطلاق الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر بصفة (أمير المؤمنين) على المهدي العباسي ليس إقراراً له بالإمارة على المؤمنين، فأين هؤلاء الطواغيت والإيمان والمؤمنين، وإنما اتصافه بالصفة التي أطلقها على نفسه كمن يصف نفسه ل - (ملك الملوك)، أو (صاحب الجلالة).

ص: 235

المبحث الثالث: إرهاب الحرب الجسدية والنفسية والاجتماعية على فاطمة عليها السلام

اشارة

على الرغم من الوقت القصير الذي عاشته فاطمة عليها السلام بعد وفاة أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والبالغة خمسة وسبعين يوماً إلاّ أنها تعرضت لإرهاب وحرب منظمة على مختلف المجالات حتى لحقت بربها صابرة محتسبة شهيدة.

بل يكفي بالقارئ الاعتقاد بقتل فاطمة عليها السلام هو هذه المدّة القصيرة التي عاشتها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع تلك الأحداث التي أنزلها عليها أبو بكر وعمر وعصابتهما كما أسماها البعض من المؤرخين في الهجوم على بيت النبوة (بعصابة من المسلمين) يقودهم عمر بن الخطاب.

ولكن:

كيف أصبح حال فاطمة مع هذه المصائب والابتلاءات والأحداث المتسارعة التي لو قسمت على هذه الأيام لخرجنا بنتيجة مفادها أن فاطمة عليها السلام في كل يوم يمر عليها بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان محملاً بمصاب جديد

ص: 236

وابتلاء جديد حتى وصفت حالها عليها السلام بقولها:

صبّت عليّ مصائب لو أنها *** صبّت على الأيام صرن لياليا(1)

وفضلاً عن قولها وبيانها لما أصابها من المصائب فإن هناك بعض الروايات الأخرى التي تعطي صورة لهذه المصائب وحجمها التي نزلت بفاطمة وعلى مختلف المجالات كالجسدية والنفسية والاجتماعية فضلاً عن الاقتصادية التي مرّ بيانها، والتي سنتناولها من خلال هذه المجالات لكي ندرك حجم المعاناة والألم الذي أصاب فاطمة عليها السلام فكان إرهاباً منظماً عجل باستشهادها ومفارقتها للحياة.

المسألة الأولى: كيف أصبح حال الزهراء فاطمة عليها السلام بفعل هذه الحرب التي تشن عليها

اشارة

تظهر الروايات حالتين مما تصف وضع الزهراء الجسدي بعد هذه الحرب أو خلالها وهي كالآتي:

أولاً: إنها أحد البكائين الخمسة

لم تزل الزهراء عليها السلام باكية بعد أبيها صلى الله عليه وآله وسلم في الليل والنهار لا يجف لها رمش ولم تسكن لها عين، ولا يهدأ لها أنين، حتى عدت بذلك أحد البكائين الخمسة الذين عرفهم المسلمون وغيرهم وذلك لطول بكائهم ودوام حزنهم كما أشارت الروايات الشريفة، فمنها:

ص: 237


1- المناقب لابن شهر: ج 1، ص 208؛ مسكن الفؤاد للشهيد الثاني: ص 103؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص 181؛ تفسير الآلوسي: ج 19، ص 149؛ سير أعلام النبلاء: ج 2، ص 134؛ الوافي بالوفيات: ج 1، ص 253؛ تاريخ مكة لمحمد بن أحمد المكي الحنفي: ص 321؛ الاكتفاء للكلاعي: ص 62.

عن الإمام جعفر بن محمد عليهما السلام قال:

«البكاءون خمسة آدم، ويعقوب، ويوسف، وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وعلي بن الحسين عليهما السلام، فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية، وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصره وحتى قيل له:

(... تَاللّٰهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتّٰى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ اَلْهٰالِكِينَ (1).

وأما يوسف بكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا: إما أن تبكي بالنهار و تسكت بالليل، وإما أن تبكي بالليل وتسكت بالنهار فصالحهم على واحد منهما، وأما فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم فبكت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى تأذى بها أهل المدينة وقالوا لها: قد آذيتنا بكثرة بكائك، فكانت تخرج إلى المقابر، مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضي حاجتها ثم تنصرف، وأما علي بن الحسين عليهما السلام فبكى على الحسين عليه السلام عشرين سنة أو أربعين سنة وما وضع بين يديه طعام إلاّ بكى حتى قال له مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين، قال: إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلاّ خنقتني لذلك عبرة»)(2).

ص: 238


1- سورة يوسف، الآية: 85.
2- الأمالي للصدوق: ص 140-141؛ المناقب لابن شهر: ج 3، ص 322؛ الخصال للشيخ المفيد: ج 1، ص 272-273؛ تفسير العياشي: ج 2، ص 188؛ إرشاد القلوب للديلمي: ج 1، ص 95؛ روضة الواعظين للفتال: ج 1، ص 170؛ قصص الأنبياء للجزائري: ص 175.
ثانيا: شدة حزنها عليها السلام الذي أدى إلى يباس لحمها على عظمها

إن من كانت تلازم البكاء في الليل والنهار، ومن لم تر ضاحكة كما يقول الإمام الباقر عليه السلام:

«ما رئيت فاطمة عليها السلام ضاحكة مستبشرة منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى قبضت»(1).

فإن حالها الجسدي سيكون بأسوأ ما يمكن أن يتحمله هذا البدن الضعيف، فهو لا قدرة له على تحمل كل هذه المصائب وهذا الحزن والابتلاءات.

فقد وصل بها الحال عليها الصلاة والسلام إلى ذبول جسمها وإنهيار قواها، فقد ذابت من الحزن، هذا الحزن الذي ما زال يزداد عليها يوماً بعد يوم، وذلك أن القوم لم يتركوها وشأنها على الرغم من مصادرة مالها وحبس خمسها ومنع إرثها، فضلاً عن حرق دارها واقتحامه وإرهاب أولادها وترعيبهم، وإخراج علي عليه السلام يقاد عنوة للبيعة صابراً محتسباً ملتزماً بوصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حال فقد الناصر وخذل الصديق؛ فهذه الابتلاءات التي جرت عليها جعلت جسدها بهذا الشكل الذي يصفه الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن آبائه سلام الله عليهم أجمعين قال:

«لما حضرت فاطمة عليها السلام الوفاة كانت قد ذابت من الحزن وذهب لحمها فدعت أسماء بنت عميس».

وقال أبو بصير في حديثه عن أبي جعفر عليه السلام أنها:

ص: 239


1- كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 498.

«دعت أم أيمن فقالت: يا أم أيمن اصنعي لي نعشا يواري جسدي فإني قد ذهب لحمي، فقالت لها: يا بنت رسول الله ألا أريك شيئا يصنع في أرض الحبشة؟

قالت فاطمة عليها السلام: بلى، فصنعت لها مقدار ذراع من جرائد النخل وطرحت فوق النعش ثوبا فغطاها فقالت فاطمة عليها السلام: سترتيني سترك الله من النار».

ولكن ما هي الأسباب التي أدت إلى هذا الحال الذي عليه فاطمة عليها السلام؟

إن الأسباب التي أدت إلى هذا الحال الذي عليه فاطمة صلوات الله عليها هي الحرب المفتوحة التي شنها أبو بكر وعمر ومن انطوى تحت لوائهما وعلى كافة المجالات، وللمزيد من التوضيح والبيان نورد ما تعرضت له فاطمة على يدي الشيخين ضمن المسائل الآتية:

المسألة الثانية: إرهاب الحرب الجسدية على فاطمة عليها السلام

إن مما مرّ بيانه في المباحث السابقة هو قيام عمر بن الخطاب بمحاصرة بيت فاطمة عليها السلام بالحطب وإحراقه، ثم اقتحامه فخلف ذلك آثاراً جسدية كبيرة على بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكانت كالآتي:

1 - عصرها بين الحائط والباب.

2 - كسر ضلعها.

3 - إسقاط جنينها، وقتل المحسن.

4 - ضربها بالسوط على يدها حتى أصبح كالدملج.

5 - لطمها على وجهها فأصيبت عينها.

ص: 240

ولعل ذكر ما جرى عليها بلسان ولدها الإمام الحسن عليه السلام فيه الكفاية في بيان إرهاب الحرب الجسدية التي شنها عمر بن الخطاب وعصابته من المسلمين.

فقال عليه السلام مخاطباً عمر بن الخطاب:

«وأنت الذي ضربت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أدميتها وألقت ما في بطنها استذلالاً منك لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومخالفة منك لأمره وانتهاكاً لحرمته»(1).

ولعل قيام ابن أبي الحديد بذكر هذه الفجائع والمصائب واستهجانه لها ورمي الشيعة بالتفرد به وسكوته عن كونه صحيحاً أم ضعيفاً أم مرسلاً يدل على أن هذه المصائب صحيحة وقد روتها أهل السنة والجماعة بأسانيد صحيحة كما مرّ بيانه فيما أخرجه ابن أبي شيبة الكوفي وابن أبي عاصم وغيرهما من تهديد عمر بن الخطاب فاطمة بحرق بيتها بمن فيه فضلاً عما روته أهل السنة في قتل المحسن ومصرعه كما بيّناه أيضا.

أما قول ابن الحديد المعتزلي فكان كالآتي:

(فأما الأمور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة: من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة عليها السلام وأنه ضربها بالسوط، فصار في عضدها كالدملج، وبقي أثره إلى أن ماتت، وأن عمر أضغطها بين الباب والجدار فصاحت يا أبتاه يا رسول الله، وألقت جنينا ميتاً، وجعل في عنق علي عليه السلام حبل يقاد به وهو يعتل، وفاطمة خلفه تصرخ وتنادي بالويل والثبور، وابناه حسن وحسين معهما يبكيان،

ص: 241


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 278.

وأن عليا لما أحضر سألوه البيعة فامتنع فتهدد بالقتل؛ فقال: إذن تقتلون عبد الله، وأخا رسول الله؛ فقالوا: أما عبد الله فنعم، وأما أخو رسول الله فلا؛ وأنه طعن فيهم في أوجههم بالنفاق، وسطر صحيفة الغدر التي اجتمعوا عليها، وبأنهم أرادوا أن ينفروا ناقة رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم ليلة العقبة فكله لا أصل له عند أصحابنا، ولا يثبته أحد منهم، ولا رواه أهل الحديث، ولا يعرفونه، وإنما هو شيء تنفرد الشيعة بنقله)(1).

أقول:

لقد مرّ عليك أيها القارئ الكريم عرض أقوال ابن أبي الحديد ومناقشتها وبيان تردده فيها، فمرة يقر بها أي بهذه المصائب، ومرة يقر بنصفها، ومرة يلقيها في عنق الشيعة وتفردها بروايتها، والذي يهمنا هنا ترتيبه الزمني لمجريات هذه الأحداث والمصائب بشكل دقيق يكشف عن اهتمامه الكبير بها، ولا يخفى على من تحقق في أقواله وآرائها يكتشف سر هذا التردد، فحبه للشيخين وإقراره بهذه الأمور الشنيعة والمستهجنة التي فعلوها ببيت النبوة جعلته يحمد الله تعالى الذي (قدم المفضول على الفاضل) ومن ثم قوله: (إنما هو شيء تنفرد الشيعة بنقله)، لا أساس له من الصحة وهو محاولة لدفع هذه الشنائع عمن يتولى أبا بكر وعمر.

ومن ثمّ: فقد قادا حرباً مفتوحة على بيت النبوة فكانت على الصعيد الجسدي لبضعة النبوة فاطمة عليها السلام ما مر ذكره، فكيف لا يكون حزنها طويلاً وكيف لا ييبس لحمها ويذوب بدنها؟!

ص: 242


1- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد: ج 2، ص 60.

علماً: أن مجريات الحرب النفسية التي شنها الشيخان ضدها عليها السلام لم تكن أقل شناعة وبشاعة من إرهاب الحرب الجسدية، وهو كما في المسألة الثالثة.

المسألة الثالثة: إرهاب الحرب النفسية على فاطمة صلوات الله عليها

اشارة

إن من أشنع الأمور التي نزلت ببيت النبوة التي يندى لها جبين الإنسانية فضلاً عن السجية العربية وما تفرضه الشريعة الإسلامية من خطوط حمراء في التعامل مع آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إلا أن كل هذا لم نجد له أثراً في حركة أبي بكر وعمر إتجاه بيت النبوة وعنوان وجوده فاطمة قلب النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وروحه التي بين جنبيه.

ولعل القوم حينما لم يستطيعوا القيام بهذه الحرب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما يكشفه الوحي ويظهره من نصوص قرآنية تفضح الفاعل على فعله، انهالوا على ابنته وبضعته فاطمة عليها السلام بما لديها من المحل والمكانة في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فكان إرهابهم لها على المستوى النفسي ما يأتي:

أولاً: إنّ أوّل من قذف فاطمة على المنبر وأسس لذلك أبو بكر بن أبي قحافة

لم تزل الحرب النفسية التي استخدمها مشركو العرب اتجاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في وصفه بالجنون، والكذب، والسحر، والشعر، مستخدمة ضد أهل بيته عليهم السلام إلاّ أن الفارق بين الحرب النفسية ضد رسول الله وبين الحرب النفسية ضد أهل البيت أن الأولى كانت من طرف ظاهر في كفره وعدائه أما الثاني فكان مستتراً بالإسلام وهم المنافقون فكانت تأثيرات الحرب النفسية على

ص: 243

أهل البيت عليهم السلام أكثر بكثير من الحرب التي شنها المشركون اتجاه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك أن الحرب ضد أهل البيت أحدثت شرخاً عظيماً في العقيدة من خلال التجري العلني والصريح على الله ورسوله وتحت مرأى ومسمع من المهاجرين والأنصار، إذ لم يزل أولئك وأشياعهم من وصف فاطمة صلوات الله عليها بصفات لا تليق بأمة من إماء العرب والعجم فكيف بسيدة نساء العالمين وبضعة سيد الأنبياء والمرسلين وزوجة سيد الوصيين وأفضل الصحابة أجمعين وهل يرقى أحد على من كان نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فضلاً عن ولادتها للحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة وريحانتي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

لكن أبا بكر لم يمنعه مانع من قذف محصنة النبوة ومخدرة الرسالة! ومن على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونعتها بالسيئات، فأي شناعة وبشاعة واستهجان ومجاجة وتوحش وتجرٍ على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم من هذا الفعل؟!!

ولعل الرجوع إلى قوله الذي رواه الجوهري (المتوفى سنة 323 ه -) وابن أبي الحديد المعتزلي (المتوفى سنة 656 ه -) وغيرهما فيه الكفاية لبيان إرهاب الحرب النفسية التي شنها أبو بكر وعمر على فاطمة عليها السلام فيقول، واللفظ للجوهري، قال:

(حدثنا جعفر بن محمد بن عمارة، بالإسناد الأول، قال: فلما سمع أبو بكر خطبتها شق عليه مقالتها فصعد المنبر، - أي: منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - وقال:

ص: 244

ما هذه الرعة إلى كل قالة، أين كانت هذه الأماني في عهد رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم، ألا من سمع فليقل، ومن شهد فليتكلم، إنما هو فعالة يشهده ذنبه، حرب لكل فتنة، هو الذي يقول: كروها جذعة بعد ما هرمت، يستعينون بالضعفة، ويستنصرون بالنساء، كأم طحال أحب أهلها إليها البغي...!!(1).

حتى أصبحت هذه الشنيعة سنة لدى أشياع أبي بكر وعمر فقد تعاهدوا على ذلك في التجري على أهل بيت النبوة وهجائه وقذفه، وفي ذلك يقول الإمام جعفر ابن محمد الصادق عليهما السلام:

«إن الكبائر سبع فينا أنزلت ومنا استحلت فأولها الشرك بالله العظيم، وقتل النفس التي حرم الله قتلها، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، وقذف المحصنة، والفرار من الزحف، وإنكار حقنا.

فأما الشرك بالله فقد أنزل الله فينا ما أنزل، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما قال فكذبوا الله ورسوله وأشركوا بالله.

وأما قتل النفس التي حرم الله قتلها فقد قتلوا الحسين بن علي عليهما السلام وأصحابه.

وأما أكل مال اليتيم، فقد ذهبوا بفيئنا الذي جعله الله لنا وأعطوه غيرنا.

وأما عقوق الوالدين، فقد أنزل الله ذلك في كتابه فقال:

ص: 245


1- السقيفة وفدك للجوهري: ص 105؛ شرح ابن أبي الحديد للمعتزلي: ج 16، ص 215؛ البحار للمجلسي: ج 29، ص 326؛ فدك في التاريخ للسيد محمد باقر الصدر: ص 67.

(اَلنَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ...)(1).

فعقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذريته وعقوا أمهم خديجة في ذريتها.

وأما قذف المحصنة، فقد قذفوا فاطمة عليها السلام على منابرهم.

وأما الفرار من الزحف، فقد أعطوا أمير المؤمنين بيعتهم طائعين غير مكرهين ففروا عنه وخذلوه.

وأما إنكار حقنا، فهذا ما لا ينازعون فيه»(2).

ولعل الرجوع إلى ما أخرجه أحمد في المسند وغيره(3) من إجراء سنة سب علي بن أبي طالب على المنابر يغني القارئ والباحث عن التتبع فيما أسسه الأولون من التعرض لبيت النبوة في إرهاب الحرب النفسية وغيرها كما سيمر.

ثانيا: بيت الأحزان شاهد على إرهاب الحرب النفسية على فاطمة عليها السلام

لا تجد المرأة بما خصها الله تعالى من عاطفة ورقة وضعف بدني فيما لو قورن مع الرجل، لم تجد غير الدمع وسيلة تعبر عما يختلج في نفسها من الألم والحزن والقهر، وكذاك الفرح؛ فالدمع هو اللسان الصامت الذي تستخدمه المرأة لإيصال المعاني بأوضح مما يجيده اللسان الناطق من بيان وبلاغة.

ولذا:

ص: 246


1- سورة الأحزاب، الآية: 6.
2- علل الشرايع للصدوق: ج 2، ص 474.
3- مسند أحمد بن حنبل، من مسند عبد الله بن عباس: ج 1، ص 331؛ المستدرك على الصحيحين: ج 3، ص 132؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 113.

كانت الزهراء فاطمة صلوات الله عليها كثيرة الدمع ككثر الأحزان والآلام التي ألمت بها وأصابت قلبها الذي تصدع لفراق روح حياتها ووجودها ألا وهو أبوها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عما شنته عصابة المسلمين التي قادها عمر بن الخطاب كما يسميها التاريخ(1)، في حربها ضد فاطمة عليها السلام وبيت النبوة.

فكان من شأنها ما رواه العلامة المجلسي رحمه الله في حجم حزنها على مصابها برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي لم تجد فيه إلاّ المعبر عن آلامها وأحزانها، فيقول عن لسان خادمتها فضة رحمها الله حينما سألها ورقة بن عبد الله عن حال فاطمة عليها السلام بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقالت له:

(يا ورقة بن عبد الله هيجت عليّ حزناً ساكناً، وأشجاناً في فؤادي كانت كامنة، فاسمع الآن ما شاهدت منها عليها السلام.

اعلم أنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم افتجع له الصغير والكبير وكثر عليه البكاء، وقل العزاء، وعظم رزؤه على الأقرباء والأصحاب والأولياء والأحباب والغرباء والأنساب، ولم تلق إلا كل باك وباكية، ونادب ونادبة، ولم يكن في أهل الأرض والأصحاب، والأقرباء والأحباب، أشد حزنا وأعظم بكاء وانتحابا من مولاتي فاطمة الزهراء عليها السلام، وكان حزنها يتجدد ويزيد، وبكاؤها يشتد.

ص: 247


1- الرياض النضرة للمحب الطبري: ج 1، ص 241.

فجلست سبعة أيام لا يهدأ لها أنين، ولا يسكن منها الحنين، كل يوم جاء كان بكاؤها أكثر من اليوم الأول، فلما كان في اليوم الثامن أبدت ما كتمت من الحزن، فلم تطق صبرا إذ خرجت وصرخت، فكأنها من فم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنطق، فتبادرت النسوان، وخرجت الولائد والولدان، وضج الناس بالبكاء والنحيب وجاء الناس من كل مكان، وأطفئت المصابيح لكيلا تتبين صفحات النساء وخيل إلى النسوان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قام من قبره، وصارت الناس في دهشة وحيرة لما قد رهقهم، وهي عليها السلام تنادي وتندب أباه:

«وا أبتاه، وا صفياه، وا محمداه! وا أبا القاسماه، وا ربيع الأرامل واليتامى، من للقبلة والمصلى، ومن لابنتك الوالهة الثكلى».

ثم أقبلت تعثر في أذيالها، وهي لا تبصر شيئا من عبرتها، ومن تواتر دمعتها حتى دنت من قبر أبيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم فلما نظرت إلى الحجرة وقع طرفها على المأذنة فقصرت خطاها، ودام نحيبها وبكاها، إلى أن أغمي عليها، فتبادرت النسوان إليها فنضحن الماء عليها وعلى صدرها وجبينها حتى أفاقت، فلما أفاقت من غشيتها قامت وهي تقول.

«رفعت قوتي، وخانني جلدي، وشمت بي عدوي، والكمد قاتلي، يا أبتاه بقيت والهة وحيدة، وحيرانة فريدة، فقد انخمد صوتي، وانقطع ظهري، وتنغص عيشي، وتكدر دهري، فما أجد يا أبتاه بعدك أنيسا لوحشتي، ولا رادا لدمعتي، ولا معينا لضعفي، فقد فني بعدك محكم التنزيل، ومهبط جبرئيل، ومحل ميكائيل انقلبت بعدك يا أبتاه الأسباب، وتغلقت دوني الأبواب، فأنا للدنيا بعدك قالية وعليك ما

ص: 248

ترددت أنفاسي باكية، لا ينفد شوقي إليك، ولا حزني عليك».

ثم نادت:

«يا أبتاه والباه».

ثم قالت:

إن حزني عليك حزن جديد

وفؤادي والله صب عنيد

كل يوم يزيد فيه شجوني

واكتيابي عليك ليس يبيد

جل خطبي فبان عني عزائي

فبكائي كل وقت جديد

إن قلبا عليك يألف صبرا

أو عزاء فإنه لجليد

ثم نادت:

«يا أبتاه انقطعت بك الدنيا بأنوارها، وزوت زهرتها وكانت ببهجتك زاهرة، فقد أسود نهارها، فصار يحكي حنادسها رطبها ويابسها، يا أبتاه لا زلت آسفة عليك إلى التلاق، يا أبتاه زال غمضي منذ حق الفراق، يا أبتاه من للأرامل والمساكين، ومن للأمة إلى يوم الدين، يا أبتاه أمسينا بعدك من المستضعفين يا أبتاه أصبحت الناس عنا معرضين، ولقد كنا بك معظمين في الناس غير مستضعفين فأي دمعة لفراقك لا تنهمل، وأي حزن بعدك عليك لا يتصل، وأي جفن بعدك بالنوم يكتحل، وأنت ربيع الدين، ونور النبيين، فكيف للجبال لا تمور، وللبحار بعدك لا تغور، والأرض كيف لم تتزلزل، رميت يا أبتاه بالخطب الجليل، ولم تكن الرزية بالقليل، وطرقت يا أبتاه بالمصاب العظيم، وبالفادح المهول.

ص: 249

بكتك يا أبتاه الاملاك، ووقفت الأفلاك، فمنبرك بعدك مستوحش، ومحرابك خال من مناجاتك، وقبرك فرح بمواراتك، والجنة مشتاقة إليك وإلى دعائك وصلاتك.

يا أبتاه ما أعظم ظلمة مجالسك، فوا أسفاه عليك إلى أن أقدم عاجلا عليك وأثكل أبو الحسن المؤتمن أبو ولديك، الحسن والحسين، وأخوك ووليك وحبيبك ومن ربيته صغيرا، وواخيته كبيرا، وأحلى أحبابك وأصحابك إليك من كان منهم سابقا ومهاجرا وناصرا، والثكل شاملنا، والبكاء قاتلنا، والأسى لازمنا».

ثم زفرت زفرة وأنت أنة كادت روحها أن تخرج ثم قالت:

قل صبري وبان عني عزائي

بعد فقدي لخاتم الأنبياء

عين يا عين أسكبي الدمع سحا

ويك لا تبخلي بفيض الدماء

يا رسول الإله يا خيرة الله

وكهف الأيتام والضعفاء

قد بكتك الجبال والوحش جمعا

والطير والأرض بعد بكي السماء

وبكاك الحجون والركن

والمشعر يا سيدي مع البطحاء

وبكاك المحراب والدرس للقرآن

في الصبح معلنا والمساء

وبكاك الإسلام إذ صار في

الناس غريبا من سائر الغرباء

لو ترى المنبر الذي كنت تعلوه

علاه الظلام بعد الضياء

يا إلهي عجل وفاتي سريعاً

فلقد تنغصت الحياة يا مولائي

قالت: ثم رجعت إلى منزلها وأخذت بالبكاء والعويل ليلها ونهارها، وهي

ص: 250

لا ترقأ دمعتها، ولا تهدأ زفرتها، واجتمع شيوخ أهل المدينة وأقبلوا إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام فقالوا له: يا أبا الحسن إن فاطمة عليها السلام تبكي الليل والنهار فلا أحد منا يتهنأ بالنوم في الليل على فرشنا، ولا بالنهار لنا قرار على أشغالنا وطلب معايشنا، وإنا نخبرك أن تسألها إما أن تبكي ليلا أو نهارا، فقال عليه السلام: حبا وكرامة.

فأقبل أمير المؤمنين عليه السلام حتى دخل على فاطمة عليها السلام وهي لا تفيق من البكاء، ولا ينفع فيها العزاء فلما رأته سكنت هنيئة له، فقال لها: يا بنت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - إن شيوخ المدينة يسألوني أن أسألك إما أن تبكي أباك ليلا وإما نهارا، فقالت:

«يا أبا الحسن ما أقل مكثي بينهم وما أقرب مغيبي من بين أظهرهم فوالله لا أسكت ليلا ولا نهارا أو ألحق بأبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

فقال لها علي عليه السلام:

«افعلي يا بنت رسول الله ما بدا لك».

ثم إنه بنى لها بيتا في البقيع نازحا عن المدينة يسمى بيت الأحزان، وكانت إذا أصبحت قدمت الحسن والحسين عليهما السلام أمامها، وخرجت إلى البقيع باكية فلا تزال بين القبور باكية، فإذا جاء الليل أقبل أمير المؤمنين عليه السلام إليها وساقها بين يديه إلى منزلها)(1).

والحديث يكشف عن مبلغ حزنها وألمها على رحيل رسول الله صلى الله

ص: 251


1- البحار للمجلسي: ج 43، ص 175-178.

عليه وآله وسلم والذي - كما أسلفنا - وجدت فيه المعبر مما أصابها من المصائب والخطوب؛ إلاّ أن الذي نحن بصدده وهو بيت الأحزان الذي أصبح شاهداً على إرهاب الحرب النفسية التي شنها عمر بن الخطاب في عصابة مع المسلمين ضد بيت النبوة الذين لم يطيقوا سماع بكائها فمنعوها حتى من هذا الحق الإنساني والشخصي الذي ينفرد به الإنسان مع نفسه إلاّ أنهم أرهبوها بحربهم النفسية عليها.

ولأن بيت الأحزان كان أحد الشهود الحية والناطقة على إرهاب الحرب النفسية ضد فاطمة، فقد منعوا ذكره وقيامه، فهدم في البقيع بعد أن ظل ينوح على ما لاقته بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وينطق عما أجرمته عصابة المسلمين بحقها.

قال السمهودي في بيان المشاهد التي كانت في البقيع في المدينة المنورة:

(ومنها: مشهد سيدنا إبراهيم ابن سيدنا رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم، وقبره على نَعْتِ قبر الحسن والعباس، وهو ملصق إلى جدار المشهد القبلي، وفي هذا الجدار شباك(1)، قال المجد: وموضع تربته يُعرف ببيت الحزن، يقال: إنه البيت الذي أوَتْ إليه فاطمة رضي الله عنها، والتزمت الحزن فيه بعد وفاة أبيها سيد المرسلين صلى الله عليه - وآله - وسلم(2)، انتهى.

والمشهور ببيت الحزن إنما هو الموضع المعروف بمسجد فاطمة في قبلة مشهد

ص: 252


1- في المغانم المطالبة: ص 209، زيادة: (من جهة القبلة).
2- المصدر السابق.

الحسن والعباس، وإليه أشار ابن جُبير بقوله: ويلي القبة العباسيّة بيت لفاطمة بنت الرسول صلى الله عليه - وآله - وسلم ويُعرف ببيت الحزن، يقال: إنه الذي أوَتْ إليه والتزمت الحزن فيه عند وفاة أبيها صلى الله عليه - وآله - وسلم(1).

وفيه قبرها على أحد الأقوال - كما قدمناه - وأظنّه في موضع بيت علي بن أبي طالب الذي كان اتّخذه بالبقيع، وفيه اليوم هيئة قبور)(2).

وذكره، أي: بيت الأحزان، حمد الجاسر في جمعه لمائة مخطوط في تاريخ المدينة المنورة، فقد ورد ذكره في وصف المدينة في سنة 1303 ه -- 1885 م لعلي بن موسى الأفندي فقال:

(وفي قبليها قبة لا شيء فيها، وتعرف بقبة الأحزان لا يزورها إلاّ الشيعة من الأعاجم وغيرهم في زمن الموسم)(3) - أي الحج -.

وهذا يدل على أن بيت الأحزان كان قائماً وشاخصاً في هذا العام وما بعده حتى جاء أزلام النواصب وأشياع شيخ بني أمية ابن تيمية في الجلوس على كرسي الحكم في بلاد الحجاز فهدموا هذه الشواهد ليضيفوا بذاك أسماءهم إلى سجل تلك العصابة التي أحرقت واقتحمت بيت النبوة وموضع الرسالة ومختلف الملائكة ليكون بذلك موضعاً من مواضع الحرب بين الملائكة والشياطين، وبين القداسة والدناسة.

ص: 253


1- رحلة ابن جبير: ص 155.
2- وفاء الوفاء للسمهودي: ج 3، ص 303.
3- وصف المدينة المنورة في سنة 1303 ه -- 1885 م (مخطوط).

المسألة الرابعة: إرهاب الحرب الاجتماعية على فاطمة عليها السلام

إن من الشواهد التي تدل على إرهاب الحرب الاجتماعية على بيت النبوة وجوهر وجوده فاطمة عليها السلام هو هجران الناس لبيت النبوة وجفاؤهم لفاطمة عليها السلام، على الرغم من احتياجها لمن يواسيها ويعزيها بمصاب أبيها.

ولكن حاشى لله تعالى أن يترك قلب النبوة وروح الرسالة، وحيدة غريبة، فقد أهبط إليها جبرائيل يحادثها ويكلمها تسمع صوته ولا ترى شخصه تسأله عن أبيها وموضعه وحاله في روضته، ويخبرها عنه وعن ذريتها وما يجري في الأمم والأزمنة، حتى خط علي عليه السلام ما كانت تسمع فاطمة من جبرائيل وتقصه على ابن عمها كما مرّ بيانه في مبحث مصحف فاطمة صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

وعليه:

فمن الشواهد على مقاطعة الناس لفاطمة وجفائهم لها معاتبتها لسلمان الفارسي الذي انقطع عن زيارة بيت النبوة بعد هذه الأحداث العصيبة التي أحلت به فكان من شأنها عليها السلام عتابها لسلمان ما رواه قطب الدين الراوندي بحذف سنده وأخرجه العلامة ابن طاووس مسنداً:

(أن سلمان قال: خرجت إلى فاطمة فقالت:

«جفوتموني بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»(1).

ص: 254


1- وفي مهج الدعوات للعلامة ابن طاووس: قال سلمان خرجت من منزلي يوماً بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعشرة أيام فلقيني علي بن أبي طالب عليه السلام ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال لي: «يا سلمان جفوتنا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟»، فقلت: حبيبي أبا الحسن مثلكم لا يجفى غير أن حزني على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طال، فهو منفي من زيارتكم، فقال عليه السلام لي: «يا سلمان أئت منزل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنها إليك مشتاقة تريد أن تتحفك بتحفة....».

ثم قالت:

«أجلس».

فجلست فحدثتني أنها كانت جالسة أمس وباب الدار مغلق، قالت:

«وأنا أتفكر في انقطاع الوحي عنا وانصراف الملائكة عن منزلنا بوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إذ انفتح الباب من غير أن يفتحه منا أحد، فدخلت عليّ ثلاث جوار من الحور العين من دار السلام وقلن: نحن من الحور العين من دار السلام أرسلنا إليك رب العالمين يا ابنة محمد، كنا مشتاقات إليك، فقلت لواحدة منهن، أظن أنها أكبرهن سنا: ما اسمك؟ قالت: مقدودة خلقت للمقداد بن الأسود، وقلت للثانية: ما اسمك؟ قالت: ذرة، خلقت لأبي ذر، وقلت للثالثة: ما اسمك؟ قالت: سلمى، خلقت لسلمان الفارسي».

ثم قالت فاطمة:

«أخرجن لنا طبقاً عليه رطب أمثال الخشكنانك الكبار أشد بياضا من الثلج وأذكى ريحا من المسك الأذفر وقد أحرزت نصيبك لأنك منا أهل البيت فأفطر عليه، وإذا كان غدا فأتني بنواه».

قال سلمان: فأخذت الرطب فما مررت بجماعة إلاّ قالوا: معك مسك، فأفطر عليه، فلم أجد له نواة، فغدوت إليها وقلت: يا ابنة رسول الله لم أجد له

ص: 255

عجماً، قالت:

«يا سلمان إنما هو نخل غرسه الله لي في دار السلام بكلام علمنيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال لي: إن سرك أن لا تمسك الحمى في دار الدنيا فواظبي عليه وقولي: (بسم الله النور النور بسم الله نور على نور، بسم الله الذي هو مدبر الأمور، بسم الله الذي خلق النور، الحمد لله الذي أنزل النور على الطور، في كتاب مسطور، بقدر مقدور، على نبي محبور، الحمد لله الذي هو بالعز مذكور، وبالفخر مشهور، وعلى السراء والضراء مشكور)».

قال سلمان: فتعلمته وعلمته أكثر من ألف إنسان ممن به الحمى فكلهم برءوا بإذن الله)(1).

والحديث الشريف يكشف عن بعض الأمور، منها:

1 - إن الحالة العامة التي استخدمها المسلمون من المهاجرين والأنصار مع بيت النبوة كانت مقاطعة أهل هذا البيت وهجرانهم وجفاءهم على اختلاف منازلهم.

2 - إن سلمان كان دافعه في هجران هذا البيت هو حزنه على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلاّ أن ذلك ترك ألماً على قلوب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهو مما عبّر عنه أمير المؤمنين حينما قال لسلمان:

«جفوتمونا بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

ص: 256


1- الخرائج والجرائح للراوندي: ج 2، ص 533؛ دلائل الإمامة للطبري الشيعي: ص 107؛ مهج الدعوات لابن طاووس: ص 6.

في حين أن انقطاع الجميع وبهذا الشكل الممنهج يكشف عن إرهاب الحرب الاجتماعية التي خلقتها السقيفة وقياداتها على بيت النبوة.

3 - نقلنا الحديث بتمامه للفائدة وقد مرّ بيانه في مبحث كرامتها ومعاجزها.

المسألة الخامسة: بيان فاطمة عليها السلام للأسباب التي دفعت أبا بكر وعمر لظلمها وأهل بيتها

لم تترك الزهراء عليها السلام الأمور مبهمة على القارئ دون أن تضع بين يديه مجموعة الأسباب التي دفعت أبا بكر وعمر لشنّ هذه الحرب عليها وعلى أهل بيتها كي تدفع القارئ المنصف إلى احتكام عقله وضميره في الأخذ بالطريق التي يسلكها إلى الله تعالى.

وهو ما دأب عليه أهل البيت عليهم السلام في إرشاد الناس إلى الطريق المستقيم كي لا تضل بهم الأهواء وتجرهم الفتن إلى الهاوية والهلاك.

ولذا:

فقد قامت بنت النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ببيان هذه الأسباب لهذه الحرب المفتوحة حينما دخلت عليها عائشة بنت طلحة فرأتها باكية، فقالت لها: بأبي أنت وأمي، ما الذي يبكيك؟ فقالت لها صلوات الله عليها:

«أسائلتي عن هنة حلق بها الطائر، وحفي بها السائر، ورفع إلى السماء أثراً، ورزئت في الأرض خبراً، أن قحيف تيم، وأحيوك عدي، جاريا أبا الحسن في السباق، حتى إذا تقربا بالخناق، أسرا له الشنان، وطوياه الإعلان، فلما خبا نور الدين، وقبض النبي الأمين، نطقا بفورهما، ونفثا بسورهما، وأدلا بفدك، فيا لها لمن ملك،

ص: 257

تلك أنها عطية الرب الأعلى للنجي الأوفى، ولقد نحلنيها للصبية السواغب من نجله ونسلي، وأنها لبعلم الله وشهادة أمينه، فإن انتزعا مني البلغة، ومنعاني اللمظة، واحتسبتها يوم الحشر زلفة، وليجدنها آكلوها ساعرة حميم، في لظى جحيم»(1).

والحديث واضح الدلالة في بيان الأسباب التي كانت وراء هذه الحرب المفتوحة على بيت فاطمة عليها السلام من قبل قطبي قيادة هذه الحرب أبي بكر وعمر بن الخطاب، فكان من بينها:

1 - إنهما من بيئة خسيسة نشآ فيها فكان الأول قحيفاً في قومه، والقحيف: تصغير القحف، والقحف أسفل الإناء الذي يرتكز عليه ويضرب به للوضيع شأناً في قومه.

والثاني - أي عمر - كان أحيوك قومه، وهو من الحيكان، أي: المشي القصير، وقد حاك يُحيك حَيكاناً: إذا حرّك منكبيه وفحّج بين رجليه في المشي، فهما ممن أثرت عليهما التنشئة الاجتماعية والأسرية، فنشأ كلٌّ منهما وضيعاً ذليلاً صغير النفس، مما يدفعه إلى الانتقام ممن كانوا أهل الطهر والرفعة والحسب والوجاهة والشأنية كما حسد إبليس آدم وحسد قابيل هابيل.

ولقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة، فقال سبحانه:

(أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّٰاسَ عَلىٰ مٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنٰا آلَ إِبْرٰاهِيمَ اَلْكِتٰابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْنٰاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً)(2).

ص: 258


1- الأمالي للشيخ الطوسي رحمه الله: ص 204؛ بحار الأنوار: ج 29، ص 182.
2- سورة النساء، الآية: 54.

ولا يخفى على أهل العلم والمعرفة بالتفسير والحديث أن آل إبراهيم هم محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته ولذا اقترنت الصلاة على محمد وآله في الصلاة الإبراهيمية على إبراهيم وآل إبراهيم.

2 - إن أبا بكر وعمر حينما عجزا عن اللحاق بفخر العرب بعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أسروا له الشنآن أي العداوة وأخفيا كطي الورق الاعلان عن هذا العداء، وهم يتحيزون الفرصة فلما جاءتهم بموت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانقطاع الوحي نطقاً بفورهما وهي كناية عما كان في داخلهما من البغض والحقد والعداوة التي تغلي وتفور في جوفهما فنطقا بها عند ذاك.

3 - ونفثا بسورهما: كناية عن السم الذي تنفثه الأفعى على من حولها.

4 - فلم يكن أمامهما غير فدك موضعاً لهذا العداء والسم الذي نفثاه على بيت النبوة.

5 - إنّ هذه الأرض، فدك، نحلها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للفتية أبناء فاطمة (السواغب) وهو كناية عن صغار الطير الذي لم يكسُه الريش وليس له معيل غير أمه وأبيه.

6 - تشير عليها السلام في قولها (نجله ونسلي) إلى أن الله تعالى جعل نسل النبوة منها عليها الصلاة والسلام.

7 - ثم تصف عليها السلام هذه الأرض وما تقدمه لعيالها فقالت عنها بالبلغة أي ما يبلغ به العيش (واللمقة) إشارة إلى حركة اللسان عند مضغ الطعام، بمعنى لم تحتج من هذه الأرض كي تكون دولة بين الأغنياء ومورداً للثراء وإنما

ص: 259

لتستعين به على سد الجوع وإطعام أولادي أما خير هذه الأرض فهو للإنفاق في سبيل الله الذي أجّلته من هذه الدنيا.

ولكن:

أنى لهم الفرار والخلاص من يوم الحساب وشديد العقاب في يوم الحشر (وليجدنها أي فدك: آكلوها ساعرة حميم في لظى جحيم).

فهذا حالها في الآخرة.

أما في الدنيا فقد كانت وما تزال فدك عنواناً لظلم فاطمة عليها السلام ينشدها الشعراء ويذكرها الكتاب وفيما كتب عوّام صاحب أبي نُواس إلى بعض عمال ديار ربيعة وقد استشهد بظلم فاطمة فقال:

بحق النبيّ بحق الوصي

بحق الحُسين بحق الحسن

بحق التي ظلمت حقّها

ووالدها خير ميت دفن

ترفق بارزاقنا في الخراج

بترفيهها وبحَطّ المؤن(1)

وقال ابن سنان الخفاجي:

وقالوا قد تغيّرت الليالي

وضيّعت المنازل والحقوقُ

فاقسم ما استجد الدهر خُلقا

ولا عدوانه إلا عتيقُ

أليس يرَدُّ عن فدكٍ عليٌّ

ويملك أكثر الدنيا عتيقُ (2)

ص: 260


1- العقد الفريد: ج 5، ص 91-92.
2- ابن سنان الخفاجي (المتوفى 423-466 ه -) من كتاب سر الفصاحة: ص 7، ط دار الكتب العلمية.

المبحث الرابع: مرضها وعلتها مما جرى عليها

اشارة

بعد هذه الأحداث والمصائب التي نزلت ببضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحجم الألم والحزن الذي ضربها فذاب بدنها ويبس لحمها على عظمها، وكيف لا تمرض وهل غير المرض والعلة تكون ملازمة لهذا البدن الذي أذابه الحزن وهدّه المرض؟

ولكن من لفاطمة عليها السلام وقد جفاها الناس وانقطع عنها الأقربون وهي في علتها هذه ومرضها، وهل لها غير أمير المؤمنين عليه السلام الذي دأب على تمريضها وهل لها غير ولديها وبنتيها زينب العقيلة وأم كلثوم وهما من كانتا بحاجة لرعاية، فها هي زينب في الخامسة من عمرها وها هي أم كلثوم في الرابعة من عمرها وكيف لمن كانتا في الخامسة والرابعة أن تقوما بتمريض عليل وتسهرا على رعايته؟!

ولذا:

ص: 261

تفيد الروايات أن فاطمة وهي في هذه الظروف الصعبة، وإحجام الأقربين عن زيارتها لم تكن تتمكن من الاستمرار في مقاومتها لهذا المرض فهي بين إسقاط جنينها وكسر ضلعها وحزنها على مصاب أبيها صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاك حرمتها وغصب حق الخلافة، فهذا كله وغيره عجل في وفاتها صلوات الله عليها.

أما في خصوص تمريضها فقد كانت تستعين بأم سلمى زوجة أبي رافع(1).

وقد اشتهر كذلك أن جاريتها فضة كانت كذاك تمرضها.

المسألة الأولى: عيادة أم سلمة لها في مرضها

إن التأمل في الروايات والأحداث التي مرت بها فاطمة عليها السلام تفيد بأن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يقمن بزيارتها وعيادتها في مرضها إذ الغالب أنها مرت بهذا الجفاء كما مرت من قبل أمها خديجة بنت خويلد عليها الصلاة والسلام.

والظاهر أن القدر قد حتم على فاطمة عليها السلام أن تولد إلى هذه الدنيا التي ملئت ظلماً لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهي وحيدة مع أمها فلم يحضرها أحد من نساء مكة فبعث الله لخديجة نساء من الجنة كما مرّ بيانه في الجزء الثاني من الكتاب، وكذا كان حال فاطمة عليها السلام في خروجها من الدنيا فقد هجرتها نساء المدينة، ومع الفارق، ففي مكة لم يكن الإسلام قد ظهر بهذا المستوى الذي عليه بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والممانعة والجفاء كان سببها الاختلاف العقائدي وهنا يبدو أن الدافع الذي دفع إلى جفاء فاطمة

ص: 262


1- تعجيل المنفعة لابن حجر العسقلاني: ج 1، ص 562، حديث 1669.

وهجرانها كذاك عقائدي؛ فهناك كان الشرك هو المانع، وهنا كان بغض علي وفاطمة عليهما السلام هو المانع، أي كان النفاق هو الحاجز من التجانس والتلاؤم مع الإيمان الذي يمثله عترة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذا:

لم يتقدّمن لزيارة فاطمة في مرضها على علمهن بسوء حالها وما جرى عليها سوى أم سلمة، فقد بادرت إلى زيارة بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخلت عليها، فقالت لها:

(كيف أصبحت عن ليلتك يا بنت رسول الله؟ قالت:

«أصبحت بين كمد وكرب، فقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وظلم الوصي، وهتك الله حجبه، أصبحت إمامته مقتضبة على غير ما شرع الله في التنزيل، وسنها النبي في التأويل، ولكنها أحقاد بدرية، وترات أحدية، كانت عليها قلوب النفاق مكتمنة لإمكان الوشاة، فلما استهدف الأمر أرسلت علينا شآبيب الآثار من مخيلة الشقاق فيقطع وتر الإيمان من قسي صدورها وليس على ما وعد الله من حفظ الرسالة وكفالة المؤمنين أحرزوا عائدتهم غرور الدنيا بعد انتصار ممن فتك بآبائهم في مواطن الكروب ومنازل الشهادات»)(1).

وحديثها عليها السلام مع أم سلمة يقدم صورة واضحة عن حال الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبيان الدوافع النفسية والعقائدية في منعهم من السير خلف علي بن أبي طالب عليه السلام على الرغم من علمهم وتيقنهم

ص: 263


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 2، ص 205؛ العقد النفيد والدر الفريد لمحمد بن الحسن العمي: ص 133؛ بحار الأنوار: ج 43، ص 156.

بإمامته وحقه في الجلوس مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم لقيادة الأمة وبيان الشريعة كي لا تضل من بعد نبيها فتموت السنن وتحيا البدع وتتوغل الفتن.

وكيف لا تأسى الزهراء على حال الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم وهذا حالها وكيف لا يكون أتباع الأمة للباطل وهجرانها للحق وتركه مورد كرب عليها وألم وحزن.

المسألة الثانية: عيادة نساء المدينة لها وخطبتها فيهنّ

ولما اشتد بها المرض وساء حالها بعد أن وصل خبرها إلى نساء المهاجرين والأنصار عزمت مجموعة من النساء على عيادتها وزيارتها.

فعن سويد بن غفلة(1) قال:

(لما مرضت فاطمة سلام الله عليها، المرضة التي توفيت فيها(2) دخلت عليها

ص: 264


1- قال العلامة في الخلاصة: سويد بن غفلة الجعفي قال البرقي: إنه من أولياء أمير المؤمنين عليه السلام، انتهى. وفي أسد الغابة (أدرك الجاهلية كبيرا وأسلم في حياة رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم ولم يره، وأدى صدقته إلى مصدق النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم ثم قدم المدينة فوصل يوم دفن النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم وكان مولده عام الفيل وسكن الكوفة....). وفي التهذيب: (أدرك الجاهلية وقد قيل إنه صلى مع النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم ولا يصح وقدم المدينة حين نفضت الأيدي من دفن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وهذا أصح... إلى أن قال: قال ابن معين والعجلي: ثقة... وقال أبو نعيم مات سنة ثمانين، وقال أبو عبيد القاسم بن سلام وغير واحد مات سنة إحدى وثمانين، وقال عمرو بن علي وغيره مات سنة 88.
2- قال ابن ابي الحديد في المجلد الرابع من شرحه على النهج: (قال أبو بكر وحدثنا محمد بن زكريا قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن المهلبي عن عبد الله بن حماد بن سليمان، عن أبيه، عن عبد الله بن حسن

نساء المهاجرين والأنصار يعدنها، فقلن لها: كيف أصبحت من علتك يا بنت رسول الله؟ فحمدت الله، وصلت على أبيها.

ثم قالت:

«أصبحت والله: عائفة لدنيا كن، قالية لرجالكن، لفظتهم بعد أن عجمتهم(1)، وسئمتهم بعد أن سبرتهم(2)، فقبحا لفلول الحد، واللعب بعد الجد، وقرع الصفات وصدع القناة، وختل الآراء(3)، وزلل الأهواء.

و (.. لَبِئْسَ مٰا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي اَلْعَذٰابِ هُمْ خٰالِدُونَ (4).

لا جرم لقد قلدتهم ربقتها وحملتهم اوقتها(5)، وشننت عليهم غاراتها(6) فجدعا، وعقرا وبعدا، للقوم الظالمين.

ويحهم أنى زعزعوها عن رواسي الرسالة، وقواعد النبوة والدلالة، ومهبط الروح الأمين، والطبين بأمور الدنيا(7) والدين؟!

ص: 265


1- لفظتهم: رميت بهم وطرحتهم بعد أن عجمتهم: أي بعد أن اختبرتهم وامتحنتهم.
2- سئمتهم: مللتهم، وسبرتهم: جربتهم واختبرتهم واحداً واحدا.
3- ختل الآراء: زيفها وخداعها.
4- سورة المائدة، الآية: 80.
5- أوقتها: ثقلها.
6- شننت الغارة عليهم: وجهتها عليهم من كل جهة.
7- الطبين: الفطن الحاذق العالم بكل شيء.

(... أَلاٰ ذٰلِكَ هُوَ اَلْخُسْرٰانُ اَلْمُبِينُ)(1).

وما الذي نقموا من أبي الحسن عليه السلام؟! نقموا والله منه نكير سيفه، وقلة مبالاته لحتفه، وشدة وطأته، ونكال(2) وقعته، وتنمره في ذات الله(3)، وتالله لو مالوا عن المحجة اللايحة، وزالوا عن قبول الحجة الواضحة، لردهم إليها، وحملهم عليها ولسار بهم سيرا سجحا(4)، لا يكلم حشاشه(5)، ولا يكل سائره(6) ولا يمل راكبه، ولأوردهم منهلا نميرا، صافيا، رويا، تطفح ضفتاه ولا يترنق جانباه ولأصدرهم بطانا، ونصح لهم سرا وإعلانا، ولم يكن يتحلى من الدنيا بطائل، ولا يحظى منها بنائل، غير ري الناهل، وشبعة الكافل، ولبان لهم: الزاهد من الراغب والصادق من الكاذب، ولو أن أهل القرى آمنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض، ولكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون، والذين ظلموا من هؤلاء سيصيبهم سيئات ما كسبوا وما هم بمعجزين! ألا هلم فاسمع؟! وما عشت أراك الدهر عجبا! وإن تعجب فعجب قولهم!.. ليت شعري إلى أي أسناد استندوا؟! وإلى أي عماد اعتمدوا؟! وبأية عروة تمسكوا؟! وعلى أية ذرية أقدموا واحتنكوا(7)، لبئس المولى ولبئس العشير، وبئس للظالمين بدلا، استبدلوا والله الذنابى

ص: 266


1- سورة الزمر، الآية: 15.
2- النكال: ما نكلت به غيرك كائنا ما كان.
3- تنمر: عبس وغضب.
4- سجحا: سهلا.
5- كلمه: جرحه.
6- يكل: يتعب.
7- احتنكه: استولى عليه.

بالقوادم(1)، والعجز بالكاهل(2)، فرغما لمعاطس(3) قوم(4).

(... يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً(5).

(أَلاٰ إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ وَ لٰكِنْ لاٰ يَشْعُرُونَ)(6).

ويحهم (أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاٰ يَهِدِّي إِلاّٰ أَنْ يُهْدىٰ فَمٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(7).

أما لعمري لقد لقحت، فنظرة ريثما تنتج، ثم احتلبوا ملاء القعب دما عبيطا(8)، وزعافا مبيدا، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف البطالون غب(9)، ما أسس الأولون، ثم طيبوا عن دنياكم أنفسا، واطمأنوا للفتنة جاشا، وأبشروا بسيف صارم، وسطوة معتد غاشم، وبهرج شامل، واستبداد من الظالمين: يدع فيئكم زهيدا، وجمعكم حصيدا، فيا حسرة لكم! وأنى بكم وقد عميت عليكم!

(... أَ نُلْزِمُكُمُوهٰا وَ أَنْتُمْ لَهٰا كٰارِهُونَ)(10)»)(11).

ص: 267


1- الذنابى: ذنب الطائر، وقوادمه: مقادم ريشه.
2- العجز: مؤخر الشيء، والكاهل: مقدم أعلى الظهر مما يلي العنق.
3- المعطس: الأنف.
4- في الأمالي للطوسي: (فتعسا لقوم).
5- سورة الكهف، الآية: 104.
6- سورة البقرة، الآية: 12.
7- سورة يونس، الآية: 35.
8- القعب: القدح، والدم العبيط: الخالص الطري.
9- الغب: المعاقبة؟؟
10- سورة هود، الآية: 28.
11- أمالي الطوسي: ص 374-376؛ الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 147-149؛ بلاغات النساء: ص 32-33؛ دلائل الإمامة للطبرسي: ص 40-41؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 492-494؛ معاني الأخبار للصدوق: ص 354-355؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 16، ص 233-234.

والخطبة الشريفة يظهر فيها تركيز الزهراء عليها السلام واهتمامها بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام والولاية له وتآمر القوم على محاربته ودفع الأمر عنه؛ كما أظهرت عليها السلام الأسباب والدوافع النفسية والعقائدية للمسلمين في نقمتهم على الإمام علي عليه السلام وخذلانهم له وتوليهم عدوه وهم يدركون بما خصه الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم من حقوق وخصائص عديدة.

ثم أظهرت عليها السلام من خلال هذه الخطبة النتائج التي ستؤول إليها هذه الانتهاكات والتعدي لحدود الله وظلم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأمة والعالم أكمل.

فضلاً عن احتواء الخطبة لمجموعة من السنن الكونية التي تناولناها في الجزء السابق فليراجع.

المسألة الثالثة: عيادة بعض المهاجرين والأنصار لها

إن من المسائل التي تضمنتها الخطبة الشريفة لبضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، بيان موقف الصحابة وتراجعهم عن جادة الحق وإحداثهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا يخفى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد أخبرهم بما تؤول إليه أمورهم وانقلابهم على أعقابهم وتراجعهم القهقري كما مرّ بيانه من أحاديث البخاري التي خصصها وغيره في بيان الحوض والفتن.

ص: 268

وعليه:

كانت الزهراء عليها السلام قد ركزت على هذا الانقلاب والتراجع في أول كلامها مع نساء المدينة من أزواج المهاجرين والأنصار، فقالت بعد حمد الله والصلاة على أبيها:

«أصبحت والله عائفة لدنياكن، قالية لرجالكن، شانئتهم بعد أن عرفتهم، ولفظتهم بعد أن سبرتهم، ورميتهم بعد أن عجمتهم، فقبحا لفلول الحد وخطل الرأي، وعثور الجد، وخوف الفتن:

(... لَبِئْسَ مٰا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي اَلْعَذٰابِ هُمْ خٰالِدُونَ)(1)...»)(2).

بل:

إننا لنجد أن جل كلامها مع نساء المدينة كان يرتكز على بيان موقف المهاجرين والأنصار وخذلانهم للحق وتمسكهم بالباطل مما أدى إلى انقطاع حبل المودة فيما بين بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين الصحابة فأصبحت تشنأهم، أي تعاديهم بعد معرفتها بهم وبما فعلوا، معرفة البصير الحاذق فكانوا بما فعلوا أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون، لظلمهم عترة نبيهم وإيذائهم له أشد الأذى، فقد انتهكوا حرمة الله ورسوله، وخالفوا أمره وعهده في بيعتهم لعلي بن أبي طالب في غدير خم، وحرقهم بيت النبوة واقتحامه، وقتلهم المحسن،

ص: 269


1- سورة المائدة، الآية: 80.
2- دلائل الإمامة للطبري الإمامي: ص 40.

وضرب بضعته، وكسر ضلعها وغيرها من الشنائع التي مرّ ذكرها.

إلاّ أن فاطمة عليها السلام على الرغم مما جرى عليها إلاّ أنها كانت تضع شأن الأمة وولاية علي بن أبي طالب في مقدمة مأساتها ومصائبها، حالها في ذاك حال أبيها حينما خاطبه الباري بقوله:

(... فَلاٰ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰاتٍ إِنَّ اَللّٰهَ عَلِيمٌ بِمٰا يَصْنَعُونَ (1).

وحرصاً منها على نجاتهم والأجيال التي تتبعهم وتستن بسنتهم، فكان هذا الألم والحرص ملازماً لها ولجميع الأئمة من ذريتها كما كان حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في علاقته بالعالمين فقال سبحانه:

(لَقَدْ جٰاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مٰا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(2).

وعليه:

أدى هذا الموقف الفاطمي إلى آثار كبيرة انعكست نتائجها بشكل سريع على الصحابة حينما نقلت النساء لهم موقف بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي يدركون أن رضاها وغضبها مقرون برضا الله تعالى ورسوله وغضبهما غير ظانين أن الأمر قد يصل منها إلى هذا الحد أو لعل البعض منهم كان يتصور سهولة إرضائها وتسامحها فيما أقدم عليه من قبائح وشنائع متجاهلاً أنه قد أسس إلى سنة ظلم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن سنة انحراف الأجيال

ص: 270


1- سورة فاطر، الآية: 8.
2- سورة التوبة، الآية: 128.

اللاحقة والتابعة لهذا المنهج الذي انتهجه الصحابة.

ولذا:

بادروا إلى محاولة جديدة علهم يمتصون من خلالها غضب فاطمة صلوات الله عليها وسخطها عليهم، وعداوتها لهم، فقد وقعت الحرب وسفكت دماء آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فالمقتول ابنه والدم الذي سفك دمه، فقد قتل هؤلاء ثلث نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيما لو تركوا بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحالها فلم يضرموا النار بدارها ولم قوموا باقتحامه.

فأرادوا تخفيف العذاب ورفع الجرم عنهم فبادروا إلى عيادتها في مرضها يعتذرون منها ويتظاهرون بالندم أو إلقاء الجريمة في عاتق غيرهم أو التظاهر بالجهل بما فعلوا.

ولكن: ماذا وجدوا في هذه المحاولة الكاذبة، وهل ينفع الندم في قتل آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم؟

(قال سويد بن غفلة فأعادت النساء قولها عليها السلام على رجالهن فجاء إليها قوم من المهاجرين والأنصار معتذرين وقالوا: يا سيدة النساء لو كان أبو الحسن ذكر لنا هذا الأمر قبل أن يبرم العهد ويحكم العقد لما عدنا عنه إلى غيره؟

فقالت عليها السلام:

«إليكم عني فلا عذر بعد تعذيركم ولا أمر بعد تقصيركم»)(1).

ص: 271


1- الأمالي للطوسي: ص 376؛ الاحتجاج للطبرسي: ج 1، ص 109؛ دلائل الإمامة للطبري (الشيعي): ص 41.

والجواب الذي تلقاه هؤلاء المعتذرون على ما فعلوا في عترة نبيهم صلى الله عليه وآله وسلم كان موازياً لحجم الأذى والضرر الذي أنزلوه ببنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

فضلاً: عن أن هذا العذر هو أقبح من فعل، وكأنهم لم يكونوا قد شهدوا حجة البلاغ التي نصب فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً ولياً وخليفة عليهم من بعده، ولم تقع منهم البيعة له في هذا اليوم حتى احتاجوا إلى أن يذكر لهم علي بن أبي طالب ما فعلوه.

أفتراهم كانوا ينتظرون من علي بن أبي طالب أن يفعل مثلهم فيترك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دون تغسيل وتكفين ثم يتسابق معهم للجلوس على كرسي الخلافة كما فعلوا وتراكضوا إلى سقيفة بني ساعدة يتفاوضون فيما بينهم ويتفاخرون بين وجهائهم ويتبارون بين أمرائهم أيهم يكسب الجولة غير آبهين برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو مسجى في بيته لم يبرد بدنه بعد!!

فأي عذر لهؤلاء وأي ذنب قد اقترفوا وأي حرمة قد هتكوا؟!!

المسألة الرابعة: عيادة العباس بن عبد المطلب لها

وحينما اشتد بها الحال وصعب عليها المرض، وبعد انتشار إعراضها عن المهاجرين والأنصار وحجبها لقبول عذرهم، يبدو بعد هذا أن العباس بن عبد المطلب أراد أن يستفهم منها عن انطباعها عنه وذلك بعد تقصيره وبني هاشم في الذب عنها والوقوف إلى جانبها في محنتها ومصائبها التي توالت عليها سراعاً منذ أن قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتقل إلى جوار ربه.

ص: 272

وفي ذلك يقول عمار بن ياسر: (مرضت فاطمة عليها السلام مرضها الذي توفيت فيه وثقلت، جاءها العباس بن عبد المطلب عائداً، فقيل له إنها ثقيلة، وليس يدخل عليها أحد، فانصرف إلى داره، فأرسل إلى علي عليه السلام فقال لرسوله قل له:

(يا ابن أخ، عمك يقرئك السلام، ويقول لك قد فجأني من الغم بشكاة حبيبة رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وقرة عينه وعيني فاطمة ما هدني، وإني لأظنها أولنا لحوقا برسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم، والله يختار لها ويحبوها ويزلفها لديه، فإن كان من أمرها ما لابد منه، فاجمع - أنا لك الفداء - المهاجرين والأنصار حتى يصيبوا الأجر في حضورها والصلاة عليها، وفي ذلك جمال للدين).

فقال علي عليه السلام لرسوله وأنا حاضر عنده:

«أبلغ عمي السلام، وقل لا عدمت إشفاقك وتحننك، وقد عرفت مشورتك ولرأيك فضله، إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم تزل مظلومة من حقها ممنوعة، وعن ميراثها مدفوعة، لم تحفظ فيها وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ولا رعي فيها حقه، ولا حق الله عزّ وجل، وكفى بالله حاكما ومن الظالمين منتقما، وإني أسألك يا عم أن تسمح لي بترك ما أشرت به، فإنها وصتني بستر أمرها».

قال: فلما أتى العباس رسوله بما قاله علي عليه السلام قال: يغفر الله لابن أخي، فإنه لمغفور له، إن رأي ابن أخي لا يطعن فيه، إنه لم يولد لعبد المطلب مولود أعظم بركة من علي إلاّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إن علياً لم يزل

ص: 273

أسبقهم إلى كل مكرمة، وأعلمهم بكل قضية، وأشجعهم في الكريهة، وأشدهم جهاداً للأعداء في نصرة الحنيفية، وأول من آمن بالله ورسوله صلى الله عليه - وآله - وسلم)(1).

وقد حجبت فاطمة عليها السلام عمها وعم أبيها صلى الله عليه وآله وسلم من الدخول عليها لتدل بهذا الفعل على عدم رضاها عنه لما قصر في حقها وحفظها وصونها وهو شيخ بني هاشم آنذاك، ولكنه تركها للقوم يظلمونها، ويلوعونها، ويرعبونها وأولادها.

وكذلك فعلت فيما أوصت به أمير المؤمنين عليه السلام في أمر دفنها، فحجب أمير المؤمنين المهاجرين والأنصار من ضمنهم كان عم النبي صلى الله عليه وآله وسلم العباس بن عبد المطلب، فلم يشهد جنازتها ودفنها، فكان بهذا الصنيع واحداً ممن اشترك بظلم بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - كما أسلفنا -.

وكان فيمن جاءها أيضاً، أبو بكر وعمر وقد حاولاً مراراً الدخول عليها والاعتذار منها، فكان ردها المنع كما سيمر لاحقاً.

المسألة الخامسة: محاولة أبي بكر وعمر الدخول على فاطمة عليها السلام لاسترضائها بعد ما جرى منهما في حرق دارها وإسقاط جنينها ومنع إرثها وحبس خمسها واغتصاب أرضها

اشارة

تناولت المصادر الإسلامية لدى الفريقين من أهل السنة والجماعة، وأهل الخاصة والموالاة لعترة محمد صلى الله عليه وآله وسلم ذكر دخول الشيخين أبي

ص: 274


1- الأمالي للطوسي: ص 156؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 210.

بكر وعمر بن الخطاب على بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لغرض استرضائها فيما بدر منهما من حرق دارها واسقاط جنينها المحسن وما تبع ذلك من الظلم في منع إرثها، وحبس خمسها، واغتصاب أرضها فدك.

وتفيد الروايات أنهما حاولا مراراً الدخول عليها بعد أن اشتد بها المرض ووصول حديثها مع نساء المهاجرين والأنصار وشياعه في المدينة.

إلاّ أن الفارق بين روايات أبناء العامة وبين روايات أهل البيت عليهم السلام، أن أهل الجماعة قالا بدخولهما وحصولهما على رضا فاطمة عليها السلام وهو كذب صراح كما سيمر.

وإن أهل البيت عليهم السلام يقولون إنها لم تأذن لهما إلاّ بعد أن ضمن لهما الإمام علي عليه السلام استحصال الإذن منها في الدخول فلما دخلا عليها لم يخرجا إلا بيقينهما ببغضها وسخطها ودعائها عليهما؛ وعليه: فالفارق كبير بين الروايتين.

أولاً: ما روته أهل السنة والجماعة في دخول أبي بكر وعمر على فاطمة للحصول على رضاها

1 - روى البيهقي والذهبي وابن كثير وغيرهم عن الشعبي قال: (ثم لما مرضت فاطمة - عليها السلام - أتاها أبو بكر فاستأذن عليها، فقال علي - عليه السلام -:

«يا فاطمة هذا أبو بكر يستأذن عليك».

فقالت:

«أتحب أن آذن له؟».

ص: 275

قال:

«نعم».

فأذنت له، فدخل عليها يترضاها، وقال والله ما تركت الدار والمال والأهل والعشيرة إلاّ ابتغاء مرضاة الله ومرضاة رسوله ومرضاتكم أهل البيت ثم ترضاها حتى رضيت) وأردفه الذهبي بقوله: هذا مرسل حسن بإسناد صحيح(1).

2 - وروى المحب الطبري عن عامر قال: (جاء أبو بكر إلى فاطمة عليها السلام وقد اشتد مرضها فاستأذن عليها، فقال لها علي:

«هذا أبو بكر على الباب يستأذن فإن شئت أن تأذني له».

قالت:

«أو ذاك أحب إليك؟».

قال:

«نعم».

فدخل فاعتذر إليها وكلمها فرضيت عنه)(2).

3 - وروى أيضا عن الأوزاعي، قال: (بلغني أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غضبت على أبي بكر فخرج أبو بكر حتى قام على بابها

ص: 276


1- السنن الكبرى للبيهقي: ج 6، ص 301، برقم 12515؛ فتح الباري لابن حجر: ج 6، ص 202، ط دار المعرفة؛ دلائل النبوة للبيهقي: ج 7، ص 281؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 121؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 3، ص 47؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 5، ص 310؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 4، ص 575.
2- الرياض النضرة للمحب الطبري: ص 176.

في يوم حار ثم قال: لا أبرح مكاني حتى ترضى عني بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فدخل عليها علي فأقسم عليها أن ترضى، فرضيت؛ أخرجه ابن السمان في الموافقة)(1).

4 - وروى البيهقي في الاعتقاد وابن حجر في فتح الباري فقال:

(وقد دخل أبو بكر على فاطمة في مرض موتها وترضاها حتى رضيت عنه فلا طائل لسخط غيرها ممن يدعي موالاة أهل البيت عليهم السلام ثم يطعن على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويهجن من يواليه ويرميه بالعجز والضعف واختلاف السر والعلانية في القول والفعل)(2).

أقول:

إنّ هذه المحاولات اليائسة والبائسة لا تستطيع أن تغير من الواقع الذي كان عليه حال أبي بكر وعمر بن الخطاب وعصابتهما من المسلمين أي شيء بل: إنها تزيد القارئ والباحث قناعة بفظاعة وشناعة ما أقدم عليه أبو بكر وعمر ومن آزرهما في ظلم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

كما أن هذه المحاولات لا تغني عن أبي بكر وعمر وغيرهما شيئاً إن كانت مخالفة للواقع فلن تدفع عنهما ما اقترفته أيديهما في حق بضعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 277


1- الغدير: ج 7، ص 228؛ الرياض النضرة للمحب الطبري: ص 176.
2- الاعتقاد للبيهقي: ص 353، ط دار الآفاق الجديدة بيروت؛ فتح الباري لابن حجر: ج 6، ص 202، ط دار المعرفة؛ تاريخ أبي الفداء: ج 1، ص 80.

إما ما جاء في كلام الحافظ البيهقي فمردود جملة وتفصيلاً، فضلاً عن هشاشة الحجة وبئس الدليل الذي استدل به على خلاف الشيعة لنهج أهل البيت عليهم السلام وكأنهم على جادة ثانية وطريق أخرى غير طريقهم وهديهم فيحبون غير من أحب أهل البيت ويعادون من أحب أهل البيت عليهم السلام، وكأن البيهقي في كوكب آخر لا يرى غير اتهام شيعة آل محمد وإقصائهم.

ولكن:

1 - قوله: (وقد دخل أبو بكر على فاطمة عليها السلام في مرض موتها وترضاها حتى رضيت عنه) فأول الكلام صدق وآخره كذب صراح، فدخول أبي بكر وعمر على فاطمة في مرضها الذي توفيت فيه ثابت، لا خلاف فيه عند السنة والشيعة، وأما رضاها عنهما فكذب باتفاق أهل السنة والشيعة.

بل الثابت عكس هذا:

أي إنها غضبت عليه وعلى عمر ولم تكلمه حتى توفيت؛ وهو ما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحه، عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة، أنها قالت:

(.... فوجدت فاطمة على أبي بكر في ذلك فهجرته فلم تكلمه حتى توفيت....)(1).

فمتى رضيت عنه وهي لم تكلمه حتى توفيت.

ص: 278


1- صحيح البخاري، باب: غزوة خيبر: ج 5، ص 82؛ صحيح مسلم، باب: قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: لا نورث: ج 5، ص 154؛ سنن الترمذي: ج 4، ص 157، برقم 1609.

وفي لفظ آخر للبخاري يصرّح بأنها غضبت عليه فهجرته ولم تكلمه حتى توفيت؛ فعن عائشة: (إن فاطمة - عليها السلام - ابنة رسول الله سألت أبا بكر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم؟ فقال لها أبو بكر: إن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم قال:

«لا نورث ما تركناه صدقة».

فغضبت فاطمة بنت رسول الله فهجرت أبا بكر فلم تزل مهاجرته حتى توفيت)(1).

وقال المعتزلي: (والصحيح عندي أنها ماتت وهي واجدة على أبي بكر وعمر وأنها أوصت ألا يصليا عليها)(2).

إذن:

الثابت أنهما دخلا عليها لكنهما خرجا منها وهي غاضبة عليهما ولم تكلمهما حتى ماتت.

2 - إن سخط من يتولى أهل البيت عليهم السلام على بعض من عاصرهم نابع من سخط أهل البيت على من ظلمهم فسخط الموالي يتلازم مع سخط أوليائه وهم الله ورسوله وعترته ورضا الموالي يتلازم مع رضا الله ورسوله وعترته.

وقد ثبت أن فاطمة ماتت وهي غاضبة على أبي بكر وعمر ومن ساندهما

ص: 279


1- صحيح البخاري، باب دعاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ج 4، ص 42؛ مسند أحمد: ج 1، ص 6، من مسند أبي بكر؛ الطبقات لابن سعد: ج 8، ص 28.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 6، ص 50، وج 16، ص 253.

وأعانهما وناصرهما على ظلم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وقتل ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرق دارها ومصادرة مالها واغتصاب أرضها وقتل جنينها وغير ذلك.

3 - هناك فرق بين من يتولى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومن يتولى الصحابة.

4 - إن من لا يفرق بين المؤمن والمنافق من الصحابة فهو راد على كتاب الله الذي أنزل في المنافقين من الصحابة سورة كاملة، وعليه لابد من التمييز بين هؤلاء، بين المؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وبين المنافق الذي لم يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وبما أن عملية التمييز قائمة وبحسب القانون الذي وضعه رسول الله في التمييز بين الصحابة فلابد من عرض ولاية علي على هؤلاء فمن أحبه كان مؤمناً ومن أبغضه كان منافقاً(1).

5 - إن الحديث مرسل، وقد صرح البيهقي بذلك، والمرسل لا يحتج به أمام الصحيح الذي أخرجه الشيخان وغيرهما.

أما حقيقة ما كان من دخول أبي بكر وعمر على فاطمة عليها السلام في مرضها وما جرى بينهم من حديث فمعرفته تكون من رواية أهل البيت عليهم السلام فهم أدرى بما جرى في دارهم من الغريب والبعيد عنهم وهو كما سيمر في ثانياً.

ص: 280


1- مسند أحمد: ج 1، ص 84.
ثانياً: دخول أبي بكر وعمر على فاطمة يترضيانها وغضبها وسخطها عليهما أثناء اللقاء

روى الشيخ الصدوق رحمه الله (عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال:

«.... فلما مرضت فاطمة مرضها الذي ماتت فيه أتياها عائدين واستأذنا عليها فأبت أن تاذن لهما فلما رأى ذلك أبو بكر أعطى الله عهدا أن لا يظله سقف بيت حتى يدخل على فاطمة ويتراضاها.

فبات ليلة في البقيع ما يظله شيء ثم إن عمر أتى عليا عليه السلام فقال له: إن أبا بكر شيخ رقيق القلب وقد كان مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الغار فله صحبة وقد أتيناها غير هذه المرة مرارا نريد الإذن عليها وهي تأبى أن تأذن لنا حتى ندخل عليها فنتراضى فإن رأيت أن تستأذن لنا عليها فافعل.

قال: نعم، فدخل علي على فاطمة عليها السلام فقال: يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كان من هذين الرجلين ما قد رأيت وقد تردد مرارا كثيرة ورددتهما ولم تأذني لهما وقد سألاني أن أستأذن لهما عليك.

فقالت: والله لا آذن لهما ولا أكلمهما كلمة من رأسي حتى ألقى أبي، فأشكوهما إليه بما صنعاه وارتكباه مني.

فقال علي عليه السلام: فإني ضمنت لهما ذلك، قالت: إن كنت قد ضمنت لهما شيئاً فالبيت بيتك والنساء تتبع الرجال، لا أخالف عليك بشيء فأذن لمن أحببت، فخرج علي عليه السلام فأذن لهما فلما وقع بصرهما على فاطمة عليها السلام سلما عليها فلم ترد عليهما وحولت وجهها وعنهما فتحولا واستقبلا وجهها حتى فعلت مرارا وقالت: يا علي جاف الثوب، وقالت لنسوة حولها: حوّلن وجهي.

ص: 281

فلما حولن وجهها حولا إليها فقال ابو بكر: يا بنت رسول الله إنما أتيناك ابتغاء مرضاتك واجتناب سخطك نسألك أن تغفري لنا وتصفحي عما كان منا إليك.

قالت: لا أكلمكما من رأسي كلمة واحدة أبداً حتى ألقى أبي وأشكوكما إليه وأشكو صنيعكما وفعالكما وما ارتكبتما مني.

قالا: إنا جئنا معتذرين مبتغين مرضاتك فاغفري واصفحي عنا ولا تؤاخذينا بما كان منا.

فالتفتت على علي عليه السلام وقالت: إني لا أكلمهما من رأسي كلمة حتى أسألهما عن شيء سمعاه من رسول الله فإن صدقاني رأيت رأيي.

قالا: اللهم ذلك لها وإنا لا نقول إلا حقا ولا نشهد إلا صدقا.

فقالت: أنشدكما الله أتذكران أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم استخرجكما في جوف الليل لشيء كان حدث من أمر علي؟

فقالا: اللهم نعم.

فقالت: أنشدكما بالله هل سمعتما النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: فاطمة بضعة مني وأنا منها من آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذاها بعد موتي فكان كمن آذاها في حياتي ومن آذاها في حياتي كان كمن آذاها بعد موتي؟

قالا: اللهم نعم.

قالت: الحمد لله.

ثم قالت: اللهم إني أشهدك فاشهدوا يا من حضرني أنهما قد آذياني في حياتي

ص: 282

وعند موتي والله لا أكلمكما من رأسي كلمة حتى ألقى ربي فأشكوكما بما صنعتما بي وارتكبتما مني.

فدعا أبو بكر بالويل والثبور وقال: ليت أمي لم تلدني، فقال عمر: عجبا للناس كيف ولوك أمورهم وأنت شيخ قد خرفت تجزع لغضب امرأة وتفرح برضاها وما لمن أغضب امرأة وقاما وخرجا»)(1).

ثالثا: ما روي عند أهل السنة والجماعة بما يقارب رواية الشيخ الصدوق رحمه الله في غضب فاطمة على أبي بكر وعمر حينما دخلا عليها

1 - ما أخرجه ابن قتيبة الدينوري (المتوفى سنة 276 ه -) فقال: (قال عمر لأبي بكر: انطلق بنا إلى فاطمة، فإنا قد أغضبناها، فانطلقا جميعاً، فاستأذنا على فاطمة، فلم تأذن لهما، فأتيا علياً فكلماه، فأدخلهما عليها، فلما قعدا عندها، حولت وجهها إلى الحائط، فسلما عليها، فلم ترد عليهما السلام، فتكلم أبو بكر فقال: يا حبيبة رسول الله والله إن قرابة رسول الله أحب إلي من قرابتي، وإنك لأحب إلي من عائشة ابنتي، ولوددت يوم مات أبوك أني مت، ولا أبقى بعده، أفتراني أعرفك وأعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله إلا أني سمعت أباك رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم يقول:

«لا نورث، ما تركنا فهو صدقة».

فقالت:

«أرأيتكما إن حدثتكما حديثا عن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم

ص: 283


1- علل الشرايع: ج 1، ص 187-188.

تعرفانه وتفعلان به؟».

قالا: نعم، فقالت:

«نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاي، وسخط فاطمة من سخطي، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟».

قالا: نعم سمعناه من رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم، قالت:

«فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبي لأشكونكما إليه».

فقال أبو بكر: أنا عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة، ثم انتحب أبو بكر يبكي، حتى كادت نفسه أن تزهق، وهي تقول:

«والله لأدعون الله عليك في كل صلاة أصليها».

ثم خرج باكيا فاجتمع إليه الناس، فقال لهم: يبيت كل رجل منكم معانقا حليلته، مسرورا بأهله، وتركتموني وما أنا فيه، لا حاجة لي في بيعتكم، أقيلوني بيعتي، قالوا: يا خليفة رسول الله، إن هذا الأمر لا يستقيم، وأنت أعلمنا بذلك، إنه إن كان هذا لم يقم لله دين، فقال: والله لولا ذلك وما أخافه من رخاوة هذه العروة ما بت ليلة ولي في عنق مسلم بيعة، بعدما سمعت ورأيت من فاطمة.

قال: فلم يبايع علي - عليه السلام - حتى ماتت فاطمة - عليها السلام -، ولم تمكث بعد أبيها إلا خمسا وسبعين ليلة)(1).

ص: 284


1- الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري: ج 1، ص 20.

والحديث الذي دار بين أبي بكر والناس لا يغني ولا يسمن من جوع، فقد مضت فاطمة صلوات الله عليها إلى ربها مظلومة مقتولة مسلوبة مقهورة وهي التي:

1 - يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها.

2 - يؤلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يؤلمها ويبسط النبي ما يبسطها.

3 - بضعة منه يرضيه ما يرضيها ويغضبه ما يغضبها.

وقد آذى أبو بكر وعمر وعصابتهما من المسلمين الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، والله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه الكريم:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً)(1).

فلا عذر لمن اعتذر.

وأنى لهذا العذر أن يصمد أمام اعتراف أبي بكر بجريمة حرق بيت فاطمة عليها السلام وقتل ولدها وضربها وكسر ضلعها حينما حضرته الوفاة، فهل في هذا الاعتراف حجة لمن أراد أن يلتمس العذر لأبي بكر فيما فعل عمر وعصابته ببنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟!

(مٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ)(2).

ص: 285


1- سورة الأحزاب، الآية: 57.
2- سورة القلم، الآية: 36.

المسألة السادسة: اعتراف أبي بكر باقتحام بيت فاطمة عليها السلام بعد حرقه فكان سيد الأدلة

قيل في علم القانون والقضاء: (إن الاعتراف سيد الأدلة)، إذ يعد الاعتراف: كأحد أدلة الإثبات الجنائي بأنه إقرار المجرم على نفسه بصحة الجرم المنسوب إليه من عدمه؛ وهو كذلك فيما وقع من جريمة قتل فاطمة بفعل الآثار التي خلفها حرق بيتها واقتحامه وما نجم عنه من أضرار على بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث كانت واقفة بين الحائط والباب وعصرها كما مرّ بيانه.

ولقد دار جدل منذ زمن الواقعة بين شيعة فاطمة وشيعة أبي بكر في إثبات هذه الجريمة ووقوعها وبين نفيها وتبرئة الجناة الذين مارسوا هذه الشنائع والفضائع بحق بيت النبوة، وبين هذا المدافع وذاك المناصر يبقى الاعتراف سيد الأدلة.

فها هو أبو بكر يعترف بجرمه باقتحام بيت فاطمة وندمه الشديد على ما فعله في حق بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولكن أنى للندم أن يصلح ما أفسده الظلم والجور والعدوان؛ وهل يدفع الندم عن القاتل إقامة الحد عليه أم يدفع عن السارق أو الزاني أو غيرها من الجرائم والآثام.

وعليه: لا عذر لمن اعتذر عن هذه الجريمة أو إلصاقها بظهر غير جناتها وذلك أن الجناة والفاعلين الحقيقيين هم الذين أقروا بما فعلوا كما روى الطبراني والطبري والذهبي وغيرهم عن حميد بن عبدا لرحمن بن عوف:

(إن عبد الرحمن بن عوف، دخل على أبي بكر في مرضه الذي قبض فيه، فرآه مفيقاً، فقال عبد الرحمن: أصبحت والحمد لله بارئا(1).

ص: 286


1- بارئا: سليما معافى.

فقال له أبو بكر: أتراه؟، قال عبد الرحمن: نعم، قال: إني على ذلك لشديد الوجع، ولما لقيت منكم يا معشر المهاجرين أشد عليّ من وجعي، لأني وليت(1) أمركم خيركم في نفسي، وكلكم ورم من ذلك أنفه، يريد أن يكون الأمر دونه، ثم رأيتم الدنيا مقبلة، ولما تقبل وهي مقبلة، حتى تتخذوا ستور الحرير ونضائد الديباج(2)، وتأملون الاضطجاع على الصوف الأذربي كما يألم أحدكم اليوم أن ينام على شوك السعدان(3).

والله لأن يقدم أحدكم، فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يخوض(4) غمرة الدنيا، وأنتم أول ضال بالناس غدا، تصفونهم عن الطريق يمينا وشمالا، يا هادي الطريق، إنما هو الفجر أو البحر.

قال عبد الرحمن: فقلت له: خفض عليك رحمك فإن هذا يهيضك على ما بك، إنما الناس في أمرك بين رجلين، إما رجل رأى ما رأيت فهو معك، وإما رجل خالفك، فهو يشير عليك برأيه، وصاحبك كما تحب، ولا نعلمك أردت إلا الخير، وإن كنت لصالحا مصلحا، فسكت.

ثم قال: مع أنك، والحمد لله ما تأسى على شيء من الدنيا، فقال: أجل إني لا آسى(5) من الدنيا إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني تركتهن، وثلاث تركتهن

ص: 287


1- الولاية: المسؤولية والنصرة والقيام بالأمر.
2- الديباج: هو الثّياب المتّخذة من الإبريسم أي الحرير الرقيق.
3- السعدان: نبت ذو شوك، وهو من جيّد مراعي الإبل تسمن عليه.
4- خاض الشيء: دخله ومشى فيه.
5- آسى: أحزن.

وددت أني فعلتهن، وثلاث وددت أني سألت عنهن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم.

أما اللاتي وددت أني تركتهن، فوددت أني لم أكن كشفت بيت فاطمة عن شيء، وإن كانوا قد أغلقوا على الحرب وودت أني لم أكن حرقت الفجاءة السلمي، ليتني قتلته سريحا، أو خليته نجيحا، ولم أحرقه بالنار، ووددت أني يوم سقيفة بني ساعدة، كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين، عمر بن الخطاب أو أبي عبيدة بن الجراح، فكان أحدهما أميراً، وكنت أنا وزيراً.

وأما اللاتي تركتهن، فوددت أني يوم أتيت بالأشعث بن قيس الكندي أسيراً، كنت ضربت عنقه، فإنه يخيل إليّ أنه لن يرى شراً إلا أعان عليه، ووددت أني حين سيرت خالد بن الوليد إلى أهل الردة كنت أقمت بذي القصة، فإن ظفر المسلمون، ظفروا، وإن هزموا كنت بصدد لقاء أو مدد، ووددت أني إذ وجهت خالداً إلى الشام وجهت عمر بن الخطاب إلى العراق، فكنت قد بسطت يدي كلتيهما في سبيل الله.

وأما اللاتي وددت أني كنت سألت عنهن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم، فوددت أني سألت رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم لمن هذا الأمر، فلا ينازعه أحد، ووددت أني كنت سألته: هل للأنصار في هذا الأمر شيء؟ ووددت أني كنت سألته عن ميراث ابنة الأخ والعمة، فإن في نفسي منها شيئاً)(1).

ص: 288


1- الأموال لابن زنجويه: ج 1، ص 387، حديث 364؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 1، ص 62؛ الاكمال في أسماء الرجال للخطيب التبريزي: ص 174؛ الخصائل للصدوق: ص 172؛ تاريخ الطبري: ج 2، ص 353، ط دار الكتب العلمية؛ تاريخ الإسلام للذهبي: ج 3، ص 118؛ تاريخ ابن عساكر: ج 30، ص 418؛ العقد الفريد لابن عبد ربه الأندلسي: ج 2، ص 78؛ مروج الذهب للمسعودي: ج 1، ص 290، ط دار القلم؛ اعجاز القرآن للباقلاني: ج 1، ص 138-139، ولم يورد كشف بيت فاطمة عليها السلام؛ شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 2، ص 47؛ سمط النجوم العوالي للعاصمي: ج 1، ص 443، ط المطبعة السلفية بالقاهرة؛ البحار للمجلسي: ج 30، ص 123؛ ضعفاء العقيلي: ج 3، ص 43؛ ميزان الاعتدال للذهبي: ج 5، ص 13؛ لسان الميزان لابن حجر: ج 4، ص 189؛ الأحاديث المختارة للمقدسي: ج 1، ص 89؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 5، ص 203؛ نهج الحق: ص 265.

ولكن:

مع كل هذا الأسى والندم والاعتراف الصريح بجريمة كشف بيت فاطمة صلوات الله عليها واقتحامه وحرقه كما هدد عمر بن الخطاب وأخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي عاصم وغيرهما كما مرّ سابقا، يبقى البعض كابن أبي الحديد يدافع بشكل بائس عن دفع هذه الجريمة على الرغم من اعتراف أبي بكر بثقلها على نفسه وأن لا مهرب لديه مما جنت يداه بحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد قتلت ابنته وحفيده المحسن وأرعب الحسن والحسين ولوعت قلوبهما فيقول ابن أبي الحديد في دفاعه عن هذه الجريمة واعتراف صاحبها، قائلاً:

(وأما حديث الهجوم على بيت فاطمة عليها السلام فقد تقدم الكلام فيه، والظاهر عندي صحة ما يرويه المرتضى والشيعة، ولكن لا كل ما يزعمونه، بل كان بعض ذلك وحق لأبي بكر أن يندم ويتأسف على ذلك وهذا يدل على قوة دينه وخوفه من الله تعالى فهو بأن يكون منقبة له أولى من كونه طعناً عليه.

ونقول بحمد الله:

1 - الحمد لله الذي ثبت عند ابن ابي الحديد المعتزلي خبر الهجوم لكن

ص: 289

بالشكل الذي يتناسب مع بصيرته وما انطوى عليه قلبه وهو مع هذا حجة بالغة إذ ليس الملاك في الكبر والصغر في حجم الاثم إنما الملاك لمن عصيت كما أخبر به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - قوله: (وحق لأبي بكر أن يندم ويتأسف على ذلك)، نعم يحق له ذلك لأن الهجوم كان على قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولأن الهجوم كان على روح رسول الله ولأن الهجوم كان على بيت فاطمة فبعد هذا أي ندم يوازي حجم انتهاك حرمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

3 - إذا كان الدين والخوف من الله يحسب على اساس التعرض لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن أبا لهب أقوى الناس ديناً وإذا كانت هناك منقبة فأبو جهل أرفع منقبة وذلك تبعاً لمنهج ابن ابي الحديد.

4 - أما بخصوص الندم الذي يأتي للإنسان عند لحظات الموت فهو الندم الذي أخبر عنه الوحي (ندم فرعون).

وهل نفع فرعون ندمه شيئاً حينما حضره الموت، قال سبحانه:

(وَ جٰاوَزْنٰا بِبَنِي إِسْرٰائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّٰى إِذٰا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قٰالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لاٰ إِلٰهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرٰائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّٰاسِ عَنْ آيٰاتِنٰا لَغٰافِلُونَ)(1).

ص: 290


1- سورة يونس، الآيات: 90-92.

المسألة السابعة: حكم الشريعة المقدسة فيمن آذى فاطمة وأغضبها

اشارة

لعل الجواب على هذا العنوان لا يحتاج إلى بيان عند كثير من القراء والباحثين لاسيما بعد هذه المباحث التي تم عرضها في الكتاب ولله الحمد.

ولكن فلنرَ أقوال علماء المسلمين في هذه المسألة كي لا يبقى عذر لدى المعتذرين عن جرم الظالمين ويكون الأمر أبلغ في الحجة والبيان والله المستعان.

أولاً: حكم الشريعة المقدسة على من آذى عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون تخصيص لأحد منهم فما يصيب أحدهم يصيب الجميع

إن المتتبع لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجد هناك كماً كبيراً منها قد خصص لبيان حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحرمة عترته وبيان علاقتهم ومكانتهم منه صلى الله عليه وآله وسلم وأن التعرض لهم هو في الأساس تعرض لله ولرسوله صلى الله عليه وآله وسلم كما نصت عليه الأحاديث النبوية التي إليها استند علماء المسلمين في بيان حكم الشريعة الإسلامية لمن تعرض لهم جميعاً صلوات الله وسلام عليهم؛ فمنها:

1 - أخرج أحمد في المسند، عن عبد المطلب بن ربيعة قال: دخل العبا س ابن عبد المطلب على رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم فقال: يا رسول الله، إنا لنخرج فنرى قريشاً تحدث فإذا رأونا سكتوا.

فغضب رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم ودر عرق بين عينيه، ثم قال:

ص: 291

«والله لا يدخل قلب امرئ إيمان حتى يحبكم لله ولقرابتي»(1).

2 - أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي الضحى مسلم بن صبيح قال: قال العباس: يا رسول الله، انا لنرى وجوه قوم من وقائع أوقعتها فيهم؟ فقال صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«لن يصيبوا خيراً حتى يحبوكم لله ولقرابتي، ترجو سلهف شفاعتي ولا يرجوها بنوعبد المطلب»(2).

3 - روى ابن عساكر والخطيب الخوارزمي، والحاكم الحسكاني وغيرهم عن زيد بن علي وهو آخذ بشعره قال: حدثني علي بن الحسين وهو آخذ بشعره، قال: حدثني الحسين بن علي وهو آخذ بشعره قال: حدثني علي بن أبي طالب وهو آخذ بشعره قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وهو آخذ بشعره قال:

«من آذى شعرة منكم فقد آذى الله ومن آذى الله فعليه لعنة الله»(3).

4 - روى الشيخ الصدوق رحمه الله وقريباً منه الزيلعي والثعلبي والزمخشري وغيرهم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال:

«حرم الله على من ظلم أهل بيتي وقاتلهم وسبهم والمعين عليهم أولائك لا خلاق

ص: 292


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 208؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 7، ص 518.
2- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 7، ص 518.
3- الأمالي للصدوق: ص 409؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 2، ص 143؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 54، ص 308؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص 105؛ الجامع الصغير للسيوطي: ج 2، ص 547؛ المناقب للخوارزمي: ص 329؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 102.

لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم»(1).

5 - روى ابن المغازلي والسيوطي عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«اشتد غضب الله تعالى وغضبي على من اهراق دمي أوآذاني في عترتي»(2).

6 - أخرج ابن أبي عاصم، وابن حبان، والحاكم النيسابوري عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«ستة لعنتهم ولعنهم الله، وكل نبي مجاب: المكذب بقدر الله، والزائد في كتاب الله، والمتسلط بالجبروت ليذل ما أعز الله ويعز ما أذل الله، والمستحل لحرم الله، والمستحل من عترتي ما حرم الله، والتارك لسنتي»(3).

7 - وروى الهيثمي والطبراني وغيرهما عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم:

ص: 293


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق: ج 2، ص 37؛ تخريج الأحاديث للزيلعي: ج 3، ص 237؛ تفسير الثعلبي: ج 8، ص 312؛ تفسير الكشاف للزمخشري: ج 3، ص 467.
2- المناقب لابن المغازي: ص 331؛ الجامع الصغير للسيوطي: ج 1، ص 159؛ شرح الأخبار للقاضي المغرب: ج 1، ص 161.
3- المستدرك على الصحيحين: ج 16، ص 333، حديث 711؛ السنة لابن أبي عاصم: ص 149؛ صحيح ابن حبان: ج 13، ص 62؛ الدعاء للطبراني: ص 578؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 2، ص 186؛ شعب الإيمان للبيهقي: ج 3، ص 443؛ الترهيب والترغيب للمنذري: ج 1، ص 84؛ موارد الظمآن للهيثمي: ج 1، ص 154؛ الجامع الصغير للسيوطي: ج 2، ص 44؛ سنن الترمذي، باب الغدر: حديث 2154، ج 4، ص 57؛ مشكاة المصابيح للتبريزي: حديث 109؛ إحياء الأموات للسيوطي: ص 69، ح 57 و 58؛ المعتصر للقاضي أبوالمحاسن: ج 2، ص 329؛ المعجم الوجيز للميرغني: ص 143، ح 290.

«ثلاث من حفظهن حفظ الله له دينه ودنياه، ومن ضيعهنّ لم يحفظ الله له أمر دينه ودنياه ومن لم يحفظهن لم يحفظ الله له شيئاً: حرمة الإسلام، وحرمتي، وحرمة رحمي»(1).

وهذه الأحاديث وغيرها تشدد على حرمة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وحرمة عترته عليهم السلام وأن هذه الحرمات متلازمة مع بعضها وأن التعرض لإحداهن يعد تعرضاً لها جميعاً وأن المنتهك لها عليه اللعنة وسوء العذاب وأن من يتولاه ويحبه ويشايعه يحشر معه يوم القيامة ويحمل وزره وهو من أخطر الأمور لأن فيه ضياع الدنيا والآخرة.

من هنا:

كان علماء المسلمين ينطلقون في حكمهم على من تعرض لآل محمد باللعن ويضرب ويسجن وغير ذلك وهي كالآتي:

1 - قال القاضي عياض:

(إن من انتقصهم أو سبهم فهو ملعون)(2).

2 - وقال مالك بن أنس إمام المالكية، فيمن سب آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 294


1- المعجم الكبير للطبراني: ج 3، ص 126؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 1، ص 72؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 168؛ كنز العمال للمتقي الهندي: ج 1، ص 77؛ تهذيب المال للمزي: ج 22، ص 349؛ طبقات الشافعية للسبكي: ج 1، ص 191؛ سبل الهدى للشامي: ج 11، ص 9؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 326.
2- الشفا: ج 2، ص 307.

(يضرب ضرباً وجيعاً ويشهّر، ويحبس طويلاً حتى تظهر توبته لأنه استخفاف بحق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(1).

وهذا فيما يختص بهم جميعاً فمن سبهم أو انتقصهم فهو ملعون ويضرب ضربا وجيعاً ويشهّر ويحبس طويلاً حتى تظهر توبته فإن لم تظهر توبته يبقى مسجوناً.

وعليه:

فحكم من تعرض لفاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام بحسب رأي مالك والقاضي عياض ما مرّ أما ما ورد في الاحاديث الشريفة فهو لأعظم بكثير كما مرّ آنفاً.

ثانيا: حكم الشريعة فيمن سب فاطمة عليها السلام أو شتمها

ذهب بعض علماء أهل السنة والجماعة في بيان حكمهم على من سب فاطمة عليها السلام، بالكفر وقد استندوا في الحكم هذا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«فاطمة بضعة مني».

فما لحق بها لحق به صلى الله عليه وآله وسلم، وهذه جملة من أقوالهم:

1 - قال السهيلي: (إن من سبها فقد كفر، وإن من صلى عليها فقد صلى على أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم)(2).

ص: 295


1- الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي: ص 258.
2- الروض الأُنُف للسهيلي: ج 3، ص 282؛ امتاع الأسماع للمقريزي: ج 10، ص 273.

2 - قال ابن حجر العسقلاني: (قوله: (فمن أغضبها أغضبني) استدل به السهيلي على أن من سبها فإنه يكفر، وتوجيهه إنها تغضب ممن سبها وقد سوى بين غضبها وغضبه ومن أغضبه صلى الله عليه وآله وسلم يكفر وفي هذا التوجيه نظر لا يخفى)(1)!

وأقول:

بل إن هذا النظر يخفى، فأي نظر هذا مقابل غضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع تضافر الآيات والأحاديث الشريفة التي قرنت طاعة الله بطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ومعصيتهما واحدة، وهل هناك إنسان على وجه الأرض لا يؤذيه الغضب ولا يؤلمه، فضلاً عن تصريحه صلى الله عليه وآله وسلم بأن غضبه غضب الله تعالى؛ وإذا كان القرآن يكفر المنافقين لأنهم يهزأون بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فكيف بحال من يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علماً أن الآثار التي خلفها السب والشتم على الإنسان إن لم تكن أعظم غضباً لدى الإنسان من الاهتهزاء فهي لا تكون دونه، قال تعالى:

(وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمٰا كُنّٰا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللّٰهِ وَ آيٰاتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ)(2).

وعليه: فلا عذر لمن اعتذر في سب فاطمة وحرق دارها وضربها وكسر ضلعها وإسقاط جنينها ونهب مالها وهل هناك عاقل يقول: بأن كل هذا لم يؤذِ

ص: 296


1- فتح الباري لابن حجر العسقلاني: ج 7، ص 82.
2- سورة التوبة، الآية: 65.

الله ورسوله ويغضبهما ويوجب لعن الفاعل وكفره مع صريح القرآن بذلك.

3 - قال الحافظ النووي على شرحه على صحيح مسلم:

(قوله: (فقال رجل: والله إن هذه لقسمة ما عدل فيها وما أريد فيها وجه الله).

قال القاضي عياض حكم الشرع أن من سب النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم كفر وقتل، ولم يذكر في هذا الحديث أن هذا الرجل قتل، قال المازري: يحتمل أن يكون لم يفهم منه الطعن في النبوة، وإنما نسبه إلى ترك العدل في القسمة، والمعاصي ضربان: كبائر وصغائر، فهو صلى الله عليه - وآله - وسلم معصوم من الكبائر بالإجماع، واختلفوا في إمكان وقوع الصغائر، ومن جوّزها منع من إضافتها إلى الأنبياء على طريق التنقيص، وحينئذ فلعله صلى الله عليه - وآله - وسلم لم يعاقب هذا القائل؛ لأنه لم يثبت عليه ذلك، وإنما نقله عنه واحد، وشهادة الواحد لا يراق الدم.

قال القاضي: هذا التأويل باطل يدفعه قوله: اعدل يا محمد، واتقِ الله يا محمد، وخاطبه خطاب المواجهة بحضرة الملأ حتى استأذن عمر وخالد النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم في قتله، فقال:

«معاذ الله أن يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه».

فهذه هي العلة، وسلك معه مسلكه مع غيره من المنافقين الذين آذوه، وسمع منهم في غير موطن ما كرهه، لكنه صبر استبقاء لانقيادهم وتأليفا لغيرهم، لئلا يتحدث الناس أنّه يقتل أصحابه فينفروا، وقد رأى الناس هذا الصنف في جماعتهم

ص: 297

وعدوّه من جملتهم)(1).

أقول: إن ما ذهب إليه القاضي عياض في امتناعه صلى الله عليه وآله وسلم من قتل من تطاول أو قل أدبه بمحضره صلى الله عليه وآله وسلم أو استهزأ كي لا يقول الناس إن محمداً قتل أصحابه هو ما منعه من قتل كثير من المنافقين وغيرهم مما آذوه في حياته صلى الله عليه وآله وسلم وقد اكتفى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببيان القرآن لمنزلة هؤلاء وموقعهم في الشريعة.

ولكن:

قوله المعاصي ضربان كبائر وصغائر فهو صلى الله عليه وآله وسلم معصوم من الكبائر بالإجماع واختلفوا في إمكان وقوع الصغائر، ومن جوزها منع من اضافتها إلى الأنبياء على طريق التشخيص، كلام لا معنى له ولا يستقيم مع القرآن الكريم وذلك أن المنافقين يتربصون به صلى الله عليه وآله وسلم الدوائر ومن ثم أي صغيرة والعياذ بالله هي كبيرة لديهم يشهرونها ضده صلى الله عليه وآله وسلم ومن ثم كيف للوحي أن يحكم عليهم بالكفر لاستهزائهم به صلى الله عليه وآله وسلم ومن ثم يمكن أن تقع منه صلى الله عليه وآله وسلم والعياذ بالله وبحسب مذهب أهل السنة والجماعة معصية.

(تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزىٰ (2).

تكشف عن البؤس في منهجية التفكير والبحث.

ص: 298


1- شرح النووي على صحيح مسلم: ج 4، ص 18.
2- سورة النجم، الآية: 22

وعليه:

يبقى الحكم الشرعي قائماً على أساس أن ما يصيب الجزء يصيب الكل فمن أصاب عضواً من أعضاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقد أصاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومن اصاب بضعاً منه أصابه ومن سب فاطمة بضعته فقد سبه ومن سبه (كفر وقتل).

فكيف بمن طعنه في قلبه وروحه التي بين جنبيه؟!!

4 - قال التهناوي في إعلاء السنن: عن عمر بن عبد العزيز:

(لا يحل قتل امرئ مسلم يسب أحداً من الناس، إلاّ رجل سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وذهب أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأصحاب الحديث وأصحابهم إلى أنه بذلك (كافر مرتد).

وقال أحمد: (لا تقبل توبته)(1).

5 - روى الشيخ الطوسي عن ابن خشيش إن المنتصر العباسي سمع أباه المتوكل العباسي يشتم فاطمة عليها السلام فسأل رجلاً من الناس عن ذلك؟

فقال له: (قد وجب عليه القتل، إلاّ أنه من قتل أباه لم يطل عمره).

قال ما أبالي إذا أطعت الله بقتله أن لا يطول لي عمر، فقتله وعاش بعده سبعة أشهر)(2).

ص: 299


1- إعلاء السنن للتهناوي: ج 8، ص 253، ط إدارة القرآن والعلوم الإسلامية.
2- الأمالي للطوسي: ص 328؛ المناقب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 221.
ثالثا: حكم الشريعة فيمن آذى فاطمة عليها السلام

يستند علماء أهل السنة والجماعة في إصدار حكمهم الشرعي في حق من آذى فاطمة صلوات الله عليها إلى حادثة خطبة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام من ابنة أبي جهل التي أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما ورد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الخطبة وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن فاطمة مني... وإني لست أحرم حلالاً ولا أحل حراماً....»(1).

وفي لفظ آخر أخرجه مسلم:

«وإن فاطمة بنت محمد بضعة مني»(2).

فقالوا في حكمهم على من آذى فاطمة صلوات الله عليها ما يأتي:

1 - قال ابن القيم:

(وفيه تحريم أذى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكل وجه من الوجوه، وإن كان بفعل مباح، فإذا تأذى به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لم يجز فعله لقوله تعالى:

(يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَدْخُلُوا بُيُوتَ اَلنَّبِيِّ إِلاّٰ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلىٰ طَعٰامٍ غَيْرَ نٰاظِرِينَ إِنٰاهُ وَ لٰكِنْ إِذٰا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذٰا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لاٰ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ يُؤْذِي اَلنَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَسْتَحْيِي مِنَ

ص: 300


1- صحيح البخاري، باب: دعاء النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم: ج 4، ص 47.
2- صحيح مسلم، باب: فضائل فاطمة: ج 7، ص 141؛ مسند أحمد: ج 4، ص 426.

اَلْحَقِّ وَ إِذٰا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتٰاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَرٰاءِ حِجٰابٍ ذٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ مٰا كٰانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّٰهِ وَ لاٰ أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوٰاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذٰلِكُمْ كٰانَ عِنْدَ اَللّٰهِ عَظِيماً)(1).

(إن أذى أهل بيته وإرابتهم(2) إذى له)(3).

2 - قال الزرقاني:

(فجعل حكم ابنته فاطمة حكمه في أنه لا يجوز أن تؤذى بمباح واحتج على ذلك بقوله تعالى:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً (57) وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً)(4) (5).

3 - قال العظيم آبادي (المتوفى سنة 1329 ه -):

(نهى عن الجمع بينها وبين بنته فاطمة - صلوات الله عليها - لأن ذلك يؤذيها وأذاها يؤذيه صلى الله عليه - وآله - وسلم)(6).

ص: 301


1- سورة الأحزاب، الآية: 53.
2- لقوله صلى الله عليه وآله وسلم في فضل فاطمة عليها السلام: «يريبني ما يريبها».
3- حاشية ابن القيم: ج 6، ص 56، ط دار الكتب العلمية.
4- سورة الأحزاب، الآيتان: 57-58.
5- شرح الزرقاني على الموطأ: ج 4، ص 316، ط دار الكتب العلمية.
6- عون المعبود للعظيم آبادي: ج 6، ص 55، ط دار الكتب العلمية.

4 - قال ابن حجر العسقلاني، والمباركفوري، والعظيم آبادي، والمناوي، واللفظ لابن حجر:

(وفي الحديث تحريم أذى من يتأذى النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم بتأذيه لأن أذى النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم حرام اتفاقاً، قليله وكثيره، وقد جزم بأنه يؤذيه ما يؤذي فاطمة - عليها الصلاة والسلام -.

فكل من وقع منه في حق فاطمة شيء فتأذت به فهو يؤذي النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشهادة هذا الخبر الصحيح ولا شيء أعظم في إدخال الأذى عليها من قتل ولدها؛ ولهذا عرف بالاستقراء معاجلة من تعاطى ذلك بالعقوبة في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد)(1).

5 - قال العيني في شرح صحيح البخاري:

(وفيه تحريم أدنى أذى من يتأذى النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم بتأذيه)(2)، أي: فاطمة وولدها وذريتها فهم ذريته صلى الله عليه وآله وسلم.

6 - قال النووي في شرح صحيح مسلم:

(نهى عن الجمع بينهما لعلتين منصوصتين أحدهما أن ذلك يؤدي إلى أذى فاطمة فيتأذى حينئذ النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم فيهلك من أذاه، فنهى عن ذلك لكمال شفقته على علي وعلى فاطمة - صلوات الله عليها -(3).

ص: 302


1- فتح الباري بشرح صحيح البخاري لابن حجر: ج 9، ص 287؛ تحفة الأحوذي: ج 10، ص 251؛ عون المعبود: ج 6، ص 57؛ فيض القدير للمناوي: ج 4، ص 554.
2- عمدة القاري في شرح صحيح البخاري للعيني: ج 20، ص 212.
3- شرح صحيح مسلم للنووي: ج 16، ص 3، ط دار إحياء التراث العربي.

7 - قال السيوطي نقلاً عن البابجي في شرح الموطأ:

(قال بعض أهل العلم أنه لا يجوز أن يؤذى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بفعل مباح ولا غيره)(1).

فجعل حكمها في ذلك أنه لا يجوز أن يؤذى بمباح واحتج على ذلك بقوله:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً)(2).

8 - قال القاضي عياض في الشفا بحقوق المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم:

(وأما غيره فيجوز بفعل مباح ما لا يجوز للإنسان فعله وإن تأذى به غيره واحتج بعموم قوله تعالى:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ...).

وبقوله صلى الله عليه - وآله - وسلم في حديث فاطمة:

«أنها بضعة مني يؤذيني ما يؤذيها ألا وإني لا أحرم ما أحل الله ولكن لا تجتمع ابنة رسول الله وابنة عدو الله عند رجل أبدا».

ويكون هذا مما آذاه به كافر وجاء بعد ذلك إسلامه كعفوه عن اليهودي الذي سحره وعن الأعرابي الذي أراد قتله وعن اليهودية التي سمته وقد قيل: قتلها)(3).

ص: 303


1- الحاوي للفتاوي: ج 2، ص 402.
2- سورة الأحزاب، الآية: 57.
3- الشفا في حقوق المصطفى صلى الله عليه - وآله - وسلم: ج 2، ص 196.

9 - قال الشيخ أبو علي السنجي(1) في (شرح التلخيص): (أنه يحرم التزويج على بنات النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم ويحتمل أن يكون ذلك خاصة بفاطمة - عليها السلام - وقد علّل عليه الصلاة والسلام بأن ذلك يؤذيه، وأذيته عليه الصلاة والسلام حرام بالاتفاق، وفي هذا تحريم أذى من يتأذى النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم بإيذائه، لأن إيذاء النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم حرام اتفاقاً قليله وكثيره، وقد جزم عليه الصلاة والسلام بأنه يؤذيه ما آذى فاطمة، فكل ما وقع منه في حق فاطمة - عليها السلام - شيء فتأذت به فهو يؤذي النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - بشهادة هذا الخبر الصحيح.

وقد استشكل اختصاص فاطمة بذلك مع أن الغيرة على النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم أقرب إلى خشية الافتتان في الدين، ومع ذلك فكان - صلى الله عليه وآله وسلم - يستكثر من الزوجات، وتوجد منهن الغيرة، ومع ذلك ما راعى - صلى الله عليه وآله وسلم - ذلك في حقهن كما راعاه في حق فاطمة.

وقال الحافظ القسطلاني رداً على ما استشكله الشيخ السنجي في اختصاص فاطمة - عليها السلام - بهذا الأمر ورعاية النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حقها فيه: بأن فاطمة كانت إذ ذاك فاقدة من تركن إليه مم يؤنّسها، يزيل وحشتها من أم، أو أخت بخلاف أمهات المؤمنين، فإن كل واحدة منهن كانت ترجع إلى من

ص: 304


1- هو الحسين بن شعيب من أجل أصحاب القفل، كان إمام زمانه في الفقه، وهو أول من جمع بين طريقي العراق وخراسان، توفي سنة 427 ه -، راجع: التهذيب للأسماء.

يحصل لها مع ذلك، وزيادة عليه وهو زوجهن - صلى الله عليه وآله وسلم - لما كان عنده من الملاطفة وتطييب القلوب، وجبر الخواطر، بحيث أن كل واحدة منهن ترضى منه لحسن خلقه، وجميل خلقه، جميع ما يصدر منه بحيث لو وجد ما يخشى وجوده من الغيرة لزال عن قرب)(1).

أقول: أما إنها فاقدة عمن تركن إليه فهذا غير صحيح لأن ركنها الموثوق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكما هو معروف أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يوليها عناية خاصة، فإذا دخلت عليه كان يقوم إجلالاً لها، ويأخذ بيدها ويقبلها وهو صلى الله عليه وآله وسلم ما قبل يد أحد من الناس قط وإذا سافر كان آخر من يراه، وإذا أقدم كانت أول من يقصده فكيف يمكن أن تكون فاقدة عمن تركن إليه.

وثانياً: أما فقدان الأم فقد عوضها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الدنيا وما فيها، وأما فقدان الأخت فهذه حقيقة لا يمكن نكرانها لأنها وحيدة أبيها ويبدو أن هذا هو الذي اعتمده القسطلاني لأن فاطمة عليها السلام لم تفقد اللواتي رباهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سريعاً وبخاصةً أم كلثوم فإنها توفيت سنة (9) من الهجرة وأما زينب فقد توفيت سنة 8 من الهجرة، فهي إذ ذاك لديها من ترجع إليه وإن لم يكنّ شقيقاتها.

ثالثاً: أما ما كان عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الملاطفة وتطييب القلوب وجبر الخواطر ما هو مسلّم فيه عند كل من عرف رسول الله صلى الله عليه

ص: 305


1- الزهور الندية للقسطلاني: 213، ط وتعليق أحمد بن محمد طاحون.

وآله وسلم أو سمع منه لكن هذه الأمور كانت ابنته فاطمة أحق بها؟ لأنها قلبه وروحه التي بين جنبيه لكن على الرغم من وجود الملاطفة وتطييب القلوب وجبر الخواطر إلاّ أن الغيرة التي كانت تحدث عند عائشة لم يوجد لها مثيل بين نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم، حتى قالت: ما غرت على أحد مثل ما غرت على خديجة لكثرة ما كان يذكرها.

فإن هذه الغيرة ما كانت تنتهي بالملاطفة وتطييب القلوب وجبر الخواطر بل على العكس كانت تنتهي بألم الرسول وغضبه وتأديبه لها بشد صدغها وتحذيره صلى الله عليه وآله وسلم لها من العودة لهذه الغيرة علما أن التي تغار منها قد توفيت ولم تجتمع معها في مكان واحد؛ وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على عدالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حفظ الحقوق ويدل أيضاً على مكانة السيدة خديجة أم المؤمنين عليها السلام، إذ إنه لم يتزوج عليها طيل مدّة حياتها معه والبالغة خمساً وعشرين سنة وهي مدّة شبابه ولو كان احتياجه إلى المرأة غريزيا لكان حرياً أن يتزوج من غيرها في هذه المدّة لكننا نرى أنه تزوج إحدى عشرة امرأة بعد الهجرة.

ولذلك لم يكن منعه صلى الله عليه وآله وسلم لعلي من زواج ابنة أبي جهل خوفا من وقوع الغيرة في بيت فاطمة فتفتن في دينها، فقد وقعت بين نسائه هذه الغيرة ولم يكن له مثل هذا الموقف.

أما السبب في منع الزواج على فاطمة هو:

أولا لعظم مكانتها ومنزلتها عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛

ص: 306

فلقد أخرج الديلمي عن النبي قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«لولا علي لما كان لها كفء».

وثانيا: إن من حكمة الله على العباد أن جعل الأمور تجري بأسبابها، ومن هذا المنطلق فإن الحكمة الإلهية كانت تقتضي أحياناً أن يسبق نزول الوحي حادثة من الحوادث فينزل الوحي مبيناً ومفصلا لهذه الحادثة وهذا له فائدة عظيمة وهي أن الحادثة إذا ترافقت مع الوحي فإن ذلك له تأثير على النفوس في أن الله شاهد عليهم ومحيط بهم ومطْلعٌ نبيه على أسرارهم هذا من جهة؛ أما الجهة الأخرى التي فيها فائدة فهي أن الناس إذا رأت هناك حادثة ترافق معها نزول الوحي فإن ذلك يؤدي إلى حفظ هذه الحادثة وما نزل فيها من القرآن فيكون ذلك أشهد وأحفظ، ومن هنا فإن حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«فاطمة بضعة مني».

كانت الحكمة فيه: هي أن يترافق هذا الحديث مع الفعل لكي يتناقله الناس ويبقى راسخاً في أذهانهم.

فضلاً عن ان الإمام علي عليه السلام لم يقدم على خطبة هذه المرأة ولكن أهل النفاق أشاعوا ذلك لغرض تقليب الأمور وإنزال الأذى بفاطمة عليها السلام كما يظنون انها ستغار من ابنت أبي جهل، وما ذاك إلا لجهلهم بأهل البيت عليهم السلام ولكن نسوا ان الله أشد مكرا بهم وأعظم.

وثالثا: إن الجواب على ذلك كله ذكره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم للناس لكي يعلم الناس جميعاً أن إيذاءها هو إيذاء له ومن آذاها فقد آذى الله.

ص: 307

رابعاً: حكم من آذى فاطمة عليها السلام عند أئمة أهل البيت عليهم السلام

لا يختلف حكم أئمة أهل البيت عليهم السلام عن حكم علماء السنة والجماعة فيمن آذى فاطمة صلوات الله وسلامه عليها إلاّ أن الفارق بين الحكمين؛ أن علماء أهل السنة ذكروا الحكم ولم يذكروا الجناة الذين آذوا فاطمة وحرقوا دارها وقتلوا جنينها، وأن أئمة أهل البيت عليهم السلام ذكروا الجناة والحكم فكان هذا قولهم.

فقد أخرج الكليني (عن أبان بن عثمان بن عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام إن الله عزّ وجل منّ علينا بأن عرفنا توحيده، ثم من علينا بأن أقررنا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، ثم اختصنا بحبكم أهل البيت نتولاكم ونتبرأ من عدوكم، وإنما نريد بذلك خلاص أنفسنا من النار. قال ورققت فبكيت، فقال أبو عبد الله عليه السلام:

«سلني فو الله لا تسألني عن شيء إلا أخبرتك به».

قال: فقال له عبد الملك بن أعين ماسمعته قالها لمخلوق قبلك، قال: قلت خبرني عن الرجلين قال:

«ظلمانا حقنا في كتاب الله عزّ وجل، ومنعا فاطمة عليها السلام ميراثها من أبيها، وجرى ظلمهما إلى اليوم».

قال: وأشار إلى خلفه - وقال -:

«ونبذا كتاب الله وراء ظهورهما»)(1).

ص: 308


1- الكافي للكليني: ج 8، ص 102.

المبحث الخامس: وصيتها ووفاتها عليها السلام

اشارة

لم يتسنَّ لبضعة رسول الله صلى الله عليه وآله الدوام والبقاء بعد وفاة أبيها صلى الله عليه وآله وسلم طويلاً وذلك لما جرى عليها من المصائب والظلم والرزايا، التي وصفتها بقولها عليها السلام:

صبّت عليّ مصائب لو أنها *** صبت على الأيام صرن لياليا(1)

وقد وصف حالها الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام فقال:

«إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أسر إلى فاطمة عليها السلام أنها أول من يلحق به من أهل بيته فلما قبض صلى الله عليه وآله ونالها من القوم ما نالها لزمت الفراش ونحل جسمها وذاب لحمها وصارت كالخيال»(2).

ص: 309


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 1، ص 20؛ مسكن الفؤاد للشهيد الثاني: ص 103؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص 181؛ تفسير الآلوسي: ج 19، ص 149؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 2، ص 134؛ الاكتفاء للكلاعي: ص 62.
2- مستدرك الوسائل للمحدث النوري: ج 2، ص 361.

وروي أنها ما زالت بعد أبيها معصبة الرأس ناحلة الجسم منهدة الركن باكية العين محترقة القلب يغشى عليها ساعة بعد ساعة وتقول لولديها:

«أين أبوكما الذي كان يكرمكما ويحملكما مرة بعد مرة، أين أبوكما الذي كان أشد الناس شفقة عليكما فلا يدعكما تمشيان على الأرض ولا أراه يفتح هذا الباب أبدا ولا يحملكما على عاتقه كما لم يزل يفعل بكما».

ثم مرضت ومكثت أربعين ليلة، ثم دعت أم أيمن وأسماء بنت عميس وعلياً عليه السلام وأوصت إلى علي عليه السلام)(1)، فكانت وصيتها كالآتي:

المسألة الأولى: وصيتها

اشارة

تنقسم وصية فاطمة عليها السلام إلى عدة محاور يمكن توصيفها كالآتي:

أولاً: وصيتها بنفسها إلى علي عليهما السلام

إنّ أول ما أوصت به فاطمة صلوات الله وسلامه عليها لعلي عليه السلام هي وصيتها له بنفسها وذلك بعد أن مرضت مرضاً شديداً مكثت أربعين ليلة في مرضها إلى أن توفيت صلوات الله عليها فلما نعيت إليها نفسها دعت أم أيمن، وأسماء بنت عميس، ووجهت خلف علي وأحضرته.

فقالت:

«يابن العم إنه قد نعيت إلي نفسي وإنني لا أرى ما بي، إلاّ أنني لاحقة بأبي ساعة

ص: 310


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 362.

بعد ساعة وأنا أوصيك بأشياء في قلبي».

قال لها علي عليه السلام:

«أوصيني بما أحببت يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

فجلس عند رأسها وأخرج من كان في البيت، ثم قالت:

«يابن العم ما عهدتني كاذبة، ولا خائنة، ولا خالفتك منذ عاشرتني».

فقال عليه السلام:

«معاذ الله، أنت أعلم بالله، وأبرُ واتقى وأكرم وأشد خوفاً من الله، أن أوبخك بمخالفتي، قد عزّ علي مفارقتك وفقدك إلاّ أنه أمر لابد منه، والله جددت عليّ مصيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد عظمت وفاتك وفقدك».

ف - (... إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ)(1).

«من مصيبة ما أفجعها، وآلمها، وأمضاها، وأحزنها، هذه والله مصيبة لا عزاء لها، ورزية لا خلف لها».

ثم بكيا جميعاً ساعة وأخذ علي رأسها وضمها إلى صدره، ثم قال:

«أوصيني بما شئت، فإنك تجديني فيها أمضي كما أمرتني به، واختار أمرك على أمري».

ثم قالت:

«جزاك الله عني خير الجزاء؛ يا ابن عم رسول الله»(2).

ص: 311


1- سورة البقرة، الآية: 156.
2- روضة الواعظين: ص 181؛ البحار: ج 43، ص 191.

«أوصيك في نفسي، وهي أحب الأنفس إليّ بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذا أنا مت فغسلني بيدك، وحنطني، وكفني، وأدفني ليلاً»(1).

ثانياً: مناشدتها علياً عليه السلام أن لا يحضر جنازتها أبو بكر وعمر ولا أحد ممن ظلمها

ثم قالت لعلي عليه السلام:

«إن لي إليك حاجة يا أبا الحسن».

فقال عليه السلام:

«تقضى يا بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

قالت:

«ناشدتك بالله، وبحق محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن لا يصلي عليّ أبو بكر وعمر، فإني لأكتمك حديثاً».

فقالت:

«قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا فاطمة! إنك أول من يلحق بي من أهل بيتي فكنت أكره أن أسوءك»(2).

ثم قالت:

«أوصيك أن لا يشهد أحد جنازتي من هؤلاء الذين ظلموني، وأخذوا حقّي، فإنهم عدوّي، وعدو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا تترك أن يصلي عليّ

ص: 312


1- مستدرك الوسائل للمحدث النوري: ج 2، ص 305.
2- مسند فاطمة لحسين شيخ الإسلام: ص 480؛ البحار الطبعة الحجرية: ج 29، ص 112؛ مستدرك الوسائل: ج 2، ص 290.

أحد منهم، ولا من أتباعهم، وأدفني في الليل، إذا هدأت العيون، ونامت الأبصار»(1).

ثالثاً: وصيتها لعلي عليه السلام بالزواج من أمامة بنت أبي العاص

وكانت بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما أوصت به عليا عليهما السلام أن يتزوج من ابنة أختها زينب بنت التي تزوجها أبو العاص بن الربيع فأولدها أمامة، حرصا على أولادها عليهم السلام ورأفة بهم، وذلك أن دخول المرأة إلى بيت الأسرة بعد رحيل الأم ووفاتها له من الآثار الكبيرة على نفسية الأبناء لاسيما إذا كانوا صغاراً وبحاجة إلى رعاية ولا يخفى أن زينب العقيلة عليها السلام كانت في الخامسة من عمرها وأن أم كلثوم دون ذلك.

فكان هذا الفعل يكشف عن حكمة فاطمة عليها السلام وتأسيسها لحياة أسرية هادئة إن أمكن لتلك الأسر التي تبتلى بفقد الأم لاسيما وأن الرجل لابد له من امرأة تعينه على شؤون حياته واحتياجاته الشخصية.

ولذا:

أوصت أمير المؤمنين عليّاً عليه السلام فقالت:

«جزاك الله عني خير الجزاء يا بن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصيك أولاً أن تتزوج بعدي بابنة أختي أمامة، فإنها تكون لولدي مثلي، فإن الرجال لابد لهم من النساء»(2).

فمن أجل ذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام:

ص: 313


1- روضة الواعظين: ص 181؛ البحار: ج 43، ص 191؛ ناسخ التواريخ: ص 201.
2- روضة الواعظين: ص 181؛ البحار: ج 43، ص 191.

«أربع ليس لي إلى فراقه سبيل: أمامة أوصتني بها فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم»(1)(2).

رابعاً: وصيتها بالنعش

تكشف الروايات التي تحدثت عن نعش فاطمة صلوات الله عليها بأنها كانت شديد الحرص على سترها وعظم حيائها وذلك أن المرأة إذا حملت على النعش - وهو السرير أو الخشبة التي يوضع عليها الميت ليحمل إلى قبره - أن هذا النعش حينما توضع عليه المرأة وتغطى بقطعة من القماش فإنه ستظهر معالم جسمها للرجال ولا يتحقق سترها.

ولذا:

أرادت الزهراء عليها السلام نعشاً خاصاً تحمل عليه يحقق لها الستر فلا يصف جسمها حينما يلقى عليها القماش، على الرغم من أن بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد مرضت ونحل جسمها وذاب لحمها ويبس على جلدها، لكنها مع ذاك كانت شديد الحرص على سترها وحيائها.

فماذا صنعت؟

ص: 314


1- المصدر السابق.
2- وقد تناولت كثير من المصادر مسألة زواج علي عليه السلام من أمامة بنت أبي العاص، والظاهر لكون أبي العاص من بني أمية؛ أنظر خبر زواجها؛ المعجم الكبير: ج 22، ص 443، برقم 1081؛ فتح الباري لابن حجر: ج 1، ص 195؛ شرح الزرقاني: ج 1، ص 87؛ عون المعبود: ج 3، ص 131؛ تنوير المحالك للسيوطي: ج 1، ص 41؛ سير أعلام النبلاء: ج 2، ص 122؛ طبقات ابن سعد: ج 8، ص 31؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 45.

1 - في وصيتها لأمير المؤمنين عليه السلام قالت:

«أوصيك يابن عم أن تتخذ لي نعشاً، فقد رأيت الملائكة صوروا صورته».

فقال لها:

«صفيه لي».

فوصفته، فاتخذه لها، فأول نعش عمل على وجه الأرض كان ذلك، وما كان أحد قبله ولا عمل أحد بعده)(1).

في المقابل كانت هناك روايات أخرى تصف النعش وطريقة صنعه في وصيتها لأسماء بنت عميس، والظاهر أن النعش الذي صورته الملائكة لفاطمة فوصفته لأمير المؤمنين عليه السلام فصنعه لها هو نفسه الذي قامت بصناعته أسماء بنت عميس.

أما لماذا وردت الروايات بصفتين، الأولى تتحدث عن قيام أمير المؤمنين عليه السلام بصناعة نعش لفاطمة عليها السلام، والثانية تتحدث عن صناعة أسماء؟ وذلك كي تقوم أسماء بالإخبار عن هذا النعش وما دار بينها وبين بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقامت فصنعته لها.

وليدل هذا الحوار على ما كانت تمتاز به سيدة نساء العالمين من الحياء والعفة والمحافظة على الستر كي تتخذنها النساء أسوة في المحافظة على عفتهن وسترهن وحشمتهن؛ ولا ريب أن النعشين هما على هيأة واحدة فالذي صوّرته الملائكة لفاطمة عليها السلام هو الذي صنعته أسماء فكان سبقاً في تطمينها صلوات الله وسلامه عليها.

ص: 315


1- روضة الواعظين: ص 181؛ البحار: ج 43، ص 191.

أما على أيهما حملت؟ فإن من المسلم أنها حملت على النعش الذي صنعه أمير المؤمنين عليه السلام لخصوصية أهل البيت عليهم السلام وما يترتب على ذلك من آثار تكوينية ليس بالضرورة كشفها، لكنها من المسلمات في حياة الأنبياء وشؤونهم التي تدل على التصاقهم وسنخيتهم مع الغيب والإيمان به.

أما كيف صنعت أسماء بنت عميس النعش فهو في الفقرة (1).

2 - روى الشيخ الطوسي (عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام:

«أول نعش أحدث في الإسلام نعش فاطمة، إنها اشتكت شكوتها التي قبضت فيها وقالت لأسماء:

إني نحلت، وذهب لحمي، ألا تجعلي لي شيئاً يسترني؟

قالت: أسماء إني إذ كنت بأرض الحبشة، رأيتهم يصنعون شيئاً، أفلا أصنع لك مثله فإن أعجبك صنعت لك؟

قالت: نعم.

فدعت بسرير فألجته لوجهه، ثم دعت بجرائد، فشدته على قوائمه، ثم جللت ثوباً.

فقالت: هكذا رأيتهم يصنعون.

فقالت: اصنعي لي مثله، استريني سترك الله من النار»)(2).

فكانت عليها الصلاة والسلام أول من جعل لها النعش في الإسلام(2).

ص: 316


1- الكافي للكليني: ج 3، ص 251؛ تهذيب الأحكام: ج 1، ص 469؛ من لا يحضره الفقيه: ج 1، ص 194؛ وسائل الشيعة: ج 3، ص 219.
2- التهذيب للطوسي: ج 1، ص 132؛ وسائل الشيعة للعاملي: ج 2، ص 876؛ البحار: ج 43، ص 212؛ كشف الغمة: ج 1، ص 129.

وروي عن أسماء بنت عميس، أنها قالت: (لما رأته تبسمت وما رأيتها متبسمة إلا يومئذ(1)؛ وروي: أن سبب تبسمها أنها قالت:

«ذكرت ما قاله أبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تلحقين بي من بعدي بعد أربعين صباحاً وبقي يومان فلعل الله تعالى يلحقني به»(2).

خامساً: وصيتها بحوائطها السبعة

لقد مرّ علينا سابقاً في مبحث مال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحبس أبي بكر هذا المال ومنع فاطمة عليها السلام منه إلاّ أن ذلك لا يغير من الواقع الذي عليه هذه الحوائط السبعة التي كانت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فورثتها ابنته فاطمة عليها السلام فحكمها الذي نصت عليه شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي ملكها؛ ولذا: قامت فاطمة عليها السلام فعملت بتكليفها الشّرعي في هذه الحوائط وإن كان أبو بكر قد صادرها، فكانت

ص: 317


1- وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 3، ص 220؛ مستدرك الحاكم: ج 3، ص 177، برقم 4763؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 4، ص 34، برقم 721؛ ناسخ الحديث ومنسوخه لابن شاهين: ص 483، ط مكتبة المنار بالزرقاء؛ عون المعبود للآبادي: ج 8، ص 37؛ حلية الأولياء: ج 2، ص 42، ط دار الكتاب العربي؛ سير أعلام النبلاء: ج 2، ص 128، ط مؤسسة الرسالة؛ تهذيب الكمال: ص 35، بلفظ: (أول من غطي نعشها بهذه الكيفية)؛ الاستيعاب: ج 4، ص 1898، ط دار الجيل (أول من غطي نعشها في الإسلام)؛ طبقات ابن سعد: ج 8، ص 28، ط دار صادر؛ موضع أوهام الجمع والتفريق للبغدادي: ج 2، ص 464، ط دار المعرفة؛ المواهب اللدنية: ج 2، ص 66؛ تاريخ القضاعي: ص 23؛ السنن الصغرى للبيهقي: ج 1، ص 340؛ الأعلام للزركلي: ج 5، ص 139؛ فقه الرضا: ص 189.
2- كتاب فضائل العشرة تأليف أبي العباس أحمد بن الحسن الكنكشي (مخطوط) يرقد في مكتبة الأسد ويحمل الرقم (12990).

وصيتها فيها كالآتي:

روى الشيخ الصدوق والكليني وغيرهما، (عن أبي بصير، عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام قال: قال أبو جعفر:

«لا أقرئك وصية فاطمة عليها السلام».

قال: قلت: بلى، قال:

«فأخرج حقا أو سفطا فأخرج منه كتابا فقرأه (بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما أوصت به فاطمة بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوصت بحوائطها السبعة العواف والدلال والبرقة والميثب والحسنى والصافية وما لأم إبراهيم إلى علي ابن أبي طالب عليه السلام فإن مضى علي فإلى الحسن فإن مضى الحسن فإلى الحسين فإن مضى الحسين فإلى الأكبر من ولدي شهد الله على ذلك والمقداد ابن الأسود والزبير بن العوام وكتب علي بن أبي طالب»)(1).

سادساً: وصيتها التي كتبتها بيدها في أموالها

وكانت صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها قد كتبت بيدها وصيتها بأموالها التي ورثتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مما أفاء الله تعالى عليه فكانت كالآتي:

ص: 318


1- من لا يحضره الفقيه: ج 4، ص 244؛ الكافي للكليني: ج 7، ص 48؛ تهذيب الأحكام: ج 9، ص 144؛ وسائل الشيعة: ج 19، ص 198؛ دعائم الإسلام: ج 2، ص 343؛ دلائل الإمامة: ص 42؛ كشف الغمة: ج 1، ص 499؛ المجموع شرح المهذب للنووي: ج 15، ص 511، ط مكتبة الإرشاد بجدة.

فعن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال:

«وإن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتبت هذا الكتاب:

بسم الله الرحمن الرحيم: هذا ما كتبت فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم في مالها إن حدث بها حادث، تصدّقت بثماني أوقية، تنفق عنها من ثمارها التي لها كل عام، في كل رحب، بعد نفقة السقي، ونفقة المغل، وأنها انفقت أثمارها العام، وأثمار القمح عاماً قابلاً في أوان غلّتها، وإنما أمرت لنساء محمد صلى الله عليه وآله وسلم - أبيها - خمساً وأربعين أوقية، وأمرت لفقراء بني هاشم، وبني عبد المطلب، بخمسين أوقية، وكتبت في أصل مالها في المدينة، إنّ عليا عليه السلام سألها أن توليه مالها، فيجمع مالها إلى مال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا تفرق، تليه ما دام حيّاً، فإذا حدث به حادث، دفعه إلى ابنيّ - الحسن والحسين عليهما السلام - فيليانه.

وإنّي دفعت إلى علي بن أبي طالب عليه السلام على أنّي أحلله فيه، فيدفع مالي، ومال محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا يفرق منه شيئاً، يقضي عنّي من أثمار المال ما أمرت به، وما تصدّقت به، فإذا قضى الله صدقتها، وما أمرت به، فالأمر بيد الله تعالى، وبيد علي عليه السلام يتصدّق، وينفق حيث شاء، لا حرج عليه.

فإذا حدث به حادث، دفعه إلى ابنيّ - الحسن والحسين عليهما السلام - المال جميعاً: مالي، ومال محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فينفقان ويتصدّقان حيث شاءا، ولا حرج عليهما.

وإنّ لابنة جندب بنت أبي ذر الغفاري التابوت الأصغر، وتغطها في المال ما

ص: 319

كان، ونعلي الآدميين، والنمط، والجب، والسرير، والزريبة، والقطيفتين.

وإن حدث بأحد ممن أوصت له قبل أن يدفع إليه، فإنه ينفق في الفقراء والمساكين، وإنّ الأستار لا يستتر بها امرأة إلا إحدى ابنتيّ، غير أنّ علياً عليه السلام يستر بهنّ إن شاء ما لم ينكح.

وإنّ هذا ما كتبت فاطمة عليها السلام في مالها، وقضت فيه، والله شهيد، والمقداد ابن الأسود، والزبير بن العوام، وعلي بن أبي طالب عليه السلام كتبها.

وليس على علي عليه السلام حرج فيما فعل من معروف».

قال أبو جعفر بن محمد عليهما السلام:

«قال أبي: هذا وجدناه وهكذا، وجدنا من وصيّتها عليها السلام»)(1).

سابعاً: رؤياها في عالم المنام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصيتها لعلي فيمن يشهد جنازتها

أخرج ابن جرير الطبري (الشيعي) (عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام، أنه قال:

«لما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما ترك إلاّ الثقلين كتاب الله وعترته أهل بيته وكان قد أسر إلى فاطمة أنها لاحقة به وأنها أول أهل بيته لحوقا.

فقالت عليها السلام: بينا أنا بين النائمة واليقظانة بعد وفاة أبي بأيام إذ رأيت كأن أبي قد أشرف عليّ فلما رأيته لم أملك نفسي أن ناديت يا ابتاه انقطع عنا خبر السماء فبينا أنا كذلك إذ أتتني الملائكة صفوفا يقدمها ملكان حتى

ص: 320


1- مسند فاطمة عليها السلام للسيد حسين شيخ الإسلام: ص 484-485.

أخذاني فصعدا بي إلى السماء فرفعت رأسي فإذا أنا بقصور مشيدة وبساتين وأنهار تطرد قصر بعد قصر وبستان بعد بستان، وإذا قد طلع عليّ من تلك القصور جوارٍ كأنهن اللعب مستبشرات يضحكن إليّ ويقلن مرحبا بمن خلقت الجنة وخلقنا من أجل أبيها، ولم تزل الملائكة تصعد بي حتى أدخلوني إلى دار فيها قصور في كل قصر بيوت فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت وفيها من السندس والإستبرق على الأسرة الكثير وعليها اللحاف من الحرير والديباج بألوان ومن أواني الذهب والفضة وفيها الموائد وعليها ألوان الطعام وفي تلك الجنان نهر مطرد أشد بياضا من اللبن وأطيب رائحة من المسك الأذفر.

فقلت: لمن هذه الدار وما هذه الأنهار فقالوا: هذه الدار هي الفردوس الأعلى الذي ليس بعده جنة وهي دار أبيك ومن معه من النبيين ومن أحب الله وهذه هي نهر الكوثر الذي وعده الله أن يعطيه إياه.

قلت: فأين ابي، قالوا: الساعة يدخل عليك، فبينا أنا كذلك إذ برزت لي قصور أشد بياضا من تلك القصور وفرش هي أحسن من تلك الفرش وإذا أنا بفرش مرتفعة على أسرة وإذا أبي جالس على تلك الفرش ومعه جماعة فأخذني وضمني وقبل ما بين عيني وقال: مرحبا بابنتي وأقعدني في حجره ثم قال: يا حبيبتي أما ترين ما أعد الله لك وما تقدمين عليه وأراني قصوراً مشرفات فيها ألوان الطرائف والحلي والحلل وقال: هذا مسكنك ومسكن زوجك وولديك ومن أحبك وأحبهما فطيبي نفسا فإنك قادمة عليّ إلى أيام قالت: فطار قلبي واشتد شوقي فانتبهت مرعوبة.

قال أبو عبد الله: قال أمير المؤمنين عليه السلام: لما انتبهت من رقدتها صاحت بي

ص: 321

فأتيتها وقلت ما تشكين فأخبرتني بالرؤيا ثم أخذت عليّ عهدا لله ورسوله أنها إذا توفيت لا أعلم أحدا إلا أم سلمة زوج النبي وأم أيمن وفضة ومن الرجال ابنيها وعبد الله بن عباس وسلمان الفارسي، وعمار بن ياسر والمقداد وأباذر وحذيفة وقالت إني قد أحللتك من أن تراني بعد موتي فكن مع النسوة فيمن يغسلني ولا تدفني إلاّ ليلا ولا تعلم على قبري»(1).

المسألة الثانية: احتضارها عليها السلام ووفاتها

لقد آن لهذا الجسد أن يستريح من آلامه التي أوجدها الظالمون.

لقد آن لهذا الجسم النحيل أن يغادر هذه الدار إلى الدار الآخرة.

لقد آن لهذا البدن الذي ذاب لحمه أن يستقر في جوار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد اشتاق الحبيب لحبيبه، وطال الفراق وزاد الحنين لتلك اللحظات التي كانت تزهو بالحب والطمأنينة بعدما بدلها الظالمون رعباً وخوفاً ووحشة.

ولطالما كانت تستغيث بأبيها وتدعو الله لتلقاه، فقد كانت تكثر الدعاء في هذه الأيام الأخيرة وعينها في السماء:

«يا حي يا قيوم برحمتك استغيث فأغثني، اللهم زحزحني عن النار وأدخلني الجنة، وألحقني بأبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم».

فكان أمير المؤمنين عليه السلام يقول لها:

«يعافيك الله ويبقيك».

ص: 322


1- دلائل الإمامة لابن جرير الطبري: ج 43، ص 44.

فتقول:

«يا أبا الحسن ما أسرع اللحاق بالله».

هكذا كانت فاطمة في أيامها بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولقد استجاب الله تعالى لها فألحقها بحبيبه محمد صلى الله عليه وآله وسلم، لكن هذه اللحظات لم تكن لتخلو من الحزن والبكاء ففي الوقت الذي كانت فيه فاطمة مشتاقة لرؤية أبيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففي الوقت نفسه كيف لها بفراق علي أمير المؤمنين وأولادها.

فهما لمّا يجف لهما جفن بعد فراق أبيهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإذا بهما سرعان ما يفقدان أمهما، فكيف كان احتضارها ووداعها لأولادها وزوجها.

قال الإمام الصادق عليه السلام:

«إنّ فاطمة عليها السلام لما احتضرت، أوصت علياً فقالت: إذا أنا مت فتول أنت غسلي وجهزني، وصلّ علي، وأنزلني في قبري، وألحدني، وسوي التراب عليّ، وأجلس عند رأسي قبالة وجهي، وأكثر من تلاوة القرآن والدعاء، فإنها ساعة يحتاج الميت فيها إلى أنس الأحياء، وأنا استودعك الله تعالى وأوصيك في ولدي خيراً. ثم ضمت إليها أم كلثوم، فقالت له: إذا بلغت فلها ما في المنزل، ثم الله لها»(1).

ثم إنها عليها الصلاة والسلام (بكت فقال لها أمير المؤمنين عليه السلام:

ص: 323


1- البحار للمجلسي: ج 89، ص 27.

«يا سيدتي! ما يبكيك؟».

قالت:

«أبكي لما تلقى بعدي».

فقال لها:

«لا تبكي، فو الله، إن ذلك لصغير عندي في ذات الله تعالى»)(1).

ثم قالت عليها السلام:

«يا أبا الحسن إذا أردت دفني فأخرج من هذه الحقة كاغذة، واجعلها في كفني، ولا تنظر فيه».

قال عليه السلام:

«وما في الكاغذ؟».

قالت:

«سرّ».

قال علي عليه السلام:

«بحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن تخبريني».

قالت فاطمة عليها السلام:

«حين أراد أبي أن يزوجني منك، قال: يا فاطمة! هل ترضين أن أزوّجك من علي بصداق أربعمائة درهم؟ قلت: رضيت بعلي، ولا رضيت بصداق أربعمائة درهم، فجاء جبرئيل وقال: يا رسول الله! يقول الله تعالى: جعلت الجنة وما فيها صداقاً

ص: 324


1- البحار: ج 43، ص 218؛ العوالم: ج 11، ص 264.

لفاطمة، قلت: لا أرضى، قال: أيّ شيء تريدين يا فاطمة! قلت: أريد أمّتك لأنّ قلبك مشغول بأمّتك، فرجع جبرئيل ثمّ جاء بهذه الورقة، مكتوب فيها: جعلت أمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم صداقاً لفاطمة عليها السلام، إذا كان يوم القيامة آخذ هذا الكاغذ وأقول: إلهي هذه قبالة شفاعة أمّة محمد صلى الله عليه وآله وسلم».

ثم قالت عليها السلام:

«يا أبا الحسن! لم يبق لي إلاّ رمق من الحياة، وحان زمان الرحيل والوداع، فاستمع كلامي فإنّك لا تسمع بعد ذلك صوت فاطمة عليها السلام أبداً، أوصيك يا أبا الحسن! أن لاتنساني، وتزورني بعد مماتي، فإنّي ما فارقتك مدّة حياتي، والآن أقيم في بيت الغربة والوحشة، ولا أجد من يرحم وحدتي، ويؤنس وحشتي، وأوصيك بكذا وكذا».

فبكى عليٌ عليه السلام وقال:

«يا فاطمة! إذا لقيت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاقرئيه منّي السلام، واشرحي له ما أصابني من أمّته من الظلم والعدوان».

ثمّ التفتت إلى ولديها عليهما السلام وقالت:

«يا ولديّ، ويا نوري عينيّ، إذا مت فمن يتولى أمركما؟ ومن يتفقدكما؟».

فلما سمعا ذلك انتحبا وبكيا، فعزّ عليهما، وقالت عليها السلام:

«يا ولديّ! اذهبا إلى البقيع، واسألا الله أن يعافي أمّكما».

فسارا إلى البقيع، واستلقت فاطمة عليها السلام على فراشها، وقالت لأسماء:

ص: 325

«يا أسما! أعدّي لهما طعاماً إذا رجعا من البقيع، أطعميهما، ولا تدعيهما يشاهدان ما أنا فيه».

فقام علي عليه السلام وخرج إلى المسجد، واشتغلت فاطمة عليها السلام بالبكاء والدعاء، وسمعتها تدعو الله وتقول:

«إلهي، وسيّدي! أسألك بالذين اصطفيتهم، وببكاء ولديّ في مفارقتي، أن تغفر لعصاة شيعتي، وشيعة ذريّتي»)(1).

(ثم قالت لأسماء:

«هاتي طيبي الذي أتطيب به، وهاتي ثيابي التي أصلي فيها».

ووضعت رأسها فقالت لأسماء:

«أجلسي عند رأسي فإذا جاء وقت الصلاة فأقيميني فإن قمت وإلاّ فارسلي إلى علي عليه السلام»)(2).

المسألة الثالثة: هبوط الملائكة لقبض روحها ومعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجبرائيل عليه السلام

وكانت عليها السلام قبل هبوط الملائكة لقبض روحها قد اغتسلت كأحسن ما كانت تغتسل، ثم قالت:

«يا سلمى(3)! هلمي ثيابي الجدد».

ص: 326


1- مسند فاطمة للسيد حسين شيخ الإسلامي: ص 491-493.
2- البحار: ج 43، ص 200.
3- زوجة أبي رافع.

قالت سلمى: فأتيتها بها فلبستها ثم جاءت إلى مكانها الذي كانت تصلي فيه، فقالت:

«قربي فراشي إلى وسط البيت».

ففعلت فاضطجعت عليه ووضعت يدها اليمنى تحت خدها، واستقبلت القبلة(1)، وقالت:

«يا سلمى إني مقبوضة الآن».

قالت: وكان علي عليه السلام يرى ذلك من صنيعها، فلما سمعها تقول: إني مقبوضة الآن استبقت عيناه بالدموع، وقال:

«لا أحوش الله من أم الحسنين وقرة العينين»(2).

فقالت:

«يا أبا الحسن! أصبر، فإن الله مع الصابرين»(3).

وروي عن عبد الله بن الحسن عن أبيه، عن جده عليه السلام:

«إن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما احتضرت نظرت نظراً حاداً، ثم قالت: السلام على جبرائيل، السلام على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، اللهم مع رسولك، اللهم في رضوانك وجوارك ودارك - دار السلام -.

ص: 327


1- تلخيص الجير لابن حجر العسقلاني: ج 2، ص 102، ح 731؛ السيل الجرار للشوكاني: ج 1، ص 335.
2- مجموع أول مسائل عبد الله بن سلام مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعبد الله بن سلام (مخطوط) يرقد في مكتبة الأسد بدمشق ويحمل الرقم (19124)، رقم المصغر الفيلي: (15062).
3- البحار: ج 78، ص 246؛ كشف الغمة: ج 2، ص 127.

ثم قالت: ترون ما أرى؟

فقيل لها: ما ترى؟

قالت: هذه مواكب أهل السماوات، وهذا جبرائيل، وهذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويقول: أقدمي فما أمامك إلا خير لك»(1).

ثم سلمت على ملك الموت وسمعوا حس الملائكة ووجدوا رائحة طيبة كأطيب ما يكون من الطيب(2).

وفي رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:

«فلما كانت الليلة التي أراد الله أن يكرمها ويقبضها إليه، أخذت تقول: وعليكم السلام، يا ابن عمي هذا جبرائيل أتاني مسلماً، وقال: السلام يقرئك السلام يا حبيبة حبيب الله وثمرة فؤاده اليوم تلحقين به في الرفيع الأعلى، وجنة المأوى، ثم انصرف عني.

ثم أخذت تقول وعليكم السلام وتقول: يا ابن عمي، وهذا ميكائيل يقول كقول صاحبه.

ثم أخذت ثالثا تقول:

«وعليكم السلام وقد فتحت عينيها شديداً وقالت: يا ابن عمي هذا والله الحق عزرائيل نشر جناحه بالمشرق والمغرب وقد وصفه لي أبي وهذه صفته.

ثم قالت: يا قابض الأرواح عجل بي ولا تعذبني، ثم قالت: إليك ربي لا إلى النار ثم غمضت عينيها ومدت يديها ورجليها فكأنها لم تكن حية قط».

ص: 328


1- البحار: ج 43، ص 200.
2- المصدر السابق.

وروي في وفاتها غير ذلك وهو خبر صعب شديد)(1).

قالت أسماء: (ثم مكثت ساعة، ثم أتيتها وناديتها، فلم تردّ جوابي: فدخلت الحجرة، وكشفت عن وجهها، وإذا بها قد فارقت روحها الدنيا، فبكيت وصرخت وا فاطمتاه! فبينما هي في صراخ وعويل، إذ دخل الحسنان عليهما السلام باكيين، فأقبلت إليهما أسماء، وأجلستهما، وأحضرت لهما طعاماً، فقالا:

«يا أسماء! هل رأيتنا نأكل من غير أمنا، يا أسماء! مضينا إلى البقيع ودعونا لأمّنا، ثمّ انصرفنا على قبر جدّنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فسمعناه، يقول: يا ولديّ! انصرفا إلى أمّكما، فإنّها تفارق الدنيا».

ثم قاما ودخلا الحجرة.

وفي (البحار): فوقع الحسن عليه السلام، عليها، يقبّلها مرة، ويقول:

«يا أماه! كلّميني قبل أن تفارق روحي بدني»)(2).

ف - (... إِنّٰا لِلّٰهِ وَ إِنّٰا إِلَيْهِ رٰاجِعُونَ)(3).

تم ولله الحمد

(... وَ مٰا تَوْفِيقِي إِلاّٰ بِاللّٰهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ)(4).

(... رَبَّنٰا تَقَبَّلْ مِنّٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ)(5).

ص: 329


1- دلائل الإمامة للطبري (الشيعي): ص 44.
2- مسند فاطمة: ص 493.
3- سورة البقرة، الآية: 156.
4- سورة هود، الآية: 88.
5- سورة البقرة، الآية: 127.

المحتويات

الفصل الاول: النبى صلى الله عليه وآله وسلم يهيى اهل بيته لتلقى المصائب والمحن

توطئة 7

المبحث الأول: إخبار النبي صلى الله عليه وآله فاطمة وبعلها وبنيها عليهم السلام بما يجري عليهم من بعده 9

المسألة الأولى: إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عترته بما يجري عليهم من بعده 11

المسألة الثانية: إخبار النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام بما يجري عليها من بعده 15

المبحث الثاني: وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أولى المصائب 25

المسألة الأولى: ابتداء المرض برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 26

أولاً: فاطمة عليها السلام ترقي أباها صلى الله عليه وآله وسلم في مرضه 28

ثانياً: بكاؤها لما ترى عليه حال أبيها وما أصابه من المرض والضعف 29

ثالثا: فاطمة عليها السلام تطلب من أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن

ص: 330

ينقل إلى حجرته كي تقوم بتمريضه هي وعلي عليهما السلام 39

المسألة الثانية: تخلف الصحابة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وآله في الالتحاق بسرية أسامة وقول عمر بن الخطاب: إنه ليهجر 42

المسألة الثالثة: احتضار النبي صلى الله عليه وآله وتفرده بأهل بيته عليهم السلام 48

المسألة الرابعة: استئذان ملك الموت في قبض روح النبي صلى الله عليه وآله وسلم واستقبال فاطمة عليها السلام له 55

المسألة الخامسة: رثاؤها لأبيها صلى الله عليه وآله وسلم وحزنها عليه 62

أولاً: تعزية جبرائيل والخضر عليهما السلام لآل البيت عليهم السلام بوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 63

ثانياً: مناداتها لعلي عليه السلام وهو يغسل النبي صلى الله عليه وآله وسلم 65

ثالثاً: فاطمة عليها السلام وقميص النبي صلى الله عليه وآله وسلم 66

ألف: استحباب الجزع على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 66

باء: ما المراد بقميص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 68

رابعاً: وقوفها على القبر النبوي الشريف وتعاهدها بزيارته 70

خامساً: غشيتها حينما سمعت بلالاً يؤذن 76

المبحث الثالث: ما جرى في السقيفة وخروج الإمام علي بفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام إلى بيوت المهاجرين والأنصار لتذكيرهم ببيعة الغدير 77

المسألة الأولى: كيف جرت البيعة في السقيفة وكيف جاء الناس إلى المسجد والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يدفن بعد؟ 79

المسألة الثانية: ماذا حدث في اليوم الثاني لوفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وهو لم يدفن بعد؟! 83

أولاً: سوق الناس الى البيعة العامة بطريقة لم تحدث في امة من الأمم 83

المسألة الثالثة: خروج الإمام علي بفاطمة وولديها عليهم السلام إلى بيوت الأنصار والمهاجرين لتذكيرهم ببيعة غدير خم 86

ص: 331

الفصل الثاني: الحرب المفتوحة على عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم

المبحث الأول: البدء بمرحلة الحرب المفتوحة على بيت فاطمة عليها السلام 93

المسألة الأولى: جمع الحطب حول بيت فاطمة عليها السلام وإضرام النار فيه لإحراق البيت بمن فيه 96

أولاً: كيف جرت الحادثة وما هي المرحلة الأولى من جريمة قتل فاطمة عليها السلام 100

ألف: ما روته أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام في جمع الحطب حول بيت فاطمة عليها السلام 103

باء: ما روته أبناء العامة في جمع الحطب حول بيت فاطمة عليها السلام والتهديد بالحرق 106

جيم: قراءة الحديث في جمع الحطب وتحليله 108

ثانياً: المرحلة الثانية من جريمة قتل فاطمة عليها السلام (حرق بيتها بمن فيه) 114

ألف: ما ورد في مدرسة العترة النبوية في إضرام عمر بن الخطاب النار في الحطب لحرق بيت فاطمة بمن فيه 115

باء: ما ورد في كتب العامة من إضرام النار في الحطب الذي وضع حول بيت فاطمة عليها السلام 116

المسألة الثانية: هجوم عمر بن الخطاب وعصابته على بيت فاطمة عليها السلام واقتحامه وما وقع عليها من الأضرار 120

أولاً: ما ورد في كتب مدرسة أهل البيت عليهم السلام حول اقتحام بيت فاطمة عليها السلام 124

ثانياً: ما ورد في كتب أهل السنة والجماعة في اقتحام عمر بن الخطاب لبيت فاطمة عليها السلام 135

ص: 332

المسألة الثالثة: الآثار التي خلفها اقتحام بيت فاطمة عليها السلام على الإسلام وما لحق فاطمة من الأضرار 139

أولاً: التأسيس لظلم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاك حرمتهم 140

ثانياً: كسر ضلع فاطمة عليها السلام أثناء اقتحام عمر بن الخطاب وعصابته بيتها بعد حرقه 141

ثالثا: إسقاط جنينها المسمى ب - (المحسن) بفعل هجوم عمر بن الخطاب وعصابته على بيت فاطمة عليها السلام 143

رابعاً: أسماء الذين اقتحموا بيت فاطمة عليها السلام حجة على منكري استشهاد فاطمة وقتلها 151

خامساً: محاولات يائسة من ابن أبي الحديد المعتزلي وغيره في دفع جريمة قتل فاطمة عليها السلام وإحراق بيتها عن أبي بكر وعمر وغيرهما 157

المبحث الثاني: الحرب الاقتصادية على فاطمة عليها السلام 167

المسألة الأولى: قيام السلطة الحاكمة بحبس أموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومنع فاطمة من إرثها 168

أولاً: ما حجم أموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة؟ 170

ألف: الحوائط السبعة؛ أو أرض العوالي التي كانت لمخيريق اليهودي 171

باء: أرضه من أموال بني النضير 174

جيم: ثلاثة حصون من خيبر 174

دال: أرض فدك 176

هاء: الثلث من أرض وادي القرى 176

واو: موضع سوق بالمدينة يقال له: مهروذ أو مهروز 177

ثانيا: أموال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم غير المنقولة 177

المسألة الثانية: مصادرة السلطة الحاكمة لأرض فدك وتضييق الخناق على فاطمة عليها السلام وأبعادها السياسية والعقائدية 182

أولاً: هوية فدك 182

ثانياً: قيمتها الاقتصادية 183

ص: 333

ثالثاً: كيف انتقلت لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ 184

رابعاً: كيف انتقلت ملكيتها إلى فاطمة عليها السلام 191

المسألة الثالثة: تصدي فاطمة عليها السلام للسلطة في جورها على شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 196

أولاً: الانتفاضة لحق الإمامة ورمزية فدك الثورة 203

ثانياً: رمزية فدك الثورة 221

المبحث الثالث: إرهاب الحرب الجسدية والنفسية والاجتماعية على فاطمة عليها السلام 236

المسألة الأولى: كيف أصبح حال الزهراء فاطمة عليها السلام بفعل هذه الحرب التي تشن عليها 237

أولاً: إنها أحد البكائين الخمسة 237

ثانيا: شدة حزنها عليها السلام الذي أدى إلى يباس لحمها على عظمها 239

المسألة الثانية: إرهاب الحرب الجسدية على فاطمة عليها السلام 240

المسألة الثالثة: إرهاب الحرب النفسية على فاطمة صلوات الله عليها 243

أولاً: إنّ أوّل من قذف فاطمة على المنبر وأسس لذلك أبو بكر بن أبي قحافة 243

ثانيا: بيت الأحزان شاهد على إرهاب الحرب النفسية على فاطمة عليها السلام 246

المسألة الرابعة: إرهاب الحرب الاجتماعية على فاطمة عليها السلام 254

المسألة الخامسة: بيان فاطمة عليها السلام للأسباب التي دفعت أبا بكر وعمر لظلمها وأهل بيتها 257

المبحث الرابع: مرضها وعلتها مما جرى عليها 261

المسألة الأولى: عيادة أم سلمة لها في مرضها 262

ص: 334

المسألة الثانية: عيادة نساء المدينة لها وخطبتها فيهنّ 264

المسألة الثالثة: عيادة بعض المهاجرين والأنصار لها 268

المسألة الرابعة: عيادة العباس بن عبد المطلب لها 272

المسألة الخامسة: محاولة أبي بكر وعمر الدخول على فاطمة عليها السلام لاسترضائها بعد ما جرى منهما في حرق دارها وإسقاط جنينها ومنع إرثها وحبس خمسها واغتصاب أرضها 274

أولاً: ما روته أهل السنة والجماعة في دخول أبي بكر وعمر على فاطمة للحصول على رضاها 275

ثانياً: دخول أبي بكر وعمر على فاطمة يترضيانها وغضبها وسخطها عليهما أثناء اللقاء 281

ثالثا: ما روي عند أهل السنة والجماعة بما يقارب رواية الشيخ الصدوق رحمه الله في غضب فاطمة على أبي بكر وعمر حينما دخلا عليها 283

المسألة السادسة: اعتراف أبي بكر باقتحام بيت فاطمة عليها السلام بعد حرقه فكان سيد الأدلة 286

المسألة السابعة: حكم الشريعة المقدسة فيمن آذى فاطمة وأغضبها 291

أولاً: حكم الشريعة المقدسة على من آذى عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم دون تخصيص لأحد منهم فما يصيب أحدهم يصيب الجميع 291

ثانيا: حكم الشريعة فيمن سب فاطمة عليها السلام أو شتمها 295

ثالثا: حكم الشريعة فيمن آذى فاطمة عليها السلام 300

رابعاً: حكم من آذى فاطمة عليها السلام عند أئمة أهل البيت عليهم السلام 308

المبحث الخامس: وصيتها ووفاتها عليها السلام 309

المسألة الأولى: وصيتها 310

أولاً: وصيتها بنفسها إلى علي عليهما السلام 310

ثانياً: مناشدتها علياً عليه السلام أن لا يحضر جنازتها أبو بكر وعمر ولا أحد ممن ظلمها 312

ص: 335

ثالثاً: وصيتها لعلي عليه السلام بالزواج من أمامة بنت أبي العاص 313

رابعاً: وصيتها بالنعش 314

خامساً: وصيتها بحوائطها السبعة 317

سادساً: وصيتها التي كتبتها بيدها في أموالها 318

سابعاً: رؤياها في عالم المنام لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووصيتها لعلي فيمن يشهد جنازتها 320

المسألة الثانية: احتضارها عليها السلام ووفاتها 320

المسألة الثالثة: هبوط الملائكة لقبض روحها ومعهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وجبرائيل عليه السلام 320

المحتويات 320

ص: 336

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.