هذه فاطمة صلوات الله عليها المجلد 4

هوية الكتاب

اسم الكتاب: هذه فاطمة صلوات الله عليها

اسم المؤلف: السيد نبيل الحسني

التنضيد: محمد رزاق السعدي

الإخراج الفني: احمد محسن المؤذن

التدقيق اللغوي: أ. خالد جواد العلواني

المتابعة الطباعية والتوزيع: إحسان خضير عباس

إصدار شعبة الدراسات الإسلامية في قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق ببغداد لسنة 2012-2802

الرقم الدولي ISBN : 9789933489489

الحسني، نبيل، 1965 - م.

هذه فاطمة صلوات الله وسلامه عليها: وهي قلبي وروحي التي بين جنبي (النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم): دراسة وتحليل نبيل الحسني. ط 1 - كربلاء: العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفكرية والثقافية. شعبة الدراسات والبحوث الإسلامية، 1434 ق. = 2013 م.

8 ج. - (قسم الشؤون الفكرية والثقافية في العتبة الحسينية المقدسة؛ 100).

المصادر.

1. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. السيرة. 2. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - فضائل. 3. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - في القرآن. 4. واقعة إحراق باب دار فاطمة الزهراء (س)، 11 ق. 5. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. إيذاء وتعقيب. 6. فاطمة الزهراء (س)، 8؟ قبل الهجرة - 11 ه -. - الشهادة. 7. الشيعة - أحاديث.

تمت الفهرسة في مكتبة العتبة الحسينية المقدسة قبل النشر

ص: 1

اشارة

اسم الكتاب: هذه فاطمة صلوات الله و سلامه عليها و هی قلبي و روحي التي بین جنبي

کاتب:نبیل حسنی

المنتج: العتبة الحسینیة المقدسة. قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة. شعبة الدراسات و البحوث الإسلامیة

عدد المجلدات :8 ج

لسان: العربي

الناشر:العتبة الحسينية المقدسة. قسم الشؤون الفکریة و الثقافیة - کربلای معلی عراق

سنة النشر: 1434 هجری قمری|2013 میلادی

قانون الكونجرس:/ح5ھ4 27/2 BP

ص: 2

ص: 3

ص: 4

الفصل الاول: منزلة فاطمة

اشارة

ص: 5

ص: 6

توطئة

قبل المضي في مباحث هذا الجزء من كتاب (هذه فاطمة عليها السلام) الذي سنتناول فيه منزلتها (صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها) عند الله تعالى، وفي القرآن وعند رسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ ثم نعرج على منزلتها في الآخرة، كيوم القيامة، وعند الصراط، وعند المحشر، وعند الميزان، وعند الملائكة، وفي الجنة، وغيرها مما سنتوقف عنده بإذن الله تعالى.

ولذا:

أحببت أن أنقل لدى القارئ الكريم في البدء معنى المنزلة لاسيما وأن مباحث هذا الجزء قد يغلب عليها السهم الأكبر من البحث، وأن هذه المنزلة متنوعة بتنوع المقام والمحل الذي كان لفاطمة عليها السلام كي يتضح لدى القارئ المعنى التام لهذه المباحث ويدرك دلالة هذه المنزلة التي أخبرت عنها الأحاديث الشريفة.

ص: 7

المبحث الأول: المنزلة بين المعنى والمصداق

المسألة الأولى: معنى المنزلة لغة

قال ابن منظور في بيان معنى الزلف: القربة والدرجة والمنزلة، قال تعالى:

(وَ مٰا أَمْوٰالُكُمْ وَ لاٰ أَوْلاٰدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنٰا زُلْفىٰ إِلاّٰ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَأُولٰئِكَ لَهُمْ جَزٰاءُ اَلضِّعْفِ بِمٰا عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفٰاتِ آمِنُونَ )(1).

والنزول: الحلول، والنُزُل: المنزل، قال تعالى:

(لٰكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنّٰاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وَ مٰا عِنْدَ اَللّٰهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرٰارِ)(2).

قال الزجاج: نزلاً، مصدر مؤكد لقوله: (خٰالِدِينَ فِيهٰا) لأن خلودهم فيها إنزالهم فيها)(3).

ص: 8


1- سورة سبأ، الآية: 37.
2- سورة آل عمران، الآية: 198.
3- لسان العرب لابن منظور: ج 1، ص 658-659.

والتنزيل: الترتيب.

والنزيل: الضيف.

والمنزل والمنزلة: موضع النزول.

والمنزلة: الرتبة، واستنزل فلان: أي حط عن مرتبته، والمنزل: الدرجة، قال سيبويه وقالوا: هو مني منزلة الشغاف، أي: هو بتلك المنزلة.

إذن: تدل المنزلة على: الرتبة، الدرجة، الزلفى، القربى.

وبذلك يأخذ لفظ (المنزلة) معنا من خلال سياق الحديث وما يحيط بها من قرائن تبث مصداقها وانطباق معناها)(1).

المسألة الثانية: ظهور مصداق (المنزلة) في بعض الأحاديث الشريفة

إنّ ورود لفظ (المنزلة) في كثير من الأحاديث الشريفة يكشف عن مصداقها في ذهن القارئ واتضاح معناها بشكل جلي، ومن هذه الأحاديث نختار ما يلي:

1 - أخرج النسائي عن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال:

«كانت لي منزلة من رسول الله لم تكن لأحد من الخلائق، فكنت آتيه كل سحر فأقول السلام عليك يا نبي الله فإن تنحنح انصرفت إلى أهلي وإلا دخلت عليه»(2).

ص: 9


1- لسان العرب لابن منظور: ج 11، ص 658-659.
2- سنن النسائي: ج 3، ص 12؛ خصائص أمير المؤمنين عليه السلام للنسائي: ص 112؛ صحيح ابن خزيمة: ج 2، ص 54.

ويرشد الحديث إلى ما يلي:

أولاً: تدلّ لفظة المنزلة على الرتبة والزلفى التي لعلي عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بحيث لم يبلغها أحد من المرسلين أو من الأنبياء أو الملائكة أو من المؤمنين، بقرينة قوله عليه السلام:

«لم تكن لأحد من الخلائق».

ثانياً: فضلاً عن ذلك؛ فإنّ هذا الحديث يكشف أيضاً عن منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ إذ أن الدخول عليه لا يكون إلا من خلال الاستئذان سواء كان القادم إليه من الملائكة أو المرسلين أو الأنبياء؛ فمن أذن له دخل عليه ومن لم يأذن له لم يستطع الدخول.

ثالثاً: اختصاصه - أي الإمام علي (عليه السلام) - في وقت السحر وهو الوقت الذي يكون محاطاً بالخصوصية الشخصية هو في حد ذاته يدل على القرابة القريبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك أن أوقات الزيارة في العادة لا تكون في هذا الوقت إلا للقريب من القلب والروح حتى يخلوا به لنفسه فيناجيه ويحادثه ويسره.

2 - روى الشيخ الكليني رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«إنّ في الجنة منزلة لا يبلغها عبد إلا بالابتلاء في جسده»(1).

والحديث يدل على أن لفظ (المنزلة) قد جاء هنا بمعنى الدرجة، أي: أن في الجنة درجة أو محلاً لا يبلغه عبد من عباد الله إلا بالابتلاء في جسده.

ص: 10


1- كتاب الكافي للكليني: ج 2، ص 255.

3 - روى الشيخ الحر العاملي رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«إنّه ليكون للعبد منزلة عند الله تعالى فما ينالها إلا بإحدى خصلتين إما بذهاب ماله أو ببلية بجسده»(1).

وهنا جاءت (المنزلة) بمعنى الرتبة والمكانة، وذلك من خلال دلالة الفعلين في الحديث الأول والثاني: ففي الحديث الأول جاء الفعل المضارع: يبلغ وهو يدل على الدرجة كقوله تعالى:

(وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ إِحْسٰاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً حَتّٰى إِذٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قٰالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلىٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ )(2).

وفي الحديث الثاني جاء الإمام الصادق عليه السلام بفعل (ينال) وهو للدلالة على الرتبة كقوله تعالى:

(وَ إِذِ اِبْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قٰالَ إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قٰالَ لاٰ يَنٰالُ عَهْدِي اَلظّٰالِمِينَ )(3).

وعليه:

سنجد أن منزلة فاطمة عليها السلام تأخذ معناها من خلال دلالات

ص: 11


1- وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 3، ص 262.
2- سورة الأحقاف، الآية: 15.
3- سورة البقرة، الآية: 124.

الأحاديث ومجموعة القرائن الكاشفة عن مقام فاطمة وشأنيتها وقدرها وجاهها في المواضع التي تنص عليها الأحاديث، كما نص القرآن على شأنية مريم وبيان منزلتها فقال سبحانه وتعالى:

(إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ )(1).

وستوضح لنا الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة ما لفاطمة من المكانة والمنزلة والقرب والزلفى والدرجة والرتبة عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 12


1- سورة آل عمران، الآية: 45.

المبحث الثاني: منزلة فاطمة عليها السلام عند الله تعالى

اشارة

لا شك أن جميع هذه المنازل التي سنعرض لها هي في النتيجة تصب في حوض واحد وهو الشريعة المقدسة إلا أن تعدد هذه المنازل والمقامات والعناوين إنما هو بيان عظمة هذه الشخصية وما أحيط بها من حرمة وقداسة ارتبطت ارتباطاً سنخياً بفاطمة صلوات الله عليها.

ونحن حينما نتتبع هذه المنازل والمقامات التي لفاطمة عليها السلام إنما نكون قد اتبعنا بذلك المنهج القرآني والنبوي إذ كان بالإمكان أن يكتفي القرآن ببيان أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو عبد الله ورسوله، ولكن نجده عزّ شأنه يظهر لعباده كثير من المقامات والدرجات لحبيبة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وكل ذلك إنما لكي يدرك المسلم ما لهذه الشخصية من حرمة وقدسية وقرب ودرجة وزلفى ومكانة ومنزلة عند الله تعالى؛ ومما جاء في ذلك:

ص: 13

1 - (يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45) وَ دٰاعِياً إِلَى اَللّٰهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرٰاجاً مُنِيراً)(1).

2 - (وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ )(2).

3 - (وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ مٰا كٰانَ اَللّٰهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )(3).

4 - (إِنَّ اَللّٰهَ وَ مَلاٰئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً)(4).

5 - (طه (1) مٰا أَنْزَلْنٰا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ لِتَشْقىٰ )(5).

6 - (تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ )(6).

7 - (وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا وَ لَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ )(7).

ص: 14


1- سورة الأحزاب، الآيتان: 45 و 46.
2- سورة الأنبياء، الآية: 107.
3- سورة الأنفال، الآية: 33.
4- سورة الأحزاب، الآية: 56.
5- سورة طه، الآيتان: 1 و 2.
6- سورة النساء، الآية: 13.
7- سورة النساء، الآية: 14.

8 - (إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً)(1).

9 - (وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ قٰالُوا حَسْبُنَا اَللّٰهُ سَيُؤْتِينَا اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنّٰا إِلَى اَللّٰهِ رٰاغِبُونَ )(2).

10 - (يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ مٰا قٰالُوا وَ لَقَدْ قٰالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاٰمِهِمْ وَ هَمُّوا بِمٰا لَمْ يَنٰالُوا وَ مٰا نَقَمُوا إِلاّٰ أَنْ أَغْنٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اَللّٰهُ عَذٰاباً أَلِيماً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مٰا لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ نَصِيرٍ)(3).

وغيرها من الآيات الكريمة التي تكشف عن منزلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عند الله تعالى؛ فضلاً عن البيان لتلك الشأنية والخصوصية والامتياز في مواضع كثيرة وعناوين عديدة كما ترشد إليه الآيات الكريمة.

ولذا:

هذه المباحث في هذا الجزء فستسير بهذا المنهج القرآني كي نضع بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الجهد لننال التوفيق في البلاغ عن آيات الله تعالى وإحياء أمر آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 15


1- سورة الأحزاب، الآية: 57.
2- سورة التوبة، الآية: 59.
3- سورة التوبة، الآية: 74.

المسألة الأولى: إن الله يغضب لغضب فاطمة عليها السلام

اشارة

المسألة الأولى: إن الله يغضب لغضب فاطمة عليها السلام(1)

إنّ من الأحاديث النبوية ما كان له خصوصية التفرد في الدلالة والمعنى فلا يقبل الظن أو الاحتمال وذلك لما يحمله المخصوص بهذا الحديث من شأنية تكشف عن الخطورة في التعامل مع هذا الشيء المعنى في الحديث، فضلاً عن بيان الحدود الدالة على الحرمة كي لا يقع الإنسان في الهاوية فيهلك.

وهذا المنهج النبوي في دلالة الحديث الشريف ينبثق من المنهج القرآني في التعامل مع الأشياء التي أراد لها الشارع المقدس من الحرمة والخصوصية الموجبة للحذر في التعامل معها.

ومن ثم يرسم القرآن الكريم والنبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم جملة من الخطوط كي يسير عليها الإنسان فيحظى بالأمن والطمأنية في الحياة الدنيا وبالسعادة والرضوان في الآخرة.

والأمثلة لهذا النهج القرآني والنبوي كثيرة جداً؛ إلاّ أننا نكتف هنا بمثال واحد لبيان هذا النهج القرآني.

ص: 16


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق: ج 2، ص 46؛ المناقب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 325؛ الأمالي للمفيد: ص 94-95؛ صحيفة الرضا عليه السلام: ص 45؛ عوالي اللآلي: ج 4، ص 93؛ الإصابة لابن حجر: ج 4، ص 39، وج 8، ص 56-57، ط دار الجيل؛ المعجم الكبير: ج 2، ص 401، ح 1001؛ الثغور للسيوطي: ج 3، ح 42؛ الحاكم في المستدرك: ص 153-154؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 203؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 7، ص 1224؛ أخبار الدول للقرماني: ج 1، ص 257؛ كنز العمال: ج 12، ص 208؛ اتحاف السائل للمناوي: ص 65؛ كشف الغمة: ج 1، ص 458؛ دلائل الإمامة: ص 52.

ففي خطورة التعامل مع الحكم الشرعي يعطي القرآن الكريم صورة فريدة في الدلالة والمعنى على حرمة الحكم الشرعي عند الله تعالى؛ بل خطورة التعامل مع كل ما ينسب إلى الله عزّ وجل، كقوله سبحانه:

(وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنٰا بَعْضَ اَلْأَقٰاوِيلِ (44) لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (4(5)

ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ اَلْوَتِينَ (46) فَمٰا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حٰاجِزِينَ )(1).

فهذه الآيات تنطلق في الخطاب مع الإنسان في بيانها لخطورة التعامل مع الحكم الشرعي فتضع جملة من المحاذير الكاشفة عن شأنية الحكم الشرعي عند الله سبحانه، لكنها قبل البدء في بيان شأنية الحكم الشرعي يبدأ القرآن بشأنية قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وأن هذا القول هو:

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَ مٰا هُوَ بِقَوْلِ شٰاعِرٍ قَلِيلاً مٰا تُؤْمِنُونَ (41) وَ لاٰ بِقَوْلِ كٰاهِنٍ قَلِيلاً مٰا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ )(2).

وذلك كي يدرك السامع هذه القوانين التي ارتبطت بشأنية الحكم الشرعي وخطورة التعامل معه، بل تظهر خطورة التعامل مع قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكانت كالآتي:

1 - يعرض القرآن من خلال هذا السياق القرآني أن هناك تلازماً لا ينفك بين قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وبين الحكم الشرعي؛ بمعنى: كل ما يخرج من فم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو حكم شرعي.

ص: 17


1- سورة الحاقة، الآيات: 44 و 45 و 46 و 47.
2- سورة الحاقة، الآيات: 40 و 41 و 42 و 43.

2 - إنّ هذا القول الصادر من فم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو منزه من الشيطان ومن الجن ومن القوة الخيالية وخصوبتها التي يتمايز بها الشعراء، علماً أن العرب كانت تعتقد أن الشاعر حينما يكون مخضرماً فإن مقولته الشعرية مدعومة من الجن، وكلما كان الشاعر ملهماً كلما كان قرينه من الجن أقوى وعلاقتهما أمتن(1).

وفي ذلك يقول امرئ القيس:

تخيرني الجن من أشعارها *** فما شئت من شعرهن اصطفيت

ويقول حسان بن ثابت:

إذا ما ترعرع منا الغلام *** فما إن يقال له من هو

إذا لم يسد قبل شدّ الإزرار *** فذلك فينا الذي لاهوه

لي صاحب من بني الشيصبان *** فطوراً أقول وطورا هوه

والشيصبان هم الجن وإن أحدهم كان يتناوب القول ويساعد صاحبه حسان بن ثابت على الشعر حتى أصبح هذا المعتقد واقعة يؤمن بها شعراء العرب قبل الإسلام(2).

ومن هنا:

نجد أن القرآن الكريم أول ما يبتدأ بتنزيه قول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من الشعر وذلك لما ارتسخ في ذهن العرب من أن الشعراء المجيدون

ص: 18


1- المعتقدات الشعبية في الموروث الشعري: ص 30.
2- الأساطير والمعتقدات العربية قبل الإسلام لميخائيل مسعود: ص 85؛ وللمزيد من الإطلاع أنظر: تكسير الأصنام بين تصريح النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتعتيم البخاري للمؤلف: ص 67-68.

للشعر لهم اتصال مع الجن وهم الذين يلهمونهم قول الشعر، ثم ينعطف القرآن الكريم إلى نفي التكهن عن هذا القول وذلك لارتباط الجن بصورة مباشرة مع الكهنة، فضلاً عن إلتصاق الكذب بهم وتجذره في الكاهن.

ولذا:

ينفي القرآن عن قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الكذب الذي مصدره التكهن سواء كان ذلك من اتصال الكاهن مع الجن أومن خلال التنجيم - وإن كان البعض ينفي أن يكون للتكهن علاقة مع التنجيم - وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«كذب المنجمون»(1).

أما الجنون فهو في الأصل يراد به المتكلم وأن المتكلم هم الجن؛ وذلك أن المجنون سمي بذلك لتسلط الجن عليه وتلبسها فيه، فيقال للرجل المسلوب العقل: مجنون نسبة للجن، وكذا يقال للمرآة: مجنونة.

وعليه:

يبدأ القرآن الكريم في منهجه الدلالي لشأنية الحكم الشرعي وخطورة التعامل معه في إثبات أن هذا القول الصادر من فم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو صادر من محل واحد وهو المشرع سبحانه ولأجل ذلك قرن طاعته سبحانه بطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأن معصية رسوله هي معصيته سبحانه وأن حبه عز وجل مقرون باتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 19


1- تفسير الرازي: ج 29، ص 199.

فقال عزّ وجل في بيانه لمحل صدور هذا القول النبوي بعد نفي هذه الشبهات العالقة في أذهان الناس وتحديد مصادر المتقولين بينهم، بأن هذا القول الصادر من فم النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو:

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ )(1).

والملاحظ أن القرآن لم يستخدم مفردة الوحي كما في سورة النجم حينما تحدث القرآن عن قول النبي من حيث التمييز بين الآيات القرآنية والأقوال النبوية، فهنا في سورة الحاقة نسب الباري عزّ وجل إليه القول الصادر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مطلقاً، فيكون كل ما يقوله النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو:

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ )(2).

وقوله عزّ وجل:

(تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ ).

وفي سورة النجم حصر الآيات الكريمة بقوله:

(وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ )(3).

على الرغم من شمول الوحي في الآيات الكريمة، ومن ثم تسير هذه الآيات جنبا إلى جنب في بيان خطورة الحكم الشرعي وخطورة التعرض لأقوال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على حد سواء وإنهما من حيث الحرمة سواء.

ص: 20


1- سورة الحاقة، الآية: 43.
2- سورة الحاقة، الآية: 40.
3- سورة النجم، الآيتان: 3 و 4.

3 - ثم يقطع القرآن الطريق على الذين يحاولون التفريق بين قوله عزّ وجل وقول رسوله الكريم وذلك حينما ينفي عنه القرآن هذه المصادر التي كانت تقف وراء هذه الطبقة في المجتمع، وهم: الشعراء، والكهان، والجن؛ ثم يعطي كل المصادقية لهذا القول الذي هو (من رب العالمين) فيرقى به إلى المستوى الذي لا يمكن أن يكون هذا الرسول الكريم أن يتقول على الله تعالى وذلك لوجود (لو) التي تفيد الامتناع؛ أي: يكون معصوماً في القول والفعل لأن قوله وفعله وتقريره حجة؛ بمعنى: أنه حكم شرعي.

4 - ثم يقدم القرآن أعلى درجات التحذير لمن تسوول له نفسه بالتعرض للحكم الشرعي فيحرّم ما يحل الله، ويحل ما حرم الله، وذلك إن حرمة قول الله تعالى أعظم من حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الرغم من وجود كل تلك الشأنية والمنزلة التي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن هذه الشأنية والحصانة منتفية فيما لو تقول هذا الرسول الكريم وبتلك الصورة التي حددتها الآيات:

(لَأَخَذْنٰا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنٰا مِنْهُ اَلْوَتِينَ )(1).

5 - إن هذه الحرمة التي حازها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إنما كانت لتلازمه مع القول الإلهي المنزل عليه ومن ثم يكون التعرض لهذا (الرسول الكريم) تعرض لله تعالى وأن ما سيحل به من غضب الله تعالى ليفوق التصور فيما لو قورن مع ما نصت عليه الآيات الكريمة في الأخذ باليمين وقطع الوتين

ص: 21


1- سورة الحاقة، الآيتان: 45 و 46.

وهو الشريان الذي يزود الدماغ بالدم ويكون في الرقبة، فكيف ستكون عقوبة من لا شأنية له أو مكانة عند الله تعالى.

وهل:

تتحقق المكانة عند الله بغير التقوى، إن الله ليس له قرابة مع أحد من عباده، فتعالى الله عما يصفه المبطلون.

ولذلك كانت خاتمة الآيات بقوله سبحانه:

(وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ )(1).

من هنا:

حينما نأتي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيان منزلة فاطمة عليها السلام عند الله تعالى فيقول:

«إنّ الله تعالى يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها».

وفي لفظ آخر:

«إن الله يرضى لرضاك ويغضب لغضبك».

إنما لأجل إظهار التلازم بين غضب الله تعالى وغضب فاطمة وإن رضاه سبحانه هو لرضى فاطمة عليها السلام.

وفي الواقع لو تتبعنا الأحاديث النبوية الشريفة لوجدنا أن هذا الحديث يمتاز في خصوصية الدلالة وانطباق المعنى وأنه ينبع من النهج القرآني في إظهار خطورة الحكم الشرعي والشأنية التي له عند الله تعالى.

ص: 22


1- سورة الحاقة، الآية: 48.

وذلك أن غضب الله تعالى مقرون ومتلازم بعدم طاعته في أحكامه، وأن رضاه سبحانه مقرون كذاك في الامتثال لأوامره ونهيه، وحيث أن فاطمة لها من الشأنية ما للحكم الشرعي اقتضى أن يكون للغضب والرضا الإلهي تلازما بغضب ورضى بضعة حبيب إله العالمين صلى الله عليه وآله وسلم.

ولأجل الوصول إلى خصوصية هذا التلازم بين غضب الله تعالى وغضب فاطمة ومنشئ هذه العلاقة بين الغضبين وبين الرضائين ينبغي التوقف عند بعض المقدمات وهي كالآتي:

أولاً: إنّ غضب الخالق ليس كغضب المخلوق

إن من المسائل التي هي قطعية فلا تقبل الظن والاحتمال وهي: أن الله تعالى له صفات ذاتية لا يتصف بها عباده، وإن كانت هناك بعض الصفات والأسماء لله تعالى اتصف بها العباد، كالبصر، والسمع، والغضب، والرضا وغير ذلك.

إلاّ أن هذه الأسماء والصفات الإلهية تختلف اختلافاً كلياً مع المخلوق؛ وذلك لتنزهه سبحانه عن التشبه بخلقه وإن اتصاف المخلوق ببعض هذه الصفات إنما ليعي الإنسان معناها ودلالتها لا عين حركتها ومكونها.

فالسمع هو حركة اهتزاز غشاء رقيق مرتبط بعصب حي يقوم بنقل هذه الموجات الصوتية إلى الدماغ فيتم تحليلها بحسب المعطيات البنائية والنشئوية للإنسان فثبت عندها منذ الصغر أن هذا هو صوت أمه وهذا صوت أبيه، ثم أصوات الحروف والأشياء، وهكذا، فأصبح بواسطة هذه الأدوات المخلوقة سميعاً وكذا يكون بصيراً.

ص: 23

أما الخالق سبحانه فهو سميع بصير بغير أدوات ولا يحتاج إلى واسطة فسبحان من ليس كمثله شيء وهو على كل شيء قدير، لا تدركه العيون ولا تحيطه الظنون.

ولذلك: حينما نأتي إلى الغضب وننظر فيه نجد أن غضب الخالق عزّ شأنه غير غضب المخلوق، فالغضب لدى الإنسان هو: (كيفية نفسانية موجبة لحركة الروح من الداخل إلى الخارج للغلبة، ومبدؤه شهوة الانتقام، وهو من جانب الإفراط، وإذا اشتد يوجب حركة عنيفة، يمتلئ لأجلها الدماغ والأعصاب من الدخان المظلم، فيستر نور العقل ويضعف فعله، ولذا لا يؤثر في صاحبه الوعظ والنصيحة، بل تزيده الموعظة غلظة وشدة.

قال بعض علماء الأخلاق: (الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة، إلا أنها لا تطلع إلا على الأفئدة، وإنها لمستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد، وتستخرجها حمية الدين من قلوب المؤمنين، أو حمية الجاهلية والكبر الدفين من قلوب الجبارين، التي لها عرق إلى الشيطان اللعين، حيث قال:

(خَلَقْتَنِي مِنْ نٰارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )(1).

فمن شأن الطين السكون والوقار، ومن شأن النار التلظي والاستعار).

ثم قوة الغضب تتوجه عند ثورانها إما إلى دفع المؤذيات إن كان قبل وقوعها، أو إلى التشفي والانتقام إن كان بعد وقوعها، فشهوتها إلى أحد هذين الأمرين ولذتها فيه، ولا تسكن إلا به.

ص: 24


1- سورة الأعراف، الآية: 12.

فإن صدر الغضب على من يقدر أن ينتقم منه، واستشعر باقتداره على الانتقام، انبسط الدم من الباطن إلى الظاهر، واحمر اللون، وهو الغضب الحقيقي.

وإن صدر على من لا يتمكن أن ينتقم منه لكونه فوقه، واستشعر باليأس عن الانتقام، انقبض الدم من الظاهر إلى الباطن، وصار حزنا.

وإن صدر على من يشك في الانتقام منه انبسط الدم تارة أو انقبض أخرى، فيحمر ويصفر ويضطرب)(1).

لكن الغضب الإلهي لا يكون من كيفية نفسانية - والعياذ بالله - ولا يكون مبدؤه شهوة الانتقام كما للمخلوق، وإنما غضبه سبحانه: هو سخطه وعقابه، وفي ذلك يقول الإمام أبو جعفر الباقر عليه السلام وقد سأله عمرو بن عبيد قائلاً له: (جعلت فداك، قول الله تبارك وتعالى:

(كُلُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا رَزَقْنٰاكُمْ وَ لاٰ تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوىٰ )(2).

ما ذلك الغضب ؟ فقال أبو جعفر عليه السلام:

«هو العقاب؛ يا عمرو إنه من زعم أن الله قد زال من شيء إلى شيء فقد وصفه صفة مخلوق، وأن الله تعالى لا يستفزه شيء فيغيره»(3).

ص: 25


1- جامع السعادات للشيخ النراقي: ج 1، ص 255.
2- سورة طه، الآية: 81.
3- الكافي للكليني: ج 1، ص 110؛ التوحيد للصدوق: ص 168.

والحديث الشريف واضح المعنى بينُ الدلالة فلا يحتاج إلى توضيح، فالإنسان بطبيعته النفسانية يُستفز فيتغير ما له من السكون إلى الغضب، ومن الغضب إلى الفعل في الخارج، وغير ذلك مما يظهر على الإنسان في حالة الغضب وذهاب العقل وهذا كله مناط بالخلق؛ لكن الخالق عز اسمه منزّه عنه:

ف - (... سُبْحٰانَ اَللّٰهِ عَمّٰا يَصِفُونَ )(1).

ثانيا: إن منشئ غضب الله تعالى غير منشئ غضب الإنسان

كما ويستدل من حديث الإمام الصادق الذي مرّ ذكره، ومن الأحاديث الأخرى التي سنعرض لها: أن الله تعالى منزه عن الأسباب والدوافع التي تكون هي المنشئ وراء تكوّن الغضب لدى الإنسان، وذلك أن مبدأ الغضب شهوة الانتقام، عند وقوع الضرر على الإنسان فيندفع إلى التشفي من خصمه، وأما في حال عدم وقوع الضرر فإن النفس تندفع لكي تقي هذا الضرر.

لكن الله سبحانه ليس له كما للعباد من الشهوات، وإذا انتقم لم يكن ذاك إرضاءاً لشهوة الغضب، ولم يكن تشفياً لأنه غير عاجز عن أخذ ما يريد، ولا يفوته درك ما يشاء، كما لا يهدده أي خطر، ولا يخاف من محذور؛ بل الخلق هم منه حذرون، وإليه راغبون، ولرحمته ولطفه ملتمسون.

وقد أرشدتنا روايات أهل البيت عليهم السلام إلى ذلك وأظهرت لنا هذا المعنى، فقد روى الصدوق (رحمه الله) عن هشام بن الحكم: إن رجلاً سأل أباعبد الله عليه السلام عن الله تبارك وتعالى له رضا وسخط؟

ص: 26


1- سورة المؤمنون، الآية: 91.

فقال:

«نعم، وليس ذلك على ما يوجد من المخلوقين، وذلك أن الرضا والغضب دخال يدخل عليه فينقله من حال إلى حال، معتمل، مركب، للأشياء فيه مدخل، وخالقنا لا مدخل للأشياء فيه، واحد، أحدي الذات، واحدي المعنى، فرضاه ثوابه، وسخطه عقابه، من غير شيء يتداخله فيهيجه وينقله من حال إلى حال، فإن ذلك صفة المخلوقين العاجزين المحتاجين، وهو تبارك وتعالى القوي العزيز الذي لا حاجة به إلى شيء مما خلق، وخلقه جميعاً محتاجون إليه، إنما خلق الأشياء من غير حاجة ولا سبب، اختراعاً وابتداعاً»(1).

ثالثاً: إنّ علامات غضب الله مغايرة لعلامات غضب الإنسان

كما تدلنا الروايات الشريفة لأهل البيت عليهم السلام أن علامات غضب الله تعالى على خلقه المعاندين والمنتهكين للحرمات والحدود هي مغايرة كلياً لعلامات غضب خلقه بعضهم على بعض.

وذلك أن الله تعالى إذا غضب على خلقه فسخط عليهم جعل فيهم بعض الأمور التي كشفتها رواية الإمام الصادق عليه السلام فقال:

«وعلامة غضب الله تبارك وتعالى على خلقه جور سلطانهم وغلاء أسعارهم».

وفي رواية ثانية قال عليه السلام:

«إذا غضب الله على أمة ولم ينزل بها العذاب غلت أسعارها، قصرت أعمارها، ولم تربح تجارتها، ولم تزك ثمارها، ولم تغزر أنهارها».

ص: 27


1- التوحيد للشيخ الصدوق: ص 168.

أما الإنسان فإن علامة غضبه تغير لون وجهه، وعدد دقات قلبه، وسرعة أنفاسه، ثم إقدامه على دفع الضرر بوسائل عديدة مستعيناً بها على تحقيق ذلك بقوته العضلية أو باستخدامه لسلاح معين أو بالصراخ وغير ذلك من الاحتياجات.

أما الخالق سبحانه فهو لا يتغير ولا يستعين بشيء:

(إِنَّمٰا أَمْرُهُ إِذٰا أَرٰادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )(1).

وأن علامات سخطه ما نصت عليه الرواية.

رابعاً: سر العلاقة بين غضب الله تعالى وغضب فاطمة عليها السلام

لا شك أن هناك علاقة بين غضب الله تعالى وبين غضب فاطمة عليها السلام على الرغم من تلك المغايرة والاختلاف بين النشأة والأسباب والعلامات للغضبين والرضائين، فشتان بين الخالق عزّ شأنه وبين المخلوق.

كما لا شك أن هذا الحديث النبوي الشريف له دلالات كثيرة، فالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لا ينطق عن الهوى وقوله سبحانه:

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ )(2).

يدفع بالإنسان الى التفكر والتدبر في حديثه صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن ثم فإن هذا الحديث يخبر عن حقيقة شرعية، وسنة إلهية، وقد قال سبحانه وتعالى:

ص: 28


1- سورة يس، الآية: 82.
2- سورة الحاقة، الآية: 40.

(وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللّٰهِ تَبْدِيلاً)(1).

وقوله تعالى:

(وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّٰهِ تَحْوِيلاً)(2).

أي أن من السنن الإلهية أن يرضى الله تعالى لرضا فاطمة، ويغضب لغضبها؛ ومن ثم أين تكمن العلاقة، وأين تكون المغايرة، وقد قرن الحديث النبوي بين غضب الله تعالى وغضب فاطمة عليها السلام ؟

وجوابه فيما يلي:

1 - لابد أولاً من التفريق بين المغايرة التي يراد بها اتصاف الخالق بالمخلوق، وبين المغايرة التي يراد بها الشريعة، يعني: أننا حينما نريد أن نصف الغضب من حيث كونه غضباً فلابد أن نلتفت إلى أن هناك تغايرا في منشئ الغضب وظهوره وتحققه في الخارج، بحيث يلحق منشئ الغضب لدى الإنسان وظهوره وتحققه في الخارج بالخالق عزّ وجل وهذا لا يجوز شرعاً، فغضب الخالق مغاير بالكلية لغضب المخلوق.

أما أن يكون غضب الأنبياء والمرسلين الحادث لانتهاك الشريعة، وتعدي الحدود الإلهية، فهو في الواقع غضب الله تعالى وبه تنشئ العلاقة بين الغضبين والرضائين، لأن المحرك لهذا الغضب هو الحكم الشرعي.

إلاّ أن تبعات هذا الغضب والرضا بين الخالق سبحانه والمخلوق مختلفة؛

ص: 29


1- سورة الأحزاب، الآية: 62.
2- سورة فاطر، الآية: 43.

ومغايرة، وهي المغايرة الشرعية، بمعنى: أن تبعات غضب الخالق سبحانه: هو الدخول في النار، وتبعات رضاه، هو الدخول في الجنة، أما الأنبياء والمرسلون والأئمة فهم لا يملكون جنة ولا نار وإنما هم السبل المؤدية إلى الجنة والنار.

وهذا المعنى قد دلّ عليه الحديث الشريف للإمام الصادق عليه السلام في بيانه لقول الله تعالى:

(فَلَمّٰا آسَفُونٰا اِنْتَقَمْنٰا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنٰاهُمْ أَجْمَعِينَ )(1).

فقال:

(«إنّ الله تبارك وتعالى لا يأسف كأسفنا، ولكنه خلق أولياء لنفسه يأسفون ويرضون، وهم مخلوقون مدبرون، فجعل رضاهم لنفسه رضى، وسخطهم لنفسه سخطا، وذلك لأنه جعلهم الدعاة إليه والأدلاء عليه، فلذلك صاروا كذلك، وليس أن ذلك يصل إلى الله كما يصل إلى خلقه، ولكن هذا معنى ما قال من ذلك، وقد قال أيضا: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة ودعاني إليها، وقال أيضا:

(مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اَللّٰهَ وَ مَنْ تَوَلّٰى فَمٰا أَرْسَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً)(2).

وقال أيضا:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ إِنَّمٰا يُبٰايِعُونَ اَللّٰهَ يَدُ اَللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمٰا يَنْكُثُ عَلىٰ نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفىٰ بِمٰا عٰاهَدَ عَلَيْهُ اَللّٰهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً)(3).

ص: 30


1- سورة الزخرف، الآية: 55.
2- سورة النساء، الآية: 80.
3- سورة الفتح، الآية: 10.

وكل هذا وشبهه على ما ذكرت لك، هكذا الرضا والغضب وغيرهما من الأشياء مما يشاكل ذلك ولو كان يصل إلى المكون الأسف والضجر وهو الذي أحدثهما وأنشأهما لجاز لقائل أن يقول: إن المكون يبيد يوما ما، لأنه إذا دخله الضجر والغضب دخله التغيير وإذا دخله التغيير لم يؤمن عليه الإبادة، ولو كان ذلك كذلك لم يعرف المكون من المكون، ولا القادر من المقدور، ولا الخالق من المخلوق، تعالى الله عن هذا القول علوا كبيرا، هو الخالق للأشياء لا لحاجة، فإذا كان لا لحاجة استحال الحد والكيف فيه، فافهم ذلك إن شاء الله»)(1).

والحديث الشريف واضح الدلالة والمعنى في بيان العلاقة بين غضب الله تعالى وبين غضب أولياءه، وإن المناط في ذلك هو الحكم الشرعي فهؤلاء الأنبياء والمرسلين والأئمة غضبهم لله ورضاهم له ولذلك جعلهم لنفسه سبحانه.

2 - لا يكون الغضب من الله تعالى إلا بهتك الحرمات، وحرمات الله تعالى تحددها الشرائع السماوية بحسب الضرورة الشرعية والمصالح الدينية التي يحددها الله تعالى لكل نبي من الأنبياء وإن كانوا جميعاً قد بعثوا لمحاربة الوثنية والإشراك بالله تعالى وقاموا بالدعوة إلى التوحيد.

فكان انتهاك هذه الحرمات وتعدي حدود الله تعالى هي الموجبة للغضب الإلهي وبها ينزل العذاب على المقترفين لهذه الانتهاكات، وبصونها تنزل الرحمة وتفتح أبواب السماء وينال رضا الله تعالى.

ص: 31


1- كتاب التوحيد للشيخ الصدوق: ص 169.

ولقد تحدث القرآن الكريم عن هذه الحقيقة في مواضع كثيرة تظهر اختلاف هذه الحرمات من دين إلى دين آخر حتى إذا جئنا إلى الإسلام كانت الحرمات التي ذكرها القرآن خمسة، وهي:

(البيت الحرام، والمسجد الحرام، والبلد الحرام، والشهر الحرام، والمحرم حتى يحل)(1).

ثم كان التعظيم لهذه الحرمات فقال سبحانه:

(اَلشَّهْرُ اَلْحَرٰامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرٰامِ وَ اَلْحُرُمٰاتُ قِصٰاصٌ فَمَنِ اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدىٰ عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّٰهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ )(2).

كي يبتلى المسلم في هذه الحرمات فيرى الله سبحانه كيف يعظمها عباده فيختبرهم ويمتحنهم بها كما امتحن الذين من قبلهم.

وهذه الحقيقة والحكمة في هذا الابتلاء بيّنها الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام حينما تحدث عن القرآن ومن تكلم فيه من الناس بدون علم ولا هدى فقال عليه السلام:

«إن ناسا تكلموا في هذا القرآن بغير علم وذلك أن الله تبارك وتعالى يقول:

(هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتٰابَ مِنْهُ آيٰاتٌ مُحْكَمٰاتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتٰابِ وَ أُخَرُ مُتَشٰابِهٰاتٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مٰا تَشٰابَهَ مِنْهُ اِبْتِغٰاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغٰاءَ تَأْوِيلِهِ وَ مٰا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّٰهُ وَ اَلرّٰاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّٰا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنٰا وَ مٰا يَذَّكَّرُ

ص: 32


1- زبدة البيان للمحقق الأردبيلي: ص 229.
2- سورة البقرة، الآية: 194.

إِلاّٰ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ )(1).

فالمنسوخات من المتشابهات، والمحكمات من الناسخات إن الله عز وجل بعث نوحا إلى قومه:

(أَنِ اُعْبُدُوا اَللّٰهَ وَ اِتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ )(2).

ثم دعاهم إلى الله وحده وأن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، ثم بعث الأنبياء عليهم السلام على ذلك إلى أن بلغوا محمدا صلى الله عليه وآله فدعاهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا وقال:

(شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ مٰا وَصّٰى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ وَ مٰا وَصَّيْنٰا بِهِ إِبْرٰاهِيمَ وَ مُوسىٰ وَ عِيسىٰ أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لاٰ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ مٰا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اَللّٰهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ )(3).

فبعث الأنبياء إلى قومهم بشهادة أن لا إله إلا الله والإقرار بما جاء (به) من عند الله فمن آمن مخلصا ومات على ذلك أدخله الله الجنة بذلك، وذلك أن الله ليس بظلام للعبيد، وذلك أن الله لم يكن يعذب عبدا حتى يغلظ عليه في القتل والمعاصي التي أوجب الله عليه بها النار لمن عمل بها، فلما استجاب لكل نبي من استجاب له من قومه من المؤمنين، جعل لكل نبي منهم شرعة ومنهاجا، والشرعة والمنهاج سبيل وسنة وقال الله لمحمد صلى الله عليه وآله: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده.

ص: 33


1- سورة آل عمران، الآية: 7.
2- سورة نوح، الآية: 3.
3- سورة الشورى، الآية: 13.

وأمر كل نبي بالأخذ بالسبيل والسنة وكان من السنة والسبيل التي أمر الله عز وجل بها موسى عليه السلام أن جعل الله عليهم السبت وكان من أعظم السبت ولم يستحل أن يفعل ذلك من خشية الله، أدخله الله الجنة ومن استخف بحقه واستحل ما حرم الله عليه من عمل الذي نهاه الله عنه فيه، أدخله الله عز وجل النار وذلك حيث استحلوا الحيتان واحتبسوها وأكلوها يوم السبت، غضب الله عليهم من غير أن يكونوا أشركوا بالرحمن ولا شكوا في شيء مما جاء به موسى عليه السلام، قال الله عز وجل:

(وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ فَقُلْنٰا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خٰاسِئِينَ )(1).

ثم بعث الله عيسى عليه السلام بشهادة أن لا إله إلا الله والاقرار بما جاء به من عند الله وجعل لهم شرعة ومنهاجا فهدمت السبت الذي أمروا به أن يعظموه قبل ذلك وعامة ما كانوا عليه من السبيل والسنة التي جاء بها موسى فمن لم يتبع سبيل عيسى أدخله الله النار وإن كان الذي جاء به النبيون جميعا أن لا يشركوا بالله شيئا، ثم بعث الله محمدا صلى الله عليه وآله وهو بمكة عشر سنين فلم يمت بمكة في تلك العشر سنين أحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا صلى الله عليه وآله رسول الله إلا أدخله الله الجنة باقراره وهو إيمان التصديق ولم يعذب الله أحدا ممن مات وهو متبع لمحمد صلى الله عليه وآله على ذلك إلا من أشرك بالرحمن وتصديق ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة بني إسرائيل بمكة:

ص: 34


1- سورة البقرة، الآية: 65.

(وَ قَضىٰ رَبُّكَ أَلاّٰ تَعْبُدُوا إِلاّٰ إِيّٰاهُ وَ بِالْوٰالِدَيْنِ إِحْسٰاناً إِمّٰا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ اَلْكِبَرَ أَحَدُهُمٰا أَوْ كِلاٰهُمٰا فَلاٰ تَقُلْ لَهُمٰا أُفٍّ وَ لاٰ تَنْهَرْهُمٰا وَ قُلْ لَهُمٰا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَ اِخْفِضْ لَهُمٰا جَنٰاحَ اَلذُّلِّ مِنَ اَلرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ اِرْحَمْهُمٰا كَمٰا رَبَّيٰانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمٰا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صٰالِحِينَ فَإِنَّهُ كٰانَ لِلْأَوّٰابِينَ غَفُوراً (25) وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لاٰ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ اَلْمُبَذِّرِينَ كٰانُوا إِخْوٰانَ اَلشَّيٰاطِينِ وَ كٰانَ اَلشَّيْطٰانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَ إِمّٰا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اِبْتِغٰاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهٰا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَ لاٰ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلىٰ عُنُقِكَ وَ لاٰ تَبْسُطْهٰا كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ اَلرِّزْقَ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كٰانَ بِعِبٰادِهِ خَبِيراً بَصِيراً)(1).

أدب وعظة وتعليم ونهي خفيف ولم يعد عليه ولم يتواعد على اجتراح شيء مما نهى عنه وأنزل نهيا عن أشياء حذر عليها ولم يغلظ فيها ولم يتواعد عليها وقال:

(وَ لاٰ تَقْتُلُوا أَوْلاٰدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاٰقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيّٰاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كٰانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَ لاٰ تَقْرَبُوا اَلزِّنىٰ إِنَّهُ كٰانَ فٰاحِشَةً وَ سٰاءَ سَبِيلاً (32) وَ لاٰ تَقْتُلُوا اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّٰهُ إِلاّٰ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنٰا لِوَلِيِّهِ سُلْطٰاناً فَلاٰ يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كٰانَ مَنْصُوراً (33) وَ لاٰ تَقْرَبُوا مٰالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّٰ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتّٰى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كٰانَ مَسْؤُلاً (34) وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ إِذٰا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطٰاسِ اَلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَ لاٰ تَقْفُ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤٰادَ كُلُّ أُولٰئِكَ كٰانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (3(6) وَ لاٰ

ص: 35


1- سورة الإسراء، الآيات: 23-30.

تَمْشِ فِي اَلْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ اَلْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ اَلْجِبٰالَ طُولاً (37) كُلُّ ذٰلِكَ كٰانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذٰلِكَ مِمّٰا أَوْحىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ وَ لاٰ تَجْعَلْ مَعَ اَللّٰهِ إِلٰهاً آخَرَ فَتُلْقىٰ فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً)(1).

وأنزل في:

(وَ اَللَّيْلِ إِذٰا يَغْشىٰ (1) وَ اَلنَّهٰارِ إِذٰا تَجَلّٰى (2) وَ مٰا خَلَقَ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىٰ (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتّٰى (4) فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اِتَّقىٰ (5) وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرىٰ (7) وَ أَمّٰا مَنْ بَخِلَ وَ اِسْتَغْنىٰ (8) وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنىٰ (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرىٰ (10) وَ مٰا يُغْنِي عَنْهُ مٰالُهُ إِذٰا تَرَدّٰى (11) إِنَّ عَلَيْنٰا لَلْهُدىٰ (12) وَ إِنَّ لَنٰا لَلْآخِرَةَ وَ اَلْأُولىٰ (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نٰاراً تَلَظّٰى (14) لاٰ يَصْلاٰهٰا إِلاَّ اَلْأَشْقَى (15) اَلَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلّٰى)(2).

فهذا مشرك وأنزل في:

(إِذَا اَلسَّمٰاءُ اِنْشَقَّتْ (1) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّهٰا وَ حُقَّتْ (2) وَ إِذَا اَلْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَ أَلْقَتْ مٰا فِيهٰا وَ تَخَلَّتْ (4) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّهٰا وَ حُقَّتْ (5) يٰا أَيُّهَا اَلْإِنْسٰانُ إِنَّكَ كٰادِحٌ إِلىٰ رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاٰقِيهِ (6) فَأَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحٰاسَبُ حِسٰاباً يَسِيراً (8) وَ يَنْقَلِبُ إِلىٰ أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَ أَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ وَرٰاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَ يَصْلىٰ سَعِيراً (12) إِنَّهُ كٰانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلىٰ إِنَّ رَبَّهُ كٰانَ بِهِ بَصِيراً)(3).

ص: 36


1- سورة الإسراء، الآيات: 31-39
2- سورة الليل: الآيات: 1-16.
3- سورة الانشقاق، الآيات: 1-15.

فهذا مشرك وأنزل في (سورة) تبارك:

(تَكٰادُ تَمَيَّزُ مِنَ اَلْغَيْظِ كُلَّمٰا أُلْقِيَ فِيهٰا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهٰا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قٰالُوا بَلىٰ قَدْ جٰاءَنٰا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنٰا وَ قُلْنٰا مٰا نَزَّلَ اَللّٰهُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّٰ فِي ضَلاٰلٍ كَبِيرٍ)(1).

فهؤلاء مشركون وأنزل في الواقعة:

(وَ أَمّٰا إِنْ كٰانَ مِنَ اَلْمُكَذِّبِينَ اَلضّٰالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ )(2).

فهؤلاء مشركون وأنزل في الحاقة:

(وَ أَمّٰا مَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِشِمٰالِهِ فَيَقُولُ يٰا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتٰابِيَهْ (25) وَ لَمْ أَدْرِ مٰا حِسٰابِيَهْ (26) يٰا لَيْتَهٰا كٰانَتِ اَلْقٰاضِيَةَ (27) مٰا أَغْنىٰ عَنِّي مٰالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطٰانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ اَلْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهٰا سَبْعُونَ ذِرٰاعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كٰانَ لاٰ يُؤْمِنُ بِاللّٰهِ اَلْعَظِيمِ )(3).

فهذا مشرك، وأنزل في طسم:

(وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِلْغٰاوِينَ (91) وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مٰا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اَللّٰهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهٰا هُمْ وَ اَلْغٰاوُونَ (94) وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ )(4).

جنود إبليس ذريته من الشياطين وقوله:

(وَ مٰا أَضَلَّنٰا إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ )(5).

ص: 37


1- سورة الملك، الآيتان: 8 و 9.
2- سورة الواقعة، الآية: 92.
3- سورة الحاقة، الآية: 25-33.
4- سورة الشعراء، الآية: 91.
5- سورة الشعراء، الآية: 99.

يعني المشركين الذين اقتدوا بهم هؤلاء فاتبعوهم على شركهم وهم قوم محمد صلى الله عليه وآله ليس فيهم من اليهود والنصارى أحد وتصديق ذلك قول الله عز وجل:

(وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عٰادٌ وَ ثَمُودُ)(1).

(كَذَّبَ أَصْحٰابُ اَلْأَيْكَةِ اَلْمُرْسَلِينَ )(2).

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ اَلْمُرْسَلِينَ )(3).

ليس فيهم اليهود الذين قالوا: عزير ابن الله، ولا النصارى الذين قالوا: المسيح ابن الله.

(وَ قٰالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّٰهِ وَ قٰالَتِ اَلنَّصٰارىٰ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّٰهِ ذٰلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوٰاهِهِمْ يُضٰاهِؤُنَ قَوْلَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قٰاتَلَهُمُ اَللّٰهُ أَنّٰى يُؤْفَكُونَ )(4).

سيدخل الله اليهود والنصارى النار ويدخل كل قوم بأعمالهم، وقولهم:

(وَ مٰا أَضَلَّنٰا إِلاَّ اَلْمُجْرِمُونَ )(5).

إذ دعونا إلى سبيلهم ذلك قول الله عز وجل فيهم حين جمعهم إلى النار:

ص: 38


1- سورة الحج، الآية: 42.
2- سورة الشعراء، الآية: 176.
3- سورة الشعراء، الآية: 160.
4- سورة التوبة، الآية: 30.
5- سورة الشعراء، الآية: 99.

(قٰالَ اُدْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ فِي اَلنّٰارِ كُلَّمٰا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهٰا حَتّٰى إِذَا اِدّٰارَكُوا فِيهٰا جَمِيعاً قٰالَتْ أُخْرٰاهُمْ لِأُولاٰهُمْ رَبَّنٰا هٰؤُلاٰءِ أَضَلُّونٰا فَآتِهِمْ عَذٰاباً ضِعْفاً مِنَ اَلنّٰارِ قٰالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لٰكِنْ لاٰ تَعْلَمُونَ )(1).

وقوله: (كلما دخلت أمة لعنت أختها حتى إذا اداركوا فيها جميعا).

وقال:

(اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اَللّٰهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ ).

فيفلتوا من عظيم ما نزل بهم وليس بأوان بلوى ولا اختبار ولا قبول معذرة ولات حين نجاة والآيات وأشباههن مما نزل به بمكة ولا يدخل الله النار إلا مشركا، فلما أذن الله لمحمد صلى الله عليه وآله في الخروج من مكة إلى المدينة بني الاسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا صلى الله عليه وآله عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام شهر رمضان وأنزل عليه الحدود وقسمة الفرائض وأخبره بالمعاصي التي أوجب الله عليها وبها النار لمن عمل بها وأنزل في بيان القاتل:

(وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزٰاؤُهُ جَهَنَّمُ خٰالِداً فِيهٰا وَ غَضِبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذٰاباً عَظِيماً)(2).

ص: 39


1- سورة الأعراف، الآية: 38.
2- سورة النساء، الآية: 93.

ولا يلعن الله مؤمنا قال الله عز وجل:

(إِنَّ اَللّٰهَ لَعَنَ اَلْكٰافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً لاٰ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لاٰ نَصِيراً)(1).

وكيف يكون في المشيئة وقد ألحق به - حين جزاه جهنم - الغضب واللعنة وقد بين ذلك من الملعونون في كتابه وأنزل في مال اليتيم من أكله ظلما.

(إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوٰالَ اَلْيَتٰامىٰ ظُلْماً إِنَّمٰا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نٰاراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً)(2).

"إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما وذلك أن آكل مال اليتيم يجيء يوم القيامة والنار تلتهب في بطنه حتى يخرج لهب النار من فيه حتى يعرفه كل أهل الجمع أنه آكل مال اليتيم وأنزل في الكيل:

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ )(3).

ولم يجعل الويل لاحد حتى يسميه كافرا، قال الله عز وجل:

(فَاخْتَلَفَ اَلْأَحْزٰابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ )(4).

وأنزل في العهد:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّٰهِ وَ أَيْمٰانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولٰئِكَ لاٰ خَلاٰقَ لَهُمْ فِي

ص: 40


1- سورة الأحزاب، الآية: 64.
2- سورة النساء، الآية: 10.
3- سورة المطففين، الآية: 1.
4- سورة مريم، الآية: 37.

اَلْآخِرَةِ وَ لاٰ يُكَلِّمُهُمُ اَللّٰهُ وَ لاٰ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ وَ لاٰ يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ )(1).

والخلاق: النصيب، فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شيء يدخل الجنة وأنزل بالمدينة:

(اَلزّٰانِي لاٰ يَنْكِحُ إِلاّٰ زٰانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ اَلزّٰانِيَةُ لاٰ يَنْكِحُهٰا إِلاّٰ زٰانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذٰلِكَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ )(2).

فلم يسم الله الزاني مؤمنا ولا الزانية مؤمنة وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: - ليس يمتري فيه أهل العلم أنه قال -:

«لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن فإنه إذا فعل ذلك خلع عنه الإيمان كخلع القميص». ونزل بالمدينة:

(وَ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنٰاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدٰاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمٰانِينَ جَلْدَةً وَ لاٰ تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهٰادَةً أَبَداً وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ (3) إِلاَّ اَلَّذِينَ تٰابُوا مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(4).

فبرأه الله ما كان مقيما على الفرية من أن يسمى بالايمان، قال الله عز وجل:

(أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً لاٰ يَسْتَوُونَ )(4).

ص: 41


1- سورة آل عمران، الآية: 77.
2- سورة النور، الآية: 3.
3- سورة السجدة، الآية: 18.
4- سورة النور، الآية: 4.

وجعله الله منافقا، قال الله عز وجل:

(اَلْمُنٰافِقُونَ وَ اَلْمُنٰافِقٰاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اَللّٰهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ هُمُ اَلْفٰاسِقُونَ )(1).

وجعله عز وجل من أولياء إبليس، قال:

(وَ إِذْ قُلْنٰا لِلْمَلاٰئِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّٰ إِبْلِيسَ كٰانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظّٰالِمِينَ بَدَلاً)(2).

وجعله ملعونا فقال:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَنٰاتِ اَلْغٰافِلاٰتِ اَلْمُؤْمِنٰاتِ لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذٰابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِمٰا كٰانُوا يَعْمَلُونَ )(3).

وليست تشهد الجوارح على مؤمن إنما تشهد على من حقت عليه كلمة العذاب، فأما المؤمن فيعطى كتابه بيمينه قال الله عز وجل:

(يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتٰابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولٰئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتٰابَهُمْ وَ لاٰ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً)(4).

ص: 42


1- سورة التوبة، الآية: 67.
2- سورة الكهف، الآية: 50.
3- سورة النور، الآية: 23.
4- سورة الإسراء، الآية: 76.

أنزلت بعد سورة النساء وتصديق ذلك أن الله عز وجل أنزل عليه في سورة النساء:

(وَ اَللاّٰتِي يَأْتِينَ اَلْفٰاحِشَةَ مِنْ نِسٰائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّٰى يَتَوَفّٰاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللّٰهُ لَهُنَّ سَبِيلاً)(1).

والسبيل الذي قال الله عز وجل:

(سُورَةٌ أَنْزَلْنٰاهٰا وَ فَرَضْنٰاهٰا وَ أَنْزَلْنٰا فِيهٰا آيٰاتٍ بَيِّنٰاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) اَلزّٰانِيَةُ وَ اَلزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لاٰ تَأْخُذْكُمْ بِهِمٰا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اَللّٰهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ )(2) (3).

وهنا نجد بوضوح كيف أن الله تعالى قد أجرى حكمته في ابتلاء الأمم السابقة في تعظيمها للحرمات التي حددها الله سبحانه كحرمة يوم السبت ثم نسخه لهذه الحرمة في أمة عيسى عليه السلام وكيف كان تدرج الأحكام في هذه الأمة وابتلاء المسلمين بها منذ أن بعث صلى الله عليه آله وسلم وحتى توفي وقد صدع بالنذارة وبلغ بالرسالة فكانت أعظم الحرمات التي ابتلي بها المسلمون هو رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعترته أهل بيته.

فكانت طاعته صلى الله عليه وآله وسلم طاعة الله التي ينال بها رضاه

ص: 43


1- سورة النساء، الآية: 15.
2- سورة النور، الآية: 1.
3- الكافي للكليني: ج 2، ص 28-33.

وجنته؛ ومعصيته صلى الله عليه وآله وسلم هي معصية الله تعالى التي ينزل بها سخط الله وتوجب الخلود في النار والعياذ بالله.

لأن العاصي لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكون قد هتك أعظم الحرمات وذلك لعظم حرمة الإسلام عند الله تعالى؛ وأن المطيع لأمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يكون قد صان أعظما لحرمات عند الله تعالى.

وهي حقيقة نص عليها القرآن الكريم في مواضع كثيرة، منها:

1 - قال الله تبارك وتعالى:

(تِلْكَ حُدُودُ اَللّٰهِ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ خٰالِدِينَ فِيهٰا وَ ذٰلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ )(1).

2 - قال سبحانه وتعالى:

(وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نٰاراً خٰالِداً فِيهٰا وَ لَهُ عَذٰابٌ مُهِينٌ )(2).

3 - وقد جعل الله الهجرة إليه وإلى رسوله فقال سبحانه:

(وَ مَنْ يُهٰاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللّٰهِ يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُرٰاغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهٰاجِراً إِلَى اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّٰهِ وَ كٰانَ اَللّٰهُ غَفُوراً رَحِيماً)(3).

ص: 44


1- سورة النساء، الآية: 13.
2- سورة النساء، الآية: 14.
3- سورة النساء، الآية: 100.

4 - وجعل سبحانه حرب رسوله هي حرب له عزّ شأنه فقال:

(إِنَّمٰا جَزٰاءُ اَلَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاٰفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ )(1).

5 - وجعل شقاهما أمر واحد فقال سبحانه:

(ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشٰاقِقِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ )(2).

6 - وإن تحريم الرسول هو تحريم الله سبحانه فقال تعالى:

(قٰاتِلُوا اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لاٰ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لاٰ يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لاٰ يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا اَلْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ )(3).

7 - وإن الله جعل العطاء والخير والرزق وما يحتاجه العباد هو من الله ورسوله فقال سبحانه:

(وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مٰا آتٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ قٰالُوا حَسْبُنَا اَللّٰهُ سَيُؤْتِينَا اَللّٰهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنّٰا إِلَى اَللّٰهِ رٰاغِبُونَ )(4).

ص: 45


1- سورة المائدة، الآية: 33.
2- سورة الأنفال: الآية: 13.
3- سورة التوبة، الآية: 29.
4- سورة التوبة، الآية: 59.

8 - وقد جعل الله سبحانه الغنى منه ومن رسوله فقال:

(يَحْلِفُونَ بِاللّٰهِ مٰا قٰالُوا وَ لَقَدْ قٰالُوا كَلِمَةَ اَلْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلاٰمِهِمْ وَ هَمُّوا بِمٰا لَمْ يَنٰالُوا وَ مٰا نَقَمُوا إِلاّٰ أَنْ أَغْنٰاهُمُ اَللّٰهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اَللّٰهُ عَذٰاباً أَلِيماً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مٰا لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لاٰ نَصِيرٍ)(1).

9 - وقال سبحانه في الذين يحاربون رسوله صلى الله عليه وآله وسلم:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُحَادُّونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ فِي اَلْأَذَلِّينَ )(2).

10 - وقد سخط الله على أهل الكتاب فأخرجهم من ديارهم، وقذف في قلوبهم الرعب، وجعلهم يقدمون على تخريب بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، وأجلاهم من الأرض والسبب في ذلك أنهم شاقوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقال سبحانه:

(وَ لَوْ لاٰ أَنْ كَتَبَ اَللّٰهُ عَلَيْهِمُ اَلْجَلاٰءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي اَلدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذٰابُ اَلنّٰارِ (3) ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اَللّٰهَ فَإِنَّ اَللّٰهَ شَدِيدُ اَلْعِقٰابِ )(3).

وغيرها من الآيات الكريمة التي تظهر أن أعظم الحرمات عند الله تعالى هي حرمة رسوله الأعظم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن بطاعته يكون المسلم قد صان أعظم الحرمات، وأن بمعصيته صلى الله عليه وآله وسلم يكون العاصي قد

ص: 46


1- سورة التوبة، الآية: 74.
2- سورة المجادلة، الآية: 20.
3- سورة الحشر، الآيتان: 3 و 4.

هتك أعظم الحرمات.

قال تعالى:

(إِلاّٰ بَلاٰغاً مِنَ اَللّٰهِ وَ رِسٰالاٰتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نٰارَ جَهَنَّمَ خٰالِدِينَ فِيهٰا أَبَداً)(1).

والآية لا تنطق بعقوبة الإشراك بالله تعالى ولم تتحدث عن الصلاة والصوم والحج والزكاة والجهاد وغيرها من الفروع وإنما مطلق المعصية لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم تدخل العاصي النار وتقضي عليه بالخلود فيها.

فكيف بمن آذى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ماذا سيكون مصيره في الدنيا والآخرة.

قال تعالى:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً)(2).

وأي أذى أكبر من أن تقتل فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفيها يقول النبي:

«فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني»(3).

ص: 47


1- سورة الجن، الآية: 23.
2- سورة الأحزاب، الآية: 57.
3- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين: ج 3، ص 219؛ صحيح مسلم، باب: فضائل فاطمة عليها السلام: ج 7، ص 141.

وقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«فإنما هي بضعة مني يريبني ما أرابها ويؤذيني ما آذاها»(1).

وعليه:

قد لا يبقى مجال لدى البعض في نكران أن الله تعالى يغضب لغضب فاطمة عليها السلام بعد أن ثبت في الأحاديث الصحيحة أن النبي يغضب لغضبها ويتأذى لأذاها، والسؤال المطروح هل أن الله تعالى سيجعل انفكاكاً وتجزءاً بين رضا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم ورضا بضعته فاطمة عليها السلام بعد كل هذا البيان الذي نزل به الوحي في محكم الكتاب في إظهار حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبيان هذا التلازم بين طاعة الله ومعصيته وحربه، وشقاقه، وحداده، وأذاه، ورضاه، وبين رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، الذي لا ينفك ولا يتجزأ عن رضا بضعته وقلبه وروحه التي بين جنبيه فاطمة صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها؟

إذن:

العلة في أن الله تعالى يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها، ويتألم لألمها، ويتأذى لآذاها، ويفرح لفرحها، وغير ذلك مما يحيط بها صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

ص: 48


1- صحيح البخاري، باب: النكاح: ج 6، ص 158؛ صحيح مسلم، باب: فضائل فاطمة عليها السلام: ج 7، ص 141.

ولكن لماذا هذه الخصوصية التي لفاطمة عند سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم ؟

وجوابه سيمر ببيان أوضح في مبحث خصص لمعرفة منزلتها عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، إلا أننا هنا نجيب بما سيأتي في المقدمة الخامسة.

خامساً: كل ما يلحق من المكونات الكمالية في الصفات النبوية يلحق بالبضعة الفاطمية

بعد أن قادنا المنهج القرآني في إظهار مقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ودلالة حرمته المرتكزة في طاعته ومعصيته وسنخية هذه الحرمة من حرمة الحكم الشرعي، فثبت لدينا أن العلاقة بين غضب الله تعالى وغضب فاطمة، ورضاه سبحانه ورضا فاطمة، هي علاقة تلازمية مع رسوله الأعظم أبي القاسم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وأن هذه العلاقة تدور حول نواة حرمة الحكم الشرعي الذي حده الله تعالى وسنه لعباده فكانوا محلاً للاختبار والابتلاء والطاعة والمعصية ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من يحيى عن بينة وهو العزيز الحكيم.

فإن هذا المنهج ليقودنا أيضاً إلى أن الله تعالى حكيم حليم عادل عزيز مقتدر لطيف بعباده وهو أقرب إليهم من حبل الوريد؛ ومن ثم ليس لأحد مع الله قرابة ولم يكن ليهب الكرامات جزافاً، وإنما يتفاضل الخلق في العبادة الحقة الخالصة لوجهه الكريم. قال تعالى:

(وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ حُنَفٰاءَ وَ يُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ ذٰلِكَ دِينُ اَلْقَيِّمَةِ )(1).

ص: 49


1- سورة البينة، الآية: 5.

ومن ثم كان الاصطفاء والاجتباء والمنزلة والقرب منه جلت قدرته على العلم منه بحقائق خلقه وصدقهم وخلوصهم له؛ ولذا اصطفى منهم لنفسه أنبياء ومرسلين وأئمة، قال تعالى:

(إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ )(1).

وقال سبحانه:

(وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا وَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْرٰاتِ وَ إِقٰامَ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءَ اَلزَّكٰاةِ وَ كٰانُوا لَنٰا عٰابِدِينَ )(2).

من هنا:

كان الاصطفاء سنة إلهية قدرها الله سبحانه علماً منه بما يصلح عباده وينجيهم من عدوهم إبليس قال تعالى:

(أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰا بَنِي آدَمَ أَنْ لاٰ تَعْبُدُوا اَلشَّيْطٰانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هٰذٰا صِرٰاطٌ مُسْتَقِيمٌ )(3).

وأنى للإنسان أن يعبد الله ويتبع الصراط المستقيم بدون الدليل والقائد الذي يأخذ بهذا الخلق إلى خالقه وبارئهم وربهم الذي ما خلقهم لكي يعذبهم وإنما للرحمة خلقوا؛ ولذا أرسل إليهم أنبياءاً ورسلاً تحننا منه ورحمة فله الحمد وله المنّة فكان حبيبه المصطفى رحمته العظمى للعالمين فقال عزّ وجل:

ص: 50


1- سورة آل عمران، الآية: 33.
2- سورة الأنبياء، الآية: 73.
3- سورة يس، الآيتان: 60 و 61.

(وَ مٰا أَرْسَلْنٰاكَ إِلاّٰ رَحْمَةً لِلْعٰالَمِينَ )(1).

ولأنه الرحمة للعالمين عظمة حرمته وتعاظمت منزلته عند الله تعالى.

وكذا كانت عترته وأهل بيته سفينة النجاة، وباب حطة، وصراط الله المستقيم؛ بمعنى لم تكن فاطمة عليها السلام لها قرابة مع الله تعالى فحينما تغضب يغضب الله لغضبها، وحينما ترضى يرضى الله لرضاها؛ وإنما أحرزت فاطمة بفضل الله تعالى وسابق لطفه بها كل المكونات الكمالية في الصفات النبوية فكانت بضعة منه وقلبه وروحه.

ومن ثم: كان غضبها كغضب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورضاها كرضاه، بمعنى أن غضبها لم يكن إلا للحكم الشرعي وإن رضاها لم يكن إلا للحكم الشرعي، فإن غضبت فما ذاك إلا لتعدي حدود الله تعالى وإن رضيت فلم يكن إلا بحفظ حدود الله تعالى.

فما خصت به من الغضب والرضا خص به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهل هناك مسلم يعتقد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغضب لغير الله ويرضى لغير الله تعالى، فإن قال: نعم؛ فقد نسب المعصية لسيد الخلق - والعياذ بالله - وإن قال: لا، فلماذا ينكر أن الله تعالى يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها.

ولكن ثمة سؤال آخر: لماذا الغضب والرضا دون غيرهما من الصفات ؟

جوابه سيأتي لاحقاً.

ص: 51


1- سورة الأنبياء، الآية: 107.
سادساً: لماذا الغضب والرضا دون غيرهما من الصفات الإلهية قد اقترن بفاطمة عليها السلام
اشارة

لاشك أن الصفات الأفعالية كثيرة لكن السؤال الذي يستوقف الباحث، لماذا: الغضب والرضا ولم يكن الرحمة أو العذاب، أو اللطف والنقمة.

لماذا لم ترد نصوص نبوية تتحدث عن بعض الصفات الأفعالية التي لها ظهور في الخارج ؟

وجوابه من مقدمات، وهي كالآتي:

ألف: ارتباط الغضب والرضا بالقلب

إنّ من الصفات الأخلاقية ما كان منشئه القلب أو ارتباطه وعلاقته بالقلب كالإيمان والكفر والبغض والحب، والرضا والغضب وغيرها من الصفات الأخلاقية التي تناولها العلماء في مصنفاتهم وتتبعوا مناشئها وقواها النفسانية.

وحينما نأتي إلى الغضب والرضا نجد علماء الأخلاق يرجعونها من حيث المنشئ إلى القلب وإن لها معه ارتباطاً مباشراً، إلى المستوى الذي وصفوا فيه الغضب وعلاقته بالقلب بقولهم: (الغضب شعلة نار اقتبست من نار الله الموقدة؛ إلا أنها لا تطلع إلا على الأفئدة، وأنها لمستكنة في طي الفؤاد استكنان الجمر تحت الرماد، وتستخرجها حمية الدين من قلوب المؤمنين، أو حمية الجاهلية والكبر الدفين من قلوب الجبارين، التي لها عرق إلى الشيطان اللعين حيث قال:

(قٰالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نٰارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ )(1).

ص: 52


1- سورة ص، الآية: 76.

فمن شأن الطين السكون والوقار، ومن شأن النار التلظي والاستعار)(1).

ولما كان الغضب بهذه الرتبة والأثر والعلاقة مع القلب الذي هو محل النظر وصمام الأمان في التحكم مع الناس أصبح الاحتياج إلى ضبط المشاعر وتقديم الحقوق ومحاربة النفس هي من أهم السمات التي يتمايز بها المؤمن من الكافر، وبها يتضح معنى أن يكون غضب الأنبياء والمرسلين ورضاهم لله تعالى، بل يتضح معنى أن يكون هؤلاء مما حفت بهم يد الرحمة الإلهية فكانوا الأدلاء على الله والدعاة إليه.

بمعنى آخر: كم يكون هؤلاء على مستوى من الضبط والقوام والمجاهدة حتى استحقوا أن يكونوا لله تعالى فإن غضبوا غضب الله لغضبهم، بل هم لا يغضبون إلا إليه ولا يرضون إلا لأجله فقلوبهم سليمة من الشوائب ونقية من الظلمات، ولذا امتدح الله هذه القلوب حينما امتدح قلب إبراهيم الخليل عليه السلام فقال عزّ وجلّ :

(إِذْ جٰاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )(2).

من هنا: حينما ينص الحديث النبوي الشريف على إظهار العلاقة بين غضب الله تعالى وغضب فاطمة، ورضاه برضا فاطمة، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«يغضبني ما يغضبها».

ليدل على الرتبة التي بلغ إليه قلب فاطمة صلوات الله وسلامه عليها.

ص: 53


1- جامع السعادات للمحقق النراقي: ج 1، ص 224؛ وقد مر سابقاً الاستشهاد بهذا التعريف وذكرناه هنا لضرورة البحث.
2- سورة الصافات، الآية: 84.
باء: قوام الغضب والرضا بالعدل

ولأن الرضا والغضب يصاحب الإنسان في جميع أفعاله وأقواله ومعاملاته لزم أن يكون ضبطهما وإرجاعهما إلى الوسط كي يعتدل من أعسر المجاهدات وذلك لأنهما أول مظاهر النفس الإنسانية ظهوراً للعلن، فكم من رضا أفسد صاحبه وكم من غضب أهلك صاحبه وأهله وعشيرته وقومه، ولعل التاريخ لغني بهذه الشواهد.

ولذا:

كان قوام الرضا والغضب بالعدل؛ وذلك أن (العدالة أشرف الفضائل وأفضلها فهي كل الفضائل أو ما يلزمها، كما أن الجور كل الرذائل أو ما يوجبها، لأنها هيئة نفسانية يقتدر بها على تعديل جميع الصفات والأفعال، ورد الزائد والناقص إلى الوسط، وانكسار سورة التخالف بين القوى المتعادية بحيث يمتزج الكل ويتحقق بينها مناسبة واتحاد تحدث في النفس فضيلة واحدة تقتضي حصول فعل متوسط بين أفعالها المتخالفة، وذلك كما تحصل من حصول الامتزاج والوحدة بين الأشياء المتخالفة صورة وحدانية يصدر عنها فعل متوسط بين أفعالها المتخالفة فجميع الفضائل مترتبة على العدالة.

ولذا قال أفلاطون: العدالة إذا حصلت للإنسان أشرق بها كل واحد من أجزاء نفسه، ويستضيء بعضها من بعض، فتنتهض النفس حينئذ لفعلها الخاص على أفضل ما يكون، فيحصل لها غاية القرب إلى مبدعها سبحانه)(1).

ص: 54


1- جامع السعادات للنراقي: ج 1، ص 68-70.

(وإذا عرفت شرف العدالة وإيجابها للعمل بالمساواة، ورد كل ناقص وزائد إلى الوسط، فاعلم: أنها إما متعلقة بالأخلاق والأفعال، أو بالكرامات وقسمة الأموال، أو بالمعاملات والمعارضات، أو بالأحكام والسياسات والعادل في كل واحد من هذه الأمور ما يحدث التساوي فيه برد الإفراط والتفريط إلى الوسط، ولا ريب أنه مشروط بالعلم بطبيعة الوسط، حتى يمكن رد الطرفين إليه، وهذا العلم في غاية الصعوبة، ولا يتيسر إلا بالرجوع إلى ميزان معرف للأوساط في جميع الأشياء، وما هو إلا ميزان الشريعة الإلهية الصادرة عن منبع الوحدة الحقة الحقيقية، فإنها هي المعرفة للأوساط في جميع الأشياء على ما ينبغي والمتضمنة لبيان تفاصيل جميع مراتب الحكمة العملية فالعادل بالحقيقة يجب أن يكون حكيماً عالماً بالنواميس الإلهية الصادرة من عند الله سبحانه لحفظ المساواة)(1).

ومن هنا: تتضح لنا دلالة: إن الله تعالى يغضب لغضب فاطمة ويرضى لرضاها عليها السلام في كونها قد بلغت رتبة المعرفة بالنواميس الإلهية الصادرة من عند الله تعالى؛ ولذا لا يخرجها غضبها أو رضاها عن العدالة في الأخلاق والأفعال، أو الكرامات وقسمة الأموال، أو بالمعاملات والمعارضات، أو بالأحكام والسياسات، فهي في كل ذلك عادلة موافق رضاها وغضبها لغضب الله تعالى ورضاه.

ويراد بذلك العصمة، وفيها تكون حرمة الحكم الشرعي، وفيها تكون حرمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحرمة الإسلام فكل ذلك رضا الله تعالى وغضبه، وهو متلازم مع رضا فاطمة وغضبها.

ص: 55


1- جامع السعادات للنراقي: ج 1، ص 70.

المسألة الثانية: تحية الله تعالى إليها

إنّ من الأحاديث الشريفة الواردة في الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما رواه الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده إلى ابن عباس قال: (كنت جالساً بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - ذات يوم وبين يديه علي بن أبي طالب عليه السلام وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام إذ هبط عليه جبرئيل وبيده تفاحة فحيا بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتحيا بها النبي وحيا بها الحسن عليه السلام فقبلها وردها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتحيا بها النبي وحيا بها الحسين فتحيا بها الحسين وقبلها وردها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فتحيا بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحيا بها فاطمة فقبلتها وردتها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحيا بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثانية وحيا بها عليا عليه السلام فتحيا بها علي عليه السلام ثانية فلما هم أن يردها إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم سقطت التفاحة من أطراف أنامله فانفلقت بنصفين فسطع منها نور حتى بلغ سماء الدنيا وإذا عليه سطران مكتوبان بسم الله الرحمن الرحيم هذه تحية من الله عزّ وجل إلى محمد المصطفى وعلي المرتضى وفاطمة الزهراء والحسن والحسين سبطي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمان لمحبيهم يوم القيامة من النار)(1).

والحديث يدل على توالي نزول الألطاف والنفحات القدسية لمحمد وعترته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وهذا النهج الرحماني هو مما كان يرافق حياة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام كي يبقى أولئك الأولياء في محضر الأنس والحب

ص: 56


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 596.

الإلهي فيهون عليهم غصص الحياة الدنيا لأن أرواحهم منعمة في المحل الأقدس.

وما محمد وأهل بيته بالأقل شأناً من ابنة عمران عليها السلام التي كانت تخدقها الملائكة بكرة وعشيا بالألطاف الإلهية والتحيا الربانية.

المسألة الثالثة: إن الله تعالى رزقها كما رزق ابنة عمران عليها السلام

لاشك إن الله تعالى حينما كان يرزق مريم عليها السلام بأصناف الطعام وفي غير أوقاتها المعهودة كفاكهة الصيف في فصل الشتاء، وفاكهة الشتاء في فصل الصيف إنما كان لإظهار منزلتها عنده جلت قدرته فضلاً عن بيان استحقاقها الإيماني الذي مكنها من هذه الرتبة عند الله تعالى.

إلاّ أن هذه الكرامة التي كان الله تعالى يكرم بها مريم بنت عمران عليها السلام لا تعني بالضرورة أن تكون محصورة بها فقط فلا يكرم الله تعالى غيرها من الأولياء بنزول الطعام إليهم كما كانت الملائكة تنزل بأصناف الطعام لمريم عليها السلام.

بل قد دلت الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان في كل ليلة يطعمه ربه ويسقيه، بل أن الإطعام لهو أيسر ما يقدمه الكريم لضيوفه فكيف بأحبابه وخيرته من خلقه؛ بل إن النفحات القدسية والأنوار الإلهية والفيوضات الملكوتية التي كان الله تعالى يتحف بها حبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فهو مما لا يتحملها قلب إلا قلب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي ذلك يقول صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 57

«لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل»(1).

وفي إطعامه وسقيه عند ربه فيقول صلى الله عليه وآله وسلم:

«إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني»(2).

وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إني لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني»(3).

وعليه:

فإن عدم ذكر ما تناله فاطمة صلوات الله وسلامه عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها في القرآن لا يعني على الإطلاق أن مريم بنت عمران كانت تنال من الكرامات والتحف الإلهية بأكثر مما تناله بضعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فها هو سيد الخلق والأنبياء والمرسلين لم يكشف القرآن عما كان يناله من ربه سبحانه من الكرامات والفيوظات والألطاف والنفحات القدسية، فهل يعني ذلك أنه لم ينل منها شيء.

ولذلك:

فقد كشفت بعض الأحاديث الشريفة عما كانت تحضى به البضعة النبوية من الكرامات الإلهية والفيوضات الربانية كحديث إشراق نورها في اليوم ثلاث مرات

ص: 58


1- كشف الخفاء للعجلوني: ج 2، ص 17، برقم 2159؛ فيض القدير للمناوي: ج 4، ص 8؛ تفسير الآلوسي: ج 2، ص 73؛ الملل والنحل للشهرستاني: ج 2، ص 44؛ العقد الحسيني، تأليف: والد الشيخ البهائي: ص 45.
2- صحيح البخاري، كتاب الصوم: ج 2، ص 242.
3- المصدر السابق نفسه.

وقد مر ذكره في مبحث تزيينها لعلي عليه السلام وأحاديث نثار فاطمة عليها السلام في ليلة زفافها وغير ذلك من الأحاديث والتي جاءت لكي ترطب قلوب المؤمنين وتقودهم إلى الاطمئنان والسكينة حينما يقفون عند هذه الأحاديث ويتأملون فيها ويدعون الله تعالى.

كما هو حال زكريا عليه السلام حينما رأى تلك الكرامة لمريم وإظهار قدرت الله تعالى، إذ الذي استفاد منه زكريا عليه السلام ليس إلفات ذكره إلى منزلة مريم عليها السلام وإنما التفت إلى أن حاجته التي شغلته وهي طلب الخلف والذرية بأنها من أيسر ما يمكن تحقيقه عند الالتجاء والتوسل إلى الله تعالى وإن كان زكريا عليه السلام وبحسب الموازين الطبيعية قد فاته الإنجاب إما بكبر سنه أو بكر سن امرأته لكونها عاقر، لكن هذه الموازين والسنن الحياتية التي سنها الله تعالى فهو الوحيد القادر على تغييرها بما تقدره المصلحة والرعاية الإلهية بعباده الصالحين.

لكن زكريا أخذ طريقه من هذه الكرامة التي رآها لمريم بنت عمران؛ قال تعالى:

(هُنٰالِكَ دَعٰا زَكَرِيّٰا رَبَّهُ قٰالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ اَلدُّعٰاءِ )(1).

من هنا:

نجد أن الكشف عن تلك الكرامات التي حفت بها حياة أولياء الله تعالى إنما يكون بحسب المصلحة التي يقدرها الله تعالى في هداية عباده وإصلاحهم فقد تكون

ص: 59


1- سورة آل عمران، الآية: 38.

الآية أو الكرامة التي تحيط بالأنبياء والأولياء تؤدي إلى هلاك من تظهر فيهم تلك الآية الربانية.

قال تعالى:

(وَ مٰا مَنَعَنٰا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيٰاتِ إِلاّٰ أَنْ كَذَّبَ بِهَا اَلْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنٰا ثَمُودَ اَلنّٰاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهٰا وَ مٰا نُرْسِلُ بِالْآيٰاتِ إِلاّٰ تَخْوِيفاً)(1).

ولذلك:

لا يعني عدم إظهار الآية والكرامة لعترة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في مختلف الأزمنة التي عاصروها أن ليس لهم كرامة عند الله أو شأناً أو منزلة وإنما حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية وهو العزيز الحكيم.

وفي هذا الخصوص وفيما أظهرته الروايات ما رواه الحافظ الثعلبي، والبيضاوي، والزمخشري، وأبو حيان الأندلسي، والسيوطي، وخرجه الزيلعي عن أبي يعلى الموصلي وغيرهم:

(إن النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم، أنه جاع في زمن قحط فأهدت له فاطمة - عليها السلام - رغيفين وبضعة لحم آثرته بها فرجع بها إليها فقال:

«هلمي يا بنية».

وكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا ولحما فبهتت وعلمت أنها نزلت من عند الله فقال لها صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«أنى لك هذا؟».

ص: 60


1- سورة الإسراء، الآية: 59.

فقالت:

«هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب».

فقال صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«الحمد لله الذي جعلك شبيه سيدة نساء بني إسرائيل».

ثم جمع رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم علي بن أبي طالب والحسن والحسين وجميع أهل بيته حتى شبعوا وبقي الطعام كما هو وأوسعت فاطمة على جيرانها)(1).

ص: 61


1- تفسير الثعلبي: ج 3، ص 58؛ تفسير البيضاوي: ج 2، ص 35؛ تفسير الكشاف للزمخشري: ج 1، ص 428؛ تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: ج 2، ص 462؛ تفسير الدر المنثور للسيوطي: ج 2، ص 20؛ تفسير الآلوسي: ج 3، ص 141؛ تخريج الأحاديث للزيلعي: ج 1، ص 184؛ إقبال الأعمال: ص 529؛ تفسير جوامع الجامع للطبرسي: ج 1، ص 283؛ تفسير سعد السعود للسيد ابن طاووس: ص 131؛ بحار الأنوار للعلامة المجلسي: ج 43؛ ص 29؛ تفسير أبي السعود: ج 2، ص 30.

ص: 62

الفصل الثاني: منزلتها عليها السلام في القرآن الكريم

اشارة

ص: 63

ص: 64

نتناول - بعون الله - في هذا الفصل الآيات الكريمة التي اختصت بفاطمة عليها السلام وذلك ضمن محورين:

المحور الأول:

الآيات المشتركة لأهل البيت عليهم السلام في الخصوصية والحكم كآية التطهير، وآية المباهلة، وآية المودة وغيرها.

المحور الثاني:

الآيات المنفردة التي لم يشترك فيها بقية أهل البيت عليهم السلام، أي الخمسة الذين جللهم النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بالكساء وسنورد هذه الآيات الكريمة في كلا المحورين ونشير إلى بعض المسائل حسبما يقتضيه البحث.

ص: 65

المبحث الأول: منزلة فاطمة عليها السلام في بعض آيات سورة البقرة

المسألة الأولى: الآيات العامة لبيان منزلة أهل البيت عليهم السلام في سورة البقرة ومما فيهم فاطمة عليها السلام

اشارة

إن اشتراك فاطمة عليها السلام مع أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين في بعض الآيات القرآنية في الخصوصية والحكم يكشف عن أن أهل البيت عليهم السلام قد خصهم الله تعالى جميعاً ببعض الخصوصيات التي تنال كل واحد منهم فكانوا جميعاً لهم نفس تلك الخصوصية والشأنية القرآنية التي نصت عليها الآيات الكريمة وفي نفس الوقت نجد أن بعضهم عليهم السلام قد خصهم الله ببعض الآيات فكانت منفردة في الخصوصية والحكم في هذا الإمام أو ذاك؛ كالآيات الخاصة بالإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أو التي اختصت بالإمام الحسين عليه السلام أو بالإمام المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف.

ص: 66

وهذا المنحى من البيان القرآني نجده ملازماً لسيرة الأنبياء المرسلين عليهم السلام فالأنبياء نجدهم في مواضع كثيرة يشتركون في بعض الآيات من حيث الخصوصية والحكم كقوله تعالى:

(وَ مٰا أَرْسَلْنٰا قَبْلَكَ إِلاّٰ رِجٰالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لاٰ تَعْلَمُونَ (7) وَ مٰا جَعَلْنٰاهُمْ جَسَداً لاٰ يَأْكُلُونَ اَلطَّعٰامَ وَ مٰا كٰانُوا خٰالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنٰاهُمُ اَلْوَعْدَ فَأَنْجَيْنٰاهُمْ وَ مَنْ نَشٰاءُ وَ أَهْلَكْنَا اَلْمُسْرِفِينَ )(1).

أما في اختصاهم منفردين ببعض الشأنية والحكم والخصوصية فكثيرة هي الآيات التي تناولت هذا المعنى، إذ يكفي بالقارئ الكريم أن ينظر إلى القرآن ليجد الكثير من الآيات التي تخاطب الأنبياء بأسمائهم وتخصهم ببعض الأحكام والشأنية في معرض بيانها للمسلمين عن حالهم وسيرتهم:

1 - قال تعالى:

(وَ قُلْنٰا يٰا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلاٰ مِنْهٰا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمٰا وَ لاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونٰا مِنَ اَلظّٰالِمِينَ )(2).

2 - قال تعالى:

(قٰالَ يٰا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صٰالِحٍ فَلاٰ تَسْئَلْنِ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ )(3).

ص: 67


1- سورة الأنبياء، الآيات: 7 و 8 و 9.
2- سورة البقرة، الآية: 35.
3- سورة هود، الآية: 46.

3 - قال تعالى:

(وَ نٰادَيْنٰاهُ أَنْ يٰا إِبْرٰاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيٰا إِنّٰا كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ )(1).

4 - قال تعالى:

(فَلَمّٰا بَلَغَ مَعَهُ اَلسَّعْيَ قٰالَ يٰا بُنَيَّ إِنِّي أَرىٰ فِي اَلْمَنٰامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مٰا ذٰا تَرىٰ قٰالَ يٰا أَبَتِ اِفْعَلْ مٰا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ مِنَ اَلصّٰابِرِينَ )(2).

5 - قال تعالى:

(يٰا يَحْيىٰ خُذِ اَلْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْنٰاهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا)(3).

6 - قال تعالى:

(وَ إِذْ قٰالَ اَللّٰهُ يٰا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّٰاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلٰهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ قٰالَ سُبْحٰانَكَ مٰا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مٰا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مٰا فِي نَفْسِي وَ لاٰ أَعْلَمُ مٰا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّٰمُ اَلْغُيُوبِ )(4).

وغيرها من الآيات الكريمة التي جاءت منفردة في الدلالة والخصوصية والحكم لبعض الأنبياء والمرسلين عليهم السلام وذلك حسبما تقتضيه الإرادة الإلهية وتشخيصها للمصلحة والمنفعة التي تقود إلى هداية الناس.

ومن هنا:

ص: 68


1- سورة الصافات، الآيتان: 104 و 105.
2- سورة الصافات، الآية: 102.
3- سورة مريم، الآية: 12.
4- سورة المائدة، الآية: 116.

نجد أن هذا الأسلوب القرآني ماضٍ مع أهل البيت عليهم السلام فكانت الآيات القرآنية الخاصة بهم تسير ضمن محورين، المحور الأول: الآيات المجتمعة بهم في الخصوصية والشأنية والحكم.

والمحور الثاني الآيات القرآنية المنفردة في الخصوصية والحكم في فاطمة عليها السلام ونبدأ في المحور الأول ونسير في البحث ضمن ترتيب السور القرآنية فنبدأ من سورة البقرة وما ورد فيها من آيات في العترة المحمدية صلوات الله عليهم أجمعين وبما فيهم البضعة النبوية فاطمة الزهراء عليها السلام، ومن ثم نعرج على المحور الثاني.

أولا: فاطمة في قوله تعالى: (و يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة فكلا من حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين)

هذه الآية - كما أسلفنا - من الآيات العامة في العترة المحمدية والكاشفة عن منزلتهم عند الله تعالى كما روي (عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام فقال:

«إنّ الله عزّ وجل لما لعن إبليس بإبائه وأكرم الملائكة بسجودها لآدم وطاعتهم لله عزّ وجل أمر بآدم وحوى إلى الجنة، وقال:

(يٰا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلاٰ مِنْهٰا رَغَداً).

واسعاً.

(حَيْثُ شِئْتُمٰا).

بلا تعب.

(وَ لاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ اَلشَّجَرَةَ ).

ص: 69

شجرة العلم.

علم محمد وآل محمد الذي آثرهم الله به دون سائر خلقه فإنها لمحمد وآل محمد خاصة دون غيرهم لا يتناول منها بأمر الله إلا هم ومنها كان يتناول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام بعد إطعامه المسكين واليتيم والأسير حتى لم يحسوا بعد بجوع ولا عطش ولا تعب وهي شجرة تميزت من بين أشجار الجنة.

إن سائر أشجار الجنة كان كل نوع منها يحمل أنواعا من الثمار والمأكول وكانت هذه الشجرة وحدها تحمل البر والعنب والتين والعناب وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة فلذلك اختلف الحاكون لذكر الشجرة فقال بعضهم هي برة وقال آخرون هي عنبة وقال آخرون هي تينة وقال آخرون هي عنابة قال تعالى:

(وَ لاٰ تَقْرَبٰا هٰذِهِ اَلشَّجَرَةَ ).

تلتمسان بذلك درجة محمد وآل محمد في فضلهم فإن الله خصهم بهذه الدرجة دون غيرهم وهي الشجرة التي من تناول منها بإذن الله ألهم علم الأولين والآخرين بغير تعلم ومن تناول منها بغير إذن الله خاب من مراده وعصى ربه.

(فَتَكُونٰا مِنَ اَلظّٰالِمِينَ ).

بمعصيتكما والتماسكما درجة قد أوثر بها غيركما كما أردتما بغير حكم الله»)(1).

ص: 70


1- تفسير الإمام العسكري: ص 221؛ البحار للمجلسي: ج 11، ص 189؛ التفسير الصافي للفيض الكاشاني: ج 1، 116.

وتدل الرواية على أمور، منها:

1 - إن علم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم هو علم رباني لدني قد خصهم الله بهذا العلم دون غيرهم وأثرهم به على سائر أنبياءه ورسله فهم أعلم الخلق.

2 - إنهم يزدادون من العلوم ولذا فعلومهم لا تنقطع وهم ما زالوا في إزدياد، وقد دلت كثير من الأحاديث على ذلك كقول الصادق عليه السلام:

«إنه إذا كان ليلة الجمعة وافا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العرش ووافى الأئمة معه فلا ترد أرواحنا إلى أبداننا إلا بعلم مستفاد ولولا ذلك لنفد ما عندنا»(1).

3 - وتدل الرواية على أن محمد وعترته صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين هم موضع ابتلاء الخلق في الطاعة لله تعالى، وأن الناجي من هذا الابتلاء يكون قد حظي بالنصيب الأوفى من اللطف والعناية الإلهية فهو وحده المعين والهادي إلى سبيل الرشاد.

ثانيا: فاطمة في قوله تعالى (و إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة)

(قٰالُوا أَ تَتَّخِذُنٰا هُزُواً قٰالَ أَعُوذُ بِاللّٰهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ (67) قٰالُوا اُدْعُ لَنٰا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنٰا مٰا هِيَ قٰالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهٰا بَقَرَةٌ لاٰ فٰارِضٌ وَ لاٰ بِكْرٌ عَوٰانٌ بَيْنَ ذٰلِكَ فَافْعَلُوا مٰا تُؤْمَرُونَ (68) قٰالُوا اُدْعُ لَنٰا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنٰا مٰا لَوْنُهٰا قٰالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهٰا بَقَرَةٌ صَفْرٰاءُ فٰاقِعٌ لَوْنُهٰا تَسُرُّ اَلنّٰاظِرِينَ (6(9) قٰالُوا اُدْعُ لَنٰا رَبَّكَ

ص: 71


1- بصائر الدرجات لمحمد بن الحسن الصفار: ص 150.

يُبَيِّنْ لَنٰا مٰا هِيَ إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشٰابَهَ عَلَيْنٰا وَ إِنّٰا إِنْ شٰاءَ اَللّٰهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قٰالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهٰا بَقَرَةٌ لاٰ ذَلُولٌ تُثِيرُ اَلْأَرْضَ وَ لاٰ تَسْقِي اَلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاٰ شِيَةَ فِيهٰا قٰالُوا اَلْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهٰا وَ مٰا كٰادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّٰارَأْتُمْ فِيهٰا وَ اَللّٰهُ مُخْرِجٌ مٰا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنٰا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِهٰا كَذٰلِكَ يُحْيِ اَللّٰهُ اَلْمَوْتىٰ وَ يُرِيكُمْ آيٰاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ )(1).

ومما جاء فيها من التأويل:

إنّ هذه الآيات المباركات في سورة البقرة والتي تتحدث عن معجزة نبوية من المعاجز التي خص الله بها موسى عليه السلام جاء في تأويلها أن صاحب البقرة الصفراء في بني إسرائيل كان له حظ من المعرفة بمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فكان يتوسل إلى الله تعالى بهم فرفع الله شأنه في الحياة الدنيا وأكرمه بهذه المعرفة العبادية التي كان يتقرب بها إلى الله تعالى.

وهو ما دلت عليه الآية المباركة التي جاء في تأويلها عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنه قال:

- والحديث طويل نأخذ منه موضع الحاجة -:

«... فلما استقر الأمر عليهم، طلبوا هذه البقرة فلم يجدوها إلا عند شاب من بني إسرائيل أراه الله عزّ وجل في منامه محمدا وعليا وطيبي ذريتهما، فقالا له:

إنك كنت لنا (وليا) محبا ومفضلا، ونحن نريد أن نسوق إليك بعض جزائك في الدنيا، فإذا راموا شراء بقرتك فلا تبعها إلا بأمر أمك، فان الله عزّ

ص: 72


1- سورة البقرة، الآيات: 67-73.

وجل يلقنها ما يغنيك به وعقبك.

ففرح الغلام، وجاءه القوم يطلبون بقرته، فقالوا: بكم تبيع بقرتك هذه ؟

قال: بدينارين، والخيار لأمي.

قالوا: قد رضينا (بدينار).

فسألها، فقالت: بأربعة.

فأخبرهم فقالوا: نعطيك دينارين.

فأخبر أمه، فقالت: بثمانية.

فما زالوا يطلبون على النصف، مما تقول أمه، ويرجع إلى أمه، فتضعف الثمن حتى بلغ ثمنها ملء مسك ثور أكبر ما يكون ملؤه دنانير، فأوجب لهم البيع.

ثم ذبحوها، وأخذوا قطعة وهي عجز الذنب الذي منه خلق ابن آدم، وعليه يركب إذا أعيد خلقا جديدا، فضربوه بها، وقالوا: اللهم بجاه محمد وآله الطيبين لما أحييت هذا الميت، وأنطقته ليخبرنا عن قاتله.

فقام سالما سويا وقال: (يا نبي الله) قتلني هذان ابنا عمي، حسداني على بنت عمي فقتلاني، وألقياني في محلة هؤلاء ليأخذا ديتي (منهم).

فأخذ موسى عليه السلام الرجلين فقتلهما، وكان قبل أن يقوم الميت ضرب بقطعة من البقرة فلم يحي، فقالوا: يا نبي الله أين ما وعدتنا عن الله عزّ وجل ؟

فقال موسى عليه السلام: (قد) صدقت، وذلك إلى الله عز وجل.

فأوحى الله تعالى إليه: يا موسى إني لا اخلف وعدي، ولكن ليقدموا للفتى ثمن بقرته ملء مسكها دنانير ثم أحيي هذا.

ص: 73

فجمعوا أموالهم، فوسع الله جلد الثور حتى وزن ما ملئ به جلده فبلغ خمسة آلاف ألف دينار.

فقال بعض بني إسرائيل لموسى عليه السلام - وذلك بحضرة المقتول المنشور المضروب ببعض البقرة -:

لا ندري أيهما أعجب: إحياء الله هذا وإنطاقه بما نطق، أو اغناؤه لهذا الفتى بهذا المال العظيم!

فأوحى الله إليه: يا موسى قل لبني إسرائيل: من أحب منكم أن أطيب في الدنيا عيشه، وأعظم في جناني محله، وأجعل لمحمد وآله الطيبين فيها منادمته، فليفعل كما فعل هذا الفتى، إنه كان قد سمع من موسى بن عمران عليه السلام ذكر محمد صلى الله عليه وآله وعلي وآلهما الطيبين، فكان عليهم مصليا، ولهم على جميع الخلائق من الجن والإنس والملائكة مفضلا، فلذلك صرفت إليه هذا المال العظيم ليتنعم بالطيبات ويتكرم بالهبات والصلاة، ويتحبب بمعروفه إلى ذوي المودات، ويكبت بنفقاته ذوي العداوات.

قال الفتى: يا نبي الله كيف أحفظ هذه الأموال ؟ أم كيف أحذر من عداوة من يعاديني فيها، وحسد من يحسدني لأجلها؟ قال: قل عليها من الصلاة على محمد وآله الطيبين ما كنت تقوله قبل أن تنالها، فان الذي رزقكها بذلك القول مع صحة الاعتقاد يحفظها عليك أيضا (بهذا القول مع صحة الاعتقاد).

فقالها الفتى فما رامها حاسد (له) ليفسدها، أو لص ليسرقها، أو غاصب ليغصبها، إلا دفعه الله عزّ وجل عنها بلطف من ألطافه حتى يمتنع من ظلمه اختيارا أو منعه منه بآفة أو داهية حتى يكفه عنه، فيكف اضطرارا.

ص: 74

(قال عليه السلام):

«فلما قال موسى عليه السلام للفتى ذلك وصار الله عزّ وجل له - لمقالته - حافظا، قال هذا المنشور: اللهم إني أسألك بما سألك به هذا الفتى من الصلاة على محمد وآله الطيبين والتوسل بهم أن تبقيني في الدنيا متمتعا بابنة عمي وتجزي عني أعدائي وحسادي، وترزقني فيها (خيرا) كثيرا طيبا.

فأوحى الله إليه: يا موسى إنه كان لهذا الفتى المنشور بعد القتل ستون سنة، وقد وهبت له بمسألته وتوسله بمحمد وآله الطيبين سبعين سنة تمام مائة وثلاثين سنة صحيحة حواسه، ثابت فيها جنانه، قوية فيها شهواته، يتمتع بحلال هذه الدنيا ويعيش ولا يفارقها ولا تفارقه، فإذا حان حينه (حان حينها) وماتا جميعا (معا) فصارا إلى جناني، وكانا زوجين فيها ناعمين.

ولو سألني - يا موسى - هذا الشقي القاتل بمثل ما توسل به هذا الفتى على صحة اعتقاده أن أعصمه من الحسد، وأقنعه بما رزقته - وذلك هو الملك العظيم - لفعلت.

ولو سألني بذلك مع التوبة من صنعه أن لا أفضحه لما فضحته، ولصرفت هؤلاء عن اقتراح إبانة القاتل، ولأغنيت هذا الفتى من غير (هذا الوجه بقدر) هذا المال أوجده.

ولو سألني بعد ما افتضح، وتاب إليّ ، وتوسل بمثل وسيلة هذا الفتى أن أنسى الناس فعله - بعدما ألطف لأوليائه فيعفونه عن القصاص - لفعلت، فكان لا يعيره بفعله أحد ولا يذكره فيهم ذاكر، ولكن ذلك فضل أوتيه من أشاء، وأنا ذو الفضل العظيم وأعدل بالمنع على من أشاء، وأنا العزيز الحكيم.

ص: 75

فلما ذبحوها قال الله تعالى:

(فَذَبَحُوهٰا وَ مٰا كٰادُوا يَفْعَلُونَ ).

فأرادوا أن لا يفعلوا ذلك من عظم ثمن البقرة، ولكن اللجاج حملهم على ذلك، واتهامهم لموسى عليه السلام حدأهم عليه.

(قال): فضجوا إلى موسى عليه السلام وقالوا: فتقرت القبيلة ودفعت إلى التكفف وانسلخنا بلجاجنا عن قليلنا وكثيرنا فادع الله لنا بسعة الرزق.

فقال موسى عليه السلام: ويحكم ما أعمى قلوبكم ؟ أما سمعتم دعاء الفتى صاحب البقرة وما أورثه الله تعالى من الغنى ؟ أو ما سمعتم دعاء (الفتى) المقتول المنشور، وما أثمر له من العمر الطويل والسعادة والتنعم والتمتع بحواسه وسائر بدنه وعقله ؟ لم لا تدعون الله تعالى بمثل دعائهما، وتتوسلون إلى الله بمثل توسلهما ليسد فاقتكم، ويجبر كسركم، ويسد خلتكم ؟

فقالوا: اللهم إليك التجأنا، وعلى فضلك اعتمدنا، فأزل فقرنا وسد خلتنا بجاه محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهم.

فأوحى الله إليه: يا موسى قل لهم: ليذهب رؤساؤهم إلى خربة بني فلان، ويكشفوا في موضع كذا - لموضع عينه - وجه أرضها قليلا، ثم يستخرجوا ما هناك، فإنه عشرة آلاف ألف دينار، ليردوا على كل من دفع في ثمن هذه البقرة ما دفع، لتعود أحوالهم إلى ما كانت (عليه) ثم ليتقاسموا بعد ذلك ما يفضل وهو خمسة آلاف ألف دينار على قدر ما دفع كل واحد منهم في هذه المحنة لتتضاعف أموالهم جزاء على توسلهم بمحمد وآله الطيبين، واعتقادهم لتفضيلهم»(1).

ص: 76


1- تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام: ص 278-282.
ثالثا: فاطمة عليها السلام في قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة)

(وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجٰارَةِ لَمٰا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهٰارُ وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْمٰاءُ وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّٰهِ وَ مَا اَللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ ).

وهذه الآية المباركة جاءت بعد ذلك الوحي لمجريات معجزة موسى وإحياء قتيل بني إسرائيل حينما ضربوه بالبقرة التي أمروا بذبحها فكان حياً بإذن الله تعالى، إلا أن بني إسرائيل لم يتعظوا بما أنزل الله فيهم من آياته ولذلك وبخهم في قوله تعالى:

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجٰارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجٰارَةِ لَمٰا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهٰارُ وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْمٰاءُ وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّٰهِ وَ مَا اَللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ )(1).

وقد ورد عن الإمام العسكري عليه السلام في تأويل ذلك: (وقلوبهم لا تتفجر منها الخيرات ولا تشقق فيخرج منها قليل من الخيرات، وإن لم يكن كثيرا.

ثم قال عزّ وجل:

(وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّٰهِ ).

إذا أقسم عليها باسم الله وبأسماء أوليائه محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهم صلوات الله عليهم أجمعين وليس في قلوبكم شيء من هذه الخيرات)(2).

ص: 77


1- سورة البقرة، الآية: 74
2- تفسير الإمام الحسن العسكري عليه السلام: ص 284؛ البحار للمجلسي: ج 13، ص 270.

أي: إنّ من الحجارة إذا أقسم عليها باسم الله وبأسماء محمد وعترته ليهبط من خشية الله ويخرج منه الخير في حين أن القلوب القاسية لا تلين لذكر الله وذكر أوليائه محمد وعترته فهي أشد قسوة من الحجارة.

رابعا: فاطمة عليها السلام في قوله تعالى: (قولوا آمنا بالله و ما أنزل إلينا و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط)

(قُولُوا آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْنٰا وَ مٰا أُنْزِلَ إِلىٰ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْمٰاعِيلَ وَ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْبٰاطِ وَ مٰا أُوتِيَ مُوسىٰ وَ عِيسىٰ وَ مٰا أُوتِيَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاٰ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ )(1).

وجاء في تأويلها ما روي عن سلام عن أبي جعفر عليه السلام في قوله:

(آمَنّٰا بِاللّٰهِ وَ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْنٰا).

قال:

«إنما عنى بذلك عليا والحسن والحسين وفاطمة، وجرت بعدهم في الأئمة».

قال:

«ثم رجع القول من الله في الناس فقال:

(فَإِنْ آمَنُوا).

يعني الناس.

(بِمِثْلِ مٰا آمَنْتُمْ بِهِ ).

يعني علياً وفاطمة والحسن والحسين والأئمة.

ص: 78


1- سورة البقرة، الآية: 136.

(فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمٰا هُمْ فِي شِقٰاقٍ ).

يعني الناس ومعناه أن الله سبحانه أمر الأئمة عليهم السلام أن يقولوا آمنا بالله وما بعدها لأنهم المؤمنون بما أمروا به حقا وصدقا ثم قال مخاطبا لهم يعني الناس:

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مٰا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمٰا هُمْ فِي شِقٰاقٍ )(1).

ومنازعة ومحاربة لك يا محمد.

(فَسَيَكْفِيكَهُمُ اَللّٰهُ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ )(2).

خامساً: فاطمة عليها السلام في قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و قوموا لله قانتين)

خامساً: فاطمة عليها السلام في قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى و قوموا لله قانتين)(3).

روى العياشي في تفسيره:

(عن زرارة عن عبد الرحمن بن كثير عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله:

(حٰافِظُوا عَلَى اَلصَّلَوٰاتِ وَ اَلصَّلاٰةِ اَلْوُسْطىٰ وَ قُومُوا لِلّٰهِ قٰانِتِينَ ).

قال:

«الصلاة رسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين والوسطى أمير المؤمنين.

(وَ قُومُوا لِلّٰهِ قٰانِتِينَ ).

طائعين للأئمة»(4).

ص: 79


1- سورة البقرة، الآية: 137.
2- تفسر العياشي: ج 1، ص 62؛ تأويل الآيات الظاهرة: ص 84-85.
3- سورة البقرة الآية: 238
4- تفسير العياشي: ج 1، ص 128.

المسألة الثانية: الآيات الخاصة لبيان منزلة فاطمة عليها السلام في سورة البقرة

بعد أن تناولنا في المحور الأول بيان الآيات العامة لمنزلة أهل البيت عليهم السلام في سورة البقرة وبما فيهم فاطمة عليها السلام ننتقل في هذا المحور إلى بيان الآيات الخاصة لبيان منزلة فاطمة عليها السلام - وكما أسلفنا - سنتبع هذا النهج في بيان منزلة فاطمة في القرآن الكريم حسبما جاء في ترتيب السور القرآنية.

ومن هنا:

فقد روى الشيخ الصدوق رحمه الله في المعاني، والعياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عن الإمام أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السلام قال:

«تسبيح فاطمة من ذكر الله الكثير، الذي قال:

(فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لاٰ تَكْفُرُونِ )(1) (2).

وسنتوقف - إن شاء الله - مع تسبيح فاطمة عليها السلام وما ورد فيه من أحاديث وخصائص.

ص: 80


1- سورة البقرة، الآية: 152.
2- معاني الأخبار للصدوق: ص 194؛ وسائل الشيعة: ج 6، ص 443؛ مستدرك الوسائل: ج 5، ص 36؛ البحار: ج 90، ص 155؛ تفسير العياشي: ج 1، ص 68.

المبحث الثاني: منزلة فاطمة عليها السلام في بعض آيات سورة آل عمران

اشارة

أشارت الأحاديث الشريفة إلى منزلة فاطمة عليها السلام في سورة آل عمران في أربعة مواضع، إثنان منها كانت في المحور العام، أي اشتراك الزهراء عليها السلام مع عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المنزلة؛ واثنان منها في المحور الخاص وهو تفرد الزهراء في هذه المنزلة التي اكتنزتها الآية الشريفة.

المسألة الأولى: الآيات العامة لبيان منزلة فاطمة عليها السلام في سورة آل عمران

أولاً: فاطمة في قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين)
اشارة

(إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهٰا مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(1).

هذه الآية المباركة تتحدث عن مسألتين وهما (الاصطفاء الرباني) و (آل الأنبياء عليهم السلام).

ص: 81


1- سورة آل عمران، الآيتان: 33 و 34.
ألف: الاصطفاء الذي نصت عليه الآية

فأما الاصطفاء فقد اتفق أئمة المسلمين على أنه من السنن الإلهية التي نص عليها القرآن في آيات عديدة، فمن الاصطفاء ما كان في الأنبياء كالآية التي نحن بصدد الحديث عنها، ومنه ما كان في الأديان كقوله تعالى:

1 - عن يعقوب عليه السلام، قال تعالى:

(وَ وَصّٰى بِهٰا إِبْرٰاهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يٰا بَنِيَّ إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ لَكُمُ اَلدِّينَ فَلاٰ تَمُوتُنَّ إِلاّٰ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )(1).

2 - وعن عباده الذين لم يحدد أسمائهم فقد يكونوا الأنبياء والمرسلين وقد يكنوا أوليائه وحججه على خلقه، وهم عترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال تعالى:

(قُلِ اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ وَ سَلاٰمٌ عَلىٰ عِبٰادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفىٰ آللّٰهُ خَيْرٌ أَمّٰا يُشْرِكُونَ )(2).

فيكون داخلاً في السلام كل من اصطفاه الله تعالى.

3 - وفي اصطفائه سبحانه لبعض الملائكة رسلا ومن الناس، قال تعالى:

(اَللّٰهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلاٰئِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ اَلنّٰاسِ إِنَّ اَللّٰهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)(3).

فأخبر سبحانه عن جملتهم، أي: الأنبياء عليهم السلام فمنهم من ذكره

ص: 82


1- سورة البقرة، الآية: 132.
2- سورة النمل، الآية: 59.
3- سورة الحج، الآية: 75.

باسمه وعرف بحاله للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، ومنهم من لم يذكر، قال تعالى:

(وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْنٰاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اَللّٰهُ مُوسىٰ تَكْلِيماً)(1).

وعليه:

فقد كان سيد الأصفياء الذين اصطفاهم الله تعالى واجتباهم هو خاتمهم وسيدهم وأفضلهم عند الله تعالى؛ ولذا انفرد من بينهم بهذه الخصوصية الخاصة فكان من صفاته وأسمائه المباركة (المصطفى).

وفي هذه الميزة التي امتاز بها سيد الخلق تكشف لنا البضعة النبوية الحكمة والعلة في هذا الاصطفاء والاستحقاق النبوي والتفضيل المولوي جل شأنه وذلك في بيانها عليها الصلاة والسلام لتحديد حركة تاريخ النبوة ونقطة ابتدائها الملكوتي فتقول:

(وأشهد أن أبي محمد عبده ورسوله، اختاره قبل أن أرسله، وسماه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه؛ إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة، وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله بمآيل الأمور، وإحاطة بحوادث الدهور، ومعرفة بمواقع المقدور، ابتعثه الله إتماماً لأمره، وعزيمة على إمضاء حكمه، وإنقاذا لمقادير حتمه)(2).

ص: 83


1- سورة النساء، الآية: 164.
2- الاحتجاج للطبرسي: خطبة الزهراء عليها السلام: ج 1، ص 133؛ وللمزيد من دلالات الحركة التاريخية ينظر: كتاب حركة التاريخ وسننه عند علي وفاطمة عليهما السلام للمؤلف.
باء: من هم آل الأنبياء الذين خصهم الله بالاصطفاء؟
اشارة

أما المسألة الثانية في الآية المباركة، وهي (آل الأنبياء) فقد اختلف فيها أئمة المسلمين ومفسريهم إلى ثلاثة أقوال:

فمنهم من قال: إن الآل هم قوم النبي(1)، ومنهم من قال: هم ذرية النبي صلى الله عليه وآله وسلم خاصة وهم أولاد فاطمة عليها السلام(2)، ومنهم من قال: آل النبي أتباعه على دينه(3).

القول الأول: إنّ الآل هم قوم الرجل

فأما أصحاب القول الأول كالقرطبي فقد استدل بقوله تعالى:

(مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ).

فقال:

(قومه وأتباعه وأهل دينه كذلك آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من هو على دينه وملته في آلاف، وسائر الأعصار، سواء كان نسبياً له، أو لم يكن، ومن لم يكن على دينه وملته فليس من آله ولا أهله وإن كان نسيبه وقريبه، خلافاً للرافضة حيث قالت: إن آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة والحسن والحسين فقط، ودليلنا قوله تعالى:

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيٰاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنٰاهُمْ

ص: 84


1- تفسير القرطبي: ج 1، ص 381.
2- المجموع للنووي: ج 3، ص 466.
3- المغني لابن قدامة: ج 1، ص 582؛ كشف القناع للبهوتي: ج 1، ص 432.

بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنٰا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كٰانُوا ظٰالِمِينَ )(1).

وقوله تعالى:

(اَلنّٰارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهٰا غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ اَلسّٰاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذٰابِ )(2).

أي آل دينه إذ لم يكن له ابن ولا ابنة ولا أب ولا عم ولا أخ ولا عصبة، ولأنه لا خلاف من أن ليس بمؤمن ولا موحد فإنه ليس من آل محمد وإن كان قريباً له، ولأجل هذا يقال إن أبا لهب وأبا جهل ليسا من آله ولا من أهله وإن كان بينهما وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم قرابة، ولأجل هذا قال الله تعالى في ابن نوح:

(قٰالَ يٰا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صٰالِحٍ فَلاٰ تَسْئَلْنِ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ )(3).

أقول:

عجيب هذا القول من القرطبي، وأعجب ما فيه استدلاله بقوله تعالى:

(أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذٰابِ )!!

فجعلهم أهل دينه لينطلق منه في الاستدلال على هذه الأمة فجعل آل الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من هو على دينه وملته!!!

ص: 85


1- سورة الأنفال، الآية: 54.
2- سورة غافر، الآية: 46.
3- سورة هود، الآية: 46.

وكأنه لم يقرأ في القرآن سورة المنافقين ولم يمر على مسامعه آية الذكر الحكيم في كونهم على ملة الإسلام، وأنهم يصلون ويحجون ويزكون؛ فقال فيهم عزّ وجل:

(إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ يُخٰادِعُونَ اَللّٰهَ وَ هُوَ خٰادِعُهُمْ وَ إِذٰا قٰامُوا إِلَى اَلصَّلاٰةِ قٰامُوا كُسٰالىٰ يُرٰاؤُنَ اَلنّٰاسَ وَ لاٰ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ إِلاّٰ قَلِيلاً)(1).

لكن هؤلاء الكسالى في الآخرة مصيرهم في قعر جهنم فقال سبحانه:

(إِنَّ اَلْمُنٰافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّٰارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً)(2).

فلم تغنهم صلاتهم ولا حجهم ولا زكاتهم من الدخول إلى النار ليكونوا في الدرك الأسفل وما ذاك إلا لنكران قلوبهم للإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وعليه:

أيكون هؤلاء من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟ ثم كيف بالقرطبي أن يغض الطرف عن إدخال فرعون في أشد العذاب ثم ليقارن به سيد الأنبياء والمرسلين أفيدخل الله تعالى آل فرعون دون فرعون في أشد العذاب ويفصله عن آله ؟! أي سخافة هذه، وأي ظلالة ما بعدها ظلالة.

ثم كيف به في قول الله تعالى الذي جعل فيه آل فرعون هم أهل بيته فقال عزّ وجل:

ص: 86


1- سورة النساء، الآية: 142.
2- سورة النساء، الآية: 145.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هٰامٰانَ وَ جُنُودَهُمٰا كٰانُوا خٰاطِئِينَ )(1).

وما يقول في قوله تعالى:

(وَ قٰالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّٰهُ وَ قَدْ جٰاءَكُمْ بِالْبَيِّنٰاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كٰاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صٰادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ اَلَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اَللّٰهَ لاٰ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذّٰابٌ )(2).

فها هو القرآن يصرح بأن هذا الرجل المؤمن ليس على دين فرعون ولا من ملته لكن القرآن يصرّح بأنه من آل فرعون أفيدخله الله تعالى أشد العذاب وهو مؤمن بالله لا ذنب له إلا لكونه من آل فرعون.

(سُبْحٰانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ عَمّٰا يَصِفُونَ )(3).

القول الثاني: إن الآل هم أتباعه الذين على دينه

أما أصحاب القول الثاني: فهو لا يصح أيضاً إذ يكون المنافقون والأعراب هم من آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفي هذا مخالفة صريحة للقرآن الذي نص على أن الآل هم الذرية حصراً كما في الآيات الآتية:

1 - قوله تعالى:

ص: 87


1- سورة القصص، الآية: 8.
2- سورة غافر، الآية: 28.
3- سورة الصافات، الآية: 180.

(إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهٰا مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(1).

فقد ختمت الآية بالذرية وحصرت الآل فيهم.

2 - وقوله تعالى:

(وَ قٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّٰابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّٰا تَرَكَ آلُ مُوسىٰ وَ آلُ هٰارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلاٰئِكَةُ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )(2).

أفلم يكن موسى وهارون على دين واحد وملة واحدة فلماذا يفصل الله بين آل موسى وآل هارون إن لم يكن ذرية كل منهما هو المقصود في الآية.

3 - ثم أنى لهؤلاء القائلون في متشابه (آل فرعون) بأنهم أهل ملته عن تخصيص الوحي سورة كاملة أسماها ب - (آل عمران) فهل كان عمران له دين خاص وملة خاصة ؟ وهل إن امرأته التي تحدث عنها القرآن والتي حملت بمريم عليها السلام فكانت ووليدها المسيح لم يكونا من آل عمران ؟ أم أن آل عمران هم بني إسرائيل كافة.

4 - وأنى لهؤلاء بصريح قوله تعالى:

(فَلَمّٰا وَضَعَتْهٰا قٰالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهٰا أُنْثىٰ وَ اَللّٰهُ أَعْلَمُ بِمٰا وَضَعَتْ وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثىٰ وَ إِنِّي سَمَّيْتُهٰا مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُهٰا بِكَ وَ ذُرِّيَّتَهٰا مِنَ اَلشَّيْطٰانِ اَلرَّجِيمِ )(3).

ص: 88


1- سورة آل عمران، الآيتان: 33 و 34.
2- سورة البقرة، الآية: 248.
3- سورة آل عمران، الآية: 36.

فلماذا لم تعيذها امرأة عمران بالله وملتها ومن كان على دينها من الشيطان ؟!!

أليس (الآل) عند هؤلاء هم أهل ملة الرجل وأتباع دينه كما هو حال نبي هذه الأمة، أم أن نبي هذه الأمة لا ينطبق عليه نصوص الذكر الحكيم - والعياذ بالله -.

كما يعتقد هؤلاء، فتكون مريم وذريتها من آل عمران خاصة دون بني إسرائيل المؤمنين ولا تكون فاطمة وذريتها من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ؟!

ما لكم كيف تحكمون!!

5 - وما يقول النووي والمقدسي وغيرهما ممن قال بأن (الآل) هم أتباع محمد وأهل ملته عن قول الله تعالى في يعقوب وولده يوسف عليهم السلام فقال تعالى عن لسان نبيه يعقوب عليه السلام:

(وَ كَذٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحٰادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمٰا أَتَمَّهٰا عَلىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرٰاهِيمَ وَ إِسْحٰاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ )(1).

أليس يوسف من آل يعقوب وإنهما من آل إبراهيم وإسحاق ؟ كم تصرخ الآية بهذا، أم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يرى فيه النووي والمقدسي والقرطبي مما جعله الله في الأنبياء عليهم السلام، من أن آلهم هم ذريتهم ؟!!

ص: 89


1- سورة يوسف، الآية: 6.

6 - ولم يقرأ هؤلاء دخول الملائكة على نبي الله لوط عليه السلام وتصريح القرآن بأن آل لوط هم بناته عليه السلام، أي ذريته حصراً فقال سبحانه وتعالى:

(فَلَمّٰا جٰاءَ آلَ لُوطٍ اَلْمُرْسَلُونَ (61) قٰالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قٰالُوا بَلْ جِئْنٰاكَ بِمٰا كٰانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَ أَتَيْنٰاكَ بِالْحَقِّ وَ إِنّٰا لَصٰادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اَللَّيْلِ وَ اِتَّبِعْ أَدْبٰارَهُمْ وَ لاٰ يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ اُمْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ )(1).

7 - وفي زكريا عليه السلام وصريح القرآن بأن الآل هم الذرية وليسوا الأمة والأتباع جاء قوله تعالى جلياً بينا فقال عزّ وجل:

(قٰالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعٰائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوٰالِيَ مِنْ وَرٰائِي وَ كٰانَتِ اِمْرَأَتِي عٰاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اِجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يٰا زَكَرِيّٰا إِنّٰا نُبَشِّرُكَ بِغُلاٰمٍ اِسْمُهُ يَحْيىٰ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا)(2).

فلماذا لم يبشره الله تعالى بالأمة والأتباع ومن كان على دينه ليرثه ويرث آل يعقوب ؟! كما يعتقد النووي وأسلافه وأتباعه ؟!

8 - وفي نبي الله داوود قال سبحانه في محكم التنزيل:

(يَعْمَلُونَ لَهُ مٰا يَشٰاءُ مِنْ مَحٰارِيبَ وَ تَمٰاثِيلَ وَ جِفٰانٍ كَالْجَوٰابِ وَ قُدُورٍ رٰاسِيٰاتٍ اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ)(3).

ص: 90


1- سورة الحجر، الآيات: 61-65.
2- سورة مريم، الآيات: 4-7.
3- سورة سبأ، الآية: 13.

وصريح القرآن بأن سليمان المخصوص بآل داوود عليه السلام.

9 - وفضلاً عما سلف فأين هؤلاء عن قوله تعالى:

(سَلاٰمٌ عَلىٰ إِلْيٰاسِينَ )(1).

أفيسلم الله على المنافقين! فلماذا يعذبهم إذن والعياذ بالله.

فكيف لهذه الآيات القرآنية وغيرها التي تنص على أن (الآل) هم ذرية الأنبياء عليهم السلام فيتجاهلها النووي والمقدسي والقرطبي غيرهم ليستدلوا على أن الآل هم قوم فرعون وأتباعه ليكون دليلاً على أن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم هم أتباعه وأهل ملته!!

(فَسُبْحٰانَ اَللّٰهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّٰا يَصِفُونَ )(2).

جيم: ما روي عن أهل البيت عليهم السلام في بيان أن الأمة غير الآل

ونحن وإن كنا نستلهم هذه المعاني والدلالات من أحاديث عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإننا نجد أن المعنى بدون الرجوع إلى أصل الأحاديث الشريفة لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم ونقلها إلى القارئ الكريم يكون - بدونها - المعنى ناقصاً.

ولذا:

نضع بين يدي القارئ الكريم ما أخرجه القاضي النعمان المغربي عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام حينما سأله أحد المسلمين عن معنى الآل وما

ص: 91


1- سورة الصافات، الآية: 130.
2- سورة الأنبياء، الآية: 22.

الفرق بين الآل والأمة ليتضح بذلك أن المسألة ليست بالمستحدثة عند القرطبي أو النووي أو غيرهما وإنما هي قديمة بقدم الحملة المسعورة على تغيير معالم الإسلام منذ أن توفي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يومنا هذا ولن تنتهي حتى يحق الله الحق بكلماته.

أما الرواية فهي: (عن أبي عبد الله جعفر بن محمد صلوات الله عليه أن سائلاً سأله فقال:

يا بن رسول الله، أخبرني عن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم من هم ؟ قال عليه السلام:

«هم أهل بيته خاصة».

قال: فإن العامة يزعمون أن المسلمين كلهم آل محمد.

فتبسم أبو عبد الله، ثم قال:

«كذبوا وصدقوا».

قال السائل: يا بن رسول الله ما معنى قولك كذبوا وصدقوا؟

قال عليه السلام:

«كذبوا بمعنى وصدقوا بمعنى، كذبوا في قولهم المسلمون هم آل محمد الذين يوحدون الله ويقرون بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما هم فيه من النقص في دينهم والتفريط فيه، وصدقوا في أن المؤمنين منهم من آل محمد، وإن لم يناسبوه، وذلك لقيامهم بشرائط القرآن، لا على أنهم آل محمد الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

ص: 92

فمن قام بشرائط القرآن وكان متبعا لآل محمد عليهم السلام فهو من آل محمد على التولي لهم وإن بعدت نسبته من نسبة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

قال السائل: أخبرني ما تلك الشرائط، جعلني الله فداك، التي من حفظها وقام بها كان بذلك المعنى من آل محمد، فقال عليه السلام:

«القيام بشرائط القرآن، والإتباع لآل محمد صلوات الله عليهم، فمن تولاهم، وقدمهم على جميع الخلق كما قدمهم الله من قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهو من آل محمد على هذا المعنى، وكذلك حكم الله في كتابه فقال جل ثناؤه:

(وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ )(1).

وقال عليه السلام:

يحكى قول إبراهيم:

(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصٰانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(2).

وقال في اليهود:

يحكى قول:

(اَلَّذِينَ قٰالُوا إِنَّ اَللّٰهَ عَهِدَ إِلَيْنٰا أَلاّٰ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّٰى يَأْتِيَنٰا بِقُرْبٰانٍ تَأْكُلُهُ اَلنّٰارُ)(3).

ص: 93


1- سورة المائدة، الآية: 51.
2- سورة إبراهيم، الآية: 36.
3- سورة آل عمران، الآية: 183.

قال الله عز وجل لنبيه:

(قُلْ قَدْ جٰاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنٰاتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ ).

وقال في موضع آخر:

(قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيٰاءَ اَللّٰهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ )(1).

وإنما نزل هذا في قوم من اليهود كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلم يقتلوهم الأنبياء بأيديهم ولا كانوا في زمانهم ولكن قتلهم أسلافهم ورضوا هم بفعلهم، وتولوهم على ذلك فأضاف الله عز وجل إليهم فعلهم وجعلهم منهم لاتباعهم إياهم».

قال السائل: أعطني جعلني الله فداك، حجة من كتاب الله أستدل بها على أن آل محمد هم أهل بيته خاصة دون غيرهم، قال عليه السلام:

«نعم، قال الله عز وجل، وهو أصدق القائلين:

(إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفىٰ آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْرٰاهِيمَ وَ آلَ عِمْرٰانَ عَلَى اَلْعٰالَمِينَ )(2).

ثم بين من أولئك الذين اصطفاهم فقال:

(ذُرِّيَّةً بَعْضُهٰا مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )(3).

ولا تكون ذرية القوم إلا نسلهم.

ص: 94


1- سورة البقرة، الآية: 91.
2- سورة آل عمران، الآية: 33.
3- سورة آل عمران، الآية: 34.

وقال عز وجل:

(اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً)(1).

وقال:

(وَ قٰالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمٰانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اَللّٰهُ )(2).

وإنما كان ابن عم فرعون، وقد نسب الله هذا المؤمن إلى فرعون لقرابته في النسب، وهو مخالف لفرعون في الإتباع والدين، ولو كان كل من آمن بمحمد عليه السلام من آل محمد الذين عناهم الله في القرآن لما نسب مؤمن آل فرعون إلى فرعون وهو مخالف لفرعون في دينه، ففي هذا دليل على أن آل الرجل هم أهل بيته، ومن اتبع آل محمد فهو منهم بذلك المعنى لقول إبراهيم:

(فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصٰانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(3).

وقال عز وجل:

(أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذٰابِ )(4).

يعنى أهل بيته خاصة وأتباعهم عامة، ومن دخل النار من غير أهل بيت فرعون فإنما يدخلها بتوليه أهل بيت فرعون وهو منهم بإتباعه لهم، وآل فرعون أئمة عليهم فمن تولاهم فهو لهم تبع.

ص: 95


1- سورة سبأ، الآية: 13.
2- سورة غافر، الآية: 28.
3- سورة إبراهيم، الآية: 36.
4- سورة غافر، الآية: 46.

وقال:

(سَلاٰمٌ عَلىٰ إِلْيٰاسِينَ )(1).

وياسين محمد، وآل ياسين أهل بيته، كما قال:

(اِعْمَلُوا آلَ دٰاوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبٰادِيَ اَلشَّكُورُ)(2).

وقال عز وجل:

(وَ بَقِيَّةٌ مِمّٰا تَرَكَ آلُ مُوسىٰ وَ آلُ هٰارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلاٰئِكَةُ )(3).

وذلك أنه قد يكون من آل موسى وآل هارون وآل داود وآل ياسين من لا نسب بينه وبينه إلا بالإتباع، فأهل بيوتات الأنبياء الأئمة عليهم السلام، فمن تولاهم واتبعهم فهو منهم على ذلك المعنى وعلى نحو ما وصف الله سبحانه».

ثم قال جعفر بن محمد للسائل:

«اعلم أنه لم يكن من الأمم السالفة والقرون الخالية والأسلاف الماضية ولا سمع به أحد أشد ظلما من هذه الأمة، فإنهم يزعمون أنه لا فرق بينهم وبين أهل بيت نبيهم ولا فضل لهم عليهم، فمن زعم ذلك من الناس فقد أعظم على الله الفرية وارتكب بهتانا عظيما وإثما مبينا، وهو بذلك القول برئ من محمد وآل محمد حتى يتوب ويرجع إلى الحق بالإقرار بالفضل لمن فضله الله عز وجل عليه من أهل بيت النبوة وموضع الرحمة ومعدن العلم وأهل الذكر ومختلف الملائكة، فمن زعم أنه لا فضل لمن كانت هذه صفته عليه فهو منهم برئ في

ص: 96


1- سورة الصافات، الآية: 130.
2- سورة سبأ، الآية: 13.
3- سورة البقرة، الآية: 248.

الدنيا والآخرة».

ثم قال:

«وههنا قول آخر من قبل الإجماع».

قال السائل: وما هو؟ قال عليه السلام:

«أليس ما اجتمع عليه المسلمون كان أولى بالحق وأحرى أن يؤخذ به مما اختلفوا فيه ؟».

قال: نعم، قال عليه السلام:

«أخبرني عن المدعين من المسلمين أنهم آل محمد، أليس هم مقرون أن أهل بيت محمد شركاؤهم فيما ادعوا من أنهم آل محمد؟».

قال: بلى، قال عليه السلام:

«أفلا ترى أن المدعين أنهم آل محمد مقرون لأهل بيت محمد الذين هم أهل بيته وأن آل محمد منكرون لما ادعاه المدعون من ذلك، وأنه باطل مدفوع حتى يثبتوه لأنفسهم بأحد أمرين، إما بإجماع من أهل بيت محمد وإقرار لهم بما ادعوه وأن يصدقوهم فيما ادعوه المدعون لآل محمد وشهدوا لهم، أو ببينة من غيرهم تشهد لهم ممن ليس لهم في الدعوى شيء ولا يجدون لذلك سبيلا، أفلا ترى أن حق أهل بيت محمد قد ثبت، وأن ما ادعاه المدعون باطل لما فيه من الاختلاف بين الناس وحق آل محمد المجتمع عليه من الوجهين، وبطلت دعوى المدعين بالوجه الذي ذكرنا فيه أولا بالحجة وبوجه الإجماع الذي بينا ذكره».

ص: 97

قال السائل: أخبرني، جعلني الله فداك، عن أمة محمد، أهم أهل بيت محمد؟ قال عليه السلام:

«نعم».

قال: أو ليس المسلمون جميعا وكل من آمن به وصدقه أمته ؟ قال جعفر بن محمد صلوات الله عليه:

«هذه المسألة مثل المسألة الأولى في آل محمد، وليس كل المسلمين ممن لم يكن من أهل بيت محمد من بني هاشم أمة محمد، والناس كافة أهل مشارق الأرض ومغاربها من عربها وعجمها وإنسها وجنها من آمن منهم بالله ورسوله وصدقه واتبعه بالتولي للأمة التي بعث فيها، فهو من أمة محمد بالتولي لتلك الأمة، ومن كان هكذا من المسلمين الذين يوحدون الله ويقرون بالنبي، فهو من الأمة التي بعث إليها محمد، ومن أنكر فضل هذه الأمة فهو من الذين قالوا:

(نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً)(1).

وهم الذين إذا قيل لهم: أتؤمنون بالله وبرسوله ؟ قالوا: نعم، وإذا قيل لهم: أفتقرون بفضل آل محمد الذي أنتم به مؤمنون وله مصدقون، قالوا: لا، لأنهم لا فضل لهم علينا».

قال السائل: وما الحجة في أن أمة محمد هم أهل بيت محمد الذين ذكرت دون غيرهم ؟ قال عليه السلام:

«قول الله، تبارك وتعالى، وهو أصدق القائلين:

ص: 98


1- سورة النساء، الآية: 150.

(وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْرٰاهِيمُ اَلْقَوٰاعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْمٰاعِيلُ رَبَّنٰا تَقَبَّلْ مِنّٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (127) رَبَّنٰا وَ اِجْعَلْنٰا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنٰا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنٰا مَنٰاسِكَنٰا وَ تُبْ عَلَيْنٰا إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوّٰابُ اَلرَّحِيمُ )(1).

فلما أجاب الله دعوة إبراهيم وإسماعيل، عليهما السلام، أن يجعل من ذريتهما أمة مسلمة، وأن يبعث فيها رسولا منها، يعنى من تلك الأمة، يتلو عليها آياته، ويزكيها ويعلمها الكتاب والحكمة، أردف إبراهيم دعوته الأولى لتلك الأمة التي سأل لها من ذريته بدعوة أخرى يسأل لهم التطهير من الشرك بالله ومن عبادة الأصنام، ليصح أمرهم فيها، ولئلا يتبعوا غيرها، فقال:

(وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنٰامَ )(2).

الذين دعوتك لهم، ووعدتني أن تجعلهم أئمة وأمة مسلمة، وأن تبعث فيها رسولا منها، وأن تجنبهم عبادة الأصنام.

(رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنّٰاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصٰانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )(3).

فذلك دلالة على أنه لا تكون الأئمة والأمة المسلمة التي بعث فيها محمد إلا من ذرية إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام من سكان الحرم ممن لم يعبد غير الله قط لقوله:

(وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنٰامَ ).

ص: 99


1- سورة البقرة، الآيتان: 127 و 128.
2- سورة إبراهيم، الآية: 35.
3- سورة إبراهيم، الآية: 35.

والحجة في المسكن والديار قول إبراهيم:

(رَبَّنٰا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوٰادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ رَبَّنٰا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّٰاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَرٰاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ )(1).

ولم يقل ليعبدوا الأصنام.

فهذه الآية تدل على أن الأئمة والأمة المسلمة التي دعا لها إبراهيم صلوات الله عليه من ذريته ممن لم يعبد غير الله قط، ثم قال:

(فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّٰاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ).

فخص دعاء إبراهيم عليه السلام الأئمة والأمة التي من ذريته، ثم دعا لشيعتهم كما دعا لهم، فأصحاب دعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام رسول الله وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة صلوات الله عليهم، ومن كان متوليا لهؤلاء من ولد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام فهو من أهل دعوتهما لان جميع ولد إسماعيل قد عبدوا الأصنام، غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلى وفاطمة والحسن والحسين وكانت دعوة إبراهيم وإسماعيل لهم.

والحديث المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: أنا دعوة أبي إبراهيم ومن كان متبعا لهذه الأمة التي وصفها الله عز وجل في كتابه بالتولي لها كان منها، ومن خالفها بأن لم يرها عليه فضلا فهو من الأمة التي بعث إليها محمد عليه السلام فلم تقبل.

ص: 100


1- سورة إبراهيم، الآية: 37.

قال الله تبارك وتعالى في هذه الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم وإسماعيل في غير موضع من الكتاب:

(وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ أُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ )(1).

وفي هذه الآية تكفير أهل القبلة بالمعاصي، لأنه من لم يدع إلى الخير ويأمر بالمعروف وينه عن المنكر فليس من الأمة التي وصفها الله عز وجل، لأنهم يزعمون أن جميع المسلمين هم أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وقد ترى هذه الآية وصفت أمة محمد بالدعاء إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فمن لم توجد فيه صفة الله عز وجل التي وصف بها الأمة فكيف يكون منها وهو على خلاف ما شرط الله عز وجل على الأمة ووصفها به.

وقال في موضع آخر، يعنى تلك الأمة:

(وَ كَذٰلِكَ جَعَلْنٰاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدٰاءَ عَلَى اَلنّٰاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(2).

فإن ظننت أن الله جل ثناؤه عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى أن من لم تكن شهادته تجوز في الدنيا على صاع من تمر أن الله طالب شهادته على الخلق يوم القيامة، وقابلها على الأمم السالفة، كلا لن يعنى الله مثل هذا من خلقه.

ص: 101


1- سورة آل عمران، الآية: 104.
2- سورة البقرة، الآية: 143.

وقال في موضع آخر يعنى تلك الأمة التي عنتها دعوة إبراهيم:

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ )(1).

فلو كان الله عز وجل عنى جميع المسلمين أنهم خير أمة أخرجت للناس لم يعرف الناس الذين أخرج إليهم جميع المسلمين من هم ؟ كلا لن يعنى الله الذين تظنون من همج هذا الخلق، ولكن عنى الله الأمة التي بعث فيها محمد صلى الله عليه وآله وسلم».

قال السائل: فإنه لم يكن معه إلا على وحده، فقال أبو عبد الله عليه السلام:

«إن مع علي فاطمة والحسن والحسين، وهم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأصحاب الكساء هم الذين شهد لهم الكتاب بالتطهير، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده أمة لان الله سبحانه يقول:

(إِنَّ إِبْرٰاهِيمَ كٰانَ أُمَّةً قٰانِتاً لِلّٰهِ حَنِيفاً)(2).

فكان إبراهيم وحده أمة ثم رفده بعد كبره بإسماعيل وإسحق، وجعل في ذريتهما النبوة والكتاب، وكذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان وحده أمة ثم رفده بعلي وفاطمة، وكثره بالحسن والحسين كما كثر إبراهيم بإسماعيل وإسحاق، وجعل الإمامة التي هي خلف النبوة في ذريته من ولد الحسين بن علي كما جعل النبوة في ذرية إسحاق، ثم ختمها بذرية إسماعيل، وكذلك كانت الإمامة في الحسن بن علي لسبقه، قال الله عز وجل في ذلك:

ص: 102


1- سورة آل عمران، الآية: 110.
2- سورة النحل، الآية: 120.

(وَ اَلسّٰابِقُونَ اَلسّٰابِقُونَ (10) أُولٰئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ )(1).

فكان الحسن أسبق من الحسين، ثم نقل الله عز وجل الإمامة إلى ولد الحسين كما نقل النبوة من ولد إسحاق إلى ولد إسماعيل، وعليهم إجماع الأمة بالشهادة لهم، وأنها جارية فيهم، ولم يجمعوا بمثل هذه الشهادة لأحد سواهم.

فإن قال قائل: وما الدليل على أن الله عز وجل نقل الإمامة من ولد الحسن إلى ولد الحسين ؟ قلنا له: نقلها الكتاب، فإن قال: كيف ذلك ؟ إنما تكون بالسبق والطهارة من الذنوب الموبقة التي توجب النار، ثم العلم المبرز قيل له:

إن الإمامة بجميع ما تحتاج إليه الأمة من حلالها وحرامها، والعلم بكتاب الله خاصه وعامه، وظاهره وباطنه، ومحكمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، ودقائق علمه، وغرائب تأويله».

قال السائل: وما الحجة في أن الإمام لا يكون إلا عالما بهذه الأشياء التي ذكرت ؟ قال عليه السلام:

«قول الله عز وجل فيمن أذن لهم بالحكومة وجعلهم أهلها:

(إِنّٰا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْرٰاةَ فِيهٰا هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هٰادُوا وَ اَلرَّبّٰانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبٰارُ)(2).

فالربانيون هم الأئمة دون الأنبياء الذين يربون الناس بعلمهم، والأحبار دونهم وهم دعاتهم، ثم أخبر عز وجل فقال:

ص: 103


1- سورة الواقعة، الآيتان: 10 و 11.
2- سورة المائدة، الآية: 44.

(بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتٰابِ اَللّٰهِ وَ كٰانُوا عَلَيْهِ شُهَدٰاءَ ).

ولم يقل بما جهلوا، ثم قال:

(هَلْ يَسْتَوِي اَلَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ اَلَّذِينَ لاٰ يَعْلَمُونَ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبٰابِ )(1).

وقال:

(بَلْ هُوَ آيٰاتٌ بَيِّنٰاتٌ فِي صُدُورِ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ )(2).

وقال:

(وَ مٰا يَعْقِلُهٰا إِلاَّ اَلْعٰالِمُونَ )(3).

ثم قال:

(إِنَّمٰا يَخْشَى اَللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ اَلْعُلَمٰاءُ )(4).

وقال:

(أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لاٰ يَهِدِّي إِلاّٰ أَنْ يُهْدىٰ فَمٰا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ )(5).

فهذه الحجة بأن الأئمة لا يكونون إلا علماء، ليحتاج الناس إليهم ولا يحتاجون إلى أحد من الناس في شيء من الحلال والحرام».

ص: 104


1- سورة الزمر، الآية: 9.
2- سورة العنكبوت، الآية: 49.
3- سورة العنكبوت، الآية: 43.
4- سورة فاطر، الآية: 28.
5- سورة يونس، الآية: 35.

قال السائل: فأخبرني عن خروج الإمامة من ولد الحسن إلى ولد الحسين، كيف ذلك وما الحجة فيه ؟ قال عليه السلام:

«قول الله تبارك وتعالى:

(إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1).

أنزلت هذه الآية في خمسة نفر شهدت لهم بالتطهير من الشرك ومن عبادة الأصنام وعبادة كل شيء من دون الله، أصلها دعوة إبراهيم عليه السلام حيث يقول:

(وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنٰامَ ).

والخمسة الذين نزلت فيهم آية التطهير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم وهم الذين عنتهم دعوة إبراهيم عليه السلام، فكان سيدهم فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكانت فاطمة صلوات الله عليها امرأة شركتهم في التطهير، وليس لها في الإمامة شيء، وهي أم الأئمة صلوات الله عليهم، فلما قبض الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم كان علي بن أبي طالب صلوات الله عليه أولى الناس بالإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لقول الله عز وجل:

(وَ اَلسّٰابِقُونَ اَلسّٰابِقُونَ (10) أُولٰئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ )(2).

ولقول رسول الله صلى الله عليه وآله في الحسن والحسين هما سيدا شباب أهل الجنة وأبوهما خير منهما، ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم: الحسن والحسين إماما حق

ص: 105


1- سورة الأحزاب، الآية: 33.
2- سورة الواقعة، الآيتان: 10 و 11.

قاما أو قعدا وأبوهما خير منهما، فكان علي عليه السلام أولى بالإمامة من الحسن والحسين لأنه السابق، فلما قبض كان الحسن عليه السلام أولى بالإمامة من الحسين بحجة السبق، وذلك قوله:

(وَ اَلسّٰابِقُونَ اَلسّٰابِقُونَ ).

فكان الحسن أسبق من الحسين وأولى بالإمامة، فلما حضرت الحسن الوفاة لم يجز أن يجعلها في ولده، وأخوه نظيره في التطهير، وله بذلك وبالسبق فضيلة على ولد الحسن، فصارت إليه، فلما حضرت الحسين الوفاة لم يجز أن يردها إلى ولد أخيه دون ولده لقول الله عز وجل:

(أُولُوا اَلْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اَللّٰهِ )(1).

فكان ولده أقرب إليه رحما من ولد أخيه وكانوا أولى بها، فأخرجت هذه الآية ولد الحسن وحكمت لولد الحسين، فهي فيهم جارية إلى يوم القيامة، والحمد لله رب العالمين»)(2).

ثانيا: فاطمة في قوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم)
اشارة

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ )(3).

ص: 106


1- سورة الأنفال، الآية: 75.
2- دعائم الإسلام للمغربي: ج 1، ص 29-38.
3- سورة آل عمران، الآية: 61.
ألف: تفرد حادثة المباهلة في تاريخ الأنبياء عليهم السلام

تعد آية المباهلة من الآيات التي كشفت عن معجزة النبوة وتحديها لكل معترض وغير مصدق بنبوة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وذلك لنزول النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى مواجهة المنكرين لنبوته في ساحة الملاعنة وكشف أستار السماء ونزول العذاب على الكاذب؛ فكانت بحق حالة فريدة ليس في تاريخ الإسلام وحياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإنما في تاريخ الأنبياء عليهم السلام وحياتهم إذ لم يرد في كتاب الله تعالى والسنة والتاريخ أن نبياً من الأنبياء خرج إلى ساحة الملاعنة مع المكذبين فيتوجه الفريقان إلى الله بالدعاء والابتهال كي ينزل غضبه ونقمته على الفريق الكاذب.

بل إننا لنجد القرآن الكريم يقص على النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعض من سيرة الأنبياء عليهم السلام فيكشف عن ابتلاءاتهم ومعاناتهم وتبليغهم لأحكام الله تعالى والدعوة إلى التوحيد مع بيان نتائج هذه الدعوات وإظهار عواقب المكذبين والكافرين حينما ينتهي حال كثير من الأمم بالهلاك لتكذيبهم وقتلهم الأنبياء فيحل عليهم غضب الله ونقمته.

فمن الأمم ما انتهى أمرها بالصيحة، ومنهم ما كان بالغرق، ومنهم ما كان بالخسف، فضلاً عن ضروب المسخ والأمراض والقحط والخوف والقتل مع ملاحظة أن كثير من هذه الخواتم التي اختتمت بها هذه الأمم إنما كانت بدعوات الأنبياء عليهم السلام والمقام لا يسع لذكر هذه النصوص القرآنية.

ولذلك:

ص: 107

لم تشهد حركة النبوة منذ آدم عليه السلام وإلى خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم حالة مشابهة للمباهلة التي جرت بين النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم والنصارى فقد كانت حالة فريدة من نوعها.

ولعل فرادتها لم تكن محصورة بالحدث من حيث خروج الفريقين للملاعنة وإنما حتى في كيفية الخروج والأفراد الذين اختارهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

إذ تفردت المباهلة بإخراج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأهل بيته وأشراكهم في أمره وكشفت عن منزلتهم وشأنهم من الرسالة، وإن دوامها لا يكون إلا بأهل بيته، ليسير هذا الخروج لملاقاة الكاذبين وإظهار صدق دعوى النبي مع قوله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا من بعدي».

علماً منه صلى الله عليه وآله وسلم بما اختاره الله لرسالته واصطفاه لشرعه.

باء: لو خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه لهلكوا كما هلك أصحاب موسى في الملاقات

فهذا الخروج للعترة تفرد به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من بين جميع الأنبياء عليهم السلام وآلهم كحالة فاصلة ودامغة بين الحق والباطل وليكشف النبي صلى الله عليه وآله وسلم إن هذا الاختيار التفردي من حياة الأنبياء كان له حالة مقاربة لكنها انتهت بهلاك من انتخبهم موسى عليه السلام،

ص: 108

والفارق بسيط من حيث المقارنة وإن كان الخروجان هما من حيث الهدف واحد وهو صدق دعوى النبوة لكن الاختيار اختلف؛ ففي خروج موسى كان أصحابه ووجهاء قومه هم الذين أخرجهم موسى عليه السلام فكان مصيرهم الموت والهلاك حتى كاد موسى أن يذهب معهم فيهلك بسببهم؛ فقال عليه السلام والوحي ينطق عنه في محكم التنزيل:

(وَ اِخْتٰارَ مُوسىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقٰاتِنٰا فَلَمّٰا أَخَذَتْهُمُ اَلرَّجْفَةُ قٰالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيّٰايَ أَ تُهْلِكُنٰا بِمٰا فَعَلَ اَلسُّفَهٰاءُ مِنّٰا إِنْ هِيَ إِلاّٰ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهٰا مَنْ تَشٰاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشٰاءُ أَنْتَ وَلِيُّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا وَ اِرْحَمْنٰا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغٰافِرِينَ )(1).

فكان إخراجه عليه السلام لأصحابه أدى إلى وقوعهم في الابتلاء ولو كان موسى عليه السلام قد خرج بأخيه هارون لملاعنة المكذبين والناكرين والمعاندين بتصديقه والإيمان بدعوته لكان مصير موسى غير ما جاءت به الآية الكريمة ولكان الهلاك قد أخذ المكذبين والمعاندين ولسارت دعوته عليه السلام بما يختار الله لها من السير. لكن اختياره لأصحابه أدى إلى الابتلاء والافتتان والهلاك وكذلك حال هذه الأمة حينما أعزفت عن العترة والتحقت بغيرهم فكان مصيرها من الابتلاء ما كان مصير قوم موسى عليه السلام؛ لكنها فتنة افتتن الله بها هذه الأمة كما فتن الذين من قبلهم:

(إِنْ هِيَ إِلاّٰ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهٰا مَنْ تَشٰاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشٰاءُ أَنْتَ وَلِيُّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا

ص: 109


1- سورة الأعراف، الآية: 155.

وَ اِرْحَمْنٰا وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْغٰافِرِينَ ).

وقال سبحانه وتعالى:

(الم (1) أَ حَسِبَ اَلنّٰاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّٰا وَ هُمْ لاٰ يُفْتَنُونَ )(1).

إذن:

خصوصية المباهلة تكمن فيما يلي:

1 - تفردها من حيث الوقوع في حياة الأنبياء عليهم السلام فلم يباهل نبي من الأنبياء من قبل.

2 - تفردها بكونها الحد الفاصل بين صدق دعوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم والناكرين عليه والمكذبين له.

3 - إشراك النبي لعترته في قيام الرسالة ودوامها وبدونهم يقع الناس في الضلال.

4 - تفردها في الدلالة على تحديد السبيل الموصل إلى رضا الله تعالى والفوز في يوم القيامة وذلك بإتباع عترة محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأن إتباع غيرهم من المسلمين واختيارهم يؤدي إلى الهلاك في الدنيا والآخرة كما هلك أصحاب موسى عليه السلام.

جيم: كيف وقعت المباهلة وما هي أسبابها؟

إن التاريخ والسيرة ليحدثنا عن المباهلة وأسبابها فيقول: (في اليوم الرابع

ص: 110


1- سورة العنكبوت، الآيتان: 1 و 2.

والعشرين من ذي الحجة سنة تسع من الهجرة)(1)، قدم وفد من نصارى نجران وقت العصر وفي لباسهم الديباج وثياب الحبرة على هيئة لم يقدم بها أحد من العرب فأتوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فسلموا عليه فلم يرد عليهم السلام ولم يكلمهم.

فانطلقوا إلى عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف وكانا معرفة لهم فوجدوهما في مجلس من المهاجرين فقالوا: إن نبيكم كتب إلينا فأقبلنا مجيبين له فأتيناه وسلمنا عليه فلم يرد سلامنا ولم يكلمنا، فما الرأي ؟

فقالا لعلي بن أبي طالب - عليه السلام -: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم ؟ قال:

«أرى أن يضعوا حللهم هذه وخواتيمهم ثم يعودون إليه».

ففعلوا ذلك فسلموا فرد عليهم سلامهم ثم قال:

«والذين بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى وإن إبليس لمعهم».

ثم سألوه ودارسوه يومهم)(2).

(فقالوا: يا أبا القاسم حاجنا في عيسى ؟ فقال - صلى الله عليه وآله وسلم -:

«هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه».

فقال أحدهما: بل هو ولده وثاني اثنين، وقال آخر: بل هو ثالث ثلاثة أب وابن وروح القدس، وقد سمعناه في قرآن نزل عليك يقول فعلنا وجعلنا وخلقنا

ص: 111


1- العدد القوية: ص 307.
2- إعلام الورى للطبرسي: ص 129-130.

ولو كان واحدا لقال خلقت وجعلت وفعلت فتغشى النبي صلى الله عليه وآله وسلم الوحي فنزل عليه صدر سورة آل عمران إلى قوله رأس الآية الستين منها:

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ )(1).

فقص عليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم القصة وتلا عليهم القرآن، فقال بعضهم لبعض قد والله أتاكم بالفصل من خبر صاحبكم؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إن الله عزّ وجل قد أمرني بمباهلتكم».

فقالوا: إذا كان غدا باهلناك، فقال القوم: بعضهم لبعض حتى ننظر بما يباهلنا غدا بكثرة أتباعه من أوباش الناس، أم بأهله من أهل الصفوة والطهارة، فإنهم وشيج الأنبياء وموضع نهلهم.

فلما كان من غد، غدا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيمنه علي، وبيساره الحسن والحسين عليهم السلام، ومن ورائهم فاطمة عليها السلام، عليهم النمار النجرانية، وعلى كتف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كساء قطواني رقيق خشن ليس بكثيف ولا لين، فأمر بشجرتين فكسح ما بينهما، ونشر الكساء عليهما وأدخلهما تحت الكساء، وأدخل منكبه الأيسر معهم تحت الكساء معتمداً على قوسه النبع ورفع يده اليمنى إلى السماء للمباهلة، واشرأب الناس ينظرون، واصفر لون

ص: 112


1- سورة آل عمران، الآية: 61.

السيد والعاقب وكرا حتى كاد أن يطيش عقولهما، فقال أحدهما لصاحبه:

أنباهله، قال: أو ما علمت أنه ما باهل قوم قط نبيا فنشأ صغيرهم وبقي كبيرهم ولكن أرى أنك غير مكترث وأعطه من المال والسلاح ما أراد فإن الرجل محارب وقل له أبهؤلاء تباهلنا لئلا يرى أنه قد تقدمت معرفتنا بفضله وفضل أهل بيته.

فلما رفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يده إلى السماء للمباهلة قال أحدهما لصاحبه: وأي رهبانية دارك الرجل فإنه إن فاه ببهلة لم نرجع إلى أهل ولا مال، فقالا: يا أبا القاسم أبهؤلاء تباهلنا؟ قال:

«نعم هؤلاء أوجه من على وجه الأرض بعدي إلى الله عزّ وجل وجهه وأقربهم إليه وسيلة».

قال: فبصبصا يعني ارتعدا وكرا وقالا: له يا أبا القاسم نعطيك ألف سيف، وألف درع، وألف جحفة وألف دينار، كل عام على أن الدرع والسيف والجحفة عندك إعارة حتى يأتي من وراءنا من قومنا فنعلمهم بالذي رأينا وشاهدنا فيكون الأمر على ملأ منهم، فأما الإسلام وأما الجزية وأما المقاطعة في كل عام، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«قد قبلت ذلك منكما أما والذي بعثني بالكرامة لو باهلتموني بمن تحت الكساء لأضرم الله عزّ وجل عليكم الوادي ناراً تأجج حتى يساقها إلى من وراءكم في أسرع من طرفة العين فأحرقتهم تأججا».

فهبط عليه جبرئيل الروح الأمين عليه السلام فقال:

«يا محمد الله يقرئك السلام ويقول لك وعزّتي وجلالي وارتفاع مكاني لو بالهت

ص: 113

بمن تحت الكساء أهل السماوات وأهل الأرض لساقطت السماء كسفا متهافتة ولتقطعت الأرضون زبرا سائحة فلم تستقر عليها بعد ذلك».

فرفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم يديه حتى رئي بياض إبطيه ثم قال:

«وعلى من ظلمكم حقكم وبخسني الأجر الذي افترضه الله فيكم عليهم بهلة الله تتابع إلى يوم القيامة»)(1).

وقد ذكر الزمخشري في كتاب الكشاف في تفسير سورة آل عمران عند تفسير آية المباهلة فقال:

ما هذا لفظه وروي أنه لما دعاهم إلى المباهلة قالوا: حتى نرجع وننظر فنأتيك غدا.

فلما تخالوا قالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح ما ترى ؟ فقال: والله لقد عرفتم يا معشر النصارى أن محمدا نبي مرسل ولقد جاءكم بالفضل من أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم ولا نبت صغيرهم، ولئن فعلتم لتهلكن فإن أبيتم إلا ألف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم.

فأتوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد غدا محتضنا الحسين آخذا بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول:

«إذا أنا دعوت فأمنوا».

فقال أسقف نجران: يا معشر النصارى أني لأرى وجوها لو شاء الله أن يزيل

ص: 114


1- الاختصاص: ص 114-116.

جبلاً من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا فلا يبق على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة. فقالوا: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك وأن نقرك على دينك ونثبت على ديننا، قال:

«فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم».

فأبوا، قال:

«فإني أناجزكم».

فقالوا: ما لنا بحرب العرب طاقة ولكن نصالحك على أن لا تغزونا ولا تخيفنا ولا تردنا عن ديننا على أن نؤدي إليك كل عام ألفي حلة، ألف في صفر، وألف في رجب، وثلاثين درعا عادية من حديد، فصالحهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ذلك وقال:

«والذي نفسي بيده إن الهلاك قد تدلى على أهل نجران ولو لاعنوا لمسخوا قردة وخنازير ولاضطرم عليهم الوادي نارا ولاستأصل الله نجران وأهله حتى الطير على رؤوس الشجر ولما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا».

وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود فجاء الحسن فأدخله ثم جاء الحسين فأدخله ثم جاءت فاطمة ثم علي ثم قال:

(إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1) (2).

ص: 115


1- سورة الأحزاب، الآية: 33.
2- الكشاف للزمخشري: ج 1، ص 434؛ الطرائف: ج 1، ص 42-43.
دال: التعريف بأشخاص المباهلة ودلالة النص القرآني

إن من المسائل التي أحيطت بحادثة المباهلة، نكران بعض المحدثين لدلالة الآية في النص على تخصيص (أبناءنا) هم الحسن والحسين عليهما السلام، و (أنفسنا) هو علي بن أبي طالب عليه السلام و (نساءنا)، هم فاطمة عليها السلام على الرغم من أن الحادثة كانت في أصل وقوعها وسبب قيامها هي الرد على المعاندين والمكذبين والناكرين لحق الله في بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس كافة بالتوحيد والإسلام فلم يتعرض هؤلاء المحدثون إلى ما جاءت به هذه الآية ببرهان قاطع أعجز النصارى عن الخوض في مباهلة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والتسليم إلى ما يدعو له ومصالحته على تركهم في التمتع بما ينعموا به من خيارات المدينة.

ولذلك: نجد أن هؤلاء المحدثون قد ران على قلوبهم فأعادوا تلك النبرة التي انطلقت بها نفوس النصارى في نكران دعوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ليأتي هؤلاء فينكروا أن تخصيص الأبناء والأنفس والنساء هم أهل بيته خاصة (فاطمة وبعلها وولديهما).

ناسبين هذا التخصيص القرآني إلى الشيعة(1).

على الرغم من أن الحديث زمانا ومكاناً ورواية ينص على هؤلاء الأربعة الذين أخرجهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان فيما رواه أهل الإنصاف من أبناء مدرسة أهل العامة والجماعة:

ص: 116


1- تفسير الرازي: ج 8، ص 86.

1 - ما رواه الترمذي عن عامر بن سعد عن أبيه قال: لما نزلت هذه الآية:

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ )(1).

دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسنا وحسينا، فقال:

«أللهم هؤلاء أهلي».

فيعقب عليه الترمذي بقوله: هذا حديث حسن غريب صحيح)(2).

وليته بيّن لنا وجه الغرابة في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أللهم هؤلاء أهلي) أو تكون الغرابة في إخراج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهم للمباهلة وإشراكهم في دعوى الانتصار للرسالة وتركه لصحابته؛ أم الغرابة في إقرار النصارى بكرامة العترة النبوية ومنزلتهم عند الله ونكران الترمذي ومشايخه لذلك ؟!

2 - أخرج الحاكم النيسابوري عن الكلبي، عن أبي صالح، عن بن عباس في قوله عزّ وجل:

(فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ )(3).

ص: 117


1- سورة آل عمران، الآية: 61.
2- سنن الترمذي: ج 4، ص 293؛ وأخرجه مسلم في الصحيح في باب مناقب علي عليه السلام: ج 7، ص 120.
3- سورة آل عمران، الآية: 61.

نزلت على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلي نفسه، ونساءنا ونساءكم في فاطمة، وأبناءنا وأبناءكم في حسن وحسين)(1).

3 - روى الواحدي عن الشعبي فقال: (أبناءنا) الحسن والحسين، و (نساءنا) فاطمة، و (أنفسنا) علي بن أبي طالب عليه السلام(2).

4 - قال السمعاني والبغوي، فقوله: (ندع أبناءنا) أراد به: الحسن والحسين، وقوله: (ونساءنا) يعني: فاطمة (وأنفسنا) يعني: نفسه وعلي؛ فإن قال قائل: كيف قال: (وأنفسنا) وعلي - عليه السلام - غيره ؟ قيل: العرب تسمي ابن عم الرجل نفسه، وعلي كان ابن عمه(3).

5 - قال ابو حيان الأندلسي: وفسر على هذا الوجه: الأبناء بالحسن والحسين، وبنسائه: فاطمة، والأنفس: بعلي(4).

أما ما روي عن أئمة أهل البيت عليهم السلام فكان منها ما يلي:

1 - روى الشيخ الصدوق رحمه الله (عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:

«فهل تدرون ما معنى قوله:

(وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ).»؟

قالت العلماء: عنى به نفسه، فقال أبو الحسن:

ص: 118


1- معرفة علوم الحديث للحاكم النيسابوري: ص 50.
2- أسباب نزول الآيات للواحدي النيسابوري: ص 68.
3- تفسير السمعاني: ج 1، ص 327؛ تفسير البغوي: ج 1، ص 310.
4- تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي: ج 2، ص 502.

«لقد غلطتم إنما عنى بها علي بن أبي طالب عليه السلام ومما يدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين قال:

(لينتهين بنو وليعة أو لأبعثن إليهم رجلاً كنفسي يعني علي بن أبي طالب عليه السلام، وعنى بالأبناء الحسن والحسين عليهما السلام، وعنى بالنساء فاطمة عليها السلام فهذه خصوصية لا يتقدمهم فيها أحد، وفضل لا يلحقهم فيه بشر، وشرف لا يسبقهم إليه خلق إذ جعل نفس علي كنفسه)(1).

2 - روى فرات الكوفي، عن سعيد بن الحسن بن مالك معنعنا (عن أبي جعفر عليه السلام في قوله تعالى:

(تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ ).

قال:

«الحسن والحسين».

(وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ ).

قال:

«فاطمة».

(وَ أَنْفُسَنٰا).

قال:

«علي عليه السلام»)(2).

ص: 119


1- عيون أخبار الرضا: ج 1، ص 231.
2- تفسير فرات الكوفي: ص 86.
هاء: آثار المباهلة في كاشفية صدق دعوى النبوة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
اشارة

لم تزل آثار آية المباهلة نافذة في المجتمع الإسلامي تدحض الباطل وتنشر صدق دعوى النبوة في وجه أولئك المنكرين والجاحدين والمنافقين والذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون بالبعض الآخر فيؤمنون في أصل وقوع الحادثة ولا يؤمنون بما تنص عليه الآية الكريمة في بيان شأنية أهل البيت عليهم السلام وأنهم أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونفسه وعرضه تبجحاً وتجرياً على الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ولقد ملئ التاريخ بشواهد كثيرة تكشف عن تلك النفوس الجاحدة للقرآن وما جاء به المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، ومنها:

أولاً: معاوية بن أبي سفيان يأمر الصحابة بسب علي بن أبي طالب عليه السلام فيحتج عليه بآية المباهلة
اشارة

ما رواه مسلم النيسابوري في الصحيح، والحاكم في المستدرك، والنسائي، وابن حجر، وابن كثير، وابن الأثير، وابن عساكر، وغيرهم بألفاظ متقاربة؛ واللفظ لمسلم عن عامر بن سعد بن أبي وقاص، عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً، فقال: ما منعك أن تسب أبا التراب ؟

فقال: أما ما ذكرت ثلاثاً قالهن له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلن أسبه لأن تكون لي واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم.

سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول له وقد خلفه في بعض مغازيه، فقال له علي:

«يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ؟».

ص: 120

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي».

وسمعته يقول يوم خبير:

«لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله».

قال: فتطاولنا لما فقال:

«أدعوا لي علياً».

فأتى به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه.

ولما نزلت هذه الآية:

(فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ )(1).

دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً فقال:

«أللهم هؤلاء أهلي»)(2).

وقد عقّب الحافظ النووي على هذا الحديث بقوله:

(قال العلماء: الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي يجب

ص: 121


1- سورة آل عمران، الآية: 61.
2- صحيح مسلم، كتاب الفضائل، باب فضائل علي عليه السلام: ج 7، ص 120؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 301؛ المستدرك للحاكم: ج 3، ص 108؛ تاريخ ابن عساكر: ج 42، ص 111؛ أسد الغابة لابن الأثير: ج 4، ص 26؛ الإصابة لابن حجر: ج 4، ص 468؛ الجوهرة للبري: ص 69؛ البداية والنهاية لابن كثير: ج 7، ص 376؛ المناقب للموفق الخوارزمي: ص 108؛ شواهد التنزيل للحاكم: ج 2، ص 35.

تأويلها؛ قالوا: ولا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله، فقول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعدا بسبه، وإنما سأله عن السبب المانع له من السب كأنه يقول له هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب فانت مصيب محسن وإن كان غير ذلك فله جواب آخر؛ ولعل سعداً قد كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم وعجز عن الإنكار وانكر عليهم فسأله هذا السؤال، قالوا: ويحتمل تأويلا آخر ان معناه ما منعك ان تخطئه في رأيه واجتهاده وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا، وانه أخطأ)(1).

وأقول: كأن النووي يعيش في كوكبه الخاص ويبرمج الروايات حسب فهمه، فيفصّلها على حسب مقاصاته ليرتديها وحده ثم ليقف طويلاً أمام المرأة وهو معجباً بهذا التأويل الذي أوقع جمعا من الصحابة في حرب ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مقابل أن ينجو معاوية وحده من حربه لله ورسوله وأهل بيته عليهم السلام التي عجت بها كتب المسلمين والعرب وغيرهم من أهل الديانات والأعراق، الذين كانوا يتابعون حركة المسلمين وقيام هذه المماليك والدول والحكومات منذ قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى يومنا هذا.

وعليه: فقد أوقع النووي بحسب عيشه في كوكبه الخارج عن المجموعات الشمسية إلى جملة من الانتهاكات التي أساءت إلى صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكان منها:

1 - قوله: قال العلماء الأحاديث الواردة التي في ظاهرها دخل على صحابي يجب تأويلها). وليت النووي عرّف القارئ بهؤلاء العلماء من هم فلعلهم من علماء

ص: 122


1- شرح صحيح مسلم للنووي: ج 15، ص 174.

بني إسرائيل والدليل أن هؤلاء العلماء لا يفرقون بين الحديث والآية القرآنية فكيف يجب تأويل صريح الآيات القرآنية التي تتحدث عن النفاق والمنافقين الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكيف يجب التأويل في هذه الأحاديث التي تتحدث عن رؤوساء النفاق والقرآن يأمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحربهم وبقتالهم.

ولذلك: يبدوا أنه هؤلاء الذين نقل عنهم النووي لم تمر عليهم آية من القرآن الكريم، وإلا لما أوجبوا على أنفسهم الدفاع عن المنافقين بعد صريح القرآن بالبراءة منهم وقتالهم.

2 - قوله: (قالوا: ولا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله) فهو هروب آخر من الروايات التي يرويها الثقات والتي لا يمكن للنووي أو غيره الطعن فيها على الرغم مما تحمله من مرارة في حلق النووي وأقرانه؛ إذ لو علم هؤلاء أن الرواية لغير ثقة لسرعان ما طعنوا في سندها وانتهى الأمر، لكن مشكلتهم مع الأحاديث الواردة عن الثقات فابتدعوا التأويل مع صريح التدليل.

وهم بهذا المنهج التأويلي يفصّلون أحاديث الثقات بحسب المقاصات التي يروج لها سماسرة سوق الرواية، فقد يحتاج هذا الحاكم إلى رواية لثقة بحسب مقام كرسية، وذاك بحسب وزارته، ولعل (بصل عكا الذي من أكله كمن زار مكة) متوفر لدى تجار البصل وبحسب مقاصات البصلة الواحدة، وذلك بحسب نهج النووي في التعامل مع الأحاديث الصحيحة والكاشفة عن حقائق بعض الصحابة كمعاوية بن أبي سفيان.

ولذلك: إذا جاءت رواية فيها منقبة لعترة محمد صلى الله عليه وآله وسلم يرويها الثقات وهي لا تستساغ في حلاقيم هؤلاء العلماء، وليس فيها ما تشتهيه

ص: 123

أنفسهم، وإذا كانت هذه الأحاديث فيها دخل على صحابي، أوليست بما يتناسب مع السوق وسلّعنة الرواية فإن هذه الرواية إما مصيرها للتأويل أو الغرابة أو النكران وهكذا هلم جراً.

3 - أما قول الحافظ النووي: (فقول معاوية هذا ليس فيه تصريح بأنه أمر سعداً بسبه، أي: بسب علي - عليه السلام -، وإنما سأله عن السبب المانع من السب).

وأقول: وهذا إقرار صريح نطق به النووي على الرغم من بذله الجهد الكبير في محاولة تأويل حديث مسلم في صحيحه، إلا أنه يقر بأن هناك حالة دأب عليها الصحابة ومن تتبعهم في حكومة معاوية بن أبي سفيان تقوم على سب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام؛ والسؤال البديهي هنا: ترى ما الذي دفع هؤلاء الصحابة والتابعيين إلى سب الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام، في زمن معاوية ليقوم بسؤال سعد بن أبي وقاص عن سبب امتناعه عن سب علي بن أبي طالب عليه السلام.

أكانت بدعة ابتدعها الصحابة وأبنائهم، ومحدثة من الأمور أحدثوها؟ فإن كان الجواب: بنعم، فتلك مصيبة فكل محدثة بدعة، وكل بدعة ظلالة، وكل ظلالة في النار.

وهذا يعني أن هناك مجموعة من الصحابة والتابعيين كانوا في ظلال وهم بسبب هذه الظلالة سيكونون في النار.

وإن كان الجواب: بالنفي، بمعنى أنها لم تكن بدعة ابتدعها الصحابة وإنما الدافع الذي جعلهم يفعلون ذلك بناء على أمر معاوية فتلك مصيبة أكبر؛ وذلك إن الصحابة اتبعوا الباطل، وذهبوا وراء الحاكم الجائر، وأعلنوا حربهم ضد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما حاربوا أهل بيته، وقد سمعوا بأجمعهم رسول الله يقول لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام:

ص: 124

«أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم»(1).

وقوله في علي عليه السلام خاصة:

«من سب علياً فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله، ومن سبّ الله فقد كفر»(2).

لمنع من سيقدم على سبه؛ فكان هذا الحديث من الأحاديث الواردة في الدلائل على النبوة، لكونه كاشف عن المغيبات وما تؤول إليه أمته من بعده من إصرارهم على حرب أهل بيته عليهم السلام؛ وكأن النووي وأقرانه وعلمائه الذين يأولون الأحاديث لاسيما حديث مسلم النيسابوري في أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً بأن يسب علي بن أبي طالب فامتنع لم يقرئوا هذه الأحاديث الصريحة التي تخالف قاعدتهم (لا يقع في روايات الثقات إلا ما يمكن تأويله).

فكيف بهم بما لا يمكن تأويله في حديث أم سلمة رضي الله عنها وهي تصرح وتنهي عن سب علي بن أبي طالب عليه السلام كما أخرج أحمد في المسند والحاكم في المستدرك على الصحيحين وغيرهما.

ص: 125


1- مسند أحمد، ومسند أبي هريرة: ج 2، ص 442؛ سنن الترمذي، باب ما جاء في فضائل فاطمة - عليها السلام -: ج 5، ص 360؛ وأخرجه الحاكم النيسابوري في المستدرك من طريق أبي هريرة وزيد بن أرقم: ج 3، ص 149؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 169؛ تحفة الأحوذي للمباركفوري: ج 10، ص 252؛ وأخرجه ابن أبي شيبة الكوفي عن زيد بن أرقم: ج 7، ص 512؛ أمالي المحالمي: ص 447؛ صحيح ابن حبان: ج 5، ص 434؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 3، ص 179، وج 5، ص 182، وج 7، ص 197؛ وأخرجه ابن شاهين عن أبي سعيد الخدري في فضائل سيدة النساء - عليها السلام -: ص 30؛ نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: ص 233.
2- الأمالي للصدوق: ص 157؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق: ج 2، ص 73؛ شرح الأخبار للقاضي المغربي: ج 1، ص 155؛ وأخرج احمد في المسند عن أم سلمة: ج 6: ص 323؛ المستدرك للحاكم: ج 3، ص 121.

أ/ فعن أبي عبد الله الجدلي قال: (دخلت على أم سلمة فقالت لي: أيسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكم ؟ قلت معاذ الله، أو سبحان الله، أو كلمة نحوها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

«من سب علياً فقد سبني»)(1).

ب/ وأخرجه الحاكم ببيان أدق وسعة في الشرح عن الجدلي فقال:

(حججت وأنا غلام فمررت بالمدينة وإذا الناس عنق واحد، فاتبعتهم فدخلوا على أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله فسمعتها تقول: يا شبيب بن ربعي، فأجابها رجل جلف حاف: لبيك يا أمتاه ؟

قالت: يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيكم ؟ قال: وإنى ذلك.

قالت: فعلي بن أبي طالب ؟ قال: إنا لنقول أشياء نريد عرض الدنيا.

قالت: فإني سمعت رسول الله صلى عليه وآله وسلم يقول:

«من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله تعالى»)(2).

فإذا كان هذا حال الصحابة والتابعيين في مدينة رسول الله صلى الله عليه وآله وهم قد ذهبوا للسلام على أم سلمة فكان أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر دليل صريح على تفشي هذا الظلم والمنكر والاجتراء على الله ورسوله صلى الله عليه وآله.

فكيف بأهل الشام وهم تحت إعلام معاوية بن أبي سفيان والمتلقي الأول

ص: 126


1- مسند أحمد: ج 6، ص 323؛ المستدرك للحاكم: ج 3، ص 121.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 121.

لأوامر الخليفة الأموي، فها هو حال أحدهم قد قدم إلى المدينة أيضاً قاصداً أهلها من الصحابة والتابعيين، فيقدم على عبد الله بن عباس لا لكي يستمع منه إلى أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله فينقلها إلى أهل الشام فيكون ممن يبلغ عن أحكام الله، ولكن يبدو أنه قصد ابن عباس لكونه ابن علي بن أبي طالب عليه السلام كما يروي أبو بكر بن عبيد الله بن أبي مليكة عن أبيه قال: (جاء رجل من أهل الشام فسب علياً عند ابن عباس، فحصبه ابن عباس، فقال:

يا عدو الله آذيت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً)(1).

لو كان رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم حيا لآذيته)(2).

وعليه:

لم يكن تأويل هؤلاء العلماء الذين نقل عنهم النووي ليصمد أمام تلك النصوص الصريحة في تفشي آفت النفاق في زمن معاوية بن أبي سفيان وغيره من الأزمنة في بغضهم لعلي بن أبي طالب عليه السلام.

4 - أما قوله: (هل امتنعت تورعاً أو خوفاً أو غير ذلك، فإن كان تورعاً وإجلالاً له عن السب كانت مصيبة؛ وإن كان غير ذلك فله جواب آخر).

وهنا انتكاسة أخرى يقع فيها النووي في تأويله العجيب لهذا الحديث وأي

ص: 127


1- سورة الأحزاب، الآية: 58.
2- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 121.

انتكاسة أعظم من حمله امتناع سعد بن أبي وقاص عن سب علي بن أبي طالب عليه السلام إلى سببين.

السبب الأول: هو الورع الذي يقود صاحبه إلى الإجلال لعلي بن أبي طالب عليه السلام فيمتنع من السب، وهذا ذم في مدح؛ ففي الوقت الذي يمدح فيه علي بن أبي طالب عليه السلام وإنه جدير بالإجلال - في نفس الوقت - يقوم بذم سعد بن أبي وقاص حينما يكون امتناعه عن سب علي بن أبي طالب الخوف، فيعد خوفه وتورعه عن سب علي بن أبي طالب مصيبة ؟!!!

السبب الثاني: الخوف المبهم.

ترى من أي شيء يخاف سعد بن أبي وقاص أتراه يخاف من الحاكم الأموي معاوية الذي جلس بين يديه يريد منه أن يسب فخاف منه فامتنع وهذا لا يحدث إلا عند البلهاء والحمقى إذ إن سيرة العقلاء تقتضي العكس: أي أن يكون الخوف من الظالم والطاغوت سبباً للنزول عند رغبة هذا الفرعون أو النمرود أو ذاك المتجبر لا أن يمتنع عن رغباته.

وعليه لا يكون الخوف الذي منع سعد بن أبي وقاص سوى الخوف من غضب الله تعالى وغضب رسوله صلى الله عليه وآله، وعندها يكون سعد بن أبي وقاص وبحسب فهم النووي وتأويلاته (غير مصيب) وذلك أنه صوّب امتناعه بسبب الورع والإجلال لعلي عليه السلام أما الامتناع بسبب الخوف من الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم فغير صائب، عند النووي وإلا لما عد الخوف من الله الذي منعه من سب علي مصيبة.

ص: 128

ونحن نعتقد: أن السبب الذي منع سعد بن أبي وقاص من سب الإمام علي عليه السلام وتمرده على معاوية هي تلك الثلاثة التي ذكرها سعد بن أبي وقاص في وجه معاوية؛ ومن ثم فلا يقدم على سب رجلاً له هذه الثلاثة التي لم تكن لأحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله.

5 - أما قول النووي (ولعل سعداً كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم وعجز عن الإنكار، وأنكر عليهم فسأله هذا السؤال).

وأقول:

وهذا إقرار آخر من النووي بأن هناك طائفة من الصحابة والتابعيين كانوا يسبون علي بن أبي طالب عليه السلام بدليل ما ذكرناه سابقاً من رد أم المؤمنين أم سلمة على هذه الطائفة.

وإذا لم تكن هذه الطائفة من الصحابة والتابعيين فلماذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، ولماذا سكتوا على سب الله ورسوله في أنديتهم كما هو حال سعد بن أبي وقاص وبحسب تأويل النووي حينما قال: (ولعل سعداً كان في طائفة يسبون فلم يسب معهم وعجز عن الإنكار).

وأي عجز هذا الذي يمنعه من الإنكار على من يسبون الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) وما هو حجم إيمانه آنذاك وبماذا سيجيب الله ورسوله (صلى الله عليه وآله وسلم).

6 - أما قول النووي: (ويحمل تأويلاً آخر: إن معناه ما منعك أن تخطئه في رأيه واجتهاده - أي علياً - وتظهر للناس حسن رأينا واجتهادنا وأنه أخطأ).

ص: 129

فهو أعجب ما في التأويل وأسخف ما قيل: وذلك إن يكون سب علي بن أبي طالب عليه السلام هو دليل على خطئه في اجتهاده، وأن يكون معاوية حسن الرأي صحيح الاجتهاد في سب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم حينما يسب علياً.

وكأن علي بن أبي طالب عليه السلام رجلاً مجهول الهوية، خفي على الناس حاله وأحواله، وسمته وصفاته حتى يحتاج الناس إلى سعد بن أبي وقاص كي يعرفهم بأنه كان غير صائب في رأيه واجتهاده، وأن معاوية كان حسن الرأي والاجتهاد.

فأين الناس عن عمار بن ياسر الذي لزم علي بن أبي طالب حتى استشهد بين يديه يقاتل معاوية صاحب الفئة الباغية بنص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟

وأين الناس عن أبي ذر الغفاري صاحب أصدق ذي لهجة الذي لزم علي بن أبي طالب عليه السلام، وأين سلمان الفارسي، وأبيُّ بن كعب، وحجر بن عدي، والبدريون الذين اصطفوا خلفه في الجمل، وصفين، أيكون هؤلاء على غير معرفة برأي علي فاتبعوه على عمى؛ أم أنهم تمسكوا به وقاتلوا بين يديه على عقدية ودراية وجهاد في سبيل الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

لكننا نود أن نقدم هنا للنووي ومشايخه الذين تعلم منهم هذا المنهج في التعامل مع الروايات الصحيحة، ونذكرهم بحكم من يسب علي بن أبي طالب عليه السلام، ونقدم لهم أيضاً حقيقة الحوار الذي دار بين معاوية بن أبي سفيان وسعد بن أبي وقاص الذي شاء مسلم بن الحجاج أن يخرجه مقرضاً بمقاريض علماء النووي.

ص: 130

ألف: ما عليه المذهب الشافعي

إن من المفارقات العجيبة أن يقوم النووي بتأويل حديث إمتناع سعد بن أبي وقاص لأمر معاوية بن أبي سفيان بسب علي بن أبي طالب عليه السلام ثم يقوم بإخراج حكماً فيمن يسب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول في مجموعه:

(ومن أصحابنا من قال: من سب رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وجب قتله)(1).

باء: ما عليه المذهب المالكي في حكم من سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

قال الآبي الأزهري:

(ومن سب رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم بان ذكر ما يدل على النقص (قتل حدا) أي إن تاب أو أنكر ما شهدت به عليه البينة ولا تفيد التوبة سقوط الحد، ولذا لا تقبل توبته)(2).

جيم: ما عليه المذهب الحنفي في حكم من سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

1 - (من سب رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم فإنه مرتد، وحكمه حكم المرتد، ويفعل به ما يفعل بالمرتد)(3).

2 - (أيما رجل مسلم سب رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم أو كذبه، أو عابه، أو تنقصه، فقد كفر بالله تعالى وبانت منه امرأته، فإن تاب وإلا قتل)(4).

ص: 131


1- المجموع لمحي الدين النووي: ج 19، ص 424.
2- الثمر الداني للآبي الأزهري: ص 589.
3- الدر المختار للحصكفي: ج 4، ص 420.
4- حاشية رد المختار لابن عابدين: ج 4، ص 419.
دال: ما ذهب إليه المذهب الحنبلي في حكم من سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

(ومن سب الله تعالى كفر سواء كان مازحاً أو جاداً وكذلك من استهزأ بالله تعالى أو بآياته أو برسله أو كتبه، قال الله تعالى:

(وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمٰا كُنّٰا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللّٰهِ وَ آيٰاتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ )(1) (2).

وعليه: فحكم من سب علي بن أبي طالب عليه السلام عند المذاهب الأربعة هو القتل لأنه كافر، مرتد، وذلك أن من سبه عليه السلام فقد سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن سب رسول الله فقد سب الله - نعوذ بالله -، فهؤلاء الذين كانوا يسبون علياً: هم بحسب المذاهب الإسلامية الأربعة (كفار، مرتدين، يجب قتلهم، لا تقبل لهم توبة).

أما حقيقة الحادثة التي جرت بين معاوية بن أبي سفيان وسعد بن أبي وقاص فقد أخرجها غير واحد من الحفاظ عن أبي زرعة الدمشقي قال: (حدثنا أحمد بن خالد الذهبي أبو سعيد، حدثنا محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي نجيح عن أبيه قال:

لما حج معاوية وأخذ بيد سعد بن أبي وقاص فقال يا أبا إسحاق إنا قوم قد أجفانا هذا الغزو حتى كدنا أن ننسى بعض سننه، فطف نطف بطوافك، قال: فلما فرغ أدخله دار الندوة فأجلسه معه على سريرة ثم ذكر علي بن أبي طالب فوقع فيه فقال:

ص: 132


1- سورة التوبة، الآية: 65.
2- المغني لعبد الله بن قدامة: ج 10، ص 113.

أدخلتني دارك وأجلستني على سريرك ثم وقعت في علي تشتمه ؟ والله لأن يكون فيّ إحدى خلاله الثلاث أحب إليّ من أين يكون لي ما طلعت عليه الشمس، ولأن يكون لي ما قال له حين غز تبوكاً:

«ألا ترضي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»؟

أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس.

ولأن يكون لي ما قال له يوم خيبر:

«لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه ليس بفرار».

أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس.

ولأن أكون صهره على ابنته ولي منها من الولد أحب إليّ من أن يكون لي ما طلعت عليه الشمس، لا أدخل عليك داراً بعد هذا اليوم، ثم نفض رداءه ثم خرج)(1).

وخير ما نختم به قولنا للنووي وتأويله لحديث مسلم بن الحجاج في أمر معاوية بن أبي سفيان لسعد بن أبي وقاص في سب علي بن أبي طالب عليه السلام ما روي عن علي عليه السلام حينما بلغه إن معاوية يسبه، وهو ما أخرجه الشيخ الصدوق رحمه الله تعالى عن أبي جعفر محمد بن علي عليهما السلام، قال:

(خطب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه بالكوفة بعد منصرفه من النهروان وبلغه أن معاوية يسبه ويلعنه، ويقتل أصحابه فقام خطيباً

ص: 133


1- البداية والنهاية لابن كثير: ج 7، ص 376؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 42، ص 119.

فحمد الله وأثنى عليه وصلى على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذكر ما أنعم الله على نبيه وعليه، ثم قال:

«لولا آية في كتاب الله ما ذكرت ما أنا ذاكره في مقامي هذا، يقول الله عز وجل:

(وَ أَمّٰا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )(1).

اللهم لك الحمد على نعمك التي لا تحصى، وفضلك الذي لا ينسى، يا أيها الناس إنه بلغني ما بلغني وإني أراني قد اقترب أجلي، وكأني بكم وقد جهلتم أمري، وإني تارك فيكم ما تركه رسول الله صلى الله عليه وآله كتاب الله وعترتي وهي عترة الهادي إلى النجاة خاتم الأنبياء، وسيد النجباء، والنبي المصطفى، يا أيها الناس لعلكم لا تسمعون قائلاً يقول مثل قولي بعدي إلا مفتر، أنا أخو رسول الله، وابن عمه، وسيف نقمته، وعماد نصرته وبأسه وشدته، أنا رحى جهنم الدائرة، وأضراسها الطاحنة، أنا موتم البنين والبنات، أنا قابض الأرواح، وبأس الله الذي لا يرده عن القوم المجرمين، أنا مجدل الأبطال، وقاتل الفرسان، ومبير من كفر بالرحمن، وصهر خير الأنام، أنا سيد الأوصياء ووصي خير الأنبياء، أنا باب مدينة العلم، وخازن علم رسول الله ووارثه، وأنا زوج البتول سيده نساء العالمين فاطمة التقية النقية الزكية المبرة المهدية، حبيبة حبيب الله وخير بناته وسلالته وريحانة رسول الله، سبطاه خير الأسباط، وولداي خير الأولاد.

هل أحد ينكر ما أقول ؟ أين مسلموا أهل الكتاب ؟

أنا اسمي في الإنجيل (اليا) وفي التوراة (برئ) وفي الزبور (أري) وعند الهند (كبكر)

ص: 134


1- سورة الضحى، الآية: 11.

وعند الروم (بطريسا) وعند الفرس (جبتر) وعند الترك (بثير) وعند الزنج (حيتر) وعند الكهنة (بويئ) وعند الحبشة (بثريك) وعند أمي (حيدرة) وعند ظئري (ميمون) وعند العرب (علي) وعند الأرمن (فري) وعن أبي (ظهير).

ألا وإني مخصوص في القرآن بأسماء، احذروا أن تغلبوا عليها فتضلوا في دينكم، يقول الله عز وجل:

(اِتَّقُوا اَللّٰهَ وَ كُونُوا مَعَ اَلصّٰادِقِينَ )(1).

أنا ذلك الصادق، وأنا المؤذن في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل:

(فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اَللّٰهِ عَلَى اَلظّٰالِمِينَ )(2).

أنا ذلك المؤذن، وقال - عزّ وجل -:

(وَ أَذٰانٌ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ )(3).

فأنا ذلك الأذان، وأنا المحسن، يقول الله عز وجل:

(وَ إِنَّ اَللّٰهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ )(4).

وأنا ذو القلب، فيقول الله:

(إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَذِكْرىٰ لِمَنْ كٰانَ لَهُ قَلْبٌ )(5).

ص: 135


1- سورة التوبة، الآية: 119.
2- سورة الأعراف، الآية: 44.
3- سورة التوبة، الآية: 3.
4- سورة العنكبوت، الآية: 69.
5- سورة ق، الآية: 37.

وأنا الذاكر، يقول الله عز وجل:

(اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَلىٰ جُنُوبِهِمْ )(1).

ونحن أصحاب الأعراف أنا وعمي وأخي وابن عمي.

والله فالق الحب والنوى لا يلج النار لنا محب، ولا يدخل الجنة لنا مبغض، يقول الله عز وجل:

(اَلْأَعْرٰافِ رِجٰالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمٰاهُمْ )(2).

وأنا الصهر، يقول الله عز وجل:

(وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمٰاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً)(3).

وأنا الاذن الواعية، يقول الله عز وجل:

(وَ تَعِيَهٰا أُذُنٌ وٰاعِيَةٌ )(4).

وأنا السلم لرسله يقول الله عز وجل:

(وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ )(5).

ومن ولدي مهدي هذه الأمة.

ألا وقد جعلت محنتكم ببغضي يعرف المنافقون، وبمحبتي امتحن الله المؤمنين،

ص: 136


1- سورة آل عمران، الآية: 191.
2- سورة الأعراف، الآية: 46.
3- سورة الفرقان، الآية: 54.
4- سورة الحاقة، الآية: 12.
5- سورة الزمر، الآية: 29.

هذا عهد النبي الأمي إلي أنه لا يحبك إلا مؤمن، ولا يبغضك إلا منافق، وأنا صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وآله في الدنيا والآخرة، ورسول الله فرطي، وأنا فرط شيعتي، والله لا عطش محبي، ولا خاف وليي، وأنا ولي المؤمنين، والله وليي حسب محبي أن يحبوا ما أحب الله، وحسب مبغضي أن يبغضوا ما أحب الله، ألا وإنه بلغني أن معاوية سبني ولعنني.

اللهم اشدد وطأتك عليه، وأنزل اللعنة على المستحق، آمين (يا) رب العالمين، رب إسماعيل وباعث إبراهيم إنك حميد مجيد».

ثم نزل عليه السلام عن أعواده فما عاد إليها حتى قتله ابن ملجم - لعنه الله -)(1).

ثانيا: تبجح الحجاج بن يوسف الثقفي في نكران إن (أبناءنا) هم الحسن والحسين وإنهما أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

قال الشعبي كنت بواسط وكان يوم أضحى فحضرت صلاة العيد، مع الحجاج فخطب خطبة بليغة فلما انصرف جاءني رسوله فأتيته فوجدته جالساً مستوفراً قال:

يا شعبي هذا يوم أضحى وقد أردت أن أضحى برجل من أهل العراق وأحببت أن تسمع قوله فتعلم أني قد أصبت الرأي فيما أفعل به.

فقلت: أيها الأمير لو ترى أن تستن بسنة رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وتضحي بما أمر أن يضحى به وتفعل مثل فعله وتدع ما أردت أن تفعله به في هذا اليوم العظيم إلى غيره.

ص: 137


1- معاني الأخبار للشيخ الصدوق: ص 60؛ البحار للمجلسي: ج 33، ص 285؛ الدر النظيم لابن حاتم العاملي: ص 240.

فقال: يا شعبي إنك إذا سمعت ما يقول صوبت رأيي فيه لكذبه على الله وعلى رسوله وإدخاله الشبهة في الإسلام قلت: أفيرى الأمير أن يعفني من ذلك ؟

قال: لابد منه.

ثم أمر بنطع فبسط وبالسياف فأحضر وقال: أحضروا الشيخ فأتوه به فإذا هو يحيى بن يعمر فأغممت غما شديداً فقلت: في نفسي وأي شيء يقوله يحيى مما يوجب قتله.

فقال له الحجاج: أنت تزعم أنك زعيم أهل العراق ؟ قال يحيى: أنا فقيه من فقهاء أهل العراق.

قال: فمن أي فقهك زعمت أن الحسن والحسين - عليهما السلام - من ذرية رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -؟

قال: ما أنا زاعم ذلك بل قائل بحق.

قال: وبأي حق قلت ؟

قال: بكتاب الله عزّ وجل.

فنظر إليّ الحجاج، وقال: اسمع ما يقول، فإن هذا مما لم أكن سمعته عنه أتعرف أنت في كتاب الله عزّ وجل أن الحسن والحسين من ذرية محمد رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - فجعلت أفكر في ذلك فلم أجد في القرآن شيئاً يدل على ذلك وفكر الحجاج ملياً ثم قال: ليحيى لعلك تريد قول الله عزّ وجل:

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مٰا جٰاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ

ص: 138

وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ )(1).

وأن رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - خرج للمباهلة ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين - عليهما السلام -.

قال الشعبي: فكأنما أهدى لقلبي سروراً وقلت في نفسي قد خلص يحيى، وكان الحجاج حافظاً للقرآن.

فقال: له يحيى والله إنها لحجة في ذلك بليغة ولكن ليس منها أحتج لما قلت فاصفر وجه الحجاج وأطرق ملياً ثم رفع رأسه إلى يحيى، وقال: إن جئت من كتاب الله بغيرها في ذلك فلك عشرة آلاف درهم وإن لم تأت بها فأنا في حل من دمك.

قال: نعم.

قال الشعبي: فغمني قوله فقلت أما كان في الذي نزع به الحجاج ما يحتج به يحيى ويرضيه بأنه قد عرفه وسبقه إليه ويتخلص منه حتى رد عليه وأفحمه فإن جاءه بعد هذا بشيء لم آمن أن يدخل عليه فيه من القول ما يبطل حجته لئلا يدعي أنه قد علم ما جهله هو.

فقال يحيى للحجاج قول الله عزّ وجل:

(وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ )(2).

ص: 139


1- سورة آل عمران، الآية: 61.
2- سورة الأنعام، الآية: 84.

من عني بذلك قال الحجاج: إبراهيم.

قال: فداود وسليمان من ذريته ؟

قال: نعم.

قال: يحيى ومن نص الله عليه بعد هذا أنه من ذريته ؟

فقرأ الحجاج:

(وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ ).

قال يحيى: ومن قال:

(وَ زَكَرِيّٰا وَ يَحْيىٰ وَ عِيسىٰ )(1).

قال يحيى: ومن أين كان عيسى من ذرية إبراهيم ولا أب له، قال: من قبل أمه مريم، قال يحيى: فمن أقرب مريم من إبراهيم أم فاطمة من محمد صلى الله عليه وآله وسلم وعيسى من إبراهيم عليه السلام أم الحسن والحسين عليهما السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

قال الشعبي: فكأنما ألقمه حجراً.

فقال - الحجاج -: أطلقوه قبحه الله وادفعوا إليه عشرة آلاف درهم لا بارك الله له فيها ثم أقبل عليّ ، فقال: قد كان رأيك صواباً ولكنا أبيناه ودعا بجزور فنحروه وقام فدعا بالطعام فأكل وأكلنا معه وما تكلم بكلمة حتى انصرفنا ولم يزل مما احتج به يحيى بن يعمر واجما)(2).

ص: 140


1- سورة الأنعام، الآية: 85.
2- كنز الفوائد للكراكي: ص 167؛ البحار للمجلسي: ج 10، ص 147.

المسألة الثانية: الآيات الخاصة لبيان منزلة فاطمة في سورة آل عمران

أولا: منزلة فاطمة عليها السلام في قوله تعالى: (فتقبلها ربها بقبول حسن و أنبتها نباتا حسنا و كفلها زكريا)

(فَتَقَبَّلَهٰا رَبُّهٰا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَهٰا نَبٰاتاً حَسَناً وَ كَفَّلَهٰا زَكَرِيّٰا كُلَّمٰا دَخَلَ عَلَيْهٰا زَكَرِيَّا اَلْمِحْرٰابَ وَجَدَ عِنْدَهٰا رِزْقاً قٰالَ يٰا مَرْيَمُ أَنّٰى لَكِ هٰذٰا قٰالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشٰاءُ بِغَيْرِ حِسٰابٍ )(1).

لقد ذكرنا في المبحث الأول: في منزلة فاطمة عليها السلام في نزول الطعام إليها من السماء ودخول زكريا عليها ليشاهد هذه الكرامة التي أكرمها الله تعالى بها، وتحقق هذه الكرامة في هذه الأمة لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فكانت وكما رواها العياشي في تفسيره:

(عن سيف عن نجم عن أبي جعفر عليه السلام قال:

«إن فاطمة عليها السلام ضمنت لعلي عليه السلام عمل البيت والعجين والخبز وقم البيت، وضمن لها علي عليه السلام ما كان خلف الباب من نقل الحطب وأن يجيء بالطعام.

فقال لها يوما: يا فاطمة هل عندك شيء؟ قالت: لا والذي عظم حقك، ما كان عندنا منذ ثلاثة أيام شيء نقريك به، قال: أفلا أخبرتني ؟ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نهاني أن أسألك شيئا، فقال: لا تسألي ابن عمك شيئاً إن جاءك بشيء عفو وإلا فلا تسأليه.

ص: 141


1- سورة آل عمران، الآية: 37.

قال - الإمام الصادق عليه السلام -: «فخرج الإمام علي عليه السلام فلقي رجلاً فاستقرض منه دينارا، ثم أقبل به وقد أمسى فلقي مقداد بن الأسود، فقال للمقداد: ما أخرجك في هذه الساعة ؟ قال: الجوع والذي عظم حقك يا أمير المؤمنين».

قال: قلت لأبي جعفر ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حي ؟

قال:

«ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حي».

قال: فهو أخرجني وقد استقرضت ديناراً وسأوثرك به، فدفعه إليه فأقبل فوجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالساً وفاطمة تصلي وبينهما شيء مغطى، فلما فرغت أحضرت ذلك الشيء فإذا جفنة من خبز ولحم.

قال: يا فاطمة أنى لك هذا، قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب.

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ألا أحدثك بمثلك ومثلها، قال: بلى، قال: مثل زكريا إذا دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقا، قال يا مريم أنى لك هذا قالت: هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب، فأكلوا منها شهراً وهي الجفنة التي يأكل منها القائم عليه السلام وهي عندنا»)(1).

ثانياً: فاطمة في قوله تعالى:

(فَاسْتَجٰابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاٰ أُضِيعُ عَمَلَ عٰامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ )(2).

1 - روى ابن شهر آشوب عن عمار بن ياسر قال:

ص: 142


1- تفسير العياشي: ج 1، ص 172؛ البحار للمجلسي: ج 43، ص 31.
2- سورة آل عمران، الآية: 195.

(فالذكر علي والأنثى فاطمة وقت الهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في الليلة)(1).

2 - وروى ابن شهر - كذلك - (عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله تعالى:

(وَ مٰا خَلَقَ اَلذَّكَرَ وَ اَلْأُنْثىٰ )(2)،

«فالذكر أمير المؤمنين والأنثى فاطمة»، (إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتّٰى)(3)،

«لمختلف»، (فَأَمّٰا مَنْ أَعْطىٰ وَ اِتَّقىٰ (4) وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ )(5)،

«بقوته وصام حتى وفى بنذره وتصدق بخاتمه وهو راكع وآثر المقداد بالدينار على نفسه».

قال:

(وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنىٰ )،

«وهي الجنة والثواب من الله»، (فَسَنُيَسِّرُهُ )،

«لذلك وجعله إماماً في الخير وقدوة وأبا للأئمة يسره الله»، (لِلْيُسْرىٰ )5 (6).

3 - وروى الشيخ الطوسي في حديث الهجرة وعند ذكره لخروج الإمام علي عليه السلام والفواطم معه من مكة إلى المدينة فقال:

(حتى نزل ظاهراً قاهراً ضجنان، فتلوم بها قدر يومه وليلته، ولحق به نفر من المستضعفين من المؤمنين وفيهم أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فظل ليلته تلك هو والفواطم - أمه فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة بنت الزبير - طررا يصلون وطورا يذكرون الله قياما

ص: 143


1- المناقب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 319.
2- سورة الليل، الآية: 3.
3- سورة الليل، الآية: 4.
4- سورة الليل، الآية: 7.
5- سورة الليل، الآيتان: 5 و 6.
6- المناقب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 319.

وقعودا وعلى جنوبهم فلم يزالوا كذلك حتى طلع الفجر فصلى عليه السلام بهم صلاة الفجر، ثم سار لوجهه يجوب منزلاً بعد منزل لا يفتر عن ذكر الله، والفواطم كذلك وغيرهم ممن صحبه حتى قدموا المدينة، وقد نزل الوحي بما كان من شأنهم قبل قدومهم بقوله تعالى:

(اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّٰهَ قِيٰاماً وَ قُعُوداً وَ عَلىٰ جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبَّنٰا مٰا خَلَقْتَ هٰذٰا بٰاطِلاً سُبْحٰانَكَ فَقِنٰا عَذٰابَ اَلنّٰارِ (191) رَبَّنٰا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّٰارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ (192) رَبَّنٰا إِنَّنٰا سَمِعْنٰا مُنٰادِياً يُنٰادِي لِلْإِيمٰانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّٰا رَبَّنٰا فَاغْفِرْ لَنٰا ذُنُوبَنٰا وَ كَفِّرْ عَنّٰا سَيِّئٰاتِنٰا وَ تَوَفَّنٰا مَعَ اَلْأَبْرٰارِ (193) رَبَّنٰا وَ آتِنٰا مٰا وَعَدْتَنٰا عَلىٰ رُسُلِكَ وَ لاٰ تُخْزِنٰا يَوْمَ اَلْقِيٰامَةِ إِنَّكَ لاٰ تُخْلِفُ اَلْمِيعٰادَ (194) فَاسْتَجٰابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاٰ أُضِيعُ عَمَلَ عٰامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثىٰ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ )(1).

الذكر علي، والأنثى الفواطم المتقدم ذكرهن، وهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بنت أسد، وفاطمة بنت الزبير بعضهم من بعض يقول: علي من فاطمة - أو قال: الفواطم - وهن من علي.

(فَالَّذِينَ هٰاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قٰاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئٰاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ ثَوٰاباً مِنْ عِنْدِ اَللّٰهِ وَ اَللّٰهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلثَّوٰابِ )(2).

ص: 144


1- سورة آل عمران، الآيات: 191-195.
2- الأمالي للطوسي: ص 471.

المبحث الثالث: منزلة فاطمة عليها السلام الخاصة والمشتركة مع أهل البيت عليهم السلام في بقية السور القرآنية

المسألة الأولى: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الأنعام

قال تعالى:

(وَ وَهَبْنٰا لَهُ إِسْحٰاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنٰا وَ نُوحاً هَدَيْنٰا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (84) وَ زَكَرِيّٰا وَ يَحْيىٰ وَ عِيسىٰ وَ إِلْيٰاسَ كُلٌّ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ )(1).

روى بن شعبة الحراني عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليهما السلام حينما دخل على هارون العباسي فسأله هارون قائلاً: (أريد أن أسألك عن العباس وعلي بم صار علي أولى بميراث رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم من العباس والعباس عم رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وصنو أبيه فقال له موسى عليه السلام:

«أعفني».

ص: 145


1- سورة الأنعام، الآيتان: 84 و 85.

قال: والله لا أعفيتك فأجبني، قال عليه السلام:

«فإن لم تعفني فآمني».

قال: آمنتك، قال موسى عليه السلام:

«إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يورث من قدر على الهجرة فلم يهاجر، إن أباك العباس آمن ولم يهاجر وإن عليا عليه السلام آمن وهاجر، وقال الله:

(وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهٰاجِرُوا مٰا لَكُمْ مِنْ وَلاٰيَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّٰى يُهٰاجِرُوا)(1)

فالتمع لون هارون وتغير، وقال: ما لكم لا تنسبون إلى علي هو أبوكم وتنسبون إلى رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وهو جدكم ؟ فقال موسى عليه السلام:

«إن الله نسب المسيح عيسى بن مريم عريه السلام إلى خليله إبراهيم عليه السلام بأمه مريم البكر البتول التي لم يمسها بشر في قوله:

(وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ دٰاوُدَ وَ سُلَيْمٰانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسىٰ وَ هٰارُونَ وَ كَذٰلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ (8(4) وَ زَكَرِيّٰا وَ يَحْيىٰ وَ عِيسىٰ وَ إِلْيٰاسَ كُلٌّ مِنَ اَلصّٰالِحِينَ ).

فنسب بأمه وحدها إلى خليله إبراهيم عليه السلام، كما نسب داود وسليمان وأيوب وموسى وهارون عليهم السلام بآبائهم وأمهاتهم فضيلة لعيسى عليه السلام ومنزلة رفيعة بأمه وحدها.

وذلك قوله في قصة مريم عليها السلام:

(إِنَّ اَللّٰهَ اِصْطَفٰاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفٰاكِ عَلىٰ نِسٰاءِ اَلْعٰالَمِينَ )(2).

ص: 146


1- سورة الأنفال، الآية: 72.
2- سورة آل عمران، الآية: 42.

بالمسيح من غير بشر، وكذلك اصطفى ربنا فاطمة عليها السلام وطهرها وفضلها على نساء العالمين بالحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة»)(1).

المسألة الثانية: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الأعراف

قال تعالى:

(وَ بَيْنَهُمٰا حِجٰابٌ وَ عَلَى اَلْأَعْرٰافِ رِجٰالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمٰاهُمْ وَ نٰادَوْا أَصْحٰابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهٰا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ )(2).

تناولت الأحاديث الشريفة الواردة عن أهل البيت عليهم السلام آية الأعراف في بيان واضح يشير إلى أن عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هم المخصوصين بالأعراف، وهم المعنيون بهذا المقام في يوم القيامة، وسنورد هنا بعض هذه الأحاديث كشواهد على بيان هذه المنزلة التي كان لفاطمة عليها السلام فيها نصيب ومنزلة.

1 - روى علي بن إبراهيم في تفسيره عن بريد عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:

«الأعراف كثبان بني الجنة والنار، والرجال الأئمة عليهم السلام يقفون على الأعراف مع شيعتهم قد سبق المؤمنون إلى الجنة بلا حساب، فيقول الأئمة لشيعتهم من أصحاب الذنوب: أنظروا إلى أخوانكم في الجنة قد سبقوا إليها بلا حساب، وهو قول الله تعالى:

ص: 147


1- تحف العقول للبحراني: ص 405.
2- سورة الأعراف، الآية: 46.

(سَلاٰمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهٰا وَ هُمْ يَطْمَعُونَ ).

ثم يقولون لهم: أنظروا إلى أعداءكم في النار وهو قوله:

(وَ إِذٰا صُرِفَتْ أَبْصٰارُهُمْ تِلْقٰاءَ أَصْحٰابِ اَلنّٰارِ قٰالُوا رَبَّنٰا لاٰ تَجْعَلْنٰا مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّٰالِمِينَ (47) وَ نٰادىٰ أَصْحٰابُ اَلْأَعْرٰافِ رِجٰالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمٰاهُمْ )(1)، في النار، ف - (قٰالُوا مٰا أَغْنىٰ عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ )، في الدنيا (وَ مٰا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ )، ثم يقولون لمن في النار من أعدائهم هؤلاء شيعتي وإخواني الذين كنتم أنتم تحلفون في الدنيا أن لا ينالهم الله برحمة، ثم يقول الأئمة لشيعتهم (اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لاٰ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ )(2).

2 - روى الشيخ الطبرسي عن الأصبغ بن نباتة قال:

(كنت عند أمير المؤمنين عليه السلام فقال: يا أمير المؤمنين قول الله عزّ وجل:

(وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهٰا وَ لٰكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقىٰ وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوٰابِهٰا)(3).

قال:

«نحن البيوت التي أمر الله أن تؤتي من أبوابها نحن باب الله وبيوته الذي يؤتي منه، فمن يأتينا وآمن بولايتنا فقد أتى البيوت من أبوابها، ومن خالفنا وفضل علينا

ص: 148


1- سورة الأعراف، الآيتان: 47 و 48.
2- تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 232؛ البحار للمجلسي: ج 24، ص 247.
3- سورة البقرة، الآية: 189.

غيرنا فقد أتى البيوت من ظهورها».

فقال: يا أمير المؤمنين:

(وَ عَلَى اَلْأَعْرٰافِ رِجٰالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمٰاهُمْ )؟

فقال عليه السلام:

«نحن الأعراف، نعرف أنصارنا بأسمائهم، ونحن الأعراف الذين لا يعرف الله إلا بسبيل معرفتنا، ونحن الأعراف نوقف يوم القيامة بين الجنة والنار فلا يدخل الجنة إلا من عرفنا وعرفناه، ولا يدخل النار إلا من أنكرنا وأنكرناه، رزق من الله، لو شاء عرف الناس نفسه حتى يعرفوا حده ويأتوه من بابه، ولكنا جعلنا أبوابه وصراطه وسبيله وبابه الذي يؤتى منه».

قال:

«فمن عدل عن ولايتنا وفضل علينا غيرنا فإنهم عن الصراط لناكبون»)(1).

3 - روى فرات الكوفي عن ابن عباس في قوله تعالى:

(وَ عَلَى اَلْأَعْرٰافِ رِجٰالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمٰاهُمْ ).

قال:

- هم - النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وعلي بن أبي طالب عليه السلام؛ وفاطمة، والحسن، والحسين عليهم السلام على سور بين الجنة والنار يعرفون المحبين لهم ببياض الوجوه، والمبغضين لهم بسواد الوجوه)(2).

ص: 149


1- تفسير علي بن إبراهيم: ج 1، ص 232؛ البحار للمجلسي: ج 24، ص 247.
2- تفسير فرات الكوفي: ص 144؛ البحار: ج 24، ص 255.

المسألة الثالثة: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة يونس

(قُلْ بِفَضْلِ اَللّٰهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ )(1).

هذه الآية وردت فيها اقوال عدة، منها ما جعلتها خاصة بأهل البيت جميعاً ومنها ما نصت على أنها من الآيات الخاصة ببعض رموز أهل البيت عليهم السلام؛ فمنها:

1 - روى الشيخ الكليني رحمه اله عن محمد بن الفضيل عن الإمام الرضا عليه السلام قال: (قلت:

(قُلْ بِفَضْلِ اَللّٰهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ ).

قال عليه السلام:

«بولاية محمد، وآل محمد عليهم السلام خير مما يجمعون هؤلاء من دنياهم»(2).

2 - وروى الشيخ الصدوق رحمه الله (عن الباقر، عن أبيه، عن جده عليهم السلام، قال:

«خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم وهو راكب، وخرج علي عليه السلام وهو يمشي فقال له: يا أبا الحسن، إما أن تركب، وإما أن تنصرف، فإنّ الله عزّ وجل أمرني أن تركب إذا ركبت، وتمشي إذا مشيت، وتجلس إلا جلست، إلا أني كون حد من حدود الله لابد لك من القيام والقعود فيه، وما أكرمني الله بكرامة إلا وقد أكرمك بمثلها، وخصني بالنبوة والرسالة،

ص: 150


1- سورة يونس، الآية: 58.
2- الكافي للكليني: ج 1، ص 423.

وجعلك وليي في ذلك، تقوم في حدوده وفي صعب أموره، والذي بعث محمداً بالحق نبيا ما آمن بي من أنكرك، ولا أقر بين من جحدك، ولا آمن بالله من كفر بك، وإن فضلك لمن فضلي، وإن فضلي لك لفضل الله، وهو قول ربي عزّ وجل:

(قُلْ بِفَضْلِ اَللّٰهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّٰا يَجْمَعُونَ ).

ففضل الله نبوة نبيكم، ورحمته ولاية علي بن أبي طالب، (فبذلك) قال: بالنبوة الولاية (فليفرحوا) يعني الشيعة (وهو خير مما يجمعون) يعني مخالفيهم نم الأهل والمال والولد في دار الدنيا»)(1).

3 - روى الشيخ ابن شهر (عن ابن عباس في بيان قوله تعالى:

(قُلْ بِفَضْلِ اَللّٰهِ ) ، علي - بن أبي طالب - و (وَ بِرَحْمَتِهِ ) : فاطمة)(2).

المسألة الرابعة: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة إبراهيم عليه السلام

قال تعالى:

(أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهٰا ثٰابِتٌ وَ فَرْعُهٰا فِي اَلسَّمٰاءِ )(3).

تشير الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام إلى أن هذه الآية هي من الآيات العامة والمخصوصة بخمسة أصحاب الكساء عليهم السلام، فكانت كالآتي:

ص: 151


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 583، برقم 16/803.
2- مناقب آل أبي طالب عليهم السلام لابن شهر آشوب: ج 2، ص 294.
3- سورة إبراهيم، الآية: 24.

1 - روى الصفار (المتوفى سنة 290 ه -) عن سلام بن المستنير، (قال: سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله تعالى:

(كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهٰا ثٰابِتٌ وَ فَرْعُهٰا فِي اَلسَّمٰاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهٰا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهٰا)(1).

فقال عليه السلام:

«الشجرة رسول الله نسبة ثابت في بني هاشم وفرع الشجرة علي وعنصر الشجرة فاطمة وأغصانها الأئمة وورقها الشيعة، وأن الرجل منهم ليموت فتسقط منها ورقة وإن منهم ليولد فتورق ورقة».

قال: قلت له:

جعلت فداك قوله تعالى:

(تُؤْتِي أُكُلَهٰا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهٰا).

قال عليه السلام:

«هو ما يخرج من الإمام من الحلال والحرام في كل سنة إلى شيعته»)(2).

2 - روى الشيخ الطبرسي رحمه الله عن ابن عباس قال: (قال جبرائيل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«أنت الشجرة، وعلي غصنها، وفاطمة ورقها، والحسن والحسين ثمارها»)(3).

ص: 152


1- سورة إبراهيم، الآيتان: 24 و 25.
2- بصائر الدرجات للصفار: ص 79.
3- تفسير مجمع البيان: ج 6، ص 74.

المسألة الخامسة: منزلة فاطمة في سورة الحجر

قال تعالى:

(رُبَمٰا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كٰانُوا مُسْلِمِينَ )(1).

هذه الآية من مختصات يوم القيامة وبعض أحداثه المهولة والشديدة التي أخبر عنها القرآن في مواضع كثيرة تكشف عن تلك الأحداث والمجريات، فكان من بينها جزاء من كان يعتقد بالولاية لأهل البيت عليهم السلام؛ وجزاء النواصب الذين نصبوا لهم العداء والحرب والمواكبة على هذا النهج على مرور الزمن.

ولذلك:

يتحدث القرآن وعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا الحدث في يوم القيامة، فيحدث الإمام الحسن العسكري عليه السلام عن جده الإمام الصادق عليه السلام فيقول:

«(وهذا اليوم يوم الموت) فإنه الشفاعة والفداء لا يغني عنه، فأما في القيامة فإنا وأهلنا نجزي عن شيعتنا كل جزاء، ليكونن على الأعراف بين الجنة والنار (محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام والطيبون من آلهم) فنرى بعض شيعتنا في تلك العرصات ممن كان منهم مقصراً في بعض شدائدها فنبعث عليهم خيار شيعتنا كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار ونظائرهم في العصر الذي يليهم، ثم في كل عصر إلى يوم القيامة، فينقضون عليهم كالبزاة والصقور ويتناولونهم كما تتناول البزاة والصقور صيدها، فيزفونهم إلى الجنة زفا.

ص: 153


1- سورة الحجر، الآية: 2.

وإنا لنبعث على آخرين من محبينا من خيار شيعتنا كالحمام فيلتقطونهما من العرصات كما يلتقط الطير الحب، وينقلونهم إلى الجنان بحضرتنا، وسيؤتى بالواحد من مقصري شيعتنا في أعماله، بعد أن قد حاز الولاية والتقية وحقوق إخوانه، ويوقف بإزائه ما بين مائة وأكثر من ذلك إلى مائة ألف من النصاب فيقال له هؤلاء فداؤك من النار.

فيدخل هؤلاء المؤمنون الجنة، وأولئك النصاب النار، وذلك ما قال الله عزّ وجل:

(رُبَمٰا يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا).

يعني بالولاية.

(لَوْ كٰانُوا مُسْلِمِينَ ).

في الدنيا منقادين للإمامة، ليجعل مخالفوهم فداءهم من النار»)(1).

والحديث له علاقة وثيقة - كما هو واضح - بمقام أهل البيت عليهم السلام في يوم القيامة فكان من شأنهم أن يكون لهم هذا الموقف على الأعراف وما يليه من شؤون الشفاعة.

المسألة السادسة: منزلة فاطمة في سورة النحل

قال تعالى:

(إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ وَ يَنْهىٰ عَنِ اَلْفَحْشٰاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ اَلْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ )(2).

ص: 154


1- تفسير الإمام العسكري: ص 241.
2- سورة النحل، الآية: 90.

هذه الآية الكريمة من الآيات العامة المشتركة بين أصحاب الكساء عليهم السلام، فقد روى فرات الكوفي في تفسيره عن الحسين بن سعيد عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

(كنت معه جالساً فقال لي:

«إنّ الله تعالى يقول:

(إِنَّ اَللّٰهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسٰانِ وَ إِيتٰاءِ ذِي اَلْقُرْبىٰ ).

قال: العدل (رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) والإحسان (أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه لسلام)، وإيتاء ذي القربى (فاطمة الزهراء عليها السلام)»(1).

المسألة السابعة: منزلة فاطمة في سورة الإسراء

قال تعالى:

(وَ آتِ ذَا اَلْقُرْبىٰ حَقَّهُ وَ اَلْمِسْكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ لاٰ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً)(2).

إنّ هذه الآية المباركة من الآيات الخاصة في بيان منزلة فاطمة عند الله تعالى وإظهار شأنيتها واختصاصها بتشريع قرآني جديد في مجال الاقتصاد الإسلامي وتمويل ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكفالتهم ضمن تخصيص شرائعي وتأصيل قرآني يضع لهذه الأمة قانوناً في مجالي الأحوال الشخصية الخاصة بذي القربى ومجال الإنفاق العام الذي تتولى الإشراف عليه رأس الحكومة الإسلامية ممثلة بشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن ينوب عنه بوجه

ص: 155


1- تفسير فرات الكوفي: ص 236.
2- سورة الإسراء، الآية: 26.

شرعي يكون له حكم الإمضاء والإفتاء والتصرف وتعريف شؤون الأمة والحكومة الإسلامية.

كي لا يقع انتهاك لهذا التشريع الإلهي والتأسيس القرآني الذي عمل به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فور نزوله من الله تعالى.

فضلاً عن ذلك فقد نالت هذه الآية نصيبها الأوفر في المسائل العقدية، فقد شكلت أحد مفاصل نظام إقصاء عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتجريدهم من حقوقهم ومنع الناس من التواصل معهم فكانت (فدك) وهي سبب نزول الآية، وسبب تشكيل نظام الإقصاء المالي والتجري على الحرمات وظهور طور جديد من الاجتهادات الشخصية في الافتاء والتشريع بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأيام معدودات برز فيها الإفتاء الشخصي ممن جلس على سدة الحكم.

وفي ذلك يروي الشيخ الطوسي رحمه الله وغيره:

(أنه لما نزلت هذه الآية استدعى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة وأعطاها فدكا وسلمه إليها وكان وكلاؤها فيها طول حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلما مضى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذها أبو بكر، ودفعها عن النحلة - التي نحلها إياها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم - والقصة في ذلك مشهورة.

فلما لم يقبل بينتها، ولا قبل دعواها طالبت بالميراث، لأن من له الحق إذا منع منه من وجه جاز له أن يتوصل إليه بوجه آخر، فقال لها سمعت رسول الله يقول:

ص: 156

«نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدفة».

فمنعها الميراث أيضا وكلامهما في ذلك مشهور)(1).

ولنا كلام آخر وبيان مع هذه الآية المباركة في مبحث فدك في فصل ظلامتها عليها السلام - إنشاء الله تعالى -.

المسألة الثامنة: منزلة فاطمة في سورة الكهف

قال تعالى:

(وَ أَمَّا اَلْجِدٰارُ فَكٰانَ لِغُلاٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ وَ كٰانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمٰا وَ كٰانَ أَبُوهُمٰا صٰالِحاً)(2).

وهي من الآيات التي تكشف عن حق أبناء رسول الله وعلي وفاطمة وخديجة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين على هذه الأمة ووجوب حفظهم ورعايتهم وصيانة حقهم وحرمتهم.

وقد روى في ذلك فرات الكوفي في تفسيره عن زيد بن علي بن الحسين عليهم السلام في قوله تعالى:

(وَ أَمَّا اَلْجِدٰارُ فَكٰانَ لِغُلاٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ وَ كٰانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمٰا وَ كٰانَ أَبُوهُمٰا صٰالِحاً).

ص: 157


1- التبيان للشيخ الطوسي: ج 6، ص 468؛ شواهد التنزيل للحسكاني: ج 1، ص 438؛ سعد السعود: ص 102؛ دعائم الإسلام للقاضي المغربي: ج 1، ص 385؛ تفسير القمي: ج 2، ص 18-19؛ تفسير فرات الكوفي: ص 322.
2- سورة الكهف، الآية: 82.

قال:

«فحفظ الغلامان بصلاح أبيهما فمن أحق أن يرجو الحفظ من الله بصلاح من مضى من آبائه منا؛ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جدنا، وابن عمه المؤمن به المهاجر معه أبونا، وابنته أمنا، وزوجته أفضل أزواجه جدتنا، فأي الناس أعظم عليكم حقا في كتابه، ثم نحن من أمته وعلى ملته ندعوكم إلى سنته والكتاب الذي جاء به من ربه، أن تحلوا حلاله وتحرموا حرامه وتعملوا بحكمه عند تفرق الناس واختلافهم»)(1).

وللآية شاهد آخر يحتج به الإمام أبو عبد الله الحسين بن علي عليهما السلام في رده على نافع بن الأزرق الذي كان يتبع أهل الفئة الباغية معاوية بن أبي سفيان وشيعته الذين خرجوا لحرب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام؛ والذين قتلوا عمار بن ياسر كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل.

والشاهد كما أخرجه الشيخ الصدوق والعياشي وابن عساكر، قال:

(بينما ابن عباس يحدث الناس إذ قام إليه نافع بن الأزرق، فقال: يا ابن عباس تفتي في النحلة والقملة، صف لنا إلهك الذي تعبده، فأطرق ابن عباس طويلاً مستبطئاً بقوله فقال له الحسين - عليه السلام -:

«إليّ يا بن الأزرق المتورط في الضلالة، المرتكن في الجهالة، أجيبك عما سألت عنه».

فقال: ما إياك سألت فتجيبني، فقال له ابن عباس: مه عن ابن رسول الله،

ص: 158


1- تفسير فرات الكوفي: ص 246؛ البحار للمجلسي: ج 33، ص 424.

فإنه من أهل بيت النبوة ومعه من (معدن) الحكمة، فقال له صف لي فقال - عليه السلام - له:

«أصفه بما وصف به نفسه وأعرفه بما عرف به نفسه، لا يدرك بالحواس، ولا يقاس بالناس، قريب غير ملتزق، وبعيد غير مقص، يوحد ولا يتبعض لا إله إلا هو الكبير المتعال».

قال: فبكى ابن الأزرق بكاءاً شديداً فقال له الحسين - عليه السلام -:

«ما يبكيك ؟».

قال: بكيت من حسن وصفك، قال - عليه السلام -:

«يا بن الأزرق أني أخبرت: أنك تكفّر أبي وأخي وتكفرني ؟».

قال له نافع: لئن قلت ذاك لقد كنتم الحكام، ومعالم الإسلام، فلما بدلتم استبدلنا بكم.

فقال له الحسين - عليه السلام -:

«يا بن الأزرق أسالك عن مسألة فأجبني عن قول الله لا إله إلا هو:

(وَ أَمَّا اَلْجِدٰارُ فَكٰانَ لِغُلاٰمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي اَلْمَدِينَةِ وَ كٰانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمٰا).

إلى قوله: (كنزهما) من حفظ فيهما؟ قال: أبوهما.

قال عليه السلام:

«فأيهما أفضل أبويهما أم رسول الله وفاطمة ؟».

قال: لا بل رسول الله وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله، قال - عليه السلام -:

ص: 159

«فما حفظهما حتى حيل بيننا وبين الكفر».

فنهض ثم نفض بثوبه ثم قال:

«قد نبأنا لله عنكم معشر قريش أنتم قوم خصمون»)(1).

المسألة التاسعة: منزلتها في سورة طه

أولا: قال تعالى: (و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك و العاقبة للتقوى)

أولا: قال تعالى: (و أمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها لا نسئلك رزقا نحن نرزقك و العاقبة للتقوى)(2).

هذه الآية المباركة تدل ومن خلال فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع بيت فاطمة وعلي عليهما السلام على أن أهل هذا البيت هم أهل بيت النبوة، وأنهم آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فقد روى علي بن إبراهيم في تفسير الآية قال:

(كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيء كل يوم عند صلاة الفجر حتى يأتي باب علي وفاطمة والحسن والحسين فيقول:

«السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فيقولون: وعليك السلام يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، فيقول: الصلاة الصلاة، يرحمكم الله»)(3).

ص: 160


1- تفسير العياشي لمحمد بن مسعود العياشي: ج 2، ص 337؛ التوحيد للشيخ الصدوق: ص 80، ولم يأتي على ذكر الآية؛ تاريخ ابن عساكر: ج 14، ص 184؛ موسوعة كلمات الإمام الحسين عليه السلام: ص 646.
2- سورة طه، الآية: 132.
3- وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 12، ص 72.

ويروي الصدوق عن الإمام الرضا عليه السلام في معرض بيانه للآيات التي تدل على أنهم آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم فكان يورد هذه الآيات ودلالاتها على الناس فيقول - في هذه الآية -:

«فخصنا الله بهذه الخصوصية، أن أمرنا من الأمة بإقامة الصلاة، ثم خصنا من دون الأمة فكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجيء إلى باب علي وفاطمة بعد نزول هذه الآية تسعة أشهر كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرات، فيقول: (الصلاة رحمكم الله) وما أكرم الله أحداً من ذراري الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرمنا بها وخصنا من دون جميع أهل بيته»(1).

ثانيا: قال تعالى:

(وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِلىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً)(2).

روى الكليني عن الصادق عليه السلام: في قوله:

(وَ لَقَدْ عَهِدْنٰا إِلىٰ آدَمَ مِنْ قَبْلُ ).

«كلمات في محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والأئمة من ذريته».

(فَنَسِيَ )(3).

أي: فنسي هذا العهد في هذه الكلمات.

ص: 161


1- الأمالي للصدوق: ص 625.
2- سورة طه، الآية: 115.
3- الكافي للكليني: ج 1، ص 416.

المسألة الحادي عشرة: منزلة فاطمة في سورة مريم عليهما السلام

قال تعالى:

(كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيّٰا)(1).

ورد في تفسير هذه الآية المباركة ما رواه سعد بن عبد الله بن خلف القمي رحمه الله قال:

(أعددت نيفا وأربعين مسألة من صعاب المسائل لم أجد لها مجيباً فقصدت مولاي أبا محمد الحسن عليه السلام بسر من رأى فلما انتهينا منها إلى باب سيدنا عليه لسلام فاستأذنا فخرج الإذن بالدخول، قال سعد:

فما شبهت مولانا أبا محمد عليه السلام حين غشينا نور وجهه إلا بدرا قد استوفى ليالي أربعا بعد عشر، وعلى فخذه الأيمن غلام يناسب المشتري في الخلقة والمنظر، فسلمنا عليه فألطف لنا في الجواب وأومأ لنا بالجلوس، فلما جلسنا سألته شيعته عن أمورهم في دينهم وهدايتهم، فنظر أبو محمد الحسن عليه السلام إلى الغلام، وقال:

«يا بني أجب شيعتك ومواليك».

فأجاب كل واحد عما في نفسه وعن حاجته من قبل أن يسأله عنها بأحسن جواب وأوضح برهان حتى حارت عقولنا في غامر علمه وإخباره بالغائبات، ثم التفت إلي أبو محمد عليه السلام وقال:

«ما جاء بك يا سعد؟».

ص: 162


1- سورة مريم، الآيتان: 1 و 2.

قلت: شوقي إلى لقاء مولانا فقال:

«المسائل التي أردت أن تسأل عنها؟».

قلت: على حالها يا مولاي، قال:

«فاسأل قرة عيني عنها - وأومأ إلى الغلام - عما بدا لك منها».

فكان بعض ما سألته أن قلت له: يا بن رسول الله أخبرني عن تأويل:

(كهيعص).

فقال - عليه السلام -:

«هذه الحروف من أنباء الغيب أطلع الله عز وجل عليها زكريا عليه السلام، ثم قصها على محمد صلى الله عليه وآله، وذلك أن زكريا عليه السلام سأل الله عز وجل أن يعلمه أسماء الخمسة (الأشباح) فأهبط إليه جبرئيل عليه السلام فعلمه إياها فكان زكريا إذا ذكر محمدا وعليا وفاطمة والحسن سري عنه همه وانجلى كربه، وإذا ذكر (اسم) الحسين خنقته العبرة، ووقعت عليه البهرة.

فقال ذات يوم: يا إلهي ما بالي إذا ذكرت أربعا منهم تسلت همومي، إذا ذكرت الحسين تدمع عيني وتثور زفرتي فأنبأه الله عز وجل عن قصته، فقال:

(كهيعص)

فالكاف اسم كربلاء، والهاء هلاك العترة، والياء يزيد وهو ظالم الحسين والعين عطشه، والصاد صبره، فلما سمع بذلك زكريا لم يفارق مسجده ثلاثة أيام ومنع فيهن الناس من الدخول عليه وأقبل على البكاء والنحيب وكانت ندبته: إلهي أتفجع خير جميع خلقك بولده، إلهي أتنزل هذه الرزية بفنائه، إلهي أتلبس عليا وفاطمة ثياب هذه المصيبة إلهي أتحل كره هذه الفجيعة

ص: 163

بساحتهما.

ثم قال: إلهي ارزقني ولدا تقرّ به عيني على الكبر، واجعله وارثا رضيا يوازي محله مني محل الحسين من محمد صلى الله عليه وآله فإذا رزقتنيه فأفتني بحبه ثم افجعني به كما تفجع محمدا حبيبك بولده الحسين، فرزقه الله يحيى وفجعه به.

وكان حمل يحيى وولادته لستة أشهر، وكان حمل الحسين وولادته كذلك.

ومعنى قوله: وافجعني به كما تفجع محمدا، ومحمد صلى الله عليه وآله توفى قبل قتل الحسين عليه السلام وكذلك زكريا عليه السلام وهذا يدل على أن الأنبياء عليهم السلام أحياء عند ربهم يرزقون، وبهذا القول صار بين يحيى وبين الحسين عليه السلام مماثلة في أشياء منها: حمله لستة أشهر، ومنها قتله ظلما، ومنها أن رأس يحيى عليه السلام، أهدى إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، والحسين صلوات الله عليه أهدي رأسه الكريم إلى باغ من بغاة بني أمية لانهم شر البرية، فعليهم اللعنة الجزئية والكلية وعلى الممهدين لهم والتابعين من جميع البرية»)(1).

المسألة العاشرة: منزلة فاطمة في سورة الحج

قال تعالى:

(فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنٰاهٰا وَ هِيَ ظٰالِمَةٌ فَهِيَ خٰاوِيَةٌ عَلىٰ عُرُوشِهٰا وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ)(2).

ص: 164


1- كمال الدين للشيخ الصدوق: ص 456-476، وقد روى الحديث بتمامه الذي تضمن جميع المسائل وأجوبتها؛ تأويل الآيات الظاهرات للحسيني: ج 1، ص 299-301.
2- سورة الحج، الآية: 45.

وقد ورد في معاني هذه الآية ودلالاتها ما رواه الصدوق عن صالح بن سهل ولم ينسبه إلى إمام من الأئمة، قال:

«أمير المؤمنين عليه السلام هو القصر المشيد، والبئر المعطلة فاطمة وولديها معطلون من الملك»(1).

وقد رواه الحسيني في تأويل الآيات الظاهرة منسوباً إلى الإمام الصادق عليه السلام(2).

المسألة الحادية عشرة: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة المؤمنون

من الآيات التي وردت في سورة المؤمنون فكانت مشتملة على منزلة أصحاب الكساء صلوات الله عليهم أجمعين لتكون سبباً في النزول هي الآية الأولى إلى الآية الحادية عشرة.

1 - قال تعالى:

(قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ (1) اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاٰتِهِمْ خٰاشِعُونَ (2) وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِلزَّكٰاةِ فٰاعِلُونَ (4) وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حٰافِظُونَ (5) إِلاّٰ عَلىٰ أَزْوٰاجِهِمْ أَوْ مٰا مَلَكَتْ أَيْمٰانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ اِبْتَغىٰ وَرٰاءَ ذٰلِكَ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلعٰادُونَ (7) وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِأَمٰانٰاتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ رٰاعُونَ (8) وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَلىٰ صَلَوٰاتِهِمْ يُحٰافِظُونَ (9) أُولٰئِكَ هُمُ اَلْوٰارِثُونَ (10) اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ )(3).

ص: 165


1- معاني الأخبار للصدوق: ص 112؛ البحار: ج 24، ص 102.
2- تأويل الآيات الظاهرة: ص 339.
3- سورة المؤمنون، الآيات: 1-11.

وقد روى السيد شرف الدين الحسيني (المتوفى سنة 965 ه -) (عن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في قول الله عزّ وجل:

(قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ ...) إلى (... اَلَّذِينَ يَرِثُونَ اَلْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ ).

قال - عليه السلام -:

«نزلت في رسول الله، وفي أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين»)(1).

2 - ومن الآيات الأخرى التي نزلت في آل البيت عليهم السلام فكانت من الآيات العامة التي جمعت الزهراء عليها السلام في الشأنية والمنزلة هي قوله تعالى:

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اَلْيَوْمَ بِمٰا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ اَلْفٰائِزُونَ )(2).

وقد روى الحاكم الحسكاني (المتوفى سنة 500 ه -) عن عبد الله بن مسعود في قول الله تعالى:

(إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اَلْيَوْمَ بِمٰا صَبَرُوا).

يعني جزيتهم الجنة بصبر علي بن أبي طالب، وفاطمة، والحسن، والحسين، في الدنيا على الطاعات، وعلى الجوع والفقر، وبما صبروا على المعاصي، وصبروا على البلاء لله تعالى في الدنيا؛ أنهم هم الفائزون والناجون من الحساب)(3).

ص: 166


1- تأويل الآيات الحسيني: ج 1، ص 353.
2- سورة المؤمنون، الآية: 111.
3- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 531؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي النجفي قدس سره: ج 14، ص 614.

المسألة الثانية عشرة: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة النور

اشارة

اشتملت سورة النور على موضعين اختص كل منها بمنزلة فاطمة عليها السلام.

الموضع الأول من السورة

قال تعالى:

(اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكٰاةٍ فِيهٰا مِصْبٰاحٌ اَلْمِصْبٰاحُ فِي زُجٰاجَةٍ اَلزُّجٰاجَةُ كَأَنَّهٰا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبٰارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاٰ شَرْقِيَّةٍ وَ لاٰ غَرْبِيَّةٍ يَكٰادُ زَيْتُهٰا يُضِيءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نٰارٌ نُورٌ عَلىٰ نُورٍ يَهْدِي اَللّٰهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشٰاءُ وَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْأَمْثٰالَ لِلنّٰاسِ وَ اَللّٰهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ )(1).

وفي بيان معنى هذه الآية المباركة فقد روى الشريف علي بن جعفر عن أخيه الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام قال: (قال أبو عبد الله عليه السلام في قول الله تعالى:

«(اَللّٰهُ نُورُ اَلسَّمٰاوٰاتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكٰاةٍ ،)

فاطمة عليها السلام، (فِيهٰا مِصْبٰاحٌ )،

الحسن عليه السلام، (اَلْمِصْبٰاحُ فِي زُجٰاجَةٍ )،

الحسين عليه السلام، (اَلزُّجٰاجَةُ كَأَنَّهٰا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ )،

فاطمة كوكب دري بين نساء أهل الدينا، (يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبٰارَكَةٍ )،

إبراهيم عليه السلام، (زَيْتُونَةٍ لاٰ شَرْقِيَّةٍ وَ لاٰ غَرْبِيَّةٍ )،

لا يهودية ولا نصرانية، (يَكٰادُ زَيْتُهٰا يُضِيءُ )،

يكاد العلم يتفجر بها، (وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نٰارٌ نُورٌ عَلىٰ نُورٍ)،

إمام منها بعد إمام، (يَهْدِي اَللّٰهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشٰاءُ )،

يهدي الله للأئمة من يشاء، (وَ يَضْرِبُ اَللّٰهُ اَلْأَمْثٰالَ لِلنّٰاسِ )».

ص: 167


1- سورة النور، الآية: 35.

قلت: (أَوْ كَظُلُمٰاتٍ )، قال:

«الأول وصاحبه، (يَغْشٰاهُ مَوْجٌ )

الثالث، (مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحٰابٌ ظُلُمٰاتٌ )

الثاني، (بَعْضُهٰا فَوْقَ بَعْضٍ )

معاوية وفتن بني أمية، (إِذٰا أَخْرَجَ يَدَهُ )

المؤمن في ظلمة فتنتهم، (لَمْ يَكَدْ يَرٰاهٰا وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّٰهُ لَهُ نُوراً)

إماماً من ولد فاطمة عليهم السلام (فَمٰا لَهُ مِنْ نُورٍ)

إمام يوم القيامة».

وقال في قوله:

(يَسْعىٰ نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمٰانِهِمْ )(1).

«أئمة المؤمنين يوم القيامة تسعى بين يدي المؤمنين وبإيمانهم حتى ينزلوهم منازل أهل الجنة»)(2).

الموضع الثاني من السورة

قال تعالى:

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ )(3).

هذه الآية من الآيات الخاصة في سبب نزولها في علي وفاطمة عليهما

ص: 168


1- سورة الحديد، الآية: 12.
2- مسائل علي بن جعفر: ص 316؛ تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2، ص 102؛ تفسير فرات الكوفي: ص 282؛ سمط النجوم العوالي: ج 2، ص 357؛ تفسير الصراط المستقيم: ج 1، ص 296؛ نهج الحق: ص 207؛ الطرائف لابن طاووس: ج 1، ص 135؛ العمدة لابن البطريق: ص 356؛ تأويل الآيات الظاهرة: ص 357-358.
3- سورة النور، الآية: 36.

السلام، وقد أخرج الثعلبي، والسيوطي، والآلوسي، وغيرهم في بيان ما لهذه الآية من خصوصية في بيان منزلة بيت علي وفاطمة عليهما السلام وذلك بالاسناد إلى أبان بن تغلب، عن نفيع بن الحرث، عن أنس بن مالك، وعن بريدة قالا:

(قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هذه الآية:

(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اَللّٰهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهٰا بِالْغُدُوِّ وَ اَلْآصٰالِ (36) رِجٰالٌ لاٰ تُلْهِيهِمْ تِجٰارَةٌ وَ لاٰ بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّٰهِ وَ إِقٰامِ اَلصَّلاٰةِ وَ إِيتٰاءِ اَلزَّكٰاةِ يَخٰافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصٰارُ)(1).

فقام رجل فقال:

أي بيوت هذه يا رسول الله ؟

قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«بيوت الأنبياء».

قال: فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها، لبيت علي وفاطمة عليهما السلام ؟، قال صلى الله عليه وآله وسلم:

«نعم من أفاضلها»)(2).

ص: 169


1- سورة النور، الآيتان: 36 و 37.
2- تفسير الثعلبي: ج 7، ص 107؛ العمدة لابن البطريق: ص 291؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 532؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 319؛ الدر المنثور للسيوطي: ج 5، ص 50؛ تفسير الآلوسي: ج 18، ص 174.

المسألة الثالثة عشرة: منزلة فاطمة في سورة الفرقان

وقد ورد فيها موضعين:

الأول قال تعالى:

(وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمٰاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كٰانَ رَبُّكَ قَدِيراً)(1).

وقد روى فرات الكوفي في معنى الآية عن ابن عباس قال:

خلق الله نطفة بيضاء مكنونة فجعلها في صلب آدم، ثم نقلها من صلب آدم إلى صلب شيث، ومن صلب شيث إلى صلب أنوش، ومن صلب أنوش إلى صلب قينان، حتى توارثتها كرام الأصلاب في مطهرات الأرحام، حتى جعلها الله في صلب عبد المطلب، ثم قسمها نصفين فألقى نصفها إلى صلب عبد الله، ونصفها إلى صلب أبي طالب، وهي سلالة فولد من عبد الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم، ومن أبي طالب عليه السلام لعلي عليه السلام فذلك قول الله تعالى:

(وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْمٰاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً).

زوج فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم فعلي من محمد ومحمد من علي، والحسن والحسين من فاطمة عليهم السلام نسب، وعلي الصهر)(2).

الموضع الثاني في سورة الفرقان، قوله تعالى:

(وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا هَبْ لَنٰا مِنْ أَزْوٰاجِنٰا وَ ذُرِّيّٰاتِنٰا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اِجْعَلْنٰا

ص: 170


1- سورة الفرقان، الآية: 54.
2- تفسير فرات الكوفي: ص 292.

لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً)(1).

جاء في معنى هذه الآية المباركة واختصاصها بعلي وفاطمة وخديجة والحسن والحسين مجموعة من الروايات وهي كالآتي:

1 - أخرج ابن شهر آشوب المازندراني عن سعيد بن جبير قال: (نزلت هذه الآية والله خاصة في أمير المؤمنين عليه السلام قال: كان أكثر دعائه يقول ربنا هب لنا من أزواجنا، يعني فاطمة، وذرياتنا يعني الحسن والحسين، قرة أعين قال أمير المؤمنين:

«والله ما سألت ربي ولدا نضير الوجه، ولا سألت ولدا حسن القامة، ولكن سألت ربي ولدا مطيعين لله، خائفين وجلين منه، حتى إذا نظرت إليه وهو مطيع لله قرت به عيني».

قال:

(وَ اِجْعَلْنٰا لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً).

قال:

«نقتدي بمن قبلنا من المتقين، فيقتدي المتقون بنا من بعدنا».

وقال الله تعالى:

(أُوْلٰئِكَ يُجْزَوْنَ اَلْغُرْفَةَ بِمٰا صَبَرُوا).

يعني علي بن أبي طالب، والحسن والحسين وفاطمة - عليهم السلام -.

ص: 171


1- سورة الفرقان، الآية: 74.

(وَ يُلَقَّوْنَ فِيهٰا تَحِيَّةً وَ سَلاٰماً (75) خٰالِدِينَ فِيهٰا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقٰاماً)(1) (2).

2 - روى فرات الكوفي (عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال:

«قلت لجبرائيل عليه السلام: يا جبرئيل: (مِنْ أَزْوٰاجِنٰا)،

قال: خديجة، قال، قلت: (وَ ذُرِّيّٰاتِنٰا).

قال: فاطمة، قلت: ومن (قُرَّةَ أَعْيُنٍ )،

قال: الحسن والحسين.

قلت: (وَ اِجْعَلْنٰا لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً)،

ومن للمتقين إماما؟

قال: علي بن أبي طالب عليه السلام»)(3).

3 - وروى كذلك عن أبان بن تغلب، قال: (سألت جعفر بن محمد عليه السلام عن قول الله تعالى:

(وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا هَبْ لَنٰا مِنْ أَزْوٰاجِنٰا وَ ذُرِّيّٰاتِنٰا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اِجْعَلْنٰا لِلْمُتَّقِينَ إِمٰاماً).

قال:

«نحن هم أهل البيت»)(4).

ص: 172


1- سورة الفرقان، الآيتان: 75 و 76.
2- مناقب آل أبي طالب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 153.
3- تفسير فرات الكوفي: ص 294؛ تفسير القمي: ج 2، ص 117؛ شواهد التنزيل للحسكاني: ج 1، ص 539؛ تأويل الآيات الظاهرة: ص 381.
4- تفسير فرات الكوفي: ص 294.

المسألة الرابعة عشرة: منزلة فاطمة في سورة الشعراء

قال تعالى:

(وَ تَقَلُّبَكَ فِي اَلسّٰاجِدِينَ )(1).

روى السيد شرف الدين الحسيني والمجلسي عن أبي الجارود عن أبي جعفر في قوله عزّ وجل:

(وَ تَقَلُّبَكَ فِي اَلسّٰاجِدِينَ ).

قال:

«في علي وفاطمة والحسن والحسين وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين»)(2).

المسألة الخامسة عشرة: منزلة فاطمة في سورة النمل

قال تعالى:

(اَلْحَمْدُ لِلّٰهِ وَ سَلاٰمٌ عَلىٰ عِبٰادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفىٰ )(3).

روى المازندراني عن ابن عباس، قال:

(هم أهل بيت رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين وأولادهم إلى يوم القيامة هم صفوة الله وخيرته من خلقه)(4).

ص: 173


1- سورة الشعراء، الآية: 219.
2- تأويل الآيات الظاهرة: ص 392؛ البحار للمجلسي: ج 24، ص 372.
3- سورة النمل، الآية: 59.
4- المناقب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 380.

المسألة السادسة عشرة: منزلة فاطمة في سورة الروم

قال تعالى:

(فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلّٰهِ اَلْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اَللّٰهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشٰاءُ وَ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلرَّحِيمُ )(1).

روى فرات الكوفي (عن الإمام الصادق عليه السلام، عن أبيه، عن جده، قال:

«قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (معاشر الناس تدرون لما خلقت فاطمة ؟

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: خلقت فاطمة حوراء إنسية لا إنسية، قال: خلقت من عرق جبرئيل ومن زغبه.

قالوا: يا رسول الله إنه (أشكل) ذلك علينا تقول: حوراء إنسية لا إنسية، ثم تقول: من عرق جبرئيل ومن زغبه ؟

قال: أنا أنبئكم، أهدى إليّ ربي تفاحة من الجنة أتاني بها جبرئيل، فضمها إلى صدره فعرق جبرئيل عليه السلام وعرقت التفاحة فصار عرقهما شيئاً واحداً، ثم قال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، قلت: وعليك السلام يا جبرئيل.

فقال: إن الله أهدى إليك تفاحة من الجنة فأخذتها فقبلتها ووضعتها على عيني وضممتها إلى صدري، ثم قال: يا محمد كلها، قلت: حبيبي جبرئيل هدية ربي تؤكل ؟

قال: نعم قد أمرت بأكلها، فأفلقتها فرأيت منها نورا ساطعا؟

ص: 174


1- سورة الروم، الآيتان: 4 و 5.

ففزعت من ذلك النور، قال: كُلْ فإن ذلك نور المنصورة فاطمة.

قلت: يا جبرئيل ومن المنصورة ؟

قال: جارية تخرج من صلبك اسمها في السماء المنصورة، وفي الأرض فاطمة.

فقلت: يا جبرئيل ولم سميت في السماء منصورة وفي الأرض فاطمة ؟

قال: سميت فاطمة في الأرض لأنه فطمت شيعتها من النار، وفطموا أعداؤها عن حبها، وذلك قول الله في كتابه:

(وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ اَلْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اَللّٰهِ ).

بنصر فاطمة عليها السلام»)(1).

المسألة السابعة عشرة: منزلة فاطمة في سورة السجدة

قال تعالى:

(وَ جَعَلْنٰا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا لَمّٰا صَبَرُوا وَ كٰانُوا بِآيٰاتِنٰا يُوقِنُونَ )(2).

روى فرات الكوفي والحاكم الحسكاني، (عن جابر، عن أبي جعفر الباقر عليه السلام، قال:

«نزلت في ولد فاطمة خاصة، جعل الله منهم أئمة يهدون بأمره»)(3).

ص: 175


1- تفسير فرات الكوفي: ص 329؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 583؛ تأويل الآيات الظاهرة: ص 437.
2- سورة السجدة، الآية: 24.
3- تفسير فرات الكوفي: ص 329؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 583؛ تأويل الآيات الظاهرة: ص 437.

المسألة الثامنة العشرة: منزلة فاطمة في سورة الأحزاب

ألف: قال تعالى: (و قرن فى بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى)

(وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لاٰ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجٰاهِلِيَّةِ اَلْأُولىٰ وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاٰةَ وَ آتِينَ اَلزَّكٰاةَ وَ أَطِعْنَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1).

إن هذه الآية هي من أكثر الآيات الكريمة شهرة بين المسلمين في اختصاصها بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعترته أهل بيته، وهم: علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

ولقد تظافرت النصوص عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في التخصيص وحصر التطهير بعترته أهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين.

وفضلاً عن شهرتها بين الرواة والمصنفين، إلا أنها قد نالت من المحاربة والتضليل الشيء الكثير، حالها في ذلك كبقية الآيات الأخرى الخاصة بعترة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كآية المودة والمباهلة، وغيرها من الآيات الكريمة التي نزلت في عترة النبي، وبيان منزلتهم وشأنيتهم وحقوقهم على هذه الأمة.

ولذلك:

نجد البعض قد حاول جاهداً تضليل المسلمين والقراء وصرفهم عن مدار نزول الآية واختصاصها بعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام كابن كثير

ص: 176


1- سورة الأحزاب، الآية: 33.

الذي حاول تتبع بعض النصوص التي تتحدث عن هذه الآية واختصاصها بعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، والتي يتخللها بعض الطعون في أسانيدها، كي يوهم القارئ بأن هذه الآية جملة وتفصيلاً مطعون في صحة نسبتها واختصاصها بعترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كقوله:

(والأحاديث المتقدمة إن صحت، فإن في بعض أسانيدها نظر)(1).

والنظر الذي استوقف ابن كثير هو نظر عقدي وليس رجالي، وذلك أنه يعتقد بأن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هن من أهل البيت الذين اذهب الله عنهم الرجس لقوله:

(ثم الذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم داخلات في قوله تعالى:

(إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(2).

فإن سياق الكلام معهن ولهذا قال تعالى بعد هذا كله:

(وَ اُذْكُرْنَ مٰا يُتْلىٰ فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيٰاتِ اَللّٰهِ وَ اَلْحِكْمَةِ ...)(3) (4).

وأقول:

ص: 177


1- تفسير ابن كثير: ج 3، ص 492.
2- سورة الأحزاب، الآية: 33.
3- سورة الأحزاب، الآية: 34.
4- تفسير ابن كثير: ج 3، ص 494.

أولاً:

إن التدبر في القرآن مشروط بفتح الأقفال وكسر القيود وإزالة الرين عن القلوب وهو ما اشترطه الباري عزّ وجل في قوله تعالى:

(أَ فَلاٰ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلىٰ قُلُوبٍ أَقْفٰالُهٰا)(1).

وقال عزّ وجل:

(كَلاّٰ بَلْ رٰانَ عَلىٰ قُلُوبِهِمْ مٰا كٰانُوا يَكْسِبُونَ )(2).

ولذلك:

نجد أن ابن كثير ومن نقل عنهم لم يستطيعوا أن يتدبروا في هذه الآية الكريمة إذ كيف تكون نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم هنّ من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس والآية تصرخ بحرف الميم الذي يدل على وجود الذكورية في الآية ولذا قال سبحانه:

(لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ ).

وقوله عزّ وجل:

(وَ يُطَهِّرَكُمْ ).

ولو كان (سياق الكلام معهن) كما يدّعي ابن كثير للزم أن يكون سياق الكلام في الآية بصيغة نون النسوة في جميع مقاطع الآية الكريمة، أي للزم أن يكون السياق (ليذهب عنكن) و (ليطهركن) وهذا خلاف النص القرآني.

ص: 178


1- سورة محمد، الآية: 24.
2- سورة المطففين، الآية: 14.

بل أنى لابن كثير وهو يرى في كتاب الله تعالى العديد من الآيات التي تتحدث عن خروج نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن مقتضيات ذهاب الرجس، ولزوم تحقق الطهر وشروطه، كقوله تعالى:

1 - قوله تعالى:

(يٰا نِسٰاءَ اَلنَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفٰاحِشَةٍ ...)(1).

2 - وتحذيره لحفصة وعائشة بقوله سبحانه:

(إِنْ تَتُوبٰا إِلَى اَللّٰهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمٰا وَ إِنْ تَظٰاهَرٰا عَلَيْهِ فَإِنَّ اَللّٰهَ هُوَ مَوْلاٰهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صٰالِحُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمَلاٰئِكَةُ بَعْدَ ذٰلِكَ ظَهِيرٌ)(2).

3 - وقوله سبحانه:

(عَسىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوٰاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمٰاتٍ مُؤْمِنٰاتٍ قٰانِتٰاتٍ تٰائِبٰاتٍ عٰابِدٰاتٍ سٰائِحٰاتٍ ثَيِّبٰاتٍ وَ أَبْكٰاراً)(3).

ولعل الآية الكريمة واضحة البيان والدلالة على أن هناك من النساء في المجتمع المسلم من هن خير من نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند الله تعالى ويحملنّ مجموعة من الصفات الإيمانية والاجتماعية لما هو خير مما عليه هؤلاء النساء اللاتي تزوج بهن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فقوله سبحانه:

(خَيْراً مِنْكُنَّ ).

ص: 179


1- سورة الأحزاب، الآية: 30.
2- سورة التحريم، الآية: 4.
3- سورة التحريم، الآية: 5.

لا يحتاج إلى بيان بأنهن - بدون تشرفهن بالزواج من رسول الله صلى اله عليه وآله وسلم - لم يكن لهن شأنية عند الله تعالى فالملاك عند الله تعالى التقوى، ولم يكن لهن شأنية اجتماعية بدون هذا الارتباط.

بل: إن تسلسل القرآن في عرض الصفات الإيمانية يكشف عن أن نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم يتفاوتن في هذه الصفات؛ بل: لم تحض إحداهن بجميع هذه الصفات:

(مُسْلِمٰاتٍ مُؤْمِنٰاتٍ قٰانِتٰاتٍ تٰائِبٰاتٍ عٰابِدٰاتٍ سٰائِحٰاتٍ ).

وإن هناك من النساء في المجتمع المسلم من قد جمعت هذه الصفات الإيمانية التي عددتها الآية الكريمة، ومن ثم لسن داخلات في آية التطهير والقرآن يهددهن بأن يتزوج النبي ب - (خير منكن).

ثانيا: وإن أعجب ما استدل به ابن كثير في دخول نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم في آية التطهير هو أن عائشة كانت باكراً؛ فقال: (ولم ينم معها رجل في فراشها سواه صلى الله عليه - وآله - وسلم فناسب أن تخصص بهذه الميزة وأن تفرد بهذه المرتبة)(1).

ويا ليت حدثنا ابن كثير عن علمائه كيف ثبت لديهم أن عائشة لم تتزوج قبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأنه لم يتزوج باكراً غيرها.

علماً أن القرآن ينفي كونها باكراً لقوله: (خيراً منكن) فلو كانت باكراً لم يكن القرآن ليهددها عن الله سبحانه بأن يزوج رسوله المصطفى صلى الله عليه وآله

ص: 180


1- تفسير ابن كثير: ج 3، ص 494.

وسلم خيراً منها، وكيف ستتحقق الخيّرة لو لم تكن عائشة ثيبا.

فضلاً عن ذلك:

فإن القرآن الكريم وفي هذه الآية المباركة لا يجعل لوضع المرأة الاجتماعي والشخصي والعرفي مدخلية في التطهير، ولم يجعل المرأة حينما تكون ثيباً في رتبة دونيه قد أصابها الرجس - والعياذ بالله - كما يروج ابن كثير عن علمائه لهذا المفهوم الهدام.

بل: إننا نجد أن القرآن يقدم الثيب على الباكر في كونها الأصلح لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم فقال عزّ وجل في ذيل الآية المباركة التي عددت صفات النساء اللاتي هنّ خير من أزواجه اللاتي تزوج بهن فقال:

(عَسىٰ رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوٰاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمٰاتٍ مُؤْمِنٰاتٍ قٰانِتٰاتٍ تٰائِبٰاتٍ عٰابِدٰاتٍ سٰائِحٰاتٍ ثَيِّبٰاتٍ وَ أَبْكٰاراً)(1).

فالآية الكريمة قد جعلت الوضع الاجتماعي للمرأة، والعرفي، والشخصي، هو آخر الصفات، فقدم القرآن المرأة الثيب على الباكر وهو غاية الجمال في رسم الحياة الزوجية للحبيب الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فقد كشفت الآية عن أن الغرض ليس ما يحاط بالمرأة الباكر من مقومات تحركها الأنا الذكورية لدى الرجال وإنما الملاك هو الاستقرار والهدوء والمودة والرحمة.

وعليه:

يكون الاستدلال الذي استدل به ابن كثير في كون عائشة باكراً ولم ينم معها

ص: 181


1- سورة التحريم، الآية: 5.

رجل في فراشها سواه صلى الله عليه - وآله - وسلم فيجعلها داخلة في الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا استدلال يضحك الثكلى.

ثالثا: لقد حاول صنف آخر من المصنفين ومن قبلهم الرواة في صرف الآية عن عترة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، وهم حصراً فاطمة وزوجها وولديها الحسن والحسين صلوات الله عليهم أجمعين، وهم الذين جللهم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بالكساء.

فقال بعضهم في صرف الآية عنهم:

1 - روي عن عكرمة البربري (انه كان ينادي في السوق:

(إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1).

نزلت في نساء النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم خاصة)(2).

في حين لو نظرنا إلى كتب الرجال وتراجمهم لوجدنا حال هذا الرجل الذي ملئ عداءً لأهل البيت عليهم السلام من رأسه إلى ظفره، فضلاً عن كونه من الخوارج(3).

وقال ابن سعد: وليس يحتج بحديثه ويتكلم الناس فيه(4)؛ ناهيك عن كونه من رموز الكذب الذين اشتهروا في المدينة كما نص عليه ابن حجر(5)، وابن عبد

ص: 182


1- سورة الأحزاب، الآية: 33.
2- تفسير ابن كثير: ج 3، ص 491.
3- تهذيب التهذيب لان حجر: ج 7، ص 237.
4- الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 5، ص 293.
5- مقدمة فتح الباري لابن حجر: ص 425؛ تاريخ ابن عساكر: ج 41، ص 114؛ التمهيد لابن عبد البر: ج 2، ص 28؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 20، ص 280؛ سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 5، ص 23؛ المنتخب من ذيل المذيل للطبري: ص 122؛ ميزان الاعتدال للذهبي: ج 3، ص 93-97.

البر، والذهبي، وغيرهم.

ومن كان هذا حاله ودينه فكيف يعوّل على قوله، ولكن الملامة لا تقع على عكرمة بل على من يحتج بحديثه وهو يحاول تمرير قوله على القراء فيدلس عليهم الحقائق:

(... وَ يَأْبَى اَللّٰهُ إِلاّٰ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ ...)(1).

رابعاً: إن هذه المحاولات اليائسة لم تكن لتنتهي منذ أن نزلت هذه الآية، كما أنها لا تنتهي وذلك لوجود طبقة في المجتمع المسلم قد نصبت العداء لآل البيت عليهم السلام، ولاسيما عدائها لعلي بن أبي طالب عليه السلام الذي تعاهد هؤلاء على عدائه ومحاربته والتجاهر بسبه وشتمه منذ أن قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما يدل عليه الحديث الآتي عن واثلة بن الاسقع الذي كان قد اشترك مع مجموعة من الصحابة في شتم علي بن أبي طالب عليه السلام على الرغم من معايشته لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي عليه السلام، ويعلم جيداً أنه من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا وذلك حينما دخل عليه مجموعة من هؤلاء النواصب في مجلسه فشتمو علياً عنده ولم ينههم عن ذلك ويحفظ ذمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى إذا خرجوا من عنده قام فحدث شداد بن عمارة عن آية التطهير، وكيف إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قام بتجليلهم بذلك الكساء.

ص: 183


1- سورة التوبة، الآية: 32.

والرواية يخرجها أحمد في المسند الذي لم يسلم هو الآخر، أي هذا المسند من التحريف في الوقت الحاضر فقد تم حذف شتم الصحابة لعلي بن أبي طالب من حديث واثلة بن الأسقع لأنهم يريدون أن يطمسوا على حقيقة وقوع الصحابة في ظلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاكهم لحرمته في أهل بيته عليهم السلام؛ في حين قام غير واحد من المصنفين بنقل الرواية كاملة، كالحافظ الثعلبي، والرواية كما يلي:

فعن شداد بن عمارة قال دخلت على واثلة بن الأسقع وعنده قوم فذكروا علياً - عليه السلام - فشتموه فشتمته معهم فلما قاموا قال لي:

لم شتمت هذا الرجل.

قلت: رأيت القوم يشتمونه فشتمته معهم.

فقال: ألا أخبرك بما رأيت من رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم.

قلت: بلى.

فقال: أتيت فاطمة - عليها السلام - أسألها عن علي - عليه السلام - فقالت:

«توجه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

فجلت أنتظره حتى جاء رسول الله فجلس ومعه علي وحسن وحسين أخذ كل واحد منهما بيده حتى دخل فأدنى علياً وفاطمة فأجلسهما بين يديه وأجلس حسنا وحسينا كل واحد منهما على فخذ ثم لف عليهم ثوبه أو قال كساء ثم تلا هذه الآية:

ص: 184

(... إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1).

ثم قال:

«هؤلاء أهل بيتي وأهل بيتي أحق»(2) (3).

وهذا العلم بحال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونصه وبيانه للآية وانحصارها بعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام إن هذا العلم لم يدفعه للعمل فيدافع عن حرمة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم. فسكت حينما أخذ الحاضرون عنده بشتم علي بن أبي طالب عليهما السلام.

باء: قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا)

باء: قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا)(4).

وفي بيان معنى الآية روى الشيخ الكليني رحمه الله عن الإمام الصادق عليه السلام أنه قال:

«تسبيح فاطمة الزهراء عليها السلام من الذكر الكثير الذي قال الله عزّ وجل:

(... اُذْكُرُوا اَللّٰهَ ذِكْراً كَثِيراً)(5).

ص: 185


1- سورة الأحزاب، الآية: 33.
2- مسند أحمد: ج 4، ص 107؛ ونلاحظ أن هذه الطبعة قد حذف منها (فشتموه فشتمته معهم فلما قاموا قال لي: لم شتمت هذا الرجل قلت رأيت القوم يشتمونه معهم)، طبع دار صادر، بيروت.
3- انظر: أصل الحديث في: تفسير الثعلبي: ج 8، ص 43؛ شواهد التنزيل للحاكم النيسابوري: ج 2، ص 67؛ تفسير ابن كثير: ج 3، ص 492؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 12، ص 147؛ إمتاع الأسماع للمقريزي: ج 5، ص 384؛ العمدة لابن البطريق: ص 32.
4- سورة الأحزاب، الآية: 41.
5- الكافي للكليني: ج 2: ص 500.
جيم: قوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله فى الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا)

جيم: قوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله فى الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا)(1).

وفي اختصاص الآية بفاطمة عليها السلام وبيان منزلتها نورد ما يلي:

1 - ذكر القمي رحمه الله في تفسيره عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«من آذاها في حياتي، كمن آذاها بعد موتي، ومن آذاها بعد موتي، كمن آذاها في حياتي، ومن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله».

وهو قول الله:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ ...).

وقوله:

(وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ ...)(2).

يعني علياً وفاطمة.

(... بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً).

وهي جارية في الناس كلهم)(3).

2 - وروى المازندراني في المناقب ما يلي:

(عن الواحدي في أسباب النزول، ومقاتل بن سليمان، وأبو القاسم

ص: 186


1- سورة الأحزاب، الآية: 57.
2- سورة الأحزاب، الآية: 58.
3- تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2، ص 196.

القشيري في تفسير لهما، أنه نزل قوله تعالى:

(وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِنٰاتِ ...).

في علي بن أبي طالب عليه السلام وذلك أن نفراً من المنافقين كانوا يؤذونه ويكذبون عليه. وفي رواية مقاتل:

(وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ ...).

يعني: علياً، والمؤمنات، يعني: فاطمة.

(... فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتٰاناً وَ إِثْماً مُبِيناً).

قال ابن عباس: وذلك أن الله تعالى أرسل عليهم الجرب في جهنم فلا يزالون يحكون حتى تقطع أظفارهم، ثم يحكون حتى تنسلخ جلودهم، ثم يحكون حتى تظهر عظامهم، ويقولون: ما هذا العذاب الذي نزل بنا؟ فيقولون لهم عاشر الأشقياء: هذه عقوبة لكم ببغضكم أهل بيت محمد - صلى الله عليه وآله وسلم -.

وفي تفسير الضحاك ومقاتل، قال ابن عباس في قوله تعالى:

(إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّٰهَ وَ رَسُولَهُ ...).

وذلك حين قال المنافقون إن محمداً ما يريد منا إلا أن نعبد أهل بيته بألسنتهم فقال:

(... لَعَنَهُمُ اَللّٰهُ فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذٰاباً مُهِيناً).

في جهنم)(1).

ص: 187


1- المناقب لابن شهر آشوب المازندراني: ج 3، ص 210.

المسألة الثامنة عشرة: منزلة فاطمة في سورة فاطر

أولا: قال تعالى: (و ما يستوى الأعمى و البصير)

(وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ وَ اَلْبَصِيرُ (19) وَ لاَ اَلظُّلُمٰاتُ وَ لاَ اَلنُّورُ (20) وَ لاَ اَلظِّلُّ وَ لاَ اَلْحَرُورُ (21) وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَحْيٰاءُ وَ لاَ اَلْأَمْوٰاتُ إِنَّ اَللّٰهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشٰاءُ وَ مٰا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ)(1).

وفيها روى الحافظ الحسكاني وغيره (عن ابن شهاب الزهري عن أبي صالح عن ابن عباس في قول الله تعالى:

(وَ مٰا يَسْتَوِي اَلْأَعْمىٰ ...).

قال: أبو جهل بن هشام و (البصير) قال علي بن أبي طالب، ثم قال: (ولا الظلمات) يعني أبو جهل المظلم قلبه بالشرك (ولا النور) يعني قلب علي المملوء من النور، ثم قال: (ولا الظل) يعني بذلك مستقر علي في الجنة، (ولا الحرور) يعني به مستقر أبي جهل في جهنم، ثم جمعهم فقال: (وما يستوي الأحياء) علي وحمزة وجعفر وحسن وحسين وفاطمة وخديجة، (ولا الأموات) كفار مكة)(2).

ثانيا: قال تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا)

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتٰابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنٰا مِنْ عِبٰادِنٰا فَمِنْهُمْ ظٰالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سٰابِقٌ بِالْخَيْرٰاتِ بِإِذْنِ اَللّٰهِ ذٰلِكَ هُوَ اَلْفَضْلُ اَلْكَبِيرُ)(3).

ص: 188


1- سورة فاطر، الآيات: 19 و 20 و 21 و 22.
2- شواهد التنزيل للحافظ الحسكاني: ج 2: ص 154؛ المناقب لابن شهر: ج 3، ص 81؛ تأويل الآيات: ص 469-470.
3- سورة فاطر، الآية: 32.

وقد ورد في هذه الآية بعض الأحاديث الشريفة التي تكشف عن منزلة فاطمة عليها السلام.

1 - (عن أبي بصير قال سألت أبا عبد الله عليه السلام عن هذه الآية:

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتٰابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنٰا مِنْ عِبٰادِنٰا...).

قال:

«أي شيء تقول ؟».

قلت: إني أقول إنها خاصة لولد فاطمة.

فقال عليه السلام:

«أما من سل سيفه ودعا الناس إلى نفسه إلى الضلال من ولد فاطمة وغيرهم فليس بداخل في الآية».

قلت: من يدخل فيها، قال:

«الظالم لنفسه الذي لا يدعو الناس إلى ضلال ولا هدى والمقتصد منا أهل البيت هو العارف حق الإمام والسابق بالخيرات هو الإمام»)(1).

2 - (عن سورة بن كليب عن أبي جعفر عليه السلام أنه قال في هذه الآية:

(ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتٰابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنٰا مِنْ عِبٰادِنٰا...).

قال:

«السابق بالخيرات الإمام، فهي في ولد علي وفاطمة عليهما السلام»)(2).

ص: 189


1- الاحتجاج للطبرسي: ج 2، ص 375؛ الكافي للكليني: ج 1، ص 215.
2- بصائر الدرجات: ص 45؛ مستدرك الوسائل: ج 17، ص 332.

المسألة التاسعة عشرة: منزلة فاطمة عليا السلام في سورة (ص)

قال تعالى:

(قٰالَ يٰا إِبْلِيسُ مٰا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمٰا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعٰالِينَ )(1).

وفي بيان معنى الآية وإظهار منزلة فاطمة عليها السلام وأهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين فقد روى الشيخ الصدوق رحمه الله تعالى بسنده إلى (أبي سعيد الخدري قال: كنا جلوساً مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذ أقبل إليه رجل فقال: يا رسول الله أخبرني عن قوله عزّ وجل لإبليس:

(... أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعٰالِينَ ).

فمن هو يا رسول الله الذي هو أعلى من الملائكة ؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أنا وعلي وفاطمة والحسن والحسين، كنا في سرادق العرش نسبح الله وتسبح الملائكة بتسبيحنا قبل أن يخلق الله عزّ وجل آدم بألفي عام، فلما خلق الله عزّ وجل آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له ولم يأمرنا بالسجود، فسجد الملائكة كلهم إلا إبليس فإنه أبى ولم يسجد، فقال الله تبارك وتعالى:

(... أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ اَلْعٰالِينَ ).

عنى من هؤلاء الخمسة المكتوبة أسماؤهم في سرادق العرش، فنحن باب الله الذي يؤتى منه، بنا يهتدي المهتدي، فمن أحبنا أحبه الله وأسكنه جنته، ومن أبغضنا أبغضه الله وأسكنه ناره، ولا يحبنا إلا من طاب مولده»)(2).

ص: 190


1- سورة ص، الآية: 75.
2- فضائل الشيعة للصدوق: ص 9؛ تأويل الآيات الظاهرة: ص 497-498؛ قصص الأنبياء للجزائري: ص 34.

المسألة العشرون: منزلة فاطمة في سورة الزمر

قال تعالى:

(قُلْ يٰا عِبٰادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لاٰ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّٰهِ إِنَّ اَللّٰهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ )(1).

(روى علي بن إبراهيم القمي عن محمد بن الفضيل عن أبي حمزة قال، قال أبو جعفر - الباقر - عليه السلام:

«لا يعذر الله يوم القيامة أحداً يقول يا رب لم أعلم أن ولد فاطمة عليها السلام هم الولاة على الناس كافة، وفي شيعة ولد فاطمة أنزل الله هذه الآية خاصة:

(... يٰا عِبٰادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ لاٰ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ ...)(2).

المسألة الحادية والعشرون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الشورى

قال تعالى:

(ذٰلِكَ اَلَّذِي يُبَشِّرُ اَللّٰهُ عِبٰادَهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهٰا حُسْناً إِنَّ اَللّٰهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)(3).

هذه الآية المباركة من الآيات العامة التي تخص الخمسة أصحاب الكساء عليهم السلام، فقد نزلت فيهم خاصة، وهي تظهر منزلتهم عند الله تعالى، فضلاً عن بيان دورهم ومقامهم في الشريعة الإسلامية، وإن طاعتهم لازمة ومودتهم

ص: 191


1- سورة الزمر، الآية: 53.
2- تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2، ص 250.
3- سورة الشورى، الآية: 23.

واجبة، ويسأل الله المسلمين عنها يوم القيامة.

ولذلك فقد حاول الأعراب والمنافقون تأويلها إلى معان عديدة بغية صرفها عن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كي لا يتخلى المسلمون عما ورثوه من السلف في التظليل والتعتيم على روح الشريعة وجوهرها، حرصاً على بقاء ملك الظالمين الذين ظلموا آل محمد منذ أن قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد جهد هؤلاء على إقصاء عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ممارسة دورهم الإلهي في بناء المجتمع المسلم والسير به إلى قيادة الأمم كما أراد الله تعالى له أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس، وليكونوا شهداء على الناس حينما يتمسكون بالثقلين القرآن والعترة النبوية.

ولعل الرجوع إلى كتب التفسير والحديث والعقائد لترسم صورة واضحة لدى الباحث والقارئ عن تعمد أعداء الإسلام في محاربتهم لهذه الآية وصدورها في آل البيت عليهم السلام ومنذ الصدر الأول؛ وفي ذلك روى الشيخ الكليني:

(عن إسماعيل بن عبد الخالق، قال: سمعت أبا عبد الله - الصادق - عليه السلام يقول لأبي جعفر الأحول، وأنا أسمع: - قال عليه السلام لأبي جعفر -:

«أتيت البصرة ؟».

فقال: نعم.

قال - عليه السلام -:

«كَيْفَ رَأيتَ مُسارَعَةَ النّاسِ إلى هَذا الأمْرِ وَدُخُولَهُمْ فِيهِ؟».

قال: والله إنهم لقليل، ولقد فعلوا، وإنّ ذلك لقليل، فقال:

ص: 192

«عليك بالأحداث، فإنهم أسرع إلى كلّ خير».

ثم قال:

«ما يقول أهل البصرة في هذه الآية:

(... قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ ...)؟

قلت: جعلت فداك، إنهم يقولون إنها لأقارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال:

«كذبوا إنما نزلت فينا خاصة في أهل البيت، في علي وفاطمة والحسن والحسين، أصحاب الكساء عليهم السلام»)(1).

ومما يدل عليه:

1 - روى الحاكم النيسابوري في المستدرك (عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام قال:

«خطب الإمام الحسن بن علي عليهما السلام الناس حين قتل علي عليه السلام، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

لقد قبض في هذه الليلة رجل لا يسبقه الأولون بعمل ولا يدركه الآخرون، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطيه رايته فيقاتل، وجبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره، فما يرجع حتى يفتح الله عليه، وما ترك على أهل الأرض صفراء ولا بيضاء إلاّ سبع مائة درهم، فضلت من عطاياه، أراد أن يبتاع بها خادما لأهله.

ص: 193


1- الكافي للكليني: ج 8، ص 93.

ثم قال: أيها الناس من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، وأنا ابن النبي، وأنا ابن الوصي، وأنا ابن البشير، وأنا ابن النذير، وأنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، وأنا ابن السراج المنير، وأنا من أهل البيت الذي كان جبريل ينزل إلينا، ويصعد من عندنا، وأنا من أهل البيت الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، وأنا من أهل البيت الذي افترض الله مودتهم على كل مسلم، فقال تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم:

(... قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهٰا حُسْناً...).

فاقتراف الحسنة مودتنا أهل البيت»)(1).

2 - روى ابن أبي حاتم الرازي، والطبراني، والثعلبي، والبيضاوي، والنسفي، والفخر الرازي، وغيرهم عن سعيد بن جبير، عن عبد الله بن عباس قال: (لما نزلت هذه الآية:

(... قُلْ لاٰ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ ...).

قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت مودتهم ؟

قال - النبي صلى الله عليه وآله وسلم -:

ص: 194


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 172؛ مسائل علي بن جعفر عليه السلام: ص 328؛ مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني: ص 33؛ مناقب آل أبي طالب عليهم السلام: ج 3، ص 170؛ ذخائر العقبى: ص 138؛ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي: ج 16، ص 30؛ نظم درر السمطين للزرندي الحنفي: ص 148؛ ينابيع المودة للقندوزي الشافعي: ج 2، ص 213.

«علي وفاطمة وولداها»)(1).

ولقد رد على هذه الرواية بعض الحفّاظ كالحافظ ابن أبي حاتم الرازي، فكان فيما ذكره عن سند هذه الرواية: أن قال: (بسند ضعيف)(2)، والسبب إن أحد رجال السند في الرواية هو (حسين الأشقر) فهذا الرجل ذنبه الوحيد هو أنه كان يعمل بهذه الآية الكريمة - على خلاف هؤلاء الحفاظ - فيود علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، الذين أمر الله بحبهم فأعرض عنه هؤلاء الحفاظ.

وما الضير في إعراضهم إذا كان الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل عليه بوجه الكريم لأنه امتثل شرع الله في الولاء لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

فضلاً عن ذلك فإن الرواية لها ما يعاضدها ويساندها من العشرات من الآيات النازلة في أصحاب الكساء، فضلاً عن إخراج الحاكم بسند صحيح لإقرار أهل البيت عليهم السلام - كما مرّ عن الإمام الحسن عليه السلام - بأن آية المودة وغيرها من الآيات ليشد بعضها بعضاً كالسلسلة التي تأخذ بيد الشارد إلى جادة الحق وما بعد الحق إلا الضلال، أما الحافظ الزيلعي فقال:

(والحق تفسير هذه الآية بما فسرها حبر الأمة ابن عباس أخرجه البخاري،

ص: 195


1- تفسير ابن ابي حاتم الرازي: ج 10، ص 3276؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 11، ص 352؛ تفسير الثعلبي: ج 8، ص 37؛ تفسير الكشاف: ج 3، ص 468؛ تفسير النسفي: ج 4، ص 101؛ تفسير الفخر الرازي: ج 27، ص 166؛ تفسير البيضاوي: ج 5، ص 128.
2- تفسير بن أبي حاتم: ج 10، ص 3276؛ الفتح السماوي للمناوي: ج 3، ص 980.

من رواية طاووس، عنه أنه سئل عن قوله تعالى:

(... إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبىٰ ...).

قال: سعيد بن جبير أقرباء آل محمد فقال: ابن عباس عجلت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بطن من قريش إلاّ كان له فيهم قرابة فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة)(1).

وهذه الرواية في معرض الإثبات بكونها خاصة بفاطمة وبنيها صلوات الله عليهم وهي ليست بمعرض النفي وقد رد ابن عباس على حملها بصفة العموم الذي تحدث به سعيد بن جبير عن معنى (آل محمد صلى الله عليه وله وسلم) بأنه جميع قريش أو هو بصفته الأعم - أي (الآل) - الذي يحمله الزيلعي ويعتقد به هو وكثير من أبناء السنة والجماعة.

فهو كالقرطبي يرى أن كلمة (الآل) إنما يراد بها كل (من هو على دينه وملته في الأني وسائر الأعصار سواء كان نسبياً له أو لم يكن، ومن لم يكن على دينه وملته فليس من أله ولا أهله وإن كان نسبيه وقريبه خلافاً للرافضة حيث قالت أن آل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة)(2).

إذ لا يمكن عقلاً أن يريد سعيد بن جبير أن يبين (الآل) أنها في صفة العموم وهو ما عليه أهل الجماعة ثم يأتي ابن عباس فيقول له عجلت في حكمك إن الآل عامة فيخص القرابة لجميع قريش فيحكم بنفس الحكم ويبين نفس المعنى.

ص: 196


1- تخريج الأحاديث للزيلعي: ج 3، ص 335.
2- تفسير القرطبي: ج 1، ص 381.

فلو جرى مثل هذا الكلام بين اثنين لكان هذيا.

ولذا: نحن أمام حالتين:

1 - أما إن (الآل) هو فاطمة وبنيها وهم القربى وهو الذي أراده سعيد ابن جبير ثم حكم عليه ابن عباس بالتستر وإن المراد من الآل هم جميع قريش، وهذا يدعو إلى الخلاف بين الصحابة في فهم القرآن ومعرفة أحكامه.

2 - وإما أنها، أي (الآل) في معنى العموم وهو ما أراده سعيد ابن جبير فرد عليه ابن عباس موضحاً له أنها ليست بمعنى العموم والعلة في ذلك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن بطن من قريش إلاّ كان له فيهم قرابة وهذا يلزم شرعاً بمودتهم جميعاً بما فيهم عمه (أبي لهب) لأنه من ذي قرابته المقربة فهو عمه وهذا خلاف القرآن والشريعة المحمدية فكيف يلزم الشارع المقدس بمودة جميع هؤلاء وفيهم المؤمن والكافر.

ولذلك يظهر أن الحديث في آخره حذف. إذ أن سياق الرواية يرشد إلى أن ابن عباس أراد أن يستدل على نفي العموم الذي أراده ابن جبير في معنى الآل والذي عليه أهل السنة والجماعة من خلال: أن الله لا يأمر بمودة عموم قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو الذي لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة وفيهم الكفار وهذا لا يمكن، إنما قرباه وآله، هم فاطمة وبعلها وبنيها.

فيكون سياق الحديث الذي بتره أصحاب السياسة بهذا الشكل: (عجلت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن من قريش إلا كان له فيهم قرابة فقال: إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم قرابة، أنما قرباه هم فاطمة وبعلها وبنيها).

ص: 197

ونفس هذا السياق من الأحاديث له مثيل في صحيح مسلم، أي أن يحمل الراد على السائل أولاً بنفس معناه المراد، ثم يخصص له الجواب كي يفهم المراد التعييني للسؤال، أو الحكم.

وذلك حينما سأل زيد بن أرقم عن أزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنهن من أهل بيته فقال: (لا، وايم الله أن المرأة تكون مع الرجل العصر من الدهر ثم يطلقها فترجع إلى أبيها وقومها، أهل بيته أصله وعصبته الذين حرموا الصدقة بعده)(1).

فهنا جاء الجواب بنفس المراد من السؤال أولاً؛ ثم قام بالتخصيص، وابن عباس فعل كذلك.

وإلا لا يمكن أن يأمر الله عز وجل بمودة جميع قرابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جميع بطون قريش ومنهم المشركين والمنافقين، فضلاً عن ذلك انعدام تحقق الجدوى وسقوط الحكمة؛ بل ظهور العبثية في الحكم - والعياذ بالله - فالله تبارك وتعالى حكيم عزيز لا يصنع العبث.

وعليه: لا يتحقق أي مظهر من مظاهر الحكمة.

في الأمر بحب جميع بطون قريش وفيهم صناديد الشرك وأعمدة النفاق الذين لزموا حرب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

بل: لم يجر هذا الرأي حتى عند إمام السلفية ابن تيمية الذي أسس لقاعدة الحب والمودة في كونها تدور مدار حب الله تعالى فيقول: (وليس للخلق محبة أعظم

ص: 198


1- صحيح مسلم، باب: من فضائل علي عليه السلام: ج 7، ص 123.

ولا أكمل ولا أتم من محبة المؤمنين لحبهم، وليس في الوجود ما يستحق أن يحب لذاته من كل وجه إلا الله تعالى وكل ما يحب سواه فمحبته تبع لحبه، فإن الرسول إنما يحب لأجل الله، ويطاع لأجل الله ويتبع لأجل الله تعالى كما قال تعالى:

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ ...)(1).

وفي الحديث:

«أحبوا الله لما يغذوكم من نعمة فأحبوني لحب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي»(2).

فإذا كان المناط عند ابن تيمية في الحب هو الله تعالى ومنه كان حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام وعليه فما وجه الحكمة في أن تكون المودة لكل بطن من بطون قريش بلحاظ عموم الحكم وما يرتبط بالله تعالى.

نعم، تتجلى المودة في الآية منحصرة بمحمد وآله عليهم السلام لكونهم أهل بيت الرسالة وموضع الوحي، ومهبط الملائكة، وسنام السنة، وأعلام الإسلام، والأدلاء إلى الله تعالى، وباب الله الذي يأتي منه إليه سبحانه.

ولذا طهرهم من الرجس وأوجب على الخلق مودتهم كي يتبعهم الخلق فبإتباعهم حب الله تعالى كما قال سبحانه:

(... إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ ...).

وبحبهم يكون حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 199


1- سورة آل عمران، الآية: 31.
2- درجات اليقين لابن تيمية: ص 149؛

المسألة الثانية والعشرون: منزلة فاطمة في سورة الزخرف

قال تعالى:

(يٰا عِبٰادِ لاٰ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ وَ لاٰ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ )(1).

هذه الآية من الآيات الخاصة والكاشفة عن منزلة فاطمة عليها السلام في يوم القيامة وذلك لما نص عليه قول الإمام زين العابدين عليه السلام.

(فقد روى فرات الكوفي عن أبي حمزة الثمالي، عن علي بن الحسين عليهما السلام قال:

«إذا كان يوم القيام نادى مناد:

(... لاٰ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اَلْيَوْمَ وَ لاٰ أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ).

فإذا قالها: لم يبق أحد إلا رفع رأسه.

فإذا قال:

(اَلَّذِينَ آمَنُوا بِآيٰاتِنٰا وَ كٰانُوا مُسْلِمِينَ )(2).

لم يبق أحد إلا طأطأ رأسه إلا المسلمين المحبين قال ثم ينادي هذه فاطمة بنت محمد تمر بكم وهي ومن معها إلى الجنة ثم يرسل الله لها (إليها) ملكا فيقول يا فاطمة سلي حاجتك فتقول يا رب حاجتي أن تغفر (لي) و (لمن نصر ولدي)»)(3).

ص: 200


1- سورة الزخرف، الآية: 68.
2- سورة الزخرف، الآية: 68.
3- تفسير فرات الكوفي: ص 409.

المسألة الثالثة والعشرون: منزلة فاطمة في سورة الدخان

قال تعالى:

(حم (1) وَ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ (2) إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ إِنّٰا كُنّٰا مُنْذِرِينَ (3) فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )(1).

وهي من الآيات الخاصة بفاطمة عليها السلام والكاشفة عن منزلتها وهو ما دل عليه قول الإمام أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السلام حينما جاءه رجل نصراني فسأله عن مسائل، منها: (أن قال له: إني أسألك أصلحك الله، قال:

«سل».

فقال: أخبرني عن كتاب الله الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وآله وسلم نطق به ثم وصفه بما وصفه وأن له تفسيرا ظاهراً وباطنا فقوله عزّ وجل:

(حم (1) وَ اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ (2) إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبٰارَكَةٍ إِنّٰا كُنّٰا مُنْذِرِينَ (3) فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ).

ما تفسيرها في الباطن، فقال:

«أما (حم) فمحمد صلى الله عليه وآله وسلم وهو في كتاب هو الذي أنزل عليه وهو منقوص الحروف وأما (اَلْكِتٰابِ اَلْمُبِينِ )

فهو أمير المؤمنين وأما (الليلة المباركة) فهي فاطمة وقوله: (فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )،

يقول يخرج فيها خير كثير رجل حكيم ورجل حكيم»)(2).

ص: 201


1- سورة الدخان، الآية: 3.
2- الكافي للكليني: ج 1، ص 479.

المسالة الرابعة والعشرون: منزلة فاطمة في سورة الجاثية

قال تعالى:

(أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئٰاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ سَوٰاءً مَحْيٰاهُمْ وَ مَمٰاتُهُمْ سٰاءَ مٰا يَحْكُمُونَ )(1).

هذه الآية من الآيات العامة المشتملة على بيان منزلة آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهم الأئمة المعصومون ومن سار بهديهم ولزم طريقتهم ووفد على الله تعالى بمذهبهم.

وفيها:

روى الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل (عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى:

(أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئٰاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّٰالِحٰاتِ ...).

النبي وعلي وحمزة والحسن والحسين وفاطمة)(2).

وروى العلامة الطباطبائي والفيض الكاشاني إنها خاصة في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته وأهل البيت عليهم السلام)(3).

ص: 202


1- سورة الجاثية، الآية: 21.
2- شواهد التنزيل: ج 2، ص 239؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي رحمه الله: ج 14، ص 442.
3- التفسير الصافي للفيض الكاشاني: ج 3، ص 444؛ تفسير الميزان: ج 15، ص 154.

المسألة الخامسة والعشرون: منزلة فاطمة في سورة الأحقاف

قال تعالى:

(وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ إِحْسٰاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً حَتّٰى إِذٰا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قٰالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اَلَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلىٰ وٰالِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صٰالِحاً تَرْضٰاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ )(1).

لقد ورد عن أئمة أهل البيت عليهم السلام أن الآية المباركة هي من الآيات المخصوصة بفاطمة عليها السلام وقد روى ابن بابويه، والكليني في ذلك ما يلي:

1 - (عن حماد عن محمد بن عبد الله بن أبيه قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول:

«أتى جبرئيل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: السلام عليك يا محمد، ألا أبشرك بغلام تقتله أمتك من بعدك، فقال:

لا حاجة لي فيه، قال: فانتهض إلى السماء ثم عاد إليه الثانية فقال له: مثل ذلك، فقال: لا حاجة لي فيه.

فانعرج إلى السماء ثم انقض إليه الثالثة فقال مثل ذلك فقال: لا حاجة لي فيه فقال: إنّ ربك جاعل الوصية في عقبه فقال نعم، أو قال ذلك.

ثم قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدخل على فاطمة عليها السلام فقال لها إن جبرئيل عليه السلام أتاني فبشرني بغلام تقتله أمتي من بعدي.

ص: 203


1- سورة الأحقاف، الآية: 15.

فقالت: لا حاجة لي فيه، فقال لها: إن ربي جاعل الوصية في عقبه فقالت: نعم.

قال فأنزل الله تعالى عند ذلك هذه الآية:

(... حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً...).

لموضع إعلام جبرئيل إياها بقتله فحملته كرها بأنه مقتول ووضعته كرها لأنه مقتول»)(1).

2 - (الوشاء عن أحمد بن عائذ عن أبي سلمة سالم بن مكرم عن أبي عبد الله عليه السلام قال:

«لما حملت فاطمة بالحسين جاء جبرئيل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن فاطمة ستلد ولداتقتله أمتك من بعدك.

فلما حملت فاطمة بالحسين كرهت حمله وحين وضعته كرهت وضعه».

ثم قال أبو عبد الله عليه السلام:

«هل رأيتم في الدنيا أما تلد غلاما فتكرهه ولكنها كرهته لأنها علمت أنه سيقتل».

قال:

وفيه نزلت هذه الآية:

(وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسٰانَ بِوٰالِدَيْهِ إِحْسٰاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصٰالُهُ ثَلاٰثُونَ شَهْراً...)(2).

ص: 204


1- كامل الزيارات لابن قولويه القمي: ص 55.
2- كامل الزيارات: ص 56؛ الكافي للكليني: ج 1، ص 464؛ تأويل الآيات الطاهرة: ص 563.

المسألة السادسة والعشرون: منزلة فاطمة عليه السلام في سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم

قال تعالى:

(ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ اَلْكٰافِرِينَ لاٰ مَوْلىٰ لَهُمْ )(1).

الآية الكريمة من الآيات العامة في أهل البيت عليهم السلام وذلك حسبما دلت عليه رواية الحافظ الحسكاني (عن قتادة عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس، في قوله تعالى:

(ذٰلِكَ بِأَنَّ اَللّٰهَ مَوْلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا...).

يعني: ولي علي وحمزة وجعفر وفاطمة والحسن والحسين وولي محمد صلى الله عليه - وآله - وسلم بنصرهم على عدوهم وأن الكافرين يعني أبا سفيان بن حرب وأصحابه لا مولى لهم يقول لا ولي لهم يمنعه من العذاب)(2).

المسألة السابعة والعشرون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة (ق)

قال تعالى:

(مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ )(3).

ورد في تأويل هذه الآية المباركة ما يشير إلى أنها من الآيات الخاصة بعلي وفاطمة عليهما السلام وذلك حسبما رواه القمي في تفسيره فقال:

ص: 205


1- سورة محمد، الآية: 11.
2- شواهد التنزيل للحاكم: ج 2، ص 244؛ شرح إحقاق الحق للمرعشي: ج 14، ص 673.
3- سورة ق، الآية: 12.

(وأما قوله: (مَنّٰاعٍ لِلْخَيْرِ...)، قال المناع الثاني، والخير ولاية أمير المؤمنين وحقوق آل محمد؛ ولما كتب الأول كتاب فدك يردها على فاطمة عليها السلام شقه الثاني، فهو (مُعْتَدٍ مُرِيبٍ )(1).

المسألة الثامنة والعشرون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الذاريات

قال تعالى:

(كٰانُوا قَلِيلاً مِنَ اَللَّيْلِ مٰا يَهْجَعُونَ (17)(2).

وهذه الآية من الآيات العامة في عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وفي ذلك روى الحاكم الحسكاني في شواهد التنزيل فقال:

(عن ابن عباس في قوله تعالى:

(كٰانُوا قَلِيلاً مِنَ اَللَّيْلِ مٰا يَهْجَعُونَ ).

قال:

نزلت في علي بن أبي طالب والحسن والحسين وفاطمة عليهم السلام، وكان علي يصلي ثلثي الليل الأخير، وينام الثلث الأول، فإذا كان السحر جلس في الاستغفار والدعاء، وكان ورده في كل ليلة سبعين ركعة ختم فيها القرآن)(3).

ص: 206


1- تفسير القمي: ج 2، ص 326؛ التفسير الصافي للكاشاني: ج 5، ص 63؛ تفسير نور الثقلين للحويزي: ج 5، ص 114.
2- سورة الذاريات، الآية: 17.
3- شواهد التنزيل: ج 2، ص 268.

المسألة التاسعة والعشرون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الطور

ومن سورة الطور ورد في أهل البيت ما يلي:

الآية الأولى: قال تعالى:

(إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّٰاتٍ وَ نَعِيمٍ )(1).

إنّ هذه الآية المباركة من الآيات التي نزلت في أصحاب الكساء عليهم السلام ولذا فهي من الآيات العامة المشتركة فيهم، وقد روى الحاكم في شواهد التنزيل (عن مجاهد عن بن عباس في قوله تعالى:

(إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ ...).

قال: نزلت خاصة في علي وحمزة وجعفر وفاطمة عليهم السلام.

يقول: إن المتقين في الدنيا (من) الشرك والفواحش والكبائر في (جنات) يعني البساتين و (نعيم) في أثواب في الجنان.

قال ابن عباس: لكل واحد منهم بستان في الجنة العليا، في وسطه خيمة من لؤلؤة، في كل خيمة سرير من الذهب واللؤلؤ، على كل سرير سبعون فراشا)(2).

الآية الثانية: قال تعالى:

(وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ أَلْحَقْنٰا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ مٰا أَلَتْنٰاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُلُّ اِمْرِئٍ بِمٰا كَسَبَ رَهِينٌ )(3).

ص: 207


1- سورة الطور، الآية: 17.
2- شواهد التنزيل: ج 2، ص 269؛ شرح إحقاق الحق: ج 14، ص 679.
3- سورة الطور، الآية: 21.

وقد روى الحاكم الحسكاني في بيان اختصاص هذه الآية المباركة في أهل البيت عليهم السلام، أي الخمسة أصحاب الكساء ما يلي:

1 - (عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في قوله تعالى:

(وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمٰانٍ ...).

قال: نزلت في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام)(1).

2 - (عن محمد بن زيد بن جذعان، عن عمه، قال ابن عمر: إنا إذا عددنا قلنا أبو بكر، وعمر، وعثمان. فقال له رجل: يا أبا عبد الرحمن فعلي ؟

قال ابن عمر: ويحك علي من أهل البيت لا يقاس بهم، علي مع رسول الله في درجته، إن الله يقول:

(وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ ...).

ففاطمة مع رسول الله في درجته وعلي معهما)(2).

المسألة الثلاثون: منزلة فاطمة في سورة الرحمن

قال تعالى:

(مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيٰانِ (19) بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ لاٰ يَبْغِيٰانِ (20) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجٰانُ )(3).

ص: 208


1- شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 2، ص 270.
2- شواهد التنزيل للحاكم: ج 2، ص 271.
3- سورة الرحمن، الآية: 19.

هذه الآيات المباركة من الآيات الخاصة بعلي وفاطمة وولديهما عليهم السلام وذلك حسبما نصت عليه الروايات الشريفة الواردة عن العترة النبوية عليهم السلام.

1 - روى الحاكم الحسكاني بطرق عدة، عن جويبر عن الضحاك؛ وسعيد بن جبير عن ابن عباس؛ وعن زاذان عن سلمان؛ وعن مجاهد عن ابن عباس، في قوله تعالى:

(مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيٰانِ (19) بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ لاٰ يَبْغِيٰانِ (20) فَبِأَيِّ آلاٰءِ رَبِّكُمٰا تُكَذِّبٰانِ (2(1) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجٰانُ ).

ما يلي:

ألف: عن الضحاك، قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان، قال: الحسن والحسين»)(1).

باء: عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى:

(مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيٰانِ ).

قال: الحسن والحسين)(2).

جيم: عن سلمان، في قوله تعالى:

(مَرَجَ اَلْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيٰانِ ).

قال: علي وفاطمة.

ص: 209


1- شواهد التنزيل: ج 2، ص 284.
2- المصدر السابق نفسه.

(بَيْنَهُمٰا بَرْزَخٌ لاٰ يَبْغِيٰانِ ).

قال: النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجٰانُ ).

قال: الحسن والحسين عليهما السلام)(1).

دال: (وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«إذا فقدتم الشمس فاتوا القمر، وإذا فقدتم القمر فاتوا الزهرة، فإذا فقدتم الزهرة، فأتوا الفرقدين».

قيل: يا رسول الله ما الشمس، قال:

«أنا».

قيل: ما القمر، قال:

«علي».

قيل: ما الزهرة ؟ قال:

«فاطمة».

قيل: ما الفرقدان ؟ قال:

«الحسن والحسين عليهما السلام»)(2).

ص: 210


1- المصدر السابق، وقد وردت هذه الأحاديث في عدد من المصادر الإسلامية: المناقب لابن شهر آشوب: ج 3، ص 318؛ العمدة لابن البطريق: ص 399؛ تفسير القمي: ج 2: ص 244؛ تفسير فرات الكوفي: ص 459؛ نثر الدر للآبي: ج 1، ص 91.
2- شواهد التنزيل: ج 2، ص 288.

المسألة الواحدة والثلاثون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الواقعة

قال تعالى:

(لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ )(1).

وهي من الآيات الخاصة في النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام، وفي ذلك يروي المازندراني، عن أبي أيوب الأنصاري، قال:

(نزل النبي صلى الله عليه وآله وسلم داري فنزل عليه جبرئيل من السماء بجام من فضة فيه سلسلة من ذهب فيه ماء من الرحيق المختوم فناول النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم، فشرب ثم ناول عليا فشرب ثم ناول فاطمة فشربت ثم ناول الحسن فشرب ثم ناول الحسين فشرب ثم ناول الأول فانضم الكأس، فأنزل الله تعالى:

(لاٰ يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ ).

وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)(2).

المسألة الثانية والثلاثون: منزلة فاطمة في سورة المجادلة

قال تعالى:

(إِنَّمَا اَلنَّجْوىٰ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ لِيَحْزُنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضٰارِّهِمْ شَيْئاً إِلاّٰ بِإِذْنِ اَللّٰهِ وَ عَلَى اَللّٰهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ )(3).

هذه الآية من الآيات الخاصة بفاطمة عليها السلام وقد روى القمي في

ص: 211


1- سورة الواقعة، الآية: 79.
2- المناقب لابن شهر المازندراني: ج 2، ص 230.
3- سورة المجادلة، الآية: 10.

تفسيره عن أبي بصير عن الصادق عليه السلام في سبب نزولها إنه قال:

«إن فاطمة عليها السلام رأت في منامها أن رسل الله صلى الله عليه وآله وسلم هم أن يخرج هو وفاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام من المدينة فخرجوا حتى جاوزوا من حيطان المدينة فعرض لهم طريقان، فاخذ رسول الله صلى الله عليه وآله ذات اليمين حتى انتهى بهم إلى موضع فيه نخل وماء فاشترى رسول الله صلى الله عليه وآله شاة كبراء وهي التي في أحد أذنيها نقط بيض فأمر بذبحها فلما أكلوا منها ماتوا في مكانهم.

فانتبهت فاطمة باكية ذعرة فلم تخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذلك، فلما أصبحت جاء رسول الله صلى الله عليه وآله بحمار فاركب عليه فاطمة، وأمر أن يخرج أمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام من المدينة، كما رأت فاطمة في نومها.

فلما خرجوا من حيطان المدينة عرض لهم طريقان فاخذ رسول الله صلى الله عليه وآله ذات اليمين كما رأت فاطمة عليها السلام حتى انتهوا إلى موضع فيه نخل وماء فاشترى رسول الله صلى الله عليه وآله شاة ذراء كما رأت فاطمة عليها السلام، فأمر بذبحها فذبحت وشويت فلما أرادوا أكلها قامت فاطمة وتنحت ناحية منهم تبكي مخافة أن يموتوا.

فطلبها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى وقف عليها وهي تبكي، فقال: ما شأنك يا بنية ؟.

قالت: يا رسول الله رأيت البارحة كذا وكذا في نومي وقد فعلت أنت كما رأيته في نومي فتنحيت عنكم لان لا أراكم تموتون.

ص: 212

فقام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فصلى ركعتين ثم ناجى ربه فنزل عليه جبرئيل عليه السلام فقال: يا محمد هذا شيطان يقال له الزها (الرها ط)، وهو الذي أرى فاطمة هذه الرؤيا ويؤذي المؤمنين في نومهم ما يغتمون به.

فأمر جبرئيل عليه السلام أن يأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: أنت أريت فاطمة هذه الرؤيا؟.

فقال: نعم يا محمد!

فبزق عليه ثلاث بزقات فشجه في ثلاث مواضع ثم قال جبرئيل لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: «قل يا محمد إذا رأيت في منامك شيئا تكرهه أو رأى أحد من المؤمنين فليقل: أعوذ بما عاذت به ملائكة الله المقربون وأنبياء الله المرسلون وعباده الصالحون من شر ما رأيت من رؤياي، ويقرأ الحمد والمعوذتين وقل هو الله أحد ويتفل عن يساره ثلاث تفلات، فإنه لا يضره ما رأى.

فأنزل الله على رسوله:

(إِنَّمَا اَلنَّجْوىٰ مِنَ اَلشَّيْطٰانِ ...»)(1).

المنزلة الثالثة والثلاثون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الحشر

قال تعالى:

(وَ اَلَّذِينَ تَبَوَّؤُا اَلدّٰارَ وَ اَلْإِيمٰانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هٰاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لاٰ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حٰاجَةً مِمّٰا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ )(2).

ص: 213


1- تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2: ص 355-356.
2- سورة الحشر، الآية: 9.

روى الشيخ الطوسي عن المفيد في سبب نزول هذه الآية، (عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فشكا إليه الجوع فبعث إلى بيوت أزواجه فقلن ما عندنا إلاّ الماء فقال:

«من لهذا الرجل الليلة».

فقال علي بن أبي طالب عليه السلام:

«أنا له يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

وأتى فاطمة فقال لها:

«ما عندك ؟».

فقالت:

«ما عندنا إلا قوت الصبية لكنا نؤثر ضيفنا».

فقال علي عليه السلام:

«نوّمي الصبية وأطفئي المصباح».

فلما أصبح علي عليه السلام: غدا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأخبره الخبر فلم يبرح حتّى أنزل الله:

(... وَ يُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ )(1).

وهذه الرواية تدل على أن الآية من الآيات الخاصة بعلي وفاطمة عليهما السلام.

ص: 214


1- الأمالي للطوسي: ص 185؛ وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 9، ص 462؛ البحار للمجلسي: ج 41، ص 34؛ حليلة الأبرار: ج 2، ص 213.

المسألة الرابعة والثلاثون: منزلة فاطمة في سورة التحريم

اشارة

ورد في سورة التحريم آيتان تكشف كل منهما عن منزلة فاطمة عليها السلام في هذه السورة وهما كالآتي:

الآية الأولى

قال تعالى:

(يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّٰهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسىٰ رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئٰاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنّٰاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهٰارُ يَوْمَ لاٰ يُخْزِي اَللّٰهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعىٰ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمٰانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَتْمِمْ لَنٰا نُورَنٰا وَ اِغْفِرْ لَنٰا إِنَّكَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ)(1).

روى ابن شهر في المناقب:

(نقلا عن تفسير مقاتل عن عطاء عن ابن عباس: (يَوْمَ لاٰ يُخْزِي اَللّٰهُ اَلنَّبِيَّ ) لا يعذب الله محمداً (وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) لا يعذب علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين وحمزة وجعفراً، (نُورُهُمْ يَسْعىٰ ) يضيء على الصراط لعلي وفاطمة مثل الدنيا سبعين مرة فيسعى نورهم بين أيديهم ويسعى عن أيمانهم وهم يتبعونها فيمضي أهل بيت محمد وآله زمرة على الصراط مثل البرق الخاطف ثم قوم مثل الريح ثم قوم مثل عدو الفرس ثم يمضي قوم مثل المشي ثم قوم مثل الجثو ثم قوم مثل الزحف ويجعله الله على المؤمنين عريضا وعلى المذنبين دقيقا، قال اله

ص: 215


1- سورة التحريم، الآية: 8.

تعالى: (يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَتْمِمْ لَنٰا نُورَنٰا) حتى نجتاز به على الصراط قال فيجوز أمير المؤمنين في هودج من الزمرد الأخضر ومعه فاطمة على نجيب من الياقوت الأحمر حولها سبعون ألف حور كالبرق اللامع)(1).

والحديث يكشف عن اختصاص الآية الكريمة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وعلي وفاطمة عليهما السلام.

الآية الثانية

قال الله تعالى:

(وَ مَرْيَمَ اِبْنَتَ عِمْرٰانَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهٰا فَنَفَخْنٰا فِيهِ مِنْ رُوحِنٰا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِمٰاتِ رَبِّهٰا وَ كُتُبِهِ وَ كٰانَتْ مِنَ اَلْقٰانِتِينَ )(2).

تعد هذه الآية المباركة من الآيات الخاصة بفاطمة عليها السلام كما نص عليه قول الإمام الصادق الذي رواه شرف الدين الحسيني في تأويل الآيات، فقال:

(عن أحمد بن محمد اليساري عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه السلام في قوله عزّ وجل:

(وَ مَرْيَمَ اِبْنَتَ عِمْرٰانَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهٰا...).

قال:

«هذا مثل ضربه الله لفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته

ص: 216


1- المناقب لابن شهر: ج 2، ص 155-156؛ البحار للمجلسي: ج 8، ص 67.
2- سورة التحريم، الآية: 12.

وسلم تسليماً»)(1).

المسألة الخامسة والثلاثون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة المزمل

قال تعالى:

(رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً)(2).

روى المازندراني في المناقب: (إنّ فاطمة عليها السلام تمنت عند غزاة علي عليه السلام فنزل:

(رَبُّ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ لاٰ إِلٰهَ إِلاّٰ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً)(3).

المسألة السادسة والثلاثون: منزلة فاطمة في سورة المدثر

قال تعالى:

(إِنَّهٰا لَإِحْدَى اَلْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ)(4).

هذه الآية الكريمة ورد فيها الكثير من الأحاديث التي تظهر معناها فقيل: إنها الولاية لآل محمد(5).

وقيل: محمداً صلى الله عليه وآله وسلم(6)، وقيل: جهنم(7)؛ في حين روى

ص: 217


1- تأويل الآيات: ج 2، ص 701.
2- سورة المزمل، الآية: 9.
3- المناقب لابن شهر: ج 3، ص 325.
4- سورة المدّثر: الآية: 35.
5- الكافي للكليني: ج 1، ص 434.
6- مختصر بصائر الدرجات للحسن بن سليمان الحلي: ص 17.
7- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 8، 218.

القمي عن أبي حمزة عن الإمام الباقر عليه السلام في قوله:

(إِنَّهٰا لَإِحْدَى اَلْكُبَرِ).

قال:

«يعني فاطمة عليها السلام»)(1).

المسألة السابعة والثلاثون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الدهر

تمتاز هذه السورة المباركة من بين السور القرآنية بأنها كانت خاصة في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، وقد جمعت من المناقب ما لم تجمعه سورة أخرى في القرآن وهي تتحدث عن الآخرة والجنة؛ ولقد تناولها المفسرون وأهل الحديث في الإشارة والذكر والاختصاص بأهل البيت عليهم السلام فبين من ذكرهم مختصراً وبين من أورد القصة كاملة، ومنها:

أولاً: روى الشيخ الطوسي في المصباح، فقال: (وفي ليلة خمس وعشرين منه يعني من ي الحجة تصدق أمير المؤمنين وفاطمة عليهما السلام وفي اليوم الخامس والعشرين منه نزلت فيهما وفي الحسن والحسين عليهم السلام سورة هل أتى - وذلك - لما مرض الحسن والحسين فعادهما جدهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعادهما عامة العرب)(2).

وفي رواية مسلم بن خالد (عن الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه عليه

ص: 218


1- تفسير علي بن إبراهيم القمي: ج 2، ص 396.
2- إقبال الأعمال: ص 527.

السلام في قوله الله عزّ وجل:

(يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخٰافُونَ يَوْماً كٰانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً)(1).

قال:

«مرض الحسن والحسين وهما صبيان فعادهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه رجلان، فقال أحدهما: يا أبا الحسن لو نذرت في ابنيك نذراً إن عافاهما الله فقال: أصوم ثلاثة ايام شكراً لله عزّ وجل وكذلك قالت فاطمة وكذلك قالت جارتيهم فضة فألبسهما الله عافية فأصبحوا صياماً وليس عندهم طعام»(2).

وفي رواية:

«لما مرض الحسن والحسين فعادهما جدهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعادهما عامة العرب، فقال: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك وكل نذر لا يكون له وفاء فليس بشيء، فقال علي عليه السلام: إن براءا ولداي: مما بهما صمت ثلاثة أيام شكرا لله عز وجل، وقالت فاطمة وجاريتهم فضة مثل ذلك، فألبس الغلامان العافية وليس عند آل محمد قليل ولا كثير، فانطلق علي عليه السلام إلى شمعون بن حاريا لاخيبري فاقترض منه ثلاثة اصوع من شعير.

أقول(3): ورويت ببعض أسانيدي، أن صدقة مولانا علي ومولاتنا فاطمة صلوات الله عليهما على المسكين واليتيم والأسير كانت في ثلاث ليال، فيمكن أن

ص: 219


1- سورة الإنسان، الآية: 7.
2- وسائل الشيعة: ج 23، ص 204.
3- القول للشيخ الطوسي.

يكون أول الثلاثة ليلة خمس وعشرين من ذي الحجة.

فمن الرواية في ذلك قال:

فانطلق علي عليه السلام إلى جار له من اليهود يعالج الصوف يقال له: شمعون بن حاريا فقال له: هل لك أن تعطيني جزة من الصوف تغزلها بنت محمد صلى الله عليه وآله وسلم بثلاثة أصوع من شعير؟».

فقال: نعم، فأعطاه، فجاء بالصوف وبالشعير، فأخبر عليه السلام فاطمة عليها السلام بذلك، فقبلت وأطاعت، فقامت فاطمة عليها السلام فطحنته واختبزت منه خمسة اقراض، لكل واحد منهم قرص وصلى علي مع النبي صلوات الله عليهما المغرب وأتى المنزل، فوضع الطعام بين يديه، إذ أتاهم مسكين فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد مسكين من مساكين المسلمين أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فسمعه علي عليه السلام فأمر بإعطائه فأعطوه.

فمكثوا يومهم وليلتهم لم يذوقوا شيئا إلاّ الماء القراح، فلما كان اليوم الثاني قامت فاطمة عليها السلام إلى صاع فطحنته واختبزته وصلى على مع النبي عليهما السلام، ثم أتى المنزل فوضع الطعام بين يديه، فأتاهم يتيم فوقف بالباب وقال: السلام عليكم أهل بيت محمد يتيم من أولاد المهاجرين استشهد والدي يوم العقبة، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فسمعه علي عليه السلام فأمر بإعطائه فأعطوه.

ومكثوا يومين وليلتين لم يذوقوا شيئا إلاّ الماء القراح، فلما كان اليوم الثالث

ص: 220

قامت فاطمة عليها السلام إلى الصاع الثالث فطحنته وصلى على مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثم أتى المنزل ثم وضع الطعام بين يديه وأتاهم أسير فوقف بالباب فقال: السلام عليكم أهل بيت محمد، تأسرونا ولا تطعمونا، فسمعه علي عليه السلام فأمر بإعطائه فأعطوه الطعام ومكثوا ثلاثة أيام ولياليها لم يذوقوا شيئا إلاّ الماء القراح.

فلما كان اليوم الرابع وقد وفوا نذرهم، أخذ على بيده اليمنى الحسن وبيده اليسرى الحسين، وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وآله، وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، فلما بصر به النبي صلى الله عليه وآله قال:

«يا أبا الحسن ما أشد ما أراه بكم، فانطلق بنا إلى منزل فاطمة».

فانطلقوا إليها وهي في محرابها قد لصق بطنها من شدة الجوع وغارت عيناها، فلما رآها النبي صلى الله عليه وآله قال:

«وا غوثاه يا الله أهل بيت محمد يموتون جوعا».

فهبط جبرئيل عليه السلام على محمد صلى الله عليه وآله فقال:

«يا محمد خذ ما هناك الله في أهل بيتك، فقال: ما أخذ يا جبرئيل، فاقرأه عليه:

(هَلْ أَتىٰ عَلَى اَلْإِنْسٰانِ حِينٌ مِنَ اَلدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنّٰا خَلَقْنَا اَلْإِنْسٰانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشٰاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنٰاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنّٰا هَدَيْنٰاهُ اَلسَّبِيلَ إِمّٰا شٰاكِراً وَ إِمّٰا كَفُوراً (3) إِنّٰا أَعْتَدْنٰا لِلْكٰافِرِينَ سَلاٰسِلَ وَ أَغْلاٰلاً وَ سَعِيراً (4) إِنَّ اَلْأَبْرٰارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كٰانَ مِزٰاجُهٰا كٰافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِهٰا عِبٰادُ اَللّٰهِ يُفَجِّرُونَهٰا تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخٰافُونَ يَوْماً كٰانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَ يُطْعِمُونَ

ص: 221

اَلطَّعٰامَ عَلىٰ حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (8) إِنَّمٰا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللّٰهِ لاٰ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزٰاءً وَ لاٰ شُكُوراً)»(1).

وزاد محمد بن الغزالي على ما ذكره الثعلبي في كتابه المعروف بالبلغة: أنهم عليهم السلام نزلت عليهم مائدة من السماء فأكلوا منها سبعة أيام)(2).

ثانياً: فيما ورد بخصوص بعض آيات سورة الدهر، ما روي في بيان معنى قوله تعالى:

(مُتَّكِئِينَ فِيهٰا عَلَى اَلْأَرٰائِكِ لاٰ يَرَوْنَ فِيهٰا شَمْساً وَ لاٰ زَمْهَرِيراً)(3).

إذ تعد هذه الآية من الآيات الخاصة بفاطمة عليها السلام والكاشفة عن منزلتها في الجنة مع علي بن أبي طالب عليهم السلام وفي ذلك روى ابن البطريق عن ابن عباس قال:

(فبينا أهل الجنة في الجنة إذ رأوا ضوءاً كضوء الشمس وقد أشرقت الجنان له فيقول أهل الجنة:

قال ربنا عزّ وجل:

(... لاٰ يَرَوْنَ فِيهٰا شَمْساً وَ لاٰ زَمْهَرِيراً).

فيقول لهم رضوان:

ص: 222


1- سورة الإنسان، الآيات: 1-9.
2- إقبال الأعمال: ص 527، وص 258؛ الأمالي للصدوق: ص 333؛ تفسير الكشاف: ج 4، ص 197؛ تفسير الثعلبي: ج 10، ص 99.
3- سورة الإنسان، الآية: 13.

«ليست هذه شمساً ولا قمراً ولكن هذه فاطمة وعلي عليهما السلام ضحكا ضحكا أشرقت الجنان من نور ضحكهما»)(1).

المسألة الثامنة والثلاثون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة البينة

قال تعالى:

(وَ مٰا أُمِرُوا إِلاّٰ لِيَعْبُدُوا اَللّٰهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ حُنَفٰاءَ وَ يُقِيمُوا اَلصَّلاٰةَ وَ يُؤْتُوا اَلزَّكٰاةَ وَ ذٰلِكَ دِينُ اَلْقَيِّمَةِ )(2).

تعد هذه الآية من الآيات الخاصة بفاطمة عليها السلام وذلك لما رواه شرف الدين في تأويل الآيات الظاهرة فقال: (وقوله دين القيمة، فاطمة عليها السلام أي صاحبة دين القيمة، أي الملة المستقيمة)(3).

المسألة التاسعة والثلاثون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة عبس

قال تعالى:

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضٰاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ )(4).

روى الحاكم الحسكاني (عن أنس بن مالك قال: سألت رسول الله صلى الله

ص: 223


1- العمدة لابن البطريق: ص 349؛ خصائص الوحي المبين لابن البطريق: ص 180؛ نهج الإيمان لابن جبر: 176.
2- سورة البينة، الآية: 5.
3- تأويل الآيات الظاهرة: ص 80.
4- سورة عبس، الآيتان: 38 و 39.

عليه - وآله - وسلم عن قوله تعالى:

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ).

قال:

«يا أنس هي وجوهنا بني عبد المطلب أنا وعلي وحمزة وجعفر والحسن والحسين وفاطمة، نخرج من قبورنا ونور وجوهنا كالشمس الضاحية يوم القيامة، قال الله تعالى:

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ).

يعني مشرقة بالنور في أرض القيامة.

(ضٰاحِكَةٌ ...).

فرحانة برضا الله عنا.

(مُسْتَبْشِرَةٌ ).

بثواب الله الذي وعدنا»)(1).

والرواية تكشف عن اختصاص الآية بآل البيت عليهم السلام، وهي من الآيات العامة.

المسألة الأربعون: منزلة فاطمة في سورة المطففين

أولاً: قال تعالى:

(إِنَّ اَلْأَبْرٰارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى اَلْأَرٰائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ اَلنَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (2(5) خِتٰامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذٰلِكَ فَلْيَتَنٰافَسِ

ص: 224


1- شواهد التنزيل: ج 2، ص 423.

اَلْمُتَنٰافِسُونَ )(1).

روى ابن شهر في المناقب (عن أبي صالح عن ابن عباس في هذه الآيات قال: نزل في علي وفاطمة والحسن والحسين وحمزة وجعفر وفضلهم فيها باهر)(2).

ثانياً: قال تعالى:

(وَ مِزٰاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا اَلْمُقَرَّبُونَ )(3).

تعد الآية المباركة من الآيات الخاصة بالنبي وآله وذلك لما نصت عليه الرواية التي أوردها شرف الدين في تأويل الآيات الظاهرة، فقال: عن أبي حمزة، عن أبي جعفر، عن أبيه علي بن الحسين عليهم السلام عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«قوله تعالى:

(وَ مِزٰاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ ).

هو أشرف شراب في الجنة يشربه محمد وآل محمد وهم المقربون السابقون رسول الله وعلي بن أبي طالب والأئمة وفاطمة وخديجة صلوات الله عليهم وعلى ذريتهم الذين اتبعوهم بإيمان تسنم عليهم من أعالي دورهم»)(4).

المسألة الواحدة والأربعون: منزلة فاطمة في سورة الطارق

قال تعالى:

ص: 225


1- سورة المطففين، الآيات: 22-26.
2- المناقب لابن شهر: ج 3، ص 233.
3- سورة المطففين، الآيتان: 27 و 28.
4- تأويل الآيات الظاهرة: ص 753.

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَ أَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ اَلْكٰافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً)(1).

وفي هذه الآيات روى علي بن إبراهيم القمي عن أبي بصير في قوله تعالى:

(فَمٰا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لاٰ نٰاصِرٍ)(2).

قال: ما له قوة يقوى بها على خالقه ولا ناصر من الله ينصره إن أراد به سواء قلت:

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً).

قال: كادوا رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم علياً عليه السلام وكادوا فاطمة عليها السلام فقال الله يا محمد:

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَ أَكِيدُ كَيْداً (1(6) فَمَهِّلِ اَلْكٰافِرِينَ ...).

يا محمد.

(... أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً). لوقت بعث القائم عليه السلام فينتقم لي من الجبارين والطواغيت من قريش وبني أمية وسائر الناس)(3).

المسألة الثانية والأربعون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الشمس

قال تعالى:

(وَ اَلشَّمْسِ وَ ضُحٰاهٰا (1) وَ اَلْقَمَرِ إِذٰا تَلاٰهٰا (2) وَ اَلنَّهٰارِ إِذٰا جَلاّٰهٰا (3) وَ اَللَّيْلِ إِذٰا

ص: 226


1- سورة الطارق، الآيات: 15-17.
2- سورة الطارق، الآية: 10.
3- تفسير القمي: ج 2، ص 416.

يَغْشٰاهٰا)(1).

تشير الروايات الواردة عن أهل البيت عليهم السلام في بيان هذه الآيات واختصاصها فيهم فكانت كالآتي:

1 - روى الشيخ الكليني رحمه الله (عن الإمام الصادق عليه السلام قال:

«(الشّمس) رسول الله به أوضح الله عزّ وجل للناس دينهم، (وَ اَلْقَمَرِ إِذٰا تَلاٰهٰا)

ذاك أمير المؤمنين تلا رسول الله ونقبه بالعلم نقبا، (وَ اَللَّيْلِ إِذٰا يَغْشٰاهٰا)

ذاك أئمة الجور الذين استبدوا بالأمر دون الرسول وجلسوا مجلساً كان الرسول أولى به منهم فغشوا دين الله بالظلم والجور فحكى الله فعلهم فقال: (وَ اَللَّيْلِ إِذٰا يَغْشٰاهٰا وَ اَلنَّهٰارِ إِذٰا جَلاّٰهٰا)

ذاك الإمام من ذرية فاطمة يسأل عن دين رسول الله فحكى الله عزّ وجل قوله فقال: (وَ اَلنَّهٰارِ إِذٰا جَلاّٰهٰا)»(2).

2 - روى ابن شهر المازندراني (عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السلام في قوله: (وَ اَلشَّمْسِ وَ ضُحٰاهٰا، قال:

«هو رسول الله (وَ اَلْقَمَرِ إِذٰا تَلاٰهٰا) علي بن أبي طالب، (وَ اَلنَّهٰارِ إِذٰا جَلاّٰهٰا) الحسن والحسين وآل محمد، قال: (وَ اَللَّيْلِ إِذٰا يَغْشٰاهٰا) عتيق وابن صهاك وبنو أمية ومن تولاهما»)(3).

3 - روى فرات الكوفي (عن الإمام أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: قال الحارث (بن عبد الله) الأعور للحسين عليه السلام:

ص: 227


1- سورة الشمس، الآيات: 1-4.
2- الكافي للكليني: ج 8، ص 50؛ تفسير فرات الكوفي: ص 563.
3- المناقب لابن شهر: ج 1، ص 283.

يا بن رسول الله جعلت فداك أخبرني عن قول الله في كتابه: (وَ اَلشَّمْسِ وَ ضُحٰاهٰا)، قال:

«ويحك يا حارث ذلك محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم».

قلت: جعلت فداك وقوله: (وَ اَلْقَمَرِ إِذٰا تَلاٰهٰا)، قال:

«ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يتلو محمداً صلى الله عليه وآله وسلم».

قل: قلت (وَ اَلنَّهٰارِ إِذٰا جَلاّٰهٰا)، قال:

«ذلك القائم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم يملأ الأرض عدلا وقسطا»)(1).

4 - روى شرف الدين الحسيني (عن سليمان الديلمي عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:

سألته عن قول الله عزّ وجل: (وَ اَلشَّمْسِ وَ ضُحٰاهٰا)، قال:

«الشمس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أوضح للناس في دينهم».

قلت: (وَ اَلْقَمَرِ إِذٰا تَلاٰهٰا)، قال:

«ذاك أمير المؤمنين تلا رسول الله».

قلت: (وَ اَلنَّهٰارِ إِذٰا جَلاّٰهٰا)، قال:

«ذاك الإمام من ذرية فاطمة نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيجلي ظلام الجور والظلم فحكى الله سبحانه عنه».

فقال: (وَ اَلنَّهٰارِ إِذٰا جَلاّٰهٰا) يعني:

ص: 228


1- تفسير فرات الكوفي: ص 563.

«به القائم عليه السلام».

قلت: (وَ اَللَّيْلِ إِذٰا يَغْشٰاهٰا)، قال:

«ذاك أئمة الجور الذين استبدوا بالأمور دون آل الرسول وجلسوا مجلساً كان آل الرسول أولى به منهم فغشوا دين الله بالجور والظلم فحكى الله سبحانه فعلهم، فقال: (وَ اَللَّيْلِ إِذٰا يَغْشٰاهٰا)»)(1).

المسألة الثالثة والأربعون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الضحى

قال تعالى:

(وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ )(2).

هذه الآية من الآيات الخاصة بفاطمة عليها السلام وذلك لما رواه الحاكم الحسكاني (عن جابر قال: دخل رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم على فاطمة وعليها كساء من جلد الإبل، فلما رآها بكى وقال:

«يا فاطمة تعجلي مرارة الدنيا بنعيم الآخرة غدا».

فأنزل الله تعالى:

(وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضىٰ )(3).

ص: 229


1- تأويل الآيات الظاهرات: ص 778.
2- سورة الضحى، الآية: 5.
3- شواهد التنزيل: ج 2، ص 445؛ مجموعة ورام: ج 2، ص 230؛ التذكرة الحمدونية لابن حمدون: ج 2، ص 457؛ البيان والتعريف: ج 1، ص 102؛ تأويل الآيات: ص 783.

المسألة الرابعة والأربعون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة القدر

تعد هذه السورة من السور الكاشفة عن منزلة فاطمة عليها السلام وذلك لما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام وهو كالآتي:

1 - روى فرات الكوفي (عن القاسم بن محمد بن عبيد عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام، أنه قال:

«قال (إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ)(1)

الليلة فاطمة، والقدر الله، فمن عرف فاطمة حق معرفتها، فقد أدرك ليلة القدر، وإنما سميت فاطمة لأن الخلق فطموا عن معرفتها، أو من معرفتها».

الشك (من أبي القاسم).

«وقوله: (وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)(2)

يعني: خير من ألف مؤمن وهي أم المؤمنين، (تَنَزَّلُ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهٰا...،

والملائكة المؤمنون الذين يملكون علم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والروح القدس هي فاطمة عليها السلام، (بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (3) سَلاٰمٌ هِيَ حَتّٰى مَطْلَعِ اَلْفَجْرِ)(4)

يعني حتى يخرج القائم عليه السلام»)(4).

2 - وروى أيضاً (عن محمد بن جمهور عن موسى بن بكر عن زرارة عن حمران قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عما يفرق في ليلة القدر هل هو ما

ص: 230


1- سورة القدر، الآية: 1.
2- سورة القدر، الآيتان: 2 و 3.
3- تفسير فرات الكوفي: ص 581.
4- سورة القدر، الآيتان: 4 و 5.

يقدر الله فيها، قال:

«لا توصف قدرة الله».

إلاّ أنه قال:

«(فِيهٰا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ )(1)

فكيف يكون حكيما إلا ما فرق ولا توصف قدرة الله سبحانه لأنه يحدث ما يشاء، وأما قوله: (لَيْلَةُ اَلْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ)،

يعني: فاطمة عليها السلام، وقوله: (تَنَزَّلُ اَلْمَلاٰئِكَةُ وَ اَلرُّوحُ فِيهٰا...)

والملائكة في هذا الموضع المؤمنون الذين يملكون علم آل محمد عليهم السلام والروح روح القدس وهو في فاطمة عليها السلام، (مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلاٰمٌ )،

يقول: من كل أمر مسلمة (حَتّٰى مَطْلَعِ اَلْفَجْرِ)

يعني حتى يقوم القائم عليه السلام»)(2).

3 - وفي هذا المعنى ما رواه الشيخ أبو جعفر الطوسي رحمه الله (عن رجاله عن عبد الله بن عجلان السكوني قال: سمعت أبا جعفر عليه السلام يقول:

«بيت علي وفاطمة من حجرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سقف بيتهم عرش رب العالمين وفي قعر بيوتهم فرجة مكشوطة إلى العرش معراج الوحي والملائكة تنزل عليهم بالوحي صباحاً ومساء وفي كل ساعة وطرفة عين والملائكة لا ينقطع فوجهم فوج ينزل وفوج يصعد وإن الله تبارك وتعالى كشط لإبراهيم عليه السلام عن السماوات حتى أبصر العرش وزاد الله في قوة ناظره وإن الله زاد في قوة ناظر محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام وكانوا يبصرون العرش ولا يجدون لبيوتهم سقفا غير العرش فبيوتهم مسقفة بعرش

ص: 231


1- سورة الدخان، الآية: 4.
2- تأويل الآيات الظاهرة: ص 791؛ البحار للمجلسي: ج 25، ص 97.

الرحمن ومعارج معراج الملائكة والروح فوج بعد فوج بلا انقطاع لهم وما من بيت من بيوت الأئمة منا إلا وفيه معراج الملائكة لقول الله عزّ وجل تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم بكل أمر سلام».

قال، قلت: (من كل أمر)؟، قال:

«بكل أمر».

قلت: هذا التنزيل ؟، قال:

«نعم»)(1).

وبهذه السورة نكون قد أتممنا ما ورد في شأنها من الدلالات القرآنية مستندين في ذلك إلى الروايات الشريفة الكاشفة عن منزلتها عليها السلام في القرآن الكريم ولقد حاولنا جهد الإمكان الاختصار وعدم الدخول في أقوال وآراء المفسرين والمحدثين في هذه الآيات وذلك كي لا يطول البحث ومن ثم لا ندخل في سجالات لا تغني القارئ ولا تسمنه من معلومة جديدة.

وعليه:

ففي هذا البيان كفاية لمن ألقى السمع وهو شهيد؛ ومن ثم سننتقل إلى بيان منزلتها عليها السلام في السُنّة ونقصد بها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعترته الطاهرين عليهم السلام لنقف عند تجلي هذه المقامات الفاطمية؛ وذلك من خلال أهل الذكر والوحي فهم الأعلم بما لفاطمة من المنزلة في الشريعة المحمدية، والسُنّة النبوية.

ص: 232


1- تأويل الآيات الظاهرة: ص 791؛ البحار للمجلسي: ج 3، ص 338؛ مدينة المعاجز: ج 2، ص 449.

الفصل الثالث: منزلتها عليها السلام في السنة

اشارة

ص: 233

ص: 234

توطئة

اشارة

سنتناول في هذا الفصل علاقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقاطمة من المنظور التقاوئي المرتكز على طاعة الله تعالى والذي منه تظهر رتبة فاطمة في سلم القرب الإلهي الذي بلغ فيه أبيها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم من قرب ربه ما نطق به الوحي عن الله سبحانه، فقال عزّ من قائل:

(فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ )(1).

حيث لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر عدا قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فو القلب الأوحد الذي رأى هذا القرب.

من هنا:

لابد من بيان المقصود من السنة كي ننقل للقارئ الكريم المعنى والدلالة لمنزلة فاطمة عليها السلام في السنة والتي من خلالها ستتفرع قنوات هذا المبحث وهي كالآتي:

السُنّة: بضم الأول وفتح الثاني مع تشديد في اصطلاح المتشرعة على معنين:

ص: 235


1- سورة النجم، الآية: 9.

المعنى الأول للسنة

(قول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره، بل المطلق من طريقته وهديه صلى الله عليه وآله وسلم، وعند الشيعة الامامية - التابعين لأئمة العترة - يضاف إلى الرسول قول أئمة العترة الطاهرة عليهم السلام وفعلهم وتقريرهم وهديهم، لأنهم أئمة يهدون إلى الحق وبه يعدلون، وإنهم معصومون، لا يقولون ولا يعملون إلا على التنزيل والتأويل، وهم معدن علم الله وعلم رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأما عند الجمهور وعامة المسلمين المعروفين بأهل السنة، يضاف إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سنة الصحابة وسيرتهم ولاسيما الخلفاء منهم، وأن لهم حق التشريع حسب المصالح المرسلة كما في مسألة المتعتين والطلاق البدعي، وتبديل حي على خير العمل ب - (الصلاة خير من النوم)، وعشرات من نحو هذه التشريعات.

المعنى الثاني للسنة

العمل المستمر الذي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يواظب على العمل به، ويحضّ المؤمنين عليه، وهو دون الواجب وفوق الندب، كالختان والصلاة بالجماعة، وكتحية المسجد، وفعل النوافل المرتبة ولو يأتي بركعتين منها، والمراد من السُنّة قبال الكتاب هو المعنى الأول)(1).

ومن هنا:

ص: 236


1- إجماعيات فقه الشيعة للمرجع الديني السيد إسماعيل المرعشي: ج 1، ص 15.

فإننا حينما نريد أن نتحدث عن منزلة فاطمة عليها السلام في السُنّة فنحن ملزمون بما روي عن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وعترته قولاً وفعلاً وهدياً التزاماً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم:

إني تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض(1).

وإن الاحاطة بما لفاطمة عليها السلام من منزلة في السُنّة تحتاج إيضاً إلى معرفة أقوال أتباع مدرسة أهل البيت عليهم السلام وأقوال أتباع مدرسة أهل السُنّة والجماعة.

ص: 237


1- مسند أحمد، عن مسند أبي سعيد: ج 3، ص 14؛ المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 148.

المبحث الأول: منزلة فاطمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

عند الرجوع إلى الأحاديث النبوية المختصة بفاطمة عليها السلام، وعند الرجوع - كذلك - إلى فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعامله مع فاطمة عليها السلام نخلص إلى جملة من المحاور، منها ما سنتناوله في هذا المبحث ومنها ما سنتناوله في المباحث اللاحقة؛ أما هنا فمدار البحث حول مسألتين، وهما كالآتي:

المسألة الأولى: اختصاص فاطمة عليها السلام بأنها نواة البيت النبوي

اشارة

إن هذا المعنى نجده متجسداً من خلال منطق النبي صلى الله عليه وآله وسلم الذي:

(وَ مٰا يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلاّٰ وَحْيٌ يُوحىٰ )(1).

ونجده متجسداً كذلك من خلال فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وإذا رجعنا إلى الآية الكريمة وإلى معنى السُنّة يكون فعله صلى الله عليه وآله وسلم كذاك ملازم للوحي عليه السلام.

ص: 238


1- سورة النجم، الآيتان: 3,4.

وعليه:

نجد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يؤسس في المجتمع الإسلامي المعنى التقوائي أي أراد أن يرسخ فيه العقيدة الإسلامية؛ وذلك من حيث أن المجتمع الإسلامي نشأ على العقيدة ولم ينشأ على النظام الطبقي أو الأسري أو القبلي على الرغم من أن القبيلة وجذورها الضاربة في الشخصية العربية كانت من الأسس التي أعاد الإسلام بناء مكونتاها النفسية وذلك من خلال محاربته صلى الله عليه وآله وسلم للجاهلية بجميع مكوناتها؛ إذ لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى.

ولذلك: لم يكن الفعل النبوي أو القول النبوي في التعامل مع شخص فاطمة عليها السلام يرتكز على العنصر الرحمي والوالدي، وإنما يرتكز على العقيدة الإسلامية المكونة لمجتمع جديد يضم جميع الأعراق والألوان والطبقات لاسيما وإن هذا الهدي المحمدي كان في المدينة المنورة وبعد أن تكوّن فيها نواة البيت النبوي عند تزويج النور من النور وولادة نورا النبوة والإمامة في الحسن والحسين عليهم السلام فهؤلاء الأنوار الأربعة كانوا المنار الذي ينير للمسلمين بعد (السراج المنير)(1)، طريقهم إلى الله تعالى وبهم يأمن المسلمون من الوقوع في الظلال أو الدخول في التيه كما دخله من كان قبلهم من الأمم السابقة.

ولأجل هذا: كان المنهاج النبوي في التعامل مع هذه النواة التي تكون منها البيت النبوي المحمدي كالآتي:

ص: 239


1- هو قوله تعالى: (يٰا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّٰا أَرْسَلْنٰاكَ شٰاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45) وَ دٰاعِياً إِلَى اَللّٰهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرٰاجاً مُنِيراً)؛ سورة الأحزاب، الآية: 46.
أولاً: انحصار (الأهل) بفاطمة وبعلها وولدها
اشارة

قد لا يخفى على الباحث والمتتبع لشؤون المجتمع العربي الدور الكبير للعشيرة والأهل في تكون التحزبات والتجمعات لدى الإنسان العربي.

فالعشيرة والأهل، هم مصدر القوة، والمال، والعزة، والحسب، والتفاخر، والمنعة، والغلبة، والسلطان، وغيرها من المعان والدلالات الراسخة في العقلية العربية قديماً وحديثا وإن تفاوتت من مجتمع إلى آخر كالعراق واليمن ومصر فكل مجتمع منها تتفاوت فيها هذه العناصر المكونة للمجتمع.

في حين كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وعند بدئه في تكوين مجتمع جديد في المدينة المنورة قد اختار من هذه المفاهيم مفهوماً واحداً وهو أن لا قيام للإنسان بدون التقوى فالأهل تجمعهم التقوى وتفرقهم كذلك، كما كان حال نوح وولده.

قال تعالى:

(وَ نٰادىٰ نُوحٌ رَبَّهُ فَقٰالَ رَبِّ إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحٰاكِمِينَ (45) قٰالَ يٰا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صٰالِحٍ فَلاٰ تَسْئَلْنِ مٰا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْجٰاهِلِينَ )(1).

والقرآن في هذه الآية المباركة لم يكن ليغض الطرف عن علاقة الإنسان بالأهل وانجذابه الفطري إلى أهله وارتباطه وتمسكه بهم وإن لهم الحظوة لديه، فهم مبدأ نشأته ونموه وأساس وجوده في الحياة.

ص: 240


1- سورة هود، الآية: 46.

لكن هذه الأحاسيس والروابط النفسية والروحية لم تكن حاجزاً - وبحسب المفهوم القرآني - عن طاعة الله تعالى؛ إذ إنها تنهار فيما لو كان أحد أفراد الأهل خارجاً عن عنوان التقوى كما هو حال ابن نبي الله نوح عليه السلام.

بل: يأتي القرآن في مواضع أخرى يظهر للمسلم وفي مجتمعه الجديد الأسس التي يقوم عليها هذا المجتمع الذي انظم إليه فكان أحد مكوناته واحد عناصر وجوده وديموميته.

فيقول سبحانه:

(يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ نٰاراً وَقُودُهَا اَلنّٰاسُ وَ اَلْحِجٰارَةُ ...)(1).

أي: الاستفادة من هذه الفطرة، ومن هذه الروابط النفسية والروحية لتكون حافزاً في نجاة هؤلاء (الأهل) من النار.

لكن هؤلاء الأهل إذا كانوا حائلاً بين المسلم وبين طاعة الله عزّ وجل ويدفعون به إلى الخروج عن الطاعة لله فيتلبس فيه معنى آخر وهو الفسق، كما هو واضح في قوله تعالى:

(قُلْ إِنْ كٰانَ آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ وَ إِخْوٰانُكُمْ وَ أَزْوٰاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوٰالٌ اِقْتَرَفْتُمُوهٰا وَ تِجٰارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسٰادَهٰا وَ مَسٰاكِنُ تَرْضَوْنَهٰا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهٰادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّٰى يَأْتِيَ اَللّٰهُ بِأَمْرِهِ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ )(2).

ص: 241


1- سورة التحريم، الآية: 6.
2- سورة التوبة، الآية: 24.

وهنا: يقدم القرآن معنى جديداً للحب بكونه أحد المكونات الأسرية وواحداً من أهم الروابط التي تجمع الأهل فيجعله القرآن ضمن ضابطة جديدة ترتكز على حب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

أما في مفهوم الموالاة فكذاك يقدم القرآن ضابطة وقاعدة جديدة يرتكز عليها هذا البناء الأسري في الإسلام، إلا وهو الموالاة لله تعالى.

يقول سبحانه:

(يٰا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لاٰ تَتَّخِذُوا آبٰاءَكُمْ وَ إِخْوٰانَكُمْ أَوْلِيٰاءَ إِنِ اِسْتَحَبُّوا اَلْكُفْرَ عَلَى اَلْإِيمٰانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولٰئِكَ هُمُ اَلظّٰالِمُونَ )(1).

فمن هذه المفاهيم القرآنية الجديدة في إعادة بناء الأسرة في المجتمع الإسلامي وبلحاظ إن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم هو العمود الفقري لهذا المجتمع وأن له أهلاً كما للمسلمين، وتربطه بهم مجموعة من الروابط كما تربط كل إنسان بأهله - مع الفارق - في تقنين هذه المفاهيم كما أسلفنا ومن ثمّ فإن هؤلاء الأهل الذين ينتمي إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم وينتمون إليه وتربطه بهم روابط الحب والألفة والدم والقرابة؛ وجب معرفتهم كما يعرف المسلمون كلاً أهله، وإن لهم عليه حقوقاً، وله عليهم حقوقاً كذلك، لذا لزم على النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم تعينهم وإظهارهم للناس كي يعلم المسلمون ما يجب عليهم من الحقوق اتجاههم، مع ملاحظة: إن هؤلاء لهم خصوصية الأهلية التقوائية التي جاء بها القرآن كعنصر أساس في قيام الأهل أو فك جميع الأواصر بهم.

ص: 242


1- سورة التوبة، الآية: 23.

وعليه:

كان النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من واجبه الشرعي أن يحدد للمسلمين من هم أهله بالمنظور القرآني والتحديد الرباني، إذ - وكما أسلفنا - للمجتمع الإنساني والعربي (تحديداً) مفاهيم أخرى في تكوين الروابط الأسرية والأهل.

لاسيما وأن النبي الهاشمي القرشي له أقارب وأبناء عمومه وعشيرة كبيرة لم يكن لها مثيلاً في الحسب والمفاخر، فضلاً عن تزوجه من نساء عدة فكانت مصاهرته لهذه القبائل عامل آخر في اتساع دائرة القرابة وتداخلها مع هذه البيوتات بحسب ما تفرضه القوانين القبائلية في تكون المجتمع العربي.

من هنا:

كان اهتمام النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وبحسب هذا المكون الاجتماعي - أن يشرع في تحديد الأهل للناس جميعاً كي يدرك المسلم ما لهؤلاء من حقوق وواجبات ينبغي مراعاتها وذلك بحسب مجموعة من المفاهيم.

1 - إن لهم حرمة الدم التي تأسس عليها المجتمع الإنساني وخصوصاً العربي فضلاً عن تثبيت القرآن قانون القصاص في مجال الحدود والتعزيرات.

2 - إن لهم حرمة الشأنية إذ إن المجتمع العربي وغيره من المجتمعات بني على تلازم شأنية كل فرد بحسب أسرته وأهله، ومن ثمّ فلهم من الشأنية الاجتماعية ما لغيرهم من الأسر المحترمة التي بلغت مراتباً عالية من المآثر والمفاخر وهو ما يعرف بالحسب.

ص: 243

3 - إن التعدي على أحدهم تعدي على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

4 - إن إكرام أحدهم هو إكرام للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

فهذه المفاهيم وغيرها من الأسس التي قام عليها المجتمع هي نفسها موجودة لدى (الأهل) الذين اختص بهم النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم واختصوا به.

فكيف إذا ألحقت بها أسس جديدة سنها القرآن وأوجبها على الأمة جميعاً والتي كان الملاك فيها والقاعدة التي بني عليها هذا البناء الجديد هي التقوى؛ وإن لهم - فضلاً عما للمسلمين مع أهلهم - من الحقوق المذكورة.

ولذلك:

حدد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من هم أهله للمسلمين كي لا يحتج محتج يوم القيامة فيقول لم أعلم من هم؛ فكان ذلك من خلال مجموعة من الأقوال والأفعال النبوية كشفت عن هؤلاء الأهل؛ وما يترتب على هذه الأمة من حقوق اتجاههم ضمن تلك الأسس التي جاء بها القرآن الكريم، فكانت كالآتي:

ألف: التلازم بين نزول الوحي وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تحديد الأهل

لو نظرنا إلى القرآن الكريم وتدبرنا في آياته لاسيما المتعلقة بعترة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته عليهم السلام لوجدنا تلازماً لا ينفك بين الوحي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فمرة يسبق الوحي الفعل النبوي، وأخرى يسبق النبي الوحي في بيان أمرٍ شرعي لاسيما فيما يختص بآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 244

ويبدو أن الأمر منحصر في الحكم الشرعي وما له عند الله تعالى من المنزلة والشأنية التي حرص الأنبياء جميعا على إظهارها، ولأجلها كانوا ينطقون في تبليغهم فصدعوا بما أمروا في تعليم الناس: إن لا حرمة فوق حرمة الشريعة، وإن أهل الشريعة اكتسبوا هذه المنزلة لاختصاصهم بالحكم الشرعي المرتبط بالله عزّ وجل فهو صاحب الشريعة.

من هنا:

نجد أن هذا التلازم بين الوحي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم إنما كان لارتباط أهله بالحكم الشرعي وما يفرضه على المسلم من حدود قد حذر القرآن أشد التحذير من تعديها أو المساس بها حتى أصبح المبتدعون أي الذين يدخلون أحكاماً إلى الشريعة ما أنزل الله بها من سلطان مصيرهم الحتمي إلى النار لأنهم أهل ضلال.

ومن هنا أيضاً أصبح آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم لهم تلك الحرمة الشرعية المتلازمة مع حرمة الحكم الشرعي وإلا لا معنى أن يكون الوحي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أتى بكل هذا البيان لمجرد أن لهم صفة الرحم والقرابة مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وواقع الحال يحكي عن وجود أرحام وأقارب للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم فلماذا لم يهتم بهم الوحي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم بحجم هذا الاهتمام الذي قدمه القرآن والنبي لفاطمة وبعلها وبنيها عليهم أفصل الصلاة والسلام ؟!

ص: 245

وعليه:

كان هذا التلازم ظاهراً لكل قارئ للقرآن مطلع على سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففي الوقت الذي ينزل الوحي بقوله تعالى:

(... فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ وَ نِسٰاءَنٰا وَ نِسٰاءَكُمْ وَ أَنْفُسَنٰا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّٰهِ عَلَى اَلْكٰاذِبِينَ )(1).

يقوم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ببيان من هم أهل بيته فيخرج فاطمة وعلي وولديهما، وذلك من خلال هذا الحديث النبوي الذي أخرجه كثير من الحفاظ لاسيما مسلم النيسابوري في صحيحه عن عامر بن سعد بن ابي وقاص عن أبيه، قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً (أن يسب علي بن أبي طالب فامتنع) فقال: ما منعك أن تسب أبا تراب ؟

فقال: أما ما ذكرت واحدة منهن أحب إليّ من حمر النعم سمعت رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم يقول له (وقد) خلفه في بعض مغازيه، فقال له علي:

«يا رسول الله خلفتني مع النساء والصبيان ؟».

فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبوة بعدي».

وسمعته يقول يوم خيبر:

«لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله».

ص: 246


1- سورة آل عمران، ألآية: 61.

قال: فتطاولنا لها، فقال:

«أدعو لي علياً».

فأتى به أرمد فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح الله عليه؛ ولما نزلت هذه الآية: (... فَقُلْ تَعٰالَوْا نَدْعُ أَبْنٰاءَنٰا وَ أَبْنٰاءَكُمْ ...)، دعا رسول الله علياً وفاطمة وحسنا وحسيناً، فقال:

«اللهم هؤلاء أهلي»)(1).

والحديث مع شواهد أخرى تناولنا ذكرها في الفصل السابق في منزلة فاطمة في آية المباهلة.

ص: 247


1- حدّثنا الربيع المرادي، حدثنا أسد بن موسى، حدثنا حاتم بن إسماعيل، حدثنا بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد عن أبيه، قال: لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علياً وفاطمة وحسن وحسيناً عليهم السلام، فقال: (اللهم هؤلاء أهلي)؛ أبو داود، إسناده صحيح، ورجاله رجال الصحيح، و (أسد بن موسى) المصري احتج به النسائي، وعلق له البخاري في تاريخه الكبير برقم 1645 بقوله: مشهور الحديث، يقال له: أسد السُنّة) ووثقه النسائي، وابن يونس، وابن حبان، والعجلي، وابن نافع، وأبو يعلى، والخليلي في (الإرشاد) وضعفه ابن حزم ولكن رد عليه الذهبي قائلاً: وما علمت به بأساً؛ رواه مسلم كاملاً في كتاب فضائل الصحابة باب فضائل علي بن أبي طالب عليه السلام حديث (2404) بتسلسل 32، والترمذي في الجامع الصحيح كتاب تفسير القرآن باب 4 حديث 2999 وأخرجه الحاكم في المستدرك ج 3 ص 109/108 وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه بهذا السياق وساقه الذهبي في التلخيص على المستدرك ج 3، ص 108؛ لكنهم أخرجوه ضمن آية المباهلة، ورواه النسائي في (الخصائص) رقم 54؛ وابن جرير في تفسيره ج 22، ص 8؛ والطحاوي في مشكل الآثار ج 2، ص 35، حديث 761؛ والترمذي في صحيحه كتاب المناقب باب فضائل فاطمة حديث 3871 عن شهر بن موسى عن أم سلمة وفي المعجم الصغير للطبراني: ج 2، ص 91 حديث 170 وجاء فيه (هؤلاء حامتي وأهل بيتي).
باء: استخدام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للوسائل التعليمية في بيان مراد الوحي في التشديد والمبالغة بحصر الأهل بفاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام

يلجئ النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الوسائل التعليمية في إرشاد المسلمين إلى معرفة الحكم الشرعي كي يرسّخ ذلك في أذهانهم ويذهب عنهم التأويلات والآراء والأباطيل والبدع التي يلجئ إليها المنافقون والظالمون والساسة لغرض مصالحهم الشخصية.

واستخدام النبي الأكرم للوسائل التعليمية والإرشادية في بيان دلالة الحكم الشرعي كثيرة لا يسعنا تتبعها في هذه الأسطر، ولكن فيما يخص إرشاد الناس إلى معرفة آل النبي وعترته وأهل بيته استخدم وسيلة القماش في إرشاد الناس إلى حصر أهل بيته بمن يجللهم هذا القماش أو الكساء وجمعه لأطراف هذا الكساء لقطع الطريق على من يعتقد أن أهله غير هؤلاء بلحاظ ما للمجتمع الإنساني والعربي من عرف في معنى الأهل.

ولذلك:

كانت هذه الوسيلة التعلمية للناس - على بساطتها - إلاّ أنها بالغة الدلالة في تحديد أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحصرهم بهؤلاء الأربعة وهم (فاطمة وعلي وولديهما صلوات الله عليهم أجمعين)؛ وذلك كما دلت عليه الأحاديث الآتية:

1 - أخرج الحاكم النيسابوري عن إسماعيل بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب، عن أبيه قال:

ص: 248

(لما نظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرحمة هابطة، قال:

«ادعوا لي ادعوا لي».

فقالت صفية: من يا رسول الله ؟ قال:

«أهل بيتي علياً وفاطمة والحسن والحسين».

فجيء بهم فألقى عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كساءه ثم رفع يديه، ثم قال:

«اللهم هؤلاء آلي فصل على محمد وعلى آل محمد».

وأنزل الله عزّ وجل:

(إِنَّمٰا يُرِيدُ اَللّٰهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)(1) (2).

2 - روى الحاكم عن عامر بن سعد يقول: قال سعد - بن أبي وقاص -: (نزل على رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم الوحي فأدخل علي وفاطمة وابنيهما تحت ثوبه ثم قال:

«اللهم هؤلاء أهلي وأهل بيتي»).

ونلاحظ هنا أن الفعل النبوي قد تلازم مع الوحي في بيان أهل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحصرهم من خلال هذه الوسائل الإرشادية كي لا يبقى أحد يعتقد أن آل محمد وأهل بيته غير هؤلاء الأربعة.

ص: 249


1- سورة الأحزاب، الآية: 33.
2- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 147.

وهذا المعنى قد التفت إليه الحاكم النيسابوري، أي الحكمة في استخدام النبي للكساء أو الثوب في بيان مراد القرآن والوحي في تحديد الآل والأهل للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بهؤلاء الأربعة فقط دون غيرهم، فقال: (وقد روى هذا الحديث بإسناده وألفاظه حرفاً بعد حرف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري عن موسى بن إسماعيل في الجامع الصحيح؛ وإنما خرجته ليعلم المستفيد أن أهل البيت والآل جميعاً هم)(1).

بمعنى: أن آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته هم واحد، وهم هؤلاء الأربعة الذين جللهم بالكساء، وهم الذين أخرجهم للمباهلة.

والحديث الذي قال عنه الحاكم: (وقد روى هذا الحديث بإسناده وألفاظه حرفاً بعد حرف الإمام محمد بن إسماعيل البخاري هو هذا: - قال - عبد الرحمن بن أبي ليلى: لقيني كعب بن عجرة فقال: إلا أهدي لك هدية سمعتها من النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم ؟

قلت: بلى، قال: فأهدها إليه.

قال: سألنا رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم فقلنا يا رسول الله كيف الصلاة عليكم أهل البيت ؟ قال:

«قولوا: اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وآل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد»)(2).

ص: 250


1- المستدرك على الصحيحين للحاكم: ج 3، ص 147.
2- المصدر السابق نفسه.

3 - أخرج أحمد بن حنبل، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: (إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جلل على علي وحسن وحسين وفاطمة كساء ثم قال:

«اللهم هؤلاء أهل بيتي وخاصتي اللهم أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا».

فقالت أم سلمة: يا رسول الله أنا منهم ؟

قال:

«إنكِ على خير»)(1).

وتظهر الحكمة بشكل كبير في اعتماد النبي صلى الله عليه وآله وسلم إرشاد الناس وبالأخص أزواجه إلى تحديد أهل بيته وذلك حينما كان تجليله لهم بالكساء في دار أم سلمة وفي رواية في دار عائشة كي لا تتعدى إحداهن بأنها من آله وأهل بيته الذين حددهم القرآن وليس الذين يحددهم المجتمع فيكون المعنى مجازي وذلك بالرجوع إلى العشرة والمودة فقد يصبح إثنان من الناس وبسبب العشرة الطيبة بأنهم أهل ولعل المودة والأخلاق الحميدة تجعلهم قريبين إلى القلب بأكثر مما يمتاز به أهل البيت الواحد الذين تربطهم رابطة الدم.

ولذلك:

المراد بآل النبي وأهل بيته هم أولئك الأربعة وليس أزواجه أو أقرباءه أو أحبابه وخلانه وأصحابه وإن كان لأحدهم مكانة في نفس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا لا يعني أنهم من آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، والذين حرم عليهم الصدقة.

ص: 251


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 6، ص 304.

من هنا:

ندرك حكمة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في استخدام الكساء في دار أم سلمة أو عائشة أو غيرها وندرك أيضاً معنى أن يجمع النبي أطراف هذا الكساء ويمنع أم سلمة من الدخول تحته وقوله لها أنك على خير.

جيم: استخدام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمثلة في إرشاد الناس إلى الحكم الشرعي تلازماً مع المنهج القرآني

إنّ من المنهاج الإرشادية التي جاء بها القرآن في بيان الحكم الشرعية إلى الناس هو ضرب الأمثال لهم كي يلتفتوا إلى مراد الوحي ودلالة المثل فذلك أكثر وقعاً على الناس وامض أثراً في تحريك العقول ومن ثم يصبح ضرب الأمثال له من الخصوصية التأثيرية على النفس ما لا يحرز في غيره من الوسائل والمنهاج وذلك لتقاربه مع كثير من الأنماط الفكرية لدى الناس.

ففي أثر القرآن على الأشياء ونفاذه النوراني فيها ما جاء في سورة الحشر عند قوله تعالى:

(لَوْ أَنْزَلْنٰا هٰذَا اَلْقُرْآنَ عَلىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خٰاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللّٰهِ وَ تِلْكَ اَلْأَمْثٰالُ نَضْرِبُهٰا لِلنّٰاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ )(1).

في حين نجد القرآن يضرب مثلاً آخر في قسوة قلوب الظالمين فيقول سبحانه:

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجٰارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجٰارَةِ لَمٰا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهٰارُ وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْمٰاءُ وَ إِنَّ مِنْهٰا لَمٰا

ص: 252


1- سورة الحشر، الآية: 21.

يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّٰهِ وَ مَا اَللّٰهُ بِغٰافِلٍ عَمّٰا تَعْمَلُونَ )(1).

فهذه القلوب التي هي أشد قسوة من الحجارة لم يكن القرآن لينفذ بنوره إليها في حين يكون أثره فيما لو أنزل على جبل أن يتصدع من خشية الله تعالى.

وفي دور الكلمة الطيبة الاصلاحي في النفس الإنساني يضرب الله مثلا لذلك فيقول سبحانه:

(أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللّٰهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهٰا ثٰابِتٌ وَ فَرْعُهٰا فِي اَلسَّمٰاءِ )(2).

ولعل تتبع الآيات يخرج المبحث عن موضوعه ولكن أردنا أن نظهر للقارئ الكريم أن هذا المنهج الإرشادي الذي جاء به القرآن استخدمه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيان منزلة فاطمة وأهل بيته عليهم السلام في هذه الأمة وموضعهم من الرسالة، فكانت كالآتي:

1 - أخرج الحاكم النيسابوري في مستدركه، (عن حنش الكناني قال: سمعت أبا ذر صلى الله عليه - وآله - وسلم يقول:

«ألا إن مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه، من ركبها نجا، ومن تخلف عنها غرق»)(3).

ص: 253


1- سورة البقرة، الآية: 74.
2- سورة إبراهيم، الآية: 24.
3- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 2، ص 343، وج 3، ص 151؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 4، ص 10؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 362؛ مسند البزار: ج 3، ص 222، حديث (2615)؛ المعجم الوجيز للميرغني: ص 377، حديث (737)؛ الأمثال في الحديث النبوي: برقم

وهنا:

نلاحظ استخدام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم السفينة كمثل في دور أهل بيته عليهم السلام في نجاة أمته من الغرق، ولا شك أن الغرق المقصود هو بحر الشبهات والبدع والضلال فمن تخلف عن أهل البيت غرق في الضلال والبدع كما خرق قوم نوح في الضلال فكان مصيرهم الهلاك في الدنيا والعذاب الأليم في الآخرة فالنتيجة واحدة في الأمتين، أمة نوح وأمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ويمضي النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في ضرب الأمثال لبيان دور أهل بيته عليهم السلام في هذه الأمة ومنزلتهم من الرسالة، فيأتي بأمثلة أخرى، وهي:

2 - يروى الطبراني والبزار وغيرهم حديث السفينة عن أبي ذر ثم يردف بمثال آخر لدور أهل البيت عليهم السلام فيمثلهم صلى الله عليه وآله وسلم في (باب حطة في بني إسرائيل)(1).

ص: 254


1- كفاية الأثر للخزار القمي: ص 39؛ كتاب سليم بن قيس: ص 457؛ مناقب الإمام علي لابن سليمان الكوفي: ج 2، ص 146؛ الأمالي للطوسي: ص 60؛ فتح الوهاب تخريج أحاديث الشهاب: ج 2، ص 331؛ الجامع الصغير للطبراني: ص 391؛ الجامع الكبير للطبراني: ص 2637؛ ورواه القضاعي في مسند الشهاب برقم (1342) ورواه البزار برقم (2615) والطبراني (12638 و 12388) وأبو نعيم في الحلية (306/4) والفسوى في المعرفة (538/1) وابن عدي (719/2-720) وفي جمع الفوائد للمغربي: ج 3، ص 295، حديث 9016، عن ابن الزبير؛ وفي كتاب الأمثال لأبي الشيخ الأصبهاني: ص 247، حديث 333؛ كنز العمال: ج 12، ص 99؛ شواهد التنزيل للحسكاني: ج 1، ص 362؛ تنبيه الغافلين لابن كرمة: ص 138.

ولا يخفى على المتتبع أن باب حطة في بني إسرائيل كان هو الوسيلة الابتلائية للأمة.

3 - أخرج الحاكم الحسكاني، وابن حجر العسقلاني وغيرهم عن عبد الرحمن بن عوف قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

«إنا الشجرة وفاطمة فرعها، وعلي لقاحها، والحسن والحسين ثمرتها وشيعتنا ورقها وأصل الشجرة في جنة عدن وسائر ذلك في سائر الجنة»(1).

4 - عن ابن عباس عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«أنا ميزان العلم، وعلي كفتاه، والحسن والحسين خيوطه والأئمة من أمتي عموده، وفاطمة علاقته توزن فيه أعمال المحبين لنا، والمبغضين لنا»(2).

5 - روى صاحب نوادر الأصول: (عن علي - عليه السلام - عنه قال:

«قال رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم إن لك في الجنة كنزا وإنك ذو قرنيها فلا تتبعن من النظرة النظرة فإن لك الأولى وليست لك الأخرى، فمعنى الكنز فاطمة وقرنيها الحسن والحسين - عليهم السلام - صيرها بمنزلة الكنز لأن الكنز موضوع مستور إليه الموبل وسائر المال ظاهر يذهب ويجيء والكنز أصل المال فشبه فاطمة - عليها السلام - عنها من نعيم الجنة بالكنز من

ص: 255


1- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 160؛ شواهد التنزيل للحسكاني: ج 1، ص 408؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 14، ص 168؛ الإصابة لابن حجر: ج 6، ص 306؛ فضائل أمير المؤمنين لابن عقدة الكوفي: ص 158؛ البصائر والذخائر لابني حيان التوحيدي: ج 1، ص 313؛ الأمالي للطوسي: ص 611.
2- مسند الفردوس للديلمي: برقم 107؛ اتحاف السائل للمناوي: ص 7، حديث 39.

المال ثم قال وأنت ذو قرنيها نسب»)(1).

6 - روى الشيخ الطوسي بسنده عن الأمالي: (عن موسى بن جعفر، عن جعفر بن محمد، عن أبيه محمد بن علي عليهم السلام، عن جابر بن عبد الله الأنصاري، قال:

صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوما صلاة الفجر، ثم انفتل وأقبل علينا يحدثنا، فقال:

«أيّها الناس، من فقد الشمس فليتمسك بالقمر، ومن فقد القمر فليتمسك بالفرقدين».

قال: فقمت أنا وأيوب الأنصاري ومعنا أنس بن مالك، فقلنا يا رسول الله، من الشمس ؟ قال:

«أنا».

فإذا هو صلى الله عليه وآله وسلم ضرب لنا مثلا، فقال:

«إن الله تعالى خلقنا وجعلنا بمنزلة نجوم السماء كلما غاب نجم طلع نجم، فأنا الشمس فإذا ذهب بي فتمسكوا بالقمر».

قلنا: فمن القمر؟ قال:

«أخي ووصيي ووزيري وقاضي ديني وأبو ولدي وخليفتي في أهلي علي بن أبي طالب».

قلنا: فمن الفرقدان ؟ قال:

ص: 256


1- نوادر الأصول في أحاديث الرسول: ج 3، ص 181.

«الحسن والحسين».

ثم مكث ملياً وقال:

«فاطمة هذ الزهرة، وعترتي أهل بيتي هم مع القرآن والقرآن معهم، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض»)(1).

ولعل الكلمة الطيبة التي ضربها الله مثلاً في القرآن هي محمد وأهل بيته عليهم السلام وذلك أن القرآن قد أطلق على عيسى وغيره لفظ (الكلمة)، كما في قوله تعالى:

1 - قال تعالى:

(... اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّٰهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقٰاهٰا إِلىٰ مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ ...)(2).

وكما في ذرية إبراهيم الخليل عليه السلام.

2 - قال تعالى:

(وَ جَعَلَهٰا كَلِمَةً بٰاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ...)(3).

إذن:

الحكمة في استخدام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للأمثال كمنهج إرشادي في بيان مراد الشيعة وتفريغها لأهل البيت عليهم السلام وتحديد منزلتهم

ص: 257


1- الأمالي: ص 516-517.
2- سورة النساء، الآية: 171.
3- سورة الزخرف، الآية: 28.

ودورهم الرسالي إنما كان تبعاً للقرآن الكريم وتلازمه للوحي كي يقطع الطريق على من يتعذر الجهل وعدم المعرفة في أن أهل البيت عليهم السلام هم هؤلاء الأربعة وإن دورهم الإصلاحي والرسالي إنما كان من خلال تلك الأمثلة التي ضربها النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمة.

ثانيا: تلازم حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحب فاطمة وبعلها وولديها
اشارة

يمضي النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في إظهار منزلة فاطمة عليها السلام لديه وذلك من خلال بيان أن حب فاطمة وبعلها وبنيها هو متلازم مع حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن ثمّ فإن هذا الحب يقود إلى غاية شرعية أظهرها القرآن الكريم وهو ضمن العناوين الآتية:

ألف: إنّ المراد من الحب الإتباع

إن هذا العنوان الشرعي المبين لإحدى دلالات الحب، وهو الإتباع جاء من خلال القرآن الكريم كما هو واضح في قوله تعالى:

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّٰهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّٰهُ )(1).

بمعنى: لا يمكن أن ينزرع حب الله في قلب أي إنسان وينمو ويعطي ثماره ما لم يكن هناك إتباع لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل لا معنى للحب بدون الإتباع وهو ما عليه الوجدان الإنساني والسير العقلائي، بل يكفي لو تأمل الإنسان أن ذلك سنته كونية جرت في النبات والحيوان وإن اختلف المحرك في الإتباع بين القطرة والغريزة والحب، فعندها يكون الحب في الموجودات فطري وغرائزي يدفع

ص: 258


1- سورة آل عمران، ألآية: 31.

الإنسان إلى ما يحب حتى وإن اختلفت الأهداف فقد يكون الإنسان محب للشهوات لكنه في طبيعته وفطرته يندفع لهذه الشهوات ويتبع كل ما يحقق له إشباع هذا الحب.

ولذلك: وجود الحب يقتضي الإتباع وبدون الإتباع لا معنى للقائل بأنه يحب وذلك لأنه يكون قد خالق الخلقة والفطرة التي فطر الله عليها الموجودات، بل كلما كان الحب أكبر كلما كان الإتباع أشد حتى لا يستطيع المحب الانفكاك عن المحب، بل حتى يكون صورة له في أفعاله وأقواله وهديه وسمته وسننه، وهذا الذي يريده القرآن من حب الله وحب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أي أن يكون المحب - وبحسب - مستوى هذا الحب صورة تحاكي المحب في الهدي والسمت والسنة.

من هنا:

حينما نأتي إلى معرفة أولئك الذين كانوا مصداقاً للحب النبوي صلى الله عليه وآله وسلم وذلك من خلال أنهم كانوا يمثلون في فعلهم وقولهم وهديهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإنا لا يمكن أن نتعدى أهل بيته عليهم السلام وذلك حسبما أكدته النصوص ودلت عليه الروايات.

1 - روى الترمذي عن عائشة قال: (ما رأيت أحداً أشبه سمتاً ودلا وهدياً برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم)(1).

ص: 259


1- سنن الترمذي: ج 5، ص 361؛ فضائل الصحابة للنسائي: ص 78؛ المستدرك للحاكم: ج 4، ص 272؛ فتح الباري لابن حجر: ج 8، ص 103؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 96؛ نصب الراية للزيلعي: ج 6، ص 156؛ مطالب السؤول لابن طلحة: ص 36؛ سبل الهدى والرشاد للشامي: ج 11، ص 46.

والحديث يكشف عن رتبة فاطمة عليها السالم ومنزلتها الاتباعية لهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وسنته فلمن يكن أحد بعد علي بن أبي طالب عليه السلام - كما سيمر - في مثل إتباعها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصبحت تشابهه في سمته ودله وهديه فكان الناظر إليها يخال نفسه ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

2 - وفي سنة الإتباع التي فطر الله تعالى عليها الخلق فكان الحب قائد المرء في إتباعه للأشياء هو درجة حبه لها، فإن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام يكشف للناس لاسيما أولئك الذين يدعون أنهم يحبون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهم أبعد الخلق عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن حجم حبه لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حتى أصبح المصداق الأول لهذه السنة في الإسلام فيقول:

«ولقد كنت أتبعه إتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً، ويأمرني بالاقتداء به؛ ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري؛ ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة وأنا ثالثهما أرى نور الوحي والرسالة، وأشم ريح النبوة.

ولقد سمعت رنة الشيطان حين نزل الوحي عليه صلى الله عليه وآله وسلم، فقلت: يا رسول الله ما هذه الرنة ؟

فقال: هذا الشيطان أيس حق عبادته، إنك تسمع ما أسمع وترى ما أرى إلا أنك لست بنبي ولكنك وزير وإنك لعلى خير»(1).

ص: 260


1- نهج البلاغة، الخطبة القاصعة: ج 2، ص 157.

إذن:

يقتضي حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإتباع كما دلّ عليه القرآن والسُنّة وسيرة العقلاء، وأن أشد الناس حباً لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علي وفاطمة وولديهما عليهم السلام فقد كان مصداق هذا الحب من خلال الإتباع المطبق لهدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وسمته وسنته وخلقه.

باء: إنّ المراد من حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان به

يطرح القرآن قضية حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في إطار آخر وتحت عنوان شرعي جديد إلاّ وهو الإيمان بالله تعالى إذ يبدأ القرآن في أول الأمر عند تأسيس هذا العنوان الشرعي والبنائي للمجتمع المسلم من خلال بيان أن الإيمان هو عين الحب لله تعالى، ومن ثمّ فالذين أمنوا هم أشد الناس حباً لله تعالى كما دل عليه قوله تعالى:

(وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّٰهِ أَنْدٰاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّٰهِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّٰهِ ...)(1).

ثم يمضي القرآن في التأسيس لهذا العنوان الشرعي في نفوس الناس كي يتم بناء المجتمع الأنموذج الذي يأمر بالمعروف وينهي عن المنكر فيكون مصداق لقوله تعالى:

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّٰاسِ ...)(2).

ص: 261


1- سورة البقرة، الآية: 165.
2- سورة آل عمران، الآية: 110.

وذلك من خلال ترسيخ حب الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وتقديمه على كل شيء تعلق به الإنسان في الحياة وارتبطه.

فيقول سبحانه:

(قُلْ إِنْ كٰانَ آبٰاؤُكُمْ وَ أَبْنٰاؤُكُمْ وَ إِخْوٰانُكُمْ وَ أَزْوٰاجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوٰالٌ اِقْتَرَفْتُمُوهٰا وَ تِجٰارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسٰادَهٰا وَ مَسٰاكِنُ تَرْضَوْنَهٰا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهٰادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّٰى يَأْتِيَ اَللّٰهُ بِأَمْرِهِ وَ اَللّٰهُ لاٰ يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفٰاسِقِينَ )(1).

وهذا التأسيس والبناء للعقيدة الإسلامية وبهذه الكيفية التي يطرحها القرآن ويريدها الله تبارك اسمه فيكون حب رسول الله صلى الله عليه وآله يرتكز على الإيمان به وإن مراتب هذا الإيمان مرتبطة بمراتب هذا الحب كما هو مبين في الآية الكريمة من خلال الروابط النفسية والروحية والاجتماعية التي يرتبط بها الإنسان فتعلق بها، بل ويصرف في بقائها ودوامها الكثير من متعلقاته الأخرى وذلك بحسب التفاوت القائم لدى كل إنسان فيما يرتبط به من علاقة أبوية أو أخوية أو والدية أو قرابية أو زوجية أو مالية، كما هو منصوص عليه في الآية المباركة.

فهذه العلائق تتفاوت الناس في التعاطي معها والارتباط بها حتى تأتي العلاقة بالله ورسوله متأخرة أو متقدمة بحسب الإيمان الذي يختلج في قلب الإنسان.

وعليه:

يجعل القرآن حب الله ورسوله والجهاد في سبيله هو المقدم على هذه العلائق

ص: 262


1- سورة التوبة، الآية: 24.

التي ارتبط بها الإنسان وأحبها وتفاوتت فيما بينها لديه في الحب والأهمية فقد يكون المال أحب جميع هذه الأشياء وقد يكون الأبناء وقد تكون الزوجة.

إلاّ أن المنهج القرآني في بناء العقيدة الإسلامية للمسلم هو أن يكون حب الله ورسوله هوالعنوان الأول والأساس فيما يرتبط بالإنسان من أشياء عديدة.

ثم ليأتي النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بعد هذا النص القرآني ليبين للناس وللمسلمين تحديداً وفي إطار العقيدة القرآنية التي أرادت أن يبنى الإسلام عليها أن يكون حب فاطمة وعلي وولديهما عليهم السلام هو تبع لحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ بل لا يمكن أن يصدق عنوان الإيمان بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ما لم يكن هناك حب لفاطمة وعلي وولديهما عليهم السلام كما نصت عليه الأحاديث النبوية الشريفة فكانت كالآتي:

1 - روى ابن عساكر وغيره عن زيد بن أرقم، قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمرت فاطمة عليها السلام وهي خارجة من بيتها إلى حجرة نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعها إبناها الحسن والحسين عليهم السلام وعلي في أثرهم فنظر إليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

«من أحب هؤلاء فقد أحبني ومن أبغض هؤلاء فقد أبغضني»(1).

2 - روى الشيخ الصدوق والطوسي والترمذي والحاكم والبخاري وغيرهم، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

ص: 263


1- تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 14، ص 154؛ كنز العمال للهندي: ج 12، ص 103؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 525؛ سبل الهدى للصالحي الشامي: ج 11، ص 57.

«أحبوا الله لما يغدوكم به مننعمة، وأحبوني لحُب الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي»(1).

3 - روى ابن تيمية وغيره عنه صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال:

«والذي نفسي بيده لا يدخلون الجنة حتى يحبوكم من أجلي»(2).

4 - روى ابن أبي شيبة الكوفي، والطبراني وابن عساكر وغيرهم، عن أبي الضحى مسلم بن صبيح قال: قال العباس: يا رسول الله إنا لنرى وجوه قوم من وقائع أوقعتها فيهم، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«لن يصيبوا خيراً حتى يحبوكم لله ولقرابتي، أترجو سلهب شفاعتي ولا يرجوها بنو عبد المطلب»(3).

5 - روى أحمد بن حنبل، ومحمد بن سليمان الكوفي، والترمذي، والحاكم النيسابوري، وغيرهم بطرق عدة، منها ما رواه أحمد عن عبد الله بن الحرث عن العباس بن عبد المطلب، قال: قلت يا رسول الله إن قريشا إذا لقى بعضهم بعضاً لقوهم ببشر حسن وإذا لقونا لقونا بوجوه لا تعرفنا؟!

ص: 264


1- الأمالي للصدوق ص 446؛ الأمالي للطوسي: ص 633؛ سنن لترمذي: ج 5، ص 330؛ المستدرك للحاكم: ج 3، ص 150 التاريخ الكبير للبخاري: ج 1، ص 183؛ تفسير ابن كثير: ج 4، ص 123؛ الآداب للبيهقي: ج 2، ص 23؛ الدر المنثور: ج 6، ص 7.
2- الوصية الكبرى لابن تيمية: ص 297؛ البحر الزخار: ج 6، ص 131، حديث 2175؛ القول القيم لابن القيم: ص 12.
3- المصنف لابن أبي شيبة الكوفي: ج 7، ص 518؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 11، ص 343؛ كنز العمال: ج 12، ص 41؛ تاريخ دمشق لابن عساكر: ج 26، 337؛ تاريخ المدينة لابن شبة النمري: ج 2، ص 640؛ رأس الإمام الحسين لابن تيمية: ص 201؛ ينابيع المودة للقندوزي الشافعي: ج 2، ص 112؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج 24، ص 235.

قال: فغضب النبي صلى الله عليه وآله وسلم غضباً شديداً، وقال:

«والذي نفسي بيده لا يدخل قلب رجل الإيمان حتى يحبكم لله ولرسوله»(1).

والملاحظ في الحديث بعض النقاط منها:

أ: تخصيص الإيمان بالله تعالى وأنه مرهون بحب أهل البيت عليهم السلام، أي يكون حب كل رجل أو امرأة لأهل البيت عليهم السلام خالصاً لله تعالى وإن كانوا يجدون من يقول بخلافهم وإن كانوا أقرب الناس إليهم كآبائهم وأبنائهم كما نصت الآية الكريمة التي مرّ ذكرها.

ب: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يغضب غضباً شديداً لتغير وجوه قريش في وجه عمه العباس وذلك لما أحدثه الإسلام من تغيرات في المجتمع فكيف يكون حاله عند قتل ابنته فاطمة وولدها عليهم السلام على النحو المعروف - نعوذ بالله من سوء المنقلب ومن غضب الله وغضب رسوله صلى الله عليه وآله وسلم -.

ج: من البديهي أن أسباب حصول الغضب يضادها أسباب حصول الرضا، بمعنى: كلما زاد إيمان الإنسان كلما زاد حباً لأهل البيت عليهم السلام وكلما كان الحرص شديد على خدمتهم وإدخال السرور عليهم فإن بذلك إدخال للسرور على قلب سيد الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 265


1- مسند أحمد: ج 1، ص 207؛ وج 4، ص 165؛ المناقب لمحمد بن سليمان الكوفي: ج 2، ص 122؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 318؛ سنن ابن ماجة: ج 1، ص 50؛ فضائل الصحابة للنسائي، ص 23؛ المستدرك للحاكم: ج 3، ص 333؛ المعجم الكبير للطبراني: ص 285؛ تهذيب الخصائص للسيوطي: ص 432؛ الشفا للقاضي عياض: ج 2، ص 48؛ السيرة النبوية لابن كثير: ج 1، ص 92.

6 - روى أحمد بن حنبل، والترمذي، والدولابي، والطبراني جميعاً عن علي بن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه الإمام محمد بن علي الباقر عن أبيه الإمام علي بن الحسين عن أبيه الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، عن أبيه الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السلام، قال:

«إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ بيد حسن وحسين عليهما السلام فقال:

من أحب هذين وأباهما وأمهما كان معي في درجتي يوم القيامة»(1).

والحديث الشريف يجمع ما قدمناه من دلالات في أن معنى الحب هو الإتباع والاقتداء والهدي بهؤلاء إلى المستوى الذي يكون الشخص بسمته وطريقة معيشته وتعامله مع الناس صورة حاكية عن الحسن والحسين وعلي وفاطمة عليهم السلام فمن استطاع أن يصل إلى هذا المستوى من الحب فإنه لا شك وبنص الحديث النبوي الشريف سينال من الرضا والقرب الإلهي ما يجعله مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الجنة في الدرجة التي أعدها الله تعالى لحبيبه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في جنة عدن أو الفردوس لأنه قد بلغ رتبة من التقوى العملية ما مكنته من الوصول إلى هذه المنزلة.

ص: 266


1- مسائل علي بن جعفر: ص 50؛ كامل الزيارات: ص 117؛ أمالي الصدوق: ص 299؛ مسند أحمد بن حنبل: ج 1، ص 78؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 305؛ تحفة الأحوذي: ج 1، ص 163؛ الذرية الطاهرة للدولابي: ص 167؛ المعجم الصغير للطبراني: ج 2، ص 70؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 3، ص 50؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص 210؛ كنز العمال للهندي: ج 12، ص 97؛ تاريخ مدينة دمشق: ج 13، ص 196؛ تهذيب الكمال للمزي: ج 6، ص 228؛ تهذيب التهذيب لابن حجر: ج 10، ص 284؛ ذكر أخبار اصبهان للحافظ الأصبهاني: ج 1، ص 192.
ثالثاً: تلازم بغض فاطمة وبعلها وولديها ببغض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

إنّ من السنن الكونية التي أوجدها الله تعالى في الخلق هي سنة التضاد وهذه السنة قرن الله تعالى بها نظام الاستقامة في الحياة بمعنى إما أن يعتدل الإنسان بفعل هذه السنة في سلوكياته ومسيرته وتعايشه في الحياة.

وإما أنه يميل إلى أحد المتناقضين فيكتسب من أحدهما طاقته ودوامه وعنوانه الحياتي فيكون ملاصقاً له بل يصبح أحد أدواته الفاعلة والمؤثرة في الحياة.

ومثال ذلك الخير والشر، والجهل والعلم والصدق والكذب، والإيمان والكفر، والحب والبغض، فإما أن يكون الإنسان معالجاً للجهل بالعلم، وللكذب بالصدق، وللكفر بالإيمان، وللبغض بالحب، وإما أنه يميل إلى أحد هذين القطبين فيكون متصفاً به، وعنواناً لأحدهما فيصبح إما شريراً أو خيراً وإما عالماً أو جاهلاً أو محباً أو مبغضاً.

وهنا:

في مسألة حب فاطمة وبعلها وولديهما عليهم السلام لا يمكن أن يكون الإنسان يحمل من طرف مثقال ذرة من حبهما ومثقال ذرة من بغضهما في آن واحد فحالهما أي الحب والبغض حال الإيمان والكفر، فمثقال من الكفر يؤدي إلى الهلاك ومثقال من الخير يؤدي إلى النجاة كما دلّ عليه قوله تعالى:

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقٰالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ )(1).

ص: 267


1- سورة الزلزلة، الآيتان: 7 و 8.

وفي حب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وبغضهم تظهر الخطورة العظمى حيث يندرج الإنسان ضمن قائمة الظالين الذين غضب الله عليهم كما دلت عليه النصوص، منها:

1 - عن أبي الجارود عن أبي عبد الله الحداي قال: قال لي أمير المؤمنين عليه السلام:

«يا أبا عبد الله ألا أخبرك التي من جاء بها أمن من فزع يوم القيامة، وبالسيئة التي من جاء بها كب على وجهه في جهنم ؟».

قلت: بلى يا أمير المؤمنين، فقال:

«الحسنة حبنا، والسيئة بغضها أهل البيت»)(1).

2 - روى الشيخ الطوسي عن الإمام علي بن الحسين عليهما السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما بال أقوام إذا ذكر عندهم آل إبراهيم عليه السلام فرحوا واستبشروا، وإذا ذكر عندهم آل محمّد اشمأزت قلوبهم ؟، والذي نفس محمد بيده لو أن عبداً جاء يوم القيامة بعمل سبعين نبياً ما قبل الله منه حتى يلقاه بولايتي وولاية أهل بيتي»(2).

3 - عن أبي حمزة الثمالي قال: (كنت مع أبي جعفر عليه السلام، فقلت: جعلت فداك يبن رسول الله: قد يصوم الرجل النهار، ويقوم الليل، ويتصدق، ولا

ص: 268


1- المحاسن للبرقي: ج 1، ص 150؛ دعائم الإسلام للقاضي المغربي: ج 1، ص 71؛ الأمالي للطوسي: ص 493؛ تفسير الثعلبي: ج 7، ص 230؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 1، ص 548؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 328؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 291.
2- الأمالي للشيخ الطوسي: ص 140؛ كشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 11.

يعرف منه إلا خيراً، إلا أنه لا يعرف الولاية، قال: فتبسم أبو جعفر عليه السلام وقال:

«يا ثابت إنا في أفضل بقعة على ظهر الأرض لو أن عبداً لم يزل ساجداً بين الركن والمقام حتى يفارق الدنيا لم يعرف ولايتنا، لم ينفعه ذلك شيئاً»)(1).

من هنا:

نجد أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد قرن هذا الحب - وبلحاظ هذه السُنّة السلوكية - بالبغض فمن أحبهم فقد بغض أعدائهم، ومن أبغضهم أحب أعدائهم؛ وذلك ن المؤمن ينجذب إلى الخير سريع الالتحاق بأهله ويأنس بهم ويستوحش من غيرهم؛ والحال نفسه قائم عند الكافر فهو يستوحش من أهل الخير سريع الفرار منهم، بل نجده يشمئز من الإيمان والذكر كما دلّ عليه قوله تعالى:

(وَ إِذٰا ذُكِرَ اَللّٰهُ وَحْدَهُ اِشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ اَلَّذِينَ لاٰ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذٰا ذُكِرَ اَلَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذٰا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ )(2).

وهذه الحالة النفسية التي يمكن ملاحظتها في جميع الأزمنة نجدها متجسدة في المؤمن والكافر وتنعكس على حاله وأفعاله؛ بل نجدها لتتضاعف معه حتى يصبح المؤمن سلم لمن سالم آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم؛ وحرب لمن حارب آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك لتلازم الإيمان بالحب، والبغض بالنفاق فيكون إما من أهل الإيمان، وإما من أهل النفاق، فيسالم أهل سنخه ويعادي أهل

ص: 269


1- الأصول الستة عشر بتحقيق المحمودي: ص 333؛ تفسير أبي حمزة الثمالي: ص 137؛ مستدرك الوسائل: ج 1، ص 151.
2- سورة الزمر، الآية: 45.

نقيضه.

ولعل كثير من النصوص الصريحة والواضحة في هذا الجانب تقطع الطريق على المتأولين في دفع المسلم عن مراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تحديد المسار والعلاقة مع أهل البيت عليهم السلام، فكان منها:

1 - روى الزرندي، وابن حجر، وغيرهم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال:

«اشتد غضب الله على من آذاني في عترتي، ومن أحب أن يسأله في أجله، وأن يتمتع بما خوله الله، فليخلفني في أهلي خلافة حسنة، فمن لم يخلفني فيهم بتر الله عمره وورد عليّ يوم القيامة مسوداً وجه»(1).

2 - روى أبو يعلى الموصلي (عن بن حوشب الحنفي قال:

حدثتني أم سلمة قالت: ثم جاءت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم متوركة الحسن والحسين في يدها برمة للحسن فيها سخين حتى أتت بها النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم، فلما وضعتها قدامه قال لها:

«أين أبو الحسن».

قالت:

«في البيت».

ص: 270


1- نظم درر السمطين للزرندي: ص 231؛ الإصابة لابن حجر: ج 1، ص 406؛ فيض القدير للمناوي: ج 2، ص 220؛ كنز العمال: ج 12، ص 99.

فدعاه، فجلس النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم وعلي وفاطمة والحسن والحسين يأكلون.

قالت أم سلمة:

وما سامني النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم وما أكل طعاماً قط إلا وأنا عنده إلاّ ساميته قبل ذلك اليوم(1).

فلما فرغ التف عليهم بثوبه ثم قال:

«اللهم عاد من عاداهم ووال من والاهم»)(2).

ويمضي النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم في بيان تلازم الحب والبغض وارتباطهما الإيماني والنفاقي، فيبين للمسلمين إن حب أهل بيته هو عين حبه صلى الله عليه وآله وسلم - كما أسلفنا - وإن بغضهم هو عين بغضه - والعياذ بالله -.

ولشدت حرص النبي صلى الله عليه وآله وسلم في إيصال هذا الحكم إلى الناس وحثّهم على العمل به تعدد منه صدور هذا الحكم الشرعي بنحوي المجمل والمفصل؛ فمرة يخص بهذا الحكم الشرعي الحسن والحسين عليهما السلام فيقتصر على ذكرهما فيظهر تلازم حبهما بحبه وبغضهما ببغضه؛ ومرة أخرى يخص بالذكر علي بن أبي طالب عليه السلام، ومرة ثالثة بفاطمة، ورابعة بهم جميعاً.

والظاهر - كذلك - من سيل الروايات الكثيرة في هذا الخصوص أن النبي

ص: 271


1- تعني بسامني دعاني إليه.
2- مسند أبي يعلى الموصلي: ج 12، ص 384؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج 33، ص 92.

صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك موقفاً أو مناسبة إلا وقد صرح للمسلمين بهذا الحكم الشرعي كي يلتفت المسلمون إلى خطورة هذا العنوان وذلك لما يترتب عليه من صلاح لهذه الأمة أو فسادها وضلالها.

ولذلك:

نجد أن السبب في تعدد هذه الأحاديث وكثرتها هو لما ذكرناه، فكان من هذه الأحاديث ما يلي:

1 - أخرج أحمد في المسند عن أبي هريرة قال: (قال رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني».

يعني حسناً وحسيناً)(1).

ولا يخفى على اللبيب إن ما يترتب على الحب من عناوين شرعية وروحية واجتماعية يترتب على البغض كذلك.

2 - وعن عبد الرحمن بن مسعود، عن أبي هريرة، قال: (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم ومعه حسن وحسين، هذا على عاتقه، وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة ويلثم هذا مرة حتى انتهى إلينا فقال له رجل: يا رسول الله إنك تحبهما؟ فقال:

«من أحبهما فقد أحبني، ومن أبغضهما فقد أبغضني»)(2).

ص: 272


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 2، ص 288؛ فضائل الصحابة للنسائي: ص 20.
2- مسند أحمد: ج 2، ص 440؛ سنن ابن ماجة: ج 1، ص 21؛ مستدرك الحاكم: ج 3، ص 166.

وفي حبه صلى الله عليه وآله وسلم لعلي بن أبي طالب عليه السلام وما يترتب على المسلم من حكم شرعي من التلازم بين حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحب علي بن أبي طالب عليه السلام فمن بغض أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام فقد بغض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقد روى الحاكم في المستدرك، عن عوف بن أبي عثمان النهدي قال:

(قال رجل لسلمان: ما أشد حبّك لعلي ؟

- فقال سلمان -: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

«من أحبّ علياً فقد أحبني ومن أبغض علياً فقد أبغضني»)(1).

والحديث واضح الدلالة في أن شدة حب سلمان لعلي بن أبي طالب عليه السلام إنما في حقيقته هو حبه الشديد لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ومن هنا:

فإن الذين كانوا يبغون علي بن أبي طالب عليه السلام، فهم يبغضون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك للملازمة بين حبيهما وبغضيهما؛ أي: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعلي بن أبي طالب عليه السلام.

فمن يدعي حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لزم منه حب علي عليه السلام، فضلاً عن مفاهيم الحب ومصاديقه ك -: (الإتباع، والإيمان، والموالاة، والنصرة، والسلم) وغيرها، وفضلاً عن نقائض هذه المصاديق ك - (التخلي، والكفر، والبراءة، والخذلان، والحرب) وغيرها، فمن اتبعهم تخلى عن غيرهم،

ص: 273


1- مستدرك الحاكم: ج 3، ص 130.

ومن آمن بهم كفر بغيرهم، ومن والاهم تبرأ من أعداءهم ومخالفيهم، ومن نصرهم خذل غيرهم، ومن سالمهم حارب غيرهم إن كانوا حرب لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

ولأجل ذلك:

وما يترتب عليه من تحديد للهوية الإسلامية والأخروية حينما يقف المسلم بين يدي الله تعالى، لقوله سبحانه:

(وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ )(1).

عن آل محمد كيف خلفوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيهم، كان كل هذا التشديد والتحذير من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال:

1 - روى القندوزي عن سلمان الفارسي رضي الله عنه، رفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال له:

«يا سلمان من أحب فاطمة ابنتي فهو في الجنة معي، ومن أبغضها فهو في النار، يا سلمان حب فاطمة ينفع في مائة موطن أيسر تلك المواطن: الموت، والقبر، والميزان، والصراط، والحساب، فمن رضيت عنه ابنتي فاطمة رضيت عنه، ومن رضيت عنه رضى الله تعالى عنه، ومن غضبت ابنتي فاطمة عليه غضبت عليه ومن غضبت عليه غضب الله عليه.

يا سلمان، ويل لمن ظلمها ويظلم بعلها عليا، وويل لمن يظلم ذريتها وشيعتها»(2).

ص: 274


1- سورة الصافات، الآية: 24.
2- ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 332؛ الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري: ج 1، ص 20.

2 - روى القاضي عياض في الشفا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال:

«معرفة آل محمد براءة من النار، وحب آل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمان من العذاب»(1).

3 - روى الحافظ الخركوشي في شرف المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، والقندوزي عن علي عليه السلام، قال:

«سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول:

من آذاني في أهل بيتي فقد آذى الله عزّ وجل، ومن أعان على أذاهم وركز إلى عدوهم فقد أذن بحرب من الله ولا نصيب له غداً في شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم»(2).

4 - أخرج الشيخ الصدوق رحمه الله (عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إنّ علياً وصيي وخليفتي، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين ابنتي، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ولداي من والاهم فقد والاني ومن عاداهم فقد عاداني ومن ناواهم فقد ناواني، ومن جفاهم فقد جفاني، ومن برهم فقد برني، وصل الله من وصلهم، وقطع من قطعهم، ونصر من نصرهم، وأعان من أعانهم،

ص: 275


1- الشفا بتعريف المصطفى للقاضي عياض: ج 2، ص 48؛ العجاجة الزرنبية للسيوطي: ص 33؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 1، ص 7؛ وج 2، ص 254.
2- شرف المصطفى للحافظ الخركوشي (مخطوط) يرقد في مكتبة الأسد الوطنية تحت الرقم (1887) ويحمل رقم المصغر الفيلمي (4891) الورقة 180، من جهة اليمين؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 81؛ كتاب الأربعين للقمي الشيرازي: ص 472؛ شرح إحقاق الحق: ج 9، ص 467.

وخذل من خذلهم، اللهم من كان له من أنبيائك ورسلك ثقل وأهل بيت، فعلي وفاطمة والحسن والحسين أهل بيتي وثقلي أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا»)(1).

رابعاً: منهج الوحي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الرسالة من تذكير الأمة وانفلات العامة

مثلما كان هناك تلازماً بين فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقول الوحي فإن المنهج التبليغي الذي جاء به الوحي وعمل به النبي كان يرتكز على الملازمة أيضاً؛ فبين نهي القرآن وتذكيره كان المنهج النبوي يدور في نفس فلك المنهج القرآني.

ففي التذكير كمنهج نص عليه الوحي في محكم التنزيل ضمن مجموعة من الآيات، منها:

1 - قوله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم:

(نَحْنُ أَعْلَمُ بِمٰا يَقُولُونَ وَ مٰا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبّٰارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخٰافُ وَعِيدِ)(2).

2 - قال تعالى:

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ اَلذِّكْرىٰ )(3).

3 - قال عزّ وجل:

ص: 276


1- الأمالي للصدوق: ص 473.
2- سورة ق، الآية: 45.
3- سورة الأعلى، الآية: 9.

(فَذَكِّرْ إِنَّمٰا أَنْتَ مُذَكِّرٌ)(1).

فكان هذا المنهج القرآني الذي حدد للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم الأسلوب في تبليغ الرسالة تبعه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبناءً على ما أمره الله به فقد كان مذكراً للأمة بآل بيته وكيفية التعامل معهم وبيان شأنهم ومنزلتهم في الشريعة ودورهم الرسالي في الأمة.

فقام بتذكيرهم بأهل بيته فحذر وأنذر وأبلغ وأعذر فكان مما ذكر به ما رواه مسلم في صحيحه عن زيد بن أرقم إنه قال:

(أقام رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خما بين مكة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال:

«أما بعد ألا أيها الناس فإنما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربي فأجيب وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به».

فحث على كتاب الله ورغب فيه ثم قال:

«وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي»)(2).

فهذا النهج الذي سار به النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع الأمة تبعه بمقتضيات أخرى تصب في نفس المعين لينجوا المسلمون من الوقوع في الضلال

ص: 277


1- سورة الغاشية، الآية: 21.
2- صحيح مسلم: ج 7، ص 123.

حينما ينزلقوا خلف انفلات العامة من حدود الله تعالى والعمل بشريعة المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

فقام صلى الله عليه وآله وسلم بالتحذير من التعرض لتلك الحدود التي فرضها الإسلام وأوجب على المسلم الالتزام بها، فكان التحذير واحداً من مصاديق التذكير الذي أمر به القرآن وعمل به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في جملة من الأحاديث الكاشفة عن منع وقوع الأمة في الانفلات من هذه الضوابط الشرعية والحدود الإلهية كما وقع فيه الإعراب والعوام.

وفي ذلك روى الشيخ الصدوق، والترمذي، والحاكم النيسابوري، والطبراني، وغيرهم، عن زيد بن أرقم أنه قال: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي وفاطمة والحسن والحسين:

«أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم»)(1).

والتحذير الذي قدمه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم للأمة لم يكن محصوراً بزمن محدد بل تكشف الروايات عن أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد حدد لهذه الأمة موضعه صلى الله عليه وآله وسلم من أهل بيته ومنذ أن تكوّن بيت علي وفاطمة عليها السلام.

فعن عطية العوفي (عن أبي سعيد الخدري، قال: لما دخل علي بفاطمة جاء

ص: 278


1- عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق: ج 2، ص 59؛ كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 452-453؛ الأمالي للطوسي: ص 336؛ سنن الترمذي: ج 5، ص 360؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 149؛ المعجم الأوسط للطبراني: ج 5، ص 182؛ موارد الضمآن للهيثمي: ص 555؛ سنن ابن ماجة: ج 1، ص 52، حديث 145.

النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم أربعين صباحاً إلى بابها فيقول:

«أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم»)(1).

ويدل وقوف النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم على باب علي وفاطمة هذه المدة الزمنية التي حددتها الرواية بالأربعين صباحاً على حكمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دفع الالتباس أو الجهل عن المسلمين في تحديد موقعه صلى الله عليه وآله وسلم الشرعي من أهل بيته، فمن حاربهم إنما يحارب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يحاربه؛ ومن سالمهم كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم سلماً له.

والظاهر من الرواية أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم ابتدأ مع المسلمين في منهاجه التذكيري والتحذيري من موقع الحكم الشرعي، بمعنى: أظهر لهم وذكرهم وحذرهم في الحرب والسلم لهؤلاء قبل أن يحدد للمسلمين من هم أهل بيته.

بمعنى آخر: إن تحديده لأهل بيته ظهر للمسلمين بعد ولادة فاطمة عليها السلام للحسن والحسين عليهم السلام أما قبل ولادتها لهما فقد كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يحدد الموقع الشرعي لهذا البيت الذي تكوّن بعلي وفاطمة عليهما السلام.

والهدف في ذلك تحديد الحدود الشرعية الكاشفة عن عظم هذا البيت وأهله

ص: 279


1- فضائل سيدة النساء لعمرو بن شاهين: ص 29؛ تفسير فرات الكوفي: 338؛ شواهد التنزيل للحاكم الحسكاني: ج 2، ص 44.

ومنزلتهم عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم لمن كان يؤمن بالله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أي: إن الخطاب موجه للمسلمين وليس للمشركين، بمعنى: (استحق من حاربهم اسم المحارب لله ورسوله وإن لم يكن مشركاً)(1).

وهو حكم قرآني أشار إليه الجصاص (المتوفى سنة 307 ه -) وتغافل عنه الكثيرين تسترا على ما قام به بعض الرموز من الصحابة في محاربتهم لعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام.

المسألة الثانية: اختصاص فاطمة عليها السلام بشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

يتفاوت الناس في الشرافة حينما يقترنون بالعظماء، والعظماء يختلفون بحسب المعطيات الثقافية لدى الناس، فقد يكون المرء عظيما في الملك أو المال أو العلم أو الحسب أو الأدب أو غير ذلك.

لكنما الأمر الذي تسالم عليه العقلاء - بلحاظ - دوام العظمة هو ما اقترن بالآخرة والشريعة والقداسة؛ فتلك قد كتب لها الدوام وإن اختلفت التوجهات والأفكار عند الناس.

ولذا:

يحرص الكثيرون على الالتصاق بالشرائع السماوية أو الروحية أو الدينية كي يكتسبوا من تلك الشرائع شرفاً أو تشريفاً لينالوا حظهم الأوفر من التعظيم وإظهار منزلتهم وفقاً لمواضعهم وأماكنهم من العظماء.

ص: 280


1- أحكام القرآن للجصاص: ج 2، ص 508.

ولا شك: أن أعظم الناس هم الأنبياء والرسل عليهم السلام وذلك لتوفر جميع عناصر العظمة بهم ابتداءً من اختصاصهم بالله تعالى وانتهاءً بما لديهم في الآخرة حيث الحياة الأبدية من الوجاهة والمنزلة لاسيما وإن القرآن الكريم يرشد العاقل إلى هذه الحقيقة في آيات عدة، منها:

1 - قال تعالى:

(وَ قٰالُوا اِتَّخَذَ اَلرَّحْمٰنُ وَلَداً سُبْحٰانَهُ بَلْ عِبٰادٌ مُكْرَمُونَ (26) لاٰ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ )(1).

2 - وقال تعالى:

(إِذْ قٰالَتِ اَلْمَلاٰئِكَةُ يٰا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّٰهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيٰا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ )(2).

3 - وقال عزّ وجل:

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطٰاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ )(3).

وغيرها من الآيات المباركة الكاشفة عن منازل الأنبياء عليهم السلام عند الله تعالى مما يجعل الذين يعاصرون الأنبياء ويؤمنون بهم يتنافسون - كلا حسب إيمانه - في الالتصاق بالنبي، وإحراز عناوين شرعية يرتقي بها أصحابها بين الناس، فيفاض عليهم من عظمتها وقدسيتها.

ص: 281


1- سورة الأنبياء، الآيتان: 26 و 27.
2- سورة آل عمران، الآية: 45.
3- سورة التكوير، الآيات: 19 و 20 و 21.

وهؤلاء الملتصقون بالأنبياء عليهم السلام صنفان، صنف شاء أن يحظى بمكاسب دنيوية بين الناس بما للقرب من الحظرة النبوية من آثار اجتماعية ونفسية وروحية على المؤمنين، فضلاً عن اكتساب الحصانة حيناً والذريعة حيناً آخر في تمشية المصالح الشخصية، كما كان في حال السامري في بني إسرائيل وحال غيره في الأمم السابقة وهذه الأمة.

والصنف الآخر كان التصاقه بالأنبياء عليهم السلام التصاق سنخي لتلازم الإيمان والطهر والصدق فيكون شأنهم مدعماً بالآيات والبراهين الإلهية لأنهم نصروا الله فنصرهم.

ومن بين هؤلاء الذين التصقوا بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم هي فاطمة وبعلها وولديها (صلوات الله عليهم أجمعين).

وقد أسلفنا أنهم مع ما لهم من صلة الرحم والدم والقرابة القريبة، فهم الأهل والآل والعترة، ومع هذا كله لهم خصوصية الشريعة المرتكزة على التقوى والطاعة لله تعالى فكانوا بعد النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم حجج الله على العالمين وأئمة على الخلق أجمعين.

من هنا:

كان لفاطمة التصاقاً سنخياً بشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بجميع ما أحيط بهذه الشخصية من عبودية لله ورسالة ونبوة وإمامة وحرمة وطاعة ومعصية ومنزلة عند الله تعالى إلا أنه لا نبوة ولا رسالة بعد النبي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

ص: 282

بمعنى:

لا يمكن أن ينال الإنسان تلك العظمة ما لم يكن مرتبطاَ بالله تعالى؛ وحيث أن الارتباط الإلهي يكشفه القرآن في درجات ومراتب حددها الوحي عن الله تعالى فكانت في قمة الارتقاء هي العبودية المحضة لله، فإن النبوة والرسالة والإمامة تأتي تبعاً لما ينال الإنسان من حظه في سلم العبودية لله عز وجل مما يكشف أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو أعبد الخلق للخالق وأن جمعه لجميع ما دون هذه الرتبة هو من ثمار تلك العبودية، وأن فاطمة قد نالت من تلك الدرجات والمراتب - بما للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم - ابعاض منها وهو ما دلّ عليه الحديث النبوي الشريف المعروف بحديث البضعة، الذي تناقلته الصحاح والمسانيد والسنن وغيرها(1).

بمعنى آخر:

حينما ننظر إلى شخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإن نظرتنا إليه يقومها النص القرآني الذي أعطاه ما لم يعط أحداً من الأنبياء والمرسلين إذ يكفي في ذلك قول تعالى:

(ثُمَّ دَنٰا فَتَدَلّٰى (8) فَكٰانَ قٰابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنىٰ )(2).

ومن ثم: فإن قوله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث البضعة لا يندرج ضمن الحدود المادية التي تنم عن ضيق الفهم وعسر الاستيعاب وعمى البصيرة

ص: 283


1- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين، ج 4، ص 210؛ صحيح مسلم: ج 4، ص 140، مسند أحمد: ج 4، ص 328.
2- سورة النجم، الآيتان: 8 و 9.

وذلك أن شخوص الأنبياء والمرسلين عليهم السلام يتعامل معهم بما أحرزوا من الشأنية عند الله تعالى لا على أساس الفناء الملاصق للمادة وولادتها من رحم الحياة الدنيا.

بل: تسالم العقلاء في تقيمهم وتعظيمهم للرموز من خلال ما يتصف به أولئك الرموز من عناوين روحية وشرعية ودينية وقدسية.

من هنا:

كان لفاطمة تلك الملاصقة مع شخص النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم فكانت بعضاً من رتبة العبودية التي نالها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبعضاً من الرسالة والنبوة والإمامة والنذارة والبشارة والشهودية وغيرها مما أوتي المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم.

وإلا فإن حديث البضعة بخلاف هذه المفاهيم يصبح مجوفاً من الروح لا حياة فيه لا طريق لديه في قلوب قد ران عليها الكفر وطبع عليها النفاق فهم لا يفقهون.

ومن هنا أيضا:

لم يكتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بيان منزلة فاطمة عليها السلام ضمن تلك المفاهيم القرآنية بحديث البضعة وإنما أردفه بأحاديث أخرى تسوق الذهن فيسلّم القلب إلى أنها بلغة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم مبلغاً عظيماً فكانت الأحاديث كالآتي:

ص: 284

أولاً: تعدد ألفاظ حديث البضعة

يعد حديث البضعة من الأحاديث المشهورة لورودها في عدد كبير من المصادر الإسلامية إلاّ أن التثقيف عليه وبيان دلالاته يعد قليلاً جداً حتى يكاد المسلم حينما يسمع به في بعض المحافل يحسبه من الأحاديث المندثرة أو الغير صحيحة لعزوف أصحاب المنابر في العالم الإسلامي لاسيما أبناء السنة عنه وكأنه لا يعني لهم شيئاً أو هو مما يشكل إرباكاً في منهجهم العقدي كي لا يعد المتكلم به من المتشيعين لآل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

والحديث الشريف ورد بألفاظ عديدة مما يكشف عن كثرة تكرار صدوره من الحضرة النبوية كي يرسخ في أذهان المسلمين ما لفاطمة من المنزلة الشرعية والروحية في الإسلام فكانت ألفاظ الحديث على النحو الآتي:

1 - أخرجه البخاري في الصحيح عن المسور بن مخرمة: بألفاظ عدة:

أ: إنّ رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم قال:

«فاطمة بضعة مني فمن أغضبها أغضبني»(1).

ب: وبلفظ:

«وإنّ فاطمة بضعة مني وإن أكره أن يسؤها»(2).

ج: ولفظ آخر:

«فإنما هي بضعة مني يريني ما أرابها»(3).

ص: 285


1- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم: ج 4، ص 210.
2- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم: ج 4، ص 212.
3- صحيح البخاري، باب: مناقب المهاجرين وفضلهم: ج 1، ص 158.

2 - أخرجه مسلم النيسابوري عن المسور بن مخرمة بألفاظ عدة:

أ: قال: قال رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«إنما فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها»(1).

ب: وبلفظ آخر:

فإنما ابنتي بضعة مني يريبني ما رآبها ويؤذيني ما آذاها»(2).

3 - أخرجه أحمد بن حنبل بلفظ:

أ: عنه صلى الله عليه - وآله - وسلم قال:

«إنها فاطمة بضعة مني يؤذيني ما آذاها وينصبني ما أنصبها»(3).

ب: وبلفظ آخر:

«إنما فاطمة بضعة مني وإني أكره أن تفتنوها»(4).

4 - أخرجه سليم بن قيس الهلالي عن فاطمة عليها السلام أنها سألت أبي بكر وعمر فقالت:

«نشدتكما بالله هل سمعتما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: فاطمة بضعة مني، فمن آذاها فقد آذاني ؟».

قالا: نعم، فرفعت يدها إلى السماء فقالت:

ص: 286


1- صحيح مسلم: ج 7، ص 141، باب: فضائل فاطمة عليها السلام.
2- المصدر السابق نفسه.
3- مسند أحمد: ج 4، ص 5، من حديث عبد الله بن الزبير.
4- المصدر السابق نفسه.

«اللهم إنّهما قد آذياني، فأنا أشكوهما إليك وإلى رسولك»(1).

وغيرها من الألفاظ التي تناقلتها الرواة(2).

فكان هذا الحديث من الأحاديث الدالة على ارتباطها عليها السلام بشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

ثانياً: حديث الشجنة

إن من الملاحظ في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيان خصوصية فاطمة عليها السلام لديه ومنزلته عنده استخدامه لألفاظ متعددة تشير إلى تلك الحرمة المترتبة على دلالة هذه الألفاظ فكان منها حديثه صلى الله عليه وآله وسلم المعروف بحديث الشجنة.

وقد أخرجه أحمد، والحاكم، والهيثمي، والطبراني، وغيرهم بألفاظ متفاوتة في السعة والاختصار.

ص: 287


1- كتاب سليم بن قيس الهلالي: ص 392.
2- أنظر في تعدد ألفاظ حديث البضعة: مناقب ابن المغازلي: ص 282، حديث 327؛ المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 158؛ المناقب للخوارزمي: ص 335؛ سنن البيهقي: ج 7، ص 64؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 20، ص 18؛ الطبقات الكبرى لابن سعد: ج 8، ص 206؛ مسند البزار: ج 6، ص 169، حديث 1938؛ اتحاف السائل للمناوي: ج 1، ص 7؛ مختصر صفة الصفوة لابن جوزي: ص 121؛ فضل آل البيت للمقريزي: ص 37؛ الفتح الرباني للساعاتي: ج 22، ص 93؛ المصنف لابن أبي شيبة: ج 12، ص 126؛ الروض الاُنف: ج 1، ص 279؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 327؛ الشفا للقاضي عياض: ج 2، ص 574؛ البحر الزخار: ج 6، ص 150؛ المواهب اللدنية: ج 2، ص 165؛ الثغور الباسمة للسيوطي: ص 24، حديث 30؛ مشارق الأنوار للقاضي عياض: ص 128؛ تهذيب الخصائص للسيوطي: ص 433؛ صحيح ابن حبان: ج 5، ص 406؛ خصوصيات النبي للقسطلاني: ص 135.

1 - فقد رواه أحمد بهذا اللفظ:

(عن جعفر بن محمد، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن المسور بن مخرمة: أن حسن بن حسن بعث إلى المسور يخطب ابنة له فقال:

قل له يوافيني في وقت قد ذكره فلقيه فحمد الله المسور، وقال: ما من سبب ولا نسب ولا صهر أحب إليّ من نسبكم وصهركم ولكن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم قال:

«فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها وإنه يقطع يوم القيامة الأنساب إلا نسبي وسببي».

وتحتك ابنتها ولو زوجتك قبضها ذلك، فذهب عاذراً له)(1).

2 - وأخرجه الحاكم النيسابوري بالسند المذكور، عنه صلى الله عليه وآله وسلم، قال:

«إنما فاطمة شجنة مني يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها».

وأردفه الحاكم بقوله: وهذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه)(2).

3 - وأخرجه الحميري رحمه الله في قرب الإسناد (عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام عن أبيه الإمام الباقر عليه السلام قال:

«لما ولي عمر بن عبد العزيز أعطانا عطايا عظيمة».

ص: 288


1- مسند أحمد بن حنبل: ج 4، ص 33؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 20، ص 25، حديث 30؛ مجمع الزوائد للهيثمي: ج 9، ص 328؛ فضائل الصحابة لأحمد بن حنبل: ج 2، ص 765، حديث 1347.
2- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري: ج 11، ص 42، حديث 4717؛ نثر الدرّ: ج 1، ص 343؛ المناقب لابن شهر: ج 3، ص 332.

قال: «فدخل عليه أخوه فقال له: إن بني أمية لا ترضى منك بأن تفضل بني فاطمة - عليها السلام - عليهم».

فقال: أفضهم، لأني سمعت لا أبالي أن اسمع أولا أسمع أن رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم كان يقول:

«إن فاطمة شجنة مني يسرني ما أسرها ويسوؤني ما أساءها».

فأنا أتبع سرور رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم)(1).

وللوقوف على دلالة الحديث الشريف نورد ما جاء عند أهل اللغة في بيان معنى الشجنة:

1 - قال ابن فارس في (شجن): الشين والجيم والنون أصل واحد يدل على إتصال الشيء والتفافه من ذلك الشجنة وهي الشجر الملتف.

ويقال: بيني وبينه شجنة رحم يريد اتصالها والتفافها، ويقال: للحاجة الشجن وإنما سميت بذلك لالتباسها وتعلق القلب بها والجمع شجون.

قال: والنفس شتى شجونها.

والأشجان جمع شجن(2).

2 - وقال ابن الأثير:

(شجن) فيه - الحديث الشريف -:

«الرحم شجنة من الرحمن».

ص: 289


1- قرب الإسناد للحميري: ص 53.
2- معجم مقاييس اللغة لابن فارس: ج 3، ص 248.

أي قرابة مشتبكة كاشتباك العروق، شبه بذلك مجازاً واتساعاً؛ وأصل الشجنة بالكسر والضم: شعبة في غصن من غصون الشجرة(1).

ومن هذا المعنى نستدل على أن فاطمة عليها السلام لها من الترابط مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ما للعروق في الشجرة الواحدة وقد تشابكت والتفت مع بعضها البعض إلى الحد الذي أصبحت فيه هذه العروق شيئاً واحداً لا ينفك كل جزء فيه عن الآخر، وذلك للحمة التي بينهما فإذا قطع عضو منه مات من الشجرة عضو آخر.

ومما لا يخفى على أهل المعرفة ما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الإحاطة التامة الجامعة المانعة بلغة الضاد وأسرارها وبلاغة معانيها وأبعاد ألفاظها ودلالة مفرداتها.

ولذلك:

نراه صلى الله عليه وآله وسلم حينما مثل فاطمة بالشجنة منه، وبيان أهل اللغة بأنها الشعبة في غصن من غصون الشجرة، أو الشعبة من كل شيء(2)، لم يكن بأبي قد نطق بها إلا ليعرف المسلمين بمحل فاطمة من النبوة والرسالة.

فقولهم وفعلها وتقريرها شعبة من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفعله وتقريره؛ وهذا فضلاً عن ورود نصوص عن العترة النبوية بعصمتها وإنها حجة الله تعالى على الأئمة الذين جعلهم حججاً على خلقه وأوجب عليهم لزوم طاعتهم ومودتهم وإتباعهم.

ص: 290


1- النهاية في غريب الحديث لابن الأثير: ج 2، ص 447؛ غريب الحديث لابن سلام: ج 1، ص 209.
2- المجازات النبوية للشريف الرضي: ص 138.
ثالثاً: حديث المهجة

لم يزل النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ينتقل من بيان إلى آخر ليرشد الناس إلى عظيم منزلة فاطمة عنده وشأنها لديه كي يحذر المسلمون في تعاملهم مع المقدسات ويجتنبون الوقوع في انتهاك الحرمات عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك:

ينتقل النبي صلى الله عليه وآله وسلم هنا إلى لفظ جديد ومعنى آخر يرسم صورة أخرى لهذه الشخصية الملكوتية التي أودعها الله تعالى في صلبه ليخرجها إلى الناس حجة وشاهداً وموضعاً للابتلاء الحسن ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من يحيى عن بينة.

هذه البينة التي جهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بيانها ولم يزل يظهرها - كما سيمر - علينا في بقية الأحاديث الشريفة.

وهنا:

أراد النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أن يعلم الناس محلها من شخصه بذلك المستوى الذي لا يرقى إليه أحد من الخلق فمن منهم كان بمنزلة الروح من النفس، والدم من القلب، بل: هي الروح والقلب كما سيمر لاحقاً.

لكنه صلى الله عليه وآله وسلم هنا: حينما وضعها هذا الموضع من القلب ليعلم الناس أن لا حياة للقلب بدون الروح ولا حياة للروح بدون الدم وهو ما يذهب إليه أهل اللغة في بيان معنى (المهجة).

ص: 291

إذ قال الخليل الفراهيدي: (المهجة: دم القلب، ولإبقاء للنفس بعد ما تراق مهجتها)(1).

وقال الجوهري: هي، دم القلب خاصة، ويقال: إذا خرجت مهجته خرجت روحه)(2).

بمعنى: لا بقاء للنبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بدون مشكاة النور وأم الأئمة حجج الله على خلقه والأدلاء عليه والقادة إلى سبيله فلولاها لما كانوا ولما كان هناك ذكر للمصطفى صلى الله عليه وآله وسلم ولا شريعته.

إذ حياة كل شيء بقلبه ودوامه بروحه ودوام شريعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وروح الإسلام بفاطمة صلوات الله وسلامه عليها.

ولذا:

كان حديثه صلى الله عليه وآله وسلم بهذا اللفظ الكاشف عن منزلتها لدى النبوة والرسالة، فقال:

«فاطمة مهجة قلبي، وإبناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والأئمة من ولدها أمناء ربي، حبل ممدود بينه وبين خلقه من اعتصم به نجا ومن تخلف عنه هوى»(3).

ص: 292


1- كتاب العين: ج 3، ص 397.
2- كتاب الصحاح للجوهري: ج 1، ص 342؛ البحر المحيط: ج 1، ص 208.
3- مائة منقبة لمحمد بن أحمد القمي: ص 76؛ الصراط المستقيم لعلي بن يونس العاملي: ج 2، ص 32؛ الصوارم المهرقة للتستري: ص 337؛ بحار الأنوار للمجلسي: ج 29، ص 649؛ نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي: ص 227؛ شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي: ج 7، ص 472؛ مقتل الحسين للخوارزمي: ص 77؛ المناقب للزمخشري: ص 213 (مخطوط)؛ فرائد السمطين للحمويني: ج 2، ص 66، حديث 390.

والحديث أخرجه محمد بن أحمد القمي (المتوفى سنة 412 ه -) بإسناده عن الفضل بن شاذان، عن محمد بن زياد، عن جميل بن صالح، عن الإمام جعفر بن محمد عليهما السلام قال:

«حدثني أبي، عن أبيه عن جده الحسين بن علي عليهم السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: فاطمة مهجة قلبي.......».

وساق الحديث، وذكره عنه الخوارزمي في مقتل الإمام الحسين عليه السلام والزمخشري في مناقبله وغيرهم.

رابعاً: حديث الشعرة

لا شك إنّ من بين أهم الأولويات لدى الأنبياء والمرسلين عليهم السلام حفظ الحرمات، ومن أعظم الحرمات هي الحكم الشرعي ثم مثال الحكم الشرعي وعنوان وجوده في الحياة وهو المعصوم عليه السلام سواء كان نبياً أو رسولاً أو إماماً فهؤلاء هم الأمناء على الشريعة ومنهم يخرج الحكم الشرعي - باختيار وتعيين من الله تعالى - إلى الناس.

ولذلك فالراد عليهم على الله تعالى والمطيع لهم مطيع لله تعالى ولعل المتتبع للآيات الكريمة يجد الكثير منها ما ينص على الملازمة بين طاعة الله تعالى وطاعة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وإن العاصي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هو عاص لله تعالى.

من هنا:

كانت الملازمة بين حرمة الحكم الشرعي وبين المشرع وهو الله ورسوله

ص: 293

ووصي رسوله فضلاً عن ذلك فقد تفاوت الأنبياء عليهم السلام فيما بينهم من حيث المنزلة بلحاظ الحكم الشرعي كذلك، بمعنى: كان أولوا العزم أعظم منزلة عند الله تعالى لأن رسالاتهم كانت إلى الناس كافة وكانوا أصحاب كتب سماوية.

أي: إنهم كانوا في مسؤولية أعظم ومهمة أكبر وذلك من خلال سعة الشريعة وسعة المساحة التي تنشر فيها هذه الأحكام.

من هنا:

كان الإسلام أتم الأديان وأكملها وخيرها التي أخرجت للناس، فضلاً عن السعة في الشريعة والمساحة التبليغية لتشمل الأسود والأبيض والسيد والعبد والجن والأنس؛ وهذا يتطلب مسؤولية عظيمة وذلك لما يلقى على عاتق خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم.

فكان هو: النبي، والرسول، والشاهد، والمبشر، والنذير، والداعي إلى الله، والسراج المنير، وهو قوله تعالى:

(وَ دٰاعِياً إِلَى اَللّٰهِ بِإِذْنِهِ وَ سِرٰاجاً مُنِيراً)(1).

وفي موضع آخر يظهر الوحي ما لهذه الرسالة من حرمة ومنزلة وخصوصية خاصة ارتكزت على ما حمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أحكام شرعية وما أوتي من كتاب فقال عزّ وجل:

(وَ لَقَدْ آتَيْنٰاكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثٰانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ )(2).

ص: 294


1- سورة الأحزاب، الآية: 46.
2- سورة الحجر، الآية: 87.

ولم يصف الوحي أي كتاب من الكتب المنزلة ب - (العظيم) سوى القرآن وذلك لما أنزل الله فيه من العلم حتى أصبح حاضنة للعلوم، فكان هذا القرآن العظيم بحرمته ملازما للنبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم.

من هنا: يصبح كل أمرٍ مرتبط برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا ينظر إليه من حيث الصغر والكبر كنعله وثوبه وعصاه ودابته وما يلحق به من وسائل الحياة أو ما اختص ببدنه كظفره وشعره وبصاقه وعرقه صلى الله عليه وآله وسلم ولو أردنا أن نأتي بشواهد من السيرة والتأريخ على حرمة هذه الأشياء وآثارها التكوينية - بإذن الله تعالى - لخرجنا من الكتاب لكن نورد شاهدين.

1 - فيما يتعلق بحرمة ريقه وبصاقه وآثارهما التكوينية التي أظهرها الله تعالى للمسلمين حينما جاءه أمير المؤمنين علياً عليه السلام وهو أرمد العين في غزوة خيبر حينما حاصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اليهود بضعاً وعشرين ليلة وبخيبر أربعة عشر ألف يهودي في حصونهم فجعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يفتتحها حصناً حصناً، وكان حصن خيبر من أشد حصونهم وأكثرها رجالاً، فأخذ أبو بكر راية المهاجرين فقاتل بها ثم رجع منهزماً، ثم أخذ عمر بن الخطاب من الغد فرجع منهزماً يجبن الناس ويجبنونه؛ حتى ساء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذلك، فقال:

«لأعطين الراية غداً رجلاً كراراً غير فرار، يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، ولا يرجع حتى يفتح الله على يده»(1).

ص: 295


1- أخرج البخاري حديث الراية في صحيحه، باب: دعاء النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم إلى الإسلام: ج 4، ص 20.

فغدت قريش بقول بعضهم لبعض أما علي فكفيتموه فإنه أرمد لا يبصر موضع قدمه، وقال علي عليه السلام:

«اللهم لا معطي لما منعت ولا مانع لما أعطيت».

فأصبح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واجتمع إليه الناس قال سعد: جلست نصب عينيه ثم جثوت على ركبتي ثم قمت على رجلي قائماً رجاء أن يدعوني، فقال:

«أرسلوا إليه وادعوه».

فأتي به يقاد، فوضع رأسه على فخذه ثم تفل في عينيه فقام فكأن عينيه جزعتان ثم أعطاه الراية ودعا له.

فخرج الإمام علي عليه السلام يهرول فو الله ما بلغت آخرهم حتى دخل الحصن، قال جابر: فأعجلنا أن نلبس أسلحتنا وصاح سعد: يا أبا الحسن اربع يلحق بك الناس، فأقبل حتى ركزها - أي الراية - قريبا من الحصن فخرج إليه مرحب في عادته باليهود فبارزه فضرب رجله فقطعها وسقط وحمل علي والمسلمون عليهم فانهزموا(1).

2 - روى الطبرسي عن أم سلمة أنها قالت: وضعت يدي على صدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم مات فمر بي جمع آكل وأتوضأ ما تذهب رائحة المسك عن يدي(2).

ص: 296


1- إعلام الورى للطبرسي: ج 1، ص 207؛ الدرر لابن عبد البر: ص 198-199.
2- إعلام الورى: ص 141.

من هنا:

يستخدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم مختلف الوسائل لإرشاد المسلمين إلى طاعة الله تعالى والاحتراز من الوقوع في المعصية، فكان من بين ما أرشد به الناس إلى تلك الحرمات وحفظها وصونها هو حديث الشعرة.

فقد روى الأربلي (عن جابر بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:

«إنّ فاطمة عليها السلام شعرة مني، فمن آذى شعرة مني فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله لعنه الله ملئ السماء وملئ الأرض»)(1).

وروى جمع من المصنفين حديث الشعرة بلفظ آخر (عن عمرو بن خالد، قال حدثني زيد بن علي بن الحسين وهو أخذ بشعره، قال: حدثني أبي علي بن الحسين عليهما السلام وهو آخذ بشعره، قال حدثني الحسين بن علي عليهم السلام، وهو آخذ بشعره، قال: حدثني علي بن أبي طالب عليه السلام وهو آخذ بشعره، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو آخذ بشعره، قال:

«من آذى شعرة مني فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله، ومن آذى الله لعنه الله ملئ السماء وملئ الأرض»)(2).

والحديث يرشد السامع إلى تلك الدلالة التعظيمة لحرمة رسول الله صلى الله

ص: 297


1- كشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 95.
2- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 209؛ عيون أخبار الرضا عليه السلام للصدوق: ج 2، ص 227؛ دلائل الإمامة للطبري: 135؛ نظم درر السمطين للزرندي: ص 105؛ تاريخ مدينة دمشق: ج 54، ص 308؛ مناقب الإمام علي عليه السلام لابن مردويه: ص 80.

عليه وآله وسلم وإن آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم جزء لا يتجزأ من تلك الحرمة، حالهم في ذلك حال القرآن فمن أنكر حرفاً منه أنكر القرآن ومن انتهك حرمة آية منه انتهك حرمة القرآن جميعاً.

بل إن التعرض لهم بذلك المقدار الذي حدده النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالشعرة يوجب ذلك العقاب واللعن ملئ السماء وملئ الأرض، فكيف بمن قام وعزم وساعد وأسس لقتلهم وتشريدهم وسلب أموالهم وغيرها من الانتهاكات التي تعرض لها آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم.

فضلاً عن قتل شيعتهم ومن يتولاهم منذ أن قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وإلى اليوم الذي يأذن الله فيه بالظهور لمهدي آل محمد صلى الله عليه وآله وسلم فيقتص من الظالمين ومن رضا بفعلهم.

خامساً: حديث (أحب أهله إليه صلى الله عليه وآله وسلم)

إنّ من المفاهيم التي مرّ ذكرها وبيانها ضمن هذا المبحث هو مفهوم الحب بمدلولاته القرآنية المتلازمة مع الإيمان والإتباع والمولاة والطاعة.

من هنا: حينما نأتي إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناطق عن حبه لفاطمة وبعلها وبنيها فهو لا يتعدى عن ذلك المفهوم الذي أدل عليه الوحي ضمن سلسلة من الآيات الكريمة.

بمعنى: أن حب النبي وبغضه، ورضاه وغضبه مرتكز على حب الله ورضاه وغضبه، فإذا أحب كان حبه لله وإذا رضا كان كذلك، أو إذا غضب كان غضبه لله تعالى.

ص: 298

فضلاً عن كاشفيته لرضا الله وغضبه وحبه وبغضه بمعنى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يحب شيئاً إلا إذا كان الله تعالى يحبه ولا يبغض شيئاً إلا إذا كان الله قد بغض هذا الشيء وكذا في رضا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وغضبه فهو كاشف عن رضا الله وغضبه.

من هنا: تصبح الأحاديث الشريفة الكاشفة عن حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هي كاشفة في الحقيقة عن حب الله تعالى لهذا الشيء.

بل: إن حبه صلى الله عليه وآله وسلم وبغضه هو عينه حب الله وبغضه، وذلك أن النبي الأعظم مثال الحكم الشرعي الإلهي على الخلق.

وعليه: يكون حبه لفاطمة وبعلها وولديها صلوات الله عليهم أجمعين ملازم لحب الله تعالى لهم، بل هو عين حب الله تعالى لهؤلاء؛ ومن ثمّ لا يتصور أن يكون حب الله تعالى لهم إلا لأنهم مثال أحكامه وعنوان شريعته وحجته على خلقه؛ إذ ليس هناك قرابة بين الله تعالى وبين أحد من خلقه فتعالى الله ربنا المالك لما خلق وهو العزيز الحكيم.

إذن: حينما يروي الرواة عنه، كما في سنن الترمذي، ومستدرك الحاكم، وغيرها، عن عائشة وقد دخل عليها جميع بن عمير التميمي فيسألها قائلاً: (أي الناس كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟) قالت: فاطمة، فقيل من الرجال ؟

قالت: زوجها)(1).

ص: 299


1- سنن الترمذي، كتاب المناقب، باب: فضل فاطمة: حديث 3874.

أو ما رواه أسامة بن زيد، فقال: (كنت في المسجد فأتاني العباس وعلي فقالا لي يا أسامة استأذن لنا على رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم.

فدخلت على النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم فاستأذنته فقلت: له إن العباس وعلي يستأذنان قال:

«هل تدري ما حاجتهما».

قلت: لا والله ما أدري، قال:

«لكني أدري ائذن لهما».

فدخلا عليه، فقالا: يا رسول الله جئناك نسألك أي أهلك أحب إليك ؟ قال:

«أحب أهلي إلي فاطمة بنت محمد»)(1).

وغيرها من الألفاظ(2) الكاشفة عن حجم حبه صلى الله عليه وآله وسلم لابنته فاطمة صلوات الله عليها مما يدل على منزلتها لديه ضمن تلك المفاهيم التي جاء بها القرآن الكريم.

ص: 300


1- مستدرك الحاكم: ج 2، ص 417؛ الأحاديث المختارة للمقدسي: ج 4، ص 161؛ المعجم الكبير للطبراني: ج 22، ص 403؛ الجامع الصغير: ج 1، ص 37؛ فيض الغدير للمناوي: ج 1، ص 217؛ تفسير ابن كثير: ج 3، ص 499؛ الدر المنثور: ج 5، ص 201؛ تأريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 8، ص 54.
2- أنظر في ذلك: السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 140، برقم 8498؛ مسند البزار: ج 7، ص 71؛ الاستيعاب: ج 4، ص 1897، ط دار الجيل؛ الآحاد والمثاني: ج 5، ص 360، برقم 2951؛ مجمع الزوائد: ج 9، ص 302.
سادساً: حديث (وهي قلبي وروحي)
اشارة

روى الأربلي نقلاً عن كتاب لأبي إسحاق الثعلبي عن مجاهد قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أخذ بيد فاطمة عليها السلام وقال:

«من عرف هذه فقد عرفها، ومن لم يعرفها فهي فاطمة بنت محمد، وهي بضعة مني، وهي قلبي وروحي الذي بين جنبي؛ فمن آذاها فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله»(1).

يمتاز هذا الحديث الشريف عن سابقه في بيان منزلة فاطمة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكونه يقدم فاطمة عليها السلام ضمن صيغة تعريفية للناس من خلال تحديد هذه المعرفة بهذه الألفاظ.

بمعنى: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يعرفها ضمن تعريفه هو، فيقدمها ضمن مقامات ثلاثة يبتدأها بكلمة (هي) يسبق بها هذا المقام أو ذاك، كي تكون كل كلمة (هي) منفصلة عن غيرها لكونها تقدم تعريفاً مستقلاً عن فاطمة عليها السلام؛ فكانت على النحو الآتي:

ألف: من عرف هذه، فقد عرفها، ومن لم يعرفها، فهي فاطمة بنت محمد

هنا وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يستثني من بيانه وتعريفه لفاطمة من كان عارفاً لها إلا أنه يرجع فيقدم فاطمة عليها السلام ضمن تعريف محدد بتلك المقامات الثلاثة، ولذا قال:

ص: 301


1- كشف الغمة للأربلي: ج 1، ص 665؛ الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: ج 1، ص 664؛ البحار: ج 33، ص 54؛ المحتضر للحسن بن سليمان الحلي: ص 234؛ نور الأبصار للشبلنجي: ص 52؛ عوالم العلوم للسيد البحراني: ج 11، ص 148، حديث 20؛ إحقاق الحق: ج 10، ص 212.

«ومن لم يعرفها فأنا أعرفه بها».

ومن البديهي أن الجميع يعرفون أنها ابنته صلى الله عليه وآله وسلم وبذاك يتساوى الجميع في هذا المقام التعريفي سواء من كان منهم مؤمنا أو منافقاً إذ أن الصورة التي ينقلها الحديث وعلى لسان الراوي: ممثلاً بخروج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أخذ بيد فاطمة عليها السلام إنما كان لهذا القصد، أي: تقديم معرفة جديدة للناس غير تلك المعرفة التي يعرفون بها فاطمة، وقد تسالموا على أنها ابنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

وعليه:

يتضح من قوله: (فهي فاطمة بنت محمد) نفي شبهة التبني أو الربيبة عن فاطمة حصراً؛ بمعنى: إذا كانت هناك شبهة في كون (رقية، وأم كلثوم، وزينب) هن ربائب النبي صلى الله عليه وآله وسلم وخديجة عليها السلام(1).

أو تسالم هذه الحقيقة في أذهان الناس في كون الربيبة بنتاً؛ فإن النبي أراد بهذا الخروج مع أخذه بيد فاطمة وتقديمها إلى الناس بهذا الشكل الذي يبتدأ فيه قوله: (من عرف هذه)، أي: يعرفها بأنها البنت الواحدة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم (فقد عرفها)؛ (ومن لم يعرفها) بأنها ابنتي وأنا أبوها ومن صلبي وليست بالربية، فأنا أعرفه بها: (هي فاطمة بنت محمد) صلى الله عليه وآله وسلم.

إذن:

ص: 302


1- للمزيد من المعرفة، أنظر كتابنا: خديجة بنت خويلد أمة جمعت في امرأة، الجزء الأول والذي نستدل فيه كونهم ربائب.

من كان يظن أنها ربيبة فهو خاطئ، إنما هي فاطمة بنت محمد، وإلاّ لا معنى لقوله هذا صلى الله عليه وآله وسلم وقد عرفوا أنها بنت النبي ما لم يكن هناك من يعتقد بأنها ليست ابنة محمد صلى الله عليه وآله وسلم فأراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دفع هذه الشبهة وهذه الظنون وإعلامهم جميعاً بأنها بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

باء: (هي بضعة مني)

قد مرّ علينا سابقاً بيان دلالة لفظ (البضعة) إلا إننا هنا نضيف بأن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم يريد أن يندرج في بيان منزلة فاطمة عليها السلام وتعريفها لدى الناس فبعد أن قدمها بكونها (ابنة محمد) صلى الله عليه وآله وسلم، وهي ليست بالربيبة ينتقل إلى بيان أعظم وتعريف أدق يكشف عن خصوصيتها منه؛ وحينما نقول منه أي: من النبوة والرسالة وحرمة هذه المقامات في الشريعة.

ولذلك: لم يكتف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بكونها ابنته، بل لها تلك المنزلة من كونه رسول الله ونبيه صلى الله عليه وآله وسلم الذي ختم به النبوة والرسالة.

وإن لها من الحرمة ما لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فضلاً عن خصوصية الحكم الشرعي المتمثل بالطاعة والإتباع والعصمة.

جيم: (هي قلبي)

يرتفع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تعريف فاطمة عليها السلام ضمن هذا السلم المعرفي فينتقل إلى منزلة هي أعظم من سابقتيها، (البنوة، والبضعة)

ص: 303

لتكون فاطمة منه منزلة القلب.

وحينما تكون فاطمة عليها السلام في تلك المنزلة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهنا لابد من بيان بعض النقاط حسبما يكشفه منطوق الآيات والأحاديث حول قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إذ من البديهي أن خزانة أسرار الوحي هو قلب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك لقوله تعالى:

1 - (قُلْ مَنْ كٰانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللّٰهِ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ )(1).

2 - (وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ اَلْعٰالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ (193) عَلىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ )(2).

والآيتان واضحتان في الدلالة على ما يحتويه قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم من خزانة للوحي والذكر الحكيم، ولما كانت فاطمة بهذا الوصف وبهذه المنزلة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فهذا يعني أنها - ومن لحاظ تكوينها النوراني - خزانة للوحي والذكر الحكيم.

ولذا فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما جاء بها إلى الناس ليعرفها لهم لم يكن ليتخطى تعريف القرآن في بيانه قلبُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الناس كما في الآيتين - ولو كان المراد القلب المادي لما احتاج النبي صلى الله عليه

ص: 304


1- سورة البقرة، الآية: 97.
2- سورة الشعراء، الآيات: 192-194.

وآله وسلم إلى إخراجها إلى الناس ومخاطبتهم ليكشف لهم الشأنية والمنزلة التي لها عند الله تعالى ولاكتفى صلى الله عليه وآله وسلم بما لها من المعرفة النسبية والاجتماعية حالها في ذاك حال رقية وأم كلثوم وزينب، فقد اكتفى صلى الله عليه وآله وسلم بما رسخ في أذهان الناس من معرفة لهن، ولم يحتج إلى كل هذا البيان والتأكيد والتحذير والتعريف الذي انتهجه النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع فاطمة عليها السلام لولا تلك المنزلة والشأنية التي جعلها الله تعالى فيها فاراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم حفظ حرمتها ومعرفة قدرها كي لا يقع أحد من المسلمين في تعديه لهذه الحدود الإلهية.

دال: (وهي روحي)

هذه المنزلة التي أظهرها النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ضمن الحديث الذي أوردناه في مقدمة المبحث والتي جاءت بالعطف على (القلب) فقد أخرجها الشيخ الصدوق رحمه الله بسنده (عن سعيد بن جبير عن عبد الله بن عباس، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان جالساً ذات يوم إذ أقبل الحسن عليه السلام فلما راه بكى، ثم قال:

«إليّ يا بني».

فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليمنى، ثم أقبل الحسين عليه

ص: 305

السلام، فلما رآه بكى، ثم قال:

«إليّ يا بني».

فما زال يدنيه حتى أجلسه على فخذه اليسرى، ثم قبلت فاطمة عليها السلام، فلما رآها بكى، ثم قال:

«إليّ يا بنيّة».

فأجلسها بين يديه، ثم أقبل أمير المؤمنين عليه السلام، فلما رآه بكى، ثم قال:

«إليّ يا أخي».

فما زال يدنيه حتى أجلسه إلى جنبه الأيمن، فقال له أصحابه: يا رسول الله ما ترى واحداً من هؤلاء إلا بكيت، أو ما فيهم من تسر برؤيته!

فقال صلى الله عليه وآله وسلم:

«والذي بعثني بالنبوة، واصطفاني على جميع البرية، إنّي وإياهم لأكرم الخلق على الله عزّ وجل، وما على وجه الأرض نسمة أحب إليّ منهم.

أما علي بن أبي طالب فإنه أخي وشقيقي، وصاحب الأمر بعدي، وصاحب لوائي في الدنيا والآخرة، وصاحب حوضي وشفاعتي، وهو مولى كل مسلم، وإمام كل مؤمن، وقائد كل تقي، وهو وصيي وخليفتي على أهلي وأمتي في حياتي، وبعد مماتي، محبه محبي، ومبغضه مبغضي، وبولايته صارت أمتي مرحومة، وبعداوته صارت المخالفة له منها ملعونة، وإني بكيت حين أقبل لأني ذكرت غدر الأمة به بعدي حتى إنه ليزال عن مقعدي، وقد جعله الله له بعدي، ثم لا يزال الأمر به حتى يضرب على قرنه ضربة تخضب منها لحيته في أفضل الشهور شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.

وأما ابنتي فاطمة، فإنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وهي بضعة مني،

ص: 306

وهي نور عيني، وهي ثمرة فؤادي، وهي روحي التي بين جنبي...»)(1).

لا شك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يريد أن يمتدح ابنته ويرطب مسامعها بكلمات اللطف والحنان والحب فيصفها بأنها قلبه وروحه صلى الله عليه وآله وسلم فلو أراد هذا المعنى وقصد هذه الدلالة لكان ذلك ضمن نطاق الأسرة وداخل البيت حاله في ذاك حال بقية الآباء حينما يتناغمون في كلماتهم الرقيقة مع بناتهم وأبنائهم دون الحاجة إلى أسماع الناس؛ بل لعل أسماع الأبناء هذه الكلمات خارج المنزل لا يحقق ما يريده الأب من إظهار الحب لهذا الابن أو البنت.

ولذلك: كان المراد من هذه الكلمات هو الناس وليس فاطمة وهو خلاف ما عليه النظام الأسري والأبوي في مختلف المجتمعات إذ حينما يقدم الأب على المدح والثناء وإظهار حبه لأبناءه وبناته فهو يقبل على الشخص المعني فيسمعه هذه الكلمات لكي يعزز أواصر المحبة والبر ويدفعه إلى التقوى في بر الوالدين.

لكن الحالة هنا مختلفة جذرياً إذ أن المخاطب في هذه الألفاظ الناس وليس فاطمة، أي: أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يعرف الناس بمنزلة فاطمة لديه وشأنها عنده وحينما كان يريد فهو لا يقصد المعنى المادي المختزن في لفظ (القلب والروح) فهذه المعرفة تكون سطحية، بل لا يتحقق الهدف من هذا الخطاب والبيان وحيث أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حكيماً ومأموراً في كشف الضلال عن الأمة وبيان الحدود الشرعية، كان القصد من هذه الكلمات هو المعنى

ص: 307


1- الأمالي للشيخ الصدوق: ص 175؛ الاعتقادات في دين الإمامية: ص 106؛ الفضائل لابن شاذان: ص 83.

الشرعي والروحي، والمناقبي، بمعنى: أنها قلب النبوة وروحها؛ وأن التعرض لها هو تعرض لقلب النبوة وروح الرسالة.

وحيث أن روح كل شيء يكون به حياته وقوامه وديمومته كذاك كانت فاطمة فهي روح النبوة ومن خلالها كان دوام الشريعة وذلك من خلال كونها أم الأئمة وأم الأوصياء لرسول رب العالمين أولهم الإمام الحسن وآخرهم المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف.

وعليه:

أردف النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذه الكلمات وهذا البيان والتعريف بالغاية المنشودة منه وهي حفظ حرمتها وعدم التعدي لهذا الخط الأحمر الذي يترتب عليه هلاك أقوام ونجاة أخرى.

ولذا: يختم قوله وبيانه صلى الله عليه وآله وسلم فيقول:

«فمن آذاها فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله».

وعليه:

فمن آذى الله، عليه لعنة الله وأنبياءه ورسله وملائكته والناس أجمعين عدد ما خلق الله ومبلغ علمه.

ص: 308

المبحث الثاني: منزلة فاطمة عليها السلام من خلال فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم

اشارة

لم يكتف النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بإظهار منزلة فاطمة عليها السلام لديه من خلال الألفاظ وهو ما تناولناه تحت عنوان منزلتها على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما بادر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم إلى إظهار منزلة فاطمة من خلال الفعل أيضاً كي يرشد الناس إلى بيان منزلة هذه الشخصية. والمستفاد من خلال هذا المنهج النبوي جملة من الأمور، منها:

1 - إن الألفاظ تحتاج إلى قرائن تفهم السامع بما ينطوي عليه مراد المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم، وقد يتعذر المتعذرون بذلك، أي: افتقادهم إلى القرائن في الوصول إلى المعاني أو المعنى المراد من لفظ المعصوم عليه السلام.

في حين قد لا يحتاج الفعل النبوي إلى تلك القرائن المرادفة للألفاظ في الوصول إلى المعنى المراد في اللفظ.

2 - إن الفعل النبوي هو بحد ذاته قرينة خارجية ترشد السامع على المعنى والمقصد الذي أراده المعصوم في قوله، ومن ثم يريد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع الطريق على المعتذر في فهم الألفاظ النبوية عند غياب القرينة الخارجية.

ص: 309

3 - إنّ الفعل النبوي لا يحتاج إلى بيان يؤكد المعنى الذي يقصده النبي صلى الله عليه وآله وسلم فالفعل لغة يفهمها الكبير والصغير فيهرع إلى تقليدها، وإذا رآها تتكرر أمامه فسوف تنطبع في ذهنه وتنمو معه ليشب عليها وعندها يصبح من الصعب بمكان التحرر من هذا التقليد.

4 - إن الفعل وسيلة تعليمة للناس سواء كانوا يدركون هذا الفعل أو لا وذلك إن القصد منه هو إتباع الناس لهذا الفعل النبوي ومن ثمّ نشره بين الناس.

5 - حينما يتلازم القول النبوي والفعل النبوي في الموضوع الواحد فذلك يؤدي إلى ترسيخ هذا الموضوع في أذهان الناس واستنانهم به وحرصهم على تأديته لما يحمل من أهمية عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

6 - إن الفعل النبوي أسرع انتشاراً بين الناس من القول لاشتراك حاسة البصر مع السمع في إدراك الحكم الشرعي إذ غالباً ما يقرن النبي صلى الله عليه وآله وسلم القول والعمل.

7 - إن قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الفعل أو ذاك يحرك في أذهان الصحابة الاستفهام مما يدفعهم إلى الاستفسار وفهم المقصد من هذا العمل.

وعليه: هناك جملة من الفوائد تقترن بهذا المنهاج النبوي في التفاعل مع ما يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لينعكس على بناء المجتمع وتثبيت قواعد نهضته وعوامل إصلاحه، وهو ما نحاول أن نوصله إلى القارئ الكريم من خلال هذه المسألة: (منزلة فاطمة عليها السلام من خلال عمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم).

ص: 310

المسألة الأولى: قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة وتقبيلها وإجلاسها في مجلسه

فيما روي عن عائشة أنها قالت: (ما رأيت أحداً من الناس أشبه كلاماً برسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم ولا حديثاً ولا جلسة من فاطمة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم إذا رآها قد أقبلت رحب بها ثم قام إليها فقبلها ثم أخذ بيدها فجابها حتى يجلسها في مكانه؛ وكانت إذا رأت النبي صلى الله عليه - وآله - وسلم رحبت به فقامت إليه فقبلته....)(1).

وفي لفظ آخر أخرجه الحاكم، والبيهقي، والنسائي، وغيرهم، عن عائشة أيضاً أنها قالت:

(ما رأيت أحداً كان أشبه كلاماً وحديثا من فاطمة برسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وكانت إذا دخلت عليه رحب بها وقام إليها فأخذ بيدها فقبلها

ص: 311


1- صحيح ابن حبان: ج 15، ص 403، برقم 6952؛ الجامع الصغير للسيوطي: ص 188؛ شعب الايمان للبيهقي: ج 6، ص 467، برقم 8927؛ الأدب المفرد: ص 326؛ مستدرك الحاكم: ج 3، ص 167؛ برقم 4732؛ وفي ج 3، ص 174، برقم 4753؛ موارد الظمآن: ج 1، ص 549؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 7، ص 101، برقم 13356؛ تحفة الأحوذي: ج 10، ص 253؛ الاستيعاب: ج 4، ص 1896؛ الدراية لابن حجر: ج 2، ص 232؛ سنن أبي داوود: ج 4، ص 87؛ برقم 4213؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 392، برقم 9237؛ تلخيص الحبير لابن حجر: ج 4، ص 93؛ نصب الراية للزيلعي: ج 4، ص 258؛ فضائل الصحابة: ج 4، ص 242، برقم 4089؛ المصنف لابن ابي شيبة: ج 4، ص 47؛ مسند إسحاق بن راهوية: ج 1، ص 8؛ المعجم الأوسط للنسائي: ص 78؛ مسند الروياني: ص 428، برقم 655؛ مسند الشاميين: ج 1، ص 299، برقم 523؛ مسند الموصلي: ج 4، ص 352، برقم 4266؛ الأحاد والمثاني: ج 5، ص 359، برقم 2948؛ المعجم الكبير: ج 22، ص 225، برقم 595.

وأجلسها في مجلسه)(1).

واللفظان الواردان يكشفان عن جملة من الأمور، وهي كما يلي:

1 - لا شك إن هذا الفعل النبوي كاشف عن تعظيم فاطمة صلوات الله عليها أمام الحاضرين لاسيما نساء النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما هو واضح من خلال منطوق الحديث ومن رواه، أي عائشة.

2 - إن من البديهي أن يكون علم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما سيجري على فاطمة من بعده يجعله يقوم باتخاذ السبل لمنع وقوع الفتنة وهلاك المقترف للذنب في حق بضعته فاطمة، وذلك بما لها من الملازمة بحرمة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فالمتعرض لها متعرض لله ورسوله كما مرّ بيانه.

ومن ثم أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم قطع الطريق على من تسول له نفسه بالتعدي على حرمته من بعد وفاته فيسيء إلى قلبه وروحه وبضعته، كأن يقول لم أسمع من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ما يدل على هذا التعظيم والحرمة لاسيما ما كانت تقوم به عائشة أثناء حياة رسول الله من الكيد بها والنيل من أم المؤمنين خديجة عليها السلام وهو أمر تواتر عنها في صحاح المسلمين.

3 - إن هذا التعظيم كان له أكثر من صورة وكل صورة، كانت تنطق عن منزلة خاصة وخصوصية منفردة كترحيبه بها حينما تدخل عليه، وقيامه لها، وأخذه بيدها، وتقبيل يدها، أو تقبيلها كما في الرواية الأولى وإجلاسها في مجلسه)

ص: 312


1- المستدرك للحاكم النيسابوري: ج 3، ص 154؛ السنن الكبرى للبيهقي: ج 7، ص 101؛ تحفة الأحوذي: ج 8، ص 26؛ السنن الكبرى للنسائي: ج 5، ص 392؛ كشف الغمة للأربلي: ج 2، ص 80؛ ينابيع المودة للقندوزي: ج 2، ص 55؛ السيدة فاطمة لمحمد بيومي: ص 156.

كل هذه الصور لها دلالة محددة ومعانن خاصة فكانت كالآتي:

ألف: لا شك إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان ينظر إلى المجتمع المسلم بأكثر من إتجاه كي يصل به إلى التكامل؛ فكان الفعل النبوي هو في حقيقته يعالج مشاكل كثيرة في آن واحد؛ وما ذاك إلا لارتباطه بالله تعالى فهو الخبير البصير بعباده.

وحيث أن المجتمع المسلم كان يعاني من مرض إجتماعي يتعلق في أود الفتاة بعد ولادتها واشمئزازه من ولادتها لما تخلفه عليه من ضريبة السبي والحاق العار به فكان يلجئ إلى قتلها كي يتخلص من تلك التبعات التي ستلحق به من ورائها.

ولذلك:

كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يظهر عظمة فاطمة ومنزلتها لديه وفي نفس الوقت أن هذا الفعل سيقوم بمعالجة جوانب كثيرة في التربية الأسرية والبناء الاجتماعي.

لاسيما وإن انتشار هذا النوع من التعامل النبوي له آثاره الكبيرة على الأمهات وهنّ يرين هذا الفعل في مناسبة ما أو من خلال سماعهن لأزواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم حينما ينقلن هذه السنة النبوية إلى أزواجهن وأبنائهن.

ب: في الوقت الذي يعالج النبي صلى الله عليه وآله وسلم الخلل في الأمة ويقوم بإصلاحه بأكثر من أداة كمنع وقوع البعض في التجاهل أو الاستخفاف بحرمة الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكإعطاء منزلة محترمة للبنت في نفس الأب، وما يترتب على هذا النوع من التعامل في بناء شخصية الفتاة ليترجم

ص: 313

على عملية بناء أسرية حينما تنتقل هذه الفتاة إلى بيت الزوجية.

إلاّ أن كل ذلك من الملحقات التي حفت بهذا النوع المميز من التعامل الذي يظهره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع ابنته فاطمة صلوات الله عليهما.

بمعنى:

لم يرد في الروايات التي تناولت حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد تعامل هذا التعامل مع أم كلثوم أو زينب أو رقية، لاسيما وإن أم كلثوم توفيت سنة تسع من الهجرة.

إذن:

هذا اللون من التعامل هو خاص بفاطمة دون سواها لإظهار منزلتها لديه وعظم شأنها عنده صلى الله عليه وآله وسلم فكان يقوم لها ويأخذ بيدها ويقبلها ويجلسها في مجلسه.

4 - قد ورد في اللفظ الذي أخرجه الحاكم والبيهقي والنسائي (تقبيل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليد فاطمة) وهذه الصورة التي قدمها النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمة تبعث على التأمل وذلك أن الفاعل هو أشرف ما خلق الله تعالى، وله من الشأنية ما لم تتوفر لأحد من الخلق، فكيف يتوصل الناظر إلى الحكمة التي قدمها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تقبيل يد ابنته فاطمة حينما تدخل عليه ؟

إنه من البديهي قد أراد التعظيم ولكن مرة ينبه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى تعظيم الحرمة بما لديها عليها السلام من المنزلة عند الله ورسوله صلى الله

ص: 314

عليه وآله وسلم وإن هذه المنزلة مرتكزت على التقوى التي هي ميزان القرب والكرامة عند الله تعالى.

ولكن هنا ننظر للأمر من منظور شأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومنزلته عند الله تعالى ومن ثم فإن قيامه صلى الله عليه وآله وسلم بتقبيل يد فاطمة كاشف عن حقها لديه؛ بمعنى: لا يقوم الإنسان المؤمن وإن علا شأنه وعظم جاهه بالقيام لشخص آخر والانحناء لتقبيل يده إلا لكونه ذو حق ورتبة، تدفعه لهذا الفعل.

وحيث أن الأنبياء عليهم السلام أشرف ما خلق الله تعالى فإن تعظيمهم وإنحائهم يكون لمن كان له حق عليهم وهذا المعنى نجده في القرآن كما كان حال يوسف ويعقوب، وعيسى ومريم ابنة عمران، والمصطفى وفاطمة.

بمعنى:

أنها كانت بمنزلة الأم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى كناها صلى الله عليه وآله وسلم ب - (أم أبيها) والمرء يقوم إجلالاً لأمه ويقبل يدها ويجلسها في مجلسه؛ وهو ما كان يقوم به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

5 - إنّ قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لها فيجلسها في مجلسه ليدل على أنها نفس النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

وإن موضعها في الأمة من موضع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ولذا كان الإمام علي عليه السلام يناديها ب - (بقية النبوة).

ولعل القرآن لم يدع هذا المعنى الدلالي على عظم منزلة آل محمد عنده دون

ص: 315

أن يبينه للناس فيقول سبحانه:

(بَقِيَّتُ اَللّٰهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ...)(1).

ولا يخفى أن المراد من إجلاسها في مجلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع كل هذه الخطوات والتعظيم إلا لترسيخ معنى (أنها بقية الله) و (بقية النبوة) بما اصطفاها الله تعالى لولادة سبطا الأمة وأم الأئمة فضلاً عن خصائصها ومناقبها التي حصرت بها صلوات الله عليها وعلى أبيها وبعلها وبنيها.

المسألة الثانية: إذا أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم السفر ففاطمة عليها السلام آخر من يودع وأول من يرى بعد رجوعه

روى الطبرسي عن زرارة عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال:

«كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا أراد السفر سلّم على من أراد التسليم عليه من أهله ثم يكون آخر من يسلم عليه فاطمة عليها السلام فيكون توجهه إلى سفر من بيتها وإذا رجع بدأ بها»(2).

إن التعامل مع بيت فاطمة في منهج الوحي عليه السلام كان منذ أن شاء الله تعالى أن يتكون هذا البيت في زواجها من علي عليه السلام حينما زوّج الله سبحانه النور من النور فجمع في بيت أعده النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسبقاً حينما بدء ببناء المسجد النبوي حينما قدم المدينة.

فكان مما هيئ النبي صلى الله عليه وآله وسلم هذا البيت الذي أنزل فيه

ص: 316


1- سورة هود، الآية: 86.
2- مكارم الأخلاق للطبرسي: ص 94؛ ج 19، ص 349.

فاطمة عليها السلام ليجمعها مع علي تحت سقف هذا البيت النبوي فتولد الحسن والحسين سلام الله عليهم أجمعين.

فمنذ هذه اللحظات الأولى لتكوّن هذا البيت بقطبيه ونوريه كان الوحي له منهاجاً خاصاً في التعامل معه، فبين وقوف النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند باب فاطمة مردداً.

«أنا سلم لمن سالمكم وحرب لمن حاربكم» إلى حجيته كل صباح عند صلاة الغداة فيأخذ بعضادتي الباب فيقول:

«الصلاة، الصلاة إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت فيطهركم تطهيراً».

إلى صلاته وتهجده في الليل خلف بيت فاطمة عليها السلام ومن ثم هذا المنهج في جعله آخر ما يودع وأول ما يدخل إليه هو بيت فاطمة.

كل ذلك ومن خلال هذا الفعل النبوي المتنوع خلال هذه الأشهر والسنوات التي قضاها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة ومنذ أن بني هذا البيت في الإسلام والى يوم وفاته صلى الله عليه وآله وسلم. كلها تدل على قضية محدده، وهي:

ان هذا البيت له من الحرمة ما يجعله موضعاً لكل هذا الإهتمام النبوي وانه في محل من التعظيم والتقديس ما يجعل المرء يعد حتى الألف قبل أن يخطو خطوة واحدة قد تكون خالية من اللياقة والتأدب فيقع في محذور عظيم وخطر جسيم.

فضلاً عن ان الداخل إليه لابد له من مقدمات ومؤهلات تسمح له من

ص: 317

التشرف لتقبيل اعتابه واحراز الاذن في الجلوس في فنائه.

وكيف لا وجبرائيل واسرافيل والملائكة المقربون زواره يقبلون أعتابه ويتشرفون بخدمة أهله والجلوس معهم والتزود من نورهم وفيضهم.

فصلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

المسألة الثالثة: النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخل على فاطمة عليها السلام حتى يستأذن

روى الشيخ الكليني رحمه الله عن أبي جعفر - الباقر - عليه السلام (عن جابر بن عبد الله الأنصاري قال:

خرج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يريد فاطمة عليهما السلام وأنا معه فلما انتهيت إلى الباب وضع يده عليه فدفعه ثم قال:

«السلام عليكم».

فقالت فاطمة:

«عليك السلام يا رسول الله».

قال - صلى الله عليه وآله وسلم -:

«أدخل ؟».

قالت - عليها السلام -:

«ادخل يا رسول الله».

قال:

«أدخل أنا ومن معي ؟».

ص: 318

فقالت:

«يا رسول الله ليس عليّ قناع».

فقال:

«يا فاطمة خذي فضل ملحفتك فقنعي به رأسك».

ففعلت ثم قال:

«السلام عليكم».

فقالت فاطمة:

«وعليك السلام يا رسول الله».

قال:

«أدخل ؟».

قالت:

«نعم يا رسول الله».

قال:

«أنا ومن معي ؟».

قالت:

«ومن معك ؟».

قال جابر: فدخل رسول الله صلى الله عليه وآله ودخلت وإذا وجه فاطمة عليهما السلام أصفر كأنه بطن جرادة، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله:

«مالي أرى وجهك أصفر».

ص: 319

قالت:

«يا رسول الله الجوع».

فقال صلى الله عليه وآله:

«اللهم مشبع الجوعة ودافع الضيعة أشبع فاطمة بنت محمد».

قال جابر: فوالله لنظرت إلى الدم ينحدر من قصاصها حتى عاد وجهها أحمر فما جاعت بعد ذلك اليوم)(1).

وقد أخرج عمر بن شاهين، وابن عبد البر، وابن عساكر الدمشقي، والذهبي وغيرهم (عن عمران بن حصين قال: خرجت يوماً فإذا أنا برسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم قائم فقال لي:

«يا عمران فاطمة مريضة فهل لك أن تعودها؟».

قال قلت: فداك أبي وأمي وأي شرف أشرف من هذا، فانطلق رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم فانطلقت معه حتى أتى الباب فقال:

«السلام عليكم، أأدخل ؟».

قالت:

«وعليكم، أدخل».

فقال رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم:

«أنا ومن معي ؟».

ص: 320


1- الكافي للكليني: ج 5، ص 528. وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 30، ص 215-216.

قالت:

«والذي بعثك بالحق ما عليّ إلا هذه العباءة».

قال ومع رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم ملاءة خلقة فرمى بها إليها، فقال:

«شدى بها على رأسك».

ففعلت ثم قالت:

«ادخل».

فدخل ودخلت معه فقعد عند رأسها وقعدت قريبا منه فقال:

«أي بنية كيف تجدك».

قالت:

«والله يا رسول الله إني لوجعة وإني ليزيدني وجعا إلى وجعى أن ليس عندي ما آكل».

قال فبكى رسول الله صلى الله عليه - وآله - وسلم وبكت وبكيت معهما، فقال لها:

«أي بنية اصبري مرتين أو ثلاثة».

ثم قال لها:

«يا بنية أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين».

قالت:

«يا ليتها ماتت فأين مريم بنت عمران».

ص: 321

قال لها:

«أي بنية تلك سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك والذي بعثني بالحق لقد زوجتك سيدا في الدنيا وسيدا في الآخرة لا يبغضه إلا كل منافق»)(1).

يظهر الحديثان جملة من الأمور العقائدية والتربوية والأسرية وذلك بحسب ما احتوته ألفاظ كل منهما مشتركة في اللفظ أو انها اختلفت في إظهار جانب معين من تلك الأمور وهي كالآتي:

ألف. يظهر الحديثان حقيقة عقائدية مرتبطة بمنزلة فاطمة عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذلك من خلال الفعل النبوي المبارك، إلا وهو «الاستئذان من فاطمة قبل الدخول إلى دارها».

على الرغم من أن الاستئذان مرفوعاً فيما بين الوالد وابنته عند الدخول إليها في دارها.

ولعل قائلاً يقول: إن السبب في استئذان النبي صلى الله عليه وآله وسلم على فاطمة عليها السلام لكونه كان يصطحب معه شخصاً اجنبياً كما نصت الرواية الأولى والثانية، فالرواية الأولى أوردت اصطحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لجابر بن عبد الله، وفي الثانية كان عمران بن حصين، وكلاهما لا يحق لهما الدخول دون استئذان.

ص: 322


1- فضائل فاطمة لابن شاهين: ج 1، ص 15، ح 12. الاستيعاب لابن عبد البر: ج 4، ص 1895؛ تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر: ج 42، ص 134. سير أعلام النبلاء للذهبي: ج 3، ص 126. الجوهرة في النسب للبري: ص 17. ذخائر العقبى للطبري: ج 43. نظم درر السمطين للزرندي: ص 188. المناقب للخوارزمي: ص 340. مشكل الاثار للطحاوي: ج 1، ص 141. حلية الأولياء: ج 2، ص 42. اتحاف السائل للمناوي: ص 76-77. ح 42. الدر النظيم لابن أبي حاتم: ص 460.

وأقول: لا شك أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم - وبلحاظ أنه صاحب الشريعة - لا يخفى عليه وجود شخصين أجنبيين على ابنته، ومن ثم لا يجوز لهما الدخول إلى دار فاطمة عليها السلام دون استئذان.

ولكن: الحكمة النبوية تكمن في اصطحابه لهما. وذلك ليحدثان الناس بما سيشاهدان ويسمعان منه ومن ابنته صلوات الله عليهما مما يحقق الهدف التبليغي والإرشادي والتربوي الذي قصده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، من هذه الزيارة.

وعليه: فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم كان من شأنه أنه لا يدخل إلى بيت فاطمة عليها السلام حتى يستأذن، ولعل أخذه صلى الله عليه وآله وسلم الإذن مجدداً ولمن معه فقال لها: «أنا ومن معي»، ليرسخ في ذهن من اصطحبه إلى بيت فاطمة عليها السلام بأنه لا يدخل عليها حتى يستأذن.

باء. لا شك أن دلالة الاستئذان تكشف عن شأنية صاحب الدار، فهذا الفعل دلالته الاجتماعية والعرفية والعقلائية ثابتة لدى الناس.

إلا أن الجديد في هذا الاستئذان هو شخص المستأذن، بمعنى: إنّ هذا الفعل في العادة يدل في وقوعه على شأنية صاحب الدار فكلما عظمت شأنيته لزم إظهار الإذن وتفخيمه؛ لكن هنا الحال يختلف فالقادم هو أعظم شأناً ومنزلة، ومن ثم يلزم خروج صاحب الدار لاستقباله بحفاوة وتكريم، فضلاً عن سقوط الإذن، أي ان عظيم شأنية القادم تستلزم أن لا يستأذن على أحد كما هو الحال في زيارة الملوك والسلاطين لدى الرعية، فالرعية والناس هم الذين يظهرون الحفاوة والتكريم

ص: 323

للسلطان أو الحاكم عند قدومه للزيارة، فضلاً عن أن هذه الزيارة تفضي على صاحب الدار الوجاهة والكرامة.

فكيف إذا كان الزائر والقادم هو سيد الأنبياء والمرسلين وسيد الخلق أجمعين صلى الله عليه وآله وسلم وما يحيط به من صفوف الملائكة والأنوار الربانية، وكيف سيكون أثر هذه الزيارة والتشريف ؟! على صاحب الدار؟

ولذلك كل هذه الدلالات ترشد الناظر إلى عظيم منزلتها صلوات الله عليها.

جيم. إن قول عمران بن حصين لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما عرض عليه عيادت فاطمة صلوات الله عليها: «فداك أبي وأمي، وأي شرف أشرف من هذا؟».

يكشف عن تحقيق الغاية في الاصطحاب، أي: إظهار شرف صاحب الدار، ومصاحبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذه الزيارة، وهو ما أراده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فضلاً عن إيصال معرفتها إلى الصحابة وبما لديها من المنزلة عند الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

ولذلك: كيف سيكون حال الداخل لهذه الدار عنوة ومروعاً لفاطمة ووليدها عليهما السلام وما له من العقاب عند الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، أتراه كان يدرك ما فعل، أم انه جاهل بمقامها وحرمتها؟

ولعل قول الناس له حينما جمع الحطب على الباب لحرقه؛ إن في الدار فاطمة، قد قطع العذر في الجهل؛ ولعل قوله: «وإن» قد قطع العذر في عدم الإدراك مما فعل، بل كان عرافاً أين سيسدد ضربته، ولمن وجه رميته وهو على الإصرار والسبق والترصد.

ص: 324

إذن: كان تحقق الهدف في اصطحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لشخصين في عايدت فاطمة صلوات الله عليها هو تثقيف المسلمين على هذه العقيدة وبيان الحرمة الشرعية لهذه الدار وأهلها، ولذا قالوا: (إن في الدار فاطمة)(1).

دال: الملاحظ في الحديثين هو حالة الزهد التي أدت إلى هذا الضعف والجوع فتسبب في اصفرار وجه فاطمة صلوات الله وسلامه عليها؛ وحيث أن المرأة في دار الزوجية مرهونة بحال زوجها فان كان ميسوراً يسر حالها، وإن كان معسراً، عسّر حالها. وهنا: ننظر إلى داخل بيت النبوة حيث يسكن الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهما السلام وسيدة نساء العالمين عليهما السلام فالحال كله يسير وفق الموازين الشرعية.

بمعنى: إن فاطمة متيقنة أن الرزق بيد الله تعالى وانه سبحانه عادل حكيم عزيز ينزل كل شيء بقدر وفي المقابل: إنها متيقنة أن زوجها ينفق مما رزقه الله سعة وضيقاً ومن ثم فالشكوى إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.

من هنا: أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم صر ف الأذهان إلى قضية تربوية، وهي أن الزوجة يجب عليها أن تصبر في حال تعسر على زوجها الرزق، وأن تنظر في منزلة زوجها الأخروية، أي تنظر إلى تقواه وورعه لا إلى حاله في الدنيا، ففي الدنيا الحال متغير وفي الآخرة الحال ثابت فرب ضيق يأتي من بعده الفرج الواسع، ورب فقر يأتي من بعده الغنى والترف؛ لكن الحكمة في غنى الآخرة وفقرها.

ص: 325


1- شرح نهج البلاغة للمعتزلي: ج 1، ص 178. تاريخ أبي الفداء: مج 1، ص 156؛ انساب الأشراف للبلاذري: مج 1، ص 685؛ تاريخ الخميس للديار بكري: ج 1، ص 178؛ مروج الذهب للمسعودي: ج 2، ص 100.

ولذلك: أرجعها النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المقامات الأخروية لتتبصر بما أعد الله لها في الآخرة على مرارة الحياة الدنيا كما دل عليه حديث عمران بن حصين؛ فضلاً عن ظهور آية من آيات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حينما دعا لفاطمة عليها السلام فذهب عنها الجوع كما ينص حديث جابر.

المسألة الرابعة: ما سنّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أفعال فاطمة عليها السلام أو ما رافق حياتها فكان من السُنّة

اشارة

إن المتصفح لحياة الزهراء عليها السلام يجد أن هناك بعض المظاهر التي رافقت هذه الحياة فكانت محل اهتمام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاجراها سُنّة تعبدية في أمته، وهي كالآتي:

أولاً: إن من الظواهر التي رافقت حياة فاطمة عليها السلام فكانت سُنّة في الأمة؛ التكبير على العرائس

فقد أخرج الشيخ الصدوق رحمه الله عن جابر بن عبد الله، في حديث يصف فيه زواج فاطمة، فمما جاء فيه، أنه قال:

(فلما كانت ليلة الزفاف أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببغلته الشهباء وثني عليها قطيفة وقال لفاطمة عليها السلام:

«أركبي».

وأمر سلمان أن يقودها والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يسوقها، فبينا هو في بعض الطريق إذ سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجبة فإذا هو جبرائيل عليه السلام في سبعين ألفاً وميكائيل في سبعين ألفاً.

ص: 326

فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم:

«ما أهبطكم إلى الأرض ؟».

قالوا:

«جئنا نزف فاطمة إلى زوجها».

وكبر جبرائيل عليه السلام وكبر ميكائيل عليه السلام وكبرت الملائكة وكبر محمد صلى الله عليه وآله وسلم فوضع التكبير على العرائس من تلك الليلة)(1).

ثانياً: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنّ نافلة المغرب شكراً لله على سلامة فاطمة عليها السلام عند ولادتها للحسن والحسين عليهما السلام.

تناولنا في الجزء الثالث من هذا الكتاب في الفصل الثاني منه وتحت عنوان فاطمة الأم، ما جاء في المبحث السابع عند ولادة الإمام الحسين عليه السلام ما أوردناه من قيام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم من سن نافلة المغرب شكراً لله تعالى على سلامة فاطمة عليها السلام بعد ولادة الإمام الحسين عليه السلام، فكانت هذه النافلة سنة في الأمة.

ثالثاً: المراسيم التي قام بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ولادة الإمام الحسين عليه السلام فأصبحت سنة في الأمة

ومن الظواهر أيضاً ما رافق ولادة الإمام الحسن عليه السلام، حيث تعد هذه الظاهرة هي الأولى في بيت فاطمة عليها السلام بل في البيت النبوي وذلك ان الإمام الحسن عليه السلام هو بكر فاطمة وأول مولود يدخل إلى البيت النبوي

ص: 327


1- من لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق: ج 3، ص 401، وسائل الشيعة للحر العاملي: ج 2، ص 92.

لاسيما وان أبناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد توفيا في مكة ولم يكن آنذاك ظهور لهذه الأفعال التي قام بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع وليد فاطمة عليها السلام وباك، يكون مولود فاطمة هو المولود الأول الذي أظهر معه النبي السنن الخاصة بالمولود كالتسمية والعقيقة، وحلق شعر رأس المولود، وتحنيكه، وختانه، وثقب أذنه، فهذه المراسيم التي رافقت ولادة الإمام الحسن عليه السلام لم يشهدها المسلمون قبل ذلك الوقت ومن ثم فقد أصبحت كلها سنة تعمل بها الأمة(1).

رابعاً: إجراء سُنّة صنع الطعام لأهل الميت ثلاثة أيام

يروي الشيخ الطوسي رحمه الله عن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه السلام في خبر استشهاد جعفر بن ابي طالب عليهما السلام في مؤته وما لحق النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المصائب ظهور أحد السنن النبوية في كيفية التعامل مع فعل هذه المظاهر الحياتية، فكان ان أمر صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة بأن تتخذ طعاماً لأسماء بنت عميس ويأتيها نساؤها - أي أرحامها ومعارفها - ثلاثة.

وهذا نص الرواية: وعن هشام، عن أبي عبد الله عليه السلام، قال:

«لما مات جعفر بن أبي طالب عليه السلام أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاطمة عليها السلام أن تتخذ طعاماً لأسماء بنت عميس، ويأتيها نساؤها ثلاثة ايام، فجرت بذلك السنة من أن يصنع لأهل البيت ثلاثة أيام»(2).

ص: 328


1- لمزيد من الاطلاع، ينظر: الجزء الثالث من هذا الكتاب: ص 177-188.
2- الأمالي للطوسي: ص 659.

المحتويات

الفصل الاول: منزلة فاطمة

توطئة 7

المبحث الأول: المنزلة بين المعنى والمصداق 8

المسألة الأولى: معنى المنزلة لغة 8

المسألة الثانية: ظهور مصداق (المنزلة) في بعض الأحاديث الشريفة 9

المبحث الثاني: منزلة فاطمة عليها السلام عند الله تعالى 13

المسألة الأولى: إن الله يغضب لغضب فاطمة عليها السلام 16

أولاً: إنّ غضب الخالق ليس كغضب المخلوق 23

ثانيا: إن منشئ غضب الله تعالى غير منشئ غضب الإنسان 26

ثالثاً: إنّ علامات غضب الله مغايرة لعلامات غضب الإنسان 27

رابعاً: سر العلاقة بين غضب الله تعالى وغضب فاطمة عليها السلام 28

خامساً: كل ما يلحق من المكونات الكمالية في الصفات النبوية يلحق بالبضعة

ص: 329

الفاطمية 49

سادساً: لماذا الغضب والرضا دون غيرهما من الصفات الإلهية قد اقترن بفاطمة عليها السلام 52

ألف: ارتباط الغضب والرضا بالقلب 52

باء: قوام الغضب والرضا بالعدل 54

المسألة الثانية: تحية الله تعالى إليها 56

المسألة الثالثة: إن الله تعالى رزقها كما رزق ابنة عمران عليها السلام 57

الفصل الثاني

منزلتها عليها السلام في القرآن الكريم

المبحث الأول: منزلة فاطمة عليها السلام في بعض آيات سورة البقرة 66

المسألة الأولى: الآيات العامة لبيان منزلة أهل البيت عليهم السلام في سورة البقرة ومما فيهم فاطمة عليها السلام 66

أولا: فاطمة في قوله تعالى: (و قلنا يا آدم اسكن أنت و زوجك الجنة و كلا منها رغدا حيث شئتما و لا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين) 69

ثانيا: فاطمة في قوله تعالى: (و إذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة) 71

ثالثا: فاطمة عليها السلام في قوله تعالى: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهى كالحجارة أو أشد قسوة) 77

رابعا: فاطمة عليها السلام في قوله تعالى: (قل آمنا بالله و ما أنزل علينا و ما أنزل على إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط) 78

خامساً: فاطمة عليها السلام في قوله تعالى: (حافظوا على الصلوات و الصلاة

ص: 330

الوسطى). 79

المسألة الثانية: الآيات الخاصة لبيان منزلة فاطمة عليها السلام في سورة البقرة 80

المبحث الثاني: منزلة فاطمة عليها السلام في بعض آيات سورة آل عمران 81

المسألة الأولى: الآيات العامة لبيان منزلة فاطمة عليها السلام في سورة آل عمران 81

أولاً: فاطمة في قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل عمران على العالمين) 81

ألف: الاصطفاء الذي نصت عليه الآية 82

باء: من هم آل الأنبياء الذين خصهم الله بالاصطفاء؟ 84

القول الأول: إنّ الآل هم قوم الرجل 84

القول الثاني: إن الآل هم أتباعه الذين على دينه 87

جيم: ما روي عن أهل البيت عليهم السلام في بيان أن الأمة غير الآل 91

ثانيا: فاطمة في قوله تعالى: (فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم) 106

ألف: تفرد حادثة المباهلة في تاريخ الأنبياء عليهم السلام 107

باء: لو خرج النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأصحابه لهلكوا كما هلك أصحاب موسى في الملاقات 108

جيم: كيف وقعت المباهلة وما هي أسبابها؟ 110

دال: التعريف بأشخاص المباهلة ودلالة النص القرآني 116

هاء: آثار المباهلة في كاشفية صدق دعوى النبوة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 120

أولاً: معاوية بن أبي سفيان يأمر الصحابة بسب علي بن أبي طالب عليه السلام فيحتج عليه بآية المباهلة 120

ألف: ما عليه المذهب الشافعي 131

باء: ما عليه المذهب المالكي في حكم من سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 131

جيم: ما عليه المذهب الحنفي في حكم من سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 131

دال: ما ذهب إليه المذهب الحنبلي في حكم من سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 132

ثانيا: تبجح الحجاج بن يوسف الثقفي في نكران إن (أبناءنا) هم الحسن والحسين وإنهما أبناء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 137

المسألة الثانية: الآيات الخاصة لبيان منزلة فاطمة في سورة آل عمران 141

ص: 331

أولا: منزلة فاطمة عليها السلام في قوله تعالى: (فتقبلها ربها بقبول حسن و أنبتها نباتا حسنا و كفلها زكريا) 141

المبحث الثالث: منزلة فاطمة عليها السلام الخاصة والمشتركة مع أهل البيت عليهم السلام في بقية السور القرآنية 145

المسألة الأولى: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الأنعام 145

المسألة الثانية: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الأعراف 147

المسألة الثالثة: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة يونس 150

المسألة الرابعة: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة إبراهيم عليه السلام 151

المسألة الخامسة: منزلة فاطمة في سورة الحجر 153

المسألة السادسة: منزلة فاطمة في سورة النحل 154

المسألة السابعة: منزلة فاطمة في سورة الإسراء 155

المسألة الثامنة: منزلة فاطمة في سورة الكهف 157

المسألة التاسعة: منزلتها في سورة طه 160

المسألة الحادي عشرة: منزلة فاطمة في سورة مريم عليهما السلام 162

المسألة العاشرة: منزلة فاطمة في سورة الحج 164

المسألة الحادية عشرة: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة المؤمنون 165

المسألة الثانية عشرة: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة النور 167

الموضع الأول من السورة 167

الموضع الثاني من السورة 168

المسألة الثالثة عشرة: منزلة فاطمة في سورة الفرقان 170

المسألة الرابعة عشرة: منزلة فاطمة في سورة الشعراء 173

المسألة الخامسة عشرة: منزلة فاطمة في سورة النمل 173

ص: 332

المسألة السادسة عشرة: منزلة فاطمة في سورة الروم 174

المسألة السابعة عشرة: منزلة فاطمة في سورة السجدة 175

المسألة الثامنة العشرة: منزلة فاطمة في سورة الأحزاب 176

ألف: قال تعالى: (و قرن فى بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) 176

باء: قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا). 185

جيم: قوله تعالى: (إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله فى الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا) 186

المسألة الثامنة عشرة: منزلة فاطمة في سورة فاطر 188

أولا: قال تعالى: (و ما يستوى الأعمى و البصير) 188

ثانيا: قال تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) 188

المسألة التاسعة عشرة: منزلة فاطمة عليا السلام في سورة (ص) 190

المسألة العشرون: منزلة فاطمة في سورة الزمر 191

المسألة الحادية والعشرون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الشورى 191

المسألة الثانية والعشرون: منزلة فاطمة في سورة الزخرف 200

المسألة الثالثة والعشرون: منزلة فاطمة في سورة الدخان 201

المسالة الرابعة والعشرون: منزلة فاطمة في سورة الجاثية 202

المسألة الخامسة والعشرون: منزلة فاطمة في سورة الأحقاف 203

المسألة السادسة والعشرون: منزلة فاطمة عليه السلام في سورة محمد صلى الله عليه وآله وسلم 205

المسألة السابعة والعشرون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة (ق) 205

المسألة الثامنة والعشرون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الذاريات 206

المسألة التاسعة والعشرون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الطور 207

المسألة الثلاثون: منزلة فاطمة في سورة الرحمن 208

المسألة الواحدة والثلاثون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الواقعة 211

ص: 333

المسألة الثانية والثلاثون: منزلة فاطمة في سورة المجادلة 211

المنزلة الثالثة والثلاثون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الحشر 213

المسألة الرابعة والثلاثون: منزلة فاطمة في سورة التحريم 215

الآية الأولى 215

الآية الثانية 216

المسألة الخامسة والثلاثون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة المزمل 217

المسألة السادسة والثلاثون: منزلة فاطمة في سورة المدثر 217

المسألة السابعة والثلاثون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الدهر 218

المسألة الثامنة والثلاثون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة البينة 223

المسألة التاسعة والثلاثون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة عبس 223

المسألة الأربعون: منزلة فاطمة في سورة المطففين 224

المسألة الواحدة والأربعون: منزلة فاطمة في سورة الطارق 225

المسألة الثانية والأربعون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الشمس 226

المسألة الثالثة والأربعون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة الضحى 229

المسألة الرابعة والأربعون: منزلة فاطمة عليها السلام في سورة القدر 230

الفصل الثالث

منزلتها عليها السلام في السنة

توطئة 235

المعنى الأول للسنة 236

المعنى الثاني للسنة 236

ص: 334

المبحث الأول: منزلة فاطمة على لسان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 238

المسألة الأولى: اختصاص فاطمة عليها السلام بأنها نواة البيت النبوي 238

أولاً: انحصار (الأهل) بفاطمة وبعلها وولدها 240

ألف: التلازم بين نزول الوحي وفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في تحديد الأهل 244

باء: استخدام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للوسائل التعليمية في بيان مراد الوحي في التشديد والمبالغة بحصر الأهل بفاطمة وعلي والحسن والحسين عليهم السلام 248

جيم: استخدام النبي صلى الله عليه وآله وسلم للأمثلة في إرشاد الناس إلى الحكم الشرعي تلازماً مع المنهج القرآني 252

ثانيا: تلازم حب النبي صلى الله عليه وآله وسلم بحب فاطمة وبعلها وولديها 258

ألف: إنّ المراد من الحب الإتباع 258

باء: إنّ المراد من حب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الإيمان به 261

ثالثاً: تلازم بغض فاطمة وبعلها وولديها ببغض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 267

رابعاً: منهج الوحي والنبي صلى الله عليه وآله وسلم في تبليغ الرسالة من تذكير الأمة وانفلات العامة 276

المسألة الثانية: اختصاص فاطمة عليها السلام بشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 280

أولاً: تعدد ألفاظ حديث البضعة 285

ثانياً: حديث الشجنة 287

ثالثاً: حديث المهجة 291

رابعاً: حديث الشعرة 293

خامساً: حديث (أحب أهله إليه صلى الله عليه وآله وسلم) 298

سادساً: حديث (وهي قلبي وروحي) 301

ألف: من عرف هذه، فقد عرفها، ومن لم يعرفها، فهي فاطمة بنت محمد 301

باء: (هي بضعة مني) 303

جيم: (هي قلبي) 303

دال: (وهي روحي) 305

ص: 335

المبحث الثاني: منزلة فاطمة عليها السلام من خلال فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم 309

المسألة الأولى: قيام النبي صلى الله عليه وآله وسلم لفاطمة وتقبيلها وإجلاسها في مجلسه 311

المسألة الثانية: إذا أراد النبي صلى الله عليه وآله وسلم السفر ففاطمة عليها السلام آخر من يودع وأول من يرى بعد رجوعه 316

المسألة الثالثة: النبي صلى الله عليه وآله وسلم لا يدخل على فاطمة عليها السلام حتى يستأذن 318

المسألة الرابعة: ما سنّه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أفعال فاطمة عليها السلام أو ما رافق حياتها فكان من السُنّة 326

أولاً: إن من الظواهر التي رافقت حياة فاطمة عليها السلام فكانت سُنّة في الأمة؛ التكبير على العرائس 326

ثانياً: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سنّ نافلة المغرب شكراً لله على سلامة فاطمة عليها السلام عند ولادتها للحسن والحسين عليهما السلام. 327

ثالثاً: المراسيم التي قام بها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عند ولادة الإمام الحسين عليه السلام فأصبحت سنة في الأمة 327

رابعاً: إجراء سُنّة صنع الطعام لأهل الميت ثلاثة أيام 328

المحتويات 329

ص: 336

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.